نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ. . وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ. (1) وَالتَّفْصِيل مَوْطِنُهُ مُصْطَلَحُ (قَرْضٌ) .
__________
(1) الدر المختار 4 / 179، وحاشية الدسوقي 3 / 322، والمغني لابن قدامة 4 / 346 - 348 ط الرياض، ومغني المحتاج 2 / 117، والمهذب 1 / 309، 310. وحديث أبي هريرة: " من نفس عن مؤمن كربة. . . " أخرجه مسلم (4 / 2074 - ط الحلبي) مرفوعا.(11/313)
تَسْلِيمٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي التَّسْلِيمِ فِي اللُّغَةِ: التَّوْصِيل، يُقَال سَلَّمَ الْوَدِيعَةَ لِصَاحِبِهَا: إِذَا أَوْصَلَهَا فَتَسَلَّمَ ذَلِكَ، وَأَسْلَمَ إِلَيْهِ الشَّيْءَ: دَفَعَهُ. وَمِنْهُ السَّلَمُ، وَتَسَلَّمَ الشَّيْءَ: قَبَضَهُ وَتَنَاوَلَهُ. وَسَلَّمْتُ إِلَيْهِ الشَّيْءَ فَتَسَلَّمَهُ: أَيْ أَخَذَهُ. وَسَلَّمَ الشَّيْءَ لِفُلاَنٍ: أَيْ خَلَّصَهُ. وَسَلَّمَهُ إِلَيْهِ: أَعْطَاهُ إِيَّاهُ. وَسَلَّمَ الأَْجِيرُ نَفْسَهُ لِلْمُسْتَأْجِرِ: مَكَّنَهُ مِنْ مَنْفَعَةِ نَفْسِهِ حَيْثُ لاَ مَانِعَ. وَالتَّسْلِيمُ بَذْل الرِّضَى بِالْحُكْمِ.
وَالتَّسْلِيمُ: السَّلاَمُ، وَسَلَّمَ الْمُصَلِّي: خَرَجَ مِنَ الصَّلاَةِ بِقَوْلِهِ: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ. وَسَلَّمَ عَلَى الْقَوْمِ: حَيَّاهُمْ بِالسَّلاَمِ، وَسَلَّمَ: أَلْقَى التَّحِيَّةَ، وَسَلَّمَ عَلَيْهِ: قَال لَهُ: سَلاَمٌ عَلَيْكَ. (1)
وَلاَ يَخْرُجُ مَعْنَى التَّسْلِيمِ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ عَنِ الْمَعَانِي الْمَذْكُورَةِ.
__________
(1) المصباح المنير، ولسان العرب المحيط، ومعجم متن اللغة والصحاح مادة: " سلم ".(11/313)
حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ:
يَخْتَلِفُ حُكْمُ التَّسْلِيمِ بِاخْتِلاَفِ أَنْوَاعِهِ. (1)
أ - التَّسْلِيمُ بِمَعْنَى التَّحِيَّةِ:
2 - ابْتِدَاءُ السَّلاَمِ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَفْشُوا السَّلاَمَ بَيْنَكُمْ (2) وَيُسْتَحَبُّ مُرَاعَاةُ صِيغَةِ الْجَمْعِ، وَإِنْ كَانَ الْمُسَلَّمُ عَلَيْهِ وَاحِدًا، أَخْذًا بِالنَّصِّ الْوَارِدِ فِي ذَلِكَ؛ وَلأَِنَّهُ يَقْصِدُ مَعَ الْوَاحِدِ الْمَلاَئِكَةَ. (3)
وَيَجِبُ الرَّدُّ إِنْ كَانَ السَّلاَمُ عَلَى وَاحِدٍ. وَإِنْ سَلَّمَ عَلَى جَمَاعَةٍ فَالرَّدُّ فِي حَقِّهِمْ فَرْضُ كِفَايَةٍ، فَإِنْ رَدَّ أَحَدُهُمْ سَقَطَ الْحَرَجُ عَنِ الْبَاقِينَ، وَإِنْ رَدَّ الْجَمِيعُ كَانُوا مُؤَدِّينَ لِلْفَرْضِ، سَوَاءٌ رَدُّوا مَعًا أَوْ مُتَعَاقِبِينَ، فَإِنِ امْتَنَعُوا كُلُّهُمْ أَثِمُوا لِخَبَرِ؛ حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ خَمْسٌ: رَدُّ السَّلاَمِ. . . (4)
وَيُشْتَرَطُ فِي ابْتِدَاءِ السَّلاَمِ رَفْعُ الصَّوْتِ بِقَدْرِ مَا يَحْصُل بِهِ الإِْسْمَاعُ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الرَّدُّ
__________
(1) فتح القدير 5 / 469، وابن عابدين 5 / 265، ومواهب الجليل 3 / 348، وحاشية الجمل 5 / 184 - 188، وكشاف القناع 2 / 152، 153.
(2) حديث: " أفشوا السلام بينكم ". أخرجه مسلم (1 / 74 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3) الأذكار ص 218، والجمل 5 / 184.
(4) حديث: " حق المسلم على المسلم خمس رد السلام. . . " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 112 - ط السلفية) ومسلم (4 / 1705 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(11/314)
مُتَّصِلاً بِالسَّلاَمِ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى صِيغَةِ ابْتِدَاءِ السَّلاَمِ فِي الرَّدِّ أَفْضَل، وَيُسَنُّ ابْتِدَاءُ السَّلاَمِ عِنْدَ الإِْقْبَال وَالاِنْصِرَافِ، (1) لِخَبَرِ: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِاللَّهِ مَنْ بَدَأَهُمْ بِالسَّلاَمِ (2) وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا لَقِيَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَإِنْ حَالَتْ بَيْنَهُمَا شَجَرَةٌ أَوْ جِدَارٌ أَوْ حَجَرٌ، ثُمَّ لَقِيَهُ، فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ (3) (ر: سَلاَمٌ وَتَحِيَّةٌ) .
ب - التَّسْلِيمُ لِلْخُرُوجِ مِنَ الصَّلاَةِ:
3 - التَّسْلِيمَةُ الأُْولَى لِلْخُرُوجِ مِنَ الصَّلاَةِ حَال الْقُعُودِ فَرْضٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. وَزَادَ الْحَنَابِلَةُ فَرْضِيَّةَ الثَّانِيَةِ أَيْضًا إِلاَّ فِي صَلاَةِ جِنَازَةٍ وَنَافِلَةٍ؛ لأَِنَّ الْجُزْءَ الأَْخِيرَ مِنَ الْجُلُوسِ الَّذِي يُوقَعُ فِيهِ السَّلاَمُ فَرْضٌ.
وَلاَ بُدَّ مِنْ نُطْقِ: " السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ " بِالْعَرَبِيَّةِ بِتَقْدِيمِ " السَّلاَمِ " وَتَأْخِيرِ " عَلَيْكُمْ " وَهَذَا لِلْقَادِرِ
__________
(1) فتح القدير 5 / 469 وما بعدها ط دار صادر، ورد المحتار على الدر المختار 5 / 265 وما بعدها، ومواهب الجليل 3 / 348 ط دار الفكر، وحاشية الجمل على شرح المنهج 5 / 184 - 188، وكشاف القناع 2 / 152 - 154.
(2) حديث: " إن أولى الناس بالله. . . " أخرجه أبو داود (5 / 380 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث أبي أمامة رضي الله عنه وحسنه ابن حجر كما في الفتوحات (5 / 327 - ط المنيرية) .
(3) حديث: " إذا لقي أحدكم. . . " أخرجه أبو داود (5 / 381 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وصححه ابن حجر كما في الفتوحات الربانية (5 / 318 - ط المنيرية)(11/314)
عَلَى الْعَرَبِيَّةِ، وَلاَ يَكْفِي الْخُرُوجُ بِالنِّيَّةِ وَلاَ بِمُرَادِفِهَا مِنْ لُغَةٍ أُخْرَى، وَأَمَّا الْعَاجِزُ عَنِ الْعَرَبِيَّةِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ بِالنِّيَّةِ قَطْعًا، وَإِنْ أَتَى بِمُرَادِفِهَا بِالْعَجَمِيَّةِ صَحَّ عَلَى الأَْظْهَرِ، قِيَاسًا عَلَى الدُّعَاءِ بِالْعَجَمِيَّةِ لِلْقَادِرِ عَلَى الْعَرَبِيَّةِ. وَالأَْفْضَل كَوْنُ السَّلاَمِ مُعَرَّفًا بِأَل. (1) لِخَبَرِ تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ (2) فَقَوْلُهُ: تَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ أَيْ لاَ يَخْرُجُ مِنَ الصَّلاَةِ إِلاَّ بِهِ، وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُسَلِّمُ مِنْ صَلاَتِهِ عَنْ يَمِينِهِ: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ خَدِّهِ الأَْيْمَنِ، وَعَنْ يَسَارِهِ: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ خَدِّهِ الأَْيْسَرِ. (3)
وَلِحَدِيثِ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَال: كُنْتُ أَرَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ حَتَّى
__________
(1) حاشية الدسوقي 1 / 240 وما بعدها، والشرح الصغير 1 / 315، 321، ومغني المحتاج 1 / 177، 178 وما بعدها، وحاشية الباجوري 1 / 163، 164 ط الحلبي بمصر، وكشاف القناع 1 / 388 وما بعدها، والمغني لابن قدامة 1 / 551 - 558.
(2) حديث: " تحريمها التكبير. . . " أخرجه الترمذي (1 / 9 - ط الحلبي) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وصححه ابن حجر في الفتح (2 / 322 - ط السلفية) .
(3) حديث: " كان يسلم من صلاته عن يمينه يقول:. . . ". أخرجه النسائي (3 / 64 - ط المكتبة التجارية) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.(11/315)
أَرَى بَيَاضَ خَدِّهِ (1) وَلأَِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُدِيمُ ذَلِكَ وَلاَ يُخِل بِهِ وَقَال: صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي. (2)
وَأَقَل مَا يُجْزِئُ فِي التَّسْلِيمِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ قَوْلُهُ: " السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ " مَرَّةً عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَمَرَّتَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ كَمَا سَبَقَ، وَأَكْمَلُهُ " السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ " يَمِينًا وَشِمَالاً مُلْتَفِتًا فِي الأُْولَى حَتَّى يُرَى خَدُّهُ الأَْيْمَنُ، وَفِي الثَّانِيَةِ حَتَّى يُرَى خَدُّهُ الأَْيْسَرُ، نَاوِيًا السَّلاَمَ عَمَّنْ عَنْ يَمِينِهِ وَيَسَارِهِ مِنْ مَلاَئِكَةٍ وَإِنْسٍ وَصَالِحِ الْجِنِّ.
وَيَنْوِي الإِْمَامُ أَيْضًا - زِيَادَةً عَلَى مَا سَبَقَ - السَّلاَمُ عَلَى الْمُقْتَدِينَ، وَهُمْ يَنْوُونَ الرَّدَّ عَلَيْهِ وَعَلَى مَنْ سَلَّمَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَيَنْوِيهِ الْمُقْتَدُونَ عَنْ يَمِينِ الإِْمَامِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ بِالتَّسْلِيمَةِ الثَّانِيَةِ، وَعَنْ يَسَارِهِ بِالتَّسْلِيمَةِ الأُْولَى. (3) وَلِحَدِيثِ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: أَمَرَنَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَرُدَّ عَلَى
__________
(1) حديث سعد: " كنت أرى النبي صلى الله عليه وسلم. . . ". أخرجه مسلم (1 / 409 - ط الحلبي) .
(2) المغني لابن قدامة 1 / 558 - 559، ومراقي الفلاح ص 149، 150. وحديث: " صلوا كما رأيتموني أصلي " أخرجه البخاري (الفتح 2 / 111 - ط السلفية) من حديث مالك بن الحويرث.
(3) مغني المحتاج 1 / 178.(11/315)
الإِْمَامِ، وَأَنْ نَتَحَابَّ، وَأَنْ يُسَلِّمَ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ (1)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: الْخُرُوجُ مِنَ الصَّلاَةِ بِلَفْظِ السَّلاَمِ لَيْسَ فَرْضًا، بَل هُوَ وَاجِبٌ. لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا عَلَّمَ ابْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ التَّشَهُّدَ قَال لَهُ: إِذَا قُلْتَ هَذَا فَقَدْ قَضَيْتَ صَلاَتَكَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ تَقُومَ فَقُمْ، وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَقْعُدَ فَاقْعُدْ (2) فَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْخُرُوجِ مِنَ الصَّلاَةِ بِالسَّلاَمِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْفَرْضَ فِي آخِرِ الصَّلاَةِ هُوَ الْقُعُودُ بِمِقْدَارِ التَّشَهُّدِ عِنْدَهُمْ. (3) لِخَبَرِ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا أَحْدَثَ - يَعْنِي الرَّجُل - وَقَدْ جَلَسَ فِي آخِرِ صَلاَتِهِ قَبْل أَنْ يُسَلِّمَ فَقَدْ جَازَتْ صَلاَتُهُ. (4) وَالْوَاجِبُ عِنْدَهُمْ تَسْلِيمَتَانِ: الأُْولَى عَنْ يَمِينِهِ، فَيَقُول: " السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ " وَيُسَلِّمُ عَنْ يَسَارِهِ كَذَلِكَ؛ لِمَا
__________
(1) حديث سمرة بن جندب: " أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نرد على الإمام. . . " أخرجه أبو داود (1 / 609 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وإسناده ضعيف (ميزان الاعتدال للذهبي 2 / 128 - ط الحلبي) .
(2) حديث: " إذا قلت هذا فقد. . . " أخرجه أبو داود (1 / 593 - تحقيق عزت عبيد دعاس) .
(3) رد المحتار على الدر المختار 1 / 314، 352 - 356، 5 / 467، والبدائع 1 / 113، 163 الطبعة الأولى، وفتح القدير 1 / 275 - 280، وتبيين الحقائق 1 / 104، 106، 124، 126 ط دار المعرفة.
(4) حديث: " إذا أحدث - يعني الرجل - وقد جلس. . . ". أخرجه الترمذي (2 / 261 - ط الحلبي) وقال: هذا حديث ليس إسناده بالقوي، وقد اضطربوا في إسناده.(11/316)
رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ حَتَّى يَبْدُوَ بَيَاضُ خَدِّهِ وَعَنْ يَسَارِهِ حَتَّى يَبْدُوَ بَيَاضُ خَدِّهِ. (1) وَيَنْوِي فِي التَّسْلِيمَةِ الأُْولَى التَّسْلِيمَ عَلَى مَنْ عَلَى يَمِينِهِ مِنَ الرِّجَال وَالنِّسَاءِ وَالْحَفَظَةِ، وَكَذَلِكَ فِي الثَّانِيَةِ.
وَأَقَل مَا يُجْزِئُ فِي لَفْظِ السَّلاَمِ مَرَّتَيْنِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ " السَّلاَمُ " دُونَ قَوْلِهِ " عَلَيْكُمْ ". وَأَكْمَلُهُ وَهُوَ السُّنَّةُ أَنْ يَقُول: " السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ " مَرَّتَيْنِ. وَتَنْقَضِي الصَّلاَةُ بِالسَّلاَمِ الأَْوَّل عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (صَلاَةٌ) .
ج - التَّسْلِيمُ بِمَعْنَى التَّمْكِينِ مِنَ الْقَبْضِ:
4 - التَّسْلِيمُ، أَوِ الْقَبْضُ مَعْنَاهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: التَّخْلِيَةُ أَوِ التَّخَلِّي، وَهُوَ أَنْ يُخَلِّيَ الْبَائِعُ بَيْنَ الْمَبِيعِ وَالْمُشْتَرِي بِرَفْعِ الْحَائِل بَيْنَهُمَا عَلَى وَجْهٍ يَتَمَكَّنُ الْمُشْتَرِي مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ، بِحَيْثُ لاَ يُنَازِعُهُ فِيهِ غَيْرُهُ، وَهَذَا يَحْصُل بِالتَّخْلِيَةِ، فَيُجْعَل الْبَائِعُ مُسَلِّمًا لِلْمَبِيعِ وَالْمُشْتَرِي قَابِضًا لَهُ، فَكَانَتِ التَّخْلِيَةُ تَسْلِيمًا مِنَ الْبَائِعِ، وَالتَّخَلِّي قَبْضًا مِنَ الْمُشْتَرِي. وَكَذَا هَذَا فِي تَسْلِيمِ الثَّمَنِ إِلَى
__________
(1) حديث: " كان يسلم عن يمينه حتى يبدوا. . . " أخرجه النسائي (3 / 63 ط المكتبة التجارية) من حديث ابن مسعود وإسناده صحيح (الفتوحات الربانية 3 / 20 - ط المنيرية) .(11/316)
الْبَائِعِ؛ لأَِنَّ التَّسْلِيمَ وَاجِبٌ، وَمَنْ عَلَيْهِ الْوَاجِبُ لاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ سَبِيل الْخُرُوجِ مِنْ عُهْدَةِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ، وَالَّذِي فِي وُسْعِهِ هُوَ التَّخْلِيَةُ وَرَفْعُ الْمَوَانِعِ. (1)
وَالْقَبْضُ يَتِمُّ بِطَرِيقِ التَّخْلِيَةِ، وَهِيَ أَنْ يَتَمَكَّنَ الْمُشْتَرِي مِنَ الْمَبِيعِ بِلاَ مَانِعٍ - أَيْ بِأَنْ يَكُونَ مُفْرَزًا وَلاَ حَائِل - فِي حَضْرَةِ الْبَائِعِ مَعَ الإِْذْنِ لَهُ بِالْقَبْضِ (2) .
فَقَبْضُ الْعَقَارِ عِنْدَ الْجَمِيعِ - كَالأَْرْضِ وَمَا فِيهَا مِنْ بِنَاءٍ وَنَخْلٍ وَنَحْوِهِمَا - يَكُونُ بِالتَّخْلِيَةِ بَيْنَ الْمَبِيعِ وَبَيْنَ الْمُشْتَرِي وَتَمْكِينِهِ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ، وَذَلِكَ بِتَسْلِيمِ الْمَفَاتِيحِ إِنْ وُجِدَتْ بِشَرْطِ الْفَرَاغِ مِنَ الأَْمْتِعَةِ، إِنْ كَانَ شِرَاءُ الْعَقَارِ لِلسَّكَنِ - عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ - وَقَبْضُ الْمَنْقُول كَالأَْمْتِعَةِ، وَالأَْنْعَامُ وَالدَّوَابُّ بِحَسَبِ الْعُرْفِ الْجَارِي بَيْنَ النَّاسِ عِنْدَ الإِْطْلاَقِ، فَالثَّوْبُ قَبْضُهُ بِاحْتِيَازِهِ، وَالْحَيَوَانُ بِتَمْشِيَتِهِ مِنْ مَكَانِهِ، وَقَبْضُ الْمَوْزُونِ بِوَزْنِهِ، وَقَبْضُ الْمَكِيل بِكَيْلِهِ، إِذَا بِيعَا كَيْلاً وَوَزْنًا. وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ: تَفْرِيغُهُ فِي أَوْعِيَةِ الْمُشْتَرِي، حَتَّى لَوْ هَلَكَ قَبْل التَّفْرِيغِ فِي أَوْعِيَةِ
__________
(1) البدائع 5 / 244.
(2) من قواعد الحنفية: التخلية بين المشتري والمبيع قبض، إذ يعد ذلك قبضا، وإن لم يتم القبض حقيقة، فإذا هلك المبيع بعد التخلية يهلك على المشتري (ر: الفوائد البهية في القواعد الفقهية ص 63، وبدائع الصنائع 5 / 244 - الطبعة الأولى، ورد المحتار 4 / 43 ط بيروت. لبنان) .(11/317)
الْمُشْتَرِي كَانَ الضَّمَانُ عَلَى الْبَائِعِ عِنْدَهُمْ. (1)
وَهَذَا: لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا بِعْتَ فَكِل، وَإِذَا ابْتَعْتَ فَاكْتَل (2) وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ حَتَّى يُجْرَى فِيهِ الصَّاعَانِ: صَاعُ الْبَائِعِ وَصَاعُ الْمُشْتَرِي. (3) وَإِنْ بِيعَ جُزَافًا فَقَبْضُهُ نَقْلُهُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ قَبْضُهُ بِالتَّخْلِيَةِ. (4) (ر: قَبْضٌ) .
التَّسْلِيمُ فِي الْعُقُودِ يَشْمَل مَا يَلِي:
أ - التَّسْلِيمُ فِي الْبَيْعِ:
5 - التَّسْلِيمُ فِي الْبَيْعِ يَكُونُ بِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ؛ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْبَيْعِ لاَ يَتَحَقَّقُ إِلاَّ بِذَلِكَ. (5)
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 144، ونهاية المحتاج 4 / 90 - 95 ط المكتبة الإسلامية، والمغني لابن قدامة مع الشرح الكبير 4 / 220 وما بعدها ط مطبعة المنار بمصر.
(2) حديث: " إذا بعت فكل. . . " أخرجه البخاري (الفتح - 4 / 344 - ط السلفية) من حديث عثمان رضي الله عنه.
(3) حديث: " نهى عن بيع الطعام حتى. . . " أخرجه ابن ماجه (2 / 741 - ط الحلبي) وقال عبد الحق الأشبيلي: إسناده لا يحتج به (نصب الراية 4 / 15 - ط المجلس العلمي) .
(4) المغني والشرح الكبير 4 / 220 ط المنار بمصر.
(5) البدائع 5 / 243 وما بعدها، ورد المحتار على الدر المختار 4 / 42 - 43 وما بعدها، والمبسوط للسرخسي 13 / 192 وما بعدها، والقوانين الفقهية لابن جزي ص 164.(11/317)
وَمَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ التَّسْلِيمُ أَوَّلاً، يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ نَوْعِ الْبَدَلَيْنِ، وَهُوَ كَالآْتِي: إِنْ كَانَ الْبَيْعُ بَيْعَ عَيْنٍ بِعَيْنٍ، وَاخْتَلَفَا فِيمَنْ يُسَلِّمُ أَوَّلاً، يَجِبُ عَلَى الْعَاقِدَيْنِ التَّسْلِيمُ مَعًا تَحْقِيقًا لِلْمُسَاوَاةِ فِي الْمُعَاوَضَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْمُسَاوَاةِ عَادَةً الْمَطْلُوبَةِ بَيْنَ الْعَاقِدَيْنِ؛ إِذْ لَيْسَ أَحَدُهُمَا بِالتَّقْدِيمِ أَوْلَى مِنَ الآْخَرِ، فَيُجْعَل بَيْنَهُمَا عَدْلٌ يَقْبِضُ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا وَيُسَلِّمُ الآْخَرَ.
وَالْحُكْمُ كَذَلِكَ إِنْ تَبَايَعَا دَيْنًا بِدَيْنٍ، كَمَا فِي عَقْدِ الصَّرْفِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَأَحَدِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيَّةِ. (1)
وَإِنْ كَانَ بَيْعَ عَيْنٍ بِدَيْنٍ، فَيَجِبُ عَلَى الْمُشْتَرِي عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الْقَوْل الثَّانِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (2) تَسْلِيمُ الثَّمَنِ - أَيِ الدَّيْنِ أَوَّلاً - وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: وُجُوبُ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ أَوَّلاً، وَاسْتَثْنَى الْجَمِيعُ مِنْ ذَلِكَ أَمْرَيْنِ: (3)
أَوَّلُهُمَا: الْمُسْلَمُ فِيهِ لأَِنَّهُ دَيْنٌ مُؤَجَّلٌ. وَالثَّانِي: الثَّمَنُ الْمُؤَجَّل، فَإِنْ كَانَ عَيْنًا أَوْ
__________
(1) الدر المختار 4 / 42، وحاشية الدسوقي 3 / 147، والمغني مع الشرح الكبير 4 / 270.
(2) البدائع 5 / 243، وابن عابدين 4 / 42، 43، والمبسوط للسرخسي 13 / 292، والقوانين الفقهية لابن جزي ص 164.
(3) نهاية المحتاج 4 / 100، 101، ومغني المحتاج 2 / 74، والدر المختار 4 / 43، والمغني مع الشرح الكبير 4 / 270 ط المنار بمصر.(11/318)
عَرَضًا بِعَرَضٍ جُعِل بَيْنَهُمَا عَدْلٌ - عِنْدَ الْجُمْهُورِ -، فَيَقْبِضُ مِنْهُمَا، ثُمَّ يُسَلِّمُ إِلَيْهِمَا، وَهَذَا قَوْل الثَّوْرِيِّ وَأَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ، لأَِنَّ تَسْلِيمَ الْمَبِيعِ يَتَعَلَّقُ بِهِ اسْتِقْرَارُ الْبَيْعِ وَتَمَامُهُ، فَكَانَ تَقْدِيمُهُ أَوْلَى، سِيَّمَا مَعَ تَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِعَيْنِهِ، وَتَعَلُّقِ حَقِّ الْبَائِعِ بِالذِّمَّةِ، وَتَقْدِيمُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ أَوْلَى لِتَأَكُّدِهِ. وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُمَا يُسَلَّمَانِ مَعًا. (1)
ب - تَسْلِيمُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي الرِّبَوِيَّاتِ
6 - تَسْلِيمُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي الرِّبَوِيَّاتِ حَرَامٌ؛ لأَِنَّ " عَقْدَ الرِّبَا حَرَامٌ. (2)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (رِبًا) .
ج - التَّسْلِيمُ فِي السَّلَمِ:
7 - اتَّفَقَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ الثَّمَنَ فِي السَّلَمِ إِنْ كَانَ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ - سَوَاءٌ أَكَانَ عَيْنًا (سِلْعَةً مُعَيَّنَةً) أَمْ نُقُودًا - فَلاَ بُدَّ مِنْ
__________
(1) الدسوقي 3 / 147، والمغني والشرح الكبير 4 / 270، والدر المختار 4 / 42.
(2) البدائع 5 / 183، وابن عابدين 4 / 184، والمبسوط للسرخسي 12 / 109، 112 ط دار المعرفة - بيروت لبنان، وفتح القدير 6 / 146 وما بعدها، والموافقات للشاطبي 4 / 42 ط المكتبة التجارية بمصر، وحاشية الدسوقي 3 / 47 وما بعدها، ومغني المحتاج 2 / 21 وما بعدها، والمغني لابن قدامة 4 / 1 ط الرياض.(11/318)
تَسْلِيمِهِ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ قَبْل التَّفَرُّقِ، وَلَوْ طَال الْمَجْلِسُ. وَإِذَا قَامَا مِنَ الْمَجْلِسِ يَمْشِيَانِ، ثُمَّ قَبَضَ الْمُسْلَمُ إِلَيْهِ رَأْسَ السَّلَمِ بَعْدَ مَسَافَةٍ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ إِنْ لَمْ يَتَفَرَّقَا. وَكَذَا إِذَا تَعَاقَدَا ثُمَّ قَامَ رَبُّ السَّلَمِ - الْمُشْتَرِي - لِيُحْضِرَ الثَّمَنَ مِنْ دَارِهِ، فَإِنْ لَمْ يَغِبْ شَخْصُهُ عَنِ الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ - الْبَائِعِ - يَصِحُّ وَإِلاَّ فَلاَ؛ لأَِنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ دَيْنٌ فِي الذِّمَّةِ، فَلَوْ أُخِّرَ تَسْلِيمُ رَأْسِ مَال السَّلَمِ عَنْ مَجْلِسِ الْعَقْدِ لَكَانَ التَّسْلِيمُ فِي مَعْنَى مُبَادَلَةِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ، وَقَدْ نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ (1) وَلأَِنَّ تَسْمِيَةَ هَذَا الْعَقْدِ دَلِيلٌ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ، فَإِنَّهُ يُسَمَّى سَلَمًا وَسَلَفًا، وَالسَّلَمُ يُنْبِئُ عَنِ التَّسْلِيمِ، وَالسَّلَفُ يُنْبِئُ عَنِ التَّقَدُّمِ، فَيَقْتَضِي لُزُومَ تَقْدِيمِ رَأْسِ الْمَال، وَيُقَدَّمُ قَبْضُهُ عَلَى قَبْضِ الْمُسْلَمِ فِيهِ؛ وَلأَِنَّ فِي السَّلَمِ غَرَرًا - أَيْ تَعْرِيضًا لِلْهَلاَكِ أَوْ عَلَى خَطَرِ الْوُجُودِ - فَلاَ يُضَمُّ إِلَيْهِ غَرَرُ تَأْخِيرِ رَأْسِ الْمَال.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَقُومُ مَقَامَ الْقَبْضِ مَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ، كَمَا إِذَا كَانَ عِنْدَ الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ أَمَانَةٌ أَوْ عَيْنٌ مَغْصُوبَةٌ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَجْعَلَهَا صَاحِبُ السَّلَمِ رَأْسَ مَالٍ مَا دَامَتْ مِلْكًا لَهُ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ فِي مَعْنَى الْقَبْضِ.
__________
(1) حديث: " نهى عن بيع الكالئ بالكالئ " أخرجه الدارقطني (3 / 71 - ط دار المحاسن) وأعله الشافعي كما في التلخيص (3 / 26 - ط شركة الطباعة الفنية) .(11/319)
وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ أَنْ يَكُونَ قَبْضُ رَأْسِ الْمَال فِي الْمَجْلِسِ قَبْضًا حَقِيقِيًّا، فَلاَ تَنْفَعُ فِيهِ الْحَوَالَةُ، وَلَوْ قَبَضَهُ مِنَ الْمُحَال عَلَيْهِ فِي الْمَجْلِسِ، لأَِنَّ الْمُحَال عَلَيْهِ مَا دَفَعَهُ عَنْ نَفْسِهِ إِلاَّ إِذَا قَبَضَهُ رَبُّ السَّلَمِ وَسَلَّمَهُ بِنَفْسِهِ لِلْمُسْلَمِ إِلَيْهِ. (1)
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ اشْتِرَاطُ قَبْضِ رَأْسِ الْمَال كُلِّهِ، وَيَجُوزُ تَأْخِيرُ قَبْضِهِ إِلَى ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فَأَقَل، وَلَوْ بِشَرْطٍ فِي الْعَقْدِ سَوَاءٌ أَكَانَ رَأْسُ الْمَال عَيْنًا أَوْ دَيْنًا؛ لأَِنَّ السَّلَمَ مُعَاوَضَةٌ لاَ يَخْرُجُ بِتَأْخِيرِ قَبْضِ رَأْسِ الْمَال عَنْ أَنْ يَكُونَ سَلَمًا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ تَأَخَّرَ إِلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ، وَكُل مَا قَارَبَ الشَّيْءَ يُعْطَى حُكْمَهُ، وَلاَ يَكُونُ لَهُ بِذَلِكَ حُكْمُ الْكَالِئِ، فَإِنْ أَخَّرَ رَأْسَ الْمَال عَنْ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ: فَإِنْ كَانَ التَّأْخِيرُ بِشَرْطٍ فَسَدَ السَّلَمُ اتِّفَاقًا، سَوَاءٌ أَكَانَ التَّأْخِيرُ كَثِيرًا جِدًّا، بِأَنْ حَل أَجَل الْمُسْلَمِ فِيهِ، أَوْ لَمْ يَكْثُرْ جِدًّا بِأَنْ لَمْ يَحِل أَجَلُهُ. وَإِنْ كَانَ التَّأْخِيرُ بِلاَ شَرْطٍ فَقَوْلاَنِ فِي الْمُدَوَّنَةِ الْكُبْرَى لِمَالِكٍ بِفَسَادِ السَّلَمِ وَعَدَمِ فَسَادِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ التَّأْخِيرُ كَثِيرًا جِدًّا أَمْ لاَ. وَالْمُعْتَمَدُ الْفَسَادُ بِالزِّيَادَةِ عَنِ الثَّلاَثَةِ
__________
(1) البدائع 5 / 202 - 203 - الطبعة الأولى، ورد المحتار على الدر المختار 4 / 208 ط بيروت - لبنان، ومغني المحتاج 2 / 102 - 103، والمهذب 1 / 304، 307، والمغني لابن قدامة 4 / 328، وكشاف القناع 3 / 304 ط الرياض، وغاية المنتهى 2 / 79.(11/319)
الأَْيَّامِ وَلَوْ قَلَّتْ مُدَّةُ الزِّيَادَةِ بِغَيْرِ شَرْطٍ. (1) (ر: سَلَمٌ)
. د - قَبْضُ الْمَرْهُونِ:
8 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى: أَنَّ الْقَبْضَ شَرْطٌ فِي الرَّهْنِ، وَاخْتَلَفُوا فِي تَحْدِيدِ نَوْعِ الشَّرْطِ. هَل هُوَ شَرْطُ لُزُومٍ أَوْ شَرْطُ تَمَامٍ؟ فَقَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْقَبْضُ لَيْسَ شَرْطَ صِحَّةٍ، وَإِنَّمَا هُوَ شَرْطُ لُزُومِ الرَّهْنِ، فَلاَ يَتِمُّ الرَّهْنُ إِلاَّ بِالْقَبْضِ (2) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} (3) فَقَدْ عَلَّقَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِالْقَبْضِ، فَلاَ يَتِمُّ إِلاَّ بِهِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ يَتِمُّ الرَّهْنُ إِلاَّ بِالْقَبْضِ، أَوِ الْحَوْزِ، وَهُوَ شَرْطُ تَمَامٍ وَلَيْسَ شَرْطَ صِحَّةٍ أَوْ لُزُومٍ، فَإِذَا عُقِدَ الرَّهْنُ بِالْقَوْل (الإِْيجَابِ وَالْقَبُول) لَزِمَ الْعَقْدُ، وَأُجْبِرَ الرَّاهِنُ عَلَى إِقْبَاضِهِ لِلْمُرْتَهِنِ بِالْمُطَالَبَةِ بِهِ، فَإِنْ تَرَاضَى الْمُرْتَهِنُ فِي الْمُطَالَبَةِ بِهِ، أَوْ رَضِيَ بِتَرْكِهِ فِي يَدِ الرَّاهِنِ بَطَل
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 195، 196 ط دار الفكر، والمنتقى على الموطأ 4 / 300 ط السعادة بمصر، والقوانين الفقهية لابن جزي ص 177 وما بعدها ط دار القلم - بيروت - لبنان.
(2) الدر المختار 5 / 308 وما بعدها، والبدائع 6 / 137 وما بعدها، ومغني المحتاج 2 / 128 والمهذب 1 / 312 وما بعدها، وكشاف القناع 3 / 330 وما بعدها، والمغني لابن قدامة 4 / 364 وما بعدها ط الرياض.
(3) سورة البقرة / 283.(11/320)
الرَّهْنُ. وَدَلِيلُهُمْ قِيَاسُ الرَّهْنِ عَلَى سَائِرِ الْعُقُودِ الْمَالِيَّةِ اللاَّزِمَةِ بِالْقَوْل. (1) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} ، (2) وَالرَّهْنُ عَقْدٌ فَيَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ.
(ر: رَهْنٌ) .
هـ - تَسْلِيمُ الْمَرْهُونِ:
9 - لِلْمُرْتَهِنِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ - مَا عَدَا الشَّافِعِيَّةَ - حَقُّ الْحَبْسِ الدَّائِمِ لِلْمَرْهُونِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ دَيْنَهُ؛ لِيَضْطَرَّ الْمَدِينُ إِلَى تَسْلِيمِ دَيْنِهِ، لِيَتَمَكَّنَ مِنَ اسْتِرْدَادِ الْمَرْهُونِ لِحَاجَتِهِ إِلَيْهِ وَالاِنْتِفَاعِ بِهِ، وَلِلْمُرْتَهِنِ أَيْضًا عِنْدَ حُلُول أَجَل الدَّيْنِ الْمُطَالَبَةُ بِدَيْنِهِ مَعَ بَقَاءِ الرَّهْنِ تَحْتَ يَدِهِ، وَعَلَى الْمُرْتَهِنِ تَسْلِيمُ الْمَرْهُونِ لِصَاحِبِهِ، إِمَّا بِانْتِهَاءِ أَجَل الدَّيْنِ، أَوْ بِانْتِهَاءِ عَقْدِ الرَّهْنِ. وَانْتِهَاءُ الدَّيْنِ يَكُونُ بِأَسْبَابٍ كَالإِْبْرَاءِ مِنَ الدَّيْنِ أَوْ هِبَتِهِ، أَوْ وَفَاءِ الدَّيْنِ، أَوْ شِرَاءِ سِلْعَةٍ مِنَ الرَّاهِنِ بِالدَّيْنِ، أَوْ إِحَالَةِ الرَّاهِنِ الْمُرْتَهِنَ عَلَى غَيْرِهِ.
وَانْقِضَاءُ عَقْدِ الرَّهْنِ أَوِ انْتِهَاؤُهُ يَكُونُ بِأَسْبَابٍ كَالإِْبْرَاءِ وَالْهِبَةِ وَوَفَاءِ الدَّيْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، كَالْبَيْعِ الْجَبْرِيِّ الصَّادِرِ مِنَ الرَّاهِنِ بِأَمْرِ الْقَاضِي، أَوْ مِنَ الْقَاضِي إِذَا أَبَى الرَّاهِنُ الْبَيْعَ. (3) وَالتَّفْصِيل فِي (رَهْنٌ) .
__________
(1) بداية المجتهد 2 / 271، والشرح الصغير 3 / 313.
(2) سورة المائدة / 1.
(3) البدائع 6 / 142 وما بعدها، وبداية المجتهد 2 / 297 وما بعدها، والقوانين الفقهية لابن جزي ص 213، والمغني لابن قدامة 2 / 128 وما بعدها.(11/320)
وَالشَّافِعِيَّةُ مَعَ الْجُمْهُورِ فِي اشْتِرَاطِ اسْتِدَامَةِ الْقَبْضِ، لَكِنَّهُمْ قَالُوا: قَدْ يَتَخَلَّفُ هَذَا الشَّرْطُ لِمَانِعٍ، كَمَا لَوْ كَانَ الْمَرْهُونُ مُصْحَفًا وَالْمُرْتَهِنُ كَافِرٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ. (1)
مَا يَتِمُّ بِهِ تَسْلِيمُ الْمَرْهُونِ:
10 - يُسَلِّمُ الرَّاهِنُ الدَّيْنَ أَوَّلاً، ثُمَّ يُسَلِّمُ الْمُرْتَهِنُ الْمَرْهُونَ؛ لأَِنَّ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ يَتَعَيَّنُ بِتَسْلِيمِ الدَّيْنِ، وَحَقُّ الرَّاهِنِ مُتَعَيِّنٌ فِي تَسَلُّمِ الْمَرْهُونِ، فَيَتِمُّ التَّسْلِيمُ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ تَحْقِيقًا لِلتَّسْوِيَةِ بَيْنَ الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ. وَإِذَا سَلَّمَ الرَّاهِنُ بَعْضَ الدَّيْنِ يَظَل الْمَرْهُونُ كُلُّهُ رَهْنًا بِحَالِهِ عَلَى مَا بَقِيَ مِنَ الدَّيْنِ بِلاَ خِلاَفٍ؛ لأَِنَّ الرَّهْنَ كُلَّهُ وَثِيقَةٌ بِالدَّيْنِ كُلِّهِ، وَهُوَ مَحْبُوسٌ بِكُل الْحَقِّ، وَالْحَبْسُ بِالدَّيْنِ الَّذِي هُوَ مُوجِبُ الرَّهْنِ لاَ يَتَجَزَّأُ، فَيَكُونُ مَحْبُوسًا بِكُل جُزْءٍ مِنَ الدَّيْنِ لاَ يَنْفَكُّ مِنْهُ شَيْءٌ حَتَّى يَقْضِيَ جَمِيعَ الدَّيْنِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الرَّهْنُ مِمَّا يُمْكِنُ قِسْمَتُهُ أَمْ لاَ يُمْكِنُ. (2) ر: (رَهْنٌ) .
و تَسْلِيمُ ثَمَنِ الْمَرْهُونِ عِنْدَ الْبَيْعِ:
11 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَرْهُونَ يَظَل مِلْكًا
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 263.
(2) الدر المختار 5 / 309، والبدائع 6 / 153، وبداية المجتهد 2 / 298 وما بعدها، ومغني المحتاج 2 / 141، والمغني لابن قدامة 4 / 374 وما بعدها.(11/321)
لِلرَّاهِنِ بَعْدَ تَسْلِيمِهِ لِلْمُرْتَهِنِ، كَمَا دَلَّتِ السُّنَّةُ لاَ يَغْلَقُ الرَّهْنُ مِنْ صَاحِبِهِ (1) وَلَكِنْ تَعَلَّقَ دَيْنُ الْمُرْتَهِنِ بِعَيْنِ الرَّهْنِ، فَاسْتَحَقَّ الْمُرْتَهِنُ حَبْسَهُ وَثِيقَةً بِالدَّيْنِ إِلَى أَنْ يُوَفِّيَ الدَّيْنَ، وَلاَ يَجُوزُ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي الرَّهْنِ لِتَعَلُّقِ حَقِّهِ بِهِ إِلاَّ بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ، فَيُعْتَبَرُ مُتَنَازِلاً عَنْ حَقِّهِ فِي حَبْسِ الرَّهْنِ.
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَبِيعَ الرَّهْنَ بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ، وَهَذَا يُسَمَّى الْبَيْعُ الاِخْتِيَارِيُّ بَعْدَ الإِْذْنِ، وَحِينَئِذٍ فَالْمُرْتَهِنُ أَوْلَى وَأَحَقُّ بِثَمَنِ الْمَرْهُونِ مِنْ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ الدَّائِنِينَ، حَتَّى يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ، حَيًّا كَانَ أَوْ مَيِّتًا. وَيَثْبُتُ هَذَا الْحَقُّ لِلْمُرْتَهِنِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ. (2)
وَإِذَا لَمْ يَتِمَّ الْبَيْعُ لِلْمَرْهُونِ اخْتِيَارِيًّا، وَحَل أَجَل الدَّيْنِ طَالَبَ الْمُرْتَهِنُ الرَّاهِنَ بِوَفَاءِ الدَّيْنِ، فَإِنِ اسْتَجَابَ وَوَفَّى سُلِّمَ الْمَرْهُونُ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَجِبْ لِمَطْلٍ أَوْ إِعْسَارٍ، رُفِعَ أَمْرُهُ إِلَى الْقَاضِي. وَيَطْلُبُ الْقَاضِي أَوَّلاً مِنَ الرَّاهِنِ
__________
(1) حديث: " لا يغلق الرهن من صاحبه " أخرجه الشافعي (بدائع المنن 2 / 189 - ط دار الأنوار) من حديث سعيد بن المسيب مرسلا وصحح أبو داود والدارقطني إرساله. (التلخيص لابن حجر 3 / 36 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(2) البدائع 6 / 153، والقوانين الفقهية لابن جزي ص 244، ومغني المحتاج 2 / 134، والمغني مع الشرح الكبير 4 / 450 وما بعدها.(11/321)
الْحَاضِرِ بَيْعَ الْمَرْهُونِ، فَإِنِ امْتَثَل تَمَّ الْمَقْصُودُ، وَإِنِ امْتَنَعَ بَاعَهُ الْقَاضِي عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَصَاحِبَيْ أَبِي حَنِيفَةَ، بِدُونِ حَاجَةٍ إِلَى إِجْبَارِهِ بِحَبْسٍ أَوْ ضَرْبٍ أَوْ تَهْدِيدٍ، وَيُسَلَّمُ مَا يَسْتَحِقُّهُ الْمُرْتَهِنُ مِنْ دَيْنِهِ.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: لَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يَبِيعَ الرَّهْنَ بِيَدِ الْمُرْتَهِنِ مِنْ غَيْرِ رِضَا الرَّاهِنِ، لَكِنَّهُ يَحْبِسُ الرَّاهِنَ حَتَّى يَبِيعَهُ بِنَفْسِهِ. وَإِذَا وُجِدَ فِي مَال الْمَدِينِ الرَّاهِنِ مَالٌ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ، وَفَّى الدَّيْنَ مِنْهُ، وَلاَ حَاجَةَ حِينَئِذٍ إِلَى الْبَيْعِ جَبْرًا. (1)
وَالتَّفْصِيل مَوْطِنُهُ مُصْطَلَحُ: (رَهْنٌ) .
ز - تَسْلِيمُ الْمَال لِلْمَحْجُورِ عَلَيْهِ:
12 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الصَّغِيرَ لاَ يُسَلَّمُ إِلَيْهِ مَالُهُ إِلاَّ بَعْدَ مَعْرِفَةِ رُشْدِهِ، وَذَلِكَ بِاخْتِبَارِ الصَّغِيرِ الْمُمَيِّزِ فِي التَّصَرُّفَاتِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} (2) أَيِ اخْتَبِرُوهُمْ، وَاخْتِبَارُ الصَّغِيرِ الْمُمَيِّزِ يَحْصُل بِتَفْوِيضِ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي يَتَصَرَّفُ فِيهَا أَمْثَالُهُ إِلَيْهِ؛ لِيُتَبَيَّنَ مَدَى إِدْرَاكِهِ وَحُسْنُ تَصَرُّفِهِ. (3)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي (حَجْرٌ) .
__________
(1) البدائع 6 / 148 وما بعدها، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 251، والقوانين الفقهية ص 212 وما بعدها، ومغني المحتاج 2 / 134، وكشاف القناع 3 / 330.
(2) سورة النساء / 6.
(3) رد المحتار على الدر المختار 5 / 95، والبدائع 7 / 193 وما بعدها، وحاشية الدسوقي 3 / 294 وما بعدها، وكشاف القناع 3 / 443 - 445، والمغني 4 / 505 وما بعدها، ومغني المحتاج 2 / 169، 170.(11/322)
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ أَمْوَال الصَّغِيرِ لاَ تُسَلَّمُ إِلَيْهِ حَتَّى يَبْلُغَ رَاشِدًا؛ (1) لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَّقَ دَفْعَ الْمَال إِلَيْهِ عَلَى شَرْطَيْنِ هُمَا الْبُلُوغُ وَالرُّشْدُ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} ، (2) وَالْحُكْمُ الْمُعَلَّقُ عَلَى شَرْطَيْنِ لاَ يَثْبُتُ بِدُونِهِمَا، فَإِذَا بَلَغَ الصَّغِيرُ رَشِيدًا مُصْلِحًا لِلْمَال، وَجَبَ دَفْعُ مَالِهِ إِلَيْهِ وَفَكُّ الْحَجْرِ عَنْهُ. وَإِذَا دَفَعَ إِلَيْهِ مَالَهُ أَشْهَدَ عِنْدَ الدَّفْعِ. (3) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} (4)
وَفِي هَذِهِ الْمَسَائِل تَفْصِيلاَتٌ مَوْطِنُهَا بَابُ الْحَجْرِ.
ح - التَّسْلِيمُ فِي الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ:
13 - الْكَفَالَةُ تَكُونُ بِالنَّفْسِ، وَتَكُونُ بِالْفِعْل،
__________
(1) البدائع 7 / 170، وبداية المجتهد 2 / 302 وما بعدها، والمغني 4 / 506 وما بعدها، والمهذب 1 / 335 وما بعدها.
(2) سورة النساء / 6.
(3) تبيين الحقائق 5 / 195، والبدائع 7 / 170 وما بعدها، وبداية المجتهد 2 / 302 وما بعدها، ومغني المحتاج 2 / 166، 170، والمهذب 1 / 335 وما بعدها، والمغني 4 / 506، 516، 517 وما بعدها، وكشاف القناع 3 / 443 - 445.
(4) سورة النساء / 7.(11/322)
وَالْمُرَادُ بِالْفِعْل الْمَكْفُول بِهِ فِعْل التَّسْلِيمِ، وَعَلَى هَذَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِنَفْسِ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ، وَتُسَمَّى الْكَفَالَةَ بِالنَّفْسِ كَمَا تُسَمَّى الْكَفَالَةَ بِالْوَجْهِ: وَهِيَ الْتِزَامُ إِحْضَارِ الْمَكْفُول إِلَى الْمَكْفُول لَهُ لِلْحَاجَةِ إِلَيْهَا؛ ذَلِكَ لأَِنَّ الْكَفَالَةَ بِالنَّفْسِ كَفَالَةٌ بِالْفِعْل، وَهُوَ تَسْلِيمُ النَّفْسِ، وَفِعْل التَّسْلِيمِ مَضْمُونٌ عَلَى الأَْصِيل فَجَازَتِ الْكَفَالَةُ بِهِ.
وَيَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ جَوَازَ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ إِذَا كَانَتْ بِسَبَبِ الْمَال؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: الزَّعِيمُ غَارِمٌ (1) وَهَذَا يَشْمَل الْكَفَالَةَ بِنَوْعَيْهَا؛ وَلأَِنَّ مَا وَجَبَ تَسْلِيمُهُ بِعَقْدٍ وَجَبَ تَسْلِيمُهُ بِعَقْدِ الْكَفَالَةِ كَالْمَال؛ وَلأَِنَّ الْكَفِيل يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِ الأَْصِيل، بِأَنْ يُعْلِمَ مَنْ يَطْلُبُهُ مَكَانَهُ فَيُخَلِّي بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، أَوْ يَسْتَعِينُ بِأَعْوَانِ الْقَاضِي فِي التَّسْلِيمِ. (2)
وَإِذَا اشْتَرَطَ الأَْصِيل فِي الْكَفَالَةِ تَسْلِيمَ الْمَكْفُول بِهِ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ لَزِمَ الْكَفِيل إِحْضَارَ الْمَكْفُول بِهِ إِذَا طَالَبَهُ بِهِ فِي الْوَقْتِ، وَفَاءً بِمَا الْتَزَمَهُ
__________
(1) حديث: " الزعيم غارم " أخرجه أحمد (5 / 293 ط الميمنية) وقال الهيثمي في المجمع (4 / 145 - ط القدسي) " رجاله ثقات ".
(2) البدائع 6 - 8 وما بعدها، والمبسوط 19 / 162، وحاشية الدسوقي 2 / 344 - 436، ومغني المحتاج 2 / 203 وما بعدها، والمهذب 1 / 349 - 351، والمغني 4 / 556، 557، وكشاف القناع 3 / 62.(11/323)
كَالدَّيْنِ الْمُؤَجَّل، فَإِنْ أَحْضَرَهُ فَبِهَا، وَإِنْ لَمْ يُحْضِرْهُ حَبَسَهُ الْحَاكِمُ لاِمْتِنَاعِهِ عَنْ إِيفَاءِ حَقٍّ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ. وَإِنْ أَحْضَرَهُ وَسَلَّمَهُ إِلَى الْمُطَالِبِ بِهِ فِي مَوْضِعٍ يَقْدِرُ عَلَى إِحْضَارِهِ مَجْلِسَ الْقَضَاءِ، مِثْل أَنْ يَكُونَ فِي مِصْرٍ مِنَ الأَْمْصَارِ بَرِئَ مِنَ الْكَفَالَةِ؛ لأَِنَّ التَّسْلِيمَ يَتَحَقَّقُ بِالتَّخْلِيَةِ بَيْنَ الْمَكْفُول بِنَفْسِهِ وَالْمَكْفُول لَهُ؛ وَلأَِنَّهُ أَتَى بِمَا الْتَزَمَهُ وَحَصَل الْمَقْصُودُ مِنَ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ، وَهُوَ إِمْكَانُ الْمُحَاكَمَةِ عِنْدَ الْقَاضِي. (1)
وَيَتَعَيَّنُ مَحَل التَّسْلِيمِ بِالتَّعْيِينِ، وَإِنْ أُطْلِقَ وَلَمْ يُعَيَّنْ، وَجَبَ التَّسْلِيمُ فِي مَكَانِ الْكَفَالَةِ؛ لأَِنَّ الْعُرْفَ يَقْتَضِي ذَلِكَ. (2)
ط - التَّسْلِيمُ فِي الْوَكَالَةِ:
14 - الْوَكَالَةُ بِأَجْرٍ (بِجُعْلٍ) حُكْمُهَا حُكْمُ الإِْجَارَاتِ، فَيَسْتَحِقُّ الْوَكِيل الْجُعْل بِتَسْلِيمِ مَا وُكِّل فِيهِ إِلَى الْمُوَكِّل - إِنْ كَانَ مِمَّا يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ - كَثَوْبٍ يَخِيطُهُ فَمَتَى سَلَّمَهُ مَخِيطًا فَلَهُ الأَْجْرُ. وَإِنْ وَكَّلَهُ فِي بَيْعٍ، وَقَال: إِذَا بِعْتَ الثَّوْبَ وَقَبَضْتَ ثَمَنَهُ وَسَلَّمْتَهُ إِلَيَّ فَلَكَ الأَْجْرُ، لَمْ يَسْتَحِقَّ مِنَ الأُْجْرَةِ شَيْئًا حَتَّى يُسَلِّمَهُ إِلَيْهِ. فَإِنْ فَاتَ التَّسْلِيمُ لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا لِفَوَاتِ الشَّرْطِ.
__________
(1) البدائع 6 / 10 - 12، والمبسوط 19 / 165، 166، 175، والدر المختار 4 / 253، 256، وما بعدها، وحاشية الدسوقي 3 / 349، والمغني لابن قدامة 4 / 557.
(2) كفاية الأخيار 1 / 173.(11/323)
وَالْوَكِيل فِي بَيْعِ شَيْءٍ يَمْلِكُ تَسْلِيمَهُ لِلْمُشْتَرِي؛ لأَِنَّ إِطْلاَقَ الْوَكَالَةِ فِي الْبَيْعِ يَقْتَضِي التَّسْلِيمَ، وَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْوَكِيل فِي الْبَيْعِ طَلَبُ الثَّمَنِ مِنَ الْمُشْتَرِي وَقَبْضُهُ؛ لأَِنَّهُ مِنْ تَوَابِعِ الْبَيْعِ، وَكَذَا الْوَكِيل بِالشِّرَاءِ، لَهُ قَبْضُ الْمَبِيعِ مِنَ الْبَائِعِ وَتَسْلِيمُهُ لِمَنْ وَكَّلَهُ بِالشِّرَاءِ، وَهَذَا بِلاَ خِلاَفٍ.
وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْمَقْبُوضَ فِي يَدِ الْوَكِيل يُعْتَبَرُ أَمَانَةً؛ لأَِنَّ يَدَهُ يَدُ نِيَابَةٍ عَنِ الْمُوَكِّل، وَيَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّ الْمَقْبُوضِ عِنْدَ طَلَبِ الْمُوَكِّل مَعَ الإِْمْكَانِ، وَيَضْمَنُ بِالتَّعَدِّي أَوِ التَّقْصِيرِ كَمَا يَضْمَنُ فِي الْوَدَائِعِ، وَيَبْرَأُ بِمَا يَبْرَأُ فِيهَا. (1) (ر: وَكَالَةٌ) .
ي - التَّسْلِيمُ فِي الإِْجَارَةِ:
15 - إِذَا كَانَ الْعَمَل يَجْرِي فِي عَيْنٍ تُسَلَّمُ لِلأَْجِيرِ الْمُشْتَرَكِ، كَانَ عَلَيْهِ تَسْلِيمُ الْعَيْنِ بَعْدَ قِيَامِهِ بِالْعَمَل فِيهَا. وَإِنْ كَانَ الْعَمَل لاَ يَجْرِي فِي عَيْنٍ تُسَلَّمُ لِلأَْجِيرِ، فَإِنَّ مُجَرَّدَ قِيَامِهِ بِالْعَمَل الْمَطْلُوبِ يُعْتَبَرُ تَسْلِيمًا كَالطَّبِيبِ أَوِ السِّمْسَارِ. وَإِنْ كَانَ الأَْجِيرُ خَاصًّا كَانَ تَسْلِيمُ نَفْسِهِ لِلْعَمَل فِي مَحَل
__________
(1) البدائع 6 / 34، وتكملة فتح القدير 6 / 2، والشرح الصغير 3 / 507، 519، والدسوقي 3 / 381، 397، ومغني المحتاج 2 / 230 وما بعدها، والجمل على شرح المنهج 3 / 424، ونهاية المحتاج 5 / 36، والمغني لابن قدامة 5 / 194 وما بعدها، وكشاف القناع 3 / 480، 484، 489.(11/324)
الْعَمَل تَسْلِيمًا مُعْتَبَرًا، (1) وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (إِجَارَةٌ) .
ك - تَسْلِيمُ اللُّقَطَةِ (2) :
16 - لِلإِْمَامِ، أَوْ مَنْ يَنُوبُ عَنْهُ، أَنْ يَتَسَلَّمَ اللُّقَطَةَ مِنَ الْمُلْتَقِطِ إِنْ رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي ذَلِكَ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. (3)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُبَاحُ لِلْمُلْتَقِطِ أَنْ يَدْفَعَ اللُّقَطَةَ لِلإِْمَامِ إِنْ كَانَ عَدْلاً، وَهُوَ مُخَيَّرٌ فِي ذَلِكَ. (4)
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ: أَنَّ الْمُلْتَقِطَ إِنْ دَفَعَ اللُّقَطَةَ إِلَى الْقَاضِي لَزِمَ الْقَاضِيَ الْقَبُول حِفْظًا لَهَا عَلَى صَاحِبِهَا. (5) وَالتَّفْصِيل فِي (لُقَطَةٌ) .
ل - تَسْلِيمُ اللَّقِيطِ (6) لِلْقَاضِي:
17 - يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَتَسَلَّمَ اللَّقِيطَ مِنْ مُلْتَقِطِهِ إِذَا عَلِمَ عَجْزَهُ عَنْ حِفْظِهِ بِنَفْسِهِ وَأَتَى بِهِ إِلَيْهِ،
__________
(1) الفتاوى الهندية 4 / 413، 437، 438، ومنهاج الطالبين وحاشية القليوبي وعميرة 3 / 78، 79، وكشاف القناع 4 / 14.
(2) اللقطة لغة: اسم للمال الملتقط، وشرعا: مال يوجد ولا يعرف مالكه وليس بمباح كمال الحربي (حاشية الطحطاوي 2 / 500) .
(3) المبسوط للسرخسي 11 / 4، 5 ط السعادة بمصر.
(4) مواهب الجليل للحطاب 6 / 73 ط النجاح - ليبيا.
(5) مغني المحتاج 2 / 411، ونهاية المحتاج 5 / 434، 435.
(6) اللقيط لغة: ما يلقط مطلقا، وشرعا: اسم لحي مولود من صغار بني آدم طرحه أهله خوفا من العيلة، أو فرارا من تهمة الزنا (حاشية الطحطاوي 2 / 497) .(11/324)
وَالأَْوْلَى لِلْقَاضِي أَنْ يَقْبَلَهُ. (1) وَتَفْصِيلُهُ فِي بَحْثِ (لَقِيطٌ) .
م - تَسْلِيمُ الصَّدَاقِ لِلزَّوْجَةِ:
18 - إِذَا طَالَبَتِ الزَّوْجَةُ بِالْمَهْرِ يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ تَسْلِيمُهُ أَوَّلاً؛ لأَِنَّ حَقَّ الزَّوْجِ فِي الْمَرْأَةِ مُتَعَيِّنٌ، وَحَقَّ الْمَرْأَةِ فِي الْمَهْرِ لَمْ يَتَعَيَّنْ بِالْعَقْدِ، وَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ بِالْقَبْضِ، فَوَجَبَ عَلَى الزَّوْجِ التَّسْلِيمُ عِنْدَ الْمُطَالَبَةِ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: وَالْبَعْضُ الآْخَرُ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ تَسْلِيمُ الصَّدَاقِ لِزَوْجَتِهِ، أَوْ لِوَلِيِّهَا الْمُجْبِرِ؛ لأَِنَّهُ لَمَّا كَانَ لَهُ إِجْبَارُهَا عَلَى النِّكَاحِ كَانَ لَهُ تَسَلُّمُ صَدَاقِهَا بِغَيْرِ إِذْنِهَا كَالصَّغِيرَةِ (2) .
ن - تَسْلِيمُ الزَّوْجَةِ نَفْسَهَا:
19 - يَجُوزُ لِلزَّوْجَةِ قَبْل دُخُول الزَّوْجِ بِهَا أَنْ لاَ تُسَلِّمَ نَفْسَهَا إِلَى زَوْجِهَا، حَتَّى تَقْبِضَ جَمِيعَ
__________
(1) البحر الرائق 5 / 156 ط أولى، والفتاوى الهندية 3 / 286 ط السعادة بمصر، وحاشية الدسوقي 2 / 126، 127، وجواهر الإكليل 2 / 220، وحاشية الباجوري 2 / 62، والإقناع للشربيني 2 / 41، وروضة الطالبين 5 / 419، ومطالب أولي النهى 4 / 248 - 251، وكشاف القناع 4 / 228 - 230 ط الرياض.
(2) البدائع 2 / 287، 288، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 297 - 300 وما بعدها، والمهذب 2 / 58، وكشاف القناع 5 / 138 - 140.(11/325)
مَهْرِهَا الْمُعَيَّنِ الْحَال، سَوَاءٌ أَكَانَ بَعْضَهُ أَمْ كُلَّهُ. وَإِنِ انْتَقَلَتْ إِلَى بَيْتِ زَوْجِهَا فَالْحُكْمُ كَذَلِكَ لِتَعَيُّنِ حَقِّهَا فِي الْبَدَل، كَمَا يَتَعَيَّنُ حَقُّهُ فِي الْمُبْدَل.
وَلاَ يَتَعَيَّنُ حَقُّهَا إِلاَّ بِالتَّسْلِيمِ وَالاِنْتِقَال إِلَى حَيْثُ يُرِيدُ زَوْجُهَا إِنْ أَرَادَ، وَهَذَا بِلاَ خِلاَفٍ. (1)
فَإِنْ سَلَّمَتْ نَفْسَهَا بِالدُّخُول، أَوْ بِالْخَلْوَةِ الصَّحِيحَةِ، فَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ: أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَمْنَعَ نَفْسَهَا؛ لأَِنَّهَا بِالدُّخُول أَوْ بِالْخَلْوَةِ الصَّحِيحَةِ سَلَّمَتْ جَمِيعَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بِرِضَاهَا، وَهِيَ مِنْ أَهْل التَّسْلِيمِ، فَبَطَل حَقُّهَا فِي الْمَنْعِ.
وَيَرَى أَبُو حَنِيفَةَ: أَنَّ لِلزَّوْجَةِ أَنْ تَمْتَنِعَ مِنْ زَوْجِهَا حَتَّى تَأْخُذَ الْمُعَجَّل لَهَا مِنَ الْمَهْرِ، وَلَوْ دَخَل بِهَا بِرِضَاهَا وَهِيَ مُكَلَّفَةٌ؛ لأَِنَّ الْمَهْرَ مُقَابَلٌ بِجَمِيعِ مَا يُسْتَوْفَى مِنْ مَنَافِعِ الْبُضْعِ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الاِسْتِمْتَاعِ الَّتِي تُوجَدُ فِي هَذَا الْمِلْكِ، وَيَكُونُ رِضَاهَا بِالدُّخُول أَوِ الْخَلْوَةِ قَبْل قَبْضِ مُعَجَّل مَهْرِهَا إِسْقَاطًا لِحَقِّهَا فِي مَنْعِ نَفْسِهَا فِي الْمَاضِي، وَلَيْسَ لِحَقِّهَا فِي الْمُسْتَقْبَل، عَلَى الرَّاجِحِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
__________
(1) فتح القدير 3 / 215، 216، 248 ط دار إحياء التراث العربي / بيروت - لبنان، والبدائع 2 / 288، 298، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 297، 398، وشرح المنهاج بحاشية القليوبي 3 / 277، 278، ونهاية المحتاج 6 / 331 وما بعدها، والمغني لابن قدامة 6 / 737، 738 ط الرياض.(11/325)
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ أَنَّ لَهَا الاِمْتِنَاعَ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ مَهْرَهَا، كَمَا لَوْ كَانَ حَالًّا ابْتِدَاءً. (1)
20 - وَالتَّسْلِيمُ الْوَاجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ يَحْصُل فِي الْمَكَانِ الَّذِي يَتَمَكَّنُ فِيهِ زَوْجُهَا مِنَ اسْتِمْتَاعِهِ بِهَا، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَكَانُ بَيْتَ أَبِيهَا إِنْ رَضِيَا مَعًا بِالإِْقَامَةِ فِيهِ، أَمْ كَانَ مَسْكَنًا شَرْعِيًّا أَعَدَّهُ لَهَا زَوْجُهَا. وَيَتَرَتَّبُ عَلَى تَسْلِيمِ نَفْسِهَا لِزَوْجِهَا وُجُوبُ نَفَقَتِهَا عَلَيْهِ؛ لأَِنَّهَا مَحْبُوسَةٌ لِحَقِّهِ، وَهَذَا بِلاَ خِلاَفٍ. (2)
تَسْلِيمُ النَّفَقَةِ:
21 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ حَقٌّ أَصِيلٌ مِنْ حُقُوقِهَا الْوَاجِبَةِ عَلَى زَوْجِهَا، وَأَنَّهَا تَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ الْحَاضِرِ، إِذَا سَلَّمَتِ الزَّوْجَةُ نَفْسَهَا إِلَى الزَّوْجِ وَقْتَ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ.
وَإِذَا امْتَنَعَ الزَّوْجُ عَنِ الإِْنْفَاقِ عَلَى زَوْجَتِهِ بَعْدَمَا فَرَضَهُ عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ بَعْدَ فَرْضِ الْقَاضِي بَاعَ الْقَاضِي مِنْ مَالِهِ، إِنْ كَانَ مُوسِرًا وَلَهُ مَالٌ
__________
(1) فتح القدير 3 / 215، 216، 248، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 297، 298 ط عيسى الحلبي بمصر، ومغني المحتاج 3 / 222 وما بعدها، ونهاية المحتاج 6 / 331 - 333، والمغني 6 / 737، 738.
(2) فتح القدير 4 / 192، وحاشية الدسوقي 2 / 508، ونهاية المحتاج 7 / 191 وما بعدها، والمغني لابن قدامة 6 / 737، 738، 7 / 564.(11/326)
ظَاهِرٌ، وَأَعْطَى لِزَوْجَتِهِ مَا يَكْفِي النَّفَقَةَ. (1)
وَلِلتَّفْصِيل: (ر: نَفَقَةٌ) .
تَسَمُّعٌ
انْظُرْ: اسْتِمَاعٌ.
__________
(1) البدائع 4 / 38، والبحر الرائق 4 / 194 - الطبعة الأولى، وحاشية الدسوقي 2 / 508 وما بعدها، والمهذب 2 / 363 وما بعدها، والمغني لابن قدامة 7 / 564 وما بعدها ط الرياض.(11/326)
تَسْمِيَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّسْمِيَةُ: مَصْدَرُ سَمَّى بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ، وَمَادَّةُ: (سَمَا) لَهَا فِي اللُّغَةِ عِدَّةُ مَعَانٍ:
فَمِنْهَا: سَمَا يَسْمُو سُمُوًّا أَيْ عَلاَ. يُقَال: سَمَتْ هِمَّتُهُ إِلَى مَعَالِي الأُْمُورِ: إِذَا طَلَبَ الْعِزَّ وَالشَّرَفَ، وَكُل عَالٍ: سَمَاءٌ.
(وَالاِسْمُ) مِنَ السُّمُوِّ وَهُوَ الْعُلُوُّ، وَقِيل: الاِسْمُ مِنَ الْوَسْمِ، وَهُوَ الْعَلاَمَةُ. (1)
وَقَال فِي الصِّحَاحِ: وَسَمَّيْتُ فُلاَنًا زَيْدًا وَسَمَّيْتُهُ بِزَيْدٍ بِمَعْنًى وَأَسْمَيْتُهُ مِثْلُهُ، فَتَسَمَّى بِهِ. وَتَقُول: هَذَا سَمِيُّ فُلاَنٍ، إِذَا وَافَقَ اسْمُهُ اسْمَهُ، كَمَا تَقُول: هُوَ كَنِيُّهُ، وقَوْله تَعَالَى: {هَل تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} (2) أَيْ: نَظِيرًا يَسْتَحِقُّ مِثْل اسْمِهِ، وَيُقَال: مُسَامِيًا يُسَامِيهِ. (3)
وَتُسْتَعْمَل التَّسْمِيَةُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ بِمَعْنَى قَوْل: بِسْمِ اللَّهِ، وَبِمَعْنَى: وَضْعِ الاِسْمِ الْعَلَمِ لِلْمَوْلُودِ وَغَيْرِهِ، وَبِمَعْنَى: تَحْدِيدِ الْعِوَضِ فِي الْعُقُودِ،
__________
(1) المصباح المنير مادة: " سمو ".
(2) سورة مريم / 65.
(3) الصحاح للجوهري، نفس المادة.(11/327)
كَالْمَهْرِ وَالأُْجْرَةِ وَالثَّمَنِ، وَبِمَعْنَى: التَّعْيِينِ بِالاِسْمِ مُقَابِل الإِْبْهَامِ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّكْنِيَةُ:
2 - التَّكْنِيَةُ مَصْدَرُ: كَنَّى بِتَشْدِيدِ النُّونِ، أَيْ: جَعَل لَهُ كُنْيَةً، كَأَبِي فُلاَنٍ وَأُمِّ فُلاَنٍ (1)
وَتَفْصِيل الأَْحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالتَّكْنِيَةِ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (كُنْيَةٌ) .
ب - التَّلْقِيبُ:
3 - التَّلْقِيبُ: مَصْدَرُ لَقَّبَ بِتَشْدِيدِ الْقَافِ. وَاللَّقَبُ وَاحِدُ الأَْلْقَابِ، وَهُوَ مَا كَانَ مُشْعِرًا بِمَدْحٍ أَوْ ذَمٍّ.
وَمَعْنَاهُ: النَّبْزُ بِالتَّمْيِيزِ (2) . وَالنَّبْزُ بِالأَْلْقَابِ الْمَكْرُوهَةِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَْلْقَابِ} . (3)
فَإِنْ قَصَدَ بِهِ التَّعْرِيفَ فَلاَ يَدْخُل تَحْتَ النَّهْيِ، وَمِنْ ذَلِكَ تَعْرِيفُ بَعْضِ الأَْئِمَّةِ الْمُتَقَدِّمِينَ، كَالأَْعْمَشِ وَالأَْخْفَشِ وَالأَْعْرَجِ. (4)
هَذَا وَالنُّحَاةُ فِي كُتُبِهِمْ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْكُنْيَةِ وَاللَّقَبِ وَالاِسْمِ.
فَالْكُنْيَةُ عِنْدَهُمْ: كُل مُرَكَّبٍ إِضَافِيٍّ فِي صَدْرِهِ
__________
(1) القاموس المحيط مادة: " كنى ".
(2) المصباح مادة: " لقب ".
(3) سورة الحجرات / 11.
(4) المصباح المنير مادة: " لقب ".(11/327)
أَبٌ أَوْ أُمٌّ، كَأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَأُمِّ كُلْثُومٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بِنْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَفَرَّقَ الأَْبْهَرِيُّ فِي حَوَاشِي الْعَضُدِ بَيْنَ الاِسْمِ وَاللَّقَبِ، فَقَال: الاِسْمُ يُقْصَدُ بِدَلاَلَتِهِ الذَّاتُ الْمُعَيَّنَةُ، وَاللَّقَبُ يُقْصَدُ بِهِ الذَّاتُ مَعَ الْوَصْفِ، وَلِذَلِكَ يُخْتَارُ اللَّقَبُ عِنْدَ إِرَادَةِ التَّعْظِيمِ أَوِ الإِْهَانَةِ. (1)
هَذَا وَسَيَأْتِي حُكْمُ الْكُنْيَةِ وَاللَّقَبِ عِنْدَ الْكَلاَمِ عَلَى التَّسْمِيَةِ بِمَعْنَى وَضْعِ الاِسْمِ الْعَلَمِ لِلْمَوْلُودِ.
أَحْكَامُ التَّسْمِيَةِ:
أَوَّلاً: التَّسْمِيَةُ أَوِ الْبَسْمَلَةُ: قَوْل: (بِسْمِ اللَّهِ) :
4 - أَكْمَلُهَا: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَيَتَعَلَّقُ بِهَا عَدَدٌ مِنَ الأَْحْكَامِ، كَالتَّسْمِيَةِ فِي ابْتِدَاءِ الْوُضُوءِ، وَعِنْدَ الْغُسْل، وَفِي الصَّلاَةِ، وَعِنْدَ الذَّبْحِ، وَفِي الصَّيْدِ عِنْدَ إِرْسَال الْكَلْبِ أَوِ السَّهْمِ، وَعِنْدَ الطَّعَامِ أَوِ الْجِمَاعِ أَوْ دُخُول الْخَلاَءِ. وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي: (بَسْمَلَةٌ) .
ثَانِيًا: التَّسْمِيَةُ بِمَعْنَى وَضْعِ الاِسْمِ الْعَلَمِ لِلْمَوْلُودِ وَغَيْرِهِ:
5 - الْفُقَهَاءُ يَذْكُرُونَ التَّسْمِيَةَ وَيُرِيدُونَ بِهَا وَضْعَ الاِسْمِ الْعَلَمِ لِلْمَوْلُودِ وَغَيْرِهِ، وَهِيَ بِهَذَا الْمَعْنَى تَعْرِيفُ الشَّيْءِ الْمُسَمَّى؛ لأَِنَّهُ إِذَا وُجِدَ وَهُوَ
__________
(1) التصريح على التوضيح 1 / 120 ط الحلبي.(11/328)
مَجْهُول الاِسْمِ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَا يَقَعُ تَعْرِيفُهُ بِهِ. (1)
وَيَتَعَلَّقُ بِهَا عَدَدٌ مِنَ الأَْحْكَامِ:
أ - تَسْمِيَةُ الْمَوْلُودِ:
6 - ذَكَرَ ابْنُ عَرَفَةَ أَنَّ مُقْتَضَى الْقَوَاعِدِ وُجُوبُ التَّسْمِيَةِ، وَمِمَّا لاَ نِزَاعَ فِيهِ أَنَّ الأَْبَ أَوْلَى بِهَا مِنَ الأُْمِّ، فَإِنِ اخْتَلَفَ الأَْبَوَانِ فِي التَّسْمِيَةِ فَيُقَدَّمُ الأَْبُ. (2)
ب - وَقْتُ التَّسْمِيَةِ:
7 - يَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ وَقْتَ تَسْمِيَةِ الْمَوْلُودِ هُوَ الْيَوْمُ السَّابِعُ مِنْ وِلاَدَتِهِ بَعْدَ ذَبْحِ الْعَقِيقَةِ، هَذَا إِذَا كَانَ الْمَوْلُودُ مِمَّنْ يُعَقُّ عَنْهُ، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لاَ يُعَقُّ عَنْهُ لِفَقْرِ وَلِيِّهِ فَيَجُوزُ أَنْ يُسَمُّوهُ مَتَى شَاءُوا.
قَال الْحَطَّابُ: قَال فِي الْمَدْخَل فِي فَصْل ذِكْرِ النِّفَاسِ: وَيَنْبَغِي إِذَا كَانَ الْمَوْلُودُ مِمَّنْ يُعَقُّ عَنْهُ فَلاَ يُوقَعُ عَلَيْهِ الاِسْمُ الآْنَ حَتَّى تُذْبَحَ الْعَقِيقَةُ، وَيُتَخَيَّرَ لَهُ فِي الاِسْمِ مُدَّةَ السَّابِعِ، وَإِذَا ذَبَحَ الْعَقِيقَةَ أَوْقَعَ عَلَيْهِ الاِسْمَ.
وَإِنْ كَانَ الْمَوْلُودُ لاَ يُعَقُّ عَنْهُ لِفَقْرِ وَلِيِّهِ فَيُسَمُّونَهُ مَتَى شَاءُوا. انْتَهَى.
ثُمَّ قَال: وَنَقَلَهُ بَعْضُ شُرَّاحِ الرِّسَالَةِ عَنِ التَّادَلِيِّ، وَأَصْلُهُ لِلنَّوَادِرِ فِي بَابِ الْعَقِيقَةِ.
__________
(1) تحفة المودود ص 88 ط. المدني.
(2) مواهب الجليل 3 / 256 ط. النجاح، وتحفة المودود ص 106.(11/328)
قَال ابْنُ عَرَفَةَ: وَمُقْتَضَى الْقَوَاعِدِ وُجُوبُ التَّسْمِيَةِ، سُمِعَ ابْنُ الْقَاسِمِ يُسَمَّى يَوْمَ سَابِعِهِ.
قَال ابْنُ رُشْدٍ: لِحَدِيثِ: يُذْبَحُ عَنْهُ يَوْمَ سَابِعِهِ وَيُحْلَقُ وَيُسَمَّى (1) وَفِيهِ سَعَةٌ لِحَدِيثِ وُلِدَ لِي اللَّيْلَةَ غُلاَمٌ، فَسَمَّيْتُهُ بِاسْمِ أَبِي إِبْرَاهِيمَ (2) وَأُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ صَبِيحَةَ وُلِدَ فَحَنَّكَهُ وَدَعَا لَهُ وَسَمَّاهُ. (3)
وَيُحْتَمَل حَمْل الأَْوَّل عَلَى مَنْعِ تَأْخِيرِ التَّسْمِيَةِ عَنْ سَابِعِهِ فَتَتَّفِقُ الأَْخْبَارُ، وَعَلَى قَوْل مَالِكٍ قَال ابْنُ حَبِيبٍ: لاَ بَأْسَ أَنْ تُتَخَيَّرَ لَهُ الأَْسْمَاءُ قَبْل سَابِعِهِ، وَلاَ يُسَمَّى إِلاَّ فِيهِ. (4)
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ تَسْمِيَةُ الْمَوْلُودِ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ كَمَا ذَكَرَ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ، وَلاَ بَأْسَ أَنْ يُسَمَّى قَبْلَهُ، وَاسْتَحَبَّ بَعْضُهُمْ أَنْ
__________
(1) حديث: " يذبح عنه يوم سابعه، ويحلق ويسمى " عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما " أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بتسمية المولود يوم سابعه ووضع الأذى عنه والعق " أخرجه الترمذي (5 / 132 ط الحلبي) وحسنه.
(2) حديث: " ولد لي الليلة غلام فسميته باسم أبي إبراهيم ". أخرجه مسلم (4 / 1807 - ط الحلبي) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(3) حديث: " تسمية عبد الله بن طلحة. . . " أخرجه البخاري (الفتح 9 / 587 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1689 - ط الحلبي) .
(4) مواهب الجليل 3 / 256 ط النجاح، وحاشية العدوي على شرح أبي الحسن لرسالة ابن أبي زيد 1 / 525 ط دار المعرفة.(11/329)
لاَ يَفْعَلَهُ. وَلاَ يُتْرَكُ تَسْمِيَةُ السِّقْطِ، وَلاَ مَنْ مَاتَ قَبْل تَمَامِ السَّبْعَةِ. (1)
هَذَا وَأَمَّا الأَْخْبَارُ الصَّحِيحَةُ الْوَارِدَةُ فِي تَسْمِيَةِ يَوْمِ الْوِلاَدَةِ، فَقَدْ حَمَلَهَا الْبُخَارِيُّ عَلَى مَنْ لَمْ يُرِدِ الْعَقَّ، وَالأَْخْبَارُ الْوَارِدَةُ فِي تَسْمِيَتِهِ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ عَلَى مَنْ أَرَادَهُ. (2)
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَلَهُمْ فِي وَقْتِ التَّسْمِيَةِ رِوَايَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنَّهُ يُسَمَّى فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ. وَالثَّانِيَةُ: أَنَّهُ يُسَمَّى فِي يَوْمِ الْوِلاَدَةِ.
قَال صَاحِبُ كَشَّافِ الْقِنَاعِ: وَيُسَمَّى الْمَوْلُودُ فِيهِ أَيْ: فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ، لِحَدِيثِ سَمُرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُل غُلاَمٍ رَهِينَةٌ بِعَقِيقَتِهِ، تُذْبَحُ عَنْهُ يَوْمَ سَابِعِهِ، وَيُسَمَّى فِيهِ، وَيُحْلَقُ رَأْسُهُ. (3)
وَالتَّسْمِيَةُ لِلأَْبِ فَلاَ يُسَمِّيهِ غَيْرُهُ مَعَ وُجُودِهِ. (4)
وَفِي الرِّعَايَةِ: يُسَمَّى يَوْمَ الْوِلاَدَةِ؛ لِحَدِيثِ مُسْلِمٍ فِي قِصَّةِ وِلاَدَةِ إِبْرَاهِيمَ ابْنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وُلِدَ لِي
__________
(1) روضة الطالبين 3 / 232 ط المكتب الإسلامي، وحاشية قليوبي 4 / 256 ط الحلبي.
(2) تحفة المحتاج 9 / 373 ط دار صادر، ومغني المحتاج 4 / 294 ط دار إحياء التراث العربي، ونهاية المحتاج 8 / 139 ط المكتبة الإسلامية.
(3) حديث: " كل غلام رهينة بعقيقة تذبح. . . " أخرجه النسائي (8 / 166 - ط المكتبة التجارية) ، والحاكم (4 / 237 ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه الذهبي.
(4) كشاف القناع 3 / 25، 26 ط النصر.(11/329)
اللَّيْلَةَ مَوْلُودٌ فَسَمَّيْتُهُ إِبْرَاهِيمَ بِاسْمِ أَبِي إِبْرَاهِيمَ (1) هَذَا وَلَمْ يَذْكُرِ ابْنُ عَابِدِينَ وَلاَ صَاحِبُ الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ عِنْدَ الْكَلاَمِ عَلَى التَّسْمِيَةِ الْوَقْتَ الَّذِي تَكُونُ فِيهِ. (2)
قَال ابْنُ الْقَيِّمِ: إِنَّ التَّسْمِيَةَ لَمَّا كَانَتْ حَقِيقَتُهَا تَعْرِيفَ الشَّيْءِ الْمُسَمَّى؛ لأَِنَّهُ إِذَا وُجِدَ وَهُوَ مَجْهُول الاِسْمِ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَا يَقَعُ تَعْرِيفُهُ بِهِ، فَجَازَ تَعْرِيفُهُ يَوْمَ وُجُودِهِ، وَجَازَ تَأْخِيرُ التَّعْرِيفِ إِلَى ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ، وَجَازَ إِلَى يَوْمِ الْعَقِيقَةِ عَنْهُ، وَيَجُوزُ قَبْل ذَلِكَ وَبَعْدَهُ، وَالأَْمْرُ فِيهِ وَاسِعٌ. (3)
ج - تَسْمِيَةُ السِّقْطِ:
8 - الْمُرَادُ بِالسِّقْطِ هُنَا الْوَلَدُ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى يَخْرُجُ مَيِّتًا مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ قَبْل تَمَامِهِ وَهُوَ مُسْتَبِينُ الْخَلْقِ. يُقَال: سَقَطَ الْوَلَدُ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ سُقُوطًا فَهُوَ سِقْطٌ بِالْكَسْرِ، وَالتَّثْلِيثُ لُغَةٌ، وَلاَ يُقَال: وَقَعَ، وَأَسْقَطَتِ الْحَامِل بِالأَْلِفِ: أَلْقَتْ سِقْطًا (4) .
هَذَا، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَسْمِيَةِ السِّقْطِ.
__________
(1) الحديث: تقدم تخريجه ف / 7.
(2) حاشية ابن عابدين 5 / 268، 269 ط الأميرية، والفتاوى الهندية 5 / 362 ط المكتبة الإسلامية.
(3) تحفة المودود ص 88.
(4) المصباح المنير.(11/330)
قَال صَاحِبُ الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: مَنْ وُلِدَ مَيِّتًا لاَ يُسَمَّى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلاَفًا لِمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى.
وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ السِّقْطَ لاَ يُسَمَّى. وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ، كَمَا قَال النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ: أَنَّ تَسْمِيَةَ السِّقْطِ لاَ تُتْرَكُ. وَفِي النِّهَايَةِ: يُنْدَبُ تَسْمِيَةُ سِقْطٍ نُفِخَتْ فِيهِ الرُّوحُ. (1)
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ، فَقَدْ قَال ابْنُ قُدَامَةَ: فَإِنْ لَمْ يَتَبَيَّنْ أَذَكَرٌ هُوَ أَمْ أُنْثَى؟ سُمِّيَ اسْمًا يَصْلُحُ لِلذَّكَرِ وَالأُْنْثَى، هَذَا عَلَى سَبِيل الاِسْتِحْبَابِ؛ لأَِنَّهُ يُرْوَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: سَمُّوا أَسْقَاطَكُمْ، فَإِنَّهُمْ أَسْلاَفُكُمْ (2)
قِيل: إِنَّهُمْ إِنَّمَا يُسَمَّوْنَ لِيُدْعَوْا يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَسْمَائِهِمْ، فَإِذَا لَمْ يُعْلَمْ هَل السِّقْطُ ذَكَرٌ أَوْ أُنْثَى، سُمِّيَ اسْمًا يَصْلُحُ لَهُمَا جَمِيعًا، كَسَلَمَةَ وَقَتَادَةَ وَسُعَادَ وَهِنْدٍ. وَنَحْوِ ذَلِكَ (3) .
__________
(1) الفتاوى الهندية 3 / 362، وحاشية العدوي على شرح أبي الحسن لرسالة ابن أبي زيد 1 / 525، وروضة الطالبين 3 / 232، وحاشية قليوبي 4 / 256، وتحفة المحتاج 9 / 372، ومغني المحتاج 4 / 294 ط دار إحياء التراث العربي، ونهاية المحتاج 8 / 139.
(2) حديث: " سموا أسقاطكم فإنهم. . . " ورد بلفظ: " سموا أسقاطكم فإنهم من أفراطكم " ذكره صاحب كنز العمال وقال: ابن عساكر عن البختري بن عبيد عن أبيه عن أبي هريرة، والبختري ضعيف. (الكنز 16 / 423 - ط الرسالة) .
(3) المغني لابن قدامة 2 / 523 ط الرياض.(11/330)
د - تَسْمِيَةُ مَنْ مَاتَ بَعْدَ الْوِلاَدَةِ
9 - يَرَى الْفُقَهَاءُ أَنَّ مَنْ مَاتَ بَعْدَ الْوِلاَدَةِ، وَقَبْل أَنْ يُسَمَّى، فَإِنَّهُ يُسَمَّى.
وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ قَالُوا: إِذَا اسْتَهَل صَارِخًا فَإِنَّهُ يُعْطَى حُكْمَ الْكَبِيرِ، وَتَثْبُتُ لَهُ كَافَّةُ الْحُقُوقِ. (1) وَتَسْمِيَةُ مَنْ مَاتَ بَعْدَ الْوِلاَدَةِ جَائِزَةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ. (2)
وَالشَّافِعِيَّةُ يَرَوْنَ أَنَّهُ يُسَمَّى إِذَا مَاتَ قَبْل تَمَامِ السَّبْعِ، كَمَا قَال النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ.
وَقَال صَاحِبُ مُغْنِي الْمُحْتَاجِ: لَوْ مَاتَ قَبْل التَّسْمِيَةِ اسْتُحِبَّ تَسْمِيَتُهُ. (3)
وَمُقْتَضَى مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُمْ يُجِيزُونَ تَسْمِيَةَ مَنْ مَاتَ بَعْدَ الْوِلاَدَةِ؛ لأَِنَّهُمْ يُجِيزُونَ تَسْمِيَةَ السِّقْطِ، وَيَقُولُونَ: إِنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ، فَعَلَى هَذَا تَسْمِيَةُ مَنْ مَاتَ بَعْدَ الْوِلاَدَةِ جَائِزَةٌ عِنْدَهُمْ، بَل أَوْلَى (4) .
مَا تُسْتَحَبُّ التَّسْمِيَةُ بِهِ مِنَ الأَْسْمَاءِ:
10 - الأَْصْل جَوَازُ التَّسْمِيَةِ بِأَيِّ اسْمٍ إِلاَّ مَا وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهُ مِمَّا سَيَأْتِي.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 141، 5 / 268.
(2) مواهب الجليل 3 / 256، وجواهر الإكليل 1 / 224 ط دار المعرفة، وحاشية العدوي على شرح الرسالة 1 / 525.
(3) روضة الطالبين 3 / 232، ومغني المحتاج 4 / 294.
(4) المغني لابن قدامة 2 / 523.(11/331)
وَتُسْتَحَبُّ التَّسْمِيَةُ بِكُل اسْمٍ مُعَبَّدٍ مُضَافٍ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أَوْ إِلَى أَيِّ اسْمٍ مِنَ الأَْسْمَاءِ الْخَاصَّةِ بِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ لأَِنَّ الْفُقَهَاءَ اتَّفَقُوا عَلَى اسْتِحْسَانِ التَّسْمِيَةِ بِهِ.
وَأَحَبُّ الأَْسْمَاءِ إِلَى اللَّهِ عَبْدُ اللَّهِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ.
وَقَال سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: أَحَبُّهَا إِلَى اللَّهِ أَسْمَاءُ الأَْنْبِيَاءِ. (1)
وَالْحَدِيثُ الصَّحِيحُ يَدُل عَلَى أَنَّ أَحَبَّ الأَْسْمَاءِ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: عَبْدُ اللَّهِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ. وَيَدُل لِذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ أَحَبَّ أَسْمَائِكُمْ إِلَى اللَّهِ عَبْدُ اللَّهِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ. (2)
وَلِمَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ عَنْ أَبِي الْجُشَمِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَسَمُّوا بِأَسْمَاءِ الأَْنْبِيَاءِ، وَأَحَبُّ الأَْسْمَاءِ إِلَى اللَّهِ: عَبْدُ اللَّهِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَأَصْدَقُهَا: حَارِثٌ وَهَمَّامٌ، وَأَقْبَحُهَا: حَرْبٌ وَمُرَّةٌ. (3)
وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ فِي حَاشِيَتِهِ نَقْلاً عَنِ الْمُنَاوِيِّ: إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ أَفْضَل مُطْلَقًا حَتَّى مِنْ
__________
(1) تحفة المودود ص 89.
(2) حديث: " أحب أسمائكم إلى الله. . . " أخرجه مسلم (3 / 1682 - ط الحلبي) .
(3) حديث: " تسموا بأسماء الأنبياء. . . " أخرجه أبو داود (5 / 237 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وأعله ابن القطان كما في فيض القدير للمناوي (3 / 246 - ط المكتبة التجارية) .(11/331)
عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَأَفْضَل الأَْسْمَاءِ بَعْدَهُمَا مُحَمَّدٌ ثُمَّ أَحْمَدُ ثُمَّ إِبْرَاهِيمُ. (1)
وَالْجُمْهُورُ عَلَى اسْتِحْبَابِ التَّسْمِيَةِ بِكُل مُعَبَّدٍ مُضَافٍ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَعَبْدِ اللَّهِ، أَوْ مُضَافٍ إِلَى اسْمٍ خَاصٍّ بِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَعَبْدِ الرَّحْمَنِ وَعَبْدِ الْغَفُورِ. (2)
وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَهُمْ مَعَ الْجُمْهُورِ فِي أَنَّ أَحَبَّ الأَْسْمَاءِ إِلَى اللَّهِ: عَبْدُ اللَّهِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، إِلاَّ أَنَّ صَاحِبَ الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ قَال: وَلَكِنَّ التَّسْمِيَةَ بِغَيْرِ هَذِهِ الأَْسْمَاءِ فِي هَذَا الزَّمَانِ أَوْلَى؛ لأَِنَّ الْعَوَامَّ يُصَغِّرُونَهَا لِلنِّدَاءِ. (3)
وَذَكَرَ ابْنُ عَابِدِينَ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى الدُّرِّ الْمُخْتَارِ أَنَّ أَفْضَلِيَّةَ التَّسْمِيَةِ بِعَبْدِ اللَّهِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ لَيْسَتْ مُطْلَقَةً فَإِنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ أَرَادَ التَّسْمِيَةَ بِالْعُبُودِيَّةِ؛ لأَِنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَ عَبْدَ شَمْسٍ وَعَبْدَ الدَّارِ، فَجَاءَتِ الأَْفْضَلِيَّةُ، فَهَذَا لاَ يُنَافِي أَنَّ اسْمَ مُحَمَّدٍ وَأَحْمَدَ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ جَمِيعِ الأَْسْمَاءِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَخْتَرْ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلاَّ مَا هُوَ أَحَبُّ إِلَيْهِ، هَذَا هُوَ الصَّوَابُ. (4)
وَلاَ يَجُوزُ تَغْيِيرُ اسْمِ اللَّهِ بِالتَّصْغِيرِ فِيمَا هُوَ مُضَافٌ. قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَهَذَا مُشْتَهَرٌ فِي
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 268.
(2) مواهب الجليل 3 / 256، وتحفة المحتاج 9 / 373، وكشاف القناع 3 / 26.
(3) الفتاوى الهندية 5 / 362.
(4) حاشية ابن عابدين 5 / 268.(11/332)
زَمَانِنَا حَيْثُ يُنَادُونَ مَنِ اسْمُهُ عَبْدُ الرَّحِيمِ وَعَبْدُ الْكَرِيمِ أَوْ عَبْدُ الْعَزِيزِ مَثَلاً، فَيَقُولُونَ: رُحَيِّمٌ وَكُرَيِّمٌ وَعُزَيِّزٌ بِتَشْدِيدِ يَاءِ التَّصْغِيرِ، وَمَنِ اسْمُهُ عَبْدُ الْقَادِرِ قُوَيْدِرٌ وَهَذَا مَعَ قَصْدِهِ كُفْرٌ.
فَفِي الْمُنْيَةِ: مَنْ أَلْحَقَ التَّصْغِيرَ فِي آخِرِ اسْمِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَوْ نَحْوِهِ - مِمَّا أُضِيفَ إِلَى وَاحِدٍ مِنَ الأَْسْمَاءِ الْحُسْنَى - إِنْ قَال ذَلِكَ عَمْدًا قَاصِدًا التَّحْقِيرَ كَفَرَ، وَإِنْ لَمْ يَدْرِ مَا يَقُول وَلاَ قَصْدَ لَهُ لَمْ يُحْكَمْ بِكُفْرِهِ، وَمَنْ سَمِعَ مِنْهُ ذَلِكَ يَحِقُّ عَلَيْهِ أَنْ يُعَلِّمَهُ، وَبَعْضُهُمْ يَقُول: رَحْمُونٌ لِمَنِ اسْمُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ. (1)
11 - وَأَمَّا التَّسْمِيَةُ بِأَسْمَاءِ الأَْنْبِيَاءِ فَقَدِ اخْتَلَفَ، الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِهَا، فَذَهَبَ الأَْكْثَرُونَ إِلَى عَدَمِ الْكَرَاهَةِ، وَهُوَ الصَّوَابُ.
قَال صَاحِبُ تُحْفَةِ الْمُحْتَاجِ: وَلاَ تُكْرَهُ التَّسْمِيَةُ بِاسْمِ نَبِيٍّ أَوْ مَلَكٍ، بَل جَاءَ فِي التَّسْمِيَةِ بِاسْمِ نَبِيِّنَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَضَائِل. (2) وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْعُتْبِيُّ أَنَّ أَهْل مَكَّةَ يَتَحَدَّثُونَ: مَا مِنْ بَيْتٍ فِيهِ اسْمُ مُحَمَّدٍ إِلاَّ رَأَوْا خَيْرًا وَرُزِقُوا. (3)
وَذَكَرَ صَاحِبُ كَشَّافِ الْقِنَاعِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ يَحْسُنُ التَّسْمِيَةُ بِأَسْمَاءِ الأَْنْبِيَاءِ. (4)
__________
(1) نفس المرجع.
(2) تحفة المحتاج 9 / 373.
(3) مواهب الجليل 3 / 256.
(4) كشاف القناع 3 / 26، وتحفة المودود ص 100.(11/332)
بَل قَال سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، كَمَا تَقَدَّمَ النَّقْل عَنْهُ: إِنَّهَا أَحَبُّ الأَْسْمَاءِ إِلَى اللَّهِ.
وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى كَرَاهَةِ التَّسْمِيَةِ بِأَسْمَاءِ الأَْنْبِيَاءِ، وَقَدْ نُسِبَ هَذَا الْقَوْل إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
قَال صَاحِبُ تُحْفَةِ الْمَوْدُودِ: وَلَعَل صَاحِبَ هَذَا الْقَوْل قَصَدَ صِيَانَةَ أَسْمَائِهِمْ عَنِ الاِبْتِذَال وَمَا يَعْرِضُ لَهَا مِنْ سُوءِ الْخِطَابِ، عِنْدَ الْغَضَبِ وَغَيْرِهِ.
وَقَال سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: أَحَبُّ الأَْسْمَاءِ إِلَى اللَّهِ أَسْمَاءُ الأَْنْبِيَاءِ. وَفِي تَارِيخِ ابْنِ خَيْثَمَةَ: أَنَّ طَلْحَةَ كَانَ لَهُ عَشَرَةٌ مِنَ الْوَلَدِ، كُلٌّ مِنْهُمُ اسْمُهُ اسْمُ نَبِيٍّ، وَكَانَ لِلزُّبَيْرِ عَشَرَةٌ كُلُّهُمْ تَسَمَّى بِاسْمِ شَهِيدٍ، فَقَال لَهُ طَلْحَةُ: أَنَا سَمَّيْتُهُمْ بِأَسْمَاءِ الأَْنْبِيَاءِ، وَأَنْتَ تُسَمِّيهِمْ بِأَسْمَاءِ الشُّهَدَاءِ، فَقَال لَهُ الزُّبَيْرُ: فَإِنِّي أَطْمَعُ أَنْ يَكُونَ بَنِيَّ شُهَدَاءَ، وَلاَ تَطْمَعُ أَنْ يَكُونَ بَنُوكَ أَنْبِيَاءَ (1) .
وَيَدُل عَلَى جَوَازِ التَّسْمِيَةِ بِأَسْمَاءِ الأَْنْبِيَاءِ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ عَنْ أَبِي الْجُشَمِيِّ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَسَمُّوا بِأَسْمَاءِ الأَْنْبِيَاءِ. (2) وَيَدُل عَلَى جَوَازِ التَّسْمِيَةِ بِاسْمِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) تحفة المودود ص 100 - 101.
(2) حديث: " تسموا بأسماء الأنبياء. . . " تقدم تخريجه ف / 10.(11/333)
مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: وُلِدَ لِرَجُلٍ مِنَّا غُلاَمٌ فَسَمَّاهُ الْقَاسِمُ، فَقَالُوا: لاَ نُكَنِّيهِ حَتَّى نَسْأَل النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: سَمُّوا بِاسْمِي وَلاَ تَكَنَّوْا بِكُنْيَتِي (1) .
مَا تُكْرَهُ التَّسْمِيَةُ بِهِ مِنَ الأَْسْمَاءِ:
12 - تُكْرَهُ تَنْزِيهًا التَّسْمِيَةُ بِكُل اسْمٍ يُتَطَيَّرُ بِنَفْيِهِ، كَرَبَاحٍ وَأَفْلَحَ وَنَجَاحٍ وَيَسَارٍ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَإِنَّ هَذِهِ الأَْسْمَاءَ وَمَا أَشْبَهَهَا يُتَطَيَّرُ بِنَفْيِهَا، فِيمَا لَوْ سُئِل شَخْصٌ سَمَّى ابْنَهُ رَبَاحًا: أَعِنْدَكَ رَبَاحٌ؟ فَيَقُول: لَيْسَ فِي الْبَيْتِ رَبَاحٌ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ طَرِيقًا لِلتَّشَاؤُمِ. (2)
هَذَا وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تُسَمِّينَ غُلاَمَكِ يَسَارًا وَلاَ رَبَاحًا وَلاَ نَجِيحًا وَلاَ أَفْلَحَ، فَإِنَّكَ تَقُول: أَثَمَّ هُوَ؟ فَلاَ يَكُونُ، فَيَقُول: لاَ (3)
إِلاَّ أَنَّ ذَلِكَ لاَ يَحْرُمُ لِحَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
__________
(1) فتح الباري 10 / 571.
(2) الفتوحات الربانية شرح الأذكار النواوية 6 / 110 ط المكتبة الإسلامية، وابن عابدين 5 / 268، ونهاية المحتاج 8 / 139، ومطالب أولي النهى 2 / 494.
(3) حديث: " لا تسمين غلامك يسارا. . . " أخرجه مسلم (3 / 1685 - ط الحلبي) .(11/333)
إِنَّ الآْذِنَ عَلَى مَشْرَبَةِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدٌ يُقَال لَهُ: رَبَاحٌ (1)
وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَرَادَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَنْهَى عَنْ أَنْ يُسَمَّى بِيَعْلَى وَبِبَرَكَةٍ وَبِأَفْلَحَ وَبِيَسَارٍ وَبِنَافِعٍ وَبِنَحْوِ ذَلِكَ، ثُمَّ رَأَيْتُهُ بَعْدُ سَكَتَ عَنْهَا، فَلَمْ يَقُل شَيْئًا، ثُمَّ قُبِضَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَنْهَ عَنْ ذَلِكَ، ثُمَّ أَرَادَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يَنْهَى عَنْ ذَلِكَ ثُمَّ تَرَكَهُ.
وَتُكْرَهُ التَّسْمِيَةُ أَيْضًا بِالأَْسْمَاءِ الَّتِي تَكْرَهُهَا النُّفُوسُ وَتَشْمَئِزُّ مِنْهَا كَحَرْبٍ وَمُرَّةَ وَكَلْبٍ وَحَيَّةَ (2) .
وَقَدْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِمَنْعِ التَّسْمِيَةِ بِكُل اسْمٍ قَبِيحٍ.
قَال صَاحِبُ مَوَاهِبِ الْجَلِيل: يُمْنَعُ بِمَا قَبُحَ كَحَرْبٍ وَحُزْنٍ وَضِرَارٍ. (3)
وَقَال صَاحِبُ مُغْنِي الْمُحْتَاجِ: تُكْرَهُ الأَْسْمَاءُ الْقَبِيحَةُ، كَشَيْطَانٍ وَظَالِمٍ وَشِهَابٍ وَحِمَارٍ وَكَلْبٍ. إِلَخْ. (4)
وَذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ تُكْرَهُ تَسْمِيَتُهُ بِأَسْمَاءِ الْجَبَابِرَةِ كَفِرْعَوْنَ وَأَسْمَاءِ الشَّيَاطِينِ. وَجَاءَ فِي مَطَالِبِ
__________
(1) حديث: " إن الآذن. . . " أخرجه مسلم (2 / 1106 - ط الحلبي) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وانظر مطالب أولي النهى 2 / 494، 495.
(2) شرح الأذكار 6 / 111.
(3) مواهب الجليل 3 / 256.
(4) مغني المحتاج 4 / 294.(11/334)
أُولِي النُّهَى كَرَاهِيَةُ التَّسْمِيَةِ بِحَرْبٍ (1) .
هَذَا، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَكْرَهُ الاِسْمَ الْقَبِيحَ لِلأَْشْخَاصِ وَالأَْمَاكِنِ وَالْقَبَائِل وَالْجِبَال.
أَخْرَجَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لِلِقْحَةٍ تُحْلَبُ: مَنْ يَحْلُبُ هَذِهِ؟ فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَال لَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا اسْمُكَ، فَقَال لَهُ الرَّجُل: مُرَّةُ. فَقَال لَهُ رَسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اجْلِسْ. ثُمَّ قَال: مَنْ يَحْلُبُ هَذِهِ؟ فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَال لَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا اسْمُكَ؟ ، فَقَال: حَرْبٌ. فَقَال لَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اجْلِسْ. ثُمَّ قَال: مَنْ يَحْلُبُ هَذِهِ؟ فَقَامَ رَجُلٌ فَقَال لَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا اسْمُكَ؟ فَقَال: يَعِيشُ، فَقَال لَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: احْلُبْ. (2)
: التَّسْمِيَةُ بِأَسْمَاءِ الْمَلاَئِكَةِ
13 - ذَهَبَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ التَّسْمِيَةَ بِأَسْمَاءِ الْمَلاَئِكَةِ كَجِبْرِيل وَمِيكَائِيل لاَ تُكْرَهُ.
وَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى كَرَاهَةِ التَّسْمِيَةِ بِذَلِكَ، قَال
__________
(1) مطالب أولي النهى 2 / 494، 495، وكشاف القناع 3 / 28.
(2) حديث: " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للقحة تحلب. . . " أخرجه مالك في الموطأ (2 / 973 - ط الحلبي) مرسلا، وله شاهد من حديث يعيش الغفاري، وإسناده صحيح. (الإصابة لابن حجر 3 / 669 - ط مطبعة السعادة) . وانظر تنوير الحوالك شرح موطأ مالك 3 / 140، 141، ط المشهد الحسيني(11/334)
أَشْهَبُ: سُئِل مَالِكٌ عَنِ التَّسَمِّي بِجِبْرِيل، فَكَرِهَ ذَلِكَ وَلَمْ يُعْجِبْهُ. وَقَال الْقَاضِي عِيَاضٌ: قَدِ اسْتَظْهَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ التَّسَمِّيَ بِأَسْمَاءِ الْمَلاَئِكَةِ، وَهُوَ قَوْل الْحَارِثِ بْنِ مِسْكِينٍ، وَأَبَاحَ ذَلِكَ غَيْرُهُ. (1)
مَا تَحْرُمُ التَّسْمِيَةُ بِهِ مِنَ الأَْسْمَاءِ:
14 - تَحْرُمُ التَّسْمِيَةُ بِكُل اسْمٍ خَاصٍّ بِاللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، كَالْخَالِقِ وَالْقُدُّوسِ، أَوْ بِمَا لاَ يَلِيقُ إِلاَّ بِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَمَلِكِ الْمُلُوكِ وَسُلْطَانِ السَّلاَطِينِ وَحَاكِمِ الْحُكَّامِ، وَهَذَا كُلُّهُ مَحَل اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ. (2)
وَأَوْرَدَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِيمَا هُوَ خَاصٌّ بِاللَّهِ تَعَالَى: الأَْحَدُ، وَالصَّمَدُ، وَالْخَالِقُ، وَالرَّازِقُ، وَالْجَبَّارُ، وَالْمُتَكَبِّرُ، وَالأَْوَّل، وَالآْخِرُ، وَالْبَاطِنُ، وَعَلاَّمُ الْغُيُوبِ. (3)
هَذَا، وَمِمَّا يَدُل عَلَى حُرْمَةِ التَّسْمِيَةِ بِالأَْسْمَاءِ الْخَاصَّةِ بِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَمَلِكِ الْمُلُوكِ مَثَلاً: مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلَفْظُهُ فِي الْبُخَارِيِّ - قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَخْنَى الأَْسْمَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
__________
(1) تحفة المودود ص 94، ومغني المحتاج 4 / 259.
(2) حاشية ابن عابدين 5 / 268، ومواهب الجليل 3 / 256، ومغني المحتاج 4 / 294، 295، وكشاف القناع 3 / 26، 27.
(3) تحفة المودود ص 98.(11/335)
عِنْدَ اللَّهِ رَجُلٌ تَسَمَّى مَلِكَ الأَْمْلاَكِ (1)
وَلَفْظُهُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَغْيَظُ رَجُلٍ عَلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَخْبَثُهُ وَأَغْيَظُهُ عَلَيْهِ: رَجُلٌ كَانَ يُسَمَّى مَلِكَ الأَْمْلاَكِ، لاَ مَلِكَ إِلاَّ اللَّهُ (2)
وَأَمَّا التَّسْمِيَةُ بِالأَْسْمَاءِ الْمُشْتَرَكَةِ الَّتِي تُطْلَقُ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَعَلَى غَيْرِهِ فَيَجُوزُ التَّسَمِّي بِهَا كَعَلِيٍّ وَرَشِيدٍ وَبَدِيعٍ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَظَاهِرُهُ الْجَوَازُ وَلَوْ مُعَرَّفًا بِأَل. قَال الْحَصْكَفِيُّ: وَيُرَادُ فِي حَقِّنَا غَيْرُ مَا يُرَادُ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى. (3)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: تَحْرُمُ التَّسْمِيَةُ بِالأَْسْمَاءِ الَّتِي لاَ تَلِيقُ إِلاَّ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَسَيِّدِ وَلَدِ آدَمَ، وَسَيِّدِ النَّاسِ، وَسَيِّدِ الْكُل؛ لأَِنَّ هَذِهِ الأَْسْمَاءَ كَمَا ذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ لاَ تَلِيقُ إِلاَّ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (4)
وَتَحْرُمُ التَّسْمِيَةُ بِكُل اسْمٍ مُعَبَّدٍ مُضَافٍ إِلَى غَيْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَعَبْدِ الْعُزَّى، وَعَبْدِ الْكَعْبَةِ، وَعَبْدِ الدَّارِ، وَعَبْدِ عَلِيٍّ، وَعَبْدِ الْحُسَيْنِ، أَوْ عَبْدِ فُلاَنٍ. إِلَخْ.
كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.
__________
(1) حديث: " أخنى الأسماء يوم القيامة. . . " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 588 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1688 - ط الحلبي) ولفظ مسلم: " أخنع اسم ".
(2) حديث: " أغيظ رجل على الله يوم القيامة. . . " أخرجه مسلم (3 / 1688 - ط الحلبي) .
(3) تحفة المودود ص 100، وحاشية ابن عابدين 5 / 268، والفتاوى الهندية 5 / 362، ومواهب الجليل 3 / 257.
