فِي هَذَا الْبَابِ أَيْ بَابِ الشَّرْطِ، لإِِِبْهَامِهَا، فَإِِنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا لاَ يَتَنَاوَل عَيْنًا. وَتَحْقِيقُهُ: أَنَّ (مَنْ وَمَا) لإِِِبْهَامِهِمَا دَخَلاَ فِي بَابِ الْعُمُومِ، فَلَمَّا كَانَ الْعُمُومُ فِي الشَّرْطِ مَقْصُودًا لِلْمُتَكَلِّمِ، وَتَخْصِيصُ كُل وَاحِدٍ مِنَ الأَْفْرَادِ بِالذِّكْرِ مُتَعَسِّرٌ أَوْ مُتَعَذِّرٌ وَ (مَنْ وَمَا) يُؤَدِّيَانِ هَذَا الْمَعْنَى مَعَ الإِِْيجَازِ وَحُصُول الْمَقْصُودِ، نَابَا مَنَابَ إِنْ، فَقِيل: مَنْ يَأْتِ أُكْرِمْهُ، وَمَا تَصْنَعْ أَصْنَعْ. وَالْمَسَائِل فِيهِمَا كَثِيرَةٌ مِثْل قَوْلِهِ: مَنْ دَخَل هَذَا الْحِصْنَ فَلَهُ رَأْسٌ، وَمَنْ دَخَل مِنْكُمْ الدَّارَ فَهُوَ حُرٌّ. وَأَمَّا إِِذَا كَانَ لِلشَّرْطِ فَهُوَ اسْمٌ بِمَعْنَى أَيْ: تَقُول: مَا تَصْنَعْ أَصْنَعْ. (1) وَفِي التَّنْزِيل. {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} (2) {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا} (3) .
14 - وَأَمَّا (مَا) الْمَصْدَرِيَّةُ، فَإِِنَّهَا تُسْتَعْمَل فِي الْفِقْهِ، وَيُقَيَّدُ بِهَا التَّصَرُّفُ تَقْيِيدَ إِضَافَةٍ لاَ تَعْلِيقٍ، كَمَا جَاءَ فِي الْبَحْرِ الرَّائِقِ وَفَتْحِ الْقَدِيرِ؛ لأَِنَّهَا تَنُوبُ عَنْ ظَرْفِ الزَّمَانِ، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَأَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} (4) أَيْ مُدَّةَ دَوَامِي حَيًّا.
وَعَلَى هَذَا لَوْ قَال: أَنْتِ طَالِقٌ مَا لَمْ أُطَلِّقْكِ، وَسَكَتَ، وَقَعَ الطَّلاَقُ اتِّفَاقًا بِسُكُوتِهِ؛ لأَِنَّهُ
__________
(1) كشف الأسرار للبزدوي 2 / 196.
(2) سورة البقرة / 106.
(3) سورة فاطر / 2.
(4) سورة مريم / 31.(12/304)
تَرَتَّبَ عَلَيْهِ إِضَافَةُ الطَّلاَقِ إِِلَى وَقْتٍ لَمْ يُطَلِّقْهَا فِيهِ. (1)
هـ - مَهْمَا:
15 - مَهْمَا اسْمٌ وُضِعَ لِلدَّلاَلَةِ عَلَى مَا لاَ يَعْقِل، ثُمَّ ضُمِّنَ مَعْنَى الشَّرْطِ.
وَقَدْ ذَكَرَ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ: أَنَّ مَهْمَا مِنْ صِيَغِ التَّعْلِيقِ، نَحْوُ أَنْ يَقُول: مَهْمَا دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ (2) .
وَ - أَيُّ:
16 - وَهِيَ بِحَسَبِ مَا تُضَافُ إِلَيْهِ، فَفِي: أَيُّهُمْ يَقُمْ أَقُمْ مَعَهُ مِنْ بَابِ (مَنْ) أَيْ أَنَّهَا تُسْتَعْمَل فِيمَنْ يَعْقِل، وَفِي: أَيُّ الدَّوَابِّ تَرْكَبْ أَرْكَبْ مِنْ بَابِ (مَا) أَيْ مِنْ بَابِ مَا لاَ يَعْقِل، وَفِي: أَيُّ يَوْمٍ تَصُمْ أَصُمْ مِنْ بَابِ (مَتَى) أَيْ أَنَّهَا تَدُل عَلَى زَمَانٍ مُبْهَمٍ، وَفِي أَيُّ مَكَانٍ تَجْلِسْ أَجْلِسْ مِنْ بَابِ (أَيْنَ) أَيْ أَنَّهَا تَدُل عَلَى مَكَانٍ مُبْهَمٍ. (3)
وَقَدْ جَاءَ فِي الْمُغْنِي وَالرَّوْضَةِ مَا يُفِيدُ أَنَّ حُكْمَ (أَيُّ) فِي التَّعْلِيقِ كَحُكْمِ (مَتَى وَمَنْ وَكُلَّمَا)
__________
(1) البحر الرائق 3 / 294، 295 ط العلمية، وفتح القدير 3 / 65 ط دار صادر.
(2) التصريح 2 / 248 ط الحلبي، والروضة 8 / 128 ط المكتب الإسلامي. والذي لا يعقل في هذا المثال هو الدخول، والمعنى: أي دخول دخلت فأنت طالق.
(3) التصريح على التوضيح 2 / 248 ط الحلبي.(12/305)
بِمَعْنَى أَنَّهُ لَوْ عَلَّقَ التَّصَرُّفَ بِنَفْيِ فِعْلٍ بِأَيِّ، كَمَا لَوْ عَلَّقَ الطَّلاَقَ عَلَى نَفْيِ الدُّخُول بِأَيِّ، بِأَنْ قَال: أَيُّ وَقْتٍ لَمْ تَدْخُلِي فِيهِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَإِِنَّهُ إِنْ مَضَى زَمَنٌ يُمْكِنُهَا فِيهِ الدُّخُول - وَلَمْ تَدْخُل - فَإِِنَّهُ يَقَعُ الطَّلاَقُ بَعْدَهُ عَلَى الْفَوْرِ.
وَأَمَّا لَوْ عَلَّقَ الطَّلاَقَ عَلَى إِيجَادِ فِعْلٍ بِأَيِّ، فَلاَ تُفِيدُ الْفَوْرَ كَغَيْرِهَا مِنْ أَدَوَاتِ التَّعْلِيقِ. (1)
وَجَاءَ فِي تَبْيِينِ الْحَقَائِقِ أَنَّ (أَيُّ) لاَ تَعُمُّ بِعُمُومِ الصِّفَةِ فَلَوْ قَال: أَيُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ، فَإِِنَّ ذَلِكَ يَتَحَقَّقُ فِي امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ فَقَطْ.
بِخِلاَفِ كِلْمَتَيْ (كُل وَكُلَّمَا) فَإِِنَّهُمَا تُفِيدَانِ عُمُومَ مَا دَخَلَتَا عَلَيْهِ كَمَا سَيَأْتِي. (2)
ز - كُل وَكُلَّمَا:
17 - كَلِمَةُ (كُل) تُسْتَعْمَل بِمَعْنَى الاِسْتِغْرَاقِ بِحَسَبِ الْمَقَامِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللَّهُ بِكُل شَيْءٍ عَلِيمٌ} (3) وَقَدْ تُسْتَعْمَل بِمَعْنَى الْكَثِيرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {تُدَمِّرُ كُل شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} (4) أَيْ كَثِيرًا؛ لأَِنَّهَا دَمَّرَتْهُمْ وَدَمَّرَتْ مَسَاكِنَهُمْ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَلَفْظُ (كُل) لاَ يُسْتَعْمَل إِلاَّ مُضَافًا
__________
(1) المغني 7 / 193 ط الرياض، والروضة 8 / 128 ط المكتب الإسلامي.
(2) تبيين الحقائق مع حاشية الشلبي 2 / 234، والروضة 8 / 128.
(3) سورة البقرة / 28.
(4) سورة الأحقاف / 25.(12/305)
لَفْظًا أَوْ تَقْدِيرًا، وَلَفْظُهُ وَاحِدٌ، وَمَعْنَاهُ جَمْعٌ، وَيُفِيدُ التَّكْرَارُ بِدُخُول (مَا) عَلَيْهِ نَحْوُ: كُلَّمَا جَاءَكَ زَيْدٌ فَأَكْرِمْهُ. (1)
18 - وَكَلِمَةُ (كُل) مِنْ صِيَغِ التَّعْلِيقِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَكَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِنْ قَصَدَ بِهَا التَّعْلِيقَ دُونَ الْمُكَافَأَةِ.
وَلَمْ يُفَرِّقِ الْحَنَفِيَّةُ فِي تَعْلِيقِ الطَّلاَقِ بِ (كُل) بَيْنَ مَا إِِذَا عَمَّمَ، بِأَنْ قَال: كُل امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ، أَوْ خَصَّصَ بِأَنْ قَال: كُل امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي فُلاَنٍ أَوْ مِنْ بَلَدِ كَذَا. وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَإِِنَّهُمْ يُخَالِفُونَ الْحَنَفِيَّةَ فِي صُورَةِ التَّعْمِيمِ؛ لأَِنَّ فِيهِ سَدًّا لِبَابِ النِّكَاحِ، وَيَتَّفِقُونَ مَعَهُ فِي صُورَةِ التَّخْصِيصِ بِأَنْ يَخُصَّ بَلَدًا أَوْ قَبِيلَةً أَوْ جِنْسًا أَوْ زَمَنًا يَبْلُغُهُ عُمْرُهُ ظَاهِرًا. (2)
وَذَكَرَ السَّرَخْسِيُّ فِي أُصُولِهِ أَنَّ كَلِمَةَ (كُل) تُوجِبُ الإِِْحَاطَةَ عَلَى وَجْهِ الإِِْفْرَادِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ كُل وَاحِدٍ مِنَ الْمُسَمَّيَاتِ الَّتِي تُوصَل بِهَا كَلِمَةُ كُل يَصِيرُ مَذْكُورًا عَلَى سَبِيل الاِنْفِرَادِ، كَأَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ؛ لأَِنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ صِلَةٌ فِي الاِسْتِعْمَال، حَتَّى لاَ تُسْتَعْمَل وَحْدَهَا لِخُلُوِّهَا عَنِ الْفَائِدَةِ، وَهِيَ تَحْتَمِل الْخُصُوصَ، نَحْوُ كَلِمَةِ (مَنْ) إِلاَّ أَنَّ
__________
(1) المصباح المنير.
(2) تبيين الحقائق 2 / 234 ط دار المعرفة، وجواهر الإكليل 1 / 342، 343 ط دار المعرفة، وحاشية الدسوقي 2 / 372 ط دار الفكر، والخرشي 4 / 37، 38 ط دار صادر، ونهاية المحتاج 7 / 52 ط المكتبة الإسلامية.(12/306)
مَعْنَى الْعُمُومِ فِيهَا يُخَالِفُ مَعْنَى الْعُمُومِ فِي كَلِمَةِ (مَنْ) وَلِهَذَا اسْتَقَامَ وَصْلُهَا بِكَلِمَةِ مَنْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُل مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} (1) حَتَّى لَوْ وُصِلَتْ بِاسْمٍ نَكِرَةٍ فَإِِنَّهَا تَقْتَضِي الْعُمُومَ فِي ذَلِكَ الاِسْمِ أَيْضًا. وَلِهَذَا لَوْ قَال: كُل امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ تَطْلُقُ كُل امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا عَلَى الْعُمُومِ. وَلَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً مَرَّتَيْنِ لَمْ تَطْلُقْ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ؛ لأَِنَّهَا تُوجِبُ الْعُمُومَ فِيمَا وُصِلَتْ بِهِ مِنَ الاِسْمِ دُونَ الْفِعْل.
19 - وَالْفَرْقُ بَيْنَ كَلِمَةِ (كُل) وَكَلِمَةِ (مَنْ) فِيمَا يَرْجِعُ إِِلَى الْخُصُوصِ: هُوَ أَنَّ كَلِمَةَ كُل وَإِِنْ كَانَتِ الإِِْحَاطَةُ فِيهَا شَامِلَةً لِكُل فَرْدٍ، إِلاَّ أَنَّهَا تَحْتَمِل الْخُصُوصَ، كَكَلِمَةِ (مَنْ) كَمَا لَوْ قَال:
كُل مَنْ دَخَل هَذَا الْحِصْنَ أَوَّلاً فَلَهُ كَذَا، فَدَخَلُوا عَلَى التَّعَاقُبِ فَالنَّفَل لِلأَْوَّل خَاصَّةً لاِحْتِمَال الْخُصُوصِ فِي كَلِمَةِ كُل، فَإِِنَّ الأَْوَّل اسْمٌ لِفَرْدٍ سَابِقٍ، وَهَذَا الْوَصْفُ مُتَحَقِّقٌ فِيهِ دُونَ مَنْ دَخَل بَعْدَهُ. وَمِثْل ذَلِكَ كَلِمَةُ (مَنْ) فِي صُورَةِ التَّعَاقُبِ.
20 - فَإِِنْ دَخَلُوا مَعًا اسْتَحَقُّوا جَمِيعًا النَّفَل بِكَلِمَةِ (كُل) دُونَ كَلِمَةِ (مَنْ) . (2)
وَأَمَّا كَلِمَةُ (كُلَّمَا) فَإِِنَّهَا مِنْ صِيَغِ التَّعْلِيقِ عِنْدَ
__________
(1) سورة الرحمن / 26.
(2) أصول السرخسي 1 / 157، 158، والتلويح على التوضيح 1 / 60.(12/306)
الْفُقَهَاءِ، وَهِيَ تَقْتَضِي التَّكْرَارَ وَالْفَوْرَ، وَيَلِيهَا الْفِعْل دُونَ الاِسْمِ، فَتَقْتَضِي الْعُمُومَ فِيهِ، فَلَوْ قَال: كُلَّمَا تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً فَهِيَ طَالِقٌ، فَتَزَوَّجَ امْرَأَةً مِرَارًا فَإِِنَّهَا تَطْلُقُ فِي كُل مَرَّةٍ يَتَزَوَّجُهَا؛ لأَِنَّهَا تَقْتَضِي الْعُمُومَ فِي الأَْفْعَال دُونَ الأَْسْمَاءِ، بِخِلاَفِ كَلِمَةِ (كُل) فَإِِنَّهَا تُفِيدُ الْعُمُومَ فِي الأَْسْمَاءِ دُونَ الأَْفْعَال. (1)
ح - لَوْ:
21 - تَكُونُ (لَوْ) حَرْفَ شَرْطٍ فِي الْمُسْتَقْبَل، إِلاَّ أَنَّهَا لاَ تَجْزِمُ، وَمِثَالُهَا قَوْله تَعَالَى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ} (2) أَيْ: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ إِنْ شَارَفُوا وَقَارَبُوا أَنْ يَتْرُكُوا. وَإِِنَّمَا أَوَّلُوا التَّرْكَ بِمُشَارَفَةِ التَّرْكِ؛ لأَِنَّ الْخِطَابَ لِلأَْوْصِيَاءِ، وَإِِنَّمَا يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِمْ قَبْل التَّرْكِ؛ لأَِنَّهُمْ بَعْدَهُ أَمْوَاتٌ.
وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ تَعْلِيقُ التَّصَرُّفِ (بِلَوْ) فَقَدْ أَجَازَ الْفُقَهَاءُ - كَأَبِي يُوسُفَ - تَعْلِيقَهُ بِهَا، لِشَبَهِهَا (بِإِِنْ) فَإِِنَّ لَوْ تُسْتَعْمَل فِي مَعْنَى الشَّرْطِ وَلاَ يَلِيهَا دَائِمًا إِلاَّ الْفِعْل كَإِِنْ، وَلِوُرُودِ اسْتِعْمَال كُلٍّ مِنْهُمَا فِي مَعْنَى الأُْخْرَى، إِلاَّ أَنَّ (لَوْ) تُفِيدُ
__________
(1) أصول السرخسي 1 / 158، وتبيين الحقائق 2 / 234، والفتاوى الهندية 1 / 416 - 420، والبحر الرائق 3 / 295، وجواهر الإكليل 1 / 341، والدسوقي 2 / 371، والروضة 8 / 128، والمغني 7 / 193، 194.
(2) سورة النساء / 9.(12/307)
التَّقْيِيدَ فِي الْمَاضِي (وَإِِنْ) تُفِيدُهُ فِي الْمُسْتَقْبَل. (1)
إِلاَّ أَنَّ الْفُقَهَاءَ لَمْ يَنْظُرُوا إِِلَى هَذِهِ النَّاحِيَةِ، وَعَامَلُوهَا كَإِِنْ فِي التَّعْلِيقِ، فَمَنْ قَال لِعَبْدِهِ: لَوْ دَخَلْتَ الدَّارَ لَتَعْتِقُ، فَإِِنَّهُ لاَ يَعْتِقُ حَتَّى يَدْخُل؛ صَوْنًا لِلْكَلاَمِ عَنِ الإِِْهْمَال، حَتَّى إِنَّ مِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ عَامَلَهَا مُعَامَلَةَ (إِنْ) مُطْلَقًا وَأَجَازَ اقْتِرَانَ جَوَابِهَا بِالْفَاءِ، وَلَمْ يَنْظُرْ إِِلَى عَدَمِ جَوَازِ ذَلِكَ عِنْدَ النُّحَاةِ؛ لأَِنَّ الْعَامَّةَ تُخْطِئُ وَتُصِيبُ فِي الإِِْعْرَابِ، فَمَنْ قَال لِرَجُلٍ: زَنَيْتِ بِكَسْرِ التَّاءِ، أَوْ قَال لاِمْرَأَةٍ: زَنَيْتَ بِفَتْحِهَا، وَجَبَ حَدُّ الْقَذْفِ فِي الصُّورَتَيْنِ. (2)
22 - وَتُسْتَعْمَل (لَوْ) فِي الاِسْتِقْبَال لِمُؤَاخَاتِهَا لإِِِنْ، كَأَنْ يُقَال: لَوِ اسْتَقْبَلْتَ أَمْرَكَ بِالتَّوْبَةِ لَكَانَ خَيْرًا لَكَ، أَيْ إِنِ اسْتَقْبَلْتَ، وَقَال تَعَالَى: {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} (3) أَيْ وَإِِنْ أَعْجَبَكُمْ، كَمَا أَنَّ (إِنْ) اسْتُعْلِمَتْ بِمَعْنَى (لَوْ) كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} (4) وَعَلَى هَذَا فَمَنْ قَال لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ لَوْ دَخَلْتِ الدَّارَ، فَإِِنَّهَا لاَ تَطْلُقُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ حَتَّى تَدْخُل الدَّارَ؛ لأَِنَّ لَوْ بِمَنْزِلَةِ إِنْ، فَتُفِيدُ مَعْنَى التَّرَقُّبِ. وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ
__________
(1) الفروق للقرافي / الفرق الرابع 1 - 85 - 107.
(2) كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي 2 / 196.
(3) سورة البقرة / 221.
(4) سورة المائدة / 116.(12/307)
نَصٌّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَمْ يُرْوَ فِيهَا شَيْءٌ عَنْ مُحَمَّدٍ، فَهِيَ مِنَ النَّوَادِرِ. (1)
23 - أَمَّا (لَوْلاَ) وَهِيَ الَّتِي تُفِيدُ امْتِنَاعَ الثَّانِي لِوُجُودِ الأَْوَّل، فَإِِنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ صِيَغِ التَّعْلِيقِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، لأَِنَّهَا وَإِِنْ كَانَ فِيهَا مَعْنَى الشَّرْطِ فَإِِنَّ الْجَزَاءَ فِيهَا لاَ يُتَوَقَّعُ حُصُولُهُ؛ لأَِنَّهَا لاَ تُسْتَعْمَل إِلاَّ فِي الْمَاضِي، وَلاَ عَلاَقَةَ لَهَا بِالزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَل، فَهِيَ عِنْدَهُمْ بِمَعْنَى الاِسْتِثْنَاءِ لأَِنَّهَا تُسْتَعْمَل لِنَفْيِ شَيْءٍ بِوُجُودِ غَيْرِهِ، فَمَنْ قَال لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ لَوْلاَ حُسْنُكِ، أَوْ لَوْلاَ صُحْبَتُكِ، لاَ يَقَعُ الطَّلاَقُ حَتَّى وَإِِنْ زَال الْحُسْنُ أَوِ انْتَفَتِ الصُّحْبَةُ، لِجَعْلِهِ ذَلِكَ مَانِعًا مِنْ وُقُوعِ الطَّلاَقِ. (2)
ط - كَيْفَ:
24 - (كَيْفَ) تُسْتَعْمَل فِي اللُّغَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ شَرْطًا.
وَالثَّانِي: وَهُوَ الْغَالِبُ فِيهَا: أَنْ تَكُونَ اسْتِفْهَامًا، إِمَّا حَقِيقِيًّا نَحْوَ " كَيْفَ زَيْدٌ؟ " أَوْ غَيْرَهُ نَحْوَ {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ} (3) الآْيَةَ، فَإِِنَّهُ أُخْرِجَ مَخْرَجَ التَّعَجُّبِ، وَتَقَعُ خَبَرًا قَبْل مَا لاَ يُسْتَغْنَى،
__________
(1) كشف الأسرار 2 / 196.
(2) التقرير والتحبير 2 / 74، وأصول السرخسي 1 / 233، والبزدوي 2 / 197، 198، وفتح الغفار 2 / 37، وبدائع الصنائع 3 / 23.
(3) سورة البقرة / 28.(12/308)
نَحْوُ " كَيْفَ أَنْتَ؟ " " وَكَيْفَ كُنْتَ؟ "، وَحَالاً قَبْل مَا يُسْتَغْنَى، نَحْوُ " كَيْفَ جَاءَ زَيْدٌ؟ " أَيْ عَلَى أَيِّ حَالَةٍ جَاءَ زَيْدٌ. (1)
وَأَمَّا الْفُقَهَاءُ فَإِِنَّهُمْ لَمْ يَخْرُجُوا فِي اسْتِعْمَالِهِمْ لِكَيْفَ عَمَّا ذَكَرَتْهُ اللُّغَةُ بِشَأْنِهَا.
فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِِلَى أَنَّ تَعْلِيقَ الْحُكْمِ بِكَيْفَ لاَ يُؤَثِّرُ فِي أَصْل التَّصَرُّفِ، وَإِِنَّمَا يُؤَثِّرُ فِي صِفَتِهِ. وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إِِلَى أَنَّ تَعْلِيقَ الْحُكْمِ بِهَا يُؤَثِّرُ فِي الأَْصْل وَالْوَصْفِ مَعًا. وَعَلَى هَذَا فَقَدْ قَال أَبُو حَنِيفَةَ فِيمَنْ قَال لاِمْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ كَيْفَ شِئْتِ أَنَّهَا تَطْلُقُ قَبْل الْمَشِيئَةِ تَطْلِيقَةً، ثُمَّ إِنْ لَمْ تَكُنْ مَدْخُولاً بِهَا فَقَدْ بَانَتْ لاَ إِِلَى عِدَّةٍ، وَلاَ مَشِيئَةَ لَهَا، وَإِِنْ كَانَتْ مَدْخُولاً بِهَا فَالتَّطْلِيقَةُ الْوَاقِعَةُ رَجْعِيَّةٌ، وَالْمَشِيئَةُ إِلَيْهَا فِي الْمَجْلِسِ بَعْدَ ذَلِكَ. فَإِِنْ شَاءَتِ الْبَائِنَةُ - وَقَدْ نَوَاهَا الزَّوْجُ - كَانَتْ بَائِنَةً، أَوْ إِنْ شَاءَتْ ثَلاَثًا - وَقَدْ نَوَاهَا الزَّوْجُ - تَطْلُقُ ثَلاَثًا، وَإِِنْ شَاءَتْ وَاحِدَةً بَائِنَةً - وَقَدْ نَوَى الزَّوْجُ ثَلاَثًا - فَهِيَ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ، وَإِِنْ شَاءَتْ ثَلاَثًا - وَقَدْ نَوَى الزَّوْجُ وَاحِدَةً بَائِنَةً - فَهِيَ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ؛ لأَِنَّهَا شَاءَتْ غَيْرَ مَا نَوَى، وَأَوْقَعَتْ غَيْرَ مَا فُوِّضَ إِلَيْهَا، فَلاَ يُعْتَبَرُ؛ لأَِنَّهُ إِنَّمَا يَتَأَخَّرُ إِِلَى مَشِيئَتِهَا مَا عَلَّقَهُ الزَّوْجُ بِمَشِيئَتِهَا دُونَ مَا لَمْ يُعَلِّقْهُ، وَكَلِمَةُ (كَيْفَ) لاَ تَرْجِعُ إِِلَى أَصْل الطَّلاَقِ، فَيَكُونُ هُوَ مُنَجِّزًا أَصْل الطَّلاَقِ
__________
(1) مغني اللبيب 1 / 224 - 228.(12/308)
وَمُفَوِّضًا لِلصِّفَةِ إِِلَى مَشِيئَتِهَا، بِقَوْلِهِ: كَيْفَ شِئْتِ. إِلاَّ أَنَّ فِي غَيْرِ الْمَدْخُول بِهَا لاَ مَشِيئَةَ لَهَا فِي الصِّفَةِ بَعْدَ إِيقَاعِ الأَْصْل، فَيَلْغُوَ تَفْوِيضُهُ الصِّفَةَ إِِلَى مَشِيئَتِهَا بَعْدَ إِيقَاعِ الأَْصْل، وَفِي الْمَدْخُول بِهَا، لَهَا الْمَشِيئَةُ فِي الصِّفَةِ بَعْدَ وُقُوعِ الأَْصْل، بِأَنْ تَجْعَلَهُ بَائِنًا أَوْ ثَلاَثًا عَلَى مَا عُرِفَ، فَيَصِحُّ تَفْوِيضُهُ إِلَيْهَا.
وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ: فَلاَ يَقَعُ عَلَيْهَا شَيْءٌ مَا لَمْ تَشَأْ، فَإِِذَا شَاءَتْ فَالتَّفْرِيعُ كَمَا قَال أَبُو حَنِيفَةَ؛ لأَِنَّهُ جَعَل الطَّلاَقَ مُفَوَّضًا إِِلَى مَشِيئَتِهَا فَلاَ يَقَعُ بِدُونِ تِلْكَ الْمَشِيئَةِ، كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شِئْتِ، أَوْ كَمْ شِئْتِ، أَوْ حَيْثُ شِئْتِ، لاَ يَقَعُ شَيْءٌ مَا لَمْ تَشَأْ، وَهَذَا لأَِنَّهُ لَمَّا فَوَّضَ وَصْفَ الطَّلاَقِ إِلَيْهَا يَكُونُ ذَلِكَ تَفْوِيضًا لِنَفْسِ الطَّلاَقِ إِلَيْهَا ضَرُورَةَ أَنَّ الْوَصْفَ لاَ يَنْفَكُّ عَنِ الأَْصْل. (1)
وَلَمْ نَطَّلِعْ لِلْمَالِكِيَّةِ عَلَى كَلاَمٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. ( x662 ;)
وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ: فَلَهُمْ رَأْيَانِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. فَقَدْ ذَكَرَ الْبَغَوِيُّ أَنَّهُ لَوْ قَال: أَنْتِ طَالِقٌ كَيْفَ شِئْتِ، قَال أَبُو زَيْدٍ وَالْقَفَّال: تَطْلُقُ شَاءَتْ أَمْ لَمْ تَشَأْ. وَقَال الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: لاَ تَطْلُقُ حَتَّى تُوجَدَ
__________
(1) كشف الأسرار وأصول البزدوي 2 / 200 - 201، وبدائع الصنائع 3 / 121، 122.
(2) الدسوقي 2 / 361 - 415، وجواهر الإكليل 1 / 337 - 362.(12/309)
مَشِيئَةٌ فِي الْمَجْلِسِ بِالإِِْيقَاعِ أَوْ عَدَمِهِ.
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ: فَإِِنَّهُمْ لَمْ يُفَرِّقُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَيْنَ (كَيْفَ) وَبَيْنَ غَيْرِهَا مِنْ أَدَوَاتِ التَّعْلِيقِ، فَالطَّلاَقُ عِنْدَهُمْ لاَ يَقَعُ حَتَّى تُعْرَفَ مَشِيئَتُهَا بِقَوْلِهَا، فَقَدْ جَاءَ فِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ أَنَّهُ لَوْ قَال: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شِئْتِ أَوْ إِِذَا شِئْتِ، أَوْ مَتَى شِئْتِ، أَوْ كَيْفَ شِئْتِ. . إِلَخْ لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى تَقُول: قَدْ شِئْتُ؛ لأَِنَّ مَا فِي الْقَلْبِ لاَ يُعْلَمُ حَتَّى يُعَبِّرَ عَنْهُ اللِّسَانُ. (1)
ي - حَيْثُ، وَأَيْنَ:
25 - (حَيْثُ) اسْمٌ لِلْمَكَانِ الْمُبْهَمِ.
قَال الأَْخْفَشُ: وَقَدْ تَكُونُ لِلزَّمَانِ. (وَحَيْثُ) مِنْ صِيَغِ التَّعْلِيقِ، لِشَبَهِهَا (بِإِِنْ) فِي الإِِْبْهَامِ، وَتَعْلِيقُ التَّصَرُّفِ بِهَا لاَ يَتَعَدَّى مَجْلِسَ التَّخَاطُبِ تَشْبِيهًا لَهَا بِ (إِنْ) أَيْضًا، فَإِِنَّ تَعْلِيقَ الطَّلاَقِ مَثَلاً بِمَشِيئَةِ الْمَرْأَةِ بِ (إِنْ) لاَ يَتَعَدَّى مَجْلِسَ التَّخَاطُبِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. (2)
فَلَوْ قَال لاِمْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ حَيْثُ شِئْتِ، فَإِِنَّهَا لاَ تَطْلُقُ قَبْل الْمَشِيئَةِ، وَتَتَوَقَّفُ مَشِيئَتُهَا عَلَى الْمَجْلِسِ؛ لأَِنَّ (حَيْثُ) مِنْ ظُرُوفِ الْمَكَانِ، وَلاَ اتِّصَال لِلطَّلاَقِ بِالْمَكَانِ، فَيَلْغُوَ ذِكْرُهُ، وَيَبْقَى
__________
(1) الروضة 8 / 159، وكشاف القناع 5 / 309.
(2) انظر تفصيل ذلك كله في مغني اللبيب 1 / 140، 141، والفتاوى الهندية 1 / 402.(12/309)
ذِكْرُ الْمَشِيئَةِ فِي الطَّلاَقِ، فَيَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ.
وَأَوْرَدَ الْبُهُوتِيُّ (حَيْثُ) فِي صِيَغِ التَّعْلِيقِ، وَأَنَّهَا تُعَامَل مُعَامَلَةَ غَيْرِهَا مِنْ أَدَوَاتِ التَّعْلِيقِ، فَتَعَلُّقُ الْحُكْمِ بِهَا لاَ يَكُونُ قَاصِرًا عَلَى الْمَجْلِسِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، بَل يَتَعَدَّاهُ إِِلَى غَيْرِهِ. فَلَوْ قَال: أَنْتِ طَالِقٌ حَيْثُ شِئْتِ، فَإِِنَّهَا لاَ تَطْلُقُ حَتَّى تُعْرَفَ مَشِيئَتُهَا بِقَوْلِهَا، سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ عَلَى الْفَوْرِ أَمْ عَلَى التَّرَاخِي. وَلَمْ يَذْكُرْهَا الْمَالِكِيَّةُ، وَلاَ النَّوَوِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الرَّوْضَةِ. (1)
26 - وَمِثْل (حَيْثُ) فِيمَا تَقَدَّمَ أَيْنَ، فَإِِنَّهَا أَيْضًا اسْمٌ لِلْمَكَانِ الْمُبْهَمِ، وَذَكَرَهَا صَاحِبُ فَتْحِ الْغَفَّارِ وَعَدَّهَا مِنْ أَدَوَاتِ التَّعْلِيقِ، وَذَكَرَهَا أَيْضًا صَاحِبُ كَشَّافِ الْقِنَاعِ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ (إِنْ) فِي الْحُكْمِ. (2)
ك - أَنَّى:
27 - وَهِيَ اسْمٌ اتِّفَاقًا وُضِعَ لِلدَّلاَلَةِ عَلَى الأَْمْكِنَةِ ثُمَّ ضُمِّنَ مَعْنَى الشَّرْطِ، وَتَرِدُ فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَى أَيْنَ، وَبِمَعْنَى كَيْفَ، وَبِمَعْنَى مَتَى.
هَذَا وَقَدْ ذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ فِي كُتُبِهِمْ: أَنَّهَا مِنَ
__________
(1) كشف الأسرار 2 / 203، وفتح الغفار 2 / 39 - 40، أصول السرخسي 1 / 234، والدسوقي 2 / 361 - 405، وجواهر الإكليل 1 / 337 - 357، والروضة 8 / 128 - 162، وكشاف القناع 5 / 309.
(2) فتح الغفار 2 / 39 ط الحلبي، وكشاف القناع 5 / 309 ط النصر.(12/310)
الأَْلْفَاظِ الَّتِي يُعَلَّقُ بِهَا الْحُكْمُ، فَقَدْ جَاءَ فِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ: أَنَّهُ لَوْ قَال: أَنْتِ طَالِقٌ أَنَّى شِئْتِ، فَإِِنَّهَا لاَ تَطْلُقُ حَتَّى تُعْرَفَ مَشِيئَتُهَا بِقَوْلِهَا، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ (إِنْ) لأَِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا تَدُل عَلَى التَّعْلِيقِ. (1)
ثَالِثًا: شُرُوطُ التَّعْلِيقِ:
28 - يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ التَّعْلِيقِ أُمُورٌ:
الأَْوَّل: أَنْ يَكُونَ الْمُعَلَّقُ عَلَيْهِ أَمْرًا مَعْدُومًا عَلَى خَطَرِ الْوُجُودِ، أَيْ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ أَنْ يَكُونَ وَأَنْ لاَ يَكُونَ، فَالتَّعْلِيقُ عَلَى الْمُحَقَّقِ تَنْجِيزٌ، وَعَلَى الْمُسْتَحِيل لَغْوٌ. (2)
الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُعَلَّقُ عَلَيْهِ أَمْرًا يُرْجَى الْوُقُوفُ عَلَى وُجُودِهِ، فَتَعْلِيقُ التَّصَرُّفِ عَلَى أَمْرٍ غَيْرِ مَعْلُومٍ لاَ يَصِحُّ، فَلَوْ عَلَّقَ الطَّلاَقَ مَثَلاً عَلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، بِأَنْ قَال لاِمْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَإِِنَّ الطَّلاَقَ لاَ يَقَعُ اتِّفَاقًا؛ لأَِنَّهُ عَلَّقَهُ عَلَى شَيْءٍ لاَ يُرْجَى الْوُقُوفُ عَلَى وُجُودِهِ. (3)
__________
(1) التصريح على التوضيح 2 / 248، وروح المعاني 2 / 124 - 125، وكشاف القناع 5 / 39.
(2) حاشية ابن عابدين 2 / 493، والأشباه والنظائر لابن نجيم / 367.
(3) تبيين الحقائق 2 / 243، وجواهر الإكليل 1 / 243، 244، وحاشة قليوبي وعميرة 3 / 342، والإنصاف 9 / 104.(12/310)
الثَّالِثُ: أَنْ لاَ يُوجَدَ فَاصِلٌ بَيْنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، أَيْ بَيْنَ الْمُعَلَّقِ وَالْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ، فَلَوْ قَال لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ قَال بَعْدَ فَتْرَةٍ مِنَ الزَّمَنِ: إِنْ خَرَجْتِ مِنَ الدَّارِ دُونَ إِذْنٍ مِنِّي لَمْ يَكُنْ تَعْلِيقًا لِلطَّلاَقِ، وَيَكُونُ الطَّلاَقُ مُنَجَّزًا بِالْجُمْلَةِ الأُْولَى. (1)
الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْمُعَلَّقُ عَلَيْهِ أَمْرًا مُسْتَقْبَلاً بِخِلاَفِ الْمَاضِي، فَإِِنَّهُ لاَ مَدْخَل لَهُ فِي التَّعْلِيقِ، فَالإِِْقْرَارُ مَثَلاً لاَ يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ؛ لأَِنَّهُ إِخْبَارٌ عَنْ مَاضٍ، وَالشَّرْطُ إِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالأُْمُورِ الْمُسْتَقْبَلَةِ. (2)
الْخَامِسُ: أَنْ لاَ يَقْصِدَ بِالتَّعْلِيقِ الْمُجَازَاةَ، فَلَوْ سَبَّتْهُ بِمَا يُؤْذِيهِ فَقَال: إِنْ كُنْتُ كَمَا قُلْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، تُنَجَّزُ سَوَاءٌ أَكَانَ الزَّوْجُ كَمَا قَالَتْ أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لأَِنَّ الزَّوْجَ فِي الْغَالِبِ لاَ يُرِيدُ إِلاَّ إِيذَاءَهَا بِالطَّلاَقِ. (3)
فَإِِنْ أَرَادَ التَّعْلِيقَ يَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَل.
السَّادِسُ: أَنْ يُوجَدَ رَابِطٌ كَالْفَاءِ وَإِِذَا الْفُجَائِيَّةِ حَيْثُ كَانَ الْجَزَاءُ مُؤَخَّرًا، وَإِِلاَّ يَتَنَجَّزُ. (4)
__________
(1) ابن عابدين 2 / 494، وكشاف القناع 5 / 284، والأشباه لابن نجيم / 367.
(2) الأشباه والنظائر للسيوطي / 376.
(3) ابن عابدين 2 / 494.
(4) الأشباه والنظائر لابن نجيم / 367، وابن عابدين 2 / 494.(12/311)
السَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الَّذِي يَصْدُرُ مِنْهُ التَّعْلِيقُ مَالِكًا لِلتَّنْجِيزِ أَيْ قَادِرًا عَلَى التَّنْجِيزِ (بِمَعْنَى كَوْنِ الزَّوْجِيَّةِ قَائِمَةً حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا) وَهَذَا الشَّرْطُ فِيهِ خِلاَفٌ، فَالْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ لاَ يَشْتَرِطُونَ ذَلِكَ فِي تَعْلِيقِ الطَّلاَقِ، بَل يَكْتَفُونَ فِيهِ بِمُطْلَقِ الْمِلْكِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مُحَقَّقًا أَمْ مُعَلَّقًا، حَتَّى إِنَّ الْمَالِكِيَّةَ لَمْ يُفَرِّقُوا فِي هَذَا بَيْنَ التَّعْلِيقِ الصَّرِيحِ فِيمَا لَوْ قَال لاِمْرَأَةٍ: إِنْ تَزَوَّجْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَبَيْنَ التَّعْلِيقِ الَّذِي لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ، كَمَا لَوْ قَال لأَِجْنَبِيَّةٍ: هِيَ طَالِقٌ، وَنَوَى عِنْدَ تَزَوُّجِهِ بِهَا، فَإِِنَّ الطَّلاَقَ يَقَعُ فِي الصُّورَتَيْنِ. (1)
29 - وَدَلِيل أَصْحَابِ هَذَا الْقَوْل: أَنَّ هَذَا التَّصَرُّفَ يَمِينٌ لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، فَلاَ يُشْتَرَطُ لِصِحَّتِهِ قِيَامُ الْمِلْكِ فِي الْحَال؛ لأَِنَّ الْوُقُوعَ عِنْدَ الشَّرْطِ، وَالْمِلْكِ مُتَيَقَّنٌ بِهِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ، وَقَبْل ذَلِكَ أَثَرُهُ الْمَنْعُ، وَهُوَ قَائِمٌ بِالْمُتَصَرِّفِ. (2)
وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: فَإِِنَّهُمْ يَشْتَرِطُونَ لِصِحَّةِ التَّعْلِيقِ قِيَامَ الْمِلْكِ فِي حَال التَّعْلِيقِ، بِمَعْنَى أَنْ يَكُونَ الَّذِي يَصْدُرُ مِنْهُ التَّعْلِيقُ قَادِرًا عَلَى التَّنْجِيزِ، وَإِِلاَّ فَلاَ يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ. وَالْقَاعِدَةُ الْفِقْهِيَّةُ عِنْدَهُمْ هِيَ: مَنْ مَلَكَ التَّنْجِيزَ مَلَكَ
__________
(1) فتح القدير 3 / 127 ط دار صادر، والدسوقي 2 / 370 ط الفكر، والخرشي 4 / 37، 38 ط دار صادر.
(2) فتح القدير 3 / 128.(12/311)
التَّعْلِيقَ، وَمَنْ لاَ يَمْلِكُ التَّنْجِيزَ لاَ يَمْلِكُ التَّعْلِيقَ. وَهُنَاكَ اسْتِثْنَاءَاتٌ مِنَ الْقَاعِدَةِ بِشِقَّيْهَا ذَكَرَهَا السُّيُوطِيُّ (1) .
وَدَلِيل أَصْحَابِ هَذَا الْقَوْل مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ بِإِِسْنَادٍ جَيِّدٍ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ نَذْرَ لاِبْنِ آدَمَ فِيمَا لاَ يَمْلِكُ، وَلاَ عِتْقَ لَهُ فِيمَا لاَ يَمْلِكُ، وَلاَ طَلاَقَ لَهُ فِيمَا لاَ يَمْلِكُ (2) .
وَحَدِيثُ: لاَ طَلاَقَ إِلاَّ بَعْدَ نِكَاحٍ (3) وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ أَيْضًا الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَزَادَ: وَإِِنْ عَيَّنَهَا.
وَلاِنْتِفَاءِ الْوِلاَيَةِ مِنَ الْقَائِل عَلَى مَحَل الطَّلاَقِ، وَهُوَ الزَّوْجَةُ (4) .
__________
(1) المنثور 3 / 211 - 215، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 378.
(2) حديث: " لا نذر لابن آدم فيها لا يملك، ولا عتق. . . ". أخرجه الترمذي (3 / 475 ط الحلبي) وأبو داود (2 / 640 تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما وحسنه الترمذي.
(3) حديث: " لا طلاق إلا بعد نكاح ". أخرجه البيهقي (7 / 320 ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه، وأعله ابن حجر في الفتح (9 / 384 ط السلفية) .
(4) كشاف القناع 5 / 285، ومغني المحتاج 3 / 292. (1) مسلم الثبوت 1 / 423، 432 ط صادر.(12/312)
أَثَرُ التَّعْلِيقِ عَلَى التَّصَرُّفَاتِ:
30 - هُنَاكَ مَسْأَلَةٌ أُصُولِيَّةٌ هَامَّةٌ هِيَ: أَنَّ التَّعْلِيقَ هَل يَمْنَعُ السَّبَبَ عَنِ السَّبَبِيَّةِ أَوْ يَمْنَعُ الْحُكْمَ عَنِ الثُّبُوتِ فَقَطْ، لاَ السَّبَبَ عَنِ الاِنْعِقَادِ؟ وَالْخِلاَفُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَيْنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ. فَالْحَنَفِيَّةُ يَرَوْنَ أَنَّ التَّعْلِيقَ يَمْنَعُ السَّبَبَ عَنِ السَّبَبِيَّةِ كَمَا يَمْنَعُ الْحُكْمَ عَنِ الثُّبُوتِ. وَالشَّافِعِيَّةُ يَرَوْنَ أَنَّ التَّعْلِيقَ لاَ يَمْنَعُ السَّبَبَ عَنِ السَّبَبِيَّةِ، وَإِِنَّمَا يَمْنَعُ الْحُكْمَ مِنَ الثُّبُوتِ فَقَطْ، وَلاَ يَمْنَعُ السَّبَبَ عَنِ الاِنْعِقَادِ.
فَكَوْنُ التَّعْلِيقِ يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْحُكْمِ مَحَل اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَكَوْنُهُ يَمْنَعُ السَّبَبَ عَنِ السَّبَبِيَّةِ هُوَ مَحَل الْخِلاَفِ.
فَالْحَنَفِيَّةُ يَرَوْنَ أَنَّهُ يَمْنَعُ، وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى الْعَكْسِ فِي ذَلِكَ. وَمِمَّا يَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ تَعْلِيقُ الطَّلاَقِ وَالْعَتَاقِ بِالْمِلْكِ، فَإِِنَّهُ يَصِحُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَيَقَعُ عِنْدَ وُجُودِ الْمِلْكِ، لِعَدَمِ سَبَبِيَّتِهِ فِي الْحَال، وَإِِنَّمَا يَصِيرُ سَبَبًا عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ وَهُوَ الْمِلْكُ، فَيُصَادِفُ مَحَلًّا مَمْلُوكًا. وَلاَ يَصِحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ؛ لأَِنَّ التَّعْلِيقَ عِنْدَهُمْ يَنْعَقِدُ سَبَبًا لِلْحُكْمِ فِي الْحَال، وَالْمَحَل هُنَا غَيْرُ مَمْلُوكٍ، فَيَلْغُو، وَلاَ يَقَعُ شَيْءٌ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ. (1)
31 - التَّصَرُّفَاتُ مِنْ حَيْثُ قَبُولُهَا التَّعْلِيقَ أَوْ عَدَمُ قَبُولِهَا لَهُ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
__________
(1) مسلم الثبوت 1 / 423، 432 ط صادر.(12/312)
أَحَدُهُمَا: تَصَرُّفَاتٌ تَقْبَل التَّعْلِيقَ وَهِيَ.
الإِِْيلاَءُ وَالتَّدْبِيرُ وَالْحَجُّ وَالْخُلْعُ وَالطَّلاَقُ وَالظِّهَارُ وَالْعِتْقُ وَالْكِتَابَةُ وَالنَّذْرُ وَالْوِلاَيَةُ.
الثَّانِي: تَصَرُّفَاتٌ لاَ تَقْبَل التَّعْلِيقَ وَهِيَ: الإِِْجَارَةُ وَالإِِْقْرَارُ وَالإِِْيمَانُ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَالْبَيْعُ وَالرَّجْعَةُ وَالنِّكَاحُ وَالْوَقْفُ وَالْوَكَالَةُ.
وَضَابِطُ ذَلِكَ: أَنَّ مَا كَانَ تَمْلِيكًا مَحْضًا لاَ مَدْخَل لِلتَّعْلِيقِ فِيهِ قَطْعًا كَالْبَيْعِ، وَمَا كَانَ حَلًّا (أَيْ إِسْقَاطًا) مَحْضًا يَدْخُلُهُ التَّعْلِيقُ قَطْعًا كَالْعِتْقِ. وَبَيْنَ الْمَرْتَبَتَيْنِ مَرَاتِبُ يَجْرِي فِيهَا الْخِلاَفُ كَالْفَسْخِ وَالإِِْبْرَاءِ؛ لأَِنَّهُمَا يُشْبِهَانِ التَّمْلِيكَ، وَكَذَلِكَ الْوَقْفُ، وَفِيهِ شَبَهٌ يَسِيرٌ بِالْعِتْقِ فَجَرَى فِيهِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ. (1)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
أَوَّلاً: التَّصَرُّفَاتُ الَّتِي تَقْبَل التَّعْلِيقَ:
أ - الإِِْيلاَءُ:
32 - الإِِْيلاَءُ يَقْبَل التَّعْلِيقَ عَلَى الشَّرْطِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، كَأَنْ يَقُول: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَوَاللَّهِ لاَ أَقْرَبُكِ، فَإِِنَّهُ يَصِيرُ مُولِيًا عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ لأَِنَّ الإِِْيلاَءَ يَمِينٌ يَحْتَمِل التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ كَسَائِرِ الأَْيْمَانِ.
وَذَكَرَ الزَّرْكَشِيُّ فِي الْمَنْثُورِ أَنَّ الإِِْيلاَءَ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي تَقْبَل التَّعْلِيقَ عَلَى الشَّرْطِ
__________
(1) المنثور للزركشي 1 / 378، والأشباه للسيوطي / 377.(12/313)
وَلاَ تَقْبَل الشَّرْطَ، فَلاَ يَصِحُّ قَوْلُهُ: آلَيْتُ مِنْكِ بِشَرْطِ كَذَا. (1)
وَالتَّفْصِيل مَحَلُّهُ مُصْطَلَحُ (إِيلاَءٌ) .
ب - الْحَجُّ:
33 - ذَكَرَ الزَّرْكَشِيُّ فِي الْمَنْثُورِ أَنَّ الْحَجَّ يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ، كَأَنْ يَقُول: إِنْ أَحْرَمَ فُلاَنٌ فَقَدْ أَحْرَمْتُ. وَيَقْبَل الشَّرْطَ كَأَنْ يَقُول: أَحْرَمْتُ عَلَى أَنِّي إِِذَا مَرِضْتُ فَأَنَا حَلاَلٌ. (2)
وَالتَّفْصِيل مَحَلُّهُ مُصْطَلَحُ (حَجٌّ) .
ج - الْخُلْعُ:
34 - الْخُلْعُ إِنْ كَانَ مِنْ جَانِبِ الزَّوْجَةِ، بِأَنْ كَانَتْ هِيَ الْبَادِئَةُ بِسُؤَال الطَّلاَقِ، فَإِِنَّهُ لاَ يَقْبَل التَّعْلِيقَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، لأَِنَّ الْخُلْعَ مِنْ جَانِبِهَا مُعَاوَضَةٌ. وَإِِنْ كَانَ مِنْ جَانِبِ الزَّوْجِ فَإِِنَّهُ يَقْبَل التَّعْلِيقَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ؛ لأَِنَّ الْخُلْعَ مِنْ جَانِبِهِ طَلاَقٌ، وَمِثْلُهُ الطَّلاَقُ عَلَى مَالٍ.
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَلَمْ يُجَوِّزُوا تَعْلِيقَ الْخُلْعِ قِيَاسًا عَلَى الْبَيْعِ.
__________
(1) بدائع الصنائع 3 / 165، والخرشي 4 / 90، والروضة 8 / 244، وكشاف القناع 5 / 359، والمنثور 1 / 375.
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 31 ط المصرية، والدسوقي 4 / 380 ط دار الفكر، والمنثور 1 / 371، 373 ط الفليج، وكشاف القناع 4 / 532 ط النصر.(12/313)
وَذَكَرَ الزَّرْكَشِيُّ فِي الْمَنْثُورِ: أَنَّ الْخُلْعَ إِنْ جَعَلْنَاهُ طَلاَقًا فَإِِنَّهُ يَقْبَل التَّعْلِيقَ عَلَى الشُّرُوطِ وَلاَ يَقْبَل الشَّرْطَ. (1)
وَالتَّفْصِيل مَحَلُّهُ مُصْطَلَحُ (خُلْعٌ) .
د - الطَّلاَقُ:
35 - مُجْمَل مَا قَالَهُ الْفُقَهَاءُ فِي الطَّلاَقِ هُوَ أَنَّ الطَّلاَقَ يَقْبَل التَّعْلِيقَ اتِّفَاقًا، وَيَقَعُ بِحُصُول الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ.
وَذَكَرَ الزَّرْكَشِيُّ فِي الْمَنْثُورِ: أَنَّ الطَّلاَقَ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي تَقْبَل التَّعْلِيقَ عَلَى الشَّرْطِ وَلاَ تَقْبَل الشَّرْطَ. (2)
وَالْفُقَهَاءُ يَذْكُرُونَ مَسَائِل كَثِيرَةً فِي تَعْلِيقِ الطَّلاَقِ، كَتَعْلِيقِهِ عَلَى الْمَشِيئَةِ أَوِ الْحَمْل أَوِ الْوِلاَدَةِ أَوْ عَلَى فِعْل غَيْرِهِ، وَتَعْلِيقُهُ عَلَى الطَّلاَقِ نَفْسِهِ، وَتَعْلِيقُهُ عَلَى أَمْرٍ مُسْتَقْبَلٍ أَوْ أَمْرٍ يَسْتَحِيل وُقُوعُهُ، وَغَيْرُهَا مِنَ الْمَسَائِل الَّتِي يَطُول الْكَلاَمُ بِذِكْرِهَا فَلْيُرْجَعْ لِتَفْصِيلِهَا إِِلَى (الطَّلاَقِ) . (3)
__________
(1) تبيين الحقائق 2 / 272، وبدائع الصنائع 3 / 152، وجواهر الإكليل 1 / 335، والروضة 7 / 382، وكشاف القناع 5 / 217، والمنثور 1 / 375 ط الفليج، وانظر ما جاء في الموسوعة الفقهية 4 / 234.
(2) المنثور 1 / 375 ط الفليج.
(3) فتح القدير 3 / 127 - 142، وتبيين الحقائق / 231 - 243، وابن عابدين 2 / 492 - 520، وفتاوى قاضيخان بهامش الفتاوى الهندية 1 / 471 - 519، والفتاوى الهندية 1 / 415 - 454، وجواهر الإكليل 1 / 341، والدسوقي 2 / 370، وأسهل المدارك 2 / 153 - 156، والروضة 8 / 114 - 185، وحاشية قليوبي 3 / 350 - 364، ونهاية المحتاج 7 / 10 - 53، وتحفة المحتاج 8 / 87 - 146، وكشاف القناع 5 / 284 - 319، والإنصاف 9 / 59 - 119، والمغني لابن قدامة 7 / 178 - 235.(12/314)
هـ - الظِّهَارُ:
36 - يَصِحُّ تَعْلِيقُ الظِّهَارِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الظِّهَارَ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ كَالطَّلاَقِ، وَيَقْتَضِي الْكَفَّارَةَ كَالْيَمِينِ. وَكُلٌّ مِنَ الطَّلاَقِ وَالْيَمِينِ يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ. فَمَنْ قَال لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ، لاَ يَصِيرُ مُظَاهِرًا مِنْهَا قَبْل دُخُولِهَا الدَّارَ.
وَذَكَرَ الزَّرْكَشِيُّ فِي الْمَنْثُورِ: أَنَّ الظِّهَارَ كَالطَّلاَقِ فِي كَوْنِهِ يَقْبَل التَّعْلِيقَ عَلَى الشَّرْطِ وَلاَ يَقْبَل الشَّرْطَ. (1)
وَالتَّفْصِيل مَحَلُّهُ مُصْطَلَحُ (ظِهَارٌ) .
وَ - الْعِتْقُ:
37 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى صِحَّةِ تَعْلِيقِ الْعِتْقِ بِالشَّرْطِ وَالصِّفَةِ، عَلَى تَفْصِيلٍ فِيهِمَا يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (عِتْقٌ) . (2)
__________
(1) بدائع الصنائع 3 / 232، وجواهر الإكليل 1 / 371، وشرح الزرقاني 4 / 164، 165، والخرشي 4 / 103، ومغني المحتاج 3 / 354، ونهاية المحتاج 7 / 79، وكشاف القناع 5 / 373، والمنثور 1 / 375.
(2) البحر الرائق 4 / 249، وتبيين الحقائق 3 / 71، ومواهب الجليل 6 / 333، والدسوقي 4 / 365، والقليوبي 4 / 365، وكشاف القناع 4 / 521، والإنصاف 7 / 413.(12/314)
ز - الْمُكَاتَبَةُ:
38 - يَجُوزُ تَعْلِيقُ الْمُكَاتَبَةِ بِالشَّرْطِ، وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ سَبَقَ فِي مُصْطَلَحِ (إِسْقَاطٌ) وَرَاجِعْ مُصْطَلَحَ (مُكَاتَبَةٌ) . (1)
ح - النَّذْرُ:
39 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ تَعْلِيقِ النَّذْرِ بِالشَّرْطِ، وَلاَ يَجِبُ الْوَفَاءُ قَبْل حُصُول الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ؛ لِعَدَمِ وُجُودِ سَبَبِ الْوَفَاءِ، فَمَتَى وُجِدَ الْمُعَلَّقُ عَلَيْهِ وُجِدَ النَّذْرُ وَلَزِمَ الْوَفَاءُ بِهِ. (2) عَلَى تَفْصِيلٍ فِي ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (نَذْرٌ) .
ط - الْوِلاَيَةُ:
40 - وَيُمَثَّل لَهَا بِالإِِْمَارَةِ وَالْقَضَاءِ وَالْوِصَايَةِ، أَمَّا الإِِْمَارَةُ وَالْقَضَاءُ فَيَجُوزُ تَعْلِيقُهُمَا بِالشَّرْطِ لأَِنَّهُمَا وِلاَيَةٌ مَحْضَةٌ. (3)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ مَحَلُّهُ مُصْطَلَحُ (إِمَارَةٌ) وَمُصْطَلَحُ (قَضَاءٌ) .
وَأَمَّا الْوِصَايَةُ فَيَجُوزُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ تَعْلِيقُهَا
__________
(1) مصطلح (إسقاط) الموسوعة الفقهية 4 / 234.
(2) بدائع الصنائع 5 / 93، وجواهر الإكليل 1 / 244، وحاشية قليوبي 4 / 288، 289، وكشاف القناع 6 / 277.
(3) جامع الفصولين 2 / 2، والأشباه والنظائر لابن نجم / 368، والفتاوى الهندية 4 / 396.(12/315)
بِالشَّرْطِ لِقُرْبِهَا مِنَ الإِِْمَارَةِ، فَإِِذَا قَال: إِِذَا مِتُّ فَفُلاَنٌ وَصِيِّي، فَإِِنَّ الْمَذْكُورَ يَصِيرُ وَصِيًّا عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ لِلْخَبَرِ الصَّحِيحِ فَإِِنْ قُتِل زَيْدٌ أَوِ اسْتُشْهِدَ فَأَمِيرُكُمْ جَعْفَرٌ، فَإِِنْ قُتِل أَوِ اسْتُشْهِدَ فَأَمِيرُكُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ (1) .
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَإِِنَّهُمْ لَمْ يُصَرِّحُوا بِجَوَازِ تَعْلِيقِهَا. (2)
وَالتَّفْصِيل مَحَلُّهُ مُصْطَلَحِ: (وِصَايَةٌ) .
ثَانِيًا - التَّصَرُّفَاتُ الَّتِي لاَ تَقْبَل التَّعْلِيقَ:
أ - الإِِْجَارَةُ:
41 - لاَ يَجُوزُ الإِِْجَارَةُ عَلَى الشَّرْطِ بِالاِتِّفَاقِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ وَذَلِكَ لأَِنَّ مَنْفَعَةَ الْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَةِ تُنْقَل مِلْكِيَّتُهَا فِي مُدَّةِ الإِِْجَارَةِ مِنَ الْمُؤَجَّرِ إِِلَى الْمُسْتَأْجِرِ. وَانْتِقَال الأَْمْلاَكِ لاَ يَكُونُ إِلاَّ مَعَ الرِّضَا، وَالرِّضَا إِنَّمَا يَكُونُ مَعَ الْجَزْمِ، وَلاَ جَزْمَ مَعَ التَّعْلِيقِ. (3)
__________
(1) حديث: عن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما قال: " بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشا استعمل عليهم زيد بن حارثة وقال: فإن قتل زيد أو استشهد فأميركم جعفر، فإن قتل أو استشهد فأميركم عبد الله بن رواحه ". رواه أحمد (1 / 204 ط الميمنية) وصححه ابن حجر في الفتح (6 / 511 ط السلفية) له شاهد من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهم في البخاري (الفتح 7 / 510 ط السلفية) .
(2) جامع الفصولين 2 / 2، والزرقاني 8 / 275 - 203، وجواهر الإكليل 2 / 316 - 327، والدسوقي 4 / 422 - 456، والمنثور 1 / 371، وكشاف القناع 4 / 395.
(3) الفتاوى الهندية 4 / 396، والفروق 1 / 229، والمنثور 1 / 374. وانظر في الموسوعة الفقهية مصطلح (إجارة) .(12/315)
ب - الإِِْقْرَارُ:
42 - لاَ يَجُوزُ تَعْلِيقُ الإِِْقْرَارِ عَلَى الشَّرْطِ بِالاِتِّفَاقِ؛ لأَِنَّ الْمُقِرَّ يُعْتَبَرُ بِذَلِكَ مُقِرًّا فِي الْحَال؛ وَلأَِنَّ التَّعْلِيقَ عَلَى الشَّرْطِ فِي مَعْنَى الرُّجُوعِ عَنْ إِقْرَارٍ، وَالإِِْقْرَارُ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ لاَ يَحْتَمِل الرُّجُوعَ؛ وَلأَِنَّ الإِِْقْرَارَ إِخْبَارٌ عَنْ حَقٍّ سَابِقٍ فَلاَ يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ، لِوُجُوبِهِ قَبْل الشَّرْطِ. (1) وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (إِقْرَارٌ) .
ج - الإِِْيمَانُ بِاللَّهِ تَعَالَى:
43 - الإِِْيمَانُ بِاللَّهِ تَعَالَى لاَ يَقْبَل التَّعْلِيقَ عَلَى الشَّرْطِ، فَإِِذَا قَال: إِنْ كُنْتُ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ كَاذِبًا فَأَنَا مُسْلِمٌ، فَإِِنَّهُ إِنْ كَانَ كَذَلِكَ لاَ يَحْصُل لَهُ إِسْلاَمٌ؛ لأَِنَّ الدُّخُول فِي الدِّينِ يُفِيدُ الْجَزْمَ بِصِحَّتِهِ، وَالْمُعَلَّقُ لَيْسَ بِجَازِمٍ. (2)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (إِيمَانٌ) .
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم / 367 ط الهلال، والفتاوى الهندية 4 / 396 ط المكتبة الإسلامية، والفروق للقرافي 1 / 229 ط دار إحياء الكتب العربية، وجواهر الإكليل 2 / 133 ط المعرفة، والمنثور 1 / 375 ط الفليج، وكشاف القناع 6 / 466 ط النصر، وانظر الموسوعة 6 / 65.
(2) الفروق للقرافي 1 / 229، والمنثور للزركشي 1 / 373، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 376.(12/316)
د - الْبَيْعُ:
44 - لاَ يَجُوزُ فِي الْجُمْلَةِ تَعْلِيقُ الْبَيْعِ عَلَى الشَّرْطِ بِالاِتِّفَاقِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الْبَيْعَ فِيهِ انْتِقَالٌ لِلْمِلْكِ مِنْ طَرَفٍ إِِلَى طَرَفٍ، وَانْتِقَال الأَْمْلاَكِ إِنَّمَا يَعْتَمِدُ الرِّضَا، وَالرِّضَا يَعْتَمِدُ الْجَزْمَ، وَلاَ جَزْمَ مَعَ التَّعْلِيقِ. (1)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (بَيْعٌ)
هـ - الرَّجْعَةُ:
45 - لاَ يَجُوزُ تَعْلِيقُ الرَّجْعَةِ عَلَى شَرْطٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. (2)
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَذَكَرُوا فِي إِبْطَال الرَّجْعَةِ إِنْ عُلِّقَتْ - بِأَنْ قَال لِزَوْجَتِهِ: إِنْ جَاءَ الْغَدُ فَقَدْ رَاجَعْتُكِ - قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الأَْظْهَرُ، أَنَّهَا لاَ تَصِحُّ الآْنَ وَلاَ غَدًا؛ لأَِنَّهُ ضَرْبٌ مِنَ النِّكَاحِ، وَهُوَ لاَ يَكُونُ لأَِجَلٍ، وَلاِفْتِقَارِهَا لِنِيَّةٍ مُقَارِنَةٍ.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا تَبْطُل الآْنَ فَقَطْ، وَتَصِحُّ رَجْعَتُهُ
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن النجيم / 367، والفتاوى الهندية 4 / 396، والفروق للقرافي 1 / 229 ط دار إحياء الكتب العربية، والروضة 3 / 338، والمنثور 1 / 374، وكشاف القناع 3 / 194، 195. ط النصر، ومنتهى الإرادات 1 / 354 ط دار العروبة.
(2) جامع الفصولين 2 / 4، والفتاوى الهندية 4 / 396، والأشباه والنظائر للسيوطي / 376، وروضة الطالبين 8 / 216، وكشاف القناع 5 / 343.(12/316)
فِي الْغَدِ، لأَِنَّ الرَّجْعَةَ حَقٌّ لِلزَّوْجِ فَلَهُ تَعْلِيقُهَا. (1)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (رَجْعَةٌ) .
وَ - النِّكَاحُ:
46 - لاَ يَجُوزُ تَعْلِيقُ النِّكَاحِ عَلَى شَرْطٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَلاَ يَجُوزُ عِنْدَهُمْ تَعْلِيقُ ابْتِدَاءِ النِّكَاحِ عَلَى شَرْطٍ مُسْتَقْبَلٍ غَيْرِ مَشِيئَةِ اللَّهِ، لأَِنَّهُ - كَمَا جَاءَ فِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ - عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَلاَ يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ عَلَى شَرْطٍ مُسْتَقْبَلٍ كَالْبَيْعِ (2) . وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (نِكَاحٌ) .
ز - الْوَقْفُ:
47 - لاَ يَجُوزُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ تَعْلِيقُ الْوَقْفِ عَلَى شَرْطٍ، مِثْل أَنْ يَقُول: إِنْ قَدِمَ وَلَدِي فَدَارِي صَدَقَةٌ مَوْقُوفَةٌ عَلَى الْمَسَاكِينِ؛ لاِشْتِرَاطِهِمُ التَّنْجِيزَ فِيهِ.
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَجَوَّزُوا تَعْلِيقَهُ لِعَدَمِ اشْتِرَاطِهِمُ التَّنْجِيزَ فِيهِ قِيَاسًا عَلَى الْعِتْقِ. (3)
__________
(1) جواهر الإكليل 1 / 363، والدسوقي على شرح الدردير 2 / 420.
(2) جامع الفصولين 2 / 5، والفتاوى الهندية 4 / 396، وجواهر الإكليل 1 / 284، والتاج والإكليل هامش مواهب الجليل 3 / 446، والروضة 7 / 40، والمنثور 1 / 373، وكشاف القناع 5 / 97، 98.
(3) نتائج الأفكار 5 / 37، وحاشية ابن عابدين 3 / 362، والدسوقي 4 / 87.(12/317)
وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ: فَلاَ يَجُوزُ عِنْدَهُمْ وَلاَ يَصِحُّ تَعْلِيقُ الْوَقْفِ فِيمَا لاَ يُضَاهِي التَّحْرِيرَ، كَقَوْلِهِ: إِِذَا جَاءَ زَيْدٌ فَقَدْ وَقَفْتُ كَذَا عَلَى كَذَا؛ لأَِنَّهُ عَقْدٌ يَقْتَضِي نَقْل الْمِلْكِ فِي الْمَوْقُوفِ لِلَّهِ تَعَالَى أَوْ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ حَالاً كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ.
أَمَّا مَا يُضَاهِي التَّحْرِيرَ، كَجَعَلْتُهُ مَسْجِدًا إِِذَا جَاءَ رَمَضَانُ، فَالظَّاهِرُ صِحَّتُهُ كَمَا ذَكَرَ ابْنُ الرِّفْعَةِ. وَمَحَل ذَلِكَ مَا لَمْ يُعَلِّقْهُ بِالْمَوْتِ، فَإِِنْ عَلَّقَهُ بِهِ كَوَقَفْتُ دَارِي بَعْدَ مَوْتِي عَلَى الْفُقَرَاءِ فَإِِنَّهُ يَصِحُّ. قَالَهُ الشَّيْخَانِ، وَكَأَنَّهُ وَصِيَّةٌ لِقَوْل الْقَفَّال: لَوْ عَرَضَهَا لِلْبَيْعِ كَانَ رُجُوعًا. (1)
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ: فَلَمْ يُجَوِّزُوا تَعْلِيقَ ابْتِدَاءِ الْوَقْفِ عَلَى شَرْطٍ فِي الْحَيَاةِ، مِثْل أَنْ يَقُول: إِِذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ فَدَارِي وَقْفٌ أَوْ فَرَسِي حَبِيسٌ، وَنَحْوُ ذَلِكَ؛ وَلأَِنَّهُ نَقْلٌ لِلْمِلْكِ فِيمَا لَمْ يُبْنَ عَلَى التَّغْلِيبِ وَالسِّرَايَةِ فَلَمْ يَجُزْ تَعْلِيقُهُ عَلَى شَرْطٍ كَالْهِبَةِ.
وَذَكَرَ ابْنُ قُدَامَةَ أَنَّهُ لاَ يَعْلَمُ فِي هَذَا خِلاَفًا.
وَسَوَّى الْمُتَأَخِّرُونَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ بَيْنَ تَعْلِيقِهِ بِالْمَوْتِ وَتَعْلِيقِهِ بِشَرْطٍ فِي الْحَيَاةِ.
وَأَمَّا تَعْلِيقُ انْتِهَاءِ الْوَقْفِ بِوَقْتٍ كَقَوْلِهِ: دَارِي وَقْفٌ إِِلَى سَنَةٍ، أَوْ إِِلَى أَنْ يَقْدَمَ الْحَاجُّ، فَلاَ يَصِحُّ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، لأَِنَّهُ يُنَافِي مُقْتَضَى
__________
(1) نهاية المحتاج 5 / 372.(12/317)
الْوَقْفِ وَهُوَ التَّأْبِيدُ. وَفِي الْوَجْهِ الآْخَرِ: يَصِحُّ لأَِنَّهُ مُنْقَطِعُ الاِنْتِهَاءِ. (1)
ح - الْوَكَالَةُ:
48 - يَجُوزُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ تَعْلِيقُ الْوَكَالَةِ عَلَى شَرْطٍ، كَأَنْ يَقُول: إِنْ قَدِمَ زَيْدٌ فَأَنْتَ وَكِيلِي فِي بَيْعِ كَذَا؛ لأَِنَّ التَّوْكِيل - كَمَا يَقُول الْكَاسَانِيُّ - إِطْلاَقُ التَّصَرُّفِ، وَالإِِْطْلاَقَاتُ مِمَّا يَحْتَمِل التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ؛ وَلأَِنَّ شُرُوطَ الْمُوَكِّل عِنْدَهُمْ مُعْتَبَرَةٌ، فَلَيْسَ لِلْوَكِيل أَنْ يُخَالِفَهَا، فَلَوْ قَيَّدَ الْوَكَالَةَ بِزَمَانٍ أَوْ مَكَانٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَلَيْسَ لِلْوَكِيل مُخَالَفَةُ ذَلِكَ. (2)
وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ فِي تَعْلِيقِ الْوَكَالَةِ بِشَرْطٍ مِنْ صِفَةٍ أَوْ وَقْتٍ وَجْهَيْنِ:
أَصَحُّهُمَا: لاَ يَصِحُّ قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ الْعُقُودِ بِاسْتِثْنَاءِ الْوَصِيَّةِ لِقَبُولِهَا الْجَهَالَةَ، وَبِاسْتِثْنَاءِ الإِِْمَارَةِ لِلْحَاجَةِ.
وَثَانِيهِمَا: تَصِحُّ قِيَاسًا عَلَى الْوَصِيَّةِ (3) .
__________
(1) المغني 5 / 628، وراجع مصطلح (وقف) في الموسوعة الفقهية.
(2) بدائع الصنائع 6 / 20، والتاج والإكليل هامش مواهب الجليل 5 / 196، والدسوقي 3 / 383.
(3) نهاية المحتاج 5 / 28، وكشاف القناع 3 / 462، والمغني 5 / 93، وراجع مصطلح (وكالة) في الموسوعة الفقهية.(12/318)
تَعْلِيلٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّعْلِيل لُغَةً: مِنْ عَل يَعُل وَاعْتَل أَيْ: مَرِضَ فَهُوَ عَلِيلٌ. وَالْعِلَّةُ: الْمَرَضُ الشَّاغِل. وَالْجَمْعُ عِلَلٌ. (1) وَالْعِلَّةُ فِي اللُّغَةِ أَيْضًا: السَّبَبُ. وَاصْطِلاَحًا: تَقْرِيرُ ثُبُوتِ الْمُؤَثِّرِ لإِِِثْبَاتِ الأَْثَرِ وَقِيل: إِظْهَارُ عِلِّيَّةِ الشَّيْءِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ تَامَّةً أَمْ نَاقِصَةً (2) .
وَالْعِلَّةُ عَرَّفَهَا الأُْصُولِيُّونَ بِقَوْلِهِمْ: الْعِلَّةُ هِيَ الْوَصْفُ الظَّاهِرُ الْمُنْضَبِطُ الَّذِي يَلْزَمُ مِنْ تَرْتِيبِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ مَصْلَحَةٌ لِلْمُكَلَّفِ مِنْ دَفْعِ مَفْسَدَةٍ أَوْ جَلْبِ مَنْفَعَةٍ.
وَلِلْعِلَّةِ أَسْمَاءٌ مِنْهَا: السَّبَبُ وَالْبَاعِثُ وَالْحَامِل وَالْمَنَاطُ وَالدَّلِيل وَالْمُقْتَضِي وَغَيْرُهَا.
وَتُسْتَعْمَل الْعِلَّةُ أَيْضًا بِمَعْنَى: السَّبَبِ، لِكَوْنِهِ مُؤَثِّرًا فِي إِيجَابِ الْحُكْمِ، كَالْقَتْل الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ سَبَبٌ فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ. كَمَا تُسْتَعْمَل الْعِلَّةُ أَيْضًا بِمَعْنَى: الْحِكْمَةِ،
__________
(1) المصباح المنير ولسان العرب وتاج العروس مادة: " علل ".
(2) القاموس والتعريفات للجرجاني ص 61.(12/318)
وَهِيَ الْبَاعِثُ عَلَى تَشْرِيعِ الْحُكْمِ أَوِ الْمَصْلَحَةِ الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا شُرِعَ الْحُكْمُ. (1)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
تَعْلِيل الأَْحْكَامِ:
2 - الأَْصْل فِي أَحْكَامِ الْعِبَادَاتِ عَدَمُ التَّعْلِيل؛ لأَِنَّهَا قَائِمَةٌ عَلَى حِكْمَةٍ عَامَّةٍ، وَهِيَ التَّعَبُّدُ دُونَ إِدْرَاكِ مَعْنًى مُنَاسِبٍ لِتَرْتِيبِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا أَحْكَامُ الْمُعَامَلاَتِ وَالْعَادَاتِ وَالْجِنَايَاتِ وَنَحْوِهَا، فَالأَْصْل فِيهَا: أَنْ تَكُونَ مُعَلَّلَةً؛ لأَِنَّ مَدَارَهَا عَلَى مُرَاعَاةِ مَصَالِحِ الْعِبَادِ، فَرُتِّبَتِ الأَْحْكَامُ فِيهَا عَلَى مَعَانٍ مُنَاسَبَةٍ لِتَحْقِيقِ تِلْكَ الْمَصَالِحِ.
وَالأَْحْكَامُ التَّعَبُّدِيَّةُ لاَ يُقَاسُ عَلَيْهَا لِعَدَمِ إِمْكَانِ تَعْدِيَةِ حُكْمِهَا إِِلَى غَيْرِهَا. (2)
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (تَعَبُّدِيٌّ) .
فَوَائِدُ تَعْلِيل الأَْحْكَامِ:
3 - لِتَعْلِيل الأَْحْكَامِ فَوَائِدُ مِنْهَا: أَنَّ الشَّرِيعَةَ جَعَلَتِ الْعِلَل مُعَرِّفَةً وَمُظْهِرَةً لِلأَْحْكَامِ كَيْ يَسْهُل عَلَى الْمُكَلَّفِينَ الْوُقُوفُ عَلَيْهَا وَالْتِزَامُهَا.
وَمِنْهَا أَنْ تَصِيرَ الأَْحْكَامُ أَقْرَبَ إِِلَى الْقَبُول وَالاِطْمِئْنَانِ. (3)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
__________
(1) التلويح على التوضيح 2 / 372 - 373، وجمع الجوامع بحاشية العطار وإرشاد الفحول ص 207.
(2) الموافقات 2 / 300 - 309، والبرهان 2 / 891 - 795.
(3) التلويح على التوضيح 2 / 382، والأحكام للآمدي 3 / 88.(12/319)
تَعْلِيل النُّصُوصِ:
4 - اخْتَلَفَ الأُْصُولِيُّونَ فِي تَعْلِيل النُّصُوصِ عَلَى أَرْبَعَةِ اتِّجَاهَاتٍ:
أ - أَنَّ الأَْصْل عَدَمُ التَّعْلِيل، حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيل عَلَيْهِ.
ب - أَنَّ الأَْصْل التَّعْلِيل بِكُل وَصْفٍ صَالِحٍ لإِِِضَافَةِ الْحُكْمِ إِلَيْهِ، حَتَّى يُوجَدَ مَانِعٌ عَنِ الْبَعْضِ.
ج - أَنَّ الأَْصْل التَّعْلِيل بِوَصْفٍ، وَلَكِنْ لاَ بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ يُمَيِّزُ الصَّالِحَ مِنَ الأَْوْصَافِ لِلتَّعْلِيل وَغَيْرِ الصَّالِحِ.
د - أَنَّ الأَْصْل فِي النُّصُوصِ التَّعَبُّدُ دُونَ التَّعْلِيل. (1)
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (تَعَبُّدِيٌّ) وَفِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
مَسَالِكُ الْعِلَّةِ:
5 - وَهِيَ الطُّرُقُ الَّتِي يَسْلُكُهَا الْمُجْتَهِدُ لِلْوُقُوفِ عَلَى عِلَل الأَْحْكَامِ.
الْمَسْلَكُ الأَْوَّل: النَّصُّ الصَّرِيحُ.
وَهُوَ أَنْ يُذْكَرَ دَلِيلٌ مِنَ الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ عَلَى التَّعْلِيل بِوَصْفٍ، بِلَفْظٍ مَوْضُوعٍ لَهُ فِي اللُّغَةِ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إِِلَى نَظَرٍ وَاسْتِدْلاَلٍ.
__________
(1) التلويح على التوضيح 2 / 376.(12/319)
وَهُوَ قِسْمَانِ:
الأَْوَّل: مَا صُرِّحَ فِيهِ بِكَوْنِ الْوَصْفِ عِلَّةً أَوْ سَبَبًا لِلْحُكْمِ.
الثَّانِي: مَا جَاءَ فِي الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ مُعَلَّلاً بِحَرْفٍ مِنْ حُرُوفِ التَّعْلِيل.
الْمَسْلَكُ الثَّانِي: الإِِْجْمَاعُ.
الْمَسْلَكُ الثَّالِثُ: الإِِْيمَاءُ وَالتَّنْبِيهُ.
وَهُوَ أَنْ يَكُونَ التَّعْلِيل لاَزِمًا مِنْ مَدْلُول اللَّفْظِ، لاَ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ دَالًّا بِوَضْعِهِ عَلَى التَّعْلِيل. وَهُوَ عَلَى أَقْسَامٍ تُنْظَرُ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
الْمَسْلَكُ الرَّابِعُ: السَّبْرُ وَالتَّقْسِيمُ.
وَهُوَ حَصْرُ الأَْوْصَافِ فِي الأَْصْل، وَإِِبْطَال مَا لاَ يَصْلُحُ مِنْهَا لِلتَّعْلِيل، فَيَتَعَيَّنُ الْبَاقِي لِلتَّعْلِيل.
الْمَسْلَكُ الْخَامِسُ: الْمُنَاسَبَةُ وَالشَّبَهُ وَالطَّرْدُ:
يَنْقَسِمُ الْوَصْفُ الْمُعَلَّل بِهِ إِِلَى قِسْمَيْنِ:
أ - مَا تَظْهَرُ مُنَاسَبَتُهُ لِتَرْتِيبِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ وَيُسَمَّى الْمُنَاسِبَ. وَهُوَ أَنْ يَتَرَتَّبَ الْحُكْمُ عَلَى وَصْفٍ ظَاهِرٍ مُنْضَبِطٍ، يَلْزَمُ مِنْ تَرْتِيبِ الْحُكْمِ عُلَيَّةَ مَصْلَحَةٌ لِلْمُكَلَّفِ مِنْ دَفْعِ مَفْسَدَةٍ أَوْ جَلْبِ مَنْفَعَةٍ. وَيُعَبَّرُ عَنْهَا بِالإِِْخَالَةِ وَبِالْمَصْلَحَةِ وَبِالاِسْتِدْلاَل وَبِرِعَايَةِ الْمَقَاصِدِ. وَيُسَمَّى اسْتِخْرَاجُهَا تَخْرِيجَ الْمَنَاطِ.
ب - مَا لاَ تَظْهَرُ مُنَاسَبَتُهُ لِتَرْتِيبِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ وَيَنْقَسِمُ إِِلَى نَوْعَيْنِ:(12/320)
الأَْوَّل: أَنْ لاَ يُؤَلَّفَ مِنَ الشَّارِعِ اعْتِبَارُهُ فِي بَعْضِ الأَْحْكَامِ، وَيُسَمَّى الْوَصْفَ الطَّرْدِيَّ.
الثَّانِي: أَنْ يُؤَلَّفَ مِنَ الشَّارِعِ اعْتِبَارُهُ فِي بَعْضِ الأَْحْكَامِ، وَيُسَمَّى الْوَصْفَ الشَّبَهِيَّ.
الْمَسْلَكُ السَّادِسُ: تَنْقِيحُ الْمَنَاطِ وَتَحْقِيقُ الْمَنَاطِ وَالدَّوَرَانِ:
وَهِيَ رَاجِعَةٌ فِي حَقِيقَتِهَا إِِلَى الْمَسَالِكِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَمُنْدَرِجَةٌ تَحْتَهَا.
وَتَنْقِيحُ الْمَنَاطِ: هُوَ إِلْحَاقُ الْفَرْعِ بِالأَْصْل بِنَفْيِ الْفَارِقِ بَيْنَهُمَا.
أَمَّا تَحْقِيقُ الْمَنَاطِ: فَهُوَ أَنْ يَجْتَهِدَ الْمُجْتَهِدُ فِي إِثْبَاتِ وُجُودِ الْعِلَّةِ فِي الصُّورَةِ الَّتِي هِيَ مَحَل النِّزَاعِ.
وَأَمَّا الدَّوَرَانُ: فَهُوَ أَنْ يُوجَدَ الْحُكْمُ عِنْدَ وُجُودِ الْوَصْفِ، وَيَرْتَفِعُ بِارْتِفَاعِهِ (1) .
وَفِي بَعْضِ هَذِهِ الْمَسَالِكِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
الْحَدِيثُ الْمُعَلَّل:
6 - هُوَ الَّذِي اطُّلِعَ فِيهِ عَلَى عِلَّةٍ تَقْدَحُ فِي صِحَّتِهِ مَعَ أَنَّ ظَاهِرَهُ السَّلاَمَةُ مِنْهَا، وَهُوَ مِنْ أَنْوَاعِ الْحَدِيثِ الضَّعِيفِ (2)
__________
(1) الأحكام للآمدي 3 / 251 وما بعدها، والمحصول 2 / القسم الثاني ص 193 وما بعدها، وحاشية العطار على جمع الجوامع 2 / 313، والتلويح على التوضيح 2 / 376.
(2) علوم الحديث ص 81، وشرح ألفية العراقي 1 / 226 - 227.(12/320)
تَعْلِيمٌ وَتَعَلُّمٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّعَلُّمُ لُغَةً: مَصْدَرُ تَعَلَّمَ. وَالتَّعَلُّمُ مُطَاوِعُ التَّعْلِيمِ، يُقَال: عَلَّمْتُهُ الْعِلْمَ فَتَعَلَّمَهُ. وَالتَّعْلِيمُ مَصْدَرُ عَلَّمَ: يُقَال: عَلَّمَهُ إِذَا عَرَّفَهُ، وَعَلَّمَهُ وَأَعْلَمَهُ إِيَّاهُ فَتَعَلَّمَهُ، وَعَلِمَ الأَْمْرَ وَتَعَلَّمَهُ: أَتْقَنَهُ. وَالْعِلْمُ نَقِيضُ الْجَهْل.
وَالْعِلْمُ أَيْضًا: هُوَ اعْتِقَادُ الشَّيْءِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ عَلَى سَبِيل الثِّقَةِ. وَجَاءَ بِمَعْنَى: الْمَعْرِفَةِ أَيْضًا (1) . قَال الرَّاغِبُ: التَّعْلِيمُ وَالإِْعْلاَمُ فِي الأَْصْل وَاحِدٌ، إِلاَّ أَنَّ الإِْعْلاَمَ اخْتَصَّ بِمَا كَانَ بِإِخْبَارٍ سَرِيعٍ، وَالتَّعْلِيمُ اخْتَصَّ بِمَا يَكُونُ بِتَكْرِيرٍ وَتَكْثِيرٍ، حَتَّى يَحْصُل مِنْهُ أَثَرٌ فِي نَفْسِ الْمُتَعَلِّمِ. رُبَّمَا اسْتُعْمِل التَّعْلِيمُ بِمَعْنَى الإِْعْلاَمِ إِذَا كَانَ فِيهِ تَكْرِيرٌ (2)
__________
(1) لسان العرب، والقاموس المحيط، والمصباح المنير، والصحاح مادة: " علم ".
(2) مفردات الراغب ص 348 ط كراتشي، باكستان 1380 هـ.(13/5)
نَحْوُ {أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ} (1) . وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ لِلتَّعْلِيمِ عَمَّا ذُكِرَ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّثْقِيفُ:
2 - التَّثْقِيفُ: مَصْدَرُ ثَقَّفَ. يُقَال: ثَقَّفْتُ الرُّمْحَ: أَيْ سَوَّيْتُهُ وَأَزَلْتُ عِوَجَهُ وَيُقَال: رَجُلٌ ثَقِفٌ: إِذَا كَانَ حَاذِقًا فَطِنًا سَرِيعَ الْفَهْمِ، وَثَقَّفَ الإِْنْسَانَ: أَدَّبَهُ وَعَلَّمَهُ وَهَذَّبَهُ (2) . فَالتَّثْقِيفُ أَعَمُّ مِنَ التَّعْلِيمِ.
ب - التَّدْرِيبُ:
3 - التَّدْرِيبُ: مِنَ الدُّرْبَةِ، وَهِيَ: التَّجْرِبَةُ وَالتَّعَوُّدُ وَالْجُرْأَةُ عَلَى الأَْمْرِ. وَقَدْ دَرَّبْتُهُ تَدْرِيبًا، وَمِنْهُ مَا فِي حَدِيثِ الثَّقَفِيِّ " وَكَانَتْ نَاقَةً مُدَرَّبَةً: " أَيْ مُخَرَّجَةً مُؤَدَّبَةً " قَدْ أَلِفَتِ الرُّكُوبَ وَالسَّيْرَ: " أَيْ عُوِّدَتِ الْمَشْيَ فِي الدُّرُوبِ، فَصَارَتْ تَأْلَفُهَا وَتَعْرِفُهَا وَلاَ تَنْفِرُ (3)
فَالتَّدْرِيبُ مِنْ وَسَائِل التَّعْلِيمِ (4) .
__________
(1) سورة الحجرات / 16.
(2) لسان العرب، والصحاح والمعجم الوسيط مادة: " ثقف ".
(3) حديث: الثقفي: " وهي ناقة مدربة " أخرجه مسلم (3 / 1263 ط الجمل) .
(4) لسان العرب.(13/5)
ج - التَّأْدِيبُ:
4 - التَّأْدِيبُ: مَصْدَرُ أَدَّبَ. يُقَال: أَدَّبْتُهُ أَدَبًا مِنْ بَابِ ضَرَبَ، وَيُضَاعَفُ لِلْمُبَالَغَةِ وَالتَّكْثِيرِ، فَيُقَال: أَدَّبْتُهُ - بِالتَّشْدِيدِ - إِذَا عَلَّمْتُهُ رِيَاضَةَ النَّفْسِ وَمَحَاسِنَ الأَْخْلاَقِ. وَالاِسْمُ: الأَْدَبُ. قَال أَبُو زَيْدٍ الأَْنْصَارِيُّ: الأَْدَبُ يَقَعُ عَلَى كُل رِيَاضَةٍ مَحْمُودَةٍ يَتَخَرَّجُ بِهَا الإِْنْسَانُ فِي فَضِيلَةٍ مِنَ الْفَضَائِل. وَيَأْتِي التَّأْدِيبُ أَيْضًا بِمَعْنَى: الْعُقُوبَةِ. يُقَال. أَدَّبْتُهُ تَأْدِيبًا: إِذَا عَاقَبْتُهُ عَلَى إِسَاءَتِهِ، لأَِنَّهُ سَبَبٌ يَدْعُو إِلَى حَقِيقَةِ الأَْدَبِ (1) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ
أ - التَّعَلُّمُ:
5 - تَعَلُّمُ الْعِلْمِ تَعْتَرِيهِ الأَْحْكَامُ الآْتِيَةُ: قَدْ يَكُونُ التَّعَلُّمُ فَرْضَ عَيْنٍ وَهُوَ تَعَلُّمُ مَا لاَ بُدَّ مِنْهُ لِلْمُسْلِمِ، لإِِقَامَةِ دِينِهِ وَإِخْلاَصِ عَمَلِهِ لِلَّهِ تَعَالَى، أَوْ مُعَاشَرَةِ عِبَادِهِ. فَقَدْ فُرِضَ عَلَى كُل مُكَلَّفٍ وَمُكَلَّفَةٍ - بَعْدَ تَعَلُّمِهِ مَا تَصِحُّ بِهِ عَقِيدَتُهُ مِنْ أُصُول الدِّينِ - تَعَلُّمُ مَا تَصِحُّ بِهِ الْعِبَادَاتُ وَالْمُعَامَلاَتُ مِنَ الْوُضُوءِ وَالْغُسْل وَالصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ، وَأَحْكَامِ الزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ لِمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ، وَإِخْلاَصُ النِّيَّةِ فِي الْعِبَادَاتِ لِلَّهِ. وَيَجِبُ تَعَلُّمُ أَحْكَامِ الْبُيُوعِ عَلَى التُّجَّارِ لِيَحْتَرِزُوا عَنِ الشُّبُهَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ فِي سَائِرِ الْمُعَامَلاَتِ،
__________
(1) المصباح المنير، والصحاح مادة: " أدب ".(13/6)
وَكَذَا أَهْل الْحِرَفِ، وَكُل مَنِ اشْتَغَل بِشَيْءٍ يُفْرَضُ عَلَيْهِ تَعَلُّمُ حُكْمِهِ لِيَمْتَنِعَ عَنِ الْحَرَامِ فِيهِ.
وَقَدْ يَكُونُ التَّعَلُّمُ فَرْضَ كِفَايَةٍ، وَهُوَ تَعَلُّمُ كُل عِلْمٍ لاَ يُسْتَغْنَى عَنْهُ فِي قِيَامِ أُمُورِ الدُّنْيَا كَالطِّبِّ وَالْحِسَابِ وَالنَّحْوِ وَاللُّغَةِ وَالْكَلاَمِ وَالْقِرَاءَاتِ وَأَسَانِيدِ الْحَدِيثِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَمِنَ التَّعَلُّمِ مَا هُوَ مَنْدُوبٌ، وَمِنْهُ التَّبَحُّرُ فِي الْفِقْهِ بِالتَّوَسُّعِ فِيهِ، وَالاِطِّلاَعِ عَلَى غَوَامِضِهِ، وَكَذَا غَيْرُهُ مِنَ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ.
وَقَدْ يَكُونُ التَّعَلُّمُ حَرَامًا: وَمِنْهُ تَعَلُّمُ الشَّعْوَذَةِ (1) . وَضَرْبِ الرَّمْل (2) ، وَالسِّحْرِ وَكَذَا الْكِهَانَةُ، وَالْعِرَافَةُ.
وَقَدْ يَكُونُ التَّعَلُّمُ مَكْرُوهًا، وَمِنْهُ تَعَلُّمُ أَشْعَارِ الْغَزَل مِمَّا فِيهِ وَصْفُ النِّسَاءِ الْمُعَيَّنَاتِ، وَتَفْصِيل كُل مَا تَقَدَّمَ فِي مُصْطَلَحِهِ الْخَاصِّ.
وَقَدْ يَكُونُ التَّعَلُّمُ مُبَاحًا، وَمِنْهُ الأَْشْعَارُ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا مَا يُنْكَرُ مِنَ اسْتِخْفَافٍ بِأَحَدِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ ذِكْرِ عَوْرَاتِهِمْ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ (3) .
__________
(1) وهي: خفة في اليد كالسحر ترى الشيء بغير ما عليه كما في القاموس، وفي المصباح هي: لعب يرى الإنسان منها ما ليس له حقيقة كالسحر، وانظر إحياء علوم الدين (1 / 16 وما بعدها) .
(2) الرمل: هو علم بضروب أشكال من الخطوط والنقط بقواعد معلومة تخرج حروفا تجمع ويستخرج جملة دالة على عواقب الأمور، وهو حرام قطعا، وتعلمه وتعليمه حرام، لما فيه من إيهام العوام أن فاعله يشارك الله تعالى في غيبه.
(3) حاشية رد المحتار على الدر المختار، وشرح تنوير الأبصار 1 / 42 - 47 ط مصطفى الحلبي بمصر الطبعة الثانية، وجواهر الإكليل 2 / 278، وحاشية الشبراملسي على نهاية المحتاج 7 / 380 ط المكتبة الإسلامية، والإقناع للشربيني 1 / 10 ط دار المعرفة، والمغني لابن قدامة 8 / 150 - 155 ط الرياض، وتفسير القرطبي 6 / 36 ـ 40 ط دار الكتب المصرية بالقاهرة.(13/6)
ب - التَّعْلِيمُ:
6 - قَال النَّوَوِيُّ: تَعْلِيمُ الطَّالِبِينَ فَرْضُ كِفَايَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَنْ يَصْلُحُ إِلاَّ وَاحِدٌ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ.
وَإِنْ كَانَ جَمَاعَةٌ يَصْلُحُونَ، فَطُلِبَ ذَلِكَ مِنْ أَحَدِهِمْ فَامْتَنَعَ فَهَل يَأْثَمُ؟ يَجْرِي فِي ذَلِكَ وَجْهَانِ. وَالأَْصَحُّ: لاَ يَأْثَمُ (1) .
هَذَا وَيَلْزَمُ تَعْلِيمُ الْعِلْمِ اللاَّزِمِ تَعْلِيمُهُ، كَاسْتِعْلاَمِ كَافِرٍ يُرِيدُ الإِْسْلاَمَ عَنِ الإِْسْلاَمِ، أَوِ اسْتِعْلاَمِ حَدِيثِ عَهْدٍ بِالإِْسْلاَمِ عَنْ صَلاَةٍ حَضَرَ وَقْتُهَا، وَكَالْمُسْتَفْتِي فِي الْحَلاَل وَالْحَرَامِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ فِي هَذِهِ الأُْمُورِ الإِْجَابَةُ، وَمَنِ امْتَنَعَ كَانَ آثِمًا.
وَلَيْسَ كَذَلِكَ الأَْمْرُ فِي نَوَافِل الْعِلْمِ الَّتِي لاَ ضَرُورَةَ بِالنَّاسِ إِلَى مَعْرِفَتِهَا (2) .
قَال ابْنُ الْحَاجِّ: يَنْبَغِي لِلْعَالِمِ، أَوْ يَتَعَيَّنُ
__________
(1) المجموع للنووي 1 / 52 نشر المكتبة العالمية بالفجالة.
(2) المرقاة في شرح المشكاة 1 / 286 ط مكتبة امدادية ـ باكستان وشرح السنة للبغوي 1 / 302 وشرح سنن أبي داود للخطابي 4 / 185.(13/7)
عَلَيْهِ: إِذَا رَأَى النَّاسَ قَدْ أَعْرَضُوا عَنِ الْعِلْمِ أَنْ يَعْرِضَ نَفْسَهُ عَلَيْهِمْ، لِتَعْلِيمِهِمْ وَإِرْشَادِهِمْ وَإِنْ كَانُوا مُعْرِضِينَ (1) .
7 - وَقَدْ حَثَّ الشَّرْعُ عَلَى تَعْلِيمِ الْعُلُومِ الَّتِي تَحْتَاجُهَا الأُْمَّةُ فِي دِينِهَا وَدُنْيَاهَا، وَجَاءَتِ الآْيَاتُ وَالأَْحَادِيثُ وَالأَْخْبَارُ بِذَلِكَ (2) . وَمِنَ الآْيَاتِ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُل فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (3) وَالْمُرَادُ هُوَ التَّعْلِيمُ.
وَقَوْلُهُ جَل شَأْنُهُ: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ} (4) وَهُوَ إِيجَابٌ لِلتَّعْلِيمِ.
وقَوْله تَعَالَى: {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (5) وَهُوَ تَحْرِيمٌ لِلْكِتْمَانِ.
وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ سُئِل عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ أُلْجِمَ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (6) .
__________
(1) المدخل لابن الحاج 2 / 88.
(2) الإحياء للغزالي 1 / 16 وما بعدها.
(3) سورة التوبة / 122.
(4) سورة آل عمران / 187.
(5) سورة البقرة / 146.
(6) حديث: " من سئل عن علم فكتمه ألجم بلجام من. . . " أخرجه أحمد (2 / 263 ـ ط الميمنية) والحاكم (1 / 101 ط. دائرة المعارف العثمانية) من حديث أبي هريرة، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.(13/7)
وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُل مُسْلِمٍ، وَإِنَّ طَالِبَ الْعِلْمِ يَسْتَغْفِرُ لَهُ كُل شَيْءٍ حَتَّى الْحِيتَانُ فِي الْبَحْرِ (1) . وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُل مُسْلِمٍ (2) .
وَالتَّحْقِيقُ حَمْل الْعِلْمِ فِي الْحَدِيثَيْنِ السَّابِقَيْنِ عَلَى الْمَعْنَى الْعَامِّ، فَيَشْمَل عُلُومَ الشَّرْعِ: عِلْمَ الْكَلاَمِ، وَالْفِقْهِ، وَالتَّفْسِيرِ، وَالْحَدِيثِ، وَعُلُومَ الدُّنْيَا. وَمِنْهَا الزِّرَاعَةُ، وَالصِّنَاعَةُ، وَالسِّيَاسَةُ، وَالْحِرَفُ، وَالطِّبُّ، وَالتِّكْنُولُوجْيَا، وَالْحِسَابُ، وَالْهَنْدَسَةُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْعُلُومِ، وَمَا يَرْتَبِطُ بِهِ مَصَالِحُ أُمُورِ الدُّنْيَا (3) .
فَضْل التَّعْلِيمِ وَالتَّعَلُّمِ:
8 - وَرَدَتِ الآْيَاتُ وَالأَْخْبَارُ وَالآْثَارُ، وَتَطَابَقَتِ الدَّلاَئِل الصَّرِيحَةُ عَلَى فَضِيلَةِ الْعِلْمِ، وَالْحَثِّ
__________
(1) حديث: " طلب العلم فريضة على كل مسلم، وإن طالب العلم يستغفر. . . ". أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (1 / 7 ط المنيرية) من حديث أنس رضي الله عنه، وضعف ابن حجر أحد رواته وهو حسان بن سياه كما في لسان الميزان (2 / 188 ط دائرة المعارف العثمانية) .
(2) حديث: " طلب العلم فريضة على كل مسلم " أخرجه ابن ماجه (1 / 81 ط الحلبي) من حديث أنس رضي الله عنه بإسناد ضعيف، وأخرجه كذلك آخرون، وحسنه المزي لطرقه كما في المقاصد الحسنة للسخاوي (ص 275 ـ 276 ط الخانجي) .
(3) الإحياء 1 / 16 وما بعدها.(13/8)
عَلَى تَحْصِيلِهِ، وَالاِجْتِهَادِ فِي اقْتِبَاسِهِ وَتَعْلِيمِهِ (1) .
فَمِنَ الآْيَاتِ قَوْله تَعَالَى: {قُل هَل يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَاَلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} (2) وقَوْله تَعَالَى. {وَقُل رَبِّي زِدْنِي عِلْمًا} (3) وقَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (4) وَقَال: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُْمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْل لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ} (5)
وَمِنَ الأَْخْبَارِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ (6) وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لأََنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ (7) .
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَبْعَثْنِي مُعَنِّتًا وَلاَ
__________
(1) إحياء علوم الدين 1 / 16 وما بعدها.
(2) سورة الزمر / 9.
(3) سورة طه / 114.
(4) سورة فاطر / 28.
(5) سورة الجمعة / 2.
(6) حديث: " من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 167 ط السلفية) ، ومسلم (2 / 718 ط الحلبي) من حديث معاوية رضي الله عنه.
(7) حديث: " لأن يهدي الله بك رجلا واحد خيرا. . . " أخرجه مسلم (4 / 1872 ط الحلبي) من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه.(13/8)
مُتَعَنِّتًا، وَلَكِنْ بَعَثَنِي مُعَلِّمًا مُيَسِّرًا (1) .
وَمِنَ الآْثَارِ قَوْل عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَفَى بِالْعِلْمِ شَرَفًا أَنْ يَدَّعِيَهُ مَنْ لاَ يُحْسِنُهُ، وَيَفْرَحُ بِهِ إِذَا نُسِبَ إِلَيْهِ، وَكَفَى بِالْجَهْل ذَمًّا أَنْ يَتَبَرَّأَ مِنْهُ مَنْ هُوَ فِيهِ. وَقَوْلُهُ: الْعِلْمُ يَحْرُسُكَ، وَأَنْتَ تَحْرُسُ الْمَال. وَالْمَال تُنْقِصُهُ النَّفَقَةُ، وَالْعِلْمُ يَزْكُو بِالإِْنْفَاقِ.
آدَابُ الْمُعَلِّمِ وَالْمُتَعَلِّمِ
أ - آدَابُ الْمُعَلِّمِ:
9 - فَصَّل الْفُقَهَاءُ الْقَوْل فِي آدَابِ الْمُعَلِّمِ وَوَظَائِفِهِ وَأَهَمُّهَا مَا يَلِي:
- أَنْ يَقْصِدَ بِتَعْلِيمِهِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلاَ يَقْصِدَ تَوَصُّلاً إِلَى غَرَضٍ دُنْيَوِيٍّ (2) .
- وَأَنْ يَتَخَلَّقَ بِالْمَحَاسِنِ الَّتِي وَرَدَ الشَّرْعُ بِهَا وَحَثَّ عَلَيْهَا، وَالْخِلاَل الْحَمِيدَةِ وَالشِّيَمِ الْمَرْضِيَّةِ الَّتِي أَرْشَدَ إِلَيْهَا.
- وَأَنْ يَحْذَرَ مِنَ الْحَسَدِ وَالرِّيَاءِ وَالإِْعْجَابِ وَاحْتِقَارِ النَّاسِ، وَإِنْ كَانُوا دُونَهُ بِدَرَجَاتٍ.
- وَأَنْ لاَ يُذِل الْعِلْمَ وَلاَ يَذْهَبَ بِهِ إِلَى مَكَانٍ
__________
(1) حديث: " إن الله لم يبعثني معنتا ولا متعنتا ولكن. . . ". أخرجه مسلم (3 / 1105 ط الحلبي) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
(2) المجموع النووي بتحقيق المطيعي 1 / 53 نشر المكتبة العالمية بالفجالة. وإحياء علوم الدين 1 / 56 مطبعة الاستقامة، وجامع بيان العلم وفضله 1 / 193.(13/9)
يُنْتَسَبُ إِلَى مَنْ يَتَعَلَّمُهُ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ الْمُتَعَلِّمُ كَبِيرَ الْقَدْرِ (1) .
- وَأَنْ يُشْفِقَ عَلَى الْمُتَعَلِّمِينَ، وَأَنْ يُجْرِيَهُمْ مُجْرَى بَنِيهِ، قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ بِمَنْزِلَةِ الْوَالِدِ (2) بِأَنْ يَقْصِدَ إِنْقَاذَهُمْ مِنْ نَارِ الآْخِرَةِ، وَهُوَ أَهَمُّ مِنْ إِنْقَاذِ الْوَالِدَيْنِ وَلَدَهُمَا مِنْ نَارِ الدُّنْيَا (3) .
- وَأَنْ لاَ يَتَعَظَّمَ عَلَى الْمُتَعَلِّمِينَ، بَل يَلِينُ لَهُمْ وَيَتَوَاضَعُ. قَال عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: تَوَاضَعُوا لِمَنْ عَلَّمَكُمْ، وَتَوَاضَعُوا لِمَنْ تُعَلِّمُونَ، وَلاَ تَكُونُوا مِنْ جَبَّارِي الْعُلَمَاءِ (4) .
- وَأَنْ يَتَفَقَّدَ الْمُتَعَلِّمِينَ، وَيَسْأَل عَمَّنْ غَابَ مِنْهُمْ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بَاذِلاً وُسْعَهُ فِي تَفْهِيمِهِمْ وَتَقْرِيبِ الْفَائِدَةِ إِلَى أَذْهَانِهِمْ (5) .
- وَأَنْ يَزْجُرَ الْمُتَعَلِّمَ عَنْ سُوءِ الأَْخْلاَقِ بِطَرِيقِ التَّعْرِيضِ مَا أَمْكَنَ وَلاَ يُصَرِّحُ، وَبِطَرِيقِ الرَّحْمَةِ لاَ بِطَرِيقِ التَّوْبِيخِ.
- وَأَنْ يَقْتَصِرَ بِالْمُتَعَلِّمِ عَلَى قَدْرِ فَهْمِهِ، فَلاَ
__________
(1) المجموع النووي 1 / 53، 54، والآداب الشرعية لابن مفلح 2 / 56
(2) حديث: " إنما أنا لكم بمنزلة الوالد ". أخرجه أبو داود (1 / 18 - 19 تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وإسناده حسن.
(3) إحياء علوم الدين 1 / 55.
(4) المجموع 1 / 57، والآداب الشرعية 1 / 254.
(5) المجموع 1 / 58.(13/9)
يُلْقِي إِلَيْهِ مَا لاَ يَبْلُغُهُ عَقْلُهُ، فَيُنَفِّرُهُ أَوْ يَخْبِطُ عَلَيْهِ عَقْلَهُ، اقْتِدَاءً فِي ذَلِكَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) حَيْثُ قَال: أَنْزِلُوا النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ (2) .
- وَأَنْ يُحَرِّضَهُمْ عَلَى الاِشْتِغَال فِي كُل وَقْتٍ، وَيُطَالِبَهُمْ فِي أَوْقَاتٍ بِإِعَادَةِ مَحْفُوظَاتِهِمْ، وَيَسْأَلَهُمْ عَمَّا ذَكَرَ لَهُمْ مِنَ الْمُهِمَّاتِ.
- وَأَنْ يُقَدِّمَ فِي تَعْلِيمِهِمْ إِذَا ازْدَحَمُوا الأَْسْبَقَ فَالأَْسْبَقَ (3) .
- وَأَنْ يَكُونَ عَامِلاً بِعِلْمِهِ فَلاَ يُكَذِّبُ قَوْلَهُ فِعْلُهُ، لأَِنَّ الْعِلْمَ يُدْرَكُ بِالْبَصَائِرِ وَالْعَمَل يُدْرَكُ بِالأَْبْصَارِ، وَأَرْبَابُ الأَْبْصَارِ أَكْثَرُ (4) .
ب - آدَابُ الْمُتَعَلِّمِ:
10 - يَنْبَغِي أَنْ يُطَهِّرَ قَلْبَهُ مِنَ الأَْدْنَاسِ لِيَصْلُحَ لِقَبُول الْعِلْمِ وَحِفْظِهِ وَاسْتِثْمَارِهِ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلُحَتْ صَلُحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا
__________
(1) إحياء علوم الدين 1 / 57، والآداب الشرعية 2 / 164.
(2) حديث: " أنزلوا الناس منازلهم " أخرجه أبو داود (5 / 173 تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث عائشة رضي الله عنها. وقال أبو داود: ميمون ـ يعني ابن أبي شبيب الراوي عن عائشة ـ لم يدرك عائشة رضي الله عنها.
(3) المجموع 1 / 61.
(4) إحياء علوم الدين 1 / 58، وانظر جامع بيان العلم وفضله للقرطبي 1 / 125 وما بعدها.(13/10)
فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلاَ وَهِيَ الْقَلْبُ (1)
وَقَالُوا: تَطْبِيبُ الْقَلْبِ لِلْعِلْمِ كَتَطْبِيبِ الأَْرْضِ لِلزِّرَاعَةِ.
وَيَنْبَغِي أَنْ يَقْطَعَ الْعَلاَئِقَ الشَّاغِلَةَ عَنْ كَمَال الاِجْتِهَادِ فِي التَّحْصِيل، وَيَرْضَى بِمَا يَتَيَسَّرُ مِنَ الْقُوتِ، وَيَصْبِرُ إِنْ ضَاقَ بِهِ الْعَيْشُ (2) .
وَيَنْبَغِي لِلْمُتَعَلِّمِ أَنْ يَتَوَاضَعَ لِمُعَلِّمِهِ وَيَنْظُرَ إِلَيْهِ بِعَيْنِ الاِحْتِرَامِ، وَيَرَى كَمَال أَهْلِيَّتِهِ " وَرُجْحَانَهُ عَلَى أَكْثَرِ طَبَقَتِهِ، فَذَلِكَ أَقْرَبُ إِلَى انْتِفَاعِهِ بِهِ وَرُسُوخِ مَا سَمِعَهُ مِنْهُ فِي ذِهْنِهِ.
- وَلْيَحْذَرِ الْمُتَعَلِّمُ الْبَسْطَ عَلَى مَنْ يُعَلِّمُهُ وَإِنْ آنَسَهُ، وَالإِْدْلاَل عَلَيْهِ وَإِنْ تَقَدَّمَتْ صُحْبَتُهُ، وَلاَ يُظْهِرُ لَهُ الاِسْتِكْفَاءَ مِنْهُ وَالاِسْتِغْنَاءَ عَنْهُ، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ كُفْرًا لِنِعْمَتِهِ وَاسْتِخْفَافًا بِحَقِّهِ.
- وَلاَ يَنْبَغِي أَنْ تَبْعَثَهُ مَعْرِفَةُ الْحَقِّ لِلْمُعَلِّمِ عَلَى قَبُول الشُّبْهَةِ مِنْهُ، وَلاَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُعَنِّتَ مُعَلِّمَهُ بِالسُّؤَال، وَلاَ يَدْعُوهُ تَرْكُ الإِْعْنَاتِ لِلْمُعَلِّمِ إِلَى التَّقْلِيدِ فِيمَا أَخَذَ عَنْهُ. وَلَيْسَتْ كَثْرَةُ
__________
(1) حديث: " إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله. . " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 126 ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1220 ط الحلبي) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما
(2) المجموع للنووي 1 / 64، والمدخل لابن الحاج 2 / 124 ط الحلبي.(13/10)
السُّؤَال فِيمَا الْتَبَسَ إِعْنَاتًا، وَلاَ قَبُول مَا صَحَّ فِي النَّفْسِ تَقْلِيدًا (1) .
إِلاَّ أَنَّهُ لاَ يُلِحُّ فِي السُّؤَال إِلْحَاحًا مُضْجِرًا، وَيَغْتَنِمُ سُؤَالَهُ عِنْدَ طِيبِ نَفْسِهِ وَفَرَاغِهِ، وَيَتَلَطَّفُ فِي سُؤَالِهِ وَيُحْسِنُ خِطَابَهُ (2) .
- وَلْيَأْخُذِ الْمُتَعَلِّمُ حَظَّهُ مِمَّنْ وَجَدَ طَلَبَتَهُ عِنْدَهُ مِنْ نَبِيهٍ وَخَامِلٍ، وَلاَ يَطْلُبُ الصِّيتَ وَحُسْنَ الذِّكْرِ بِاتِّبَاعِ أَهْل الْمَنَازِل مِنَ الْعُلَمَاءِ، إِذَا كَانَ النَّفْعُ بِغَيْرِهِمْ أَعَمَّ، إِلاَّ أَنْ يَسْتَوِيَ النَّفْعَانِ فَيَكُونُ الأَْخْذُ عَمَّنِ اشْتَهَرَ ذِكْرُهُ وَارْتَفَعَ قَدْرُهُ أَوْلَى، لأَِنَّ الاِنْتِسَابَ إِلَيْهِ أَجْمَل وَالأَْخْذَ عَنْهُ أَشْهَرُ (3) .
- وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حَرِيصًا عَلَى التَّعَلُّمِ مُوَاظِبًا عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ أَوْقَاتِهِ، لَيْلاً وَنَهَارًا حَضَرًا وَسَفَرًا، وَلاَ يُذْهِبُ مِنْ أَوْقَاتِهِ شَيْئًا فِي غَيْرِ الْعِلْمِ إِلاَّ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ لأَِكْلٍ وَنَوْمٍ قَدْرًا - لاَ بُدَّ مِنْهُ - وَنَحْوِهِمَا مِنَ الضَّرُورِيَّاتِ.
- وَمِنْ آدَابِ الْمُتَعَلِّمِ: الْحِلْمُ وَالأَْنَاةُ، وَأَنْ تَكُونَ هِمَّتُهُ عَالِيَةً، فَلاَ يَرْضَى بِالْيَسِيرِ مَعَ إِمْكَانِ
__________
(1) المجموع 1 / 36 ط المنيرية، وإحياء علوم الدين 1 / 50، وكتاب أدب الدنيا والدين للماوردي ص 32 ـ 34، وكتاب تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم لابن جامعة ص 86 ط حيد أباد 1353 هـ.
(2) المجموع 1 / 37.
(3) كتاب أدب الدنيا والدين ص 34.(13/11)
كَثِيرٍ، وَأَنْ لاَ يُسَوِّفَ فِي اشْتِغَالِهِ وَلاَ يُؤَخِّرَ تَحْصِيل فَائِدَةٍ، وَإِنْ قَلَّتْ: إِذَا تَمَكَّنَ مِنْهَا، وَإِنْ أَمَل حُصُولَهَا بَعْدَ سَاعَةٍ، لأَِنَّ لِلتَّأْخِيرِ آفَاتٍ، وَلأَِنَّ فِي الزَّمَنِ الثَّانِي يَحْصُل غَيْرُهَا (1) .
تَعْلِيمُ الصِّغَارِ:
11 - عَلَى الآْبَاءِ وَالأُْمَّهَاتِ وَسَائِرِ الأَْوْلِيَاءِ تَعْلِيمُ الصِّغَارِ مَا يَلْزَمُهُمْ بَعْدَ الْبُلُوغِ، فَيُعَلَّمُ الصَّغِيرُ مَا تَصِحُّ بِهِ عَقِيدَتُهُ مِنْ إِيمَانٍ بِاَللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ، وَمَا تَصِحُّ بِهِ عِبَادَتُهُ، وَيُعَرِّفُهُ مَا يَتَعَلَّقُ بِصَلاَتِهِ وَصِيَامِهِ وَطَهَارَتِهِ وَنَحْوِهَا، وَذَلِكَ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مُرُوا أَوْلاَدَكُمْ بِالصَّلاَةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرِ سِنِينَ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ (2) . وَيُعَرِّفُهُ تَحْرِيمَ الزِّنَا وَاللِّوَاطِ وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْمُسْكِرِ وَالْكَذِبِ وَالْغِيبَةِ وَشَبَهِهَا، كَمَا يُعَلَّمُ أَنَّهُ بِالْبُلُوغِ يَدْخُل فِي التَّكْلِيفِ، وَيُعَرَّفُ مَا يَبْلُغُ بِهِ.
وَقِيل هَذَا التَّعْلِيمُ مُسْتَحَبٌّ، وَنَقَل الرَّافِعِيُّ عَنِ الأَْئِمَّةِ وُجُوبَهُ عَلَى الآْبَاءِ وَالأُْمَّهَاتِ، وَهَذَا مَا صَحَّحَهُ النَّوَوِيُّ (3) .
__________
(1) المجموع 1 / 37، 38.
(2) حديث: " مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، وأضربوهم عليها وهم. . ". أخرجه أبو داود (1 / 334 ـ تحقيق عزت عبيد دعاس) وحسنه النووي في الرياض (ص148 ـ ط المكتب الإسلامي) .
(3) الفواكه الدواني 2 / 164، والمجموع 1 / 50.(13/11)
وَدَلِيل وُجُوبِ تَعْلِيمِ الصَّغِيرِ: قَوْل اللَّهِ عَزَّ وَجَل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} (1) قَال عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةَ: مَعْنَاهُ عَلِّمُوهُمْ مَا يَنْجُونَ بِهِ مِنَ النَّارِ " وَهَذَا ظَاهِرٌ (2) " وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ (3) قَال الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: إِنَّ الصَّبِيَّ أَمَانَةٌ عِنْدَ وَالِدَيْهِ، وَقَلْبُهُ الطَّاهِرُ جَوْهَرَةٌ نَفِيسَةٌ سَاذَجَةٌ خَالِيَةٌ عَنْ كُل نَقْشٍ وَصُورَةٍ، وَهُوَ قَابِلٌ لِكُل نَقْشٍ، وَقَابِلٌ لِكُل مَا يُمَال بِهِ إِلَيْهِ، فَإِنْ عُوِّدَ الْخَيْرَ وَعُلِّمَهُ نَشَأَ عَلَيْهِ وَسَعِدَ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ، يُشَارِكُهُ فِي ثَوَابِهِ أَبَوَاهُ وَكُل مُعَلِّمٍ لَهُ وَمُؤَدِّبٍ، وَإِنْ عُوِّدَ الشَّرَّ وَأُهْمِل شَقِيَ وَهَلَكَ، وَكَانَ الْوِزْرُ فِي رَقَبَةِ الْقَيِّمِ بِهِ وَالْوَلِيِّ عَلَيْهِ. وَمَهْمَا كَانَ الأَْبُ يَصُونُ وَلَدَهُ مِنْ نَارِ الدُّنْيَا فَيَنْبَغِي أَنْ يَصُونَهُ مِنْ نَارِ الآْخِرَةِ، وَهُوَ أَوْلَى، وَصِيَانَتُهُ بِأَنْ يُؤَدِّبَهُ وَيَهْدِيَهُ وَيُعَلِّمَهُ مَحَاسِنَ الأَْخْلاَقِ، وَيَحْفَظَهُ مِنْ قُرَنَاءِ السُّوءِ، وَلاَ يُعَوِّدَهُ التَّنَعُّمَ، وَلاَ يُحَبِّبَ إِلَيْهِ
__________
(1) سورة التحريم / 6.
(2) المجموع 1 / 50، 3 / 11، والفواكه الدواني 2 / 164، والدر المختار 3 / 189.
(3) حديث: " كلكم راع ومسئول عن رعيته ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 380 ط السلفية) ، ومسلم 3 / 1459 ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.(13/12)
الزِّينَةَ وَأَسْبَابَ الرَّفَاهِيَةِ فَيُضَيِّعُ عُمْرَهُ فِي طَلَبِهَا إِذَا كَبِرَ وَيَهْلَكُ هَلاَكَ الأَْبَدِ (1) .
وَيَنْبَغِي أَنْ يُعَلِّمَهُ أَيْضًا مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ: السِّبَاحَةِ وَالرَّمْيِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَنْفَعُهُ فِي كُل زَمَانٍ بِحَسَبِهِ. قَال عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: عَلِّمُوا أَوْلاَدَكُمُ السِّبَاحَةَ وَالرِّمَايَةَ، وَمُرُوهُمْ فَلْيَثِبُوا عَلَى الْخَيْل وَثْبًا. (2)
هَذَا وَلِلتَّفْصِيل فِي الْعِلْمِ الْمَحْمُودِ وَالْعِلْمِ الْمَذْمُومِ، وَأَقْسَامِهِمَا وَأَحْكَامِهِمَا، وَمَا هُوَ يَتَعَيَّنُ طَلَبُهُ وَتَعَلُّمُهُ وَمَا هُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ (ر: عِلْمٌ)
تَعْلِيمُ النِّسَاءِ:
12 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي مَشْرُوعِيَّةِ تَعْلِيمِ النِّسَاءِ الْقُرْآنَ وَالْعُلُومَ وَالآْدَابَ. وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ قَال بِوُجُوبِ قِيَامِ الْمُتَأَهِّلَةِ مِنَ النِّسَاءِ بِتَعْلِيمِ عُلُومِ الشَّرْعِ، كَمَا كَانَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَنِسَاءٌ تَابِعَاتٌ (3) ، وَقَدْ قَال اللَّهُ تَعَالَى لِنِسَاءِ نَبِيِّهِ
__________
(1) المدخل لابن الحاج 4 / 311.
(2) أثر عمر: علموا أولادكم السباحة. وأورد ابن القيم في كتابه الفروسية (ص 6 ط. دار الكتب العلمية) عن أبي إمامة بن سهل بن حنيف رضي الله عنه قال: كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه: أن علموا غلمانكم العوم، ومقاتلتكم الرمي وعزاه إلى الطبراني في كتاب فضل الرمي.
(3) تفسير القرطبي 10 / 118، والفتاوى الحديثية لابن حجر الهيتمي ص 85، والزرقاني 3 / 108، وانظر الموسوعة الفقهية 7 / 76، 77.(13/12)
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} (1) وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ تَعْلِيمُ النِّسَاءِ مَعَ مُرَاعَاةِ آدَابِ أَمْرِ الشَّارِعِ الْمَرْأَةَ بِالْتِزَامِهَا لِلْحِفَاظِ عَلَى عِرْضِهَا وَشَرَفِهَا وَعِفَّتِهَا، مِنْ عَدَمِ الاِخْتِلاَطِ بِالرِّجَال، وَعَدَمِ التَّبَرُّجِ، وَعَدَمِ الْخُضُوعِ بِالْقَوْل إِذَا كَانَتْ هُنَاكَ حَاجَةٌ لِلْكَلاَمِ مَعَ الأَْجَانِبِ.
وَلِلتَّفْصِيل (ر: اخْتِلاَطٌ، أُنُوثَةٌ، تَبَرُّجٌ، حِجَابٌ، عَوْرَةٌ) . وَيَجِبُ تَعْلِيمُ النِّسَاءِ الْعُلُومَ الَّتِي تُعْتَبَرُ ضَرُورِيَّةً بِالنِّسْبَةِ لِلأُْنْثَى كَطِبِّ النِّسَاءِ. قَال فِي الْجَوْهَرَةِ: إِذَا كَانَ الْمَرَضُ فِي سَائِرِ بَدَنِ الْمَرْأَةِ يَجُوزُ النَّظَرُ إِلَيْهِ عِنْدَ الدَّوَاءِ، لأَِنَّهُ مَوْضِعُ ضَرُورَةٍ، وَإِنْ كَانَ فِي مَوْضِعِ الْفَرْجِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُعَلِّمَ امْرَأَةً تُدَاوِيهَا. . قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ " يَنْبَغِي " هُنَا لِلْوُجُوبِ (2) . وَلِلتَّفْصِيل (ر: تَطْبِيبٌ، وَتَدَاوِي) . هَذَا وَيَرَى أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ عَدَمَ الْكَرَاهَةِ فِي تَعْلِيمِ النِّسَاءِ الْكِتَابَةَ كَالرَّجُل. فَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ الشِّفَاءِ بِنْتِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا. قَالَتْ: دَخَل عَلَيَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا عِنْدَ حَفْصَةَ فَقَال: أَلاَ
__________
(1) سورة الأحزاب / 34.
(2) حاشية ابن عابدين 5 / 237، والفتاوى الهندية 5 / 330.(13/13)
تُعَلِّمِينَ هَذِهِ رُقْيَةَ النَّمْلَةِ كَمَا عَلَّمْتِهَا الْكِتَابَةَ (1) .
قَال الشَّيْخُ مَجْدُ الدِّينِ بْنُ تَيْمِيَّةَ فِي الْمُنْتَقَى: وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَعَلُّمِ النِّسَاءِ الْكِتَابَةَ.
وَقَدْ سَرَدَ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي الآْدَابِ الشَّرْعِيَّةِ الأَْحَادِيثَ الَّتِي يُؤْخَذُ مِنْ ظَاهِرِهَا النَّهْيُ عَنْ تَعْلِيمِ النِّسَاءِ الْكِتَابَةَ، إِلاَّ أَنَّهُ قَدْ ضَعَّفَ هَذِهِ الأَْحَادِيثَ، أَوْ أَعَلَّهَا بِالْوَضْعِ (2) .
الضَّرْبُ لِلتَّعْلِيمِ:
13 - لِلْمُعَلِّمِ ضَرْبُ الصَّبِيِّ الَّذِي يَتَعَلَّمُ عِنْدَهُ لِلتَّأْدِيبِ (3) . وَبِتَتَبُّعِ عِبَارَاتِ الْفُقَهَاءِ يَتَبَيَّنُ أَنَّهُمْ يُقَيِّدُونَ حَقَّ الْمُعَلِّمِ فِي ضَرْبِ الصَّبِيِّ الْمُتَعَلِّمِ بِقُيُودٍ مِنْهَا:
أ - أَنْ يَكُونَ الضَّرْبُ مُعْتَادًا لِلتَّعْلِيمِ كَمًّا وَكَيْفًا وَمَحَلًّا، يَعْلَمُ الْمُعَلَّمُ الأَْمْنَ مِنْهُ، وَيَكُونُ ضَرْبُهُ بِالْيَدِ لاَ بِالْعَصَا، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُجَاوِزَ الثَّلاَثَ،
__________
(1) حديث: " ألا تعلمين هذه رقية النملة كما علمتها الكتابة ". أخرجه أحمد (6 / 372 ط الميمنية) وأبو داود 4 / 215 ـ تحقيق عزت عبيد دعاس) وأخرجه الحاكم (4 / 56 ـ 57 ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه ووافقه الذهبي.
(2) الآداب الشرعية لابن مفلح 3 / 309، 310، والفتاوى الحديثة ص 85.
(3) مواهب الجليل 2 / 472، ومغني المحتاج 4 / 193 نشر دار إحياء التراث العربي، والمغني لابن قدامة 5 / 537 ط الرياض، وابن عابدين 5 / 363.(13/13)
رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَال لِمِرْدَاسٍ الْمُعَلِّمِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِيَّاكَ أَنْ تَضْرِبَ فَوْقَ الثَّلاَثِ، فَإِنَّكَ إِذَا ضَرَبْتَ فَوْقَ الثَّلاَثِ اقْتَصَّ اللَّهُ مِنْكَ (1)
ب - أَنْ يَكُونَ الضَّرْبُ بِإِذْنِ الْوَلِيِّ، لأَِنَّ الضَّرْبَ عِنْدَ التَّعْلِيمِ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ، وَإِنَّمَا الضَّرْبُ عِنْدَ سُوءِ الأَْدَبِ، فَلاَ يَكُونُ ذَلِكَ مِنَ التَّعْلِيمِ فِي شَيْءٍ، وَتَسْلِيمُ الْوَلِيِّ صَبِيَّهُ إِلَى الْمُعَلِّمِ لِتَعْلِيمِهِ لاَ يُثْبِتُ الإِْذْنَ فِي الضَّرْبِ، فَلِهَذَا لَيْسَ لَهُ الضَّرْبُ، إِلاَّ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِيهِ نَصًّا.
وَنُقِل عَنْ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ قَوْلُهُمْ: الإِْجْمَاعُ الْفِعْلِيُّ مُطَّرِدٌ بِجَوَازِ ذَلِكَ بِدُونِ إِذْنِ الْوَلِيِّ (2) .
ج - أَنْ يَكُونَ الصَّبِيُّ يَعْقِل التَّأْدِيبَ، فَلَيْسَ لِلْمُعَلِّمِ ضَرْبُ مَنْ لاَ يَعْقِل التَّأْدِيبَ مِنَ الصِّبْيَانِ
قَال الأَْثْرَمُ: سُئِل أَحْمَدُ عَنْ ضَرْبِ الْمُعَلِّمِ الصِّبْيَانَ، قَال: عَلَى قَدْرِ ذُنُوبِهِمْ، وَيَتَوَقَّى بِجَهْدِهِ الضَّرْبَ وَإِذَا كَانَ صَغِيرًا لاَ يَعْقِل فَلاَ يَضْرِبُهُ (3) .
__________
(1) ابن عابدين 1 / 235، 5 / 363، وجواهر الإكليل 2 / 296.
(2) المبسوط للسرخسي 16 / 13، وابن عابدين 5 / 363، وبدائع الصنائع 7 / 305، ومغني المحتاج 4 / 193، وانظر الموسوعة الفقهية الكويتية 10 / 23.
(3) المغني لابن قدامة 5 / 237، والآداب الشرعية لابن مفلح 1 / 506، وغاية المنتهى 3 / 285.(13/14)
ضَمَانُ ضَرْبِ التَّعْلِيمِ:
14 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمُعَلِّمَ إِذَا أَدَّبَ صَبِيَّهُ الأَْدَبَ الْمَشْرُوعَ فَمَاتَ، فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ (1) . وَبِهَذَا قَال الْحَنَفِيَّةُ. إِلاَّ أَنَّهُمْ يَشْتَرِطُونَ لِنَفْيِ الضَّمَانِ أَنْ يَكُونَ الضَّرْبُ قَدْ حَصَل بِإِذْنِ الأَْبِ أَوِ الْوَصِيِّ، فَضْلاً عَنْ كَوْنِهِ لَمْ يَخْرُجْ عَنِ الضَّرْبِ الْمُعْتَادِ كَمًّا وَكَيْفًا وَمَحَلًّا، فَإِذَا ضَرَبَ الْمُعَلِّمُ صَبِيًّا يَتَعَلَّمُ مِنْهُ بِغَيْرِ إِذْنِ الأَْبِ أَوِ الْوَصِيِّ ضَمِنَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، لأَِنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي الضَّرْبِ، وَالْمُتَوَلِّدُ مِنْهُ يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ مَاتَ الْمُتَعَلِّمُ مِنْ ضَرْبِ الْمُعَلِّمِ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُ وَإِنْ كَانَ بِإِذْنِ الْوَلِيِّ وَكَانَ مِثْلُهُ مُعْتَادًا لِلتَّعْلِيمِ، لأَِنَّهُ مَشْرُوطٌ بِسَلاَمَةِ الْعَاقِبَةِ؛ إِذِ الْمَقْصُودُ التَّأْدِيبُ لاَ الْهَلاَكُ، فَإِذَا حَصَل بِهِ هَلاَكٌ تَبَيَّنَ أَنَّهُ جَاوَزَ الْحَدَّ الْمَشْرُوعَ (3) . وَلِلتَّفْصِيل (ر: تَأْدِيبٌ. ضَمَانٌ. قَتْلٌ) .
الاِسْتِئْجَارُ لِتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَالْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ:
15 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ أَخْذِ الرِّزْقِ
__________
(1) المغني لابن قدامة 5 / 237، وغاية المنتهى 3 / 285، وجواهر الإكليل 2 / 296 والميزان الكبرى للشعراني 2 / 172.
(2) ابن عابدين 5 / 363، وبدائع الصنائع 7 / 305، وحاشية الطحطاوي على الدر 4 / 275، والمبسوط للسرخسي 16 / 13.
(3) مغني المحتاج 4 / 199، ونهاية المحتاج، وحاشية الشبراملسي 5 / 308 ط الحلبي.(13/14)
مِنْ بَيْتِ الْمَال عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَتَدْرِيسِ عِلْمٍ نَافِعٍ مِنْ حَدِيثٍ وَفِقْهٍ وَنَحْوِهِمَا؛ لأَِنَّ هَذَا الرِّزْقَ لَيْسَ أُجْرَةً مِنْ كُل وَجْهٍ بَل هُوَ كَالأُْجْرَةِ (1) .
وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الاِسْتِئْجَارِ لِتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَنَحْوِهِمَا مِنَ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ: فَيَرَى مُتَقَدِّمُو الْحَنَفِيَّةِ - وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - عَدَمَ صِحَّةِ الاِسْتِئْجَارِ لِتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَالْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ، كَالْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ (2) . لِحَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: عَلَّمْتُ نَاسًا مِنْ أَهْل الصُّفَّةِ الْقُرْآنَ وَالْكِتَابَةَ، فَأَهْدَى إِلَيَّ رَجُلٌ مِنْهُمْ قَوْسًا. قَال: قُلْتُ: قَوْسٌ، وَلَيْسَ بِمَالٍ. قَال: قُلْتُ: أَتَقَلَّدُهَا فِي سَبِيل اللَّهِ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَصَصْتُ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ، رَجُلٌ أَهْدَى إِلَيَّ قَوْسًا مِمَّنْ كُنْتُ أُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْقُرْآنَ، وَلَيْسَتْ بِمَالٍ، وَأَرْمِي عَنْهَا فِي سَبِيل اللَّهِ، قَال: إِنْ كُنْتَ تُحِبُّ أَنْ تُطَوَّقَ طَوْقًا مِنْ نَارٍ فَاقْبَلْهَا (3) .
وَحَدِيثُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ عَلَّمَ رَجُلاً سُورَةً مِنَ الْقُرْآنِ، فَأَهْدَى لَهُ خَمِيصَةً
__________
(1) ابن عابدين 3 / 282، ومطالب أولي النهى 3 / 641، والمغني لابن قدامة 6 / 417، وقليوبي 4 / 296، الموسوعة الفقهية 8 / 252.
(2) بدائع الصنائع 4 / 191، والإنصاف 6 / 45، 46.
(3) حديث: " إن كنت تحب أن تطوق طوقا من نار فاقبلها " أخرجه أبو داود (3 / 702 تحقيق عزت عبيد دعاس) ، والحاكم (2 / 41 ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه ووافقه الذهبي.(13/15)
أَوْ ثَوْبًا، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: إِنَّكَ لَوْ لَبِسْتَهَا لأََلْبَسَكَ اللَّهُ مَكَانَهَا ثَوْبًا مِنْ نَارٍ (1) وَلأَِنَّهُ اسْتِئْجَارٌ لِعَمَلٍ مَفْرُوضٍ، فَلاَ يَجُوزُ، كَالاِسْتِئْجَارِ لِلصَّوْمِ وَالصَّلاَةِ، وَلأَِنَّهُ غَيْرُ مَقْدُورِ الاِسْتِيفَاءِ فِي حَقِّ الأَْجِيرِ، لِتَعَلُّقِهِ بِالْمُتَعَلِّمِ، فَأَشْبَهَ الاِسْتِئْجَارَ لِحَمْل خَشَبَةٍ لاَ يَقْدِرُ عَلَى حَمْلِهَا بِنَفْسِهِ، وَلأَِنَّ الاِسْتِئْجَارَ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَالْعِلْمِ سَبَبٌ لِتَنْفِيرِ النَّاسِ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَالْعِلْمِ، لأَِنَّ ثِقَل الأَْجْرِ يَمْنَعُهُمْ مِنْ ذَلِكَ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ اللَّهُ جَل شَأْنُهُ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَل: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ} (2) فَيُؤَدِّي إِلَى الرَّغْبَةِ عَنْ هَذِهِ الطَّاعَةِ، وَهَذَا لاَ يَجُوزُ (3) .
وَذَهَبَ مُتَأَخِّرُو الْحَنَفِيَّةِ - وَهُوَ الْمُخْتَارُ لِلْفَتْوَى عِنْدَهُمْ - وَالْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ، وَهُوَ الْقَوْل الآْخَرُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - يُؤْخَذُ مِمَّا نَقَلَهُ أَبُو طَالِبٍ عَنْ أَحْمَدَ - إِلَى جَوَازِ الاِسْتِئْجَارِ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَالْفِقْهِ، لِخَبَرِ: إِنَّ أَحَقَّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ اللَّهِ (4) وَلِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ عُمَرَ
__________
(1) حديث: " إنك لو لبستها لألبسك الله مكانها. . . " ذكره الفقيه مصطفى السيوطي في مطالب أولي النهى (3 / 638 ط المكتب الإسلامي) وعزاه إلى الأثرم في سننه.
(2) سورة الطور / 40.
(3) مطالب أولي النهى 3 / 637، 638، وبدائع الصنائع 4 / 191، والفتاوى الهندية 4 / 448.
(4) حديث: " إن أحق ما أخذتم عليه. . " أخرجه البخاري (الفتح) 10 / 199 ط السلفية) .(13/15)
أَنَّهُ قَال: كُل مَنْ سَأَلْتُ مِنْ أَهْل الْمَدِينَةِ لاَ يَرَى بِتَعْلِيمِ الْغِلْمَانِ بِالأَْجْرِ بَأْسًا.
وَلأَِنَّ الْحُفَّاظَ وَالْمُعَلِّمِينَ - نَظَرًا لِعَدَمِ وُجُودِ عَطِيَّاتٍ لَهُمْ فِي بَيْتِ الْمَال - رُبَّمَا اشْتَغَلُوا بِمَعَاشِهِمْ، فَلاَ يَتَفَرَّغُونَ لِلتَّعْلِيمِ حِسْبَةً، إِذْ حَاجَتُهُمْ تَمْنَعُهُمْ مِنْ ذَلِكَ، فَلَوْ لَمْ يُفْتَحْ لَهُمْ بَابُ التَّعْلِيمِ بِالأَْجْرِ لَذَهَبَ الْعِلْمُ وَقَل حُفَّاظُ الْقُرْآنِ.
قَال أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: التَّعْلِيمُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَتَوَكَّل لِهَؤُلاَءِ السَّلاَطِينِ، وَمِنْ أَنْ يَتَوَكَّل لِرَجُلٍ مِنْ عَامَّةِ النَّاسِ فِي ضَيْعَةٍ، وَمِنْ أَنْ يَسْتَدِينَ وَيَتَّجِرَ، لَعَلَّهُ لاَ يَقْدِرُ عَلَى الْوَفَاءِ فَيَلْقَى اللَّهَ بِأَمَانَاتِ النَّاسِ (1) . وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: جَوَازُ الاِسْتِئْجَارِ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ، أَمَّا الإِْجَارَةُ عَلَى تَعْلِيمِ الْفِقْهِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْعُلُومِ، كَالنَّحْوِ وَالأُْصُول وَالْفَرَائِضِ فَإِنَّهَا مَكْرُوهَةٌ عِنْدَهُمْ. وَفَرَّقَ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ جَوَازِ الإِْجَارَةِ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ، وَكَرَاهَتِهَا عَلَى تَعْلِيمِ غَيْرِهِ: بِأَنَّ الْقُرْآنَ كُلَّهُ حَقٌّ لاَ شَكَّ فِيهِ، بِخِلاَفِ مَا عَدَاهُ مِمَّا هُوَ ثَابِتٌ بِالاِجْتِهَادِ، فَإِنَّ فِيهِ الْحَقَّ وَالْبَاطِل. وَأَيْضًا فَإِنَّ تَعْلِيمَ الْفِقْهِ بِأُجْرَةٍ لَيْسَ عَلَيْهِ الْعَمَل بِخِلاَفِ الْقُرْآنِ، كَمَا أَنَّ أَخْذَ
__________
(1) مطالب أولي النهى 3 / 638، والحطاب 5 / 418، والمدونة 4 / 419 نشر دار صادر بيروت، والزيلعي 5 / 124، 125، والفتاوى الهندية 4 / 448، ابن عابدين 5 / 34، 35.(13/16)
الأُْجْرَةِ عَلَى تَعْلِيمِهِ يُؤَدِّي إِلَى تَقْلِيل طَالِبِهِ (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ - عَلَى الأَْصَحِّ - إِلَى جَوَازِ الاِسْتِئْجَارِ لِتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ بِشَرْطِ تَعْيِينِ السُّورَةِ وَالآْيَاتِ الَّتِي يَعْلَمُهَا، فَإِنْ أَخَل بِأَحَدِهِمَا لَمْ يَصِحَّ. وَقِيل: لاَ يُشْتَرَطُ تَعْيِينُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. أَمَّا الاِسْتِئْجَارُ لِتَدْرِيسِ الْعِلْمِ فَقَالُوا: بِعَدَمِ جَوَازِهِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الاِسْتِئْجَارُ لِتَعْلِيمِ مَسْأَلَةٍ أَوْ مَسَائِل مَضْبُوطَةٍ، فَيَجُوزُ (2) .
وَقَدْ فَصَّل الْفُقَهَاءُ الْقَوْل فِي شُرُوطِ الاِسْتِئْجَارِ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَالْعِلْمِ، عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنِ الاِسْتِئْجَارِ عَلَى الطَّاعَاتِ، يُرْجَعُ إِلَيْهَا فِي أَبْوَابِ (الإِْجَارَةِ) مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ
الاِسْتِئْجَارُ عَلَى تَعْلِيمِ الْحِرَفِ وَالْعُلُومِ غَيْرِ الشَّرْعِيَّةِ:
16 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ الاِسْتِئْجَارِ عَلَى تَعْلِيمِ الْحِرَفِ وَالصِّنَاعَاتِ الْمُبَاحَةِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِهَا الْمَصَالِحُ الدُّنْيَوِيَّةُ، كَخِيَاطَةٍ وَحِدَادَةٍ وَبِنَاءٍ وَزَرْعٍ وَنَسِيجٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ (3) .
__________
(1) الفواكه الدواني 2 / 164.
(2) روضة الطالبين 5 / 190، ومغني المحتاج 2 / 344، والأنوار لأعمال الأبرار 1 / 596.
(3) البزازية بهامش الهندية 5 / 38، والفتاوى الهندية 4 / 448، والمدونة 4 / 420 نشر دار صادر بيروت والأنوار لأعمال الأبرار 1 / 596، وانظر مطالب أولي النهى 2 / 498.(13/16)
وَيَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ صِحَّةَ الإِْجَارَةِ عَلَى تَعْلِيمِ الْعُلُومِ سِوَى الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ الْبَحْتَةِ، كَاللُّغَةِ وَالآْدَابِ، لأَِنَّهَا تَارَةً تَقَعُ قُرْبَةً وَتَارَةً تَقَعُ غَيْرَ قُرْبَةٍ، فَلَمْ يُمْنَعْ مِنَ الاِسْتِئْجَارِ عَلَيْهِ لِفِعْلِهِ، كَغَرْسِ الأَْشْجَارِ وَبِنَاءِ الْبُيُوتِ، لِكَوْنِ فَاعِلِهَا لاَ يَخْتَصُّ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْل الْقُرْبَةِ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى كَرَاهَةِ الإِْجَارَةِ عَلَى تَعْلِيمِ مِثْل هَذِهِ الْعُلُومِ (2) .
وَلِلتَّفْصِيل فِي شُرُوطِ الاِسْتِئْجَارِ عَلَى تَعْلِيمِ الْحِرَفِ وَالْعُلُومِ (ر: مُصْطَلَحَ إِجَارَةٍ ف 151 ج 1)
تَعْلِيمُ عُلُومٍ مُحَرَّمَةٍ:
17 - لاَ يَجُوزُ تَعْلِيمُ عُلُومٍ مُحَرَّمَةٍ، كَالْكِهَانَةِ وَالتَّنْجِيمِ وَالضَّرْبِ بِالرَّمْل وَبِالشَّعِيرِ وَبِالْحِمَّصِ، وَالشَّعْبَذَةِ، وَعُلُومِ طَبَائِعَ وَسِحْرٍ وَطَلْسَمَاتٍ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ لِمَنْ لاَ يَعْرِفُ مَعْنَاهَا وَتَلْبِيسَاتٍ. فَتَعْلِيمُ كُل ذَلِكَ مُحَرَّمٌ وَأَخْذُ الْعِوَضِ عَلَيْهَا حَرَامٌ بِنَصِّ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي النَّهْيِ عَنْ " حُلْوَانِ الْكَاهِنِ " وَالْبَاقِي فِي مَعْنَاهُ (3) .
__________
(1) كشاف القناع 4 / 13، ومطالب أولي النهى 3 / 643، والفتاوى الهندية 4 / 448.
(2) الفواكه الدواني 2 / 164.
(3) مطالب أولي النهى 2 / 499، وحاشية الشبراملسي مع نهاية المحتاج 7 / 380، وروضة الطالبين 10 / 225، وأسنى المطالب 4 / 182، وابن عابدين 1 / 30 - 31.(13/17)
هَذَا، وَلَيْسَ مِنَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ تَعْلِيمُ وَتَعَلُّمُ عِلْمِ النُّجُومِ لِيُسْتَدَل بِهِ عَلَى مَوَاقِيتِ الصَّلاَةِ وَالْقِبْلَةِ وَاخْتِلاَفِ الْمَطَالِعِ وَنَحْوِ ذَلِكَ (1) . وَلِلتَّفْصِيل (ر: عِلْمٌ) .
تَعْلِيمُ الْجَوَارِحِ:
18 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِحِل مَا قَتَلَتْهُ الْجَوَارِحُ مِنَ الصَّيْدِ: كَوْنُ الْجَارِحِ مُعَلَّمًا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} (2) حَيْثُ إِنَّ النَّصَّ يَنْطِقُ بِاشْتِرَاطِ التَّعْلِيمِ، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: إِذَا أَرْسَلْتَ كِلاَبَكَ الْمُعَلَّمَةَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ فَكُل مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكَ، وَإِنْ قَتَلْنَ، إِلاَّ أَنْ يَأْكُل الْكَلْبُ، فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ إِنَّمَا أَمْسَكَهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَإِنْ خَالَطَهَا كَلْبٌ مِنْ غَيْرِهَا فَلاَ تَأْكُل (3) . وَلأَِنَّ الْجَارِحَ إِنَّمَا يَصِيرُ آلَةً بِالتَّعْلِيمِ، لِيَكُونَ عَامِلاً لِلصَّائِدِ بِمَا يُرِيدُ مِنَ الصَّيْدِ، فَيَسْتَرْسِل بِإِرْسَالِهِ، وَيُمْسِكُ الصَّيْدَ عَلَى صَاحِبِهِ، لاَ لِنَفْسِهِ (4) .
__________
(1) ابن عابدين 1 / 30، ومطالب أولي النهى 2 / 449، وانظر الفتاوى الحديثية لابن حجر الهيتمي ص 47.
(2) سورة المائدة / 4.
(3) حديث: " إذا أرسلت كلابك المعلمة وذكرت اسم الله فكل مما. . . " أخرجه البخاري (الفتح 9 / 609 ط ـ السلفية) .
(4) روضة الطالبين 3 / 246، والمجموع 9 / 93 نشر المكتبة السلفية، والبناية شرح الهداية 9 / 573، 578، وتبيين الحقائق 6 / 51، المغني لابن قدامة 8 / 542، والإنصاف 10 / 427، وبداية المجتهد 1 / 457 ط دار المعرفة، والدسوقي 2 / 103، المنتقى 3 / 123، وصحيح مسلم بشرح النووي 13 / 74 ط المطبعة المصرية.(13/17)
وَلِلتَّفْصِيل فِي صِفَةِ الْجَارِحِ الَّذِي يَصِحُّ أَنْ يُصَادَ بِهِ وَشُرُوطِ تَعْلِيمِهِ وَضَبْطِ تَعْلِيمِهِ يُنْظَرُ: مُصْطَلَحُ: (صَيْدٌ)
تَعَمُّدٌ
انْظُرْ: عَمْدٌ
تَعَمُّمٌ
انْظُرْ: عِمَامَةٌ
تَعْمِيرٌ
انْظُرْ: عِمَارَةٌ(13/18)
تَعْمِيمٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّعْمِيمُ لُغَةً: جَعْل الشَّيْءِ عَامًّا أَيْ شَامِلاً، يُقَال: عَمَّ الْمَطَرُ الأَْرْضَ: إِذَا شَمِلَهَا. وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِهَذَا اللَّفْظِ عَنَ الاِسْتِعْمَال اللُّغَوِيِّ (1) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
التَّعْمِيمُ يَكُونُ فِي أُمُورٍ مِنْهَا:
أ - الْوُضُوءُ:
2 - الْقَاعِدَةُ أَنَّ كُل عُضْوٍ مِنْ أَعْضَاءِ الْجِسْمِ يَجِبُ غَسْلُهُ فِي الْوُضُوءِ يَجِبُ تَعْمِيمُهُ بِالْمَاءِ، إِلاَّ فِي حَالَةِ التَّعَذُّرِ وَالضَّرُورَةِ
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ - مَا عَدَا الزُّهْرِيَّ - عَلَى أَنَّ الأُْذُنَيْنِ لَيْسَتَا مِنَ الْوَجْهِ، فَلاَ يَجِبُ غَسْلُهُمَا بِالْمَاءِ فِي الْوُضُوءِ.
وَخَالَفَ الْحَنَابِلَةُ الأَْئِمَّةَ الثَّلاَثَةَ فِي دَاخِل الْفَمِ وَالأَْنْفِ، وَقَالُوا: إِنَّهُمَا مِنَ الْوَجْهِ، فَيُفْتَرَضُ غَسْلُهُمَا أَيْ: بِالْمَضْمَضَةِ لِلْفَمِ وَالاِسْتِنْشَاقِ
__________
(1) محيط المحيط مادة: " عمم "، وكشاف القناع 1 / 178، ومغني المحتاج 1 / 73.(13/18)
لِلأَْنْفِ. وَالْمُعْتَبَرُ عِنْدَ الأَْئِمَّةِ الثَّلاَثَةِ: غَسْل ظَاهِرِ الأَْنْفِ.
3 - وَاتَّفَقَ الأَْئِمَّةُ الأَْرْبَعَةُ عَلَى وُجُوبِ تَعْمِيمِ الْيَدَيْنِ وَالْمِرْفَقَيْنِ بِالْمَاءِ، وَقَالُوا: إِذَا لَصِقَ بِالْيَدَيْنِ، أَوْ بِأَصْل الظُّفُرِ طِينٌ أَوْ عَجِينٌ، يَجِبُ إِزَالَتُهُ وَإِيصَال الْمَاءِ إِلَى أَصْل الظُّفُرِ، وَإِلاَّ بَطَل وُضُوءُهُ. وَيَجِبُ غَسْل تَكَامِيشِ (تَجَاعِيدِ) الأَْنَامِل لِيَعُمَّهَا الْمَاءُ، إِلاَّ أَنَّ بَعْضَ الْحَنَفِيَّةِ يَرَى ضَرُورَةَ غَسْل الأَْوْسَاخِ اللاَّصِقَةِ بِبَاطِنِ الظُّفُرِ الطَّوِيل، فَإِنْ لَمْ يَفْعَل بَطَل وُضُوءُهُ. وَاغْتَفَرُوا لِلْخَبَّازِ الَّذِي تَطُول أَظْفَارُهُ، فَيَبْقَى تَحْتَهَا شَيْءٌ مِنَ الْعَجِينِ لِضَرُورَةِ الْمِهْنَةِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ وَسَخَ الأَْظْفَارِ يُعْفَى عَنْهُ إِلاَّ إِذَا تَفَاحَشَ وَكَثُرَ، فَيَجِبُ إِزَالَتُهُ لِيَصِل الْمَاءُ إِلَى مَا تَحْتَ الظُّفُرِ. أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَالُوا: إِنَّ الأَْوْسَاخَ الَّتِي تَحْتَ الأَْظْفَارِ إِنْ مَنَعَتْ مِنْ وُصُول الْمَاءِ إِلَى الْجِلْدِ الْمُحَاذِي لَهَا مِنَ الأُْصْبُعِ، فَإِنَّ إِزَالَتَهَا وَاجِبَةٌ لِيَعُمَّ الْمَاءُ الْجِلْدَ، وَلَكِنْ يُعْفَى عَنِ الْعُمَّال الَّذِينَ يَعْمَلُونَ فِي الطِّينِ وَنَحْوِهِ، بِشَرْطِ أَلاَّ يَكُونَ كَثِيرًا يُلَوِّثُ رَأْسَ الأُْصْبُعِ (1) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 95 ـ 98 الطبعة الثانية للحلبي بمصر، وشرح فتح القدير 1 / 9 وما بعدها، وبدائع الصنائع 3 / 7 ـ الطبعة الأولى، وشرح منح الجليل 1 / 45 وما بعدها، وحاشية الدسوقي 1 / 85 وما بعدها، وشرح الزرقاني 1 / 55 ـ 60، ونهاية المحتاج 1 / 140، 151 ـ 161، وحاشية الجمل على شرح المنهج 1 / 109 ـ 114، ـ وشرح روض الطالب 1 / 31 ـ 33، والمغني لابن قدامة 1 / 123 وما بعدها ط. الرياض، وكشاف القناع 1 / 152، ما بعدها ط. الرياض.(13/19)
ب - الْغُسْل:
4 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ تَعْمِيمَ الْجَسَدِ كُلِّهِ بِالْمَاءِ فَرْضٌ فِي الْغُسْل؛ لأَِنَّ مِنْ أَرْكَانِ الْغُسْل: تَعْمِيمَ الْجَسَدِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي دَاخِل الْفَمِ وَالأَْنْفِ، فَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنَّهُ مِنَ الْبَدَنِ، فَالْمَضْمَضَةُ وَالاِسْتِنْشَاقُ فَرْضٌ عِنْدَهُمَا فِي الْغُسْل، وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ الْفَرْضَ هُوَ غَسْل الظَّاهِرِ فَقَطْ، فَلاَ تَجِبُ الْمَضْمَضَةُ وَالاِسْتِنْشَاقُ فِي الْغُسْل. وَيَجِبُ تَعْمِيمُ شَعْرِهِ وَبَشَرِهِ وَإِيصَال الْمَاءِ إِلَى مَنَابِتِ شَعْرِهِ وَإِنْ كَثُفَ. وَيَجِبُ نَقْضُ ضَفَائِرَ لاَ يَصِل الْمَاءُ إِلَى بَاطِنِهَا إِلاَّ بِالنَّقْضِ.
وَقَال بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: يُسْتَثْنَى مِنْ وُجُوبِ غَسْل الرَّأْسِ فِي الْغُسْل الْعَرُوسُ إِذَا كَانَ شَعْرُهَا مُزَيَّنًا، فَلاَ يَجِبُ عَلَيْهَا غَسْلُهُ، بَل يَكْفِيهَا الْمَسْحُ، قَالُوا: لِمَا فِي الْغُسْل مِنْ إِضَاعَةِ الْمَال. كَمَا يَجِبُ غَسْل مَا ظَهَرَ مِنْ صِمَاخَيِ الأُْذُنَيْنِ، وَمَا يَبْدُو مِنْ شُقُوقِ الْبَدَنِ الَّتِي لاَ غَوْرَ لَهَا. وَاتَّفَقُوا عَلَى ضَرُورَةِ إِيصَال الْمَاءِ إِلَى مَا يُمْكِنُ إِيصَالُهُ إِلَيْهِ مِنْ أَجْزَاءِ الْبَدَنِ، وَلَوْ كَانَتْ غَائِرَةً، كَعُمْقِ السُّرَّةِ وَمَحَل الْعَمَلِيَّاتِ الْجِرَاحِيَّةِ الَّتِي لَهَا أَثَرٌ غَائِرٌ. وَلَكِنَّ الشَّافِعِيَّةَ اعْتَبَرُوا شُعَبَ الأُْذُنِ يَدْخُل فِيهِ الْقُرْطُ مِنَ الْبَاطِنِ، لاَ مِنَ الظَّاهِرِ،(13/19)
فَلاَ يَلْزَمُ إِدْخَال الْمَاءِ إِلَيْهِ وَلَوْ أَمْكَنَ، وَاتَّفَقُوا عَلَى إِزَالَةِ كُل حَائِلٍ يَمْنَعُ وُصُول الْمَاءِ إِلَى مَا تَحْتَهُ، كَعَجِينٍ وَعُمَاصٍ فِي الْعَيْنِ لِيَحْصُل التَّعْمِيمُ (1) .
ج - التَّيَمُّمُ:
5 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَعْمِيمِ أَعْضَاءِ التَّيَمُّمِ بِالْمَسْحِ فَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يَجِبُ تَعْمِيمُ الْمَسْحِ عَلَى الْوَجْهِ وَيَدْخُل فِيهِ اللِّحْيَةُ وَلَوْ طَالَتْ، لأَِنَّهَا مِنَ الْوَجْهِ، لِمُشَارَكَتِهَا فِي حُصُول الْمُوَاجَهَةِ. وَالْمُعْتَبَرُ تَوْصِيل التُّرَابِ إِلَى جَمِيعِ الْبَشَرَةِ الظَّاهِرَةِ مِنَ الْوَجْهِ، وَإِلَى مَا ظَهَرَ مِنَ الشَّعْرِ. وَلاَ يَجِبُ إِيصَال التُّرَابِ إِلَى مَا تَحْتَ الْحَاجِبَيْنِ وَالشَّارِبِ وَالْعِذَارَيْنِ وَالْعَنْفَقَةِ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَفَ التَّيَمُّمَ، وَاقْتَصَرَ عَلَى ضَرْبَتَيْنِ، وَمَسَحَ وَجْهَهُ بِإِحْدَاهُمَا، وَمَسَحَ إِحْدَى الْيَدَيْنِ بِالأُْخْرَى (2) وَبِذَلِكَ لاَ يَصِل التُّرَابُ إِلَى بَاطِنِ هَذِهِ الشُّعُورِ لِلْمَشَقَّةِ فِي إِيصَالِهِ فَسَقَطَ
__________
(1) رد المحتار على الدر المختار 1 / 102، 103، 104 ط. بيروت لبنان، البدائع 1 / 34، 35، وحاشية الدسوقي 1 / 126، 134، وشرح الزرقاني 1 / 94، 95، 101، 102، ونهاية المحتاج 1 / 207، 208، وشرح الروض 1 / 69 وما بعدها، وكشاف القناع 1 / 152 ـ 155، والمغني 1 / 224 ـ 228.
(2) حديث: " وصف التيمم واقتصر على ضربتين. . " أخرجه أبو داود (1 / 235 ـ تحقيق عزت عبيد دعاس) وضعفه ابن حجر في التلخيص (1 / 151 ط شركة الطباعة الفنية) .(13/20)
وُجُوبُهُ، وَلأَِنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ تَعْمِيمُ الْمَسْحِ لاَ التُّرَابِ. وَيَجِبُ تَعْمِيمُ مَسْحِ يَدَيْهِ وَكُوعَيْهِ مَعَ تَخْلِيل أَصَابِعِهِ عَلَى الرَّاجِحِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ. وَيَلْزَمُ نَزْعُ الْخَاتَمِ - وَلَوْ مَأْذُونًا فِيهِ أَوْ وَاسِعًا - وَإِلاَّ كَانَ حَائِلاً، وَهَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ (1) . (ر: تَيَمُّمٌ) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: تَعْمِيمُ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ بِالْمَسْحِ فِي التَّيَمُّمِ شَرْطٌ لاَ رُكْنٌ. فَإِنْ كَانَ الْمَسْحُ بِيَدِهِ، فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ يَمْسَحَ بِجَمِيعِ يَدِهِ أَوْ أَكْثَرِهَا، وَالْمَفْرُوضُ الْمَسْحُ بِالْيَدِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا، وَيَجِبُ مَسْحُ الشَّعْرِ الَّذِي يَجِبُ غَسْلُهُ فِي الْوُضُوءِ، وَهُوَ الْمُحَاذِي لِلْبَشَرَةِ، فَلاَ يَجِبُ مَسْحُ مَا طَال مِنَ اللِّحْيَةِ وَقَالُوا: إنَّ تَحْرِيكَ الْخَاتَمِ الضَّيِّقِ وَالسِّوَارِ يَكْفِي فِي التَّيَمُّمِ؛ لأَِنَّ التَّحْرِيكَ مَسْحٌ لِمَا تَحْتَهُ، وَالْمَفْرُوضُ هُوَ الْمَسْحُ لاَ وُصُول الْغُبَارِ (2) .
د - الدُّعَاءُ:
6 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ التَّعْمِيمَ فِي الدُّعَاءِ مِنَ السُّنَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} (3) وَلِخَبَرِ مَا مِنْ دُعَاءٍ
__________
(1) حاشية الدسوقي 1 / 155، وشرح الزرقاني 1 / 120 ونهاية المحتاج 1 / 282 ـ 284، والمهذب 1 / 40، شرح الروض 1 / 86 ط المكتبة الإسلامية، والمغني لابن قدامة 1 / 254، 255، وكشاف القناع 1 / 174 ـ 175.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 230، وشرح فتح القدير 1 / 50، 51، وبدائع الصنائع 1 / 46 وما بعدها ط. أولى.
(3) سورة محمد / 19، وانظر حاشية ابن عابدين 1 / 350، والشرح الصغير 1 / 333 ط دار المعارف، والجمل على شرح المنهج 1 / 390، 391، وكشاف القناع 1 / 367.(13/20)
أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ أَنْ يَقُول الْعَبْدُ: اللَّهُمَّ ارْحَمْ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ رَحْمَةً عَامَّةً (1) وَلِحَدِيثِ الأَْعْرَابِيِّ الَّذِي قَال: اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي وَمُحَمَّدًا، وَلاَ تَرْحَمْ مَعَنَا أَحَدًا فَقَال: لَقَدْ تَحَجَّرْتَ وَاسِعًا. (2)
تَعْمِيمُ الأَْصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ فِي الزَّكَاةِ:
7 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ تَعْمِيمِ الأَْصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ فِي الزَّكَاةِ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى وُجُوبِهِ عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي (الزَّكَاةُ) .
تَعْمِيمُ الدَّعْوَةِ إِلَى الْوَلاَئِمِ:
8 - اخْتُلِفَ فِي حُكْمِ الدَّعْوَةِ الْعَامَّةِ، وَهِيَ الَّتِي تُسَمَّى (الْجَفْلَى) فَالْجُمْهُورُ عَلَى جَوَازِ إِجَابَتِهَا، وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى جَوَازِ إِجَابَتِهَا مَعَ الْكَرَاهَةِ، عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (دَعْوَةٌ)
تَعَوُّذٌ
انْظُرِ: اسْتِعَاذَةٌ
__________
(1) حديث: " ما من دعاء أحب إلى الله. . . " أخرجه الخطيب في تاريخه (6 / 157 ط. مطبعة السعادة) وابن عدي في الكامل (4 / 1621 ط. دار الفكر) واستنكره ابن عدي.
(2) حديث الأعرابي الذي قال: " اللهم ارحمني ومحمدا. . . " أخرجه الترمذي (1 / 276 ط الحلبي) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وقال: حديث حسن صحيح.(13/21)
تَعْوِيذٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّعْوِيذُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ عَوَّذَ، مِنْ عَاذَ يَعُوذُ عَوْذًا: بِمَعْنَى الْتَجَأَ. قَال اللَّيْثُ يُقَال: فُلاَنٌ عَوْذٌ لَكَ: أَيْ مَلْجَأٌ وَيُقَال: عُذْتُ بِفُلاَنٍ: اسْتَعَذْتُ بِهِ: أَيْ لَجَأْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ عِيَاذِي: أَيْ مَلْجَئِي. وَالْعُوذَةُ: مَا يُعَاذُ بِهِ مِنَ الشَّيْءِ، وَالْعُوذَةُ وَالتَّعْوِيذَةُ وَالْمَعَاذَةُ كُلُّهُ بِمَعْنَى: الرُّقْيَةُ الَّتِي يُرْقَى بِهَا الإِْنْسَانُ مِنْ فَزَعٍ أَوْ جُنُونٍ. وَالْجَمْعُ: عُوَذٌ وَتَعَاوِيذُ، وَمُعَاذَاتٌ (1)
وَالتَّعْوِيذُ فِي الاِصْطِلاَحِ يَشْمَل الرُّقَى وَالتَّمَائِمَ وَنَحْوَهَا مِمَّا هُوَ مَشْرُوعٌ أَوْ غَيْرُ مَشْرُوعٍ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الرُّقْيَةُ:
2 - الرُّقْيَةُ فِي اللُّغَةِ: مِنْ رَقَاهُ يَرْقِيهِ رُقْيَةً بِمَعْنَى: الْعُوذَةِ وَالتَّعْوِيذِ. قَال ابْنُ الأَْثِيرِ: الرُّقْيَةُ: الْعُوذَةُ الَّتِي يُرْقَى بِهَا صَاحِبُ الآْفَةِ، كَالْحُمَّى وَالصَّرَعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الآْفَاتِ، لأَِنَّهُ يُعَاذُ بِهَا. وَمِنْهُ
__________
(1) مختار الصحاح، وتاج العروس، ومتن اللغة، المفردات للراغب الأصفهاني.(13/21)
قَوْله تَعَالَى: {وَقِيل مَنْ رَاقٍ} (1) أَيْ مَنْ يَرْقِيهِ؟ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ لاَ رَاقِيَ يَرْقِيهِ، فَيَحْمِيهِ (2) .
وَعَرَّفَهَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: بِأَنَّهَا مَا يُرْقَى بِهِ مِنَ الدُّعَاءِ لِطَلَبِ الشِّفَاءِ (3) .
فَالرُّقْيَةُ أَخَصُّ مِنَ التَّعْوِيذِ، لأَِنَّ التَّعْوِيذَ يَشْمَل الرُّقْيَةَ وَغَيْرَهَا، فَكُل رُقْيَةٍ تَعْوِيذٌ وَلاَ عَكْسَ
ب - التَّمِيمَةُ:
3 - التَّمِيمَةُ فِي اللُّغَةِ: خَيْطٌ أَوْ خَرَزَاتٌ كَانَ الْعَرَبُ يُعَلِّقُونَهَا عَلَى أَوْلاَدِهِمْ، يَمْنَعُونَ بِهَا الْعَيْنَ فِي زَعْمِهِمْ، فَأَبْطَلَهَا الإِْسْلاَمُ. قَال الْخَلِيل بْنُ أَحْمَدَ: التَّمِيمَةُ قِلاَدَةٌ فِيهَا عُوَذٌ.
وَمَعْنَاهَا عِنْدَ أَهْل الْعِلْمِ: مَا عُلِّقَ فِي الأَْعْنَاقِ مِنَ الْقَلاَئِدِ خَشْيَةَ الْعَيْنِ أَوْ غَيْرِهَا. وَفِي الْحَدِيثِ: مَنْ تَعَلَّقَ تَمِيمَةً فَلاَ أَتَمَّ اللَّهُ لَهُ (4) أَيْ: فَلاَ أَتَمَّ اللَّهُ صِحَّتَهُ وَعَافِيَتَهُ (5) .
__________
(1) سورة القيامة / 27.
(2) مختار الصحاح، وتاج العروس، والمفردات للراغب الأصفهاني: مادة: " رقي " وعمدة القاري 10 / 165، 185.
(3) حاشية العدوي على شرح الرسالة 1 / 452 ط دار المعرفة.
(4) حديث: " من تعلق تميمة فلا أتم الله له. . . " أخرجه أحمد (4 / 154 ط الميمنية) وفي إسناده جهالة. (تعجيل المنفعة ص 114 نشر دار الكتاب العربي) .
(5) شرح منتهى الإرادات 1 / 320، وكشاف القناع 2 / 77، والقرطبي 10 / 320، ونيل الأوطار 8 / 312، والمغرب للمطرزي مادة: " تمم ".(13/22)
وَهِيَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: الْعُوذَةُ الَّتِي تُعَلَّقُ عَلَى الْمَرِيضِ وَالصِّبْيَانِ، وَقَدْ يَكُونُ فِيهَا الْقُرْآنُ وَذِكْرُ اللَّهِ إِذَا خُرِزَ عَلَيْهَا جِلْدٌ (1) .
فَالتَّمِيمَةُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ أَيْضًا: نَوْعٌ مِنَ التَّعْوِيذِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الرُّقْيَةِ: أَنَّ الأُْولَى هِيَ تَعْوِيذٌ يُعَلَّقُ عَلَى الْمَرِيضِ وَنَحْوِهِ، وَالثَّانِيَةُ تَعْوِيذٌ يُقْرَأُ عَلَيْهِ
ج - الْوَدَعَةُ:
4 - الْوَدَعَةُ: شَيْءٌ أَبْيَضُ يُجْلَبُ مِنَ الْبَحْرِ يُعَلَّقُ فِي أَعْنَاقِ الصِّبْيَانِ وَغَيْرِهِمْ. وَفِي الْحَدِيثِ مَنْ عَلَّقَ وَدَعَةً فَلاَ وَدَعَ اللَّهُ لَهُ (2) أَيْ فَلاَ بَارَكَ اللَّهُ مَا هُوَ فِيهِ مِنَ الْعَافِيَةِ وَإِنَّمَا نَهَى عَنْهَا لأَِنَّهُمْ كَانُوا يُعَلِّقُونَهَا مَخَافَةَ الْعَيْنِ (3) فَالْوَدَعَةُ مِثْل التَّمِيمَةِ فِي الْمَعْنَى (4) .
د - التُّوَلَةُ:
5 - التُّوَلَةُ فِي اللُّغَةِ: بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ ثَانِيهِ:
__________
(1) القوانين الفقهية لابن جزي ص 452، والإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع 1 / 95، الشرح الصغير 4 / 749 ونهاية المحتاج 1 / 125، وأسنى المطالب 1 / 61.
(2) حديث: " من علق ودعة فلا ودع الله له. . . " أخرجه (أحمد 4 / 154 ط الميمنية) وفي إسناده جهالة. " تعجيل المنفعة ص 114 نشر دار الكتاب العربي) .
(3) مختار الصحاح مادة: " ودع "، والقرطبي 10 / 320، والآداب الشرعية 3 / 76.
(4) تفسير القرطبي 10 / 320.(13/22)
السِّحْرُ، وَخَرَزٌ كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ يُحَبِّبُ الْمَرْأَةَ إِلَى زَوْجِهَا، وَيُقَال فِيهَا أَيْضًا: التُّوَلَةُ كَعِنَبَةٍ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: تَحْبِيبُ الْمَرْأَةِ إِلَى زَوْجِهَا.
كَمَا فَسَّرَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَاوِي الْحَدِيثِ. " قَالُوا: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، هَذِهِ التَّمَائِمُ وَالرُّقَى قَدْ عَرَفْنَاهَا، فَمَا التُّوَلَةُ؟ قَال: شَيْءٌ يَصْنَعُهُ النِّسَاءُ يَتَحَبَّبْنَ بِهِ إِلَى أَزْوَاجِهِنَّ.
فَالتُّوَلَةُ أَيْضًا ضَرْبٌ مِنَ التَّعْوِيذِ (2) .
هـ - (التَّفْل، النَّفْثُ، النَّفْخُ) :
6 - التَّفْل: النَّفْخُ مَعَهُ رِيقٌ. وَالنَّفْثُ: نَفْخٌ لَيْسَ مَعَهُ رِيقٌ. فَالتَّفْل شَبِيهٌ بِالْبَزْقِ، وَهُوَ أَقَل مِنْهُ، أَوَّلُهُ الْبَزْقُ، ثُمَّ التَّفْل، ثُمَّ النَّفْثُ، ثُمَّ النَّفْخُ (3) . فَكُلٌّ مِنَ التَّفْل، وَالنَّفْثِ، وَالنَّفْخِ قَدْ يَكُونُ مِنْ مُلاَبَسَاتِ التَّعَاوِيذِ.
و النُّشْرَةُ:
7 - النُّشْرَةُ فِي اللُّغَةِ: كَالتَّعْوِيذِ وَالرُّقْيَةِ. يُعَالَجُ بِهَا الْمَجْنُونُ وَالْمَرِيضُ وَحَل السِّحْرِ عَنِ الْمَسْحُورِ (4) ، وَفِي الْحَدِيثِ فَلَعَل طِبًّا أَصَابَهُ،
__________
(1) القاموس، والمغرب للمطرزي، وابن عابدين 5 / 275، 276، والآداب الشرعية 3 / 75.
(2) ابن عابدين 5 / 275، 276، ونيل الأوطار 8 / 312، والدين الخالص 3 / 238، والآداب الشرعية 3 / 75.
(3) نيل الأوطار 8 / 212، وعمدة القاري 10 / 184.
(4) القاموس المحيط، ولسان العرب مادة: " نشر " والنهاية لابن الأثير 3 / 636(13/23)
يَعْنِي سِحْرًا، ثُمَّ نَشَرَهُ ب قُل أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) أَيْ رَقَاهُ. وَالتَّنْشِيرُ: الرُّقْيَةُ أَوْ كِتَابَةُ النُّشْرَةُ. وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هِيَ أَنْ يَكْتُبَ شَيْئًا مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ مِنَ الْقُرْآنِ، ثُمَّ يَغْسِلُهُ بِالْمَاءِ، ثُمَّ يُمْسَحُ بِهِ الْمَرِيضُ أَوْ يُسْقَاهُ. أَوْ يُكْتَبُ قُرْآنٌ وَذِكْرٌ بِإِنَاءٍ لِحَامِلٍ لِعُسْرِ الْوِلاَدَةِ، وَلِمَرِيضٍ يُسْقَيَانِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ (2) .
ز - الرَّتِيمَةُ:
8 - الرَّتِيمَةُ وَالرَّتْمَةُ: خَيْطٌ يُرْبَطُ بِأُصْبُعٍ أَوْ خَاتَمٍ لِتُسْتَذْكَرَ بِهِ الْحَاجَةُ، وَيُقَال: أَرْتَمَهُ: إِذَا شَدَّ فِي أُصْبُعِهِ الرَّتِيمَةَ وَقِيل: هِيَ خَيْطٌ كَانَ يُرْبَطُ فِي الْعُنُقِ أَوْ فِي الْيَدِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لِدَفْعِ الْمَضَرَّةِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ عَلَى زَعْمِهِمْ (3) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلتَّعْوِيذِ:
9 - يَخْتَلِفُ حُكْمُ التَّعَاوِيذِ بِاخْتِلاَفِ مَا تُتَّخَذُ مِنْهُ التَّعَاوِيذُ. وَتَنْقَسِمُ إِلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ:
الْقِسْمُ الأَْوَّل:
10 - مَا لاَ يُعْقَل مَعْنَاهُ:
وَمِنْهُ مَا كَانَ يُرْقَى بِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. فَذَهَبَ
__________
(1) حديث: " فلعل طبا أصابه، ويعني سحرا. . . " أورده ابن الأثير في النهاية في غريب الحديث والأثر، مادة: " طبب " وهو في لسان العرب أيضا، ولم نعثر عليه في كتب السنة.
(2) ابن عابدين 5 / 232، وشرح منتهى الإرادات 1 / 320 ـ 321، المفردات للراغب الأصفهاني مادة: " نشر " والآداب الشرعية 3 / 73، وتفسير القرطبي 10 / 318.
(3) مختار الصحاح مادة: " رتم "، وابن عابدين 5 / 232.(13/23)
جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى: أَنَّهُ يَجِبُ اجْتِنَابُهُ بِلاَ خِلاَفٍ. لِمَا صَحَّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّهُ دَخَل عَلَى امْرَأَتِهِ، وَفِي عُنُقِهَا شَيْءٌ تَتَعَوَّذُ بِهِ، فَجَبَذَهُ، فَقَطَعَهُ، ثُمَّ قَال: لَقَدْ أَصْبَحَ آل عَبْدِ اللَّهِ أَغْنِيَاءَ عَنْ أَنْ يُشْرِكُوا بِاَللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّل بِهِ سُلْطَانًا. ثُمَّ قَال: سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: إِنَّ الرُّقَى وَالتَّمَائِمَ وَالتُّوَلَةَ شِرْكٌ، قَالُوا: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ هَذِهِ الرُّقَى وَالتَّمَائِمُ قَدْ عَرَفْنَاهَا، فَمَا التُّوَلَةُ، قَال: شَيْءٌ يَصْنَعُهُ النِّسَاءُ يَتَحَبَّبْنَ إِلَى أَزْوَاجِهِنَّ (1) .
فَيَتَعَيَّنُ حَمْل الْوَعِيدِ عَلَى مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ مِنْ تَعْلِيقِ خَرَزَةٍ يُسَمُّونَهَا تَمِيمَةً أَوْ نَحْوَهَا، يَرَوْنَ أَنَّهَا تَدْفَعُ عَنْهُمُ الآْفَاتِ. وَلاَ شَكَّ أَنَّ اعْتِمَادَ هَذَا جَهْلٌ وَضَلاَلٌ، وَأَنَّهُ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ، لأَِنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ شِرْكًا فَهُوَ يُؤَدِّي إِلَيْهِ، إِذْ لاَ يَنْفَعُ وَلاَ يَضُرُّ وَلاَ يَمْنَعُ وَلاَ يَدْفَعُ إِلاَّ اللَّهُ تَعَالَى وَكَذَلِكَ الرُّقَى وَالتَّعَاوِيذُ مَحْمُولَةٌ أَيْضًا عَلَى ذَلِكَ، أَوْ عَلَى مَا إِذَا كَانَتْ بِغَيْرِ لِسَانِ الْعَرَبِ وَلاَ يُدْرَى مَا هِيَ، وَلَعَلَّهُ يَدْخُلُهَا سِحْرٌ أَوْ كُفْرٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا لاَ يُعْرَفُ مَعْنَاهُ، فَإِنَّهَا حِينَئِذٍ حَرَامٌ، صَرَّحَ بِهِ الْخَطَّابِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَابْنُ رُشْدٍ وَالْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ،
__________
(1) حديث: " إن الرقي والتمائم والتولة شرك. . . " أخرجه الحاكم (4 / 217 ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه ووافقه الذهبي.(13/24)
وَقَال فِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ: لاَ يُرْقَى بِالأَْسْمَاءِ الَّتِي لَمْ يُعْرَفْ مَعْنَاهَا، قَال مَالِكٌ: مَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهَا كُفْرٌ؟ (1) .
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حُكْمِ النَّفْثِ وَغَيْرِهِ عِنْدَ الرُّقَى وَالتَّعَاوِيذِ، فَمَنَعَهُ قَوْمٌ، وَأَجَازَهُ آخَرُونَ. قَال النَّوَوِيُّ: وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى جَوَازِهِ، وَاسْتَحَبَّهُ الْجُمْهُورُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَتْهُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَنْفُثُ فِي الرُّقْيَةِ وَلَفْظُهُ: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا مَرِضَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهِ نَفَثَ عَلَيْهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ، فَلَمَّا مَرِضَ مَرَضَهُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، جَعَلْتُ أَنْفُثُ عَلَيْهِ وَأَمْسَحُهُ بِيَدِ نَفْسِهِ؛ لأَِنَّهَا أَعْظَمُ بَرَكَةً مِنْ يَدِي (2) وَأَيْضًا بِمَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَاطِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ يَدَهُ احْتَرَقَتْ، فَأَتَتْ بِهِ أُمُّهُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَل يَنْفُثُ عَلَيْهَا، وَيَتَكَلَّمُ بِكَلاَمٍ زَعَمَ أَنَّهُ لَمْ يَحْفَظْهُ (3) .
__________
(1) ابن عابدين 5 / 232، والشرح الصغير 4 / 769، والفتاوى الحديثية ص 120، والإنصاف 10 / 352، وكشاف القناع 6 / 186، وعمدة القاري 5 / 653، والقرطبي 20 / 258، والزواجر 1 / 155، ونيل الأوطار 8 / 214، والدين الخالص 2 / 232، 234.
(2) حديث: " كان إذا مرض أحد من أهله نفث عليه بالمعوذات. . . " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 206ط السلفية، ومسلم (4 / 1722ط الحلبي) .
(3) حديث محمد بن حاطب أن يده احترقت، " فأتت به أمه النبي صلى الله عليه وسلم فجعل. . . " أخرجه (أحمد 4 / 259 ط الميمنية) ، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (5 / 112 ط القدسي) : رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد رجال الصحيح.(13/24)
وَقَال مُحَمَّدُ بْنُ الأَْشْعَثِ: ذُهِبَ بِي إِلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَفِي عَيْنَيَّ سُوءٌ فَرَقَتْنِي وَنَفَثَتْ (1) .
وَاسْتَدَل الآْخَرُونَ: وَهُمْ إِبْرَاهِيمُ وَعِكْرِمَةُ، وَالْحَكَمُ بِمَا قَال بَعْضُهُمْ: دَخَلْتُ عَلَى الضَّحَّاكِ وَهُوَ وَجِعٌ، فَقُلْتُ: أَلاَ أَعَوِّذُكَ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ؟ قَال: بَلَى، وَلَكِنْ لاَ تَنْفُثْ، فَعَوَّذْتُهُ بِالْمُعَوِّذَتَيْنِ. وَبِمَا قَال ابْنُ جُرَيْجٍ لِعَطَاءٍ: الْقُرْآنُ يَنْفُخُ أَوْ يَنْفُثُ. قَال: لاَ شَيْءَ مِنْ ذَلِكَ (2) .
وَأَمَّا حُكْمُ النُّشْرَةِ، فَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَدَا ابْنَ عَبْدِ السَّلاَمِ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّهُ جَائِزٌ وَهُوَ قَوْل سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ وَالطَّبَرِيِّ وَكَانَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَقْرَأُ بِالْمُعَوِّذَتَيْنِ فِي إِنَاءٍ، ثُمَّ تَأْمُرُ أَنْ يُصَبَّ عَلَى الْمَرِيضِ.
وَذَهَبَ ابْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ حَرَامٌ، وَمَنَعَهَا أَيْضًا الْحَسَنُ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، وَابْنُ الْجَوْزِيِّ. وَكَذَلِكَ مُجَاهِدٌ لَمْ يَرَ أَنْ تُكْتَبَ آيَاتُ الْقُرْآنِ، ثُمَّ تُغْسَل، ثُمَّ يُسْقَاهُ صَاحِبُ الْفَزَعِ. وَقَال النَّخَعِيُّ: أَخَافُ أَنْ
__________
(1) نيل الأوطار 8 / 212، وتفسير القرطبي 10 / 318، و20 / 258، والأذكار ص 120.
(2) القرطبي 20 / 258.(13/25)
يُصِيبَهُ بَلاَءٌ. لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ النُّشْرَةَ مِنْ عَمَل الشَّيْطَانِ (1) .
وَقِيل: الْمَنْعُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا كَانَتْ خَارِجَةً عَمَّا فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنِ الْمُدَاوَاةِ الْمَعْرُوفَةِ. وَالنُّشْرَةُ مِنْ جِنْسِ الطِّبِّ، فَهِيَ غُسَالَةُ شَيْءٍ لَهُ فَضْلٌ كَوُضُوءِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (2) . وَأَمَّا الرَّتِيمَةُ فَيَخْتَلِفُ حُكْمُهَا بِاخْتِلاَفِ مَعَانِيهَا:
فَحُكْمُ الرَّتِيمَةِ - بِمَعْنَى: أَنَّهَا خَيْطٌ يُرْبَطُ بِأُصْبُعٍ أَوْ خَاتَمٍ لِتُسْتَذْكَرَ بِهِ الْحَاجَةُ - فَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّهَا لاَ تُكْرَهُ، لأَِنَّهَا تُفْعَل لِحَاجَةٍ فَلَيْسَ بِعَبَثٍ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْغَرَضِ الصَّحِيحِ، وَهُوَ التَّذَكُّرُ عِنْدَ النِّسْيَانِ. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بَعْضَ أَصْحَابِهِ بِذَلِكَ (3) ، وَفِي الْمِنَحِ: أَنَّهُ
__________
(1) حديث: " النشرة من عمل الشيطان. . . " أخرجه أبو داود لفظ: " سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النشرة فقال: هو من عمل الشيطان " (سنن أبي داود 4 / 201 تحقيق عزت عبيد دعاس) وحسنه ابن حجر في الفتح (10 / 233 ط السلفية) .
(2) ابن عابدين 5 / 232، 233، والإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع 1 / 95، وشرح منتهى الإرادات 1 / 320، 321، وتفسير القرطبي 10 / 318 ـ 319.
(3) حديث: " أمر بعض أصحابه بربط الخيط للتذكر عند النسيان " قال الزيلعي: غريب، وفيه أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم نفسه " أنه كان يربط في أصبعه خيطا ليذكر به الحاجة " ثم ذكرها وبين عللها وليس فيها شيء يحتج به. " (نصب الراية 4 / 238 ط المجلس العلمي) وكذا ذكرها السيوطي في اللآلئ (2 / 282 ـ 283 نشر المعرفة) .(13/25)
مَكْرُوهٌ؛ لأَِنَّهُ مَحْضُ عَبَثٍ. وَعَلَى هَذَا الْخِلاَفِ: الدُّمْلُجُ، وَهُوَ مَا يَصْنَعُهُ بَعْضُ الرِّجَال فِي الْعَضُدِ وَأَمَّا حُكْمُ الرَّتِيمَةِ - بِمَعْنَى أَنَّهَا خَيْطٌ كَانَ يُرْبَطُ فِي الْعُنُقِ أَوْ فِي الْيَدِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ بِزَعْمِهِمْ - فَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، لأَِنَّهُ مِنْ جِنْسِ التَّمَائِمِ الْمُحَرَّمَةِ، وَذُكِرَ فِي حُدُودِ الإِْيمَانِ أَنَّهُ كُفْرٌ (1)
الْقِسْمُ الثَّانِي:
11 - مَا كَانَ تَعْوِيذًا بِكَلاَمِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ بِأَسْمَائِهِ فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الاِسْتِرْقَاءَ بِذَلِكَ جَائِزٌ، وَقَال السُّيُوطِيُّ: إِنَّ الْجَوَازَ مُقَيَّدٌ بِاجْتِمَاعِ ثَلاَثَةِ شُرُوطٍ عِنْدَ جَمِيعِ الْعُلَمَاءِ وَهِيَ:
أ - أَنْ يَكُونَ بِكَلاَمِ اللَّهِ أَوْ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ.
ب - أَنْ يَكُونَ بِاللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ وَبِمَا يُعْرَفُ مَعْنَاهُ.
ج - أَنْ يُعْتَقَدَ أَنَّ التَّعْوِيذَ وَالرُّقْيَةَ لاَ تُؤَثِّرُ بِذَاتِهَا، بَل بِتَقْدِيرِ اللَّهِ تَعَالَى (2) .
وَقِيل: إِنْ كَانَ مَأْثُورًا فَيُسْتَحَبُّ. وَذَكَرَ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 232، وفتح القدير 8 / 459.
(2) ابن عابدين 5 / 232، وعمدة القارئ 5 / 654، والقوانين الفقهية لابن جزي ص 453، الشرح الصغير 4 / 768، والفتاوى الحديثية ص 121، وروضة الطالبين 2 / 263، والمغني 2 / 449، ونيل الأوطار 8 / 215، والدين الخالص 2 / 235.(13/26)
الْخَطَّابِيُّ: أَنَّهُ إِذَا كَانَ مَفْهُومَ الْمَعْنَى، وَكَانَ فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ، فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ. وَأَنَّ الرُّقْيَةَ الَّتِي أَمَرَ بِهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ مَا يَكُونُ بِقَوَارِعِ الْقُرْآنِ وَبِمَا فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى. وَمَا نُهِيَ عَنْهُ هُوَ رُقْيَةُ الْعَزَّامِينَ، وَمَنْ يَدَّعِي تَسْخِيرَ الْجِنِّ (1) وَبِالْجَوَازِ قَال أَيْضًا الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَآخَرُونَ.
12 - وَاحْتَجَّ الْمُجَوِّزُونَ بِأَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ مِنْهَا: - مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يُعَوِّذُ نَفْسَهُ (2) . وَرَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُعَوِّذُ بَعْضَ أَهْلِهِ، يَمْسَحُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى وَيَقُول: اللَّهُمَّ رَبَّ النَّاسِ أَذْهِبِ الْبَأْسَ، وَاشْفِهِ وَأَنْتَ الشَّافِي، لاَ شِفَاءَ إِلاَّ شِفَاؤُكَ، شِفَاءً لاَ يُغَادِرُ سَقَمًا (3) .
- وَرَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الرُّقَى، فَجَاءَ آل عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، فَقَالُوا: يَا رَسُول اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ عِنْدَنَا رُقْيَةٌ نَرْقِي
__________
(1) نيل الأوطار 8 / 212 ـ 214. والدين الخالص 2 / 235، وعمدة القارئ 10 / 187 ـ 191، والزواجر 1 / 155، والأذكار ص 123 ط الحلبي.
(2) حديث: " كان يعوذ نفسه. . . " أخرجه البخاري (الفتح 11 / 125 ط السلفية) .
(3) حديث: " روت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعوذ بعض أهله " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 206 ط السلفية) ، ومسلم (4 / 1722 ط الحلبي) .(13/26)
بِهَا مِنَ الْعَقْرَبِ، وَإِنَّكَ نَهَيْتَ عَنِ الرُّقَى، قَال: فَعَرَضُوهَا عَلَيْهِ، فَقَال: مَا أَرَى بِهَا بَأْسًا، فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَفْعَل (1) .
وَقَال الشَّعْبِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةُ وَجَمَاعَةٌ آخَرُونَ: تُكْرَهُ الرُّقَى، وَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُؤْمِنِ أَنْ يَتْرُكَ ذَلِكَ اعْتِصَامًا بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَتَوَكُّلاً عَلَيْهِ، وَثِقَةً بِهِ وَانْقِطَاعًا إِلَيْهِ. وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ ذَكَرَ أَهْل الْجَنَّةِ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَلَمَّا سُئِل مَا صِفَتُهُمْ قَال: هُمُ الَّذِينَ لاَ يَتَطَيَّرُونَ وَلاَ يَكْتَوُونَ، وَلاَ يَسْتَرْقُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) .
الْقِسْمُ الثَّالِثُ:
13 - مَا كَانَ بِأَسْمَاءِ غَيْرِ اللَّهِ مِنْ مَلَكٍ مُقَرَّبٍ أَوْ مِنْ مُعَظَّمٍ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ كَالْعَرْشِ. فَصَرَّحَ الشَّوْكَانِيُّ: بِأَنَّهُ يُكْرَهُ مِنَ الرُّقَى مَا لَمْ يَكُنْ بِذِكْرِ اللَّهِ وَأَسْمَائِهِ خَاصَّةً، لِيَكُونَ بَرِيئًا مِنْ شَوْبِ الشِّرْكِ قَال: وَعَلَى كَرَاهَةِ الرُّقَى بِغَيْرِ الْقُرْآنِ عُلَمَاءُ الأُْمَّةِ. وَقَال الْقُرْطُبِيُّ: هَذَا لَيْسَ مِنَ
__________
(1) حديث: " ما أرى بها بأسا، فمن استطاع منكم. . " رواه مسلم (4 / 1726 ـ 1727 ط الحلبي) .
(2) حديث: " ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الجنة الذين. . . " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 211 ـ السلفية) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وأخرجه مسلم (1 / 198 ط عيسى الحلبي) من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه.(13/27)
الْوَاجِبِ اجْتِنَابُهُ وَلاَ مِنَ الْمَشْرُوعِ الَّذِي يَتَضَمَّنُ الاِلْتِجَاءَ إِلَى اللَّهِ وَالتَّبَرُّكَ بِأَسْمَائِهِ، فَيَكُونُ تَرْكُهُ أَوْلَى، إِلاَّ أَنْ يَتَضَمَّنَ تَعْظِيمَ الْمَرْقِيِّ بِهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُجْتَنَبَ كَالْحَلِفِ بِغَيْرِ اللَّهِ (1) .
الْغَرَضُ مِنَ اتِّخَاذِ التَّعَاوِيذِ:
أَوَّلاً: الاِسْتِشْفَاءُ:
أ - الاِسْتِشْفَاءُ بِالْقُرْآنِ:
14 - الأَْصْل فِي هَذَا الْبَابِ قَوْله تَعَالَى {وَنُنَزِّل مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَارًا} (2)
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي كَوْنِ الْقُرْآنِ شِفَاءً عَلَى قَوْلَيْنِ (3) :
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لاَ يُشْرَعُ الاِسْتِشْفَاءُ بِهِ مِنَ الأَْمْرَاضِ الْبَدَنِيَّةِ، بَل هُوَ شِفَاءٌ لِلْقُلُوبِ، بِزَوَال الْجَهْل عَنْهَا وَإِزَالَةِ الرَّيْبِ، وَلِكَشْفِ غِطَاءِ الْقَلْبِ مِنْ مَرَضِ الْجَهْل لِفَهْمِ الْمُعْجِزَاتِ، وَالأُْمُورِ الدَّالَّةِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، لِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ} (4) .
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنَّهُ شِفَاءٌ أَيْضًا مِنَ الأَْمْرَاضِ
__________
(1) عمدة القاري 5 / 653، 654، ونيل الأوطار 8 / 215، والشرح الصغير 4 / 768.
(2) سورة الإسراء / 82.
(3) القرطبي 10 / 316.
(4) سورة يونس / 57.(13/27)
بِالرُّقْيَةِ وَالتَّعَوُّذِ وَنَحْوِهِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (1) ، فَجَوَّزُوا الاِسْتِشْفَاءَ بِالْقُرْآنِ: بِأَنْ يُقْرَأَ عَلَى الْمَرِيضِ، أَوِ الْمَلْدُوغِ الْفَاتِحَةُ، وَيَتَحَرَّى مَا يُنَاسِبُ، وَإِنْ كَانَ الْقُرْآنُ كُلُّهُ شِفَاءً عَلَى أَنَّ {مِنْ} فِي قَوْله تَعَالَى {وَنُنَزِّل مِنَ الْقُرْآنِ} (2) لِلْبَيَانِ. وَفِي الْخَبَرِ مَنْ لَمْ يَسْتَشْفِ بِالْقُرْآنِ فَلاَ شَفَاهُ اللَّهُ (3) .
وَلِمَا رَوَى الأَْئِمَّةُ، وَاللَّفْظُ لِلدَّارَقُطْنِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: بَعَثَنَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَرِيَّةٍ ثَلاَثِينَ رَاكِبًا، قَال فَنَزَلْنَا عَلَى قَوْمٍ مِنَ الْعَرَبِ، فَسَأَلْنَاهُمْ أَنْ يُضَيِّفُونَا، فَأَبَوْا، فَلُدِغَ سَيِّدُ الْحَيِّ. فَأَتَوْا فَقَالُوا: فِيكُمْ أَحَدٌ يَرْقِي مِنَ الْعَقْرَبِ؟ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ قَتَّةَ: إِنَّ الْمَلِكَ يَمُوتُ. قَال: قُلْتُ أَنَا: نَعَمْ، وَلَكِنْ لاَ أَفْعَل حَتَّى تُعْطُونَا. فَقَالُوا: فَإِنَّا نُعْطِيكُمْ ثَلاَثِينَ شَاةً، قَال: فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} سَبْعَ مَرَّاتٍ فَبَرَأَ وَفِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ قَتَّةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ فَأَفَاقَ وَبَرَأَ. فَبَعَثَ إِلَيْنَا بِالنُّزُل، وَبَعَثَ إِلَيْنَا
__________
(1) ابن عابدين 5 / 232، والشرح الصغير 4 / 768، وكشاف القناع 2 / 81، الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع 1 / 95 ط دار المعرفة، ونيل الأوطار 8 / 212، 215، وتفسير القرطبي 10 / 316.
(2) سورة الإسراء / 82.
(3) حديث: " من لم يستشف بالقرآن فلا شفاه الله " عزاه صاحب كنز العمال إلى الدارقطني في الأفراد من حديث أبي هريرة (كنز العمال 10 / 9 ط الرسالة) .(13/28)
بِالشَّاءِ، فَأَكَلْنَا الطَّعَامَ أَنَا وَأَصْحَابِي، وَأَبَوْا أَنْ يَأْكُلُوا مِنَ الْغَنَمِ، حَتَّى أَتَيْنَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ الْخَبَرَ، فَقَال: وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ؟ قُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ. شَيْءٌ أُلْقِيَ فِي رَوْعِي، قَال: كُلُوا وَأَطْعِمُونَا مِنَ الْغَنَمِ (1) .
قَال ابْنُ حَجَرٍ (2) : فَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ، مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَرْمَلَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَكْرَهُ عَشْرَ خِصَالٍ، (3) فَذَكَرَ فِيهَا الرُّقَى إِلاَّ بِالْمُعَوِّذَاتِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَرْمَلَةَ قَال الْبُخَارِيُّ: لاَ يَصِحُّ حَدِيثُهُ، وَقَال الطَّبَرِيُّ لاَ يُحْتَجُّ بِهَذَا الْخَبَرِ لِجَهَالَةِ رَاوِيهِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ فَهُوَ مَنْسُوخٌ بِالإِْذْنِ فِي الرُّقْيَةِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَأَشَارَ الْمُهَلَّبُ إِلَى الْجَوَابِ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ فِي الْفَاتِحَةِ مَعْنَى
__________
(1) تفسير القرطبي 10 / 315، 316، والشرح الصغير 4 / 768، ونيل الأوطار 8 / 215، والأذكار / 119 ط الحلبي. وحديث " أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. . " أخرجه الدارقطني (3 / 94 ط دار المحاسن) وأصله في صحيح البخاري (الفتح 10 / 453 ط السلفية) .
(2) فتح الباري 10 / 195 - 197.
(3) حديث ابن مسعود رضي الله عنه: " كان يكره عشر خصال. . . " أخرجه أحمد (1 / 380 ط الميمنية) وأبو داود (4 / 427 ـ 428 تحقيق عزت عبيد دعاس) وضعفه ابن حجر كما في الفتح (10 / 195 ط السلفية) واستنكره الذهبي كما في الميزان (2 / 556 ط الحلبي) .(13/28)
الاِسْتِعَاذَةِ، وَهُوَ الاِسْتِعَانَةُ، فَعَلَى هَذَا يَخْتَصُّ الْجَوَازُ بِمَا يَشْتَمِل عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَعَوَّذُ مِنَ الْجَانِّ وَعَيْنِ الإِْنْسَانِ حَتَّى نَزَلَتِ الْمُعَوِّذَاتُ، فَأَخَذَ بِهَا وَتَرَكَ مَا سِوَاهَا (1) .
وَهَذَا لاَ يَدُل عَلَى الْمَنْعِ مِنَ التَّعَوُّذِ بِغَيْرِ هَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ، بَل يَدُل عَلَى الأَْوْلَوِيَّةِ، وَلاَ سِيَّمَا مَعَ ثُبُوتِ التَّعَوُّذِ بِغَيْرِهِمَا، وَإِنَّمَا اجْتَزَأَ بِهِمَا لِمَا اشْتَمَلَتَا عَلَيْهِ مِنْ جَوَامِعِ الاِسْتِعَاذَةِ مِنْ كُل مَكْرُوهٍ جُمْلَةً وَتَفْصِيلاً.
ثُمَّ قَال ابْنُ حَجَرٍ بَعْدَئِذٍ: لاَ يَلْزَمُ مِنْ مَشْرُوعِيَّةِ الرُّقَى بِالْمُعَوِّذَاتِ أَنْ يُشْرَعَ بِغَيْرِهَا مِنَ الْقُرْآنِ، لاِحْتِمَال أَنْ يَكُونَ فِي الْمُعَوِّذَاتِ سِرٌّ لَيْسَ فِي غَيْرِهَا. وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَكَ مَا عَدَا الْمُعَوِّذَاتِ، لَكِنْ ثَبَتَتِ الرُّقْيَةُ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، فَدَل عَلَى أَنْ لاَ اخْتِصَاصَ لِلْمُعَوِّذَاتِ، وَفِي الْفَاتِحَةِ مِنْ مَعْنَى الاِسْتِعَاذَةِ بِاَللَّهِ الاِسْتِعَانَةُ بِهِ، فَمَهْمَا كَانَ فِيهِ اسْتِعَاذَةٌ أَوِ اسْتِعَانَةٌ بِاَللَّهِ وَحْدَهُ - أَوْ مَا يُعْطِي مَعْنَى ذَلِكَ - فَالاِسْتِرْقَاءُ بِهِ مَشْرُوعٌ. وَيُجَابُ عَنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ بِأَنَّ الْمُرَادَ: أَنَّهُ تَرَكَ مَا كَانَ يَتَعَوَّذُ بِهِ مِنَ الْكَلاَمِ غَيْرَ الْقُرْآنِ، وَيُحْتَمَل أَنْ
__________
(1) حديث أبي سعيد رضي الله عنه: كان يتعوذ من الجان وعين الإنسان. . " أخرجه الترمذي (4 / 395 ط الحلبي) وحسنه.(13/29)
يَكُونَ الْمُرَادُ بِتَبْوِيبِ الْبُخَارِيِّ بِعِنْوَانِ (الرُّقَى بِالْقُرْآنِ) بَعْضَهُ، فَإِنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ يَصْدُقُ عَلَى بَعْضِهِ، وَالْمُرَادُ مَا كَانَ فِيهِ الْتِجَاءٌ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَمِنْ ذَلِكَ الْمُعَوِّذَاتُ. وَقَدْ ثَبَتَتِ الاِسْتِعَاذَةُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ كَمَا مَضَى. قَال ابْنُ بَطَّالٍ: فِي الْمُعَوِّذَاتِ جَوَامِعُ مِنَ الدُّعَاءِ تَعُمُّ أَكْثَرَ الْمَكْرُوهَاتِ مِنَ السِّحْرِ وَالْحَسَدِ وَشَرِّ الشَّيْطَانِ وَوَسْوَسَتِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكْتَفِي بِهَا.
ب -
الاِسْتِشْفَاءُ بِالأَْدْعِيَةِ الْمُنَاسِبَةِ وَالأَْذْكَارِ الْمَأْثُورَةِ:
15 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ الاِسْتِشْفَاءِ بِالأَْدْعِيَةِ وَالأَْذْكَارِ الْمَأْثُورَةِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُعَوِّذُ أَهْل بَيْتِهِ، يَمْسَحُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى، وَيَقُول: اللَّهُمَّ رَبَّ النَّاسِ أَذْهِبِ الْبَأْسَ وَاشْفِ أَنْتَ الشَّافِي، لاَ شِفَاءَ إِلاَّ شِفَاؤُكَ، شِفَاءً لاَ يُغَادِرُ سَقَمًا (1) وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ شَكَا إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعًا يَجِدُهُ فِي جَسَدِهِ مُنْذُ أَسْلَمَ، فَقَال لَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ضَعْ يَدَكَ عَلَى الَّذِي تَأَلَّمَ مِنْ جَسَدِكَ، وَقُل: بِسْمِ اللَّهِ ثَلاَثًا، وَقُل سَبْعَ مَرَّاتٍ: أَعُوذُ بِعِزَّةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرِّ مَا أَجِدُ وَأُحَاذِرُ (2)
__________
(1) حديث عائشة رضي الله عنهما: " كان يتعوذ بعض أهل بيته ". أخرجه البخاري (الفتح 10 / 206 ط السلفية) .
(2) حديث عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه: " ضع يدك على الذي تألم. . " أخرجه مسلم (4 / 1728 ط الحلبي) .(13/29)
ثَانِيًا: اسْتِمَالَةُ الزَّوْجِ:
16 - مَا يُسْتَخْدَمُ لِتَحْبِيبِ الزَّوْجَةِ أَوِ الزَّوْجِ يُسَمَّى " تُوَلَةً " كَمَا سَبَقَ (ف - 5) .
صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ: أَنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ لاَ يَحِل (1) ، وَعَلَّل ابْنُ وَهْبَانَ بِأَنَّهُ ضَرْبٌ مِنَ السِّحْرِ، وَالسِّحْرُ حَرَامٌ. وَمُقْتَضَاهُ أَنَّهُ لَيْسَ مُجَرَّدَ كِتَابَةِ آيَاتٍ، بَل فِيهِ شَيْءٌ زَائِدٌ، كَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: إِنَّ الرُّقَى وَالتَّمَائِمَ وَالتُّوَلَةَ شِرْكٌ (2) . وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: امْرَأَةٌ أَرَادَتْ أَنْ تَضَعَ تَعْوِيذًا لِيُحِبَّهَا زَوْجُهَا، أَنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ لاَ يَحِل (3) .
وَأَمَّا مَا تَتَحَبَّبُ بِهِ الْمَرْأَةُ إِلَى زَوْجِهَا مِنْ كَلاَمٍ مُبَاحٍ أَوْ مَا تَلْبَسُهُ لِلزِّينَةِ، أَوْ تُطْعِمُهُ مِنْ عَقَارٍ مُبَاحٍ أَكْلُهُ، أَوْ أَجْزَاءِ حَيَوَانٍ مَأْكُولٍ مِمَّا يُعْتَقَدُ أَنَّهُ سَبَبٌ إِلَى مَحَبَّةِ زَوْجِهَا، لِمَا أَوْدَعَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا مِنَ الْخَوَاصِّ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ. لاَ أَنَّهُ يَفْعَل بِذَاتِهِ. فَقَال ابْنُ رَسْلاَنَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا جَائِزٌ، لاَ أَعْرِفُ الآْنَ مَا يَمْنَعُهُ فِي الشَّرْعِ (4) .
__________
(1) ابن عابدين 1 / 31و 5 / 232.
(2) الحديث تقدم تخريجه ف / 10.
(3) ابن عابدين 1 / 31، 5 / 232.
(4) نيل الأوطار 8 / 212، والآداب الشرعية 3 / 75، والدين الخالص 3 / 238.(13/30)
ثَالِثًا: دَفْعُ ضَرَرِ الْعَيْنِ:
الْكَلاَمُ هُنَا فِي مَوَاضِعَ:
أ - الإِْصَابَةُ بِالْعَيْنِ:
17 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ الإِْصَابَةَ بِالْعَيْنِ ثَابِتَةٌ مَوْجُودَةٌ، وَلَهَا تَأْثِيرٌ فِي النُّفُوسِ، وَتُصِيبُ الْمَال، وَالآْدَمِيَّ، وَالْحَيَوَانَ (1) .
وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَفَعَهُ الْعَيْنُ حَقٌّ، وَلَوْ كَانَ شَيْءٌ سَابِقَ الْقَدَرِ سَبَقَتْهُ الْعَيْنُ، وَإِذَا اسْتُغْسِلْتُمْ فَاغْسِلُوا (2) .
وَمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الْعَيْنُ حَقٌّ. وَنَهَى عَنِ الْوَشْمِ (3) .
وَأَنْكَرَ طَائِفَةٌ مِنَ الطَّبَائِعِيِّينَ وَطَوَائِفُ مِنَ الْمُبْتَدِعَةِ الْعَيْنَ لِغَيْرِ مَعْنًى، وَأَنَّهُ لاَ شَيْءَ إِلاَّ مَا تُدْرِكُهُ الْحَوَاسُّ الْخَمْسُ وَمَا عَدَاهَا فَلاَ حَقِيقَةَ لَهُ. وَالدَّلِيل عَلَى فَسَادِ قَوْلِهِمْ: أَنَّهُ أَمْرٌ مُمْكِنٌ، وَالشَّرْعُ أَخْبَرَ بِوُقُوعِهِ فَلاَ يَجُوزُ رَدُّهُ (4) .
__________
(1) ابن عابدين 5 / 232، 233، والقوانين الفقهية لابن جزي ص 452، وروضة الطالبين 9 / 348، وعمدة القاري 10 / 188، 189، ونيل الأوطار 8 / 219.
(2) حديث: " العين حق، ولو كان شيء سابق القدر. . " أخرجه مسلم (4 / 1719 ط الحلبي) .
(3) حديث: " العين حق ونهى عن الوشم ". أخرجه البخاري (الفتح 10 / 203 ط السلفية) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(4) عمدة القاري 10 / 189، ونيل الأوطار 8 / 216.(13/30)
ب - الْوِقَايَةُ مِنَ الْعَيْنِ:
ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ لِلْوِقَايَةِ مِنَ الْعَيْنِ الطُّرُقَ الآْتِيَةَ:
أ - قِرَاءَةُ بَعْضِ الأَْدْعِيَةِ وَالأَْذْكَارِ مِنْ قِبَل الْعَائِنِ:
18 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ قِرَاءَةَ بَعْضِ الأَْدْعِيَةِ الْمَأْثُورَةِ، وَالآْيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ تَدْفَعُ ضَرَرَ الْعَيْنِ، كَمَا رَوَى عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ مِنْ نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ أَخِيهِ شَيْئًا يُعْجِبُهُ، فَلْيَدْعُ بِالْبَرَكَةِ، فَإِنَّ الْعَيْنَ حَقٌّ (1) ، فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعَيْنَ لاَ تَضُرُّ، وَلاَ تَعْدُو إِذَا بَرَّكَ الْعَائِنُ، فَالْمَشْرُوعُ عَلَى كُل مَنْ أَعْجَبَهُ شَيْءٌ أَنْ يُبَرِّكَ، فَإِنَّهُ إِذَا دَعَا بِالْبَرَكَةِ صَرَفَ الْمَحْذُورَ لاَ مَحَالَةَ، وَالتَّبَرُّكُ أَنْ يَقُول: تَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ، اللَّهُمَّ بَارِكْ فِيهِ. وَقَال النَّوَوِيُّ يُسْتَحَبُّ لِلْعَائِنِ أَنْ يَدْعُوَ لِمُعَيَّنٍ بِالْبَرَكَةِ، فَيُقَال: اللَّهُمَّ بَارِكْ وَلاَ تَضُرَّهُ.
وَيَقُول: مَا شَاءَ اللَّهُ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاَللَّهِ (2) .
وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَفَعَهُ: مَنْ رَأَى شَيْئًا فَأَعْجَبَهُ، فَقَال: مَا شَاءَ اللَّهُ، لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاَللَّهِ لَمْ يَضُرُّهُ (3) .
__________
(1) حديث: " إذا رأى أحدكم من نفسه أو ماله أو أخيه شيئا يعجبه. . " أخرجه الحاكم (4 / 214 ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه ووافقه الذهبي.
(2) عمدة القاري 10 / 189، وابن عابدين 5 / 232، وروضة الطالبين 9 / 348، ونيل الأوطار 8 / 216، 217، والقوانين الفقهية لابن جزي ص 452.
(3) حديث: " من رأى شيئا فأعجبه فقال: " ما شاء الله. . . " أخرجه ابن السني في عمل اليوم والليلة (ص 58 ط دائرة المعارف العثمانية) وفي إسناده راو ضعيف كما في ميزان الاعتدال للذهبي (4 / 496 ط الحلبي) .(13/31)
ب - الاِسْتِرْقَاءُ مِنَ الْعَيْنِ:
19 - رَوَى التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُول اللَّهِ: إِنَّ وَلَدَ جَعْفَرٍ تَسْرُعُ إِلَيْهِمُ الْعَيْنُ، أَوَنَسْتَرْقِي لَهُمْ؟ قَال: نَعَمْ (1) الْحَدِيثَ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لأَِسْمَاءِ: مَا لِي أَرَى أَجْسَامَ بَنِي أَخِي ضَارِعَةً؟ أَتُصِيبُهُمُ الْحَاجَةُ؟ قَالَتْ: لاَ، وَلَكِنَّ الْعَيْنَ تَسْرُعُ إِلَيْهِمْ، قَال ارْقِيهِمْ، قَالَتْ: فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ، فَقَال: ارْقِيهِمْ (2) .
ج - الاِسْتِشْفَاءُ مِنْ إِصَابَةِ الْعَيْنِ:
20 - صَرَّحَ الْعُلَمَاءُ بِوُجُوبِ الاِغْتِسَال لِلاِسْتِشْفَاءِ مِنْ إِصَابَةِ الْعَيْنِ، فَيُؤْمَرُ الْعَائِنُ بِالاِغْتِسَال، وَيُجْبَرُ إِنْ أَبَى، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ يُؤْمَرُ الْعَائِنُ فَيَتَوَضَّأُ، ثُمَّ يَغْتَسِل مِنْهُ الْمُعْيَنُ (3) . وَالأَْمْرُ حَقِيقَةٌ لِلْوُجُوبِ، وَلاَ يَنْبَغِي لأَِحَدٍ أَنْ يَمْنَعَ أَخَاهُ
__________
(1) حديث أسماء بنت عميس رضي الله عنه. أخرجه الترمذي (4 / 395 ط الحلبي) وصححه. وانظر عمدة القاري 10 / 189، وحاشية العدوي 2 / 451، ونيل الأوطار 8 / 214.
(2) حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. أخرجه مسلم (4 / 1726 ط الحلبي) . وانظر فتح الباري 10 / 201، وزاد المعاد 4 / 162.
(3) حديث: عن عائشة رضي الله عنها: " كان يؤمر العائن فيتوضأ ثم يغتسل منه المعين " أخرجه أبو داود (4 / 210 تحقيق عزت عبيد دعاس) قال الشوكاني: ورجال إسناده ثقات. (نيل الأوطار 8 / 216 ط المطبعة العثمانية المصرية) .(13/31)
مِمَّا يَنْتَقِعُ بِهِ، وَلاَ يَضُرُّهُ هُوَ، وَلاَ سِيَّمَا إِذَا كَانَ هُوَ الْجَانِي عَلَيْهِ (1) .
د - الْمَعْرُوفُ بِالإِْصَابَةِ بِالْعَيْنِ وَمَا عَلَيْهِ:
21 - نَقَل ابْنُ بَطَّالٍ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ، أَنَّهُ يَنْبَغِي إِذَا عُرِفَ وَاحِدٌ بِالإِْصَابَةِ بِالْعَيْنِ أَنْ يُجْتَنَبَ وَيُحْتَرَزَ مِنْهُ، وَيَنْبَغِي لِلإِْمَامِ مَنْعُهُ مِنْ مُدَاخَلَةِ النَّاسِ، وَيُلْزِمَهُ بَيْتَهُ، وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا رَزَقَهُ مَا يَكْفِيهِ، فَضَرَرُهُ أَكْثَرُ مِنْ ضَرَرِ آكِل الثُّومِ وَالْبَصَل الَّذِي مَنَعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ دُخُول الْمَسْجِدِ لِئَلاَّ يُؤْذِيَ النَّاسَ، وَمِنْ ضَرَرِ الْمَجْذُومِ الَّذِي مَنَعَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَقَال النَّوَوِيُّ: هَذَا الْقَوْل صَحِيحٌ مُتَعَيَّنٌ، لاَ يُعْرَفُ عَنْ غَيْرِهِ تَصْرِيحٌ بِخِلاَفِهِ (2)
رَابِعًا: دَفْعُ الْبَلاَءِ:
22 - كَانَ أَهْل الْجَاهِلِيَّةِ يُعَلِّقُونَ التَّمَائِمَ وَالْقَلاَئِدَ، وَيَظُنُّونَ أَنَّهَا تَقِيهِمْ وَتَصْرِفُ عَنْهُمُ الْبَلاَءَ، فَأَبْطَلَهَا الإِْسْلاَمُ (3) ، وَنَهَاهُمْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 233، والقوانين الفقهية لابن جزي ص 452، وروضة الطالبين 9 / 248، ونيل الأوطار 8 / 216.
(2) ابن عابدين 5 / 233، وعمدة القاري 10 / 189، ونيل الأوطار 8 / 217.
(3) روضة الطالبين 9 / 348، وعمدة القاري 10 / 189، ونيل الأوطار 8 / 217.(13/32)
عَمَّا كَانُوا يَصْنَعُونَهُ مِنْ ذَلِكَ فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ بِقَوْلِهِ: مَنْ تَعَلَّقَ تَمِيمَةً فَلاَ أَتَمَّ اللَّهُ لَهُ، وَمَنْ عَلَّقَ وَدَعَةً فَلاَ وَدَعَ اللَّهُ لَهُ (1) وَذَلِكَ لأَِنَّهُ لاَ يَصْرِفُهُ إِلاَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَل، وَاَللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُعَافِي وَالْمُبْتَلِي.
أ - تَعْلِيقُ التَّعْوِيذَاتِ عَلَى الإِْنْسَانِ:
23 - إِنْ كَانَ الْمُعَلَّقُ خَرَزًا أَوْ خُيُوطًا أَوْ عِظَامًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ فَذَلِكَ حَرَامٌ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ تَعَلَّقَ شَيْئًا وُكِّل إِلَيْهِ (2) . وَلِحَدِيثِ: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبْصَرَ عَلَى عَضُدِ رَجُلٍ حَلْقَةً - أَرَاهُ قَال مِنْ صُفْرٍ - فَقَال: وَيْحَكَ مَا هَذِهِ؟ قَال: مِنَ الْوَاهِنَةِ. قَال أَمَّا إِنَّهَا لاَ تَزِيدُكَ إِلاَّ وَهْنًا، انْبِذْهَا عَنْكَ فَإِنَّكَ لَوْ مِتَّ وَهِيَ عَلَيْكَ مَا أَفْلَحْتَ أَبَدًا (3) .
وَإِنْ كَانَ الْمُعَلَّقُ شَيْئًا مِمَّا كُتِبَ فِيهِ الرُّقَى الْمَجْهُولَةُ وَالتَّعَوُّذَاتُ الْمَمْنُوعَةُ فَذَلِكَ حَرَامٌ أَيْضًا.
__________
(1) حديث: " من تعلق تميمة. . " أخرجه أحمد (4 / 154 ط الميمنية في إسناده جهالة (تعجيل المنفعة ص 114 نشر دار الكتاب العربي) .
(2) حديث: " من تعلق شيئا وكل إليه " أخرجه أحمد (4 / 310 ط الميمنية) من حديث عبد الله بن حكيم رضي الله عنه مرسلا. وأخرجه النسائي (7 / 112 ط المكتبة التجارية) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وإسناداهما يقوي أحدهما الآخر. وحسنه ابن مفلح في الآداب الشرعية (3 / 78 ط المنار) .
(3) حديث: " أنه صلى الله عليه وسلم أبصر على عضد رجل حلقة. . . " أخرجه أحمد (4 / 445 ط الميمنية) وأعل ابن حجر إسناده في التهذيب (10 / 29 ط دائرة المعارف العثمانية) .(13/32)
لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ تَعَلَّقَ تَمِيمَةً فَلاَ أَتَمَّ اللَّهُ لَهُ، وَمَنْ تَعَلَّقَ وَدَعَةً فَلاَ وَدَعَ اللَّهُ لَهُ (1) .
وَإِنْ كَانَ الْمُعَلَّقُ شَيْئًا كُتِبَ فِيهِ شَيْءٌ مِمَّا يَجُوزُ الاِسْتِرْقَاءُ بِهِ مِنَ الْقُرْآنِ أَوِ الأَْدْعِيَةِ الْمَأْثُورَةِ، فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي جَوَازِ ذَلِكَ:
فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يَجُوزُ ذَلِكَ. وَهُوَ قَوْل عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَهُوَ ظَاهِرُ مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَبِهِ قَال أَبُو جَعْفَرٍ، وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ. وَحَمَلُوا حَدِيثَ النَّهْيِ عَنِ التَّمَائِمِ عَلَى مَا فِيهِ شِرْكٌ وَنَحْوُهُ مِنَ الرُّقَى الْمَمْنُوعَةِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى: لاَ يَجُوزُ ذَلِكَ، وَبِهِ قَال ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْل حُذَيْفَةَ وَعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ وَابْنِ حَكِيمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَبِهِ قَال جَمْعٌ مِنَ التَّابِعِينَ، مِنْهُمْ أَصْحَابُ ابْنِ مَسْعُودٍ. قَال إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: كَانُوا - يَعْنِي أَصْحَابَ ابْنِ مَسْعُودٍ - يَكْرَهُونَ التَّمَائِمَ كُلَّهَا، مِنَ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ. وَكَرِهَهُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ اخْتَارَهَا كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَجَزَمَ بِهِ الْمُتَأَخِّرُونَ، لِعُمُومِ النَّهْيِ عَنِ التَّمَائِمِ، وَلِسَدِّ الذَّرِيعَةِ؛ لأَِنَّ تَعْلِيقَهُ يُفْضِي إِلَى تَعْلِيقِ غَيْرِهِ، وَلأَِنَّهُ إِذَا عُلِّقَ فَلاَ بُدَّ أَنْ يَمْتَهِنَهُ الْمُعَلِّقُ، بِحَمْلِهِ مَعَهُ فِي حَال قَضَاءِ الْحَاجَةِ وَالاِسْتِنْجَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ (2) .
__________
(1) حديث: " من تعلق تميمة. . . " سبق تخريجه ف / 22.
(2) الدين الخاص لصديق حسن خان 2 / 236 مطبعة المدني بالقاهرة، ونصاب الاحتساب ص 252 الباب 31.(13/33)
وَاَلَّذِينَ ذَهَبُوا مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى جَوَازِ تَعْلِيقِ التَّعْوِيذِ اشْتَرَطُوا مَا يَلِي:
(1) أَنْ يَكُونَ فِي قَصَبَةٍ أَوْ رُقْعَةٍ يُخْرَزُ فِيهَا.
(2) أَنْ يَكُونَ الْمَكْتُوبُ قُرْآنًا، أَوْ أَدْعِيَةً مَأْثُورَةً.
(3) أَنْ يَتْرُكَ حَمْلَهُ عِنْدَ الْجِمَاعِ أَوِ الْغَائِطِ.
(4) أَلاَّ يَكُونَ لِدَفْعِ الْبَلاَءِ قَبْل وُقُوعِهِ، وَلاَ لِدَفْعِ الْعَيْنِ قَبْل أَنْ يُصَابَ، قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: مَا تَعَلَّقَ بَعْدَ نُزُول الْبَلاَءِ فَلَيْسَ مِنَ التَّمَائِمِ (1) .
ب - تَعْلِيقُ التَّعْوِيذَاتِ عَلَى الْحَيَوَانِ:
24 - وَأَمَّا تَعْلِيقُ التَّعْوِيذِ عَلَى الْحَيَوَانِ فَلاَ يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْحَيَوَانُ طَاهِرًا، فَيُكْرَهُ لأَِنَّهُ فِعْلٌ غَيْرُ مَأْثُورٍ، وَلِمَا فِيهِ مِنَ الاِمْتِهَانِ وَمُلاَبَسَةِ الأَْنْجَاسِ وَالأَْقْذَارِ، وَهَذَا بِخِلاَفِ الصِّبْيَانِ وَنَحْوِهِمْ فَلَهُمْ مَنْ يَصُونُهُمْ وَيَمْنَعُهُمْ مِنْ ذَلِكَ.
وَإِنْ كَانَ الْحَيَوَانُ نَجِسًا كَالْكَلْبِ وَنَحْوِهِ فَلاَ إِشْكَال فِي التَّحْرِيمِ (2)
تَعْلِيقُ الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ التَّعَاوِيذَ:
25 - ذَهَبَ الْقَائِلُونَ بِجَوَازِ تَعْلِيقِ التَّعَاوِيذِ إِلَى أَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِتَعْلِيقِ الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ
__________
(1) تفسير القرطبي 10 / 319، 320، 20 / 258.
(2) الآداب الشرعية 3 / 71.(13/33)
التَّعَاوِيذَ أَوْ بِشَدِّهَا عَلَى الْعَضُدِ إِذَا كَانَتْ مَلْفُوفَةً، أَوْ خُرِزَ عَلَيْهَا أَدِيمٌ (1) .
رُقْيَةُ الْكَافِرِ لِلْمُسْلِمِ وَعَكْسُهُ:
أ - رُقْيَةُ الْكَافِرِ لِلْمُسْلِمِ.
26 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ رُقْيَةِ الْكَافِرِ لِلْمُسْلِمِ فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالإِْمَامُ الشَّافِعِيُّ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ إِلَى: جَوَازِ رُقْيَةِ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ لِلْمُسْلِمِ إِذَا رَقَى بِكِتَابِ اللَّهِ وَبِذِكْرِ اللَّهِ. لِمَا رُوِيَ فِي مُوَطَّأِ مَالِكٍ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دَخَل عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا وَهِيَ تَشْتَكِي، وَيَهُودِيَّةٌ تَرْقِيهَا، فَقَال أَبُو بَكْرٍ: ارْقِيهَا بِكِتَابِ اللَّهِ. (2) قَال الْبَاجِيُّ: يُحْتَمَل - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ " بِكِتَابِ اللَّهِ " أَيْ " بِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَل " أَوْ رُقْيَةً مُوَافِقَةً لِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَيُعْلَمُ صِحَّةُ ذَلِكَ بِأَنْ تُظْهِرَ رُقْيَتَهَا، فَإِنْ كَانَتْ مُوَافِقَةً لِكِتَابِ اللَّهِ أَمَرَ بِهَا (3) .
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَال: أَكْرَهُ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 232، والشرح الصغير 4 / 769، وحاشية العدوي 2 / 451، وأسنى المطالب 1 / 61، ونهاية المحتاج 1 / 127، والإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع 1 / 95، وكشاف القناع 1 / 135.
(2) الأثر: " دخل أبو بكر على عائشة وهي تشتكي. . . " أخرجه مالك في الموطأ (2 / 943 ط الحلبي) وإسناده صحيح.
(3) المنتقي 7 / 261.(13/34)
رُقَى أَهْل الْكِتَابِ، وَلاَ أُحِبُّهُ، لأَِنَّنَا لاَ نَعْلَمُ هَل يَرْقُونَ بِكِتَابِ اللَّهِ، أَوْ بِالْمَكْرُوهِ الَّذِي يُضَاهِي السِّحْرَ (1) .
ب - رُقْيَةُ الْمُسْلِمِ لِلْكَافِرِ:
27 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ رُقْيَةِ الْمُسْلِمِ لِلْكَافِرِ. وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الَّذِي سَبَقَ ذِكْرُهُ (ف - 14) وَوَجْهُ الاِسْتِدْلاَل أَنَّ الْحَيَّ - الَّذِي نَزَلُوا عَلَيْهِمْ فَاسْتَضَافُوهُمْ فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمْ - كَانُوا كُفَّارًا، وَلَمْ يُنْكِرِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ عَلَيْهِ (2) .
أَخْذُ الأُْجْرَةِ عَلَى التَّعَاوِيذِ وَالرُّقَى:
28 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى جَوَازِ أَخْذِ الأُْجْرَةِ عَلَى التَّعَاوِيذِ وَالرُّقَى، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ عَطَاءٌ، وَأَبُو قِلاَبَةَ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَإِسْحَاقُ، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الَّذِي سَبَقَ ذِكْرُهُ (ف - 14) وَاسْتَدَل الطَّحَاوِيُّ لِلْجَوَازِ وَقَال: يَجُوزُ أَخْذُ الأَْجْرِ عَلَى الرُّقَى، لأَِنَّهُ لَيْسَ عَلَى النَّاسِ أَنْ يَرْقِيَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا؛ لأَِنَّ فِي ذَلِكَ تَبْلِيغًا عَنِ اللَّهِ تَعَالَى. وَكَرِهَ الزُّهْرِيُّ أَخْذَ الأُْجْرَةِ عَلَى الْقُرْآنِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ أَكَانَ لِلتَّعْلِيمِ أَوْ لِلرُّقْيَةِ (3) .
__________
(1) عمدة القاري 10 / 185.
(2) الشرح الصغير 4 / 769، وتفسير القرطبي 10 / 317، وعمدة القاري 5 / 649.
(3) عمدة القاري 5 / 647، 649، والشرح الصغير 4 / 769.(13/34)
تَعْوِيضٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - أَصْل التَّعْوِيضِ لُغَةً: الْعِوَضُ، وَهُوَ الْبَدَل تَقُول: عَوَّضْتُهُ تَعْوِيضًا إِذَا أَعْطَيْتُهُ بَدَل مَا ذَهَبَ مِنْهُ. وَتَعَوَّضَ مِنْهُ وَاعْتَاضَ: أَخَذَ الْعِوَضَ (1) وَيُفْهَمُ مِنْ عِبَارَاتِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ التَّعْوِيضَ اصْطِلاَحًا هُوَ: دَفْعُ مَا وَجَبَ مِنْ بَدَلٍ مَالِيٍّ بِسَبَبِ إِلْحَاقِ ضَرَرٍ بِالْغَيْرِ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّثْمِينُ:
2 - التَّثْمِينُ لُغَةً: هُوَ أَنْ تَجْعَل لِلشَّيْءِ ثَمَنًا بِالْحَدْسِ وَالتَّخْمِينِ (2)
وَعَلَى هَذَا التَّعْرِيفِ لاَ يَكُونُ التَّثْمِينُ إِلاَّ فِي الْمُعَاوَضَاتِ (الْمُبَادَلاَتِ بِعِوَضٍ) أَمَّا التَّعْوِيضَاتُ (التَّصَرُّفَاتُ الْمُقْتَضِيَةُ لِلضَّمَانِ، كَالإِْتْلاَفِ وَالْغَصْبِ) فَلاَ يَدْخُل فِيهَا التَّثْمِينُ، بَل يَدْخُل فِيهَا التَّقْوِيمُ كَمَا سَيَأْتِي.
__________
(1) تاج العروس ولسان العرب والمصباح المنير مادة: " عوض ".
(2) المصباح المنير مادة: " ثمن ".(13/35)
ب - التَّقْوِيمُ
3 - التَّقْوِيمُ لُغَةً: مَصْدَرُ قَوَّمَ، تَقُول: قَوَّمْتُ الْمَتَاعَ: إِذَا جَعَلْتُ لَهُ قِيمَةً مَعْلُومَةً، وَفِي الْحَدِيثِ: قَالُوا: يَا رَسُول اللَّهِ لَوْ قَوَّمْتَ لَنَا، فَقَال: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُقَوِّمُ (1) وَأَهْل مَكَّةَ يَقُولُونَ: اسْتَقَمْتُهُ بِمَعْنَى قَوَّمْتُهُ (2)
وَالتَّقْوِيمُ يُسْتَعْمَل فِي الْمُعَاوَضَاتِ وَالتَّعْوِيضَاتِ
ج - الأَْرْشُ:
4 - أَرْشُ الْجِرَاحَةِ لُغَةً: دِيَتُهَا. وَالْجَمْعُ أُرُوشٌ، مِثْل: فَلْسٍ وَفُلُوسٍ. وَأَصْلُهُ: الْفَسَادُ. يُقَال: أَرَّشْتُ بَيْنَ الْقَوْمِ تَأْرِيشًا: إِذَا أَفْسَدْتُ ثُمَّ اسْتُعْمِل فِي نُقْصَانِ الأَْعْيَانِ لأَِنَّهُ فَسَادٌ فِيهَا. وَيُقَال: أَصْلُهُ هَرْشٌ وَاصْطِلاَحًا: هُوَ الْمَال الْوَاجِبُ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى بَدَل النَّفْسِ وَهُوَ الدِّيَةُ (3)
وَعَلَى هَذَا يَكُونُ التَّعْوِيضُ أَعَمَّ مِنَ الأَْرْشِ.
__________
(1) حديث: " إن الله هو المقوم. . . . " أخرجه أحمد (3 / 85 ط الميمنية) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وحسنه ابن حجر في التلخيص (3 / 14 ط شركة الطباعة الفنية) .
(2) المصباح المنير مادة: " قوم ".
(3) المصباح المنير مادة: " أرش "، والموسوعة الفقهية في الكويت 3 / 104.(13/35)
د - الضَّمَانُ:
5 - الضَّمَانُ لُغَةً: الاِلْتِزَامُ. يُقَال: ضَمَّنْتُهُ الْمَال: أَلْزَمَهُ إِيَّاهُ (1)
وَشَرْعًا: الْتِزَامُ حَقٍّ ثَابِتٍ فِي ذِمَّةِ الْغَيْرِ، أَوْ إِحْضَارُ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ، أَوِ الْتِزَامُ عَيْنٍ مَضْمُونَةٍ، وَيُقَال لِلْعَقْدِ الَّذِي يَحْصُل بِهِ ذَلِكَ (2)
فَالضَّمَانُ عَلَى هَذَا أَعَمُّ مِنَ التَّعْوِيضِ؛ لأَِنَّهُ يَكُونُ فِي الأَْمْوَال، وَيَكُونُ فِي غَيْرِ الأَْمْوَال كَمَا فِي كَفَالَةِ الشَّخْصِ.
حُكْمُ التَّعْوِيضِ:
6 - التَّعْوِيضُ لاَ يَكُونُ إِلاَّ مُقَابِل ضَرَرٍ، وَمِنْ ثَمَّ فَهُوَ وَاجِبُ الأَْدَاءِ، عَلَى خِلاَفٍ وَتَفْصِيلٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِيمَا يُعَوَّضُ عَنْهُ وَمَا لاَ يُعَوَّضُ عَنْهُ.
وَالضَّرَرُ الْمُعَوَّضُ عَنْهُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ يَشْمَل الضَّرَرَ الْوَاقِعَ عَلَى الْمَال بِمَا فِيهِ الْمَنْفَعَةُ، سَوَاءٌ كَانَ عَنْ طَرِيقِ الْغَصْبِ، أَمِ الإِْتْلاَفِ، أَمِ الاِعْتِدَاءِ عَلَى النَّفْسِ وَمَا دُونَهَا، وَهِيَ الدِّيَةُ وَالأَْرْشُ وَتَفْصِيلُهُ فِي (الْجِنَايَاتِ) أَمْ عَنْ طَرِيقِ التَّفْرِيطِ فِي الأَْمَانَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَيَكُونُ التَّعْوِيضُ بِدَفْعِ مَالٍ مُقَدَّرٍ أَوْ مُصَالَحٍ عَلَيْهِ يُدْفَعُ لِمَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ الضَّرَرُ، أَوْ لِمَنْ تَنْتَقِل إِلَيْهِ التَّرِكَةُ بَدَلاً لِمَا فُقِدَ وَقَطْعًا لِلْخُصُومَةِ وَالنِّزَاعِ بَيْنَ النَّاسِ. ثُمَّ إِنَّ التَّعْوِيضَ أَثَرٌ شَرْعِيٌّ لأَِنَّهُ مُوجِبُ
__________
(1) المصباح المنير مادة: " صمن "، ومغني المحتاج 2 / 198.
(2) مغني المحتاج 2 / 198.(13/36)
خِطَابِ الْوَضْعِ، فَيَشْمَل الْمُكَلَّفَ وَغَيْرَهُ. وَغَيْرُ الْمُكَلَّفِ يَجِبُ التَّعْوِيضُ فِي مَالِهِ، يَدْفَعُهُ وَلِيُّهُ عَنْهُ (1) .
التَّعْوِيضُ عَنِ الضَّرَرِ:
7 - يَتَحَقَّقُ الضَّرَرُ بِإِتْلاَفِ الْعَيْنِ أَوِ الْمَنْفَعَةِ أَوِ النَّفْسِ أَوْ مَا دُونَهَا.
وَالتَّعْوِيضُ لَيْسَ مُلاَزِمًا لِلإِْتْلاَفِ، بِحَيْثُ كُلَّمَا وُجِدَ الإِْتْلاَفُ وُجِدَ التَّعْوِيضُ. وَذَلِكَ لأَِنَّ الإِْتْلاَفَ يَنْقَسِمُ إِلَى: إِتْلاَفٍ مَشْرُوعٍ، وَإِلَى إِتْلاَفٍ غَيْرِ مَشْرُوعٍ. أَمَّا الإِْتْلاَفُ غَيْرُ الْمَشْرُوعِ فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ التَّعْوِيضُ بِلاَ خِلاَفٍ، سَوَاءٌ أَكَانَ حَقًّا لِلَّهِ، كَالصَّيْدِ حَالَةَ الإِْحْرَامِ أَوْ فِي الْحَرَمِ، أَمْ حَقًّا لِلْعَبْدِ كَإِتْلاَفِ أَمْوَالِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ.
وَأَمَّا الإِْتْلاَفُ الْمَشْرُوعُ فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ التَّعْوِيضُ، إِنْ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ حَقٌّ لِلْغَيْرِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ، وَإِلاَّ فَلاَ. عَلَى تَفْصِيلٍ وَخِلاَفٍ سَبَقَ فِي مُصْطَلَحِ (إِتْلاَفٌ)
التَّعْوِيضُ بِتَفْوِيتِ الْعَيْنِ:
8 - تَقَدَّمَ فِي مُصْطَلَحِ (إِتْلاَفٌ) أَنَّ الْعَيْنَ الْمُتْلَفَةَ إِنْ كَانَتْ مِثْلِيَّةً يَضْمَنُ الْمُتْلِفُ مِثْلَهَا، وَإِنْ كَانَتْ قِيَمِيَّةً يَضْمَنُ قِيمَتَهَا، وَيُرَاعَى فِي تَقْدِيرِ الْقِيمَةِ مَكَانُ الإِْتْلاَفِ.
__________
(1) البدائع 7 / 168، والأشباه للسيوطي ص 222، والقوانين الفقهية ص 338 الدار العربية للكتاب.(13/36)
التَّعْوِيضُ عَنْ تَفْوِيتِ الْمَنْفَعَةِ:
9 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ مَنَافِعَ الأَْمْوَال مَضْمُونَةٌ بِالتَّفْوِيتِ بِأُجْرَةِ الْمِثْل مُدَّةَ مَقَامِهَا فِي يَدِ الْغَاصِبِ أَوْ غَيْرِهِ؛ لأَِنَّ كُل مَا ضُمِنَ بِالإِْتْلاَفِ جَازَ أَنْ يُضْمَنَ بِمُجَرَّدِ التَّلَفِ فِي يَدِهِ كَالأَْعْيَانِ، عَلَى خِلاَفٍ وَتَفْصِيلٍ يَذْكُرُهُ الْفُقَهَاءُ فِي مُصْطَلَحِ (غَصْبٌ، وَضَمَانٌ) . وَمِنَ الْمَنَافِعِ الَّتِي نَصُّوا عَلَى ضَمَانِهَا تَفْوِيتُ مَنْفَعَةِ الْحُرِّ، فَإِنَّ مَنْ قَهَرَ حُرًّا وَسَخَّرَهُ فِي عَمَلٍ ضَمِنَ أُجْرَتَهُ. وَأَمَّا لَوْ حَبَسَهُ وَعَطَّل مَنَافِعَهُ فَإِنَّهُ ضَامِنٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَغَيْرُ ضَامِنٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ (1) .
وَأَمَّا مَنَافِعُ الْمَغْصُوبِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ضَمَانِهَا:
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِلَى ضَمَانِ مَنَافِعِ الْمَغْصُوبِ، وَعَلَيْهِ أَجْرُ الْمِثْل - تَعْوِيضًا - عَمَّا فَاتَهُ، سَوَاءٌ اسْتَوْفَى الْغَاصِبُ الْمَنَافِعَ أَمْ لاَ. لأَِنَّ الْمَنْفَعَةَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ. وَقَال الْمَالِكِيَّةُ - فِي الْمَشْهُورِ -: يَضْمَنُ الْغَاصِبُ غَلَّةَ مَغْصُوبٍ مُسْتَعْمَلٍ دُونَ غَيْرِ الْمُسْتَعْمَل، وَيَضْمَنُ غَلَّةَ مَا عَطَّل مِنْ دَارٍ أَغْلَقَهَا، وَأَرْضٍ بَوَّرَهَا، وَدَابَّةٍ حَبَسَهَا. وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ (غَصْبٌ، وَضَمَانٌ) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ مَنَافِعَ الْمَغْصُوبِ غَيْرُ
__________
(1) الدسوقي 3 / 454، 455، وروضة الطالبين 5 / 13 ـ 14، وكشاف القناع 4 / 111ـ 112.(13/37)
مَضْمُونَةٍ؛ لأَِنَّهَا لَيْسَتْ مَالاً عِنْدَهُمْ، عَدَا ثَلاَثَةَ مَوَاضِعَ يَجِبُ فِيهَا أَجْرُ الْمِثْل عَلَى اخْتِيَارِ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ (1) ، وَهِيَ:
أ - الْوَقْفُ:
10 - إِذَا كَانَ الْوَقْفُ لِلسُّكْنَى أَوْ لِلاِسْتِغْلاَل أَوْ كَانَ مَسْجِدًا، فَإِنَّ مَنْ تَعَدَّى عَلَيْهِ - أَيْ كَمَنْ جَعَل الْمَسْجِدَ بَيْتًا - يَلْزَمُهُ أُجْرَةُ مِثْلِهِ مُدَّةَ شُغْلِهِ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلاً عَنِ الْخَيْرِيَّةِ وَالْحَامِدِيَّةِ.
ب - مَال الْيَتِيمِ:
11 - قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَكَذَا الْيَتِيمُ نَفْسُهُ - لِمَا فِي الْبَزَّازِيَّةِ - يَتِيمٌ لاَ أَبَ لَهُ وَلاَ أُمَّ، اسْتَعْمَلَهُ أَقْرِبَاؤُهُ مُدَّةً فِي أَعْمَالٍ شَتَّى بِلاَ إِذْنِ الْحَاكِمِ وَبِلاَ إِجَارَةٍ، لَهُ طَلَبُ أَجْرِ الْمِثْل بَعْدَ الْبُلُوغِ إِنْ كَانَ مَا يُعْطُونَهُ مِنَ الْكِسْوَةِ وَالْكِفَايَةِ لاَ يُسَاوِي أَجْرَ الْمِثْل.
وَأَمَّا مَال الْيَتِيمِ، فَإِنَّ تَفْوِيتَ مَنْفَعَتِهِ يُوجِبُ التَّعْوِيضَ أَيْضًا، وَذَلِكَ كَمَا إِذَا سَكَنَتْ أُمُّ الْيَتِيمِ مَعَ زَوْجِهَا فِي بَيْتٍ لَهُ، فَتَجِبُ الأُْجْرَةُ عَلَى الزَّوْجِ. وَكَذَا إِذَا سَكَنَ الدَّارَ شَرِيكُ الْيَتِيمِ، فَتَجِبُ الأُْجْرَةُ عَلَى الشَّرِيكِ أَيْضًا، عَلَى مَا أَفْتَى بِهِ ابْنُ نُجَيْمٍ فِي الصُّورَتَيْنِ. وَكَذَا سَاكِنُ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 131، والدسوقي 3 / 448، وكشاف القناع 4 / 111 ـ 112، ومغني المحتاج 2 / 486، والمغني 5 / 272، والقواعد لابن رجب ص 213.(13/37)
الدَّارِ إِذَا كَانَ أَجْنَبِيًّا مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَجْرُ الْمِثْل. وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى التَّفْصِيل.
ج - الْمُعَدُّ لِلاِسْتِغْلاَل:
12 - مَنْ بَنَى بَيْتًا أَوِ اشْتَرَاهُ لأَِجْل الاِسْتِغْلاَل، فَإِنَّ عَلَى مَنْ يَسْتَغِلُّهُ - مِنْ غَيْرِ إِذْنِ صَاحِبِهِ - أَجْرُ الْمِثْل بِشَرْطِ عِلْمِ الْمُسْتَعْمِل بِكَوْنِهِ مُعَدًّا لِذَلِكَ، وَبِشَرْطِ أَنْ لاَ يَكُونَ الْمُسْتَعْمِل مَشْهُورًا بِالْغَصْبِ.
وَأَمَّا لَوْ سَكَنَ فِي الْمُعَدِّ لِلاِسْتِغْلاَل بِتَأْوِيل مِلْكٍ أَوْ عَقْدٍ فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ (1) .
التَّعْوِيضُ بِسَبَبِ التَّعَدِّي وَالتَّفْرِيطِ فِي الْعُقُودِ:
أ - التَّعْوِيضُ فِي عُقُودِ الأَْمَانَاتِ:
13 - عُقُودُ الأَْمَانَاتِ كَالْوَدِيعَةِ وَالْوَكَالَةِ، الأَْصْل فِيهَا: أَنَّ مَحَل الْعَقْدِ لاَ يَضْمَنُهُ مَنْ هُوَ بِيَدِهِ إِلاَّ بِالتَّفْرِيطِ أَوْ بِالتَّعَدِّي. وَيُرْجَعُ فِي تَفْصِيل ذَلِكَ إِلَى مُصْطَلَحَاتِهَا، وَانْظُرْ (تَعَدِّي، وَضَمَانٌ) .
ب - التَّعْوِيضُ عَنِ الْعَيْبِ فِي الْمَبِيعِ:
14 - إِذَا ظَهَرَ فِي الْمَبِيعِ عَيْبٌ كَانَ قَبْل الْبَيْعِ فَيُخَيَّرُ الْمُشْتَرِي بَيْنَ رَدِّهِ لِلْبَائِعِ أَوْ أَخْذِ أَرْشِ النَّقْصِ. وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (بَيْعٌ) وَفِي (خِيَارُ الْعَيْبِ) .
__________
(1) ابن عابدين 5 / 131 - 132.(13/38)
ج - التَّعْوِيضُ فِي الإِْجَارَةِ:
15 - الأَْجِيرُ نَوْعَانِ. إِمَّا خَاصٌّ وَإِمَّا مُشْتَرَكٌ. أَمَّا الْخَاصُّ، فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَكُونُ ضَامِنًا إِلاَّ بِالتَّعَدِّي. وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُشْتَرَكِ. وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (إِجَارَةٌ، إِتْلاَفٌ) .
التَّعْوِيضُ بِسَبَبِ التَّحْرِيضِ:
16 - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ مَنْ أَغْرَى ظَالِمًا عَلَى مَالٍ، فَإِنَّ الضَّمَانَ عَلَى الْمُغْرِي (الظَّالِمِ) . لِقَاعِدَةِ: (يُضَافُ الْفِعْل إِلَى الْفَاعِل - لاَ الآْمِرِ - مَا لَمْ يَكُنْ مُجْبِرًا) وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ يُتْبَعُ الْمُغْرِي إِلاَّ بَعْدَ تَعَذُّرِ الرُّجُوعِ عَلَى الْمُغْرِي، وَذَلِكَ لأَِنَّ الْمُبَاشِرَ يُقَدَّمُ عَلَى الْمُتَسَبِّبِ.
وَقَال النَّوَوِيُّ: لَوْ فَتَحَ بَابَ الْحِرْزِ فَسَرَقَ غَيْرُهُ، أَوْ دَل سَارِقًا فَسَرَقَ، أَوْ أَمَرَ غَاصِبًا فَغَصَبَ، أَوْ بَنَى دَارًا فَأَلْقَتِ الرِّيحُ فِيهَا ثَوْبًا وَضَاعَ، فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مَنْ أَغْرَى ظَالِمًا بِأَخْذِ مَال إِنْسَانٍ أَوْ دَلَّهُ عَلَيْهِ، فَلِصَاحِبِ الْمَال تَضْمِينُ الْمُغْرِي لِتَسَبُّبِهِ أَوِ الظَّالِمِ لِظُلْمِهِ (1) .
التَّعْوِيضُ بِسَبَبِ الإِْكْرَاهِ:
17 - تَقَدَّمَ فِي مُصْطَلَحَيْ (إِكْرَاهٌ وَإِتْلاَفٌ)
__________
(1) درر الحكام شرح المجلة 1 / 80، والدسوقي 3 / 444، والروضة 5 / 6، وكشاف القناع 4 / 116.(13/38)
اخْتِلاَفُ الْفُقَهَاءِ فِي التَّعْوِيضِ بِسَبَبِ الإِْكْرَاهِ، هَل يَكُونُ عَلَى الْمُكْرِهِ (بِكَسْرِ الرَّاءِ) فَقَطْ، أَوْ يَكُونُ عَلَى الْمُكْرَهِ (بِفَتْحِ الرَّاءِ) أَيْضًا لِمُبَاشَرَتِهِ لِلإِْتْلاَفِ؟ (1) انْظُرْ (إِكْرَاهٌ، إِتْلاَفٌ)
التَّعْوِيضُ بِالْمُبَاشَرَةِ أَوْ بِالتَّسَبُّبِ:
18 - إِذَا أَتْلَفَ شَخْصٌ لآِخَرَ شَيْئًا أَوْ غَصَبَهُ مِنْهُ فَهَلَكَ أَوْ فُقِدَ، وَكَذَا إِذَا أَلْحَقَ بِغَيْرِهِ ضَرَرًا بِجِنَايَةٍ فِي النَّفْسِ وَمَا دُونَهَا، أَوْ تَسَبَّبَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانُ مَا أَتْلَفَهُ بِمُبَاشَرَتِهِ أَوْ تَسَبُّبِهِ. وَقَدْ سَبَقَ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (إِتْلاَفٌ) (2) وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (جِنَايَةٌ، ضَمَانٌ، غَصْبٌ) .
تَعْوِيضُ مَا تُتْلِفُهُ الدَّوَابُّ:
تَقَدَّمَ اخْتِلاَفُ الْفُقَهَاءِ فِي ضَمَانِ مَا تُتْلِفُهُ الدَّوَابُّ مِنَ الزُّرُوعِ.
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى ضَمَانِ مَا تُتْلِفُهُ الدَّوَابُّ مِنْ غَيْرِ الزَّرْعِ إِذَا كَانَ مَعَهَا مَنْ لَهُ يَدٌ عَلَيْهَا وَلَمْ يَمْنَعْهَا، أَوْ رَاعٍ فِيهِ كِفَايَةُ الْحِفْظِ. وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا رَاعٍ. وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (إِتْلاَفٌ) (3) .
__________
(1) ابن عابدين 5 / 85، والدسوقي 3 / 444، والروضة 5 / 4، وكشاف القناع 4 / 116.
(2) الموسوعة الفقهية بالكويت 1 / 223.
(3) الموسوعة الفقهية بالكويت 1 / 224 - 225.(13/39)
مَا يُشْتَرَطُ لِتَعْوِيضِ الْمُتْلَفَاتِ:
19 - اشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ لِضَمَانِ الْمُتْلَفَاتِ أَنْ يَكُونَ الْمُتْلَفُ مَالاً مُتَقَوِّمًا، وَأَنْ يَكُونَ الْمُتْلِفُ مِنْ أَهْل الضَّمَانِ. وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (إِتْلاَفٌ) (1) .
مَا يَكُونُ بِهِ التَّعْوِيضُ:
20 - إِذَا كَانَ الإِْتْلاَفُ فِي الأَْعْيَانِ كُلِّيًّا فَتَعْوِيضُهُ بِمِثْلِهِ إِنْ كَانَ مِثْلِيًّا، أَوْ بِقِيمَتِهِ إِنْ كَانَ قِيَمِيًّا، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (إِتْلاَفٌ ف 36) أَمَّا إِذَا كَانَ الإِْتْلاَفُ جُزْئِيًّا، فَفِيهِ أَرْشُ النَّقْصِ، وَيُرْجَعُ فِي تَقْدِيرِهِ إِلَى أَهْل الْخِبْرَةِ. انْظُرْ مُصْطَلَحَ (أَرْشٌ) . أَمَّا إِتْلاَفُ النَّفْسِ فَقَدْ أَوْجَبَ الشَّارِعُ فِيهِ الدِّيَةَ فِي الْحَالاَتِ الَّتِي لاَ يُطْلَبُ فِيهَا الْقِصَاصُ وَالدِّيَةُ تَكُونُ مِنَ الإِْبِل، أَوِ الْبَقَرِ، أَوِ الْغَنَمِ، أَوِ الذَّهَبِ، أَوِ الْحُلَل عَلَى خِلاَفٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي بَعْضِهَا.
وَفِي إِتْلاَفِ الْعُضْوِ أَوْ مَنْفَعَتِهِ الدِّيَةُ إِنْ كَانَتْ لَهُ دِيَةٌ مُقَدَّرَةٌ، وَإِلاَّ فَحُكُومَةُ عَدْلٍ كَمَا تَجِبُ كُلَّمَا سَقَطَ الْقِصَاصُ، وَفِي الْجِنَايَةِ خَطَأً عَلَى النَّفْسِ أَوْ مَا دُونَهَا. وَيُرْجَعُ فِي تَفْصِيل ذَلِكَ كُلِّهِ فِي مُصْطَلَحَاتِ (أَرْشٌ، دِيَةٌ، حُكُومَةُ عَدْلٍ) .
__________
(1) الموسوعة الفقهية بالكويت 1 / 225 - 226(13/39)
التَّعْوِيضُ عَنِ الأَْضْرَارِ الْمَعْنَوِيَّةِ:
21 - لَمْ نَجِدْ أَحَدًا مِنَ الْفُقَهَاءِ عَبَّرَ بِهَذَا، وَإِنَّمَا هُوَ تَعْبِيرٌ حَادِثٌ. وَلَمْ نَجِدْ فِي الْكُتُبِ الْفِقْهِيَّةِ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْفُقَهَاءِ تَكَلَّمَ عَنِ التَّعْوِيضِ الْمَالِيِّ فِي شَيْءٍ مِنَ الأَْضْرَارِ الْمَعْنَوِيَّةِ.
تَعَيُّبٌ
انْظُرْ: خِيَارُ الْعَيْبِ
تَعَيُّنٌ
انْظُرْ: تَعْيِينٌ(13/40)
تَعْيِينٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّعْيِينُ: مَصْدَرُ عَيَّنَ. تَقُول: عَيَّنْتُ الشَّيْءَ تَعْيِينًا: إِذَا خَصَّصْتُهُ مِنْ بَيْنِ أَمْثَالِهِ. وَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ الشَّيْءُ: إِذَا لَزِمَهُ بِعَيْنِهِ قَال الْجَوْهَرِيُّ: تَعْيِينُ الشَّيْءِ تَخْصِيصُهُ مِنَ الْجُمْلَةِ. وَعَيَّنْتُ النِّيَّةَ فِي الصَّوْمِ إِذَا نَوَيْتُ صَوْمًا مُعَيَّنًا (1) . وَالتَّعْيِينُ فِي الاِصْطِلاَحِ: جَعْل الشَّيْءِ مُتَمَيِّزًا عَنْ غَيْرِهِ، بِحَيْثُ لاَ يُشَارِكُهُ سِوَاهُ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الإِْبْهَامُ:
2 - الإِْبْهَامُ مَصْدَرُ أَبْهَمَ الْخَبَرَ إِذَا لَمْ يَتَبَيَّنْهُ. وَطَرِيقٌ مُبْهَمٌ إِذَا كَانَ خَفِيًّا لاَ يَسْتَبِينُ وَكَلاَمٌ مُبْهَمٌ لاَ يُعْرَفُ لَهُ وَجْهٌ يُؤْتَى مِنْهُ. وَبَابٌ مُبْهَمٌ مُغْلَقٌ لاَ يُهْتَدَى لِفَتْحِهِ، فَهُوَ ضِدُّ التَّعْيِينِ (2) .
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير مادة: " عين ".
(2) لسان العرب والمصباح المنير مادة: " بهم ".(13/40)
ب - التَّخْيِيرُ:
3 - التَّخْيِيرُ: مَصْدَرُ خَيَّرْتُهُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ أَيْ فَوَّضْتُ إِلَيْهِ الاِخْتِيَارَ. وَالتَّخَيُّرُ الاِصْطِفَاءُ، وَهُوَ طَلَبُ خَيْرِ الأَْمْرَيْنِ (1) وَفِي الْحَدِيثِ: تَخَيَّرُوا لِنُطَفِكُمْ (2) .
ج - التَّخْصِيصُ:
4 - التَّخْصِيصُ قَصْرُ الْعَامِّ عَلَى بَعْضِ أَفْرَادِهِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
أَوَّلاً: التَّعْيِينُ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ:
5 - تَرِدُ كَلِمَةُ التَّعْيِينِ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ فِي مُقَابَلَةِ التَّخْيِيرِ، وَذَلِكَ فِي بَابِ الأَْحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ. قَالُوا: الْوَاجِبُ يَنْقَسِمُ إِلَى مُعَيَّنٍ كَصَلاَةِ الظُّهْرِ مَثَلاً، وَإِلَى مُبْهَمٍ بَيْنَ أَقْسَامٍ مَحْصُورَةٍ كَخِصَال كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، فَإِنَّ الْحَالِفَ يُخَيَّرُ عِنْدَ حِنْثِهِ بَيْنَ ثَلاَثَةِ أَشْيَاءَ، إِطْعَامِ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ، أَوْ كِسْوَتِهِمْ، أَوْ تَحْرِيرِ رَقَبَةٍ. وَأَنْكَرَتِ الْمُعْتَزِلَةُ الْوَاجِبَ الْمُخَيَّرَ، وَقَالُوا: لاَ مَعْنَى لِلإِْيجَابِ مَعَ التَّخْيِيرِ (3) .
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير مادة: " خير ".
(2) حديث: " تخيروا لنطفكم. . . " أخرجه ابن ماجه (1 / 633 ط الحلبي) من حديث عائشة رضي الله عنها، وحسنه ابن حجر لطرقه، (التلخيص الحبير 3 / 146 ط شركة الطباعة الفنية) .
(3) المستصفى 1 / 27.(13/41)
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل الْقَوْل فِي ذَلِكَ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ. وَفِي بَحْثِ (تَخْيِيرٌ) .
ثَانِيًا: التَّعْيِينُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ:
6 - تَعَرَّضَ الْفُقَهَاءُ لِحُكْمِ التَّعْيِينِ فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا:
أ - فِي الصَّلاَةِ:
7 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُصَلِّي أَنْ يُعَيِّنَ فِي نِيَّتِهِ الصَّلاَةَ الَّتِي يُصَلِّيهَا، لِتَمْتَازَ عَنْ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ. وَذَلِكَ إِذَا كَانَتِ الصَّلاَةُ فَرْضًا اتِّفَاقًا، فَيَجِبُ عَلَيْهِ نِيَّةُ الصَّلاَةِ بِعَيْنِهَا ظُهْرًا أَوْ عَصْرًا أَوْ مَغْرِبًا أَوْ غَيْرَهَا.
أَمَّا السُّنَنُ ذَوَاتُ الْوَقْتِ أَوِ السَّبَبِ، فَفِي وُجُوبِ تَعْيِينِهَا فِي النِّيَّةِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (نِيَّةٌ، صَلاَةٌ) (1)
8 - وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَأْمُومَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْوِيَ الاِقْتِدَاءَ بِالإِْمَامِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُعَيِّنَ الإِْمَامَ. وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا عَيَّنَهُ وَأَخْطَأَ فِي تَعْيِينِهِ بَطَلَتْ صَلاَتُهُ.
وَلَيْسَ عَلَى الإِْمَامِ أَنْ يُعَيِّنَ الْمَأْمُومَ، فَإِذَا عَيَّنَهُ وَأَخْطَأَ فِي تَعْيِينِهِ فَلاَ تَبْطُل صَلاَتُهُ (2) .
__________
(1) البدائع 1 / 127، وجواهر الإكليل 1 / 46، 47، والقوانين الفقهية ص 62، ومغني المحتاج 1 / 148، المغني لابن قدامة 1 / 464، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 14.
(2) البدائع 1 / 128، 129، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 337، ومغني المحتاج 1 / 252.(13/41)
ب - فِي الصَّوْمِ:
9 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى وُجُوبِ تَعْيِينِ النِّيَّةِ فِي كُل صَوْمٍ وَاجِبٍ، مِنْ رَمَضَانَ أَوْ قَضَاءٍ أَوْ كَفَّارَةٍ أَوْ نَذْرٍ. وَذَلِكَ بِأَنْ يَنْوِيَ أَنَّهُ صَائِمٌ غَدًا عَنْ رَمَضَانَ مَثَلاً؛ لأَِنَّهُ عِبَادَةٌ مُضَافَةٌ إِلَى وَقْتٍ، فَوَجَبَ التَّعْيِينُ فِي نِيَّتِهَا.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّهُ يَكْفِي مُطْلَقُ النِّيَّةِ فِي رَمَضَانَ كَالنَّفْل؛ لأَِنَّ الْحَاجَةَ إِلَى التَّعْيِينِ عِنْدَ الْمُزَاحَمَةِ، وَلاَ مُزَاحَمَةَ؛ لأَِنَّ الْوَقْتَ لاَ يَحْتَمِل إِلاَّ صَوْمًا وَاحِدًا، فَلاَ حَاجَةَ إِلَى التَّمَيُّزِ بِتَعْيِينِ النِّيَّةِ.
أَمَّا صِيَامُ الْقَضَاءِ وَالنَّذْرِ وَالْكَفَّارَةِ فَقَوْل الْحَنَفِيَّةِ فِي تَعْيِينِ النِّيَّةِ فِيهِ كَقَوْل الْجُمْهُورِ فِي وُجُوبِ التَّعْيِينِ (1) .
ج - فِي الْبَيْعِ:
10 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ بَاعَ بِنَقْدٍ - وَفِي الْبَلَدِ نَقْدٌ وَاحِدٌ أَوْ نَقْدَانِ فَأَكْثَرُ، وَلَكِنَّ أَحَدَهَا غَالِبٌ - تَعَيَّنَ الْوَاحِدُ أَوِ الْغَالِبُ. وَإِنْ كَانَ فِي الْبَلَدِ نَقْدَانِ فَأَكْثَرُ، وَلَمْ يَغْلِبْ أَحَدُهَا، اشْتُرِطَ التَّعْيِينُ لَفْظًا، لاِخْتِلاَفِ الْوَاجِبِ بِاخْتِلاَفِ النُّقُودِ، وَلاَ يَكْفِي التَّعَلُّمُ بِالنِّيَّةِ. أَمَّا إِذَا اتَّفَقَتِ النُّقُودُ بِأَنْ لاَ تَتَفَاوَتَ فِي الْقِيمَةِ وَلاَ غَلَبَةَ، فَإِنَّ
__________
(1) البدائع 2 / 84، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 520، والقوانين الفقهية ص 122. ومغني المحتاج 1 / 424 ـ 425، والمغني لابن قدامة 3 / 94.(13/42)
الْعَقْدَ يَصِحُّ بِهَا مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ، وَيُسَلِّمُ الْمُشْتَرِي أَيَّهَا شَاءَ (1) .
وَذَهَبُوا أَيْضًا إِلَى وُجُوبِ تَعْيِينِ الأَْجَل بِالنِّسْبَةِ لِلْمُسَلَّمِ فِيهِ فِي بَيْعِ السَّلَمِ إِذَا كَانَ مُؤَجَّلاً، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَسْلَفَ فِي شَيْءٍ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ أَوْ وَزْنٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ (2) .
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لاَ نَعْلَمُ فِي اشْتِرَاطِ الْعِلْمِ فِي الْجُمْلَةِ اخْتِلاَفًا (3) .
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى وُجُوبِ تَعْيِينِ مَكَانِ الإِْيفَاءِ أَيْضًا، إِنْ كَانَ الْعَقْدُ بِمَوْضِعٍ لاَ يَصْلُحُ لِلتَّسْلِيمِ، سَوَاءٌ أَكَانَ حَالًّا أَمْ مُؤَجَّلاً أَوْ يَصْلُحُ لِلتَّسْلِيمِ، وَلَكِنْ لِحَمْلِهِ مَئُونَةٌ، وَهَذَا فِي الْمُؤَجَّل دُونَ الْحَال.
أَمَّا إِذَا كَانَ الْمَكَانُ صَالِحًا لِلإِْيفَاءِ، وَلَيْسَ فِي حَمْلِهِ مَئُونَةٌ، فَلاَ يَجِبُ تَعَلُّمُ مَكَانٍ لِلإِْيفَاءِ، بَل يَتَعَيَّنُ مَكَانُ الْعَقْدِ لِلتَّسْلِيمِ عُرْفًا بِلاَ خِلاَفٍ.
وَذَهَبَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَمُحَمَّدٌ وَأَبُو يُوسُفَ، وَهُوَ قَوْلٌ مَرْجُوحٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى: عَدَمِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 26، ومواهب الجليل 4 / 278، مغني المحتاج 2 / 17، وكشف المخدرات ص 215.
(2) حديث: " من أسلف في شيء فليسلف في كيل. . . " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 429 ط السلفية) ومسلم (3 / 12227 ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما واللفظ للبخاري.
(3) البدائع 5 / 212، وتحفة المحتاج 5 / 10، جواهر الإكليل 2 / 69، والمغني 4 / 322.(13/42)
وُجُوبِ تَعْيِينِ مَكَانِ التَّسْلِيمِ، سَوَاءٌ أَكَانَ فِي حَمْلِهِ مَئُونَةٌ أَمْ لاَ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ مُؤَجَّلاً أَمْ حَالًّا؛ لأَِنَّ مَكَانَ الْعَقْدِ هُوَ الَّذِي يَتَعَيَّنُ.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَوْ عَيَّنَ الْمُتَعَاقِدَانِ مَكَانًا لِلتَّسْلِيمِ غَيْرَ مَكَانِ الْعَقْدِ تَعَيَّنَ (1) .
د - تَعْيِينُ الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ:
11 - يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْبَيْعِ مَعْلُومِيَّةُ الْمَبِيعِ. وَمَعْلُومِيَّةُ الثَّمَنِ بِمَا يَرْفَعُ الْمُنَازَعَةَ، فَلاَ يَصِحُّ - فِي جَانِبِ الْمَبِيعِ - بَيْعُ شَاةٍ مِنْ هَذَا الْقَطِيعِ، وَلاَ يَصِحُّ - فِي جَانِبِ الثَّمَنِ - بَيْعُ الشَّيْءِ بِقِيمَتِهِ، أَوْ بِحُكْمِ فُلاَنٍ، أَوْ بِرَأْسِ مَالِهِ، أَوْ بِمَا يَبِيعُ بِهِ النَّاسُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ شَيْئًا لاَ يَتَفَاوَتُ، لِئَلاَّ يُفْضِيَ ذَلِكَ إِلَى النِّزَاعِ. إِلاَّ أَنَّ بَعْضَ عُلَمَاءِ الْحَنَابِلَةِ يَرَوْنَ أَنَّهُ يَصِحُّ الْبَيْعُ بِثَمَنِ الْمِثْل.
وَيَعُدُّ الْحَنَفِيَّةُ هَذَا الْبَيْعَ مِنَ الْبُيُوعِ الْفَاسِدَةِ الَّتِي يُمْكِنُ تَصْحِيحُهَا فِي الْمَجْلِسِ، بِخِلاَفِ الْجَهَالَةِ فِي عَيْنِ الْمَبِيعِ، فَإِنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا بُطْلاَنُ الْعَقْدِ (2) .
هَذَا، وَهَل الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ
__________
(1) البدائع 5 / 213، وجواهر الإكليل2 / 69، والقوانين الفقهية 275، ومغني المحتاج 2 / 104.
(2) البدائع 5 / 156، وابن عابدين 4 / 6، ومواهب الجليل 4 / 276، والقوانين الفقهية ص 261، ومغني المحتاج 2 / 16، والفروع 4 / 30، وكشاف القناع 3 / 172.(13/43)
فِي الْعَقْدِ أَمْ لاَ؟ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ:
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ، لأَِنَّهُ عِوَضٌ فِي عَقْدٍ، فَيَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ، كَسَائِرِ الأَْعْوَاضِ. وَلأَِنَّهُ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ فَيَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ كَالآْخَرِ. وَلأَِنَّ لِلْبَائِعِ غَرَضًا فِي هَذَا التَّعْيِينِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهَا لاَ تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ لأَِنَّهُ يَجُوزُ إِطْلاَقُهَا فِي الْعَقْدِ، فَلاَ تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فِيهِ كَالْمِكْيَال. وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ (1) .
هـ - خِيَارُ التَّعْيِينِ:
12 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى صِحَّةِ خِيَارِ التَّعْيِينِ فِي الْبَيْعِ.
وَصُورَتُهُ أَنْ يَقُول الْمُشْتَرِي لِلْبَائِعِ: اشْتَرَيْتُ مِنْكَ أَحَدَ هَذَيْنِ الثَّوْبَيْنِ أَوْ أَحَدَ هَذِهِ الأَْثْوَابِ الثَّلاَثَةِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ، عَلَى أَنْ يَخْتَارَ أَيَّهَا شَاءَ. وَذَكَرُوا لَهُ عِدَّةَ شُرُوطٍ مِنْهَا: أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ فِيهِ عَلَى وَاحِدٍ مِنَ اثْنَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةٍ لاَ بِعَيْنِهِ، فَلاَ يَزِيدُ عَنْ ثَلاَثَةٍ، فَلاَ يَجُوزُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ أَرْبَعَةٍ، فَإِنَّ هَذِهِ الصُّورَةَ غَيْرُ جَائِزَةٍ عِنْدَهُمْ، لاِنْدِفَاعِ الْحَاجَةِ بِالثَّلاَثَةِ، لِوُجُودِ جَيِّدٍ وَرَدِيءٍ
__________
(1) الفتاوى الهندية 3 / 12، وشرح فتح القدير 5 / 468، والدسوقي 3 / 155، وروضة الطالبين 3 / 363، والفروع 4 / 30، والمغني لابن قدامة 4 / 50.(13/43)
وَوَسَطٍ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ لاَ بُدَّ أَنْ يَقُول بَعْدَ قَوْلِهِ: بِعْتُكَ أَحَدَ هَذَيْنِ الثَّوْبَيْنِ مَثَلاً: عَلَى أَنَّكَ بِالْخِيَارِ فِي أَيِّهِمَا شِئْتَ أَوْ عَلَى أَنْ تَأْخُذَ أَيَّهُمَا شِئْتَ، لِيَكُونَ نَصًّا فِي خِيَارِ التَّعْيِينِ، وَلأَِنَّهُ لَوْ لَمْ يَذْكُرْ هَذَا يَكُونُ الْبَيْعُ فَاسِدًا لِجَهَالَةِ الْمَبِيعِ. وَاخْتَلَفُوا هَل يُشْتَرَطُ مَعَهُ خِيَارُ الشَّرْطِ أَمْ لاَ؟ وَالأَْصَحُّ عَدَمُ اشْتِرَاطِهِ مَعَهُ، وَقَال بَعْضُهُمْ: يُشْتَرَطُ ذَلِكَ.
وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ هَذِهِ الصُّورَةَ، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَذْكُرُوا خِيَارَ التَّعْيِينِ بِالاِسْمِ إِلاَّ أَنَّهُمْ أَجَازُوهَا.
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْبَيْعَ بِهَذِهِ الصُّورَةِ بَاطِلٌ، لِجَهَالَةِ الْمَبِيعِ جَهَالَةً تُفْضِي إِلَى التَّنَازُعِ (1) .
و التَّعْيِينُ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ:
13 - لاَ يَجُوزُ تَعْيِينُ الْمُسْلَمِ فِيهِ، بَل يَجِبُ أَنْ يَكُونَ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ، فَإِنْ أَسْلَمَ فِي عَيْنٍ كَدَارٍ، أَوْ قَال: أَسْلَمْتُ إِلَيْكَ هَذَا الثَّوْبَ فِي هَذِهِ الشَّاةِ لَمْ يَصِحَّ السَّلَمُ، لأَِنَّهُ رُبَّمَا تَلِفَ الْمُعَيَّنُ قَبْل أَوَانِ تَسْلِيمِهِ، وَلأَِنَّ الْمُعَيَّنَ يُمْكِنُ بَيْعُهُ فِي الْحَال، فَلاَ حَاجَةَ إِلَى السَّلَمِ فِيهِ، حَيْثُ إِنَّ السَّلَمَ بَيْعُ الْمَفَالِيسِ.
وَلِذَلِكَ لاَ يَجُوزُ أَنْ يُسْلَمَ فِي ثَمَرَةِ بُسْتَانٍ بِعَيْنِهِ، وَلاَ ثَمَرَةِ قَرْيَةٍ صَغِيرَةٍ بِعَيْنِهَا؛ لأَِنَّهُ قَدْ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 58، وجواهر الإكليل 2 / 39، ونهاية المحتاج 4 / 251، والمغني لابن قدامة 3 / 586.(13/44)
يَنْقَطِعُ بِجَائِحَةٍ وَنَحْوِهَا فَلاَ يَحْصُل مِنْهُ شَيْءٌ، وَذَلِكَ غَرَرٌ لاَ حَاجَةَ إِلَيْهِ، وَلأَِنَّهُ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلاَمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: إِنَّ بَنِي فُلاَنٍ أَسْلَمُوا لِقَوْمٍ مِنَ الْيَهُودِ وَإِنَّهُمْ قَدْ جَاعُوا. فَأَخَافُ أَنْ يَرْتَدُّوا. فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ عِنْدَهُ؟ فَقَال رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ: عِنْدِي كَذَا وَكَذَا لِشَيْءٍ قَدْ سَمَّاهُ أَرَاهُ قَال: ثَلاَثُمِائَةِ دِينَارٍ بِسِعْرِ كَذَا وَكَذَا مِنْ حَائِطِ بَنِي فُلاَنٍ. فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِسِعْرِ كَذَا وَكَذَا إِلَى أَجَل كَذَا وَكَذَا، وَلَيْسَ مِنْ حَائِطِ بَنِي فُلاَنٍ (1) .
قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: إِبْطَال السَّلَمِ إِذَا أُسْلِمَ فِي ثَمَرَةِ بُسْتَانٍ بِعَيْنِهِ كَالإِْجْمَاعِ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ. وَقَال الْجُوزَجَانِيُّ: أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى كَرَاهَةِ هَذَا الْبَيْعِ (2) .
ز - فِي الْوَكَالَةِ:
14 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا قَال الْمُوَكِّل لِلْوَكِيل: بِعْ لِشَخْصٍ مُعَيَّنٍ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ لِغَيْرِهِ، بَل عَلَيْهِ أَنْ يَتَقَيَّدَ بِهَذَا التَّعْيِينِ؛ لأَِنَّهُ قَدْ
__________
(1) حديث عبد الله بن سلام رضي الله عنه: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم. . . . " أخرجه ابن ماجه (2 / 766 ط الحلبي) وقال البوصيري في الزوائد: في إسناده الوليد بن مسلم، وهو مدلس.
(2) البدائع 5 / 211، والقوانين الفقهية ص 274، ومغني المحتاج 2 / 104، والمغني لابن قدامة 4 / 325.(13/44)
يَكُونُ لَهُ غَرَضٌ فِي تَمْلِيكِهِ إِيَّاهُ دُونَ غَيْرِهِ.
وَكَذَلِكَ إِذَا قَال: بِعْ هَذَا الشَّيْءَ فِي الزَّمَنِ الْفُلاَنِيِّ أَوْ فِي الْمَكَانِ الْفُلاَنِيِّ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَقَيَّدَ بِهَذَا التَّعْيِينِ، إِلاَّ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ لاَ غَرَضَ لِلْمُوَكِّل فِي هَذَا التَّعْيِينِ، فَلاَ يَجِبُ التَّقَيُّدُ بِهِ (1) .
ح - فِي الإِْجَارَةِ:
15 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى وُجُوبِ تَعْيِينِ نَوْعِ الْمَنْفَعَةِ فِي الإِْجَارَةِ وَتَعْيِينِ الْمُدَّةِ فِيهَا. وَذَلِكَ إِمَّا بِغَايَتِهَا كَخِيَاطَةِ الثَّوْبِ مَثَلاً، وَإِمَّا بِضَرْبِ الأَْجَل إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا غَايَةٌ كَكِرَاءِ الدُّورِ وَالْحَوَانِيتِ، وَإِمَّا بِالْمَكَانِ الْمُرَادِ الْوُصُول إِلَيْهِ كَكِرَاءِ الرَّوَاحِل إِلَى الْمَكَانِ الْفُلاَنِيِّ.
وَيَرَى بَعْضُ فُقَهَاءِ السَّلَفِ جَوَازَ إِجَارَةِ الْمَجْهُولاَتِ، مِثْل أَنْ يُعْطِيَ الرَّجُل حِمَارَهُ لِمَنْ يَحْتَطِبُ عَلَيْهِ بِنِصْفِ مَا يَعُودُ عَلَيْهِ (2) . وَالتَّفَاصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (إِجَارَةٌ) .
ط - فِي الطَّلاَقِ:
16 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ قَال رَجُلٌ لِزَوْجَتَيْهِ: إِحْدَاكُمَا طَالِقٌ، وَنَوَى وَاحِدَةً بِعَيْنِهَا طَلُقَتْ، وَيَلْزَمُهُ التَّعْيِينُ (3) . وَالتَّفَاصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (طَلاَقٌ) .
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 227، والمغني لابن قدامة 5 / 131، والبدائع 6 / 27.
(2) مغني المحتاج 2 / 339، والمغني لابن قدامة 5 / 435، والقوانين الفقهية 279، وبداية المجتهد 2 / 247.
(3) مغني المحتاج 3 / 305، والمغني لابن قدامة 7 / 252، وجواهر الإكليل 1 / 355، وحاشية ابن عابدين 2 / 458.(13/45)
ي - فِي الدَّعْوَى:
17 - مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الدَّعْوَى أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعَى بِهِ مَعْلُومًا مُعَيَّنًا، فَإِنْ كَانَ عَيْنًا كَحَيَوَانٍ اشْتُرِطَ تَعْيِينُ الذُّكُورَةِ وَالأُْنُوثَةِ وَالسِّنِّ وَاللَّوْنِ وَالنَّوْعِ، وَإِنْ كَانَ نَقْدًا اشْتُرِطَ تَعْيِينُ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ وَالْقَدْرِ وَالْوَصْفِ؛ لِيَتَمَكَّنَ الْحَاكِمُ مِنَ الإِْلْزَامِ بِهِ إِذَا ثَبَتَ (1) .
وَالتَّفَاصِيل فِي مُصْطَلَحِ (دَعْوَى)
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 420، وجواهر الإكليل 2 / 226، مغني المحتاج 4 / 464، وكشف المخدرات 510.(13/45)
تَغْرِيبٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّغْرِيبُ فِي اللُّغَةِ: النَّفْيُ عَنِ الْبَلَدِ وَالإِْبْعَادُ عَنْهَا. أَصْلُهُ غَرَبَ. يُقَال: غَرَبَتِ الشَّمْسُ غُرُوبًا: بَعُدَتْ وَتَوَارَتْ. وَغَرَبَ الشَّخْصُ: ابْتَعَدَ عَنْ وَطَنِهِ فَهُوَ غَرِيبٌ. وَغَرَّبْتُهُ أَنَا تَغْرِيبًا. وَقَدْ يَكُونُ غَرَبَ لاَزِمًا كَمَا يُقَال: غَرَبَ فُلاَنٌ عَنْ بَلَدِهِ تَغْرِيبًا (1)
وَلاَ يَخْرُجُ مَعْنَاهُ الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالتَّغْرِيبِ:
التَّغْرِيبُ يَكُونُ عُقُوبَةً فِي حَدِّ الزِّنَى، وَحَدِّ الْحِرَابَةِ، كَمَا يَكُونُ تَعْزِيرًا.
أَوَّلاً: التَّغْرِيبُ فِي حَدِّ الزِّنَى:
2 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ التَّغْرِيبِ فِي
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير مادة: " غرب ".
(2) ابن عابدين 3 / 147، والدسوقي 4 / 322، وأسنى المطالب 4 / 130، وكشاف القناع 6 / 92.(13/46)
الزِّنَى، فِي الْجُمْلَةِ عَلَى خِلاَفٍ بَيْنَهُمْ فِي اعْتِبَارِهِ مِنْ حَدِّ الزِّنَى أَوْ عَدَمِ اعْتِبَارِهِ.
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى: أَنَّ مِنْ حَدِّ الزَّانِي - إِنْ كَانَ بِكْرًا - التَّغْرِيبَ لِمُدَّةِ سَنَةٍ لِمَسَافَةِ قَصْرٍ فَأَكْثَرَ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَنَفْيُ سَنَةٍ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ (1) وَلِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ وَزَيْدُ بْنُ خَالِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال أَحَدُهُمَا: إِنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا، فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ، وَأَنِّي افْتَدَيْتُ مِنْهُ بِمِائَةِ شَاةٍ وَوَلِيدَةٍ، فَسَأَلْتُ رِجَالاً مِنْ أَهْل الْعِلْمِ، فَقَالُوا: إِنَّمَا عَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَالرَّجْمُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا. فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لأََقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى: عَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ. وَجَلَدَ ابْنَهُ مِائَةً وَغَرَّبَهُ عَامًا. ثُمَّ قَال لأُِنَيْسٍ الأَْسْلَمِيِّ: وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ إِلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا، فَاعْتَرَفَتْ فَرَجَمَهَا (2) . وَلأَِنَّ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ جَمَعُوا بَيْنَ الْجَلْدِ وَالتَّغْرِيبِ، وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُمْ مُخَالِفٌ، فَكَانَ كَالإِْجْمَاعِ.
__________
(1) حديث: " البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة. . . " أخرجه مسلم (3 / 1316 ط الحلبي) .
(2) حديث: " والذي نفسي بيده. . . " أخرجه البخاري (12 / 186 الفتح ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1325 ط الحلبي) .(13/46)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّغْرِيبَ لَيْسَ مِنَ الْحَدِّ، وَلَكِنَّهُمْ يُجِيزُونَ لِلإِْمَامِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالتَّغْرِيبِ، إِنْ رَأَى فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةً. فَالتَّغْرِيبُ عِنْدَهُمْ عُقُوبَةٌ تَعْزِيرِيَّةٌ، وَذَهَبُوا إِلَى أَنَّ مَا رُوِيَ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ (1) . لاَ يُؤْخَذُ بِهِ؛ لأَِنَّهُ لَوْ أُخِذَ بِهِ لَكَانَ نَاسِخًا لِلآْيَةِ؛ لأَِنَّ فِيهِ زِيَادَةً عَلَى نَصِّ الآْيَةِ، وَهِيَ قَوْله تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} (2) وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ لاَ يَقْوَى عَلَى نَسْخِ الآْيَةِ لأَِنَّهُ خَبَرُ آحَادٍ (3) .
وَقَالُوا: فِي التَّغْرِيبِ فَتْحٌ لِبَابِ الْفَسَادِ، فَفِيهِ نَقْصٌ وَإِبْطَالٌ لِلْمَقْصُودِ مِنْهُ شَرْعًا. وَلِمَا رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَال: غَرَّبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَبِيعَةَ بْنَ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ فِي الشَّرَابِ إِلَى خَيْبَرَ، فَلَحِقَ بِهِرَقْل فَتَنَصَّرَ، فَقَال عُمَرُ: لاَ أُغَرِّبُ بَعْدَهُ مُسْلِمًا.
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ التَّغْرِيبَ هُوَ النَّفْيُ مِنَ الْبَلَدِ الَّذِي حَدَثَ فِيهِ الزِّنَى إِلَى بَلَدٍ آخَرَ، دُونَ حَبْسِ الْمُغَرَّبِ فِي الْبَلَدِ الَّذِي نُفِيَ إِلَيْهِ، إِلاَّ أَنَّهُ يُرَاقَبُ؛ لِئَلاَّ يَرْجِعَ إِلَى بَلْدَتِهِ. وَهَذَا
__________
(1) حديث: " البكر بالبكر جلد مائة. . . " سبق تخريجه ف / 2.
(2) سورة النور / 2.
(3) ابن عابدين 3 / 147، وبدائع الصنائع 7 / 39، وحاشية الدسوقي 4 / 321، 322، والفواكه الدواني 2 / 281، ومغني المحتاج 4 / 147، 148، وكشاف القناع 6 / 91.(13/47)
فِيمَنْ زَنَى فِي وَطَنِهِ، وَأَمَّا الْغَرِيبُ الَّذِي زَنَى بِغَيْرِ بَلَدِهِ، فَيُغَرَّبُ إِلَى غَيْرِ بَلَدِهِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُغَرَّبُ الزَّانِي عَنِ الْبَلَدِ الَّذِي حَدَثَ فِيهِ الزِّنَى إِلَى بَلَدٍ آخَرَ، مَعَ سَجْنِهِ فِي الْبَلَدِ الَّذِي غُرِّبَ إِلَيْهِ. وَهَذَا إِنْ كَانَ مُتَوَطِّنًا فِي الْبَلَدِ الَّتِي زَنَى فِيهَا. وَأَمَّا الْغَرِيبُ الَّذِي زَنَى فَوْرَ نُزُولِهِ بِبَلَدٍ، فَإِنَّهُ يُجْلَدُ وَيُسْجَنُ بِهَا؛ لأَِنَّ سَجْنَهُ فِي الْمَكَانِ الَّذِي زَنَى فِيهِ تَغْرِيبٌ لَهُ. (1)
مَنْ يُغَرَّبُ فِي حَدِّ الزِّنَى:
3 - اتَّفَقَ الْقَائِلُونَ بِالتَّغْرِيبِ عَلَى وُجُوبِهِ عَلَى الرَّجُل الزَّانِي الْحُرِّ غَيْرِ الْمُحْصَنِ لِمُدَّةِ عَامٍ (2) . لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ (3) .
وَأَمَّا الْمَرْأَةُ غَيْرُ الْمُحْصَنَةِ، فَقَدْ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَاللَّخْمِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى وُجُوبِ التَّغْرِيبِ عَلَيْهَا كَذَلِكَ. قَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: وَيَكُونُ مَعَهَا زَوْجٌ أَوْ مَحْرَمٌ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تُسَافِرُ الْمَرْأَةُ إِلاَّ وَمَعَهَا زَوْجٌ أَوْ مَحْرَمٌ (4) وَفِي
__________
(1) ابن عابدين 3 / 147، وحاشية الدسوقي 4 / 322، وأسنى المطالب 4 / 130، وكشاف القناع 6 / 92، والمغني لابن قدامة 8 / 168.
(2) الدسوقي 4 / 321، والفواكه الدواني 2 / 281، ومغني المحتاج 4 / 147، وكشاف القناع 6 / 91.
(3) الحديث: تقدم تخريجه (ف2) .
(4) حديث: " لا تسافر المرأة ليس معها زوجها. . " أخرجه البخاري (4 / 73 الفتح ط السلفية) .(13/47)
الصَّحِيحَيْنِ: لاَ يَحِل لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ أَنْ تُسَافِرَ مَسِيرَةَ يَوْمٍ إِلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ (1) . وَلأَِنَّ الْقَصْدَ تَأْدِيبُهَا، وَالزَّانِيَةُ إِذَا خَرَجَتْ وَحْدَهَا هَتَكَتْ جِلْبَابَ الْحَيَاءِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ تَغْرِيبَ عَلَى الْمَرْأَةِ، وَلَوْ مَعَ مَحْرَمٍ أَوْ زَوْجٍ وَلَوْ رَضِيَتْ بِذَلِكَ، عَلَى الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ (2) .
ثَانِيًا: التَّغْرِيبُ فِي حَدِّ الْحِرَابَةِ:
4 - وَرَدَ النَّفْيُ فِي حَدِّ الْحِرَابَةِ فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَْرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلاَفٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَْرْضِ} (3)
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمُرَادِ بِالنَّفْيِ فِي الآْيَةِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى: أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّفْيِ فِي حَدِّ الْحِرَابَةِ الْحَبْسُ؛ لأَِنَّ النَّفْيَ مِنْ جَمِيعِ الأَْرْضِ مُحَالٌ، وَإِلَى بَلَدٍ آخَرَ فِيهِ إِيذَاءٌ لأَِهْلِهَا، فَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ الْحَبْسُ، وَالْمَحْبُوسُ يُسَمَّى مَنْفِيًّا مِنَ
__________
(1) حديث: " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة. . . " أخرجه مسلم (2 / 977ط الحلبي) .
(2) حاشية الدسوقي 4 / 322، مغني المحتاج 4 / 148، وكشاف القناع 6 / 92.
(3) سورة المائدة / 33.(13/48)
الأَْرْضِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَنْتَفِعُ بِطَيِّبَاتِ الدُّنْيَا وَلَذَّاتِهَا وَلاَ يَجْتَمِعُ بِأَقَارِبِهِ وَأَحْبَابِهِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى: أَنَّهُ مِثْل التَّغْرِيبِ فِي الزِّنَى، وَلَكِنَّهُ يُسْجَنُ فِي حَدِّ الْحِرَابَةِ حَتَّى تَظْهَرَ تَوْبَتُهُ أَوْ يَمُوتَ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ قَاطِعَ الطَّرِيقِ - إِذَا أُخِذَ قَبْل أَنْ يَقْتُل نَفْسًا أَوْ يَأْخُذَ مَالاً - يُعَزَّرُ بِالْحَبْسِ أَوِ التَّغْرِيبِ. وَقَالُوا: هَذَا تَفْسِيرُ النَّفْيِ الْوَارِدِ فِي الآْيَةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّفْيِ فِي حَدِّ الْحِرَابَةِ تَشْرِيدُ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ فِي الأَْرْضِ، وَعَدَمُ تَرْكِهِمْ يَأْوُونَ إِلَى بَلَدٍ حَتَّى تَظْهَرَ تَوْبَتُهُمْ. (1)
ثَالِثًا: التَّغْرِيبُ عَلَى سَبِيل التَّعْزِيرِ:
5 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ التَّعْزِيرِ بِالتَّغْرِيبِ. (2) لِمَا ثَبَتَ مِنْ قَضَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّفْيِ تَعْزِيرًا فِي شَأْنِ الْمُخَنَّثِينَ. (3)
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 212، وحاشية الدسوقي 4 / 349، وأسنى المطالب4 / 154، وكشاف القناع 6 / 153، وتفسير القرطبي 6 / 152، وأحكام القرآن للجصاص 2 / 500، وأحكام القرآن لابن العربي 2 / 598.
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 147، وحاشية الدسوقي 4 / 355، ونهاية المحتاج 8 / 5، 19، وكشاف القناع6 / 28
(3) حديث: نفي " المخنثين. . . " أخرجه البخاري (12 / 159 الفتح ط السلفية)(13/48)
وَلِنَفْيِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِلَّذِي عَمِل خَاتَمًا عَلَى نَقْشِ خَاتَمِ بَيْتِ الْمَال وَأَخَذَ بِهِ مَالاً مِنْهُ.
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (تَعْزِيرٌ) .
تَغْرِيرٌ
انْظُرْ: غَرَرٌ(13/49)
تَغْسِيل الْمَيِّتِ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّغْسِيل فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ غَسَّل بِالتَّشْدِيدِ، بِمَعْنَى: إِزَالَةِ الْوَسَخِ عَنِ الشَّيْءِ، بِإِجْرَاءِ الْمَاءِ عَلَيْهِ، وَالْمَيِّتُ بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ: ضِدُّ الْحَيِّ، وَأَمَّا الْحَيُّ - فَهُوَ بِالتَّشْدِيدِ لاَ غَيْرُ - بِمَعْنَى مَنْ سَيَمُوتُ. وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} (1) وَيَسْتَوِي فِيهِ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ، قَال تَعَالَى: {لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا} (2) وَلَمْ يَقُل مَيِّتَةً. (3) فَتَغْسِيل الْمَيِّتِ مِنْ قَبِيل إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى الْمَفْعُول.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: تَعْمِيمُ بَدَنِ الْمَيِّتِ بِالْمَاءِ بِطَرِيقَةٍ مَسْنُونَةٍ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ تَغْسِيل الْمَيِّتِ الْمُسْلِمِ وَاجِبُ كِفَايَةٍ، بِحَيْثُ إِذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ عَنِ الْبَاقِينَ؛ لِحُصُول الْمَقْصُودِ بِالْبَعْضِ،
__________
(1) سورة الزمر / 3
(2) سورة الفرقان / 49.
(3) مختار الصحاح، وابن عابدين 1 / 113(13/49)
كَسَائِرِ الْوَاجِبَاتِ عَلَى سَبِيل الْكِفَايَةِ. (1) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ وَعَدَّ مِنْهَا: أَنْ يُغَسِّلَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ (2) وَالأَْصْل فِيهِ: تَغْسِيل الْمَلاَئِكَةِ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لآِدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. ثُمَّ قَالُوا: يَا بَنِي آدَمَ هَذِهِ سُنَّتُكُمْ (3) .
وَأَمَّا الْقَوْل بِسُنِّيَّةِ الْغُسْل عِنْدَ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ، فَقَدِ اقْتَصَرَ عَلَى تَصْحِيحِهِ ابْنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ. (4)
مَا يَنْبَغِي لِغَاسِل الْمَيِّتِ، وَمَا يُكْرَهُ لَهُ:
3 - يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْغَاسِل ثِقَةً أَمِينًا، وَعَارِفًا
__________
(1) ابن عابدين 1 / 112، 113، وبدائع الصنائع 1 / 299، 300، والاختيار لتعليل المختار 1 / 91، ومواهب الجليل، 2 / 207، والشرح الصغير 1 / 523 ط دار المعارف بمصر، وروضة الطالبين 2 / 98، وحاشية الجمل 2 / 143، ونيل المآرب 1 / 220
(2) حديث: " للمسلم على المسلم. . . " ورد في كتاب الاختيار شرح المختار (1 / 91) ولم نجده فيما بين أيدينا من كتب السنة، وأورده الزيلعي بلفظ " للمسلم على المسلم ثمانية حقوق " وذكر منها " غسل الميت ". وقال: هذا الحديث ما عرفته ولا وجدته. (نصب الراية 2 / 257)
(3) حديث: " تغسيل الملائكة لآدم عليه السلام، ثم قالوا: يا بني آدم هذه سنتكم ". أخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند (5 / 136 ط الميمنية) من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه موقوفا عليه. وقال الهيثمي: " رجاله رجال الصحيح غير عتي بن ضمرة وهو ثقة
(4) مواهب الجليل 2 / 209، والشرح الصغير 1 / 543 طبع دار المعارف بمصر، والقوانين الفقهية / 97(13/50)
بِأَحْكَامِ الْغُسْل. وَفِي الْحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لِيُغَسِّل مَوْتَاكُمُ الْمَأْمُونُونَ (1) .
وَلاَ يَجُوزُ لَهُ إِذَا رَأَى مِنَ الْمَيِّتِ شَيْئًا مِمَّا يُكْرَهُ أَنْ يَذْكُرَهُ إِلاَّ لِمَصْلَحَةٍ، لِمَا رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَال: مَنْ غَسَّل مَيِّتًا، فَأَدَّى فِيهِ الأَْمَانَةَ، وَلَمْ يُفْشِ عَلَيْهِ مَا يَكُونُ مِنْهُ عِنْدَ ذَلِكَ، خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ (2) .
وَإِنْ رَأَى حَسَنًا مِثْل أَمَارَاتِ الْخَيْرِ مِنْ وَضَاءَةِ الْوَجْهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، اسْتُحِبَّ لَهُ إِظْهَارُهُ لِيَكْثُرَ التَّرَحُّمُ عَلَيْهِ، وَيَحْصُل الْحَثُّ عَلَى طَرِيقَتِهِ، وَالتَّبْشِيرُ بِجَمِيل سِيرَتِهِ. (3)
إِلاَّ إِذَا كَانَ الْمَيِّتُ مُبْتَدِعًا، وَرَأَى الْغَاسِل مِنْهُ مَا يُكْرَهُ، فَلاَ بَأْسَ أَنْ يُحَدِّثَ النَّاسَ بِهِ، لِيَكُونَ زَجْرًا لَهُمْ عَنِ الْبِدْعَةِ. (4)
كَمَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يُلَيِّنَ مَفَاصِلَهُ إِنْ سَهُلَتْ
__________
(1) حديث: " ليغسل موتاكم المأمونون " أخرجه ابن ماجه (1 / 469 ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وأعله البوصيري بالضعف الشديد في أحد رواته
(2) حديث: " من غسل ميتا فأدى فيه الأمانة. . . " أخرجه أحمد (6 / 119 - 120 ط الميمنية) وقال الهيثمي: فيه جابر الجعفي، وفيه كلام كثير
(3) ابن عابدين 1 / 602، ومواهب الجليل2 / 223 ط دار الفكر، وروضة الطالبين 2 / 109 ط المكتب الإسلامي، والمغني لابن قدامة 2 / 455، 456 ط مكتبة الرياض الحديثة
(4) ابن عابدين 1 / 602، والفتاوى الهندية 1 / 159، وغاية المنتهى 1 / 239، والمقنع 1 / 274 ط المطبعة السلفية(13/50)
عَلَيْهِ، وَإِنْ شَقَّ ذَلِكَ لِقَسْوَةِ الْمَيِّتِ أَوْ غَيْرِهَا تَرَكَهَا؛ لأَِنَّهُ لاَ يُؤْمَنُ أَنْ تَنْكَسِرَ أَعْضَاؤُهُ. (1) وَيَلُفُّ الْغَاسِل عَلَى يَدِهِ خِرْقَةً خَشِنَةً يَمْسَحُهُ بِهَا، لِئَلاَّ يَمَسَّ عَوْرَتَهُ. لأَِنَّ النَّظَرَ إِلَى الْعَوْرَةِ حَرَامٌ. فَاللَّمْسُ أَوْلَى، وَيُعِدُّ لِغَسْل السَّبِيلَيْنِ خِرْقَةً أُخْرَى. قَال الشَّافِعِيَّةُ: وَيُكْرَهُ لِلْغَاسِل أَنْ يَنْظُرَ إِلَى شَيْءٍ مِنْ بَدَنِهِ إِلاَّ لِحَاجَةٍ، أَمَّا الْمُعَيَّنُ فَلاَ يَنْظُرُ إِلاَّ لِضَرُورَةٍ. (2)
كَمَا يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَقِفَ عَلَى الدَّكَّةِ، وَيَجْعَل الْمَيِّتَ بَيْنَ رِجْلَيْهِ، بَل يَقِفُ عَلَى الأَْرْضِ وَيُقَلِّبَهُ حِينَ غَسْلِهِ، كَمَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَشْتَغِل بِالتَّفَكُّرِ وَالاِعْتِبَارِ، لاَ بِالأَْذْكَارِ الَّتِي ابْتَدَعُوهَا لِكُل عُضْوٍ ذِكْرٌ يَخُصُّهُ، فَإِنَّهَا بِدْعَةٌ. (3)
النِّيَّةُ فِي تَغْسِيل الْمَيِّتِ:
4 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى: أَنَّ النِّيَّةَ لَيْسَتْ شَرْطًا لِصِحَّةِ الطَّهَارَةِ، بَل شَرْطٌ لإِِسْقَاطِ الْفَرْضِ عَنِ الْمُكَلَّفِينَ، فَلَوْ غُسِّل الْمَيِّتُ بِغَيْرِ نِيَّةٍ أَجْزَأَ لِطَهَارَتِهِ، لاَ لإِِسْقَاطِ الْفَرْضِ عَنِ الْمُكَلَّفِينَ. (4)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ،
__________
(1) حاشية الجمل 2 / 147 ط دار إحياء التراث العربي، وروضة الطالبين 2 / 102، والمغني 2 / 456
(2) ابن عابدين 1 / 574، والاختيار 1 / 91. دار المعرفة، ومواهب الجليل 2 / 223، والشرح الصغير 1 / 548، وروضة الطالبين 2 / 100، والمغني 2 / 457
(3) مواهب الجليل 2 / 223.
(4) ابن عابدين 1 / 577 ط دار إحياء التراث العربي.(13/51)
وَظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ، وَرِوَايَةٌ عَنِ الْحَنَابِلَةِ إِلَى: عَدَمِ اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فِي تَغْسِيل الْمَيِّتِ؛ لأَِنَّ الأَْصْل عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ كُل مَا يَفْعَلُهُ فِي غَيْرِهِ لاَ يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى نِيَّةٍ، كَغَسْل الإِْنَاءِ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ سَبْعًا، وَلأَِنَّ الْقَصْدَ التَّنْظِيفُ، فَأَشْبَهَ غَسْل النَّجَاسَةِ. (1)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ آخَرَ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى إِلَى وُجُوبِ النِّيَّةِ؛ لأَِنَّ غُسْل الْمَيِّتِ وَاجِبٌ، فَافْتَقَرَ إِلَى النِّيَّةِ كَغُسْل الْجَنَابَةِ، وَلَمَّا تَعَذَّرَتِ النِّيَّةُ مِنَ الْمَيِّتِ اعْتُبِرَتْ فِي الْغَاسِل؛ لأَِنَّهُ الْمُخَاطَبُ بِالْغُسْل. (2)
تَجْرِيدُ الْمَيِّتِ وَكَيْفِيَّةُ وَضْعِهِ حَالَةَ الْغُسْل:
5 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ تَجْرِيدُ الْمَيِّتِ عِنْدَ تَغْسِيلِهِ؛ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْغُسْل هُوَ التَّطْهِيرُ وَحُصُولُهُ بِالتَّجْرِيدِ أَبْلَغُ.
وَلأَِنَّهُ لَوِ اغْتَسَل فِي ثَوْبِهِ تَنَجَّسَ الثَّوْبُ بِمَا يَخْرُجُ، وَقَدْ لاَ يَطْهُرُ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ ابْنُ سِيرِينَ.
وَالصَّحِيحُ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةُ الْمَرُّوذِيِّ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يُغَسَّل فِي قَمِيصِهِ. وَقَال
__________
(1) مواهب الجليل 2 / 210 ط دار الفكر (بيروت) وحاشية الجمل 2 / 143، وروضة الطالبين 2 / 99، ونهاية المحتاج 2 / 442، وغاية المنتهى 1 / 223 ط مطبعة دار السلام في دمشق.
(2) نهاية المحتاج 2 / 442، وغاية المنتهى 1 / 223، والمغني 2 / 463.(13/51)
أَحْمَدُ: يُعْجِبُنِي أَنْ يُغَسَّل الْمَيِّتُ وَعَلَيْهِ ثَوْبٌ رَقِيقٌ يَنْزِل الْمَاءُ فِيهِ، يُدْخِل يَدَهُ مِنْ تَحْتِهِ، قَال: وَكَانَ أَبُو قِلاَبَةَ إِذَا غَسَّل مَيِّتًا جَلَّلَهُ بِثَوْبٍ. وَاعْتَبَرَهُ الْقَاضِي سُنَّةٌ، فَقَال: السُّنَّةُ أَنْ يُغَسَّل الْمَيِّتُ فِي قَمِيصٍ، فَيُمِرُّ يَدَهُ عَلَى بَدَنِهِ، وَالْمَاءُ يُصَبُّ. وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غُسِّل فِي قَمِيصِهِ (1) .
وَأَمَّا سَتْرُ عَوْرَتِهِ فَلاَ خِلاَفَ فِيهِ، لأَِنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ وَاجِبٌ وَمَأْمُورٌ بِهِ، هَذَا إِذَا كَانَ الذَّكَرُ يُغَسِّل الذَّكَرَ، وَالأُْنْثَى تُغَسِّل الأُْنْثَى، وَأَمَّا إِذَا كَانَ الذَّكَرُ الْمَحْرَمُ يُغَسِّل الأُْنْثَى، وَعَكْسُهُ، فَيَسْتُرُ جَمِيعَ بَدَنِ الْمَيِّتِ (2) .
وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ وَضْعِهِ عِنْدَ تَغْسِيلِهِ، فَهِيَ أَنَّهُ يُوضَعُ عَلَى سَرِيرٍ أَوْ لَوْحٍ هُيِّئَ لَهُ، وَيَكُونُ مَوْضِعُ رَأْسِهِ أَعْلَى لِيَنْحَدِرَ الْمَاءُ، وَيَكُونُ الْوَضْعُ طُولاً، كَمَا فِي حَالَةِ الْمَرَضِ إِذَا أَرَادَ الصَّلاَةَ بِإِيمَاءٍ.
وَمِنَ الْحَنَفِيَّةِ مَنِ اخْتَارَ الْوَضْعَ كَمَا يُوضَعُ فِي الْقَبْرِ. وَالأَْصَحُّ أَنَّهُ يُوضَعُ كَمَا تَيَسَّرَ (3) .
__________
(1) ابن عابدين 1 / 574، والفتاوى الهندية 1 / 158، والاختيار 1 / 91، وبدائع الصنائع 1 / 300، ومواهب الجليل 2 / 223، والشرح الصغير 1 / 543، والقوانين الفقهية / 97، وحاشية الجمل2 / 145، وروضة الطالبين 2 / 99، والمغني 2 / 453، 454
(2) ابن عابدين 1 / 574، والشرح الصغير 1 / 546 ط دار المعارف، وروضة الطالبين 2 / 299، والمغني 2 / 454
(3) بدائع الصنائع 1 / 300 ط دار الكتاب العربي، والفتاوى الهندية 1 / 158 ط المطبعة الأميرية، والاختيار 1 / 91 ط دار المعرفة، ومواهب الجليل 2 / 223، وحاشية الجمل 2 / 145، وروضة الطالبين 2 / 99، والمغني 2 / 457.(13/52)
عَدَدُ الْغَسَلاَتِ وَكَيْفِيَّتُهَا:
6 - قَبْل أَنْ يَبْدَأَ الْغَاسِل بِتَغْسِيل الْمَيِّتِ يُزِيل عَنْهُ النَّجَاسَةَ، وَيَسْتَنْجِيهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ. وَأَمَّا إِزَالَةُ النَّجَاسَةِ وَإِنْقَاؤُهَا فَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ يَقُولاَنِ بِهِ بِلاَ إِجْلاَسٍ وَعَصْرٍ فِي أَوَّل الْغُسْل، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُنْدَبُ عَصْرُ الْبَطْنِ حَالَةَ الْغُسْل، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ يَكُونُ إِجْلاَسُ الْمَيِّتِ وَعَصْرُ بَطْنِهِ فِي أَوَّل الْغُسْل.
ثُمَّ يُوَضِّئُهُ وُضُوءَهُ لِلصَّلاَةِ، وَلاَ يُدْخِل الْمَاءَ فِي فِيهِ وَلاَ أَنْفِهِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِمَا أَذَى أَزَالَهُ بِخِرْقَةٍ يَبُلُّهَا وَيَجْعَلُهَا عَلَى أُصْبُعِهِ، فَيَمْسَحُ أَسْنَانَهُ وَأَنْفَهُ حَتَّى يُنَظِّفَهُمَا. وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالنَّخَعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ، وَقَال شَمْسُ الأَْئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ: وَعَلَيْهِ عَمَل النَّاسِ الْيَوْمَ.
وَأَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فَلاَ يُغْنِي ذَلِكَ عَنِ الْمَضْمَضَةِ وَالاِسْتِنْشَاقِ. وَيُمِيل رَأْسَ الْمَيِّتِ حَتَّى لاَ يَبْلُغَ الْمَاءُ بَطْنَهُ. وَكَذَا لاَ يُؤَخِّرُ رِجْلَيْهِ عِنْدَ التَّوْضِئَةِ. (1)
__________
(1) ابن عابدين 1 / 574، والاختيار لتعليل المختار 1 / 91، والفتاوى الهندية 1 / 158، والشرح الصغير 1 / 548، وحاشية الجمل2 / 146، ومختصر المزني / 35 ط دار المعرفة، والمغني 2 / 461، والمقنع 1 / 269 ط المطبعة السلفية(13/52)
وَبَعْدَ الْوُضُوءِ يَجْعَلُهُ عَلَى شِقِّهِ الأَْيْسَرِ فَيَغْسِل الأَْيْمَنَ، ثُمَّ يُدِيرُهُ عَلَى الأَْيْمَنِ فَيَغْسِل الأَْيْسَرَ، وَذَلِكَ بَعْدَ تَثْلِيثِ غَسْل رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ. (1)
وَالْوَاجِبُ فِي غَسْل الْمَيِّتِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُغَسَّل ثَلاَثًا كُل غَسْلَةٍ بِالْمَاءِ وَالسِّدْرِ، أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ، وَيَجْعَل فِي الأَْخِيرَةِ كَافُورًا، أَوْ غَيْرَهُ مِنَ الطِّيبِ إِنْ أَمْكَنَ (2) .
وَإِنْ رَأَى الْغَاسِل أَنْ يَزِيدَ عَلَى ثَلاَثٍ - لِكَوْنِهِ لَمْ يُنْقِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ - غَسَلَهُ خَمْسًا أَوْ سَبْعًا، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ لاَ يَقْطَعَ إِلاَّ عَلَى وِتْرٍ. وَقَال أَحْمَدُ: لاَ يَزِيدُ عَلَى سَبْعٍ. (3)
وَالأَْصْل فِي هَذَا قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِغَاسِلاَتِ ابْنَتِهِ زَيْنَبَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا، وَمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مِنْهَا، وَاغْسِلْنَهَا ثَلاَثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ سَبْعًا، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إِنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ، بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَاجْعَلْنَ فِي الآْخِرَةِ كَافُورًا أَوْ شَيْئًا مِنْ كَافُورٍ (4) .
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 301، والفتاوى الهندية 1 / 158، والشرح الصغير 1 / 548، ومواهب الجليل 2 / 223، وروضة الطالبين 2 / 102، والمغني 2 / 458
(2) ابن عابدين 1 / 575، وبدائع الصنائع 1 / 301، ومواهب الجليل 2 / 208، 223، والشرح الصغير 1 / 548، وروضة الطالبين 2 / 101، والمغني 2 / 461
(3) ابن عابدين 1 / 575، والشرح الصغير 1 / 549، وروضة الطالبين 2 / 102، وحاشية الجمل 2 / 147، والمغني 2 / 461
(4) حديث: " ابدأن بميامنها. . . " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 130 ط السلفية) ، ومسلم (2 / 647، 648 ط الحلبي) من حديث أم عطية رضي الله عنها.(13/53)
وَيَرَى ابْنُ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ لاَ بَأْسَ عِنْدَ الْوَبَاءِ وَمَا يَشْتَدُّ عَلَى النَّاسِ مِنْ غَسْل الْمَوْتَى لِكَثْرَتِهِمْ، أَنْ يَجْتَزِئُوا بِغَسْلَةٍ وَاحِدَةٍ بِغَيْرِ وُضُوءٍ، يُصَبُّ الْمَاءُ عَلَيْهِمْ صَبًّا. (1)
وَإِنْ خَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ وَهُوَ عَلَى مُغْتَسَلِهِ، فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ - مَا عَدَا أَشْهَبَ - وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَاخْتَارَهُ أَبُو الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ لاَ يُعَادُ غُسْلُهُ، وَإِنَّمَا يُغْسَل ذَلِكَ الْمَوْضِعُ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الثَّوْرِيُّ أَيْضًا (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ قَوْلٌ آخَرُ لِلشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ إِنْ خَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ وَهُوَ عَلَى مُغْتَسَلِهِ غَسَّلَهُ إِلَى خَمْسٍ، فَإِنْ زَادَ فَإِلَى سَبْعٍ. وَإِلَيْهِ ذَهَبَ ابْنُ سِيرِينَ وَإِسْحَاقُ (3) .
وَلِلشَّافِعِيَّةِ قَوْلٌ ثَالِثٌ، وَهُوَ أَنَّهُ يَجِبُ إِعَادَةُ وُضُوئِهِ (4) . هَذَا إِذَا خَرَجَتِ النَّجَاسَةُ قَبْل الإِْدْرَاجِ فِي الْكَفَنِ، وَأَمَّا بَعْدَهُ فَجَزَمُوا بِالاِكْتِفَاءِ بِغَسْل النَّجَاسَةِ فَقَطْ (5) .
7 - يُسْتَحَبُّ أَنْ يُحْمَل الْمَيِّتُ إِلَى مَكَانٍ خَالٍ
__________
(1) مواهب الجليل 2 / 234.
(2) ابن عابدين 1 / 575، والاختيار 1 / 92، والفتاوى الهندية 1 / 158، ومواهب الجليل 2 / 223، والشرح الصغير 1 / 547 ط دار المعارف، وروضة الطالبين 2 / 102، والمغني 2 / 462
(3) روضة الطالبين 2 / 102، والمغني 2 / 462
(4) روضة الطالبين 2 / 103
(5) ابن عابدين 1 / 602، ومواهب الجليل 2 / 223، وروضة الطالبين 2 / 99، والمغني 2 / 455(13/53)
مَسْتُورٍ لاَ يَدْخُلُهُ إِلاَّ الْغَاسِل، وَمَنْ لاَ بُدَّ مِنْ مَعُونَتِهِ عِنْدَ الْغُسْل، وَذَكَرَ الرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَدْخُلَهُ إِنْ شَاءَ، وَإِنْ لَمْ يُغَسِّل وَلَمْ يُعِنْ، وَكَانَ ابْنُ سِيرِينَ يَسْتَحِبُّ أَنْ يَكُونَ الْبَيْتُ الَّذِي يُغَسَّل فِيهِ الْمَيِّتُ مُظْلِمًا. قَال ابْنُ قُدَامَةَ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ جُعِل بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ سِتْرًا. قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: كَانَ النَّخَعِيُّ يُحِبُّ أَنْ يُغَسَّل الْمَيِّتُ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّمَاءِ سُتْرَةٌ، وَهُوَ مَا أَوْصَى بِهِ الضَّحَّاكُ أَخَاهُ سَالِمًا، كَمَا ذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا قَالَتْ: أَتَانَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ نُغَسِّل ابْنَتَهُ، فَجَعَلْنَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ السَّقْفِ سِتْرًا (1) .
صِفَةُ مَاءِ الْغُسْل:
8 - يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ غُسْل الْمَيِّتِ فِي الْمَاءِ: الطَّهُورِيَّةُ كَسَائِرِ الطَّهَارَاتِ، وَالإِْبَاحَةُ كَبَاقِي الأَْغْسَال (2) ، وَاسْتَحَبَّ الْحَنَفِيَّةُ أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ سَاخِنًا لِزِيَادَةِ الإِْنْقَاءِ، وَيُغْلَى الْمَاءُ بِالسِّدْرِ أَوْ غَيْرِهِ؛ لأَِنَّهُ أَبْلَغُ فِي النَّظَافَةِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ. (3)
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُخَيَّرُ الْغَاسِل فِي صِفَةِ الْمَاءِ إِنْ شَاءَ بَارِدًا وَإِنْ شَاءَ سَاخِنًا. (4)
__________
(1) حديث: " أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . . " ورد في المغني لابن قدامة (2 / 455) ولم نجده فيما لدينا من كتب السنة
(2) نيل المآرب 1 / 220 ط مكتبة الفلاح
(3) ابن عابدين 1 / 574، والفتاوى الهندية 1 / 158، والاختيار 1 / 91، 92.
(4) مواهب الجليل 2 / 234.(13/54)
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَدَمَ غَسْل الْمَيِّتِ بِالْمَاءِ الْحَارِّ فِي الْمَرَّةِ الأُْولَى، إِلاَّ لِشِدَّةِ الْبَرْدِ أَوْ لِوَسَخٍ أَوْ غَيْرِهِ. وَاسْتَحْسَنَ الشَّافِعِيَّةُ أَنْ يَتَّخِذَ الْغَاسِل إِنَاءَيْنِ، وَالْحَنَابِلَةُ أَنْ يَتَّخِذَ ثَلاَثَةَ أَوَانٍ لِلْمَاءِ. (1)
مَا يُصْنَعُ بِالْمَيِّتِ قَبْل التَّغْسِيل وَبَعْدَهُ:
9 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ اسْتِعْمَال الْبَخُورِ عِنْدَ تَغْسِيل الْمَيِّتِ مُسْتَحَبٌّ، لِئَلاَّ تُشَمَّ مِنْهُ رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ. وَيَزْدَادُ فِي الْبَخُورِ عِنْدَ عَصْرِ بَطْنِهِ. (2)
وَأَمَّا تَسْرِيحُ الشَّعْرِ، وَتَقْلِيمُ الأَْظْفَارِ، وَحَلْقُ الْعَانَةِ، وَنَتْفُ الإِْبِطِ، فَلاَ يُفْعَل شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ أَيْضًا قَوْل الْحَنَابِلَةِ فِي الْعَانَةِ، وَرِوَايَةً عِنْدَهُمْ فِي تَقْلِيمِ الأَْظْفَارِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْقَدِيمِ أَيْضًا إِلاَّ فِي تَسْرِيحِ الشَّعْرِ وَاللِّحْيَةِ، لأَِنَّ ذَلِكَ يُفْعَل لِحَقِّ الزِّينَةِ، وَالْمَيِّتُ لَيْسَ بِمَحَل الزِّينَةِ. فَلاَ يُزَال عَنْهُ شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرْنَا، وَأَمَّا إِنْ كَانَ ظُفْرُهُ مُنْكَسِرًا فَلاَ بَأْسَ بِأَخْذِهِ. (3)
__________
(1) روضة الطالبين 2 / 99، ومختصر المزني / 35 ط دار المعرفة، والمغني 2 / 459، 460.
(2) الاختيار لتعليل المختار 1 / 91، ومواهب الجليل 2 / 222، 238، وروضة الطالبين 2 / 100، والمغني 2 / 457.
(3) بدائع الصنائع 1 / 301، والفتاوى الهندية 1 / 158، والمدونة 1 / 173، ومواهب الجليل 2 / 238، وروضة الطالبين 2 / 107، والمغني 2 / 542.(13/54)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْجَدِيدِ إِلَى أَنَّهُ يُفْعَل كُل ذَلِكَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي قَصِّ الشَّارِبِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَهُمْ فِي تَقْلِيمِ الظُّفْرِ إِنْ كَانَ فَاحِشًا، وَرِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ فِي حَلْقِ الْعَانَةِ. وَدَلِيل الْجَوَازِ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اصْنَعُوا بِمَوْتَاكُمْ كَمَا تَصْنَعُونَ بِعَرَائِسِكُمْ (1) . وَلأَِنَّ تَرْكَ تَقْلِيمِ الأَْظْفَارِ وَنَحْوِهَا يُقَبِّحُ مَنْظَرَ الْمَيِّتِ، فَشُرِعَتْ إِزَالَتُهُ.
وَأَمَّا الْخِتَانُ فَلاَ يُشْرَعُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ؛ لأَِنَّهُ إِبَانَةُ جُزْءٍ مِنْ أَعْضَائِهِ، كَمَا أَنَّهُ لاَ يُحْلَقُ رَأْسُ الْمَيِّتِ. وَحَكَى أَحْمَدُ عَنْ بَعْضِ النَّاسِ أَنَّهُ يُخْتَنُ. (2)
وَإِذَا فَرَغَ الْغَاسِل مِنْ تَغْسِيل الْمَيِّتِ نَشَّفَهُ بِثَوْبٍ، لِئَلاَّ تَبْتَل أَكْفَانُهُ. (3) وَفِي حَدِيثِ أُمِّ سُلَيْمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: فَإِذَا فَرَغَتْ مِنْهَا فَأَلْقَى عَلَيْهَا ثَوْبًا نَظِيفًا (4) . وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي حَدِيثِ
__________
(1) حديث: " اصنعوا بموتاكم كما تصنعون بعرائسكم " نقل ابن حجر عن ابن الصلاح أنه قال: بحثت عنه فلم أجده ثابتا (التلخيص 2 / 106 ط شركة الطباعة الفنية)
(2) روضة الطالبين 2 / 107، والمغني 2 / 541، 542
(3) ابن عابدين 1 / 575، والاختيار 1 / 92، ومواهب الجليل 2 / 223، والشرح الصغير 1 / 549، وروضة الطالبين 2 / 102، والمغني 2 / 464
(4) حديث أم سليم: " فإذا فرغت منها فألقي عليها ثوبا نظيفا. . . " أورده الهيثمي في المجمع (3 / 22 ط القدسي) وقال: رواه الطبراني في الكبير بإسنادين، في أحدهما ليث بن أبي سليم وهو مدلس، ولكنه ثقة. وفي الآخر جنيد قد وثق، وفيه بعض كلام(13/55)
ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي غُسْل النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَال: فَجَفَّفُوهُ بِثَوْبٍ " (1) .
الْحَالاَتُ الَّتِي يُيَمَّمُ فِيهَا الْمَيِّتُ:
10 - يُيَمَّمُ الْمَيِّتُ فِي الْحَالاَتِ الآْتِيَةِ:
أ - إِذَا مَاتَ رَجُلٌ بَيْنَ نِسْوَةٍ أَجَانِبَ، وَلَمْ تُوجَدِ امْرَأَةٌ مَحْرَمَةٌ، أَوْ مَاتَتِ امْرَأَةٌ بَيْنَ رِجَالٍ أَجَانِبَ، وَلَمْ يُوجَدْ مَحْرَمٌ.
وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ - فِي الأَْصَحِّ - وَالْحَنَابِلَةِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَالنَّخَعِيُّ، وَحَمَّادٌ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَأَضَافَ الْحَنَفِيَّةُ قَوْلَهُمْ: إِذَا كَانَ بَيْنَ النِّسْوَةِ امْرَأَتُهُ غَسَّلَتْهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ وَكَانَتْ مَعَهُنَّ صَبِيَّةٌ صَغِيرَةٌ، لَمْ تَبْلُغْ حَدَّ الشَّهْوَةِ، وَأَطَاقَتِ الْغُسْل، عَلَّمْنَهَا الْغُسْل، وَيُخَلِّينَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا حَتَّى تُغَسِّلَهُ، وَتُكَفِّنَهُ؛ لأَِنَّ حُكْمَ الْعَوْرَةِ فِي حَقِّهَا غَيْرُ ثَابِتٍ.
وَكَذَلِكَ إِذَا مَاتَتِ امْرَأَةٌ بَيْنَ رِجَالٍ أَجَانِبَ، وَكَانَ مَعَهُمْ صَبِيٌّ لَمْ يَبْلُغْ حَدَّ الشَّهْوَةِ، وَأَطَاقَ الْغُسْل، عَلَّمُوهُ الْغُسْل فَيُغَسِّلُهَا. (2)
وَالْوَجْهُ الثَّانِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ
__________
(1) حديث: " فجففوه بثوب. . . " أخرجه أحمد (1 / 260 ط الميمنية) من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنه، وفي إسناده ضعف كما في التعليق على مسند أحمد (4 / 104 ط المعارف)
(2) بدائع الصنائع 1 / 2305، والفتاوى الهندية 1 / 160، والشرح الصغير 1 / 545، 546، والمدونة 1 / 186 ط دار صادر، وروضة الطالبين 2 / 105، والمغني 2 / 526(13/55)
أَبُو الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْل الْحَسَنِ، وَإِسْحَاقَ، وَالْقَفَّال، وَرَجَّحَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ: أَنَّ الْمَيِّتَ لاَ يُيَمَّمُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، بَل يُغَسَّل وَيُصَبُّ عَلَيْهِ الْمَاءُ مِنْ فَوْقِ الْقَمِيصِ، وَلاَ يُمَسُّ.
وَحَكَى صَاحِبُ الْبَيَانِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَجْهًا ثَالِثًا أَنَّهُ يُدْفَنُ وَلاَ يُيَمَّمُ وَلاَ يُغَسَّل. قَال النَّوَوِيُّ: وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا. (1)
وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ التَّيَمُّمِ فَفِيهَا خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى مُصْطَلَحِ (تَيَمُّمٌ) .
ب - إِذَا مَاتَ خُنْثَى مُشْكِلٌ وَهُوَ كَبِيرٌ، عَلَى التَّفْصِيل الَّذِي سَيَأْتِي (2) فِي ف 19
ج - إِذَا تَعَذَّرَ غُسْلُهُ لِفَقْدِ مَاءٍ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا كَتَقَطُّعِ الْجَسَدِ بِالْمَاءِ، أَوْ تَسَلُّخِهِ مِنْ صَبِّهِ عَلَيْهِ (3)
مَنْ يَجُوزُ لَهُمْ تَغْسِيل الْمَيِّتِ:
أ - الأَْحَقُّ بِتَغْسِيل الْمَيِّتِ:
11 - الأَْصْل أَنَّهُ لاَ يُغَسِّل الرِّجَال إِلاَّ الرِّجَال، وَلاَ النِّسَاءَ إِلاَّ النِّسَاءُ؛ لأَِنَّ نَظَرَ النَّوْعِ إِلَى النَّوْعِ نَفْسِهِ أَهْوَنُ، وَحُرْمَةُ الْمَسِّ ثَابِتَةٌ حَالَةَ الْحَيَاةِ،
__________
(1) روضة الطالبين 2 / 105، والمغني 2 / 526
(2) الفتاوى الهندية 1 / 160، وابن عابدين 1 / 112، 113، وروضة الطالبين 2 / 105، والمغني 2 / 526.
(3) الفتاوى الهندية 1 / 160، ومواهب الجليل 2 / 210، 212، والشرح الصغير 1 / 545، وحاشية الجمل 2 / 148، وروضة الطالبين 2 / 108.(13/56)
فَكَذَا بَعْدَ الْمَوْتِ. وَاخْتَلَفُوا فِي التَّرْتِيبِ. فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْغَاسِل أَنْ يَكُونَ أَقْرَبَ النَّاسِ إِلَى الْمَيِّتِ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمِ الْغُسْل فَأَهْل الأَْمَانَةِ وَالْوَرَعِ. (1)
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ تَقْدِيمَ الْحَيِّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ فِي غُسْل صَاحِبِهِ عَلَى الْعَصَبَةِ، وَيُقْضَى لَهُ بِذَلِكَ عِنْدَ التَّنَازُعِ، ثُمَّ الأَْقْرَبُ فَالأَْقْرَبُ مِنْ عَصَبَتِهِ، ثُمَّ امْرَأَةٌ مَحْرَمَةٌ كَأُمٍّ وَبِنْتٍ. وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ امْرَأَةً، وَلَمْ يَكُنْ لَهَا زَوْجٌ، أَوْ كَانَ وَأَسْقَطَ حَقَّهُ، يُغَسِّلُهَا أَقْرَبُ امْرَأَةٍ إِلَيْهَا فَالأَْقْرَبُ، ثُمَّ أَجْنَبِيَّةٌ، ثُمَّ رَجُلٌ مَحْرَمٌ عَلَى التَّرْتِيبِ السَّابِقِ. وَيَسْتُرُ وُجُوبًا جَمِيعَ جَسَدِهَا، وَلاَ يُبَاشِرُ جَسَدَهَا إِلاَّ بِخِرْقَةٍ كَثِيفَةٍ يَلُفُّهَا عَلَى يَدِهِ. (2)
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِنْ كَانَ الْمَيِّتُ رَجُلاً غَسَّلَهُ أَقَارِبُهُ.
وَهَل تُقَدَّمُ الزَّوْجَةُ عَلَيْهِمْ، فِيهِ ثَلاَثَةُ أَوْجُهٍ:
الْوَجْهُ الأَْوَّل، وَهُوَ الأَْصَحُّ: أَنَّهُ يُقَدَّمُ مِنَ الرِّجَال الْعَصَبَاتُ، ثُمَّ الأَْجَانِبُ، ثُمَّ الزَّوْجَةُ، ثُمَّ النِّسَاءُ الْمَحَارِمُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُقَدَّمُ الرِّجَال الأَْقَارِبُ، ثُمَّ الزَّوْجَةُ، ثُمَّ الرِّجَال الأَْجَانِبُ، ثُمَّ النِّسَاءُ الْمَحَارِمُ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: تُقَدَّمُ الزَّوْجَةُ عَلَى الْجَمِيعِ.
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 160.
(2) الشرح الصغير 1 / 544، 545، 546 ط دار المعارف(13/56)
وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ امْرَأَةً قُدِّمَ نِسَاءُ الْقَرَابَةِ، ثُمَّ النِّسَاءُ الأَْجَانِبُ، ثُمَّ الزَّوْجُ، ثُمَّ الرِّجَال الأَْقَارِبُ. وَذَوُو الْمَحَارِمِ مِنَ النِّسَاءِ الأَْقَارِبِ أَحَقُّ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَهَل يُقَدَّمُ الزَّوْجُ عَلَى نِسَاءِ الْقَرَابَةِ؟ وَجْهَانِ: الْوَجْهُ الأَْوَّل: وَهُوَ الأَْصَحُّ الْمَنْصُوصُ يُقَدَّمْنَ عَلَيْهِ لأَِنَّهُنَّ أَلْيَقُ. وَالثَّانِي: يُقَدَّمُ الزَّوْجُ لأَِنَّهُ كَانَ يَنْظُرُ إِلَى مَا لاَ يَنْظُرْنَ، وَظَاهِرُ كَلاَمِ الْغَزَالِيِّ تَجْوِيزُ الْغُسْل لِلرِّجَال الْمَحَارِمِ مَعَ وُجُودِ النِّسَاءِ، وَلَكِنَّ عَامَّةَ الشَّافِعِيَّةِ يَقُولُونَ: الْمَحَارِمُ بَعْدَ النِّسَاءِ أَوْلَى. (1)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الأَْوْلَى بِالتَّغْسِيل وَصِيُّ الْمَيِّتِ إِذَا كَانَ عَدْلاً، وَيَتَنَاوَل عُمُومُهُ مَا لَوْ وَصَّى لاِمْرَأَتِهِ، وَهُوَ مُقْتَضَى اسْتِدْلاَلِهِمْ بِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَصَّى لاِمْرَأَتِهِ فَغَسَّلَتْهُ. وَكَذَا لَوْ أَوْصَتْ بِأَنْ يُغَسِّلَهَا زَوْجُهَا (2) .
وَبَعْدَ وَصِيِّهِ أَبُوهُ وَإِنْ عَلاَ، ثُمَّ ابْنُهُ وَإِنْ نَزَل، ثُمَّ الأَْقْرَبُ فَالأَْقْرَبُ كَالْمِيرَاثِ، ثُمَّ الأَْجَانِبُ، فَيُقَدَّمُ صَدِيقُ الْمَيِّتِ، وَبَعْدَ وَصِيِّهَا أُمُّهَا وَإِنْ عَلَتْ، فَبِنْتُهَا وَإِنْ نَزَلَتْ، فَبِنْتُ ابْنِهَا وَإِنْ نَزَل، ثُمَّ الْقُرْبَى فَالْقُرْبَى. (3)
ب - تَغْسِيل الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا:
12 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ لِلْمَرْأَةِ تَغْسِيل
__________
(1) روضة الطالبين 2 / 103، 104، 106.
(2) نيل المآرب 1 / 220.
(3) غاية المنتهى 1 / 230، 231 ط مطبعة دار السلام بدمشق(13/57)
زَوْجِهَا، إِذَا لَمْ يَحْدُثْ قَبْل مَوْتِهِ مَا يُوجِبُ الْبَيْنُونَةَ. فَإِنْ ثَبَتَتِ الْبَيْنُونَةُ بِأَنْ طَلَّقَهَا بَائِنًا، أَوْ ثَلاَثًا ثُمَّ مَاتَ، لاَ تُغَسِّلُهُ؛ لاِرْتِفَاعِ مِلْكِ الْبُضْعِ بِالإِْبَانَةِ.
وَأَضَافَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ إِنْ طَلَّقَهَا رَجْعِيًّا - وَمَاتَ أَحَدُهُمَا فِي الْعِدَّةِ - لَمْ يَكُنْ لِلآْخَرِ غُسْلُهُ عِنْدَهُمْ لِتَحْرِيمِ النَّظَرِ فِي الْحَيَاةِ.
وَكَذَا لاَ تُغَسِّلُهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ إِذَا حَدَثَ مَا يُوجِبُ الْبَيْنُونَةَ بَعْدَ الْمَوْتِ، كَمَا لَوِ ارْتَدَّتْ بَعْدَهُ ثُمَّ أَسْلَمَتْ، لِزَوَال النِّكَاحِ؛ لأَِنَّ النِّكَاحَ كَانَ قَائِمًا بَعْدَ الْمَوْتِ فَارْتَفَعَ بِالرِّدَّةِ، وَالْمُعْتَبَرُ بَقَاءُ الزَّوْجِيَّةِ حَالَةَ الْغُسْل لاَ حَالَةَ الْمَوْتِ. وَيَرَى زُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ بَقَاءُ الزَّوْجِيَّةِ حَالَةَ الْمَوْتِ، وَعَلَى هَذَا فَيَجُوزُ لَهَا تَغْسِيلُهُ عِنْدَهُ، وَإِنْ حَدَثَ مَا يُوجِبُ الْبَيْنُونَةَ بَعْدَ مَوْتِهِ. (1)
وَالأَْصْل فِي جَوَازِ تَغْسِيل الزَّوْجَةِ لِزَوْجِهَا مَا رُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا قَالَتْ: لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا غَسَّلَهُ إِلاَّ نِسَاؤُهُ (2) .
__________
(1) ابن عابدين 1 / 576، والفتاوى الهندية 1 / 160، والبدائع 1 / 305 ط دار الكتاب العربي، وشرح الزرقاني 2 / 87 ط دار الفكر، وروضة الطالبين 2 / 104، وحاشية الجمل 2 / 150، والمغني 2 / 524
(2) قول عائشة " لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسله إلا نساؤه " أخرجه أبو داود (3 / 502 تحقيق عزت عبيد دعاس) والحاكم (3 / 60 ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه هو وابن حبان (ص 530 موارد الظمآن ط السلفية) .(13/57)
ج - تَغْسِيل الزَّوْجِ لِزَوْجَتِهِ:
13 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلزَّوْجِ غُسْلُهَا، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الثَّوْرِيُّ؛ لأَِنَّ الْمَوْتَ فُرْقَةٌ تُبِيحُ أُخْتَهَا وَأَرْبَعًا سِوَاهَا، فَحَرَّمَتِ الْفُرْقَةُ النَّظَرَ وَاللَّمْسَ كَالطَّلاَقِ (1) .
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ لِلزَّوْجِ غُسْل امْرَأَتِهِ، وَهُوَ قَوْل عَلْقَمَةَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ وَقَتَادَةَ وَحَمَّادٍ وَإِسْحَاقَ. لأَِنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ غَسَّل فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَاشْتَهَرَ ذَلِكَ فِي الصَّحَابَةِ فَلَمْ يُنْكِرُوهُ، فَكَانَ إِجْمَاعًا.
وَلأَِنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَال لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا: مَا ضَرَّكِ لَوْ مِتِّ قَبْلِي فَقُمْتُ عَلَيْكِ، فَغَسَّلْتُكِ وَكَفَّنْتُكِ، وَصَلَّيْتُ عَلَيْكِ، وَدَفَنْتُكِ (2) إِلاَّ أَنَّهُ يُكْرَهُ مَعَ وُجُودِ مَنْ يُغَسِّلُهَا، لِمَا فِيهِ مِنَ الْخِلاَفِ وَالشُّبْهَةِ. (3)
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَقَوْل الْخِرَقِيِّ: وَإِنْ دَعَتِ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 575، وبدائع الصنائع 1 / 305، والفتاوى 1 / 160، والمغني 2 / 524
(2) حديث: " ما ضرك لو مت قبلي. . . " أخرجه ابن ماجه (1 / 470 ط الحلبي) وقال البوصيري: إسناد رجاله ثقات
(3) الحطاب 2 / 210، والمدونة 1 / 185، والقوانين الفقهية / 97، وحاشية الجمل 2 / 159، وروضة الطالبين 2 / 103، 104، والشرح الصغير 1 / 544، والمغني 2 / 523، 524(13/58)
الضَّرُورَةُ إِلَى أَنْ يُغَسِّل الرَّجُل زَوْجَتَهُ فَلاَ بَأْسَ.
يَعْنِي بِهِ أَنَّهُ يُكْرَهُ لَهُ غُسْلُهَا مَعَ وُجُودِ مَنْ يُغَسِّلُهَا سِوَاهُ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْخِلاَفِ وَالشُّبْهَةِ. (1)
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ أَطْلَقُوا الْجَوَازَ (2) . وَلاَ يَتَأَتَّى ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ لِلزَّوْجِ غُسْلُهَا عِنْدَهُمْ. (3)
د - تَغْسِيل الْمُسْلِمِ لِلْكَافِرِ وَعَكْسُهُ:
14 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ تَغْسِيل الْكَافِرِ؛ لأَِنَّ الْغُسْل وَجَبَ كَرَامَةً وَتَعْظِيمًا لِلْمَيِّتِ، وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْل الْكَرَامَةِ وَالتَّعْظِيمِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلٌ لأَِحْمَدَ إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ إِذَا كَانَ الْكَافِرُ الْمَيِّتُ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنَ الْمُسْلِمِ، فَيَجُوزُ عِنْدَهُمْ تَغْسِيلُهُ عِنْدَ الاِحْتِيَاجِ، بِأَنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَنْ يَقُومُ بِهِ مِنْ أَهْل دِينِهِ وَمِلَّتِهِ، فَإِنْ كَانَ، خَلَّى الْمُسْلِمُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ. (4)
وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا مَاتَ أَبُوهُ أَبُو طَالِبٍ، جَاءَ إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ عَمُّكَ
__________
(1) المغني 2 / 524
(2) التاج والإكليل 2 / 210، والمدونة الكبرى 1 / 185
(3) ابن عابدين 1 / 575، والبدائع 1 / 305، والفتاوى الهندية 1 / 160.
(4) ابن عابدين 1 / 597، وبدائع الصنائع 1 / 320، والمجموع 5 / 142 ط السلفية، والمغني 2 / 528.(13/58)
الضَّال قَدْ تُوُفِّيَ، فَقَال: اذْهَبْ وَاغْسِلْهُ وَكَفِّنْهُ وَوَارِهِ (1) .
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ جَوَازُ تَغْسِيل الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ لِلْكَافِرِينَ، وَأَقَارِبُهُ الْكُفَّارُ أَحَقُّ بِهِ مِنْ أَقَارِبِهِ الْمُسْلِمِينَ.
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ بِأَنَّ الْمُسْلِمَ لاَ يُغَسِّل الْكَافِرَ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ أَكَانَ قَرِيبًا مِنْهُ أَمْ لَمْ يَكُنْ. (2)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُسْلِمِ غُسْل زَوْجَتِهِ الْكَافِرَةِ لأَِنَّ الْمُسْلِمَ لاَ يُغَسِّل الْكَافِرَ وَلاَ يَتَوَلَّى دَفْنَهُ، وَلأَِنَّهُ لاَ مِيرَاثَ بَيْنَهُمَا وَلاَ مُوَالاَةَ، وَقَدِ انْقَطَعَتِ الزَّوْجِيَّةُ بِالْمَوْتِ.
وَكَذَلِكَ لاَ تُغَسِّلُهُ هِيَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِلاَّ إِذَا كَانَتْ بِحَضْرَةِ الْمُسْلِمِينَ. وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ مُطْلَقًا. لأَِنَّ النِّيَّةَ وَاجِبَةٌ فِي الْغُسْل، وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا. (3)
وَعُرِفَ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ لِلزَّوْجِ غُسْل زَوْجَتِهِ الْمُسْلِمَةِ وَالذِّمِّيَّةِ، وَلَهَا غُسْلُهُ. (4)
__________
(1) حديث: " اذهب واغسله وادفنه وواره. . . " يدل عليه ما أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (3 / 348 ط السلفية) عن الشعبي قال: لما مات أبو طالب جاء علي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن عمك الشيخ الكافر قد مات، فما ترى فيه قال: " أرى أن تغسله " وأمره بالغسل
(2) المدونة 1 / 187، ونيل المآرب1 / 223، والتاج والإكليل 2 / 211، والحطاب 2 / 211، والمغني 2 / 525.
(3) التاج والإكليل 2 / 211، والمغني 5 / 525
(4) روضة الطالبين 2 / 103، وحاشية الجمل 2 / 149.(13/59)
وَأَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: فَالْمَرْأَةُ لاَ تُمْنَعُ مِنْ تَغْسِيل زَوْجِهَا بِشَرْطِ بَقَاءِ الزَّوْجِيَّةِ وَلَوْ كِتَابِيَّةً. وَأَمَّا عَكْسُ ذَلِكَ فَلاَ يَتَأَتَّى عِنْدَهُمْ فِي الأَْصَحِّ، وَعِنْدَ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ، لأَِنَّهُ لَيْسَ لِلزَّوْجِ غُسْلُهَا مُطْلَقًا كَمَا سَبَقَ (ف 13) (1) .
تَغْسِيل الْكَافِرِ لِلْمُسْلِمِ:
15 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَخْرَجِ - مُقَابِل الصَّحِيحِ الْمَنْصُوصِ - وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ تَغْسِيل الْكَافِرِ لِلْمُسْلِمِ؛ لأَِنَّ التَّغْسِيل عِبَادَةٌ، وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا، فَلاَ يَصِحُّ تَغْسِيلُهُ لِلْمُسْلِمِ كَالْمَجْنُونِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ النِّيَّةَ وَاجِبَةٌ فِي الْغُسْل وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا. (2) وَفِي الصَّحِيحِ الْمَنْصُوصِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْكَافِرَ لَوْ غَسَّل مُسْلِمًا فَإِنَّهُ يَكْفِي. (3)
هـ - تَغْسِيل الرِّجَال وَالنِّسَاءِ لِلأَْطْفَال الصِّغَارِ وَعَكْسُهُ:
(1) تَغْسِيل الرِّجَال وَالنِّسَاءِ لِلأَْطْفَال الصِّغَارِ:
16 - قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُل مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 575، والبدائع 1 / 305، والفتاوى الهندية 1 / 160
(2) ابن عابدين 1 / 597، وبدائع الصنائع 2 / 303، ومواهب الجليل 2 / 254، والمجموع 5 / 145، وروضة الطالبين 2 / 99، ونيل المآرب 1 / 220، والمغني 2 / 523
(3) روضة الطالبين 2 / 99، ونهاية المحتاج 2 / 442 ط مصطفى البابي الحلبي.(13/59)
مِنْ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ تُغَسِّل الصَّبِيَّ الصَّغِيرَ. (1) وَقَيَّدَهُ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِاَلَّذِي لاَ يُشْتَهَى، وَالْمَالِكِيَّةُ بِثَمَانِي سِنِينَ فَمَا دُونَهَا، وَالْحَنَابِلَةُ بِمَا دُونَ سَبْعِ سِنِينَ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي تَحْدِيدِ السِّنِّ عَلَى أَقْوَالٍ كَثِيرَةٍ فَصَّلَهَا الْفُقَهَاءُ فِي (كِتَابِ الْجَنَائِزِ) . (2)
أَمَّا تَغْسِيل الرِّجَال لِلصَّغِيرَةِ فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ بَأْسَ لِلرَّجُل أَنْ يُغَسِّل الصَّبِيَّةَ الَّتِي لاَ تُشْتَهَى إِذَا مَاتَتْ؛ لأَِنَّ حُكْمَ الْعَوْرَةِ غَيْرُ ثَابِتٍ فِي حَقِّهَا، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو الْخَطَّابِ (3) .
وَيَرَى جُمْهُورُ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ يَجُوزُ غُسْل صَبِيَّةٍ رَضِيعَةٍ وَمَا قَارَبَهَا كَزِيَادَةِ شَهْرٍ عَلَى مُدَّةِ الرَّضَاعِ، لاَ بِنْتِ ثَلاَثِ سِنِينَ. وَيَرَى ابْنُ الْقَاسِمِ مِنْهُمْ أَنَّهُ لاَ يُغَسِّل الرَّجُل الصَّبِيَّةَ وَإِنْ صَغُرَتْ جِدًّا.
وَقَال عِيسَى: إِذَا صَغُرَتْ جِدًّا فَلاَ بَأْسَ. (4) وَصَرَّحَ أَحْمَدُ أَنَّ الرَّجُل لاَ يُغَسِّل الصَّبِيَّةَ إِلاَّ ابْنَتَهُ الصَّغِيرَةَ، فَإِنَّهُ يُرْوَى عَنِ ابْنِ قِلاَبَةَ أَنَّهُ غَسَّل بِنْتًا لَهُ صَغِيرَةً، وَهُوَ قَوْل الْحَسَنِ أَيْضًا.
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 306، والفتاوى 1 / 160، ومواهب الجليل 2 / 234، والمدونة 1 / 186، وحاشية الجمل 2 / 151، والمغني 1 / 526
(2) مواهب الجليل 2 / 234، والمغني 1 / 526
(3) بدائع الصنائع 1 / 306، والفتاوى الهندية 1 / 160، وحاشية الجمل 1 / 160، والمغني 2 / 527.
(4) الشرح الصغير 1 / 565، ومواهب الجليل 2 / 234.(13/60)
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: الصَّحِيحُ مَا عَلَيْهِ السَّلَفُ مِنْ أَنَّ الرَّجُل لاَ يُغَسِّل الْجَارِيَةَ، وَالتَّفْرِقَةُ بَيْنَ عَوْرَةِ الْغُلاَمِ وَالْجَارِيَةِ؛ لأَِنَّ عَوْرَةَ الْجَارِيَةِ أَفْحَشُ، وَلأَِنَّ الْعَادَةَ مُعَانَاةُ الْمَرْأَةِ لِلْغُلاَمِ الصَّغِيرِ، وَمُبَاشَرَةُ عَوْرَتِهِ فِي حَال تَرْبِيَتِهِ، وَلَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِمُبَاشَرَةِ الرَّجُل عَوْرَةَ الْجَارِيَةِ فِي الْحَيَاةِ، فَكَذَلِكَ حَال الْمَوْتِ (1) .
(2) تَغْسِيل الصَّبِيِّ لِلْمَيِّتِ:
17 - صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ يَجُوزُ لِلصَّبِيِّ إِذَا كَانَ عَاقِلاً أَنْ يُغَسِّل الْمَيِّتَ؛ لأَِنَّهُ تَصِحُّ طَهَارَتُهُ فَصَحَّ أَنْ يُطَهِّرَ غَيْرَهُ، وَهُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ أَقْوَال الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ. (2)
و تَغْسِيل الْمُحْرِمِ الْحَلاَل وَعَكْسُهُ، وَكَيْفِيَّةُ تَغْسِيل الْمُحْرِمِ:
18 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ تَغْسِيل الْمُحْرِمِ الْحَلاَل وَعَكْسُهُ؛ لأَِنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَصِحُّ طَهَارَتُهُ وَغُسْلُهُ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يُغَسِّل غَيْرَهُ.
وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ تَغْسِيل الْمُحْرِمِ فَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهَا:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ إِحْرَامَهُ
__________
(1) المغني 2 / 527، ومواهب الجليل 2 / 234.
(2) ابن عابدين 1 / 577، ومواهب الجليل 2 / 223، وحاشية الجمل 2 / 148، والمغني 2 / 527، وغاية المنتهى 1 / 230(13/60)
يَبْطُل بِالْمَوْتِ فَيُصْنَعُ بِهِ كَمَا يُصْنَعُ بِالْحَلاَل.
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: أَنَّ حُكْمَ إِحْرَامِهِ لاَ يَبْطُل بِمَوْتِهِ، فَيُصْنَعُ فِي تَغْسِيلِهِ مَا يُصْنَعُ بِالْمُحْرِمِ. (1)
وَفِي الْمَوْضُوعِ تَفْصِيلٌ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى مُصْطَلَحِ (إِحْرَامٌ) .
ز - تَغْسِيل الْخُنْثَى الْمُشْكِل:
19 - إِذَا كَانَ الْخُنْثَى الْمُشْكِل صَغِيرًا لَمْ يَبْلُغْ، يَجُوزُ لِلرِّجَال وَالنِّسَاءِ تَغْسِيلُهُ، كَمَا يَجُوزُ مَسُّهُ وَالنَّظَرُ إِلَيْهِ.
وَأَمَّا إِذَا كَانَ كَبِيرًا أَوْ مُرَاهِقًا فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُغَسِّل رَجُلاً وَلاَ امْرَأَةً، وَلاَ يُغَسِّلُهُ رَجُلٌ وَلاَ امْرَأَةٌ، بَل يُيَمَّمُ. وَالأَْصْل عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْخُنْثَى الْمُشْكِل - إِنْ كَانَ لَهُ مَحْرَمٌ مِنَ الرِّجَال أَوِ النِّسَاءِ - غَسَّلَهُ بِالاِتِّفَاقِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَحْرَمٌ جَازَ لِلرِّجَال وَالنِّسَاءِ غُسْلُهُ صَغِيرًا. فَإِنْ كَانَ كَبِيرًا فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: هَذَا، وَالآْخَرُ: أَنَّهُ يُغَسَّل. قَال أَحْمَدُ: إِذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ أَمَةٌ، يُيَمَّمُ، وَزَادَ: أَنَّ الرَّجُل أَوْلَى بِتَيْمِيمِ خُنْثَى فِي سِنِّ التَّمْيِيزِ، وَحَرُمَ بِدُونِ حَائِلٍ عَلَى غَيْرِ مَحْرَمٍ. (2)
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 161، ومواهب الجليل 2 / 226، وروضة الطالبين 2 / 107، والمغني 2 / 537
(2) ابن عابدين 1 / 112، 113، 578، وعرف ابن عابدين المراهق هنا بمن بلغ الشهوة، وروضة الطالبين 2 / 105، وغاية المنتهى 1 / 231، والمغني 2 / 526.(13/61)
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ: أَنَّهُ إِنْ أَمْكَنَ وُجُودُ أَمَةٍ لَهُ - سَوَاءٌ أَكَانَتْ مِنْ مَالِهِ أَمْ مِنْ بَيْتِ الْمَال، أَمْ مِنْ مَال الْمُسْلِمِينَ - فَإِنَّهَا تُغَسِّلُهُ، وَإِلاَّ يُيَمَّمْ، وَلاَ يُغَسِّلُهُ أَحَدٌ سِوَاهَا. (1)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ آخَرَ إِلَى أَنَّهُ يُغَسَّل إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَحَارِمُ.
وَفِيمَنْ يُغَسِّل أَوْجُهٌ: أَصَحُّهَا: أَنَّهُ يَجُوزُ لِلرِّجَال وَالنِّسَاءِ جَمِيعًا لِلضَّرُورَةِ، وَاسْتِصْحَابًا لِحُكْمِ الصِّغَرِ، وَبِهِ قَال أَبُو زَيْدٍ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ فِي حَقِّ الرِّجَال كَالْمَرْأَةِ، وَفِي حَقِّ النِّسَاءِ كَالرَّجُل، أَخْذًا بِالأَْحْوَطِ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ وَجْهٌ ضَعِيفٌ عِنْدَهُمْ، أَنَّهُ يُشْتَرَى مِنْ تَرِكَتِهِ جَارِيَةٌ لِتُغَسِّلَهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ تَرِكَةٌ فَمِنْ بَيْتِ الْمَال. (2)
مَنْ يُغَسَّل مِنَ الْمَوْتَى وَمَنْ لاَ يُغَسَّل:
أ - تَغْسِيل الشَّهِيدِ:
20 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الشَّهِيدَ لاَ يُغَسَّل، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال فِي شُهَدَاءِ أُحُدٍ: ادْفِنُوهُمْ بِدِمَائِهِمْ (3) وَيَرَى الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ تَغْسِيل الشَّهِيدِ. (4)
__________
(1) مواهب الجليل 6 / 433
(2) روضة الطالبين2 / 105
(3) حديث: " ادفنوهم في دمائهم. . . " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 212 ط السلفية) .
(4) ابن عابدين 1 / 608، والاختيار 1 / 97، وبدائع الصنائع 1 / 324، والمدونة 1 / 1983، والحطاب 2 / 247، وروضة الطالبين 1 / 119، والمغني 2 / 528، 529(13/61)
وَإِنْ كَانَ الشَّهِيدُ جُنُبًا فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَوْل سَحْنُونٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يُغَسَّل. وَيَرَى جُمْهُورُ الْمَالِكِيَّةِ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ أَنَّهُ لاَ يُغَسَّل لِعُمُومِ الْخَبَرِ. (1)
وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِيمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْغُسْل بِسَبَبٍ سَابِقٍ عَلَى الْمَوْتِ، كَالْمَرْأَةِ الَّتِي تَطْهُرُ مِنْ حَيْضٍ أَوْ نِفَاسٍ ثُمَّ تَسْتَشْهِدُ فَهِيَ كَالْجُنُبِ. وَأَمَّا قَبْل الطَّهَارَةِ مِنَ الْحَيْضِ أَوِ النِّفَاسِ فَلاَ يَجِبُ الْغُسْل. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: يَجِبُ الْغُسْل كَالْجُنُبِ وَالأُْخْرَى لاَ يَجِبُ. (2)
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - مَا عَدَا أَبَا حَنِيفَةَ - إِلَى أَنَّ الشَّهِيدَ الْبَالِغَ وَغَيْرَهُ سَوَاءٌ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ (3) . وَالْخِلاَفُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَكَذَلِكَ فِي تَغْسِيل مَنْ كَانَ بِهِ رَمَقٌ، وَالْمُرْتَثُّ (وَهُوَ مَنْ حُمِل مِنَ الْمَعْرَكَةِ جَرِيحًا وَبِهِ رَمَقٌ) ، وَمَنْ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 608، وبدائع الصنائع 1 / 322، ومواهب الجليل 2 / 249، والشرح الصغير 1 / 576، وروضة الطالبين 2 / 120، والمغني 2 / 530
(2) ابن عابدين 1 / 608، وبدائع الصنائع 1 / 322، والمغني 2 / 530، 531
(3) ابن عابدين 1 / 608، ومواهب الجليل 2 / 247، وروضة الطالبين 2 / 118، والمغني 2 / 531(13/62)
عَادَ عَلَيْهِ سِلاَحُهُ فَقَتَلَهُ، وَمَنْ يُقْتَل مِنْ أَهْل الْعَدْل فِي الْمَعْرَكَةِ، وَمَنْ قُتِل ظُلْمًا، أَوْ دُونَ مَالِهِ أَوْ دُونَ نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى خِلاَفٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ هَؤُلاَءِ وَأَمْثَالَهُمْ هَل يُعْتَبَرُونَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَمْ لاَ؟ (1)
فَيُرْجَعُ لِلتَّفْصِيل إِلَى مُصْطَلَحِ (شَهِيدٌ) .
ب - تَغْسِيل الْمَبْطُونِ وَالْمَطْعُونِ وَصَاحِبِ الْهَدْمِ وَأَمْثَالِهِمْ:
21 - لاَ خِلاَفَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الشَّهِيدَ بِغَيْرِ قَتْلٍ كَالْمَبْطُونِ، وَالْمَطْعُونِ، وَمِنْهُ الْغَرِيقُ، وَصَاحِبُ الْهَدْمِ، وَالنُّفَسَاءُ، وَنَحْوُهُمْ يُغَسَّلُونَ، وَإِنْ وَرَدَ فِيهِمْ لَفْظُ الشَّهَادَةِ. (2)
ج - تَغْسِيل مَنْ لاَ يُدْرَى حَالُهُ:
22 - لَوْ وُجِدَ مَيِّتٌ أَوْ قَتِيلٌ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ. وَكَانَ عَلَيْهِ سِيمَا الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْخِتَانِ وَالثِّيَابِ وَالْخِضَابِ وَحَلْقِ الْعَانَةِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ غُسْلُهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، سَوَاءٌ أَوُجِدَ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ أَمْ دَارِ الْحَرْبِ.
وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ذَلِكَ فَالصَّحِيحُ عِنْدَهُمْ: أَنَّهُ إِنْ وُجِدَ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ يُغَسَّل،
__________
(1) ابن عابدين 1 / 609، والمغني 2 / 532 وما بعدها
(2) بدائع الصنائع 1 / 322، والمدونة 1 / 184، ومواهب الجليل 2 / 248، وروضة الطالبين 2 / 119، والمغني 2 / 536(13/62)
وَإِنْ وُجِدَ فِي دَارِ الْحَرْبِ لاَ يُغَسَّل، وَلأَِنَّ الأَْصْل أَنَّ مَنْ كَانَ فِي دَارٍ فَهُوَ مِنْ أَهْلِهَا، يَثْبُتُ لَهُ حُكْمُهُمْ، مَا لَمْ يَقُمْ عَلَى خِلاَفِهِ دَلِيلٌ. (1)
وَصَرَّحَ ابْنُ الْقَاسِمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ بِأَنَّ الْمَيِّتَ إِنْ وُجِدَ بِفَلاَةٍ، لاَ يُدْرَى أَمُسْلِمٌ هُوَ أَمْ كَافِرٌ؟ فَلاَ يُغَسَّل. وَكَذَلِكَ لَوْ وُجِدَ فِي مَدِينَةٍ مِنَ الْمَدَائِنِ فِي زُقَاقٍ، وَلاَ يُدْرَى حَالُهُ أَمُسْلِمٌ أَمْ كَافِرٌ؟ قَال ابْنُ رُشْدٍ: وَإِنْ كَانَ مَخْتُونًا فَكَذَلِكَ؛ لأَِنَّ الْيَهُودَ يَخْتَتِنُونَ، وَقَال ابْنُ حَبِيبٍ: وَمِنَ النَّصَارَى أَيْضًا مَنْ يَخْتَتِنُ. (2)
د - تَغْسِيل مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ اخْتِلاَطِهِمْ بِالْكُفَّارِ:
23 - لَوِ اخْتَلَطَ مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ بِمَوْتَى الْمُشْرِكِينَ وَلَمْ يُمَيَّزُوا، فَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُمْ يُغَسَّلُونَ جَمِيعًا، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمُسْلِمُونَ أَكْثَرَ أَمْ أَقَل. أَوْ كَانُوا عَلَى السَّوَاءِ، وَهَذَا لأَِنَّ غُسْل الْمُسْلِمِ وَاجِبٌ، وَغُسْل الْكَافِرِ جَائِزٌ فِي الْجُمْلَةِ، فَيُؤْتَى بِالْجَائِزِ فِي الْجُمْلَةِ لِتَحْصِيل الْوَاجِبِ. (3)
هـ - تَغْسِيل الْبُغَاةِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ:
24 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُغَسَّل الْبُغَاةُ إِذَا
__________
(1) ابن عابدين 1 / 577، وشرح البهجة 2 / 102 ط مطبعة الميمنية، والمغني 2 / 537
(2) مواهب الجليل2 / 250
(3) ابن عابدين 1 / 577، وبدائع الصنائع 1 / 303، ومواهب الجليل 2 / 250، وروضة الطالبين 2 / 118، والمغني 2 / 536.(13/63)
قُتِلُوا فِي الْحَرْبِ؛ إِهَانَةً لَهُمْ وَزَجْرًا لِغَيْرِهِمْ عَنْ فِعْلِهِمْ. وَأَمَّا إِذَا قُتِلُوا بَعْدَ ثُبُوتِ يَدِ الإِْمَامِ عَلَيْهِمْ فَإِنَّهُمْ يُغَسَّلُونَ.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُمْ يُغَسَّلُونَ.
وَلِتَفْصِيل ذَلِكَ يُرْجَعُ إِلَى مُصْطَلَحِ: (بُغَاةٌ) . وَلَمْ يُفَرِّقِ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ الْبُغَاةِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ فِي عَدَمِ التَّغْسِيل. (1)
و تَغْسِيل الْجَنِينِ إِذَا اسْتَهَل:
25 - إِذَا خَرَجَ الْمَوْلُودُ حَيًّا، أَوْ حَصَل مِنْهُ مَا يَدُل عَلَى حَيَاتِهِ مِنْ بُكَاءٍ أَوْ تَحْرِيكِ عُضْوٍ أَوْ طَرَفٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يُغَسَّل بِالإِْجْمَاعِ، قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الطِّفْل إِذَا عُرِفَتْ حَيَاتُهُ وَاسْتَهَل، يُغَسَّل وَيُصَلَّى عَلَيْهِ. (2)
كَمَا أَنَّهُ يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَدَمَ تَغْسِيل مَنْ لَمْ يَأْتِ لَهُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَلَمْ يَتَبَيَّنْ خَلْقُهُ، إِلاَّ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ.
وَمَا وَرَدَ مِنَ الْغُسْل فِي بَعْضِ كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ، فَالْمُرَادُ هُوَ الْغُسْل فِي الْجُمْلَةِ كَصَبِّ الْمَاءِ عَلَيْهِ،
__________
(1) ابن عابدين 1 / 583، 584، وبدائع الصنائع 1 / 302، وروضة الطالبين 2 / 119، والمغني 8 / 116
(2) ابن عابدين 1 / 594، وبدائع الصنائع 1 / 302، ومواهب الجليل 2 / 240، 250، وروضة الطالبين 2 / 117، والمغني 2 / 522(13/63)
مِنْ غَيْرِ وُضُوءٍ وَلاَ تَرْتِيبٍ. (1)
وَاخْتَلَفُوا فِي الطِّفْل الَّذِي وُلِدَ لأَِرْبَعَةِ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرَ، فَالأَْصَحُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يُغَسَّل. (2) وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي رِوَايَةٍ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُغَسَّل، بَل يُغْسَل دَمُهُ، وَيُلَفُّ فِي خِرْقَةٍ وَيُدْفَنُ. (3)
ز - تَغْسِيل جُزْءٍ مِنْ بَدَنِ الْمَيِّتِ:
26 - إِذَا بَانَ مِنَ الْمَيِّتِ شَيْءٌ غُسِّل وَحُمِل مَعَهُ فِي أَكْفَانِهِ بِلاَ خِلاَفٍ. (4) وَأَمَّا تَغْسِيل بَعْضِ الْمَيِّتِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ وُجِدَ الأَْكْثَرُ غُسِّل، وَإِلاَّ فَلاَ. (5)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ: وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ يُغَسَّل سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ أَكْثَرُ الْبَدَنِ وَأَقَلُّهُ لِمَا رُوِيَ أَنَّ طَائِرًا أَلْقَى يَدًا بِمَكَّةَ زَمَنَ وَقْعَةِ الْجَمَل، وَكَانَتْ يَدَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَتَّابِ بْنِ أُسَيْدٍ، فَغَسَّلَهَا أَهْل مَكَّةَ، وَصَلَّوْا عَلَيْهَا (6) .
__________
(1) ابن عابدين 1 / 595، ومواهب الجليل 2 / 208، 240، وروضة الطالبين 2 / 117، والمغني 2 / 523
(2) ابن عابدين 1 / 595، وروضة الطالبين 2 / 117، والمغني 2 / 522
(3) ابن عابدين 1 / 594، وبدائع الصنائع 1 / 302، ومواهب الجليل 2 / 240، 250، وروضة الطالبين 2 / 117، والمغني 2 / 522
(4) حاشية الجمل 1 / 146، والمغني 2 / 539
(5) ابن عابدين 1 / 576، وبدائع الصنائع 1 / 302، والمدونة 1 / 180، ومواهب الجليل 2 / 212
(6) بدائع الصنائع 2 / 302، وشرح البهجة 2 / 102 ط المطبعة الميمنية، والمغني 2 / 539(13/64)
أَخْذُ الأُْجْرَةِ عَلَى تَغْسِيل الْمَيِّتِ:
27 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ أَخْذَ الأُْجْرَةِ عَلَى تَغْسِيل الْمَيِّتِ جَائِزٌ، وَأَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ، كَالتَّجْهِيزِ وَالتَّلْقِينِ.
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ الأَْفْضَل أَنْ يُغَسَّل الْمَيِّتُ مَجَّانًا، فَإِنِ ابْتَغَى الْغَاسِل الأَْجْرَ جَازَ إِنْ كَانَ ثَمَّةَ غَيْرُهُ، وَإِلاَّ فَلاَ، لِتَعَيُّنِهِ عَلَيْهِ، لأَِنَّهُ صَارَ وَاجِبًا عَلَيْهِ عَيْنًا، وَلاَ يَجُوزُ أَخْذُ الأُْجْرَةِ عَلَى الطَّاعَةِ. وَذَهَبَ الْبَعْضُ إِلَى الْجَوَازِ (1) .
دَفْنُ الْمَيِّتِ مِنْ غَيْرِ غُسْلٍ:
28 - لَوْ دُفِنَ الْمَيِّتُ بِغَيْرِ غُسْلٍ، وَلَمْ يُهَل عَلَيْهِ التُّرَابُ، فَلاَ خِلاَفَ أَنَّهُ يُخْرَجُ وَيُغَسَّل. (2)
وَأَمَّا بَعْدَهُ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُنْبَشُ لأَِجْل تَغْسِيلِهِ لأَِنَّ النَّبْشَ مُثْلَةٌ، وَقَدْ نُهِيَ عَنْهَا، وَلِمَا فِيهِ مِنَ الْهَتْكِ. (3)
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ لَدَى الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يُنْبَشُ وَيُغَسَّل مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ، وَيُخَافُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَفَسَّخَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو ثَوْرٍ (4)
__________
(1) الشرح الصغير 1 / 551، وحاشية الدسوقي 4 / 458، ونهاية المحتاج 6 / 5 وكشاف القناع 4 / 403، وابن عابدين 1 / 576، والفتاوى الهندية 1 / 159، 160، والاختيار 1 / 91
(2) ابن عابدين 1 / 582، ومواهب الجليل 2 / 234، وروضة الطالبين 2 / 140، والمغني 2 / 553
(3) ابن عابدين 1 / 582، وروضة الطالبين 2 / 140
(4) مواهب الجليل 2 / 233، 234، وروضة الطالبين 2 / 140، وحاشية الجمل 2 / 143.(13/64)
وَفِي الْمَوْضُوعِ تَفْصِيلٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ إِلَى مُصْطَلَحِ (نَبْشٌ) .
مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى تَغْسِيل الْمَيِّتِ:
29 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلٌ لِمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ، وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِغَاسِل الْمَيِّتِ أَنْ يَغْتَسِل (1) . لِحَدِيثٍ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَذُكِرَ أَيْضًا فِي الْمُوَطَّأِ وَهُوَ مَنْ غَسَّل مَيِّتًا فَلْيَغْتَسِل (2) .
وَفِي قَوْلٍ لِمَالِكٍ، وَهُوَ قَوْل جُمْهُورِ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ - مَا عَدَا ابْنَ الْقَاسِمِ - أَنَّهُ لاَ غُسْل عَلَى غَاسِل الْمَيِّتِ، لأَِنَّ تَغْسِيل الْمَيِّتِ لَيْسَ بِحَدَثٍ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ وُجُوبُ الْغُسْل عَلَى مَنْ غَسَّل الْكَافِرَ خَاصَّةً (3) ؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يَغْتَسِل، لَمَّا غَسَّل أَبَاهُ (4) .
وَلِلتَّفْصِيل يُرْجَعُ إِلَى مُصْطَلَحِ (غُسْلٌ) .
__________
(1) ابن عابدين 1 / 114، وفتح القدير 1 / 58، ومواهب الجليل 2 / 223، والشرح الصغير 1 / 549، وحاشية الجمل 2 / 40، والمغني 1 / 211، 212
(2) حديث: " من غسل ميتا فليغتسل. . . " أخرجه ابن ماجه (1 / 470 ط الحلبي) ، والترمذي (3 / 309 ط الحلبي) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه واللفظ لابن ماجه، وحسنه ابن حجر في التلخيص (1 / 137 ط شركة الطباعة الفنية) .
(3) مواهب الجليل 2 / 223، والشرح الصغير 1 / 549، وحاشية الجمل 2 / 40، والمغني 1 / 549
(4) حديث: " أمر عليا أن يغتسل لما غسل أباه. . . " تقدم تخريجه (ف 14) .(13/65)
تَغْلِيظٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّغْلِيظُ مِنْ غَلُظَ غِلَظًا خِلاَفُ دَقَّ. وَكَذَا اسْتَغْلَظَ، وَالتَّغْلِيظُ التَّوْكِيدُ وَالتَّشْدِيدُ وَهُوَ مَصْدَرُ غَلَّظَ: أَيْ أَكَّدَ الشَّيْءَ وَقَوَّاهُ. وَهُوَ ضِدُّ التَّخْفِيفِ. وَمِنْهُ غَلَّظْتُ عَلَيْهِ فِي الْيَمِينِ تَغْلِيظًا أَيْ شَدَّدْتُ عَلَيْهِ وَأَكَّدْتُ. وَغَلَّظْتُ الْيَمِينَ تَغْلِيظًا أَيْضًا قَوَّيْتُهَا وَأَكَّدْتُهَا (1)
الْمُغَلَّظُ مِنَ النَّجَاسَاتِ:
2 - يُقَسِّمُ الْفُقَهَاءُ النَّجَاسَاتِ إِلَى مُغَلَّظَةٍ وَمُخَفَّفَةٍ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي تَحْدِيدِ الْمُغَلَّظِ مِنَ النَّجَاسَاتِ، فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ هِيَ نَجَاسَةُ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ وَمَا تَوَلَّدَ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا. (2)
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ هِيَ مَا وَرَدَ فِي نَجَاسَتِهَا نَصٌّ لَمْ يُعَارَضْ بِنَصٍّ آخَرَ، فَإِنْ عَارَضَهُ نَصٌّ فَمُخَفَّفَةٌ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ مَا اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ نَجِسٌ، فَالأَْرْوَاثُ كُلُّهَا نَجِسَةٌ نَجَاسَةً غَلِيظَةً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، لأَِنَّهُ وَرَدَ فِيهَا
__________
(1) مختار الصحاح مادة: " غلظ ".
(2) مغني المحتاج 1 / 83، والمغني لابن قدامة 1 / 56(13/65)
نَصٌّ يَدُل عَلَى نَجَاسَتِهَا، وَهُوَ مَا رَوَاهُ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَلَبَ مِنْهُ لَيْلَةَ الْجِنِّ أَحْجَارًا لِلاِسْتِنْجَاءِ، فَأَتَى بِحَجَرَيْنِ وَرَوْثَةٍ، فَأَخَذَ الْحَجَرَيْنِ، وَرَمَى الرَّوْثَةَ، وَقَال: إِنَّهَا رِكْسٌ (1) وَلَمْ يَرِدْ نَصٌّ يُعَارِضُهُ، فَكَانَتْ نَجَاسَتُهَا مُغَلَّظَةً.
أَمَّا عِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ فَمُخَفَّفَةٌ لاِخْتِلاَفِ الْعُلَمَاءِ فِي نَجَاسَتِهَا. وَبَوْل مَا لاَ يُؤْكَل لَحْمُهُ نَجِسٌ نَجَاسَةً مُغَلَّظَةً بِالاِتِّفَاقِ بَيْنَ الإِْمَامِ وَالصَّاحِبَيْنِ، لاِنْعِدَامِ النَّصِّ الْمُعَارِضِ عِنْدَ الإِْمَامِ وَاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ عَلَى نَجَاسَتِهِ عِنْدَهُمَا.
وَالنَّجَاسَةُ الْمُغَلَّظَةُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ هِيَ مَا عَدَا فَضَلاَتِ مَا يُؤْكَل لَحْمُهُ مِنَ النَّجَاسَاتِ. وَيُفَرِّقُ الْحَنَابِلَةُ فِي النَّجَاسَاتِ بَيْنَ كُلٍّ مِنَ الْخِنْزِيرِ وَالْكَلْبِ وَبَيْنَ سَائِرِ النَّجَاسَاتِ، فَنَجَاسَةُ الْخِنْزِيرِ وَالْكَلْبِ أَشَدُّ، وَيَلِيهَا بَوْل الآْدَمِيِّ وَعَذِرَتِهِ، ثُمَّ سَائِرُ النَّجَاسَاتِ، ثُمَّ بَوْل الرَّضِيعِ. (2)
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَحْكَامِ النَّجَاسَةِ الْمُغَلَّظَةِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُعْفَى عَنَ النَّجَاسَةِ الْمُغَلَّظَةِ قَدْرُ دِرْهَمٍ إِذَا أَصَابَتِ الثَّوْبَ أَوِ
__________
(1) حديث: " ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم طلب منه ليلة الجن أحجارا للاستنجاء. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 256 ط الدار السلفية) .
(2) ابن عابدين 1 / 211، وبدائع الصنائع 1 / 80، والمدونة الكبرى 1 / 19، 20، 21، والإنصاف 1 / 310(13/66)
الْبَدَنَ فِي الصَّلاَةِ، أَمَّا الْمُخَفَّفَةُ فَيُعْفَى مَا لَيْسَ بِفَاحِشٍ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: تَطْهُرُ النَّجَاسَةُ الْمُخَفَّفَةُ بِالدَّلْكِ. أَمَّا الْمُغَلَّظَةُ فَلاَ تَطْهُرُ إِلاَّ بِالْغُسْل. وَالتَّفْصِيل فِي بَابِ النَّجَاسَةِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنَّ النَّجَاسَةَ الْمُغَلَّظَةَ لاَ تَطْهُرُ إِلاَّ بِسَبْعِ غَسَلاَتٍ إِحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ، وَمَا عَدَاهَا فَتَطْهُرُ بِغَسْلَةٍ وَاحِدَةٍ.
وَأَنَّهُ لاَ يُعْفَى عَنْ قَلِيل النَّجَاسَةِ الْمُغَلَّظَةِ وَإِنْ قَلَّتْ، أَوْ أَصَابَتِ الْبَدَنَ، أَوِ الثَّوْبَ. أَمَّا غَيْرُ الْمُغَلَّظَةِ فَيُعْفَى عَنْ قَلِيلِهَا (1) عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي بَابِ (النَّجَاسَةُ) .
الْعَوْرَةُ الْمُغَلَّظَةُ:
3 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي حُرْمَةِ النَّظَرِ إِلَى الْعَوْرَةِ، وَوُجُوبِ سَتْرِهَا فِي الصَّلاَةِ وَخَارِجِهَا.
وَلَكِنَّ الْحَنَفِيَّةَ وَالْمَالِكِيَّةَ قَسَّمُوهَا فِي الصَّلاَةِ، وَالنَّظَرِ إِلَيْهَا إِلَى: مُغَلَّظَةٍ وَمُخَفَّفَةٍ. فَالْمُغَلَّظَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هِيَ السَّوْأَتَانِ، وَهُمَا الْقُبُل، وَالدُّبُرُ، بِالنِّسْبَةِ لِلرَّجُل وَالْمَرْأَةِ عَلَى السَّوَاءِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ الْعَوْرَةَ الْمُغَلَّظَةَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ النَّوْعِ، فَعَوْرَةُ الرَّجُل الْمُغَلَّظَةِ هِيَ السَّوْأَتَانِ فِي الصَّلاَةِ، أَمَّا الْمَرْأَةُ فَهِيَ مَا عَدَا صَدْرَهَا وَأَطْرَافَهَا، وَهِيَ الذِّرَاعَانِ وَالرِّجْلاَنِ وَالْعُنُقُ.
__________
(1) الجمل على شرح المنهج 1 / 168ـ 183ـ 425، وقليوبي 1 / 69 ـ 185، وبدائع الصنائع 1 / 80، والمدونة 1 / 19(13/66)
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِذَا صَلَّى مَكْشُوفَ الْعَوْرَةِ الْمُغَلَّظَةِ فَإِنَّهُ يُعِيدُ الصَّلاَةَ فِي الْوَقْتِ وَبَعْدَ الْوَقْتِ. (1)
وَلَمْ يَرِدْ فِي كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ هَذَا التَّقْسِيمُ لِلْعَوْرَةِ، وَكُل مَا جَاءَ فِيهَا أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَجِدْ مَا يَسْتُرُ بِهِ الْعَوْرَةَ كُلَّهَا يُقَدِّمُ السَّوْأَتَيْنِ.
وَالتَّفْصِيل فِي بَابِ شُرُوطِ الصَّلاَةِ.
تَغْلِيظُ الدِّيَةِ:
4 - اتَّفَقَ الأَْئِمَّةُ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ - عَلَى أَصْل تَغْلِيظِ الدِّيَةِ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي أَسْبَابِ التَّغْلِيظِ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ أَسْبَابَ التَّغْلِيظِ هِيَ مَا يَأْتِي:
أ - أَنْ يَقَعَ الْقَتْل فِي حَرَمِ مَكَّةَ.
ب - أَنْ يَقْتُل فِي الأَْشْهُرِ الْحُرُمِ وَهِيَ ذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبٌ.
ج - أَنْ يَقْتُل قَرِيبًا لَهُ مَحْرَمًا. وَهَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
د - أَنْ يَكُونَ الْقَتْل عَمْدًا أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ. (2)
هـ - أَنْ يَقْتُل فِي الإِْحْرَامِ، أَيْ أَنْ يَكُونَ الْمَقْتُول مُحْرِمًا وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ يُغَلَّظُ فِي قَتْلٍ لَمْ يَجِبْ
__________
(1) الاختيار 1 / 146، وابن عابدين 1 / 274، وحاشية الدسوقي 1 / 214.
(2) روضة الطالبين 9 / 255، وأسنى المطالب 4 / 47، والمغني لابن قدامة 7 / 764، 765، 766، 772(13/67)
فِيهِ قِصَاصٌ، كَقَتْل الْوَالِدِ وَلَدَهُ، وَالْمُرَادُ الأَْبُ وَإِنْ عَلاَ، وَالأُْمُّ كَذَلِكَ. (1)
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لاَ تَغْلِيظَ إِلاَّ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ إِنْ قَضَى الدِّيَةَ مِنَ الإِْبِل، وَإِنْ قَضَى مِنْ غَيْرِ الإِْبِل فَلاَ تُغَلَّظُ. (2)
أَمَّا صِفَةُ التَّغْلِيظِ وَبَاقِي التَّفَاصِيل فَيُرْجَعُ فِيهَا إِلَى مُصْطَلَحِ (دِيَةٌ) .
مَا يَجْرِي التَّغْلِيظُ فِيهِ مِنَ الدَّعَاوَى
5 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّغْلِيظَ يَجْرِي فِي دَعْوَى الدَّمِ، وَالنِّكَاحِ، وَالطَّلاَقِ، وَالرَّجْعَةِ، وَالإِْيلاَءِ، وَاللِّعَانِ، وَالْعِدَّةِ، وَالْحِدَادِ، وَالْوَلاَءِ، وَالْوَكَالَةِ، وَالْوِصَايَةِ، وَكُل مَا لَيْسَ بِمَالٍ، وَلاَ يُقْصَدُ مِنْهُ الْمَال. أَمَّا الأَْمْوَال فَيَجْرِي التَّغْلِيظُ فِي كَثِيرِهَا، وَهُوَ نِصَابُ الزَّكَاةِ عِشْرُونَ دِينَارًا أَوْ مِائَتَا دِرْهَمٍ.
أَمَّا قَلِيلُهَا - وَهُوَ مَا دُونَ ذَلِكَ - فَلاَ تَغْلِيظَ فِيهِ، إِلاَّ أَنْ يَرَى الْقَاضِي التَّغْلِيظَ لِجُرْأَةِ الْحَالِفِ.
أَمَّا الْيَمِينُ الَّتِي تُغَلَّظُ فَيَسْتَوِي فِيهِ يَمِينُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَالْيَمِينُ الْمَرْدُودَةُ، وَالْيَمِينُ مَعَ الشَّاهِدِ.
وَكَذَلِكَ قَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ تُغَلَّظُ الْيَمِينُ إِلاَّ فِيمَا
__________
(1) حاشية الدسوقي 4 / 267، والمدونة 6 / 306، 307، وكشاف القناع 6 / 31.
(2) ابن عابدين 5 / 368(13/67)
لَهُ خَطَرٌ، كَالْجِنَايَاتِ، وَالطَّلاَقِ، وَالْعِتَاقِ، وَمَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ مِنَ الْمَال.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: يُغَلَّظُ الْيَمِينُ فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَأَكْثَرَ. (1)
صِفَةُ تَغْلِيظِ الأَْيْمَانِ:
6 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ تَغْلِيظِ الأَْيْمَانِ فِي الْخُصُومَاتِ بِزِيَادَةِ الأَْسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، عَلَى اخْتِلاَفٍ بَيْنَهُمْ فِي الْوُجُوبِ وَالاِسْتِحْبَابِ وَالْجَوَازِ. كَأَنْ يَقُول الْحَالِفُ مَثَلاً: بِاَللَّهِ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ الَّذِي يَعْلَمُ مِنَ السِّرِّ مَا يَعْلَمُ مِنَ الْعَلاَنِيَةِ.
وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَجُلاً حَلَفَ بَيْنَ يَدَيِ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ (2) ، وَلأَِنَّ فِي النَّاسِ مَنْ يَمْتَنِعُ
__________
(1) حاشية الدسوقي 4 / 228، وروضة الطالبين 12 / 32ـ 33، والإنصاف 1 / 132
(2) حديث أبي هريرة رضي الله عنه: " أن رجلا حلف بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك " لم نعثر عليه بهذا السياق الطويل في كتب الحديث التي بين يدينا وهو في المبسوط (16 / 86 ط دار المعرفة) مطولا، والحديث بمعناه جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى وحسنه التهانوي في إعلاء السنن (5 / 406 ط دار القرآن) وعبد القادر الأرناؤوط (جامع الأصول 11 / 680 ط مكتبة الحلواني) .(13/68)
مِنْ الْيَمِينِ إِذَا غُلِّظَ عَلَيْهِ، وَيَتَجَاسَرُ بِدُونِهَا. (1)
وَاخْتَلَفُوا فِي تَغْلِيظِهَا بِالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى: أَنَّهَا تُغَلَّظُ بِالْمَكَانِ كَالْجَامِعِ، وَأَدَاءُ الْقَسَمِ بِالْقِيَامِ، وَعِنْدَ مِنْبَرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ وَقَعَ الْيَمِينُ فِي الْمَدِينَةِ، وَلاَ يُغَلَّظُ بِالزَّمَانِ عِنْدَهُمْ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: يُغَلَّظُ بِالْمَكَانِ وَالزَّمَانِ، فَيَجْرِي بَعْدَ صَلاَةِ عَصْرِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ مَثَلاً فِي الْجَامِعِ فِي غَيْرِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، وَفِيهِمَا عِنْدَ مِنْبَرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَ الرُّكْنِ الأَْسْوَدِ (2) .
وَهَل التَّغْلِيظُ بِالْمَكَانِ مُسْتَحَبٌّ أَمْ وَاجِبٌ لاَ يُعْتَدُّ بِالْقَسَمِ إِلاَّ بِهِ؟ فِيهِ قَوْلاَنِ لِلشَّافِعِيَّةِ، أَظْهَرُهُمَا: الأَْوَّل، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: وَاجِبٌ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى: أَنَّهُ لاَ تُغَلَّظُ الْيَمِينُ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ، لاَ بِالزَّمَانِ وَلاَ بِالْمَكَانِ؛ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ تَعْظِيمُ الْمُقْسَمِ بِهِ، وَهُوَ حَاصِلٌ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ كَمَا يَحْصُل فِي الْمَسْجِدِ، وَلَكِنَّ الْحَنَابِلَةَ جَوَّزُوا التَّغْلِيظَ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ إِنْ رَأَى الْحَاكِمُ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةً، وَتُغَلَّظُ
__________
(1) المبسوط 16 / 118، وحاشية الدسوقي 4 / 228، وروضة الطالبين 12 / 31، والإنصاف 1 / 120 - 121
(2) حاشية الدسوقي 4 / 228، وروضة الطالبين 12 / 31 ـ 32.(13/68)
الْيَمِينُ عِنْدَ الْمَذْهَبَيْنِ فِي حَقِّ أَهْل الذِّمَّةِ. (1)
7 - وَهَل يَتَوَقَّفُ تَغْلِيظُ الْيَمِينِ عَلَى طَلَبِ الْخَصْمِ، أَمْ يُغَلِّظُ الْقَاضِي وَإِنْ لَمْ يَطْلُبِ الْخَصْمُ؟
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ التَّغْلِيظَ إِلَى رَأْيِ الْقَاضِي، وَلاَ دَخْل لِلْخَصْمِ فِي التَّغْلِيظِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ التَّغْلِيظَ فِي الْيَمِينِ هُوَ حَقٌّ لِلْخَصْمِ، فَإِنْ طَلَبَ الْخَصْمُ غُلِّظَتْ وُجُوبًا، فَإِنْ أَبَى مَنْ تَوَجَّهَتْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ مِمَّا طَلَبَهُ الْمُحَلِّفُ مِنَ التَّغْلِيظِ عُدَّ نَاكِلاً (2) .
وَانْظُرْ لِمَزِيدٍ مِنَ التَّفْصِيل مُصْطَلَحَ (أَيْمَانٌ) .
التَّغْلِيظُ فِي اللِّعَانِ:
8 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَغْلِيظِ اللِّعَانِ بِالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى مَشْرُوعِيَّةِ تَغْلِيظِهِ بِالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، فَيَجْرِي اللِّعَانُ عِنْدَهُمْ فِي أَشْرَفِ مَوَاضِعِ الْبَلَدِ، فَإِنْ كَانَ فِي مَكَّةَ فَبَيْنَ الرُّكْنِ الأَْسْوَدِ وَالْمَقَامِ، وَفِي الْمَدِينَةِ عِنْدَ مِنْبَرِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ عِنْدَ الصَّخْرَةِ، وَفِي سَائِرِ الْبُلْدَانِ فِي الْجَامِعِ عِنْدَ الْمِنْبَرِ. وَيُلاَعِنُ غَيْرُ الْمُسْلِمِينَ فِي
__________
(1) المبسوط 16 / 118 - 119، وروضة الطالبين 12 / 21 - 32، والدسوقي 4 / 227 - 228، والإنصاف 1 / 120 - 121
(2) المبسوط 16 / 118، والإنصاف 12 / 120، وروضة الطالبين 12 / 32، وقليوبي 4 / 340، وحاشية الدسوقي 4 / 228(13/69)
الْمَوْضِعِ الَّذِي يُعَظِّمُونَهُ كَالْكَنَائِسِ عِنْدَ النَّصَارَى، وَبَيْتِ النَّارِ لِلْمَجُوسِ. وَقَال الْقَفَّال مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: لاَ بَل يُلاَعَنُ بَيْنَهُمَا فِي الْمَسْجِدِ أَوْ مَجْلِسِ الْحُكْمِ.
قَال النَّوَوِيُّ: وَلاَ يُؤْتَى بَيْتَ الأَْصْنَامِ فِي لِعَانِ الْوَثَنِيِّينَ؛ لأَِنَّهُ لاَ أَصْل لَهُ فِي الْحُرْمَةِ، وَاعْتِقَادُهُمْ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ.
وَيُغَلَّظُ بِالزَّمَانِ بَعْدَ صَلاَةِ الْعَصْرِ.
وَيُغَلَّظُ بِحُضُورِ جَمَاعَةٍ مِنْ أَعْيَانِ الْبَلَدِ وَصُلَحَائِهِ.
ثُمَّ التَّغْلِيظُ بِهَذِهِ الأُْمُورِ وَاجِبٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، إِلاَّ وُقُوعُهُ بَعْدَ صَلاَةٍ، فَهُوَ مَنْدُوبٌ عِنْدَهُمْ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِيهِ أَقْوَالٌ، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَهُمُ الاِسْتِحْبَابُ فِي الْجَمِيعِ. وَلاَ يُغَلَّظُ اللِّعَانُ بِالزَّمَانِ وَلاَ بِالْمَكَانِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى مِنَ الْحَنَابِلَةِ، لأَِنَّ اللَّهَ أَطْلَقَ الأَْمْرَ بِذَلِكَ، وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِزَمَنٍ وَلاَ مَكَانٍ فَلاَ يَجُوزُ تَقْيِيدُهُ إِلاَّ بِدَلِيلٍ، وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ هِلاَلاً بِإِحْضَارِ امْرَأَتِهِ، وَلَمْ يَخُصَّهُ بِزَمَنٍ وَلاَ مَكَانٍ، وَلَوْ خَصَّهُ بِذَلِكَ لَنُقِل وَلَمْ يُهْمَل.
وَقَال أَبُو الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَلاَعَنَا فِي الأَْزْمَانِ وَالأَْمَاكِنِ الَّتِي تُعَظَّمُ. (1)
__________
(1) المبسوط 7 / 39، وروضة الطالبين 8 / 334، 354، وشرح روض الطالب 3 / 384ـ 385، وشرح الزرقاني 4 / 194ـ 195، والمغني لابن قدامة 7 / 435(13/69)
تَغْلِيظُ عُقُوبَةِ التَّعْزِيرِ:
9 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ تَغْلِيظَ عُقُوبَةِ التَّعْزِيرِ - وَهِيَ كُل عُقُوبَةٍ شُرِعَتْ فِي مَعْصِيَةٍ لاَ حَدَّ فِيهَا وَلاَ كَفَّارَةَ - يَكُونُ بِاجْتِهَادِ الْحَاكِمِ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا الزَّجْرُ وَأَحْوَال النَّاسِ تَخْتَلِفُ فِي ذَلِكَ. (1)
تَغَيُّرٌ
انْظُرْ: تَغْيِيرٌ
__________
(1) حاشية الدسوقي 4 / 354، وروضة الطالبين 10 / 176، وأسنى المطالب 4 / 162، وحاشية الطحطاوي على الدر 2 / 410، والمغني لابن قدامة 8 / 324، وكشاف القناع 6 / 124(13/70)
تَغْيِيرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي التَّغْيِيرِ فِي اللُّغَةِ: التَّحْوِيل. يُقَال: غَيَّرْتُ الشَّيْءَ عَنْ حَالِهِ أَيْ حَوَّلْتُهُ وَأَزَلْتُهُ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ. وَيُقَال: غَيَّرْتُ الشَّيْءَ فَتَغَيَّرَ، وَغَيَّرَهُ إِذَا بَدَّلَهُ، كَأَنَّهُ جَعَلَهُ غَيْرَ مَا كَانَ عَلَيْهِ. وَفِي التَّنْزِيل الْعَزِيزِ: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (1) . قَال ثَعْلَبٌ: مَعْنَاهُ حَتَّى يُبَدِّلُوا مَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ. وَغَيَّرَ عَلَيْهِ الأَْمْرَ حَوَّلَهُ، وَتَغَايَرَتِ الأَْشْيَاءُ اخْتَلَفَتْ. (2)
وَمَعْنَاهُ الاِصْطِلاَحِيُّ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ لاَ يَخْرُجُ عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ.
(الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ) :
أ - التَّبْدِيل:
2 - التَّبْدِيل مِنْ بَدَّلْتُ الشَّيْءَ تَبْدِيلاً بِمَعْنَى غَيَّرْتُ صُورَتَهُ تَغْيِيرًا، وَأَبْدَلْتُهُ بِكَذَا إِبْدَالاً نَحَّيْتُ الأَْوَّل، وَجَعَلْتُ الثَّانِيَ مَكَانَهُ (3) .
__________
(1) سورة الأنفال / 53
(2) لسان العرب، والمصباح المنير مادة: " غير ".
(3) المصباح المنير مادة: " بدل "، ولسان العرب مادة: " بدل ".(13/70)
وَفَرَّقَ الأُْصُولِيُّونَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ بَيْنَ بَيَانِ التَّغْيِيرِ وَبَيَانِ التَّبْدِيل. فَقَالُوا: بَيَانُ التَّغْيِيرِ هُوَ الْبَيَانُ الَّذِي فِيهِ تَغْيِيرٌ لِمُوجِبِ اللَّفْظِ مِنَ الْمَعْنَى الظَّاهِرِ إِلَى غَيْرِهِ. وَذَلِكَ كَالتَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ الْمُؤَخَّرِ فِي الذِّكْرِ، كَمَا فِي قَوْل الرَّجُل لاِمْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ. وَبَيَانُ التَّبْدِيل بَيَانُ انْتِهَاءِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ مُتَرَاخٍ، وَهُوَ النَّسْخُ (1)
(الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ) :
يَخْتَلِفُ حُكْمُ التَّغْيِيرِ بِاخْتِلاَفِ مَوْضِعِهِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي:
تَغَيُّرُ أَوْصَافِ الْمَاءِ فِي الطَّهَارَةِ:
3 - أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ الَّذِي غَيَّرَتِ النَّجَاسَةُ طَعْمَهُ أَوْ لَوْنَهُ أَوْ رِيحَهُ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الأَْوْصَافِ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الْوُضُوءُ وَلاَ التَّطَهُّرُ بِهِ، كَمَا أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمَاءَ الْكَثِيرَ الْمُسْتَبْحَرَ لاَ تَضُرُّهُ النَّجَاسَةُ الَّتِي لَمْ تُغَيِّرْ أَحَدَ أَوْصَافِهِ الثَّلاَثَةِ.
كَذَلِكَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ كُل مَا يُغَيِّرُ الْمَاءَ - مِمَّا لاَ يَنْفَكُّ عَنْهُ غَالِبًا كَالطِّينِ - أَنَّهُ لاَ يَسْلُبُهُ صِفَةَ الطَّهَارَةِ أَوِ التَّطْهِيرِ، إِلاَّ خِلاَفًا شَاذًّا رُوِيَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ فِي الْمَاءِ الآْسِنِ.
وَأَمَّا الْمَاءُ الَّذِي خَالَطَهُ زَعْفَرَانٌ أَوْ غَيْرُهُ مِنَ
__________
(1) المرآة مع المرقاة لمنلا خسرو 2 / 126(13/71)
الأَْشْيَاءِ الطَّاهِرَةِ الَّتِي تَنْفَكُّ عَنْهُ غَالِبًا مَتَى غَيَّرَتْ أَحَدَ أَوْصَافِهِ الثَّلاَثَةِ، فَإِنَّهُ طَاهِرٌ عِنْدَ جَمِيعِ الْعُلَمَاءِ. وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي طَهُورِيَّتِهِ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُطَهِّرٍ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ، بَل يُضَافُ إِلَى الشَّيْءِ الَّذِي خَالَطَهُ، فَيُقَال مَثَلاً: مَاءُ زَعْفَرَانٍ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ مُطَهِّرٌ مَا لَمْ يَكُنِ التَّغَيُّرُ عَنْ طَبْخٍ. أَمَّا الْمُتَغَيِّرُ بِالطَّبْخِ مَعَ شَيْءٍ طَاهِرٍ فَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى: أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الْوُضُوءُ وَلاَ التَّطَهُّرُ بِهِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَاءِ غَيْرِ الْمُسْتَبْحَرِ إِذَا خَالَطَتْهُ نَجَاسَةٌ وَلَمْ تُغَيِّرْ أَحَدَ أَوْصَافِهِ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَاءِ الْقَلِيل وَالْمَاءِ الْكَثِيرِ، فَقَالُوا: إِنْ كَانَ قَلِيلاً أَصْبَحَ نَجِسًا، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا لَمْ يَكُنْ نَجِسًا. وَهَؤُلاَءِ اخْتَلَفُوا فِي الْحَدِّ بَيْنَ الْقَلِيل وَالْكَثِيرِ، فَذَهَبَ الإِْمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الْحَدَّ بَيْنَهُمَا هُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ مِنَ الْكَثْرَةِ بِحَيْثُ إِذَا حَرَّكَهُ آدَمِيٌّ مِنْ أَحَدِ طَرَفَيْهِ لَمْ تَسْرِ الْحَرَكَةُ إِلَى الطَّرَفِ الثَّانِي مِنْهُ، أَمَّا إِذَا سَرَتِ الْحَرَكَةُ فِيهِ فَهُوَ قَلِيلٌ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْحَدَّ فِي ذَلِكَ هُوَ قُلَّتَانِ مِنْ قِلاَل هَجَرَ، مُسْتَدِلِّينَ بِحَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِل الْخَبَثَ وَفِي لَفْظٍ لَمْ يَنْجُسْ (1) .
__________
(1) حديث: " إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث " أخرجه أبو داود (1 / 51 ط عبيد الدعاس) ، والترمذي (1 / 97 ط مصطفى الحلبي) ، وصححه أحمد شاكر في تعليقه على الترمذي (1 / 98 ط مصطفى الحلبي) . والحاكم (1 / 132 ط دار الكتاب العربي) . وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين(13/71)
وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ لَمْ يَحُدَّ فِي ذَلِكَ حَدًّا وَقَال: إِنَّ النَّجَاسَةَ تُفْسِدُ قَلِيل الْمَاءِ وَإِنْ لَمْ تُغَيِّرْ أَحَدَ أَوْصَافِهِ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنِ الإِْمَامِ مَالِكٍ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّ هَذَا الْمَاءَ مَكْرُوهٌ. وَذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ - وَمِنْهُمُ الْمَالِكِيَّةُ، وَأَهْل الظَّاهِرِ - إِلَى أَنَّهُ طَاهِرٌ سَوَاءٌ كَانَ قَلِيلاً أَوْ كَثِيرًا. (1)
وَانْظُرْ لِتَفْصِيل ذَلِكَ الْخِلاَفِ فِي بَحْثِ (مِيَاهٌ) .
تَغْيِيرُ النِّيَّةِ فِي الصَّلاَةِ:
4 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ تَغْيِيرَ النِّيَّةِ فِي الصَّلاَةِ، وَنَقْلَهَا مِنْ فَرْضٍ إِلَى آخَرَ، أَوْ مِنْ فَرْضٍ إِلَى نَفْلٍ عَالِمًا عَامِدًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ يُبْطِل الصَّلاَةَ. (2)
وَتُنْظَرُ تَفَاصِيل هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي مُصْطَلَحِ (تَحْوِيلٌ، وَنِيَّةٌ) .
تَغَيُّرُ حَالَةِ الإِْنْسَانِ التَّكْلِيفِيَّةِ فِي الْعِبَادَاتِ:
5 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا تَغَيَّرَتْ حَالَةُ
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 71، وجواهر الإكليل 1 / 5 ومغني المحتاج 1 / 17، والمغني لابن قدامة 1 / 11، وسبل السلام 1 / 13
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 296، ومغني المحتاج 1 / 149، والمغني لابن قدامة 1 / 468(13/72)
الإِْنْسَانِ التَّكْلِيفِيَّةِ، كَأَنْ طَهُرَتِ الْحَائِضُ أَوِ النُّفَسَاءُ، أَوْ بَلَغَ الطِّفْل، أَوْ أَسْلَمَ الْكَافِرُ، أَوْ أَفَاقَ الْمَجْنُونُ أَوِ الْمُغْمَى عَلَيْهِ، أَوْ أَقَامَ الْمُسَافِرُ وَقَدْ بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ مِقْدَارُ مَا يُمْكِنُ فِيهِ أَدَاءُ الْعِبَادَةِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الأَْدَاءُ. وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا حَصَل هَذَا التَّغَيُّرُ فِي الْعَصْرِ أَوِ الْعِشَاءِ، هَل تَجِبُ عَلَيْهِمْ صَلاَةُ الظُّهْرِ فِي الْحَالَةِ الأُْولَى، وَصَلاَةُ الْمَغْرِبِ فِي الثَّانِيَةِ؟
ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى وُجُوبِ الظُّهْرِ وَالْمَغْرِبِ؛ لأَِنَّ وَقْتَ الثَّانِيَةِ وَقْتُ الأُْولَى حَال الْعُذْرِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَالثَّوْرِيُّ إِلَى أَنَّهُ لاَ تَجِبُ عَلَيْهِمْ إِلاَّ الصَّلاَةُ الَّتِي زَالَتْ فِي وَقْتِهَا الأَْسْبَابُ الْمَانِعَةُ؛ لأَِنَّ وَقْتَ الأُْولَى خَرَجَ فِي حَال عُذْرِهِمْ. (1)
وَاخْتَلَفُوا كَذَلِكَ فِي الْقَدْرِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الْوُجُوبُ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ بِمِقْدَارِ تَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ، فَمَنْ أَدْرَكَ مِنْ آخِرِ الْوَقْتِ مَا يَسَعُ التَّحْرِيمَةَ فَقَدْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ، وَإِلاَّ فَلاَ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ بِمِقْدَارِ رَكْعَةٍ فَأَكْثَرَ، وَهُوَ قَوْلٌ مَرْجُوحٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، فَمَنْ أَدْرَكَ مِنْ آخِرِ الْوَقْتِ مَا يَسَعُ رَكْعَةً فَأَكْثَرَ فَقَدْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ، وَإِلاَّ فَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ.
__________
(1) البدائع 1 / 95، وجواهر الإكليل 1 / 33، والمغني لابن قدامة 1 / 396، ومغني المحتاج 1 / 132(13/72)
وَتَجِبُ صَلاَةُ الظُّهْرِ وَالْمَغْرِبِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، إِذَا أَدْرَكَ مِنْ آخِرِ الْعَصْرِ أَوِ الْعِشَاءِ مَا يَتَّسِعُ لِخَمْسِ رَكَعَاتٍ فِي الْحَضَرِ وَثَلاَثَ رَكَعَاتٍ فِي السَّفَرِ. (1)
وَاخْتَلَفُوا كَذَلِكَ فِيمَا إِذَا حَاضَتِ الْمَرْأَةُ أَوْ نَفِسَتْ أَوْ جُنَّ الْعَاقِل أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ - وَقَدْ مَضَى مِنَ الْوَقْتِ قَدْرٌ يَتَّسِعُ لِلْفَرْضِ - فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى وُجُوبِ الصَّلاَةِ الَّتِي أَدْرَكَ بَعْضَ وَقْتِهَا، وَكَذَلِكَ الَّتِي قَبْلَهَا إِنْ كَانَتْ تَجْمَعُ مَعَهَا وَأَدْرَكَ قَدْرَ مَا يَتَّسِعُ لَهَا أَيْضًا، لأَِنَّ وَقْتَ الثَّانِيَةِ وَقْتُ الأُْولَى فِي حَال الْجَمْعِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ حُدُوثَ هَذِهِ الأَْعْذَارِ يُسْقِطُ الْفَرْضَ، وَإِنْ طَرَأَتْ فِي آخِرِ الْوَقْتِ.
وَيُتَصَوَّرُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ حُدُوثُ الْجُنُونِ وَالإِْغْمَاءِ وَالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ، بِخِلاَفِ الْكُفْرِ وَالصِّبَا فَلاَ يُتَصَوَّرُ حُدُوثُ الصِّبَا، لاِسْتِحَالَةِ ذَلِكَ، أَمَّا حُدُوثُ الْكُفْرِ - وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ - فَهُوَ رِدَّةٌ لاَ تُسْقِطُ لُزُومَ الْقَضَاءِ إِلاَّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. (2)
وَاخْتَلَفُوا فِي مَسْأَلَةِ بُلُوغِ الطِّفْل فِي وَقْتِ الصَّلاَةِ - وَقَدْ صَلاَّهَا وَفَرَغَ مِنْهَا - أَوْ بَلَغَ وَهُوَ فِي الصَّلاَةِ، وَكَذَلِكَ فِي صَوْمِهِ. انْظُرْ مُصْطَلَحَ (بُلُوغٌ، صَلاَةٌ، صَوْمٌ)
__________
(1) البدائع 1 / 96، 144، والقوانين الفقهية ص 49، وجواهر الإكليل 1 / 33، وتحفة المحتاج 1 / 454، والمغني لابن قدامة 1 / 397.
(2) المغني لابن قدامة 1 / 397، والقوانين الفقهية ص 49، ومغني المحتاج 1 / 130، والبدائع 1 / 95(13/73)
تَغَيُّرُ الاِجْتِهَادِ فِي الْقِبْلَةِ:
6 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَغَيَّرَ اجْتِهَادُ الْمُصَلِّي فِي الْقِبْلَةِ مِنْ جِهَةٍ إِلَى جِهَةٍ أُخْرَى - وَكَانَ فِي الصَّلاَةِ - اسْتَدَارَ إِلَى الْجِهَةِ الثَّانِيَةِ وَأَتَمَّ الصَّلاَةَ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ أَهْل قُبَاءَ لَمَّا بَلَغَهُمْ تَحْوِيل الْقِبْلَةِ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ اسْتَدَارُوا كَهَيْئَتِهِمْ إِلَى الْكَعْبَةِ، وَأَتَمُّوا صَلاَتَهُمْ، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالإِْعَادَةِ (1) ، وَلأَِنَّ الصَّلاَةَ الْمُؤَدَّاةَ إِلَى جِهَةِ التَّحَرِّي مُؤَدَّاةٌ إِلَى الْقِبْلَةِ لأَِنَّهَا هِيَ الْقِبْلَةُ، حَال الاِشْتِبَاهِ، وَلأَِنَّ تَبَدُّل الرَّأْيِ فِي مَعْنَى انْتِسَاخِ النَّصِّ، وَهَذَا لاَ يُوجِبُ بُطْلاَنَ الْعَمَل بِالْمَنْسُوخِ فِي زَمَانِ مَا قَبْل النَّسْخِ.
وَيَشْتَرِطُ الْمَالِكِيَّةُ لِهَذَا شَرْطَيْنِ أَوَّلُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُصَلِّي أَعْمَى، وَثَانِيهِمَا: أَنْ يَكُونَ انْحِرَافُهُ عَنِ الْقِبْلَةِ قَبْل تَغَيُّرِ الاِجْتِهَادِ يَسِيرًا، أَمَّا إِذَا كَانَ بَصِيرًا أَوْ كَانَ انْحِرَافُهُ عَنِ الْقِبْلَةِ كَثِيرًا، فَيَقْطَعُ صَلاَتَهُ وُجُوبًا، وَيُصَلِّي إِلَى الْجِهَةِ الثَّانِيَةِ.
وَيَرَى بَعْضُ الْعُلَمَاءِ، وَمِنْهُمُ الآْمِدِيُّ أَنَّهُ لاَ يَنْقُل مِنْ جِهَتِهِ الأُْولَى، وَيَمْضِي عَلَى اجْتِهَادِهِ الأَْوَّل، لِئَلاَّ يُنْقِضَ الاِجْتِهَادَ بِالاِجْتِهَادِ. وَإِنْ كَانَ تَغَيُّرُ الاِجْتِهَادِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الصَّلاَةِ، وَلَمْ يَتَبَيَّنِ الْخَطَأُ يَقِينًا، فَلاَ يُعِيدُ
__________
(1) حديث: " أن أهل قباء لما بلغهم تحويل القبلة من بيت المقدس. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 502 ط السلفية) .(13/73)
مَا صَلَّى بِالأَْوَّل بِلاَ خِلاَفٍ. أَمَّا إِذَا ثَبَتَ الْخَطَأُ يَقِينًا فَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: يُعِيدُهَا إِنْ فَرَغَ مِنْهَا وَلَمْ يَزَل فِي وَقْتِهَا، وَيَقْضِيهَا بَعْدَ الْوَقْتِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَفِي قَوْلٍ مَرْجُوحٍ لِلشَّافِعِيَّةِ: لاَ يُعِيدُهَا إِنْ فَرَغَ مِنْهَا سَوَاءٌ كَانَ فِي الْوَقْتِ أَوْ بَعْدَهُ. (1)
تَغْيِيرُ نِصَابِ الزَّكَاةِ فِي الْحَوْل:
7 - أَجْمَعَ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ بَيْعَ النِّصَابِ مِنْ عُرُوضِ التِّجَارَةِ بِمِثْلِهِ أَثْنَاءَ الْحَوْل لاَ يَقْطَعُ الْحَوْل؛ لأَِنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِي قِيمَةِ الْعُرُوضِ لاَ فِي نَفْسِهَا.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا بَاعَ نِصَابًا لِلزَّكَاةِ مِمَّا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْحَوْل بِجِنْسِهِ كَالإِْبِل بِالإِْبِل، أَوِ الْبَقَرِ بِالْبَقَرِ، أَوِ الْغَنَمِ بِالْغَنَمِ، أَوِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ، أَوِ الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ، لَمْ يَنْقَطِعِ الْحَوْل وَبَنَى حَوْل الْبَدَل عَلَى حَوْل النِّصَابِ الأَْوَّل (الْمُبْدَل مِنْهُ) لأَِنَّهُ نِصَابٌ يُضَمُّ نَمَاؤُهُ فِي الْحَوْل، فَبَنَى حَوْل بَدَلِهِ مِنْ جِنْسِهِ عَلَى حَوْلِهِ كَالْعُرُوضِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْحَوْل يَنْقَطِعُ بِهَذِهِ الْمُبَادَلَةِ مَا لَمْ تَكُنْ لِلتِّجَارَةِ، فَلاَ يَنْقَطِعُ الْحَوْل إِلاَّ فِي الصَّرْفِ فَيَنْقَطِعُ، وَيُسْتَأْنَفُ حَوْلٌ جَدِيدٌ،
__________
(1) البدائع 1 / 119، وجواهر الإكليل 1 / 45، والقوانين الفقهية ص 61، ومغني المحتاج 1 / 147، والمغني لابن قدامة 1 / 445(13/74)
لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُول عَلَيْهِ الْحَوْل (1) .
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ، فَقَدْ وَافَقُوا الْمَالِكِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ فِي الأَْثْمَانِ، وَوَافَقُوا الشَّافِعِيَّةَ فِيمَا سِوَاهَا، لأَِنَّ الزَّكَاةَ إِنَّمَا وَجَبَتْ فِي الأَْثْمَانِ عِنْدَهُمْ، لِكَوْنِهَا ثَمَنًا، بِخِلاَفِ غَيْرِهَا مِنَ الأَْمْوَال الأُْخْرَى.
أَمَّا إِذَا بَاعَ نِصَابًا لِلزَّكَاةِ بِغَيْرِ جِنْسِهِ، كَإِبِلٍ بِبَقَرٍ، فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى انْقِطَاعِ الْحَوْل وَاسْتِئْنَافِ حَوْلٍ جَدِيدٍ، إِذَا لَمْ يَكُنْ هَذَا فِرَارًا مِنَ الزَّكَاةِ. (2)
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (زَكَاةٌ) .
تَغْيِيرُ الزَّوْجِ أَوِ الزَّوْجَةِ فِي النِّكَاحِ مِنَ الْحُرِّيَّةِ وَالدِّينِ:
8 - إِذَا خَطَبَ الرَّجُل امْرَأَةً بِعَيْنِهَا، فَأُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ، ثُمَّ أُوجِبَ لَهُ النِّكَاحُ فِي غَيْرِهَا، وَهُوَ يَعْتَقِدُ أَنَّهَا الَّتِي خَطَبَهَا فَقَبِل، فَلاَ يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ.
__________
(1) حديث: " لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول " أخرجه الترمذي (3 / 25 ـ 26 ط مصطفى الحلبي) وابن ماجه (1 / 571 ط عيسى الحلبي) واللفظ له. وأخرجه البيهقي (4 / 95 ط دار المعرفة) . عن علي بن أبي طالب وعائشة رضي الله عنهما. وقال ابن حجر: حديث علي لا بأس بإسناده والآثار تعضده فيصلح للحجة. (التلخيص الحبير 2 / 156ط المكتبة الأثرية) .
(2) البدائع 2 / 15، وحاشية ابن عابدين 2 / 21، وجواهر الإكليل 1 / 120 والقوانين الفقهية ص 114 والمغني لابن قدامة 2 / 175، ومغني المحتاج 1 / 379.(13/74)
لأَِنَّ الْقَبُول انْصَرَفَ إِلَى غَيْرِ مَنْ وَجَدَ الإِْيجَابَ فِيهِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (1)
وَلَوْ نَكَحَ، وَشَرَطَ فِيهَا إِسْلاَمًا، أَوْ فِي أَحَدِهِمَا نَسَبًا أَوْ حُرِّيَّةً أَوْ بَكَارَةً أَوْ شَبَابًا أَوْ تَدَيُّنًا فَأُخْلِفَ، فَمَذْهَبُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ صِحَّةُ النِّكَاحِ. قَال الشَّافِعِيَّةُ: لأَِنَّ الْخُلْفَ فِي الشَّرْطِ لاَ يُوجِبُ فَسَادَ الْبَيْعِ مَعَ تَأَثُّرِهِ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ، فَالنِّكَاحُ أَوْلَى.
قَال الْحَنَابِلَةُ: وَيَثْبُتُ الْخِيَارُ لِفَوَاتِ الشَّرْطِ أَوِ الْوَصْفِ الْمَرْغُوبِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ مَرْجُوحٍ عِنْدَهُمْ إِلَى عَدَمِ صِحَّةِ النِّكَاحِ، لأَِنَّهُ يَعْتَمِدُ الصِّفَاتِ فَتَبَدُّلُهَا كَتَبَدُّل الْعَيْنِ. (2)
وَأَجْمَعَ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهُ إِذَا عَتَقَتِ الأَْمَةُ - وَزَوْجُهَا عَبْدٌ - فَلَهَا الْخِيَارُ فِي فَسْخِ النِّكَاحِ لِخَبَرِ بَرِيرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا. قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَاتَبَتْ بَرِيرَةَ فَخَيَّرَهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي زَوْجِهَا، وَكَانَ عَبْدًا فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا (3) . وَلأَِنَّ
__________
(1) المغني لابن قدامة 6 / 546، وحاشية ابن عابدين 2 / 325، وتحفة المحتاج 7 / 355، وجواهر الإكليل 1 / 277، وفتح العلي المالك 1 / 365.
(2) مغني المحتاج 3 / 207، والقوانين الفقهية ص 220، والمغني لابن قدامة 6 / 524، 526، وكشاف القناع 5 / 99
(3) حديث عائشة رضي الله عنها: " كاتبت بريرة فخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في زوجها فاختارت نفسها ". أخرجه البخاري (الفتح 9 / 408) ط السلفية) ، ومسلم (2 / 1141 ط عيسى الحلبي) .(13/75)
عَلَيْهَا ضَرَرًا فِي كَوْنِهَا حُرَّةً تَحْتَ عَبْدٍ.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا عَتَقَتْ وَزَوْجُهَا حُرٌّ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لاَ خِيَارَ لَهَا، لأَِنَّهَا كَافَأَتْ زَوْجَهَا فِي الْكَمَال، فَلَمْ يَثْبُتْ لَهَا الْخِيَارُ.
وَذَهَبَ طَاوُسٍ وَابْنُ سِيرِينَ وَمُجَاهِدٌ وَالنَّخَعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَالْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ لَهَا الْخِيَارَ. وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ بَرِيرَةَ أَنَّ زَوْجَهَا كَانَ حُرًّا، كَمَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ (1) .
وَأَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى بَقَاءِ نِكَاحِ الْكِتَابِيَّةِ الَّتِي أَسْلَمَ زَوْجُهَا، سَوَاءٌ قَبْل الدُّخُول أَوْ بَعْدَهُ، لأَِنَّ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَبْتَدِئَ نِكَاحَ كِتَابِيَّةٍ، فَاسْتِدَامَتُهُ أَوْلَى. كَمَا أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَسْلَمَتِ الْكِتَابِيَّةُ قَبْل زَوْجِهَا، وَقَبْل الدُّخُول بِهَا تَعَجَّلَتِ الْفُرْقَةَ، سَوَاءٌ كَانَ زَوْجُهَا كِتَابِيًّا أَمْ مَجُوسِيًّا أَوْ غَيْرَهُمَا، إِذْ لاَ يَجُوزُ لِكَافِرٍ نِكَاحُ مُسْلِمَةٍ. (2)
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا أَسْلَمَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ الْوَثَنِيَّيْنِ أَوِ الْمَجُوسِيَّيْنِ، أَوْ كِتَابِيٌّ مُتَزَوِّجٌ بِوَثَنِيَّةٍ.
وَيُنْظَرُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (إِسْلاَمٌ، وَنِكَاحٌ) .
__________
(1) المصادر السابقة: حديث بريرة الذي يدل على أن زوجها كان حرا. فقد أخرجه النسائي (6 / 163 ط دار الكتاب العربي) ، وأصل القصة في الصحيحين، ولكن لفظ " كان حرا " من رواية النسائي، واعتبرها ابن حجر مدرجة من قول الأسود الراوي عن عائشة. (انظر الفتح 9 / 410ـ 411 ط السلفية)
(2) مغني المحتاج 3 / 191، 210، والمغني لابن قدامة 6 / 614 - 634، 659، وجواهر الإكليل 1 / 296، وابن عابدين 2 / 388.(13/75)
تَغْيِيرُ الْمَغْصُوبِ:
9 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ تَغْيِيرِ الْمَغْصُوبِ.
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ: إِنْ غَيَّرَ الْمَغْصُوبَ فَزَال اسْمُهُ وَأَعْظَمُ مَنَافِعِهِ، كَطَحْنِ حِنْطَةٍ، ضَمِنَهُ الْغَاصِبُ وَمَلَكَهُ، بِلاَ حِل انْتِفَاعٍ قَبْل أَدَاءِ ضَمَانِهِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ التَّغْيِيرُ قَدْ زَادَ مِنْ قِيمَةِ الْمَغْصُوبِ، فَهُوَ لِلْمَالِكِ وَلاَ شَيْءَ لِلْغَاصِبِ بِسَبَبِهَا، إِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ أَثَرًا مَحْضًا، وَإِنْ نَقَصَ مِنَ الْمَغْصُوبِ فَعَلَى الْغَاصِبِ رَدُّهُ وَأَرْشُ النَّقْصِ. (1) وَالتَّفَاصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (غَصْبٌ) :
تَغَيُّرُ حَالَةِ الْجَانِي أَوِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ:
10 - إِذَا تَغَيَّرَ حَال الْجَانِي أَوِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الإِْسْلاَمِ إِلَى الْكُفْرِ أَوِ الْعَكْسِ، فَفِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ أَوْ عَدَمِهِ، وَمِقْدَارِ الدِّيَةِ مَذَاهِبُ يُرْجَعُ إِلَيْهَا فِي مَبَاحِثِ (الدِّيَةِ، وَالْقِصَاصِ) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 121، وجواهر الإكليل 2 / 149، ومغني المحتاج 2 / 290، والمغني لابن قدامة 5 / 277.(13/76)
تَفَاؤُلٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّفَاؤُل: أَنْ تَسْمَعَ كَلاَمًا حَسَنًا فَتَتَيَمَّنَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ قَبِيحًا فَهُوَ الطِّيَرَةُ، يُقَال: فَأَل بِهِ تَفْئِيلاً جَعَلَهُ يَتَفَاءَل بِهِ، وَتَفَأَّل بِهِ بِالتَّشْدِيدِ تَفَؤُّلاً. وَتَفَاءَل تَفَاؤُلاً، وَيُسْتَعْمَل غَالِبًا فِي الْخَيْرِ، وَفِي الأَْثَرِ: لاَ عَدْوَى، وَلاَ طِيَرَةَ، وَيُعْجِبُنِي الْفَأْل الصَّالِحُ (1) . وَقَدْ يُسْتَعْمَل فِي الشَّرِّ أَيْضًا، يُقَال: لاَ فَأْل عَلَيْكَ أَيْ لاَ ضَيْرَ عَلَيْكَ، وَجَاءَ فِي الأَْثَرِ: ذُكِرَتِ الطِّيَرَةُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: خَيْرُهَا الْفَأْل (2) . وَصَحَّ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: لاَ طِيَرَةَ وَيُعْجِبُنِي الْفَأْل الْكَلِمَةُ الْحَسَنَةُ الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ (3) .