(4) كشاف القناع 3 / 27، ومطالب أولي النهى 2 / 494.(11/335)
فَقَدْ جَاءَ فِي حَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ: بِأَنَّهُ لاَ يُسَمِّيهِ عَبْدَ فُلاَنٍ.
وَجَاءَ فِي مُغْنِي الْمُحْتَاجِ: أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ التَّسَمِّي بِعَبْدِ الْكَعْبَةِ وَعَبْدِ الْعُزَّى.
وَجَاءَ فِي تُحْفَةِ الْمُحْتَاجِ حُرْمَةُ التَّسْمِيَةِ بِعَبْدِ النَّبِيِّ أَوْ عَبْدِ الْكَعْبَةِ أَوْ عَبْدِ الدَّارِ أَوْ عَبْدِ عَلِيٍّ أَوْ عَبْدِ الْحُسَيْنِ لإِِيهَامِ التَّشْرِيكِ. وَمِنْهُ يُؤْخَذُ حُرْمَةُ التَّسْمِيَةِ بِجَارِ اللَّهِ وَرَفِيقِ اللَّهِ وَنَحْوِهِمَا لإِِيهَامِهِ الْمَحْذُورَ.
وَجَاءَ فِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ مَا نَصُّهُ: اتَّفَقُوا عَلَى تَحْرِيمِ كُل اسْمٍ مُعَبَّدٍ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى كَعَبْدِ الْعُزَّى، وَعَبْدِ عَمْرٍو، وَعَبْدِ عَلِيٍّ، وَعَبْدِ الْكَعْبَةِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَمِثْلُهُ عَبْدُ النَّبِيِّ، وَعَبْدُ الْحُسَيْنِ، وَعَبْدُ الْمَسِيحِ (1) .
هَذَا، وَالدَّلِيل عَلَى تَحْرِيمِ التَّسْمِيَةِ بِكُل مُعَبَّدٍ مُضَافٍ إِلَى غَيْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْمِقْدَامِ بْنِ شُرَيْحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ هَانِئِ بْنِ يَزِيدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: وَفَدَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْمٌ، فَسَمِعَهُمْ يُسَمُّونَ: عَبْدَ الْحَجَرِ، فَقَال لَهُ: مَا اسْمُكَ؟ فَقَال: عَبْدُ الْحَجَرِ، فَقَال لَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا أَنْتَ عَبْدُ اللَّهِ. (2)
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 268، ومغني المحتاج 4 / 295، وتحفة المحتاج 10 / 373، وكشاف القناع 3 / 27، وتحفة المودود ص 90.
(2) حديث: " إنما أنت عبد الله. . . " أخرجه ابن أبي شيبة (8 / 665 - ط دار السلفية - بمبي) وإسناده صحيح. (الإصابة لابن حجر 3 / 596 - ط مطبعة السعادة) .(11/336)
قَال ابْنُ الْقَيِّمِ: فَإِنْ قِيل: كَيْفَ يَتَّفِقُونَ عَلَى تَحْرِيمِ الاِسْمِ الْمُعَبَّدِ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَال: تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ، تَعِسَ عَبْدُ الْخَمِيصَةِ، تَعِسَ عَبْدُ الْقَطِيفَةِ (1) وَصَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: أَنَا النَّبِيُّ لاَ كَذِبَ. . . أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ (2)
فَالْجَوَابُ: أَمَّا قَوْلُهُ: تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ، فَلَمْ يُرِدْ بِهِ الاِسْمَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْوَصْفَ وَالدُّعَاءَ عَلَى مَنْ تَعَبَّدَ قَلْبُهُ لِلدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ، فَرَضِيَ بِعُبُودِيَّتِهِمَا عَنْ عُبُودِيَّةِ رَبِّهِ تَعَالَى، وَذَكَرَ الأَْثْمَانَ وَالْمَلاَبِسَ وَهُمَا جَمَال الْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَهَذَا لَيْسَ مِنْ بَابِ إِنْشَاءِ التَّسْمِيَةِ بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ الإِْخْبَارِ بِالاِسْمِ الَّذِي عُرِفَ بِهِ الْمُسَمَّى دُونِ غَيْرِهِ، وَالإِْخْبَارُ بِمِثْل ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ تَعْرِيفِ الْمُسَمَّى لاَ يَحْرُمُ فَبَابُ الإِْخْبَارِ أَوْسَعُ مِنْ بَابِ الإِْنْشَاءِ. (3)
__________
(1) حديث: " تعس عبد الدينار. . . " أخرجه البخاري (الفتح 11 / 253 - ط السلفية) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) حديث: " أنا النبي لا كذب. . . " أخرجه البخاري (الفتح 6 / 69 - ط السلفية) ومسلم (3 / 2400 - ط الحلبي) من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه.
(3) تحفة المودود ص 90، 91، وكشاف القناع 3 / 27.(11/336)
تَغْيِيرُ الاِسْمِ وَتَحْسِينُهُ
15 - يَجُوزُ تَغْيِيرُ الاِسْمِ عُمُومًا وَيُسَنُّ تَحْسِينُهُ، وَيُسَنُّ تَغْيِيرُ الاِسْمِ الْقَبِيحِ إِلَى الْحَسَنِ، فَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّكُمْ تُدْعَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَسْمَائِكُمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِكُمْ فَأَحْسِنُوا أَسْمَاءَكُمْ (1)
وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: أَنَّ ابْنَةً لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَتْ يُقَال لَهَا: عَاصِيَةٌ، فَسَمَّاهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمِيلَةً. (2)
وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ شَيْبَةَ قَال: " جَلَسْتُ إِلَى سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ فَحَدَّثَنِي أَنَّ جَدَّهُ حَزَنًا قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: مَا اسْمُكَ؟ قَال: اسْمِي حَزْنٌ، قَال: بَل أَنْتَ سَهْلٌ، قَال: مَا أَنَا بِمُغَيِّرٍ اسْمًا سَمَّانِيهِ أَبِي. قَال ابْنُ الْمُسَيِّبِ: فَمَا زَالَتْ فِينَا الْحُزُونَةُ بَعْدُ (3)
وَقَدْ غَيَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الاِسْمَ الَّذِي يَدُل عَلَى
__________
(1) حديث: " إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم. . . " أخرجه أبو داود (5 / 236 تحقيق عزت عبيد دعاس) وفي إسناده انقطاع بين أبي الدرداء وبين الراوي عنه. (مختصر السنن للمنذري 7 / 251 - نشر دار المعرفة) .
(2) حديث: " إن ابنة لعمر. . . " أخرجه مسلم (3 / 1687 - ط الحلبي) .
(3) حديث: " بل أنت سهل " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 575 - ط السلفية) .(11/337)
التَّزْكِيَةِ إِلَى غَيْرِهِ، فَقَدْ غَيَّرَ اسْمَ بَرَّةٍ إِلَى جُوَيْرِيَةَ أَوْ زَيْنَبَ. (1)
وَقَال أَبُو دَاوُدَ: وَغَيَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْمَ الْعَاصِ وَعَزِيزٍ وَعَتَلَةَ وَشَيْطَانٍ وَالْحَكَمِ وَغُرَابٍ وَحُبَابٍ وَشِهَابٍ فَسَمَّاهُ: هِشَامًا، وَسَمَّى حَرْبًا: سِلْمًا، وَسَمَّى الْمُضْطَجِعَ: الْمُنْبَعِثَ، وَأَرْضًا تُسَمَّى عَفْرَةً سَمَّاهَا: خَضِرَةً، وَشِعْبُ الضَّلاَلَةِ سَمَّاهُ: شِعْبَ الْهُدَى، وَبَنُو الزِّنْيَةِ سَمَّاهُمْ: بَنِي الرِّشْدَةِ، وَسَمَّى بَنِي مَغْوِيَّةَ: بَنِي رِشْدَةَ. (2)
هَذَا وَالْفُقَهَاءُ لاَ يَخْتَلِفُونَ فِي جَوَازِ تَغْيِيرِ الاِسْمِ إِلَى اسْمٍ آخَرَ، وَفِي أَنَّ تَغْيِيرَ الاِسْمِ الْقَبِيحِ إِلَى الْحَسَنِ هُوَ مِنَ الأُْمُورِ الْمَطْلُوبَةِ الَّتِي حَثَّ عَلَيْهَا الشَّرْعُ.
وَأَجَازَ الْحَنَابِلَةُ التَّسْمِيَةَ بِأَكْثَرَ مِنَ اسْمٍ (3) .
نِدَاءُ الزَّوْجِ وَالأَْبِ وَنَحْوِهِمَا بِالاِسْمِ الْمُجَرَّدِ:
16 - ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ يُكْرَهُ أَنْ يَدْعُوَ الرَّجُل أَبَاهُ،
__________
(1) حديث: " أنه غير اسم برة إلى جويرية " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 575 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1687 - ط الحلبي) .
(2) حديث: " تغييره لعدة أسماء. . . " ذكره أبو داود في سننه (5 / 241 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وقال تركت أسانيدها للاختصار. وتنظر شروح أبي داود مثل عون المعبود (13 / 298 - 299 - ط السلفية) .
(3) حاشية ابن عابدين 5 / 268، ومواهب الجليل 3 / 256، ومغني المحتاج 4 / 294، وكشاف القناع 3 / 26 - 28.(11/337)
وَأَنْ تَدْعُوَ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا بِاسْمِهِ، بَل لاَ بُدَّ مِنْ لَفْظٍ يُفِيدُ التَّعْظِيمَ لِمَزِيدِ حَقِّهِمَا عَلَى الْوَلَدِ وَالزَّوْجَةِ. وَلَيْسَ هَذَا مِنَ التَّزْكِيَةِ؛ لأَِنَّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى الْمَدْعُوِّ بِأَنْ يَصِفَ نَفْسَهُ بِمَا يُفِيدُهَا، لاَ إِلَى الدَّاعِي الْمَطْلُوبِ مِنْهُ التَّأَدُّبُ مَعَ مَنْ هُوَ فَوْقَهُ. (1)
وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ كَمَا جَاءَ فِي مُغْنِي الْمُحْتَاجِ وَغَيْرِهِ مِنْ كُتُبِهِمْ: أَنَّهُ يُسَنُّ لِوَلَدِ الشَّخْصِ وَتِلْمِيذِهِ وَغُلاَمِهِ أَنْ لاَ يُسَمِّيَهُ بِاسْمِهِ. (2)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ - كَمَا جَاءَ فِي مَطَالِبِ أُولِي النُّهَى - إِلَى أَنَّهُ لاَ يَقُول السَّيِّدُ لِرَقِيقِهِ: يَا عَبْدِي، وَلأَِمَتِهِ يَا أَمَتِي، لإِِشْعَارِهِ بِالتَّكَبُّرِ وَالاِفْتِخَارِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ. وَكَذَلِكَ لاَ يَقُول الْعَبْدُ لِسَيِّدِهِ: يَا رَبِّي، وَلاَ يَا مَوْلاَيَ لِمَا فِيهِ مِنَ الإِْيهَامِ. (3)
تَسْمِيَةُ الأَْشْيَاءِ بِأَسْمَاءِ الْحَيَوَانِ:
17 - قَال الرَّحِيبَانِيُّ: وَلاَ بَأْسَ بِتَسْمِيَةِ النُّجُومِ بِالأَْسْمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ نَحْوُ: حَمَلٍ وَثَوْرٍ وَجَدْيٍ؛ لأَِنَّهَا أَسْمَاءُ أَعْلاَمٍ، وَاللُّغَةُ وَضْعُ لَفْظٍ دَلِيلاً عَلَى مَعْنًى، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهَا هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ كَذِبًا، بَل وَضْعُ هَذِهِ الأَْلْفَاظِ لِتِلْكَ الْمَعَانِي تَوَسُّعٌ وَمَجَازٌ، كَمَا سَمَّوْا فِي اللُّغَةِ الْكَرِيمَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 269.
(2) مغني المحتاج 4 / 295، وحاشية الشرواني على تحفة المحتاج 9 / 374، وروضة الطالبين 3 / 235.
(3) مطالب أولي النهى 2 / 496.(11/338)
بَحْرًا، لَكِنِ اسْتِعْمَال الْبَحْرِ لِلْكَرِيمِ مَجَازٌ، بِخِلاَفِ اسْتِعْمَال تِلْكَ الأَْسْمَاءِ فِي النُّجُومِ، فَإِنَّهَا حَقِيقَةٌ، وَالتَّوَسُّعُ فِي التَّسْمِيَةِ فَقَطْ.
وَلاَ يَخْفَى أَنَّ مِثْل تَسْمِيَةِ النُّجُومِ فِي الْحُكْمِ تَسْمِيَةُ النَّاسِ بِأَسْمَاءِ الْحَيَوَانِ، مَا لَمْ يَكُنْ قَبِيحًا فَقَدْ تَقَدَّمَ حُكْمُهُ. (1)
تَسْمِيَةُ الأَْدَوَاتِ وَالدَّوَابِّ وَالْمَلاَبِسِ
18 - ذَكَرَ ابْنُ الْقَيِّمِ أَنَّهُ يَجُوزُ تَسْمِيَةُ الأَْدَوَاتِ وَالدَّوَابِّ وَالْمَلاَبِسِ بِأَسْمَاءٍ خَاصَّةٍ بِهَا تُمَيِّزُهَا عَنْ مَثِيلاَتِهَا أُسْوَةً بِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ كَانَ لِسُيُوفِهِ وَدُرُوعِهِ وَرِمَاحِهِ وَقِسِيِّهِ وَحِرَابِهِ وَبَعْضِ أَدَوَاتِهِ وَدَوَابِّهِ وَمَلاَبِسِهِ أَسْمَاءٌ خَاصَّةٌ: فَمِنْ أَسْمَاءِ سُيُوفِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَأْثُورٌ) وَهُوَ أَوَّل سَيْفٍ مَلَكَهُ، وَرِثَهُ مِنْ أَبِيهِ، وَ (ذُو الْفِقَارِ) بِكَسْرِ الْفَاءِ وَفَتْحِهَا وَهُوَ سَيْفٌ تَنَفَّلَهُ يَوْمَ بَدْرٍ. وَمِنْ أَسْمَاءِ دُرُوعِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (ذَاتُ الْفُضُول) وَهِيَ الَّتِي رَهَنَهَا عِنْدَ أَبِي الشَّحْمِ الْيَهُودِيِّ عَلَى شَعِيرٍ لِعِيَالِهِ (وَذَاتُ الْوِشَاحِ) (وَذَاتُ الْحَوَاشِي) . إِلَخْ.
وَمِنْ أَسْمَاءِ قِسِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الزَّوْرَاءُ) (وَالرَّوْحَاءُ) . وَمِنْ أَسْمَاءِ تُرُوسِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الزُّلُوقُ) (وَالْفَتْقُ) . وَمِنْ أَسْمَاءِ رِمَاحِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الْمَثْوَى) . وَ (الْمُثَنَّى) وَمِنْ أَسْمَاءِ حِرَابِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (النَّبْعَةُ) (وَالْبَيْضَاءُ) . وَكَانَتْ لَهُ رَايَةٌ سَوْدَاءُ يُقَال لَهَا:
__________
(1) مطالب أولي النهى 2 / 495، وكشاف القناع 3 / 28.(11/338)
الْعِقَابُ) وَفُسْطَاطٌ يُسَمَّى (الْكِنَّ) وَمِخْصَرَةٌ تُسَمَّى (الْعُرْجُونَ) وَقَضِيبٌ مِنَ الشَّوْحَطِ يُسَمَّى (الْمَمْشُوقَ) قِيل: وَهُوَ الَّذِي كَانَ يَتَدَاوَلُهُ الْخُلَفَاءُ. وَمِنْ أَسْمَاءِ أَدَوَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي كَانَ يَسْتَعْمِلُهَا فِي بَيْتِهِ: (الرَّيَّانُ) وَهُوَ اسْمٌ لِقَدَحٍ، (وَالصَّادِرُ) وَهُوَ اسْمٌ لِرَكْوَةٍ، (وَتَوْرٌ) وَهُوَ إِنَاءٌ يَشْرَبُ فِيهِ، (وَالسَّعَةُ) وَهُوَ اسْمٌ لِقَعْبٍ، (وَالْغَرَّاءُ) وَهُوَ اسْمٌ لِقَصْعَةٍ.
وَمِنْ أَسْمَاءِ دَوَابِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْخَيْل (السَّكْبُ) (وَالْمُرْتَجِزُ) (وَاللَّحِيفُ) ، وَمِنَ الْبِغَال (دُلْدُلٌ) (وَفِضَّةٌ) ، وَمِنَ الْحَمِيرِ (عَفِيرٌ) ، وَمِنَ الإِْبِل (الْقَصْوَاءُ) (وَالْعَضْبَاءُ) .
وَمِنْ أَسْمَاءِ مَلاَبِسِهِ (السَّحَابُ) وَهُوَ اسْمٌ لِعِمَامَةٍ. (1)
تَسْمِيَةُ اللَّهِ تَعَالَى بِغَيْرِ مَا وَرَدَ:
19 - يَقُول اللَّهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الأَْسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (2) فَهَذِهِ الآْيَةُ تَدُل عَلَى أَنَّ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَسْمَاءً خَاصَّةً يُسَمَّى بِهَا؛ لأَِنَّ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {فَادْعُوهُ بِهَا} أَيْ سَمُّوهُ بِهَا أَوْ نَادُوهُ بِتِلْكَ الأَْسْمَاءِ، فَالدُّعَاءُ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الآْيَةِ كَمَا قَال صَاحِبُ رُوحِ الْمَعَانِي: إِمَّا مِنَ الدَّعْوَةِ بِمَعْنَى
__________
(1) زاد المعاد 1 / 130 - 135 ط. المنار.
(2) سورة الأعراف / 180.(11/339)
التَّسْمِيَةِ، كَقَوْلِهِمْ: دَعَوْتُهُ زَيْدًا أَوْ بِزَيْدٍ أَيْ: سَمَّيْتُهُ. أَوْ مِنَ الدُّعَاءِ بِمَعْنَى النِّدَاءِ كَقَوْلِهِمْ: دَعَوْتُ زَيْدًا أَيْ: نَادَيْتُهُ. (1)
قَال الأَْلُوسِيُّ: الإِْلْحَادُ فِي أَسْمَائِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنْ يُسَمَّى بِمَا لاَ تَوْقِيفَ فِيهِ، أَوْ بِمَا يُوهِمَ مَعْنًى فَاسِدًا، كَمَا فِي قَوْل أَهْل الْبَدْوِ فِي دُعَاءِ اللَّهِ: يَا أَبَا الْمَكَارِمِ، يَا أَبْيَضَ الْوَجْهِ يَا سَخِيُّ وَنَحْوُ ذَلِكَ.
وَنُقِل عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ الأَْسْمَاءَ تَوْقِيفِيَّةٌ يُرَاعَى فِيهَا مَا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ، وَأَنَّ كُل اسْمٍ وَرَدَ فِي هَذِهِ الأُْصُول جَازَ إِطْلاَقُهُ عَلَيْهِ جَل شَأْنُهُ، وَمَا لَمْ يَرِدْ فِيهَا لَمْ يَجُزْ وَإِنْ صَحَّ مَعْنَاهُ. وَنُقِل ذَلِكَ عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيِّ وَالآْمِدِيِّ (2) .
وَقَال الْقُرْطُبِيُّ: إِنَّ الإِْلْحَادَ فِي أَسْمَائِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَكُونُ بِثَلاَثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: بِالتَّغْيِيرِ فِيهَا كَمَا فَعَلَهُ الْمُشْرِكُونَ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ عَدَلُوا بِهَا عَمَّا هِيَ عَلَيْهِ، فَسَمُّوا بِهَا أَوْثَانَهُمْ، فَاشْتَقُّوا اللاَّتَ مِنَ اللَّهِ، وَالْعُزَّى مِنَ الْعَزِيزِ، وَمَنَاةَ مِنَ الْمَنَّانِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ.
الثَّانِي: بِالزِّيَادَةِ فِيهَا.
الثَّالِثُ: بِالنُّقْصَانِ مِنْهَا، كَمَا يَفْعَلُهُ الْجُهَّال
__________
(1) روح المعاني 9 / 121، ط المنيرية.
(2) المرجع السابق.(11/339)
الَّذِينَ يَخْتَرِعُونَ أَدْعِيَةً يُسَمُّونَ فِيهَا اللَّهَ تَعَالَى بِغَيْرِ أَسْمَائِهِ، وَيَذْكُرُونَهُ بِغَيْرِ مَا يُذْكَرُ مِنْ أَفْعَالِهِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لاَ يَلِيقُ بِهِ.
وَنُقِل عَنِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ: أَنَّهُ لاَ يُدْعَى اللَّهُ إِلاَّ بِمَا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. (1)
وَقَال صَاحِبُ رُوحِ الْمَعَانِي: اتَّفَقَ عُلَمَاءُ الإِْسْلاَمِ عَلَى جَوَازِ إِطْلاَقِ الأَْسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ عَلَى الْبَارِي تَعَالَى إِذَا وَرَدَ بِهِمَا الإِْذْنُ مِنَ الشَّارِعِ، وَعَلَى امْتِنَاعِهِ إِذَا وَرَدَ الْمَنْعُ عَنْهُ. وَاخْتَلَفُوا حَيْثُ لاَ إِذْنَ وَلاَ مَنْعَ فِي جَوَازِ إِطْلاَقِ مَا كَانَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُتَّصِفًا بِمَعْنَاهُ، وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الأَْسْمَاءِ الأَْعْلاَمِ الْمَوْضُوعَةِ فِي سَائِرِ اللُّغَاتِ، إِذْ لَيْسَ جَوَازُ إِطْلاَقِهَا عَلَيْهِ تَعَالَى مَحَل نِزَاعٍ لأَِحَدٍ، وَلَمْ يَكُنْ إِطْلاَقُهُ مُوهِمًا نَقْصًا، بَل كَانَ مُشْعِرًا بِالْمَدْحِ، فَمَنَعَهُ جُمْهُورُ أَهْل الْحَقِّ مُطْلَقًا لِلْخَطَرِ، وَجَوَّزَهُ الْمُعْتَزِلَةُ مُطْلَقًا. (2)
تَسْمِيَةُ الْمُحَرَّمَاتِ بِغَيْرِ أَسْمَائِهَا:
20 - إِذَا سُمِّيَتِ الْمُحَرَّمَاتُ بِغَيْرِ أَسْمَائِهَا الْمَعْرُوفَةِ، وَهِيَ الَّتِي اقْتَرَنَ بِهَا التَّحْرِيمُ، بِأَنْ سُمِّيَتْ بِأَسْمَاءَ أُخْرَى لَمْ يَقْتَرِنِ التَّحْرِيمُ بِهَا: فَإِنَّ هَذِهِ التَّسْمِيَةَ لاَ تُزِيل عَنِ الْمُحَرَّمَاتِ صِفَةَ الْحُرْمَةِ. مِثَال ذَلِكَ: الْخَمْرُ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حَرَّمَهَا بِنَفْسِ هَذَا الاِسْمِ حَيْثُ قَال
__________
(1) القرطبي 7 / 328 ط. دار الكتب المصرية.
(2) روح المعاني 9 / 121.(11/340)
سُبْحَانَهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَْنْصَابُ وَالأَْزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَل الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1) فَلَوْ سُمِّيَتْ بِاسْمٍ آخَرَ مِنْ أَسْمَاءِ الأَْشْرِبَةِ الْمُبَاحَةِ، فَإِنَّ تِلْكَ التَّسْمِيَةَ لاَ تُزِيل عَنْهَا صِفَةَ الْحُرْمَةِ، لأَِنَّ الْعِلَّةَ - وَهِيَ الإِْسْكَارُ - لاَ تَزُول بِتِلْكَ التَّسْمِيَةِ، وَهَذَا تَلاَعُبٌ بِالدِّينِ وَاحْتِيَالٌ يَزِيدُ فِي إِثْمِ مُرْتَكِبِ الْحَرَامِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ قَال: دَخَل عَلَيْنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غَنْمٍ فَتَذَاكَرْنَا الطِّلاَءَ فَقَال: حَدَّثَنِي أَبُو مَالِكٍ الأَْشْعَرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: لَيَشْرَبَنَّ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي الْخَمْرَ، يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا. (2) وَالطِّلاَءُ بِالْكَسْرِ وَالْمَدِّ: هُوَ الشَّرَابُ الَّذِي يُطْبَخُ حَتَّى يَذْهَبَ ثُلُثَاهُ، وَكَانَ الْبَعْضُ يُسَمِّي الْخَمْرَ طِلاَءً. وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا أَيْ: يَتَسَتَّرُونَ بِشُرْبِهَا بِأَسْمَاءِ الأَْنْبِذَةِ الْمُبَاحَةِ كَمَاءِ الْعَسَل وَمَاءِ الذُّرَةِ
__________
(1) سورة المائدة / 90.
(2) حديث: " ليشربن أناس. . . " أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه من حديث أبي مالك الأشعري مرفوعا، وفي إسناده مقال، وذكر له ابن حجر شواهد جيدة في الفتح (عون المعبود 3 / 379) ط الهند وسنن ابن ماجه (2 / 1333 ط عيسى الحلبي) ، ومسند أحمد بن حنبل (5 / 342 ط الميمنية) ، وفتح الباري (10 / 51 - 52 ط السلفية) .(11/340)
وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ غَيْرُ مُحَرَّمٍ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ وَهُمْ فِيهِ كَاذِبُونَ؛ لأَِنَّ كُل مُسْكِرٍ حَرَامٌ، فَإِنَّ الْمَدَارَ عَلَى حُرْمَةِ الْمُسْكِرِ، وَلِهَذَا لاَ يَضُرُّ شُرْبُ الْقَهْوَةِ الْمَأْخُوذَةِ مِنَ الْبُنِّ حَيْثُ لاَ سُكْرَ فِيهَا مَعَ الإِْكْثَارِ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَتِ الْقَهْوَةُ مِنْ أَسْمَاءِ الْخَمْرِ فَالاِعْتِبَارُ بِالْمُسَمَّى. (1)
ثَالِثًا: التَّسْمِيَةُ بِمَعْنَى تَحْدِيدِ الْعِوَضِ فِي الْعُقُودِ:
21 - مِنْ أَمْثِلَةِ هَذَا الْمَعْنَى عِنْدَهُمْ: الْمَهْرُ، فَإِنَّهُ لاَ تُشْتَرَطُ تَسْمِيَتُهُ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ فَيَصِحُّ النِّكَاحُ وَيَثْبُتُ مَهْرُ الْمِثْل بِالدُّخُول أَوِ الْمَوْتِ.
وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ أَيْضًا: الأُْجْرَةُ، فَإِنَّ الْجُمْهُورَ يَشْتَرِطُونَ فِيهَا مَا يُشْتَرَطُ فِي الثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ، فَيَجِبُ الْعِلْمُ بِالأَْجْرِ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنِ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَلْيُعْلِمْهُ أَجْرَهُ (2) فَإِنْ كَانَ الأَْجْرُ دَيْنًا ثَابِتًا فِي الذِّمَّةِ مِمَّا يَصِحُّ ثُبُوتُهُ فِيهَا فَلاَ بُدَّ مِنْ بَيَانِ جِنْسِهِ وَنَوْعِهِ وَصِفَتِهِ وَقَدْرِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي الأَْجْرِ جَهَالَةٌ
__________
(1) عون المعبود 3 / 329، وبدائع الصنائع 2 / 277، ومواهب الجليل 3 / 499، وحاشية الدسوقي 2 / 294، وحاشية قليوبي وعميرة 3 / 275، وكشاف القناع 5 / 129.
(2) حديث: " من استأجر. . . " أخرجه البيهقي 6 / 120 ط دائرة المعارف العثمانية من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعا، وأعله البيهقي بالإرسال بين إبراهيم النخعي وابن سعيد.(11/341)
مُفْضِيَةٌ لِلنِّزَاعِ فَسَدَ الْعَقْدُ، وَيَجِبُ أَجْرُ الْمِثْل عِنْدَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ. (1)
وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ أَيْضًا: الثَّمَنُ، فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ مُتَّفِقُونَ عَلَى وُجُوبِ تَسْمِيَتِهِ فِي الْعَقْدِ بِجَوَازِ الْبَيْعِ. (2) عَلَى تَفْصِيلٍ يُذْكَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (ثَمَنٌ، وَبَيْعٌ) .
رَابِعًا: التَّسْمِيَةُ بِمَعْنَى التَّعَيُّنِ بِالاِسْمِ مُقَابِل الإِْبْهَامِ:
22 - مِنْ أَمْثِلَتِهِ: تَسْمِيَةُ الشُّهُودِ، أَوْ تَرْكُ تَسْمِيَتِهِمْ لإِِثْبَاتِ عَدَالَتِهِمْ. فَالْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ يَرَوْنَ أَنَّهُ لاَ بُدَّ مِنْ تَسْمِيَةِ الشُّهُودِ وَبَيَانِ أَنْسَابِهِمْ وَحِلاَهُمْ وَقَبَائِلِهِمْ وَمَحَالِّهِمْ وَأَسْوَاقِهِمْ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأُْمُورِ، وَذَلِكَ لإِِثْبَاتِ عَدَالَتِهِمْ.
وَأَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِلرَّجُل أَنْ يُعَدِّل آخَرُ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفِ اسْمَهُ وَلاَ كُنْيَتَهُ الْمَشْهُورَ بِهَا وَلاَ اللَّقَبَ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ سَبَبَ عَدَالَتِهِ، لأَِنَّ أَسْبَابَ الْعَدَالَةِ كَثِيرَةٌ بِخِلاَفِ الْجَرْحِ. (3)
__________
(1) انظر مصطلح: (إجارة) وما قيل في الأجرة في الموسوعة الفقهية 1 / 263 ط الأولي.
(2) الفتاوى الهندية 3 / 122، والدسوقي 3 / 15، ومغني المحتاج 2 / 16، وكشف القناع 3 / 173.
(3) الفتاوى الهندية 3 / 372، وروضة الطالبين 11 / 168، 169، وكشف القناع 6 / 353، وحاشية العدوي على الرسالة 2 / 319.(11/341)
تَسْنِيمٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّسْنِيمُ فِي اللُّغَةِ: رَفْعُ الشَّيْءِ، يُقَال سَنَّمَ الإِْنَاءَ: إِذَا مَلأََهُ حَتَّى صَارَ الْحَبُّ فَوْقَهُ كَالسَّنَامِ، وَكُل شَيْءٍ عَلاَ شَيْئًا فَقَدْ تَسَنَّمَهُ. وَسَنَامُ الْبَعِيرِ وَالنَّاقَةِ: أَعْلَى ظَهْرِهَا، وَالْجَمْعُ أَسْنِمَةٌ، وَفِي الْحَدِيثِ: نِسَاءٌ عَلَى رُءُوسِهِنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ (1)
وقَوْله تَعَالَى {وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ} (2) قَالُوا: هُوَ مَاءٌ فِي الْجَنَّةِ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لأَِنَّهُ يَجْرِي فَوْقَ الْغُرَفِ وَالْقُصُورِ. (3)
وَالتَّسْنِيمُ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ: رَفْعُ الْقَبْرِ عَنِ الأَْرْضِ مِقْدَارَ شِبْرٍ أَوْ أَكْثَرَ قَلِيلاً. (4)
وَفِي النَّظْمِ الْمُسْتَعْذَبِ: التَّسْنِيمُ أَنْ يَجْعَل
__________
(1) حديث: " نساء على رءوسهن. . . ". أخرجه مسلم (3 / 1680 ط عيسى الحلبي) .
(2) سورة المطففين / 27.
(3) لسان العرب، المصباح المنير، مختار الصحاح مادة: " سنم ".
(4) ابن عابدين 1 / 61، والعناية بهامش فتح القدير 2 / 101 ط دار إحياء التراث العربي.(11/342)
أَعْلَى الْقَبْرِ مُرْتَفِعًا، وَيَجْعَل جَانِبَاهُ مَمْسُوحَيْنِ مُسْنَدَيْنِ، مَأْخُوذٌ مِنْ سَنَامِ الْبَعِيرِ. (1) وَيُقَابِلُهُ تَسْطِيحُ الْقَبْرِ، وَهُوَ: أَنْ يُجْعَل مُنْبَسِطًا مُتَسَاوِيَ الأَْجْزَاءِ، لاَ ارْتِفَاعَ فِيهِ وَلاَ انْخِفَاضَ كَسَطْحِ الْبَيْتِ (2) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي اسْتِحْبَابِ رَفْعِ التُّرَابِ فَوْقَ الْقَبْرِ قَدْرَ شِبْرٍ (3) ، وَلاَ بَأْسَ بِزِيَادَتِهِ عَنْ ذَلِكَ قَلِيلاً عَلَى مَا عَلَيْهِ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ؛ (4) لِيُعْرَفَ أَنَّهُ قَبْرٌ، فَيُتَوَقَّى وَيُتَرَحَّمَ عَلَى صَاحِبِهِ. فَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَفَعَ قَبْرَهُ عَنِ الأَْرْضِ قَدْرَ شِبْرٍ. (5) وَعَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَال لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: " اكْشِفِي لِي عَنْ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَاحِبَيْهِ، فَكَشَفَتْ عَنْ ثَلاَثَةِ قُبُورٍ، لاَ مُشْرِفَةٍ
__________
(1) النظم المستعذب في شرح غريب المهذب للركبي بذيل المهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 145، والقواعد الفقهية للمجددي البركتي الرسالة الرابعة ص 228.
(2) المصباح المنير، ولسان العرب، والصحاح للمرعشلي.
(3) الفتاوى الهندية 1 / 166، والاختيار شرح المختار 1 / 96 ن دار المعرفة، وجواهر الإكليل 1 / 111، والشرح الكبير 1 / 418، والمهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 145. وشرح روض الطالب من أسنى المطالب 1 / 327.
(4) العناية بهامش فتح القدير 2 / 101، ومراقي الفلاح 335.
(5) حديث " عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع قبره. . . " رواه البيهقي (3 / 410 ط دار المعرفة) موصولا ومرسلا، ورجح إرساله. وعزاه الزيلعي في نصب الراية (2 / 303) إلى ابن حبان في صحيحه.(11/342)
وَلاَ لاَطِئَةٍ، مَبْطُوحَةٍ بِبَطْحَاءِ الْعَرْصَةِ الْحَمْرَاءِ " (1) .
وَاخْتَلَفُوا هَل يُسَنَّمُ الْقَبْرُ أَوْ يُسَطَّحُ؟ فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ: يُنْدَبُ تَسْنِيمُهُ كَسَنَامِ الْبَعِيرِ؛ لِمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ سُفْيَانَ التَّمَّارِ أَنَّهُ رَأَى قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسَنَّمًا (2) .
وَعَنِ الْحَسَنِ مِثْلُهُ. وَمَا رُوِيَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ قَال: أَخْبَرَنِي مَنْ رَأَى قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَبْرَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهَا مُسَنَّمَةٌ عَلَيْهَا فَلْقُ مَدَرٍ بِيضٍ (3) وَمَا رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَامُ صَلَّى بِالْمَلاَئِكَةِ عَلَى آدَمَ وَجَعَل قَبْرَهُ مُسَنَّمًا. (4)
وَكَرِهُوا تَسْطِيحَ الْقَبْرِ؛ لأَِنَّ التَّسْطِيحَ يُشْبِهُ أَبْنِيَةَ أَهْل الدُّنْيَا، وَهُوَ أَشْبَهُ بِشِعَارِ أَهْل الْبِدَعِ،
__________
(1) حديث عن القاسم بن محمد قال لعائشة: " اكشفي لي عن قبر. . . " أخرجه أبو داود (3 / 549 / 3220 ط عبيد الدعاس) والحاكم (1 / 369 ط الكتاب العربي) . وقال: هذا حديث صحيح الإسناد. ووافقه الذهبي.
(2) حديث عن سفيان التمار أنه " رأى قبر النبي صلى الله عليه وسلم مسنما " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 350 ط السلفية) .
(3) حديث " أخبرني من رأي قبر النبي صلى الله عليه وسلم. . . " أخرجه محمد بن الحسن الشيباني في كتاب الآثار (ص 80) قال التهانوي في إعلاء السنن (8 / 271) . فيه مجهول.
(4) حديث " أن جبريل عليه السلام صلى بالملائكة على آدم. . . " أخرجه الدارقطني (2 / 71 ط المدني) في سنده عبد الرحمن بن مالك بن مغول. قال الدارقطني: متروك. وانظر الكلام عليه في الكامل لابن عدي (4 / 1598 ط دار الفكر) .(11/343)
فَكَانَ مَكْرُوهًا لِذَلِكَ عِنْدَهُمْ. وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ تَرْبِيعِ الْقُبُورِ. (1)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ تَسْطِيحُهُ (أَيْ تَرْبِيعُهُ) وَأَنَّهُ أَفْضَل مِنْ تَسْنِيمِهِ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ ابْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا تُوُفِّيَ جَعَل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْرَهُ مُسَطَّحًا. (2)
وَلاَ يُخَالِفُ ذَلِكَ قَوْل عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَمَرَنِي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لاَ تَدَعَ تِمْثَالاً إِلاَّ طَمَسْتَهُ، وَلاَ قَبْرًا مُشْرِفًا إِلاَّ سَوَّيْتَهُ (3) لأَِنَّهُ لَمْ يُرِدْ تَسْوِيَتَهُ بِالأَْرْضِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ تَسْطِيحَهُ جَمْعًا بَيْنَ الأَْخْبَارِ. (4)
__________
(1) ابن عابدين 1 / 601، وفتح القدير 2 / 100 - 102 دار إحياء التراث العربي، والاختيار شرح المختار 1 / 96 ن دار المعرفة، والفتاوى الهندية 1 / 166، ومراقي الفلاح 335، وجواهر الإكليل 1 / 111، والشرح الكبير 1 / 418، ومواهب الجليل بشرح مختصر خليل 2 / 242، وكشاف القناع 2 / 138 م النصر الحديثة، والمغني لابن قدامة 2 / 505 م الرياض الحديثة. وحديث: " نهى عن تربيع. . " أورده الزيلعي في نصب الراية (1 / 403) وعزاه إلى كتاب الآثار لمحمد بن الحسن الشيباني ولم يتكلم عليه في شيء.
(2) حديث: " أن إبراهيم بن النبي صلى الله عليه وسلم. . . " بمعناه أن النبي صلى الله عليه وسلم رش على قبر ابنه إبراهيم ووضع عليه حصباء. أخرجه الشافعي (1 / 215) ط دار الكتب الملكية المصرية واللفظ له. والبيهقي (3 / 411) ط دار المعرفة. وقال الحافظ في التلخيص الحبير (2 / 133 ط المدني) : رجاله ثقات مع إرساله. وفي سند الشافعي إبراهيم بن محمد. قال عنه الحافظ في التقريب (1 / 42 ط المكتبة العلمية) : متروك.
(3) حديث: أن لا تدع تمثالا إلا. . . " أخرجه مسلم (2 / 666 ط عيسى البابي الحلبي) .
(4) شرح روض الطالب من أسنى المطالب 1 / 327 - 328 ن المكتبة الإسلامية، والمهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 145.(11/343)
هَذَا إِذَا دُفِنَ الْمُسْلِمُ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ.
3 - أَمَّا إِنْ دُفِنَ الْمُسْلِمُ فِي غَيْرِ دَارِ الإِْسْلاَمِ، بِأَنْ دُفِنَ فِي بَلَدِ الْكُفَّارِ أَوْ دَارِ حَرْبٍ، وَتَعَذَّرَ نَقْلُهُ إِلَى دَارِ الإِْسْلاَمِ، فَالأَْوْلَى تَسْوِيَةُ قَبْرِهِ بِالأَْرْضِ، وَإِخْفَاؤُهُ أَوْلَى مِنْ إِظْهَارِهِ وَتَسْنِيمِهِ خَوْفًا مِنْ أَنْ يُنْبَشَ فَيُمَثَّل بِهِ، وَفِي ذَلِكَ صِيَانَةٌ لَهُ عَنْهُمْ. وَأَلْحَقَ بِهِ الأَْذْرَعِيُّ: الأَْمْكِنَةَ الَّتِي يُخَافُ نَبْشُهَا لِسَرِقَةِ كَفَنِهِ أَوْ لِعَدَاوَةٍ وَنَحْوِهِمَا. (1)
وَانْظُرْ بَاقِيَ الأَْحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْقَبْرِ فِي مُصْطَلَحِ (قَبْرٌ) .
تَسَوُّكٌ
انْظُرْ: اسْتِيَاكٌ
تَسَوُّلٌ
انْظُرْ. شِحَاذَةٌ
__________
(1) شرح روض الطالب من أسنى المطالب 1 / 328 ن المكتبة الإسلامية، وكشاف القناع 2 / 38 م النصر الحديثة.(11/344)
تَسْوِيدٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّسْوِيدُ مَصْدَرُ سَوَّدَ، يُقَال: سَوَّدَ تَسْوِيدًا.
وَالتَّسْوِيدُ يَأْتِي بِمَعْنَى التَّلْوِينِ بِالسَّوَادِ - وَهُوَ ضِدُّ الْبَيَاضِ - يُقَال: سَوَّدَ الشَّيْءَ أَيْ: جَعَلَهُ أَسْوَدَ.
وَيَأْتِي التَّسْوِيدُ مِنَ السِّيَادَةِ، فَيَكُونُ بِمَعْنَى: التَّشْرِيفِ، يُقَال: سَوَّدَهُ قَوْمُهُ تَسْوِيدًا أَيْ: جَعَلُوهُ سَيِّدًا عَلَيْهِمْ.
وَفِي الْمِصْبَاحِ: سَادَ يَسُودُ سِيَادَةً، وَالاِسْمُ السُّؤْدُدُ، وَهُوَ: الْمَجْدُ وَالشَّرَفُ، فَهُوَ سَيِّدٌ وَالأُْنْثَى سَيِّدَةٌ.
وَالسَّيِّدُ: الْمُتَوَلِّي لِلسَّوَادِ أَيِ الْجَمَاعَةِ، وَيُنْسَبُ إِلَى ذَلِكَ فَيُقَال: سَيِّدُ الْقَوْمِ. وَلَمَّا كَانَ مِنْ شَرْطِ الْمُتَوَلِّي لِلْجَمَاعَةِ أَنْ يَكُونَ مُهَذَّبَ النَّفْسِ، قِيل لِكُل مَنْ كَانَ فَاضِلاً فِي نَفْسِهِ: سَيِّدٌ.
وَيُطْلَقُ السَّيِّدُ عَلَى الرَّبِّ، وَالْمَالِكِ، وَالْحَلِيمِ، وَمُحْتَمِل أَذَى قَوْمِهِ، وَالزَّوْجِ، وَالرَّئِيسِ، وَالْمُقَدَّمِ.
وَيَأْتِي التَّسْوِيدُ - أَيْضًا - لِنَوْعٍ مِنَ الْمُدَاوَاةِ، قَال فِي اللِّسَانِ نَقْلاً عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ: وَيُقَال: سَوَّدَ(11/344)
الإِْبِل تَسْوِيدًا: إِذَا دَقَّ الْمِسْحَ الْبَالِيَ مِنْ شَعْرٍ فَدَاوَى بِهِ أَدْبَارَهَا. (1)
وَالتَّسْوِيدُ فِي الاِصْطِلاَحِ يُرِيدُ بِهِ الْفُقَهَاءُ الْمَعْنَيَيْنِ الأَْوَّلَيْنِ غَالِبًا.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّبْيِيضُ:
2 - التَّبْيِيضُ: مَصْدَرُ بَيَّضَ، يُقَال: بَيَّضَ الشَّيْءَ أَيْ جَعَلَهُ أَبْيَضَ، ضِدُّ سَوَّدَهُ.
وَالْبَيَاضُ ضِدُّ السَّوَادِ، وَالْبَيَّاضُ: الرَّجُل الَّذِي يُبَيِّضُ الثِّيَابَ.
وَالْمُبَيِّضَةُ: أَصْحَابُ الْبَيَاضِ، وَهُمْ فِرْقَةٌ مِنَ الثَّنَوِيَّةِ سُمُّوا كَذَلِكَ لِتَبْيِيضِهِمُ الثِّيَابَ، مُخَالَفَةً لِلْمُسَوِّدَةِ مِنَ الْعَبَّاسِيِّينَ (2) .
ب - التَّعْظِيمُ:
3 - التَّعْظِيمُ: مَصْدَرُ عَظَّمَ، يُقَال: عَظَّمَهُ تَعْظِيمًا أَيْ: كَبَّرَهُ وَفَخَّمَهُ. وَالتَّعْظِيمُ يَكُونُ بِاعْتِبَارِ الْوَصْفِ وَالْكَيْفِيَّةِ، وَيُقَابِلُهُ التَّحْقِيرُ فِيهِمَا بِحَسَبِ الْمَنْزِلَةِ وَالرُّتْبَةِ (3) .
__________
(1) المصباح المنير 1 / 294، ولسان العرب 2 / 235 - 236، وتاج العروس 2 / 384 - 386، والمفردات في غريب القرآن 247.
(2) القاموس المحيط، ولسان العرب.
(3) القاموس المحيط، ولسان العرب، والمصباح المنير، والكليات 1 / 95.(11/345)
ج - التَّفْضِيل:
4 - التَّفْضِيل: مَصْدَرُ فَضَّل، يُقَال: فَضَّلْتُهُ عَلَى غَيْرِهِ تَفْضِيلاً أَيْ: صَيَّرْتُهُ أَفْضَل مِنْهُ، وَفَضَّلَهُ أَيْ مَزَّاهُ.
وَالتَّفْضِيل دُونَ التَّسْوِيدِ - بِمَعْنَى السِّيَادَةِ - لَكِنَّهُ سَبَبٌ لَهُ وَطَرِيقٌ إِلَيْهِ (1) .
د - التَّكْرِيمُ:
5 - التَّكْرِيمُ: أَنْ يُوصَل إِلَى الإِْنْسَانِ نَفْعٌ لاَ يَلْحَقُهُ فِيهِ غَضَاضَةٌ، أَوْ أَنْ يَجْعَل مَا يُوصَل إِلَى الإِْنْسَانِ شَيْئًا كَرِيمًا أَيْ شَرِيفًا. وَهُوَ مَصْدَرُ كَرَّمَ، يُقَال: كَرَّمَهُ تَكْرِيمًا أَيْ عَظَّمَهُ وَنَزَّهَهُ.
وَالإِْكْرَامُ وَالتَّكْرِيمُ بِمَعْنًى، وَالْكَرَمُ ضِدُّ اللُّؤْمِ (2) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
6 - يَخْتَلِفُ حُكْمُ التَّسْوِيدِ بِاخْتِلاَفِ مَعْنَاهُ وَمَبْحَثِهِ الْفِقْهِيِّ.
فَالتَّسْوِيدُ يَأْتِي بِمَعْنَى: السِّيَادَةِ، وَيُبْحَثُ حُكْمُهُ فِي مَوَاطِنَ مِنْهَا: تَسْوِيدُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلاَةِ وَفِي غَيْرِهَا، وَتَسْوِيدُ غَيْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَسْوِيدُ الْمُنَافِقِ.
__________
(1) القاموس المحيط، والمصباح المنير، ولسان العرب، والمفردات في غريب القرآن مادة: " فضل ".
(2) القاموس المحيط، والمصباح المنير، ولسان العرب، والمفردات في غريب القرآن مادة: " كرم ".(11/345)
وَيَأْتِي التَّسْوِيدُ بِمَعْنَى: التَّلْوِينِ بِالسَّوَادِ، وَيُبْحَثُ حُكْمُهُ فِي مَوَاطِنَ مِنْهَا: التَّعْزِيرُ، وَالْخِضَابُ، وَالْحِدَادُ، وَالتَّعْزِيَةُ، وَاللِّبَاسُ وَالْعِمَامَةُ، وَشَعْرُ الْمَبِيعِ.
(أَوَّلاً)
التَّسْوِيدُ مِنَ السِّيَادَةِ
تَسْوِيدُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ تَسْوِيدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلاَةِ، وَحُكْمِ تَسْوِيدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَيْرِ الصَّلاَةِ.
أ - فِي الصَّلاَةِ:
7 - وَرَدَ لَفْظُ الصَّلَوَاتِ الإِْبْرَاهِيمِيَّةِ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ مَأْثُورًا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ (سَيِّدِنَا) قَبْل اسْمِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَأَمَّا إِضَافَةُ لَفْظِ (سَيِّدِنَا) فَرَأَى مَنْ لَمْ يَقُل بِزِيَادَتِهَا الاِلْتِزَامَ بِمَا وَرَدَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَِنَّ فِيهِ امْتِثَالاً لِمَا وَرَدَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ فِي الأَْذْكَارِ وَالأَْلْفَاظِ الْمَأْثُورَةِ عَنْهُ، كَالأَْذَانِ وَالإِْقَامَةِ وَالتَّشَهُّدِ وَالصَّلاَةِ الإِْبْرَاهِيمِيَّةِ.
وَأَمَّا بِخُصُوصِ زِيَادَةِ (سَيِّدِنَا) فِي الصَّلاَةِ الإِْبْرَاهِيمِيَّةِ بَعْدَ التَّشَهُّدِ، فَقَدْ ذَهَبَ إِلَى اسْتِحْبَابِ ذَلِكَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ كَالْعِزِّ بْنِ عَبْدِ السَّلاَمِ وَالرَّمْلِيِّ وَالْقَلْيُوبِيِّ وَالشَّرْقَاوِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَصْكَفِيِّ وَابْنِ عَابِدِينَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ مُتَابَعَةً لِلرَّمْلِيِّ(11/346)
الشَّافِعِيِّ، كَمَا صَرَّحَ بِاسْتِحْبَابِهِ النَّفَرَاوِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ.
وَقَالُوا: إِنَّ ذَلِكَ مِنْ قَبِيل الأَْدَبِ، وَرِعَايَةُ الأَْدَبِ خَيْرٌ مِنَ الاِمْتِثَال، كَمَا قَال الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ (1) .
ب - فِي غَيْرِ الصَّلاَةِ:
8 - أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى ثُبُوتِ السِّيَادَةِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى عَلَمِيَّتِهِ فِي السِّيَادَةِ. قَال الشَّرْقَاوِيُّ: فَلَفْظُ (سَيِّدِنَا) عَلَمٌ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَمَعَ ذَلِكَ خَالَفَ بَعْضُهُمْ وَقَالُوا: إِنَّ لَفْظَ السَّيِّدِ لاَ يُطْلَقُ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ مُطَرِّفٍ قَال: قَال أَبِي: انْطَلَقْتُ فِي وَفْدِ بَنِي عَامِرٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْنَا: أَنْتَ سَيِّدُنَا، فَقَال: السَّيِّدُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى. قُلْنَا: وَأَفْضَلُنَا فَضْلاً وَأَعْظَمُنَا طَوْلاً، قَال: قُولُوا بِقَوْلِكُمْ أَوْ بَعْضِ قَوْلِكُمْ، وَلاَ يَسْخَرْ بِكُمُ الشَّيْطَانُ. (2) وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ أَنَّهُ جَاءَهُ رَجُلٌ
__________
(1) رد المحتار على الدار المختار 11 / 345، والفواكه الدواني على رسالة القيرواني 2 / 464، والقليوبي 1 / 167، وشرح الروض 1 / 166، وحاشية الشرقاوي على تحفة الطلاب 1 / 21، 193، والمغني لابن قدامة 1 / 541 - 542 - 543 - ونيل الأوطار 2 / 326، والقول البديع في الصلاة على الحبيب الشفيع ص 101، وفتاوى ابن حجر العسقلاني نقلا عن " إصلاح المساجد من البدع والعوائد " للقاسمي 140 ط (5) والمكتب الإسلامي.
(2) حديث: " قولوا بقولكم أو بعض قولكم. . . " أخرجه أبو داود (5 / 155 - ط عزت عبيد دعاس) . وقال ابن حجر في الفتح (5 / 179 - ط السلفية) : رجاله ثقات.(11/346)
فَقَال: أَنْتَ سَيِّدُ قُرَيْشٍ، فَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: السَّيِّدُ اللَّهُ. (1)
قَال ابْنُ الأَْثِيرِ فِي النِّهَايَةِ: أَيْ هُوَ الَّذِي يَحِقُّ لَهُ السِّيَادَةُ، كَأَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يُحْمَدَ فِي وَجْهِهِ، وَأَحَبَّ التَّوَاضُعَ. وَمِنْهُ الْحَدِيثُ لَمَّا قَالُوا: أَنْتَ سَيِّدُنَا، قَال: قُولُوا بِقَوْلِكُمْ أَيِ ادْعُونِي نَبِيًّا وَرَسُولاً كَمَا سَمَّانِي اللَّهُ، وَلاَ تُسَمُّونِي سَيِّدًا كَمَا تُسَمُّونَ رُؤَسَاءَكُمْ، فَإِنِّي لَسْتُ كَأَحَدِهِمْ مِمَّنْ يَسُودُكُمْ فِي أَسْبَابِ الدُّنْيَا.
وَأَضَافَ ابْنُ مُفْلِحٍ إِلَى مَا سَبَقَ: وَالسَّيِّدُ يُطْلَقُ عَلَى الرَّبِّ، وَالْمَالِكِ، وَالشَّرِيفِ، وَالْفَاضِل، وَالْحَكِيمِ، وَمُتَحَمِّل أَذَى قَوْمِهِ، وَالزَّوْجِ، وَالرَّئِيسِ، وَالْمُقَدَّمِ.
وَقَال أَبُو مَنْصُورٍ: كَرِهَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُمْدَحَ فِي وَجْهِهِ وَأَحَبَّ التَّوَاضُعَ لِلَّهِ تَعَالَى، وَجَعَل السِّيَادَةَ لِلَّذِي سَادَ الْخَلْقَ أَجْمَعِينَ. وَلَيْسَ هَذَا بِمُخَالِفٍ لِقَوْلِهِ لِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ قَال لِقَوْمِهِ الأَْنْصَارِ: قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ (2) أَرَادَ أَنَّهُ أَفْضَلُكُمْ رَجُلاً وَأَكْرَمُكُمْ. وَأَمَّا صِفَةُ اللَّهِ جَل
__________
(1) حديث: " السيد الله " أخرجه أحمد (4 / 24 - ط الميمنية) . من حديث مطرف بن عبد الله بن الشخير وإسناده صحيح.
(2) حديث: " قوموا إلى سيدكم " أخرجه البخاري (6 / 165 - الفتح - ط السلفية) .(11/347)
ذِكْرُهُ بِالسَّيِّدِ فَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ مَالِكُ الْخَلْقِ، وَالْخَلْقُ كُلُّهُمْ عَبِيدُهُ (أَيْ فَلاَ يُطْلَقُ لَفْظُ السَّيِّدِ بِهَذَا الْمَعْنَى عَلَى غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى) وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ فَخْرَ (1) أَرَادَ أَنَّهُ أَوَّل شَفِيعٍ، وَأَوَّل مَنْ يُفْتَحُ لَهُ بَابُ الْجَنَّةِ، قَال ذَلِكَ إِخْبَارًا عَمَّا أَكْرَمَهُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْفَضْل وَالسُّؤْدُدِ، وَتَحَدُّثًا بِنِعْمَةِ اللَّهِ عِنْدَهُ، وَإِعْلاَمًا مِنْهُ؛ لِيَكُونَ إِيمَانُهُمْ بِهِ عَلَى حَسَبِهِ وَمُوجِبِهِ، وَلِهَذَا أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: وَلاَ فَخْرَ أَيْ أَنَّ هَذِهِ الْفَضِيلَةَ الَّتِي نِلْتُهَا كَرَامَةً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، لَمْ أَنَلْهَا مِنْ قِبَل نَفْسِي، وَلاَ بَلَغْتُهَا بِقُوَّتِي، فَلَيْسَ لِي أَنْ أَفْتَخِرَ بِهَا
وَقَال السَّخَاوِيُّ: إِنْكَارُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحْتَمَل أَنْ يَكُونَ تَوَاضُعًا مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَرَاهَةً مِنْهُ أَنْ يُحْمَدَ وَيُمْدَحَ مُشَافَهَةً، أَوْ لأَِنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ تَحِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ، أَوْ لِمُبَالَغَتِهِمْ فِي الْمَدْحِ، وَقَدْ صَحَّ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَقَوْلُهُ لِلْحَسَنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ (2) وَوَرَدَ قَوْل سَهْل بْنِ حُنَيْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَا سَيِّدِي " فِي حَدِيثٍ عِنْدَ النَّسَائِيِّ فِي عَمَل الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ،
__________
(1) حديث: " أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر " أخرجه مسلم (3 / 1782 - ط الحلبي) دون قوله " ولا فخر "، فهي في الترمذي (5 / 308 - ط الحلبي) .
(2) حديث: " إن ابني هذا سيد " يأتي مطولا ويأتي تخرجه في (ف 9) .(11/347)
وَقَوْل ابْنِ مَسْعُودٍ: " اللَّهُمَّ صَل عَلَى سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ. وَفِي كُل هَذَا دَلاَلَةٌ وَاضِحَةٌ وَبَرَاهِينُ لاَئِحَةٌ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ، وَالْمَانِعُ يَحْتَاجُ إِلَى إِقَامَةِ دَلِيلٍ، سِوَى مَا تَقَدَّمَ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَنْهَضُ دَلِيلاً مَعَ الاِحْتِمَالاَتِ السَّابِقَةِ. (1)
تَسْوِيدُ غَيْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
: 9 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ إِطْلاَقِ لَفْظِ السَّيِّدِ عَلَى غَيْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَذَهَبَ جُمْهُورُهُمْ إِلَى جَوَازِ إِطْلاَقِ لَفْظِ السَّيِّدِ عَلَى غَيْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى فِي يَحْيَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: {وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} (2) أَيْ أَنَّهُ فَاقَ غَيْرَهُ عِفَّةً وَنَزَاهَةً عَنِ الذُّنُوبِ. وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَل فِي امْرَأَةِ الْعَزِيزِ: {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} (3) أَيْ زَوْجَهَا وَبِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِل: مَنِ السَّيِّدُ؟ قَال: يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ قَالُوا: فَمَا فِي أُمَّتِكَ مِنْ سَيِّدٍ؟ قَال: بَلَى، مَنْ
__________
(1) رد المحتار على الدر المختار 11 / 345، والفواكه الدواني على رسالة القيرواني 2 / 464، وحاشية الشرقاوي على تحفة الطلاب 1 / 21، والآداب الشرعية والمنح المرعية 3 / 464 - 465، والقول البديع في الصلاة على الحبيب الشفيع ص 101، ولسان العرب 2 / 235.
(2) من الآية 39 من سورة آل عمران.
(3) من الآية 25 من سورة يوسف.(11/348)
آتَاهُ اللَّهُ مَالاً، وَرُزِقَ سَمَاحَةً، فَأَدَّى شُكْرَهُ، وَقَلَّتْ شِكَايَتُهُ فِي النَّاسِ (1)
وَبِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلأَْنْصَارِ وَبَنِي قُرَيْظَةَ: قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ (2) يَعْنِي سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ.
وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كَمَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحَيْنِ - إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَل اللَّهَ يُصْلِحُ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (3) وَكَذَلِكَ كَانَ.
وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلأَْنْصَارِ: مَنْ سَيِّدُكُمْ؟ قَالُوا: الْجَدُّ بْنُ قَيْسٍ عَلَى أَنَّا نُبَخِّلُهُ، قَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَأَيُّ دَاءٍ أَدْوَى مِنَ الْبُخْل (4) . وَبِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُل بَنِي آدَمَ سَيِّدٌ، فَالرَّجُل سَيِّدُ أَهْلِهِ، وَالْمَرْأَةُ سَيِّدَةُ بَيْتِهَا. (5)
وَمِنْهُ حَدِيثُ أُمِّ الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: حَدَّثَنِي سَيِّدِي أَبُو الدَّرْدَاءِ. وَبِقَوْل عُمَرَ
__________
(1) حديث: " سئل من السيد؟ قال: يوسف. . . " قال الهيثمي: رواه الطبراني في الأوسط، وفيه نافع أبو هرمز وهو متروك (مجمع الزوائد 8 / 202 - ط القدسي) .
(2) حديث: " قوموا إلى سيدكم " سبق تخرجه ف 8.
(3) حديث: " إن ابني هذا سيد، ولعل الله يصلح. . . " أخرجه البخاري (الفتح 5 / 307 - ط السلفية) .
(4) حديث: " من سيدكم. . . " أخرجه أبو الشيخ في الأمثال من حديث كعب بن مالك كما في الفتح (5 / 179 وكتاب الأمثال ط السلفية) وقال: رجال هذا الإسناد ثقات.
(5) حديث: " كل بني آدم سيد فالرجل. . . " أخرجه ابن عدي في الكامل (4 / 1521 - ط دار الفكر) . وإسناده حسن.(11/348)
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا سُئِل: مَنِ الَّذِي إِلَى جَانِبِكَ، فَأَجَابَ: هَذَا سَيِّدُ الْمُسْلِمِينَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَقَالُوا: إِنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَلاَ فِي حَدِيثٍ مُتَوَاتِرٍ أَنَّ السَّيِّدَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى؛ وَلأَِنَّ إِطْلاَقَ لَفْظِ السَّيِّدِ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَل لِكَوْنِهِ سُبْحَانَهُ مَالِكَ الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ، وَلاَ مَالِكَ لَهُمْ سِوَاهُ، وَإِطْلاَقُ هَذَا اللَّفْظِ عَلَى غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى لاَ يَكُونُ بِهَذَا الْمَعْنَى الْجَامِعِ الْكَامِل، بَل بِمَعَانٍ قَاصِرَةٍ عَنْ ذَلِكَ.
وَقَال بَعْضُهُمْ: إِنَّ لَفْظَ السَّيِّدِ لاَ يُطْلَقُ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لِمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ مُطَرِّفٍ الَّذِي سَبَقَ ذِكْرُهُ.
وَقَال الْخَطَّابِيُّ: لاَ يُقَال السَّيِّدُ وَلاَ الْمَوْلَى عَلَى الإِْطْلاَقِ مِنْ غَيْرِ إِضَافَةٍ إِلاَّ فِي صِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَال بَعْضُهُمْ: إِنَّ لَفْظَ السَّيِّدِ يَجُوزُ إِطْلاَقُهُ عَلَى مَالِكِ الْعَبْدِ أَوْ مَالِكَتِهِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: عَبْدِي وَأَمَتِي، وَلاَ يَقُولَنَّ الْمَمْلُوكُ: رَبِّي وَرَبَّتِي، وَلْيَقُل الْمَالِكُ: فَتَايَ وَفَتَاتِي. وَلْيَقُل الْمَمْلُوكُ: سَيِّدِي وَسَيِّدَتِي، فَإِنَّهُمُ الْمَمْلُوكُونَ، وَالرَّبُّ: اللَّهُ تَعَالَى (1) قَال
__________
(1) حديث: " لا يقولن أحدكم: عبدي وأمتي. . . " أخرجه أبو داود (5 / 257 - ط عزت عبيد دعاس) وأصله في مسلم (3 / 1764 - ط الحلبي) .(11/349)
صَاحِبُ عَوْنِ الْمَعْبُودِ: كَانَ بَعْضُ أَكَابِرِ الْعُلَمَاءِ يَأْخُذُ بِهَذَا، وَيَكْرَهُ أَنْ يُخَاطِبَ أَحَدًا بِلَفْظِهِ أَوْ كِتَابَتِهِ بِالسَّيِّدِ، وَيَتَأَكَّدُ هَذَا إِذَا كَانَ الْمُخَاطَبُ غَيْرَ تَقِيٍّ. (1)
مَنْ يَسْتَحِقُّ التَّسْوِيدَ:
10 - لَفْظُ السَّيِّدِ مُشْتَقٌّ مِنَ السُّؤْدُدِ، وَهُوَ: الْمَجْدُ وَالشَّرَفُ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْمُتَوَلِّي لِلْجَمَاعَةِ. وَمِنْ شَرْطِهِ وَشَأْنِهِ أَنْ يَكُونَ مُهَذَّبَ النَّفْسِ شَرِيفًا. وَعَلَى مَنْ قَامَ بِهِ بَعْضُ خِصَال الْخَيْرِ مِنَ الْفَضْل وَالشَّرَفِ وَالْعِبَادَةِ وَالْوَرَعِ وَالْحِلْمِ وَالْعَقْل وَالنَّزَاهَةِ وَالْعِفَّةِ وَالْكَرَمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
إِطْلاَقُ لَفْظِ السَّيِّدِ عَلَى الْمُنَافِقِ
11 - الْمُنَافِقُ لَيْسَ مِنْ هَذِهِ الْخِصَال فِي شَيْءٍ؛ لأَِنَّهُ كَاذِبٌ مُدَلِّسٌ خَائِنٌ، لاَ تُوَافِقُ سَرِيرَتُهُ عَلاَنِيَتَهُ. وَفِي الْعَقِيدَةِ: يُبْطِنُ الْكُفْرَ وَيُظْهِرُ الإِْسْلاَمَ. وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْ إِطْلاَقِ لَفْظِ السَّيِّدِ عَلَى الْمُنَافِقِ فِيمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تَقُولُوا لِلْمُنَافِقِ سَيِّدٌ، (2) فَإِنَّهُ إِنْ يَكُ سَيِّدُكُمْ فَقَدْ
__________
(1) تفسير القرطبي 4 / 76 - 77، صحيح البخاري 7 / 130 ط. استنبول، وعون المعبود 13 / 321 - 324، والكامل في ضعفاء الرجال 4 / 1521 وحاشية الشرقاوي 1 / 21، والآداب الشرعية 3 / 465 - 467.
(2) في بعض الرواية " سيدا " بالنصب.(11/349)
أَسْخَطْتُمْ رَبَّكُمْ عَزَّ وَجَل (1) وَذَلِكَ لأَِنَّ السَّيِّدَ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلسُّؤْدُدِ، أَيْ لِلأَْسْبَابِ الْعَالِيَةِ الَّتِي تُؤَهِّلُهُ لِذَلِكَ، فَأَمَّا الْمُنَافِقُ فَإِنَّهُ مَوْصُوفٌ بِالنَّقَائِصِ، فَوَصْفُهُ بِذَلِكَ وَضْعٌ لَهُ فِي مَكَانٍ لَمْ يَضَعْهُ اللَّهُ فِيهِ، فَلاَ يَبْعُدُ أَنْ يَسْتَحِقَّ وَاضِعُهُ بِذَلِكَ سُخْطَ اللَّهِ. وَقِيل مَعْنَاهُ: إِنْ يَكُ سَيِّدًا لَكُمْ فَتَجِبْ عَلَيْكُمْ طَاعَتُهُ، فَإِذَا أَطَعْتُمُوهُ فِي نِفَاقٍ فَقَدْ أَسْخَطْتُمْ رَبَّكُمْ. وَقَال ابْنُ الأَْثِيرِ: لاَ تَقُولُوا لِلْمُنَافِقِ سَيِّدٌ، فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ سَيَّدَكُمْ وَهُوَ مُنَافِقٌ فَحَالُكُمْ دُونَ حَالِهِ، وَاللَّهُ لاَ يَرْضَى لَكُمْ ذَلِكَ. (2)
(ثَانِيًا)
التَّسْوِيدُ مِنَ السَّوَادِ
أ - التَّسْوِيدُ بِالْخِضَابِ:
12 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ خِضَابَ الرَّجُل بِالسَّوَادِ مَكْرُوهٌ فِي غَيْرِ الْجِهَادِ فِي الْجُمْلَةِ.
وَلِلْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ:
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: يُكْرَهُ الْخِضَابُ بِالسَّوَادِ أَيْ
__________
(1) حديث: " لا تقولوا للمنافق سيد، فإنه. . . " أخرجه أبو داود (5 / 257 - ط عزت عبيد دعاس) وصححه النووي في رياض الصالحين (ص 606 - ط المكتب الإسلامي) .
(2) عون المعبود 1313 ? / 324، وفضل الله الصمد في توضيح الأدب المفرد 2 / 230، والآداب الشرعية 3 / 465، ولسان العرب 2 / 235.(11/350)
لِغَيْرِ الْحَرْبِ، قَال فِي الذَّخِيرَةِ: أَمَّا الْخِضَابُ بِالسَّوَادِ لِلْغَزْوِ - لِيَكُونَ أَهْيَبَ فِي عَيْنِ الْعَدُوِّ - فَهُوَ مَحْمُودٌ بِالاِتِّفَاقِ. وَإِنْ كَانَ لِيُزَيِّنَ نَفْسَهُ لِلنِّسَاءِ فَمَكْرُوهٌ، وَعَلَيْهِ عَامَّةُ الْمَشَايِخِ. وَبَعْضُهُمْ جَوَّزَهُ بِلاَ كَرَاهَةٍ. رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَال: كَمَا يُعْجِبُنِي أَنْ تَتَزَيَّنَ لِي يُعْجِبُهَا أَنْ أَتَزَيَّنَ لَهَا.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: الْخِضَابُ بِالسَّوَادِ إِذَا كَانَ لِلتَّغْرِيرِ فَهُوَ حَرَامٌ. كَمَنْ أَرَادَ نِكَاحَ امْرَأَةٍ فَصَبَغَ شَعْرَ لِحْيَتِهِ الأَْبْيَضَ، بِالسَّوَادِ. وَإِنْ كَانَ لِلْجِهَادِ حَتَّى يُوهِمَ الْعَدُوَّ الشَّبَابَ نُدِبَ. وَإِنْ كَانَ لِلتَّشَابِّ كُرِهَ. وَإِنْ كَانَ مُطْلَقًا فَقَوْلاَنِ: بِالْكَرَاهَةِ وَالْجَوَازِ. (1)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ الْخِضَابَ بِالسَّوَادِ حَرَامٌ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ وَخِلاَفٌ. قَال النَّوَوِيُّ فِي الْمَجْمُوعِ: اتَّفَقُوا عَلَى ذَمِّ خِضَابِ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ بِالسَّوَادِ، ثُمَّ قَال: قَال: الْغَزَالِيُّ فِي الإِْحْيَاءِ، وَالْبَغَوِيُّ فِي التَّهْذِيبِ، وَآخَرُونَ مِنَ الأَْصْحَابِ: هُوَ مَكْرُوهٌ. وَظَاهِرُ عِبَارَتِهِمْ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ، وَالصَّحِيحُ - بَل الصَّوَابُ - أَنَّهُ حَرَامٌ. وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِتَحْرِيمِهِ صَاحِبُ الْحَاوِي فِي بَابِ الصَّلاَةِ بِالنَّجَاسَةِ، قَال: إِلاَّ أَنْ يَكُونَ فِي الْجِهَادِ، وَقَال فِي آخِرِ كِتَابِ الأَْحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 271 - 481، وكفاية الطالب الرباني 2 / 356، وكشاف القناع 1 / 77، والآداب الشرعية 3 / 351 - 354.(11/350)
يَمْنَعُ الْمُحْتَسِبُ النَّاسَ مِنْ خِضَابِ الشَّيْبِ بِالسَّوَادِ إِلاَّ الْمُجَاهِدَ، وَدَلِيل تَحْرِيمِهِ حَدِيثُ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: أُتِيَ بِأَبِي قُحَافَةَ وَالِدِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ وَرَأْسُهُ وَلِحْيَتُهُ كَالثَّغَامَةِ بَيَاضًا (1) فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: غَيِّرُوا هَذَا، وَاجْتَنِبُوا السَّوَادَ، (2) وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَكُونُ قَوْمٌ يُخَضِّبُونَ فِي آخِرِ الزَّمَانِ بِالسَّوَادِ كَحَوَاصِل الْحَمَامِ، لاَ يَرِيحُونَ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، (3) وَلاَ فَرْقَ فِي الْمَنْعِ مِنَ الْخِضَابِ بِالسَّوَادِ بَيْنَ الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ. . هَذَا مَذْهَبُنَا، وَحُكِيَ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهُوَيْهِ أَنَّهُ رَخَّصَ فِيهِ لِلْمَرْأَةِ تَتَزَيَّنُ بِهِ لِزَوْجِهَا.
وَقَال النَّوَوِيُّ فِي رَوْضَةِ الطَّالِبِينَ: خِضَابُ الْمَرْأَةِ بِالسَّوَادِ إِنْ كَانَتْ خَلِيَّةً مِنَ الزَّوْجِ وَفَعَلَتْهُ فَهُوَ حَرَامٌ، وَإِنْ كَانَتْ زَوْجَةً وَفَعَلَتْهُ بِإِذْنِهِ فَجَائِزٌ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَقِيل: وَجْهَانِ كَوَصْل الشَّعْرِ.
وَقَال الرَّمْلِيُّ: يَحْرُمُ عَلَى الْمَرْأَةِ الْخِضَابُ بِالسَّوَادِ، فَإِنْ أَذِنَ لَهَا زَوْجُهَا فِي ذَلِكَ جَازَ؛ لأَِنَّ
__________
(1) نبت يكون بالجبال غالبا إذا يبس ابيض، ويشبه به الشيب.
(2) حديث: " غيروا هذا. . . . " أخرجه مسلم (3 / 1663 - ط الحلبي) .
(3) حديث: " يكون قوم يخضبون في. . . " أخرجه أبو داود (4 / 419 - ط عزت عبيد دعاس) . وقال ابن حجر في الفتح (10 / 499 - ط السلفية) : إسناده قوي.(11/351)
لَهُ غَرَضًا فِي تَزَيُّنِهَا لَهُ، كَمَا فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا، وَهُوَ الأَْوْجَهُ. (1)
هَذَا فِي خَضْبِ الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ الشَّعْرَ بِالسَّوَادِ، أَمَّا خَضْبُهُمَا الشَّعْرَ بِغَيْرِ السَّوَادِ، كَالْحُمْرَةِ وَالصُّفْرَةِ مَثَلاً، وَخَضْبُهُمَا غَيْرَ الشَّعْرِ كَالْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ يُذْكَرُ فِي مَوْطِنِهِ.
وَقَال الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ: إِنَّ مِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ رَخَّصَ فِي الاِخْتِضَابِ بِالسَّوَادِ مُطْلَقًا، وَمِنْهُمْ مَنْ رَخَّصَ فِيهِ لِلرِّجَال دُونَ النِّسَاءِ. وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (اخْتِضَابٌ) .
ب - لُبْسُ السَّوَادِ فِي الْحِدَادِ
13 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا لُبْسُ السَّوَادِ مِنَ الثِّيَابِ. . . وَلاَ يَجِبُ عَلَيْهَا ذَلِكَ، بَل لَهَا أَنْ تَلْبَسَ غَيْرَهُ.
وَاخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَلْبَسَ فِيهَا السَّوَادَ، فَقَال بَعْضُهُمْ: لاَ تُجَاوِزُ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ. وَلَكِنَّ فُقَهَاءَ الْمَذْهَبِ - وَمِنْهُمْ ابْنُ عَابِدِينَ - حَمَلُوا ذَلِكَ عَلَى مَا تَصْبُغُهُ الزَّوْجَةُ بِالسَّوَادِ وَتَلْبَسُهُ تَأَسُّفًا عَلَى زَوْجِهَا، أَمَّا مَا كَانَ مَصْبُوغًا بِالسَّوَادِ قَبْل مَوْتِ زَوْجِهَا، فَيَجُوزُ لَهَا أَنْ تَلْبَسَهُ مُدَّةَ الْحِدَادِ كُلَّهَا. وَمَنَعَ الْحَنَفِيَّةُ لُبْسَ السَّوَادِ فِي الْحِدَادِ عَلَى غَيْرِ الزَّوْجِ.
__________
(1) المجموع 1 / 294، وروضة الطالبين 1 / 276، ونهاية المحتاج 2 / 23.(11/351)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ الْمُحِدَّ يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَلْبَسَ الأَْسْوَدَ، إِلاَّ إِذَا كَانَتْ نَاصِعَةَ الْبَيَاضِ، أَوْ كَانَ الأَْسْوَدُ زِينَةَ قَوْمِهَا.
وَقَال الْقَلْيُوبِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: إِذَا كَانَ الأَْسْوَدُ عَادَةَ قَوْمِهَا فِي التَّزَيُّنِ بِهِ حَرُمَ لُبْسُهُ، وَنَقَل النَّوَوِيُّ عَنِ الْمَاوَرْدِيِّ أَنَّهُ أَوْرَدَ فِي " الْحَاوِي " وَجْهًا يَلْزَمُهَا السَّوَادُ فِي الْحِدَادِ. (1)
ج - لُبْسُ السَّوَادِ فِي التَّعْزِيَةِ:
14 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ تَسْوِيدَ الْوَجْهِ حُزْنًا عَلَى الْمَيِّتِ - مِنْ أَهْلِهِ أَوْ مِنَ الْمُعَزِّينَ لاَ يَجُوزُ - لِمَا فِيهِ مِنْ إِظْهَارٍ لِلْجَزَعِ وَعَدَمِ الرِّضَا بِقَضَاءِ اللَّهِ وَعَلَى السُّخْطِ مِنْ فِعْلِهِ، مِمَّا وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهُ فِي الأَْحَادِيثِ.
وَتَسْوِيدُ الثِّيَابِ لِلتَّعْزِيَةِ مَكْرُوهٌ لِلرِّجَال، وَلاَ بَأْسَ بِهِ لِلنِّسَاءِ، أَمَّا صَبْغُ الثِّيَابِ أَسْوَدَ أَوْ أَكْهَبَ (2) تَأَسُّفًا عَلَى الْمَيِّتِ فَلاَ يَجُوزُ (3) عَلَى التَّفْصِيل السَّابِقِ.
__________
(1) رد المحتار على الدر المختار 2 / 617 - 619، والشرح الكبير 2 / 478، والخرشي 4 / 148، وجواهر الإكليل 1 / 389، وحاشية قليوبي وعميرة 4 / 52، وروضة الطالبين 8 / 406، والمغني لابن قدامة 7 / 520، والمحلى لابن حزم 10 / 276، والروض النضير 4 / 125.
(2) الأكهب: الأغبر المشرب بالسواد.
(3) الفتاوى الهندية 1 / 167، 5 / 333، وحاشية الجمل 5 / 315، وأسنى المطالب 1 / 336 والإقناع 1 / 181، وكشاف القناع 2 / 163، ومطالب أولي النهى 1 / 925.(11/352)
د - السَّوَادُ فِي اللِّبَاسِ وَالْعِمَامَةِ:
15 - يُنْدَبُ لُبْسُ السَّوَادِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: نُدِبَ لُبْسُ السَّوَادِ، لأَِنَّ مُحَمَّدًا ذَكَرَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ فِي بَابِ الْغَنَائِمِ حَدِيثًا يَدُل عَلَى أَنَّ لُبْسَ السَّوَادِ مُسْتَحَبٌّ. (1)
أَمَّا الصَّبْغُ بِالأَْسْوَدِ، وَلُبْسُ الْمَصْبُوغِ بِهِ فَنُقِل عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِهِ. (2)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يُنْدَبُ لإِِمَامِ الْجُمُعَةِ أَنْ يَزِيدَ فِي حُسْنِ الْهَيْئَةِ وَالْعِمَّةِ وَالاِرْتِدَاءِ، وَتَرْكُ لُبْسِ السَّوَادِ لَهُ أَوْلَى مِنْ لُبْسِهِ، إِلاَّ إِنْ خَشِيَ مَفْسَدَةً تَتَرَتَّبُ عَلَى تَرْكِهِ مِنْ سُلْطَانٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَقَال ابْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ فِي فَتَاوِيهِ: الْمُوَاظَبَةُ عَلَى لُبْسِهِ بِدْعَةٌ، فَإِنْ مُنِعَ الْخَطِيبُ أَنْ يَخْطُبَ إِلاَّ بِهِ فَلْيَفْعَل (3)
وَقَالُوا: نُقِل أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَبِسَ الْعِمَامَةَ الْبَيْضَاءَ وَالْعِمَامَةَ السَّوْدَاءَ (4) ، وَلَكِنَّ الأَْفْضَل فِي
__________
(1) الفتاوى الهندية 5 / 330، وابن عابدين 5 / 481.
(2) الفتاوى الهندية 5 / 332.
(3) نهاية المحتاج 22 / 329، وأسنى المطالب 1 / 267، وحاشية القليوبي وعميرة 4 / 301.
(4) حديث: " لبس العمامة البيضاء " قال المحدث الشيخ محمد بن جعفر الكتابي في كتابه " الدعامة في أحكام سنة العمامة " (ص 85) : لم أر في شيء من الأحاديث التي وقفت عليها الآن ما يصرح بلبسه عليه الصلاة والسلام للعمامة البيضاء، إلا أن المتبادر من كلامهم، ومن إيث(11/352)
لَوْنِهَا الْبَيَاضُ لِعُمُومِ الْخَبَرِ الصَّحِيحِ الآْمِرِ بِلُبْسِ الْبَيَاضِ، وَأَنَّهُ خَيْرُ الأَْلْوَانِ فِي الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ. (1)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يُبَاحُ السَّوَادُ وَلَوْ لِلْجُنْدِ؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَل مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ. (2)
هـ - تَسْوِيدُ الْوَجْهِ فِي التَّعْزِيرِ
16 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ فِي التَّعْزِيرِ تَسْخِيمُ الْوَجْهِ، أَيْ دَهْنُ وَجْهِ الْمُعَزَّرِ بِالسُّخَامِ، وَهُوَ السَّوَادُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِأَسْفَل الْقِدْرِ وَمُحِيطِهِ مِنْ كَثْرَةِ الدُّخَانِ. (3)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ تَسْوِيدُ الْوَجْهِ فِي التَّعْزِيرِ؛ لأَِنَّ الإِْمَامَ يَجْتَهِدُ فِي جِنْسِ مَا يُعَزَّرُ بِهِ وَفِي قَدْرِهِ، وَيَفْعَل بِكُل مُعَزَّرٍ مَا يَلِيقُ بِهِ وَبِجِنَايَتِهِ، مَعَ مُرَاعَاةِ التَّرْتِيبِ وَالتَّدْرِيجِ، فَلاَ يَرْقَى لِمَرْتَبَةٍ وَهُوَ يَرَى مَا دُونَهَا كَافِيًا. (4)
__________
(1) حاشية الجمل 5 / 88 - 89.
(2) كشاف القناع 1 / 286. وحديث: " إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة عام الفتح. . . . . . " أخرجه مسلم (2 / 990 - ط الحلبي) .
(3) المبسوط للسرخسي 16 / 145، وجواهر الإكليل 2 / 225.
(4) نهاية المحتاج 8 / 16، وأسنى المطالب 4 / 162، وحاشية الجمل على شرح المنهج 5 / 164 ومطالب أولي النهى 6 / 223.(11/353)
تَسْوِيَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّسْوِيَةُ لُغَةً: الْعَدْل وَالنَّصَفَةُ، وَالْجَوْرُ أَوِ الظُّلْمُ ضِدُّ الْعَدْل، وَاسْتَوَى الْقَوْمُ فِي الْمَال مَثَلاً: إِذَا لَمْ يَفْضُل أَحَدٌ مِنْهُمْ غَيْرَهُ فِي الْمَال.
وَسَوَاءُ الشَّيْءِ: غَيْرُهُ وَمِثْلُهُ - مِنَ الأَْضْدَادِ - وَتَسَاوَتِ الأُْمُورُ: تَمَاثَلَتْ، وَاسْتَوَى الشَّيْئَانِ وَتَسَاوَيَا: تَمَاثَلاَ. (1)
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْقَسْمُ:
2 - وَهُوَ مَصْدَرُ قَسَمَ الشَّيْءَ يَقْسِمُهُ قَسْمًا: جَزَّأَهُ، وَالْقَسْمُ: نَصِيبُ الإِْنْسَانِ مِنَ الشَّيْءِ وَيُقَال: قَسَمْتُ الشَّيْءَ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ، وَأَعْطَيْتُ كُل شَرِيكٍ قَسْمَهُ.
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير.(11/353)
وَمِنْهُ التَّقْسِيمُ (1) وَالْقِسْمَةُ قَدْ تَكُونُ بِالتَّسَاوِي، وَقَدْ تَكُونُ بِالتَّفَاضُل.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
يَخْتَلِفُ حُكْمُ التَّسْوِيَةِ بِاعْتِبَارِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ عَلَى الْوَجْهِ الآْتِي:
تَسْوِيَةُ الصُّفُوفِ فِي الصَّلاَةِ:
3 - اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مِنَ السُّنَنِ الْمُؤَكَّدَةِ تَسْوِيَةُ الصُّفُوفِ فِي صَلاَةِ الْجَمَاعَةِ، بِحَيْثُ لاَ يَتَقَدَّمُ بَعْضُ الْمُصَلِّينَ عَلَى الْبَعْضِ الآْخَرِ، وَالتَّرَاصُّ فِي الصُّفُوفِ، بِحَيْثُ لاَ يَكُونُ فِيهَا فُرْجَةٌ، (2) لِلأَْحَادِيثِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي الْحَثِّ عَلَيْهَا: مِنْهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سَوُّوا صُفُوفَكُمْ، فَإِنَّ تَسْوِيَةَ الصَّفِّ مِنْ تَمَامِ الصَّلاَةِ وَفِي رِوَايَةٍ فَإِنَّ تَسْوِيَةَ الصُّفُوفِ مِنْ إِقَامَةِ الصَّلاَةِ. (3)
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ وَتَرَاصُّوا، فَإِنِّي أَرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي (4)
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير مادة: " قسم ".
(2) مغني المحتاج 1 / 248، والقوانين الفقهية ص 74، وسبل السلام 2 / 29.
(3) حديث: " سووا صفوفكم، فإن تسوية الصف. . . . . . " وفي رواية " فإن تسوية. . . . " أخرجه البخاري (الفتح - 2 / 209 ط السلفية) ومسلم (1 / 324 ط عيسى البابي) .
(4) حديث: " أقيموا صفوفكم وتراصوا، فإني. . . . . . . . " أخرجه البخاري (الفتح 2 / 208 ط السلفية) ومسلم (1 / 334 عيسى البابي) .(11/354)
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ (1) .
وَبَيَانُ مَا تَتَحَقَّقُ بِهِ التَّسْوِيَةُ فِي الصُّفُوفِ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (صَلاَةُ الْجَمَاعَةِ) .
تَسْوِيَةُ الظَّهْرِ فِي الرُّكُوعِ:
4 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ أَكْمَل الرُّكُوعِ هُوَ أَنْ يَنْحَنِيَ الْمُصَلِّي، بِحَيْثُ يَسْتَوِي ظَهْرُهُ وَعُنُقُهُ، بِأَنْ يَمُدَّهُمَا حَتَّى يَصِيرَا كَالصَّحِيفَةِ الْوَاحِدَةِ، وَيَنْصِبَ سَاقَيْهِ وَفَخِذَيْهِ إِلَى الْحِقْوِ، وَلاَ يَثْنِيَ رُكْبَتَيْهِ حَتَّى لاَ يَفُوتَ اسْتِوَاءُ الظَّهْرِ بِهِ. (2) لأَِنَّ ذَلِكَ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: رَأَيْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَبَّرَ جَعَل يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ، وَإِذَا رَكَعَ أَمْكَنَ يَدَيْهِ مِنْ رُكْبَتَيْهِ، ثُمَّ هَصَرَ ظَهْرَهُ وَفِي رِوَايَةٍ ثُمَّ حَنَى غَيْرَ مُقَنِّعٍ رَأْسَهُ وَلاَ مُصَوِّبِهِ (3) وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ
__________
(1) حديث: " لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله. . . . . " أخرجه البخاري (2 / 206 ط السلفية) ، ومسلم (1 / 324 ط عيسى البابي) .
(2) جواهر الإكليل 1 / 48، وتحفة المحتاج 2 / 60، وكشف المخدرات ص 71، وكفاية الأخبار 1 / 67، وسبل السلام 1 / 161.
(3) حديث أبي حميد الساعدي " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم - إذا كبر جعل يديه حذو. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 2 / 305 ط السلفية) .(11/354)
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْتَتِحُ الصَّلاَةَ بِالتَّكْبِيرِ إِلَى أَنْ قَالَتْ: وَكَانَ إِذَا رَكَعَ لَمْ يُشْخِصْ رَأْسَهُ وَلَمْ يُصَوِّبْهُ، وَلَكِنْ بَيْنَ ذَلِكَ (1) .
وَفِي حَدِيثِ الْمُسِيءِ صَلاَتَهُ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ: فَإِذَا رَكَعْتَ فَاجْعَل رَاحَتَيْكَ عَلَى رُكْبَتَيْكَ، وَامْدُدْ ظَهْرَكَ، وَمَكِّنْ رُكُوعَكَ (2) .
قَال الإِْمَامُ الْبَغَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: السُّنَّةُ فِي الرُّكُوعِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ: أَنْ يَضَعَ رَاحَتَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَيُفَرِّجَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، وَيُجَافِيَ مِرْفَقَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ، وَيُسَوِّيَ ظَهْرَهُ وَعُنُقَهُ وَرَأْسَهُ (3)
التَّسْوِيَةُ فِي إِعْطَاءِ الزَّكَاةِ بَيْنَ الأَْصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ
5 - اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وُجُوبِ التَّسْوِيَةِ فِي الزَّكَاةِ بَيْنَ الأَْصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى جَوَازِ الاِقْتِصَارِ عَلَى صِنْفٍ وَاحِدٍ مِنَ الأَْصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ، وَإِلَى جَوَازِ أَنْ يُعْطِيَهَا شَخْصًا وَاحِدًا مِنَ الصِّنْفِ الْوَاحِدِ، فَلاَ يَجِبُ عَلَى الإِْمَامِ - إِنْ كَانَ هُوَ الَّذِي يُوَزِّعُ - وَلاَ عَلَى الْمَالِكِ أَنْ يَسْتَوْعِبَ جَمِيعَ الأَْصْنَافِ، وَلاَ آحَادَ
__________
(1) حديث عائشة رضي الله عنها: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتتح الصلاة بالتكبير. . . . . " أخرجه مسلم (1 / 357 ط عيسى البابي) .
(2) حديث المسيء صلاته " فإذا ركعت فاجعل. . . . . " أخرجه البخاري (2 / 277 ط السلفية) . وأحمد (4 / 640 ط المكتب الإسلامي) واللفظ له.
(3) شرح السنة للبغوي 3 / 94.(11/355)
كُل صِنْفٍ. وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِأَدِلَّةٍ مِنْهَا: {
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَعْلِمْهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ (1) فَفِيهِ الأَْمْرُ بِرَدِّ جُمْلَتِهَا فِي الْفُقَرَاءِ، وَهُمْ صِنْفٌ وَاحِدٌ، وَلَمْ يَذْكُرْ سِوَاهُمْ. ثُمَّ أَتَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ مَالٌ فَجَعَلَهُ فِي صِنْفٍ ثَانٍ غَيْرِ الْفُقَرَاءِ، وَهُمُ الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ: الأَْقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ، وَعُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ، وَعَلْقَمَةُ بْنُ عِلاَقَةَ، وَزَيْدُ الْخَيْرِ. حَيْثُ قَسَمَ فِيهِمُ الذُّهَيْبَةَ الَّتِي بَعَثَ بِهَا إِلَيْهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنَ الْيَمَنِ.
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْ أَهْل الْيَمَنِ الصَّدَقَةُ. وَفِي حَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ الْبَيَاضِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ لَهُ بِصَدَقَةِ قَوْمِهِ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: فَانْطَلِقْ إِلَى صَاحِبِ صَدَقَةِ بَنِي زُرَيْقٍ فَلْيَدْفَعْهَا إِلَيْكَ (2) . لَكِنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ يَرَوْنَ أَنَّهُ مِنَ الأَْفْضَل فِي الْقِسْمَةِ أَنْ يُقَدَّمَ الأَْكْثَرُ حَاجَةً، فَالَّذِي يَلِيهِ. (3)
__________
(1) حديث معاذ: " أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 322 ط السلفية) ومسلم (1 / 50 ط عيسى البابي) .
(2) حديث: " فانطلق إلى صاحب. . . " أخرجه أبو داود (2 / 661 ط عبيد الدعاس) . والترمذي (3 / 503 ط الحلبي) وقال: حديث حسن. وأخرجه الحاكم (2 / 203) وقال حديث صحيح على شرط مسلم.
(3) البدائع 2 / 46، وجواهر الإكليل 1 / 140، والقوانين الفقهية ص 116، والمغني لابن قدامة 2 / 668، وروضة الطالبين 2 / 331.(11/355)
فَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ إِذَا جَمَعَ صَدَقَاتِ الْمَوَاشِي مِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ، نَظَرَ مِنْهَا مَا كَانَ مَنِيحَةَ اللَّبَنِ، فَيُعْطِيهَا لأَِهْل بَيْتٍ وَاحِدٍ عَلَى قَدْرِ مَا يَكْفِيهِمْ، وَكَانَ يُعْطِي الْعَشَرَةَ لِلْبَيْتِ الْوَاحِدِ ثُمَّ يَقُول: عَطِيَّةٌ تَكْفِي خَيْرٌ مِنْ عَطِيَّةٍ لاَ تَكْفِي (1) .
وَذَهَبَ الإِْمَامُ النَّخَعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْمَال كَثِيرًا يَحْتَمِل الأَْصْنَافَ قَسَمَهُ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانَ قَلِيلاً جَازَ وَضْعُهُ فِي صِنْفٍ وَاحِدٍ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ قَوْل عِكْرِمَةَ إِلَى وُجُوبِ اسْتِيعَابِ الأَْصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ إِنْ كَانَ الإِْمَامُ أَوْ نَائِبُهُ هُوَ الَّذِي يَقْسِمُ، فَإِنْ فُقِدَ بَعْضُ الأَْصْنَافِ فَعَلَى الْمَوْجُودِينَ. وَكَذَا يَجِبُ عَلَى الْمَالِكِ إِنْ تَوَلَّى بِنَفْسِهِ الْقِسْمَةَ أَنْ يَسْتَوْعِبَ الأَْصْنَافَ السَّبْعَةَ غَيْرَ الْعَامِل إِنِ انْحَصَرَ الْمُسْتَحِقُّونَ فِي الْبَلَدِ، بِأَنْ سَهُل عَادَةً ضَبْطُهُمْ وَمَعْرِفَةُ عَدَدِهِمْ. وَإِنْ لَمْ يَنْحَصِرُوا فَيَجِبُ إِعْطَاءُ ثَلاَثَةٍ فَأَكْثَرَ مِنْ كُل صِنْفٍ؛ لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَضَافَ إِلَيْهِمُ الزَّكَوَاتِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ، وَأَقَلُّهُ ثَلاَثَةٌ. (2)
6 - وَتَجِبُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الأَْصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ سَوَاءٌ قَسَّمَ الإِْمَامُ أَوِ الْمَالِكُ، وَإِنْ كَانَتْ حَاجَةُ
__________
(1) البدائع 2 / 46.
(2) تحفة المحتاج 7 / 169، ومغني المحتاج 3 / 116، وروضة الطالبين 2 / 331.(11/356)
بَعْضِهِمْ أَشَدَّ؛ لأَِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَمَعَ بَيْنَهُمْ بِوَاوِ التَّشْرِيكِ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونُوا سَوَاءً. (1)
وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرَجُلٍ سَأَلَهُ مِنَ الزَّكَاةِ إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَرْضَ بِحُكْمِ نَبِيٍّ وَلاَ غَيْرِهِ فِي الصَّدَقَاتِ، حَتَّى حَكَمَ هُوَ فِيهَا، فَجَزَّأَهَا ثَمَانِيَةَ أَجْزَاءٍ، فَإِنْ كُنْتَ مِنْ تِلْكَ الأَْجْزَاءِ أَعْطَيْتُكَ. (2)
7 - كَمَا يَجِبُ عَلَى الإِْمَامِ أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَ آحَادِ الصِّنْفِ الْوَاحِدِ، إِذَا كَانَتْ حَاجَاتُهُمْ مُتَسَاوِيَةً، لأَِنَّ عَلَيْهِ التَّعْمِيمَ فَتَلْزَمُهُ التَّسْوِيَةُ؛ وَلأَِنَّهُ نَائِبُهُمْ فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ التَّفْضِيل. أَمَّا إِذَا اخْتَلَفَتْ حَاجَاتُهُمْ فَعَلَيْهِ أَنْ يُرَاعِيَهَا.
وَلاَ يَجِبُ عَلَى الْمَالِكِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ آحَادِ الصِّنْفِ الْوَاحِدِ لِعَدَمِ انْضِبَاطِ الْحَاجَاتِ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا التَّفَاوُتُ، لَكِنْ يُسَنُّ لَهُ التَّسْوِيَةُ إِنْ تَسَاوَتْ حَاجَاتُهُمْ، فَإِنْ تَفَاوَتَتِ اسْتُحِبَّ التَّفَاوُتُ بِقَدْرِهَا. (3)
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) حديث: " إن الله لم يرض بحكم نبي. . . . " أخرجه أبو داود (2 / 281 ط عبيد الدعاس) . قال الهيثمي: فيه عبد الرحمن بن زياد بن أنعم وهو ضعيف، وقد وثقه أحمد بن صالح ورد على من تكلم فيه. وبقية رجاله ثقات. (مجمع الزوائد 5 / 204 ط دار الكتاب العربي) وضعفه السيوطي (فيض القدير 2 / 253 ط المكتبة التجارية) .
(3) المغني لابن قدامة 2 / 669، وتحفة المحتاج 7 / 172، ومغني المحتاج 3 / 117، وروضة الطالبين 2 / 330.(11/356)
التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ فِي الْقَسْمِ:
8 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْقَسْمَ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ وَاجِبٌ عَلَى الرَّجُل وَإِنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ مَجْبُوبًا أَوْ عِنِّينًا، لأَِنَّ مِنْ مَقَاصِدِ الْقَسْمِ الأُْنْسَ، وَهُوَ حَاصِلٌ مِمَّنْ لاَ يَطَأُ. فَقَدْ رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا كَانَ فِي مَرَضِهِ جَعَل يَدُورُ عَلَى نِسَائِهِ، وَيَقُول: أَيْنَ أَنَا غَدًا؟ أَيْنَ أَنَا غَدًا؟ (1) .
وَيَقْسِمُ لِلْمَرِيضَةِ، وَالْحَائِضِ، وَالنُّفَسَاءِ، وَالرَّتْقَاءِ، وَالْقَرْنَاءِ، وَالْمُحْرِمَةِ، وَمَنْ آلَى مِنْهَا أَوْ ظَاهَرَ، وَالشَّابَّةِ، وَالْعَجُوزِ، وَالْقَدِيمَةِ، وَالْحَدِيثَةِ. (2)
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لاَ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} (3) الآْيَةَ.
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَعْدِل بَيْنَ نِسَائِهِ فِي الْقَسْمِ وَيَقُول: اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ، فَلاَ تُؤَاخِذُنِي فِيمَا تَمْلِكُ أَنْتَ وَلاَ أَمْلِكُ. (4)
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) حديث: " أين أنا غدا " أخرجه البخاري (الفتح 8 / 144 ط السلفية) .
(2) البدائع 2 / 332، وجواهر الإكليل 1 / 326، والمغني لابن قدامة 7 / 28، ومغني المحتاج 3 / 252.
(3) سورة النساء / 3.
(4) حديث: " كان يعدل بين نسائه في القسمة ويقول:. . . . " أخرجه أبو داود (2 / 600 ط عبيد الدعاس) والترمذي (3 / 437 ط مصطفى البابي) وهو مرسل كما قال الترمذي والبغوي في شرح السنة (9 / 151 ط المكتب الإسلامي) .(11/357)
أَنَّهُ قَال: مَنْ كَانَ لَهُ امْرَأَتَانِ، فَمَال إِلَى إِحْدَاهُمَا دُونَ الأُْخْرَى، جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَشِقُّهُ مَائِلٌ. (1)
وَيُسَوِّي فِي الْقَسْمِ بَيْنَ الْمُسْلِمَةِ وَالْكِتَابِيَّةِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الدَّلاَئِل مِنْ غَيْرِ فَضْلٍ، وَلأَِنَّهُمَا يَسْتَوِيَانِ فِي سَبَبِ وُجُوبِ الْقَسْمِ وَهُوَ النِّكَاحُ، فَيَسْتَوِيَانِ فِي الْقَسْمِ. (2)
وَتَفْصِيل الْقَسْمِ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ، وَفِي بَدْءِ الْقَسْمِ، وَمَا يَخْتَصُّ بِهِ الْعَرُوسُ عِنْدَ الدُّخُول وَغَيْرِ ذَلِكَ، يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى مُصْطَلَحِ (الْقَسْمُ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ) .
التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْمُتَخَاصِمَيْنِ فِي التَّقَاضِي:
9 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ عَلَى الْقَاضِي الْعَدْل بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ فِي كُل شَيْءٍ مِنَ الْمَجْلِسِ، وَالْخِطَابِ، وَاللَّحْظِ، وَاللَّفْظِ، وَالإِْشَارَةِ، وَالإِْقْبَال، وَالدُّخُول عَلَيْهِ، وَالإِْنْصَاتِ إِلَيْهِمَا، وَالاِسْتِمَاعِ مِنْهُمَا، وَالْقِيَامِ لَهُمَا، وَرَدِّ التَّحِيَّةِ عَلَيْهِمَا، وَطَلاَقَةِ الْوَجْهِ لَهُمَا؛ لِلأَْحَادِيثِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي ثَبَتَتْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ مِنْهَا:
__________
(1) حديث: " من كان له امرأتان فمال إلى. . . . " أخرجه أبو داود (2 / 600 ط عبيد الدعاس) والترمذي (3 / 438 ط مصطفى البابي) وصحح ابن حجر إسناده (التلخيص الحبير 3 / 201 ط شركة الطباعة الفنية) .
(2) البدائع 2 / 332، وجواهر الإكليل 1 / 327، ومغني المحتاج 3 / 254، والمغني لابن قدامة 7 / 35.(11/357)
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنِ ابْتُلِيَ بِالْقَضَاءِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، فَلْيَعْدِل بَيْنَهُمْ فِي لَفْظِهِ وَإِشَارَتِهِ وَمَقْعَدِهِ، وَلاَ يَرْفَعْ صَوْتَهُ عَلَى أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ مَا لاَ يَرْفَعُهُ عَلَى الآْخَرِ وَفِي رِوَايَةٍ: فَلْيُسَوِّ بَيْنَهُمْ فِي النَّظَرِ وَالْمَجْلِسِ وَالإِْشَارَةِ (1)
وَكَتَبَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى أَبِي مُوسَى الأَْشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ آسِ بَيْنَ النَّاسِ فِي وَجْهِكَ وَعَدْلِكَ وَمَجْلِسِكَ، حَتَّى لاَ يَطْمَعَ شَرِيفٌ فِي حَيْفِكَ، وَلاَ يَيْأَسَ ضَعِيفٌ مِنْ عَدْلِكَ.
وَلأَِنَّ مُخَالَفَةَ ذَلِكَ يُوهِمُ الْخَصْمَ الآْخَرَ مَيْل الْقَاضِي إِلَى خَصْمِهِ، فَيُضْعِفُهُ ذَلِكَ عَنِ الْقِيَامِ بِحُجَّتِهِ، وَلاَ يُسَارُّ أَحَدَهُمَا دُونَ الآْخَرِ، وَلاَ يُلَقِّنُهُ حُجَّتَهُ، وَلاَ يَضْحَكُ فِي وَجْهِهِ؛ لأَِنَّ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مُخَالَفَةً لِلْمُسَاوَاةِ الْمَطْلُوبَةِ.
وَيَشْمَل هَذَا الشَّرِيفَ وَالْوَضِيعَ وَالأَْبَ وَالاِبْنَ، وَالصَّغِيرَ وَالْكَبِيرَ وَالرَّجُل وَالْمَرْأَةَ (2)
__________
(1) حديث: " من ابتلي بالقضاء بين المسلمين فليعدل. . . " أخرجه البيهقي (10 / 135 ط دار المعرفة) والدارقطني (4 / 502 ط المدني) . وقال البيهقي: إسناده فيه ضعف (10 / 135 ط دار المعرفة) . ولفظ الرواية الأخرى قال الهيثمي (مجمع الزوائد 4 / 197) : رواه أبو يعلى والطبراني في الكبير باختصار، وفيه عماد بن كثير الثقفي وهو ضعيف.
(2) فتح القدير 6 / 373، والقوانين الفقهية ص 300، مغني المحتاج 4 / 400، وروضة الطالبين 11 / 161، والمغني لابن قدامة 9 / 80، وحاشية الطحطاوي على الدر 3 / 184.(11/358)
كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى تَقْدِيمِ الأَْوَّل فَالأَْوَّل، إِذَا حَضَرَ الْقَاضِي خُصُومٌ وَازْدَحَمُوا؛ لأَِنَّ الْحَقَّ لِلسَّابِقِ، فَإِنْ جَهِل الأَْسْبَقَ مِنْهُمْ، أَوْ جَاءُوا مَعًا أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ، وَقَدَّمَ مَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ؛ إِذْ لاَ مُرَجِّحَ إِلاَّ بِهَا. فَإِنْ حَضَرَ مُسَافِرُونَ وَمُقِيمُونَ: فَإِنْ كَانَ الْمُسَافِرُونَ قَلِيلاً، بِحَيْثُ لاَ يَضُرُّ تَقْدِيمُهُمْ عَلَى الْمُقِيمِينَ قَدَّمَهُمْ؛ لأَِنَّهُمْ عَلَى جَنَاحِ السَّفَرِ؛ وَلِئَلاَّ يَتَضَرَّرُوا بِالتَّخَلُّفِ. وَكَذَلِكَ النِّسْوَةُ يُقَدَّمْنَ عَلَى الرِّجَال طَلَبًا لِسَتْرِهِنَّ مَا لَمْ يَكْثُرْ عَدَدُهُنَّ أَيْضًا.
10 - وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ تَسْوِيَةِ الْمُسْلِمِ مَعَ خَصْمِهِ الْكَافِرِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلٌ مَرْجُوحٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِلَى وُجُوبِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا فِي كُل الأُْمُورِ الْمَذْكُورَةِ آنِفًا؛ لأَِنَّ تَفْضِيل الْمُسْلِمِ عَلَى الْكَافِرِ وَرَفْعَهُ عَلَيْهِ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ كَسْرٌ لِقَلْبِهِ، وَتَرْكٌ لِلْعَدْل الْوَاجِبِ التَّطْبِيقِ بَيْنَ النَّاسِ جَمِيعًا.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ، وَالْحَنَابِلَةُ: إِلَى جَوَازِ رَفْعِ الْمُسْلِمِ عَلَى خَصْمِهِ الْكَافِرِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ أَنَّهُ خَرَجَ إِلَى السُّوقِ، فَوَجَدَ دِرْعَهُ مَعَ يَهُودِيٍّ، فَعَرَفَهَا فَقَال: دِرْعِي سَقَطَتْ وَقْتَ كَذَا فَقَال الْيَهُودِيُّ: دِرْعِي وَفِي يَدَيَّ بَيْنِي وَبَيْنَكَ قَاضِي الْمُسْلِمِينَ. فَارْتَفَعَا إِلَى شُرَيْحٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَلَمَّا رَآهُ شُرَيْحٌ قَامَ مِنْ مَجْلِسِهِ، وَأَجْلَسَهُ فِي مَوْضِعِهِ، وَجَلَسَ مَعَ الْيَهُودِيِّ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَال(11/358)
عَلِيٌّ: إِنَّ خَصْمِيَ لَوْ كَانَ مُسْلِمًا لَجَلَسْتُ مَعَهُ بَيْنَ يَدَيْكَ، (1) وَلَكِنِّي سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: لاَ تُسَاوُوهُمْ فِي الْمَجَالِسِ (2) اقْضِ بَيْنِي وَبَيْنَهُ يَا شُرَيْحٌ.
وَلِحَدِيثِ: الإِْسْلاَمُ يَعْلُو وَلاَ يُعْلَى (3)
التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الأَْوْلاَدِ فِي الْعَطِيَّةِ
11 - اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وُجُوبِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الأَْوْلاَدِ فِي الْعَطِيَّةِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمْ فِي الْعَطَايَا مُسْتَحَبَّةٌ، وَلَيْسَتْ وَاجِبَةً.
لأَِنَّ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَضَّل عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَلَى غَيْرِهَا مِنْ أَوْلاَدِهِ فِي هِبَةٍ، وَفَضَّل عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ابْنَهُ عَاصِمًا بِشَيْءٍ مِنَ الْعَطِيَّةِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ أَوْلاَدِهِ.
وَلأَِنَّ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ حَدِيثِ
__________
(1) حاشية الطحطاوي على الدر المختار 3 / 184، وجواهر الإكليل 2 / 225، ومغني المحتاج 4 / 400، والمغني لابن قدامة 9 / 82.
(2) حديث: " لا تساووهم في المجالس " أخرجه البيهقي (10 / 136 ط دار المعرفة) وضعفه. وكذلك ابن حجر في تلخيص الحبير (4 / 192 ط المدني) .