__________
(1) تاج العروس، ولسان العرب، والمصباح، مادة: " فأل " وحديث: " لا عدوى ولا طيرة ويعجبني الفأل الصالح ". أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 214 ط السلفية) ، ومسلم (4 / 1746 ط عيسى الحلبي) من حديث أنس بن مالك
(2) حديث: " خيرها الفأل " أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 214 ط السلفية) من حديث أبي هريرة.
(3) الآداب الشرعية ص 279. وحديث: " لا عدوى ولا طيرة. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 244 ط السلفية) ، ومسلم (4 / 1746 ط عيسى الحلبي) واللفظ لمسلم وهو من حديث أنس بن مالك.(13/76)
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لَهُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ. وَقَدْ عَرَّفَهُ الْقَرَافِيُّ بِأَنَّهُ: مَا يُظَنُّ عِنْدَهُ الْخَيْرُ. عَكْسُ الطِّيَرَةِ وَالتَّطَيُّرِ. غَيْرَ أَنَّهُ تَارَةً يَتَعَيَّنُ لِلْخَيْرِ، وَتَارَةً لِلشَّرِّ، وَتَارَةً يَتَرَدَّدُ بَيْنَهُمَا، فَالْمُتَعَيَّنُ لِلْخَيْرِ مِثْل الْكَلِمَةِ الْحَسَنَةِ يَسْمَعُهَا الرَّجُل مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ. نَحْوُ: يَا فَلاَحُ، يَا مَسْعُودُ. (1)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
التَّبَرُّكُ:
2 - التَّبَرُّكُ: طَلَبُ ثُبُوتِ الْخَيْرِ الإِْلَهِيِّ فِي الشَّيْءِ. سُمِّيَتْ بَرَكَةً لِثُبُوتِ الْخَيْرِ فِيهِ، كَمَا يَثْبُتُ الْمَاءُ فِي الْبِرْكَةِ.
حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ:
3 - التَّفَاؤُل مُبَاحٌ بَل حَسَنٌ إِذَا كَانَ مُتَعَيِّنًا لِلْخَيْرِ، كَأَنْ يَسْمَعَ الْمَرِيضُ يَا سَالِمُ، فَيَنْشَرِحُ لِذَلِكَ صَدْرُهُ.
وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ التَّفَاؤُل بِالْكَلِمَةِ الْحَسَنَةِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، كَأَنْ يَسْمَعَ الْمَرِيضُ يَا سَالِمُ، أَوْ يَسْمَعُ طَالِبُ الضَّالَّةِ يَا وَاجِدُ
__________
(1) الفروق 4 / 240.(13/77)
فَتَسْتَرِيحُ نَفْسُهُ لِذَلِكَ. (1) لِخَبَرِ لاَ عَدْوَى، وَلاَ طِيَرَةَ، وَيُعْجِبُنِي الْفَأْل الصَّالِحُ وَالْكَلِمَةُ الْحَسَنَةُ (2) .
وَكَانَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يُعْجِبُهُ: أَنْ يَسْمَعَ يَا رَاشِدُ يَا نَجِيحُ إِذَا خَرَجَ لِحَاجَتِهِ (3)
وَكَانَ لاَ يَتَطَيَّرُ مِنْ شَيْءٍ، وَكَانَ إِذَا بَعَثَ عَامِلاً سَأَل عَنِ اسْمِهِ فَإِذَا أَعْجَبَهُ اسْمُهُ فَرِحَ بِهِ وَرُئِيَ بِشْرُ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ، وَإِنْ كَرِهَ اسْمَهُ رُئِيَ كَرَاهِيَةُ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ، وَإِذَا دَخَل قَرْيَةً سَأَل عَنِ اسْمِهَا فَإِنْ أَعْجَبَهُ اسْمُهَا فَرِحَ وَرُئِيَ بِشْرُ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ وَإِنْ كَرِهَ اسْمَهَا رُئِيَ كَرَاهِيَةُ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ.، (4)
__________
(1) فتح الباري 10 / 214ـ 215، والآداب الشرعية 3 / 376، 377، 378، والفروق 4 / 240، وتفسير القرطبي 6 / 59 ـ 60، وابن عابدين 1 / 555.
(2) حديث: " لا عدوى ولا طيرة ويعجبني الفأل الصالح والكلمة الحسنة " أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 214 ط السلفية) ، ومسلم (10 / 1746 ط عيسى الحلبي) واللفظ للبخاري وهو من حديث أنس بن مالك.
(3) حديث: " كان يعجبه أن يسمع يا راشد يا نجيح إذا خرج لحاجته " أخرجه الترمذي (4 / 161 ط مصطفى الحلبي) وقال: حسن غريب صحيح، والطبراني في الصغير (1 / 199 ط السلفية) وهو من حديث أنس بن مالك.
(4) حديث: " كان لا يتطير من شيء، وكان إذا بعث عاملا سأل عن اسمه: فإذا أعجبه اسمه فرح به ورئي بشر ذلك في وجه. . . " أخرجه أحمد (5 / 347، 348) ط المكتب الإسلامي، وأبو داود (4 / 236) ط عبيد دعاس من حديث بريدة، وحسنه الحافظ ابن حجر في فتح الباري (10 / 215 ط السلفية) .(13/77)
وَإِنَّمَا كَانَ يُعْجِبُهُ الْفَأْل؛ لأَِنَّهُ تَنْشَرِحُ لَهُ النَّفْسُ وَتَسْتَبْشِرُ بِقَضَاءِ الْحَاجَةِ فَيُحْسِنُ الظَّنَّ بِاَللَّهِ. (1) وَقَال عَزَّ مَنْ قَائِلٌ فِي حَدِيثٍ قُدْسِيٍّ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، فَلاَ يَظُنَّنَّ بِي إِلاَّ خَيْرًا (2) .
بِخِلاَفِ الطِّيَرَةِ فَإِنَّهَا مِنْ أَعْمَال أَهْل الشِّرْكِ حَيْثُ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ حُصُول الضَّرَرِ بِمَا يُتَطَيَّرُ بِهِ.
التَّفَاؤُل الْمُبَاحُ:
4 - التَّفَاؤُل الْمُبَاحُ: أَنْ يَسْمَعَ الرَّجُل الْكَلِمَةَ الطَّيِّبَةَ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، أَوْ يُسَمِّي وَلَدَهُ اسْمًا حَسَنًا فَيَفْرَحُ عِنْدَ سَمَاعِهِ.
أَمَّا أَخْذُ الْفَأْل مِنَ الْمُصْحَفِ، كَأَنْ يَفْتَحَهُ فَيَتَفَاءَل بِبَعْضِ الآْيَاتِ فِي أَوَّل الصَّفْحَةِ، أَوْ يَتَفَاءَل بِضَرْبِ الرَّمْل، فَيَتَفَاءَل بِبَعْضِ رُمُوزِهِ فَحَرَامٌ (3) .
وَانْظُرْ أَيْضًا مُصْطَلَحَ: (تَطَيُّرٌ، وَتَسْمِيَةٌ) .
__________
(1) ابن عابدين 1 / 555، وفتح الباري 10 / 215، وتفسير القرطبي 6 / 59ـ 60، والفروق 4 / 241، والآداب الشرعية لابن مفلح 3 / 376، 377، 378
(2) حديث: " قال الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي فلا يظنن بي إلا خيرا "، أخرجه أحمد بلفظ " قال الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي إن ظن بي خيرا فله، وإن شرا فله " مسند أحمد بن حنبل (2 / 391 ط المكتب الإسلامي) ، وابن حبان في صحيحه (موارد: 2394) ط دار الكتب العلمية. من حديث أبي هريرة
(3) الفروق 4 / 240 - 241، وحاشية القليوبي 4 / 256، والأذكار للنووي 256.(13/78)
تَفَرُّقٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّفَرُّقُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ: تَفَرَّقَ ضِدُّ تَجَمَّعَ، يُقَال: تَفَرَّقَ الْقَوْمُ تَفَرُّقًا، وَمِثْلُهُ افْتَرَقَ الْقَوْمُ افْتِرَاقًا وَالتَّفْرِيقُ: خِلاَفُ التَّجْمِيعِ، يُقَال: فَرَّقَ الشَّيْءَ تَفْرِيقًا وَتَفْرِقَةً: بَدَّدَهُ، وَهُوَ مُتَعَدٍّ، أَمَّا التَّفَرُّقُ فَلاَزِمٌ. وَالتَّفْرِيقُ أَبْلَغُ مِنَ الْفَرْقِ، لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى التَّكْثِيرِ (1) . وَالتَّفَرُّقُ فِي الاِصْطِلاَحِ لاَ يَخْرُجُ مَعْنَاهُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
(الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ) :
التَّجَزُّؤُ:
2 - التَّجَزُّؤُ: مِنْ تَجَزَّأَ الشَّيْءُ تَجَزُّؤًا، وَجَزَّأَ الشَّيْءَ تَجْزِئَةً: حَمَلَهُ أَجْزَاءً. (2) وَالتَّفَرُّقُ يَكُونُ بَيْنَ الأَْبْدَانِ، وَالتَّجَزُّؤُ فِي الأُْمُورِ.
__________
(1) لسان العرب، والصحاح مادة: " فرق "
(2) المصباح المنير مادة: " جزأ "(13/78)
حُكْمُهُ:
3 - تَخْتَلِفُ أَحْكَامُ التَّفَرُّقِ بِاخْتِلاَفِ مَوْضُوعِهِ: فَيَسْقُطُ خِيَارُ الْمَجْلِسِ بِتَفَرُّقِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ عِنْدَ مَنْ يُجِيزُ خِيَارَ الْمَجْلِسِ مِنَ الْفُقَهَاءِ.
وَيَبْطُل الْعَقْدُ بِالتَّفَرُّقِ قَبْل الْقَبْضِ فِيمَا يُشْتَرَطُ فِي صِحَّتِهِ التَّقَابُضُ فِي الْمَجْلِسِ. كَرَأْسِ مَال السَّلَمِ، وَبَيْعِ الرِّبَوِيِّ بِمِثْلِهِ، أَوْ بِمُتَّحِدٍّ مَعَهُ فِي الْعِلَّةِ، عَلَى اخْتِلاَفٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي بَعْضِ التَّفَاصِيل.
التَّفَرُّقُ الْمُؤَثِّرُ وَحُكْمُهُ:
4 - التَّفَرُّقُ الْمُؤَثِّرُ هُوَ: أَنْ يَتَفَرَّقَا بِأَبْدَانِهِمَا، وَلاَ خِلاَفَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، وَالْمَرْجِعُ فِيهِ عُرْفُ النَّاسِ، وَعَادَتُهُمْ فِيمَا يَعُدُّونَهُ تَفَرُّقًا، لأَِنَّ الشَّارِعَ نَاطَ عَلَيْهِ حُكْمًا وَلَمْ يُبَيِّنْهُ، فَدَل ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ مَا يَعْرِفُهُ النَّاسُ، كَكُل مَا أَطْلَقَهُ الشَّارِعُ فِي الْمُعَامَلاَتِ كَالْقَبْضِ، وَالإِْحْرَازِ.
هَذَا وَيَسْقُطُ بِالتَّفَرُّقِ خِيَارُ الْمَجْلِسِ، وَيَلْزَمُ الْعَقْدُ فِي غَيْرِ الصَّرْفِ وَالرِّبَوِيِّ، وَيَبْطُل بِالتَّفَرُّقِ بَيْعُ الرِّبَوِيِّ قَبْل الْقَبْضِ. (1)
أَمَّا هَل يَقُومُ التَّخَايُرُ مَقَامَ التَّفَرُّقِ فِي إِسْقَاطِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ؟ وَهَل يَجُوزُ التَّخَايُرُ قَبْل الْقَبْضِ فِي بَيْعِ الرِّبَوِيِّ، وَآرَاءُ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ؟ فَيُرْجَعُ فِيهَا إِلَى مُصْطَلَحِ (خِيَارُ الْمَجْلِسِ) .
__________
(1) المغني 3 / 11 - 12، وروضة الطالبين 3 / 437، وحاشية الطحاوي 3 / 137(13/79)
تَفَرُّقُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بَعْدَ انْعِقَادِ الْبَيْعِ:
5 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ التَّفَرُّقَ بَعْدَ انْعِقَادِ الْبَيْعِ يَسْقُطُ حَقُّهُ فِي خِيَارِ الْمَجْلِسِ لِخَبَرِ: الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا (1) .
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَهَذَا قَوْل أَكْثَرِ أَهْل الْعِلْمِ.
وَإِنْ لَمْ يَتَفَرَّقَا، وَأَقَامَا مُدَّةً طَوِيلَةً، فَالْخِيَارُ بِحَالِهِ، وَإِنْ طَالَتِ الْمُدَّةُ لِعَدَمِ التَّفَرُّقِ. (2) لِمَا رَوَى أَبُو الْوَضِيءِ - عَبَّادُ بْنُ نُسَيْبٍ -: غَزَوْنَا غَزْوَةً، فَنَزَلْنَا مَنْزِلاً، فَبَاعَ صَاحِبٌ لَنَا فَرَسًا بِغُلاَمٍ، ثُمَّ أَقَامَا بَقِيَّةَ يَوْمِهِمَا وَلَيْلَتِهِمَا، فَلَمَّا أَصْبَحَا مِنَ الْغَدِ حَضَرَ الرَّحِيل، فَقَامَ إِلَى فَرَسِهِ يُسَرِّجُهُ فَنَدِمَ، فَأَتَى الرَّجُل وَأَخَذَهُ بِالْبَيْعِ، فَأَبَى الرَّجُل أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَيْهِ، فَقَال: بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَبُو بَرْزَةَ صَاحِبُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَيَا أَبَا بَرْزَةَ فِي نَاحِيَةِ الْعَسْكَرِ فَقَالاَ لَهُ هَذِهِ الْقِصَّةَ فَقَال: أَتَرْضَيَانِ أَنْ أَحْكُمَ بَيْنَكُمَا بِقَضَاءِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا وَمَا أَرَاكُمَا افْتَرَقْتُمَا (3) .
الإِْكْرَاهُ عَلَى التَّفَرُّقِ:
6 - إِنْ أُكْرِهَ الشَّخْصُ عَلَى التَّفَرُّقِ فَفِيهِ وَجْهَانِ
__________
(1) حديث: " البيعان بالخيار ما لم يتفرقا " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 328 ط السلفية) من حديث حكيم بن حزام
(2) المجموع النووي 9 / 174ـ 175، والمغني 3 / 563.
(3) حديث أبي برزة: " أترضيان أن أحكم بينكما بقضاء رسول الله. . . " أخرجه أبو داود (3 / 736ـ 737 تحقيق عزت عبيد دعاس) وقال المنذري في مختصره رجال إسناده ثقات (المختصر 5 / 96نشر دار المعرفة) .(13/79)
لِلشَّافِعِيَّةِ - وَهُمَا رِوَايَتَانِ لِلْحَنَابِلَةِ -
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَبْطُل الْخِيَارُ، لأَِنَّهُ كَانَ يُمْكِنُهُ الْفَسْخُ بِالتَّخَايُرِ، وَهُوَ أَنْ يَقُول لِصَاحِبِهِ: اخْتَرْ فَيَلْزَمُ الْعَقْدُ، فَحَيْثُ لَمْ يَفْعَل ذَلِكَ فَقَدْ رَضِيَ بِإِسْقَاطِ الْخِيَارِ.
الثَّانِي: لاَ يَبْطُل الْخِيَارُ لأَِنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ أَكْثَرُ مِنَ السُّكُوتِ، وَالسُّكُوتُ لاَ يُسْقِطُ الْخِيَارَ. وَلَمْ يَأْخُذْ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ بِخِيَارِ الْمَجْلِسِ أَصْلاً. (1)
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (خِيَارُ الْمَجْلِسِ) .
التَّفَرُّقُ قَبْل الْقَبْضِ فِي بَيْعِ الرِّبَوِيِّ:
7 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا بِيعَ أَحَدُ النَّقْدَيْنِ بِمِثْلِهِ، أَوْ بِالآْخَرِ يَجِبُ التَّقَابُضُ فِي الْمَجْلِسِ.
وَإِلاَّ يَبْطُل الْعَقْدُ (2) لِخَبَرِ: لاَ تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةَ بِالْفِضَّةِ إِلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَلاَ تُشْفُوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلاَ تَبِيعُوا الْوَرِقَ بِالْوَرِقِ إِلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَلاَ تُشْفُوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلاَ تَبِيعُوا مِنْهَا غَائِبًا بِنَاجِزٍ (3) .
أَمَّا غَيْرُ النَّقْدَيْنِ مِنَ الرِّبَوِيَّاتِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُرْمَةِ التَّفَرُّقِ قَبْل الْقَبْضِ
__________
(1) المصادر السابقة.
(2) المجموع 9 / 181ـ 403، والقوانين الفقهية ص254، وحاشية الطحاوي 3 / 137، والمغني 4 / 11ـ 12.
(3) حديث: " لا تبيعوا الذهب بالذهب. . " أخرجه مسلم (3 / 1208ط الحلبي) من حديث أبي سعيد الخدري.(13/80)
فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، يُشْتَرَطُ التَّقَابُضُ وَيَحْرُمُ التَّفَرُّقُ قَبْل الْقَبْضِ، إِنِ اتَّحَدَ الْجِنْسُ، أَوِ اتَّحَدَتْ عِلَّةُ الرِّبَا فِيهِمَا، وَيَبْطُل الْعَقْدُ بِالتَّفَرُّقِ قَبْل الْقَبْضِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ التَّقَابُضِ فِي الْمَجْلِسِ فِي الْمَوْزُونِ وَالْمَكِيل الْمُعَيَّنِ، وَيَجُوزُ التَّفَرُّقُ قَبْل الْقَبْضِ، وَلاَ يَبْطُل الْعَقْدُ بِهِ. (1)
وَتَفْصِيلُهُ فِي (رِبًا، قَبْضٌ) .
التَّفَرُّقُ قَبْل قَبْضِ رَأْسِ مَال السَّلَمِ:
8 - يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ عَقْدِ السَّلَمِ قَبْضُ رَأْسِ مَال السَّلَمِ قَبْل التَّفَرُّقِ، فَإِنْ تَفَرَّقَا قَبْل الْقَبْضِ بَطَل الْعَقْدُ. وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ. (2)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ يُشْتَرَطُ قَبْضُ رَأْسِ مَال السَّلَمِ فِي الْمَجْلِسِ، وَلاَ يَبْطُل بِالتَّفَرُّقِ، فَيَجُوزُ عِنْدَهُمْ تَأْخِيرُ الْقَبْضِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ لِخِفَّةِ الأَْمْرِ وَلأَِنَّ مَا قَارَبَ الشَّيْءَ يُعْطَى حُكْمَهُ (3) .
التَّفَرُّقُ قَبْل التَّقَابُضِ فِي بَيْعِ الْعَرَايَا:
9 - الْعَرَايَا: جَمْعُ عَرِيَّةٍ، وَهِيَ بَيْعُ مَا عَلَى
__________
(1) حاشية الطحطاوي على الدر المختار 3 / 109، وحاشية ابن عابدين 4 / 182، والمجموع 9 / 181ـ 403، والقوانين الفقهية ص254.
(2) حاشية الطحطاوي 3 / 122، والمغني 4 / 328، ونهاية المحتاج 4 / 184
(3) حاشية الدسوقي 3 / 195(13/80)
النَّخْلَةِ مِنْ رُطَبٍ بِتَمْرٍ عَلَى الأَْرْضِ، أَوِ الْعِنَبِ فِي الشَّجَرِ بِزَبِيبٍ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ.
وَيُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ بَيْعِ الْعَرَايَا عِنْدَ الْقَائِل بِهِ التَّقَابُضُ قَبْل التَّفَرُّقِ. (1) وَتَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ فِي بَيْعِ الْعَرَايَا.
تَفَرُّقُ الْمُتَنَاضِلَيْنِ قَبْل انْتِهَاءِ الْمَشْرُوطِ:
10 - لاَ يَجُوزُ أَنْ يَفْتَرِقَ الْمُتَنَاضِلاَنِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَا الْمِقْدَارَ الْمَشْرُوطَ التَّنَاضُل بِهِ فِي الزَّمَنِ الْمُحَدَّدِ إِلاَّ لِعُذْرٍ كَمَرَضٍ، أَوْ رِيحٍ عَاصِفَةٍ أَوْ بِالتَّرَاضِي. (2) وَالتَّفْصِيل فِي مُنَاضَلَةٍ.
تَفَرُّقُ الصَّفْقَةِ:
11 - تَتَفَرَّقُ الصَّفْقَةُ بِتَفْصِيل الثَّمَنِ كَأَنْ يَقُول: بِعْتُكَ هَذَا بِكَذَا، وَهَذَا بِكَذَا، فَيَقْبَل الآْخَرُ، وَبِتَعَدُّدِ الْمُشْتَرِي، أَوِ الْبَائِعِ، وَبِالْجَمْعِ فِي صَفْقَةٍ بَيْنَ مَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَمَا لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ كَخَلٍّ، وَخَمْرٍ. وَمَعْنَى تَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ تَفْرِيقُهَا فِي الْحُكْمِ. فَفِي حَالَةِ تَفْصِيل الثَّمَنِ مَثَلاً يَجُوزُ لِلْمُشْتَرِي قَبُول أَحَدِ الْمَبِيعَيْنِ وَرَدُّ الآْخَرِ، وَفِي حَالَةِ تَعَدُّدِ الْعَاقِدَيْنِ، لَهُ رَدُّ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا بِالْعَيْبِ وَإِبْقَاءُ الآْخَرِ، وَفِي حَالَةِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَلاَل وَالْحَرَامِ فِي صَفْقَةٍ، يَصِحُّ الْعَقْدُ فِي
__________
(1) المجموع 11 / 20 - 21، والموسوعة 9 / 91
(2) روضة الطالبين 10 / 369.(13/81)
الْحَلاَل، وَيَبْطُل فِي الْحَرَامِ. (1) وَالتَّفْصِيل فِي تَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ.
تَفَرُّقُ الْمُجْتَمِعِينَ فِي أَثْنَاءِ خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ:
12 - إِذَا تَفَرَّقَ الْمُجْتَمِعُونَ أَثْنَاءَ الْخُطْبَةِ، أَوْ نَقَصَ عَدَدُهُمْ لَمْ يُحْسَبِ الْجُزْءُ الْمُؤَدَّى مِنْ أَرْكَانِ الْخُطْبَةِ فِي غَيْبَتِهِمْ.
وَالتَّفْصِيل فِي صَلاَةِ الْجُمُعَةِ (2) .
تَفَرُّقُ الْعُرَاةِ عِنْدَ الصَّلاَةِ:
13 - إِذَا اجْتَمَعَ عُرَاةٌ لِلصَّلاَةِ، فَإِنْ كَانُوا فِي ظَلاَمٍ صَلَّوْا جَمَاعَةً، وَإِلاَّ تَفَرَّقُوا وُجُوبًا، وَصَلَّوْا أَفْذَاذًا (3) وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (عَوْرَةٌ) .
تَفَرُّقُ جَمْعٍ وَظُهُورُ قَتِيلٍ:
14 - إِذَا تَفَرَّقَ جَمْعٌ وَظَهَرَ فِي الْمَكَانِ قَتِيلٌ، يَكُونُ ذَلِكَ قَرِينَةً عَلَى أَنَّهُمُ الْجُنَاةُ، وَيَثْبُتُ لِوَلِيِّ الدَّمِ أَنْ يُحَلِّفَهُمْ أَيْمَانَ الْقَسَامَةِ. وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي: (الْقَسَامَةِ) .
__________
(1) الفتاوى الهندية 3 / 14، وحاشية الجمل 3 / 100 - 101.
(2) القليوبي 1 / 275.
(3) حاشية الدسوقي 1 / 221.(13/81)
تَفْرِيطٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّفْرِيطُ فِي اللُّغَةِ: التَّقْصِيرُ وَالتَّضْيِيعُ، يُقَال فَرَّطَ فِي الشَّيْءِ وَفَرَّطَهُ: إِذَا ضَيَّعَهُ وَقَدَّمَ الْعَجْزَ فِيهِ، وَفَرَطَ فِي الأَْمْرِ يَفْرُطُ فَرْطًا أَيْ: قَصَّرَ فِيهِ وَضَيَّعَهُ حَتَّى فَاتَ
وَاصْطِلاَحًا: لاَ يَخْرُجُ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (1) .
(الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ) :
الإِْفْرَاطُ:
2 - الإِْفْرَاطُ لُغَةً: الإِْسْرَافُ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ وَالإِْفْرَاطُ كَذَلِكَ: الزِّيَادَةُ عَلَى مَا أُمِرْتُ، يُقَال أَفْرَطَ إِفْرَاطًا: إِذَا أَسْرَفَ وَجَاوَزَ الْحَدَّ. وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لَهُ عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ.
قَال الْجُرْجَانِيِّ فِي التَّعْرِيفَاتِ: الْفَرْقُ بَيْنَ الإِْفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ، أَنَّ الإِْفْرَاطَ يُسْتَعْمَل فِي تَجَاوُزِ
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، والقاموس، مادة: " فرط "، والتعريفات للجرجاني " إفراط "(13/82)
الْحَدِّ مِنْ جَانِبِ الزِّيَادَةِ وَالْكَمَال، وَالتَّفْرِيطُ يُسْتَعْمَل فِي تَجَاوُزِ الْحَدِّ مِنْ جَانِبِ النُّقْصَانِ وَالتَّقْصِيرِ (1) ، فَالنِّسْبَةُ بَيْنَ الإِْفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ التَّضَادُّ.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
3 - الأَْصْل فِي التَّفْرِيطِ التَّحْرِيمُ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّضْيِيعِ لِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُقُوقِ الآْدَمِيِّينَ، وَمِنْ ذَلِكَ عَدَمُ أَدَاءِ الصَّلاَةِ حَتَّى يَخْرُجَ وَقْتُهَا إِهْمَالاً، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَا إِنَّهُ لَيْسَ فِي النَّوْمِ تَفْرِيطٌ، إِنَّمَا التَّفْرِيطُ عَلَى مَنْ لَمْ يُصَل الصَّلاَةَ حَتَّى يَجِيءَ وَقْتُ الصَّلاَةِ الأُْخْرَى (2) .
أ - التَّفْرِيطُ فِي الْعِبَادَاتِ:
4 - هُوَ صُورَةٌ مِنْ صُوَرِ التَّفْرِيطِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالتَّفْرِيطُ فِي الْعِبَادَةِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِتَرْكِهَا بِالْكُلِّيَّةِ، أَوْ بِتَرْكِ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِهَا، أَوْ وَاجِبٍ مِنْ وَاجِبَاتِهَا، أَوْ سُنَّةٍ مِنْ سُنَنِهَا، أَوْ يَكُونُ بِأَدَائِهَا فِي غَيْرِ وَقْتِهَا الْمُحَدَّدِ لَهَا شَرْعًا. فَإِنْ كَانَ التَّفْرِيطُ بِتَرْكِهَا بِالْكُلِّيَّةِ، فَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي تَفْسِيقِ تَارِكِهَا وَتَأْثِيمِهِ وَتَعْزِيرِهِ إِنْ
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، مادة: " فرط " والتعريفات للجرجاني " إفراط " والكليات فصل الألف والتاء
(2) حديث " أما إنه ليس في النوم تفريط. . . " أخرجه مسلم (1 / 473 ط الحلبي) من حديث أبي قتادة.(13/82)
كَانَ تَرَكَهَا تَهَاوُنًا وَكَسَلاً، وَتَكْفِيرُهُ إِنْ كَانَ تَرَكَهَا جُحُودًا (1) .
وَإِنْ كَانَ التَّفْرِيطُ بِتَرْكِ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الْعِبَادَةِ فَإِنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى بُطْلاَنِهَا، وَيَجِبُ عَلَيْهِ الإِْعَادَةُ، وَذَلِكَ كَمَنْ تَرَكَ تَكْبِيرَةَ الإِْحْرَامِ فِي الصَّلاَةِ، أَوِ الإِْمْسَاكَ فِي الصَّوْمِ، أَوِ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ فِي الْحَجِّ. (2)
وَإِنْ كَانَ التَّفْرِيطُ بِتَرْكِ وَاجِبٍ مِنْ وَاجِبَاتِهَا، فَتَبْطُل الْعِبَادَةُ إِنْ تَرَكَهُ عَمْدًا، كَمَنْ تَرَكَ التَّشَهُّدَ الأَْوَّل فِي الصَّلاَةِ - عِنْدَ مَنْ يَقُول بِوُجُوبِهِ فِي الصَّلاَةِ - فَإِنْ تَرَكَهُ سَهْوًا أَوْ جَهْلاً فَيُمْكِنُ تَدَارُكُ هَذَا التَّفْرِيطِ بِالْجَبْرِ فَيَسْجُدُ سُجُودَ السَّهْوِ لِتَرْكِ وَاجِبِ الصَّلاَةِ. وَيَجِبُ فِي تَرْكِ الْوَاجِبِ فِي الْحَجِّ دَمٌ حَدًّا لَهُ. (3)
وَتَرْكُ سُنَّةٍ مِنْ سُنَنِ الْعِبَادَةِ، لَيْسَ تَفْرِيطًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَلاَ إِثْمَ فِيهِ، وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ غَيْرُ نُقْصَانِ الثَّوَابِ، وَعِبَادَتُهُ تَقَعُ صَحِيحَةً.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 235، ومواهب الجليل 1 / 420، 421، ومغني المحتاج 1 / 327، 368، 420، 460، وكشاف القناع 1 / 227وما بعدها.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 297، 2 / 97، والدسوقي 1 / 231، 2 / 21، ومغني المحتاج 1 / 148، 423، 513، وكشاف القناع 1 / 385، 2 / 314، 521، وما بعدها
(3) ابن عابدين 1 / 306، 2 / 150، وحاشية الدسوقي2 / 21، وكشاف القناع 1 / 385، 2 / 21 وما بعدها ومغني المحتاج 1 / 148، 513.(13/83)
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ مَشْرُوعِيَّةَ سُجُودِ السَّهْوِ لِتَرْكِ سُنَّةٍ مِنْ سُنَنِ الصَّلاَةِ، أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لِتَرْكِ السُّنَّةِ تَفْرِيطٌ لَكِنَّهُ لاَ يُوجِبُ فَسَادًا وَلاَ سَهْوًا، بَل إِسَاءَةً لَوْ عَامِدًا غَيْرَ مُسْتَخِفٍّ، وَقَالُوا: الإِْسَاءَةُ أَدْوَنُ مِنَ الْكَرَاهَةِ التَّحْرِيمِيَّةِ، وَحُكْمُ السُّنَّةِ أَنَّهُ يُنْدَبُ إِلَى تَحْصِيلِهَا، وَيُلاَمُ عَلَى تَرْكِهَا مَعَ لُحُوقِ إِثْمٍ يَسِيرٍ. (1)
وَهُنَاكَ تَفْصِيلٌ وَخِلاَفٌ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (سُجُودُ السَّهْوِ) .
وَإِنْ كَانَ التَّفْرِيطُ بِأَدَاءِ الْعِبَادَةِ فِي غَيْرِ وَقْتِهَا الْمُحَدَّدِ لَهَا شَرْعًا، فَإِنْ أَدَّاهَا قَبْل وَقْتِهَا فَلاَ تَصِحُّ مِنْهُ لِتَخَلُّفِ الشَّرْطِ عَنْهَا، وَإِنْ أَدَّاهَا بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِهَا بِغَيْرِ عُذْرٍ فَإِنَّهُ آثِمٌ، كَأَدَاءِ الصَّلاَةِ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ، وَتَأْخِيرِ الزَّكَاةِ عَنِ الْحَوْل عِنْدَ مَنْ يَرَى وُجُوبَ إِخْرَاجِهَا عَلَى الْفَوْرِ. (2)
ب - التَّفْرِيطُ فِي عُقُودِ الأَْمَانَاتِ:
5 - وَهُوَ مِنْ صُوَرِ التَّفْرِيطِ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ.
إِنَّ التَّفْرِيطَ وَالتَّقْصِيرَ فِي عُقُودِ الأَْمَانَاتِ كَالْوَدِيعَةِ يُوجِبُ الضَّمَانَ فِيهَا. أَمَّا إِنْ تَلِفَتِ الْعَيْنُ بِغَيْرِ تَعَدٍّ أَوْ تَفْرِيطٍ فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ.
__________
(1) ابن عابدين 1 / 318، وحاشية الدسوقي 1 / 273، 2 / 21 ومغني المحتاج 1 / 148، وكشاف القناع 1 / 385، 393، والطحطاوي على مراقي الفلاح 139.
(2) ابن عابدين 2 / 150، وحاشية الدسوقي 1 / 183، ومغني المحتاج 1 / 413، وكشاف القناع 1 / 226(13/83)
وَمِنْ صُوَرِ التَّفْرِيطِ فِي الأَْمَانَاتِ إِهْمَال حِفْظِهَا فِي حِرْزٍ مِثْلِهَا، أَوْ أَنْ يُودِعَهَا عِنْدَ غَيْرِ أَمِينٍ. وَكَذَلِكَ الْعَارِيَّةُ وَالرَّهْنُ عِنْدَ مَنْ يَعُدُّهَا مِنَ الأَْمَانَاتِ. (1)
وَهُنَاكَ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ فِي الْمَذَاهِبِ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (ضَمَانٌ، وَتَعَدٍّ، وَإِعَارَةٌ) .
ج - التَّفْرِيطُ فِي الْوَكَالَةِ:
6 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الأَْصْل فِي الْوَكِيل أَنَّهُ أَمِينٌ، فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيمَا تَلِفَ فِي يَدِهِ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ مِنْهُ وَلاَ تَعَدٍّ، وَذَلِكَ لأَِنَّهُ فِي مَقَامِ الْمَالِكِ فِي الْيَدِ وَالتَّصَرُّفِ، فَكَانَ الْهَلاَكُ فِي يَدِهِ كَالْهَلاَكِ فِي يَدِ الْمَالِكِ، فَأَصْبَحَ كَالْمُودَعِ، وَلأَِنَّ الْوَكَالَةَ عَقْدُ إِرْفَاقٍ وَمَعُونَةٍ، وَالضَّمَانُ مُنَافٍ لِذَلِكَ بِدُونِ مُوجِبٍ قَوِيٍّ كَتَفْرِيطِهِ وَتَعَدِّيهِ. (2)
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ (ضَمَانٌ، وَكَالَةٌ) .
د - تَفْرِيطُ الأَْجِيرِ:
7 - إِذَا فَرَّطَ الأَْجِيرُ فِيمَا وُكِّل إلَيْهِ مِنْ عَمَل فَتَلِفَ مَا فِي يَدِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ، لاَ فَرْقَ فِي ذَلِكَ
__________
(1) ابن عابدين 4 / 494، 503، وحاشية الدسوقي 3 / 253، 419 وما بعدها، 436، ومغني المحتاج 2 / 267، 3 / 81 وما بعدها، وروضة الطالبين 4 / 96، وكشاف القناع 3 / 341، 4 / 70 وما بعدها 167.
(2) ابن عابدين 4 / 416، وبدائع الصنائع 6 / 34، وحاشية الدسوقي 3 / 390 وما بعدها، ومغني المحتاج 2 / 230، وكشاف القناع 3 / 469.(13/84)
بَيْنَ الأَْجِيرِ الْخَاصِّ كَالْخَادِمِ وَالرَّاعِي، وَبَيْنَ الأَْجِيرِ الْمُشْتَرَكِ كَالْخَيَّاطِ وَالصَّبَّاغِ (1) .
وَهُنَاكَ تَفْصِيلٌ وَخِلاَفٌ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (إِجَارَةٌ، ضَمَانٌ) .
هـ - التَّفْرِيطُ فِي النَّفَقَةِ:
8 - إِذَا فَرَّطَ الزَّوْجُ فِي الإِْنْفَاقِ عَلَى الزَّوْجَةِ وَالأَْوْلاَدِ، أَوْ أَنْفَقَ عَلَيْهِمْ دُونَ كِفَايَتِهِمْ، فَلِلزَّوْجَةِ أَنْ تَأْخُذَ مِنْ مَال زَوْجِهَا مَا يَكْفِيهَا وَأَوْلاَدَهَا عُرْفًا بِغَيْرِ إِذْنِهِ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهِنْدِ بِنْتِ عُتْبَةَ. حِينَ قَالَتْ لَهُ: إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ وَلَيْسَ يُعْطِينِي مِنَ النَّفَقَةِ مَا يَكْفِينِي وَوَلَدِي: خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ (2) وَإِنْ لَمْ تَقْدِرْ عَلَى أَخْذِ كِفَايَتِهَا وَكِفَايَةِ وَلَدِهَا مِنْ مَالِهِ رَفَعَتْ أَمْرَهَا لِلْحَاكِمِ. (3)
وَهُنَاكَ تَفْصِيلٌ وَخِلاَفٌ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (نَفَقَةٌ)
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 40 وما بعدها، وحاشية الدسوقي 4 / 24 وما بعدها، نهاية المحتاج 5 / 307، قليوبي وعميرة 3 / 81، وكشاف القناع 4 / 32 وما بعدها.
(2) حديث: " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف " أخرجه البخاري (الفتح 9 / 507 ط السلفية) ومسلم (3 / 1338 ط الحلبي) من حديث عائشة.
(3) حاشية ابن عابدين 2 / 649، وحاشية الدسوقي 2 / 418، وما بعدها، ومغني المحتاج 3 / 442، وروضة الطالبين 9 / 72، وكشاف القناع 5 / 478 وما بعدها.(13/84)
و - تَفْرِيطُ الْوَصِيِّ:
9 - الْوَصِيُّ أَمِينٌ. فَلاَ يَضْمَنُ مَا هَلَكَ فِي يَدِهِ مِنْ مَال الْمُوصَى عَلَيْهِ، وَيُقْبَل قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ إِذَا اخْتَلَفَ مَعَ الصَّبِيِّ بَعْدَ بُلُوغِهِ رَشِيدًا. وَإِنَّمَا يَضْمَنُ إِذَا فَرَّطَ فِي مَال الْمُوصَى عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ دَفَعَ الْمَال إِلَى الْيَتِيمِ قَبْل رُشْدِهِ بَعْدَ الإِْدْرَاكِ فَضَاعَ لأَِنَّهُ دَفَعَهُ إِلَى مَنْ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَيْهِ. (1)
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ (ضَمَانٌ، وَصِيٌّ)
ز - التَّفْرِيطُ فِي إِنْقَاذِ مَال الْغَيْرِ:
10 - مَنْ رَأَى مَال غَيْرِهِ مُعَرَّضًا لِلضَّيَاعِ أَوِ التَّلَفِ فَلَمْ يَسْعَ لإِِنْقَاذِهِ، فَتَلِفَ الْمَال أَوْ ضَاعَ، فَإِنَّهُ آثِمٌ بِالتَّفْرِيطِ فِي إِنْقَاذِهِ؛ لأَِنَّ حِفْظَ مَال الْغَيْرِ وَاجِبٌ مَعَ الْقُدْرَةِ. وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ تَرَتُّبِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وُجُوبُ الضَّمَانِ عَلَيْهِ (2) وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ: مُصْطَلَحَ (ضَمَانٌ)
ح - التَّفْرِيطُ فِي إِنْقَاذِ حَيَاةِ الْغَيْرِ:
11 - مَنْ فَرَّطَ فِي إِنْقَاذِ حَيَاةِ إِنْسَانٍ كَأَنْ رَآهُ فِي
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 452 وما بعدها، وشرح الزرقاني على مختصر خليل 8 / 202، والمهذب 1 / 471، ومغني المحتاج 3 / 78.
(2) ابن عابدين 3 / 318، 319، وحاشية الدسوقي 2 / 111، ومواهب الجليل 3 / 225، ونهاية المحتاج 5 / 224، والمهذب 1 / 436.(13/85)
مَهْلَكَةٍ، فَلَمْ يَمُدَّ لَهُ يَدَ الْعَوْنِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى ذَلِكَ، فَهَلَكَ الإِْنْسَانُ، فَإِنَّهُ آثِمٌ لاَ مَحَالَةَ لِوُجُوبِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الأَْنْفُسِ، وَاخْتَلَفُوا فِي تَرَتُّبِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ.
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ (الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي وَجْهٍ) إِلَى أَنَّهُ لاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ لأَِنَّهُ لَمْ يُهْلِكْهُ، لاَ عَنْ طَرِيقِ الْمُبَاشَرَةِ، وَلاَ عَنْ طَرِيقِ التَّسَبُّبِ. وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي وَجْهٍ إِلَى وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ، لأَِنَّهُ لَمْ يُنْجِهِ مِنَ الْهَلاَكِ مَعَ إِمْكَانِهِ. (1)
__________
(1) الاختيار 4 / 170، وحاشية الدسوقي 2 / 112، 4 / 242، ومواهب الجليل 3 / 225، ومغني المحتاج 4 / 5، والمغني 7 / 834، 835، والإنصاف 10 / 50، 51.(13/85)
تَفْرِيقٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّفْرِيقُ لُغَةً وَاصْطِلاَحًا خِلاَفُ الْجَمْعِ يُقَال: فَرَّقَ فُلاَنٌ الشَّيْءَ تَفْرِيقًا، وَتَفْرِقَةً إِذَا بَدَّدَهُ (1) ، وَفِي الْحَدِيثِ: لاَ يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ، وَلاَ يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ (2) .
(الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ) :
يَخْتَلِفُ حُكْمُ التَّفْرِيقِ بِاخْتِلاَفِ مُتَعَلِّقِهِ:
أ - تَفْرِيقُ الْمَال الْمُخْتَلِطِ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ:
2 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لأَِرْبَابِ الأَْمْوَال مِنْ أَهْل الزَّكَاةِ، أَنْ يُفَرِّقُوا أَمْوَالَهُمُ الْمُخْتَلِطَةَ، الَّتِي وَجَبَ فِيهَا بِاجْتِمَاعِهَا فَرْضُ الزَّكَاةِ، لِيَسْقُطَ عَنْهَا الْفَرْضُ، أَوْ لِيَقِل الْوَاجِبُ. كَأَنْ يَكُونَ لَهُمَا أَرْبَعُونَ شَاةً مُخْتَلِطَةً خَلْطَةَ اشْتِرَاكٍ، أَوْ خَلْطَةَ جِوَارٍ فَيُفَرِّقَاهَا قَبْل نِهَايَةِ الْحَوْل لِيَسْقُطَ عَنْهَا الْفَرْضُ بِالتَّفْرِقَةِ، وَلاَ يَجُوزُ لأَِرْبَابِ الأَْمْوَال أَنْ يَجْمَعُوا أَمْوَالَهُمُ الْمُتَفَرِّقَةَ لِيَقِل الْوَاجِبُ.
__________
(1) لسان العرب، ومعجم متن اللغة، مادة: " فرق ".
(2) حديث: " لا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع. . . " أخرجه البخاري (3 / 314 ـ الفتح ط السلفية) .(13/86)
وَكَذَا السَّاعِي لاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَجْمَعَ الْمُتَفَرِّقَ خَشْيَةَ سُقُوطِ الصَّدَقَةِ أَوْ قِلَّتِهَا (1) لِحَدِيثِ لاَ يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ وَلاَ يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ (2) وَانْظُرْ تَفْصِيل هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي مُصْطَلَحِ (زَكَاةٌ) .
ب - تَفْرِيقُ أَيَّامِ الصَّوْمِ، فِي التَّمَتُّعِ:
3 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ وَصْل الْمُتَمَتِّعِ صَوْمَ الأَْيَّامِ الْعَشَرَةِ إِذَا لَمْ يَصُمِ الثَّلاَثَةَ فِي وَقْتِهَا. وَيُجَوِّزُ الْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ الْوَصْل بَيْنَ الثَّلاَثَةِ وَالسَّبْعَةِ، أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: إِنْ لَمْ يَصُمِ الثَّلاَثَةَ فِي وَقْتِهَا - وَهُوَ يَوْمٌ قَبْل التَّرْوِيَةِ، وَيَوْمُ التَّرْوِيَةِ، وَيَوْمُ عَرَفَةَ - يَسْقُطُ عَنْهُ الصَّوْمُ وَيَعُودُ إِلَى الْهَدْيِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ - فِي الأَْظْهَرِ عِنْدَهُمْ - إِلَى لُزُومِ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الثَّلاَثَةِ وَالسَّبْعَةِ، وَالأَْظْهَرُ عَلَى هَذَا - فِي مُدَّةِ التَّفْرِيقِ - أَنَّهَا تَكُونُ بِقَدْرِ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ، وَمُدَّةُ إِمْكَانِ السَّيْرِ إِلَى أَهْلِهِ عَلَى الْعَادَةِ لِتَتِمَّ. وَلَوْ صَامَ عَشَرَةَ أَيَّامٍ مُتَوَالِيَةٍ حَصَلَتْ لَهُ الثَّلاَثَةُ، وَلاَ يُعْتَدُّ بِالْبَقِيَّةِ لِعَدَمِ التَّفْرِيقِ (3) .
وَيُرَاجَعُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: " تَمَتُّعٌ ".
__________
(1) مواهب الجليل2 / 266ـ267، وقليوبي، 2 / 12، 13، والمغني 2 / 615 على اختلاف بين المالكية وغيرها في بعض التفاصيل.
(2) حديث: " لا يجمع بين متفرق. . . " سبق تخريجه (ف / 1) .
(3) بدائع الصنائع 2 / 173 ـ 174، وحاشية الدسوقي 2 / 84 - 85 وأسنى المطالب 1 / 466، وقليوبي 2 / 130، والمغني 3 / 476.(13/86)
ج - تَفْرِيقُ صَوْمِ جَزَاءَاتِ الْحَجِّ:
4 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ تَفْرِيقِ أَيَّامِ الصَّوْمِ فِي جَزَاءَاتِ الْحَجِّ بِأَنْوَاعِهَا الْمُخْتَلِفَةِ، لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِهِ مُطْلَقًا فِي أَنْوَاعِهَا كُلِّهَا، فَلاَ يَتَقَيَّدُ بِالتَّتَابُعِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ (1) . وَيُنْظَرُ لِلتَّفْصِيل مُصْطَلَحُ (تَتَابُعٌ) .
د - تَفْرِيقُ أَشْوَاطِ الطَّوَافِ:
5 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ إِذَا تَلَبَّسَ بِالطَّوَافِ ثُمَّ أُقِيمَتِ الْمَكْتُوبَةُ، فَإِنَّهُ يَقْطَعُ الطَّوَافَ وَيُصَلِّي مَعَ الْجَمَاعَةِ، وَيَبْنِي عَلَى طَوَافِهِ، لأَِنَّهُ فِعْلٌ مَشْرُوعٌ فِي أَثْنَاءِ الطَّوَافِ، فَلَمْ يَقْطَعْهُ كَالْيَسِيرِ (2) .
وَفِي غَيْرِ الْمَكْتُوبَةِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ تَضْيِيقًا وَتَوْسِيعًا (3) . وَيُرْجَعُ إِلَى مُصْطَلَحِ (طَوَافٌ) .
هـ - التَّفْرِيقُ بَيْنَ الأُْمِّ وَوَلَدِهَا:
6 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي حَظْرِ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الأَْمَةِ الْمَمْلُوكَةِ وَوَلَدِهَا الصَّغِيرِ بِالْبَيْعِ حَتَّى يُمَيِّزَ
__________
(1) حاشية الدسوقي 2 / 84، وابن عابدين 2 / 210ـ 215، والمغني 3 / 521، وروضة الطالبين 1 / 511.
(2) المغني 3 / 395، وحاشية الطحطاوي 1 / 498، وحاشية الدسوقي 2 / 32، وأسنى المطالب 1 / 479.
(3) القليوبي 2 / 137، والمغني 3 / 334، وحاشية الطحطاوي 1 / 526.(13/87)
أَوْ يُثْغِرَ أَوْ يَبْلُغَ، عَلَى اخْتِلاَفٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ. (1)
لِحَدِيثِ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْوَالِدَةِ وَوَلَدِهَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحِبَّتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (2) وَاخْتَلَفُوا فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَبَيْنَ غَيْرِ الأُْمِّ مِنَ الْمَحَارِمِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَبَيْنَ مَحْرَمِهِ الْمُنْفَرِدِ، لِحَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَال: أَمَرَنِي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَبِيعَ غُلاَمَيْنِ أَخَوَيْنِ فَبِعْتُهُمَا، فَفَرَّقْتُ بَيْنَهُمَا فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال أَدْرِكْهُمَا فَأَرْجِعْهُمَا، وَلاَ تَبِعْهُمَا إِلاَّ جَمِيعًا (3) وَلأَِنَّ بَيْنَهُمَا مَحْرَمِيَّةٌ، فَلَمْ يَجُزِ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا كَالأُْمِّ وَوَلَدِهَا. (4)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ التَّحْرِيمَ خَاصٌّ بِالأُْمِّ وَوَلَدِهَا (5) لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ.
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ التَّفْرِيقَ بَيْنَ الْبَهِيمَةِ وَوَلَدِهَا حَرَامٌ، إِلاَّ إِنِ اسْتَغْنَى عَنْهَا، أَوْ بِذَبْحِهِ هُوَ لاَ بِذَبْحِهَا، وَلاَ بِبَيْعِهِ لِلذَّبْحِ. (6)
__________
(1) ابن عابدين 4 / 133، وحاشية الدسوقي 3 / 63ـ 64 وقليوبي 2 / 85، والمغني 4 / 294.
(2) حديث: " من فرق بين الوالدة وولدها فرق الله بينه. . . " أخرجه الترمذي (3 / 571 ط الحلبي) وقال: هذا حديث حسن غريب.
(3) حديث: " أدركهما فأرجعهما. . . . " أخرجه أحمد (1 / 98 ط الميمنية) وقال الهيثمي في المجمع: " رجاله رجال الصحيح " مجمع الزوائد (4 / 107 ط القدسي) .
(4) المصادر السابقة.
(5) حاشية الدسوقي 3 64 - 65، وقليوبي 2 185.
(6) قليوبي 2 / 185.(13/87)
و - تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ لِتَعَدُّدِ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ أَوْ تَعَدُّدِ الْمَبِيعِ:
7 - تَفَرُّقُ الصَّفْقَةِ بِتَفْصِيل الثَّمَنِ مِنَ الْمُوجِبِ أَوِ الْقَابِل، كَأَنْ يَقُول فِي عَقْدِ الْبَيْعِ مَثَلاً: بِعْتُكَ هَذَا الثَّوْبَ بِمِائَةٍ، وَهَذَا بِخَمْسِينَ، فَيُقْبَل الآْخَرُ فِيهِمَا، سَوَاءٌ فَصَّل الْقَابِل أَمْ لَمْ يُفَصِّل، فَيَجُوزُ رَدُّ أَحَدِهِمَا بِعَيْبٍ، وَاسْتِبْقَاءُ الآْخَرِ. تَفْرِيقًا لِلصَّفْقَةِ لِتَعَدُّدِهَا بِتَفْرِيقِ الثَّمَنِ.
وَكَذَا إِنْ تَعَدَّدَ الْبَائِعُ، أَوِ الْمُشْتَرِي، فَيَجُوزُ رَدُّ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا بِعَيْبٍ، تَفْرِيقًا لِلصَّفْقَةِ.
أَمَّا إِذَا قَبِل أَحَدَ الْمَبِيعَيْنِ، أَوْ نَصِيبَ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ فَلاَ تُفَرَّقُ الصَّفْقَةُ، لاِخْتِلاَفِ الإِْيجَابِ وَالْقَبُول، فَيَبْطُل الْعَقْدُ. هَذَا التَّفْصِيل لِلشَّافِعِيَّةِ. (1)
وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ إِذَا اتَّحَدَ الْمُوجِبُ، وَتَعَدَّدَ الْمُخَاطَبُ، لَمْ يَجُزِ التَّفْرِيقُ بِقَبُول أَحَدِهِمَا، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمُوجِبُ بَائِعًا أَمْ مُشْتَرِيًا، وَعَلَى عَكْسِهِ لَمْ يَجُزِ الْقَبُول فِي حِصَّةِ أَحَدِهِمَا.
وَإِنِ اتَّحَدَا لَمْ يَصِحَّ قَبُول الْمُخَاطَبِ فِي الْبَعْضِ، فَلَمْ يَصِحَّ تَفْرِيقُهَا مُطْلَقًا فِي الأَْحْوَال الثَّلاَثَةِ، لاِتِّحَادِ الصَّفْقَةِ فِي الْكُل.
وَكَذَا إِنِ اتَّحَدَ الْعَاقِدَانِ وَتَعَدَّدَ الْمَبِيعُ، كَأَنْ يُوجِبَ بَيْعُ مِثْلِيَّيْنِ، أَوْ قِيَمِيٍّ وَمِثْلِيٍّ، لَمْ يَجُزْ تَفْرِيقُهَا بِالْقَبُول فِي أَحَدِهِمَا إِلاَّ أَنْ يَرْضَى الآْخَرُ بِذَلِكَ
__________
(1) حاشية الجمل 3 / 100، مغني المحتاج 2 / 42.(13/88)
بَعْدَ الْقَبُول فِي الْبَعْضِ، وَيَكُونُ الْمَبِيعُ مِمَّا يَنْقَسِمُ الثَّمَنُ عَلَيْهِ بِالأَْجْزَاءِ، كَدَارٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ مَوْزُونٍ، أَوْ مَكِيلٍ، فَيَكُونُ الْقَبُول إِيجَابًا جَدِيدًا وَالرِّضَا قَبُولاً.
أَمَّا إِنْ كَانَ الْمَبِيعُ مِمَّا لاَ يَنْقَسِمُ إِلاَّ بِالْقِيمَةِ كَثَوْبَيْنِ أَوْ دَارَيْنِ، فَلاَ يَجُوزُ التَّفْرِيقُ فِي الْقَبُول.
فَإِنْ بَيَّنَ ثَمَنَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِأَنْ كَرَّرَ لَفْظَ الْبَيْعِ كَأَنْ يَقُول: بِعْتُكَ هَذَيْنِ الثَّوْبَيْنِ: بِعْتُكَ هَذَا بِأَلْفٍ وَبِعْتُكَ هَذَا بِأَلْفٍ، يَصِحُّ التَّفْرِيقُ بِالْقَبُول.
أَمَّا إِذَا لَمْ يُكَرِّرْ لَفْظَ الْبَيْعِ وَفَصَّل الثَّمَنَ، قَال بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ تَعَدَّدَتِ الصَّفْقَةُ، فَيَجُوزُ تَفْرِيقُهَا بِالْقَبُول، وَمَنَعَهُ آخَرُونَ.
وَقِيل: إِنَّ اشْتِرَاطَ تَكْرَارِ لَفْظِ الْبَيْعِ لِلتَّعَدُّدِ اسْتِحْسَانٌ. وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ. وَعَدَمُ اشْتِرَاطِهِ قِيَاسٌ. وَهُوَ قَوْل الصَّاحِبَيْنِ. (1)
وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ تَفَرُّقَ الصَّفْقَةِ يَكُونُ بِتَعَدُّدِ الْبَائِعِ أَوِ الْمُشْتَرِي أَوِ الْمَبِيعِ أَوْ بِتَفْصِيل الثَّمَنِ، عَلَى الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ.
فَإِذَا اشْتَرَى اثْنَانِ شَيْئًا، وَشَرَطَا الْخِيَارَ، أَوْ وَجَدَاهُ مَعِيبًا فَرَضِيَ أَحَدُهُمَا فَلِلآْخَرِ الْفَسْخُ بِنَاءً عَلَى تَعَدُّدِ الصَّفْقَةِ بِتَعَدُّدِ الطَّرَفَيْنِ. وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَهُمْ، وَفِي قَوْلٍ لاَ تُفَرَّقُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الصَّفْقَةَ لاَ تَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ الطَّرَفَيْنِ. وَكَذَلِكَ لَوْ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 19.(13/88)
اشْتَرَى وَاحِدٌ مِنَ اثْنَيْنِ شَيْئًا وَظَهَرَ بِهِ عَيْبٌ فَلَهُ رَدُّ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا وَإِمْسَاكُ الآْخَرِ، تَفْرِيقًا لِلصَّفْقَةِ (1) ، وَهُوَ رَأْيُ الْمَالِكِيَّةِ (2) وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (الرَّدُّ بِالْعَيْبِ) .
تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى مَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَمَا لاَ يَجُوزُ:
إِذَا اشْتَمَلَتِ الصَّفْقَةُ عَلَى مَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَمَا لاَ يَجُوزُ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِهَا عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ:
8 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى جَوَازِ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ، إِذَا جَمَعَ فِيهَا بَيْنَ مَا يَمْلِكُهُ وَمَا لاَ يَمْلِكُهُ، كَدَارِهِ وَدَارِ غَيْرِهِ، فَيَصِحُّ الْبَيْعُ، وَيَنْفُذُ فِي مِلْكِهِ بِقِسْطِهِ مِنَ الثَّمَنِ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّتِهِمْ، وَيَصِحُّ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ مَوْقُوفًا عَلَى الإِْجَازَةِ. أَمَّا إِذَا جَمَعَ فِيهَا بَيْنَ مَيْتَةٍ وَمُذَكَّاةٍ أَوْ خَلٍّ وَخَمْرٍ، فَيَبْطُل فِيهِمَا، إِنْ لَمْ يُسَمِّ لِكُل وَاحِدٍ ثَمَنًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ. أَمَّا إِذَا سَمَّى لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَمَنًا فَاخْتَلَفُوا فِيهَا:
فَذَهَبَ الإِْمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الْبَيْعَ يَبْطُل فِيهِمَا، لأَِنَّ الْمَيْتَةَ وَالْخَمْرَ لَيْسَا بِمَالٍ، وَالْبَيْعَ صَفْقَةٌ
__________
(1) الإنصاف 4 / 323ـ 428، وكشاف القناع 3 / 178.
(2) شرح الزرقاني 5 / 150.(13/89)
وَاحِدَةٌ، فَكَانَ الْقَبُول فِي الْمَيْتَةِ كَالْمَشْرُوطِ لِلْبَيْعِ فِي الْمَذْبُوحَةِ، وَهُوَ شَرْطٌ فَاسِدٌ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ فِي الْمَذْبُوحَةِ، بِخِلاَفِ بَيْعِ مَا يَمْلِكُهُ وَمَا لاَ يَمْلِكُهُ فَالْبَيْعُ مَوْقُوفٌ، وَقَدْ دَخَلاَ تَحْتَ الْعَقْدِ لِقِيَامِ الْمَالِيَّةِ.
وَذَهَبَ الصَّاحِبَانِ إِلَى صِحَّةِ الْعَقْدِ فِي الْحَلاَل بِقِسْطِهِ مِنَ الثَّمَنِ، إِذَا سُمِّيَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا قِسْطٌ مِنَ الثَّمَنِ.
لأَِنَّ الْفَسَادَ لاَ يَتَعَدَّى الْمَحَل الْفَاسِدَ، وَهُوَ عَدَمُ الْمَالِيَّةِ فِي الْمَيْتَةِ، فَلاَ يَتَعَدَّى إِلَى غَيْرِهَا إِذْ لاَ مُوجِبَ لِتَعَدِّيهِ، لأَِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا قَدِ انْفَصَل عَنِ الآْخَرِ بِتَفْصِيل الثَّمَنِ، بِدَلِيل مَا لَوْ كَانَتَا مُذَكَّاتَيْنِ فَتَلِفَتْ إِحْدَاهُمَا قَبْل الْقَبْضِ بَقِيَ الْعَقْدُ فِي الأُْخْرَى. (1)
مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ:
9 - إِذَا جَمَعَتِ الصَّفْقَةُ بَيْنَ حَلاَلٍ وَحَرَامٍ بَطَلَتْ فِيهِمَا عِنْدَهُمْ، إِذَا عَلِمَ الْعَاقِدَانِ الْحَرَامَ أَوْ عَلِمَهُ أَحَدُهُمَا.
أَمَّا إِذَا لَمْ يَعْلَمَا، كَأَنْ بَاعَ قُلَّتَيْ خَلٍّ وَخَمْرٍ عَلَى أَنَّهُمَا خَلٌّ، فَبَانَتْ إِحْدَاهُمَا خَمْرًا، أَوْ بَاعَ شَاتَيْنِ عَلَى أَنَّهُمَا مَذْبُوحَتَانِ فَبَانَتْ إِحْدَاهُمَا مَيْتَةً، فَلَهُ التَّمَسُّكُ بِالْبَاقِي بِقِسْطِهِ مِنَ الثَّمَنِ، يُرْجَعُ عَلَى الْبَائِعِ بِمَا يَخُصُّ الْخَمْرَ وَالْمَيْتَةَ مِنَ الثَّمَنِ لِفَسَادِ بَيْعِهِ (2) .
__________
(1) فتح القدير 6 / 89ـ 90.
(2) حاشية الدسوقي3 / 15.(13/89)
مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ:
10 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ ثَلاَثَةُ أَقْسَامٍ:
أ - أَنْ يَكُونَ التَّفْرِيقُ فِي الاِبْتِدَاءِ.
ب - أَوْ فِي الدَّوَامِ.
ج - أَوْ فِي اخْتِلاَفِ الْحُكْمِ.
فَأَمَّا تَفْرِيقُهَا ابْتِدَاءً، فَكَأَنْ يَبِيعَ حَلاَلاً وَحَرَامًا فِي صَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ، كَشَاةٍ وَخِنْزِيرٍ، أَوْ خَلٍّ وَخَمْرٍ، أَوْ مَيْتَةٍ وَمُذَكَّاةٍ، أَوْ دَارِهِ وَدَارِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِ صَاحِبِهَا. فَيَصِحُّ الْبَيْعُ فِي كُل ذَلِكَ فِيمَا يَجُوزُ بَيْعُهُ مِنَ الْحَلاَل، وَمَا يَمْلِكُهُ بِقِسْطِهِ مِنَ الثَّمَنِ، إِعْطَاءً لِكُلٍّ حُكْمَهُ، لأَِنَّ الصَّفْقَةَ اشْتَمَلَتْ عَلَى صَحِيحٍ وَفَاسِدٍ، فَالْعَدْل تَصْحِيحُهَا فِي الصَّحِيحِ، وَقَصْرُ الْفَسَادِ عَلَى الْفَاسِدِ، كَنَظِيرِهِ فِيمَا لَوْ شَهِدَ فَاسِقٌ وَعَدْلٌ. وَفِي قَوْلٍ يَصِحُّ الْعَقْدُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ لِلْحَلاَل، لأَِنَّ الْعَقْدَ يَتَوَجَّهُ إِلَى مَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، فَكَانَ الآْخَرُ كَالْمَعْدُومِ. وَفِي قَوْلٍ: يَبْطُل فِيهِمَا، لأَِنَّ الصَّفْقَةَ جَمَعَتْ بَيْنَ حَلاَلٍ وَحَرَامٍ، فَغَلَبَ الْحَرَامُ، لِقَوْل ابْنِ عَبَّاسٍ: مَا اجْتَمَعَ حَلاَلٌ وَحَرَامٌ، إِلاَّ غَلَبَ الْحَرَامُ الْحَلاَل، وَلِجَهَالَةِ الْعِوَضِ الَّذِي يُقَابِل الْحَلاَل. (1)
وَأَمَّا تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ فِي الدَّوَامِ فَكَأَنْ يَبِيعَ شَاتَيْنِ لَهُ، فَتَلِفَتْ إِحْدَاهُمَا قَبْل الْقَبْضِ، فَلاَ
__________
(1) أسنى المطالب 2 / 42، ومغني المحتاج 2 / 40 - 41.(13/90)
يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ، بَل يَتَخَيَّرُ الْمُشْتَرِي بَيْنَ الْفَسْخِ وَالإِْجَازَةِ، فَإِنْ أَجَازَ يَأْخُذُ الْبَاقِي بِقِسْطِهَا مِنَ الثَّمَنِ. (1)
وَأَمَّا تَفْرِيقُهَا فِي اخْتِلاَفِ الْحُكْمِ فَكَمَا لَوْ شَمَلَتِ الصَّفْقَةُ مُخْتَلِفَيِ الْحُكْمِ، كَإِجَارَةٍ وَبَيْعٍ بِثَمَنٍ وَاحِدٍ، أَوْ إِجَارَةٍ وَسَلَمٍ صَحَّا، وَيُوَزَّعُ الْمُسَمَّى عَلَى الْقِيمَةِ، وَكَذَا بَيْعٌ وَنِكَاحٌ، فَيَصِحُّ النِّكَاحُ بِلاَ خِلاَفٍ، لأَِنَّ الْمَال لَيْسَ شَرْطًا فِيهِ، وَفِي الْبَيْعِ وَالصَّدَاقِ قَوْلاَنِ: الأَْظْهَرُ صِحَّتُهُمَا، وَيُوَزَّعُ الْمُسَمَّى عَلَى قِيمَةِ الْمَبِيعِ وَمَهْرِ الْمِثْل. (2)
مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ:
11 - قَسَّمَ الْحَنَابِلَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ إِلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَبِيعَ مَعْلُومًا وَمَجْهُولاً فِي صَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ بِثَمَنٍ وَاحِدٍ، كَأَنْ يَقُول بِعْتُكُ هَذِهِ الْفَرَسَ، وَمَا فِي بَطْنِ هَذِهِ الْفَرَسِ الأُْخْرَى، بِأَلْفٍ. فَهَذَا بَاطِلٌ. (3)
لأَِنَّ الْمَجْهُول لاَ يَصِحُّ بَيْعُهُ لِجَهَالَتِهِ، فَيَصِيرُ الْمَبِيعُ الْمَعْلُومُ مَجْهُول الثَّمَنِ وَلاَ سَبِيل إِلَى مَعْرِفَتِهِ، لأَِنَّ الْمَعْرِفَةَ إِنَّمَا تَكُونُ بِتَقْسِيطِ الثَّمَنِ عَلَى الْمَبِيعَيْنِ، وَالْمَجْهُول لاَ يُمْكِنُ تَقْوِيمُهُ فَيَتَعَذَّرُ التَّقْسِيطُ.
__________
(1) المصادر السابقة.
(2) المصادر السابقة.
(3) المغني 4 / 261، ومغني المحتاج 2 / 16، وحاشية ابن عابدين 4 / 21. وقواعد المذاهب الأخرى لا تأبى هذا الحكم الذي صرح به الحنابلة.(13/90)
ثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعَانِ مِمَّا يَنْقَسِمُ الثَّمَنُ عَلَيْهِمَا بِالأَْجْزَاءِ، كَدَارٍ مُشْتَرَكَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ بَاعَهَا بِغَيْرِ إِذْنِ شَرِيكِهِ، فَفِي ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَصِحُّ الْبَيْعُ فِي مِلْكِهِ بِقِسْطِهِ مِنَ الثَّمَنِ، وَيَبْطُل فِيمَا لاَ يَمْلِكُهُ. لأَِنَّ لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكْمَ الْمُسْتَقِل لَوِ انْفَرَدَ، فَإِذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا ثَبَتَ لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكْمُهُ. (1)
وَهُوَ كَمَا سَبَقَ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ (2) .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لاَ يَصِحُّ الْبَيْعُ، لأَِنَّ الصَّفْقَةَ جَمَعَتْ حَلاَلاً وَحَرَامًا، فَغَلَبَ التَّحْرِيمُ، وَلأَِنَّ الصَّفْقَةَ إِذَا لَمْ يُمْكِنْ تَصْحِيحُهَا فِي جَمِيعِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بَطَلَتْ فِي الْكُل، كَالْجَمْعِ بَيْنَ الأُْخْتَيْنِ. (3)
وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ.
ثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعَانِ مَعْلُومَيْنِ مِمَّا لاَ يَنْقَسِمُ عَلَيْهِمَا الثَّمَنُ بِالأَْجْزَاءِ، وَأَحَدُهُمَا مِمَّا يَصِحُّ بَيْعُهُ وَالآْخَرُ مِمَّا لاَ يَصِحُّ، كَخَلٍّ وَخَمْرٍ، وَمَيْتَةٍ وَمُذَكَّاةٍ، وَمَقْدُورِ التَّسْلِيمِ وَغَيْرِ مَقْدُورِ التَّسْلِيمِ، فَيَبْطُل الْبَيْعُ فِيمَا لاَ يَصِحُّ بَيْعُهُ، وَفِي الآْخَرِ رِوَايَتَانِ:
__________
(1) المغني 4 / 261، 262، 263.
(2) فتح القدير 6 / 89، وأسنى المطالب 2 / 42، ومغني المحتاج 2 / 40.
(3) المغني 4 / 262ـ 263.(13/91)
إِحْدَاهُمَا: يَصِحُّ فِيهِ الْبَيْعُ بِقِسْطِهِ مِنَ الثَّمَنِ، وَهُوَ الأَْظْهَرُ مِنْ قَوْلَيْنِ لِلشَّافِعِيَّةِ، لأَِنَّهُ يَصِحُّ بَيْعُهُ مُنْفَرِدًا فَلَمْ يَبْطُل بِانْضِمَامِ غَيْرِهِ إِلَيْهِ.
وَالثَّانِي: يَبْطُل فِيهِ أَيْضًا، وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيَّةِ، لأَِنَّ الثَّمَنَ مَجْهُولٌ، لأَِنَّهُ يَتَبَيَّنُ بِتَقْسِيطِ الثَّمَنِ عَلَى الْقِيمَةِ، وَذَلِكَ مَجْهُولٌ حِينَ الْعَقْدِ. (1)
ز - تَفْرِيقُ الصَّوْمِ فِي الْكَفَّارَاتِ:
12 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي وُجُوبِ التَّتَابُعِ فِي صَوْمِ كَفَّارَتَيِ الْقَتْل وَالظِّهَارِ، لِثُبُوتِ التَّتَابُعِ فِيهِمَا بِنَصِّ الْقُرْآنِ، فِي قَوْله تَعَالَى فِي كَفَّارَةِ الْقَتْل: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ} (2) وَفِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْل أَنْ يَتَمَاسَّا} (3) وَثَبَتَ التَّتَابُعُ فِي صِيَامِ كَفَّارَةِ الْوَطْءِ فِي رَمَضَانَ بِالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ. وَذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ عَامَّةُ أَهْل الْعِلْمِ (4) لِمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَال: هَلَكْتُ يَا رَسُول اللَّهِ قَال: وَمَا أَهْلَكَكَ؟ قَال: وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي فِي رَمَضَانَ، فَقَال: هَل تَجِدُ
__________
(1) المغني 4 / 262 ـ 263، ومغني المحتاج 2 / 40.
(2) سورة النساء / 92.
(3) سورة المجادلة / 4.
(4) أسنى المطالب 1 / 426، والمغني 3 / 127، ومواهب الجليل2 / 435، وحاشية الطحطاوي1 / 457(13/91)
مَا تُعْتِقُ؟ قَال: لاَ. قَال: هَل تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ (1) . . . إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (تَتَابُعٌ) .
13 - أَمَّا كَفَّارَةُ الْيَمِينِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ تَفْرِيقِ الصَّوْمِ فِيهَا فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ تَفْرِيقُ الصَّوْمِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، وَاسْتَدَلُّوا بِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَأُبَيُّ، وَقَدْ قَرَآ: (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ) . (2)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّتَابُعَ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ غَيْرُ وَاجِبٍ، (3) وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، لأَِنَّ الأَْمْرَ بِالصَّوْمِ فِيهَا مُطْلَقٌ، وَلاَ يَجُوزُ تَقْيِيدُهُ إِلاَّ بِدَلِيلٍ. وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيل هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي مُصْطَلَحِ (تَتَابُعٌ) .
تَتَابُعُ قَضَاءِ رَمَضَانَ:
14 - لاَ يَجِبُ التَّتَابُعُ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ بِاتِّفَاقِ الْمَذَاهِبِ الأَْرْبَعَةِ. (4) وَسَبَقَ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (تَتَابُعٌ) .
__________
(1) ابن عابدين 3 / 60، والمغني 8 / 752. وحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم إذا جاء رجل فقال: يا رسول الله هلكت. . . " إلى آخر الحديث. أخرجه البخاري (الفتح 4 / 163ط السلفية) .
(2) سورة المائدة / 89.
(3) روضة الطالبين 11 / 21، وحاشية الدسوقي2 / 133.
(4) المغني 3 / 150، ومواهب الجليل 2 / 413، وأسنى المطالب 1 / 429، وحاشية الطحاوي 1 / 463.(13/92)
تَفْسِيرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّفْسِيرُ فِي اللُّغَةِ: الْكَشْفُ وَالإِْظْهَارُ وَالتَّوْضِيحُ. وَفِي الاِصْطِلاَحِ: لاَ يَخْرُجُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، وَغَلَبَ عَلَى تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ، وَالْمُرَادُ بِهِ، كَمَا قَال الْجُرْجَانِيِّ: تَوْضِيحُ مَعْنَى الآْيَةِ، وَشَأْنِهَا، وَقِصَّتِهَا، وَالسَّبَبِ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ، بِلَفْظٍ يَدُل عَلَيْهِ دَلاَلَةً ظَاهِرَةً (1)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّأْوِيل:
2 - التَّأْوِيل مَصْدَرُ أَوَّل. يُقَال: أَوَّل الْكَلاَمَ تَأْوِيلاً: دَبَّرَهُ وَقَدَّرَهُ وَفَسَّرَهُ، وَفِي الاِصْطِلاَحِ: صَرْفُ اللَّفْظِ عَنْ مَعْنَاهُ الظَّاهِرِ إِلَى مَعْنَى يَحْتَمِلُهُ إِذَا كَانَ الْمُحْتَمَل الَّذِي يَرَاهُ مُوَافِقًا لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، مِثْل قَوْله تَعَالَى: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} (2) إِنْ أَرَادَ بِهِ إِخْرَاجَ الطَّيْرِ مِنَ الْبَيْضَةِ
__________
(1) القاموس المحيط، والمصباح المنير، والتعريفات للجرجاني ص 87.
(2) سورة آل عمران / 27.(13/92)
كَانَ تَفْسِيرًا، وَإِنْ أَرَادَ إِخْرَاجَ الْمُؤْمِنِ مِنَ الْكَافِرِ، أَوِ الْعَالِمِ مِنَ الْجَاهِل كَانَ تَأْوِيلاً (1) .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّفْسِيرِ وَالتَّأْوِيل أَنَّ التَّفْسِيرَ أَعَمُّ مِنَ التَّأْوِيل، وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَال التَّفْسِيرِ فِي الأَْلْفَاظِ وَمُفْرَدَاتِهَا، وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَال التَّأْوِيل فِي الْمَعَانِي وَالْجُمَل. وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَل التَّأْوِيل فِي الْكُتُبِ الإِْلَهِيَّةِ. أَمَّا التَّفْسِيرُ فَيُسْتَعْمَل فِيهَا وَفِي غَيْرِهَا.
وَقَال قَوْمٌ: مَا وَقَعَ مُبَيَّنًا فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَمُعَيَّنًا فِي صَحِيحِ السُّنَّةِ سُمِّيَ تَفْسِيرًا، لأَِنَّ مَعْنَاهُ قَدْ ظَهَرَ، وَلَيْسَ لأَِحَدٍ أَنْ يَتَعَرَّضَ لَهُ بِاجْتِهَادٍ وَلاَ غَيْرِهِ، بَل يَحْمِلُهُ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي وَرَدَ لاَ يَتَعَدَّاهُ، وَالتَّأْوِيل مَا اسْتَنْبَطَهُ الْعُلَمَاءُ الْعَالِمُونَ بِمَعَانِي الْخِطَابِ، الْمَاهِرُونَ بِآلاَتِ الْعُلُومِ.
قَال الْمَاتُرِيدِيُّ: التَّفْسِيرُ الْقَطْعُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ اللَّفْظِ هُوَ هَذَا، وَالشَّهَادَةُ عَلَى اللَّهِ أَنَّهُ عَنَى بِاللَّفْظِ هَذَا الْمَعْنَى، فَإِنْ قَامَ دَلِيلٌ مَقْطُوعٌ بِهِ فَصَحِيحٌ، وَإِلاَّ فَتَفْسِيرٌ بِالرَّأْيِ، وَهُوَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ. وَالتَّأْوِيل تَرْجِيحُ أَحَدِ الاِحْتِمَالاَتِ بِدُونِ الْقَطْعِ وَالشَّهَادَةِ عَلَى اللَّهِ (2)
ب - الْبَيَانُ:
3 - الْبَيَانُ: إِظْهَارُ الْمُتَكَلِّمِ الْمُرَادَ لِلسَّامِعِ، وَهُوَ
__________
(1) التعريفات للجرجاني ص 72.
(2) الإتقان للسيوطي 2 / 173، والكليات 2 / 14ـ 15.(13/93)
أَعَمُّ مِنَ التَّفْسِيرِ، لِشُمُولِهِ - عَدَا بَيَانَ التَّفْسِيرِ - كُلًّا مِنْ بَيَانِ التَّغْيِيرِ، وَبَيَانِ التَّقْرِيرِ، وَبَيَانِ الضَّرُورَةِ، وَبَيَانِ التَّبْدِيل (1) .
حُكْمُ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ:
4 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ بِمَعْنَى اللُّغَةِ، لأَِنَّهُ عَرَبِيٌّ. (2)
وَقَال السُّيُوطِيُّ: قَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ التَّفْسِيرَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ، وَأَجَل الْعُلُومِ الثَّلاَثَةِ الشَّرْعِيَّةِ (أَيْ: التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ) وَقَال: - نَقْلاً عَنِ الأَْصْفَهَانِيِّ - أَشْرَفُ صِنَاعَةٍ يَتَعَاطَاهَا الإِْنْسَانُ تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ.
كَمَا أَجْمَعُوا عَلَى حَظْرِ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ بِالرَّأْيِ مِنْ غَيْرِ لُغَةٍ وَلاَ نَقْلٍ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُل إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ} إِلَى قَوْلِهِ {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (3) وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ قَال فِي الْقُرْآنِ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ (4) وَالْمُرَادُ مِنْهُ التَّفْسِيرُ بِالرَّأْيِ مِنْ غَيْرِ لُغَةٍ، وَلاَ نَقْلٍ. (5)
__________
(1) التعريفات للجرجاني.
(2) كتاب الفروع للمقدسي 1 / 556، وكشاف القناع 1 / 433.
(3) سورة الأعراف / 33.
(4) حديث: " من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار " أخرجه الترمذي (5 / 199 ط الحلبي) من حديث ابن عباس، وفي أحد رواته ضعف كما في التهذيب لابن حجر (6 / 94ـ 95) .
(5) الإتقان للسيوطي 2 / 175.(13/93)
أَقْسَامُ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ:
5 - قَسَّمَ الْعُلَمَاءُ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ إِلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ:
أ - مَا لاَ سَبِيل إِلَى الْوُصُول إِلَيْهِ، وَهُوَ الَّذِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ، وَحَجَبَ عِلْمَهُ عَنْ جَمِيعِ خَلْقِهِ، وَمِنْهُ أَوْقَاتُ وُقُوعِ الأُْمُورِ الَّتِي أَخْبَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ أَنَّهَا كَائِنَةٌ، مِثْل وَقْتِ قِيَامِ السَّاعَةِ، وَوَقْتِ نُزُول عِيسَى، وَوَقْتِ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَهَذَا الْقِسْمُ لَيْسَ لأَِحَدٍ أَنْ يَتَعَرَّضَ لَهُ بِالتَّأْوِيل.
ب - مَا خَصَّ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعِلْمِ تَأْوِيلِهِ دُونَ سَائِرِ أُمَّتِهِ، وَيَحْتَاجُ الْعِبَادُ إِلَى تَفْسِيرِهِ لأُِمُورِ دِينِهِمْ، وَدُنْيَاهُمْ، فَلاَ سَبِيل لَهُمْ أَيْضًا إِلَى عِلْمِ ذَلِكَ إِلاَّ بِبَيَانِ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ تَأْوِيلَهُ.
ج - مَا كَانَ عِلْمُهُ عِنْدَ أَهْل اللِّسَانِ الَّذِي نَزَل بِهِ الْقُرْآنُ، وَذَلِكَ عِلْمُ تَأْوِيل عَرَبِيَّتِهِ وَإِعْرَابِهِ، فَلاَ يُوصَل إِلَى عِلْمِ ذَلِكَ إِلاَّ مِنْ قِبَلِهِمْ (1) .
طُرُقُ التَّفْسِيرِ:
6 - قَال السُّيُوطِيُّ:
قَال الْعُلَمَاءُ: مَنْ أَرَادَ تَفْسِيرَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ طَلَبَهُ أَوَّلاً مِنَ الْقُرْآنِ نَفْسِهِ، فَمَا أُجْمِل مِنْهُ فِي مَكَانٍ بُسِطَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَمَا اخْتُصِرَ فِي مَكَانٍ بُسِطَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْهُ. فَإِنْ أَعْيَاهُ ذَلِكَ طَلَبَهُ مِنَ السُّنَّةِ، فَإِنَّهَا شَارِحَةٌ لِلْقُرْآنِ، وَمُبَيِّنَةٌ لَهُ.
__________
(1) تفسير الطبري 1 / 92ـ 93.(13/94)
وَقَال الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كُل مَا حَكَمَ بِهِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ مِمَّا فَهِمَهُ مِنَ الْقُرْآنِ. (1)
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} . (2)
وَقَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: أَلاَ إِنِّي قَدْ أُوتِيتُ الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ. (3)
وَقَالُوا: فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فِي الْقُرْآنِ، وَلاَ فِي السُّنَّةِ مَا يُوَضِّحُ الْمَعْنَى، يُرْجَعُ إِلَى أَقْوَال الصَّحَابَةِ فِي تَفْسِيرِهِ، فَإِنَّهُمْ أَدْرَى بِذَلِكَ لِمَا شَاهَدُوهُ مِنَ الْقَرَائِنِ وَالأَْحْوَال عِنْدَ نُزُولِهِ، وَلِمَا اخْتَصُّوا بِهِ مِنَ الْفَهْمِ الصَّحِيحِ وَالْعَمَل الصَّالِحِ، وَقَدْ قَال الْحَاكِمُ فِي كِتَابِ مَعْرِفَةِ عُلُومِ الْحَدِيثِ: إِنَّ الصَّحَابِيَّ الَّذِي شَهِدَ الْوَحْيَ وَالتَّنْزِيل، فَأَخْبَرَ عَنْ آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي كَذَا وَكَذَا، فَإِنَّهُ حَدِيثٌ مُسْنَدٌ. (4)
وَقَال صَاحِبُ كَشَّافِ الْقِنَاعِ: يَلْزَمُ الرُّجُوعُ إِلَى تَفْسِيرِ الصَّحَابِيِّ لأَِنَّهُمْ شَاهَدُوا التَّنْزِيل، وَحَضَرُوا التَّأْوِيل. فَتَفْسِيرُهُ أَمَارَةٌ ظَاهِرَةٌ. وَإِذَا قَال الصَّحَابِيُّ مَا يُخَالِفُ الْقِيَاسَ فَهُوَ تَوْقِيفٌ.
وَقَال الْقَاضِي، وَغَيْرُهُ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: إِنْ قُلْنَا: إِنَّ
__________
(1) الإتقان 2 / 157.
(2) سورة النساء / 105.
(3) حديث: " ألا إني قد أوتيت القرآن ومثله معه. . . " أخرجه أبو داود (5 / 10 تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث المقدام بن معد يكرب، وإسناده صحيح.
(4) الإتقان 2 / 157، ومعرفة علوم الحديث للحاكم النيسابوري ص20 نشر المكتبة العلمية.(13/94)
قَوْل الصَّحَابِيِّ حُجَّةٌ لَزِمَ قَبُول تَفْسِيرِهِ، وَإِلاَّ فَإِنَّ نَقْل كَلاَمِ الْعَرَبِ فِي ذَلِكَ صَيَّرَ إِلَيْهِ، وَإِنْ فَسَّرَهُ اجْتِهَادًا أَوْ قِيَاسًا عَلَى كَلاَمِ الْعَرَبِ لَمْ يَلْزَمْ قَبُول تَفْسِيرِهِ. (1)
7 - أَمَّا تَفْسِيرُ التَّابِعِيِّ فَلاَ يَلْزَمُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ، لأَِنَّهُ لَيْسَ حُجَّةً بِالاِتِّفَاقِ، وَنُقِل عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ: يَلْزَمُ الرُّجُوعُ إِلَى قَوْل التَّابِعِيِّ فِي التَّفْسِيرِ، وَغَيْرِهِ.
وَنَقَل أَبُو دَاوُدَ: إِذَا جَاءَ عَنِ الرَّجُل مِنَ التَّابِعِينَ لاَ يُوجَدُ فِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَقْلٌ لاَ يَلْزَمُ الأَْخْذُ بِهِ. وَقَال الْمَرْوِيُّ: يُنْظَرُ مَا كَانَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُؤْخَذُ وُجُوبًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَعَنِ الصَّحَابَةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَعَنِ التَّابِعِينَ، وَقَال الْقَاضِي: يُمْكِنُ حَمْل هَذَا الْقَوْل عَلَى إِجْمَاعِهِمْ، وَقَوَاعِدُ الْمَذَاهِبِ الأُْخْرَى لاَ تَأْبَى ذَلِكَ. (2)
وَالْمَسْأَلَةُ أُصُولِيَّةٌ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ بِمُقْتَضَى اللُّغَةِ:
8 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى جَوَازِ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ بِمُقْتَضَى اللُّغَةِ، وَقَالُوا: لأَِنَّهُ عَرَبِيٌّ. قَال الْغَزَالِيُّ: ثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَا لاَ تَفْهَمُهُ
__________
(1) كشاف القناع 1 / 434، والفروع 1 / 558.
(2) المصادر السابقة، والمستصفى للغزالي 1 / 161ـ 274.(13/95)
الْعَرَبُ. فَإِنْ قِيل: الْعَرَبُ إِنَّمَا تَفْهَمُ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} (1) وَ {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (2) الْجِهَةَ، وَالاِسْتِقْرَارَ. وَقَدْ أُرِيدَ بِهِ غَيْرُهُ فَهُوَ مُتَشَابِهٌ. قُلْنَا هَيْهَاتَ، فَإِنَّ هَذِهِ كِنَايَاتٌ، وَاسْتِعَارَاتٌ يَفْهَمُهَا الْمُؤْمِنُونَ مِنَ الْعَرَبِ الْمُصَدِّقُونَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، وَأَنَّهَا مُؤَوَّلَةٌ تَأْوِيلاَتٌ تُنَاسِبُ تَفَاهُمَ الْعَرَبِ. (3)
وَهُنَاكَ مَنْ يَرَى إِثْبَاتَ هَذِهِ الأَْسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ عَلَى ظَاهِرِهَا، مَعَ الْتِزَامِ التَّنْزِيهِ. وَالتَّفْصِيل فِي عِلْمِ الْعَقِيدَةِ.
وَقَال الطَّبَرِيُّ: وَفِي حَثِّ اللَّهِ تَعَالَى عِبَادَهُ عَلَى الاِعْتِبَارِ بِمَا فِي آيِ الْقُرْآنِ مِنَ الْمَوَاعِظِ، وَالْبَيَانَاتِ فِي قَوْله تَعَالَى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الأَْلْبَابِ} (4) وَمَا أَشْبَهَهَا مِنْ آيِ الْقُرْآنِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ عِبَادَهُ، وَحَثَّهُمْ فِيهَا عَلَى الاِعْتِبَارِ بِأَمْثَال آيِ الْقُرْآنِ وَالاِتِّعَاظِ بِهِ، مَا يَدُل عَلَى أَنَّ عَلَيْهِمْ مَعْرِفَةَ تَأْوِيل مَا لَمْ يُحْجَبْ عَنْهُمْ تَأْوِيلُهُ مِنْ آيِهِ، لأَِنَّهُ مُحَالٌ أَنْ يُقَال - لِمَنْ لاَ يَفْهَمُ مَا يُقَال لَهُ، وَلاَ يَعْقِل تَأْوِيلَهُ -: اعْتَبِرْ بِمَا لاَ فَهْمَ لَكَ بِهِ، وَلاَ مَعْرِفَةَ مِنَ
__________
(1) سورة الأنعام / 18.
(2) سورة طه / 5.
(3) المستصفى 1 / 107.
(4) سورة ص / 129.(13/95)
الْقَوْل وَالْبَيَانِ وَالْكَلاَمِ عَلَى مَعْنَى الأَْمْرِ بِأَنْ يَفْهَمَهُ، وَيَفْقَهَهُ ثُمَّ يَتَدَبَّرَهُ، وَيَعْتَبِرَ بِهِ. فَأَمَّا قَبْل ذَلِكَ فَمُسْتَحِيلٌ أَمْرُهُ بِتَدَبُّرِهِ وَهُوَ جَاهِلٌ عَنْ مَعْنَاهُ.
ثُمَّ قَال: وَإِذَا صَحَّ هَذَا فَقَدْ فَسَدَ قَوْل مَنْ أَنْكَرَ تَفْسِيرَ الْمُفَسِّرِينَ فِي كُتُبِ اللَّهِ، مَا لَمْ يَحْجُبِ اللَّهُ تَأْوِيلَهُ عَنْ خَلْقِهِ. (1) وَقَال الْعُلَمَاءُ: إِنَّ النَّهْيَ عَنْ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ، إِنَّمَا يَنْصَرِفُ إِلَى الْمُتَشَابِهِ مِنْهُ لاَ إِلَى جَمِيعِهِ لأَِنَّ الْقُرْآنَ نَزَل حُجَّةً عَلَى الْخَلْقِ، فَلَوْ لَمْ يَجُزِ التَّفْسِيرُ لَمْ تَكُنِ الْحُجَّةُ بَالِغَةً. فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، جَازَ لِمَنْ عَرَفَ لُغَاتِ الْعَرَبِ وَأَسْبَابَ النُّزُول أَنْ يُفَسِّرَهُ، أَمَّا مَنْ لَمْ يَعْرِفْ وُجُوهَ اللُّغَةِ فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُفَسِّرَهُ إِلاَّ بِمِقْدَارِ مَا سَمِعَ، فَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْحِكَايَةِ، لاَ عَلَى وَجْهِ التَّفْسِيرِ، وَلَوْ قَال: إِنَّ الْمُرَادَ مِنَ الآْيَةِ كَذَا - وَهُوَ لاَ يَعْرِفُ اللُّغَةَ الْعَرَبِيَّةَ، وَلَمْ يَسْمَعْ فِيهِ شَيْئًا، فَلاَ يَحِل لَهُ ذَلِكَ، وَهُوَ الَّذِي نَهَى عَنْهُ. وَقَال مُجَاهِدٌ: لاَ يَحِل لأَِحَدٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ، وَالْيَوْمِ الآْخِرِ، أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِلُغَاتِ الْعَرَبِ (2) .
شُرُوطُ الْمُفَسِّرِ لِلْقُرْآنِ، وَآدَابُهُ:
9 - يُشْتَرَطُ فِيمَنْ يُفَسِّرُ الْقُرْآنَ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا
__________
(1) مقدمة تفسير الطبري ص 82 - 83.
(2) الإتقان للسيوطي 2 / 181.(13/96)
بِلُغَةِ الْعَرَبِ لأَِنَّ الْقُرْآنَ نَزَل بِهَا، فَبِالْعِلْمِ بِهَا يُعْرَفُ شَرْحُ مُفْرَدَاتِ الأَْلْفَاظِ، وَمَدْلُولاَتِهَا حَسَبَ الْوَضْعِ وَالاِسْتِعْمَال.
وَقَدْ نُقِل عَنْ مُجَاهِدٍ: (لاَ يَحِل لأَِحَدٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ: أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِلُغَاتِ الْعَرَبِ) .
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالنَّحْوِ؛ لأَِنَّ الْمَعْنَى يَتَغَيَّرُ، وَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الإِْعْرَابِ، وَبِالصَّرْفِ لأَِنَّ بِهِ يَعْرِفُ أَبْنِيَةَ الْكَلِمَاتِ وَاشْتِقَاقَاتِهَا، لأَِنَّ الاِسْمَ إِذَا كَانَ اشْتِقَاقُهُ مِنْ مَادَّتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ اخْتَلَفَ مَعْنَاهُ بِاخْتِلاَفِهَا.
وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَعْرِفَ عُلُومَ الْبَلاَغَةِ: الْمَعَانِيَ، وَالْبَيَانَ، وَالْبَدِيعَ، لأَِنَّهُ بِهَذِهِ الْعُلُومِ يَعْرِفُ خَوَاصَّ تَرَاكِيبِ الْكَلاَمِ مِنْ جِهَةِ إِفَادَتِهَا الْمَعْنَى، وَخَوَاصَّهَا مِنْ حَيْثُ اخْتِلاَفُهَا، حَسَبَ وُضُوحِ الدَّلاَلَةِ، وَخَفَائِهَا، وَتَحْسِينِ الْكَلاَمِ، كَمَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِأُصُول الْفِقْهِ، إِذْ بِهِ يَعْرِفُ وُجُوهَ الاِسْتِدْلاَل عَلَى الأَْحْكَامِ، وَطُرُقَ الاِسْتِنْبَاطِ، وَأَنْ يَعْلَمَ أَسْبَابَ النُّزُول، إِذْ بِهِ يَعْرِفُ مَعْنَى الآْيَةِ الْمُنَزَّلَةِ فِيهِ بِحَسَبِ مَا أُنْزِلَتْ.
وَيُشْتَرَطُ أَيْضًا أَنْ يَعْرِفَ النَّاسِخَ، وَالْمَنْسُوخَ لِيَعْلَمَ الْمُحْكَمَ مِنْ غَيْرِهِ، وَالأَْحَادِيثَ الْمُبَيِّنَةَ لِتَفْسِيرِ الْمُجْمَل، وَالْمُبْهَمِ.
وَيُشْتَرَطُ فِي الْمُفَسِّرِ صِحَّةُ الاِعْتِقَادِ، وَلُزُومُ السُّنَّةِ، وَأَلاَّ يُتَّهَمَ بِإِلْحَادٍ، وَلاَ هَوًى، لأَِنَّهُ لاَ يُؤْتَمَنُ عَلَى الدُّنْيَا مَنْ كَانَ مَغْمُوصًا فِي دِينِهِ(13/96)
فَكَيْفَ يُؤْتَمَنُ عَلَى الدِّينِ، ثُمَّ هُوَ لاَ يُؤْتَمَنُ فِي الدِّينِ عَلَى الإِْخْبَارِ عَنْ عَالِمٍ، فَكَيْفَ يُؤْتَمَنُ فِي الإِْخْبَارِ عَنْ أَسْرَارِ اللَّهِ؟ وَكَذَلِكَ لاَ يُؤْتَمَنُ إِذَا كَانَ مُتَّهَمًا بِإِلْحَادٍ أَنْ يَبْغِيَ الْفِتْنَةَ وَيَغُرَّ النَّاسَ بِلَيِّهِ، وَخِدَاعِهِ، وَإِنْ كَانَ مُتَّهَمًا بِهَوَى لَمْ يُؤْمَنْ أَنْ يَحْمِلَهُ هَوَاهُ عَلَى مَا يُوَافِقُ بِدْعَتَهُ (1)
وَعَدَّ السُّيُوطِيُّ عِلْمَ الْمَوْهِبَةِ قَال: وَهُوَ عِلْمٌ يُورِثُهُ اللَّهُ تَعَالَى لِمَنْ عَمِل بِمَا عَلِمَ، وَإِلَيْهِ الإِْشَارَةُ بِحَدِيثِ: مَنْ عَمِل بِمَا عَلِمَ وَرَّثَهُ اللَّهُ عِلْمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ. (2)
10 - وَنَقَل السُّيُوطِيُّ عَنْ أَبِي طَالِبٍ الطَّبَرِيِّ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ اعْتِمَادُ الْمُفَسِّرِ عَلَى النَّقْل الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ عَنِ الصَّحَابَةِ وَمَنْ عَاصَرَهُمْ مِنَ التَّابِعِينَ، وَأَنْ يَتَجَنَّبَ الْمُحْدَثَاتِ - أَيِ الأَْقْوَال الْمُبْتَدَعَةَ - وَإِذَا تَعَارَضَتْ أَقْوَال الصَّحَابَةِ، وَأَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَهَا فَعَل. وَإِنْ لَمْ يُمْكِنِ الْجَمْعُ بَيْنَهَا رَدَّ الأَْمْرَ إِلَى مَا ثَبَتَ فِيهِ السَّمْعُ. فَإِنْ لَمْ يَجِدْ سَمْعًا، وَكَانَ لِلاِسْتِدْلاَل طَرِيقٌ إِلَى تَقْوِيَةِ أَحَدِهِمَا رَجَّحَ مَا قَوِيَ الاِسْتِدْلاَل فِيهِ، إِذَا كَانَ مِمَّا يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ
__________
(1) الإتقان 2 / 180 - 181.
(2) حديث: " من عمل بما علم ورثه الله علم مالم يعلم " أخرجه أبو نعيم في الحلية (10 / 15 ط السعادة) ثم قال: ذكر أحمد بن حنبل هذا الكلام عن بعض التابعين عن عيسى بن مريم عليه السلام فوهم بعض الرواة أنه ذكره عن النبي صلى الله عليه وسلم فوضع هذا الإِسناد عليه لس(13/97)
صَحِيحِهِ مِنْ ضَعِيفِهِ بِطُرُقِ الاِسْتِدْلاَل، لأَِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنْ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَا لاَ تَفْهَمُهُ الْعَرَبُ (1) ، أَمَّا مَا لاَ يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ بِطُرُقِ الاِسْتِدْلاَل وَلاَ نَقْل فِيهِ فَلاَ سَبِيل إِلَى تَفْسِيرِهِ.
وَعَامَّةُ هَذَا النَّوْعِ مِمَّا لاَ فَائِدَةَ فِيهِ، وَلاَ حَاجَةَ بِنَا إِلَى مَعْرِفَتِهِ كَلَوْنِ كَلْبِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، وَاسْمِهِ، وَالْبَعْضُ الَّذِي ضُرِبَ بِهِ الْمَيِّتُ مِنَ الْبَقَرَةِ، وَاسْمُ الْغُلاَمِ الَّذِي قَتَلَهُ صَاحِبُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَلاَ يَنْبَغِي أَنْ نَشْغَل أَنْفُسَنَا بِذَلِكَ. (2)
وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُفَسِّرُ سَلِيمَ الْمَقْصِدِ فِيمَا يَقُول، لِيَلْقَى التَّسْدِيدَ مِنَ اللَّهِ، قَال تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (3) وَقَال: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاَللَّهُ بِكُل شَيْءٍ عَلِيمٌ} (4)
مَسُّ الْمُحْدِثِ كُتُبَ التَّفْسِيرِ وَحَمْلُهُ لَهَا:
11 - يَجُوزُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ لِلْمُحْدِثِ مَسُّ كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَإِنْ كَانَ فِيهَا آيَاتٌ مِنَ الْقُرْآنِ وَحَمْلُهَا وَالْمُطَالَعَةُ فِيهَا، وَإِنْ كَانَ جُنُبًا، قَالُوا: لأَِنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ التَّفْسِيرِ: مَعَانِي الْقُرْآنِ،
__________
(1) الإتقان 2 / 176، والبرهان في علوم القرآن للزركشي 2 / 175، والمستصفى 1 / 107.
(2) مقدمة في أصول التفسير لابن تيمية ص 13، 14.
(3) سورة العنكبوت / 69.
(4) سورة البقرة / 282.(13/97)
لاَ تِلاَوَتُهُ، فَلاَ تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْقُرْآنِ.
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ الْجَوَازَ مَشْرُوطٌ فِيهِ أَنْ يَكُونَ التَّفْسِيرُ أَكْثَرَ مِنَ الْقُرْآنِ لِعَدَمِ الإِْخْلاَل بِتَعْظِيمِهِ حِينَئِذٍ، وَلَيْسَ هُوَ فِي مَعْنَى الْمُصْحَفِ. وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ، فَأَوْجَبُوا الْوُضُوءَ لِمَسِّ كُتُبِ التَّفْسِيرِ. (1)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (مُصْحَفٌ، وَحَدَثٌ) .
قَطْعُ سَارِقِ كُتُبِ التَّفْسِيرِ:
12 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي قَطْعِ سَارِقِ كُتُبِ التَّفْسِيرِ، فَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو ثَوْرٍ إِلَى وُجُوبِ الْقَطْعِ بِسَرِقَتِهَا إِذَا تَمَّتْ شُرُوطُ الْقَطْعِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى عَدَمِ الْقَطْعِ عَلَى تَفْصِيلٍ يَرْجِعُ فِيهِ إِلَى مُصْطَلَحِ (سَرِقَةٌ) .
تَفْسِيرُ الْمُقِرِّ مَا أَبْهَمَهُ فِي الإِْقْرَارِ:
13 - إِذَا قَال ابْتِدَاءً أَوْ جَوَابًا عَنْ دَعْوَى صَحِيحَةٍ: لِفُلاَنٍ عَلَيَّ شَيْءٌ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، صَحَّ الإِْقْرَارُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ تَفْسِيرُ
__________
(1) حاشية الدسوقي 1 / 125، ومغني المحتاج 1 / 27، وروض الطالب 2 / 62، والمغني 1 / 148، وحاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 46.(13/98)
الْمُبْهَمِ، فَإِنْ فَسَّرَهُ بِمَا يُتَمَوَّل قُبِل تَفْسِيرُهُ، قَل أَوْ كَثُرَ. (1)
وَإِنْ فَسَّرَهُ بِمَا لاَ يُتَمَوَّل وَلَكِنَّهُ مِنْ جِنْسِ مَا يُتَمَوَّل، كَحَبَّةِ حِنْطَةٍ يُقْبَل عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، لأَِنَّهُ شَيْءٌ يَحْرُمُ أَخْذُهُ بِغَيْرِ إِذْنٍ، وَيَجِبُ رَدُّهُ عَلَى آخِذِهِ.
وَيَشْتَرِطُ الْحَنَفِيَّةُ أَنْ يُفَسَّرَ بِذِي قِيمَةٍ، وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَوَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. (2)
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِ مَا يُتَمَوَّل فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَجُوزُ اقْتِنَاؤُهُ لِمَنْفَعَتِهِ كَالْكَلْبِ الْمُعَلَّمِ أَوِ الْقَابِل لِلتَّعْلِيمِ، وَالسِّرْجِينِ، فَيُقْبَل تَفْسِيرُهُ بِهِ، وَإِنْ فَسَّرَهُ بِمَا لاَ يَجُوزُ اقْتِنَاؤُهُ، كَخَمْرِ غَيْرِ الذِّمِّيِّ، أَوْ كَكَلْبٍ لاَ يَجُوزُ اقْتِنَاؤُهُ، فَلاَ يُقْبَل تَفْسِيرُهُ بِهِ. وَإِنْ فَسَّرَهُ بِوَدِيعَةٍ، أَوْ بِحَقِّ الشُّفْعَةِ قُبِل. (3)
وَإِنِ امْتَنَعَ عَنِ التَّفْسِيرِ حُبِسَ حَتَّى يُفَسِّرَ، لأَِنَّ التَّفْسِيرَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، فَيَصِيرُ بِامْتِنَاعِهِ عَنْ تَفْسِيرِ مَا أَقَرَّ بِهِ مُجْمَلاً - كَمَنِ امْتَنَعَ عَنْ أَدَاءِ حَقٍّ وَجَبَ عَلَيْهِ.
وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لاَ يُحْبَسُ، فَإِنْ وَقَعَ الإِْقْرَارُ الْمُبْهَمُ فِي جَوَابِ دَعْوَى، وَامْتَنَعَ عَنِ التَّفْسِيرِ جُعِل مُنْكِرًا، وَيُعْرَضُ الْيَمِينُ عَلَيْهِ،
__________
(1) روضة الطالبين 4 / 371، والمغني 5 / 187، وابن عابدين 4 / 450، وحاشية الدسوقي 3 / 405.
(2) المصادر السابقة.
(3) ابن عابدين 4 / 449 - 448، والمغني 5 / 187، وروضة الطالبين 4 / 371.(13/98)
فَإِنْ أَصَرَّ وَلَمْ يَحْلِفْ جُعِل نَاكِلاً، وَحَلَفَ الْمُدَّعِي، وَإِنْ كَانَ ابْتِدَاءً بِلاَ سَبْقِ دَعْوَى ادَّعَى عَلَيْهِ الْمُقِرُّ لَهُ بِالْحَقِّ، وَقَالُوا: حَيْثُ أَمْكَنَ حُصُول الْغَرَضِ فَلاَ يُحْبَسُ. (1)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (إِقْرَارٌ) .
__________
(1) المغني 5 / 187، وروضة الطالبين4 / 187، 372، وحاشية الدسوقي 3 / 406.(13/99)
تَفْسِيقٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّفْسِيقُ: مَصْدَرُ فَسَّقَ، يُقَال: فَسَّقَهُ إِذَا نَسَبَهُ إِلَى الْفِسْقِ، وَالْفِسْقُ - فِي الأَْصْل - الْخُرُوجُ، وَغَلَبَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْخُرُوجِ عَنِ الاِسْتِقَامَةِ وَالطَّاعَةِ، يُقَال: فَسَقَتِ الرُّطَبَةُ، أَيْ: خَرَجَتْ عَنْ قِشْرَتِهَا.
وَالْفِسْقُ هُوَ الْفُجُورُ وَالْخُرُوجُ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ وَالتَّرْكُ لأَِمْرِ اللَّهِ، وَالْعِصْيَانُ، وَفِي التَّنْزِيل {إِنَّهُ لَفِسْقٌ} أَيْ خُرُوجٌ عَنِ الْحَقِّ. (1)
وَقَال الْعَسْكَرِيُّ: الْفِسْقُ الْخُرُوجُ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ بِكَبِيرَةٍ، وَالْفُجُورُ الاِنْبِعَاثُ فِي الْمَعَاصِي وَالتَّوَسُّعُ فِيهَا. (2)
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِهَذَا اللَّفْظِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، والقاموس المحيط مادة: " فسق "، والكليات لأبي البقاء3 / 349، 348، وحاشية الدسوقي 4 / 165.
(2) الفروق للعسكري ص 225.(13/99)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّعْدِيل:
2 - مِنْ مَعَانِي التَّعْدِيل النِّسْبَةُ إِلَى الْعَدَالَةِ، يُقَال عَدَّلْتُ الشَّاهِدَ إِذَا نَسَبْتُهُ إِلَى الْعَدَالَةِ وَوَصَفْتُهُ بِهَا. وَالْعَدَالَةُ لُغَةً الاِسْتِقَامَةُ، وَفِي الشَّرِيعَةِ: عِبَارَةٌ عَنِ الاِسْتِقَامَةِ عَلَى طَرِيقِ الْحَقِّ بِاجْتِنَابِ مَا هُوَ مَحْظُورٌ فِي الدِّينِ فَالتَّعْدِيل ضِدُّ التَّفْسِيقِ. (1)
ب - التَّكْفِيرُ:
3 - مِنْ مَعَانِي التَّكْفِيرِ النِّسْبَةُ إِلَى الْكُفْرِ، وَالْكُفْرُ لُغَةً: التَّغْطِيَةُ وَالسَّتْرُ، يُقَال: فُلاَنٌ كَفَرَ النِّعْمَةَ إِذَا سَتَرَهَا وَلَمْ يَشْكُرْهَا، وَشَرْعًا هُوَ: تَكْذِيبُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَمْرٍ مِنَ الأُْمُورِ الْمَعْلُومَةِ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ (ر: كُفْرٌ)
وَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّفْسِيقِ وَالتَّكْفِيرِ أَنَّ التَّفْسِيقَ أَعَمُّ مِنَ التَّكْفِيرِ بِهَذَا الْمَعْنَى. (2)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
تَفْسِيقُ الْمَجْلُودِ فِي حَدِّ الْقَذْفِ:
4 - يُفَسَّقُ الْمَجْلُودُ فِي حَدِّ الْقَذْفِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ
__________
(1) المصباح المنير مادة: " عدل "، والقاموس المحيط مادة: " فسق ". والتعريفات الفقهية للبركتي ص 374، والكليات لأبي البقاء3 / 253.
(2) المصباح المنير مادة " كفر "، وتهذيب الأسماء واللغات 4 / 116، والكليات لأبي البقاء 3 / 349، 4 / 112، والتعريفات الفقهية للبركتي ص 445.(13/100)
شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (1) فَقَدْ تَعَلَّقَ بِالْقَذْفِ - إِذَا لَمْ يَأْتِ الْقَاذِفُ بِبَيِّنَةٍ - ثَلاَثَةُ أَحْكَامٍ: الْحَدُّ، وَرَدُّ الشَّهَادَةِ، وَالتَّفْسِيقُ، تَغْلِيظًا لِشَأْنِ الْقَذْفِ، وَقُوَّةً فِي الرَّدْعِ عَنْهُ. (2)
وَفِي قَبُول شَهَادَةِ الْفَاسِقِ بَعْدَ التَّوْبَةِ، وَشُرُوطِ تَوْبَتِهِ، تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَاتِ (تَوْبَةٌ، شَهَادَةٌ، فِسْقٌ، وَقَذْفٌ) .
تَفْسِيقُ مُرْتَكِبِ الْكَبَائِرِ:
5 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي تَفْسِيقِ مُرْتَكِبِ الْكَبَائِرِ كَالزَّانِي، وَاللاَّئِطِ، وَالْقَاتِل، وَنَحْوِهِمْ، لأَِنَّ تَفْسِيقَ الْقَاذِفِ وَرَدَّ شَهَادَتِهِ ثَبَتَ بِنَصِّ الْقُرْآنِ فَيُقَاسُ عَلَيْهِ كُل مُرْتَكِبِ كَبِيرَةٍ. (3)
أَمَّا الصَّغَائِرُ فَلاَ يُفَسَّقُ بِهَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِْثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ} . (4)
__________
(1) سورة النور / 4.
(2) إعلام الموقعين 1 / 122، ط دار الجيل، وأحكام القرآن للهراس4 / 271 ط دار الكتب الحديثة، والمغني لابن قدامة 9 / 197 ط الرياض، وأحكام القرآن لابن العربي 3 / 1324 ط عيسى الحلبي، والمنتقى 5 / 207 نشر دار الكتاب العربي، وأحكام القرآن للجصاص 3 / 271 نشر دار الكتاب العربي، وروضة الطالبين 11 / 299.
(3) روضة الطالبين11 / 225، والبناية شرح الهداية 7 / 176ط دار الفكر، ومطالب أولي النهى 6 / 612، وكشاف القناع6 / 419، 420، والمغني 9 / 165، والشرح الصغير 4 / 240.
(4) سورة النجم / 32.(13/100)
أَمَّا تَفْسِيرُ الْكَبِيرَةِ فَفِيهِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي (كَبَائِرُ، عَدَالَةٌ، فِسْقٌ، وَمَعْصِيَةٌ) .
تَفْسِيقُ أَهْل الْبِدَعِ:
6 - الْبِدَعُ إِمَّا عَمَلِيَّةٌ أَوِ اعْتِقَادِيَّةٌ، فَأَمَّا الْبِدَعُ الْعَمَلِيَّةُ، فَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَشُرَيْكٌ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو ثَوْرٍ تَفْسِيقَ أَهْلِهَا، وَعَدَمَ قَبُول شَهَادَتِهِمْ لأَِنَّ الاِبْتِدَاعَ فِسْقٌ مِنْ حَيْثُ الاِعْتِقَادُ، وَهُوَ شَرٌّ مِنَ الْفِسْقِ مِنْ حَيْثُ التَّعَاطِي، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ أَهْل الْبِدَعِ مُتَعَمِّدِينَ لِلْبِدْعَةِ أَوْ مُتَأَوِّلِينَ، لأَِنَّهُمْ لاَ يُعْذَرُونَ بِالتَّأَوُّل. (1)
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فَيَقُولُونَ بِقَبُول شَهَادَةِ أَهْل الْبِدَعِ إِلاَّ الْخَطَّابِيَّةُ (2) فَإِنَّهُمْ لاَ تُقْبَل شَهَادَتُهُمْ، لأَِنَّهُمْ يَرَوْنَ إِبَاحَةَ الْكَذِبِ عَلَى خُصُومِهِمْ لِتَأْيِيدِ مَذْهَبِهِمْ.
أَمَّا الْبِدَعُ الاِعْتِقَادِيَّةُ غَيْرُ الْمُكَفِّرَةِ، فَقَدِ اتَّفَقَ
__________
(1) الشرح الصغير 4 / 240، وتبصرة الحكام لابن فرحون 2 / 25 ط دار الكتب العلمية، ومطالب أولي النهى 6 / 615 نشر المكتب الإسلامي، والمغني 9 / 165، 166، والبناية 7 / 181.
(2) الخطابية قوم من غلاة الروافض ينتسبون إلى أبي الخطاب محمد بن وهب الأجدع، يستجيزون أن يشهدوا للمدعي إذا حلف عندهم أنه محق، ويقولون: المسلم لا يحلف كاذبا. وقيل: إنهم يعتقدون أن من ادعى منهم شيئا على غيره يجب أن يشهد له بقية شيعته، فتمكنت التهمة في شهادتهم والزيلعي 4 / 223، وأسنى المطالب 4 / 353) .(13/101)
الْفُقَهَاءُ عَلَى تَفْسِيقِ أَهْلِهَا. إِلاَّ أَنَّهُمْ لاَ يَعْتَبِرُونَ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْفِسْقِ مَانِعًا مِنْ قَبُول الشَّهَادَةِ، لأَِنَّ أَهْل الْبِدَعِ مَا أَوْقَعَهُمْ فِي الْبِدْعَةِ وَالْهَوَى إِلاَّ التَّعَمُّقُ وَالْغُلُوُّ فِي الدِّينِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُعَظِّمُ الذَّنْبَ حَتَّى يَجْعَلَهُ كُفْرًا، فَيَكُونُ مُمْتَنِعًا عَنِ الْكَذِبِ، فَصَارَ هَذَا كَمَنْ يَشْرَبُ الْمُثَلَّثَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، أَوْ يَأْكُل مَتْرُوكَ التَّسْمِيَةِ عَامِدًا مِنَ الشَّافِعِيَّةِ مُعْتَقِدًا إِبَاحَتَهُ، فَإِنَّهُ لاَ تُرَدُّ شَهَادَتُهُ كَذَا هَذَا، بِخِلاَفِ الْفِسْقِ مِنْ حَيْثُ التَّعَاطِي وَالأَْفْعَال حَيْثُ تُرَدُّ الشَّهَادَةُ بِهِ. (1)
أَمَّا الْبِدَعُ الْمُكَفِّرَةُ فَتُرَدُّ شَهَادَةُ أَهْلِهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي (أَهْل الأَْهْوَاءِ، بِدْعَةٌ، شَهَادَةٌ، عَدَالَةٌ، وَفِسْقٌ) .
تَفْسِيقُ مَنْ لَيْسَ فَاسِقًا:
7 - مَنْ فَسَّقَ مُسْلِمًا بِأَنْ قَذَفَهُ بِ (يَا فَاسِقُ) . وَهُوَ لَيْسَ بِفَاسِقٍ عُزِّرَ، وَهَذَا مَا لاَ خِلاَفَ فِيهِ بَيْنَ أَهْل الْعِلْمِ.
أَمَّا لَوْ قَال لِفَاسِقٍ: يَا فَاسِقُ فَلاَ يَجِبُ فِيهِ شَيْءٌ. (2) التَّفَاصِيل فِي (سَبٌّ، وَفِسْقٌ) .
__________
(1) البناية7 / 181، 183، وابن عابدين 4 / 376، وأسنى المطالب 4 / 353، والمغني 9 / 181.
(2) الاختيار لتعليل المختار 4 / 96، والفتاوى الهندية 2 / 168، والمغني8 / 220 ط الرياض.(13/101)
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
يَتَنَاوَل الْفُقَهَاءُ أَحْكَامَ التَّفْسِيقِ بِالتَّفْصِيل فِي أَبْوَابِ الشَّهَادَاتِ، وَحَدِّ الْقَذْفِ، وَالرِّدَّةِ، فَتُنْظَرُ فِيهَا، وَفِي مُصْطَلَحَاتِهَا الْخَاصَّةِ، وَكَذَلِكَ فِي مَبَاحِثِ (الإِْمَامَةِ: كُبْرَى أَوْ صُغْرَى) .(13/102)
تَفْضِيلٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّفْضِيل فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ فَضَّلَهُ، يُقَال: فَضَّلْتُ فُلاَنًا عَلَى غَيْرِهِ تَفْضِيلاً، أَيْ مَيَّزْتُهُ، وَحَكَمْتُ لَهُ بِالْفَضْل، أَوْ صَيَّرْتُهُ كَذَلِكَ وَالْفَضْل وَالْفَضِيلَةُ. ضِدُّ النَّقْصِ وَالنَّقِيصَةِ. (1)
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِكَلِمَةِ تَفْضِيلٍ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
التَّسْوِيَةُ:
2 - التَّسْوِيَةُ مِنْ سَوَّيْتُ الشَّيْءَ فَاسْتَوَى، أَيْ: قَوَّمْتُهُ فَاسْتَقَامَ، وَقَسَمَ الشَّيْءَ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ بِالسَّوِيَّةِ، أَيْ: عَلَى سَوَاءٍ، وَمِنْ مَعَانِيهَا أَيْضًا: الْعَدْل، يُقَال: سَوَّيْتُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ: إِذَا عَدَلْتُ بَيْنَهُمَا، وَسَوَّيْتُ فُلاَنًا بِفُلاَنٍ: مَاثَلْتُهُ بِهِ. (2)
فَالتَّسْوِيَةُ ضِدُّ التَّفْضِيل.
__________
(1) مختار الصحاح، ولسان العرب المحيط مادة: " فضل ".
(2) مختار الصحاح، ولسان العرب المحيط والقاموس مادة: " ساوى ".(13/102)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
3 - يَخْتَلِفُ حُكْمُ التَّفْضِيل بِاخْتِلاَفِ مَوَاضِعِهِ: فَقَدْ يَكُونُ وَاجِبًا كَتَفْضِيل الْفَارِسِ عَلَى الرَّاجِل فِي تَقْسِيمِ الْغَنِيمَةِ.
فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُعْطَى الْفَارِسَ أَكْثَرَ مِنَ الرَّاجِل، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِ مَا يُعْطَاهُ الْفَارِسُ، وَالْفَرَسُ، وَالرَّاجِل
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يُعْطَى الْفَارِسُ ثَلاَثَةَ أَسْهُمٍ، سَهْمًا لَهُ وَسَهْمَيْنِ لِفَرَسِهِ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْهَمَ يَوْمَ خَيْبَرَ لِلْفَارِسِ ثَلاَثَةَ أَسْهُمٍ: سَهْمَانِ لِفَرَسِهِ، وَسَهْمٌ لَهُ. (1) وَيُعْطَى الرَّاجِل سَهْمًا، وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ بِإِعْطَاءِ الْفَارِسِ سَهْمَيْنِ، وَالرَّاجِل سَهْمًا، لِحَدِيثِ مُجَمِّعِ بْنِ جَارِيَةَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسَمَ خَيْبَرَ عَلَى أَهْل الْحُدَيْبِيَةِ، فَأَعْطَى الْفَارِسَ سَهْمَيْنِ، وَأَعْطَى الرَّاجِل سَهْمًا. (2)
__________
(1) حديث: " أسهم يوم خيبر للفارس ثلاثة أسهم، سهمان لفرسه وسهم له " أخرجه البخاري (الفتح 6 / 67 ط السلفية) ومسلم (3 / 1383 ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عمر.
(2) حديث: " قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر على أهل الحديبية، فأعطى الفارس سهمين، وأعطى الراجل سهما ". أخرجه أبو داود من حديث مجمع بن جارية (3 / 175 تحقيق عزت عبيد دعاس) وقال أبو داود: " حديث أبي معاوية أصح والعمل عليه ". يعني به حديث ابن عمر المتقدم، وقد ضعف ابن حجر إسناد حديث مجمع كما في الفتح (6 / 68ط السلفية) .(13/103)
وَأَمَّا تَفْضِيل بَعْضِ الْغَانِمِينَ عَلَى بَعْضٍ فَالأَْصْل أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ (1) يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى مُصْطَلَحِ " غَنِيمَةٌ ".
4 - وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ التَّفْضِيل بَيْنَ الأَْصْنَافِ الْمُخْتَلِفَةِ وَآحَادِ الصِّنْفِ الْوَاحِدِ فِي إعْطَاءِ الزَّكَاةِ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى مُصْطَلَحِ (تَسْوِيَةٌ) وَقَدْ فَصَّل الْفُقَهَاءُ الْكَلاَمَ فِيهِ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنْ (مَصْرِفِ الزَّكَاةِ) . (2)
5 - وَقَدْ يَكُونُ التَّفْضِيل مَكْرُوهًا كَتَفْضِيل بَعْضِ الأَْوْلاَدِ عَلَى بَعْضٍ فِي الْعَطِيَّةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، إِنْ وَقَعَ جَازَ، وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ الْمَنْعُ، وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الأَْوْلاَدِ، فَإِنْ خَصَّ بَعْضَهُمْ بِعَطِيَّةٍ، أَوْ فَاضَل بَيْنَهُمْ فِيهَا، دُونَ مَعْنَى يَقْتَضِي ذَلِكَ أَثِمَ، وَهُنَاكَ خِلاَفٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي مَعْنَى التَّسْوِيَةِ، هَل تَكُونُ عَلَى حَسَبِ قِسْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى الْمِيرَاثَ، أَوْ تُعْطَى الأُْنْثَى مِثْل مَا يُعْطَى الذَّكَرُ؟ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى مُصْطَلَحِ (تَسْوِيَةٌ وَهِبَةٌ) . (3)
__________
(1) ابن عابدين 3 / 234، والحطاب 3 / 371، ورضة الطالبين 6 / 383، والمغني 8 / 405، 404، 418 ونيل الأوطار 7 / 282، 284.
(2) ابن عابدين 2 / 62، والقوانين الفقهية لابن جزي / 116، وروضة الطالبين2 / 330، 331، وقليوبي 3 / 202، والمغني 2 / 669.
(3) ابن عابدين 4 / 513، والقوانين الفقهية لابن جزي / 372، وروضة الطالبين 5 / 378، 379، والمغني 5 / 664، 665، 666.(13/103)
6 - وَقَدْ يَكُونُ التَّفْضِيل حَرَامًا كَتَفْضِيل زَوْجَةٍ عَلَى أُخْرَى.
فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى حُرْمَةِ التَّفْضِيل بَيْنَ الزَّوْجَاتِ فِي الْقَسْمِ، وَإِنْ تَرَجَّحَتْ إِحْدَاهُنَّ بِشَرَفٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَفِي تَفْضِيل الْجَدِيدَةِ عَلَى الْقَدِيمَةِ، وَفِي كَيْفِيَّةِ الْقَسْمِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ (1) . يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحَيْ (تَسْوِيَةٌ وَقَسْمٌ) .
7 - وَلِلْفُقَهَاءِ أَقْوَالٌ وَآرَاءٌ حَوْل تَفْضِيل مَكَّةَ عَلَى الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ، وَتَفْضِيل قَبْرِهِ الْمُكَرَّمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَفْضِيل الصَّلاَةِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَالْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ عَلَى غَيْرِهِمَا مِنَ الْمَسَاجِدِ، وَتَفْضِيل إِدْرَاكِ الْجَمَاعَةِ عَلَى تَثْلِيثِ الْوُضُوءِ وَسَائِرِ آدَابِهِ، وَالتَّفْضِيل بَيْنَ آحَادِ كُل صِنْفٍ فِي الْوَصِيَّةِ ذُكِرَ فِي مَوْطِنِهِ (2) وَيُرْجَعُ أَيْضًا إِلَى مُصْطَلَحَاتِ (الْمَدِينَةُ الْمُنَوَّرَةُ، مَكَّةُ الْمُكَرَّمَةُ، قَبْرٌ، مَسَاجِدُ، وَصِيَّةٌ) .
8 - وَأَيْضًا يُنْظَرُ تَفْصِيل الْكَلاَمِ فِي تَفْضِيل حَجِّ الْغَنِيِّ عَلَى حَجِّ الْفَقِيرِ، وَحَجِّ الْفَرْضِ عَلَى طَاعَةِ الْوَالِدَيْنِ، وَبِنَاءِ الرِّبَاطِ عَلَى حَجِّ النَّفْل، وَالْحَجِّ تَطَوُّعًا عَلَى الصَّدَقَةِ، وَيَوْمِ عَرَفَةَ إِذَا وَافَقَ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 399، 400، 402، وفتح القدير 3 / 301، 300، والقوانين الفقهية لابن جزي / 217، وروضة الطالبين 7 / 324، 352، والمغني 7 / 27، 43، 44، والزواجر 2 / 35.
(2) ابن عابدين 2 / 256، 257، وأسنى المطالب 1 / 74، ونهاية المحتاج 6 / 79.(13/104)
يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى غَيْرِهِ، وَتَفْضِيل مُجَاوَرَةِ الْمَدِينَةِ عَلَى مَكَّةَ، أَوِ الْعَكْسُ فِي (كِتَابِ الْحَجِّ (1)) .
وَمُصْطَلَحَيْ (حَجٌّ، وَجِوَارٌ) كَمَا فَصَّل الْقَرَافِيُّ الْكَلاَمَ فِي التَّفْضِيل بَيْنَ الْعُلُومِ فِي الْفَرْقِ الثَّالِثَ عَشَرَ وَالْمِائَةَ (2)
__________
(1) ابن عابدين 2 / 253، 256، 257.
(2) الفروق للقرافي 2 / 211 - 229 ط دار المعرفة.(13/104)
تَفْلِيجٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّفْلِيجُ لُغَةً هُوَ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الأَْسْنَانِ سَوَاءٌ، أَكَانَ خِلْقَةً، أَمْ بِتَكَلُّفٍ، بِأَنْ يَبْرُدَهَا بِالْمِبْرَدِ وَنَحْوِهِ طَلَبًا لِلْحُسْنِ، وَيُقَال: رَجُلٌ أَفْلَجُ الأَْسْنَانِ وَامْرَأَةٌ فَلْجَاءُ الأَْسْنَانِ. وَرَجُلٌ مُفْلَجُ الثَّنَايَا أَيْ مُنْفَرِجُهَا.
وَالْمُتَفَلِّجَةُ هِيَ الَّتِي تَتَكَلَّفُ، بِأَنْ تُفَرِّقَ بَيْنَ الأَْسْنَانِ لأَِجْل الْحُسْنِ.
وَهُوَ مِنَ الْفَلَجِ (بِفَتْحِ الْفَاءِ وَاللاَّمِ) وَهُوَ الْفُرْجَةُ بَيْنَ الثَّنَايَا وَالرُّبَاعِيَّاتِ. (1)
وَفِي صِفَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ مُفَلَّجَ الأَْسْنَانِ، وَفِي رِوَايَةٍ أَفْلَجَ الأَْسْنَانِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَال: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَفْلَجَ الثَّنِيَّتَيْنِ، وَإِذَا تَكَلَّمَ رُئِيَ كَالنُّورِ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ ثَنَايَاهُ (2) .
__________
(1) لسان العرب مادة: " فلج "، وفتح الباري 10 / 372، ط رئاسة إدارة البحوث الرياض، وعمدة القاري شرح صحيح البخاري 22 / 62 ط المنيرية، وشرح النووي على صحيح مسلم 14 / 106 ط المطبعة المصرية بالأزهر
(2) حديث ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أفلج الثنيتين، وإذا تكلم رؤي كالنور يخرج من بين ثناياه. أخرجه الدارمي (1 / 33 ط دار المحاسن بالقاهرة) والطبراني في الأوسط كما في مجمع الزوائد للهيثمي (8 / 279 ط القدسي) وقال الهيثمي: " فيه عبد العزيز بن أبي ثابت وهو ضعيف ".(13/105)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّفْرِيقُ:
2 - التَّفْرِيقُ فِي اللُّغَةِ: خِلاَفُ الْجَمْعِ، وَهُوَ الْفَصْل بَيْنَ الأَْشْيَاءِ، أَوِ الْفَصْل بَيْنَ أَبْعَاضِ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ. وَلاَ يَخْرُجُ مَعْنَاهُ الشَّرْعِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ التَّفْلِيجِ، حَيْثُ يَكُونُ فِي الأَْسْنَانِ وَغَيْرِهَا (1) .
ب - الْوَشْرُ:
3 - الْوَشْرُ فِي اللُّغَةِ: النَّشْرُ، يُقَال: وَشَرَ الْخَشَبَةَ وَشْرًا: إِذَا نَشَرَهَا بِالْمِنْشَارِ. وَهُوَ فِي الشَّرْعِ: تَحْدِيدُ الأَْسْنَانِ وَتَرْقِيقُ أَطْرَافِهَا. وَفِي الْحَدِيثِ: نَهَى عَنِ النَّامِصَةِ وَالْوَاشِرَةِ (2) .
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ التَّفْلِيجَ هُوَ تَفْرِيقُ الأَْسْنَانِ، وَالْوَشْرُ هُوَ تَحْدِيدُهَا وَتَرْقِيقُهَا. (3)
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير مادة: " فرق ".
(2) حديث: " نهى عن النامصة والواشرة " أخرجه أحمد (1 / 415 ط الميمنية) من حديث ابن مسعود. وصححه أحمد شاكر في تعليقه على المسند (6 / 21 ط دار المعارف) .
(3) لسان العرب مادة: " وشر "، وفتح الباري10 / 372ط الرياض.(13/105)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
4 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ تَفْلِيجَ الأَْسْنَانِ لأَِجْل الْحُسْنِ حَرَامٌ، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ طَالِبَةُ التَّفْلِيجِ وَفَاعِلَتُهُ، وَذَلِكَ لِمَا ثَبَتَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: لَعَنَ اللَّهُ الْوَاشِمَاتِ، وَالْمُسْتَوْشِمَاتِ، وَالنَّامِصَاتِ، وَالْمُتَنَمِّصَاتِ، وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ
قَال: فَبَلَغَ ذَلِكَ امْرَأَةً مِنْ بَنِي أَسَدٍ يُقَال لَهَا أُمُّ يَعْقُوبَ. وَكَانَتْ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ فَأَتَتْهُ. فَقَالَتْ: مَا حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْكَ أَنَّكَ لَعَنْتُ الْوَاشِمَاتِ، وَالْمُسْتَوْشِمَاتِ، وَالْمُتَنَمِّصَاتِ وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ، فَقَال عَبْدُ اللَّهِ: وَمَا لِي لاَ أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ.
فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ: قَرَأْتُ مَا بَيْنَ لَوْحَيِ الْمُصْحَفِ فَمَا وَجَدْتُهُ. فَقَال: لَئِنْ كُنْتِ قَرَأْتِيهِ لَقَدْ وَجَدْتِيهِ. قَال اللَّهُ عَزَّ وَجَل: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (1) فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ: إِنِّي أَرَى شَيْئًا مِنْ هَذَا عَلَى امْرَأَتِكَ الآْنَ. قَال: اذْهَبِي فَانْظُرِي. قَال: فَدَخَلْتُ عَلَى امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ فَلَمْ تَرَ شَيْئًا، فَجَاءَتْ إِلَيْهِ فَقَالَتْ: مَا رَأَيْتُ شَيْئًا فَقَال: أَمَا لَوْ كَانَ ذَلِكَ لَمْ نُجَامِعْهَا (2) أَيْ لَمْ نَجْتَمِعْ مَعَهَا
__________
(1) سورة الحشر / 7.
(2) حديث ابن مسعود مرفوعا: " لعن الله الواشمات " أخرجه البخاري (الفتح8 / 630 ط السلفية) ، ومسلم 3 / 1678 ط الحلبي) .(13/106)
وَعَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلْعَنُ الْمُتَنَمِّصَاتِ، وَالْمُتَفَلِّجَاتِ، وَالْمُتَوَشِّمَاتِ اللاَّتِي يُغَيِّرْنَ خَلْقَ اللَّهِ عَزَّ وَجَل. (1)
ثُمَّ إِنَّ هَذِهِ الْحُرْمَةَ لَيْسَتْ مُطْلَقَةً، وَإِنَّمَا هِيَ مَقْصُورَةٌ عَلَى مَنْ تَفْعَل ذَلِكَ لِلْحُسْنِ.
لأَِنَّ اللاَّمَ فِي قَوْلِهِ: لِلْحُسْنِ لِلتَّعْلِيل، أَمَّا لَوِ احْتِيجَ إِلَيْهِ لِعِلاَجٍ أَوْ عَيْبٍ فِي السِّنِّ وَنَحْوِهِ فَلاَ بَأْسَ بِهِ. (2)
5 - وَالتَّفْلِيجُ عَادَةً يَكُونُ مَا بَيْنَ الثَّنَايَا وَالرُّبَاعِيَّاتِ مِنَ الأَْسْنَانِ وَقَال الْعَيْنِيُّ: لاَ يُفْعَل ذَلِكَ إِلاَّ فِي الثَّنَايَا وَالرُّبَاعِيَّاتِ وَكَانَ التَّفْلِيجُ يُسْتَحْسَنُ فِي الْمَرْأَةِ، فَرُبَّمَا صَنَعَتْهُ الْمَرْأَةُ الَّتِي تَكُونُ أَسْنَانُهَا مُتَلاَصِقَةً لِتَصِيرَ مُتَفَلِّجَةً قَال النَّوَوِيُّ: وَتَفْعَل ذَلِكَ الْعَجُوزُ وَمَنْ
__________
(1) حديث ابن مسعود: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلعن المتنمصات والمتفلجات. أخرجه النسائي (8 / 148ط المكتبة التجارية بمصر) ، وأحمد (1 / 417ط الميمنية) وصححه أحمد شاكر في تعليقه على المسند (6 / 26 ط المعارف) .
(2) فتح الباري شرح البخاري 10 / 372 ط رئاسة إدارة البحوث الرياض، وعمدة القاري شرح البخاري 22 / 62 وإرشاد الساري شرح البخاري 8 / 474ط الأميرية ببولاق، صحيح مسلم بشرح النووي14 / 106 ط المطبعة المصرية بالأزهر، عون المعبود شرح سنن أبي داود 11 / 226ط المكتبة السلفية.(13/106)
قَارَبَتْهَا فِي السِّنِّ إِظْهَارًا لِلصِّغَرِ وَحُسْنِ الأَْسْنَانِ، لأَِنَّ هَذِهِ الْفُرْجَةَ اللَّطِيفَةَ بَيْنَ الأَْسْنَانِ تَكُونُ لِلْبَنَاتِ الصِّغَارِ، فَإِذَا عَجَزَتِ الْمَرْأَةُ وَكَبِرَتْ سِنُّهَا فَتَبْرُدُهَا بِالْمِبْرَدِ لِتَصِيرَ لَطِيفَةً حَسَنَةَ الْمَنْظَرِ وَتُوُهِّمَ كَوْنُهَا صَغِيرَةً. (1)
تَفْلِيسٌ
انْظُرْ: إِفْلاَسٌ
__________
(1) المراجع السابقة.(13/107)
تَفْوِيضٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّفْوِيضُ لُغَةً مَصْدَرُ فَوَّضَ، يُقَال: فَوَّضْتُ إِلَى فُلاَنٍ الأَْمْرَ أَيْ صَيَّرْتُهُ إِلَيْهِ وَجَعَلْتُهُ الْحَاكِمَ فِيهِ. (1) وَمِنْهُ حَدِيثُ الْفَاتِحَةِ فَوَّضَ إِلَيَّ عَبْدِي (2) وَاصْطِلاَحًا يُسْتَعْمَل فِي بَابِ النِّكَاحِ. يُقَال: فَوَّضَتِ الْمَرْأَةُ نِكَاحَهَا إِلَى الزَّوْجِ حَتَّى تَزَوَّجَهَا مِنْ غَيْرِ مَهْرٍ، وَقِيل: فَوَّضَتْ أَيْ أَهْمَلَتْ حُكْمَ الْمَهْرِ، فَهِيَ مُفَوِّضَةٌ (بِكَسْرِ الْوَاوِ) لِتَفْوِيضِهَا أَمْرَهَا إِلَى الزَّوْجِ أَوِ الْوَلِيِّ بِلاَ مَهْرٍ.
وَمُفَوَّضَةٌ (بِفَتْحِ الْوَاوِ) مِنْ فَوَّضَهَا وَلِيُّهَا إِلَى الزَّوْجِ بِلاَ مَهْرٍ. (3)
وَهُوَ فِي بَابِ الطَّلاَقِ: جَعَل أَمْرَ طَلاَقِ الزَّوْجَةِ بِيَدِهَا (4) .
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير مادة: " فوض ".
(2) حديث: " فوض إليَ عبدي " أخرجه مسلم (1 / 296 ط عيسى الحلبي) ، وأحمد (1 / 241 - 242 ط المكتب الإسلامي) . واللفظ له، وهو من حديث أبي هريرة.
(3) حاشية ابن عابدين 2 / 335، وحاشية الدسوقي 2 / 313، ومغني المحتاج 3 / 229، وكشاف القناع 5 / 156.
(4) ابن عابدين 2 / 475، وحاشية الدسوقي 2 / 405، ومغني المحتاج3 / 285، وكشاف القناع 5 / 257.(13/107)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - تَوْكِيلٌ:
2 - وَكَل إِلَيْهِ الأَْمْرَ: سَلَّمَهُ إِلَيْهِ، وَالتَّوْكِيل هُوَ الإِْنَابَةُ فِي تَصَرُّفٍ جَائِزٍ مَعْلُومٍ. وَتَوْكِيل الزَّوْجَةِ تَطْلِيقَ نَفْسِهَا هُوَ بِعَيْنِهِ التَّفْوِيضُ فِي الطَّلاَقِ فِي الْقَوْل الْقَدِيمِ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَحَدُ أَنْوَاعِ التَّفْوِيضِ الثَّلاَثَةِ (التَّوْكِيل، وَالتَّمْلِيكُ، وَالتَّخْيِيرُ) ، وَجَعَل الْحَنَابِلَةُ حَمْل أَمْرِ الزَّوْجَةِ بِيَدِهَا، وَتَعْلِيقُ الطَّلاَقِ عَلَى مَشِيئَتِهَا، مِنْ بَابِ التَّوْكِيل. (1)
ب - التَّمْلِيكُ:
3 - أَمْلَكَهُ الشَّيْءَ وَمَلَّكَهُ إِيَّاهُ تَمْلِيكًا جَعَلَهُ مِلْكًا لَهُ وَاعْتَبَرَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْجَدِيدِ تَفْوِيضَ الطَّلاَقِ لِلزَّوْجَةِ مِنَ التَّمْلِيكِ، وَهُوَ أَحَدُ أَنْوَاعِ التَّفْوِيضِ الثَّلاَثَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَجَعَلَهُ الْحَنَابِلَةُ خَاصًّا بِصِيغَةِ الاِخْتِيَارِ دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الصِّيَغِ. (2)
ج - التَّخْيِيرُ:
4 - التَّخْيِيرُ مِنْ خَيَّرْتُهُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ فَوَّضْتُ إِلَيْهِ
__________
(1) لسان العرب مادة: " وكل "، والدسوقي 2 / 406، ومغني المحتاج 3 / 286، وكشاف القناع 5 / 257.
(2) لسان العرب مادة: " ملك "، وابن عابدين 2 / 475، وحاشية الدسوقي 2 / 406، ومغني المحتاج 3 / 286، وكشاف القناع 5 / 256.(13/108)
الاِخْتِيَارَ فَاخْتَارَ أَحَدَهُمَا وَتَخَيَّرَهُ، وَحَقِيقَةُ التَّفْوِيضِ هُوَ تَخْيِيرُ الزَّوْجَةِ بَيْنَ الْبَقَاءِ فِي عِصْمَةِ الزَّوْجِ، أَوِ الْفِرَاقِ، سَوَاءٌ عَنْ طَرِيقِ تَمْلِيكِهَا لِلطَّلاَقِ أَوْ تَوْكِيلِهَا فِي إِيقَاعِهِ، قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لَمَّا أُمِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَخْيِيرِ نِسَائِهِ وَبَدَأَ بِي (1) الْحَدِيثَ وَيَعْتَبِرُ الْفُقَهَاءُ لَفْظَ (اخْتَارِي) أَحَدَ صِيَغِ التَّفْوِيضِ. (2)
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالتَّفْوِيضِ:
أَوَّلاً: التَّفْوِيضُ فِي النِّكَاحِ:
حَقِيقَةُ التَّفْوِيضِ وَحُكْمُهُ:
5 - الْمُرَادُ بِالتَّفْوِيضِ فِي النِّكَاحِ السُّكُوتُ عَنْ تَعْيِينِ الصَّدَاقِ حِينَ الْعَقْدِ، وَيُفَوَّضُ ذَلِكَ إِلَى أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ أَوْ إِلَى غَيْرِهِمَا.
وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ نِكَاحِ التَّفْوِيضِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً (3) } وَلِمَا رَوَى مَعْقِل بْنُ سِنَانٍ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِي بِرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ، وَكَانَ زَوْجُهَا مَاتَ، وَلَمْ يَدْخُل بِهَا، وَلَمْ يَفْرِضْ لَهَا صَدَاقًا،
__________
(1) حديث: " لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتخيير نسائه، وبدأ بي. . . " أخرجه مسلم (2 / 1104 - 1105 ط عيسى الحلبي)
(2) لسان العرب مادة: " خير "، وابن عابدين 2 / 475، وحاشية 2 / 406.
(3) سورة البقرة / 236.(13/108)
فَجَعَل لَهَا مَهْرَ نِسَائِهَا لاَ وَكْسَ وَلاَ شَطَطَ (1) وَلأَِنَّ الْقَصْدَ مِنَ النِّكَاحِ الْوَصْلَةُ وَالاِسْتِمْتَاعُ دُونَ الصَّدَاقِ، فَصَحَّ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِهِ (2) .
6 - وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ الَّتِي يَخْلُو الْعَقْدُ فِيهَا مِنْ تَسْمِيَةِ الْمَهْرِ هَل تُعْتَبَرُ تَفْوِيضًا فَتَأْخُذُ حُكْمَهُ أَوْ لاَ؟ كَاشْتِرَاطِ عَدَمِ الْمَهْرِ، وَالتَّرَاضِي عَلَى إِسْقَاطِهِ. فَيَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ هَذِهِ الصُّوَرَ مِنَ التَّفْوِيضِ، وَمِنْ ثَمَّ يُصَحِّحُونَ عَقْدَ الزَّوَاجِ فِيهَا، وَذَلِكَ لأَِنَّ الْمَهْرَ لَيْسَ رُكْنًا فِي الْعَقْدِ وَلاَ شَرْطًا لَهُ، بَل هُوَ حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِهِ، فَالْخَلَل فِيهِ لاَ تَأْثِيرَ لَهُ عَلَى الْعَقْدِ.
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَيَرَوْنَ فَسَادَ النِّكَاحِ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ، وَيُوجِبُونَ فَسْخَهُ قَبْل الدُّخُول، فَإِنْ دَخَل ثَبَتَ الْعَقْدُ وَوَجَبَ لَهَا مَهْرُ الْمِثْل. (3)
أَنْوَاعُ التَّفْوِيضِ:
7 - التَّفْوِيضُ فِي النِّكَاحِ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أ - تَفْوِيضُ الْمَهْرِ: وَهُوَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا عَلَى
__________
(1) حديث: " قضى في بروع بنت واشق " أخرجه أبو داود (2 / 588 ط عبيد الدعاس) ، والترمذي (3 / 450 ط مصطفى الحلبي) من حديث عبد الله بن مسعود، وقال الترمذي: حديث ابن مسعود حديث حسن صحيح.
(2) بدائع الصنائع 2 / 274، وتبيين الحقائق 2 / 139، وحاشية الدسوقي 2 / 313، والقوانين الفقهية 208، ومغني المحتاج 3 / 229، وكشاف القناع 5 / 156، وأحكام القرآن لابن العربي 1 / 218.
(3) فتح القدير 3 / 205، وحاشية الدسوقي 2 / 303، 313، ومغني المحتاج 3 / 229، وكشاف القناع 5 / 156.(13/109)
مَا شَاءَتْ، أَوْ عَلَى مَا شَاءَ الزَّوْجُ أَوِ الْوَلِيُّ، أَوْ عَلَى مَا شَاءَ غَيْرُهُمْ، وَالْمَالِكِيَّةُ لاَ يُسَمُّونَ هَذَا النَّوْعَ تَفْوِيضًا بَل يُسَمُّونَهُ التَّحْكِيمَ.
ب - تَفْوِيضُ الْبُضْعِ وَهُوَ أَنْ يُزَوِّجَ الأَْبُ ابْنَتَهُ الْمُجْبَرَةَ بِغَيْرِ صَدَاقٍ، أَوْ تَأْذَنَ الْمَرْأَةُ لِوَلِيِّهَا أَنْ يُزَوِّجَهَا بِغَيْرِ صَدَاقٍ. (1)
مَا يَجِبُ فِي نِكَاحِ التَّفْوِيضِ:
8 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - وَهُوَ مُقَابِل الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - إِلَى أَنَّ مَهْرَ الْمِثْل فِي نِكَاحِ التَّفْوِيضِ يَجِبُ بِالْعَقْدِ، وَيَتَأَكَّدُ وَيَتَقَرَّرُ بِالْمَوْتِ أَوِ الْوَطْءِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ - فِي الأَْظْهَرِ - إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ بِالْوَطْءِ.
وَفَرَّقَ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ الْوَطْءِ وَالْمَوْتِ، فَقَالُوا: إِنَّهُ يَجِبُ بِالْوَطْءِ لاَ بِالْمَوْتِ عَلَى التَّفْصِيل الآْتِي فِيمَا بَعْدُ.
وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إِنْ طَلَّقَهَا قَبْل الدُّخُول لَمْ يَكُنْ لَهَا إِلاَّ الْمُتْعَةُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (2) } عَلَى خِلاَفٍ بَيْنَهُمْ فِي وُجُوبِهَا.
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 228، وكشاف القناع 5 / 156، وحاشية الدسوقي 2 / 313.
(2) سورة البقرة / 236.(13/109)
فَإِلَى الْوُجُوبِ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ؛ لأَِنَّ الأَْمْرَ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ، وَلاَ يُعَارِضُهُ قَوْلُهُ {حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} لأَِنَّ أَدَاءَ الْوَاجِبِ مِنَ الإِْحْسَانِ، وَلأَِنَّ الْمُفَوَّضَةَ لَمْ يَجِبْ لَهَا شَيْءٌ فَتَجِبُ لَهَا الْمُتْعَةُ لِلإِْيحَاشِ.
وَإِلَى النَّدْبِ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ الْقَدِيمُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} قَالُوا: وَلَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَمْ يُخَصَّ بِهَا الْمُحْسِنُونَ دُونَ غَيْرِهِمْ.
وَأَمَّا مَوْتُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ قَبْل الدُّخُول فَهُوَ مَحَل خِلاَفٍ فِي إِيجَابِ مَهْرِ الْمِثْل لَهَا، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ مَاتَ الزَّوْجُ عَنِ الْمُفَوَّضَةِ قَبْل الدُّخُول، فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا، لِحَدِيثِ مَعْقِل بْنِ سِنَانٍ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِي بِرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ، وَكَانَ زَوْجُهَا مَاتَ، وَلَمْ يَدْخُل بِهَا وَلَمْ يَفْرِضْ لَهَا صَدَاقًا، فَجَعَل لَهَا مَهْرَ نِسَائِهَا لاَ وَكْسَ وَلاَ شَطَطَ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى: أَنَّهُ لاَ صَدَاقَ لَهَا وَإِنْ ثَبَتَ لَهَا الْمِيرَاثُ. (2)
__________
(1) حديث: " قضى في بروع بنت واشق وكان زوجها مات. . " سبق تخريجه ف / 5.
(2) تفسير القرطبي 3 / 200، وابن عابدين 2 / 334، 335، وحاشية الدسوقي 2 / 301، 313، وما بعدها 426، والقوانين الفقهية 208، ومغني المحتاج 2 / 228 وما بعدها 241، وكشاف القناع 5 / 147، 156.(13/110)
ثَانِيًا: التَّفْوِيضُ فِي الطَّلاَقِ:
حُكْمُ التَّفْوِيضِ فِي الطَّلاَقِ:
9 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى: جَوَازِ تَفْوِيضِ الطَّلاَقِ لِلزَّوْجَةِ (1) لِمَا رَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَال: دَخَل أَبُو بَكْرٍ يَسْتَأْذِنُ عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَجَدَ النَّاسَ جُلُوسًا بِبَابِهِ، لَمْ يُؤْذَنْ لأَِحَدٍ مِنْهُمْ. قَال: فَأَذِنَ لأَِبِي بَكْرٍ فَدَخَل، ثُمَّ جَاءَ عُمَرُ فَاسْتَأْذَنَ فَأَذِنَ لَهُ، فَوَجَدَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسًا حَوْلَهُ نِسَاؤُهُ وَاجِمًا سَاكِتًا، قَال: فَقَال وَاَللَّهِ لأََقُولَنَّ شَيْئًا أُضْحِكُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ، لَوْ رَأَيْتَ بِنْتَ خَارِجَةَ سَأَلَتْنِي النَّفَقَةَ فَقُمْتُ إِلَيْهَا فَوَجَأْتُ عُنُقَهَا، فَضَحِكَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَال: هُنَّ حَوْلِي كَمَا تَرَى يَسْأَلْنَنِي النَّفَقَةَ فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى عَائِشَةَ يَجَأُ عُنُقَهَا، وَقَامَ عُمَرُ إِلَى حَفْصَةَ يَجَأُ عُنُقَهَا، كِلاَهُمَا يَقُول: تَسْأَلْنَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ،، فَقُلْنَ: وَاَللَّهِ لاَ نَسْأَل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا أَبَدًا لَيْسَ عِنْدَهُ، ثُمَّ اعْتَزَلَهُنَّ شَهْرًا أَوْ تِسْعًا وَعِشْرِينَ، ثُمَّ نَزَلَتْ عَلَيْهِ الآْيَاتُ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَِزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآْخِرَةَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 475، وحاشية الدسوقي 2 / 405، ومغني المحتاج 3 / 285، وكشاف القناع 5 / 254، وتفسير القرطبي 14 / 162، وأحكام القرآن لابن العربي 3 / 1505، وأحكام القرآن للجصاص 3 / 439.(13/110)
فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} (1) قَال: فَبَدَأَ بِعَائِشَةَ فَقَال: يَا عَائِشَةُ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَعْرِضَ عَلَيْكِ أَمْرًا أُحِبُّ أَلاَّ تَعْجَلِي فِيهِ حَتَّى تَسْتَشِيرِي أَبَوَيْكِ، قَالَتْ: وَمَا هُوَ يَا رَسُول اللَّهِ؟ فَتَلاَ عَلَيْهَا الآْيَةَ. قَالَتْ: أَفِيكَ يَا رَسُول اللَّهِ أَسْتَشِيرُ أَبَوَيَّ،، بَل أَخْتَارُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآْخِرَةَ، وَأَسَالُكَ أَلاَّ تُخْبِرَ امْرَأَةً مِنْ نِسَائِكَ بِاَلَّذِي قُلْتُ. قَال: لاَ تَسْأَلْنِي امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ إِلاَّ أَخْبَرْتُهَا، إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَبْعَثْنِي مُعَنِّتًا وَلاَ مُتَعَنِّتًا، وَلَكِنْ بَعَثَنِي مُعَلِّمًا مُيَسِّرًا. (2)
حَقِيقَةُ التَّفْوِيضِ فِي الطَّلاَقِ وَصِفَتُهُ:
10 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ، إِلَى أَنَّ التَّفْوِيضَ تَمْلِيكٌ لِلطَّلاَقِ، وَعَلَى هَذَا قَال الْحَنَفِيَّةُ بِعَدَمِ صِحَّةِ رُجُوعِ الزَّوْجِ عَنْهُ، وَذَلِكَ لأَِنَّ التَّمْلِيكَ يَتِمُّ بِالْمِلْكِ وَحْدَهُ بِلاَ تَوَقُّفٍ عَلَى الْقَبُول.
وَقَال الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ لَهُ: الرُّجُوعُ قَبْل تَطْلِيقِهَا، بِنَاءً عَلَى أَنَّ التَّمْلِيكَ يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهِ قَبْل الْقَبُول، وَبِنَاءً عَلَى اشْتِرَاطِهِمْ لِوُقُوعِهِ تَطْلِيقَهَا عَلَى الْفَوْرِ؛ وَذَلِكَ لأَِنَّ التَّطْلِيقَ عِنْدَهُمْ جَوَابٌ لِلتَّمْلِيكِ، فَكَانَ كَقَبُولِهِ، وَقَبُولُهُ فَوْرٌ.
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ جَعَلُوا التَّفْوِيضَ جِنْسًا تَحْتَهُ أَنْوَاعٌ ثَلاَثَةٌ: تَفْوِيضُ تَوْكِيلٍ، وَتَفْوِيضُ
__________
(1) سورة الأحزاب / 28، 29.
(2) حديث: " دخل أبو بكر يستأذن على رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم فوجد الناس. . . " سبق تخريجه ف / 4.(13/111)
تَخْيِيرٍ، وَتَفْوِيضُ تَمْلِيكٍ. وَيُمْكِنُ التَّمْيِيزُ بَيْنَهَا مِنْ خِلاَل الأَْلْفَاظِ الصَّادِرَةِ عَنِ الزَّوْجِ. فَكُل لَفْظٍ دَل عَلَى جَعْل إِنْشَاءِ الطَّلاَقِ بِيَدِ الْغَيْرِ مَعَ بَقَاءِ حَقِّ الزَّوْجِ فِي الْمَنْعِ مِنْ إِيقَاعِهِ فَهُوَ تَفْوِيضُ تَوْكِيلٍ، وَكُل لَفْظٍ دَل عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ فَوَّضَ لَهَا الْبَقَاءَ عَلَى الْعِصْمَةِ أَوِ الْخُرُوجَ مِنْهَا فَهُوَ تَفْوِيضُ تَخْيِيرٍ، وَكُل لَفْظٍ دَل عَلَى جَعْل الطَّلاَقِ بِيَدِهَا أَوْ بِيَدِ غَيْرِهَا دُونَ تَخْيِيرٍ فَهُوَ تَفْوِيضُ تَمْلِيكٍ. وَلَهُ الرُّجُوعُ فِي تَفْوِيضِ التَّوْكِيل دُونَهُمَا؛ لأَِنَّهُ فِي التَّوْكِيل جَعَلَهَا نَائِبَةً عَنْهُ فِي إِنْشَائِهِ، وَأَمَّا فِيهِمَا فَقَدْ جَعَل لَهَا مَا كَانَ يَمْلِكُ، فَهُمَا أَقْوَى.
وَفَرَّقَ الْحَنَابِلَةُ بَيْنَ صِيَغِ التَّفْوِيضِ، فَجَعَلُوا صِيغَتَيْنِ " أَمْرُكِ بِيَدِكِ "، " وَطَلِّقِي نَفْسَكِ " مِنَ التَّوْكِيل، فَيَكُونُ لَهَا عَلَى التَّرَاخِي مَا لَمْ يَفْسَخْ أَوْ يَطَأْ، وَجَعَلُوا صِيغَةَ " اخْتَارِي " مِنْ خِيَارِ التَّمْلِيكِ، فَهُوَ لَهَا عَلَى الْفَوْرِ إِلاَّ أَنْ يَجْعَلَهُ لَهَا عَلَى التَّرَاخِي. (1)
أَلْفَاظُ التَّفْوِيضِ فِي الطَّلاَقِ:
11 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى تَقْسِيمِ أَلْفَاظِ التَّفْوِيضِ فِي الطَّلاَقِ إِلَى صَرِيحٍ وَكِنَايَةٍ، فَالصَّرِيحُ عِنْدَهُمْ مَا كَانَ بِلَفْظِ الطَّلاَقِ، كَطَلِّقِي نَفْسَكِ إِنْ شِئْتِ، وَالْكِنَايَةُ مَا كَانَ بِغَيْرِهِ كَاخْتَارِي نَفْسَكِ، وَأَمْرُكِ بِيَدِكِ.
__________
(1) ابن عابدين 2 / 475، 476، 486، وحاشية الدسوقي 2 / 406، ومغني المحتاج 3 / 286، وكشاف القناع 5 / 257.(13/111)
وَفَرَّقَ الْحَنَابِلَةُ بَيْنَهُمَا، فَجَعَلُوا لَفْظَ الأَْمْرِ مِنْ بَابِ الْكِنَايَةِ الظَّاهِرَةِ، وَلَفْظَ الْخِيَارِ مِنْ بَابِ الْكِنَايَةِ الْخَفِيَّةِ. وَتَفْتَقِرُ أَلْفَاظُ التَّفْوِيضِ الْكِنَائِيَّةُ إِلَى النِّيَّةِ بِخِلاَفِ الصَّرِيحِ مِنْهَا (1) .
زَمَنُ تَفْوِيضِ الزَّوْجَةِ:
12 - صِيغَةُ التَّفْوِيضِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُطْلَقَةً، أَوْ تَكُونَ مُقَيَّدَةً بِزَمَنٍ مُعَيَّنٍ، أَوْ تَكُونَ بِصِيغَةٍ تَعُمُّ جَمِيعَ الأَْوْقَاتِ.
(أ) فَإِنْ كَانَتْ صِيغَةُ التَّفْوِيضِ مُطْلَقَةً.
فَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ حَقَّ الطَّلاَقِ لِلْمَرْأَةِ مُقَيَّدٌ بِمَجْلِسِ عِلْمِهَا وَإِنْ طَال، مَا لَمْ تُبَدِّل مَجْلِسَهَا حَقِيقَةً كَقِيَامِهَا عَنْهُ، أَوْ حُكْمًا بِأَنْ تَعْمَل مَا يَقْطَعُهُ مِمَّا يَدُل عَلَى الإِْعْرَاضِ عَنْهُ، وَكَانَ الإِْمَامُ مَالِكٌ يَقُول بِأَنَّ التَّخْيِيرَ وَالتَّمْلِيكَ الْمُطْلَقَيْنِ بَاقِيَانِ بِيَدِهَا مَا لَمْ تُوقَفْ عِنْدَ الْحَاكِمِ، أَوْ تُمَكِّنْ زَوْجَهَا مِنَ الاِسْتِمْتَاعِ مِنْهَا عَالِمَةً طَائِعَةً، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَهُوَ مَا أَخَذَ بِهِ ابْنُ الْقَاسِمِ، وَرَجَّحَهُ الدَّرْدِيرُ وَالدُّسُوقِيُّ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ أَخَّرَتْ بِقَدْرِ مَا يَنْقَطِعُ بِهِ الْقَبُول عَنِ الإِْيجَابِ ثُمَّ طُلِّقَتْ لَمْ يَقَعْ.
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ جَعَلُوا لِكُل صِيغَةٍ مِنْ صِيَغِ التَّفْوِيضِ حُكْمًا خَاصًّا بِهَا.
__________
(1) ابن عابدين 2 / 275، 481، 486، وحاشية الدسوقي2 / 406، ومغني المحتاج 3 / 285، 286، وكشاف القناع 5 / 256.(13/112)
فَلَوْ قَال لَهَا " أَمْرُكِ بِيَدِكِ " فَلاَ يَتَقَيَّدُ ذَلِكَ بِالْمَجْلِسِ، وَلَهَا حَقُّ تَطْلِيقِ نَفْسِهَا عَلَى التَّرَاخِي وَذَلِكَ لأَِنَّهُ تَوْكِيلٌ يَعُمُّ الزَّمَانَ مَا لَمْ يُقَيِّدْهُ بِقَيْدٍ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ لَوْ قَال لَهَا " طَلِّقِي نَفْسَكِ " فَهُوَ عَلَى التَّرَاخِي، لأَِنَّهُ فَوَّضَهُ إِلَيْهَا فَأَشْبَهَ " أَمْرُكِ بِيَدِكِ ".
وَلَوْ قَال لَهَا: اخْتَارِي نَفْسَكِ " فَهُوَ مُقَيَّدٌ بِالْمَجْلِسِ، وَبِعَدَمِ الاِشْتِغَال بِمَا يَقْطَعُهُ عُرْفًا، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَجَابِرٍ، وَلأَِنَّهُ خِيَارُ تَمْلِيكٍ، فَكَانَ عَلَى الْفَوْرِ كَخِيَارِ الْقَبُول. إِلاَّ أَنْ يَجْعَل لَهَا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ بِأَنْ يَقُول لَهَا " اخْتَارِي نَفْسَكِ يَوْمًا أَوْ أُسْبُوعًا أَوْ شَهْرًا " وَنَحْوَهُ فَتَمْلِكُهُ.
(ب) وَإِنْ كَانَتْ صِيغَةُ التَّفْوِيضِ تَعُمُّ جَمِيعَ الأَْوْقَاتِ فَيَكُونُ لَهَا حَقُّ تَطْلِيقِ نَفْسِهَا مَتَى شَاءَتْ وَلاَ يَتَقَيَّدُ بِالْمَجْلِسِ.
وَقَيَّدَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِعَدَمِ وَقْفِهَا عِنْدَ الْحَاكِمِ لِتُطَلِّقَ أَوْ تُسْقِطَ التَّمْلِيكَ، أَوْ يَكُونَ مِنْهَا مَا يَدُل عَلَى إِسْقَاطِهِ، كَأَنْ تُمَكِّنَهُ مِنَ الاِسْتِمْتَاعِ بِهَا، وَذَلِكَ لأَِنَّهُمْ يَقُولُونَ بِوُجُوبِ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فِي حَالَةِ التَّفْوِيضِ حَتَّى تُجِيبَ بِمَا يَقْتَضِي رَدًّا أَوْ أَخْذًا، وَإِلاَّ لأََدَّى إِلَى الاِسْتِمْتَاعِ فِي عِصْمَةٍ مَشْكُوكٍ فِي بَقَائِهَا. وَهَذَا فِي تَفْوِيضِ التَّمْلِيكِ وَالتَّخْيِيرِ دُونَ التَّوْكِيل لِقُدْرَةِ الزَّوْجِ عَلَى عَزْلِهَا.
(ج) وَإِنْ كَانَتْ صِيغَةُ التَّفْوِيضِ مُقَيَّدَةً بِزَمَنٍ مُعَيَّنٍ، فَإِنَّهُ يَسْتَمِرُّ حَقُّ تَطْلِيقِ نَفْسِهَا إِلَى(13/112)
أَنْ يَنْتَهِيَ هَذَا الزَّمَنُ، وَلاَ يَبْطُل التَّفْوِيضُ الْمُؤَقَّتُ بِانْتِهَاءِ الْمَجْلِسِ وَلاَ بِالإِْعْرَاضِ عَنْهُ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَسْتَمِرُّ مَا لَمْ تُوقَفْ عِنْدَ الْحَاكِمِ أَوْ يَكُنْ مِنْهَا مَا يَدُل عَلَى إِسْقَاطِهِ (1) .
عَدَدُ الطَّلَقَاتِ الْوَاقِعَةِ بِأَلْفَاظِ التَّفْوِيضِ وَنَوْعُهَا:
13 - فَرَّقَ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ التَّفْوِيضِ بِصَرِيحِ الطَّلاَقِ وَكِنَايَتِهِ، فَذَهَبُوا إِلَى أَنَّهُ إِنْ طَلَّقَتِ الزَّوْجَةُ نَفْسَهَا بِتَفْوِيضِ الزَّوْجِ لَهَا الطَّلاَقَ بِصَرِيحِهِ، فَإِنَّ طَلاَقَهَا يَقَعُ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ، إِلاَّ أَنْ يَجْعَل لَهَا أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ، كَقَوْلِهِ: طَلِّقِي نَفْسَكِ مَا شِئْتِ.
وَإِنْ كَانَ التَّفْوِيضُ بِالْكِنَايَةِ كَقَوْلِهِ: أَمْرُكِ بِيَدِكِ أَوِ اخْتَارِي نَفْسَكِ، فَاخْتَارَتِ الزَّوْجَةُ الْفُرْقَةَ فَإِنَّهَا تَقَعُ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ بَيْنُونَةٌ صُغْرَى، إِلاَّ أَنْ يَنْوِيَ الْكُبْرَى فَتُوقِعَهَا بِلَفْظِهَا أَوْ بِنِيَّتِهَا. وَعِنْدَهُمْ أَنَّ الْمُفِيدَ لِلْبَيْنُونَةِ إِذَا قُرِنَ بِالصَّرِيحِ صَارَ رَجْعِيًّا.
وَإِنَّمَا كَانَ الطَّلاَقُ بَائِنًا فِي التَّفْوِيضِ بِالْكِنَايَةِ دُونَ الصَّرِيحِ، لأَِنَّ هَذِهِ الأَْلْفَاظَ جَوَابُ الْكِنَايَةِ وَالْكِنَايَاتُ عَلَى أَصْلِهِمْ مُبِينَاتٌ، وَلأَِنَّ قَوْلَهُ: أَمْرُكِ بِيَدِكِ جَعَل أَمْرَ نَفْسِهَا بِيَدِهَا، فَتَصِيرُ عِنْدَ اخْتِيَارِهَا نَفْسَهَا مَالِكَةً نَفْسَهَا، وَإِنَّمَا تَصِيرُ مَالِكَةً
__________
(1) ابن عابدين 2 / 475، وحاشية الدسوقي 2 / 475، ونهاية المحتاج 6 / 429، وروضة الطالبين 8 / 46، وكشاف القناع 5 / 254 ومابعدها.(13/113)
نَفْسَهَا بِالْبَائِنِ لاَ بِالرَّجْعِيِّ.
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ فَصَّلُوا الْقَوْل بِنَاءً عَلَى تَقْسِيمِهِمُ التَّفْوِيضَ إِلَى أَنْوَاعٍ ثَلاَثَةٍ. فَفِي تَفْوِيضِ التَّوْكِيل - لِلزَّوْجَةِ أَنْ تُوقِعَ مِنَ الطَّلَقَاتِ مَا وَكَّلَهَا بِهِ مِنْ طَلْقَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ أَكْثَرَ، وَهُوَ كَذَلِكَ فِي تَفْوِيضِ التَّمْلِيكِ، فَلَهَا أَنْ تُوقِعَ مِنَ الطَّلَقَاتِ مَا جُعِل بِيَدِهَا مِنْ طَلْقَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ أَكْثَرَ، وَلَهُ أَنْ يُنَاكِرَهَا فِيمَا زَادَ عَلَى الطَّلْقَةِ الْوَاحِدَةِ إِذَا أَطْلَقَ.
وَأَمَّا فِي تَفْوِيضِ التَّخْيِيرِ، فَيَقَعُ طَلاَقُهَا ثَلاَثًا إِنِ اخْتَارَتِ الْفِرَاقَ، فَإِنْ قَالَتِ اخْتَرْتُ وَاحِدَةً أَوِ اثْنَتَيْنِ لَمْ يَكُنْ لَهَا إِلاَّ أَنْ يُخَيِّرَهَا فِي طَلْقَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ طَلْقَتَيْنِ خَاصَّةً فَتُوقِعُهَا.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ تَفْوِيضَ الطَّلاَقِ لِلزَّوْجَةِ يَقَعُ بِهِ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ، إِنْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ مَحَلًّا لِلرَّجْعَةِ، إِلاَّ أَنْ يَقُول لَهَا: طَلِّقِي وَنَوَى ثَلاَثًا فَقَالَتْ: طَلَّقْتُ، وَنَوَتْهُنَّ فَيَقَعُ ثَلاَثًا.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الزَّوْجَةَ لَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا ثَلاَثًا فِي التَّوْكِيل وَالتَّمْلِيكِ، وَأَمَّا فِي الاِخْتِيَارِ فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ، إِلاَّ أَنْ يَجْعَل لَهَا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، سَوَاءٌ جَعَلَهُ لَهَا بِلَفْظِهِ، أَوْ بِنِيَّتِهِ، وَتَقَعُ رَجْعِيَّةً (1)
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 478 وما بعدها، وبدائع الصنائع 3 / 112 ومابعدها، والقوانين الفقهية 238، ومغني المحتاج 3 / 287، وروضة الطالبين8 / 49، وكشاف القناع5 / 254 وما بعدها.(13/113)
ثَالِثًا: التَّفْوِيضُ فِي الْوِزَارَةِ:
أَنْوَاعُ الْوِزَارَةِ:
14 - يُقَسِّمُ الْفُقَهَاءُ الْوِزَارَةَ إِلَى ضَرْبَيْنِ: وِزَارَةِ تَفْوِيضٍ، وَوِزَارَةِ تَنْفِيذٍ، وَسَيَأْتِي الْكَلاَمُ عَلَى وِزَارَةِ التَّنْفِيذِ فِي (وِزَارَةٌ، وَتَنْفِيذٌ) .
تَعْرِيفُ وِزَارَةِ التَّفْوِيضِ:
15 - وِزَارَةُ التَّفْوِيضِ هِيَ أَنْ يَسْتَوْزِرَ الإِْمَامُ مَنْ يُفَوِّضُ إِلَيْهِ تَدْبِيرَ الأُْمُورِ بِرَأْيِهِ وَإِمْضَاءَهَا عَلَى اجْتِهَادِهِ.
مَشْرُوعِيَّتُهَا:
16 - وِزَارَةُ التَّفْوِيضِ مَشْرُوعَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ نَبِيِّهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: {وَاجْعَل لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} (1) فَإِذَا جَازَ ذَلِكَ فِي النُّبُوَّةِ كَانَ فِي الإِْمَامَةِ أَوْلَى، وَلأَِنَّ مَا وُكِّل إِلَى الإِْمَامِ مِنْ تَدْبِيرِ الأُْمَّةِ لاَ يَقْدِرُ عَلَى مُبَاشَرَةِ جَمِيعِهِ إِلاَّ بِاسْتِنَابَةٍ، وَنِيَابَةُ الْوَزِيرِ الْمُشَارِكِ لَهُ فِي التَّدْبِيرِ أَجْدَى فِي تَنْفِيذِ الأُْمُورِ مِنْ تَفَرُّدِهِ بِهَا، لِيَسْتَظْهِرَ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ، وَبِهَا يَكُونُ أَبْعَدَ مِنَ الزَّلَل وَأَمْنَعَ مِنَ الْخَلَل.
قَال الْمَاوَرْدِيُّ وَأَبُو يَعْلَى مَا مُفَادُهُ: (2) يُشْتَرَطُ فِي لَفْظِ تَوْلِيَةِ وِزَارَةِ التَّفْوِيضِ اشْتِمَالُهُ عَلَى أَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: عُمُومُ النَّظَرِ،
وَالثَّانِي:
__________
(1) سورة طه / الآيات من 29 إلى 32.
(2) الأحكام السلطانية للماوردي ص23، ولأبي يعلى 13.(13/114)
النِّيَابَةُ، فَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى عُمُومِ النَّظَرِ دُونَ النِّيَابَةِ فَكَانَ بِوِلاَيَةِ الْعَهْدِ أَخَصَّ فَلَمْ تَنْعَقِدْ بِهِ الْوِزَارَةُ، وَإِنِ اقْتَصَرَ بِهِ عَلَى النِّيَابَةِ فَقَدْ أَبْهَمَ مَا اسْتَنَابَهُ فِيهِ مِنْ عُمُومٍ وَخُصُوصٍ أَوْ تَنْفِيذٍ وَتَفْوِيضٍ فَلَمْ تَنْعَقِدْ بِهِ الْوِزَارَةُ، وَإِذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا انْعَقَدَتْ وَتَمَّتْ.
شُرُوطُ وِزَارَةِ التَّفْوِيضِ:
17 - يُعْتَبَرُ فِي تَقْلِيدِ وِزَارَةِ التَّفْوِيضِ، شُرُوطُ الإِْمَامَةِ إِلاَّ النَّسَبُ وَحْدَهُ.
وَيُزَادُ عَلَى الإِْمَامَةِ شَرْطٌ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْل الْكِفَايَةِ فِيمَا وُكِّل إِلَيْهِ مِنْ أَمْرِ الْحَرْبِ وَالْخَرَاجِ خَبِيرًا بِهِمَا، فَإِنَّهُ مُبَاشِرٌ لَهُمَا تَارَةً بِنَفْسِهِ، وَتَارَةً يَسْتَنِيبُ فِيهِمَا. (1)
اخْتِصَاصَاتُ وَزِيرِ التَّفْوِيضِ:
18 - لِوَزِيرِ التَّفْوِيضِ اخْتِصَاصَاتٌ وَاسِعَةٌ فَكُل مَا صَحَّ مِنَ الإِْمَامِ صَحَّ مِنْ هَذَا الْوَزِيرِ إِلاَّ ثَلاَثَةُ أَشْيَاءَ.
أَحَدُهَا: وِلاَيَةُ الْعَهْدِ فَإِنَّ لِلإِْمَامِ أَنْ يَعْهَدَ إِلَى مَنْ يَرَى وَلَيْسَ ذَلِكَ لِلْوَزِيرِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ لِلإِْمَامِ أَنْ يَسْتَعْفِيَ الأُْمَّةَ مِنَ الإِْمَامَةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِلْوَزِيرِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ لِلإِْمَامِ أَنْ يَعْزِل مَنْ قَلَّدَهُ الْوَزِيرُ، وَلَيْسَ لِلْوَزِيرِ أَنْ يَعْزِل مَنْ قَلَّدَهُ الإِْمَامُ.
وَمَا سِوَى هَذِهِ الثَّلاَثَةِ فَحُكْمُ التَّفْوِيضِ يَقْتَضِي جَوَازَ فِعْلِهِ، فَإِنْ عَارَضَهُ الإِْمَامُ فِي رَدِّ
__________
(1) المصدران السابقان.(13/114)
مَا أَمْضَاهُ، فَإِنْ كَانَ فِي حُكْمٍ نَفَذَ عَلَى وَجْهِهِ، أَوْ فِي مَالٍ وُضِعَ فِي حَقِّهِ لَمْ يَجُزْ نَقْضُ مَا نَفَذَ بِاجْتِهَادِهِ مِنْ حُكْمٍ وَلاَ اسْتِرْجَاعِ مَا فَرَّقَ بِرَأْيِهِ مِنْ مَالٍ، فَإِنْ كَانَ فِي تَقْلِيدِ وَالٍ أَوْ تَجْهِيزِ جَيْشٍ وَتَدْبِيرِ حَرْبٍ جَازَ لِلإِْمَامِ مُعَارَضَتُهُ بِعَزْل الْمُوَلَّى وَالْعُدُول بِالْجَيْشِ إِلَى حَيْثُ يَرَى، وَتَدْبِيرِ الْحَرْبِ بِمَا هُوَ أَوْلَى، لأَِنَّ لِلإِْمَامِ أَنْ يَسْتَدْرِكَ ذَلِكَ مِنْ أَفْعَال نَفْسِهِ، فَكَانَ أَوْلَى أَنْ يَسْتَدْرِكَهُ مِنْ أَفْعَال وَزِيرِهِ. (1)
تَعَدُّدُ وُزَرَاءِ التَّفْوِيضِ:
19 - قَال الْمَاوَرْدِيُّ وَأَبُو يَعْلَى مَا مُفَادُهُ: (2)
لاَ يَجُوزُ لِلْخَلِيفَةِ أَنْ يُقَلِّدَ وَزِيرَيْ تَفْوِيضٍ عَلَى الاِجْتِمَاعِ لِعُمُومِ وِلاَيَتِهِمَا، كَمَا لاَ يَجُوزُ تَقْلِيدُ إِمَامَيْنِ لأَِنَّهُمَا رُبَّمَا تَعَارَضَا فِي الْعَقْدِ وَالْحَل، وَالتَّقْلِيدِ وَالْعَزْل.
فَإِنْ قَلَّدَ وَزِيرَيْ تَفْوِيضٍ لَمْ يَخْل حَال تَقْلِيدِهِ لَهُمَا مِنْ ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يُفَوِّضَ إِلَى كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا عُمُومَ النَّظَرِ فَلاَ يَصِحُّ لِمَا ذُكِرَ، وَيُنْظَرُ فِي تَقْلِيدِهِمَا، فَإِنْ كَانَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ بَطَل تَقْلِيدُهُمَا مَعًا، وَإِنْ سَبَقَ أَحَدُهُمَا الآْخَرَ صَحَّ تَقْلِيدُ السَّابِقِ وَبَطَل تَقْلِيدُ الْمَسْبُوقِ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُشْرِكَ بَيْنَهُمَا فِي النَّظَرِ عَلَى اجْتِمَاعِهِمَا فِيهِ، وَلاَ يَجْعَل إِلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَنْفَرِدَ
__________
(1) المصدران السابقان.
(2) الأحكام السلطانية للماوردي 27 ولأبي يعلى 14.(13/115)
بِهِ، فَهَذَا يَصِحُّ وَتَكُونُ الْوِزَارَةُ بَيْنَهُمَا لاَ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلَهُمَا تَنْفِيذُ مَا اتَّفَقَ رَأْيُهُمَا عَلَيْهِ، وَلَيْسَ لَهُمَا تَنْفِيذُ مَا اخْتَلَفَا فِيهِ، وَيَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى رَأْيِ الْخَلِيفَةِ وَخَارِجًا عَنْ نَظَرِ هَذَيْنِ الْوَزِيرَيْنِ، وَحِينَئِذٍ تَكُونُ هَذِهِ الْوَزَارَةُ قَاصِرَةً عَلَى وِزَارَةِ التَّفْوِيضِ الْمُطْلَقَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: اجْتِمَاعُهُمَا عَلَى تَنْفِيذِ مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ.
وَالثَّانِي: زَوَال نَظَرِهِمَا عَمَّا اخْتَلَفَا فِيهِ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ لاَ يُشْرِكَ بَيْنَهُمَا فِي النَّظَرِ وَيُفْرِدَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَا لَيْسَ فِيهِ لِلآْخَرِ نَظَرٌ، وَهَذَا يَكُونُ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَخُصَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِعَمَلٍ يَكُونُ فِيهِ عَامَّ النَّظَرِ خَاصَّ الْعَمَل، مِثْل أَنْ يَرُدَّ إِلَى أَحَدِهِمَا وِزَارَةَ بِلاَدِ الشَّرْقِ وَإِلَى الآْخَرِ وِزَارَةَ بِلاَدِ الْغَرْبِ. وَإِمَّا أَنْ يَخُصَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِنَظَرٍ يَكُونُ فِيهِ عَامَّ الْعَمَل خَاصَّ النَّظَرِ، مِثْل أَنْ يَسْتَوْزِرَ أَحَدَهُمَا عَلَى الْحَرْبِ وَالآْخَرَ عَلَى الْخَرَاجِ، فَيَصِحُّ التَّقْلِيدُ عَلَى كِلاَ الْوَجْهَيْنِ، غَيْرَ أَنَّهُمَا لاَ يَكُونَانِ وَزِيرَيْ تَفْوِيضٍ وَيَكُونَانِ وَالِيَيْنِ عَلَى عَمَلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، لأَِنَّ وِزَارَةَ التَّفْوِيضِ مَا عَمَّتْ، وَنَفَذَ أَمْرُ الْوَزِيرَيْنِ بِهَا فِي كُل عَمَلٍ وَكُل نَظَرٍ، وَيَكُونُ تَقْلِيدُ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقْصُورًا عَلَى مَا خُصَّ بِهِ، وَلَيْسَ لَهُ مُعَارَضَةُ الآْخَرِ فِي نَظَرِهِ وَعَمَلِهِ.(13/115)
تَقَابُضٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّقَابُضُ: صِيغَةٌ تَقْتَضِي الْمُشَارَكَةَ فِي الْقَبْضِ. وَهُوَ فِي اللُّغَةِ: أَخْذُ الشَّيْءِ وَتَنَاوُلُهُ بِالْيَدِ، وَيُقَال: قَبَضَ عَلَيْهِ بِيَدِهِ: ضَمَّ عَلَيْهِ أَصَابِعَهُ، وَقَبَضَ عَنْهُ يَدَهُ: امْتَنَعَ عَنْ إِمْسَاكِهِ. (1)
وَيُسْتَعْمَل الْقَبْضُ لِتَحْصِيل الشَّيْءِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَخْذٌ بِالْكَفِّ، نَحْوُ قَبَضْتُ الدَّارَ وَالأَْرْضَ مِنْ فُلاَنٍ أَيْ: حُزْتُهُمَا. قَال تَعَالَى: {وَالأَْرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (2) أَيْ فِي حَوْزِهِ، حَيْثُ لاَ تُمْلَكُ لأَِحَدٍ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى. وَيُسْتَعْمَل الْقَبْضُ ضِدَّ الْبَسْطِ أَيْضًا.
وَالْقَبْضُ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ: حِيَازَةُ الشَّيْءِ وَالتَّمَكُّنُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِمَّا يُمْكِنُ تَنَاوُلُهُ بِالْيَدِ أَمْ لَمْ يُمْكِنْ. (3)
__________
(1) المصباح المنير، وتاج العروس ولسان العرب، مادة: " قبض ".
(2) سورة الزمر / 67.
(3) البدائع 5 / 246، وشرح مرشد الحيران 1 / 58، وقليوبي 2 / 215، والحطاب 4 / 478.(13/116)
وَقَدْ غَلَبَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، التَّعْبِيرُ عَنِ الْقَبْضِ، بِالْحَوْزِ وَالْحِيَازَةِ. (1)
فَالتَّقَابُضُ أَنْ يَأْخُذَ كُلٌّ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ الْعِوَضَ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّعَاطِي:
2 - التَّعَاطِي صِيغَةٌ تَقْتَضِي الْمُشَارَكَةَ بِمَعْنَى حُصُول الإِْعْطَاءِ مِنْ طَرَفَيْنِ وَمِنْهُ التَّعَاطِي فِي الْبَيْعِ، وَهُوَ إِعْطَاءُ الْبَائِعِ الْمَبِيعَ لِلْمُشْتَرِي عَلَى وَجْهِ الْبَيْعِ وَالتَّمْلِيكِ، وَإِعْطَاءُ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ لِلْبَائِعِ دُونَ تَلَفُّظٍ بِإِيجَابٍ أَوْ قَبُولٍ. (2)
ب - التَّخْلِيَةُ:
3 - التَّخْلِيَةُ: مَصْدَرُ خَلَّى، وَمِنْ مَعَانِيهَا: التَّرْكُ، يُقَال: خَلَّيْتُ الشَّيْءَ وَتَخَلَّيْتُ عَنْهُ، وَمِنْهُ إِذَا تَرَكْتُهُ. (3)
وَفِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ: تَمْكِينُ الشَّخْصِ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الشَّيْءِ دُونَ حَائِلٍ وَإِذَا مَكَّنَ الْبَائِعُ الْمُشْتَرِيَ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الْمَبِيعِ حَصَلَتِ التَّخْلِيَةُ. (4)
__________
(1) كفاية الطالب للقيرواني ص 212، 216.
(2) الكليات للكفوي، والفروق اللغوية 2 / 102.
(3) تاج العروس ومتن اللغة مادة: " خلا ".
(4) البدائع 5 / 244، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 3 / 145، والقليوبي 2 / 215.(13/116)
وَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّخْلِيَةِ وَالْقَبْضِ: أَنَّ الأَْوَّل مِنْ طَرَفِ الْمُعْطِي، وَالثَّانِي مِنْ طَرَفِ الْقَابِضِ. (1)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
4 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ التَّقَابُضُ قَبْل التَّفَرُّقِ مِنَ الْمَجْلِسِ فِي الصَّرْفِ، وَذَلِكَ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ، مِثْلاً بِمِثْلٍ سَوَاءً بِسَوَاءٍ يَدًا بِيَدٍ، فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الأَْصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ (2) أَيْ مُقَابَضَةً.
وَإِذَا بِيعَ الْمَال الرِّبَوِيُّ بِجِنْسِهِ اشْتُرِطَ الْحُلُول وَالْمُمَاثَلَةُ وَالتَّقَابُضُ قَبْل التَّفَرُّقِ، فَإِنِ اخْتَلَفَ الْجِنْسُ جَازَ التَّفَاضُل، وَاشْتُرِطَ الْحُلُول وَالتَّقَابُضُ قَبْل التَّفَرُّقِ، وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ يُشْتَرَطُ ذَلِكَ إِلاَّ إِنِ اتَّحَدَتْ عِلَّةُ الرِّبَا فِي الْعِوَضَيْنِ مِنْ كَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ. (3)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ التَّقَابُضُ
__________
(1) البدائع، وكشاف القناع 3 / 344، وقليوبي 2 / 211، 217.
(2) حد يث " الذهب بالذهب، والفضة بالفضة. . . " أخرجه مسلم (3 / 1211 ط الحلبي) من حديث عبادة بن الصامت.
(3) رد المحتار 4 / 182، 183، وفتح القدير 5 / 275، والاختيار 2 / 31.(13/117)
قَبْل التَّفَرُّقِ إِلاَّ فِي الصَّرْفِ، أَمَّا فِي غَيْرِهِ مِنَ الرِّبَوِيَّاتِ فَيَمْتَنِعُ النَّسَاءُ، وَلاَ يُشْتَرَطُ فِيهَا التَّقَابُضُ. بَل يُكْتَفَى فِيهَا بِالتَّعْيِينِ، لأَِنَّ الْبَدَل فِي غَيْرِ الصَّرْفِ يَتَعَيَّنُ بِمُجَرَّدِ التَّعْيِينِ قَبْل الْقَبْضِ وَيَتَمَكَّنُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ، فَلاَ يُشْتَرَطُ قَبْضُهُ، بِخِلاَفِ الْبَدَل فِي الصَّرْفِ، لأَِنَّ الْقَبْضَ شَرْطٌ فِي تَعْيِينِهِ، فَإِنَّهُ لاَ يَتَعَيَّنُ بِدُونِ الْقَبْضِ، إِذِ الأَْثْمَانُ لاَ تَتَعَيَّنُ مَمْلُوكَةً إِلاَّ بِهِ، وَلِذَلِكَ كَانَ لِكُلٍّ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ تَبْدِيلُهَا. (1)
5 - وَالتَّقَابُضُ الْمُعْتَدُّ بِهِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فِي عَقْدِ الصَّرْفِ. هُوَ مَا كَانَ قَبْل الاِفْتِرَاقِ بِالأَْبْدَانِ.
وَاسْتَثْنَى الْفُقَهَاءُ أَيْضًا مِنْ جَوَازِ التَّصَرُّفِ فِي الأَْثْمَانِ، الثَّمَنَ (2) فِي عَقْدِ الصَّرْفِ لاِشْتِرَاطِ التَّقَابُضِ.
وَإِنَّمَا جَازَ التَّصَرُّفُ فِي الأَْثْمَانِ عَدَا الصَّرْفَ لأَِنَّهَا دُيُونٌ يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهَا قَبْل الْقَبْضِ كَسَائِرِ الدُّيُونِ (مِثْل الْمَهْرِ، وَالأُْجْرَةِ، وَضَمَانِ الْمُتْلَفَاتِ وَغَيْرِهَا) لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: كُنْتُ أَبِيعُ الإِْبِل بِالْبَقِيعِ، فَأَبِيعُ بِالدَّنَانِيرِ وَآخُذُ الدَّرَاهِمَ، وَأَبِيعُ بِالدَّرَاهِمِ وَآخُذُ الدَّنَانِيرَ، آخُذُ هَذِهِ مِنْ هَذِهِ، وَأُعْطِي هَذِهِ مِنْ هَذِهِ، فَأَتَيْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي بَيْتِ حَفْصَةَ،
__________
(1) الأم 3 / 31، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 281، والمنتقى للباجي 4 / 260، والفواكه الدواني 2 / 112 - 113، وكشاف القناع 3 / 216.
(2) الثمن ما يثبت في الذمة دينا، (رد المحتار 4 / 173) .(13/117)
فَقُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ، رُوَيْدَكَ أَسْأَلُكَ، إِنِّي أَبِيعُ الإِْبِل بِالْبَقِيعِ، فَأَبِيعُ بِالدَّنَانِيرِ وَآخُذُ الدَّرَاهِمَ، وَأَبِيعُ بِالدَّرَاهِمِ وَآخُذُ الدَّنَانِيرَ، آخُذُ هَذِهِ مِنْ هَذِهِ، وَأُعْطِي هَذِهِ مِنْ هَذِهِ، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ بَأْسَ أَنْ تَأْخُذَهَا بِسِعْرِ يَوْمِهَا، مَا لَمْ تَفْتَرِقَا وَبَيْنَكُمَا شَيْءٌ. (1)
وَذَكَرَ الْفُقَهَاءُ جَوَازَ التَّصَرُّفِ فِي الأَْثْمَانِ، وَاسْتَثْنَوُا الصَّرْفَ وَالسَّلَمَ، وَقَالُوا: لاَ يَجُوزُ فِيهِمَا التَّصَرُّفُ فِي الثَّمَنِ قَبْل الْقَبْضِ
أَمَّا الصَّرْفُ فَلأََنْ كُلًّا مِنْ بَدَلَيِ الصَّرْفِ مَبِيعٌ مِنْ وَجْهٍ وَثَمَنٌ مِنْ وَجْهٍ، فَبِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ مَبِيعًا لاَ يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْل الْقَبْضِ، وَبِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ ثَمَنًا أَيْضًا لاَ يَصِحُّ لاِشْتِرَاطِ التَّقَابُضِ فِي الصَّرْفِ، وَلِقَوْل عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَإِنِ اسْتَنْظَرَكَ أَنْ يَدْخُل بَيْتَهُ فَلاَ تُنْظِرْهُ (2) .
وَأَمَّا السَّلَمُ: فَالْمُسْلَمُ فِيهِ لاَ يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ، لأَِنَّهُ مَبِيعٌ، وَرَأْسُ الْمَال (الثَّمَنُ) أُلْحِقَ بِالْمَبِيعِ الْمُعَيَّنِ فِي حُرْمَةِ الاِسْتِبْدَال شَرْعًا (3) .
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل (فِي الصَّرْفِ، وَالرِّبَا، وَالسَّلَمِ) .
2
__________
(1) حديث ابن عمر: " كنت أبيع الإبل. . . " أخرجه أبو داود (3 / 650 - 651 تحقيق عزت عبيد دعاس) وأعل بالإرسال كما في التلخيص الحبير (3 / 26 ط شركة الطباعة الفنية) .
(2) البناية شرح الهداية 6 / 689.
(3) البدائع 5 / 234، وفتح القدير 5 / 269، ورد المحتار 4 / 173.(13/118)
تَقَادُمٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّقَادُمُ لُغَةً: مَصْدَرُ تَقَادَمَ يُقَال: تَقَادَمَ الشَّيْءُ أَيْ: صَارَ قَدِيمًا. (1) وَقَدْ عَبَّرَتْ مَجَلَّةُ الأَْحْكَامِ الْعَدْلِيَّةُ عَنِ التَّقَادُمِ بِمُرُورِ الزَّمَانِ. (2) وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ فِي الْجُمْلَةِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
التَّقَادُمُ الْمَانِعُ مِنْ سَمَاعِ الدَّعْوَى:
2 - لِوَلِيِّ الأَْمْرِ مَنْعُ الْقُضَاةِ مِنْ سَمَاعِ الدَّعْوَى فِي أَحْوَالٍ بِشُرُوطٍ مَخْصُوصَةٍ، وَمِنْ ذَلِكَ مَنْعُ سَمَاعِ الدَّعْوَى فِي بَعْضِ الْحَالاَتِ بَعْدَ مُدَّةٍ مُحَدَّدَةٍ مَعْلُومَةٍ، وَمَعَ أَنَّ الْحَقَّ لاَ يَسْقُطُ بِتَقَادُمِ الزَّمَانِ، إِلاَّ أَنَّ وَجْهَ هَذَا الْمَنْعِ هُوَ تَلاَفِي التَّزْوِيرِ وَالتَّحَايُل؛ لأَِنَّ تَرْكَ الدَّعْوَى زَمَانًا مَعَ التَّمَكُّنِ مِنْ إِقَامَتِهَا، يَدُل عَلَى عَدَمِ الْحَقِّ ظَاهِرًا.
وَعَدَمُ سَمَاعِ الدَّعْوَى بَعْدَ الْمُدَّةِ الْمُحَدَّدَةِ لَيْسَ مَبْنِيًّا عَلَى سُقُوطِ الْحَقِّ فِي ذَاتِهِ وَإِنَّمَا هُوَ مُجَرَّدُ مَنْعِ
__________
(1) مختار الصحاح ومجلة الأحكام.
(2) مجلة الأحكام المادة 1660 ومابعدها.(13/118)
الْقُضَاةِ عَنْ سَمَاعِ الدَّعْوَى مَعَ بَقَاءِ الْحَقِّ لِصَاحِبِهِ حَتَّى لَوْ أَقَرَّ الْخَصْمُ يَلْزَمُهُ، وَلَوْ كَانَ التَّقَادُمُ مُسْقِطًا لِلْحَقِّ لَمْ يَلْزَمْهُ
مُدَّةُ التَّقَادُمِ الْمَانِعِ مِنْ سَمَاعِ الدَّعْوَى:
3 - فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ مُخْتَلِفُونَ فِي تَعْيِينِ الْمُدَّةِ الَّتِي لاَ تُسْمَعُ بَعْدَهَا الدَّعْوَى فِي الْوَقْفِ وَمَال الْيَتِيمِ وَالْغَائِبِ وَالإِْرْثِ، فَجَعَلَهَا بَعْضُهُمْ سِتًّا وَثَلاَثِينَ سَنَةً، وَبَعْضُهُمْ ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ، وَبَعْضُهُمْ ثَلاَثِينَ فَقَطْ، إِلاَّ أَنَّهُ لَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْمُدَدُ طَوِيلَةً اسْتَحْسَنَ أَحَدُ السَّلاَطِينِ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ جَعْلَهَا خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فَقَطْ، وَحَيْثُ كَانَ الْقَضَاءُ يَتَخَصَّصُ بِالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَالْخُصُومَةِ، وَيَقْبَل التَّقْيِيدَ وَالتَّعْلِيقَ، فَقَدْ نُهِيَ قُضَاةُ ذَلِكَ السُّلْطَانِ عَنْ سَمَاعِ دَعْوَى تَرَكَهَا الْمُدَّعِي خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً بِلاَ عُذْرٍ، لَكِنَّهُ اسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ الْمَنْعِ بَعْضَ مَسَائِل، وَعَلَى هَذَا النَّهْيِ اسْتَقَرَّ خُلَفَاؤُهُ فِي الدَّوْلَةِ الْعُثْمَانِيَّةِ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ، وَمِنْ ذَلِكَ يَظْهَرُ أَنَّ التَّقَادُمَ بِمُرُورِ الزَّمَانِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَمْرَيْنِ:
الأَْوَّل: حُكْمٌ اجْتِهَادِيٌّ، نَصَّ عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ.
وَالثَّانِي: أَمْرٌ سُلْطَانِيٌّ يَجِبُ عَلَى الْقُضَاةِ فِي زَمَنِهِ اتِّبَاعُهُ، لأَِنَّهُمْ بِمُقْتَضَاهُ مَعْزُولُونَ عَنْ سَمَاعِ دَعْوَى مَضَى عَلَيْهَا خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً بِدُونِ عُذْرٍ، وَالْقَاضِي وَكِيلٌ عَنِ السُّلْطَانِ، وَالْوَكِيل(13/119)
يَسْتَمِدُّ التَّصَرُّفَ مِنْ مُوَكِّلِهِ، فَإِذَا خَصَّصَ لَهُ تَخَصَّصَ، وَإِذَا عَمَّمَ تَعَمَّمَ، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْفَتَاوَى الْخَيْرِيَّةِ وَغَيْرِهَا.
وَقَدْ فَرَّقَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ بَيْنَ هَذَيْنِ الأَْمْرَيْنِ بِأَنَّ مَنْعَ سَمَاعِ الدَّعْوَى بَعْدَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً مَبْنِيٌّ عَلَى النَّهْيِ السُّلْطَانِيِّ، فَمَنْ نَهَى عَنْ سَمَاعِ الدَّعْوَى لَهُ أَنْ يَأْمُرَ بِسَمَاعِهَا، وَأَمَّا عَدَمُ سَمَاعِ الدَّعْوَى بَعْدَ ثَلاَثِينَ سَنَةً فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى مَنْعِ الْفُقَهَاءِ، فَلَيْسَ لِلسُّلْطَانِ أَنْ يَنْقُضَهُ، لأَِنَّ أَمْرَ السُّلْطَانِ إِنَّمَا يَنْفُذُ إِذَا وَافَقَ الشَّرْعَ وَإِلاَّ فَلاَ.
وَدَعَاوَى الدَّيْنِ الْوَدِيعَةِ وَالْعَقَارِ الْمَمْلُوكِ وَالْمِيرَاثِ وَمَا لاَ يَعُودُ مِنَ الدَّعَاوَى إِلَى الْعَامَّةِ وَلاَ إِلَى أَصْل الْوَقْفِ فِي الْعَقَارَاتِ الْمَوْقُوفَةِ بَعْدَ أَنْ تُرِكَتْ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً بِلاَ عُذْرٍ لاَ تُسْمَعُ، وَأَمَّا إِذَا كَانَتِ الدَّعْوَى تَعُودُ إِلَى أَصْل الْوَقْفِ فَتُسْمَعُ، وَلَوْ تُرِكَتِ الْمُدَّةَ الْمَذْكُورَةَ بِلاَ عُذْرٍ.
4 - وَمُدَّةُ الْمَنْعِ مَعَ سَمَاعِ الدَّعْوَى تُحْسَبُ بِالتَّارِيخِ الْقَمَرِيِّ (الْهِجْرِيِّ) كَمَا قَرَّرَتْ ذَلِكَ جَمْعِيَّةُ الْمَجَلَّةِ اتِّبَاعًا لِلْعُرْفِ الشَّرْعِيِّ إِلاَّ إِذَا اتُّفِقَ عَلَى خِلاَفِهِ وَعَيَّنَا تَارِيخًا شَمْسِيًّا، وَالْمَنْعُ مِنْ سَمَاعِ الدَّعْوَى إِنَّمَا هُوَ لِلْقُضَاةِ، أَمَّا الْمُحَكَّمُونَ فَلاَ يَشْمَلُهُمُ النَّهْيُ، فَلَوْ حَكَّمَ اثْنَانِ شَخْصًا فِي نِزَاعٍ مَضَى عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً وَلَوْ بِلاَ عُذْرٍ فَإِنَّ الْمُحَكَّمَ يَسَعُهُ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمَا وَلاَ يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ النَّظَرُ فِي النِّزَاعِ.
وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِالنِّزَاعِ فِي أَصْل الْوَقْفِ (وَهُوَ(13/119)
كُل مَا تَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ صِحَّةُ الْوَقْفِ) فَتُسْمَعُ دَعْوَاهُ حَتَّى سِتٍّ وَثَلاَثِينَ سَنَةً، وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِالنِّزَاعِ فِي غَيْرِ أَصْل الْوَقْفِ كَأُجْرَةِ النَّاظِرِ وَاَلَّذِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْوَقْفِ فَتُسْمَعُ دَعْوَاهُمْ حَتَّى خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فَقَطْ. (1)
الأَْعْذَارُ الْمُبِيحَةُ لِسَمَاعِ الدَّعْوَى بَعْدَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً:
5 - أَوْرَدَتْ مَجَلَّةُ الأَْحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ مِنَ الأَْعْذَارِ الَّتِي يُبَاحُ مَعَهَا سَمَاعُ الدَّعْوَى بَعْدَ مُدَّةِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، الصِّغَرُ، وَالْجُنُونُ، وَالْغَيْبَةُ عَنِ الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ مَوْضُوعُ النِّزَاعِ مُدَّةَ السَّفَرِ، أَوْ كَوْنُ خَصْمِهِ مِنَ الْمُتَغَلِّبَةِ، وَفِيمَا يَلِي تَفْصِيلُهَا:
1 - الصِّغَرُ: إِذَا كَانَ صَاحِبُ الْحَقِّ صَغِيرًا وَسَكَتَ عَنِ الدَّعْوَى الْمُدَّةَ الْمُقَرَّرَةَ فَإِنَّ الْمُدَّةَ تُحْسَبُ عَلَيْهِ مِنْ تَارِيخِ بُلُوغِهِ رَشِيدًا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ أَوْ وَصِيٌّ بِاتِّفَاقٍ، وَمَعَ الْخِلاَفِ فِي حَال وُجُودِ الْوَلِيِّ أَوِ الْوَصِيِّ، وَرَجَّحَتْ لَجْنَةُ الْمَجَلَّةِ الإِْطْلاَقَ لِمَصْلَحَةِ الصَّغِيرِ، وَمَنْ فِي حُكْمِهِ، وَلَوْ كَانَ لَهُ وَصِيٌّ. (2)
وَمِثْل ذَلِكَ الْمَجْنُونُ، فَإِنَّ الْمُدَّةَ لاَ تُحْسَبُ إِلاَّ مِنْ تَارِيخِ إِفَاقَتِهِ، وَكَذَلِكَ الْمَعْتُوهُ، فَإِنَّ الْمُدَّةَ تُحْسَبُ مِنْ تَارِيخِ زَوَال الْعَتَهِ.
__________
(1) ابن عابدين 4 / 342، 343 طبع دار إحياء التراث العربي، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص272، وشرح المجلة للأتاسي المادة 1660.
(2) شرح مجلة الأحكام العدلية للأتاسي المادة: 1663.(13/120)
2 - غَيْبَةُ صَاحِبِ الْحَقِّ عَنِ الْبَلَدِ مُدَّةَ السَّفَرِ وَهِيَ مُدَّةُ الْقَصْرِ.
3 - إِذَا كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِنَ الْمُتَغَلِّبَةِ بِأَنْ كَانَ أَمِيرًا جَائِرًا مَثَلاً فَذَلِكَ عُذْرٌ يُبِيحُ لِلْمُدَّعِي السُّكُوتَ عَنْ رَفْعِ الدَّعْوَى، وَلاَ تَبْتَدِئُ الْمُدَّةُ حَتَّى يَزُول الْجَوْرُ وَلَوْ طَال الزَّمَنُ. (1)
مَتَى تَبْتَدِئُ الْمُطَالَبَةُ بِالْحَقِّ؟
6 - مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ كَمَا جَاءَ فِي مَجَلَّةِ الأَْحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ أَنَّهُ يَبْتَدِئُ مُرُورُ الزَّمَانِ مِنْ تَارِيخِ ثُبُوتِ الْحَقِّ لِلْمُدَّعِي بِإِقَامَةِ الدَّعْوَى بِالْمُدَّعَى بِهِ، فَمُرُورُ الزَّمَانِ فِي دَعْوَى دَيْنٍ مُؤَجَّلٍ إِنَّمَا يَبْتَدِئُ مِنْ تَارِيخِ حُلُول الأَْجَل لأَِنَّهُ قَبْل حُلُولِهِ لاَ يَمْلِكُ الْمُدَّعِي الدَّعْوَى وَالْمُطَالَبَةَ بِذَلِكَ الدَّيْنِ، فَمَثَلاً لَوِ ادَّعَى وَاحِدٌ عَلَى آخَرَ فَقَال: لِي عَلَيْكَ كَذَا دَرَاهِمَ مِنْ ثَمَنِ الشَّيْءِ الَّذِي بِعْتُهُ لَكَ قَبْل خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً مُؤَجَّلاً ثَمَنُهُ لِثَلاَثِ سِنِينَ تُسْمَعُ دَعْوَاهُ لأَِنَّهُ يَكُونُ قَدْ مَرَّ اعْتِبَارًا مِنْ حُلُول الأَْجَل اثْنَتَا عَشْرَةَ سَنَةً لاَ غَيْرُ، وَمَثَلاً لَوْ وَقَفَ وَاقِفٌ وَقْفَهُ وَشَرَطَ أَنْ يَكُونَ الاِسْتِحْقَاقُ لِذُرِّيَّتِهِ بَطْنًا بَعْدَ بَطْنٍ، فَلاَ يَسْتَحِقُّ أَحَدٌ مِنَ الْبَطْنِ الثَّانِي إِلاَّ بَعْدَ انْقِرَاضِ الْبَطْنِ الأَْوَّل، فَلَوْ وَقَفَ رَجُلٌ عَقَارًا وَشَرَطَ وِلاَيَتَهُ وَغَلَّتَهُ لأَِوْلاَدِهِ ثُمَّ لأَِحْفَادِهِ بَطْنًا بَعْدَ بَطْنٍ فَقَامَ أَحَدُ أَوْلاَدِهِ لِصُلْبِهِ " أَيْ مِنَ الْبَطْنِ
__________
(1) ابن عابدين 4 / 343، 344.(13/120)
الأَْوَّل " وَبَاعَ ذَلِكَ الْعَقَارَ لآِخَرَ وَظَل الآْخَرُ مُتَصَرِّفًا فِيهِ مُدَّةَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَبَعْدَ هَذِهِ الْمُدَّةِ تُوُفِّيَ الْبَائِعُ فَقَامَ أَحَدُ أَبْنَائِهِ يَدَّعِي ذَلِكَ الْعَقَارَ عَلَى الْمُشْتَرِي اسْتِنَادًا عَلَى شَرْطِ الْوَاقِفِ فَتُسْمَعُ دَعْوَاهُ وَلاَ يَمْنَعُهُ مُضِيُّ هَذِهِ الْمُدَّةِ، لأَِنَّ حَقَّ إِقَامَةِ الدَّعْوَى لاَ يَثْبُتُ لِلْحَفِيدِ إِلاَّ بَعْدَ وَفَاةِ وَالِدِهِ بِمُقْتَضَى شَرْطِ الْوَاقِفِ، فَلاَ يَبْتَدِئُ مُرُورُ الزَّمَانِ بِالنِّسْبَةِ لِحَقِّهِ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ وَفَاةِ أَبِيهِ.
وَمِثْل ذَلِكَ لَوْ وَقَفَ وَاقِفٌ عَقَارًا وَشَرَطَ غَلَّتَهُ لأَِوْلاَدِهِ الذُّكُورِ وَبَعْدَ انْقِطَاعِهِمْ عَلَى بَنَاتِهِ، فَبَاعَ أَوْلاَدُهُ الذُّكُورُ، ذَلِكَ الْعَقَارَ لِرَجُلٍ وَسَلَّمُوهُ إِيَّاهُ وَبَعْدَ سِتِّينَ سَنَةً مَثَلاً انْقَطَعَتْ ذُرِّيَّةُ الْوَاقِفِ الذُّكُورِ فَقَامَتْ بَنَاتُهُ يَدَّعِينَ ذَلِكَ الْعَقَارَ عَلَى الْمُشْتَرِي بِحُكْمِ الْوَقْفِ، تُسْمَعُ دَعْوَاهُنَّ وَلاَ يَمْنَعُ مُرُورُ هَذِهِ الْمُدَّةِ مِنْ سَمَاعِ دَعْوَاهُنَّ، لأَِنَّ حَقَّ إِقَامَةِ الدَّعْوَى لَمْ يَثْبُتْ لَهُنَّ إِلاَّ بَعْدَ انْقِطَاعِ ذُرِّيَّةِ الْوَاقِفِ الذُّكُورِ.