(3) حديث: " الإسلام يعلو ولا يعلى " أخرجه الدارقطني (3 / 252 ط المدني) والبيهقي (6 / 205 ط دار المعرفة) . وعلقه البخاري (3 / 218 ط السلفية) وحسن ابن حجر إسناده.(11/359)
النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: فَأَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي (1) مَا يَدُل عَلَى الْجَوَازِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ، وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ قَوْل ابْنِ الْمُبَارَكِ، وَطَاوُسٍ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الإِْمَامِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: إِلَى وُجُوبِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الأَْوْلاَدِ فِي الْهِبَةِ. فَإِنْ خَصَّ بَعْضَهُمْ بِعَطِيَّةٍ، أَوْ فَاضَل بَيْنَهُمْ فِيهَا أَثِمَ، وَوَجَبَتْ عَلَيْهِ التَّسْوِيَةُ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا رَدُّ مَا فَضَّل بِهِ الْبَعْضَ، وَإِمَّا إِتْمَامُ نَصِيبِ الآْخَرِ، لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: وَهَبَنِي أَبِي هِبَةً. فَقَالَتْ أُمِّي عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: لاَ أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ: إِنَّ أُمَّ هَذَا أَعْجَبَهَا أَنْ أُشْهِدَكَ عَلَى الَّذِي وَهَبْتُ لاِبْنِهَا، فَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا بَشِيرُ أَلَكَ وَلَدٌ سِوَى هَذَا؟ قَال: نَعَمْ. قَال: كُلُّهُمْ وَهَبْتَ لَهُ مِثْل هَذَا؟ قَال: لاَ. قَال: فَأَرْجِعْهُ. وَفِي رِوَايَةٍ قَال: اتَّقُوا اللَّهَ، وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلاَدِكُمْ وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لاَ تُشْهِدْنِي عَلَى جَوْرٍ. إِنَّ لِبَنِيكَ مِنَ الْحَقِّ أَنْ تَعْدِل بَيْنَهُمْ وَفِي رِوَايَةٍ: فَأَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي (2) .
__________
(1) حديث: " فأشهد على هذا غيري " أخرجه مسلم (3 / 1243 ط الحلبي) .
(2) حديث: " فأرجعه " وفي رواية " اتقوا الله واعدلوا " أخرجه البخاري (5 / 211 ط السلفية) . ومسلم (3 / 1241 ط عيسى الحلبي) . والرواية الثانية والرابعة عند مسلم (3 / 1243 ط الحلبي) ، والرواية الثالثة عند البخاري (الفتح 5 / 211 ط السلفية) . والحديث عند أحمد (4 / 269 ط المكتب الإسلامي) بلفظ: " قال: لا. قال: فلا تشهدني إذا. إني لا أشهد على جور، إن لبنيك عليك من الحق أن تعدل بينهم ".(11/359)
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: سَوُّوا بَيْنَ أَوْلاَدِكُمْ فِي الْعَطِيَّةِ، وَلَوْ كُنْتُ مُؤْثِرًا أَحَدًا لآَثَرْتُ النِّسَاءَ عَلَى الرِّجَال. (1)
12 - وَاخْتَلَفُوا كَذَلِكَ فِي مَعْنَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالأُْنْثَى مِنَ الأَْوْلاَدِ. فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ مَعْنَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالأُْنْثَى مِنَ الأَْوْلاَدِ: الْعَدْل بَيْنَهُمْ فِي الْعَطِيَّةِ بِدُونِ تَفْضِيلٍ؛ لأَِنَّ الأَْحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي ذَلِكَ لَمْ تُفَرِّقْ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالأُْنْثَى.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ، وَالإِْمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ مَرْجُوحٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْمَشْرُوعَ فِي عَطِيَّةِ الأَْوْلاَدِ الْقِسْمَةُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ مِيرَاثِهِمْ: أَيْ لِلذَّكَرِ مِثْل حَظِّ الأُْنْثَيَيْنِ؛ لأَِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَسَمَ لَهُمْ فِي الإِْرْثِ هَكَذَا، وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ، وَهُوَ الْعَدْل الْمَطْلُوبُ بَيْنَ الأَْوْلاَدِ فِي الْهِبَاتِ وَالْعَطَايَا. (2)
__________
(1) حديث: " سووا بين أولادكم. . . " قال الهيثمي: فيه عبد الله بن صالح كاتب الليث. قال عبد الملك بن شعيب: ثقة مأمون ورفع من شأنه، وضعفه أحمد وغيره (مجمع الزوائد 4 / 153 ط دار الكتاب العربي) .
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 422، والقوانين الفقهية ص 372، ومغني المحتاج 2 / 401، والمغني لابن قدامة 5 / 614، والإنصاف 7 / 136.(11/360)
وَإِنْ سَوَّى بَيْنَ الذَّكَرِ وَالأُْنْثَى، أَوْ فَضَّلَهَا عَلَيْهِ، أَوْ فَضَّل بَعْضَ الْبَنِينَ أَوْ بَعْضَ الْبَنَاتِ عَلَى بَعْضٍ، أَوْ خَصَّ بَعْضَهُمْ بِالْوَقْفِ دُونَ بَعْضٍ، فَقَال أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَكَمِ: إِنْ كَانَ عَلَى طَرِيقِ الأَْثَرَةِ فَأَكْرَهُهُ، وَإِنْ كَانَ عَلَى أَنَّ بَعْضَهُمْ لَهُ عِيَالٌ وَبِهِ حَاجَةٌ يَعْنِي فَلاَ بَأْسَ بِهِ.
وَعَلَى قِيَاسِ قَوْل الإِْمَامِ أَحْمَدَ: لَوْ خَصَّ الْمُشْتَغِلِينَ بِالْعِلْمِ مِنْ أَوْلاَدِهِ بِوَقْفِهِ تَحْرِيضًا لَهُمْ عَلَى طَلَبِ الْعِلْمِ، أَوْ ذَا الدِّينِ دُونَ الْفُسَّاقِ، أَوِ الْمَرِيضِ، أَوْ مَنْ لَهُ فَضْلٌ مِنْ أَجْل فَضِيلَتِهِ فَلاَ بَأْسَ. (1)
التَّسْوِيَةُ فِي الشُّفْعَةِ بَيْنَ الْمُسْتَحِقِّينَ
13 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي التَّسْوِيَةِ فِي الشُّفْعَةِ بَيْنَ الْمُسْتَحِقِّينَ لَهَا.
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِلَى أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ بِالشُّفْعَةِ عَلَى قَدْرِ حِصَصِهِمْ مِنَ الْمِلْكِ؛ لأَِنَّهُ حَقٌّ مُسْتَحَقٌّ بِالْمِلْكِ عَلَى قَدْرِهِ، فَلَوْ كَانَتْ أَرْضٌ بَيْنَ ثَلاَثَةٍ مِنَ الشُّرَكَاءِ مَثَلاً: لِوَاحِدٍ نِصْفُهَا، وَلآِخَرَ ثُلُثُهَا، وَلِثَالِثٍ سُدُسُهَا، فَبَاعَ الأَْوَّل - وَهُوَ صَاحِبُ النِّصْفِ - حِصَّتَهُ أَخَذَ الثَّانِي سَهْمَيْنِ، وَالثَّالِثُ سَهْمًا وَاحِدًا.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلٌ مَرْجُوحٌ عِنْدَ
__________
(1) المغني 5 / 619 ط الرياض.(11/360)
الشَّافِعِيَّةِ، وَبَعْضِ الْحَنَابِلَةِ، وَاخْتَارَهُ جَمْعٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ: إِلَى أَنَّ الشُّرَكَاءَ يَقْتَسِمُونَ الشِّقْصَ عَلَى قَدْرِ رُءُوسِهِمْ، وَعَلَى هَذَا يُقْسَمُ النِّصْفُ فِي الْمِثَال السَّابِقِ بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ؛ لأَِنَّ سَبَبَ الشُّفْعَةِ هُوَ أَصْل الشَّرِكَةِ، وَهُمْ مُسْتَوُونَ فِيهَا، فَيَجِبُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمْ فِي اقْتِسَامِ الْمَشْرُوعِ فِيهِ. (1)
التَّسْوِيَةُ بَيْنَ النَّاسِ فِي الْمَرَافِقِ الْعَامَّةِ:
14 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَرَافِقَ الْعَامَّةَ - مِنَ الشَّوَارِعِ وَالطُّرُقِ، وَأَفْنِيَةِ الأَْمْلاَكِ، وَالرِّحَابِ بَيْنَ الْعُمْرَانِ، وَحَرِيمِ الأَْمْصَارِ، وَمَنَازِل الأَْسْفَارِ، وَمَقَاعِدِ الأَْسْوَاقِ، وَالْجَوَامِعِ وَالْمَسَاجِدِ، وَالأَْنْهَارِ الَّتِي أَجْرَاهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَالْعُيُونِ الَّتِي أَنْبَعَ اللَّهُ مَاءَهَا، وَالْمَعَادِنَ الظَّاهِرَةَ وَهِيَ الَّتِي خَرَجَتْ بِدُونِ عَمَل النَّاسِ كَالْمِلْحِ وَالْمَاءِ وَالْكِبْرِيتِ وَالْكُحْل وَغَيْرِهَا وَالْكَلأَِ - اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ هَذِهِ الأَْشْيَاءَ مِنَ الْمَنَافِعِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ النَّاسِ، فَهُمْ فِيهَا سَوَاسِيَةٌ، فَيَجُوزُ الاِنْتِفَاعُ بِهَا لِلْمُرُورِ وَالاِسْتِرَاحَةِ وَالْجُلُوسِ وَالْمُعَامَلَةِ وَالْقِرَاءَةِ وَالدِّرَاسَةِ وَالشُّرْبِ وَالسِّقَايَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ الاِنْتِفَاعِ.
وَلَكِنْ لاَ يَجُوزُ اقْتِطَاعُهَا لأَِحَدٍ مِنَ النَّاسِ،
__________
(1) ابن عابدين 5 / 139، والقوانين الفقهية ص 292، وتحفة المحتاج 6 / 75، ومغني المحتاج 2 / 305 والإنصاف 6 / 275.(11/361)
وَلاَ احْتِجَازُهَا دُونَ الْمُسْلِمِينَ؛ لأَِنَّ فِيهِ ضَرَرًا بِالْمُسْلِمِينَ وَتَضْيِيقًا عَلَيْهِمْ.
وَيَكُونُ الْحَقُّ فِيهَا لِلسَّابِقِ حَتَّى يَرْتَحِل عَنْهَا، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مِنًى مُنَاخُ مَنْ سَبَقَ إِلَيْهَا. (1)
وَيُشْتَرَطُ عَدَمُ الإِْضْرَارِ، فَإِذَا تَضَرَّرَ بِهِ النَّاسُ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ بِأَيِّ حَالٍ، (2) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ. (3)
تَسْوِيَةُ الْقَبْرِ:
15 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى اسْتِحْبَابِ رَفْعِ الْقَبْرِ مِقْدَارَ شِبْرٍ مِنَ الأَْرْضِ، أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ بِقَلِيلٍ إِنْ لَمْ يُخْشَ نَبْشُهُ مِنْ كَافِرٍ أَوْ نَحْوِهِ، وَذَلِكَ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ قَبْرٌ فَيُزَارَ، وَيُتَرَحَّمَ عَلَى صَاحِبِهِ، وَيُحْتَرَمَ.
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا صَحَّ مِنْ أَنَّ قَبْرَ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُفِعَ نَحْوَ شِبْرٍ (4) فَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ
__________
(1) حديث: " منى مناخ من سبق إليها " أخرجه الترمذي (3 / 219 ط مصطفى الحلبي) . وقال حديث حسن صحيح، والحاكم (1 / 467 ط دار الكتاب العربي) وقال: صحيح على شرط مسلم.
(2) الأحكام السلطانية للماوردي ص 177 - 198، مغني المحتاج 2 / 361، المغني لابن قدامة 5 / 570.
(3) حديث: " لا ضرر ولا ضرار " أخرجه البيهقي (6 / 69 - 70 ط دار المعرفة) ، والحاكم (2 / 57 - 58، ط دار الكتاب العربي) وقال: هذا صحيح الإسناد على شرط مسلم.
(4) حديث: " رفع قبره عن الأرض قدر شبر. . . " أخرجه البيهقي (3 / 410 ط دار المعرفة) . موصولا ومرسلا ورجح إرساله. وعزاه الزيلعي في نصب الراية (2 / 303) إلى ابن حبان في صحيحه.(11/361)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُفِعَ قَبْرُهُ عَنِ الأَْرْضِ قَدْرَ شِبْرٍ. وَعَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَال: قُلْتُ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: يَا أُمَّهُ اكْشِفِي لِي عَنْ قَبْرِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَاحِبَيْهِ، فَكَشَفَتْ لِي عَنْ ثَلاَثَةِ قُبُورٍ، لاَ مُشْرِفَةً وَلاَ لاَطِئَةً (1) مَبْطُوحَةً بِبَطْحَاءِ الْعَرْصَةِ الْحَمْرَاءِ (2) . وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَال: أَخْبَرَنِي مَنْ رَأَى قَبْرَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَبْرَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهَا مُسَنَّمَةٌ (3) .
وَرُوِيَ أَيْضًا أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَمَّا مَاتَ بِالطَّائِفِ، صَلَّى عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعًا، وَجَعَل لَهُ لَحْدًا، وَأَدْخَلَهُ الْقَبْرَ مِنْ قِبَل الْقِبْلَةِ، وَجَعَل قَبْرَهُ مُسَنَّمًا، وَضَرَبَ عَلَيْهِ فُسْطَاطًا (4) .
__________
(1) اللاطئة: هي الملتصقة بالأرض.
(2) حديث: " يا أمه اكشفي لي عن قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . " أخرجه أبو داود (3 / 549 ط عبيد الدعاس) والحاكم (1 / 369 ط الكتاب العربي) وقال حديث صحيح الإسناد. ووافقه الذهبي.
(3) الأثر عن إبراهيم النخعي " أخبرني من رأى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . . " أخرجه محمد بن الحسن الشيباني في كتاب الآثار (ص 80) قال التهانوي في إعلاء السنن (8 / 271) : فيه مجهول.
(4) البدائع 1 / 320، وجواهر الإكليل 1 / 111، وتحفة المحتاج 3 / 173، والمغني لابن قدامة 2 / 504.(11/362)
وَلَكِنَّ الصَّحِيحَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ تَسْطِيحَ الْقَبْرِ وَتَسْوِيَتَهُ بِالأَْرْضِ أَوْلَى مِنْ تَسْنِيمِهِ، لِمَا صَحَّ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ مِنْ أَنَّ عَمَّتَهُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَشَفَتْ لَهُ عَنْ قَبْرِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَبْرِ صَاحِبَيْهِ فَإِذَا هِيَ مُسَطَّحَةٌ مَبْطُوحَةٌ بِبَطْحَاءِ الْعَرْصَةِ الْحَمْرَاءِ. (1)
16 - وَيُكْرَهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ مَا زَادَ عَنْ مِقْدَارِ الشِّبْرِ زِيَادَةً كَبِيرَةً، إِنْ لَمْ يَكُنْ لِحَاجَةٍ كَخَوْفِ نَبْشِ قَبْرِ الْمُؤْمِنِ مِنْ نَحْوِ كَافِرٍ؛ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لاَ تَدَعْ تِمْثَالاً إِلاَّ طَمَسْتَهُ، وَلاَ قَبْرًا مُشْرِفًا إِلاَّ سَوَّيْتَهُ. (2)
وَالْمُشْرِفُ مَا رُفِعَ كَثِيرًا بِدَلِيل قَوْل الْقَاسِمِ فِي صِفَةِ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَاحِبَيْهِ: لاَ مُشْرِفَةً وَلاَ لاَطِئَةً. (3)
__________
(1) تحفة المحتاج 3 / 173.
(2) حديث علي رضي الله عنه: " لا تدع تمثالا. . . " أخرجه مسلم (2 / 666 ط عيسى الحلبي) .
(3) المغني لابن قدامة 2 / 504، والفروع 2 / 271.(11/362)
تَشَبُّهٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّشَبُّهُ لُغَةً: مَصْدَرُ تَشَبَّهَ، يُقَال: تَشَبَّهَ فُلاَنٌ: بِفُلاَنٍ إِِذَا تَكَلَّفَ أَنْ يَكُونَ مِثْلَهُ وَالْمُشَابَهَةُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ: الاِشْتِرَاكُ بَيْنَهُمَا فِي مَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي، وَمِنْهُ: أَشْبَهَ الْوَلَدُ أَبَاهُ: إِِذَا شَارَكَهُ فِي صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِهَذَا اللَّفْظِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ. (2)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
2 - مِنْهَا:
الاِتِّبَاعُ
وَالتَّأَسِّي
وَالتَّقْلِيدُ
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلاَمُ فِيهَا تَحْتَ عِنْوَانٍ: (اتِّبَاعٌ) .
3 - وَمِنْهَا:
الْمُوَافَقَةُ،
وَهِيَ: مُشَارَكَةُ أَحَدِ الشَّخْصَيْنِ لِلآْخَرِ فِي صُورَةِ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ تَرْكٍ أَوِ اعْتِقَادٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ مِنْ أَجْل ذَلِكَ الآْخَرِ أَمْ لاَ لأَِجْلِهِ (3) .
فَالْمُوَافَقَةُ أَعَمُّ مِنَ التَّشَبُّهِ.
__________
(1) معجم متن اللغة، والمعجم الوسيط مادة: " شبه ".
(2) ابن عابدين 1 / 419 ط بولاق، وروضة الطالبين 2 / 263، والزرقاني 5 / 130، وكشاف القناع 2 / 239.
(3) الأحكام للآمدي 1 / 172.(12/5)
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالتَّشَبُّهِ:
أَوَّلاً - التَّشَبُّهُ بِالْكُفَّارِ فِي اللِّبَاسِ:
4 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ، وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَجُمْهُورُ الشَّافِعِيَّةِ إِِلَى: أَنَّ التَّشَبُّهَ بِالْكُفَّارِ فِي اللِّبَاسِ - الَّذِي هُوَ شِعَارٌ لَهُمْ بِهِ يَتَمَيَّزُونَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ - يُحْكَمُ بِكُفْرِ فَاعِلِهِ ظَاهِرًا، أَيْ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا، فَمَنْ وَضَعَ قَلَنْسُوَةَ الْمَجُوسِ عَلَى رَأْسِهِ يَكْفُرُ، إِلاَّ إِِذَا فَعَلَهُ لِضَرُورَةِ الإِِْكْرَاهِ أَوْ لِدَفْعِ الْحَرِّ أَوِ الْبَرْدِ. وَكَذَا إِِذَا لَبِسَ زُنَّارَ النَّصَارَى إِلاَّ إِِذَا فَعَل ذَلِكَ خَدِيعَةً فِي الْحَرْبِ وَطَلِيعَةً لِلْمُسْلِمِينَ. (1) أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ لِحَدِيثِ: مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ (2) لأَِنَّ اللِّبَاسَ الْخَاصَّ بِالْكُفَّارِ عَلاَمَةُ الْكُفْرِ، وَلاَ يَلْبَسُهُ إِلاَّ مَنِ الْتَزَمَ الْكُفْرَ، وَالاِسْتِدْلاَل بِالْعَلاَمَةِ وَالْحُكْمُ بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ مُقَرَّرٌ فِي الْعَقْل وَالشَّرْعِ. (3)
فَلَوْ عُلِمَ أَنَّهُ شَدَّ الزُّنَّارَ لاَ لاِعْتِقَادِ حَقِيقَةِ الْكُفْرِ، بَل لِدُخُول دَارِ الْحَرْبِ لِتَخْلِيصِ الأَْسَارَى مَثَلاً لَمْ يُحْكَمْ بِكُفْرِهِ. (4)
__________
(1) الفتاوى الهندية 2 / 276، والاختيار 4 / 150، وجواهر الإكليل 2 / 278، والتاج والإكليل بهامش الحطاب 6 /، وتحفة المحتاج 9 / 91، 92 ط دار صادر، وأسنى المطالب وحاشية الرملي عليه 4 / 11.
(2) حديث: " من تشبه بقوم فهو منهم. . . ". أخرجه أبو داود (4 / 314 - ط عزت عبيد دعاس) وجوده ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم (1 / 236 - ط العبيكان) .
(3) البزازية بهامش الهندية 6 / 332.
(4) تحفة المحتاج لابن حجر 9 / 91، 92.(12/5)
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ فِي قَوْلٍ - وَهُوَ مَا يُؤْخَذُ مِمَّا ذَكَرَهُ ابْنُ الشَّاطِّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ - أَنَّ مَنْ يَتَشَبَّهُ بِالْكَافِرِ فِي الْمَلْبُوسِ الْخَاصِّ بِهِ لاَ يُعْتَبَرُ كَافِرًا، إِلاَّ أَنْ يَعْتَقِدَ مُعْتَقَدَهُمْ؛ لأَِنَّهُ مُوَحِّدٌ بِلِسَانِهِ مُصَدِّقٌ بِجَنَانِهِ.
وَقَدْ قَال الإِِْمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: لاَ يَخْرُجُ أَحَدٌ مِنَ الإِِْيمَانِ إِلاَّ مِنَ الْبَابِ الَّذِي دَخَل فِيهِ، وَالدُّخُول بِالإِِْقْرَارِ وَالتَّصْدِيقِ، وَهُمَا قَائِمَانِ. (1)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِِلَى حُرْمَةِ التَّشَبُّهِ بِالْكُفَّارِ فِي اللِّبَاسِ الَّذِي هُوَ شِعَارٌ لَهُمْ. قَال الْبُهُوتِيُّ: إِنْ تَزَيَّا مُسْلِمٌ بِمَا صَارَ شِعَارًا لأَِهْل ذِمَّةٍ، أَوْ عَلَّقَ صَلِيبًا بِصَدْرِهِ حَرُمَ، وَلَمْ يَكْفُرْ بِذَلِكَ كَسَائِرِ الْمَعَاصِي. (2)
وَيَرَى النَّوَوِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ مَنْ لَبِسَ الزُّنَّارَ وَنَحْوَهُ لاَ يَكْفُرُ إِِذَا لَمْ تَكُنْ نِيَّةٌ. (3)
أَحْوَال تَحْرِيمِ التَّشَبُّهِ:
وَبِتَتَبُّعِ عِبَارَاتِ الْفُقَهَاءِ يَتَبَيَّنُ أَنَّهُمْ يُقَيِّدُونَ كُفْرَ مَنْ يَتَشَبَّهُ بِالْكُفَّارِ فِي اللِّبَاسِ الْخَاصِّ بِهِمْ بِقُيُودٍ مِنْهَا:
5 - أَنْ يَفْعَلَهُ فِي بِلاَدِ الإِِْسْلاَمِ (4) ، قَال أَحْمَدُ الرَّمْلِيُّ: كَوْنُ التَّزَيِّي بِزِيِّ الْكُفَّارِ رِدَّةً مَحَلُّهُ إِِذَا كَانَ
__________
(1) الفتاوى البزازية بهامش الهندية 6 / 332، ودار الشروق مع الفروق 4 / 116.
(2) كشاف القناع 3 / 128.
(3) روضة الطالبين 10 / 69.
(4) الزرقاني 8 / 63.(12/6)
فِي دَارِ الإِِْسْلاَمِ. أَمَّا فِي دَارِ الْحَرْبِ فَلاَ يُمْكِنُ الْقَوْل بِكَوْنِهِ رِدَّةً؛ لاِحْتِمَال أَنَّهُ لَمْ يَجِدْ غَيْرَهُ كَمَا هُوَ الْغَالِبُ، أَوْ أَنْ يُكْرَهَ عَلَى ذَلِكَ. (1)
قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: لَوْ أَنَّ الْمُسْلِمَ بِدَارِ حَرْبٍ أَوْ دَارِ كُفْرٍ غَيْرِ حَرْبٍ لَمْ يَكُنْ مَأْمُورًا بِالْمُخَالَفَةِ لَهُمْ (لِلْكُفَّارِ) فِي الْهَدْيِ الظَّاهِرِ؛ لِمَا عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ مِنَ الضَّرَرِ بَل قَدْ يُسْتَحَبُّ لِلرَّجُل أَوْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُشَارِكَهُمْ أَحْيَانًا فِي هَدْيِهِمُ الظَّاهِرِ، إِِذَا كَانَ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ دِينِيَّةٌ، مِنْ دَعْوَتِهِمْ إِِلَى الدِّينِ وَالاِطِّلاَعِ عَلَى بَاطِنِ أُمُورِهِمْ لإِِِخْبَارِ الْمُسْلِمِينَ بِذَلِكَ، أَوْ دَفْعِ ضَرَرِهِمْ عَنِ الْمُسْلِمِينَ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْمَقَاصِدِ الْحَسَنَةِ. فَأَمَّا فِي دَارِ الإِِْسْلاَمِ وَالْهِجْرَةِ الَّتِي أَعَزَّ اللَّهُ فِيهَا دِينَهُ، وَجَعَل عَلَى الْكَافِرِينَ فِيهَا الصَّغَارَ وَالْجِزْيَةَ فَفِيهَا شُرِعَتِ الْمُخَالَفَةُ. (2)
6 - أَنْ يَكُونَ التَّشَبُّهُ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ، فَمَنْ فَعَل ذَلِكَ لِلضَّرُورَةِ لاَ يَكْفُرُ، فَمَنْ شَدَّ عَلَى وَسَطِهِ زُنَّارًا وَدَخَل دَارَ الْحَرْبِ لِتَخْلِيصِ الأَْسْرَى، أَوْ فَعَل ذَلِكَ خَدِيعَةً فِي الْحَرْبِ وَطَلِيعَةً لِلْمُسْلِمِينَ لاَ يَكْفُرُ. (3) وَكَذَلِكَ إِنْ وَضَعَ قَلَنْسُوَةَ الْمَجُوسِ
__________
(1) أسنى المطالب 4 / 11، وانظر أصول الدين لأبي منصور عبد القاهر التميمي البغدادي ص 266 ط استانبول.
(2) اقتضاء الصراط المستقيم بتحقيق د. ناصر العقل 1 / 418.
(3) الفتاوى الهندية 2 / 276، والفتاوى البزازية بهامش الهندية 6 / 332، وأسنى المطالب 4 / 119.(12/6)
عَلَى رَأْسِهِ لِضَرُورَةِ دَفْعِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ لاَ يَكْفُرُ. (1)
7 - أَنْ يَكُونَ التَّشَبُّهُ فِيمَا يَخْتَصُّ بِالْكَافِرِ، كَبُرْنِيطَةِ النَّصْرَانِيِّ وَطُرْطُورِ الْيَهُودِيِّ. وَيَشْتَرِطُ الْمَالِكِيَّةُ لِتَحَقُّقِ الرِّدَّةِ بِجَانِبِ ذَلِكَ: أَنْ يَكُونَ الْمُتَشَبِّهُ قَدْ سَعَى بِذَلِكَ لِلْكَنِيسَةِ وَنَحْوِهَا. (2)
8 - أَنْ يَكُونَ التَّشَبُّهُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَكُونُ اللِّبَاسُ الْمُعَيَّنُ شِعَارًا لِلْكُفَّارِ، وَقَدْ أَوْرَدَ ابْنُ حَجَرٍ حَدِيثَ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ رَأَى قَوْمًا عَلَيْهِمُ الطَّيَالِسَةُ، فَقَال: كَأَنَّهُمْ يَهُودُ خَيْبَرَ (3) ثُمَّ قَال ابْنُ حَجَرٍ: وَإِِنَّمَا يَصْلُحُ الاِسْتِدْلاَل بِقِصَّةِ الْيَهُودِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي تَكُونُ الطَّيَالِسَةُ مِنْ شِعَارِهِمْ، وَقَدِ ارْتَفَعَ ذَلِكَ فِيمَا بَعْدُ، فَصَارَ دَاخِلاً فِي عُمُومِ الْمُبَاحِ. (4)
9 - أَنْ يَكُونَ التَّشَبُّهُ مَيْلاً لِلْكُفْرِ، فَمَنْ تَشَبَّهَ عَلَى وَجْهِ اللَّعِبِ وَالسُّخْرِيَةِ لَمْ يَرْتَدَّ، بَل يَكُونُ فَاسِقًا يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ، وَهَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ. (5)
10 - هَذَا، وَالتَّشَبُّهُ فِي غَيْرِ الْمَذْمُومِ وَفِيمَا لَمْ يُقْصَدْ بِهِ التَّشَبُّهُ لاَ بَأْسَ بِهِ.
__________
(1) الفتاوى الهندية 2 / 276.
(2) الزرقاني 8 / 63، والشرح الصغير 4 / 433، وجواهر الإكليل 2 / 288.
(3) الأثر عن أنس أنه رأى قوما عليهم الطيالسة. أورده ابن القيم في كتابيه زاد المعاد (1 / 142) وأحكام أهل الذمة (2 / 754) .
(4) فتح الباري 10 / 275 ط السلفية.
(5) الشرح الصغير 4 / 433، والزرقاني 8 / 63.(12/7)
قَال صَاحِبُ الدُّرِّ الْمُخْتَارِ: إِنَّ التَّشَبُّهَ (بِأَهْل الْكِتَابِ) لاَ يُكْرَهُ فِي كُل شَيْءٍ، بَل فِي الْمَذْمُومِ وَفِيمَا يُقْصَدُ بِهِ التَّشَبُّهُ.
قَال هِشَامٌ: رَأَيْتُ أَبَا يُوسُفَ لاَبِسًا نَعْلَيْنِ مَخْصُوفَيْنِ بِمَسَامِيرَ فَقُلْتُ أَتَرَى بِهَذَا الْحَدِيدِ بَأْسًا؟ قَال: لاَ، قُلْتُ: سُفْيَانُ وَثَوْرُ بْنُ يَزِيدَ كَرِهَا ذَلِكَ لأَِنَّ فِيهِ تَشَبُّهًا بِالرُّهْبَانِ، فَقَال: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلْبَسُ النِّعَال الَّتِي لَهَا شَعْرٌ وَإِِنَّهَا مِنْ لِبَاسِ الرُّهْبَانِ. فَقَدْ أَشَارَ إِِلَى أَنَّ صُورَةَ الْمُشَابَهَةِ فِيمَا تَعَلَّقَ بِهِ صَلاَحُ الْعِبَادِ لاَ يَضُرُّ، فَإِِنَّ الأَْرْضَ مِمَّا لاَ يُمْكِنُ قَطْعُ الْمَسَافَةِ الْبَعِيدَةِ فِيهَا إِلاَّ بِهَذَا النَّوْعِ. (1)
وَلِلتَّفْصِيل ر: (رِدَّةٌ، كُفْرٌ) .
ثَانِيًا - التَّشَبُّهُ بِالْكُفَّارِ فِي أَعْيَادِهِمْ:
11 - لاَ يَجُوزُ التَّشَبُّهُ بِالْكُفَّارِ فِي أَعْيَادِهِمْ، لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ، وَمَعْنَى ذَلِكَ تَنْفِيرُ الْمُسْلِمِينَ عَنْ مُوَافَقَةِ الْكُفَّارِ فِي كُل مَا اخْتَصُّوا بِهِ. (2) قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُل إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 419، والفتاوى الهندية 5 / 333.
(2) أحكام أهل الذمة 2 / 722، نشر دار العلم للملايين، والمدخل لابن الحاج 2 / 46 - 48، والآداب الشرعية لابن مفلح 3 / 441، وكشاف القناع 3 / 131.(12/7)
مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} (1) وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: لاَ تَعَلَّمُوا رَطَانَةَ الأَْعَاجِمِ، وَلاَ تَدْخُلُوا عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي كَنَائِسِهِمْ يَوْمَ عِيدِهِمْ، فَإِِنَّ السُّخْطَةَ تَنْزِل عَلَيْهِمْ.
وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَال: مَنْ مَرَّ بِبِلاَدِ الأَْعَاجِمِ فَصَنَعَ نَيْرُوزَهُمْ وَمِهْرَجَانَهُمْ وَتَشَبَّهَ بِهِمْ حَتَّى يَمُوتَ وَهُوَ كَذَلِكَ، حُشِرَ مَعَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (2) .
وَلأَِنَّ الأَْعْيَادَ مِنْ جُمْلَةِ الشَّرْعِ وَالْمَنَاهِجِ وَالْمَنَاسِكِ الَّتِي قَال اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {لِكُل أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ} (3) كَالْقِبْلَةِ وَالصَّلاَةِ، وَالصِّيَامِ فَلاَ فَرْقَ بَيْنَ مُشَارَكَتِهِمْ فِي الْعِيدِ وَبَيْنَ مُشَارَكَتِهِمْ فِي سَائِرِ الْمَبَاهِجِ، فَإِِنَّ الْمُوَافَقَةَ فِي جَمِيعِ الْعِيدِ مُوَافَقَةٌ فِي الْكُفْرِ، وَالْمُوَافَقَةُ فِي بَعْضِ فُرُوعِهِ مُوَافَقَةٌ فِي بَعْضِ شُعَبِ الْكُفْرِ، بَل الأَْعْيَادُ مِنْ أَخَصِّ مَا تَتَمَيَّزُ بِهِ الشَّرَائِعُ وَمِنْ أَظْهَرِ مَا لَهَا مِنَ الشَّعَائِرِ، فَالْمُوَافَقَةُ فِيهَا مُوَافَقَةٌ فِي أَخَصِّ شَرَائِعِ الْكُفْرِ وَأَظْهَرِ شَعَائِرِهِ. (4)
قَال قَاضِي خَانْ: رَجُلٌ اشْتَرَى يَوْمَ النَّيْرُوزِ شَيْئًا لَمْ يَشْتَرِهِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ: إنْ أَرَادَ بِهِ
__________
(1) سورة البقرة / 120.
(2) أحكام أهل الذمة 2 / 723.
(3) سورة الحج / 67.
(4) اقتضاء الصراط المستقيم 1 / 471.(12/8)
تَعْظِيمَ ذَلِكَ الْيَوْمِ كَمَا يُعَظِّمُهُ الْكَفَرَةُ يَكُونُ كُفْرًا، وَإِِنْ فَعَل ذَلِكَ لأَِجْل السَّرَفِ وَالتَّنَعُّمِ لاَ لِتَعْظِيمِ الْيَوْمِ لاَ يَكُونُ كُفْرًا. وَإِِنْ أَهْدَى يَوْمَ النَّيْرُوزِ إِِلَى إِنْسَانٍ شَيْئًا وَلَمْ يُرِدْ بِهِ تَعْظِيمَ الْيَوْمِ، إِنَّمَا فَعَل ذَلِكَ عَلَى عَادَةِ النَّاسِ لاَ يَكُونُ كُفْرًا.
وَيَنْبَغِي أَنْ لاَ يَفْعَل فِي هَذَا الْيَوْمِ مَا لاَ يَفْعَلُهُ قَبْل ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلاَ بَعْدَهُ، وَأَنْ يَحْتَرِزَ عَنِ التَّشَبُّهِ بِالْكَفَرَةِ. (1)
وَكَرِهَ ابْنُ الْقَاسِمِ (مِنَ الْمَالِكِيَّةِ) لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُهْدِيَ إِِلَى النَّصْرَانِيِّ فِي عِيدِهِ مُكَافَأَةً، وَرَآهُ مِنْ تَعْظِيمِ عِيدِهِ وَعَوْنًا لَهُ عَلَى كُفْرِهِ. (2) وَكَمَا لاَ يَجُوزُ التَّشَبُّهُ بِالْكُفَّارِ فِي الأَْعْيَادِ لاَ يُعَانُ الْمُسْلِمُ الْمُتَشَبِّهُ بِهِمْ فِي ذَلِكَ بَل يُنْهَى عَنْ ذَلِكَ، فَمَنْ صَنَعَ دَعْوَةً مُخَالِفَةً لِلْعَادَةِ فِي أَعْيَادِهِمْ لَمْ تُجَبْ دَعْوَتُهُ، وَمَنْ أَهْدَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ هَدِيَّةً فِي هَذِهِ الأَْعْيَادِ، مُخَالِفَةً لِلْعَادَةِ فِي سَائِرِ الأَْوْقَاتِ غَيْرِ هَذَا الْعِيدِ لَمْ تُقْبَل هَدِيَّتُهُ، خُصُوصًا إِنْ كَانَتِ الْهَدِيَّةُ مِمَّا يُسْتَعَانُ بِهَا عَلَى التَّشَبُّهِ بِهِمْ، مِثْل إِهْدَاءِ الشَّمْعِ وَنَحْوِهِ فِي عِيدِ الْمِيلاَدِ (3) .
__________
(1) الفتاوى الخانية بهامش الهندية 3 / 577، وانظر الفتاوى الهندية 2 / 276 - 277، والفتاوى البزازية بهامش الهندية 6 / 333، 334، وحاشية ابن عابدين 5 / 481، والفتاوى الأنقروية 1 / 164، وبذل المجهود في حل أبي داود 6 / 160 نشر دار الكتب العلمية.
(2) المدخل لابن الحاج 2 / 47، وأحكام أهل الذمة 2 / 725.
(3) اقتضاء الصراط المستقيم 2 / 517.(12/8)
هَذَا وَتَجِبُ عُقُوبَةُ مَنْ يَتَشَبَّهُ بِالْكُفَّارِ فِي أَعْيَادِهِمْ (1) .
وَأَمَّا مَا يَبِيعُهُ الْكُفَّارُ فِي الأَْسْوَاقِ فِي أَعْيَادِهِمْ فَلاَ بَأْسَ بِحُضُورِهِ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا. وَقَال: إِنَّمَا يُمْنَعُونَ أَنْ يَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ بِيَعَهُمْ وَكَنَائِسَهُمْ، فَأَمَّا مَا يُبَاعُ فِي الأَْسْوَاقِ مِنَ الْمَأْكَل فَلاَ، وَإِِنْ قَصَدَ إِِلَى تَوْفِيرِ ذَلِكَ وَتَحْسِينِهِ لأَِجْلِهِمْ. (2)
وَلِلتَّفْصِيل (ر: عِيدٌ)
ثَالِثًا - التَّشَبُّهُ بِالْكُفَّارِ فِي الْعِبَادَاتِ:
يُكْرَهُ التَّشَبُّهُ بِالْكُفَّارِ فِي الْعِبَادَاتِ فِي الْجُمْلَةِ، وَمِنْ أَمْثِلَةِ التَّشَبُّهِ بِهِمْ فِي هَذَا الْمَجَال:
أ - الصَّلاَةُ فِي أَوْقَاتِ الْكَرَاهَةِ:
12 - نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الصَّلاَةِ فِي أَوْقَاتِ الْكَرَاهَةِ مِنْهَا لِلتَّشَبُّهِ بِعِبَادَةِ الْكُفَّارِ. (3)
فَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ عَنْبَسَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: صَل صَلاَةَ الصُّبْحِ، ثُمَّ أَقْصِرْ عَنِ الصَّلاَةِ حَتَّى تَطْلُعَ
__________
(1) كشاف القناع 3 / 131، وقليوبي وعميرة 4 / 205.
(2) الآداب الشرعية لابن مفلح 3 / 441، واقتضاء الصراط المستقيم 2 / 518.
(3) اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية 1 / 190، وفتح القدير 1 / 202 ط دار إحياء التراث العربي، والكافي لابن عبد البر 1 / 195، والبجيرمي على الخطيب 2 / 101 نشر دار المعرفة، والمغني 2 / 107 ط الرياض.(12/9)
الشَّمْسُ حَتَّى تَرْتَفِعَ، فَإِِنَّهَا تَطْلُعُ حِينَ تَطْلُعُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ، وَحِينَئِذٍ يَسْجُدُ لَهَا الْكُفَّارُ. ثُمَّ صَل فَإِِنَّ الصَّلاَةَ مَشْهُودَةٌ مَحْضُورَةٌ حَتَّى يَسْتَقِل الظِّل بِالرُّمْحِ. ثُمَّ أَقْصِرْ عَنِ الصَّلاَةِ فَإِِنَّ حِينَئِذٍ تُسْجَرُ جَهَنَّمُ، فَإِِذَا أَقْبَل الْفَيْءُ فَصَل فَإِِنَّ الصَّلاَةَ مَشْهُودَةٌ مَحْضُورَةٌ حَتَّى تُصَلِّيَ الْعَصْرَ. ثُمَّ أَقْصِرْ عَنِ الصَّلاَةِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَإِِنَّهَا تَغْرُبُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ وَحِينَئِذٍ يَسْجُدُ لَهَا الْكُفَّارُ. (1)
وَلِلتَّفْصِيل فِي الأَْحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِأَوْقَاتِ الْكَرَاهَةِ (ر: الْمَوْسُوعَةَ الْفِقْهِيَّةَ 7 180 أَوْقَاتُ الصَّلاَةِ ف 23)
ب - الاِخْتِصَارُ فِي الصَّلاَةِ:
13 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي كَرَاهَةِ الاِخْتِصَارِ (2) فِي الصَّلاَةِ لأَِنَّ الْيَهُودَ تُكْثِرُ مِنْ فِعْلِهِ، فَنُهِيَ عَنْهُ كَرَاهَةً لِلتَّشَبُّهِ بِهِمْ، فَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَاللَّفْظُ لَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُصَلِّيَ
__________
(1) حديث: " صل صلاة الصبح. . . " أخرجه مسلم (1 / 570 - ط الحلبي) .
(2) اختلف العلماء في معنى الاختصار فالصحيح الذي عليه المحققون والأكثرون من أهل اللغة والغريب والمحدثين أن المختصر هو الذي يصلي ويده على خاصرته (صحيح مسلم بشرح النووي 5 / 36 ط المطبعة المصرية بالأزهر) .(12/9)
الرَّجُل مُخْتَصِرًا (1) وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا فِي ذِكْرِ بَنِي إِسْرَائِيل مِنْ رِوَايَةِ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا كَانَتْ تَكْرَهُ أَنْ يَضَعَ يَدَهُ عَلَى خَاصِرَتِهِ، تَقُول: إِنَّ الْيَهُودَ تَفْعَلُهُ زَادَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي رِوَايَةٍ لَهُ: " فِي الصَّلاَةِ (2) وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لاَ تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ (3) وَلِلتَّفْصِيل (ر: صَلاَةٌ) .
ج - وِصَال الصَّوْمِ:
14 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَجُمْهُورُ الْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، وَالْحَنَابِلَةُ إِِلَى كَرَاهَةِ وِصَال الصَّوْمِ، (4) لِمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لاَ تُوَاصِلُوا، (5) قَالُوا: إِنَّكَ تُوَاصِل، قَال لَسْتُ كَأَحَدٍ مِنْكُمْ، إِنِّي أُطْعَمُ وَأُسْقَى أَوْ إِنِّي
__________
(1) حديث: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي الرجل مختصرا " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 88 - ط السلفية) ومسلم (1 / 387 - ط الحلبي) .
(2) أخرجه البخاري أيضا في ذكر بني إسرائيل من رواية أبي الضحى. (الفتح 6 / 495 - ط السلفية) .
(3) عمدة القاري 7 / 297 ط المنيرية، وصحيح مسلم بشرح النووي 5 / 36، والمغني 2 / 9 ط الرياض، والشرح الصغير 1 / 340.
(4) فسر أبو يوسف ومحمد الوصال بصوم يومين لا فطر بينهما. (حاشية ابن عابدين 2 / 84، وانظر المغني 3 / 171 ط الرياض) .
(5) حديث: " لا تواصلوا، لست كأحد منكم " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 202 - ط السلفية) .(12/10)
أَبَيْتُ أُطْعَمُ وَأُسْقَى. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لاَ تُوَاصِلُوا " نَهْيٌ وَأَدْنَاهُ يَقْتَضِي الْكَرَاهَةَ.
وَعِلَّةُ النَّهْيِ التَّشَبُّهُ بِالنَّصَارَى كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي حَدِيثِ بَشِيرِ بْنِ الْخَصَاصِيَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِمَا بِإِِسْنَادٍ صَحِيحٍ إِِلَى لَيْلَى امْرَأَةِ بَشِيرِ بْنِ الْخَصَاصِيَةِ قَالَتْ: أَرَدْت أَنْ أَصُومَ يَوْمَيْنِ مُوَاصَلَةً، فَمَنَعَنِي بَشِيرٌ وَقَال: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ هَذَا، (1) وَقَال: يَفْعَل ذَلِكَ النَّصَارَى، وَلَكِنْ صُومُوا كَمَا أَمَرَكُمُ اللَّهُ، أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِِلَى اللَّيْل، فَإِِذَا كَانَ اللَّيْل فَأَفْطِرُوا وَذَهَبَ أَحْمَدُ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِِلَى جَوَازِ الْوِصَال إِِلَى السَّحَرِ، وَبِهَذَا قَال إِسْحَاقُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ خُزَيْمَةَ.
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ فِي الْوَجْهِ الآْخَرِ، وَهُوَ مَا صَحَّحَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: تَحْرِيمُ وِصَال الصَّوْمِ. (2)
وَلِلتَّفْصِيل (ر: صَوْمٌ) .
__________
(1) حديث ليلى امرأة بشير بن الخصاصية. أخرجه أحمد (5 / 224 - 225 - ط الميمنية) وصححه ابن حجر في الفتح (4 / 202 ط السلفية) .
(2) فتح الباري 4 / 202 - 204 ط السلفية، وعمدة القاري 11 / 71، 72، وحاشية ابن عابدين 2 / 84، وجواهر الإكليل 1 / 274، والمغني 3 / 171 ط الرياض.(12/10)
د - إِفْرَادُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ بِالصَّوْمِ:
15 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ - وَهُوَ مُقْتَضَى كَلاَمِ أَحْمَدَ كَمَا يَقُول ابْنُ تَيْمِيَّةَ - إِِلَى كَرَاهَةِ إِفْرَادِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ بِالصَّوْمِ لِلتَّشَبُّهِ بِالْيَهُودِ (1) .
فَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَال: حِينَ صَامَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ قَالُوا: يَا رَسُول اللَّهِ، إِنَّهُ يَوْمٌ تُعَظِّمُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَإِِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِل إِنْ شَاءَ اللَّهُ صُمْنَا الْيَوْمَ التَّاسِعَ (2) قَال: فَلَمْ يَأْتِ الْعَامُ الْمُقْبِل حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَال النَّوَوِيُّ، نَقْلاً عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ فِي تَعْلِيقِهِ عَلَى الْحَدِيثِ: لَعَل السَّبَبَ فِي صَوْمِ التَّاسِعِ مَعَ الْعَاشِرِ أَنْ لاَ يَتَشَبَّهَ بِالْيَهُودِ فِي إِفْرَادِ الْعَاشِرِ، وَفِي الْحَدِيثِ إِشَارَةٌ إِِلَى هَذَا. (3)
هَذَا، وَاسْتَحَبَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ صَوْمَ عَاشُورَاءَ - وَهُوَ الْعَاشِرُ مِنَ الْمُحَرَّمِ - وَتَاسُوعَاءَ - وَهُوَ التَّاسِعُ مِنْهُ (4) -
__________
(1) فتح القدير 2 / 78 ط الأميرية وعمدة القاري 11 / 119، وكشاف القناع 2 / 339.
(2) حديث: " فإذا كان العام المقبل - إن شاء الله - صمنا اليوم التاسع " أخرجه مسلم (2 / 798 - ط الحلبي) .
(3) صحيح مسلم بشرح النووي 8 / 12، 13.
(4) شرح المحلي على المنهاج 2 / 73، والمغني 3 / 174.(12/11)
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَصُومَ قَبْل عَاشُورَاءَ يَوْمًا وَبَعْدَهُ يَوْمًا. (1)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: نَدْبُ صَوْمِ عَاشُورَاءَ وَتَاسُوعَاءَ وَالثَّمَانِيَةِ قَبْلَهُ (2) . وَتَفْصِيل ر: (صَوْمٌ، وَعَاشُورَاءُ) .
رَابِعًا: التَّشَبُّهُ بِالْفَسَقَةِ:
16 - قَال الْقُرْطُبِيُّ: لَوْ خُصَّ أَهْل الْفُسُوقِ وَالْمُجُونِ بِلِبَاسٍ مُنِعَ لُبْسُهُ لِغَيْرِهِمْ، فَقَدْ يَظُنُّ بِهِ مَنْ لاَ يَعْرِفُهُ أَنَّهُ مِنْهُمْ، فَيُظَنُّ بِهِ ظَنُّ السَّوْءِ فَيَأْثَمُ الظَّانُّ وَالْمَظْنُونُ فِيهِ بِسَبَبِ الْعَوْنِ عَلَيْهِ.
وَلِلتَّفْصِيل ر: (شَهَادَةٌ، فِسْقٌ) .
خَامِسًا - تَشَبُّهُ الرِّجَال بِالنِّسَاءِ وَعَكْسُهُ:
17 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِِلَى تَحْرِيمِ تَشَبُّهِ النِّسَاءِ بِالرِّجَال وَالرِّجَال بِالنِّسَاءِ. (3)
فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
__________
(1) فتح القدير 2 / 78 ط الأميرية.
(2) الشرح الصغير 1 / 691، 692.
(3) نيل الأوطار 2 / 117 ط دار الجيل، وعمدة القاري 22 / 41 ط المنيرية، وعون المعبود 11 / 156 ط دار الفكر، ونهاية المحتاج 2 / 362، وروضة الطالبين 2 / 263، والزواجز 1 / 144 ط مصطفى الحلبي، والكبائر ص 134 ط المكتبة الأميرية، وكشاف القناع 1 / 283، 2 / 239، وإعلام الموقعين 4 / 402 نشر مكتبة الكليات الأزهرية.(12/11)
أَنَّهُ قَال: لَعَنَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُتَشَبِّهِينَ مِنَ الرِّجَال بِالنِّسَاءِ، وَالْمُتَشَبِّهَاتِ مِنَ النِّسَاءِ بِالرِّجَال (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِِلَى كَرَاهَةِ تَشَبُّهِ الرِّجَال بِالنِّسَاءِ وَعَكْسِهِ. (2)
وَالتَّشَبُّهُ يَكُونُ فِي اللِّبَاسِ وَالْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ وَالتَّصَنُّعِ بِالأَْعْضَاءِ وَالأَْصْوَاتِ. (3)
وَمِثَال ذَلِكَ: تَشَبُّهُ الرِّجَال بِالنِّسَاءِ فِي اللِّبَاسِ وَالزِّينَةِ الَّتِي تَخْتَصُّ بِالنِّسَاءِ، مِثْل لُبْسِ الْمَقَانِعِ وَالْقَلاَئِدِ وَالْمَخَانِقِ وَالأَْسْوِرَةِ وَالْخَلاَخِل وَالْقُرْطِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ لِلرِّجَال لُبْسُهُ. وَكَذَلِكَ التَّشَبُّهُ بِهِنَّ فِي الأَْفْعَال الَّتِي هِيَ مَخْصُوصَةٌ بِهَا كَالاِنْخِنَاثِ فِي الأَْجْسَامِ وَالتَّأَنُّثِ فِي الْكَلاَمِ وَالْمَشْيِ. (4)
كَذَلِكَ تَشَبُّهُ النِّسَاءِ بِالرِّجَال فِي زِيِّهِمْ أَوْ مَشْيِهِمْ أَوْ رَفْعِ صَوْتِهِمْ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. (5)
وَهَيْئَةُ اللِّبَاسِ قَدْ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ عَادَةِ كُل بَلَدٍ، فَقَدْ لاَ يَفْتَرِقُ زِيُّ نِسَائِهِمْ عَنْ زِيِّ رِجَالِهِمْ
__________
(1) حديث: " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء ". أخرجه البخاري (الفتح 10 / 332 - ط السلفية)
(2) الزواجر 1 / 144، وكشاف القناع 2 / 239، والآداب الشرعية 3 / 540.
(3) فيض القدير 5 / 269.
(4) عمدة القاري 22 / 41.
(5) فيض القدير 5 / 269.(12/12)
لَكِنْ تَمْتَازُ النِّسَاءُ بِالاِحْتِجَابِ وَالاِسْتِتَارِ. (1)
قَال الإِِْسْنَوِيُّ: إِنَّ الْعِبْرَةَ فِي لِبَاسِ وَزِيِّ كُلٍّ مِنَ النَّوْعَيْنِ - حَتَّى يَحْرُمَ التَّشَبُّهُ بِهِ فِيهِ - بِعُرْفِ كُل نَاحِيَةٍ. (2)
وَأَمَّا ذَمُّ التَّشَبُّهِ بِالْكَلاَمِ وَالْمَشْيِ فَمُخْتَصٌّ بِمَنْ تَعَمَّدَ ذَلِكَ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَصْل خِلْقَتِهِ فَإِِنَّمَا يُؤْمَرُ بِتَكَلُّفِ تَرْكِهِ وَالإِِْدْمَانِ عَلَى ذَلِكَ بِالتَّدْرِيجِ، فَإِِنْ لَمْ يَفْعَل وَتَمَادَى دَخَلَهُ الذَّمُّ، وَلاَ سِيَّمَا إِنْ بَدَا مِنْهُ مَا يَدُل عَلَى الرِّضَا بِهِ. (3)
هَذَا وَيَجِبُ إِنْكَارُ التَّشَبُّهِ بِالْيَدِ، فَإِِنْ عَجَزَ فَبِاللِّسَانِ مَعَ أَمْنِ الْعَاقِبَةِ، فَإِِنْ عَجَزَ فَبِقَلْبِهِ كَسَائِرِ الْمُنْكَرَاتِ. (4)
وَيَتَرَتَّبُ عَلَى هَذَا أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ أَنْ يَمْنَعَ زَوْجَتَهُ مِمَّا تَقَعُ فِيهِ مِنَ التَّشَبُّهِ بِالرِّجَال فِي لِبْسَةٍ أَوْ مِشْيَةٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، امْتِثَالاً لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} (5) أَيْ بِتَعْلِيمِهِمْ وَتَأْدِيبِهِمْ وَأَمْرِهِمْ بِطَاعَةِ رَبِّهِمْ وَنَهْيِهِمْ عَنْ مَعْصِيَتِهِ. (6)
__________
(1) عمدة القاري 22 / 41.
(2) نهاية المحتاج 2 / 362.
(3) فتح الباري 10 / 332، وفيض القدير 5 / 271.
(4) كشاف القناع 2 / 239.
(5) سورة التحريم / 6.
(6) الزواجر 1 / 145 ط مصطفى الحلبي، والكبائر ص 134.(12/12)
سَادِسًا: تَشَبُّهُ أَهْل الذِّمَّةِ بِالْمُسْلِمِينَ:
18 - يُؤْخَذُ أَهْل الذِّمَّةِ بِإِِظْهَارِ عَلاَمَاتٍ يُعْرَفُونَ بِهَا، وَلاَ يُتْرَكُونَ يَتَشَبَّهُونَ بِالْمُسْلِمِينَ فِي لِبَاسِهِمْ وَمَرَاكِبِهِمْ وَهَيْئَاتِهِمْ. وَالأَْصْل فِيهِ مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرَّ عَلَى رِجَالٍ رُكُوبٍ ذَوِي هَيْئَةٍ، فَظَنَّهُمْ مُسْلِمِينَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ، فَقَال لَهُ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: أَصْلَحَكَ اللَّهُ تَدْرِي مَنْ هَؤُلاَءِ؟ فَقَال: مَنْ هُمْ؟ فَقَال: نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ. فَلَمَّا أَتَى مَنْزِلَهُ أَمَرَ أَنْ يُنَادَى فِي النَّاسِ أَنْ لاَ يَبْقَى نَصْرَانِيٌّ إِلاَّ عَقَدَ نَاصِيَتَهُ وَرَكِبَ الإِِْكَافَ. وَلَمْ يُنْقَل أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ، فَيَكُونُ كَالإِِْجْمَاعِ. وَلأَِنَّ السَّلاَمَ مِنْ شَعَائِرِ الإِِْسْلاَمِ فَيَحْتَاجُ الْمُسْلِمُونَ إِِلَى إِظْهَارِ هَذِهِ الشَّعَائِرِ عِنْدَ الاِلْتِقَاءِ، وَلاَ يُمْكِنُهُمْ ذَلِكَ إِلاَّ بِتَمْيِيزِ أَهْل الذِّمَّةِ بِالْعَلاَمَةِ.
هَذَا، وَإِِذَا وَجَبَ التَّمْيِيزُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ صَغَارٌ لاَ إِعْزَازٌ؛ لأَِنَّ إِذْلاَلَهُمْ وَاجِبٌ بِغَيْرِ أَذًى مِنْ ضَرْبٍ أَوْ صَفْعٍ بِلاَ سَبَبٍ يَكُونُ مِنْهُ، بَل الْمُرَادُ اتِّصَافُهُ بِهَيْئَةٍ خَاصَّةٍ.
وَكَذَا يَجِبُ أَنْ يَتَمَيَّزَ نِسَاءُ أَهْل الذِّمَّةِ عَنْ نِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِي حَال الْمَشْيِ فِي الطَّرِيقِ، وَتُجْعَل عَلَى دُورِهِمْ عَلاَمَةٌ كَيْ لاَ يُعَامَلُوا بِمَا يَخْتَصُّ بِهِ الْمُسْلِمُونَ، وَلاَ يُمْنَعُونَ مِنْ أَنْ يَسْكُنُوا فِي أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ فِي غَيْرِ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ يَبِيعُونَ وَيَشْتَرُونَ؛ لأَِنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ شُرِعَ لِيَكُونَ وَسِيلَةً لَهُمْ إِِلَى الإِِْسْلاَمِ. وَتَمْكِينُهُمْ مِنَ الْمَقَامِ أَبْلَغُ إِِلَى(12/13)
هَذَا الْمَقْصُودِ. (1)
وَلِلتَّفْصِيل فِي الأُْمُورِ الَّتِي يُمْنَعُ تَشَبُّهُ أَهْل الذِّمَّةِ فِيهِ بِالْمُسْلِمِينَ تُنْظَرُ أَبْوَابُ الْجِزْيَةِ وَعَقْدُ الذِّمَّةِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 113، وتبيين الحقائق وحاشية الشلبي عليه 3 / 280، 281، وابن عابدين 3 / 273، وجواهر الإكليل 1 / 268، والمعيار المعرب 6 / 421 ط دار المعرب الإسلامي - بيروت، ونهاية المحتاج 8 / 97، وكشاف القناع 3 / 127، والمغني 8 / 528، 529 وانظر الموسوعة الفقهية الكويتية مصطلح " ألبسة " ف 23 ج 6 ومصطلح " أهل الذمة " ف 36 ج 7.(12/13)
تَشْبِيبٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّشْبِيبُ مَصْدَرُ شَبَّبَ. وَمِنْ مَعَانِيهِ: تَرْقِيقُ أَوَّل الشِّعْرِ بِذِكْرِ النِّسَاءِ، وَشَبَّبَ بِالْمَرْأَةِ: قَال فِيهَا الْغَزْل أَوِ النَّسِيبَ. (1) وَالاِصْطِلاَحُ الْفِقْهِيُّ لاَ يَخْرُجُ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
التَّشْبِيبُ، وَالنَّسِيبُ، وَالْغَزَل أَلْفَاظٌ مُتَرَادِفَةٌ، الْمُرَادُ مِنْهَا: ذِكْرُ مَحَاسِنِ النِّسَاءِ (2) .
حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - يَحْرُمُ التَّشْبِيبُ بِامْرَأَةٍ مُعَيَّنَةٍ مُحَرَّمَةٍ عَلَى الْمُشَبِّبِ أَوْ بِغُلاَمٍ أَمْرَدَ.
وَلاَ يُعْرَفُ خِلاَفٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي حُرْمَةِ ذِكْرِ الْمُثِيرِ عَلَى الْفُحْشِ مِنَ الصِّفَاتِ الْحِسِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ لاِمْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ مُحَرَّمَةٍ عَلَيْهِ، وَيَسْتَوِي فِي
__________
(1) لسان العرب.
(2) حاشية الجمل 5 / 382.(12/14)
ذَلِكَ ذِكْرُ الصِّفَاتِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الإِِْيذَاءِ لَهَا وَلِذَوِيهَا، وَهَتْكِ السِّتْرِ وَالتَّشْهِيرِ بِمُسْلِمَةٍ.
أَمَّا التَّشَبُّبُ بِزَوْجَتِهِ أَوْ جَارِيَتِهِ فَهُوَ جَائِزٌ مَا لَمْ يَصِفْ أَعْضَاءَهَا الْبَاطِنَةَ، أَوْ يَذْكُرَ مَا مِنْ حَقِّهِ الإِِْخْفَاءُ فَإِِنَّهُ يُسْقِطُ مُرُوءَتَهُ، وَيَكُونُ حَرَامًا أَوْ مَكْرُوهًا، عَلَى خِلاَفٍ فِي ذَلِكَ. (1)
وَكَذَا يَجُوزُ التَّشْبِيبُ بِامْرَأَةٍ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ، مَا لَمْ يَقُل فُحْشًا أَوْ يَنْصِبُ قَرِينَةً تَدُل عَلَى التَّعْيِينِ؛ لأَِنَّ الْغَرَضَ مِنْ ذَلِكَ هُوَ تَحْسِينُ الْكَلاَمِ وَتَرْقِيقُهُ لاَ تَحْقِيقُ الْمَذْكُورِ، فَإِِنْ نَصَبَ قَرِينَةً تَدُل عَلَى التَّعْيِينِ فَهُوَ فِي حُكْمِ التَّعْيِينِ. وَلَيْسَ ذِكْرُ اسْمِ امْرَأَةٍ مَجْهُولَةٍ كَلَيْلَى وَسُعَادَ تَعْيِينًا، لِحَدِيثِ: كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ: وَإِِنْشَادُهُ قَصِيدَتَهُ الْمَشْهُورَةَ " بَانَتْ سُعَادُ. . بَيْنَ يَدَيِ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (2)
(التَّشَبُّبُ بِغُلاَمٍ:
3 - يَحْرُمُ التَّشْبِيبُ بِغُلاَمٍ - إِنْ ذَكَرَ أَنَّهُ يَعْشَقُهُ
__________
(1) حاشية الجمل 5 / 382، ومغني المحتاج 4 / 431، وفتح القدير 6 / 36، والإنصاف 12 / 52 ط القاهرة 1377 ط السنة المحمدية.
(2) مغني المحتاج 4 / 431، وتحفة المحتاج 8 / 434، والدسوقي 4 / 166 - 167 وحديث كعب بن زهير في إنشاده قصيدته المشهورة: " بانت سعاد " أخرجه ابن إسحاق كما في سيرة ابن هشام (2 / 501 - 515 - ط الحلبي) .(12/14)
وَإِِنْ لَمْ يَكُنْ مُعَيَّنًا، لأَِنَّهُ لاَ يَحِل بِحَالٍ. وَقِيل: إِنْ لَمْ يَكُنْ مُعَيَّنًا فَهُوَ كَالْمَرْأَةِ غَيْرِ الْمُعَيَّنَةِ. (1)
هَذَا فِي إِنْشَاءِ الْقَوْل مِنْ شِعْرٍ أَوْ نَثْرٍ. أَمَّا رِوَايَةُ ذَلِكَ أَوْ إِنْشَادُهُ فَإِِنَّهُ إِِذَا لَمْ يَقْصِدْ بِهِ الْحَضَّ عَلَى الْمُحَرَّمِ فَهُوَ مُبَاحٌ لِنَحْوِ الاِسْتِشْهَادِ أَوْ تَعَلُّمِ الْفَصَاحَةِ وَالْبَلاَغَةِ.
وَقَيَّدَ الْحَنَفِيَّةُ تَحْرِيمَ التَّشْبِيبِ بِالْمَرْأَةِ بِكَوْنِهَا مُعَيَّنَةً حَيَّةً. فَلَوْ شَبَّبَ بِامْرَأَةٍ غَيْرِ حَيَّةٍ لَمْ يَحْرُمْ. (2)
__________
(1) المصادر السابقة.
(2) المراجع السابقة، والمغني 9 / 178، وفتح القدير 6 / 36.(12/15)
تَشْبِيكٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّشْبِيكُ فِي اللُّغَةِ: الْمُدَاخَلَةُ، فَيُقَال لِكُل مُتَدَاخِلَيْنِ أَنَّهُمَا مُشْتَبِكَانِ. وَمِنْهُ: شُبَّاكُ الْحَدِيدِ، وَتَشْبِيكُ الأَْصَابِعِ (وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا) لِدُخُول بَعْضِهَا فِي بَعْضٍ. وَالشَّبْكُ: الْخَلْطُ وَالتَّدَاخُل، فَيُقَال: شَبَكَ الشَّيْءَ يَشْبِكُهُ شَبْكًا: إِِذَا خَلَطَهُ وَأَنْشَبَ بَعْضَهُ فِي بَعْضٍ (1) .
وَتَشْبِيكُ الأَْصَابِعِ لاَ يَخْرُجُ فِي مَعْنَاهُ الاِصْطِلاَحِيِّ عَنْ هَذَا، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: تَشْبِيكُ الأَْصَابِعِ: أَنْ يُدْخِل الشَّخْصُ أَصَابِعَ إِحْدَى يَدَيْهِ بَيْنَ أَصَابِعَ الأُْخْرَى (2) .
الْحُكْمُ الإِِْجْمَالِيُّ:
2 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ تَشْبِيكَ الأَْصَابِعِ فِي الصَّلاَةِ مَكْرُوهٌ، لِمَا رُوِيَ عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلاً قَدْ شَبَّكَ أَصَابِعَهُ فِي الصَّلاَةِ، فَفَرَّجَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) المصباح المنير، ومحيط المحيط، ومختار الصحاح مادة: " شبك ".
(2) ابن عابدين 1 / 431، وقواعد الفقه للبركتي / 228.(12/15)
بَيْنَ أَصَابِعِهِ. (1) وَقَال ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي الَّذِي يُصَلِّي وَهُوَ يُشَبِّكُ أَصَابِعَهُ تِلْكَ صَلاَةُ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ (2)
وَأَمَّا تَشْبِيكُهَا فِي الْمَسْجِدِ فِي غَيْرِ صَلاَةٍ، وَفِي انْتِظَارِهَا أَيْ حَيْثُ جَلَسَ يَنْتَظِرُهَا، أَوْ مَاشِيًا إِلَيْهَا، فَقَدْ قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِكَرَاهَةِ التَّشْبِيكِ حِينَئِذٍ، لأَِنَّ انْتِظَارَ الصَّلاَةِ هُوَ فِي حُكْمِ الصَّلاَةِ (3) لِحَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ لاَ يَزَال أَحَدُكُمْ فِي صَلاَةٍ مَا دَامَتِ الصَّلاَةُ تَحْبِسُهُ (4) وَلِمَا رَوَى أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُمَا مَرْفُوعًا إِِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَأَحْسَن وُضُوءَهُ ثُمَّ خَرَجَ عَامِدًا إِِلَى
__________
(1) حديث: " رأى رجلا قد شبك أصابعه. . . " أخرجه ابن ماجه (1 / 310 - ط عيسى البابي) . قال المنذري: رواه أحمد وأبو داود بإسناد جيد. الترغيب والترهيب) (1 / 170 - 171 ط المكتبة التجارية) .
(2) أثر " تلك صلاة المغضوب عليهم. . . " أخرجه أبو داود (1 / 605) ط الدعاس.
(3) ابن عابدين 1 / 431، 432، ومراقي الفلاح 190، وجواهر الإكليل 1 / 54، والشرح الكبير 1 / 254، ومواهب الجليل لشرح مختصر خليل 1 / 550، وشرح الزرقاني على مختصر خليل 1 / 219 دار الفكر، وشرح روض الطالب من أسنى المطالب 1 / 183 م. المكتبة الإسلامية، ونهاية المحتاج للرملي 2 / 59، والمغني لابن قدامة 2 / 10 م الرياض الحديثة، وكشاف القناع 1 / 372 م النصر الحديثة، ومطالب أولي النهى 1 / 476 - 477 منشورات المكتب الإسلامي.
(4) حديث: " لا يزال أحدكم في صلاة ما دامت الصلاة تحبسه. . . " أخرجه البخاري (1 / 538 ط السلفية) . ومسلم (1 / 460 ط عيسى البابي) .(12/16)
الْمَسْجِدِ، فَلاَ يُشَبِّكُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَإِِنَّهُ فِي صَلاَةٍ (1) وَمَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ فِي الْمَسْجِدِ فَلاَ يُشَبِّكَنَّ، فَإِِنَّ التَّشْبِيكَ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَإِِنَّ أَحَدَكُمْ لاَ يَزَال فِي صَلاَةٍ مَا دَامَ فِي الْمَسْجِدِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهُ (2) وَعَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول إِِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ ثُمَّ خَرَجَ عَامِدًا إِِلَى الصَّلاَةِ، فَلاَ يُشَبِّكَنَّ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَإِِنَّهُ فِي صَلاَةٍ (3)
3 - وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الْحِكْمَةِ فِي النَّهْيِ عَنِ التَّشْبِيكِ فِي الْمَسْجِدِ، فَقِيل: إِنَّ النَّهْيَ عَنْهُ لِمَا فِيهِ مِنَ الْعَبَثِ. وَقِيل: لِمَا فِيهِ مِنَ التَّشَبُّهِ بِالشَّيْطَانِ. وَقِيل: لِدَلاَلَةِ الشَّيْطَانِ عَلَى ذَلِكَ. (4)
وَفِي حَاشِيَةِ الطَّحَاوِيِّ عَلَى مَرَاقِي الْفَلاَحِ: حِكْمَةُ النَّهْيِ عَنِ التَّشْبِيكِ: أَنَّهُ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَأَنَّهُ يَجْلِبُ النَّوْمَ، وَالنَّوْمُ مِنْ مَظَانِّ الْحَدَثِ، وَلِمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ
__________
(1) حديث: " إذا توضأ أحدكم فأحسن وضوءه. . . " أخرجه أبو داود (1 / 380 ط عبيد الدعاس) . والترمذي (2 / 228 ط مصطفى الحلبي) وصحح إسناده أحمد شاكر.
(2) حديث: " إذا كان أحدكم في المسجد فلا يشبكن. . . " أخرجه أحمد (3 / 43 ط المكتب الإسلامي) . قال الهيثمي: إسناده حسن. (مجمع الزوائد 2 / 25 ط القدسي) .
(3) حديث: " إذا توضأ أحدكم ثم خرج عامدا إلى الصلاة فلا. . . " أخرجه بهذا اللفظ أحمد (4 / 240 ط المكتب الإسلامي) . وقد سبق تخريجه.
(4) نيل الأوطار للشوكاني 2 / 380، 381.(12/16)
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي الَّذِي يُصَلِّي وَهُوَ يُشَبِّكُ أَصَابِعَهُ تِلْكَ صَلاَةُ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ فَكَرِهَ ذَلِكَ لِمَا هُوَ فِي حُكْمِ الصَّلاَةِ، حَتَّى لاَ يَقَعَ فِي الْمَنْهِيِّ عَنْهُ. (1) وَكَرَاهَتُهُ فِي الصَّلاَةِ أَشَدُّ. (2)
وَلاَ يُكْرَهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ التَّشْبِيكُ بَعْدَ الْفَرَاغِ وَلَوْ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ، لِحَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال صَلَّى بِنَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِحْدَى صَلاَتَيِ الْعَشِيِّ - قَال ابْنُ سِيرِينَ: سَمَّاهَا أَبُو هُرَيْرَةَ، وَلَكِنْ نَسِيتُ أَنَا - قَال: فَصَلَّى بِنَا رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، فَقَامَ إِِلَى خَشَبَةٍ مَعْرُوضَةٍ فِي الْمَسْجِدِ فَاتَّكَأَ عَلَيْهَا كَأَنَّهُ غَضْبَانُ، وَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، وَوَضَعَ خَدَّهُ الأَْيْمَنَ عَلَى ظَهْرِ كَفِّهِ الْيُسْرَى، وَخَرَجَتِ السَّرَعَانُ مِنْ أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ، فَقَالُوا: قَصُرَتِ الصَّلاَةُ، وَفِي الْقَوْمِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَهَابَا أَنْ يُكَلِّمَاهُ، وَفِي الْقَوْمِ رَجُلٌ فِي يَدَيْهِ طُولٌ يُقَال لَهُ ذُو الْيَدَيْنِ قَال: يَا رَسُول اللَّهِ أَنَسِيتَ أَمْ قَصُرَتِ الصَّلاَةُ؟ قَال لَمْ أَنْسَ وَلَمْ تَقْصُرْ فَقَال: أَكَمَا يَقُول ذُو الْيَدَيْنِ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ. فَتَقَدَّمَ فَصَلَّى مَا تَرَكَ، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ كَبَّرَ وَسَجَدَ مِثْل سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَل ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَكَبَّرَ، ثُمَّ كَبَّرَ وَسَجَدَ مِثْل سُجُودِهِ - أَوْ أَطْوَل، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَكَبَّرَ. فَرُبَّمَا سَأَلُوهُ: ثُمَّ
__________
(1) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 190.
(2) كشاف القناع 1 / 325 م النصر الحديثة.(12/17)
سَلَّمَ؟ فَيَقُول: نُبِّئْتُ أَنَّ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ قَال: ثُمَّ سَلَّمَ. (1)
وَلاَ بَأْسَ بِهِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي غَيْرِ صَلاَةٍ حَتَّى وَلَوْ فِي الْمَسْجِدِ، لأَِنَّ كَرَاهَتَهُ عِنْدَهُمْ إِنَّمَا هِيَ فِي الصَّلاَةِ فَقَطْ، إِلاَّ أَنَّهُ خِلاَفُ الأَْوْلَى عَلَى نَحْوِ مَا وَرَدَ بِالشَّرْحِ الْكَبِيرِ وَجواهر الإكليل. (2)
وَفِي مَوَاهِبِ الْجَلِيل مَا نَصُّهُ: وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِغَيْرِ الصَّلاَةِ فَالتَّشْبِيكُ لاَ بَأْسَ بِهِ حَتَّى فِي الْمَسْجِدِ. قَال ابْنُ عَرَفَةَ: وَسَمِعَ ابْنُ الْقَاسِمِ (أَيْ مِنْ مَالِكٍ) : لاَ بَأْسَ بِتَشْبِيكِ الأَْصَابِعِ يَعْنِي فِي الْمَسْجِدِ فِي غَيْرِ صَلاَةٍ. وَأَوْمَأَ دَاوُد بْنُ قَيْسٍ لِيَدِ مَالِكٍ مُشَبِّكًا أَصَابِعَهُ بِهِ (أَيْ بِالْمَسْجِدِ) لِيُطْلِقَهُ وَقَال: مَا هَذَا؟ فَقَال مَالِكٌ: إِنَّمَا يُكْرَهُ فِي الصَّلاَةِ. وَقَال ابْنُ رُشْدٍ: صَحَّ فِي حَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ تَشْبِيكُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ فِي الْمَسْجِدِ. (3)
4 - وَأَمَّا تَشْبِيكُهَا خَارِجَ الصَّلاَةِ فِيمَا لَيْسَ مِنْ تَوَابِعِهَا: بِأَنْ لَمْ يَكُنْ فِي حَال سَعْيٍ إِلَيْهَا، أَوْ جُلُوسٍ فِي الْمَسْجِدِ لأَِجْلِهَا، فَإِِنْ كَانَ لِحَاجَةٍ نَحْوِ إِرَاحَةِ الأَْصَابِعِ - وَلَيْسَ لِعَبَثٍ بَل لِغَرَضٍ
__________
(1) حديث: " ذي اليدين. . . " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 555 - 566 - ط السلفية) . ومسلم (1 / 403 ط عيسى البابي) . واللفظ للبخاري.
(2) الشرح الكبير 1 / 254، وجواهر الإكليل 1 / 54.
(3) مواهب الجليل لشرح مختصر خليل 1 / 550 م النجاح - ليبيا.(12/17)
صَحِيحٍ - فَإِِنَّهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لاَ يُكْرَهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَقَدْ صَحَّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا (1) وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ. فَإِِنَّهُ لإِِِفَادَةِ تَمْثِيل الْمَعْنَى، وَهُوَ التَّعَاضُدُ وَالتَّنَاصُرُ بِهَذِهِ الصُّورَةِ الْحِسِّيَّةِ. فَلَوْ شَبَّكَ لِغَيْرِ حَاجَةٍ عَلَى سَبِيل الْعَبَثِ كُرِهَ تَنْزِيهًا. (2)
وَفِي حَاشِيَةِ الشبراملسي مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ إِِذَا جَلَسَ فِي الْمَسْجِدِ لاَ لِلصَّلاَةِ بَل لِغَيْرِهَا، كَحُضُورِ دَرْسٍ أَوْ كِتَابَةٍ، فَلاَ يُكْرَهُ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ لأَِنَّهُ لَمْ يَصْدُقْ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَنْتَظِرُ الصَّلاَةَ. وَأَمَّا إِِذَا انْتَظَرَهُمَا مَعًا فَيَنْبَغِي الْكَرَاهَةُ؛ لأَِنَّهُ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَنْتَظِرُ الصَّلاَةَ. (3)
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ رَأَوْا كَرَاهَةَ التَّشْبِيكِ لِلْمُصَلِّي خَاصَّةً وَلَوْ فِي غَيْرِ مَسْجِدٍ، وَلاَ بَأْسَ بِهِ عِنْدَهُمْ فِي غَيْرِ الصَّلاَةِ وَلَوْ فِي الْمَسْجِدِ، لِقَوْل مَالِكٍ: يُكْرَهُ فِي الصَّلاَةِ حِينَ أَوْمَأَ دَاوُد بْنُ قَيْسٍ لِيَدِهِ مُشَبِّكًا أَصَابِعَهُ لِيُطْلِقَهُ وَقَال: مَا هَذَا؟ (4)
__________
(1) حديث: " المؤمن للمؤمن كالبنيان. . . " أخرجه البخاري (5 / 99 ط السلفية) . ومسلم (4 / 1999 ط عيسى البابي) .
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 432.
(3) حاشية الشبراملسي القاهري على نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج للرملي 2 / 331 ط مصطفى الحلبي.
(4) مواهب الجليل لشرح مختصر خليل 1 / 550 م النجاح - ليبيا، شرح الزرقاني على مختصر خليل 1 / 219 ط دار الفكر.(12/18)
5 - وَالتَّشْبِيكُ حَال خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ يُكْرَهُ عِنْدَ غَيْرِ الْمَالِكِيَّةِ مِنَ الأَْئِمَّةِ، لأَِنَّ مُسْتَمِعَ الْخُطْبَةِ فِي انْتِظَارِ الصَّلاَةِ، فَهُوَ كَمَنْ فِي الصَّلاَةِ لِمَا سَبَقَ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: غَيْرُ مَكْرُوهٍ؛ لأَِنَّ الْكَرَاهَةَ عِنْدَهُمْ فِي الصَّلاَةِ فَقَطْ وَلَوْ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ، وَإِِنْ كَانَ هَذَا هُوَ خِلاَفُ الأَْوْلَى كَمَا تَقَدَّمَ. (1)
__________
(1) الشرح الكبير 1 / 254، وجواهر الإكليل 1 / 54.(12/18)
تَشْبِيهٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّشْبِيهُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ شَبَّهْتُ الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ: إِِذَا أَقَمْتَه مَقَامَهُ بِصِفَةٍ جَامِعَةٍ بَيْنَهُمَا.
وَتَكُونُ الصِّفَةُ ذَاتِيَّةً وَمَعْنَوِيَّةً: فَالذَّاتِيَّةُ نَحْوُ هَذَا الدِّرْهَمُ كَهَذَا الدِّرْهَمِ أَيْ فِي الْقَدْرِ، وَالْمَعْنَوِيَّةُ نَحْوُ زَيْدٌ كَالأَْسَدِ. (1)
وَفِي اصْطِلاَحِ عُلَمَاءِ الْبَيَانِ: هُوَ الدَّلاَلَةُ عَلَى اشْتِرَاكِ شَيْئَيْنِ فِي وَصْفٍ مِنْ أَوْصَافِ الشَّيْءِ فِي نَفْسِهِ، كَالشَّجَاعَةِ فِي الأَْسَدِ وَالنُّورِ فِي الشَّمْسِ.
وَهُوَ إِمَّا تَشْبِيهٌ مُفْرَدٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} (2) أَوْ تَشْبِيهُ مُفْرَدَاتٍ بِمُفْرَدَاتٍ، كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا مَثَل مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَل الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا، فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتِ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتِ الْكَلأََ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ - فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا،
__________
(1) المصباح مادة: " شبه ".
(2) سورة الصف / 4.(12/19)
وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لاَ تُمْسِكُ مَاءً وَلاَ تُنْبِتُ كَلأًَ. فَذَلِكَ مَثَل مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثْل مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا، وَلَمْ يَقْبَل هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ. (1)
فَقَدْ شَبَّهَ الْعِلْمَ بِالْغَيْثِ، وَشَبَّهَ مَنْ يَنْتَفِعُ بِهِ بِالأَْرْضِ الطَّيِّبَةِ، وَمَنْ لاَ يَنْتَفِعُ بِهِ بِالْقِيعَانِ.
فَهِيَ تَشْبِيهَاتٌ مُجْتَمِعَةٌ، أَوْ تَشْبِيهٌ مُرَكَّبٌ، كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ مَثَلِي مَثَل الأَْنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي: كَمِثْل رَجُلٍ بَنَى بَيْتًا فَأَحْسَنَهُ وَأَجْمَلَهُ، إِلاَّ مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِنْ زَاوِيَةٍ، فَجَعَل النَّاسُ يَطُوفُونَ بِهِ وَيَعْجَبُونَ لَهُ وَيَقُولُونَ: هَلاَّ وُضِعَتْ، هَذِهِ اللَّبِنَةُ؟ قَال: فَأَنَا اللَّبِنَةُ، وَأَنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ. (2)
فَهَذَا تَشْبِيهُ الْمَجْمُوعِ بِالْمَجْمُوعِ؛ لأَِنَّ وَجْهَ الشَّبَهِ عَقْلِيٌّ مُنْتَزَعٌ مِنْ عِدَّةِ أُمُورٍ (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْقِيَاسُ:
2 - الْقِيَاسُ هُوَ: إِلْحَاقُ فَرْعٍ بِأَصْلٍ فِي الْحُكْمِ لِعِلَّةٍ جَامِعَةٍ بَيْنَهُمَا.
__________
(1) حديث: " إنما مثل ما بعثني الله به. . . " أخرجه البخاري (1 / 175 - الفتح - ط السلفية) . ومسلم (4 / 1787 - 1788 - ط الحلبي) .
(2) حديث: " إن مثلي ومثل الأنبياء. . . . " أخرجه البخاري (6 / 558 - الفتح - ط السلفية) .
(3) التعريفات للجرجاني.(12/19)
حُكْمُ التَّشْبِيهِ
يَخْتَلِفُ حُكْمُ التَّشْبِيهِ بِحَسَبِ مَوْقِعِهِ وَالْمُرَادُ مِنْهُ عَلَى مَا سَيَأْتِي.
أ - التَّشْبِيهُ فِي الظِّهَارِ:
3 - الظِّهَارُ شَرْعًا: تَشْبِيهُ الْمُسْلِمِ زَوْجَتَهُ أَوْ جُزْءًا شَائِعًا مِنْهَا بِمُحَرَّمٍ عَلَيْهِ تَأْبِيدًا، كَقَوْلِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي أَوْ نَحْوِهِ، أَوْ كَبَطْنِهَا أَوْ كَفَخِذِهَا، وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ التَّشْبِيهِ حَرَامٌ نَصًّا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْل وَزُورًا} . (1)
وَإِِذَا وَقَعَ مِنَ الزَّوْجِ التَّشْبِيهُ، مِمَّا يُعْتَبَرُ ظِهَارًا، يَحْرُمُ عَلَيْهِ وَطْءُ امْرَأَتِهِ قَبْل أَنْ يُكَفِّرَ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.
وَكَذَلِكَ يَحْرُمُ التَّلَذُّذُ بِمَا دُونَ الْجِمَاعِ عَنْ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْل أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْل أَنْ يَتَمَاسَّا} (2) وَالتَّمَاسُّ شَامِلٌ لِلْوَطْءِ وَدَوَاعِيهِ.
__________
(1) سورة المجادلة / 2.
(2) سورة المجادلة / 3، 4.(12/20)
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ أُخْرَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: لاَ يَحْرُمُ إِلاَّ الْوَطْءُ. (1)
وَهَذَا فِي صَرِيحِ أَلْفَاظِ الظِّهَارِ. أَمَّا فِي كِنَايَاتِهِ، كَقَوْلِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ مِثَل أُمِّي صَحَّتْ نِيَّتُهُ بِرًّا أَوْ ظِهَارًا أَوْ طَلاَقًا. (2)
وَفِي الْمَوْضُوعِ فُرُوعٌ كَثِيرَةٌ يُنْظَرُ تَفْصِيلُهَا مَعَ اخْتِلاَفِ الْفُقَهَاءِ فِي مُصْطَلَحِ (ظِهَارٌ) .
ب - التَّشْبِيهُ فِي الْقَذْفِ:
4 - أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِِذَا صَرَّحَ الْقَاذِفُ بِالزِّنَى كَانَ قَذْفًا وَرَمْيًا مُوجِبًا لِلْحَدِّ، فَإِِنْ عَرَّضَ وَلَمْ يُصَرِّحْ، فَقَال مَالِكٌ: هُوَ قَذْفٌ، وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ: لاَ يَكُونُ قَذْفًا حَتَّى يَقُول: أَرَدْتُ بِهِ الْقَذْفَ. وَالدَّلِيل لِمَا قَالَهُ مَالِكٌ هُوَ أَنَّ مَوْضُوعَ الْحَدِّ فِي الْقَذْفِ إِنَّمَا هُوَ لإِِِزَالَةِ الْمَعَرَّةِ الَّتِي أَوْقَعَهَا الْقَاذِفُ بِالْمَقْذُوفِ، فَإِِذَا حَصَلَتِ الْمَعَرَّةُ بِالتَّعْرِيضِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَذْفًا كَالتَّصْرِيحِ، وَذَلِكَ رَاجِعٌ إِِلَى الْفَهْمِ، وَقَدْ قَال تَعَالَى عَلَى لِسَانِ قَوْمِ شُعَيْبٍ أَنَّهُمْ قَالُوا لَهُ {إِنَّكَ لأََنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} (3) أَيِ السَّفِيهُ الضَّال، فَعَرَّضُوا
__________
(1) ابن عابدين 2 / 574، 575، وجواهر الإكليل 1 / 371، و 372، والمهذب 2 / 113، 114، والمغني 7 / 347، 348.
(2) ابن عابدين 2 / 576، والمغني 7 / 345، وجواهر الإكليل 1 / 372.
(3) سورة هود / 87.(12/20)
لَهُ بِالسَّبِّ بِكَلاَمٍ ظَاهِرُهُ الْمَدْحُ فِي أَحَدِ التَّأْوِيلاَتِ.
وَقَدْ حَبَسَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْحُطَيْئَةَ لَمَّا قَال لأَِحَدِهِمْ:
دَعِ الْمَكَارِمَ لاَ تَرْحَل لِبُغْيَتِهَا
وَاقْعُدْ فَإِِنَّكَ أَنْتَ الطَّاعِمُ الْكَاسِي
لأَِنَّهُ شَبَّهَهُ بِالنِّسَاءِ فِي أَنَّهُنَّ يُطْعَمْنَ وَيُسْقَيْنَ وَيُكْسَيْنَ. (1)
وَعَلَى ذَلِكَ فَإِِذَا فُهِمَ مِنْ تَشْبِيهِ الْمَرْأَةِ أَوِ الرَّجُل بِالْعَفِيفَةِ أَوِ الْعَفِيفِ اسْتِهْزَاءً، كَانَ كَالرَّمْيِ الصَّرِيحِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ.
ج - تَشْبِيهُ الرَّجُل غَيْرَهُ بِمَا يَكْرَهُ:
5 - لاَ يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُشَبِّهَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ بِمَا يَكْرَهُهُ، قَال تَعَالَى: {وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَْلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِِْيمَانِ} (2) وَسَوَاءٌ أَكَانَ التَّشْبِيهُ بِذِكْرِ أَدَاةِ التَّشْبِيهِ أَوْ بِحَذْفِهَا كَقَوْلِهِ: يَا مُخَنَّثُ، يَا أَعْمَى (3)
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُعَزَّرُ بِقَوْلِهِ: يَا كَافِرُ يَا مُنَافِقُ يَا أَعْوَرُ يَا نَمَّامُ يَا كَذَّابُ يَا خَبِيثُ يَا مُخَنَّثُ يَا ابْنَ الْفَاسِقَةِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ كُل مَا فِيهِ
__________
(1) تفسير القرطبي 8 / 87.
(2) سورة الحجرات / 11.
(3) انظر في أقسام التشبيه مختصر المعاني ص 125.(12/21)
إِيذَاءٌ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَلَوْ بِغَمْزِ الْعَيْنِ أَوْ إِشَارَةِ الْيَدِ، لاِرْتِكَابِهِ مَعْصِيَةً لاَ حَدَّ فِيهَا، وَكُل مَعْصِيَةٍ لاَ حَدَّ فِيهَا فِيهَا التَّعْزِيرُ (1) .
وَكَذَلِكَ يُعَزَّرُ إِِذَا شَبَّهَهُ بِالْحَيَوَانَاتِ الدَّنِيئَةِ كَقَوْلِهِ: يَا حِمَارُ، يَا كَلْبُ، يَا قِرْدُ، يَا بَقَرُ وَنَحْوُ ذَلِكَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ مُتَأَخِّرِي الْحَنَفِيَّةِ) لأَِنَّ كُل مَنِ ارْتَكَبَ مُنْكَرًا أَوْ آذَى مُسْلِمًا بِغَيْرِ حَقٍّ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ إِشَارَةٍ يَسْتَحِقُّ التَّعْزِيرَ.
وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: لاَ يُعَزَّرُ بِقَوْلِهِ: يَا حِمَارُ، يَا كَلْبُ وَنَحْوُ ذَلِكَ لِظُهُورِ كَذِبِهِ.
وَفَرَّقَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ بَيْنَ مَا إِِذَا كَانَ الْمَسْبُوبُ مِنَ الأَْشْرَافِ فَيُعَزَّرُ، أَوْ مِنَ الْعَامَّةِ فَلاَ يُعَزَّرُ، كَمَا اسْتَحْسَنَهُ فِي الْهِدَايَةِ وَالزَّيْلَعِيُّ (2) .
وَهَذَا كُلُّهُ إِِذَا لَمْ يَصِل الشَّتْمُ وَالسَّبُّ إِِلَى حَدِّ الْقَذْفِ، أَمَّا إِِذَا كَانَ مِنْ أَنْوَاعِ الْقَذْفِ: كَالرَّمْيِ بِالزِّنَا مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ، فَإِِنَّهُ يُحَدُّ عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (قَذْفٌ) . (3)
__________
(1) ابن عابدين 3 / 182، وجواهر الإكليل 2 / 288، وحاشية الجمل على شرح المنهج 5 / 162، وكشاف القناع 6 / 112، والمغني 8 / 220، وحاشية القليوبي 4 / 184.
(2) ابن عابدين 3 / 185.
(3) مختصر المعاني ص 125، وتفسير الكشاف 2 / 179، والقرطبي 7 / 325.(12/21)
تَشْرِيقٌ
انْظُرْ: أَيَّامُ التَّشْرِيقِ.
تَشْرِيكٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّشْرِيكُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ شَرَّكَ. يُقَال: شَرَّكَ فُلاَنٌ فُلاَنًا. إِِذَا أَدْخَلَهُ فِي الأَْمْرِ وَجَعَلَهُ شَرِيكًا لَهُ فِيهِ. وَيُقَال: شَرَّكَ غَيْرَهُ فِي مَا اشْتَرَاهُ لِيَدْفَعَ الْغَيْرُ بَعْضَ الثَّمَنِ، وَيَصِيرُ شَرِيكًا لَهُ فِي الْمَبِيعِ.
وَيُقَال أَيْضًا: شَرَّكَ نَعْلَهُ تَشْرِيكًا: إِِذَا حَمَل لَهُ شِرَاكًا، وَالشِّرَاكُ: سَيْرُ النَّعْل الَّذِي عَلَى ظَهْرِهَا. (1)
وَالتَّشْرِيكُ فِي الاِصْطِلاَحِ الشَّرْعِيِّ: إِدْخَال الْغَيْرِ فِي الاِسْمِ كَالشِّرَاءِ وَنَحْوِهِ، لِيَكُونَ شَرِيكًا لَهُ فِيهِ.
__________
(1) تاج العروس، ومتن اللغة مادة: " شرك ".(12/22)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الإِِْشْرَاكُ:
2 - الإِِْشْرَاكُ بِمَعْنَى التَّشْرِيكِ. وَإِِذَا قِيل: أَشْرَكَ الْكَافِرُ بِاللَّهِ، فَالْمُرَادُ أَنَّهُ جَعَل غَيْرَ اللَّهِ شَرِيكًا لَهُ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ. (ر: إِشْرَاكٌ) .
حُكْمُ التَّشْرِيكِ:
3 - التَّشْرِيكُ فِي الشِّرَاءِ وَنَحْوِهِ جَائِزٌ، وَتَشْرِيكُ غَيْرِ عِبَادَةٍ فِي نِيَّةِ الْعِبَادَةِ أَوْ تَشْرِيكُ عِبَادَتَيْنِ فِي نِيَّةٍ وَاحِدَةٍ جَائِزٌ عَلَى التَّفْصِيل الآْتِي:
أ - تَشْرِيكُ مَا لاَ يَحْتَاجُ إِِلَى نِيَّةٍ فِي نِيَّةِ الْعِبَادَةِ:
4 - لاَ نَعْلَمُ خِلاَفًا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ تَشْرِيكِ مَا لاَ يَحْتَاجُ إِِلَى نِيَّةٍ فِي نِيَّةِ الْعِبَادَةِ، كَالتِّجَارَةِ مَعَ الْحَجِّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُل ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُل فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ. . .} (1) وَقَوْلُهُ فِي شَأْنِ الْحَجِّ أَيْضًا: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} (2) نَزَلَتْ فِي التِّجَارَةِ مَعَ الْحَجِّ. وَالصَّوْمِ مَعَ قَصْدِ الصِّحَّةِ، وَالْوُضُوءِ مَعَ نِيَّةِ التَّبَرُّدِ، وَالصَّلاَةِ مَعَ نِيَّةِ دَفْعِ الْغَرِيمِ؛ لأَِنَّ هَذِهِ الأَْشْيَاءَ
__________
(1) سورة الحج / 28.
(2) سورة البقرة / 198.(12/22)
تَحْصُل بِغَيْرِ نِيَّةٍ فَلَمْ يُؤَثِّرْ تَشْرِيكُهَا فِي نِيَّةِ الْعِبَادَةِ، وَكَالْجِهَادِ مَعَ قَصْدِ حُصُول الْغَنِيمَةِ. (1)
جَاءَ فِي مَوَاهِبِ الْجَلِيل نَقْلاً عَنْ الْفُرُوقِ لِلْقَرَافِيِّ:
مَنْ يُجَاهِدُ لِتَحْصِيل طَاعَةِ اللَّهِ بِالْجِهَادِ، وَلِيَحْصُل لَهُ الْمَال مِنَ الْغَنِيمَةِ، فَهَذَا لاَ يَضُرُّهُ وَلاَ يَحْرُمُ عَلَيْهِ بِالإِِْجْمَاعِ؛ لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَل لَهُ هَذَا فِي هَذِهِ الْعِبَادَةِ. فَفَرَّقَ بَيْنَ جِهَادِهِ لِيَقُول النَّاسُ: هَذَا شُجَاعٌ، أَوْ لِيُعَظِّمَهُ الإِِْمَامُ، فَيُكْثِرُ عَطَاءَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَال. فَهَذَا وَنَحْوُهُ رِيَاءٌ حَرَامٌ.
وَبَيْنَ أَنْ يُجَاهِدَ لِتَحْصِيل الْغَنَائِمِ مِنْ جِهَةِ أَمْوَال الْعَدُوِّ مَعَ أَنَّهُ قَدْ شَرَّكَ.
وَلاَ يُقَال لِهَذَا رِيَاءٌ، بِسَبَبِ أَنَّ الرِّيَاءَ أَنْ يَعْمَل لِيَرَاهُ غَيْرُ اللَّهِ مِنْ خَلْقِهِ. وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يُجَدِّدَ وُضُوءًا لِيَحْصُل لَهُ التَّبَرُّدُ أَوِ التَّنَظُّفُ، وَجَمِيعُ هَذِهِ الأَْغْرَاضِ لاَ يَدْخُل فِيهَا تَعْظِيمُ الْخَلْقِ، بَل هِيَ لِتَشْرِيكِ أُمُورٍ مِنَ الْمَصَالِحِ لَيْسَ لَهَا إِدْرَاكٌ، وَلاَ تَصْلُحُ لِلإِِْدْرَاكِ وَلاَ لِلتَّعْظِيمِ، ذَلِكَ لاَ يَقْدَحُ فِي الْعِبَادَاتِ، فَظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ الرِّيَاءِ فِي الْعِبَادَاتِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ التَّشْرِيكِ فِيهَا. (2)
__________
(1) مواهب الجليل 2 / 532، وحاشية البجيرمي على المنهج 1 / 67، ومغني المحتاج 1 / 49، 150، والمغني لابن قدامة 1 / 112.
(2) مواهب الجليل 2 / 533.(12/23)
وَجَاءَ فِي مُغْنِي الْمُحْتَاجِ: (1) مَنْ نَوَى بِوُضُوئِهِ تَبَرُّدًا أَوْ شَيْئًا يَحْصُل بِدُونِ قَصْدٍ كَتَنَظُّفٍ، وَلَوْ فِي أَثْنَاءِ وُضُوئِهِ (مَعَ نِيَّةٍ مُعْتَبَرَةٍ) أَيْ مُسْتَحْضِرًا عِنْدَ نِيَّةِ التَّبَرُّدِ أَوْ نَحْوِهِ نِيَّةَ الْوُضُوءِ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ عَلَى الصَّحِيحِ، لِحُصُول ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ، كَمُصَلٍّ نَوَى الصَّلاَةَ وَدَفْعَ الْغَرِيمِ فَإِِنَّهَا تُجْزِئُهُ؛ لأَِنَّ اشْتِغَالَهُ عَنِ الْغَرِيمِ لاَ يَفْتَقِرُ إِِلَى نِيَّةٍ. وَالْقَوْل الثَّانِي يَضُرُّ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّشْرِيكِ بَيْنَ قُرْبَةٍ وَغَيْرِهَا، فَإِِنْ فَقَدَ النِّيَّةَ الْمُعْتَبَرَةَ، كَأَنْ نَوَى التَّبَرُّدَ أَوْ نَحْوَهُ وَقَدْ غَفَل عَنْهَا، لَمْ يَصِحَّ غَسْل مَا غَسَلَهُ بِنِيَّةِ التَّبَرُّدِ وَنَحْوِهِ، وَيَلْزَمُهُ إِعَادَتُهُ دُونَ اسْتِئْنَافِ الطَّهَارَةِ.
قَال الزَّرْكَشِيُّ: وَهَذَا الْخِلاَفُ فِي الصِّحَّةِ.
أَمَّا الثَّوَابُ فَالظَّاهِرُ عَدَمُ حُصُولِهِ، وَقَدْ اخْتَارَ الْغَزَالِيُّ فِيمَا إِِذَا شَرَّكَ فِي الْعِبَادَةِ غَيْرَهَا مِنْ أَمْرٍ دُنْيَوِيٍّ اعْتِبَارَ الْبَاعِثِ عَلَى الْعَمَل، فَإِِنْ كَانَ الْقَصْدُ الدُّنْيَوِيُّ هُوَ الأَْغْلَبُ لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَجْرٌ، إِنْ كَانَ الْقَصْدُ الدِّينِيُّ أَغْلَب فَلَهُ بِقَدْرِهِ، وَإِِنْ تَسَاوَيَا تَسَاقَطَا. وَاخْتَارَ ابْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ أَنَّهُ لاَ أَجْرَ فِيهِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ أَتَسَاوَى الْقَصْدَانِ أَمِ اخْتَلَفَا.
وَانْظُرْ أَيْضًا مُصْطَلَحَ: (نِيَّةٌ) .
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 49.(12/23)
ب - تَشْرِيكُ عِبَادَتَيْنِ فِي نِيَّةٍ:
5 - إِنْ أَشْرَكَ عِبَادَتَيْنِ فِي النِّيَّةِ، فَإِِنْ كَانَ مَبْنَاهُمَا عَلَى التَّدَاخُل كَغُسْلَيِ الْجُمُعَةِ وَالْجَنَابَةِ، أَوِ الْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ، أَوْ غُسْل الْجُمُعَةِ وَالْعِيدِ، أَوْ كَانَتْ إِحْدَاهُمَا غَيْرَ مَقْصُودَةٍ كَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ مَعَ فَرْضٍ أَوْ سُنَّةٍ أُخْرَى، فَلاَ يَقْدَحُ ذَلِكَ فِي الْعِبَادَةِ؛ لأَِنَّ مَبْنَى الطَّهَارَةِ عَلَى التَّدَاخُل، وَالتَّحِيَّةُ وَأَمْثَالُهَا غَيْرُ مَقْصُودَةٍ بِذَاتِهَا، بَل الْمَقْصُودُ شَغْل الْمَكَانِ بِالصَّلاَةِ، فَيَنْدَرِجُ فِي غَيْرِهِ.
أَمَّا التَّشْرِيكُ بَيْنَ عِبَادَتَيْنِ مَقْصُودَتَيْنِ بِذَاتِهَا كَالظُّهْرِ وَرَاتِبَتِهِ، فَلاَ يَصِحُّ تَشْرِيكُهُمَا فِي نِيَّةٍ وَاحِدَةٍ؛ لأَِنَّهُمَا عِبَادَتَانِ مُسْتَقِلَّتَانِ لاَ تَنْدَرِجُ إِحْدَاهُمَا فِي الأُْخْرَى. (1)
وَانْظُرْ أَيْضًا مُصْطَلَحَ: (نِيَّةٌ) .
ج - التَّشْرِيكُ فِي الْمَبِيعِ:
6 - يَجُوزُ التَّشْرِيكُ فِي الْعَقْدِ، كَأَنْ يَقُول الْمُشْتَرِي لِعَالِمٍ بِالثَّمَنِ: أَشْرَكْتُكَ فِي هَذَا الْمَبِيعِ وَيَقْبَل الآْخَرَ، وَهَذَا مَحَل اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ (2) فَإِِنْ أَشْرَكَهُ فِي قَدْرٍ مَعْلُومٍ كَالنِّصْفِ وَالرُّبُعِ فَلَهُ ذَلِكَ فِي الْمَبِيعِ، وَإِِنْ أَطْلَقَ فَلَهُ النِّصْفُ؛ لأَِنَّ
__________
(1) الإقناع على شرح الخطيب 2 / 6، ونهاية المحتاج 4 / 106، والمغني 1 / 221.
(2) البدائع 5 / 226، وحاشية الدسوقي 3 / 157، وأسنى المطالب 2 / 91 - 92، ونهاية المحتاج 4 / 106، والمغني 4 / 131.(12/24)
الشَّرِكَةَ الْمُطْلَقَةَ تَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ، وَهُوَ كَالْبَيْعِ وَالتَّوْلِيَةِ فِي أَحْكَامِهِ وَشُرُوطِهِ. (1)
د - التَّشْرِيكُ بَيْنَ نِسْوَةٍ فِي طَلْقَةٍ:
7 - إِِذَا قَال لِنِسَائِهِ الأَْرْبَعِ: أَوْقَعَتُ عَلَيْكُنَّ طَلْقَةً وَقَعَ عَلَى كُل وَاحِدَةٍ طَلْقَةٌ؛ لأَِنَّ الطَّلْقَةَ لاَ تَتَجَزَّأُ.
وَلَوْ قَال: طَلْقَتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا أَوْ أَرْبَعًا، وَقَعَ عَلَى كُل وَاحِدَةٍ طَلْقَةٌ فَقَطْ، إِلاَّ أَنْ يُرِيدَ تَوْزِيعَ كُل طَلْقَةٍ عَلَيْهِنَّ، فَيَقَعُ فِي " طَلْقَتَيْنِ " عَلَى كُل وَاحِدَةٍ طَلْقَتَانِ، وَفِي " ثَلاَثٍ وَأَرْبَعٍ "، ثَلاَثٌ. (2)
__________
(1) المصادر السابقة.
(2) روضة الطالبين 7 / 88، وحاشية الطحطاوي 2 / 130، والمغني 7 / 244.(12/24)
تَشْمِيتٌ
1 - مِنْ مَعَانِي التَّشْمِيتِ لُغَةً: الدُّعَاءُ بِالْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ. وَكُل دَاعٍ لأَِحَدٍ بِخَيْرٍ فَهُوَ مُشَمِّتٌ وَمُسَمِّتٌ بِالشِّينِ وَالسِّينِ، وَالشِّينُ أَعْلَى وَأَفْشَى فِي كَلاَمِهِمْ. وَكُل دُعَاءٍ بِخَيْرٍ فَهُوَ تَشْمِيتٌ.
وَفِي حَدِيثِ تَزْوِيجِ عَلِيٍّ بِفَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: شَمَّتَ عَلَيْهِمَا: أَيْ دَعَا لَهُمَا بِالْبَرَكَةِ. (1)
وَفِي حَدِيثِ الْعُطَاسِ: فَشَمَّتَ أَحَدَهُمَا وَلَمْ يُشَمِّتِ الآْخَرُ. فَالتَّشْمِيتُ وَالتَّسْمِيتُ: الدُّعَاءُ بِالْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ. وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ أَوْ تَسْمِيَتُهُ: أَنْ يَقُول لَهُ مَتَى كَانَ مُسْلِمًا: يَرْحَمُكَ اللَّهُ. (2)
وَهُوَ لاَ يَخْرُجُ فِي الاِصْطِلاَحِ الْفِقْهِيِّ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى.
__________
(1) حديث: " تشميت النبي صلى الله عليه وسلم علي وفاطمة. . . " أورده أبو عبيد القاسم بن سلام في غريب الحديث (2 / 183 - 184 - ط دائرة المعارف العثمانية) . وانظر فتح الباري بشرح صحيح البخاري لابن حجر (10 / 601) فقد ورد به، وقال القزاز: التشميت: التبريك والعرب تقول: شمته إذا دعا له بالبركة. وشمت عليه إذ برك عليه. وفي الحديث في قصة تزويج علي بفاطمة (شمت عليهما) أي دعا لهما بالبركة.
(2) لسان العرب، الصحاح، ومختار الصحاح مادة: " شمت ".(12/25)
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُشْرَعُ لِلْعَاطِسِ عَقِبَ عُطَاسِهِ أَنْ يَحْمَدَ اللَّهَ، فَيَقُول: الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَوْ زَادَ: رَبِّ الْعَالَمِينَ كَانَ أَحْسَن كَفِعْل ابْنِ مَسْعُودٍ. وَلَوْ قَال: الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُل حَالٍ كَانَ أَفْضَل كَفِعْل ابْنِ عُمَرَ. وَقِيل يَقُول: الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ، كَفِعْل غَيْرِهِمَا. وَرَوَى أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ سَالِمِ بْنِ عُبَيْدٍ مَرْفُوعًا إِِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُل: الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُل حَالٍ أَوِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (1) وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُل: الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُل حَالٍ (2) وَمَتَى حَمِدَ اللَّهَ بَعْدَ عَطْسَتِهِ كَانَ حَقًّا عَلَى مَنْ سَمِعَهُ مِنْ إِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ غَيْرِ الْمُصَلِّينَ أَنْ يُشَمِّتَهُ " يَرْحَمُكَ اللَّهُ " فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ إِِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَحَمِدَ اللَّهَ فَحَقٌّ عَلَى كُل مُسْلِمٍ سَمِعَهُ أَنْ
__________
(1) حديث: " إذا عطس أحدكم فليقل: الحمد لله على كل حال. . . " أخرجه أحمد (6 / 7 - ط الميمنية) من حديث سالم بن عبيد. وفي إسناده جهالة، ولكن ذكر له ابن حجر شواهد تقويه. (الفتح 10 / 600 ط السلفية) .
(2) حديث: " إذا عطس أحدكم فليقل الحمد لله على كل حال. . . " من حديث أبي هريرة. أخرجه أبو داود (5 / 290 - ط عزت عبيد دعاس) والحاكم (4 / 265 - 266 ط دائرة المعارف العثمانية) . وإسناده صحيح. فتح الباري (10 / 608 - ط السلفية) .(12/25)
يَقُول: يَرْحَمُكَ اللَّهُ (1) . وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُل: الْحَمْدُ لِلَّهِ. وَلْيَقُل لَهُ أَخُوهُ أَوْ صَاحِبُهُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ. فَإِِذَا قَال لَهُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ فَلْيَقُل: يَهْدِيكُمُ اللَّهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ. (2)
وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ خَمْسٌ: رَدُّ السَّلاَمِ، وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ وَاتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ، وَإِِجَابَةُ الدَّعْوَةِ، وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ: إِِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، وَإِِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ، وَإِِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ، وَإِِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى فَشَمِّتْهُ، وَإِِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ، وَإِِذَا مَاتَ فَاتَّبِعْهُ. (3)
وَإِِنْ لَمْ يَحْمَدِ اللَّهَ بَعْدَ عَطْسَتِهِ فَلاَ يُشَمَّتُ.