وَيَبْتَدِئُ مُرُورُ الزَّمَانِ بِالنِّسْبَةِ لِمُؤَجَّل الصَّدَاقِ مِنْ وَقْتِ الطَّلاَقِ أَوْ مِنْ تَارِيخِ مَوْتِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ، لأَِنَّ الصَّدَاقَ الْمُؤَجَّل لاَ يَصِيرُ مُعَجَّلاً إِلاَّ مِنْ تَارِيخِ الطَّلاَقِ الْبَائِنِ أَوِ الْوَفَاةِ.
7 - وَتَبْتَدِئُ مُطَالَبَةُ الْمَدِينِ الْمُفْلِسِ مِنْ تَارِيخِ زَوَال الإِْفْلاَسِ كَأَنْ كَانَ لِدَائِنٍ عَلَى مَدِينٍ مَبْلَغٌ مِنَ الْمَال مَثَلاً وَكَانَ الْمَدِينُ مُفْلِسًا مُدَّةَ عَشْرِ سَنَوَاتٍ مَثَلاً فَإِنَّ هَذِهِ الْمُدَّةَ لاَ تَدْخُل فِي الزَّمَنِ وَتَبْتَدِئُ مُدَّةُ الْمُطَالَبَةِ مِنْ تَارِيخِ يَسَارِ الْمُفْلِسِ لأَِنَّ(13/121)
تَرْكَ الدَّعْوَى بِسَبَبِ إِفْلاَسِ الْمَدِينِ كَانَ بِعُذْرٍ إِذْ لاَ يَتَأَتَّى لَهُ إِقَامَةُ الدَّعْوَى مَا دَامَ الْمَدِينُ مُفْلِسًا.
وَنَصَّتِ الْمَادَّةُ (1669) مِنَ الْمَجَلَّةِ عَلَى أَنَّهُ " إِذَا تَرَكَ وَاحِدٌ دَعْوَاهُ بِلاَ عُذْرٍ وَمَرَّ عَلَيْهَا الزَّمَانُ عَلَى مَا ذُكِرَ آنِفًا فَكَمَا لاَ تُسْمَعُ تِلْكَ الدَّعْوَى فِي حَيَاتِهِ لاَ تُسْمَعُ أَيْضًا مِنْ وَرَثَتِهِ بَعْدَ مَمَاتِهِ ". وَجَاءَ فِي شَرْحِهَا: وَذَلِكَ لأَِنَّ الْوَارِثَ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُوَرِّثِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا، فَمَا يَمْنَعُ سَمَاعَ دَعْوَى الْمُوَرِّثِ يَمْنَعُ سَمَاعَ دَعْوَى الْوَارِثِ. وَلَكِنَّ هَذَا إِذَا ادَّعَى الْوَارِثُ ذَلِكَ الْمِلْكَ بِالإِْرْثِ عَنْ مُوَرِّثِهِ، أَمَّا لَوِ ادَّعَاهُ بِسَبَبٍ آخَرَ فَلاَ يَكُونُ تَرْكُ مُوَرِّثِهِ لِلدَّعْوَى مَانِعًا مِنْ سَمَاعِ دَعْوَاهُ، لأَِنَّهُ بِهَذِهِ الصُّورَةِ لاَ يَدَّعِي تَلَقِّي الْمِلْكِ مِنْ مُوَرِّثِهِ فَلاَ يَكُونُ قَائِمًا مَقَامَهُ، فَمَثَلاً لَوْ أَوْصَى رَجُلٌ بِعَقَارٍ لاِبْنِ زَيْدٍ الْقَاصِرِ وَبَعْدَ مَوْتِهِ بِخَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً قَامَ ابْنُ زَيْدٍ الَّذِي بَلَغَ رَشِيدًا وَادَّعَى ذَلِكَ الْعَقَارَ بِمُقْتَضَى تِلْكَ الْوَصِيَّةِ عَلَى وَارِثِ الْمُوصِي تُسْمَعُ دَعْوَاهُ وَلاَ يَمْنَعُهُ مِنْهَا تَرْكُ أَبِيهِ ذَلِكَ الْعَقَارَ فِي يَدِ وَارِثِ الْمُوصِي لأَِنَّهُ هَاهُنَا لاَ يَدَّعِي الْمِلْكَ بِسَبَبِ الإِْرْثِ عَنْ أَبِيهِ بَل بِسَبَبِ الْوَصِيَّةِ مِنْ أَجْنَبِيٍّ وَلَكِنْ لَوْ كَانَ ذَلِكَ الْمُوصِي قَدْ تَرَكَ الدَّعْوَى بِهَذَا الْعَقَارِ وَهُوَ فِي يَدِ آخَرَ مُدَّةَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً لاَ تُسْمَعُ بِهِ دَعْوَى الْمُوصَى لَهُ لأَِنَّ الْمُوصَى لَهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُوصِي فَمَا مُنِعَ عَنْهُ الْمُوصِي مُنِعَ عَنْهُ الْمُوصَى لَهُ لأَِنَّ الْوَصِيَّةَ أُخْتُ الْمِيرَاثِ، وَمِثْل الْوَصِيَّةِ بِهَذَا الْمَعْنَى الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ وَالْهِبَةُ.(13/121)
وَإِذَا تَرَكَ الْمُوَرِّثُ الدَّعْوَى مُدَّةً وَتَرَكَهَا الْوَارِثُ مُدَّةً أُخْرَى وَبَلَغَ مَجْمُوعُ الْمُدَّتَيْنِ حَدَّ مُرُورِ الزَّمَانِ فَلاَ تُسْمَعُ تِلْكَ الدَّعْوَى، لأَِنَّهُ حَيْثُ كَانَ الْوَارِثُ قَائِمًا مَقَامَ الْمُوَرِّثِ كَانَا كَشَخْصٍ وَاحِدٍ حُكْمًا، فَلَوْ تَرَكَ الْمُوَرِّثُ الدَّعْوَى ثَمَانِيَ سِنِينَ مَثَلاً وَتَرَكَهَا الْوَارِثُ سَبْعَ سِنِينَ صَارَ كَأَنَّ الْوَارِثَ تَرَكَ الدَّعْوَى خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فَلاَ تُسْمَعُ دَعْوَاهُ، وَمِثْل الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي كَالْمُوصِي وَالْمُوصَى لَهُ، فَلَوْ كَانَ وَاحِدٌ مُتَصَرِّفًا فِي عَرْصَةٍ مُتَّصِلَةٍ بِدَارٍ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَصَاحِبُ الدَّارِ سَاكِتٌ، ثُمَّ أَوْصَى صَاحِبُ الدَّارِ بِدَارِهِ هَذِهِ إِلَى رَجُلٍ، فَقَامَ الْمُوصَى لَهُ يَدَّعِي أَنَّ الْعَرْصَةَ طَرِيقٌ خَاصٌّ لِلدَّارِ الْمُوصَى لَهُ بِهَا لاَ تُسْمَعُ دَعْوَاهُ.
وَإِذَا مَاتَ أَحَدٌ وَفِي وَرَثَتِهِ بَالِغٌ وَقَاصِرٌ، فَإِنَّ الْبَالِغَ إِذَا تَرَكَ الدَّعْوَى الْمُدَّةَ الْمُقَرَّرَةَ بِلاَ عُذْرٍ فَلاَ تُسْمَعُ دَعْوَاهُ، وَأَمَّا الْقَاصِرُ فَلاَ يُحْسَبُ عَلَيْهِ مُرُورُ الزَّمَانِ إِلاَّ مِنْ تَارِيخِ بُلُوغِهِ رَشِيدًا، مَعَ مُلاَحَظَةِ الْخِلاَفِ السَّابِقِ فِي وُجُودِ الْوَصِيِّ وَعَدَمِهِ.
8 - وَكُل مَا تَقَدَّمَ بِالنِّسْبَةِ لِعَدَمِ سَمَاعِ الدَّعْوَى لِمُرُورِ الزَّمَانِ إِنَّمَا هُوَ عِنْدَ إِنْكَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَإِذَا اعْتَرَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْحَقِّ لِلْمُدَّعِي تُسْمَعُ دَعْوَى الْمُدَّعِي مَهْمَا طَال الزَّمَانُ، وَالْمُرَادُ بِعَدَمِ الإِْنْكَارِ إِنَّمَا هُوَ عَدَمُ الإِْنْكَارِ أَمَامَ الْقَاضِي فَلاَ يُعْتَبَرُ عَدَمُ الإِْنْكَارِ خَارِجَ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ، وَلاَ يَصِحُّ الاِحْتِجَاجُ بِهِ لِوُجُودِ شُبْهَةِ التَّزْوِيرِ، وَلأَِنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمَنْعُ مِنْ سَمَاعِ أَصْل الدَّعْوَى(13/122)
فَفَرْعُهَا وَهُوَ ادِّعَاءُ الإِْقْرَارِ أَوْلَى بِالْمَنْعِ مِنَ السَّمَاعِ لأَِنَّ النَّهْيَ يَشْمَلُهَا، وَلَكِنْ إِذَا كَانَ الإِْقْرَارُ الْمُدَّعَى بِهِ قَدْ أُيِّدَ بِسَنَدٍ جَاءَ بِخَطِّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَوْ خَتْمِهِ الْمَعْرُوفَيْنِ وَلَمْ تَمُرَّ مُدَّةُ التَّقَادُمِ مِنْ تَارِيخِ السَّنَدِ إِلَى وَقْتِ رَفْعِ الدَّعْوَى فَعِنْدَ ذَلِكَ تُسْمَعُ دَعْوَى الإِْقْرَارِ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ.
وَالأَْحْكَامُ الْمُتَقَدِّمَةُ الْخَاصَّةُ بِمُرُورِ الزَّمَانِ إِنَّمَا هِيَ لِلْحُقُوقِ الْخَاصَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالإِْقْرَارِ، أَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِالأُْمُورِ الْعَامَّةِ كَالطَّرِيقِ وَنَحْوِهَا فَلاَ تَسْرِي عَلَيْهَا أَحْكَامُ مُرُورِ الزَّمَانِ، فَتُسْمَعُ وَإِنْ طَالَتِ الْمُدَّةُ، وَمَا تَقَدَّمَ هُوَ خُلاَصَةُ أَحْكَامِ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ لِمُرُورِ الزَّمَانِ.
9 - أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَيُعَبِّرُونَ عَنْ مُرُورِ الزَّمَانِ بِالْحَوْزِ وَالْحِيَازَةِ وَعِنْدَهُمْ أَنَّ هُنَاكَ دَعَاوَى لاَ تُسْمَعُ مُطْلَقًا، وَهِيَ الدَّعَاوَى الَّتِي تُوجِبُ مَعَرَّةً كَالدَّعَاوَى الَّتِي تُرْفَعُ عَلَى مَنْ عُرِفَ بِالاِسْتِقَامَةِ وَالشَّرَفِ فِي الْمُعَامَلَةِ كَأَنْ يَدَّعِي شَخْصٌ مَعْرُوفٌ بِالْفَقْرِ وَالتَّجَنِّي عَلَى النَّاسِ عَلَى شَخْصٍ يُطَالِبُهُ بِعَقَارٍ فِي يَدِهِ.
وَالْحِيَازَةُ عِنْدَهُمْ عَلَى قِسْمَيْنِ:
1 - حِيَازَةٌ مَعَ جَهْل أَصْل الْمِلْكِ لِمَنْ هُوَ؟ .
2 - حِيَازَةٌ مَعَ عِلْمِ أَصْل الْمِلْكِ لِمَنْ هُوَ؟ .
فَالأُْولَى تَكْفِي فِيهَا الْحِيَازَةُ الْمَانِعَةُ مِنْ سَمَاعِ الدَّعْوَى لِمُدَّةِ عَشَرَةِ أَشْهُرٍ فَأَكْثَرَ سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَحُوزُ عَقَارًا أَمْ غَيْرَهُ.
وَالثَّانِيَةُ لاَ بُدَّ فِيهَا مِنْ عَشْرِ سِنِينَ فَأَكْثَرَ فِي(13/122)
الْعَقَارِ، أَوْ عَامَيْنِ فِي الدَّوَابِّ وَالثِّيَابِ وَنَحْوِهَا، وَيُشْتَرَطُ لِسَمَاعِ الدَّعْوَى فِي كُلٍّ مِنَ الْحِيَازَتَيْنِ أَنْ تَشْهَدَ الْبَيِّنَةُ بِذِكْرِ الْيَدِ، وَتَصَرُّفُ الْحَائِزِ تَصَرُّفَ الْمَالِكِ فِي مِلْكِهِ، وَالنِّسْبَةُ، وَعَدَمُ الْمُنَازَعِ، وَطُول الْمُدَّةِ عَشْرَةُ أَشْهُرٍ فِي الأُْولَى وَعَشَرُ سِنِينَ فِي الثَّانِيَةِ، وَعَدَمُ عِلْمِهِمْ بِمَا يُفَوِّتُ عَلَى الْمَالِكِ الأَْصْلِيِّ حَقَّهُ فِي اسْتِرْجَاعِ مِلْكِهِ، فَلاَ تُقْبَل الشَّهَادَةُ مَعَ فَقْدِ هَذِهِ الأُْمُورِ أَوْ صِيغَةِ الشَّهَادَةِ الَّتِي تُثْبِتُ الْمِلْكَ لِلْمُدَّعِي، وَهُمْ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الشَّاهِدِ ذِي الْعِلْمِ وَغَيْرِهِ.
10 - وَجُمْهُورُ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ يَرَوْنَ أَنَّهُ لاَ يُسْأَل عَنْ مَصْدَرِ حِيَازَتِهِ فَلاَ يُقَال لَهُ: كَيْفَ حُزْتَ مَا تَضَعُ يَدَكَ عَلَيْهِ؟ خِلاَفًا لاِبْنِ رُشْدٍ، فَإِنَّهُ جَزَمَ بِأَنَّهُ لاَ بُدَّ مِنْ سُؤَال الْحَائِزِ عَنْ مَصْدَرِ حِيَازَتِهِ، هَل هُوَ الْمِيرَاثُ مَثَلاً أَوِ الشِّرَاءُ أَوِ الْهِبَةُ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ؟ وَلاَ بُدَّ أَنْ يُبَيِّنَ ذَلِكَ، فَأَمَّا مُجَرَّدُ دَعْوَى الْمِلْكِ دُونَ أَنْ يَدَّعِيَ شَيْئًا مِنْ هَذَا فَلاَ يُنْتَفَعُ بِهِ مَعَ الْحِيَازَةِ إِذَا ثَبَتَ أَصْل الْمِلْكِ لِغَيْرِهِ. (1)
وَرَأَى ابْنُ رُشْدٍ خِلاَفَ رَأْيِ الْجُمْهُورِ، وَرَأْيُ الْجُمْهُورِ هُوَ الْمَعْمُول بِهِ، اللَّهُمَّ إِلاَّ إِذَا كَانَ الْحَائِزُ مَعْرُوفًا بِالتَّسَلُّطِ وَالْغَصْبِ وَالتَّعَدِّي، فَلاَ بُدَّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنْ يُبَيِّنَ بِأَيِّ وَجْهٍ صَارَ إِلَيْهِ وَلاَ يَنْفَعُهُ قَوْلُهُ اشْتَرَيْتُهُ مِنَ الْقَائِمِ أَوْ غَيْرِهِ أَوْ وَرَثَتِهِ بَل لاَ بُدَّ
__________
(1) المواد 1660 إلى 1675 من مجلة الأحكام العدلية، شرح سليم رستم باز من ص 983: ص 998 طبعت بالأستانة، وابن عابدين 4 / 343.(13/123)
مِنْ إِثْبَاتِهِ ذَلِكَ فَإِنْ لَمْ يُثْبِتْهُ فَعَلَيْهِ الْكِرَاءُ فِي جَمِيعِ الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَ بِيَدِهِ بِمَا يَقُولُهُ أَهْل الْمَعْرِفَةِ.
وَإِنْ عُرِفَ أَنَّ حِيَازَتَهُ كَانَتْ بِبَاطِلٍ لَمْ يَنْفَعْهُ طُول الْحِيَازَةِ وَإِنِ ادَّعَى شِرَاءَهُ، إِلاَّ أَنْ يَطُول ذَلِكَ نَحْوَ الْخَمْسِينَ سَنَةً وَنَحْوَهَا وَالْقَائِمُ حَاضِرٌ لاَ يُغَيِّرُ وَلاَ يَدَّعِي شَيْئًا، وَالْمُعَوَّل عَلَيْهِ فِي مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْحَائِزَ إِذَا حَازَ الْعَقَارَ مُدَّةَ عَشْرِ سِنِينَ مَعَ وُجُودِ الْمُدَّعِي وَسُكُوتِهِ بِلاَ عُذْرٍ فَإِنَّ مُضِيَّ الْمُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ يَمْنَعُ سَمَاعَ دَعْوَى الْمُدَّعِي، وَمَا قَارَبَ عَشْرَ سِنِينَ يَأْخُذُ حُكْمَ الْعَشْرِ فَإِذَا نَقَصَتْ شَهْرًا أَوْ شَهْرَيْنِ أَخَذَتْ حُكْمَ الْعَشْرِ، وَأَمَّا إِذَا قَامَتِ الْخُصُومَةُ بَيْنَ الْمُدَّعِي وَالْحَائِزِ أَمَامَ الْقَضَاءِ أَوْ غَيْرِهِ كَالْمُحَكِّمِينَ فَإِنَّ ذَلِكَ يَقْطَعُ الْمُدَّةَ، وَفِي غَيْرِ الْعَقَارِ يَمْنَعُ مِنْ سَمَاعِ الدَّعْوَى مَعَ عَدَمِ الْعُذْرِ مُضِيُّ عَشَرَةِ أَشْهُرٍ، وَهُنَاكَ خِلاَفَاتٌ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ فِي ذَلِكَ، وَالتَّخَاصُمُ يَقْطَعُ مُضِيَّ الْمُدَّةِ وَلَوْ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَاشْتَرَطَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ تَكْرَارَ التَّخَاصُمِ وَهُوَ مَا نَقَلَهُ ابْنُ سَلْمُونٍ عَنْ سَحْنُونٍ، وَإِذَا سَكَتَ بَعْدَ الْمُنَازَعَةِ عَشْرَ سِنِينَ فَإِنَّ سُكُوتَهُ يَمْنَعُ مِنْ سَمَاعِ دَعْوَاهُ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا سَكَتَ الْمُدَّعِي عَنْ مُخَاصَمَةِ الْحَائِزِ عَشْرَ سِنِينَ ثُمَّ رَفَعَ الْمُدَّعِي أَمْرَهُ لِيَقْضِيَ لَهُ وَعَلَّل سُكُوتَهُ بِأَنَّ بَيِّنَتَهُ كَانَتْ غَائِبَةً ثُمَّ جَاءَتْ، فَقِيل: يُقْبَل عُذْرُهُ وَقِيل: لاَ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَال: كُنْتُ فَاقِدًا مُسْتَنَدِي ثُمَّ وَجَدْتُهُ، وَكَذَلِكَ جَهْل الْحُكْمِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ جَهْلَهُ أَنَّ الْحِيَازَةُ تَمَلُّكُ الْحَائِزِ لَيْسَ عُذْرًا وَسُكُوتُ(13/123)
الْمُوَرِّثِ ثُمَّ الْوَارِثِ الْمُدَّةَ الْمَذْكُورَةَ يَمْنَعُ مِنْ سَمَاعِ الدَّعْوَى لأَِنَّهُمَا كَشَخْصٍ وَاحِدٍ، وَقِيل تُحْسَبُ مُدَّةُ الْمُوَرِّثِ وَحْدَهَا وَمُدَّةُ الْوَارِثِ وَحْدَهَا فَلاَ يُجْمَعَانِ مَعًا. (1)
11 - وَنَفَقَةُ غَيْرِ الزَّوْجَةِ تَسْقُطُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ فَلاَ تَصِيرُ بِفَوْتِهَا دَيْنًا فِي ذِمَّةِ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ إِلاَّ بِاقْتِرَاضِ قَاضٍ بِنَفْسِهِ أَوْ مَأْذُونِهِ لِغَيْبَةٍ أَوْ مَنْعٍ فَإِنَّهَا حِينَئِذٍ تَصِيرُ دَيْنًا عَلَيْهِ بِشَرْطِ أَنْ يَثْبُتَ عِنْدَهُ احْتِيَاجُ الْفَرْعِ وَغِنَى الأَْصْل مَثَلاً.
أَمَّا نَفَقَةُ الزَّوْجَةِ فَلاَ تَسْقُطُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ بَل تَصِيرُ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الزَّوْجِ، وَالْمُرَادُ بِالنَّفَقَةِ هُنَا مَا سِوَى الْمَسْكَنِ وَالْخَادِمِ، لأَِنَّ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ لِلاِسْتِمْتَاعِ وَالتَّمْكِينِ، وَكَذَلِكَ الْمَهْرُ بَعْدَ الدُّخُول فَإِنَّهُ لاَ يَسْقُطُ بِالتَّقَادُمِ، بَل يَسْتَقِرُّ فِي ذِمَّةِ الزَّوْجِ وَيُسْتَحَقُّ بِالْمَوْتِ أَوِ الطَّلاَقِ الْبَائِنِ وَيَصِيرُ مَأْمُونًا مِنْ سُقُوطِهِ. (2)
12 - وَيُبَيِّنُ أَيْضًا مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ وَالْمَالِكِيَّةَ يَكَادُونَ يَتَّفِقُونَ عَلَى إِبَاحَةِ سَمَاعِ الدَّعْوَى لِلأَْعْذَارِ، وَهِيَ عَلَى الْجُمْلَةِ الصِّغَرُ وَالْغَيْبَةُ الْبَعِيدَةُ وَالْجُنُونُ وَالْعَتَهُ وَكُل عُذْرٍ يَمْنَعُ الْمُدَّعِيَ مِنْ رَفْعِ الدَّعْوَى كَأَنْ يَكُونَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ذَا سَطْوَةٍ وَيُخَافُ مِنْهُ - عَلَى التَّفْصِيل الْمُتَقَدِّمِ.
__________
(1) البهجة شرح التحفة ج 2 ص 252 - 256، والعقد المنظم على هامش تبصرة الحكام ج 2 ص 54 وما بعدها.
(2) حاشية الشرقاوي 2 / 351 ط دار المعرفة، والمنثور في القواعد 3 / 370، والمغني 6 / 711 ط الرياض.(13/124)
التَّقَادُمُ فِي الْحُدُودِ:
أ - تَقَادُمُ الشَّهَادَةِ فِي الْحُدُودِ:
13 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الزِّنَى وَالْقَذْفِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ تُقْبَل وَلَوْ بَعْدَ مُضِيِّ زَمَانٍ طَوِيلٍ مِنَ الْوَاقِعَةِ لِعُمُومِ آيَةِ الشَّهَادَةِ فِي الزِّنَى، وَلأَِنَّهُ حَقٌّ لَمْ يَثْبُتْ مَا يُبْطِلُهُ، وَلأَِنَّ الشَّهَادَةَ إِنَّمَا صَارَتْ حُجَّةً بِاعْتِبَارِ وَصْفِ الصِّدْقِ، وَتَقَادُمُ الْعَهْدِ لاَ يُخِل بِالصِّدْقِ فَلاَ يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ حُجَّةً كَالإِْقْرَارِ وَحُقُوقِ الْعِبَادِ. (1)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: التَّقَادُمُ فِي الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ لِلَّهِ تَعَالَى يَمْنَعُ قَبُول الشَّهَادَةِ إِلاَّ إِذَا كَانَ التَّأْخِيرُ لِعُذْرٍ كَبُعْدِ الْمَسَافَةِ أَوْ مَرَضٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَحَدُّ الزِّنَى وَالشُّرْبِ وَالسَّرِقَةِ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى يَصِحَّ رُجُوعُ الْمُقَرِّ عَنْهَا فَيَكُونُ التَّقَادُمُ فِيهَا مَانِعًا. وَأَمَّا حَدُّ الْقَذْفِ فَالتَّقَادُمُ فِيهِ لاَ يَمْنَعُ قَبُول الشَّهَادَةِ، لأَِنَّ فِيهِ حَقَّ الْعَبْدِ لِمَا فِيهِ مِنْ دَفْعِ الْعَارِ عَنْهُ، وَلِهَذَا تُقْبَل دَعْوَاهُ، وَلاَ يَصِحُّ رُجُوعُ الْمُقِرِّ عَنْ إِقْرَارِهِ فِيهِ، وَلأَِنَّ الدَّعْوَى فِيهِ شَرْطٌ، فَلاَ يُتَّهَمُ الشُّهُودُ فِي ذَلِكَ، وَنَقَل ابْنُ الْهُمَامِ عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى: رَدَّ الشَّهَادَةِ وَالإِْقْرَارِ فِي جَمِيعِ الْحُدُودِ الْقَدِيمَةِ. (2)
__________
(1) القوانين الفقهية ص 136 ط دار القلم، ومغني المحتاج 4 / 151 ط مصطفى الحلبي، والمغني 8 / 208 ط الرياض، وفتح القدير 4 / 162 ط بولاق.
(2) الاختيار 4 / 82 دار المعرفة، وبدائع الصنائع 7 / 51، وابن عابدين 3 / 158 ط بولاق، والمبسوط 9 / 69، وفتح القدير 4 / 162 ط بولاق.(13/124)
ب - تَقَادُمُ الإِْقْرَارِ:
14 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ التَّقَادُمَ فِي الإِْقْرَارِ لاَ أَثَرَ لَهُ بِالنِّسْبَةِ لِتِلْكَ الْحُدُودِ مَا عَدَا حَدَّ الشُّرْبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لأَِنَّ الإِْنْسَانَ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، وَعَلَى هَذَا فَيُقْبَل الإِْقْرَارُ بِالزِّنَى وَلَوْ بَعْدَ مُدَّةٍ. (1)
تَقَاصٌّ
انْظُرْ: مُقَاصَّةٌ
تَقَاضِي
انْظُرْ: قَضَاءٌ
تَقَايُلٌ
انْظُرْ: إِقَالَةٌ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 51، والمغني 8 / 309(13/125)
تَقَبُّلٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّقَبُّل مَصْدَرُ تَقَبَّل أَيْ تَكَفَّل، وَمِنْ مَعَانِيهِ فِي اللُّغَةِ الاِلْتِزَامُ وَالتَّعَهُّدُ، يُقَال: تَقَبَّلْتُ الْعَمَل مِنْ صَاحِبِهِ إِذَا الْتَزَمْتُهُ بِعَقْدٍ. وَمِنْهُ الْقَبَالَةُ بِالْفَتْحِ اسْمُ الْمَكْتُوبِ مِنْ ذَلِكَ لِمَا يَلْتَزِمُهُ الإِْنْسَانُ مِنْ عَمَلٍ وَدَيْنٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَبِالْكَسْرِ: الْعَمَل، وَالْقَبِيل الْكَفِيل، وَالْقُبَالَةُ الْكَفَالَةُ. (1) وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ لِلتَّقَبُّل عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَاسْتُعْمِل التَّقَبُّل فِي الاِصْطِلاَحِ أَيْضًا بِمَعْنَى التَّعَهُّدِ وَالاِلْتِزَامِ، فَقَدْ وَرَدَ فِي الْمَجَلَّةِ أَنَّ: (التَّقَبُّل تَعَهُّدُ الْعَمَل وَالْتِزَامُهُ) (2)
وَأَطْلَقَهُ الْفُقَهَاءُ غَالِبًا عَلَى نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الشَّرِكَةِ فِيمَا إِذَا اتَّفَقَ اثْنَانِ فَأَكْثَرُ عَلَى أَنْ يَتَقَبَّلاَ عَمَلاً مِنَ الْخِيَاطَةِ أَوِ الْقِصَارَةِ أَوْ غَيْرِهِمَا، وَيَكُونُ الْكَسْبُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا شَرَطَا. وَهَذِهِ التَّسْمِيَةُ شَائِعَةٌ فِي كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ أَكْثَرَ مِنَ الْمَذَاهِبِ
__________
(1) المصباح المنير، ولسان العرب مادة: " قبل ".
(2) مجلة الأحكام العدلية مادة (1055) وشرحها لعلي حيدر (درر الحكام) شرح مجلة الأحكام 3 / 8.(13/125)
الأُْخْرَى، وَتُسَمَّى أَيْضًا شَرِكَةَ الأَْعْمَال وَشَرِكَةَ الصَّنَائِعِ وَشَرِكَةَ الأَْبْدَانِ. (1)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْكَفَالَةُ:
2 - الْكَفَالَةُ فِي اللُّغَةِ: الضَّمُّ وَالتَّحَمُّل وَالاِلْتِزَامُ (2) ، وَفِي الاِصْطِلاَحِ ضَمُّ ذِمَّةٍ إِلَى ذِمَّةٍ أُخْرَى فِي الْمُطَالَبَةِ بِشَيْءٍ مِنْ نَفْسٍ أَوْ دَيْنٍ أَوْ عَيْنٍ. (3)
فَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ الْكَفَالَةِ وَالتَّقَبُّل أَنَّ التَّقَبُّل يَتَضَمَّنُ الْكَفَالَةَ، لَكِنَّهَا قَدْ تَكُونُ بِالأَْمْوَال بِخِلاَفِ التَّقَبُّل الَّذِي يَخُصُّ الأَْعْمَال فَقَطْ.
ب - الاِلْتِزَامُ:
3 - الاِلْتِزَامُ مَصْدَرُ الْتَزَمَ، وَأَصْلُهُ مِنَ اللُّزُومِ بِمَعْنَى الثُّبُوتِ وَالدَّوَامِ، يُقَال: أَلْزَمْتُهُ الْمَال وَالْعَمَل وَغَيْرَهُ فَالْتَزَمَهُ. فَالاِلْتِزَامُ بِالشَّيْءِ قَبُولُهُ وَاعْتِنَاقُهُ سَوَاءٌ أَكَانَ بِإِرَادَةٍ وَاحِدَةٍ أَمْ بِإِرَادَتَيْنِ، عَلَى عَمَلٍ أَوْ غَيْرِهِ (4) وَعَلَى ذَلِكَ فَهُوَ أَعَمُّ مِنَ التَّقَبُّل وَالْكَفَالَةِ (ر: الْتِزَامٌ) .
__________
(1) البدائع 6 / 57، وتبيين الحقائق للزيلعي 3 / 320، وابن عابدين 3 / 347، وجوا هر الإكليل 2 / 120، والدسوقي 3 / 360، وكشاف القناع 3 / 527، والمغني 5 / 5 وما بعدها.
(2) المصباح واللسان مادة: " كفل ".
(3) ابن عابدين 4 / 249، ومجلة الأحكام مادة (612) ، والمطلع على أبواب المقنع ص248، 249.
(4) المصباح المنير مادة " لزم "، والموسوعة الفقهية 6 / 144.(13/126)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
4 - جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - عَلَى جَوَازِ شَرِكَةِ التَّقَبُّل (شَرِكَةِ الصَّنَائِعِ) فِي الأَْعْمَال الَّتِي تَصْلُحُ فِيهَا الْوَكَالَةُ، لأَِنَّهَا قِسْمٌ مِنْ شَرِكَةِ الْعَقْدِ فَيُعْتَبَرُ كُل وَاحِدٍ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ وَكِيلاً لِلآْخَرِ. وَمَا يَتَقَبَّلُهُ أَحَدُهُمَا مِنَ الْعَمَل يَصِيرُ فِي ضَمَانِهِمَا يُطَالَبَانِ بِهِ، وَيَلْزَمُهُمَا عَمَلُهُ، وَلَوْ مَرِضَ أَحَدُهُمَا أَوْ سَافَرَ أَوِ امْتَنَعَ عَمْدًا بِلاَ عُذْرٍ فَالآْخَرُ مُطَالَبٌ بِالْعَمَل، وَالْكَسْبُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا شَرَطَاهُ، لأَِنَّ الْعَمَل مَضْمُونٌ عَلَيْهِمَا. كَمَا أَنَّ لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْمُطَالَبَةَ بِالأُْجْرَةِ، فَتَبْرَأُ ذِمَّةُ مَنْ يَدْفَعُ الأُْجْرَةَ لأَِحَدِهِمَا، وَإِنْ تَلِفَتِ الأُْجْرَةُ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ فَهِيَ مِنْ ضَمَانِهِمَا، تَضِيعُ عَلَيْهِمَا مَعًا. (1)
5 - وَاسْتَدَلُّوا لِجَوَازِهَا بِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا تَحْصِيل الْمَال بِالتَّوْكِيل، فَكَمَا أَنَّ الشَّرِيكَيْنِ قَدْ يَسْتَحِقَّانِ الرِّبْحَ بِالاِشْتِرَاكِ مِنْ أَحَدِهِمَا بِالْعَمَل وَمِنَ الآْخَرِ بِالْمَال كَمَا فِي الْمُضَارَبَةِ، وَقَدْ يَسْتَحِقَّانِهِ بِالْمَال فَقَطْ كَمَا فِي سَائِرِ الشَّرِكَاتِ، فَكَذَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِقَّاهُ بِالْعَمَل فَقَطْ. وَلأَِنَّ الْمُسْلِمِينَ فِي سَائِرِ الأَْمْصَارِ يَعْقِدُونَ هَذِهِ الشَّرِكَةَ وَيَتَعَامَلُونَ بِهَا.
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: اشْتَرَكْتُ أَنَا وَسَعْدٌ وَعَمَّارٌ يَوْمَ بَدْرٍ، فَلَمْ
__________
(1) مجلة الأحكام العدلية مادة (1387 - 1393) ، وابن عابدين 3 / 347، 348، وجواهر الإكليل 2 / 120، 121، وكشاف القناع 3 / 527، 528.(13/126)
أَجِئْ أَنَا وَعَمَّارٌ بِشَيْءٍ، وَجَاءَ سَعْدٌ بِأَسِيرَيْنِ، وَمِثْل هَذَا لاَ يَخْفَى عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ أَقَرَّهُمْ عَلَيْهِ (1)
6 - وَلاَ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ التَّقَبُّل وَشَرِكَةِ الأَْعْمَال اتِّحَادُ الْمَكَانِ عِنْدَ مَنْ يُجَوِّزُونَهَا: وَهُمْ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، لأَِنَّ الْمَعْنَى الْمُجَوِّزَ لِشَرِكَةِ التَّقَبُّل مِنْ كَوْنِ الْمَقْصُودِ تَحْصِيل الرِّبْحِ لاَ يَخْتَلِفُ بَيْنَ كَوْنِ الْعَمَل فِي دَكَاكِينَ أَوْ دُكَّانٍ. (2)
كَمَا لاَ يُشْتَرَطُ التَّسَاوِي فِي الرِّبْحِ أَوِ الْعَمَل، وَلاَ اتِّحَادُ الصَّنْعَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. (3)
فَيَصِحُّ بِالْمُنَاصَفَةِ أَوِ الثُّلُثِ وَالثُّلُثَيْنِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، كَمَا يَصِحُّ أَنْ يَعْمَل أَحَدُهُمَا أَكْثَرَ مِنَ الآْخَرِ، اتَّفَقَتْ صَنْعَتُهُمَا كَخَيَّاطِينَ، أَوِ اخْتَلَفَتْ كَخَيَّاطٍ وَقَصَّارٍ أَوْ صَبَّاغٍ، وَكَاشْتِرَاكِ حَدَّادٍ وَنَجَّارٍ وَخَيَّاطٍ، لأَِنَّهُمُ اشْتَرَكُوا فِي مَكْسَبٍ مُبَاحٍ فَصَحَّ كَمَا لَوِ اتَّفَقَتِ الصَّنَائِعُ.
__________
(1) الزيلعي 3 / 321، والدسوقي 3 / 360، 361، والمغني لابن قدامة 5 / 5 وما بعدها، وكشاف القناع 3 / 527. وحديث: أبي عبيدة عن أبيه عبد الله بن مسعود قال: اشتركت أنا وعمار وسعد - يعني ابن أبي وقاص - فيما نصيب يوم بدر، قال: فجاء سعد بأسيرين، ولم أجئ أنا وعمار بشيء. أخرجه أبو داود (3 / 681 تحقيق عزت عبيد دعاس) وقال المنذري في مختصر السنن (5 / 53 نشر دار المعرفة) : " منقطع، فإن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه ".
(2) ابن عابدين 3 / 347، وجواهر الإكليل 2 / 120، والدسوقي 3 / 361.
(3) ابن عابدين 3 / 347، 349، والزيلعي 3 / 321، وكشاف القناع.(13/127)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: جَازَتِ الشَّرِكَةُ بِالْعَمَل إِنِ اتَّحَدَ، كَخَيَّاطِينَ، أَوْ تَلاَزَمَ بِأَنْ تَوَقَّفَ عَمَل أَحَدِهِمَا عَلَى عَمَل الآْخَرِ، كَنَسْجٍ وَإِصْلاَحِ غَزْلٍ بِتَهْيِئَةٍ لِلنَّسْجِ، وَكَأَنْ يُفَوَّضَ أَحَدُهُمَا لِطَلَبِ اللُّؤْلُؤِ، وَالثَّانِي يُمْسِكُ عَلَيْهِ وَيَجْذِبُ، وَبِشَرْطِ أَنْ يَتَسَاوَيَا فِي الْعَمَل بِأَنْ يَأْخُذَ كُل وَاحِدٍ بِقَدْرِ عَمَلِهِ مِنَ الْغَلَّةِ، أَوْ يَتَقَارَبَا فِي الْعَمَل وَحَصَل التَّعَاوُنُ بَيْنَهُمَا. (1)
7 - وَكَمَا تَصِحُّ هَذِهِ الشَّرِكَةُ فِي الصَّنَائِعِ وَنَحْوِهَا، تَصِحُّ كَذَلِكَ فِي تَمَلُّكِ الْمُبَاحَاتِ مِنَ الاِحْتِشَاشِ، وَالاِصْطِيَادِ، وَالاِحْتِطَابِ، وَالتَّلَصُّصِ عَلَى دَارِ الْحَرْبِ، وَسَائِرِ الْمُبَاحَاتِ، وَهَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. (2)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ يَصِحُّ التَّقَبُّل وَشَرِكَةُ الأَْعْمَال فِي الْمُبَاحَاتِ مِنَ الصَّيْدِ وَالْحَطَبِ، وَمَا يَكُونُ فِي الْجِبَال مِنَ الثِّمَارِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، لِعَدَمِ صِحَّةِ الْوَكَالَةِ فِيهَا، لأَِنَّ سَبَبَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ فِي الْمُبَاحَاتِ الأَْخْذُ وَالاِسْتِيلاَءُ، فَإِنْ تَشَارَكَا فَأَخَذَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ مُنْفَرِدًا كَانَ الْمَأْخُوذُ مِلْكًا لَهُ خَاصَّةً. (3)
8 - هَذَا، وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِبُطْلاَنِ شَرِكَةِ الأَْبْدَانِ مُطْلَقًا، وَذَلِكَ لِعَدَمِ الْمَال فِيهَا، وَلِمَا فِيهَا
__________
(1) الدسوقي مع الشرح الكبير للدردير 3 / 361، وجواهر الإكليل 2 / 120.
(2) جواهر الإكليل 2 / 120، والمغني 5 / 5 وما بعدها.
(3) البدائع 6 / 63.(13/127)
مِنَ الْغَرَرِ، إِذْ لاَ يَدْرِي الشَّرِيكُ أَنَّ صَاحِبَهُ يَكْسِبُ أَمْ لاَ، وَلأَِنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَمَيِّزٌ بِبَدَنِهِ وَمَنَافِعِهِ، فَيَخْتَصُّ بِفَوَائِدِهِ، كَمَا لَوِ اشْتَرَكَا فِي مَاشِيَتِهِمَا وَهِيَ مُتَمَيِّزَةٌ وَيَكُونُ الدَّرُّ وَالنَّسْل بَيْنَهُمَا. (1)
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (شَرِكَةٌ) .
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 212، والقليوبي 2 / 332، 333(13/128)
تَقْبِيلٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّقْبِيل فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ قَبَّل، وَالاِسْمُ مِنْهُ الْقُبْلَةُ وَهِيَ اللَّثْمَةُ، وَالْجَمْعُ الْقُبَل. يُقَال قَبَّلَهَا تَقْبِيلاً أَيْ لَثَمَهَا (1) وَتَقَبَّلْتُ الْعَمَل مِنْ صَاحِبِهِ إِذَا الْتَزَمْتُهُ بِعَقْدٍ.
وَالْقَبَالَةُ: اسْمُ الْمَكْتُوبُ مِنْ ذَلِكَ لِمَا يَلْتَزِمُهُ الإِْنْسَانُ مِنْ عَمَلٍ وَدَيْنٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ. قَال الزَّمَخْشَرِيُّ: كُل مَنْ تَقَبَّل بِشَيْءٍ مُقَاطَعَةً وَكَتَبَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ كِتَابًا، فَالْكِتَابُ الَّذِي كُتِبَ هُوَ الْقَبَالَةُ " بِالْفَتْحِ " وَالْعَمَل قِبَالَةٌ " بِالْكَسْرِ ".
وَتَقْبِيل الْخَرَاجِ: هُوَ أَنْ يَدْفَعَ السُّلْطَانُ أَوْ نَائِبُهُ، صُقْعًا، أَوْ بَلْدَةً، أَوْ قَرْيَةً، إِلَى رَجُلٍ مُدَّةَ سَنَةٍ، مُقَاطَعَةً بِمَالٍ مَعْلُومٍ، يُؤَدِّيهِ إِلَيْهِ عَنْ خَارِجِ أَرْضِهَا، أَوْ جِزْيَةِ رُءُوسِ أَهْلِهَا إِنْ كَانُوا أَهْل الذِّمَّةِ. (2)
وَتَفْصِيل الْكَلاَمِ فِي التَّقْبِيل بِهَذَا الإِْطْلاَقِ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ " خَرَاجٌ، وَقَبَالَةٌ ".
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ عَنْ هَذِهِ الْمَعَانِي.
__________
(1) المصباح المنير، ولسان العرب، وتاج العروس، ومتن اللغة مادة: " قبل ".
(2) الرتاج 2 / 3 مطبعة الإرشاد - بغداد.(13/128)
أَقْسَامُ التَّقْبِيل:
2 - ذَكَرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ التَّقْبِيل عَلَى خَمْسَةِ أَوْجُهٍ: قُبْلَةُ الْمَوَدَّةِ لِلْوَلَدِ عَلَى الْخَدِّ، وَقُبْلَةُ الرَّحْمَةِ لِوَالِدَيْهِ عَلَى الرَّأْسِ، وَقُبْلَةُ الشَّفَقَةِ لأَِخِيهِ عَلَى الْجَبْهَةِ، وَقُبْلَةُ الشَّهْوَةِ لاِمْرَأَتِهِ أَوْ أَمَتِهِ عَلَى الْفَمِ، وَقُبْلَةُ التَّحِيَّةِ لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْيَدِ. وَزَادَ بَعْضُهُمْ قُبْلَةَ الدِّيَانَةِ لِلْحَجَرِ الأَْسْوَدِ. (1)
وَفِيمَا يَلِي أَحْكَامُ التَّقْبِيل بِأَنْوَاعِهِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَمَا يَنْشَأُ عَنْهُ مِنْ آثَارٍ:
أَحْكَامُ التَّقْبِيل
أَوَّلاً: التَّقْبِيل الْمَشْرُوعُ:
أ - تَقْبِيل الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ:
3 - يُسَنُّ تَقْبِيل الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ لِلْحَاجِّ وَالْمُعْتَمِرِ فِي حَالَةِ الطَّوَافِ لِمَنْ يَقْدِرُ عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ، لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَبَّل الْحَجَرَ ثُمَّ قَال: وَاَللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّكَ حَجَرٌ وَلَوْلاَ أَنِّي رَأَيْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ (2) . فَإِنْ عَجَزَ عَنِ التَّقْبِيل اقْتَصَرَ عَلَى الاِسْتِلاَمِ بِالْيَدِ ثُمَّ قَبَّلَهَا، وَإِنْ عَجَزَ عَنِ الاِسْتِلاَمِ بِالْيَدِ
__________
(1) الدر المختار بهامش ابن عابدين 5 / 246، والآداب الشرعية لابن مفلح 2 / 271، 272.
(2) حديث: " والله لقد علمت أنك حجر ولولا أني رأيت. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 475 - ط السلفية) ومسلم (2 / 925 - ط عيسى الحلبي) .(13/129)
وَكَانَ فِي يَدِهِ شَيْءٌ يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَلِمَ الْحَجَرَ اسْتَلَمَهُ وَقَبَّلَهُ، وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ اسْتَلَمَ الْحَجَرَ الأَْسْوَدَ بِالْيَدِ ثُمَّ قَبَّل يَدَهُ (1) ، وَلِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَال: رَأَيْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَيَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمِحْجَنٍ مَعَهُ وَيُقَبِّل الْمِحْجَنَ. (2)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ لَمْ يَقْدِرْ أَنْ يُقَبِّلَهُ لَمَسَهُ بِيَدِهِ أَوْ بِعُودٍ ثُمَّ وَضَعَهُ عَلَى فِيهِ مِنْ غَيْرِ تَقْبِيلٍ. (3)
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: طَوَافٌ، وَالْحَجَرُ الأَْسْوَدُ ".
ب - تَقْبِيل الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ:
4 - يُنْدَبُ اسْتِلاَمُ الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ فِي الطَّوَافِ بِلاَ خِلاَفٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَال: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ يَدَعُ أَنْ يَسْتَلِمَ الرُّكْنَ
__________
(1) حديث: " أنه استلم الحجر الأسود باليد ثم قبل يده " أخرجه مسلم (2 / 924 - ط عيسى الحلبي) من حديث ابن عمر ولفظه عن نافع قال: " رأيت ابن عمر يستلم الحجر بيده ثم قبل يده. وقال: ما تركته منذ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله ".
(2) حديث: " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت ويستلم الركن. . . " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 472 - 473 - ط السلفية) ، ومسلم (2 / 927 - ط عيسى الحلبي) واللفظ له.
(3) ابن عابدين 2 / 166، وقليوبي 2 / 106، 110، والمجموع 8 / 29، 33، والمغني 3 / 380، 381، وجواهر الإكليل 1 / 178، والحطاب 3 / 107.(13/129)
الْيَمَانِيَّ وَالْحَجَرَ فِي كُل طَوَافٍ. (1)
أَمَّا تَقْبِيلُهُ فَقَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ - وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: لاَ يُقَبِّلُهُ: لَكِنَّ الشَّافِعِيَّةَ قَالُوا: يَسْتَلِمُهُ بِالْيَدِ وَيُقَبِّل الْيَدَ بَعْدَ اسْتِلاَمِهِ، وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَلْمِسُهُ بِيَدِهِ وَيَضَعُهَا عَلَى فِيهِ مِنْ غَيْرِ تَقْبِيلٍ.
وَقَال مُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ - وَهُوَ قَوْل الْخِرَقِيِّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: يُقَبِّلُهُ إِنْ تَمَكَّنَ مِنْ ذَلِكَ.
هَذَا وَذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ تَقْبِيل عَتَبَةِ الْكَعْبَةِ أَيْضًا مِنْ قُبْلَةِ الدِّيَانَةِ. (2)
ثَانِيًا: التَّقْبِيل الْمَمْنُوعُ:
أ - تَقْبِيل الأَْجْنَبِيَّةِ:
5 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ لَمْسِ وَتَقْبِيل الْمَرْأَةِ الأَْجْنَبِيَّةِ وَلَوْ لِلْخِطْبَةِ. (3)
وَتَفْصِيل هَذِهِ الْمَسَائِل فِي مُصْطَلَحِ: " خِطْبَةٌ وَنِكَاحٌ ".
__________
(1) حديث: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدع أن يستلم الركن اليماني والحجر في. . . " أخرجه أبو داود (2 / 440 ـ 441 ـ ط عبيد الدعاس) . والنسائي (5 / 231 ـ ط المكتبة التجارية) واللفظ له، وأصله في البخاري (الفتح 3 / 473 ط السلفية) .
(2) ابن عابدين 2 / 169، 5 / 246، والتاج والإكليل بهامش الحطاب 3 / 107، وقليوبي 2 / 106، والمغني 3 / 379، 380.
(3) ابن عابدين 5 / 233، 234، 237، وجواهر الإكليل 1 / 275، والقليوبي 3 / 208، ونهاية المحتاج 6 / 190، وكشاف القناع 5 / 10، والمغني 6 / 553 وما بعدها.(13/130)
ب - تَقْبِيل الأَْمْرَدِ
6 - الأَْمْرَدُ إِذَا لَمْ يَكُنْ صَبِيحَ الْوَجْهِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الرِّجَال فِي جَوَازِ تَقْبِيلِهِ لِلْوَدَاعِ وَالشَّفَقَةِ دُونَ الشَّهْوَةَ، أَمَّا إِذَا كَانَ صُبَيْحَ الْوَجْهِ يُشْتَهَى فَيَأْخُذُ حُكْمَ النِّسَاءِ وَإِنِ اتَّحَدَ الْجِنْسُ، فَتَحْرُمُ مُصَافَحَتُهُ وَتَقْبِيلُهُ وَمُعَانَقَتُهُ بِقَصْدِ التَّلَذُّذِ عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ. (1) وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: " أَمْرَدُ ".
ج - تَقْبِيل الرَّجُل لِلرَّجُل، وَالْمَرْأَةِ لِلْمَرْأَةِ:
7 - لاَ يَجُوزُ لِلرَّجُل تَقْبِيل فَمِ الرَّجُل أَوْ يَدِهِ أَوْ شَيْءٍ مِنْهُ، وَكَذَا تَقْبِيل الْمَرْأَةِ لِلْمَرْأَةِ، وَالْمُعَانَقَةُ وَمُمَاسَّةُ الأَْبْدَانِ، وَنَحْوِهَا، وَذَلِكَ كُلُّهُ إِذَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الشَّهْوَةِ، وَهَذَا بِلاَ خِلاَفٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ: نَهَى عَنِ الْمُكَامَعَةِ وَهِيَ: الْمُعَانَقَةُ، وَعَنِ الْمُعَاكَمَةِ وَهِيَ: التَّقْبِيل (2) .
أَمَّا إِذَا كَانَ ذَلِكَ عَلَى غَيْرِ الْفَمِ، وَعَلَى وَجْهِ الْبِرِّ وَالْكَرَامَةِ، أَوْ لأَِجْل الشَّفَقَةِ عِنْدَ اللِّقَاءِ وَالْوَدَاعِ، فَلاَ بَأْسَ بِهِ كَمَا يَأْتِي (3)
__________
(1) ابن عابدين 5 / 233، والزرقاني 1 / 167، وجواهر الإكليل 1 / 20، 275، والجمل 4 / 126، وحاشية القليوبي 2 / 213، وكشاف القناع 5 / 12 - 15.
(2) حديث: " نهى عن المكامعة وهي المعانقة، وعن المعاكمة وهي التقبيل " أورده الهروي في غريب الحديث (1 / 171ـ ط دار الكتاب العربي) . عن عياش بن عباس مرسلا.
(3) ابن عابدين 5 / 244، 246، والبناية على الهداية 9 / 326، 327، وجواهر الإكليل 1 / 20، والقليوبي 3 / 213، وحاشية الجمل على شرح المنهج 4 / 126.(13/130)
د - تَقْبِيل يَدِ الظَّالِمِ:
8 - صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِعَدَمِ جَوَازِ تَقْبِيل يَدِ الظَّالِمِ، وَقَالُوا: إِنَّهُ مَعْصِيَةٌ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ خَوْفٍ، قَال صَاحِبُ الدُّرِّ: لاَ رُخْصَةَ فِي تَقْبِيل الْيَدِ لِغَيْرِ عَالِمٍ وَعَادِلٍ، وَيُكْرَهُ مَا يَفْعَلُهُ الْجُهَّال مِنْ تَقْبِيل يَدِ نَفْسِهِ إِذَا لَقِيَ غَيْرَهُ، وَكَذَلِكَ تَقْبِيل يَدِ صَاحِبِهِ عِنْدَ اللِّقَاءِ إِذَا لَمْ يَكُنْ صَاحِبُهُ عَالِمًا وَلاَ عَادِلاً، وَلاَ قَصَدَ تَعْظِيمَ إِسْلاَمِهِ وَلاَ إِكْرَامَهُ. (1)
هـ - تَقْبِيل الأَْرْضِ بَيْنَ يَدَيْ الْعُلَمَاءِ وَالْعُظَمَاءِ:
9 - تَقْبِيل الأَْرْضِ بَيْنَ يَدَيِ الْعُلَمَاءِ وَالْعُظَمَاءِ حَرَامٌ، وَالْفَاعِل وَالرَّاضِي بِهِ آثِمَانِ، لأَِنَّهُ يُشْبِهُ عِبَادَةَ الْوَثَنِ، وَهَل يَكْفُرُ؟ إِنْ عَلَى وَجْهِ الْعِبَادَةِ وَالتَّعْظِيمِ كَفَرَ، وَإِنْ عَلَى وَجْهِ التَّحِيَّةِ لاَ، وَصَارَ آثِمًا مُرْتَكِبًا لِلْكَبِيرَةِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ الدُّرِّ. (2)
و التَّقْبِيل فِي الاِعْتِكَافِ وَالصِّيَامِ:
10 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ تَقْبِيل أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ الآْخَرَ فِي حَالَةِ الاِعْتِكَافِ إِنْ كَانَ بِشَهْوَةٍ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 5 / 245، 246، والآداب الشرعية لابن مفلح 2 / 272، وتحفة الأحوذي 7 / 527.
(2) الدر المختار بهامش ابن عابدين 5 / 246، والبناية شرح الهداية 9 / 326، 327.(13/131)
عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} (1) ، كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى كَرَاهَةِ التَّقْبِيل فِي الصِّيَامِ لِمَنْ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ الْمُفْسِدَ مِنَ الإِْنْزَال وَالْجِمَاعِ، بَل صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِالْحُرْمَةِ فِي حَالَةِ خَوْفِ الْمُفْسِدِ وَالْعِلْمِ بِعَدَمِ السَّلاَمَةِ. (2)
وَهَل يَبْطُل الاِعْتِكَافُ بِالتَّقْبِيل؟ فِيهِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يَأْتِي فِي بَيَانِ آثَارِ التَّقْبِيل.
ثَالِثًا: التَّقْبِيل الْمُبَاحُ:
أ - تَقْبِيل الْمَبَرَّةِ وَالإِْكْرَامِ، وَتَقْبِيل الْمَوَدَّةِ وَالشَّفَقَةِ:
11 - يَجُوزُ تَقْبِيل يَدِ الْعَالِمِ الْوَرِعِ وَالسُّلْطَانِ الْعَادِل، وَتَقْبِيل يَدِ الْوَالِدَيْنِ، وَالأُْسْتَاذِ، وَكُل مَنْ يَسْتَحِقُّ التَّعْظِيمَ وَالإِْكْرَامَ، كَمَا يَجُوزُ تَقْبِيل الرَّأْسِ وَالْجَبْهَةِ وَبَيْنَ الْعَيْنَيْنِ، وَلَكِنْ كُل ذَلِكَ إِذَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الْمَبَرَّةِ وَالإِْكْرَامِ، أَوِ الشَّفَقَةِ عِنْدَ اللِّقَاءِ وَالْوَدَاعِ، وَتَدَيُّنًا وَاحْتِرَامًا مَعَ أَمْنِ الشَّهْوَةِ.
وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَانَقَ جَعْفَرًا حِينَ قَدِمَ مِنَ الْحَبَشَةِ وَقَبَّل بَيْنَ عَيْنَيْهِ (3)
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ
__________
(1) سورة البقرة / 187.
(2) الاختيار 1 / 134، ابن عابدين 2 / 136، والدسوقي 1 / 544، وجواهر الإكليل 1 / 147، وحاشية القليوبي 2 / 58، 77، والمغني لابن قدامة 3 / 212، 213، وكشاف القناع 2 / 216.
(3) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم عانق جعفرا حين قدم من. . " أخرجه أبو داود (5 / 392 ـ ط عبيد الدعاس) وقال المنذري: هذا حديث مرسلا لأنه من رواية الشعبي به.(13/131)
فِي سَرِيَّةٍ مِنْ سَرَايَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ قِصَّةً قَال: فَدَنَوْنَا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَبَّلْنَا يَدَهُ. (1)
قَال ابْنُ بَطَّالٍ: أَنْكَرَ مَالِكٌ تَقْبِيل الْيَدِ وَأَنْكَرَ مَا رُوِيَ فِيهِ. قَال الأَْبْهَرِيُّ: وَإِنَّمَا كَرِهَهُ مَالِكٌ إِذَا كَانَ عَلَى وَجْهِ التَّعْظِيمِ وَالتَّكَبُّرِ. وَأَمَّا إِذَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ إِلَى اللَّهِ لِدِينِهِ أَوْ لِعِلْمِهِ أَوْ لِشَرَفِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ. (2)
كَذَلِكَ يَجُوزُ بَل يُسَنُّ تَقْبِيل الْوَلَدِ لِلْمَوَدَّةِ عَلَى الرَّأْسِ وَالْجَبْهَةِ وَالْخَدِّ، لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَال: قَبَّل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ، فَقَال الأَْقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ: إِنَّ لِي عَشَرَةً مِنَ الْوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ مِنْهُمْ أَحَدًا، فَقَال: مَنْ لاَ يَرْحَمُ لاَ يُرْحَمُ. (3)
__________
(1) حديث: ابن عمر: " أنه كان في سرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . " أخرجه أبو داود (5 / 393 ـ ط عبيد الدعاس) . وابن ماجه (2 / 1221 ـ ط عيسى الحلبي) . قال المنذري: أخرجه الترمذي وابن ماجه وقال الترمذي حسن. (مختصر سنن أبي داود (8 / 88 ـ ط دار المعرفة) .
(2) تحفة الأحوذي 7 / 527. وانظر في هذه المسائل: ابن عابدين 5 / 245، 246، والبناية 9 / 317، 318، 326، 327، وجواهر الإكليل 1 / 20، والقليوبي 3 / 213، وحاشية الجمل 4 / 126، وكشاف القناع 5 / 16، والآداب الشرعية لابن مفلح2 / 270، 271، 277، 279.
(3) حديث: " قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسين بن علي، فقال. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 426 ـ ط السلفية) ، ومسلم (2 / 1808ـ 1809 ـ ط عيسى الحلبي) واللفظ للبخاري.(13/132)
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: تُقَبِّلُونَ الصِّبْيَانَ فَمَا نُقَبِّلُهُمْ، فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوَأَمْلِكُ لَكَ أَنْ نَزَعَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ؟ . (1)
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَشْبَهَ سَمْتًا وَهَدْيًا بِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ فَاطِمَةَ ابْنَتِهِ، وَكَانَتْ إِذَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ قَامَ إِلَيْهَا يُقَبِّلُهَا وَأَجْلَسَهَا فِي مَجْلِسِهِ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَل عَلَيْهَا قَامَتْ لَهُ فَتُقَبِّلُهُ وَتُجْلِسُهُ فِي مَجْلِسِهَا. (2)
ب - تَقْبِيل الْمَيِّتِ:
12 - يَجُوزُ لأَِهْل الْمَيِّتِ وَأَقْرِبَائِهِ وَأَصْدِقَائِهِ تَقْبِيل وَجْهِهِ، لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبَّل عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ وَهُوَ مَيِّتٌ، وَهُوَ يَبْكِي
__________
(1) وحديث: " عائشة رضي الله عنها قالت: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " تقبلون الصبيان فما. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 426 ـ ط السلفية) ، ومسلم (2 / 1808، ط عيسى الحلبي) واللفظ للبخاري. قال ابن حجر: ويحتمل أن يكون الأعرابي الأقرع بن حابس، ويحتمل أن يكون قيس بن عاصم، وهو الأرحج (فتح الباري 10 / 430ـ ط السلفية) .
(2) حديث: " عن عائشة رضي الله عنها قالت: " ما رأيت أحد أشبه. . . " أخرجه أبو داود (5 / 391 ـ ط عبيد الدعاس) ، والترمذي (5 / 700 ـ ط مصطفى الحلبي) . وقال حديث حسن غريب.(13/132)
أَوْ عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ (1) وَرُوِيَ كَذَلِكَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: أَقْبَل أَبُو بَكْرٍ فَتَيَمَّمَ (2) النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُسَجًّى بِبُرْدِ حِبَرَةٍ، فَكَشَفَ عَنْهُ وَجْهَهُ، ثُمَّ أَكَبَّ عَلَيْهِ فَقَبَّلَهُ، ثُمَّ بَكَى، فَقَال: بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُول اللَّهِ لاَ يَجْمَعُ اللَّهُ عَلَيْكَ مَوْتَتَيْنِ (3) .
ج - تَقْبِيل الْمُصْحَفِ:
13 - ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ: وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - جَوَازُ تَقْبِيل الْمُصْحَفِ تَكْرِيمًا لَهُ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ اسْتِحْبَابُهُ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ: كَانَ يَأْخُذُ الْمُصْحَفَ كُل غَدَاةٍ وَيُقَبِّلُهُ، وَيَقُول: عَهْدُ رَبِّي وَمَنْشُورُ رَبِّي عَزَّ وَجَل، وَكَانَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُقَبِّل الْمُصْحَفَ وَيَمْسَحُهُ عَلَى وَجْهِهِ. وَقَال النَّوَوِيُّ فِي التِّبْيَانِ: رَوَيْنَا فِي مُسْنَدِ الدَّارِمِيِّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ عِكْرِمَةَ بْنَ
__________
(1) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل عثمان بن مظعون، وهو. . . " أخرجه أبو داود (3 / 513 ـ ط عبيد الدعاس) . والترمذي (3 / 305ـ 306 ـ ط مصطفى الحلبي) وقال حديث حسن صحيح.
(2) تيمم رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي مشى إليه وقصده.
(3) البناية على الهداية 9 / 324، 325، والقليوبي 1 / 344، 3 / 213، والمغني لابن قدامة 2 / 470 وحديث: " أقبل أبو بكر فتيمم النبي صلى الله عليه وسلم وهو مسجى. . . " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 113 ـ ط السلفية) .(13/133)
أَبِي جَهْلٍ كَانَ يَضَعُ الْمُصْحَفَ عَلَى وَجْهِهِ وَيَقُول: كِتَابُ رَبِّي كِتَابُ رَبِّي (1) .
وَنَقَل صَاحِبُ الدُّرِّ عَنِ الْقُنْيَةِ: وَقِيل: إِنَّ تَقْبِيل الْمُصْحَفِ بِدْعَةٌ، وَرَدَّهُ بِمَا تَقَدَّمَ نَقْلُهُ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ.
وَرُوِيَ كَذَلِكَ عَنْ أَحْمَدَ: التَّوَقُّفُ فِي تَقْبِيل الْمُصْحَفِ، وَفِي جَعْلِهِ عَلَى عَيْنَيْهِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ رَفْعُهُ وَإِكْرَامُهُ، لأَِنَّ مَا طَرِيقُهُ التَّقَرُّبُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْقِيَاسِ فِيهِ مَدْخَلٌ لاَ يُسْتَحَبُّ فِعْلُهُ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ تَعْظِيمٌ إِلاَّ بِتَوْقِيفٍ، وَلِهَذَا قَال عُمَرُ عَنِ الْحَجَرِ: لَوْلاَ أَنِّي رَأَيْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ (2) . وَلَمْ نَعْثُرْ فِي كُتُبِ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى حُكْمٍ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
د - تَقْبِيل الْخُبْزِ وَالطَّعَامِ:
14 - صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِجَوَازِ تَقْبِيل الْخُبْزِ، وَقَالُوا: إِنَّهُ بِدْعَةٌ مُبَاحَةٌ أَوْ حَسَنَةٌ، لأَِنَّهُ لاَ دَلِيل عَلَى التَّحْرِيمِ وَلاَ الْكَرَاهَةِ، لأَِنَّ الْمَكْرُوهَ مَا وَرَدَ عَنْهُ نَهْيٌ، أَوْ كَانَ فِيهِ خِلاَفٌ قَوِيٌّ، وَلَمْ يَرِدْ فِي ذَلِكَ نَهْيٌ، فَإِنْ قَصَدَ بِذَلِكَ إِكْرَامَهُ لأَِجْل الأَْحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي إِكْرَامِهِ فَحَسَنٌ، وَدَوْسُهُ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 246، وحاشية الطحطاوي على الدر 4 / 192، وكشاف القناع 1 / 137، والآداب الشرعية 2 / 295.
(2) كشاف القناع 1 / 137، 138.(13/133)
مَكْرُوهٌ كَرَاهَةً شَدِيدَةً، بَل مُجَرَّدُ إِلْقَائِهِ فِي الأَْرْضِ مِنْ غَيْرِ دَوْسٍ مَكْرُوهٌ (1) .
وَقَال صَاحِبُ الدُّرِّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ مُؤَيِّدًا قَوْل الشَّافِعِيَّةِ فِي جَوَازِ تَقْبِيل الْخُبْزِ: (وَقَوَاعِدُنَا لاَ تَأْبَاهُ) (2) .
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَالُوا: لاَ يُشْرَعُ تَقْبِيل الْخُبْزِ وَلاَ الْجَمَادَاتِ إِلاَّ مَا اسْتَثْنَاهُ الشَّرْعُ (3) .
آثَارُ التَّقْبِيل
أَثَرُ التَّقْبِيل فِي الْوُضُوءِ:
15 - صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ - وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - بِعَدَمِ انْتِقَاضِ الْوُضُوءِ بِمَسِّ الزَّوْجَةِ وَلاَ بِتَقْبِيلِهَا، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبَّل بَعْضَ نِسَائِهِ ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ (4) .
وَقَالُوا: إِنَّ الْمُرَادَ بِاللَّمْسِ فِي الآْيَةِ: {أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ} (5) الْجِمَاعُ كَمَا فَسَّرَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَدْ تَأَكَّدَ ذَلِكَ بِفِعْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (6) .
__________
(1) حاشية الشرواني على المنهاج 7 / 435.
(2) الدر المختار بهامش ابن عابدين 5 / 246.
(3) كشاف القناع 5 / 181، والآداب الشرعية 3 / 240.
(4) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل بعض نسائه ثم صلى ولم يتوضأ " أخرجه الترمذي (1 / 133 ـ ط مصطفى الحلبي) . وصححه أحمد شاكر (سنن الترمذي 1 / 133 ـ ط الحلبي) .
(5) سورة النساء / 43.
(6) الاختيار 1 / 10، 11، وابن عابدين 1 / 99، والمغني 1 / 192، 193.(13/134)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ - وَهُوَ رِوَايَةٌ أُخْرَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - إِنَّ اللَّمْسَ وَالتَّقْبِيل نَاقِضَانِ لِلْوُضُوءِ مُطْلَقًا لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ} (1) ، وَلأَِنَّهُ مَظِنَّةُ الاِلْتِذَاذِ الْمُثِيرِ لِلشَّهْوَةِ، وَمِثْلُهُ فِي ذَلِكَ بَاقِي صُوَرِ الْتِقَاءِ الْبَشَرَتَيْنِ بَيْنَ الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ، وَلاَ فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ اللاَّمِسِ وَالْمَلْمُوسِ، وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ: وَلَوْ كَانَ الْمَمْسُوسُ مَيِّتًا (2) .
وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَجِبُ الْوُضُوءُ عَلَى مَنْ قَبَّل لِشَهْوَةٍ، وَلاَ يَجِبُ عَلَى مَنْ قَبَّل لِرَحْمَةٍ. وَلاَ فَرْقَ عِنْدَهُ بَيْنَ الأَْجْنَبِيَّةِ وَالْمَحْرَمِ وَالصَّغِيرَةِ الَّتِي تُشْتَهَى - أَيْ ذَاتِ سَبْعِ سِنِينَ فَأَكْثَرَ - وَالْكَبِيرَةِ، لِعُمُومِ النَّصِّ، خِلاَفًا لِلشَّافِعِيَّةِ حَيْثُ قَالُوا بِعَدَمِ النَّقْضِ بِلَمْسِ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ بِنَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ أَوْ مُصَاهَرَةٍ فِي الأَْظْهَرِ، لأَِنَّهَا لَيْسَتْ مَحَلًّا لِلشَّهْوَةِ (3) .
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ فَصَّلُوا فِي ذَلِكَ فَقَالُوا: تَقْبِيل فَمِ مَنْ يَلْتَذُّ صَاحِبُهُ بِهِ عَادَةً نَاقِضٌ لِوُضُوئِهِمَا مُطْلَقًا، وَإِنْ لَمْ يَقْصِدِ اللَّذَّةَ أَوْ لَمْ يَجِدْهَا، وَإِنْ كَانَ بِكُرْهٍ أَوِ اسْتِغْفَالٍ، لأَِنَّ الْقُبْلَةَ عَلَى الْفَمِ لاَ تَنْفَكُّ عَنِ اللَّذَّةِ غَالِبًا، وَالنَّادِرُ لاَ حُكْمَ لَهُ (4) .
__________
(1) سورة النساء / 43.
(2) حاشية القليوبي 1 / 32، والمغني 1 / 192ـ 195.
(3) نفس المراجع.
(4) جواهر الإكليل 1 / 20، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 1 / 120، 121.(13/134)
أَمَّا تَقْبِيل سَائِرِ الأَْعْضَاءِ، فَإِنْ قَصَدَ بِهِ لَذَّةً أَوْ وَجَدَهَا بِدُونِ الْقَصْدِ يُنْقِضُهُ وَإِلاَّ فَلاَ. وَهَذَا كُلُّهُ إِذَا كَانَا بَالِغَيْنِ وَإِلاَّ انْتَقَضَ وُضُوءُ الْبَالِغِ مِنْهُمَا إِذَا كَانَ تَقْبِيلُهُ لِمَنْ يُشْتَهَى عَادَةً. وَالْمُعْتَبَرُ عَادَةُ النَّاسِ لاَ عَادَةُ الْمُقَبِّل وَالْمُقَبَّل، قَال الدُّسُوقِيُّ: فَعَلَى هَذَا لَوْ قَبَّل شَيْخٌ شَيْخَةً انْتَقَضَ وُضُوءُ كُلٍّ مِنْهُمَا، لأَِنَّ عَادَةَ الْمَشَايِخِ اللَّذَّةُ بِالنِّسَاءِ الْكِبَارِ (1) .
وَإِذَا كَانَ التَّقْبِيل لِوَدَاعٍ عِنْدَ فِرَاقٍ أَوْ لِرَحْمَةٍ كَتَقْبِيل الْمَرِيضِ لِلشَّفَقَةِ فَلاَ نَقْضَ.
أَثَرُ التَّقْبِيل فِي الصَّلاَةِ:
16 - التَّقْبِيل مُبْطِلٌ لِلصَّلاَةِ عِنْدَ مَنْ يَقُول بِنَقْضِ الْوُضُوءِ بِهِ، لأَِنَّ الطَّهَارَةَ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الصَّلاَةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ، فَإِذَا انْتَقَضَ الْوُضُوءُ بَطَلَتِ الصَّلاَةُ.
كَذَلِكَ تَفْسُدُ الصَّلاَةُ بِالتَّقْبِيل عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ الَّذِينَ ذَهَبُوا إِلَى عَدَمِ نَقْضِ الْوُضُوءِ بِهِ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا فِي التَّقْبِيل بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ: لَوْ مَسَّهَا بِشَهْوَةٍ أَوْ قَبَّلَهَا وَلَوْ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ، أَوْ مَصَّ صَبِيٌّ ثَدْيَهَا وَخَرَجَ اللَّبَنُ تَفْسُدُ صَلاَتُهُمَا (2)
لَكِنَّهُمْ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَوْ قَبَّلَتْهُ وَهُوَ فِي الصَّلاَةِ وَلَمْ يَشْتَهِهَا لاَ تَفْسُدُ صَلاَتُهُ (3) .
__________
(1) نفس المراجع.
(2) الدر المختار مع حاشية ابن عابدين 1 / 420ـ 422، والدسوقي 1 / 120، 121، والقليوبي 1 / 32، 34.
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 422.(13/135)
أَثَرُ التَّقْبِيل عَلَى الصِّيَامِ:
17 - يُكْرَهُ لِلصَّائِمِ تَقْبِيل الزَّوْجَةِ إِنْ لَمْ يَأْمَنْ عَلَى نَفْسِهِ وُقُوعَ مُفْسِدٍ مِنَ الإِْنْزَال وَالْجِمَاعِ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَال: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَ شَابٌّ فَقَال يَا رَسُول اللَّهِ - أُقَبِّل وَأَنَا صَائِمٌ؟ قَال: لاَ. فَجَاءَ شَيْخٌ فَقَال: أُقَبِّل وَأَنَا صَائِمٌ؟ قَال: نَعَمْ، فَنَظَرَ بَعْضُنَا إِلَى بَعْضٍ، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَدْ عَلِمْتُ لِمَ نَظَرَ بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ؟ إِنَّ الشَّيْخَ يَمْلِكُ نَفْسَهُ (1) . وَلأَِنَّهُ إِذَا لَمْ يَأْمَنِ الْمُفْسِدَ رُبَّمَا وَقَعَ فِي الْجِمَاعِ فَيَفْسُدُ صَوْمُهُ.
وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَمَحَل الْكَرَاهَةِ إِذَا كَانَتِ الْقُبْلَةُ بِقَصْدِ اللَّذَّةِ لاَ إِنْ كَانَ بِدُونِ قَصْدِهَا، كَأَنْ تَكُونَ بِقَصْدِ وَدَاعٍ أَوْ رَحْمَةٍ فَلاَ كَرَاهَةَ (2) .
وَإِذَا أَمِنَ عَلَى نَفْسِهِ وُقُوعَ مُفْسِدٍ فَلاَ بَأْسَ بِالتَّقْبِيل عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُقَبِّل وَيُبَاشِرُ وَهُوَ صَائِمٌ (3) .
__________
(1) حديث: " إن عبد الله بن عمر قال: " كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاء شاب فقال. . " أخرجه أحمد (2 / 185 ـ ط المكتب الإسلامي) . قال الهيثمي: رواه أحمد والطبراني في الكبير، وفيه ابن لهيعة وحديثه حسن، وفيه كلام (مجمع الزوائد: 3 / 166 ط دار الكتاب العربي) .
(2) الاختيار 1 / 134، ابن عابدين 2 / 112، 113، والقليوبي 2 / 58، والمغني لابن قدامة 3 / 112، 113.
(3) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل ويباشر وهو صائم "، أخرجه البخاري (الفتح 4 / 194 ـ ط السلفية) . ومسلم (2 / 777ـ ط عيسى الحلبي) .(13/135)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: تُكْرَهُ الْقُبْلَةُ بِقَصْدِ اللَّذَّةِ لِلصَّائِمِ لَوْ عُلِمَتِ السَّلاَمَةُ مِنْ خُرُوجِ مَنِيٍّ أَوْ مَذْيٍ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمِ السَّلاَمَةَ حَرُمَتْ (1) .
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ التَّقْبِيل وَلَوْ كَانَ بِقَصْدِ اللَّذَّةِ لاَ يُفْطِرُ الصَّائِمُ مَا لَمْ يُسَبِّبِ الإِْنْزَال، أَمَّا إِذَا قَبَّل وَأَنْزَل بَطَل صَوْمُهُ اتِّفَاقًا بَيْنَ الْمَذَاهِبِ (2) .
وَفِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ أَوْ عَدَمِهِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (كَفَّارَةٌ) .
أَثَرُ التَّقْبِيل فِي الاِعْتِكَافِ:
18 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ أَظْهَرُ الأَْقْوَال عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ) إِلَى أَنَّهُ يَبْطُل الاِعْتِكَافُ بِالتَّقْبِيل وَاللَّمْسِ إِذَا أَنْزَل، لأَِنَّهُ بِالإِْنْزَال صَارَ التَّقْبِيل فِي مَعْنَى الْجِمَاعِ. أَمَّا إِذَا لَمْ يُنْزِل فَلاَ يَبْطُل الاِعْتِكَافُ بِالتَّقْبِيل عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَفِي الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، سَوَاءٌ أَكَانَ بِشَهْوَةٍ أَمْ بِدُونِهَا، كَمَا لاَ يَبْطُل بِهِ الصَّوْمُ، لِعَدَمِ مَعْنَى الْجِمَاعِ، إِلاَّ أَنَّهُ حَرَامٌ إِنْ كَانَ بِشَهْوَةٍ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} (3) .
__________
(1) جواهر الإكليل 1 / 147.
(2) نفس المراجع السابقة، وانظر الزيلعي 1 / 323، والشرح الصغير للدردير 1 / 707، والمهذب 1 / 183، منتهى الإرادات 1 / 221.
(3) سورة البقرة / 187.(13/136)
وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ كَالتَّقْبِيل عَلَى سَبِيل الشَّفَقَةِ وَالاِحْتِرَامِ فَلاَ بَأْسَ بِهِ، كَغَسْل الْمَرْأَةِ رَأْسَ زَوْجِهَا الْمُعْتَكِفِ، وَتَرْجِيل شَعْرِهِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ - وَهُوَ الْقَوْل الثَّانِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِذَا قَبَّل وَقَصَدَ اللَّذَّةَ أَوْ لَمَسَ أَوْ بَاشَرَ بِقَصْدِ اللَّذَّةِ أَوْ وَجَدَهَا بَطَل الاِعْتِكَافُ، أَمَّا لَوْ قَبَّل صَغِيرَةً لاَ تُشْتَهَى أَوْ قَبَّل زَوْجَتَهُ لِوَدَاعٍ أَوْ لِرَحْمَةٍ وَلَمْ يَقْصِدِ اللَّذَّةَ وَلاَ وَجَدَهَا لَمْ يَبْطُل. وَهَذَا إِذَا كَانَ التَّقْبِيل عَلَى غَيْرِ الْفَمِ. أَمَّا الْقُبْلَةُ عَلَى الْفَمِ فَتُبْطِل الاِعْتِكَافَ مُطْلَقًا، وَلاَ تُشْتَرَطُ فِيهَا الشَّهْوَةُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، لأَِنَّهُ يُبْطِلُهُ مِنْ مُقَدِّمَاتِ الْوَطْءِ مَا يُبْطِل الْوُضُوءَ.
وَالْقَوْل الثَّالِثُ لِلشَّافِعِيَّةِ: إِنَّ التَّقْبِيل لاَ يُبْطِل الاِعْتِكَافَ مُطْلَقًا كَالْحَجِّ، لَكِنَّهُ حَرَامٌ عَلَى كُل قَوْلٍ (2) .
أَثَرُ التَّقْبِيل فِي الْحَجِّ:
19 - يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ اللَّمْسُ وَالتَّقْبِيل بِشَهْوَةٍ، وَيَجِبُ عَلَى مَنْ فَعَل شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ الدَّمِ، سَوَاءٌ أَنْزَل أَمْ لَمْ يُنْزِل؟ ، لَكِنَّهُ لاَ يَفْسُدُ حَجُّهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ)
__________
(1) ابن عابدين 2 / 136، والدسوقي 1 / 544، والقليوبي 2 / 77، وكشاف القناع 2 / 261، ومغني المحتاج 1 / 452.
(2) جواهر الإكليل 1 / 157، والدسوقي 1 / 544، والقليوبي 2 / 77، ومغني المحتاج 1 / 452.(13/136)
خِلاَفًا لِلْمَالِكِيَّةِ حَيْثُ قَالُوا بِفَسَادِ الْحَجِّ إِنْ أَنْزَل، وَإِلاَّ فَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ.
أَمَّا الْقُبْلَةُ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ بِأَنْ كَانَتْ لِوَدَاعٍ أَوْ لِرَحْمَةٍ أَوْ بِقَصْدِ تَحِيَّةِ الْقَادِمِ مِنَ السَّفَرِ فَلاَ تُفْسِدُ الْحَجَّ، وَلاَ فِدْيَةَ فِيهَا بِغَيْرِ خِلاَفٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ (1) .
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحَيْ: (إِحْرَامٌ وَحَجٌّ) .
أَثَرُ التَّقْبِيل فِي الرَّجْعَةِ:
20 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ اللَّمْسَ وَالتَّقْبِيل بِغَيْرِ شَهْوَةٍ وَبِغَيْرِ نِيَّةِ الرَّجْعَةِ لاَ يُعْتَبَرُ رَجْعَةً.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا كَانَ التَّقْبِيل بِشَهْوَةٍ، فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: تَصِحُّ الرَّجْعَةُ بِالْوَطْءِ، وَاللَّمْسِ بِشَهْوَةٍ، وَالتَّقْبِيل بِشَهْوَةٍ عَلَى أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ فَمًا، أَوْ خَدًّا أَوْ ذَقَنًا، أَوْ جَبْهَةً، أَوْ رَأْسًا، وَلَوْ قَبَّلَهَا اخْتِلاَسًا، أَوْ كَانَ الزَّوْجُ نَائِمًا، أَوْ مُكْرَهًا، أَوْ مَجْنُونًا، أَوْ مَعْتُوهًا، إِنْ صَدَّقَهَا الزَّوْجُ.
وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ التَّقْبِيل وَالْمَسِّ وَالنَّظَرِ بِشَهْوَةٍ مِنْهُ أَوْ مِنْهَا بِشَرْطِ أَنْ يُصَدِّقَهَا، أَمَّا إِذَا ادَّعَتْهُ وَأَنْكَرَهُ فَلاَ تَثْبُتُ الرَّجْعَةُ (2) .
وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الرَّجْعَةِ النِّيَّةَ، فَالتَّقْبِيل لِلْمَرْأَةِ الْمُطَلَّقَةِ رَجْعِيًّا رَجْعَةٌ إِذَا قَارَنَهُ نِيَّةُ الرَّجْعَةِ،
__________
(1) الهداية مع الفتح 2 / 237، 238، حاشية العدوي على شرح أبي الحسن لرسالة ابن أبي زيد 1 / 486، 489، ونهاية المحتاج 2 / 456، والمجموع 7 / 410، 411، والمغني 3 / 338ـ 340.
(2) ابن عابدين 2 / 530، والبدائع 2 / 181، 182.(13/137)
وَلاَ تَصِحُّ الرَّجْعَةُ بِالْفِعْل دُونَ نِيَّةٍ، وَلَوْ بِأَقْوَى الأَْفْعَال كَالْوَطْءِ (1) .
وَلاَ تَحْصُل الرَّجْعَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - وَهُوَ ظَاهِرُ كَلاَمِ الْخِرَقِيِّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ - بِالْفِعْل كَالْوَطْءِ وَمُقَدِّمَاتِهِ مِنَ اللَّمْسِ وَالتَّقْبِيل، لأَِنَّ ذَلِكَ حَرُمَ بِالطَّلاَقِ، وَمَقْصُودُ الرَّجْعَةِ حِلُّهُ، فَلاَ تَحْصُل إِلاَّ بِالْقَوْل (2) .
وَفِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ تَحْصُل الرَّجْعَةُ بِالْوَطْءِ وَلَوْ بِغَيْرِ نِيَّةٍ.
أَمَّا لَوْ قَبَّلَهَا أَوْ لَمَسَهَا بِشَهْوَةٍ فَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَيْسَ بِرَجْعَةٍ، وَيُعْتَبَرُ رَجْعَةً فِي وَجْهٍ عِنْدَ بَعْضِ الْحَنَابِلَةِ (3) .
أَثَرُ التَّقْبِيل فِي الظِّهَارِ:
21 - الظِّهَارُ هُوَ: أَنْ يُشَبِّهَ الزَّوْجُ زَوْجَتَهُ بِمُحَرَّمٍ عَلَيْهِ تَأْبِيدًا. فَإِذَا ظَاهَرَ الزَّوْجُ مِنْ زَوْجَتِهِ، كَأَنْ يَقُول أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي يَحْرُمُ عَلَيْهِ وَطْؤُهَا وَدَوَاعِيهِ مِنَ الْقُبْلَةِ وَاللَّمْسِ بِشَهْوَةٍ قَبْل الْكَفَّارَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ - وَهِيَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، لأَِنَّ ذَلِكَ يَدْعُو إِلَى الْوَطْءِ وَيُفْضِي إِلَيْهِ، لأَِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَنَعَ التَّمَاسَّ قَبْل الْكَفَّارَةِ حَيْثُ
__________
(1) الدسوقي مع الشرح الكبير 2 / 417، وجواهر الإكليل 1 / 362.
(2) القليوبي على المنهاج 4 / 3، والمغني لابن قدامة 7 / 283.
(3) المغني لابن قدامة 7 / 283.(13/137)
قَال: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْل أَنْ يَتَمَاسَّا} (1) ، وَالتَّمَاسُّ شَامِلٌ لِلْوَطْءِ وَدَوَاعِيهِ، فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ الْكُل بِالنَّصِّ.
وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ جَوَازُ التَّقْبِيل لِلشَّفَقَةِ، كَأَنْ قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ مَثَلاً (2) .
وَالْقَوْل الثَّانِي لِلشَّافِعِيَّةِ - وَهِيَ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِالتَّلَذُّذِ بِمَا دُونَ الْجِمَاعِ مِنَ الْقُبْلَةِ وَاللَّمْسِ وَالْمُبَاشَرَةِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ (3) . (ر: ظِهَارٌ) .
أَثَرُ التَّقْبِيل فِي الإِْيلاَءِ:
22 - الإِْيلاَءُ: حَلِفُ الزَّوْجِ بِالاِمْتِنَاعِ عَنْ وَطْئِهِ زَوْجَتَهُ مُدَّةَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرَ. وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْحَلِفَ بِالاِمْتِنَاعِ عَنِ التَّقْبِيل وَاللَّمْسِ وَالْمُبَاشَرَةِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ لاَ يُعْتَبَرُ إِيلاَءً. وَاتَّفَقُوا أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْفَيْءَ أَيْ لِلرُّجُوعِ عَنِ الإِْيلاَءِ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بِالْجِمَاعِ فِي الْفَرْجِ، فَلاَ يَنْحَل الإِْيلاَءُ بِوَطْءٍ فِي غَيْرِ الْفَرْجِ، وَلاَ بِالتَّقْبِيل أَوِ اللَّمْسِ وَالْمُبَاشَرَةِ بِشَهْوَةٍ، لأَِنَّ حَقَّهَا هُوَ الْجِمَاعُ فِي الْقُبُل، فَلاَ يَحْصُل الرُّجُوعُ بِدُونِهِ، وَلأَِنَّهُ هُوَ الْمَحْلُوفُ عَلَى تَرْكِهِ، وَلاَ يَزُول الضَّرَرُ إِلاَّ بِالإِْتْيَانِ بِهِ (4) . (ر: إيلاَءٌ) .
__________
(1) سورة المجادلة / 173.
(2) ابن عابدين 2 / 575، 576، وجواهر الإكليل 1 / 371، 373، وحاشية القليوبي 4 / 18، والمغني 7 / 348.
(3) القليوبي 4 / 18، والمغني لابن قدامة 7 / 348.
(4) البدائع 3 / 173، 178، وابن عابدين 2 / 522، وجواهر الإكليل 1 / 365، 369، والقليوبي 4 / 8، 13، والمغني 7 / 324.(13/138)
أَثَرُ التَّقْبِيل فِي حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ:
23 - التَّقْبِيل إِذَا لَمْ يَكُنْ بِشَهْوَةٍ لاَ يُؤَثِّرُ فِي حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ، فَمَنْ قَبَّل امْرَأَةً بِغَيْرِ شَهْوَةٍ فَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِبِنْتِهَا أَوْ أُمِّهَا، وَيَجُوزُ لَهَا الزَّوَاجُ بِأُصُولِهِ أَوْ فُرُوعِهِ، وَكَذَلِكَ مَنْ قَبَّل أُمَّ امْرَأَتِهِ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ لاَ تَحْرُمُ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ. وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، إِلاَّ إِذَا كَانَتِ الْقُبْلَةُ عَلَى الْفَمِ، فَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ، وَأَلْحَقَ بَعْضُهُمُ الْخَدَّ بِالْفَمِ (1) .
أَمَّا التَّقْبِيل أَوِ الْمَسُّ بِشَهْوَةٍ فَاخْتَلَفُوا فِي انْتِشَارِ الْحُرْمَةِ بِهِمَا، فَقَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) الْمُبَاشَرَةُ فِي غَيْرِ الْفَرْجِ وَالتَّقْبِيل وَلَوْ بِشَهْوَةٍ لاَ يُحَرِّمُ عَلَى الْمُقَبِّل أُصُول مَنْ يُقَبِّلُهَا وَلاَ فُرُوعَهَا، زَوْجَةً كَانَتْ أَمْ أَجْنَبِيَّةً (2) ، لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَأُحِل لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} (3) .
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ التَّقْبِيل وَاللَّمْسَ بِشَهْوَةٍ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 280، 283، والاختيار 3 / 88، والدسوقي 2 / 251، وجواهر الإكليل 1 / 289، وقليوبي 3 / 241، والمغني 6 / 579.
(2) ابن عابدين 2 / 282، 283، 5 / 243، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 2 / 251، وجواهر الإكليل 1 / 289، والقليوبي 3 / 241، ونهاية المحتاج 6 / 174، والمغني 6 / 579، 580.
(3) سورة النساء / 24.(13/138)
يُوجِبُ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ، فَمَنْ مَسَّ أَوْ قَبَّل امْرَأَةً بِشَهْوَةٍ لاَ تَحِل لَهُ أُصُولُهَا وَلاَ فُرُوعُهَا، وَحَرُمَتْ عَلَيْهَا أُصُولُهُ وَفُرُوعُهُ. وَمَنْ قَبَّل أُمَّ امْرَأَتِهِ بِشَهْوَةٍ حَرُمَتْ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ.
24 - وَإِذَا أَقَرَّ بِالتَّقْبِيل وَأَنْكَرَ الشَّهْوَةَ، قِيل: لاَ يُصَدَّقُ، لأَِنَّهُ لاَ يَكُونُ إِلاَّ عَنْ شَهْوَةٍ، فَلاَ يُقْبَل إِنْكَارُهُ إِلاَّ أَنْ يَظْهَرَ خِلاَفُهُ. وَقِيل: يُصَدَّقُ، وَقِيل: بِالتَّفْصِيل بَيْنَ كَوْنِهِ عَلَى الرَّأْسِ وَالْجَبْهَةِ وَالْخَدِّ فَيُصَدَّقُ، أَوْ عَلَى الْفَمِ فَلاَ، وَهَذَا هُوَ الأَْرْجَحُ (1) .
وَاسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ عَلَى انْتِشَارِ الْحُرْمَةِ بِالْمَسِّ وَالتَّقْبِيل بِشَهْوَةٍ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} (2) قَالُوا: الْمُرَادُ مِنَ النِّكَاحِ الْوَطْءُ، وَالتَّقْبِيل بِشَهْوَةٍ دَاعٍ إِلَى الْوَطْءِ، فَيُقَامُ مَقَامَهُ احْتِيَاطًا لِلْحُرْمَةِ (3) . وَبِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ نَظَرَ إِلَى فَرْجِ امْرَأَةٍ بِشَهْوَةِ أَوْ لَمَسَهَا بِشَهْوَةٍ حَرُمَتْ عَلَيْهِ أُمُّهَا وَابْنَتُهَا، وَحَرُمَتْ عَلَى ابْنِهِ وَأَبِيهِ (4) .
__________
(1) ابن عابدين 2 / 282، 283، والبدائع 2 / 260، 261.
(2) سورة النساء / 22.
(3) البدائع 2 / 260، 261، الاختيار 3 / 88، 89، ابن عابدين 2 / 281ـ 283.
(4) حديث: " من نظر إلى فرج امرأة بشهوة أو لمسها بشهوة حرمت عليه أمها وابنتها وحرمت على ابنه وأبيه " أخرجه ابن أبي شيبة 4 / 165 ط السلفية) من حديث أبي هانئ بلفظ " من نظر إلى فرج امرأة لم تحل له أمها ولا أبنتها " وإسناده ضعيف لضعف حجاج بن أرطاة، قال عنه الحافظ ابن حجر في التقريب (152 ط دار الرشيد) صدوق كثير الخطأ والتدليس أ. هـ وقد عنعن.(13/139)
هَذَا وَلاَ تَنْتَشِرُ الْحُرْمَةُ بِالتَّقْبِيل وَلَوْ بِشَهْوَةٍ بَيْنَ الإِْخْوَةِ وَالأَْخَوَاتِ، فَلَوْ قَبَّل أُخْتَ امْرَأَتِهِ وَلَوْ بِشَهْوَةٍ لاَ تَحْرُمُ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ اتِّفَاقًا. (1) وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (نِكَاحٌ) .
__________
(1) المراجع السابقة.(13/139)
تَقْرِيرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّقْرِيرُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ قَرَّرَ، يُقَال قَرَّرَ الشَّيْءَ فِي الْمَكَانِ: ثَبَّتَهُ، وَقَرَّرَ الشَّيْءَ فِي مَحَلِّهِ: تَرَكَهُ قَارًّا، وَقَرَّرَ فُلاَنًا بِالذَّنْبِ: حَمَلَهُ عَلَى الاِعْتِرَافِ بِهِ، وَقَرَّرَ الْمَسْأَلَةَ أَوِ الرَّأْيَ وَضَّحَهُ وَحَقَّقَهُ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لَهُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، وَهُوَ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ - كَمَا ذُكِرَ فِي أَقْسَامِ السُّنَّةِ: سُكُوتُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ إنْكَارِ قَوْلٍ قِيل بَيْن يَدَيْهِ أَوْ فِي عَصْرِهِ وَعَمِل بِهِ، أَوْ سُكُوتُهُ عَنْ إنْكَارِ فِعْلٍ حِينَ فُعِل بَيْنَ يَدَيْهِ أَوْ فِي عَصْرِهِ وَعَلِمَ بِهِ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الإِْقْرَارُ:
2 - الإِْقْرَارُ لُغَةً: الإِْذْعَانُ لِلْحَقِّ وَالاِعْتِرَافُ بِهِ. يُقَال: أَقَرَّ بِالْحَقِّ أَيِ اعْتَرَفَ بِهِ.
__________
(1) لسان العرب والصحاح للجوهري، ومشارق الأنوار والمعجم الوسيط، والقاموس المحيط مادة: " قرر ".
(2) إرشاد الفحول ص 41.(13/140)
وَاصْطِلاَحًا: إِخْبَارٌ عَنْ ثُبُوتِ حَقٍّ لِلْغَيْرِ عَلَى نَفْسِهِ، وَهُوَ بِذَلِكَ قَدْ يَكُونُ أَثَرًا لِلتَّقْرِيرِ (1) .
ب - السُّكُوتُ:
3 - السُّكُوتُ: تَرْكُ الْكَلاَمِ وَالسُّكُوتُ عَنِ الأَْمْرِ عَدَمُ الإِْنْكَارِ، وَالصِّلَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّقْرِيرِ هِيَ أَنَّ السُّكُوتَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ قَدْ يَكُونُ تَقْرِيرًا وَقَدْ لاَ يَكُونُ.
وَمِنَ الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ: لاَ يُنْسَبُ لِسَاكِتٍ قَوْلٌ، لَكِنَّ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ اسْتُثْنِيَ بِهَا مَسَائِل عَدِيدَةٌ اعْتُبِرَ السُّكُوتُ فِيهَا تَقْرِيرًا وَمِنْ ذَلِكَ:
سُكُوتُ الْبِكْرِ عِنْدَ اسْتِئْذَانِهَا فِي النِّكَاحِ.
وَقَبُول التَّهْنِئَةِ بِالْمَوْلُودِ وَالسُّكُوتُ عَلَى ذَلِكَ يُعْتَبَرُ إِقْرَارًا بِالنَّسَبِ.
قَال الزَّرْكَشِيُّ: السُّكُوتُ بِمُجَرَّدِهِ يُنَزَّل مَنْزِلَةَ التَّصْرِيحِ بِالنُّطْقِ فِي حَقِّ مَنْ تَجِبُ لَهُ الْعِصْمَةُ، وَلِهَذَا كَانَ تَقْرِيرُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ شَرْعِهِ، وَكَانَ الإِْجْمَاعُ السُّكُوتِيُّ حُجَّةً عِنْدَ كَثِيرِينَ. أَمَّا غَيْرُ الْمَعْصُومِ فَالأَْصْل أَنَّهُ لاَ يُنَزَّل مَنْزِلَةَ نُطْقِهِ إِلاَّ إِذَا قَامَتْ قَرَائِنُ تَدُل عَلَى الرِّضَا فَيُنَزَّل مَنْزِلَةَ النُّطْقِ (2) .
__________
(1) لسان العرب، المصباح المنير، والكليات للكفوي مادة: " قرر "، والهداية 1 / 180.
(2) لسان العرب، والمصباح المنير، والنهاية لابن الأثير مادة: " سكت "، والمنثور في القواعد 2 / 205، وحاشية ابن عابدين 2 / 591.(13/140)
ج - الإِْجَازَةُ:
4 - مِنْ مَعَانِي الإِْجَازَةِ: الإِْنْفَاذُ، يُقَال: أَجَازَ الشَّيْءَ إِذَا أَنْفَذَهُ وَجَوَّزَ لَهُ مَا صَنَعَ وَأَجَازَ لَهُ: أَيْ سَوَّغَ لَهُ ذَلِكَ وَأَجَزْتُ الْعَقْدَ: جَعَلْتُهُ جَائِزًا نَافِذًا وَهِيَ بِهَذَا الْمَعْنَى تَكُونُ كَالتَّقْرِيرِ لِلأَْمْرِ الَّذِي حَدَثَ، وَمِنْ ذَلِكَ إِجَازَةُ الْمَالِكِ لِتَصَرُّفِ الْفُضُولِيِّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ (1) .
(الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ) :
أَوَّلاً - التَّقْرِيرُ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ:
5 - ذَكَرَ الأُْصُولِيُّونَ التَّقْرِيرَ بِاعْتِبَارِهِ قِسْمًا مِنْ أَقْسَامِ السُّنَّةِ، وَصُورَتُهُ: أَنْ يَسْكُتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ إِنْكَارِ قَوْلٍ قِيل بَيْنَ يَدَيْهِ أَوْ فِي عَصْرِهِ وَعَلِمَ بِهِ أَوْ سَكَتَ عَنْ إِنْكَارِ فِعْلٍ فُعِل بَيْنَ يَدَيْهِ أَوْ فِي عَصْرِهِ وَعَلِمَ بِهِ. وَيُلْحَقُ بِذَلِكَ: قَوْل الصَّحَابِيِّ: كُنَّا نَفْعَل كَذَا، وَكَانُوا يَفْعَلُونَ كَذَا وَأَضَافَهُ إِلَى عَصْرِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ مِمَّا لاَ يَخْفَى مِثْلُهُ عَلَيْهِ.
6 - وَالتَّقْرِيرُ حُجَّةٌ وَيَدُل عَلَى الْجَوَازِ وَرَفْعِ الْحَرَجِ، لَكِنْ ذَلِكَ لاَ بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَعَ قُدْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الإِْنْكَارِ، وَكَوْنِ الْمُقَرَّرِ مُنْقَادًا
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، والصحاح للجوهري مادة: " جوز "، والهداية 3 / 68، وراجع مصطلح إجازة (1 / 303، ما بعدها و (9 / 115، وما بعدها) من الموسوعة الفقهية.(13/141)
لِلشَّرْعِ، وَكَوْنِ الأَْمْرِ الْمُقَرَّرِ ثَابِتًا لَمْ يَسْبِقِ النَّهْيُ عَنْهُ.
لأَِنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ جَائِزًا لَمَا سَكَتَ عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ (1) .
وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إِلَى أَنَّ التَّقْرِيرَ لاَ يَدُل عَلَى الْجَوَازِ لأَِنَّ السُّكُوتَ وَعَدَمَ الإِْنْكَارِ يَحْتَمِل أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَكَتَ لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ التَّحْرِيمُ فَلاَ يَكُونُ الْفِعْل إِذْ ذَاكَ حَرَامًا، وَيُحْتَمَل أَنَّهُ سَكَتَ عَنْهُ لأَِنَّ الإِْنْكَارَ لَمْ يَنْجَحْ فِيهِ وَعَلِمَ أَنَّ إِنْكَارَهُ ثَانِيًا لاَ يُفِيدُ فَلَمْ يُعَاوِدْهُ، وَبِذَلِكَ لاَ يَصْلُحُ التَّقْرِيرُ دَلِيلاً عَلَى الْجَوَازِ وَالنَّسْخِ (2) .
وَفِي الْمَوْضُوعِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
ثَانِيًا - التَّقْرِيرُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ:
7 - يَأْتِي التَّقْرِيرُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ بِمَعَانٍ ثَلاَثَةٍ:
الأَْوَّل: بِمَعْنَى تَثْبِيتِ حَقِّ الْمُقَرَّرِ فِي شَيْءٍ وَتَأْكِيدِهِ:
أَوْرَدَ الْحَنَفِيَّةُ التَّقْرِيرَ بِهَذَا الْمَعْنَى فِي مَسْأَلَةِ طَلَبِ الشُّفْعَةِ، إِذْ أَنَّهُمْ يَقْسِمُونَ طَلَبَ الشُّفْعَةِ إِلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ:
طَلَبُ الْمُوَاثَبَةِ، وَطَلَبُ التَّقْرِيرِ، وَطَلَبُ الْخُصُومَةِ وَالْمِلْكِ، فَطَلَبُ الْمُوَاثَبَةِ هُوَ طَلَبُ
__________
(1) إرشاد الفحول ص 41، 61، والأحكام للآمدي 1 / 189، 2 / 38، 99، والبزدوي 3 / 148، المستصفى 2 / 25.
(2) المراجع السابقة.(13/141)
الشُّفْعَةِ فِي مَجْلِسِ الْعِلْمِ بِهَا، لِبَيَانِ أَنَّهُ غَيْرُ مُعْرِضٍ عَنِ الشُّفْعَةِ وَالإِْشْهَادُ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِيهِ.
وَطَلَبُ التَّقْرِيرِ وَالإِْشْهَادِ هُوَ أَنْ يُشْهِدَ عَلَى طَلَبِهِ عِنْدَ الْبَائِعِ إِنْ كَانَ الْمَبِيعُ فِي يَدِهِ، أَوْ عِنْدَ الْمُبْتَاعِ إِنْ كَانَ الْبَائِعُ قَدْ سَلَّمَهُ الْمَبِيعَ أَوْ عِنْدَ الْعَقَارِ.
فَإِذَا فَعَل ذَلِكَ اسْتَقَرَّتْ شُفْعَتُهُ. وَهَذَا الطَّلَبُ يُسَمَّى طَلَبَ التَّقْرِيرِ أَوْ طَلَبَ الإِْشْهَادِ؛ لأَِنَّهُ بِذَلِكَ قَرَّرَ حَقَّهُ وَأَكَّدَهُ.
وَالشَّفِيعُ إِنَّمَا يَحْتَاجُ إِلَى طَلَبِ التَّقْرِيرِ بَعْدَ طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ إِذَا لَمْ يُمْكِنْهُ الإِْشْهَادُ عِنْدَ طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ. أَمَّا إِذَا اسْتَطَاعَ عِنْدَ طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ الإِْشْهَادَ عِنْدَ الْبَائِعِ أَوِ الْمُشْتَرِي أَوِ الْعَقَارِ فَذَلِكَ يَكْفِيهِ وَيَقُومُ مَقَامَ الطَّلَبَيْنِ، وَالإِْشْهَادُ إِنَّمَا هُوَ لإِِثْبَاتِ الْحَقِّ عِنْدَ التَّجَاحُدِ (1) .
هَذَا وَبَقِيَّةُ الْمَذَاهِبِ تَذْكُرُ الإِْشْهَادَ دُونَ لَفْظِ التَّقْرِيرِ، وَفِي اعْتِبَارِ الإِْشْهَادِ شَرْطًا لاِسْتِقْرَارِ الشُّفْعَةِ أَوْ غَيْرَ شَرْطٍ. يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (إِشْهَادٌ، وَشُفْعَةٌ)
الثَّانِي: بِمَعْنَى اسْتِمْرَارِ الأَْمْرِ الْمَوْجُودِ وَإِبْقَائِهِ عَلَى حَالِهِ، وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ مَا يَأْتِي:
أ - فِي الشَّرِكَةِ:
8 - إِذَا مَاتَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِالتَّرِكَةِ دَيْنٌ وَلاَ دِيَةٌ فَلِلْوَارِثِ الرَّشِيدِ الْخِيَارُ بَيْنَ الْقِسْمَةِ
__________
(1) البدائع 5 / 18، ابن عابدين 5 / 135 إلى 143، وفتح القدير 8 / 308، ومجلة الأحكام العدلية المواد 1028، 1029، 1030، 1031 وشرحها للأتاسي 3 / 602.(13/142)
وَتَقْرِيرِ الشَّرِكَةِ، فَإِنْ كَانَ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ فَلَيْسَ لِلْوَارِثِ تَقْرِيرُ الشَّرِكَةِ إِلاَّ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ (1) . (ر: شَرِكَةٌ)
ب - فِي الْقِرَاضِ:
9 - إِذَا مَاتَ الْمَالِكُ وَأَرَادَ الْوَارِثُ الاِسْتِمْرَارَ عَلَى الْعَقْدِ، فَإِنْ كَانَ الْمَال نَاضًّا فَلَهُمَا ذَلِكَ بِأَنْ يَسْتَأْنِفَا عَقْدًا بِشَرْطِهِ، قَال النَّوَوِيُّ: وَهَل يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ التَّرْكِ وَالتَّقْرِيرِ بِأَنْ يَقُول الْوَارِثُ: تَرَكْتُكَ أَوْ قَرَّرْتُكَ عَلَى مَا كُنْتَ عَلَيْهِ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا نَعَمْ لِفَهْمِ الْمَعْنَى.
وَإِذَا مَاتَ عَامِل الْمُضَارَبَةِ وَأَرَادَ الْمَالِكُ تَقْرِيرَ وَارِثِ الْعَامِل مَكَانَهُ فَتَقْرِيرُهُ مُضَارَبَةٌ مُبْتَدَأَةٌ لاَ تَجُوزُ إِلاَّ عَلَى نَقْدٍ مَضْرُوبٍ (2) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُضَارَبَةٍ (قِرَاضٌ) .
ج - فِي الْقَضَاءِ::
10 - الأَْصْل أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ نَقْضُ حُكْمٍ سَابِقٍ إِذَا لَمْ يُخَالِفْ نَصًّا أَوْ إِجْمَاعًا أَوْ قِيَاسًا جَلِيًّا. بَل كَانَ مُجْتَهَدًا فِيهِ، وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ. لَكِنْ هَل تَقْرِيرُ الْقَاضِي مَا رُفِعَ إِلَيْهِ يُعْتَبَرُ حُكْمًا لاَ يَجُوزُ نَقْضُهُ؟
عَقَدَ ابْنُ فَرْحُونَ فِي تَبْصِرَتِهِ فَصْلاً بِعِنْوَانِ " تَقْرِيرُ الْحَاكِمِ مَا رُفِعَ إِلَيْهِ. قَال: اخْتَلَفَ أَهْل الْمَذْهَبِ (يَعْنِي الْمَالِكِيَّةَ) هَل يَكُونُ تَقْرِيرُ الْحَاكِمِ
__________
(1) روضة الطالبين 4 / 283، 284، والمغني 5 / 22.
(2) روضة الطالبين 5 / 143، وجواهر الإكليل 2 / 177، ومنتهى الإرادات 2 / 336.(13/142)
عَلَى الْوَاقِعَةِ حُكْمًا بِالْوَاقِعِ فِيهَا أَمْ لاَ؟ كَمَا إِذَا زَوَّجَتِ امْرَأَةٌ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا وَرُفِعَ ذَلِكَ إِلَى قَاضٍ حَنَفِيٍّ فَأَقَرَّهُ وَأَجَازَهُ ثُمَّ عُزِل، قَال ابْنُ الْقَاسِمِ لَيْسَ لِغَيْرِهِ فَسْخُهُ وَإِقْرَارُهُ عَلَيْهِ كَالْحُكْمِ بِهِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ مُحْرِزٍ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ، يُرِيدُ أَنَّ ذَلِكَ كَالْحُكْمِ فَلاَ يَعْتَرِضُهُ قَاضٍ آخَرُ، وَقَال عَبْدُ الْمَلِكِ: لَيْسَ بِحُكْمٍ وَلِغَيْرِهِ فَسْخُهُ، وَهَذَا بِخِلاَفِ مَا لَوْ رُفِعَ لَهُ فَقَال: لاَ أُجِيزُ النِّكَاحَ بِغَيْرِ وَلِيٍّ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحْكُمَ بِفَسْخِهِ فَهَذِهِ فَتْوَى وَلِغَيْرِهِ الْحُكْمُ فِي تِلْكَ الْوَاقِعَةِ بِمَا يَرَاهُ (1) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي: (قَضَاءٌ) .
الثَّالِثُ - التَّقْرِيرُ بِمَعْنَى طَلَبِ الإِْقْرَارِ مِنَ الْمُتَّهَمِ وَحَمْلُهُ عَلَى الاِعْتِرَافِ
11 - لِلْقَاضِي تَقْرِيرُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَذَلِكَ بِأَنْ يَطْلُبَ الْقَاضِي مِنْهُ الْجَوَابَ إِمَّا بِالإِْقْرَارِ أَوْ بِالإِْنْكَارِ.
وَإِقْرَارُ الْمُكْرَهِ لاَ يُعْمَل بِهِ فِي الْجُمْلَةِ. لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ جَعَلُوا مِنْ بَابِ السِّيَاسَةِ الشَّرْعِيَّةِ مُرَاعَاةَ شَوَاهِدِ الْحَال وَأَوْصَافَ الْمُتَّهَمِ وَقُوَّةَ التُّهْمَةِ فَأَجَازُوا التَّوَصُّل إِلَى الإِْقْرَارِ بِالْحَقِّ بِمَا يَرَاهُ الْحَاكِمُ اسْتِنَادًا إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ} (2) وَقَدْ فَعَل ذَلِكَ
__________
(1) التبصرة بهامش العلي المالك 1 / 89، وشرح منتهى الإرادات 3 / 474.
(2) سورة يوسف / 27.(13/143)
عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ لَمَّا بَعَثَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ وَالزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ فِي أَثَرِ الْمَرْأَةِ الَّتِي حَمَلَتْ خِطَابَ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى أَهْل مَكَّةَ، وَفِي الْكِتَابِ إِخْبَارٌ بِمَا عَزَمَ عَلَيْهِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمَسِيرِ إِلَيْهِمْ، فَأَدْرَكَ عَلِيٌّ وَالزُّبَيْرُ الْمَرْأَةَ وَاسْتَنْزَلاَهَا وَالْتَمَسَا فِي رَحْلِهَا الْكِتَابَ فَلَمْ يَجِدَا شَيْئًا فَقَال لَهَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَحْلِفُ بِاَللَّهِ مَا كَذَبَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلاَ كَذَبْنَا، وَلْتُخْرِجِنَّ لَنَا هَذَا الْكِتَابَ أَوْ لَنَكْشِفَنَّكِ، فَلَمَّا رَأَتِ الْجِدَّ مِنْهُ اسْتَخْرَجَتِ الْكِتَابَ مِنْ قُرُونِ رَأْسِهَا (1) .
لَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا هَل يَكُونُ ذَلِكَ لِلْقَاضِي أَوْ لِوَالِي الْمَظَالِمِ؟
فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَبَعْضِ أَصْحَابِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْقَاضِي وَلِلْوَالِي ضَرْبُ الْمُتَّهَمِ ضَرْبَ تَقْرِيرٍ لأَِنَّ الْقَاضِيَ نَائِبٌ عَنِ الإِْمَامِ فِي تَنْفِيذِ الأَْحْكَامِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَبَعْضِ أَصْحَابِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ يَكُونُ ذَلِكَ لِوَالِي الْمَظَالِمِ وَلاَ يَكُونُ لِلْقَاضِي، وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْل أَنَّ الضَّرْبَ الْمَشْرُوعَ هُوَ ضَرْبُ الْحُدُودِ وَالتَّعْزِيرِ وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ ثُبُوتِ أَسْبَابِهَا وَتَحَقُّقِهَا (2) .
__________
(1) حديث: " بعث علي والزبير في أثر المرأة التي حملت خطاب حاطب ". أخرجه البخاري (الفتح 6 / 143ط السلفية) ، ومسلم (4 / 1941 ـ 1942 ط الحلبي) .
(2) ابن عابدين 3 / 148، 188، 195، والتبصرة 2 / 139، 143، 147، والأحكام السلطانية للماوردي 90 - 91، ومعين الحكام ص 211، 212، والطرق الحكمية من 101 إلى 104.(13/143)
12 - قَال ابْنُ الْقَيِّمِ: الدَّعَاوَى قِسْمَانِ: دَعْوَى تُهْمَةٍ وَدَعْوَى غَيْرِ تُهْمَةٍ.
فَدَعْوَى التُّهْمَةِ أَنْ يَدَّعِيَ فِعْل مُحَرَّمٍ عَلَى الْمَطْلُوبِ يُوجِبُ عُقُوبَتَهُ مِثْل قَتْلٍ أَوْ قَطْعِ طَرِيقٍ أَوْ سَرِقَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْعُدْوَانِ الَّذِي يَتَعَذَّرُ إِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ فِي غَالِبِ الأَْحْوَال.
وَدَعْوَى غَيْرِ التُّهْمَةِ كَأَنْ يَدَّعِيَ عَقْدًا مِنْ بَيْعٍ أَوْ قَرْضٍ أَوْ رَهْنٍ أَوْ ضَمَانٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَكُلٌّ مِنَ الْقِسْمَيْنِ قَدْ يَكُونُ حَدًّا مَحْضًا كَالشُّرْبِ وَالزِّنَى، وَقَدْ يَكُونُ حَقًّا مَحْضًا لآِدَمِيٍّ كَالأَْمْوَال، وَقَدْ يَكُونُ مُتَضَمِّنًا لِلأَْمْرَيْنِ كَالسَّرِقَةِ وَقَطْعِ الطَّرِيقِ. فَهَذَا الْقِسْمُ (أَيْ دَعْوَى غَيْرِ التُّهْمَةِ) إِنْ أَقَامَ الْمُدَّعِي حُجَّةً شَرْعِيَّةً وَإِلاَّ فَالْقَوْل قَوْل الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَعَ يَمِينِهِ لِمَا رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لاَدَّعَى نَاسٌ دِمَاءَ رِجَالٍ وَأَمْوَالَهُمْ وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ (1) .
13 - أَمَّا الْقِسْمُ الأَْوَّل مِنَ الدَّعَاوَى: وَهُوَ دَعَاوَى التُّهَمِ وَهِيَ دَعْوَى الْجِنَايَةِ وَالأَْفْعَال الْمُحَرَّمَةِ كَدَعْوَى الْقَتْل وَقَطْعِ الطَّرِيقِ وَالسَّرِقَةِ
__________
(1) حديث: " لو يعطى الناس بداعوهم لا دعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه ". أخرجه مسلم 3 / 1336 ط الحلبي) .(13/144)
وَالْقَذْفِ وَالْعُدْوَانِ فَهَذَا يَنْقَسِمُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِيهِ إِلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ فَإِنَّ الْمُتَّهَمَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بَرِيئًا لَيْسَ مِنْ أَهْل تِلْكَ التُّهْمَةِ، أَوْ فَاجِرًا مِنْ أَهْلِهَا، أَوْ مَجْهُول الْحَال لاَ يَعْرِفُ الْوَالِي وَالْحَاكِمُ. فَإِنْ كَانَ بَرِيئًا لَمْ تَجُزْ عُقُوبَتُهُ اتِّفَاقًا.
وَاخْتَلَفُوا فِي عُقُوبَةِ الْمُتَّهَمِ لَهُ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ يُعَاقَبُ صِيَانَةً لِتَسَلُّطِ أَهْل الشَّرِّ وَالْعُدْوَانِ عَلَى أَعْرَاضِ الْبُرَآءِ.
قَال مَالِكٌ وَأَشْهَبُ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: لا أَدَبَ عَلَى الْمُدَّعِي إِلاَّ أَنْ يَقْصِدَ أَذِيَّةَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَعَيْبَهُ وَشَتْمَهُ فَيُؤَدَّبُ. وَقَال أَصْبَغُ: يُؤَدَّبُ قَصَدَ أَذِيَّتَهُ أَوْ لَمْ يَقْصِدْ.
14 - (الْقِسْمُ الثَّانِي) : أَنْ يَكُونَ الْمُتَّهَمُ مَجْهُول الْحَال لاَ يُعْرَفُ بِبِرٍّ وَلاَ فُجُورٍ فَهَذَا يُحْبَسُ حَتَّى يَنْكَشِفَ حَالُهُ عِنْدَ عَامَّةِ عُلَمَاءِ الإِْسْلاَمِ. وَالْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ عِنْدَ أَكْثَرِ الأَْئِمَّةِ أَنَّهُ يَحْبِسُهُ الْقَاضِي وَالْوَالِي. هَكَذَا نَصَّ عَلَيْهِ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ وَهُوَ مَنْصُوصُ الإِْمَامِ أَحْمَدَ وَمُحَقِّقِي أَصْحَابِهِ وَذَكَرَهُ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَال الإِْمَامُ أَحْمَدُ <: قَدْ حَبَسَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تُهْمَةٍ > قَال أَحْمَدُ: وَذَلِكَ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لِلْحَاكِمِ أَمْرُهُ. ثُمَّ الْحَاكِمُ قَدْ يَكُونُ مَشْغُولاً عَنْ تَعْجِيل الْفَصْل وَقَدْ يَكُونُ عِنْدَهُ حُكُومَاتٌ سَابِقَةٌ فَيَكُونُ الْمَطْلُوبُ مَحْبُوسًا مُعَوَّقًا مِنْ حِينِ يُطْلَبُ إِلَى أَنْ يُفْصَل بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَصْمِهِ وَهَذَا حَبْسٌ بِدُونِ التُّهْمَةِ فَفِي التُّهْمَةِ أَوْلَى.(13/144)
وَمِنْهُمْ مَنْ قَال: الْحَبْسُ فِي التُّهَمِ إنَّمَا هُوَ لِوَالِي الْحَرْبِ دُونَ الْقَاضِي، وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ كَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيِّ وَالْمَاوَرْدِيِّ وَغَيْرِهِمَا وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ مِنَ الْمُصَنِّفِينَ فِي أَدَبِ الْقُضَاةِ وَغَيْرِهِمْ وَاخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِ الْحَبْسِ فِي التُّهْمَةِ هَل هُوَ مُقَدَّرٌ أَوْ مَرْجِعُهُ إِلَى اجْتِهَادِ الْوَالِي وَالْحَاكِمِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ ذَكَرَهُمَا الْمَاوَرْدِيُّ وَأَبُو يَعْلَى وَغَيْرُهُمَا فَقَال الزُّبَيْرِيُّ: هُوَ مُقَدَّرٌ بِشَهْرٍ وَقَال الْمَاوَرْدِيُّ: غَيْرُ مُقَدَّرٍ (1) .
15 - (الْقِسْمُ الثَّالِثُ) : أَنْ يَكُونَ الْمُتَّهَمُ مَعْرُوفًا بِالْفُجُورِ كَالسَّرِقَةِ وَقَطْعِ الطَّرِيقِ وَالْقَتْل وَنَحْوِ ذَلِكَ. قَال ابْنُ الْقَيِّمِ: وَيَسُوغُ ضَرْبُ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْمُتَّهَمِينَ كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزُّبَيْرَ بِتَعْذِيبِ الْمُتَّهَمِ الَّذِي غَيَّبَ مَالَهُ حَتَّى أَقَرَّ بِهِ فِي قِصَّةِ ابْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ (2)
قَال شَيْخُنَا: وَاخْتَلَفُوا فِيهِ هَل الَّذِي يَضْرِبُهُ الْوَالِي دُونَ الْقَاضِي أَوْ كِلاَهُمَا أَوْ لاَ يَسُوغُ ضَرْبُهُ؟ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَضْرِبُهُ الْوَالِي أَوِ الْقَاضِي هَذَا قَوْل طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ مِنْهُمْ أَشْهَبُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَاضِي مِصْرَ فَإِنَّهُ قَال:
__________
(1) الطرق الحكمية ص 93، 100 ـ 103.
(2) حديث: " أمر النبي صلى الله عليه وسلم الزبير بتعذيب المتهم الذي غيب ماله حتى أقر به في قصة ابن أبي الحقيق ". أوردها ابن القيم في الطرق الحكمية ولم نعثر عليها في كتب الحديث التي بين أيدينا.(13/145)
يُمْتَحَنُ بِالْحَبْسِ وَالضَّرْبِ وَيُضْرَبُ بِالسَّوْطِ مُجَرَّدًا.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنَّهُ يَضْرِبُهُ الْوَالِي دُونَ الْقَاضِي وَهَذَا قَوْل بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ حَكَاهُ الْقَاضِيَانِ (أَبُو يَعْلَى وَالْمَاوَرْدِيُّ) وَوَجْهُ هَذَا أَنَّ الضَّرْبَ الْمَشْرُوعَ هُوَ ضَرْبُ الْحُدُودِ وَالتَّعْزِيرِ وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ إِثْبَاتِ أَسْبَابِهَا وَتَحَقُّقِهَا.
وَالْقَوْل الثَّالِثُ: أَنَّهُ لاَ يُضْرَبُ (1) . وَهَذَا قَوْل أَصْبَغَ وَكَثِيرٍ مِنَ الطَّوَائِفِ الثَّلاَثَةِ بَل قَوْل أَكْثَرِهِمْ لَكِنَّ حَبْسَ الْمُتَّهَمِ عِنْدَهُمْ أَبْلَغُ مِنْ حَبْسِ الْمَجْهُول.
ثُمَّ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَمُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ أَنَّهُ يُحْبَسُ حَتَّى يَمُوتَ وَنَصَّ عَلَيْهِ الإِْمَامُ أَحْمَدُ فِي الْمُبْتَدِعِ الَّذِي لَمْ يَنْتَهِ عَنْ بِدْعَتِهِ أَنَّهُ يُحْبَسُ حَتَّى يَمُوتَ، وَقَال مَالِكٌ: لاَ يُحْبَسُ إِلَى الْمَوْتِ.
وَاَلَّذِينَ جَعَلُوا عُقُوبَتَهُ لِلْوَالِي دُونَ الْقَاضِي قَالُوا: وِلاَيَةُ أَمِيرِ الْحَرْبِ مُعْتَمَدُهَا الْمَنْعُ مِنَ الْفَسَادِ فِي الأَْرْضِ وَقَمْعُ أَهْل الشَّرِّ وَالْعُدْوَانِ وَذَلِكَ لاَ يَتِمُّ إِلاَّ بِالْعُقُوبَةِ لِلْمُتَّهَمِينَ الْمَعْرُوفِينَ بِالإِْجْرَامِ بِخِلاَفِ وِلاَيَةِ الْحُكْمِ فَإِنَّ مَقْصُودَهَا إِيصَال الْحُقُوقِ إِلَى أَرْبَابِهَا قَال شَيْخُنَا: وَهَذَا الْقَوْل هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ قَوْلٌ بِجَوَازِ ذَلِكَ فِي الشَّرِيعَةِ لَكِنَّ كُل
__________
(1) في الأصل (يضرب) بدون (لا) وهو خطأ مطبعي.(13/145)
وَلِيِّ أَمْرٍ يَفْعَل مَا فُوِّضَ إِلَيْهِ فَكَمَا أَنَّ وَلِيَّ الصَّدَقَاتِ يَمْلِكُ مِنَ الْقَبْضِ وَالصَّرْفِ مَا لاَ يَمْلِكُهُ وَالِي الْخَرَاجِ وَعَكْسُهُ كَذَلِكَ وَالِي الْحَرْبِ وَوَالِي الْحُكْمِ يَفْعَل كُلٌّ مِنْهُمَا مَا اقْتَضَتْهُ وِلاَيَتُهُ الشَّرْعِيَّةُ مَعَ رِعَايَةِ الْعَدْل وَالتَّقَيُّدِ بِالشَّرِيعَةِ (1) .
__________
(1) الطرق الحكمية لابن القيم ص 103 إلى 105.(13/146)
تَقْسِيمٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّقْسِيمُ فِي اللُّغَةِ: التَّجْزِئَةُ وَالتَّفْرِيقُ، وَهُوَ مَصْدَرُ قَسَّمَ، يُقَال: قَسَّمَ الشَّيْءَ: إِذَا جَزَّأَهُ أَجْزَاءً، وَقَسَّمَ الْقَوْمَ: فَرَّقَهُمْ (1) وَيَسْتَعْمِل الأُْصُولِيُّونَ لَفْظَ التَّقْسِيمِ بِمَعْنَى حَصْرِ الأَْوْصَافِ الَّتِي يُظَنُّ صَلاَحِيَّتُهَا عِلَّةً فِي الأَْصْل.
وَقَدْ أَطْلَقَ الأُْصُولِيُّونَ مَجْمُوعَ السَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ عَلَى حَصْرِ الأَْوْصَافِ الْمَوْجُودَةِ فِي الأَْصْل - الْمَقِيسِ عَلَيْهِ - وَإِبْطَال مَا لاَ يَصْلُحُ مِنْهَا لِلْعِلِّيَّةِ، وَتَعْيِينِ الْبَاقِي لِلْعِلِّيَّةِ، وَقَدْ يَقْتَصِرُ عَلَى السَّبْرِ، وَقَدْ يَقْتَصِرُ عَلَى التَّقْسِيمِ كَمَا فَعَل الْبَيْضَاوِيُّ فِي مِنْهَاجِهِ.
قَال السَّعْدُ فِي حَاشِيَةِ الْعَضُدِ: عِنْدَ التَّحْقِيقِ الْحَصْرُ رَاجِعٌ إِلَى التَّقْسِيمِ، وَالسَّبْرُ إِلَى الإِْبْطَال (2) .
__________
(1) ترتيب القاموس المحيط، والمعجم الوسيط، وتاج العروس مادة: " قسم ".
(2) حاشية البناني على شرح جمع الجوامع 2 / 270 ط الحلبي، وشرح العضد لمختصر المنتهى الأصولي لابن حاجب الملكي مع حاشية 2 / 236 ط الكليات الأزهرية، وإرشاد الفحول / 213، وفواتح الرحموت 2 / 299 ط الأميرية، والإبهاج في شرح المنهاج 3 / 77 ط دار الكتب العلمية.(13/146)
وَأَطْلَقَ بَعْضُهُمُ التَّقْسِيمَ عَلَى كَوْنِ اللَّفْظِ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ أَمْرَيْنِ،
أَحَدُهُمَا: مَمْنُوعٌ،
وَالآْخَرُ: مُسَلَّمٌ، وَاللَّفْظُ مُحْتَمِلٌ لَهُمَا غَيْرُ ظَاهِرٍ فِي أَحَدِهِمَا (1) .
وَيُرَادُ بِالتَّقْسِيمِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ تَبْيِينُ الأَْقْسَامِ، وَيُرَادِفُهُ الْقِسْمَةُ، وَهِيَ تَعْيِينُ الْحِصَّةِ الشَّائِعَةِ بِمِقْيَاسٍ مَا، كَالْكَيْل وَالْوَزْنِ وَالذِّرَاعِ (2)
فَالْقِسْمَةُ وَالتَّقْسِيمُ لَفْظَانِ مُتَرَادِفَانِ فِي الْمَعْنَى عِنْدَ الْفُقَهَاءِ.
وَاخْتُلِفَ فِي الْقِسْمَةِ، هَل هِيَ مُجَرَّدُ إِفْرَازٍ أَوْ مُبَادَلَةٍ.
وَالإِْفْرَازُ فِي اللُّغَةِ: التَّنْحِيَةُ، وَهُوَ عَزْل شَيْءٍ عَنْ شَيْءٍ وَتَمْيِيزُهُ.
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لَهُ عَنْ ذَلِكَ (3) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ التَّقْسِيمِ وَالإِْفْرَازِ، أَنَّ التَّقْسِيمَ قَدْ يَكُونُ بِالإِْفْرَازِ، وَقَدْ يُقْصَدُ بِهِ بَيَانُ الْحِصَصِ
__________
(1) إرشاد الفحول ص 231، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي 4 77 ط المكتب الإسلامي، والبناني على شرح جمع الجوامع 2 33 ط الحلبي.
(2) طلبة الطلبة ص 121 ط المطبعة العامرة. والأقسام جمع ومفرده القسم (بالكسر) يطلق على الحصة والنصيب، المصباح المنير مادة: " قسم ".
(3) المصباح المنير مادة: " فرز " ودرر الحكام شرح مجلة الأحكام 3 / 6، 101، م1046، 1114) والموسوعة الفقهية 5 / 286.(13/147)
وَالأَْقْسَامِ دُونَ إِفْرَازٍ كَمَا فِي الْمُهَايَأَةِ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ: تَنْقِيحُ الْمَنَاطِ:
2 - التَّنْقِيحُ فِي اللُّغَةِ: التَّهْذِيبُ وَالتَّمْيِيزُ، وَالْمَنَاطُ هُوَ الْعِلَّةُ.
وَالْمُرَادُ بِتَنْقِيحِ الْمَنَاطِ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ، إِلْحَاقُ الْفَرْعِ بِالأَْصْل بِإِلْغَاءِ الْفَارِقِ، بِأَنْ يُقَال: لاَ فَرْقَ بَيْنَ الأَْصْل وَالْفَرْعِ إِلاَّ كَذَا وَكَذَا، وَذَلِكَ لاَ مَدْخَل لَهُ فِي الْحُكْمِ أَلْبَتَّةَ، فَيَلْزَمُ اشْتِرَاكُهُمَا فِي الْحُكْمِ لاِشْتِرَاكِهِمَا فِي الْمُوجِبِ لَهُ.
وَمِثَالُهُ قِيَاسُ الأَْمَةِ عَلَى الْعَبْدِ فِي سِرَايَةِ الْعِتْقِ فَإِنَّهُ لاَ فَرْقَ بَيْنَهُمَا إِلاَّ الذُّكُورَةَ، وَهَذَا الْفَرْقُ مُلْغَى بِالإِْجْمَاعِ إِذْ لاَ مَدْخَل لَهُ فِي الْعِلِّيَّةِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ تَنْقِيحِ الْمَنَاطِ وَالسَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ، أَنَّ الْحَصْرَ فِي دَلاَلَةِ السَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ لِتَعْيِينِ الْعِلَّةِ، إِمَّا اسْتِقْلاَلاً أَوِ اعْتِبَارًا، وَفِي تَنْقِيحِ الْمَنَاطِ لِتَعْيِينِ الْفَارِقِ وَإِبْطَالِهِ لاَ لِتَعْيِينِ الْعِلَّةِ (1) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
أَوَّلاً: عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ:
3 - يَعْتَبِرُ جُمْهُورُ الأُْصُولِيِّينَ السَّبْرَ وَالتَّقْسِيمَ مَسْلَكًا مِنْ مَسَالِكِ الْعِلَّةِ، وَمِنَ الْعِلَل الَّتِي تُعْرَفُ بِوَاسِطَةِ السَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ قَوْل مُجْتَهِدٍ مَثَلاً - فِي قِيَاسِ الذُّرَةِ عَلَى الْبُرِّ فِي الرِّبَوِيَّةِ: بَحَثْتُ عَنْ أَوْصَافِ الْبُرِّ فَمَا وَجَدْتُ ثَمَّ مَا يَصْلُحُ عِلَّةً لِلرِّبَوِيَّةِ فِي بَادِئِ الرَّأْيِ، إِلاَّ الطَّعْمَ أَوِ الْقُوتَ أَوِ الْكَيْل،
__________
(1) إرشاد الفحول ص 221، 222، والإبهاج في شرح المنهاج 3 / 80، 81.(13/147)
وَلَكِنَّ كُلًّا مِنَ الطَّعْمِ وَالْقُوتِ لاَ يَصْلُحُ لِذَلِكَ عِنْدَ التَّأَمُّل، فَتَعَيَّنَ الْكَيْل، وَعَلَى هَذَا يَجْرِي الرِّبَا فِي كُل الْمُقَدَّرَاتِ مِنْ مَكِيلاَتٍ أَوْ مَوْزُونَاتٍ. وَقَدْ أَنْكَرَ بَعْضُ أَهْل الأُْصُول جَعْل السَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ مَسْلَكًا لِلْعِلِّيَّةِ.
قَال ابْنُ الأَْنْبَارِيِّ فِي شَرْحِ الْبُرْهَانِ: السَّبْرُ يَرْجِعُ إِلَى اخْتِيَارِ أَوْصَافِ الْمَحَل وَضَبْطِهَا، وَالتَّقْسِيمُ يَرْجِعُ إِلَى إِبْطَال مَا يَظْهَرُ إِبْطَالُهُ مِنْهَا، فَإِذًا لاَ يَكُونُ مِنَ الأَْدِلَّةِ، وَإِنَّمَا تَسَامَحَ الأُْصُولِيُّونَ فِي ذَلِكَ (1) .
وَلِلتَّوَسُّعِ فِي أَدِلَّةِ الْفَرِيقَيْنِ، حَوْل حُجِّيَّةِ السَّبْرِ، وَالتَّقْسِيمِ، وَشُرُوطِ الاِحْتِجَاجِ بِهِ، وَأَقْسَامِهِ، وَطُرُقِ الْحَذْفِ. انْظُرِ (الْمُلْحَقَ الأُْصُولِيَّ) .
ثَانِيًا: عِنْدَ الْفُقَهَاءِ:
تَقْسِيمُ مَا يَسْتَوْلِي عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ:
4 - إِذَا ظَهَرَ الإِْمَامُ عَلَى بِلاَدِ الْحَرْبِ فَالْمُسْتَوْلَى عَلَيْهِ لاَ يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَنْوَاعٍ ثَلاَثَةٍ: الْمَتَاعُ وَالأَْرَاضِي وَالرِّقَابُ.
أَمَّا الْمَتَاعُ فَيَجِبُ عَلَى الإِْمَامِ تَخْمِيسُهُ، وَتَقْسِيمُ الأَْرْبَعَةِ الأَْخْمَاسِ عَلَى الْغَانِمِينَ، وَلاَ خِيَارَ لَهُ فِيهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا
__________
(1) إرشاد الفحول ص 213، 214 ط الحلبي، وشرح العضد لمختصر المنتهى الأصولي مع حواشيه 2 / 236 وما بعدها، والأحكام في أصول الإحكام للآمدي 3 / 264، والمنخول ص 350، وفواتح الرحموت، 2 / 299 ط الأميرية.(13/148)
غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُول} (1) لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا جَعَل لِنَفْسِهِ الْخُمُسَ فُهِمَ مِنْهُ أَنَّ الأَْرْبَعَةَ الأَْخْمَاسَ لِلْغَانِمِينَ لأَِنَّهُ أَضَافَهُ إِلَيْهِمْ (2) .
وَإِنْ رَأَى الإِْمَامُ أَنْ يَبِيعَ الْجَمِيعَ ثُمَّ يَقْسِمَ الأَْثْمَانَ فَذَلِكَ لَهُ (3) .
وَهُنَاكَ تَفَاصِيل فِي كَيْفِيَّةِ تَقْسِيمِ الْخُمُسِ تُنْظَرُ فِي " غَنِيمَةٌ ".
أَمَّا الأَْرَاضِي فَيَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ جَوَازَ تَقْسِيمِهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ (4) ، لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى فِي الأَْرَضِينَ وَغَيْرِهَا {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُول} وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسَّمَ أَرْضَ بَنِي قُرَيْظَةَ (5) وَبَنِيَّ النَّضِيرِ وَخَيْبَرَ بَيْنَ الْغَانِمِينَ (6) .
__________
(1) سورة الأنفال / 41.
(2) أحكام القرآن، للجصاص 3 / 75 ط المطبعة البهية المصرية، والزيلعي 3 / 254، وبدائع الصنائع 7 / 118 ط الجمالية، المنتقى 3 / 178، وبداية المجتهد 1 / 390 ط دار المعرفة، وكشاف القناع 3 / 88، والإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع 2 / 257.
(3) المنتقى 3 / 178.
(4) زاد المعاد 3 / 117 ط مؤسسة الرسالة، وصحيح مسلم بشرح النووي 12 / 91ط المطبعة المصرية، والبناية 5 / 686، وبدائع الصنائع 7 / 118، والقوانين الفقهية ص 100، والإقناع 2 / 257، وكشاف القناع 3 / 94.
(5) حديث: " تقسيم أرض بني قريظة " أخرجه البخاري (الفتح 6 / 329 ـ ط السلفية) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(6) حديث: " تقسيم أرض بني النضير " ذكره ابن كثير في السيرة النبوية نقلا عن ابن إسحاق في مغازيه. (السيرة 3 / 148 ـ نشر دار إحياء التراث) .(13/148)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْمَشْهُورِ - وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ - إِلَى أَنَّ أَرْضَ الزِّرَاعَةِ الْمَفْتُوحَ بَلَدُهَا عَنْوَةً، وَدُورَ الْكُفَّارِ لاَ تُقَسَّمُ، بَل تَصِيرُ وَقْفًا بِمُجَرَّدِ فَتْحِ بَلَدِهَا، وَيُصْرَفُ خَرَاجُهَا فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ (1) .
5 - ثُمَّ اخْتَلَفَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ فِي اعْتِبَارِ التَّقْسِيمِ أَمْرًا مُلْزِمًا لِلإِْمَامِ أَمْ أَنَّ لَهُ خِيَارَاتٍ أُخْرَى:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ - وَهُوَ قَوْلٌ لِلْمَالِكِيَّةِ - إِلَى أَنَّ الإِْمَامَ إِذَا فَتَحَ بَلْدَةً عَنْوَةً فَهُوَ بِالْخِيَارِ - إِنْ شَاءَ قَسَّمَهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا فَعَل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَيْبَرَ، وَإِنْ شَاءَ أَقَرَّ أَهْلَهَا عَلَيْهَا وَوَضَعَ عَلَيْهِمُ الْجِزْيَةَ وَعَلَى أَرَاضِيِهِمُ الْخَرَاجَ، كَمَا فَعَل عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِسَوَادِ الْعِرَاقِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ - وَهُوَ رِوَايَةٌ أُخْرَى عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ - بِوُجُوبِ تَقْسِيمِ الأَْرَاضِي كَالْمَتَاعِ، لإِِطْلاَقِ الآْيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَعَمَلاً بِفِعْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَرْضِ خَيْبَرَ (3) .
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ عَلَى الْمَذْهَبِ تَخْيِيرَ الإِْمَامِ بَيْنَ تَقْسِيمِ الأَْرْضِ الَّتِي فُتِحَتْ عَنْوَةً، وَبَيْنَ وَقْفِهَا
__________
(1) القوانين الفقهية ص 100 ط دار القلم، والفواكه الدواني 1 / 470، والإنصاف 4 / 190.
(2) البناية 5 / 686، والقوانين الفقهية ص 100.
(3) الإقناع 2 / 275، والإنصاف 4 / 190. وحديث: " تقسيم أرض خيبر " أخرجه البخاري (الفتح 7 / 490 ـ ط السلفية) من حديث عمر رضي الله عنه.(13/149)
بِلَفْظٍ يَحْصُل بِهِ الْوَقْفُ (1) .
وَأَمَّا الرِّقَابُ: فَيُخَيَّرُ الإِْمَامُ فِيهَا بَيْنَ عِدَّةِ خِصَالٍ، وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (أَسْرَى) .
تَقْسِيمُ التَّرِكَةِ:
6 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ تَقْسِيمِ التَّرِكَةِ إِذَا لَمْ تَكُنْ مَدِينَةً وَأُخْرِجَتْ مِنْهَا سَائِرُ الْحُقُوقِ الْمُقَدَّمَةِ عَلَى التَّقْسِيمِ بَيْنَ الْوَرَثَةِ.
أَمَّا إِذَا كَانَتِ التَّرِكَةُ مَدِينَةً بِدَيْنٍ مُسْتَغْرِقٍ لَهَا فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ - وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - عَدَمَ جَوَازِ تَقْسِيمِهَا؛ لأَِنَّ الْوَرَثَةَ لاَ يَمْلِكُونَهَا، إِذِ الدَّيْنُ الْمُسْتَغْرِقُ يَمْنَعُ مِنْ دُخُول التَّرِكَةِ فِي مِلْكِ الْوَارِثِ. فَلِذَلِكَ إِذَا ظَهَرَ دَيْنٌ عَلَى الْمَيِّتِ بَعْدَ تَقْسِيمِ التَّرِكَةِ بَيْنَ الْوَرَثَةِ بِحَسَبِ حِصَصِهِمُ الإِْرْثِيَّةِ تُفْسَخُ الْقِسْمَةُ (2) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّ تَعَلُّقَ الدَّيْنِ بِالتَّرِكَةِ لاَ يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْمِلْكِ فِيهَا لِلْوَرَثَةِ، وَإِنْ تَصَرَّفُوا فِي التَّرِكَةِ بِالتَّقْسِيمِ فَتَصَرُّفُهُمْ صَحِيحٌ، فَإِنْ قَضَوُا الدَّيْنَ وَإِلاَّ نُقِضَتْ تَصَرُّفَاتُهُمْ كَمَا لَوْ تَصَرَّفَ السَّيِّدُ فِي الْعَبْدِ الْجَانِي وَلَمْ يَقْضِ دَيْنَ الْجِنَايَةِ (3) . وَتُنْظَرُ التَّفَاصِيل فِي (إِرْثٌ، وَتَرِكَةٌ، وَقِسْمَةٌ) .
__________
(1) الإنصاف 4 / 190.
(2) تبيين الحقائق 5 / 52، ودرر الحكام شرح مجلة الأحكام 3 / 173، وجواهر الإكليل 2 / 327، 328، والقرطبي 5 / 61، والمغني 9 / 220، 221، ط الرياض.
( x663 ;) المغني 9 / 220، 221، والتحفة الخيرية على الفوائد الشنشورية ص 47 ط الحلبي.(13/149)
تَقْصِيرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّقْصِيرُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ قَصَّرَ. يُقَال: قَصَّرَ ثَوْبَهُ: إِذَا جَعَلَهُ قَصِيرًا، وَقَصَّرَ شَعْرَهُ: إِذَا أَخَذَ مِنْهُ، وَقَصَّرَ فِي الأَْمْرِ: تَوَانَى فِيهِ وَفَرَّطَ (1) . وَفِي الاِصْطِلاَحِ لاَ يَخْرُجُ عَنْ هَذِهِ الْمَعَانِي.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّعَدِّي:
2 - التَّعَدِّي فِي اللُّغَةِ: مُجَاوَزَةُ الشَّيْءِ إِلَى غَيْرِهِ (2) . وَفِي الشَّرْعِ: إِضْرَارٌ بِالْغَيْرِ بِغَيْرِ حَقٍّ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّقْصِيرِ وَالتَّعَدِّي أَنَّ التَّقْصِيرَ مِنْ بَابِ التَّرْكِ وَالإِْهْمَال، أَمَّا التَّعَدِّي فَفِيهِ عَمَلٌ وَعُدْوَانٌ.
ب - الْقَصُّ:
3 - الْقَصُّ: الأَْخْذُ مِنَ الشَّعْرِ بِالْمِقْرَاضِ خَاصَّةً، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ تَقْصِيرِ الشَّعْرِ، أَنَّ التَّقْصِيرَ إِزَالَةُ الشَّعْرِ بِأَيِّ آلَةٍ (3) .
__________
(1) لسان العرب مادة: " قصر ".
(2) مختار الصحاح مادة: " عدا ".
(3) قليوبي 2 / 118، والقاموس المحيط مادة: " قص ".(13/150)
حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ:
4 - يَخْتَلِفُ حُكْمُ التَّقْصِيرِ بِاخْتِلاَفِ مُتَعَلَّقِهِ، وَبَيَانُهُ فِيمَا يَأْتِي:
تَقْصِيرُ الشَّعْرِ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ:
5 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ تَقْصِيرَ الشَّعْرِ أَوْ حَلْقَهُ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ نُسُكٌ يُثَابُ عَلَيْهِ (1) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} (2) ، وَخَبَرِ: اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْمُحَلِّقِينَ، وَالْمُقَصِّرِينَ (3) .
وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ اسْتِبَاحَةُ مَحْظُورٍ، فَلاَ يَجِبُ بِتَرْكِهِ شَيْءٌ وَيَحْصُل التَّحَلُّل بِدُونِهِ (4) .
وَالتَّقْصِيرُ أَفْضَل لِمَنِ اعْتَمَرَ قَبْل الْحَجِّ فِي وَقْتٍ لَوْ حَلَقَ فِيهِ جَاءَ يَوْمُ النَّحْرِ وَلَمْ يَنْبُتْ لَهُ شَعْرٌ، لِيَكُونَ الْحَلْقُ لِلْحَجِّ. وَهُوَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ لِلْمَرْأَةِ، لِمَا فِي الْحَلْقِ مِنَ الْمُثْلَةِ فِي حَقِّهَا (5) .
أَمَّا هَل هُوَ رُكْنٌ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَلاَ يُجْبَرُ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 181ـ 182، وحاشية الدسوقي 2 / 46، وقليوبي 2 / 118، والمغني 3 / 390ـ 435.
(2) سورة الفتح / 27.
(3) حديث: " اللهم ارحم المحلقين والمقصرين " أخرجه البخاري ومسلم بلفظ " اللهم ارحم المحلقين قالوا: والمقصرين يا رسول الله، قال: اللهم ارحم المحلقين، قالوا: والمقصرين يا رسول الله قال: والمقصرين ": (الفتح 3 / 561 ط السلفية، ومسلم 2 / 945 ط عيسى الحلبي) .
(4) قليوبي 2 / 118، والمغني 3 / 435.
(5) المصادر السابقة.(13/150)
بِالدَّمِ، أَوْ وَاجِبٌ فَيُجْبَرُ بِالدَّمِ، وَقَدْرُ التَّقْصِيرِ مِنَ الشَّعْرِ، وَآرَاءُ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ، فَيُرْجَعُ فِي تَفْصِيلِهِ إِلَى مُصْطَلَحِ: (تَحَلُّلٌ، وَحَلْقٌ) .
التَّقْصِيرُ فِي حِفْظِ مَا اؤْتُمِنَ عَلَيْهِ:
6 - التَّقْصِيرُ يُوجِبُ الضَّمَانَ فِيمَا لاَ ضَمَانَ فِيهِ مِنَ الْمُعَامَلاَتِ، كَالْوَدِيعَةِ، وَالْوَكَالَةِ، وَالرَّهْنِ، وَالْمُسَاقَاةِ، وَالْمُضَارَبَةِ، وَالإِْجَارَةِ، لأَِنَّ الْمُقَصِّرَ مُتَسَبِّبٌ فِي تَلَفِهَا بِتَرْكِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ فِي حِفْظِهَا وَهَذَا مَحَل اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ (1) .
وَالتَّقْصِيرُ الْمُوجِبُ لِلضَّمَانِ هُوَ مَا يَعُدُّهُ النَّاسُ تَقْصِيرًا عُرْفًا فِي حِفْظِ مِثْل نَوْعِ الأَْمَانَةِ.
وَيَخْتَلِفُ التَّقْصِيرُ بِاخْتِلاَفِ طَبِيعَةِ الأَْمْرِ الْمُقَصَّرِ فِيهِ، وَيَذْكُرُ الْفُقَهَاءُ أَمْثِلَةً لِلتَّقْصِيرِ فِي أَبْوَابِهَا الْمُخْتَلِفَةِ فَلْيُرْجَعْ إِلَيْهَا.
تَقْصِيرُ الْحَاكِمِ فِي حُكْمِهِ:
7 - إِذَا قَصَّرَ الْحَاكِمُ فِي النَّظَرِ فِي مُسْتَنَدِ حُكْمِهِ، كَأَنْ يَحْكُمَ بِجَلْدِ إِنْسَانٍ أَوْ قَطْعِهِ أَوْ قَتْلِهِ بِشَهَادَةِ شُهُودٍ، فَجُلِدَ أَوْ قُتِل أَوْ قُطِعَ، فَبَانَ الشُّهُودُ غَيْرَ أَهْلٍ لِلشَّهَادَةِ: كَأَنْ بَانَا كَافِرَيْنِ، أَوْ فَاسِقَيْنِ، أَوْ صَبِيَّيْنِ، ضَمِنَ الْحَاكِمُ إِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَمْ يَبْحَثْ
__________
(1) كشاف القناع4 / 179، والوجيز 1 / 284، والفروق 4 / 27، وحاشية ابن عابدين 4 / 494، وحاشية الدسوقي 3 / 419، ونيل المآرب 1 / 408، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 341، المقنع 2 / 157.(13/151)
حَالَةَ الشُّهُودِ، أَوْ قَصَّرَ فِي الْبَحْثِ؛ لأَِنَّهُ مُتَسَبِّبٌ فِي التَّلَفِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (1) . وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْحَاكِمَ لاَ يَضْمَنُ مَا تَلِفَ بِحُكْمِهِ (2) .
أَمَّا هَل يَضْمَنُ مِنْ مَالِهِ الْخَاصِّ، أَوْ تَتَحَمَّل عَنْهُ الْعَاقِلَةُ أَوْ بَيْتُ الْمَال، فَيُرْجَعُ فِي تَفْصِيلِهِ إِلَى مُصْطَلَحِ: (ضَمَانٌ) .
تَقْصِيرُ الطَّبِيبِ:
8 - يَضْمَنُ الطَّبِيبُ إِذَا عَالَجَ الْمَرِيضَ فَقَصَّرَ فِي مُعَالَجَتِهِ، أَوْ أَخْطَأَ فِيهَا خَطَأً فَاحِشًا، وَهَذَا مَحَل اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ (3) .
(تَقْصِيرُ الإِْزَارِ:
9 - تَقْصِيرُ الإِْزَارِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَاجِبٌ إِذَا خِيفَ تَنَجُّسُهُ، وَمُحَرَّمٌ إِسْبَالُهُ لِلْخُيَلاَءِ، فَقَدْ جَاءَ فِي الأَْثَرِ مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلاَءَ لَمْ يَنْظُرِ اللَّهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (4) .
__________
(1) الوجيز 2 / 184، وقليوبي 4 / 210، والمغني 9 / 257، وحاشية الدسوقي 4 / 355.
(2) حاشية ابن عابدين 4 / 342ـ 396.
(3) الوجيز 2 / 184، وقليوبي 4 / 210، وحاشية الدسوقي 4 / 355، ونيل المآرب 1 / 434، ابن عابدين 5 / 43.
(4) حديث: " من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله. . . " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 254ـ ط السلفية) ومسلم (3 / 1652ـ ط عيسى الحلبي) واللفظ للبخاري.(13/151)
وَفِيمَا عَدَا ذَلِكَ فَإِنَّ تَقْصِيرَهُ مُسْتَحَبٌّ إِلَى نِصْفِ السَّاقِ، وَلاَ يُسْتَحَبُّ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ. وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (إِسْبَالٌ) .
(تَقْصِيرُ الصَّلاَةِ:
10 - يَنْبَغِي تَقْصِيرُ صَلاَةِ الْجَمَاعَةِ لِلإِْمَامِ الَّذِي يَخْشَى فِتْنَةَ مَنْ وَرَاءَهُ، أَوْ ضَرَرَهُمْ بِالتَّطْوِيل لِحَدِيثِ: يَا مُعَاذُ: أَفَتَّانٌ أَنْتَ؟ (1) وَلِحَدِيثِ: مَنْ أَمَّ بِالنَّاسِ فَلْيَتَجَوَّزْ، فَإِنَّ خَلْفَهُ الضَّعِيفَ وَالْكَبِيرَ وَذَا الْحَاجَةِ (2) وَهَذَا مَا لَمْ يَكُنْ مَنْ وَرَاءَهُ مَحْصُورِينَ يَرْضَوْنَ بِالتَّطْوِيل. وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ إِمَامَةٌ (6 213)
تَقْصِيرُ خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ:
11 - يُسْتَحَبُّ تَقْصِيرُ خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ، وَهَذَا مَحَل اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، لِمَا رُوِيَ مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِنَّ طُول صَلاَةِ الرَّجُل وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ مَئِنَّةٌ فِي فِقْهِهِ، فَأَطِيلُوا الصَّلاَةَ وَأَقْصِرُوا الْخُطْبَةَ. (3)
__________
(1) حديث: " يا معاذ أفتان أنت " أخرجه البخاري من حديث جابر بن عبد الله الأنصاري (فتح الباري 2 / 200 ط السلفية) .
(2) حديث: " من أم بالناس فليتجوز. . . . " أخرجه البخاري من حديث أبي مسعود (فتح الباري 2 / 200 ـ ط السلفية) .
(3) بدائع الصنائع 1 / 263، ونهاية المحتاج 2 / 326، والمغني 2 / 308، وحديث: " وإن طول صلاة الرجل وقصر خطبته. . " أخرجه مسلم (2 / 594 ـ ط عيسى الحلبي) .(13/152)
التَّقْصِيرُ فِي طَلَبِ الشُّفْعَةِ أَوْ أَرْشِ الْعَيْبِ:
12 - يَسْقُطُ حَقُّ الشُّفْعَةِ وَالرَّدُّ بِالْعَيْبِ بِالتَّقْصِيرِ فِي الْمُطَالَبَةِ بِهِمَا، وَهَذَا مَحَل اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ (1) .
أَمَّا هَل طَلَبُ الشُّفْعَةِ فَوْرِيٌّ، أَوْ عَلَى التَّرَاخِي، وَآرَاءُ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ، فَيُرْجَعُ إِلَى مُصْطَلَحَيِ: (الرَّدُّ بِالْعَيْبِ، وَالشُّفْعَةُ) .
__________
(1) الوجيز 1 / 143، 1 / 220، والمغني 5 / 224، والطحطاوي 3 / 57، 4 / 121، وكشاف القناع 3 / 224، وشرح الزرقاني 6 / 181.(13/152)
تَقَلُّدٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّقَلُّدُ: جَعْل الإِْنْسَانِ الْقِلاَدَةَ فِي عُنُقِهِ. وَتَقَلُّدِ الأَْمْرِ: احْتِمَالُهُ، وَكَذَلِكَ تَقَلَّدَ السَّيْفَ: إِذَا جَعَل حَمَائِلَهُ فِي عُنُقِهِ. قَال الشَّاعِرُ:
يَا لَيْتَ زَوْجُكِ قَدْ غَدَا مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحًا
أَيْ: وَحَامِلاً رُمْحًا. يَعْنِي أَنَّ التَّقَلُّدَ فِي الأَْصْل لِلسَّيْفِ لاَ لِلرُّمْحِ، وَإِنَّمَا عَطَفَ عَلَى مِثَال قَوْلِهِمْ: عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا (1)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - التَّقَلُّدُ بِمَعْنَى وَضْعِ الْقِلاَدَةِ فِي الْعُنُقِ: التَّزَيُّنُ بِالْقَلاَئِدِ نَوْعٌ مِنَ الزِّينَةِ الْمُبَاحَةِ، وَهِيَ فِي الْغَالِبِ الْمُعْتَادِ مِنْ زِينَةِ النِّسَاءِ وَالصِّغَارِ. وَتُبَاحُ لِلنِّسَاءِ الْقَلاَئِدُ كُلُّهَا، سَوَاءٌ أَكَانَتْ مِنْ مَوَادَّ مُعْتَادَةٍ، أَوْ مَوَادَّ ثَمِينَةٍ، كَاللُّؤْلُؤِ، وَالْيَاقُوتِ، وَالْحِجَارَةِ الْكَرِيمَةِ، وَالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَكُلُّهُ مُبَاحٌ لَهُنَّ مَا لَمْ يَخْرُجْ إِلَى حَدِّ السَّرَفِ وَالْخُيَلاَءِ. وَلاَ يَجُوزُ تَقْلِيدُ الصِّغَارِ إِنْ كَانُوا ذُكُورًا قَلاَئِدَ الذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ، لِمَا فِي الْحَدِيثِ: {
__________
(1) لسان العرب مادة " قلد ".(13/153)
الذَّهَبُ وَالْحَرِيرُ حِلٌّ لإِِنَاثِ أُمَّتِي وَحَرَامٌ عَلَى ذُكُورِهَا (1) عَلَى أَنَّ فِي ذَلِكَ بَعْضَ الْخِلاَفِ وَيُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (ذَهَبٌ) . (2)
وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: أَيُّمَا امْرَأَةٍ تَقَلَّدَتْ قِلاَدَةً مِنْ ذَهَبٍ قُلِّدَتْ فِي عُنُقِهَا مِثْلَهُ مِنَ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (3) وَفِي حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ: نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ لُبْسِ الذَّهَبِ إِلاَّ مُقَطَّعًا (4) لَكِنْ قَال الْخَطَّابِيُّ: ذَلِكَ فِي الزَّمَانِ الأَْوَّل ثُمَّ نُسِخَ، أَوِ الْوَعِيدِ عَلَى الْكَثِيرِ مِنْهُ الَّذِي لاَ تُؤَدَّى زَكَاتُهُ (5) .
__________
(1) حديث: " الذهب والحرير حل لإناث أمتي حرام على ذكورها " عزاه الزيلعي إلى ابن أبي شيبة في مسنده. (نصب الراية 4 / 225 ط المجلس العلمي) وصححه ابن حجر لكثرة طرقه (التلخيص الحبير 1 / 54 ط المكتبة الأثرية) .
(2) الخلاف في هذا للشافعية. وانظر شرح المنهاج وحاشية القليوبي وعميرة 1 / 302 القاهرة دار إحياء الكتب العربية.
(3) حديث: " أيما امرأة تقلدت قلادة من ذهب قلدت في عنقها مثله من النار يوم القيامة " أخرجه أحمد 6 / 457 ط المكتب الإسلامي. وأبو داود (4 / 437 ط عزت عبيد دعاس) . قال ابن القطان وعلة هذا الخبر أن محمود بن عمرو ـ راويه عن أسماء ـ مجهول الحال، وإن كان قد روى عنه جماعة (مختصر سنن أبي داود 6 / 125ط دار المعرفة) إذا فالإسناد ضعيف.
(4) حديث: " نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن لبس الذهب إلا مقطعا " أخرجه أبو داود (4 / 437 ط عزت عبيد الدعاس) والنسائي (1 / 161 ط دار الكتاب العربي) قال الأرناؤوط: إسناده صحيح (جامع الأصول 4 / 730 ط الملاح) .
(5) عون المعبود، شرح سنن أبي داود، آخر كتاب الخاتم منه.(13/153)
تَقَلُّدُ السَّيْفِ فِي الإِْحْرَامِ:
3 - إِذَا احْتَاجَ الْمُحْرِمُ إِلَى تَقَلُّدِ السِّلاَحِ فِي الإِْحْرَامِ فَلَهُ ذَلِكَ، وَبِهَذَا قَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَرُوِيَتْ كَرَاهَةُ ذَلِكَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ. وَاسْتَدَل لِلأَْوَّلَيْنِ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا صَالَحَ أَهْل مَكَّةَ صُلْحَ الْحُدَيْبِيَةِ، كَانَ فِي الصُّلْحِ أَلاَّ يَدْخُل الْمُسْلِمُونَ مَكَّةَ إِلاَّ بِجُلُبَّانِ السِّلاَحِ (1) (الْقِرَابُ بِمَا فِيهِ) وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي إِبَاحَتِهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ، لأَِنَّهُمْ كَانُوا لاَ يَأْمَنُونَ أَهْل مَكَّةَ أَنْ يَنْقُضُوا الْعَهْدَ وَيَخْفِرُوا الذِّمَّةَ، فَاشْتَرَطُوا حَمْل السِّلاَحِ فِي قِرَابِهِ.
فَأَمَّا مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ، فَقَدْ قَال الإِْمَامُ أَحْمَدُ: لاَ، إِلاَّ مِنْ ضَرُورَةٍ (2) .
وَإِنَّمَا مَنَعَ مِنْهُ لأَِنَّ ابْنَ عُمَرَ قَال: لاَ يُحْمَل السِّلاَحُ فِي الْحَرَمِ. أَيْ لاَ مِنْ أَجْل الإِْحْرَامِ، فَيُكْرَهُ حَمْلُهُ لِلْمُحْرِمِ وَغَيْرِهِ فِي حَرَمِ مَكَّةَ. قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَلِذَلِكَ لَوْ حَمَل قِرْبَةً فِي عُنُقِهِ لاَ يَحْرُمُ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَلاَ فِدْيَةَ فِيهِ. وَقَدْ سُئِل أَحْمَدُ عَنِ الْمُحْرِمِ يُلْقِي جِرَابَهُ فِي رَقَبَتِهِ كَهَيْئَةِ الْقِرْبَةِ، فَقَال: أَرْجُو أَنْ لاَ يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ (3) .
__________
(1) حديث: " بأن النبي صلى الله عليه وسلم ـ لما صالح أهل مكة صلح الحديبية كان في الصلح. . . " أخرجه البخاري (الفتح 5 / 304 ط السلفية) .
(2) لعله يقصد الحاجة.
(3) المغني لابن قدامة 3 / 306 ط المنار وكشاف القناع للشيخ منصور البهوتي 2 / 428.(13/154)
تَقْلِيدٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّقْلِيدُ لُغَةً: مَصْدَرُ قَلَّدَ، أَيْ جَعَل الشَّيْءَ فِي عُنُقِ غَيْرِهِ مَعَ الإِْحَاطَةِ بِهِ (1) .
وَتَقُول: قَلَّدْتُ الْجَارِيَةَ: إِذَا جَعَلْتَ فِي عُنُقِهَا الْقِلاَدَةَ، فَتَقَلَّدَتْهَا هِيَ، وَقَلَّدْتُ الرَّجُل السَّيْفَ فَتَقَلَّدَهُ: إِذَا جَعَل حَمَائِلَهُ فِي عُنُقِهِ. وَأَصْل الْقَلْدِ، كَمَا فِي لِسَانِ الْعَرَبِ، لَيُّ الشَّيْءِ عَلَى الشَّيْءِ، نَحْوُ لَيُّ الْحَدِيدَةِ الدَّقِيقَةِ عَلَى مِثْلِهَا، وَمِنْهُ: سِوَارٌ مَقْلُودٌ.
وَفِي التَّهْذِيبِ: تَقْلِيدُ الْبَدَنَةِ أَنْ يُجْعَل فِي عُنُقِهَا عُرْوَةُ مَزَادَةٍ، أَوْ حِلَقُ نَعْلٍ، فَيُعْلَمُ أَنَّهَا هَدْيٌ. وَقَلَّدَ فُلاَنًا الأَْمْرَ إِيَّاهُ. وَمِنْهُ تَقْلِيدُ الْوُلاَةِ الأَْعْمَال (2) .
وَيُسْتَعْمَل التَّقْلِيدُ فِي الْعُصُورِ الْمُتَأَخِّرَةِ بِمَعْنَى الْمُحَاكَاةِ فِي الْفِعْل، وَبِمَعْنَى التَّزْيِيفِ، أَيْ صِنَاعَةِ شَيْءٍ طِبْقًا لِلأَْصْل الْمُقَلَّدِ. وَكِلاَ الْمَعْنَيَيْنِ مَأْخُوذٌ مِنَ التَّقْلِيدِ لِلْمُجْتَهِدِينَ؛ لأَِنَّ الْمُقَلِّدَ يَفْعَل
__________
(1) روضة الناظر لابن قدامة 2 / 449 ط ثانية، الرياض مكتبة المعارف 1404 هـ.
(2) لسان العرب ومختار الصحاح مادة: " قلد ".(13/154)
مِثْل فِعْل الْمُقَلَّدِ دُونَ أَنْ يَدْرِيَ وَجْهَهُ. وَالأَْمْرُ التَّقْلِيدِيُّ مَا يُفْعَل اتِّبَاعًا لِمَا كَانَ قَبْل، لاَ بِنَاءً عَلَى فِكْرِ الْفَاعِل نَفْسِهِ، وَخِلاَفُهُ الأَْمْرُ الْمُبْتَدَعُ (1) .
وَيَرِدُ التَّقْلِيدُ فِي الاِصْطِلاَحِ الشَّرْعِيِّ بِأَرْبَعَةِ مَعَانٍ:
أَوَّلُهَا: تَقْلِيدُ الْوَالِي أَوِ الْقَاضِي وَنَحْوِهِمَا، أَيْ تَوْلِيَتُهُمَا الْعَمَل، وَيُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (تَوْلِيَةٌ) .
ثَانِيهَا: تَقْلِيدُ الْهَدْيِ بِجَعْل شَيْءٍ فِي رَقَبَتِهِ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ هَدْيٌ.
ثَالِثُهَا: تَقْلِيدُ التَّمَائِمِ وَنَحْوِهَا.
رَابِعُهَا: التَّقْلِيدُ فِي الدِّينِ وَهُوَ الأَْخْذُ فِيهِ بِقَوْل الْغَيْرِ مَعَ عَدَمِ مَعْرِفَةِ دَلِيلِهِ. أَوْ هُوَ الْعَمَل بِقَوْل الْغَيْرِ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ. (2)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الإِْشْعَارُ:
2 - الإِْشْعَارُ حَزُّ سَنَامِ الْبَدَنَةِ حَتَّى يَسِيل مِنْهَا الدَّمُ لِيُعْلَمَ أَنَّهَا هَدْيٌ لِلْكَعْبَةِ فَلاَ يَتَعَرَّضُ لَهَا أَحَدٌ (3) .
__________
(1) لسان العرب المحيط ـ قسم المصطلحات، والمعجم الوسيط مادة: " قلد ".
(2) روضة الناظر بتعليق الشيخ عبد القادر بن بدران 1404هـ 2 / 450 القاهرة. المطبعة السلفية، وإرشاد الفحول للشوكاني ص 265. القاهرة. مطبعة مصطفى الحلبي 1356 هـ.
(3) المصباح المنير مادة: " شعر ".(13/155)
أَحْكَامُ التَّقْلِيدِ:
أَوَّلاً - تَقْلِيدُ الْهَدْيِ:
3 - الْهَدْيُ مَا يُهْدَى إِلَى الْكَعْبَةِ مِنْ بَهِيمَةِ الأَْنْعَامِ فِي الْحَجِّ لِيُذْبَحَ بِمَكَّةَ تَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَتَقْلِيدُ الْبَهِيمَةِ أَنْ يُجْعَل فِي عُنُقِهَا مَا يَدُل عَلَى أَنَّهَا هَدِيَّةٌ إِلَى الْبَيْتِ، فَيُتْرَكُ التَّعَرُّضُ لَهَا مِنْ كُل أَحَدٍ تَعْظِيمًا لِلْبَيْتِ وَمَا أُهْدِيَ إِلَيْهِ. وَأَصْل ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلاَئِدَ} (1) قَال الْقُرْطُبِيُّ: فَالشَّعَائِرُ: جَمْعُ شَعِيرَةٍ وَهِيَ الْبَدَنَةُ تُهْدَى إِلَى الْبَيْتِ، وَإِشْعَارُهَا أَنْ يُحَزَّ سَنَامُهَا لِيَسِيل مِنْهَا الدَّمُ فَيُعْلَمُ أَنَّهَا هَدْيٌ. وَالْقَلاَئِدُ قِيل فِي تَفْسِيرِهَا: مَا كَانَ النَّاسُ يَتَقَلَّدُونَهُ أَمَنَةً لَهُمْ. قَال ابْنُ عَبَّاسٍ: ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ. وَقِيل الْمُرَادُ بِالْقَلاَئِدِ: مَا يُعَلَّقُ عَلَى أَسْنِمَةِ الْهَدَايَا وَأَعْنَاقِهَا عَلاَمَةً عَلَى أَنَّهُ لِلَّهِ تَعَالَى، مِنْ نَعْلٍ أَوْ غَيْرِهِ (2) . وَقَال اللَّهُ تَعَالَى: {جَعَل اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلاَئِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَْرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُل شَيْءٍ عَلِيمٌ} (3) أَيْ جَعَل الْمَذْكُورَاتِ صَلاَحًا وَمَعَاشًا
__________
(1) سورة المائدة / 2.
(2) تفسير القرطبي 6 / 40 ط دار الكتب المصرية.
(3) سورة المائدة / 97.(13/155)
يَأْمَنُ النَّاسُ فِيهَا وَبِهَا. وَقَال الْقُرْطُبِيُّ: عَظَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي قُلُوبِهِمُ الْبَيْتَ الْحَرَامَ، وَأَوْقَعَ فِي نُفُوسِهِمْ هَيْبَتَهُ، وَعَظَّمَ بَيْنَهُمْ حُرْمَتَهُ، فَكَانَ مَنْ لَجَأَ إِلَيْهِ مَعْصُومًا بِهِ، وَكَانَ مَنِ اضْطُهِدَ مَحْمِيًّا بِالْكَوْنِ فِيهِ. وَكَذَلِكَ الأَْشْهُرُ الْحُرُمُ. ثُمَّ قَال: وَشَرَعَ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُل الْكِرَامِ الْهَدْيَ وَالْقَلاَئِدَ، فَكَانُوا إِذَا أَخَذُوا بَعِيرًا أَشْعَرُوهُ دَمًا أَوْ عَلَّقُوا عَلَيْهِ نَعْلاً، أَوْ فَعَل الرَّجُل ذَلِكَ بِنَفْسِهِ مِنَ التَّقْلِيدِ، لَمْ يُرَوِّعْهُ أَحَدٌ حَيْثُ لَقِيَهُ، وَكَانَ الْفَيْصَل بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ طَلَبَهُ وَظَلَمَهُ، حَتَّى جَاءَ اللَّهُ بِالإِْسْلاَمِ (1) . وَيُذْكَرُ مِنْ حِكْمَةِ تَقْلِيدِ الْهَدْيِ أَيْضًا أَنْ يَعْلَمَ الْمَسَاكِينُ بِالْهَدْيِ، فَيَجْتَمِعُوا لَهُ، وَإِذَا عَطِبَتِ الْهَدِيَّةُ الَّتِي سِيقَتْ إِلَى الْبَيْتِ تُنْحَرُ، ثُمَّ تُلْقَى قِلاَدَتُهَا فِي دَمِهَا كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ؛ لِيَكُونَ ذَلِكَ دَالًّا عَلَى كَوْنِهَا هَدْيًا يُبَاحُ أَكْلُهُ لِمَنْ شَاءَ (2) .
حُكْمُ تَقْلِيدِ الْهَدْيِ:
4 - تَقْلِيدُ الْهَدْيِ كَانَ مُتَّبَعًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ. قَال الْقُرْطُبِيُّ: وَهِيَ سُنَّةٌ إِبْرَاهِيمِيَّةٌ بَقِيَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَأَقَرَّهَا الإِْسْلاَمُ. وَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي لَبَّدْتُ رَأْسِي، وَقَلَّدْتُ هَدْيِي، فَلاَ أَحِل حَتَّى أَنْحَرَ (3)
__________
(1) تفسير القرطبي 6 / 40.
(2) الشرح الكبير للدسوقي 2 / 89، 90القاهرة، مطبعة عيسى الحلبي.
(3) حديث: " إن لبدت رأسي وقلدت هديي فلا. . " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 422 ط السلفية) ، ومسلم (2 / 902 ط الحلبي) . من حديث حفصة رضي الله عنها.(13/156)
فَتَقْلِيدُ الْهَدْيِ سُنَّةٌ فِي الْجُمْلَةِ. وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَدْ قَال الشَّافِعِيُّ: مَنْ تَرَكَ الإِْشْعَارَ وَالتَّقْلِيدَ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ.
قَال الْمَالِكِيَّةُ: وَالأَْوْلَى تَقْدِيمُ التَّقْلِيدِ عَلَى الإِْشْعَارِ لأَِنَّهُ السُّنَّةُ، وَالْحِكْمَةُ فِيهِ أَنَّهُ يُفْعَل كَذَلِكَ خَوْفًا مِنْ نِفَارِهَا لَوْ أُشْعِرَتْ أَوْ لاَ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي ذَلِكَ وَجْهَانِ، وَمَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ فِي الأُْمِّ تَقْدِيمُ الإِْشْعَارِ (1) .
مَا يُقَلَّدُ مِنَ الْهَدْيِ وَمَا لاَ يُقَلَّدُ:
5 - لاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ مِنَ السُّنَّةِ تَقْلِيدَ الْهَدْيِ إِنْ كَانَ مِنَ الإِْبِل أَوِ الْبَقَرِ. أَمَّا الْغَنَمُ فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي تَقْلِيدِهَا، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهَا لاَ تُقَلَّدُ، وَلَيْسَ تَقْلِيدُهَا سُنَّةً، قَال الْحَنَفِيَّةُ: لأَِنَّهُ غَيْرُ مُعْتَادٍ، وَلأَِنَّهُ لاَ فَائِدَةَ فِي تَقْلِيدِهَا، إِذْ فَائِدَةُ التَّقْلِيدِ عَدَمُ ضَيَاعِ الْهَدْيِ، وَالْغَنَمُ لاَ تُتْرَكُ بَل يَكُونُ مَعَهَا صَاحِبُهَا. قَال الْقُرْطُبِيُّ وَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَبْلُغْهُمْ حَدِيثُ عَائِشَةَ
__________
(1) تفسير القرطبي 6 / 40، والأم للشافعي 2 / 216 القاهرة، مكتبة الكليات الأزهرية، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي 2 / 88، والجمل على شرح المنهج 2 / 465، القاهرة، والمطبعة الميمنية، 1305هـ، والحطاب: مواهب الجليل مختصر خليل 3 / 189 القاهرة. مطبعة السعادة 1329هـ.(13/156)
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي تَقْلِيدِ الْغَنَمِ، وَنَصُّهُ، قَالَتْ: أَهْدَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّةً إِلَى الْبَيْتِ غَنَمًا فَقَلَّدَهَا (1) أَوْ بَلَغَهُمْ وَلَكِنَّهُمْ رَدُّوهُ لاِنْفِرَادِ الأَْسْوَدِ بِهِ عَنْ عَائِشَةَ
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُسَنُّ تَقْلِيدُهَا أَيْضًا، لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ، وَلأَِنَّهَا هَدْيٌ فَتُقَلَّدُ، كَالإِْبِل (2) . وَيَنُصُّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَتْ كُل أَنْوَاعِ الْهَدْيِ تُقَلَّدُ، بَل يُقَلَّدُ هَدْيُ التَّطَوُّعِ وَهَدْيُ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ، لأَِنَّهُ دَمُ نُسُكٍ، وَفِي التَّقْلِيدِ إِظْهَارُهُ وَتَشْهِيرُهُ فَيَلِيقُ بِهِ (3) . وَلَمْ نَجِدْ هَذَا التَّفْصِيل لِغَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ. وَلاَ يُقَلَّدُ دَمُ الْجِنَايَةِ؛ لأَِنَّ سَتْرَهَا أَلْيَقُ، وَيُلْحَقُ بِهَا دَمُ الإِْحْصَارِ، لأَِنَّهَا دَمٌ يُجْبَرُ بِهِ النَّقْصُ.
مَا يُقَلَّدُ بِهِ، وَكَيْفِيَّةُ التَّقْلِيدِ:
6 - يَكُونُ التَّقْلِيدُ بِأَنْ يُجْعَل فِي أَعْنَاقِ الْهَدَايَا
__________
(1) حديث: " أهدى النبي صلى الله عليه وسلم مرة إلى البيت غنما فقلدها. . . " أخرجه مسلم (2 / 958 ط الحلبي) من حديث عائشة.
(2) تفسير القرطبي 6 / 40، والشرح الكبير للدردير بهامش حاشية الدسوقي 2 / 89، والمواق، بهامش الحطاب 3 / 190، وفتح القدير لابن الهمام شرح الهداية للمرغيناني 2 / 407 و 3 / 84. القاهرة، المطبعة الميمنية، 1319هـ، والجمل على شرح المنهج 2 / 466، والمغني 3 / 549.
(3) فتح القدير 3 / 84.(13/157)
النِّعَال، أَوْ آذَانُ الْقِرَبِ وَعُرَاهَا، أَوْ عِلاَقَةُ إِدَاوَةٍ، أَوْ لِحَاءُ شَجَرَةٍ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ. وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّهَا كَانَتْ تَفْتِل قَلاَئِدَ هَدْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عِهْنٍ (1) وَالْعِهْنُ: الصُّوفُ الْمَصْبُوغُ فَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلاً يَسُوقُ بَدَنَةً، قَال: ارْكَبْهَا. قَال: إِنَّهَا بَدَنَةٌ. قَال: ارْكَبْهَا قَال: فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يُسَايِرُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّعْل فِي عُنُقِهَا (2) . وَفِيهِ أَنَّهُ قَلَّدَ بُدْنَهُ بِيَدِهِ (3) وَفِي التَّاجِ وَالإِْكْلِيل مِنْ كُتُبِ الْمَالِكِيَّةِ (يُقَلِّدُ بِمَا شَاءَ. وَمَنَعَ ابْنُ الْقَاسِمِ تَقْلِيدَ الأَْوْتَارِ) أَيْ لِلْحَدِيثِ الْوَارِدِ فِي النَّهْيِ عَنْهُ، وَنَصُّهُ قَلِّدُوا الْخَيْل وَلاَ تُقَلِّدُوهَا الأَْوْتَارَ (4) .
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: كَيْفِيَّةُ التَّقْلِيدِ أَنْ يَفْتِل خَيْطًا مِنْ صُوفٍ أَوْ شَعْرٍ وَيَرْبِطَ بِهِ نَعْلاً أَوْ عُرْوَةَ مَزَادَةٍ، وَهِيَ السُّفْرَةُ مِنْ جِلْدٍ، أَوْ لِحَاءِ شَجَرَةٍ أَيْ
__________
(1) حديث عائشة: كانت تفتل قلائد هدي النبي صلى الله عليه وسلم. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 548 ط السلفية) ، ومسلم (2 / 958 ط الحلبي) .
(2) حديث: " أن نبي الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يسوق بدنة. . " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 548ط السلفية) .
(3) حديث: " قلد بدنة بيده " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 545ط السلفية) من حديث عائشة. أخرجه البخاري (الفتح 3 / 545 ط السلفية) من حديث عائشة.
(4) حديث: " قلدوا الخيل ولا تقلدوها الأوتار " أخرجه أبو داود (3 / 53 تحقيق عزت دعاس) من حديث أبي وهب الجشمي وفي إسناده راو مجهول وهو عقيل بن شبيب. الميزان للذهبي (3 / 88 ط الحلبي(13/157)
قِشْرَهَا، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يَكُونُ عَلاَمَةً عَلَى أَنَّهُ هَدْيٌ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: يَكُونُ تَقْلِيدُهَا وَهِيَ مُسْتَقْبِلَةَ الْقِبْلَةِ، وَيُقَلِّدُ الْبَدَنَةَ وَهِيَ بَارِكَةٌ. وَفِي كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ يَنْبَغِي إِذَا قَلَّدَ نَعْلَيْنِ أَنْ يَكُونَ لَهُمَا قِيمَةٌ لِيَتَصَدَّقَ بِهِمَا (1) .
تَقْلِيدُ الْهَدْيِ هَل يَكُونُ بِهِ الإِْنْسَانُ مُحْرِمًا؟ :
7 - لاَ يَنْعَقِدُ الإِْحْرَامُ إِلاَّ بِنِيَّةِ الدُّخُول فِي النُّسُكِ. وَلاَ يُشْتَرَطُ مَعَ ذَلِكَ تَلْبِيَةٌ أَوْ ذِكْرٌ مُعَيَّنٌ أَوْ خُصُوصِيَّةٌ مِنْ خُصُوصِيَّاتِ الإِْحْرَامِ كَتَقْلِيدِ الْهَدْيِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (إِحْرَامٌ) .
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَلاَ بُدَّ لِيَكُونَ الرَّجُل مُحْرِمًا عِنْدَهُمْ، مَعَ نِيَّةِ الدُّخُول فِي النُّسُكِ مِنْ ذِكْرٍ أَوْ خُصُوصِيَّةٍ مِنْ خُصُوصِيَّاتِ الإِْحْرَامِ (2) . وَالْخُصُوصِيَّاتُ مِنْهَا: أَنْ يُشْعِرَ بُدْنَهُ، أَوْ يُقَلِّدَهَا، تَطَوُّعًا، أَوْ نَذْرًا، أَوْ جَزَاءَ صَيْدٍ، أَوْ شَيْئًا مِنَ الأَْشْيَاءِ، وَيَتَوَجَّهُ مَعَهَا يُرِيدُ الْحَجَّ أَوِ الْعُمْرَةَ. فَمَنْ فَعَل ذَلِكَ فَقَدْ أَحْرَمَ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ تَلْبِيَةٌ.
__________
(1) شرح فتح القدير 2 / 406، والحطاب وبهامشه التاج والإكليل للمواق 3 / 189، ابن عابدين 2 / 160، والأم للشافعي 2 / 216، والجمل على شرح المنهج 4 / 464، والمغني لابن قدامة 3 / 549.
(2) فتح القدير 2 / 337.(13/158)
قَالُوا: لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ قَلَّدَ بُدْنَهُ فَقَدْ أَحْرَمَ (1) .
وَلأَِنَّ سَوْقَ الْهَدْيِ فِي مَعْنَى التَّلْبِيَةِ فِي إِظْهَارِ الإِْجَابَةِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَفْعَلُهُ إِلاَّ مُرِيدُ الْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ، وَإِظْهَارُ الإِْجَابَةِ قَدْ يَكُونُ بِالْفِعْل كَمَا يَكُونُ بِالْقَوْل، فَيَصِيرُ بِهِ مُحْرِمًا لاِتِّصَال النِّيَّةِ بِفِعْلٍ هُوَ مِنْ خَصَائِصِ الإِْحْرَامِ. وَلَوْ قَلَّدَ هَدْيًا دُونَ أَنْ يَنْوِيَ، أَوْ دُونَ أَنْ يَسُوقَهُ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْبَيْتِ، فَلاَ يَكُونُ مُحْرِمًا. وَلَوْ قَلَّدَهُ وَأَرْسَل بِهِ وَلَمْ يَسُقْهُ لَمْ يَصِرْ مُحْرِمًا، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: كُنْتُ أَفْتِل الْقَلاَئِدَ لِهَدْيِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَبْعَثُ بِهِ ثُمَّ يُقِيمُ فِينَا حَلاَلاً (2) ، قَالُوا: ثُمَّ إِنْ تَوَجَّهَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَصِرْ مُحْرِمًا حَتَّى يَلْحَقَ الْهَدْيَ، لأَِنَّهُ عِنْدَ التَّوَجُّهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ يَدَيْهِ هَدْيٌ يَسُوقُهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ إِلاَّ مُجَرَّدُ النِّيَّةِ، فَلاَ يَصِيرُ بِهَا مُحْرِمًا، إِلاَّ هَدْيُ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُحْرِمًا بِتَقْلِيدِهِ وَبِالتَّوَجُّهِ وَلَوْ قَبْل أَنْ يُدْرِكَ الْهَدْيَ الَّذِي بَعَثَهُ أَمَامَهُ. هَذَا، وَإِنْ كَانَ الْهَدْيُ الَّذِي قَلَّدَهُ وَسَاقَهُ مِنَ الْغَنَمِ، فَإِنَّهُ لاَ يَصِيرُ بِذَلِكَ مُحْرِمًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لأَِنَّ الْغَنَمَ لاَ يُسَنُّ تَقْلِيدُهَا عِنْدَهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ (3) .
__________
(1) حديث: " من قلد بدنة فقد أحرم. . . " أورده الزيلعي في نصب الراية وقال: " غريب مرفوعا، ووقفه ابن أبي شيبة في مصنفه على ابن عباس وابن عمر " نصب الراية (3 / 97 ط. المجلس العلمي بالهند) .
(2) حديث عائشة: كنت أفتل القلائد لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيبعث به. . . . " أخرجه مسلم (2 / 958 ط الحلبي) .
(3) الهداية وفتح القدير 2 / 405ـ 407، وحاشية ابن عابدين 2 / 160، 161(13/158)
تَعَيُّنُ الْهَدْيِ وَلُزُومُهُ بِالتَّقْلِيدِ:
8 - يَنُصُّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ الرَّجُل إِذَا قَلَّدَ الْهَدْيَ بِالنِّيَّةِ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ إِهْدَاؤُهُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتْرُكَ ذَلِكَ. قَال الدَّرْدِيرُ: يَجِبُ إِنْفَاذُ مَا قَلَّدَ مَعِيبًا لِوُجُوبِهِ بِالتَّقْلِيدِ وَإِنْ لَمْ يُجْزِهِ. أَيْ وَإِنْ لَمْ يُجْزِئْهُ عَنْ هَدْيٍ وَاجِبٍ بِتَمَتُّعٍ أَوْ قِرَانٍ أَوْ نَذْرٍ غَيْرَ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ مَا قُلِّدَ مِنَ الْهَدْيِ يُبَاعُ فِي الدُّيُونِ السَّابِقَةِ مَا لَمْ يُذْبَحْ، وَلاَ يُبَاعُ فِي الدُّيُونِ اللاَّحِقَةِ (1) . قَالُوا: وَلَوْ وُجِدَ الْهَدْيُ الْمَسْرُوقُ أَوِ الضَّال بَعْدَ نَحْرِ بَدَلِهِ نَحَرَ الْمَوْجُودَ أَيْضًا إِنْ قُلِّدَ، لِتَعَيُّنِهِ بِالتَّقْلِيدِ. وَإِنْ وُجِدَ الضَّال قَبْل نَحْرِ الْبَدَل نَحَرَهُمَا مَعًا إِنْ قَلِّدَا لِتَعَيُّنِهِمَا بِالتَّقْلِيدِ. وَإِنْ لَمْ يَكُونَا مُقَلَّدَيْنِ أَوْ كَانَ الْمُقَلَّدُ أَحَدَهُمَا دُونَ الآْخَرِ، يَتَعَيَّنُ الْمُقَلَّدُ. وَجَازَ بَيْعُ الآْخَرِ وَالتَّصَرُّفُ فِيهِ (2) .
وَيَنُصُّ الْحَنَابِلَةُ أَيْضًا عَلَى أَنَّ التَّقْلِيدَ يَجِبُ بِهِ ذَلِكَ الْهَدْيُ، إِذَا نَوَى أَنَّهُ هَدْيٌ، وَلَوْ لَمْ يَقُل بِلِسَانِهِ إِنَّهُ هَدْيٌ، فَيَتَعَيَّنُ بِذَلِكَ وَيَصِيرُ وَاجِبًا مُعَيَّنًا يَتَعَلَّقُ الْوُجُوبُ بِعَيْنِهِ دُونَ ذِمَّةِ صَاحِبِهِ. وَحُكْمُهُ حِينَئِذٍ أَنْ يَكُونَ فِي يَدِ صَاحِبِهِ كَالْوَدِيعَةِ يَلْزَمُهُ حِفْظُهُ وَإِيصَالُهُ إِلَى مَحَلِّهِ، فَإِنْ تَلِفَ أَوْ سُرِقَ أَوْ ضَل بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ (3) .
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 2 / 88، ومواهب الجليل، للحطاب 3 / 186، 187.
(2) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 2 / 92.
(3) المغني لابن قدامة 3 / 535، 536.(13/159)
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَيُصَرِّحُونَ بِأَنَّ تَقْلِيدَ الرَّجُل نَعَمَهُ وَإِشْعَارَهَا لاَ يَكُونُ بِهِ النَّعَمُ هَدْيًا، وَلَوْ نَوَاهُ مَا لَمْ يَنْطِقْ بِذَلِكَ، عَلَى الْمَذْهَبِ الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ، كَمَا لَوْ كَتَبَ الْوَقْفَ عَلَى بَابِ دَارِهِ (1) .
ثَانِيًا: تَقْلِيدُ التَّمَائِمِ وَمَا يُتَعَوَّذُ بِهِ:
9 - الْمُرَادُ بِتَقْلِيدِ التَّمَائِمِ وَالتَّعْوِيذَاتِ جَعْلُهَا فِي عُنُقِ الصَّبِيِّ أَوِ الصَّبِيَّةِ أَوِ الدَّابَّةِ وَنَحْوِهَا. كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهَا تَجْلِبُ الْخَيْرَ أَوْ تَدْفَعُ الأَْذَى وَالْعَيْنَ (2) . وَيُنْظَرُ حُكْمُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (تَعْوِيذَةٌ) .
ثَالِثًا: تَقْلِيدُ الْمُجْتَهِدِ:
10 - التَّقْلِيدُ قَبُول قَوْل الْغَيْرِ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ، كَأَخْذِ الْعَامِّيِّ مِنَ الْمُجْتَهِدِ فَالرُّجُوعُ إِلَى قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ تَقْلِيدًا، وَالرُّجُوعُ إِلَى الإِْجْمَاعِ لَيْسَ تَقْلِيدًا كَذَلِكَ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ رُجُوعٌ إِلَى مَا هُوَ الْحُجَّةُ فِي نَفْسِهِ (3) .
__________
(1) الجمل على شرح المنهج 2 / 465.
(2) حاشية ابن عابدين على الدر المختار 1 / 232. القاهرة، مطبعة بولاق ط2 سنة 1272هـ، وانظر الفواكه الدواني، 2 / 439 وكشف القناع 2 / 77، وفتح الباري 6 / 142.
(3) شرح مسلم الثبوت 2 / 400. القاهرة، مطبعة بولاق، 1322هـ، والمستصفى مطبوع مع مسلم الثبوت 2 / 387. الطبعة المذكورة، وروضة الناظر 2 / 450.(13/159)
حُكْمُ التَّقْلِيدِ:
11 - أَهْل التَّقْلِيدِ لَيْسُوا طَبَقَةً مِنْ طَبَقَاتِ الْفُقَهَاءِ، فَالْمُقَلِّدُ لَيْسَ فَقِيهًا، فَإِنَّ الْفِقْهَ مَمْدُوحٌ فِي كَلاَمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّقْلِيدُ مَذْمُومٌ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ نَوْعٌ مِنَ التَّقْصِيرِ (1) .
أ - حُكْمُ التَّقْلِيدِ فِي الْعَقَائِدِ:
12 - التَّقْلِيدُ لاَ يَجُوزُ عِنْدَ جُمْهُورِ الأُْصُولِيِّينَ فِي الْعَقَائِدِ، كَوُجُودِ اللَّهِ تَعَالَى وَوَحْدَانِيِّتِهِ وَوُجُوبِ إِفْرَادِهِ بِالْعِبَادَةِ، وَمَعْرِفَةِ صِدْقِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلاَ بُدَّ فِي ذَلِكَ عِنْدَهُمْ مِنَ النَّظَرِ الصَّحِيحِ وَالتَّفَكُّرِ وَالتَّدَبُّرِ الْمُؤَدِّي إِلَى الْعِلْمِ وَإِلَى طُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ، وَمَعْرِفَةِ أَدِلَّةِ ذَلِكَ. وَمِمَّا يُحْتَجُّ بِهِ لِذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَمَّ التَّقْلِيدَ فِي الْعَقِيدَةِ بِمِثْل قَوْله تَعَالَى: {بَل قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} (2) ، وَلَمَّا نَزَل قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَْرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْل وَالنَّهَارِ لآَيَاتٍ لأُِولِي الأَْلْبَابِ} (3) قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَقَدْ نَزَلَتْ عَلَيَّ اللَّيْلَةَ آيَةٌ. وَيْلٌ لِمَنْ قَرَأَهَا وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَا (4) .
وَلأَِنَّ الْمُقَلِّدَ فِي ذَلِكَ يَجُوزُ الْخَطَأُ عَلَى مُقَلَّدِهِ،
__________
(1) شرح مسلم الثبوت 1 / 10.
(2) سورة الزخرف / 22.
(3) سورة آل عمران / 190.
(4) حديث: " لقد نزلت على الليلة آية، ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها (إن في خلق السموات) الآية كلها. أخرجه ابن حبان (موارد الظمآن ص 140ط السلفية) .(13/160)
وَيَجُوزُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ كَاذِبًا فِي إِخْبَارِهِ، وَلاَ يَكْفِي التَّعْوِيل فِي ذَلِكَ عَلَى سُكُونِ النَّفْسِ إِلَى صِدْقِ الْمُقَلَّدِ، إِذْ مَا الْفَرْقُ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ سُكُونِ أَنْفُسِ النَّصَارَى وَالْيَهُودِ وَالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَلَّدُوا أَسْلاَفَهُمْ وَسَكَنَتْ قُلُوبُهُمْ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْل، فَعَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ (1) .
وَذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى جَوَازِ الاِكْتِفَاءِ بِالتَّقْلِيدِ فِي الْعَقَائِدِ، وَنُسِبَ ذَلِكَ إِلَى الظَّاهِرِيَّةِ (2) .
ثُمَّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ يُلْحَقُ بِالْعَقَائِدِ فِي هَذَا الأَْمْرِ كُل مَا عُلِمَ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، فَلاَ تَقْلِيدَ فِيهِ؛ لأَِنَّ الْعِلْمَ بِهِ يَحْصُل بِالتَّوَاتُرِ وَالإِْجْمَاعِ، وَمِنْ ذَلِكَ الأَْخْذُ بِأَرْكَانِ الإِْسْلاَمِ الْخَمْسَةِ.
ب - حُكْمُ التَّقْلِيدِ فِي الْفُرُوعِ:
13 - اخْتُلِفَ فِي التَّقْلِيدِ فِي الأَْحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْعَمَلِيَّةِ غَيْرَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ عَلَى رَأْيَيْنِ:
الأَْوَّل: جَوَازُ التَّقْلِيدِ فِيهَا وَهُوَ رَأْيُ جُمْهُورِ الأُْصُولِيِّينَ (3) ، قَالُوا: لأَِنَّ الْمُجْتَهِدَ فِيهَا إِمَّا مُصِيبٌ وَإِمَّا مُخْطِئٌ مُثَابٌ غَيْرُ آثِمٍ، فَجَازَ التَّقْلِيدُ فِيهَا، بَل وَجَبَ عَلَى الْعَامِّيِّ ذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ
__________
(1) كشاف القناع 6 / 306، ومطالب أولي النهى 6 / 441، دمشق، المكتب الإسلامي.
(2) إرشاد الفحول ص266.
(3) روضة الناظر 2 / 451، 452، وإعلام الموقعين 4 / 187 ـ 201، وإرشاد الفحول ص 266.(13/160)
مُكَلَّفٌ بِالْعَمَل بِأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ، وَقَدْ يَكُونُ فِي الأَْدِلَّةِ عَلَيْهَا خَفَاءٌ يُحْوِجُ إِلَى النَّظَرِ وَالاِجْتِهَادِ، وَتَكْلِيفُ الْعَوَّامِ رُتْبَةَ الاِجْتِهَادِ يُؤَدِّي إِلَى انْقِطَاعِ الْحَرْثِ وَالنَّسْل، وَتَعْطِيل الْحِرَفِ وَالصَّنَائِعِ، فَيُؤَدِّي إِلَى الْخَرَابِ، وَلأَِنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَانَ يُفْتِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَيُفْتُونَ غَيْرَهُمْ، وَلاَ يَأْمُرُونَهُمْ بِنَيْل دَرَجَةِ الاِجْتِهَادِ. وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِسُؤَال الْعُلَمَاءِ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَاسْأَلُوا أَهْل الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (1) .
الثَّانِي: إِنَّ التَّقْلِيدَ مُحَرَّمٌ لاَ يَجُوزُ. قَال بِذَلِكَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَابْنُ الْقَيِّمِ، وَالشَّوْكَانِيُّ، وَغَيْرُهُمْ. وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَمَّ التَّقْلِيدَ بِقَوْلِهِ: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} (2) وَقَوْلِهِ {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاَ} (3) وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الآْيَاتِ، وَإِنَّ الأَْئِمَّةَ قَدْ نَهَوْا عَنْ تَقْلِيدِهِمْ، قَال أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ: لاَ يَحِل لأَِحَدٍ أَنْ يَقُول بِقَوْلِنَا حَتَّى يَعْلَمَ مِنْ أَيْنَ قُلْنَاهُ. وَقَال الْمُزَنِيُّ فِي أَوَّل مُخْتَصَرِهِ: اخْتَصَرْتُ هَذَا مِنْ عِلْمِ الشَّافِعِيِّ، وَمِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ مَعَ إِعْلاَمِهِ نَهْيَهُ عَنْ تَقْلِيدِهِ وَتَقْلِيدِ غَيْرِهِ لِيُنْظَرَ فِيهِ لِدِينِهِ وَيَحْتَاطَ لِنَفْسِهِ وَقَال أَحْمَدُ: لاَ تُقَلِّدْنِي، وَلاَ تُقَلِّدْ مَالِكًا
__________
(1) سورة النحل / 43.
(2) سورة التوبة / 31.
(3) سورة الأحزاب / 67.(13/161)
وَلاَ الثَّوْرِيَّ، وَلاَ الأَْوْزَاعِيَّ، وَخُذْ مِنْ حَيْثُ أَخَذُوا (1) .
وَفِي بَعْضِ كَلاَمِ ابْنِ الْقَيِّمِ أَنَّ التَّقْلِيدَ الَّذِي يَرَى امْتِنَاعَهُ هُوَ (اتِّخَاذُ أَقْوَال رَجُلٍ بِعَيْنِهِ بِمَنْزِلَةِ نُصُوصِ الشَّارِعِ لاَ يُلْتَفَتُ إِلَى قَوْلٍ سِوَاهُ، بَل لاَ إِلَى نُصُوصِ الشَّارِعِ، إِلاَّ إِذَا وَافَقَتْ نُصُوصَ قَوْلِهِ. قَال فَهَذَا هُوَ التَّقْلِيدُ الَّذِي أَجْمَعَتِ الأُْمَّةُ عَلَى أَنَّهُ مُحَرَّمٌ فِي دِينِ اللَّهِ، وَلَمْ يَظْهَرْ فِي الأُْمَّةِ إِلاَّ بَعْدَ انْقِرَاضِ الْقُرُونِ الْفَاضِلَةِ) (2) .
وَأَثْبَتَ ابْنُ الْقَيِّمِ وَالشَّوْكَانِيُّ فَوْقَ التَّقْلِيدِ مَرْتَبَةً أَقَل مِنَ الاِجْتِهَادِ، هِيَ مَرْتَبَةُ الاِتِّبَاعِ، وَحَقِيقَتُهَا الأَْخْذُ بِقَوْل الْغَيْرِ مَعَ مَعْرِفَةِ دَلِيلِهِ، عَلَى حَدِّ مَا وَرَدَ فِي قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ (لاَ يَحِل لأَِحَدٍ أَنْ يَقُول مَقَالَتَنَا حَتَّى يَعْلَمَ مِنْ أَيْنَ قُلْنَا) (3) . غَيْرَ أَنَّ التَّقْلِيدَ يَجُوزُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ. وَمِنْ ذَلِكَ إِذَا لَمْ يَظْفَرِ الْعَالِمُ بِنَصٍّ مِنَ الْكِتَابِ أَوِ
__________
(1) إعلام الموقعين 4 / 187 - 201، 211، ومختصر المزني المطبوع مع الأم للشافعي ص1، وإرشاد الفحول ص 266.
(2) إعلام الموقعين 4 / 236، 192.
(3) إعلام الموقعين 4 / 260. ولعل الوجه في نهي الأئمة عن تقليدهم أنهم قالوه لتلامذتهم المؤهلين الذين لديهم القدرة على معرفة حجية الأدلة، ومدى صحتها، وعلى تفهم دلالاتها، فهؤلاء لا يصح منهم التقليد الصرف فيما يمكنهم فيه الرجوع إلى الأدلة، أما العامي الذي(13/161)
السُّنَّةِ، وَلَمْ يَجِدْ إِلاَّ قَوْل مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ، فَيُقَلِّدُهُ. أَمَّا التَّقْلِيدُ الْمُحَرَّمُ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْعَالِمُ مُتَمَكِّنًا مِنْ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ بِدَلِيلِهِ، ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ يَعْدِل إِلَى التَّقْلِيدِ، فَهُوَ كَمَنْ يَعْدِل إِلَى الْمَيْتَةِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الْمُذَكَّى.
وَالتَّقْلِيدُ إِنَّمَا هُوَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا عَلَى الاِجْتِهَادِ، أَوْ كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ لَكِنْ لَمْ يَجِدِ الْوَقْتَ لِذَلِكَ، فَهِيَ حَال ضَرُورَةٍ كَمَا قَال ابْنُ الْقَيِّمِ. وَقَدْ أَفْتَى الإِْمَامُ أَحْمَدُ بِقَوْل الشَّافِعِيِّ، وَقَال: إِذَا سُئِلْتُ عَنْ مَسْأَلَةٍ لَمْ أَعْرِفْ فِيهَا خَبَرًا أَفْتَيْتُ فِيهَا بِقَوْل الشَّافِعِيِّ، لأَِنَّهُ إِمَامٌ عَالِمٌ مِنْ قُرَيْشٍ (1) ، وَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تَسُبُّوا قُرَيْشًا، فَإِنَّ عَالِمَهَا يَمْلأَُ طِبَاقَ الأَْرْضِ عِلْمًا (2) .
شُرُوطُ مَنْ يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ:
14 - لاَ يَجُوزُ لِلْعَامِّيِّ أَنْ يَسْتَفْتِيَ إِلاَّ مَنْ يَعْرِفُهُ بِالْعِلْمِ وَالْعَدَالَةِ، أَمَّا مَنْ عَرَفَهُ بِالْجَهْل فَلاَ يَسْأَلُهُ اتِّفَاقًا، وَكَذَا لاَ يَسْأَل مَنْ عَرَفَهُ بِالْفِسْقِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَسْتَفْتِيَ مَنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ، لِمَا يَرَاهُ مِنَ انْتِصَابِهِ لِلْفُتْيَا وَأَخْذِ النَّاسِ عَنْهُ بِمَشْهَدٍ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ، وَمَا يَلْمَحُهُ فِيهِ مِنْ سِمَاتِ أَهْل الْعِلْمِ وَالدِّينِ وَالسَّتْرِ، أَوْ يُخْبِرُهُ
__________
(1) مطالب أولي النهى 6 / 448.
(2) حديث: " لا تسبوا قريشا، فإن عالمها يملأ " أخرجه الطيالسي في مسنده (2 / 199 ـ منحة المعبود ط. المنيرية) من حديث عبد الله بن مسعود، وضعف إسناده العجلوني في كشف الخفاء (2 / 68 ط. الرسالة) .(13/162)
بِذَلِكَ ثِقَةٌ. قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: لاَ يَجُوزُ أَنْ يُسْتَفْتَى إِلاَّ مَنْ يُفْتِي بِعِلْمٍ وَعَدْلٍ. أَمَّا مَجْهُول الْحَال فِي الْعِلْمِ فَلاَ يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ إِذْ قَدْ يَكُونُ أَجْهَل مِنَ السَّائِل. وَأَمَّا مَجْهُول الْحَال فِي الْعَدَالَةِ فَقَدْ قِيل: لاَ بُدَّ مِنَ السُّؤَال عَنْهُ مِنْ عَدْلٍ أَوْ عَدْلَيْنِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَأْمَنُ كَذِبَهُ وَتَدْلِيسَهُ، وَقِيل: لاَ يَلْزَمُ السُّؤَال عَنِ الْعَدَالَةِ؛ لأَِنَّ الأَْصْل فِي الْعُلَمَاءِ الْعَدَالَةُ (1) .
وَلاَ يُقَلِّدُ مُتَسَاهِلاً فِي الْفُتْيَا، وَلاَ مَنْ يَبْتَغِي الْحِيَل الْمُحَرَّمَةَ، وَلاَ مَنْ يَذْهَبُ إِلَى الأَْقْوَال الشَّاذَّةِ الَّتِي يُنْكِرُهَا الْجُمْهُورُ مِنَ الْعُلَمَاءِ (2) .
مَنْ يَجُوزُ لَهُ التَّقْلِيدُ:
15 - تَقَدَّمَ أَنَّ الَّذِي يَجُوزُ لَهُ التَّقْلِيدُ هُوَ الْعَامِّيُّ وَمَنْ عَلَى شَاكِلَتِهِ مِنْ غَيْرِ الْقَادِرِينَ عَلَى الاِجْتِهَادِ. وَكَذَلِكَ مَنْ لَهُ أَهْلِيَّةُ الاِجْتِهَادِ إِذَا اسْتَشْعَرَ الْفَوَاتَ لَوِ اشْتَغَل بِالاِجْتِهَادِ فِي الأَْحْكَامِ، فَلَهُ أَنْ يُقَلِّدَ مُجْتَهِدًا. فَأَمَّا الْمُجْتَهِدُ لَوْ أَرَادَ التَّقْلِيدَ مَعَ سَعَةِ الْوَقْتِ وَإِمْكَانِ الاِجْتِهَادِ فَقَدْ قَال الإِْمَامُ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يُقَلِّدَ بَل عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَهِدَ. وَقِيل: يَجُوزُ لَهُ التَّقْلِيدُ.
__________
(1) المستصفى 2 / 390، وروضة الناظر 2 / 452.
(2) مطالب أولي النهى 6 / 441، 446، 447، وتبصرة الحكام 1 / 52، القاهرة المطبعة العامرة الشرفية 1301 هـ.(13/162)
وَدَلِيل الْقَوْل بِأَنَّ الاِجْتِهَادَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنَّ اجْتِهَادَهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ يُضَاهِي النَّصَّ، فَلاَ يَعْدِل عَنِ الاِجْتِهَادِ عِنْدَ إِمْكَانِهِ، كَمَا لاَ يَعْدِل عَنِ النَّصِّ إِلَى الْقِيَاسِ (1) . أَمَّا إِنِ اجْتَهَدَ مَنْ هُوَ أَهْلٌ لِلاِجْتِهَادِ، فَأَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَى مَعْرِفَةِ الْحُكْمِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتْرُكَهُ وَيَصِيرَ إِلَى الْعَمَل أَوِ الإِْفْتَاءِ بِقَوْل غَيْرِهِ تَقْلِيدًا لِمَنْ خَالَفَهُ فِي ذَلِكَ، قَال صَاحِبُ مُسَلَّمِ الثُّبُوتِ: " إِجْمَاعًا " أَيْ بِإِجْمَاعِ أَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ، لأَِنَّ مَا عَلِمَهُ هُوَ حُكْمُ اللَّهِ فِي حَقِّهِ فَلاَ يَتْرُكُهُ لِقَوْل أَحَدٍ. وَلَكِنْ لَوْ أَنَّ الْقَاضِيَ الْمُجْتَهِدَ حَكَمَ بِالتَّقْلِيدِ نَفَذَ حُكْمُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى رِوَايَةٍ، وَلَمْ يَنْفُذْ عَلَى الرِّوَايَةِ الأُْخْرَى، وَلاَ عَلَى قَوْل الصَّاحِبَيْنِ وَالْفَتْوَى عَلَى قَوْلِهِمَا، وَهِيَ الرِّوَايَةُ الأُْخْرَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ (2) .
وَاَلَّذِينَ قَالُوا بِتَجَزُّؤِ الاِجْتِهَادِ يَجِبُ عِنْدَهُمْ عَلَى الْمُجْتَهِدِ الْمُطْلَقِ أَنْ يُقَلِّدَ فِيمَا لَمْ يَظْهَرْ لَهُ حُكْمُ الشَّرْعِ فِيهِ، فَيَكُونُ مُجْتَهِدًا فِي الْبَعْضِ مُقَلِّدًا فِي الْبَعْضِ الآْخَرِ، وَلَكِنْ قِيل: إِنَّهُ مَا دَامَ عَالِمًا فَلاَ يُقَلِّدُ إِلاَّ بِشَرْطِ أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ وَجْهُ الصِّحَّةِ، بِأَنْ يُظْهِرَهُ لَهُ الْمُجْتَهِدُ الآْخَرُ (3) .
__________
(1) البرهان للجويني 2 / 1340 بتحقيق د. عبد العظيم الديب، نشر على نفقة أمير قطر، 1399هـ، وروضة الطالبين 11 / 100.
(2) مسلم الثبوت 2 / 392، 393.
(3) مسلم الثبوت 2 / 402.(13/163)
وَأَيْضًا قَدْ يُقَلِّدُ الْعَالِمَ فِي الثُّبُوتِ، كَمَنْ قَلَّدَ الْبُخَارِيَّ فِي تَصْحِيحِ الْحَدِيثِ، ثُمَّ يَجْتَهِدُ فِي الدَّلاَلَةِ أَوِ الْقِيَاسِ أَوْ دَفْعِ التَّعَارُضِ بِنَاءً عَلَى مَا ثَبَتَ عِنْدَ غَيْرِهِ.
تَعَدُّدُ الْمُفْتِينَ وَاخْتِلاَفُهُمْ عَلَى الْمُقَلِّدِ:
16 - إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْبَلَدِ إِلاَّ مُفْتٍ وَاحِدٌ وَجَبَ عَلَى الْمُقَلِّدِ مُرَاجَعَتُهُ وَالْعَمَل بِمَا أَفْتَاهُ بِهِ مِمَّا لاَ يَعْلَمُهُ. وَإِنْ تَعَدَّدَ الْمُفْتُونَ وَكُلُّهُمْ أَهْلٌ، فَلِلْمُقَلِّدِ أَنْ يَسْأَل مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ، وَلاَ يَلْزَمُهُ مُرَاجَعَةُ الأَْعْلَمِ، وَذَلِكَ لِمَا عُلِمَ أَنَّ الْعَوَامَّ فِي زَمَانِ الصَّحَابَةِ كَانُوا يَسْأَلُونَ الْفَاضِل وَالْمَفْضُول، وَلَمْ يُحْجَرْ عَلَى أَحَدٍ فِي سُؤَال غَيْرِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ. فَلاَ يَلْزَمُ إِلاَّ مُرَاعَاةُ الْعِلْمِ وَالْعَدَالَةِ.
لَكِنْ إِذَا تَنَاقَضَ قَوْل عَالِمَيْنِ، فَأَفْتَاهُ أَحَدُهُمَا بِغَيْرِ مَا أَفْتَاهُ بِهِ الآْخَرُ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الأَْخْذُ بِقَوْل مَنْ يَرَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ الأَْفْضَل مِنْهُمَا فِي عِلْمِهِ وَدِينِهِ. فَوَاجِبُهُ التَّرْجِيحُ بَيْنَ الْمُقَلَّدِينَ بِالْعِلْمِ وَالدِّينِ. قَال صَاحِبُ مَطَالِبِ أُولِي النُّهَى: يَحْرُمُ الْحُكْمُ وَالْفُتْيَا بِقَوْلٍ أَوْ وَجْهٍ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ فِي التَّرْجِيحِ إِجْمَاعًا. وَهَذَا لأَِنَّ الْغَلَطَ عَلَى الأَْعْلَمِ أَبْعَدُ وَمِنَ الأَْقَل عِلْمًا أَقْرَبُ. وَلَيْسَ لِلْمُقَلِّدِ أَنْ يَجْعَل نَفْسَهُ بِالْخِيَارِ يَأْخُذُ مَا شَاءَ وَيَتْرُكُ مَا شَاءَ، وَخَاصَّةً إِذَا تَتَبَّعَ الرُّخَصَ لِيَأْخُذَ بِمَا يَهْوَاهُ بِمُجَرَّدِ التَّشَهِّي. وَذَلِكَ كَمَا أَنَّ الْمُجْتَهِدَ وَاجِبُهُ التَّرْجِيحُ(13/163)
بَيْنَ الأَْدِلَّةِ وَلَيْسَ لَهُ التَّخَيُّرُ مِنْهَا اتِّفَاقًا. وَاَلَّذِينَ أَجَازُوا التَّخَيُّرَ - وَهُمْ قِلَّةٌ - إِنَّمَا أَجَازُوهُ عِنْدَ عَدَمِ إِمْكَانِ التَّرْجِيحِ (1) . وَيُنْظَرُ الْخِلاَفُ فِي ذَلِكَ وَالتَّفْصِيل فِيهِ فِي مَوْضِعِهِ مِنَ الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ، إِذْ فِي الْمَسْأَلَةِ خِلاَفٌ.
تَقْلِيدُ الْمَذَاهِبِ:
17 - قَال الشَّوْكَانِيُّ: اخْتَلَفَ الْمُجَوِّزُونَ لِلتَّقْلِيدِ هَل يَجِبُ عَلَى الْعَامِّيِّ الْتِزَامُ مَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ، فَقَال جَمَاعَةٌ: يَلْزَمُهُ، وَاخْتَارَهُ إِلْكِيَا الْهِرَّاسِيُّ. وَقَال آخَرُونَ: لاَ يَلْزَمُهُ، وَرَجَّحَهُ ابْنُ بُرْهَانٍ وَالنَّوَوِيُّ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ. وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَمْ يُنْكِرُوا عَلَى الْعَامَّةِ تَقْلِيدَ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضِ الْمَسَائِل وَبَعْضِهِمْ فِي الْبَعْضِ الآْخَرِ. وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ يُقَلِّدُونَ مَنْ شَاءُوا قَبْل ظُهُورِ الْمَذَاهِبِ (2) . وَفِي الْمَسْأَلَةِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ. وَاَلَّذِينَ قَالُوا بِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْعَامِّيِّ الْتِزَامُ مَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ بِعَزَائِمِهِ وَرُخَصِهِ، إِلاَّ أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ غَيْرَهُ أَوْلَى بِالاِلْتِزَامِ مِنْهُ. قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: وَإِذَا تَبَيَّنَ لَهُ حُكْمُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي أَمْرٍ
__________
(1) المستصفى 2 / 391، 392، وروضة الناظر 2 / 454، وإرشاد الفحول ص 271، والبرهان للجويني 2 / 1342 ـ 1344، نهاية المحتاج 1 / 41، ومطالب أولي النهى 6 / 441، وتبصرة الحكام 1 / 51.
(2) إرشاد الفحول ص 272.(13/164)
فَلاَ يَعْدِل عَنْهُ، وَلاَ يَتْبَعُ أَحَدًا فِي مُخَالَفَةِ حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَيَجُوزُ لَهُ أَيْضًا الْخُرُوجُ عَنْهُ بِتَقْلِيدٍ سَائِغٍ، أَيْ بِتَقْلِيدِ عَالِمٍ مِنْ أَهْل الاِجْتِهَادِ أَفْتَاهُ (1) .
أَثَرُ الْعَمَل بِالتَّقْلِيدِ الصَّحِيحِ:
18 - مَنْ عَمِل بِتَقْلِيدٍ صَحِيحٍ فَلاَ إِنْكَارَ عَلَيْهِ، لأَِنَّهُ لاَ إِنْكَارَ فِي الْمَسَائِل الاِجْتِهَادِيَّةِ. وَدَعْوَى الْحِسْبَةِ أَيْضًا لاَ تَدْخُل فِيهَا، وَلِذَلِكَ فَلاَ يَمْنَعُهُ الْحَاكِمُ مَا فَعَل. وَهَذَا وَاضِحٌ فِيمَا ضَرَرُهُ قَاصِرٌ عَلَى الْمُقَلِّدِ نَفْسِهِ، كَمَنْ مَسَّ فَرْجَهُ ثُمَّ صَلَّى دُونَ أَنْ يَتَوَضَّأَ. لَكِنْ لَوْ كَانَ فِي فِعْلِهِ ضَرَرٌ يَتَعَدَّى إِلَى غَيْرِهِ، فَقَدْ قِيل: إِنَّ الْحَاكِمَ أَوِ الْمُحْتَسِبَ إِنْ كَانَ يَرَى حُرْمَةَ ذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْهِ الاِعْتِرَاضُ عَلَيْهِ (2) .
وَلَيْسَ مَعْنَى عَدَمِ الإِْنْكَارِ عَلَى مَنْ عَمِل بِتَقْلِيدٍ صَحِيحٍ تَرْكَ الْبَيَانِ لَهُ مِنْ عَالِمٍ يَرَى مَرْجُوحِيَّةَ فِعْلِهِ، وَكَانَ الْبَيَانُ دَأْبَ أَهْل الْعِلْمِ وَلاَ يَزَال، فَضْلاً عَنِ الأَْخْذِ وَالرَّدِّ بَيْنَهُمْ فِيمَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ. وَقَدْ يُخَطِّئُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَخَاصَّةً مَنْ خَالَفَ نَصًّا صَحِيحًا سَالِمًا مِنَ الْمُعَارَضَةِ. وَهَذَا وَاضِحٌ عَلَى قَوْل أَكْثَرِ الأُْصُولِيِّينَ، وَهُمُ الْقَائِلُونَ بِجَوَازِ تَخْطِئَةِ الْمُجْتَهِدِ فِي الْمَسَائِل الاِجْتِهَادِيَّةِ. إِلاَّ أَنَّ هَذَا الْبَيَانَ يَكُونُ
__________
(1) كشاف القناع 6 / 307.
(2) نهاية المحتاج 1 / 219 القاهرة.(13/164)
مَعَ تَمْهِيدِ الْعُذْرِ لِلْمُخَالِفِ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ، وَحِفْظِ رُتْبَتِهِ وَإِقَامَةِ هَيْبَتِهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَيْضًا لاَ تَمْنَعُ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ الْحَاكِمَ أَنْ يَحْكُمَ عَلَى مُقَلِّدٍ رُفِعَ إِلَيْهِ أَمْرُهُ بِمَا يَرَاهُ طِبْقًا لاِجْتِهَادِهِ، إِذْ لَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ بِخِلاَفِ مُعْتَقَدِهِ (1)
إِفْتَاءُ الْمُقَلِّدِ:
19 - يُشْتَرَطُ فِي الْمُفْتِي عِنْدَ الأَْئِمَّةِ الثَّلاَثَةِ أَنْ يَكُونَ مُجْتَهِدًا، وَلَيْسَ هَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ شَرْطَ صِحَّةٍ وَلَكِنَّهُ شَرْطُ أَوْلَوِيَّةٍ، تَسْهِيلاً عَلَى النَّاسِ (2) .
وَصَحَّحَ ابْنُ الْقَيِّمِ أَنَّ إِفْتَاءَ الْمُقَلِّدِ جَائِزٌ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَعَدَمِ وُجُودِ الْعَالِمِ الْمُجْتَهِدِ (3) ، وَقَيَّدَهُ ابْنُ حَمْدَانَ - مِنَ الْحَنَابِلَةِ - بِالضَّرُورَةِ (4) . وَنَقَل الشَّوْكَانِيُّ اشْتِرَاطَ بَعْضِ الأُْصُولِيِّينَ أَنْ يَكُونَ الْمُفْتِي أَهْلاً لِلنَّظَرِ مُطَّلِعًا عَلَى مَأْخَذِ مَا يُفْتِي بِهِ وَإِلاَّ فَلاَ يَجُوزُ (5) .
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: الْمُفْتِي يَجُوزُ أَنْ يُخْبِرَ بِمَا سَمِعَ إِلاَّ أَنَّهُ لاَ يَكُونُ مُفْتِيًا فِي تِلْكَ الْحَال وَإِنَّمَا هُوَ مُخْبِرٌ، فَيَحْتَاجُ أَنْ يُخْبِرَ عَنْ رَجُلٍ بِعَيْنِهِ مِنْ
__________
(1) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 158. القاهرة، مصطفى الحلبي. 1378 هـ، والمغني لابن قدامة 8 / 306.
(2) مجمع الأنهر 2 / 146، والمغني9 / 52.
(3) إعلام الموقعين 1 / 46.
(4) صفة الفتوى والمفتي والمستفتي، لابن حمدان ص 24. دمشق. المكتب الإسلامي ص 24.
(5) إرشاد الفحول ص 296.(13/165)
أَهْل الاِجْتِهَادِ فَيَكُونُ مَعْمُولاً بِخَبَرِهِ لاَ بِفُتْيَاهُ (1) . وَصَحَّحَ الشَّوْكَانِيُّ أَنَّ مَا يُلْقِيهِ الْمُقَلِّدُ عَنْ مُقَلَّدِهِ إِلَى الْمُسْتَفْتِي لَيْسَ مِنَ الْفُتْيَا فِي شَيْءٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مُجَرَّدُ نَقْل قَوْلٍ. قَال: الَّذِي أَعْتَقِدُهُ أَنَّ الْمُفْتِيَ الْمُقَلِّدَ لاَ يَحِل لَهُ أَنْ يُفْتِيَ مَنْ يَسْأَلُهُ عَنْ حُكْمِ اللَّهِ وَحُكْمِ رَسُولِهِ، أَوْ عَنِ الْحَقِّ، أَوْ عَمَّا يَحِل لَهُ وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ الْمُقَلِّدَ لاَ يَدْرِي بِوَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الأُْمُورِ، بَل لاَ يَعْرِفُهَا إِلاَّ الْمُجْتَهِدُ. وَهَذَا إِنْ سَأَلَهُ السَّائِل سُؤَالاً مُطْلَقًا. وَأَمَّا إِنْ سَأَلَهُ سَائِلٌ عَنْ قَوْل فُلاَنٍ وَرَأْيِ فُلاَنٍ فَلاَ بَأْسَ بِأَنْ يَنْقُل إِلَيْهِ ذَلِكَ وَيَرْوِيهِ لَهُ إِنْ كَانَ عَارِفًا بِمَذْهَبِهِ (2) .
وَنَقَل ابْنُ الصَّلاَحِ عَنِ الْحَلِيمِيِّ وَالرُّويَانِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْمُفْتِي أَنْ يُفْتِيَ بِمَا هُوَ مُقَلِّدٌ فِيهِ، ثُمَّ قَال ابْنُ الصَّلاَحِ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُذَكِّرَهُ فِي صُورَةِ مَا يَقُولُهُ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ، بَل يُضَيِّفُهُ وَيَحْكِيهِ عَنْ إِمَامِهِ الَّذِي قَلَّدَهُ. قَال ابْنُ الصَّلاَحِ: فَعَلَى هَذَا مَنْ عَدَدْنَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمُفْتِينَ مِنَ الْمُقَلِّدِينَ لَيْسُوا عَلَى الْحَقِيقَةِ مِنَ الْمُفْتِينَ، وَلَكِنَّهُمْ قَامُوا مَقَامَهُمْ وَأَدَّوْا عَنْهُمْ (3) .
__________
(1) المغني 9 / 41.
(2) رسالة القول المفيد في الاجتهاد والتقليد للشوكاني ـ خاتمة الرسالة.
(3) فتاوى ابن الصلاح مخطوطة بدار الكتب المصرية برقم (1889 أصول فقه) ق10.(13/165)
هَل الْمُقَلِّدُ مِنْ أَهْل الإِْجْمَاعِ؟
20 - يَرَى جُمْهُورُ الأُْصُولِيِّينَ أَنَّ الْمُقَلِّدَ لاَ يُعْتَبَرُ فَقِيهًا، وَلِذَا قَالُوا: إِنَّ رَأْيَهُ لاَ يُعْتَدُّ بِهِ فِي الإِْجْمَاعِ وَإِنْ كَانَ عَارِفًا بِالْمَسَائِل الْفِقْهِيَّةِ، إِذِ الْجَامِعُ بَيْنَ أَهْل الإِْجْمَاعِ هُوَ الرَّأْيُ، وَلَيْسَ لِلْمُقَلِّدِ رَأْيٌ إِذْ رَأْيُهُ هُوَ عَنْ رَأْيِ إِمَامِهِ. وَهَذَا إِنْ لَمْ يَكُنْ مُجْتَهِدًا فِي بَعْضِ الْمَسَائِل، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَعَلَى أَسَاسِ قَاعِدَةِ جَوَازِ تَجَزُّؤِ الاِجْتِهَادِ، يُعْتَدُّ بِالْمُقَلِّدِ فِي الإِْجْمَاعِ فِي الْمَسَائِل الَّتِي يَجْتَهِدُ فِيهَا (1) .
قَضَاءُ الْمُقَلِّدِ:
21 - يَشْتَرِطُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ كُلٍّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، فِي الْقَاضِي أَنْ يَكُونَ مُجْتَهِدًا. وَادَّعَى ابْنُ حَزْمٍ الإِْجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ، وَلِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَل اللَّهُ} (2) وقَوْله تَعَالَى {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُول} (3) وَفَاقِدُ الاِجْتِهَادِ إِنَّمَا يَحْكُمُ بِالتَّقْلِيدِ وَلاَ يَعْرِفُ الرَّدَّ إِلَى مَا أَنْزَل اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُول.
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لاَ يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يُقَلِّدَ غَيْرَهُ وَيَحْكُمَ بِقَوْل سِوَاهُ، سَوَاءٌ ظَهَرَ لَهُ الْحَقُّ فَخَالَفَهُ غَيْرُهُ فِيهِ أَمْ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ شَيْءٌ، وَسَوَاءٌ ضَاقَ الْوَقْتُ أَمْ لَمْ يَضِقْ. وَقَال سَائِرُ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ مُتَأَخِّرِي
__________
(1) شرح مسلم الثبوت 2 / 217، 218.
(2) سورة المائدة / 49.
(3) سورة النساء / 59.(13/166)
الْحَنَابِلَةِ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي مُقَلِّدًا، لِئَلاَّ تَتَعَطَّل أَحْكَامُ النَّاسِ، وَعَلَّل الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ غَرَضَ الْقَضَاءِ فَصْل الْخُصُومَاتِ فَإِذَا تَحَقَّقَ بِالتَّقْلِيدِ جَازَ (1) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ إِنْ تَعَذَّرَ الْقَاضِي الْمُجْتَهِدُ جَازَ تَوْلِيَةُ الْمُقَلِّدِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَتَتَحَقَّقُ الضَّرُورَةُ بِأَمْرَيْنِ:
الأَْوَّل: أَنْ يُوَلِّيَهُ سُلْطَانٌ ذُو شَوْكَةٍ، بِخِلاَفِ نَائِبِ السُّلْطَانِ، كَالْقَاضِي الأَْكْبَرِ، فَلاَ تُعْتَبَرُ تَوْلِيَتُهُ لِقَاضٍ مُقَلِّدٍ ضَرُورَةً. وَيَحْرُمُ عَلَى السُّلْطَانِ تَوْلِيَةُ غَيْرِ الْمُجْتَهِدِ عِنْدَ وُجُودِ الْمُجْتَهِدِ. ثُمَّ لَوْ زَالَتِ الشَّوْكَةُ انْعَزَل الْقَاضِي بِزَوَالِهَا.
الثَّانِي: أَنْ لاَ يُوجَدَ مُجْتَهِدٌ يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ، فَإِنْ وُجِدَ مُجْتَهِدٌ صَالِحٌ لِلْقَضَاءِ لَمْ يَجُزْ تَوْلِيَةُ الْمُقَلِّدِ، وَلَمْ تَنْفُذْ تَوْلِيَتُهُ. وَعَلَى قَاضِي الضَّرُورَةِ أَنْ يُرَاجِعَ الْعُلَمَاءَ، وَهَذَا مَوْضِعُ اتِّفَاقٍ، وَعَلَيْهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنْ يَذْكُرَ مُسْتَنَدَهُ فِي أَحْكَامِهِ.
مَا يَفْعَلُهُ الْمُقَلِّدُ إِذَا تَغَيَّرَ الاِجْتِهَادُ:
22 - إِذَا تَغَيَّرَ اجْتِهَادُ الْمُجْتَهِدِ بَعْدَ أَنْ فَعَل الْمُقَلِّدُ طِبْقًا لِمَا أَفْتَاهُ بِهِ، لَمْ يَلْزَمِ الْمُقَلِّدَ مُتَابَعَةُ الْمُقَلَّدِ فِي
__________
(1) المغني 9 / 41، 52، وتبصرة الحكام 1 / 46، وروضة الطالبين 11 / 94، 97، وشرح المنهاج بحاشية القليوبي وعميرة 4 / 297.(13/166)
اجْتِهَادِهِ الثَّانِي بِالنِّسْبَةِ لِتَصَرُّفٍ أَمْضَاهُ، كَمَا لَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِلاَ وَلِيٍّ - مَثَلاً - مُقَلِّدًا لِمُجْتَهِدٍ يَرَى صِحَّةَ النِّكَاحِ بِلاَ وَلِيٍّ، ثُمَّ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُ الْمُجْتَهِدِ إِلَى الْبُطْلاَنِ، وَهَذَا كَمَا لَوْ حَكَمَ لَهُ حَاكِمٌ بِذَلِكَ، إِذْ لاَ يُنْقَضُ الاِجْتِهَادُ بِمِثْلِهِ. وَلاَ يَلْزَمُ الْمُجْتَهِدَ إِذَا تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ أَنْ يُعْلِمَ مَنْ قَلَّدَهُ بِذَلِكَ. وَهَذَا إِنْ كَانَ الاِجْتِهَادُ مُعْتَبَرًا، بِخِلاَفِ مَا لَوْ تَبَيَّنَ خَطَؤُهُ يَقِينًا، بِأَنْ كَانَ مُخَالِفًا لِنَصٍّ صَحِيحٍ سَالِمٍ مِنَ الْمُعَارَضَةِ، أَوْ مُخَالِفًا لِلإِْجْمَاعِ، أَوْ لِقِيَاسٍ جَلِيٍّ، فَيُنْقَضُ. وَقِيل بِالتَّفْرِيقِ فِي ذَلِكَ بَيْنَ النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ، فَفِي النِّكَاحِ يُنْقَضُ وَفِي غَيْرِهِ لاَ يُنْقَضُ. أَمَّا قَبْل أَنْ يَتَصَرَّفَ الْمُقَلِّدُ بِنَاءً عَلَى الْفُتْيَا، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُقْدِمَ عَلَى ذَلِكَ التَّصَرُّفِ بَعْدَ تَغَيُّرِ الاِجْتِهَادِ إِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْفُتْيَا مُسْتَنَدَهُ الْوَحِيدَ (1) .
التَّقْلِيدُ فِي اسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ وَمَوَاقِيتِ الصَّلاَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ:
23 - مَنْ أَمْكَنَهُ مَعْرِفَةُ جِهَةِ الْقِبْلَةِ بِرُؤْيَةٍ أَوْ نَحْوِهَا دُونَ حَرَجٍ يَلْحَقُهُ حَرُمَ عَلَيْهِ الأَْخْذُ بِالْخَبَرِ
__________
(1) مطالب أولي النهى 6 / 536، وإعلام الموقعين 4 / 223، وروضة الطالبين 11 / 107، وجمع الجوامع 2 / 361، 391.(13/167)
عَنْهَا، وَحَرُمَ عَلَيْهِ الاِجْتِهَادُ وَالتَّقْلِيدُ فِي ذَلِكَ. وَإِلاَّ يُمْكِنْهُ الْعِلْمُ أَخَذَ بِخَبَرِ ثِقَةٍ يُخْبِرُ عَنْ عِلْمٍ، فَإِنْ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ حَرُمَ عَلَيْهِ الاِجْتِهَادُ وَالتَّقْلِيدُ، وَإِلاَّ فَعَلَيْهِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي أَدِلَّةِ الْقِبْلَةِ وَلاَ يُقَلِّدَ، وَمَنْ عَجَزَ عَنِ الاِجْتِهَادِ فِي الأَْدِلَّةِ يُقَلِّدُ ثِقَةً عَارِفًا بِأَدِلَّةِ الْقِبْلَةِ. فَلَوْ صَلَّى مِنْ غَيْرِ تَقْلِيدٍ مُعْتَبَرٍ وَقَدْ أَمْكَنَهُ أَنْ يُقَلِّدَ لَزِمَتْهُ الإِْعَادَةُ وَلَوْ صَادَفَتْ صَلاَتُهُ الْقِبْلَةَ. أَمَّا مَا صَلَّى بِالاِجْتِهَادِ أَوِ التَّقْلِيدِ وَصَادَفَ الْقِبْلَةَ أَوْ لَمْ يَتَبَيَّنِ الْحَال فَلاَ إِعَادَةَ عَلَيْهِ (1) .
وَفِي الْمَسْأَلَةِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ تَحْتَ عِنْوَانِ (اسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ) . وَقَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ الْقَوْل فِي التَّقْلِيدِ فِي مَوَاقِيتِ الصَّلاَةِ (2) (ر: أَوْقَاتُ الصَّلاَةِ) .
أَمَّا تَقْلِيدُ أَهْل الْخِبْرَةِ مِنِ الْمُنَجِّمِينَ وَالْحَاسِبِينَ إِذَا اجْتَهَدُوا فِي دُخُول شَهْرِ رَمَضَانَ مَثَلاً بِالنَّظَرِ فِي الْحِسَابِ فَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ لاَ يَجِبُ الصَّوْمُ وَلاَ الْفِطْرُ بِقَوْلِهِمْ تَقْلِيدًا لَهُمْ وَلاَ يَجُوزُ.
وَقَال الرَّمْلِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: يَجُوزُ لِلْمُنَجِّمِ وَالْحَاسِبِ أَنْ يَعْمَلاَ بِمَعْرِفَتِهِمَا بَل يَجِبُ عَلَيْهِمَا ذَلِكَ، وَلَيْسَ لأَِحَدٍ تَقْلِيدُهُمَا. وَقَال فِي مَوْضِعٍ
__________
(1) نهاية المحتاج 1 / 419ـ 428، وكشاف القناع 1 / 307.
(2) المغني 1 / 387، ونهاية المحتاج 1 / 362، وكشاف القناع 1 / 259.(13/167)
آخَرَ: إِنَّ لِغَيْرِهِ الْعَمَل بِهِ (1) .
وَلَكِنْ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَجُوزُ التَّقْلِيدُ مِنَ الصَّائِمِ فِي الْفَجْرِ وَالْغُرُوبِ وَلَوْ مِنْ قَادِرٍ عَلَى الاِجْتِهَادِ. وَفَرَّقُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ بِكَثْرَةِ الْخَطَأِ فِيهَا (2) .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
__________
(1) روضة الطالبين 2 / 347، ونهاية المحتاج 1 / 363.
(2) الدسوقي على الشرح 1 / 526.(13/168)
تَقَوُّمٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّقَوُّمُ: مَصْدَرُ تَقَوَّمَ الشَّيْءُ تَقَوُّمًا. مُطَاوِعُ قَوَّمَ يُقَال: قَوَّمْتُهُ فَتَقَوَّمَ أَيْ: عَدَّلْتُهُ فَتَعَدَّل، وَثَمَّنْتُهُ فَتَثَمَّنَ (1) . وَهُوَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: كَوْنُ الشَّيْءِ مَالاً مُبَاحَ الاِنْتِفَاعِ بِهِ شَرْعًا فِي غَيْرِ ضَرُورَةٍ. فَكُل مُتَقَوِّمٍ مَالٌ، وَلَيْسَ كُل مَالٍ مُتَقَوِّمًا، فَمَا يُبَاحُ بِلاَ تَمَوُّلٍ لاَ يَكُونُ مَالاً كَحَبَّةِ قَمْحٍ. وَمَا يُتَمَوَّل بِلاَ إِبَاحَةِ انْتِفَاعٍ لاَ يَكُونُ مُتَقَوِّمًا كَالْخَمْرِ. وَإِذَا عُدِمَ الأَْمْرَانِ لَمْ يَثْبُتْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، كَالدَّمِ، وَإِذَا وُجِدَا كَانَ الشَّيْءُ مَالاً مُتَقَوِّمًا (2) .
وَقَدْ يُسْتَعْمَل التَّقَوُّمُ فِيمَا يَحْصُرُهُ عَدٌّ أَوْ ذَرْعٌ، كَحَيَوَانٍ وَثِيَابٍ، فَالتَّقَوُّمُ بِهَذَا الاِعْتِبَارِ يُقَابِل الْمِثْلِيَّ (3) .
__________
(1) المصباح المنير، محيط المحيط، والقاموس المحيط مادة: " قوم ".
(2) حاشية ابن عابدين 4 / 3، ودرر الحكام 1 / 101.
(3) نهاية المحتاج 5 / 159، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 356 ط دار الكتب العلمية.(13/168)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ) :
أ - التَّمَوُّل:
2 - يُرَادُ بِالتَّمَوُّل عِنْدَ الْفُقَهَاءِ اتِّخَاذُ الْمَال قُنْيَةٌ (1) .
فَالتَّقَوُّمُ أَخَصُّ مِنَ التَّمَوُّل، لأَِنَّ التَّقَوُّمَ يَسْتَلْزِمُ إِبَاحَةَ الاِنْتِفَاعِ بِالشَّيْءِ شَرْعًا، فَضْلاً عَنْ كَوْنِهِ مُتَمَوَّلاً (2) .
(الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ) :
3 - يُشْتَرَطُ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ - بِجَانِبِ تَوَافُرِ سَائِرِ الشُّرُوطِ - أَنْ يَكُونَ مُتَقَوِّمًا، أَيْ يُبَاحُ الاِنْتِفَاعُ بِهِ، فَلاَ يَصِحُّ بَيْعُ الْمَال غَيْرِ الْمُتَقَوِّمِ. وَهَذَا مَا لاَ خِلاَفَ فِيهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ (3) . إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ يَقُولُونَ بِالتَّفْرِقَةِ بَيْنَ بَيْعِ غَيْرِ الْمُتَقَوِّمِ وَالشِّرَاءِ بِغَيْرِ الْمُتَقَوِّمِ، فَبَيْعُ الْمَال غَيْرِ الْمُتَقَوِّمِ بَاطِلٌ عِنْدَهُمْ لاَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُكْمٌ كَبَيْعِ الدَّمِ بِالْخِنْزِيرِ، فَلاَ يَمْلِكُ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ وَلاَ الْبَائِعُ الثَّمَنَ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْبَيْعُ حَالًّا أَمْ مُؤَجَّلاً. أَمَّا الشِّرَاءُ بِثَمَنٍ غَيْرِ مُتَقَوِّمٍ، فَيَعْتَبِرُونَهُ
__________
(1) المصباح المنير مادة: " مول ".
(2) حاشية ابن عابدين 4 / 3 ط بولاق.
(3) درر الحكام 1 / 152، 160، حاشية ابن عابدين 4 / 103، والخرشي 2 / 456، وما بعدها، والقوانين الفقهية ص 163 ط دار العلم، وجواهر الإكليل 2 / 4، ونهاية المحتاج 3 / 383 ط الحلبي، والمهذب 1 / 268، 269ط دار المعرفة، وروضة الطالبين 3 / 350 وما بعدها و 5 / 177، والمغني لابن قدامة 4 / 284ط الرياض.(13/169)
فَاسِدًا وَتَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ. وَسَبَبُ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْحَالَتَيْنِ أَنَّ الْمَبِيعَ هُوَ الْمَقْصُودُ الأَْصْلِيُّ مِنَ الْبَيْعِ، لأَِنَّ الاِنْتِفَاعَ إِنَّمَا يَكُونُ بِالأَْعْيَانِ، وَالأَْثْمَانُ وَسِيلَةٌ لِلْمُبَادَلَةِ (1) .
وَلِلتَّوَسُّعِ فِي ذَلِكَ (ر: بُطْلاَنٌ، فَسَادٌ، بَيْعٌ، بَيْعٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ) .
تَقَوُّمُ الْمُتْلَفَاتِ:
4 - مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ ضَمَانِ الْمُتْلَفَاتِ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ الْمُتْلَفُ مُتَقَوِّمًا، فَلاَ يَجِبُ الضَّمَانُ بِإِتْلاَفِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ عَلَى الْمُسْلِمِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمُتْلِفُ مُسْلِمًا أَمْ ذِمِّيًّا، لِسُقُوطِ تَقَوُّمِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ (2) .
(ر: إتْلاَفٌ ف 34 - 1 / 225) .
أَمَّا لَوْ أَتْلَفَ مُسْلِمٌ أَوْ ذِمِّيٌّ عَلَى ذِمِّيٍّ خَمْرًا أَوْ خِنْزِيرًا فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وُجُوبَ الضَّمَانِ، وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّنَا أُمِرْنَا أَنْ نَتْرُكَ أَهْل الذِّمَّةِ وَمَا يَدِينُونَ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَأَل عُمَّالَهُ: مَاذَا تَصْنَعُونَ بِمَا يَمُرُّ بِهِ أَهْل الذِّمَّةِ مِنَ الْخُمُورِ؟ فَقَالُوا: نُعَشِّرُهَا، فَقَال: لاَ تَفْعَلُوا، وَلُّوهُمْ بَيْعَهَا، وَخُذُوا الْعُشْرَ مِنْ أَثْمَانِهَا. فَلَوْلاَ أَنَّهَا مُتَقَوِّمَةٌ وَبَيْعُهَا جَائِزٌ لَهُمْ لَمَا
__________
(1) رد المحتار 4 / 3.
(2) بدائع الصنائع 7 / 167، الزيلعي 5 / 233، ومجمع الضمانات ص 130ـ 132، والشرح الصغير 4 / 400، ونهاية المحتاج 7 / 367، والمغني 5 / 298، 299.(13/169)
أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ، فَإِذَا كَانَتْ مَالاً لَهُمْ وَجَبَ ضَمَانُهَا كَسَائِرِ أَمْوَالِهِمْ (1) .
وَيَقُول الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِعَدَمِ وُجُوبِ ضَمَانِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ أَكَانَا لِمُسْلِمٍ أَمْ ذِمِّيٍّ، لِمَا رَوَى جَابِرٌ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: أَلاَ إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَا بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالأَْصْنَامِ (2) وَمَا حَرُمَ بَيْعُهُ لِحُرْمَتِهِ لَمْ تَجِبْ قِيمَتُهُ كَالْمَيْتَةِ، وَلأَِنَّ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ غَيْرُ مُتَقَوِّمَيْنِ فَلاَ يَجِبُ ضَمَانُهُمَا، وَدَلِيل أَنَّهُمَا غَيْرُ مُتَقَوِّمَيْنِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ - فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الذِّمِّيِّ - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: فَإِذَا قَبِلُوا عَقْدَ الذِّمَّةِ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَيْهِمْ (3) وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ كُل مَا ثَبَتَ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ يَثْبُتُ فِي حَقِّ الذِّمِّيِّينَ لاَ أَنَّ حَقَّهُمْ يَزِيدُ عَلَى حَقِّ الْمُسْلِمِينَ، وَلأَِنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ خَلَفٌ عَنِ الإِْسْلاَمِ، فَيَثْبُتُ بِهِ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 167، والزيلعي 5 / 234، 235، ومواهب الجليل 5 / 280.
(2) حديث: " ألا إن الله ورسوله حرما بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام " أخرجه البخاري (4 / 424ط السلفية) ومسلم (3 / 1207 ط عيسى الحلبي) .
(3) حديث: " لهم ما للمسلمين " جاء في البخاري من حديث أنس بن مالك بلفظ " من شهد أن لا إله إلا الله واستقبل قبلتنا، وصلى صلاتنا وأكل ذبيحتنا، فهو مسلم له ما للمسلم، وعليه ما على المسلم " (1 / 497 ط السلفية) . وأخرجه بن زنجويه عن معاوية بن قرة مرسلا بلفظ " من شهد منكم أن لا إله إلا الله وأن محمد عبده ورسوله واستقبل قبلتنا وأكل من ذبيحتنا فله مثل ما لنا وعليه مثل ما علينا، ومن أبى فعليه الجزية ". الأموال لابن زنجويه (1 / 119 ط مركز الملك فيصل) .(13/170)
مَا يَثْبُتُ بِالإِْسْلاَمِ، إِذَا الْخَلَفُ لاَ يُخَالِفُ الأَْصْل، فَيَسْقُطُ تَقَوُّمُهُمَا فِي حَقِّهِمْ (1) .
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي (إِتْلاَفٌ، وَضَمَانٌ) .
تَقَوُّمُ الْمَنَافِعِ:
5 - يَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ: أَنَّ الْمَنَافِعَ أَمْوَالٌ مُتَقَوِّمَةٌ مَضْمُونَةٌ بِالْعُقُودِ وَالْغُصُوبِ كَالأَْعْيَانِ. وَالدَّلِيل عَلَى أَنَّ الْمَنْفَعَةَ مُتَقَوِّمَةٌ بِنَفْسِهَا أَنَّ التَّقَوُّمَ عِبَارَةٌ عَنِ الْعِزَّةِ، وَالْمَنَافِعُ عَزِيزَةٌ بِنَفْسِهَا عِنْدَ النَّاسِ، وَلِهَذَا يَبْذُلُونَ الأَْعْيَانَ لأَِجْلِهَا، بَل تُقَوَّمُ الأَْعْيَانُ بِاعْتِبَارِهَا فَيَسْتَحِيل أَنْ لاَ تَكُونَ هِيَ مُتَقَوِّمَةً (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ - وَهُوَ قَوْلٌ لِلْمَالِكِيَّةِ - إِلَى أَنَّ الْمَنَافِعَ لاَ تَتَقَوَّمُ بِنَفْسِهَا بَل تُقَوَّمُ ضَرُورَةً عِنْدَ وُرُودِ الْعَقْدِ؛ لأَِنَّ التَّقَوُّمَ لاَ يَسْبِقُ الْوُجُودَ وَالإِْحْرَازَ، وَذَلِكَ فِيمَا لاَ يَبْقَى غَيْرَ مُتَصَوَّرٍ (3)
وَتَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا الْخِلاَفِ فُرُوعٌ كَثِيرَةٌ، تُنْظَرُ فِي أَبْوَابِ الْغَصْبِ مِنَ الْكُتُبِ الْفِقْهِيَّةِ، وَفِي مُصْطَلَحَيْ: (ضَمَانٌ، وَغَصْبٌ، وَإِجَارَةٌ)
__________
(1) الزيلعي 5 / 235، المغني لابن قدامة 5 / 298، 299 ط الرياض ونهاية المحتاج 5 / 165.
(2) نهاية المحتاج 5 / 168 وروضة الطالبين 5 / 13، ومطالب أولي النهى 4 / 59 نشر المكتب الإسلامي، وبداية المجتهد 2 / 321 نشر دار المعرفة، والقوانين الفقهية ص 217 ط دار العلم، الزيلعي 5 / 234، والبناية 8 / 419، وتكملة فتح القدير 7 / 394.
(3) تكلمة فتح القدير 7 / 175، 396 ط الأميرية، والعناية بهامش فتح القدير 7 / 396، والبناية 8 / 421، وبداية المجتهد 2 / 321، والقوانين الفقهية ص 217.(13/170)
تَقْوِيمٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّقْوِيمُ: مَصْدَرُ قَوَّمَ، وَمِنْ مَعَانِيهِ التَّقْدِيرُ، يُقَال قَوَّمَ الْمَتَاعَ إِذَا قَدَّرَهُ بِنَقْدٍ وَجَعَل لَهُ قِيمَةً (1) .
وَالتَّقْوِيمُ فِي الاِصْطِلاَحِ لاَ يَخْرُجُ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - الأَْصْل فِي التَّقْوِيمِ أَنَّهُ جَائِزٌ، وَقَدْ يَكُونُ وَاجِبًا، كَتَقْوِيمِ مَال التِّجَارَةِ لإِِخْرَاجِ زَكَاتِهِ، وَكَتَقْوِيمِ صَيْدِ الْبَرِّ إِذَا قَتَلَهُ الْمُحْرِمُ.
تَقْوِيمُ عُرُوضِ التِّجَارَةِ:
3 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ تَقْوِيمِ عُرُوضِ التِّجَارَةِ لإِِخْرَاجِ زَكَاتِهَا، مَعَ مُرَاعَاةِ تَوَفُّرِ شُرُوطِهَا مِنْ بُلُوغِ النِّصَابِ وَحَوَلاَنِ الْحَوْل. وَاخْتَلَفُوا فِيمَا تُقَوَّمُ بِهِ عُرُوضُ التِّجَارَةِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ تَقْوِيمَ مَال التِّجَارَةِ يَكُونُ بِالأَْنْفَعِ لِلْفُقَرَاءِ. بِأَنْ تُقَوَّمَ عُرُوضُ التِّجَارَةِ بِمَا يَبْلُغُ نِصَابًا مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ. وَسَوَاءٌ
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير مادة: " قوم ".(13/171)
أَقُوِّمَتْ بِنَقْدِ الْبَلَدِ الْغَالِبِ - مَعَ كَوْنِهِ الأَْوْلَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لأَِنَّهُ الأَْنْفَعُ لِلْفَقِيرِ - أَمْ بِغَيْرِهِ. وَسَوَاءٌ أَبَلَغَتْ قِيمَةُ الْعُرُوضِ بِكُلٍّ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ نِصَابًا، أَمْ بَلَغَتْ نِصَابًا بِأَحَدِهِمَا دُونَ الآْخَرِ. فَيَلْتَزِمُ فِي كُل الْحَالاَتِ تَقْوِيمَ السِّلْعَةِ بِالأَْحَظِّ لِلْفُقَرَاءِ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى تَقْوِيمِ عُرُوضِ التِّجَارَةِ بِالْفِضَّةِ، سَوَاءٌ مَا يُبَاعُ بِالذَّهَبِ أَوْ مَا يُبَاعُ غَالِبًا بِالْفِضَّةِ، فَيُقَوِّمُهُمَا بِالْفِضَّةِ. لأَِنَّهَا قِيَمُ الاِسْتِهْلاَكِ وَلأَِنَّهَا الأَْصْل فِي الزَّكَاةِ.
فَإِنْ كَانَتِ الْعُرُوضُ تُبَاعُ بِهِمَا، وَاسْتَوَيَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الزَّكَاةِ، يُخَيَّرُ التَّاجِرُ بَيْنَ تَقْوِيمِهِمَا بِالذَّهَبِ أَوْ بِالْفِضَّةِ. وَعَلَى الْقَوْل بِأَنَّ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ أَصْلاَنِ، فَيُعْتَبَرُ الأَْفْضَل لِلْمَسَاكِينِ؛ لأَِنَّ التَّقْوِيمَ لِحَقِّهِمْ. وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ لِتَقْوِيمِ عُرُوضِ التِّجَارَةِ أَنْ يَنِضَّ لِلتَّاجِرِ شَيْءٌ وَلَوْ دِرْهَمٌ. وَلاَ يُشْتَرَطُ أَنْ يَنِضَّ لَهُ نِصَابٌ. فَإِنْ لَمْ يَنِضَّ لَهُ شَيْءٌ فِي سَنَتِهِ فَلاَ تَقْوِيمَ وَلاَ زَكَاةَ. وَلَيْسَ عَلَى التَّاجِرِ أَنْ يُقَوِّمَ عُرُوضَ تِجَارَتِهِ بِالْقِيمَةِ الَّتِي يَجِدُهَا الْمُضْطَرُّ فِي بَيْعِ سِلَعِهِ، وَإِنَّمَا يُقَوِّمُ سِلْعَتَهُ بِالْقِيمَةِ الَّتِي يَجِدُهَا الإِْنْسَانُ إِذَا بَاعَ سِلْعَتَهُ عَلَى غَيْرِ الاِضْطِرَارِ الْكَثِيرِ (2) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يَخْتَلِفُ تَقْوِيمُ مَال التِّجَارَةِ بِحَسَبِ اخْتِلاَفِ أَحْوَال رَأْسِ الْمَال.
__________
(1) البناية شرح الهداية 3 / 114، وكشاف القناع 2 / 241.
(2) الشرح الصغير 1 / 639، والحطاب 2 / 318.(13/171)
فَلِرَأْسِ الْمَال خَمْسَةُ أَحْوَالٍ:
الْحَال الأَْوَّل: أَنْ يَكُونَ نَقْدًا نِصَابًا. فَيُقَوِّمُ آخِرَ الْحَوْل بِمَا اشْتَرَاهُ بِهِ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، وَيُزَكِّيهِ إِذَا بَلَغَ نِصَابًا عِنْدَ حَوَلاَنِ الْحَوْل، وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ الْمَشْهُورُ.
وَصُورَتُهُ: أَنْ يَشْتَرِيَ عَرْضًا بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ، أَوْ بِعِشْرِينَ دِينَارًا، فَيُقَوِّمُ آخِرَ الْحَوْل بِهِ أَيْ بِالدَّرَاهِمِ أَوْ بِالدَّنَانِيرِ. فَإِنِ اشْتَرَى بِالدَّرَاهِمِ وَبَاعَ بِالدَّنَانِيرِ، وَقَصْدُ التِّجَارَةِ مُسْتَمِرٌّ، وَتَمَّ الْحَوْل، فَلاَ زَكَاةَ إِنْ لَمْ تَبْلُغِ الدَّنَانِيرُ قِيمَةَ الدَّرَاهِمِ. وَهُنَاكَ قَوْلٌ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّ التَّقْوِيمَ يَكُونُ أَبَدًا بِغَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ.
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَال نَقْدًا دُونَ النِّصَابِ، وَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَصَحُّهُمَا: أَنَّهُ يُقَوَّمُ بِذَلِكَ النَّقْدِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُقَوَّمُ بِغَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ. وَمَحَل الْوَجْهَيْنِ إِنْ لَمْ يَمْلِكْ مَا يَتِمُّ بِهِ النِّصَابُ. فَإِنْ مَلَكَ قُوِّمَ بِهِ. وَصُورَتُهُ: أَنْ يَشْتَرِيَ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَهُوَ يَمْلِكُ مِائَةً أُخْرَى، فَلاَ خِلاَفَ أَنَّ التَّقْوِيمَ بِالدَّرَاهِمِ. لأَِنَّهُ اشْتَرَى بِبَعْضِ مَا انْعَقَدَ عَلَيْهِ الْحَوْل، وَابْتَدَأَ الْحَوْل مِنْ حِينِ مَلَكَ الدَّرَاهِمَ.
الْحَال الثَّالِثُ: أَنْ يَمْلِكَ بِالنَّقْدَيْنِ جَمِيعًا. وَهُوَ عَلَى ثَلاَثَةِ أَضْرُبٍ.
الأَْوَّل: أَنْ يَكُونَ كُل وَاحِدٍ نِصَابًا فَيُقَوَّمُ بِهِمَا(13/172)
عَلَى نِسْبَةِ التَّقْسِيطِ يَوْمَ الْمِلْكِ. وَطَرِيقَةُ تَقْوِيمِ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ بِالآْخَرِ.
وَصُورَتُهُ: اشْتَرَى بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَعِشْرِينَ دِينَارًا فَيُنْظَرُ إِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْمِائَتَيْنِ عِشْرِينَ دِينَارًا، فَنِصْفُ الْعَرْضِ مُشْتَرَى بِدَرَاهِمَ وَالآْخَرُ بِدَنَانِيرَ.
الضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا دُونَ النِّصَابِ. فَعَلَى احْتِمَالَيْنِ: إِمَّا أَنْ يُجْعَل مَا دُونَ النِّصَابِ كَالْعُرُوضِ، فَيُقَوَّمُ الْجَمِيعُ بِنَقْدِ الْبَلَدِ. أَوْ أَنْ يُجْعَل كَالنِّصَابِ فَيُقَوَّمُ مَا مَلَكَهُ بِالدَّرَاهِمِ بِدَرَاهِمَ، وَمَا مَلَكَهُ بِالدَّنَانِيرِ بِدَنَانِيرَ.
الضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا نِصَابًا وَالآْخَرُ دُونَهُ. فَيُقَوَّمُ مَا مَلَكَهُ بِالنَّقْدِ الَّذِي هُوَ نِصَابٌ بِذَلِكَ النَّقْدِ مِنْ حِينِ مِلْكِ ذَلِكَ النَّقْدِ. وَمَا مَلَكَهُ بِالنَّقْدِ الآْخَرِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ فِي الْحَال الثَّانِي.
الْحَال الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَال غَيْرَ النَّقْدِ، بِأَنْ يَمْلِكَ بِعَرْضِ قُنْيَةٌ، أَوْ مِلْكٍ بِخُلْعٍ فَيُقَوَّمُ فِي آخِرِ الْحَوْل بِغَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ مِنَ الدَّرَاهِمِ أَوِ الدَّنَانِيرِ، فَإِنْ بَلَغَ بِهِ نِصَابًا زَكَّاهُ، وَإِلاَّ فَلاَ، وَإِنْ كَانَ يَبْلُغُ بِغَيْرِهِ نِصَابًا. فَلَوْ جَرَى فِي الْبَلَدِ نَقْدَانِ مُتَسَاوِيَانِ، فَإِنْ بَلَغَ بِأَحَدِهِمَا نِصَابًا دُونَ الآْخَرِ قُوِّمَ بِهِ. وَإِنْ بَلَغَ بِهِمَا فَعَلَى أَوْجُهٍ:
أَصَحُّهَا: يَتَخَيَّرُ الْمَالِكُ فَيُقَوِّمُ بِمَا شَاءَ مِنْهُمَا.(13/172)
وَالثَّانِي: يُرَاعَى الأَْحَظُّ لِلْفُقَرَاءِ.
وَالثَّالِثُ: يَتَعَيَّنُ التَّقْوِيمُ بِالدَّرَاهِمِ لأَِنَّهَا أَرْفَقُ.
وَالرَّابِعُ: يُقَوَّمُ بِالنَّقْدِ الْغَالِبِ فِي أَقْرَبِ الْبِلاَدِ إِلَيْهِ.
الْحَال الْخَامِسُ: أَنْ يَمْلِكَ بِالنَّقْدِ وَغَيْرِهِ. بِأَنِ اشْتَرَى بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَعَرْضِ قُنْيَةٌ، فَمَا قَابَل الدَّرَاهِمَ يُقَوَّمُ بِهَا، وَمَا قَابَل الْعَرْضَ يُقَوَّمُ بِنَقْدِ الْبَلَدِ (1) .
تَقْوِيمُ جَزَاءِ الصَّيْدِ:
4 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى وُجُوبِ الْمِثْل مِنَ النَّعَمِ عَلَى مَنْ قَتَل صَيْدَ الْحَرَمِ. فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَذْبَحَ مِثْلَهُ مِنَ الإِْبِل أَوِ الْبَقَرِ أَوِ الْغَنَمِ إِنْ كَانَ الصَّيْدُ الَّذِي قَتَلَهُ مِمَّا لَهُ مِثْلٌ مِنْهَا (2) . وَدَلِيلُهُمْ قَوْله تَعَالَى: {فَجَزَاءٌ مِثْل مَا قَتَل مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} (3) وَلِمَا وَرَدَ عَنِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي تَقْوِيمِ صَيْدِ الْحَرَمِ بِمَا لَهُ مِثْلٌ بِمَا يُمَاثِلُهُ (4) . وَمَحَل تَفْصِيل مَعْرِفَةِ
__________
(1) روضة الطالبين 2 / 274، 275، 276.
(2) الحطاب على خليل 3 / 179، والشرح الصغير 2 / 111 ـ 115، والمجموع 7 / 427، المهذب 2 / 224، والمغني 3 / 510، 519.
(3) سورة المائدة / 95.
(4) المجموع 7 / 427.(13/173)
الْمِثْل فِي مُصْطَلَحِ (صَيْدٌ، وَحَرَمٌ، وَإِحْرَامٌ) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْمِثْل مِنَ النَّعَمِ، بَل يُقَوَّمُ الصَّيْدُ بِالْمَال. لأَِنَّ الْمِثْل الْمُطْلَقَ، بِمَعْنَى الْمِثْل فِي الصُّورَةِ وَالْمَعْنَى، وَهُوَ الْمُشَارِكُ فِي النَّوْعِ غَيْرُ مُرَادٍ فِي الآْيَةِ إِجْمَاعًا. فَبَقِيَ الْمِثْل مَعْنَى فَقَطْ وَهُوَ الْقِيمَةُ. وَسَوَاءٌ أَوَجَبَ عَلَى قَاتِل الصَّيْدِ الْمِثْل مِنَ النَّعَمِ - عَلَى قَوْل الْجُمْهُورِ - أَمِ الْقِيمَةُ عَلَى قَوْل الْحَنَفِيَّةِ، فَيُرْجَعُ لِمَعْرِفَةِ الْمُمَاثَلَةِ إِلَى تَقْوِيمِ عَدْلَيْنِ مِنْ أَهْل الْمَعْرِفَةِ وَالْخِبْرَةِ، وَمِنَ الْمُسْتَحَبِّ أَنْ يَكُونَا فَقِيهَيْنِ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ - وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - إِلَى عَدَمِ جَوَازِ كَوْنِ أَحَدِ الْمُقَوِّمِينَ هُوَ الْقَاتِل. قِيَاسًا عَلَى عَدَمِ جَوَازِ كَوْنِ الْمُتْلِفِ لِلْمَال هُوَ أَحَدُ الْمُقَوِّمِينَ فِي الضَّمَانِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ - فِي الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ - إِلَى جَوَازِهِ، وَذَلِكَ لأَِنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، فَجَازَ أَنْ يُجْعَل مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَقُّ أَمِينًا فِيهِ، كَرَبِّ الْمَال فِي الزَّكَاةِ. وَهَذَا مُقَيَّدٌ بِمَا إِذَا قَتَلَهُ خَطَأً أَوْ مُضْطَرًّا، أَمَّا إِذَا قَتَلَهُ عُدْوَانًا فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَحَدَ الْمُقَوِّمِينَ؛ لأَِنَّهُ يَفْسُقُ بِتَعَمُّدِ الْقَتْل، فَلاَ يُؤْتَمَنُ فِي التَّقْوِيمِ.
وَيُخَيَّرُ قَاتِل الصَّيْدِ بَيْنَ ثَلاَثَةِ أُمُورٍ: إِمَّا أَنْ يُهْدِيَ مِثْل مَا قَتَلَهُ مِنَ النَّعَمِ لِفُقَرَاءِ الْحَرَمِ - إِنْ كَانَ الصَّيْدُ لَهُ مِثْلٌ - أَوْ أَنْ يُقَوِّمَهُ
__________
(1) فتح القدير 3 / 7.(13/173)
بِالْمَال وَيُقَوَّمُ الْمَال طَعَامًا وَيَتَصَدَّقُ بِالطَّعَامِ عَلَى الْفُقَرَاءِ. وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الصَّيْدَ يُقَوَّمُ ابْتِدَاءً بِالطَّعَامِ، وَلَوْ قَوَّمَهُ بِالْمَال ثُمَّ اشْتَرَى بِهِ طَعَامًا أَجْزَأَ.
وَالأَْمْرُ الثَّالِثُ: أَنْ يَصُومَ عَنْ كُل مُدٍّ مِنَ الطَّعَامِ يَوْمًا، وَدَلِيلُهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةُ طَعَامِ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْل ذَلِكَ صِيَامًا} (1) . وَيُقَوَّمُ الصَّيْدُ فِي الْيَوْمِ وَفِي الْمَكَانِ الَّذِي أُصِيبَ فِيهِ، أَوْ فِي أَقْرَبِ الْمَوَاضِعِ مِنْهُ. وَتَمَامُ ذَلِكَ فِي (حَجٌّ، وَإِحْرَامٌ، وَصَيْدٌ) .
تَقْوِيمُ السِّلْعَةِ الْمُعَيَّنَةِ فِي خِيَارِ الْعَيْبِ:
5 - إِذَا اخْتَارَ الْمُشْتَرِي إِبْقَاءَ السِّلْعَةِ الَّتِي اشْتَرَاهَا مَعَ وُجُودِ عَيْبٍ فِيهَا. أَوْ فِي حَال مَا إِذَا تَعَذَّرَ رَدُّ السِّلْعَةِ الْمَعِيبَةِ بِسَبَبِ هَلاَكِهَا أَوْ تَلَفِهَا أَوِ اسْتِهْلاَكِهَا، وَأَرَادَ الْمُشْتَرِي الرُّجُوعَ عَلَى الْبَائِعِ، أَوْ فِي حَال مَا إِذَا حَدَثَ فِي السِّلْعَةِ عَيْبٌ عِنْدَ الْمُشْتَرِي، مَعَ وُجُودِ عَيْبٍ قَدِيمٍ عِنْدَ الْبَائِعِ، فَاخْتَارَ الْمُشْتَرِي الرَّدَّ أَوِ الإِْبْقَاءَ. فَفِي هَذِهِ الْحَالاَتِ تُقَوَّمُ السِّلْعَةُ مَعِيبَةً وَتُقَوَّمُ سَلِيمَةً، وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِمِقْدَارِ مَا نَقَصَ الْعَيْبُ مِنْ ثَمَنِ السِّلْعَةِ، فَإِذَا كَانَتْ قِيمَةُ السِّلْعَةِ سَلِيمَةً مِائَةً وَمَعَ الْعَيْبِ تِسْعِينَ،
__________
(1) سورة المائدة / 95.(13/174)
فَنِسْبَةُ النَّقْصِ عُشْرُ قِيمَةِ الْمَبِيعِ، فَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِعُشْرِ الثَّمَنِ. وَهَل يُجْبَرُ الْبَائِعُ عَلَى مَا اخْتَارَهُ الْمُشْتَرِي مِنَ الرَّدِّ أَوْ عَدَمِهِ مَعَ أَخْذِ أَرْشِ الْعَيْبِ؟ فِيهِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ: (خِيَارِ الْعَيْبِ) . وَلَوْ حَدَثَ فِي السِّلْعَةِ عَيْبٌ حَادِثٌ عِنْدَ الْمُشْتَرِي، غَيْرِ الْعَيْبِ الْقَدِيمِ الَّذِي كَانَ عِنْدَ الْبَائِعِ، فَتُقَوَّمُ السِّلْعَةُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ.
فَتُقَوَّمُ السِّلَعُ سَلِيمَةً بِعَشَرَةٍ مَثَلاً، ثُمَّ تُقَوَّمُ ثَانِيًا بِالْعَيْبِ الْقَدِيمِ بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنِ الْعَيْبِ الْحَادِثِ بِثَمَانِيَةٍ مَثَلاً، فَيُقَدَّرُ النَّقْصُ بِالنِّسْبَةِ لِثَمَنِهَا سَلِيمَةً بِالْخُمُسِ. ثُمَّ تُقَوَّمُ ثَالِثًا بِالْعَيْبِ الْحَادِثِ بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنِ الْقَدِيمِ بِثَمَانِيَةٍ مَثَلاً، فَيَكُونُ النَّقْصُ الْخُمُسَ مِنْ ثَمَنِهَا سَلِيمَةً.
وَيُعْتَبَرُ التَّقْوِيمُ يَوْمَ دَخَل الْمَبِيعُ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ الأَْصَحُّ اعْتِبَارُ أَقَل قِيمَةِ الْمَبِيعِ الْمُتَقَوِّمِ مِنْ يَوْمِ الْبَيْعِ إِلَى وَقْتِ الْقَبْضِ. لأَِنَّ قِيمَةَ السِّلْعَةِ إِنْ كَانَتْ وَقْتَ الْبَيْعِ أَقَل فَالزِّيَادَةُ فِي الْمَبِيعِ حَدَثَتْ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي، وَفِي الثَّمَنِ حَدَثَتْ فِي مِلْكِ الْبَائِعِ فَلاَ تَدْخُل فِي التَّقْوِيمِ. أَوْ كَانَتِ الْقِيمَةُ وَقْتَ الْقَبْضِ، أَوْ بَيْنَ الْوَقْتَيْنِ أَقَل فَالنَّقْصُ فِي الْمَبِيعِ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ، وَفِي(13/174)
الثَّمَنِ مِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي فَلاَ يَدْخُل فِي التَّقْوِيمِ (1) .
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: يَكُونُ تَقْوِيمُ الأَْصْل وَقْتَ الْبَيْعِ وَتَقْوِيمُ الزِّيَادَةِ وَقْتَ الْقَبْضِ لأَِنَّ الزِّيَادَةَ إِنَّمَا تَأْخُذُ قِسْطًا مِنَ الثَّمَنِ بِالْقَبْضِ (2) .
التَّقْوِيمُ فِي الرِّبَوِيَّاتِ:
6 - لاَ يَجُوزُ بَيْعُ الرِّبَوِيَّاتِ بِجِنْسِهَا إِلاَّ بَعْدَ تَيَقُّنِ الْمُمَاثَلَةِ كَيْلاً أَوْ وَزْنًا، وَلاَ يَجُوزُ التَّفَاضُل بَيْنَهَا. وَلِهَذَا لاَ يُعْتَبَرُ التَّقْوِيمُ فِي الرِّبَوِيَّاتِ، لأَِنَّ التَّقْوِيمَ ظَنِّيٌّ وَقَائِمٌ عَلَى التَّخْمِينِ وَالتَّقْدِيرِ. وَالْقَاعِدَةُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فِي الرِّبَا أَنَّ الْجَهْل بِالتَّمَاثُل كَالْعِلْمِ بِالتَّفَاضُل. فَمَا لَمْ تُتَيَقَّنِ الْمُمَاثَلَةُ لاَ يَجُوزُ الْبَيْعُ لاِحْتِمَال التَّفَاضُل. وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ عَدَمُ جَوَازِ بَيْعِ الطَّعَامِ بِجِنْسِهِ جُزَافًا، كَقَوْلِكُ بِعْتُكُ هَذِهِ الصُّبْرَةَ (3) مِنَ الطَّعَامِ بِهَذِهِ الصُّبْرَةِ مُكَايَلَةً، مَعَ الْجَهْل بِكَيْل الصُّبْرَتَيْنِ أَوْ كَيْل أَحَدِهِمَا (4) . وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (رِبًا) .
__________
(1) حاشية الدسوقي 3 / 124، الشرح الصغير 3 / 174، وروضة الطالبين 3 / 274، ونهاية المحتاج 4 / 41، وكشاف القناع 3 / 218، والمغني 4 / 163، وفتح القدير 6 / 10ـ 12
(2) البدائع 5 / 285.
(3) كمية غير معلومة القدر.
(4) روضة الطالبين 3 / 383، وكشاف القناع 3 / 253، والمجموع 10 / 353.(13/175)
تَقْوِيمُ الْجَوَائِحِ:
7 - الْجَائِحَةُ: مِنَ الْجَوْحِ، وَهُوَ الْهَلاَكُ، وَاصْطِلاَحًا: مَا أَتْلَفَ مِنْ مَعْجُوزٍ عَنْ دَفْعِهِ عَادَةً قَدْرًا مِنْ ثَمَرٍ أَوْ نَبَاتٍ بَعْدَ بَيْعِهِ. كَأَنْ يَهْلَكَ الثَّمَرُ بِسَبَبِ بَرْدٍ أَوْ ثَلْجٍ أَوْ غُبَارٍ أَوْ رِيحٍ حَارٍّ أَوْ جَرَادٍ أَوْ فِئْرَانٍ أَوْ نَارٍ أَوْ عَطَشٍ. فَإِذَا أَصَابَتِ الْجَائِحَةُ الثَّمَرَ، وُضِعَ عَنِ الْمُشْتَرِي مِنَ الثَّمَنِ بِقَدْرِ مَا أَتْلَفَتْهُ بَعْدَ تَقْوِيمِهَا. فَيُعْتَبَرُ مَا أُصِيبَ مِنَ الْجَائِحَةِ، وَيُنْسَبُ إِلَى قِيمَةِ مَا بَقِيَ سَلِيمًا فِي زَمَنِ الْجَائِحَةِ. فَيُقَال مَثَلاً كَمْ يُسَاوِي الثَّمَرُ قَبْل الْجَائِحَةِ، فَيُقَال عِشْرُونَ، وَالْقَدْرُ الْمُجَاحُ زَمَنَ الْجَائِحَةِ - عَلَى أَنْ يُقْبَضَ فِي وَقْتِهِ - قِيمَتُهُ عَشَرَةٌ، وَقِيمَةُ السَّلِيمِ يَوْمَ الْجَائِحَةِ - عَلَى أَنْ يُقْبَضَ فِي وَقْتِهِ - عَشَرَةٌ، فَيُوضَعُ عَنِ الْمُشْتَرِي نِصْفُ قِيمَةِ الثَّمَرِ الَّذِي اشْتَرَاهُ، وَهُوَ عَشَرَةٌ. وَمَحَل تَقْوِيمِ الْجَائِحَةِ إِذَا كَانَتِ الثَّمَرَةُ فِي ضَمَانِ الْبَائِعِ، بِأَنْ تَمَّ الْعَقْدُ وَلَمْ يَتِمَّ الْقَبْضُ وَلاَ التَّخْلِيَةُ، وَعَلَيْهِ يُحْمَل قَوْل الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فِي حَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِوَضْعِ الْجَوَائِحِ (1) . أَمَّا إِذَا أَصَابَتِ الْجَائِحَةُ الثَّمَرَ بَعْدَ التَّخْلِيَةِ بَعْدَ تَأَخُّرِ الْمُشْتَرِي فِي الْجَذِّ إِلَى الْوَقْتِ الَّذِي
__________
(1) حديث: " أمر بوضع الجوائح " أخرجه مسلم (3 / 1191 ط الحلبي) .(13/175)
اشْتَرَى الثَّمَرَةَ لَهُ، فَضَمَانُهَا عَلَى الْمُشْتَرِي، وَعَلَيْهِ يُحْمَل قَوْل الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي يَرْوِيهِ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أُصِيبَ رَجُلٌ فِي عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ثِمَارٍ ابْتَاعَهَا فَكَثُرَ دَيْنُهُ، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَصَدَّقُوا عَلَيْهِ، فَتَصَدَّقَ النَّاسُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ وَفَاءَ دَيْنِهِ، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِغُرَمَائِهِ: خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ وَلَيْسَ لَكُمْ إِلاَّ ذَلِكَ (1) . وَالضَّمِيرُ فِي (تَصَدَّقُوا) لِلصَّحَابَةِ غَيْرِ الْبَائِعِينَ. وَمَحَل الْبَحْثِ فِي أَحْكَامِ ضَمَانِ الْجَوَائِحِ فِي مُصْطَلَحِ: (ضَمَانٌ، وَجَائِحَةٌ، وَثَمَرٌ) وَلاَ يَسْتَعْجِل بِالتَّقْوِيمِ يَوْمَ الْجَائِحَةِ، بَل يَنْتَظِرُ إِلَى انْتِهَاءِ الْبُطُونِ - فِيمَا يُزْرَعُ بُطُونًا (2) لِيَتَحَقَّقَ الْمِقْدَارُ الْمُصَابُ الَّذِي يُرَادُ تَقْوِيمُهُ (3) .
التَّقْوِيمُ فِي الْقِسْمَةِ:
8 - قَدْ تَحْتَاجُ الْقِسْمَةُ فِي بَعْضِ أَنْوَاعِهَا إِلَى تَقْوِيمِ الْمُقْسَمِ. وَلِهَذَا اشْتُرِطَ فِي الْقَاسِمِ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِالتَّقْوِيمِ وَيُشْتَرَطُ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْقِسْمَةِ مُقَوِّمَانِ.
__________
(1) حديث: " خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك " أخرجه مسلم (3 / 1191 ـ ط الحلبي) .
(2) أي الخلائف وهو الزرع الذي يخلف ما حصد منه.
(3) الشرح الصغير 3 / 242، الزرقاني 5 / 194، وروضة الطالبين 3 / 504، ونهاية المحتاج 4 / 149، وكشاف القناع 3 / 284، ومجمع الضمانات ص 220.(13/176)
لأَِنَّ التَّقْوِيمَ لاَ يَثْبُتُ إِلاَّ بِاثْنَيْنِ، فَاشْتُرِطَ الْعَدَدُ لِلتَّقْوِيمِ لاَ لِلْقِسْمَةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْقِسْمَةِ مَا يَحْتَاجُ إِلَى تَقْوِيمٍ كَفَى قَاسِمٌ وَاحِدٌ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْقَاسِمَ فِي التَّقْوِيمِ نَائِبٌ عَنِ الْحَاكِمِ فَيَكُونُ كَالْمُخْبِرِ فَيُكْتَفَى فِيهِ بِوَاحِدٍ كَالْقَائِفِ وَالْمُفْتِي وَالطَّبِيبِ. وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ مُقَوِّمَانِ، بِنَاءً عَلَى الْمَرْجُوحِ - عِنْدَهُمْ - أَنَّ الْمُقَوِّمَ شَاهِدٌ لاَ حَاكِمٌ. وَهَذَا الْخِلاَفُ فِيمَنْ يَنْصِبُهُ الإِْمَامُ، أَمَّا فِيمَنْ يَنْصِبُهُ الشُّرَكَاءُ فَيَكْفِي فِيهِ قَاسِمٌ وَاحِدٌ قَطْعًا. وَلِلإِْمَامِ جَعْل الْقَاسِمِ حَاكِمًا فِي التَّقْوِيمِ، وَحِينَئِذٍ فَيُعْمَل فِيهِ بِعَدْلَيْنِ ذَكَرَيْنِ يَشْهَدَانِ عِنْدَهُ بِالْقِيمَةِ لاَ بِأَقَل مِنْهَا (1) . وَتَتِمَّةُ هَذَا الْمَوْضُوعِ فِي مُصْطَلَحِ (قِسْمَةٌ) .
تَقْوِيمُ نِصَابِ السَّرِقَةِ:
9 - مِنْ شَرْطِ إِقَامَةِ حَدِّ السَّرِقَةِ أَنْ يَبْلُغَ الْمَسْرُوقُ نِصَابًا. وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَقْوِيمِ نِصَابِ السَّرِقَةِ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى تَقْوِيمِ نِصَابِ السَّرِقَةِ بِالدَّرَاهِمِ. بِأَنْ تَبْلُغَ قِيمَةُ الْمَسْرُوقِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، إِنْ كَانَ الْمَسْرُوقُ مِنْ غَيْرِ الْفِضَّةِ وَلَوْ كَانَ
__________
(1) روضة الطالبين 11 / 201ـ والشرح الصغير 3 / 665، والمغني 9 / 126.(13/176)
ذَهَبًا، وَأَنْ يَكُونَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ وَزْنًا وَقِيمَةً إِذَا كَانَ الْمَسْرُوقُ مِنَ الْفِضَّةِ (1) .
وَهُوَ أَحَدُ الرِّوَايَاتِ الثَّلاَثِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (2) . لِحَدِيثِ أُمِّ أَيْمَنَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ إِلاَّ فِي حَجَفَةٍ وَقُوِّمَتْ يَوْمَئِذٍ عَلَى عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدِينَارٍ أَوْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ (3) .
وَقَدِ اخْتَلَفَتْ رِوَايَاتُ الْحَدِيثِ فَرُوِيَ مَوْقُوفًا وَمُرْسَلاً، وَرُوِيَ مَوْصُولاً مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ فِي مِجَنٍّ قِيمَتُهُ دِينَارٌ أَوْ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ (4) وَعَلَى الْقَوْل بِأَنَّهُ مَوْقُوفٌ إِلاَّ أَنَّهُ مَرْفُوعٌ حُكْمًا لأَِنَّ الْمُقَدَّرَاتِ الشَّرْعِيَّةَ لاَ دَخْل لِلْعَقْل فِيهَا.
__________
(1) فتح القدير 5 / 123ـ 124، وحاشية ابن عابدين 3 / 193.
(2) كشاف القناع 6 / 132، والإنصاف 10 / 262، 263.
(3) حديث: " لا تقع يد السارق إلا في حجفة " أخرجه الطحاوي في شرح المعاني (3 / 163ـ نشر مطبعة الأنوار المحمدية) ، وأعله الزيلعي بالانقطاع وقال: " ولكنه يتقوى بغيره من الأحاديث المرفوعة والموقوفة " ثم ذكرها. نصب الراية (3 / 358 ـ ط المجلس العلمي بالهند) .
(4) حديث ابن عباس: " إن النبي صلى الله عليه وسلم قطع يد الرجل في مجن قيمته دينار أو عشرة دراهم " أخرجه أبو داود (4 / 548ـ تحقيق عزت عبيد دعاس) وحكم عليه ابن حجر بالاضطراب. (فتح الباري 12 / 103 ط السلفية) .(13/177)
وَفِي حَدِيثٍ: لاَ يُقْطَعُ السَّارِقُ إِلاَّ فِي عَشَرَةِ دَرَاهِمَ (1)
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي تَقْوِيمِ ثَمَنِ الْمِجَنِّ فَرُوِيَ أَنَّهُ ثَلاَثَةُ دَرَاهِمَ، وَرُوِيَ أَنَّهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ. فَوَجَبَ الأَْخْذُ بِالأَْكْثَرِ دَرْءًا لِلْحَدِّ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمَسْرُوقَ يُقَوَّمُ بِالدَّرَاهِمِ وَبِالدَّنَانِيرِ. وَالنِّصَابُ رُبُعُ دِينَارٍ شَرْعِيٍّ مِنَ الذَّهَبِ، أَوْ ثَلاَثَةُ دَرَاهِمَ شَرْعِيَّةٌ مِنَ الْفِضَّةِ أَوْ مَا يُسَاوِيهِمَا.
وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الْحَنَابِلَةِ بِمَعْنَى أَنَّ كُلًّا مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ أَصْلٌ بِنَفْسِهِ، وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ تُقَوَّمُ غَيْرُ الأَْثْمَانِ بِأَدْنَى الأَْمْرَيْنِ مِنْ رُبُعِ دِينَارٍ أَوْ ثَلاَثَةِ دَرَاهِمَ (2) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى تَقْوِيمِ نِصَابِ السَّرِقَةِ بِالدَّنَانِيرِ، بِأَنْ يَبْلُغَ الْمَسْرُوقُ قِيمَةَ رُبُعِ دِينَارٍ مِنَ الذَّهَبِ وَالاِعْتِبَارُ بِالذَّهَبِ الْمَضْرُوبِ. لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ إِلاَّ فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا (3)
__________
(1) حديث: " لا يقطع السارق إلا في عشرة دراهم ". أخرجه الدارقطني (3 / 193 ـ ط دار المحاسن) من حديث عبد الله بن عمرو وأعل بالانقطاع كما في نصب الراية (3 / 359 ـ ط المجلس العلمي بالهند) .
(2) حاشية الدسوقي 4 / 334، والشرح الصغير 4 / 472.
(3) حديث: " لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدا " أخرجه البخاري (الفتح 12 / 96ـ ط السلفية) ومسلم (3 / 1312ـ ط الحلبي) من حديث عائشة واللفظ لمسلم.(13/177)
فَإِنْ كَانَ الْمَسْرُوقُ ذَهَبًا وَجَبَ أَنْ يَبْلُغَ رُبُعَ دِينَارٍ وَزْنًا وَقِيمَةً، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ الذَّهَبِ وَجَبَ أَنْ تَبْلُغَ قِيمَتُهُ رُبُعَ دِينَارٍ مِنَ الذَّهَبِ (1) .
وَفِي رِوَايَةٍ لِلْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْعُرُوضَ لاَ تُقَوَّمُ إِلاَّ بِالدَّرَاهِمِ، وَيَكُونُ الذَّهَبُ أَصْلاً بِنَفْسِهِ لاَ غَيْرَ.
وَيَكُونُ تَقْوِيمُ الْمَسْرُوقِ بِنَقْدِ الْبَلَدِ الْغَالِبِ الَّذِي وَقَعَتْ فِيهِ السَّرِقَةُ.
وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْقِيمَةِ قِيمَةُ الشَّيْءِ وَقْتَ إِخْرَاجِهِ مِنَ الْحِرْزِ لاَ قَبْلَهُ وَلاَ بَعْدَهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَالطَّحَاوِيِّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ. وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ تُعْتَبَرُ قِيمَةُ الْمَسْرُوقِ يَوْمَ السَّرِقَةِ وَوَقْتَ الْقَطْعِ بِأَنْ لاَ يَقِل فِيهِمَا عَنْ نِصَابٍ.
فَلَوْ كَانَتْ قِيمَتُهُ يَوْمَ السَّرِقَةِ عَشَرَةً، فَنَقَصَتْ وَقْتَ الْقَطْعِ لاَ يُقَامُ الْحَدُّ. إِلاَّ إِذَا كَانَ النَّقْصُ بِسَبَبِ عَيْبٍ دَخَل الْمَسْرُوقَ أَوْ فَاتَ بَعْضُهُ.
كَمَا يُعْتَبَرُ فِي تَقْوِيمِ الْمَسْرُوقِ مَكَانَ السَّرِقَةِ، فَلَوْ سَرَقَ فِي بَلَدٍ وَكَانَتْ قِيمَتُهُ عَشَرَةً - مَثَلاً - فَأَخَذَ فِي بَلَدٍ آخَرَ وَقِيمَتُهُ فِيهَا أَقَل فَلاَ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ.
وَيَكْفِي فِي التَّقْوِيمِ وَاحِدٌ إِنْ كَانَ مُوَجَّهًا مِنَ الْقَاضِي، لأَِنَّ تَقْوِيمَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مِنْ بَابِ الْخَبَرِ لاَ مِنْ بَابِ الشَّهَادَةِ.
فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمُقَوِّمُ مُوَجَّهًا مِنَ الْقَاضِي فَلاَ بُدَّ
__________
(1) روضة الطالبين 10 / 112، وحاشية قليوبي وعميرة 4 / 186.(13/178)
مِنَ اثْنَيْنِ
وَإِذَا اخْتَلَفَ الْمُقَوِّمَانِ بِأَنْ قَوَّمَ أَحَدُهُمَا الْمَسْرُوقَ نِصَابًا وَالآْخَرُ دُونَ النِّصَابِ كَانَ هَذَا شُبْهَةً يُدْرَأُ بِهَا الْحَدُّ. وَلاَ يَجِبُ إِقَامَةُ الْحَدِّ إِلاَّ إِذَا قَطَعَ الْمُقَوِّمُونَ بِبُلُوغِ الْمَسْرُوقِ نِصَابًا بِأَنْ يَقُولُوا إِنَّ قِيمَتَهُ بَلَغَتْ نِصَابًا قَطْعًا أَوْ يَقِينًا مَثَلاً. وَإِنِ اخْتَلَفَ الْمُقَوِّمُونَ فِي تَقْوِيمِ الْمَسْرُوقِ لاِخْتِلاَفِ قِيمَةِ مَا قُوِّمَ بِهِ، بِأَنْ يُقَوَّمَ مَثَلاً بِنَقْدَيْنِ مِنَ الذَّهَبِ خَالِصَيْنِ اعْتُبِرَ أَدْنَاهُمَا، وَالأَْوْجَهُ - كَمَا يَقُول النَّوَوِيُّ - أَنْ يُقَوَّمَ بِأَعْلاَهُمَا قِيمَةً دَرْءًا لِلْحَدِّ.
تَقْوِيمُ حُكُومَةِ الْعَدْل:
10 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْجُرُوحَ الَّتِي لَمْ يُقَدِّرِ الشَّارِعُ لَهَا دِيَةً تَجِبُ فِيهَا حُكُومَةُ عَدْلٍ.
وَيُقْصَدُ بِالْحُكُومَةِ تَقْدِيرُ نِسْبَةِ الْجُرْحِ مِنَ الدِّيَةِ الْكَامِلَةِ، وَتَكُونُ هَذِهِ النِّسْبَةُ هِيَ دِيَةُ الْجُرْحِ.
وَتُعْرَفُ هَذِهِ النِّسْبَةُ عَنْ طَرِيقَيْنِ: الطَّرِيقُ الأَْوَّل: تَقْوِيمُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ عَبْدًا سَلِيمًا غَيْرَ مَجْرُوحٍ. ثُمَّ يُقَوَّمُ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ عَبْدًا مَجْرُوحًا، وَيُنْظَرُ كَمْ نَقَصَتِ الْجِنَايَةُ مِنْ قِيمَتِهِ، فَإِذَا قُدِّرَ النَّقْصُ بِالْعُشْرِ مَثَلاً وَجَبَ عَلَى الْجَانِي عُشْرُ دِيَةِ النَّفْسِ.
وَذَلِكَ لأَِنَّ الْحُرَّ لاَ يُمْكِنُ تَقْوِيمُهُ، فَيُقَوَّمُ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ عَبْدًا.
فَإِنَّ الْقِيمَةَ لِلْعَبْدِ كَالدِّيَةِ لِلْحُرِّ.(13/178)
الطَّرِيقُ الثَّانِي: تَقْدِيرُ الْجُرْحِ بِنِسْبَتِهِ مِنْ أَقَل جُرْحٍ لَهُ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ وَهُوَ الْمُوضِحَةُ، وَهِيَ الَّتِي تُوضِحُ الْعَظْمَ أَيْ تُظْهِرُهُ، وَمِقْدَارُهَا شَرْعًا نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ الْكَامِلَةِ، فَيَكُونُ مِقْدَارُ دِيَةِ هَذَا الْجُرْحِ بِمِقْدَارِ نِسْبَتِهِ مِنَ الْمُوضِحَةِ، فَإِنْ كَانَ مِقْدَارُهُ مِثْل (نِصْفِ الْمُوضِحَةِ) مَثَلاً وَجَبَ فِيهِ نِصْفُ دِيَةِ الْمُوضِحَةِ، وَإِنْ كَانَ الثُّلُثُ وَجَبَ ثُلُثُ دِيَةِ الْمُوضِحَةِ وَهَكَذَا. وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَا لاَ نَصَّ فِيهِ يُرَدُّ إِلَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ. وَهَذَا قَوْل الْكَرْخِيِّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ أَنَّ تَقْوِيمَ النَّقْصِ يَكُونُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعُضْوِ الَّذِي وَقَعَتْ عَلَيْهِ الْجِنَايَةُ إِنْ كَانَ لَهَا أَرْشٌ مُقَدَّرٌ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَرْشٌ مُقَدَّرٌ تُقَوَّمُ الْحُكُومَةُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى دِيَةِ النَّفْسِ (1)
11 - وَيُشْتَرَطُ فِي تَقْوِيمِ الْحُكُومَةِ شُرُوطٌ:
الشَّرْطُ الأَْوَّل: إِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَلَى عُضْوٍ لَهُ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ، يُشْتَرَطُ فِيهَا أَنْ لاَ تَبْلُغَ الْحُكُومَةُ أَرْشَ ذَلِكَ الْعُضْوِ، فَإِنْ بَلَغَتْ ذَلِكَ نَقَصَ الْقَاضِي مِنْهَا شَيْئًا بِاجْتِهَادِهِ، فَحُكُومَةُ جُرْحِ الأُْنْمُلَةِ الْعُلْيَا، أَوْ قَلْعِ ظُفْرِهَا لاَ تَبْلُغُ أَرْشَ الأُْنْمُلَةِ. وَكَذَلِكَ حُكُومَةُ الأُْصْبُعِ لاَ تَبْلُغُ
__________
(1) وترى اللجنة أن الأوفق في هذه الأيام الرجوع إلى أهل الخبرة من الأطباء أو غيرهم ليقدروا نسبة العجز إلى النفس.(13/179)
حُكُومَتُهَا أَرْشَ الأُْصْبُعِ. وَالْجِنَايَةُ عَلَى الرَّأْسِ لاَ تَبْلُغُ حُكُومَتُهَا أَرْشَ الْمُوضِحَةِ، وَعَلَى الْبَطْنِ لاَ تَبْلُغُ أَرْشَ الْجَائِفَةِ.
الشَّرْطُ الثَّانِي: إِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَلَى عُضْوٍ لَيْسَ لَهُ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ كَالظَّهْرِ وَالْكَتِفِ وَالْفَخِذِ، فَيَجُوزُ أَنْ تَبْلُغَ حُكُومَتُهَا دِيَةَ عُضْوٍ مُقَدَّرٍ كَالْيَدِ وَالرِّجْل وَأَنْ تَزِيدَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ أَنْ تَنْقُصَ عَنْ دِيَةِ النَّفْسِ.
الشَّرْطُ الثَّالِثُ: يَجِبُ أَنْ يَتِمَّ تَقْوِيمُ الْحُكُومَةِ بَعْدَ انْدِمَال الْجُرْحِ وَبُرْئِهِ، لاِحْتِمَال أَنْ يَسْرِيَ تَأْثِيرُ الْجِنَايَةِ إِلَى النَّفْسِ فَيَكُونُ سَبَبًا لِلْوَفَاةِ. أَوْ يَسْرِيَ إِلَى عُضْوٍ لَهُ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ، فَيَخْتَلِفُ تَقْوِيمُ الْحُكُومَةِ بِذَلِكَ، فَتَجِبُ إِمَّا دِيَةُ النَّفْسِ أَوْ أَرْشُ الْعُضْوِ الْمُقَدَّرِ (1) .
تَقْوِيمُ جِنَايَةِ الْبَهَائِمِ:
12 - إِذَا جَنَتِ الْبَهِيمَةُ عَلَى الزَّرْعِ مَثَلاً فَأَتْلَفَتْهُ وَثَبَتَ ضَمَانُهُ عَلَى صَاحِبِهَا. يُقَوِّمُ أَهْل الْخِبْرَةِ وَالْمَعْرِفَةِ الزَّرْعَ عَلَى تَقْدِيرِ تَمَامِهِ وَسَلاَمَتِهِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ تَلَفِهِ وَجَائِحَتِهِ، وَيَضْمَنُ صَاحِبُ الْبَهِيمَةِ مِقْدَارَ النَّقْصِ بَيْنَ الثَّمَنَيْنِ.
وَفِي قَوْلٍ لِلْمَالِكِيَّةِ: إِنَّهُ يُقَوَّمُ مَرَّتَيْنِ: مَرَّةً عَلَى
__________
(1) البحر الرائق 8 / 372، والشرح الصغير 4 / 381، والزرقاني 8 / 34، وروضة الطالبين 9 / 308، ونهاية المحتاج 7 / 325، والمغني 8 / 56.(13/179)
فَرْضِ تَمَامِهِ، وَمَرَّةً عَلَى فَرْضِ عَدَمِ تَمَامِهِ، وَيُجْعَل لَهُ قِيمَةٌ بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ.
فَيُقَال: مَا قِيمَتُهُ عَلَى فَرْضِ تَمَامِهِ؟ فَإِنْ قِيل: عَشَرَةٌ، قِيل: وَمَا قِيمَتُهُ عَلَى فَرْضِ عَدَمِ تَمَامِهِ؟ فَيُقَال: خَمْسَةٌ.
فَتُضَمُّ الْقِيمَتَانِ وَيُجْعَل عَلَى الضَّامِنِ نِصْفُهَا فَيَلْزَمُهُ سَبْعَةٌ وَنِصْفٌ (1) .
وَتَفْصِيل أَحْكَامِ جِنَايَةِ الْبَهَائِمِ فِي مُصْطَلَحِ: (جِنَايَةٌ، وَبَهِيمَةٌ، وَإِتْلاَفٌ)
__________
(1) مجمع الضمانات ص 191، والشرح الصغير 4 / 507، والمغني 5 / 306، وروضة الطالبين 10 / 196.(13/180)
تَقْيِيدٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّقْيِيدُ: مَصْدَرُ قَيَّدَ، وَمِنْ مَعَانِيهِ فِي اللُّغَةِ جَعْل الْقَيْدِ فِي الرِّجْل، قَال فِي الْمِصْبَاحِ: قَيَّدْتُهُ تَقْيِيدًا جَعَلْتُ الْقَيْدَ فِي رِجْلِهِ.
وَمِنْهُ تَقْيِيدُ الأَْلْفَاظِ بِمَا يَمْنَعُ الاِخْتِلاَطَ وَيُزِيل الاِلْتِبَاسَ (1) .
وَأَمَّا عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ فَيُؤْخَذُ مِنْ مَعْنَى الْمُقَيَّدِ، وَهُوَ أَنَّهُ كَمَا جَاءَ فِي التَّلْوِيحِ - مَا أُخْرِجَ عَنِ الشُّيُوعِ بِوَجْهٍ مَا كَرَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ (2) . - فَالتَّقْيِيدُ - عَلَى هَذَا - إِخْرَاجُ اللَّفْظِ الْمُطْلَقِ عَنِ الشُّيُوعِ بِوَجْهٍ مَا، كَالْوَصْفِ، وَالظَّرْفِ، وَالشَّرْطِ. . إِلَخْ.
وَذَكَرَ الآْمِدِيُّ أَنَّ الْمُقَيَّدَ يُطْلَقُ بِاعْتِبَارَيْنِ:
الأَْوَّل: مَا كَانَ مِنَ الأَْلْفَاظِ الدَّالَّةِ عَلَى مَدْلُولٍ مُعَيَّنٍ كَزَيْدٍ وَعَمْرٍو وَهَذَا الرَّجُل وَنَحْوِهِ.
__________
(1) الصحاح، والقاموس، واللسان، والمصباح، مادة: " قيد ".
(2) التلويح على التوضيح 1 / 63 ط صبيح، ومسلم الثبوت 1 / 360ط الأميرية.(13/180)
الثَّانِي: مَا كَانَ مِنَ الأَْلْفَاظِ دَالًّا عَلَى وَصْفِ مَدْلُولِهِ الْمُطْلَقِ بِصِفَةٍ زَائِدَةٍ عَلَيْهِ كَقَوْلِكَ: دِينَارٌ مِصْرِيٌّ وَدِرْهَمٌ مَكِّيٌّ (1) . وَالتَّقْيِيدُ فِي الْعُقُودِ: هُوَ الْتِزَامُ حُكْمِ التَّصَرُّفِ الْقَوْلِيِّ، لاَ يَسْتَلْزِمُهُ ذَلِكَ التَّصَرُّفُ فِي حَال إِطْلاَقِهِ (2) . وَالأُْصُولِيُّونَ وَالْفُقَهَاءُ يَسْتَعْمِلُونَهُ فِي مُقَابِل الإِْطْلاَقِ
(الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ) :
أ - الإِْضَافَةُ:
2 - تَأْتِي الإِْضَافَةُ فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَى الضَّمِّ وَالإِْمَالَةِ وَالإِْسْنَادِ وَالتَّخْصِيصِ.
وَأَمَّا الأُْصُولِيُّونَ وَالْفُقَهَاءُ فَإِنَّهُمْ يَسْتَعْمِلُونَهَا بِمَعْنَى الإِْسْنَادِ وَالتَّخْصِيصِ، فَإِذَا قِيل: الْحُكْمُ مُضَافٌ إِلَى فُلاَنٍ أَوْ مَنْ صِفَتُهُ كَذَا كَانَ ذَلِكَ إِسْنَادًا إِلَيْهِ، وَإِذَا قِيل: الْحُكْمُ مُضَافٌ إِلَى زَمَانِ كَذَا كَانَ تَخْصِيصًا لَهُ، وَيَقْصِدُ بِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إِلَى الزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَل إِرْجَاءَ الْوَفَاءِ بِآثَارِ التَّصَرُّفِ إِلَى الزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَل الَّذِي حَدَّدَهُ الْمُتَصَرِّفُ (3) .
فَالإِْضَافَةُ بِمَعَانِيهَا الْمُتَقَدِّمَةِ فِيهَا مَعْنَى التَّقْيِيدِ، لَكِنَّهُ أَعَمُّ مِنْهَا؛ لأَِنَّهُ يَكُونُ بِالإِْضَافَةِ وَبِغَيْرِهَا.
ب -
__________
(1) الإحكام في أصول الأحكام للآمدي 2 / 111 ط صبيح.
(2) الموسوعة الفقهية 5 / 67 ف4 ـ ط الموسوعة.
(3) الصحاح، والقاموس، والمصباح، مادة: ضيف، وتيسير التحرير 1 / 129 ط الحلبي(13/181)
الإِْطْلاَقُ:
3 - الإِْطْلاَقُ مَصْدَرُ أَطْلَقَ، وَمِنْ مَعَانِيهِ فِي اللُّغَةِ: التَّخْلِيَةُ، وَالْحَل وَالإِْرْسَال، وَعَدَمُ التَّقْيِيدِ (1) .
وَأَمَّا عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ فَيُعْرَفُ مَعْنَاهُ مِنْ مَعْنَى الْمُطْلَقِ، وَهُوَ مَا دَل عَلَى شَائِعٍ فِي جِنْسِهِ (2) .
وَمَعْنَى كَوْنِهِ شَائِعًا فِي جِنْسِهِ، أَنَّهُ حِصَّةٌ مِنَ الْحَقِيقَةِ مُحْتَمَلَةٌ لِحِصَصٍ كَثِيرَةٍ مِنْ غَيْرِ شُمُولٍ وَلاَ تَعْيِينٍ (3) .
وَيَأْتِي الإِْطْلاَقُ أَيْضًا بِمَعْنَى اسْتِعْمَال اللَّفْظِ فِي مَعْنَاهُ حَقِيقَةً كَانَ أَوْ مَجَازًا، كَمَا يَأْتِي بِمَعْنَى النَّفَاذِ، فَإِطْلاَقُ التَّصَرُّفِ نَفَاذُهُ (4) .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الإِْطْلاَقِ وَالتَّقْيِيدِ وَاضِحٌ، إِذِ الإِْطْلاَقُ شَائِعٌ فِي جِنْسِهِ، وَالتَّقْيِيدُ مُخْرِجٌ لَهُ عَنْ ذَلِكَ الشُّيُوعِ بِوَجْهٍ مَا (5) .
ج - التَّخْصِيصُ:
4 - التَّخْصِيصُ: مَصْدَرُ خَصَّصَ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ: ضِدُّ التَّعْمِيمِ.
وَالتَّخْصِيصُ فِي الاِصْطِلاَحِ: هُوَ قَصْرُ الْعَامِّ
__________
(1) الصحاح، والمصباح مادة: " طلق "، والكليات 1 / 217 ط دمشق.
(2) مسلم الثبوت 1 / 360 ط الأميرية، وإرشاد الفحول (164) ط الحلبي.
(3) التلويح على التوضيح 1 / 63.
(4) الموسوعة الفقهية 5 / 162ف1.
(5) التلويح على التوضيح 1 / 63.(13/181)
عَلَى بَعْضِ أَفْرَادِهِ بِدَلِيلٍ مُسْتَقِلٍّ مُقْتَرِنٍ بِهِ
وَمُحَصَّل الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّقْيِيدِ، أَنَّ التَّقْيِيدَ مِنْ حَيْثُ هُوَ يَقْتَضِي إِيجَابَ شَيْءٍ زَائِدٍ عَلَى الْمُطْلَقِ فَيَصْلُحُ نَاسِخًا، وَأَمَّا التَّخْصِيصُ فَهُوَ مِنْ حَيْثُ حَقِيقَتُهُ لاَ يَقْتَضِي الإِْيجَابَ أَصْلاً، بَل إِنَّمَا يَقْتَضِي الدَّفْعَ لِبَعْضِ الْحُكْمِ (1) .
د - التَّعْلِيقُ:
5 - التَّعْلِيقُ: مَصْدَرُ عَلَّقَ، وَمَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ: جَعْل الشَّيْءِ مُرْتَبِطًا بِغَيْرِهِ (2) .
وَأَمَّا فِي الاِصْطِلاَحِ: فَهُوَ رَبْطُ حُصُول مَضْمُونِ جُمْلَةٍ بِحُصُول مَضْمُونِ جُمْلَةٍ أُخْرَى، وَيُسَمَّى يَمِينًا مَجَازًا؛ لأَِنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ شَرْطٌ وَجَزَاءٌ، وَلِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى السَّبَبِيَّةِ كَالْيَمِينِ (3) .
وَالتَّعْلِيقُ يُشْبِهُ التَّقْيِيدَ فِي الْمَعْنَى لِمَا فِيهِ مِنَ الرَّبْطِ.
هـ - الشَّرْطُ:
6 - الشَّرْطُ بِسُكُونِ الرَّاءِ لَهُ عَدَدٌ مِنَ الْمَعَانِي مِنْهَا: إِلْزَامُ الشَّيْءِ وَالْتِزَامُهُ. وَأَمَّا بِفَتْحِ الرَّاءِ
__________
(1) القاموس، والمصباح مادة: " خص " والتعريفات للجرجاني ص 53 ط العلمية، والبزدوي 1 / 306 ط دار الكتاب العربي، وإرشاد الفحول ص 142 ط الحلبي، ومسلم الثبوت 1 / 365ط الأميرية.
(2) القاموس مادة: " علق " بتصرف.
(3) حاشية ابن عابدين 2 / 492 ط المصرية، والكليات 2 / 5 ط دمشق.(13/182)
فَمَعْنَاهُ الْعَلاَمَةُ، وَيُجْمَعُ عَلَى أَشْرَاطٍ كَسَبَبٍ وَأَسْبَابٍ.
وَمَعْنَاهُ فِي الاِصْطِلاَحِ كَمَا قَال الْحَمَوِيُّ: الْتِزَامُ أَمْرٍ لَمْ يُوجَدْ فِي أَمْرٍ وُجِدَ بِصِيغَةٍ مَخْصُوصَةٍ (1) .
وَهُوَ يُشْبِهُ التَّقْيِيدَ لِمَا فِيهِ مِنَ الاِلْتِزَامِ.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
7 - ذَكَرَ الأُْصُولِيُّونَ وَالْفُقَهَاءُ الأَْحْكَامَ الْخَاصَّةَ بِمُصْطَلَحِ تَقْيِيدٌ فِي عَدَدٍ مِنَ الْمَوَاطِنِ، وَمِنْ أَشْهَرِ مَسَائِلِهِ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ مَسْأَلَةُ حَمْل الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَمِمَّا قَالُوهُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمُطْلَقَ وَالْمُقَيَّدَ إِمَّا أَنْ يَخْتَلِفَا فِي السَّبَبِ وَالْحُكْمِ، وَإِمَّا أَنْ يَتَّفِقَا فِيهِمَا، وَإِمَّا أَنْ يَخْتَلِفَا فِي السَّبَبِ دُونَ الْحُكْمِ، فَإِنْ كَانَ الأَْوَّل فَلاَ حَمْل اتِّفَاقًا، كَمَا قَال الآْمِرُ لِمَنْ تَلْزَمُهُ طَاعَتُهُ: اشْتَرِ لَحْمَ ضَأْنٍ، وَكُل لَحْمًا، فَلاَ يُحْمَل هَذَا عَلَى ذَاكَ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَيُحْمَل الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ اتِّفَاقًا، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى كَفَّارَةِ الْيَمِينِ: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ} (2) مَعَ قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ " فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَالِيَاتٍ وَإِنْ كَانَ الثَّالِثُ وَهُوَ الاِخْتِلاَفُ فِي السَّبَبِ دُونَ حُكْمٍ فَهُوَ مَحَل الْخِلاَفِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَأَكْثَرُ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ
__________
(1) القاموس والمصباح مادة: " شرط "، وحاشية الحموي 2 / 225 ط العامرة.
(2) سورة المائدة / 89.(13/182)
حَمْل الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى الْجَوَازِ (1) . وَمِثَالُهُ: قَوْله تَعَالَى فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} (2) وَفِي الْقَتْل: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} (3) .
8 - هَذَا وَالتَّقْيِيدُ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ كَالتَّخْصِيصِ فِي الْجُمْلَةِ، فَمَا جَازَ تَخْصِيصُ الْعَامِّ بِهِ يَجُوزُ تَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ بِهِ وَمَا لاَ فَلاَ (4) . وَالتَّفْصِيل فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
وَأَمَّا الْفُقَهَاءُ فَقَدْ ذَكَرُوا التَّقْيِيدَ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَبْوَابِ الْفِقْهِ، فَذَكَرُوهُ فِي الاِعْتِكَافِ وَالْبَيْعِ، وَالإِْجَارَةِ، وَالْعَارِيَّةِ، وَالضَّمَانِ، وَالْوَكَالَةِ، وَالإِْقْرَارِ، وَالْيَمِينِ، وَالْكَفَّارَاتِ.
فَفِي الاِعْتِكَافِ عَلَى سَبِيل الْمِثَال يَذْكُرُونَ أَنَّ الْمُعْتَكِفَ يَتَقَيَّدُ بِمَا أَلْزَمَ بِهِ نَفْسَهُ وَمَا نَوَاهُ مِنْ حَيْثُ الْتِزَامُ التَّتَابُعِ فِي الاِعْتِكَافِ أَيَّامًا إِنْ نَوَاهُ (5) .
وَذَكَرُوا فِي الْبَيْعِ مَسَائِل كَثِيرَةً فِي تَقْيِيدِهِ بِشَرْطٍ
__________
(1) إرشاد الفحول 164ـ 165، والتلويح على التوضيح 1 / 63، 64، ومسلم الثبوت 1 / 361، الإحكام للآمدي 2 / 111.
(2) سورة المجادلة / 3.
(3) سورة النساء / 92.
(4) جمع الجوامع 2 / 48، وإرشاد الفحول / 167.
(5) ابن عابدين 2 / 130، وجواهر الإكليل 1 / 157، وروضة الطالبين 2 / 401، وكشاف القناع 2 / 354ـ 355، ومصطلح (اعتكاف) .(13/183)
صَحِيحٍ أَوْ فَاسِدٍ، وَمَسَائِل تَتَعَلَّقُ بِخِيَارِ الشَّرْطِ يُرْجَعُ إِلَيْهَا فِي مَوْضِعِهَا (1) .
وَذَكَرُوا فِي الإِْجَارَةِ أَنَّهَا تَكُونُ مُطْلَقَةً وَمُقَيَّدَةً بِمُدَّةٍ أَوْ عَمَلٍ أَوْ شَرْطٍ، وَيَضْمَنُ الْمُسْتَأْجِرُ فِي حَال مُخَالَفَتِهِ لِلشَّرْطِ الَّذِي قَيَّدَ بِهِ الْمَالِكُ الإِْجَارَةَ كَمَا إِذَا آجَرَهُ دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا هُوَ فَقَطْ فَأَرْكَبَهَا غَيْرَهُ فَتَلِفَتْ، بَل إِنَّ الْحَنَفِيَّةَ ذَكَرُوا أَنَّ عَقْدَ الإِْجَارَةِ قَدْ يَتَقَيَّدُ دَلاَلَةً كَمَا إِذَا آجَرَهُ دَارًا لِلسُّكْنَى وَأَطْلَقَ فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُؤَجِّرَهَا لِحَدَّادٍ أَوْ نَحْوِهِ، لأَِنَّ ذَلِكَ يُوهِنُ الْبِنَاءَ فَيَتَقَيَّدُ الْعَقْدُ دَلاَلَةً. وَلَكِنْ لَهُ أَنْ يُسْكِنَ غَيْرَهُ مِمَّنْ هُوَ فِي حُكْمِهِ وَلاَ يَخْتَلِفُ حَالُهُ عَنْ حَالِهِ فِي الاِسْتِعْمَال (2) .
وَأَمَّا الْعَارِيَّةُ فَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّهَا تَتَقَيَّدُ بِالشَّرْطِ وَبِالْمَسَافَةِ وَبِالْمُدَّةِ وَبِالْعَمَل، فَإِذَا خَالَفَ الْمُسْتَعِيرُ شَرْطَ الْمُعِيرِ بِحَيْثُ أَدَّى ذَلِكَ إِلَى تَلَفِ الْمُسْتَعَارِ ضَمِنَ. كَمَا إِذَا أَعَارَهُ دَابَّةً لِيَحْمِل عَلَيْهَا عَشَرَةَ أَكْيَاسٍ مِنَ الشَّعِيرِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْمِل عَلَيْهَا عَشَرَةَ أَكْيَاسٍ مِنْ حِنْطَةٍ، لأَِنَّهَا أَثْقَل مِنَ الشَّعِيرِ (3) .
__________
(1) ابن عابدين / 62، وتبيين الحقائق 4 / 14، والاختيار 2 / 12، وجواهر الإكليل 2 / 25.
(2) تبيين الحقائق 5 / 115ـ 116، وفتح القدير 7 / 166، والدسوقي 4 / 12، مواهب الجليل 5 / 410، جواهر الإكليل 2 / 187، وروضة الطالبين 3 / 403، 5 / 197، وكشاف القناع 3 / 188 وما بعدها، 4 / 5 وما بعدها ط النصر، ومصطلح (بيع) من الموسوعة الفقهية.
(3) بدائع الصنائع 6 / 216، وجواهر الإكليل 2 / 146، وروضة الطالبين 4 / 437، وما بعدها، وكشاف القناع 4 / 66.(13/183)
وَأَمَّا الْوَكَالَةُ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْوَكِيل الْتِزَامُ مَا قَيَّدَهُ بِهِ الْمُوَكِّل، بِلاَ خِلاَفٍ (1) .
وَأَمَّا الإِْقْرَارُ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُطْلَقًا وَيَكُونُ مُقَيَّدًا مِنْ حَيْثُ الصِّيغَةُ، وَالتَّفْصِيل يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ (إِقْرَارٌ (2)) .
وَأَمَّا الْيَمِينُ فَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَنَّهَا تَكُونُ مُطْلَقَةً وَمُقَيَّدَةً. وَالْيَمِينُ الْمُطْلَقَةُ تَصِيرُ مُقَيَّدَةً بِدَلاَلَةِ الْحَال، كَمَا لَوْ حَلَّفَهُ وَالٍ لِيُعْلِمَنَّهُ بِكُل مُفْسِدٍ دَخَل الْبَلْدَةَ، فَإِنَّ حَلِفَهُ هَذَا يَتَقَيَّدُ بِزَمَنِ وِلاَيَتِهِ.
وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْيَمِينَ الْمُطْلَقَةَ يُقَيِّدُهَا الْعُرْفُ الْفِعْلِيُّ.
وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ أَنَّ الأَْصْل الْمَرْجُوعَ إِلَيْهِ فِي الْبِرِّ وَالْحِنْثِ، اتِّبَاعُ مُقْتَضَى اللَّفْظِ الَّذِي تَعَلَّقَتْ بِهِ الْيَمِينُ، وَقَدْ يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ التَّقْيِيدُ وَالتَّخْصِيصُ، بِنِيَّةٍ تَقْتَرِنُ بِهِ أَوْ بِاصْطِلاَحٍ خَاصٍّ أَوْ قَرِينَةٍ.
ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ الصُّوَرَ الَّتِي تَدْخُل تَحْتَ هَذَا الْبَابِ لاَ تَتَنَاهَى، وَقَدِ اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ مَا يَكْثُرُ اسْتِعْمَالُهُ مِنْهَا، وَهِيَ الَّتِي ذَكَرَهَا الشَّافِعِيُّ وَالأَْصْحَابُ. وَأَوْرَدَ الْبُهُوتِيُّ فِي بَابِ جَامِعِ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 20، ومواهب الجليل 5 / 196، والدسوقي 3 / 383، وروضة الطالبين 4 / 314، والمغني 5 / 131، ومصطلح (وكالة) من الموسوعة الفقهية.
(2) الموسوعة الفقهية 6 / 64 ف41، 50 ط الموسوعة.(13/184)
الأَْيْمَانِ صُوَرًا كَثِيرَةً فِي إِطْلاَقِ الْيَمِينِ وَتَقْيِيدِهَا (1) .
وَقَدْ بَحَثَ الْفُقَهَاءُ التَّقْيِيدَ أَيْضًا بِالإِْضَافَةِ إِلَى مَا سَبَقَ فِي السَّلَمِ وَالطَّلاَقِ وَالْوِلاَيَةِ وَالْعِتْقِ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي الْمُصْطَلَحَاتِ الْخَاصَّةِ بِهَا.
__________
(1) ابن عابدين 3 / 135، وجواهر الإكليل 1 / 232، وروضة الطالبين 11 / 27 ما بعدها، وكشاف القناع للبهوتي 6 / 245 وما بعدها.(13/184)
تَقِيَّةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّقِيَّةُ اسْمُ مَصْدَرٍ مِنَ الاِتِّقَاءِ، يُقَال: اتَّقَى الرَّجُل الشَّيْءَ يَتَّقِيهِ، إِذَا اتَّخَذَ سَاتِرًا يَحْفَظُهُ مِنْ ضَرَرِهِ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ (1) .
وَأَصْلُهُ مِنْ وَقَى الشَّيْءَ، يَقِيهِ، إِذَا صَانَهُ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا} (2) أَيْ حَمَاهُ مِنْهُمْ فَلَمْ يَضُرَّهُ مَكْرُهُمْ. وَيُقَال فِي الْفِعْل أَيْضًا: تَقَاهُ يَتَّقِيهِ. وَالتَّاءُ هُنَا مُنْقَلِبَةٌ عَنِ الْوَاوِ.
وَالتُّقَاةُ وَالتَّقِيَّةُ وَالتَّقْوَى وَالتُّقَى وَالاِتِّقَاءُ، كُلُّهَا بِمَعْنَى وَاحِدٍ فِي اسْتِعْمَال أَهْل اللُّغَةِ (3) .
أَمَّا فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ فَإِنَّ التَّقْوَى وَالتُّقَى خُصَّا بِاتِّقَاءِ الْعَبْدِ لِلَّهِ تَعَالَى بِامْتِثَال أَمْرِهِ وَاجْتِنَابِ نَهْيِهِ وَالْخَوْفِ مِنَ ارْتِكَابِ مَا لاَ يَرْضَاهُ، لأَِنَّ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي يَقِي مِنْ غَضَبِهِ وَعَذَابِهِ.
__________
(1) حديث: " اتقوا النار ولو بشق تمرة. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري3 / 282 ط السلفية) من حديث أبي مسعود.
(2) سورة غافر / 45.
(3) لسان العرب مادة: " و. ق. ي ".(13/185)
وَأَمَّا التُّقَاةُ وَالتَّقِيَّةُ فَقَدْ خُصَّتَا فِي الاِصْطِلاَحِ بِاتِّقَاءِ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا.
وَأَصْل ذَلِكَ قَوْل اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {لاَ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَل ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} (1) .
وَقَدْ عَرَّفَهَا السَّرَخْسِيُّ بِقَوْلِهِ: التَّقِيَّةُ أَنْ يَقِيَ الإِْنْسَانُ نَفْسَهُ بِمَا يُظْهِرُهُ وَإِنْ كَانَ يُضْمِرُ خِلاَفَهُ (2) .
وَعَرَّفَهَا ابْنُ حَجَرٍ بِقَوْلِهِ: التَّقِيَّةُ الْحَذَرُ مِنْ إِظْهَارِ مَا فِي النَّفْسِ مِنْ مُعْتَقَدٍ وَغَيْرِهِ لِلْغَيْرِ (3) .
وَالتَّعْرِيفُ الأَْوَّل أَشْمَل، لأَِنَّهُ يَدْخُل فِيهِ التَّقِيَّةُ بِالْفِعْل إِضَافَةً إِلَى التَّقِيَّةِ بِالْقَوْل وَالتَّقِيَّةِ فِي الْعَمَل كَمَا هِيَ فِي الاِعْتِقَادِ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْمُدَارَاةُ:
2 - الْمُدَارَاةُ مُلاَيَنَةُ النَّاسِ وَمُعَاشَرَتُهُمْ بِالْحُسْنَى مِنْ غَيْرِ ثَلَمٍ فِي الدِّينِ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ مِنَ الْجِهَاتِ (4) وَالإِْغْضَاءُ عَنْ مُخَالَفَتِهِمْ فِي بَعْضِ الأَْحْيَانِ. وَأَصْلُهَا " الْمُدَارَأَةُ " بِالْهَمْزِ، مِنَ الدَّرْءِ
__________
(1) سورة آل عمران / 28.
(2) المبسوط للسرخسي 24 / 45 بيروت، ودار المعرفة بالأوفست عن طبعة القاهرة.
(3) فتح الباري 12 / 314، والمكتبة السلفية، 1372 هـ.
(4) روضة العقلاء لابن حبان ص 56 القاهرة، مصطفى الحلبي، 1374هـ.(13/185)
وَهُوَ الدَّفْعُ، وَالْمُدَارَاةُ مَشْرُوعَةٌ، وَذَلِكَ لأَِنَّ وِدَادَ النَّاسِ لاَ يُسْتَجْلَبُ إِلاَّ بِمُسَاعَدَتِهِمْ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ. وَالْبَشَرُ قَدْ رُكِّبَ فِيهِمْ أَهْوَاءٌ مُتَبَايِنَةٌ، وَطِبَاعٌ مُخْتَلِفَةٌ، وَيَشُقُّ عَلَى النُّفُوسِ تَرْكُ مَا جُبِلَتْ عَلَيْهِ، فَلَيْسَ إِلَى صَفْوِ وِدَادِهِمْ سَبِيلٌ إِلاَّ بِمُعَاشَرَتِهِمْ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْمُخَالَفَةِ لِرَأْيِكَ وَهَوَاكَ (1) .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمُدَارَاةِ وَالتَّقِيَّةِ: أَنَّ التَّقِيَّةَ غَالِبًا لِدَفْعِ الضَّرَرِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَأَمَّا الْمُدَارَاةُ فَهِيَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ وَجَلْبِ النَّفْعِ
ب - الْمُدَاهَنَةُ:
3 - قَال ابْنُ حِبَّانَ: مَتَى مَا تَخَلَّقَ الْمَرْءُ بِخُلُقٍ يَشُوبُهُ بَعْضُ مَا يَكْرَهُهُ اللَّهُ فَتِلْكَ هِيَ الْمُدَاهَنَةُ (2) . وقَوْله تَعَالَى: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} (3) فَسَّرَهُ الْفَرَّاءُ، كَمَا فِي اللِّسَانِ بِقَوْلِهِ: وَدُّوا لَوْ تَلِينَ فِي دِينِكَ فَيَلِينُونَ. وَقَال أَبُو الْهَيْثَمِ: أَيْ: وَدُّوا لَوْ تُصَانِعُهُمْ فِي الدِّينِ فَيُصَانِعُوكَ. وَهَذَا لَيْسَ بِمُخَالِفٍ لِمَا تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ حِبَّانَ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مَأْمُورًا بِالصَّدْعِ بِالدَّعْوَةِ وَعَدَمِ الْمُصَانَعَةِ فِي إِظْهَارِ الْحَقِّ وَعَيْبِ الأَْصْنَامِ وَالآْلِهَةِ الَّتِي اتَّخَذُوهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ تَعَالَى، فَكَانَ
__________
(1) روضة العقلاء ص 56 أيضا.
(2) روضة العقلاء ص 56.
(3) سورة القلم / 9.(13/186)
تَلْيِينُ الْقَوْل فِي هَذَا الْمَيْدَانِ مُدَاهَنَةً لاَ يَرْضَاهَا اللَّهُ تَعَالَى لأَِنَّ فِيهَا تَرْكَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْجَهْرِ بِالدَّعْوَةِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمُدَاهَنَةِ وَالتَّقِيَّةِ: أَنَّ التَّقِيَّةَ لاَ تَحِل إِلاَّ لِدَفْعِ الضَّرَرِ، أَمَّا الْمُدَاهَنَةُ فَلاَ تَحِل أَصْلاً، لأَِنَّهَا اللِّينُ فِي الدِّينِ وَهُوَ مَمْنُوعٌ شَرْعًا.
ج - النِّفَاقُ:
4 - النِّفَاقُ هُوَ أَنْ يُظْهِرَ الإِْيمَانَ وَيَسْتُرَ الْكُفْرَ، وَقَدْ يُطْلَقُ النِّفَاقُ عَلَى الرِّيَاءِ، قَال صَاحِبُ اللِّسَانِ: لأَِنَّ كِلَيْهِمَا إِظْهَارُ غَيْرِ مَا فِي الْبَاطِنِ.
قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: أَسَاسُ النِّفَاقِ الَّذِي بُنِيَ عَلَيْهِ هُوَ الْكَذِبُ، وَأَنْ يَقُول الرَّجُل بِلِسَانِهِ مَا لَيْسَ فِي قَلْبِهِ، كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الْمُنَافِقِينَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ (1) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ التَّقِيَّةِ وَبَيْنَ النِّفَاقِ، أَنَّ الْمُنَافِقَ كَافِرٌ فِي قَلْبِهِ لَكِنَّهُ يُظْهِرُ بِلِسَانِهِ وَظَاهِرُ حَالِهِ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ وَيَعْمَل أَعْمَال الْمُؤْمِنِينَ لِيَأْمَنَ عَلَى نَفْسِهِ فِي الْمُجْتَمَعِ الإِْسْلاَمِيِّ وَلِيُحَصِّل الْمِيزَاتِ الَّتِي يُحَصِّلُهَا الْمُؤْمِنُ. فَهُوَ مُغَايِرٌ لِلتَّقِيَّةِ؛ لأَِنَّهَا إِظْهَارُ الْمُؤْمِنِ عِنْدَ الْخَوْفِ عَلَى نَفْسِهِ مَا يَأْمَنُ بِهِ مِنْ أَمَارَاتِ الْكُفْرِ أَوِ الْمَعْصِيَةِ مَعَ كَرَاهَتِهِ لِذَلِكَ فِي قَلْبِهِ، وَاطْمِئْنَانِهِ بِالإِْيمَانِ.
مَشْرُوعِيَّةُ الْعَمَل بِالتَّقِيَّةِ:
5 - يَذْهَبُ جُمْهُورُ عُلَمَاءِ أَهْل السُّنَّةِ إِلَى أَنَّ
__________
(1) منهاج السنة النبوية، القاهرة، مطبعة بولاق 1 / 159.(13/186)
الأَْصْل فِي التَّقِيَّةِ هُوَ الْحَظْرُ، وَجَوَازُهَا ضَرُورَةٌ، فَتُبَاحُ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ. قَال الْقُرْطُبِيُّ: وَالتَّقِيَّةُ لاَ تَحِل إِلاَّ مَعَ خَوْفِ الْقَتْل أَوِ الْقَطْعِ أَوِ الإِْيذَاءِ الْعَظِيمِ، وَلَمْ يُنْقَل مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ فِيمَا نَعْلَمُ إِلاَّ مَا رُوِيَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَمُجَاهِدٍ مِنَ التَّابِعِينَ (1) ، وَإِنَّمَا ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى ذَلِكَ لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَصَّ عَلَيْهَا فِي كِتَابِهِ بِقَوْلِهِ: {لاَ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَل ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} (2) قَال ابْنُ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِهَا: نَهَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُلاَطِفُوا الْكُفَّارَ، أَوْ يَتَّخِذُوهُمْ وَلِيجَةً مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْكُفَّارُ عَلَيْهِمْ ظَاهِرِينَ، فَيُظْهِرُونَ لَهُمُ اللُّطْفَ وَيُخَالِفُونَهُمْ فِي الدِّينِ (3) .
6 - وَمِنَ الأَْدِلَّةِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ التَّقِيَّةِ لِلضَّرُورَةِ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {مَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِْيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (4) وَسَبَبُ نُزُول الآْيَةِ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ أَخَذُوا عَمَّارًا فَلَمْ يَتْرُكُوهُ حَتَّى سَبَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرَ آلِهَتَهُمْ بِخَيْرٍ، فَتَرَكُوهُ. فَلَمَّا أَتَى
__________
(1) تفسير القرطبي 4 / 57.
(2) سورة آل عمران / 28.
(3) تفسير الطبري 6 / 228، 313، القاهرة. ومصطفى الحلبي 1373هـ.
(4) سورة النحل / 106.(13/187)
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَا وَرَاءَكَ؟ قَال: شَرٌّ، مَا تُرِكْتُ حَتَّى نِلْتُ مِنْكَ وَذَكَرْتُ آلِهَتَهُمْ بِخَيْرٍ.
قَال: كَيْفَ تَجِدُ قَلْبَكَ؟ قَال: مُطْمَئِنٌّ بِالإِْيمَانِ. قَال: إِنْ عَادُوا فَعُدْ، فَنَزَلَتْ {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِْيمَانِ} (1) .
7 - وَمِنَ الأَْدِلَّةِ عَلَى جَوَازِ التَّقِيَّةِ لِلضَّرُورَةِ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ الْحَسَنِ، أَنَّ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابَ أَخَذَ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال لأَِحَدِهِمَا: أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّهِ؟ قَال: نَعَمْ. نَعَمْ. نَعَمْ. قَال أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُول اللَّهِ؟ قَال: نَعَمْ وَكَانَ مُسَيْلِمَةُ يَزْعُمُ أَنَّهُ رَسُول بَنِي حَنِيفَةَ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول قُرَيْشٍ - ثُمَّ دَعَا بِالآْخَرِ، فَقَال: أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّهِ؟ قَال: نَعَمْ. قَال: أَفَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُول اللَّهِ؟ قَال: إِنِّي أَصَمُّ. قَالَهَا ثَلاَثًا، كُل ذَلِكَ يُجِيبُهُ بِمِثْل الأَْوَّل. فَضَرَبَ عُنُقَهُ. فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: أَمَّا ذَلِكَ الْمَقْتُول فَقَدْ مَضَى عَلَى صِدْقِهِ وَيَقِينِهِ، وَأَخَذَ بِفَضْلِهِ، فَهَنِيئًا لَهُ. وَأَمَّا الآْخَرُ فَقَبِل رُخْصَةَ اللَّهِ فَلاَ تَبِعَةَ عَلَيْهِ (2)
__________
(1) حديث: " سب عمار للنبي صلى الله عليه وسلم عندما أكرهه المشركون ". أخرجه الحاكم (2 / 357 ط دار الكتاب العربي) وقال صحيح على شرط الشيخين وأقره الذهبي. وابن جرير في تفسير (4 / 182 ط مصطفى الحلبي) . كلاهما من طريق أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر عن أبيه. وأبوه تابعي. قال ابن حجر " وإسناده صحيح إن كان محمد بن عمار سمعه من أبيه " (الدراية 2 / 197 ط الفجالة) .
(2) حديث: " أما ذلك المقتول فقد مضى على صدقه ويقينه. . . " أخرجه ابن أبي شيبة (12 / 358 ط السلفية) بلفظ " أما صاحبك فمضى على إيمانه، وأما أنت فأخذت بالرخصة " من طريق يونس عن الحسن البصري، فالحديث مرسل.(13/187)
وَقَال الْحَسَنُ: التَّقِيَّةُ جَائِزَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) .
وَقَدْ نَسَبَ الْقُرْطُبِيُّ إِنْكَارَ التَّقِيَّةِ إِلَى مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَنَسَبَهُ الرَّازِيُّ وَالْقُرْطُبِيُّ إِلَى مُجَاهِدٍ، قَالاَ: " كَانَتِ التَّقِيَّةُ فِي جِدَّةِ الإِْسْلاَمِ قَبْل قُوَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَأَمَّا الْيَوْمَ فَقَدْ أَعَزَّ اللَّهُ أَهْل الإِْسْلاَمِ أَنْ يَتَّقُوا عَدُوَّهُمْ (2) " وَنَقَل السَّرَخْسِيُّ عَنْ قَوْمٍ لَمْ يُسَمِّهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَأْبَوْنَ التَّقِيَّةَ، وَيَقُولُونَ: هِيَ مِنَ النِّفَاقِ (3) .
التَّقِيَّةُ مِنَ الأَْنْبِيَاءِ:
8 - قَال السَّرَخْسِيُّ: إِنَّ هَذَا النَّوْعَ - يَعْنِي النُّطْقَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ تَقِيَّةً - يَجُوزُ لِغَيْرِ الرُّسُل. فَأَمَّا فِي حَقِّ الْمُرْسَلِينَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ - فَمَا كَانَ يَجُوزُ ذَلِكَ فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى أَصْل
__________
(1) الدر المنثورة 5 / 172، والرازي في تفسير سورة آل عمران 8 / 28، وفتح الباري 12 / 211 ط السلفية.
(2) تفسير القرطبي 4 / 57 القاهرة، دار الكتب، وتفسير الرازي 8 / 14.
(3) المبسوط للسرخسي 24 / 45.(13/188)
الدَّعْوَةِ إِلَى الدِّينِ الْحَقِّ، وَتَجْوِيزُ ذَلِكَ مُحَالٌ - أَيْ مَمْنُوعٌ شَرْعًا - لأَِنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى أَنْ لاَ يُقْطَعَ الْقَوْل بِمَا هُوَ شَرِيعَةٌ، لاِحْتِمَال أَنْ يَكُونَ فَعَل ذَلِكَ أَوْ قَالَهُ تَقِيَّةً (1) . وَهُوَ يُشِيرُ بِذَلِكَ إِلَى مَا يُبَيِّنُهُ أَهْل الأُْصُول مِنْ أَنَّ حُجِّيَّةَ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ مُتَوَقِّفَةٌ عَلَى كَوْنِ كُل مَا أَتَى بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقًّا، إِذْ لَوْ تَطَرَّقَ إِلَى أَقْوَالِهِ أَوْ أَفْعَالِهِ احْتِمَالٌ أَنَّهُ فَعَل أَوْ قَال أَشْيَاءَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى سَبِيل التَّقِيَّةِ وَهِيَ حَرَامٌ، لَكَانَ ذَلِكَ تَلْبِيسًا فِي الدِّينِ، وَلَمَا حَصَلَتِ الثِّقَةُ بِأَقْوَال النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَفْعَالِهِ. وَكَذَلِكَ السُّكُوتُ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا يَرَاهُ وَيَسْمَعُهُ مِنْ أَصْحَابِهِ إِقْرَارٌ تُسْتَفَادُ مِنْهُ الأَْحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ، فَلَوْ كَانَ بَعْضُ سُكُوتِهِ يَكُونُ تَقِيَّةً لاَلْتَبَسَتِ الأَْحْكَامُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ.
وَقَدْ قَال اللَّهُ تَعَالَى: {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْل وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ اللَّهَ وَكَفَى بِاَللَّهِ حَسِيبًا} (2) ، وَقَال: {يَا أَيُّهَا الرَّسُول بَلِّغْ مَا أُنْزِل إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَل فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاَللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} (3)
__________
(1) لمبسوط 24 / 45، وفتح الباري لابن حجر شرح صحيح البخاري 12 / 211 القاهرة. المكتبة السلفية 1372، وتفسير الرازي 8 / 14.
(2) سورة الأحزاب / 39.
(3) سورة المائدة / 67.(13/188)
قَال الْقُرْطُبِيُّ: دَلَّتِ الآْيَةُ عَلَى رَدِّ قَوْل مَنْ قَال: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَمَ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ الدِّينِ تَقِيَّةً، وَعَلَى بُطْلاَنِهِ وَهُمُ الرَّافِضَةُ (1) .
قَال شَارِحُ مُسَلَّمِ الثُّبُوتِ: مَا مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ بُعِثَ بَيْنَ أَعْدَائِهِ، فَلَعَلَّهُ - أَيْ فِي حَال افْتِرَاضِ عَمَلِهِ بِالتَّقِيَّةِ - كَتَمَ شَيْئًا مِنَ الْوَحْيِ خَوْفًا مِنْهُمْ، وَكَذَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعِثَ بَيْنَ أَعْدَائِهِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلأَِصْحَابِهِ قُدْرَةٌ لِدَفْعِهِمْ فَيَلْزَمُ عَلَى تَجْوِيزِ التَّقِيَّةِ لَهُ احْتِمَال كِتْمَانِهِ شَيْئًا مِنَ الْوَحْيِ، وَأَنْ لاَ ثِقَةَ بِالْقُرْآنِ. فَانْظُرْ إِلَى شَنَاعَةِ هَذَا الْقَوْل وَحَمَاقَتِهِ (2) .
عَلَى أَنَّ امْتِنَاعَ التَّقِيَّةِ عَلَى الأَْنْبِيَاءِ لاَ يَعْنِي عَدَمَ عَمَلِهِمْ بِالْمُلاَطَفَةِ وَاللِّينِ وَالْمُدَارَاةِ لِلنَّاسِ كَمَا تَقَدَّمَ، أَيْ مِنْ دُونِ إِخْلاَلٍ بِفَرِيضَةٍ أَوِ ارْتِكَابٍ لِمُحَرَّمٍ (3) .
حُكْمُ الْعَمَل بِالتَّقِيَّةِ:
9 - تَقَدَّمَتْ الأَْدِلَّةُ عَلَى جَوَازِ الْعَمَل بِالتَّقِيَّةِ.
__________
(1) تفسير القرطبي 6 / 242.
(2) شرح مسلم الثبوت 2 / 97 مع المستصفى. بولاق، وانظر مختصر التحفة ص 294.
(3) مختصر التحفة الاثنى عشرية ص 295.(13/189)
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي حُكْمِهَا. فَقِيل: إِذَا وُجِدَ سَبَبُهَا وَتَحَقَّقَ شَرْطُهَا فَهِيَ وَاجِبَةٌ، لأَِنَّ إنْقَاذَ النَّفْسِ مِنَ الْهَلَكَةِ أَوِ الإِْيذَاءِ الْعَظِيمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لاَ يَحْصُل إِلاَّ بِهَا فِي تَقْدِيرِ الْمُكَلَّفِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} (1)
وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الأَْوْلَى لِلإِْنْسَانِ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ بِظَاهِرِهِ، كَمَا هُوَ عَلَيْهِ بِبَاطِنِهِ (2) .
وَقَدْ يَكُونُ الثَّبَاتُ أَفْضَل وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَمَثُوبَةً وَلَوْ كَانَ الْعُذْرُ قَائِمًا، وَثَبَتَ هَذَا بِالأَْدِلَّةِ الصَّحِيحَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَمِنَ الْكِتَابِ مَا فِي سُورَةِ الْبُرُوجِ، فَقَدْ حَكَى اللَّهُ تَعَالَى قِصَّةَ الَّذِينَ صَبَرُوا عَلَى عَذَابِ الْحَرِيقِ فِي الأُْخْدُودِ، وَاخْتَارُوا ذَلِكَ عَلَى أَنْ يُظْهِرُوا الرُّجُوعَ عَنْ دِينِهِمْ. وَثَنَاءُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ الثَّبَاتِ يَدُل عَلَى تَفْضِيل مَوْقِفِهِمْ عَلَى مَوْقِفِ الْعَمَل بِالتَّقِيَّةِ فِي قَضِيَّةِ إظْهَارِ الْكُفْرِ.
وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} (3) .
__________
(1) سورة النساء / 29.
(2) تفسير القرطبي 4 / 57.
(3) سورة العنكبوت / 2، 3.(13/189)
وَمِمَّا يُسْتَدَل بِهِ عَلَى ذَلِكَ مِنَ السُّنَّةِ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ تُشْرِكْ بِاَللَّهِ شَيْئًا وَإِنْ قُتِّلْتَ وَحُرِّقْتَ (1) وَكَذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ فِي مَسْأَلَةِ مُسَيْلِمَةَ، فَقَدْ عَذَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّحَابِيَّ الَّذِي وَافَقَ مُسَيْلِمَةَ (2) وَقَال فِيهِ: لاَ تَبِعَةَ عَلَيْهِ وَقَال فِي حَقِّ الَّذِي ثَبَتَ فَقُتِل: مَضَى عَلَى صِدْقِهِ وَيَقِينِهِ، وَأَخَذَ بِفَضْلِهِ، فَهَنِيئًا لَهُ وَهَذَا يَدُل عَلَى التَّفْضِيل.
وَاحْتَجَّ السَّرَخْسِيُّ أَيْضًا بِقِصَّةِ خُبَيْبِ بْنِ عَدِيٍّ لَمَّا امْتَنَعَ مِنْ مُوَافَقَةِ قُرَيْشٍ عَلَى الْكُفْرِ حَتَّى قَتَلُوهُ، فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ أَفْضَل الشُّهَدَاءِ وَقَال: هُوَ رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ (3) .
10 - وَقَدْ بَوَّبَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَابًا بِعِنْوَانِ (بَابُ مَنِ اخْتَارَ الضَّرْبَ وَالْقَتْل وَالْهَوَانَ عَلَى الْكُفْرِ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ خَبَّابِ بْنِ الأَْرَتِّ أَنَّهُ قَال شَكَوْنَا إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً فِي ظِل الْكَعْبَةِ، فَقُلْنَا: أَلاَ تَسْتَنْصِرُ لَنَا؟ أَلاَ تَدْعُو لَنَا؟ فَقَال: قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ
__________
(1) حديث: " لا تشرك بالله شيئا وإن قتلت وحرقت ". أخرجه أحمد (5 / 238ط المكتب الإسلامي) وابن ماجه (2 / 1339 ط عيسى الحلبي) واللفظ له. قال البوصيري إسناده حسن. مختلف فيه (مصباح الزجاجة 4 / 190 ط دار العربية) .
(2) حديث: " لا تبعة عليه " سبق تخريجه ف / 7.
(3) المبسوط للسرخسي 24 / 44 (كتاب الإكراه) وحديث خبيب: " هو أفضل الشهداء ". قال الزيلعي: (غريب) (نصب الراية 4 / 159 ط المجلس العلمي) وأصل حديث خبيب في البخاري (7 / 165 ط السلفية)(13/190)
يُؤْخَذُ الرَّجُل، فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الأَْرْضِ فَيُجْعَل لَهُ فِيهَا، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى مَفْرِقِ رَأْسِهِ فَيُجْعَل نِصْفَيْنِ، وَيُمَشَّطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مِنْ دُونِ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ، فَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ ثُمَّ قَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاَللَّهِ لَيُتِمَّنَّ اللَّهُ هَذَا الأَْمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لاَ يَخَافُ إِلاَّ اللَّهَ وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ (1) . وَهُوَ وَاضِحُ الدَّلاَلَةِ عَلَى الْمَقْصُودِ.
وَهَكَذَا كُل أَمْرٍ فِيهِ إعْزَازٌ لِلدِّينِ وَإِعْلاَءٌ لِكَلِمَةِ اللَّهِ وَإِظْهَارٌ لِثَبَاتِ الْمُسْلِمِينَ وَبَسَالَتِهِمْ، وَتَثْبِيتٌ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْحَقِّ، يَكُونُ الثَّبَاتُ عَلَى الْحَقِّ وَإِظْهَارُهُ أَوْلَى مِنَ التَّقِيَّةِ، وَهَذَا بِخِلاَفِ نَحْوِ الإِْكْرَاهِ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ وَأَكْل الْمَيْتَةِ وَحَيْثُ لاَ تَظْهَرُ الْمَصَالِحُ الْمَذْكُورَةُ.
قَال الْفَخْرُ الرَّازِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ لِلتَّقِيَّةِ أَحْكَامًا كَثِيرَةً وَنَحْنُ نَذْكُرُ بَعْضَهَا:
11 - (الْحُكْمُ الأَْوَّل) : أَنَّ التَّقِيَّةَ إنَّمَا تَكُونُ إِذَا كَانَ الرَّجُل فِي قَوْمٍ كُفَّارٍ، وَيَخَافُ مِنْهُمْ عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ فَيُدَارِيهِمْ بِاللِّسَانِ، وَذَلِكَ بِأَنْ لاَ يُظْهِرَ الْعَدَاوَةَ بِاللِّسَانِ، بَل يَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يُظْهِرَ الْكَلاَمَ الْمُوهِمَ لِلْمَحَبَّةِ وَالْمُوَالاَةِ، وَلَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يُضْمِرَ خِلاَفَهُ، وَأَنْ يُعَرِّضَ فِي كُل مَا يَقُول، فَإِنَّ التَّقِيَّةَ
__________
(1) حديث: " قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل، فيحفر له في. . . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 12 / 315 ط السلفية) .(13/190)
تَأْثِيرُهَا فِي الظَّاهِرِ لاَ فِي أَحْوَال الْقُلُوبِ.
12 - (الْحُكْمُ الثَّانِي لِلتَّقِيَّةِ) : أَنَّهُ لَوْ أَفْصَحَ بِالإِْيمَانِ وَالْحَقِّ حَيْثُ يَجُوزُ لَهُ التَّقِيَّةُ كَانَ ذَلِكَ أَفْضَل، وَدَلِيلُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي قِصَّةِ مُسَيْلِمَةَ.
13 - (الْحُكْمُ الثَّالِثُ لِلتَّقِيَّةِ) : أَنَّهَا إنَّمَا تَجُوزُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِإِظْهَارِ الْمُوَالاَةِ وَالْمُعَادَاةِ، وَقَدْ تَجُوزُ أَيْضًا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِإِظْهَارِ الدِّينِ فَأَمَّا مَا يَرْجِعُ ضَرَرُهُ إِلَى الْغَيْرِ كَالْقَتْل وَالزِّنَى وَغَصْبِ الأَْمْوَال وَالشَّهَادَةِ بِالزُّورِ وَقَذْفِ الْمُحْصَنَاتِ وَاطِّلاَعِ الْكُفَّارِ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ، فَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ أَلْبَتَّةَ.
14 - (الْحُكْمُ الرَّابِعُ) : ظَاهِرُ الآْيَةِ يَدُل عَلَى أَنَّ التَّقِيَّةَ إنَّمَا تَحِل مَعَ الْكُفَّارِ الْغَالِبِينَ إِلاَّ أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الْحَالَةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إِذَا شَاكَلَتِ الْحَالَةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ حَلَّتِ التَّقِيَّةُ مُحَامَاةً عَلَى النَّفْسِ.
15 - (الْحُكْمُ الْخَامِسُ) : التَّقِيَّةُ جَائِزَةٌ لِصَوْنِ النَّفْسِ، وَهَل هِيَ جَائِزَةٌ لِصَوْنِ الْمَال؟
يُحْتَمَل أَنْ يُحْكَمَ فِيهَا بِالْجَوَازِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُرْمَةُ مَال الْمُسْلِمِ كَحُرْمَةِ دَمِهِ (1) وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ قُتِل دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ (2) وَلأَِنَّ الْحَاجَةَ إِلَى الْمَال شَدِيدَةٌ وَالْمَاءُ إِذَا بِيعَ بِالْغَبْنِ سَقَطَ
__________
(1) حديث: " حرمة المال المسلم كحرمة دمه " أخرجه أبو نعيم في الحلية (7 / 334 ط السعادة) . والدارقطني (3 / 26 ط دار المحاسن) . له طرق يتقوى بها ذكرها ابن حجر في التخليص الحبير (3 / 46 ط شركة الطباعة الفنية) .
(2) حديث: " من قتل دون ماله فهو شهيد ". أخرجه أبو داود (5 / 128 ط عزت عبيد الدعاس) . والترمذي (4 / 30 ط مصطفى الحلبي) وقال: حديث حسن صحيح.(13/191)
فَرْضُ الْوُضُوءِ، وَجَازَ الاِقْتِصَارُ عَلَى التَّيَمُّمِ دَفْعًا لِذَلِكَ الْقَدْرِ مِنْ نُقْصَانِ الْمَال، فَكَيْفَ لاَ يَجُوزُ هَاهُنَا.
16 - (الْحُكْمُ السَّادِسُ) : قَال مُجَاهِدٌ: هَذَا الْحُكْمُ كَانَ ثَابِتًا فِي أَوَّل الإِْسْلاَمِ لأَِجْل ضَعْفِ الْمُؤْمِنِينَ فَأَمَّا بَعْدَ قُوَّةِ دَوْلَةِ الإِْسْلاَمِ فَلاَ، وَرَوَى عَوْفٌ عَنِ الْحَسَنِ: أَنَّهُ قَال التَّقِيَّةُ جَائِزَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَهَذَا الْقَوْل أَوْلَى، لأَِنَّ دَفْعَ الضَّرَرِ عَنِ النَّفْسِ وَاجِبٌ بِقَدْرِ الإِْمْكَانِ (1) .
شُرُوطُ جَوَازِ التَّقِيَّةِ:
17 - أ - يُشْتَرَطُ لِجَوَازِ التَّقِيَّةِ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ خَوْفٌ مِنْ مَكْرُوهٍ، عَلَى مَا يُذْكَرُ تَفْصِيلُهُ بَعْدُ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ خَوْفٌ وَلاَ خَطَرٌ لَمْ يَجُزِ ارْتِكَابُ الْمُحَرَّمِ تَقِيَّةً، وَذَلِكَ كَمَنْ يَفْعَل الْمُحَرَّمَ تَوَدُّدًا إِلَى الْفُسَّاقِ أَوْ حَيَاءً مِنْهُمْ. وَإِنْ قَال خِلاَفَ الْحَقِيقَةِ كَانَ كَاذِبًا آثِمًا، وَكَذَا مَنْ أَثْنَى عَلَى الظَّالِمِينَ أَوْ أَعَانَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَصِدْقِهِمْ بِكَذِبِهِمْ وَحُسْنِ طَرِيقَتِهِمْ لِتَحْصِيل الْمَصْلَحَةِ مِنْهُمْ دُونَ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ خَطَرٌ مِنْهُمْ لَوْ سَكَتَ، فَإِنَّهُ يَكُونُ كَاذِبًا آثِمًا مُشَارِكًا لَهُمْ فِي ظُلْمِهِمْ وَفِسْقِهِمْ. وَإِنْ كَانَ فِيمَا
__________
(1) تفسير الرازي (8 / 14 ط البهية المصرية 1938م) .(13/191)
صَدَّقَهُمْ بِهِ عُدْوَانٌ عَلَى مُسْلِمٍ فَذَلِكَ أَعْظَمُ، قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَعَانَ عَلَى قَتْل مُسْلِمٍ بِشَطْرِ كَلِمَةٍ فَهُوَ آيِسٌ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ (1) .
18 - ب - قِيل: يُشْتَرَطُ لِجَوَازِ التَّقِيَّةِ أَنْ تَكُونَ مَعَ الْكُفَّارِ الْغَالِبِينَ وَسَبَقَ قَوْل الرَّازِيِّ أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الْحَالَةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إِذَا شَاكَلَتِ الْحَالَةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْكَافِرِينَ حَلَّتِ التَّقِيَّةُ مُحَامَاةً عَنِ النَّفْسِ (2) .
19 - ج - أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ إنْ نَطَقَ بِالْكُفْرِ وَنَحْوِهِ تَقِيَّةً يُتْرَكُ بَعْدَ ذَلِكَ. وَهَذَا الاِشْتِرَاطُ مَنْقُولٌ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ، فَقَدْ سُئِل عَنِ الرَّجُل يُؤْسَرُ فَيُعْرَضُ عَلَى الْكُفْرِ وَيُكْرَهُ عَلَيْهِ، هَل لَهُ أَنْ يَرْتَدَّ - أَيْ ظَاهِرًا - فَكَرِهَهُ كَرَاهَةً شَدِيدَةً وَقَال: مَا يُشْبِهُ هَذَا عِنْدِي الَّذِينَ أُنْزِلَتْ فِيهِمُ الآْيَةُ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُولَئِكَ كَانُوا يُرَادُونَ عَلَى الْكَلِمَةِ ثُمَّ يُتْرَكُونَ يَفْعَلُونَ مَا شَاءُوا، وَهَؤُلاَءِ يُرِيدُونَهُمْ عَلَى الإِْقَامَةِ عَلَى الْكُفْرِ وَتَرْكِ دِينِهِمْ.
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَذَلِكَ لأَِنَّ الَّذِي يُكْرَهُ عَلَى كَلِمَةٍ يَقُولُهَا ثُمَّ يُخَلَّى لاَ ضَرَرَ فِيهَا، وَهَذَا الْمُقِيمُ بَيْنَهُمْ يَلْتَزِمُ بِإِجَابَتِهِمْ إِلَى الْكُفْرِ الْمُقَامِ عَلَيْهِ
__________
(1) حديث: " من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة. . . " أخرجه ابن ماجه (2 / 874 ط عيسى الحلبي) ، والبيهقي (8 / 22 ط دار المعرفة) . واللفظ لابن ماجه. قال الحافظ البوصيري في الزوائد. في إسناده ابن أبي زياد بالغوا في تضعيفه.
(2) تفسير الرازي 8 / 14.(13/192)
وَاسْتِحْلاَل الْمُحَرَّمَاتِ وَتَرْكِ الْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ وَفِعْل الْمَحْظُورَاتِ وَالْمُنْكَرَاتِ وَإِنْ كَانَ امْرَأَةً تَزَوَّجُوهَا وَاسْتَوْلَدُوهَا أَوْلاَدًا كُفَّارًا. وَكَذَلِكَ الرَّجُل. وَظَاهِرُ حَالِهِمُ الْمَصِيرُ إِلَى الْكُفْرِ الْحَقِيقِيِّ وَالاِنْسِلاَخِ مِنَ الإِْسْلاَمِ (1) . وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ يَجُوزُ إظْهَارُ الْكُفْرِ إنْ عُلِمَ أَنَّهُ يُتْرَكُ بَعْدَ ذَلِكَ، أَمَّا إنْ كَانَ مَآلُهُ الاِلْتِزَامُ بِالإِْقَامَةِ بَيْنَ أَظْهُرِ الْكُفَّارِ يُجْرُونَ عَلَيْهِ أَحْكَامَ الْكُفْرِ وَيَمْنَعُونَهُ مِنْ إظْهَارِ دِينِهِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُوَافِقَهُمْ عَلَى إظْهَارِ الْكُفْرِ.
وَحِينَئِذٍ فَإِنْ قَدَرَ عَلَى الْهِجْرَةِ مِنْ مِثْل تِلْكَ الأَْرْضِ إِلَى حَيْثُ يَتَمَكَّنُ مِنْ إظْهَارِ دِينِهِ وَالْعَمَل بِهِ فَلَيْسَ لَهُ الإِْقَامَةُ الْمَذْكُورَةُ بِعُذْرِ التَّقِيَّةِ.
20 - د - وَيُشْتَرَطُ لِجَوَازِ التَّقِيَّةِ أَنْ لاَ يَكُونَ لِلْمُكَلَّفِ مُخَلِّصٌ مِنَ الأَْذَى إِلاَّ بِالتَّقِيَّةِ، وَهَذَا الْمُخَلِّصُ قَدْ يَكُونُ الْهَرَبُ مِنَ الْقَتْل أَوِ الْقَطْعِ أَوِ الضَّرْبِ، وَقَدْ يَكُونُ التَّوْرِيَةُ عِنْدَ الإِْكْرَاهِ عَلَى الطَّلاَقِ، وَعَدَمِ الدَّهْشَةِ (2) وَهَذَا عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ، وَقَدْ تَكُونُ الْهِجْرَةُ مِنْ بَلَدِ الْكُفْرِ إِلَى بَلَدِ الإِْسْلاَمِ. فَإِنْ أَمْكَنَتْهُ الْهِجْرَةُ لَمْ يَكُنْ لَهُ مُوَالاَةُ الْكُفَّارِ وَتَرْكُ إظْهَارِ دِينِهِ
__________
(1) المغني 8 / 147 القاهرة، دار المنار، الطبعة الثالثة.
(2) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 2 / 368 القاهرة، عيسى الحلبي.(13/192)
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَْرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (1) قَال الأَْلُوسِيُّ: اعْتَذَرُوا عَنْ تَقْصِيرِهِمْ فِي إظْهَارِ الإِْسْلاَمِ وَعَنْ إدْخَالِهِمُ الْخَلَل فِيهِ وَعَنِ الْعَجْزِ عَنِ الْقِيَامِ بِوَاجِبَاتِ الدِّينِ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مَقْهُورِينَ تَحْتَ أَيْدِي الْمُشْرِكِينَ، وَأَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ كَارِهِينَ. فَلَمْ تَقْبَل الْمَلاَئِكَةُ عُذْرَهُمْ لأَِنَّهُمْ كَانُوا مُتَمَكِّنِينَ مِنَ الْهِجْرَةِ، فَاسْتَحَقُّوا عَذَابَ جَهَنَّمَ لِتَرْكِهِمُ الْفَرِيضَةَ الْمَحْتُومَةَ (2) .
وَمُقْتَضَاهُ أَنَّ مَنْ كَانَ مَقْهُورًا لاَ يَقْدِرُ عَلَى الْهِجْرَةِ حَقِيقَةً لِضَعْفِهِ أَوْ لِصِغَرِ سِنِّهِ وَسَوَاءٌ أَكَانَ رَجُلاً أَمِ امْرَأَةً بِحَيْثُ يَخْشَى التَّلَفَ لَوْ خَرَجَ مُهَاجِرًا فَذَلِكَ عُذْرٌ فِي الإِْقَامَةِ وَتَرْكِ الْهِجْرَةِ. وَقَدْ صَرَّحَتْ بِهَذَا الْمَعْنَى الآْيَتَانِ التَّالِيَتَانِ لِلآْيَةِ السَّابِقَةِ وَهُمَا {إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَال وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} (3) وَقَال الأَْلُوسِيُّ أَيْضًا " كُل مُؤْمِنٍ وَقَعَ فِي مَحَلٍّ لاَ يُمْكِنُ لَهُ أَنْ يُظْهِرَ دِينَهُ لِتَعَرُّضِ الْمُخَالِفِينَ وَجَبَ عَلَيْهِ الْهِجْرَةُ إِلَى
__________
(1) سورة النساء / 97.
(2) روح المعاني 5 / 126 القاهرة، المطبعة المنيرية، 1955م وقال: إن ترك التأويل بلا عذر لا يقع طلاقه على الصحيح، الفروع 5 / 368، والإنصاف 8 / 441.
(3) سورة النساء / 98ـ 99.(13/193)
مَحَلٍّ يَقْدِرُ فِيهِ عَلَى إظْهَارِ دِينِهِ، وَلاَ يَجُوزُ لَهُ أَصْلاً أَنْ يَبْقَى هُنَاكَ وَيُخْفِيَ دِينَهُ وَيَتَشَبَّثَ بِعُذْرِ الاِسْتِضْعَافِ، فَإِنَّ أَرْضَ اللَّهِ وَاسِعَةٌ. نَعَمْ إنْ كَانَ مِمَّنْ لَهُ عُذْرٌ شَرْعِيٌّ فِي تَرْكِ الْهِجْرَةِ كَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالْعُمْيَانِ وَالْمَحْبُوسِينَ وَاَلَّذِينَ يُخَوِّفُهُمُ الْمُخَالِفُونَ بِالْقَتْل أَوْ قَتْل الأَْوْلاَدِ أَوِ الآْبَاءِ أَوِ الأُْمَّهَاتِ تَخْوِيفًا يُظَنُّ مَعَهُ إيقَاعُ مَا خُوِّفُوا بِهِ غَالِبًا، سَوَاءٌ كَانَ هَذَا الْقَتْل بِضَرْبِ الْعُنُقِ أَوْ حَبْسِ الْقُوتِ أَوْ بِنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ الْمُكْثُ مَعَ الْمُخَالِفِ، وَالْمُوَافَقَةُ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْعَى فِي الْحِيلَةِ لِلْخُرُوجِ وَالْفِرَارِ بِدِينِهِ. وَإِنْ كَانَ التَّخْوِيفُ بِفَوَاتِ الْمَنْفَعَةِ أَوْ بِلُحُوقِ الْمَشَقَّةِ الَّتِي يُمْكِنُ تَحَمُّلُهَا كَالْحَبْسِ مَعَ الْقُوتِ، وَالضَّرْبِ الْقَلِيل غَيْرِ الْمُهْلِكِ فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ لَهُ مُوَافَقَتُهُمْ (1) .
21 - هـ - وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الأَْذَى الْمَخُوفُ وُقُوعُهُ مِمَّا يَشُقُّ احْتِمَالُهُ. وَالأَْذَى إمَّا أَنْ يَكُونَ بِضَرَرٍ فِي نَفْسِ الإِْنْسَانِ أَوْ مَالِهِ أَوْ عِرْضِهِ. أَوْ فِي الْغَيْرِ، أَوْ تَفْوِيتِ مَنْفَعَةٍ. فَالأَْوَّل كَخَوْفِ الْقَتْل أَوِ الْجُرْحِ أَوْ قَطْعِ عُضْوٍ أَوِ الْحَرْقِ الْمُؤْلِمِ أَوِ الضَّرْبِ الشَّدِيدِ أَوِ الْحَبْسِ مَعَ التَّجْوِيعِ وَمَنْعِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ. وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: أَوْ خَوْفِ صَفْعٍ وَلَوْ قَلِيلاً لِذِي مُرُوءَةٍ عَلَى مَلأٍَ مِنَ النَّاسِ (2) .
أَمَّا التَّجْوِيعُ الْيَسِيرُ وَالْحَبْسُ الْيَسِيرُ وَالضَّرْبُ
__________
(1) مختصر التحفة الاثني عشرية ص 287.
(2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 368.(13/193)
الْيَسِيرُ فَلاَ تَحِل بِهِ التَّقِيَّةُ وَلاَ يُجِيزُ إظْهَارَ مُوَالاَةِ الْكَافِرِينَ أَوِ ارْتِكَابَ الْمُحَرَّمِ. وَرَخَّصَ الْبَعْضُ فِي التَّقِيَّةِ لأَِجْلِهِ. رَوَى شُرَيْحٌ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: لَيْسَ الرَّجُل بِأَمِينٍ عَلَى نَفْسِهِ إِذَا سُجِنَ أَوْ أُوثِقَ أَوْ عُذِّبَ. وَفِي لَفْظٍ: أَرْبَعٌ كُلُّهُنَّ كُرْهٌ: السِّجْنُ وَالضَّرْبُ وَالْوَعِيدُ وَالْقَيْدُ. وَقَال ابْنُ مَسْعُودٍ: مَا كَلاَمٌ يَدْرَأُ عَنِّي سَوْطَيْنِ إِلاَّ كُنْت مُتَكَلِّمًا بِهِ (1) .
وَأَمَّا الْعِرْضُ فَكَأَنْ يَخْشَى عَلَى حَرَمِهِ مِنَ الاِعْتِدَاءِ. وَأَمَّا الْخَوْفُ عَلَى الْمَال فَقَدْ قَال الرَّازِيُّ: فِيمَا سَبَقَ بَيَانُهُ: التَّقِيَّةُ جَائِزَةٌ لِصَوْنِ النَّفْسِ وَهَل هِيَ جَائِزَةٌ لِصَوْنِ الْمَال؟ يُحْتَمَل أَنْ يُحْكَمَ فِيهَا بِالْجَوَازِ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُرْمَةُ مَال الْمُسْلِمِ كَحُرْمَةِ دَمِهِ (2) . وَقَوْلُهُ مَنْ قُتِل دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ (3) وَلأَِنَّ الْحَاجَةَ إِلَى الْمَال شَدِيدَةٌ، وَالْمَاءُ إِذَا بِيعَ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ سَقَطَ فَرْضُ الْوُضُوءِ وَجَازَ الاِقْتِصَارُ عَلَى التَّيَمُّمِ دَفْعًا لِذَلِكَ الْقَدْرِ مِنْ نُقْصَانِ الْمَال، فَكَيْفَ لاَ يَجُوزُ هَاهُنَا؟ وَقَال مَالِكٌ إِنَّ التَّخْوِيفَ بِأَخْذِ الْمَال إِكْرَاهٌ وَلَوْ قَلِيلاً (4) وَفِي مَذْهَبِهِ غَيْرُ ذَلِكَ.
قَال الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: الإِْكْرَاهُ يَخْتَلِفُ.
__________
(1) فتح الباري 12 / 314.
(2) سبق تخريجه ف 15.
(3) سبق تخريجه ف 15.
(4) تفسير الرازي 8 / 14، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 368.(13/194)
وَاسْتَحْسَنَ هَذَا الْقَوْل ابْنُ عَقِيلٍ. أَيْ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الأَْشْخَاصِ وَاخْتِلاَفِ الأَْمْرِ الْمُكْرَهِ عَلَيْهِ وَالأَْمْرِ الْمَخُوفِ فَرُبَّ أَمْرٍ يَرْهَبُ مِنْهُ شَخْصٌ ضَعِيفٌ وَلاَ يَرْهَبُهُ شَخْصٌ قَوِيٌّ شُجَاعٌ. وَرُبَّ شَخْصٍ ذِي وَجَاهَةٍ يَضَعُ الْحَبْسَ وَلَوْ يَوْمًا مِنْ قَدْرِهِ وَجَاهِهِ فَوْقَ مَا يَضَعُ لْحَبْسُ شَهْرًا مِنْ قَدْرِ غَيْرِهِ وَرُبَّ تَهْدِيدٍ أَوْ ضَرْبٍ يَسِيرٍ يُسْتَبَاحُ بِهِ الْكَذِبُ الْيَسِيرُ وَيُلْغَى بِسَبَبِهِ الإِْقْرَارُ بِالْمَال الْيَسِيرِ، وَلاَ يُسْتَبَاحُ بِهِ الإِْقْرَارُ بِالْكُفْرِ أَوِ الْمَال الْعَظِيمِ (1) . وَيُنْظَرُ فِي ذَلِكَ أَيْضًا مُصْطَلَحُ (إِكْرَاهٌ) .
وَأَمَّا خَوْفُ فَوْتِ الْمَنْفَعَةِ فَقَدْ قَال فِيهِ الأَْلُوسِيُّ فِي مُخْتَصَرِ التُّحْفَةِ إِنَّهُ لاَ يُجِيزُ التَّقِيَّةَ (2) . وَذَلِكَ كَمَنْ يَخْشَى إِنْ لَمْ يُظْهِرِ الْمُحَرَّمَ أَنْ يَفُوتَهُ تَحْصِيل مَنْصِبٍ أَوْ مَالٍ يَرْجُو حُصُولَهُ وَلَيْسَ بِهِ إِلَيْهِ ضَرُورَةٌ. وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ وَيَدُل عَلَيْهِ مِنَ الْقُرْآنِ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} (3) ذَمَّهُمْ عَلَى الْكِتْمَانِ فِي مُقَابَلَةِ مَصَالِحَ عَاجِلَةٍ. أَيْ مِنْ مَالٍ أَوْ جَاهٍ. لأَِنَّ
__________
(1) المبسوط 24 / 52، الدر المختار بهامش حاشية ابن عابدين 5 / 80، 81، والفروع لابن مفلح 5 / 368، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 368.
(2) مختصر التحفة الاثنى عشرية ص 288.
(3) سورة آل عمران / 187.(13/194)
قَوْل الْكَذِبِ وَالْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَنَحْوِهَا وَقَوْل الإِْنْسَانِ بِلِسَانِهِ خِلاَفُ مَا فِي قَلْبِهِ كُل ذَلِكَ مُحَرَّمٌ وَالْكَاذِبُ مَثَلاً لاَ يَكْذِبُ إِلاَّ لِمَصْلَحَةٍ يَرْجُوهَا مِنْ وَرَاءِ كَذِبِهِ، وَلَوْ سُئِل لَقَال إِنَّمَا كَذَبْتُ لِغَرَضِ كَذَا وَكَذَا أُرِيدُ تَحْصِيلَهُ، فَلَوْ جَازَ الْكَذِبُ لِتَحْصِيل الْمَنْفَعَةِ لَعَادَ كُل كَذِبٍ مُبَاحًا وَيَكُونُ هَذَا قَلْبًا لأَِحْكَامِ الشَّرِيعَةِ وَإِخْرَاجًا لَهَا عَنْ وَضْعِهَا الَّذِي وُضِعَتْ عَلَيْهِ.
أَنْوَاعُ التَّقِيَّةِ:
22 - التَّقِيَّةُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ بِسَبَبِ إِكْرَاهٍ بِتَهْدِيدِ الْمُسْلِمِ بِمَا يَضُرُّهُ مِنْ تَعْذِيبٍ أَوْ نَحْوِهِ مِمَّا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، إِنْ لَمْ يَفْعَل مَا طُلِبَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ لاَ تَكُونَ بِسَبَبِ إِكْرَاهٍ.
فَأَمَّا مَا كَانَ مِنْهَا بِسَبَبِ إِكْرَاهٍ، وَقَدْ تَمَّتْ شُرُوطُهُ، فَإِنَّ مَا أَنْشَأَهُ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ تَبَعًا لِذَلِكَ لاَ يَلْزَمُهُ، وَإِنْ أُكْرِهَ عَلَى الْقَتْل لَمْ يَحِل لَهُ، وَإِنْ أُكْرِهَ عَلَى الزِّنَى لَمْ يَحِل لَهُ، فَإِنْ فَعَل فَلاَ حَدَّ عَلَيْهِ لِلشُّبْهَةِ، وَإِنْ أُكْرِهَ عَلَى النُّطْقِ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ جَازَ لَهُ ذَلِكَ. وَلاَ يُعْتَبَرُ مُرْتَدًّا. وَهَذَا إِجْمَالٌ يُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (إِكْرَاهٌ) .
أَمَّا التَّقِيَّةُ بِغَيْرِ سَبَبِ الإِْكْرَاهِ، بَل لِمُجَرَّدِ خَوْفِ الْمُسْلِمِ مِنْ أَنْ يَحِل بِهِ الأَْذَى مِنْ قَتْلٍ أَوْ قَطْعٍ أَوْ ضَرْبٍ أَوْ سِجْنٍ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ صُنُوفِ(13/195)
الأَْذَى وَالضَّرَرِ فَهَذَا النَّوْعُ لاَ يَحِل بِهِ مَا يَحِل بِالإِْكْرَاهِ (1) . وَالتَّفْصِيل فِي إِكْرَاهٍ.
مَا تَحِل فِيهِ التَّقِيَّةُ:
23 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا تَحِل فِيهِ التَّقِيَّةُ وَمَا لاَ تَحِل، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ التَّقِيَّةَ خَاصَّةً بِالْقَوْل، وَلاَ تَتَعَدَّى إِلَى الْفِعْل، وَعَلَيْهِ فَلاَ يُرَخَّصُ بِحَالٍ بِالسُّجُودِ لِصَنَمٍ أَوْ بِأَكْل لَحْمِ الْخِنْزِيرِ أَوْ بِزِنَى. وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنِ الأَْوْزَاعِيِّ وَسَحْنُونٍ.
وَذَهَبَ الأَْكْثَرُونَ إِلَى أَنَّ الإِْكْرَاهَ فِي الْقَوْل وَالْفِعْل سَوَاءٌ (2) . وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ عَلَى تَفْصِيلٍ وَخِلاَفٍ يُعْرَفُ مِمَّا فِي بَحْثِ (إِكْرَاهٌ) وَمِنَ التَّفْصِيل التَّالِي
إِظْهَارُ الْكُفْرِ وَمُوَالاَةُ الْكُفَّارِ:
تَقَدَّمَ بَيَانُ جَوَازِهِ عِنْدَ خَوْفِ الْقَتْل وَالإِْيذَاءِ الْعَظِيمِ، وَأَنَّ الصَّبْرَ عَلَى الأَْذَى فِيهِ أَفْضَل مِنَ ارْتِكَابِهِ تَقِيَّةً. وَقَدْ تَكُونُ التَّقِيَّةُ بِإِظْهَارِ الْمُوَالاَةِ وَلَوْ لَمْ يُكْرَهْ عَلَى النُّطْقِ بِالْكُفْرِ لَكِنْ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ إِنْ أَظْهَرَ لَهُمُ الْعَدَاءَ، قَال الرَّازِيُّ: بِأَنْ لاَ يُظْهِرَ لَهُمُ الْعَدَاوَةَ بِاللِّسَانِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُظْهِرَ
__________
(1) الهداية وتكملة فتح القدير 7 / 292، 293 القاهرة. المطبعة الميمنية 1319 هـ، ورد المحتار 5 / 80 ط بولاق.
(2) فتح الباري 12 / 314.(13/195)
الْكَلاَمَ الْمُوهِمَ لِلْمَحَبَّةِ وَالْمُوَالاَةِ، وَلَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يُضْمِرَ خِلاَفَهُ وَأَنْ يُعَرِّضَ فِي كُل مَا يَقُول، فَإِنَّ التَّقِيَّةَ تَأْثِيرُهَا فِي الظَّاهِرِ لاَ فِي أَحْوَال الْقُلُوبِ (1) .
وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى كُفْرٍ فِعْلِيٍّ كَالسُّجُودِ لِصَنَمٍ أَوْ إِهَانَةِ مُصْحَفٍ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُرَخَّصُ لَهُ فِي فِعْلِهِ تَقِيَّةً، قَال ابْنُ حَجَرٍ فِي قَوْله تَعَالَى {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِْيمَانِ} قَال: الْكُفْرُ يَكُونُ بِالْقَوْل وَالْفِعْل مِنْ غَيْرِ اعْتِقَادٍ وَقَدْ يَكُونُ بِاعْتِقَادٍ، فَاسْتَثْنَى الأَْوَّل وَهُوَ الْمُكْرَهُ (2) .
أَكْل لَحْمِ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهِ:
24 - يُبَاحُ لِلْمُكْرَهِ شُرْبُ الْخَمْرِ وَأَكْل لَحْمِ الْمَيْتَةِ أَوْ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَذَلِكَ عَلَى سَبِيل التَّقِيَّةِ إِذَا وُجِدَتْ شُرُوطُهَا لأَِنَّ حُرْمَةَ هَذِهِ الأَْشْيَاءِ ثَابِتَةٌ بِالشَّرْعِ، وَهِيَ مُفْسِدَةٌ فِي حَال الاِخْتِيَارِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى اسْتَثْنَى حَال الضَّرُورَةِ مِنَ التَّحْرِيمِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَل {إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} فَظَهَرَ أَنَّ التَّحْرِيمَ مَخْصُوصٌ بِحَالَةِ الاِخْتِيَارِ، وَقَدْ تَحَقَّقَتِ الضَّرُورَةُ هُنَا لِخَوْفِ التَّلَفِ عَلَى نَفْسِهِ بِسَبَبِ الإِْكْرَاهِ. . فَإِنْ لَمْ يَفْعَل حَتَّى قُتِل يَكُونُ آثِمًا. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ لاَ يَكُونُ آثِمًا (3) .
__________
(1) تفسير الرازي 8 / 14.
(2) فتح الباري 12 / 314.
(3) المبسوط 24 / 48، وفتح الباري 12 / 314.(13/196)
التَّقِيَّةُ فِي بَعْضِ أَفْعَال الصَّلاَةِ:
25 - إِنْ خَافَ الْمُصَلِّي عَلَى نَفْسِهِ عَدُوًّا يَرَاهُ إِذَا قَامَ وَلاَ يَرَاهُ إِذَا قَعَدَ جَازَتْ صَلاَتُهُ قَاعِدًا وَسَقَطَ عَنْهُ فَرْضُ الْقِيَامِ (1) . وَكَذَا الأَْسِيرُ لَدَى الْكُفَّارِ إِنْ خَافَهُمْ عَلَى نَفْسِهِ إِنْ رَأَوْهُ يُصَلِّي فَإِنَّهُ يُصَلِّي كَيْفَمَا أَمْكَنَهُ، قَائِمًا أَوْ قَاعِدًا أَوْ مُضْطَجِعًا أَوْ مُسْتَلْقِيًا، إِلَى الْقِبْلَةِ وَغَيْرِهَا، بِالإِْيمَاءِ حَضَرًا أَوْ سَفَرًا، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ (2) وَمِثْلُهُ الْمُخْتَبِئُ فِي مَكَانٍ يَخَافُ أَنْ يَظْهَرَ عَلَيْهِ الْعَدُوُّ إِنْ خَرَجَ وَلاَ يُمْكِنُهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي مَكَانِهِ عَلَى صِفَةِ الْكَمَال.
وَلَوْ خَافَ الْمُصَلِّي مِنْ عَدُوِّهِ الضَّرَرَ إِنْ رَآهُ يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ فَلَهُ أَنْ يُومِئَ بِطَرَفِهِ وَيَنْوِيَ بِقَلْبِهِ (3) .
وَالْحَنَابِلَةُ لاَ يَرَوْنَ الصَّلاَةَ خَلْفَ الْمُبْتَدِعِ وَالْفَاسِقِ فِي غَيْرِ جُمُعَةٍ وَعِيدٍ يُصَلِّيَانِ بِمَكَانٍ وَاحِدٍ مِنَ الْبَلَدِ، فَإِنْ خَافَ مِنْهُ إِنْ تَرَكَ الصَّلاَةَ خَلْفَهُ فَإِنَّهُ يُصَلِّي خَلْفَهُ تَقِيَّةً ثُمَّ يُعِيدُ الصَّلاَةَ. وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ قَال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) كشاف القناع 1 / 385.
(2) حديث: " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ". أخرجه البخاري (13 / 251 ط السلفية) ، ومسلم (2 / 975 ط عيسى الحلبي) ، واللفظ للبخاري من حديث أبي هريرة.
(3) كشاف القناع 1 / 495 ـ 499، والمغني 1 / 630، 2 / 188.(13/196)
عَلَى مِنْبَرِهِ يَقُول لاَ تَؤُمَّنَّ امْرَأَةٌ رَجُلاً، وَلاَ فَاجِرٌ مُؤْمِنًا، إِلاَّ أَنْ يَقْهَرَهُ بِسُلْطَانٍ أَوْ يَخَافَ سَوْطَهُ أَوْ سَيْفَهُ (1) . وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ قُدَامَةَ حِيلَةً فِي تِلْكَ الْحَال يُمْكِنُ اعْتِبَارُهَا مِنَ التَّقِيَّةِ لِمَا فِيهَا مِنَ الاِسْتِتَارِ، وَهِيَ أَنْ يُصَلِّيَ خَلْفَهُ بِنِيَّةِ الاِنْفِرَادِ، فَيُوَافِقُ الإِْمَامَ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْقِيَامِ وَالْقُعُودِ، فَتَصِحُّ صَلاَتُهُ لأَِنَّهُ أَتَى بِأَفْعَال الصَّلاَةِ وَشُرُوطِهَا عَلَى الْكَمَال، فَلاَ تَفْسُدُ بِمُوَافَقَةِ غَيْرِهِ فِي الأَْفْعَال (2) .
التَّقِيَّةُ فِي الْبَيْعِ وَغَيْرِهِ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ:
26 - إِذَا خَافَ عَلَى مَالِهِ مِنْ ظَالِمٍ يَغْصِبُهُ، فَيُوَاطِئُ رَجُلاً عَلَى أَنْ يُظْهِرَ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ مِنْهُ لِيَحْتَمِيَ بِذَلِكَ وَلاَ يُرِيدَانِ بَيْعًا حَقِيقِيًّا. وَهَذَا الْبَيْعُ صَحِيحٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَبَاطِلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ.
أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَفِي تَبْصِرَةِ الْحُكَّامِ: يَجُوزُ الاِسْتِرْعَاءُ فِي الْبَيْعِ وَهُوَ أَنْ يُشْهِدَ قَبْل الْبَيْعِ أَنِّي إِنْ بِعْتُ هَذِهِ الدَّارَ فَإِنَّمَا أَبِيعُهَا لأَِمْرٍ أَخَافُهُ مِنْ قِبَل ظَالِمٍ أَوْ غَاصِبٍ، وَلاَ يَثْبُتُ الاِسْتِرْعَاءُ فِي هَذِهِ الْحَال إِلاَّ إِنْ كَانَ الشُّهُودُ يَعْرِفُونَ الإِْكْرَاهَ
__________
(1) حديث: " لا تؤمن امرأة رجلا، ولا فاجر مؤمنا، إلا أن. . . " أخرجه ابن ماجه (1 / 343 ط عيسى الحلبي) . من حديث جابر بن عبد الله. قال الحافظ البوصيري في الزوائد. هذا إسناد ضعيف لضعف علي بن زيد بن جدعان وعبد الله بن محمد العدوي.
(2) المغني 2 / 186، 192.(13/197)
عَلَى الْبَيْعِ وَالإِْخَافَةَ الَّتِي يَذْكُرُهَا (1)
وَالاِسْتِرْعَاءُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَصِحُّ وَيُفِيدُ صَاحِبَهُ فِي كُل تَصَرُّفٍ تَطَوُّعِيٍّ كَالطَّلاَقِ وَالْوَقْفِ وَالْهِبَةِ. فَإِنْ فَعَل لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يُنَفِّذَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمِ الشُّهُودُ السَّبَبَ، بِخِلاَفِ مَسْأَلَةِ الْبَيْعِ، إِذِ الْمُبَايَعَةُ خِلاَفُ مَا يُتَطَوَّعُ بِهِ وَقَدْ أَخَذَ الْبَائِعُ فِيهِ ثَمَنًا وَفِي ذَلِكَ حَقٌّ لِلْمُبْتَاعِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: مَنِ اسْتُرْعِيَ فِي وَقْفٍ عَلَى تَقِيَّةٍ اتَّقَاهَا ثُمَّ أَشْهَدَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى إِمْضَائِهِ جَازَ لأَِنَّهُ لَمْ يَزَل عَلَى مِلْكِهِ.
وَإِنِ اسْتَرْعَى أَنَّهُ يَتْرُكُ حَقَّهُ فِي الشُّفْعَةِ خَوْفًا مِنْ إِضْرَارِ الْمُشْتَرِي وَلَهُ سُلْطَانٌ وَقُدْرَةٌ، وَأَنَّهُ غَيْرُ تَارِكٍ لِطَلَبِهِ مَتَى أَمْكَنَهُ نَفَعَهُ ذَلِكَ. ثُمَّ إِذَا ذَهَبَتِ التَّقِيَّةُ وَقَامَ مِنْ فَوْرِهِ بِالْمُطَالَبَةِ قُضِيَ لَهُ.
وَاخْتَلَفُوا إِذَا سَكَتَ عَنِ الْمُطَالَبَةِ بَعْدَ زَوَال مَا يَتَّقِيهِ، وَالرَّاجِحُ أَنَّهُ لاَ يَكُونُ لَهُ الْمُطَالَبَةُ؛ لأَِنَّهُ مَتَى زَال فَكَأَنَّ الْبَيْعَ وَقَعَ حِينَئِذٍ.
وَيَجِبُ أَنْ يُكْثِرَ مِنْ شُهُودِ الاِسْتِرْعَاءِ، وَأَقَلُّهُمْ عِنْدَ ابْنِ الْمَاجِشُونِ أَرْبَعَةُ شُهُودٍ (2) . وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (بَيْعُ التَّلْجِئَةِ) .
التَّقِيَّةُ فِي بَيَانِ الشَّرِيعَةِ وَالْحُكْمِ بِهَا:
27 - بَيَانُ الأَْحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَالأَْمْرِ بِالْمَعْرُوفِ
__________
(1) المغني 4 / 214، والإنصاف 4 / 265، وكشاف القناع 3 / 150، وتبصرة الحكام لابن فرحون 2 / 5.
(2) تبصرة الحكام 2 / 3 - 5.(13/197)
وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ فِي الأَْصْل وَاجِبَةٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، وَإِذَا خَافَ الْمُسْلِمُ ضَرَرًا يَلْحَقُهُ مِنْ ذَلِكَ جَازَ لَهُ أَنْ يَنْتَقِل مِنَ الأَْمْرِ وَالإِْنْكَارِ بِالْيَدِ إِلَى الأَْمْرِ وَالإِْنْكَارِ بِاللِّسَانِ، فَإِنْ خَافَ مِنْ ذَلِكَ أَيْضًا جَازَ لَهُ أَنْ يَنْتَقِل إِلَى السُّكُوتِ عَنِ الْمُنْكَرِ مَعَ الإِْنْكَارِ بِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِْيمَانِ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْوَارِدِ، وَذَلِكَ نَوْعٌ مِنَ التَّقِيَّةِ. عَلَى أَنَّ الأَْمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ حَيْثُ يُشْرَعُ التَّغْيِيرُ بِالْيَدِ ثُمَّ الإِْنْكَارُ بِاللِّسَانِ، مَعَ خَوْفِ الضَّرَرِ، أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ السُّكُوتِ، إِذْ إِنَّ ذَلِكَ نَوْعٌ مِنَ الْجِهَادِ. وَقَدْ قَال اللَّهُ تَعَالَى فِي حِكَايَةِ قَوْل لُقْمَانَ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاَةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُْمُورِ} (1) وَفِي الْحَدِيثِ: أَفْضَل الشُّهَدَاءِ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ثُمَّ رَجُلٌ قَامَ إِلَى إِمَامٍ جَائِرٍ فَأَمَرَهُ وَنَهَاهُ فَقُتِل (2) .
28 - وَتَعْظُمُ دَرَجَةُ الآْمِرِ وَالنَّاهِي إِنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ، بِأَنْ نَكَل عَنِ الْبَيَانِ مَنْ سِوَاهُ، حَتَّى عَمَّ الْمُنْكَرُ وَظَهَرَ، وَخَاصَّةً فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّلْبِيسِ فِي الدِّينِ وَطَمْسِ، مَعَالِمِهِ، فَلَوْ أَخَذَ جَمِيعُ الْعُلَمَاءِ بِالتَّقِيَّةِ، وَلَمْ يَقُمْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِوَاجِبِ الْبَيَانِ لَظَهَرَتِ الْبِدْعَةُ
__________
(1) سورة لقمان / 17.
(2) حديث: " أفضل الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ثم رجل قام إلى. . . " أخرجه الخطيب البغدادي في تاريخ (6 / 377 ط السعادة) من حديث جابر بن عبد الله وإسناده حسن.(13/198)
وَعَمَّتْ، وَتَبَدَّلَتِ الشَّرِيعَةُ فِي أَعْيُنِ النَّاسِ
وَقَدْ أُخِذَ الْعُلَمَاءُ فِي عَهْدِ الْمَأْمُونِ وَالْمُعْتَصِمِ وَامْتُحِنُوا لِيَقُولُوا بِخَلْقِ الْقُرْآنِ وَكَانَ ذَلِكَ بِمَشُورَةٍ مِنْ بَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ. فَلَمَّا هُدِّدَ الْعُلَمَاءُ وَأُوذُوا قَالُوا بِذَلِكَ فَتُرِكُوا، وَلَمْ يَثْبُتْ مِنْهُمْ فِي الْمِحْنَةِ إِلاَّ أَرْبَعَةٌ أَوْ خَمْسَةٌ مَاتَ بَعْضُهُمْ فِي السِّجْنِ (1) .
وَنُقِل عَنْ أَحْمَدَ أَيَّامَ مِحْنَتِهِ فِي خَلْقِ الْقُرْآنِ أَنَّهُ سُئِل: إِنْ عُرِضْتَ عَلَى السَّيْفِ تُجِيبُ؟ قَال: لاَ، وَقَال: إِذَا أَجَابَ الْعَالِمُ تَقِيَّةً، وَالْجَاهِل يَجْهَل، فَمَتَى يَتَبَيَّنُ الْحَقُّ؟ (2) .
وَكَانَ أَبُو يَعْقُوبَ الْبُوَيْطِيُّ صَاحِبُ الإِْمَامِ الشَّافِعِيِّ مِمَّنِ امْتُحِنَ فَصَبَرَ كَذَلِكَ وَلَمْ يُجِبْ إِلَى مَا طَلَبُوهُ مِنْهُ فِي فِتْنَةِ الْقَوْل بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، لَمَّا وُشِيَ بِهِ. وَقَدْ قَال لَهُ أَمِيرُ مِصْرَ الَّذِي كُلِّفَ بِمِحْنَتِهِ: قُل فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَكَ. قَال: إِنَّهُ يَقْتَدِي بِي مِائَةُ أَلْفٍ وَلاَ يَدْرُونَ مَا الْمَعْنَى. وَقَدْ أَمَرَ بِحَمْلِهِ مِنْ مِصْرَ إِلَى بَغْدَادَ فِي الْحَدِيدِ، وَمَاتَ فِي السِّجْنِ بِبَغْدَادَ فِي الْقَيْدِ وَالْغُل رَحِمَهُ اللَّهُ (3)
وَكَانَ لِثَبَاتِ أَحْمَدَ وَالْبُوَيْطِيِّ وَمَنْ مَعَهُمَا أَثَرُهُ فِي
__________
(1) البداية والنهاية لابن كثير 10 / 334، 335 القاهرة، مطبعة السعادة.
(2) أحمد محمد شاكر، في تعليق على دائرة المعارف الإسلامية، الطبعة المترجمة إلى العربية مادة: " تقية "
(3) طبقات الشافعية للسبكي 1 / 276، 277 بيروت، دار المعرفة بالتصويري عن الطبعة المصرية القديمة.(13/198)
تَرَاجُعِ الْخِلاَفَةِ عَنْ ذَلِكَ الْمَنْهَجِ، وَانْكَسَرَتْ بِسَبَبِ ذَلِكَ شَوْكَةُ الْمُعْتَزِلَةِ.
29 - وَلَيْسَ لِلْعَالِمِ أَنْ يَنْطِقَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَهُوَ يَعْلَمُ، وَلاَ رُخْصَةَ لَهُ فِي ذَلِكَ عَلَى سَبِيل التَّقِيَّةِ مُطْلَقًا، إِنْ كَانَ السُّكُوتُ كَافِيًا لِنَجَاتِهِ، لِعَدَمِ تَحَقُّقِ شَرْطِ جَوَازِ التَّقِيَّةِ حِينَئِذٍ.
وَفِي ذَلِكَ مِنَ الْمَحْذُورِ أَيْضًا الْخَوْفُ مِنْ أَنْ يَخْفَى الْحَقُّ عَلَى الْجَاهِلِينَ أَوْ يَضْعُفَ إِيمَانُهُمْ وَيَحْجُمُوا عَنْ نَصْرِ حَقِّهِمُ اقْتِدَاءً بِمَنْ أَجَابَ تَقِيَّةً فَيَظُنُّوا جَوَابَهُ هُوَ الْجَوَابُ، وَهُمْ غَافِلُونَ عَنْ مُرَادِهِ وَأَنَّهُ قَصَدَ التَّقِيَّةَ.
مَا يَنْبَغِي لِلآْخِذِ بِالتَّقِيَّةِ أَنْ يُرَاعِيَهُ:
يَنْبَغِي لِمَنْ يَأْخُذُ بِالتَّقِيَّةِ أَنْ يُلاَحِظَ أُمُورًا:
30 - مِنْهَا: أَنَّهُ إِنْ كَانَ لَهُ مُخَلِّصٌ غَيْرُ ارْتِكَابِ الْحَرَامِ، فَيَجِبُ أَنْ يَلْجَأَ إِلَيْهِ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يُوَرِّيَ، كَمَنْ أُكْرِهَ عَلَى شَتْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَرَّمَ وَشَرَّفَ، فَيَنْوِيَ مُحَمَّدًا آخَرَ فَإِنْ خَطَرَتْ بِبَالِهِ التَّوْرِيَةُ وَتَرَكَهَا لَمْ تَكُنِ التَّقِيَّةُ عُذْرًا لَهُ، وَيُعْتَبَرُ كَافِرًا (1) .
31 - وَمِنْهَا: أَنْ يُلاَحِظَ عَدَمَ الاِنْسِيَاقِ مَعَ الرُّخْصَةِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ حَدِّ التَّقِيَّةِ إِلَى حَدِّ الاِنْحِلاَل بِارْتِكَابِ الْمُحَرَّمِ بَعْدَ انْقِضَاءِ
__________
(1) المبسوط للسرخسي 24 / 130، 131، وينظر الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 368.(13/199)
الضَّرُورَةِ، وَأَصْل ذَلِكَ مَا قَال اللَّهُ تَعَالَى فِي شَأْنِ الْمُضْطَرِّ {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (1) فُسِّرَ الْبَاغِي بِمَنْ أَكَل الْحَرَامَ وَهُوَ يَجِدُ الْحَلاَل، وَفُسِّرَ الْعَادِي بِمَنْ أَكَل مِنَ الْحَرَامِ فَوْقَ مَا تَقْتَضِيهِ الضَّرُورَةُ.
وَقَدْ نَبَّهَ اللَّهُ تَعَالَى فِي شَأْنِ التَّقِيَّةِ عَلَى ذَلِكَ حَيْثُ قَال {لاَ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَل ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} (2) فَحَذَّرَ تَعَالَى مِنْ نَفْسِهِ لِئَلاَّ يَغْتَرَّ الْمُتَّقِي وَيَتَمَادَى. ثُمَّ قَال فِي الآْيَةِ التَّالِيَةِ {قُل إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} (3) فَنَبَّهَ عَلَى عِلْمِهِ بِمَا يُضْمِرُهُ مُرْتَكِبُ الْحَرَامِ بِمُوَالاَةِ الْكُفَّارِ أَنَّهُ هَل يَفْعَلُهُ تَقِيَّةً أَوْ مُوَافَقَةً. قَال الرَّازِيُّ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا نَهَى عَنِ اتِّخَاذِ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَاسْتَثْنَى التَّقِيَّةَ فِي الظَّاهِرِ، أَتْبَعَ ذَلِكَ بِالْوَعِيدِ عَلَى أَنْ يَصِيرَ الْبَاطِنُ مُوَافِقًا لِلظَّاهِرِ فِي وَقْتِ التَّقِيَّةِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ مَنْ أَقْدَمَ عِنْدَ التَّقِيَّةِ عَلَى إِظْهَارِ الْمُوَالاَةِ، فَقَدْ يَصِيرُ إِقْدَامُهُ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْل بِحَسَبِ الظَّاهِرِ سَبَبًا لِحُصُول تِلْكَ الْمُوَالاَةِ فِي الْبَاطِنِ وَهَذَا الْوُقُوعُ فِي الْحَرَامِ وَعَدَمِ الْمُبَالاَةِ بِهِ، الَّذِي أَوَّلُهُ التَّرَخُّصُ عَلَى سَبِيل التَّقِيَّةِ، وَآخِرُهُ
__________
(1) سورة الأنعام / 145.
(2) سورة آل عمران / 28.
(3) سورة آل عمران / 29.(13/199)
الرِّضَا بِالْكُفْرِ وَانْشِرَاحُ الصَّدْرِ بِهِ، هُوَ الْفِتْنَةُ الَّتِي أَشَارَتْ إِلَيْهَا بَقِيَّةُ الآْيَاتِ مِنْ سُورَةِ النَّحْل الَّتِي تَلَتْ آيَةَ الإِْكْرَاهِ. قَال تَعَالَى {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} (1) وَفِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُول آمَنَّا بِاَللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَل فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} (2) قَال الطَّبَرِيُّ " مَعْنَاهُ إِذَا آذَاهُ الْمُشْرِكُونَ فِي إِقْرَارِهِ بِاَللَّهِ جَعَل فِتْنَةَ النَّاسِ إِيَّاهُ كَعَذَابِ اللَّهِ فِي الآْخِرَةِ فَارْتَدَّ عَنْ إِيمَانِهِ بِاَللَّهِ رَاجِعًا إِلَى الْكُفْرِ بِهِ ". قَال: " وَذَكَرَ أَنَّ هَذِهِ الآْيَةَ نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنْ أَهْل الإِْيمَانِ كَانُوا بِمَكَّةَ، فَخَرَجُوا مِنْهَا مُهَاجِرِينَ فَأُدْرِكُوا وَأُخِذُوا فَأَعْطَوُا الْمُشْرِكِينَ لِمَا نَالَهُمْ أَذَاهُمْ مَا أَرَادُوهُ مِنْهُمْ (3) ". وَذَكَرَ غَيْرُ الطَّبَرِيِّ مِنْهُمْ عَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ أَخَا أَبِي جَهْلٍ لأُِمِّهِ، وَأَبَا جَنْدَل بْنِ سُهَيْل بْنِ عَمْرٍو وَالْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ وَغَيْرَهُمْ ثُمَّ إِنَّهُمْ هَاجَرُوا فَنَزَل قَوْله تَعَالَى {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} (4) .
32 - وَمِنْهَا أَنْ يُلاَحِظَ النِّيَّةَ، فَيَنْوِيَ أَنَّهُ إِنَّمَا يَفْعَل الْحَرَامَ لِلضَّرُورَةِ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ حَرَامٌ إِلاَّ أَنَّهُ
__________
(1) سورة النحل / 110.
(2) سورة العنكبوت / 10.
(3) تفسير الطبري 20 - 132.
(4) سورة النحل / 110.(13/200)
يَأْخُذُ بِرُخْصَةِ اللَّهِ، فَإِنْ فَعَلَهُ وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ سَهْلٌ وَلاَ بَأْسَ بِهِ فَإِنَّهُ يَقَعُ فِي الإِْثْمِ. وَهَذَا مَا يُشِيرُ إِلَيْهِ آخِرُ الآْيَةِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ} (1) وَفِي الْحَدِيثِ دَخَل رَجُلٌ الْجَنَّةَ فِي ذُبَابٍ وَدَخَل النَّارَ رَجُلٌ فِي ذُبَابٍ، قَالُوا: وَكَيْفَ ذَلِكَ؟ قَال مَرَّ رَجُلاَنِ عَلَى قَوْمٍ لَهُمْ صَنَمٌ لاَ يَجُوزُهُ أَحَدٌ حَتَّى يُقَرِّبَ لَهُ شَيْئًا، فَقَالُوا لأَِحَدِهِمَا: قَرِّبْ قَال: لَيْسَ عِنْدِي شَيْءٌ فَقَالُوا لَهُ قَرِّبْ وَلَوْ ذُبَابًا، فَقَرَّبَ ذُبَابًا فَخَلَّوْا سَبِيلَهُ قَال: فَدَخَل النَّارَ، وَقَالُوا لِلآْخَرِ قَرِّبْ وَلَوْ ذُبَابًا قَال مَا كُنْتُ لأُِقَرِّبَ لأَِحَدٍ شَيْئًا دُونَ اللَّهِ عَزَّ وَجَل قَال: فَضَرَبُوا عُنُقَهُ قَال فَدَخَل الْجَنَّةَ (2) .
قَال فِي تَيْسِيرِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ: وَفِيهِ: أَنَّهُ دَخَل النَّارَ بِسَبَبٍ لَمْ يَقْصِدْهُ بَل فَعَلَهُ تَخَلُّصًا مِنْ شَرِّهِمْ.
وَفِيهِ: مَعْرِفَةُ قَدْرِ الشِّرْكِ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ كَيْفَ صَبَرَ عَلَى الْقَتْل وَلَمْ يُوَافِقْهُمْ عَلَى طِلْبَتِهِمْ مَعَ كَوْنِهِمْ لَمْ يَطْلُبُوا إِلاَّ الْعَمَل الظَّاهِرَ (3) .
__________
(1) سورة النحل / 106.
(2) حديث: " دخل رجل الجنة في ذباب. . . " أخرجه أحمد في الزهد (ص 15 ط دار الكتب العلمية) وأبو نعيم (الحليلة 1 / 203 ط السعادة) موقوفا على سلمان. ويرجع لشرح الحديث إلى كتاب " تيسير العزيز الحميد " للشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب.
(3) تيسير العزيز الحميد ص 162 نشر إدارات البحوث العلمية بالسعودية.(13/200)
تَكَافُؤٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّكَافُؤُ لُغَةً: الاِسْتِوَاءُ، وَكُل شَيْءٍ سَاوَى شَيْئًا حَتَّى يَكُونَ مِثْلَهُ فَهُوَ مُكَافِئٌ لَهُ، وَالْمُكَافَأَةُ بَيْنَ النَّاسِ مِنْ هَذَا، وَالْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ أَيْ تَتَسَاوَى فِي الدِّيَةِ وَالْقِصَاصِ، قَال أَبُو عُبَيْدٍ: فَلَيْسَ لِشَرِيفٍ عَلَى وَضِيعٍ فَضْلٌ فِي ذَلِكَ (1) . وَالْكُفْءُ: النَّظِيرُ وَالْمُسَاوِي، وَمِنْهُ: الْكَفَاءَةُ فِي النِّكَاحِ أَيْ أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ مُسَاوِيًا لِلْمَرْأَةِ فِي حَسَبِهَا وَدِينِهَا وَنَسَبِهَا وَبَيْتِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ (2) .
وَالْكَفَاءُ مَصْدَرُ كَافَأَهُ أَيْ قَابَلَهُ وَصَارَ نَظِيرًا لَهُ، وَقَوْلُهُمْ: الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا يُوَافِي نِعَمَهُ وَيُكَافِئُ مَزِيدَهُ، أَيْ يُلاَقِي نِعَمَهُ وَيُسَاوِي مَزِيدَ نِعَمِهِ، وَهُوَ أَجَل التَّحَامِيدِ (3) .
وَسَيَأْتِي التَّعْرِيفُ الاِصْطِلاَحِيُّ مَعَ الإِْطْلاَقَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ:
__________
(1) القاموس المحيط، ولسان العرب، والصحاح في اللغة والعلوم والمصباح المنير ولسان العرب مادة: " كفأ "، والكليات 4 / 183.
(2) المغرب في تعريف المعرب 409 (دار الكتاب العربي ـ بيروت ـ لبنان) .
(3) الكليات 4 / 128.(13/201)
حُكْمُ الْكَفَاءَةِ:
2 - بَحَثَ الْفُقَهَاءُ التَّكَافُؤَ (أَوِ الْكَفَاءَةَ حَسَبَ عِبَارَتِهِمْ فِي النِّكَاحِ) فِي مَوَاطِنَ مِنْهَا: النِّكَاحُ، وَالْقِصَاصُ، وَالْمُبَارَزَةُ فِي الْقِتَال، وَالْمُسَابَقَةُ عَلَى خَيْلٍ وَنَحْوِهَا، وَفِيمَا يَلِي حُكْمُ التَّكَافُؤِ فِي كُلٍّ مِنْهَا:
الْكَفَاءَةُ فِي النِّكَاحِ:
3 - هِيَ لُغَةً: التَّسَاوِي وَالتَّعَادُل
وَاصْطِلاَحًا: اخْتَلَفَتْ عِبَارَةُ الْفُقَهَاءِ فِي تَعْرِيفِهَا الاِصْطِلاَحِيِّ، وَعَرَّفَهَا الْقُهُسْتَانِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّهَا مُسَاوَاةُ الرَّجُل لِلْمَرْأَةِ فِي الأُْمُورِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي النِّكَاحِ (1) .
وَعَرَّفَهَا الشَّافِعِيَّةُ: بِأَنَّهَا أَمْرٌ يُوجِبُ عَدَمَهُ عَارًا (2) .
وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ يَعْتَبِرُونَ الْكَفَاءَةَ فِي النِّكَاحِ (3) ، وَيَسْتَدِلُّونَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالآْثَارِ وَالْمَعْقُول، لَكِنَّ الْكَرْخِيَّ وَالثَّوْرِيَّ (4) وَالْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ
__________
(1) رد المحتار على الدر المختار 2 / 317 (ط. دار إحياء التراث العربي ـ بيروت) .
(2) مغني المحتاج 3 / 165 (دار إحياء التراث العربي ـ بيروت) ، وقليوبي وعميرة 3 / 233 (ط عيسى البابي الحلبي) .
(3) المراجع السابقة، وجواهر الإكليل 1 / 288، والمغني لابن قدامة 6 / 481 (مكتبة الرياض الحديثة ـ الرياض) .
(4) على ما جاء في كتب الحنفية لكن جاء في نيل الأوطار للشوكاني (6 / 146) عن الثوري أن المولى إذا نكح العربية يفسخ النكاح، وكذلك في المغني لابن قدامة 6 / 480.(13/201)
ذَهَبُوا إِلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ الْكَفَاءَةِ الَّتِي اعْتَبَرَهَا الْجُمْهُورُ فِي النِّكَاحِ (1) .
وَالْوَقْتُ الَّذِي تُعْتَبَرُ عِنْدَهُ الْكَفَاءَةُ، هُوَ ابْتِدَاءُ عَقْدِ النِّكَاحِ وَلاَ يَضُرُّ زَوَالُهَا بَعْدَهُ.
وَتُعْتَبَرُ الْكَفَاءَةُ - عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ - فِي جَانِبِ الرِّجَال لِلنِّسَاءِ وَلاَ تُعْتَبَرُ فِي جَانِبِ النِّسَاءِ لِلرِّجَال (2) .
وَالْحَقُّ فِي الْكَفَاءَةِ لِلْمَرْأَةِ أَوْ لِلأَْوْلِيَاءِ أَوْ لَهُمَا. عَلَى تَفْصِيلٍ فِي ذَلِكَ (3) .
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي خِصَال الْكَفَاءَةِ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ يُكَافِئَ الزَّوْجُ فِيهَا الزَّوْجَةَ، وَذَهَبَ أَكْثَرُهُمْ - كَمَا قَال الْخَطَّابِيُّ - إِلَى أَنَّ الْكَفَاءَةَ مُعْتَبَرَةٌ بِأَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: الدِّينُ، وَالْحُرِّيَّةُ، وَالنَّسَبُ، وَالصِّنَاعَةُ (4) .
وَاعْتَبَرَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْكَفَاءَةَ لِلُزُومِ النِّكَاحِ لاَ لِصِحَّتِهِ، وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ الْمُخْتَارَةِ لِلْفَتْوَى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَرِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّ الْكَفَاءَةَ شَرْطٌ لِصِحَّةِ النِّكَاحِ، وَسَبَقَتِ الإِْشَارَةُ إِلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ الْكَفَاءَةِ عِنْدَ الْكَرْخِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ (5) .
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 317 (دار الكتاب العربي ـ بيروت) .
(2) تبيين الحقائق 2 / 128 (دار المعرفة للطباعة والنشر ـ بيروت) ، وبدائع الصنائع 2 / 320.
(3) المراجع التي سبقت الإشارة إليها.
(4) نيل الأوطار 6 / 147.
(5) المراجع السابقة.(13/202)
وَفِي هَذِهِ الْمَسَائِل، وَفِي النِّكَاحِ الَّذِي تُعْتَبَرُ فِيهِ الْكَفَاءَةُ، وَفِي أَثَرِ عَدَمِ اعْتِبَارِهَا تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ " كَفَاءَةٌ " وَفِي مُصْطَلَحِ " نِكَاحٌ ".
هَذَا عَنْ حُكْمِ التَّكَافُؤِ (أَثَرُهُ) أَمَّا اخْتِيَارُ الأَْكْفَاءِ فِي النِّكَاحِ فَهُوَ مَسْنُونٌ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا أَتَاكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ (1) .
التَّكَافُؤُ فِي الدِّمَاءِ:
4 - مِنَ الشُّرُوطِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْفُقَهَاءُ لِلْقِصَاصِ: أَنْ يَتَكَافَأَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ مَعَ الْجَانِي، أَيْ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا تَكَافُؤٌ فِي الدَّمِ.
وَعَرَّفَ الشَّافِعِيَّةُ التَّكَافُؤَ فِي الْقِصَاصِ بِأَنَّهُ: مُسَاوَاةُ الْقَاتِل لِلْقَتِيل الْجَانِي لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ. بِأَنْ لاَ يَفْضُلَهُ بِإِسْلاَمٍ أَوْ أَمَانٍ أَوْ حُرِّيَّةٍ أَوْ سِيَادَةٍ، أَوْ أَصْلِيَّةٍ (أَيْ لاَ يَكُونُ أَصْلاً لِلْمَقْتُول وَإِنْ عَلاَ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى وَلَوْ كَافِرًا) (2)
وَقَالُوا: إِنَّ الْقِصَاصَ يَعْتَمِدُ الْمُسَاوَاةَ فِي الْعِصْمَةِ، فَإِذَا وُجِدَتْ فَإِنَّ الْقِصَاصَ يَجْرِي بَيْنَ الْقَاتِل وَالْقَتِيل الْمُسْلِمَيْنِ دُونَ نَظَرٍ إِلَى تَفَاوُتٍ فِي نَسَبٍ أَوْ مَالٍ أَوْ صِفَاتٍ خَاصَّةٍ (3) . لِقَوْل النَّبِيِّ
__________
(1) حديث: " إذا آتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه ". أخرجه ابن ماجه (1 / 633 ط الحلبي) ، والترمذي (3 / 394 ط الحلبي) من حديث أبي هريرة وحسنه الترمذي.
(2) مغني المحتاج 4 / 16، البيجوري على ابن قاسم 2 / 11 ط مصطفى البابي الحلبي 1343 هـ.
(3) سنن النسائي 8 / 24 ط استانبول، ونيل الأوطار 7 / 10.(13/202)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ (1) . . .
وَيُعْتَبَرُ التَّكَافُؤُ بَيْنَ الْقَاتِل وَالْقَتِيل حَال الْجِنَايَةِ، وَلاَ عِبْرَةَ بِالْحَال قَبْلَهَا أَوْ بَعْدَهَا (2) .
وَيُعْتَبَرُ التَّكَافُؤُ بَيْنَ الْجَانِي وَالْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فِي الْجُرْحِ وَالنَّفْسِ، فَإِنْ سَاوَى الْجَانِي الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ اقْتُصَّ فِيهِمَا (3) .
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ أَثَرَ اعْتِبَارِ التَّكَافُؤِ فِي الْقِصَاصِ: أَنَّهُ لاَ يُقْتَل الْمُسْلِمُ بِمَنْ لاَ يُسَاوِيهِ فِي الْعِصْمَةِ، وَيُقْتَل الْمُسْلِمُ بِالْمُسْلِمِ وَإِنْ تَفَاوَتَا فِي الْعِلْمِ وَالشَّرَفِ وَغَيْرِهِمَا (4) .
وَفِي هَذِهِ الْمَسَائِل وَغَيْرِهَا مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالتَّكَافُؤِ فِي الدِّمَاءِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: " كَفَاءَةٌ " وَفِي مُصْطَلَحِ: " قِصَاصٌ ".
التَّكَافُؤُ فِي الْمُبَارَزَةِ:
5 - الْمُبَارَزَةُ لُغَةً: الْخُرُوجُ إِلَى الْخَصْمِ لِقِتَالِهِ وَمُصَارَعَتِهِ، وَكَانَتْ تَتِمُّ بِخُرُوجِ أَحَدِ الْمُقَاتِلِينَ أَمَامَ أَصْحَابِهِ وَدَعْوَةِ أَحَدِ الْخُصُومِ لِلْقِتَال، فَيَبْرُزُ لَهُ مَنْ دُعِيَ إِنْ كَانَ قَدْ سَمَّى أَحَدًا أَوْ يَبْرُزُ إِلَيْهِ
__________
(1) حديث: " المسلمون تتكافأ دماؤهم. . " أخرجه أحمد (2 / 192 ط الميمنية) من حديث عبد الله بن عمرو، وحسن إسناده ابن حجر في الفتح (12 / 261 ط السلفية) .
(2) مغني المحتاج 4 / 16.
(3) حاشية العدوي على شرح أبي الحسن لرسالة ابن أبي زيد القيرواني 2 / 283 (دار المعرفة ـ بيروت)
(4) المغني 7 / 648.(13/203)
أَحَدُ أَكْفَائِهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ سَمَّى أَحَدًا، وَيَدُورُ بَيْنَهُمَا قِتَالٌ حَتَّى يَصْرَعَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ (1) .
وَالتَّكَافُؤُ لِلْمُبَارَزَةِ: أَنْ يَعْلَمَ الشَّخْصُ الَّذِي يَخْرُجُ لَهَا مِنْ نَفْسِهِ الْقُوَّةَ وَالشَّجَاعَةَ، وَأَنَّهُ لَنْ يَعْجِزَ عَنْ مُقَاوَمَةِ عَدُوِّهِ (2) .
وَقَدْ بَيَّنَ الْفُقَهَاءُ فِي بَابِ " الْجِهَادِ " حُكْمَ الْمُبَارَزَةِ، وَأَنَّهَا تَكُونُ جَائِزَةً - خِلاَفًا لِلْحَسَنِ - بِإِطْلاَقٍ أَوْ بِإِذْنِ الإِْمَامِ، وَتَكُونُ مُسْتَحَبَّةً لِمَنْ يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ الْقُوَّةَ وَالشَّجَاعَةَ، لأَِنَّ فِي خُرُوجِهِ لِلْمُبَارَزَةِ نَصْرًا لِلْمُسْلِمِينَ وَدَرْءًا عَنْهُمْ وَإِظْهَارًا لِقُوَّتِهِمْ، وَتَكُونُ مَكْرُوهَةً لِلضَّعِيفِ الَّذِي لاَ يَثِقُ مِنْ قُوَّتِهِ وَشَجَاعَتِهِ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ كَسْرِ قُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ وَإِضْعَافِ عَزْمِهِمْ لأَِنَّهُ يُقْتَل غَالِبًا.
فَالتَّكَافُؤُ هُوَ مَنَاطُ الْحُكْمِ بِالْجَوَازِ أَوِ الاِسْتِحْبَابِ أَوِ الْكَرَاهَةِ فِي الْمُبَارَزَةِ، وَقَدْ بَيَّنَ الْمَاوَرْدِيُّ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَإِذَا جَازَتِ الْمُبَارَزَةُ بِمَا اسْتَشْهَدْنَا. . كَانَ لِتَمْكِينِ الْمُبَارَزَةِ شَرْطَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ ذَا نَجْدَةٍ وَشَجَاعَةٍ يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَنْ يَعْجِزَ عَنْ مُقَاوَمَةِ عَدُوِّهِ، فَإِنْ كَانَ بِخِلاَفِهِ مُنِعَ.
وَالثَّانِي: أَنْ لاَ يَكُونَ زَعِيمًا لِلْجَيْشِ يُؤَثِّرُ فَقْدُهُ فِيهِمْ (3) .
__________
(1) القاموس المحيط 2 / 171.
(2) المغني لابن قدامة 6 / 368، والأحكام السلطانية للماوردي ص 40 (دار الكتب العلمية ـ بيروت) .
(3) الأحكام السلطانية ص 40.(13/203)
وَقَدْ أَقَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّكَافُؤَ فِي الْمُبَارَزَةِ يَوْمَ بَدْرٍ حِينَ نَادَى عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، يَا مُحَمَّدُ أَخْرِجْ إِلَيْنَا مِنْ قَوْمِنَا أَكْفَاءَنَا. . فَقَدْ خَرَجَ عُتْبَةُ بَيْنَ أَخِيهِ شَيْبَةَ وَابْنِهِ الْوَلِيدِ، حَتَّى إِذَا فَصَل مِنَ الصَّفِّ دَعَا إِلَى الْمُبَارَزَةِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ فِتْيَةٌ مِنَ الأَْنْصَارِ ثَلاَثَةٌ، وَهُمْ: عَوْفٌ وَمُعَوِّذٌ ابْنَا الْحَارِثِ وَرَجُلٌ آخَرُ يُقَال هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ، فَقَالُوا: مَنْ أَنْتُمْ؟ فَقَالُوا: رَهْطٌ مِنَ الأَْنْصَارِ، قَالُوا: مَا لَنَا بِكُمْ مِنْ حَاجَةٍ، ثُمَّ نَادَى مُنَادِيهِمْ (1) : يَا مُحَمَّدُ أَخْرِجْ إِلَيْنَا أَكْفَاءَنَا مِنْ قَوْمِنَا، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُمْ يَا عُبَيْدَةُ بْنَ الْحَارِثِ، وَقُمْ يَا حَمْزَةُ، وَقُمْ يَا عَلِيُّ، فَلَمَّا قَامُوا وَدَنَوْا مِنْهُمْ قَالُوا: مَنْ أَنْتُمْ؟ قَال عُبَيْدَةُ: عُبَيْدَةُ، وَقَال حَمْزَةُ: حَمْزَةُ، وَقَال عَلِيٌّ: عَلِيٌّ قَالُوا: نَعَمْ أَكْفَاءٌ كِرَامٌ، فَبَارَزَ عُبَيْدَةُ وَكَانَ أَسَنَّ الْقَوْمِ عُتْبَةَ، وَبَارَزَ حَمْزَةُ شَيْبَةَ، وَبَارَزَ عَلِيٌّ الْوَلِيدَ، فَأَمَّا حَمْزَةُ فَلَمْ يُمْهِل شَيْبَةَ أَنْ قَتَلَهُ، وَأَمَّا عَلِيٌّ فَلَمْ يُمْهِل الْوَلِيدَ أَنْ قَتَلَهُ، وَاخْتَلَفَ عُبَيْدَةُ وَعُتْبَةُ بَيْنَهُمَا ضَرْبَتَيْنِ كِلاَهُمَا أَثْبَتَ صَاحِبَهُ، وَكَرَّ حَمْزَةُ وَعَلِيٌّ بِأَسْيَافِهِمَا عَلَى عُتْبَةَ فَذَفَّفَا عَلَيْهِ، وَاحْتَمَلاَ صَاحِبَهُمَا فَحَازَاهُ إِلَى أَصْحَابِهِ (2) .
__________
(1) في نيل الأوطار _ (7 / 272) أن الذي نادى هو عتبة بن ربيعة.