فَعَنْ أَبِي مُوسَى الأَْشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا
__________
(1) حديث: " إذا عطس أحدكم وحمد الله كان حقا على كل مسلم. . . " أخرجه البخاري (10 / 611 - الفتح - ط السلفية) من حديث أبي هريرة.
(2) حديث: " إذا عطس أحدكم فليقل: الحمد لله، وليقل له أخوه أو صاحبه يرحمك الله. . . " أخرجه البخاري (10 / 608 - الفتح - ط السلفية) من حديث أبي هريرة.
(3) حديث: " حق المسلم على المسلم خمس. . . " أخرجه البخاري (3 / 112 - الفتح - ط السلفية) . ومسلم (4 / 1705 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.(12/26)
{إِِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَحَمِدَ اللَّهَ فَشَمِّتُوهُ، فَإِِنْ لَمْ يَحْمَدِ اللَّهَ فَلاَ تُشَمِّتُوهُ. (1)
وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: عَطَسَ رَجُلاَنِ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشَمَّتَ أَحَدُهُمَا وَلَمْ يُشَمِّتِ الآْخَرَ. فَقَال الَّذِي لَمْ يُشَمِّتْهُ: عَطَسَ فُلاَنٌ فَشَمَّتَّهُ، وَعَطَسْتُ فَلَمْ تُشَمِّتْنِي فَقَال: إِنَّ هَذَا حَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى، وَإِِنَّكَ لَمْ تَحْمَدِ اللَّهَ تَعَالَى (2) وَهَذَا الْحُكْمُ عَامٌّ وَلَيْسَ مَخْصُوصًا بِالرَّجُل الَّذِي وَقَعَ لَهُ ذَلِكَ.
يُؤَيِّدُ الْعُمُومَ مَا جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى إِِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَحَمِدَ اللَّهَ فَشَمِّتُوهُ، وَإِِنْ لَمْ يَحْمَدِ اللَّهَ فَلاَ تُشَمِّتُوهُ. (3)
فَالتَّشْمِيتُ قَدْ شُرِعَ لِمَنْ حَمِدَ اللَّهَ دُونَ مَنْ لَمْ يَحْمَدْهُ، فَإِِذَا عَرَفَ السَّامِعُ أَنَّ الْعَاطِسَ حَمِدَ اللَّهَ بَعْدَ عَطْسَتِهِ شَمَّتَهُ، كَأَنْ سَمِعَهُ يَحْمَدُ اللَّهَ، وَإِِنْ سَمِعَ الْعَطْسَةَ وَلَمْ يَسْمَعْهُ يَحْمَدُ اللَّهَ، بَل سَمِعَ مَنْ شَمَّتَ ذَلِكَ الْعَاطِسَ، فَإِِنَّهُ يُشْرَعُ لَهُ
__________
(1) حديث: " إذا عطس أحدكم فحمد الله فشمتوه فإن لم يحمد الله. . . " أخرجه أحمد (4 / 412 - ط الميمنية) ومسلم (4 / 2292 - ط الحلبي) .
(2) حديث: " إن هذا حمد الله وإنك لم تحمد الله " أخرجه البخاري (10 / 610 - الفتح - ط السلفية) ومسلم (4 / 2292 - ط الحلبي) واللفظ لمسلم.
(3) حديث: " إذا عطس أحدكم فحمد الله فشمتوه. . . " سبق تخريجه ف / 2.(12/26)
التَّشْمِيتُ لِعُمُومِ الأَْمْرِ بِهِ لِمَنْ عَطَسَ فَحَمِدَ، وَقَال النَّوَوِيُّ الْمُخْتَارُ أَنَّهُ يُشَمِّتُهُ مَنْ سَمِعَهُ دُونَ غَيْرِهِ. وَهَذَا التَّشْمِيتُ سُنَّةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَفِي قَوْلٍ لِلْحَنَابِلَةِ وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هُوَ وَاجِبٌ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ بِوُجُوبِهِ عَلَى الْكِفَايَةِ. (1) وَنُقِل عَنِ الْبَيَانِ أَنَّ الأَْشْهَرَ أَنَّهُ فَرْضُ عَيْنٍ، لِحَدِيثِ كَانَ حَقًّا عَلَى كُل مُسْلِمٍ سَمِعَهُ أَنْ يَقُول لَهُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ. (2)
فَإِِنْ عَطَسَ وَلَمْ يَحْمَدِ اللَّهَ نِسْيَانًا اسْتُحِبَّ لِمَنْ حَضَرَهُ أَنْ يُذَكِّرَهُ الْحَمْدَ لِيَحْمَدَ فَيُشَمِّتَهُ. وَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ (3) .
3 - وَيُنْدَبُ لِلْعَاطِسِ أَنْ يَرُدَّ عَلَى مَنْ شَمَّتَهُ: فَيَقُول لَهُ: يَغْفِرُ اللَّهُ لَنَا وَلَكُمْ، أَوْ يَهْدِيكُمُ اللَّهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ، وَقِيل: يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا، فَيَقُول: يَرْحَمُنَا اللَّهُ وَإِِيَّاكُمْ وَيَغْفِرُ لَنَا وَلَكُمْ. فَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ إِِذَا عَطَسَ فَقِيل لَهُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ. قَال: يَرْحَمُنَا اللَّهُ وَإِِيَّاكُمْ وَيَغْفِرُ اللَّهُ لَنَا وَلَكُمْ.
__________
(1) الفتاوى الهندية 5 / 326، والاختيار شرح المختار 4 / 165 ط مصطفى الحلبي 1959، وحاشية الجمل على شرح المنهج 2 / 32، والأذكار للنووي 240 - 241، والآداب الشرعية لابن مفلح 1 / 326، وفتح الباري بشرح صحيح البخاري لابن حجر 10 / 599، 600، 610، 611، وكفاية الطالب الرباني 2 / 340 - 399، والشرح الصغير 4 / 764.
(2) فتح الباري 10 / 611.
(3) فتح الباري 10 / 611.(12/27)
قَال ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ: فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى عَظِيمِ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَى الْعَاطِسِ. يُؤْخَذُ ذَلِكَ مِمَّا رُتِّبَ عَلَيْهِ مِنَ الْخَيْرِ. وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِِلَى عَظِيمِ فَضْل اللَّهِ عَلَى عَبْدِهِ. فَإِِنَّهُ أَذْهَبَ عَنْهُ الضَّرَرَ بِنِعْمَةِ الْعَطْسِ، ثُمَّ شَرَعَ لَهُ الْحَمْدَ الَّذِي يُثَابُ عَلَيْهِ، ثُمَّ الدُّعَاءَ بِالْخَيْرِ بَعْدَ الدُّعَاءِ بِالْخَيْرِ وَشَرَعَ هَذِهِ النِّعَمَ الْمُتَوَالِيَاتِ فِي زَمَنٍ يَسِيرٍ فَضْلاً مِنْهُ وَإِِحْسَانًا. فَإِِذَا قِيل لِلْعَاطِسِ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، فَمَعْنَاهُ: جَعَل اللَّهُ لَكَ ذَلِكَ لِتَدُومَ لَكَ السَّلاَمَةَ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِِلَى تَنْبِيهِ الْعَاطِسِ عَلَى طَلَبِ الرَّحْمَةِ وَالتَّوْبَةِ مِنَ الذَّنْبِ، وَمِنْ ثَمَّ شُرِعَ بِهِ الْجَوَابُ بِقَوْلِهِ: غَفَرَ اللَّهُ لَنَا وَلَكُمْ وَقَوْلُهُ: وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ أَيْ شَأْنَكُمْ. (1) وقَوْله تَعَالَى: {سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} (2) أَيْ شَأْنَهُمْ.
وَهَذَا مَا لَمْ يَكُنْ فِي صَلاَتِهِ أَوْ خَلاَئِهِ.
مَا يَنْبَغِي لِلْعَاطِسِ مُرَاعَاتُهُ:
4 - مِنْ آدَابِ الْعَاطِسِ: أَنْ يَخْفِضَ بِالْعَطْسِ صَوْتَهُ وَيَرْفَعَهُ بِالْحَمْدِ. وَأَنْ يُغَطِّيَ وَجْهَهُ لِئَلاَّ
__________
(1) كفاية الطالب على شرح الرسالة 2 / 399 - 400 ط مصطفى الحلبي 1938، والشرح الصغير 4 / 765، وفتح الباري بشرح صحيح البخاري لابن حجر 10 / 609 - 610.
(2) سورة محمد / 5.(12/27)
يَبْدُوَ مِنْ فِيهِ أَوْ أَنْفِهِ مَا يُؤْذِي جَلِيسَهُ. وَلاَ يَلْوِي عُنُقَهُ يَمِينًا وَلاَ شِمَالاً لِئَلاَّ يَتَضَرَّرَ بِذَلِكَ. قَال ابْنُ الْعَرَبِيِّ: الْحِكْمَةُ فِي خَفْضِ الصَّوْتِ بِالْعُطَاسِ: أَنَّ رَفْعَهُ إِزْعَاجًا لِلأَْعْضَاءِ. وَفِي تَغْطِيَةِ الْوَجْهِ: أَنَّهُ لَوْ بَدَرَ مِنْهُ شَيْءٌ آذَى جَلِيسَهُ. وَلَوْ لَوَى عُنُقَهُ صِيَانَةً لِجَلِيسِهِ لَمْ يَأْمَنْ مِنَ الاِلْتِوَاءِ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِِذَا عَطَسَ وَضَعَ يَدَهُ أَوْ ثَوْبَهُ عَلَى فِيهِ، وَخَفَضَ أَوْ غَضَّ بِهَا صَوْتَهُ. (1)
حِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّةِ التَّشْمِيتِ:
5 - قَال ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: مِنْ فَوَائِدِ التَّشْمِيتِ تَحْصِيل الْمَوَدَّةِ، وَالتَّأْلِيفُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَتَأْدِيبُ الْعَاطِسِ بِكَسْرِ النَّفْسِ عَنِ الْكِبْرِ، وَالْحَمْل عَلَى التَّوَاضُعِ لِمَا فِي ذِكْرِ الرَّحْمَةِ مِنَ الإِِْشْعَارِ بِالذَّنْبِ الَّذِي لاَ يَعْرَى عَنْهُ أَكْثَرُ الْمُكَلَّفِينَ. (2)
التَّشْمِيتُ أَثْنَاءَ الْخُطْبَةِ:
6 - كَرِهَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ التَّشْمِيتَ أَثْنَاءَ الْخُطْبَةِ، (3) وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْجَدِيدِ: أَنَّ
__________
(1) حديث: " كان إذا عطس وضع يده. . . " أخرجه أبو داود (5 / 288 - طبع عزت عبيد دعاس) وجوده ابن حجر في الفتح (10 / 602 - ط السلفية) .
(2) فتح الباري بشرح صحيح البخاري لابن حجر 10 / 602.
(3) ابن عابدين 1 / 551، والشرح الكبير 1 / 386.(12/28)
الْكَلاَمَ عِنْدَ الْخُطْبَةِ لاَ يَحْرُمُ، وَيُسَنُّ الإِِْنْصَاتُ، وَلاَ فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ التَّشْمِيتِ وَغَيْرِهِ، وَاسْتَدَل بِمَا رَوَى أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: دَخَل رَجُلٌ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ عَلَى الْمِنْبَرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَال: مَتَى السَّاعَةُ؟ فَأَشَارَ النَّاسُ إِلَيْهِ أَنِ اسْكُتْ فَقَال لَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ الثَّالِثَةِ: مَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟ قَال: حُبُّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ قَال: إِنَّكَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ (1) وَإِِذْ جَازَ هَذَا فِي الْخُطْبَةِ جَازَ تَشْمِيتُ الْعَاطِسِ أَثْنَاءَهَا.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الْقَدِيمُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ الإِِْنْصَاتَ لِسَمَاعِ الْخُطْبَةِ وَاجِبٌ. لِمَا رَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: دَخَل ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ فَجَلَسَ إِِلَى أُبَيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ، فَسَكَتَ حَتَّى صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال لَهُ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَرُدَّ عَلَيَّ؟ فَقَال: إِنَّكَ لَمْ تَشْهَدْ مَعَنَا الْجُمُعَةَ. قَال: وَلِمَ؟ قَال: لأَِنَّكَ تَكَلَّمْتَ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ، فَقَامَ ابْنُ مَسْعُودٍ فَدَخَل عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ لَهُ، فَقَال: صَدَقَ أُبَيٌّ (2) وَإِِذَا كَانَ
__________
(1) حديث: " دخل رجل والنبي صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر " أخرجه البيهقي (3 / 221 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه ابن خزيمة (3 / 149 - ط المكتب الإسلامي) .
(2) حديث: " صدق أبي " عن جابر قال: دخل عبد الله بن مسعود المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب أورده الهيثمي في المجمع (2 / 185 - ط القدسي) وقال: " رواه أبو يعلى والطبراني في الأوسط بنحوه، وفي الكبير باختصار، ورجال أبي يعلى ثقات ".(12/28)
الإِِْنْصَاتُ وَاجِبًا كَانَ مَا خَالَفَهُ مِنْ تَشْمِيتِ الْعَاطِسِ أَثْنَاءَ الْخُطْبَةِ حَرَامًا. (1)
وَلِلْحَنَابِلَةِ رِوَايَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا:
الْجَوَازُ مُطْلَقًا أَخْذًا مِنْ قَوْل الأَْثْرَمِ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَيِ الإِِْمَامَ أَحْمَدَ - سُئِل: يَرُدُّ الرَّجُل السَّلاَمَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ؟ فَقَال: نَعَمْ. قَال: وَيُشَمِّتُ الْعَاطِسَ؟ فَقَال: نَعَمْ.
وَالإِِْمَامُ يَخْطُبُ. وَقَال أَبُو عَبْدِ اللَّهِ قَدْ فَعَلَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ. قَال ذَلِكَ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَمِمَّنْ رَخَّصَ فِي ذَلِكَ الْحَسَنُ وَالشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَقَتَادَةُ وَالثَّوْرِيُّ وَإِِسْحَاقُ.
وَالثَّانِيَةُ:
إِنْ كَانَ لاَ يَسْمَعُ الْخُطْبَةَ شَمَّتَ الْعَاطِسَ، وَإِِنْ كَانَ يَسْمَعُ لَمْ يَفْعَل، قَال أَبُو طَالِبٍ: قَال أَحْمَدُ: إِِذَا سَمِعْتَ الْخُطْبَةَ فَاسْتَمِعْ وَأَنْصِتْ وَلاَ تَقْرَأْ وَلاَ تُشَمِّتْ، وَإِِذَا لَمْ تَسْمَعِ الْخُطْبَةَ فَاقْرَأْ وَشَمِّتْ وَرُدَّ السَّلاَمَ. وَقَال أَبُو دَاوُدَ: قُلْتُ لأَِحْمَدَ: يُرَدُّ السَّلاَمُ وَالإِِْمَامُ يَخْطُبُ وَيُشَمَّتُ الْعَاطِسُ؟ قَال: إِِذَا كَانَ لَيْسَ يَسْمَعُ الْخُطْبَةَ فَيَرُدُّ، وَإِِذَا كَانَ يَسْمَعُ فَلاَ (2) لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} (3) وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
__________
(1) المهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 122، ومنهاج الطالبين بهامش قليوبي وعميرة 1 / 280.
(2) المغني لابن قدامة 2 / 323 - 324 م الرياض الحديث، كشاف القناع عن متن الإقناع 2 / 48 م النصر الحديثة.
(3) سورة الأعراف / 204.(12/29)
تَشْمِيتُ مَنْ فِي الْخَلاَءِ لِقَضَاءِ حَاجَتِهِ:
7 - يُكْرَهُ لِمَنْ فِي الْخَلاَءِ لِقَضَاءِ حَاجَتِهِ أَنْ يُشَمِّتَ عَاطِسًا سَمِعَ عَطْسَتَهُ. بِذَلِكَ قَال فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ الأَْرْبَعَةِ. كَمَا كَرِهُوا لَهُ إِنْ عَطَسَ فِي خَلاَئِهِ أَنْ يَحْمَدَ اللَّهَ بِلِسَانِهِ، وَأَجَازُوا لَهُ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ دُونَ أَنْ يُحَرِّكَ بِهِ لِسَانَهُ (1) وَعَنْ الْمُهَاجِرِ بْنِ قُنْفُذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَبُول فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَرُدَّ حَتَّى تَوَضَّأَ، ثُمَّ اعْتَذَرَ إِِلَيَّ وَقَال: إِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أَذْكُرَ اللَّهَ تَعَالَى إِلاَّ عَلَى طُهْرٍ أَوْ قَال: عَلَى طَهَارَةٍ (2)
تَشْمِيتُ الْمَرْأَةِ الأَْجْنَبِيَّةِ لِلرَّجُل وَالْعَكْسُ:
8 - إِنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ شَابَّةً يُخْشَى الاِفْتِنَانُ بِهَا كُرِهَ لَهَا أَنْ تُشَمِّتَ الرَّجُل إِِذَا عَطَسَ، كَمَا يُكْرَهُ لَهَا أَنْ تَرُدَّ عَلَى مُشَمِّتٍ لَهَا لَوْ عَطَسَتْ هِيَ. بِخِلاَفِ لَوْ كَانَتْ عَجُوزًا وَلاَ تَمِيل إِلَيْهَا النُّفُوسُ فَإِِنَّهَا تُشَمَّتُ وَتُشَمِّتُ مَتَى حَمِدَتِ اللَّهَ، بِذَلِكَ قَال
__________
(1) ابن عابدين 1 / 230، والمهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 33، والأذكار للنووي 28، والشرح الكبير 1 / 106، وكشاف القناع عن متن الإقناع 1 / 63 م النصر الحديثة.
(2) حديث: " إني كرهت أن أذكر الله إلا على طهر أو قال: على طهارة " أخرجه أبو داود (1 / 23 - ط عزت عبيد دعاس) والحاكم (1 / 167 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه ووافقه الذهبي.(12/29)
الْمَالِكِيَّةُ (1) وَمِثْلُهُمْ فِي ذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ.
جَاءَ فِي الآْدَابِ الشَّرْعِيَّةِ لاِبْنِ مُفْلِحٍ عَنْ ابْنِ تَمِيمٍ: لاَ يُشَمِّتُ الرَّجُل الشَّابَّةَ وَلاَ تُشَمِّتُهُ.
وَقَال السَّامِرِيُّ: يُكْرَهُ أَنْ يُشَمِّتَ الرَّجُل الْمَرْأَةَ إِِذَا عَطَسَتْ وَلاَ يُكْرَهُ ذَلِكَ لِلْعَجُوزِ. وَقَال ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَقَدْ رُوِّينَا عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ رَجُلٌ مِنَ الْعُبَّادِ فَعَطَسَتِ امْرَأَةُ أَحْمَدَ، فَقَال لَهَا الْعَابِدُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ. فَقَال أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ. عَابِدٌ جَاهِلٌ.
وَقَال حَرْبٌ: قُلْتُ لأَِحْمَدَ: الرَّجُل يُشَمِّتُ الْمَرْأَةَ إِِذَا عَطَسَتْ؟ فَقَال: إِنْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَنْطِقَهَا لِيَسْمَعَ كَلاَمَهَا فَلاَ؛ لأَِنَّ الْكَلاَمَ فِتْنَةٌ، وَإِِنْ لَمْ يُرِدْ ذَلِكَ فَلاَ بَأْسَ أَنْ يُشَمِّتَهُنَّ. وَقَال أَبُو طَالِبٍ: إِنَّهُ سَأَل أَبَا عَبْدِ اللَّهِ: يُشَمِّتُ الرَّجُل الْمَرْأَةَ إِِذَا عَطَسَتْ؟ قَال: نَعَمْ قَدْ شَمَّتَ أَبُو مُوسَى امْرَأَتَهُ.
قُلْتُ: فَإِِنْ كَانَتِ امْرَأَةً تَمُرُّ أَوْ جَالِسَةً فَعَطَسَتْ أُشَمِّتُهَا؟ قَال: نَعَمْ. وَقَال الْقَاضِي: وَيُشَمِّتُ الرَّجُل الْمَرْأَةَ الْبَرْزَةَ وَيُكْرَهُ لِلشَّابَّةِ. وَقَال ابْنُ عَقِيلٍ: يُشَمِّتُ الْمَرْأَةَ الْبَرْزَةَ وَتُشَمِّتُهُ وَلاَ يُشَمِّتُ الشَّابَّةَ وَلاَ تُشَمِّتُهُ، وَقَال الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ: يَجُوزُ لِلرَّجُل تَشْمِيتُ الْمَرْأَةِ الْبَرْزَةِ وَالْعَجُوزِ، وَيُكْرَهُ
__________
(1) حاشية العدوي على كفاية الطالب شرح الرسالة 2 / 399، والشرح الصغير 4 / 764.(12/30)
لِلشَّابَّةِ، وَفِي هَذَا تَفْرِيقٌ بَيْنَ الشَّابَّةِ وَغَيْرِهَا. (1)
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ ذَكَرَ صَاحِبُ الذَّخِيرَةِ: أَنَّهُ إِِذَا عَطَسَ الرَّجُل فَشَمَّتَتْهُ الْمَرْأَةُ، فَإِِنْ عَجُوزًا رَدَّ عَلَيْهَا وَإِِلاَّ رَدَّ فِي نَفْسِهِ. قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَكَذَا لَوْ عَطَسَتْ هِيَ كَمَا فِي الْخُلاَصَةِ. (2)
تَشْمِيتُ الْمُسْلِمِ لِلْكَافِرِ:
9 - لَوْ عَطَسَ كَافِرٌ وَحَمِدَ اللَّهَ عُقَيْبَ عُطَاسِهِ وَسَمِعَهُ مُسْلِمٌ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُشَمِّتَهُ بِقَوْلِهِ: هَدَاكَ اللَّهُ أَوْ عَافَاكَ اللَّهُ، فَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الأَْشْعَرِيِّ قَال: كَانَتِ الْيَهُودُ يَتَعَاطَسُونَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَاءَ أَنْ يَقُول يَرْحَمُكُمُ اللَّهُ، فَكَانَ يَقُول: يَهْدِيكُمُ اللَّهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ (3) . وَفِي قَوْلِهِ: يَهْدِيكُمُ اللَّهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ. تَعْرِيضٌ لَهُمْ بِالإِِْسْلاَمِ: أَيِ اهْتَدُوا وَآمِنُوا يُصْلِحِ اللَّهُ بَالَكُمْ. فَلَهُمْ تَشْمِيتٌ مَخْصُوصٌ، وَهُوَ الدُّعَاءُ لَهُمْ بِالْهِدَايَةِ وَإِِصْلاَحِ الْبَال. بِخِلاَفِ تَشْمِيتِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِِنَّهُمْ أَهْلٌ
__________
(1) الآداب الشرعية لابن مفلح 2 / 352 - 353.
(2) الاختيار شرح المختار 3 / 119 ط مصطفى الحلبي 1936، وابن عابدين 5 / 236.
(3) حديث أبي موسى الأشعري: " كانت اليهود يتعاطسون. . . " أخرجه الترمذي (5 / 82 - ط الحلبي) . وقال: " هذا حديث حسن صحيح ".(12/30)
لِلدُّعَاءِ بِالرَّحْمَةِ بِخِلاَفِ الْكُفَّارِ. (1) وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: اجْتَمَعَ الْيَهُودُ وَالْمُسْلِمُونَ فَعَطَسَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشَمَّتَهُ الْفَرِيقَانِ جَمِيعًا، فَقَال لِلْمُسْلِمِينَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَيَرْحَمُنَا وَإِِيَّاكُمْ. وَقَال لِلْيَهُودِ: يَهْدِيكُمُ اللَّهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ (2)
تَشْمِيتُ الْمُصَلِّي غَيْرَهُ:
10 - مَنْ كَانَ فِي الصَّلاَةِ وَسَمِعَ عَاطِسًا حَمِدَ اللَّهَ عَقِبَ عُطَاسِهِ فَشَمَّتَهُ بَطَلَتْ صَلاَتُهُ؛ لأَِنَّ تَشْمِيتَهُ لَهُ بِقَوْلِهِ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ يَجْرِي فِي مُخَاطَبَاتِ النَّاسِ، فَكَانَ مِنْ كَلاَمِهِمْ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: بَيْنَمَا أَنَا مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلاَةِ إِذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ، فَقُلْتُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، فَحَدَّقَنِي الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ، فَقُلْتُ: وَاثُكْل أُمَّاهُ، مَا لَكُمْ تَنْظُرُونَ إِلَيَّ؟ فَضَرَبَ الْقَوْمُ بِأَيْدِيهِمْ عَلَى أَفْخَاذِهِمْ، فَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَانِي بِأَبِي وَأُمِّي هُوَ، مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا أَحْسَنَ تَعْلِيمًا
__________
(1) الشرح الصغير 4 / 764، وحاشية العدوي على كفاية الطالب شرح الرسالة 2 / 399، والآداب الشرعية لابن مفلح 2 / 352، والأذكار للنووي 243 - 244، وفتح الباري بشرح صحيح البخاري 10 / 609.
(2) حديث ابن عمر: " اجتمع اليهود والمسلمون. . . " أخرجه البيهقي في الشعب، وضعفه ابن حجر لضعف أحد رواته. (فتح الباري 15 / 609 - ط السلفية) .(12/31)
مِنْهُ، وَاللَّهِ مَا ضَرَبَنِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلاَ كَهَرَنِي ثُمَّ قَال: إِنَّ صَلاَتَنَا هَذِهِ لاَ يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلاَمِ الآْدَمِيِّينَ، إِنَّمَا هِيَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ (1) هَذَا قَوْل الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَإِِنْ كَانَ تَعْبِيرُ الْحَنَفِيَّةِ بِالْفَسَادِ وَتَعْبِيرُ غَيْرِهِمْ بِالْبُطْلاَنِ، إِلاَّ أَنَّ الْبُطْلاَنَ وَالْفَسَادَ فِي ذَلِكَ بِمَعْنًى. (2)
فَإِِنْ عَطَسَ هُوَ فِي صَلاَتِهِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَشَمَّتَ نَفْسَهُ فِي نَفْسِهِ دُونَ أَنْ يُحَرِّكَ بِذَلِكَ لِسَانَهُ بِأَنْ قَال: يَرْحَمُكَ اللَّهُ يَا نَفْسِي لاَ تَفْسُدُ صَلاَتُهُ؛ لأَِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ خِطَابًا لِغَيْرِهِ لَمْ يُعْتَبَرْ مِنْ كَلاَمِ النَّاسِ كَمَا إِِذَا قَال: يَرْحَمُنِي اللَّهُ. قَال بِهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ الْمَالِكِيَّةُ.
تَشْمِيتُ الْعَاطِسِ فَوْقَ ثَلاَثٍ:
11 - مَنْ تَكَرَّرَ عُطَاسُهُ فَزَادَ عَلَى الثَّلاَثِ فَإِِنَّهُ لاَ يُشَمَّتُ فِيمَا زَادَ عَنْهَا؛ إِذْ هُوَ بِمَا زَادَ عَنْهَا
__________
(1) حديث: " إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء. . " أخرجه مسلم (1 / 381 - 382 - ط الحلبي) من حديث معاوية بن الحكم.
(2) ابن عابدين 1 / 416 - 417، وفتح القدير 1 / 347 ط دار إحياء التراث العربي، والشرح الصغير 4 / 764، وكفاية الطالب شرح الرسالة للقيرواني 2 / 399، ومواهب الجليل لشرح مختصر خليل 2 / 33 مكتبة النجاح ليبيا، والمهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 94، وروضة الطالبين 1 / 292، وكشاف القناع عن متن الإقناع 1 / 378 ط النصر الحديثة.(12/31)
مَزْكُومٌ. فَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَْكْوَعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: شَمَّتَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلاً عَطَسَ مَرَّتَيْنِ بِقَوْلِهِ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ ثُمَّ قَال عَنْهُ فِي الثَّالِثَةِ: هَذَا رَجُلٌ مَزْكُومٌ. (1)
وَذَكَرَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ عَنْ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ قَال: يُكَرَّرُ التَّشْمِيتُ إِِذَا تَكَرَّرَ الْعُطَاسُ، إِلاَّ أَنْ يُعْرَفَ أَنَّهُ مَزْكُومٌ فَيَدْعُوَ لَهُ بِالشِّفَاءِ. وَعِنْدَ هَذَا سَقَطَ الأَْمْرُ بِالتَّشْمِيتِ عِنْدَ الْعِلْمِ بِالزُّكَامِ، لأَِنَّ التَّعْلِيل بِهِ يَقْتَضِي أَنْ لاَ يُشَمَّتَ مَنْ عُلِمَ أَنَّ بِهِ زُكَامًا أَصْلاً، لِكَوْنِهِ مَرَضًا، وَلَيْسَ عُطَاسًا مَحْمُودًا نَاشِئًا عَنْ خِفَّةِ الْبَدَنِ وَانْفِتَاحِ الْمَسَامِّ وَعَدَمِ الْغَايَةِ فِي الشِّبَعِ. (2)
__________
(1) حديث سلمة بن الأكوع: أخرجه الترمذي (5 / 95 ط الحلبي) وقال: حسن صحيح.
(2) الشرح الصغير 4 / 675، وفتح الباري بشرح صحيح البخاري لابن حجر 10 / 604 - 607، والآداب الشرعية لابن مفلح 2 / 354.(12/32)
تَشْمِيرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - لِلتَّشْمِيرِ فِي اللُّغَةِ مَعَانٍ: مِنْهَا: الرَّفْعُ يُقَال: شَمَّرَ الإِِْزَارَ وَالثَّوْبَ تَشْمِيرًا: إِِذَا رَفَعَهُ، وَيُقَال: شَمَّرَ عَنْ سَاقِهِ، وَشَمَّرَ فِي أَمْرِهِ: أَيْ خَفَّ فِيهِ وَأَسْرَعَ، وَشَمَّرَ الشَّيْءَ فَتَشَمَّرَ: قَلَّصَهُ فَتَقَلَّصَ، وَتَشَمَّرَ أَيْ: تَهَيَّأَ. (1) وَفِي الاِصْطِلاَحِ لاَ يَخْرُجُ عَنْ مَعْنَى رَفْعِ الثَّوْبِ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - السَّدْل:
2 - مِنْ مَعَانِي السَّدْل فِي اللُّغَةِ: إِرْخَاءُ الثَّوْبِ.
يُقَال: سَدَلْتُ الثَّوْبَ سَدْلاً: إِِذَا أَرْخَيْتَهُ وَأَرْسَلْتَهُ مِنْ غَيْرِ ضَمِّ جَانِبَيْهِ. وَسَدَل الثَّوْبَ يَسْدِلُهُ وَيَسْدُلُهُ سَدْلاً، وَأَسْدَلَهُ: أَرْخَاهُ وَأَرْسَلَهُ. (2)
وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّهُ خَرَجَ فَرَأَى قَوْمًا يُصَلُّونَ قَدْ سَدَلُوا ثِيَابَهُمْ، فَقَال: كَأَنَّهُمْ الْيَهُودُ
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، ومختار الصحاح. مادة: " شمر ".
(2) المصباح المنير، ولسان العرب. مادة " سدل ".(12/32)
خَرَجُوا مِنْ فُهُورِهِمْ (1) وَاصْطِلاَحًا: أَنْ يَجْعَل الشَّخْصُ ثَوْبَهُ عَلَى رَأْسِهِ، أَوْ عَلَى كَتِفَيْهِ، وَيُرْسِل أَطْرَافَهُ مِنْ جَوَانِبِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَضُمَّهَا، أَوْ يَرُدَّ أَحَدَ طَرَفَيْهِ عَلَى الْكَتِفِ الأُْخْرَى. وَهُوَ فِي الصَّلاَةِ مَكْرُوهٌ بِالاِتِّفَاقِ. (2) لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ السَّدْل فِي الصَّلاَةِ. . (3)
ب - الإِِْسْبَال:
3 - الإِِْسْبَال فِي اللُّغَةِ: الإِِْرْخَاءُ وَالإِِْطَالَةُ.
يُقَال: أَسْبَل إِزَارَهُ: إِِذَا أَرْخَاهُ. وَأَسْبَل فُلاَنٌ ثِيَابَهُ: إِِذَا طَوَّلَهَا وَأَرْسَلَهَا إِِلَى الأَْرْضِ، وَفِي الْحَدِيثِ: أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ. قَال: قُلْتُ: وَمَنْ هُمْ؟ خَابُوا
__________
(1) الفهور: جمع فهر، وهو مدراس اليهود الذي يجتمعون فيه للصلاة أو في الأعياد. (لسان العرب) .
(2) ابن عابدين 1 / 429، ومراقي الفلاح 192 - 193، وفتح القدير 1 / 359 دار إحياء التراث العربي، والفتاوى الهندية 1 / 106، والاختيار شرح المختار 1 / 61 دار المعرفة، والخرشي على مختصر خليل 1 / 251، والمجموع شرح المهذب 3 / 176 - 177، وكشاف القناع 1 / 275 م النصر الحديثة، والمغني لابن قدامة 1 / 584 - 585 م الرياض الحديثة.
(3) حديث: " نهى عن السدل كل في الصلاة ". أخرجه أبو داود (1 / 423 ط عبيد الدعاس) والترمذي (2 / 217 ط محمد الحلبي) . وصحح إسناده أحمد شاكر.(12/33)
وَخَسِرُوا. فَأَعَادَهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ: الْمُسْبِل، وَالْمَنَّانُ، وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ (1)
قَال ابْنُ الأَْعْرَابِيِّ وَغَيْرُهُ: الْمُسْبِل: الَّذِي يُطَوِّل ثَوْبَهُ وَيُرْسِلُهُ إِِلَى الأَْرْضِ إِِذَا مَشَى، وَإِِنَّمَا يَفْعَل ذَلِكَ كِبْرًا وَاخْتِيَالاً. (2)
وَهُوَ فِي الاِصْطِلاَحِ لاَ يَخْرُجُ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى.
وَحُكْمُهُ الْكَرَاهَةُ، (3) لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ مِنَ الْخُيَلاَءِ لَمْ يَنْظُرِ اللَّهُ إِلَيْهِ (4) وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَال: سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: مَنْ أَسْبَل إِزَارَهُ فِي صَلاَتِهِ خُيَلاَءَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ جَل ذِكْرُهُ فِي حِلٍّ وَلاَ حَرَامٍ. (5) وَحَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ يَرْفَعُهُ لاَ يَنْظُرُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِِلَى مَنْ جَرَّ إِزَارَهُ
__________
(1) حديث: " ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا. . . " أخرجه مسلم (1 / 102 ط عيسى البابي) وأحمد (5 / 148 ط المكتب الإسلامي) .
(2) لسان العرب.
(3) المغني لابن قدامة 1 / 585 م الرياض الحديثة، وكشاف القناع 1 / 77 م النصر الحديثة، والدين الخالص 4 / 520 لصديق خان مطبعة المدني.
(4) حديث: " من جر ثوبه. . . " أخرجه مسلم (3 / 1653 ط عيسى البابي) .
(5) حديث: " من أسبل إزاره في صلاته خيلاء فليس من الله. . . ". أخرجه أبو داود (1 / 423 ط عبيد الدعاس) . وقال الأرناؤوط: إسناده صحيح. (شرح السنة للبغوي 2 / 428 ط المكتب الإسلامي) .(12/33)
بَطَرًا. (1) وَلِلتَّفْصِيل ر: (صَلاَةٌ - عَوْرَةٌ - إِسْبَالٌ) .
الْحُكْمُ الإِِْجْمَالِيُّ:
4 - التَّشْمِيرُ فِي الصَّلاَةِ مَكْرُوهٌ اتِّفَاقًا، لِمَا وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ كَفْتِ الثِّيَابِ وَالشَّعْرِ. (2)
إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَالُوا بِكَرَاهَتِهِ فِيهَا إِِذَا كَانَ فِعْلُهُ لأَِجْلِهَا. وَأَمَّا فِعْلُهُ خَارِجَهَا، أَوْ فِيهَا لاَ لأَِجْلِهَا، فَلاَ كَرَاهَةَ فِيهِ. وَمِثْل ذَلِكَ عِنْدَهُمْ تَشْمِيرُ الذَّيْل عَنِ السَّاقِ: فَإِِنْ فَعَلَهُ لأَِجْل شُغْلٍ، فَحَضَرَتِ الصَّلاَةُ، فَصَلَّى وَهُوَ كَذَلِكَ فَلاَ كَرَاهَةَ. وَظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ أَنَّهُ سَوَاءٌ عَادَ لِشُغْلِهِ، أَمْ لاَ. وَحَمَلَهَا الشَّبِيبِيُّ عَلَى مَا إِِذَا عَادَ لِشُغْلِهِ، وَصَوَّبَهُ ابْنُ نَاجِي (3) .
وَلِلتَّفْصِيل ر: (صَلاَةٌ، عَوْرَةٌ، لِبَاسٌ) .
__________
(1) حديث: " لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 10 / 258 - 259 ط السلفية) .
(2) حديث: " نهى عن كفت الثياب. . . " أخرجه البخاري (2 / 295 ط السلفية) ، ومسلم (1 / 354 ط عيسى الحلبي) .
(3) فتح القدير 1 / 359 دار إحياء التراث العربي، ومراقي الفلاح 192، والفتاوى الهندية 1 / 106، ومنهاج الطالبين 1 / 193، ونهاية المحتاج للرملي 2 / 55، وحاشية الجمل على المنهج 1 / 442، والشرح الكبير 1 / 218، والخرشي على مختصر خليل 1 / 250، وكشاف القناع 1 / 276، 373 م النصر الحديثة.(12/34)
تَشَهُّدٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّشَهُّدُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ تَشَهَّدَ، أَيْ: تَكَلَّمَ بِالشَّهَادَتَيْنِ. (1)
وَيُطْلَقُ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ عَلَى قَوْل كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ، وَعَلَى التَّشَهُّدِ فِي الصَّلاَةِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ. . إِِلَى آخِرِهِ فِي الصَّلاَةِ. (2) وَصَرَّحَ ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلاً عَنْ الْحِلْيَةِ: أَنَّ التَّشَهُّدَ اسْمٌ لِمَجْمُوعِ الْكَلِمَاتِ الْمَرْوِيَّةِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَغَيْرِهِ. سُمِّيَ بِهِ لاِشْتِمَالِهِ عَلَى الشَّهَادَتَيْنِ. مِنْ بَابِ تَسْمِيَةِ الشَّيْءِ بِاسْمِ جُزْئِهِ (3) .
الْحُكْمُ الإِِْجْمَالِيُّ:
2 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ، وَالْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِِلَى: أَنَّ التَّشَهُّدَ
__________
(1) متن اللغة مادة: " شهد ".
(2) الاختيار 1 / 53، ونهاية المحتاج 1 / 519 ط مصطفى البابي الحلبي، والمغرب للمطرزي، ولسان العرب المحيط مادة: " شهد ".
(3) ابن عابدين 1 / 342 ط دار إحياء التراث العربي، ونهاية المحتاج 1 / 519.(12/34)
وَاجِبٌ فِي الْقَعْدَةِ الَّتِي لاَ يَعْقُبُهَا السَّلاَمُ؛ لأَِنَّهُ يَجِبُ بِتَرْكِهِ سُجُودُ السَّهْوِ.
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ فِي قَوْلٍ، وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ: سُنِّيَّةَ التَّشَهُّدِ فِي هَذِهِ الْقَعْدَةِ؛ لأَِنَّهُ يَسْقُطُ بِالسَّهْوِ فَأَشْبَهَ السُّنَنَ.
وَأَمَّا التَّشَهُّدُ فِي الْقَعْدَةِ الأَْخِيرَةِ فِي الصَّلاَةِ فَوَاجِبٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ الأَْعْرَابِيِّ: إِِذَا رَفَعْتَ رَأْسَكَ مِنْ آخِرِ سَجْدَةٍ، وَقَعَدْتَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ، فَقَدْ تَمَّتْ صَلاَتُكَ (1) عَلَّقَ التَّمَامَ بِالْقَعْدَةِ دُونَ التَّشَهُّدِ، فَالْفَرْضُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي هَذِهِ الْقَعْدَةِ هُوَ الْجُلُوسُ فَقَطْ، أَمَّا التَّشَهُّدُ فَوَاجِبٌ، يُجْبَرُ بِسُجُودِ السَّهْوِ إِنْ تَرَكَ سَهْوًا، وَتُكْرَهُ الصَّلاَةُ بِتَرْكِهِ تَحْرِيمًا، فَتَجِبُ إِعَادَتُهَا. (2)
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ سُنَّةٌ، وَفِي قَوْلٍ وَاجِبٌ. (3)
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ
__________
(1) حديث: " إذا رفعت رأسك من آخر سجدة. . . " ذكره صاحب الاختيار (1 / 53 ط دار المعرفة) . ولم نعثر عليه فيما بين أيدينا من المصادر الحديثية.
(2) انظر الدر المختار ورد المحتار 1 / 307.
(3) الاختيار لتعليل المختار 1 / 53، 54، وابن عابدين 1 / 306، 313، والقوانين الفقهية / 70، وجواهر الإكليل 1 / 49، وحاشية الدسوقي 1 / 243، 251، والزرقاني 1 / 205، ونهاية المحتاج 1 / 518، والأذكار / 60، وروضة الطالبين 1 / 261، والمغني 1 / 532، 533، وكشاف القناع 1 / 389، 385.(12/35)
الصَّلاَةِ، وَهَذَا مَا يُسَمِّيهِ بَعْضُهُمْ فَرْضًا أَوْ وَاجِبًا وَبَعْضُهُمْ رُكْنًا، تَشْبِيهًا لَهُ بِرُكْنِ الْبَيْتِ الَّذِي لاَ يَقُومُ إِلاَّ بِهِ (1)
وَفِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَمَعْنَى الْوُجُوبِ عِنْدَ غَيْرِهِمْ تَفْصِيلٌ يُرْجَعُ فِيهِ إِِلَى مَظَانِّهِ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ وَالأُْصُول. (2) وَانْظُرْ أَيْضًا: (فَرْضٌ، وَوَاجِبٌ) .
أَلْفَاظُ التَّشَهُّدِ:
3 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ أَفْضَل التَّشَهُّدِ، التَّشَهُّدُ الَّذِي عَلَّمَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَهُوَ: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ، وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ، السَّلاَمُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلاَمُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ (3) .
وَوَجْهُ اخْتِيَارِهِمْ لِهَذِهِ الرِّوَايَةِ مَا رُوِيَ: أَنَّ حَمَّادًا أَخَذَ بِيَدِ أَبِي حَنِيفَةَ وَعَلَّمَهُ التَّشَهُّدَ، وَقَال أَخَذَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ بِيَدَيَّ وَعَلَّمَنِي، وَأَخَذَ
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) ابن عابدين 1 / 64، 1 / 306، وكشاف القناع 1 / 385.
(3) حديث: " تعليم النبي - صلى الله عليه وسلم التشهد لعبد الله بن مسعود ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 311 ط السلفية) . ومسلم (1 / 301 - 302 ط عيسى الحلبي) .(12/35)
عَلْقَمَةُ بِيَدِ إِبْرَاهِيمَ وَعَلَّمَهُ، وَأَخَذَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِيَدِ عَلْقَمَةَ وَعَلَّمَهُ، وَأَخَذَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَلَّمَهُ التَّشَهُّدَ فَقَال: قُل: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ. . . إِِلَى آخِرِهِ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: عَلَّمَنِي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّشَهُّدَ - كَفِّي بَيْنَ كَفَّيْهِ - كَمَا يُعَلِّمُنِي سُورَةً مِنَ الْقُرْآنِ، التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ. . . . (1)
لأَِنَّ فِيهِ زِيَادَةَ وَاوِ الْعَطْفِ، وَإِِنَّهُ يُوجِبُ تَعَدُّدَ الثَّنَاءِ؛ لأَِنَّ الْمَعْطُوفَ غَيْرُ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَبِهِ يَقُول: الثَّوْرِيُّ، وَإِِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ (2) .
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ أَفْضَل التَّشَهُّدِ تَشَهُّدُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ، الزَّاكِيَاتُ لِلَّهِ، الطَّيِّبَاتُ الصَّلَوَاتُ لِلَّهِ، السَّلاَمُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلاَمُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
وَهَذَا لأَِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَهُ عَلَى
__________
(1) حديث عبد الله بن مسعود: " علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم التشهد " كتاب الآثار لمحمد الشيباني (ص 146 - 147 ط المجلس العلمي) . والآثار لأبي يوسف (ص 53 ط الاستقامة) . ويشهد للحديث ما قبله.
(2) الاختيار لتعليل المختار 1 / 53، والمغني 1 / 534، 535، 541 ط الرياض، وكشاف القناع 1 / 388 ط عالم الكتب.(12/36)
الْمِنْبَرِ، فَلَمْ يُنْكِرُوهُ، فَجَرَى مَجْرَى الْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ، وَكَانَ أَيْضًا إِجْمَاعًا. (1)
وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَأَفْضَل التَّشَهُّدِ عِنْدَهُمْ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُنَا التَّشَهُّدَ، كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ، فَيَقُول: قُولُوا: التَّحِيَّاتُ الْمُبَارَكَاتُ، الصَّلَوَاتُ الطَّيِّبَاتُ لِلَّهِ، السَّلاَمُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلاَمُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّهِ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ، إِلاَّ أَنَّهُ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. (2)
وَالْخِلاَفُ بَيْنَ الأَْئِمَّةِ هُنَا خِلاَفٌ فِي الأَْوْلَوِيَّةِ، فَبِأَيِّ تَشَهُّدٍ تَشَهَّدَ مِمَّا صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَازَ (3) وَمِنَ النَّاسِ مَنِ اخْتَارَ تَشَهُّدَ أَبِي مُوسَى الأَْشْعَرِيِّ، وَهُوَ أَنْ يَقُول: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ، الطَّيِّبَاتُ، وَالصَّلَوَاتُ لِلَّهِ. . . وَالْبَاقِي كَتَشَهُّدِ
__________
(1) القوانين الفقهية / 75، وحاشية الدسوقي 1 / 251 ط دار الفكر، وجواهر الإكليل 1 / 52 دار المعرفة.
(2) الأذكار / 61، 62، وروضة الطالبين 1 / 263. وحديث ابن عباس رضي الله عنهما: " كان يعلمنا التشهد. . . " أخرجه مسلم (1 / 302 - 303 ط عيسى الحلبي) .
(3) ابن عابدين 1 / 313، وحاشية الدسوقي 1 / 251، والزرقاني 1 / 216 ط دار الفكر، والأذكار / 62، وروضة الطالبين 1 / 263 ط المكتب الإسلامي، والمغني 1 / 536.(12/36)
ابْنِ مَسْعُودٍ (1) وَذَكَرَ ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّ الْمُصَلِّيَ يَقْصِدُ بِأَلْفَاظِ التَّشَهُّدِ مَعَانِيَهَا، مُرَادَةً لَهُ عَلَى وَجْهِ الإِِْنْشَاءِ، كَأَنَّهُ يُحَيِّي اللَّهَ تَعَالَى وَيُسَلِّمُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى نَفْسِهِ وَالأَْوْلِيَاءِ، وَلاَ يَقْصِدُ الإِِْخْبَارَ وَالْحِكَايَةَ عَمَّا وَقَعَ فِي الْمِعْرَاجِ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْ رَبِّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَمِنَ الْمَلاَئِكَةِ. (2)
الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ فِي أَلْفَاظِ التَّشَهُّدِ وَالتَّرْتِيبُ بَيْنَهَا:
4 - اخْتَلَفَتْ أَقْوَال الْفُقَهَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى النَّحْوِ الآْتِي: ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ تَحْرِيمًا أَنْ يَزِيدَ فِي التَّشَهُّدِ حَرْفًا، أَوْ يَبْتَدِئَ بِحَرْفٍ قَبْل حَرْفٍ.
قَال أَبُو حَنِيفَةَ: وَلَوْ نَقَصَ مِنْ تَشَهُّدِهِ أَوْ زَادَ فِيهِ. كَانَ مَكْرُوهًا؛ لأَِنَّ أَذْكَارَ الصَّلاَةِ مَحْصُورَةٌ، فَلاَ يُزَادُ عَلَيْهَا. ثُمَّ أَضَافَ ابْنُ عَابِدِينَ قَائِلاً: وَالْكَرَاهَةُ عِنْدَ الإِِْطْلاَقِ لِلتَّحْرِيمِ. (3)
وَيُكْرَهُ كَذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ الزِّيَادَةُ عَلَى التَّشَهُّدِ، وَاخْتَلَفُوا فِي تَرْكِ بَعْضِ التَّشَهُّدِ، فَالظَّاهِرُ مِنْ كَلاَمِ بَعْضِ شُيُوخِهِمْ عَدَمُ حُصُول
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 212 ط دار الكتاب العربي. وحديث أبي موسى " التحيات لله الطيبات. . . " أخرجه مسلم (1 / 303) .
(2) ابن عابدين 1 / 342.
(3) المرجع السابق نفسه.(12/37)
السُّنَّةِ بِبَعْضِ التَّشَهُّدِ، خِلاَفًا لاِبْنِ نَاجِي فِي كِفَايَةِ بَعْضِهِ، قِيَاسًا عَلَى السُّورَةِ. (1)
وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ فَصَّلُوا الْكَلاَمَ، وَقَالُوا: إِنَّ لَفْظَ الْمُبَارَكَاتِ وَالصَّلَوَاتِ، وَالطَّيِّبَاتِ وَالزَّاكِيَاتِ سُنَّةٌ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي التَّشَهُّدِ، فَلَوْ حَذَفَ كُلَّهَا وَاقْتَصَرَ عَلَى الْبَاقِي أَجْزَأَهُ مِنْ غَيْرِ خِلاَفٍ عِنْدَهُمْ. وَأَمَّا لَفْظُ: السَّلاَمُ عَلَيْكَ. . . إِلَخْ فَوَاجِبٌ لاَ يَجُوزُ حَذْفُ شَيْءٍ مِنْهُ، إِلاَّ لَفْظُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ. وَفِي هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ ثَلاَثَةُ أَوْجُهٍ: أَصَحُّهَا عَدَمُ جَوَازِ حَذْفِهِمَا. وَالثَّانِي: جَوَازُ حَذْفِهِمَا. وَالثَّالِثُ: يَجُوزُ حَذْفُ وَبَرَكَاتُهُ، دُونَ رَحْمَةُ اللَّهِ ". (2)
وَكَذَلِكَ التَّرْتِيبُ بَيْنَ أَلْفَاظِهَا مُسْتَحَبٌّ عِنْدَهُمْ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ، فَلَوْ قَدَّمَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ جَازَ، وَفِي وَجْهٍ لاَ يَجُوزُ كَأَلْفَاظِ الْفَاتِحَةِ (3) .
وَالْحَنَابِلَةُ يَرَوْنَ أَنَّهُ إِِذَا أَسْقَطَ لَفْظَةً هِيَ سَاقِطَةٌ فِي بِضْعِ التَّشَهُّدَاتِ الْمَرْوِيَّةِ صَحَّ تَشَهُّدُهُ فِي الأَْصَحِّ. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: لَوْ تَرَكَ وَاوًا أَوْ حَرْفًا أَعَادَ الصَّلاَةَ، لِقَوْل الأَْسْوَدِ: فَكُنَّا نَتَحَفَّظُهُ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا نَتَحَفَّظُ حُرُوفَ الْقُرْآنِ. (4)
__________
(1) شرح الزرقاني 1 / 205، 216، والمغني 1 / 545، 1 / 537.
(2) الأذكار / 62.
(3) المرجع السابق نفسه.
(4) المغني 1 / 537، 538.(12/37)
الْجُلُوسُ فِي التَّشَهُّدِ:
5 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ قَوْل الطَّحَاوِيِّ وَالْكَرْخِيِّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِِلَى: أَنَّ الْجُلُوسَ فِي التَّشَهُّدِ الأَْوَّل سُنَّةٌ. وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - أَنَّهُ وَاجِبٌ.
وَأَمَّا فِي التَّشَهُّدِ الثَّانِي فَالْجُلُوسُ بِقَدْرِ التَّشَهُّدِ رُكْنٌ عِنْدَ الأَْرْبَعَةِ، وَهُوَ مَا عَبَّرَ عَنْهُ الْحَنَفِيَّةُ بِالْفَرْضِيَّةِ، وَغَيْرُهُمْ تَارَةً بِالْوُجُوبِ وَتَارَةً بِالْفَرْضِيَّةِ. (1)
وَأَمَّا هَيْئَةُ الْجُلُوسِ فِي التَّشَهُّدِ، فَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (جُلُوسٌ) .
التَّشَهُّدُ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ:
6 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ التَّشَهُّدِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ لِلْعَاجِزِ، وَاخْتَلَفُوا فِيهِ لِلْقَادِرِ عَلَيْهَا. (2) وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (تَرْجَمَةٌ) .
__________
(1) ابن عابدين 1 / 301، والاختيار 1 / 53، 54، والقوانين الفقهية / 69، وجواهر الإكليل 1 / 48، وحاشية الدسوقي 1 / 249، ونهاية المحتاج 1 / 520، 521، والمغني 1 / 532، 533، 539، وكشاف القناع 1 / 385.
(2) ابن عابدين 1 / 325، والبدائع 1 / 113 ط دار الكتاب العربي، والمجموع 3 / 299 وما بعدها ط المكتبة السلفية والقليوبي 1 / 151 ط مطبعة دار إحياء الكتب العربية، وروضة الطالبين 1 / 226، 229، والمغني 1 / 545، وكشاف القناع 2 / 34.(12/38)
الإِِْسْرَارُ فِي التَّشَهُّدِ:
7 - السُّنَّةُ فِي التَّشَهُّدِ الإِِْسْرَارُ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَجْهَرُ بِهِ، إِذْ لَوْ جَهَرَ بِهِ لَنُقِل كَمَا نُقِلَتِ الْقِرَاءَةُ، وَقَال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنَ السُّنَّةِ إِخْفَاءُ التَّشَهُّدِ (1) .
قَال صَاحِبُ الْمُغْنِي: وَلاَ نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلاَفًا. (2)
مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى تَرْكِ التَّشَهُّدِ:
8 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي مَشْرُوعِيَّةِ سَجْدَةِ السَّهْوِ بِتَرْكِ التَّشَهُّدِ فِي الْقَعْدَةِ الأُْولَى (قَبْل الأَْخِيرَةِ) إِنْ كَانَ تَرْكُهُ سَهْوًا، عَلَى خِلاَفٍ بَيْنَهُمْ فِي الْحُكْمِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي تَرْكِهِ عَمْدًا: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ إِِلَى: وُجُوبِ إِعَادَةِ الصَّلاَةِ.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى، أَنَّ عَلَى الْمُصَلِّي أَنْ يَسْجُدَ لِلسَّهْوِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَيْضًا.
وَأَمَّا تَرْكُ التَّشَهُّدِ فِي الْقَعْدَةِ الأَْخِيرَةِ إِنْ كَانَ عَمْدًا: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي وَجْهٍ، وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِِلَى وُجُوبِ الإِِْعَادَةِ.
__________
(1) حديث: " من السنة إخفاء التشهد " أخرجه أبو داود (1 / 602 ط عبيد الدعاس) والترمذي (2 / 84 - 85 ط مصطفى الحلبي) . وصححه أحمد شاكر.
(2) المبسوط للسرخسي 1 / 32، والأذكار / 63، والمغني 1 / 545.(12/38)
وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ سَهْوًا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ أَنَّ عَلَيْهِ سَجْدَةَ السَّهْوِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ. (1)
وَأَمَّا حُكْمُ الرُّجُوعِ إِِلَى التَّشَهُّدِ لِمَنْ قَامَ إِِلَى الثَّالِثَةِ فِي ثُنَائِيَّةٍ أَوْ إِِلَى الرَّابِعَةِ فِي ثُلاَثِيَّةٍ، أَوْ إِِلَى خَامِسَةٍ فِي رُبَاعِيَّةٍ، فَقَدْ فَصَّلَهُ الْفُقَهَاءُ فِي كِتَابِ الصَّلاَةِ عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنْ سَجْدَةِ السَّهْوِ.
الصَّلاَةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّشَهُّدِ:
9 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْمُصَلِّيَ لاَ يَزِيدُ عَلَى التَّشَهُّدِ فِي الْقَعْدَةِ الأُْولَى بِالصَّلاَةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِهَذَا قَال النَّخَعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَإِِسْحَاقُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْظْهَرِ مِنَ الأَْقْوَال إِِلَى اسْتِحْبَابِ الصَّلاَةِ فِيهَا، وَبِهِ قَال الشَّعْبِيُّ.
وَأَمَّا إِِذَا جَلَسَ فِي آخِرِ صَلاَتِهِ فَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الصَّلاَةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ التَّشَهُّدِ (2) .
وَأَمَّا صِيغَةُ الصَّلاَةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقَعْدَةِ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 313، 501، والقوانين الفقهية / 83، وشرح الزرقاني 1 / 236، وروضة الطالبين 1 / 303، ونهاية المحتاج 2 / 74، 75، والأذكار / 60، والمغني 2 / 6، 26، 27، 44، وكشاف القناع 1 / 389.
(2) الاختيار 1 / 53، 54، وابن عابدين 1 / 343، والقوانين / 70، وروضة الطالبين 1 / 263، والمغني 1 / 537، 541، 542.(12/39)
الأَْخِيرَةِ، وَمَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ مِنَ الأَْدِلَّةِ، فَقَدْ فَصَّل الْفُقَهَاءُ الْكَلاَمَ عَلَيْهِ فِي مَوْطِنِهِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ. (1) وَانْظُرْ أَيْضًا: " الصَّلاَةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ".
__________
(1) ابن عابدين 1 / 344، 345، وروضة الطالبين 1 / 265، والمغني 1 / 542.(12/39)
تَشْهِيرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّشْهِيرُ فِي اللُّغَةِ مَأْخُوذٌ مِنْ شَهَّرَهُ، بِمَعْنَى: أَعْلَنَهُ وَأَذَاعَهُ، وَشَهَّرَ بِهِ: أَذَاعَ عَنْهُ السُّوءَ، وَشَهَّرَهُ تَشْهِيرًا فَاشْتَهَرَ. وَالشُّهْرَةُ: وُضُوحُ الأَْمْرِ. (1) وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لَهُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّعْزِيرُ:
2 - التَّعْزِيرُ: التَّأْدِيبُ وَالإِِْهَانَةُ دُونَ الْحَدِّ. وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ التَّشْهِيرِ، إِذْ يَكُونُ بِالتَّشْهِيرِ وَبِغَيْرِهِ. فَالتَّشْهِيرُ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ التَّعْزِيرِ (3) .
ب - السَّتْرُ:
3 - السَّتْرُ: الْمَنْعُ وَالتَّغْطِيَةُ. وَهُوَ ضِدُّ التَّشْهِيرِ.
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، والمعجم الوسيط، والصحاح للجوهري، وتاج العروس مادة: " شهر ".
(2) المبسوط للسرخسي 16 / 145، ومنح الجليل 4 / 164، 234، ومغني المحتاج 4 / 211، وكشاف القناع 6 / 127، والمهذب 2 / 330.
(3) المصباح المنير، والبدائع 7 / 58، 64.(12/40)
الْحُكْمُ الإِِْجْمَالِيُّ:
3 - يَخْتَلِفُ حُكْمُ التَّشْهِيرِ بِاعْتِبَارِ مَنْ يَصْدُرُ مِنْهُ، وَبِاعْتِبَارِ الْمُشَهَّرِ بِهِ. فَالتَّشْهِيرُ قَدْ يَكُونُ مِنَ النَّاسِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، عَلَى جِهَةِ الْعَدَاوَةِ أَوِ الْغِيبَةِ، أَوْ عَلَى جِهَةِ النَّصِيحَةِ وَالتَّحْذِيرِ. وَقَدْ يَكُونُ مِنَ الْحَاكِمِ فِي الْحُدُودِ أَوْ فِي التَّعَازِيرِ. وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي:
أَوَّلاً: تَشْهِيرُ النَّاسِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ:
الأَْصْل أَنَّ تَشْهِيرَ النَّاسِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ بِذِكْرِ عُيُوبِهِمْ وَالتَّنَقُّصِ مِنْهُمْ حَرَامٌ.
وَقَدْ يَكُونُ مُبَاحًا أَوْ وَاجِبًا. وَذَلِكَ رَاجِعٌ إِِلَى مَا يَتَّصِفُ بِهِ الْمُشَهَّرُ بِهِ.
4 - فَيَكُونُ حَرَامًا فِي الأَْحْوَال الآْتِيَةِ:
أ - إِِذَا كَانَ الْمُشَهَّرُ بِهِ بَرِيئًا مِمَّا يُشَاعُ عَنْهُ وَيُقَال فِيهِ. وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} . (1)
وَقَوْل النَّبِيِّ: أَيُّمَا رَجُلٍ أَشَاعَ عَلَى رَجُلٍ مُسْلِمٍ كَلِمَةً وَهُوَ مِنْهَا بَرِيءٌ، يَرَى أَنْ يَشِينَهُ بِهَا فِي الدُّنْيَا، كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَرْمِيَهُ بِهَا فِي النَّارِ. ثُمَّ تَلاَ مِصْدَاقَهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى:
__________
(1) سورة النور / 19.(12/40)
{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ} (1) .
وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الَّذِينَ فَعَلُوا ذَلِكَ، وَتَوَعَّدَهُمْ بِالْعَذَابِ الْعَظِيمِ، وَذَلِكَ فِي الآْيَاتِ الَّتِي نَزَلَتْ فِي شَأْنِ السَّيِّدَةِ عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا حِينَ رَمَاهَا أَهْل الإِِْفْكِ وَالْبُهْتَانِ بِمَا قَالُوهُ مِنَ الْكَذِبِ وَالاِفْتِرَاءِ، وَهِيَ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِِْفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ. . .} (2)
وَقَال ابْنُ كَثِيرٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِِثْمًا مُبِينًا} (3) أَيْ يَنْسُبُونَ إِلَيْهِمْ مَا هُمْ بُرَآءُ مِنْهُ لَمْ يَعْمَلُوهُ وَلَمْ يَفْعَلُوهُ، يَحْكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ذَلِكَ عَلَى سَبِيل الْعَيْبِ وَالتَّنَقُّصِ مِنْهُمْ، وَقَدْ قَال رَسُول اللَّهِ فِيهِ: أَرْبَى الرِّبَا عِنْدَ اللَّهِ اسْتِحْلاَل عِرْضِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ ثُمَّ قَرَأَ: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} (4) وَقَدْ قِيل فِي مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ
__________
(1) حديث: " أيما رجل أشاع على رجل مسلم كلمة. . . . " أخرجه الطبراني بلفظ مقارب وإسناده جيد كما في الترغيب والترهيب للمنذري (5 / 157 ط التجارية) .
(2) سورة النور / 11، وانظر الجامع لأحكام القرآن 12 / 206، ومختصر تفسير ابن كثير 2 / 591، 592. وحديث الإفك. أخرجه البخاري (8 / 452 ط. السلفية) ، ومسلم (4 / 2129 ط. عيسى الحلبي) .
(3) سورة الأحزاب / 58.
(4) حديث: " أربى الربا عند الله استحلال. . . ". أخرجه أبو يعلى بهذا اللفظ، ورواته رواة الصحيح كما قال المنذري في الترغيب والترهيب (3 / 504 ط مصطفى الحلبي) ، ورواه أبو داود (5 / 193 ط عزت عبيد الدعاس) ، وأحمد (1 / 190 المكتب الإسلامي) بلفظ مقارب، وحسن إسناده السيوطي (فيض القدير 2 / 531) .(12/41)
سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ (1) أَيْ مَنْ سَمَّعَ بِعُيُوبِ النَّاسِ وَأَذَاعَهَا أَظْهَرَ اللَّهُ عُيُوبَهُ.
وَمِنْ ذَلِكَ: الْهَجْوُ بِالشِّعْرِ. قَال ابْنُ قُدَامَةَ: مَا كَانَ مِنَ الشِّعْرِ يَتَضَمَّنُ هَجْوَ الْمُسْلِمِينَ وَالْقَدْحَ فِي، أَعْرَاضِهِمْ فَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَى قَائِلِهِ. (2)
ب - إِِذَا كَانَ الْمُشَهَّرُ بِهِ يَتَّصِفُ بِمَا يُقَال عَنْهُ، وَلَكِنَّهُ لاَ يُجَاهِرُ بِهِ، وَلاَ يَقَعُ بِهِ ضَرَرٌ عَلَى غَيْرِهِ.
فَالتَّشْهِيرُ بِهِ حَرَامٌ أَيْضًا؛ لأَِنَّهُ يُعْتَبَرُ مِنَ الْغِيبَةِ الَّتِي نَهَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْهَا فِي قَوْلِهِ: {وَلاَ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} (3) . وَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَال: ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ. قِيل: أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُول؟ قَال: إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُول فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَإِِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا تَقُول فَقَدْ بَهَتَّهُ. (4)
__________
(1) مختصر تفسير ابن كثير 3 / 114، وفتح الباري 11 / 337. وحديث: " من سمع سمع الله به " أخرجه البخاري (فتح الباري 13 / 128 ط. السلفية) ، ومسلم (4 / 2289 ط. عيسى الحلبي) .
(2) المغني 9 / 178، ومغني المحتاج 4 / 431.
(3) سورة الحجرات / 12.
(4) حديث: " أتدرون ما الغيبة؟ . . . " أخرجه مسلم (4 / 2001 ط. عيسى الحلبي) .(12/41)
وَمِنْ ذَلِكَ: قَوْل الْعَالِمِ: قَال فُلاَنٌ كَذَا مُرِيدًا التَّشْنِيعَ عَلَيْهِ. أَوْ قَوْل الإِِْنْسَانِ: فَعَل كَذَا بَعْضُ النَّاسِ، أَوْ بَعْضُ مَنْ يَدَّعِي الْعِلْمَ، أَوْ بَعْضُ مَنْ يُنْسَبُ إِِلَى الصَّلاَحِ وَالزُّهْدِ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ إِِذَا كَانَ الْمُخَاطَبُ يَفْهَمُهُ بِعَيْنِهِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ.
وَمِنَ الْمُقَرَّرِ شَرْعًا: أَنَّ السَّتْرَ عَلَى الْمُسْلِمِ وَاجِبٌ لِمَنْ لَيْسَ مَعْرُوفًا بِالأَْذَى وَالْفَسَادِ. فَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَل يَوْمَ الْقِيَامَةِ (1) قَال فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: وَهَذَا السَّتْرُ فِي غَيْرِ الْمُشْتَهِرِينَ. وَقَال ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِِذَا رَأَيْتَ إِنْسَانًا عَلَى مَعْصِيَةٍ فَعِظْهُ فِيمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ. وَلاَ تَفْضَحْهُ. (2)
ج - وَيَحْرُمُ كَذَلِكَ تَشْهِيرُ الإِِْنْسَانِ بِنَفْسِهِ؛ إِذْ الْمُسْلِمُ مُطَالَبٌ بِالسَّتْرِ عَلَى نَفْسِهِ. فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: كُل أُمَّتِي مُعَافًى إِلاَّ الْمُجَاهِرِينَ، وَإِِنَّ مِنَ الإِِْجْهَارِ أَنْ يَعْمَل الْعَبْدُ بِاللَّيْل عَمَلاً، ثُمَّ يُصْبِحُ وَقَدْ سَتَرَهُ عَلَيْهِ اللَّهُ، فَيَقُول: يَا فُلاَنُ، عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا. وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَل وَيُصْبِحُ
__________
(1) حديث: " من ستر مسلما ستره الله عز وجل. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 197 ط. السلفية) ، ومسلم (4 / 1996 ط. عيسى الحلبي) .
(2) الأذكار ص 288 - 290، والآداب الشرعية لابن مفلح 1 / 266، والحطاب 6 / 164، والمواق بهامش الحطاب 6 / 166، والزواجر 2 / 6، والفواكه الدواني 2 / 369.(12/42)
يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَزَّ وَجَل عَنْهُ (1) وَالسَّتْرُ وَاجِبٌ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ إِِذَا أَتَى فَاحِشَةً، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَصَابَ مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ شَيْئًا فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ. (2)
5 - وَيَكُونُ التَّشْهِيرُ جَائِزًا لِمَنْ يُجَاهِرُ بِالْمَعْصِيَةِ فِي الأَْحْوَال الآْتِيَةِ:
أ - بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ يُجَاهِرُ بِالْمَعْصِيَةِ، فَيَجُوزُ ذِكْرُ مَنْ يَتَجَاهَرُ بِفِسْقِهِ؛ لأَِنَّ الْمُجَاهِرَ بِالْفِسْقِ لاَ يَسْتَنْكِفُ أَنْ يُذْكَرَ بِهِ، وَلاَ يُعْتَبَرُ هَذَا غِيبَةً فِي حَقِّهِ؛ لأَِنَّ مَنْ أَلْقَى جِلْبَابَ الْحَيَاءِ لاَ غِيبَةَ لَهُ.
قَال الْقَرَافِيُّ: الْمُعْلِنُ بِالْفُسُوقِ - كَقَوْل امْرِئِ الْقِيسِ:
فَمِثْلُكِ حُبْلَى قَدْ طَرَقَتْ وَمُرْضِعٌ
، فَإِِنَّهُ يَفْتَخِرُ بِالزِّنَا فِي شِعْرِهِ - فَلاَ يَضُرُّ أَنْ يُحْكَى ذَلِكَ عَنْهُ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَتَأَلَّمُ إِِذَا سَمِعَهُ، بَل قَدْ يُسَرُّ بِتِلْكَ الْمَخَازِي، وَكَثِيرٌ مِنَ اللُّصُوصِ تَفْتَخِرُ بِالسَّرِقَةِ وَالاِقْتِدَارِ عَلَى التَّسَوُّرِ عَلَى الدُّورِ الْعِظَامِ وَالْحُصُونِ الْكِبَارِ، فَذِكْرُ مِثْل هَذَا عَنْ هَذِهِ الطَّوَائِفِ لاَ يَحْرُمُ.
__________
(1) حديث: " كل أمتي معافى إلا المجاهرين. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 486 ط. السلفية) ، ومسلم (4 / 2291 ط. عيسى الحلبي) .
(2) الآداب الشرعية 1 / 267، والمواق بهامش الحطاب 6 / 166، ومغني المحتاج 4 / 150. وحديث: " من أصاب من هذه القاذورات شيئا. . . " أخرجه مالك في الموطأ (2 / 825 ط. فؤاد عبد الباقي) ، والبيهقي (8 / 330 ط. دار المعرفة) ، والحاكم (4 / 244 ط. دار الكتاب العربي) . وقال حديث صحيح على شرط الشيخين، وأقره الذهبي.(12/42)
وَفِي الإِِْكْمَال فِي شَرْحِ حَدِيثِ مُسْلِمٍ: مَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ (1) قَال: وَهَذَا السَّتْرُ فِي غَيْرِ الْمُشْتَهِرِينَ. وَقَال الْخَلاَّل: أَخْبَرَنِي حَرْبٌ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ يَقُول: إِِذَا كَانَ الرَّجُل مُعْلِنًا بِفِسْقِهِ فَلَيْسَتْ لَهُ غِيبَةٌ.
وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِ بَهْجَةِ الْمَجَالِسِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ثَلاَثَةٌ لاَ غِيبَةَ فِيهِمْ: الْفَاسِقُ الْمُعْلِنُ بِفِسْقِهِ، وَشَارِبُ الْخَمْرِ، وَالسُّلْطَانُ الْجَائِرُ. (2)
6 - ب - إِِذَا كَانَ التَّشْهِيرُ عَلَى سَبِيل نَصِيحَةِ الْمُسْلِمِينَ وَتَحْذِيرِهِمْ، وَذَلِكَ كَجَرْحِ الرُّوَاةِ وَالشُّهُودِ وَالأُْمَنَاءِ عَلَى الصَّدَقَاتِ وَالأَْوْقَافِ وَالأَْيْتَامِ، وَالتَّشْهِيرِ بِالْمُصَنَّفِينَ وَالْمُتَصَدِّينَ لإِِِفْتَاءٍ أَوْ إِقْرَاءٍ مَعَ عَدَمِ أَهْلِيَّةٍ، أَوْ مَعَ نَحْوِ فِسْقٍ أَوْ بِدْعَةٍ يُدْعَوْنَ إِلَيْهَا، وَأَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَحَمَلَةِ الْعِلْمِ الْمُقَلِّدِينَ، هَؤُلاَءِ يَجِبُ تَجْرِيحُهُمْ وَكَشْفُ أَحْوَالِهِمْ
__________
(1) حديث: " من ستر مسلما ستره الله " سبق تخريجه ف / 4.
(2) الفروق للقرافي 4 / 206، 207، والزواجر 2 / 13، والآداب الشرعية 1 / 276، 277، والفواكه الدواني 2 / 389، 390، والحطاب 6 / 164، والأذكار / 293. وحديث: " ثلاثة لا غيبة لهم. . . " عزاه السيوطي في جمع الجوامع (1 / 491 نسخة مصورة عن دار الكتب المصرية) إلى الديلمي عن الحسن عن أنس رضي الله عنه. وفي فيض القدير (3 / 323 ط. المكتبة التجارية) بلفظ " ثلاثة لا يحرم عليك أعراضهم: المجاهر بالفسق، والإمام الجائر، والمبتدع " وعزاه إلى ابن أبي الدنيا في ذم الغيبة عن الحسن مرسلا.(12/43)
السَّيِّئَةِ لِمَنْ عَرَفَهَا مِمَّنْ يُقَلَّدُ فِي ذَلِكَ وَيُلْتَفَتُ إِِلَى قَوْلِهِ، لِئَلاَّ يَغْتَرَّ بِهِمْ وَيُقَلَّدَ فِي دِينِ اللَّهِ مَنْ لاَ يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ، وَلَيْسَ السَّتْرُ هُنَا بِمُرَغَّبٍ فِيهِ وَلاَ مُبَاحٍ. عَلَى هَذَا اجْتَمَعَ رَأْيُ الأُْمَّةِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا. (1)
يَقُول الْقَرَافِيُّ: أَرْبَابُ الْبِدَعِ وَالتَّصَانِيفِ الْمُضِلَّةِ يَنْبَغِي أَنْ يُشَهِّرَ النَّاسُ فَسَادَهَا وَعَيْبَهَا.
وَأَنَّهُمْ عَلَى غَيْرِ الصَّوَابِ، لِيَحْذَرَهَا النَّاسُ الضُّعَفَاءُ فَلاَ يَقَعُوا فِيهَا، وَيَنْفِرَ عَنْ تِلْكَ الْمَفَاسِدِ مَا أَمْكَنَ، بِشَرْطِ أَنْ لاَ يَتَعَدَّى فِيهَا الصِّدْقَ، وَلاَ يَفْتَرِيَ عَلَى أَهْلِهَا مِنَ الْفُسُوقِ وَالْفَوَاحِشِ مَا لَمْ يَفْعَلُوهُ، بَل يَقْتَصِرُ عَلَى مَا فِيهِمْ مِنَ الْمُنَفِّرَاتِ خَاصَّةً، فَلاَ يُقَال فِي الْمُبْتَدِعِ: إِنَّهُ يَشْرَبُ الْخَمْرَ، وَلاَ أَنَّهُ يَزْنِي، وَلاَ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ فِيهِ.
وَيَجُوزُ وَضْعُ الْكُتُبِ فِي جَرْحِ الْمَجْرُوحِينَ مِنْ رُوَاةِ الْحَدِيثِ وَالأَْخْبَارِ بِذَلِكَ لِطَلَبَةِ الْعِلْمِ الْحَامِلِينَ لِذَلِكَ لِمَنْ يَنْتَفِعُ بِهِ وَيَنْقُلُهُ، بِشَرْطِ أَنْ تَكُونَ النِّيَّةُ خَالِصَةً لِلَّهِ تَعَالَى فِي نَصِيحَةِ الْمُسْلِمِينَ فِي ضَبْطِ الشَّرِيعَةِ.
أَمَّا إِِذَا كَانَ لأَِجْل عَدَاوَةٍ أَوْ تَفَكُّهٍ بِالأَْعْرَاضِ وَجَرْيًا مَعَ الْهَوَى فَذَلِكَ حَرَامٌ، وَإِِنْ حَصَلَتْ بِهِ الْمَصْلَحَةُ عِنْدَ الرُّوَاةِ. (2)
__________
(1) الزواجر 2 / 13، والحطاب 6 / 164، والآداب الشرعية 1 / 266.
(2) الفروق للقرافي 4 / 206، 207.(12/43)
وَيَقُول الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ: لَوْ قَال الْعَالِمُ لِجَمَاعَةٍ مِنَ النَّاسِ: لاَ تَسْمَعُوا الْحَدِيثَ مِنْ فُلاَنٍ فَإِِنَّهُ يَخْلِطُ أَوْ لاَ تَسْتَفْتُوا مِنْهُ فَإِِنَّهُ لاَ يُحْسِنُ الْفَتْوَى فَهَذَا نُصْحٌ لِلنَّاسِ. نَصَّ عَلَيْهِ فِي الأُْمِّ.
قَال: وَلَيْسَ هَذَا بِغِيبَةٍ إِنْ كَانَ يَقُولُهُ لِمَنْ يَخَافُ أَنْ يَتْبَعَهُ وَيُخْطِئَ بِاتِّبَاعِهِ. (1) وَمِثْلُهُ فِي الْفَوَاكِهِ الدَّوَانِي. (2)
وَيَقُول النَّوَوِيُّ: يَجُوزُ تَحْذِيرُ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الشَّرِّ وَنَصِيحَتُهُمْ، وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ مِنْهَا: جَرْحُ الْمَجْرُوحِينَ مِنَ الرُّوَاةِ لِلْحَدِيثِ وَالشُّهُودِ، وَذَلِكَ جَائِزٌ بِإِِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، بَل وَاجِبٌ لِلْحَاجَةِ.
وَمِنْهَا: إِِذَا اسْتَشَارَكَ إِنْسَانٌ فِي مُصَاهَرَتِهِ أَوْ مُشَارَكَتِهِ أَوْ إِيدَاعِهِ أَوِ الإِِْيدَاعِ عِنْدَهُ أَوْ مُعَامَلَتِهِ بِغَيْرِ ذَلِكَ، وَجَبَ عَلَيْكَ أَنْ تَذْكُرَ لَهُ مَا تَعْلَمُهُ مِنْهُ عَلَى جِهَةِ النَّصِيحَةِ. (3)
وَفِي مُغْنِي الْمُحْتَاجِ: يُنْكَرُ عَلَى مَنْ تَصَدَّى لِلتَّدْرِيسِ وَالْفَتْوَى وَالْوَعْظِ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ أَهْلِهِ، وَيُشَهَّرُ أَمْرُهُ لِئَلاَّ يُغْتَرَّ بِهِ. (4)
ثَانِيًا: التَّشْهِيرُ مِنْ الْحَاكِمِ:
تَشْهِيرُ الْحَاكِمِ لِبَعْضِ النَّاسِ يَكُونُ فِي الْحُدُودِ أَوْ فِي التَّعْزِيرِ.
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 435.
(2) الفواكه الدواني 2 / 270.
(3) الأذكار للنووي / 292.
(4) مغني المحتاج 4 / 211.(12/44)
أ - بِالنِّسْبَةِ لِلْحُدُودِ:
7 - قَال الْفُقَهَاءُ: يَنْبَغِي أَنْ تُقَامَ الْحُدُودُ فِي مَلأٍَ مِنَ النَّاسِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (1) ، قَال الْكَاسَانِيُّ: وَالنَّصُّ وَإِِنْ وَرَدَ فِي حَدِّ الزِّنَى، لَكِنَّ النَّصَّ الْوَارِدَ فِيهِ يَكُونُ وَارِدًا فِي سَائِرِ الْحُدُودِ دَلاَلَةً، لأَِنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْحُدُودِ كُلِّهَا وَاحِدٌ، وَهُوَ زَجْرُ الْعَامَّةِ، وَذَلِكَ لاَ يَحْصُل إِلاَّ وَأَنْ تَكُونَ الإِِْقَامَةُ عَلَى رَأْسِ الْعَامَّةِ؛ لأَِنَّ الْحُضُورَ يَنْزَجِرُونَ بِأَنْفُسِهِمْ بِالْمُعَايَنَةِ، وَالْغَائِبِينَ يَنْزَجِرُونَ بِإِِخْبَارِ الْحُضُورِ، فَيَحْصُل الزَّجْرُ لِلْكُل. (2)
وَقَال عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ حَبِيبٍ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ إِقَامَةُ الْحَدِّ عَلاَنِيَةً وَغَيْرَ سِرٍّ، لِيَتَنَاهَى النَّاسُ عَمَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. (3)
وَقَال مُطَرِّفٌ: وَمِنْ أَمْرِ النَّاسِ عِنْدَنَا الشَّهْرُ لأَِهْل الْفِسْقِ رِجَالاً وَنِسَاءً، وَالإِِْعْلاَمُ بِجَلْدِهِمْ فِي الْحُدُودِ وَمَا يَلْزَمُهُمْ مِنَ الْعُقُوبَةِ وَكَشْفُ وَجْهِ الْمَرْأَةِ. (4)
وَسُئِل الإِِْمَامُ مَالِكٌ عَنْ الْمَجْلُودِ فِي الْخَمْرِ وَالْفِرْيَةِ: أَتَرَى أَنْ يُطَافَ بِهِمْ وَبِشُرَّابِ الْخَمْرِ؟ قَال: إِِذَا كَانَ فَاسِقًا مُدْمِنًا فَأَرَى أَنْ يُطَافَ بِهِمْ،
__________
(1) سورة النور / 2.
(2) بدائع الصنائع 7 / 60، 61.
(3) التبصرة بهامش فتح العلي المالك 2 / 269.
(4) التبصرة 2 / 183.(12/44)
وَنُعْلِنُ أَمْرَهُمْ وَيُفْضَحُونَ. (1)
وَفِي حَدِّ السَّرِقَةِ قَال الْفُقَهَاءُ: يُنْدَبُ أَنْ يُعَلَّقَ الْعُضْوُ الْمَقْطُوعُ فِي عُنُقِ الْمَحْدُودِ؛ لأَِنَّ فِي ذَلِكَ رَدْعًا لِلنَّاسِ، وَقَدْ رَوَى فَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِسَارِقٍ قُطِعَتْ يَدُهُ، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَعُلِّقَتْ فِي عُنُقِهِ وَفَعَل ذَلِكَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. (2)
وَذَكَرَ فِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ حَدِيثَ: مَا بَال الْعَامِل نَبْعَثُهُ، فَيَأْتِي فَيَقُول: هَذَا لَكَ وَهَذَا لِي. فَهَلاَّ جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ فَيَنْظُرُ أَيُهْدَى لَهُ أَمْ لاَ؟ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ يَأْتِي بِشَيْءٍ إِلاَّ جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ، إِنْ كَانَ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةً تَيْعَرُ. (3)
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ - كَمَا قَال ابْنُ الْمُنِيرِ - أَنَّ الْحُكَّامَ أَخَذُوا بِالتَّجْرِيسِ بِالسَّارِقِ وَنَحْوِهِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ. (4)
كَذَلِكَ قَال الْفُقَهَاءُ فِي قَاطِعِ الطَّرِيقِ إِِذَا صُلِبَ: يُصْلَبُ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ لِيَشْتَهِرَ الْحَال وَيَتِمَّ
__________
(1) التبصرة 2 / 177.
(2) المهذب 2 / 284، ومغني المحتاج 4 / 179، والمغني 8 / 261، وحديث فضالة أخرجه أبو داود (4 / 567 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والنسائي (8 / 92 - ط المكتبة التجارية) . وقال النسائي. الحجاج بن أرطأة - يعني الذي في إسناده -: ضعيف، ولا يحتج بحديثه.
(3) حديث: " ما بال العامل نبعثه فيأتي فيقول. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 13 / 164 ط. السلفية) ، ومسلم (3 / 1463 ط عيسى الحلبي) واللفظ للبخاري.
(4) ابن عابدين 3 / 192. والتجريس بالسارق: التسميع به.(12/45)
النَّكَال. قَال ابْنُ قُدَامَةَ: إِنَّمَا شُرِعَ الصَّلْبُ رَدْعًا لِغَيْرِهِ لِيَشْتَهِرَ أَمْرُهُ (1) .
ب - بِالنِّسْبَةِ لِلتَّعْزِيرِ:
8 - التَّشْهِيرُ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ التَّعْزِيرِ، أَيْ أَنَّهُ عُقُوبَةٌ تَعْزِيرِيَّةٌ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّعْزِيرَ يُرْجَعُ فِي تَحْدِيدِ جِنْسِهِ وَقَدْرِهِ إِِلَى نَظَرِ الْحَاكِمِ، فَقَدْ يَكُونُ بِالضَّرْبِ أَوِ الْحَبْسِ أَوِ التَّوْبِيخِ أَوِ التَّشْهِيرِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، حَسَبَ اخْتِلاَفِ مَرَاتِبِ النَّاسِ، وَاخْتِلاَفِ الْمَعَاصِي، وَاخْتِلاَفِ الأَْعْصَارِ وَالأَْمْصَارِ.
وَعَلَى ذَلِكَ فَالتَّعْزِيرُ بِالتَّشْهِيرِ جَائِزٌ إِِذَا عَلِمَ الْحَاكِمُ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ فِيهِ، وَهَذَا الْحُكْمُ هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِكُل مَعْصِيَةٍ لاَ حَدَّ فِيهَا وَلاَ كَفَّارَةَ فِي الْجُمْلَةِ.
يَقُول الْمَاوَرْدِيُّ: لِلأَْمِيرِ إِِذَا رَأَى مِنَ الصَّلاَحِ فِي رَدْعِ السَّفَلَةِ: أَنْ يُشَهِّرَهُمْ وَيُنَادِيَ عَلَيْهِمْ بِجَرَائِمِهِمْ، سَاغَ لَهُ ذَلِكَ. (2)
وَيَقُول: يَجُوزُ فِي نَكَال التَّعْزِيرِ أَنْ يُجَرَّدَ مِنْ ثِيَابِهِ، إِلاَّ قَدْرَ مَا يَسْتُرُ عَوْرَتَهُ، وَيُشَهَّرَ فِي النَّاسِ، وَيُنَادَى عَلَيْهِ بِذَنْبِهِ إِِذَا تَكَرَّرَ مِنْهُ وَلَمْ يَتُبْ. (3)
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 182، والمغني 8 / 288، 291.
(2) الأحكام السلطانية للماوردي ص 221.
(3) المرجع السابق / 239.(12/45)
وَفِي التَّبْصِرَةِ لاِبْنِ فَرْحُونَ: إِنْ رَأَى الْقَاضِي الْمَصْلَحَةَ فِي قَمْعِ السَّفَلَةِ بِإِِشْهَارِهِمْ بِجَرَائِمِهِمْ فَعَل. (1)
وَيَقُول ابْنُ فَرْحُونَ أَيْضًا: إِِذَا حَكَمَ الْقَاضِي بِالْجَوْرِ، وَثَبَتَ ذَلِكَ عَلَيْهِ بِالْبَيِّنَةِ، فَإِِنَّهُ يُعَاقَبُ الْعُقُوبَةَ الْمُوجِعَةَ، وَعُزِل وَيُشَهَّرُ وَيُفْضَحُ. (2)
وَفِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ: الْقَوَّادَةُ - الَّتِي تُفْسِدُ النِّسَاءَ وَالرِّجَال - أَقَل مَا يَجِبُ فِيهَا الضَّرْبُ الْبَلِيغُ، وَيَنْبَغِي شُهْرَةُ ذَلِكَ بِحَيْثُ يَسْتَفِيضُ فِي الرِّجَال وَالنِّسَاءِ لِتُجْتَنَبَ. (3)
غَيْرَ أَنَّهُ يُلاَحَظُ أَنَّ الْفُقَهَاءَ دَائِمًا يَذْكُرُونَ التَّشْهِيرَ فِي تَعْزِيرِ شَاهِدِ الزُّورِ مِمَّا يُوحِي بِأَنَّ التَّشْهِيرَ وَاجِبٌ بِالنِّسْبَةِ لِشَاهِدِ الزُّورِ، وَذَلِكَ لاِعْتِبَارِ هَذِهِ الْمَعْصِيَةِ مِنَ الْكَبَائِرِ.
قَال الإِِْمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ فِي شَاهِدِ الزُّورِ فِي الْمَشْهُورِ: يُطَافُ بِهِ وَيُشَهَّرُ، وَلاَ يُضْرَبُ اسْتِنَادًا إِِلَى مَا فَعَلَهُ الْقَاضِي شُرَيْحٌ، وَزَادَ الصَّاحِبَانِ ضَرْبَهُ وَحَبْسَهُ. (4)
وَيَذْكُرُ ابْنُ قُدَامَةَ حَدِيثَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُول اللَّهِ قَال: الإِِْشْرَاكُ بِاللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَكَانَ
__________
(1) التبصرة بهامش فتح العلي 2 / 146.
(2) المرجع السابق 2 / 315.
(3) كشاف القناع 6 / 127.
(4) ابن عابدين 3 / 192، 4 / 395، والبدائع 6 / 289.(12/46)
مُتَّكِئًا فَجَلَسَ، فَقَال: أَلاَ وَقَوْل الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ. فَمَا زَال يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ. (1)
ثُمَّ يَقُول ابْنُ قُدَامَةَ: فَمَتَى ثَبَتَ عِنْدَ الْحَاكِمِ عَنْ رَجُلٍ أَنَّهُ شَهِدَ بِزُورٍ عَمْدًا عَزَّرَهُ وَشَهَّرَهُ فِي قَوْل أَكْثَرِ أَهْل الْعِلْمِ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَبِهِ يَقُول شُرَيْحٌ وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَسَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَالأَْوْزَاعِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ يَعْلَى قَاضِي الْبَصْرَةِ (2) .
وَفِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ: إِِذَا عُزِّرَ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّعْزِيرُ وَجَبَ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يُشَهِّرَهُ لِمَصْلَحَةٍ كَشَاهِدِ زُورٍ لِيُجْتَنَبَ. (3)
وَجَاءَ فِي التَّبْصِرَةِ: التَّعْزِيرُ لاَ يَخْتَصُّ بِالسَّوْطِ وَالْيَدِ وَالْحَبْسِ، وَإِِنَّمَا ذَلِكَ مَوْكُولٌ إِِلَى اجْتِهَادِ الإِِْمَامِ. قَال أَبُو بَكْرٍ الطُّرْطُوشِيُّ فِي أَخْبَارِ الْخُلَفَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ: إِنَّهُمْ كَانُوا يُعَامِلُونَ الرَّجُل عَلَى قَدْرِهِ وَقَدْرِ جِنَايَتِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُضْرَبُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُحْبَسُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُقَامُ وَاقِفًا عَلَى قَدَمَيْهِ فِي الْمَحَافِل، وَمِنْهُمْ مَنْ تُنْزَعُ عِمَامَتُهُ.
__________
(1) حديث: " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قالوا. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 405 ط. السلفية) ، ومسلم (1 / 91 ط. عيسى الحلبي) .
(2) المغني 9 / 261.
(3) كشاف القناع 6 / 125 - 127.(12/46)
قَال الْقَرَافِيُّ: إِنَّ التَّعْزِيرَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الأَْعْصَارِ وَالأَْمْصَارِ، فَرُبَّ تَعْزِيرٍ فِي بَلَد يَكُونُ إِكْرَامًا فِي بَلَدٍ آخَرَ، كَقَطْعِ الطَّيْلَسَانِ لَيْسَ تَعْزِيرًا فِي الشَّامِ فَإِِنَّهُ إِكْرَامٌ، وَكَشْفِ الرَّأْسِ بِالأَْنْدَلُسِ لَيْسَ هَوَانًا وَبِمِصْرِ وَالْعِرَاقِ هَوَانٌ.
ثُمَّ قَال صَاحِبُ التَّبْصِرَةِ: وَالتَّعْزِيرُ لاَ يَخْتَصُّ بِفِعْلٍ مُعَيَّنٍ وَلاَ قَوْلٍ مُعَيَّنٍ، فَقَدْ عَزَّرَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْهَجْرِ، وَذَلِكَ فِي حَقِّ الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، فَهُجِرُوا خَمْسِينَ يَوْمًا لاَ يُكَلِّمُهُمْ أَحَدٌ. (1)
وَعَزَّرَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّفْيِ، فَأَمَرَ بِإِِخْرَاجِ الْمُخَنَّثِينَ مِنْ الْمَدِينَةِ وَنَفْيِهِمْ. (2)
وَفِي مُغْنِي الْمُحْتَاجِ: يَجْتَهِدُ الإِِْمَامُ فِي جِنْسِ التَّعْزِيرِ وَقَدْرِهِ؛ لأَِنَّهُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ شَرْعًا، فَيَجْتَهِدُ فِي سُلُوكِ الأَْصَحِّ، فَلَهُ أَنْ يُشَهِّرَ فِي النَّاسِ مَنْ أَدَّى اجْتِهَادُهُ إِلَيْهِ. وَيَجُوزُ لَهُ حَلْقُ رَأْسِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُصْلَبَ حَيًّا، وَهُوَ رَبْطُهُ فِي مَكَان عَالٍ لِمَا لاَ يَزِيدُ عَنْ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ثُمَّ يُرْسَل، وَلاَ يُمْنَعُ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالصَّلاَةِ. (3)
__________
(1) التبصرة 2 / 295، 296. وحديث: " هجر الثلاثة الذين تخلفوا. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 8 / 342 ط. السلفية) . ومسلم (4 / 2120 ط. عيسى الحلبي) .
(2) حديث: " الأمر بإخراج المخنثين من المدينة ونفيهم " أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 333 ط. السلفية) .
(3) مغني المحتاج 4 / 192.(12/47)
وَهَذِهِ النُّصُوصُ تَدُل عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُكْتَفَى بِالتَّشْهِيرِ كَعُقُوبَةٍ تَعْزِيرِيَّةٍ إِِذَا رَأَى الإِِْمَامُ ذَلِكَ، وَيَجُوزُ أَنْ يُضَمَّ إِلَيْهِ عُقُوبَةٌ أُخْرَى كَالضَّرْبِ وَالْحَبْسِ.
وَقَدْ كَانَ أَبُو بَكْرٍ الْبُحْتُرِيُّ - وَهُوَ أَمِيرُ الْمَدِينَةِ - إِِذَا أُتِيَ بِرَجُلٍ، قَدْ أَخَذَ مَعَهُ الْجَرَّةَ مِنَ الْمُسْكِرِ، أُمِرَ بِهِ فَصُبَّ عَلَى رَأْسِهِ عِنْدَ بَابِهِ، كَيْمَا يُعْرَفُ بِذَلِكَ وَيُشَهَّرُ بِهِ. (1)
__________
(1) التبصرة 2 / 183.(12/47)
تَشَوُّفٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّشَوُّفُ لُغَةً: مَصْدَرُ تَشَوَّفَ. يُقَال: تَشَوَّفَتِ الأَْوْعَال: إِِذَا عَلَتْ رُءُوسَ الْجِبَال تَنْظُرُ السَّهْل وَخُلُوَّهُ مِمَّا تَخَافُهُ لِتَرِدَ الْمَاءَ. وَمِنْهُ قِيل تَشَوَّفَ فُلاَنٌ لِكَذَا: إِِذَا طَمَحَ بَصَرُهُ إِلَيْهِ. ثُمَّ اسْتُعْمِل فِي تَعَلُّقِ الآْمَال، وَالتَّطَلُّبِ.
وَالْمُشَوِّفَةُ مِنَ النِّسَاءِ: الَّتِي تُظْهِرُ نَفْسَهَا لِيَرَاهَا النَّاسُ.
وَتَشَوَّفَتِ الْمَرْأَةُ: تَزَيَّنَتْ وَتَطَلَّعَتْ لِلْخِطَابِ (1) - مِنْ شفتُ الدِّرْهَمَ: إِِذَا جَلَوْتَهُ.
وَدِينَارٌ مُشَوَّفٌ: أَيْ مَجْلُوٌّ - وَهُوَ أَنْ تَجْلُوَ الْمَرْأَةُ وَجْهَهَا وَتَصْقُل خَدَّيْهَا. (2)
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ لِلَفْظِ تَشَوُّفٍ عَنْ مَعَانِيهِ الْوَارِدَةِ فِي اللُّغَةِ.
وَقِيل: التَّشَوُّفُ بِمَعْنَى التَّزَيُّنِ خَاصٌّ بِالْوَجْهِ، وَالتَّزَيُّنُ عَامٌّ يُسْتَعْمَل فِي الْوَجْهِ وَغَيْرِهِ (3) .
__________
(1) المصباح المنير، ولسان العرب، ومحيط المحيط، ومعجم متن اللغة مادة: " شوف ".
(2) فتح القدير 3 / 172 والعناية عليه.
(3) شرح فتح القدير 3 / 172 ط دار صادر.(12/48)
الْحُكْمُ الإِِْجْمَالِيُّ:
أ - تَشَوُّفُ الشَّارِعِ لإِِِثْبَاتِ النَّسَبِ:
2 - مِنَ الْقَوَاعِدِ الْمُقَرَّرَةِ فِي الشَّرِيعَةِ الإِِْسْلاَمِيَّةِ: أَنَّ الشَّارِعَ مُتَشَوِّفٌ لِلَحَاقِ النَّسَبِ، (1) لأَِنَّ النَّسَبَ أَقْوَى الدَّعَائِمِ الَّتِي تَقُومُ عَلَيْهَا الأُْسْرَةُ، وَيَرْتَبِطُ بِهِ أَفْرَادُهَا، قَال تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا} . (2)
وَلاِعْتِنَاءِ الشَّرِيعَةِ بِحِفْظِ النَّسَبِ وَتَشَوُّفِهَا لإِِِثْبَاتِهِ تَكَرَّرَ فِيهَا الأَْمْرُ بِحِفْظِهِ عَنْ تَطَرُّقِ الشَّكِّ إِلَيْهِ، وَالتَّحْذِيرُ مِنْ ذَرَائِعِ التَّهَاوُنِ بِهِ.
وَلِمُرَاعَاةِ هَذَا الْمَقْصِدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اعْتِبَارِ الأَْحْوَال النَّادِرَةِ فِي إِلْحَاقِ النَّسَبِ، لِتَشَوُّفِ الشَّارِعِ لإِِِثْبَاتِهِ. (3)
وَلِلتَّفْصِيل (ر: نَسَبٌ) .
ب - التَّشَوُّفُ إِِلَى الْعِتْقِ:
3 - مِنْ مَحَاسِنِ الإِِْعْتَاقِ أَنَّهُ إِحْيَاءٌ حُكْمِيٌّ، يَخْرُجُ الْعَبْدُ مِنْ كَوْنِهِ مُلْحَقًا بِالْجَمَادَاتِ إِِلَى كَوْنِهِ أَهْلاً لِلْكَرَامَاتِ الْبَشَرِيَّةِ، مِنْ قَبُول الشَّهَادَةِ
__________
(1) رد المحتار على الدر المختار 4 / 444، 624، 627، والبدائع 4 / 329، وحاشية الدسوقي 3 / 412، وشرح الزرفاني 6 / 105، والكافي لابن عبد البر 2 / 916 وما بعدها.
(2) سورة الفرقان / 54.
(3) القرافي في الفروق - الفرق 175، 239.(12/48)
وَالْوِلاَيَةِ وَالْقَضَاءِ. وَيَقَعُ الْعِتْقُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ مِنْ كُل: مُكَلَّفٍ مُسْلِمٍ - وَلَوْ سَكْرَانَ أَوْ هَازِلاً وَلَوْ دُونَ نِيَّةٍ - لِتَشَوُّفِ الشَّارِعِ إِِلَى الْحُرِّيَّةِ بِلاَ خِلاَفٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ. وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ مِنْ حَيْثُ الأَْصْل تَصَرُّفٌ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ، وَيَجِبُ لِعَارِضٍ، وَيَحْصُل بِهِ الْقُرْبَةُ (1) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} (2) وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَل {فَكُّ رَقَبَةٍ} (3) .
وَلِخَبَرِ أَيُّمَا مُسْلِمٍ أَعْتَقَ مُؤْمِنًا أَعْتَقَ اللَّهُ بِكُل عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنَ النَّارِ (4) (ر: عِتْقٌ، إِعْتَاقٌ) .
ج - التَّشَوُّفُ فِي الْعِدَّةِ:
4 - الْمُطَلَّقَةُ الرَّجْعِيَّةُ لَهَا أَنْ تَتَزَيَّنَ؛ لأَِنَّهَا حَلاَلٌ لِلزَّوْجِ، لِقِيَامِ نِكَاحِهَا مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ، وَالرَّجْعَةُ مُسْتَحَبَّةٌ، وَالتَّزَيُّنُ حَامِلٌ عَلَيْهَا فَيَكُونُ مَشْرُوعًا. وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ.
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ: فَيَرَوْنَ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهَا الإِِْحْدَادُ. فَلاَ يُسْتَحَبُّ لَهَا التَّزَيُّنُ. وَمِنْهُمْ مَنْ
__________
(1) شرح فتح القدير 5 / 439، 442 ط دار صادر، وحاشية الدسوقي 4 / 59 وشرح الزرقاني وحاشية البناني عليه 7 / 120 ط دار الفكر، وحواشي الشرواني وابن قاسم العبادي على تحفة المحتاج 10 / 356 ط دار صادر، ونهاية المحتاج 8 / 356، 357 ط الحلبي بمصر، ومطالب أولي النهى 4 / 691 وما بعدها.
(2) سورة النساء / 92.
(3) سورة البلد / 13
(4) متفق عليه.(12/49)
قَال: الأَْوْلَى أَنْ تَتَزَيَّنَ بِمَا يَدْعُو الزَّوْجَ إِِلَى رَجْعَتِهَا (1) . (ر: عِدَّةٌ) وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي تَحْرِيمِ الزِّينَةِ عَلَى الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا مُدَّةَ عِدَّتِهَا؛ لِوُجُوبِ الإِِْحْدَادِ عَلَيْهَا.
وَأَمَّا الْمُبَانَةُ فِي الْحَيَاةِ بَيْنُونَةً كُبْرَى، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهَا عَلَى أَقْوَالٍ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ إِِلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهَا الزِّينَةُ، حِدَادًا وَأَسَفًا عَلَى زَوْجِهَا، وَإِِظْهَارًا لِلتَّأَسُّفِ عَلَى فَوْتِ نِعْمَةِ النِّكَاحِ، الَّذِي هُوَ سَبَبٌ لِصَوْنِهَا وَكِفَايَةِ مَئُونَتِهَا، وَلِحُرْمَةِ النَّظَرِ إِلَيْهَا، وَعَدَمِ مَشْرُوعِيَّةِ الرَّجْعَةِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يُسْتَحَبُّ لَهَا الإِِْحْدَادُ. وَفِي قَوْلٍ: الإِِْحْدَادُ وَاجِبٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَالُوا: لاَ إِحْدَادَ إِلاَّ عَلَى الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا فَقَطْ. وَمُفَادُهُ: لاَ إِحْدَادَ عَلَى الْمُبَانَةِ وَإِِنِ اسْتُحِبَّ لَهَا فِي عِدَّتِهَا.
وَلاَ يُسَنُّ لَهَا الإِِْحْدَادُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَلِهَذَا لاَ يَلْزَمُهَا أَنْ تَتَجَنَّبَ مَا يُرَغِّبُ فِي النَّظَرِ إِلَيْهَا مِنَ الزِّينَةِ (2) .
وَلِلتَّفْصِيل (ر: عِدَّةٌ) .
__________
(1) ابن عابدين 2 / 536، 616 - 618 ط بيروت، وبدائع الصنائع 3 / 180 ط أولى، وشرح فتح القدير 3 / 172 ط دار صادر، وحاشية الجمل على شرح المنهج 4 / 457 - 459، ونهاية المحتاج 7 / 140 وما بعدها، وروضة الطالبين 8 / 405 - 407، والشرح الكبير 2 / 478 - 479، والمغني 7 / 279، 517 - 519.
(2) المراجع السابقة.(12/49)
د - التَّشَوُّفُ لِلْخِطَابِ:
5 - يَرَى الْفُقَهَاءُ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلَّتِي تَكُونُ صَالِحَةً لِلْخُطْبَةِ وَالزَّوَاجِ أَنْ تَتَزَيَّنَ اسْتِعْدَادًا لِرُؤْيَةِ مَنْ يَرْغَبُ فِي خِطْبَتِهَا وَالزَّوَاجِ بِهَا.
وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْخَاطِبِ أَنْ يَرَى بِنَفْسِهِ مَنْ يَرْغَبُ فِي زَوَاجِهَا لِكَيْ يَقْدَمَ عَلَى الْعَقْدِ إِنْ أَعْجَبَتْهُ، وَيَحْجُمَ عَنْهُ إِنْ لَمْ تُعْجِبْهُ، لِخَبَرِ إِِذَا خَطَبَ أَحَدُكُمُ امْرَأَةً، فَإِِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَنْظُرَ مِنْهَا إِِلَى مَا يَدْعُوهُ إِِلَى نِكَاحِهَا فَلْيَفْعَل (1) وَذَلِكَ لأَِنَّهُ مِنْ أَسْبَابِ الأُْلْفَةِ وَالْوِئَامِ.
وَعَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ خَطَبَ امْرَأَةً، فَقَال لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَظَرْتَ إِلَيْهَا؟ قَال: لاَ. فَقَال: اذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَيْهَا، فَإِِنَّهُ أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَكُمَا. (2)
وَيَرَى أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ لِلْخَاطِبِ أَنْ يَنْظُرَ إِِلَى الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ فَقَطْ، لأَِنَّ رُؤْيَتَهُمَا تُحَقِّقُ الْمَطْلُوبَ مِنَ الْجَمَال وَخُصُوبَةِ الْجَسَدِ وَعَدَمِهَا. فَيَدُل الْوَجْهُ عَلَى الْجَمَال أَوْ ضِدُّهُ لأَِنَّهُ مَجْمَعُ الْمَحَاسِنِ، وَالْكَفَّانِ عَلَى خُصُوبَةِ الْبَدَنِ.
وَأَجَازَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ النَّظَرَ إِِلَى الرَّقَبَةِ
__________
(1) حديث: " إذا خطب أحدكم امرأة فإن. . . " أخرجه أبو داود (2 / 565 - 566 - ط عزت عبيد دعاس) وحسنه ابن حجر في الفتح (9 / 181 - ط السلفية) .
(2) حديث: " اذهب فانظر إليها فإنه أحرى. . . " أخرجه ابن ماجه (1 / 600 - ط الحلبي) وقال البوصيري في الزوائد: إسناده صحيح.(12/50)
وَالْقَدَمَيْنِ. وَأَجَازَ الْحَنَابِلَةُ النَّظَرَ إِِلَى مَا يَظْهَرُ عِنْدَ الْقِيَامِ بِالأَْعْمَال، وَهِيَ سِتَّةُ أَعْضَاءٍ: الْوَجْهُ، وَالرَّأْسُ، وَالرَّقَبَةُ، وَالْيَدُ، وَالْقَدَمُ، وَالسَّاقُ؛ لأَِنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إِِلَى ذَلِكَ، وَلإِِِطْلاَقِ الأَْحَادِيثِ السَّابِقَةِ. (1)
وَلِلتَّفْصِيل (ر: نِكَاحٌ، خِطْبَةٌ) .
تَشْيِيعُ الْجِنَازَةِ
انْظُرْ: جِنَازَةٌ
__________
(1) بداية المجتهد 2 / 4 ط م الكليات الأزهرية، وحاشية ابن عابدين 3 / 8 وما بعدها ط مصطفى الحلبي بمصر، وحاشية الدسوقي 2 / 215، ونهاية المحتاج 6 / 183، والمغني 6 / 553 وما بعدها، والمبدع في شرح المقنع 7 / 7 وما بعدها.(12/50)
تَصَادُقٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّصَادُقُ لُغَةً وَاصْطِلاَحًا: ضِدُّ التَّكَاذُبِ يُقَال: تَصَادَقَا فِي الْحَدِيثِ وَالْمَوَدَّةِ ضِدُّ تَكَاذَبَا وَمَادَّةُ تَفَاعَل لاَ تَكُونُ غَالِبًا إِلاَّ بَيْنَ اثْنَيْنِ يُقَال: تَحَابَّا وَتَخَاصَمَا، أَيْ أَحَبَّ أَوْ خَاصَمَ كُلٌّ مِنْهُمَا الآْخَرَ وَاسْتَعْمَل الْمَالِكِيَّةُ أَيْضًا (التَّقَارُرَ) بِمَعْنَى التَّصَادُقِ (1) .
حُكْمُ التَّصَادُقِ:
2 - حُكْمُ التَّصَادُقِ فِي الْجُمْلَةِ - فِي حَقِّ الْمُتَصَادِقِينَ إِِذَا تَعَلَّقَتْ بِهِ حُقُوقُ الْعِبَادِ، أَوْ كَانَ فِي حُقُوقِ اللَّهِ الَّتِي لاَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ - اللُّزُومُ، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنَ الشَّهَادَةِ؛ لأَِنَّهُ نَوْعٌ مِنَ الإِِْقْرَارِ.
قَال أَشْهَبُ: قَوْل كُل أَحَدٍ عَلَى نَفْسِهِ أَوْجَبُ مِنْ دَعْوَاهُ عَلَى غَيْرِهِ.
أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ فَلَيْسَ بِلاَزِمٍ. (2)
__________
(1) تاج العروس، والدسوقي 2 / 331، وحاشية القليوبي 2 / 309، وتبصرة الحكام 2 / 36.
(2) تبصرة الحكام 2 / 36.(12/51)
مَنْ يُعْتَبَرُ تَصَادُقُهُ:
3 - التَّصَادُقُ الَّذِي يُعْتَدُّ بِهِ وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُكْمٌ يَكُونُ مِنَ الْبَالِغِ الْعَاقِل الْمُخْتَارِ، فَلاَ يُعْتَبَرُ تَصْدِيقُ الصَّغِيرِ وَغَيْرُ الْعَاقِل.
صِفَةُ التَّصَادُقِ:
4 - صِفَةُ التَّصْدِيقِ لَفْظٌ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ يَدُل عَلَى تَوَجُّهِ الْحَقِّ قَبْل الْمُقِرِّ (الْمُصَدِّق) .
وَيَقُومُ مَقَامَ اللَّفْظِ: الإِِْشَارَةُ وَالْكِتَابَةُ وَالسُّكُوتُ. فَالإِِْشَارَةُ مِنَ الأَْبْكَمِ وَمِنَ الْمَرِيضِ.
فَإِِذَا قِيل لِلْمَرِيضِ: لِفُلاَنٍ عِنْدَكَ كَذَا، فَأَشَارَ بِرَأْسِهِ أَنْ نَعَمْ، فَهَذَا تَصْدِيقٌ إِِذَا فُهِمَ عَنْهُ مُرَادُهُ. (1)
مَا يُشْتَرَطُ فِي الْمُصَادَقِ:
5 - يُشْتَرَطُ فِي الْمُصَادِقِ أَنْ يَكُونَ أَهْلاً لِلاِسْتِحْقَاقِ، وَأَلاَّ يُكَذِّبَهُ الْمُصَادِقُ، فَإِِذَا كَذَّبَ الْمُصَادِقُ الْمُصَادَقَ ثُمَّ رَجَعَ لَمْ يُفِدْ رُجُوعُهُ، إِلاَّ أَنْ يَرْجِعَ الْمُصَادَقُ إِِلَى مَا أَقَرَّ بِهِ.
مَحَل التَّصَادُقِ:
6 - يَكُونُ التَّصْدِيقُ فِي النَّسَبِ وَالْمَال.
وَالتَّصْدِيقُ فِي النَّسَبِ يُنْظَرُ تَحْتَ عِنْوَانِ (نَسَبٌ) .
__________
(1) تبصرة الحكام 2 / 36، 38.(12/51)
وَالتَّصْدِيقُ فِي الْمَال نَوْعَانِ: مُطْلَقٌ وَمُقَيَّدٌ.
فَالْمُطْلَقُ: مَا صَدَرَ غَيْرَ مُقْتَرِنٍ بِمَا يُقَيِّدُهُ أَوْ يُرْفَعُ حُكْمُهُ أَوْ حُكْمُ بَعْضِهِ، فَإِِذَا كَانَ التَّصْدِيقُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَهُوَ مُلْزِمٌ لِمَنْ صَدَّقَ، وَعَلَيْهِ أَدَاءُ مَا صَدَّقَ فِيهِ، وَلاَ يَجُوزُ لَهُ الرُّجُوعُ عَنْهُ.
وَإِِذَا كَانَ التَّصْدِيقُ مُقَيَّدًا بِقَيْدٍ فَفِي لُزُومِهِ أَوْ عَدَمِهِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (إِقْرَارٌ) .
التَّصَادُقُ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى:
7 - إِِذَا تَصَادَقَ اثْنَانِ أَوْ أَكْثَرُ عَلَى إِسْقَاطِ حَقٍّ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فَلاَ عِبْرَةَ بِتَصَادُقِهِمْ، وَلاَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُكْمٌ، إِلاَّ إِِذَا قَامَتْ بَيِّنَةٌ عَلَى هَذَا التَّصَادُقِ، فَيَكُونُ الْحُكْمُ فِي هَذِهِ الْحَال ثَابِتًا بِالْبَيِّنَةِ لاَ بِالتَّصَادُقِ، وَيَتَّضِحُ ذَلِكَ مِنَ الأَْمْثِلَةِ الآْتِيَةِ:
إِنْ طَلَّقَ الزَّوْجُ زَوْجَتَهُ قَبْل الدُّخُول، وَكَانَ قَدْ خَلاَ بِهَا، لَزِمَتْهَا الْعِدَّةُ إِنْ كَانَ الزَّوْجُ بَالِغًا، وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ مُطِيقَةً لِلْوَطْءِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ خَلْوَةَ اهْتِدَاءٍ أَمْ خَلْوَةَ زِيَارَةٍ. وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. وَتَجِبُ الْعِدَّةُ حِينَئِذٍ وَلَوْ تَصَادَقَا عَلَى نَفْيِ الْوَطْءِ؛ لأَِنَّ الْعِدَّةَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، فَلاَ تَسْقُطُ بِالتَّصَادُقِ.
وَيُؤْخَذُ بِتَصَادُقِهِمَا عَلَى نَفْيِ الْوَطْءِ فِيمَا هُوَ حَقٌّ لَهُمَا: فَلاَ نَفَقَةَ لَهَا، وَلاَ يَتَكَمَّل لَهَا الصَّدَاقُ، وَلاَ رَجْعَةَ لَهُ عَلَيْهَا. أَيْ كُل مَنْ أَقَرَّ مِنْهُمَا أُخِذَ(12/52)
بِإِِقْرَارِهِ اجْتِمَاعًا أَوِ انْفِرَادًا. وَيَتَرَتَّبُ عَلَى قَبُول التَّصَادُقِ أَوْ رَدِّهِ أَحْكَامٌ كَثِيرَةٌ، كَثُبُوتِ النَّسَبِ مِنْ تَارِيخِ الْخَلْوَةِ، وَتَأْكِيدِ الْمَهْرِ، وَالنَّفَقَةِ وَالسَّكَنِ وَالْعِدَّةِ، وَحُرْمَةِ نِكَاحِ أُخْتِهَا فِي عِدَّتِهَا وَأَرْبَعٍ سِوَاهَا. وَفِي هَذِهِ الْمَذَاهِبِ اخْتِلاَفٌ فِي الْحُقُوقِ الَّتِي تَتَرَتَّبُ عَلَى الْخَلْوَةِ. تَفْصِيلُهُ فِي بَابِ: (النِّكَاحِ) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْقَدِيمِ قَوْلاَنِ أَحَدُهُمَا: الْخَلْوَةُ مُؤَثِّرَةٌ، وَتُصَدَّقُ الْمَرْأَةُ فِي ادِّعَاءِ الإِِْصَابَةِ (الْوَطْءِ) وَالْقَوْل الثَّانِي أَنَّهَا كَالْوَطْءِ. وَفِي الْجَدِيدِ: أَنَّ الْخَلْوَةَ وَحْدَهَا لاَ تُؤَثِّرُ فِي الْمَهْرِ.
وَعَلَى هَذَا لَوِ اتَّفَقَا عَلَى حُصُول الْخَلْوَةِ، وَادَّعَتِ الإِِْصَابَةَ لَمْ يَتَرَجَّحْ جَانِبُهَا، بَل الْقَوْل قَوْلُهُ بِيَمِينِهِ.
وَيُفْهَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ صَدَّقَهَا يَتَقَرَّرُ الْمَهْرُ كُلُّهُ (1) .
التَّصَادُقُ فِي النِّكَاحِ:
8 - لاَ يَثْبُتُ النِّكَاحُ بِالتَّصَادُقِ؛ لأَِنَّ الشَّهَادَةَ شَرْطٌ فِيهِ، وَوَقْتُهَا عِنْدَ غَيْرِ الْمَالِكِيَّةِ وَقْتُ الْعَقْدِ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُنْدَبُ الإِِْشْهَادُ وَقْتَ الْعَقْدِ، فَإِِنْ لَمْ يَشْهَدْ عِنْدَ الْعَقْدِ اشْتُرِطَ وُجُوبًا عِنْدَ الدُّخُول، وَلاَ حَدَّ عِنْدَهُمْ إِنْ فَشَا النِّكَاحُ بِوَلِيمَةٍ أَوْ ضَرْبِ دُفٍّ أَوْ دُخَانٍ، أَوْ كَانَ عَلَى الْعَقْدِ أَوِ الدُّخُول
__________
(1) ابن عابدين 2 / 338 - 341، والشرح الكبير 2 / 468، والمغني 6 / 704 ط الرياض، والروضة 7 / 263.(12/52)
شَاهِدٌ وَاحِدٌ غَيْرُ الْوَلِيِّ، لِصِحَّةِ النِّكَاحِ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ. (1)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: تَثْبُتُ الزَّوْجِيَّةُ بِالتَّقَارُرِ (أَيِ التَّصَادُقِ) حَقُّ الزَّوْجَيْنِ إِِذَا كَانَا بَلَدِيَّيْنِ، أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا بَلَدِيًّا، وَأَمَّا الطَّارِئَانِ (أَيْ مَنْ لَمْ يَكُونَا مِنْ أَهْل الْبَلَدِ، سَوَاءٌ قَدِمَا مَعًا أَوْ مُفْتَرِقَيْنِ) فَلاَ تَثْبُتُ الزَّوْجِيَّةُ بَيْنَهُمَا بِمُجَرَّدِ التَّصَادُقِ. (2)
حُكْمُ تَصَادُقِ الزَّوْجَيْنِ عَلَى طَلاَقٍ سَابِقٍ:
9 - إِِذَا أَقَرَّ رَجُلٌ فِي حَالَةِ الصِّحَّةِ بِطَلاَقٍ بَائِنٍ أَوْ رَجْعِيٍّ مُتَقَدِّمٍ عَلَى وَقْتِ إِقْرَارِهِ، وَلاَ بَيِّنَةَ لَهُ، اسْتَأْنَفَتِ امْرَأَتُهُ الْعِدَّةَ مِنْ وَقْتِ إِقْرَارِهِ، فَيُصَدَّقُ فِي الطَّلاَقِ، لاَ فِي إِسْنَادِهِ لِلْوَقْتِ السَّابِقِ وَلَوْ صَدَّقَتْهُ؛ لأَِنَّهُ يُتَّهَمُ عَلَى إِسْقَاطِ الْعِدَّةِ وَهِيَ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى. فَإِِنْ كَانَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ، فَالْعِدَّةُ مِنَ الْوَقْتِ الَّذِي أُسْنِدَتْ إِلَيْهِ الْبَيِّنَةُ.
هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلْعِدَّةِ لأَِنَّهَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى. أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِحُقُوقِ الزَّوْجَيْنِ فَيُعَامَل كُلٌّ حَسَبَ إِقْرَارِهِ، فَلَوْ مَاتَتِ الزَّوْجَةُ، وَكَانَتِ الْعِدَّةُ قَدِ انْقَضَتْ بِحَسَبِ إِقْرَارِهِ، فَلاَ يَرِثُهَا لأَِنَّهَا صَارَتْ أَجْنَبِيَّةً عَلَى مُقْتَضَى دَعْوَاهُ، وَلاَ رَجْعَةَ لَهُ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ الطَّلاَقُ رَجْعِيًّا، وَوَرِثَتْهُ إِنْ مَاتَ فِي الْعِدَّةِ
__________
(1) البدائع 2 / 256، والشرح الكبير 2 / 217، ونهاية المحتاج 6 / 213، 7 / 45.
(2) الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 331 - 332.(12/53)
الْمُسْتَأْنَفَةِ، حَيْثُ كَانَ الطَّلاَقُ رَجْعِيًّا إِنْ لَمْ تُصَدِّقْهُ. وَلاَ يَتَزَوَّجُ أُخْتَهَا وَلاَ أَرْبَعًا سِوَاهَا فِي الْعِدَّةِ، وَلَوْ صَادَقَتْهُ عَلَى حُصُول الطَّلاَقِ فِي الْمَاضِي نَفْيًا لِتُهْمَةِ التَّوَاطُؤِ بَيْنَهُمَا. وَإِِنْ صَدَّقَتْهُ فَلاَ نَفَقَةَ لَهَا مُعَامَلَةً لَهَا بِتَصْدِيقِهَا إِيَّاهُ. وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ. (1)
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ لَوْ أَسْنَدَ الزَّوْجُ الطَّلاَقَ إِِلَى زَمَنٍ مَاضٍ، وَصَدَّقَتِ الزَّوْجَةُ الزَّوْجَ فِي الإِِْسْنَادِ، فَالْعِدَّةُ مِنَ التَّارِيخِ الَّذِي أُسْنِدَ إِلَيْهِ الطَّلاَقُ، وَلَوْ لَمْ يَقُمْ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةٌ. (2)
وَالْمَفْهُومُ مِنْ كَلاَمِ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْحُكْمَ عِنْدَهُمْ كَذَلِكَ. فَقَدْ جَاءَ فِي شَرْحِ منتهى الإرادات: لَوْ جَاءَتِ امْرَأَةٌ حَاكِمًا وَادَّعَتْ أَنَّ زَوْجَهَا طَلَّقَهَا وَانْتَهَتْ عِدَّتُهَا، فَلَهُ تَزْوِيجُهَا بِشَرْطِهِ إِنْ ظَنَّ صِدْقَهَا، وَلاَ سِيَّمَا إِنْ كَانَ الزَّوْجُ لاَ يَعْرِفُ؛ لأَِنَّ الإِِْقْرَارَ (أَيْ بِالزَّوْجِيَّةِ) لِمَجْهُولٍ لاَ يَصِحُّ. وَأَيْضًا الأَْصْل صِدْقُهَا (أَيْ فِيمَا ادَّعَتْهُ مِنْ خُلُوِّهَا عَنِ الزَّوْجِيَّةِ) وَلاَ مُنَازِعَ. (3)
حُكْمُ مُصَادَقَةِ الزَّوْجَةِ عَلَى إِعْسَارِ الزَّوْجِ:
10 - يُكْتَفَى بِتَصْدِيقِ الزَّوْجَةِ زَوْجَهَا فِي دَعْوَاهُ الإِِْعْسَارَ، وَتَصْدِيقُهَا يَقُومُ مَقَامَ الْبَيِّنَةِ، وَيَتَرَتَّبُ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 610، والشرح الكبير 2 / 477.
(2) نهاية المحتاج 7 / 18.
(3) شرح منتهى الإرادات 3 / 188، والمغني 6 / 450 - 451، وكشاف القناع 5 / 424.(12/53)
عَلَيْهِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ثُبُوتِ الإِِْعْسَارِ بِالْبَيِّنَةِ مِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ بِالتَّطْلِيقِ بِشُرُوطِهِ الْمُفَصَّلَةِ فِي أَبْوَابِهَا (1) وَيُنْظَرُ (إِعْسَارٌ، نَفَقَةٌ، مَهْرٌ) .
الرُّجُوعُ فِي التَّصْدِيقِ:
11 - تَقَدَّمَ أَنَّ التَّصْدِيقَ مُلْزِمٌ لِمَنْ صَدَّقَ، وَعَلَى ذَلِكَ فَلاَ يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهِ بِالنِّسْبَةِ لِحُقُوقِ الْعِبَادِ وَحُقُوقِ اللَّهِ الَّتِي لاَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ، كَالزَّكَاةِ، فَمَنْ صَدَّقَ الْمُدَّعِيَ فِيمَا ادَّعَاهُ عَلَيْهِ مِنْ حَقٍّ فَلاَ يَجُوزُ لَهُ الرُّجُوعُ مَتَى تَوَافَرَتْ شُرُوطُ التَّصْدِيقِ.
وَلَوْ أَقَرَّ بِنَسَبٍ، وَصَدَّقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ، ثُمَّ رَجَعَ الْمُقِرُّ عَنْ إِقْرَارِهِ لاَ يُقْبَل مِنْهُ الرُّجُوعُ.
أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ كَالْحُدُودِ فَإِِنَّهُ إِِذَا ثَبَتَ الْحَدُّ بِالإِِْقْرَارِ فَقَطْ، فَإِِنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُقِرِّ الرُّجُوعُ، سَوَاءٌ أَكَانَ الرُّجُوعُ قَبْل الْحَدِّ أَمْ بَعْدَهُ، وَسَقَطَ الْحَدُّ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرَّضَ لِمَاعِزٍ بِالرُّجُوعِ، فَلَوْلاَ أَنَّهُ يُفِيدُ لَمَا عَرَّضَ لَهُ بِهِ.
وَعَلَّل الْفُقَهَاءُ عَدَمَ جَوَازِ الرُّجُوعِ فِي التَّصْدِيقِ بِحُقُوقِ الآْدَمِيِّينَ وَحُقُوقِ اللَّهِ الَّتِي لاَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ: بِأَنَّ رُجُوعَهُ نَقْضٌ لِمَا صَدَرَ مِنْهُ وَتَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ، فَإِِذَا قَال: هَذِهِ الدَّارُ لِزَيْدٍ، لاَ بَل لِعَمْرٍو، أَوِ ادَّعَى زَيْدٌ عَلَى مَيِّتٍ
__________
(1) الشرح الكبير 2 / 299، 519، وقليوبي مع عميرة 4 / 83، والمغني 7 / 573، والدر وابن عابدين 2 / 656.(12/54)
شَيْئًا مُعَيَّنًا مِنْ تَرِكَتِهِ فَصَدَّقَهُ ابْنُهُ، ثُمَّ ادَّعَاهُ عَمْرٌو فَصَدَّقَهُ، حُكِمَ بِهِ لِزَيْدٍ، وَوَجَبَتْ عَلَيْهِ غَرَامَتُهُ لِعَمْرٍو، وَهَذَا ظَاهِرُ أَحَدِ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ.
وَفِي الْقَوْل الآْخَرِ: لاَ يَغْرَمُ لِعَمْرٍو شَيْئًا، وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ؛ لأَِنَّهُ أَقَرَّ لَهُ بِمَا عَلَيْهِ الإِِْقْرَارُ بِهِ وَإِِنَّمَا مَنَعَهُ الْحُكْمُ مِنْ قَبُولِهِ وَذَلِكَ لاَ يُوجِبُ الضَّمَانَ. (1)
__________
(1) المغني 5 / 164 ط الرياض، ونهاية المحتاج 7 / 43، والشرح الكبير 4 / 318، والبدائع 7 / 61.(12/54)
تَصْحِيحٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّصْحِيحُ لُغَةً: مَصْدَرُ صَحَّحَ، يُقَال: صَحَّحْتُ الْكِتَابَ وَالْحِسَابَ تَصْحِيحًا: إِِذَا أَصْلَحْتَ خَطَأَهُ، وَصَحَّحْتَهُ فَصَحَّ. (1)
وَالتَّصْحِيحُ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ هُوَ: الْحُكْمُ عَلَى الْحَدِيثِ بِالصِّحَّةِ، إِِذَا اسْتَوْفَى شَرَائِطَ الصِّحَّةِ الَّتِي وَضَعَهَا الْمُحَدِّثُونَ (2) .
وَيُطْلَقُ التَّصْحِيحُ أَيْضًا عِنْدَهُمْ عَلَى كِتَابَةِ (صَحَّ) عَلَى كَلاَمٍ يَحْتَمِل الشَّكَّ بِأَنْ كُرِّرَ لَفْظٌ مَثَلاً لاَ يُخِل تَرْكُهُ (3) .
وَالتَّصْحِيحُ عِنْدَ أَهْل الْفَرَائِضِ: إِزَالَةُ الْكُسُورِ الْوَاقِعَةِ بَيْنَ السِّهَامِ وَالرُّءُوسِ. (4)
وَالتَّصْحِيحُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ هُوَ: رَفْعُ أَوْ حَذْفُ مَا يُفْسِدُ الْعِبَادَةَ أَوِ الْعَقْدَ (5) .
__________
(1) لسان العرب مادة: " صحح ".
(2) تدريب الراوي / 24.
(3) كشاف اصطلاحات الفنون 3 / 819.
(4) التعريفات للجرجاني.
(5) البدائع 5 / 139، 178، والاختيار 2 / 26، ومغني المحتاج 2 / 40، ومنح الجليل 2 / 570 - 571، وبداية المجتهد 2 / 162 ط عيسى الحلبي.(12/55)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّعْدِيل:
2 - التَّعْدِيل: مَصْدَرُ عَدَّل، يُقَال: عَدَّلْتُ الشَّيْءَ تَعْدِيلاً فَاعْتَدَل: إِِذَا سَوَّيْتَهُ فَاسْتَوَى. وَمِنْهُ قِسْمَةُ التَّعْدِيل. وَعَدَّلْتُ الشَّاهِدَ: نَسَبْتَهُ إِِلَى الْعَدَالَةِ. وَتَعْدِيل الشَّيْءِ: تَقْوِيمُهُ (1) .
ب - التَّصْوِيبُ:
3 - التَّصْوِيبُ: مَصْدَرُ صَوَّبَ مِنَ الصَّوَابِ، الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْخَطَأِ، وَالتَّصْوِيبُ بِهَذَا الْمَعْنَى يُرَادِفُ التَّصْحِيحَ، وَصَوَّبْتَ قَوْلَهُ: قُلْتَ: إِنَّهُ صَوَابٌ (2) .
ج - التَّهْذِيبُ:
4 - التَّهْذِيبُ كَالتَّنْقِيَةِ، يُقَال: هَذَّبَ الشَّيْءَ، إِِذَا نَقَّاهُ وَأَخْلَصَهُ. وَقِيل: أَصْلَحَهُ (3) .
د - الإِِْصْلاَحُ:
5 - الإِِْصْلاَحُ ضِدُّ الإِِْفْسَادِ، وَأَصْلَحَ الشَّيْءَ بَعْدَ فَسَادِهِ: أَقَامَهُ، وَأَصْلَحَ الدَّابَّةَ: أَحْسَنَ إِلَيْهَا (4) .
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير مادة: " عدل ".
(2) لسان العرب والمصباح المنير مادة: " صوب ".
(3) لسان العرب مادة: " هذب ".
(4) لسان العرب مادة: " صلح ".(12/55)
هـ - التَّحْرِيرُ:
6 - تَحْرِيرُ الْكِتَابَةِ: إِقَامَةُ حُرُوفِهَا وَإِِصْلاَحُ السَّقْطِ وَتَحْرِيرُ الْحِسَابِ: إِثْبَاتُهُ مُسْتَوِيًا لاَ غَلَتَ فِيهِ، (1) وَلاَ سَقْطَ وَلاَ مَحْوَ. وَتَحْرِيرُ الرَّقَبَةِ: عِتْقُهَا (2) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
7 - تَصْحِيحُ الْفَسَادِ وَالْخَطَأِ أَمْرٌ وَاجِبٌ شَرْعًا مَتَى عَرَفَهُ الإِِْنْسَانُ، سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ فِي الْعِبَادَاتِ: كَمَنْ اجْتَهَدَ فِي مَعْرِفَةِ الْقِبْلَةِ وَصَلَّى، ثُمَّ تَبَيَّنَ الْخَطَأُ أَثْنَاءَ الصَّلاَةِ، فَيَجِبُ تَصْحِيحُ هَذَا الْخَطَأِ بِالاِتِّجَاهِ إِِلَى الْقِبْلَةِ، وَإِِلاَّ فَسَدَتِ الصَّلاَةُ. أَمْ كَانَ ذَلِكَ فِي الْمُعَامَلاَتِ: كَالْبَيْعِ بِشَرْطٍ مُفْسِدٍ لِلْعَقْدِ، فَيَجِبُ إِسْقَاطُ هَذَا الشَّرْطِ لِيَصِحَّ الْبَيْعُ، وَإِِلاَّ وَجَبَ فَسْخُ الْبَيْعِ دَفْعًا لِلْفَسَادِ (3) .
مَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّصْحِيحِ مِنْ أَحْكَامٍ:
أَوَّلاً: تَصْحِيحُ الْحَدِيثِ:
8 - تَصْحِيحُ الْحَدِيثِ هُوَ: الْحُكْمُ عَلَيْهِ بِالصِّحَّةِ لِتَوَافُرِ شُرُوطٍ خَاصَّةٍ اشْتَرَطَهَا عُلَمَاءُ الْحَدِيثِ. وَقَدْ يَخْتَلِفُ الْمُحَدِّثُونَ فِي صِحَّةِ بَعْضِ الأَْحَادِيثِ
__________
(1) الغلت: الغلط في الحساب (القاموس المحيط) .
(2) لسان العرب مادة: " شهد ".
(3) الهداية 1 / 45، وابن عابدين 4 / 133، والزيلعي 4 / 64.(12/56)
لاِخْتِلاَفِهِمْ فِي بَعْضِ الشُّرُوطِ، وَفِي تَقْدِيمِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ.
فَقَدْ قَرَّرَ ابْنُ الصَّلاَحِ وَالنَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُمَا أَنَّهُ يُحْكَمُ بِصِحَّةِ الْحَدِيثِ الْمُسْنَدِ الَّذِي يَتَّصِل إِسْنَادُهُ بِنَقْل الْعَدْل الضَّابِطِ عَنِ الْعَدْل الضَّابِطِ إِِلَى مُنْتَهَاهُ، وَلاَ يَكُونُ شَاذًّا وَلاَ مُعَلَّلاً.
قَال ابْنُ الصَّلاَحِ: فَهَذَا هُوَ الْحَدِيثُ الَّذِي يُحْكَمُ لَهُ بِالصِّحَّةِ بِلاَ خِلاَفٍ بَيْنَ أَهْل الْحَدِيثِ. فَإِِذَا وُجِدَتِ الشُّرُوطُ الْمَذْكُورَةُ حُكِمَ لِلْحَدِيثِ بِالصِّحَّةِ، مَا لَمْ يَظْهَرْ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ فِيهِ شُذُوذًا. وَالْحُكْمُ بِتَوَاتُرِ الْحَدِيثِ حُكْمٌ بِصِحَّتِهِ.
وَقَال بَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ: يُحْكَمُ لِلْحَدِيثِ بِالصِّحَّةِ إِِذَا تَلَقَّاهُ النَّاسُ بِالْقَبُول، وَإِِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِسْنَادٌ صَحِيحٌ. قَال ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ - لَمَّا حَكَى عَنِ التِّرْمِذِيِّ أَنَّ الْبُخَارِيَّ صَحَّحَ حَدِيثَ الْبَحْرِ: هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِل مَيْتَتُهُ (1) وَأَهْل الْحَدِيثِ لاَ يُصَحِّحُونَ مِثْل إِسْنَادِهِ - لَكِنَّ الْحَدِيثَ عِنْدِي صَحِيحٌ، لأَِنَّ الْعُلَمَاءَ تَلَقَّوْهُ بِالْقَبُول.
وَقَال الأُْسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الإِْسْفَرايِينِيُّ: تُعْرَفُ صِحَّةِ الْحَدِيثِ إِِذَا اشْتَهَرَ عِنْدَ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ بِغَيْرِ
__________
(1) حديث: " هو الطهور ماؤه والحل ميتته ". أخرجه مالك (الموطأ 1 / 22 - ط عيسى الحلبي) وعنه الترمذي (1 / 101 - ط مصطفى الحلبي) وصححه البخاري. (التلخيص الحبير 1 / 9 - شركة الطباعة الفنية المتحدة) .(12/56)
نَكِيرٍ مِنْهُمْ. وَقَال نَحْوَهُ ابْنُ فُورَكٍ (1) .
عَلَى أَنَّ هُنَاكَ مَنِ اشْتَرَطَ غَيْرَ ذَلِكَ لِلْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ، كَاشْتِرَاطِ الْحَاكِمِ أَنْ يَكُونَ رَاوِي الْحَدِيثِ مَشْهُورًا بِالطَّلَبِ (أَيْ طَلَبِ الْحَدِيثِ وَتَتَبُّعِ رِوَايَاتِهِ) وَعَنْ مَالِكٍ نَحْوُهُ، وَكَاشْتِرَاطِ أَبِي حَنِيفَةَ فِقْهَ الرَّاوِي، وَكَاشْتِرَاطِ بَعْضِ الْمُحَدِّثِينَ الْعِلْمَ بِمَعَانِي الْحَدِيثِ، حَيْثُ يُرْوَى بِالْمَعْنَى، قَال السُّيُوطِيُّ: وَهُوَ شَرْطٌ لاَ بُدَّ مِنْهُ، لَكِنَّهُ دَاخِلٌ فِي الضَّبْطِ، وَكَاشْتِرَاطِ الْبُخَارِيِّ ثُبُوتَ السَّمَاعِ لِكُل رَاوٍ مِنْ شَيْخِهِ، وَلَمْ يَكْتَفِ بِإِِمْكَانِ اللِّقَاءِ وَالْمُعَاصَرَةِ (2) .
أَثَرُ عَمَل الْعَالِمِ وَفُتْيَاهُ فِي التَّصْحِيحِ:
9 - قَال النَّوَوِيُّ وَالسُّيُوطِيُّ: عَمَل الْعَالِمِ وَفُتْيَاهُ عَلَى وَفْقِ حَدِيثٍ رَوَاهُ لَيْسَ حُكْمًا مِنْهُ بِصِحَّةِ الْحَدِيثِ وَلاَ بِتَعْدِيل رُوَاتِهِ، لإِِِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْهُ احْتِيَاطًا، أَوْ لِدَلِيلٍ آخَرَ وَافَقَ ذَلِكَ الْخَبَرَ. وَصَحَّحَ الآْمِدِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الأُْصُولِيِّينَ أَنَّهُ حُكْمٌ بِذَلِكَ.
وَقَال إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي مَسَالِكِ الاِحْتِيَاطِ (أَيْ لَمْ تَكُنِ الْفُتْيَا بِمُقْتَضَى صِحَّةِ الْحَدِيثِ، بَل لِلاِحْتِيَاطِ) . وَفَرَّقَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ بَيْنَ أَنْ يَعْمَل بِهِ فِي التَّرْغِيبِ وَغَيْرِهِ.
__________
(1) تدريب الراوي ص 22 - 25.
(2) تدريب الراوي ص 26.(12/57)
كَمَا أَنَّ مُخَالَفَةَ الْعَالِمِ لِلْحَدِيثِ لاَ تُعْتَبَرُ قَدْحًا مِنْهُ فِي صِحَّتِهِ وَلاَ فِي رُوَاتِهِ، لإِِِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِمَانِعٍ مِنْ مُعَارِضٍ أَوْ غَيْرِهِ.
وَقَدْ رَوَى الإِِْمَامُ مَالِكٌ حَدِيثَ الْخِيَارِ، وَلَمْ يَعْمَل بِهِ لِعَمَل أَهْل الْمَدِينَةِ بِخِلاَفِهِ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ قَدْحًا فِي نَافِعٍ رَاوِيهِ.
وَمِمَّا لاَ يَدُل عَلَى صِحَّةِ الْحَدِيثِ أَيْضًا - كَمَا ذَكَرَ أَهْل الأُْصُول - مُوَافَقَةُ الإِِْجْمَاعِ لَهُ عَلَى الأَْصَحِّ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَنَدُ غَيْرَهُ. وَقِيل: يَدُل عَلَى صِحَّةِ الْحَدِيثِ. (1)
تَصْحِيحُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ:
10 - يَرَى الشَّيْخُ ابْنُ الصَّلاَحِ أَنَّهُ قَدِ انْقَطَعَ التَّصْحِيحُ فِي هَذِهِ الأَْعْصَارِ، فَلَيْسَ لأَِحَدٍ أَنْ يُصَحِّحَ، بَل يَقْتَصِرُ فِي الْحُكْمِ بِصِحَّةِ الْحَدِيثِ عَلَى مَا اعْتَمَدَهُ السَّابِقُونَ، كَمَا يَرَى عَدَمَ اعْتِبَارِ الْحَدِيثِ صَحِيحًا بِمُجَرَّدِ صِحَّةِ إِسْنَادِهِ مَا لَمْ يُوجَدْ فِي مُصَنَّفَاتِ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ الْمُعْتَمَدَةِ الْمَشْهُورَةِ، فَأَغْلَبُ الظَّنِّ أَنَّهُ لَوْ صَحَّ عِنْدَهُمْ لِمَا أَهْمَلُوهُ لِشِدَّةِ فَحْصِهِمْ وَاجْتِهَادِهِمْ. (2)
وَقَدْ خَالَفَ الإِِْمَامُ النَّوَوِيُّ ابْنَ الصَّلاَحِ فِي ذَلِكَ، فَقَال: وَالأَْظْهَرُ عِنْدِي جَوَازُهُ لِمَنْ تَمَكَّنَ وَقَوِيَتْ مَعْرِفَتُهُ.
__________
(1) تدريب الراوي ص 209.
(2) تدريب الراوي ص 51 - 53، 79، وعلوم الحديث ص 13.(12/57)
قَال الْحَافِظُ الْعِرَاقِيُّ: وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ عَمَل أَهْل الْحَدِيثِ.
وَقَدْ صَحَّحَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ أَحَادِيثَ لَمْ يُعْرَفْ تَصْحِيحُهُمَا عَنِ الأَْقْدَمِينَ. (1)
ثَانِيًا: تَصْحِيحُ الْعَقْدِ الْفَاسِدِ:
11 - الْفُقَهَاءُ عَدَا الْحَنَفِيَّةَ لاَ يُفَرِّقُونَ فِي الْجُمْلَةِ بَيْنَ الْعَقْدِ الْبَاطِل وَالْعَقْدِ الْفَاسِدِ، فَالْحُكْمُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: أَنَّ الْعَقْدَ لاَ يَنْقَلِبُ صَحِيحًا بِرَفْعِ الْمُفْسِدِ. فَفِي كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ: لَوْ حَذَفَ الْعَاقِدَانِ الْمُفْسِدَ لِلْعَقْدِ - وَلَوْ فِي مَجْلِسِ الْخِيَارِ - لَمْ يَنْقَلِبِ الْعَقْدُ صَحِيحًا، إِذْ لاَ عِبْرَةَ بِالْفَاسِدِ. (2)
وَفِي الْمُغْنِي لاِبْنِ قُدَامَةَ: لَوْ بَاعَهُ بِشَرْطِ أَنْ يُسْلِفَهُ أَوْ يُقْرِضَهُ، أَوْ شَرَطَ الْمُشْتَرِي ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَهُوَ مُحَرَّمٌ وَالْعَقْدُ بَاطِلٌ، لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ، وَعَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ، وَعَنْ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ، وَعَنْ شَرْطَيْنِ فِي بَيْعٍ، وَعَنْ بَيْعٍ
__________
(1) تدريب الراوي ص 78 وما بعدها.
(2) أسنى المطالب 2 / 37، ومغني المحتاج 2 / 40، وروضة الطالبين 3 / 410، وحاشية الجمل 3 / 84 - 115، والمنثور في القواعد 2 / 150.(12/58)
وَسَلَفٍ. (1) وَلأَِنَّهُ اشْتَرَطَ عَقْدًا فِي عَقْدٍ فَفَسَدَ كَبَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ؛ وَلأَِنَّهُ إِِذَا اشْتَرَطَ الْقَرْضَ زَادَ فِي الثَّمَنِ لأَِجْلِهِ، فَتَصِيرُ الزِّيَادَةُ فِي الثَّمَنِ عِوَضًا عَنِ الْقَرْضِ وَرِبْحًا لَهُ، وَذَلِكَ رِبًا مُحَرَّمٌ، فَفَسَدَ كَمَا لَوْ صَرَّحَ بِهِ؛ وَلأَِنَّهُ بَيْعٌ فَاسِدٌ فَلاَ يَعُودُ صَحِيحًا كَمَا لَوْ بَاعَ دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ ثُمَّ تَرَكَ أَحَدَهُمَا (2) .
وَفِي بَابِ الرَّهْنِ قَال: لَوْ بَطَل الْعَقْدُ لَمَا عَادَ صَحِيحًا (3) .
وَفِي شَرْحِ منتهى الإرادات: الْعَقْدُ الْفَاسِدُ لاَ يَنْقَلِبُ صَحِيحًا (4) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَصِحُّ الْعَقْدُ إِِذَا حُذِفَ الشَّرْطُ الْمُفْسِدُ لِلْعَقْدِ، سَوَاءٌ أَكَانَ شَرْطًا يُنَافِي مُقْتَضَى الْعَقْدِ، أَمْ كَانَ شَرْطًا يُخِل بِالثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ، إِلاَّ أَرْبَعَةَ شُرُوطٍ فَلاَ يَصِحُّ الْبَيْعُ مَعَهَا وَلَوْ حُذِفَ الشَّرْطُ، وَهِيَ:
__________
(1) حديث: " نهى عن ربح ما لم يضمن وعن بيع ما لم يقبض. . . ". رواه الطبراني من حديث حكيم بن حزام قال في مجمع الزوائد (4 / 85) وروى النسائي بعضه، وفي سنده عند الطبراني العلاء بن خالد الواسطي وثقه ابن حبان، وضعفه موسى بن إسماعيل. وروي بلفظ " لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك ". أخرجه الترمذي (3 / 535 - 536 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وقال: حديث حسن صحيح.
(2) المغني 4 / 259 - 260.
(3) المغني 4 / 379.
(4) شرح منتهى الإرادات 2 / 250.(12/58)
أ - مَنِ ابْتَاعَ سِلْعَةً بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ عَلَى أَنَّهُ إِنْ مَاتَ فَالثَّمَنُ صَدَقَةٌ عَلَيْهِ، فَإِِنَّهُ يَفْسَخُ الْبَيْعَ وَلَوْ أَسْقَطَ هَذَا الشَّرْطَ لأَِنَّهُ غَرَرٌ، وَكَذَا لَوْ شَرَطَ: إِنْ مَاتَ فَلاَ يُطَالِبُ الْبَائِعُ وَرَثَتَهُ بِالثَّمَنِ.
ب - شَرْطُ مَا لاَ يَجُوزُ مِنْ أَمَدِ الْخِيَارِ، فَيَلْزَمُ فَسْخُهُ وَإِِنْ أَسْقَطَ لِجَوَازِ كَوْنِ إِسْقَاطِهِ أَخْذًا بِهِ.
ج - مَنْ بَاعَ أَمَةً وَشَرَطَ عَلَى الْمُبْتَاعِ أَنْ لاَ يَطَأَهَا، وَأَنَّهُ إِنْ فَعَل فَهِيَ حُرَّةٌ، أَوْ عَلَيْهِ دِينَارٌ مَثَلاً، فَيُفْسَخُ وَلَوْ أَسْقَطَ الشَّرْطَ لأَِنَّهُ يَمِينٌ.
د - شَرْطُ الثُّنْيَا يُفْسِدُ الْبَيْعَ وَلَوْ أَسْقَطَ الشَّرْطَ.
وَزَادَ ابْنُ الْحَاجِبِ شَرْطًا خَامِسًا وَهُوَ:
هـ - شَرْطُ النَّقْدِ (أَيْ تَعْجِيل الثَّمَنِ) فِي بَيْعِ الْخِيَارِ قَال ابْنُ الْحَاجِبِ: لَوْ أَسْقَطَ شَرْطَ النَّقْدِ فَلاَ يَصِحُّ (1) .
وَفِي الإِِْجَارَةِ جَاءَ فِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ: تَفْسُدُ الإِِْجَارَةُ بِالشَّرْطِ الَّذِي يُنَاقِضُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ، وَمَحَل الْفَسَادِ إِنْ لَمْ يُسْقِطَ الشَّرْطَ، فَإِِنْ أَسْقَطَ الشَّرْطَ صَحَّتْ (2) .
وَيُوَضِّحُ ابْنُ رُشْدٍ سَبَبَ اخْتِلاَفِ الْفُقَهَاءِ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ بِارْتِفَاعِ الْمُفْسِدِ أَوْ عَدَمِ صِحَّتِهِ. فَيَقُول: هَل إِِذَا لَحِقَ الْفَسَادُ بِالْبَيْعِ مِنْ قِبَل الشَّرْطِ يَرْتَفِعُ الْفَسَادُ إِِذَا ارْتَفَعَ الشَّرْطُ، أَوْ لاَ
__________
(1) منح الجليل 2 / 570 - 571.
(2) الشرح الصغير 2 / 277 ط الحلبي.(12/59)
يَرْتَفِعُ؟ كَمَا لاَ يَرْتَفِعُ الْفَسَادُ اللاَّحِقُ لِلْبَيْعِ الْحَلاَل مِنْ أَجْل اقْتِرَانِ الْمُحَرَّمِ الْعَيْنَ بِهِ، كَمَنْ بَاعَ غُلاَمًا بِمِائَةِ دِينَارٍ وَزِقِّ خَمْرٍ، فَلَمَّا عَقَدَ الْبَيْعَ قَال: أَدَّعِ الزِّقَّ. وَهَذَا الْبَيْعُ مَفْسُوخٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ بِإِِجْمَاعٍ.
وَهَذَا أَيْضًا يَنْبَنِي عَلَى أَصْلٍ آخَرَ. هُوَ: هَل هَذَا الْفَسَادُ مَعْقُول الْمَعْنَى أَوْ غَيْرُ مَعْقُولٍ؟ فَإِِنْ قُلْنَا: هُوَ غَيْرُ مَعْقُول الْمَعْنَى، لَمْ يَرْتَفِعِ الْفَسَادُ بِارْتِفَاعِ الشَّرْطِ. وَإِِنْ قُلْنَا: مَعْقُولٌ، ارْتَفَعَ الْفَسَادُ بِارْتِفَاعِ الشَّرْطِ.
فَمَالِكٌ رَآهُ مَعْقُولاً، وَالْجُمْهُورُ رَأَوْهُ غَيْرَ مَعْقُولٍ، وَالْفَسَادُ الَّذِي يُوجَدُ فِي بُيُوعِ الرِّبَا وَالْغَرَرِ هُوَ أَكْثَرُ ذَلِكَ غَيْرُ مَعْقُول الْمَعْنَى، وَلِذَلِكَ لَيْسَ يَنْعَقِدُ عِنْدَهُمْ أَصْلاً، وَإِِنْ تُرِكَ الرِّبَا بَعْدَ الْبَيْعِ وَارْتَفَعَ الْغَرَرُ (1) .
12 - وَيُفَرِّقُ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ الْعَقْدِ الْبَاطِل وَالْعَقْدِ الْفَاسِدِ فَيَصِحُّ عِنْدَهُمْ - خِلاَفًا لِزُفَرَ - تَصْحِيحُ الْعَقْدِ الْفَاسِدِ، بِارْتِفَاعِ الْمُفْسِدِ دُونَ الْبَاطِل، وَيَقُولُونَ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ: إِنَّ ارْتِفَاعَ الْمُفْسِدِ فِي الْفَاسِدِ يَرُدُّهُ صَحِيحًا، لأَِنَّ الْبَيْعَ قَائِمٌ مَعَ الْفَسَادِ، وَمَعَ الْبُطْلاَنِ لَمْ يَكُنْ قَائِمًا بِصِفَةِ الْبُطْلاَنِ، بَل كَانَ مَعْدُومًا.
وَعِنْدَ زُفَرَ: الْعَقْدُ الْفَاسِدُ لاَ يَحْتَمِل الْجَوَازَ بِرَفْعِ الْمُفْسِدِ.
__________
(1) بداية المجتهد 2 / 162 ط عيسى الحلبي.(12/59)
لَكِنَّ تَصْحِيحَ الْعَقْدِ الْفَاسِدِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مُقَيَّدٌ بِمَا إِِذَا كَانَ الْفَسَادُ ضَعِيفًا. يَقُول الْكَاسَانِيُّ: الأَْصْل عِنْدَنَا أَنَّهُ يُنْظَرُ إِِلَى الْفَسَادِ، فَإِِنْ كَانَ قَوِيًّا بِأَنْ دَخَل فِي صُلْبِ الْعَقْدِ - وَهُوَ الْبَدَل أَوِ الْمُبْدَل - لاَ يَحْتَمِل الْجَوَازَ بِرَفْعِ الْمُفْسِدِ، كَمَا إِِذَا بَاعَ عَبْدًا بأَلْفِ دِرْهَمٍ وَرِطْلٍ مِنْ خَمْرٍ، فَحَطَّ الْخَمْرَ عَنِ الْمُشْتَرِي فَهُوَ فَاسِدٌ وَلاَ يَنْقَلِبُ صَحِيحًا.
وَإِِنْ كَانَ الْفَسَادُ ضَعِيفًا، وَهُوَ مَا لَمْ يَدْخُل فِي صُلْبِ الْعَقْدِ، بَل فِي شَرْطٍ جَائِزٍ يَحْتَمِل الْجَوَازَ بِرَفْعِ الْمُفْسِدِ، كَمَا فِي الْبَيْعِ بِشَرْطِ خِيَارٍ لَمْ يُوَقَّتْ، أَوْ وُقِّتَ إِِلَى وَقْتٍ مَجْهُولٍ كَالْحَصَادِ، أَوْ لَمْ يُذْكُرِ الْوَقْتُ، وَكَمَا فِي الْبَيْعِ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ إِِلَى أَجَلٍ مَجْهُولٍ، فَإِِذَا أَسْقَطَ الأَْجَل مَنْ لَهُ الْحَقُّ فِيهِ قَبْل حُلُولِهِ وَقَبْل فَسْخِهِ جَازَ الْبَيْعُ لِزَوَال الْمُفْسِدِ، وَلَوْ كَانَ إِسْقَاطُ الأَْجَل بَعْدَ الاِفْتِرَاقِ عَلَى مَا حَرَّرَهُ ابْنُ عَابِدِينَ.
وَعَلَى هَذَا سَائِرُ الْبِيَاعَاتِ الْفَاسِدَةِ بِسَبَبِ ضَرَرٍ يَلْحَقُ بِالْبَائِعِ فِي التَّسْلِيمِ إِِذَا سَلَّمَ الْبَائِعَ بِرِضَاهُ وَاخْتِيَارِهِ - كَمَا إِِذَا بَاعَ جِذْعًا لَهُ فِي سَقْفٍ، أَوْ آجُرًّا لَهُ فِي حَائِطٍ، أَوْ ذِرَاعًا فِي دِيبَاجٍ - أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لأَِنَّهُ لاَ يُمْكِنُهُ تَسْلِيمُهُ إِلاَّ بِالنَّزْعِ وَالْقَطْعِ، وَفِيهِ ضَرَرٌ بِالْبَائِعِ، وَالضَّرَرُ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ بِالْعَقْدِ، فَكَانَ هَذَا عَلَى التَّقْدِيرِ بَيْعُ مَا لاَ يَجِبُ تَسْلِيمُهُ شَرْعًا، فَيَكُونُ فَاسِدًا. فَإِِنْ نَزَعَهُ الْبَائِعُ(12/60)
أَوْ قَطَعَهُ وَسَلَّمَهُ إِِلَى الْمُشْتَرِي قَبْل أَنْ يَفْسَخَ الْمُشْتَرِي الْبَيْعَ جَازَ الْبَيْعُ؛ لأَِنَّ الْمَانِعَ مِنَ الْجَوَازِ ضَرَرُ الْبَائِعِ بِالتَّسْلِيمِ، فَإِِذَا سَلَّمَ بِاخْتِيَارِهِ وَرِضَاهُ فَقَدْ زَال الْمَانِعُ، فَجَازَ الْبَيْعُ وَلَزِمَ (1) .
وَعَلَى هَذَا سَائِرُ الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ طِبْقًا لِقَاعِدَةِ: إِِذَا زَال الْمَانِعُ مَعَ وُجُودِ الْمُقْتَضِي عَادَ الْحُكْمُ.
وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ هِبَةَ الْمُشَاعِ فَاسِدَةٌ، فَإِِنْ قَسَّمَهُ وَسَلَّمَهُ جَازَ. وَاللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ، وَالصُّوفُ عَلَى ظَهْرِ الْغَنَمِ، وَالزَّرْعُ وَالنَّخْل فِي الأَْرْضِ، وَالتَّمْرُ فِي النَّخِيل بِمَنْزِلَةِ الْمُشَاعِ؛ لأَِنَّهَا مَوْجُودَةٌ، وَامْتِنَاعُ الْجَوَازِ لِلاِتِّصَال، فَإِِذَا فَصَّلَهَا وَسَلَّمَهَا جَازَ لِزَوَال الْمَانِعِ (2) .
وَمِثْل ذَلِكَ: إِِذَا رَهَنَ الأَْرْضَ بِدُونِ الْبِنَاءِ، أَوْ بِدُونِ الزَّرْعِ وَالشَّجَرِ، أَوْ رَهَنَ الزَّرْعَ وَالشَّجَرَ بِدُونِ الأَْرْضِ، أَوْ رَهَنَ الشَّجَرَ بِدُونِ الثَّمَرِ، أَوْ رَهَنَ الثَّمَرَ بِدُونِ الشَّجَرِ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ؛ لأَِنَّ الْمَرْهُونَ مُتَّصِلٌ بِمَا لَيْسَ بِمَرْهُونٍ، وَهَذَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْقَبْضِ. وَلَوْ جُذَّ الثَّمَرُ وَحُصِدَ الزَّرْعُ وَسُلِّمَ مُنْفَصِلاً جَازَ لِزَوَال الْمَانِعِ (3) .
__________
(1) البدائع 5 / 168، 178 - 179، وابن عابدين 4 / 119، والاختيار 2 / 25 - 26.
(2) البدائع 6 / 119، والزيلعي 5 / 94.
(3) البدائع 6 / 140.(12/60)
تَصْحِيحُ الْعَقْدِ بِاعْتِبَارِهِ عَقْدًا آخَرَ:
13 - هَذَا، وَيُمْكِنُ تَصْحِيحُ الْعَقْدِ الْفَاسِدِ إِِذَا أَمْكَنَ تَحْوِيلُهُ إِِلَى عَقْدٍ آخَرَ صَحِيحٍ لِتَوَافُرِ أَسْبَابِ الصِّحَّةِ فِيهِ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الصِّحَّةُ عَنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ، أَمْ عَنْ طَرِيقِ اللَّفْظِ عِنْدَ الْبَعْضِ الآْخَرِ نَظَرًا لاِخْتِلاَفِهِمْ فِي قَاعِدَةِ (هَل الْعِبْرَةُ بِصِيَغِ الْعُقُودِ أَوْ مَعَانِيهَا) . (1) وَنُوَضِّحُ ذَلِكَ بِالأَْمْثِلَةِ الآْتِيَةِ:
14 - فِي الأَْشْبَاهِ لاِبْنِ نُجَيْمٍ: الاِعْتِبَارُ لِلْمَعْنَى لاَ لِلأَْلْفَاظِ، صَرَّحُوا بِهِ فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا: الْكَفَالَةُ، فَهِيَ بِشَرْطِ بَرَاءَةِ الأَْصِيل حَوَالَةً، وَهِيَ بِشَرْطِ عَدَمِ بَرَاءَتِهِ كَفَالَةً. (2)
وَفِي الاِخْتِيَارِ: شَرِكَةُ الْمُفَاوَضَةِ يُشْتَرَطُ فِيهَا أَنْ يَتَسَاوَى الشَّرِيكَانِ فِي التَّصَرُّفِ وَالدَّيْنِ وَالْمَال الَّذِي تَصِحُّ فِيهِ الشَّرِكَةُ. . فَلاَ تَنْعَقِدُ الْمُفَاوَضَةُ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، فَإِِذَا عَقَدَ الْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ الْمُفَاوَضَةَ صَارَتْ عِنَانًا عِنْدَهُمَا، لِفَوَاتِ شَرْطِ الْمُفَاوَضَةِ وَوُجُودِ شَرْطِ الْعِنَانِ، وَكَذَلِكَ كُل مَا فَاتَ مِنْ شَرَائِطِ الْمُفَاوَضَةِ
__________
(1) درر الحكام 1 / 18، 19 مادة (3) ، وأشباه ابن نجيم ص 270، وأشباه السيوطي ص 184، والمنثور 2 / 371، وإعلام الموقعين 3 / 95، والقواعد لابن رجب ص 49.
(2) الأشباه لابن نجيم ص 207، وابن عابدين 4 / 246، وانظر درر الحكام 1 / 18، 19، شرح المادة (3) .(12/61)
يُجْعَل عِنَانًا إِِذَا أَمْكَنَ، تَصْحِيحًا لِتَصَرُّفِهِمَا بِقَدْرِ الإِِْمْكَانِ. (1)
وَفِي الاِخْتِيَارِ أَيْضًا: عَقْدُ الْمُضَارَبَةِ، إِنْ شُرِطَ فِيهِ الرِّبْحُ لِلْمُضَارِبِ فَهُوَ قَرْضٌ؛ لأَِنَّ كُل رِبْحٍ لاَ يُمْلَكُ إِلاَّ بِمِلْكِ رَأْسِ الْمَال، فَلَمَّا شُرِطَ لَهُ جَمِيعُ الرِّبْحِ فَقَدْ مَلَّكَهُ رَأْسَ الْمَال، وَإِِنْ شُرِطَ الرِّبْحُ لِرَبِّ الْمَال كَانَ إِبْضَاعًا، وَهَذَا مَعْنَاهُ عُرْفًا وَشَرْعًا. (2)
وَجَاءَ فِي مِنَحِ الْجَلِيل: مَنْ أَحَال عَلَى مَنْ لَيْسَ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ، وَأَعْلَمَ الْمُحَال، صَحَّ عَقْدُ الْحَوَالَةِ، فَإِِنْ لَمْ يُعْلِمْهُ لَمْ تَصِحَّ، وَتَنْقَلِبُ حَمَالَةً أَيْ كَفَالَةً. (3)
وَفِي أَشْبَاهِ السُّيُوطِيِّ: هَل الْعِبْرَةُ بِصِيَغِ الْعُقُودِ أَوْ مَعَانِيهَا؟ خِلاَفٌ. التَّرْجِيحُ مُخْتَلِفٌ فِي الْفُرُوعِ.
وَمِنْ ذَلِكَ: إِِذَا قَال: أَنْتَ حُرٌّ غَدًا عَلَى أَلْفٍ. إِنْ قُلْنَا: بَيْعٌ فَسَدَ وَلاَ تَجِبُ قِيمَةُ الْعَبْدِ، وَإِِنْ قُلْنَا: عِتْقٌ بِعِوَضٍ، صَحَّ وَوَجَبَ الْمُسَمَّى. وَمِنْهَا: لَوْ بَاعَ الْمَبِيعَ لِلْبَائِعِ قَبْل قَبْضِهِ بِمِثْل الثَّمَنِ الأَْوَّل، فَهُوَ إِقَالَةٌ بِلَفْظِ الْبَيْعِ، وَخَرَّجَهُ السُّبْكِيُّ عَلَى الْقَاعِدَةِ، وَالتَّخْرِيجُ لِلْقَاضِي حُسَيْنٍ قَال: إِنِ اعْتَبَرْنَا اللَّفْظَ لَمْ يَصِحَّ، وَإِِنْ
__________
(1) الاختيار 3 / 12 - 13.
(2) الاختيار 3 / 20، والمغني 5 / 35.
(3) منح الجليل 3 / 232.(12/61)
اعْتَبَرْنَا الْمَعْنَى فَإِِقَالَةٌ. (1)
ثَالِثًا - تَصْحِيحُ الْعِبَادَةِ إِِذَا طَرَأَ عَلَيْهَا مَا يُفْسِدُهَا:
15 - مِنَ الأُْمُورِ الَّتِي تَطْرَأُ عَلَى الْعِبَادَةِ مَا لاَ يُمْكِنُ إِزَالَتُهُ أَوْ تَلاَفِيهِ كَالأَْكْل وَالشُّرْبِ وَالْكَلاَمِ وَالْحَدَثِ وَالْجِمَاعِ، فَهَذِهِ الأُْمُورُ لاَ يُمْكِنُ تَلاَفِيهَا، وَهِيَ تُعْتَبَرُ مِنْ مُفْسِدَاتِ الْعِبَادَةِ فِي الْجُمْلَةِ. هَذَا مَعَ اخْتِلاَفِ الْفُقَهَاءِ فِي التَّفْصِيل فِيهَا بَيْنَ الْقَلِيل وَالْكَثِيرِ، وَبَيْنَ الْعَمْدِ وَالسَّهْوِ وَالْجَهْل، وَمَا هُوَ مَعْفُوٌّ عَنْهُ أَوْ غَيْرُ مَعْفُوٍّ عَنْهُ.
فَإِِذَا طَرَأَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عَلَى الْعِبَادَةِ فَفَسَدَتْ فِعْلاً - عِنْدَ مَنْ يَعْتَبِرُ ذَلِكَ مُفْسِدًا - فَلاَ مَجَال لِتَصْحِيحِ هَذِهِ الْعِبَادَةِ، وَيَلْزَمُ إِعَادَتُهَا إِنِ اتَّسَعَ وَقْتُهَا، أَوْ قَضَاؤُهَا إِنْ خَرَجَ الْوَقْتُ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي: (إِعَادَةٌ - قَضَاءٌ) .
وَالْكَلاَمُ هُنَا إِنَّمَا هُوَ فِيمَا يَطْرَأُ عَلَى الْعِبَادَةِ مِمَّا يُعْتَبَرُ مِنَ الْمُفْسِدَاتِ مَعَ إِمْكَانِ إِزَالَةِ الْمُفْسِدِ أَوْ تَلاَفِيهِ لِتَصِحَّ الْعِبَادَةُ، مِثْل طُرُوءِ النَّجَاسَةِ أَوْ كَشْفِ الْعَوْرَةِ وَمَا شَابَهُ ذَلِكَ.
وَالْفُقَهَاءُ مُتَّفِقُونَ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى: أَنَّهُ إِِذَا طَرَأَ عَلَى الْعِبَادَةِ مَا شَأْنُهُ أَنْ يُفْسِدَهَا لَوِ اسْتَمَرَّ وَأَمْكَنَ تَلاَفِيهِ وَإِِزَالَتُهُ وَجَبَ فِعْل ذَلِكَ لِتَصْحِيحِ الْعِبَادَةِ.
__________
(1) الأشباه للسيوطي ص 183 - 184، 185 ط عيسى الحلبي.(12/62)
وَنَظَرًا لِتَعَذُّرِ حَصْرِ مِثْل هَذِهِ الْمَسَائِل لِكَثْرَةِ فُرُوعِهَا فِي أَبْوَابِ الْعِبَادَةِ الْمُخْتَلِفَةِ، فَيُكْتَفَى بِذِكْرِ بَعْضِ الأَْمْثِلَةِ الَّتِي تُوَضِّحُ ذَلِكَ:
16 - مَنِ اجْتَهَدَ فِي مَعْرِفَةِ الْقِبْلَةِ، وَتَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ أَثْنَاءَ الصَّلاَةِ اسْتَدَارَ إِِلَى الْجِهَةِ الثَّانِيَةِ الَّتِي تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ إِلَيْهَا، وَبَنَى عَلَى مَا مَضَى مِنْ صَلاَتِهِ.
وَكَذَلِكَ إِِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ، وَبَانَ لَهُ يَقِينُ الْخَطَأِ وَهُوَ فِي الصَّلاَةِ، بِمُشَاهَدَةٍ أَوْ خَبَرٍ عَنْ يَقِينٍ فَإِِنَّهُ يَسْتَدِيرُ إِِلَى جِهَةِ الصَّوَابِ وَيَبْنِي عَلَى مَا مَضَى.
وَالدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ أَنَّ أَهْل قُبَاءَ لَمَّا بَلَغَهُمْ نَسْخُ الْقِبْلَةِ وَهُمْ فِي صَلاَةِ الْفَجْرِ اسْتَدَارُوا إِلَيْهَا، وَاسْتَحْسَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِعْل أَهْل قُبَاءَ، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالإِِْعَادَةِ (1) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي: (اسْتِقْبَالٌ - قِبْلَةٌ - صَلاَةٌ) .
17 - مَنْ وَقَعَتْ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ يَابِسَةٌ - وَهُوَ فِي الصَّلاَةِ - فَأَزَالَهَا سَرِيعًا صَحَّتْ صَلاَتُهُ، لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: بَيْنَمَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ، إِذْ خَلَعَ نَعْلَيْهِ
__________
(1) الاختيار 1 / 47، وابن عابدين 1 / 291، وجواهر الإكليل 1 / 45، وأسنى المطالب 1 / 139، والمغني 1 / 445. وحديث: " نسخ القبلة " أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 506 - ط السلفية) ومسلم (1 / 375 - ط عيسى الحلبي) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.(12/62)
فَوَضَعَهُمَا عَنْ يَسَارِهِ، فَلَمَّا رَأَى الْقَوْمُ ذَلِكَ أَلْقَوْا نِعَالَهُمْ، فَلَمَّا قَضَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلاَتَهُ قَال: مَا حَمَلَكُمْ عَلَى إِلْقَاءِ نِعَالِكُمْ؟ . قَالُوا: رَأَيْنَاكَ أَلْقَيْتَ نَعْلَيْكَ فَأَلْقَيْنَا نِعَالَنَا. فَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ جِبْرِيل أَتَانِي، فَأَخْبَرَنِي أَنَّ فِيهِمَا قَذَرًا. (1)
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي: (نَجَاسَةٌ - صَلاَةٌ) .
18 - مَنْ انْكَشَفَتْ عَوْرَتُهُ وَهُوَ فِي الصَّلاَةِ - بِأَنْ أَطَارَتِ الرِّيحُ سُتْرَتَهُ فَانْكَشَفَتْ عَوْرَتُهُ - فَإِِنْ أَعَادَهَا سَرِيعًا صَحَّتْ صَلاَتُهُ. (2)
وَلَوْ صَلَّى عُرْيَانًا لِعَدَمِ وُجُودِ سُتْرَةٍ، ثُمَّ وَجَدَ سُتْرَةً قَرِيبَةً مِنْهُ سَتَرَ بِهَا مَا وَجَبَ سَتْرُهُ، وَبَنَى عَلَى مَا مَضَى مِنْ صَلاَتِهِ، قِيَاسًا عَلَى أَهْل قُبَاءَ لَمَّا عَلِمُوا بِتَحْوِيل الْقِبْلَةِ اسْتَدَارُوا إِلَيْهَا وَأَتَمُّوا صَلاَتَهُمْ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي: (عَوْرَةٌ - صَلاَةٌ) .
19 - إِنْ خَفَّ فِي الصَّلاَةِ مَعْذُورٌ بِعُذْرٍ مُسَوِّغٍ لِلاِسْتِنَادِ أَوِ الْجُلُوسِ أَوِ الاِضْطِجَاعِ انْتَقَل لِلأَْعْلَى، كَمُسْتَنِدٍ قَدَرَ عَلَى الاِسْتِقْلاَل،
__________
(1) البدائع 1 / 221، والدسوقي 1 / 70، والمهذب 1 / 94، وشرح منتهى الإرادات 1 / 153. وحديث أبي سعيد الخدري: " إن جبريل أتاني فأخبرني. . . " أخرجه أبو داود (1 / 426 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والحاكم (1 / 260 - 4 دائرة المعارف العثمانية) وصححه.
(2) ابن عابدين 1 / 273، والبدائع 1 / 239، والدسوقي 1 / 22، والمهذب 1 / 73، 94، وشرح منتهى الإرادات 1 / 143 - 144، 146.(12/63)
وَجَالِسٍ قَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ انْتَقَل وُجُوبًا، فَإِِنْ تَرَكَهُ بَطَلَتْ صَلاَتُهُ (1) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي: (عُذْرٌ - صَلاَةٌ) .
20 - مَنْ عَلِمَ فِي أَثْنَاءِ طَوَافِهِ بِنَجَسٍ فِي بَدَنِهِ أَوْ ثَوْبِهِ طَرَحَهُ أَوْ غَسَلَهُمَا، وَبَنَى عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ طَوَافِهِ إِنْ لَمْ يُطِل، وَإِِلاَّ بَطَل طَوَافُهُ لِعَدَمِ الْمُوَالاَةِ. (2)
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (طَوَافٌ) .
21 - هَذَا، وَمِنْ تَصْحِيحِ الْعِبَادَةِ مَا يَدْخُل تَحْتَ قَاعِدَةِ: بُطْلاَنُ الْخُصُوصِ لاَ يُبْطِل الْعُمُومَ.
جَاءَ فِي الْمَنْثُورِ: لَوْ تَحَرَّمَ بِالْفَرْضِ مُنْفَرِدًا فَحَضَرَتْ جَمَاعَةٌ، قَال الشَّافِعِيُّ: أَحْبَبْتُ أَنْ يُسَلِّمَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ وَتَكُونُ نَافِلَةً، وَيُصَلِّي الْفَرْضَ، فَصَحَّحَ النَّفَل مَعَ إِبْطَال الْفَرْضِ.
وَإِِذَا تَحَرَّمَ بِالصَّلاَةِ الْمَفْرُوضَةِ قَبْل وَقْتِهَا ظَانًّا دُخُولَهُ بَطَل خُصُوصُ كَوْنِهَا ظُهْرًا، وَيَبْقَى عُمُومُ كَوْنِهَا نَفْلاً فِي الأَْصَحِّ.
وَإِِذَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ قَبْل أَشْهُرِهِ فَفِي انْعِقَادِهِ عُمْرَةً قَوْلاَنِ أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ. (3) وَحَكَاهُ فِي الْمُهَذَّبِ قَوْلاً وَاحِدًا، قَال: لأَِنَّهَا عِبَادَةٌ مُؤَقَّتَةٌ، فَإِِذَا عَقَدَهَا فِي غَيْرِ وَقْتِهَا انْعَقَدَ غَيْرُهَا مِنْ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 511، وجواهر الإكليل 1 / 56، والمنثور في القواعد 1 / 117، وشرح منتهى الإرادات 1 / 272.
(2) جواهر الإكليل 1 / 174.
(3) المنثور في القواعد 1 / 113، 114، 115.(12/63)
جِنْسِهَا، كَصَلاَةِ الظُّهْرِ إِِذَا أَحْرَمَ بِهَا قَبْل الزَّوَال، فَإِِنَّهُ يَنْعَقِدُ إِحْرَامُهُ بِالنَّفْل. (1)
22 - وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ تَكَادُ تَكُونُ مُطَّرِدَةً فِي بَقِيَّةِ الْمَذَاهِبِ فِي الْجُمْلَةِ، فَفِي شَرْحِ منتهى الإرادات: مَنْ أَتَى بِمَا يُفْسِدُ الْفَرْضَ فِي الصَّلاَةِ - كَتَرْكِ الْقِيَامِ بِلاَ عُذْرٍ - انْقَلَبَ فَرْضُهُ نَفْلاً؛ لأَِنَّهُ كَقَطْعِ نِيَّةِ الْفَرْضِيَّةِ، فَتَبْقَى نِيَّةُ الصَّلاَةِ. وَيَنْقَلِبُ نَفْلاً كَذَلِكَ مَنْ أَحْرَمَ بِفَرْضٍ، ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُل وَقْتُهُ؛ لأَِنَّ الْفَرْضَ لَمْ يَصِحَّ، وَلَمْ يُوجَدْ مَا يُبْطِل النَّفَل. (2)
23 - وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مِنْ قَبِيل مَا ذَكَرُوهُ مِنْ أَنَّهُ: لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ بُطْلاَنِ الْوَصْفِ بُطْلاَنُ الأَْصْل.
جَاءَ فِي الْهِدَايَةِ: مَنْ صَلَّى الْعَصْرَ وَهُوَ ذَاكِرٌ أَنَّهُ لَمْ يُصَل الظُّهْرَ فَهِيَ فَاسِدَةٌ، إِلاَّ إِِذَا كَانَ فِي آخِرِ الْوَقْتِ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ التَّرْتِيبِ.
وَإِِذَا فَسَدَتِ الْفَرْضِيَّةُ لاَ يَبْطُل أَصْل الصَّلاَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى؛ لأَِنَّ التَّحْرِيمَةَ عُقِدَتْ لأَِصْل الصَّلاَةِ بِوَصْفِ الْفَرْضِيَّةِ، فَلَمْ يَكُنْ مِنْ ضَرُورَةِ بُطْلاَنِ الْوَصْفِ بُطْلاَنُ الأَْصْل (3) .
__________
(1) المهذب 1 / 207.
(2) شرح منتهى الإرادات 1 / 169.
(3) الهداية 1 / 73.(12/64)
وَقَال الْكَاسَانِيُّ فِي بَابِ الزَّكَاةِ: حُكْمُ الْمُعَجَّل مِنَ الزَّكَاةِ، إِِذَا لَمْ يَقَعْ زَكَاةً أَنَّهُ إِنْ وَصَل إِِلَى يَدِ الْفَقِيرِ يَكُونُ تَطَوُّعًا، سَوَاءٌ وَصَل إِِلَى يَدِهِ مِنْ يَدِ رَبِّ الْمَال، أَوْ مِنْ يَدِ الإِِْمَامِ، أَوْ نَائِبِهِ وَهُوَ السَّاعِي؛ لأَِنَّهُ حَصَل أَصْل الْقُرْبَةِ، وَصَدَقَةُ التَّطَوُّعِ لاَ يُحْتَمَل الرُّجُوعُ فِيهَا بَعْدَ وُصُولِهَا إِِلَى يَدِ الْفَقِيرِ. (1)
رَابِعًا - تَصْحِيحُ الْمَسَائِل فِي الْمِيرَاثِ:
24 - تَصْحِيحُ مَسَائِل الْفَرَائِضِ: أَنْ تُؤْخَذَ السِّهَامُ مِنْ أَقَل عَدَدٍ يُمْكِنُ عَلَى وَجْهٍ لاَ يَقَعُ الْكَسْرُ عَلَى وَاحِدٍ مِنَ الْوَرَثَةِ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ بِدُونِ الضَّرْبِ - كَمَا فِي صُورَةِ الاِسْتِقَامَةِ - أَوْ بَعْدَ ضَرْبِ بَعْضِ الرُّءُوسِ - كَمَا فِي صُورَةِ الْمُوَافَقَةِ - أَوْ فِي كُل الرُّءُوسِ - كَمَا فِي صُورَةِ الْمُبَايَنَةِ. (2)
مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي تَصْحِيحِ الْمَسَائِل الْفَرْضِيَّةِ:
25 - لِتَصْحِيحِ الْمَسَائِل الْفَرْضِيَّةِ قَوَاعِدُ يُكْتَفَى مِنْهَا بِمَا أَوْرَدَهُ عَنْهَا شَارِحُ السِّرَاجِيَّةِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، قَال: يَحْتَاجُ ذَلِكَ إِِلَى سَبْعَةِ أُصُولٍ:
__________
(1) البدائع 2 / 50 - 52.
(2) شرح السراجية للشريف الجرجاني 213 ط الكردي بمصر وحاشية الفناري عليه.(12/64)
ثَلاَثَةٍ مِنْهَا بَيْنَ السِّهَامِ الْمَأْخُوذَةِ مِنْ مَخَارِجِهَا (1) وَبَيْنَ الرُّءُوسِ مِنَ الْوَرَثَةِ. وَأَرْبَعَةٍ مِنْهَا بَيْنَ الرُّءُوسِ وَالرُّءُوسِ.
أَمَّا الأُْصُول الثَّلاَثَةُ:
26 - فَأَحَدُهَا: إِنْ كَانَتْ سِهَامُ كُل فَرِيقٍ مِنَ الْوَرَثَةِ مُنْقَسِمَةً عَلَيْهِمْ بِلاَ كَسْرٍ، فَلاَ حَاجَةَ إِِلَى الضَّرْبِ، كَأَبَوَيْنِ وَبِنْتَيْنِ. فَإِِنَّ الْمَسْأَلَةَ حِينَئِذٍ مِنْ سِتَّةٍ، فَلِكُلٍّ مِنَ الأَْبَوَيْنِ سُدُسُهَا وَهُوَ وَاحِدٌ، وَلِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ أَعْنِي أَرْبَعَةً، فَلِكُل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا اثْنَانِ، فَاسْتَقَامَتِ السِّهَامُ عَلَى رُءُوسِ الْوَرَثَةِ بِلاَ انْكِسَارٍ، فَلاَ يَحْتَاجُ إِِلَى التَّصْحِيحِ، إِذِ التَّصْحِيحُ إِنَّمَا يَكُونُ إِِذَا انْكَسَرَتِ السِّهَامُ بِقِسْمَتِهَا عَلَى الرُّءُوسِ.
27 - وَالثَّانِي مِنَ الأُْصُول الثَّلاَثَةِ:
أَنْ يَكُونَ الْكَسْرُ عَلَى طَائِفَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَكِنْ بَيْنَ سِهَامِهِمْ وَرُءُوسِهِمْ مُوَافَقَةً بِكَسْرٍ مِنَ الْكُسُورِ، فَيُضْرَبُ وَفْقَ عَدَدِ رُءُوسِهِمْ - أَيْ عَدَدِ رُءُوسِ مَنِ انْكَسَرَتْ عَلَيْهِمُ السِّهَامُ، وَهُمْ تِلْكَ الطَّائِفَةُ الْوَاحِدَةُ - فِي أَصْل الْمَسْأَلَةِ إِنْ لَمْ تَكُنْ عَائِلَةً، وَفِي أَصْلِهَا وَعَوْلِهَا مَعًا إِنْ كَانَتْ عَائِلَةً، كَأَبَوَيْنِ وَعَشْرِ بَنَاتٍ، أَوْ زَوْجٍ وَأَبَوَيْنِ وَسِتِّ بَنَاتٍ.
فَالأَْوَّل: مِثَال مَا لَيْسَ فِيهَا عَوْلٌ. إِذْ أَصْل
__________
(1) ورد بحاشية ابن عابدين 5 / 512: المخارج: جمع مخرج وهو أقل عدد يمكن أن يؤخذ منه كل فرض بانفراده صحيحا.(12/65)
الْمَسْأَلَةِ مِنْ سِتَّةٍ. السُّدُسَانِ وَهُمَا اثْنَانِ لِلأَْبَوَيْنِ وَيَسْتَقِيمَانِ عَلَيْهِمَا، وَالثُّلُثَانِ وَهُمَا أَرْبَعَةٌ لِلْبَنَاتِ الْعَشَرَةِ وَلاَ يَسْتَقِيمُ عَلَيْهِنَّ، لَكِنْ بَيْنَ الأَْرْبَعَةِ وَالْعَشَرَةِ مُوَافَقَةٌ بِالنِّصْفِ، فَإِِنَّ الْعَدَدَ الْعَادَّ لَهُمَا هُوَ الاِثْنَانِ، فَرَدَدْنَا عَدَدَ الرُّءُوسِ أَعْنِي الْعَشَرَةَ إِِلَى نِصْفِهَا وَهُوَ خَمْسَةٌ، وَضَرَبْنَاهَا فِي السِّتَّةِ الَّتِي هِيَ أَصْل الْمَسْأَلَةِ فَصَارَ الْحَاصِل ثَلاَثِينَ، وَمِنْهُ تَصِحُّ الْمَسْأَلَةُ.
إِذْ قَدْ كَانَ لِلأَْبَوَيْنِ مِنْ أَصْل الْمَسْأَلَةِ سَهْمَانِ، وَقَدْ ضَرَبْنَاهُمَا فِي الْمَضْرُوبِ الَّذِي هُوَ خَمْسَةٌ فَصَارَ عَشْرَةً، لِكُلٍّ مِنْهُمَا خَمْسَةٌ، وَكَانَ لِلْبَنَاتِ الْعَشْرِ، مِنْهُ أَرْبَعَةٌ، وَقَدْ ضَرَبْنَاهَا أَيْضًا فِي خَمْسَةٍ فَصَارَ عِشْرِينَ، لِكُل وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ اثْنَانِ.
وَالثَّانِي: مِثَال مَا فِيهَا عَوْلٌ. فَإِِنَّ أَصْلَهَا مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ لاِجْتِمَاعِ الرُّبُعِ وَالسُّدُسَيْنِ وَالثُّلُثَيْنِ. فَلِلزَّوْجِ رُبُعُهَا وَهُوَ ثَلاَثَةٌ، وَلِلأَْبَوَيْنِ سُدُسَاهَا وَهُمَا أَرْبَعَةٌ، وَلِلْبَنَاتِ السِّتِّ ثُلُثَاهَا وَهُمَا ثَمَانِيَةٌ. فَقَدْ عَالَتِ الْمَسْأَلَةُ إِِلَى خَمْسَةَ عَشَرَ، وَانْكَسَرَتْ سِهَامُ الْبَنَاتِ - أَعْنِي الثَّمَانِيَةَ - عَلَى عَدَدِ رُءُوسِهِنَّ فَقَطْ. لَكِنْ بَيْنَ عَدَدِ السِّهَامِ وَعَدَدِ الرُّءُوسِ تَوَافُقٌ بِالنِّصْفِ، فَرَدَدْنَا عَدَدَ رُءُوسِهِنَّ إِِلَى نِصْفِهِ وَهُوَ ثَلاَثَةٌ، ثُمَّ ضَرَبْنَاهَا فِي أَصْل الْمَسْأَلَةِ مَعَ عَوْلِهَا وَهُوَ خَمْسَةَ عَشَرَ، فَحَصَل خَمْسَةٌ وَأَرْبَعُونَ، فَاسْتَقَامَتْ مِنْهَا الْمَسْأَلَةُ.
إِذْ قَدْ كَانَ لِلزَّوْجِ مِنْ أَصْل الْمَسْأَلَةِ ثَلاَثَةٌ،(12/65)
وَقَدْ ضَرَبْنَاهَا فِي الْمَضْرُوبِ الَّذِي هُوَ ثَلاَثَةٌ فَصَارَ تِسْعَةً فَهِيَ لَهُ، وَكَانَ لِلأَْبَوَيْنِ أَرْبَعَةٌ وَقَدْ ضَرَبْنَاهَا فِي ثَلاَثَةٍ فَصَارَ اثْنَيْ عَشَرَ فَلِكُلٍّ مِنْهُمَا سِتَّةٌ، وَكَانَ لِلْبَنَاتِ ثَمَانِيَةٌ فَضَرَبْنَاهَا فِي ثَلاَثَةٍ فَحَصَل أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ، فَلِكُل وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ أَرْبَعَةٌ.
28 - وَالثَّالِثُ مِنَ الأُْصُول الثَّلاَثَةِ:
أَنْ تَنْكَسِرَ السِّهَامُ أَيْضًا عَلَى طَائِفَةٍ وَاحِدَةٍ فَقَطْ، وَلاَ يَكُونُ بَيْنَ سِهَامِهِمْ وَعَدَدِ رُءُوسِهِمْ مُوَافَقَةً، بَل مُبَايَنَةً، فَيُضْرَبُ حِينَئِذٍ عَدَدُ رُءُوسِ مَنِ انْكَسَرَتْ عَلَيْهِمُ السِّهَامُ فِي أَصْل الْمَسْأَلَةِ إِنْ لَمْ تَكُنْ عَائِلَةً، وَفِي أَصْلِهَا مَعَ عَوْلِهَا إِنْ كَانَتْ عَائِلَةً، كَزَوْجٍ وَخَمْسِ أَخَوَاتٍ لأَِبٍ وَأُمٍّ، فَأَصْل الْمَسْأَلَةِ مِنْ سِتَّةٍ: النِّصْفُ وَهُوَ ثَلاَثَةٌ لِلزَّوْجِ، وَالثُّلُثَانِ وَهُوَ أَرْبَعَةٌ لِلأَْخَوَاتِ، فَقَدْ عَالَتْ إِِلَى سَبْعَةٍ، وَانْكَسَرَتْ سِهَامُ الأَْخَوَاتِ فَقَطْ عَلَيْهِنَّ، وَبَيْنَ عَدَدِ سِهَامِهِنَّ وَعَدَدِ رُءُوسِهِنَّ مُبَايَنَةً، فَضَرَبْنَا عَدَدَ رُءُوسِهِنَّ فِي أَصْل الْمَسْأَلَةِ مَعَ عَوْلِهَا وَهُوَ سَبْعَةٌ، فَصَارَ الْحَاصِل خَمْسَةً وَثَلاَثِينَ، وَمِنْهُ تَصِحُّ الْمَسْأَلَةُ.
وَقَدْ كَانَ لِلزَّوْجِ ثَلاَثَةٌ، وَقَدْ ضَرَبْنَاهَا فِي الْمَضْرُوبِ وَهُوَ خَمْسَةٌ فَصَارَ خَمْسَةَ عَشَرَ فَهِيَ لَهُ، وَكَانَ لِلأَْخَوَاتِ الْخَمْسِ أَرْبَعَةٌ، وَقَدْ ضَرَبْنَاهَا أَيْضًا فِي خَمْسَةٍ فَصَارَ عِشْرِينَ، فَلِكُل وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ أَرْبَعَةٌ.(12/66)
وَمِثَال غَيْرِ الْمَسَائِل الْعَائِلَةِ: زَوْجٌ وَجَدَّةٌ وَثَلاَثُ أَخَوَاتٍ لأُِمٍّ. فَالْمَسْأَلَةُ مِنْ سِتَّةٍ، لِلزَّوْجِ مِنْهَا نِصْفُهَا وَهُوَ ثَلاَثَةٌ، وَلِلْجَدَّةِ سُدُسُهَا وَهُوَ وَاحِدٌ، وَلِلأَْخَوَاتِ لأُِمٍّ ثُلُثُهَا وَهُوَ اثْنَانِ، وَلاَ يَسْتَقِيمَانِ عَلَى عَدَدِ رُءُوسِهِنَّ، بَل بَيْنَهُمَا تَبَايُنُ، فَضَرَبْنَا عَدَدَ رُءُوسِ الأَْخَوَاتِ فِي أَصْل الْمَسْأَلَةِ فَصَارَ الْحَاصِل ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، فَتَصِحُّ الْمَسْأَلَةُ مِنْهَا.
وَقَدْ كَانَ لِلزَّوْجِ ثَلاَثَةٌ فَضَرَبْنَاهَا فِي الْمَضْرُوبِ الَّذِي هُوَ ثَلاَثَةٌ فَصَارَ تِسْعَةً، وَضَرَبْنَا نَصِيبَ الْجَدَّةِ فِي الْمَضْرُوبِ أَيْضًا فَكَانَ ثَلاَثَةً، وَضَرَبْنَا نَصِيبَ الأَْخَوَاتِ لأُِمٍّ فِي الْمَضْرُوبِ فَصَارَ سِتَّةً، فَأَعْطَيْنَا كُل وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ اثْنَيْنِ.
وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ مَتَى كَانَتِ الطَّائِفَةُ الْمُنْكَسِرَةُ عَلَيْهِمْ ذُكُورًا وَإِِنَاثًا - مِمَّنْ يَكُونُ لِلذَّكَرِ مِثْل حَظِّ الأُْنْثَيَيْنِ، كَالْبَنَاتِ وَبَنَاتِ الاِبْنِ الأَْخَوَاتِ لأَِبٍ وَأُمٍّ أَوْ لأَِبٍ - يَنْبَغِي أَنْ يُضَعَّفَ عَدَدُ الذُّكُورِ، وَيُضَمَّ إِِلَى عَدَدِ الإِِْنَاثِ، ثُمَّ تَصِحُّ الْمَسْأَلَةُ عَلَى هَذَا الاِعْتِبَارِ، كَزَوْجٍ وَابْنٍ وَثَلاَثِ بَنَاتٍ. أَصْل الْمَسْأَلَةِ مِنْ أَرْبَعَةٍ: لِلزَّوْجِ سَهْمٌ عَلَيْهِ يَسْتَقِيمُ، وَالْبَاقِي ثَلاَثَةٌ، لِلأَْوْلاَدِ لِلذَّكَرِ مِثْل حَظِّ الأُْنْثَيَيْنِ، فَيُجْعَل عَدَدُ رُءُوسِهِمْ خَمْسَةً بِأَنْ يُنَزَّل الاِبْنُ مَنْزِلَةَ بِنْتَيْنِ، وَلاَ تَسْتَقِيمُ الثَّلاَثَةُ عَلَى الْخَمْسَةِ، فَتُضْرَبُ الْخَمْسَةُ فِي أَصْل الْمَسْأَلَةِ، فَتَبْلُغُ عِشْرِينَ، وَمِنْهَا تَصِحُّ.(12/66)
وَأَمَّا الأُْصُول الأَْرْبَعَةُ الَّتِي بَيْنَ الرُّءُوسِ وَالرُّءُوسِ:
29 - فَأَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ انْكِسَارُ السِّهَامِ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنَ الْوَرَثَةِ أَوْ أَكْثَرَ، وَلَكِنْ بَيْنَ أَعْدَادِ رُءُوسِ مَنِ انْكَسَرَ عَلَيْهِمْ مُمَاثَلَةٌ، فَالْحُكْمُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَنْ يُضْرَبَ أَحَدُ الأَْعْدَادِ الْمُمَاثَلَةِ فِي أَصْل الْمَسْأَلَةِ، فَيَحْصُل مَا تَصِحُّ بِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى جَمِيعِ الْفِرَقِ. مِثْل: سِتُّ بَنَاتٍ، وَثَلاَثُ جَدَّاتٍ: أُمُّ أُمِّ أُمٍّ، وَأُمُّ أُمِّ أَبٍ، وَأُمُّ أَبِ أَبٍ مَثَلاً عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُوَرِّثُ أَكْثَرَ مِنْ جَدَّتَيْنِ، وَثَلاَثَةِ أَعْمَامٍ. الْمَسْأَلَةُ مِنْ سِتَّةٍ: لِلْبَنَاتِ السِّتِّ الثُّلُثَانِ وَهُوَ أَرْبَعَةٌ، وَلاَ يَسْتَقِيمُ عَلَيْهِنَّ، لَكِنْ بَيْنَ الأَْرْبَعَةِ وَعَدَدِ رُءُوسِهِنَّ مُوَافَقَةٌ بِالنِّصْفِ، فَأَخَذْنَا نِصْفَ عَدَدِ رُءُوسِهِنَّ وَهُوَ ثَلاَثَةٌ. وَلِلْجَدَّاتِ الثَّلاَثِ السُّدُسُ وَهُوَ وَاحِدٌ، فَلاَ يَسْتَقِيمُ عَلَيْهِنَّ وَلاَ مُوَافَقَةَ بَيْنَ الْوَاحِدِ وَعَدَدِ رُءُوسِهِنَّ، فَأَخَذْنَا جَمِيعَ عَدَدِ رُءُوسِهِنَّ وَهُوَ أَيْضًا ثَلاَثَةٌ. وَلِلأَْعْمَامِ الثَّلاَثَةِ الْبَاقِي وَهُوَ وَاحِدٌ أَيْضًا، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ عَدَدِ رُءُوسِهِمْ مُبَايَنَةٌ، فَأَخَذْنَا جَمِيعَ عَدَدِ رُءُوسِهِمْ. ثُمَّ نَسَبْنَا هَذِهِ الأَْعْدَادَ الْمَأْخُوذَةَ بَعْضَهَا إِِلَى بَعْضٍ فَوَجَدْنَاهَا مُتَمَاثِلَةً، فَضَرَبْنَا أَحَدَهَا وَهُوَ ثَلاَثَةٌ فِي أَصْل الْمَسْأَلَةِ - أَعْنِي السِّتَّةَ - فَصَارَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، فَمِنْهَا تَسْتَقِيمُ الْمَسْأَلَةُ. وَكَانَ لِلْبَنَاتِ أَرْبَعَةُ سِهَامٍ ضَرَبْنَاهَا فِي الْمَضْرُوبِ الَّذِي هُوَ ثَلاَثَةٌ، فَصَارَ اثْنَيْ عَشَرَ، فَلِكُل وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ اثْنَانِ. وَلِلْجَدَّاتِ سَهْمٌ وَاحِدٌ ضَرَبْنَاهُ أَيْضًا فِي ثَلاَثَةٍ فَكَانَ ثَلاَثَةً،(12/67)
فَلِكُل وَاحِدَةٍ وَاحِدٌ. وَلِلأَْعْمَامِ وَاحِدٌ أَيْضًا ضَرَبْنَاهُ أَيْضًا فِي الثَّلاَثَةِ، وَأَعْطَيْنَا كُل وَاحِدٍ سَهْمًا وَاحِدًا.
وَلَوْ فَرَضْنَا فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ عَمًّا وَاحِدًا بَدَل الأَْعْمَامِ الثَّلاَثَةِ، كَانَ الاِنْكِسَارُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ فَقَطْ، وَكَانَ وَفْقُ عَدَدِ رُءُوسِ الْبَنَاتِ مُمَاثِلاً لِعَدَدِ رُءُوسِ الْجَدَّاتِ، إِذْ كُلٌّ مِنْهُمَا ثَلاَثَةٌ، فَيُضْرَبُ الثَّلاَثَةُ فِي أَصْل الْمَسْأَلَةِ، فَيَصِيرُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وَتَصِحُّ السِّهَامُ عَلَى الْكُل كَمَا مَرَّ.
30 - وَالأَْصْل الثَّانِي مِنَ الأُْصُول الأَْرْبَعَةِ: أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الأَْعْدَادِ - أَيْ بَعْضُ أَعْدَادِ رُءُوسِ الْوَرَثَةِ الْمُنْكَسِرَةِ عَلَيْهِمْ سِهَامُهُمْ مِنْ طَائِفَتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ - مُتَدَاخِلاً فِي الْبَعْضِ، فَالْحُكْمُ فِيهَا أَنْ يُضْرَبَ مَا هُوَ أَكْثَرُ تِلْكَ الأَْعْدَادِ فِي أَصْل الْمَسْأَلَةِ، كَأَرْبَعِ زَوْجَاتٍ وَثَلاَثِ جَدَّاتٍ وَاثْنَيْ عَشَرَ عَمًّا. فَأَصْل الْمَسْأَلَةِ مِنَ اثْنَيْ عَشَرَ: لِلْجَدَّاتِ الثَّلاَثِ السُّدُسُ وَهُوَ اثْنَانِ، فَلاَ يَسْتَقِيمُ عَلَيْهِنَّ، وَبَيْنَ رُءُوسِهِنَّ وَسِهَامِهِنَّ مُبَايَنَةٌ، فَأَخَذْنَا مَجْمُوعَ عَدَدِ رُءُوسِهِنَّ وَهُوَ ثَلاَثَةٌ. وَلِلزَّوْجَاتِ الأَْرْبَعِ الرُّبُعُ وَهُوَ ثَلاَثَةٌ، فَبَيْنَ عَدَدِ رُءُوسِهِنَّ وَعَدَدِ سِهَامِهِنَّ مُبَايَنَةٌ، فَأَخَذْنَا عَدَدَ الرُّءُوسِ بِتَمَامِهِ. وَلِلأَْعْمَامِ الاِثْنَيْ عَشَرَ الْبَاقِي وَهُوَ سَبْعَةٌ، فَلاَ يَسْتَقِيمُ عَلَيْهِمْ بَل بَيْنَهُمَا تَبَايُنٌ، فَأَخَذْنَا عَدَدَ الرُّءُوسِ بِأَسْرِهِ. فَنَجِدُ الثَّلاَثَةَ وَالأَْرْبَعَةَ مُتَدَاخِلَيْنِ فِي الاِثْنَيْ عَشَرَ الَّذِي هُوَ أَكْبَرُ أَعْدَادِ الرُّءُوسِ، فَضَرَبْنَاهُ فِي أَصْل الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ(12/67)
أَيْضًا اثْنَا عَشَرَ فَصَارَ مِائَةً وَأَرْبَعَةً وَأَرْبَعِينَ، فَتَصِحُّ مِنْهَا الْمَسْأَلَةُ.
وَقَدْ كَانَ لِلْجَدَّاتِ مِنْ أَصْل الْمَسْأَلَةِ اثْنَانِ، ضَرَبْنَاهُمَا فِي الْمَضْرُوبِ - الَّذِي هُوَ اثْنَا عَشَرَ - فَصَارَ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ، فَلِكُل وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ ثَمَانِيَةٌ. وَلِلزَّوْجَاتِ مِنْ أَصْلِهَا ثَلاَثَةٌ ضَرَبْنَاهَا فِي الْمَضْرُوبِ الْمَذْكُورِ فَصَارَ سِتَّةً وَثَلاَثِينَ، فَلِكُل وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ تِسْعَةٌ. وَلِلأَْعْمَامِ سَبْعَةٌ ضَرَبْنَاهَا فِي اثْنَيْ عَشَرَ أَيْضًا فَحَصَل أَرْبَعَةٌ وَثَمَانُونَ، فَلِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ سَبْعَةٌ.
وَلَوْ فَرَضْنَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ زَوْجَةً وَاحِدَةً بَدَل الزَّوْجَاتِ الأَْرْبَعِ، كَانَ الاِنْكِسَارُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ فَقَطْ، أَعْنِي الْجَدَّاتِ الثَّلاَثَ وَالأَْعْمَامَ الاِثْنَيْ عَشَرَ، وَكَانَ عَدَدُ رُءُوسِ الْجَدَّاتِ مُتَدَاخِلاً فِي عَدَدِ رُءُوسِ الأَْعْمَامِ، فَيُضْرَبُ أَكْثَرُ هَذَيْنِ الْعَدَدَيْنِ الْمُتَدَاخِلَيْنِ، أَيِ الاِثْنَيْ عَشَرَ فِي أَصْل الْمَسْأَلَةِ، فَيَحْصُل مِائَةٌ وَأَرْبَعَةٌ وَأَرْبَعُونَ، فَيُقْسَمُ عَلَى الْكُل قِيَاسُ مَا سَبَقَ.
31 - وَالأَْصْل الثَّالِثُ مِنَ الأُْصُول الأَْرْبَعَةِ:
أَنْ يُوَافِقَ بَعْضُ أَعْدَادِ رُءُوسِ مَنِ انْكَسَرَتْ عَلَيْهِمْ سِهَامُهُمْ مِنْ طَائِفَتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ بَعْضًا. وَالْحُكْمُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَنْ يُضْرَبَ وَفْقُ أَحَدِ أَعْدَادِ رُءُوسِهِمْ فِي جَمِيعِ الْعَدَدِ الثَّانِي، ثُمَّ يُضْرَبُ جَمِيعُ مَا بَلَغَ فِي وَفْقِ الْعَدَدِ الثَّالِثِ - إِنْ وَافَقَ ذَلِكَ الْمَبْلَغُ الْعَدَدَ الثَّالِثَ - وَإِِنْ لَمْ يُوَافِقِ الْمَبْلَغَ الثَّالِثَ فَحِينَئِذٍ يُضْرَبُ الْمَبْلَغُ فِي جَمِيعِ الْعَدَدِ الثَّالِثِ. ثُمَّ يُضْرَبُ(12/68)
الْمَبْلَغُ الثَّانِي فِي الْعَدَدِ الرَّابِعِ كَذَلِكَ، أَيْ فِي وَفْقِهِ إِنْ وَافَقَهُ الْمَبْلَغُ الثَّانِي، أَوْ فِي جَمِيعِهِ إِنْ لَمْ يُوَافِقْهُ. ثُمَّ يُضْرَبُ الْمَبْلَغُ الثَّالِثُ فِي أَصْل الْمَسْأَلَةِ، كَأَرْبَعِ زَوْجَاتٍ وَثَمَانِي عَشْرَةَ بِنْتًا وَخَمْسَ عَشْرَةَ جَدَّةً وَسِتَّةِ أَعْمَامٍ. أَصْل الْمَسْأَلَةِ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ: لِلزَّوْجَاتِ الأَْرْبَعِ الثُّمُنُ وَهُوَ ثَلاَثَةٌ، فَلاَ يَسْتَقِيمُ عَلَيْهِنَّ وَبَيْنَ عَدَدِ سِهَامِهِنَّ وَعَدَدِ رُءُوسِهِنَّ مُبَايَنَةٌ، فَحَفِظْنَا جَمِيعَ عَدَدِ رُءُوسِهِنَّ. وَلِلْبَنَاتِ الثَّمَانِيَ عَشْرَةَ: الثُّلُثَانِ وَهُوَ سِتَّةَ عَشَرَ فَلاَ يَسْتَقِيمُ عَلَيْهِنَّ، وَبَيْنَ رُءُوسِهِنَّ وَسِهَامِهِنَّ مُوَافَقَةٌ بِالنِّصْفِ، فَأَخَذْنَا نِصْفَ عَدَدِ رُءُوسِهِنَّ وَهُوَ تِسْعَةٌ وَحَفِظْنَاهُ. وَلِلْجَدَّاتِ الْخَمْسَ عَشْرَةَ السُّدُسُ وَهُوَ أَرْبَعَةٌ فَلاَ يَسْتَقِيمُ عَلَيْهِنَّ، وَبَيْنَ عَدَدِ رُءُوسِهِنَّ وَعَدَدِ سِهَامِهِنَّ مُبَايَنَةٌ، فَحَفِظْنَا جَمِيعَ عَدَدِ رُءُوسِهِنَّ. وَلِلأَْعْمَامِ السِّتَّةِ الْبَاقِي وَهُوَ وَاحِدٌ لاَ يَسْتَقِيمُ عَلَيْهِمْ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ عَدَدِ رُءُوسِهِمْ مُبَايَنَةٌ، فَحَفِظْنَا عَدَدَ رُءُوسِهِمْ. فَحَصَل لَنَا مِنْ أَعْدَادِ الرُّءُوسِ الْمَحْفُوظَةِ: أَرْبَعَةٌ وَسِتَّةٌ وَتِسْعَةٌ وَخَمْسَةَ عَشَرَ. وَالأَْرْبَعَةُ مُوَافِقَةٌ لِلسِّتَّةِ بِالنِّصْفِ فَرَدَدْنَا إِحْدَاهُمَا إِِلَى نِصْفِهَا وَضَرَبْنَاهُ فِي الأُْخْرَى، فَحَصَل اثْنَا عَشَرَ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِلتِّسْعَةِ بِالثُّلُثِ، فَضَرَبْنَا ثُلُثَ أَحَدِهِمَا فِي جَمِيعِ الآْخَرِ فَحَصَل سِتَّةٌ وَثَلاَثُونَ، وَبَيْنَ هَذَا الْمَبْلَغِ الثَّانِي وَبَيْنَ خَمْسَةَ عَشَرَ مُوَافَقَةٌ بِالثُّلُثِ أَيْضًا، فَضَرَبْنَا ثُلُثَ خَمْسَةَ عَشَرَ - وَهُوَ خَمْسَةٌ - فِي سِتَّةٍ وَثَلاَثِينَ فَحَصَل مِائَةٌ وَثَمَانُونَ، ثُمَّ ضَرَبْنَا هَذَا الْمَبْلَغَ(12/68)
الثَّالِثُ فِي أَصْل الْمَسْأَلَةِ - أَعْنِي أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ - فَحَصَل أَرْبَعَةُ آلاَفٍ وَثَلاَثُمِائَةٍ وَعِشْرُونَ، وَمِنْهَا تَصِحُّ الْمَسْأَلَةُ.
كَانَ لِلزَّوْجَاتِ مِنْ أَصْل الْمَسْأَلَةِ ثَلاَثَةٌ، ضَرَبْنَاهَا فِي الْمَضْرُوبِ - وَهُوَ مِائَةٌ وَثَمَانُونَ - فَحَصَل خَمْسُمِائَةٍ وَأَرْبَعُونَ، فَلِكُلٍّ مِنَ الزَّوْجَاتِ الأَْرْبَعِ مِائَةٌ وَخَمْسَةٌ وَثَلاَثُونَ. وَكَانَ لِلْبَنَاتِ الثَّمَانِيَ عَشْرَةَ سِتَّةَ عَشَرَ، وَقَدْ ضَرَبْنَاهَا فِي ذَلِكَ الْمَضْرُوبِ، فَصَارَ أَلْفَيْنِ وَثَمَانَمِائَةٍ وَثَمَانِينَ، لِكُل وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ مِائَةٌ وَسِتُّونَ. وَكَانَ لِلْجَدَّاتِ الْخَمْسَ عَشْرَةَ أَرْبَعَةٌ، وَقَدْ ضَرَبْنَاهَا فِي الْمَضْرُوبِ الْمَذْكُورِ فَصَارَ سَبْعَمِائَةٍ وَعِشْرِينَ، لِكُل وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ. وَكَانَ لِلأَْعْمَامِ السِّتَّةِ وَاحِدٌ ضَرَبْنَاهُ فِي الْمَضْرُوبِ، فَكَانَ مِائَةً وَثَمَانِينَ لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثَلاَثُونَ.
وَإِِذَا جَمَعْتَ جَمِيعَ أَنْصِبَاءِ الْوَرَثَةِ بَلَغَ أَرْبَعَةَ آلاَفٍ وَثَلاَثَمِائَةٍ وَعِشْرِينَ سَهْمًا.
32 - وَالأَْصْل الرَّابِعُ مِنَ الأُْصُول الأَْرْبَعَةِ:
أَنْ يَكُونَ أَعْدَادُ رُءُوسِ مَنِ انْكَسَرَ عَلَيْهِمْ سِهَامُهُمْ مِنْ طَائِفَتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ مُتَبَايِنَةً لاَ يُوَافِقُ بَعْضُهَا بَعْضًا. وَالْحُكْمُ فِيهَا: أَنْ يُضْرَبَ أَحَدُ الأَْعْدَادِ فِي جَمِيعِ الثَّانِي، ثُمَّ يُضْرَبُ مَا بَلَغَ فِي جَمِيعِ الثَّالِثِ، ثُمَّ مَا بَلَغَ فِي جَمِيعِ الرَّابِعِ، ثُمَّ يُضْرَبُ مَا اجْتَمَعَ فِي أَصْل الْمَسْأَلَةِ. كَزَوْجَتَيْنِ وَسِتِّ جَدَّاتٍ وَعَشْرِ بَنَاتٍ وَسَبْعَةِ أَعْمَامٍ. أَصْل الْمَسْأَلَةِ: أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ. لِلزَّوْجَتَيْنِ الثُّمُنُ وَهُوَ(12/69)
ثَلاَثَةٌ لاَ يَسْتَقِيمُ عَلَيْهِمَا، وَبَيْنَ عَدَدِ رُءُوسِهِمَا وَعَدَدِ سِهَامِهِمَا مُبَايَنَةٌ، فَأَخَذْنَا عَدَدَ رُءُوسِهِمَا وَهُوَ اثْنَانِ. وَلِلْجَدَّاتِ السِّتِّ: السُّدُسُ وَهُوَ أَرْبَعَةٌ لاَ يَسْتَقِيمُ عَلَيْهِنَّ، وَبَيْنَ عَدَدِ رُءُوسِهِنَّ وَعَدَدِ سِهَامِهِنَّ مُوَافَقَةٌ بِالنِّصْفِ، فَأَخَذْنَا نِصْفَ عَدَدِ رُءُوسِهِنَّ وَهُوَ ثَلاَثَةٌ، وَلِلْبَنَاتِ الْعَشْرِ: الثُّلُثَانِ هُوَ سِتَّةَ عَشَرَ فَلاَ يَسْتَقِيمُ عَلَيْهِنَّ، وَبَيْنَ عَدَدِ رُءُوسِهِنَّ وَعَدَدِ سِهَامِهِنَّ مُوَافَقَةٌ بِالنِّصْفِ، فَأَخَذْنَا نِصْفَ عَدَدِ رُءُوسِهِنَّ وَهُوَ خَمْسَةٌ. وَلِلأَْعْمَامِ السَّبْعَةِ الْبَاقِي وَهُوَ وَاحِدٌ، لاَ يَسْتَقِيمُ عَلَيْهِمْ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ عَدَدِ رُءُوسِهِمْ مُبَايَنَةٌ فَأَخَذْنَا عَدَدَ رُءُوسِهِمْ وَهُوَ سَبْعَةٌ. فَصَارَ مَعَنَا مِنَ الأَْعْدَادِ الْمَأْخُوذَةِ لِلرُّءُوسِ: اثْنَانِ وَثَلاَثَةٌ وَخَمْسَةٌ وَسَبْعَةٌ. وَهَذِهِ كُلُّهَا أَعْدَادٌ مُتَبَايِنَةٌ. فَضَرَبْنَا الاِثْنَيْنِ فِي الثَّلاَثَةِ فَحَصَل سِتَّةٌ، ثُمَّ ضَرَبْنَا السِّتَّةَ فِي خَمْسَةٍ فَحَصَل ثَلاَثُونَ، ثُمَّ ضَرَبْنَا هَذَا الْمَبْلَغَ فِي سَبْعَةٍ فَصَارَ مِائَتَيْنِ وَعَشَرَةً، ثُمَّ ضَرَبْنَا هَذَا الْمَبْلَغَ فِي أَصْل الْمَسْأَلَةِ - وَهُوَ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ - فَصَارَ الْمَجْمُوعُ خَمْسَةَ آلاَفٍ وَأَرْبَعِينَ. وَمِنْهَا تَسْتَقِيمُ الْمَسْأَلَةُ عَلَى جَمِيعِ الطَّوَائِفِ.
إِذْ كَانَ لِلزَّوْجَتَيْنِ مِنْ أَصْل الْمَسْأَلَةِ ثَلاَثَةٌ، فَضَرَبْنَاهَا فِي الْمَضْرُوبِ - الَّذِي هُوَ مِائَتَانِ وَعَشَرَةٌ - فَحَصَل سِتُّمِائَةٍ وَثَلاَثُونَ، لِكُل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ثَلاَثُمِائَةٍ وَخَمْسَةَ عَشَرَ. وَكَانَ لِلْجَدَّاتِ السِّتِّ أَرْبَعَةٌ، فَضَرَبْنَاهَا فِي ذَلِكَ الْمَضْرُوبِ الْمَذْكُورِ فَصَارَ ثَمَانَمِائَةٍ وَأَرْبَعِينَ، لِكُل وَاحِدَةٍ مِنْهُمْ مِائَةٌ(12/69)
وَأَرْبَعُونَ. وَكَانَ لِلْبَنَاتِ الْعَشْرِ سِتَّةَ عَشَرَ، ضَرَبْنَاهَا فِي الْمَضْرُوبِ الْمَذْكُورِ فَبَلَغَ ثَلاَثَةَ آلاَفٍ وَثَلاَثَمِائَةٍ وَسِتِّينَ، لِكُل وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ ثَلاَثُمِائَةٍ وَسِتَّةٌ وَثَلاَثُونَ. وَكَانَ لِلأَْعْمَامِ السَّبْعَةِ وَاحِدٌ، ضَرَبْنَاهُ فِي ذَلِكَ الْمَضْرُوبِ فَكَانَ مِائَتَيْنِ وَعَشَرَةً، لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثَلاَثُونَ. وَمَجْمُوعُ هَذِهِ الأَْنْصِبَاءِ خَمْسَةُ آلاَفٍ وَأَرْبَعُونَ.
وَذَكَرَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ قَدْ عُلِمَ بِالاِسْتِقْرَاءِ أَنَّ انْكِسَارَ السِّهَامِ لاَ يَقَعُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ طَوَائِفَ. (1)
33 - هَذَا وَلاَ يَخْتَلِفُ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ الأُْخْرَى عَنِ الْحَنَفِيَّةِ، فِيمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ فِي تَصْحِيحِ الْمَسَائِل الْفَرْضِيَّةِ، تَوَصُّلاً إِِلَى مَعْرِفَةِ نَصِيبِ كُل وَارِثٍ عَلَى نَحْوِ مَا ذُكِرَ. (2)
__________
(1) شرح السراجية للشريف الجرجاني وحاشية الفناري عليه 213 - 221 ط الكردي بمصر، ونهاية المحتاج للرملي 6 / 37 م مصطفى الحلبي، وكشاف القناع 4 / 438 م النصر الحديثة.
(2) نهاية المحتاج للرملي 6 / 36 - 37 م مصطفى الحلبي، والشرح الكبير 4 / 472 - 477، وكشاف القناع 4 / 437 - 443 م النصر الحديثة.(12/70)
تَصْحِيفٌ
انْظُرْ: تَحْرِيفٌ
تَصَدُّقٌ
انْظُرْ: صَدَقَةٌ
تَصْدِيقٌ
انْظُرْ: تَصَادُقٌ(12/70)
تَصَرُّفٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّصَرُّفُ لُغَةً: التَّقَلُّبُ فِي الأُْمُورِ وَالسَّعْيُ فِي طَلَبِ الْكَسْبِ (1) . وَأَمَّا فِي الاِصْطِلاَحِ فَلَمْ يَذْكُرِ الْفُقَهَاءُ فِي كُتُبِهِمْ تَعْرِيفًا لِلتَّصَرُّفِ، وَلَكِنْ يُفْهَمُ مِنْ كَلاَمِهِمْ أَنَّ التَّصَرُّفَ هُوَ: مَا يَصْدُرُ عَنِ الشَّخْصِ بِإِِرَادَتِهِ، وَيُرَتِّبُ الشَّرْعُ عَلَيْهِ أَحْكَامًا مُخْتَلِفَةً.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الاِلْتِزَامُ:
2 - الاِلْتِزَامُ مَصْدَرُ الْتَزَمَ. وَمَادَّةُ لَزِمَ تَأْتِي فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَى: الثُّبُوتِ وَالدَّوَامِ وَالْوُجُوبِ وَالتَّعَلُّقِ بِالشَّيْءِ أَوِ اعْتِنَاقِهِ (2) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: إِلْزَامُ الشَّخْصِ نَفْسَهُ مَا لَمْ يَكُنْ لاَزِمًا لَهُ، أَيْ مَا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَيْهِ قَبْل (3)
__________
(1) القاموس المحيط، واللسان، والصحاح، والمصباح المنير مادة " صرف ".