(2) سيرة النبي صلى الله عليه وسلم: ألفها ابن إسحاق وهذبها ابن هشام (الناشر مكتبة محمد على صبيح ـ القاهرة) 2 / 455 ـ 456. وقصة المبارزة يوم بدر. أخرجها ابن إسحاق في المغازي كما في سيرة ابن هشام (1 / 525 ط الحلبي) .(13/204)
التَّكَافُؤُ بَيْنَ الْخَيْل فِي السَّبْقِ:
6 - السَّبْقُ - بِالسُّكُونِ - فِي اللُّغَةِ: الْمُسَابَقَةُ، وَالسَّبَقُ - بِفَتْحِ الْبَاءِ - مَا يُجْعَل مِنَ الْمَال رَهْنًا عَلَى الْمُسَابَقَةِ
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (1) .
وَقَدْ شُرِعَ السَّبْقُ فِي الْخَيْل وَفِي الإِْبِل - وَلَوْ بِجُعْلٍ - لِمَا فِيهِ مِنْ إِعْدَادٍ لِلْجِهَادِ فِي سَبِيل اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَدِ اشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ لِلسَّبْقِ وَحِل الْجُعْل شُرُوطًا مِنْهَا: التَّكَافُؤُ بَيْنَ الدَّابَّتَيْنِ الْمُتَسَابِقَتَيْنِ بِحَيْثُ يُمْكِنُ سَبْقُ كُلٍّ مِنْهُمَا، وَالتَّكَافُؤُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْمُحَلِّل الَّذِي يَدْخُل بَيْنَهُمَا فِي حَالَةِ شَرْطِ إِخْرَاجِ الْجُعْل مِنَ الْمُتَسَابِقَيْنِ:
قَال الْحَنَفِيَّةُ: وَلاَ بَأْسَ بِالْمُسَابَقَةِ فِي الرَّمْيِ وَالْفَرَسِ وَالإِْبِل. . وَحَل الْجُعْل وَطَابَ إِنْ شُرِطَ الْمَال فِي الْمُسَابَقَةِ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ، وَحَرُمَ لَوْ شُرِطَ فِيهَا مِنَ الْجَانِبَيْنِ؛ لأَِنَّهُ يَصِيرُ قِمَارًا، إِلاَّ إِذَا أَدْخَلاَ ثَالِثًا مُحَلِّلاً بَيْنَهُمَا بِفَرَسٍ كُفْءٍ لِفَرَسَيْهِمَا يُتَوَهَّمُ أَنْ يَسْبِقَهُمَا، وَإِلاَّ لَمْ يَجُزْ أَيْ إِنْ كَانَ يَسْبِقُ أَوْ يُسْبَقُ لاَ مَحَالَةَ فَلاَ يَجُوزُ (2) . لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَدْخَل فَرَسًا بَيْنَ فَرَسَيْنِ وَهُوَ لاَ يُؤْمَنُ أَنْ يَسْبِقَ فَلَيْسَ بِقِمَارٍ، وَمَنْ أَدْخَل فَرَسًا بَيْنَ فَرَسَيْنِ وَقَدْ أَمِنَ أَنْ يَسْبِقَ فَهُوَ قِمَارٌ (3) .
__________
(1) لسان العرب مادة: " سبق " والمغني لابن قدامة 8 / 652.
(2) رد المحتار على الدر المختار 5 / 258.
(3) حديث: " من أدخل فرسا بين فرسين وهو لا يؤمن أن يسبق فليس بقمار، ومن أدخل فرسا بين فرسين، وقد أمن أن يسبق فهو قمار ". وأخرجه أبو داود (3 / 66ـ 67 تحقيق عزت عبيد دعاس) وإسناده ضعيف (التلخيص لابن حجر 4 / 163 ط شركة الطباعة الفنية) .(13/204)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى جَوَازِ الْمُسَابَقَةِ بِجُعْلٍ فِي الْخَيْل، وَفِي الإِْبِل، وَبَيْنَ الْخَيْل وَالإِْبِل، وَفِي السَّهْمِ إِذَا كَانَ الْجُعْل مِمَّا يَصِحُّ بَيْعُهُ، وَعُيِّنَ الْمَبْدَأُ وَالْغَايَةُ وَالْمَرْكَبُ. وَثُمَّ قَالُوا فِي شَرْحِ الْمَرْكَبِ: وَلاَ بُدَّ أَنْ تَكُونَ الْخَيْل أَوِ الإِْبِل مُتَقَارِبَةً فِي الْجَرْيِ، وَأَنْ يَجْهَل كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبْقَ فَرَسِهِ وَفَرَسَ صَاحِبِهِ، فَإِنْ قَطَعَ أَحَدُهُمَا أَنَّ أَحَدَ الْفَرَسَيْنِ أَكْثَرُ جَرْيًا مِنَ الآْخَرِ لَمْ تَجُزْ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: وَشَرْطُ الْمُسَابَقَةِ عِلْمُ الْمَوْقِفِ وَالْغَايَةِ وَتَسَاوِيهِمَا فِيهِمَا، وَتَعْيِينُ الْفَرَسَيْنِ وَيَتَعَيَّنَانِ، وَإِمْكَانُ سَبْقِ كُل وَاحِدٍ. . فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا ضَعِيفًا يُقْطَعُ بِتَخَلُّفِهِ أَوْ فَارِهًا يُقْطَعُ بِتَقَدُّمِهِ لَمْ يَجُزْ (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ فَرَسُ الْمُحَلِّل (3) مُكَافِئًا لِفَرَسَيْهِمَا أَوْ بَعِيرُهُ مُكَافِئًا لِبَعِيرَيْهِمَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُكَافِئًا مِثْل أَنْ يَكُونَ فَرَسَاهُمَا جَوَادَيْنِ وَفَرَسُهُ بَطِيئًا فَهُوَ قِمَارٌ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ أَدْخَل فَرَسًا بَيْنَ فَرَسَيْنِ وَهُوَ لاَ يُؤْمَنُ أَنْ يَسْبِقَ
__________
(1) شرح الزرقاني (دار الفكر ـ بيروت) 3 / 152.
(2) مغني المحتاج 4 / 313.
(3) المحلل الفرس الثالث الذي يدخل في السباق بين الفرسين إن كان هناك جعل من المتسابقين.(13/205)
فَلَيْسَ بِقِمَارٍ، وَمَنْ أَدْخَل فَرَسًا بَيْنَ فَرَسَيْنِ وَقَدْ أَمِنَ أَنْ يَسْبِقَ فَهُوَ قِمَارٌ، وَلأَِنَّهُ مَأْمُونٌ سَبْقُهُ فَوُجُودُهُ كَعَدَمِهِ، وَإِنْ كَانَ مُكَافِئًا لَهُمَا جَازَ.
وَيُشْتَرَطُ فِي الرِّهَانِ أَنْ تَكُونَ الدَّابَّتَانِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، فَإِنْ كَانَتَا مِنْ جِنْسَيْنِ كَالْفَرَسِ وَالْبَعِيرِ لَمْ يَجُزْ؛ لأَِنَّ الْبَعِيرَ لاَ يَكَادُ يَسْبِقُ الْفَرَسَ فَلاَ يَحْصُل الْغَرَضُ مِنْ هَذِهِ الْمُسَابَقَةِ (1) .
__________
(1) المغني لابن قدامة 8 / 658ـ 661.(13/205)
تَكْبِيرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّكْبِيرُ فِي اللُّغَةِ: التَّعْظِيمُ، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} (1) أَيْ فَعَظِّمْ، وَأَنْ يُقَال: " اللَّهُ أَكْبَرُ (2) " رُوِيَ {أَنَّهُ لَمَّا نَزَل {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهُ أَكْبَرُ فَكَبَّرَتْ خَدِيجَةُ وَفَرِحَتْ وَأَيْقَنَتْ أَنَّهُ الْوَحْيُ} (3) . وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِهَذَا اللَّفْظِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (4) .
__________
(1) سورة المدثر / 3.
(2) الصحاح وترتيب القاموس المحيط مادة: " كبر ". وعمدة القاري 5 / 268.
(3) حديث: " لما نزل وربك فكبر " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الله أكبر " فكبرت خديجة وفرحت. . . " ذكره صاحب كتاب العناية على الهداية بهامش فتح القدير (1 / 239 ط دار إحياء التراث العربي) . ولم نعثر عليه في كتب السنة التي بين أيدينا.
(4) العناية على الهداية بهامش فتح القدير 1 / 239 ط دار إحياء التراث العربي، وبدائع الصنائع 1 / 130.(13/206)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
التَّسْبِيحُ وَالتَّهْلِيل وَالتَّحْمِيدُ:
2 - الصِّلَةُ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَهَذِهِ الأَْلْفَاظِ أَنَّهَا كُلُّهَا مَدَائِحُ يُمْدَحُ بِهَا الإِْلَهُ وَيُعَظَّمُ (1) .
فَمَنْ سَبَّحَ اللَّهَ فَقَدْ عَظَّمَهُ وَنَزَّهَهُ عَمَّا لاَ يَلِيقُ بِهِ مِنْ صِفَاتِ النَّقْصِ وَسِمَاتِ الْحُدُوثِ، فَصَارَ وَاصِفًا لَهُ بِالْعَظَمَةِ وَالْقِدَمِ. وَكَذَا إِذَا هَلَّل؛ لأَِنَّهُ إِذَا وَصَفَهُ بِالتَّفَرُّدِ وَالأُْلُوهِيَّةِ فَقَدْ وَصَفَهُ بِالْعَظَمَةِ وَالْقِدَمِ، لاِسْتِحَالَةِ ثُبُوتِ الإِْلَهِيَّةِ دُونَهُمَا (2) .
كَمَا أَنَّ التَّحْمِيدَ يُرَادُ بِهِ كَثْرَةُ الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، لأَِنَّهُ هُوَ مُسْتَحِقُّ الْحَمْدِ عَلَى الْحَقِيقَةِ (3) .
أَحْكَامُ التَّكْبِيرِ:
أَوَّلاً
:
التَّكْبِيرُ فِي الصَّلاَةِ
تَكْبِيرَةُ الإِْحْرَامِ:
3 - تَكْبِيرَةُ الإِْحْرَامِ فَرْضٌ مِنْ فُرُوضِ الصَّلاَةِ.
وَهِيَ قَوْل الْمُصَلِّي لاِفْتِتَاحِ الصَّلاَةِ (اللَّهُ أَكْبَرُ) أَوْ كُل ذِكْرٍ يَصِيرُ بِهِ شَارِعًا فِي الصَّلاَةِ.
وَتُنْظَرُ أَحْكَامُهَا فِي مُصْطَلَحِ (تَكْبِيرَةُ الإِْحْرَامِ) .
__________
(1) قواعد الأحكام لعز بن عبد السلام 2 / 66.
(2) بدائع الصنائع 1 / 130.
(3) الموسوعة الفقهية بدولة الكويت 10 / 265.(13/206)
تَكْبِيرَاتُ الاِنْتِقَالاَتِ:
4 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ تَكْبِيرَاتِ الاِنْتِقَالاَتِ سُنَّةٌ (1)
قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: بِهَذَا قَال أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَعُمَرُ وَجَابِرٌ وَقَيْسُ بْنُ عُبَادَةَ وَالشَّعْبِيُّ وَالأَْوْزَاعِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ، وَنَقَلَهُ ابْنُ بَطَّالٍ أَيْضًا عَنْ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَمَكْحُولٍ وَالنَّخَعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ (2) .
وَدَلِيل الْجُمْهُورِ حَدِيثُ الْمُسِيءِ صَلاَتَهُ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّمَهُ صَلاَتَهُ، فَعَلَّمَهُ وَاجِبَاتِهَا، فَذَكَرَ مِنْهَا تَكْبِيرَةَ الإِْحْرَامِ، وَلَمْ يَذْكُرْ تَكْبِيرَاتِ الاِنْتِقَالاَتِ وَهَذَا مَوْضِعُ الْبَيَانِ وَوَقْتُهُ وَلاَ يَجُوزُ التَّأْخِيرُ عَنْهُ (3) .
أَمَّا الأَْحَادِيثُ الَّتِي تُثْبِتُ التَّكْبِيرَ فِي كُل خَفْضٍ وَرَفْعٍ فَمَحْمُولَةٌ عَلَى الاِسْتِحْبَابِ، مِنْهَا مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُول: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلاَةِ يُكَبِّرُ حِينَ يَقُومُ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْكَعُ،
__________
(1) المجموع للنووي 3 / 397 نشر السلفية، والفتوحات الربانية 2 / 164، والمغني 1 / 502، والدسوقي 1 / 249، والفتاوى الهندية 1 / 72، عمدة القاري 6 / 58، وصحيح مسلم بشرح النووي 4 / 98 ط المصرية بالأزهر.
(2) عمدة القاري 6 / 85، والمجموع 3 / 397.
(3) المجموع 3 / 397، وصحيح مسلم بشرح النووي 4 / 98. وحديث: " المسيء صلاته ". أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 277 ط السلفية) . من حديث أبي هريرة.(13/207)
ثُمَّ يَقُول سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ حِينَ يَرْفَعُ صُلْبَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، ثُمَّ يَقُول وَهُوَ قَائِمٌ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَهْوِي سَاجِدًا، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَسْجُدُ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ، ثُمَّ يَفْعَل ذَلِكَ فِي الصَّلاَةِ كُلِّهَا حَتَّى يَقْضِيَهَا، وَيُكَبِّرُ حِينَ يَقُومُ مِنَ الْمَثْنَى بَعْدَ الْجُلُوسِ. (1)
وَالْحَدِيثُ فِيهِ إِثْبَاتُ التَّكْبِيرِ فِي كُل خَفْضٍ وَرَفْعٍ إِلاَّ فِي رَفْعِهِ مِنَ الرُّكُوعِ، فَإِنَّهُ يَقُول: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ (2) .
وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكَبِّرُ فِي كُل خَفْضٍ وَرَفْعٍ وَقِيَامٍ وَقُعُودٍ، وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (3) .
وَيَرَى أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ أَنَّ تَكْبِيرَ الْخَفْضِ وَالرَّفْعِ وَاجِبٌ، وَهُوَ قَوْل إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ وَدَاوُدَ؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِهِ وَأَمْرُهُ لِلْوُجُوبِ، وَفَعَلَهُ. وَقَال: صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي (4) .
__________
(1) حديث: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة يكبر حين يقوم ثم يكبر. . " أخرجه مسلم (1 / 293 ط عيسى البابي) من حديث أبي هريرة.
(2) صحيح مسلم بشرح النووي 4 / 97.
(3) المجموع 3 / 398. وحديث: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبر في كل خفض ورفع وقيام وقعود. . . " أخرجه الترمذي (2 / 33 - 34 ط مصطفى البابي) من حديث عبد الله بن مسعود. وقال: حديث حسن صحيح، وأحمد (5 / 3661 ط المعارف) وقال محققه الشيخ أحمد شاكر: إسناده صحيح.
(4) حديث: " صلوا كما رأيتموني أصلي " أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 111 ط السلفية) من حديث مالك بن الحويرث.(13/207)
وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ يَحْيَى بْنِ خَلاَّدٍ عَنْ عَمِّهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: لاَ تَتِمُّ صَلاَةٌ لأَِحَدٍ مِنَ النَّاسِ حَتَّى يَتَوَضَّأَ - إِلَى قَوْلِهِ - ثُمَّ يُكَبِّرُ، ثُمَّ يَرْكَعُ حَتَّى تَطْمَئِنَّ مَفَاصِلُهُ، ثُمَّ يَقُول سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ حَتَّى يَسْتَوِيَ قَائِمًا، ثُمَّ يَقُول اللَّهُ أَكْبَرُ، ثُمَّ يَسْجُدُ حَتَّى يَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ يَقُول: اللَّهُ أَكْبَرُ وَيَرْفَعُ رَأْسَهُ حَتَّى يَسْتَوِيَ قَاعِدًا، ثُمَّ يَقُول اللَّهُ أَكْبَرُ ثُمَّ يَسْجُدُ حَتَّى تَطْمَئِنَّ مَفَاصِلُهُ، ثُمَّ يَرْفَعُ رَأْسَهُ فَيُكَبِّرُ، فَإِذَا فَعَل ذَلِكَ فَقَدْ تَمَّتْ صَلاَتُهُ (1) . وَهَذَا نَصٌّ فِي وُجُوبِ التَّكْبِيرِ.
وَلأَِنَّ مَوَاضِعَ هَذِهِ الأَْذْكَارِ أَرْكَانُ الصَّلاَةِ فَكَانَ فِيهَا ذِكْرٌ وَاجِبٌ كَالْقِيَامِ (2) .
وَقَال أَبُو عُمَرَ: قَدْ قَال قَوْمٌ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ إِنَّ التَّكْبِيرَ إِنَّمَا هُوَ إِيذَانٌ بِحَرَكَاتِ الإِْمَامِ وَشِعَارُ الصَّلاَةِ وَلَيْسَ بِسُنَّةٍ إِلاَّ فِي الْجَمَاعَةِ. فَأَمَّا مَنْ صَلَّى وَحْدَهُ فَلاَ بَأْسَ أَنْ يُكَبِّرَ (3) .
__________
(1) حديث: " لا تتم صلاة لأحد من الناس حتى يتوضأ ـ إلى قوله ثم يكبر. . . " أخرجه أبو داود (1 / 563 ط عزت عبيد دعاس) . والترمذي (2 / 100 - 102 ط مصطفى البابي) من حديث رفاعة بن رافع وقال الترمذي: (حديث حسن) .
(2) المغني لابن قدامة 1 / 502، 503، والمجموع 3 / 414، وصحيح مسلم بشرح النووي 4 / 98.
(3) عمدة القاري 6 / 58.(13/208)
حِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّةِ تَكْبِيرَاتِ الاِنْتِقَالاَتِ:
5 - الْحِكْمَةُ فِي مَشْرُوعِيَّةِ التَّكْبِيرِ فِي الْخَفْضِ وَالرَّفْعِ هِيَ أَنَّ الْمُكَلَّفَ أُمِرَ بِالنِّيَّةِ أَوَّل الصَّلاَةِ مَقْرُونَةً بِالتَّكْبِيرِ، وَكَانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يَسْتَصْحِبَ النِّيَّةَ إِلَى آخِرِ الصَّلاَةِ، فَأُمِرَ أَنْ يُجَدِّدَ الْعَهْدَ فِي أَثْنَائِهَا بِالتَّكْبِيرِ الَّذِي هُوَ شِعَارُ النِّيَّةِ (1) .
مَدُّ تَكْبِيرَاتِ الاِنْتِقَالاَتِ وَحَذْفُهَا:
6 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى الْجَدِيدِ وَهُوَ الصَّحِيحُ - وَهُوَ مَا يُؤْخَذُ مِنْ عِبَارَاتِ فُقَهَاءِ الْحَنَابِلَةِ - اسْتِحْبَابَ التَّكْبِيرِ فِي كُل رُكْنٍ عِنْدَ الشُّرُوعِ، وَمَدَّهُ إِلَى الرُّكْنِ الْمُنْتَقَل إِلَيْهِ حَتَّى لاَ يَخْلُوَ جُزْءٌ مِنْ صَلاَةِ الْمُصَلِّي عَنْ ذِكْرٍ، فَيَبْدَأُ بِالتَّكْبِيرِ حِينَ يَشْرَعُ فِي الاِنْتِقَال إِلَى الرُّكُوعِ، وَيَمُدُّهُ حَتَّى يَصِل حَدَّ الرَّاكِعِينَ، ثُمَّ يَشْرَعُ فِي تَسْبِيحِ الرُّكُوعِ، وَيَبْدَأُ بِالتَّكْبِيرِ حِينَ يَشْرَعُ فِي الْهُوِيِّ إِلَى السُّجُودِ وَيَمُدُّهُ حَتَّى يَضَعَ جَبْهَتَهُ عَلَى الأَْرْضِ، ثُمَّ يَشْرَعُ فِي تَسْبِيحِ السُّجُودِ، وَهَكَذَا يَشْرَعُ فِي التَّكْبِيرِ لِلْقِيَامِ مِنَ التَّشَهُّدِ الأَْوَّل حِينَ يَشْرَعُ فِي الاِنْتِقَال وَيَمُدُّهُ حَتَّى يَنْتَصِبَ قَائِمًا.
وَيَسْتَثْنِي الْمَالِكِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ تَكْبِيرَ الْمُصَلِّي فِي قِيَامِهِ مِنَ اثْنَتَيْنِ، حَيْثُ يَقُولُونَ إِنَّهُ لاَ يُكَبِّرُ لِلْقِيَامِ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ حَتَّى يَسْتَوِيَ قَائِمًا لأَِنَّهُ كَمُفْتَتِحِ صَلاَةٍ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ
__________
(1) عمدة القاري 6 / 59 ط المنيرية.(13/208)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ - عَلَى الْقَدِيمِ الْمُقَابِل لِلصَّحِيحِ - بِحَذْفِ التَّكْبِيرِ وَعَدَمِ مَدِّهِ (1) .
وَتُنْظَرُ الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِتَرْكِ تَكْبِيرَاتِ الاِنْتِقَالاَتِ فِي (سُجُودُ السَّهْوِ) .
ب - التَّكْبِيرَاتُ الزَّوَائِدُ فِي صَلاَةِ الْعِيدَيْنِ:
7 - قَال الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنَّ صَلاَةَ الْعِيدَيْنِ فِيهَا سِتُّ تَكْبِيرَاتٍ فِي الأُْولَى وَخَمْسٌ فِي الثَّانِيَةِ.
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ السَّبْعَةِ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالزُّهْرِيِّ وَالْمُزَنِيِّ (2) .
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَال: شَهِدْتُ الأَْضْحَى وَالْفِطْرَ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ فَكَبَّرَ فِي الأُْولَى سَبْعَ تَكْبِيرَاتٍ قَبْل الْقِرَاءَةِ، وَفِي الآْخِرَةِ خَمْسًا قَبْل الْقِرَاءَةِ.
وَبِمَا رُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ الْمُزَنِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَبَّرَ فِي الْعِيدَيْنِ فِي الأُْولَى سَبْعًا قَبْل الْقِرَاءَةِ وَفِي الثَّانِيَةِ خَمْسًا قَبْل الْقِرَاءَةِ (3) .
__________
(1) الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 154 والدسوقي 1 / 249، وروضة الطالبين 1 / 250، وقليوبي 1 / 155، وصحيح مسلم شرح النووي 4 / 99، والفتوحات الربانية 2 / 162، وأسرار الصلاة ومهماتها للغزالي ص 102 نشر دار التراث العربي، ومطالب أولي النهى 1 / 442، 449.
(2) حاشية العدوي على شرح الرسالة 1 / 345 نشر دار المعرفة، وبداية المجتهد 1 / 217، والإفصاح 1 / 116، والمجموع 5 / 20، والمغني لابن قدامة 2 / 380.
(3) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كبر في العيدين في الأولى سبعا قبل القراءة وفي. . . " أخرجه الترمذي (2 / 416 ط مصطفى البابي) وابن ماجه (1 / 407 ط عيسى البابي) من حديث عمرو بن عوف. وقال الترمذي (حديث حسن، وهو أحسن شيء روي في هذا الباب) .(13/209)
وَيَبْدُو أَنَّهُمْ يَعُدُّونَ تَكْبِيرَةَ الإِْحْرَامِ فِي السَّبْعِ فِي الرَّكْعَةِ الأُْولَى، كَمَا يَعُدُّونَ تَكْبِيرَةَ النُّهُوضِ زَائِدًا عَلَى الْخَمْسِ الْمَرْوِيَّةِ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ بِحُجَّةِ أَنَّ الْعَمَل بِالْمَدِينَةِ كَانَ عَلَى هَذَا (1) .
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ أَنَّ صَلاَةَ الْعِيدَيْنِ فِيهَا سِتُّ تَكْبِيرَاتٍ زَوَائِدُ ثَلاَثٌ فِي الأُْولَى وَثَلاَثٌ فِي الثَّانِيَةِ. وَبِهَذَا قَال ابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو مُوسَى الأَْشْعَرِيُّ وَحُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ وَعُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَأَبُو مَسْعُودٍ الْبَدْرِيُّ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ وَالثَّوْرِيُّ وَعُلَمَاءُ الْكُوفَةِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (2) .
فَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ عَنْ مَسْرُوقٍ قَال: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ يُعَلِّمُنَا التَّكْبِيرَ فِي الْعِيدَيْنِ تِسْعَ تَكْبِيرَاتٍ، خَمْسٌ فِي الأُْولَى وَأَرْبَعٌ فِي الآْخِرَةِ، وَيُوَالِي بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ، فِي الأُْولَى تَكْبِيرَةُ الاِفْتِتَاحِ وَالتَّكْبِيرَاتُ الزَّوَائِدُ وَتَكْبِيرَةُ الرُّكُوعِ، وَالأَْرْبَعَةُ فِي الرَّكْعَةِ الأَْخِيرَةِ، التَّكْبِيرَاتُ الثَّلاَثُ الزَّوَائِدُ وَتَكْبِيرَةُ الرُّكُوعِ (3) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ التَّكْبِيرَاتِ الزَّوَائِدَ سَبْعٌ
__________
(1) بداية المجتهد 1 / 217، نشر دار المعرفة، والمغني 2 / 380، 381.
(2) البناية 2 / 863، 864، وبدائع الصنائع 1 / 277، والإفصاح لابن هبيرة 1 / 116، والمجموع 5 / 20 نشر السلفية، وبداية المجتهد 1 / 217.
(3) البناية 2 / 864، وبداية المجتهد 1 / 217، 218 ط الحلبي.(13/209)
فِي الأُْولَى وَخَمْسٌ فِي الثَّانِيَةِ (1) وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكَبِّرُ فِي الْعِيدَيْنِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ تَكْبِيرَةً سِوَى تَكْبِيرَةِ الاِفْتِتَاحِ (2) . وَبِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُكَبِّرُ فِي الْفِطْرِ فِي الأُْولَى سَبْعًا، وَفِي الثَّانِيَةِ خَمْسًا سِوَى تَكْبِيرَةِ الصَّلاَةِ (3) .
وَقَدْ ذَكَرَ الْعَيْنِيُّ تِسْعَةَ عَشَرَ قَوْلاً فِي عَدَدِ التَّكْبِيرَاتِ الزَّوَائِدِ، وَقَال: الاِخْتِلاَفُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ كُل ذَلِكَ فَعَلَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الأَْحْوَال الْمُخْتَلِفَةِ، لأَِنَّ الْقِيَاسَ لَمَّا لَمْ يَدُل حُمِل عَلَى أَنَّ كُل وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ رَوَى قَوْلَهُ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكُل وَاحِدٍ مِنَ التَّابِعِينَ رَوَى قَوْلَهُ عَنْ صَحَابِيٍّ (4) .
هَذَا وَأَمَّا الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِمَحَل
__________
(1) المجموع 5 / 15 ـ 17، والمغني 2 / 380، 381.
(2) حديث: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبر في العيدين اثنتى عشرة تكبيرة سوى. . . " أخرجه أبو داود (1 / 680 ـ ط عزت عبيد الدعاس) والدارقطني (2 / 44 ـ ط شركة الطباعة الفنية) وقال ابن حجر: مداره على ابن لهيعة وهو ضعيف التلخيص الحبير (2 / 84 ـ ط شركة الطباعة الفنية) .
(3) حديث: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكبر في الفطر في الأولى سبعا وفي الثانية. . . " أخرجه ابن الجارود في المنتقى (262 ـ ط المدني) بلفظ " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كبر في العيد يوم الفطر سبعا في الأولى وخمسا في الآخرة سوى تكبيرة الصلاة " والبيهقي (3 / 285 ـ ط دار المعرفة) وصححه.
(4) البناية 2 / 867.(13/210)
التَّكْبِيرَاتِ الزَّوَائِدِ وَالذِّكْرِ بَيْنَهَا، وَرَفْعِ الْيَدَيْنِ فِيهَا، وَنِسْيَانِهَا، فَتُنْظَرُ فِي (صَلاَةُ الْعِيدَيْنِ) .
ج - التَّكْبِيرُ فِي أَوَّل خُطْبَتَيِ الْعِيدَيْنِ:
8 - يُسْتَحَبُّ أَنْ يُكَبِّرَ الإِْمَامُ فِي أَوَّل الْخُطْبَةِ الأُْولَى لِصَلاَةِ أَحَدِ الْعِيدَيْنِ تِسْعَ تَكْبِيرَاتٍ، وَفِي أَوَّل الثَّانِيَةِ سَبْعًا، وَهَذِهِ التَّكْبِيرَاتُ لَيْسَتْ مِنَ الْخُطْبَةِ، وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
وَقَال مَالِكٌ: السُّنَّةُ أَنْ يَفْتَتِحَ خُطْبَتَهُ الأُْولَى وَالثَّانِيَةَ بِالتَّكْبِيرِ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ حَدٌّ (1) . وَلِلتَّفْصِيل (ر: خُطْبَةٌ) .
د - التَّكْبِيرُ فِي صَلاَةِ الاِسْتِسْقَاءِ:
9 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْقَائِلِينَ بِصَلاَةِ الاِسْتِسْقَاءِ وَمِنْهُمْ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالأَْوْزَاعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَحْمَدُ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ يُكَبِّرُ فِي صَلاَةِ الاِسْتِسْقَاءِ كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ تَكْبِيرَةً وَاحِدَةً لِلاِفْتِتَاحِ (2) ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ: اسْتَسْقَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَقَلَبَ رِدَاءَهُ (3) ، وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ نَحْوَهُ وَلَمْ يَذْكُرِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 175 ـ الطبعة الثانية، وحاشية الدسوقي 1 / 400، وموهب الجليل 1 / 197 والمجموع شرح المهذب 5 / 22، والمغني لابن قدامة 2 / 385، وكشاف القناع 1 / 55، 56ط الرياض.
(2) عمدة القاري 7 / 34، والمغني لابن قدامة 2 / 431، والبناية 2 / 916، والشرح الصغير 1 / 537، الموسوعة الفقهية 3 / 312.
(3) حديث: " استسقى النبي صلى الله عليه وسلم فصلى ركعتين. . . " ولفظه عند البخاري " عن عبد الله بن زيد أن النبي صلى الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى المصلى فاستسقى، فاستقبل القبلة، وقلب رداءه، فصلى ركعتين " أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 498ـ ط السلفية) ومسلم (2 / 611 ـ ط عيسى البابي) واللفظ للبخاري.(13/210)
التَّكْبِيرَ (1) ، فَتَنْصَرِفُ إِلَى الصَّلاَةِ الْمُطْلَقَةِ. كَمَا رَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَسْقَى فَخَطَبَ قَبْل الصَّلاَةِ، وَاسْتَقْبَل الْقِبْلَةَ، وَحَوَّل رِدَاءَهُ، ثُمَّ نَزَل فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ لَمْ يُكَبِّرْ فِيهِمَا إِلاَّ تَكْبِيرَةً (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي صِفَةِ صَلاَةِ الاِسْتِسْقَاءِ: إِنَّهُ يُكَبِّرُ فِيهَا كَتَكْبِيرِ الْعِيدِ، سَبْعًا فِي الأُْولَى، وَخَمْسًا فِي الثَّانِيَةِ، وَهُوَ قَوْل سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَمَكْحُولٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ، وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (3) .
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ أَنَّ مَرْوَانَ أَرْسَل إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ يَسْأَلُهُ عَنْ سُنَّةِ الاِسْتِسْقَاءِ، فَقَال:
__________
(1) حديث: " وروى أبو هريرة نحوه ولم يذكر التكبير " أخرجه أحمد (2 / 336 ط المكتب الإسلامي) وابن ماجه (1 / 403 ـ 304 ـ ط عيسى البابي) قال البوصيري: " هذا إسناد صحيح رجاله ثقات " (الزوائد 1 / 150 ـ ط دار العربية) .
(2) حديث: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استسقى فخطب قبل الصلاة واستقبل القبلة. . . " ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد مطولا وعزاه إلى الطبراني في الأوسط وقال: فيه مجاشع بن عمرو قال ابن معين: قد رأيته أحد الكذابين. (مجمع الزوائد 2 / 213 ـ ط مكتبة القدسي)
(3) المجموع 5 / 73، 74، والمغني 2 / 431، والبناية 2 / 916 وعمدة القاري 7 / 34.(13/211)
سُنَّةُ الاِسْتِسْقَاءِ الصَّلاَةُ فِي الْعِيدَيْنِ، إِلاَّ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَلَبَ رِدَاءَهُ، فَجَعَل يَمِينَهُ يَسَارَهُ وَيَسَارَهُ يَمِينَهُ، وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، كَبَّرَ فِي الأُْولَى سَبْعَ تَكْبِيرَاتٍ، وَقَرَأَ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَْعْلَى} وَقَرَأَ فِي الثَّانِيَةِ {هَل أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} وَكَبَّرَ خَمْسَ تَكْبِيرَاتٍ (1) .
وَتَفْصِيل صِفَةِ صَلاَةِ الاِسْتِسْقَاءِ يُنْظَرُ فِي (اسْتِسْقَاءٍ ف 16 ج 3 ص 312)
هـ - تَكْبِيرَاتُ الْجِنَازَةِ:
10 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ تَكْبِيرَاتِ الْجِنَازَةِ أَرْكَانٌ لاَ تَصِحُّ صَلاَةُ الْجِنَازَةِ إِلاَّ بِهَا (2) .
أَمَّا عَدَدُ تَكْبِيرَاتِ الْجِنَازَةِ، فَقَدْ قَال جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ أَئِمَّةُ الْمَذَاهِبِ الأَْرْبَعَةِ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ وَالنَّخَعِيُّ وَسُوَيْدُ بْنُ غَفَلَةَ وَالثَّوْرِيُّ: إِنَّ تَكْبِيرَاتِ الْجِنَازَةِ أَرْبَعٌ. فَقَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ آخِرَ صَلاَةٍ صَلاَّهَا عَلَى النَّجَاشِيِّ كَبَّرَ أَرْبَعًا
__________
(1) حديث: " سنة الاستسقاء الصلاة في العيدين إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قلب رداءه. . " أخرجه البيهي (3 / 347 ـ ط دار المعرفة) وضعفه ابن التركي في الجوهر النقي (3 / 347 ـ ط دار المعرفة) .
(2) المجموع 5 / 230، وأسرار الصلاة ومهماتها للغزالي ص 334، والدر المختار 1 / 583، والشرح الصغير 1 / 553، المغني لابن قدامة 2 / 492.(13/211)
وَثَبَتَ عَلَيْهَا حَتَّى تُوُفِّيَ (1) .
وَصَحَّ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ صَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَبَّرَ أَرْبَعًا، وَصَلَّى صُهَيْبٌ عَلَى عُمَرَ فَكَبَّرَ أَرْبَعًا وَصَلَّى الْحَسَنُ عَلَى عَلِيٍّ فَكَبَّرَ أَرْبَعًا، وَصَلَّى عُثْمَانُ عَلَى خَبَّابٍ فَكَبَّرَ أَرْبَعًا (2)
وَذَهَبَ قَوْمٌ مِنْهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى وَعِيسَى مَوْلَى حُذَيْفَةَ وَأَصْحَابُ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَأَبُو يُوسُفَ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ التَّكْبِيرَ عَلَى الْجَنَائِزِ خَمْسٌ. قَال الْحَازِمِيُّ: وَمِمَّنْ رَأَى التَّكْبِيرَ عَلَى الْجَنَائِزِ خَمْسًا ابْنُ مَسْعُودٍ وَزَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ وَحُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ.
وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: يُكَبِّرُ سَبْعًا، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ.
وَقَال ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ: يُكَبِّرُ ثَلاَثًا.
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: إِنَّ سُنَّةَ التَّكْبِيرِ عَلَى الْجِنَازَةِ
__________
(1) حديث: " أن آخر صلاة صلاها على النجاشي كبر أربعا " أخرجه الحاكم (1 / 386 ط دار الكتاب العربي) . وضعفه الذهبي، أصله في البخاري بلفظ " أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على أصحمة النجاشي فكبر أربعا " أخرجه البخاري (3 / 202 ـ ط السلفية) من حديث جابر.
(2) عمدة القاري 8 / 116، والمجموع 5 / 229، 231 نشر السلفية، والبناية 2 / 992، 995، والدر المختار 1 / 583، والمغني لابن قدامة 2 / 485 وحاشية العدوي على شرح الرسالة 1 / 374، نشر دار المعرفة، والشرح الصغير 1 / 553، والإفصاح لابن هبيرة ص 129.(13/212)
أَرْبَعٌ، وَلاَ تُسَنُّ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا، وَلاَ يَجُوزُ النَّقْصُ مِنْهَا (1) .
وَلِلتَّفْصِيل فِي أَحْكَامِ رَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي تَكْبِيرَاتِ الْجِنَازَةِ، وَمُتَابَعَةِ الإِْمَامِ، وَأَحْكَامِ الْمَسْبُوقِ بِتَكْبِيرِ الصَّلاَةِ فِي الْجِنَازَةِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (صَلاَةُ الْجِنَازَةِ) .
ثَانِيًا
التَّكْبِيرُ خَارِجَ الصَّلاَةِ
التَّكْبِيرُ فِي الأَْذَانِ:
11 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ التَّكْبِيرَ فِي أَوَّل الأَْذَانِ أَرْبَعُ مَرَّاتٍ (2) .
وَقَال فِي شَرْحِ الْمِشْكَاةِ: لِلاِعْتِنَاءِ بِشَأْنِ هَذَا الْمَقَامِ الأَْكْبَرِ، كَرَّرَ الدَّال عَلَيْهِ أَرْبَعًا، إِشْعَارًا بِعَظِيمِ رِفْعَتِهِ (3) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ التَّكْبِيرَ فِي أَوَّل الأَْذَانِ مَرَّتَانِ اعْتِبَارًا بِكَلِمَةِ الشَّهَادَتَيْنِ، حَيْثُ يُؤْتَى بِهَا مَرَّتَيْنِ، وَلأَِنَّهُ عَمَل السَّلَفِ بِالْمَدِينَةِ (4) .
__________
(1) عمدة القاري 8 / 116، والمجموع 5 / 231، والمغني لابن قدامة 2 / 485.
(2) المغني لابن قدامة 1 / 404، والإفصاح لابن هبيرة 1 / 80، وبدائع الصنائع 1 / 147، ونهاية المحتاج 1 / 390.
(3) الفتوحات الربانية 2 / 83.
(4) الشرح الصغير 1 / 248، 249، وبدائع الصنائع 1 / 147.(13/212)
أَمَّا التَّكْبِيرُ فِي آخِرِ الأَْذَانِ فَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ مَرَّتَانِ فَقَطْ.
وَلِلتَّفْصِيل فِي أَلْفَاظِ الأَْذَانِ. ر: مُصْطَلَحَ (أَذَانٌ) ف 10 ج 2 ص 359، 360
التَّكْبِيرُ فِي الإِْقَامَةِ:
12 - التَّكْبِيرُ فِي بَدْءِ الإِْقَامَةِ مَرَّتَانِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَأَرْبَعُ مَرَّاتٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
أَمَّا التَّكْبِيرُ فِي آخِرِ الإِْقَامَةِ فَهُوَ مَرَّتَانِ بِالاِتِّفَاقِ (1) .
وَتُنْظَرُ كَيْفِيَّةُ الإِْقَامَةِ فِي مُصْطَلَحِ: (إِقَامَةٌ ف 7 ج 6 ص 7، 6)
رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّكْبِيرِ عَقِيبَ الْمَكْتُوبَةِ:
13 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَدَمَ اسْتِحْبَابِ رَفْعِ الصَّوْتِ بِالتَّكْبِيرِ وَالذِّكْرِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الصَّلاَةِ وَقَدْ حَمَل الشَّافِعِيُّ الأَْحَادِيثَ الَّتِي تُفِيدُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالذِّكْرِ.
وَمِنْهَا حَدِيثُ: " ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: كُنْتُ أَعْرِفُ انْقِضَاءَ صَلاَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّكْبِيرِ (2) حَمَلَهَا عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَهَرَ لِيَعْلَمَ الصَّحَابَةُ صِفَةَ الذِّكْرِ لاَ أَنَّهُ كَانَ دَائِمًا، وَقَال
__________
(1) المغني 1 / 406، وبدائع الصنائع 1 / 148، والشرح الصغير 1 / 256، ونهاية المحتاج 1 / 390.
(2) حديث: " كنت أعرف انقضاء صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالتكبير " أخرجه البخاري (2 / 325 ط السلفية) .(13/213)
الشَّافِعِيُّ: أَخْتَارُ لِلإِْمَامِ وَالْمَأْمُومِ أَنْ يَذْكُرَا اللَّهَ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الصَّلاَةِ وَيُخْفِيَانِ ذَلِكَ إِلاَّ أَنْ يَقْصِدَا التَّعْلِيمَ فَيُعَلِّمَا ثُمَّ يُسِرَّا (1) .
وَلِلتَّفْصِيل فِي الأَْدْعِيَةِ وَالأَْذْكَارِ فِي غَيْرِ الصَّلاَةِ وَالْمُفَاضَلَةِ بَيْنَ الْجَهْرِ وَالإِْسْرَارِ بِهَا (ر: ذِكْرٌ، وَإِسْرَارٌ ف 20 ج 4 ص 175)
التَّكْبِيرُ فِي طَرِيقِ مُصَلَّى الْعِيدِ:
14 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ التَّكْبِيرِ جَهْرًا فِي طَرِيقِ الْمُصَلَّى فِي عِيدِ الأَْضْحَى، أَمَّا التَّكْبِيرُ فِي عِيدِ الْفِطْرِ فَيَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ يُكَبَّرُ فِيهِ جَهْرًا وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} (2) قَال ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذَا وَرَدَ فِي عِيدِ الْفِطْرِ بِدَلِيل عَطْفِهِ عَلَى قَوْله تَعَالَى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} (3) وَالْمُرَادُ بِإِكْمَال الْعِدَّةِ بِإِكْمَال صَوْمِ رَمَضَانَ (4) .
وَلِمَا رَوَى نَافِعٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَخْرُجُ فِي الْعِيدَيْنِ مَعَ الْفَضْل بْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَجَعْفَرٍ وَالْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ وَزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ وَأَيْمَنَ بْنِ أُمِّ أَيْمَنَ رَافِعًا صَوْتَهُ بِالتَّهْلِيل وَالتَّكْبِيرِ، وَيَأْخُذُ
__________
(1) عمدة القاري 6 / 126.
(2) سورة البقرة / 185.
(3) جزء من نفس الآية.
(4) البناية 2 / 859، والإفصاح 1 / 117، والمغني 2 / 369، والشرح الصغير 1 / 529.(13/213)
طَرِيقَ الْحَدَّادِينَ حَتَّى يَأْتِيَ الْمُصَلَّى (1) .
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى عَدَمِ الْجَهْرِ بِالتَّكْبِيرِ فِي عِيدِ الْفِطْرِ لأَِنَّ الأَْصْل فِي الثَّنَاءِ الإِْخْفَاءُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْل} (2) وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرُ الذِّكْرِ الْخَفِيُّ (3) .
وَلأَِنَّهُ أَقْرَبُ مِنَ الأَْدَبِ وَالْخُشُوعِ، وَأَبْعَدُ مِنَ الرِّيَاءِ.
وَلأَِنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِالْجَهْرِ بِالتَّكْبِيرِ فِي عِيدِ الأَْضْحَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} (4) جَاءَ فِي التَّفْسِيرِ: الْمُرَادُ بِهِ التَّكْبِيرُ فِي هَذِهِ الأَْيَّامِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ يَوْمُ الْفِطْرِ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَرِدْ بِهِ الشَّرْعُ، وَلَيْسَ فِي مَعْنَاهُ أَيْضًا، لأَِنَّ عِيدَ الأَْضْحَى اخْتُصَّ بِرُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ، وَالتَّكْبِيرُ شُرِعَ عَلَمًا عَلَى وَقْتِ أَفْعَال الْحَجِّ، وَلَيْسَ فِي شَوَّالٍ ذَلِكَ (5) .
وَلِلتَّفْصِيل فِي ابْتِدَاءِ التَّكْبِيرِ وَانْتِهَائِهِ فِي
__________
(1) المجموع 5 / 30. وحديث: " كان يخرج في العيدين مع الفضل بن عباس وعبد الله بن عباس ". أخرجه البيهقي (3 / 279 ط دار المعرفة) . وضعفه.
(2) سورة الأعراف / 205.
(3) حديث: " خير الذكر الخفي ". أخرجه أحمد في مسنده (3 / 1477 ط دار المعارف) وضعفه محققه الشيخ أحمد شاكر.
(4) سورة البقرة / 203.
(5) البناية 2 / 858، 859.(13/214)
الْعِيدَيْنِ وَصِفَةِ التَّكْبِيرِ (ر صَلاَةُ الْعِيدَيْنِ وَعِيدٌ) .
التَّكْبِيرُ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ:
15 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي مَشْرُوعِيَّةِ التَّكْبِيرِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ إِلاَّ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِهِ: فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ هُوَ مَنْدُوبٌ (1) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ بِوُجُوبِهِ، وَقَدْ سَمَّاهُ الْكَرْخِيُّ سُنَّةً ثُمَّ فَسَّرَهُ بِالْوَاجِبِ، فَقَال: تَكْبِيرُ التَّشْرِيقِ سُنَّةٌ مَاضِيَةٌ، نَقَلَهَا أَهْل الْعِلْمِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى الْعَمَل بِهَا.
وَقَال الْكَاسَانِيُّ: إِطْلاَقُ اسْمِ السُّنَّةِ عَلَى الْوَاجِبِ جَائِزٌ (2) .
هَذَا وَلِلتَّفْصِيل فِي صِفَةِ تَكْبِيرِ التَّشْرِيقِ وَحُكْمِهِ، وَفِي وَقْتِهِ، وَفِي مَحَل أَدَائِهِ ر: أَيَّامُ التَّشْرِيقِ (ف 13 - ج 7 ص 325) ، وَمُصْطَلَحَ: (عِيدٌ) .
التَّكْبِيرُ عِنْدَ الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ:
16 - يُسَنُّ عِنْدَ ابْتِدَاءِ كُل طَوْفَةٍ مِنَ الطَّوَافِ بِالْكَعْبَةِ اسْتِلاَمُ الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ إِنِ اسْتَطَاعَ،
__________
(1) الدسوقي 1 / 401 ومغني المحتاج 1 / 314 نشر دار إحياء التراث العربي، وكشاف القناع 2 / 58، والمغني لابن قدامة 2 / 393.
(2) بدائع الصنائع 1 / 195.(13/214)
وَيُكَبِّرُ وَيَقُول: بِاسْمِ اللَّهِ، اللَّهُ أَكْبَرُ، مَعَ رَفْعِ يَدِهِ الْيُمْنَى، وَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعِ اسْتِلاَمَهُ يُكَبِّرُ عِنْدَ مُحَاذَاتِهِ وَيُهَلِّل وَيُشِيرُ إِلَيْهِ. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَال: طَافَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبَيْتِ عَلَى بَعِيرٍ، وَكَانَ كُلَّمَا أَتَى عَلَى الرُّكْنِ أَشَارَ إِلَيْهِ بِشَيْءٍ فِي يَدِهِ وَكَبَّرَ (1) . وَهَذَا مَحَل اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ (2) .
التَّكْبِيرُ فِي السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ:
17 - مِنْ سُنَنِ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ التَّكْبِيرُ، وَيُنْدَبُ - بَعْدَ أَنْ يَرْقَى عَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَيَرَى الْكَعْبَةَ - أَنْ يُكَبِّرَ وَيُهَلِّل ثَلاَثًا، ثُمَّ يَقُول: اللَّهُ أَكْبَرُ عَلَى مَا هَدَانَا. . وَهَذَا بِلاَ خِلاَفٍ (3) .
__________
(1) حديث: " طاف النبي صلى الله عليه وسلم بالبيت على بعير وكان كلما أتى على الركن. . " أخرجه البخاري (9 / 436 ط السفلية) ، ومسلم (2 / 926 ط عيسى الحلبي) .
(2) حاشية ابن عابدين 2 / 494 الطبعة الثانية، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 41ط عيسى الحلبي بمصر، والمجموع شرح المهذب 8 / 98 ط السلفية بالمدينة المنورة، والمغني لابن قدامة 3 / 371 ط الرياض، وكشاف القناع 2 / 479، 480، والمبدع شرح المقنع 3 / 215.
(3) حاشية ابن عابدين 2 / 500 الطبعة الثانية، وبدائع الصنائع 2 / 148، 149، الطبعة الأولى، التاج والإكليل بهامش مواهب الجليل 3 / 110 ط دار الفكر، والمهذب 1 / 231، ونهاية المحتاج 3 / 285، والمغني لابن قدامة 3 / 385، 386، وكشاف القناع 2 / 486، والمبدع شرح المقنع 3 / 225.(13/215)
التَّكْبِيرُ أَثْنَاءَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ:
18 - التَّكْبِيرُ أَثْنَاءَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ مَعَ رَفْعِ الْيَدَيْنِ مَبْسُوطَتَيْنِ سُنَّةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَمَنْدُوبٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُول فِي عَرَفَةَ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ (1) .
التَّكْبِيرُ عِنْدَ رَمْيِ الْجِمَارِ:
19 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يُكَبِّرَ مَعَ رَمْيِ كُل حَصَاةٍ بِأَنْ يَقُول: بِاسْمِ اللَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ. وَيَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ مَعَ أَوَّل حَصَاةٍ (2) لِمَا رَوَى الْفَضْل بْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَزَل يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ (3) .
التَّكْبِيرُ عِنْدَ الذَّبْحِ وَالصَّيْدِ:
20 - يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُول الشَّخْصُ عِنْدَ الذَّبْحِ،
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 153ـ الطبعة الأولى، وشرح الزرقاني 2 / 279 ط دار الفكر، والتاج والإكليل بهامش مواهب الجليل 3 / 119، والمجموع شرح المهذب، والمغني لابن قدامة 3 / 411 ط الرياض.
(2) بدائع الصنائع 2 / 157، وشرح الزرقاني 2 / 282 ط دار الفكر، وجواهر الإكليل 1 / 181، والمهذب 1 / 135، والمغني لابن قدامة 3 / 427 وما بعدها، وكشاف القناع 2 / 500 ط الرياض، والمبدع شرح المقنع 3 / 329.
(3) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يلبي حتى رمى. . . . " أخرجه البخاري (3 / 519 ط السلفية) ، ومسلم (2 / 931 ط عيسى الحلبي) واللفظ له.(13/215)
وَعِنْدَ إِرْسَال الْجَارِحِ، وَرَمْيِ السَّهْمِ لِلصَّيْدِ بِسْمِ اللَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ وَهَذَا بِلاَ خِلاَفٍ (1) . لِحَدِيثِ أَنَسٍ الْوَارِدِ فِي الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَلَفْظُهُ فِي الْبُخَارِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمَّى وَكَبَّرَ (2) وَفِي مُسْلِمٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: بِسْمِ اللَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ (3) وَلِمَا رَوَى عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ قَال: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الصَّيْدِ فَقَال إِذَا رَمَيْتَ سَهْمَكَ فَاذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَإِنْ وَجَدْتَهُ قَدْ قُتِل فَكُل (4) وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَبَحَ يَوْمَ الْعِيدِ كَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ وَقَال بِسْمِ اللَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ (5) .
وَلِلتَّفْصِيل ر: (ذَبْحٌ، صَيْدٌ)
التَّكْبِيرُ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْهِلاَل:
21 - يُسْتَحَبُّ لِمَنْ رَأَى الْهِلاَل أَنْ يَقُول مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ قَال: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا رَأَى
__________
(1) حاشية ابن عابدين 6 / 301، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 106، 107، والمجموع شرح المهذب 8 / 407، 408، و 9 / 83، 102، والمغني لابن قدامة 3 / 432، 8 / 541.
(2) حديث: " سمى وكبر ". أخرجه البخاري (10 / 23ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1556 ط عيسى الحلبي) .
(3) حديث: " بسم الله والله أكبر " أخرجه مسلم (3 / 1557 ط عيسى الحلبي) .
(4) حديث " إذا رميت سهمك فاذكر اسم الله عليه فإن. . . " أخرجه البخاري (9 / 610 ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1531 ط عيسى الحلبي) . واللفظ له.
(5) حديث: " ذبح يوم العيد كبشين أملحين أقرنين وقال. . . " أخرجه مسلم (3 / 1557 ط عيسى الحلبي) .(13/216)
الْهِلاَل قَال: اللَّهُ أَكْبَرُ الْحَمْدُ لِلَّهِ لاَ حَوْل وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاَللَّهِ، إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَ هَذَا الشَّهْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ الْقَدَرِ، وَمِنْ سُوءِ الْحَشْرِ (1) .
وَعَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا رَأَى الْهِلاَل قَال: اللَّهُمَّ أَهِلَّهُ عَلَيْنَا بِالْيُمْنِ وَالسَّلاَمَةِ وَالإِْسْلاَمِ، رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ (2) .
__________
(1) حديث: " كان إذا رأى الهلال. . . " أخرجه أحمد في مسنده (5 / 329 ط المكتب الإسلامي) قال الهيثمي: رواه عبد الله والطبراني وفيه راو لم يسم (مجمع الزوائد 10 / 139 ط دار الكتاب العربي) .
(2) المغني لابن قدامة 3 / 88 ط الرياض، ورياض الصالحين للنووي ص 365 وحديث: " كان إذا رأى الهلال قال اللهم أهله باليمن والسلامة والإسلام ربي وربك الله " أخرجه الترمذي (5 / 504 ط مصطفى الحلبي) . وقال: حسن غريب، وأخرجه الحاكم (4 / 285 ط دار الكتاب العربي) . من حديث طلحة بن عبيد الله.(13/216)
تَكْبِيرَةُ الإِْحْرَامِ
التَّعْرِيفُ:
1 - تَكْبِيرَةُ الإِْحْرَامِ هِيَ: قَوْل الْمُصَلِّي لاِفْتِتَاحِ الصَّلاَةِ " اللَّهُ أَكْبَرُ " أَوْ كُل ذِكْرٍ يَصِيرُ بِهِ شَارِعًا فِي الصَّلاَةِ (1) .
وَسُمِّيَتِ التَّكْبِيرَةُ الَّتِي يَدْخُل بِهَا الصَّلاَةَ تَكْبِيرَةَ الإِْحْرَامِ لأَِنَّهَا تُحَرِّمُ الأَْشْيَاءَ الْمُبَاحَةَ الَّتِي تُنَافِي الصَّلاَةَ (2)
وَيُسَمِّيهَا الْحَنَفِيَّةُ فِي الْغَالِبِ تَكْبِيرَةَ الاِفْتِتَاحِ أَوِ التَّحْرِيمَةَ (3) .
وَالتَّحْرِيمُ جَعْل الشَّيْءِ مُحَرَّمًا وَالْهَاءُ لِتَحْقِيقِ الاِسْمِيَّةِ (4) .
وَالْحِكْمَةُ مِنَ افْتِتَاحِ الصَّلاَةِ بِالتَّكْبِيرَةِ هِيَ
__________
(1) التعريفات الفقهية للبركتي المجددي ص 235، وتحفة الفقهاء 1 / 215 ط جامعة دمشق والبناية 2 / 121.
(2) الطحطاوي على الدر 1 / 202، وكشاف القناع 1 / 330، ونهاية المحتاج 1 / 439.
(3) تحفة الفقهاء 1 / 215، وبدائع الصنائع 1 / 130، والزيلعي 1 / 103، والهداية مع شروحها 1 / 239 ط دار إحياء التراث العربي.
(4) العناية بهامش فتح القدير 1 / 239، وحاشية الشلبي بهامش الزيلعي 1 / 103.(13/217)
تَنْبِيهُ الْمُصَلِّي عَلَى عِظَمِ مَقَامِ مَنْ قَامَ لأَِدَاءِ عِبَادَتِهِ مِنْ وَصْفِهِ بِأَنْوَاعِ الْكَمَال وَأَنَّ كُل مَا سِوَاهُ حَقِيرٌ وَأَنَّهُ جَل عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ شَبِيهٌ مِنْ مَخْلُوقٍ فَانٍ، فَيَخْضَعُ قَلْبُهُ وَتَخْشَعُ جَوَارِحُهُ وَيَخْلُو قَلْبُهُ مِنَ الأَْغْيَارِ فَيَمْتَلِئُ بِالأَْنْوَارِ (1) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ تَكْبِيرَةَ الإِْحْرَامِ فَرْضٌ مِنْ فُرُوضِ الصَّلاَةِ (2) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) } وَالْمُرَادُ تَكْبِيرَةُ الإِْحْرَامِ لأَِنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} ، وَكَذَا قَوْلُهُ: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (4) } وَقَوْلُهُ: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ (5) } ، وَقَوْلُهُ: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا (6) } أَوَامِرُ وَمُقْتَضَاهَا الاِفْتِرَاضُ وَلَمْ تُفْرَضْ خَارِجَ الصَّلاَةِ فَوَجَبَ أَنْ يُرَادَ بِهَا الاِفْتِرَاضُ الْوَاقِعُ فِي الصَّلاَةِ إِعْمَالاً لِلنُّصُوصِ فِي حَقِيقَتِهَا (7) . وَلِمَا
__________
(1) الفتوحات الربانية 2 / 157، ونشر المكتبة الإسلامية، وكشاف القناع 1 / 330.
(2) عمدة القاري 5 / 268، والطحطاوي على مراقي الفلاح ص 117 نشر دار الإيمان وفتح القدير 1 / 239، والزيلعي 1 / 103، والدسوقي 1 / 231 نشر دار الفكر، والمجموع 3 / 289، ونشر السلفية، ونيل المآرب 1 / 134، والإفصاح لابن هبيرة 1 / 88.
(3) سورة المدثر / 3.
(4) سورة البقرة / 238.
(5) سورة المزمل / 20.
(6) سورة الحج / 77.
(7) فتح القدير 1 / 239.(13/217)
رَوَى عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مِفْتَاحُ الصَّلاَةِ الْوُضُوءُ وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ كَمَا قَال النَّوَوِيُّ فِي الْخُلاَصَةِ (1) .
وَذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنُ وَالْحَكَمُ وَالزُّهْرِيُّ وَالأَْوْزَاعِيُّ إِلَى أَنَّ تَكْبِيرَةَ الإِْحْرَامِ سُنَّةٌ. كَمَا رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ فِي الْمَأْمُومِ مَا يَدُل عَلَى أَنَّهُ سُنَّةٌ، وَلَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُهُ فِي الْمُنْفَرِدِ وَالإِْمَامِ أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا (2) .
3 - هَذَا وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي كَوْنِ تَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ رُكْنًا أَوْ شَرْطًا (3) .
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ تَكْبِيرَةَ الإِْحْرَامِ جُزْءٌ مِنَ الصَّلاَةِ وَرُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِهَا لاَ تَصِحُّ إِلاَّ بِهَا، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: إِنَّ هَذِهِ الصَّلاَةَ لاَ يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلاَمِ النَّاسِ إِنَّمَا
__________
(1) البناية 2 / 109، 110، والمجموع 3 / 289، وحديث: " مفتاح الصلاة الوضوء وتحريمها التكبير ". أخرجه أبو داود (1 / 49 ـ تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث علي بن أبي طالب، ونقل العيني عن النووي أنه حسنه، والبناية (2 / 110 ـ ط دار الفكر) .
(2) تفسير القرطبي 1 / 175، وعمدة القاري 5 / 268، وحاشية العدوي على شرح الرسالة 1 / 226 نشر دار المعرفة.
(3) الركن والشرط مشتركان في أن كلا منهما لا توجد العبادة بدونه لكن إذا كان داخلا في الماهية فيسمى ركنا، وإن كان خارجا فيسمى شرطا (الفتوحات الربانية 2 / 153) .(13/218)
هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ (1) فَدَل عَلَى أَنَّ التَّكْبِيرَ كَالْقِرَاءَةِ، وَلأَِنَّهُ يُشْتَرَطُ لَهَا مَا يُشْتَرَطُ لِلصَّلاَةِ مِنَ اسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ وَالطَّهَارَةِ وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ وَهِيَ أَمَارَةُ الرُّكْنِيَّةِ، وَلأَِنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَدَاءُ صَلاَةٍ بِتَحْرِيمَةِ صَلاَةٍ أُخْرَى وَلَوْلاَ أَنَّهَا مِنَ الأَْرْكَانِ لَجَازَ كَسَائِرِ الشُّرُوطِ (2) .
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ أَنَّهَا شَرْطٌ خَارِجَ الصَّلاَةِ وَلَيْسَتْ مِنْ نَفْسِ الصَّلاَةِ (3) . وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (4) } عَطَفَ الصَّلاَةَ عَلَى الذِّكْرِ، وَالذِّكْرُ الَّذِي تَعْقُبُهُ الصَّلاَةُ بِلاَ فَصْلٍ لَيْسَ إِلاَّ التَّحْرِيمَةُ فَيَقْتَضِي هَذَا النَّصُّ أَنْ يَكُونَ التَّكْبِيرُ خَارِجَ الصَّلاَةِ لأَِنَّ مُقْتَضَى الْعَطْفِ الْمُغَايِرَةُ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ إِذِ الشَّيْءُ لاَ يُعْطَفُ عَلَى نَفْسِهِ (5) . وَقَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ (6)
__________
(1) حديث: " إن هذه الصلاة لا يصح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن ". أخرجه مسلم (1 / 381، 382 ط الحلبي) من حديث معاوية بن الحكم المسلمي.
(2) الزيلعي 1 / 103، والبناية 2 / 111، 112، والمجموع 3 / 289، 290، والفتوحات الربانية2 / 153، والمغني لابن قدامة1 / 461، والدسوقي 1 / 231.
(3) الزيلعي 1 / 103، والبناية 2 / 111، والفتوحات الربانية 2 / 154.
(4) سورة الأعلى / 15.
(5) الزيلعي 1 / 103، والبناية 2 / 112، وفتح الباري 2 / 217، والفتوحات الربانية 2 / 154، 155.
(6) حديث: " تحريمها التكبير " سبق تخريجه (ف2) .(13/218)
فَأَضَافَ التَّحْرِيمَ إِلَى الصَّلاَةِ وَالْمُضَافُ غَيْرُ الْمُضَافِ إِلَيْهِ لأَِنَّ الشَّيْءَ لاَ يُضَافُ إِلَى نَفْسِهِ، وَلأَِجْل أَنَّ تَكْبِيرَةَ الإِْحْرَامِ شَرْطٌ فَهُوَ لاَ يَتَكَرَّرُ كَتَكْرَارِ الأَْرْكَانِ فِي كُل صَلاَةٍ كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَلَوْ كَانَ رُكْنًا لَتَكَرَّرَ كَمَا تُكَرُّرُ الأَْرْكَانُ. كَمَا عَلَّلُوا كَوْنَ تَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ شَرْطًا بِأَنَّ الرُّكْنَ هُوَ الدَّاخِل فِي الْمَاهِيَّةِ وَالْمُصَلِّي لاَ يَدْخُل فِي الصَّلاَةِ إِلاَّ بِفَرَاغِهِ مِنْ تَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ (1) . وَلِلتَّوَسُّعِ فِيمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْخِلاَفِ فِي كَوْنِ تَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ شَرْطًا أَوْ رُكْنًا تُنْظَرُ أَبْوَابُ صِفَةِ الصَّلاَةِ مِنَ الْكُتُبِ الْفِقْهِيَّةِ.
شُرُوطُ صِحَّةِ تَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ: مُقَارَنَتُهَا لِلنِّيَّةِ:
4 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَفْضَلِيَّةِ مُقَارَنَةِ تَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ لِلنِّيَّةِ. وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ تَقْدِيمِ النِّيَّةِ عَلَى التَّكْبِيرِ. فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ إِلَى جَوَازِ تَقْدِيمِ النِّيَّةِ عَلَى التَّكْبِيرِ فِي الْجُمْلَةِ وَقَالُوا: لَوْ نَوَى عِنْدَ الْوُضُوءِ إِنَّهُ يُصَلِّي الظُّهْرَ مَثَلاً وَلَمْ يَشْتَغِل بَعْدَ النِّيَّةِ بِعَمَلٍ يَدُل عَلَى الإِْعْرَاضِ كَأَكْلٍ وَشُرْبٍ وَكَلاَمٍ وَنَحْوِهَا ثُمَّ انْتَهَى إِلَى مَحَل الصَّلاَةِ وَلَمْ تَحْضُرْهُ النِّيَّةُ جَازَتْ صَلاَتُهُ
__________
(1) الزيلعي 1 / 103، والبناية 2 / 112، والفتوحات الربانية 2 / 155.(13/219)
بِالنِّيَّةِ السَّابِقَةِ (1) .، لأَِنَّ الصَّلاَةَ عِبَادَةٌ فَجَاءَ تَقْدِيمُ نِيَّتِهَا عَلَيْهَا كَالصَّوْمِ وَتَقْدِيمُ النِّيَّةِ عَلَى الْفِعْل لاَ يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ مَنْوِيًّا.
وَهَذَا مَا يُعَبِّرُ عَنْهُ الْحَنَفِيَّةُ بِالْمُقَارَنَةِ الْحُكْمِيَّةِ (2) .
وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا الْفَرِيقُ شُرُوطًا لِجَوَازِ تَقْدِيمِ النِّيَّةِ عَلَى التَّكْبِيرِ تُنْظَرُ فِي أَبْوَابِ الصَّلاَةِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ وَفِي مُصْطَلَحِ: (نِيَّةٌ) .
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْقَوْل الآْخَرِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وُجُوبَ مُقَارَنَةِ النِّيَّةِ لِلتَّكْبِيرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ (3) } فَقَوْلُهُ: {مُخْلِصِينَ} حَالٌ لَهُمْ فِي وَقْتِ الْعِبَادَةِ، فَإِنَّ الْحَال وَصْفُ هَيْئَةِ الْفَاعِل وَقْتَ الْفِعْل، وَالإِْخْلاَصُ هُوَ النِّيَّةُ، وَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا الأَْعْمَال بِالنِّيَّاتِ (4) وَلأَِنَّ النِّيَّةَ شَرْطٌ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَخْلُوَ الْعِبَادَةُ عَنْهَا كَسَائِرِ الشُّرُوطِ.
وَاخْتَارَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ وَالْوَسِيطِ تَبَعًا لإِِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيِّ الاِكْتِفَاءَ بِالْمُقَارَنَةِ
__________
(1) مراقي الفلاح ص 118، والمغني 1 / 469، والإفصاح لابن هبيرة 1 / 88، وحاشية العدوي على شرح الرسالة 1 / 277، نشر دار المعرفة.
(2) مراقي الفلاح ص 118، والمغني 1 / 469.
(3) سورة البينة / 5.
(4) حديث: " إنما الأعمال بالنيات " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 9 ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1515 ـ ط الحلبي) من حديث عمر بن الخطاب.(13/219)
الْعُرْفِيَّةِ عِنْدَ الْعَوَامِّ بِحَيْثُ يُعَدُّ مُسْتَحْضِرًا لِلصَّلاَةِ اقْتِدَاءً بِالأَْوَّلِينَ فِي تَسَامُحِهِمْ بِذَلِكَ (1) . أَمَّا إِذَا تَأَخَّرَتِ النِّيَّةُ عَنْ تَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ فَلاَ تُجْزِئُ التَّكْبِيرَةُ وَتَكُونُ الصَّلاَةُ بَاطِلَةً؛ لأَِنَّ الصَّلاَةَ عِبَادَةٌ وَهِيَ لاَ تَتَجَزَّأُ وَلَوْ جَازَ تَأْخِيرُ النِّيَّةِ لَوَقَعَ الْبَعْضُ الَّذِي لاَ نِيَّةَ فِيهِ غَيْرَ عِبَادَةٍ وَمَا فِيهِ نِيَّةُ عِبَادَةٌ فَيَلْزَمُ التَّجَزُّؤُ.
بِهَذَا قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ (2)
وَلِلتَّفْصِيل (ر: نِيَّةٌ) .
الإِْتْيَانُ بِتَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ قَائِمًا:
5 - يَجِبُ أَنْ يُكَبِّرَ الْمُصَلِّي قَائِمًا فِيمَا يُفْتَرَضُ لَهُ الْقِيَامُ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ وَكَانَتْ بِهِ بَوَاسِيرُ صَل قَائِمًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ (3) وَزَادَ النَّسَائِيُّ فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَمُسْتَلْقِيًا. وَيَتَحَقَّقُ الْقِيَامُ بِنَصْبِ الظَّهْرِ فَلاَ يُجْزِئُ إِيقَاعُ تَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ جَالِسًا أَوْ مُنْحَنِيًا وَالْمُرَادُ بِالْقِيَامِ مَا يَعُمُّ الْحُكْمِيَّ لِيَشْمَل الْقُعُودَ فِي نَحْوِ الْفَرَائِضِ لِعُذْرٍ.
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 152، والمغني لابن قدامة 1 / 469، وحاشية العدوي على شرح الرسالة 1 / 227.
(2) مراقي الفلاح ص 119، وحاشية العدوي على شرح الرسالة 1 / 227.
(3) حديث: " صل قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب " أخرجه البخاري (الفتح 2 / 587 - ط السلفية) .(13/220)
قَال الطَّحَاوِيُّ: لَيْسَ الشَّرْطُ عَدَمَ الاِنْحِنَاءِ أَصْلاً، بَل عَدَمُ الاِنْحِنَاءِ الْمُتَّصِفِ بِكَوْنِهِ أَقْرَبَ إِلَى الرُّكُوعِ مِنَ الْقِيَامِ (1) . وَلِلْفُقَهَاءِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ فِي انْعِقَادِ صَلاَةِ الْمَسْبُوقِ إِذَا أَدْرَكَ الإِْمَامَ رَاكِعًا فَحَنَى ظَهْرَهُ ثُمَّ كَبَّرَ: (يُنْظَرُ فِي مَسْبُوقٌ) .
النُّطْقُ بِتَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ:
6 - يَجِبُ عَلَى الْمُصَلِّي النُّطْقُ بِتَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ بِحَيْثُ يُسْمِعُ نَفْسَهُ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ بِهِ عَارِضٌ مِنْ طَرَشٍ أَوْ مَا يَمْنَعُهُ السَّمَاعَ فَيَأْتِي بِهِ بِحَيْثُ لَوْ كَانَ سَمِيعًا أَوْ لاَ عَارِضَ بِهِ لَسَمِعَهُ (2) . أَمَّا تَكْبِيرُ مَنْ كَانَ بِلِسَانِهِ خَبَلٌ أَوْ خَرَسٌ فَيُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (خَرَسٌ) .
كَوْنُ تَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ بِالْعَرَبِيَّةِ:
7 - لاَ تَجُوزُ تَكْبِيرَةُ الإِْحْرَامِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ لِمَنْ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ، بِهَذَا قَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ. وَأَمَّا مَنْ لَمْ يُحْسِنِ الْعَرَبِيَّةَ فَيَجُوزُ لَهُ التَّكْبِيرُ بِلُغَتِهِ فِي الْجُمْلَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ
__________
(1) مراقي الفلاح ص 119، وفتح القدير الخبير بشرح تيسير التحرير للشرقاوي 1 / 55 ط الحلبي، وحاشية العدوي على شرح الرسالة 1 / 226، والمغني لابن قدامة 1 / 493.
(2) مراقي الفلاح ص 119، والمغني لابن قدامة 1 / 461، ونهاية المحتاج 1 / 441، والمجموع 3 / 295.(13/220)
وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لأَِنَّ التَّكْبِيرَ ذِكْرٌ لِلَّهِ، وَذِكْرُ اللَّهِ يَحْصُل بِكُل لِسَانٍ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى بِعَدَمِ إِجْزَاءِ مُرَادِفِ تَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ بِعَرَبِيَّةٍ وَلاَ عَجَمِيَّةٍ فَإِنْ عَجَزَ عَنِ النُّطْقِ بِهَا سَقَطَتْ كَكُل فَرْضٍ (2) .
وَأَجَازَ أَبُو حَنِيفَةَ تَرْجَمَةَ تَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ لِمَنْ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ وَلِغَيْرِهِ، وَقَال لَوِ افْتَتَحَ الصَّلاَةَ بِالْفَارِسِيَّةِ وَهُوَ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ أَجْزَأَهُ.
وَفِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ لَوْ كَبَّرَ بِالْفَارِسِيَّةِ أَوْ بِأَيِّ لِسَانٍ سَوَاءٌ كَانَ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ أَوْ لاَ جَازَ بِاتِّفَاقِ الإِْمَامِ وَصَاحِبَيْهِ (3) ، وَهَذَا يَعْنِي رُجُوعَ الصَّاحِبَيْنِ إِلَى قَوْل الإِْمَامِ فِي جَوَازِ التَّكْبِيرِ بِالْعَجَمِيَّةِ.
وَلِلتَّفْصِيل (ر: تَرْجَمَةٌ ف 9 ج 11 ص 170) وَأَبْوَابُ الصَّلاَةِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ.
الشُّرُوطُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِلَفْظِ تَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ:
8 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي انْعِقَادِ الصَّلاَةِ بِقَوْل الْمُصَلِّي (اللَّهُ أَكْبَرُ) ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِيمَا عَدَاهُ مِنْ
__________
(1) المجموع 3 / 301، والمغني 1 / 462، والبناية 2 / 125، وبدائع الصنائع 1 / 131، والشرح الصغير 1 / 306، والتاج والإكليل بهامش الحطاب 1 / 515.
(2) الشرح الصغير 1 / 306، والتاج والإكليل بهامش الحطاب 1 / 515، والمغني لابن قدامة 1 / 462، 463.
(3) ابن عابدين 1 / 325، 326، والبناية 2 / 124، وبدائع الصنائع 1 / 131، والمجموع 3 / 301.(13/221)
أَلْفَاظِ التَّعْظِيمِ هَل يَقُومُ مَقَامَهُ (1) ؟ فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الصَّلاَةَ لاَ تَنْعَقِدُ إِلاَّ بِقَوْل (اللَّهُ أَكْبَرُ) وَلاَ يُجْزِئُ عِنْدَهُمْ غَيْرُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ بِشُرُوطِهَا الَّتِي ذَكَرُوهَا بِالتَّفْصِيل فِي كُتُبِهِمْ وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ (2)
وَقَال لِلْمُسِيءِ صَلاَتَهُ: إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلاَةِ فَكَبِّرْ (3) وَفِي حَدِيثِ رِفَاعَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ تَتِمُّ صَلاَةٌ لأَِحَدٍ مِنَ النَّاسِ حَتَّى يَتَوَضَّأَ فَيَضَعَ الْوُضُوءَ مَوَاضِعَهُ ثُمَّ يَقُول: اللَّهُ أَكْبَرُ (4) وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْتَتِحُ الصَّلاَةَ بِقَوْلِهِ: اللَّهُ أَكْبَرُ (5) وَلَمْ يُنْقَل عَنْهُ الْعُدُول عَنْ ذَلِكَ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا. وَهَذَا يَدُل عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الْعُدُول عَنْهُ (6) . وَيَقُول الشَّافِعِيَّةُ بِمِثْل
__________
(1) الإفصاح 1 / 89.
(2) حديث: " تحريمها التكبير " سبق تخريجه (ف 2) .
(3) حديث: " إذا قمت إلى الصلاة فكبر ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 237 - ط السلفية) من حديث أبي هريرة.
(4) حديث: " لا يقبل الله صلاة امرئ حتى يضع الوضوء مواضعه ثم يقول الله أكبر ". أخرجه الطبراني في الكبير بهذا اللفظ ورجاله رجال الصحيح كما قال الهيثمي في مجمع الزوائد (2 / 104) . وقد أخرج الحديث أبو داود وصححه الحاكم ووافقه الذهبي عدا قوله (الله أكبر) سنن أبي داود 1 / 537 تحقيق عزت عبيد دعاس، والمستدرك 1 / 242 ط دائرة المعارف العثمانية.
(5) حديث: " كان النبي صلى الله عليه وسلم يفتتح الصلاة بقوله " الله أكبر " أخرجه البخاري (الفتح 2 / 221، 222 ط السلفية) من حديث عبد الله بن عمر.
(6) المغني لابن قدامة 1 / 460، والفواكه الدواني 1 / 203، 204.(13/221)
مَا قَال بِهِ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ مِنْ أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ عَلَى الْقَادِرِ كَلِمَةُ التَّكْبِيرِ وَلاَ يُجْزِئُ مَا قَرُبَ مِنْهَا كَ: الرَّحْمَنُ أَجَل، وَالرَّبُّ أَعْظَمُ " إِلاَّ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ عَلَى الْمَشْهُورِ بِأَنَّ الزِّيَادَةَ الَّتِي لاَ تَمْنَعُ اسْمَ التَّكْبِيرِ: كَاللَّهُ الأَْكْبَرُ " لاَ تَضُرُّ؛ لأَِنَّهُ لَفْظٌ يَدُل عَلَى التَّكْبِيرِ وَعَلَى زِيَادَةِ مُبَالَغَةٍ فِي التَّعْظِيمِ وَهُوَ الإِْشْعَارُ بِالتَّخْصِيصِ فَصَارَ كَقَوْلِهِ اللَّهُ أَكْبَرُ مِنْ كُل شَيْءٍ. وَكَذَا لاَ يَضُرُّ عِنْدَهُمُ (اللَّهُ أَكْبَرُ وَأَجَل) وَكَذَا كُل صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ تَعَالَى إِذَا لَمْ يَطُل بِهَا الْفَصْل كَقَوْلِهِ: اللَّهُ عَزَّ وَجَل أَكْبَرُ، لِبَقَاءِ النَّظْمِ وَالْمَعْنَى، بِخِلاَفِ مَا لَوْ تَخَلَّل غَيْرُ صِفَاتِهِ تَعَالَى أَوْ طَالَتْ صِفَاتُهُ تَعَالَى (1) .
وَيَرَى إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ صِحَّةَ الشُّرُوعِ فِي الصَّلاَةِ بِكُل ذِكْرٍ هُوَ ثَنَاءٌ خَالِصٌ لِلَّهِ تَعَالَى يُرَادُ بِهِ تَعْظِيمُهُ لاَ غَيْرُ مِثْل أَنْ يَقُول: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ الأَْكْبَرُ، اللَّهُ الْكَبِيرُ، اللَّهُ أَجَل، اللَّهُ أَعْظَمُ، أَوْ يَقُول: الْحَمْدُ لِلَّهِ أَوْ سُبْحَانَ اللَّهِ، أَوْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَكَذَلِكَ كُل اسْمٍ ذُكِرَ مَعَ الصِّفَةِ نَحْوُ أَنْ يَقُول: الرَّحْمَنُ أَعْظَمُ، الرَّحِيمُ أَجَل، سَوَاءٌ كَانَ يُحْسِنُ التَّكْبِيرَ أَوْ لاَ يُحْسِنُ.
وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (2) } وَالْمُرَادُ مِنْهُ ذِكْرُ اسْمِ الرَّبِّ لاِفْتِتَاحِ
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 151 وروضة الطالبين 1 / 229، والمغني لابن قدامة 1 / 460.
(2) سورة الأعلى / 15.(13/222)
الصَّلاَةِ لأَِنَّهُ عَقَّبَ الصَّلاَةَ الذِّكْرَ بِحَرْفٍ يُوجِبُ التَّعْقِيبَ بِلاَ فَصْلٍ، وَالذِّكْرُ الَّذِي تَتَعَقَّبُهُ الصَّلاَةُ بِلاَ فَصْلٍ هُوَ تَكْبِيرَةُ الاِفْتِتَاحِ، فَقَدْ شُرِعَ الدُّخُول فِي الصَّلاَةِ بِمُطْلَقِ الذِّكْرِ فَلاَ يَجُوزُ التَّقْيِيدُ بِاللَّفْظِ الْمُشْتَقِّ مِنَ الْكِبْرِيَاءِ بِأَخْبَارِ الآْحَادِ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْحُكْمَ تَعَلَّقَ بِتِلْكَ الأَْلْفَاظِ مِنْ حَيْثُ هِيَ مُطْلَقُ الذِّكْرِ، لاَ مِنْ حَيْثُ هِيَ ذِكْرٌ بِلَفْظٍ خَاصٍّ. وَلأَِنَّ التَّكْبِيرَ هُوَ التَّعْظِيمُ فَكُل لَفْظٍ دَل عَلَى التَّعْظِيمِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الشُّرُوعُ بِهِ، وَفِي سُنَنِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ أَنَّ أَبَا الْعَالِيَةِ سُئِل بِأَيِّ شَيْءٍ كَانَ الأَْنْبِيَاءُ يَفْتَتِحُونَ الصَّلاَةَ؟ قَال بِالتَّوْحِيدِ وَالتَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيل (1) .
وَقَال أَبُو يُوسُفَ لاَ يَصِيرُ شَارِعًا إِلاَّ بِأَلْفَاظٍ مُشْتَقَّةٍ مِنَ التَّكْبِيرِ وَهِيَ ثَلاَثَةٌ: اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ الأَْكْبَرُ، اللَّهُ الْكَبِيرُ، إِلاَّ إِذَا كَانَ لاَ يُحْسِنُ التَّكْبِيرَ أَوْ لاَ يَعْلَمُ أَنَّ الشُّرُوعَ بِالتَّكْبِيرِ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَالتَّكْبِيرُ حَاصِلٌ بِهَذِهِ الأَْلْفَاظِ الثَّلاَثَةِ (2) .
وَمِمَّا يَتَّصِل بِالشُّرُوطِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِلَفْظِ التَّكْبِيرِ: أَنَّ الْفُقَهَاءَ اتَّفَقُوا عَلَى وُجُوبِ تَقْدِيمِ لَفْظِ الْجَلاَلَةِ عَلَى (أَكْبَرُ) فِي التَّكْبِيرِ، فَإِنْ نَكَّسَهُ
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 130، ومراقي الفلاح ص 121، والبناية في شرح الهداية 2 / 122، 123.
(2) بدائع الصنائع 1 / 130، وحديث " وتحريمها التكبير. . . " تقدم تخريجه ف / 20.(13/222)
لاَ يَصِحُّ لأَِنَّهُ لاَ يَكُونُ تَكْبِيرًا، كَمَا أَنَّهُ لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي وُجُوبِ الاِحْتِرَازِ فِي التَّكْبِيرِ عَنْ زِيَادَةِ تَغَيُّرِ الْمَعْنَى. فَمَنْ قَال: (آللَّهُ أَكْبَرُ) بِمَدِّ هَمْزَةِ " اللَّهُ " أَوْ بِهَمْزَتَيْنِ أَوْ قَال اللَّهُ أَكْبَارُ (1) لَمْ يَصِحَّ تَكْبِيرُهُ (2) .
وَلَمْ يَخْتَلِفُوا كَذَلِكَ فِي أَنَّ زِيَادَةَ الْمَدِّ عَلَى الأَْلِفِ الَّتِي بَيْنَ اللاَّمِ وَالْهَاءِ مِنْ لَفْظِ الْجَلاَلَةِ لاَ تَضُرُّ؛ لأَِنَّ زِيَادَةَ الْمَدِّ إِشْبَاعٌ لأَِنَّ اللاَّمَ مَمْدُودَةٌ فَغَايَتُهُ أَنَّهُ زَادَ فِي مَدِّ اللاَّمِ وَلَمْ يَأْتِ بِحَرْفٍ زَائِدٍ (3) .
وَأَلْحَقَ الشَّافِعِيَّةُ بِمُبْطِلاَتِ التَّكْبِيرِ زِيَادَةَ وَاوٍ سَاكِنَةٍ أَوْ مُتَحَرِّكَةٍ بَيْنَ كَلِمَتَيِ التَّكْبِيرِ (4) .
وَيَقُول الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ زِيَادَةَ وَاوٍ قَبْل هَمْزَةِ اللَّهُ أَكْبَرُ أَوْ قَلْبُ الْهَمْزَةِ وَاوًا لاَ يَبْطُل بِهِ الإِْحْرَامُ، إِلاَّ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ بِبُطْلاَنِ الإِْحْرَامِ بِالْجَمْعِ بَيْنَ إِشْبَاعِ الْهَاءِ مِنَ (اللَّهُ) وَزِيَادَةِ وَاوٍ مَعَ هَمْزَةِ " أَكْبَرُ (5) ".
__________
(1) أكبار: جمع كبر بفتح الكاف وهو الطبل (كشاف القناع 1 / 330) .
(2) الإقناع للشربيني الخطيب 1 / 120، والمغني 1 / 461، والطحطاوي على مراقي الفلاح ص 121، والفواكه الدواني 1 / 204، والزرقاني 1 / 194، والمجموع 3 / 292، وكشاف القناع 1 / 330.
(3) كشاف القناع 1 / 330، والمجموع 3 / 293، والجوهرة النيرة 1 / 61، والخرشي مع حاشية العدوي عليه 1 / 265، والزرقاني 1 / 194، 195.
(4) الإقناع 1 / 120، والمجموع 3 / 292.
(5) الفواكه الدواني 1 / 204.(13/223)
أَمَّا مُجَرَّدُ إِشْبَاعِ الْهَاءِ مِنْ لَفْظِ الْجَلاَلَةِ وَإِنْ كَانَ خَطَأً لُغَةً إِلاَّ أَنَّهُ لاَ تَفْسُدُ بِهِ الصَّلاَةُ، بِهَذَا صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ (1) ، كَمَا أَنَّ فُقَهَاءَ الْمَذَاهِبِ الأُْخْرَى لَمْ يَعُدُّوهُ مِنْ مُبْطِلاَتِ الإِْحْرَامِ (2) .
أَمَّا تَشْدِيدُ الرَّاءِ مِنْ (أَكْبَرُ) فَيَبْطُل بِهِ الإِْحْرَامُ بِالصَّلاَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ مَا أَفْتَى بِهِ ابْنُ رَزِينٍ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ. وَقَال الرَّمْلِيُّ وَابْنُ الْعِمَادِ وَغَيْرُهُمَا: إِنَّهُ لاَ يَضُرُّ لأَِنَّ الرَّاءَ حَرْفُ تَكْرِيرٍ وَزِيَادَتُهُ لاَ تُغَيِّرُ الْمَعْنَى (3) .
هَذَا وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَنَّ الْوَقْفَةَ الطَّوِيلَةَ بَيْنَ (اللَّهُ) (وَأَكْبَرُ) مُبْطِلَةٌ لِلإِْحْرَامِ بِالصَّلاَةِ، أَمَّا الْوَقْفَةُ الْيَسِيرَةُ بَيْنَهُمَا فَلاَ يَبْطُل بِهَا الإِْحْرَامُ (4) .
وَيَبْقَى التَّنْوِيهُ بِأَنَّ الْفُقَهَاءَ ذَكَرُوا شُرُوطًا كَثِيرَةً لِصِحَّةِ تَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ.
وَبِتَتَبُّعِ عِبَارَاتِ هَؤُلاَءِ الْفُقَهَاءِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ مُعْظَمَ الشُّرُوطِ الَّتِي ذَكَرُوهَا هِيَ نَفْسُهَا شُرُوطٌ لِلصَّلاَةِ كَدُخُول الْوَقْتِ وَاعْتِقَادِ دُخُولِهِ وَالطُّهْرِ مِنَ الْحَدَثِ وَالْخَبَثِ وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ وَالاِسْتِقْبَال
__________
(1) مراقي الفلاح ص 121.
(2) حاشية العدوي على الخرشي 1 / 265، والفواكه الدواني 1 / 204، والإقناع 1 / 120، وكشاف القناع 1 / 330.
(3) حاشية العدوي على الخرشي 1 / 265، ونهاية المحتاج 1 / 440.
(4) الإقناع للشربيني الخطيب 1 / 120، والمجموع 3 / 292، والفواكه الدواني 1 / 204.(13/223)
وَتَعْيِينِ الْفَرْضِ فِي ابْتِدَاءِ الشُّرُوعِ وَنِيَّةِ اتِّبَاعِ الإِْمَامِ مَعَ نِيَّةِ أَصْل الصَّلاَةِ لِلْمُقْتَدِي (1) .
وَنَظَرًا لأَِنَّ هَذِهِ الشُّرُوطَ تُذْكَرُ بِالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (صَلاَةٌ، وَنِيَّةٌ، وَاقْتِدَاءٌ) فَقَدِ اكْتَفَى هُنَا بِذِكْرِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الشُّرُوطِ، فَمَنْ أَرَادَ التَّوَسُّعَ فَلْيُرَاجِعْ هَذِهِ الْمُصْطَلَحَاتِ وَأَبْوَابَ صِفَةِ الصَّلاَةِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ.
__________
(1) ابن عابدين 1 / 303، وحاشية الطحطاوي على الدر 1 / 205، وحاشية العدوي على الخرشي 1 / 265، والإقناع 1 / 120، ومراقي الفلاح ص 121، والخرشي 1 / 265، والإقناع 1 / 120، وكشاف القناع 1 / 330.(13/224)
تَكْرَارٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّكْرَارُ: الإِْتْيَانُ بِالشَّيْءِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَهُوَ اسْمُ مَصْدَرٍ مِنَ التَّكْرِيرِ. مَصْدَرُ كَرَّرَ وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِكَلِمَةِ " التَّكْرَارِ " عَنْ هَذَا الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الإِْعَادَةُ: 2 - مِنْ مَعَانِي الإِْعَادَةِ: فِعْل الشَّيْءِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى. وَلِتَفْصِيل بَاقِي مَعَانِيهَا يُرْجَعُ إِلَى مُصْطَلَحِ " إِعَادَةٌ ". وَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّكْرَارِ، وَبَيْنَ الإِْعَادَةِ - بِهَذَا الْمَعْنَى -: أَنَّ التَّكْرَارَ يَقَعُ عَلَى إِعَادَةِ الشَّيْءِ مَرَّةً وَمَرَّاتٍ، وَالإِْعَادَةُ لِلْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ (2) فَكُل إِعَادَةٍ تَكْرَارٌ، وَلَيْسَ الْعَكْسُ.
حُكْمُهُ الإِْجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُهُ: 3 - يَخْتَلِفُ حُكْمُ التَّكْرَارِ بِاخْتِلاَفِ مَوَاطِنِهِ:
__________
(1) مختار الصحاح، ولسان العرب المحيط مادة: " كرر "، والتعريفات للجرجاني ص 58.
(2) الفروق لأبي هلال العسكري ص 30، طبع بيروت.(13/224)
فَقَدْ يَكُونُ مُبَاحًا، كَتَكْرَارِ صَلاَةِ الاِسْتِسْقَاءِ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (1) . وَقَال إِسْحَاقُ: لاَ يَخْرُجُ النَّاسُ إِلاَّ مَرَّةً وَاحِدَةً (2) . وَهُوَ وَجْهٌ لِلشَّافِعِيَّةِ أَيْضًا (3) . وَقَدْ يَكُونُ مَنْدُوبًا: كَتَكْرَارِ عَرْضِ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ثَلاَثًا عِنْدَ النُّكُول (4) .
وَقَدْ يَكُونُ سُنَّةً: كَتَكْرَارِ الْغُسْل فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْل عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (5) . وَأَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَمُسْتَحَبٌّ (6) .
وَكَذَلِكَ تَكْرَارُ مَسْحِ الرَّأْسِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (7) . وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ (8) .
وَأَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ فَلاَ يُسَنُّ.
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِهِ سَالِمٍ،
__________
(1) ابن عابدين 1 / 567، والحطاب 2 / 205، وروضة الطالبين 2 / 90، 91، والمغني 2 / 439، ونيل المآرب 1 / 213.
(2) المغني 2 / 439.
(3) روضة الطالبين 2 / 91.
(4) فتح القدير 7 / 167، 168، والقليوبي 4 / 342، والمغني 9 / 236.
(5) فتح القدير 1 / 27، 51، والقليوبي 1 / 53، 67، والمغني 1 / 139، 217.
(6) القوانين الفقهية لابن جزي 28، 31.
(7) القليوبي 1 / 53.
(8) المغني 1 / 127.(13/225)
وَالنَّخَعِيِّ، وَمُجَاهِدٍ، وَطَلْحَةَ بْنِ مُصْرِفٍ، وَالْحَكَمِ، وَقَال التِّرْمِذِيُّ: وَالْعَمَل عَلَيْهِ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْل الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ (1) .
وَقَدْ يَكُونُ وَاجِبًا: كَتَكْرَارِ سَجْدَةِ التِّلاَوَةِ بِتَكْرِيرِ تِلاَوَةِ سَجْدَةٍ وَاحِدَةٍ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَصْل الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ بِتَكْرِيرِ السَّجْدَةِ إِنْ كَرَّرَ مُوجِبَهَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ. لِوُجُودِ الْمُقْتَضِي لِلسُّجُودِ إِلاَّ الْمُعَلِّمُ وَالْمُتَعَلِّمُ (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنْ كَرَّرَ الآْيَةَ الْوَاحِدَةَ فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ، أَجْزَأَتْهُ سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ (3) ، وَفِي الْمَوْضُوعِ تَفْصِيلٌ - يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى (سَجْدَةُ التِّلاَوَةِ) .
وَقَدْ يَكُونُ مَكْرُوهًا: كَتَكْرَارِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (4) ، أَوْ غَيْرُ جَائِزٍ كَتَكْرَارِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ (5) . وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لاَ يَجِبُ تَكْرَارُهُ، بَل لاَ يُسَنُّ (6) .
__________
(1) فتح القدير 1 / 30، والقوانين الفقهية 27، والمغني 1 / 127، وكشاف القناع 1 / 118.
(2) كشاف القناع 1 / 449، وشرح الزرقاني 1 / 277، و 278.
(3) فتح القدير 1 / 473، 474، 475، وروضة الطالبين 1 / 320.
(4) القليوبي 1 / 60.
(5) فتح القدير 1 / 131، والحطاب 1 / 361.
(6) كشاف القناع 1 / 118.(13/225)
وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ التَّكْرَارِ أَوْ عَدَمِ وُجُوبِهِ فِي مَسَائِل، وَاخْتَلَفُوا فِي أُخْرَى.
فَمِنَ الْمَسَائِل الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا:
4 - عَدَمُ جَوَازِ تَكْرَارِ سُجُودِ السَّهْوِ (1) ، وَعَدَمُ تَكْرَارِ الْحَجِّ وُجُوبًا؛ لأَِنَّ سَبَبَهُ الْبَيْتُ، وَأَنَّهُ لاَ يَتَعَدَّدُ، فَلاَ يَتَكَرَّرُ الْوُجُوبُ (2) . وَعَدَمُ جَوَازِ تَكْرَارِ الْحَدِّ، فَإِنَّ مَنْ كَرَّرَ جَرَائِمَ السَّرِقَةِ، أَوِ الزِّنَى، أَوِ الشُّرْبِ، أَوِ الْقَذْفِ، قَبْل إِقَامَةِ الْحَدِّ، أُقِيمَ عَلَيْهِ حَدٌّ وَاحِدٌ، وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهُ يُحَدُّ حَدًّا ثَانِيًا (3) .
وَمِنَ الْمَسَائِل الْمُخْتَلَفِ فِيهَا:
5 - تَكْرَارُ السَّرِقَةِ بَعْدَ قَطْعِ يَدِهِ وَرِجْلِهِ، فَفِيهِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى مُصْطَلَحِ " سَرِقَةٌ " وَإِلَى مَوْطِنِهِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ (4) . وَتَكْرَارُ صَلاَةِ الْكُسُوفِ (5) وَقَبُول تَوْبَةِ مَنْ تَكَرَّرَتْ رِدَّتُهُ
__________
(1) فتح القدير 1 / 436، وشرح الزرقاني 1 / 233، وروضة الطالبين 1 / 310، والمغني 2 / 39.
(2) فتح القدير 2 / 322، 323، والقوانين الفقهية لابن جزي 132، والقليوبي 2 / 84، والمغني 3 / 217.
(3) ابن عابدين 3 / 172، 174، 207، والحطاب 6 / 313، 301، والقوانين الفقهية لابن جزي 362، وروضة الطالبين 10 / 151، والمغني 8 / 235.
(4) ابن عابدين 3 / 206، والقوانين الفقهية لابن جزي 365، وروضة الطالبين 10 / 149، والمغني 8 / 264.
(5) ابن عابدين 1 / 565، والحطاب 2 / 204، وروضة الطالبين 2 / 83، ونيل المآرب 1 / 210.(13/226)
- وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ - وَلِتَفْصِيل ذَلِكَ يُرْجَعُ إِلَى مُصْطَلَحَيْ (صَلاَةُ الْكُسُوفِ، وَتَوْبَةٌ) وَمَوَاطِنِهَا مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ (1) .
وَمِنْهَا تَكْرِيرُ الإِْقْرَارِ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ: فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَفِيَّةُ - مَا عَدَا زُفَرَ - إِلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ تَكْرِيرُ الإِْقْرَارِ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ، وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ وَزُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَابْنُ شُبْرُمَةَ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى تَكْرِيرَ الاِعْتِرَافِ مَرَّتَيْنِ، وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَيْضًا (2) .
وَفِي تَكْرَارِ الطَّلاَقِ لِمَدْخُولٍ بِهَا وَغَيْرِ مَدْخُولٍ بِهَا، وَتَكْرَارُ الطَّلاَقِ مَعَ الْعَطْفِ وَعَدَمِهِ، وَتَكْرَارُ يَمِينِ الإِْيلاَءِ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، وَتَكْرَارُ الظِّهَارِ وَأَثَرُهُ فِي تَحْرِيمِ الزَّوْجَةِ، وَتَعَدُّدِ الْكَفَّارَةِ، خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى مُصْطَلَحِ (اتِّحَادُ الْمَجْلِسِ) الْمَوْسُوعَةِ 2 23، 24 وَمَوَاطِنِهَا مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ (3) . وَأَمَّا مَسْأَلَةُ اقْتِضَاءِ الأَْمْرِ الْخَالِي عَنِ الْقَرَائِنِ - التَّكْرَارِ أَمْ لاَ؟ فَمَوْطِنُ تَفْصِيلِهَا الْمُلْحَقُ الأُْصُولِيُّ.
__________
(1) المغني 8 / 126، وروضة الطالبين 10 / 75، 76.
(2) ابن عابدين 3 / 194، والقوانين الفقهية لابن جزي 366، وروضة الطالبين 10 / 143، والمغني 8 / 279.
(3) ابن عابدين 2 / 455، 456، 460، والحطاب 4 / 39، 122، وروضة الطالبين 8 / 275، والمغني 7 / 230، 357، 358، والقوانين الفقهية لابن جزي 231.(13/226)
تَكْفِيرٌ
التَّعْرِيفُ: 1 - مِنْ مَعَانِي التَّكْفِيرِ فِي اللُّغَةِ: التَّغْطِيَةُ وَالسَّتْرُ وَهُوَ أَصْل الْبَابِ.
تَقُول الْعَرَبُ لِلزَّرَّاعِ: كَافِرٌ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {كَمَثَل غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ (1) }
وَأَيْضًا يُقَال: التَّكْفِيرُ فِي الْمُحَارِبِ: إِذَا تَكَفَّرَ فِي سِلاَحِهِ، وَالتَّكْفِيرُ أَيْضًا: هُوَ أَنْ يَنْحَنِيَ الإِْنْسَانُ وَيُطَأْطِئَ رَأْسَهُ قَرِيبًا مِنَ الرُّكُوعِ، كَمَا يَفْعَل مَنْ يُرِيدُ تَعْظِيمَ صَاحِبِهِ، وَمِنْهُ حَدِيثُ أَبِي مَعْشَرٍ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ التَّكْفِيرَ فِي الصَّلاَةِ (2) أَيِ الاِنْحِنَاءَ الْكَثِيرَ فِي حَال الْقِيَامِ.
وَالْكُفْرُ فِي الشَّرْعِ: نَقِيضُ الإِْيمَانِ، وَهُوَ الْجُحُودُ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (3) } أَيْ جَاحِدُونَ.
وَهُوَ بِهَذَا لاَ يَخْرُجُ عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ، لأَِنَّ
__________
(1) سورة الحديد / 20.
(2) حديث: " كان يكره التكفير في الصلاة " ذكره ابن الأثير في النهاية في غريب الحديث (4 / 188 ط الحلبي) ولم نعثر على من أخرجه.
(3) سورة القصص / 48.(13/227)
الْكَافِرَ ذُو كُفْرٍ، أَيْ ذُو تَغْطِيَةٍ لِقَلْبِهِ بِكُفْرِهِ، قَال صَاحِبُ الدُّرِّ الْمُخْتَارِ: الْكُفْرُ شَرْعًا: تَكْذِيبُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَيْءٍ مِمَّا جَاءَ بِهِ مِنَ الدِّينِ ضَرُورَةً.
وَالتَّكْفِيرُ: هُوَ نِسْبَةُ أَحَدٍ مِنْ أَهْل الْقِبْلَةِ إِلَى الْكُفْرِ. وَتَكْفِيرُ الذُّنُوبِ مَحْوُهَا بِفِعْل الْحَسَنَاتِ وَنَحْوِهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ (1) } وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ.
وَالتَّكْفِيرُ عَنِ الْيَمِينِ: هُوَ فِعْل مَا يَجِبُ بِالْحِنْثِ فِيهَا (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّشْرِيكُ:
2 - التَّشْرِيكُ: مَصْدَرُ شَرَّكَ، يُقَال: شَرَّكْتُ بَيْنَهُمَا فِي الْمَال تَشْرِيكًا، وَشَرَّكَ النَّعْل: جَعَل لَهَا شِرَاكًا.
وَشَرْعًا: أَنْ تَجْعَل لِلَّهِ شَرِيكًا فِي مُلْكِهِ أَوْ رُبُوبِيَّتِهِ.
قَال تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ عَبْدِهِ لُقْمَانَ أَنَّهُ قَال لاِبْنِهِ: {يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاَللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (3) }
وَالْكُفْرُ أَعَمُّ مِنَ الشِّرْكِ فَهُوَ أَحَدُ أَفْرَادِهِ (4) .
__________
(1) سورة هود / 114.
(2) لسان العرب، والمصباح المنير مادة: " كفر ". والكليات 4 / 74، وابن عابدين 3 / 284.
(3) سورة لقمان / 13.
(4) لسان العرب، والمصباح المنير، والمغرب، مادة: " شرك ".(13/227)
وَالتَّشْرِيكُ أَيْضًا: بَيْعُ بَعْضِ مَا اشْتَرَى بِمَا اشْتَرَاهُ بِهِ، فَهُوَ التَّوْلِيَةُ بِجُزْءِ السِّلْعَةِ، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْبَحْثِ هُوَ الْمَعْنَى الأَْوَّل.
ب - التَّفْسِيقُ:
3 - التَّفْسِيقُ: تَفْعِيلٌ مِنَ الْفِسْقِ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ: الْخُرُوجُ عَنِ الأَْمْرِ، وَيُقَال: أَصْلُهُ خُرُوجُ الشَّيْءِ مِنَ الشَّيْءِ عَلَى وَجْهِ الْفَسَادِ، يُقَال: فَسَقَتِ الرُّطَبَةُ: إِذَا خَرَجَتْ مِنْ قِشْرِهَا، وَكَأَنَّ الْفَأْرَةَ إِنَّمَا سُمِّيَتْ فُوَيْسِقَةً لِخُرُوجِهَا مِنْ جُحْرِهَا عَلَى النَّاسِ. وَهُوَ شَرْعًا: الْعِصْيَانُ وَالتَّرْكُ لأَِمْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَل وَالْخُرُوجُ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ إِبْلِيسَ {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ (1) } أَيْ خَرَجَ عَنْ طَاعَةِ رَبِّهِ. وَقَدْ يَكُونُ الْفِسْقُ شِرْكًا، أَوْ كُفْرًا، أَوْ إِثْمًا (2) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالتَّكْفِيرِ:
(أَوَّلاً) تَكْفِيرُ الْمُسْلِمِ
4 - الأَْصْل بَقَاءُ الْمُسْلِمِ عَلَى إِسْلاَمِهِ حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيل عَلَى خِلاَفِ ذَلِكَ، لِمَا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: مَنْ صَلَّى صَلاَتَنَا، وَاسْتَقْبَل
__________
(1) سورة الكهف / 50.
(2) لسان العرب، والمصباح المنير، والمغرب، مادة: " فسق "، والكليات 3 / 317.(13/228)
قِبْلَتَنَا، وَأَكَل ذَبِيحَتَنَا فَهُوَ الْمُسْلِمُ، لَهُ مَا لَنَا وَعَلَيْهِ مَا عَلَيْنَا (1) .
وَيَجِبُ قَبْل تَكْفِيرِ أَيِّ مُسْلِمٍ النَّظَرُ وَالتَّفَحُّصُ فِيمَا صَدَرَ مِنْهُ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، فَلَيْسَ كُل قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ فَاسِدٍ يُعْتَبَرُ مُكَفِّرًا.
وَيَجِبُ كَذَلِكَ عَلَى النَّاسِ اجْتِنَابُ هَذَا الأَْمْرِ وَالْفِرَارُ مِنْهُ وَتَرْكُهُ لِعُلَمَائِهِمْ لِخَطَرِهِ الْعَظِيمِ، فَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا قَال الرَّجُل لأَِخِيهِ يَا كَافِرُ فَقَدْ بَاءَ بِهِ أَحَدُهُمَا، فَإِنْ كَانَ كَمَا قَال، وَإِلاَّ رَجَعَتْ عَلَيْهِ (2) .
وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: مَنْ دَعَا رَجُلاً بِالْكُفْرِ، أَوْ قَال: عَدُوُّ اللَّهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِلاَّ حَارَ عَلَيْهِ (3) .
التَّحَرُّزُ مِنَ التَّكْفِيرِ:
5 - لاَ يَنْبَغِي أَنْ يُكَفَّرَ مُسْلِمٌ أَمْكَنَ حَمْل كَلاَمِهِ
__________
(1) حديث: " من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل. . . " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 496 ط السلفية) من حديث أنس بن مالك.
(2) حديث: " إذا قال الرجل لأخيه يا كافر، فقد باء به أحدهما، فإن كان كما قال، وإلا رجعت عليه ". أخرجه البخاري (الفتح 10 / 514 ط السلفية) ، ومسلم (1 / 79 ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(3) حديث: " من دعا رجلا بالكفر - أو قال عدو الله. . . " أخرجه مسلم (1 / 80 ط الحلبي) من حديث أبي ذر ومعنى حار عليه: أي رجع عليه.(13/228)
عَلَى مَحْمَلٍ حَسَنٍ، أَوْ كَانَ فِي كُفْرِهِ خِلاَفٌ وَلَوْ كَانَ رِوَايَةً ضَعِيفَةً (1) . مَا يُشَكُّ فِي أَنَّهُ كُفْرٌ لاَ يُحْكَمُ بِهِ، فَإِنَّ الْمُسْلِمَ لاَ يُخْرِجُهُ مِنَ الإِْيمَانِ إِلاَّ جُحُودُ مَا أَدْخَلَهُ فِيهِ، إِذِ الإِْسْلاَمُ الثَّابِتُ لاَ يَزُول بِالشَّكِّ مَعَ أَنَّ الإِْسْلاَمَ يَعْلُو، فَإِنْ كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ وُجُوهٌ تُوجِبُ التَّكْفِيرَ وَوَجْهٌ وَاحِدٌ يَمْنَعُهُ فَعَلَى الْمُفْتِي أَنْ يَمِيل إِلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَمْنَعُ التَّكْفِيرَ؛ لِعِظَمِ خَطَرِهِ وَتَحْسِينًا لِلظَّنِّ بِالْمُسْلِمِ، وَلأَِنَّ الْكُفْرَ نِهَايَةٌ فِي الْعُقُوبَةِ فَيَسْتَدْعِي نِهَايَةً فِي الْجِنَايَةِ، وَمَعَ الشَّكِّ وَالاِحْتِمَال لاَ نِهَايَةَ (2) .
مَتَى يُحْكَمُ بِالْكُفْرِ:
6 - يُشْتَرَطُ فِي تَكْفِيرِ الْمُسْلِمِ أَنْ يَكُونَ مُكَلَّفًا مُخْتَارًا عِنْدَ صُدُورِ مَا هُوَ مُكَفِّرٌ مِنْهُ، فَلاَ يَصِحُّ تَكْفِيرُ صَبِيٍّ وَمَجْنُونٍ، وَلاَ مَنْ زَال عَقْلُهُ بِنَوْمٍ أَوْ إِغْمَاءٍ، لِعَدَمِ تَكْلِيفِهِمْ، فَلاَ اعْتِدَادَ بِقَوْلِهِمْ وَاعْتِقَادِهِمْ.
وَكَذَلِكَ لاَ يَجُوزُ تَكْفِيرُ مُكْرَهٍ عَلَى الْكُفْرِ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِْيمَانِ، قَال تَعَالَى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِْيمَانِ (3) } .
وَجَرَى الْخِلاَفُ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي صِحَّةِ تَكْفِيرِ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ وَالسَّكْرَانِ إِذَا صَدَرَ مِنْهُمَا مَا هُوَ مُكَفِّرٌ.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 289.
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 285.
(3) سورة النحل / 106.(13/229)
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى صِحَّةِ تَكْفِيرِ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ إِذَا صَدَرَ مِنْهُ مَا هُوَ مُكَفِّرٌ.
وَيُفْهَمُ مِنْ كَلاَمِ الْمَالِكِيَّةِ تَقْيِيدُهُ بِالصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ الْمُرَاهِقِ فَقَطْ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى عَدَمِ صِحَّةِ تَكْفِيرِ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ لِعَدَمِ تَكْلِيفِهِ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّهُ لاَ يُقْتَل بَل يُجْبَرُ عَلَى الإِْسْلاَمِ بِالضَّرْبِ وَالتَّهْدِيدِ وَالْحَبْسِ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يُنْتَظَرُ إِلَى مَا بَعْدَ الْبُلُوغِ وَالاِسْتِتَابَةِ، فَإِنْ أَصَرَّ قُتِل (1) ، لِحَدِيثِ رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثَةٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الْمُبْتَلَى حَتَّى يَبْرَأَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَكْبَرَ (2) .
تَكْفِيرُ السَّكْرَانِ:
7 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ السَّكْرَانَ غَيْرُ الْمُتَعَدِّي بِسُكْرِهِ لاَ يُحْكَمُ بِرِدَّتِهِ إِذَا صَدَرَ مِنْهُ مَا هُوَ مُكَفِّرٌ، وَاخْتَلَفُوا فِي السَّكْرَانِ الْمُتَعَدِّي بِسُكْرِهِ:
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) إِلَى تَكْفِيرِهِ إِذَا صَدَرَ مِنْهُ مَا هُوَ مُكَفِّرٌ.
__________
(1) ابن عابدين 3 / 285، 306، والدسوقي 4 / 308 - 310، ومغني المحتاج 4 / 137، وكشاف القناع 6 / 168، 174 وما بعدها.
(2) حديث: " رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ وعن المبتلى حتى يبرأ، وعن الصبي حتى يكبر ". أخرجه أبو داود (4 / 558 تحقيق عزت عبيد دعاس) والحاكم (2 / 59 ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث عائشة، واللفظ لأبي داود، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.(13/229)
لِقَوْل عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " إِذَا سَكِرَ هَذَى، وَإِذَا هَذَى افْتَرَى، وَعَلَى الْمُفْتَرِي ثَمَانُونَ (1) فَأَوْجَبُوا عَلَيْهِ حَدَّ الْفِرْيَةِ الَّتِي يَأْتِي بِهَا فِي سُكْرِهِ وَاعْتَبَرُوا مَظِنَّتَهَا، وَلأَِنَّهُ يَصِحُّ طَلاَقُهُ وَسَائِرُ تَصَرُّفَاتِهِ فَتَصِحُّ رِدَّتُهُ، وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى عَدَمِ تَكْفِيرِ السَّكْرَانِ مُطْلَقًا (2) .
بِمَ يَكُونُ التَّكْفِيرُ:
أ - التَّكْفِيرُ بِالاِعْتِقَادِ:
8 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى تَكْفِيرِ مَنِ اعْتَقَدَ الْكُفْرَ بَاطِنًا، إِلاَّ أَنَّهُ لاَ تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُرْتَدِّ إِلاَّ إِذَا صَرَّحَ بِهِ.
وَمَنْ عَزَمَ عَلَى الْكُفْرِ فِي الْمُسْتَقْبَل، أَوْ تَرَدَّدَ فِيهِ، فَإِنَّهُ يَكْفُرُ حَالاً لاِنْتِفَاءِ التَّصْدِيقِ بِعَزْمِهِ عَلَى الْكُفْرِ فِي الْمُسْتَقْبَل، وَتَطَرَّقَ الشَّكُّ إِلَيْهِ بِالتَّرَدُّدِ فِي الْكُفْرِ. وَلاَ تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُرْتَدِّ إِلاَّ إِذَا صَرَّحَ بِالْكُفْرِ أَيْضًا (3) .
ب - التَّكْفِيرُ بِالْقَوْل:
9 - اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى تَكْفِيرِ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ قَوْلٌ
__________
(1) حديث: " قول علي: إذا سكر هذي، وإذا هذي افترى، وعلى المفتري ثمانون ". أخرجه مالك في الموطأ (2 / 842 ط الحلبي) وأعله ابن حجر بالانقطاع. (التلخيص الحبير 4 / 75 ط شركة الطباعة الفنية) .
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 285، 306، وحاشية الدسوقي 4 / 308، 310، ومغني المحتاج 4 / 137، وكشاف القناع 6 / 168، 174 وما بعدها.
(3) حاشية ابن عابدين 3 / 283، وحاشية الدسوقي 4 / 301، ومغني المحتاج 4 / 134، 136، وكشاف القناع 6 / 167.(13/230)
مُكَفِّرٌ، سَوَاءٌ أَقَالَهُ اسْتِهْزَاءً، أَمْ عِنَادًا، أَمِ اعْتِقَادًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُل أَبِاَللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ (1) } .
وَهَذِهِ الأَْلْفَاظُ الْمُكَفِّرَةُ قَدْ تَكُونُ صَرِيحَةً كَقَوْلِهِ: أُشْرِكُ أَوْ أَكْفُرُ بِاَللَّهِ، أَوْ غَيْرَ صَرِيحَةٍ كَقَوْلِهِ: اللَّهُ جِسْمٌ مُتَحَيِّزٌ أَوْ عِيسَى ابْنُ اللَّهِ، أَوْ جَحَدَ حُكْمًا عُلِمَ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، كَوُجُوبِ الصَّلاَةِ وَحُرْمَةِ الزِّنَى.
وَأَمَّا مَنْ سَبَقَ لِسَانُهُ إِلَى الْكُفْرِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ لِشِدَّةِ فَرَحٍ أَوْ دَهَشٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، كَقَوْل مَنْ أَرَادَ أَنْ يَقُول: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي وَأَنَا عَبْدُكَ، فَقَال غَلَطًا: أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ، كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ، حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ، مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فَلاَةٍ، فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ، وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَأَيِسَ مِنْهَا، فَأَتَى شَجَرَةً فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا، قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ، فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذَا هُوَ بِهَا قَائِمَةً عِنْدَهُ، فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا، ثُمَّ قَال مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ، أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ (2) .
__________
(1) سورة التوبة / 66.
(2) حديث: " لله أشد فرحا بتوبة عبده. . . " أخرجه مسلم (4 / 2104 - 2105 ط الحلبي) من حديث أنس بن مالك(13/230)
أَوْ أُكْرِهَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لاَ يَكْفُرُ. لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِْيمَانِ (1) } وَلِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ ( x662 ;) .
تَكْفِيرُ مَنْ سَبَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَل:
10 - اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى تَكْفِيرِ مَنْ سَبَّ الذَّاتَ الْمُقَدَّسَةَ الْعَلِيَّةَ أَوِ اسْتَخَفَّ بِهَا أَوِ اسْتَهْزَأَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُل أَبِاَللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ (3) }
وَاخْتَلَفُوا فِي قَبُول تَوْبَتِهِ فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى قَبُولِهَا.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ قَبُولِهَا، وَيُقْتَل بِكُل حَالٍ، وَذَلِكَ لأَِنَّ ذَنْبَهُ عَظِيمٌ جِدًّا يَدُل عَلَى فَسَادِ عَقِيدَتِهِ. وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلآْخِرَةِ، فَإِنْ كَانَ صَادِقًا فِي تَوْبَتِهِ قُبِلَتْ بَاطِنًا وَنَفَعَهُ ذَلِكَ (4) .
__________
(1) سورة النحل / 106.
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 284، وحاشية الدسوقي 4 / 301، ومغني المحتاج 4 / 134، وكشاف القناع 6 / 168، وشرح العقائد للتفتازاني ص 190. وحديث: " إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان. . . " أخرجه ابن ماجه (1 / 659 ط الحلبي) من حديث ابن عباس. وأعل البوصيري إسناده بالانقطاع، ولكن قواه السخاوي لطرقه. كما في المقاصد الحسنة (ص 230 ط الخانجي) .
(3) سورة التوبة / 66.
(4) ابن عابدين 3 / 290، وحاشية الدسوقي 4 / 312، ومغني المحتاج 4 / 135، وروضة الطالبين 10 / 66، وكشاف القناع 6 / 177، 178، وشرح العقائد للتفتازاني 191.(13/231)
تَكْفِيرُ مَنْ سَبَّ الأَْنْبِيَاءَ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ:
11 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى تَكْفِيرِ مَنْ سَبَّ نَبِيًّا مِنَ الأَْنْبِيَاءِ، أَوِ اسْتَخَفَّ بِحَقِّهِ، أَوْ تَنَقَّصَهُ، أَوْ نَسَبَ إِلَيْهِ مَا لاَ يَجُوزُ عَلَيْهِ، كَعَدَمِ الصِّدْقِ وَالتَّبْلِيغِ، وَالسَّابُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ يَأْخُذُ حُكْمَ الْمُرْتَدِّ فَيُسْتَتَابُ، فَإِنْ تَابَ وَإِلاَّ قُتِل، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ يُقْتَل حَدًّا. وَإِنْ تَابَ. وَلاَ تُقْبَل تَوْبَتُهُ.
وَسَبُّ الْمَلاَئِكَةِ كَسَبِّ الأَْنْبِيَاءِ، وَقَيَّدَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِالنَّبِيِّ أَوِ الْمَلَكِ الْمُجْمَعِ عَلَى كَوْنِهِ نَبِيًّا أَوْ مَلَكًا، فَإِنْ سَبَّ مَنْ لَمْ يُجْمَعْ عَلَى كَوْنِهِ نَبِيًّا أَوْ مَلَكًا كَالْخَضِرِ وَهَارُوتَ وَمَارُوتَ لَمْ يَكْفُرْ، وَأَدَّبَهُ الْحَاكِمُ اجْتِهَادًا (1) .
تَكْفِيرُ مُكَفِّرِ الصَّحَابَةِ:
12 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ كَفَّرَ جَمِيعَ الصَّحَابَةِ فَإِنَّهُ يَكْفُرُ؛ لأَِنَّهُ أَنْكَرَ مَعْلُومًا مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ وَكَذَّبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مَنْ قَذَفَ السَّيِّدَةَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بِمَا بَرَّأَهَا اللَّهُ مِنْهُ، أَوْ أَنْكَرَ صُحْبَةَ الصِّدِّيقِ كَفَرَ، لأَِنَّهُ مُكَذِّبٌ لِنَصِّ الْكِتَابِ. وَأَمَّا مَنْ كَفَّرَ بَعْضَ الصَّحَابَةِ دُونَ بَعْضٍ،
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 290، وما بعدها، وحاشية الدسوقي 4 / 309، ومغني المحتاج 4 / 135، وروضة الطالبين 10 / 64، وكشاف القناع 6 / 168، 177، والإنصاف 10 / 332.(13/231)
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ وَالإِْمَامُ أَحْمَدُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ إِلَى عَدَمِ كُفْرِهِ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ وَبَعْضُ أَهْل الْحَدِيثِ وَسَحْنُونٌ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى تَكْفِيرِ مَنْ كَفَّرَ بَعْضَ الصَّحَابَةِ وَتُطَبَّقُ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُرْتَدِّ.
قَال الْمِرْدَاوِيُّ فِي الإِْنْصَافِ - وَهُوَ الصَّوَابُ - وَاَلَّذِي نَدِينُ اللَّهَ بِهِ، وَنَصَّ صَاحِبُ الْفَوَاكِهِ الدَّوَانِي عَلَى أَنَّ مَنْ كَفَّرَ أَحَدَ الْخُلَفَاءِ الأَْرْبَعَةِ فَإِنَّهُ يَكْفُرُ (1) .
تَكْفِيرُ مَنْ سَبَّ الشَّيْخَيْنِ:
13 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى عَدَمِ تَكْفِيرِ مَنْ سَبَّ أَحَدَ الشَّيْخَيْنِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَتَوَقَّفَ الإِْمَامُ أَحْمَدُ فِي كُفْرِهِ وَقَتْلِهِ، وَقَال: يُعَاقَبُ وَيُجْلَدُ وَيُحْبَسُ حَتَّى يَمُوتَ أَوْ يَرْجِعَ عَنْ ذَلِكَ، وَعَنْهُ: مَنْ سَبَّ صَحَابِيًّا مُسْتَحِلًّا كَفَرَ، وَإِلاَّ فُسِّقَ. وَنَقَل ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ عَنْهُ فِيمَنْ شَتَمَ صَحَابِيًّا قَوْلُهُ: الْقَتْل أَجْبُنُ عَنْهُ، وَيُضْرَبُ، مَا أَرَاهُ عَلَى الإِْسْلاَمِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَجْهٌ حَكَاهُ الْقَاضِي فِي تَكْفِيرِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 293، 294، وحاشية الدسوقي 4 / 312، والفواكه الدواني 2 / 278، ونهاية المحتاج 7 / 396، ومغني المحتاج 4 / 136، وروضة الطالبين 10 / 64، 70، وكشاف القناع 6 / 161، 170، 172، والإنصاف 10 / 323، وشرح العقائد للتفتازاني 190.(13/232)
مَنْ سَبَّ الشَّيْخَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَمِمَّنْ قَال بِتَكْفِيرِهِ كَذَلِكَ الدَّبُوسِيُّ، وَأَبُو اللَّيْثِ، وَجَزَمَ بِهِ صَاحِبُ الأَْشْبَاهِ.
قَال صَاحِبُ الدُّرِّ الْمُخْتَارِ: وَهُوَ الَّذِي يَنْبَغِي التَّعْوِيل عَلَيْهِ فِي الإِْفْتَاءِ وَالْقَضَاءِ، رِعَايَةً لِجَانِبِ حَضْرَةِ الْمُصْطَفَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا خِلاَفُ الْمُعْتَمَدِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ ابْنُ عَابِدِينَ (1) .
تَكْفِيرُ مُنْكِرِ الإِْجْمَاعِ:
14 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى تَكْفِيرِ مَنْ جَحَدَ حُكْمًا أَجْمَعَتْ عَلَيْهِ الأُْمَّةُ مِمَّا عُلِمَ مِنَ الدِّينِ ضَرُورَةً، كَوُجُوبِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالزَّكَاةِ بِلاَ خِلاَفٍ بَيْنَهُمْ.
وَأَمَّا مَا أَجْمَعَتْ عَلَيْهِ الأُْمَّةُ وَلَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا بِالضَّرُورَةِ، كَوُجُوبِ إِعْطَاءِ السُّدُسِ لِبِنْتِ الاِبْنِ مَعَ وُجُودِ الْبِنْتِ فَلاَ تَكْفِيرَ لِمُنْكِرِهِ.
وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَلَمْ يَشْرِطُوا لِلتَّكْفِيرِ سِوَى قَطْعِيَّةِ الثُّبُوتِ، وَعَلَى هَذَا قَالُوا بِتَكْفِيرِ مَنْ جَحَدَ اسْتِحْقَاقَ بِنْتِ الاِبْنِ السُّدُسَ مَعَ الْبِنْتِ فِي ظَاهِرِ كَلاَمِهِمْ (2) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 293، 294، حاشية الدسوقي 4 / 312، وحواشي تحفة المحتاج 9 / 89، وكشاف القناع 6 / 172، والإنصاف 10 / 324، والأشباه والنظائر لابن نجيم 189، 190 ط دار الهلال.
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 284، وحاشية الدسوقي 4 / 303، ومغني المحتاج 4 / 135، وقليوبي وعميرة 4 / 175، وروضة الطالبين 10 / 65، وكشاف القناع 6 / 172، 173.(13/232)
ج - التَّكْفِيرُ بِالْعَمَل: 15 - نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَفْعَالٍ لَوْ فَعَلَهَا الْمُكَلَّفُ فَإِنَّهُ يَكْفُرُ بِهَا، وَهِيَ كُل مَا تَعَمَّدَهُ اسْتِهْزَاءً صَرِيحًا بِالدِّينِ أَوْ جُحُودًا لَهُ، كَالسُّجُودِ لِصَنَمٍ أَوْ شَمْسٍ أَوْ قَمَرٍ، فَإِنَّ هَذِهِ الأَْفْعَال تَدُل عَلَى عَدَمِ التَّصْدِيقِ، وَكَإِلْقَاءِ الْمُصْحَفِ فِي قَاذُورَةٍ، فَإِنَّهُ يَكْفُرُ وَإِنْ كَانَ مُصَدِّقًا، لأَِنَّ ذَلِكَ فِي حُكْمِ التَّكْذِيبِ، وَلأَِنَّهُ صَرِيحٌ فِي الاِسْتِخْفَافِ بِكَلاَمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالاِسْتِخْفَافُ بِالْكَلاَمِ اسْتِخْفَافٌ بِالْمُتَكَلِّمِ.
وَقَدْ أَلْحَقَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلْقَاءَ كُتُبِ الْحَدِيثِ بِهِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى تَكْفِيرِ مَنْ تَزَيَّا بِزِيِّ الْكُفْرِ مِنْ لُبْسِ غِيَارٍ، وَشَدِّ زُنَّارٍ، وَتَعْلِيقِ صَلِيبٍ. وَقَيَّدَهُ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِمَا إِذَا فَعَلَهُ حُبًّا فِيهِ وَمَيْلاً لأَِهْلِهِ، وَأَمَّا إِنْ لَبِسَهُ لَعِبًا فَحَرَامٌ وَلَيْسَ بِكُفْرٍ (1) .
تَكْفِيرُ مُرْتَكِبِ الْكَبِيرَةِ:
16 - مَذْهَبُ أَهْل السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ عَدَمُ تَكْفِيرِ مُرْتَكِبِ الْكَبِيرَةِ، وَعَدَمُ تَخْلِيدِهِ فِي النَّارِ إِذَا مَاتَ عَلَى التَّوْحِيدِ، وَإِنْ لَمْ يَتُبْ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَال ذَرَّةٍ مِنْ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 284، حاشية الدسوقي 4 / 301، ومغني المحتاج 4 / 136، وحواشي تحفة المحتاج 9 / 90 وما بعدها، وروضة الطالبين 10 / 69، وكشاف القناع 6 / 169، وشرح العقائد للتفتازاني 142، 153.(13/233)
إِيمَانٍ (1) . فَلَوْ كَانَ مُرْتَكِبُ الْكَبِيرَةِ يَكْفُرُ بِكَبِيرَتِهِ لَمَا سَمَّاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مُؤْمِنًا (2) .
تَكْفِيرُ السَّاحِرِ:
17 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى تَكْفِيرِ مَنِ اعْتَقَدَ إِبَاحَةَ السِّحْرِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي تَكْفِيرِ مَنْ تَعَلَّمَهُ أَوْ عَمِلَهُ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ (الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّهُ لاَ يَكْفُرُ بِمُجَرَّدِ تَعَلُّمِ السِّحْرِ وَعَمَلِهِ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ اعْتِقَادٌ أَوْ عَمَل مَا هُوَ مُكَفِّرٌ، وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى تَكْفِيرِهِ مُطْلَقًا، لِمَا فِيهِ مِنَ التَّعْظِيمِ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَنِسْبَةِ الْكَائِنَاتِ وَالْمَقَادِيرِ إِلَى غَيْرِ اللَّهِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى وُجُوبِ قَتْلِهِ، وَلاَ يُسْتَتَابُ لِعَمَل السِّحْرِ، لِسَعْيِهِ بِالْفَسَادِ فِي الأَْرْضِ، لاَ بِمُجَرَّدِ عِلْمِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي اعْتِقَادِهِ مَا يُوجِبُ كُفْرَهُ، وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدُّ السَّاحِرِ ضَرْبَةٌ بِالسَّيْفِ (3) فَسَمَّاهُ حَدًّا، وَالْحَدُّ بَعْدَ ثُبُوتِهِ لاَ يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ.
__________
(1) حديث: " يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان " أخرجه البخاري (الفتح 13 / 473، 474 ط السلفية) من حديث أنس بن مالك.
(2) شرح العقيدة الطحاوية 355 وما بعدها، 416، وما بعدها، وشرح العقائد للتفتازاني 140 وما بعدها.
(3) حديث: " حد الساحر ضربة بالسيف ". أخرجه الترمذي (4 / 60 ط الحلبي) من حديث جندب بن جنادة، ثم قال: " هذا حديث لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه، وإسماعيل بن مسلم المكي يضعف في الحديث، والصحيح عن جندب موقوفا.(13/233)
وَقَصَرَهُ الْحَنَابِلَةُ عَلَى السَّاحِرِ الَّذِي يَكْفُرُ بِسِحْرِهِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُقْتَل إِنْ كَانَ مُتَجَاهِرًا بِهِ مَا لَمْ يَتُبْ، فَإِنْ كَانَ يَسُرُّهُ قُتِل مُطْلَقًا، وَلاَ تُقْبَل لَهُ تَوْبَةٌ (1) .
آثَارُ التَّكْفِيرِ:
18 - يَتَرَتَّبُ عَلَى التَّكْفِيرِ آثَارٌ عَلَى كُلٍّ مِنَ الْمُكَفِّرِ وَالْمُكَفَّرِ فَآثَارُهُ عَلَى الْمُكَفَّرِ إِذَا ثَبَتَ عَلَيْهِ الْكُفْرُ هِيَ:
أ - حُبُوطُ الْعَمَل:
19 - إِذَا ارْتَدَّ الْمُسْلِمُ وَاسْتَمَرَّ كَافِرًا حَتَّى مَوْتِهِ كَانَتْ رِدَّتُهُ مُحْبِطَةً لِلْعَمَل لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ (2) } .
فَإِنْ عَادَ إِلَى الإِْسْلاَمِ فَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ إِعَادَةُ الْحَجِّ وَمَا بَقِيَ سَبَبُهُ مِنَ الْعِبَادَاتِ لأَِنَّهُ بِالرِّدَّةِ صَارَ كَالْكَافِرِ الأَْصْلِيِّ فَإِذَا أَسْلَمَ وَهُوَ غَنِيٌّ فَعَلَيْهِ الْحَجُّ. وَلأَِنَّ وَقْتَهُ مُتَّسِعٌ إِلَى آخِرِ الْعُمْرِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ بِخِطَابٍ مُبْتَدَأٍ كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالصِّيَامُ وَالزَّكَاةُ لِلأَْوْقَاتِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 295 وما بعدها، حاشية الدسوقي 4 / 302، وشرح روض الطالب 4 / 117، وكشاف القناع 6 / 177، والإنصاف 10 / 349 وما بعدها.
(2) سورة البقرة / 217.(13/234)
الْمُسْتَقْبَلَةِ، وَلأَِنَّ سَبَبَهُ الْبَيْتُ الْمُكَرَّمُ وَهُوَ بَاقٍ بِخِلاَفِ غَيْرِهِ مِنَ الْعِبَادَاتِ الَّتِي أَدَّاهَا، لِخُرُوجِ سَبَبِهَا.
وَمَا بَقِيَ سَبَبُهُ مِنَ الْعِبَادَاتِ كَمَنْ صَلَّى الظُّهْرَ مَثَلاً ثُمَّ ارْتَدَّ ثُمَّ تَابَ فِي الْوَقْتِ يُعِيدُ الظُّهْرَ لِبَقَاءِ السَّبَبِ وَهُوَ الْوَقْتُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ عِبَادَاتِهِ الَّتِي فَعَلَهَا فِي إِسْلاَمِهِ مِنْ صَلاَةٍ وَحَجٍّ وَغَيْرِهَا، وَذَلِكَ لأَِنَّهُ فَعَلَهَا عَلَى وَجْهِهَا وَبَرِئَتْ ذِمَّتُهُ مِنْهَا فَلاَ تَعُودُ إِلَى ذِمَّتِهِ، كَدَيْنِ الآْدَمِيِّ. وَالْمَنْصُوصُ عَنِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى حُبُوطُ ثَوَابِ الأَْعْمَال لاَ نَفْسُ الأَْعْمَال (1) .
ب - الْقَتْل:
20 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ تَحَوَّل عَنْ دِينِ الإِْسْلاَمِ إِلَى غَيْرِهِ فَإِنَّهُ يُقْتَل لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ بَدَّل دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ (2) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (رِدَّةٌ) .
آثَارُ التَّكْفِيرِ عَلَى الْمُكَفِّرِ:
21 - لَمَّا كَانَ التَّكْفِيرُ مِنَ الأُْمُورِ الْخَطِيرَةِ فَقَدْ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 303، وحاشية الطحطاوي على الدر المختار 2 / 480، ومواهب الجليل 6 / 282 وما بعدها، ومغني المحتاج 4 / 133، وكشاف القناع 6 / 181.
(2) حديث: " من بدل دينه فاقتلوه " أخرجه البخاري (الفتح 12 / 267 ط السلفية) من حديث عبد الله بن عباس.(13/234)
جَعَل الْفُقَهَاءُ فِيهِ التَّعْزِيرَ، فَمَنْ نَسَبَ أَحَدًا إِلَى الْكُفْرِ، أَوْ قَذَفَهُ بِوَصْفٍ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الْكُفْرِ، كَيَا يَهُودِيُّ، وَيَا نَصْرَانِيُّ، وَيَا مَجُوسِيُّ عُزِّرَ (1) ، وَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا قَال الرَّجُل لأَِخِيهِ يَا كَافِرُ فَقَدْ بَاءَ بِهِ أَحَدُهُمَا فَإِنْ كَانَ كَمَا قَال وَإِلاَّ رَجَعَتْ عَلَيْهِ (2) .
(ثَانِيًا) تَكْفِيرُ الذُّنُوبِ
أ - الذُّنُوبُ الَّتِي شُرِعَتْ لَهَا كَفَّارَاتٌ مُحَدَّدَةٌ:
22 - أَوْجَبَ الشَّارِعُ عَلَى الإِْنْسَانِ كَفَّارَاتٍ مُحَدَّدَةً لِبَعْضِ الذُّنُوبِ بِمُلاَبَسَتِهِ إِيَّاهَا وَذَلِكَ لِعِظَمِ هَذِهِ الذُّنُوبِ وَخَطَرِهَا، وَالْقَصْدُ مِنْ هَذِهِ الْكَفَّارَاتِ تَدَارُكُ مَا فَرَّطَ مِنَ التَّقْصِيرِ وَهِيَ دَائِرَةٌ بَيْنَ الْعِبَادَةِ وَالْعُقُوبَةِ.
وَهِيَ خَمْسُ كَفَّارَاتٍ: كَفَّارَةُ الْقَتْل، وَالْوَطْءِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ، وَالظِّهَارِ، وَالْحِنْثِ فِي الأَْيْمَانِ، وَفِعْل مَحْظُورٍ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْحَجِّ (3) .
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (كَفَّارَةٌ) .
ب - الذُّنُوبُ الَّتِي لَمْ تُشَرَّعْ لَهَا كَفَّارَاتٌ مُحَدَّدَةٌ:
23 - لَمْ يَشْرَعِ الإِْسْلاَمُ كَفَّارَاتٍ مُحَدَّدَةً غَيْرَ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 582 و 3 / 183، وحاشية العدوي 1 / 373، ومواهب الجليل 6 / 303، ومغني المحتاج 1 / 340، وكشاف القناع 2 / 117، 118 و 6 / 112.
(2) حديث: " إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء به. . . " سبق تخريجه ف 4.
(3) ابن عابدين 5 / 340، حواشي تحفة المحتاج 9 / 45.(13/235)
الْخَمْسِ الْمَذْكُورَةِ آنِفًا وَإِنَّمَا نَصَّ عَلَى بَعْضِ الأَْعْمَال وَالْعِبَادَاتِ الَّتِي تُكَفِّرُ الذُّنُوبَ عُمُومًا كَاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ، فَإِنَّهُ يُكَفِّرُ الصَّغَائِرَ، قَال تَعَالَى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ (1) } .
وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا مِنْ عَبْدٍ يُؤَدِّي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ، وَيَصُومُ رَمَضَانَ، وَيَجْتَنِبُ الْكَبَائِرَ السَّبْعَ إِلاَّ فُتِحَتْ لَهُ ثَمَانِيَةُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى إِنَّهَا لَتُصَفِّقُ (2) وَلاَ يَنْحَصِرُ تَكْفِيرُ الصَّغَائِرِ فِي اجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ بَل هُنَاكَ بَعْضُ الْعِبَادَاتِ تُكَفِّرُهَا أَيْضًا كَالْوُضُوءِ وَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَصَوْمِ رَمَضَانَ وَالْعُمْرَةِ إِلَى الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ الْمَبْرُورِ.
وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا ثُمَّ قَامَ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ لاَ يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ إِلاَّ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ (3) .
وَذَكَرَ الصَّلاَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ لِلتَّرْغِيبِ فِي سُنَّةِ الْوُضُوءِ لِيَزِيدَ ثَوَابُهُ، وَإِلاَّ فَالتَّكْفِيرُ لاَ يَتَوَقَّفُ عَلَى الصَّلاَةِ كَمَا أَخْرَجَ أَحْمَدُ مَرْفُوعًا الْوُضُوءُ
__________
(1) سورة النساء / 31.
(2) حديث: " ما من عبد يؤدي الصلوات الخمس. . . " أخرجه البيهقي في سننه (10 / 187 ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث أبي هريرة وأبي سعيد وفي إسناده جهالة أحد رواته، وهو صهيب العتواري (الميزان للذهبي 2 / 321 ط الحلبي) .
(3) حديث: " من توضأ نحو وضوئي هذا ثم قام فركع. . . " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 259 ط السلفية) ، ومسلم (1 / 205 ط الحلبي) من حديث عثمان عفان.(13/235)
يُكَفِّرُ مَا قَبْلَهُ ثُمَّ تَصِيرُ الصَّلاَةُ نَافِلَةً (1) . وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ (2) وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلاَّ الْجَنَّةُ (3) .
وَلاَ يُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ إِذَا كَفَّرَ الْوُضُوءُ لَمْ يَجِدِ الصَّوْمُ مَا يُكَفِّرُهُ، وَهَكَذَا، وَذَلِكَ لأَِنَّ الذُّنُوبَ كَالأَْمْرَاضِ، وَالطَّاعَاتِ كَالأَْدْوِيَةِ، فَكَمَا أَنَّ لِكُل نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الأَْمْرَاضِ نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ الأَْدْوِيَةِ لاَ يَنْفَعُ فِيهِ غَيْرُهُ، كَذَلِكَ الطَّاعَاتُ مَعَ الذُّنُوبِ، وَيَدُل عَلَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ مِنَ الذُّنُوبِ ذُنُوبًا لاَ يُكَفِّرُهَا الصَّلاَةُ وَلاَ الصِّيَامُ وَلاَ الْحَجُّ وَلاَ الْعُمْرَةُ، قَالُوا فَمَا يُكَفِّرُهَا يَا رَسُول اللَّهِ، قَال: الْهُمُومُ فِي طَلَبِ الْمَعِيشَةِ (4) .
__________
(1) حديث: " الوضوء يكفر ما قبله ثم تصير الصلاة نافلة " أخرجه أحمد (5 / 251 ط الميمنية) من حديث أبي أمامة، وصححه المنذري في الترغيب والترهيب (1 / 130 ط مطبعة السعادة) .
(2) حديث: " الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهن إذا اجتنب الكبائر ". أخرجه مسلم (1 / 209 ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(3) حديث: " العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 597 ط السلفية) ، ومسلم (2 / 983 ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(4) حديث: " إن من الذنوب ذنوبا لا يكفرها الصلاة ولا الصيام ولا الحج ولا العمرة. قالوا: فما. . . " أخرجه الطبراني في الأوسط وحكم عليه الذهبي بالوضع وتبعه ابن حجر في لسان الميزان (5 / 183 ط دائرة المعارف العثمانية) .(13/236)
وَهَذَا كُلُّهُ فِي الذُّنُوبِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَمَّا الْمُتَعَلِّقَةُ بِحُقُوقِ الآْدَمِيِّينَ فَلاَ بُدَّ فِيهَا مِنَ الْمُقَاصَّةِ (1) .
__________
(1) شرح جوهرة التوحيد ص 174، 175.(13/236)
تَكْفِينٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّكْفِينُ: مَصْدَرُ كَفَّنَ، وَمِثْلُهُ الْكَفَنُ، وَمَعْنَاهُمَا فِي اللُّغَةِ: التَّغْطِيَةُ وَالسَّتْرُ.
وَمِنْهُ: سُمِّيَ كَفَنُ الْمَيِّتِ، لأَِنَّهُ يَسْتُرُهُ (1)
وَمِنْهُ: تَكْفِينُ الْمَيِّتِ أَيْ لَفُّهُ بِالْكَفَنِ (2)
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنْ ذَلِكَ
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ تَكْفِينَ الْمَيِّتِ بِمَا يَسْتُرُهُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ (3) ، لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الْبَسُوا مِنْ ثِيَابِكُمُ الْبَيَاضَ فَإِنَّهَا مِنْ خَيْرِ ثِيَابِكُمْ، وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ (4) . وَلِمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ خَبَّابٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
__________
(1) لسان العرب مادة: " كفن ".
(2) فتح القدير 1 / 452 ط الأميرية ببولاق، ومجمع الأنهر 1 / 181 ط دار السعادة
(3) شرح فتح القدير 1 / 452، وحاشية الرهوني 2 / 209 ط الأميرية ببولاق، والمجموع 5 / 140 ط المنيرية، وكشاف القناع 2 / 103 ط عالم الكتب، والبخاري 2 / 93 ط محمد علي صبيح.
(4) حديث " ألبسوا من ثيابكم البياض فإنها من خير ثيابكم. . . " أخرجه أبو داود (4 / 209 تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث ابن عباس. وصححه ابن القطان كما في التلخيص الحبير لابن حجر (2 / 69 ط شركة الطباعة الفنية) .(13/237)
قَال: هَاجَرْنَا مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَلْتَمِسُ وَجْهَ اللَّهِ، فَوَقَعَ أَجْرُنَا عَلَى اللَّهِ، فَمِنَّا مَنْ مَاتَ لَمْ يَأْكُل مِنْ أَجْرِهِ شَيْئًا، مِنْهُمْ: مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَمِنَّا مَنْ أَيْنَعَتْ لَهُ ثَمَرَتُهُ فَهُوَ يُهْدِيهَا قُتِل يَوْمَ أُحُدٍ، فَلَمْ نَجِدْ مَا نُكَفِّنُهُ إِلاَّ بُرْدَةً، إِذَا غَطَّيْنَا بِهَا رَأْسَهُ خَرَجَتْ رِجْلاَهُ، وَإِذَا غَطَّيْنَا رِجْلَيْهِ خَرَجَ رَأْسُهُ، فَأَمَرَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نُغَطِّيَ رَأْسَهُ، وَأَنْ نَجْعَل عَلَى رِجْلَيْهِ مِنَ الإِْذْخِرِ (1)
صِفَةُ الْكَفَنِ:
3 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْمَيِّتَ يُكَفَّنُ - بَعْدَ طُهْرِهِ - بِشَيْءٍ مِنْ جِنْسِ مَا يَجُوزُ لَهُ لُبْسُهُ فِي حَال الْحَيَاةِ، فَيُكَفَّنُ فِي الْجَائِزِ مِنَ اللِّبَاسِ.
وَلاَ يَجُوزُ تَكْفِينُ الرَّجُل بِالْحَرِيرِ، وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَيَجُوزُ تَكْفِينُهَا فِيهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، لأَِنَّهُ يَجُوزُ لَهَا لُبْسُهُ فِي الْحَيَاةِ، لَكِنْ مَعَ الْكَرَاهَةِ، لأَِنَّ فِيهِ سَرَفًا وَيُشْبِهُ إِضَاعَةَ الْمَال، بِخِلاَفِ لُبْسِهَا إِيَّاهُ فِي الْحَيَاةِ، فَإِنَّهُ مُبَاحٌ شَرْعًا.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَحْرُمُ التَّكْفِينُ فِيهِ عِنْدَ عَدَمِ
__________
(1) حديث خباب: " هاجرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 142 ط السلفية) ، ومسلم (2 / 649 ط عيسى الحلبي) .(13/237)
الضَّرُورَةِ ذَكَرًا كَانَ الْمَيِّتُ أَوْ أُنْثَى؛ لأَِنَّهُ إِنَّمَا أُبِيحَ الْحَرِيرُ لِلْمَرْأَةِ حَال الْحَيَاةِ، لأَِنَّهَا مَحَل زِينَةٍ وَقَدْ زَال بِمَوْتِهَا (1) .
وَيُسْتَحَبُّ تَحْسِينُ الْكَفَنِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ بِأَنْ يُكَفَّنَ فِي مَلْبُوسِ مِثْلِهِ فِي الْجُمَعِ وَالأَْعْيَادِ مَا لَمْ يُوصِ بِأَدْنَى مِنْهُ، فَتُتَّبَعُ وَصِيَّتُهُ، لِمَا رَوَى مُسْلِمٌ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا كَفَّنَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُحْسِنْ كَفَنَهُ (2) .
وَأَمَّا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فَيَجِبُ أَنْ يُكَفَّنَ الْمَيِّتُ فِي مَلْبُوسِ مِثْلِهِ فِي الْجُمَعِ وَالأَْعْيَادِ إِذَا لَمْ يُوصِ بِدُونِهِ، لأَِمْرِ الشَّارِعِ بِتَحْسِينِهِ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي الأَْكْفَانِ الْمُبَاحَةِ حَال الْمَيِّتِ، فَإِنْ كَانَ مُكْثِرًا فَمِنْ جِيَادِ الثِّيَابِ، وَإِنْ كَانَ مُتَوَسِّطًا فَأَوْسَطُهَا، وَإِنْ كَانَ مُقِلًّا فَخَشِنُهَا.
وَتُجْزِئُ جَمِيعُ أَنْوَاعِ الْقُمَاشِ، وَالْخَلِقُ إِذَا غُسِل وَالْجَدِيدُ سَوَاءٌ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: اغْسِلُوا ثَوْبَيَّ هَذَيْنِ وَكَفِّنُونِي فِيهِمَا فَإِنَّهُمَا لِلْمُهْل وَالصَّدِيدِ.
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 307 ط دار الكتاب العربي، والمجموع 5 / 148 ط المنيرية، وروضة الطالبين 2 / 109 ط المكتب الإسلامي، وشرح منتهى الإرادات 1 / 336 ط دار الفكر، والدسوقي 1 / 413 ط عيسى الحلبي، وكشاف القناع 2 / 104 ط عالم الكتب، والإنصاف 2 / 507.
(2) حديث: " إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه " أخرجه مسلم (2 / 651 ط عيسى الحلبي) من حديث جابر بن عبد الله.(13/238)
وَالأَْفْضَل أَنْ يَكُونَ التَّكْفِينُ بِالثِّيَابِ الْبِيضِ، لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: الْبَسُوا مِنْ ثِيَابِكُمُ الْبَيَاضَ فَإِنَّهَا مِنْ خَيْرِ ثِيَابِكُمْ وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ (1) .
وَيُشْتَرَطُ فِي الْكَفَنِ أَلاَّ يَصِفَ الْبَشَرَةَ، لأَِنَّ مَا يَصِفُهَا غَيْرُ سَاتِرٍ فَوُجُودُهُ كَعَدَمِهِ، وَيُكْرَهُ إِذَا كَانَ يَحْكِي هَيْئَةَ الْبَدَنِ، وَإِنْ لَمْ يَصِفِ الْبَشَرَةَ (2) .
وَتُكْرَهُ الْمُغَالاَةُ فِي الْكَفَنِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ تُغَالُوا فِي الْكَفَنِ فَإِنَّهُ يُسْلَبُ سَلَبًا سَرِيعًا (3) .
كَمَا يُكْرَهُ التَّكْفِينُ بِمُزَعْفَرٍ، وَمُعَصْفَرٍ، وَشَعْرٍ، وَصُوفٍ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى غَيْرِهِ، لأَِنَّهُ خِلاَفُ فِعْل السَّلَفِ.
وَيَحْرُمُ التَّكْفِينُ بِالْجُلُودِ لأَِمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَزْعِ الْجُلُودِ عَنِ الشُّهَدَاءِ، وَأَنْ يُدْفَنُوا فِي ثِيَابِهِمْ (4) .
__________
(1) حديث: " ألبسوا من ثيابكم البياض. . . " سبق تخريجه ف 2.
(2) بدائع الصنائع 1 / 307، والمجموع 5 / 147، والشرح الصغير 1 / 549 ط دار المعارف بمصر، والمغني لابن قدامة 2 / 464 ط الرياض، ونهاية المحتاج 2 / 447 ط المكتبة الإسلامية، وكشاف القناع 2 / 103، وروضة الطالبين 2 / 109.
(3) حديث: " لا تغالوا في الكفن فإنه يسلب سلبا سريعا " أخرجه أبو داود (3 / 508 تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث علي بن أبي طالب. وفيه انقطاع بين الشعبي وعلي، والتلخيص لابن حجر (2 / 109 ط شركة الطباعة الفنية) .
(4) حديث: " أمر بنزع الجلود عن الشهداء، وأن يدفنوا في ثيابهم ". أخرجه أبو داود (3 / 498 تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث ابن عباس وضعفه ابن حجر في التلخيص (2 / 118 ط شركة الطباعة الفنية) .(13/238)
وَلاَ يُكَفَّنُ الْمَيِّتُ فِي مُتَنَجِّسٍ نَجَاسَةً لاَ يُعْفَى عَنْهَا وَإِنْ جَازَ لَهُ لُبْسُهُ خَارِجَ الصَّلاَةِ مَعَ وُجُودِ طَاهِرٍ، وَلَوْ كَانَ الطَّاهِرُ حَرِيرًا (1) .
أَنْوَاعُ الْكَفَنِ:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْكَفَنَ ثَلاَثَةُ أَنْوَاعٍ:
1 - كَفَنُ السُّنَّةِ.
2 - كَفَنُ الْكِفَايَةِ.
3 - كَفَنُ الضَّرُورَةِ.
4 - أ - كَفَنُ السُّنَّةِ: هُوَ أَكْمَل الأَْكْفَانِ، وَهُوَ لِلرَّجُل ثَلاَثَةُ أَثْوَابٍ: إِزَارٌ وَقَمِيصٌ وَلِفَافَةُ، وَالْقَمِيصُ مِنْ أَصْل الْعُنُقِ إِلَى الْقَدَمَيْنِ بِلاَ دِخْرِيصٍ (2) وَلاَ أَكْمَامٍ. وَالإِْزَارُ لِلْمَيِّتِ مِنْ أَعْلَى الرَّأْسِ إِلَى الْقَدَمِ بِخِلاَفِ إِزَارِ الْحَيِّ وَاللِّفَافَةُ كَذَلِكَ. لِحَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، فَإِنَّهُ قَال:
__________
(1) حاشية الطحطاوي 315 ط دار الإيمان، وحاشية أبي السعود على شرح الكنز 1 / 348 ط الأولى، والمجموع 5 / 148، 149، وكتاب الفروع 2 / 222 - 225 ط عالم الكتب، وحاشية الرهوني 2 / 212، والمغني 2 / 464، ومغني المحتاج 1 / 337 ص مصطفى الحلبي، والجمل على شرح المنهج 1 / 157 ط دار إحياء التراث العربي، وكشاف القناع 2 / 104.
(2) الدخريص ـ ويسمى البنيقة ـ هو قطعة تضاف إلى الثوب ليتسع (لسان العرب مادة: بنق)(13/239)
كُفِّنَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ثَلاَثَةِ أَثْوَابٍ: قَمِيصٌ وَإِزَارٌ وَلِفَافَةٌ (1) .
وَلِلْمَرْأَةِ خَمْسَةُ أَثْوَابٍ: قَمِيصٌ وَإِزَارٌ وَخِمَارٌ وَلِفَافَةٌ وَخِرْقَةٌ تُرْبَطُ فَوْقَ ثَدْيَيْهَا، لِحَدِيثِ أُمِّ لَيْلَى بِنْتِ قَانِفٍ الثَّقَفِيَّةِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاوَل اللَّوَاتِي غَسَّلْنَ ابْنَتَهُ فِي كَفَنِهَا ثَوْبًا ثَوْبًا حَتَّى نَاوَلَهُنَّ خَمْسَةَ أَثْوَابٍ (2) ، وَلأَِنَّهَا تَخْرُجُ فِيهَا حَالَةَ الْحَيَاةِ، فَكَذَا بَعْدَ الْمَمَاتِ (3) .
5 - ب - كَفَنُ الْكِفَايَةِ: هُوَ أَدْنَى مَا يُلْبَسُ حَال الْحَيَاةِ، وَهُوَ ثَوْبَانِ لِلرَّجُل فِي الأَْصَحِّ، لِقَوْل أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ حَضَرَهُ الْمَوْتُ: كَفِّنُونِي فِي ثَوْبَيَّ هَذَيْنِ اللَّذَيْنِ كُنْتُ أُصَلِّي فِيهِمَا، وَاغْسِلُوهُمَا، فَإِنَّهُمَا لِلْمُهْل وَالتُّرَابِ
وَلأَِنَّ أَدْنَى مَا يَلْبَسُهُ الرَّجُل فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ ثَوْبَانِ، لأَِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَخْرُجَ فِيهِمَا، وَيُصَلِّيَ فِيهِمَا مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ، فَكَذَا يَجُوزُ أَنْ يُكَفَّنَ فِيهِمَا أَيْضًا.
__________
(1) حديث جابر بن سمرة: " كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب ". أخرجه ابن عدي في الكامل في الضعفاء (7 / 2511 ط دار الفكر) ونقل الزيلعي عنه تضعفه له. نصب الراية (2 / 261 ط المجلس العلمي بالهند) .
(2) حديث ليلى بنت قانف الثقفية: ناول النبي صلى الله عليه وسلم اللواتي غسلن ابنته. . . " أخرجه أبو داود (3 / 509 تحقيق عزت عبيد دعاس) وفي إسناده جهالة (نصب الراية للزيلعي 2 / 264 ط المجلس العلمي بالهند)
(3) البدائع 1 / 307، وفتح القدير 1 / 454 ط بولاق.(13/239)
وَيُكْرَهُ أَنْ يُكَفَّنَ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ؛ لأَِنَّ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ تَجُوزُ صَلاَتُهُ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ مَعَ الْكَرَاهَةِ، فَكَذَا بَعْدَ الْمَوْتِ.
وَالْمُرَاهِقُ (1) كَالرَّجُل يُكَفَّنُ فِيمَا يُكَفَّنُ فِيهِ الرَّجُل؛ لأَِنَّ الْمُرَاهِقَ فِي حَال حَيَاتِهِ يَخْرُجُ فِيمَا يَخْرُجُ فِيهِ الْبَالِغُ عَادَةً، فَكَذَا يُكَفَّنُ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ صَبِيًّا لَمْ يُرَاهِقْ، فَإِنْ كُفِّنَ فِي خِرْقَتَيْنِ إِزَارٍ وَرِدَاءٍ فَحَسَنٌ، وَإِنْ كُفِّنَ فِي إِزَارٍ وَاحِدٍ جَازَ؛ لأَِنَّهُ فِي حَال حَيَاتِهِ كَانَ يَجُوزُ الاِقْتِصَارُ عَلَى ثَوْبٍ وَاحِدٍ فِي حَقِّهِ فَكَذَا بَعْدَ الْمَوْتِ.
وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَأَقَل مَا تُكَفَّنُ فِيهِ ثَلاَثَةُ أَثْوَابٍ: إِزَارٌ وَرِدَاءٌ وَخِمَارٌ، لأَِنَّ مَعْنَى السَّتْرِ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ يَحْصُل بِثَلاَثَةِ أَثْوَابٍ، حَتَّى يَجُوزَ لَهَا أَنْ تُصَلِّيَ فِيهَا وَتَخْرُجَ، فَكَذَا بَعْدَ الْمَوْتِ. وَيُكْرَهُ أَنْ تُكَفَّنَ الْمَرْأَةُ فِي ثَوْبَيْنِ.
وَأَمَّا الصَّغِيرَةُ فَلاَ بَأْسَ بِأَنْ تُكَفَّنَ فِي ثَوْبَيْنِ، وَالْمُرَاهِقَةُ بِمَنْزِلَةِ الْبَالِغَةِ فِي الْكَفَنِ، وَالسِّقْطُ يُلَفُّ فِي خِرْقَةٍ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ لَهُ حُرْمَةٌ كَامِلَةٌ، وَلأَِنَّ الشَّرْعَ إِنَّمَا وَرَدَ بِتَكْفِينِ الْمَيِّتِ، وَاسْمُ الْمَيِّتِ لاَ يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ، كَمَا لاَ يَنْطَلِقُ عَلَى بَعْضِ الْمَيِّتِ (2) .
__________
(1) المراهق - من قارب الاحتلام ولم يحتلم بعد - المصباح المنير.
(2) بدائع الصنائع 1 / 307، وفتح القدير 1 / 454 ط بولاق.(13/240)
6 - ج - الْكَفَنُ الضَّرُورِيُّ لِلرَّجُل وَالْمَرْأَةِ: هُوَ مِقْدَارُ مَا يُوجَدُ حَال الضَّرُورَةِ أَوِ الْعَجْزِ بِأَنْ كَانَ لاَ يُوجَدُ غَيْرُهُ، وَأَقَلُّهُ مَا يَعُمُّ الْبَدَنَ، لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ فِي تَكْفِينِ مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَكَذَا رُوِيَ أَنَّ حَمْزَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا اسْتَشْهَدَ كُفِّنَ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ لَمْ يُوجَدْ لَهُ غَيْرُهُ فَدَل عَلَى الْجَوَازِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ (1) .
7 - وَأَقَل الْكَفَنِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ ثَوْبٌ وَاحِدٌ، وَأَكْثَرُهُ سَبْعَةٌ. وَيُسْتَحَبُّ الْوِتْرُ فِي الْكَفَنِ، وَالأَْفْضَل أَنْ يُكَفَّنَ الرَّجُل بِخَمْسَةِ أَثْوَابٍ، وَهِيَ: الْقَمِيصُ وَالْعِمَامَةُ وَالإِْزَارُ وَلِفَافَتَانِ، وَيُكْرَهُ أَنْ يُزَادَ لِلرَّجُل عَلَيْهَا. وَالأَْفْضَل أَنْ تُكَفَّنَ الْمَرْأَةُ فِي سَبْعَةِ أَثْوَابٍ. دِرْعٌ وَخِمَارٌ وَإِزَارٌ وَأَرْبَعُ لَفَائِفَ، وَنُدِبَ خِمَارٌ يُلَفُّ عَلَى رَأْسِ الْمَرْأَةِ وَوَجْهِهَا بَدَل الْعِمَامَةِ لِلرَّجُل، وَنُدِبَ عَذَبَةٌ قَدْرُ ذِرَاعٍ تُجْعَل عَلَى وَجْهِ الرَّجُل (2) .
8 - وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: أَقَل الْكَفَنِ ثَوْبٌ وَاحِدٌ وَهُوَ مَا يَسْتُرُ الْعَوْرَةَ. وَفِي قَدْرِ الثَّوْبِ الْوَاجِبِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا يَسْتُرُ الْعَوْرَةَ، وَهِيَ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ فِي الرَّجُل، وَمَا عَدَا الْوَجْهَ وَالْكَفَّيْنِ فِي الْمَرْأَةِ.
__________
(1) حاشية الطحطاوي 315، 316، والبدائع 1 / 306، وابن عابدين 1 / 579، والهداية وفتح القدير 1 / 454.
(2) مواهب الجليل 2 / 25 ط مكتبة النجاح - ليبيا، والشرح الصغير 1 / 550 ط دار المعارف.(13/240)
وَالثَّانِي: مَا يَسْتُرُ جَمِيعَ بَدَنِهِ إِلاَّ رَأْسَ الْمُحْرِمِ وَوَجْهَ الْمُحْرِمَةِ (1) .
وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يُكَفَّنَ الرَّجُل فِي ثَلاَثَةِ أَثْوَابٍ: إِزَارٍ وَلِفَافَتَيْنِ بِيضٍ، لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلاَ عِمَامَةٌ (2) ، لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: كُفِّنَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ثَلاَثَةِ أَثْوَابٍ سُحُولِيَّةٍ (3) لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلاَ عِمَامَةٌ (4) .
وَالْبَالِغُ وَالصَّبِيُّ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَإِنْ كُفِّنَ فِي خَمْسَةِ أَثْوَابٍ لَمْ يُكْرَهْ، لأَِنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَ يُكَفِّنُ أَهْلَهُ فِي خَمْسَةِ أَثْوَابٍ فِيهَا قَمِيصٌ وَعِمَامَةٌ، وَلأَِنَّ أَكْمَل ثِيَابِ الْحَيِّ خَمْسَةٌ، وَيُكْرَهُ الزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ سَرَفٌ.
وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَإِنَّهَا تُكَفَّنُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي خَمْسَةِ أَثْوَابٍ: إِزَارٍ وَدِرْعٍ (قَمِيصٍ) وَخِمَارٍ وَلِفَافَتَيْنِ؛ لأَِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَفَّنَ فِيهَا ابْنَتَهُ أُمَّ كُلْثُومٍ. لِمَا رَوَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَاوَلَهَا إِزَارًا وَدِرْعًا وَخِمَارًا وَثَوْبَيْنِ (5) ، وَيُكْرَهُ مُجَاوَزَةُ
__________
(1) روضة الطالبين 1 / 283، 2 / 110 - 111 ط المكتب الإسلامي.
(2) نهاية المحتاج 2 / 450 ط المكتبة الإسلامية، والمجموع 5 / 144 - 146.
(3) سحولية نسبة إلى بلد باليمن كانت تجلب منها الثياب. (المصباح، سحل) .
(4) حديث عائشة: " كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب " أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 140 ط السلفية) ، ومسلم (2 / 650 ط عيسى الحلبي) .
(5) حديث أم عطية: سبق تخريجه ف 3.(13/241)
الْخَمْسَةِ فِي الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ، وَالْخُنْثَى كَالْمَرْأَةِ. 9
- وَقَال الْحَنَابِلَةُ: الْكَفَنُ الْوَاجِبُ ثَوْبٌ يَسْتُرُ جَمِيعَ بَدَنِ الْمَيِّتِ رَجُلاً كَانَ أَوِ امْرَأَةً، وَالأَْفْضَل أَنْ يُكَفَّنَ الرَّجُل فِي ثَلاَثِ لَفَائِفَ، وَتُكْرَهُ الزِّيَادَةُ عَلَى ثَلاَثَةِ أَثْوَابٍ فِي الْكَفَنِ لِمَا فِيهِ مِنْ إِضَاعَةِ الْمَال، وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ.
وَيَجُوزُ التَّكْفِينُ فِي ثَوْبَيْنِ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمُحْرِمِ الَّذِي وَقَصَتْهُ دَابَّتُهُ: اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْنِ (1) ، وَكَانَ سُوَيْدُ بْنُ غَفَلَةَ يَقُول: يُكَفَّنُ فِي ثَوْبَيْنِ.
وَقَال أَحْمَدُ: يُكَفَّنُ الصَّبِيُّ فِي خِرْقَةٍ (أَيْ ثَوْبٍ وَاحِدٍ) وَإِنْ كُفِّنَ فِي ثَلاَثَةٍ فَلاَ بَأْسَ (2) .
تَعْمِيمُ الْمَيِّتِ:
10 - الأَْفْضَل عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنْ يُكَفَّنَ الرَّجُل فِي ثَلاَثِ لَفَائِفَ بِيضٍ لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلاَ عِمَامَةٌ، وَالْعَمَل عَلَيْهِ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْل الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي الْكَفَنِ عِمَامَةٌ لَمْ يُكْرَهْ، لَكِنَّهُ خِلاَفُ الأَْوْلَى. وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ الأَْفْضَل أَنْ يُكَفَّنَ الرَّجُل بِخَمْسَةِ أَثْوَابٍ وَهِيَ: قَمِيصٌ، وَعِمَامَةٌ، وَإِزَارٌ، وَلِفَافَتَانِ. وَأَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَتُكْرَهُ الْعِمَامَةُ فِي
__________
(1) حديث: " اغسلوه بهاء وسدر وكفنوه في ثوبين ". أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 137 ط السلفية) من حديث عبد الله بن عباس.
(2) المغني 2 / 464 - 471.(13/241)
الأَْصَحِّ، لأَِنَّهَا لَمْ تَكُنْ فِي كَفَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلأَِنَّهَا لَوْ وُجِدَتِ الْعِمَامَةُ لَصَارَ الْكَفَنُ شَفْعًا، وَالسُّنَّةُ أَنْ يَكُونَ وِتْرًا، وَاسْتَحْسَنَهَا الْمُتَأَخِّرُونَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَ يُعَمِّمُ الْمَيِّتَ مِنْ أَهْلِهِ وَيَجْعَل الْعَذَبَةَ عَلَى وَجْهِهِ (1) .
عَلَى مَنْ يَجِبُ الْكَفَنُ:
11 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ كَفَنَ الْمَيِّتِ فِي مَالِهِ إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ وَيُكَفَّنُ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ إِلاَّ حَقًّا تَعَلَّقَ بِعَيْنٍ كَالرَّهْنِ (2) ، وَيُقَدَّمُ عَلَى الْوَصِيَّةِ وَالْمِيرَاثِ؛ لأَِنَّ هَذَا مِنْ أُصُول حَوَائِجِ الْمَيِّتِ فَصَارَ كَنَفَقَتِهِ فِي حَال حَيَاتِهِ وَهِيَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى سَائِرِ الْوَاجِبَاتِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ فَكَفَنُهُ عَلَى مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ - وَإِذَا تَعَدَّدَ مَنْ وَجَبَتِ النَّفَقَةُ عَلَيْهِ فَيَكُونُ كَفَنُهُ عَلَيْهِمْ، عَلَى مَا يُعْرَفُ فِي بَابِ النَّفَقَاتِ - كَمَا تَلْزَمُ كِسْوَتُهُ فِي حَال حَيَاتِهِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ وَلاَ مَنْ يُنْفِقُ عَلَيْهِ فَكَفَنُهُ فِي بَيْتِ الْمَال، كَنَفَقَتِهِ فِي حَال حَيَاتِهِ لأَِنَّهُ أُعِدَّ لِحَوَائِجِ الْمُسْلِمِينَ.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِ الْمَال فَعَلَى الْمُسْلِمِينَ تَكْفِينُهُ، فَإِنْ عَجَزُوا سَأَلُوا النَّاسَ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ غُسِّل وَجُعِل عَلَيْهِ الإِْذْخِرُ (أَوْ نَحْوُهُ مِنَ النَّبَاتِ) وَدُفِنَ وَيُصَلَّى عَلَى قَبْرِهِ.
__________
(1) حاشية الطحطاوي 315، ومواهب الجليل 2 / 225، والشرح الصغير 1 / 550، ونهاية المحتاج 2 / 450، والمجموع 5 / 144، والمغني 2 / 464 - 465.
(2) الاختيار 5 / 85.(13/242)
وَعَلَى الزَّوْجِ تَكْفِينُ زَوْجَتِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى قَوْلٍ مُفْتَى بِهِ، وَالْمَالِكِيَّةِ فِي قَوْلٍ، وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْصَحِّ، لأَِنَّ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ وَاجِبَةٌ عَلَى زَوْجِهَا فِي حَال حَيَاتِهَا، فَكَذَلِكَ التَّكْفِينُ وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّ التَّفْرِيقَ فِي هَذَا بَيْنَ الْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ غَيْرُ مَعْقُولٍ.
وَأَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَمُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، فَلاَ يَلْزَمُ الزَّوْجَ كَفَنُ امْرَأَتِهِ وَلاَ مُؤْنَةُ تَجْهِيزِهَا؛ لأَِنَّ النَّفَقَةَ وَالْكِسْوَةَ وَجَبَا فِي حَالَةِ الزَّوَاجِ وَقَدِ انْقَطَعَ بِالْمَوْتِ فَأَشْبَهَتِ الأَْجْنَبِيَّةَ. وَلاَ يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ كَفَنُ زَوْجِهَا بِالإِْجْمَاعِ، كَمَا لاَ يَجِبُ عَلَيْهَا كِسْوَتُهُ فِي حَال الْحَيَاةِ (1) .
كَيْفِيَّةُ تَكْفِينِ الرَّجُل:
12 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الأَْكْفَانَ تُجَمَّرُ أَيْ تُطَيَّبُ أَوَّلاً وِتْرًا قَبْل التَّكْفِينِ بِهَا، لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: إِذَا أَجْمَرْتُمُ الْمَيِّتَ فَأَجْمِرُوا وِتْرًا (2) وَلأَِنَّ الثَّوْبَ الْجَدِيدَ أَوِ الْغَسِيل مِمَّا
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 308 ط دار الكتاب العربي، والفتاوى الهندية 1 / 161 ط دار إحياء التراث العربي، وفتح القدير 1 / 452 ط المطبعة الأميرية ببولاق، والشرح الصغير 1 / 551 ط دار المعارف بمصر، والدسوقي 1 / 413، 1 / 414 ط دار الفكر بيروت لبنان، وروضة الطالبين 2 / 110، والمجموع 5 / 189 ط دار الطباعة المنيرية، وكشاف القناع 2 / 104 ط مكتبة النصر الحديثة.
(2) حديث: " إذا أجمرتم الميت فاجمروا وترا " أخرجه أحمد (3 / 331 ط الميمنية) والحاكم (1 / 355 ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث جابر بن عبد الله. وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.(13/242)
يُطَيَّبُ وَيُجَمَّرُ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ، فَكَذَا بَعْدَ الْمَمَاتِ، ثُمَّ الْمُسْتَحَبُّ أَنْ تُؤْخَذَ أَحْسَنُ اللَّفَائِفِ وَأَوْسَعُهَا فَتُبْسَطُ أَوَّلاً لِيَكُونَ الظَّاهِرُ لِلنَّاسِ حُسْنُهَا، فَإِنَّ هَذَا عَادَةُ الْحَيِّ يُجْعَل الظَّاهِرُ أَفْخَرَ ثِيَابِهِ. وَيُجْعَل عَلَيْهَا حَنُوطٌ، ثُمَّ تُبْسَطُ الثَّانِيَةُ الَّتِي تَلِيهَا فِي الْحُسْنِ وَالسَّعَةِ عَلَيْهَا، وَيُجْعَل فَوْقَهَا حَنُوطٌ وَكَافُورٌ ثُمَّ تُبْسَطُ فَوْقَهُمَا الثَّالِثَةُ وَيُجْعَل فَوْقَهَا حَنُوطٌ وَكَافُورٌ، وَلاَ يُجْعَل عَلَى وَجْهِ الْعُلْيَا وَلاَ عَلَى النَّعْشِ شَيْءٌ مِنَ الْحَنُوطِ، لأَِنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: لاَ تَجْعَلُوا عَلَى أَكْفَانِي حَنُوطًا ثُمَّ يُحْمَل الْمَيِّتُ مَسْتُورًا بِثَوْبٍ وَيُتْرَكُ عَلَى الْكَفَنِ مُسْتَلْقِيًا عَلَى ظَهْرِهِ بَعْدَ مَا يُجَفَّفُ، وَيُؤْخَذُ قُطْنٌ فَيُجْعَل فِيهِ الْحَنُوطُ وَالْكَافُورُ وَيُجْعَل بَيْنَ أَلْيَتَيْهِ وَيُشَدُّ عَلَيْهِ كَمَا يُشَدُّ التُّبَّانُ (1) .
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُؤْخَذَ الْقُطْنُ وَيُجْعَل عَلَيْهِ الْحَنُوطُ وَالْكَافُورُ وَيُتْرَكُ عَلَى الْفَمِ وَالْمَنْخِرَيْنِ وَالْعَيْنَيْنِ وَالأُْذُنَيْنِ وَعَلَى جِرَاحٍ نَافِذَةٍ إِنْ وُجِدَتْ عَلَيْهِ لِيَخْفَى مَا يَظْهَرُ مِنْ رَائِحَتِهِ، وَيُجْعَل الْحَنُوطُ وَالْكَافُورُ عَلَى قُطْنٍ وَيُتْرَكُ عَلَى مَوَاضِعِ السُّجُودِ، كَمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: تُتْبَعُ مَسَاجِدُهُ بِالطِّيبِ (2) وَلأَِنَّ هَذِهِ الْمَوَاضِعَ شُرِّفَتْ بِالسُّجُودِ فَخُصَّتْ بِالطِّيبِ.
__________
(1) التبان: سروال صغير مقدار شبر يستر العورة المغلظة وقد يكون للملاحين (مختار الصحاح) .
(2) فسر صاحب البدائع - المساجد هنا - بأنها مواضع السجود وهي جبهته وأنفه ويداه وركبتاه وقدماه - البدائع 1 / 308.(13/243)
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُحَنَّطَ رَأْسُهُ وَلِحْيَتُهُ بِالْكَافُورِ كَمَا يَفْعَل الْحَيُّ إِذَا تَطَيَّبَ، ثُمَّ يُلَفُّ الْكَفَنُ عَلَيْهِ بِأَنْ يُثْنَى مِنَ الثَّوْبِ الَّذِي يَلِي الْمَيِّتَ طَرَفُهُ الَّذِي يَلِي شِقَّهُ الأَْيْسَرَ عَلَى شِقِّهِ الأَْيْمَنِ، وَاَلَّذِي يَلِي الأَْيْمَنَ عَلَى الأَْيْسَرِ، كَمَا يَفْعَل الْحَيُّ بِالْقَبَاءِ، ثُمَّ يُلَفُّ الثَّانِي وَالثَّالِثُ كَذَلِكَ، وَإِذَا لُفَّ الْكَفَنُ عَلَيْهِ جُمِعَ الْفَاضِل عِنْدَ رَأْسِهِ جَمْعَ الْعِمَامَةِ، وَرُدَّ عَلَى وَجْهِهِ وَصَدْرِهِ إِلَى حَيْثُ بَلَغَ، وَمَا فَضَل عِنْدَ رِجْلَيْهِ يُجْعَل عَلَى الْقَدَمَيْنِ وَالسَّاقَيْنِ، ثُمَّ تُشَدُّ الأَْكْفَانُ عَلَيْهِ بِشِدَادٍ خِيفَةَ انْتِشَارِهَا عِنْدَ الْحَمْل، فَإِذَا وُضِعَ فِي الْقَبْرِ حُل الشِّدَادُ، هَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَكَذَلِكَ إِلاَّ أَنَّهُ يُلْبَسُ الْقَمِيصَ أَوَّلاً إِنْ كَانَ لَهُ قَمِيصٌ ثُمَّ يُعْطَفُ الإِْزَارُ عَلَيْهِ بِمِثْل مَا سَبَقَ ثُمَّ تُعْطَفُ اللِّفَافَةُ وَهِيَ الرِّدَاءُ كَذَلِكَ.
أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَيَكُونُ الإِْزَارُ مِنْ فَوْقِ السُّرَّةِ إِلَى نِصْفِ السَّاقِ تَحْتَ الْقَمِيصِ وَاللَّفَائِفِ فَوْقَ ذَلِكَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَيُزَادُ عَلَيْهَا الْحِفَاظُ وَهِيَ خِرْقَةٌ تُشَدُّ عَلَى قُطْنٍ بَيْنَ فَخِذَيْهِ خِيفَةَ مَا يَخْرُجُ مِنَ الْمَخْرَجَيْنِ، وَاللِّثَامُ وَهُوَ خِرْقَةٌ تُوضَعُ عَلَى قُطْنٍ يُجْعَل عَلَى فَمِهِ وَأَنْفِهِ خِيفَةَ مَا يَخْرُجُ مِنْهُمَا (1) .
__________
(1) البدائع 1 / 308، والمغني 2 / 464، 465 وما بعدها، والمجموع 5 / 149، وروضة الطالبين 2 / 113، وكفاية الطالب 1 / 320، وشرح منح الجليل 1 / 298.(13/243)
كَيْفِيَّةُ تَكْفِينِ الْمَرْأَةِ:
12 م - وَأَمَّا تَكْفِينُ الْمَرْأَةِ فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: تُبْسَطُ لَهَا اللِّفَافَةُ وَالإِْزَارُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي الرَّجُل، ثُمَّ تُوضَعُ عَلَى الإِْزَارِ وَتُلْبَسُ الدِّرْعَ، وَيُجْعَل شَعْرُهَا ضَفِيرَتَيْنِ عَلَى صَدْرِهَا فَوْقَ الدِّرْعِ، وَيُسْدَل شَعْرُهَا مَا بَيْنَ ثَدْيَيْهَا مِنَ الْجَانِبَيْنِ جَمِيعًا تَحْتَ الْخِمَارِ، وَلاَ يُسْدَل شَعْرُهَا خَلْفَ ظَهْرِهَا، ثُمَّ يُجْعَل الْخِمَارُ فَوْقَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُعْطَفُ الإِْزَارُ وَاللِّفَافَةُ كَمَا قَالُوا فِي الرَّجُل: ثُمَّ الْخِرْقَةُ فَوْقَ ذَلِكَ تُرْبَطُ فَوْقَ الأَْكْفَانِ فَوْقَ الثَّدْيَيْنِ وَالْبَطْنِ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهَا تُلْبَسُ الإِْزَارَ مِنْ تَحْتِ إِبِطَيْهَا إِلَى كَعْبَيْهَا، ثُمَّ تُلْبَسُ الْقَمِيصَ، ثُمَّ تُخَمَّرُ بِخِمَارٍ يُخَمَّرُ بِهِ رَأْسُهَا وَرَقَبَتُهَا، ثُمَّ تُلَفُّ بِأَرْبَعِ لَفَائِفَ، وَيُزَادُ عَلَيْهَا الْحِفَاظُ وَاللِّثَامُ (2) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى الْمُفْتَى بِهِ تُؤَزَّرُ بِإِزَارٍ، ثُمَّ تُلْبَسُ الدِّرْعَ، ثُمَّ تُخَمَّرُ بِخِمَارٍ، ثُمَّ تُدَرَّجُ فِي ثَوْبَيْنِ، قَال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَيُشَدُّ عَلَى صَدْرِهَا ثَوْبٌ لِيَضُمَّ ثِيَابَهَا فَلاَ تَنْتَشِرُ (3) .
وَأَمَّا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، فَتُشَدُّ الْخِرْقَةُ عَلَى فَخِذَيْهَا أَوَّلاً، ثُمَّ تُؤَزَّرُ بِالْمِئْزَرِ، ثُمَّ تُلْبَسُ الْقَمِيصَ، ثُمَّ تُخَمَّرُ بِالْمِقْنَعَةِ ثُمَّ تُلَفُّ بِلِفَافَتَيْنِ عَلَى الأَْصَحِّ (4) .
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 161، والبدائع 1 / 307، 308.
(2) منح الجليل 1 / 298.
(3) المجموع 5 / 207، وروضة الطالبين 2 / 112.
(4) المغني 2 / 470.(13/244)
كَيْفِيَّةُ تَكْفِينِ الْمُحْرِمِ وَالْمُحْرِمَةِ:
13 - قَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (1) : إِذَا مَاتَ الْمُحْرِمُ وَالْمُحْرِمَةُ حَرُمَ تَطْيِيبُهُمَا وَأَخْذُ شَيْءٍ مِنْ شَعْرِهِمَا أَوْ ظُفْرِهِمَا، وَحَرُمَ سَتْرُ رَأْسِ الرَّجُل وَإِلْبَاسُهُ مَخِيطًا. وَحَرُمَ سَتْرُ وَجْهِ الْمُحْرِمَةِ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال فِي الْمُحْرِمِ الَّذِي وَقَصَتْهُ نَاقَتُهُ فَمَاتَ: اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ اللَّذَيْنِ مَاتَ فِيهِمَا، وَلاَ تُمِسُّوهُ بِطِيبٍ، وَلاَ تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ، فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا (2) .
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ يُكَفَّنُ الْمُحْرِمُ وَالْمُحْرِمَةُ، كَمَا يُكَفَّنُ غَيْرُ الْمُحْرِمِ أَيْ يُغَطَّى رَأْسُهُ وَوَجْهُهُ وَيُطَيَّبُ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال فِي الْمُحْرِمِ يَمُوتُ: خَمِّرُوهُمْ وَلاَ تُشَبِّهُوهُمْ بِالْيَهُودِ (3) . وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال فِي الْمُحْرِمِ: إِذَا مَاتَ انْقَطَعَ
__________
(1) المجموع 5 / 157، والمغني وشرح الكبير 2 / 332 ط دار الكتاب العربي، والإنصاف 2 / 498.
(2) حديث: " اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه، ولا تمسوه. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 64 ط السلفية) من حديث ابن عباس.
(3) حديث " خمروا وجوه موتاكم ولا تشبهوا باليهود ". أخرجه الطبراني (11 / 183 ط وزارة الأوقاف العراقية) ، وفي إسناده انقطاع. مجمع الزوائد (3 / 25 ط القدسي) .(13/244)
إِحْرَامُهُ وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاَثٍ: وَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ، أَوْ صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ، أَوْ عِلْمٌ يُنْتَفَعُ بِهِ (1) .
وَالإِْحْرَامُ لَيْسَ مِنْ هَذِهِ الثَّلاَثَةِ (2) .
تَكْفِينُ الشَّهِيدِ:
14 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ شَهِيدَ الْمَعْرَكَةِ - الَّذِي قَتَلَهُ الْمُشْرِكُونَ، أَوْ وُجِدَ بِالْمَعْرَكَةِ جَرِيحًا، أَوْ قَتَلَهُ الْمُسْلِمُونَ ظُلْمًا وَلَمْ يَجِبْ فِيهِ مَالٌ - يُكَفَّنُ فِي ثِيَابِهِ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: زَمِّلُوهُمْ بِدِمَائِهِمْ (3) وَقَدْ رُوِيَ فِي ثِيَابِهِمْ، وَعَنْ عَمَّارٍ وَزَيْدِ بْنِ صُوحَانَ أَنَّهُمَا قَالاَ: لاَ تَنْزِعُوا عَنِّي ثَوْبًا. . الْحَدِيثَ، غَيْرَ أَنَّهُ يُنْزَعُ عَنْهُ الْجُلُودُ وَالسِّلاَحُ وَالْفَرْوُ وَالْحَشْوُ وَالْخُفُّ وَالْمِنْطَقَةُ وَالْقَلَنْسُوَةُ. لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: تُنْزَعُ عَنْهُ الْعِمَامَةُ وَالْخُفَّانِ وَالْقَلَنْسُوَةُ، وَلِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
__________
(1) حديث " إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له ". أخرجه مسلم (3 / 1255 ط عيسى الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(2) البدائع 1 / 307، 308، والخرشي 2 / 127 ط دار صادر بيروت، وشرح منح الجليل 1 / 298.
(3) حديث " زملوهم بدمائهم " أخرجه أحمد (5 / 431 ط الميمنية) من حديث جابر بن عبد الله. وإسناده صحيح. نصب الراية (2 / 307 ط المجلس العلمي بالهند) .(13/245)
قَال: أَمَرَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلَى أُحُدٍ أَنْ يُنْزَعَ عَنْهُمُ الْحَدِيدُ وَالْجُلُودُ، وَأَنْ يُدْفَنُوا بِدِمَائِهِمْ وَثِيَابِهِمْ (1) ، وَلأَِنَّ هَذِهِ الأَْشْيَاءَ الَّتِي أُمِرَ بِنَزْعِهَا لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الْكَفَنِ، وَلأَِنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَمِّلُوهُمْ بِثِيَابِهِمُ الثِّيَابُ الَّتِي يُكَفَّنُ بِهَا وَتُلْبَسُ لِلسَّتْرِ، وَلأَِنَّ الدَّفْنَ بِالسِّلاَحِ وَمَا ذُكِرَ مَعَهُ كَانَ مِنْ عَادَةِ أَهْل الْجَاهِلِيَّةِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَدْفِنُونَ أَبْطَالَهُمْ بِمَا عَلَيْهِمْ مِنَ الأَْسْلِحَةِ وَقَدْ نُهِينَا عَنِ التَّشَبُّهِ بِهِمْ (2) .
وَيَجُوزُ أَنْ يُزَادَ فِي أَكْفَانِهِمْ أَوْ يُنْقَصُ عَلَى أَنْ لاَ يَخْرُجَ عَنْ كَفَنِ السُّنَّةِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ خَبَّابٍ أَنَّ حَمْزَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمْ يُوجَدْ لَهُ كَفَنٌ إِلاَّ بُرْدَةٌ مَلْحَاءُ إِذَا جُعِلَتْ عَلَى قَدَمَيْهِ قَلَصَتْ عَنْ رَأْسِهِ حَتَّى مُدَّتْ عَلَى رَأْسِهِ وَجُعِل عَلَى قَدَمَيْهِ الإِْذْخِرُ (3) .
وَذَاكَ زِيَادَةٌ، وَلأَِنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى مَا عَلَيْهِ حَتَّى يَبْلُغَ عَدَدَ السُّنَّةِ مِنْ بَابِ الْكَمَال وَأَمَّا النُّقْصَانُ فَهُوَ مِنْ بَابِ دَفْعِ الضَّرَرِ عَنِ الْوَرَثَةِ لِجَوَازِ أَنْ
__________
(1) حديث " أمر بقتلى أحد أن ينتزع عنهم الحديد. . . " أخرجه أبو داود (3 / 498 تحقيق عزت عبيد دعاس) وضعفه ابن حجر في التلخيص (2 / 118 ط شركة الطباعة الفنية) .
(2) بدائع الصنائع 1 / 324.
(3) حديث: " عن خباب أن حمزة لم يوجد له كفن إلا بردة ملحاء. . . " أخرجه أحمد (5 / 111 ط الميمنية) .(13/245)
يَكُونَ عَلَيْهِ مِنَ الثِّيَابِ مَا يَضُرُّ بِالْوَرَثَةِ تَرْكُهُ عَلَيْهِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ. أَنَّ شَهِيدَ الْمَعْرَكَةِ يُدْفَنُ بِثِيَابِهِ الَّتِي مَاتَ فِيهَا وُجُوبًا إِنْ كَانَتْ مُبَاحَةً وَإِلاَّ فَلاَ يُدْفَنُ بِهَا، وَيُشْتَرَطُ أَنْ تَسْتُرَهُ كُلَّهُ فَتُمْنَعُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا، فَإِنْ لَمْ تَسْتُرْهُ زِيدَ عَلَيْهَا مَا يَسْتُرُهُ، فَإِنْ وُجِدَ عُرْيَانًا سُتِرَ جَمِيعُ جَسَدِهِ. قَال ابْنُ رُشْدٍ: مَنْ عَرَّاهُ الْعَدُوُّ فَلاَ رُخْصَةَ فِي تَرْكِ تَكْفِينِهِ بَل ذَلِكَ لاَزِمٌ. وَأَمَّا الزِّيَادَةُ عَلَى ثِيَابِهِ إِذَا كَانَ فِيهَا مَا يُجْزِيهِ فَلاَ بَأْسَ بِهَا، وَلَيْسَ لِوَلِيِّهِ نَزْعُ ثِيَابِهِ وَتَكْفِينُهُ بِغَيْرِهَا.
وَيُنْدَبُ دَفْنُهُ بِخُفٍّ وَقَلَنْسُوَةٍ وَمِنْطَقَةٍ (مَا يُحْتَزَمُ بِهِ فِي وَسَطِهِ) إِنْ قَل ثَمَنُهَا وَخَاتَمٌ قَل ثَمَنُهُ، وَلاَ يُدْفَنُ الشَّهِيدُ بِآلَةِ حَرْبٍ قُتِل وَهِيَ مَعَهُ كَدِرْعٍ وَسِلاَحٍ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ (2) : إِنَّ شَهِيدَ الْمَعْرَكَةِ يَجِبُ دَفْنُهُ فِي ثِيَابِهِ الَّتِي قُتِل فِيهَا وَلَوْ كَانَتْ حَرِيرًا عَلَى ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ. وَيُنْزَعُ السِّلاَحُ وَالْجُلُودُ وَالْفَرْوُ وَالْخُفُّ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ السَّابِقِ، وَلاَ يُزَادُ فِي ثِيَابِ الشَّهِيدِ وَلاَ يُنْقَصُ مِنْهَا، وَلَوْ لَمْ يَحْصُل الْمَسْنُونُ بِهَا لِنَقْصِهَا أَوْ زِيَادَتِهَا.
وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي تَخْرِيجِهِ أَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِهِمَا، وَجَاءَ فِي الْمُبْدِعِ: فَإِنْ سُلِبَ مَا عَلَى الشَّهِيدِ مِنْ
__________
(1) شرح منح الجليل 1 / 312، وحاشية الدسوقي 1 / 425.
(2) كشاف القناع 2 / 99 - 100، ومنتهى الإرادات 1 / 155.(13/246)
الثِّيَابِ، كُفِّنَ بِغَيْرِهَا وُجُوبًا كَغَيْرِهِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يُكَفَّنُ شَهِيدُ الْمَعْرَكَةِ نَدْبًا فِي ثِيَابِهِ لِخَبَرِ أَبِي دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: رُمِيَ رَجُلٌ بِسَهْمِ فِي صَدْرِهِ أَوْ فِي حَلْقِهِ فَمَاتَ فَأُدْرِجَ فِي ثِيَابِهِ كَمَا هُوَ قَال: وَنَحْنُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) وَالْمُرَادُ ثِيَابُهُ الَّتِي مَاتَ فِيهَا وَاعْتَادَ لُبْسَهَا غَالِبًا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُلَطَّخَةً بِالدَّمِ، وَيُفْهَمُ مِنْ عِبَارَتِهِمْ أَنَّهُ لاَ يَجِبُ تَكْفِينُهُ فِي ثِيَابِهِ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِ وَقْتَ اسْتِشْهَادِهِ بَل هُوَ أَمْرٌ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ فَيَجُوزُ أَنْ يُكَفَّنَ كَسَائِرِ الْمَوْتَى، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَا عَلَيْهِ سَابِغًا أَيْ سَاتِرًا لِجَمِيعِ بَدَنِهِ تَمَّمَ وُجُوبًا، لأَِنَّهُ حَقٌّ لِلْمَيِّتِ، وَيُنْدَبُ نَزْعُ آلَةِ الْحَرْبِ عَنْهُ كَدِرْعٍ وَخُفٍّ، وَكُل مَا لاَ يُعْتَادُ لُبْسُهُ غَالِبًا كَجِلْدٍ وَفَرْوٍ وَجُبَّةٍ مَحْشُوَّةٍ (2) .
وَأَمَّا شُهَدَاءُ غَيْرِ الْمَعْرَكَةِ كَالْغَرِيقِ وَالْحَرِيقِ وَالْمَبْطُونِ وَالْغَرِيبِ فَيُكَفَّنُ كَسَائِرِ الْمَوْتَى وَذَلِكَ بِاتِّفَاقِ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ (3) .
__________
(1) حديث جابر: رمى رجل بسهم. . . " أخرجه أبو داود (3 / 497 - تحقيق عزت عبيد دعاس) . وقال ابن حجر: " على شرط مسلم ". التلخيص (2 / 118 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(2) مغني المحتاج 1 / 351 ط الحلبي، وشرح التحرير بحاشية الشرقاوي 1 / 337، وروضة الطالبين 2 / 120.
(3) بدائع الصنائع 1 / 324، وشرح منح الجليل 1 / 312، وكشاف القناع 2 / 99 - 100، ومغني المحتاج 1 / 351.(13/246)
إِعْدَادُ الْكَفَنِ مُقَدَّمًا:
15 - فِي الْبُخَارِيِّ: عَنِ ابْنِ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبُرْدَةٍ مَنْسُوجَةٍ فِيهَا حَاشِيَتُهَا. . . فَحَسَّنَهَا فُلاَنٌ فَقَال: أَكْسِنِيهَا مَا أَحْسَنَهَا. قَال الْقَوْمُ: مَا أَحْسَنْتَ، لَبِسَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحْتَاجًا إِلَيْهَا، ثُمَّ سَأَلْتَهُ، وَعَلِمْتَ أَنَّهُ لاَ يَرُدُّ، قَال: إِنِّي وَاَللَّهِ مَا سَأَلْتُهُ لأَِلْبَسَهَا، إِنَّمَا سَأَلْتُهُ لِتَكُونَ كَفَنِي، قَال سَهْلٌ: فَكَانَتْ كَفَنَهُ (1) . وَهَذَا الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى الْجَوَازِ، لِعَدَمِ إِنْكَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِذَلِكَ (2) . وَفِي حَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ. وَيَنْبَغِي أَنْ لاَ يُكْرَهَ تَهْيِئَةُ الْكَفَنِ لأَِنَّ الْحَاجَةَ إِلَيْهِ مُتَحَقِّقَةٌ غَالِبًا. وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يُنْدَبُ أَنْ يَعُدَّ لِنَفْسِهِ كَفَنًا لِئَلاَّ يُحَاسَبَ عَلَى اتِّخَاذِهِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مِنْ جِهَةِ حَلٍّ أَوْ أَثَرٍ مِنْ ذِي صَلاَحٍ فَحَسُنَ إِعْدَادُهُ، لَكِنْ لاَ يَجِبُ تَكْفِينُهُ فِيهِ كَمَا اقْتَضَاهُ كَلاَمُ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ وَغَيْرِهِ، بَل لِلْوَارِثِ إِبْدَالُهُ. وَلِهَذَا لَوْ نُزِعَتِ الثِّيَابُ الْمُلَطَّخَةُ بِالدَّمِ عَنِ الشَّهِيدِ وَكُفِّنَ فِي غَيْرِهَا جَازَ مَعَ أَنَّ فِيهَا أَثَرَ الْعِبَادَةِ الشَّاهِدَةِ لَهُ بِالشَّهَادَةِ، فَهَذَا أَوْلَى.
__________
(1) حديث سهل بن سعد: أن امرأة جاءت النبي صلى الله عليه وسلم ببردة. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 143 ط السلفية) .
(2) فتح الباري 3 / 143، وابن عابدين 1 / 606، ونهاية المحتاج 2 / 456، والجمل شرح المنهج 2 / 156، وشرح التحرير بحاشية الشرقاوي 1 / 337، والمجموع 5 / 211، والمغني لابن قدامة 2 / 467 ط الرياض.(13/247)
إِعَادَةُ تَكْفِينِ الْمَيِّتِ:
16 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ كُفِّنَ الْمَيِّتُ فَسُرِقَ الْكَفَنُ قَبْل الدَّفْنِ أَوْ بَعْدَهُ كُفِّنَ كَفَنًا ثَانِيًا مِنْ مَالِهِ أَوْ مِنْ مَال مَنْ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ أَوْ مِنْ بَيْتِ الْمَال، لأَِنَّ الْعِلَّةَ فِي الْمَرَّةِ الأُْولَى الْحَاجَةُ وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ (1) .
الْقَطْعُ بِسَرِقَةِ الْكَفَنِ:
17 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى قَطْعِ النَّبَّاشِ إِذَا تَحَقَّقَتْ شُرُوطُ الْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ، لِمَا رَوَى الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ حَرَّقَ حَرَّقْنَاهُ، وَمَنْ غَرَّقَ غَرَّقْنَاهُ، وَمَنْ نَبَشَ قَطَعْنَاهُ (2) . وَلِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: سَارِقُ أَمْوَاتِنَا كَسَارِقِ أَحْيَائِنَا لأَِنَّ الْقَبْرَ حِرْزٌ لِلْكَفَنِ، وَإِنْ كَانَ الْكَفَنُ زَائِدًا عَلَى كَفَنِ السُّنَّةِ أَوْ دُفِنَ فِي تَابُوتٍ فَسُرِقَ التَّابُوتُ لَمْ يُقْطَعْ، لأَِنَّ مَا زَادَ عَلَى الْمَشْرُوعِ فِي الْكَفَنِ لَمْ يُجْعَل الْقَبْرُ حِرْزًا لَهُ وَكَذَلِكَ التَّابُوتُ
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيَّةُ: لاَ قَطْعَ عَلَى النَّبَّاشِ مُطْلَقًا. لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ قَطْعَ عَلَى الْمُخْتَفِي
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 161، وشرح منح الجليل 1 / 294 ط مكتبة النجاح، والمجموع 5 / 158، وكشاف القناع 1 / 108 ط مكتبة النصر الحديثة.
(2) حديث البراء بن عازب: " من حرق حرقناه ومن غرق غرقناه. . . " أخرجه البيهقي في المعرفة كما في نصب الراية للزيلعي (3 / 366 ط المجلس العلمي بالهند) ونقل الزيلعي عن ابن عبد الهادي أن في إسناده من يجهل حاله.(13/247)
وَهُوَ النَّبَّاشُ بِلُغَةِ أَهْل الْمَدِينَةِ (1)) وَلأَِنَّ الشُّبْهَةَ تَمَكَّنَتْ فِي الْمِلْكِ لأَِنَّهُ لاَ مِلْكَ لِلْمَيِّتِ حَقِيقَةً وَلاَ لِلْوَارِثِ لِتَقَدُّمِ حَاجَةِ الْمَيِّتِ، فَتَمَكَّنَتِ الشُّبْهَةُ الْمُسْقِطَةُ لِلْقَطْعِ، وَوَافَقَهُمَا الشَّافِعِيَّةُ إِذَا كَانَ الْمَيِّتُ مَدْفُونًا فِي بَرِيَّةٍ لِعَدَمِ الْحِرْزِ (2) .
الْكِتَابَةُ عَلَى الْكَفَنِ:
18 - جَاءَ فِي الْجَمَل عَلَى شَرْحِ الْمَنْهَجِ، لاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُكْتَبَ عَلَيْهَا شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ أَوِ الأَْسْمَاءِ الْمُعَظَّمَةِ صِيَانَةً لَهَا مِنَ الصَّدِيدِ، وَبِهِ قَال ابْنُ الصَّلاَحِ (3) .
__________
(1) حديث " لا قطع على المختفى " قال الزيلعي: " غريب " يعني لا أصل له كما نص عليه في مقدمة كتابه نصب الراية (3 / 367 ط المجلس العلمي بالهند) .
(2) البحر الرائق 5 / 60، والبناية 5 / 557، والمهذب 2 / 279، وجواهر الإكليل 2 / 292، والمغني 1 / 272.
(3) الجمل على شرح المنهج 2 / 162 ط دار إحياء التراث العربي - بيروت لبنان، وقليوبي 1 / 329.(13/248)
تَكْلِيفٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّكْلِيفُ لُغَةً: مَصْدَرُ كَلَّفَ. تَقُول: كَلَّفْتُ الرَّجُل: إِذَا أَلْزَمْتُهُ مَا يَشُقُّ عَلَيْهِ (1) . قَال اللَّهُ تَعَالَى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا (2) } . وَفِي الاِصْطِلاَحِ: طَلَبُ الشَّارِعِ مَا فِيهِ كُلْفَةً مِنْ فِعْلٍ أَوْ تَرْكٍ، وَهَذَا الطَّلَبُ مِنَ الشَّارِعِ بِطَرِيقِ الْحُكْمِ، وَهُوَ الْخِطَابُ الْمُتَعَلِّقُ بِأَفْعَال الْمُكَلَّفِينَ بِالاِقْتِضَاءِ أَوِ التَّخْيِيرِ (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الأَْهْلِيَّةُ:
2 - أَهْلِيَّةُ الإِْنْسَانِ لِلشَّيْءِ صَلاَحِيَّتُهُ لِصُدُورِ ذَلِكَ الشَّيْءِ وَطَلَبُهُ مِنْهُ (4) .
قَال الأُْصُولِيُّونَ: إِنَّهُ لاَ بُدَّ فِي الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ
__________
(1) تاج العروس، مادة: " كلف ".
(2) سورة البقرة / 286.
(3) جمع الجوامع 1 / 171، وإرشاد الفحول ص 6، والتلويح على التوضيح 1 / 13.
(4) كشف الأسرار 4 / 237.(13/248)
الْمُخَاطَبِ) مِنْ أَهْلِيَّتِهِ لِلْحُكْمِ (الْخِطَابِ) وَإِنَّهَا لاَ تَثْبُتُ إِلاَّ بِالْبُلُوغِ وَالْعَقْل وَهِيَ عَلَى قِسْمَيْنِ: أَهْلِيَّةُ الْوُجُوبِ، وَأَهْلِيَّةُ الأَْدَاءِ (1) .
أَمَّا أَهْلِيَّةُ الْوُجُوبِ فَعِبَارَةٌ عَنْ صَلاَحِيَّةِ الشَّخْصِ لِوُجُوبِ الْحُقُوقِ الْمَشْرُوعَةِ، بِحَيْثُ تَثْبُتُ لَهُ حُقُوقٌ، وَتَجِبُ عَلَيْهِ وَاجِبَاتٌ وَالْتِزَامَاتٌ.
وَأَهْلِيَّةُ الأَْدَاءِ عِبَارَةٌ عَنْ صَلاَحِيَّتِهِ لِصُدُورِ الْفِعْل عَلَى وَجْهٍ يُعْتَدُّ بِهِ شَرْعًا، وَالآْثَارُ الشَّرْعِيَّةُ تَتَرَتَّبُ عَلَى هَذِهِ الأَْهْلِيَّةِ (2) ، وَبِهَذَا يُعْرَفُ أَنَّ الأَْهْلِيَّةَ مَنَاطُ التَّكْلِيفِ. وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (أَهْلِيَّةٌ) .
ب - الذِّمَّةُ:
3 - الذِّمَّةُ فِي اللُّغَةِ: الْعَهْدُ وَالضَّمَانُ وَالأَْمَانُ، وَفِي الاِصْطِلاَحِ: وَصْفٌ يَصِيرُ بِهِ الشَّخْصُ أَهْلاً لِلإِْلْزَامِ وَالاِلْتِزَامِ، وَهِيَ مِنْ لَوَازِمِ أَهْلِيَّةِ الْوُجُوبِ؛ لأَِنَّ أَهْلِيَّةَ الْوُجُوبِ تَثْبُتُ بِنَاءً عَلَى الذِّمَّةِ، فَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّكْلِيفِ وَالذِّمَّةِ أَنَّ التَّكْلِيفَ أَعَمُّ، لأَِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِأَهْلِيَّةِ الْوُجُوبِ وَالأَْدَاءِ مَعًا (3) .
__________
(1) كشف الأسرار 4 / 238.
(2) شرح التلويح على التوضيح 2 / 164 وإرشاد الفحول ص 11.
(3) الموسوعة الجزء السابع ص 152 مصطلح (أهلية) ، والتلويح على التوضيح 2 / 161 - 162.(13/249)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
4 - أَوْرَدَ عُلَمَاءُ الْفِقْهِ أَحْكَامَ التَّكْلِيفِ وَالأَْهْلِيَّةِ فِي بَابِ الْحَجْرِ، وَتَكَلَّمَ عَنْهُ عُلَمَاءُ أُصُول الْفِقْهِ فِي بَيَانِ الْحُكْمِ، وَالْحَاكِمِ، وَالْمَحْكُومِ عَلَيْهِ، وَالْمَحْكُومِ بِهِ، وَفِي مَوَاضِعَ أُخْرَى يَحْتَاجُ الْبَحْثُ فِيهَا إِلَى ذِكْرِ التَّكْلِيفِ.
وَالتَّكْلِيفُ يَتَوَقَّفُ عَلَى مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْحُكْمُ مِنَ:
الْحَاكِمِ، وَالْمَحْكُومِ عَلَيْهِ، وَالْمَحْكُومِ بِهِ: وَفِيمَا يَلِي بَيَانُ ذَلِكَ:
أ - عَلاَقَةُ التَّكْلِيفِ بِالْحَاكِمِ وَالشَّارِعِ عَلاَقَةُ الْفِعْل (الْمَصْدَرِ) بِفَاعِلِهِ لأَِنَّ التَّكْلِيفَ يَقَعُ مِنَ الْحَاكِمِ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ اقْتِضَاءً أَوْ تَخْيِيرًا.
ب - صِلَةُ التَّكْلِيفِ بِالْمَحْكُومِ بِهِ: أَوْرَدَ عُلَمَاءُ الأُْصُول أَنَّ الأَْحْكَامَ التَّكْلِيفِيَّةَ خَمْسَةٌ. قَال الْغَزَالِيُّ: أَقْسَامُ الأَْحْكَامِ الثَّابِتَةِ لأَِفْعَال الْمُكَلَّفِينَ خَمْسَةٌ: الْوَاجِبُ، وَالْمَحْظُورُ، وَالْمُبَاحُ، وَالْمَنْدُوبُ، وَالْمَكْرُوهُ.
وَوَجْهُ هَذِهِ الْقِسْمَةِ أَنَّ خِطَابَ الشَّرْعِ إِمَّا أَنْ يَرِدَ بِاقْتِضَاءِ الْفِعْل، أَوِ اقْتِضَاءِ التَّرْكِ، أَوِ التَّخْيِيرِ بَيْنَ الْفِعْل وَالتَّرْكِ، فَإِنْ وَرَدَ بِاقْتِضَاءِ الْفِعْل فَهُوَ أَمْرٌ، فَإِمَّا أَنْ يَقْتَرِنَ بِهِ الإِْشْعَارُ بِعِقَابٍ عَلَى التَّرْكِ فَيَكُونُ وَاجِبًا، أَوْ لاَ يَقْتَرِنُ فَيَكُونُ نَدْبًا. وَاَلَّذِي وَرَدَ بِاقْتِضَاءِ التَّرْكِ فَإِنْ أَشْعَرَ بِالْعِقَابِ عَلَى الْفِعْل فَحَظْرٌ، وَإِلاَّ فَكَرَاهِيَةٌ، وَإِنْ وَرَدَ بِالتَّخْيِيرِ فَهُوَ مُبَاحٌ.(13/249)
وَلاَ شَكَّ أَنَّ تَسْمِيَةَ الْخَمْسَةِ تَكْلِيفِيَّةً تَغْلِيبٌ إِذْ لاَ تَكْلِيفَ فِي الإِْبَاحَةِ وَلاَ فِي النَّدْبِ وَالْكَرَاهَةِ التَّنْزِيهِيَّةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.
وَمِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى اشْتَرَطُوا فِي التَّكْلِيفِ أَنْ يَكُونَ الْفِعْل الَّذِي وَقَعَ التَّكْلِيفُ بِهِ مُمْكِنًا.