(2) المصباح المنير مادة " لزم ".
(3) تحرير الكلام للحطاب ضمن فتح العلي المالك 1 / 217 دار المعرفة.(12/71)
فَهُوَ أَعَمُّ مِنَ التَّصَرُّفِ؛ لأَِنَّ التَّصَرُّفَ إِنَّمَا يَكُونُ بِالاِخْتِيَارِ وَالإِِْرَادَةِ.
ب - الْعَقْدُ:
3 - الْعَقْدُ فِي اللُّغَةِ: الضَّمَانُ وَالْعَهْدُ. (1)
وَاصْطِلاَحًا: ارْتِبَاطُ الإِِْيجَابِ بِالْقَبُول الاِلْتِزَامِيِّ، كَعَقْدِ الْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ وَغَيْرِهِمَا عَلَى وَجْهٍ تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ آثَارُهُ.
وَذَكَرَ الزَّرْكَشِيُّ أَنَّ الْعَقْدَ بِاعْتِبَارِ الاِسْتِقْلاَل بِهِ وَعَدَمِهِ عَلَى ضَرْبَيْنِ: ضَرْبٌ يَنْفَرِدُ بِهِ الْعَاقِدُ، كَالتَّدْبِيرِ وَالنُّذُورِ وَغَيْرِهَا. وَضَرْبٌ لاَ بُدَّ فِيهِ مِنْ مُتَعَاقِدَيْنِ كَالْبَيْعِ وَالإِِْجَارَةِ وَالنِّكَاحِ وَغَيْرِهَا. (2)
الْفَرْقُ بَيْنَ التَّصَرُّفِ وَالاِلْتِزَامِ وَالْعَقْدِ:
4 - يَتَّضِحُ مِمَّا قَالَهُ الْفُقَهَاءُ فِي مَعْنَى الاِلْتِزَامِ وَالْعَقْدِ وَالتَّصَرُّفِ: أَنَّ التَّصَرُّفَ أَعَمُّ مِنَ الْعَقْدِ بِمَعْنَيَيْهِ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ؛ لأَِنَّ التَّصَرُّفَ قَدْ يَكُونُ فِي تَصَرُّفٍ لاَ الْتِزَامَ فِيهِ كَالسَّرِقَةِ وَالْغَصْبِ وَنَحْوِهِمَا، وَهُوَ كَذَلِكَ أَعَمُّ مِنَ الاِلْتِزَامِ.
أَنْوَاعُ التَّصَرُّفِ:
5 - التَّصَرُّفُ نَوْعَانِ: تَصَرُّفٌ فِعْلِيٌّ وَتَصَرُّفٌ قَوْلِيٌّ.
__________
(1) القاموس المحيط، والمصباح المنير، والكليات للكفوي مادة " عقد ".
(2) المنثور للزركشي 2 / 397، 398 ط الفليج.(12/71)
النَّوْعُ الأَْوَّل: التَّصَرُّفُ الْفِعْلِيُّ:
6 - هُوَ مَا كَانَ مَصْدَرُهُ عَمَلاً فِعْلِيًّا غَيْرَ اللِّسَانِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ يَحْصُل بِالأَْفْعَال لاَ بِالأَْقْوَال. وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ.
أ - الْغَصْبُ: وَهُوَ فِي اللُّغَةِ: أَخْذُ الشَّيْءِ قَهْرًا وَظُلْمًا. (1) وَاصْطِلاَحًا: أَخْذُ مَالٍ قَهْرًا تَعَدِّيًا بِلاَ حِرَابَةٍ (2) . فَالْغَصْبُ فِعْلٌ وَلَيْسَ قَوْلاً.
ب - قَبْضُ الْبَائِعِ الثَّمَنَ مِنَ الْمُشْتَرِي، وَتَسَلُّمُ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ مِنَ الْبَائِعِ. وَهَكَذَا سَائِرُ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي يَعْتَمِدُ الْمُتَصَرِّفُ فِي مُبَاشَرَتِهَا عَلَى الأَْفْعَال دُونَ الأَْقْوَال.
النَّوْعُ الثَّانِي: التَّصَرُّفُ الْقَوْلِيُّ:
7 - وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ مَنْشَؤُهُ اللَّفْظُ دُونَ الْفِعْل، وَيَدْخُل فِيهِ الْكِتَابَةُ وَالإِِْشَارَةُ، وَهُوَ نَوْعَانِ: تَصَرُّفٌ قَوْلِيٌّ عَقْدِيٌّ، وَتَصَرُّفٌ قَوْلِيٌّ غَيْرُ عَقْدِيٍّ.
أ - التَّصَرُّفُ الْقَوْلِيُّ الْعَقْدِيُّ:
8 - وَهُوَ الَّذِي يَتِمُّ بِاتِّفَاقِ إِرَادَتَيْنِ، أَيْ أَنَّهُ يَحْتَاجُ إِِلَى صِيغَةٍ تَصْدُرُ مِنَ الطَّرَفَيْنِ وَتُبَيِّنُ اتِّفَاقَهُمَا عَلَى أَمْرٍ مَا، وَمِثَال هَذَا النَّوْعِ: سَائِرُ الْعُقُودِ الَّتِي
__________
(1) المصباح مادة " غصب ".
(2) جواهر الإكليل 2 / 148 ط دار المعرفة.(12/72)
لاَ تَتِمُّ إِلاَّ بِوُجُودِ طَرَفَيْنِ أَيِ الْمُوجِبِ وَالْقَابِل، كَالإِِْجَارَةِ وَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ وَالْوَكَالَةِ، فَإِِنَّ هَذِهِ الْعُقُودَ لاَ تَتِمُّ إِلاَّ بِرِضَا الطَّرَفَيْنِ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ مَحَلُّهُ الْمُصْطَلَحَاتُ الْخَاصَّةُ بِتِلْكَ الْعُقُودِ.
ب - التَّصَرُّفُ الْقَوْلِيُّ غَيْرُ الْعَقْدِيِّ. وَهُوَ ضَرْبَانِ:
9 - أَحَدُهُمَا: مَا يَتَضَمَّنُ إِرَادَةً إِنْشَائِيَّةً وَعَزِيمَةً مُبْرَمَةً مِنْ صَاحِبِهِ عَلَى إِنْشَاءِ حَقٍّ أَوْ إِنْهَائِهِ أَوْ إِسْقَاطِهِ، وَقَدْ يُسَمَّى هَذَا الضَّرْبُ تَصَرُّفًا عَقْدِيًّا لِمَا فِيهِ مِنَ الْعَزِيمَةِ وَالإِِْرَادَةِ الْمُنْشِئَةِ أَوِ الْمُسْقِطَةِ لِلْحُقُوقِ، وَهَذَا عَلَى قَوْل مَنْ يَرَى أَنَّ الْعَقْدَ بِمَعْنَاهُ الْعَامِّ يَتَنَاوَل الْعُقُودَ الَّتِي تَكُونُ بَيْنَ طَرَفَيْنِ كَالْبَيْعِ وَالإِِْجَارَةِ، وَالْعُقُودَ الَّتِي يَنْفَرِدُ بِهَا الْمُتَصَرِّفُ كَالْوَقْفِ وَالطَّلاَقِ وَالإِِْبْرَاءِ وَالْحَلِفِ وَغَيْرِهَا كَمَا سَبَقَ، وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ الْوَقْفُ وَالطَّلاَقُ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي الْمُصْطَلَحَاتِ الْخَاصَّةِ بِهِمَا.
10 - الضَّرْبُ الثَّانِي: تَصَرُّفٌ قَوْلِيٌّ لاَ يَتَضَمَّنُ إِرَادَةً مُنْشِئَةً، أَوْ مُنْهِيَةً، أَوْ مُسْقِطَةً لِلْحُقُوقِ، بَل هُوَ صِنْفٌ آخَرُ مِنَ الأَْقْوَال الَّتِي تَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا أَحْكَامٌ شَرْعِيَّةٌ، وَهَذَا الضَّرْبُ تَصَرُّفٌ قَوْلِيٌّ مَحْضٌ لَيْسَ لَهُ شَبَهٌ بِالْعُقُودِ، وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ: الدَّعْوَى، وَالإِِْقْرَارُ. وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي الْمُصْطَلَحَاتِ الْخَاصَّةِ بِهِمَا.
11 - هَذَا وَالْعِبْرَةُ فِي تَمَيُّزِ التَّصَرُّفِ الْقَوْلِيِّ عَنِ الْفِعْلِيِّ مَرْجِعُهَا مَوْضُوعُ التَّصَرُّفِ وَصُورَتُهُ،(12/72)
لاَ مَبْنَاهُ الَّذِي بُنِيَ عَلَيْهِ.
12 - وَالتَّصَرُّفُ بِنَوْعَيْهِ الْقَوْلِيِّ وَالْفِعْلِيِّ يَنْدَرِجُ فِيهِ جَمِيعُ أَنْوَاعِ التَّصَرُّفَاتِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ تِلْكَ التَّصَرُّفَاتُ عِبَادَاتٍ كَالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ.
أَمْ تَمْلِيكَاتٍ وَمُعَاوَضَاتٍ كَالْبَيْعِ، وَالإِِْقَالَةِ، وَالصُّلْحِ وَالْقِسْمَةِ، وَالإِِْجَارَةِ، وَالْمُزَارَعَةِ، وَالْمُسَاقَاةِ، وَالنِّكَاحِ، وَالْخُلْعِ، وَالإِِْجَازَةِ، وَالْقِرَاضِ.
أَمْ تَبَرُّعَاتٍ كَالْوَقْفِ، وَالْهِبَةِ، وَالصَّدَقَةِ، وَالإِِْبْرَاءِ عَنِ الدَّيْنِ.
أَمْ تَقْيِيدَاتٍ كَالْحَجْرِ، وَالرَّجْعَةِ، وَعَزْل الْوَكِيل.
أَمِ الْتِزَامَاتٍ كَالضَّمَانِ، وَالْكَفَالَةِ، وَالْحَوَالَةِ، وَالاِلْتِزَامِ بِبَعْضِ الطَّاعَاتِ.
أَمْ إِسْقَاطَاتٍ كَالطَّلاَقِ، وَالْخُلْعِ، وَالتَّدْبِيرِ، وَالإِِْبْرَاءِ عَنِ الدَّيْنِ.
أَمْ إِطْلاَقَاتٍ كَالإِِْذْنِ لِلْعَبْدِ بِالتِّجَارَةِ، وَالإِِْذْنِ الْمُطْلَقِ لِلْوَكِيل بِالتَّصَرُّفِ.
أَمْ وِلاَيَاتٍ كَالْقَضَاءِ، وَالإِِْمَارَةِ، وَالإِِْمَامَةِ، وَالإِِْيصَاءِ.
أَمْ إِثْبَاتَاتٍ كَالإِِْقْرَارِ، وَالشَّهَادَةِ، وَالْيَمِينِ، وَالرَّهْنِ.
أَمِ اعْتِدَاءَاتٍ عَلَى حُقُوقِ الْغَيْرِ الْمَالِيَّةِ وَغَيْرِهَا كَالْغَصْبِ وَالسَّرِقَةِ.(12/73)
أَمْ جِنَايَاتٍ عَلَى النَّفْسِ وَالأَْطْرَافِ وَالأَْمْوَال أَيْضًا.
لأَِنَّ تِلْكَ التَّصَرُّفَاتِ عَلَى اخْتِلاَفِ أَنْوَاعِهَا لاَ تَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهَا أَقْوَالاً أَوْ أَفْعَالاً فَيَكُونُ التَّصَرُّفُ بِنَوْعَيْهِ الْقَوْلِيِّ وَالْفِعْلِيِّ شَامِلاً لَهَا.
هَذَا، وَأَمَّا شُرُوطُ صِحَّةِ التَّصَرُّفِ وَنَفَاذُهُ فَلَيْسَ هَذَا الْبَحْثُ مَحَل ذِكْرِهَا، سَوَاءٌ مَا كَانَ مِنْهَا يَرْجِعُ إِِلَى الْمُتَصَرِّفِ أَمْ إِِلَى نَفْسِ التَّصَرُّفِ؛ لأَِنَّ مَحَل ذِكْرِ تِلْكَ الشُّرُوطِ الْمُصْطَلَحَاتُ الْخَاصَّةُ بِكُلٍّ مِنْ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ.
تَصْرِيحٌ
انْظُرْ: صَرِيحٌ(12/73)
تَصْرِيَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّصْرِيَةُ لُغَةً: مَصْدَرُ صَرَّى، يُقَال: صَرَّ النَّاقَةَ أَوْ غَيْرَهَا تَصْرِيَةً: إِِذَا تَرَكَ حَلْبَهَا، فَاجْتَمَعَ لَبَنُهَا فِي ضَرْعِهَا (1) . وَفِي الاِصْطِلاَحِ: تَرْكُ الْبَائِعِ حَلْبَ النَّاقَةِ أَوْ غَيْرِهَا عَمْدًا مُدَّةً قَبْل بَيْعِهَا، لِيُوهِمَ الْمُشْتَرِيَ كَثْرَةَ اللَّبَنِ (2) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - التَّصْرِيَةُ حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، إِِذَا قَصَدَ الْبَائِعُ بِذَلِكَ إِيهَامَ الْمُشْتَرِي كَثْرَةَ اللَّبَنِ، لِحَدِيثِ: مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا (3) وَحَدِيثِ: بَيْعُ الْمُحَفَّلاَتِ خِلاَبَةٌ، وَلاَ تَحِل الْخِلاَبَةُ لِمُسْلِمٍ. (4) وَلِمَا فِيهِ مِنَ التَّدْلِيسِ وَالإِِْضْرَارِ (5) .
__________
(1) المصباح المنير مادة: " صرى ".
(2) روض الطالب شرح أسنى المطالب 2 / 61، وابن عابدين 4 / 99، وشرح الزرقاني 5 / 133.
(3) حديث: " من غشنا فليس منا " أخرجه مسلم (1 / 99 ط الحلبي) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(4) حديث: " بيع المحفلات خلابة، ولا تحل الخلابة لمسلم " أخرجه ابن ماجه (2 / 753 ط الحلبي) وقال البوصيري: في إسناده جابر الجعفي، وهو متهم.
(5) المغني 4 / 149.(12/74)
الْحُكْمُ الْوَضْعِيُّ (الأَْثَرُ) :
3 - ذَهَبَ الأَْئِمَّةُ: مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ، وَأَبُو يُوسُفَ إِِلَى أَنَّ تَصْرِيَةَ الْحَيَوَانِ عَيْبٌ يُثْبِتُ الْخِيَارَ لِلْمُشْتَرِي. وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الأَْنْعَامُ وَغَيْرُهَا مِمَّا يُقْصَدُ إِِلَى لَبَنِهِ. وَذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنَ الْغِشِّ وَالتَّغْرِيرِ الْفِعْلِيِّ، (1) وَلِحَدِيثِ: لاَ تُصَرُّوا الإِِْبِل وَالْغَنَمَ، فَمَنِ ابْتَاعَهَا بَعْدُ فَإِِنَّهُ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَحْتَلِبَهَا: إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ، وَإِِنْ شَاءَ رَدَّهَا وَرَدَّ مَعَهَا صَاعًا مِنْ تَمْرٍ (2) وَيَرُدُّ مَعَهَا عِوَضًا عَنْ لَبَنِهَا إِنِ احْتَلَبَ، وَهَذَا مَحَل اتِّفَاقٍ بَيْنَ هَؤُلاَءِ الأَْئِمَّةِ، وَإِِنِ اخْتَلَفُوا فِي نَوْعِ الْعِوَضِ كَمَا سَيَأْتِي. كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْعِوَضَ خَاصٌّ بِالأَْنْعَامِ (3) .
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِِلَى أَنَّهُ لاَ يُرَدُّ الْحَيَوَانُ بِالتَّصْرِيَةِ، وَلاَ يَثْبُتُ الْخِيَارُ بِهَا؛ لأَِنَّ التَّصْرِيَةَ لَيْسَتْ بِعَيْبٍ، بِدَلِيل أَنَّهُ لَوْ لَمْ تَكُنْ مُصَرَّاةً فَوَجَدَهَا أَقَل لَبَنًا مِنْ أَمْثَالِهَا لَمْ يَمْلِكْ رَدَّهَا، وَالتَّدْلِيسُ بِمَا لَيْسَ بِعَيْبٍ لاَ يُثْبِتُ الْخِيَارَ. وَلاَ يَرُدُّ مَعَهَا صَاعًا مِنْ تَمْرٍ؛ لأَِنَّ ضَمَانَ الْعُدْوَانِ بِالْمِثْل أَوِ الْقِيمَةِ، وَالتَّمْرُ لَيْسَ مِثْلاً وَلاَ قِيمَةً، بَل يَرْجِعُ
__________
(1) أسنى المطالب 2 / 61، 62، والمغني 4 / 149، والزرقاني 5 / 133.
(2) حديث: " لا تصروا الإبل والغنم. . . " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 361 ط السلفية) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وأخرجه مسلم (3 / 1158 ط الحلبي) بألفاظ متقاربة.
(3) نفس المراجع.(12/74)
الْمُشْتَرِي بِأَرْشِ النُّقْصَانِ عَلَى الْبَائِعِ (وَالأَْرْشُ هُنَا: هُوَ التَّعْوِيضُ عَنْ نُقْصَانِ الْمَبِيعِ) . (1)
نَوْعُ الْعِوَضِ عَنِ اللَّبَنِ:
4 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي رَدِّ الْعِوَضِ، وَفِي نَوْعِهِ. فَذَهَبَ الإِِْمَامُ أَحْمَدُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، إِِلَى أَنَّ الْعِوَضَ هُوَ صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ (2) ، وَذَلِكَ لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ، وَقَدْ نَصَّ فِيهِ عَلَى التَّمْرِ: وَإِِنْ شَاءَ رَدَّهَا وَرَدَّ مَعَهَا صَاعًا مِنْ تَمْرٍ. وَذَهَبَ الإِِْمَامُ مَالِكٌ إِِلَى أَنَّ الْعِوَضَ هُوَ صَاعٌ مِنْ غَالِبِ قُوتِ الْبَلَدِ، وَهُوَ الْقَوْل الآْخَرُ لِلشَّافِعِيَّةِ. وَقَال مَالِكٌ: إِنَّ بَعْضَ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ جَاءَ فِيهَا: فَإِِنْ رَدَّهَا رَدَّ مَعَهَا صَاعًا مِنْ طَعَامٍ (3) وَتَنْصِيصُ التَّمْرِ فِي الْحَدِيثِ لَيْسَ لِخُصُوصِهِ، وَإِِنَّمَا كَانَ غَالِبَ قُوتِ الْمَدِينَةِ آنَذَاكَ (4) .
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَرُدُّ قِيمَةَ اللَّبَنِ الْمُحْتَلَبِ؛ لأَِنَّهُ ضَمَانُ مُتْلَفٍ، فَكَانَ مُقَدَّرًا بِقِيمَتِهِ كَسَائِرِ الْمُتْلَفَاتِ (5) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 96 - 97.
(2) أسنى المطالب 2 / 61 - 62، والمغني 4 / 151.
(3) حديث: " فإن ردها رد معها صاعا من طعام " أخرجه مسلم (3 / 1158 ط الحلبي) .
(4) الزرقاني 5 / 134، والتدليل لم يأت فيه وإنما نقلناه من المغني 4 / 151.
(5) حاشية ابن عابدين 4 / 96 - 97.(12/75)
ثُمَّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ: هَل يَجِبُ رَدُّ اللَّبَنِ نَفْسِهِ إِِذَا كَانَ مَوْجُودًا؟
ذَهَبَ أَحْمَدُ إِِلَى أَنَّ لِلْمُشْتَرِي رَدَّ اللَّبَنِ إِِذَا لَمْ يَتَغَيَّرْ، وَلاَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ آخَرُ، وَلاَ يَجُوزُ لِلْبَائِعِ رَفْضُهُ. (1)
الْوَاجِبُ عِنْدَ انْعِدَامِ التَّمْرِ:
5 - ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِِلَى أَنَّ الْوَاجِبَ فِي هَذَا الْحَال قِيمَةُ التَّمْرِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الْعَقْدُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ - فِي الْوَجْهِ الأَْصَحِّ - إِِلَى أَنَّ عَلَيْهِ قِيمَةَ التَّمْرِ فِي أَقْرَبِ الْبِلاَدِ الَّتِي فِيهَا تَمْرٌ، وَفِي الْوَجْهِ الآْخَرِ عَلَيْهِ قِيمَةُ التَّمْرِ بِالْحِجَازِ. وَلاَ يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ عِنْدَ مَالِكٍ بِانْعِدَامِ التَّمْرِ؛ لأَِنَّ الْوَاجِبَ عِنْدَهُ مُطْلَقًا صَاعٌ مِنْ غَالِبِ قُوتِ أَهْل الْبَلَدِ. (2)
هَل يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ بَيْنَ كَثْرَةِ اللَّبَنِ وَقِلَّتِهِ؟
6 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ مَنْ يَرَى رَدَّ صَاعٍ مَعَ الْمُصَرَّاةِ فِي أَنَّهُ لاَ عِبْرَةَ بِكَثْرَةِ اللَّبَنِ وَقِلَّتِهِ، وَلاَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الصَّاعُ مِثْل قِيمَةِ لَبَنِ الْحَيَوَانِ أَوْ أَقَل أَوْ أَكْثَرَ؛ لأَِنَّهُ بَدَلٌ قَدَّرَهُ الشَّرْعُ. (3)
__________
(1) المغني 4 / 151.
(2) الزرقاني 5 / 134، 135، وشرح الروض 2 / 63، والمغني 4 / 151.
(3) شرح الزرقاني 5 / 133 - 134، وأسنى المطالب 2 / 62، والمغني 4 / 152، 153، ونهاية المحتاج 4 / 73 - 74.(12/75)
وَيُشْتَرَطُ فِي جَوَازِ رَدِّ الْمُصَرَّاةِ:
أ - أَنْ لاَ يَعْلَمَ الْمُشْتَرِي أَنَّهَا مُصَرَّاةٌ، فَإِِنْ عَلِمَ قَبْل الشِّرَاءِ وَقَبْل حَلْبِهَا فَلاَ يَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ.
ب - أَنْ يَقْصِدَ الْبَائِعُ التَّصْرِيَةَ، فَإِِنْ لَمْ يَقْصِدْ ذَلِكَ كَأَنْ تَرَكَ حَلْبَهَا نَاسِيًا أَوْ لِشُغْلٍ، أَوْ تَصَرَّتْ بِنَفْسِهَا فَوَجْهَانِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي ثُبُوتِ الْخِيَارِ. (1) وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ لِدَفْعِ الضَّرَرِ اللاَّحِقِ بِالْمُشْتَرِي، وَالضَّرَرُ وَاجِبُ الدَّفْعِ شَرْعًا، قُصِدَ أَمْ لَمْ يُقْصَدْ، فَأَشْبَهَ الْعَيْبَ. (2)
ج - وَأَنْ يَرُدَّهَا بَعْدَ الْحَلْبِ، فَإِِنْ رَدَّهَا قَبْل الْحَلْبِ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ بِالاِتِّفَاقِ؛ لأَِنَّ الصَّاعَ إِنَّمَا وَجَبَ عِوَضًا عَنِ اللَّبَنِ الْمَحْلُوبِ وَلَمْ يَحْلِبْ.
وَلِلْخَبَرِ الَّذِي قَيَّدَ رَدَّ الصَّاعِ بِالاِحْتِلاَبِ، وَلَمْ يُوجَدْ.
وَإِِذَا أَرَادَ الْمُشْتَرِي إِمْسَاكَ الْمُصَرَّاةِ وَطَلَبَ الأَْرْشَ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَجْعَل لِلْمُصَرَّاةِ أَرْشًا، وَإِِنَّمَا خَيَّرَ الْمُشْتَرِيَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ: إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ، وَإِِنْ شَاءَ رَدَّهَا وَصَاعًا مِنْ تَمْرٍ وَلأَِنَّ التَّصْرِيَةَ لَيْسَتْ بِعَيْبٍ، فَلَمْ يَسْتَحِقَّ مِنْ أَجْلِهَا عِوَضًا. (3)
__________
(1) نهاية المحتاج 4 / 72، وروض الطالب 2 / 61 - 62.
(2) المغني 4 / 157.
(3) روض الطالب 2 / 62، والمغني 4 / 153، وشرح الزرقاني 5 / 133.(12/76)
7 - وَإِِذَا اشْتَرَى مُصَرَّاتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ فَرَدَّهُنَّ، رَدَّ مَعَ كُل مُصَرَّاةٍ صَاعًا، وَبِهَذَا قَال الشَّافِعِيُّ وَبَعْضُ أَصْحَابِ مَالِكٍ. وَقَال بَعْضُهُمْ: فِي الْجَمِيعِ صَاعٌ وَاحِدٌ، لأَِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ اشْتَرَى غَنَمًا مُصَرَّاةً فَاحْتَلَبَهَا، فَإِِنْ رَضِيَهَا أَمْسَكَهَا، وَإِِنْ سَخِطَهَا فَفِي حَلْبَتِهَا صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ. (1)
وَلِلْحَنَابِلَةِ عُمُومُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنِ اشْتَرَى مُصَرَّاةً وَمَنِ اشْتَرَى مُحَفَّلَةً " وَهَذَا يَتَنَاوَل الْوَاحِدَةَ؛ وَلأَِنَّ مَا جُعِل عِوَضًا عَنِ الشَّيْئَيْنِ فِي صَفْقَتَيْنِ، وَجَبَ إِِذَا كَانَا فِي صَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ كَأَرْشِ الْعَيْبِ.
مُدَّةُ الْخِيَارِ:
8 - الرَّدُّ يَكُونُ عَلَى الْفَوْرِ كَالرَّدِّ فِي خِيَارِ الْعَيْبِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. وَلِلْحَنَابِلَةِ فِي الْمُدَّةِ ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ:
الأَْوَّل: أَنَّهَا مُقَدَّرَةٌ بِثَلاَثَةِ أَيَّامٍ، وَلَيْسَ لَهُ الرَّدُّ قَبْل مُضِيِّهَا، وَلاَ إِمْسَاكُهَا بَعْدَهَا، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْل أَحْمَدَ. لِحَدِيثِ مُسْلِمٍ: فَهُوَ بِالْخِيَارِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ. (2)
__________
(1) المغني 4 / 156 ط الرياض. وحديث: " من اشترى غنما مصراة. . . " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 368 ط السلفية) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) حديث: " فهو بالخيار ثلاثة أيام " أخرجه مسلم (3 / 1558 ط الحلبي) .(12/76)
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَتَى ثَبَتَتِ التَّصْرِيَةُ جَازَ لَهُ الرَّدُّ قَبْل الثَّلاَثَةِ وَبَعْدَهَا؛ لأَِنَّهُ تَدْلِيسٌ يُثْبِتُ الْخِيَارَ، فَمِلْكُ الرَّدِّ إِِذَا تَبَيَّنَهُ كَسَائِرِ التَّدْلِيسِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ مَتَى عَلِمَ التَّصْرِيَةَ ثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ فِي الأَْيَّامِ الثَّلاَثَةِ إِِلَى تَمَامِهَا. (1)
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: لاَ يَرُدُّ إِنْ حَلَبَهَا فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ إِنْ حَصَل الاِخْتِيَارُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي. (2)
__________
(1) أسنى المطالب 2 / 61، والمغني 4 / 154 - 155.
(2) الزرقاني 5 / 135.(12/77)
تَصْفِيقٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - لِلتَّصْفِيقِ فِي اللُّغَةِ مَعَانٍ، مِنْهَا: الضَّرْبُ الَّذِي يُسْمَعُ لَهُ صَوْتٌ. وَهُوَ كَالصَّفْقِ فِي ذَلِكَ.
يُقَال: صَفَّقَ بِيَدَيْهِ وَصَفَّحَ سَوَاءٌ. وَفِي الْحَدِيثِ: التَّسْبِيحُ لِلرِّجَال، وَالتَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ (1) وَالْمَعْنَى: إِِذَا نَابَ الْمُصَلِّيَ شَيْءٌ فِي صَلاَتِهِ فَأَرَادَ تَنْبِيهَ مَنْ بِجِوَارِهِ صَفَّقَتِ الْمَرْأَةُ بِيَدَيْهَا، وَسَبَّحَ الرَّجُل بِلِسَانِهِ.
وَالتَّصْفِيقُ بِالْيَدِ: التَّصْوِيتُ بِهَا. كَأَنَّهُ أَرَادَ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} . (2) كَانُوا يُصَفِّقُونَ وَيُصَفِّرُونَ وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ عِبَادَةً فِي ظَنِّهِمْ. وَقِيل فِي تَفْسِيرِهَا أَيْضًا: إِنَّهُمْ أَرَادُوا بِذَلِكَ أَنْ يَشْغَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ فِي الْقِرَاءَةِ وَالصَّلاَةِ. (3)
__________
(1) حديث: " التسبيح للرجال والتصفيق للنساء " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 77 - ط السلفية) . ومسلم (1 / 318 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) سورة الأنفال / 35.
(3) لسان العرب مادة: " صفق "، والقرطبي 7 / 400 - 401.(12/77)
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ الصَّفْقَ عَلَى وَجْهِ اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ.
وَيُقَال: صَفَّقَ لَهُ بِالْبَيْعِ وَالْبَيْعَةِ: أَيْ ضَرَبَ يَدَهُ عَلَى يَدِهِ عِنْدَ وُجُوبِ الْبَيْعِ، ثُمَّ اسْتُعْمِل وَلَوْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ ضَرْبُ يَدٍ عَلَى يَدٍ.
وَرَبِحَتْ صَفْقَتُكَ لِلشِّرَاءِ. وَصَفْقَةٌ رَابِحَةٌ وَصَفْقَةٌ خَاسِرَةٌ.
وَصَفَّقَ بِيَدَيْهِ بِالتَّثْقِيل: ضَرَبَ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُْخْرَى. (1)
وَهُوَ فِي الاِصْطِلاَحِ: لاَ يَخْرُجُ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى. وَسَوَاءٌ كَانَ مِنَ الْمَرْأَةِ فِي الصَّلاَةِ، بِضَرْبِ كَفٍّ عَلَى كَفٍّ عَلَى نَحْوِ مَا سَيَأْتِي فِي بَيَانِ كَيْفِيَّتِهِ. أَوْ كَانَ مِنْهَا وَمِنَ الرَّجُل بِضَرْبِ بَاطِنِ كَفٍّ بِبَاطِنِ الْكَفِّ الأُْخْرَى، كَمَا هُوَ الْحَال فِي الْمَحَافِل وَالأَْفْرَاحِ (2) .
حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - قَدْ يَكُونُ التَّصْفِيقُ مِنْ مُصَلٍّ، وَقَدْ يَكُونُ مِنْ غَيْرِهِ. فَمَا كَانَ مِنْ مُصَلٍّ: فَإِِمَّا أَنْ يَكُونَ لِتَنْبِيهِ إِمَامِهِ عَلَى سَهْوٍ فِي صَلاَتِهِ، أَوْ لِدَرْءِ مَارٍّ أَمَامَهُ لِتَنْبِيهِهِ عَلَى أَنَّهُ فِي صَلاَةٍ، وَمَنْعِهِ عَنِ الْمُرُورِ
__________
(1) مختار الصحاح، المصباح المنير مادة: " صفق ".
(2) الفتاوى الهندية 1 / 99، ونهاية المحتاج للرملي 2 / 44، والمهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 95، وحاشية العدوي بهامش الخرشي على مختصر خليل 1 / 321، وكشاف القناع عن متن الإقناع 1 / 380 م النصر الحديثة.(12/78)
أَمَامَهُ. أَوْ يَكُونُ مِنْهُ فِيهَا عَلَى وَجْهِ اللَّعِبِ.
وَمَا كَانَ مِنْ غَيْرِ الْمُصَلِّي: فَإِِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْمَحَافِل كَالْمَوَالِدِ وَالأَْفْرَاحِ، أَوْ فِي أَثْنَاءِ خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ، أَوْ لِطَلَبِ الإِِْذْنِ لَهُ مِنْ مُصَلٍّ بِالدُّخُول، أَوْ لِلنِّدَاءِ. وَلِكُلٍّ مِنْ ذَلِكَ حُكْمُهُ.
تَصْفِيقُ الْمُصَلِّي لِتَنْبِيهِ إِمَامِهِ عَلَى سَهْوٍ فِي صَلاَتِهِ:
3 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ عَرَضَ لِلإِِْمَامِ شَيْءٌ فِي صَلاَتِهِ سَهْوًا مِنْهُ اسْتُحِبَّ لِمَنْ هُمْ مُقْتَدُونَ بِهِ تَنْبِيهُهُ.
وَاخْتَلَفُوا فِي طَرِيقَتِهِ بِالنِّسْبَةِ لِكُلٍّ مِنَ الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ. هَل يَكُونُ بِالتَّسْبِيحِ أَوْ بِالتَّصْفِيقِ؟ فَاتَّفَقُوا عَلَى اسْتِحْبَابِهِ بِالتَّسْبِيحِ بِالنِّسْبَةِ لِلرَّجُل، وَاخْتَلَفُوا فِي التَّصْفِيقِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَرْأَةِ.
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنَّهُ يَكُونُ مِنْهَا بِالتَّصْفِيقِ. لِمَا رَوَى سَهْل بْنُ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِِذَا نَابَكُمْ شَيْءٌ فِي صَلاَتِكُمْ فَلْيُسَبِّحِ الرِّجَال وَلْتُصَفِّقِ النِّسَاءُ (1) وَلِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: التَّسْبِيحُ لِلرِّجَال وَالتَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ (2) وَمِثْلُهُنَّ الْخَنَاثَى فِي
__________
(1) حديث: " إذا نابكم شيء في صلاتكم. . . " أخرجه أبو داود (1 / 580 - تحقيق عزت عبيد الدعاس) والدارمي (1 / 317 - نشر دار إحياء السنة النبوية) . وأصله في الصحيحين كما تقدم.
(2) حديث: " التسبيح للرجال والتصفيق للنساء " تقدم تخريجه.(12/78)
ذَلِكَ. (1)
وَكَرِهَ الْمَالِكِيَّةُ تَصْفِيقَ الْمَرْأَةِ فِي الصَّلاَةِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ نَابَهُ شَيْءٌ فِي صَلاَتِهِ فَلْيَقُل سُبْحَانَ اللَّهِ (2) (وَمَنْ) مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ فَشَمِلَتِ النِّسَاءَ فِي التَّنْبِيهِ بِالتَّسْبِيحِ. وَلِذَا قَال خَلِيلٌ: وَلاَ يُصَفِّقْنَ. أَيِ النِّسَاءُ فِي صَلاَتِهِنَّ لِحَاجَةٍ.
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: التَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ ذَمٌّ لَهُ، لاَ إِذْنَ لَهُنَّ فِيهِ بِدَلِيل عَدَمِ عَمَلِهِنَّ بِهِ. (3)
تَصْفِيقُ الْمُصَلِّي لِمَنْعِ الْمَارِّ أَمَامَهُ:
4 - يَخْتَلِفُ حُكْمُ دَرْءِ الْمَارِّ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي بَيْنَ كَوْنِهِ رَجُلاً أَوِ امْرَأَةً. فَإِِذَا كَانَ الْمُصَلِّي رَجُلاً كَانَ دَرْؤُهُ لِلْمَارِّ أَمَامَهُ بِالتَّسْبِيحِ أَوْ بِالإِِْشَارَةِ بِالرَّأْسِ أَوِ الْعَيْنِ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: التَّسْبِيحُ لِلرِّجَال وَعَنْ
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 99، 104، ابن عابدين 1 / 417، والمهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 94 - 95، وروضة الطالبين 1 / 291، ونهاية المحتاج للرملي 2 / 44، وشرح منهاج الطالبين وحاشية قليوبي عليه 1 / 189 - 190، والمغني لابن قدامة 2 / 19، 54 م الرياض الحديثة، وكشاف القناع 1 / 380 - 381 م النصر الحديثة.
(2) حديث: " من نابه شيء في صلاته فليقل: سبحان الله " أخرجه البخاري في (الفتح 3 / 107 - ط السلفية) . ومسلم (1 / 317 - ط الحلبي) .
(3) جواهر الإكليل 1 / 62 - 63، والشرح الكبير 1 / 85، ومواهب الجليل لشرح مختصر خليل والتاج والإكليل بهامشه 2 / 29 م النجاح بليبيا، والخرشي على مختصر خليل 1 / 321.(12/79)
سَهْل بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِِذَا نَابَكُمْ فِي صَلاَتِكُمْ شَيْءٌ فَلْيُسَبِّحِ الرِّجَال. (1)
وَكَمَا فَعَل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَلَدَيْ أُمِّ سَلَمَةَ وَهُمَا عُمَرُ وَزَيْنَبُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا حَيْثُ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي فِي بَيْتِهَا فَقَامَ وَلَدُهَا عُمَرُ لِيَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ أَنْ قِفْ فَوَقَفَ. ثُمَّ قَامَتْ بِنْتُهَا زَيْنَبُ لِتَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَأَشَارَ إِلَيْهَا أَنْ قِفِي فَأَبَتْ وَمَرَّتْ، فَلَمَّا فَرَغَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ صَلاَتِهِ قَال: هُنَّ أَغْلَبُ (2) وَإِِنْ كَانَ الْمُصَلِّي امْرَأَةً كَانَ دَرْؤُهَا لِلْمَارِّ بِالإِِْشَارَةِ أَوْ بِالتَّصْفِيقِ بِبَطْنِ كَفِّهَا الْيُمْنَى عَلَى ظَهْرِ أَصَابِعِ كَفِّهَا الْيُسْرَى؛ لأَِنَّ لَهَا التَّصْفِيقَ.
لاَ تَرْفَعُ صَوْتَهَا بِالْقِرَاءَةِ وَالتَّسْبِيحِ؛ لأَِنَّ مَبْنَى حَال النِّسَاءِ عَلَى السَّتْرِ، وَلاَ يُطْلَبُ مِنْهَا الدَّرْءُ بِهِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَالتَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ وَقَوْلُهُ: وَلْيُصَفِّقِ النِّسَاءُ وَهَذَا هُوَ الْمَسْنُونُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. (3)
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَلَمْ يَقُولُوا بِالتَّسْبِيحِ لِلرَّجُل، وَلاَ بِالتَّصْفِيقِ لِلْمَرْأَةِ فِي دَفْعِ الْمَارِّ، بَل
__________
(1) تقدم تخريج هذين الحديثين (ف 3) .
(2) حديث: " هن أغلب " عن أم سلمة رضي الله عنها أخرجه ابن ماجه (1 / 305 - ط الحلبي) وقال البوصيري في الزوائد: في إسناده ضعف.
(3) الفتاوى الهندية 1 / 104، وابن عابدين 1 / 429، ومراقي الفلاح وحاشية الطحطاوي عليه ص 201 - 202، وتبيين الحقائق شرح كنز الدقائق للزيلعي وحاشية الشلبي بهامشه 1 / 161 - 162.(12/79)
قَالُوا: يَدْفَعُهُ الْمُصَلِّي بِمَا يَسْتَطِيعُهُ وَيُقَدِّمُ فِي ذَلِكَ الأَْسْهَل فَالأَْسْهَل.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُنْدَبُ لِلْمُصَلِّي دَفْعُ الْمَارِّ بَيْنَ يَدَيْهِ دَفْعًا خَفِيفًا لاَ يَتْلَفُ لَهُ شَيْءٌ وَلاَ يَشْغَلُهُ، فَإِِنْ كَثُرَ مِنْهُ ذَلِكَ أَبْطَل صَلاَتَهُ. (1) وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي الْكَلاَمِ عَلَى (سُتْرَةِ الصَّلاَةِ) .
تَصْفِيقُ الرَّجُل فِي الصَّلاَةِ:
5 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى كَرَاهَةِ تَصْفِيقِ الرَّجُل فِي الصَّلاَةِ مُطْلَقًا لِمَا رُوِيَ عَنْ سَهْل بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلَغَهُ أَنَّ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ كَانَ بَيْنَهُمْ شَيْءٌ، فَخَرَجَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصْلِحُ بَيْنَهُمْ فِي أُنَاسٍ مَعَهُ، فَحُبِسَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَانَتِ الصَّلاَةُ، فَجَاءَ بِلاَلٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِِلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَال: يَا أَبَا بَكْرٍ إِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ حُبِسَ، وَقَدْ حَانَتِ الصَّلاَةُ، فَهَل لَكَ أَنْ تَؤُمَّ النَّاسَ؟ قَال: نَعَمْ إِنْ شِئْتَ. فَأَقَامَ بِلاَلٌ وَتَقَدَّمَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَكَبَّرَ لِلنَّاسِ. وَجَاءَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْشِي فِي الصُّفُوفِ، حَتَّى قَامَ فِي الصَّفِّ فَأَخَذَ النَّاسُ فِي التَّصْفِيقِ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لاَ يَلْتَفِتُ فِي صَلاَتِهِ، فَلَمَّا
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 246، والمهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 76، 95، وكشاف القناع عن متن الإقناع 1 / 375 م النصر الحديثة.(12/80)
أَكْثَرَ النَّاسُ الْتَفَتَ فَإِِذَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَشَارَ إِلَيْهِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُهُ أَنْ يُصَلِّيَ، فَرَفَعَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَدَيْهِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَرَجَعَ الْقَهْقَرَى وَرَاءَهُ حَتَّى قَامَ فِي الصَّفِّ. فَتَقَدَّمَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى لِلنَّاسِ. فَلَمَّا فَرَغَ أَقْبَل عَلَى النَّاسِ فَقَال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ مَا لَكُمْ حِينَ نَابَكُمْ شَيْءٌ فِي الصَّلاَةِ أَخَذْتُمْ فِي التَّصْفِيقِ؟ إِنَّمَا التَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ. مَنْ نَابَهُ شَيْءٌ فِي صَلاَتِهِ فَلْيَقُل: سُبْحَانَ اللَّهِ، فَإِِنَّهُ لاَ يَسْمَعُهُ أَحَدٌ حِينَ يَقُول: سُبْحَانَ اللَّهِ إِلاَّ الْتَفَتَ. يَا أَبَا بَكْرٍ مَا مَنَعَكَ أَنْ تُصَلِّيَ لِلنَّاسِ حِينَ أَشَرْتُ إِلَيْكَ؟ فَقَال أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَا كَانَ يَنْبَغِي لاِبْنِ أَبِي قُحَافَةَ أَنْ يُصَلِّيَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (1) " فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْكَرَ عَلَيْهِمُ التَّصْفِيقَ، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِإِِعَادَةِ الصَّلاَةِ. وَفِيهِ الدَّلِيل عَلَى كَرَاهَةِ التَّصْفِيقِ لِلرَّجُل فِي الصَّلاَةِ (2) .
التَّصْفِيقُ مِنْ مُصَلٍّ لِلإِِْذْنِ لِلْغَيْرِ بِالدُّخُول:
6 - أَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ تَنْبِيهَ الْمُصَلِّي غَيْرَهُ.
__________
(1) حديث: " يا أيها الناس ما لكم حين نابكم شيء. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 107 - ط السلفية) . ومسلم (1 / 316 - 317 ط الحلبي) .
(2) نهاية المحتاج 2 / 45، والفتاوى الهندية 1 / 99، 104، والمغني لابن قدامة 2 / 19 م الرياض الحديثة، وجواهر الإكليل 1 / 62 - 63، وفتح الباري بشرح صحيح البخاري 3 / 107.(12/80)
وَذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ بِالتَّسْبِيحِ مُطْلَقًا، وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَالتَّسْبِيحُ لِلرِّجَال وَالتَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ لِمَا سَبَقَ بَيَانُهُ، وَكَرِهَهُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ. (1)
التَّصْفِيقُ فِي الصَّلاَةِ عَلَى وَجْهِ اللَّعِبِ:
7 - قَال الشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الْحَنَابِلَةِ: إِنَّ التَّصْفِيقَ فِي الصَّلاَةِ عَلَى وَجْهِ اللَّعِبِ يُبْطِلُهَا وَإِِنْ كَانَ قَلِيلاً، لِمُنَافَاةِ اللَّعِبِ لِلصَّلاَةِ. وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ حَدِيثُ الصَّحِيحَيْنِ: مَنْ نَابَهُ شَيْءٌ فِي صَلاَتِهِ فَلْيُسَبِّحْ، وَإِِنَّمَا التَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ. وَلِمُنَافَاتِهِ لِلصَّلاَةِ.
وَالْقَوْل الآْخَرُ لِلْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ لاَ يُبْطِلُهَا إِنْ قَل، وَإِِنْ كَثُرَ أَبْطَلَهَا؛ لأَِنَّهُ عَمَلٌ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهَا، فَأَبْطَلَهَا كَثِيرُهُ عَمْدًا كَانَ أَوْ سَهْوًا. (2)
وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدْ قَالُوا: إِنَّ مَا يُعْمَل عَادَةً بِالْيَدَيْنِ يَكُونُ كَثِيرًا، بِخِلاَفِ مَا يُعْمَل بِالْيَدِ الْوَاحِدَةِ فَقَدْ يَكُونُ قَلِيلاً، وَالْعَمَل الْكَثِيرُ الَّذِي لَيْسَ مِنْ أَفْعَال الصَّلاَةِ وَلاَ لإِِِصْلاَحِهَا يُفْسِدُهَا. وَالتَّصْفِيقُ لاَ يَتَأَتَّى عَادَةً إِلاَّ بِالْيَدَيْنِ
__________
(1) جواهر الإكليل 1 / 62 - 63، والشرح الكبير 1 / 85، ومواهب الجليل لشرح مختصر خليل والتاج والإكليل بهامشه 2 / 29 م النجاح بليبيا، والخرشي على مختصر خليل 1 / 321.
(2) شرح منهاج الطالبين وحاشية قليوبي عليه 1 / 190، وكشاف القناع عن متن الإقناع 1 / 380 - 381 م النصر الحديثة.(12/81)
كِلْتَيْهِمَا، فَإِِنَّهُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ يَكُونُ عَمَلاً كَثِيرًا فِي الصَّلاَةِ تَبْطُل بِهِ؛ لِمُنَافَاتِهِ لأَِفْعَالِهَا. (1)
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لاَ يَخْلُو عَنْ كَوْنِهِ عَبَثًا فِيهَا، وَيَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْفِعْل الْكَثِيرِ، لأَِنَّهُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ أَفْعَال الصَّلاَةِ كَالنَّفْخِ مِنَ الْفَمِ فِيهَا فَإِِنَّهُ يُبْطِلُهَا، كَالْكَلاَمِ فِيهَا، يَدُل عَلَيْهِ قَوْل ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: النَّفْخُ فِي الصَّلاَةِ كَالْكَلاَمِ. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرَبَاحٍ وَهُوَ يَنْفُخُ فِي التُّرَابِ: مَنْ نَفَخَ فِي الصَّلاَةِ فَقَدْ تَكَلَّمَ (2) وَإِِذْ جَرَى عَلَى التَّصْفِيقِ فِي الصَّلاَةِ عَلَى وَجْهِ اللَّعِبِ حُكْمُ الْفِعْل الْكَثِيرِ فِيهَا كَانَ مُبْطِلاً لَهَا. (3)
كَيْفِيَّةُ التَّصْفِيقِ:
8 - لِلْمَرْأَةِ فِي كَيْفِيَّةِ تَصْفِيقِهَا فِي الصَّلاَةِ طَرِيقَتَانِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ.
إِحْدَاهُمَا: أَنْ تَضْرِبَ بِظُهُورِ أَصَابِعِ الْيَدِ الْيُمْنَى عَلَى صَفْحَةِ الْكَفِّ الْيُسْرَى.
ثَانِيَتُهُمَا: أَنْ تَضْرِبَ بِبَطْنِ كَفِّهَا الْيُمْنَى عَلَى
__________
(1) رد المحتار وحاشية ابن عابدين 1 / 419 - 420، والفتاوى الهندية 1 / 101 - 102، وحاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 177.
(2) حديث " من نفخ في الصلاة فقد تكلم ". ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما موقوفا عليه: أنه كان يخشى أن يكون كلاما يعني النفخ في الصلاة. أخرجه البيهقي 21 / 252 ط دائرة المعارف العثمانية. وصحه الشوكاني كما في النيل (2 / 318 ط المطبعة العثمانية المصرية) .
(3) الفواكه الدواني 1 / 268 دار المعرفة.(12/81)
ظَهْرِ كَفِّهَا الْيُسْرَى، وَهُوَ الأَْيْسَرُ وَالأَْقَل عَمَلاً، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَهُمْ. (1)
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى الْقَوْل بِهِ أَنْ تَضْرِبَ بِظَهْرِ أُصْبُعَيْنِ مِنْ يَمِينِهَا عَلَى بَاطِنِ كَفِّهَا الْيُسْرَى. (2)
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنْ تَضْرِبَ بِبَطْنِ كَفٍّ عَلَى ظَهْرِ الأُْخْرَى. (3)
التَّصْفِيقُ أَثْنَاءَ الْخُطْبَةِ:
9 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِِلَى وُجُوبِ الإِِْنْصَاتِ لِلْخَطِيبِ - وَهُوَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ مُسْتَحَبٌّ - وَعَلَيْهِ يَحْرُمُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ كُل مَا يُنَافِي الإِِْنْصَاتَ إِِلَى الْخَطِيبِ، مِنْ أَكْلٍ وَشُرْبٍ، وَتَحْرِيكِ شَيْءٍ يَحْصُل مِنْهُ صَوْتٌ كَوَرَقٍ أَوْ ثَوْبٍ أَوْ سِبْحَةٍ أَوْ فَتْحِ بَابٍ أَوْ مُطَالَعَةٍ فِي كُرَّاسٍ. وَالتَّصْفِيقُ فِي أَثْنَاءِ الْخُطْبَةِ يُحْدِثُ صَوْتًا يُشَوِّشُ عَلَى الْخَطِيبِ وَالسَّامِعِينَ لِخُطْبَتِهِ، وَلِذَا كَانَ حَرَامًا لإِِِخْلاَلِهِ بِآدَابِ الاِسْتِمَاعِ وَانْتِهَاكِهِ لِحُرْمَةِ الْمَسْجِدِ.
__________
(1) ابن عابدين 1 / 429، ومراقي الفلاح وحاشية الطحطاوي عليه ص 202، والفتاوى الهندية 1 / 99، 104، ومنهاج الطالبين 1 / 190، وروضة الطالبين 1 / 291، ونهاية المحتاج للرملي 2 / 44، والمهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 95.
(2) حاشية العدوي بهامش الخرشي على مختصر خليل 1 / 321، ومواهب الجليل لشرح مختصر خليل والتاج والإكليل بهامشه 2 / 29 مكتبة النجاح بليبيا.
(3) كشاف القناع عن متن الإقناع 1 / 380 م النصر الحديثة، والمغني لابن قدامة 2 / 19 م الرياض الحديثة.(12/82)
وَالْحُرْمَةُ عَلَى مَنْ صَفَّقَ بِالْمَسْجِدِ فِي أَثْنَاءِ الْخُطْبَةِ أَوْ فِي رَحْبَتِهِ آكَدُ مِمَّنْ فَعَل ذَلِكَ خَارِجَ الْمَسْجِدِ مِمَّنْ لاَ يَسْمَعُونَ الْخَطِيبَ. (1)
التَّصْفِيقُ فِي غَيْرِ الصَّلاَةِ وَالْخُطْبَةِ:
10 - التَّصْفِيقُ فِي غَيْرِ الصَّلاَةِ وَالْخُطْبَةِ جَائِزٌ إِِذَا كَانَ لِحَاجَةٍ مُعْتَبَرَةٍ كَالاِسْتِئْذَانِ وَالتَّنْبِيهِ، أَوْ تَحْسِينِ صِنَاعَةِ الإِِْنْشَادِ، أَوْ مُلاَعَبَةِ النِّسَاءِ لأَِطْفَالِهِنَّ.
أَمَّا إِِذَا كَانَ لِغَيْرِ حَاجَةٍ، فَقَدْ صَرَّحَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِحُرْمَتِهِ، وَبَعْضُهُمْ بِكَرَاهَتِهِ. وَقَالُوا: إِنَّهُ مِنَ اللَّهْوِ الْبَاطِل، أَوْ مِنَ التَّشَبُّهِ بِعِبَادَةِ أَهْل الْجَاهِلِيَّةِ عِنْدَ الْبَيْتِ كَمَا قَال تَعَالَى: {وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} . (2)
أَوْ هُوَ مِنَ التَّشَبُّهِ بِالنِّسَاءِ، لِمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ مِنِ اخْتِصَاصِ النِّسَاءِ بِالتَّصْفِيقِ إِِذَا نَابَ الإِِْمَامَ
__________
(1) المدخل لابن الحاج 2 / 227 - 228، والفواكه الدواني 1 / 309 - 310 دار المعرفة، والشرح الكبير 1 / 387 - 388، وفتح القدير 2 / 37 - 38، ورد المحتار على الدر المختار 1 / 551، والفتاوى الهندية 1 / 147، ونيل المآرب بشرح دليل الطالب 1 / 200 - 201 م الفلاح، ومنار السبيل في شرح الدليل 1 / 147 المكتب الإسلامي، وفتح الباري بشرح صحيح البخاري 2 / 407، 414، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 7 / 353 - 354، وشرح الروض 1 / 258، والمهذب 1 / 122.
(2) سورة الأنفال / 35.(12/82)
شَيْءٌ فِي الصَّلاَةِ، فِي حِينِ أَنَّ التَّسْبِيحَ لِلرِّجَال. (1) () (2)
__________
(1) ابن عابدين 5 / 253، والمدخل لابن الحاج 2 / 12، 13، وحاشية قليوبي على منهاج الطالبين 1 / 190، ونهاية المحتاج للرملي 2 / 44، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 7 / 400، والآداب الشرعية لابن مفلح 3 / 391، وكف الرعاع عن محرمات اللهو والسماع 1 / 100، ونهاية المحتاج للرملي 2 / 44 - 45، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 2 / 212 - 213.
(2) لا يخفى ما في هذه الاستدلالات من المآخذ، لأن كونه من اللهو الباطل معناه أنه لا ثواب له (تحفة الأحوذي 5 / 266) وليس كل ما خلا من الثواب حراما، ولأن التشبه بعبادة أهل الجاهلية لم يبق له وجود. وذم التصفيق في الآية إنما هو لكونه عند البيت (في المسجد الح(12/83)
تَصْفِيَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّصْفِيَةُ لُغَةً: مَأْخُوذٌ مِنْ صَفَّى الشَّيْءَ: إِِذَا أَخَذَ خُلاَصَتَهُ. وَمِنْهُ: صَفَّيْتُ الْمَاءَ مِنَ الْقَذَى تَصْفِيَةً: أَزَلْتُه عَنْهُ. كَمَا فِي لِسَانِ الْعَرَبِ وَالْمِصْبَاحِ الْمُنِيرِ وَيُرَادُ بِالتَّصْفِيَةِ فِي الاِصْطِلاَحِ: مَجْمُوعُ الأَْعْمَال الَّتِي غَايَتُهَا حَصْرُ حُقُوقِ الْمُتَوَفَّى وَالْتِزَامَاتِهِ وَأَدَاءُ الْحُقُوقِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالتَّرِكَةِ لأَِصْحَابِهَا مِنَ الدَّائِنِينَ وَالْمُوصَى لَهُمْ وَالْوَرَثَةِ.
الْحُكْمُ الإِِْجْمَالِيُّ:
2 - التَّصْفِيَةُ بِهَذَا الْمَعْنَى اصْطِلاَحٌ حَدِيثٌ تَعَارَفَ عَلَيْهِ أَهْل الْقَانُونِ. وَلَمْ يَتَكَلَّمْ عَنْهُ الْفُقَهَاءُ بِالْعِنْوَانِ الْمَذْكُورِ، وَإِِنْ كَانُوا قَدْ عَنَوْا عِنَايَةً شَدِيدَةً بِبَيَانِ أَحْكَامِ الْحُقُوقِ الَّتِي لِلتَّرِكَةِ أَوْ عَلَيْهَا وَحُقُوقِ الْقُصَّرِ ضَمَانًا لأَِصْحَابِ تِلْكَ الْحُقُوقِ حَتَّى لاَ يَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَضَمَانًا بِصِفَةٍ خَاصَّةٍ لِحُقُوقِ الدَّائِنِينَ وَالْمُوصَى لَهُمْ بِشَيْءٍ مِنَ التَّرِكَةِ.
وَهَذِهِ الأَْحْكَامُ مُفَصَّلَةٌ فِي مُصْطَلَحِ: (تَرِكَةٌ، إِرْثٌ، وَصِيَّةٌ، وَإِِيصَاءٌ) .(12/83)
تَصْلِيبٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّصْلِيبُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ صَلَّبَ، وَهُوَ يَأْتِي لِمَعَانٍ: مِنْهَا:
أ - الْقِتْلَةُ الْمَعْرُوفَةُ يُقَال: صُلِبَ فُلاَنٌ صَلْبًا، وَصُلِّبَ تَصْلِيبًا. فَفِي التَّنْزِيل الْعَزِيزِ: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} (1) وَفِيهِ حِكَايَةُ قَوْل فِرْعَوْنَ: {وَلأَِصْلُبَنكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْل} (2) وَأَصْلُهُ عَلَى مَا فِي لِسَانِ الْعَرَبِ " الصَّلِيبُ " وَهُوَ فِي اللُّغَةِ دُهْنُ الإِِْنْسَانِ أَوِ الْحَيَوَانِ، قَال: وَالصَّلْبُ هَذِهِ الْقِتْلَةُ الْمَعْرُوفَةُ، مُشْتَقٌّ مِنْ ذَلِكَ، لأَِنَّ وَدَكَ الْمَصْلُوبِ (أَيْ دُهْنَهُ) يَسِيل. (3)
وَمِنْهُ سُمِّيَ الصَّلِيبُ. وَهُوَ الْخَشَبَةُ الَّتِي يُصْلَبُ عَلَيْهَا مَنْ يُقْتَل كَذَلِكَ ثُمَّ اسْتُعْمِل لِمَا يَتَّخِذُهُ النَّصَارَى عَلَى ذَلِكَ الشَّكْل وَجَمْعُهُ الصُّلْبَانُ، وَالصُّلُبُ.
ب - وَالتَّصْلِيبُ أَيْضًا صِنَاعَةُ الصَّلِيبِ، أَوْ
__________
(1) سورة النساء / 157.
(2) سورة طه / 71.
(3) لسان العرب مادة: " صلب ".(12/84)
عَمَل نَقْشٍ فِي ثَوْبٍ أَوْ جِدَارٍ أَوْ قِرْطَاسٍ أَوْ غَيْرِهَا بِشَكْل الصَّلِيبِ، أَوِ التَّصْلِيبُ بِالإِِْشَارَةِ. قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَالصَّلِيبُ خَطَّانِ مُتَقَاطِعَانِ (1) . وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَتْرُكُ فِي بَيْتِهِ شَيْئًا فِيهِ تَصَالِيبُ إِلاَّ نَقَضَهُ (2) أَيْ قَطَعَ مَوْضِعَ التَّصْلِيبِ فِيهِ، وَفِي رِوَايَةٍ نَهَى عَنِ الصَّلاَةِ فِي الثَّوْبِ الْمُصَلَّبِ. (3) وَهُوَ الَّذِي فِيهِ نَقْشٌ كَالصُّلْبَانِ (4) .
ج - وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الصَّلْبِ فِي الصَّلاَةِ (5) وَهَيْئَةُ الصَّلْبِ فِي الصَّلاَةِ أَنْ يَضَعَ الْمُصَلِّي يَدَيْهِ عَلَى خَاصِرَتَيْهِ، وَيُجَافِيَ عَضُدَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ فِي الْقِيَامِ. وَإِِنَّمَا نَهَى عَنْهُ لِمُشَابَهَتِهِ شَكْل الْمَصْلُوبِ. وَتُنْظَرُ أَحْكَامُ ذَلِكَ فِي الصَّلاَةِ.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 199.
(2) حديث: " إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يترك في بيته شيئا فيه. . . " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 385 ط السلفية) وأخرجه أبو داود (4 / 383 ط عزت عبيد الدعاس) . وأحمد (6 / 52 ط المكتب الإسلامي) بنحوه.
(3) حديث: " نهى عن الصلاة في الثوب المصلب " أورده صاحب لسان العرب (2 / 461) ولم نجده فيما بين أيدينا من كتب السنة.
(4) لسان العرب.
(5) حديث: " نهى عن الصلب في الصلاة " أخرجه أحمد (2 / 30 ط المكتب الإسلامي) . وأبو داود (1 / 556 ط عزت عبيد الدعاس) . بمعناه. وقال الحافظ العراقي: إسناده صحيح (تخريج إحياء علوم الدين 1 / 162 ط مصطفى الحلبي) .(12/84)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّمْثِيل:
2 - التَّمْثِيل: مَصْدَرُ مَثَّل مِنْ مَثَّلْتُ بِالْقَتِيل مَثْلاً: إِِذَا جَدَعْتَهُ وَظَهَرَتْ آثَارُ فِعْلِكَ عَلَيْهِ تَنْكِيلاً، وَالتَّشْدِيدُ فِي مَثَّل لِلْمُبَالَغَةِ (1) فَبَيْنَ التَّصْلِيبِ وَالتَّمْثِيل مُبَايَنَةٌ؛ لأَِنَّ التَّصْلِيبَ رَبْطٌ لِلْعُقُوبَةِ، أَمَّا التَّمْثِيل فَهُوَ مُجَرَّدُ الْجَدْعِ وَالتَّقْطِيعِ.
ب - الصَّبْرُ:
3 - الصَّبْرُ مِنْ مَعَانِيهِ فِي اللُّغَةِ: نَصْبُ الإِِْنْسَانِ لِلْقَتْل، أَوْ أَنْ يُمْسِكَ الطَّائِرُ أَوْ غَيْرُهُ مِنْ ذَوَاتِ الرُّوحِ يُصْبِرُ حَيًّا، ثُمَّ يُرْمَى بِشَيْءٍ حَتَّى يُقْتَل (2) .
فَالصَّبْرُ أَعَمُّ مِنَ التَّصْلِيبِ؛ لأَِنَّهُ قَدْ يَكُونُ بِلاَ صَلْبٍ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
يَتَنَاوَل الْحُكْمُ أَمْرَيْنِ:
أ - الصَّلْبُ، وَهُوَ الْقِتْلَةُ الْمَعْرُوفَةُ.
ب - الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالصَّلِيبِ.
أَوَّلاً: حُكْمُ التَّصْلِيبِ (بِمَعْنَى الْقِتْلَةِ الْمَعْرُوفَةِ)
4 - الصَّلْبُ قِتْلَةٌ مَعْرُوفَةٌ، وَهِيَ أَنْ يُرْفَعَ الْمُرَادُ قَتْلُهُ عَلَى جِذْعٍ أَوْ شَجَرَةٍ أَوْ خَشَبَةٍ قَائِمَةٍ، وَتُمَدُّ
__________
(1) لسان العرب مادة: " مثل ".
(2) لسان العرب.(12/85)
يَدَاهُ عَلَى خَشَبَةٍ مُعْتَرِضَةٍ، وَتُرْبَطُ رِجْلاَهُ بِالْخَشَبَةِ الْقَائِمَةِ، وَيُتْرَكُ عَلَيْهَا هَكَذَا حَتَّى يَمُوتَ. وَقَدْ تَسَمَّرَ يَدَاهُ وَرِجْلاَهُ بِالْخَشَبِ. وَقَدْ يُقْتَل أَوَّلاً، وَيُصْلَبُ بَعْدَ زُهُوقِ رُوحِهِ عَلَى الْخَشَبَةِ لِلتَّشْهِيرِ بِهِ.
وَكَانَتْ هَذِهِ الْقِتْلَةُ شَائِعَةً فِي الأُْمَمِ السَّابِقَةِ كَالْفُرْسِ وَالرُّومَانِ وَمَنْ قَبْلَهُمْ. وَنَصَّ الْقُرْآنُ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ مِنْ فِعْل فِرْعَوْنَ بِأَعْدَائِهِ. وَفِي قِصَّةِ يُوسُفَ {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الآْخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُل الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ} (1)
وَقَدْ حَرَّمَ الإِِْسْلاَمُ هَذِهِ الْقِتْلَةَ لِمَا فِيهَا مِنَ التَّعْذِيبِ الشَّدِيدِ وَالْمُثْلَةِ وَالتَّشْهِيرِ، فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإِِْحْسَانَ عَلَى كُل شَيْءٍ، فَإِِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ (2) وَنَهَى عَنِ الْمُثْلَةِ وَلَوْ بِالْكَلْبِ الْعَقُورِ (3)
__________
(1) سورة يوسف / 41.
(2) حديث: " إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم. . . " أخرجه مسلم (3 / 1548 ط عيسى الحلبي) . وأحمد (4 / 124 ط المكتب الإسلامي) . واللفظ له.
(3) حديث: " نهى عن المثلة، ولو بالكلب العقور " قال الهيثمي: رواه الطبراني وإسناده منقطع. (مجمع الزوائد 6 / 249 ط دار الكتاب العربي) . ولكنه ثبت بلفظ أنه " نهى عن النهبة والمثلة " دون الزيادة، أخرجه البخاري (الفتح 9 / 643 ط السلفية) .(12/85)
5 - وَيُسْتَثْنَى مِنْ هَذَا الأَْصْل جَرَائِمُ مُحَدَّدَةٌ جُعِلَتْ عُقُوبَتُهَا الصَّلْبَ بَعْدَ الْقَتْل لِعَوَارِضَ خَاصَّةٍ اقْتَضَتْهَا. وَهَذِهِ الْجَرَائِمُ هِيَ مَا يَلِي:
أ - الإِِْفْسَادُ فِي الأَْرْضِ:
جُعِلَتْ عُقُوبَةُ الإِِْفْسَادِ فِي الأَْرْضِ بِالْمُحَارَبَةِ (قَطْعِ الطَّرِيقِ) الصَّلْبَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَْرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلاَفٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَْرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآْخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْل أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} . (1)
وَإِِنَّمَا كَانَ الصَّلْبُ عُقُوبَةً فِي هَذِهِ الْجَرِيمَةِ؛ لأَِنَّ قُطَّاعَ الطُّرُقِ يَسْتَأْسِدُونَ عَلَى النَّاسِ، فَيُرَوِّعُونَ الآْمَنِينَ، وَيُظْهِرُونَ الْفَسَادَ، فَجُعِل الصَّلْبُ عُقُوبَةً لَهُمْ؛ لِيَرْتَدِعَ بِهِ مَنْ سِوَاهُمْ مِنَ الْمُفْسِدِينَ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الصَّلْبِ:
فَقِيل: هُوَ حَدٌّ لاَ بُدَّ مِنْ إِقَامَتِهِ.
وَقِيل: الإِِْمَامُ مُخَيَّرٌ فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ مِنَ
__________
(1) سورة المائدة / 32، 33.(12/86)
الْعُقُوبَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي الآْيَةِ. (1) عَلَى تَرْتِيبٍ وَتَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (حِرَابَةٌ) .
كَيْفِيَّةُ تَنْفِيذِ عُقُوبَةِ الصَّلْبِ فِي قَاطِعِ الطَّرِيقِ:
6 - بِاسْتِقْرَاءِ كَلاَمِ الْفُقَهَاءِ يَتَبَيَّنُ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِصَلْبِ قَاطِعِ الطَّرِيقِ: أَنْ يُحْمَل عَلَى الْخَشَبَةِ حَيًّا، ثُمَّ يُتْرَكَ عَلَيْهَا حَتَّى يَمُوتَ.
ثُمَّ اخْتَلَفُوا: فَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالأَْوْزَاعِيُّ: يُصْلَبُ حَيًّا، ثُمَّ يُقْتَل مَصْلُوبًا بِطَعْنِهِ بِحَرْبَةٍ؛ لأَِنَّ الصَّلْبَ عُقُوبَةٌ، وَإِِنَّمَا يُعَاقَبُ الْحَيُّ لاَ الْمَيِّتُ؛ وَلأَِنَّهُ جَزَاءٌ عَلَى الْمُحَارَبَةِ، فَيُشْرَعُ فِي الْحَيَاةِ كَسَائِرِ الْجَزَاءَاتِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ: يُقْتَل أَوَّلاً، ثُمَّ يُصْلَبُ بَعْدَ قَتْلِهِ؛ لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدَّمَ ذِكْرَ الْقَتْل عَلَى ذِكْرِ الصَّلْبِ، فَيُلْتَزَمُ هَذَا التَّرْتِيبُ حَيْثُ اجْتَمَعَا؛ وَلأَِنَّ الْقَتْل إِِذَا أُطْلِقَ فِي الشَّرْعِ كَانَ قَتْلاً بِالسَّيْفِ؛ وَلأَِنَّ فِي قَتْلِهِ بِالصَّلْبِ تَعْذِيبًا لَهُ وَمُثْلَةً، وَقَدْ نَهَى الشَّرْعُ عَنِ الْمُثْلَةِ.
أَمَّا الْمُدَّةُ الَّتِي يَبْقَى فِيهَا الْمَصْلُوبُ عَلَى الْخَشَبَةِ بَعْدَ قَتْلِهِ، فَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ: يُصْلَبُ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ. وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يُصْلَبُ قَدْرَ
__________
(1) المغني لابن قدامة 8 / 290، ط 3. القاهرة مكتبة المنار 1367 هـ، والدر وحاشية ابن عابدين 3 / 213، وشرح المنهاج بحاشية القليوبي وعميرة 4 / 199، 200.
(2) لم يذكروا التسمير، والظاهر أنه لا ينبغي استعماله، لما تقدم من النهي من المثلة، بل يكتفى بالربط.(12/86)
مَا يَشْتَهِرُ أَمْرُهُ، دُونَ تَحْدِيدٍ بِمُدَّةٍ. وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُنْزَل إِِذَا خِيفَ تَغَيُّرُهُ. (1)
ب - مَنْ قَتَل غَيْرَهُ عَمْدًا بِالصَّلْبِ حَتَّى مَاتَ:
7 - مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّ لِوَلِيِّ الْمَقْتُول أَنْ يُطَالِبَ بِقَتْل الْجَانِي قِصَاصًا بِمِثْل مَا قَتَل بِهِ. قَالُوا: وَهَذَا مَعْنَى الْقِصَاصِ، وَهُوَ الْمُسَاوَاةُ وَالْمُمَاثَلَةُ، وَلَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ بِالسَّيْفِ. فَإِِنْ قُتِل بِالسَّيْفِ، وَكَانَ الْجَانِي قَدْ قَتَل بِأَشَدَّ مِنْهُ كَانَ الْوَلِيُّ قَدْ تَرَكَ الْمُمَاثَلَةَ، وَهِيَ شَيْءٌ مِنْ حَقِّهِ. وَمُقْتَضَى هَذَا الْقَوْل: أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْوَلِيِّ صَلْبُ الْقَاتِل حَتَّى الْمَوْتِ، إِنْ كَانَتْ جِنَايَتُهُ بِالصَّلْبِ.
وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّهُ لاَ قَوَدَ إِلاَّ بِالسَّيْفِ، فَعَلَى هَذَا لاَ يَتَأَتَّى عُقُوبَةُ الصَّلْبِ قِصَاصًا. وَمَعَ ذَلِكَ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ الْوَلِيَّ إِِذَا اقْتَصَّ بِغَيْرِ السَّيْفِ عُزِّرَ، وَوَقَعَ الْقِصَاصُ مَوْقِعَهُ. (2)
ج - التَّصْلِيبُ فِي عُقُوبَةِ التَّعْزِيرِ:
8 - قَال الْمَاوَرْدِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: يَجُوزُ صَلْبُ الْمُعَزَّرِ حَيًّا ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ فَقَطْ (أَيْ وَيُطْلَقُ بَعْدَهَا)
__________
(1) الدر بحاشية ابن عابدين 3 / 213، والشرح الكبير بهامش الدسوقي 4 / 349، وقليوبي 4 / 200، والمغني 8 / 90، 291.
(2) الدر بحاشية ابن عابدين 5 / 346، والمغني 7 / 688.(12/87)
فَقَدْ صَلَبَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلاً عَلَى جَبَلٍ يُقَال لَهُ أَبُو نَابٍ (1) قَال: وَلاَ يُمْنَعُ مُدَّةَ صَلْبِهِ مِنْ طَعَامٍ وَلاَ شَرَابٍ وَلاَ وُضُوءٍ لِصَلاَةٍ. وَيُصَلِّي مُومِئًا، وَيُعِيدُ الصَّلاَةَ بَعْدَ أَنْ يُطْلَقَ سَرَاحُهُ. وَنَقَل ذَلِكَ مُتَأَخِّرُو الشَّافِعِيَّةِ وَأَقَرُّوهُ. وَقَال صَاحِبُ مُغْنِي الْمُحْتَاجِ: يَنْبَغِي أَنْ يُقَال بِتَمْكِينِ الْمَصْلُوبِ فِي هَذِهِ الْحَال مِنَ الصَّلاَةِ مُطْمَئِنًّا، يَعْنِي أَنْ يُصَلِّيَ مُرْسَلاً صَلاَةً تَامَّةً، ثُمَّ يُعَادُ صَلْبُهُ. وَنَقَل ابْنُ فَرْحُونَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ فِي التَّبْصِرَةِ قَوْل الْمَاوَرْدِيُّ وَأَقَرَّهُ.
وَيَجُوزُ التَّعْزِيرُ بِالصَّلْبِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَيُرَاعَى مَا ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. وَقَالُوا: يُصَلِّي الْمَصْلُوبُ حِينَئِذٍ بِالإِِْيمَاءِ إِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ إِلاَّ ذَلِكَ، وَلاَ إِعَادَةَ عَلَيْهِ بَعْدَ إِطْلاَقِهِ. (2)
__________
(1) حديث: " صلب رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا على. . . . ". لم نعثر عليه في المصادر التي بين أيدينا من كتب الحديث، وإنما أورده الماوردي في الأحكام السلطانية (ص 237 ط مصطفى الحلبي) . وأصل فعل التصليب ورد في شأن الرعاة العرنيين فيما أخرجه النسائي (7 / 95 ط التجارية) . وأصله في البخاري.
(2) الأحكام السلطانية للماوردي ص 239 القاهرة ط مصطفى الحلبي 1327 هـ، ومغني المحتاج 4 / 192، والتبصرة لابن فرحون بهامش فتح العلي المالك 2 / 304 القاهرة ط مصطفى الحلبي 1378 هـ، وكشاف القناع عن متن الإقناع 6 / 125 الرياض، مكتبة النصر.(12/87)
ثَانِيًا: الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالصُّلْبَانِ
صِنَاعَةُ الصَّلِيبِ وَاتِّخَاذُهُ:
9 - لاَ يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَصْنَعَ صَلِيبًا، وَلاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْمُرَ بِصِنَاعَتِهِ، (1) وَالْمُرَادُ صِنَاعَةُ مَا يُرْمَزُ بِهِ إِِلَى التَّصْلِيبِ. وَلَيْسَ لَهُ اتِّخَاذُهُ، وَسَوَاءٌ عَلَّقَهُ أَوْ نَصَبَهُ أَوْ لَمْ يُعَلِّقْهُ وَلَمْ يَنْصِبْهُ. وَلاَ يَجُوزُ لَهُ إِظْهَارُ هَذَا الشِّعَارِ فِي طُرُقِ الْمُسْلِمِينَ وَأَمَاكِنِهِمُ الْعَامَّةِ أَوِ الْخَاصَّةِ، وَلاَ جَعْلُهُ فِي ثِيَابِهِ، لِمَا رَوَى عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي عُنُقِي صَلِيبٌ مِنْ ذَهَبٍ. فَقَال: يَا عَدِيُّ، اطْرَحْ عَنْكَ هَذَا الْوَثَنَ (2) وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: " قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي رَحْمَةً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ، وَأَمَرَنِي بِمَحْقِ الْمَزَامِيرِ وَالْمَعَازِفِ وَالأَْوْثَانِ وَالصُّلُبِ وَأَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ. (3)
10 - يُكْرَهُ الصَّلِيبُ فِي الثَّوْبِ وَنَحْوِهِ كَالْقَلَنْسُوَةِ وَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْخَوَاتِمِ. قَال ابْنُ حَمْدَانَ: وَيُحْتَمَل التَّحْرِيمُ، وَهُوَ ظَاهِرُ مَا نَقَلَهُ صَالِحٌ عَنِ
__________
(1) الآداب الشرعية 3 / 513.
(2) حديث: " أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب. . . " أخرجه الترمذي (5 / 278 ط مصطفى الحلبي) . وقال: هذا حديث غريب.
(3) حديث: " إن الله بعثني رحمة وهدى للعالمين وأمرني بمحق. . . " أخرجه أحمد (5 / 268 ط المكتب الإسلامي) . والطبراني في المعجم الكبير (8 / 232 ط الوطن العربي) . وقال الهيثمي وفيه علي بن يزيد وهو ضعيف (مجمع الزوائد 5 / 69) ط الكتاب العربي.(12/88)
الإِِْمَامِ أَحْمَدَ، وَصَوَّبَهُ صَاحِبُ الإِِْنْصَافِ. (1)
وَدَلِيل ذَلِكَ حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا الَّذِي يُفِيدُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْطَعُ صُورَةَ الصَّلِيبِ مِنَ الثَّوْبِ، وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ عِنْدَ أَحْمَدَ عَنْ أُمِّ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أُذَيْنَةَ قَالَتْ: كُنَّا نَطُوفُ مَعَ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَرَأَتْ عَلَى امْرَأَةٍ بُرْدًا فِيهِ تَصْلِيبٌ، فَقَالَتْ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ: اطْرَحِيهِ. اطْرَحِيهِ. فَإِِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِِذَا رَأَى نَحْوَ هَذَا فِي الثَّوْبِ قَضَبَهُ. (2) وَقَال إِبْرَاهِيمُ: أَصَابَ أَصْحَابُنَا خَمَائِصَ فِيهَا صُلُبٌ فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَهَا بِالسُّلُوكِ يَمْحُونَهَا بِذَلِكَ.
الْمُصَلِّي وَالصَّلِيبُ:
11 - يُكْرَهُ لِلْمُصَلِّي أَنْ يَكُونَ فِي قِبْلَتِهِ صَلِيبٌ؛ لأَِنَّ فِيهِ تَشَبُّهًا بِالنَّصَارَى فِي عِبَادَتِهِمْ، وَالتَّشَبُّهُ بِهِمْ فِي الْمَذْمُومِ مَكْرُوهٌ، وَإِِنْ لَمْ يَقْصِدْهُ.
وَلَمْ نَجِدْ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ نَصًّا فِي ذَلِكَ. (3)
__________
(1) الآداب الشرعية 3 / 512، 513، وكشاف القناع 1 / 280، والإنصاف 1 / 474، والمغني 1 / 590.
(2) حديث: " كان إذا رأى نحو هذا في الثوب قضبه " أخرجه أحمد (6 / 140 ط المكتب الإسلامي) . قال الساعاتي: لم أقف عليه لغير الإمام أحمد وسنده جيد. (الفتح الرباني 17 / 285 ط دار الشهاب) .
(3) ابن عابدين 1 / 435. واللجنة ترى أن هذه المسألة لا ينبغي أن يكون في حظرها خلاف.(12/88)
الْقَطْعُ فِي سَرِقَةِ الصَّلِيبِ:
12 - لاَ قَطْعَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي سَرِقَةِ الصَّلِيبِ وَلَوْ كَانَ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، وَلَوْ جَاوَزَتْ قِيمَتُهُ نِصَابًا. وَذَلِكَ لأَِنَّهُ مُنْكَرٌ، فَتُتَأَوَّل الإِِْبَاحَةُ لِلسَّارِقِ بِتَأْوِيل نِيَّةِ الْكَسْرِ نَهْيًا عَنِ الْمُنْكَرِ. قَال فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ: بِخِلاَفِ الدِّرْهَمِ الَّذِي عَلَيْهِ الصُّورَةُ، فَإِِنَّهُ مَا أُعِدَّ لِلْعِبَادَةِ، فَلاَ تَثْبُتُ شُبْهَةُ إِبَاحَةِ الْكَسْرِ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ يُقْطَعُ بِهِ إِنْ كَانَ فِي يَدِ رَجُلٍ فِي حِرْزٍ لاَ شُبْهَةَ فِيهِ؛ لِكَمَال الْمَالِيَّةِ وَلِوُجُودِ الْحِرْزِ. أَمَّا إِنْ كَانَ فِي مُصَلاَّهُمْ فَسَرَقَهُ، فَلاَ قَطْعَ لِعَدَمِ الْحِرْزِ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَعَلَى الأَْوَّل لَوْ كَانَ السَّارِقُ ذِمِّيًّا وَسَرَقَ مِنْ حِرْزٍ فَيُقْطَعُ؛ لأَِنَّ الذِّمِّيَّ لاَ تَأْوِيل لَهُ. قَال: إِلاَّ أَنْ يُقَال تَأْوِيل غَيْرِهِ يَكْفِي فِي وُجُودِ الشُّبْهَةِ فَلاَ يُقْطَعُ (1) وَيَظْهَرُ أَنَّ مَذْهَبَ الْمَالِكِيَّةِ جَارٍ عَلَى مِثْل مَا قَال ابْنُ عَابِدِينَ فِي آخِرِ كَلاَمِهِ، فَإِِنَّهُ لاَ قَطْعَ عِنْدَهُمْ فِي سَرِقَةِ الْخَمْرِ، وَلَوْ سَرَقَهَا ذِمِّيٌّ مِنْ ذِمِّيٍّ، فَيَكُونُ الْحُكْمُ فِي سَرِقَةِ الصَّلِيبِ كَذَلِكَ (2) .
وَفَرَّقَ الشَّافِعِيَّةُ فِي سَرِقَةِ الْمُحَرَّمِ مِنْ صَلِيبٍ
__________
(1) ابن عابدين 3 / 198، 199، وفتح القدير / 133، وكشاف القناع 6 / 131.
(2) الدسوقي على الشرح الكبير 4 / 336.(12/89)
وَغَيْرِهِ بَيْنَ حَالَتَيْنِ، فَقَالُوا: إِنْ سَرَقَهُ بِقَصْدِ الإِِْنْكَارِ فَلاَ قَطْعَ، وَإِِلاَّ فَالأَْصَحُّ - عَلَى مَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ - أَنَّهُ يُقْطَعُ بِهِ إِنْ بَلَغَ مَكْسُورُهُ نِصَابًا. (1)
إِتْلاَفُ الصَّلِيبِ:
13 - مَنْ كَسَرَ صَلِيبًا لِمُسْلِمٍ فَلاَ ضَمَانَ فِيهِ اتِّفَاقًا. وَإِِنْ كَانَ لأَِهْل الذِّمَّةِ، فَإِِنْ أَظْهَرُوهُ كَانَتْ إِزَالَتُهُ وَاجِبَةً، وَلاَ ضَمَانَ أَيْضًا.
وَإِِنْ كَانَ اقْتِنَاؤُهُمْ لَهُ عَلَى وَجْهٍ يُقَرُّونَ عَلَيْهِ، كَالَّذِي يَجْعَلُونَهُ فِي دَاخِل كَنَائِسِهِمْ أَوْ بُيُوتِهِمْ، يُسِرُّونَهُ عَنِ الْمُسْلِمِينَ وَلاَ يُظْهِرُونَهُ، فَإِِنْ غَصَبَهُ غَاصِبٌ وَجَبَ رَدُّهُ اتِّفَاقًا. أَمَّا إِنْ أَتْلَفَهُ مُتْلِفٌ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ بِذَلِكَ: فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: فِيهِ الضَّمَانُ، بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمْ فِي ضَمَانِ الْمُسْلِمِ خَمْرَ الذِّمِّيِّ؛ لأَِنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فِي حَقِّهِمْ كَتَقَوُّمِ الْخَل فِي حَقِّنَا. وَقَدْ أُمِرْنَا بِتَرْكِهِمْ وَمَا يَدِينُونَ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: لاَ يَضْمَنُ الْمُسْلِمُ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ لِمُسْلِمٍ وَلاَ لِذِمِّيٍّ، وَهَكَذَا إِِذَا أَتْلَفَهُمَا ذِمِّيٌّ عَلَى ذِمِّيٍّ؛ لأَِنَّهُ سَقَطَ تَقَوُّمُهُمَا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ فَكَذَا فِي حَقِّ الذِّمِّيِّ؛ لأَِنَّهُمْ تَبَعٌ لَنَا
__________
(1) شرح المنهاج وحاشية القليوبي 4 / 187.(12/89)
فِي الأَْحْكَامِ، فَلاَ يَجِبُ بِإِِتْلاَفِهِمَا مَالٌ مُتَقَوِّمٌ، وَهُوَ الضَّمَانُ، فَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِي الصَّلِيبِ؛ وَلأَِنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ، فَالتَّحْرِيمُ ثَابِتٌ فِي حَقِّهِمْ، لَكِنَّا أُمِرْنَا بِتَرْكِ التَّعَرُّضِ لَهُمْ فِيمَا لاَ يُظْهِرُونَهُ مِنْ ذَلِكَ، وَهَذَا لاَ يَقْتَضِي الضَّمَانَ نَظَرًا إِِلَى أَصْل التَّحْرِيمِ. وَفِي شَرْحِ الْمِنْهَاجِ: إِنَّ الأَْصْنَامَ وَالصُّلْبَانَ لاَ يَجِبُ فِي إِبْطَالِهَا شَيْءٌ، لأَِنَّهَا مُحَرَّمَةُ الاِسْتِعْمَال، وَلاَ حُرْمَةَ لِصَنْعَتِهَا (أَيْ لَيْسَتْ مُحْتَرَمَةً) وَإِِنَّ الأَْصَحَّ أَنَّهَا لاَ تُكْسَرُ الْكَسْرَ الْفَاحِشَ، بَل تُفْصَل لِتَعُودَ كَمَا كَانَتْ قَبْل التَّأْلِيفِ، لِزَوَال الاِسْمِ بِذَلِكَ. وَالْقَوْل الثَّانِي: تُكْسَرُ وَتُرَضَّضُ حَتَّى تَنْتَهِيَ إِِلَى حَدٍّ لاَ يُمْكِنُ إِعَادَتُهُ صَنَمًا أَوْ صَلِيبًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ.
وَنَقَل صَاحِبُ كَشَّافِ الْقِنَاعِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ عَنِ الْقَاضِي ابْنِ عَقِيلٍ أَنَّ الصَّلِيبَ إِنْ كَانَ مِنَ الذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ فَلاَ يُضْمَنُ إِِذَا كُسِرَ، أَمَّا إِِذَا أُتْلِفَ فَيُضْمَنُ مَكْسُورًا.
وَفُرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّلِيبِ مِنَ الْخَشَبِ بِأَنَّ الصَّنْعَةَ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ تَابِعَةٌ؛ لأَِنَّهَا أَقَل قِيمَةً، وَفِي الْخَشَبِ أَوِ الْحَجَرِ هِيَ الأَْصْل فَلاَ يُضْمَنُ. فَعَلَيْهِ يُضْمَنُ الصَّلِيبُ الْمَسْتُورُ لِلذِّمِّيِّ إِنْ كَانَ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ إِِذَا أَتْلَفَ بِمِثْلِهِ ذَهَبًا بِالْوَزْنِ، وَتُلْغَى صَنْعَتُهُ. قَال الْحَارِثِيُّ: وَلاَ(12/90)
خِلاَفَ (1) فِيهِ.
أَهْل الذِّمَّةِ وَالصُّلْبَانِ:
14 - يَجُوزُ إِقْرَارُ أَهْل الذِّمَّةِ وَالصُّلْحُ مَعَهُمْ عَلَى إِبْقَاءِ صُلْبَانِهِمْ، وَلَكِنْ يُشْتَرَطُ عَلَيْهِمْ أَنْ لاَ يُظْهِرُوهَا، بَل تَكُونُ فِي كَنَائِسِهِمْ وَمَنَازِلِهِمُ الْخَاصَّةِ. وَفِي فَتْحِ الْقَدِيرِ: إِنَّ الْمُرَادَ بِكَنَائِسِهِمْ كَنَائِسُهُمُ الْقَدِيمَةُ الَّتِي أُقِرُّوا عَلَيْهَا. وَفِي عَهْدِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَى نَصَارَى الشَّامِ " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. هَذَا كِتَابٌ لِعُمَرَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ نَصَارَى الشَّامِ: لمَّا قَدِمْتُمْ عَلَيْنَا سَأَلْنَاكُمُ الأَْمَانَ. إِِلَى أَنْ قَالُوا: وَشَرَطْنَا لَكُمْ عَلَى أَنْفُسِنَا أَنْ لاَ نُظْهِرَ صَلِيبًا وَلاَ كِتَابًا (أَيْ مِنْ كُتُبِ دِينِهِمْ) فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ الْمُسْلِمِينَ وَلاَ أَسْوَاقِهِمْ، وَلاَ نُظْهِرُ الصَّلِيبَ فِي كَنَائِسِنَا إِلَخْ " وَقَوْلُهُمْ: " فِي كَنَائِسِنَا " الْمُرَادُ بِهِ خَارِجَهَا مِمَّا يَرَاهُ الْمُسْلِمُ. قَال ابْنُ الْقَيِّمِ: لاَ يُمَكَّنُونَ مِنَ التَّصْلِيبِ عَلَى أَبْوَابِ كَنَائِسِهِمْ وَظَوَاهِرِ حِيطَانِهَا، وَلاَ يُتَعَرَّضُ لَهُمْ إِِذَا نَقَشُوا دَاخِلَهَا.
وَعَنْ مَيْمُونَ بْنِ مِهْرَانَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَتَبَ: أَنْ يُمْنَعَ نَصَارَى الشَّامِ أَنْ يَضْرِبُوا
__________
(1) ابن عابدين 5 / 133، وتكملة فتح القدير لقاضي زاده 8 / 284 - 286، وشرح العناية بهامشه 8 / 287، والمغني 5 / 276، وشرح المنهاج بحاشية القليوبي 3 / 33، وكشاف القناع 4 / 78، 116، 132، 133.(12/90)
نَاقُوسًا، وَلاَ يَرْفَعُوا صَلِيبَهُمْ فَوْقَ كَنَائِسِهِمْ، فَإِِنْ قُدِرَ عَلَى مَنْ فَعَل ذَلِكَ مِنْهُمْ فَإِِنَّ سَلَبَهُ لِمَنْ وَجَدَهُ. (1)
وَكَذَا لَوْ جَعَلُوا ذَلِكَ فِي مَنَازِلِهِمْ وَأَمَاكِنِهِمُ الْخَاصَّةِ لاَ يُمْنَعُونَ مِنْهُ. (2)
وَيُمْنَعُونَ مِنْ لُبْسِ الصَّلِيبِ وَتَعْلِيقِهِ فِي رِقَابِهِمْ أَوْ أَيْدِيهِمْ، وَلاَ يُنْتَقَضُ عَهْدُهُمْ بِذَلِكَ الإِِْظْهَارِ، وَلَكِنْ يُؤَدَّبُ مَنْ فَعَلَهُ مِنْهُمْ. (3)
وَيُلاَحَظُونَ فِي مَوَاسِمِ أَعْيَادِهِمْ بِالذَّاتِ، إِذْ قَدْ يُحَاوِلُونَ إِظْهَارَ الصَّلِيبِ فَيُمْنَعُونَ مِنْ ذَلِكَ، لِمَا فِي عَهْدِ عُمَرَ عَلَيْهِمْ عَدَمَ إِظْهَارِهِ فِي أَسْوَاقِ الْمُسْلِمِينَ.
وَيُؤَدَّبُ مَنْ فَعَلَهُ مِنْهُمْ، وَيُكْسَرُ الصَّلِيبُ الَّذِي يُظْهِرُونَهُ، وَلاَ شَيْءَ عَلَى مَنْ كَسَرَهُ (4) .
__________
(1) في الأصل: فإن سكنه. وما ذكرناه هو الصواب.
(2) الطحطاوي على الدر المختار 4 / 196، وفتح القدير 5 / 300، وأحكام أهل الذمة لابن القيم ص 719 - 721.
(3) كشاف القناع 3 / 129، 133، 144.
(4) جواهر الإكليل 1 / 268، ومواهب الجليل ومعه التاج والإكليل 3 / 385، والدسوقي على الشرح الكبير 3 / 204. ترى اللجنة أنه ينبغي أن يرجع إلى عهد سيدنا عمر، وأن تنفذ العهود التي قطعت لهم عند استسلامهم له، تطبيقا لقوله تعإلى: (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود) (سورة المائدة / 1) وقوله: (وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم)(12/91)
الصَّلِيبُ فِي الْمُعَامَلاَتِ الْمَالِيَّةِ:
15 - لاَ يَصِحُّ لِمُسْلِمٍ بَيْعُ الصَّلِيبِ شَرْعًا، وَلاَ الإِِْجَارَةُ عَلَى عَمَلِهِ. وَلَوِ اسْتُؤْجِرَ عَلَيْهِ فَلاَ يَسْتَحِقُّ صَانِعُهُ أُجْرَةً، وَذَلِكَ بِمُوجِبِ الْقَاعِدَةِ الشَّرْعِيَّةِ الْعَامَّةِ فِي حَظْرِ بَيْعِ الْمُحَرَّمَاتِ، إِجَارَتُهَا، وَالاِسْتِئْجَارُ عَلَى عَمَلِهَا. (1)
وَقَال الْقَلْيُوبِيُّ: لاَ يَصِحُّ بَيْعُ الصُّوَرِ وَالصُّلْبَانِ وَلَوْ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ حَلْوَى. (2)
وَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ الْخَشَبَةِ لِمَنْ يُعْلَمُ أَنَّهُ يَتَّخِذُهَا صَلِيبًا. (3)
وَسُئِل ابْنُ تَيْمِيَّةَ عَنْ خَيَّاطٍ خَاطَ لِلنَّصَارَى سَيْرَ حَرِيرٍ فِيهِ صَلِيبٌ ذَهَبٌ فَهَل عَلَيْهِ إِثْمٌ فِي خِيَاطَتِهِ؟ وَهَل تَكُونُ أُجْرَتُهُ حَلاَلاً أَمْ لاَ؟ فَقَال: إِِذَا أَعَانَ الرَّجُل عَلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ كَانَ آثِمًا. . . ثُمَّ قَال: وَالصَّلِيبُ لاَ يَجُوزُ عَمَلُهُ بِأُجْرَةٍ وَلاَ غَيْرِ أُجْرَةٍ، كَمَا لاَ يَجُوزُ بَيْعُ الأَْصْنَامِ وَلاَ عَمَلُهَا. كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ
__________
(1) الطحطاوي على الدر المختار 4 / 196، وفتح القدير وحواشيه 6 / 41 - 44، وكشاف القناع 3 / 156، وزاد المعاد 4 / 245 ط مصطفى الحلبي.
(2) شرح المنهاج وحاشية القليوبي 2 / 158، والفتاوى الهندية 4 / 450.
(3) منح الجليل 2 / 469، وشرح منتهى الإدارات 2 / 155 ط دار أنصار السنة بمصر، والحطاب 4 / 254.(12/91)
وَالأَْصْنَامِ (1) ". وَثَبَتَ أَنَّهُ لَعَنَ الْمُصَوِّرِينَ (2) . وَصَانِعُ الصَّلِيبِ مَلْعُونٌ لَعَنَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. وَمَنْ أَخَذَ عِوَضًا عَنْ عَيْنٍ مُحَرَّمَةٍ مِثْل أُجْرَةِ حَامِل الْخَمْرِ وَأُجْرَةِ صَانِعِ الصَّلِيبِ وَأُجْرَةِ الْبَغِيِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَلْيَتَصَدَّقْ بِهِ، وَلْيَتُبْ مِنْ ذَلِكَ الْعَمَل الْمُحَرَّمِ، وَتَكُونُ صَدَقَتُهُ بِالْعِوَضِ كَفَّارَةً لِمَا فَعَلَهُ، فَإِِنَّ هَذَا الْعِوَضَ لاَ يَجُوزُ الاِنْتِفَاعُ بِهِ؛ لأَِنَّهُ عِوَضٌ خَبِيثٌ. نَصَّ عَلَيْهِ الإِِْمَامُ أَحْمَدُ فِي مِثْل حَامِل الْخَمْرِ، وَنَصَّ عَلَيْهِ أَصْحَابُ مَالِكٍ وَغَيْرُهُمْ. (3)
__________
(1) حديث: " إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام " أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 424 ط السلفية) . ومسلم (3 / 1207 ط عيسى الحلبي) .
(2) حديث: " لعن المصورين " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 314 ط السلفية) .
(3) مجموع الفتاوى الكبرى لابن تيمية 22 / 141.(12/92)
تَصْوِيرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّصْوِيرُ لُغَةً: صُنْعُ الصُّورَةِ. وَصُورَةُ الشَّيْءِ هِيَ هَيْئَتُهُ الْخَاصَّةُ الَّتِي يَتَمَيَّزُ بِهَا عَنْ غَيْرِهِ. وَفِي أَسْمَائِهِ تَعَالَى: الْمُصَوِّرُ، وَمَعْنَاهُ: الَّذِي صَوَّرَ جَمِيعَ الْمَوْجُودَاتِ وَرَتَّبَهَا، فَأَعْطَى كُل شَيْءٍ مِنْهَا صُورَتَهُ الْخَاصَّةَ وَهَيْئَتَهُ الْمُفْرَدَةَ، عَلَى اخْتِلاَفِهَا وَكَثْرَتِهَا (1) .
وَوَرَدَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ تَسْمِيَةُ الْوَجْهِ صُورَةً، قَال رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُضْرَبَ الصُّورَةُ، أَوْ نَهَى عَنِ الْوَسْمِ فِي الْوَجْهِ (2) أَيْ: أَنْ يُضْرَبَ الْوَجْهُ أَوْ يُوسَمَ الْحَيَوَانُ فِي وَجْهِهِ.
وَالتَّصْوِيرُ أَيْضًا: ذِكْرُ صُورَةِ الشَّيْءِ، أَيْ: صِفَتُهُ، يُقَال: صَوَّرْتُ لِفُلاَنٍ الأَْمْرَ، أَيْ: وَصَفْتُهُ لَهُ.
وَالتَّصْوِيرُ أَيْضًا: صُنْعُ الصُّورَةِ الَّتِي هِيَ تِمْثَال
__________
(1) لسان العرب مادة: " صور ".
(2) حديث: " نهى أن تضرب الصورة. . . " أخرجه البخاري - (الفتح 9 / 670 - ط السلفية) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. وأخرجه مسلم (3 / 1673 - ط الحلبي) .(12/92)
الشَّيْءِ، أَيْ: مَا يُمَاثِل الشَّيْءَ وَيَحْكِي هَيْئَتَهُ الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الصُّورَةُ مُجَسَّمَةً أَوْ غَيْرَ مُجَسَّمَةٍ، أَوْ كَمَا يُعَبِّرُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: ذَاتُ ظِلٍّ أَوْ غَيْرُ ذَاتِ ظِلٍّ.
وَالْمُرَادُ بِالصُّورَةِ الْمُجَسَّمَةِ أَوْ ذَاتُ الظِّل مَا كَانَتْ ذَاتَ ثَلاَثَةِ أَبْعَادٍ، أَيْ لَهَا حَجْمٌ، بِحَيْثُ تَكُونُ أَعْضَاؤُهَا نَافِرَةً يُمْكِنُ أَنْ تَتَمَيَّزَ بِاللَّمْسِ، بِالإِِْضَافَةِ إِِلَى تَمَيُّزِهَا بِالنَّظَرِ.
وَأَمَّا غَيْرُ الْمُجَسَّمَةِ، أَوِ الَّتِي لَيْسَ لَهَا ظِلٌّ، فَهِيَ الْمُسَطَّحَةُ، أَوْ ذَاتُ الْبُعْدَيْنِ، وَتَتَمَيَّزُ أَعْضَاؤُهَا بِالنَّظَرِ فَقَطْ، دُونَ اللَّمْسِ؛ لأَِنَّهَا لَيْسَتْ نَافِرَةً، كَالصُّوَرِ الَّتِي عَلَى الْوَرَقِ، أَوِ الْقُمَاشِ، أَوِ السُّطُوحِ الْمَلْسَاءِ.
وَالتَّصْوِيرُ وَالصُّورَةُ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ يَجْرِي عَلَى مَا جَرَى عَلَيْهِ فِي اللُّغَةِ.
وَقَدْ تُسَمَّى الصُّورَةُ تَصْوِيرَةً، وَجَمْعُهَا تَصَاوِيرُ، وَقَدْ وَرَدَ مِنْ ذَلِكَ فِي السُّنَّةِ حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي شَأْنِ السَّتْرِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمِيطِي عَنَّا قِرَامَكِ هَذَا، فَإِِنَّهُ لاَ تَزَال تَصَاوِيرُهُ تَعْرِضُ فِي صَلاَتِي. (1)
أَنْوَاعُ الصُّوَرِ:
2 - إِنَّ الصُّورَةَ - بِالإِِْضَافَةِ إِِلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ
__________
(1) حديث " أميطي عنا قرامك هذا. . . " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 484 - ط السلفية) .(12/93)
الصُّوَرِ الثَّابِتَةِ - قَدْ تَكُونُ صُورَةً مُؤَقَّتَةً كَصُورَةِ الشَّيْءِ فِي الْمِرْآةِ، وَصُورَتُهُ فِي الْمَاءِ وَالسُّطُوحِ اللاَّمِعَةِ، فَإِِنَّهَا تَدُومُ مَا دَامَ الشَّيْءُ مُقَابِلاً لِلسَّطْحِ، فَإِِنِ انْتَقَل الشَّيْءُ عَنِ الْمُقَابَلَةِ انْتَهَتْ صُورَتُهُ.
وَمِنَ الصُّوَرِ غَيْرِ الدَّائِمَةِ: ظِل الشَّيْءِ إِِذَا قَابَل أَحَدَ مَصَادِرِ الضَّوْءِ. وَمِنْهُ مَا كَانُوا يَسْتَعْمِلُونَهُ فِي بَعْضِ الْعُصُورِ الإِِْسْلاَمِيَّةِ، وَيُسَمُّونَهُ: صُوَرَ الْخَيَال، أَوْ صُوَرَ خَيَال الظِّل. (1) فَإِِنَّهُمْ كَانُوا يَقْطَعُونَ مِنَ الْوَرَقِ صُوَرًا لِلأَْشْخَاصِ، ثُمَّ يُمْسِكُونَهَا بِعِصِيٍّ صَغِيرَةٍ، وَيُحَرِّكُونَهَا أَمَامَ السِّرَاجِ، فَتَنْطَبِعُ ظِلاَلُهَا عَلَى شَاشَةٍ بَيْضَاءِ يَقِف خَلْفَهَا الْمُتَفَرِّجُونَ، فَيَرَوْنَ مَا هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ صُورَةُ الصُّورَةِ.
وَمِنَ الصُّوَرِ غَيْرِ الدَّائِمَةِ: الصُّوَرُ التِّلِيفِزْيُونِيّة، فَإِِنَّهَا تَدُومُ مَا دَامَ الشَّرِيطُ مُتَحَرِّكًا فَإِِذَا وَقَفَ انْتَهَتِ الصُّورَةُ.
3 - ثُمَّ إِنَّ الصُّورَةَ قَدْ تَكُونُ لِشَيْءٍ حَيٍّ عَاقِلٍ ذِي رُوحٍ، كَصُورَةِ الإِِْنْسَانِ. أَوْ غَيْرِ عَاقِلٍ، كَصُورَةِ الطَّائِرِ أَوِ الأَْسَدِ. أَوْ لِحَيٍّ غَيْرِ الْحَيَوَانِ كَصُوَرِ الأَْشْجَارِ وَالزُّهُورِ وَالأَْعْشَابِ. أَوْ لِلْجَمَادَاتِ كَصُوَرِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنُّجُومِ وَالْجِبَال، أَوْ صُوَرِ الْمَصْنُوعَاتِ الإِِْنْسَانِيَّةِ كَصُورَةِ مَنْزِلٍ أَوْ سَيَّارَةٍ أَوْ مَنَارَةٍ أَوْ سَفِينَةٍ.
__________
(1) انظر فقرة 48.(12/93)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّمَاثِيل:
4 - التَّمَاثِيل جَمْعُ تِمْثَالٍ " بِكَسْرِ التَّاءِ " وَتِمْثَال الشَّيْءِ: صُورَتُهُ فِي شَيْءٍ آخَرَ. وَهُوَ مِنَ الْمُمَاثَلَةِ، وَهِيَ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ. وَالتَّمْثِيل: التَّصْوِيرُ. يُقَال: مَثَّل لَهُ الشَّيْءَ إِِذَا صَوَّرَهُ لَهُ كَأَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، وَمَثَّلْتَ لَهُ كَذَا: إِِذَا صَوَّرْتَ لَهُ مِثَالَهُ بِكِتَابَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، وَفِي الْحَدِيثِ: أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا مُمَثِّلٌ مِنَ الْمُمَثِّلِينَ (1) أَيْ مُصَوِّرٌ. وَظِل كُل شَيْءٍ تِمْثَالُهُ. (2)
فَالْفَرْقُ بَيْنَ التِّمْثَال وَبَيْنَ الصُّورَةِ: أَنَّ صُورَةَ الشَّيْءِ قَدْ يُرَادُ بِهَا الشَّيْءُ نَفْسُهُ، وَقَدْ يُرَادُ بِهِ
__________
(1) حديث: " أشد الناس عذابا ممثل من الممثلين " أخرجه أحمد (1 / 407 - ط الميمنية) وصححه أحمد شاكر في تعليقه على المسند (5 / 332 - ط المعارف) .
(2) لسان العرب مادة: " مثل ". وهذا في أصل اللغة. وأما في العصر الحاضر فقد خص استعمال لفظة (التمثال) في العرف العام بالصورة المصنوعة لإنسان أو حيوان معتاد أو حيوان خرافي، دون صور النبات أو الجمادات، وبشرط أن تكون الصورة مجسمة، فلا يقال للنباتات الصناعي(12/94)
غَيْرُهُ مِمَّا يَحْكِي هَيْئَةَ الأَْصْل، أَمَّا التِّمْثَال فَهُوَ الصُّورَةُ الَّتِي تَحْكِي الشَّيْءَ وَتُمَاثِلُهُ، وَلاَ يُقَال لِصُورَةِ الشَّيْءِ فِي نَفْسِهِ: إِنَّهَا تِمْثَالُهُ.
5 - وَمِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ التِّمْثَال أَيْضًا فِي اللُّغَةِ يُسْتَعْمَل لِصُوَرِ الْجَمَادَاتِ مَا وَرَدَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ الْمَسِيحَ الدَّجَّال يَأْتِي وَمَعَهُ تِمْثَال الْجَنَّةِ وَالنَّارِ. (1)
أَمَّا فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ، فَإِِنَّهُ بِاسْتِقْرَاءِ كَلاَمِهِمْ تَبَيَّنَ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يُفَرِّقُونَ فِي الاِسْتِعْمَال بَيْنَ لَفْظَيِ (الصُّورَةِ) (وَالتِّمْثَال) ، إِلاَّ أَنَّ بَعْضَهُمْ خَصَّ التِّمْثَال بِصُورَةِ مَا كَانَ ذَا رُوحٍ، أَيْ صُورَةِ الإِِْنْسَانِ أَوِ الْحَيَوَانِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مُجَسَّمًا أَوْ مُسَطَّحًا، دُونَ صُورَةِ شَمْسٍ أَوْ قَمَرٍ أَوْ بَيْتٍ، وَأَمَّا الصُّورَةُ فَهِيَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ. نَقَلَهُ ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْمُغْرِبِ. (2)
وَهَذَا الْبَحْثُ جَارٍ عَلَى الاِصْطِلاَحِ الأَْغْلَبِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، وَهُوَ أَنَّ الصُّورَةَ الَّتِي تَحْكِي الشَّيْءَ، وَالتِّمْثَال بِمَعْنًى وَاحِدٍ.
ب - الرَّسْمُ:
6 - الرَّسْمُ فِي اللُّغَةِ: أَثَرُ الشَّيْءِ. وَقِيل: بَقِيَّةُ الأَْثَرِ. وَأَثَرُ الشَّيْءِ قَدْ يُشَاكِلُهُ فِي الْهَيْئَةِ. وَمِنْ هُنَا سَمَّوْا " الرَّوْسَمَ "، وَهُوَ الْخَشَبَةُ الَّتِي فِيهَا نُقُوشٌ يُخْتَمُ بِهَا الأَْشْيَاءُ الْمُرَادُ بَقَاؤُهَا مُخْفَاةً، لِئَلاَّ
__________
(1) حديث: " يجيء معه تمثال الجنة والنار " أخرجه البخاري (4 / 163 - ط محمد صبيح) وفي رواية: " بمثال ".