ج - وَيُشْتَرَطُ فِي التَّكْلِيفِ بِالنَّظَرِ إِلَى الْمُكَلَّفِ وَهُوَ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ فَهْمُ الْمُكَلَّفِ لِمَا كُلِّفَ بِهِ. بِمَعْنَى قُدْرَتِهِ عَلَى تَصَوُّرِ ذَلِكَ الأَْمْرِ وَالْفَهْمِ مِنْ خِطَابِ اللَّهِ جَل جَلاَلُهُ بِقَدْرٍ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الاِمْتِثَال لأَِنَّ التَّكْلِيفَ اسْتِدْعَاءُ حُصُول الْفِعْل عَلَى قَصْدِ الاِمْتِثَال، وَهُوَ مُحَالٌ عَادَةً وَشَرْعًا مِمَّنْ لاَ شُعُورَ لَهُ بِالأَْمْرِ، كَمَا اشْتَرَطُوا الْبُلُوغَ وَجَعَلُوا الْجُنُونَ وَالْعَتَهَ مِنْ عَوَارِضِ الأَْهْلِيَّةِ (1) .
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ الْمُلْحَقُ الأُْصُولِيُّ.
تَكَنِّي
انْظُرْ: كُنْيَةٌ.
__________
(1) إرشاد الفحول ص 6، والمستصفى 1 / 105، وكشف الأسرار 4 / 248، وفواتح الرحموت 1 / 143 - 144 ط بولاق.(13/250)
تِلاَوَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التِّلاَوَةُ: مِنْ تَلاَ بِمَعْنَى قَرَأَ، وَيَأْتِي هَذَا الْفِعْل بِمَعْنَى تَبِعَ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: التِّلاَوَةُ الْقِرَاءَةُ. قَال تَعَالَى: {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ (2) } وَفُسِّرَ قَوْله تَعَالَى: {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ (3) } ، بِاتِّبَاعِ الأَْمْرِ وَالنَّهْيِ، بِتَحْلِيل حَلاَلِهِ وَتَحْرِيمِ حَرَامِهِ وَالْعَمَل بِمَا تَضَمَّنَهُ (4) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّرْتِيل:
2 - التَّرْتِيل: لُغَةً التَّمَهُّل يُقَال: رَتَّلْتُ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً أَيْ: تَمَهَّلْتُ فِي الْقِرَاءَةِ وَلَمْ أَعْجَل (5) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: التَّأَنِّي فِي الْقِرَاءَةِ وَالتَّمَهُّل
__________
(1) المصباح، والقاموس، مادة: " تلو ".
(2) سورة آل عمران / 164، وانظر تفسير القرطبي (4 / 264) .
(3) سورة البقرة / 121.
(4) تفسير القرطبي 2 / 86.
(5) المصباح مادة: " رتل ".(13/250)
وَتَبْيِينُ الْحُرُوفِ وَالْحَرَكَاتِ تَشْبِيهًا بِالثَّغْرِ الْمُرَتِّل (1)
وَالنِّسْبَةُ بَيْنَ التَّرْتِيل وَالتِّلاَوَةِ (بِمَعْنَى الْقِرَاءَةِ) : أَنَّ التِّلاَوَةَ أَعَمُّ، وَالتَّرْتِيل أَخَصُّ، فَكُل تَرْتِيلٍ تِلاَوَةٌ وَلاَ عَكْسَ.
ب - التَّجْوِيدُ:
3 - التَّجْوِيدُ: إِعْطَاءُ كُل حَرْفٍ حَقَّهُ وَمُسْتَحَقَّهُ، وَالْمُرَادُ بِحَقِّ الْحَرْفِ، الصِّفَةُ الذَّاتِيَّةُ الثَّابِتَةُ لَهُ، كَالشِّدَّةِ وَالاِسْتِعْلاَءِ
وَالْمُرَادُ بِمُسْتَحَقِّ الْحَرْفِ، مَا يَنْشَأُ عَنِ الصِّفَاتِ الذَّاتِيَّةِ اللاَّزِمَةِ، كَالتَّفْخِيمِ وَغَيْرِهِ.
وَهُوَ أَخَصُّ مِنَ التِّلاَوَةِ. (ر: تَجْوِيدٌ) .
ج - الْحَدْرُ: 4 - الْحَدْرُ هُوَ: الإِْسْرَاعُ فِي الْقِرَاءَةِ.
فَهُوَ أَخَصُّ مِنَ التِّلاَوَةِ أَيْضًا.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
5 - الْمُسْلِمُونَ مُتَعَبَّدُونَ بِفَهْمِ مَعَانِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَتَطْبِيقِ أَحْكَامِهِ وَإِقَامَةِ حُدُودِهِ، وَهُمْ مُتَعَبِّدُونَ كَذَلِكَ بِتَصْحِيحِ أَلْفَاظِهِ وَإِقَامَةِ حُرُوفِهِ عَلَى الصِّفَةِ الْمُتَلَقَّاةِ مِنْ أَئِمَّةِ الْقِرَاءَةِ الْمُتَّصِلَةِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ عَدَّ الْعُلَمَاءُ الْقِرَاءَةَ بِغَيْرِ تَجْوِيدٍ لَحْنًا، فَقَسَّمُوا اللَّحْنَ إِلَى جَلِيٍّ وَخَفِيٍّ.
__________
(1) تفسير القرطبي 1 / 17 دار الكتب.(13/251)
فَاللَّحْنُ: خَلَلٌ يَطْرَأُ عَلَى الأَْلْفَاظِ فَيُخِل، إِلاَّ أَنَّ الْجَلِيَّ يُخِل إِخْلاَلاً ظَاهِرًا يَشْتَرِكُ فِي مَعْرِفَتِهِ عُلَمَاءُ الْقِرَاءَةِ وَغَيْرُهُمْ، وَهُوَ الْخَطَأُ فِي الإِْعْرَابِ، وَالْخَفِيُّ يُخِل إِخْلاَلاً يَخْتَصُّ بِمَعْرِفَتِهِ عُلَمَاءُ الْقِرَاءَةِ وَأَئِمَّةُ الأَْدَاءِ الَّذِينَ تَلْقَوْهُ مِنْ أَفْوَاهِ الْعُلَمَاءِ وَضَبَطُوهُ مِنْ أَلْفَاظِ أَهْل الأَْدَاءِ (1) .
وَالْفُقَهَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ فِي الصَّلاَةِ رُكْنٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ (2) } وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي تَعْيِينِ الْفَاتِحَةِ لِهَذِهِ الْفَرِيضَةِ.
وَيُسْتَحَبُّ الإِْكْثَارُ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَتِلاَوَتِهِ خَارِجَ الصَّلاَةِ. قَال تَعَالَى مُثْنِيًا عَلَى مَنْ كَانَ ذَلِكَ دَأْبَهُ: {يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْل (3) } ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لاَ حَسَدَ إِلاَّ فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ الْكِتَابَ وَقَامَ بِهِ آنَاءَ اللَّيْل وَآنَاءَ النَّهَارِ (4) ، وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا (5) .
__________
(1) الإتقان 1 / 100 ط مصطفى الحلبي.
(2) سورة المزمل / 30.
(3) سورة آل عمران / 90.
(4) حديث: " لا حسد إلا على اثنتين: رجل آتاه الكتاب وقام به آناء الليل ". أخرجه البخاري (الفتح 9 / 73 - 77 السلفية) .
(5) حديث: " من قرأ حرفا من كتاب الله، فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها " أخرجه الترمذي (5 / 175 ط الحلبي) وقال: " حسن صحيح ".(13/251)
وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَقُول الرَّبُّ عَزَّ وَجَل مَنْ شَغَلَهُ الْقُرْآنُ وَذِكْرِي عَنْ مَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَل مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ، وَفَضْل كَلاَمِ اللَّهِ عَلَى سَائِرِ الْكَلاَمِ كَفَضْل اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ (1) .
آدَابُ تِلاَوَةِ الْقُرْآنِ:
6 - يُسْتَحَبُّ الْوُضُوءُ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، لأَِنَّهُ أَفْضَل الأَْذْكَارِ، وَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أَذْكُرَ اللَّهَ عَزَّ وَجَل إِلاَّ عَلَى طُهْرٍ (2) .
قَال إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: لَكِنْ تَجُوزُ الْقِرَاءَةُ لِلْمُحْدِثِ حَدَثًا أَصْغَرَ لأَِنَّهُ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ مَعَ الْحَدَثِ (3) .
__________
(1) الإتقان 1 / 104، والتبيان في آداب حملة القرآن للنووي ص7 وما بعدها. وحديث: " يقول الرب عز وجل من شغله القرآن. . . " أخرجه الترمذي (5 / 184 ط الحلبي) وحسنه.
(2) حديث: " إني كرهت أن أذكر الله عز وجل إلا على طهر " أخرجه أبو داود (1 / 23 تحقيق عزت عبيد دعاس) وصححه ابن حبان (2 / 88 الإحسان ط دار الكتب العلمية) .
(3) حديث: " كان يقرأ مع الحدث ". . لم نعثر عليه في كتب السنن والآثار بهذا اللفظ إلا أنه يستدل عليه بحديث عائشة: كان يذكر الله على كل أحيانه. أخرجه مسلم (1 / 282 ط الحلبي) وأورده البخاري معلقا، وقال العيني: أراد البخاري بإيراد هذا وبما ذكره في الباب الاستدلال على جواز قراءة الجنب والحائض لأن الذكر أعم من أن يكون بالقرآن أو بغيره (عمدة القاري 3 / 274 ط المنيرية) .(13/252)
وَإِذَا كَانَ يَقْرَأُ فَعَرَضَتْ لَهُ رِيحٌ أَمْسَكَ عَنِ الْقِرَاءَةِ حَتَّى يَتِمَّ خُرُوجُهَا، وَأَمَّا الْجُنُبُ وَالْحَائِضُ فَتَحْرُمُ عَلَيْهِمَا الْقِرَاءَةُ، وَيَجُوزُ لَهُمَا النَّظَرُ فِي الْمُصْحَفِ وَإِمْرَارُهُ عَلَى الْقَلْبِ، وَلَمْ يَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِالْقِرَاءَةِ لِلْجُنُبِ بَأْسًا، وَبِهِ قَال الطَّبَرِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ (1) . وَأَمَّا مُتَنَجِّسُ الْفَمِ فَتُكْرَهُ لَهُ الْقِرَاءَةُ، وَقِيل تَحْرُمُ كَمَسِّ الْمُصْحَفِ بِالْيَدِ النَّجِسَةِ، وَتُسَنُّ الْقِرَاءَةُ فِي مَكَانٍ نَظِيفٍ وَأَفْضَلُهُ الْمَسْجِدُ، وَكَرِهَ قَوْمٌ الْقِرَاءَةَ فِي الْحَمَّامِ وَالطَّرِيقِ، وَعِنْدَ النَّوَوِيِّ أَنَّهُ لاَ تُكْرَهُ الْقِرَاءَةُ فِيهِمَا، وَعَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ تُكْرَهُ الْقِرَاءَةُ فِي الْحَشِّ (بَيْتِ الْخَلاَءِ) وَفِي بَيْتِ الرَّحَا وَهِيَ تَدُورُ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَجْلِسَ الْقَارِئُ مُسْتَقْبِلاً الْقِبْلَةَ فِي خُشُوعٍ وَوَقَارٍ مُطْرِقًا رَأْسَهُ، وَيُسَنُّ أَنْ يَسْتَاكَ تَعْظِيمًا وَتَطْهِيرًا، وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَلِيٍّ مَوْقُوفًا وَالْبَزَّارُ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرْفُوعًا: إِنَّ أَفْوَاهَكُمْ طُرُقٌ لِلْقُرْآنِ فَطَيِّبُوهَا بِالسِّوَاكِ (2) وَلَوْ قَطَعَ الْقِرَاءَةَ وَعَادَ عَنْ قُرْبٍ فَمُقْتَضَى اسْتِحْبَابِ التَّعَوُّذِ إِعَادَةُ السِّوَاكِ أَيْضًا، وَيُسَنُّ التَّعَوُّذُ قَبْل الْقِرَاءَةِ
__________
(1) عمدة القاري 3 / 274 ط المنيرية.
(2) حديث: " إن أفواهكم طرق للقرآن فطيبوها بالسواك " أخرجه ابن ماجه (1 / 106 ط الحلبي) عن علي موقوفا، وقال البوصيري: " إسناده ضعيف "، وأخرجه مرفوعا البزار بألفاظ مقاربة كما في كشف الأستار (1 / 242 ط الرسالة) وقال الهيثمي: رجاله ثقات. المجمع (2 / 99 - ط القدسي) .(13/252)
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاَللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (1) } يَعْنِي إِذَا أَرَدْتَ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ.
وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى وُجُوبِ التَّعَوُّذِ لِظَاهِرِ الأَْمْرِ فَإِنْ كَانَ يَقْرَأُ وَهُوَ مَاشٍ فَسَلَّمَ عَلَى قَوْمٍ وَعَادَ إِلَى الْقِرَاءَةِ كَانَ حَسَنًا إِعَادَةُ التَّعَوُّذِ. وَصِفَتُهُ الْمُخْتَارَةُ: (أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) وَكَانَ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ يَزِيدُونَ بَعْدَ لَفْظِ الْجَلاَلَةِ: السَّمِيعَ الْعَلِيمَ، وَعَنْ حَمْزَةَ أَسْتَعِيذُ وَنَسْتَعِيذُ وَاسْتَعَذْتُ، وَاخْتَارَهُ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ لِمُطَابَقَةِ لَفْظِ الْقُرْآنِ، وَهُنَاكَ صِيَغٌ أُخْرَى لِلاِسْتِعَاذَةِ (2) . قَال الْحَلْوَانِيُّ فِي جَامِعِهِ: لَيْسَ لِلاِسْتِعَاذَةِ حَدٌّ يُنْتَهَى إِلَيْهِ، مَنْ شَاءَ زَادَ وَمَنْ شَاءَ نَقَصَ، وَفِي النَّشْرِ لاِبْنِ الْجَزَرِيِّ: الْمُخْتَارُ عِنْدَ أَئِمَّةِ الْقِرَاءَةِ الْجَهْرُ بِهَا، وَقِيل: يُسِرُّ مُطْلَقًا، وَقِيل: فِيمَا عَدَا الْفَاتِحَةَ، وَقَدْ أَطْلَقُوا اخْتِيَارَ الْجَهْرِ بِهَا، وَقَيَّدَهُ أَبُو شَامَةَ بِقَيْدٍ لاَ بُدَّ مِنْهُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بِحَضْرَةِ مَنْ يَسْمَعُهُ، قَال: لأَِنَّ فِي الْجَهْرِ بِالتَّعَوُّذِ إِظْهَارَ شِعَارِ الْقِرَاءَةِ، كَالْجَهْرِ بِالتَّلْبِيَةِ وَتَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ. وَمِنْ فَوَائِدِ الْجَهْرِ أَنَّ السَّامِعَ يُنْصِتُ لِلْقِرَاءَةِ مِنْ أَوَّلِهَا لاَ يَفُوتُهُ مِنْهَا شَيْءٌ، وَإِذَا أَخْفَى التَّعَوُّذَ لَمْ
__________
(1) سورة النحل / 98.
(2) الإتقان ص 104 - 105، والبرهان في علوم القرآن 1 / 459 - 460 نشر دار المعرفة، وانظر مصطلح استعاذة ف 11 4 / 8. والتبيان في آداب حملة القرآن ص 39 و 44.(13/253)
يَعْلَمِ السَّامِعُ بِهَا إِلاَّ بَعْدَ أَنْ يَفُوتَهُ مِنَ الْمَقْرُوءِ شَيْءٌ، وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْفَارِقُ بَيْنَ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلاَةِ وَخَارِجِهَا. قَال: وَاخْتَلَفَ الْمُتَأَخِّرُونَ فِي الْمُرَادِ بِإِخْفَاءِ الاِسْتِعَاذَةِ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الإِْسْرَارُ فَلاَ بُدَّ مِنَ التَّلَفُّظِ وَإِسْمَاعِ نَفْسِهِ، وَقِيل: الْكِتْمَانُ بِأَنْ يَذْكُرَهَا بِقَلْبِهِ بِلاَ تَلَفُّظٍ، قَال: وَإِذَا قَطَعَ الْقِرَاءَةَ إِعْرَاضًا أَوْ بِكَلاَمٍ أَجْنَبِيٍّ وَلَوْ رَدًّا لِلسَّلاَمِ اسْتَأْنَفَهَا، وَإِذَا كَانَ الْكَلاَمُ بِالْقِرَاءَةِ فَلاَ. قَال: وَهَل هِيَ سُنَّةُ كِفَايَةٍ أَوْ عَيْنٍ حَتَّى لَوْ قَرَأَ جَمَاعَةٌ جُمْلَةَ، فَهَل يَكْفِي اسْتِعَاذَةُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَالتَّسْمِيَةِ عَلَى الأَْكْل أَوْ لاَ؟ لَمْ أَرَ فِيهِ نَصًّا، وَالظَّاهِرُ الثَّانِي، لأَِنَّ الْمَقْصُودَ اعْتِصَامُ الْقَارِئِ وَالْتِجَاؤُهُ بِاَللَّهِ مِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ، فَلاَ يَكُونُ تَعَوُّذُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَافِيًا عَنْ آخَرَ (1) .
الْبَسْمَلَةُ:
7 - وَمِنْ آدَابِ التِّلاَوَةِ أَنْ يُحَافِظَ عَلَى قِرَاءَةِ الْبَسْمَلَةِ أَوَّل كُل سُورَةٍ غَيْرَ {بَرَاءَةٌ} لأَِنَّ أَكْثَرَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهَا آيَةٌ، فَإِذَا أَخَل بِهَا كَانَ تَارِكًا لِبَعْضِ الْخَتْمَةِ عِنْدَ الأَْكْثَرِينَ، فَإِنْ قَرَأَ مِنْ أَثْنَاءِ سُورَةٍ اسْتُحِبَّ لَهُ أَيْضًا، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِيمَا نَقَلَهُ الْعَبَّادِيُّ. قَال الْقُرَّاءُ: وَيَتَأَكَّدُ عِنْدَ قِرَاءَةِ نَحْوِ: {إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ (2) } ،
__________
(1) البرهان في علوم القرآن 1 / 460، والإتقان 1 / 105، وانظر مصطلح (إسرار) ف 16 - 4 / 172.
(2) سورة فصلت / 47.(13/253)
{وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ (1) } كَمَا فِي ذِكْرِ ذَلِكَ بَعْدَ الاِسْتِعَاذَةِ مِنَ الْبَشَاعَةِ وَإِيهَامِ رُجُوعِ الضَّمِيرِ إِلَى الشَّيْطَانِ، قَال ابْنُ الْجَزَرِيِّ: وَالاِبْتِدَاءُ بِالآْيِ وَسَطَ " بَرَاءَةٌ " قَل مَنْ تَعَرَّضَ لَهُ، وَقَدْ صَرَّحَ بِالْبَسْمَلَةِ أَبُو الْحَسَنِ السَّخَاوِيُّ، وَرَدَّ عَلَيْهِ الْجَعْبَرِيُّ (2) .
النِّيَّةُ:
8 - لاَ تَحْتَاجُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ إِلَى نِيَّةٍ كَسَائِرِ الأَْذْكَارِ، إِلاَّ إِذَا نَذَرَهَا خَارِجَ الصَّلاَةِ، فَلاَ بُدَّ مِنْ نِيَّةِ النَّذْرِ أَوِ الْفَرْضِ (3) .
التَّرْتِيل:
9 - يُسَنُّ التَّرْتِيل فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ قَال تَعَالَى: {وَرَتِّل الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (4) } وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا نَعَتَتْ قِرَاءَةَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِرَاءَةً مُفَسَّرَةً حَرْفًا حَرْفًا (5) . وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ سُئِل عَنْ قِرَاءَةِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال كَانَتْ مَدًّا، ثُمَّ قَرَأَ بِسْمِ اللَّهَ الرَّحْمَنَ الرَّحِيمَ
__________
(1) سورة الأنعام / 141.
(2) البرهان في علوم القرآن 1 / 460، والإتقان 1 / 105 - 106، وانظر النشر في القراءات العشر 1 / 259.
(3) الإتقان 1 / 105 - 106.
(4) سورة المزمل / 4.
(5) حديث: أم سلمة أنها نعتت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم. أخرجه أبو داود (4 / 294 تحقيق عزت عبيد دعاس) والحاكم (1 / 231 - 232 ط دائرة المعارف العثمانية) ؛ وصححه ووافقه الذهبي.(13/254)
يَمُدُّ اللَّهَ، وَيَمُدُّ الرَّحْمَنَ، وَيَمُدُّ الرَّحِيمَ (1) . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ " أَنَّ رَجُلاً قَال لَهُ: إِنِّي أَقْرَأُ الْمُفَصَّل فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ، فَقَال: هَذًّا كَهَذِّ الشِّعْرِ (يَعْنِي الإِْسْرَاعَ بِالْقِرَاءَةِ) إِنَّ قَوْمًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، وَلَكِنْ إِذَا وَقَعَ فِي الْقَلْبِ فَرْسَخٌ فِيهِ نَفْعٌ (2) . وَأَخْرَجَ الآْجُرِّيُّ فِي حَمَلَةِ الْقُرْآنِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَقَال: لاَ تَنْثُرُوهُ نَثْرَ الدَّقْل (أَيِ التَّمْرِ) وَلاَ تَهُذُّوهُ كَهَذِّ الشِّعْرِ، قِفُوا عِنْدَ عَجَائِبِهِ، وَحَرِّكُوا بِهِ الْقُلُوبَ، وَلاَ يَكُونُ هَمُّ أَحَدِكُمْ آخِرَ السُّورَةِ.
وَاتَّفَقُوا عَلَى كَرَاهَةِ الإِْفْرَاطِ فِي الإِْسْرَاعِ، قَالُوا: وَقِرَاءَةُ جُزْءٍ بِتَرْتِيلٍ أَفْضَل مِنْ قِرَاءَةِ جُزْأَيْنِ فِي قَدْرِ ذَلِكَ الزَّمَانِ بِلاَ تَرْتِيلٍ. وَيُسْتَحَبُّ التَّرْتِيل لِلتَّدَبُّرِ، لأَِنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الإِْجْلاَل وَالتَّوْقِيرِ وَأَشَدُّ تَأْثِيرًا فِي الْقَلْبِ، وَلِهَذَا يُسْتَحَبُّ التَّرْتِيل لِلأَْعْجَمِيِّ الَّذِي لاَ يَفْهَمُ مَعْنَى الْقُرْآنِ.
وَاخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ، هَل الأَْفْضَل التَّرْتِيل وَقِلَّةُ الْقِرَاءَةِ، أَمِ السُّرْعَةُ مَعَ كَثْرَتِهَا؟ وَأَحْسَنَ بَعْضُ
__________
(1) حديث أنس أنه سئل عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم. أخرجه البخاري (الفتح 9 / 91 ط السلفية) .
(2) حديث: قول ابن مسعود هذا كهذ الشعر. عن أبي وائل - شقيق بن سلمة - جاء رجل إلى ابن مسعود فقال: قرأت المفصل الليلة في ركعة. فقال: هذا كهذ الشعر. أخرجه البخاري (الفتح 2 / 255 ط السلفية) ، ومسلم (1 / 564 - ط الحلبي) .(13/254)
الأَْئِمَّةِ فَقَال: إِنَّ ثَوَابَ قِرَاءَةِ التَّرْتِيل أَجَل قَدْرًا، وَثَوَابُ الْكَثْرَةِ أَكْثَرُ عَدَدًا، لأَِنَّ بِكُل حَرْفٍ عَشْرَ حَسَنَاتٍ.
وَكَمَال التَّرْتِيل كَمَا قَال الزَّرْكَشِيُّ: تَفْخِيمُ أَلْفَاظِهِ، وَالإِْبَانَةُ عَنْ حُرُوفِهِ، وَأَلاَّ يُدْغَمَ حَرْفٌ فِي حَرْفٍ مِمَّا لَيْسَ حَقُّهُ الإِْدْغَامَ، وَقِيل هَذَا أَقَلُّهُ، وَأَكْمَلُهُ أَنْ يَقْرَأَهُ عَلَى مَنَازِلِهِ إِنْ تَهْدِيدًا لَفَظَ بِهِ لَفْظَ التَّهْدِيدِ، أَوْ تَعْظِيمًا لَفَظَ بِهِ عَلَى التَّعْظِيمِ (1) .
التَّدَبُّرُ:
10 - تُسَنُّ الْقِرَاءَةُ بِالتَّدَبُّرِ وَالتَّفَهُّمِ، فَهُوَ الْمَقْصُودُ الأَْعْظَمُ، وَالْمَطْلُوبُ الأَْهَمُّ، وَبِهِ تَنْشَرِحُ الصُّدُورُ، وَتَسْتَنِيرُ الْقُلُوبُ. قَال تَعَالَى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ (2) } وَقَال: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (3) } وَصِفَةُ ذَلِكَ أَنْ يَشْغَل قَلْبَهُ بِالتَّفَكُّرِ فِي مَعْنَى مَا يَلْفِظُ بِهِ فَيَعْرِفُ مَعْنَى كُل آيَةٍ، وَيَتَأَمَّل الأَْوَامِرَ وَالنَّوَاهِيَ، وَيَعْتَقِدُ قَبُول ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا قَصَّرَ عَنْهُ فِيمَا مَضَى اعْتَذَرَ وَاسْتَغْفَرَ، وَإِذَا مَرَّ بِآيَةِ رَحْمَةٍ اسْتَبْشَرَ وَسَأَل، أَوْ عَذَابٍ أَشْفَقَ وَتَعَوَّذَ، أَوْ تَنْزِيهٍ نَزَّهَ وَعَظَّمَ، أَوْ دُعَاءٍ تَضَرَّعَ وَطَلَبَ (4) .
__________
(1) النشر في القراءات العشر 1 / 207 وما بعدها، والإتقان 1 / 106، والتبيان ص 48.
(2) سورة ص / 29.
(3) سورة محمد / 24.
(4) الإتقان ص106، والبرهان في علوم القرآن 1 / 455، والتبيان في آداب حملة القرآن ص 45.(13/255)
تَكْرِيرُ الآْيَةِ:
11 - لاَ بَأْسَ بِتَكْرِيرِ الآْيَةِ وَتَرْدِيدِهَا، رَوَى النَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ بِآيَةٍ يُرَدِّدُهَا حَتَّى أَصْبَحَ: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ (1) } .
الْبُكَاءُ عِنْدَ التِّلاَوَةِ:
12 - يُسْتَحَبُّ الْبُكَاءُ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَالتَّبَاكِي لِمَنْ لاَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَالْحُزْنُ وَالْخُشُوعُ، قَال تَعَالَى: {وَيَخِرُّونَ لِلأَْذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (2) }
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ حَدِيثُ قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِيهِ فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ (3) . وَعَنْ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ مَرْفُوعًا: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ نَزَل بِحُزْنٍ فَإِذَا قَرَأْتُمُوهُ فَابْكُوا، فَإِنْ لَمْ تَبْكُوا فَتَبَاكُوا (4)
__________
(1) سورة المائدة / 118. وحديث: " قام بآية يرددها حتى أصبح. . . " أخرجه ابن أبي شيبة (2 / 477 نشر الدار السلفية) ، والحاكم (1 / 241 ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. وانظر الإتقان 1 / 107 والتبيان في آداب حملة القرآن ص46.
(2) سورة الإسراء / 109.
(3) حديث: " قراءة ابن مسعود. . . " أخرجه البخاري (الفتح 9 / 94 ط السلفية) .
(4) حديث: " إن هذا القرآن نزل بحزن " أخرجه ابن ماجه (1 / 424 ط الحلبي) من حديث سعد بن أبي وقاص، وقال البوصيري في الزوائد: " في إسناده أبو رافع، اسمه إسماعيل بن رافع، ضعيف متروك "، والإتقان 1 / 107 والتبيان في آداب حملة القرآن ص47.(13/255)
تَحْسِينُ الصَّوْتِ:
13 - يُسْتَحَبُّ تَحْسِينُ الصَّوْتِ بِالْقِرَاءَةِ وَتَزْيِينُهَا لِحَدِيثِ ابْنِ حِبَّانَ وَغَيْرِهِ، وَزَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيُّ: الْقِرَاءَةُ بِالأَْلْحَانِ لاَ بَأْسَ بِهَا، وَفِي رِوَايَةِ الرَّبِيعِ الْجِيزِيِّ: إِنَّهَا مَكْرُوهَةٌ، قَال الرَّافِعِيُّ: فَقَال الْجُمْهُورُ: لَيْسَتْ عَلَى قَوْلَيْنِ: بَل الْمَكْرُوهُ أَنْ يُفَرِّطَ فِي الْمَدِّ وَفِي إِشْبَاعِ الْحَرَكَاتِ، حَتَّى يَتَوَلَّدَ مِنَ الْفَتْحَةِ أَلِفٌ، وَمِنَ الضَّمَّةِ وَاوٌ، وَمِنَ الْكِسْرَةِ يَاءٌ، أَوْ يُدْغِمُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الإِْدْغَامِ، فَإِنْ لَمْ يَنْتَهِ إِلَى هَذَا الْحَدِّ فَلاَ كَرَاهَةَ، وَقَال فِي زَوَائِدِ الرَّوْضَةِ: وَالصَّحِيحُ أَنَّ الإِْفْرَاطَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ حَرَامٌ، يُفَسَّقُ بِهِ الْقَارِئُ، وَيَأْثَمُ الْمُسْتَمِعُ غَيْرِ الْمُسْتَنْكِرِ، لأَِنَّهُ عَدَل بِهِ عَنْ نَهْجِهِ الْقَوِيمِ، قَال: وَهَذَا مُرَادُ الشَّافِعِيِّ بِالْكَرَاهَةِ. وَفِيهِ حَدِيثٌ اقْرَءُوا الْقُرْآنَ بِلُحُونِ الْعَرَبِ وَأَصْوَاتِهَا، وَإِيَّاكُمْ وَلُحُونَ أَهْل الْكِتَابَيْنِ وَأَهْل الْفِسْقِ، فَإِنَّهُ سَيَجِيءُ بَعْدِي قَوْمٌ يُرَجِّعُونَ بِالْقُرْآنِ تَرْجِيعَ الْغِنَاءِ، وَالرَّهْبَانِيَّةِ لاَ يُجَاوِزُ
__________
(1) حديث: " زينوا القرآن بأصواتكم " أخرجه أبو داود (2 / 155 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث البراء بن عازب، والدارقطني في الإفراد من حديث ابن عباس بإسناد حسن، كذا في الفتح لابن حجر (13 / 519 ط السلفية) .(13/256)
حَنَاجِرَهُمْ، مَفْتُونَةً قُلُوبُهُمْ وَقُلُوبُ مَنْ يُعْجِبُهُمْ شَأْنُهُمْ (1) .
قَال النَّوَوِيُّ: وَيُسْتَحَبُّ طَلَبُ الْقِرَاءَةِ مِنْ حَسَنِ الصَّوْتِ، وَالإِْصْغَاءُ إِلَيْهَا لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وَلاَ بَأْسَ بِاجْتِمَاعِ الْجَمَاعَةِ فِي الْقِرَاءَةِ وَلاَ بِإِدَارَتِهَا، وَهِيَ أَنْ يَقْرَأَ بَعْضُ الْجَمَاعَةِ قِطْعَةً ثُمَّ الْبَعْضُ قِطْعَةً بَعْدَهَا (2) .
تَفْخِيمُ التِّلاَوَةِ:
14 - تُسْتَحَبُّ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ بِالتَّفْخِيمِ لِحَدِيثِ: أُنْزِل الْقُرْآنُ بِالتَّفْخِيمِ (3) قَال الْحَلِيمِيُّ: وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ يَقْرَؤُهُ عَلَى قِرَاءَةِ الرِّجَال، وَلاَ يُخْضِعُ الصَّوْتَ فِيهِ كَكَلاَمِ النِّسَاءِ، قَال: وَلاَ يَدْخُل فِي هَذَا كَرَاهَةُ الإِْمَالَةِ الَّتِي هِيَ اخْتِيَارُ بَعْضِ الْقُرَّاءِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ نَزَل بِالتَّفْخِيمِ، فَرُخِّصَ مَعَ ذَلِكَ فِي إِمَالَةِ مَا تَحْسُنُ إِمَالَتُهُ (4) .
__________
(1) حديث: " أقرءوا القرآن بلحون العرب ". أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (7 / 169 ط القدسي) وقال: " رواه الطبراني في الأوسط، وفيه راو لم يسم وبقية أيضا ".
(2) الإتقان 1 / 107، والتبيان في آداب حملة القرآن ص61.
(3) حديث: " أنزل القرآن بالتفخيم " أخرجه الحاكم (2 / 231 ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث زيد بن ثابت، وصححه الحاكم وتعقبه الذهبي بقوله: " لا والله، العوفي - يعني محمد بن عبد العزيز - مجمع على ضعفه، وبكار - يعني ابن عبد الله - ليس بعمدة والحديث واه منكر
(4) الإتقان 107 وما بعدها، والبرهان في علوم القرآن 1 / 467.(13/256)
الْجَهْرُ بِالْقِرَاءَةِ:
15 - وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ بِاسْتِحْبَابِ الْجَهْرِ بِالْقُرْآنِ، وَأُخْرَى بِاسْتِحْبَابِ الإِْخْفَاءِ، فَمِنَ الأَْوَّل حَدِيثُ الصَّحِيحَيْنِ: - مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءٍ مَا أَذِنَ لِنَبِيٍّ حَسَنِ الصَّوْتِ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ يَجْهَرُ بِهِ (1) وَمِنَ الثَّانِي حَدِيثُ أَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيُّ: الْجَاهِرُ بِالْقُرْآنِ كَالْجَاهِرِ بِالصَّدَقَةِ، وَالْمُسِرُّ بِالْقُرْآنِ كَالْمُسِرِّ بِالصَّدَقَةِ (2) قَال النَّوَوِيُّ: وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الإِْخْفَاءَ أَفْضَل، حَيْثُ خَافَ الرِّيَاءَ، أَوْ تَأَذَّى مُصَلُّونَ أَوْ نِيَامٌ بِجَهْرِهِ، وَالْجَهْرُ أَفْضَل فِي غَيْرِ ذَلِكَ لأَِنَّ الْعَمَل فِيهِ أَكْثَرُ، وَلأَِنَّ فَائِدَتَهُ تَتَعَدَّى إِلَى السَّامِعِينَ، وَلأَِنَّهُ يُوقِظُ قَلْبَ الْقَارِئِ وَيَجْمَعُ هَمَّهُ إِلَى الْفِكْرِ، وَيَصْرِفُ سَمْعَهُ إِلَيْهِ، وَيَطْرُدُ النَّوْمَ وَيَزِيدُ فِي النَّشَاطِ، وَيَدُل لِهَذَا الْجَمْعِ حَدِيثُ أَبِي دَاوُدَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ اعْتَكَفَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ فَسَمِعَهُمْ يَجْهَرُونَ بِالْقِرَاءَةِ فَكَشَفَ السِّتْرَ وَقَال: أَلاَ إِنَّ كُلَّكُمْ مُنَاجٍ لِرَبِّهِ، فَلاَ يُؤْذِيَنَّ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَلاَ يَرْفَعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْقِرَاءَةِ (3)
__________
(1) حديث: " ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت " أخرجه البخاري (الفتح 13 / 518 ط السلفية) ، ومسلم (1 / 545 ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(2) حديث: " الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة " أخرجه الترمذي (5 / 180 ط الحلبي) من حديث عقبة بن عامر، وحسنه.
(3) حديث: " ألا إن كلكم مناج لربه " أخرجه أبو داود (2 / 83 تحقيق عزت عبيد دعاس) وصححه ابن عبد البر كما في شرح الزرقاني على موطأ مالك (1 / 138 ط المكتبة التجارية الكبرى) .(13/257)
وَقَال بَعْضُهُمْ: يُسْتَحَبُّ الْجَهْرُ بِبَعْضِ الْقِرَاءَةِ وَالإِْسْرَارُ بِبَعْضِهَا؛ لأَِنَّ الْمُسِرَّ قَدْ يَمَل فَيَأْنَسُ بِالْجَهْرِ، وَالْجَاهِرُ قَدْ يَكِل فَيَسْتَرِيحُ بِالإِْسْرَارِ (1) .
الْمُفَاضَلَةُ بَيْنَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الْمُصْحَفِ وَقِرَاءَتِهِ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ:
16 - لِلْفُقَهَاءِ فِي الْمُفَاضَلَةِ بَيْنَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الْمُصْحَفِ، وَقِرَاءَتِهِ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ، ثَلاَثَةُ اتِّجَاهَاتٍ:
أ - أَنَّ الْقِرَاءَةَ مِنَ الْمُصْحَفِ أَفْضَل لأَِنَّ النَّظَرَ فِيهِ عِبَادَةٌ فَتَجْتَمِعُ الْقِرَاءَةُ وَالنَّظَرُ.
بِهَذَا قَال الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْغَزَالِيُّ. رَوَى الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدِ بْنِ عَوْنٍ الْمَكِّيِّ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَوْسٍ الثَّقَفِيِّ عَنْ جَدِّهِ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِرَاءَةُ الرَّجُل فِي غَيْرِ الْمُصْحَفِ أَلْفُ دَرَجَةٍ، وَقِرَاءَتُهُ فِي الْمُصْحَفِ تُضَاعَفُ عَلَى ذَلِكَ أَلْفَيْ دَرَجَةٍ (2) .
وَعَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا: النَّظَرُ فِي الْمُصْحَفِ عِبَادَةٌ، وَنَظَرُ الْوَلَدِ إِلَى الْوَالِدَيْنِ عِبَادَةٌ (3) .
__________
(1) الإتقان ص 107 - 108، والبرهان في علوم القرآن 1 / 463، 464.
(2) حديث: " قراءة الرجل في غير المصحف. . . " أورده الهيثمي في المجمع (7 / 165 ط القدسي) . وقال: رواه الطبراني وفيه أبو سعيد بن عون، وثقه ابن معبد في رواية وضعفه في أخرى، وبقية رجاله ثقات ".
(3) حديث: " النظر في المصحف عبادة، ونظر الولد إلى الوالدين عبادة " أخرجه ابن أبي الفرائي كما في اللآلئ للسيوطي (1 / 346 نشر دار المعرفة) وفي إسناده محمد بن زكريا الغلابي، وهو متهم بالوضع، كذا في ميزان الاعتدال للذهبي (3 / 550 ط الحلبي) .(13/257)
ب - يَرَى أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ أَنَّ الْقِرَاءَةَ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ أَفْضَل؛ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْقِرَاءَةِ التَّدَبُّرُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} (1) وَالْعَادَةُ تَشْهَدُ أَنَّ النَّظَرَ فِي الْمُصْحَفِ يُخِل بِهَذَا الْمَقْصُودِ فَكَانَ مَرْجُوحًا.
ج - قَال النَّوَوِيُّ فِي الأَْذْكَارِ: إِنْ كَانَ الْقَارِئُ مِنْ حِفْظِهِ يَحْصُل لَهُ مِنَ التَّدَبُّرِ وَالتَّفَكُّرِ وَجَمْعِ الْقَلْبِ أَكْثَرُ مِمَّا يَحْصُل لَهُ مِنَ الْمُصْحَفِ، فَالْقِرَاءَةُ مِنَ الْحِفْظِ أَفْضَل، وَإِنِ اسْتَوَيَا فَمِنَ الْمُصْحَفِ أَفْضَل. قَال وَهُوَ مُرَادُ السَّلَفِ (2) .
قَطْعُ الْقُرْآنِ لِمُكَالَمَةِ النَّاسِ:
17 - يُكْرَهُ قَطْعُ الْقِرَاءَةِ لِمُكَالَمَةِ أَحَدٍ، قَال الْحَلِيمِيُّ: لأَِنَّ كَلاَمَ اللَّهِ لاَ يَنْبَغِي أَنْ يُؤْثَرَ عَلَيْهِ كَلاَمُ غَيْرِهِ، وَأَيَّدَهُ الْبَيْهَقِيُّ بِمَا فِي الصَّحِيحِ كَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ لَمْ يَتَكَلَّمْ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهُ، وَكُرِهَ أَيْضًا الضَّحِكَ وَالْعَبَثَ وَالنَّظَرَ إِلَى مَا يُلْهِي (3) .
__________
(1) سورة ص / 29.
(2) البرهان في علوم القرآن 1 / 461 - 463، والإتقان ص 108.
(3) البرهان في علوم القرآن 1 / 464، والإتقان 1 / 109.(13/258)
قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ بِالْعَجَمِيَّةِ:
18 - لاَ يَجُوزُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ بِالْعَجَمِيَّةِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ أَحْسَنَ الْعَرَبِيَّةَ أَمْ لاَ فِي الصَّلاَةِ أَمْ خَارِجَهَا. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَجُوزُ مُطْلَقًا، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَجُوزُ لِمَنْ لاَ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ، لَكِنْ فِي شَرْحِ الْبَزْدَوِيِّ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ، وَوَجْهُ الْمَنْعِ أَنَّهُ يَذْهَبُ إِعْجَازُهُ الْمَقْصُودُ مِنْهُ، وَعَنْ الْقَفَّال: أَنَّ الْقِرَاءَةَ بِالْفَارِسِيَّةِ لاَ تُتَصَوَّرُ، قِيل لَهُ فَإِذًا لاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يُفَسِّرَ الْقُرْآنَ، قَال: لَيْسَ كَذَلِكَ لأَِنَّ هُنَاكَ يَجُوزُ أَنْ يَأْتِيَ بِبَعْضِ مُرَادِ اللَّهِ وَيَعْجِزَ عَنِ الْبَعْضِ، أَمَّا إِذَا أَرَادَ أَنْ يَقْرَأَهُ بِالْفَارِسِيَّةِ فَلاَ يُمْكِنُ أَنْ يَأْتِيَ بِجَمِيعِ مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى، لأَِنَّ التَّرْجَمَةَ إِبْدَال لَفْظَةٍ بِلَفْظَةٍ تَقُومُ مَقَامَهَا، وَذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ بِخِلاَفِ التَّفْسِيرِ (1) .
وَلِلتَّفْصِيل ر: تَرْجَمَةٌ ف 5 (11 216)
الْقِرَاءَةُ بِالشَّوَاذِّ:
19 - نَقَل ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الإِْجْمَاعَ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الْقِرَاءَةِ بِالشَّاذِّ، لَكِنْ ذَكَرَ مَوْهُوبُ الْجَزَرِيُّ جَوَازَهَا فِي غَيْرِ الصَّلاَةِ قِيَاسًا عَلَى رِوَايَةِ الْحَدِيثِ بِالْمَعْنَى (2) .
تَرْتِيبُ الْقِرَاءَةِ:
20 - الأَْوْلَى أَنْ يَقْرَأَ الْقَارِئُ عَلَى تَرْتِيبِ
__________
(1) الإتقان 1 / 109، والبرهان في علوم القرآن 1 / 464 وما بعدها، والتبيان ص 52.
(2) البرهان في علوم القرآن 1 / 467، والإتقان 1 / 109.(13/258)
الْمُصْحَفِ، لأَِنَّ تَرْتِيبَهُ لِحِكْمَةٍ، فَلاَ يُتْرَكُ التَّرْتِيبُ إِلاَّ فِيمَا وَرَدَ فِيهِ الشَّرْعُ، كَصَلاَةِ صُبْحِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَ {الم تَنْزِيلٌ} ، وَ {هَل أَتَى} وَنَظَائِرِهِ، فَلَوْ فَرَّقَ السُّوَرَ أَوْ عَكَسَهَا جَازَ وَتَرَكَ الأَْفْضَل، وَأَمَّا قِرَاءَةُ السُّورَةِ مِنْ آخِرِهَا إِلَى أَوَّلِهَا. فَمُتَّفَقٌ عَلَى مَنْعِهِ، لأَِنَّهُ يُذْهِبُ بَعْضَ نَوْعِ الإِْعْجَازِ وَيُزِيل حِكْمَةَ التَّرْتِيبِ. لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ سُئِل عَنْ رَجُلٍ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَنْكُوسًا؟ قَال: ذَاكَ مَنْكُوسُ الْقَلْبِ، وَأَمَّا خَلْطُ سُورَةٍ بِسُورَةٍ فَإِنَّ تَرْكَهُ مِنَ الآْدَابِ، لِمَا أَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لِبِلاَلٍ: يَا بِلاَل قَدْ سَمِعْتُكَ وَأَنْتَ تَقْرَأُ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ وَمِنْ هَذِهِ السُّورَةِ. قَال: كَلاَمٌ طَيِّبٌ يَجْمَعُ اللَّهُ تَعَالَى بَعْضَهُ إِلَى بَعْضٍ. فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّكُمْ قَدْ أَصَابَ (1) .
وَأُخْرِجَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَال: إِذَا ابْتَدَأْتَ فِي سُورَةٍ فَأَرَدْتَ أَنْ تَتَحَوَّل مِنْهَا إِلَى غَيْرِهَا فَتَحَوَّل إِلاَّ {قُل هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، فَإِذَا ابْتَدَأْتَ بِهَا فَلاَ تَتَحَوَّل عَنْهَا حَتَّى تَخْتِمَهَا.
وَقَدْ نَقَل الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الإِْجْمَاعَ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ قِرَاءَةِ آيَةٍ آيَةٍ مِنْ كُل سُورَةٍ. قَال الْبَيْهَقِيُّ وَأَحْسَنُ مَا يُحْتَجُّ بِهِ أَنْ يُقَال: إِنَّ هَذَا التَّأْلِيفَ لِكِتَابِ اللَّهِ مَأْخُوذٌ مِنْ جِهَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخْذُهُ عَنْ
__________
(1) حديث: قال لبلال: قد سمعتك يا بلال وأنت تقرأ من هذه السورة. . . " أخرجه أبو داود (2 / 82 تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث أبي هريرة وإسناده حسن.(13/259)
جِبْرِيل، فَالأَْوْلَى لِلْقَارِئِ أَنْ يَقْرَأَهُ عَلَى التَّأْلِيفِ الْمَنْقُول (1) .
اسْتِمَاعُ التِّلاَوَةِ:
21 - يُسَنُّ الاِسْتِمَاعُ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَتَرْكُ اللَّغَطِ وَالْحَدِيثِ لِحُضُورِ الْقِرَاءَةِ. قَال تَعَالَى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (2)
قَال الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ: وَالاِشْتِغَال عَنِ السَّمَاعِ بِالتَّحَدُّثِ بِمَا لاَ يَكُونُ أَفْضَل مِنَ الاِسْتِمَاعِ، سُوءُ أَدَبٍ عَلَى الشَّرْعِ، وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِالتَّحَدُّثِ لِلْمَصْلَحَةِ (3) .
وَلِلتَّفْصِيل ر: اسْتِمَاعٌ (4 85)
السُّجُودُ لِلتِّلاَوَةِ:
22 - فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ آيَةً فِيهَا السُّجُودُ: فِي الأَْعْرَافِ، وَالرَّعْدِ، وَالنَّحْل، وَالإِْسْرَاءِ، وَمَرْيَمَ، وَالْحَجِّ، وَفِيهَا سَجْدَتَانِ فِي بَعْضِ الْمَذَاهِبِ، وَفِي الْفُرْقَانِ، وَالنَّمْل، وَالسَّجْدَةِ {الم تَنْزِيلٌ} وَ {ص} وَفُصِّلَتْ، وَالنَّجْمِ، وَالاِنْشِقَاقِ، وَاقْرَأْ، وَزَادَ بَعْضُهُمْ آخِرَ
__________
(1) البرهان في علوم القرآن 1 / 468 وما بعدها، والإتقان 1 / 109، والتبيان ص 53 وما بعدها
(2) سورة الأعراف / 204.
(3) الإتقان ص 110، والبرهان في علوم القرآن 1 / 475.(13/259)
الْحِجْرِ، وَالسُّجُودُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ بِقِرَاءَةِ آيَاتِ السَّجْدَةِ مَسْنُونٌ، وَوَاجِبٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (1) .
وَتَفْصِيل مَوَاضِعِ السُّجُودِ، وَعَلَى مَنْ يَجِبُ، وَشُرُوطُ السُّجُودِ، كُل ذَلِكَ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (سُجُودُ التِّلاَوَةِ) .
__________
(1) المرجع السابق، ومراقي الفلاح ص 260.(13/260)
تَلْبِيَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّلْبِيَةُ لُغَةً: إِجَابَةُ الْمُنَادِي، وَهِيَ إِمَّا فِي الْحَجِّ وَإِمَّا فِي غَيْرِهِ كَالْوَلِيمَةِ وَالتَّلْبِيَةِ فِي غَيْرِ الْحَجِّ.
وَقَدْ سَبَقَ الْكَلاَمُ عَنْهَا فِي مُصْطَلَحِ (إِجَابَةٌ) ج 1 ص 251 وَأَمَّا فِي الْحَجِّ فَالْمُرَادُ بِهَا قَوْل الْمُحْرِمِ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ. أَيْ: إِجَابَتِي لَكَ يَا رَبِّ. يُقَال: لَبَّى الرَّجُل تَلْبِيَةً: إِذَا قَال لَبَّيْكَ. وَلَبَّى بِالْحَجِّ كَذَلِكَ. قَال الْفَرَّاءُ: مَعْنَى لَبَّيْكَ إِجَابَةً لَكَ بَعْدَ إِجَابَةٍ. وَفِي حَدِيثِ الإِْهْلاَل بِالْحَجِّ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ: هُوَ مِنَ التَّلْبِيَةِ، وَهِيَ إِجَابَةُ الْمُنَادِي أَيْ: إِجَابَتِي لَكَ يَا رَبِّ. وَعَنِ الْخَلِيل أَنَّ تَثْنِيَةَ كَلِمَةِ (لَبَّيْكَ) عَلَى جِهَةِ التَّوْكِيدِ (1) .
وَالإِْجَابَةُ وَإِنْ كَانَتْ لاَ تَخْرُجُ فِي مَعْنَاهَا الاِصْطِلاَحِيِّ عَنْ هَذَا إِلاَّ أَنَّهُ قَدْ وَرَدَ فِي الْخَرَشِيِّ عَلَى مُخْتَصَرِ خَلِيلٍ: أَنَّ مَعْنَى التَّلْبِيَةِ الإِْجَابَةُ: أَيْ: إِجَابَةً بَعْدَ إِجَابَةٍ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَال:
__________
(1) لسان العرب، وتاج العروس، ومحيط المحيط، والمصباح المنير مادة: " لبى ".(13/260)
{أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} (1) فَهَذِهِ إِجَابَةٌ وَاحِدَةٌ، وَالثَّانِيَةُ: إِجَابَةٌ قَوْله تَعَالَى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} (2) يُقَال: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا أَذَّنَ بِالْحَجِّ أَجَابَهُ النَّاسُ فِي أَصْلاَبِ آبَائِهِمْ فَمَنْ أَجَابَهُ مَرَّةً حَجَّ مَرَّةً، وَمَنْ زَادَ زَادَ. فَالْمَعْنَى أَجَبْتُكَ فِي هَذَا كَمَا أَجَبْتُكَ فِي ذَلِكَ. وَأَوَّل مَنْ لَبَّى الْمَلاَئِكَةُ، وَهُمْ أَيْضًا أَوَّل مَنْ كَانَ بِالْبَيْتِ (3) .
وَمَعْنَى لَبَّيْكَ كَمَا فِي حَاشِيَةِ الطَّحْطَاوِيِّ عَلَى مَرَاقِي الْفَلاَحِ: أَقَمْتُ بِبَابِكَ إِقَامَةً بَعْدَ أُخْرَى وَأَجَبْتُ نِدَاءَكَ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى (4) .
وَفِي الْفَوَاكِهِ الدَّوَانِي: أَجَبْتُكَ يَا أَلَّلَهُ إِجَابَةً بَعْدَ إِجَابَةٍ. أَوْ لاَزَمْتُ الإِْقَامَةَ عَلَى طَاعَتِكَ مِنْ أَلَبَّ بِالْمَكَانِ إِذَا لَزِمَهُ وَأَقَامَ بِهِ. وَهِيَ مُثَنَّاةٌ لَفْظًا وَمَعْنَاهَا التَّكْثِيرُ لاَ خُصُوصُ الاِثْنَيْنِ (5) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - تَلْبِيَةُ الْمُحْرِمِ مُسْتَحَبَّةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (6) لِمَا رَوَى سَهْل بْنُ سَعْدٍ قَال: قَال
__________
(1) سورة الأعراف / 172.
(2) سورة الحج / 27.
(3) الخرشي على مختصر خليل 2 / 324 دار صادر بيروت.
(4) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 399.
(5) الفواكه الدواني 1 / 411 دار المعرفة.
(6) الاختيار شرح المختار 1 / 143 ط دار المعرفة، وابن عابدين 2 / 158، والمهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 211 - 212، والمغني لابن قدامة 3 / 288م. الرياض الحديثة.(13/261)
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُلَبِّي إِلاَّ لَبَّى عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ مِنْ حَجَرٍ أَوْ شَجَرٍ أَوْ مَدَرٍ حَتَّى تَنْقَطِعَ الأَْرْضُ مِنْ هَاهُنَا وَهَاهُنَا (1) . وَهِيَ وَاجِبَةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ (2) .
صِيغَتُهَا الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ:
3 - وَهِيَ تَلْبِيَةُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (3) . كَمَا جَاءَ فِي خَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ تَلْبِيَةَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ. لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ. إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ (4) .
وَهَل لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَزِيدَ عَلَيْهَا أَوْ يُنْقِصَ مِنْهَا؟
قَال الشَّافِعِيُّ وَهُوَ قَوْلٌ لِمَالِكِ: إِنْ زَادَ عَلَى هَذَا فَلاَ بَأْسَ (5) . لِمَا رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
__________
(1) حديث: " ما من مسلم يلبي. . . " أخرجه الترمذي (3 / 180 ط مصطفى الحلبي) وابن ماجه (2 / 974 ط عيسى الحلبي) ، والحاكم (1 / 451 ط دار الكتاب العربي) وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي واللفظ للترمذي.
(2) جواهر الإكليل 1 / 177، والشرح الكبير 2 / 39.
(3) ابن عابدين 2 / 159، والمغني لابن قدامة 3 / 289 م الرياض الحديثة، المهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 214، الخرشي على مختصر خليل 2 / 328 دار صادر.
(4) حديث: " أن تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم " لبيك اللهم لبيك. . . " أخرجه البخاري (3 / 408 ط السلفية) ، ومسلم (2 / 841 ط عيسى الحلبي) .
(5) المهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 214، والخرشي 2 / 328.(13/261)
كَانَ يَزِيدُ فِيهَا: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ بِيَدَيْكَ وَالرَّغْبَةُ إِلَيْكَ وَالْعَمَل. وَإِذَا رَأَى شَيْئًا يُعْجِبُهُ قَال: لَبَّيْكَ إِنَّ الْعَيْشَ عَيْشُ الآْخِرَةِ. لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ وَالنَّاسُ يُصْرَفُونَ عَنْهُ كَأَنَّهُ أَعْجَبَهُ مَا هُمْ فِيهِ. فَقَال: لَبَّيْكَ إِنَّ الْعَيْشَ عَيْشُ الآْخِرَةِ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ قَوْلٌ آخَرُ لِمَالِكٍ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُسْتَحَبُّ الزِّيَادَةُ عَلَى تَلْبِيَةِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلاَ تُكْرَهُ، وَذَلِكَ لِقَوْل جَابِرٍ: فَأَهَل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّوْحِيدِ لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ. لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ. إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ (2) وَأَهَل النَّاسُ بِهَذَا الَّذِي يُهِلُّونَ. وَلَزِمَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَلْبِيَتَهُ. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُلَبِّي بِتَلْبِيَةِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَزِيدُ مَعَ هَذَا " لَبَّيْكَ. لَبَّيْكَ. وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ بِيَدَيْكَ وَالرَّغْبَاءُ (3) إِلَيْكَ وَالْعَمَل (4) .
وَزَادَ عُمَرُ لَبَّيْكَ مَرْغُوبًا وَمَرْهُوبًا إِلَيْكَ ذَا
__________
(1) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ذات يوم والناس يصرفون عنه. . . " أخرجه البيهقي (5 / 45 ط دار المعرفة) من حديث مجاهد مرسلا، وقال ابن حجر: رواه سعيد بن منصور من حديث عكرمة مرسلا (2 / 24 ط شركة الطباعة الفنية) .
(2) حديث: " فأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتوحيد " لبيك اللهم لبيك. . . " أخرجه مسلم (2 / 886 - 887 ط عيسى الحلبي) .
(3) الرغباء: الضراعة والمسألة.
(4) حديث: " كان ابن عمر يلبي بتلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم ويزيد. . . " أخرجه مسلم (2 / 15 ط عيسى الحلبي) .(13/262)
النَّعْمَاءِ وَالْفَضْل الْحَسَنِ (1) . وَيَرَى أَنَّ أَنَسًا كَانَ يَزِيدُ لَبَّيْكَ حَقًّا حَقًّا تَعَبُّدًا وَرِقًّا. وَهَذَا يَدُل عَلَى أَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِالزِّيَادَةِ وَلاَ تُسْتَحَبُّ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَزِمَ تَلْبِيَتَهُ فَكَرَّرَهَا وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهَا.
وَالْقَوْل الثَّالِثُ لِمَالِكٍ: كَرَاهَةُ الزِّيَادَةِ عَلَى التَّلْبِيَةِ الْمَأْثُورَةِ عَنِ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ لَهُ أَنْ يَزِيدَ عَلَيْهَا وَيُكْرَهُ لَهُ إِنْقَاصُهَا، وَتَكُونُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا مِمَّا هُوَ مَأْثُورٌ فَيَقُول: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ بِيَدَيْكَ وَالرَّغْبَاءُ إِلَيْكَ إِلَهَ الْخَلْقِ لَبَّيْكَ بِحَجَّةٍ حَقًّا تَعَبُّدًا وَرِقًّا. لَبَّيْكَ إِنَّ الْعَيْشَ عَيْشُ الآْخِرَةِ. وَمَا لَيْسَ مَرْوِيًّا فَجَائِزٌ وَحَسَنٌ (3) .
بِمَ تَصِحُّ التَّلْبِيَةُ؟
4 - تَصِحُّ التَّلْبِيَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ وَإِنْ أَحْسَنَ الْعَرَبِيَّةَ إِلاَّ أَنَّ الْعَرَبِيَّةَ أَفْضَل (4) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ غَيْرَ الْعَرَبِيِّ يُلَبِّي بِلِسَانِهِ إِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهَا بِالْعَرَبِيَّةِ كَأَنْ لَمْ يَجِدْ
__________
(1) زيادة عمر: لبيك مرغوبا. . . أخرجه ابن أبي شيبة كما في فتح الباري لابن حجر (3 / 410 ط السلفية) .
(2) المغني لابن قدامة 3 / 290 م. الرياض الحديثة.
(3) ابن عابدين 2 / 159.
(4) ابن عابدين 2 / 158 - 159، وحاشية قليوبي على منهاج الطالبين 2 / 99.(13/262)
مَنْ يُعَلِّمُهُ الْعَرَبِيَّةَ، وَمُفَادُ هَذَا أَنَّ الْعَرَبِيَّ الْقَادِرَ عَلَيْهَا بِالْعَرَبِيَّةِ لاَ يُلَبِّي بِغَيْرِهَا لأَِنَّهُ ذِكْرٌ مَشْرُوعٌ فَلَمْ تُشْرَعْ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا كَالأَْذَانِ وَالأَْذْكَارِ الْمَشْرُوعَةِ فِي الصَّلاَةِ فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْعَرَبِيَّةِ لَبَّى بِلُغَتِهِ كَالتَّكْبِيرِ فِي الصَّلاَةِ (1) .
رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ:
5 - اسْتَحَبَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَرْفَعَ صَوْتَهُ بِالتَّلْبِيَةِ لِمَا رَوَى زَيْدُ بْنُ خَالِدٍ الْجُهَنِيُّ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: جَاءَنِي جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَال: يَا مُحَمَّدُ مُرْ أَصْحَابَكَ أَنْ يَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّلْبِيَةِ فَإِنَّهَا مِنْ شَعَائِرِ الْحَجِّ (2) وَقَال أَبُو حَازِمٍ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ يَبْلُغُونَ الرَّوْحَاءَ حَتَّى تُبَحَّ حُلُوقُهُمْ مِنَ التَّلْبِيَةِ. وَقَال سَالِمٌ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالتَّلْبِيَةِ فَلاَ يَأْتِي الرَّوْحَاءَ (3) حَتَّى يَصْحَل صَوْتُهُ (4) .
__________
(1) حاشية العدوي على شرح الرسالة 1 / 459 ط دار المعرفة، وكشاف القناع 2 / 420 م. النصر الحديثة، والمغني لابن قدامة 3 / 292م الرياض الحديثة.
(2) حديث: " جاءني جبريل عليه السلام فقال: يا محمد: مر أصحابك. . . " أخرجه الحاكم (1 / 450 ط دار الكتاب العربي) من حديث زيد بن خالد وأبي هريرة، ثم قال: هذه الأسانيد كلها صحيحة وليس يعلل واحد منها الآخر. وأقره الذهبي.
(3) الروحاء: موضع بين الحرمين.
(4) يصحل صوته: يبح صوته.(13/263)
وَلاَ يُجْهِدَ نَفْسَهُ فِي رَفْعِ الصَّوْتِ بِهَا زِيَادَةً عَلَى الطَّاقَةِ لِئَلاَّ يَنْقَطِعَ صَوْتُهُ وَتَلْبِيَتُهُ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّوَسُّطَ فِيهِ مَنْدُوبٌ فَلاَ يُسِرُّهُ الْمُلَبِّي حَتَّى لاَ يَسْمَعَهُ مَنْ يَلِيهِ، وَلاَ يُبَالِغُ فِي رَفْعِهِ حَتَّى يَعْقِرَهُ فَيَكُونُ بَيْنَ الرَّفْعِ وَالْخَفْضِ وَلاَ يُبَالِغُ فِي أَيِّهِمَا، وَفِي الْفَوَاكِهِ الدَّوَانِي: هَذَا فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ لأَِنَّهُ لاَ يَجُوزُ رَفْعُ الصَّوْتِ فِيهِ إِلاَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَمَسْجِدَ مِنَى لأَِنَّهُمَا بُنِيَا لِلْحَجِّ، وَقِيل: لِلأَْمْنِ فِيهِمَا مِنَ الرِّيَاءِ (2) .
هَذَا فِي حَقِّ الرِّجَال. أَمَّا النِّسَاءُ فَإِنَّهُ لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي كَرَاهَةِ رَفْعِ أَصْوَاتِهِنَّ بِالتَّلْبِيَةِ إِلاَّ بِمِقْدَارِ مَا تُسْمِعُ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا أَوْ رَفِيقَتَهَا، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ قَال: السُّنَّةُ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْمَرْأَةَ لاَ تَرْفَعُ صَوْتَهَا بِالإِْهْلاَل وَإِنَّمَا كُرِهَ لَهَا رَفْعُ الصَّوْتِ مَخَافَةَ الْفِتْنَةِ بِهَا وَمِثْلُهَا الْخُنْثَى الْمُشْكِل فِي ذَلِكَ احْتِيَاطًا (3) .
__________
(1) ابن عابدين 2 / 159، 191، الفتاوى الهندية 1 / 223، والاختيار شرح المختار 1 / 142م. مصطفى الحلبي 1936، والمهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 213، والمغني لابن قدامة 3 / 289م الرياض الحديثة.
(2) جواهر الإكليل 1 / 177، والشرح الكبير 2 / 40، والخرشي على مختصر خليل 1 / 324 دار صادر، الفواكه الدواني 1 / 413 ط دار المعرفة.
(3) ابن عابدين 2 / 189 - 190، والمهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 213، ومنهاج الطالبين 2 / 100، ونهاية المحتاج للرملي 3 / 264، والخرشي على مختصر خليل 2 / 324 دار صادر، والفواكه الدواني 1 / 413 ط دار المعرفة، والمغني لابن قدامة 3 / 330 - 331 م الرياض الحديثة، وكشاف القناع 2 / 421 م. النصر الحديثة.(13/263)
الإِْكْثَارُ مِنَ التَّلْبِيَةِ:
6 - اسْتَحَبَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يُكْثِرَ مِنَ التَّلْبِيَةِ لأَِنَّهَا شِعَارُ النُّسُكِ فَيُلَبِّي عِنْدَ اجْتِمَاعِ الرِّفَاقِ، أَوْ مَتَى عَلاَ شَرَفًا أَوْ هَبَطَ وَادِيًا، وَفِي أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ، وَإِقْبَال اللَّيْل وَالنَّهَارِ. لِمَا رَوَى جَابِرٌ قَال: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُلَبِّي إِذَا رَأَى رَكْبًا، أَوْ صَعِدَ أَكَمَةً، أَوْ هَبَطَ وَادِيًا، وَفِي أَدْبَارِ الْمَكْتُوبَةِ وَآخِرِ اللَّيْل (1) وَلأَِنَّ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ تُرْفَعُ الأَْصْوَاتُ وَيَكْثُرُ الضَّجِيجُ (2) . وَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَفْضَل الْحَجِّ الْعَجُّ وَالثَّجُّ (3) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّوَسُّطَ فِي ذَلِكَ
__________
(1) حديث: " كان يلبي إذا رأى ركبا. . . " قال ابن حجر: " وقد رواه ابن عساكر في تخريجه لأحاديث المهذب، ثم قال: وفي إسناده من لا يعرف. التخليص الحبير (2 / 239 ط. شركة الطباعة الفنية) .
(2) ابن عابدين 2 / 164 - 165، مراقي الفلاح 399، والاختيار شرح المختار 1 / 144 مصطفى الحلبي 1936، والمهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 213، ونهاية المحتاج للرملي 3 / 264، والمغني لابن قدامة 3 / 291م الرياض الحديثة.
(3) حديث: " أفضل الحج العج والثج " أخرجه الترمذي (3 / 180 ط مصطفى الحلبي) وابن ماجه (2 / 97 ط عيسى الحلبي) ، والحاكم (1 / 451 ط دار الكتاب العربي) . وقال: صحيح الإسناد. ووافقه الذهبي. والعج: رفع الصوت بالتلبية، والثج: إسالة دماء الهدي (المصباح) .(13/264)
مَنْدُوبٌ، فَلاَ يُكْثِرُ الْمُحْرِمُ مِنَ التَّلْبِيَةِ حَتَّى يَمَلَّهَا وَيَلْحَقَهُ الضَّرَرُ، وَلاَ يُقَلِّلُهَا حَتَّى يَفُوتَ الْمَقْصُودُ مِنْهَا وَهُوَ الشَّعِيرَةُ (1) .
مَتَى تَبْدَأُ التَّلْبِيَةُ:
7 - مِنَ الأُْمُورِ الْمُسْتَحَبَّةِ لِمُرِيدِ الإِْحْرَامِ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ بِهِمَا مَعًا مَتَى بَلَغَ مِيقَاتَهُ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ بِنِيَّةِ الإِْحْرَامِ فِي غَيْرِ وَقْتِ كَرَاهَةٍ، وَتُجْزِئُ الْمَكْتُوبَةُ، فَإِنْ كَانَ مُفْرِدًا بِالْحَجِّ قَال بِلِسَانِهِ الْمُطَابِقِ لِجِنَانِهِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ فَيَسِّرْهُ لِي وَتَقَبَّلْهُ مِنِّي، كَمَا يَفْعَل ذَلِكَ أَيْضًا الْمُعْتَمِرُ وَالْقَارِنُ، وَيُشِيرُ إِلَى نَوْعِ نُسُكِهِ ثُمَّ يُلَبِّي دُبُرَ صَلاَتِهِ. . وَبِهَذِهِ التَّلْبِيَةِ يَكُونُ مُحْرِمًا وَتَسْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الإِْحْرَامِ.
هَذَا مَا عَلَيْهِ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ الأَْرْبَعَةِ (2) .
وَلَهُ الإِْحْرَامُ بِهَا إِذَا اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ، وَإِذَا بَدَأَ السَّيْرُ سَوَاءٌ لأَِنَّ الْجَمِيعَ قَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ طُرُقٍ صَحِيحَةٍ. قَال الأَْثْرَمُ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ: أَيُّهُمَا أَحَبُّ إِلَيْكَ. الإِْحْرَامُ فِي دُبُرِ الصَّلاَةِ، أَوْ إِذَا اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ؟ فَقَال: كُل ذَلِكَ قَدْ جَاءَ فِي دُبُرِ الصَّلاَةِ وَإِذَا عَلاَ الْبَيْدَاءَ.
__________
(1) جواهر الإكليل 1 / 177، والفواكه الدواني 1 / 413 ط دار المعرفة.
(2) ابن عابدين 2 / 159 - 160، الفتاوى الهندية 1 / 223، والمغني لابن قدامة 3 / 275م الرياض الحديثة، والمهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 211 - 212، وجواهر الإكليل 1 / 177، 168، والشرح الكبير 2 / 22.(13/264)
مَتَى تَنْتَهِي التَّلْبِيَةُ:
8 - تَنْتَهِي التَّلْبِيَةُ بِالنِّسْبَةِ لِلْحَاجِّ ابْتِدَاءً مِنْ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فَيَقْطَعُهَا مَعَ أَوَّل حَصَاةٍ لأَِخْذِهِ فِي أَسْبَابِ التَّحَلُّل، وَيُكَبِّرُ بَدَل التَّلْبِيَةِ مَعَ كُل حَصَاةٍ. فَقَدْ رَوَى جَابِرٌ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَتَى إِلَى مِنَى لَمْ يُعَرِّجْ إِلَى شَيْءٍ حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ وَقَطَعَ التَّلْبِيَةَ عِنْدَ أَوَّل حَصَاةٍ رَمَاهَا، ثُمَّ كَبَّرَ مَعَ كُل حَصَاةٍ، ثُمَّ نَحَرَ، ثُمَّ حَلَقَ رَأْسَهُ، ثُمَّ أَتَى مَكَّةَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ (1) .
وَرَوَى الْفَضْل بْنُ الْعَبَّاسِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَزَل يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ (2)
وَكَانَ الْفَضْل رَدِيفَهُ يَوْمَئِذٍ وَهُوَ أَعْلَمُ بِحَالِهِ مِنْ غَيْرِهِ. وَلأَِنَّ التَّلْبِيَةَ لِلإِْحْرَامِ فَإِذَا رَمَى فَقَدْ شَرَعَ فِي التَّحَلُّل فَلاَ مَعْنَى لِلتَّلْبِيَةِ (3) .
__________
(1) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أتى إلى منى لم يعرج إلى شيء حتى رمى جمرة العقبة بسبع حصيات. . . " قال ابن حجر: " وهو مستفاد من الأحاديث المتقدم ذكرها. منها حديث جابر الطويل، ولم أره هكذا صريحا (الدراية 2 / 24 ط الفجالة الحديثة) .
(2) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يلبي حتى رمى جمر العقبة " أخرجه مسلم (2 / 931 ط عيسى الحلبي) من حديث ابن عباس.
(3) ابن عابدين 2 / 180، والفتاوى الهندية 1 / 231 المكتبة الإسلامية، الاختيار شرح المختار 1 / 151 م مصطفى الحلبي 1936، ونهاية المحتاج للرملي 3 / 294 - 295، ومنهاج الطالبين 2 / 118، والمهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 235، والمغني لابن قدامة 3 / 430 - 431 م الرياض الحديثة، وكشاف القناع 2 / 498م. النصر الحديثة.(13/265)
وَلِلْمَالِكِيَّةِ قَوْلاَنِ: أَحَدُهُمَا: يَسْتَمِرُّ فِي التَّلْبِيَةِ حَتَّى يَبْلُغَ مَكَّةَ فَيَقْطَعَ التَّلْبِيَةَ حَتَّى يَطُوفَ وَيَسْعَى ثُمَّ يُعَاوِدَهَا حَتَّى تَزُول الشَّمْسُ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ وَيَرُوحَ إِلَى مُصَلاَّهَا.
وَالثَّانِي: يَسْتَمِرُّ فِي التَّلْبِيَةِ حَتَّى الشُّرُوعِ فِي الطَّوَافِ، وَالأَْوَّل فِي رِسَالَةِ ابْنِ أَبِي زَيْدٍ. وَشَهَرَهُ ابْنُ بَشِيرٍ، وَالثَّانِي فِي الْمُدَوَّنَةِ فِي قَوْلٍ يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ حِينَ يَبْتَدِئُ الطَّوَافَ (1) .
أَمَّا الْمُعْتَمِرُ فَيَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ مَتَى شَرَعَ فِي الطَّوَافِ وَاسْتَلَمَ الْحَجَرَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (2) . لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: يُلَبِّي الْمُعْتَمِرُ حَتَّى يَسْتَلِمَ الْحَجَرَ (3)
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَالْمُعْتَبَرُ عِنْدَهُمْ أَنَّ مُعْتَمِرَ الْمِيقَاتِ مِنْ أَهْل الآْفَاقِ وَفَائِتِ الْحَجِّ أَيْ: الْمُعْتَمِرُ لِفَوَاتِ الْحَجِّ يُلَبِّي كُلٌّ مِنْهُمَا لِلْحَرَمِ لاَ إِلَى رُؤْيَةِ الْبُيُوتِ، وَمُعْتَمِرُ الْجِعْرَانَةِ وَالتَّنْعِيمِ يُلَبِّي لِلْبُيُوتِ أَيْ: إِلَى دُخُول بُيُوتِ مَكَّةَ لِقُرْبِ الْمَسَافَةِ
__________
(1) جواهر الإكليل 1 / 177، والفواكه الدواني 1 / 413 ط دار المعرفة.
(2) نهاية المحتاج للرملي 3 / 294 - 295، والمغني لابن قدامة 3 / 430 - 431 م الرياض الحديثة، كشاف القناع 2 / 498 م. النصر الحديثة، ابن عابدين 2 / 180، والفتاوى الهندية 1 / 231 المكتبة الإسلامية.
(3) حديث: " يلبي المعتمر حتى يستلم الحجر " أخرجه أبو داود (2 / 406 ط عزت عبيد الدعاس) والترمذي (3 / 252 ط مصطفى الحلبي) وصححه.(13/265)
اسْتِدْلاَلاً بِمَا رَوَاهُ نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِنْ فِعْلِهِ فِي الْمَنَاسِكِ قَال: وَكَانَ يَتْرُكُ التَّلْبِيَةَ فِي الْعُمْرَةِ إِذَا دَخَل الْحَرَمَ (1) يُنْظَرُ فِي تَفْصِيل ذَلِكَ: حَجٌّ - إِحْرَامٌ.
تَلْجِئَةٌ
انْظُرْ: بَيْعُ التَّلْجِئَةِ.
__________
(1) الشرح الكبير 2 / 40، وجواهر الإكليل 1 / 178.(13/266)
تَلَفٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّلَفُ لُغَةً: الْهَلاَكُ وَالْعَطَبُ فِي كُل شَيْءٍ وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لَهُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ وَالإِْتْلاَفُ: إِحْدَاثُ التَّلَفِ، وَيُنْظَرُ لِتَفْصِيلِهِ مُصْطَلَحُ: (إِتْلاَفٌ) وَالتَّلَفُ فِي بَابِ الْمُضَارَبَةِ مَخْصُوصٌ بِالنَّقْصِ الْحَاصِل لاَ عَنْ تَحْرِيكٍ، بِخِلاَفِ الْخُسْرِ فَهُوَ مَا نَشَأَ عَنْ تَحْرِيكٍ (1)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - التَّلَفُ يَتَعَلَّقُ بِهِ خِطَابُ الْوَضْعِ، وَتَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ آثَارٌ أَهَمُّهَا الضَّمَانُ. وَالتَّلَفُ لاَ يُوصَفُ بِحِلٍّ أَوْ حُرْمَةٍ، وَإِنَّمَا يُنْظَرُ فِيمَنْ يَضْمَنُ التَّلَفَ.
أَمَّا الإِْتْلاَفُ، فَهُوَ إِحْدَاثُ التَّلَفِ، وَتَفْصِيل أَحْكَامِهِ فِي مُصْطَلَحِ: (إِتْلاَفٌ)
أَسْبَابُ التَّلَفِ:
3 - التَّلَفُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِعَارِضٍ سَمَاوِيٍّ، وَهُوَ
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، مادة: " تلف "، وحاشية الدسوقي 3 / 529.(13/266)
مَا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالآْفَةِ السَّمَاوِيَّةِ أَوْ بِالْجَائِحَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِفِعْلٍ مِنَ الْمَخْلُوقِ، وَهَذَا يُقَسِّمُهُ الْفُقَهَاءُ إِلَى نَوْعَيْنِ: تَلَفٌ حِسِّيٌّ، وَتَلَفٌ شَرْعِيٌّ، وَيُسَمِّيهِ الْمَالِكِيَّةُ التَّلَفَ الْحُكْمِيَّ.
فَالتَّلَفُ الْحِسِّيُّ: هُوَ هَلاَكُ الْعَيْنِ نَفْسِهَا، سَوَاءٌ أَتَى عَلَيْهَا كُلِّهَا أَوْ بَعْضِهَا.
وَالتَّلَفُ الشَّرْعِيُّ (الْحُكْمِيُّ) : هُوَ مَنْعُ الشَّارِعِ مِنَ الاِنْتِفَاعِ بِالْعَيْنِ مَعَ بَقَائِهَا بِسَبَبٍ مِنَ الْمُتْلِفِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَنْعُ عَامًّا يَدْخُل فِيهِ التَّلَفُ وَغَيْرُهُ، كَمَا فِي الْعَيْنِ، أَمْ مُبَاحًا لِلْمُتْلِفِ دُونَ غَيْرِهِ كَمَا فِي وَطْءِ الأَْمَةِ، أَمْ كَانَ مُبَاحًا لِغَيْرِ الْمُتْلِفِ كَمَا فِي الصَّدَقَةِ وَالْهِبَةِ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ لَهُ صُوَرًا مِنْهَا، مَا لَوِ اشْتَرَى أَمَةً فَأَعْتَقَهَا أَبُوهُ قَبْل قَبْضِهَا، وَذَلِكَ لأَِنَّ الشَّارِعَ جَعَل عِتْقَ أَبِيهِ كَعِتْقِهِ، حَيْثُ رَتَّبَ عَلَيْهِ حُكْمَهُ، وَمِثْلُهُ الْكِتَابَةُ، وَالتَّدْبِيرُ، وَالصَّدَقَةُ، وَالْهِبَةُ (1) .
وَهَذَا التَّقْسِيمُ بِاعْتِبَارِ الْمُتْلِفِ، أَمَّا بِاعْتِبَارِ الْمَحَل، فَهُوَ إِمَّا أَنْ يَرِدَ عَلَى النَّفْسِ وَالأَْعْضَاءِ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (جِنَايَةٌ، وَدِيَةٌ، وَقِصَاصٌ)
وَإِمَّا أَنْ يَرِدَ عَلَى الأَْمْوَال، وَهُوَ الْمَقْصُودُ هُنَا.
__________
(1) حاشية الدسوقي 3 / 124، ومواهب الجليل 4 / 443، ومغني المحتاج 2 / 66، وشرح روض الطالب 2 / 79، وحاشية الجمل على شرح المنهج 3 / 158.(13/267)
أَوَّلاً: أَثَرُ التَّلَفِ فِي الْعِبَادَاتِ:
أ - تَلَفُ زَكَاةِ الْمَال:
4 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) إِلَى أَنَّ الزَّكَاةَ لاَ تَسْقُطُ بِتَلَفِ الْمَال بَعْدَ الْحَوْل، وَيَجِبُ عَلَى الْمُزَكِّي الضَّمَانُ، وَذَلِكَ لأَِنَّهَا مَالٌ وَجَبَ فِي الذِّمَّةِ فَلَمْ يَسْقُطْ بِتَلَفِ النِّصَابِ، كَالدَّيْنِ، فَضَمِنَهَا بِتَلَفِهَا فِي يَدِهِ. فَلاَ يُعْتَبَرُ بَقَاءُ الْمَال.
وَقَيَّدَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ هَذَا الْحُكْمَ بِقَيْدَيْنِ: التَّمَكُّنُ مِنَ الأَْدَاءِ، وَالتَّفْرِيطُ مِنْ رَبِّ الْمَال. فَإِنْ تَلِفَ الْمَال بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنَ الأَْدَاءِ أَوْ بِتَفْرِيطٍ مِنْ رَبِّ الْمَال فَلاَ تَسْقُطُ الزَّكَاةُ عَنْهُ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ.
وَلَمْ يَعْتَبِرِ الْحَنَابِلَةُ هَذَيْنِ الْقَيْدَيْنِ وَأَوْجَبُوا الضَّمَانَ مُطْلَقًا وَاعْتَبَرُوا إِمْكَانَ الأَْدَاءِ شَرْطًا لِوُجُوبِ الإِْخْرَاجِ لاَ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ. لِمَفْهُومِ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيْسَ فِي مَالٍ زَكَاةٌ حَتَّى يَحُول عَلَيْهِ الْحَوْل (1) فَإِنَّهُ يَدُل عَلَى الْوُجُوبِ بَعْدَ الْحَوْل مُطْلَقًا.
وَلأَِنَّهَا حَقُّ الْفَقِيرِ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهَا إِمْكَانُ الأَْدَاءِ كَدَيْنِ الآْدَمِيِّ، وَلأَِنَّهُ لَوِ اشْتُرِطَ لَمْ يَنْعَقِدِ الْحَوْل الثَّانِي، حَتَّى يَتَمَكَّنَ مِنَ الأَْدَاءِ. وَلَيْسَ
__________
(1) حديث: " ليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول " أخرجه أبو داود (2 / 230 تحقيق عزت عبيد دعاس) وحسنه الزيلعي في نصب الراية (2 / 328 - ط المجلس العلمي بالهند) .(13/267)
كَذَلِكَ بَل يَنْعَقِدُ عَقِبَ الأَْوَّل إِجْمَاعًا، وَلأَِنَّهَا عِبَادَةٌ فَلاَ يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِهَا إِمْكَانُ الأَْدَاءِ كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ بِاعْتِبَارِ التَّمَكُّنِ مِنَ الأَْدَاءِ مُطْلَقًا أَيْ وَلَوْ بِلاَ تَفْرِيطٍ، وَاخْتَارَهَا ابْنُ قُدَامَةَ.
وَاسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ الزَّرْعَ وَالثَّمَرَ إِذَا تَلِفَ بِجَائِحَةٍ قَبْل الْقَطْعِ، فَإِنَّ زَكَاتَهُمَا تَسْقُطُ، فَإِنْ بَقِيَ بَعْدَ الْجَائِحَةِ مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ زَكَّاهُ، قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْخَارِصَ إِذَا خَرَصَ الثَّمَرَ ثُمَّ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ قَبْل الْجُذَاذِ، وَلأَِنَّهُ قَبْل الْجُذَاذِ فِي حُكْمِ مَا لاَ تَثْبُتُ الْيَدُ عَلَيْهِ، بِدَلِيل أَنَّهُ لَوِ اشْتَرَى ثَمَرَهُ فَتَلِفَتْ بِجَائِحَةٍ رَجَعَ بِهَا عَلَى الْبَائِعِ.
وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ فِي تَلَفِ الْمَوَاشِي قَيْدًا ثَالِثًا وَهُوَ مَجِيءُ السَّاعِي، فَإِذَا تَلِفَتْ أَوْ ضَاعَتْ بَعْدَ الْحَوْل وَقَبْل مَجِيءِ السَّاعِي فَلاَ يُحْسَبُ مَا تَلِفَ أَوْ ضَاعَ، وَإِنَّمَا يُزَكَّى الْبَاقِي إِنْ كَانَ فِيهِ زَكَاةٌ، وَذَلِكَ لأَِنَّهُمْ يَعْتَبِرُونَ مَجِيءَ السَّاعِي شَرْطَ وُجُوبٍ، وَكَذَلِكَ تَسْقُطُ الزَّكَاةُ عِنْدَهُمْ عَنْهَا لَوْ تَلِفَتْ بَعْدَ مَجِيءِ السَّاعِي وَالْعَدِّ وَقَبْل أَخْذِهِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ مَجِيئَهُ شَرْطٌ فِي الْوُجُوبِ وُجُوبًا مُوَسَّعًا إِلَى الأَْخْذِ، كَدُخُول وَقْتِ الصَّلاَةِ، فَقَدْ يَطْرَأُ أَثْنَاءَ الْوَقْتِ مَا يُسْقِطُهَا كَالْحَيْضِ، كَذَلِكَ التَّلَفُ بَعْدَ الْمَجِيءِ وَالْعَدِّ، وَأَمَّا لَوْ ذَبَحَ مِنْهَا شَيْئًا بِغَيْرِ قَصْدِ الْفِرَارِ، أَوْ بَاعَ شَيْئًا كَذَلِكَ بَعْدَ مَجِيءِ السَّاعِي وَقَبْل الأَْخْذِ، فَفِيهِ الزَّكَاةُ، وَيُحْسَبُ عِلْمُ الْمُعْتَمَدِ،(13/268)
وَأَمَّا لَوْ كَانَ بِقَصْدِ الْفِرَارِ فَتَجِبُ زَكَاتُهُ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ قَبْل الْحَوْل.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الزَّكَاةَ تَسْقُطُ بِتَلَفِ الْمَال بَعْدَ الْحَوْل سَوَاءٌ أَتَمَكَّنَ مِنَ الأَْدَاءِ أَمْ لاَ.
وَإِنْ هَلَكَ بَعْضُ النِّصَابِ سَقَطَ مِنَ الْوَاجِبِ فِيهِ بِقَدْرِ مَا هَلَكَ مِنْهُ لِتَعَلُّقِهَا بِالْعَيْنِ لاَ بِالذِّمَّةِ، وَلأَِنَّ الشَّرْعَ عَلَّقَ وُجُوبَهَا بِقُدْرَةٍ مُيَسَّرَةٍ، وَالْمُعَلَّقُ بِقُدْرَةٍ مُيَسَّرَةٍ لاَ يَبْقَى دُونَهَا، وَيَقْصِدُونَ بِالْقُدْرَةِ الْمُيَسَّرَةِ هُنَا وَصْفُ النَّمَاءِ أَيْ إِمْكَانُ الاِسْتِثْمَارِ، لاَ مُجَرَّدُ وُجُودِ النِّصَابِ (1) .
وَأَمَّا إِذَا تَلِفَ الْمَال بَعْدَ الْحَوْل بِفِعْل الْمُزَكِّي نَفْسِهِ فَإِنَّ الزَّكَاةَ لاَ تَسْقُطُ عَنْهُ، وَإِنِ انْتَفَتِ الْقُدْرَةُ الْمُيَسَّرَةُ لِبَقَائِهَا تَقْدِيرًا، زَجْرًا لَهُ عَنِ التَّعَدِّي وَنَظَرًا لِلْفُقَرَاءِ.
هَذِهِ الأَْحْكَامُ فِيمَا إِذَا كَانَ التَّلَفُ بَعْدَ حُلُول الْحَوْل، وَأَمَّا إِذَا كَانَ التَّلَفُ قَبْل حُلُول الْحَوْل فَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي سُقُوطِ الزَّكَاةِ عَنْهُ لِعَدَمِ الشَّرْطِ، وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَهُمْ فِي سُقُوطِ الزَّكَاةِ عَنْهُ إِنْ أَتْلَفَ رَبُّ الْمَال قَبْل الْحَوْل إِنْ لَمْ يَقْصِدِ الْفِرَارَ مِنْهَا، فَإِنْ قَصَدَ بِالإِْتْلاَفِ الْفِرَارَ مِنَ الزَّكَاةِ فَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ عَلَى قَوْلَيْنِ:
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 20، 21، 73 وما بعدها، وحاشية الدسوقي 1 / 443، 454، 503، ومواهب الجليل 2 / 363، ومغني المحتاج 1 / 387، 418، وكشاف القناع 2 / 182، والإنصاف 3 / 39، 40، والمغني لابن قدامة 2 / 681، 682.(13/268)
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ) إِلَى سُقُوطِ الزَّكَاةِ عَنْهُ مَعَ الْكَرَاهَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ سُقُوطِ الزَّكَاةِ عَنْهُ (1) .
ب - تَلَفُ الْمَال بَعْدَ وُجُوبِ زَكَاةِ الْفِطْرِ:
5 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ - وَمِنْهُمُ الْحَنَفِيَّةُ - إِلَى أَنَّ تَلَفَ الْمَال بَعْدَ وُجُوبِ زَكَاةِ الْفِطْرِ وَبَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْ أَدَائِهَا لاَ يُسْقِطُهَا، بَل تَسْتَقِرُّ فِي ذِمَّتِهِ اتِّفَاقًا، وَفَرَّقَ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَكَاةِ الْمَال بِأَنَّ وُجُوبَ زَكَاةِ الْفِطْرِ مُتَعَلِّقٌ بِالْقُدْرَةِ الْمُمْكِنَةِ، وَهِيَ أَدْنَى مَا يَتَمَكَّنُ بِهِ الْعَبْدُ مِنْ أَدَاءِ مَا لَزِمَهُ مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ غَالِبًا، أَمَّا زَكَاةُ الْمَال فَيَتَعَلَّقُ وُجُوبُهَا بِالْقُدْرَةِ الْمُيَسَّرَةِ، وَهِيَ مَا يُوجِبُ يُسْرَ الأَْدَاءِ عَلَى الْمُكَلَّفِ بَعْدَمَا ثَبَتَ الإِْمْكَانُ بِالْقُدْرَةِ الْمُمْكِنَةِ، وَدَوَامُهَا شَرْطٌ لِدَوَامِ الْوَاجِبِ الشَّاقِّ عَلَى النَّفْسِ كَأَكْثَرِ الْوَاجِبَاتِ الْمَالِيَّةِ، حَتَّى سَقَطَتِ الزَّكَاةُ وَالْعُشْرُ وَالْخَرَاجُ بِهَلاَكِ الْمَال بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنَ الأَْدَاءِ؛ لأَِنَّ الْقُدْرَةَ الْمُيَسَّرَةَ وَهِيَ وَصْفُ النَّمَاءِ قَدْ فَاتَتْ بِالْهَلاَكِ، فَيَفُوتُ دَوَامُ الْوُجُوبِ لِفَوَاتِ شَرْطِهِ، بِخِلاَفِ الْقُدْرَةِ الْمُمْكِنَةِ فَلَيْسَ بَقَاؤُهَا شَرْطًا لِبَقَاءِ الْوَاجِبِ.
أَمَّا إِذَا كَانَ تَلَفُ الْمَال قَبْل التَّمَكُّنِ مِنَ الأَْدَاءِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 21، وحاشية الدسوقي 1 / 503، وروضة الطالبين 2 / 190، والإنصاف 3 / 32.(13/269)
فَفِي سُقُوطِ زَكَاةِ الْفِطْرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا تَسْقُطُ كَزَكَاةِ الْمَال، وَالثَّانِي: لاَ تَسْقُطُ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى سُقُوطِ زَكَاةِ الْفِطْرِ بِالتَّلَفِ، إِلاَّ أَنْ يُخْرِجَهَا فِي غَيْرِ وَقْتِهَا فَتَضِيعُ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُهَا حِينَئِذٍ (2) .
ج - تَلَفُ الأُْضْحِيَّةِ:
6 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الأُْضْحِيَّةَ الْمُعَيَّنَةَ إِذَا تَلِفَتْ فَلاَ شَيْءَ عَلَى صَاحِبِهَا وَلاَ يَلْزَمُهُ بَدَلُهَا - فِي الْجُمْلَةِ - وَيُفَرِّقُ الْحَنَفِيَّةُ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْمُوسِرِ وَالْمُعْسِرِ. وَخَصُّوا الْقَوْل بِعَدَمِ الضَّمَانِ بِالْمُعْسِرِ، قَالُوا: لأَِنَّ شِرَاءَ الْفَقِيرِ لِلأُْضْحِيَّةِ بِمَنْزِلَةِ النَّذْرِ. فَإِذَا هَلَكَتْ فَقَدْ هَلَكَ مَحَل إِقَامَةِ الْوَاجِبِ فَيَسْقُطُ عَنْهُ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ آخَرُ بِإِيجَابِ الشَّرْعِ ابْتِدَاءً، لِفَقْدِ شَرْطِ الْوُجُوبِ وَهُوَ الْيَسَارُ.
وَأَمَّا إِنْ كَانَ مُوسِرًا، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُضَحِّيَ شَاةً أُخْرَى، لأَِنَّ الْوُجُوبَ فِي جُمْلَةِ الْوَقْتِ، وَالأُْضْحِيَّةُ الْمُشْتَرَاةُ لَمْ تَتَعَيَّنْ لِلْوُجُوبِ، وَالْوَقْتُ بَاقٍ، وَهُوَ مِنْ أَهْل الْوُجُوبِ فَيَجِبُ. وَخَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ الْقَوْل بِعَدَمِ الضَّمَانِ بِمَا إِذَا تَلِفَتْ قَبْل التَّمَكُّنِ مِنْ ذَبْحِهَا، أَوْ تَلِفَتْ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ مِنْهُ، وَأَمَّا إِذَا تَلِفَتْ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 22 / 73، 5 / 199، والمجموع 6 / 127، والمغني 3 / 81، والإنصاف 3 / 177،67.
(2) مواهب الجليل 2 / 376، وشرح الزرقاني 2 / 90.(13/269)
ذَبْحِهَا أَوْ بِتَفْرِيطٍ مِنْهُ فَأَوْجَبُوا عَلَيْهِ الضَّمَانَ.
وَإِنْ تَعَدَّى أَجْنَبِيٌّ عَلَيْهَا فَأَتْلَفَهَا، فَعَلَى الأَْجْنَبِيِّ الْقِيمَةُ بِلاَ نِزَاعٍ، يَأْخُذُهَا الْمُضَحِّي وَيَشْتَرِي بِهَا مِثْل الأُْولَى، وَإِنْ أَتْلَفَهَا الْمُضَحِّي نَفْسُهُ لَزِمَهُ أَكْثَرُ الْقَدْرَيْنِ مِنْ قِيمَتِهَا وَثَمَنِ مِثْلِهَا عَلَى الصَّحِيحِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يَضْمَنُهَا بِالْقِيمَةِ يَوْمَ التَّلَفِ (1) .
د - تَلَفُ الْهَدْيِ:
7 - مَنْ سَاقَ هَدْيًا وَاجِبًا فَعَطِبَ أَوْ تَعَيَّبَ بِمَا يَمْنَعُ الأُْضْحِيَّةَ، أَقَامَ غَيْرَهُ مَقَامَهُ، وَصَنَعَ بِالْمَعِيبِ مَا شَاءَ، فَإِنْ كَانَ الْمَعِيبُ تَطَوُّعًا فَلَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، وَيَنْحَرُهُ وَلاَ يَأْكُل مِنْهُ هُوَ وَلاَ غَيْرُهُ مِنَ الأَْغْنِيَاءِ وَيَضْرِبُ صَفْحَةَ سَنَامِهِ، لِيُعْلَمَ أَنَّهُ هَدْيٌ لِلْفُقَرَاءِ (2) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ سُرِقَ الْهَدْيُ الْوَاجِبُ، أَوْ تَلِفَ بَعْدَ ذَبْحِهِ أَوْ نَحْرِهِ أَجْزَأَ، لأَِنَّهُ بَلَغَ مَحِلَّهُ.
أَمَّا إِنْ سُرِقَ أَوْ تَلِفَ قَبْل ذَبْحِهِ أَوْ نَحْرِهِ، فَلاَ يُجْزِئُ وَيَلْزَمُهُ الْبَدَل.
وَأَمَّا الْهَدْيُ الْمُتَطَوِّعُ بِهِ فَلاَ بَدَل عَلَيْهِ، وَإِنْ
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 66، ومواهب الجليل 3 / 250، وشرح الزرقاني على مختصر خليل 3 / 42، وروضة الطالبين 3 / 211 وما بعدها، شرح روض الطالب 1 / 542، والإنصاف 4 / 95 وما بعدها.
(2) شرح القدوري 1 / 219 - 220، وابن عابدين 2 / 251.(13/270)
سُرِقَ قَبْل ذَبْحِهِ أَوْ نَحْرِهِ (1) .
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ هَدْيَ التَّطَوُّعِ لاَ يُضْمَنُ بِالتَّلَفِ وَلاَ بِالإِْتْلاَفِ، لأَِنَّهُ وَإِنْ تَطَوَّعَ بِهِ مَالِكُهُ فَإِنَّ مِلْكِيَّتَهُ لَهُ لاَ تَزُول عَنْهُ بِالتَّطَوُّعِ، فَلَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ بِذَبْحِهِ وَأَكْلِهِ وَبَيْعِهِ وَسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ، لأَِنَّ مِلْكَهُ ثَابِتٌ وَلَمْ يُنْذِرْهُ، وَإِنَّمَا وُجِدَ مِنْهُ مُجَرَّدُ نِيَّةِ ذَبْحِهِ، وَهَذَا لاَ يُزِيل الْمِلْكَ، كَمَا لَوْ نَوَى أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمَالِهِ، أَوْ يُعْتِقَ عَبْدَهُ، أَوْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ، أَوْ يَقِفَ دَارَهُ، وَفِي قَوْلٍ شَاذٍّ لِلشَّافِعِيَّةِ، إِنَّهُ إِذَا قَلَّدَ الْهَدْيَ صَارَ كَالْمَنْذُورِ، وَالصَّحِيحُ الأَْوَّل.
فَإِذَا عَطِبَ وَذَبَحَهُ، قَال صَاحِبُ الشَّامِل وَغَيْرُهُ: لاَ يَصِيرُ مُبَاحًا لِلْفُقَرَاءِ إِلاَّ بِلَفْظِهِ، وَهُوَ أَنْ يَقُول أَبَحْتُهُ لِلْفُقَرَاءِ أَوِ الْمَسَاكِينِ، قَال: وَيَجُوزُ لِمَنْ سَمِعَهُ الأَْكْل، وَفِي غَيْرِهِ قَوْلاَنِ: قَال فِي الإِْمْلاَءِ: لاَ يَحِل حَتَّى يُعْلَمَ الإِْذْنُ، وَقَال فِي الْقَدِيمِ وَالأُْمِّ: يَحِل وَهُوَ الأَْظْهَرُ (2) .
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْهَدْيِ الْوَاجِبِ أَنَّهُ يُضْمَنُ بِالإِْتْلاَفِ لاَ بِالتَّلَفِ، فَإِنْ تَلِفَ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ لَمْ يَضْمَنْهُ، لأَِنَّهُ أَمَانَةٌ عِنْدَهُ، فَإِذَا هَلَكَتْ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ لَمْ تُضْمَنْ كَالْوَدِيعَةِ، وَإِنْ أَصَابَهُ عَيْبٌ وَذَبَحَهُ أَجْزَأَهُ، لأَِنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ أُتِيَ فِي هَدَايَاهُ بِنَاقَةٍ عَوْرَاءَ، فَقَال: إِنْ كَانَ أَصَابَهَا
__________
(1) الدسوقي 2 / 91.
(2) المجموع 8 / 364 ط السلفية، وروضة الطالبين 3 / 191 ط المكتب الإسلامي.(13/270)
بَعْدَمَا اشْتَرَيْتُمُوهَا فَأَمْضُوهَا، وَإِنْ كَانَ أَصَابَهَا قَبْل أَنْ تَشْتَرُوهَا فَأَبْدِلُوهَا، وَلأَِنَّهُ لَوْ هَلَكَ جَمِيعُهُ لَمْ يَضْمَنْهُ، فَإِذَا نَقَصَ بَعْضُهُ لَمْ يَضْمَنْهُ كَالْوَدِيعَةِ.
وَإِنْ تَلِفَ بِتَفْرِيطٍ مِنْهُ بِأَنْ أَخَّرَ ذَبْحَهُ بَعْدَمَا عَطِبَ فِي الطَّرِيقِ حَتَّى هَلَكَ ضَمِنَهُ، أَوْ خَالَفَ فَبَاعَ الْهَدْيَ فَتَلِفَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي أَوْ أَتْلَفَهُ لَزِمَهُ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ مَا كَانَتْ مِنْ حِينِ الْقَبْضِ إِلَى حِينِ التَّلَفِ كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ، وَيَشْتَرِي النَّاذِرُ بِتِلْكَ الْقِيمَةِ مِثْل التَّالِفِ جِنْسًا وَنَوْعًا وَسِنًّا، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ بِالْقِيمَةِ الْمِثْل لِغَلاَءٍ حَدَثَ لَزِمَهُ أَنْ يَضُمَّ مِنْ مَالِهِ إِلَيْهَا تَمَامَ الثَّمَنِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْل الأَْصْحَابِ يَضْمَنُ مَا بَاعَهُ بِأَكْثَرِ الأَْمْرَيْنِ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِثْلِهِ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ تَلِفَتِ الْمُعَيَّنَةُ هَدْيًا أَوْ ضَلَّتْ أَوْ سُرِقَتْ وَلَوْ قَبْل الذَّبْحِ فَلاَ بَدَل عَلَيْهِ إِنْ لَمْ يُفَرِّطْ، لأَِنَّهُ أَمِينٌ.
وَإِنْ عَيَّنَ عَنْ وَاجِبٍ فِي الذِّمَّةِ مَا يُجْزِئُ فِيهِ، كَالْمُتَمَتِّعِ يُعَيِّنُ دَمَ التَّمَتُّعِ شَاةً أَوْ بَقَرَةً أَوْ بَدَنَةً، أَوْ عَيَّنَ هَدْيًا بِنَذْرِهِ فِي ذِمَّتِهِ، وَتَعَيَّبَ أَوْ تَلِفَ أَوْ ضَل أَوْ سُرِقَ أَوْ عَطِبَ وَنَحْوُهُ لَمْ يُجْزِئْهُ، لأَِنَّ الذِّمَّةَ لَمْ تَبْرَأْ مِنَ الْوَاجِبِ بِمُجَرَّدِ التَّعْيِينِ عَنْهُ، وَلَزِمَهُ بَدَلُهُ (2) .
__________
(1) المجموع 8 / 363 - 365 ط السلفية، المهذب 1 / 243 ط الحلبي، وروضة الطالبين 3 / 190 ط المكتب الإسلامي.
(2) كشاف القناع 3 / 13 - 14، الفروع 3 / 551، والمغني 3 / 534.(13/271)
ثَانِيًا: التَّلَفُ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ:
أ - تَلَفُ الْمَبِيعِ:
8 - تَلَفُ الْمَبِيعِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ كُلِّيًّا أَوْ جُزْئِيًّا، قَبْل الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ، وَلِكُل قِسْمٍ أَحْكَامٌ. وَالتَّلَفُ قَدْ يَكُونُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، وَقَدْ يَكُونُ بِفِعْل الْمُشْتَرِي، أَوِ الْبَائِعِ، أَوْ بِفِعْل أَجْنَبِيٍّ.
تَلَفُ كُل الْمَبِيعِ قَبْل الْقَبْضِ:
9 - إِذَا تَلِفَ الْمَبِيعُ كُلُّهُ قَبْل الْقَبْضِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أَوْ بِفِعْل الْمَبِيعِ - بِأَنْ كَانَ حَيَوَانًا فَقَتَل نَفْسَهُ - انْفَسَخَ الْبَيْعُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَسَقَطَ الثَّمَنُ عَنِ الْمُشْتَرِي، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ يَحِل سَلَفٌ وَبَيْعٌ، وَلاَ شَرْطَانِ فِي بَيْعٍ، وَلاَ رِبْحٌ مَا لَمْ يُضْمَنْ (1) وَالْمُرَادُ بِهِ رِبْحُ مَا بِيعَ قَبْل الْقَبْضِ، وَالْمَبِيعُ قَبْل قَبْضِ الْمُشْتَرِي لَهُ هُوَ فِي ضَمَانِ الْبَائِعِ، وَلأَِنَّهُ لَوْ بَقِيَ أَوْجَبَ مُطَالَبَةَ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ، وَإِذَا طَالَبَهُ بِالثَّمَنِ فَهُوَ يُطَالِبُهُ بِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ، وَأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنِ التَّسْلِيمِ، فَتَمْتَنِعُ الْمُطَالَبَةُ أَصْلاً. فَلَمْ يَكُنْ فِي بَقَاءِ الْبَيْعِ فَائِدَةٌ فَيَنْفَسِخُ، وَإِذَا انْفَسَخَ الْبَيْعُ سَقَطَ الثَّمَنُ عَنِ الْمُشْتَرِي؛ لأَِنَّ انْفِسَاخَ الْبَيْعِ ارْتِفَاعُهُ مِنَ الأَْصْل كَأَنْ لَمْ يَكُنْ.
__________
(1) حديث: " لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا. . . " أخرجه الترمذي (3 / 527 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عمرو، وقال: " حديث صحيح ".(13/271)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَكِيل وَالْمَوْزُونِ إِلَى مِثْل قَوْل الْجُمْهُورِ، وَفِي غَيْرِهِمَا يَهْلَكُ قَبْل الْقَبْضِ عَلَى حِسَابِ الْمُشْتَرِي، وَمِثْل الْمَكِيل وَالْمَوْزُونِ مَا بِيعَ بِرُؤْيَةٍ أَوْ صِفَةٍ مُتَقَدِّمَةٍ (1) . وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ (2) .
وَأَمَّا إِذَا كَانَ التَّلَفُ بِفِعْل الْبَائِعِ فَإِنَّ حُكْمَهُ كَالتَّلَفِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَبِيعِ إِذَا كَانَ مَكِيلاً أَوْ مَوْزُونًا أَوْ نَحْوَهُمَا إِلَى تَخْيِيرِ الْمُشْتَرِي بَيْنَ الْفَسْخِ وَأَخْذِ الثَّمَنِ الَّذِي دَفَعَهُ إِنْ كَانَ، وَبَيْنَ إِمْضَاءِ الْبَيْعِ، وَيُطَالِبُ الْمُشْتَرِي مُتْلِفَهُ الْبَائِعَ بِمِثْلِهِ إِنْ كَانَ مِثْلِيًّا وَإِلاَّ فَبِقِيمَتِهِ، لأَِنَّ الإِْتْلاَفَ كَالْعَيْبِ وَقَدْ حَصَل فِي مَوْضِعٍ يَلْزَمُ الْبَائِعَ ضَمَانُهُ، فَكَانَ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ كَالْعَيْبِ فِي الْمَبِيعِ.
أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنِ الْمَبِيعُ مَكِيلاً أَوْ مَوْزُونًا أَوْ نَحْوَهُمَا لَمْ يَنْفَسِخِ الْبَيْعُ عِنْدَهُمْ، وَيُطَالِبُ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ بِالْقِيمَةِ (3) . وَهَذَا قَوْلٌ مَرْجُوحٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ
وَفَرَّقَ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ عَلَى الْبَتِّ
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 238، وحاشية ابن عابدين 4 / 42، وحاشية الدسوقي 3 / 147، ومغني المحتاج 2 / 65، وكشاف القناع 3 / 242، والمغني 4 / 123.
(2) حديث: " الخراج بالضمان " أخرجه أبو داود (3 / 780 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وصححه ابن القطان كما في التلخيص لابن حجر (3 / 22 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(3) كشاف القناع 3 / 244.(13/272)
أَوْ عَلَى الْخِيَارِ، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ التَّلَفُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً، فَإِذَا كَانَ الْبَيْعُ عَلَى الْبَتِّ فَإِتْلاَفُ الْبَائِعِ يُوجِبُ الْغُرْمَ لِلْمُشْتَرِي، كَانَ الضَّمَانُ مِنْهُ أَوْ مِنَ الْبَائِعِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الإِْتْلاَفُ عَمْدًا أَمْ خَطَأً (1) .
10 - وَإِذَا كَانَ الْبَيْعُ عَلَى الْخِيَارِ، فَالْخِيَارُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِلْبَائِعِ أَوْ لِلْمُشْتَرِي، فَإِذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ انْفَسَخَ الْبَيْعُ سَوَاءٌ أَكَانَ الإِْتْلاَفُ عَمْدًا أَمْ خَطَأً.
وَإِذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي وَكَانَ إِتْلاَفُ الْبَائِعِ لِلْمَبِيعِ عَمْدًا ضَمِنَ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي الأَْكْثَرَ مِنَ الثَّمَنِ أَوِ الْقِيمَةِ، لأَِنَّ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَخْتَارَ الرَّدَّ إِنْ كَانَ الثَّمَنُ أَكْثَرَ أَوِ الإِْمْضَاءَ إِنْ كَانَتِ الْقِيمَةُ أَكْثَرَ.
وَأَمَّا إِذَا كَانَ إِتْلاَفُ الْبَائِعِ لِلْمَبِيعِ خَطَأً فَيَنْفَسِخُ الْبَيْعُ (2) .
11 - وَإِذَا تَلِفَ كُل الْمَبِيعِ بِفِعْل الْمُشْتَرِي فَلاَ يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ وَعَلَيْهِ الثَّمَنُ، لأَِنَّهُ بِالإِْتْلاَفِ صَارَ قَابِضًا كُل الْمَبِيعِ، لأَِنَّهُ لاَ يُمْكِنُهُ إِتْلاَفُهُ إِلاَّ بَعْدَ إِثْبَاتِ يَدِهِ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَعْنَى الْقَبْضِ فَيَتَقَرَّرُ عَلَيْهِ الثَّمَنُ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْبَيْعُ بَاتًّا أَمْ بِالْخِيَارِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَقَصَرَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ الْحُكْمَ السَّابِقَ عَلَى
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 238، وحاشية ابن عابدين 4 / 42، وحاشية الدسوقي 3 / 150 - 151، ومغني المحتاج 2 / 67، وكشاف القناع 3 / 243، والمغني 4 / 123.
(2) حاشية الدسوقي 3 / 105.(13/272)
الْبَيْعِ الْبَاتِّ، أَوْ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي، لأَِنَّ خِيَارَ الْمُشْتَرِي لاَ يَمْنَعُ زَوَال الْبَيْعِ عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ بِلاَ خِلاَفٍ، فَلاَ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْقَبْضِ، فَلاَ يَمْنَعُ تَقَرُّرَ الثَّمَنِ.
فَإِنْ كَانَ الْبَيْعُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ عَلَيْهِ ضَمَانَ مِثْلِهِ إِنْ كَانَ لَهُ مِثْلٌ وَقِيمَتِهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِثْلٌ، لأَِنَّ خِيَارَ الْبَائِعِ يَمْنَعُ زَوَال السِّلْعَةِ عَنْ مِلْكِهِ بِلاَ خِلاَفٍ، فَكَانَ الْمَبِيعُ عَلَى حُكْمِ مِلْكِ الْبَائِعِ، وَمِلْكُهُ مَضْمُونٌ بِالْمِثْل أَوِ الْقِيمَةِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَضْمَنُ الأَْكْثَرَ مِنَ الثَّمَنِ وَالْقِيمَةِ، لأَِنَّهُ إِذَا كَانَ الثَّمَنُ أَكْثَرَ كَانَ لِلْبَائِعِ أَنْ يُجِيزَ الْبَيْعَ فِي زَمَنِ الْخِيَارِ لِمَا لَهُ فِيهِ مِنَ الْخِيَارِ، وَإِنْ كَانَتِ الْقِيمَةُ أَكْثَرَ مِنَ الثَّمَنِ فَلِلْبَائِعِ أَنْ يَرُدَّ الْبَيْعَ لِمَا لَهُ فِيهِ مِنَ الْخِيَارِ وَيَأْخُذُ الْقِيمَةَ لاَ فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ التَّلَفُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً، إِلاَّ أَنْ يَحْلِفَ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ ضَاعَ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ أَوْ تَلِفَ بِغَيْرِ سَبَبِهِ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُ الثَّمَنَ دُونَ الْتِفَاتٍ إِلَى الْقِيمَةِ. وَهَذَا إِذَا كَانَتِ الْقِيمَةُ أَكْثَرَ مِنَ الثَّمَنِ، فَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ أَكْثَرَ مِنَ الْقِيمَةِ أَوْ مُسَاوِيًا لَهَا؛ ضَمِنَ الثَّمَنَ مِنْ غَيْرِ يَمِينٍ (1) .
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 238، وحاشية ابن عابدين 4 / 42، وحاشية الدسوقي 3 / 104 وما بعدها، ومغني المحتاج 2 / 66، وكشاف القناع 3 / 243 - 244، والمغني 4 / 123.(13/273)
12 - وَإِذَا كَانَ التَّلَفُ بِفِعْل أَجْنَبِيٍّ فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ بِلاَ خِلاَفٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ - سَوَاءٌ أَكَانَ الإِْتْلاَفُ عَمْدًا أَمْ خَطَأً عِنْدَ مَنْ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا مِنَ الْفُقَهَاءِ - لأَِنَّهُ أَتْلَفَ مَالاً مَمْلُوكًا لِغَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَلاَ يَدَ لَهُ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ بِالْمِثْل أَوِ الْقِيمَةِ.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ فَيَعُودُ الْمَبِيعُ إِلَى مِلْكِ الْبَائِعِ فَيَتْبَعُ الْجَانِيَ فَيُضَمِّنُهُ، وَإِنْ شَاءَ اخْتَارَ الْبَيْعَ فَأَتْبَعَ الْجَانِيَ بِالضَّمَانِ وَأَتْبَعَهُ الْبَائِعُ بِالثَّمَنِ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى مِثْل قَوْل الْجُمْهُورِ إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ مَكِيلاً أَوْ مَوْزُونًا أَوْ نَحْوَهُمَا. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ هَلَكَ عَلَى حِسَابِ الْمُشْتَرِي وَيَتْبَعُ الْمُتْلِفَ بِالضَّمَانِ (2) .
تَلَفُ بَعْضِ الْمَبِيعِ قَبْل الْقَبْضِ:
13 - إِذَا تَلِفَ بَعْضُ الْمَبِيعِ قَبْل الْقَبْضِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ بَيْنَ فَسْخِ الْعَقْدِ وَالرُّجُوعِ بِالثَّمَنِ، وَبَيْنَ قَبُولِهِ نَاقِصًا وَلاَ شَيْءَ لَهُ لِقُدْرَتِهِ عَلَى الْفَسْخِ. هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ مَكِيلاً أَوْ نَحْوَهُ. أَمَّا غَيْرُ الْمَكِيل وَنَحْوِهِ فَتَلَفُ بَعْضِهِ وَتَعَيُّبِهِ يَكُونُ عَلَى حِسَابِ الْمُشْتَرِي وَلاَ فَسْخَ.
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 238، 239، وحاشية ابن عابدين 4 / 42، وحاشية الدسوقي 3 / 150، ومغني المحتاج 2 / 67، وكشاف القناع 3 / 243، والمغني لابن قدامة 4 / 123.
(2) كشاف القناع 3 / 244.(13/273)
وَفَرَّقَ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ التَّلَفِ الَّذِي يَنْشَأُ عَنْهُ نُقْصَانُ قَدْرٍ، وَالتَّلَفُ الَّذِي يَنْشَأُ عَنْهُ نُقْصَانُ وَصْفٍ. وَنُقْصَانُ الْوَصْفِ وَهُوَ كُل مَا يَدْخُل فِي الْبَيْعِ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةٍ، كَالشَّجَرِ وَالْبِنَاءِ فِي الأَْرْضِ وَأَطْرَافِ الْحَيَوَانِ وَالْجَوْدَةِ فِي الْمَكِيل وَالْمَوْزُونِ، فَخَصُّوا الْحُكْمَ السَّابِقَ بِنُقْصَانِ الْوَصْفِ دُونَ نُقْصَانِ الْقَدْرِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الأَْوْصَافَ لاَ حِصَّةَ لَهَا مِنَ الثَّمَنِ إِلاَّ إِذَا وَرَدَ عَلَيْهَا الْقَبْضُ أَوِ الْجِنَايَةُ، لأَِنَّهَا تَصِيرُ مَقْصُودَةً بِالْقَبْضِ أَوِ الْجِنَايَةِ.
وَأَمَّا إِذَا كَانَ التَّلَفُ قَدْ نَشَأَ عَنْهُ نُقْصَانُ قَدْرٍ - بِأَنْ كَانَ مَكِيلاً أَوْ مَوْزُونًا أَوْ مَعْدُودًا - فَالْعَقْدُ يَنْفَسِخُ بِقَدْرِ الْهَالِكِ وَتَسْقُطُ حِصَّتُهُ مِنَ الثَّمَنِ، لأَِنَّ كُل قَدْرٍ مِنَ الْمُقَدَّرَاتِ مَعْقُودٌ عَلَيْهِ، فَيُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنَ الثَّمَنِ، وَهَلاَكُ كُل الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ يُوجِبُ انْفِسَاخَ الْبَيْعِ فِي الْكُل وَسُقُوطَ الثَّمَنِ.
فَهَلاَكُ بَعْضِهِ يُوجِبُ انْفِسَاخَ الْبَيْعِ وَسُقُوطَ الثَّمَنِ بِقَدْرِهِ، وَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ فِي الْبَاقِي، إِنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ لأَِنَّ الصَّفْقَةَ قَدْ تَفَرَّقَتْ عَلَيْهِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْبَاقِي بَعْدَ التَّلَفِ النِّصْفُ فَأَكْثَرُ لَزِمَ الْمُشْتَرِيَ الْبَاقِي بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ وَيَرْجِعُ بِحِصَّةِ مَا تَلِفَ، وَذَلِكَ لأَِنَّ بَقَاءَ النِّصْفِ كَبَقَاءِ الْجُل (الأَْكْثَرِ) فَيَلْزَمُهُ، وَهَذَا فِي الْمَبِيعِ الْمُتَعَدِّدِ.
فَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ مُتَّحِدًا (1) كَفَرَسٍ مَثَلاً وَبَقِيَ
__________
(1) أي لا يقبل التجزئة.(13/274)
بَعْدَ التَّلَفِ النِّصْفُ فَأَكْثَرُ فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ بَيْنَ رَدِّ الْمَبِيعِ وَأَخْذِ ثَمَنِهِ، وَبَيْنَ التَّمَسُّكِ بِالْبَاقِي بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ.
وَإِنْ كَانَ الْبَاقِي بَعْدَ التَّلَفِ أَقَل مِنَ النِّصْفِ حَرُمَ التَّمَسُّكُ بِالْبَاقِي وَوَجَبَ رَدُّ الْمَبِيعِ وَأَخْذُ جَمِيعِ ثَمَنِهِ لاِخْتِلاَل الْبَيْعِ بِتَلَفِ جُل الْمَبِيعِ، فَتَمَسَّكَ الْمُشْتَرِي بِبَاقِيهِ كَإِنْشَاءِ عَقْدٍ بِثَمَنٍ مَجْهُولٍ، إِذْ لاَ يُعْلَمُ مَا يَخُصُّ الْبَاقِيَ إِلاَّ بَعْدَ تَقْوِيمِ الْجَمِيعِ، ثُمَّ النَّظَرُ فِيمَا يَخُصُّ كُل جُزْءٍ عَلَى انْفِرَادِهِ إِلاَّ الْمِثْلِيُّ فَلاَ يَحْرُمُ التَّمَسُّكُ بِالأَْقَل، بَل الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ بَيْنَ فَسْخِ الْبَيْعِ وَبَيْنَ التَّمَسُّكِ بِالْبَاقِي بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الْمِثْلِيَّ مَنَابُهُ (مُقَابِلُهُ) مِنَ الثَّمَنِ مَعْلُومٌ، فَلَيْسَ التَّمَسُّكُ بِالْبَاقِي الْقَلِيل، كَإِنْشَاءِ عَقْدٍ بِثَمَنٍ مَجْهُولٍ، وَإِنَّمَا يَأْتِي هَذَا فِي الْمُقَوَّمِ (1) .
تَلَفُ بَعْضِ الْمَبِيعِ بِفِعْل الْبَائِعِ قَبْل الْقَبْضِ:
14 - أَمَّا إِذَا تَلِفَ بَعْضُ الْمَبِيعِ قَبْل الْقَبْضِ بِفِعْل الْبَائِعِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى بُطْلاَنِ الْبَيْعِ بِقَدْرِهِ وَيَسْقُطُ عَنِ الْمُشْتَرِي حِصَّةُ الْمَالِكِ مِنَ الثَّمَنِ سَوَاءٌ أَكَانَ النُّقْصَانُ نُقْصَانَ قِيمَةٍ أَمْ نُقْصَانَ وَصْفٍ - لأَِنَّ الأَْوْصَافَ لَهَا حِصَّةٌ مِنَ الثَّمَنِ عِنْدَ
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 239، 240، وحاشية الدسوقي 3 / 148، 149، ومغني المحتاج 2 / 68، وحواشي التحفة 4 / 400، وكشاف القناع 3 / 242، 243، والمغني 4 / 123، وابن عابدين 3 / 46.(13/274)
وُرُودِ الْجِنَايَةِ عَلَيْهَا، لأَِنَّهَا تَصِيرُ أَصْلاً بِالْفِعْل فَتُقَابَل بِالثَّمَنِ - وَالْمُشْتَرِي بِالْخَيْل فِي الْبَاقِي، إِنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ عَلَيْهِ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ مَكِيلاً أَوْ مَوْزُونًا. قَال ابْنُ قُدَامَةَ: قِيَاسُ قَوْل أَصْحَابِنَا أَنَّ الْمُشْتَرِيَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالرُّجُوعِ بِالثَّمَنِ، وَبَيْنَ أَخْذِهِ وَالرُّجُوعِ عَلَى الْبَائِعِ بِعِوَضِ مَا أَتْلَفَ أَوْ عَيَّبَ.
وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنِ الْمَبِيعُ مَكِيلاً أَوْ مَوْزُونًا فَلاَ يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ، وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِعِوَضِ مَا أَتْلَفَ.
وَفَرَّقَ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ التَّلَفُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ أَوْ لِلْمُشْتَرِي.
فَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ وَإِتْلاَفُهُ لِلْمَبِيعِ عَمْدًا.
كَانَ فِعْلُهُ رَدًّا لِلْبَيْعِ قَبْل جِنَايَتِهِ، لأَِنَّ هَذَا التَّصَرُّفَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ لاَ يَفْعَلَهُ الإِْنْسَانُ إِلاَّ فِي مِلْكِهِ، وَإِنْ كَانَ إِتْلاَفُهُ لَهُ خَطَأً، فَلِلْمُشْتَرِي خِيَارُ الْعَيْبِ، إِنْ شَاءَ تَمَسَّكَ وَلاَ شَيْءَ لَهُ، أَوْ رَدَّ وَأَخَذَ الثَّمَنَ بَعْدَ إِجَازَةِ الْبَائِعِ بِمَا لَهُ فِيهِ مِنَ الْخِيَارِ. وَإِنَّمَا لَمْ تَكُنْ جِنَايَتُهُ خَطَأً رَدًّا كَجِنَايَتِهِ عَمْدًا لأَِنَّ الْخَطَأَ مُنَافٍ لِقَصْدِ الْفَسْخِ، إِذِ الْخَطَأُ لاَ يُجَامِعُ الْقَصْدَ.
وَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي وَكَانَ إِتْلاَفُ الْبَائِعِ لِلْمَبِيعِ عَمْدًا، فَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ بَيْنَ الرَّدِّ أَوْ(13/275)
إِمْضَاءِ الْبَيْعِ وَأَخْذِ أَرْشِ الْجِنَايَةِ، وَإِنْ كَانَ إِتْلاَفُهُ لَهُ خَطَأً فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ بَيْنَ رَدِّهِ لِلْبَائِعِ أَوْ أَخْذِهِ نَاقِصًا وَلاَ شَيْءَ لَهُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى تَخْيِيرِ الْمُشْتَرِي بَيْنَ الْفَسْخِ وَالرُّجُوعِ بِالثَّمَنِ وَبَيْنَ إِجَازَةِ الْعَقْدِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، وَلاَ يَغْرَمُ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي شَيْئًا عَلَى الْمَذْهَبِ عِنْدَهُمْ (1) .
تَلَفُ بَعْضِ الْمَبِيعِ بِفِعْل الْمُشْتَرِي:
15 - إِذَا تَلِفَ بَعْضُ الْمَبِيعِ بِفِعْل الْمُشْتَرِي فَلاَ يَبْطُل الْبَيْعُ وَلاَ خِيَارَ لَهُ لِحُصُولِهِ بِفِعْلِهِ، وَلاَ يَسْقُطُ عَنْهُ شَيْءٌ مِنَ الثَّمَنِ لأَِنَّهُ صَارَ قَابِضًا لِلْكُل بِإِتْلاَفِ الْبَعْضِ، وَلاَ يَتَمَكَّنُ مِنْ إِتْلاَفِ الْبَعْضِ إِلاَّ بِإِثْبَاتِ الْيَدِ عَلَى الْكُل، وَصَارَ قَابِضًا قَدْرَ الْمُتْلَفِ بِالإِْتْلاَفِ وَالْبَاقِي بِالتَّعْيِيبِ فَتَقَرَّرَ عَلَيْهِ كُل الثَّمَنِ.
هَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) .
وَفَرَّقَ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ أَوِ الْمُشْتَرِي، وَبَيْنَ التَّلَفِ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ، فَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي وَكَانَ إِتْلاَفُهُ لِلْمَبِيعِ عَمْدًا فَيُعْتَبَرُ ذَلِكَ رِضًا مِنْهُ بِالْبَيْعِ وَلاَ رُجُوعَ فِيهِ.
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 240، وابن عابدين 4 / 46، وحاشية الدسوقي 3 / 105، ومغني المحتاج 2 / 68، وحواشي التحفة 4 / 400، 401، والمغني لابن قدامة 4 / 124.(13/275)
وَإِنْ كَانَ خَطَأً فَلِلْمُشْتَرِي رَدُّهُ وَمَا نَقَصَ، وَلَهُ التَّمَسُّكُ بِهِ وَلاَ شَيْءَ لَهُ، فَإِنْ رَدَّ وَكَانَ عَيْبًا مُفْسِدًا ضَمِنَ الثَّمَنَ كُلَّهُ. وَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ فَالْبَائِعُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ رَدِّ الْبَيْعِ وَأَخْذِ أَرْشِ الْجِنَايَةِ، أَوِ الإِْمْضَاءِ وَأَخْذِ الثَّمَنِ، سَوَاءٌ أَكَانَ التَّلَفُ عَمْدًا أَمْ خَطَأً. وَعَنِ ابْنِ عَرَفَةَ أَنَّ الْخِيَارَ الْمَذْكُورَ لِلْبَائِعِ حَيْثُ كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَمْدًا، فَإِنْ كَانَتْ خَطَأً خُيِّرَ الْمُشْتَرِي بَيْنَ أَخْذِ الْمَبِيعِ وَدَفْعِ الثَّمَنِ وَأَرْشِ الْجِنَايَةِ، وَبَيْنَ تَرْكِ الْمَبِيعِ لِلْبَائِعِ وَدَفْعِ أَرْشِ الْجِنَايَةِ، فَأَرْشُ الْجِنَايَةِ يَدْفَعُهُ فِي كُلٍّ مِنْ حَالَتَيْ تَخْيِيرِهِ عِنْدَهُ، وَاعْتَمَدَ بَعْضُهُمْ هَذَا (1) .
تَلَفُ بَعْضِ الْمَبِيعِ بِفِعْل الأَْجْنَبِيِّ:
16 - إِنْ تَلِفَ بَعْضُ الْمَبِيعِ بِفِعْل أَجْنَبِيٍّ فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ، وَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ، إِنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ وَأَتْبَعَ الْبَائِعُ الْجَانِيَ بِضَمَانِ مَا أَتْلَفَهُ، وَإِنْ شَاءَ اخْتَارَ الْبَيْعَ وَأَتْبَعَ (أَيِ الْمُشْتَرِي) الْجَانِيَ بِالضَّمَانِ وَعَلَيْهِ جَمِيعُ الثَّمَنِ - وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ قَوْل الْحَنَابِلَةِ فِي الْمَبِيعِ إِذَا كَانَ مَكِيلاً وَنَحْوَهُ، إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ قَالُوا: لاَ يَغْرَمُ الأَْجْنَبِيُّ الأَْرْشَ إِلاَّ بَعْدَ قَبْضِ الْمَبِيعِ لِجَوَازِ تَلَفِهِ فِي يَدِ الْبَائِعِ فَيَنْفَسِخُ الْبَيْعُ.
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 240، وابن عابدين 4 / 46، وحاشية الدسوقي 3 / 105، ومواهب الجليل 4 / 423، ومغني المحتاج 2 / 68، وحواشي التحفة 4 / 400، والمغني 4 / 123.(13/276)
أَمَّا مَا عَدَا الْمَكِيل وَالْمَوْزُونَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، فَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ فِي الْفَسْخِ، وَإِنَّمَا يَتْبَعُ الْمُتْلِفَ بِالضَّمَانِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ أَرْشَ مَا جَنَى الأَْجْنَبِيُّ لِلْبَائِعِ وَلَوْ كَانَ الْخِيَارُ لِغَيْرِهِ، وَإِذَا أَخَذَ الْبَائِعُ أَرْشَ الْجِنَايَةِ فَالْمُشْتَرِي حِينَئِذٍ بِالْخِيَارِ، إِمَّا أَنْ يَأْخُذَ الْمَبِيعَ مَعِيبًا مَجَّانًا، وَإِمَّا أَنْ يَرُدَّ وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ (1) .
17 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ تَلَفَ كُل الْمَبِيعِ بَعْدَ الْقَبْضِ لاَ يُفْسَخُ بِهِ الْبَيْعُ، وَالْهَلاَكُ يَكُونُ عَلَى الْمُشْتَرِي وَعَلَيْهِ الثَّمَنُ، لأَِنَّ الْبَيْعَ تَقَرَّرَ بِقَبْضِ الْمَبِيعِ فَتَقَرَّرَ الثَّمَنُ - هَذَا مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ - سَوَاءٌ أَكَانَ التَّلَفُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أَمْ بِفِعْل الْمَبِيعِ أَمْ بِفِعْل الْمُشْتَرِي، وَإِذَا كَانَ التَّلَفُ بِفِعْل أَجْنَبِيٍّ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الأَْجْنَبِيِّ بِضَمَانِهِ.
وَفَصَّل الْحَنَفِيَّةُ فَقَالُوا: إِذَا تَلِفَ بِفِعْل الْبَائِعِ فَيُنْظَرُ إِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَبَضَهُ بِإِذْنِ الْبَائِعِ أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ. فَإِنْ كَانَ قَبَضَهُ بِإِذْنِهِ فَاسْتِهْلاَكُهُ وَاسْتِهْلاَكُ الأَْجْنَبِيِّ سَوَاءٌ. وَإِنْ كَانَ قَبَضَهُ بِغَيْرِ إِذْنِ الْبَائِعِ صَارَ الْبَائِعُ بِالاِسْتِهْلاَكِ مُسْتَرِدًّا لِلْمَبِيعِ، فَحَصَل الاِسْتِهْلاَكُ فِي ضَمَانِهِ،
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 241، ابن عابدين 4 / 46، وحاشية الدسوقي 3 / 104، وحواشي التحفة 4 / 400، ومغني المحتاج 2 / 68، والمغني 4 / 124.(13/276)
فَيُوجِبُ بُطْلاَنَ الْبَيْعِ وَسُقُوطَ الثَّمَنِ، كَمَا لَوِ اسْتُهْلِكَ وَهُوَ فِي يَدِهِ (1) . وَإِذَا كَانَ الْمُشْتَرِي قَدْ قَبَضَ الْمَبِيعَ عَلَى الْخِيَارِ لَهُ أَوْ لِلْبَائِعِ أَوْ لَهُمَا، فَفِي الْمَذَاهِبِ تَفْصِيلٌ فِي ضَمَانِ التَّلَفِ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي بَحْثِ: (الْخِيَارِ)
تَلَفُ بَعْضِ الْمَبِيعِ بَعْدَ الْقَبْضِ:
18 - إِذَا تَلِفَ بَعْضُ الْمَبِيعِ بَعْدَ الْقَبْضِ، فَإِنَّ التَّلَفَ يَكُونُ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَلاَ شَيْءَ عَلَى الْبَائِعِ وَيَجِبُ عَلَيْهِ الثَّمَنُ، لأَِنَّ الْمَبِيعَ خَرَجَ عَنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ بِقَبْضِ الْمُشْتَرِي فَتَقَرَّرَ عَلَيْهِ الثَّمَنُ. وَكَذَا إِذَا هَلَكَ بِفِعْل أَجْنَبِيٍّ فَالْهَلاَكُ عَلَى الْمُشْتَرِي وَيُرْجَعُ بِالضَّمَانِ عَلَى الأَْجْنَبِيِّ.
وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ التَّلَفَ بِفِعْل الْبَائِعِ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ مَا لَوْ كَانَ لِلْبَائِعِ حَقُّ الاِسْتِرْدَادِ أَمْ لاَ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْبَائِعِ حَقُّ الاِسْتِرْدَادِ فَإِتْلاَفُهُ وَالأَْجْنَبِيِّ سَوَاءٌ، وَإِنْ كَانَ لَهُ حَقُّ الاِسْتِرْدَادِ يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ فِي قَدْرِ الْمُتْلَفِ، وَيَسْقُطُ عَنِ الْمُشْتَرِي حِصَّتُهُ مِنَ الثَّمَنِ، لأَِنَّهُ صَارَ مُسْتَرِدًّا لِذَلِكَ الْقَدْرِ بِالإِْتْلاَفِ، فَتَلَفُ ذَلِكَ الْقَدْرِ فِي ضَمَانِهِ، فَيَسْقُطُ قَدْرُهُ مِنَ الثَّمَنِ (2) .
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 239، وحاشية الدسوقي 3 / 104، وروضة الطالبين 3 / 451، 452، ومغني المحتاج 2 / 73، وتحفة المحتاج 4 / 396، وكشاف القناع 3 / 206، 210.
(2) بدائع الصنائع 5 / 241، وتحفة المحتاج 4 / 393، والقوانين الفقهية 252.(13/277)
ب - تَلَفُ زَوَائِدِ الْمَبِيعِ:
19 - زَوَائِدُ الْمَبِيعِ الْحَادِثَةِ فِي يَدِ الْبَائِعِ، كَثَمَرَةٍ وَلَبَنٍ وَبَيْضٍ، أَمَانَةً فِي يَدِ الْبَائِعِ، لاَ يَضْمَنُهَا إِذَا تَلِفَتْ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ مِنْهُ، وَذَلِكَ لأَِنَّ ضَمَانَ الأَْصْل بِالْعَقْدِ وَهُوَ لَمْ يَشْمَلْهَا، وَلَمْ تَمْتَدَّ يَدُهُ عَلَيْهَا لِتَمَلُّكِهَا، كَالْمُسْتَامِ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ تَعَدٍّ كَالْغَاصِبِ حَتَّى يَضْمَنَ (1) .
ج - التَّلَفُ فِي الإِْجَارَةِ:
20 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْعَيْنَ الْمُؤَجَّرَةَ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ، فَإِنْ تَلِفَتْ أَوْ ضَاعَتْ بِغَيْرِ تَعَدٍّ مِنْهُ وَلاَ تَفْرِيطٍ فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ، أَمَّا إِذَا تَعَدَّى أَوْ فَرَّطَ فِي الْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا فَإِنَّهُ يَكُونُ ضَامِنًا لِمَا يَلْحَقُ الْعَيْنَ مِنْ تَلَفٍ أَوْ نُقْصَانٍ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ إِذَا تَجَاوَزَ فِي الاِنْتِفَاعِ بِهَا حَقُّهُ فِيهِ فَتَلِفَتْ عِنْدَ ذَلِكَ.
وَاتَّفَقُوا كَذَلِكَ عَلَى أَنَّ الأَْجِيرَ الْخَاصَّ أَمِينٌ، فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيمَا تَلِفَ فِي يَدِهِ مِنْ مَالٍ أَوْ مَا تَلِفَ بِعَمَلِهِ إِلاَّ بِالتَّعَدِّي أَوِ التَّفْرِيطِ. لأَِنَّهُ نَائِبُ الْمَالِكِ فِي صَرْفِ مَنَافِعِهِ إِلَى مَا أَمَرَ بِهِ، فَلَمْ يَضْمَنْ كَالْوَكِيل، وَلأَِنَّ عَمَلَهُ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَضْمَنْ مَا تَلِفَ بِهِ كَسِرَايَةِ الْقِصَاصِ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ صُنْعٌ يَصْلُحُ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ.
وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الأَْجِيرَ الْمُشْتَرَكَ إِذَا تَلِفَ عِنْدَهُ
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 256، وتحفة المحتاج 4 / 394، ومغني المحتاج 2 / 66، وحاشية الجمل على شرح المنهج 3 / 57، وكشاف القناع 3 / 244.(13/277)
الْمَتَاعُ بِتَعَدٍّ أَوْ تَفْرِيطٍ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ. وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا تَلِفَ بِغَيْرِ تَعَدٍّ مِنْهُ أَوْ تَفْرِيطٍ.
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ إِلَى أَنَّ يَدَهُ يَدُ أَمَانَةٍ فَلاَ يَضْمَنُ مَا تَلِفَ، لأَِنَّ الأَْصْل أَنْ لاَ يَجِبَ الضَّمَانُ إِلاَّ عَلَى الْمُتَعَدِّي، لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَل {فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ} (1) وَلَمْ يُوجَدِ التَّعَدِّي مِنَ الأَْجِيرِ لأَِنَّهُ مَأْذُونٌ فِي الْقَبْضِ، وَالْهَلاَكُ لَيْسَ مِنْ صُنْعِهِ فَلاَ يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا لاَ يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْمُودَعِ. قَال الرَّبِيعُ: اعْتِقَادُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لاَ ضَمَانَ عَلَى الأَْجِيرِ، وَإِنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي بِعِلْمِهِ، وَكَانَ لاَ يَبُوحُ بِهِ خَشْيَةَ قُضَاةِ السُّوءِ وَأُجَرَاءِ السُّوءِ.
وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ إِلَى أَنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ بِالتَّلَفِ، إِلاَّ فِي حَرْقٍ غَالِبٍ، أَوْ غَرَقٍ غَالِبٍ، أَوْ لُصُوصٍ مُكَابِرِينَ، فَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ لَوِ احْتَرَقَ مَحَل الأَْجِيرِ الْمُشْتَرَكُ بِسِرَاجٍ يَضْمَنُ الأَْجِيرُ، لأَِنَّ هَذَا لَيْسَ بِحَرِيقٍ غَالِبٍ، وَهُوَ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى اسْتِدْرَاكِهِ لَوْ عَلِمَ بِهِ، لأَِنَّهُ لَوْ عَلِمَ بِهِ لأََطْفَأَهُ فَلَمْ يَكُنْ مَوْضِعَ الْعُذْرِ.
وَاحْتَجَّا بِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَ (2) . وَرُوِيَ
__________
(1) سورة البقرة / 193.
(2) حديث: " على اليد ما أخذت حتى تؤدي " أخرجه أبو داود (3 / 822 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث سمرة بن جندب، وأعله ابن حجر بالاختلاف في سماع الحسن (الراوي عن سمرة) من سمرة. التلخيص (3 / 53 - ط شركة الطباعة الفنية) .(13/278)
عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُضَمِّنُ الأَْجِيرَ الْمُشْتَرَكَ احْتِيَاطًا لأَِمْوَال النَّاسِ، وَهُوَ الْمَعْنَى فِي الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ أَنَّ هَؤُلاَءِ الأُْجَرَاءَ الَّذِينَ يُسَلَّمُ الْمَال إِلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ شُهُودٍ تُخَافُ الْخِيَانَةُ مِنْهُمْ، فَلَوْ عَلِمُوا أَنَّهُمْ لاَ يَضْمَنُونَ لَهَلَكَتْ أَمْوَال النَّاسِ لأَِنَّهُمْ لاَ يَعْجِزُونَ عَنْ دَعْوَى الْهَلاَكِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لاَ يُوجَدُ فِي الْحَرِيقِ الْغَالِبِ، وَالْغَرَقِ الْغَالِبِ، وَالسَّرَقِ الْغَالِبِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَضْمَنُ مَا تَلِفَ بِفِعْلِهِ وَلَوْ بِخَطَئِهِ، كَتَخْرِيقِ الْقَصَّارِ الثَّوْبَ، وَغَلَطِهِ كَأَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى غَيْرِ رَبِّهِ، وَأَمَّا مَا تَلِفَ مِنْ حِرْزِهِ بِنَحْوِ سَرِقَةٍ أَوْ تَلَفٍ بِغَيْرِ فِعْلِهِ إِذَا لَمْ يُفَرِّطْ فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ، لأَِنَّ الْعَيْنَ فِي يَدِهِ أَمَانَةٌ، أَشْبَهَ بِالْمُودَعِ.
وَشَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ لِتَضْمِينِهِ شَرْطَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَغِيبَ الأَْجِيرُ الْمُشْتَرَكُ عَلَى السِّلْعَةِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَصْنَعَهَا بِغَيْرِ حُضُورِ رَبِّهَا وَبِغَيْرِ بَيْتِهِ، وَأَمَّا إِنْ صَنَعَهَا بِبَيْتِهِ وَلَوْ بِغَيْرِ حُضُورِ رَبِّهَا، أَوْ صَنَعَهَا بِحُضُورِهِ لَمْ يَضْمَنْ مَا نَشَأَ مِنْ غَيْرِ فِعْلِهِ كَسَرِقَةٍ، أَوْ تَلِفَ بِنَارٍ مَثَلاً بِلاَ تَفْرِيطٍ.
وَثَانِيهِمَا: أَنْ يَكُونَ الْمَصْنُوعُ مِمَّا يُغَابُ عَلَيْهِ كَثَوْبٍ وَنَحْوِهِ (1) .
__________
(1) بدائع الصنائع 4 / 210 وما بعدها، وحاشية الدسوقي 4 / 24، 28، مغني المحتاج 2 / 351 وما بعدها، وكشاف القناع 4 / 15، 18، 33، 34.(13/278)
ثَالِثًا: التَّلَفُ فِي عُقُودِ الأَْمَانَاتِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا:
21 - الأَْصْل فِي عُقُودِ الأَْمَانَاتِ كَالْوَدِيعَةِ أَنَّ مَا تَلِفَ فِيهَا مِنَ الأَْعْيَانِ يَكُونُ تَلَفُهُ عَلَى صَاحِبِهِ وَلَيْسَ عَلَى مَنْ كَانَتْ فِي يَدِهِ شَيْءٌ إِنْ لَمْ يَتَعَدَّ أَوْ يُفَرِّطْ فِيهَا، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ غَيْرِ الْمُغِل ضَمَانٌ، وَلاَ عَلَى الْمُسْتَوْدَعِ غَيْرِ الْمُغِل ضَمَانٌ (1) وَلِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ أُودِعَ وَدِيعَةً فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ (2) وَلِحَاجَةِ النَّاسِ إِلَى تِلْكَ الْعُقُودِ وَفِي إِيجَابِ الضَّمَانِ عَلَيْهِمْ تَنْفِيرٌ عَنْهَا.
وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ مِنْ تِلْكَ الْعُقُودِ الْعَارِيَّةَ، فَقَالُوا بِضَمَانِهَا مُطْلَقًا إِنْ تَلِفَتْ عِنْدَ الْمُسْتَعِيرِ فَرَّطَ أَمْ لَمْ يُفَرِّطْ، لِحَدِيثِ سَمُرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَ (3) . وَعَنْ صَفْوَانَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعَارَ مِنْهُ يَوْمَ حُنَيْنٍ أَدْرُعًا وَلَمْ يَكُنْ قَدْ أَسْلَمَ بَعْدُ فَقَال: أَغَصْبًا يَا مُحَمَّدُ؟ قَال: بَل عَارِيَّةً مَضْمُونَةٌ (4)
__________
(1) حديث: " ليس على المستعير غير المغل ضمان. . . " أخرجه الدارقطني (3 / 41 - ط دار المحاسن) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، وضعفه الدارقطني بضعف راويين في إسناده.
(2) حديث: " من أودع وديعة فلا ضمان عليه " أخرجه ابن ماجه (2 / 802 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عمرو، وقال البوصيري في الزوائد: إسناده ضعيف.
(3) حديث: " على اليد ما أخذت حتى تؤدي " سبق تخريجه ف 20.
(4) حديث صفوان: " أنه صلى الله عليه وسلم استعار منه يوم حنين أدرعا "، أخرجه أبو داود (3 / 823 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والبيهقي (6 / 89 - ط دائرة المعارف العثمانية) ، وقواه البيهقي لطرقه.(13/279)
وَلأَِنَّهُ مَالٌ يَجِبُ رَدُّهُ لِمَالِكِهِ فَيَضْمَنُ عِنْدَ تَلَفِهِ كَالْمُسْتَامِ.
وَأَشَارَ أَحْمَدُ إِلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْعَارِيَّةِ وَالْوَدِيعَةِ وَهُوَ أَنَّ الْعَارِيَّةَ أَخَذْتَهَا بِالْيَدِ، وَالْوَدِيعَةَ دُفِعَتْ إِلَيْكَ.
وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ مِنْ ضَمَانِ الْعَارِيَّةِ التَّلَفَ الْمُنْمَحِقَ - أَيْ مَا يَتْلَفُ بِالْكُلِّيَّةِ عِنْدَ الاِسْتِعْمَال - وَالْمُنْسَحِقُ - أَيْ مَا يَتْلَفُ بَعْضُهُ عِنْدَ الاِسْتِعْمَال - إِذَا تَلِفَ بِاسْتِعْمَالٍ مَأْذُونٍ فِيهِ لِحُدُوثِهِ عَنْ سَبَبٍ مَأْذُونٍ فِيهِ، فَأَشْبَهَ قَوْلَهُ: كُل طَعَامِي. وَعِنْدَهُمْ قَوْلٌ بِضَمَانِ الْمُنْمَحِقِ دُونَ الْمُنْسَحِقِ، لأَِنَّ مُقْتَضَى الإِْعَارَةِ الرَّدُّ، وَلَمْ يُوجَدْ فِي الْمُنْمَحِقِ، فَيَضْمَنُهُ بِخِلاَفِ الْمُنْسَحِقِ
وَخَصَّ الْمَالِكِيَّةُ الضَّمَانَ بِتَلَفِ الْعَارِيَّةِ الْمُغَيَّبِ عَلَيْهَا - أَيْ مَا يُمْكِنُ إِخْفَاؤُهُ - كَالثِّيَابِ وَالْحُلِيِّ بِخِلاَفِ مَا لاَ يُغَابُ عَلَيْهِ، فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ بِتَلَفِهِ، كَالْحَيَوَانِ وَالْعَقَارِ، إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَ الْمُسْتَعِيرُ بِبَيِّنَةٍ تُثْبِتُ تَلَفَهُ أَوْ ضَيَاعَهُ بِلاَ سَبَبِهِ، فَلاَ يَضْمَنُهُ خِلاَفًا لأَِشْهَبَ الْقَائِل بِالضَّمَانِ مُطْلَقًا (1) .
22 - وَهُنَاكَ عُقُودٌ فِيهَا مَعْنَى الأَْمَانَةِ كَالْمُضَارَبَةِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 494، 503، وحاشية الدسوقي 3 / 419، 436، ومغني المحتاج 2 / 267، 3 / 81، وكشاف القناع 4 / 70، 167.(13/279)
وَالإِْجَارَةِ وَالرَّهْنِ، فَهِيَ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِي أَصْلِهَا عَقْدُ أَمَانَةٍ إِلاَّ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْمُضَارِبِ وَالْمُسْتَأْجِرِ وَالْمُرْتَهِنِ أَمِينٌ عَلَى مَا فِي يَدِهِ.
فَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ مَا تَلِفَ مِنْ مَال الْمُضَارَبَةِ يَكُونُ تَلَفُهُ عَلَى رَبِّ الْمَال وَلاَ يَضْمَنُهُ الْمُضَارِبُ، فَهُوَ فِي يَدِهِ بِمَنْزِلَةِ الْوَدِيعَةِ، لأَِنَّهُ قَبَضَهُ بِإِذْنِ الْمَالِكِ لاَ عَلَى وَجْهِ الْبَدَل وَالْوَثِيقَةِ، إِلاَّ أَنَّ الْمُضَارِبَ يَصِيرُ ضَامِنًا لِرَأْسِ الْمَال إِذَا تَلِفَ بِسَبَبِ مُخَالَفَةِ شَرْطِ رَبِّ الْمَال، كَأَنْ شَرَطَ رَبُّ الْمَال أَلاَّ يُسَافِرَ بِهِ فِي الْبَحْرِ فَسَافَرَ فَغَرِقَ الْمَال، فَإِنَّ الْمُضَارِبَ حِينَئِذٍ ضَامِنٌ لَهُ لِمُخَالَفَتِهِ شَرْطَ رَبِّ الْمَال فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْغَاصِبِ (1) .
وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ يَدَ الْمُسْتَأْجِرِ يَدُ أَمَانَةٍ، فَمَا تَلِفَ فِي يَدِهِ لاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ إِلاَّ بِالتَّعَدِّي أَوِ التَّفْرِيطِ، أَمَّا إِذَا تَعَدَّى أَوْ فَرَّطَ فِي الْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا فَإِنَّهُ يَكُونُ ضَامِنًا لِمَا يَلْحَقُ الْعَيْنَ مِنْ تَلَفٍ أَوْ نُقْصَانٍ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ إِذَا تَجَاوَزَ فِي الاِنْتِفَاعِ بِهَا حَقَّهُ فِيهِ فَتَلِفَتْ عِنْدَ ذَلِكَ (2) .
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الرَّهْنِ إِذَا تَلِفَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ، هَل يَضْمَنُهُ الْمُرْتَهِنُ أَمْ لاَ؟
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 87، وحاشية الدسوقي 2 / 526، ومغني المحتاج 2 / 322، وكشاف القناع 3 / 522 وما بعدها.
(2) الدر المختار 5 / 17 وما بعدها، ومواهب الجليل 5 / 416، والفتاوى الهندية 4 / 470، ونهاية المحتاج 5 / 325، والمهذب 1 / 407، وكشاف القناع 4 / 15.(13/280)
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمَرْهُونَ إِذَا تَلِفَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ فَإِنَّهُ مَضْمُونٌ بِالأَْقَل مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنَ الدَّيْنِ، وَإِنْ سَاوَتْ قِيمَتُهُ الدَّيْنَ صَارَ مُسْتَوْفِيًا دَيْنَهُ، وَخَصَّ الْمَالِكِيَّةُ ضَمَانَ الْمَرْهُونِ بِمَا إِذَا كَانَ مِمَّا يُغَابُ عَلَيْهِ، كَحُلِيٍّ وَثِيَابٍ وَسِلاَحٍ وَكُتُبٍ مِنْ كُل مَا يُمْكِنُ إِخْفَاؤُهُ وَكَتْمُهُ، بِخِلاَفِ مَا لاَ يُمْكِنُ كَتْمُهُ كَحَيَوَانٍ وَعَقَارٍ، وَهَذَا إِنْ لَمْ تَشْهَدْ لَهُ بَيِّنَةٌ، فَإِنْ شَهِدَتْ بَيِّنَةٌ بِتَلَفِهِ أَوْ هَلاَكِهِ بِغَيْرِ سَبَبِهِ فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ، لأَِنَّ الضَّمَانَ هُنَا ضَمَانُ تُهْمَةٍ، وَهِيَ تَنْتَفِي بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمَرْهُونَ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ، فَلاَ يَسْقُطُ بِتَلَفِهِ شَيْءٌ مِنَ الدَّيْنِ بِغَيْرِ تَعَدٍّ مِنَ الْمُرْتَهِنِ أَوْ تَفْرِيطٍ، لِمَا رَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لاَ يَغْلَقُ الرَّهْنُ مِنْ صَاحِبِهِ الَّذِي رَهَنَهُ، لَهُ غُنْمُهُ وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ (1) . وَلأَِنَّهُ لَوْ ضَمِنَ لاَمْتَنَعَ النَّاسُ مِنْ فِعْلِهِ خَوْفًا مِنَ الضَّمَانِ، وَذَلِكَ وَسِيلَةٌ إِلَى تَعْطِيل الْمُدَايَنَاتِ، وَفِيهِ ضَرَرٌ عَظِيمٌ (2) .
__________
(1) حديث: " لا يغلق الرهن من صاحبه. . . " أخرجه الشافعي (بدائع المنن 2 / 189 - 190 - ط دار الأنوار) من حديث سعيد بن المسيب مرسلا. وروي متصلا من طرق لا تصح. وصحح أبو داود والبزار والدارقطني وغيرهم إرساله. (التلخيص لابن حجر 3 / 36 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(2) حاشية ابن عابدين 5 / 309 وما بعدها، وحاشية الدسوقي 3 / 253 وما بعدها، ومغني المحتاج 2 / 136، 137، وكشاف القناع 3 / 341.(13/280)
رَابِعًا: التَّلَفُ فِي الْمُزَارَعَةِ وَالْمُسَاقَاةِ:
23 - الْمُزَارَعَةُ وَالْمُسَاقَاةُ صُورَتَانِ مِنْ صُوَرِ عُقُودِ الْعَمَل، وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْمُسَاقَاةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي مَشْرُوعِيَّةِ الْمُزَارَعَةِ.
وَقَدِ اعْتَبَرَ الْفُقَهَاءُ الْعَامِل فِي عَقْدَيِ الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ أَمِينًا عَلَى مَا فِي يَدِهِ، فَمَا تَلِفَ مِنْهُ بِلاَ تَعَدٍّ وَلاَ تَفْرِيطٍ لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ فِيهِ، وَأَمَّا إِذَا فَرَّطَ الْعَامِل، كَأَنْ تَرَكَ السَّقْيَ حَتَّى فَسَدَ الزَّرْعُ فَإِنَّهُ ضَامِنٌ لَهُ، لأَِنَّهُ فِي يَدِهِ وَعَلَيْهِ حِفْظُهُ (1) .
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ (مُزَارَعَةٌ، وَمُسَاقَاةٌ) .
خَامِسًا: تَلَفُ الْمَغْصُوبِ:
24 - تَلَفُ الْمَغْصُوبِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ حِسِّيًّا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعْنَوِيًّا، فَالتَّلَفُ الْحِسِّيُّ: هُوَ تَفْوِيتُ عَيْنِ الْمَغْصُوبِ عَنْ رَبِّهِ، وَالتَّلَفُ الْمَعْنَوِيُّ: هُوَ تَفْوِيتُ مَعْنًى فِي الْمَغْصُوبِ. وَفِي كِلَيْهِمَا الضَّمَانُ
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ تَلِفَ الْمَغْصُوبُ الْمَنْقُول عِنْدَ الْغَاصِبِ، فَإِنَّ عَلَيْهِ الضَّمَانَ، سَوَاءٌ تَلِفَ عِنْدَهُ بِآفَةٍ أَوْ بِإِتْلاَفٍ، وَيَكُونُ الضَّمَانُ بِالْمِثْل إِنْ كَانَ الْمَغْصُوبُ مِثْلِيًّا، وَبِالْقِيمَةِ إِنْ كَانَ قِيَمِيًّا، وَإِنْ تَلِفَ بَعْضُهُ فَعَلَيْهِ أَرْشُ النُّقْصَانِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي غَاصِبِ الْعَقَارِ، إِذَا تَلِفَ الْعَقَارُ عِنْدَهُ بِسَيْلٍ أَوْ حَرِيقٍ أَوْ شِبْهِ ذَلِكَ هَل عَلَيْهِ الضَّمَانُ أَمْ لاَ؟
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 179، وتحفة المحتاج 6 / 109، 110، 118، وكشاف القناع 3 / 541.(13/281)
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ) إِلَى تَضْمِينِهِ، وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى عَدَمِ تَضْمِينِهِ إِلاَّ فِي ثَلاَثٍ: الْمَوْقُوفِ، وَمَال الْيَتِيمِ، وَالْمُعَدِّ لِلاِسْتِغْلاَل. هَذَا فِي التَّلَفِ الْحِسِّيِّ.
أَمَّا التَّلَفُ الْمَعْنَوِيُّ، فَمِنْ صُوَرِهِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْفُقَهَاءُ، مَا لَوْ غَصَبَ عَبْدًا ذَا حِرْفَةٍ فَنَسِيَ الْمَغْصُوبُ الْحِرْفَةَ عِنْدَ الْغَاصِبِ فَإِنَّ عَلَيْهِ أَرْشَ النَّقْصِ، إِلاَّ أَنْ يَتَذَكَّرَهَا سَوَاءٌ عِنْدَ الْغَاصِبِ أَوِ الْمَالِكِ، أَوْ يَتَعَلَّمُهَا عِنْدَ الْغَاصِبِ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، أَمَّا لَوْ تَعَلَّمَهَا عِنْدَ الْمَالِكِ فَالأَْرْشُ بَاقٍ عَلَى الْغَاصِبِ.
وَزَادَ الْحَنَفِيَّةُ مَا إِذَا كَانَ شَابًّا فَشَاخَ عِنْدَ الْغَاصِبِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ أَيْضًا (1) .
سَادِسًا: تَلَفُ اللُّقَطَةِ:
25 - لِتَلَفِ اللُّقَطَةِ حَالاَنِ، فَهِيَ فِي حَال أَمَانَةٍ لاَ شَيْءَ عَلَى الْمُلْتَقِطِ إِذَا تَلِفَتْ عِنْدَهُ أَوْ ضَاعَتْ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ مِنْهُ وَلاَ تَعَدٍّ. وَفِي حَالٍ مَضْمُونَةٌ بِالتَّلَفِ أَوِ الضَّيَاعِ.
وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ اللُّقَطَةَ أَمَانَةٌ عِنْدَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 114، 116، 120، والقوانين الفقهية 335، وتحفة المحتاج 6 / 37، 40، ومغني المحتاج 2 / 277، 282، 283، 289، 290، وكشاف القناع 4 / 77، 90، 106 وما بعدها.(13/281)
الْمُلْتَقِطِ إِذَا أَخَذَهَا لِيَحْفَظَهَا لِصَاحِبِهَا، فَإِنْ تَلِفَتْ عِنْدَهُ أَوْ ضَاعَتْ لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، لأَِنَّهُ أَخَذَهَا عَلَى سَبِيل الأَْمَانَةِ فَكَانَتْ يَدُهُ يَدَ أَمَانَةٍ كَيَدِ الْمُودَعِ.
وَإِنْ أَخَذَهَا بِقَصْدِ الْخِيَانَةِ فَإِنَّهُ ضَامِنٌ لَهَا إِنْ تَلِفَتْ عَمَلاً بِقَصْدِهِ الْمُقَارِنِ لِفِعْلِهِ وَيُعْتَبَرُ كَالْغَاصِبِ (1) .
سَابِعًا: تَلَفُ الْمَهْرِ:
26 - فَرَّقَ الْحَنَفِيَّةُ فِي تَلَفِ الصَّدَاقِ الْمُعَيَّنِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ التَّلَفُ فَاحِشًا أَوْ غَيْرَ فَاحِشٍ، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِي يَدِ الزَّوْجِ أَوْ فِي يَدِ الزَّوْجَةِ، وَيَخْتَلِفُ الْحُكْمُ فِي كُلٍّ بِاخْتِلاَفِ مُتْلِفِهِ.
أ - الصَّدَاقُ بِيَدِ الزَّوْجِ وَالنُّقْصَانُ فَاحِشٌ:
إِنْ كَانَ نُقْصَانُ الصَّدَاقِ بِفِعْل أَجْنَبِيٍّ وَكَانَ فَاحِشًا، فَالْمَرْأَةُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَخْذِ الْمَهْرِ نَاقِصًا مَعَ الأَْرْشِ، وَبَيْنَ تَرْكِ الصَّدَاقِ وَأَخْذِ قِيمَتِهِ مِنَ الزَّوْجِ يَوْمَ الْعَقْدِ، ثُمَّ يَرْجِعُ الزَّوْجُ عَلَى الأَْجْنَبِيِّ بِضَمَانِ النُّقْصَانِ.
وَإِنْ كَانَ النُّقْصَانُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، فَالزَّوْجَةُ بِالْخِيَارِ، إِنْ شَاءَتْ أَخَذَتْهُ نَاقِصًا وَلاَ شَيْءَ لَهَا
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 319 وما بعدها، بدائع الصنائع 6 / 201، ومواهب الجليل 6 / 72 وما بعدها، تحفة المحتاج 6 / 330، ومغني المحتاج 2 / 408 وما بعدها، وكشاف القناع 4 / 209، 213 وما بعدها.(13/282)
غَيْرُ ذَلِكَ، وَإِنْ شَاءَتْ تَرَكَتْهُ وَأَخَذَتْ قِيمَتَهُ يَوْمَ الْعَقْدِ.
وَإِنْ كَانَ النُّقْصَانُ بِفِعْل الزَّوْجِ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَخْذِهِ نَاقِصًا مَعَ أَرْشِ النُّقْصَانِ مِنَ الزَّوْجِ، وَبَيْنَ أَخْذِ قِيمَتِهِ يَوْمَ الْعَقْدِ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الزَّوْجَ إِذَا جَنَى عَلَى الْمَهْرِ فَالزَّوْجَةُ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَتْ أَخَذَتْهُ نَاقِصًا وَلاَ شَيْءَ لَهَا غَيْرُ ذَلِكَ، وَإِنْ شَاءَتْ أَخَذَتِ الْقِيمَةَ، وَإِنْ كَانَ النُّقْصَانُ بِفِعْل الزَّوْجَةِ نَفْسِهَا فَلاَ شَيْءَ عَلَى الزَّوْجِ، وَصَارَتْ قَابِضَةً بِالْجِنَايَةِ، فَجُعِل كَأَنَّ النُّقْصَانَ حَصَل فِي يَدِهَا.
وَإِنْ كَانَ النُّقْصَانُ بِفِعْل الْمَهْرِ، بِأَنْ جَنَى الْمَهْرُ عَلَى نَفْسِهِ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنَّ حُكْمَهُ كَمَا لَوْ تَلِفَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، وَالثَّانِيَةُ: كَمَا لَوْ تَلِفَ بِفِعْل الزَّوْجِ.
ب - الصَّدَاقُ بِيَدِ الزَّوْجِ وَالنُّقْصَانُ غَيْرُ فَاحِشٍ:
إِذَا كَانَ نُقْصَانُ الصَّدَاقِ يَسِيرًا غَيْرَ فَاحِشٍ، فَلاَ خِيَارَ لِلزَّوْجَةِ، كَمَا إِذَا كَانَ هَذَا الْعَيْبُ بِهِ يَوْمَ الْعَقْدِ، ثُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا النُّقْصَانُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أَوْ بِفِعْلِهَا أَوْ بِفِعْل الْمَهْرِ فَلاَ شَيْءَ لَهَا، وَإِنْ كَانَ بِفِعْل أَجْنَبِيٍّ أَوْ بِفِعْل الزَّوْجِ أَخَذَتْهُ مَعَ أَرْشِ النُّقْصَانِ.
ج - الصَّدَاقُ بِيَدِ الزَّوْجَةِ وَالنُّقْصَانُ فَاحِشٌ:
إِذَا كَانَ نُقْصَانُ الصَّدَاقِ بِفِعْل أَجْنَبِيٍّ، وَكَانَ(13/282)
فَاحِشًا قَبْل الطَّلاَقِ فَالأَْرْشُ لَهَا، فَإِنْ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ فَلَهُ نِصْفُ الْقِيمَةِ يَوْمَ قَبَضَتْ، وَلاَ سَبِيل لَهُ عَلَى الْعَيْنِ، وَإِنْ كَانَتْ جِنَايَةُ الأَْجْنَبِيِّ عَلَيْهِ بَعْدَ الطَّلاَقِ فَلِلزَّوْجَةِ نِصْفُ الْمَهْرِ، وَهُوَ بِالْخِيَارِ فِي الأَْرْشِ بَيْنَ أَخْذِ نِصْفِهِ مِنَ الْمَرْأَةِ مَعَ اعْتِبَارِ قِيمَتِهِ يَوْمَ الْقَبْضِ، وَبَيْنَ أَخْذِ نِصْفِهِ مِنَ الْجَانِي.
وَإِنْ كَانَ النُّقْصَانُ بِفِعْل الزَّوْجِ فَجِنَايَتُهُ كَجِنَايَةِ الأَْجْنَبِيِّ، لأَِنَّهُ جَنَى عَلَى مِلْكِ غَيْرِهِ وَلاَ يَدَ لَهُ فِيهِ فَصَارَ كَالأَْجْنَبِيِّ، وَسَبَقَ حُكْمُ إِتْلاَفِ الأَْجْنَبِيِّ.
وَإِنْ كَانَ النُّقْصَانُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ قَبْل الطَّلاَقِ فَالزَّوْجُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَخْذِ نِصْفِهِ نَاقِصًا وَلاَ شَيْءَ لَهُ غَيْرُ ذَلِكَ، وَبَيْنَ أَخْذِ نِصْفِ الْقِيمَةِ يَوْمَ الْقَبْضِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ الطَّلاَقِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ أَيْضًا بَيْنَ أَخْذِ نِصْفِهِ وَنِصْفِ الأَْرْشِ، وَبَيْنَ أَخْذِ قِيمَتِهِ يَوْمَ قَبَضَتْ.
وَإِنْ كَانَ النُّقْصَانُ بِفِعْل الْمَرْأَةِ فَالزَّوْجُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَخْذِ نِصْفِهِ وَلاَ شَيْءَ لَهُ، وَبَيْنَ أَخْذِ نِصْفِ قِيمَتِهِ.
وَقَال زُفَرُ: لِلزَّوْجِ أَنْ يُضَمِّنَهَا الأَْرْشَ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ الطَّلاَقِ فَعَلَيْهَا نِصْفُ الأَْرْشِ، وَإِنْ كَانَ النُّقْصَانُ بِفِعْل الْمَهْرِ نَفْسِهِ فَالزَّوْجُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَخْذِ نِصْفِهِ نَاقِصًا وَبَيْنَ أَخْذِ نِصْفِ قِيمَتِهِ.(13/283)
د - الصَّدَاقُ بِيَدِ الْمَرْأَةِ وَالنُّقْصَانُ غَيْرُ فَاحِشٍ:
إِنْ كَانَ النُّقْصَانُ غَيْرَ فَاحِشٍ وَهُوَ بِيَدِ الْمَرْأَةِ وَكَانَ النُّقْصَانُ بِفِعْل أَجْنَبِيٍّ أَوِ الزَّوْجِ، فَإِنَّ الْمَهْرَ لاَ يَتَنَصَّفُ؛ لأَِنَّ الأَْرْشَ يَمْنَعُ التَّنْصِيفَ، وَإِنْ كَانَ النُّقْصَانُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أَوْ بِفِعْلِهَا أَوْ بِفِعْل الْمَهْرِ أَخَذَ النِّصْفَ وَلاَ خِيَارَ لَهُ (1) .
27 - وَيُفَرِّقُ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ الصَّدَاقُ مِمَّا يُغَابُ عَلَيْهِ أَوْ مِمَّا لاَ يُغَابُ عَلَيْهِ:
فَإِذَا تَلِفَ الصَّدَاقُ وَكَانَ مِمَّا يُغَابُ عَلَيْهِ وَلَمْ يَثْبُتْ هَلاَكُهُ بِبَيِّنَةٍ، فَضَمَانُهُ مِمَّنْ هَلَكَ فِي يَدِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ بِيَدِ الزَّوْجِ أَمِ الزَّوْجَةِ، فَإِذَا كَانَ بِيَدِ الزَّوْجِ وَادَّعَى ضَيَاعَهُ وَكَانَ قَدْ دَخَل بِهَا ضَمِنَ لَهَا قِيمَتَهُ أَوْ مِثْلَهُ، وَإِنْ كَانَ بِيَدِهَا ضَاعَ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ طَلَّقَ قَبْل الدُّخُول لَزِمَ لَهَا نِصْفُ الصَّدَاقِ إِنْ ضَاعَ بِيَدِهِ، وَإِنْ كَانَ بِيَدِهَا غَرِمَتْ لَهُ نِصْفَ الْقِيمَةِ أَوْ نِصْفَ الْمِثْل.
وَإِنْ كَانَ الصَّدَاقُ مِمَّا لاَ يُغَابُ عَلَيْهِ، أَوْ كَانَ مِمَّا يُغَابُ عَلَيْهِ، وَقَامَتْ عَلَى هَلاَكِهِ بَيِّنَةٌ، فَضَمَانُهُ مِنْهُمَا سَوَاءٌ كَانَ بِيَدِ الزَّوْجِ أَوْ بِيَدِ الزَّوْجَةِ، فَكُل مَنْ تَلِفَ فِي يَدِهِ لاَ يَغْرَمُ لِلآْخَرِ حِصَّتَهُ. وَهَذَا فِيمَا إِذَا حَصَل طَلاَقٌ قَبْل الدُّخُول.
وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَحْصُل طَلاَقٌ قَبْل الدُّخُول، وَكَانَ النِّكَاحُ صَحِيحًا، فَإِنَّ ضَمَانَ الصَّدَاقِ عَلَى الزَّوْجَةِ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ وَلَوْ كَانَ بِيَدِ الزَّوْجِ، وَالْمُرَادُ بِضَمَانِهَا لَهُ أَنَّهُ يَضِيعُ عَلَيْهَا.
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 301 وما بعدها.(13/283)
وَإِنْ كَانَ النِّكَاحُ فَاسِدًا فَإِنَّهَا لاَ تَضْمَنُ الصَّدَاقَ إِلاَّ بِقَبْضِهِ (1) .
28 - وَقَسَّمَ الشَّافِعِيَّةُ تَلَفَ الْمَهْرِ إِذَا كَانَ عَيْنًا إِلَى تَلَفٍ كُلِّيٍّ وَتَلَفٍ جُزْئِيٍّ، وَفَرَّقُوا فِي الْحُكْمِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ التَّلَفُ بِفِعْل أَجْنَبِيٍّ، أَوْ بِفِعْل الزَّوْجِ، أَوِ الزَّوْجَةِ، أَوْ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ.
أ - التَّلَفُ الْكُلِّيُّ: فَإِذَا تَلِفَ الْمَهْرُ فِي يَدِ الزَّوْجِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ وَجَبَ عَلَيْهِ بَدَلُهُ مِنْ مِثْلٍ أَوْ قِيمَةٍ.
وَإِنْ تَلِفَ بِفِعْل الزَّوْجَةِ فَيُعْتَبَرُ إِتْلاَفُهَا قَبْضًا لَهُ إِذَا كَانَتْ أَهْلاً لِلتَّصَرُّفِ، وَلاَ شَيْءَ عَلَى الزَّوْجِ لأَِنَّهَا قَبَضَتْ حَقَّهَا وَأَتْلَفَتْهُ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ رَشِيدَةٍ، فَلاَ يُعْتَبَرُ إِتْلاَفُهَا قَبْضًا، لأَِنَّ قَبْضَهَا غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهِ، وَيَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ الضَّمَانُ.
وَإِنْ تَلِفَ بِفِعْل الزَّوْجِ فَحُكْمُهُ كَمَا لَوْ تَلِفَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ بَدَلُهُ مِنْ مِثْلٍ أَوْ قِيمَةٍ.
وَإِنْ تَلِفَ بِفِعْل أَجْنَبِيٍّ، فَالزَّوْجَةُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ فَسْخِ الصَّدَاقِ وَإِبْقَائِهِ، فَإِنْ فَسَخَتِ الصَّدَاقَ أَخَذَتْ مِنَ الزَّوْجِ مَهْرَ الْمِثْل. وَيَأْخُذُ الزَّوْجُ الْغُرْمَ مِنَ الْمُتْلِفِ، وَإِنْ أَبْقَتْهُ غَرِمَ الْمُتْلِفُ لَهَا الْمِثْل أَوِ الْقِيمَةَ، وَلَيْسَ لَهَا مُطَالَبَةُ الزَّوْجِ
ب - التَّلَفُ الْجُزْئِيُّ: إِنْ تَلِفَ بَعْضُ الصَّدَاقِ قَبْل قَبْضِهِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أَوْ بِفِعْل الزَّوْجِ. انْفَسَخَ عَقْدُ الصَّدَاقِ فِي التَّالِفِ دُونَ الْبَاقِي، وَلَهَا الْخِيَارُ
__________
(1) حاشية الدسوقي 2 / 294، 295، ومواهب الجليل 3 / 500، 501.(13/284)
بَيْنَ الْفَسْخِ وَالإِْجَازَةِ لِعَدَمِ سَلاَمَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، فَإِنْ فَسَخَتِ الصَّدَاقَ فَلَهَا مَهْرُ الْمِثْل. وَإِنْ أَجَازَتْ فَلَهَا حِصَّةُ التَّالِفِ مِنْ مَهْرِ الْمِثْل مَعَ الْبَاقِي مِنَ الْمَهْرِ بَعْدَ التَّلَفِ.
وَإِنْ تَلِفَ بَعْضُهُ بِفِعْل الزَّوْجَةِ فَهِيَ قَابِضَةٌ لِقِسْطِهِ الَّذِي تَلِفَ بِفِعْلِهَا، وَلاَ شَيْءَ عَلَى الزَّوْجِ وَلَهَا الْبَاقِي مِنَ الْمَهْرِ بَعْدَ التَّلَفِ.
وَإِنْ أَتْلَفَهُ أَجْنَبِيٌّ فَهِيَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالإِْجَازَةِ، فَإِنْ فَسَخَتْ طَالَبَتِ الزَّوْجَ بِمَهْرِ الْمِثْل، وَإِنْ أَجَازَتْ طَالَبَتِ الأَْجْنَبِيَّ بِالْبَدَل (1) . عَلَى تَفْصِيلٍ فِي الْمَذْهَبِ يُنْظَرُ فِي (صَدَاقٌ) .
29 - وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ ضَمَانَ الْمَهْرِ عَلَى الزَّوْجَةِ سَوَاءٌ أَقَبَضَتْهُ أَمْ لَمْ تَقْبِضْهُ لِدُخُولِهِ فِي مِلْكِهَا بِالْعَقْدِ، إِلاَّ أَنْ يَمْنَعَهَا الزَّوْجُ قَبْضَهُ فَيَكُونُ ضَمَانُهُ عَلَيْهِ لأَِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْغَاصِبِ. إِلاَّ أَنْ يَتْلَفَ الصَّدَاقُ بِفِعْلِهَا، فَيَكُونُ إِتْلاَفُهَا قَبْضًا مِنْهَا وَيَسْقُطُ عَنْهُ ضَمَانُهُ، هَذَا فِيمَا إِذَا كَانَ الصَّدَاقُ مُعَيَّنًا.
وَأَمَّا إِذَا كَانَ الصَّدَاقُ غَيْرَ مُعَيَّنٍ، فَإِنَّهُ لاَ يَدْخُل فِي ضَمَانِهَا إِلاَّ بِقَبْضِهِ. وَهَذَا كُلُّهُ فِيمَا إِذَا دَخَل بِهَا.
وَأَمَّا إِنْ طَلَّقَهَا قَبْل الدُّخُول وَتَلِفَ بَعْضُ الصَّدَاقِ وَهُوَ بِيَدِهَا، فَإِنْ كَانَ التَّلَفُ بِغَيْرِ جِنَايَةٍ عَلَيْهِ كَأَنْ نَقَصَ بِمَرَضٍ، أَوْ نِسْيَانِ صَنْعَةٍ،
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 211 وما بعدها.(13/284)
فَالزَّوْجُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَخْذِ نِصْفِ عَيْنِهِ (1) نَاقِصًا وَلاَ شَيْءَ لَهُ غَيْرُهُ، وَبَيْنَ أَخْذِ نِصْفِ قِيمَتِهِ، وَإِنْ كَانَ نُقْصَانُ الصَّدَاقِ بِجِنَايَةِ جَانٍ عَلَيْهِ فَلِلزَّوْجِ أَخْذُ نِصْفِ الصَّدَاقِ الْبَاقِي مَعَ نِصْفِ الأَْرْشِ لأَِنَّهُ بَدَل مَا فَاتَ مِنْهُ (2)
مَا يُتْلِفُهُ الْبُغَاةُ:
الْبُغَاةُ وَهُمْ مُخَالِفُو الإِْمَامِ بِالْخُرُوجِ عَلَيْهِ وَتَرْكِ الاِنْقِيَادِ لَهُ، أَوْ مَنْعِ حَقٍّ تَوَجَّهَ إِلَيْهِمْ، بِشَرْطِ أَنْ تَكُونَ لَهُمْ شَوْكَةٌ وَتَأْوِيلٌ غَيْرُ مَقْطُوعٍ بِفَسَادِهِ وَمُطَاعٌ يَصْدُرُونَ عَنْ أَمْرِهِ
30 - وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَا يُتْلِفُهُ الْبُغَاةُ مِنَ الأَْمْوَال وَالأَْنْفُسِ عَلَى الإِْمَامِ الْعَادِل لاَ ضَمَانَ فِيهِ، وَكَذَلِكَ مَا يُتْلِفُهُ الإِْمَامُ عَلَيْهِمْ. لِقَوْل الزُّهْرِيِّ: هَاجَتِ الْفِتْنَةُ وَأَصْحَابُ رَسُول اللَّهِ مُتَوَاتِرُونَ، فَأَجْمَعُوا أَنْ لاَ يُقَادَ أَحَدٌ، وَلاَ يُؤْخَذُ مَالٌ عَلَى تَأْوِيل الْقُرْآنِ إِلاَّ مَا وُجِدَ بِعَيْنِهِ. فَقَدْ جَرَتِ الْوَقَائِعُ فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، كَوَقْعَةِ الْجَمَل، وَصِفِّينَ، وَلَمْ يُطَالِبْ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِضَمَانِ نَفْسٍ أَوْ مَالٍ، وَلأَِجْل التَّرْغِيبِ فِي الطَّاعَةِ لِئَلاَّ يَنْفِرُوا عَنْهَا وَيَتَمَادَوْا عَلَى مَا هُمْ فِيهِ، وَلِهَذَا سَقَطَتِ التَّبِعَةُ عَنِ الْحَرْبِيِّ إِذَا أَسْلَمَ، وَلأَِنَّ الإِْمَامَ مَأْمُورٌ بِالْقِتَال فَلاَ يَضْمَنُ مَا يَتَوَلَّدُ مِنْهُ، وَهُمْ إِنَّمَا أَتْلَفُوا بِتَأْوِيلٍ.
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 3 / 73.
(2) كشاف القناع 5 / 141 وما بعدها.(13/285)
وَيُشْتَرَطُ لِنَفْيِ الضَّمَانِ أَنْ يَكُونَ الإِْتْلاَفُ فِي حَال الْقِتَال، وَأَمَّا فِي غَيْرِ حَال الْقِتَال فَإِنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِمْ. وَقَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ الْحُكْمَ وَخَصُّوهُ بِمَا أُتْلِفَ فِي الْقِتَال لِضَرُورَتِهِ، فَإِنْ أُتْلِفَ فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْ ضَرُورَتِهِ فَإِنَّهُ مَضْمُونٌ عِنْدَهُمْ. وَاسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ مَا إِذَا قَصَدَ أَهْل الْعَدْل بِإِتْلاَفِ الْمَال إِضْعَافَهُمْ وَهَزِيمَتَهُمْ، فَإِنَّهُ لاَ ضَمَانَ، بِخِلاَفِ مَا لَوْ قَصَدُوا التَّشَفِّيَ وَالاِنْتِقَامَ.
وَلَمْ يَعْتَبِرِ الْحَنَفِيَّةُ هَذَا الشَّرْطَ، وَإِنَّمَا اعْتَبَرُوا التَّحَيُّزَ وَعَدَمَهُ، وَقَالُوا: مَا فَعَلُوهُ قَبْل التَّحَيُّزِ وَالْخُرُوجِ وَبَعْدَ تَفَرُّقِ جَمْعِهِمْ يُؤَاخَذُونَ بِهِ، وَأَمَّا مَا فَعَلُوهُ بَعْدَ التَّحَيُّزِ فَلاَ ضَمَانَ فِيهِ. وَعِنْدَهُمْ كَذَلِكَ يَضْمَنُ الإِْمَامُ مَا أَتْلَفَهُ عَلَيْهِمْ قَبْل تَحَيُّزِهِمْ وَخُرُوجِهِمْ، أَوْ بَعْدَ كَسْرِهِمْ وَتَفَرُّقِ جَمْعِهِمْ (1) .
مَا تُتْلِفُهُ الدَّوَابُّ:
31 - قَدْ سَبَقَ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (إِتْلاَفٌ)
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 312، وحاشية الدسوقي 4 / 299 - 300، والقوانين الفقهية 369، ومغني المحتاج 4 / 123 وما بعدها، وكشاف القناع 6 / 161 - 165.(13/285)
تَلْفِيقٌ
التَّعْرِيفُ
1 - التَّلْفِيقُ فِي اللُّغَةِ: الضَّمُّ، وَهُوَ مَصْدَرُ لَفَّقَ، وَمَادَّةُ لَفَّقَ لَهَا فِي اللُّغَةِ أَكْثَرُ مِنْ مَعْنَى، فَهِيَ تُسْتَعْمَل بِمَعْنَى الضَّمِّ، وَالْمُلاَءَمَةِ، وَالْكَذِبِ الْمُزَخْرَفِ.
وَالتِّلْفَاقُ أَوِ اللِّفَاقُ بِكَسْرِهِمَا: ثَوْبَانِ يُلَفَّقُ أَحَدُهُمَا بِالآْخَرِ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: يَسْتَعْمِل الْفُقَهَاءُ التَّلْفِيقَ بِمَعْنَى الضَّمِّ كَمَا فِي الْمَرْأَةِ الَّتِي انْقَطَعَ دَمُهَا فَرَأَتْ يَوْمًا دَمًا وَيَوْمًا نَقَاءً، أَوْ يَوْمَيْنِ وَيَوْمَيْنِ بِحَيْثُ لاَ يُجَاوِزُ التَّقَطُّعُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا عِنْدَ غَيْرِ الأَْكْثَرِينَ عَلَى مُقَابِل الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. وَكَمَا هُوَ الْحَال فِي حُصُول الرَّكْعَةِ الْمُلَفَّقَةِ فِي صَلاَةِ الْجُمُعَةِ لِلْمَسْبُوقِ (2) .
وَيَسْتَعْمِلُونَهُ أَيْضًا بِمَعْنَى التَّوْفِيقِ وَالْجَمْعِ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْوَاحِدَةِ، كَمَا فِي
__________
(1) انظر الصحاح، والقاموس، واللسان، والمصباح، مادة: " لفق ".
(2) روضة الطالبين 1 / 162 ط المكتب الإسلامي، وأسنى المطالب 1 / 255 ط المكتبة الإسلامية.(13/286)
الرِّوَايَاتِ الْمُوجِبَةِ لِلْجُعْل فِي رَدِّ الآْبِقِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّفْرِيقُ:
2 - التَّفْرِيقُ مَصْدَرُ فَرَّقَ وَمَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ: الْفَصْل بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ (2)
وَالْفُقَهَاءُ يَسْتَعْمِلُونَهُ أَيْضًا بِهَذَا الْمَعْنَى كَمَا فِي التَّفْرِيقِ فِي صِيَامِ التَّمَتُّعِ بَيْنَ الثَّلاَثَةِ وَالسَّبْعَةِ الأَْيَّامِ، وَكَمَا فِي قَسْمِ الصَّدَقَاتِ، وَكَمَا فِي تَفْرِيقِ طَلاَقِ الْمَدْخُول بِهَا إِذَا أَرَادَ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ بِأَنْ يُوقِعَ كُل طَلْقَةٍ فِي طُهْرٍ لَمْ يَمَسَّهَا فِيهِ لِيُصِيبَ السُّنَّةَ (3) .
فَالتَّفْرِيقُ ضِدُّ التَّلْفِيقِ.
ب - التَّقْدِيرُ:
3 - التَّقْدِيرُ: مَصْدَرُ قَدَّرَ، وَيَأْتِي فِي اللُّغَةِ عَلَى وُجُوهٍ مِنَ الْمَعَانِي.
أَحَدُهَا: التَّرَوِّي وَالتَّفْكِيرُ فِي تَسْوِيَةِ أَمْرٍ وَتَهْيِئَتِهِ.
وَالثَّانِي: تَقْدِيرُهُ بِعَلاَمَاتٍ يَقْطَعُهُ عَلَيْهَا وَهُوَ بَيَانُ الْمَقَادِيرِ ذَرْعًا، أَوْ كَيْلاً، أَوْ وَزْنًا، أَوْ عَدُّ ذَلِكَ (4) .
__________
(1) فتح القدير 4 / 435 - 436 ط الأميرية.
(2) الصحاح والمصباح المنير مادة: " فرق ".
(3) ابن عابدين 2 / 418 ط المصرية، وحاشية قليوبي 2 / 130، 3 / 195 - 204 ط الحلبي.
(4) القليوبي 2 / 217 ط الحلبي.(13/286)
وَالثَّالِثُ: أَنْ تَنْوِيَ أَمْرًا بِعَزْمِكَ عَلَيْهِ. تَقُول قَدَّرْتُ أَمْرَ كَذَا وَكَذَا أَيْ نَوَيْتُهُ وَعَقَدْتُ عَلَيْهِ (1) .
وَيَشْتَرِكُ التَّقْدِيرُ مَعَ التَّلْفِيقِ فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا فِيهِ جَمْعٌ بَيْنَ أُمُورٍ غَيْرِ مُحَدَّدَةٍ.
الأَْحْكَامُ الإِْجْمَالِيَّةُ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ التَّلْفِيقَ فِي عَدَدٍ مِنَ الْمَوَاطِنِ نُجْمِلُهَا فِيمَا يَلِي:
التَّلْفِيقُ فِي الْحَيْضِ إِذَا تَقَطَّعَ:
4 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الطُّهْرَ الْمُتَخَلَّل بَيْنَ الدَّمَيْنِ إِذَا كَانَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَصَاعِدًا فَإِنَّهُ يَكُونُ فَاصِلاً بَيْنَهُمَا، أَمَّا إِذَا كَانَ الطُّهْرُ الْفَاصِل بَيْنَ الدَّمَيْنِ أَقَل مَنْ هَذِهِ الْمُدَّةِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي اعْتِبَارِهِ فَاصِلاً أَوْ عَدَمِ اعْتِبَارِهِ.
5 - فَالْحَنَفِيَّةُ يُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ الطُّهْرَ الْفَاصِل بَيْنَ الدَّمَيْنِ إِذَا كَانَ أَقَل مِنْ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فَإِنَّهُ لاَ يُعْتَبَرُ فَاصِلاً. وَأَمَّا فِيمَا عَدَا ذَلِكَ فَفِيهِ أَرْبَعُ رِوَايَاتٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ:
الأُْولَى: وَهِيَ رِوَايَةُ أَبِي يُوسُفَ عَنْهُ أَنَّ الطُّهْرَ الْمُتَخَلَّل بَيْنَ الدَّمَيْنِ إِذَا كَانَ أَقَل مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا يَكُونُ طُهْرًا فَاسِدًا وَلاَ يَكُونُ فَاصِلاً بَيْنَ الدَّمَيْنِ بَل يَكُونُ كُلُّهُ كَدَمٍ مُتَوَالٍ، ثُمَّ يُقَدَّرُ مَا يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَل حَيْضًا فَيُجْعَل حَيْضًا وَالْبَاقِي يَكُونُ اسْتِحَاضَةً.
__________
(1) الصحاح واللسان والمصباح المنير، مادة: " قدر ".(13/287)
الثَّانِيَةُ: وَهِيَ رِوَايَةُ مُحَمَّدٍ عَنْهُ أَنَّ الدَّمَ إِذَا كَانَ فِي طَرَفَيِ الْعَشَرَةِ فَالطُّهْرُ الْمُتَخَلَّل بَيْنَهُمَا لاَ يَكُونُ فَاصِلاً وَيُجْعَل كُلُّهُ كَدَمٍ مُتَوَالٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الدَّمُ فِي طَرَفَيِ الْعَشَرَةِ كَانَ الطُّهْرُ فَاصِلاً بَيْنَ الدَّمَيْنِ. ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ إِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُجْعَل أَحَدُ الدَّمَيْنِ حَيْضًا يُجْعَل ذَلِكَ حَيْضًا، وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُجْعَل كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَيْضًا يُجْعَل أَسْرَعُهُمَا وَهُوَ أَوَّلُهُمَا، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ جَعْل أَحَدِهِمَا حَيْضًا لاَ يُجْعَل شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ حَيْضًا.
الثَّالِثَةُ: وَهِيَ رِوَايَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ عَنْهُ أَنَّ الدَّمَ إِذَا كَانَ فِي طَرَفَيِ الْعَشَرَةِ وَكَانَ بِحَالٍ لَوْ جُمِعَتِ الدِّمَاءُ الْمُتَفَرِّقَةُ تَبْلُغُ حَيْضًا لاَ يَصِيرُ الطُّهْرُ فَاصِلاً بَيْنَ الدَّمَيْنِ وَيَكُونُ كُلُّهُ حَيْضًا، وَإِنْ كَانَ بِحَالٍ لَوْ جُمِعَ لاَ يَبْلُغُ حَيْضًا يَصِيرُ فَاصِلاً بَيْنَ الدَّمَيْنِ، ثُمَّ يُنْظَرُ إِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُجْعَل أَحَدُ الدَّمَيْنِ حَيْضًا يُجْعَل ذَلِكَ حَيْضًا، وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُجْعَل كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَيْضًا، يُجْعَل أَسْرَعُهُمَا حَيْضًا وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يُجْعَل أَحَدُهُمَا حَيْضًا لاَ يُجْعَل شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ حَيْضًا.
الرَّابِعَةُ: وَهِيَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْهُ أَنَّ الطُّهْرَ الْمُتَخَلَّل بَيْنَ الدَّمَيْنِ إِذَا كَانَ أَقَل مِنْ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ لاَ يَكُونُ فَاصِلاً بَيْنَ الدَّمَيْنِ، وَكُلُّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُتَوَالِي، وَإِذَا كَانَ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ كَانَ فَاصِلاً بَيْنَهُمَا.
وَاخْتَارَ مُحَمَّدٌ أَنَّ الطُّهْرَ الْمُتَخَلَّل بَيْنَ الدَّمَيْنِ إِذَا كَانَ أَقَل مِنْ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ لاَ يُعْتَبَرُ فَاصِلاً، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنَ الدَّمَيْنِ، وَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الدَّمِ(13/287)
الْمُتَوَالِي، وَإِذَا كَانَ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا فَهُوَ طُهْرٌ كَثِيرٌ فَيُعْتَبَرُ. لَكِنْ يُنْظَرُ بَعْدَ ذَلِكَ إِنْ كَانَ الطُّهْرُ مِثْل الدَّمَيْنِ أَوْ أَقَل مِنَ الدَّمَيْنِ فِي الْعَشَرَةِ لاَ يَكُونُ فَاصِلاً، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنَ الدَّمَيْنِ يَكُونُ فَاصِلاً (1) .
هَذَا وَأَقَل الْحَيْضِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ وَثَلاَثُ لَيَالٍ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَأَكْثَرُهُ عَشَرَةُ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا، وَأَقَل الطُّهْرِ عِنْدَهُمْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَلاَ غَايَةَ لأَِكْثَرِهِ، إِلاَّ إِذَا احْتِيجَ إِلَى نَصْبِ الْعَادَةِ (2) .
6 - وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ فِي مَسْأَلَةِ التَّقَطُّعِ هَذِهِ أَنَّ الْمَرْأَةَ تُلَفِّقُ أَيْ تَجْمَعُ أَيَّامَ الدَّمِ فَقَطْ لاَ أَيَّامَ الطُّهْرِ عَلَى تَفْصِيلِهَا مِنْ مُبْتَدَأَةٍ وَمُعْتَادَةٍ وَحَامِلٍ. فَتُلَفِّقُ الْمُبْتَدَأَةُ نِصْفَ شَهْرٍ، وَالْمُعْتَادَةُ عَادَتَهَا وَاسْتِظْهَارَهَا، وَالْحَامِل فِي ثَلاَثَةِ أَشْهُرٍ النِّصْفَ وَنَحْوَهُ، وَفِي سِتَّةٍ فَأَكْثَرَ عِشْرِينَ وَنَحْوَهَا، ثُمَّ هِيَ بَعْدَ ذَلِكَ مُسْتَحَاضَةٌ.
وَتَغْتَسِل الْمُلَفِّقَةُ وُجُوبًا كُلَّمَا انْقَطَعَ الدَّمُ عَنْهَا فِي أَيَّامِ التَّلْفِيقِ، إِلاَّ أَنْ تَظُنَّ أَنَّهُ يُعَاوِدُهَا قَبْل انْقِضَاءِ وَقْتِ الصَّلاَةِ الَّتِي هِيَ فِيهِ، فَلاَ تُؤْمَرُ بِالْغُسْل، وَتَصُومُ إِنْ كَانَتْ قَبْل الْفَجْرِ طَاهِرًا،
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 43 - 44 ط الجمالية، والفتاوى الهندية 1 / 37 ط المكتبة الإسلامية، وفتح القدير 1 / 120 - 121 ط الأميرية وتبيين الحقائق 1 / 62 ط دار المعرفة، والبحر الرائق 1 / 216 - 217 ط العلمية
(2) الفتاوى الهندية 1 / 36 - 37 ط المكتبة الإسلامية.(13/288)
وَتُصَلِّي بَعْدَ طُهْرِهَا فَيُمْكِنُ أَنْ تُصَلِّيَ وَتَصُومَ فِي جَمِيعِ أَيَّامِ الْحَيْضِ بِأَنْ كَانَ يَأْتِيهَا لَيْلاً وَيَنْقَطِعُ قَبْل الْفَجْرِ حَتَّى يَغِيبَ الشَّفَقُ فَلاَ يَفُوتُهَا شَيْءٌ مِنَ الصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ، وَتَدْخُل الْمَسْجِدَ، وَتَطُوفُ الإِْفَاضَةَ إِلاَّ أَنَّهُ يَحْرُمُ طَلاَقُهَا وَيُجْبَرُ عَلَى مُرَاجَعَتِهَا (1) .
هَذَا وَأَقَل الْحَيْضِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ دَفْعَةٌ، وَأَمَّا أَكْثَرُهُ فَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الْحَائِضِ، فَالْمُبْتَدَأَةُ إِنْ تَمَادَتْ بِهَا الْحَيْضَةُ فَأَكْثَرُهُ فِي حَقِّهَا خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا.
وَالْمُعْتَادَةُ إِنْ لَمْ تَخْتَلِفْ عَادَتُهَا اسْتَظْهَرَتْ عَلَيْهَا بِثَلاَثَةِ أَيَّامٍ مَا لَمْ تُجَاوِزْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ عَادَتُهَا اسْتَظْهَرَتْ عَلَى أَكْثَرِ عَادَتِهَا كَذَلِكَ وَهِيَ حَائِضٌ فِي أَيَّامِ الاِسْتِظْهَارِ (2) .
7 - وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ التَّقَطُّعَ لاَ يَخْلُو، إِمَّا أَنْ يُجَاوِزَ الْخَمْسَةَ عَشَرَ، وَإِمَّا أَنْ لاَ يُجَاوِزَهَا، فَإِنْ لَمْ يُجَاوِزْهَا فَقَوْلاَنِ:
أَظْهَرُهُمَا عِنْدَ الأَْكْثَرِينَ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ أَنَّ الْجَمِيعَ حَيْضٌ، وَيُسَمَّى الْقَوْل بِذَلِكَ (السَّحْبَ) بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ النَّقَاءُ مُحْتَوِشًا
__________
(1) الدسوقي 1 / 170 - 171 ط الفكر، والخرشي 1 / 205 - 206 ط دار صادر، والزرقاني 1 / 135 - 136 ط الفكر، وجواهر الإكليل 1 / 31ط دار المعرفة، ومواهب الجليل 1 / 369 - 370 ط النجاح، وأسهل المدارك 1 / 143 - 144 ط الحلبي، والمدونة 1 / 51 ط صادر.
(2) أسهل المدارك 1 / 139 - 140 ط الحلبي.(13/288)
مُحَاطًا بِدَمَيْنِ فِي الْخَمْسَةَ عَشَرَ، وَإِلاَّ فَهُوَ طُهْرٌ بِلاَ خِلاَفٍ.
وَالثَّانِي: حَيْضُهَا الدِّمَاءُ خَاصَّةً. وَأَمَّا النَّقَاءُ فَطُهْرٌ وَيُسَمَّى هَذَا الْقَوْل (التَّلْفِيقَ) أَوِ (اللَّقْطَ) .
وَعَلَى هَذَا الْقَوْل إِنَّمَا يُجْعَل النَّقَاءُ طُهْرًا فِي الصَّوْمِ وَالصَّلاَةِ وَالْغُسْل وَنَحْوِهَا دُونَ الْعِدَّةِ، وَالطَّلاَقُ فِيهِ بِدْعِيٌّ.
ثُمَّ الْقَوْلاَنِ هُمَا فِي النَّقَاءِ الزَّائِدِ عَلَى الْفَتْرَةِ الْمُعْتَادَةِ، فَأَمَّا الْفَتْرَةُ الْمُعْتَادَةُ بَيْنَ دَفْعَتَيِ الدَّمِ فَحَيْضٌ بِلاَ خِلاَفٍ.
وَلاَ فَرْقَ فِي جَرَيَانِ الْقَوْلَيْنِ بَيْنَ أَنْ يَسْتَوِيَ قَدْرُ الدَّمِ وَالنَّقَاءِ أَوْ يَزِيدُ أَحَدُهُمَا.
أَمَّا إِذَا جَاوَزَ الدَّمُ بِصِفَةِ التَّلْفِيقِ الْخَمْسَةَ عَشَرَ صَارَتْ مُسْتَحَاضَةً كَغَيْرِهَا إِذَا جَاوَزَ دَمُهَا تِلْكَ الْمُدَّةَ، وَلاَ صَائِرَ إِلَى الاِلْتِقَاطِ مِنْ جَمِيعِ الشَّهْرِ وَإِنْ لَمْ يَزِدْ مَبْلَغُ الدَّمِ عَلَى أَكْثَرِ الْحَيْضِ، وَإِذَا صَارَتْ مُسْتَحَاضَةً فَالْفَرْقُ بَيْنَ حَيْضِهَا وَاسْتِحَاضَتِهَا بِالرُّجُوعِ إِلَى الْعَادَةِ، أَوِ التَّمْيِيزِ كَغَيْرِ ذَاتِ التَّلْفِيقِ (1) .
هَذَا وَأَقَل الْحَيْضِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ عَلَى الْمَذْهَبِ وَعَلَيْهِ التَّفْرِيعُ، وَأَكْثَرُهُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَغَالِبُهُ سِتٌّ أَوْ سَبْعٌ، وَأَقَل الطُّهْرِ بَيْنَ
__________
(1) روضة الطالبين 1 / 162 - 166 ط المكتب الإسلامي، والبجيرمي على الخطيب 1 / 308 ط الحلبي، وأسنى المطالب 1 / 112 - 113 ط المكتبة الإسلامية.(13/289)
حَيْضَتَيْنِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَغَالِبُهُ تَمَامُ الشَّهْرِ بَعْدَ الْحَيْضِ وَلاَ حَدَّ لأَِكْثَرِهِ (1) .
8 - وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ فِي مَسْأَلَةِ التَّقَطُّعِ هَذِهِ أَنَّ الْمَرْأَةَ تَغْتَسِل وَتُصَلِّيَ فِي زَمَنِ الطُّهْرِ حَتَّى وَلَوْ كَانَ سَاعَةً، لِقَوْل ابْنِ عَبَّاسٍ: لاَ يَحِل لَهَا إِذَا رَأَتِ الطُّهْرَ سَاعَةً إِلاَّ أَنْ تَغْتَسِل، ثُمَّ إِنِ انْقَطَعَ الدَّمُ لِخَمْسَةَ عَشَرَ فَمَا دُونَ فَجَمِيعُهُ حَيْضٌ، تَغْتَسِل عَقِيبَ كُل يَوْمٍ وَتُصَلِّي فِي الطُّهْرِ، وَإِنْ عَبَرَ الْخَمْسَةَ عَشَرَ فَهِيَ مُسْتَحَاضَةٌ تُرَدُّ إِلَى عَادَتِهَا.
وَالأَْصْل الْمُعْتَبَرُ الَّذِي تُرَدُّ إِلَيْهِ مَسَائِل التَّلْفِيقِ عِنْدَهُمْ حِينَئِذٍ أَنَّهَا إِنْ كَانَتْ عَادَتُهَا سَبْعَةً مُتَوَالِيَةً جَلَسَتْ، وَمَا وَافَقَهَا مِنَ الدَّمِ فَيَكُونُ حَيْضُهَا مِنْهُ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ أَوْ أَرْبَعَةً.
وَقَالُوا: إِنَّ النَّاسِيَةَ كَالْمُعْتَادَةِ إِنْ أَجْلَسْنَاهَا سَبْعًا، فَإِنْ أَجْلَسْنَاهَا أَقَل الْحَيْضِ جَلَسَتْ يَوْمًا وَلَيْلَةً لاَ غَيْرُ، وَإِنْ كَانَتْ مُمَيِّزَةً تَرَى يَوْمًا دَمًا أَسْوَدَ، ثُمَّ تَرَى نَقَاءً، ثُمَّ تَرَى أَسْوَدَ إِلَى عَشَرَةِ أَيَّامٍ، ثُمَّ تَرَى دَمًا أَحْمَرَ وَعَبَرَ (أَيْ: تَجَاوَزَ) رُدَّتْ إِلَى التَّمْيِيزِ، فَيَكُونُ حَيْضُهَا زَمَنَ الدَّمِ الأَْسْوَدِ دُونَ غَيْرِهِ، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَرَى الدَّمَ زَمَنًا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ حَيْضًا كَيَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، أَوْ دُونَ ذَلِكَ كَنِصْفِ يَوْمٍ وَنِصْفِ لَيْلَةٍ. فَإِنْ كَانَ النَّقَاءُ أَقَل مِنْ سَاعَةٍ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَيْسَ بِطُهْرٍ لأَِنَّ الدَّمَ يَجْرِي تَارَةً وَيَنْقَطِعُ أُخْرَى.
__________
(1) روضة الطالبين 1 / 134 ط المكتب الإسلامي.(13/289)
وَإِذَا رَأَتْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ دَمًا ثُمَّ طَهُرَتِ اثْنَيْ عَشَرَ يَوْمًا، ثُمَّ رَأَتْهُ ثَلاَثَةً دَمًا، فَالأَْوَّل حَيْضٌ لأَِنَّهَا رَأَتْهُ فِي زَمَانِ إِمْكَانِهِ. وَالثَّانِي اسْتِحَاضَةٌ لأَِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءَ حَيْضٍ لِكَوْنِهِ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ أَقَل الطُّهْرِ وَلاَ مِنَ الْحَيْضِ الأَْوَّل، لأَِنَّهُ يَخْرُجُ عَنِ الْخَمْسَةَ عَشَرَ، وَالْحَيْضَةُ الْوَاحِدَةُ لاَ يَكُونُ بَيْنَ طَرَفَيْهَا أَكْثَرُ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا.
فَإِنْ كَانَ بَيْنَ الدَّمَيْنِ ثَلاَثَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَأَكْثَرُ وَتَكَرَّرَ، فَهُمَا حَيْضَتَانِ لأَِنَّهُ أَمْكَنَ جَعْل كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَيْضَةً مُنْفَرِدَةً لِفَصْل أَقَل الطُّهْرِ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ أَمْكَنَ جَعْلُهُمَا حَيْضَةً وَاحِدَةً بِأَنْ لاَ يَكُونَ بَيْنَ طَرَفَيْهِمَا أَكْثَرُ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا مِثْل أَنْ تَرَى يَوْمَيْنِ دَمًا وَتَطْهُرَ عَشَرَةً، وَتَرَى ثَلاَثَةً دَمًا وَتَكَرَّرَ فَهُمَا حَيْضَةٌ وَاحِدَةٌ، لأَِنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ زَمَنُهُمَا عَنْ مُدَّةِ أَكْثَرِ الْحَيْضِ (1) .
وَجَاءَ فِي مَطَالِبِ أُولِي النُّهَى أَنَّ الطُّهْرَ فِي أَثْنَاءِ الْحَيْضَةِ صَحِيحٌ تَغْتَسِل فِيهِ وَتُصَلِّي وَنَحْوُهُ أَيْ: تَصُومُ وَتَطُوفُ وَتَقْرَأُ الْقُرْآنَ، وَلاَ يُكْرَهُ فِيهِ الْوَطْءُ لأَِنَّهُ طُهْرٌ حَقِيقَةً (2) .
وَقَال فِي الإِْنْصَافِ: حُكْمُهَا حُكْمُ الطَّاهِرَاتِ
__________
(1) الكافي 1 / 82 - 83 ط المكتب الإسلامي، ومطالب أولي النهى 1 / 261 - 262 ط المكتب الإسلامي، وكشاف القناع 1 / 214 - 218 ط النصر.
(2) مطالب أولي النهى 1 / 261 ط المكتب الإسلامي.(13/290)
فِي جَمِيعِ أَحْكَامِهَا عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ (1) .
هَذَا وَالْحَنَابِلَةُ فِي أَقَل الْحَيْضِ وَأَكْثَرِهِ وَغَالِبِهِ كَالشَّافِعِيَّةِ، إِلاَّ أَنَّهُمْ خَالَفُوهُمْ فِي أَقَل الطُّهْرِ الْفَاصِل بَيْنَ الْحَيْضَتَيْنِ، حَيْثُ قَالُوا: إِنَّهُ ثَلاَثَةَ عَشَرَ يَوْمًا (2) . وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (حَيْضٌ) .
إِدْرَاكُ الْجُمُعَةِ بِرَكْعَةٍ مُلَفَّقَةٍ:
9 - يَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْجُمُعَةَ تُدْرَكُ بِرَكْعَةٍ مُلَفَّقَةٍ مِنْ رُكُوعِ الأُْولَى وَسُجُودِ الثَّانِيَةِ، وَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ ذَلِكَ فِي الْمَزْحُومِ الَّذِي لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ السُّجُودِ فِي الرَّكْعَةِ الأُْولَى حَتَّى شَرَعَ الإِْمَامُ فِي رُكُوعِ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْجُمُعَةِ، فَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ الْمَزْحُومَ يُرَاعِي نَظْمَ صَلاَةِ نَفْسِهِ فِي قَوْلٍ فَيَسْجُدُ الآْنَ، وَيُحْسَبُ رُكُوعُهُ الأَْوَّل فِي الأَْصَحِّ لأَِنَّهُ أَتَى بِهِ فِي وَقْتِهِ، وَإِنَّمَا أَتَى بِالرُّكُوعِ الثَّانِي لِعُذْرٍ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ وَالَى بَيْنَ رُكُوعَيْنِ نَاسِيًا.
وَقِيل: يُؤْخَذُ بِالرُّكُوعِ الثَّانِي لإِِفْرَاطِ التَّخَلُّفِ فَكَأَنَّهُ مَسْبُوقٌ لَحِقَ الآْنَ فَرَكْعَتُهُ مُلَفَّقَةٌ مِنْ رُكُوعِ الرَّكْعَةِ الأُْولَى وَمِنْ سُجُودِ الثَّانِيَةِ الَّذِي أَتَى بِهِ فِيهَا، وَتُدْرَكُ بِهَا الْجُمُعَةُ فِي الأَْصَحِّ لإِِطْلاَقِ
__________
(1) الإنصاف 1 / 372 ط التراث، وانظر ما جاء في المغني فيما يتعلق بالتلفيق 1 / 359 - 361 ط الرياض.
(2) كشاف القناع 1 / 203 ط النصر.(13/290)
خَبَرِ: مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْجُمُعَةِ فَلْيُصَل إِلَيْهَا أُخْرَى (1) . وَهَذَا قَدْ أَدْرَكَ رَكْعَةً وَلَيْسَ التَّلْفِيقُ نَقْصًا فِي الْمَعْذُورِ.