(2) ابن عابدين 1 / 435 ط بولاق، والمغرب ص 422.(12/94)
تُسْتَعْمَل. وَقَال ابْنُ سِيدَهْ: " الرَّوْسَمُ الطَّابَعُ ". وَمِنْهُ " الْمَرْسُومُ " لأَِنَّهُ يُخْتَمُ بِخَاتَمٍ. (1) وَالرَّسْمُ فِي الاِسْتِعْمَال الْمُعَاصِرِ بِمَعْنَى: الصُّورَةُ الْمُسَطَّحَةُ، أَوِ التَّصْوِيرُ الْمُسَطَّحُ، إِِذَا كَانَ مَعْمُولاً بِالْيَدِ. وَلاَ تُسَمَّى الصُّورَةُ الْفُوتُوغْرَافِيَّةُ رَسْمًا. بَل يُقَال: رَسَمْتُ دَارًا، أَوْ إِنْسَانًا، أَوْ شَجَرَةً.
ج - التَّزْوِيقُ، وَالنَّقْشُ، وَالْوَشْيُ، وَالرَّقْمُ:
7 - هَذِهِ الْكَلِمَاتُ الأَْرْبَعُ تَكَادُ تَكُونُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَهُوَ تَجْمِيل الشَّيْءِ الْمُسَطَّحِ أَوْ غَيْرِ الْمُسَطَّحِ بِإِِضَافَةِ أَشْكَالٍ تَجْمِيلِيَّةٍ إِلَيْهِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ أَشْكَالاً هَنْدَسِيَّةً أَوْ نَمْنَمَاتٍ أَوْ صُوَرًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ. قَال صَاحِبُ اللِّسَانِ: ثَوْبٌ مُنَمْنَمٌ أَيْ: مَوْقُومٌ مُوَشًّى، وَقَال: النَّقْشُ: النَّمْنَمَةُ. فَكُلٌّ مِنْهَا يَكُونُ بِالصُّوَرِ أَوْ بِغَيْرِهَا.
د - النَّحْتُ:
8 - النَّحْتُ: الأَْخْذُ مِنْ كُتْلَةٍ صُلْبَةٍ كَالْحَجَرِ أَوِ الْخَشَبِ بِأَدَاةٍ حَادَّةِ كَالإِِْزْمِيل أَوِ السِّكِّينِ، حَتَّى يَكُونَ مَا يَبْقَى مِنْهَا عَلَى الشَّكْل الْمَطْلُوبِ، فَإِِنْ كَانَ مَا بَقِيَ يُمَثِّل شَيْئًا آخَرَ فَهُوَ تِمْثَالٌ أَوْ صُورَةٌ، وَإِِلاَّ فَلاَ
تَرْتِيبُ هَذَا الْبَحْثِ:
9 - يَحْتَوِي هَذَا الْبَحْثُ عَلَى مَا يَلِي:
أَوَّلاً: مَا يَتَعَلَّقُ مِنَ الأَْحْكَامِ بِالصُّورَةِ الإِِْنْسَانِيَّةِ.
__________
(1) لسان العرب مادة: " رسم ".(12/95)
ثَانِيًا: أَحْكَامُ التَّصْوِيرِ، أَيْ: صِنَاعَةُ الصُّوَرِ.
ثَالِثًا: أَحْكَامُ اقْتِنَاءِ الصُّوَرِ، أَيِ: اتِّخَاذُهَا وَاسْتِعْمَالُهَا.
رَابِعًا: أَحْكَامُ الصُّوَرِ مِنْ حَيْثُ التَّعَامُل وَالتَّعَرُّفُ فِيهَا.
الْقِسْمُ الأَْوَّل: مَا يَتَعَلَّقُ مِنَ الأَْحْكَامِ بِالصُّورَةِ الإِِْنْسَانِيَّةِ
:
10 - يَنْبَغِي لِلإِِْنْسَانِ أَنْ يَعْتَنِيَ بِتَجْمِيل صُورَتِهِ الظَّاهِرَةِ، بِالإِِْضَافَةِ إِِلَى اعْتِنَائِهِ بِتَكْمِيل صُورَتِهِ الْبَاطِنَةِ، وَيَقُومُ بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى بِشُكْرِهِ عَلَى أَنَّهُ جَمَّل صُورَتَهُ. وَالْعِنَايَةُ بِالصُّورَةِ الْبَاطِنَةِ تَكُونُ بِالإِِْيمَانِ وَالتَّطَهُّرِ مِنَ الذُّنُوبِ وَالشُّكْرِ لِلَّهِ، وَالتَّجَمُّل بِالأَْخْلاَقِ الْحَمِيدَةِ.
وَالْعِنَايَةُ بِالصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ تَكُونُ بِالتَّطَهُّرِ بِالْوُضُوءِ وَالاِغْتِسَال وَالتَّنَظُّفِ وَإِِزَالَةِ التَّفَثِ، وَالتَّزَيُّنِ بِالزِّينَةِ الْمَشْرُوعَةِ مِنَ الْعِنَايَةِ بِالشَّعْرِ وَالْمَلاَبِسِ الْحَسَنَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، (ر: زِينَةٌ) .
11 - وَلاَ يَحِل لِلإِِْنْسَانِ أَنْ يُشَوِّهَ جِسْمَهُ بِإِِتْلاَفِ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ، أَوْ إِخْرَاجِهِ عَنْ وَضْعِهِ الَّذِي خَلَقَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ. كَمَا لاَ يَحِل لَهُ أَنْ يَفْعَل ذَلِكَ بِغَيْرِهِ، إِلاَّ حَيْثُ أَذِنَ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ النُّهْبَى وَالْمُثْلَةِ. (1) (ر: مُثْلَةٌ) .
__________
(1) حديث: " نهى النبي عن النهبى والمثلة " أخرجه البخاري (الفتح 5 / 119 - ط السلفية) من حديث عبد الله بن يزيد الأنصاري رضي الله عنه.(12/95)
كَمَا لاَ يَحِل لَهُ أَنْ يَقْصِدَ تَشْوِيَهُ نَفْسِهِ بِلُبْسِ مَا يَنْفِرُ النَّاسُ مِنْهُ وَيُخْرِجَهُ عَنِ الْمُعْتَادِ (ر: أَلْبِسَةٌ) .
وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ نَهَى أَنْ يَمْشِيَ الرَّجُل فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ أَيْ: فِي إِحْدَى قَدَمَيْهِ دُونَ الأُْخْرَى (1) . وَشُرِعَ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَتَطَيَّبَ وَيَتَعَطَّرَ. وَلِلْمَرْأَةِ زِينَتُهَا الْخَاصَّةُ. وَرَاجِعْ مَبَاحِثَ (اكْتِحَالٌ. اخْتِضَابٌ. حُلِيٌّ، إِلَخْ) .
12 - أَمَّا الزِّينَةُ الْبَاطِنَةُ، فَقَدْ قَال ابْنُ الْقَيِّمِ: الْجَمَال الْبَاطِنُ هُوَ مَحَل نَظَرِ اللَّهِ مِنْ عَبْدِهِ وَمَوْضِعُ مَحَبَّتِهِ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَنْظُرُ إِِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ (2) . وَهَذَا الْجَمَال الْبَاطِنُ يُزَيِّنُ الصُّورَةَ الظَّاهِرَةَ وَإِِنْ لَمْ تَكُنْ ذَاتَ جَمَالٍ، فَتَكْسُو صَاحِبَهَا مِنَ الْجَمَال وَالْمَهَابَةِ وَالْحَلاَوَةِ بِحَسَبِ مَا اكْتَسَبَتْ رُوحُهُ مِنْ تِلْكَ الصِّفَاتِ. فَإِِنَّ الْمُؤْمِنَ يُعْطَى مَهَابَةً وَحَلاَوَةً بِحَسَبِ إِيمَانِهِ، فَمَنْ رَآهُ هَابَهُ، وَمَنْ خَالَطَهُ أَحَبَّهُ، وَهَذَا أَمْرٌ مَشْهُودٌ بِالْعِيَانِ. فَإِِنَّكَ تَرَى الرَّجُل الصَّالِحَ ذَا الأَْخْلاَقِ الْجَمِيلَةِ
__________
(1) حديث: " نهى أن يمشي الرجل في نعل واحدة " أخرجه مسلم (3 / 1661 - ط الحلبي) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
(2) حديث: " إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم. . . " أخرجه مسلم (4 / 1987 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(12/96)
مِنْ أَحْلَى النَّاسِ صُورَةً، وَإِِنْ كَانَ غَيْرَ جَمِيلٍ، وَلاَ سِيَّمَا إِِذَا رُزِقَ حَظًّا مِنْ صَلاَةِ اللَّيْل، فَإِِنَّهَا تُنَوِّرُ الْوَجْهَ.
قَال: وَأَمَّا الْجَمَال الظَّاهِرُ فَزِينَةٌ خَصَّ اللَّهُ بِهَا بَعْضَ الصُّوَرِ عَنْ بَعْضٍ، وَهِيَ مِنْ زِيَادَةِ الْخَلْقِ الَّتِي قَال اللَّهُ فِيهَا: {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} (1) قَال الْمُفَسِّرُونَ: هُوَ الصَّوْتُ الْحَسَنُ وَالصُّورَةُ الْحَسَنَةُ. وَالْقُلُوبُ مَطْبُوعَةٌ عَلَى مَحَبَّتِهِ، كَمَا هِيَ مَفْطُورَةٌ عَلَى اسْتِحْسَانِهِ.
قَال: وَكُلٌّ مِنَ الْجَمَال الظَّاهِرِ وَالْجَمَال الْبَاطِنِ نِعْمَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى تُوجِبُ عَلَى الْعَبْدِ شُكْرًا بِالتَّقْوَى وَالصِّيَانَةِ، وَبِهِمَا يَزْدَادُ جَمَالاً عَلَى جَمَالِهِ. وَإِِنِ اسْتَعْمَل جَمَالَهُ فِي مَعَاصِي اللَّهِ قَلَبَ اللَّهُ مَحَاسِنَهُ شَيْنًا وَقُبْحًا. وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو النَّاسَ إِِلَى جَمَال الْبَاطِنِ بِجَمَال الظَّاهِرِ، قَال جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَال لِي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنْتَ امْرُؤٌ حَسَّنَ اللَّهُ خَلْقَكَ، فَحَسِّنْ خُلُقَكَ (2) . وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْمَل الْخَلْقِ وَأَحْسَنَهُمْ وَجْهًا. وَقَدْ سُئِل الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ: أَكَانَ وَجْهُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْل السَّيْفِ؟ فَقَال: لاَ، بَل مِثْل الْقَمَرِ (3) .
__________
(1) سورة فاطر / 1.
(2) حديث: " أنت امرؤ حسن الله خلقك فحسن خلقك " أخرجه الخرائطي وابن عساكر في تأريخه، وضعفه العراقي كما في فيض القدير (2 / 552 - ط المكتبة التجارية) .
(3) حديث: " سئل أكان وجه النبي صلى الله عليه وسلم مثل السيف؟ فقال:. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 6 / 565 - ط السلفية) .(12/96)
وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَحِبُّ أَنْ يَكُونَ الرَّسُول الَّذِي يُرْسَل إِلَيْهِ حَسَنَ الْوَجْهِ حَسَنَ الاِسْمِ، فَكَانَ يَقُول: إِِذَا أَبْرَدْتُمْ إِلَيَّ بَرِيدًا فَاجْعَلُوهُ حَسَنَ الْوَجْهِ حَسَنَ الاِسْمِ (1) وَقَدْ أَمْتَعَ اللَّهُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ فِي دَارِ كَرَامَتِهِ بِحُسْنِ الصُّوَرِ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ أَوَّل زُمْرَةٍ تَدْخُل الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، وَالَّذِينَ عَلَى أَثَرِهِمْ كَأَشَدِّ كَوْكَبٍ إِضَاءَةً، قُلُوبُهُمْ عَلَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، يُسَبِّحُونَ اللَّهَ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً. صُوَرُهُمْ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ (2) .
الْقِسْمُ الثَّانِي: حُكْمُ التَّصْوِيرِ (صِنَاعَةُ الصُّوَرِ)
أ - تَحْسِينُ صُورَةِ الشَّيْءِ الْمَصْنُوعِ:
13 - يُسْتَحْسَنُ لِلصَّانِعِ إِِذَا صَنَعَ شَيْئًا أَنْ يُحَسِّنَ صُورَةَ ذَلِكَ الشَّيْءِ، إِذْ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ إِتْقَانِ الْعَمَل وَإِِحْسَانِهِ. وَقَدْ مَدَحَ اللَّهُ تَعَالَى نَفْسَهُ بِقَوْلِهِ: {ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ الَّذِي أَحْسَن كُل شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِِْنْسَانِ مِنْ طِينٍ} (3) وَقَال: {خَلَقَ
__________
(1) حديث: " إذا أبردتم إلي بريدا. . . " أخرجه البزار من حديث بريدة، ونقل السيوطي عن الهيثمي تصحيحه. (اللآلي 1 / 112 - نشر دار المعرفة) .
(2) روضة المحبين ونزهة المشتاقين لابن القيم ص 37 وحديث: " أول زمرة تلج الجنة. . . " أخرجه البخاري (الفتح 6 / 319 - ط السلفية) .
(3) سورة السجدة / 7.(12/97)
السَّمَاوَاتِ وَالأَْرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِِلَيْهِ الْمَصِيرُ} (1) وَفِي الْحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ أَنَّهُ قَال: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ إِِذَا عَمِل أَحَدُكُمْ عَمَلاً أَنْ يُتْقِنَهُ (2) وَقَال: إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإِِْحْسَانَ عَلَى كُل شَيْءٍ، فَإِِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ. . . الْحَدِيثَ " (3) .
ب - تَصْوِيرُ الْمَصْنُوعَاتِ:
14 - لاَ بَأْسَ بِتَصْوِيرِ الأَْشْيَاءِ الَّتِي يَصْنَعُهَا الْبَشَرُ، كَصُورَةِ الْمَنْزِل وَالسَّيَّارَةِ وَالسَّفِينَةِ وَالْمَسْجِدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ اتِّفَاقًا؛ لأَِنَّ لِلإِِْنْسَانِ أَنْ يَصْنَعَهَا، فَكَذَلِكَ لَهُ أَنْ يُصَوِّرَهَا.
ج - صِنَاعَةُ تَصَاوِيرِ الْجَمَادَاتِ الْمَخْلُوقَةِ:
15 - لاَ بَأْسَ بِتَصْوِيرِ الْجَمَادَاتِ الَّتِي خَلَقَهَا اللَّهُ تَعَالَى - عَلَى مَا خَلَقَهَا عَلَيْهِ - كَتَصْوِيرِ الْجِبَال وَالأَْوْدِيَةِ وَالْبِحَارِ، وَتَصْوِيرِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالسَّمَاءِ وَالنُّجُومِ، دُونَ اخْتِلاَفٍ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ، إِلاَّ مَنْ شَذَّ. غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ لاَ يَعْنِي
__________
(1) سورة الزمر / 5.
(2) حديث: " إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه " أخرجه أبو يعلى كما في المجمع (4 / 98 - ط القدسي) من حديث عائشة. وقال الهيثمي: فيه مصعب بن ثابت، وثقه ابن حبان، وضعفه جماعة.
(3) حديث: " إن الله كتب الإحسان على كل شيء. . . . " أخرجه مسلم (3 / 1548 - ط الحلبي) .(12/97)
جَوَازَ صِنَاعَةِ شَيْءٍ مِنْهَا إِِذَا عُلِمَ أَنَّ الشَّخْصَ الْمَصْنُوعَةَ لَهُ يَعْبُدُ تِلْكَ الصُّورَةَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَذَلِكَ كَعُبَّادِ الشَّمْسِ أَوِ النُّجُومِ. أَشَارَ إِِلَى ذَلِكَ ابْنُ عَابِدِينَ. وَيُسْتَدَل لِحُكْمِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِدَاخِلٍ فِي التَّصْوِيرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ بِمَا يَأْتِي فِي الْمَسْأَلَةِ التَّالِيَةِ وَمَا بَعْدَهَا.
وَقَدْ نَقَل ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيِّ أَنَّهُ نَقَل وَجْهًا بِمَنْعِ تَصْوِيرِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ؛ لأَِنَّ مِنَ الْكُفَّارِ مَنْ عَبَدَهُمَا مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَيَمْتَنِعُ تَصْوِيرُهُمَا لِذَلِكَ. وَوَجَّهَهُ ابْنُ حَجَرٍ بِعُمُومِ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الَّذِينَ يُضَاهُونَ بِخَلْقِ اللَّهِ (1) وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ خَلْقًا كَخَلْقِي (2) فَإِِنَّهُ يَتَنَاوَل مَا فِيهِ رُوحٌ وَمَا لاَ رُوحَ فِيهِ. غَيْرَ أَنَّ هَذَا مُؤَوَّلٌ وَخَاصٌّ بِمَا فِيهِ رُوحٌ كَمَا يَأْتِي. (3)
__________
(1) حديث: " الذين يضاهون بخلق الله " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 387 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1668 - ط الحلبي) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(2) حديث: " ومن أظلم ممن ذهب يخلق خلقا كخلقي " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 385 - ط السلفية) . ومسلم (3 / 1671 - ط الحلبي) .
(3) ابن عابدين 1 / 435، وحاشية الطحطاوي على الدر المختار 1 / 274، وشرح المنهاج للنووي وحاشية القليوبي عليه 3 / 297 ط عيسى الحلبي، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير المالكي 2 / 338 ط عيسى الحلبي، وفتح الباري 10 / 394 ط السلفية.(12/98)
د - تَصْوِيرُ النَّبَاتَاتِ وَالأَْشْجَارِ:
16 - جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ لاَ بَأْسَ شَرْعًا بِتَصْوِيرِ الأَْعْشَابِ وَالأَْشْجَارِ وَالثِّمَارِ وَسَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ النَّبَاتِيَّةِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَتْ مُثْمِرَةً أَمْ لاَ، وَأَنَّ ذَلِكَ لاَ يَدْخُل فِيمَا نُهِيَ عَنْهُ مِنَ التَّصَاوِيرِ.
وَلَمْ يُنْقَل فِي ذَلِكَ خِلاَفٌ، إِلاَّ مَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ رَأَى تَحْرِيمَ تَصْوِيرِ الشَّجَرِ الْمُثْمِرِ دُونَ الشَّجَرِ غَيْرِ الْمُثْمِرِ. قَال عِيَاضٌ: هَذَا لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ غَيْرُ مُجَاهِدٍ. قَال ابْنُ حَجَرٍ: وَأَظُنُّ مُجَاهِدًا سَمِعَ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَفِيهِ: فَلْيَخْلُقُوا ذَرَّةً (1) ، وَلْيَخْلُقُوا شَعِيرَةً (2) فَإِِنَّ فِي ذِكْرِ الذَّرَّةِ إِشَارَةٌ إِِلَى مَا فِيهِ رُوحُ، وَفِي ذِكْرِ الشَّعِيرَةِ إِشَارَةٌ إِِلَى مَا يَنْبُتُ مِمَّا يُؤْكَل، وَأَمَّا مَا لاَ رُوحَ فِيهِ وَلاَ يُثْمِرُ فَلَمْ تَقَعِ الإِِْشَارَةُ إِلَيْهِ. (3)
وَكَرَاهَةُ تَصْوِيرِ النَّبَاتَاتِ وَالأَْشْجَارِ وَجْهٌ فِي
__________
(1) المراد بالذرة في الحديث النملة الصغير كما في المصباح المنير.
(2) حديث: " فليخلقوا ذرة، وليخلقوا شعيرة " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 385 - ط السلفية) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3) الأثر عن مجاهد أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (ط الهند بومباي الدار السلفية 1399 هـ) 8 / 507، ونقله عنه الكثير، انظر مثلا: فتح الباري 10 / 395 (كتاب اللباس ب 97) ، وانظر أيضا: الطحطاوي على الدر 1 / 273، وشرح المنهاج بحاشية القليوبي 3 / 297، وابن عابدين 1 / 436، وشرح الإقناع للشيخ منصور البهوتي، الرياض، مكتبة النصر الحديثة، 1 / 280، والشرح الكبير بحاشية الدسوقي 2 / 338.(12/98)
مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَالْمَذْهَبُ عَلَى خِلاَفِهِ. (1)
وَقَدِ احْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ صَوَّرَ صُورَةً فِي الدُّنْيَا كُلِّفَ أَنْ يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ، وَلَيْسَ بِنَافِخٍ (2) فَخُصَّ النَّهْيُ بِذَوَاتِ الأَْرْوَاحِ وَلَيْسَ الشَّجَرُ مِنْهَا، وَبِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ نَهَى الْمُصَوِّرَ عَنِ التَّصْوِيرِ، ثُمَّ قَال لَهُ: " إِنْ كُنْتَ فَاعِلاً فَصَوِّرِ الشَّجَرَ وَمَا لاَ رُوحَ فِيهِ قَال الطَّحَاوِيُّ: وَلأَِنَّ صُورَةَ الْحَيَوَانِ لَمَّا أُبِيحَتْ بَعْدَ قَطْعِ رَأْسِهَا - لأَِنَّهَا لاَ تَعِيشُ بِدُونِهِ - دَل ذَلِكَ عَلَى إِبَاحَةِ تَصْوِيرِ مَا لاَ رُوحَ فِيهِ أَصْلاً. (3) بَل إِنَّ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَامُ قَال لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْ بِرَأْسِ التِّمْثَال فَلْيَقْطَعْ حَتَّى يَكُونَ كَهَيْئَةِ الشَّجَرَةِ (4) فَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الشَّجَرَةَ فِي الأَْصْل لاَ يَتَعَلَّقُ النَّهْيُ بِتَصْوِيرِهَا. هَذَا مَا يَذْكُرُهُ الْفُقَهَاءُ فِي الاِسْتِدْلاَل عَلَى أَنَّهُ لاَ يَحْرُمُ تَصْوِيرُ الشَّجَرِ وَالنَّبَاتِ وَمَا لاَ رُوحَ فِيهِ.
__________
(1) الآداب الشرعية لابن مفلح 3 / 514.
(2) حديث: " من صور صورة في الدنيا. . . " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 393 - ط السلفية) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(3) فتح الباري 10 / 394، 395، والطحطاوي على الدر المختار 1 / 274.
(4) حديث: " مر برأس التمثال فليقطع حتى يكون كهيئة الشجرة " أخرجه أبو داود (4 / 388 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والترمذي (5 / 115 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وقال: حديث حسن صحيح.(12/99)
وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ جِبْرِيل قَال لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّهَا ثَلاَثٌ، لَنْ يَلِجَ عَلَيْكَ مَلَكٌ مَا دَامَ فِيهَا وَاحِدٌ مِنْهَا: كَلْبٌ، أَوْ جَنَابَةٌ، أَوْ صُورَةُ رُوحٍ " (1) .
هـ - تَصْوِيرُ صُورَةِ الْحَيَوَانِ أَوِ الإِِْنْسَانِ:
17 - هَذَا النَّوْعُ مِنَ التَّصْوِيرِ فِيهِ اخْتِلاَفٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ وَتَفْصِيلٌ يَتَبَيَّنُ فِيمَا يَلِي، وَإِِلَى هَذَا النَّوْعِ خَاصَّةً يَنْصَرِفُ قَوْل مَنْ يُطْلِقُ تَحْرِيمَ التَّصْوِيرِ، دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الأَْنْوَاعِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا.
التَّصْوِيرُ فِي الدِّيَانَاتِ السَّابِقَةِ:
18 - قَال مُجَاهِدٌ قَوْله تَعَالَى فِي حَقِّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَطَاعَةِ الْجِنِّ لَهُ: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيل وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ} (2) قَال: كَانَتْ صُوَرًا مِنْ نُحَاسٍ. أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ. وَقَال قَتَادَةُ: كَانَتْ مِنَ الزُّجَاجِ وَالْخَشَبِ أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ. قَال ابْنُ حَجَرٍ: كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا فِي شَرِيعَتِهِمْ، وَكَانُوا يَعْمَلُونَ أَشْكَال الأَْنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ مِنْهُمْ عَلَى هَيْئَتِهِمْ فِي الْعِبَادَةِ لِيَتَعَبَّدُوا كَعِبَادَتِهِمْ. وَقَال أَبُو الْعَالِيَةِ: لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي شَرِيعَتِهِمْ حَرَامًا. وَقَال مِثْل ذَلِكَ الْجَصَّاصُ.
__________
(1) حديث: " إنها ثلاث: لن يلج عليك ملك مادام فيها. . . " أخرجه أحمد (1 / 85 - ط الميمنية) وفي إسناده جهالة. (الميزان للذهبي 4 / 248 - ط الحلبي) .
(2) سورة سبأ / 13.(12/99)
قَال ابْنُ حَجَرٍ: وَلَكِنْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ وَأُمَّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ذَكَرَتَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَنِيسَةً رَأَيْنَهَا بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ، فَذَكَرَتَا مِنْ حُسْنِهَا وَتَصَاوِيرَ فِيهَا، فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُولَئِكَ قَوْمٌ كَانُوا إِِذَا مَاتَ فِيهِمُ الرَّجُل الصَّالِحُ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ. أُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ. (1)
قَال: فَإِِنَّ ذَلِكَ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ جَائِزًا فِي شَرِيعَتِهِمْ مَا أَطْلَقَ عَلَى الَّذِي فَعَلَهُ أَنَّهُ شَرُّ الْخَلْقِ، هَكَذَا قَال. لَكِنَّ الأَْظْهَرَ أَنَّهُ ذَمَّهُمْ لِبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ عَلَى الْقُبُورِ، وَلِجَعْلِهِمُ الصُّوَرَ فِي الْمَسَاجِدِ، لاَ لِمُطْلَقِ التَّصْوِيرِ، لِيُوَافِقَ الآْيَةَ، (2) وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
تَصْوِيرُ صُورَةِ الإِِْنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ فِي الشَّرِيعَةِ الإِِْسْلاَمِيَّةِ:
19 - اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حُكْمِ تَصْوِيرِ ذَوَاتِ الأَْرْوَاحِ مِنَ الإِِْنْسَانِ أَوِ الْحَيَوَانِ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
20 - الْقَوْل الأَْوَّل:
إِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ حَرَامٍ. وَلاَ يَحْرُمُ مِنْهُ إِلاَّ أَنْ يَصْنَعَ صَنَمًا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ
__________
(1) حديث: " أولئك قوم كانوا إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على. . . " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 524 - ط السلفية) . ومسلم (1 / 376 - ط الحلبي) .
(2) فتح الباري 10 / 382 (كتاب اللباس ب 88) ، وأحكام القرآن للجصاص 3 / 372 نشر نظارة الأوقاف بالقسطنطينية سنة 1338 هـ، في تفسير سورة سبأ.(12/100)
تَعَالَى، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَال أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} (1) وَلِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالأَْصْنَامِ (2) - وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِالإِِْبَاحَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي حَقِّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيل وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ} (3) قَالُوا: وَشَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} (4) .
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَقِّ الْمُصَوِّرِينَ الَّذِينَ يُضَاهُونَ بِخَلْقِ اللَّهِ (5) وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الَّذِينَ يُشَبِّهُونَ بِخَلْقِ اللَّهِ وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ خَلْقًا كَخَلْقِي فَلْيَخْلُقُوا حَبَّةً، أَوْ لِيَخْلُقُوا ذَرَّةً (6) قَالُوا: وَلَوْ كَانَ هَذَا عَلَى ظَاهِرِهِ لاَقْتَضَى تَحْرِيمَ تَصْوِيرِ الشَّجَرِ وَالْجِبَال وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، مَعَ أَنَّ ذَلِكَ
__________
(1) سورة الصافات / 95 - 96.
(2) حديث: " إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 424 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1207 - ط الحلبي) .
(3) سورة سبأ / 13.
(4) سورة الأنعام / 90.
(5) الحديث تقدم تخريجه (ف / 15) .
(6) حديث: " ومن أظلم ممن ذهب. . . " سبق تخريجه (ف / 15) .(12/100)
لاَ يَحْرُمُ بِالاِتِّفَاقِ، فَتَعَيَّنَ حَمْلُهُ عَلَى مَنْ قَصَدَ أَنْ يَتَحَدَّى صَنْعَةَ الْخَالِقِ عَزَّ وَجَل وَيَفْتَرِيَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ يَخْلُقُ مِثْل خَلْقِهِ.
21 - وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَقِّ الْمُصَوِّرِينَ إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمُصَوِّرُونَ (1) قَالُوا: لَوْ حُمِل عَلَى التَّصْوِيرِ الْمُعْتَادِ لَكَانَ ذَلِكَ مُشْكِلاً عَلَى قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ. فَإِِنَّ أَشَدَّ مَا فِيهِ أَنْ يَكُونَ مَعْصِيَةً كَسَائِرِ الْمَعَاصِي لَيْسَ أَعْظَمَ مِنَ الشِّرْكِ وَقَتْل النَّفْسِ وَالزِّنَا، فَكَيْفَ يَكُونُ فَاعِلُهُ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا، فَتَعَيَّنَ حَمْلُهُ عَلَى مَنْ صَنَعَ التَّمَاثِيل لِتُعْبَدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ.
- وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِمَا يَأْتِي مِنَ اسْتِعْمَال الصُّوَرِ فِي بَيْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبُيُوتِ أَصْحَابِهِ، وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ تَعَامُلُهُمْ بِالدَّنَانِيرِ الرُّومِيَّةِ وَالدَّرَاهِمِ الْفَارِسِيَّةِ دُونَ نَكِيرٍ، وَبِالأَْحْوَال الْفَرْدِيَّةِ لِلاِسْتِعْمَال الْوَاقِعِ مِنْهُمْ مِمَّا يَرِدُ ذِكْرُهُ فِي تَضَاعِيفِ هَذَا الْبَحْثِ، دُونَ تَأْوِيلٍ.
وَقَدْ نَقَل الأَْلُوسِيُّ هَذَا الْقَوْل فِي تَفْسِيرِهِ عِنْدَ تَفْسِيرِ الآْيَةِ " 13 " مِنْ سُورَةِ سَبَأٍ، حَيْثُ ذَكَرَ أَنَّ النَّحَّاسَ وَمَكِّيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَابْنَ الْفَرَسِ
__________
(1) حديث: " إن أشد الناس عذابا عند الله يوم القيامة المصورون " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 382 - ط السلفية) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.(12/101)
نَقَلُوهُ عَنْ قَوْمٍ (1) وَلَمْ يُعَيِّنْهُمْ. مِنْ أَجْل ذَلِكَ فَإِِنَّ هَذَا الْقَوْل يُغْفِل ذِكْرَهُ الْفُقَهَاءُ فِي كُتُبِهِمُ الْمُطَوَّلَةِ وَالْمُخْتَصَرَةِ، وَيَقْتَصِرُونَ فِي ذِكْرِ الْخِلاَفِ عَلَى الأَْقْوَال الآْتِيَةِ:
22 - الْقَوْل الثَّانِي:
وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَبَعْضِ السَّلَفِ، وَوَافَقَهُمْ ابْنُ حَمْدَانَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، أَنَّهُ لاَ يَحْرُمُ مِنَ التَّصَاوِيرِ إِلاَّ مَا جَمَعَ الشُّرُوطَ الآْتِيَةَ:
الشَّرْطُ الأَْوَّل: أَنْ تَكُونَ صُورَةُ الإِِْنْسَانِ أَوِ الْحَيَوَانِ مِمَّا لَهُ ظِلٌّ، أَيْ تَكُونُ تِمْثَالاً مُجَسَّدًا، فَإِِنْ كَانَتْ مُسَطَّحَةً لَمْ يَحْرُمْ عَمَلُهَا، وَذَلِكَ كَالْمَنْقُوشِ فِي جِدَارٍ، أَوْ وَرَقٍ، أَوْ قُمَاشٍ. بَل يَكُونُ مَكْرُوهًا. وَمِنْ هُنَا نَقَل ابْنُ الْعَرَبِيِّ الإِِْجْمَاعَ عَلَى أَنَّ تَصْوِيرَ مَا لَهُ ظِلٌّ حَرَامٌ.
الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ كَامِلَةَ الأَْعْضَاءِ، فَإِِنْ كَانَتْ نَاقِصَةَ عُضْوٍ مِمَّا لاَ يَعِيشُ الْحَيَوَانُ مَعَ فَقْدِهِ لَمْ يَحْرُمْ، كَمَا لَوْ صَوَّرَ الْحَيَوَانَ مَقْطُوعَ الرَّأْسِ أَوْ مَخْرُوقَ الْبَطْنِ أَوِ الصَّدْرِ.
__________
(1) تفسير الألوسي المسمى روح المعاني (القاهرة، إدارة الطباعة المنيرية 1955 م) 22 / 19. ونسب في مجلة الوعي الإسلامي (سنة 1387 هـ العدد 29 ص 57، 58 في مقال للسيد محمد رجب البيلي) إلى الشيخ عبد العزيز جاويش.(12/101)
الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَصْنَعَ الصُّورَةَ مِمَّا يَدُومُ مِنَ الْحَدِيدِ أَوِ النُّحَاسِ أَوِ الْحِجَارَةِ أَوِ الْخَشَبِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، فَإِِنْ صَنَعَهَا مِمَّا لاَ يَدُومُ كَقِشْرِ بِطِّيخٍ أَوْ عَجِينٍ لَمْ يَحْرُمْ؛ لأَِنَّهُ إِِذَا نَشَفَ تَقَطَّعَ. عَلَى أَنَّ فِي هَذَا النَّوْعِ عِنْدَهُمْ خِلاَفًا، فَقَدْ قَال الأَْكْثَرُ مِنْهُمْ: يَحْرُمُ وَلَوْ كَانَ مِمَّا لاَ يَدُومُ.
وَنُقِل قَصْرُ التَّحْرِيمِ عَلَى ذَوَاتِ الظِّل عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَيْضًا كَمَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ (1) .
وَقَال ابْنُ حَمْدَانَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: الْمُرَادُ بِالصُّورَةِ أَيِ: الْمُحَرَّمَةِ مَا كَانَ لَهَا جِسْمٌ مَصْنُوعٌ لَهُ طُولٌ وَعَرْضٌ وَعُمْقٌ.
23 - الْقَوْل الثَّالِثُ:
أَنَّهُ يَحْرُمُ تَصْوِيرُ ذَوَاتِ الأَْرْوَاحِ مُطْلَقًا، أَيْ سَوَاءٌ أَكَانَ لِلصُّورَةِ ظِلٌّ أَوْ لَمْ يَكُنْ. وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. وَتَشَدَّدَ النَّوَوِيُّ حَتَّى ادَّعَى الإِِْجْمَاعَ عَلَيْهِ. وَفِي دَعْوَى الإِِْجْمَاعِ نَظَرٌ يُعْلَمُ مِمَّا يَأْتِي. وَقَدْ شَكَّكَ فِي صِحَّةِ الإِِْجْمَاعِ ابْنُ نُجَيْمٍ كَمَا فِي الطَّحْطَاوِيِّ عَلَى الدُّرِّ، وَهُوَ ظَاهِرٌ، لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ لاَ يَرَوْنَ تَحْرِيمَ الصُّوَرِ الْمُسَطَّحَةِ. لاَ يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ عِنْدَهُمْ فِي ذَلِكَ.
__________
(1) متن خليل، وعليه شرح الدردير وحاشية الدسوقي 2 / 337، 338، وغذاء الألباب للسفاريني شرح منظومة الآداب 2 / 180، وشرح النووي على صحيح مسلم، (القاهرة، المطبعة العصرية 1349 هـ كتاب اللباس) 11 / 80، وفتح الباري 10 / 388. ولم نجد النص على ما نقل عن ابن العربي في أحكام القرآن فلعله في غير ذلك من كتبه.(12/102)
وَهَذَا التَّحْرِيمُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ هُوَ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ. وَيُسْتَثْنَى عِنْدَهُمْ بَعْضُ الْحَالاَتِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا أَوِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا مِمَّا سَيُذْكَرُ فِيمَا بَعْدُ. (1)
- وَالتَّصْوِيرُ الْمُحَرَّمُ صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ مِنَ الْكَبَائِرِ. قَالُوا: لِمَا فِي الْحَدِيثِ مِنَ التَّوَعُّدِ عَلَيْهِ بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمُصَوِّرُونَ. (2)
أَدِلَّةُ الْقَوْلَيْنِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ بِتَحْرِيمِ التَّصْوِيرِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ:
24 - اسْتَنَدَ الْعُلَمَاءُ فِي تَحْرِيمِ التَّصْوِيرِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ إِِلَى الأَْحَادِيثِ التَّالِيَةِ:
الْحَدِيثُ الأَْوَّل: عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَدِمَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ سَفَرٍ، وَقَدْ سَتَرْتُ سَهْوَةً لِي بِقِرَامٍ فِيهِ تَمَاثِيل، فَلَمَّا رَآهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَتَكَهُ، وَتَلَوَّنَ وَجْهُهُ. فَقَال: يَا عَائِشَةُ: أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِينَ
__________
(1) الطحطاوي على الدر المختار 1 / 273، والأم للشافعي، (القاهرة، مكتبة الكليات الأزهرية، 1381 هـ) 6 / 182، والزواجر عن اقتراف الكبائر لابن حجر الهيثمي الشافعي 2 / 282، والإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف للمرداوي، الحنبلي، (القاهرة، مطبعة أنصار السنة) 1 / 474.
(2) كشاف القناع للبهوتي شرح الإقناع للحجاوي الحنبلي، (الرياض، مكتبة النصر الحديثة) 1 / 279، 280، والآداب الشرعية لابن مفلح 3 / 513. وقد تقدم تخريج الحديث ف / 21.(12/102)
يُضَاهُونَ بِخَلْقِ اللَّهِ. قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقَطَعْنَاهُ فَجَعَلْنَا مِنْهُ وِسَادَةً أَوْ وِسَادَتَيْنِ. وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قَال: إِنَّ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِينَ يُشَبِّهُونَ بِخَلْقِ اللَّهِ (1) . وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى قَال: إِنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الصُّوَرِ يُعَذَّبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيُقَال لَهُمْ: أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ.
وَفِي رِوَايَةٍ: إِنَّهَا قَالَتْ: فَأَخَذْتُ السِّتْرَ فَجَعَلْتُهُ مِرْفَقَةً أَوْ مِرْفَقَتَيْنِ، فَكَانَ يَرْتَفِقُ بِهِمَا فِي الْبَيْتِ. وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا. (2)
هَذَا وَإِِنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمُصَوِّرُونَ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ أَيْضًا مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. (3) وَقَوْلُهُ: إِنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الصُّوَرِ يُعَذَّبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُقَال لَهُمْ أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ رَوَيَاهُ أَيْضًا
__________
(1) حديث: " يا عائشة، أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين. . . " أخرجه البخاري (الفتح 10 - 387 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1668 ط الحلبي) .
(2) حديث: " إن أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يشبهون بخلق الله. . . ". أخرجه مسلم (3 / 1667 ط الحلبي) . وحديث: " إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة. . . " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 389 ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1669 ط الحلبي) ورواية: " فأخذت الستر فجعلته مرفقة ". أخرجه مسلم (3 / 1669 ط الحلبي) .
(3) الحديث تقدم تخريجه ف 23.(12/103)
مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
الْحَدِيثُ الثَّانِي:
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: وَاعَدَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِبْرِيل أَنْ يَأْتِيَهُ فِي سَاعَةٍ، فَجَاءَتْ تِلْكَ السَّاعَةُ وَلَمْ يَأْتِهِ. قَالَتْ: وَكَانَ بِيَدِهِ عَصًا فَطَرَحَهَا، وَهُوَ يَقُول: مَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلاَ رُسُلَهُ. ثُمَّ الْتَفَتَ، فَإِِذَا جَرْوُ كَلْبٍ تَحْتَ سَرِيرٍ، فَقَال: مَتَى دَخَل هَذَا الْكَلْبُ؟ فَقُلْتُ: وَاللَّهِ مَا دَرَيْتُ بِهِ. فَأَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ، فَجَاءَهُ جِبْرِيل، فَقَال لَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَعَدْتنِي فَجَلَسْتُ لَكَ وَلَمْ تَأْتِنِي؟ فَقَال: مَنَعَنِي الْكَلْبُ الَّذِي كَانَ فِي بَيْتِكَ. إِنَّا لاَ نَدْخُل بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلاَ صُورَةٌ. (1) وَرَوَتْ مَيْمُونَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا حَادِثَةً مِثْل هَذِهِ، وَفِيهَا قَوْل جِبْرِيل: إِنَّا لاَ نَدْخُل بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلاَ صُورَةٌ. (2) وَرَوَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَهُ بِحَادِثَةِ جِبْرِيل، وَمَا قَال لَهُ. وَرَوَى الْقِصَّةَ أَيْضًا أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
__________
(1) حديث: " واعد رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل. . . " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 391 ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1664 ط الحلبي) .
(2) حديث: " إنا لا ندخل بيتا فيه كلب ولا صورة " أخرجه مسلم (3 / 1664 - 1665 ط الحلبي) .(12/103)
الْحَدِيثُ الثَّالِثُ:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ دَخَل دَارًا تُبْنَى بِالْمَدِينَةِ لِسَعِيدٍ، أَوْ لِمَرْوَانَ، فَرَأَى مُصَوِّرًا يُصَوِّرُ فِي الدَّارِ، فَقَال سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: قَال اللَّهُ تَعَالَى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ خَلْقًا كَخَلْقِي، فَلْيَخْلُقُوا ذَرَّةً، أَوْ لِيَخْلُقُوا حَبَّةً، أَوْ لِيَخْلُقُوا شَعِيرَةً. (1)
الْحَدِيثُ الرَّابِعُ:
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَال: إِنِّي رَجُلٌ أُصَوِّرُ هَذِهِ الصُّوَرَ فَأَفْتِنِي فِيهَا. فَقَال: ادْنُ مِنِّي، فَدَنَا مِنْهُ، ثُمَّ قَال: ادْنُ مِنِّي، فَدَنَا مِنْهُ، حَتَّى وَضَعَ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ، وَقَال: أُنَبِّئُكَ بِمَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: كُل مُصَوِّرٍ فِي النَّارِ، يُجْعَل لَهُ بِكُل صُورَةٍ صَوَّرَهَا نَفْسًا، فَيُعَذِّبُهُ فِي جَهَنَّمَ ثُمَّ قَال: إِنْ كُنْتَ لاَ بُدَّ فَاعِلاً فَاصْنَعِ الشَّجَرَ وَمَا لاَ نَفْسَ لَهُ (2) .
الْحَدِيثُ الْخَامِسُ:
عَنْ أَبِي الْهَيَّاجِ الأَْسَدِيِّ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال لَهُ: أَلاَ أَبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثَنِي عَلَيْهِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلاَّ تَدَعَ صُورَةً إِلاَّ طَمَسْتَهَا، وَلاَ قَبْرًا مُشْرِفًا إِلاَّ سَوَّيْتَهُ. (3)
__________
(1) الحديث تقدم تخريجه ف / 15.
(2) حديث: " كل مصور في النار ". أخرجه مسلم (3 / 1670 ط الحلبي) .
(3) حديث: " ألا أبعثك على ما بعثني به رسول الله صلى الله عليه وسلم " أخرجه مسلم (2 / 666، 667 ط الحلبي) .(12/104)
تَعْلِيل تَحْرِيمِ التَّصْوِيرِ:
25 - اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي عِلَّةِ تَحْرِيمِ التَّصْوِيرِ عَلَى وُجُوهٍ:
الْوَجْهُ الأَْوَّل: أَنَّ الْعِلَّةَ هِيَ مَا فِي التَّصْوِيرِ مِنْ مُضَاهَاةِ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَصْل التَّعْلِيل بِذَلِكَ وَارِدٌ فِي الأَْحَادِيثِ الْمُتَقَدِّمَةِ، كَلَفْظِ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: الَّذِينَ يُضَاهُونَ بِخَلْقِ اللَّهِ (1) وَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ خَلْقًا كَخَلْقِي (2) وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ حَدِيثُ: مَنْ صَوَّرَ صُورَةً كُلِّفَ أَنْ يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ (3) وَحَدِيثِ: أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمُصَوِّرُونَ. يُقَال لَهُمْ: أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ. (4) وَمِمَّا يُكَدِّرُ عَلَى التَّعْلِيل بِهَذَا أَمْرَانِ:
الأَْوَّل: أَنَّ التَّعْلِيل بِهَذَا يَقْتَضِي مَنْعَ تَحْرِيمِ تَصْوِيرِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْجِبَال وَالشَّجَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ ذَوَاتِ الأَْرْوَاحِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ التَّعْلِيل بِذَلِكَ يَقْتَضِي أَيْضًا مَنْعَ تَصْوِيرِ لُعَبِ الْبَنَاتِ وَالْعُضْوِ الْمَقْطُوعِ، وَغَيْرِ
__________
(1) انفرد بهذه الرواية ورواية " يشبهون بخلق " عبد الرحمن بن القاسم عن عائشة. وحديثه في صحيح البخاري (كتاب اللباس ب 91) ومسلم (لباس ح 91، 92) والنسائي (زينة باب 112) وأحمد (6 / 36، 83، 219) .
(2) الحديث تقدم تخريجه في الفقرة السابقة.
(3) الحديث تقدم تخريجه ف / 16.
(4) الحديث تقدم تخريجه ف 15.(12/104)
ذَلِكَ مِمَّا اسْتَثْنَاهُ الْعُلَمَاءُ مِنْ قَضِيَّةِ التَّحْرِيمِ - مِنْ أَجْل ذَلِكَ ذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِِلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالتَّعْلِيل بِهَذِهِ الْعِلَّةِ مِنْ صُنْعِ الصُّورَةِ مُتَحَدِّيًا قُدْرَةَ الْخَالِقِ عَزَّ وَجَل، وَرَأَى أَنَّهُ قَادِرٌ أَنْ يَخْلُقَ كَخَلْقِهِ، فَيُرِيَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَجْزَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، بِأَنْ يُكَلِّفَهُ أَنْ يَنْفُخَ الرُّوحَ فِي تِلْكَ الصُّوَرِ.
قَال النَّوَوِيُّ: أَمَّا رِوَايَةُ أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا فَهِيَ مَحْمُولَةٌ عَلَى مَنْ فَعَل الصُّورَةَ لِتُعْبَدَ، وَقِيل: هِيَ فِيمَنْ قَصَدَ الْمَعْنَى الَّذِي فِي الْحَدِيثِ مِنْ مُضَاهَاةِ خَلْقِ اللَّهِ، وَاعْتَقَدَ ذَلِكَ، فَهَذَا كَافِرٌ لَهُ مِنْ أَشَدِّ الْعَذَابِ مَا لِلْكُفَّارِ، وَيَزِيدُ عَذَابُهُ بِزِيَادَةِ كُفْرِهِ ". (1)
وَيَتَأَيَّدُ التَّعْلِيل بِهَذَا بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَال شَبِيهًا بِذَلِكَ فِي حَقِّ مَنِ ادَّعَى أَنَّهُ يُنَزِّل مِثْل مَا أَنْزَل اللَّهُ، وَأَنَّهُ لاَ أَحَدَ أَظْلَم مِنْهُ، فَقَال تَعَالَى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَال أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَال سَأُنْزِل مِثْل مَا أَنْزَل اللَّهُ} (2) فَهَذَا فِيمَنِ ادَّعَى مُسَاوَاةَ الْخَالِقِ فِي أَمْرِهِ وَوَحْيِهِ، وَالأَْوَّل فِيمَنِ ادَّعَى مُسَاوَاتَهُ فِي خَلْقِهِ، وَكِلاَهُمَا مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَذَابًا.
__________
(1) شرح النووي على صحيح مسلم (كتاب اللباس) 11 / 91.
(2) سورة الأنعام / 93.(12/105)
وَمِمَّا يُحَقِّقُ هَذَا مَا تُوحِي بِهِ رِوَايَةُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُول فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ خَلْقًا كَخَلْقِي فَإِِنَّ " ذَهَبَ " بِمَعْنَى قَصَدَ، بِذَلِكَ فَسَّرَهَا ابْنُ حَجَرٍ (1) . وَبِذَلِكَ يَكُونُ مَعْنَاهَا أَنَّهُ أَظْلَمُ النَّاسِ بِهَذَا الْقَصْدِ، وَهُوَ أَنْ يَقْصِدَ أَنْ يَخْلُقَ كَخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَنَقَل الْجَصَّاصُ قَوْلاً أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الأَْحَادِيثِ " مَنْ شَبَّهَ اللَّهَ بِخَلْقِهِ ".
26 - الْوَجْهُ الثَّانِي: كَوْنُ التَّصْوِيرِ وَسِيلَةً إِِلَى الْغُلُوِّ فِي غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى بِتَعْظِيمِهِ حَتَّى يَئُول الأَْمْرُ إِِلَى الضَّلاَل وَالاِفْتِنَانِ بِالصُّوَرِ، فَتُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ تَعَالَى. وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعِثَ وَالنَّاسُ يَنْصِبُونَ تَمَاثِيل يَعْبُدُونَهَا، يَزْعُمُونَ أَنَّهَا تُقَرِّبُهُمْ إِِلَى اللَّهِ زُلْفَى، فَجَاءَ الإِِْسْلاَمُ مُحَطِّمًا لِلشِّرْكِ وَالْوَثَنِيَّةِ، مُعْلِنًا أَنَّ شِعَارَهُ الأَْكْبَرَ (لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ) وَمُسَفِّهًا لِعُقُول هَؤُلاَءِ. وَمِنَ الْمَنَاهِجِ الَّتِي سَلَكَتْهَا الشَّرِيعَةُ الْحَكِيمَةُ لِذَلِكَ - بِالإِِْضَافَةِ إِِلَى الْحُجَّةِ وَالْبَيَانِ وَالسَّيْفِ وَالسِّنَانِ - أَنْ جَاءَتْ إِِلَى مَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَكُونَ وَسِيلَةً إِِلَى الضَّلاَل وَلاَ مَنْفَعَةَ، أَوْ مَنْفَعَتُهُ أَقَل، فَمَنَعَتْ إِتْيَانَهُ، قَال ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَالَّذِي أَوْجَبَ النَّهْيَ عَنِ التَّصْوِيرِ فِي شَرْعِنَا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - مَا كَانَتِ الْعَرَبُ عَلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ الأَْوْثَانِ وَالأَْصْنَامِ، فَكَانُوا يُصَوِّرُونَ
__________
(1) فتح الباري 10 / 386.(12/105)
وَيَعْبُدُونَ، فَقَطَعَ اللَّهُ الذَّرِيعَةَ، وَحَمَى الْبَابَ.
ثُمَّ أَشَارَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ أَنَّ التَّعْلِيل بِالْمُضَاهَاةِ وَهُوَ مَنْصُوصٌ، لاَ يَمْنَعُ مِنَ التَّعْلِيل بِهَذِهِ الْعِلَّةِ الْمُسْتَنْبَطَةِ، قَال: نَهَى عَنِ الصُّورَةِ، وَذَكَرَ عِلَّةَ التَّشَبُّهِ بِخَلْقِ اللَّهِ، وَفِيهَا زِيَادَةٌ عَلَى هَذَا عِبَادَتُهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَنَبَّهَ عَلَى أَنَّ عَمَلَهَا مَعْصِيَةٌ، فَمَا ظَنُّكَ بِعِبَادَتِهَا. (1)
وَاسْتَنَدَ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْوَجْهِ فِي التَّعْلِيل إِِلَى مَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ نُوحٍ، مُعَلَّقًا. عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي: وَدٍّ، وَسُوَاعٍ، وَيَغُوثَ، وَيَعُوقَ، وَنَسْرٍ. قَال: " هَذِهِ أَسْمَاءُ رِجَالٍ صَالِحِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ، فَلَمَّا هَلَكُوا أَوْحَى الشَّيْطَانُ إِِلَى قَوْمِهِمْ: أَنِ انْصِبُوا إِِلَى مَجَالِسِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَجْلِسُونَ إِلَيْهَا أَنْصَابًا، وَسَمُّوهَا بِأَسْمَائِهِمْ، فَفَعَلُوا، فَلَمْ تُعْبَدْ، حَتَّى إِِذَا هَلَكَ أُولَئِكَ، وَتَنَسَّخَ الْعِلْمُ، عُبِدَتْ (2) .
لَكِنْ إِِلَى أَيِّ مَدًى أَرَادَتِ الشَّرِيعَةُ الْمَنْعَ مِنَ التَّصْوِيرِ لِتَكْفُل سَدَّ الذَّرِيعَةِ: هَل إِِلَى مَنْعِ التَّصْوِيرِ مُطْلَقًا، أَوْ مَنْعِ الصُّوَرِ الْمَنْصُوبَةِ دُونَ غَيْرِ الْمَنْصُوبَةِ، أَوْ مَنْعِ الصُّوَرِ الْمُجَسَّمَةِ الَّتِي لَهَا ظِلٌّ؛ لأَِنَّهَا الَّتِي كَانَتْ تُعْبَدُ؟ هَذَا مَوْضِعُ
__________
(1) أحكام القرآن لابن العربي 4 / 1588.
(2) أثر ابن عباس أخرجه البخاري (فتح الباري 8 / 666 ط السلفية) . وانظر تفسير ابن كثير والطبري في تفسير الآية من سورة نوح، حيث نقلا روايات أخرى.(12/106)
الْخِلاَفِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ.
وَبِنَاءً عَلَى هَذَا الْوَجْهِ رَأَى بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَدَّدَ أَوَّلاً وَأَمَرَ بِكَسْرِ الأَْوْثَانِ وَلَطَّخَ الصُّوَرَ، ثُمَّ لَمَّا عُرِفَ ذَلِكَ الأَْمْرُ وَاشْتَهَرَ رَخَّصَ فِي الصُّوَرِ الْمُسَطَّحَةِ وَقَال: إِلاَّ رَقْمًا فِي ثَوْبٍ.
27 - الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْعِلَّةَ مُجَرَّدُ الشَّبَهِ بِفِعْل الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَنْحِتُونَ الأَْصْنَامَ وَيَعْبُدُونَهَا، وَلَوْ لَمْ يَقْصِدِ الْمُصَوِّرُ ذَلِكَ، وَلَوْ لَمْ تُعْبَدِ الصُّورَةُ الَّتِي يَصْنَعُهَا، لَكِنَّ الْحَال شَبِيهَةٌ بِالْحَال. كَمَا نُهِينَا عَنِ الصَّلاَةِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَعِنْدَ غُرُوبِهَا؛ لِئَلاَّ نَكُونَ فِي ذَلِكَ مِثْل مَنْ يَسْجُدُ لَهَا حِينَئِذٍ. كَمَا قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَإِِنَّهُ يَسْجُدُ لَهَا حِينَئِذٍ الْكُفَّارُ (1) فَكُرِهَتِ الصَّلاَةُ حِينَئِذٍ لِمَا تَجُرُّهُ الْمُشَابَهَةُ مِنَ الْمُوَافَقَةِ. أَشَارَ إِِلَى هَذَا الْمَعْنَى ابْنُ تَيْمِيَّةَ. وَنَبَّهَ عَلَيْهِ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَال: إِنَّ صُورَةَ الأَْصْنَامِ هِيَ الأَْصْل فِي مَنْعِ التَّصْوِيرِ (2) لَكِنْ إِِذَا قِيل بِهَذِهِ الْعِلَّةِ فَهِيَ لاَ تَقْتَضِي أَكْثَرَ مِنَ الْكَرَاهَةِ.
__________
(1) حديث: " وحينئذ يسجد لها الكفار ". أخرجه من مسلم (1 / 570 ط الحلبي) من حديث عمرو بن عنبسة رضي الله عنه.
(2) اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم، (القاهرة، مطبعة أنصار السنة المحمدية، 1369 هـ) ص 63، وفتح الباري 10 / 395. وفي مجلة المنار قال الشيخ محمد رشيد رضا إن هذه هي العلة الحقيقية في التحريم (سنة 1320 هـ المجلد 5 / 140) .(12/106)
28 - الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ وُجُودَ الصُّورَةِ فِي مَكَان يَمْنَعُ دُخُول الْمَلاَئِكَةِ إِلَيْهِ. وَقَدْ وَرَدَ النَّصُّ عَلَى ذَلِكَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ وَحَدِيثِ عَلِيٍّ.
وَرَدَّ التَّعْلِيل بِهَذَا كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، مِنْهُمُ الْحَنَابِلَةُ، كَمَا يَأْتِي، وَقَالُوا: إِنَّ تَنْصِيصَ الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الْمَلاَئِكَةَ لاَ تَدْخُل بَيْتًا فِيهِ صُورَةٌ لاَ يَقْتَضِي مَنْعَ التَّصْوِيرِ، كَالْجَنَابَةِ، فَإِِنَّهَا تَمْنَعُ دُخُول الْمَلاَئِكَةِ أَيْضًا لِمَا فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ لاَ تَدْخُل الْمَلاَئِكَةُ بَيْتًا فِيهِ صُورَةٌ وَلاَ كَلْبٌ وَلاَ جُنُبٌ (1) فَلاَ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ مَنْعُ الْجَنَابَةِ.
وَلَعَل امْتِنَاعَ دُخُول الْمَلاَئِكَةِ إِنَّمَا هُوَ لِكَوْنِ الصُّورَةِ مُحَرَّمَةً، كَمَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَجْلِسَ عَلَى مَائِدَةٍ يُدَارُ عَلَيْهَا الْخَمْرُ. فَامْتِنَاعُ دُخُولِهِمْ أَثَرُ التَّحْرِيمِ، وَلَيْسَ عِلَّةً. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
تَفْصِيل الْقَوْل فِي صِنَاعَةِ الصُّوَرِ:
أَوَّلاً: الصُّوَرُ الْمُجَسَّمَةُ (ذَوَاتُ الظِّل) .
29 - صَنْعَةُ الصُّوَرِ الْمُجَسَّمَةِ مُحَرَّمَةٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ أَخْذًا بِالأَْدِلَّةِ السَّابِقَةِ.
وَيُسْتَثْنَى مِنْهَا مَا كَانَ مَصْنُوعًا كَلُعْبَةٍ لِلصِّغَارِ، أَوْ كَانَ مُمْتَهَنًا، أَوْ كَانَ مَقْطُوعًا مِنْهُ عُضْوٌ لاَ يَعِيشُ بِدُونِهِ، أَوْ كَانَ مِمَّا لاَ يَدُومُ كَصُوَرِ الْحَلْوَى أَوِ
__________
(1) حديث: " لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة ولا كلب ولا جنب ". أخرجه أبو داود (4 / 384 تحقيق عزت عبيد دعاس) . وفي إسناده جهالة، (الميزان للذهبي 4 / 248 ط الحلبي) .(12/107)
الْعَجِينِ، عَلَى خِلاَفٍ وَتَفْصِيلٍ يَتَبَيَّنُ فِي الْمَبَاحِثِ التَّالِيَةِ.
ثَانِيًا: صِنَاعَةُ الصُّوَرِ الْمُسَطَّحَةِ:
الْقَوْل الأَْوَّل فِي صِنَاعَةِ الصُّوَرِ الْمُسَطَّحَةِ
30 - مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُمْ جَوَازُ صِنَاعَةِ الصُّوَرِ الْمُسَطَّحَةِ مُطْلَقًا، مَعَ الْكَرَاهَةِ. لَكِنْ إِنْ كَانَتْ فِيمَا يُمْتَهَنُ فَلاَ كَرَاهَةَ بَل خِلاَفُ الأَْوْلَى. وَتَزُول الْكَرَاهَةُ إِِذَا كَانَتِ الصُّوَرُ مَقْطُوعَةَ عُضْوٍ لاَ تَبْقَى الْحَيَاةُ مَعَ فَقْدِهِ.
31 - وَمِنَ الْحُجَّةِ لِهَذَا الْمَذْهَبِ مَا يَلِي:
(1) حَدِيثُ أَبِي طَلْحَةَ وَعَنْهُ زَيْدُ بْنُ خَالِدٍ الْجُهَنِيُّ، وَرَوَاهُ سَهْل بْنُ حُنَيْفٍ الصَّحَابِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ تَدْخُل الْمَلاَئِكَةُ بَيْتًا فِيهِ صُورَةٌ، إِلاَّ رَقْمًا فِي ثَوْبٍ (1) فَهَذَا الْحَدِيثُ مُقَيَّدٌ، فَيُحْمَل عَلَيْهِ كُل مَا وَرَدَ مِنَ النَّهْيِ عَنِ التَّصَاوِيرِ وَلَعْنِ الْمُصَوِّرِينَ.
(2) حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: يَقُول اللَّهُ تَعَالَى: فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ خَلْقًا كَخَلْقِي، فَلْيَخْلُقُوا ذَرَّةً، أَوْ لِيَخْلُقُوا حَبَّةً. (2)
__________
(1) حديث: " لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة، إلا رقما في ثوب " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 389 ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1665 ط الحلبي) .
(2) الحديث تقدم تخريجه ف / 15.(12/107)
وَوَجْهُ الاِحْتِجَاجِ بِهِ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَخْلُقْ هَذِهِ الأَْحْيَاءَ سُطُوحًا، بَل اخْتَرَعَهَا مُجَسَّمَةً. (1)
(3) اسْتِعْمَال الصُّوَرِ فِي بَيْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّهَا جَعَلَتِ السِّتْرَ مِرْفَقَتَيْنِ، فَكَانَ يُرْتَفَقُ بِهِمَا، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ " وَإِِنَّ فِيهِمَا الصُّوَرَ ".
وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْحَدِيثِ قَالَتْ: كَانَ لَنَا سِتْرٌ فِيهِ تِمْثَال طَائِرٍ، وَكَانَ الدَّاخِل إِِذَا دَخَل اسْتَقْبَلَهُ، فَقَال لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حَوِّلِي هَذَا، فَإِِنِّي كُلَّمَا دَخَلْتُ فَرَأَيْتُهُ، ذَكَرْتُ الدُّنْيَا (2) فَعُلِّل بِذَلِكَ، وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرِيصًا عَلَى أَلاَّ يَشْغَلَهُ أَمْرُ الدُّنْيَا وَزَهْرَتُهَا عَنِ الدَّعْوَةِ إِِلَى اللَّهِ وَالتَّفَرُّغِ لِعِبَادَتِهِ. وَذَلِكَ لاَ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ عَلَى أُمَّتِهِ. وَفِي رِوَايَةِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال لَهَا: أَمِيطِي عَنَّا قِرَامَكِ هَذَا، فَإِِنَّ تَصَاوِيرَهُ لاَ تَزَال تَعْرِضُ لِي فِي صَلاَتِي (3) وَعُلِّل فِي رِوَايَةٍ ثَالِثَةٍ بِغَيْرِ هَذَا عِنْدَمَا هَتَكَ السِّتْرَ فَقَال يَا عَائِشَةُ لاَ تَسْتُرِي الْجِدَارَ (4) وَقَال إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْنَا أَنْ نَكْسُوَ الْحِجَارَةَ وَالطِّينَ. (5)
__________
(1) ذكر هذا المعنى ابن حجر في الفتح 10 / 386.
(2) حديث: " حولي هذا، فإني كلما دخلت فرأيته ذكرت الدنيا ". أخرجه مسلم (3 / 1666 ط الحلبي) .
(3) حديث " أميطي عنا قرامك هذا، فإنه. . . " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 484 ط السلفية) .
(4) حديث: " يا عائشة لا تستري الجدار " أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (4 / 283 ط مطبعة الأنوار المحمدية) .
(5) حديث: " إن الله لم يأمرنا أن نكسو الحجارة والطين " أخرجه مسلم (3 / 1666 ط الحلبي) من حديث عائشة رضي الله عنها.(12/108)
وَيُوَضِّحُ هَذَا الْمَعْنَى جَلِيًّا حَدِيثُ سَفِينَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَوْلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دَعَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِِلَى بَيْتِهِ، فَجَاءَ فَوَضَعَ يَدَهُ فَرَجَعَ، فَقَالَتْ فَاطِمَةُ لِعَلِيٍّ: الْحَقْهُ فَانْظُرْ مَا رَجَعَهُ. فَتَبِعَهُ، فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ مَا رَدَّكَ؟ قَال: إِنَّهُ لَيْسَ لِي - أَوْ قَال: لِنَبِيٍّ - أَنْ يَدْخُل بَيْتًا مُزَوَّقًا. (1)
وَرَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عِنْدَ الْبُخَارِيِّ وَأَبِي دَاوُدَ وَفِي رِوَايَتِهِ: فَرَأَى سِتْرًا مَوْشَيًّا، وَفِيهَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال مَا لَنَا وَلِلدُّنْيَا، مَا لَنَا وَلِلرَّقْمِ فَقَالَتْ فَاطِمَةُ فَمَا تَأْمُرُنَا فِيهِ؟ قَال: تُرْسِلِينَ بِهِ إِِلَى أَهْل حَاجَةٍ. (2) وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ أَنَّهُ كَانَ فِي السِّتْرِ تَصَاوِيرُ. (3)
(4) اسْتِعْمَال النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ الدَّنَانِيرَ الرُّومِيَّةَ وَالدَّرَاهِمَ الْفَارِسِيَّةَ وَعَلَيْهَا صُوَرُ مُلُوكِهِمْ وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ نُقُودٌ غَيْرُهَا إِلاَّ الْفُلُوسُ. وَقَدْ ضَرَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى مَا تَذْكُرُهُ الْكُتُبُ الْمُؤَلَّفَةُ فِي تَارِيخِ النُّقُودِ - الدَّرَاهِمَ عَلَى السِّكَّةِ الْفَارِسِيَّةِ، فَكَانَ فِيهَا الصُّوَرُ،
__________
(1) حديث: " إنه ليس لي - أو قال: لنبي - أن يدخل بيتا مزوقا " أخرجه أبو داود (4 / 133 - تحقيق عزت عبيد دعاس) . وصححه ابن حبان مختصرا (ص 352 - موارد الظمآن - ط السلفية) .
(2) حديث: " ما لنا وللدنيا، ما لنا وللرقم " أخرجه البخاري (الفتح 5 / 228 ط السلفية) وأبو داود (4 / 382 - تحقيق عزت عبيد دعاس) .
(3) جامع الأصول 4 / 815.(12/108)
وَضَرَبَ الدَّنَانِيرَ مُعَاوِيَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَلَيْهَا الصُّوَرُ بَعْدَ أَنْ مَحَا مِنْهَا الصَّلِيبَ، وَضَرَبَهَا عَبْدُ الْمَلِكِ وَعَلَيْهَا صُورَتُهُ مُتَقَلِّدًا سَيْفًا، ثُمَّ ضَرَبَهَا عَبْدُ الْمَلِكِ وَالْوَلِيدُ خَالِيَةً مِنَ الصُّوَرِ. (1)
(5) مَا نُقِل عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مِنِ اسْتِعْمَال الصُّوَرِ فِي السُّتُورِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْمُسَطَّحَاتِ. مِنْ ذَلِكَ اسْتِعْمَال زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِلسُّتُورِ ذَاتِ الصُّوَرِ، وَحَدِيثُهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَاسْتَعْمَلَهُ أَبُو طَلْحَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَقَرَّهُ سَهْل بْنُ حُنَيْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَحَدِيثُهُمَا فِي الْمُوَطَّأِ وَعِنْدَ التِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ. وَاعْتَمَدُوا عَلَى مَا رَوَوْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَوْلِهِ إِلاَّ رَقْمًا فِي ثَوْبٍ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ عُرْوَةَ كَانَ يَتَّكِئُ عَلَى الْمَرَافِقِ (الْوَسَائِدِ) الَّتِي فِيهَا تَصَاوِيرُ الطَّيْرِ وَالرِّجَال (2) .
وَرَوَى الطَّحَاوِيُّ بِأَسَانِيدِهِ أَنَّ نَقْشَ خَاتَمِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ الصَّحَابِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ رَجُلاً مُتَقَلِّدًا سَيْفًا. وَأَنَّ نَقْشَ خَاتَمِ النُّعْمَانِ بْنِ مُقَرِّنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَائِدِ فَتْحِ فَارِسَ، كَانَ أَيِّلاً
__________
(1) راجع لهذا كتاب: الدينار الإسلامي في المتحف العراقي، للسيد ناصر النقشبندي، (بغداد، المجمع العلمي العراقي 1372 هـ) ص 17، 18، 20، 24، 82، وكتاب النقود العربية وعلم النمنمات لانستاس الكرملي وفي ضمنه كتاب المقريزي في النقود الإسلامية.
(2) مصنف ابن أبي شيبة 8 / 506 ط الهند.(12/109)
قَابِضًا إِحْدَى يَدَيْهِ بَاسِطًا الأُْخْرَى، وَعَنِ الْقَاسِمِ قَال كَانَ نَقْشُ خَاتَمِ عَبْدِ اللَّهِ ذَبَّابَانِ، وَكَانَ نَقْشَ خَاتَمِ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْكِيَّانِ، وَرُوِيَ أَنَّ نَقْشَ خَاتَمِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ذُبَابَتَانِ (1) .
وَنَقَل ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِسَنَدِهِ عَنِ ابْنِ عَوْنٍ أَنَّهُ دَخَل عَلَى الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَهُوَ بِأَعْلَى مَكَّةَ بِبَيْتِهِ، قَال: فَرَأَيْتُ فِي بَيْتِهِ حَجْلَةً فِيهَا تَصَاوِيرُ الْقُنْدُسِ وَالْعَنْقَاءِ. قَال ابْنُ حَجَرٍ: وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَحَدُ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ، وَهُوَ رَاوِي حَدِيثِ عَائِشَةَ، وَكَانَ مِنْ أَفْضَل أَهْل زَمَانِهِ. (2)
وَرَوَى أَحْمَدُ بِسَنَدِهِ عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: دَخَلْتُ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَعُودُهُ مِنْ وَجَعٍ كَانَ بِهِ. قُلْتُ: فَمَا هَذِهِ التَّصَاوِيرُ فِي الْكَانُونِ؟ قَال: أَلاَ تَرَى قَدْ أَحْرَقْنَاهَا بِالنَّارِ. فَلَمَّا خَرَجَ الْمِسْوَرُ قَال: اقْطَعُوا رُءُوسَ هَذِهِ التَّمَاثِيل. قَالُوا: يَا أَبَا الْعَبَّاسِ لَوْ ذَهَبْتَ بِهَا إِِلَى السُّوقِ كَانَ أَنْفَقَ لَهَا قَال: لاَ. فَأَمَرَ بِقَطْعِ رُءُوسِهَا (3) .
__________
(1) معاني الآثار للطحاوي 4 / 263، 266.
(2) مصنف ابن أبي شيبة، ط الهند 8 / 509، ونقله ابن حجر في الفتح 10 / 388.
(3) مسند أحمد 1 / 320.(12/109)
الْقَوْل الثَّانِي فِي صِنَاعَةِ الصُّوَرِ غَيْرِ ذَوَاتِ الظِّل (أَيِ الْمُسَطَّحَةِ) :
32 - إِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ كَصِنَاعَةِ ذَوَاتِ الظِّل. وَهَذَا قَوْل جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَنُقِل عَنْ كَثِيرٍ مِنَ السَّلَفِ.
وَاسْتَثْنَى بَعْضُ أَصْحَابِ هَذَا الْقَوْل الصُّوَرَ الْمَقْطُوعَةَ وَالصُّوَرَ الْمُمْتَهَنَةَ وَأَشْيَاءَ أُخْرَى كَمَا سَيَأْتِي فِي بَقِيَّةِ هَذَا الْبَحْثِ.
وَاحْتَجُّوا لِلتَّحْرِيمِ بِإِِطْلاَقِ الأَْحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي لَعْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُصَوِّرِينَ، وَأَنَّ الْمُصَوِّرَ يُعَذَّبُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَنْ يُكَلَّفَ بِنَفْخِ الرُّوحِ فِي كُل صُورَةٍ صَوَّرَهَا. خَرَجَ مِنْ ذَلِكَ صُوَرُ الأَْشْجَارِ وَنَحْوِهَا مِمَّا لاَ رُوحَ فِيهِ بِالأَْدِلَّةِ السَّابِقِ ذِكْرُهَا، فَيَبْقَى مَا عَدَاهَا عَلَى التَّحْرِيمِ. قَالُوا: وَأَمَّا الاِحْتِجَاجُ لإِِِبَاحَةِ صُنْعِ الصُّوَرِ الْمُسَطَّحَةِ بِاسْتِعْمَال النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوِسَادَتَيْنِ اللَّتَيْنِ فِيهِمَا الصُّوَرُ، وَاسْتِعْمَال الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لِذَلِكَ، فَإِِنَّ الاِسْتِعْمَال لِلصُّورَةِ حَيْثُ جَازَ لاَ يَعْنِي جَوَازَ تَصْوِيرِهَا؛ لأَِنَّ النَّصَّ وَرَدَ بِتَحْرِيمِ التَّصْوِيرِ وَلَعْنِ الْمُصَوِّرِ، وَهُوَ شَيْءٌ آخَرُ غَيْرُ اسْتِعْمَال مَا فِيهِ الصُّورَةُ. وَقَدْ عُلِّل فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ بِمُضَاهَاةِ خَلْقِ اللَّهِ وَالتَّشْبِيهِ بِهِ، وَذَلِكَ إِثْمٌ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ الاِسْتِعْمَال. (1)
__________
(1) ابن عابدين 1 / 437.(12/110)
ثَالِثًا: الصُّوَرُ الْمَقْطُوعَةُ وَالصُّوَرُ النِّصْفِيَّةُ وَنَحْوُهَا:
33 - تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ لاَ يَرَوْنَ تَحْرِيمَ تَصْوِيرِ الإِِْنْسَانِ أَوِ الْحَيَوَانِ - سَوَاءٌ أَكَانَتِ الصُّورَةُ تِمْثَالاً مُجَسَّمًا أَوْ صُورَةً مُسَطَّحَةً - إِنْ كَانَتْ نَاقِصَةَ عُضْوٍ مِنَ الأَْعْضَاءِ الظَّاهِرَةِ مِمَّا لاَ يَعِيشُ الْحَيَوَانُ بِدُونِهِ. كَمَا لَوْ كَانَ مَقْطُوعَ الرَّأْسِ، أَوْ كَانَ مَخْرُوقَ الْبَطْنِ أَوِ الصَّدْرِ.
وَكَذَلِكَ يَقُول الْحَنَابِلَةُ، كَمَا جَاءَ فِي الْمُغْنِي: " إِِذَا كَانَ فِي ابْتِدَاءِ التَّصْوِيرَةِ صُورَةُ بَدَنٍ بِلاَ رَأْسٍ أَوْ رَأْسٌ بِلاَ بَدَنٍ، أَوْ جُعِل لَهُ رَأْسٌ وَسَائِرُ بَدَنِهِ صُورَةُ غَيْرِ حَيَوَانٍ، لَمْ يَدْخُل فِي النَّهْيِ. وَفِي الْفُرُوعِ: إِنْ أُزِيل مِنَ الصُّوَرِ مَا لاَ تَبْقَى الْحَيَاةُ مَعَهُ لَمْ يُكْرَهْ، فِي الْمَنْصُوصِ. وَمِثْلُهُ صُورَةُ شَجَرَةٍ وَنَحْوِهِ وَتِمْثَالٍ، وَكَذَا تَصْوِيرُهُ (1)
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ أَيْضًا، وَلَمْ يُنْقَل بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ خِلاَفٌ إِلاَّ مَا شَذَّ بِهِ الْمُتَوَلِّي، غَيْرَ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِيمَا إِِذَا كَانَ الْمَقْطُوعُ غَيْرَ الرَّأْسِ وَقَدْ بَقِيَ الرَّأْسُ. وَالرَّاجِحُ عِنْدَهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ التَّحْرِيمُ، جَاءَ فِي أَسْنَى الْمَطَالِبِ وَحَاشِيَتِهِ لِلرَّمْلِيِّ: وَكَذَا إِنْ قُطِعَ رَأْسُ الصُّورَةِ. قَال الكوهكيوني: وَكَذَا حُكْمُ مَا صُوِّرَ بِلاَ رَأْسٍ، وَأَمَّا
__________
(1) المغني 7 / 7، وانظر كشاف القناع 5 / 171، والخرشي 3 / 303، والفروع 1 / 352، 353.(12/110)
الرُّءُوسُ بِلاَ أَبْدَانٍ فَهَل تَحْرُمُ؟ فِيهِ تَرَدُّدٌ. وَالْحُرْمَةُ أَرْجَحُ. قَال الرَّمْلِيُّ: وَهُمَا وَجْهَانِ فِي الْحَاوِي وَبَنَاهُمَا عَلَى أَنَّهُ هَل يَجُوزُ تَصْوِيرُ حَيَوَانٍ لاَ نَظِيرَ لَهُ: إِنْ جَوَّزْنَاهُ جَازَ ذَلِكَ، وَإِِلاَّ فَلاَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَيَشْمَلُهُمَا قَوْلُهُ: وَيَحْرُمُ تَصْوِيرُ حَيَوَانٍ.
وَظَاهِرُ مَا فِي تُحْفَةِ الْمُحْتَاجِ جَوَازُهُ، فَإِِنَّهُ قَال: وَكَفَقْدِ الرَّأْسِ فَقْدُ مَا لاَ حَيَاةَ بِدُونِهِ. (1)
رَابِعًا: صُنْعُ الصُّوَرِ الْخَيَالِيَّةِ:
34 - يَنُصُّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ الصُّوَرَ الْخَيَالِيَّةَ لِلإِِْنْسَانِ أَوِ الْحَيَوَانِ دَاخِلَةٌ فِي التَّحْرِيمِ. قَالُوا: يَحْرُمُ، كَإِِنْسَانٍ لَهُ جَنَاحٌ، أَوْ بَقَرٍ لَهُ مِنْقَارٌ، مِمَّا لَيْسَ لَهُ نَظِيرٌ فِي الْمَخْلُوقَاتِ. وَكَلاَمُ صَاحِبِ رَوْضِ الطَّالِبِ يُوحِي بِوُجُودِ قَوْلٍ بِالْجَوَازِ.
وَوَاضِحٌ أَنَّ هَذَا فِي غَيْرِ اللُّعَبِ الَّتِي لِلأَْطْفَال، وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّهُ كَانَ فِي لُعَبِهَا فَرَسٌ لَهُ جَنَاحَانِ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَحِكَ لَمَّا رَآهَا حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ. (2)
__________
(1) تحفة المحتاج 7 / 434، وأسنى المطالب وحاشيته 3 / 226، والقليوبي على شرح المنهاج 3 / 297.
(2) أسنى المطالب 3 / 226، والقليوبي على المنهاج 3 / 297، وحواشي تحفة المحتاج 7 / 434 وحديث عائشة سيأتي تخريجه ف / 38.(12/111)
خَامِسًا: صُنْعُ الصُّوَرِ الْمُمْتَهَنَةِ:
35 - يَأْتِي أَنَّ أَغْلَبَ الْعُلَمَاءِ عَلَى جَوَازِ اقْتِنَاءِ وَاسْتِعْمَال الصُّوَرِ الْمُجَسَّمَةِ وَالْمُسَطَّحَةِ. سَوَاءٌ أَكَانَتْ مَقْطُوعَةً أَمْ كَامِلَةً، إِِذَا كَانَتْ مُمْتَهَنَةً، كَالَّتِي عَلَى أَرْضٍ أَوْ بِسَاطٍ أَوْ فِرَاشٍ أَوْ وِسَادَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ.
وَبِنَاءً عَلَى هَذَا، ذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِِلَى جَوَازِ صُنْعِ مَا يُسْتَعْمَل عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ، كَنَسْجِ الْحَرِيرِ لِمَنْ يَحِل لَهُ.
وَهُوَ فِي الْجُمْلَةِ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ، إِلاَّ أَنَّهُ عِنْدَهُمْ خِلاَفُ الأَْوْلَى.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا التَّحْرِيمُ. وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ عَابِدِينَ. وَنَقَل ابْنُ حَجَرٍ عَنِ الْمُتَوَلِّي مِنَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ أَجَازَ التَّصْوِيرَ عَلَى الأَْرْضِ. (1)
وَلَمْ نَجِدْ لِلْحَنَابِلَةِ تَصْرِيحًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ عِنْدَهُمْ مُنْدَرِجٌ فِي تَحْرِيمِ التَّصْوِيرِ.
وَسَيَأْتِي تَفْصِيل الْقَوْل فِي مَعْنَى الاِمْتِهَانِ.
سَادِسًا: صِنَاعَةُ الصُّوَرِ مِنَ الطِّينِ وَالْحَلْوَى وَمَا يَسْرُعُ إِلَيْهِ الْفَسَادُ:
36 - لِلْمَالِكِيَّةِ قَوْلاَنِ فِي صِنَاعَةِ الصُّوَرِ الَّتِي
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 338، ومنح الجليل شرح مختصر خليل 2 / 167، وحاشية عميرة على شرح المنهاج 31 / 297، 298، ونهاية المحتاج 6 / 369، وأسنى المطالب بحاشية الرملي 3 / 226، وابن عابدين 1 / 437.(12/111)
لاَ تُتَّخَذُ لِلإِِْبْقَاءِ، كَالَّتِي تُعْمَل مِنَ الْعَجِينِ وَأَشْهَرُ الْقَوْلَيْنِ الْمَنْعُ. وَكَذَا نَقَلَهُمَا الْعَدَوِيُّ وَقَال: إِنَّ الْقَوْل بِالْجَوَازِ هُوَ لأَِصْبَغَ. وَمَثَّل لَهُ بِمَا يُصْنَعُ مِنْ عَجِينٍ أَوْ قِشْرِ بِطِّيخٍ؛ لأَِنَّهُ إِِذَا نَشَفَ تَقَطَّعَ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: يَحْرُمُ صُنْعُهَا وَلاَ يَحْرُمُ بَيْعُهَا. (1)
وَلَمْ نَجِدْ عِنْدَ غَيْرِهِمْ نَصًّا فِي ذَلِكَ.
سَابِعًا: صِنَاعَةُ لُعَبِ الْبَنَاتِ:
37 - اسْتَثْنَى أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ مِنْ تَحْرِيمِ التَّصْوِيرِ وَصِنَاعَةِ التَّمَاثِيل صِنَاعَةَ لُعَبِ الْبَنَاتِ. وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَقَدْ نَقَل الْقَاضِي عِيَاضٌ جَوَازَهُ عَنْ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، وَتَابَعَهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ، فَقَال: يُسْتَثْنَى مِنْ مَنْعِ تَصْوِيرِ مَا لَهُ ظِلٌّ، وَمِنِ اتِّخَاذِهِ لُعَبَ الْبَنَاتِ، لِمَا وَرَدَ مِنَ الرُّخْصَةِ فِي ذَلِكَ.
وَهَذَا يَعْنِي جَوَازَهَا، سَوَاءٌ أَكَانَتِ اللُّعَبُ عَلَى هَيْئَةِ تِمْثَال إِنْسَانٍ أَوْ حَيَوَانٍ، مُجَسَّمَةً أَوْ غَيْرَ مُجَسَّمَةٍ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ لَهُ نَظِيرٌ فِي الْحَيَوَانَاتِ أَمْ لاَ، كَفَرَسٍ لَهُ جَنَاحَانِ.
وَقَدِ اشْتَرَطَ الْحَنَابِلَةُ لِلْجَوَازِ أَنْ تَكُونَ مَقْطُوعَةَ الرُّءُوسِ، أَوْ نَاقِصَةَ عُضْوٍ لاَ تَبْقَى الْحَيَاةُ بِدُونِهِ. وَسَائِرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ
__________
(1) فتح الباري 10 / 388، والدسوقي 2 / 337، والخرشي 3 / 303، والقليوبي على شرح المنهاج 3 / 297.(12/112)
ذَلِكَ. (1)
38 - وَاسْتَدَل الْجُمْهُورُ لِهَذَا الاِسْتِثْنَاءِ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كُنْتُ أَلْعَبُ بِالْبَنَاتِ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ لِي صَوَاحِبُ يَلْعَبْنَ مَعِي، فَكَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِِذَا دَخَل يَتَقَمَّعْنَ مِنْهُ، فَيُسَرِّبُهُنَّ إِلَيَّ، فَيَلْعَبْنَ مَعِي. (2)
وَفِي رِوَايَةٍ قَالَتْ: قَدِمَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكٍ أَوْ خَيْبَرَ، وَفِي سَهْوَتِهَا سِتْرٌ، فَهَبَّتْ رِيحٌ، فَكَشَفَتْ نَاحِيَةَ السِّتْرِ عَنْ بَنَاتٍ لِعَائِشَةَ لُعَبٍ، فَقَال: مَا هَذَا يَا عَائِشَةُ؟ قَالَتْ: بَنَاتِي. وَرَأَى بَيْنَهُنَّ فَرَسًا لَهَا جَنَاحَانِ مِنْ رِقَاعٍ، فَقَال: مَا هَذَا الَّذِي أَرَى وَسَطَهُنَّ؟ قَالَتْ: فَرَسٌ. قَال: وَمَا هَذَا الَّذِي عَلَيْهِ؟ قَالَتْ: جَنَاحَانِ. فَقَال: فَرَسٌ لَهُ جَنَاحَانِ؟ قَالَتْ: أَمَا سَمِعْتَ أَنَّ لِسُلَيْمَانَ خَيْلاً لَهَا أَجْنِحَةٌ؟ قَالَتْ: فَضَحِكَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى رَأَيْتُ نَوَاجِذَهُ. (3)
وَقَدْ عَلَّل الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ هَذَا الاِسْتِثْنَاءَ لِصِنَاعَةِ اللُّعَبِ بِالْحَاجَةِ إِِلَى تَدْرِيبِهِنَّ عَلَى أَمْرِ تَرْبِيَةِ الأَْوْلاَدِ.
__________
(1) فتح الباري 10 / 395، 527، وحاشية الدسوقي 2 / 338، وأسنى المطالب وحاشية الرملي 3 / 226، ونهاية المحتاج 6 / 297، وكشاف القناع 1 / 280.
(2) حديث عائشة: " كنت ألعب بالبنات. . . " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 526 ط السلفية)
(3) حديث عائشة: " قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة خيبر. . . "، أخرجه أبو داود (5 / 227 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وإسناده صحيح.(12/112)
وَهَذَا التَّعْلِيل يَظْهَرُ فِيمَا لَوْ كَانَتِ اللُّعَبُ عَلَى هَيْئَةِ إِنْسَانٍ، وَلاَ يَظْهَرُ فِي أَمْرِ الْفَرَسِ الَّذِي لَهُ جَنَاحَانِ، وَلِذَا عَلَّل الْحَلِيمِيُّ بِذَلِكَ وَبِغَيْرِهِ، وَهَذَا نَصُّ كَلاَمِهِ، قَال: لِلصَّبَايَا فِي ذَلِكَ فَائِدَتَانِ: إِحْدَاهُمَا عَاجِلَةٌ وَالأُْخْرَى آجِلَةٌ. فَأَمَّا الْعَاجِلَةُ، فَالاِسْتِئْنَاسُ الَّذِي فِي الصِّبْيَانِ مِنْ مَعَادِنِ النُّشُوءِ وَالنُّمُوِّ. فَإِِنَّ الصَّبِيَّ إِنْ كَانَ أَنْعَمَ حَالاً وَأَطْيَب نَفْسًا وَأَشْرَحَ صَدْرًا كَانَ أَقْوَى وَأَحْسَن نُمُوًّا، وَذَلِكَ لأَِنَّ السُّرُورَ يُبْسِطُ الْقَلْبَ، وَفِي انْبِسَاطِهِ انْبِسَاطُ الرُّوحِ، وَانْتِشَارُهُ فِي الْبَدَنِ، وَقُوَّةُ أَثَرِهِ فِي الأَْعْضَاءِ وَالْجَوَارِحِ.
وَأَمَّا الآْجِلَةُ فَإِِنَّهُنَّ سَيَعْلَمْنَ مِنْ ذَلِكَ مُعَالَجَةَ الصِّبْيَانِ وَحُبَّهُمْ وَالشَّفَقَةَ عَلَيْهِمْ، وَيَلْزَمُ ذَلِكَ طَبَائِعَهُنَّ، حَتَّى إِِذَا كَبَرْنَ وَعَايَنَ لأَِنْفُسِهِنَّ مَا كُنَّ تَسَرَّيْنَ بِهِ مِنَ الأَْوْلاَدِ كُنَّ لَهُمْ بِالْحَقِّ كَمَا كُنَّ لِتِلْكَ الأَْشْبَاهِ بِالْبَاطِل. (1)
هَذَا وَقَدْ نَقَل ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ عَنِ الْبَعْضِ دَعْوَى أَنَّ صِنَاعَةَ اللُّعَبِ مُحَرَّمَةٌ، وَأَنَّ جَوَازَهَا كَانَ أَوَّلاً، ثُمَّ نُسِخَ بِعُمُومِ النَّهْيِ عَنِ التَّصْوِيرِ. (2)
وَيَرُدُّهُ أَنَّ دَعْوَى النَّسْخِ مُعَارَضَةٌ بِمِثْلِهَا، وَأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ الإِِْذْنُ بِاللُّعَبِ لاَحِقًا.
__________
(1) المنهاج في شعب الإيمان للحليمي، (بيروت، دار الفكر، 1399 هـ. ب 41 الملاعب والملاهي) 3 / 97.
(2) فتح الباري 10 / 395.(12/113)
عَلَى أَنَّ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي اللُّعَبِ مَا يَدُل عَلَى تَأَخُّرِهِ، فَإِِنَّ فِيهِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ عِنْدَ رُجُوعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكٍ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كَانَ مُتَأَخِّرًا.
ثَامِنًا: التَّصْوِيرُ لِلْمَصْلَحَةِ كَالتَّعْلِيمِ وَغَيْرِهِ:
39 - لَمْ نَجِدْ أَحَدًا مِنَ الْفُقَهَاءِ تَعَرَّضَ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا، عَدَا مَا ذَكَرُوهُ فِي لُعَبِ الأَْطْفَال: أَنَّ الْعِلَّةَ فِي اسْتِثْنَائِهَا مِنَ التَّحْرِيمِ الْعَامِّ هُوَ تَدْرِيبُ الْبَنَاتِ عَلَى تَرْبِيَةِ الأَْطْفَال كَمَا قَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، أَوِ التَّدْرِيبُ وَاسْتِئْنَاسُ الأَْطْفَال وَزِيَادَةُ فَرَحِهِمْ لِمَصْلَحَةِ تَحْسِينِ النُّمُوِّ كَمَا قَال الْحَلِيمِيُّ، وَأَنَّ صِنَاعَةَ الصُّوَرِ أُبِيحَتْ لِهَذِهِ الْمَصْلَحَةِ، مَعَ قِيَامِ سَبَبِ التَّحْرِيمِ، وَهِيَ كَوْنُهَا تَمَاثِيل لِذَوَاتِ الأَْرْوَاحِ. وَالتَّصْوِيرُ بِقَصْدِ التَّعْلِيمِ وَالتَّدْرِيبِ نَحْوُهُمَا لاَ يَخْرُجُ عَنْ ذَلِكَ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: اقْتِنَاءُ الصُّوَرِ وَاسْتِعْمَالُهَا:
40 - يَذْهَبُ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِِلَى أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُ مِنْ تَحْرِيمِ تَصْوِيرِ الصُّورَةِ تَحْرِيمُ اقْتِنَائِهَا أَوْ تَحْرِيمُ اسْتِعْمَالِهَا، فَإِِنَّ عَمَلِيَّةَ التَّصْوِيرِ لِذَوَاتِ الأَْرْوَاحِ وَرَدَ فِيهَا النُّصُوصُ الْمُشَدَّدَةُ السَّابِقُ ذِكْرُهَا، وَفِيهَا لَعْنُ الْمُصَوِّرِ، وَأَنَّهُ يُعَذَّبُ فِي النَّارِ، وَأَنَّهُ أَشَدُّ النَّاسِ أَوْ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَذَابًا. وَلَمْ يَرِدْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي اقْتِنَاءِ الصُّوَرِ، وَلَمْ تَتَحَقَّقْ فِي مُسْتَعْمِلِهَا عِلَّةُ تَحْرِيمِ التَّصْوِيرِ مِنَ الْمُضَاهَاةِ(12/113)
لِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ وَرَدَ مَا يَدُل عَلَى مَنْعِ اقْتِنَاءِ الصُّورَةِ أَوِ اسْتِعْمَالِهَا، إِلاَّ أَنَّ الأَْحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي ذَلِكَ لَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ عَذَابٍ أَوْ أَيِّ قَرِينَةٍ تَدُل عَلَى أَنَّ اقْتِنَاءَهَا مِنَ الْكَبَائِرِ. وَبِهَذَا يَكُونُ حُكْمُ مُقْتَنِي الصُّورَةِ الَّتِي يَحْرُمُ اقْتِنَاؤُهَا: أَنَّهُ قَدْ فَعَل صَغِيرَةً مِنَ الصَّغَائِرِ، إِلاَّ عَلَى الْقَوْل بِأَنَّ الإِِْصْرَارَ عَلَى الصَّغِيرَةِ كَبِيرَةٌ، فَيَكُونُ كَبِيرَةً إِنْ تَحَقَّقَ الإِِْصْرَارُ لاَ إِنْ لَمْ يَتَحَقَّقْ، أَوْ لَمْ نَقُل بِأَنَّ الإِِْصْرَارَ عَلَى الصَّغِيرَةِ مِنَ الْكَبَائِرِ.
وَقَدْ نَبَّهَ إِِلَى الْفَرْقِ بَيْنَ التَّصْوِيرِ وَبَيْنَ اقْتِنَاءِ الصُّوَرِ فِي الْحُكْمِ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِهِ لِحَدِيثِ الصُّوَرِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَنَبَّهَ إِلَيْهِ الشَّبْرَامُلُّسِي مِنَ الشَّافِعِيَّةِ أَيْضًا، وَعَلَيْهِ يَجْرِي كَلاَمُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ. (1)
وَالأَْحَادِيثُ الدَّالَّةُ عَلَى مَنْعِ اقْتِنَاءِ الصُّوَرِ مِنْهَا:
(1) أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَتَكَ السِّتْرَ الَّذِي فِيهِ الصُّورَةُ وَفِي رِوَايَةٍ قَال لِعَائِشَةَ: " أَخِّرِيهِ عَنِّي ". (2) وَتَقَدَّمَ.
(2) وَمِنْهَا أَنَّهُ قَال: إِنَّ الْبَيْتَ الَّذِي فِيهِ الصُّوَرُ لاَ تَدْخُلُهُ الْمَلاَئِكَةُ. (3)
__________
(1) شرح صحيح مسلم للنووي 11 / 80، وحاشية الشبراملسي على شرح المنهاج للنووي 3 / 289.
(2) سبق تخريج الحديث بهذا المعنى ف / 26.
(3) الحديث تقدم تخريجه ف / 26.(12/114)
(3) وَمِنْهَا حَدِيثُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَلَهُ إِِلَى الْمَدِينَةِ وَقَال: لاَ تَدَعْ صُورَةً إِلاَّ طَمَسْتهَا وَفِي رِوَايَةٍ: إِلاَّ لَطَّخْتَهَا وَلاَ قَبْرًا مُشْرِفًا إِلاَّ سَوَّيْتَهُ وَفِي رِوَايَةٍ: وَلاَ صَنَمًا إِلاَّ كَسَرْتَهُ. (1)
41 - وَفِي مُقَابِل ذَلِكَ نُقِل اسْتِعْمَال النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ وَالتَّابِعِينَ لأَِنْوَاعٍ مِنَ الصُّوَرِ لِذَوَاتِ الرُّوحِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الرِّوَايَاتِ الْمُبَيِّنَةِ لِذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ (ف 31) وَنَزِيدُ هُنَا مَا رُوِيَ أَنَّ خَاتَمَ دَانْيَال النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ عَلَيْهِ أَسَدٌ وَلَبُؤَةٌ وَبَيْنَهُمَا صَبِيٌّ يَلْمِسَانِهِ. وَذَلِكَ أَنَّ بُخْتَ نَصَّرَ قِيل لَهُ: يُولَدُ مَوْلُودٌ يَكُونُ هَلاَكُكَ عَلَى يَدِهِ، فَجَعَل يَقْتُل كُل مَوْلُودٍ يُولَدُ. فَلَمَّا وَلَدَتْ أُمُّ دَانْيَال أَلْقَتْهُ فِي غَيْضَةٍ رَجَاءَ أَنْ يَسْلَمَ. فَقَيَّضَ اللَّهُ لَهُ أَسَدًا يَحْفَظُهُ وَلَبُؤَةً تُرْضِعُهُ. فَنَقَشَهُ عَلَى خَاتَمِهِ لِيَكُونَ بِمَرْأًى مِنْهُ لِيَتَذَكَّرَ نِعْمَةَ اللَّهِ. وَوُجِدَتْ جُثَّةُ دَانْيَال وَالْخَاتَمُ فِي عَهْدِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَدَفَعَ الْخَاتَمَ إِِلَى أَبِي مُوسَى الأَْشْعَرِيِّ (2) . فَهَذَا فِعْل صَحَابِيَّيْنِ.
وَسَيَأْتِي بَيَانُ أَقْوَال الْفُقَهَاءِ فِيمَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ مِنَ الصُّوَرِ وَمَا لاَ يَجُوزُ، وَتَوْفِيقُهُمْ بَيْنَ هَذِهِ الأَْحَادِيثِ الْمُتَعَارِضَةِ.
__________
(1) الحديث تقدم تخريجه بهذا المعنى ف / 24.
(2) الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 238، وتاريخ ابن كثير 7 / 88، واقتضاء الصراط المستقيم (ط 1369 هـ) ص 339.(12/114)
الْبَيْتُ الَّذِي فِيهِ الصُّوَرُ لاَ تَدْخُلُهُ الْمَلاَئِكَةُ:
42 - ثَبَتَ هَذَا بِهَذَا اللَّفْظِ مِنْ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ رِوَايَةِ عَائِشَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ. وَفِي غَيْرِ الصَّحِيحَيْنِ مِنْ رِوَايَةِ عَلِيٍّ وَمَيْمُونَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي طَلْحَةَ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ وَغَيْرِهِمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ.
قَال النَّوَوِيُّ: قَال الْعُلَمَاءُ: سَبَبُ امْتِنَاعِهِمْ مِنْ دُخُول بَيْتٍ فِيهِ صُورَةٌ كَوْنُهَا مَعْصِيَةً فَاحِشَةً، وَفِيهَا مُضَاهَاةٌ لِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَبَعْضُهَا فِي صُورَةِ مَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَعُوقِبَ مُتَّخِذُهَا بِحِرْمَانِهِ دُخُول الْمَلاَئِكَةِ بَيْتَهُ، وَصَلاَتَهَا فِيهِ، وَاسْتِغْفَارَهَا لَهُ، وَتَبْرِيكَهَا عَلَيْهِ وَفِي بَيْتِهِ، وَدَفْعَهَا أَذَى الشَّيْطَانِ.
وَقَال الْقُرْطُبِيُّ كَمَا فِي الْفَتْحِ: إِنَّمَا لَمْ تَدْخُل لأَِنَّ مُتَّخِذَ الصُّوَرِ قَدْ تَشَبَّهَ بِالْكُفَّارِ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الصُّوَرَ فِي بُيُوتِهِمْ وَيُعَظِّمُونَهَا، فَكَرِهَتِ الْمَلاَئِكَةُ ذَلِكَ. قَال النَّوَوِيُّ: وَهَؤُلاَءِ الْمَلاَئِكَةُ الَّذِينَ لاَ يَدْخُلُونَ بَيْتًا فِيهِ صُورَةٌ هُمْ مَلاَئِكَةُ الرَّحْمَةِ. وَأَمَّا الْحَفَظَةُ فَيَدْخُلُونَ كُل بَيْتٍ، وَلاَ يُفَارِقُونَ بَنِي آدَمَ فِي حَالٍ؛ لأَِنَّهُمْ مَأْمُورُونَ بِإِِحْصَاءِ أَعْمَالِهِمْ وَكِتَابَتِهَا. ثُمَّ قَال النَّوَوِيُّ: وَهُوَ عَامٌّ فِي كُل صُورَةٍ حَتَّى مَا يُمْتَهَنُ. وَنَقَل الطَّحْطَاوِيُّ عَنْهُ: أَنَّهَا تَمْتَنِعُ مِنَ الدُّخُول حَتَّى مِنَ الصُّوَرِ الَّتِي عَلَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ.(12/115)
وَفِي قَوْل النَّوَوِيِّ هَذَا مُبَالَغَةٌ وَتَشَدُّدٌ ظَاهِرٌ، فَإِِنَّ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّهَا هَتَكَتِ السِّتْرَ وَجَعَلَتْ مِنْهُ وِسَادَتَيْنِ، فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَّكِئُ عَلَيْهِمَا وَفِيهِمَا الصُّوَرُ. وَكَانَ لاَ يَتَحَرَّجُ مِنْ إِبْقَاءِ الدَّنَانِيرِ أَوِ الدَّرَاهِمِ فِي بَيْتِهِ وَفِيهَا الصُّوَرُ. وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ يَمْنَعُ دُخُول الْمَلاَئِكَةِ بَيْتَهُ مَا أَبْقَاهَا فِيهِ. وَلِذَا قَال ابْنُ حَجَرٍ: يَتَرَجَّحُ قَوْل مَنْ قَال: إِنَّ الصُّورَةَ الَّتِي تَمْتَنِعُ الْمَلاَئِكَةُ مِنْ دُخُول الْمَكَانِ الَّذِي تَكُونُ فِيهِ هِيَ الَّتِي تَكُونُ عَلَى هَيْئَتِهَا مُرْتَفِعَةً غَيْرَ مُمْتَهَنَةٍ، فَأَمَّا لَوْ كَانَتْ مُمْتَهَنَةً، أَوْ غَيْرَ مُمْتَهَنَةٍ لَكِنَّهَا غُيِّرَتْ هَيْئَتُهَا بِقَطْعِهَا مِنْ نِصْفِهَا أَوْ بِقَطْعِ رَأْسِهَا، فَلاَ امْتِنَاعَ. (1)
وَفِي كَلاَمِ ابْنِ عَابِدِينَ مَا يَدُل عَلَى أَنَّ ظَاهِرَ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ كُل صُورَةٍ لاَ يُكْرَهُ إِبْقَاؤُهَا فِي الْبَيْتِ، لاَ تَمْنَعُ دُخُول الْمَلاَئِكَةِ، سَوَاءٌ الصُّوَرُ الْمَقْطُوعَةُ أَوِ الصُّوَرُ الصَّغِيرَةُ أَوِ الصُّوَرُ الْمُهَانَةُ، أَوِ الْمُغَطَّاةُ وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَلأَِنَّهُ لَيْسَ فِي هَذِهِ الأَْنْوَاعِ تَشَبُّهٌ بِعُبَّادِهَا؛ لأَِنَّهُمْ لاَ يَعْبُدُونَ الصُّوَرَ الصَّغِيرَةَ أَوِ الْمُهَانَةَ، بَل يَنْصِبُونَهَا صُورَةً كَبِيرَةً، وَيَتَوَجَّهُونَ إِلَيْهَا. (2)
وَقَال ابْنُ حِبَّانَ: إِنَّ عَدَمَ دُخُول الْمَلاَئِكَةِ بَيْتًا فِيهِ صُوَرٌ خَاصٌّ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَال: وَهُوَ نَظِيرُ
__________
(1) شرح النووي لصحيح مسلم 11 / 84، وفتح الباري 10 / 391، 392.
(2) ابن عابدين 1 / 437.(12/115)
الْحَدِيثِ الآْخَرِ: لاَ تَصْحَبُ الْمَلاَئِكَةُ رُفْقَةً فِيهَا جَرَسٌ (1) إِذْ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى رُفْقَةٍ فِيهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ مُحَالٌ أَنْ يَخْرُجَ الْحَاجُّ وَالْمُعْتَمِرُ لِقَصْدِ الْبَيْتِ عَلَى رَوَاحِل لاَ تَصْحَبُهَا الْمَلاَئِكَةُ وَهُمْ وَفْدُ اللَّهِ. وَمَآل هَذَا الْقَوْل أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَلاَئِكَةِ مَلاَئِكَةُ الْوَحْيِ، وَهُوَ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَامُ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ. وَنَقَلَهُ ابْنُ حَجَرٍ عَنَ الدَّاوُدِيِّ وَابْنِ وَضَّاحٍ، وَمَآلُهُ إِِلَى اخْتِصَاصِ النَّهْيِ بِعَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِالْمَكَانِ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ، وَأَنَّ الْكَرَاهَةَ انْتَهَتْ بِوَفَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَِنَّ الْوَحْيَ قَدِ انْقَطَعَ مِنَ السَّمَاءِ. (2)
اقْتِنَاءُ وَاسْتِعْمَال صُوَرِ الْمَصْنُوعَاتِ الْبَشَرِيَّةِ وَالْجَوَامِدِ وَالنَّبَاتَاتِ:
43 - يَجُوزُ اقْتِنَاءُ وَاسْتِعْمَال صُوَرِ الْمَصْنُوعَاتِ الْبَشَرِيَّةِ وَالْجَوَامِدِ وَالنَّبَاتَاتِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَتْ مَنْصُوبَةً أَوْ مُعَلَّقَةً أَوْ مَوْضُوعَةً مُمْتَهَنَةً، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ مَنْقُوشَةً فِي الْحَوَائِطِ أَوِ السُّقُوفِ أَوِ الأَْرْضِ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ مُسَطَّحَةً كَمَا هُوَ مَعْهُودٌ، أَوْ مُجَسَّمَةً كَالزُّهُورِ وَالنَّبَاتَاتِ الاِصْطِنَاعِيَّةِ، وَنَمَاذِجِ السُّفُنِ وَالطَّائِرَاتِ وَالسَّيَّارَاتِ وَالْمَنَازِل وَالْجِبَال وَغَيْرِهَا، وَمُجَسَّمَاتِ تَمَاثِيل الْقُبَّةِ السَّمَاوِيَّةِ بِمَا فِيهَا مِنَ الْكَوَاكِبِ وَالنُّجُومِ وَالْقَمَرَيْنِ. وَسَوَاءٌ اسْتُعْمِل
__________
(1) حديث: " لا تصحب الملائكة رفقة فيها جرس ". أخرجه مسلم (3 / 1672 ط الحلبي) .
(2) فتح الباري 10 / 382.(12/116)
ذَلِكَ لِحَاجَةٍ وَنَفْعٍ، أَوْ لِمُجَرَّدِ الزِّينَةِ وَالتَّجْمِيل: فَكُل ذَلِكَ لاَ حَرَجَ فِيهِ شَرْعًا، إِلاَّ أَنْ يَحْرُمَ لِعَارِضٍ، كَمَا لَوْ كَانَ خَارِجًا عَنِ الْمُعْتَادِ إِِلَى حَدِّ الإِِْسْرَافِ، عَلَى الأَْصْل فِي سَائِرِ الْمُقْتَنَيَاتِ.
اقْتِنَاءُ وَاسْتِعْمَال صُوَرِ الإِِْنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ:
44 - يُجْمِعُ الْعُلَمَاءُ عَلَى تَحْرِيمِ اسْتِعْمَال نَوْعٍ مِنَ الصُّوَرِ، وَهُوَ مَا كَانَ صَنَمًا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ تَعَالَى. وَأَمَّا مَا عَدَا ذَلِكَ فَإِِنَّهُ لاَ يَخْلُو شَيْءٌ مِنْهُ مِنْ خِلاَفٍ. إِلاَّ أَنَّ الَّذِي تَكَادُ تَتَّفِقُ كَلِمَةُ الْفُقَهَاءِ عَلَى مَنْعِهِ: هُوَ مَا جَمَعَ الأُْمُورَ التَّالِيَةَ:
أ - أَنْ يَكُونَ صُورَةً لِذِي رُوحٍ إِنْ كَانَتِ الصُّورَةُ مُجَسَّمَةً.
ب - أَنْ تَكُونَ كَامِلَةَ الأَْعْضَاءِ، غَيْرَ مَقْطُوعَةِ عُضْوٍ مِنَ الأَْعْضَاءِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي لاَ تَبْقَى الْحَيَاةُ مَعَ فَقْدِهَا.
ج - أَنْ تَكُونَ مَنْصُوبَةً أَوْ مُعَلَّقَةً فِي مَكَانِ تَكْرِيمٍ، لاَ إِنْ كَانَتْ مُمْتَهَنَةً.
د - أَنْ لاَ تَكُونَ صَغِيرَةً.
هـ - أَنْ لاَ تَكُونَ مِنْ لُعَبِ الأَْطْفَال أَوْ نَحْوِهَا. و - أَنْ لاَ تَكُونَ مِمَّا يَسْرُعُ إِلَيْهِ الْفَسَادُ. وَقَدْ خَالَفَ فِيمَا جَمَعَ هَذِهِ الشُّرُوطَ قَوْمٌ لَمْ يُسَمَّوْا، كَمَا تَقَدَّمَ نَقْلُهُ إِلاَّ أَنَّهُ خِلاَفٌ ضَعِيفٌ. وَنَحْنُ نُبَيِّنُ حُكْمَ كُل نَوْعٍ مِمَّا خَرَجَ عَنْ هَذِهِ الشُّرُوطِ.(12/116)
أ - اسْتِعْمَال وَاقْتِنَاءُ الصُّوَرِ الْمُسَطَّحَةِ:
45 - يَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ أَنَّ اسْتِعْمَال الصُّوَرِ الْمُسَطَّحَةِ لَيْسَ مُحَرَّمًا، بَل هُوَ مَكْرُوهٌ إِنْ كَانَتْ مَنْصُوبَةً، فَإِِنْ كَانَتْ مُمْتَهَنَةً فَاسْتِعْمَالُهَا خِلاَفُ الأَْوْلَى. (1)
أَمَّا عِنْدَ غَيْرِ الْمَالِكِيَّةِ: فَالصُّوَرُ الْمُسَطَّحَةُ وَالْمُجَسَّمَةُ سَوَاءٌ فِي التَّحْرِيمِ مِنْ حَيْثُ الاِسْتِعْمَال، إِِذَا تَمَّتِ الشُّرُوطُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ.