وَعَلَى مُقَابِل الأَْصَحِّ لاَ تُدْرَكُ بِهَا الْجُمُعَةُ لِنَقْصِهَا بِالتَّلْفِيقِ.
هَذَا وَالأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ مُتَابَعَةُ الإِْمَامِ. لِظَاهِرِ: إِنَّمَا جُعِل الإِْمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا (2) وَلأَِنَّ مُتَابَعَةَ الإِْمَامِ آكَدُ، وَلِهَذَا يَتْبَعُهُ الْمَسْبُوقُ وَيَتْرُكُ الْقِرَاءَةَ وَالْقِيَامَ (3) .
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ ذَكَرُوا ذَلِكَ فِيمَنْ زَال عُذْرُهُ بَعْدَ أَنْ أَدْرَكَ رُكُوعَ الأُْولَى، وَقَدْ رَفَعَ إِمَامُهُ مِنْ رُكُوعِ الثَّانِيَةِ، فَقَدْ جَاءَ فِي الإِْنْصَافِ: أَنَّهُ يُتَابِعُهُ فِي السُّجُودِ فَتَتِمُّ لَهُ رَكْعَةٌ مُلَفَّقَةٌ مِنْ رَكْعَتَيْ إِمَامِهِ يُدْرِكُ بِهَا الْجُمُعَةَ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ (4) .
__________
(1) حديث: " من أدرك. . . " أخرجه ابن ماجه من حديث أبي هريرة مرفوعا، وقال الحافظ البوصيري: في إسناده عمر بن حبيب متفق على ضعفه، وأخرجه الحاكم بثلاثة أسانيد من حديث أبي هريرة وقال: كل هؤلاء الأسانيد الثلاثة صحاح على شرط الشيخين وأقره الذهبي (سنن ابن ماجه 1 / 356 ط الحلبي) ، (والمستدرك 1 / 291) .
(2) حديث: " إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا ركع فاركعوا ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 173 ط السلفية) ، ومسلم (1 / 309 ط الحلبي) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(3) نهاية المحتاج 2 / 344 ط المكتبة الإسلامية، وحاشية قليوبي 1 / 294 - 295 ط الحلبي، وأسنى المطالب 1 / 256 - 266 ط المكتبة الإسلامية، وروضة الطالبين 2 / 19 - 21 ط المكتب الإسلامي.
(4) الإنصاف 2 / 384 - 385 ط التراث، وكشاف القناع 2 / 31 ط النصر.(13/291)
وَتُدْرَكُ الْجُمُعَةُ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ بِإِدْرَاكِ الإِْمَامِ فِي التَّشَهُّدِ أَوْ فِي سُجُودِ السَّهْوِ، وَعَلَى هَذَا فَلاَ يُتَصَوَّرُ التَّلْفِيقُ عِنْدَهُمَا لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَقَال مُحَمَّدٌ: إِنَّهَا تُدْرَكُ بِإِدْرَاكِ أَكْثَرِ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مَعَ الإِْمَامِ.
وَذَكَرَ صَاحِبُ مَوَاهِبِ الْجَلِيل مِنَ الْمَالِكِيَّةِ قَوْلَيْنِ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ فِيمَنْ زُوحِمَ عَنِ السَّجْدَةِ الأَْخِيرَةِ فِي الْجُمُعَةِ بِحَيْثُ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ الإِْتْيَانِ بِهَا إِلاَّ بَعْدَ سَلاَمِ الإِْمَامِ فِي أَنَّهُ يُتِمُّهَا ظُهْرًا أَوْ جُمُعَةً (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ " جُمُعَةٌ ".
التَّلْفِيقُ فِي مَسَافَةِ الْقَصْرِ لِمَنْ كَانَ بَعْضُ سَفَرِهِ فِي الْبَحْرِ وَبَعْضُهُ فِي الْبَرِّ:
10 - يَرَى الْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْقَوْل الَّذِي لاَ يُفَرِّقُ بَيْنَ السَّفَرِ فِي الْبَحْرِ وَالسَّفَرِ فِي الْبَرِّ فِي اعْتِبَارِ الْمَسَافَةِ أَنَّهُ إِذَا سَافَرَ وَكَانَ بَعْضُ سَفَرِهِ فِي الْبَرِّ وَبَعْضُهُ فِي الْبَحْرِ فَإِنَّهُ يُلَفِّقُ أَيْ: يَضُمُّ مَسَافَةَ أَحَدِهِمَا لِمَسَافَةِ الآْخَرِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ.
وَجَاءَ فِي الزَّرْقَانِيِّ أَنَّهُ يُلَفِّقُ بَيْنَ مَسَافَةِ الْبَرِّ وَمَسَافَةِ الْبَحْرِ إِذَا كَانَ السَّيْرُ فِي الْبَحْرِ بِمِجْدَافٍ، أَوْ بِهِ وَبِالرِّيحِ، فَإِنْ كَانَ يَسِيرُ فِيهِ
__________
(1) تبيين الحقائق 1 / 222 ط دار المعرفة، وفتح القدير 1 / 419 - 420 ط الأميرية، وابن عابدين 1 / 550 ط المصرية، والفتاوى الهندية 1 / 149 ط المكتبة الإسلامية، ومواهب الجليل 2 / 82 ط النجاح.(13/291)
بِالرِّيحِ فَقَطْ لَمْ يَقْصُرْ فِي مَسَافَةِ الْبَرِّ الْمُتَقَدِّمَةِ وَهِيَ دُونَ قَصْرٍ فَلاَ تَلْفِيقَ (1) .
وَلَمْ يُفَرِّقِ الشَّافِعِيَّةُ وَكَذَا الْحَنَابِلَةُ - عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ عِنْدَهُمْ - فِي مَسَافَةِ الْقَصْرِ بَيْنَ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، بَل لَوْ سَارَ فِي الْبَحْرِ وَقَطَعَ تِلْكَ الْمَسَافَةَ فِي لَحْظَةٍ فَإِنَّهُ يَقْصُرُ (2) .
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لاَ يُعْتَبَرُ السَّيْرُ فِي الْبَرِّ بِالسَّيْرِ فِي الْبَحْرِ، وَلاَ السَّيْرُ فِي الْبَحْرِ بِالسَّيْرِ فِي الْبَرِّ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي كُل مَوْضِعٍ مِنْهُمَا مَا يَلِيقُ بِحَالِهِ، وَالْمُخْتَارُ لِلْفَتْوَى عِنْدَهُمْ أَنْ يُنْظَرَ كَمْ تَسِيرُ السَّفِينَةُ فِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا، إِذَا كَانَتِ الرِّيَاحُ مُسْتَوِيَةً مُعْتَدِلَةً فَيُجْعَل ذَلِكَ هُوَ الْمُقَدَّرَ، لأَِنَّهُ أَلْيَقُ بِحَالِهِ كَمَا فِي الْجَبَل (3) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (سَفَرٌ) .
التَّلْفِيقُ فِي صَوْمِ الشَّهْرَيْنِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَمَا شَابَهَهَا:
11 - الْمُرَادُ بِالتَّلْفِيقِ فِي صَوْمِ الْكَفَّارَةِ إِتْمَامُ الشَّهْرِ
__________
(1) الدسوقي 1 / 359 ط الفكر، والزرقاني 2 / 38 ط الفكر، وجواهر الإكليل 1 / 88 ط دار المعرفة، والخرشي 2 / 57 ط دار صادر.
(2) روضة الطالبين 1 / 385 ط المكتب الإسلامي، وحاشية قليوبي 1 / 259 ط الحلبي، وكشاف القناع 1 / 504 ط النصر، والكافي 1 / 196 ط المكتب الإسلامي، والإنصاف 2 / 318 ط التراث.
(3) الفتاوى الهندية 1 / 138 ط المكتبة الإسلامية، وتبيين الحقائق 1 / 209 - 210 ط دار المعرفة.(13/292)
الأَْوَّل مِنْهُمَا مِنَ الشَّهْرِ الثَّالِثِ.
اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُكَفِّرَ بِالصَّوْمِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، أَوِ الْقَتْل، أَوِ الْوَطْءِ عَمْدًا فِي نَهَارِ رَمَضَانَ إِذَا ابْتَدَأَ صَوْمَ الشَّهْرَيْنِ بِاعْتِبَارِ الأَْهِلَّةِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُجْزِئُهُ حَتَّى وَإِنْ كَانَا نَاقِصَيْنِ.
وَاتَّفَقُوا أَيْضًا عَلَى الإِْجْزَاءِ فِيمَا إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا نَاقِصًا وَالآْخَرُ كَامِلاً.
وَاتَّفَقُوا أَيْضًا عَلَى الإِْجْزَاءِ فِيمَا لَوْ صَامَ سِتِّينَ يَوْمًا بِغَيْرِ اعْتِبَارِ الأَْهِلَّةِ.
وَاتَّفَقُوا أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ لَوِ ابْتَدَأَ الصِّيَامَ فِي أَثْنَاءِ شَهْرٍ، ثُمَّ صَامَ الشَّهْرَ الَّذِي يَلِيهِ بِاعْتِبَارِ الْهِلاَل، ثُمَّ أَكْمَل الشَّهْرَ الأَْوَّل مِنَ الشَّهْرِ الثَّالِثِ تَلْفِيقًا وَبَلَغَ عَدَدُ الأَْيَّامِ سِتِّينَ يَوْمًا فَإِنَّهُ يُجْزِئُهُ.
أَمَّا لَوْ بَلَغَ عَدَدُ الأَْيَّامِ تِسْعَةً وَخَمْسِينَ يَوْمًا فَإِنَّ ذَلِكَ يُجْزِئُهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالصَّاحِبَيْنِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الصَّحِيحِ، وَلاَ يُجْزِئُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي وَجْهٍ شَاذٍّ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ " كَفَّارَةٌ ".
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 512 ط المكتبة الإسلامية، وتبيين الحقائق 3 / 10 ط دار المعرفة، والعناية هامش فتح القدير 3 / 239 ط الأميرية، وابن عابدين 2 / 581 ط المصرية، والخرشي 4 / 116 ط دار صادر، والدسوقي 2 / 459 ط الفكر، وجواهر الإكليل 1 / 376 ط دار المعرفة، وروضة الطالبين 8 / 301 ط المكتب الإسلامي، ونهاية المحتاج 7 / 94 - 95 ط الإسلامية، وتحفة المحتاج 8 / 199ط دار صادر، ومغني المحتاج 3 / 365 ط الحلبي، وكشاف القناع 5 / 385 ط النصر، والكافي 3 / 269 ط المكتب الإسلامي.(13/292)
التَّلْفِيقُ بَيْنَ شَهَادَتَيْنِ لإِِثْبَاتِ الرِّدَّةِ:
12 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى جَوَازِ التَّلْفِيقِ بَيْنَ الشَّهَادَتَيْنِ فِي الأَْقْوَال الْمُخْتَلِفَةِ فِي اللَّفْظِ الْمُتَّفِقَةِ فِي الْمَعْنَى لإِِثْبَاتِ الرِّدَّةِ، كَمَا لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا عَلَيْهِ أَنَّهُ قَال: لَمْ يُكَلِّمِ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا، وَشَهِدَ آخَرُ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَال: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً، فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَجْمَعُ بَيْنَ هَاتَيْنِ الشَّهَادَتَيْنِ لإِِثْبَاتِ الرِّدَّةِ. أَمَّا إِذَا كَانَتْ إِحْدَى الشَّهَادَتَيْنِ عَلَى قَوْلٍ، مِثْل أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَال: فِي كُل جِنْسٍ نَذِيرٌ، وَالأُْخْرَى عَلَى فِعْلٍ كَإِلْقَاءِ مُصْحَفٍ فِي قَاذُورَةٍ، أَوْ كَانَتَا عَلَى فِعْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ كَالإِْلْقَاءِ الْمَذْكُورِ، وَشَدِّ الزُّنَّارِ فَلاَ تَلْفِيقَ (1) .
هَذَا وَفِي قَبُول الشَّهَادَةِ لإِِثْبَاتِ الرِّدَّةِ خِلاَفٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهَا هَل تَثْبُتُ بِهَا مُطْلَقًا أَيْ: عَلَى وَجْهِ الإِْطْلاَقِ أَوْ لاَ بُدَّ مِنَ التَّفْصِيل؟ وَهَل يُتَعَرَّضُ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ إِذَا أَنْكَرَ؟
وَهَذَا بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ جَمِيعًا عَلَى أَنَّ الشَّهَادَةَ بِهَا لاَ يُقْبَل فِيهَا إِلاَّ الْعُدُول.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ كَمَا جَاءَ فِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ إِلَى أَنَّهُمْ لَوْ شَهِدُوا عَلَى مُسْلِمٍ بِالرِّدَّةِ وَهُوَ مُنْكِرٌ لاَ يُتَعَرَّضُ لَهُ لاَ لِتَكْذِيبِ الشُّهُودِ وَالْعُدُول بَل لأَِنَّ إِنْكَارَهُ تَوْبَةٌ وَرُجُوعٌ يَدْرَأُ عَنْهُ الْقَتْل فَقَطْ دُونَ
__________
(1) الزرقاني 8 / 65 ط الفكر.(13/293)
غَيْرِهِ مِنْ أَحْكَامِ الرِّدَّةِ، كَحَبْطِ عَمَلٍ وَبُطْلاَنِ وَقْفٍ وَبَيْنُونَةِ زَوْجَةٍ وَإِلاَّ أَيْ: إِذَا لَمْ يُنْكِرْ فَإِنَّهُ يُقْتَل كَارْتِدَادِهِ بِنَفْسِهِ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ إِلَى أَنَّ الشَّهَادَةَ بِهَا لاَ تُقْبَل بِإِطْلاَقٍ، بَل لاَ بُدَّ مِنَ التَّفْصِيل لاِخْتِلاَفِ أَهْل السُّنَّةِ فِي أَسْبَابِ الْكُفْرِ فَرُبَّمَا وَجَبَ عِنْدَ بَعْضٍ دُونَ آخَرِينَ (2) .
وَالْقَوْل الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ أَيْضًا مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ هُوَ أَنَّ الشَّهَادَةَ بِهَا تُقْبَل بِإِطْلاَقٍ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ، حَتَّى إِذَا أَنْكَرَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ لاَ يَنْفَعُهُ إِنْكَارُهُ بَل لاَ بُدَّ لَهُ مِنَ التَّوْبَةِ وَإِلاَّ قُتِل؛ لأَِنَّهَا لِخَطَرِهَا لاَ يُقْدِمُ الْعَدْل عَلَى الشَّهَادَةِ بِهَا إِلاَّ بَعْدَ تَحَقُّقِهَا بِأَنْ يَذْكُرَ مُوجِبَهَا وَإِنْ لَمْ يَقُل عَالِمًا مُخْتَارًا لاِخْتِلاَفِ الْمَذَاهِبِ فِي الْكُفْرِ وَخَطَرِ أَمْرِ الرِّدَّةِ (3) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ " رِدَّةٌ ".
التَّلْفِيقُ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ:
13 - الْمُرَادُ بِالتَّلْفِيقِ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ أَخْذُ صِحَّةِ الْفِعْل مِنْ مَذْهَبَيْنِ مَعًا بَعْدَ الْحُكْمِ بِبُطْلاَنِهِ عَلَى
__________
(1) ابن عابدين 3 / 299 ط المصرية.
(2) الزرقاني 8 / 65 ط الفكر، وحاشية قليوبي 4 / 176 ط الحلبي.
(3) نهاية المحتاج 7 / 397 - 398 ط المكتبة الإسلامية، وحاشية قليوبي 4 / 176 ط الحلبي، وكشاف القناع 6 / 179ط النصر، والمغني 8 / 140 - 141 ط الرياض.(13/293)
كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمُفْرَدِهِ، وَمِثَالُهُ: مُتَوَضِّئٌ لَمَسَ امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً بِلاَ حَائِلٍ وَخَرَجَ مِنْهُ نَجَاسَةٌ كَدَمٍ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ، فَإِنَّ هَذَا الْوُضُوءَ بَاطِلٌ بِاللَّمْسِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَبَاطِلٌ بِخُرُوجِ الدَّمِ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَلاَ يُنْتَقَضُ بِخُرُوجِ تِلْكَ النَّجَاسَةِ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَلاَ يُنْتَقَضُ أَيْضًا بِاللَّمْسِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَإِذَا صَلَّى بِهَذَا الْوُضُوءِ، فَإِنَّ صِحَّةَ صَلاَتِهِ مُلَفَّقَةٌ مِنَ الْمَذْهَبَيْنِ مَعًا، وَقَدْ جَاءَ فِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ: أَنَّ الْحُكْمَ الْمُلَفَّقَ بَاطِلٌ بِالإِْجْمَاعِ، وَأَنَّ الرُّجُوعَ عَنِ التَّقْلِيدِ بَعْدَ الْعَمَل بَاطِلٌ اتِّفَاقًا، وَهُوَ الْمُخْتَارُ فِي الْمَذْهَبِ لأَِنَّ التَّقْلِيدَ مَعَ كَوْنِهِ جَائِزًا فَإِنَّ جَوَازَهُ مَشْرُوطٌ بِعَدَمِ التَّلْفِيقِ كَمَا ذَكَرَ ابْنُ عَابِدِينَ فِي حَاشِيَتِهِ (1) .
وَفِي تَتَبُّعِ الرُّخَصِ، وَفِي مُتَتَبِّعِهَا فِي الْمَذَاهِبِ خِلاَفٌ بَيْنَ الأُْصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ: وَالأَْصَحُّ كَمَا فِي جَمْعِ الْجَوَامِعِ امْتِنَاعُ تَتَبُّعِهَا لأَِنَّ التَّتَبُّعَ يُحِل رِبَاطَ التَّكْلِيفِ، لأَِنَّهُ إِنَّمَا تَبِعَ حِينَئِذٍ مَا تَشْتَهِيهِ نَفْسُهُ (2) .
بَل ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ فِسْقٌ، وَالأَْوْجَهُ كَمَا فِي نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ خِلاَفُهُ، وَقِيل: مَحَل الْخِلاَفِ فِي حَالَةِ تَتَبُّعِهَا مِنَ الْمَذَاهِبِ الْمُدَوَّنَةِ وَإِلاَّ فُسِّقَ قَطْعًا، وَلاَ يُنَافِي ذَلِكَ قَوْل ابْنِ الْحَاجِبِ كَالآْمِدِيِّ: مَنْ عَمِل فِي مَسْأَلَةٍ بِقَوْل إِمَامٍ لاَ يَجُوزُ لَهُ الْعَمَل فِيهَا بِقَوْل غَيْرِهِ اتِّفَاقًا، لِتَعَيُّنِ حَمْلِهِ عَلَى مَا إِذَا بَقِيَ مِنْ آثَارِ الْعَمَل الأَْوَّل مَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ مَعَ الثَّانِي تَرَكُّبُ حَقِيقَةٍ لاَ يَقُول بِهَا كُلٌّ مِنَ الإِْمَامَيْنِ، كَتَقْلِيدِ الشَّافِعِيِّ فِي مَسْحِ بَعْضِ الرَّأْسِ، وَمَالِكٍ فِي طَهَارَةِ الْكَلْبِ فِي صَلاَةٍ وَاحِدَةٍ. (3)
وَتَتَبُّعُهَا عِنْدَ مَنْ أَجَازَهُ مَشْرُوطٌ بِعَدَمِ الْعَمَل بِقَوْلٍ آخَرَ مُخَالِفٍ لِذَلِكَ الأَْخَفِّ (4) .
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
هَذَا وَالتَّلْفِيقُ الْمَقْصُودُ هُنَا هُوَ مَا كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْوَاحِدَةِ بِالأَْخْذِ بِأَقْوَال عَدَدٍ مِنَ الأَْئِمَّةِ فِيهَا. أَمَّا الأَْخْذُ بِأَقْوَال الأَْئِمَّةِ فِي مَسَائِل مُتَعَدِّدَةٍ فَلَيْسَ تَلْفِيقًا وَإِنَّمَا هُوَ تَنَقُّلٌ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ أَوْ تَخَيُّرٌ مِنْهَا، وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (تَقْلِيدٌ) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 51 و3 / 602 ط الأميرية.
(2) جمع الجوامع مع حاشية البناني عليه 2 / 400 ط الحلبي.
(3) نهاية المحتاج 1 / 41 ط المكتبة الإسلامية.
(4) تيسير التحرير 4 / 254 ط الحلبي.(13/294)
تَلْقِينٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّلْقِينُ: مَصْدَرُ لَقَّنَ، يُقَال لَقِنَ الْكَلاَمَ: فَهِمَهُ، وَتَلَقَّنَهُ: أَخَذَهُ وَتَمَكَّنَ مِنْهُ، وَقِيل: مَعْنَاهُ أَيْضًا فَهِمَهُ. وَهَذَا يَصْدُقُ عَلَى الأَْخْذِ مُشَافَهَةً، وَعَلَى الأَْخْذِ مِنَ الْكُتُبِ
وَيُقَال: لَقَّنَهُ الْكَلاَمَ: أَلْقَاهُ إِلَيْهِ لِيُعِيدَهُ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لَهُ عَنْ هَذِهِ الْمَعَانِي اللُّغَوِيَّةِ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّعْرِيضُ:
2 - التَّعْرِيضُ فِي الْكَلاَمِ: مَا يَفْهَمُ بِهِ السَّامِعُ مُرَادَهُ مِنْ غَيْرِ تَصْرِيحٍ، فِي حِينِ يَكُونُ التَّلْقِينُ صَرِيحًا غَالِبًا (3) .
ب - التَّعْلِيمُ:
3 - التَّعْلِيمُ: مَصْدَرُ عَلَّمَ، يُقَال: عَلَّمَهُ الْعِلْمَ
__________
(1) المصباح المنير، والمعجم الوسيط، مادة: " لقن ".
(2) البدائع 7 / 10، والحطاب 2 / 219، ومغني المحتاج 1 / 330.
(3) التعريفات للجرجاني.(13/295)
وَالصَّنْعَةَ وَغَيْرَ ذَلِكَ: جَعَلَهُ يَعْلَمُهَا
وَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّعْلِيمِ وَالتَّلْقِينِ: أَنَّ التَّلْقِينَ يَكُونُ فِي الْكَلاَمِ فَقَطْ، وَالتَّعْلِيمَ يَكُونُ فِي الْكَلاَمِ وَغَيْرِهِ، فَهُوَ أَعَمُّ مِنَ التَّلْقِينِ (1) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
تَكَلَّمَ الْفُقَهَاءُ عَنِ التَّلْقِينِ فِي عِدَّةِ مَوَاطِنَ مِنْهَا:
تَلْقِينُ الْمُحْتَضَرِ:
4 - إِذَا احْتُضِرَ الإِْنْسَانُ وَأَصْبَحَ فِي حَالَةِ النَّزْعِ قَبْل الْغَرْغَرَةِ. فَالسُّنَّةُ أَنْ يُلَقَّنَ الشَّهَادَةَ بِحَيْثُ يَسْمَعُهَا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ (2) وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ كَانَ آخِرُ كَلاَمِهِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ دَخَل الْجَنَّةَ (3) وَلاَ يُلَحُّ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهَا مَخَافَةَ أَنْ يَضْجَرَ، فَإِذَا قَالَهَا الْمُحْتَضَرُ مَرَّةً لاَ يُعِيدُهَا الْمُلَقِّنُ، إِلاَّ أَنْ يَتَكَلَّمَ الْمُحْتَضَرُ بِكَلاَمٍ غَيْرِهَا، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.
وَفِي الْمَجْمُوعِ نَقْلاً عَنِ الْمَحَامِلِيِّ وَغَيْرِهِ: يُكَرِّرُهَا عَلَيْهِ ثَلاَثًا، وَلاَ يُزَادُ عَلَى ثَلاَثٍ.
__________
(1) محيط المحيط مادة: " لقن " والفروق في اللغة ص75.
(2)) حديث: " لقنوا موتاكم لا إله إلا الله " أخرجه مسلم (2 / 631 ط الحلبي) .
(3) " من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة " أخرجه أبو داود (3 / 486 ط عزت عبيد دعاس) ، والحاكم (1 / 3510 ط دائرة المعارف العثمانية) . وصححه ووافقه الذهبي.(13/295)
وَلاَ يُسَنُّ زِيَادَةُ " مُحَمَّدٌ رَسُول اللَّهِ " عِنْدَ الْجُمْهُورِ لِظَاهِرِ الأَْخْبَارِ (1) .
وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يُلَقَّنُ الشَّهَادَتَيْنِ بِأَنْ يَقُول الْمُلَقِّنُ: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّهِ " وَدَلِيلُهُمْ: أَنَّ الْمَقْصُودَ تَذَكُّرُ التَّوْحِيدِ، وَذَلِكَ لاَ يَحْصُل إِلاَّ بِالشَّهَادَتَيْنِ (2) .
وَيُسَنُّ أَنْ يَكُونَ الْمُلَقِّنُ غَيْرَ مُتَّهَمٍ بِعَدَاوَةٍ أَوْ حَسَدٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، وَأَنْ يَكُونَ مِنْ غَيْرِ الْوَرَثَةِ، فَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ غَيْرُهُمْ، لَقَّنَهُ أَشْفَقُ الْوَرَثَةِ، ثُمَّ غَيْرُهُ (3) .
التَّلْقِينُ بَعْدَ الْمَوْتِ:
5 - اخْتَلَفُوا فِي تَلْقِينِ الْمَيِّتِ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَبَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَالزَّيْلَعِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ هَذَا التَّلْقِينَ لاَ بَأْسَ بِهِ، فَرَخَّصُوا فِيهِ، وَلَمْ يَأْمُرُوا بِهِ، لِظَاهِرِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ (4) وَقَدْ نُقِل عَنْ طَائِفَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، أَنَّهُمْ أَمَرُوا بِهِ كَأَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ وَغَيْرِهِ، وَصِفَتُهُ أَنْ يَقُول
__________
(1) الطحطاوي على مراقي الفلاح ص305 ط الأميرية ببولاق، والبدائع 1 / 299 ط الأولى 1327 هـ، ومغني المحتاج 1 / 330، والحطاب 2 / 219 ط مكتبة النجاح، والمغني 2 / 450 الرياض.
(2)) ابن عابدين 1 / 570 - 571 ط الأميرية ببولاق، والشرح الصغير 1 / 561 ط دار المعارف بمصر، ومغني المحتاج 1 / 330، والمغني 2 / 450.
(3)) مغني المحتاج 1 / 330.
(4) الحديث سبق تخريجه في الفقرة السابقة.(13/296)
يَا فُلاَنُ بْنُ فُلاَنٍ: اذْكُرْ دِينَكَ الَّذِي كُنْتَ عَلَيْهِ وَقَدْ رَضِيتَ بِاَللَّهِ رَبًّا، وَبِالإِْسْلاَمِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَبِيًّا (1) .
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ لاَ يُلَقَّنُ، إِذِ الْمُرَادُ بِمَوْتَاكُمْ فِي الْحَدِيثِ مَنْ قَرُبَ مِنَ الْمَوْتِ، وَفِي الْمُغْنِي مَعَ الشَّرْحِ الْكَبِيرِ: أَمَّا التَّلْقِينُ بَعْدَ الدَّفْنِ فَلَمْ أَجِدْ فِيهِ عَنْ أَحْمَدَ شَيْئًا، وَلاَ أَعْلَمُ فِيهِ لِلأَْئِمَّةِ قَوْلاً سِوَى مَا رَوَاهُ الأَْثْرَمُ، فَقَال: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا فَعَل هَذَا إِلاَّ أَهْل الشَّامِ حِينَ مَاتَ أَبُو الْمُغِيرَةِ، جَاءَ إِنْسَانٌ فَقَال ذَلِكَ (2) .
وَفِي كُل ذَلِكَ تَفْصِيلٌ، يُنْظَرُ فِي (مَوْتٌ، جِنَازَةٌ، احْتِضَارٌ) .
تَلْقِينُ الْمُقِرِّ فِي الْحُدُودِ:
6 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) أَنَّهُ يُسَنُّ لِلإِْمَامِ أَوْ لِمَنْ يَنُوبُ عَنْهُ أَنْ يُلَقِّنَ الْمُقِرَّ الرُّجُوعَ عَنِ الإِْقْرَارِ فِي الْحُدُودِ دَرْءًا لِلْحَدِّ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ مَاعِزًا لَمَّا أَقَرَّ بَيْنَ يَدَيْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالزِّنَى لَقَّنَهُ الرُّجُوعَ، فَقَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ، أَوْ غَمَزْتَ، أَوْ نَظَرْتَ (3) ، وَقَال لِرَجُلٍ سَرَقَ: أَسَرَقْتَ؟
__________
(1) الزيلعي 1 / 234 ط الأميرية ببولاق، والحطاب 2 / 219، ومغني المحتاج 1 / 330، وفتاوى ابن تيمية 23 / 296.
(2) المغني والشرح الكبير 2 / 385، والفتاوى الهندية 1 / 157، ومغني المحتاج 1 / 330، والزيلعي 1 / 134.
(3) حديث: " لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت؟ " أخرجه البخاري (الفتح 12 / 135 ط السلفية) .(13/296)
مَا إِخَالُكَ سَرَقْتَ؟ (1) .
وَاخْتَارَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ الأَْخْذَ بِالاِسْتِفْسَارِ تَعَلُّقًا بِمَا فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ الْوَارِدِ فِي الزِّنَى (2) .
وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي: (إِقْرَارٌ. حَدٌّ)
تَلْقِينُ الْخَصْمِ وَالشَّاهِدِ:
7 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يُلَقِّنَ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ حُجَّتَهُ؛ لأَِنَّهُ بِذَلِكَ يَكْسِرُ قَلْبَ الْخَصْمِ الآْخَرِ، وَلأَِنَّ فِيهِ إِعَانَةَ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ فَيُوجِبُ التُّهْمَةَ، غَيْرَ أَنَّهُ إِنْ تَكَلَّمَ أَحَدُهُمَا أَسْكَتَ الآْخَرَ لِيَفْهَمَ كَلاَمَهُ (3) .
8 - وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلشَّاهِدِ فَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ تَلْقِينِهِ فِي الْجُمْلَةِ، بَل يَتْرُكُهُ يَشْهَدُ بِمَا عِنْدَهُ، فَإِنْ أَوْجَبَ الشَّرْعُ قَبُولَهُ قَبِلَهُ، وَإِلاَّ رَدَّهُ، وَقَال أَبُو يُوسُفَ: لاَ بَأْسَ بِتَلْقِينِ الشَّاهِدِ بِأَنْ يَقُول: أَتَشْهَدُ بِكَذَا وَكَذَا؟ . وَجْهُ قَوْلِهِ: أَنَّ مِنَ الْجَائِزِ أَنَّ الشَّاهِدَ يَلْحَقُهُ الْحَصْرُ لِمَهَابَةِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ فَيَعْجِزُ عَنْ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ، فَكَانَ التَّلْقِينُ تَقْوِيمًا لِحُجَّةٍ ثَابِتَةٍ فَلاَ بَأْسَ بِهِ (4) .
__________
(1) " قال لرجل سرق: ما إخالك سرقت؟ " أخرجه أبو داود (4 / 543 ط عزت عبيد دعاس) وقال الخطابي: " في إسناده مقال، رواه رجل مجهول ".
(2) بدائع الصنائع 7 / 61 ط دار الكتاب العربي بيروت، والروضة 1 / 145، وكشاف القناع 6 / 145، وكشاف القناع 6 / 103 ط مكتبة النصر، والتبصرة بهامش فتح العلي 2 / 233، 234 ط مصطفى محمد.
(3) البدائع 7 / 10، وابن عابدين 4 / 312، والروضة 11 / 161، وكشاف القناع 6 / 314، والدسوقي 4 / 181.
(4) المصادر السابقة.(13/297)
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
9 - يَتَكَلَّمُ الْفُقَهَاءُ عَنِ التَّلْقِينِ فِي مَوَاطِنَ مُتَعَدِّدَةٍ كَالْجِنَازَةِ، وَالْقَضَاءِ، وَالشَّهَادَةِ، وَالإِْقْرَارِ. وَانْظُرِ التَّفْصِيل فِي تِلْكَ الْمُصْطَلَحَاتِ.(13/297)
تَلَوُّمٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّلَوُّمُ فِي اللُّغَةِ: بِمَعْنَى الاِنْتِظَارِ وَالتَّمَكُّثِ (1) . وَفِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ سَلَمَةَ الْجَرْمِيِّ: وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَلُومُ بِإِسْلاَمِهِمُ الْفَتْحَ " أَيْ: تَنْتَظِرُ (2) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِكَلِمَةِ التَّلَوُّمِ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى (3) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
2 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمُخْتَارِ عِنْدَهُمْ: إِلَى أَنَّ الْمُفْتِيَ يُفْتِي يَوْمَ الشَّكِّ - الْخَوَاصَّ بِالصِّيَامِ تَطَوُّعًا، وَالْعَوَامَّ (4) بِالتَّلَوُّمِ إِلَى مَا قَبْل الزَّوَال،
__________
(1) مختار الصحاح، والمغرب للمطرزي مادة: " لوم "، وابن عابدين 2 / 89.
(2) لسان العرب المحيط مادة: " لوم " وحديث: " وكانت العرب تلوم. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 8 / 22 ط السلفية) .
(3) ابن عابدين 2 / 89، والشرح الصغير 2 / 745.
(4) والفاصل بين الخواص والعوام هو: أن كل من يعلم نية الصوم يوم الشك فهو من الخواص، وإلا فهو من العوام (الفتاوى الهندية 1 / 200، 201) .(13/298)
لاِحْتِمَال ثُبُوتِ الشَّهْرِ، وَبَعْدَ ذَلِكَ لاَ صَوْمَ. وَفِي أَكْل الْمُتَلَوِّمِ نَاسِيًا قَبْل النِّيَّةِ تَفْصِيلٌ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى مَوْطِنِهِ (1) .
وَلاَ يَتَأَتَّى ذَلِكَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، لأَِنَّهُمْ يَرَوْنَ وُجُوبَ تَبْيِيتِ النِّيَّةِ فِي صِيَامِ رَمَضَانَ كَمَا فَصَّلُوهُ فِي مَوْطِنِهِ (2) .
كَذَلِكَ تَعَرَّضَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى الْكَلاَمِ عَلَى التَّلَوُّمِ فِي النَّفَقَاتِ عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنْ عَجْزِ الزَّوْجِ عَنْ أَدَاءِ النَّفَقَةِ لِزَوْجَتِهِ، فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ الأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى جَوَازِ التَّلَوُّمِ وَالإِْمْهَال، وَفِي كَيْفِيَّتِهِ وَمُدَّتِهِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى مُصْطَلَحِ (نَفَقَةٌ (3)) .
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ عَدَمَ لُزُومِ تَأْخِيرِ فَسْخِ النِّكَاحِ فِي حَالَةِ ثُبُوتِ الإِْعْسَارِ (4) .
وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَلاَ يَتَأَتَّى ذَلِكَ عِنْدَهُمْ، لأَِنَّهُمْ لاَ يَرَوْنَ فَسْخَ النِّكَاحِ بِالْعَجْزِ عَنِ النَّفَقَةِ (5) . .
__________
(1) فتح القدير 2 / 247، 448، وابن عابدين 2 / 89، 97، والفتاوى الهندية 1 / 200، 201، والخانية على هامش الفتاوى الهندية 1 / 207.
(2) القوانين الفقهية لابن جزي ص122، والقليوبي 2 / 52، والمغني 3 / 91.
(3) الشرح الصغير 2 / 745، وروضة الطالبين 9 / 77، 78.
(4) المغني 7 / 574.
(5) ابن عابدين 2 / 656.(13/298)
تَمَاثُلٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّمَاثُل مَصْدَرُ: تَمَاثَل، وَهُوَ التَّسَاوِي وَالاِشْتِرَاكُ فِي جَمِيعِ الصِّفَاتِ، وَتَمَاثُل الْعَدَدَيْنِ كَوْنُ أَحَدِهِمَا مُسَاوِيًا لِلآْخَرِ، كَثَلاَثَةٍ ثَلاَثَةٍ، وَأَرْبَعَةٍ أَرْبَعَةٍ (1) . يُقَال: هَذَا مِثْلُهُ وَمِثْلُهُ.
وَلاَ يَخْرُجُ اصْطِلاَحُ الْفُقَهَاءِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّسَاوِي:
2 - التَّسَاوِي هُوَ التَّكَافُؤُ فِي الْمِقْدَارِ، وَالْمُمَاثَلَةُ أَنْ يَسُدَّ أَحَدُ الشَّيْئَيْنِ مَسَدَّ الآْخَرِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّسَاوِي وَالتَّمَاثُل أَنَّ التَّسَاوِيَ يَكُونُ بِالْمِقْدَارِ فَقَطْ، أَمَّا التَّمَاثُل فَهُوَ فِي الْمُتَّفِقَيْنِ (2) .
__________
(1) الفروق اللغوية 2 / 102، والتعريفات للجرجاني، والكليات في المصطلحات ولسان العرب المحيط للعلامة ابن منظور مادة: " مثل "
(2) الفروق في اللغة ص 149.(14/5)
ب - التَّكَافُؤُ:
3 - التَّكَافُؤُ هُوَ الْمُسَاوَاةُ فِي الصِّفَاتِ.
وَكُل شَيْءٍ سَاوَى شَيْئًا حَتَّى يَكُونَ مِثْلَهُ فَهُوَ مُكَافِئٌ لَهُ. وَالْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ أَيْ تَتَسَاوَى فِي الدِّيَةِ وَالْقِصَاصِ (1) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
4 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى وُجُوبِ التَّمَاثُل فِي الْقِصَاصِ وَالدِّيَاتِ وَالرِّبَوِيَّاتِ بِشُرُوطٍ وَتَفْصِيلاَتٍ يُرْجَعُ إِلَيْهَا فِي مُصْطَلَحَاتِهَا. كَمَا أَنَّ الْفُقَهَاءَ تَعَرَّضُوا لِلتَّمَاثُل فِي حِسَابِ الْفَرَائِضِ.
تَمَالُؤٌ
اُنْظُرْ: تَوَاطُؤٌ.
__________
(1) المصباح المنير، والقاموس، واللسان مادة، " كفأ "، والكليات 4 / 183(14/5)
تَمَتُّعٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّمَتُّعُ فِي اللُّغَةِ: الاِنْتِفَاعُ، وَالْمَتَاعُ هُوَ كُل شَيْءٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، وَمَا يُتَبَلَّغُ بِهِ مِنَ الزَّادِ.
وَالْمُتْعَةُ اسْمٌ مِنَ التَّمَتُّعِ، وَمِنْهُ مُتْعَةُ الْحَجِّ وَمُتْعَةُ الطَّلاَقِ، وَنِكَاحُ الْمُتْعَةِ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ يُطْلَقُ التَّمَتُّعُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ:
أَوَّلاً: بِمَعْنَى مُتْعَةِ النِّكَاحِ وَهُوَ الْعَقْدُ عَلَى امْرَأَةٍ إِلَى مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ أَوْ مَجْهُولَةٍ، وَهُوَ بَاطِلٌ بِلاَ خِلاَفٍ بَيْنَ الأَْئِمَّةِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يُرَادُ بِهِ مَقَاصِدُ النِّكَاحِ، وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (مُتْعَةٌ) .
وَثَانِيًا: بِمَعْنَى الْمُتْعَةِ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ، وَهُوَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنْ يَفْعَل أَفْعَال الْعُمْرَةِ أَوْ أَكْثَرَهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَأَنْ يَحُجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُلِمَّ بِأَهْلِهِ إِلْمَامًا صَحِيحًا - وَالإِْلْمَامُ الصَّحِيحُ النُّزُول فِي وَطَنِهِ مِنْ غَيْرِ بَقَاءِ صِفَةِ الإِْحْرَامِ - وَيُحْرِمُ لِلْحَجِّ مِنَ الْحَرَمِ (2) .
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير مادة: " متع "، وابن عابدين 2 / 194، والزيلعي 2 / 44، والبناية 3 / 6.
(2) الزيلعي 2 / 45، والبناية 3 / 130، ومراقي الفلاح مع حاشية الطحطاوي ص402، ومغني المحتاج 1 / 513، وكشاف القناع 2 / 411(14/6)
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ هُوَ أَنْ يُحْرِمَ بِعُمْرَةٍ وَيُتَمِّمَهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، ثُمَّ يَحُجَّ بَعْدَهَا فِي عَامِهِ (1) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ هُوَ أَنْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ مِيقَاتِ بَلَدِهِ أَوْ غَيْرِهِ، وَيَفْرُغَ مِنْهَا، ثُمَّ يُنْشِئَ حَجًّا مِنْ عَامِهِ دُونَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْمِيقَاتِ لِلإِْحْرَامِ بِالْحَجِّ (2) .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ هُوَ أَنْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ مِنْ مِيقَاتِ بَلَدِهِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ مِنْ عَامِهِ مِنْ مَكَّةَ أَوْ قَرِيبٍ مِنْهَا (3) .
وَسُمِّيَ مُتَمَتِّعًا لِتَمَتُّعِهِ بَعْدَ تَمَامِ عُمْرَتِهِ بِالنِّسَاءِ وَالطِّيبِ وَغَيْرِهِمَا مِمَّا لاَ يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ؛ وَلِتَرَفُّقِهِ وَتَرَفُّهِهِ بِسُقُوطِ أَحَدِ السَّفَرَيْنِ (4) .
هَذَا هُوَ مَعْنَى التَّمَتُّعِ الَّذِي يُقَابِل الْقِرَانَ وَالإِْفْرَادَ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الإِْفْرَادُ:
2 - الإِْفْرَادُ فِي الاِصْطِلاَحِ هُوَ أَنْ يُهِل بِالْحَجِّ وَحْدَهُ، وَيُحْرِمَ بِهِ مُنْفَرِدًا (5) .
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (إِفْرادٌ) .
__________
(1) جواهر الإكليل 1 / 172، والفواكه الدواني 1 / 434
(2) مغني المحتاج 1 / 514
(3) كشاف القناع 2 / 411
(4) جواهر الإكليل 1 / 172، والفواكه الدواني 1 / 434، والقليوبي 2 / 128، والمغني 3 / 468.
(5) الاختيار 1 / 158، وحاشية الدسوقي 2 / 28، والقليوبي 2 / 127، وكشاف القناع 2 / 411.(14/6)
ب - الْقِرَانُ:
3 - الْقِرَانُ فِي اللُّغَةِ: اسْمُ مَصْدَرٍ مِنْ قَرَنَ بِمَعْنَى جَمَعَ، وَفِي الاِصْطِلاَحِ هُوَ أَنْ يُهِل بِالْحَجِّ، وَالْعُمْرَةِ مِنَ الْمِيقَاتِ، أَوْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ يُدْخِل عَلَيْهَا الْحَجَّ (1) عَلَى خِلاَفٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (قِرَانٌ)
الْمُفَاضَلَةُ بَيْنَ التَّمَتُّعِ وَالإِْفْرَادِ وَالْقِرَانِ:
4 - قَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: الإِْفْرَادُ أَفْضَل، لِحَدِيثِ جَابِرٍ وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْرَدَ الْحَجَّ (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْقِرَانَ أَفْضَل - وَهَذَا رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ إِذَا سَاقَ الْهَدْيَ - لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} (3) وَإِتْمَامُهُمَا أَنْ يُحْرِمَ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ؛ وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَّ قَارِنًا (4) . وَلِحَدِيثِ أَنَسٍ قَال سَمِعْت رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: لَبَّيْكَ عُمْرَةً وَحَجًّا (5) "، وَلأَِنَّ الْقَارِنَ
__________
(1) الاختيار 1 / 160، والقليوبي 2 / 127، وكشاف القناع 2 / 411، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 28.
(2) الدسوقي 2 / 28، ونهاية المحتاج 3 / 324، والمغني 3 / 276، 277.
(3) سورة البقرة / 196
(4) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم حج قارنا " أخرجه مسلم (2 / 886 - 892 عيسى الحلبي)
(5) حديث: " لبيك عمرة وحجا " أخرجه مسلم (2 / 905 ط عيسى الحلبي)(14/7)
يَجْمَعُ بَيْنَ الْعِبَادَتَيْنِ بِامْتِدَادِ إِحْرَامِهِمَا، وَالْمَشَقَّةُ فِيهِ أَكْثَرُ، فَيَكُونُ الثَّوَابُ فِي الْقِرَانِ أَتَمَّ وَأَكْمَل (1) .
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ - وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ - بِأَنَّ التَّمَتُّعَ أَفْضَل مِنَ الإِْفْرَادِ وَالْقِرَانِ إِذَا لَمْ يَسُقْ هَدْيًا، وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ اخْتِيَارُ التَّمَتُّعِ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَعَائِشَةُ وَكَثِيرٌ مِنَ التَّابِعِينَ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَصْحَابَهُ لَمَّا طَافُوا بِالْبَيْتِ أَنْ يُحِلُّوا وَيَجْعَلُوهَا عُمْرَةً (2) . فَنَقْل النَّبِيِّ إِيَّاهُمْ مِنَ الإِْفْرَادِ وَالْقِرَانِ إِلَى التَّمَتُّعِ يَدُل عَلَى أَفْضَلِيَّةِ التَّمَتُّعِ (3) .
أَرْكَانُ التَّمَتُّعِ:
5 - التَّمَتُّعُ جَمْعٌ بَيْنَ نُسُكَيِ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ بِإِحْرَامَيْنِ: إِحْرَامٍ مِنَ الْمِيقَاتِ لِلْعُمْرَةِ، وَإِحْرَامٍ مِنْ مَكَّةَ لِلْحَجِّ؛ وَلِذَلِكَ فَأَرْكَانُ التَّمَتُّعِ هِيَ أَرْكَانُ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ مَعًا فَيَجِبُ عَلَيْهِ بَعْدَ الإِْحْرَامِ الطَّوَافُ وَالسَّعْيُ لِلْعُمْرَةِ، ثُمَّ بَعْدَ الإِْحْرَامِ لِلْحَجِّ يَجِبُ عَلَيْهِ الإِْتْيَانُ بِأَرْكَانِ وَأَعْمَال الْحَجِّ كَالْمُفْرِدِ، كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي مُصْطَلَحِ: (حَجٌّ) .
وَهُنَاكَ شُرُوطٌ خَاصَّةٌ لِلتَّمَتُّعِ ذَكَرَهَا الْفُقَهَاءُ كَمَا يَأْتِي:
__________
(1) الزيلعي 2 / 40، 41، 42
(2)) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه لما طافوا بالبيت أن يحلوا ويجعلوها عمرة " أخرجه مسلم (2 / 911 ط عيسى الحلبي) من حديث ابن عباس.
(3) المغني 3 / 276، وكشاف القناع 2 / 410، والدسوقي 2 / 27، ونهاية المحتاج 3 / 314، 315(14/7)
شُرُوطُ التَّمَتُّعِ:
أ - تَقْدِيمُ الْعُمْرَةِ عَلَى الْحَجِّ:
6 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُتَمَتِّعَ يُشْتَرَطُ عَلَيْهِ أَنْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ قَبْل الإِْحْرَامِ بِالْحَجِّ، وَيَأْتِيَ بِأَعْمَالِهَا قَبْل أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ، فَلَوْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ مَعًا مِنَ الْمِيقَاتِ أَوْ أَدْخَل الْحَجَّ عَلَى الْعُمْرَةِ قَبْل الشُّرُوعِ فِي أَعْمَالِهِمَا يُصْبِحُ قَارِنًا. إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ قَالُوا: إِذَا طَافَ لِلْعُمْرَةِ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ قَبْل الإِْحْرَامِ بِالْحَجِّ صَحَّ تَمَتُّعُهُ (1) .
ب - أَنْ تَكُونَ الْعُمْرَةُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ:
7 - يُشْتَرَطُ لِلْمُتَمَتِّعِ أَنْ تَكُونَ عُمْرَتُهُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، فَإِنِ اعْتَمَرَ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ وَحَل مِنْهَا قَبْل أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ لاَ يَكُونُ مُتَمَتِّعًا.
وَهَذَا الْقَدْرُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ (2) . إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ أَعْطَوُا الأَْكْثَرَ حُكْمَ الْكُل فَقَالُوا: لَوْ طَافَ لِلْعُمْرَةِ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ يُعْتَبَرُ مُتَمَتِّعًا وَإِنْ وَقَعَ الإِْحْرَامُ وَالأَْشْوَاطُ الثَّلاَثَةُ قَبْل أَشْهُرِ الْحَجِّ (3) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُشْتَرَطُ فِعْل بَعْضِ رُكْنِ
__________
(1) ابن عابدين 23 / 194، والفواكه الدواني 1 / 433، والقليوبي 2 / 228، ومغني المحتاج 1 / 514، وكشاف القناع 2 / 411، والمغني لابن قدامة 3 / 469
(2) الاختيار 2 / 158، وجواهر الإكليل 1 / 172، مغني المحتاج 1 / 514، والمغني 3 / 470.
(3) ابن عابدين 2 / 194، والبناية 3 / 650(14/8)
الْعُمْرَةِ وَلَوْ شَوْطًا مِنَ السَّعْيِ فِي وَقْتِ الْحَجِّ. فَمَنْ أَدَّى شَوْطًا مِنَ السَّعْيِ وَحَل مِنْ عُمْرَتِهِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ فَهُوَ مُتَمَتِّعٌ،
وَإِنْ حَل مِنْ عُمْرَتِهِ قَبْل أَشْهُرِ الْحَجِّ فَلَيْسَ بِمُتَمَتِّعٍ (1) .
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ - فَاشْتَرَطُوا أَنْ يَكُونَ الإِْحْرَامُ بِالْعُمْرَةِ وَأَعْمَالِهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، فَلَوْ أَحْرَمَ بِهَا فِي غَيْرِ أَشْهُرِهِ لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا، وَإِنْ وَقَعَتْ أَفْعَالُهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ؛ لأَِنَّهُ أَتَى بِالإِْحْرَامِ - وَهُوَ نُسُكٌ لاَ تَتِمُّ الْعُمْرَةُ إِلاَّ بِهِ - فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ فَلَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا كَمَا لَوْ طَافَ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ.
وَالْقَوْل الآْخَرُ لِلشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لَوْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ وَأَتَى بِأَفْعَالِهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ يَجِبُ عَلَيْهِ دَمُ التَّمَتُّعِ؛ لأَِنَّ عُمْرَتَهُ فِي الشَّهْرِ الَّذِي يَطُوفُ فِيهِ، وَاسْتِدَامَةُ الإِْحْرَامِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَائِهِ فِيهَا (2) .
ج - كَوْنُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فِي عَامٍ وَاحِدٍ:
8 - يُشْتَرَطُ فِي التَّمَتُّعِ أَنْ تُؤَدَّى الْعُمْرَةُ وَالْحَجُّ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ، فَإِنِ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَلَمْ يَحُجَّ ذَلِكَ الْعَامَ بَل حَجَّ الْعَامَ الْقَابِل فَلَيْسَ بِمُتَمَتِّعٍ وَإِنْ بَقِيَ حَرَامًا إِلَى السَّنَةِ الثَّانِيَةِ وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى
__________
(1) الفوكه الدواني 1 / 345، وجواهر الإكليل 1 / 172.
(2) المهذب 1 / 208، ومغني المحتاج 1 / 514، والمغني لابن قدامة 3 / 470، وكشاف القناع 2 / 413.(14/8)
{فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (1) وَهَذَا يَقْتَضِي الْمُوَالاَةَ بَيْنَهُمَا؛ وَلِمَا رَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ قَال: كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْتَمِرُونَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَإِذَا لَمْ يَحُجُّوا مِنْ عَامِهِمْ ذَلِكَ لَمْ يُهْدُوا.
وَهَذَا الشَّرْطُ مَحَل اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ (2) .
د - عَدَمُ السَّفَرِ بَيْنَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ:
9 - اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْفُقَهَاءِ فِي بَيَانِ هَذَا الشَّرْطِ:
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ طَوَافُ الْعُمْرَةِ كُلُّهُ أَوْ أَكْثَرُهُ وَالْحَجُّ فِي سَفَرٍ وَاحِدٍ، فَإِنْ عَادَ الْمُتَمَتِّعُ إِلَى بَلَدِهِ بَعْدَ الْعُمْرَةِ وَلَمْ يَكُنْ سَاقَ الْهَدْيَ بَطَل تَمَتُّعُهُ؛ لأَِنَّهُ أَلَمَّ بِأَهْلِهِ إِلْمَامًا صَحِيحًا فَانْقَطَعَ حُكْمُ السَّفَرِ الأَْوَّل.
وَلَوْ رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ قَبْل إِتْمَامِ الطَّوَافِ ثُمَّ عَادَ وَحَجَّ، فَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ الطَّوَافِ فِي السَّفَرِ الأَْوَّل لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُهُ فِي الثَّانِي كَانَ مُتَمَتِّعًا (3) .
__________
(1) سورة البقرة / 196.
(2) ابن عابدين 1 / 195، والزيلعي 2 / 45، وجواهر الإكليل 1 / 173، والفواكه الدواني 1 / 434، ومغني المحتاج 1 / 524، والمغني 3 / 471، وكشاف القناع 2 / 413.
(3) الاختيار 2 / 159، وابن عابدين 1 / 195.(14/9)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُشْتَرَطُ عَدَمُ رُجُوعِهِ بَعْدَ عُمْرَتِهِ إِلَى بَلَدِهِ أَوْ إِلَى مِثْل بَلَدِهِ فِي الْبُعْدِ عَنْ مَكَّةَ، فَإِذَا رَجَعَ لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا وَلَوْ كَانَ بَلَدُهُ فِي أَرْضِ الْحِجَازِ. وَأَمَّا إِذَا رَجَعَ إِلَى أَقَل مِنْ بَلَدِهِ ثُمَّ حَجَّ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُتَمَتِّعًا إِلاَّ أَنْ يَكُونَ بَلَدُهُ بَعِيدًا كَتُونِسَ، فَإِنَّ هَذَا إِذَا رَجَعَ إِلَى مِصْرَ بَعْدَ فِعْل عُمْرَتِهِ وَقَبْل حَجِّهِ وَعَادَ وَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ لاَ يَكُونُ مُتَمَتِّعًا (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يُشْتَرَطُ أَنْ لاَ يَعُودَ لإِِحْرَامِ الْحَجِّ إِلَى الْمِيقَاتِ، فَإِنْ رَجَعَ إِلَى الْمِيقَاتِ فَأَحْرَمَ لِلْحَجِّ لاَ يَكُونُ مُتَمَتِّعًا وَلَمْ يَلْزَمْهُ الدَّمُ (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يُشْتَرَطُ أَنْ لاَ يُسَافِرَ بَيْنَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ سَفَرًا بَعِيدًا تُقْصَرُ فِي مِثْلِهِ الصَّلاَةُ.
وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: إِذَا اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ أَقَامَ فَهُوَ مُتَمَتِّعٌ، فَإِنْ خَرَجَ وَرَجَعَ فَلَيْسَ بِمُتَمَتِّعٍ (3) .
هـ - التَّحَلُّل مِنَ الْعُمْرَةِ قَبْل الإِْحْرَامِ بِالْحَجِّ:
10 - يُشْتَرَطُ لِلْمُتَمَتِّعِ أَنْ يَحِل مِنَ الْعُمْرَةِ قَبْل إِحْرَامِهِ بِالْحَجِّ، فَإِنْ أَدْخَل الْحَجَّ عَلَى الْعُمْرَةِ قَبْل حِلِّهِ مِنْهَا فَيَكُونُ قَارِنًا وَلَيْسَ مُتَمَتِّعًا، وَهَذَا
__________
(1) الفواكه الدواني 1 / 434.
(2) المهذب 1 / 208.
(3) المغني لابن قدامة 3 / 471، وكشاف القناع 2 / 413.(14/9)
الشَّرْطُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ قَالُوا: إِنَّ هَذَا الشَّرْطَ لِمَنْ لَمْ يَسُقِ الْهَدْيَ، أَمَّا مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ فَلاَ يَحِل مِنْ إِحْرَامِ الْعُمْرَةِ إِلَى أَنْ يُحْرِمَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ أَوْ قَبْلَهُ لِلْحَجِّ كَمَا يُحْرِمُ أَهْل مَكَّةَ، فَإِذَا حَلَقَ يَوْمَ النَّحْرِ حَل مِنَ الإِْحْرَامَيْنِ (1) .
و أَنْ لاَ يَكُونَ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ:
11 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ دَمَ التَّمَتُّعِ لاَ يَجِبُ عَلَى حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَلاَ تَمَتُّعَ لَهُمْ، إِذْ قَدْ نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} (2) .
وَلأَِنَّ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مِيقَاتُهُمْ مَكَّةُ فَلاَ يَحْصُل لَهُمُ التَّرَفُّهُ بِتَرْكِ أَحَدِ السَّفَرَيْنِ؛ وَلأَِنَّ الْمُتَمَتِّعَ مَنْ تَكُونُ عُمْرَتُهُ مِيقَاتِيَّةً وَحَجَّتُهُ مَكِّيَّةً وَلاَ كَذَلِكَ حَاضِرُو الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ (3) .
__________
(1) الاختيار 1 / 158، 159، وابن عابدين 2 / 194، 195، وجواهر الإكليل 1 / 173، والفواكه الدواني 1 / 434، ومغني المحتاج 1 / 514، والمغني 3 / 472، وكشاف القناع 2 / 413.
(2) سورة البقرة / 196.
(3) الاختيار 1 / 159، والبناية 30 / 657، والفواكه الدواني 1 / 435، والمغني لابن قدامة 3 / 472، 473، ومغني المحتاج 1 / 515(14/10)
الْمُرَادُ بِحَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
12 - صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَهْل الْحَرَمِ وَمَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ، (وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَرَمِ) دُونَ مَسَافَةِ قَصْرٍ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: الْمُرَادُ بِحَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَهْل مَكَّةَ وَمَنْ فِي حُكْمِهِمْ مِنْ أَهْل دَاخِل الْمَوَاقِيتِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: هُمْ مُقِيمُو مَكَّةَ وَمُقِيمُو ذِي طُوًى (1) .
وَالْعِبْرَةُ بِالتَّوَطُّنِ، فَلَوِ اسْتَوْطَنَ الْمَكِّيُّ الْمَدِينَةَ مَثَلاً فَهُوَ آفَاقِيٌّ، وَبِالْعَكْسِ مَكِّيٌّ. فَإِنْ كَانَ لِلْمُتَمَتِّعِ مَسْكَنَانِ أَحَدُهُمَا بَعِيدٌ، وَالآْخَرُ قَرِيبٌ اُعْتُبِرَ فِي كَوْنِهِ مِنَ الْحَاضِرِينَ أَوْ غَيْرِهِمْ كَثْرَةُ إِقَامَتِهِ بِأَحَدِهِمَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ قَوْل الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ (2) . فَإِنِ اسْتَوَتْ إِقَامَتُهُ بِهِمَا فَلَيْسَ بِمُتَمَتِّعٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَاعْتُبِرَ الأَْهْل وَالْمَال عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ بِاعْتِبَارِ الأَْكْثَرِيَّةِ (3) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لَوْ كَانَ لِلْمُتَمَتِّعِ أَهْلاَنِ أَهْلٌ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 197، وجواهر الإكليل 1 / 172، والفواكه الدواني والمهذب 1 / 208، والقليوبي 2 / 128، والمغني لابن قدامة 3 / 473.
(2) ابن عابدين 2 / 195، ومغني المحتاج 1 / 516، والمغني لابن قدامة 3 / 473.
(3) كشاف القناع 2 / 413، ومغني المحتاج 1 / 516، والمغني لابن قدامة 3 / 473.(14/10)
بِمَكَّةَ وَأَهْلٌ بِغَيْرِهَا، فَالْمَذْهَبُ اسْتِحْبَابُ الْهَدْيِ وَلَوْ غَلَبَتْ إِقَامَتُهُ فِي أَحَدِهِمَا (1) .
هَذَا وَإِذَا دَخَل الآْفَاقِيُّ مَكَّةَ مُتَمَتِّعًا نَاوِيًا الإِْقَامَةَ بِهَا بَعْدَ تَمَتُّعِهِ فَعَلَيْهِ دَمٌ اتِّفَاقًا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ (2) .
ز - عَدَمُ إِفْسَادِ الْعُمْرَةِ أَوِ الْحَجِّ:
13 - ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ - أَنَّ مِنْ شُرُوطِ التَّمَتُّعِ عَدَمَ إِفْسَادِ الْعُمْرَةِ أَوِ الْحَجِّ، فَإِذَا أَفْسَدَهَا لاَ يُعْتَبَرُ مُتَمَتِّعًا، وَلَيْسَ عَلَيْهِ دَمُ التَّمَتُّعِ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَحْصُل لَهُ التَّرَفُّهُ بِسُقُوطِ أَحَدِ السَّفَرَيْنِ.
وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ إِذَا أَفْسَدَ الْقَارِنُ وَالْمُتَمَتِّعُ نُسُكَيْهِمَا لَمْ يَسْقُطِ الدَّمُ عَنْهُمَا، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَبِهِ قَال مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ؛ لأَِنَّهُ مَا وَجَبَ فِي النُّسُكِ الصَّحِيحِ وَجَبَ فِي الْفَاسِدِ.
هَذَا وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الدَّمِ أَنْ يَنْوِيَ التَّمَتُّعَ فِي ابْتِدَاءِ الْعُمْرَةِ أَوْ أَثْنَائِهَا، وَلَمْ يَعْتَبِرْهُ الآْخَرُونَ (3) .
14 - وَلاَ يُعْتَبَرُ وُقُوعُ النُّسُكَيْنِ عَنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ، فَلَوْ اعْتَمَرَ لِنَفْسِهِ وَحَجَّ عَنْ غَيْرِهِ أَوْ عَكْسَهُ
__________
(1) الفواكه الدواني 1 / 435، وجواهر الإكليل 1 / 172.
(2) المراجع السابقة، وانظر ابن عابدين 2 / 195، 197، والمهذب 1 / 208، والمغني 3 / 473.
(3) ابن عابدين 2 / 194، والمهذب 1 / 208، ومغني المحتاج 1 / 516، وكشاف القناع 3 / 413، والمغني 3 / 474، 486(14/11)
أَوْ فَعَل ذَلِكَ عَنِ اثْنَيْنِ كَانَ عَلَيْهِ دَمُ التَّمَتُّعِ لِظَاهِرِ الآْيَةِ، وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ. وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: فِي شَرْطِ كَوْنِهِمَا عَنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ تَرَدُّدٌ، أَنْكَرَهُ ابْنُ عَرَفَةَ وَخَلِيلٌ فِي مَنَاسِكِهِ، وَقَال ابْنُ الْحَاجِبِ: الأَْشْهَرُ اشْتِرَاطُهُ (1) .
هَذَا وَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ هَذِهِ الشُّرُوطَ مُعْتَبَرَةٌ لِوُجُوبِ الدَّمِ لاَ لِكَوْنِهِ مُتَمَتِّعًا، وَلِهَذَا يَصِحُّ التَّمَتُّعُ وَالْقِرَانُ مِنَ الْمَكِّيِّ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ. وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَرِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهَا تُشْتَرَطُ لِكَوْنِهِ مُتَمَتِّعًا، فَلَوْ فَاتَ شَرْطٌ لاَ يَكُونُ مُتَمَتِّعًا (2) .
سَوْقُ الْهَدْيِ هَل يَمْنَعُ التَّحَلُّل؟
15 - قَال مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: الْمُتَمَتِّعُ إِذَا فَرَغَ مِنْ أَعْمَال الْعُمْرَةِ يَتَحَلَّل، سَاقَ الْهَدْيَ أَمْ لَمْ يَسُقْ (3) .
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ لِلْمُتَمَتِّعِ إِنْ شَاءَ أَنْ يَسُوقَ الْهَدْيَ - وَهُوَ أَفْضَل - وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ إِذَا دَخَل مَكَّةَ طَافَ وَسَعَى لِلْعُمْرَةِ وَلاَ يَتَحَلَّل، ثُمَّ يُحْرِمُ بِالْحَجِّ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ أَوْ قَبْلَهُ كَمَا يُحْرِمُ أَهْل مَكَّةَ. لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي
__________
(1) ابن عابدين 2 / 194، 195، ومغني المحتاج 1 / 516، وجواهر الإكليل 1 / 173، وكشاف القناع 2 / 413، 414.
(2) مغني المحتاج 1 / 516، والمغني لابن قدامة 474.
(3) الدسوقي 8 / 87، والقرطبي 2 / 476، ومغني المحتاج 1 / 516.(14/11)
مَا اسْتَدْبَرْتُ لَمَا سُقْتُ الْهَدْيَ وَلَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً وَتَحَلَّلْتُ مِنْهَا (1) وَهَذَا يَنْفِي التَّحَلُّل عِنْدَ سَوْقِ الْهَدْيِ فَإِذَا حَلَقَ يَوْمَ النَّحْرِ حَل مِنَ الإِْحْرَامَيْنِ وَذَبَحَ دَمَ التَّمَتُّعِ. وَعَدَمُ التَّحَلُّل لِمَنْ يَسُوقُ الْهَدْيَ هُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ أَيْضًا فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ (2) . لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ كَانَ مِنْكُمْ أَهْدَى فَإِنَّهُ لاَ يَحِل مِنْ شَيْءٍ مِنْهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَجَّهُ (3) ".
وُجُوبُ الْهَدْيِ فِي التَّمَتُّعِ:
16 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ الْهَدْيُ عَلَى الْمُتَمَتِّعِ وَذَلِكَ بِنَصِّ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ
قَال تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (4) :
وَالْهَدْيُ الْوَاجِبُ شَاةٌ أَوْ بَقَرَةٌ أَوْ بَعِيرٌ أَوْ سُبُعُ الْبَقَرَةِ أَوِ الْبَعِيرِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ. وَقَال مَالِكٌ هُوَ بَدَنَةٌ وَلاَ يَصِحُّ سُبُعُ بَعِيرٍ أَوْ بَقَرَةٍ.
__________
(1) حديث: " لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقطت الهدي ولجعلتها عمرة وتحللت منها ". أخرجه مسلم (2 / 889 ط عيسى الحلبي) .
(2) البناية على الهداية 3 / 645، والاختيار 1 / 159، والمغني لابن قدامة 3 / 390، 391.
(3) حديث: " من كان منكم أهدى فإنه لا يحل من شيء منه حتى يقضي حجه ". أخرجه البخاري (3 / 433 ط السلفية) . ومسلم (2 / 901 ط عيسى الحلبي) .
(4) سورة البقرة / 196.(14/12)
وَوَقْتُ وُجُوبِهِ إِحْرَامُهُ بِالْحَجِّ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ. وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَهُمْ وَقْتُ وُجُوبِهِ الْوَقْتُ الَّذِي يَتَعَيَّنُ فِيهِ نَحْرُهُ (1) . وَوَقْتُ ذَبْحِهِ وَإِخْرَاجِهِ يَوْمُ النَّحْرِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَيَجُوزُ ذَبْحُهُ بَعْدَ أَعْمَال الْعُمْرَةِ وَلَوْ قَبْل الإِْحْرَامِ بِالْحَجِّ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ إِنْ قَدَّمَ الْمُتَمَتِّعُ الْهَدْيَ قَبْل الْعَشْرِ طَافَ وَسَعَى وَنَحَرَ هَدْيَهُ، وَإِنْ قَدَّمَ فِي الْعَشْرِ لَمْ يَنْحَرْ إِلاَّ يَوْمَ النَّحْرِ (2) .
وَلِلتَّفْصِيل اُنْظُرْ مُصْطَلَحَ: (هَدْيٌ) .
بَدَل الْهَدْيِ:
17 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُتَمَتِّعَ إِذَا لَمْ يَجِدْ الْهَدْيَ بِأَنْ فَقَدَهُ أَوْ ثَمَنَهُ أَوْ وَجَدَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ مِثْلِهِ، يَنْتَقِل إِلَى صِيَامِ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ، وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعَ؛ وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} (3) .
وَتُعْتَبَرُ الْقُدْرَةُ فِي مَوْضِعِهِ، فَمَتَى عَدِمَهُ فِي
__________
(1) فتح القدير 2 / 417، وجواهر الإكليل 1 / 173، والحطاب 2 / 60، 63، ومغني المحتاج 1 / 515 - 516، والمغني لابن قدامة 3 / 469، 475.
(2) المراجع السابقة.
(3) سورة البقرة / 196.(14/12)
مَوْضِعِهِ جَازَ لَهُ الاِنْتِقَال إِلَى الصِّيَامِ وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْهَدْيِ فِي بَلَدِهِ (1) .
هَذَا وَلاَ يَلْزَمُ التَّتَابُعُ فِي الصِّيَامِ بَدَل الْهَدْيِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ. قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لاَ نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا. وَيُنْدَبُ تَتَابُعُ الثَّلاَثَةِ، وَكَذَا السَّبْعَةُ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ مِنْهُمُ الشَّافِعِيَّةُ (2) .
وَقْتُ الصِّيَامِ وَمَكَانُهُ:
أَوَّلاً - صِيَامُ الأَْيَّامِ الثَّلاَثَةِ:
18 - جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى أَنَّ الْوَقْتَ الْمُخْتَارَ لِصِيَامِ الثَّلاَثَةِ هُوَ أَنْ يَصُومَهَا مَا بَيْنَ إِحْرَامِهِ بِالْحَجِّ وَيَوْمِ عَرَفَةَ، وَيَكُونُ آخِرُ أَيَّامِهَا يَوْمَ عَرَفَةَ، وَعَلَى ذَلِكَ يُسْتَحَبُّ لَهُ تَقْدِيمُ الإِْحْرَامِ بِالْحَجِّ قَبْل يَوْمِ التَّرْوِيَةِ لِيُكْمِل الثَّلاَثَةَ يَوْمَ عَرَفَةَ؛ لأَِنَّ الصَّوْمَ بَدَل الْهَدْيِ فَيُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُهُ إِلَى آخِرِ وَقْتِهِ رَجَاءَ أَنْ يَقْدِرَ عَلَى الأَْصْل.
وَيُسْتَحَبُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنْ يَكُونَ الثَّلاَثَةُ قَبْل يَوْمِ عَرَفَةَ؛ لأَِنَّ صَوْمَ يَوْمِ عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ غَيْرُ مُسْتَحَبٍّ (3) .
__________
(1) البناية على الهداية 3 / 635، 636، والفواكه الدواني 1 / 433، ومغني المحتاج 1 / 516، والمغني 3 / 476.
(2) المراجع السابقة، وانظر مغني المحتاج 1 / 517، والمغني 3 / 478، وجواهر الإكليل 1 / 200 - 201.
(3) البناية على الهداية 3 / 623، والفواكه الدواني 1 / 433، ومغني المحتاج 1 / 516، 517 والمغني لابن قدامة 3 / 476، 477.(14/13)
وَلاَ يَجُوزُ تَقْدِيمُ الثَّلاَثَةِ أَوْ يَوْمٍ مِنْهَا عَلَى الإِْحْرَامِ بِالْحَجِّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ قَوْل زُفَرَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} (1) وَلأَِنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ فَلاَ يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا عَلَى وَقْتِ وُجُوبِهَا كَسَائِرِ الصِّيَامِ الْوَاجِبِ؛ وَلأَِنَّ مَا قَبْلَهُ لاَ يَجُوزُ فِيهِ الدَّمُ فَلَمْ يَجُزْ بَدَلُهُ (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى جَوَازِ تَقْدِيمِ الثَّلاَثَةِ عَلَى الإِْحْرَامِ بِالْحَجِّ بَعْدَ الإِْحْرَامِ بِالْعُمْرَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ إِذَا حَل مِنَ الْعُمْرَةِ. وَالدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ أَنَّ إِحْرَامَ الْعُمْرَةِ أَحَدُ إِحْرَامَيِ التَّمَتُّعِ فَجَازَ الصَّوْمُ بَعْدَهُ كَإِحْرَامِ الْحَجِّ. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} (3) فَالْمُرَادُ بِهِ وَقْتُهُ أَوْ أَشْهُرُ الْحَجِّ؛ لأَِنَّ نَفْسَ الْحَجِّ - وَهِيَ أَفْعَالٌ مَعْلُومَةٌ - لاَ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا لِفِعْلٍ آخَرَ وَهُوَ الصَّوْمُ.
وَأَمَّا تَقْدِيمُ الصَّوْمِ عَلَى إِحْرَامِ الْعُمْرَةِ فَلاَ يَجُوزُ اتِّفَاقًا لِعَدَمِ وُجُودِ السَّبَبِ (4) . وَإِنْ فَاتَهُ الصَّوْمُ حَتَّى أَتَى يَوْمُ النَّحْرِ صَامَ أَيَّامَ مِنًى عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ - وَهُوَ الظَّاهِرُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - وَقَال
__________
(1) سورة البقرة / 196.
(2) المراجع السابقة.
(3) سورة البقرة / 196.
(4) البناية على الهداية 3 / 621، 622، والفواكه الدواني 1 / 433، والمغني لابن قدامة 3 / 477، وانظر المراجع السابقة.(14/13)
الشَّافِعِيَّةُ: وَهُوَ رِوَايَةٌ أُخْرَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَصُومُهَا بَعْدَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ؛ لأَِنَّهُ صَوْمٌ مُؤَقَّتٌ فَيُقْضَى، وَالأَْظْهَرُ عِنْدَهُمْ أَنْ يُفَرِّقَ فِي قَضَائِهَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ السَّبْعَةِ بِقَدْرِ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ (يَوْمُ النَّحْرِ وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ) وَمُدَّةُ إِمْكَانِ السَّيْرِ إِلَى أَهْلِهِ عَلَى الْعَادَةِ الْغَالِبَةِ (1) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ يُجْزِئُهُ إِلاَّ الدَّمُ، لِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الصَّوْمِ فِي هَذِهِ الأَْيَّامِ؛ وَلأَِنَّ الصَّوْمَ بَدَلٌ عَنِ الْهَدْيِ وَلاَ نَظِيرَ لَهُ فِي الشَّرْعِ؛ وَلأَِنَّ الإِْبْدَال ثَبَتَ شَرْعًا عَلَى خِلاَفِ الْقِيَاسِ؛ لأَِنَّهُ لاَ مُمَاثَلَةَ بَيْنَ الدَّمِ وَالصَّوْمِ فَلاَ يَثْبُتُ إِلاَّ بِإِثْبَاتِ الشَّارِعِ، وَالنَّصُّ خَصَّهُ بِوَقْتِ الْحَجِّ، فَإِذَا فَاتَ وَقْتُهُ فَاتَ هُوَ أَيْضًا فَيَظْهَرُ حُكْمُ الأَْصْل وَهُوَ الدَّمُ عَلَى مَا كَانَ (2)
ثَانِيًا - صِيَامُ الأَْيَّامِ السَّبْعَةِ:
19 - يَصُومُ الْمُتَمَتِّعُ سَبْعَةَ أَيَّامٍ إِذَا رَجَعَ مِنَ الْحَجِّ لِيُكْمِل الْعَشَرَةَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} (3) ، وَالأَْفْضَل أَنْ يَصُومَ السَّبْعَةَ بَعْدَ رُجُوعِهِ إِلَى أَهْلِهِ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا فَلْيَصُمْ ثَلاَثَةَ
__________
(1) الفواكه الدواني 1 / 433، ومغني المحتاج 1 / 517، والمغني 3 / 478، 479.
(2) البناية شرح الهداية 3 / 623، 624.
(3) سورة البقرة / 196.(14/14)
أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةً إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ (1)
وَيَجُوزُ صِيَامُهَا بِمَكَّةَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الْحَجِّ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، إِذِ الْمُرَادُ مِنَ الرُّجُوعِ الْفَرَاغُ مِنَ الْحَجِّ؛ لأَِنَّهُ سَبَبُ الرُّجُوعِ إِلَى أَهْلِهِ، فَكَانَ الأَْدَاءُ بَعْدَ السَّبَبِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْظْهَرِ: لاَ يَجُوزُ صِيَامُهَا إِلاَّ بَعْدَ الرُّجُوعِ إِلَى وَطَنِهِ وَأَهْلِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} (3) ، فَلاَ يَجُوزُ صَوْمُهَا فِي الطَّرِيقِ أَوْ فِي مَكَّةَ إِلاَّ إِذَا أَرَادَ الإِْقَامَةَ بِهَا (4) .
ثَالِثًا - الْقُدْرَةُ عَلَى الْهَدْيِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الصِّيَامِ:
20 - مَنْ دَخَل فِي الصِّيَامِ ثُمَّ قَدَرَ عَلَى الْهَدْيِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ مِنَ الصَّوْمِ إِلَى الْهَدْيِ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ، وَهَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (5) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ وَجَدَ الْهَدْيَ بَعْدَ صَوْمِ يَوْمَيْنِ بَطَل صَوْمُهُ، وَيَجِبُ الْهَدْيُ، وَبَعْدَ التَّحَلُّل
__________
(1) حديث: " فمن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله ". أخرجه البخاري (3 / 539 ط السلفية) ، ومسلم (2 / 801 ط عيسى الحلبي) .
(2) البناية على الهداية 3 / 622، 623، والفواكه الدواني 1 / 433، والمغني لابن قدامة 3 / 477.
(3) سورة البقرة / 196.
(4) مغني المحتاج 1 / 517.
(5) مغني المحتاج 1 / 518، والمغني لابن قدامة 3 / 480، 481.(14/14)
لاَ يَجِبُ كَالْمُتَيَمِّمِ إِذَا وَجَدَ الْمَاءَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الصَّلاَةِ (1) .
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ فَصَّلُوا فِي الْمَوْضُوعِ وَقَالُوا: إِنْ أَيْسَر بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الصَّوْمِ وَقَبْل إِكْمَال الْيَوْمِ يَجِبُ عَلَيْهِ الرُّجُوعُ لِلْهَدْيِ، وَإِنْ أَيْسَر بَعْدَ إِتْمَامِ الْيَوْمِ وَقَبْل إِكْمَال الثَّالِثِ يُسْتَحَبُّ لَهُ الرُّجُوعُ، وَإِنْ أَيْسَر بَعْدَ الثَّالِثِ يَجُوزُ لَهُ التَّمَادِي عَلَى الصَّوْمِ وَالرُّجُوعُ (2) .
تِمْثَالٌ
اُنْظُرْ: تَصْوِيرٌ
__________
(1) البناية على الهداية 3 / 625.
(2) الفواكه الدواني 1 / 433.(14/15)
تَمْرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّمْرُ: هُوَ الْيَابِسُ مِنْ ثَمَرِ النَّخْل يُتْرَكُ عَلَى النَّخْل بَعْدَ إرْطَابِهِ حَتَّى يَجِفَّ أَوْ يُقَارِبَ الْجَفَافَ، ثُمَّ يُقْطَعُ وَيُتْرَكُ فِي الشَّمْسِ حَتَّى يَيْبَسَ. وَجَمْعُهُ تُمُورٌ وَتُمْرَانٌ، وَيُرَادُ بِهِ الأَْنْوَاعُ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الرُّطَبُ:
2 - هُوَ ثَمَرُ النَّخْل إِذَا أَدْرَكَ وَنَضِجَ قَبْل أَنْ يَتَتَمَّرَ (2) .
ب - الْبُسْرُ:
3 - هُوَ ثَمَرُ النَّخْل إِذَا أَخَذَ فِي الطُّول وَالتَّلَوُّنِ إِلَى الْحُمْرَةِ أَوِ الصُّفْرَةِ (3) .
ج - الْبَلَحُ:
4 - هُوَ ثَمَرُ النَّخْل مَا دَامَ أَخْضَر قَرِيبًا إِلَى
__________
(1) المصباح المنير، ومختار الصحيح، والمغرب للمطرزي مادة: " تمر ".
(2) المصباح المنير والمغرب للمطرزي مادة: " رطب ".
(3) المصباح المنير مادة: " يسر ".(14/15)
الاِسْتِدَارَةِ، إِلَى أَنْ يَغْلُظَ النَّوَى، وَأَهْل الْبَصْرَةِ يُسَمُّونَهُ الْخِلاَل. قَال ابْنُ الأَْثِيرِ فِي بَيَانِ تَسَلْسُل ثَمَرِ النَّخْل: إِنَّ أَوَّلَهُ طَلْعٌ، ثُمَّ خِلاَلٌ، ثُمَّ بَلَحٌ، ثُمَّ بُسْرٌ، ثُمَّ رُطَبٌ، ثُمَّ تَمْرٌ (1) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
5 - يُفَرِّقُ الْفُقَهَاءُ بَيْنَ التَّمْرِ وَالرُّطَبِ، وَكَذَلِكَ بَيْنَ الرُّطَبِ وَالْبُسْرِ وَالْبَلَحِ فِي بَعْضِ الأَْحْكَامِ الْفِقْهِيَّةِ: كَاشْتِرَاطِ وَصْفِ التَّمْرِ بِالْجَدِيدِ وَالْعَتِيقِ لِصِحَّةِ السَّلَمِ، وَعَدَمِ اشْتِرَاطِ وَصْفِ الرُّطَبِ بِهِمَا (2) . وَتَفْضِيل تَقْدِيمِ الرُّطَبِ عَلَى التَّمْرِ فِي الإِْفْطَارِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (3) .
فَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ اسْتِحْبَابَ الإِْفْطَارِ عَلَى التَّمْرِ، وَيَكُونُ تَرْتِيبُهُ فِي الأَْفْضَلِيَّةِ بَعْدَ الرُّطَبِ وَقَبْل الْمَاءِ (4) . لِحَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَال: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُفْطِرُ عَلَى رُطَبَاتٍ قَبْل أَنْ يُصَلِّيَ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ رُطَبَاتٌ فَعَلَى تَمَرَاتٍ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ حَسَا حَسَوَاتٍ
__________
(1) المصباح المنير، ولسان العرب مادة " بلح ".
(2) روضة الطالبين 4 / 23، والمغني 4 / 311، 312.
(3) حاشية الجمل على شرح المنهج 2 / 328، والقليوبي 2 / 61، وكشاف القناع 2 / 332، 333.
(4) حاشية الجمل على شرح المنهج 2 / 328، والقليوبي 2 / 61، وروضة الطالبين 2 / 368، وكشاف القناع 2 / 333، ونيل المآرب 1 / 275.(14/16)
مِنْ مَاءٍ (1) وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يُسْتَحَبُّ الإِْفْطَارُ عَلَى شَيْءٍ حُلْوٍ مُطْلَقًا سَوَاءٌ أَكَانَ تَمْرًا أَمْ غَيْرَهُ (2) .
وَفِي الْحَلِفِ كَمَا إِذَا حَلَفَ لاَ يَأْكُل هَذَا الرُّطَبَ فَصَارَ تَمْرًا فَأَكَلَهُ، أَوْ حَلَفَ لاَ يَأْكُل مِنْ هَذَا الْبُسْرِ فَصَارَ رُطَبًا فَأَكَلَهُ، أَوْ كَمَا إِذَا حَلَفَ أَنَّهُ لاَ يَأْكُل تَمْرًا، فَأَكَل بُسْرًا، أَوْ بَلَحًا، أَوْ رُطَبًا. فَفِي كُلٍّ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مَوَاطِنِهِ (3) ، وَمُصْطَلَحَاتِ: (سَلَمٌ) ، (صَوْمٌ) ، (أَيْمَانٌ) .
وَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ عِنْدَ الأَْئِمَّةِ الثَّلاَثَةِ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَبِهِ قَال سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَاللَّيْثُ وَإِسْحَاقُ، وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ ذَلِكَ. وَاسْتَثْنَى الأَْئِمَّةُ الثَّلاَثَةُ بَيْعَ الْعَرَايَا، فَأَجَازُوهُ بِشُرُوطِهِ. وَلِتَفْصِيل ذَلِكَ يُرْجَعُ إِلَى مَوَاطِنِهِ (4) . وَإِلَى مُصْطَلَحَاتِ (بَيْعٌ) ، (رِبًا) .، (عَرَايَا) .
6 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ التَّمْرَ مِمَّا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَاخْتَلَفُوا فِي نِصَابِهِ، فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ
__________
(1) حديث " كان يفطر على رطبات قبل أن يصلي. . . ". / 50 أخرجه أبو داود (2 / 764 تحقيق عزت عبيد دعاس) ، والترمذي (3 / 79 ط الحلبي) وحسنة.
(2) عمدة القاري 5 / 290.
(3) فتح القدير 4 / 396، 397، والقوانين الفقهية لابن جزي ص 168، وروضة الطالبين 11 / 43، 44، والمغني 8 / 800 وما بعدها، وشرح المحلي وحاشية القليوبي 4 / 283.
(4) فتح القدير 6 / 147، 148، وابن عابدين 4 / 185، والقوانين الفقهية لابن جزي ص 258، وروضة الطالبين 3 / 377، والمغني 4 / 16.(14/16)
وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَسَائِرُ أَهْل الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ النِّصَابَ مُعْتَبَرٌ فِي التَّمْرِ كَغَيْرِهِ مِنَ الثِّمَارِ، وَهُوَ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ، وَقَال مُجَاهِدٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمَنْ تَابَعَهُ: تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي قَلِيل ذَلِكَ وَكَثِيرِهِ (1) . وَفِي الْكَلاَمِ عَنْ بَاقِي مَسَائِل زَكَاةِ التَّمْرِ تَفْصِيلٌ يُرْجَعُ إِلَى مَوْطِنِهِ وَإِلَى مُصْطَلَحِ " زَكَاةٌ ".
7 - وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ التَّمْرَ يُجْزِئُ فِي الْفِطْرَةِ وَمِقْدَارُهَا مِنْهُ صَاعٌ، وَفِي فَضْل التَّمْرِ عَلَى غَيْرِهِ فِي إِخْرَاجِ زَكَاةِ الْفِطْرِ خِلاَفٌ يُنْظَرُ فِي بَابِ الزَّكَاةِ عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنْ إِخْرَاجِ زَكَاةِ الْفِطْرِ (2) .
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
تَعَرَّضَ الْفُقَهَاءُ لِلْكَلاَمِ عَلَى التَّمْرِ فِي الْبَيْعِ، وَالرِّبَا، وَالسَّلَمِ، وَالْيَمِينِ، وَيُرْجَعُ فِيهِ إِلَى مَوَاطِنِهِ (3) وَإِلَى مُصْطَلَحَاتِ: (بَيْعٌ) ، (سَلَمٌ) ، (يَمِينٌ) .
__________
(1) فتح القدير 2 / 186، 187، والقواني الفقهية لابن جزي ص110، وروضة الطالبين 2 / 231، 233، والمغني 2 / 691، 692، 695.
(2) فتح القدير 2 / 225، والقوانين الفقهية لابن جزي ص117، وروضة الطالبين 2 / 303، ونيل المآرب 1 / 257.
(3) فتح القدير 4 / 396، 397، 5 / 470 و6 / 147، 148، 205 وابن عابدين 4 / 110، والقوانين الفقهية لابن جزي ص 259، وروضة الطالبين 3 / 560، 561، 377، 4 / 23، 11 / 43، 44، والمغني 4 / 13، 311، 312 و8 / 800 وما بعدها.(14/17)
تَمْرِيضٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّمْرِيضُ لُغَةً: مَصْدَرُ مَرَّضَ، وَهُوَ أَنْ يَقُومَ عَلَى الْمَرِيضِ وَيَلِيَهُ فِي مَرَضِهِ (1) .
وَقِيل: التَّمْرِيضُ: حُسْنُ الْقِيَامِ عَلَى الْمَرِيضِ، وَمِنْهُ قَوْل عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: لَمَّا ثَقُل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاشْتَدَّ وَجَعُهُ اسْتَأْذَنَ أَزْوَاجَهُ فِي أَنْ يُمَرَّضَ فِي بَيْتِي فَأَذِنَّ لَهُ (2) .
وَتَمْرِيضُ الأُْمُورِ: تَوْهِينُهَا، وَأَنْ لاَ تَحْكُمَهَا (3) .
وَالتَّمْرِيضُ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ: تَضْعِيفُ الرَّاوِي أَوْ تَضْعِيفُ الْحَدِيثِ.
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِكَلِمَةِ التَّمْرِيضِ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
التَّطْبِيبُ وَالْمُدَاوَاةُ:
2 - مَعْنَى التَّطْبِيبِ أَوِ الْمُدَاوَاةِ عِلاَجُ الْمَرَضِ (4) .
__________
(1) المغرب للمطرزي، ولسان العرب المحيط، مادة: " مرض ".
(2) فتح الباري 1 / 302، وعمدة القاري 6 / 619.
(3) لسان العرب المحيط، ومتن اللغة، مادة: " مرض ".
(4) الصحاح في اللغة والعلوم، ولسان العرب، والمصباح المنير، ومختار الصحاح مادة: " طيب ".(14/17)
وَبَيْنَ التَّمْرِيضِ وَكُلٍّ مِنَ التَّطْبِيبِ وَالْمُدَاوَاةِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ وَجْهِيٌّ، يَجْتَمِعَانِ فِي مِثْل إِجْرَاءِ الْعَمَلِيَّةِ الْجِرَاحِيَّةِ لِلْمَرِيضِ مَعَ الْقِيَامِ عَلَى رِعَايَتِهِ أَثْنَاءَ ذَلِكَ. وَيَنْفَرِدُ التَّطْبِيبُ بِوَصْفِ الْعِلاَجِ بِدُونِ الْقِيَامِ عَلَى الرِّعَايَةِ، وَيَنْفَرِدُ التَّمْرِيضُ بِحُسْنِ الْقِيَامِ عَلَى شُؤُونِ الْمَرِيضِ دُونَ مُحَاوَلَةِ عِلاَجِهِ.
حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ:
3 - صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّ التَّمْرِيضَ فَرْضُ كِفَايَةٍ، فَيَقُومُ بِهِ الْقَرِيبُ، ثُمَّ الصَّاحِبُ، ثُمَّ الْجَارُ، ثُمَّ سَائِرُ النَّاسِ (1) .
الرُّخَصُ الْمُتَّصِلَةُ بِالتَّمْرِيضِ:
أ - التَّخَلُّفُ عَنِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ:
4 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى سُقُوطِ وُجُوبِ الْجُمُعَةِ، وَجَوَازِ التَّخَلُّفِ عَنِ الْجَمَاعَةِ لِمَنْ يَقُومُ بِالتَّمْرِيضِ لِقَرِيبٍ أَوْ غَيْرِهِ.
قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: ثَبَتَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا " اسْتَصْرَخَ عَلَى سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ بَعْدَ ارْتِفَاعِ الضُّحَى فَأَتَاهُ بِالْعَقِيقِ وَتَرَكَ الْجُمُعَةَ.
وَنُقِل هَذَا عَنْ عَطَاءٍ، وَالْحَسَنِ، وَالأَْوْزَاعِيِّ أَيْضًا (2) .
__________
(1) القوانين الفقهية ص438، وروضة الطالبين 2 / 35، 36.
(2) ابن عابدين 1 / 374، 547، والقوانين الفقهية ص73، 84، والحطاب 2 / 82، 83، وروضة الطالبين 1 / 345، 2 / 35، والمغني 1 / 633، 2 / 340.(14/18)
ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي التَّفَاصِيل: فَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ الْمُمَرِّضَ - وَهُوَ مِنْ يَقُومُ بِشُؤُونِ الْمَرِيضِ - يُعْذَرُ مِنَ الْخُرُوجِ إِلَى الْجُمُعَةِ إِنْ بَقِيَ الْمَرِيضُ ضَائِعًا بِخُرُوجِهِ فِي الأَْصَحِّ، أَوْ حَصَل لَهُ بِغَيْبَةِ الْمُمَرِّضِ إِلَى الْجَمَاعَةِ الْمَشَقَّةُ وَالْوَحْشَةُ (1) .
وَقَيَّدَ الْمَالِكِيَّةُ جَوَازَ التَّخَلُّفِ عَنِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ: بِكَوْنِ التَّمْرِيضِ لِقَرِيبٍ، وَأَنْ لاَ يَكُونَ هُنَاكَ مَنْ يَقُومُ بِهِ سِوَاهُ. وَخِيفَ عَلَيْهِ الْمَوْتُ
كَالزَّوْجَةِ، وَالْبِنْتِ، أَوْ أَحَدِ الأَْبَوَيْنِ (2) .
وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ فَصَّلُوا الْكَلاَمَ فِي جَوَازِ التَّخَلُّفِ عَنِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَاتِ بِالتَّمْرِيضِ فَقَالُوا: إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِلْمَرِيضِ مَنْ يَتَعَهَّدُهُ وَيَقُومُ بِأَمْرِهِ أَوْ لاَ: فَإِنْ كَانَ الْمُمَرِّضُ قَرِيبًا وَالْمَرِيضُ مُشْرِفٌ عَلَى الْمَوْتِ، أَوْ غَيْرُ مُشْرِفٍ لَكِنَّهُ يَسْتَأْنِسُ بِهِ، فَيُرَخَّصُ لِلْمُمَرِّضِ التَّخَلُّفُ عَنِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ وَيَحْضُرُ عِنْدَهُ، وَإِلاَّ فَلاَ رُخْصَةَ لَهُ فِي التَّخَلُّفِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَمِثْل الْقَرِيبِ عِنْدَهُمُ الزَّوْجَةُ وَكُل مَنْ لَهُ مُصَاهَرَةٌ، وَالصَّدِيقُ. وَإِنْ كَانَ الْمَرِيضُ أَجْنَبِيًّا - وَلَهُ مَنْ يَتَعَهَّدُهُ - فَلاَ رُخْصَةَ لِلْمُمَرِّضِ فِي التَّخَلُّفِ بِحَالٍ عَنِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ.
أَمَّا إِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَرِيضِ مُتَعَهِّدٌ، أَوْ كَانَ لَكِنَّهُ لَمْ يَفْرُغْ لِخِدْمَتِهِ، لاِشْتِغَالِهِ بِشِرَاءِ الأَْدْوِيَةِ، فَقَال
__________
(1) ابن عابدين 1 / 374، 547.
(2) القوانين الفقهية ص73، 84، والحطاب 2 / 182، 183.(14/18)
إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: إِنْ كَانَ يَخَافُ عَلَيْهِ الْهَلاَكَ لَوْ غَابَ عَنْهُ فَهُوَ عُذْرٌ، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ الْقَرِيبِ وَالأَْجْنَبِيِّ؛ لأَِنَّ إِنْقَاذَ الْمُسْلِمِ مِنَ الْهَلاَكِ فَرْضُ كِفَايَةٍ. وَإِنْ كَانَ يَلْحَقُهُ ضَرَرٌ ظَاهِرٌ لاَ يَبْلُغُ مَبْلَغَ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ فَفِيهِ أَوْجُهٌ: الأَْصَحُّ أَنَّهُ عُذْرٌ أَيْضًا، وَالثَّانِي: لاَ، وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ عُذْرٌ فِي الْقَرِيبِ دُونَ الأَْجْنَبِيِّ (1) .
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَيَقْرَبُ قَوْلُهُمْ مِمَّا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ؛ لأَِنَّهُمْ يَعْتَبِرُونَ التَّمْرِيضَ عُذْرًا فِي التَّخَلُّفِ عَنِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَاتِ إِذَا كَانَ الْمَرِيضُ قَرِيبًا أَوْ رَفِيقًا، وَكَانَ الْمُمَرِّضُ لَوْ تَشَاغَل بِالْجُمُعَةِ أَوِ الْجَمَاعَةِ لَمَاتَ الْمَرِيضُ لِعَدَمِ وُجُودِ مَنْ يَقُومُ بِشَأْنِهِ (2) .
ب - النَّظَرُ إِلَى مَوْضِعِ الْمَرَضِ إِذَا كَانَ عَوْرَةً:
5 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ النَّظَرَ إِلَى عَوْرَةِ الْغَيْرِ حَرَامٌ مَا عَدَا نَظَرِ الزَّوْجَيْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا لِلآْخَرِ، فَلاَ يَحِل لِمَنْ عَدَا هَؤُلاَءِ النَّظَرُ إِلَى عَوْرَةِ الآْخَرِ مَا لَمْ تَكُنْ هُنَاكَ ضَرُورَةٌ تَدْعُو إِلَى ذَلِكَ كَنَظَرِ الطَّبِيبِ الْمُعَالِجِ، وَمَنْ يَلِي خِدْمَةَ مَرِيضٍ أَوْ مَرِيضَةٍ فِي وُضُوءٍ أَوِ اسْتِنْجَاءٍ وَغَيْرِهِمَا، وَكَقَابِلَةٍ، فَإِنَّهُ يُبَاحُ لَهُمُ النَّظَرُ إِلَى مَا تَدْعُو إِلَيْهِ الْحَاجَةُ مِنَ الْعَوْرَةِ، وَعِنْدَ الْحَاجَةِ الدَّاعِيَةِ إِلَيْهِ، كَضَرُورَةِ التَّدَاوِي وَالتَّمْرِيضِ وَغَيْرِهِمَا، إِذْ الضَّرُورَاتُ
__________
(1) روضة الطالبين 1 / 345، 2 / 35، 36.
(2) المغني 1 / 633، 2 / 340، وكشاف القناع 1 / 496.(14/19)
تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ (1) ، وَتَنْزِل الْحَاجَةُ مَنْزِلَةَ الضَّرُورَةِ.
ثُمَّ النَّظَرُ مُقَيَّدٌ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ؛ لأَِنَّ مَا أُبِيحَ لِلضَّرُورَةِ يُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا (2) .
وَفِي النَّظَرِ إِلَى مَوْضِعِ الْمَرَضِ إِذَا كَانَ فِي الْفَرْجِ وَإِلَى مَوْضِعِ الاِحْتِقَانِ، وَجَوَازِ اللَّمْسِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى مُصْطَلَحِ: (تَطْبِيبٌ) .
أَوْلَوِيَّةُ الأُْمِّ بِتَمْرِيضِ أَوْلاَدِهَا وَالْعَكْسُ:
6 - لَوْ مَرِضَ الْوَلَدُ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى فَالأُْمُّ أَوْلَى بِتَمْرِيضِهِ؛ لأَِنَّهَا أَشْفَقُ وَأَهْدَى إِلَيْهِ وَأَصْبَرُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِهَا، ثُمَّ إِنْ كَانَا مُفْتَرِقَيْنِ وَرَضِيَ الأَْبُ بِأَنْ تُمَرِّضُ الأُْمُّ الْوَلَدَ فِي بَيْتِهِ فَذَاكَ، وَإِلاَّ فَيُنْقَل الْوَلَدُ إِلَى بَيْتِ الأُْمِّ. وَيَجِبُ الاِحْتِرَازُ عَنِ الْخَلْوَةِ فِي حَالَةِ بَيْنُونَةِ الْمَرْأَةِ إِذَا كَانَتْ تُمَرِّضُهُ فِي بَيْتِ الأَْبِ، وَإِنْ مَرِضَتِ الأُْمُّ لَزِمَ الأَْبَ تَمْكِينُ ابْنَتِهَا مِنْ تَمْرِيضِهَا إِنْ أَحْسَنَتْ ذَلِكَ، بِخِلاَفِ ابْنِهَا لاَ يَلْزَمُهُ تَمْكِينُهُ، وَإِنْ أَحْسَنَهُ إِلاَّ أَنْ يَتَعَيَّنَ (3) .
__________
(1) ابن عابدين 1 / 272، 5 / 237، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص95، والحطاب 1 / 499، 500، والمنثور للزركشي 2 / 24، والأشباه والنظائر للسيوطي ص77، والمغني 6 / 558، وكشاف القناع 5 / 13.
(2) ابن عابدين 5 / 237، وكشاف القناع 5 / 13، وعمدة القاري 6 / 619، 620.
(3) نهاية المحتاج 7 / 233، وروضة الطالبين 9 / 104، والقليوبي 4 / 91، والمغني 9 / 145.(14/19)
ضَمَانُ الْمُمَرِّضِ وَمَسْئُولِيَّتُهُ:
7 - لَمْ يَتَعَرَّضِ الْفُقَهَاءُ الأَْقْدَمُونَ صَرَاحَةً لِضَمَانِ الْمُمَرِّضِينَ إِلاَّ أَنَّهُ يُمْكِنُ تَطْبِيقُ شُرُوطِ عَدَمِ ضَمَانِ الطَّبِيبِ، وَالْحَجَّامِ، وَالْخَتَّانِ، وَالْبَيْطَارِ - وَمِنْهَا: تَوَافُرُ أَنَّهُمْ ذَوُو حِذْقٍ فِي صِنَاعَتِهِمْ، وَأَلاَّ يَتَجَاوَزُوا مَا يَنْبَغِي عَمَلُهُ - عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَاتِ: (إِتْلاَفٌ، وَإِجَارَةٌ، وَتَطْبِيبٌ) .(14/20)
تَمَلُّكٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّمَلُّكُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ تَمَلَّكَ وَيَأْتِي مُطَاوِعًا لِمَلّكَ. وَثُلاَثِيُّهُ مَلَكَ يُقَال: مَلَكَ الشَّيْءَ إِذَا احْتَوَاهُ قَادِرًا عَلَى الاِسْتِبْدَادِ بِهِ.
وَمَلَّكَهُ تَمْلِيكًا جَعَلَهُ يَمْلِكُ، وَتَمَلَّكَ الشَّيْءَ تَمَلُّكًا: مَلَكَهُ قَهْرًا (1) .
وَالْمِلْكُ قُدْرَةٌ يُثْبِتُهَا الشَّرْعُ ابْتِدَاءً عَلَى التَّصَرُّفِ (2) .
وَعَرَّفَهُ ابْنُ السُّبْكِيّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: بِأَنَّهُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ يُقَدَّرُ فِي عَيْنٍ أَوْ مَنْفَعَةٍ يَقْتَضِي تَمَكُّنَ مَنْ يُنْسَبُ إِلَيْهِ مِنَ انْتِفَاعِهِ بِهِ، وَالْعِوَضُ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ كَذَلِكَ (3) .
وَعَرَّفَهُ الْجُرْجَانِيِّ بِأَنَّهُ اتِّصَالٌ شَرْعِيٌّ بَيْنَ الإِْنْسَانِ وَبَيْنَ شَيْءٍ يَكُونُ مُطْلَقًا لِتَصَرُّفِهِ فِيهِ وَحَاجِزًا عَنْ تَصَرُّفِ غَيْرِهِ فِيهِ (4) .
__________
(1) مختار الصحاح ولسان العرب، والقاموس المحيط مادة: " ملك ".
(2) فتح القدير 5 / 456.
(3) الأشباه والنظائر للسيوطي 316.
(4) التعريفات للجرجاني مادة: " ملك ".(14/20)
وَعِنْدَ التَّدْقِيقِ نَجِدُ أَنَّ التَّعْرِيفَاتِ الاِصْطِلاَحِيَّةَ لاَ تَخْرُجُ عَنِ التَّعْرِيفِ اللُّغَوِيِّ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الاِخْتِصَاصُ:
2 - الاِخْتِصَاصُ مَصْدَرُ اخْتَصَّ بِالشَّيْءِ أَيِ انْفَرَدَ بِهِ. وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ التَّمَلُّكِ.
ب - الْحِيَازَةُ:
3 - الْحِيَازَةُ: مَصْدَرُ حَازَ وَهِيَ الضَّمُّ، فَكُل مَنْ ضَمَّ شَيْئًا إِلَى نَفْسِهِ فَقَدْ حَازَهُ (1) .
وَهِيَ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ الْمِلْكِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ.
حُكْمُهُ:
4 - يَخْتَلِفُ حُكْمُ التَّمَلُّكِ بِاخْتِلاَفِ مَوْضُوعِهِ: فَتَجْرِي فِيهِ الأَْحْكَامُ التَّكْلِيفِيَّةُ كَمَا تَجْرِي فِيهِ الأَْحْكَامُ الْوَضْعِيَّةُ مِنَ الصِّحَّةِ وَالْبُطْلاَنِ، وَالْفَسَادِ حَسَبَ شَرْعِيَّةِ أَسْبَابِهِ، وَالْخُلُوِّ مِنَ الْمَوَانِعِ.
شُرُوطُ التَّمَلُّكِ وَأَسْبَابُهُ:
5 - التَّمَلُّكُ مِنْ خَصَائِصِ الإِْنْسَانِ، فَلَيْسَ لِغَيْرِهِ صَلاَحِيَةُ التَّمَلُّكِ
وَيُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ التَّمَلُّكِ شَرْطَانِ أَسَاسِيَّانِ هُمَا:
__________
(1) مختار الصحاح مادة: " حوز ".(14/21)
أ - أَهْلِيَّةُ الْمُتَمَلِّكِ.
ب - عَدَمُ قِيَامِ الْمَانِعِ مِنَ التَّمَلُّكِ.
6 - وَلَهُ أَسْبَابٌ مِنْهَا: الْمُعَاوَضَاتُ (كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَنَحْوِهِ) وَالْمِيرَاثُ وَالْهِبَاتُ، وَالصَّدَقَاتُ، وَالْوَصَايَا، وَالْوَقْفُ، وَالْغَنِيمَةُ، وَالاِسْتِيلاَءُ عَلَى الْمُبَاحِ، وَإِحْيَاءُ الْمَوَاتِ، وَتَمَلُّكُ اللُّقَطَةِ بِشَرْطِهِ، وَدِيَةُ الْقَتِيل وَالْغُرَّةُ، وَالْمَغْصُوبُ إِذَا خُلِطَ بِمَال الْغَاصِبِ وَلَمْ يَتَمَيَّزْ، فَيَمْلِكُهُ الْغَاصِبُ وَيَثْبُتُ الْعِوَضُ فِي ذِمَّتِهِ (1) .
أَنْوَاعُ التَّمَلُّكِ:
7 - الأَْصْل فِي التَّمَلُّكِ الاِخْتِيَارُ، فَلاَ يَدْخُل فِي مِلْكِ إِنْسَانٍ شَيْءٌ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ.
وَلَكِنَّ الْفُقَهَاءَ ذَكَرُوا بَعْضَ حَالاَتٍ، يَتَمَلَّكُ الإِْنْسَانُ فِيهَا بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ؛ لأَِنَّ طَبِيعَةَ السَّبَبِ تَقْتَضِي حُدُوثَ الْمِلْكِ تِلْقَائِيًّا مِنْهَا: الإِْرْثُ فَيَتَمَلَّكُ الْوَارِثُ تَرِكَةَ مُوَرِّثِهِ تَمَلُّكًا قَهْرِيًّا بِمُجَرَّدِ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ، وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي (إِرْثٌ (2)) .
وَمِنْهَا: الْوَصِيَّةُ إِذَا قُلْنَا: إِنَّ الْمُوصَى بِهِ يُمْلَكُ بِمَوْتِ الْمُوصِي وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَفِيمَا إِذَا مَاتَ
__________
(1) الأشباه والنظائر للسيوطي ص317، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص411.
(2) روضة الطالبين 6 / 143، والأشباه والنظائر للسيوطي ص318، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص412.(14/21)
الْمُوصَى لَهُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي وَقَبْل الْقَبُول فَإِنَّهُ يَمْلِكُ مِلْكًا قَهْرِيًّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَمِنْهَا: إِذَا طَلَّقَ الزَّوْجُ قَبْل الدُّخُول فَإِنَّهُ يَمْلِكُ نِصْفَ الصَّدَاقِ قَهْرًا.
وَمِنْهَا: الْمَرْدُودُ بِالْعَيْبِ بَعْدَ تَمَامِ الْعَقْدِ يَمْلِكُهُ الْبَائِعُ قَهْرًا.
وَمِنْهَا: أَرْشُ الْجِنَايَةِ، وَثَمَنُ الشِّقْصِ فِي الشُّفْعَةِ (1) .
وَمِنْهَا: اللُّقَطَةُ بَعْدَ التَّعْرِيفِ سَنَةً تَدْخُل فِي مِلْكِ الْمُلْتَقِطِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ قَهْرًا (2) . وَالتَّفْصِيل فِي (لُقَطَةٌ) .
وَالتَّمَلُّكُ الاِخْتِيَارِيُّ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ السَّبَبِ، فَالْمَبِيعُ وَنَحْوُهُ فِي الْمُعَاوَضَاتِ الْمَالِيَّةِ يُمْلَكُ بِتَمَامِ الْعَقْدِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ خِيَارٌ، وَهَذَا مَحَل اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ. وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (عَقْدٌ) .
تَمَلُّكُ الأُْجْرَةِ:
8 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا تُمْلَكُ بِهِ الأُْجْرَةُ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالإِْمَامُ أَحْمَدُ إِلَى أَنَّهَا تُمْلَكُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ كَالْمَبِيعِ إِذَا لَمْ يَشْتَرِطِ الْمُسْتَأْجِرُ التَّأْجِيل (3) .
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص411 - 412، والسيوطي ص314 - 315 - 318.
(2) المغني 5 / 700 - 701.
(3) المغني 5 / 443، والأشباه والنظائر للسيوطي ص32.(14/22)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: تُمْلَكُ بِالاِسْتِيفَاءِ، أَوِ التَّمَكُّنِ، أَوْ بِالتَّعْجِيل، أَوْ بِشَرْطِ التَّعْجِيل (1) .
تَمَلُّكُ الْقَرْضِ:
9 - فِيمَا يُمْلَكُ بِهِ الْقَرْضُ قَوْلاَنِ: لِكُلٍّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ يُمْلَكُ بِالْقَبْضِ، وَالثَّانِي يُمْلَكُ بِالتَّصَرُّفِ. وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُمْلَكُ بِالْعَقْدِ وَيَصِيرُ مَالاً لِلْمُقْتَرِضِ فَيُقْضَى عَلَى الْمُقْرِضِ بِدَفْعِهِ لَهُ (2) .
تَمَلُّكُ رِبْحِ الْقِرَاضِ:
10 - عَامِل الْقِرَاضِ يَمْلِكُ نَصِيبَهُ مِنَ الرِّبْحِ بِالظُّهُورِ أَوْ بِالْقِسْمَةِ عَلَى اخْتِلاَفٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.
وَالتَّفْصِيل فِي (مُضَارَبَةٌ) .
تَمَلُّكُ نَصِيبِ الْعَامِل فِي الْمُسَاقَاةِ:
11 - عَامِل الْمُسَاقَاةِ يَمْلِكُ نَصِيبَهُ مِنَ الثَّمَرِ بِالظُّهُورِ، وَالتَّفْصِيل فِي (مُسَاقَاةٌ) .
تَمَلُّكُ الشِّقْصِ فِي الشُّفْعَةِ:
12 - يَتَمَلَّكُ الشَّفِيعُ الشِّقْصَ بِلَفْظٍ يُشْعِرُ بِالتَّمَلُّكِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَيَمْلِكُ بِالتَّرَاضِي، أَوْ بِقَضَاءِ الْقَاضِي عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص413.
(2) الأشباه والنظائر للسيوطي ص320، وابن نجيم ص413، والمغني 4 / 348، وجواهر الإكليل 2 / 76.(14/22)
وَيَمْلِكُ بِحُكْمٍ، أَوْ إِشْهَادٍ، أَوْ دَفْعِ ثَمَنٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ (1) .
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (شِقْصٌ) .
تَمَلُّكُ الصَّدَاقِ:
13 - يُمْلَكُ الصَّدَاقُ بِالْعَقْدِ. وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (صَدَاقٌ) .
تَمَلُّكُ الْغَنِيمَةِ:
14 - تَمَلُّكُ الْغَنِيمَةِ بِالاِسْتِيلاَءِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ،
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ تُمْلَكُ بِالْقِسْمَةِ، أَوِ اخْتِيَارِ التَّمَلُّكِ بَعْدَ الْحِيَازَةِ (2) .
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (غَنِيمَةٌ) .
تَمَلُّكُ الْمَوْهُوبِ:
15 - يُمْلَكُ الْمَوْهُوبُ بِالْقَبْضِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ.
وَفَرَّقَ الْحَنَابِلَةُ بَيْنَ مَا يُوزَنُ أَوْ يُكَال، وَبَيْنَ مَا لَيْسَ كَذَلِكَ، فَالْمَوْزُونُ أَوِ الْمَكِيل يُمْلَكُ بِالْقَبْضِ، أَمَّا غَيْرُهُمَا فَيُمْلَكُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ (3) .
وَالتَّفْصِيل فِي (هِبَةٌ) .
__________
(1) ابن عابدين 5 / 139، وجواهر الإكليل 2 / 161، وحاشية الجمل 3 / 503، والمغني 5 / 320.
(2) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص414، وأسنى المطالب 4 / 198، والوجيز 2 / 193، وكشاف القناع 3 / 82.
(3) البدائع 6 / 124، وحاشية الدسوقي 4 / 101، ونهاية المحتاج 5 / 406، والمغني 5 / 649.(14/23)
تَمَلُّكُ أَرْضِ الْمَوَاتِ:
16 - تُمْلَكُ أَرْضُ الْمَوَاتِ بِالإِْحْيَاءِ، وَهَذَا مَحَل اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ. أَمَّا مَا يُعْتَبَرُ إِحْيَاءً، فَيُرْجَعُ فِي ذَلِكَ إِلَى مُصْطَلَحِ: (إِحْيَاءُ الْمَوَاتِ) .
تَمَلُّكُ الْمُبَاحَاتِ:
17 - يَتَمَلَّكُ الإِْنْسَانُ بِالْحِيَازَةِ كُل مُبَاحٍ مِثْل الْحَشِيشِ، وَالْحَطَبِ، وَالثِّمَارِ الْمَأْخُوذَةِ مِنَ الْجِبَال، وَمَا يَنْبِذُهُ النَّاسُ رَغْبَةً عَنْهُ، أَوْ يَضِيعُ عَنْهُمْ مِمَّا لاَ تَتْبَعُهُ النَّفْسُ (1) . (ر: حِيَازَةٌ) .
__________
(1) المغني 5 / 597، والقليوبي 3 / 299، وحاشية ابن عابدين 3 / 324.(14/23)
تَمْلِيكٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّمْلِيكُ مَصْدَرُ مَلَّكَهُ الشَّيْءَ إِذَا جَعَلَهُ مِلْكًا لَهُ، وَفِعْلُهُ الثُّلاَثِيُّ (مَلَكَ) . وَمَلَكَ الشَّيْءَ:
احْتَوَاهُ، قَادِرًا عَلَى الاِسْتِبْدَادِ بِهِ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِهَذَا اللَّفْظِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2) . وَيُنْظَرُ مَا سَبَقَ فِي (تَمَلُّكٌ)
وَالإِْمْلاَكُ وَالتَّمْلِيكُ: التَّزْوِيجُ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الإِْبْرَاءُ:
2 - الإِْبْرَاءُ لُغَةً التَّنْزِيهُ وَالتَّخْلِيصُ وَالْمُبَاعَدَةُ عَنِ الشَّيْءِ.
وَاصْطِلاَحًا إِسْقَاطُ الشَّخْصِ حَقًّا لَهُ فِي ذِمَّةِ آخَرَ أَوْ قِبَلَهُ، وَهَذَا عِنْدَ مَنْ يَعْتَبِرُ الإِْبْرَاءَ مِنَ الدَّيْنِ إِسْقَاطًا مَحْضًا، وَبَعْضُ الْفُقَهَاءِ يَعْتَبِرُ الإِْبْرَاءَ تَمْلِيكًا، وَيُسْتَفَادُ مِنْ كَلاَمِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الإِْبْرَاءَ يَشْتَمِل عَلَى الإِْسْقَاطِ وَالتَّمْلِيكِ مَعًا،
__________
(1) لسان العرب، والمعجم الوسيط مادة: " ملك ".
(2) دستور العلماء 1 / 349 نشر مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، والموسوعة الفقهية 4 / 227.(14/24)
لَكِنْ قَدْ تَكُونُ الْغَلَبَةُ لأَِحَدِهِمَا فِي مَسْأَلَةٍ دُونَ أُخْرَى فَالإِْبْرَاءُ أَعَمُّ مِنَ التَّمْلِيكِ (1) .
ب - الإِْسْقَاطُ:
3 - الإِْسْقَاطُ لُغَةً: الإِْيقَاعُ وَالإِْلْقَاءُ.
وَاصْطِلاَحًا هُوَ إِزَالَةُ الْمِلْكِ أَوِ الْحَقِّ لاَ إِلَى مَالِكٍ وَلاَ إِلَى مُسْتَحِقٍّ وَتَسْقُطُ بِذَلِكَ الْمُطَالَبَةُ بِهِ؛ لأَِنَّ السَّاقِطَ يَنْتَهِي وَيَتَلاَشَى وَلاَ يَنْتَقِل.
وَذَلِكَ كَالطَّلاَقِ وَالْعِتْقِ وَالْعَفْوِ عَنِ الْقِصَاصِ.
وَيَخْتَلِفُ التَّمْلِيكُ عَنِ الإِْسْقَاطِ فِي أَنَّ التَّمْلِيكَ إِزَالَةٌ وَنَقْلٌ إِلَى مَالِكٍ فِي حِينِ أَنَّ الإِْسْقَاطَ إِزَالَةٌ وَلَيْسَ نَقْلاً كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ إِلَى مَالِكٍ (2) .
فَالإِْسْقَاطُ أَعَمُّ مِنَ التَّمْلِيكِ.
مَحَل التَّمْلِيكِ:
4 - قَدْ يَتَعَلَّقُ التَّمْلِيكُ بِمَحَلٍّ مُحَقَّقٍ كَتَمْلِيكِ الأَْعْيَانِ، وَقَدْ يَتَعَلَّقُ بِمَحَلٍّ مُقَدَّرٍ كَتَمْلِيكِ مَنَافِعِ الأَْبْضَاعِ، أَوْ مَنَافِعِ الأَْعْيَانِ فِي الإِْجَارَةِ أَوِ الإِْعَارَةِ فَإِنَّ مَنَافِعَهَا مُقَدَّرَةٌ تَعَلَّقَ بِهَا تَمْلِيكٌ مُقَدَّرٌ (3) .
وَتَمْلِيكُ الأَْعْيَانِ قَدْ يَكُونُ بِعِوَضٍ وَقَدْ يَكُونُ بِلاَ عِوَضٍ كَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ، كَمَا أَنَّ تَمْلِيكَ الْمَنْفَعَةِ
__________
(1) الموسوعة الفقهية 1 / 142، 148، 149، و4 / 226، 227. / 50
(2) الموسوعة الفقهية 4 / 226، 227.
(3) المنثور في القواعد للزركشي 3 / 228.(14/24)
قَدْ يَكُونُ بِعِوَضٍ كَالإِْجَارَةِ وَقَدْ يَكُونُ بِلاَ عِوَضٍ كَالْعَارِيَّةِ (1) .
وَيُرْجَعُ فِي التَّفْصِيل فِي كُلٍّ مِنْهَا إِلَى مَوْضِعِهِ.
وَأَمَّا تَمْلِيكُ الدَّيْنِ فَقَدْ قَال صَاحِبُ الْمُغْنِي: وَإِنْ وَهَبَ الدَّيْنَ لِغَيْرِ مَنْ هُوَ فِي ذِمَّتِهِ أَوْ بَاعَهُ إِيَّاهُ لَمْ يَصِحَّ، وَبِهِ قَال فِي الْبَيْعِ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاقُ. قَال أَحْمَدُ: إِذَا كَانَ لَك عَلَى رَجُلٍ طَعَامٌ قَرْضًا فَبِعْهُ مِنَ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ بِنَقْدٍ وَلاَ تَبِعْهُ مِنْ غَيْرِهِ بِنَقْدٍ وَلاَ نَسِيئَةٍ، وَإِذَا أَقْرَضْت رَجُلاً دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ فَلاَ تَأْخُذْ مِنْ غَيْرِهِ عَرَضًا بِمَا لَك عَلَيْهِ، وَقَال الشَّافِعِيُّ: إِنْ كَانَ الدَّيْنُ عَلَى مُعْسِرٍ أَوْ مُمَاطِلٍ أَوْ جَاحِدٍ لَهُ لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ؛ لأَِنَّهُ مَعْجُوزٌ عَنْ تَسْلِيمِهِ وَإِنْ كَانَ عَلَى مَلِيءٍ بَاذِلٍ لَهُ فَفِيهِ قَوْلاَنِ (2) .
وَأَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَيَجُوزُ بَيْعُ الدَّيْنِ لِغَيْرِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ بِشُرُوطٍ مُعَيَّنَةٍ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ وَالْخِلاَفُ فِيهِ فِي مُصْطَلَحِ: (دَيْنٌ) .
تَمْلِيكُ الأَْعْيَانِ الْمُشْتَرَاةِ قَبْل الْقَبْضِ:
5 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ التَّصَرُّفِ بِالتَّمْلِيكِ فِي الْمَمْلُوكَاتِ بَعْدَ قَبْضِهَا، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ التَّصَرُّفِ فِيهَا بِالتَّمْلِيكِ قَبْل قَبْضِهَا.
وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
__________
(1) دستور العلماء 1 / 349، والذخيرة للقرافي ص151، والاختيار 2 / 3.
(2) المغني لابن قدامة 5 / 659.(14/25)
تَمْلِيكُ الأَْعْيَانِ الْمُشْتَرَاةِ قَبْل الْقَبْضِ بِالْبَيْعِ:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ - وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ - وَهُوَ قَوْلٌ لِلْمَالِكِيَّةِ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ تَمْلِيكِ الْمَبِيعِ بِالْبَيْعِ قَبْل قَبْضِهِ سَوَاءٌ أَكَانَ طَعَامًا أَمْ غَيْرَهُ.
وَاسْتَدَلُّوا بِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ قَبْل قَبْضِهِ (1) . وَبِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَعَثَ عَتَّابَ بْنَ أُسَيْدٍ إِلَى مَكَّةَ قَال: انْهَهُمْ عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يَقْبِضُوهُ، وَعَنْ رِبْحِ مَا لَمْ يَضْمَنُوهُ (2) . وَلأَِنَّهُ لَمْ يَتِمَّ الْمِلْكُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ كَغَيْرِ الْمُتَعَيَّنِ (3) .
وَالْحَنَفِيَّةُ يَسْتَثْنُونَ الْعَقَارَ الْمَبِيعَ وَيُجِيزُونَ تَمْلِيكَهُ قَبْل الْقَبْضِ لاِنْتِفَاءِ غَرَرِ الاِنْفِسَاخِ (4) .
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ جَوَازَ تَمْلِيكِ الْمَبِيعِ قَبْل قَبْضِهِ بِالْبَيْعِ إِنْ لَمْ يَكُنْ مَطْعُومًا وَاسْتَدَلُّوا عَلَى عَدَمِ جَوَازِ تَمْلِيكِ طَعَامِ الْمُعَاوَضَةِ قَبْل الْقَبْضِ بِمَا رَوَاهُ
__________
(1) حديث: " نهى عن بيع الطعام قبل قبضه " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 349 - ط السلفية) . من حديث ابن عباس رضي الله عنه بلفظ " أما الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم فهو الطعام أن يباع حتى يقبض ".
(2) حديث بعث عتاب بن أسيد إلى مكة أخرجه البيهقي (5 / 313 ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث يعلى بن أمية بلفظ " استعمل النبي صلى الله عليه وسلم عتاب بن أسيد على مكة، فقال: إني قد أمرتك على أهل الله عز وجل بتقوى الله عز وجل، ولا يأكل أحد منهم من ربح ما لم
(3) المغني لابن قدامة 4 / 127 ط الرياض، وروضة الطالبين 3 / 506، ودرر الحكام 1 / 201، 202.
(4) درر الحكام 1 / 201.(14/25)
أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنِ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلاَ يَبِعْهُ حَتَّى يَكْتَالَهُ (1) ".
وَالصَّحِيحُ عِنْدَهُمْ أَنَّ هَذَا النَّهْيَ تَعَبُّدِيٌّ فَلاَ يُقَاسُ عَلَيْهِ غَيْرُ الطَّعَامِ عِنْدَهُمْ.
وَقِيل: إِنَّهُ مَعْقُول الْمَعْنَى؛ لأَِنَّ الشَّارِعَ لَهُ غَرَضٌ فِي ظُهُورِهِ، فَلَوْ أُجِيزَ بَيْعُهُ قَبْل قَبْضِهِ لَبَاعَ أَهْل الأَْمْوَال بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ مِنْ غَيْرِ ظُهُورٍ بِخِلاَفِ مَا إِذَا مُنِعَ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَنْتَفِعُ الْكَيَّال وَالْحَمَّال، وَيَظْهَرُ لِلْفُقَرَاءِ فَتَقْوَى بِهِ قُلُوبُ النَّاسِ لاَ سِيَّمَا فِي زَمَنِ الْمَسْغَبَةِ وَالشِّدَّةِ (2) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ تَحْتَ عُنْوَانِ (بَيْعُ مَا لَمْ يُقْبَضْ) .
تَمْلِيكُ الأَْعْيَانِ الْمُشْتَرَاةِ بِغَيْرِ الْبَيْعِ:
6 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ - وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ - أَنَّ الأَْعْيَانَ الْمُشْتَرَاةَ يَجُوزُ تَمْلِيكُهَا بِغَيْرِ الْبَيْعِ قَبْل قَبْضِهَا، وَالْحَنَفِيَّةُ يَسْتَثْنُونَ مِنْ ذَلِكَ تَمْلِيكَ مَنَافِعِ الْمَبِيعِ قَبْل قَبْضِهِ بِالإِْجَارَةِ؛ لأَِنَّ الْمَنَافِعَ بِمَنْزِلَةِ الْمَنْقُول فَيُمْنَعُ جَوَازُ تَمْلِيكِهَا قَبْل الْقَبْضِ (3) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى الأَْصَحِّ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى
__________
(1) حديث: " من ابتاع طعاما فلا يبيعه حتى يكتاله " أخرجه مسلم (3 / 1160 - ط الحلبي) من حديث ابن عباس.
(2) القوانين الفقهية ص171 ط دار القلم، وحاشية الدسوقي 3 / 151 ط الحلبي.
(3) شرح المجلة للأتاسي 2 / 173، 174، وبدائع الصنائع 5 / 180 ط الجمالية، والفروق للقرافي 3 / 279، والقوانين الفقهية ص170، ومغني المحتاج 2 / 69.(14/26)
عَدَمِ جَوَازِ تَمْلِيكِ الْمَبِيعِ قَبْل قَبْضِهِ بِالْهِبَةِ وَالإِْجَارَةِ (1) . وَقَدْ فَصَّل الْفُقَهَاءُ الْقَوْل فِيمَا يَصِحُّ مِنْ تَصَرُّفَاتٍ فِي الْبَيْعِ قَبْل الْقَبْضِ. يُنْظَرُ فِي مَوَاطِنِهِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ وَفِي مُصْطَلَحِ: (قَبْضٌ) .
تَمْلِيكُ الاِنْتِفَاعِ:
7 - تَمْلِيكُ الاِنْتِفَاعِ عِبَارَةٌ عَنِ الإِْذْنِ لِلشَّخْصِ فِي أَنْ يُبَاشِرَ الاِنْتِفَاعَ هُوَ بِنَفْسِهِ فَقَطْ كَالإِْذْنِ فِي سُكْنَى الْمَدَارِسِ، وَالرُّبُطِ، وَالْمَجَالِسِ، وَالْجَوَامِعِ وَالْمَسَاجِدِ، وَالأَْسْوَاقِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَلِمَنْ أُذِنَ لَهُ ذَلِكَ أَنْ يَنْتَفِعَ بِنَفْسِهِ فَقَطْ، وَيَمْتَنِعَ فِي حَقِّهِ أَنْ يُؤَاجِرَ أَوْ يَمْلِكَ بِطَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ الْمُعَاوَضَاتِ أَوْ يُسْكِنَ غَيْرَهُ الْبَيْتَ الْمَوْقُوفَ، أَوْ غَيْرَهُ مِنْ بَقِيَّةِ النَّظَائِرِ الْمَذْكُورَةِ (2) .
وَلِلتَّفْصِيل ر: انْتِفَاعٌ.
تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ:
8 - تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ عِبَارَةٌ عَنِ الإِْذْنِ لِلشَّخْصِ فِي أَنْ يُبَاشِرَ اسْتِيفَاءَ الْمَنْفَعَةِ بِنَفْسِهِ أَوْ يُمَكِّنَ غَيْرَهُ مِنَ الاِنْتِفَاعِ كَالإِْجَارَةِ. فَمَنِ اسْتَأْجَرَ دَارًا كَانَ لَهُ أَنْ يُؤَاجِرَهَا مِنْ غَيْرِهِ، أَوْ يَسْكُنَهَا بِغَيْرِ عِوَضٍ،
__________
(1) الأشباه والنظائر ص456 ط دار الكتب العلمية، ومغني المحتاج 692 وكشاف القناع 3 / 241، وشرح منتهى الإرادات 2 / 187 ط عالم الكتب.
(2) تهذيب الفروق 1 / 193، وانظر: الفروق: للقرافي 1 / 187.(14/26)
وَأَنْ يَتَصَرَّفَ فِي هَذِهِ الْمَنْفَعَةِ تَصَرُّفَ الْمُلاَّكِ فِي أَمْلاَكِهِمْ عَلَى جَرْيِ الْعَادَةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي مَلَكَهُ، فَهُوَ تَمْلِيكٌ مُطْلَقٌ فِي زَمَنٍ خَاصٍّ حَسْبَمَا تَنَاوَلَهُ عَقْدُ الإِْجَارَةِ. فَمَنِ اسْتَأْجَرَ شَيْئًا مُدَّةً مُعَيَّنَةً، كَانَتْ لَهُ الْمَنْفَعَةُ فِي تَمَلُّكِ الْمُدَّةِ مِلْكًا عَلَى الإِْطْلاَقِ يَتَصَرَّفُ كَمَا يَشَاءُ بِجَمِيعِ الأَْنْوَاعِ السَّائِغَةِ فِي التَّصَرُّفِ فِي الْمَنْفَعَةِ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ مَا دَامَتِ الْعَيْنُ لاَ تَتَأَثَّرُ بِاخْتِلاَفِ الْمُسْتَعْمِل، وَيَكُونُ تَمْلِيكُ هَذِهِ الْمَنْفَعَةِ كَتَمْلِيكِ الأَْعْيَانِ (1) .
وَلِلتَّوَسُّعِ فِي ذَلِكَ (ر: مَنْفَعَةٌ) .
انْعِقَادُ النِّكَاحِ بِلَفْظِ التَّمْلِيكِ:
9 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَمُجَاهِدٌ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَبُو عُبَيْدٍ إِلَى انْعِقَادِ النِّكَاحِ بِلَفْظِ التَّمْلِيكِ وَبِكُل لَفْظٍ وُضِعَ لِتَمْلِيكِ الْعَيْنِ فِي الْحَال لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَلَّكْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ (2) حَيْثُ وَرَدَ فِي النِّكَاحِ؛ وَلأَِنَّ التَّمْلِيكَ سَبَبٌ لِمِلْكِ الاِسْتِمْتَاعِ فَأُطْلِقَ عَلَى النِّكَاحِ، وَالسَّبَبِيَّةُ طَرِيقٌ مِنْ طُرُقِ الْمَجَازِ (3) .
__________
(1) الفروق للقرافي 1 / 187، وتهذيب الفروق بهامش الفروق 1 / 193، والموسوعة الفقهية 6 / 299.
(2) حديث: " ملكتكها بما معك من القرآن " أخرجه البخاري (الفتح 9 / 175 - ط السلفية) ومسلم (2 / 1041 - ط الحلبي) من حديث سهل بن سعد الساعدي. واللفظ لمسلم.
(3) البناية شرح الهداية 4 / 19 - 21، والزيلعي 2 / 96، 97، وفتح القدير 2 / 346، 347 ط الأميرية، وجواهر الإكليل 1 / 277.(14/27)
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَجُمْهُورُ الْحَنَابِلَةِ عَدَمَ انْعِقَادِ النِّكَاحِ بِلَفْظِ التَّمْلِيكِ لِخَبَرِ مُسْلِمٍ اتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ (1) قَالُوا: وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ التَّزْوِيجُ أَوِ الإِْنْكَاحُ، فَإِنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ فِي الْقُرْآنِ سِوَاهُمَا فَوَجَبَ الْوُقُوفُ عِنْدَهُمَا تَعَبُّدًا وَاحْتِيَاطًا، لأَِنَّ النِّكَاحَ يَنْزِعُ إِلَى الْعِبَادَاتِ لِوُرُودِ النَّدْبِ فِيهِ، وَالأَْذْكَارُ فِي الْعِبَادَاتِ تُتَلَقَّى مِنَ الشَّرْعِ، وَالشَّرْعُ إِنَّمَا وَرَدَ بِلَفْظَيِ التَّزْوِيجِ وَالإِْنْكَاحِ (2) .
__________
(1) حديث: " اتقوا الله في النساء. . . " أخرجه مسلم (2 / 889 - ط الحلبي) من حديث جابر بن عبد الله.
(2) مغني المحتاج 3 / 140 ط الحلبي، ونهاية المحتاج 6 / 207، والإنصاف 8 / 45 ط دار إحياء التراث العربي.(14/27)
تَمَوُّلٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّمَوُّل فِي اللُّغَةِ: اتِّخَاذُ الْمَال، يُقَال: تَمَوَّل فُلاَنٌ مَالاً إِذَا اتَّخَذَ قَنِيَّةً. وَمَال الرَّجُل يُمَوِّل وَيَمَال مَوْلاً وَمُؤَوَّلاً إِذَا صَارَ ذَا مَالٍ
وَفِي الْحَدِيثِ: مَا جَاءَك مِنْهُ وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ عَلَيْهِ فَخُذْهُ وَتَمَوَّلْهُ - أَيِ اجْعَلْهُ لَك مَالاً، وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لَهُ عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ
وَالْمَال فِي اللُّغَةِ: مَعْرُوفٌ، وَهُوَ مَا مَلَكْتَهُ مِنْ جَمِيعِ الأَْشْيَاءِ.
وَشَرْعًا: اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَعْرِيفِهِ (1) ،
وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: (مَالٌ) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّمَلُّكُ:
2 - التَّمَلُّكُ وَالْمَلْكُ وَالْمُلْكُ وَالْمِلْكُ فِي اللُّغَةِ: احْتِوَاءُ الشَّيْءِ وَالْقُدْرَةُ عَلَى الاِسْتِبْدَادِ بِهِ.
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير مادة: " مول ". وحاشية ابن عابدين 4 / 100، والمنثور في القواعد 3 / 222، والأشباه والنظائر للسيوطي 327، وكشاف القناع 3 / 152، والمبدع 4 / 9.(14/28)
وَعَرَّفَهُ الْجُرْجَانِيُّ بِأَنَّهُ: اتِّصَالٌ شَرْعِيٌّ بَيْنَ الإِْنْسَانِ وَبَيْنَ شَيْءٍ يَكُونُ مُطْلَقًا لِتَصَرُّفِهِ فِيهِ وَحَاجِزًا عَنْ تَصَرُّفِ غَيْرِهِ فِيهِ (1) "
ب - الاِخْتِصَاصُ:
3 - الاِخْتِصَاصُ فِي اللُّغَةِ: الاِنْفِرَادُ بِالشَّيْءِ دُونَ الْغَيْرِ.
قَال صَاحِبُ الْكُلِّيَّاتِ: لِلاِخْتِصَاصِ إِطْلاَقَانِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ:
أ - فَهُوَ يُطْلَقُ فِي الأَْعْيَانِ الَّتِي لاَ تَقْبَل التَّمَوُّل كَالنَّجَاسَاتِ مِنَ الْكَلْبِ وَالزَّيْتِ النَّجَسِ وَالْمَيِّتِ وَنَحْوِهَا.
ب - وَيُطْلَقُ فِيمَا يَقْبَل التَّمَوُّل وَالتَّمَلُّكَ مِنَ الأَْعْيَانِ، إِلاَّ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لأَِحَدٍ أَنْ يَتَمَلَّكَهُ لإِِرْصَادِهِ لِجِهَةٍ نَفْعُهَا عَامٌّ لِلْمُسْلِمِينَ، كَالْمَسَاجِدِ وَالرُّبُطِ وَمَقَاعِدِ الأَْسْوَاقِ.
وَفَضْلاً عَنْ ذَلِكَ فَإِنَّ مَنْ مَلَكَ شَيْئًا لِخَاصَّةِ نَفْسِهِ مِمَّا يَجُوزُ لَهُ تَمَلُّكُهُ فَقَدِ اخْتَصَّ بِهِ. فَالاِخْتِصَاصُ أَعَمُّ مِنَ التَّمَوُّل وَالتَّمَلُّكِ.
قَال الزَّرْكَشِيُّ: الْفَرْقُ بَيْنَ الْمِلْكِ وَالاِخْتِصَاصِ: أَنَّ الْمِلْكَ يَتَعَلَّقُ بِالأَْعْيَانِ
__________
(1) لسان العرب مادة: " ملك "، فتح القدير 5 / 455، مواهب الجليل 4 / 223 وما بعدها، الفروق للقرافي 3 / 208، والمنثور في القواعد 3 / 222، والأشباه والنظائر للسيوطي 316، والتعريفات للجرجاني ص228، 229، وتهذيب الفروق 3 / 234.(14/28)
وَالْمَنَافِعِ، وَالاِخْتِصَاصَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْمَنَافِعِ، وَبَابُ الاِخْتِصَاصِ أَوْسَعُ (1) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
4 - الأَْعْيَانُ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
ضَرْبٍ لاَ يَقْبَل التَّمَوُّل، فَلاَ يَعْتَبِرُهُ الشَّارِعُ مَالاً، وَإِنْ تَمَوَّلَهُ النَّاسُ، وَيَبْطُل بِهِ الْبَيْعُ وَسَائِرُ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ وَالتَّصَرُّفَاتِ الْمَالِيَّةِ إِنْ جُعِل عِوَضًا فِيهَا
وَضَرْبٍ يَقْبَل التَّمَوُّل، وَيَكُونُ مَالاً شَرْعًا بِتَمَوُّل النَّاسِ لَهُ، وَتَنْعَقِدُ بِهِ الْمُعَاوَضَاتُ وَجَمِيعُ التَّصَرُّفَاتِ الْمَالِيَّةِ.
5 - وَقَسَّمَ الْحَنَفِيَّةُ الْمَال إِلَى مُتَقَوِّمٍ، وَغَيْرِ مُتَقَوِّمٍ. فَالْمُتَقَوِّمُ عِنْدَهُمْ: هُوَ الْمَال الَّذِي أَبَاحَ الشَّارِعُ الاِنْتِفَاعَ بِهِ، وَغَيْرُ الْمُتَقَوِّمِ: هُوَ الْمَال الَّذِي لَمْ يُبِحِ الشَّارِعُ الاِنْتِفَاعَ بِهِ كَالْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ، فَالْمَال أَعَمُّ عِنْدَهُمْ مِنَ الْمُتَقَوِّمِ.
وَيَرَى الْجُمْهُورُ أَنَّ الَّذِي لَمْ يُبِحِ الشَّارِعُ الاِنْتِفَاعَ بِهِ خَارِجٌ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَالاً أَسَاسًا.
ثُمَّ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمَنَافِعِ وَالْحُقُوقِ هَل تُتَمَوَّل أَمْ لاَ؟ أَيْ هَل هِيَ مِنْ قَبِيل الْمَال أَمْ لاَ؟
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى صِحَّةِ تَمَوُّلِهَا، وَذَلِكَ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الأَْشْيَاءِ مَنَافِعُهَا لاَ ذَوَاتُهَا.
__________
(1) لسان العرب، وتاج العروس مادة: " خصص "، الكليات 1 / 76، ومغني المحتاج 2 / 414، والمنثور في القواعد 3 / 434، والفروق للقرافي 3 / 2101، والأشباه والنظائر للسيوطي 316.(14/29)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ مَالِيَّتِهَا، وَهِيَ عِنْدَهُمْ مِنْ قَبِيل الْمِلْكِ لاَ الْمَال؛ لأَِنَّ الْمِلْكَ مَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُتَصَرَّفَ فِيهِ بِوَصْفِ الاِخْتِصَاصِ، وَالْمَال مَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُدَّخَرَ لِلاِنْتِفَاعِ بِهِ وَقْتَ الْحَاجَةِ.
6 - وَثَمَرَةُ الْخِلاَفِ تَظْهَرُ فِي مَسَائِل كَثِيرَةٍ: مِنْهَا فِي الإِْجَارَةِ: فَإِنَّهَا تَنْتَهِي بِمَوْتِ الْمُسْتَأْجِرِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لأَِنَّ الْمَنْفَعَةَ لَيْسَتْ مَالاً حَتَّى تُورَثَ.
وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ لاَ تَنْتَهِي بِمَوْتِ الْمُسْتَأْجِرِ وَتَظَل بَاقِيَةً حَتَّى تَنْتَهِيَ الْمُدَّةُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا؛ وَذَلِكَ لأَِنَّ الْمَنْفَعَةَ مَالٌ، فَتُورَثُ (1) .
وَلِلتَّفْصِيل اُنْظُرْ مُصْطَلَحَ: (مَالٌ) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 3، 100 وما بعدها، ومغني المحتاج 2 / 2، 3، 414، والمنثور في القواعد 3 / 222، والفروق للقرافي 3 / 236 وما بعدها، والأشباه والنظائر للسيوطي 327، وكشاف القناع 3 / 152.(14/29)
تَمِيمَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّمِيمَةُ فِي اللُّغَةِ عُوذَةٌ تُعَلَّقُ عَلَى الإِْنْسَانِ، وَفِي الْحَدِيثِ مَنْ تَعَلَّقَ تَمِيمَةً فَلاَ أَتَمَّ اللَّهُ لَهُ (1) وَيُقَال: هِيَ خَرَزَاتٌ كَانَ الْعَرَبُ يُعَلِّقُونَهَا عَلَى أَوْلاَدِهِمْ يَتَّقُونَ بِهَا الْعَيْنَ فِي زَعْمِهِمْ (2) .
وَعَرَّفَهَا الْفُقَهَاءُ بِأَنَّهَا وَرَقَةٌ يُكْتَبُ فِيهَا شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ أَوْ غَيْرِهِ وَتُعَلَّقُ عَلَى الإِْنْسَانِ (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
2 - الرُّقْيَةُ: يُقَال: رَقَاهُ الرَّاقِي رُقِيًّا وَرُقْيَةً إِذَا عَوَّذَهُ وَنَفَثَ فِي عُوذَتِهِ.
وَعَرَّفَهَا الْفُقَهَاءُ بِأَنَّهَا مَا يُرْقَى بِهِ مِنَ الدُّعَاءِ لِطَلَبِ الشِّفَاءِ (4) .
__________
(1) حديث: " من تعليق تميمة ". أخرجه أحمد (4 / 154 ط الميمنية) وفي إسناده جهالة (تعجيل المنفعة ص114 نشر دار الكتاب العربي) .
(2) لسان العرب،. والصحاح، والنهاية لابن الأثير مادة: " تمم ".
(3) الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع 1 / 95 ط الحلبي، والشرح الصغير 4 / 769، ونهاية المحتاج 1 / 111، وأسنى المطالب 1 / 60.
(4) المغرب للمطرزي مادة " تمم "، وحاشية ابن عابدين 5 / 232، وحاشية العدوي على شرح الرسالة 2 / 452 نشر دار المعرفة.(14/30)
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الرُّقْيَةِ وَالتَّمِيمَةِ أَنَّ الرُّقْيَةَ تَكُونُ بِقِرَاءَةِ شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ أَوْ غَيْرِهِ.
أَمَّا التَّمِيمَةُ فَهِيَ وَرَقَةٌ يُكْتَبُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. وَبِعِبَارَةٍ أُخْرَى الرُّقْيَةُ: هِيَ تَعْوِيذٌ مَقْرُوءٌ، وَالتَّمِيمَةُ: تَعْوِيذٌ مَكْتُوبٌ (1) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
3 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي عَدَمِ جَوَازِ التَّمِيمَةِ إِذَا كَانَ فِيهَا اسْمٌ لاَ يُعْرَفُ مَعْنَاهُ؛ لأَِنَّ مَا لاَ يُفْهَمُ لاَ يُؤْمَنُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الشِّرْكِ، وَلأَِنَّهُ لاَ دَافِعَ إِلاَّ اللَّهُ، وَلاَ يُطْلَبُ دَفْعُ الْمُؤْذِيَاتِ إِلاَّ بِاَللَّهِ وَبِأَسْمَائِهِ (2) .
أَمَّا إِذَا كَانَتِ التَّمِيمَةُ لاَ تَشْتَمِل إِلاَّ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ وَأَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ، فَقَدِ اخْتَلَفَتِ الآْرَاءُ فِيهَا عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ، وَهُوَ ظَاهِرُ مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَة، وَهُوَ قَوْل عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ
__________
(1) الشرح الصغير 4 / 768 - 769، وحاشية ابن عابدين 5 / 232، ط بولاق، والإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع 1 / 95.
(2) الفتاوى الحديثة لابن حجر الهيثمي ص120 ط دار المعرفة، والشرح الصغير 4 / 769، وحاشية ابن عابدين 5 / 232 ط بولاق، وكشاف الإقناع 2 / 77 و6 / 188 ط عالم الكتب، والإنصاف 10 / 352، والدين الخالص 2 / 236، ومعالم السنن 4 / 226 ط العلمية.(14/30)
وَحَمَلُوا حَدِيثَ إِنَّ الرُّقَى وَالتَّمَائِمَ وَالتُّوَلَةَ شِرْكٌ (1) ". عَلَى التَّمَائِمِ الَّتِي فِيهَا شِرْكٌ (2) .
وَالرِّوَايَةُ الأُْخْرَى عَنْ أَحْمَدَ حُرْمَةُ التَّمِيمَةِ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْل حُذَيْفَةَ وَعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ وَابْنِ حَكِيمٍ.
وَبِهِ قَال ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ.
4 - وَاحْتَجَّ هَؤُلاَءِ لِمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ بِمَا يَأْتِي:
أ - عُمُومُ النَّهْيِ فِي الأَْحَادِيثِ وَلاَ مُخَصِّصَ لِلْعُمُومِ.
ب - سَدُّ الذَّرِيعَةِ، فَإِنَّهُ يُفْضِي إِلَى تَعْلِيقِ مَا اُتُّفِقَ عَلَى تَحْرِيمِهِ.
ج - أَنَّهُ إِذَا عَلَّقَ فَلاَ بُدَّ أَنْ يَمْتَهِنَهُ الْمُعَلِّقُ بِحَمْلِهِ مَعَهُ فِي حَال قَضَاءِ الْحَاجَةِ وَالاِسْتِنْجَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَقَال الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ: يَجُوزُ حَمْل هَذِهِ الأَْخْبَارِ الْمَانِعَةِ عَلَى اخْتِلاَفِ حَالَيْنِ فَهِيَ إِذَا كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّهَا النَّافِعَةُ لَهُ وَالدَّافِعَةُ عَنْهُ، فَهَذَا لاَ يَجُوزُ لأَِنَّ النَّافِعَ هُوَ اللَّهُ. وَالْمَوْضِعُ الَّذِي أَجَازَهُ إِذَا اعْتَقَدَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ النَّافِعُ وَالدَّافِعُ. وَلَعَل هَذَا
__________
(1) حديث: " إن الرقى والتمائم والتولة شرك ". أخرجه الحاكم (4 / 217 ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه ووافقه الذهبي.
(2) الشرح الصغير 4 / 769، وحاشية ابن عابدين 5 / 232، والفتاوى الحديثة ص120، والدين الخالص 2 / 263.(14/31)
خَرَجَ عَلَى عَادَةِ الْجَاهِلِيَّةِ كَمَا تَعْتَقِدُ أَنَّ الدَّهْرَ يُغَيِّرُهُمْ فَكَانُوا يَسُبُّونَهُ (1) .
وَتُنْظَرُ التَّفَاصِيل الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمَوْضُوعِ فِي (تَعْوِيذٌ) .
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 1 / 321 ط دار الفكر، وكشاف القناع 2 / 77، والدين الخالص 2 / 263، 241، والآداب الشرعية لابن مفلح 3 / 78.(14/31)
تَمْيِيزٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّمْيِيزُ لُغَةً مَصْدَرُ مَيَّزَ. يُقَال: مَازَ الشَّيْءَ إِذَا عَزَلَهُ وَفَرَزَهُ وَفَصَلَهُ، وَتَمَيَّزَ الْقَوْمُ وَامْتَازُوا صَارُوا فِي نَاحِيَةٍ. وَامْتَازَ عَنِ الشَّيْءِ تَبَاعَدَ مِنْهُ وَيُقَال: امْتَازَ الْقَوْمُ إِذَا تَمَيَّزَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ (1) .
وَالْفُقَهَاءُ يَقُولُونَ: سِنُّ التَّمْيِيزِ، وَمُرَادُهُمْ بِذَلِكَ تِلْكَ السِّنُّ الَّتِي إِذَا انْتَهَى إِلَيْهَا الصَّغِيرُ عَرَفَ مَضَارَّهُ وَمَنَافِعَهُ، وَكَأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ مَيَّزْتَ الأَْشْيَاءَ إِذَا فَرَّقْتَ بَيْنَ خَيْرِهَا وَشَرِّهَا بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ بِهَا.
وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (أَهْلِيَّةٌ) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الإِْبْهَامُ:
2 - الإِْبْهَامُ مَصْدَرُ أَبْهَمَ الْخَبَرَ إِذَا لَمْ يَتَبَيَّنْهُ، وَطَرِيقٌ مُبْهَمٌ إِذَا كَانَ خَفِيًّا لاَ يَسْتَبِينُ، وَكَلاَمٌ مُبْهَمٌ لاَ يُعْرَفُ لَهُ وَجْهٌ يُؤْتَى مِنْهُ، وَبَابٌ مُبْهَمٌ مُغْلَقٌ لاَ يُهْتَدَى لِفَتْحِهِ فَهُوَ ضِدُّ التَّمْيِيزِ (2) .
__________
(1) لسان العرب مادة: " ميزة "، وحاشية ابن عابدين 3 / 306، انظر الموسوعة الفقهية 7 / 157.
(2) انظر الموسوعة 1 / 194 مادة: " إبهام ".(14/32)
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالتَّمْيِيزِ:
إِسْلاَمُ الْمُمَيِّزِ وَرِدَّتُهُ:
3 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ إِسْلاَمَ الْمُمَيِّزِ يَصِحُّ اسْتِقْلاَلاً مِنْ غَيْرِ افْتِقَارٍ إِلَى حُكْمِ حَاكِمٍ، أَوْ تَبَعِيَّتِهِ لأَِحَدِ أَبَوَيْهِ؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى الإِْسْلاَمِ، وَهُوَ مَا زَال فِي صِبَاهُ فَأَسْلَمَ، وَكَانَ أَوَّل مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الصِّبْيَانِ؛ وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُل مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ (1) ؛ وَلأَِنَّ الإِْسْلاَمَ عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ فَصَحَّتْ مِنَ الصَّبِيِّ الْعَاقِل كَالصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَغَيْرِهَا مِنَ الْعِبَادَاتِ.
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ فِي الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ أَنَّ إِسْلاَمَ الْمُمَيِّزِ اسْتِقْلاَلاً لاَ يَصِحُّ؛ لأَِنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ بِدَلِيل قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثَةٍ عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ وَفِي رِوَايَةٍ: وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ (2) ".
وَلأَِنَّ نُطْقَهُ بِالشَّهَادَتَيْنِ إِمَّا خَبَرٌ أَوْ إِنْشَاءٌ، فَإِنْ كَانَ خَبَرًا فَخَبَرُهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ، وَإِنْ كَانَ إِنْشَاءً
__________
(1) حديث: " كل مولود يولد على الفطرة ". أخرجه البخاري (الفتح 4 / 246 ط السلفية) من حديث أبي هريرة.
(2) حديث: " رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يفيق ". وفي رواية: " وعن الصبي حتى يبلغ ". أخرجه أبو داود (4 / 559 تحقيق عزت عبيد دعاس) ، والحاكم (2 / 59 ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه ووافقه الذهبي.(14/32)
فَهُوَ كَعُقُودِهِ وَهِيَ بَاطِلَةٌ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الإِْمَامُ زُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ (1) .
وَفِي قَوْلٍ ثَالِثٍ لِلشَّافِعِيَّةِ أَنَّ إِسْلاَمَهُ يَصِحُّ اسْتِقْلاَلاً ظَاهِرًا لاَ بَاطِنًا فَإِنْ بَلَغَ وَاسْتَمَرَّ فِي إِسْلاَمِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ مِنْ يَوْمَئِذٍ، وَإِنْ أَفْصَحَ بِالْكُفْرِ بَعْدَ الْبُلُوغِ تَبَيَّنَ أَنَّ إِسْلاَمَهُ كَانَ لَغْوًا (2) .
أَمَّا رِدَّتُهُ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهَا مُعْتَبَرَةٌ إِلاَّ أَنَّهُ لاَ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ حَتَّى يَبْلُغَ، فَإِنْ تَابَ وَإِلاَّ قُتِل.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّ رِدَّتَهُ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ لِحَدِيثِ رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثٍ وَفِيهِ: عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الإِْمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ حَيْثُ قَال: يَصِحُّ إِسْلاَمُهُ وَلاَ تَصِحُّ رِدَّتُهُ؛ لأَِنَّ الإِْسْلاَمَ مَحْضُ مَصْلَحَةٍ، وَالرِّدَّةَ مَحْضُ مَضَرَّةٍ وَمَفْسَدَةٍ فَلاَ تَصِحُّ مِنْهُ (3) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (رِدَّةٌ) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 306، ومغني المحتاج 4 / 424، وجواهر الإكليل 2 / 280، والمغني لابن قدامة 8 / 133 طبعة الرياض، ومطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى 6 / 290.
(2) مغني المحتاج 4 / 424، وروضة الطالبين 5 / 429.
(3) حاشية ابن عابدين 3 / 306، وجواهر الإكليل 2 / 280. وروضة الطالبين 5 / 429، ومغني المحتاج 4 / 424، والمغني لابن قدامة 8 / 135، ومطالب أولي النهى 6 / 290.(14/33)
عِبَادَةُ الْمُمَيِّزِ:
الصَّغِيرُ الْمُمَيِّزُ غَيْرُ مُخَاطَبٍ بِالتَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ، فَلاَ تَجِبُ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ أَوِ الصَّوْمُ أَوِ الْحَجُّ وَنَحْوُهَا مِنَ الْعِبَادَاتِ وَلَكِنْ تَصِحُّ مِنْهُ، وَعَلَى وَلِيِّهِ أَمْرُهُ بِالصَّلاَةِ لِسَبْعٍ، وَضَرْبُهُ عَلَيْهَا لِعَشْرٍ لِيَتَعَوَّدَهَا؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: مُرُوا أَوْلاَدَكُمْ بِالصَّلاَةِ. (1)
إِمَامَةُ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ فِي الصَّلاَةِ:
4 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالأَْوْزَاعِيُّ إِلَى أَنَّ إِمَامَةَ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ لِلْبَالِغِ فِي الْفَرْضِ لاَ تَصِحُّ؛ لأَِنَّ الإِْمَامَةَ حَال كَمَالٍ، وَالصَّبِيُّ لَيْسَ مِنْ أَهْل الْكَمَال؛ وَلأَِنَّهُ لاَ يُؤْمَنُ مِنْهُ الإِْخْلاَل بِشَرْطٍ مِنْ شَرَائِطِ الصَّلاَةِ.
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَإِسْحَاقُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ أَنَّ إِمَامَتَهُ لِلْبَالِغِ صَحِيحَةٌ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ (2) وَلِمَا رُوِيَ مِنْ أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَانُوا يَؤُمُّونَ أَقْوَامَهُمْ وَهُمْ دُونَ سِنِّ الْبُلُوغِ - أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ أَوْ ثَمَانِي سِنِينَ - فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ عَمْرَو بْنَ سَلَمَةَ كَانَ يَؤُمُّ قَوْمَةَ عَلَى عَهْدِ
__________
(1) حديث: " مروا أولادكم بالصلاة. . . . " أخرجه أبو داود (1 / 334 تحقيق عزت عبيد دعاس) وحسنه النووي في الرياض (ص148 - ط المكتب الإسلامي) .
(2) حديث: " يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله " أخرجه مسلم (1 / 465 - ط الحلبي) من حديث أبي مسعود البدري.(14/33)
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ ابْنُ سِتٍّ أَوْ سَبْعِ سِنِينَ (1) .
وَأَمَّا إِمَامَتُهُ فِي النَّفْل فَالْجُمْهُورُ عَلَى صِحَّتِهَا لأَِنَّ النَّافِلَةَ يَدْخُلُهَا التَّخْفِيفُ، وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ إِمَامَتَهُ فِي النَّفْل لاَ تَجُوزُ كَإِمَامَتِهِ فِي الْفَرْضِ.
إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ وَالشَّافِعِيَّةَ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ وُجُوبَ صَلاَةِ الْجِنَازَةِ يَسْقُطُ بِأَدَاءِ الْمُمَيِّزِ عَنِ الْمُكَلَّفِينَ، وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ يَسْقُطُ عَنِ الْمُكَلَّفِينَ وُجُوبُ رَدِّ التَّحِيَّةِ وَوُجُوبُ الأَْذَانِ بِفِعْل الْمُمَيِّزِ عَلَى الرَّأْيِ الَّذِي يَقُول بِوُجُوبِهِ (2) .
شَهَادَةُ الْمُمَيِّزِ وَإِخْبَارُهُ:
5 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ) إِلَى عَدَمِ قَبُول شَهَادَةِ الْمُمَيِّزِ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ فِي شَيْءٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} (3) وَالصَّبِيُّ لاَ يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الرَّجُل.
إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ يَرَوْنَ أَنَّ الْمُمَيِّزَ يَصِحُّ أَنْ
__________
(1) حديث: " إمامة عمرو بن سلمة لقومه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن ست أو سبع " أخرجه البخاري (الفتح 8 / 22 ط السلفية) .
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 388، وجواهر الإكليل 1 / 78، ومغني المحتاج 1 / 240، والمجموع 5 / 213، والمغني لابن قدامة 9 / 165 ط الرياض، والأشباه والنظائر ص220.
(3) سورة البقرة / 282.(14/34)
يَتَحَمَّل الشَّهَادَةَ وَلَكِنْ لاَ يَجُوزُ لَهُ الأَْدَاءُ حَتَّى يَبْلُغَ فَيُؤَدِّيَ.
وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ شَهَادَةَ الصِّبْيَانِ عَلَى بَعْضِهِمْ فِي الْجِرَاحِ فَتُقْبَل إِذَا شَهِدُوا قَبْل الاِفْتِرَاقِ عَنِ الْحَالَةِ الَّتِي تَجَارَحُوا عَلَيْهَا فِي الدِّمَاءِ، عَلَى تَفْصِيلٍ وَشُرُوطٍ تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (شَهَادَةٌ) .
وَهُنَاكَ رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِقَبُول شَهَادَتِهِ فِي غَيْرِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ إِذَا بَلَغَ عَشْرَ سِنِينَ.
وَيَرَى بَعْضُ السَّلَفِ وَمِنْهُمْ الإِْمَامُ عَلِيٌّ وَشُرَيْحٌ وَالْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ أَنَّ شَهَادَةَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ مَقْبُولَةٌ فِيمَا كَانَ بَيْنَهُمْ (1) .
هَذَا فِي الشَّهَادَةِ، أَمَّا فِي الإِْخْبَارِ فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَخْبَرَ الْمُسْتَأْذِنَ بِالإِْذْنِ بِالدُّخُول عُمِل بِخَبَرِهِ مَعَ مَا يُفِيدُ الْعِلْمَ أَوِ الظَّنَّ مِنْ قَرِينَةٍ أَوْ مِنْ قَوْلِهِ لاِعْتِمَادِ السَّلَفِ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ (2) .
تَصَرُّفَاتُ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ وَإِيصَالُهُ الْهَدِيَّةَ:
6 - أَمَّا تَصَرُّفَاتُ الصَّبِيِّ:
1 - فَمَا كَانَ مِنْهَا نَافِعًا لَهُ نَفْعًا مَحْضًا صَحَّ مِنْهُ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهِ.
__________
(1) البدائع 6 / 266، وجواهر الإكليل 2 / 238، ومغني المحتاج 4 / 424، 427، والمغني لابن قدامة 9 / 164، ومغني المحتاج 2 / 424.
(2) مغني المحتاج2 / 8، والإنصاف 4 / 269.(14/34)
2 - وَمَا كَانَ ضَارًّا بِهِ ضَرَرًا مَحْضًا، فَلاَ يَصِحُّ وَلَوْ أَذِنَ وَلِيُّهُ.
3 - وَمَا كَانَ مُتَرَدِّدًا بَيْنَهُمَا لاَ يَمْلِكُهُ إِلاَّ بِإِذْنِ الْوَلِيِّ (1) .
عَلَى تَفْصِيلٍ يُذْكَرُ فِي مُصْطَلَحِ (أَهْلِيَّةٌ، عَوَارِضُ الأَْهْلِيَّةِ) .
وَإِذَا أَوْصَل الْمُمَيِّزُ هَدِيَّةً إِلَى غَيْرِهِ، وَقَال هِيَ مِنْ زَيْدٍ مَثَلاً، عُمِل بِخَبَرِهِ إِذَا كَانَ مَعَهُ مَا يُفِيدُ الْعِلْمَ أَوِ الظَّنَّ لاِعْتِمَادِ السَّلَفِ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ (2) .
مَا يَحِل لِلْمُمَيِّزِ النَّظَرُ إِلَيْهِ مِنَ الْمَرْأَةِ:
7 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُمَيِّزَ لاَ يَنْظُرُ مِنَ الأَْجْنَبِيَّةِ أَوِ الْمَحَارِمِ إِلَى مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ.
ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي نَظَرِ الْمُمَيِّزِ إِلَى الأَْجْنَبِيَّةِ فِيمَا عَدَا مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ عَلَى الآْرَاءِ التَّالِيَةِ:
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ رَاهَقَ (أَيْ قَارَبَ الْبُلُوغَ) فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْبَالِغِ فِي وُجُوبِ الاِسْتِتَارِ مِنْهُ وَتَحْرِيمِ نَظَرِهِ إِلَى الأَْجْنَبِيَّةِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّ لِلْمُمَيِّزِ النَّظَرَ إِلَى مَا فَوْقَ السُّرَّةِ وَتَحْتَ الرُّكْبَةِ.
__________
(1) تيسير التحرير 2 / 256 - 257 ط مصطفى الحلبي. وانظر مصطلح (أهلية) من الموسوعة الفقهية (ج7 / ص195) .
(2) مغني المحتاج 2 / 8، والإنصاف 4 / 269، والأشباه والنظائر للسيوطي ص223.(14/35)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُمَيِّزَ لَهُ النَّظَرُ إِلَى الأَْجْنَبِيَّةِ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ إِلَى مَا فَوْقَ السُّرَّةِ وَتَحْتَ الرُّكْبَةِ، وَهُوَ قَوْلٌ آخَرُ لِلشَّافِعِيَّةِ.
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لِلْحَنَابِلَةِ أَنَّ حُكْمَ الْمُمَيِّزِ حُكْمُ ذِي الْمَحْرَمِ فِي النَّظَرِ، أَيْ يَنْظُرُ إِلَى مَا يَظْهَرُ غَالِبًا كَالرَّقَبَةِ وَالرَّأْسِ وَالْكَفَّيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَقِيل لِلإِْمَامِ أَحْمَدَ: مَتَى تُغَطِّي الْمَرْأَةُ رَأْسَهَا مِنَ الْغُلاَمِ؟ فَقَال: إِذَا بَلَغَ عَشْرَ سِنِينَ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (عَوْرَةٌ) ، (نَظَرٌ) .
تَخْيِيرُ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ بَيْنَ الأُْمِّ وَالأَْبِ فِي الْحَضَانَةِ:
8 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا أَتَمَّ الطِّفْل سَبْعَ سِنِينَ خُيِّرَ بَيْنَ أَبَوَيْهِ فَكَانَ مَعَ مَنِ اخْتَارَ مِنْهُمَا، وَذَلِكَ إِذَا كَانَتْ شُرُوطُ الْحَضَانَةِ مُتَوَفِّرَةً فِيهِمَا مَعًا.
أَمَّا إِذَا تَخَلَّفَ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ الْحَضَانَةِ فِي أَحَدِ الأَْبَوَيْنِ فَالْحَقُّ لِلآْخَرِ؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خَيَّرَ غُلاَمًا بَيْنَ أَبِيهِ وَأُمِّهِ (2) .
__________
(1) أحكام القرآن لابن العربي 3 / 1363، وتفسير القرطبي 12 / 237، ومغني المحتاج 3 / 130، والمغني لابن قدامة 6 / 557، وحاشية ابن عابدين 5 / 233، 1 / 273، والأشباه والنظائر للسيوطي ص221 وفيه تفصيل.
(2) حديث: " خَيَّرَ صلى الله عليه وسلم غلاما بين أبيه وأمه " أخرجه ابن ماجه (2 / 788 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة وصححه ابن القطان كما في التلخيص لابن حجر (4 / 12 - ط شركة الطباعة الفنية) .(14/35)
إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ يَرَوْنَ أَنَّ مَدَارَ الْحُكْمِ عَلَى التَّمْيِيزِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَى سِنٍّ بِخُصُوصِهِ وَإِنْ كَانَ سِنُّ التَّمْيِيزِ غَالِبًا سَبْعَ سِنِينَ، فَإِذَا حَصَل التَّمْيِيزُ قَبْلَهَا أَوْ بَعْدَهَا فَالْمَدَارُ عَلَيْهِ، أَمَّا الْبِنْتُ الْمُمَيِّزَةُ فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهَا كَالصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ فِي التَّخْيِيرِ.
وَلاَ تَخْيِيرَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ لِلْمُمَيِّزِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْبِنْتِ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (تَخْيِيرٌ) .
مَنَاطُ التَّكْلِيفِ التَّمْيِيزُ أَوِ الْبُلُوغُ:
9 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ مَنَاطَ التَّكْلِيفِ فِي الإِْنْسَانِ هُوَ الْبُلُوغُ وَلَيْسَ التَّمْيِيزَ، وَأَنَّ الصَّبِيَّ الْمُمَيِّزَ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ الْوَاجِبَاتِ وَلاَ يُعَاقَبُ بِتَرْكِ شَيْءٍ مِنْهَا، أَوْ بِفِعْل شَيْءٍ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ فِي الآْخِرَةِ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثَةٍ عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ (2) .
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا ارْتَدَّ الصَّبِيُّ الْعَاقِل صَحَّ كَإِسْلاَمِهِ، وَالْعَاقِل هُوَ الْمُمَيِّزُ وَهُوَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 640، وجواهر الإكليل 1 / 416، والقوانين الفقهية ص229، ومغني المحتاج 3 / 456، وحاشية الباجوري 2 / 201، والمغني لابن قدامة 7 / 614.
(2) حديث: " رفع القلم عن ثلاثة. . . . " تقدم تخريجه ف / 3.(14/36)
ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ وَقِيل: هُوَ الَّذِي يَعْقِل أَنَّ الإِْسْلاَمَ سَبَبُ النَّجَاةِ وَيُمَيِّزُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ (1) .
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي " أَهْلِيَّةٌ ".
تَمْيِيزُ الْمُسْتَحَاضَةِ:
10 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمُسْتَحَاضَةِ وَهِيَ مَنْ لَهَا عَادَةٌ وَتَمْيِيزٌ هَل تَعْمَل بِعَادَتِهَا أَوْ تَمْيِيزِهَا، وَكَذَلِكَ الْمُبْتَدِأَةُ فِي تَمْيِيزِ حَيْضِهَا مِنِ اسْتِحَاضَتِهَا (2)
عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (اسْتِحَاضَةٌ) ،
(حَيْضٌ) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 306، 307، والمغني لابن قدامة 1 / 399، 616، فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت 1 / 154، ومغني المحتاج 1 / 130.
(2) انظر الموسوعة الفقهية ج3 ص197 وما بعدها.(14/36)
تَنَابُزٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّنَابُزُ: لُغَةً التَّدَاعِي بِالأَْلْقَابِ، وَهُوَ يَكْثُرُ فِيمَا كَانَ ذَمًّا، وَأَصْلُهُ النَّبَزُ، وَهُوَ اللَّقَبُ، وَالْمَصْدَرُ النَّبْزُ (1) . قَال تَعَالَى: {وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَْلْقَابِ} (2)
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، وَلَكِنْ خُصَّ بِمَا يَكْرَهُهُ الشَّخْصُ مِنَ الأَْلْقَابِ (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - السُّخْرِيَةُ:
2 - السُّخْرِيَةُ الْهُزْءُ يُقَال: سَخِرَ مِنْهُ وَبِهِ إِذَا هَزِئَ بِهِ. فَالسُّخْرِيَةُ أَعَمُّ؛ لأَِنَّهَا تَكُونُ بِالتَّنَابُزِ وَغَيْرِهِ (4) .
__________
(1) النهاية لابن الأثير 5 / 8 - دار الفكر، ومفردات القرآن، ولسان العرب، والمعجم الوسيط مادة: " نبز ".
(2) سورة الحجرات / 11.
(3)) روح المعاني 26 / 154 - المنيرية، القرطبي 16 / 328 - دار الكتب، الطبري 16 / 132 - الحلبي.
(4) المفردات، واللسان، والمعجم الوسيط، والمصباح المنير مادة: " سخر ".(14/37)
ب - الْغِيبَةُ:
3 - الْغِيبَةُ فِي اللُّغَةِ: اسْمٌ مِنِ اغْتَابَ اغْتِيَابًا، إِذَا ذَكَرَ أَخَاهُ الْغَائِبَ بِمَا يَكْرَهُ مِنَ الْعُيُوبِ وَهِيَ فِيهِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ فَهُوَ بُهْتَانٌ. كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ (1) .
وَالْغِيبَةُ اصْطِلاَحًا: أَنْ تَذْكُرَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ، فَالتَّنَابُزُ أَخَصُّ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَكُونُ إِلاَّ فِي اللَّقَبِ، وَأَمَّا الْغِيبَةُ فَتَكُونُ بِاللَّقَبِ وَغَيْرِهِ (2) .
ج - التَّعْرِيضُ:
4 - التَّعْرِيضُ: هُوَ مَا يَفْهَمُ بِهِ السَّامِعُ مُرَادَ الْمُتَكَلِّمِ مِنْ غَيْرِ تَصْرِيحٍ، فَالتَّنَابُزُ لاَ يَكُونُ إِلاَّ صَرِيحًا بِخِلاَفِ التَّعْرِيضِ.
حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ:
5 - اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى تَحْرِيمِ تَلْقِيبِ الإِْنْسَانِ بِمَا يَكْرَهُ، سَوَاءٌ كَانَ صِفَةً لَهُ أَوْ لأَِبِيهِ أَوْ لأُِمِّهِ أَوْ غَيْرِهِمَا (3) ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَْلْقَابِ} (4)
__________
(1) نص الحديث: " قال رسول الله: " أتدرون ما الغيبة "؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: " ذكرك أخاك بما يكره ". أخرجه مسلم (4 / 2001) ط الحلبي من حديث أبي هريرة.
(2) المراجع السابقة، والتعريفات للجرجاني.
(3) الطبري 26 / 132 الحلبي، والجصاص 3 / 404 - دار الكتاب العربي، والكشاف 4 / 369 - دار الكتاب العربي، والقرطبي 16 / 328، وروح المعاني 26 / 154، والإحياء 3 / 146 الحلبي، وفتح الباري 10 / 469 - السلفية، والزواجر 2 / 4 - الحلبي.
(4) سورة الحجرات / 11.(14/37)
قَال ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ: التَّنَابُزُ مِنْ أَفْرَادِ الْغِيبَةِ، وَهُوَ مِنْ أَفْحَشِ أَنْوَاعِهَا.
وَقَال أَيْضًا: التَّنَابُزُ حَرَامٌ، وَهُوَ أَشَدُّ حُرْمَةً فِي الصَّالِحِينَ وَالْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ.
قَال النَّوَوِيُّ: وَمِمَّنْ يَسْتَعْمِل التَّعْرِيضَ فِي ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ فِي التَّصَانِيفِ وَغَيْرِهَا، كَقَوْلِهِمْ قَال بَعْضُ مَنْ يَدَّعِي الْعِلْمَ، أَوْ بَعْضُ مَنْ يُنْسَبُ إِلَى الصَّلاَحِ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يَفْهَمُ السَّامِعُ الْمُرَادَ مِنْهُ (1) .
الْحَالاَتُ الْمُسْتَثْنَاةُ مِنَ التَّنَابُزِ:
6 - أ - مَا يُحِبُّهُ الإِْنْسَانُ مِنَ الأَْلْقَابِ الَّتِي تَزِينُهُ، وَلَيْسَ فِيهَا إِطْرَاءٌ مِمَّا يَدْخُل فِي نَهْيِ الشَّارِعِ (2) ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ (3) "
لأَِنَّ هَذِهِ الأَْلْقَابَ لَمْ تَزَل مُسْتَحْسَنَةً فِي الأُْمَمِ كُلِّهَا مِنَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ تَجْرِي فِي مُخَاطَبَاتِهِمْ وَمُكَاتَبَاتِهِمْ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ.
وَقَدْ لُقِّبَ أَبُو بَكْرٍ بِالْعَتِيقِ، وَعُمَرُ بِالْفَارُوقِ وَغَيْرُهُمَا.
__________
(1) الزواجر 2 / 4، 14، وفتح الباري 10 / 469.
(2) المراجع السابقة.
(3) حديث: " لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم " أخرجه البخاري (الفتح 12 / 144 - ط السلفية) من حديث عمر بن الخطاب.(14/38)
وَالتَّكْنِيَةُ مِنَ السُّنَّةِ وَالأَْدَبِ الْحَسَنِ، قَال عُمَرُ: أَشِيعُوا الْكُنَى فَإِنَّهَا مَنْبَهَةٌ.
7 - ب - إِذَا كَانَ الإِْنْسَانُ مَعْرُوفًا بِلَقَبٍ يُعْرِبُ عَنْ عَيْبِهِ، كَالأَْعْرَجِ وَالأَْعْمَشِ، فَلاَ إِثْمَ عَلَى مَنْ يَعْرِفُهُ بِهِ.
وَقَدْ فَعَل الْعُلَمَاءُ ذَلِكَ لِضَرُورَةِ التَّعْرِيفِ، وَدَلِيلُهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سَلَّمَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ فِي صَلاَةِ الظُّهْرِ، فَقَال: أَصَدَقَ ذُو الْيَدَيْنِ (1) ؟ "
أَمَّا إِنْ وَجَدَ عَنْهُ مَعْدِلاً، وَأَمْكَنَهُ التَّعْرِيفُ بِعِبَارَةٍ أُخْرَى فَهُوَ أَوْلَى؛ لِذَلِكَ يُقَال لِلأَْعْمَى: (الْبَصِيرُ) عُدُولاً عَنِ اسْمِ النَّقْصِ.
تَنَازُعٌ
اُنْظُرْ: اخْتِلاَفٌ.
__________
(1) حديث: " أصدق ذو اليدين " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 98 - ط السلفية) من حديث أبي هريرة.(14/38)
تَنَازُعٌ بِالأَْيْدِي
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّنَازُعُ فِي اللُّغَةِ: التَّخَاصُمُ يُقَال: تَنَازَعَ الْقَوْمُ تَخَاصَمُوا. فَفِي الْحَدِيثِ: مَالِي أُنَازَعُ فِي الْقُرْآنِ (1) وَالأَْيْدِي جَمْعُ يَدٍ (2) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ الشَّرْعِيِّ هُوَ تَنَازُعُ شَخْصَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ فِي وَضْعِ الْيَدِ عَلَى عَيْنٍ (3) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ وَضْعَ الْيَدِ عَلَى الشَّيْءِ الْمُتَنَازَعِ عَلَيْهِ مِنْ أَسْبَابِ الرُّجْحَانِ فِي دَعْوَى الْمِلْكِيَّةِ إِذَا لَمْ تُوجَدْ حُجَّةٌ أَقْوَى مِنْهَا كَالْبَيِّنَةِ، فَإِذَا تَنَازَعَ اثْنَانِ عَلَى مِلْكِيَّةِ شَيْءٍ، وَهُوَ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا، وَلَمْ تَقُمْ بَيِّنَةٌ لأَِحَدِهِمَا قُضِيَ لِصَاحِبِ الْيَدِ بِيَمِينِهِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ لِخَبَرِ الْبَيِّنَةُ
__________
(1) حديث: " مالي أنازع في القرآن " أخرجه الترمذي (2 / 119 ط الحلبي) من حديث أبي هريرة وحسنه الترمذي.
(2) تاج العروس مادة: " نزع ".
(3) فتح القدير 6 / 274، والمبسوط 17 / 35.(14/39)
عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ (1)
وَكَذَلِكَ إِذَا تَنَازَعَا فِي وَضْعِ الْيَدِ عَلَى الشَّيْءِ الْمُتَنَازَعِ عَلَيْهِ يَدَّعِي كُلٌّ مِنْهُمَا أَنَّهُ بِيَدِهِ، فَعَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةُ (2) . لأَِنَّ دَعْوَى الْيَدِ مَقْصُودَةٌ كَمَا أَنَّ دَعْوَى الْمِلْكِ مَقْصُودَةٌ؛ لأَِنَّ الْيَدَ يُتَوَصَّل بِهَا إِلَى الاِنْتِفَاعِ بِالْمِلْكِ، وَالتَّصَرُّفِ فِيهِ (3) . فَإِنْ كَانَ أَقَامَ كُلٌّ مِنْهُمَا بَيِّنَةً عَلَى أَنَّ الشَّيْءَ فِي يَدِهِ جُعِل فِي يَدِ كُلٍّ مِنْهُمَا نِصْفُهُ لِتَعَارُضِ الْبَيِّنَتَيْنِ، وَتَسَاوِيهِمَا، فَإِنَّ التَّسَاوِيَ فِي سَبَبِ الاِسْتِحْقَاقِ يُوجِبُ التَّسَاوِيَ فِي الاِسْتِحْقَاقِ، وَإِنْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا بَيِّنَةً عَلَى أَنَّ الشَّيْءَ فِي يَدِهِ قُضِيَ أَنَّهُ ذُو الْيَدِ، وَإِنْ لَمْ تَقُمْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ، وَطَلَبَ كُلٌّ مِنْهُمَا يَمِينَ خَصْمِهِ عَلَى أَنَّ الشَّيْءَ لَيْسَ بِيَدِهِ، فَعَلَى كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَحْلِفَ عَلَى أَنَّ الشَّيْءَ لَيْسَ فِي يَدِ خَصْمِهِ؛ لأَِنَّهُ لَوْ أَقَرَّ لِخَصْمِهِ بِمَا ادَّعَى لَزِمَهُ حَقُّهُ، فَإِذَا أَنْكَرَ حَلَفَ لَهُ.
__________
(1) حديث: " البينة على المدعي، واليمين على من أنكر " أخرجه الدارقطني في سننه (3 / 110 ط دار المحاسن) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، وضعفه ابن حجر في التلخيص (4 / 208 - ط شركة الطباعة الفنية) . ولكن روى البخاري (الفتح 8 / 213 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1336 - ط الحلبي) من حديث ابن عباس مرفوعا: " اليمين على المدعي عليه ". وأخرج البيهقي في سننه (10 / 252 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث ابن عباس كذلك قوله: " البينة على المدعي "، وإسناده صحيح.
(2) المصادر السابقة، وروضة الطالبين 11 / 269، وفتح القدير 6 / 256.
(3) المبسوط 17 / 35 - 36.(14/39)
فَإِنْ حَلَفَا مَعًا فَلاَ يُحْكَمُ بِوَضْعِ الْيَدِ لأَِحَدٍ مِنْهُمَا (1) .
لأَِنَّ حُجَّةَ الْقَضَاءِ بِالْيَدِ لَمْ تَقُمْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَيُوقَفُ الْعَقَارُ الْمُتَنَازَعُ عَلَيْهِ إِلَى ظُهُورِ حَقِيقَةِ الْحَال (2) . وَإِنْ نَكَل أَحَدُهُمَا وَحَلَفَ الآْخَرُ يُحْكَمُ بِكَوْنِ الْحَالِفِ وَاضِعَ الْيَدِ عَلَى الشَّيْءِ (3) . وَقَال السَّرَخْسِيُّ: لاَ يَجْعَل الْقَاضِي الْعَيْنَ الْمُتَنَازَعَ عَلَيْهَا فِي يَدِ الْحَالِفِ بِنُكُول الآْخَرِ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ فِي يَدِ ثَالِثٍ، وَأَنَّهُمَا تَوَاضَعَا لِلتَّلْبِيسِ عَلَى الْقَاضِي. هَذَا وَلاَ تَكُونُ الشَّهَادَةُ عَلَى الْيَدِ شَهَادَةً عَلَى الْمِلْكِ. كَمَا لاَ يَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَى الْمِلْكِ اعْتِمَادًا عَلَى الْيَدِ (4) . وَأَغْلَبُ هَذِهِ التَّفَاصِيل فِي كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ، وَلاَ تَأْبَى ذَلِكَ قَوَاعِدُ الْمَذَاهِبِ الأُْخْرَى.
3 - أَمَّا إِذَا كَانَ الشَّيْءُ فِي يَدَيْهِمَا وَلَكِنْ يَدُ أَحَدِهِمَا أَقْوَى مِنْ يَدِ الآْخَرِ كَأَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا رَاكِبًا عَلَى الدَّابَّةِ وَالآْخَرُ مُتَعَلِّقًا بِزِمَامِهَا فَالرَّاكِبُ أَوْلَى لأَِنَّ تَصَرُّفَهُ أَظْهَرُ، لأَِنَّ الرُّكُوبَ يَخْتَصُّ بِالْمِلْكِ.
وَكَذَا إِذَا تَنَازَعَا فِي قَمِيصٍ أَحَدُهُمَا لاَبِسُهُ
__________
(1) مجلة الأحكام 5 / 413 - مادة 1754 وشرحها، والمبسوط 17 / 35، 36، 37.
(2) شرح المجلة 5 / 431 - 433 مادة: 1754، والمبسوط 17 / 35 - 37.
(3) مجلة الأحكام مادة 1754، وحاشية ابن عابدين 4 / 443، والمبسوط 17 / 36.
(4) روضة الطالبين 11 / 269.(14/40)
وَالآْخَرُ يُمْسِكُ بِكُمِّهِ فَلاَبِسُهُ أَوْلَى لأَِنَّهُ أَظْهَرُهُمَا تَصَرُّفًا (1) ..
التَّنَازُعُ فِي جِدَارٍ حَائِلٍ بَيْنَ مِلْكَيْهِمَا:
4 - إِذَا تَدَاعَيَا جِدَارًا حَائِلاً بَيْنَ مِلْكَيْهِمَا فَإِنْ كَانَ بِنَاءُ أَحَدِهِمَا مُتَّصِلاً بِالْجِدَارِ دُونَ الآْخَرِ اتِّصَالاً لاَ يُمْكِنُ إِحْدَاثُهُ بَعْدَ بِنَائِهِ فَهُوَ صَاحِبُ الْيَدِ، وَإِنْ كَانَ الْجِدَارُ مُتَّصِلاً بِبِنَائِهِمَا جَمِيعًا أَوْ مُنْفَصِلاً عَنْهُمَا، فَهُوَ فِي أَيْدِيهِمَا، فَإِنْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا بَيِّنَةً قُضِيَ لَهُ، وَإِلاَّ فَيَحْلِفُ كُلٌّ مِنْهُمَا لِلآْخَرِ، فَإِذَا حَلَفَا أَوْ نَكَلاَ جُعِل الْجِدَارُ بَيْنَهُمَا بِظَاهِرِ الْيَدِ، وَإِنْ حَلَفَ أَحَدُهُمَا وَنَكَل الآْخَرُ قُضِيَ لِلْحَالِفِ بِالْجَمِيعِ (2) .
وَإِنْ تَنَازَعَا فِي السَّقْفِ الْمُتَوَسِّطِ بَيْنَ سُفْل أَحَدِهِمَا وَعُلُوِّ الآْخَرِ فَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ إِحْدَاثُهُ بَعْدَ بِنَاءِ الْعُلُوِّ جُعِل فِي يَدِ صَاحِبِ السُّفْل، وَإِنْ أَمْكَنَ، فَهُمَا صَاحِبَا يَدٍ؛ لأَِنَّ لِكُلٍّ مِنْهُمَا يَدًا وَتَصَرُّفًا؛ وَلاِشْتَرَاكِهِمَا فِي الاِنْتِفَاعِ (3) .
وَإِنْ كَانَ لأَِحَدِهِمَا عُلُوُّ الدَّارِ، وَالسُّفْل لِلآْخَرِ وَتَنَازَعَا فِي الْعَرْصَةِ أَوِ الدِّهْلِيزِ فَإِنْ كَانَ الْمَرْقَى فِي
__________
(1) المغني 9 / 324، وفتح القدير 6 / 247، وحاشية ابن عابدين 4 / 442.
(2) روضة الطالبين 11 / 225 - 226، والمغني 9 / 324، وفتح القدير 6 / 250 - 251.
(3) روضة الطالبين 11 / 226، والمغني 9 / 324، وابن عابدين 4 / 442، ومطالب أولي النهى 6 / 567.(14/40)
الْمَدْخَل الْمُشْتَرَكِ، جُعِلَتِ الْعَرْصَةُ بَيْنَهُمَا لأَِنَّ لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدًا وَتَصَرُّفًا بِالاِسْتِطْرَاقِ وَوَضْعِ الأَْمْتِعَةِ وَغَيْرِهِمَا. وَإِنْ كَانَ الْمَرْقَى إِلَى الْعُلُوِّ فِي الدِّهْلِيزِ أَوِ الْوَسَطِ، فَمِنْ أَوَّل الْبَابِ إِلَى الْمَرْقَى بَيْنَهُمَا، وَفِيمَا وَرَاءَهُ لِصَاحِبِ السُّفْل لاِنْقِطَاعِ صَاحِبِ الْعُلُوِّ عَنْهُ (1) .
__________
(1) روضة الطالبين 11 / 226 - 227، والمغني 9 / 325، ومطالب أولي النهى 6 / 568.(14/41)
تَنَاسُخٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّنَاسُخُ: مَصْدَرُ تَنَاسَخَ. وَلَهُ فِي اللُّغَةِ مَعَانٍ: فَهُوَ فِي الْمِيرَاثِ أَنْ تَمُوتَ وَرَثَةٌ بَعْدَ وَرَثَةٍ وَأَصْل الْمِيرَاثِ قَائِمٌ لَمْ يُقْسَمْ. فَهُوَ لاَ يُقْسَمُ عَلَى حُكْمِ الْمَيِّتِ الأَْوَّل بَل عَلَى حُكْمِ الثَّانِي وَكَذَا مَا بَعْدَهُ. وَفِي الأَْزْمِنَةِ وَالْقُرُونِ: تَتَابُعُهَا وَتَدَاوُلُهَا وَانْقِرَاضُ قَرْنٍ بَعْدَ قَرْنٍ آخَرَ. لأَِنَّ كُل وَاحِدٍ يَنْسَخُ حُكْمَ مَا قَبْلَهُ وَيُثْبِتُ الْحُكْمَ لِنَفْسِهِ فَاَلَّذِي يَأْتِي بَعْدَهُ يَنْسَخُ حُكْمَ ذَلِكَ الثُّبُوتِ وَيُغَيِّرُهُ إِلَى حُكْمٍ يَخْتَصُّ هُوَ بِهِ.
وَالتَّنَاسُخُ وَالْمُنَاسَخَةُ بِمَعْنًى وَهِيَ مَصْدَرُ نَاسَخَ فَهِيَ مُفَاعَلَةٌ مِنَ النَّسْخِ وَهُوَ النَّقْل وَالتَّبْدِيل وَالتَّحْوِيل (1) . وَتَنَاسُخُ الأَْرْوَاحِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ: هُوَ انْتِقَال الأَْرْوَاحِ بَعْدَ مُفَارَقَتِهَا الأَْجْسَادَ إِلَى أَجْسَادٍ أُخَرَ إِمَّا مِنْ نَوْعِهَا أَوْ مِنْ نَوْعٍ آخَرَ. وَهَذِهِ مِنَ الْعَقَائِدِ الْمُكَفِّرَةِ بِإِجْمَاعِ أَهْل الإِْسْلاَمِ (2) ،
وَتَفْصِيلُهُ فِي كُتُبِ الْعَقِيدَةِ.
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، ومحيط المحيط مادة: " نسخ " قواعد الفقه للبركني (الرسالة الرابعة) 238.
(2) الفصل لابن حزم 1 / 90.(14/41)
وَفِي اصْطِلاَحِ الْفَرْضِيِّينَ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا: نَقْل نَصِيبِ بَعْضِ الْوَرَثَةِ بِمَوْتِهِ قَبْل الْقِسْمَةِ إِلَى مَنْ يَرِثُ مِنْهُ (1) . وَذَلِكَ بِأَنْ يَمُوتَ إِنْسَانٌ وَلَمْ تُقْسَمْ تَرِكَتُهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ حَتَّى يَمُوتَ مِنْ بَعْدِهِ مِنْهُمْ وَارِثٌ أَوْ أَكْثَرُ قَبْل الْقِسْمَةِ.
وَقَدِ اسْتَعْمَل الْفَرَضِيُّونَ هَذَا اللَّفْظَ فِي الْفَرِيضَةِ الَّتِي فِيهَا مَيِّتَانِ فَأَكْثَرُ وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٍ قَبْل قِسْمَةِ تَرِكَةِ الأَْوَّل.
وَسُمِّيَتْ مُنَاسَخَةً لأَِنَّ الْمَسْأَلَةَ الأُْولَى انْتَسَخَتْ بِالثَّانِيَةِ لِزَوَال حُكْمِ الْمَيِّتِ الأَْوَّل وَرَفْعِهِ، وَقِيل: لأَِنَّ الْمَال تَنَاسَخَتْهُ الأَْيْدِي بِنَقْلِهِ مِنْ وَارِثٍ إِلَى وَارِثٍ (2) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - تَجْرِي عَلَى الْمُنَاسَخَةِ أَحْكَامٌ نَصَّ عَلَيْهَا الْفَرَضِيُّونَ فَقَالُوا:
إِذَا مَاتَ الرَّجُل وَلَمْ تُقْسَمْ تَرِكَتُهُ حَتَّى مَاتَ بَعْضُ وَرَثَتِهِ وَصَارَ بَعْضُ الأَْنْصِبَاءِ مِيرَاثًا قَبْل الْقِسْمَةِ، فَالْحَال لاَ يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ وَرَثَةُ الْمَيِّتِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 511، والسراجية 259، والتعريفات للجرجاني ص235.
(2) الفتاوى الهندية 6 / 470، والاختيار شرح المختار 5 / 117 دار المعرفة، وشرح الرحبية 96 ط محمد علي صبيح، والشرح الكبير 4 / 479، والخرشي على مختصر خليل 8 / 216 دار صارد، والمغني لابن قدامة 6 / 197 ط الرياض الحديثة، وكشاف القناع 4 / 443 م النصر الحديثة، وقواعد الفقه للبركني (الرسالة الرابعة 238، 508) .(14/42)
الثَّانِي هُمْ وَرَثَةَ الْمَيِّتِ الأَْوَّل أَوْ يَكُونَ فِي وَرَثَةِ الْمَيِّتِ الثَّانِي مَنْ لاَ يَكُونُ وَارِثًا لِلْمَيِّتِ الأَْوَّل. ثُمَّ لاَ يَخْلُو إِمَّا أَنْ تَكُونَ قِسْمَةُ التَّرِكَةِ الثَّانِيَةِ وَقِسْمَةُ التَّرِكَةِ الأُْولَى سَوَاءً، أَوْ تَكُونَ قِسْمَةُ التَّرِكَةِ الثَّانِيَةِ بِغَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي قُسِمَتِ التَّرِكَةُ الأُْولَى عَلَيْهِ، ثُمَّ لاَ يَخْلُو إِمَّا أَنْ تَسْتَقِيمَ قِسْمَةُ نَصِيبِ الْمَيِّتِ الثَّانِي مِنْ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ الأَْوَّل بَيْنَ وَرَثَتِهِ مِنْ غَيْرِ كَسْرٍ أَوْ يَنْكَسِرُ.
فَإِنْ كَانَ وَرَثَةُ الْمَيِّتِ الثَّانِي هُمْ وَرَثَةَ الْمَيِّتِ الأَْوَّل وَلاَ تَغَيُّرَ فِي الْقِسْمَةِ. تُقْسَمُ التَّرِكَةُ قِسْمَةً وَاحِدَةً بَيْنَ الْوَرَثَةِ الْمَوْجُودِينَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمَيِّتَ الثَّانِيَ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا وَقْتَ وَفَاةِ الْمُتَوَفَّى الأَْوَّل، وَلاَ دَاعِيَ لِقِسْمَةِ التَّرِكَةِ بَيْنَ وَرَثَةِ الْمُتَوَفَّى الأَْوَّل، ثُمَّ بَيْنَ وَرَثَةِ الْمُتَوَفَّى الثَّانِي؛ لأَِنَّهُمْ لَمْ يَتَغَيَّرُوا.
فَإِذَا تُوُفِّيَ شَخْصٌ عَنْ بَنِينَ وَبَنَاتٍ مِنِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ، ثُمَّ مَاتَ أَحَدُ الْبَنِينَ أَوْ إِحْدَى الْبَنَاتِ وَلاَ وَارِثَ لَهُ سِوَى الإِْخْوَةِ وَالأَْخَوَاتِ لأَِبٍ وَأُمٍّ فَإِنَّهُ يُقْسَمُ مَجْمُوعُ التَّرِكَةِ بَيْنَ الْبَاقِينَ عَلَى صِفَةٍ وَاحِدَةٍ لِلذَّكَرِ مِثْل حَظِّ الأُْنْثَيَيْنِ، فَيَكْتَفِي بِقِسْمَةٍ وَاحِدَةٍ بَيْنَهُمْ، وَكَأَنَّ الْمَيِّتَ الثَّانِيَ لَمْ يَكُنْ فِي الْبَيْنِ.
وَأَمَّا إِذَا كَانَ فِي وَرَثَةِ الْمَيِّتِ الثَّانِي مَنْ لَمْ يَكُنْ وَارِثًا لِلْمَيِّتِ الأَْوَّل، فَإِنَّهُ تُقْسَمُ تَرِكَةُ الْمَيِّتِ الأَْوَّل بَيْنَ وَرَثَتِهِ أَوَّلاً لِيَتَبَيَّنَ نَصِيبُ الثَّانِي، ثُمَّ تُقْسَمُ تَرِكَةُ الْمَيِّتِ الثَّانِي بَيْنَ وَرَثَتِهِ وَفْقَ أَحْكَامِ الْمِيرَاثِ.
فَإِذَا تُوُفِّيَ الأَْوَّل عَنِ ابْنٍ وَابْنَةٍ وَلَمْ تُقْسَمْ تَرِكَتُهُ(14/42)
بَيْنَهُمَا حَتَّى مَاتَ الاِبْنُ عَنْ بِنْتِهِ وَأُخْتِهِ فَإِنَّ تَرِكَةَ الأَْوَّل تُقْسَمُ بَيْنَ الاِبْنِ وَالْبِنْتِ لِلذَّكَرِ مِثْل حَظِّ الأُْنْثَيَيْنِ.
وَإِنْ مَاتَ بَعْضُ وَرَثَةِ الْمَيِّتِ الثَّانِي قَبْل قِسْمَةِ التَّرِكَةِ بَيْنَ وَرَثَتِهِ فَهُوَ عَلَى ذَاتِ التَّقْسِيمَاتِ.
وَإِنْ كَانَ فِي وَرَثَةِ الْمَيِّتِ الثَّالِثِ مَنْ لَمْ يَكُنْ وَارِثًا لِلأَْوَّلِينَ فَالسَّبِيل أَنْ تُجْعَل فَرِيضَةُ الأَْوَّلِينَ كَفَرِيضَةٍ وَاحِدَةٍ بِالطَّرِيقِ الْمُبَيَّنِ. ثُمَّ تَنْظُرُ إِلَى نَصِيبِ الْمَيِّتِ الثَّالِثِ مِنْ تَرِكَةِ الأَْوَّلِينَ، فَإِنْ كَانَ يَسْتَقِيمُ قِسْمَتُهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ مِنْ غَيْرِ كَسْرٍ قَسَمْته بَيْنَهُمْ. وَإِنْ كَانَ لاَ يَسْتَقِيمُ نَظَرْت، فَإِنْ كَانَ بَيْنَ نَصِيبِهِ مِنَ التَّرِكَتَيْنِ وَبَيْنَ فَرِيضَتِهِ مُوَافَقَةٌ بِجُزْءٍ اقْتَصَرْت عَلَى الْجُزْءِ الْمُوَافِقِ مِنْ فَرِيضَتِهِ، ثُمَّ ضَرَبْت الْفَرِيضَةَ الأُْولَى وَالثَّانِيَةَ فِي ذَلِكَ الْجُزْءِ فَتَصِحُّ الْمَسْأَلَةُ مِنَ الْمَبْلَغِ. وَيُتَّبَعُ فِي مَعْرِفَةِ نَصِيبِهِ مِنْ تَرِكَةِ الأَْوَّلِينَ وَفِي مَعْرِفَةِ نَصِيبِ كُل وَاحِدٍ مِنْ وَرَثَتِهِ قَوَاعِدُ التَّصْحِيحِ وَقِسْمَةُ التَّرِكَاتِ (1) . (ر: إِرْثٌ، تَصْحِيحٌ، تَرِكَةٌ) .
__________
(1) الفتاوى الهندية 6 / 470 - 474، ويراجع شرح السراجية للجراجاني 259 - 264، 230 - 236، والرحبية 85 - 95 - 96 - 98، الفرائض وحساب التركات من باقي كتب المذاهب الأخرى.(14/43)
تَنَاقُضٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّنَاقُضُ هُوَ اخْتِلاَفُ جُمْلَتَيْنِ بِالنَّفْيِ وَالإِْثْبَاتِ اخْتِلاَفًا يَلْزَمُ مِنْهُ لِذَاتِهِ كَوْنُ إِحْدَاهُمَا صَادِقَةً وَالأُْخْرَى كَاذِبَةً. يُقَال: تَنَاقَضَ الْكَلاَمَانِ أَيْ تَدَافَعَا كَأَنَّ كُل وَاحِدٍ نَقَضَ الآْخَرَ، وَفِي كَلاَمِهِ تَنَاقُضٌ إِذَا كَانَ بَعْضُهُ يَقْتَضِي إِبْطَال بَعْضٍ (1) .
وَالْفُقَهَاءُ يَسْتَعْمِلُونَهُ بِنَفْسِ الْمَعْنَى (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّضَادُّ:
2 - الضِّدُّ: هُوَ النَّظِيرُ وَالْكُفْءُ، وَضِدُّ الشَّيْءِ مِثْلُهُ، وَضِدُّهُ أَيْضًا خِلاَفُهُ، وَضَادَّهُ مُضَادَّةً إِذَا بَايَنَهُ مُخَالَفَةً، وَالْمُتَضَادَّانِ هُمَا اللَّذَانِ يَنْتَفِي
__________
(1) الكليات لأبي البقاء الكفوي 2 / 91، والمصباح وتاج العروس.
(2) التعريفات للجرجاني، ومجلة الأحكام العدلية مادة " 1615 ".(14/43)
أَحَدُهُمَا عِنْدَ وُجُودِ صَاحِبِهِ كَالسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ (1) .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّضَادِّ وَالتَّنَاقُضِ: أَنَّ التَّنَاقُضَ يَكُونُ فِي الأَْقْوَال، وَالتَّضَادُّ يَكُونُ فِي الأَْفْعَال، يُقَال: الْفِعْلاَنِ مُتَضَادَّانِ، وَلاَ يُقَال: مُتَنَاقِضَانِ (2) .
وَالضِّدَّانِ الشَّيْئَانِ اللَّذَانِ تَحْتَ جِنْسٍ وَاحِدٍ وَيُنَافِي كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا الآْخَرَ فِي أَوْصَافِهِ الْخَاصَّةِ كَالسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ (3) .
ب - الْمُحَال:
3 - الْمُحَال مَا لاَ يَجُوزُ كَوْنُهُ وَلاَ تَصَوُّرُهُ مِثْل قَوْلِك: الْجِسْمُ أَبْيَضُ وَأَسْوَدُ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمُحَال وَالتَّنَاقُضِ: أَنَّ مِنَ الْمُتَنَاقِضِ مَا لَيْسَ بِمُحَالٍ، وَذَلِكَ أَنَّ الْقَائِل رُبَّمَا قَال صِدْقًا ثُمَّ نَقَضَهُ، فَصَارَ كَلاَمُهُ مُتَنَاقِضًا، قَدْ نَقَضَ آخِرُهُ أَوَّلَهُ وَلَمْ يَكُنْ مُحَالاً؛ لأَِنَّ الصِّدْقَ لَيْسَ بِمُحَالٍ (4) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
التَّنَاقُضُ فِي الدَّعْوَى:
4 - يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ الدَّعْوَى أَنْ لاَ يَكُونَ فِيهَا تَنَاقُضٌ، فَلِذَلِكَ لاَ تُسْمَعُ الدَّعْوَى الَّتِي يَقَعُ
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير مادة: " ضد " والفروق في اللغة ص (150) .
(2) الفرق في اللغة ص36.
(3) المفردات للراغب الأصفهاني / 294.
(4) الفروق في اللغة ص35.(14/44)
فِيهَا التَّنَاقُضُ؛ لأَِنَّ كَذِبَ الْمُدَّعِي يَظْهَرُ فِي مِثْل هَذِهِ الدَّعْوَى، وَمِنْ أَمْثِلَةِ وُقُوعِ التَّنَاقُضِ فِي الدَّعْوَى: الاِدِّعَاءُ بِالْمِلْكِيَّةِ بَعْدَ اسْتِشْرَاءِ الْمُدَّعَى بِهِ أَوِ اسْتِئْجَارِهِ وَنَحْوِهِ (1) .
وَكَمَا يَمْنَعُ التَّنَاقُضُ أَصْل الدَّعْوَى يَمْنَعُ دَفْعَ الدَّعْوَى أَيْضًا فَعَلَيْهِ إِذَا أَقَرَّ الْكَفِيل بِأَنَّهُ مَدِينٌ بِكَذَا دِرْهَمًا مِنْ جِهَةِ الْكَفَالَةِ ثُمَّ ادَّعَى بَعْدَ إِقْرَارِهِ الْمَذْكُورِ بِأَنَّ الأَْصِيل قَدْ أَوْفَى الدَّيْنَ أَوْ أَنَّ الدَّائِنَ قَدْ أَبْرَأَنِي قَبْل الإِْقْرَارِ فَلاَ يُقْبَل لِلتَّنَاقُضِ.
وَإِذَا حَصَل تَنَاقُضٌ بَيْنَ دَعْوَيَيْنِ فَتَكُونُ الدَّعْوَى الثَّانِيَةُ مَرْدُودَةً، وَلَكِنْ لِلْمُدَّعِي أَنْ يُعَقِّبَ دَعْوَاهُ الأُْولَى؛ لأَِنَّ الدَّعْوَى الثَّانِيَةَ لَمْ تُسْتَمَعْ بِسَبَبِ ظُهُورِ كَذِبِهَا، أَمَّا الدَّعْوَى الأُْولَى فَلَمْ يَظْهَرْ كَذِبُهَا (2) .
وَكَمَا يَمْنَعُ التَّنَاقُضُ الدَّعْوَى لِنَفْسِ الْمُدَّعِي الْمُنَاقِضِ لِنَفْسِهِ يَمْنَعُهَا لِغَيْرِهِ، فَمَنْ أَقَرَّ بِعَيْنٍ لِغَيْرِهِ فَكَمَا لاَ يَمْلِكُ أَنْ يَدَّعِيَهُ لِنَفْسِهِ لاَ يَمْلِكُ أَنْ يَدَّعِيَهُ لِغَيْرِهِ بِوَكَالَةٍ أَوْ بِوِصَايَةٍ (3) .
وَقَدْ فَصَّل الْفُقَهَاءُ الْقَوْل فِيمَا يَرْتَفِعُ بِهِ التَّنَاقُضُ وَالْحَالاَتُ الَّتِي يُعْفَى التَّنَاقُضُ فِيهَا وَغَيْرُهَا مِنَ الْمَسَائِل الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْمَوْضُوعِ وَيُنْظَرُ فِي (دَعْوَى) .
__________
(1) درر الحكام 4 / 156، 228، 230، 236، 237، والفتاوى الهندية 4 / 2.
(2) درر الحكام 4 / 230، 234، 235، وانظر أيضا تبصرة الحكام لابن فرحون 1 / 109 ط دار الكتب العلمية.
(3) جامع الفصولين 1 / 90.(14/44)
التَّنَاقُضُ فِي الإِْقْرَارِ
5 - لاَ يَمْنَعُ التَّنَاقُضُ صِحَّةَ الإِْقْرَارِ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ، فَعَلَيْهِ إِذَا ادَّعَى شَخْصٌ عَلَى آخَرَ بِدَيْنٍ، وَبَعْدَ أَنْ أَقَرَّ بِهِ ادَّعَى فِي مَجْلِسِ الإِْقْرَارِ بِأَنَّهُ أَوْفَى ذَلِكَ الدَّيْنَ، لاَ يُقْبَل حَيْثُ يَكُونُ رُجُوعًا عَنِ الإِْقْرَارِ وَتَنَاقُضًا فِي الْقَوْل.
أَمَّا التَّنَاقُضُ فِي الإِْقْرَارِ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى خَالِصًا كَحَدِّ الزِّنَى فَمُعْتَبَرٌ لأَِنَّهُ يُحْتَمَل أَنْ يَكُونَ صَادِقًا فِي الإِْنْكَارِ، فَيَكُونَ كَاذِبًا فِي الإِْقْرَارِ ضَرُورَةً فَيُورِثُ شُبْهَةً فِي وُجُوبِ الْحَدِّ، وَالْحُدُودُ لاَ تُسْتَوْفَى مَعَ الشُّبُهَاتِ (1) . وَتُنْظَرُ التَّفَاصِيل فِي أَبْوَابِ الإِْقْرَارِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ وَفِي مُصْطَلَحِ (إِقْرَارٌ)
التَّنَاقُضُ فِي الشَّهَادَةِ:
6 - لاَ يَخْلُو التَّنَاقُضُ فِي شَهَادَةِ الشُّهُودِ مِنْ أَحَدِ ثَلاَثَةِ أَحْوَالٍ:
أ - التَّنَاقُضُ فِي الشَّهَادَةِ قَبْل الْحُكْمِ:
إِذَا حَصَل التَّنَاقُضُ فِي الشَّهَادَةِ بِرُجُوعِ الشُّهُودِ (2) عَنْ كُل أَوْ بَعْضِ شَهَادَتِهِمْ بَعْدَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ وَقَبْل الْحُكْمِ بِحُضُورِ الْقَاضِي تَكُونُ شَهَادَتُهُمْ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ، وَلاَ يَصِحُّ الْحُكْمُ بِمُوجَبِ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 232، 233ط الجمالية، ودرر الحكام 1 / 70، 4 / 102، 103، والأشباه والنظائر للسيوطي ص493 ط عيسى الحلبي، والقوانين الفقهية ص208 ط دار القلم، والمغني مع الشرح الكبير 5 / 288.
(2) الرجوع لغة: نقيض الذهاب، واصطلاحا نفي الشاهد أخيرا ما أثبته أولا. (درر الحكام 1 / 71) .(14/45)