ب - اسْتِعْمَال وَاقْتِنَاءُ الصُّوَرِ الْمَقْطُوعَةِ:
46 - إِِذَا كَانَتِ الصُّورَةُ - مُجَسَّمَةً كَانَتْ أَوْ مُسَطَّحَةً - مَقْطُوعَةَ عُضْوٍ لاَ تَبْقَى الْحَيَاةُ مَعَهُ، فَإِِنَّ اسْتِعْمَال الصُّورَةِ حِينَئِذٍ جَائِزٌ، وَهَذَا قَوْل جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. وَقَدْ وَافَقَ عَلَى الإِِْبَاحَةِ هُنَا بَعْضُ مَنْ خَالَفَ، فَرَأَى تَحْرِيمَ التَّصْوِيرِ وَلَكِنْ لَمْ يَرِدْ تَحْرِيمُ الاِقْتِنَاءِ، كَالشَّافِعِيَّةِ. وَسَوَاءٌ أَكَانَتِ الصُّورَةُ قَدْ صُنِعَتْ مَقْطُوعَةً مِنَ الأَْصْل، أَوْ صُوِّرَتْ كَامِلَةً ثُمَّ قُطِعَ مِنْهَا شَيْءٌ لاَ تَبْقَى الْحَيَاةُ مَعَهُ. وَسَوَاءٌ أَكَانَتْ مَنْصُوبَةً أَوْ غَيْرَ مَنْصُوبَةٍ كَمَا يَأْتِي فِي الْمَسْأَلَةِ التَّالِيَةِ.
47 - وَالْحُجَّةُ لِذَلِكَ مَا مَرَّ أَنَّ جِبْرِيل قَال لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْ بِرَأْسِ التِّمْثَال فَلْيَقْطَعْ حَتَّى يَكُونَ كَهَيْئَةِ الشَّجَرَةِ (2) وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قَال: إِنَّ فِي الْبَيْتِ
__________
( x661 ;) الدسوقي 2 / 338، وشرح منح الجليل 2 / 167.
(2) تقدم تخريجه ف / 16.(12/117)
سِتْرًا، وَفِي الْحَائِطِ تَمَاثِيل، فَاقْطَعُوا رُءُوسَهَا فَاجْعَلُوهَا بِسَاطًا أَوْ وَسَائِدَ فَأَوْطِئُوهُ، فَإِِنَّا لاَ نَدْخُل بَيْتًا فِيهِ تَمَاثِيل (1)
وَلاَ يَكْفِي أَنْ تَكُونَ قَدْ أُزِيل مِنْهَا الْعَيْنَانِ أَوِ الْحَاجِبَانِ أَوِ الأَْيْدِي أَوِ الأَْرْجُل، بَل لاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْعُضْوُ الزَّائِل مِمَّا لاَ تَبْقَى الْحَيَاةُ مَعَهُ، كَقَطْعِ الرَّأْسِ أَوْ مَحْوِ الْوَجْهِ، أَوْ خَرْقِ الصَّدْرِ أَوِ الْبَطْنِ. قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْقَطْعُ بِخَيْطٍ خُيِّطَ عَلَى جَمِيعِ الرَّأْسِ حَتَّى لَمْ يَبْقَ لَهُ أَثَرٌ، أَوْ بِطَلْيِهِ بِمُغْرَةٍ، أَوْ بِنَحْتِهِ، أَوْ بِغَسْلِهِ. وَأَمَّا قَطْعُ الرَّأْسِ عَنِ الْجَسَدِ بِخَيْطٍ مَعَ بَقَاءِ الرَّأْسِ عَلَى حَالِهِ فَلاَ يَنْفِي الْكَرَاهَةَ؛ لأَِنَّ مِنَ الطُّيُورِ مَا هُوَ مُطَوَّقٌ فَلاَ يَتَحَقَّقُ الْقَطْعُ بِذَلِكَ.
وَقَال صَاحِبُ شَرْحِ الإِِْقْنَاعِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: إِنْ قُطِعَ مِنَ الصُّورَةِ رَأْسُهَا فَلاَ كَرَاهَةَ، أَوْ قُطِعَ مِنْهَا مَا لاَ تَبْقَى الْحَيَاةُ بَعْدَ ذَهَابِهِ فَهُوَ كَقَطْعِ الرَّأْسِ كَصَدْرِهَا أَوْ بَطْنِهَا، أَوْ جَعَل لَهَا رَأْسًا مُنْفَصِلاً عَنْ بَدَنِهَا لأَِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَدْخُل فِي النَّهْيِ.
وَقَال صَاحِبُ مِنَحِ الْجَلِيل مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّ مَا يَحْرُمُ مَا يَكُونُ كَامِل الأَْعْضَاءِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي لاَ يَعِيشُ بِدُونِهَا وَلَهَا ظِلٌّ.
__________
(1) حديث: " إن في البيت سترا وفي الحائط تماثيل. . . " أخررجه - أحمد (2 / 308 ط الميمنية) من حديث أبي هريرة، وأخرجه الترمذي (2806 ط الحلبي) بألفاظ متقاربة. وقال: حسن صحيح.(12/117)
غَيْرَ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ اخْتَلَفُوا فِيمَا لَوْ كَانَ الْبَاقِي الرَّأْسَ، عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَحْرُمُ وَهُوَ الرَّاجِحُ، وَالآْخَرُ: لاَ يَحْرُمُ. وَقَطْعُ أَيِّ جُزْءٍ لاَ تَبْقَى الْحَيَاةُ مَعَهُ يُبِيحُ الْبَاقِيَ، كَمَا لَوْ قُطِعَ الرَّأْسُ وَبَقِيَ مَا عَدَاهُ. (1)
جَاءَ فِي أَسْنَى الْمَطَالِبِ وَحَاشِيَتِهِ: وَكَذَا إِنْ قُطِعَ رَأْسُهَا، قَال: الكوهكيوني: وَكَذَا حُكْمُ مَا صُوِّرَ بِلاَ رَأْسٍ، وَأَمَّا الرُّءُوسُ بِلاَ أَبْدَانٍ فَهَل تَحْرُمُ؟ فِيهِ تَرَدُّدٌ. وَالْحُرْمَةُ أَرْجَحُ. قَال الرَّمْلِيُّ: وَهُوَ وَجْهَانِ فِي الْحَاوِي، وَبَنَاهُمَا عَلَى أَنَّهُ هَل يَجُوزُ تَصْوِيرُ حَيَوَانٍ لاَ نَظِيرَ لَهُ: إِنْ جَوَّزْنَاهُ جَازَ ذَلِكَ وَإِِلاَّ فَلاَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ.
وَفِي حَاشِيَةِ الشِّرْوَانِيِّ وَابْنِ قَاسِمٍ: إِنَّ فَقْدَ النِّصْفِ الأَْسْفَل كَفَقْدِ الرَّأْسِ.
48 - وَيَكْفِي لِلإِِْبَاحَةِ أَنْ تَكُونَ الصُّورَةُ قَدْ خُرِقَ صَدْرُهَا أَوْ بَطْنُهَا، بِذَلِكَ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ. قَال ابْنُ عَابِدِينَ: هَل مِنْ ذَلِكَ مَا لَوْ كَانَتْ مَثْقُوبَةَ الْبَطْنِ مَثَلاً: الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الثَّقْبُ كَبِيرًا يَظْهَرُ بِهِ نَقْصُهَا فَنَعَمْ، وَإِِلاَّ فَلاَ، كَمَا لَوْ كَانَ الثَّقْبُ لِوَضْعِ عَصًا تُمْسَكُ بِهَا، كَمِثْل صُوَرِ خَيَال الظِّل الَّتِي يُلْعَبُ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 436، 437، وشرح منح الجليل 2 / 166، وأسنى المطالب وحاشيته 3 / 226، وتحفة المحتاج 7 / 434، وكشاف القناع 5 / 171، والفروع 1 / 353.(12/118)
بِهَا؛ لأَِنَّهَا تَبْقَى مَعَهُ صُورَةً تَامَّةً، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ فِي صُوَرِ الْخَيَال خَالَفَهُ فِيهِ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ، فَرَأَوْا أَنَّ الْخَرْقَ الَّذِي يَكُونُ فِي وَسَطِهَا كَافٍ فِي إِزَالَةِ الْكَرَاهَةِ كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ الشَّيْخُ إِبْرَاهِيمُ الْبَاجُورِيُّ (1) ، وَيَأْتِي النَّقْل عَنْهُ فِي بَحْثِ النَّظَرِ إِِلَى الصُّوَرِ
ج - اسْتِعْمَال وَاقْتِنَاءُ الصُّوَرِ الْمَنْصُوبَةِ وَالصُّوَرِ الْمُمْتَهَنَةِ:
49 - يَرَى الْجُمْهُورُ أَنَّ الصُّوَرَ لِذَوَاتِ الأَْرْوَاحِ - مُجَسَّمَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَ مُجَسَّمَةٍ - يَحْرُمُ اقْتِنَاؤُهَا عَلَى هَيْئَةٍ تَكُونُ فِيهَا مُعَلَّقَةً أَوْ مَنْصُوبَةً، وَهَذَا فِي الصُّوَرِ الْكَامِلَةِ الَّتِي لَمْ يُقْطَعْ فِيهَا عُضْوٌ لاَ تَبْقَى الْحَيَاةُ مَعَهُ، فَإِِنْ قُطِعَ مِنْهَا عُضْوٌ - عَلَى التَّفْصِيل الْمُتَقَدِّمِ فِي الْفِقْرَةِ السَّابِقَةِ - جَازَ نَصْبُهَا وَتَعْلِيقُهَا، وَإِِنْ كَانَتْ مُسَطَّحَةً جَازَ تَعْلِيقُهَا مَعَ الْكَرَاهَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.
وَنُقِل عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ إِجَازَةُ تَعْلِيقِ الصُّوَرِ الَّتِي فِي الثِّيَابِ، وَهُوَ رَاوِي حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي لَعْنِ الْمُصَوِّرِينَ، وَكَانَ مِنْ خَيْرِ أَهْل الْمَدِينَةِ فِقْهًا وَوَرَعًا.
وَأَمَّا إِِذَا اقْتُنِيَتِ الصُّورَةُ - وَهِيَ مُمْتَهَنَةٌ - فَلاَ
__________
(1) تحفة المحتاج وحواشيه 7 / 433 - 435، والمغني 7 / 8، وابن عابدين 1 / 436، وحاشية الباجوري على ابن قاسم 2 / 131.(12/118)
بَأْسَ بِذَلِكَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، كَمَا لَوْ كَانَتْ فِي الأَْرْضِ أَوْ فِي بِسَاطٍ مَفْرُوشٍ أَوْ فِرَاشٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ. وَقَدْ نَصَّ الْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ مَكْرُوهَةٍ أَيْضًا، إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَالُوا: إِنَّهَا حِينَئِذٍ خِلاَفُ الأَْوْلَى.
وَوَجَّهُوا التَّفْرِيقَ بَيْنَ الْمَنْصُوبِ وَالْمُمْتَهَنِ: بِأَنَّهَا إِِذَا كَانَتْ مَرْفُوعَةً تَكُونُ مُعَظَّمَةً وَتُشْبِهُ الأَْصْنَامَ. أَمَّا الَّذِي فِي الأَْرْضِ وَنَحْوِهِ فَلاَ يُشْبِهُهَا؛ لأَِنَّ أَهْل الأَْصْنَامِ يَنْصِبُونَهَا وَيَعْبُدُونَهَا وَلاَ يَتْرُكُونَهَا مُهَانَةً.
وَقَدْ يُظَنُّ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ بَقَاءُ الصُّورَةِ الْمَقْطُوعَةِ مَنْصُوبَةً، إِلاَّ أَنَّهُ قَدْ وَرَدَ فِي السُّنَّةِ مَا يَدُل عَلَى جَوَازِهَا، وَهُوَ مَا نَقَلْنَاهُ سَابِقًا مِنْ أَنَّ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَامُ قَال لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْ بِرَأْسِ التِّمْثَال فَلْيُقْطَعْ حَتَّى يَكُونَ كَهَيْئَةِ الشَّجَرَةِ وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثٍ آخَرَ: فَإِِنْ كُنْتَ لاَ بُدَّ فَاعِلاً فَاقْطَعْ رُءُوسَهَا أَوِ اقْطَعْهَا وَسَائِدَ أَوِ اجْعَلْهَا بُسُطًا فَإِِنَّهَا تَدُل عَلَى جَوَازِ بَقَائِهَا بَعْدَ الْقَطْعِ مَنْصُوبَةً.
وَمِنَ الدَّلِيل عَلَى بَقَاءِ الصُّورَةِ الْمُمْتَهَنَةِ فِي الْبَيْتِ الْحَدِيثُ الْمُتَقَدِّمُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّهَا قَطَعَتِ السِّتْرَ وَجَعَلَتْهُ وِسَادَتَيْنِ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَّكِئُ عَلَيْهِمَا وَفِيهِمَا الصُّوَرُ.
وَقَدْ وَرَدَ عَنْ عِكْرِمَةَ قَال: كَانُوا يَكْرَهُونَ مَا نُصِبَ مِنَ التَّمَاثِيل وَلاَ يَرَوْنَ بَأْسًا بِمَا وَطِئَتْهُ الأَْقْدَامُ. وَكَانَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ يَتَّكِئُ عَلَى(12/119)
مِخَدَّةٍ فِيهَا تَصَاوِيرُ. (1)
وَلِذَا قَال ابْنُ حَجَرٍ بَعْدَ ذِكْرِ قَطْعِ رَأْسِ التِّمْثَال: فِي هَذَا الْحَدِيثِ تَرْجِيحُ قَوْل مَنْ ذَهَبَ إِِلَى أَنَّ الصُّورَةَ الَّتِي تَمْتَنِعُ الْمَلاَئِكَةُ مِنْ دُخُول الْبَيْتِ الَّذِي هِيَ فِيهِ: مَا تَكُونُ فِيهِ مَنْصُوبَةً بَاقِيَةً عَلَى هَيْئَتِهَا. أَمَّا لَوْ كَانَتْ مُمْتَهَنَةً، أَوْ كَانَتْ غَيْرَ مُمْتَهَنَةٍ لَكِنَّهَا غُيِّرَتْ هَيْئَتُهَا إِمَّا بِقَطْعِ رَأْسِهَا أَوْ بِقَطْعِهَا مِنْ نِصْفِهَا فَلاَ امْتِنَاعَ. (2)
50 - وَالنَّصْبُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ قَال بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: أَيُّ نَصْبٍ كَانَ. حَتَّى إِنَّ اسْتِعْمَال إِبْرِيقٍ فِيهِ صُوَرٌ تَرَدَّدَ فِيهِ صَاحِبُ الْمُهِمَّاتِ، وَمَال إِِلَى الْمَنْعِ، أَيْ لأَِنَّهُ يَكُونُ مَنْصُوبًا. وَقَالُوا فِي الْوِسَادِ: إِنِ اسْتُعْمِلَتْ مَنْصُوبَةً حَرُمَ، وَإِِنِ اسْتُعْمِلَتْ غَيْرَ مَنْصُوبَةٍ جَازَ.
وَذَهَبَ بَعْضٌ آخَرُ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِِلَى أَنَّ النَّصْبَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ خَاصَّةً مَا يَظْهَرُ فِيهِ التَّعْظِيمُ، فَقَدْ قَال الْجُوَيْنِيُّ: إِنَّ مَا عَلَى السُّتُورِ وَالثِّيَابِ مِنَ الصُّوَرِ لاَ يَحْرُمُ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ امْتِهَانٌ لَهُ. وَهَذَا يُوَافِقُ مَا تَقَدَّمَ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ.
__________
(1) شرح منية المصلي ص 359، وشرح المنهاج 3 / 298، والمغني 77، وفتح الباري 10 / 388، 393، والخرشي 3 / 303، والإنصاف 8 / 336، 1 / 474، وكشاف القناع 5 / 171، 1 / 279، وابن عابدين 1 / 436، والآداب الشرعية 3 / 513.
(2) فتح الباري 10 / 392.(12/119)
وَقَال الرَّافِعِيُّ: إِنَّ نَصْبَ الصُّوَرِ فِي حَمَّامٍ أَوْ مَمَرٍّ لاَ يَحْرُمُ، بِخِلاَفِ مَا كَانَ مَنْصُوبًا فِي الْمَجَالِسِ وَأَمَاكِنِ التَّكْرِيمِ. أَيْ لأَِنَّهَا فِي الْمَمَرِّ وَالْحَمَّامِ مُهَانَةٌ، وَفِي الْمَجَالِسِ مُكَرَّمَةٌ. وَظَاهِرُ كَلاَمِ صَاحِبِ الْمُغْنِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ نَصْبَ الصُّوَرِ فِي الْحَمَّامِ وَنَحْوِهِ مُحَرَّمٌ.
هَذَا، وَمِمَّا نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الصُّوَرِ الْمُهَانَةِ: مَا كَانَ فِي نَحْوِ قَصْعَةٍ وَخِوَانٍ وَطَبَقٍ. (1)
وَيُلْتَحَقُ بِالْمُمْتَهَنَةِ - عِنْدَ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ - الصُّوَرُ الَّتِي عَلَى النُّقُودِ. قَال الرَّمْلِيُّ: وَعِنْدِي أَنَّ الدَّنَانِيرَ الرُّومِيَّةَ الَّتِي عَلَيْهَا الصُّوَرُ مِنَ الْقِسْمِ الَّذِي لاَ يُنْكَرُ، لاِمْتِهَانِهَا بِالإِِْنْفَاقِ وَالْمُعَامَلَةِ، وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ يَتَعَامَلُونَ بِهَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، وَلَمْ تَحْدُثِ الدَّرَاهِمُ الإِِْسْلاَمِيَّةُ إِلاَّ فِي عَهْدِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ. وَقَال مِثْلَهُ الزَّرْكَشِيُّ (2) .
__________
(1) فتح الباري 10 / 388، 399، وشرح المنهاج وحاشية القليوبي 3 / 297، ونهاية المحتاج 6 / 369، وتحفة المحتاج بحاشية الشرواني 7 / 432، وأسنى المطالب 3 / 226، والمغني 7 / 10. فينبغي أن يكون ذلك حكم ما في سائر الأدوات التي للتداول مما لا ينصب كالملعقة والسكين والمضرب، وما يكون في مفارش الموائد والكراسي، والصور التي في الآلات والأجهزة الصناعية العاملة والمعدة للاستعمال، كالصور التي في الصحف المعدة للتداول.
(2) الرملي على أسنى المطالب 3 / 226، ونهاية المحتاج 6 / 369.(12/120)
51 - هَذَا بَيَانُ حُكْمِ مَا ظَهَرَ فِيهِ التَّعْظِيمُ، أَوْ ظَهَرَتْ فِيهِ الإِِْهَانَةُ. أَمَّا مَا لَمْ يَظْهَرْ فِيهِ أَيٌّ مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ، وَذَلِكَ فِي مِثْل الصُّورَةِ الْمَطْبُوعَةِ فِي كِتَابٍ، أَوِ الْمَوْضُوعَةِ فِي دُرْجٍ أَوْ خِزَانَةٍ أَوْ عَلَى مِنْضَدَةٍ، مِنْ غَيْرِ نَصْبٍ. فَفِي كَلاَمِ الْقَلْيُوبِيِّ نَقْلاً عَنِ ابْنِ حَجَرٍ وَغَيْرِهِ: يَجُوزُ لُبْسُ مَا عَلَيْهِ صُورَةُ الْحَيَوَانِ وَدَوْسُهُ وَوَضْعُهُ فِي صُنْدُوقٍ أَوْ مُغَطًّى (1) .
وَفِي مُخْتَصَرِ الْمُزَنِيِّ مَا يَدُل عَلَى قَصْرِ التَّحْرِيمِ عَلَى الْمَنْصُوبِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَصُورَةُ ذَاتِ رُوحٍ إِنْ كَانَتْ مَنْصُوبَةً (2) وَرَوَى ابْنُ شَيْبَةَ عَنْ حَمَّادٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ أَنَّهُ قَال: لاَ بَأْسَ فِي حِلْيَةِ السَّيْفِ وَلاَ بَأْسَ بِهَا (أَيْ بِالتَّمَاثِيل) فِي سَمَاءِ الْبَيْتِ (أَيِ السَّقْفِ) ، وَإِِنَّمَا يُكْرَهُ مِنْهَا مَا نُصِبَ نَصْبًا (3) .
وَأَصْل ذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَفِي مُسْنَدِ الإِِْمَامِ أَحْمَدَ عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ أَنَّهُ قَال: دَخَلْتُ عَلَى سَالِمٍ وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى وِسَادَةٍ فِيهَا تَمَاثِيل طَيْرٍ وَوَحْشٍ، فَقُلْتُ: أَلَيْسَ يُكْرَهُ هَذَا؟ قَال: لاَ، إِنَّمَا يُكْرَهُ مِنْهَا مَا نُصِبَ نَصْبًا (4) .
__________
(1) المنهاج وحاشية القليوبي 3 / 297.
(2) فتح الباري 10 / 388، وشرح المنهاج بحاشية القليوبي 3 / 297.
(3) المصنف 8 / 482.
(4) المسند 9 / 147 ط أحمد شاكر، وقال: إسناده صحيح.(12/120)
اسْتِعْمَال لُعَبِ الأَْطْفَال الْمُجَسَّمَةِ وَغَيْرِ الْمُجَسَّمَةِ:
52 - تَقَدَّمَ أَنَّ قَوْل الْجُمْهُورِ جَوَازُ صِنَاعَةِ اللُّعَبِ الْمَذْكُورَةِ. فَاسْتِعْمَالُهَا جَائِزٌ مِنْ بَابٍ أَوْلَى، وَنَقَل الْقَاضِي عِيَاضٌ جَوَازَهُ عَنِ الْعُلَمَاءِ، وَتَابَعَهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ، قَال: قَال الْقَاضِي: يُرَخَّصُ لِصِغَارِ الْبَنَاتِ. (1)
وَالْمُرَادُ بِصِغَارِ الْبَنَاتِ مَنْ كَانَ غَيْرَ بَالِغٍ مِنْهُنَّ. وَقَال الْخَطَّابِيُّ: وَإِِنَّمَا أَرْخَصَ لِعَائِشَةَ فِيهَا لأَِنَّهَا إِذْ ذَاكَ كَانَتْ غَيْرَ بَالِغٍ. قَال ابْنُ حَجَرٍ: وَفِي الْجَزْمِ بِهِ نَظَرٌ، لَكِنَّهُ مُحْتَمَلٌ، لأَِنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَانَتْ فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ بِنْتَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ، وَأَمَّا فِي غَزْوَةِ تَبُوكٍ فَكَانَتْ قَدْ بَلَغَتْ قَطْعًا (2) فَهَذَا يَدُل عَلَى أَنَّ التَّرْخِيصَ لَيْسَ قَاصِرًا عَلَى مَنْ دُونَ الْبُلُوغِ مِنْهُنَّ، بَل يَتَعَدَّى إِِلَى مَرْحَلَةِ مَا بَعْدَ الْبُلُوغِ مَا دَامَتِ الْحَاجَةُ قَائِمَةً لِذَلِكَ.
53 - وَالْعِلَّةُ فِي هَذَا التَّرْخِيصِ تَدْرِيبُهُنَّ عَنْ شَأْنِ تَرْبِيَةِ الأَْوْلاَدِ، وَتَقَدَّمَ النَّقْل عَنِ الْحَلِيمِيِّ: أَنَّ مِنَ الْعِلَّةِ أَيْضًا اسْتِئْنَاسَ الصِّبْيَانِ وَفَرَحَهُمْ (3) . وَأَنَّ ذَلِكَ يَحْصُل لَهُمْ بِهِ النَّشَاطُ وَالْقُوَّةُ وَالْفَرَحُ وَحُسْنُ النُّشُوءِ وَمَزِيدُ التَّعَلُّمِ. فَعَلَى هَذَا لاَ يَكُونُ الأَْمْرُ قَاصِرًا عَلَى الإِِْنَاثِ مِنَ
__________
(1) فتح الباري 10 / 527، وشرح النووي على مسلم 11 / 82، وشرح المنهاج 3 / 214.
(2) فتح الباري 10 / 527.
(3) المنهاج في شعب الإيمان 3 / 97، والدسوقي 2 / 338.(12/121)
الصِّغَارِ، بَل يَتَعَدَّاهُ إِِلَى الذُّكُورِ مِنْهُمْ أَيْضًا. وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِهِ أَبُو يُوسُفَ: فَفِي الْقُنْيَةِ عَنْهُ: يَجُوزُ بَيْعُ اللُّعْبَةِ، وَأَنْ يَلْعَبَ بِهَا الصِّبْيَانُ. (1)
54 - وَمِمَّا يُؤَكِّدُ جَوَازَ اللُّعَبِ الْمُصَوَّرَةِ لِلصِّبْيَانِ - بِالإِِْضَافَةِ إِِلَى الْبَنَاتِ - مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ الأَْنْصَارِيَّةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: أَرْسَل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَدَاةَ عَاشُورَاءَ إِِلَى قُرَى الأَْنْصَارِ الَّتِي حَوْل الْمَدِينَةِ: مَنْ كَانَ أَصْبَحَ صَائِمًا فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، وَمَنْ كَانَ أَصْبَحَ مُفْطِرًا فَلْيُتِمَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ. فَكُنَّا بَعْدَ ذَلِكَ نَصُومُهُ وَنُصَوِّمُ صِبْيَانَنَا الصِّغَارَ مِنْهُمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَنَذْهَبُ بِهِمْ إِِلَى الْمَسْجِدِ، فَنَجْعَل - وَفِي رِوَايَةٍ: فَنَصْنَعُ - لَهُمُ اللُّعْبَةَ مِنَ الْعِهْنِ، فَإِِذَا بَكَى أَحَدُهُمْ عَلَى الطَّعَامِ أَعْطَيْنَاهُ إِيَّاهُ حَتَّى يَكُونَ عِنْدَ الإِِْفْطَارِ. (2)
55 - وَانْفَرَدَ الْحَنَابِلَةُ بِاشْتِرَاطِ أَنْ تَكُونَ اللُّعْبَةُ الْمُصَوَّرَةُ بِلاَ رَأْسٍ، أَوْ مَقْطُوعَةَ الرَّأْسِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَمُرَادُهُمْ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْبَاقِي الرَّأْسَ، أَوْ كَانَ الرَّأْسُ مُنْفَصِلاً عَنِ الْجَسَدِ جَازَ، كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَالُوا: لِلْوَلِيِّ شِرَاءُ لُعَبٍ غَيْرِ مُصَوَّرَةٍ لِصَغِيرَةٍ تَحْتَ حِجْرِهِ مِنْ مَالِهَا نَصًّا، لِلتَّمْرِينِ. (3)
__________
(1) ابن عابدين 1 / 437، 4 / 214.
(2) حديث الربيع بنت معوذ رضي الله عنها: " من كان أصبح صائما. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 200 - ط السلفية) ومسلم (2 / 799 - ط الحلبي) .
(3) كشاف القناع 1 / 280، وشرح المنتهى 2 / 293، والإنصاف 5 / 331.(12/121)
لُبْسُ الثِّيَابِ الَّتِي فِيهَا الصُّوَرُ:
56 - يُكْرَهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ لُبْسُ الثِّيَابِ الَّتِي فِيهَا الصُّوَرُ، قَال صَاحِبُ الْخُلاَصَةِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: صُلِّيَ فِيهَا أَوْ لاَ. لَكِنْ تَزُول الْكَرَاهَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بِمَا لَوْ لَبِسَ الإِِْنْسَانُ فَوْقَ الصُّورَةِ ثَوْبًا آخَرَ يُغَطِّيهَا، فَإِِنْ فَعَل فَلاَ تُكْرَهُ الصَّلاَةُ فِيهِ. (1)
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: يَجُوزُ لُبْسُ الثِّيَابِ الَّتِي فِيهَا صُوَرٌ حَيْثُ نَصُّوا عَلَى أَنَّ الصُّورَةَ فِي الثَّوْبِ الْمَلْبُوسِ مُنْكَرٌ، لَكِنَّ اللُّبْسَ امْتِهَانٌ لَهُ فَيَجُوزُ حِينَئِذٍ. (2) كَمَا لَوْ كَانَ مُلْقًى بِالأَْرْضِ وَيُدَاسُ. وَالأَْوْجَهُ كَمَا قَال الشِّرْوَانِيُّ أَنَّهُ لاَ يَكُونُ مِنَ الْمُنْكَرِ إِِذَا كَانَ مُلْقًى بِالأَْرْضِ (أَيْ مُطْلَقًا) .
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ: فَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُهُمْ فِي لُبْسِ الثَّوْبِ الَّذِي فِيهِ الصُّورَةُ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: التَّحْرِيمُ، وَهُوَ قَوْل أَبِي الْخَطَّابِ قَدَّمَهُ فِي الْفُرُوعِ وَالْمُحَرَّرِ. وَالآْخَرُ: أَنَّهُ مَكْرُوهٌ فَقَطْ وَلَيْسَ مُحَرَّمًا، قَدَّمَهُ ابْنُ تَمِيمٍ (3) .
وَوَجْهُ الْقَوْل بِعَدَمِ التَّحْرِيمِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِلاَّ رَقْمًا فِي ثَوْبٍ. (4)
__________
(1) ابن عابدين 1 / 436، والخرشي على مختصر خليل 3 / 303.
(2) شرح المنهاج وحاشية القليوبي 3 / 297، وتحفة المحتاج وحاشية الشرواني 7 / 432، 433.
(3) شرح الإقناع للبهوتي 1 / 279، والإنصاف 1 / 473، والمغني 1 / 590.
(4) الحديث تقدم تخريجه ف / 31.(12/122)
اسْتِعْمَال وَاقْتِنَاءُ الصُّوَرِ الصَّغِيرَةِ فِي الْخَاتَمِ وَالنُّقُودِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ:
57 - يُصَرِّحُ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الصُّوَرَ الصَّغِيرَةَ لاَ يَشْمَلُهَا تَحْرِيمُ الاِقْتِنَاءِ وَالاِسْتِعْمَال، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عَادَةِ عُبَّادِ الصُّوَرِ أَنْ يَسْتَعْمِلُوهَا كَذَلِكَ. وَضَبَطُوا حَدَّ الصِّغَرِ بِضَوَابِطَ مُخْتَلِفَةٍ.
قَال بَعْضُهُمْ: أَنْ تَكُونَ بِحَيْثُ لاَ تَبْدُو لِلنَّاظِرِ إِلاَّ بِتَبَصُّرٍ بَلِيغٍ. وَقَال بَعْضُهُمْ: أَنْ لاَ تَبْدُوَ مِنْ بَعِيدٍ. وَقَال صَاحِبُ الدُّرِّ: هِيَ الَّتِي لاَ تَتَبَيَّنُ تَفَاصِيل أَعْضَائِهَا لِلنَّاظِرِ قَائِمًا وَهِيَ عَلَى الأَْرْضِ. وَقِيل: هِيَ مَا كَانَتْ أَصْغَر مِنْ حَجْمِ طَائِرٍ. وَهَذَا يَذْكُرُونَهُ فِي بَيَانِ أَنَّهَا لاَ تُكْرَهُ لِلْمُصَلِّي. لَكِنْ قَال ابْنُ عَابِدِينَ: ظَاهِرُ كَلاَمِ عُلَمَائِنَا أَنَّ مَا لاَ يُؤَثِّرُ كَرَاهَةً فِي الصَّلاَةِ لاَ يُكْرَهُ إِبْقَاؤُهُ. وَقَدْ صَرَّحَ فِي الْفَتْحِ وَغَيْرِهِ بِأَنَّ الصُّورَةَ الصَّغِيرَةَ لاَ تُكْرَهُ فِي الْبَيْتِ، وَنُقِل أَنَّهُ كَانَ عَلَى خَاتَمِ أَبِي هُرَيْرَةَ ذُبَابَتَانِ.
وَفِي التَّتَارْخَانِيَّةَ: لَوْ كَانَ عَلَى خَاتَمِ فِضَّةٍ تَمَاثِيل لاَ يُكْرَهُ، وَلَيْسَتْ كَتَمَاثِيل فِي الثِّيَابِ؛ لأَِنَّهُ صَغِيرٌ. (1) وَقَدْ تَقَدَّمَ النَّقْل عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمُ اسْتَعْمَلُوا الصُّوَرَ فِي الْخَوَاتِمِ، فَكَانَ نَقْشُ خَاتَمِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَجُلاً
__________
(1) ابن عابدين 1 / 437، 5 / 230، والدر بحاشية الطحطاوي 1 / 274، وفتح القدير وحواشيه 1 / 362.(12/122)
مُتَقَلِّدًا سَيْفًا، وَكَانَ نَقْشُ خَاتَمِ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْكِيَّيْنِ، وَكَانَ عَلَى خَاتَمِ النُّعْمَانِ بْنِ مُقَرِّنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَيَّلٌ (1) .
وَلاَ يَخْتَلِفُ حُكْمُ الصُّوَرِ الصَّغِيرَةِ عَنِ الصُّوَرِ الْكَبِيرَةِ عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ. إِلاَّ أَنَّ الصُّوَرَ الَّتِي عَلَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ جَائِزَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لاَ لِصِغَرِهَا، وَلَكِنْ لأَِنَّهَا مُمْتَهَنَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ لاَ يَنْبَغِي لُبْسُ الْخَاتَمِ الَّذِي فِيهِ الصُّورَةُ. (2)
النَّظَرُ إِِلَى الصُّوَرِ:
58 - يَحْرُمُ التَّفَرُّجُ عَلَى الصُّوَرِ الْمُحَرَّمَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ. لَكِنْ إِِذَا كَانَتْ مُبَاحَةَ الاِسْتِعْمَال - كَمَا لَوْ كَانَتْ مَقْطُوعَةً أَوْ مُهَانَةً - فَلاَ يَحْرُمُ التَّفَرُّجُ عَلَيْهَا.
قَال الدَّرْدِيرُ فِي تَعْلِيل تَحْرِيمِ النَّظَرِ: لأَِنَّ النَّظَرَ إِِلَى الْحَرَامِ حَرَامٌ (3) .
وَلاَ يَحْرُمُ النَّظَرُ إِِلَى الصُّورَةِ الْمُحَرَّمَةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ صُوَرٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
وَنَقَل ابْنُ قُدَامَةَ أَنَّ النَّصَارَى صَنَعُوا لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ قَدِمَ الشَّامَ طَعَامًا فَدَعَوْهُ،
__________
(1) معاني الآثار للطحاوي 4 / 263، 266.
(2) الرملي على أسنى المطالب 2 / 266، ونهاية المحتاج 6 / 369، والآداب الشرعية 3 / 512.
(3) شرح مختصر خليل وحاشية الدسوقي 2 / 338، وحاشية القليوبي على شرح المنهاج 3 / 297.(12/123)
فَقَال: أَيْنَ هُوَ؟ قَال: فِي الْكَنِيسَةِ. فَأَبَى أَنْ يَذْهَبَ: وَقَال لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: امْضِ بِالنَّاسِ فَلْيَتَغَدَّوْا. فَذَهَبَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالنَّاسِ فَدَخَل الْكَنِيسَةَ، وَتَغَدَّى هُوَ وَالنَّاسُ، وَجَعَل عَلِيٌّ يَنْظُرُ إِِلَى الصُّوَرِ، وَقَال: مَا عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ لَوْ دَخَل فَأَكَل (1) .
وَلَمْ نَجِدْ نَصًّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي ذَلِكَ. لَكِنْ قَال ابْنُ عَابِدِينَ: هَل يَحْرُمُ النَّظَرُ بِشَهْوَةٍ إِِلَى الصُّورَةِ الْمَنْقُوشَةِ؟ مَحَل تَرَدُّدٍ، وَلَمْ أَرَهُ، فَلْيُرَاجَعْ.
فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ مَعَ عَدَمِ الشَّهْوَةِ لاَ يَحْرُمُ.
عَلَى أَنَّهُ قَدْ عُلِمَ مِنْ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ دُونَ سَائِرِ الْمَذَاهِبِ: أَنَّ الرَّجُل إِِذَا نَظَرَ إِِلَى فَرْجِ امْرَأَةٍ بِشَهْوَةٍ، فَإِِنَّهَا تَنْشَأُ بِذَلِكَ حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ؛ لَكِنْ لَوْ نَظَرَ إِِلَى صُورَةِ الْفَرْجِ فِي الْمِرْآةِ فَلاَ تَنْشَأُ تِلْكَ الْحُرْمَةُ؛ لأَِنَّهُ يَكُونُ قَدْ رَأَى عَكْسَهُ لاَ عَيْنَهُ. فَفِي النَّظَرِ إِِلَى الصُّورَةِ الْمَنْقُوشَةِ لاَ تَنْشَأُ حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ مِنْ بَابٍ أَوْلَى. (2)
59 - وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لاَ يَحْرُمُ النَّظَرُ - وَلَوْ بِشَهْوَةٍ - فِي الْمَاءِ أَوِ الْمِرْآةِ. قَالُوا: لأَِنَّ هَذَا مُجَرَّدُ خَيَال امْرَأَةٍ وَلَيْسَ امْرَأَةً. وَقَال الشَّيْخُ الْبَاجُورِيُّ: يَجُوزُ التَّفَرُّجُ عَلَى صُوَرِ حَيَوَانٍ غَيْرِ مَرْفُوعَةٍ. أَوْ عَلَى هَيْئَةٍ لاَ تَعِيشُ مَعَهَا، كَأَنْ كَانَتْ مَقْطُوعَةَ الرَّأْسِ أَوِ الْوَسَطِ، أَوْ مُخَرَّقَةَ
__________
(1) المغني لابن قدامة 7 / 7.
(2) حاشية ابن عابدين 5 / 238، 2 / 281.(12/123)
الْبُطُونِ. قَال: وَمِنْهُ يُعْلَمُ جَوَازُ التَّفَرُّجِ عَلَى خَيَال الظِّل الْمَعْرُوفِ؛ لأَِنَّهَا شُخُوصٌ مُخَرَّقَةُ الْبُطُونِ. (1)
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَال لِي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أُرِيتُكِ فِي الْمَنَامِ، يَجِيءُ بِكَ الْمَلَكُ فِي سَرَقَةٍ مِنْ حَرِيرٍ، فَقَال لِي: هَذِهِ امْرَأَتُكَ، فَكَشَفْتُ عَنْ وَجْهِكِ الثَّوْبَ، فَإِِذَا أَنْتِ هِيَ (2) قَال ابْنُ حَجَرٍ: عِنْدَ الآْجُرِّيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَائِشَةَ: لَقَدْ نَزَل جِبْرِيل بِصُورَتِي فِي رَاحَتِهِ حِينَ أَمَرَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتَزَوَّجَنِي فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ نَظَرُ الرَّجُل إِِلَى الْمَرْأَةِ الَّتِي يَحِل لَهُ النَّظَرُ إِلَيْهَا، مَا لَمْ تَكُنِ الصُّورَةُ مُحَرَّمَةً، عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ التَّفْصِيل وَالْخِلاَفِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الدُّخُول إِِلَى مَكَان فِيهِ صُوَرٌ:
60 - يَجُوزُ الدُّخُول إِِلَى مَكَان يَعْلَمُ الدَّاخِل إِلَيْهِ أَنَّ فِيهِ صُوَرًا مَنْصُوبَةً عَلَى وَضْعٍ مُحَرَّمٍ، وَلَوْ كَانَ يَعْلَمُ بِذَلِكَ قَبْل الدُّخُول، وَلَوْ دَخَل لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ.
هَذَا كُلُّهُ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ. قَال أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْفَضْل عَنْهُ، لِمَنْ سَأَلَهُ قَائِلاً: إِنْ لَمْ يَرَ الصُّوَرَ إِلاَّ
__________
(1) القليوبي على شرح المنهاج 3 / 208، وحاشية الباجوري على ابن القاسم 2 / 99، 131.
(2) حديث: " أريتك في المنام يجيء بك الملك. . . " أخرجه البخاري (الفتح 9 / 180 - ط السلفية) .(12/124)
عِنْدَ وَضْعِ الْخِوَانِ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ. أَيَخْرُجُ؟ قَال: لاَ تُضَيِّقْ عَلَيْنَا. إِِذَا رَأَى الصُّوَرَ وَبَّخَهُمْ وَنَهَاهُمْ. يَعْنِي: وَلاَ يَخْرُجُ. قَال الْمِرْدَاوِيُّ فِي تَصْحِيحِ الْفُرُوعِ: هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ قَوْلَيْنِ عِنْدَهُمْ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلاَمِ الإِِْمَامِ أَحْمَدَ. وَقَطَعَ بِهِ فِي الْمُغْنِي، قَال: لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَل الْكَعْبَةَ فَرَأَى فِيهَا صُورَةَ إِبْرَاهِيمَ وَإِِسْمَاعِيل يَسْتَقْسِمَانِ بِالأَْزْلاَمِ، فَقَال: قَاتَلَهُمُ اللَّهُ، لَقَدْ عَلِمُوا أَنَّهُمَا لَمْ يَسْتَقْسِمَا بِهَا قَطُّ (1) قَالُوا: وَلأَِنَّهُ كَانَ فِي شُرُوطِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى أَهْل الذِّمَّةِ أَنْ يُوَسِّعُوا أَبْوَابَ كَنَائِسِهِمْ لِلْمُسْلِمِينَ، لِيَدْخُلُوهَا لِلْمَبِيتِ بِهَا، وَلِلْمَارَّةِ بِدَوَابِّهِمْ. وَذَكَرُوا قِصَّةَ عَلِيٍّ فِي دُخُولِهَا بِالْمُسْلِمِينَ وَنَظَرِهِ إِِلَى الصُّورَةِ كَمَا تَقَدَّمَ. قَالُوا: وَلاَ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ مَا وَرَدَ أَنَّ الْمَلاَئِكَةَ لاَ تَدْخُل بَيْتًا فِيهِ صُورَةٌ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ لاَ يُوجِبُ عَلَيْنَا تَحْرِيمَ دُخُولِهِ، كَمَا لاَ يُوجِبُ عَلَيْنَا الاِمْتِنَاعَ مِنْ دُخُول بَيْتٍ فِيهِ كَلْبٌ أَوْ جُنُبٌ أَوْ حَائِضٌ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ وَرَدَ أَنَّ الْمَلاَئِكَةَ لاَ تَدْخُلُهُ. (2)
__________
(1) حديث: " دخل الكعبة فرأى فيها صورة إبراهيم. . . " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 468 - ط السلفية) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. وروي الطيالسي من حديث أسامة بن زيد: " دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكعبة فرأى صورا، فدعا بماء فأتيته به فضرب به الصورة "، وصححه ابن حجر في الفتح (3 / 468 - ط السلفية) .
(2) المغني 7 / 8، والإنصاف 8 / 336، والفروع وتصحيحه 5 / 307.(12/124)
61 - وَمِثْل هَذَا مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ فِي الصُّوَرِ الْمُجَسَّمَةِ الَّتِي لَيْسَتْ عَلَى وَضْعٍ مُحَرَّمٍ عِنْدَهُمْ، أَوْ غَيْرِ الْمُجَسَّمَةِ. أَمَّا الْمُحَرَّمَةُ فَإِِنَّهَا تَمْنَعُ وُجُوبَ إِجَابَةِ الدَّعْوَةِ عَلَى مَا يَأْتِي. وَلَمْ نَجِدْ فِي كَلاَمِهِمْ مَا يُبَيِّنُ حُكْمَ الدُّخُول إِِلَى مَكَان هِيَ فِيهِ.
62 - وَاخْتَلَفَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ فِي ذَلِكَ، وَالرَّاجِحُ عِنْدَهُمْ - وَهُوَ الْقَوْل الْمَرْجُوحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - أَنَّهُ يَحْرُمُ الدُّخُول إِِلَى مَكَان فِيهِ صُوَرٌ مَنْصُوبَةٌ عَلَى وَضْعٍ مُحَرَّمٍ. قَالُوا: لأَِنَّ الْمَلاَئِكَةَ لاَ تَدْخُل بَيْتًا فِيهِ صُورَةٌ. قَال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: إِنْ رَأَى صُوَرًا فِي الْمَوْضِعِ ذَوَاتَ أَرْوَاحٍ لَمْ يَدْخُل الْمَنْزِل الَّذِي فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرُ إِنْ كَانَتْ مَنْصُوبَةً لاَ تُوطَأُ، فَإِِنْ كَانَتْ تُوطَأُ فَلاَ بَأْسَ أَنْ يَدْخُلَهُ. وَالْقَوْل الثَّانِي لِلشَّافِعِيَّةِ: عَدَمُ تَحْرِيمِ الدُّخُول، بَل يُكْرَهُ. وَهُوَ قَوْل صَاحِبِ التَّقْرِيبِ وَالصَّيْدَلاَنِيِّ، وَالإِِْمَامِ، وَالْغَزَالِيِّ فِي الْوَسِيطِ، وَالإِِْسْنَوِيِّ.
قَالُوا: وَهَذَا إِنْ كَانَتِ الصُّوَرُ فِي مَحَل الْجُلُوسِ، فَإِِنْ كَانَتْ فِي الْمَمَرِّ أَوْ خَارِجَ بَابِ الْجُلُوسِ لاَ يُكْرَهُ الدُّخُول؛ لأَِنَّهَا تَكُونُ كَالْخَارِجَةِ مِنَ الْمَنْزِل. وَقِيل: لأَِنَّهَا فِي الْمَمَرِّ مُمْتَهَنَةٌ. (1)
__________
(1) الأم للشافعي 6 / 182 مطبعة الكليات الأزهرية، وتحفة المحتاج 7 / 433، وأسنى المطالب 3 / 226.(12/125)
إِجَابَةُ الدَّعْوَةِ إِِلَى مَكَانٍ فِيهِ صُوَرٌ:
63 - إِجَابَةُ الدَّعْوَةِ إِِلَى الْوَلِيمَةِ - وَهِيَ طَعَامُ الْعُرْسِ - وَاجِبَةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، لِحَدِيثِ مَنْ لَمْ يُجِبِ الدَّعْوَةَ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ (1) وَقِيل هِيَ: سُنَّةٌ. وَإِِجَابَةُ الدَّعْوَةِ لِغَيْرِهَا مُسْتَحَبَّةٌ.
وَفِي جَمِيعِ الأَْحْوَال إِِذَا كَانَ فِي الْمَكَانِ صُوَرٌ عَلَى وَضْعٍ مُحَرَّمٍ - وَمِثْلُهَا أَيُّ مُنْكَرٍ ظَاهِرٍ - وَعَلِمَ بِذَلِكَ الْمَدْعُوُّ قَبْل مَجِيئِهِ، فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الإِِْجَابَةَ لاَ تَكُونُ وَاجِبَةً؛ لأَِنَّ الدَّاعِيَ يَكُونُ قَدْ أَسْقَطَ حُرْمَةَ نَفْسِهِ بِارْتِكَابِهِ الْمُنْكَرَ، فَتُتْرَكُ الإِِْجَابَةُ عُقُوبَةً لَهُ وَزَجْرًا عَنْ فِعْلِهِ. وَقَال الْبَعْضُ - كَالشَّافِعِيَّةِ -: تَحْرُمُ الإِِْجَابَةُ حِينَئِذٍ.
ثُمَّ قِيل: إِنَّهُ إِِذَا عَلِمَ أَنَّهَا بِحُضُورِهِ تُزَال، أَوْ يُمْكِنُهُ إِزَالَتُهَا، فَيَجِبُ الْحُضُورُ لِذَلِكَ. (2)
وَفِي الْمَسْأَلَةِ اخْتِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ تَحْتَ عِنْوَانِ (دَعْوَةٌ)
مَا يُصْنَعُ بِالصُّورَةِ الْمُحَرَّمَةِ إِِذَا كَانَتْ فِي شَيْءٍ يُنْتَفَعُ بِهِ:
64 - يَنْبَغِي إِخْرَاجُ الصُّورَةِ عَنْ وَضْعِهَا الْمُحَرَّمِ إِِلَى وَضْعٍ تَخْرُجُ فِيهِ عَنِ الْحُرْمَةِ، وَلاَ يَلْزَمُ إِتْلاَفُهَا
__________
(1) حديث: " من لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله " أخرجه مسلم (2 / 1055 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) الدر وحاشية ابن عابدين 5 / 221، والخرشي على خليل وحاشيته 3 / 3، وأسنى المطالب 3 / 225، والمغني 7 / 8، والإنصاف 8 / 336، وكشاف القناع 5 / 170.(12/125)
بِالْكُلِّيَّةِ، بَل يَكْفِي حَطُّهَا إِنْ كَانَتْ مَنْصُوبَةً. فَإِِنْ كَانَ لاَ بُدَّ مِنْ بَقَائِهَا فِي مَكَانِهَا، فَيَكْفِي قَطْعُ الرَّأْسِ عَنِ الْبَدَنِ، أَوْ خَرْقُ الصَّدْرِ أَوِ الْبَطْنِ، أَوْ حَكُّ الْوَجْهِ مِنَ الْجِدَارِ، أَوْ مَحْوُهُ أَوْ طَمْسُهُ بِطِلاَءٍ يُذْهِبُ مَعَالِمَهُ، أَوْ يَغْسِل الصُّورَةَ إِنْ كَانَتْ مِمَّا يُمْكِنُ غَسْلُهُ. وَإِِنْ كَانَتْ فِي ثَوْبٍ مُعَلَّقٍ أَوْ سَتْرٍ مَنْصُوبٍ، فَيَكْفِي أَنْ يَنْسِجَ عَلَيْهَا مَا يُغَطِّي رَأْسَهَا. قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَلَوْ أَنَّهُ قَطَعَ الرَّأْسَ عَنِ الْجَسَدِ بِخَيْطٍ - مَعَ بَقَاءِ الرَّأْسِ عَلَى حَالِهِ - فَلاَ يَنْفِي الْكَرَاهَةَ؛ لأَِنَّ مِنَ الطُّيُورِ مَا هُوَ مُطَوَّقٌ، فَلاَ يَتَحَقَّقُ الْقَطْعُ بِذَلِكَ. (1)
65 - وَالدَّلِيل لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَهُ إِِلَى الْمَدِينَةِ وَأَمَرَهُ أَنْ يُسَوِّيَ كُل قَبْرٍ، وَيَكْسِرَ كُل صَنَمٍ، وَيَطْمِسَ كُل صُورَةٍ. (2)
وَفِي رِوَايَاتِ مُسْنَدِ أَحْمَدَ لِلْحَدِيثِ وَرَدَتِ الْعِبَارَاتُ الآْتِيَةُ: أَنْ يُلَطِّخَ الصُّورَةَ، أَوْ أَنْ يُلَطِّخَهَا، أَوْ يَنْحِتَهَا، أَوْ يَضَعَهَا، وَرِوَايَةُ الْوَضْعِ صَحِيحَةٌ. (3) وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الرِّوَايَاتِ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 436، وكشاف القناع 1 / 280 و 5 / 170، 171، والمغني 7 / 7، 10، وفتح الباري 10 / 392، وأسنى المطالب 3 / 226، والطحطاوي على الدر 1 / 274.
(2) الحديث تقدم تخريجه ف / 24.
(3) مسند أحمد، بتحقيق أحمد شاكر 1238، والروايات الأخرى ح 657، 658، 683، 741، 881، 889، 1064، 1176، 1177، 1283.(12/126)
كَسْرُ الصُّورَةِ أَوْ إِتْلاَفُهَا كَمَا نَصَّ عَلَى كَسْرِ الأَْصْنَامِ. وَمِنَ الدَّلِيل أَيْضًا حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي شَأْنِ السِّتْرِ الَّذِي فِيهِ الصُّوَرُ، وَفِيهِ أَنَّهُ قَال: أَخِّرِيهِ عَنِّي، وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ هَتَكَهُ بِيَدِهِ، وَفِي أُخْرَى أَنَّهُ أَمَرَ بِجَعْلِهِ وَسَائِدَ.
الصُّوَرُ وَالْمُصَلِّي:
66 - اتَّفَقَتْ كَلِمَةُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ مَنْ صَلَّى وَفِي قِبْلَتِهِ صُورَةُ حَيَوَانٍ مُحَرَّمَةٌ فَقَدْ فَعَل مَكْرُوهًا؛ لأَِنَّهُ يُشْبِهُ سُجُودَ الْكُفَّارِ لأَِصْنَامِهِمْ، وَإِِنْ لَمْ يَقْصِدِ التَّشَبُّهَ. أَمَّا إِنْ كَانَتِ الصُّورَةُ فِي غَيْرِ الْقِبْلَةِ: كَأَنْ كَانَتْ فِي الْبِسَاطِ، أَوْ عَلَى جَانِبِ الْمُصَلِّي فِي الْجِدَارِ، أَوْ خَلْفَهُ، أَوْ فَوْقَ رَأْسِهِ فِي السَّقْفِ، فَقَدِ اخْتَلَفَتْ كَلِمَتُهُمْ فِي ذَلِكَ.
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ - كَمَا فِي الدُّرِّ وَحَاشِيَةِ الطَّحْطَاوِيِّ - يُكْرَهُ لِلْمُصَلِّي لُبْسُ ثَوْبٍ فِيهِ تَمَاثِيل ذِي رُوحٍ، وَأَنْ يَكُونَ فَوْقَ رَأْسِهِ، أَوْ بَيْنَ يَدَيْهِ، أَوْ بِحِذَائِهِ يَمْنَةً أَوْ يَسْرَةً، أَوْ مَحَل سُجُودِهِ تِمْثَالٌ. وَاخْتُلِفَ فِيمَا إِِذَا كَانَ التِّمْثَال خَلْفَهُ. وَالأَْظْهَرُ: الْكَرَاهَةُ. وَلاَ يُكْرَهُ لَوْ كَانَتْ تَحْتَ قَدَمَيْهِ أَوْ مَحَل جُلُوسِهِ إِنْ كَانَ لاَ يَسْجُدُ عَلَيْهَا، أَوْ فِي يَدِهِ، أَوْ كَانَتْ مُسْتَتِرَةً بِكِيسٍ أَوْ صُرَّةٍ أَوْ ثَوْبٍ، أَوْ كَانَتْ صَغِيرَةً؛ لأَِنَّ الصَّغِيرَةَ لاَ تُعْبَدُ، فَلَيْسَ لَهَا حُكْمُ الْوَثَنِ. (1)
__________
(1) الدر والطحطاوي 1 / 274، وشرح منية المصلي ص 359، وابن عابدين 1 / 436، 437، وفتح القدير 1 / 362.(12/126)
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ - كَمَا فِي أَسْنَى الْمَطَالِبِ - عَلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ لِلْمُصَلِّي أَنْ يَلْبَسَ ثَوْبًا فِيهِ تَصْوِيرٌ، وَأَنْ يُصَلِّيَ إِلَيْهِ أَوْ عَلَيْهِ. (1)
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ تُكْرَهُ الصَّلاَةُ إِِلَى صُورَةٍ مَنْصُوبَةٍ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. قَال الْبُهُوتِيُّ: وَظَاهِرُهُ وَلَوْ كَانَتِ الصُّورَةُ صَغِيرَةً لاَ تَبْدُو لِلنَّاظِرِ إِلَيْهَا، وَلاَ تُكْرَهُ إِِلَى غَيْرِ مَنْصُوبَةٍ، وَلاَ يُكْرَهُ سُجُودٌ وَلَوْ عَلَى صُورَةٍ، وَلاَ صُورَةَ خَلْفَهُ فِي الْبَيْتِ، وَلاَ فَوْقَ رَأْسِهِ فِي السَّقْفِ أَوْ عَنْ أَحَدِ جَانِبَيْهِ. وَأَمَّا السُّجُودُ عَلَى الصُّورَةِ فَيُكْرَهُ عِنْدَ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ يَعْنِي ابْنَ تَيْمِيَّةَ، وَقَال فِي الْفُرُوعِ: لاَ يُكْرَهُ، لأَِنَّهُ لاَ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ صَلَّى إِلَيْهَا. وَيُكْرَهُ حَمْلُهُ فَصًّا فِيهِ صُورَةٌ أَوْ حَمْلُهُ ثَوْبًا وَنَحْوَهُ كَدِينَارٍ أَوْ دِرْهَمٍ فِيهِ صُورَةٌ. (2)
وَلَمْ نَجِدْ لِلْمَالِكِيَّةِ تَعَرُّضًا لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، إِلاَّ أَنَّهُمْ ذَكَرُوا تَزْوِيقَ قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ أَوْ أَيِّ جُزْءٍ مِنْهُ كَمَا يَأْتِي بَعْدَ هَذَا.
الصُّوَرُ فِي الْكَعْبَةِ وَالْمَسَاجِدِ وَأَمَاكِنِ الْعِبَادَةِ:
67 - يَنْبَغِي تَنْزِيهُ أَمَاكِنِ الْعِبَادَةِ عَنْ وُجُودِ الصُّوَرِ فِيهَا، لِئَلاَّ يَئُول الأَْمْرُ إِِلَى عِبَادَتِهَا، كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْل ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ أَصْل عِبَادَةِ قَوْمِ نُوحٍ لأَِصْنَامِهِمْ، أَنَّهُمْ كَانُوا رِجَالاً صَالِحِينَ، فَلَمَّا
__________
(1) أسنى المطالب 1 / 179.
(2) كشاف القناع 1 / 370، وانظر الإنصاف 1 / 474.(12/127)
مَاتُوا صَوَّرُوهُمْ ثُمَّ عَبَدُوهُمْ. وَأَيْضًا فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ يَقُول بِكَرَاهَةِ الصَّلاَةِ مَعَ وُجُودِ الصُّورَةِ، وَلَوْ كَانَتْ إِِلَى جَانِبِ الْمُصَلِّي أَوْ خَلْفَهُ أَوْ فِي مَكَانِ سُجُودِهِ. وَالْمَسَاجِدُ تُجَنَّبُ الْمَكْرُوهَاتِ كَمَا تُجَنَّبُ الْمُحَرَّمَاتِ.
68 - وَقَدْ وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَل الْكَعْبَةَ فَوَجَدَ فِيهَا صُورَةَ إِبْرَاهِيمَ وَصُورَةَ مَرْيَمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ فَقَال: أَمَّا هُمْ فَقَدْ سَمِعُوا أَنَّ الْمَلاَئِكَةَ لاَ تَدْخُل بَيْتًا فِيهِ صُورَةٌ، هَذَا إِبْرَاهِيمُ مُصَوَّرٌ فَمَا لَهُ يَسْتَقْسِمُ وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ لَمَّا رَأَى الصُّوَرَ فِي الْبَيْتِ لَمْ يَدْخُل حَتَّى أَمَرَ بِهَا فَمُحِيَتْ، وَرَأَى إِبْرَاهِيمَ وَإِِسْمَاعِيل عَلَيْهِمَا السَّلَامُ بِأَيْدِيهِمَا الأَْزْلاَمُ. فَقَال: قَاتَلَهُمُ اللَّهُ، وَاللَّهِ إِنِ اسْتَقْسَمَا بِالأَْزْلاَمِ قَطُّ. (1)
وَوَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ أَمَرَ بِالصُّوَرِ كُلِّهَا فَمُحِيَتْ، فَلَمْ يَدْخُل الْكَعْبَةَ وَفِيهَا مِنَ الصُّوَرِ شَيْءٌ. (2)
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا اشْتَكَى ذَكَرَ بَعْضُ نِسَائِهِ كَنِيسَةً رَأَيْنَهَا بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ يُقَال لَهَا مَارِيَةَ، وَكَانَتْ
__________
(1) حديث ابن عباس في دخوله الكعبة. أخرج الروايتين البخاري (الفتح 6 / 387 - ط السلفية) .
(2) حديث: " أمر بالصور. . . " أورده الأزرقي في أخبار مكة (11 / 113) نشر مكتبة خياط من طرق منطقة يقوي بعضها بعضا.(12/127)
أُمُّ سَلَمَةَ وَأُمُّ حَبِيبَةَ أَتَتَا أَرْضَ الْحَبَشَةِ، فَذَكَرَتَا مِنْ حُسْنِهَا وَتَصَاوِيرَ فِيهَا، فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَال: أُولَئِكَ إِِذَا مَاتَ فِيهِمُ الرَّجُل الصَّالِحُ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، ثُمَّ صَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ، أُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ (1) فَهَذَا يُفِيدُ تَحْرِيمَ الصُّوَرِ فِي الْمَسَاجِدِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الصُّوَرُ فِي الْكَنَائِسِ وَالْمَعَابِدِ غَيْرِ الإِِْسْلاَمِيَّةِ:
69 - الْكَنَائِسُ وَالْمَعَابِدُ الَّتِي أُقِرَّتْ فِي بِلاَدِ الإِِْسْلاَمِ بِالصُّلْحِ لاَ يُتَعَرَّضُ لِمَا فِيهَا مِنَ الصُّوَرِ مَا دَامَتْ فِي الدَّاخِل.
وَلاَ يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ دُخُول الْمُسْلِمِ الْكَنِيسَةَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَتَقَدَّمَ مَا نَقَلَهُ صَاحِبُ الْمُغْنِي أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دَخَل الْكَنِيسَةَ بِالْمُسْلِمِينَ، وَأَخَذَ يَتَفَرَّجُ عَلَى الصُّوَرِ. وَأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَخَذَ عَلَى أَهْل الذِّمَّةِ أَنْ يُوَسِّعُوا أَبْوَابَ كَنَائِسِهِمْ، لِيَدْخُلَهَا الْمُسْلِمُونَ وَالْمَارَّةُ.
وَلِذَا قَال الْحَنَابِلَةُ: لِلْمُسْلِمِ دُخُول الْكَنِيسَةِ وَالْبِيَعَةِ، وَالصَّلاَةُ فِيهِمَا مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ.
وَفِي قَوْلٍ آخَرَ لِلْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْل الْحَنَفِيَّةِ: يُكْرَهُ دُخُولُهَا لأَِنَّهَا مَأْوَى الشَّيَاطِينِ.
__________
(1) حديث: " أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح. . . " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 524 - ط السلفية) ومسلم (1 / 376 - ط الحلبي) .(12/128)
وَقَال أَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ: يَحْرُمُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَدْخُل الْكَنِيسَةَ الَّتِي فِيهَا صُوَرٌ مُعَلَّقَةٌ. (1)
رَابِعًا: أَحْكَامُ الصُّوَرِ:
أ - الصُّوَرُ وَعُقُودُ التَّعَامُل:
70 - الصُّوَرُ الَّتِي صِنَاعَتُهَا حَلاَلٌ - كَالصُّوَرِ الْمُسَطَّحَةِ مُطْلَقًا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالصُّوَرِ الْمَقْطُوعَةِ، وَلُعَبِ الأَْطْفَال، وَالصُّوَرِ مِنَ الْحَلْوَى، وَمَا يَسْرُعُ إِلَيْهِ الْفَسَادُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ - عَلَى التَّفْصِيل وَالْخِلاَفِ الَّذِي تَقَدَّمَ - يَصِحُّ شِرَاؤُهَا وَبَيْعُهَا وَالأَْمْرُ بِعَمَلِهَا وَالإِِْجَارَةُ عَلَى صُنْعِهَا. وَثَمَنُهَا حَلاَلٌ وَالأُْجْرَةُ الْمَأْخُوذَةُ عَلَى صِنَاعَتِهَا حَلاَلٌ. وَكَذَلِكَ سَائِرُ عُقُودِ التَّعَامُل الَّتِي تَجْرِي عَلَيْهَا. وَيَجُوزُ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَشْتَرِيَ لِمَحْجُورَتِهِ اللُّعَبَ مِنْ مَالِهَا، لِمَا فِيهَا مِنْ مَصْلَحَةِ التَّمْرِينِ كَمَا تَقَدَّمَ.
أَمَّا الصُّوَرُ الْمُحَرَّمَةُ صِنَاعَتُهَا، فَإِِنَّهَا عَلَى الْقَاعِدَةِ الْعَامَّةِ فِي الْمُحَرَّمَاتِ لاَ تَحِل الإِِْجَارَةُ عَلَى صُنْعِهَا، وَلاَ تَحِل الأُْجْرَةُ وَلاَ الأَْمْرُ بِعَمَلِهَا، وَلاَ الإِِْعَانَةُ عَلَى ذَلِكَ. قَال الْقَلْيُوبِيُّ: وَيُسْقِطُ الْمُرُوءَةَ حِرْفَةٌ مُحَرَّمَةٌ كَالْمُصَوِّرِ. وَشَذَّ الْمَاوَرْدِيُّ فَجَعَل لِلْمُصَوِّرِ أُجْرَةَ الْمِثْل كَمَا فِي تُحْفَةِ الْمُحْتَاجِ.
__________
(1) المغني 7 / 8، والإنصاف 1 / 496، وابن عابدين 1 / 254، والشيخ عميرة البرلسي على شرح المنهاج 4 / 235.(12/128)
71 - وَأَمَّا مَا يَحْرُمُ اقْتِنَاؤُهُ وَاسْتِعْمَالُهُ، فَلاَ يَصِحُّ شِرَاؤُهُ وَلاَ بَيْعُهُ وَلاَ هِبَتُهُ وَلاَ إِيدَاعُهُ وَلاَ رَهْنُهُ، وَلاَ الإِِْجَارَةُ عَلَى حِفْظِهِ، وَلاَ وَقْفُهُ، وَلاَ الْوَصِيَّةُ بِهِ كَسَائِرِ الْمُحَرَّمَاتِ. وَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالأَْصْنَامِ (1) . وَمَنْ أَخَذَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ثَمَنًا أَوْ أُجْرَةً فَهُوَ كَسْبٌ خَبِيثٌ يَلْزَمُهُ التَّصَدُّقُ بِهِ. قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: وَلاَ يُعَادُ إِِلَى صَاحِبِهِ، لأَِنَّهُ قَدِ اسْتَوْفَى الْعِوَضَ، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الإِِْمَامُ أَحْمَدُ فِي مِثْل حَامِل الْخَمْرِ، وَنَصَّ عَلَيْهِ أَصْحَابُ مَالِكٍ وَغَيْرُهُمْ.
72 - وَهَذَا إِنْ كَانَتِ الصُّوَرُ الْمُحَرَّمَةُ فِيمَا لاَ مَنْفَعَةَ فِيهِ إِلاَّ مَا فِيهِ مِنَ الصُّورَةِ الْمُحَرَّمَةِ، أَمَّا لَوْ كَانَتْ تَصْلُحُ لِمَنْفَعَةٍ بَعْدَ شَيْءٍ مِنَ التَّغْيِيرِ، فَظَاهِرُ كَلاَمِ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ مَنْعُهُ.
وَقَال الرَّمْلِيُّ الشَّافِعِيُّ: مُقْتَضَى كَلاَمِ الإِِْمَامِ فِي بَابِ الْوَصِيَّةِ صِحَّةُ الْبَيْعِ فِي هَذِهِ الْحَال، وَيَنْبَغِي أَنْ لاَ يَكُونَ فِيهِ خِلاَفٌ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا نَقَلَهُ فِي الرَّوْضَةِ عَنِ الْمُتَوَلِّي - وَلَمْ يُخَالِفْهُ - فِي جَوَازِ بَيْعِ النَّرْدِ إِِذَا صَلُحَ لِبَيَادِقِ الشِّطْرَنْجِ، وَإِِلاَّ فَلاَ. وَمِثْلُهُ مَا فِي الدُّرِّ وَحَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ: اشْتَرَى ثَوْرًا أَوْ
__________
(1) حديث: " إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 424 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1207 - ط الحلبي) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.(12/129)
فَرَسًا مِنْ خَزَفٍ لأَِجْل اسْتِئْنَاسِ الصَّبِيِّ، لاَ يَصِحُّ، وَلاَ قِيمَةَ لَهُ. وَقِيل بِخِلاَفِهِ يَصِحُّ وَيَضْمَنُ مُتْلِفُهُ، فَلَوْ كَانَتْ مِنْ خَشَبٍ أَوْ صُفْرٍ جَازَ اتِّفَاقًا فِيمَا يَظْهَرُ، لإِِِمْكَانِ الاِنْتِفَاعِ بِهِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ يَجُوزُ بَيْعُ اللُّعْبَةِ، وَأَنْ يَلْعَبَ بِهَا الصِّبْيَانُ. (1)
الضَّمَانُ فِي إِتْلاَفِ الصُّوَرِ وَآلاَتِ التَّصْوِيرِ:
73 - الَّذِينَ قَالُوا بِتَحْرِيمِ نَوْعٍ مِنَ الصُّوَرِ مُسْتَعْمَلَةً عَلَى وَضْعٍ مُعَيَّنٍ، قَالُوا: يَنْبَغِي إِخْرَاجُ الصُّورَةِ إِِلَى وَضْعٍ لاَ تَكُونُ فِيهِ مُحَرَّمَةً. وَقَدْ بَوَّبَ الْبُخَارِيُّ لِنَقْضِ الصُّوَرِ، لَكِنْ لَمْ يَذْكُرْ فِيهَا حَدِيثًا يَنُصُّ عَلَى ذَلِكَ، بَل ذَكَرَ حَدِيثًا آخَرَ هُوَ قَوْل عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ يَتْرُكُ فِي بَيْتِهِ شَيْئًا فِيهِ تَصَالِيبُ إِلاَّ نَقَضَهُ. وَفِي رِوَايَةٍ: إِلاَّ قَضَبَهُ (2) وَلَعَلَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ قِيَاسَ
__________
(1) شرح الروض وحاشية الرملي 2 / 10 و 3 / 35، 36، 37، وشرح المنهاج وحاشية القليوبي 2 / 158 و 4 / 321، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 338 و 3 / 10، وكشاف القناع 1 / 280، والآداب الشرعية 3 / 524، والفتاوى الكبرى لابن تيمية 22 / 141، 142، والطحطاوي على مراقي الفلاح ص 239، وابن عابدين على الدر المختار 4 / 214، وتحفة المحتاج 7 / 434.
(2) حديث: " كان لا يترك في بيته شيئا فيه تصاليب إلا نقضه " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 385 - ط السلفية) من حديث عائشة رضي الله عنها.(12/129)
نَقْضِ الصُّوَرِ الْمُحَرَّمَةِ عَلَى نَقْضِ الصُّلْبَانِ؛ لاِشْتِرَاكِهِمَا فِي أَنَّهُمَا عُبِدَا مِنْ دُونِ اللَّهِ. لَكِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي شَأْنِ السِّتْرِ الَّذِي عَلَيْهِ التَّصَاوِيرُ أَخِّرِيهِ عَنِّي وَفِي رِوَايَةٍ " أَنَّهُ هَتَكَهُ "، أَيْ نَزَعَهُ مِنْ مَكَانِهِ حَتَّى لَمْ يَعُدْ مَنْصُوبًا، وَفِي حَدِيثِ جِبْرِيل أَنَّهُ أَمَرَ بِصُنْعِ وِسَادَتَيْنِ مِنَ السِّتْرِ وَهَذَا يَعْنِي أَنَّهُ لاَ يُتْلِفُ مَا فِيهِ الصُّورَةُ إِنْ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَعْمَل عَلَى وَجْهٍ آخَرَ مُبَاحٍ.
لَكِنْ إِنْ كَانَتَ الصُّورَةُ الْمُحَرَّمَةُ لاَ تَزُول إِلاَّ بِالإِِْتْلاَفِ وَجَبَ الإِِْتْلاَفُ، وَذَلِكَ لاَ يُتَصَوَّرُ إِلاَّ نَادِرًا، كَالتِّمْثَال الْمُجَسَّمِ الْمُثَبَّتِ فِي جِدَارٍ أَوْ نَحْوِهِ الَّذِي إِِذَا أُزِيل مِنْ مَكَانِهِ أَوْ خُرِقَ صَدْرُهُ أَوْ بَطْنُهُ أَوْ قُطِعَ رَأْسُهُ يَتْلَفُ. وَهَذَا النَّوْعُ لاَ يَضْمَنُ مُتْلِفُهُ؛ لأَِنَّ الْمَعْصِيَةَ لاَ تَزُول إِلاَّ بِإِِتْلاَفِهِ.
أَمَّا مَنْ أَتْلَفَ الصُّورَةَ الَّتِي يُمْكِنُ الاِنْتِفَاعُ بِهَا عَلَى وَضْعٍ غَيْرِ مُحَرَّمٍ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَضْمَنَ مَا أَتْلَفَهُ خَالِيًا عَنْ تِلْكَ الصَّنْعَةِ الْمُحَرَّمَةِ عَلَى الأَْصْل فِي ضَمَانِ الْمُتْلَفَاتِ.
وَهَذَا مُقْتَضَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَظَاهِرُ كَلاَمِ الْمَالِكِيَّةِ.
وَقِيَاسُ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ يَجُوزُ الإِِْتْلاَفُ وَلاَ ضَمَانَ، لِسُقُوطِ حُرْمَةِ الشَّيْءِ بِمَا فِيهِ مِنَ الْمَنْفَعَةِ بِاسْتِعْمَالِهِ فِي الْمُحَرَّمِ، وَفِي رِوَايَةٍ:(12/130)
يَضْمَنُ (1) .
الْقَطْعُ فِي سَرِقَةِ الصُّوَرِ:
74 - لاَ قَطْعَ فِي سَرِقَةِ الصُّوَرِ الَّتِي لَيْسَ لِمَكْسُورِهَا قِيمَةٌ، أَوْ لَهُ قِيمَةٌ لاَ تَبْلُغُ نِصَابًا.
أَمَّا فِي غَيْرِ ذَلِكَ، فَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الْقَوْل الْمَرْجُوحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ عَلَيْهِ الْمَذْهَبُ: أَنَّهُ لاَ قَطْعَ فِي سَرِقَةِ آلَةِ اللَّهْوِ؛ لأَِنَّ صَلاَحِيَّتَهُ لِلَّهْوِ صَارَتْ شُبْهَةً مِنْ أَنَّ السَّارِقَ قَدْ يَقْصِدُ الإِِْنْكَارَ، وَأَنَّ سَرِقَتَهُ لِلشَّيْءِ لِتَأْوِيل الْكَسْرِ، فَمَنَعَ ذَلِكَ الْقَطْعَ. فَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَال عِنْدَهُمْ فِي الصُّوَرِ الْمُحَرَّمَةِ، وَلَوْ كَانَ مَكْسُورُهَا يَبْلُغُ نِصَابًا. قَال صَاحِبُ الْمُقْنِعِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: إِنْ سَرَقَ آنِيَةً فِيهَا الْخَمْرُ أَوْ صَلِيبًا أَوْ صَنَمَ ذَهَبٍ لَمْ يُقْطَعْ. قَال صَاحِبُ الإِِْنْصَافِ: هَذَا الْمَذْهَبُ وَعَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الأَْصْحَابِ. أَيْ لأَِنَّ الصَّنْعَةَ الْمُحَرَّمَةَ أُهْدِرَتْ بِسَبَبِهَا حُرْمَةُ الشَّيْءِ فَلَمْ يَعُدْ لِمَكْسُورِهِ حُرْمَةٌ تَسْتَحِقُّ أَنْ يَثْبُتَ بِسَبَبِهَا الْقَطْعُ. وَسَوَاءٌ قَصَدَ بِالسَّرِقَةِ الإِِْنْكَارَ أَمْ لَمْ يَقْصِدْهُ.
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وُجُوبُ الْقَطْعِ فِيمَا لَوْ كَانَ الْمَكْسُورُ يَبْلُغُ نِصَابًا.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِِلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَى
__________
(1) ابن عابدين 3 / 198، 199 و 4 / 214، والمغني 5 / 278، وشرح منتهى الإرادات 2 / 433: (ر: إتلاف) .(12/130)
الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ الْمَسْرُوقَةِ صُوَرٌ فَلاَ يَمْنَعُ ذَلِكَ وُجُوبَ الْقَطْعِ، قَال الْحَنَفِيَّةُ: لأَِنَّ النُّقُودَ إِنَّمَا تُعَدُّ لِلتَّمَوُّل فَلاَ يَثْبُتُ فِيهَا تَأْوِيلٌ. لَكِنْ فِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ التَّفْرِيقُ بَيْنَ أَنْ يَقْصِدَ إِنْكَارًا فَلاَ يُقْطَعُ، وَيُقْطَعُ إِنْ لَمْ يَقْصِدْهُ (1) . وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
__________
(1) ابن عابدين 3 / 199، والدسوقي على الشرح الكبير 4 / 336، والإنصاف 10 / 261.(12/131)
تَضْبِيبٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّضْبِيبُ وَالضَّبُّ فِي اللُّغَةِ: تَغْطِيَةُ الشَّيْءِ وَإِِدْخَال بَعْضِهِ فِي بَعْضٍ وَقِيل: هُوَ شِدَّةُ الْقَبْضِ عَلَى الشَّيْءِ، لِئَلاَّ يَنْفَلِتَ مِنَ الْيَدِ. وَيُقَال: ضَبَّبَ الْخَشَبَ بِالْحَدِيدِ أَوِ الصُّفْرِ: إِِذَا شَدَّهُ بِهِ، وَضَبَّبَ أَسْنَانَهُ شَدَّهَا بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ غَيْرِهِمَا.
وَالضَّبَّةُ: حَدِيدَةٌ عَرِيضَةٌ يُضَبَّبُ بِهَا الْبَابُ وَيُشَعَّبُ بِهَا الإِِْنَاءُ عِنْدَ التَّصَدُّعِ
وَالاِصْطِلاَحُ الشَّرْعِيُّ لِلتَّضْبِيبِ لاَ يَخْتَلِفُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ فِي شَيْءٍ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
2 - الْجَبْرُ: مِنْ مَعَانِيهِ أَنْ يُغْنَى الرَّجُل مِنْ فَقْرٍ، أَوْ يُصْلِحَ عَظْمَهُ مِنْ كَسْرٍ.
3 - الْوَصْل: مِنْ وَصَل الثَّوْبَ أَوْ j الْخُفَّ وَصْلَةً.
4 - التَّشْعِيبُ: وَهُوَ جَمْعُ الشَّيْءِ وَضَمُّ بَعْضِهِ إِِلَى بَعْضٍ، أَوْ تَفْرِيقُهُ، فَهُوَ مِنَ الأَْضْدَادِ (2) .
__________
(1) متن اللغة، والصحاح - مادة: " ضبب "، وحاشية ابن عابدين 5 / 219.
(2) مختار الصحاح: المواد: " جبر، وصل، وشعب ".(12/131)
5 - التَّطْعِيمُ: مَصْدَرُ طَعَّمَ، وَأَصْلُهُ طَعَّمَ، يُقَال: طَعَّمَ الْغُصْنَ أَوِ الْفَرْعَ: قَبْل الْوَصْل بِغُصْنٍ مِنْ غَيْرِ شَجَرِهِ وَطَعَّمَ كَذَا بِعُنْصُرِ كَذَا لِتَقْوِيَتِهِ أَوْ تَحْسِينِهِ، أَوِ اشْتِقَاقِ نَوْعٍ آخَرَ مِنْهُ. وَطَعَّمَ الْخَشَبَ بِالصَّدَفِ رَكَّبَهُ فِيهِ لِلزَّخْرَفَةِ وَالزِّينَةِ (1) .
وَعِنْدَ الْفُقَهَاءِ هُوَ: أَنْ يَحْفِرَ فِي إِنَاءٍ مِنْ خَشَبٍ أَوْ غَيْرِهِ حُفَرًا، وَيَضَعُ فِيهَا قِطَعًا مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ وَنَحْوِهِمَا عَلَى قَدْرِ الْحُفَرِ. فَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّضْبِيبِ وَالتَّطْعِيمِ: أَنَّ التَّضْبِيبَ يَكُونُ لِلإِِْصْلاَحِ، أَمَّا التَّطْعِيمُ فَلاَ يَكُونُ إِلاَّ بِالْحَفْرِ، وَهُوَ لِلزِّينَةِ غَالِبًا (2) .
6 - التَّمْوِيهُ: هُوَ الطِّلاَءُ بِمَاءِ الذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ وَنَحْوِهِمَا (3) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
7 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ التَّضْبِيبُ وَاسْتِعْمَال الْمُضَبَّبِ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ؛ لأَِنَّهُ تَابِعٌ لِلْمُبَاحِ، وَهُوَ بَاقِي الإِِْنَاءِ، فَأَشْبَهَ الْمُضَبَّبَ بِالْيَسِيرِ. وَلَكِنَّهُ مَكْرُوهٌ عِنْدَهُمْ. وَلَكِنْ عَلَيْهِ أَنْ يُجْتَنَبَ فِي النَّصْل وَالْقَبْضَةِ وَاللِّجَامِ مَوْضِعِ الْيَدِ.
__________
(1) لسان العرب، والمعجم الوسيط.
(2) كشاف القناع 1 / 52.
(3) لسان العرب والمصباح وابن عابدين 5 / 219، ونهاية المحتاج 1 / 91.(12/132)
وَفِي الشُّرْبِ مِنَ الإِِْنَاءِ الْمُضَبَّبِ يُتَّقَى مَسُّ الضَّبَّةِ بِالْفَمِ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: الْمُرَادُ بِالاِتِّقَاءِ: الاِتِّقَاءُ بِالْعُضْوِ الَّذِي يُقْصَدُ الاِسْتِعْمَال بِهِ، وَفِي ذَلِكَ خِلاَفٌ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ. يُنْظَرُ فِي الْمُطَوَّلاَتِ (1) .
وَسَيَأْتِي تَفْصِيل أَحْكَامِ التَّضْبِيبِ فِي مُصْطَلَحَيْ (ذَهَبٌ، فِضَّةٌ، آنِيَةٌ) .
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ: فَقَدْ ذَهَبُوا - فِي الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ - إِِلَى حُرْمَةِ ذَلِكَ كُلِّهِ، يَسْتَوِي عِنْدَهُمُ: الْفِضَّةُ وَالذَّهَبُ، وَالصَّغِيرَةُ وَالْكَبِيرَةُ، لِحَاجَةٍ أَوْ لِغَيْرِ حَاجَةٍ (2) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِِلَى أَنَّ تَضْبِيبَ الإِِْنَاءِ بِذَهَبٍ حَرَامٌ مُطْلَقًا، وَتَضْبِيبُهُ بِضَبَّةٍ كَبِيرَةٍ عُرْفًا مِنَ الْفِضَّةِ - لِغَيْرِ حَاجَةٍ بِأَنْ كَانَتْ لِزِينَةٍ - حَرَامٌ كَذَلِكَ. فَإِِنْ كَانَتِ الضَّبَّةُ الْفِضِّيَّةُ صَغِيرَةً لِحَاجَةِ الإِِْنَاءِ إِِلَى الإِِْصْلاَحِ لَمْ تُكْرَهْ، لِمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ أَنَّ قَدَحَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْكَسَرَ فَاتَّخَذَ مَكَانَ الشِّعَبِ سَلْسَلَةً مِنْ فِضَّةٍ (3) .
وَإِِنْ كَانَتِ الضَّبَّةُ فَوْقَ الْحَاجَةِ - وَهِيَ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 219.
(2) شرح الزرقاني 1 / 37، ومواهب الجليل 1 / 129، والدسوقي 1 / 64.
(3) حديث: " أن قدح النبي صلى الله عليه وسلم انكسر، فاتخذ مكان الشعب سلسلة من فضة ". أخرجه البخاري (الفتح 5 / 212 - ط السلفية) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.(12/132)
صَغِيرَةٌ، أَوْ كَبِيرَةٌ لِحَاجَةٍ - كُرِهَتْ فِي الأَْصَحِّ (1) . وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ أَتَمُّ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (ذَهَبٌ - فِضَّةٌ - آنِيَةٌ) .
__________
(1) أسنى المطالب 1 / 27، والمغني لابن قدامة 1 / 77.(12/133)
تَضْمِيرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّضْمِيرُ لُغَةً: مِنَ الضُّمْرِ بِسُكُونِ الْمِيمِ وَالضُّمُرُ (بِضَمِّهَا) بِمَعْنَى: الْهُزَال وَلَحَاقُ الْبَطْنِ (1) . وَهُوَ: أَنْ تُعْلَفَ الْخَيْل حَتَّى تَسْمَنَ وَتَقْوَى، ثُمَّ يُقَلَّل عَلَفُهَا، فَتُعْلَفُ بِقَدْرِ الْقُوتِ، وَتُدْخَل بَيْتًا وَتُغَّشَى بِالْجِلاَل حَتَّى تُحْمَى فَتَعْرَقُ، فَإِِذَا جَفَّ عَرَقُهَا، خَفَّ لَحْمُهَا، وَقَوِيَتْ عَلَى الْجَرْيِ (2) .
وَمُدَّةُ التَّضْمِيرِ عِنْدَ الْعَرَبِ أَرْبَعُونَ يَوْمًا، وَتُسَمَّى هَذِهِ الْمُدَّةُ، وَكَذَلِكَ الْمَوْضِعُ الَّذِي تُضَمَّرُ فِيهِ الْخَيْل مِضْمَارًا (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - السِّبَاقُ:
2 - السِّبَاقُ وَالْمُسَابَقَةُ بِمَعْنًى. يُقَال: سَابَقَهُ مُسَابَقَةً وَسِبَاقًا. وَالسِّبَاقُ مَأْخُوذٌ مِنَ السَّبْقِ
__________
(1) لسان العرب المحيط مادة: " ضمر ".
(2) عمدة القاري 6 / 610، 611، وفتح الباري لابن حجر 6 / 71، 72.
(3) الصحاح في اللغة، ولسان العرب المحيط.(12/133)
بِسُكُونِ الْبَاءِ، بِمَعْنَى: التَّقَدُّمُ فِي الْجَرْيِ وَفِي كُل شَيْءٍ وَأَمَّا السَّبَقُ بِالْفَتْحِ فَمَعْنَاهُ: الْجُعْل الَّذِي يُسَابَقُ عَلَيْهِ (1) .
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّضْمِيرِ: أَنَّ عَمَلِيَّةَ التَّضْمِيرِ تُتَّخَذُ فِي بَعْضِ الأَْحْيَانِ لأَِجْل إِحْرَازِ التَّقَدُّمِ فِي السِّبَاقِ.
حُكْمُهُ الإِِْجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
3 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِبَاحَةَ تَضْمِيرِ الْخَيْل مُطْلَقًا، وَاسْتِحْبَابَ تَضْمِيرِهَا إِِذَا كَانَتْ مُعَدَّةً لِلْغَزْوِ (2) .
وَوَرَدَ فِي هَذَا الْبَابِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا:
حَدِيثُ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا قَال: سَابَقَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْخَيْل الَّتِي قَدْ ضُمِّرَتْ فَأَرْسَلَهَا مِنَ الْحَفْيَاءِ، وَكَانَ أَمَدُهَا ثَنِيَّةَ الْوَدَاعِ. فَقُلْتُ لِمُوسَى بْنِ عُقْبَةَ: فَكَمْ كَانَ بَيْنَ ذَلِكَ؟ قَال سِتَّةُ أَمْيَالٍ أَوْ سَبْعَةٌ. وَسَابَقَ بَيْنَ الْخَيْل الَّتِي لَمْ تُضَمَّرْ، فَأَرْسَلَهَا مِنْ ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ، وَكَانَ أَمَدُهَا مَسْجِدَ بَنِي زُرَيْقٍ. قُلْتُ: فَكَمْ بَيْنَ ذَلِكَ؟ قَال: مِيلٌ أَوْ نَحْوُهُ. فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ مِمَّنْ
__________
(1) القليوبي وعميرة 4 / 264، ولسان العرب المحيط مادة: " ضمر ".
(2) القليوبي وعميرة 4 / 264، 265، والمغني 8 / 659، وعمدة القاري 6 / 610 و 611، وفتح الباري لابن حجر 6 / 71، 72، ونيل الأوطار 8 / 79، وسبل السلام 4 / 70.(12/134)
سَابَقَ فِيهَا. (1)
وَبِهَذَا الْحَدِيثِ وَنَحْوِهِ يَنْدَفِعُ قَوْل مَنْ قَال: إِنَّ تَضْمِيرَ الْخَيْل لاَ يَجُوزُ، لِمَا فِيهِ مِنْ مَشَقَّةِ سَوْقِهَا (2) .
وَأَمَّا اشْتِرَاطُ تَضْمِيرِ الْخَيْل لِلسَّبْقِ، وَجَوَازُ السِّبَاقِ بَيْنَ الْخَيْل الْمُضَمَّرَةِ وَغَيْرِ الْمُضَمَّرَةِ، وَالْمُغَايَرَةِ بَيْنَ غَايَةِ السِّبَاقِ لِلْخَيْل الْمُضَمَّرَةِ وَغَيْرِهَا، فَفِيهَا خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُرْجَعُ فِيهِ إِِلَى مُصْطَلَحِ (سِبَاقٌ) وَإِِلَى مَوَاطِنِهَا مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ (3) .
__________
(1) حديث: " سابق رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الخيل التي قد ضمرت. . . " أخرجه البخاري (الفتح 6 / 71 - ط السلفية) .
(2) نيل الأوطار 8 / 79.
(3) ابن عابدين 5 / 259، والقليوبي وعميرة 4 / 166، والمغني 6 / 659، وعمدة القاري 6 / 610، 611، وفتح الباري لابن حجر 6 / 71، 72، 73.(12/134)
تَطْبِيبٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - لِلتَّطْبِيبِ فِي اللُّغَةِ مَعَانٍ، مِنْهَا وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا: أَنَّهُ الْمُدَاوَاةُ.
يُقَال: طَبَّبَ فُلاَنٌ فُلاَنًا: أَيْ دَاوَاهُ. وَجَاءَ يَسْتَطِبُّ لِوَجَعِهِ: أَيْ يَسْتَوْصِفُ الأَْدْوِيَةَ أَيُّهَا يَصْلُحُ لِدَائِهِ.
وَالطِّبُّ: عِلاَجُ الْجِسْمِ وَالنَّفْسِ، وَرَجُلٌ طَبٌّ وَطَبِيبٌ: عَالِمٌ بِالطِّبِّ.
وَالطَّبُّ. وَالطُّبُّ: لُغَتَانِ فِي الطِّبِّ. وَتَطَبَّبَ لَهُ: سَأَل لَهُ الأَْطِبَّاءَ.
وَالطَّبِيبُ فِي الأَْصْل: الْحَاذِقُ بِالأُْمُورِ الْعَارِفُ بِهَا، وَبِهِ سُمِّيَ الطَّبِيبُ الَّذِي يُعَالِجُ الْمَرْضَى وَنَحْوَهُمْ (1)
وَلاَ يَخْرُجُ مَعْنَاهُ الاِصْطِلاَحِيُّ عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّدَاوِي:
2 - التَّدَاوِي: تَعَاطِي الدَّوَاءِ، وَمِنْهُ الْمُدَاوَاةُ أَيِ
__________
(1) الصحاح ولسان العرب، والمصباح المنير مادة: " طبب ".(12/135)
الْمُعَالَجَةُ: يُقَال: فُلاَنٌ يُدَاوَى: أَيْ يُعَالَجُ (1) .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّطْبِيبِ وَالتَّدَاوِي: أَنَّ التَّطْبِيبَ تَشْخِيصُ الدَّاءِ وَمُدَاوَاةُ الْمَرِيضِ، وَالتَّدَاوِي تَعَاطِي الدَّوَاءِ.
حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ:
3 - التَّطْبِيبُ تَعَلُّمًا مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ، فَيَجِبُ أَنْ يَتَوَفَّرَ فِي بِلاَدِ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَعْرِفُ أُصُول حِرْفَةِ الطِّبِّ، وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (احْتِرَافٌ) .
أَمَّا التَّطْبِيبُ مُزَاوَلَةً فَالأَْصْل فِيهِ الإِِْبَاحَةُ. وَقَدْ يَصِيرُ مَنْدُوبًا إِِذَا اقْتَرَنَ بِنِيَّةِ التَّأَسِّي بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَوْجِيهِهِ لِتَطْبِيبِ النَّاسِ، أَوْ نَوَى نَفْعَ الْمُسْلِمِينَ لِدُخُولِهِ فِي مِثْل قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} (2) وَحَدِيثُ: مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَنْفَعْهُ. (3)
إِلاَّ إِِذَا تَعَيَّنَ شَخْصٌ لِعَدَمِ وُجُودِ غَيْرِهِ أَوْ تَعَاقَدَ فَتَكُونُ مُزَاوَلَتُهُ وَاجِبَةً (4) .
وَيَدُل لِذَلِكَ مَا رَوَى رَجُلٌ مِنَ الأَْنْصَارِ قَال: عَادَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلاً بِهِ جُرْحٌ، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ادْعُوا لَهُ طَبِيبَ بَنِي فُلاَنٍ. قَال:
__________
(1) لسان العرب، والصحاح مادة: " دوي ".
(2) سورة المائدة / 32.
(3) حديث: " من استطاع منكم أن ينفع. . . . " أخرجه مسلم (3 / 1726 - ط الحلبي) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
(4) الموسوعة الفقهية بالكويت 2 / 72، والآداب الشرعية لابن مفلح 2 / 359 - 360.(12/135)
فَدَعَوْهُ فَجَاءَ، فَقَالُوا: يَا رَسُول اللَّهِ، وَيُغْنِي الدَّوَاءُ شَيْئًا؟ فَقَال: سُبْحَانَ اللَّهِ. وَهَل أَنْزَل اللَّهُ مِنْ دَاءٍ فِي الأَْرْضِ إِلاَّ جَعَل لَهُ شِفَاءً. (1)
وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الرُّقَى. فَجَاءَ آل عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، فَقَالُوا: يَا رَسُول اللَّهِ، إِنَّهُ كَانَتْ عِنْدَنَا رُقْيَةٌ نَرْقِي بِهَا مِنَ الْعَقْرَبِ، وَإِِنَّكَ نَهَيْتَ عَنِ الرُّقَى. قَال: فَعَرَضُوهَا عَلَيْهِ. فَقَال: مَا أَرَى بِهَا بَأْسًا، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَنْفَعْهُ. (2)
وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ بَأْسَ بِالرُّقَى مَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا شِرْكٌ. (3)
وَلِمَا ثَبَتَ مِنْ فِعْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ تَدَاوَى، فَقَدْ رَوَى الإِِْمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ أَنَّ عُرْوَةَ كَانَ يَقُول لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: يَا أُمَّتَاهُ، لاَ أَعْجَبُ مِنْ فَهْمِكِ. أَقُول: زَوْجَةُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ. وَلاَ أَعْجَبُ مِنْ عِلْمِكِ بِالشِّعْرِ وَأَيَّامِ النَّاسِ، أَقُول: ابْنَةُ أَبِي بَكْرٍ، وَكَانَ أَعْلَمَ النَّاسِ أَوْ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ. وَلَكِنْ أَعْجَبُ مِنْ عِلْمِكِ بِالطِّبِّ، كَيْفَ هُوَ؟ وَمِنْ أَيْنَ هُوَ؟ قَال فَضَرَبَتْ
__________
(1) حديث: " عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا. . . " أخرجه أحمد (5 / 37 - ط الميمنية) وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح (المجمع 5 / 84 - ط القدسي) .
(2) حديث: " من استطاع منكم أن ينفع. . . . " تقدم تخريجه ف / 3.
(3) حديث: " لا بأس بالرقى ما لم. . . " أخرجه مسلم (3 / 1727 - ط الحلبي) من حديث عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه.(12/136)
عَلَى مَنْكِبِهِ وَقَالَتْ: " أَيْ عُرَيَّةُ؟ إِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسْقَمُ عِنْدَ آخِرِ عُمْرِهِ، أَوْ فِي آخِرِ عُمْرِهِ، فَكَانَتْ تَقْدَمُ عَلَيْهِ وُفُودُ الْعَرَبِ مِنْ كُل وَجْهٍ، فَتَنْعَتُ لَهُ الأَْنْعَاتَ، وَكُنْتُ أُعَالِجُهَا، فَمِنْ ثَمَّ ". وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ رَسُول اللَّهِ كَثُرَتْ أَسَقَامُهُ، فَكَانَ يَقْدَمُ عَلَيْهِ أَطِبَّاءُ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ، فَيَصِفُونَ لَهُ فَنُعَالِجُهُ. (1)
وَقَال الرَّبِيعُ: سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُول: الْعِلْمُ عِلْمَانِ: عِلْمُ الأَْدْيَانِ وَعِلْمُ الأَْبْدَانِ (2) .
نَظَرُ الطَّبِيبِ إِِلَى الْعَوْرَةِ:
4 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ نَظَرِ الطَّبِيبِ إِِلَى الْعَوْرَةِ وَلَمْسِهَا لِلتَّدَاوِي. وَيَكُونُ نَظَرُهُ إِِلَى مَوْضِعِ الْمَرَضِ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ. إِذِ الضَّرُورَاتُ تُقَدَّمُ بِقَدْرِهَا. فَلاَ يَكْشِفُ إِلاَّ مَوْضِعَ الْحَاجَةِ، مَعَ غَضِّ بَصَرِهِ مَا اسْتَطَاعَ إِلاَّ عَنْ مَوْضِعِ الدَّاءِ. وَيَنْبَغِي قَبْل ذَلِكَ أَنْ يُعَلِّمَ امْرَأَةً تَدَاوِي النِّسَاءَ، لأَِنَّ نَظَرَ الْجِنْسِ إِِلَى الْجِنْسِ أَخَفُّ.
__________
(1) حديث: " إن عروة كان يقول لعائشة. . . " أخرجه أحمد (6 / 67 - ط الميمنية) وقال الهيثمي في المجمع (9 / 242 - ط القدسي) : فيه عبد الله بن معاوية الزبيري، قال أبو حاتم: مستقيم الحديث، وفيه ضعف.
(2) الفواكه الدواني 2 / 439، وروضة الطالبين 2 / 96، والإقناع للشربيني الخطيب 1 / 193، والمغني لابن قدامة 5 / 539، وزاد المعاد 3 / 66 وما بعدها ط مصطفى الحلبي، والآداب الشرعية 2 / 310 وما بعدها، وتحفة الأحوذي 6 / 190 ط الفجالة الجديدة.(12/136)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِِلَى: أَنَّهُ إِِذَا كَانَ الطَّبِيبُ أَجْنَبِيًّا عَنِ الْمَرِيضَةِ فَلاَ بُدَّ مِنْ حُضُورِ مَا يُؤْمَنُ مَعَهُ وُقُوعُ مَحْظُورٍ. لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلاَ لاَ يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلاَّ كَانَ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ. (1)
وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ عَدَمَ وُجُودِ امْرَأَةٍ تُحْسِنُ التَّطْبِيبَ إِِذَا كَانَ الْمَرِيضُ امْرَأَةً، وَلَوْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ الْمُدَاوِيَةُ كَافِرَةً، وَعُدِمَ وُجُودُ رَجُلٍ يُحْسِنُ ذَلِكَ إِِذَا كَانَ الْمَرِيضُ رَجُلاً.
كَمَا شَرَطُوا أَنْ لاَ يَكُونَ غَيْرَ أَمِينٍ مَعَ وُجُودِ أَمِينٍ، وَلاَ ذِمِّيًّا مَعَ وُجُودِ مُسْلِمٍ، أَوْ ذِمِّيَّةً مَعَ وُجُودِ مُسْلِمَةٍ.
قَال الْبُلْقِينِيُّ: يُقَدَّمُ فِي عِلاَجِ الْمَرْأَةِ مُسْلِمَةٌ، فَصَبِيٌّ مُسْلِمٌ غَيْرُ مُرَاهِقٍ، فَمُرَاهِقٌ، فَكَافِرٌ غَيْرُ مُرَاهِقٍ، فَمُرَاهِقٌ، فَامْرَأَةٌ كَافِرَةٌ، فَمَحْرَمٌ مُسْلِمٌ، فَمَحْرَمٌ كَافِرٌ، فَأَجْنَبِيٌّ مُسْلِمٌ، فَكَافِرٌ.
وَاعْتَرَضَ ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْثَمِيُّ عَلَى تَقْدِيمِ الْكَافِرَةِ عَلَى الْمَحْرَمِ. وَقَال: وَالَّذِي يُتَّجَهُ تَقْدِيمُ نَحْوِ مَحْرَمٍ مُطْلَقًا عَلَى كَافِرَةٍ، لِنَظَرِهِ مَا لاَ تَنْظُرُ هِيَ.
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ كَذَلِكَ عَلَى تَقْدِيمِ الأَْمْهَرِ مُطْلَقًا وَلَوْ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ وَالدِّينِ عَلَى غَيْرِهِ.
__________
(1) حديث: " ألا لا يخلون. . . " أخرجه الترمذي (4 / 466 - ط الحلبي) والحاكم (1 / 113، 115) وصححه ووافقه الذهبي.(12/137)
وَنَصُّوا عَلَى أَنَّهُ إِنْ وُجِدَ مَنْ لاَ يَرْضَى إِلاَّ بِأَكْثَرَ مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْل فَإِِنَّهُ يَكُونُ كَالْعَدَمِ حِينَئِذٍ حَتَّى لَوْ وُجِدَ كَافِرٌ يَرْضَى بِدُونِهَا وَمُسْلِمٌ لاَ يَرْضَى إِلاَّ بِهَا احْتَمَل أَنَّ الْمُسْلِمَ كَالْعَدَمِ.
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ لاَ يَجُوزُ النَّظَرُ إِِلَى فَرْجِ الْمَرْأَةِ إِلاَّ إِِذَا كَانَ لاَ يُتَوَصَّل إِِلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ إِلاَّ بِرُؤْيَتِهِ بِنَفْسِهِ. أَمَّا لَوْ كَانَ الطَّبِيبُ يَكْتَفِي بِرُؤْيَةِ النِّسَاءِ لِفَرْجِ الْمَرِيضَةِ فَلاَ يَجُوزُ لَهُ النَّظَرُ إِلَيْهِ. (1)
اسْتِئْجَارُ الطَّبِيبِ لِلْعِلاَجِ:
5 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ اسْتِئْجَارِ الطَّبِيبِ لِلْعِلاَجِ؛ لأَِنَّهُ فِعْلٌ يُحْتَاجُ إِلَيْهِ وَمَأْذُونٌ فِيهِ شَرْعًا، فَجَازَ الاِسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ كَسَائِرِ الأَْفْعَال الْمُبَاحَةِ. غَيْرَ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ شَرَطُوا لِصِحَّةِ هَذَا الْعَقْدِ أَنْ يَكُونَ الطَّبِيبُ مَاهِرًا، بِمَعْنَى أَنْ يَكُونَ خَطَؤُهُ نَادِرًا، وَيَكْفِي فِي ذَلِكَ التَّجْرِبَةُ عِنْدَهُمْ، وَإِِنْ لَمْ يَكُنْ مَاهِرًا فِي الْعِلْمِ.
وَاسْتِئْجَارُ الطَّبِيبِ يُقَدَّرُ بِالْمُدَّةِ لاَ بِالْبُرْءِ وَالْعَمَل، فَإِِنْ تَمَّتِ الْمُدَّةُ وَبَرِئَ الْمَرِيضُ أَوْ لَمْ يَبْرَأْ فَلَهُ الأُْجْرَةُ كُلُّهَا. وَإِِنْ بَرِئَ قَبْل تَمَامِ الْمُدَّةِ انْفَسَخَتِ الإِِْجَارَةُ فِيمَا بَقِيَ مِنَ الْمُدَّةِ لِتَعَذُّرِ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَكَذَا الْحُكْمُ لَوْ مَاتَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 161، 5 / 237، والفواكه الدواني 2 / 366، 367، وحواشي الشرواني وابن القاسم على تحفة المحتاج 7 / 202، 203، وكشاف القناع 5 / 13.(12/137)
الْمَرِيضُ فِي أَثْنَاءِ الْمُدَّةِ.
وَقَدْ نَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ اشْتِرَاطُ الدَّوَاءِ عَلَى الطَّبِيبِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لِمَا فِيهِ مِنِ اجْتِمَاعِ الْجُعْل وَالْبَيْعِ. وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ قَوْلٌ آخَرُ بِالْجَوَازِ.
وَالطَّبِيبُ يَسْتَحِقُّ الأُْجْرَةَ بِتَسْلِيمِهِ نَفْسَهُ مَعَ مُضِيِّ زَمَنِ إِمْكَانِ الْمُدَاوَاةِ، فَإِِنْ امْتَنَعَ الْمَرِيضُ مِنَ الْعِلاَجِ مَعَ بَقَاءِ الْمَرَضِ اسْتَحَقَّ الطَّبِيبُ الأَْجْرَ، مَا دَامَ قَدْ سَلَّمَ نَفْسَهُ، وَمَضَى زَمَنُ الْمُدَاوَاةِ؛ لأَِنَّ الإِِْجَارَةَ عَقْدٌ لاَزِمٌ وَقَدْ بَذَل الطَّبِيبُ مَا عَلَيْهِ.
وَأَمَّا إِِذَا سَلَّمَ الطَّبِيبُ نَفْسَهُ وَقَبْل مُضِيِّ زَمَنِ إِمْكَانِ الْمُدَاوَاةِ سَكَنَ الْمَرَضُ، فَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ) مُتَّفِقُونَ عَلَى انْفِسَاخِ الإِِْجَارَةِ حِينَئِذٍ (1) .
6 - وَلاَ تَجُوزُ مُشَارَطَةُ الطَّبِيبِ عَلَى الْبُرْءِ. وَنَقَل ابْنُ قُدَامَةَ عَنِ ابْنِ أَبِي مُوسَى الْجَوَازَ، إِذْ قَال: لاَ بَأْسَ بِمُشَارَطَةِ الطَّبِيبِ عَلَى الْبُرْءِ، لأَِنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ رَقَى الرَّجُل شَارَطَهُ عَلَى الْبُرْءِ. وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: إِنَّهُ الصَّحِيحُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، لَكِنْ يَكُونُ جَعَالَةً لاَ إِجَارَةً، فَإِِنَّ الإِِْجَارَةَ لاَ بُدَّ فِيهَا مِنْ مُدَّةٍ أَوْ عَمَلٍ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 50، وحاشية الدسوقي 4 / 30، والفواكه الدواني 2 / 165، وقليوبي وعميرة 3 / 70، 78، وشرح روض الطالب 2 / 413، وكشاف القناع 4 / 14، والمغني 5 / 539، 542، 543.(12/138)
مَعْلُومٍ.
وَأَجَازَ ذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ أَيْضًا، فَفِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ: لَوْ شَارَطَهُ طَبِيبٌ عَلَى الْبُرْءِ فَلاَ يَسْتَحِقُّ الأُْجْرَةَ إِلاَّ بِحُصُولِهِ. وَسَبَقَ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (إِجَارَةٌ) . (1)
وَإِِذَا زَال الأَْلَمُ وَشُفِيَ الْمَرِيضُ قَبْل مُبَاشَرَةِ الطَّبِيبِ كَانَ عُذْرًا تَنْفَسِخُ بِهِ الإِِْجَارَةُ.
يَقُول ابْنُ عَابِدِينَ: إِِذَا سَكَنَ الضِّرْسُ الَّذِي اسْتُؤْجِرَ الطَّبِيبُ لِخَلْعِهِ، فَهَذَا عُذْرٌ تَنْفَسِخُ بِهِ الإِِْجَارَةُ، وَلَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ، حَتَّى مَنْ لَمْ يَعْتَبِرِ الْعُذْرَ مُوجِبًا لِلْفَسْخِ، فَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ مَنِ اسْتَأْجَرَ رَجُلاً لِيَقْلَعَ لَهُ ضِرْسًا فَسَكَنَ الْوَجَعُ، أَوْ لِيُكَحِّل لَهُ عَيْنًا فَبَرِئَتْ قَبْل أَنْ يَقُومَ بِالْعَمَل، انْفَسَخَ الْعَقْدُ لِتَعَذُّرِ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ (2) .
ضَمَانُ الطَّبِيبِ لِمَا يُتْلِفُهُ:
7 - يَضْمَنُ الطَّبِيبُ إِنْ جَهِل قَوَاعِدَ الطِّبِّ أَوْ
__________
(1) الموسوعة الفقهية بالكويت 1 / 299.
(2) ابن عابدين 5 / 33، 50، والاختيار شرح المختار 1 / 225، 227 ط مصطفى الحلبي 1335 هـ 1936 م، والفتاوى الهندية 4 / 499، والشرح الصغير 4 / 47، والشرح الكبير 3 / 461، وجواهر الإكليل 2 / 153، ومنهاج الطاليين وحاشية قليوبي عليه 3 / 70، 78، وأسنى المطالب 2 / 413 المكتب الإسلامي، والمهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 406، والمغني لابن قدامة 5 / 539، 541 - 543، وتنظر الموسوعة الفقهية 1 / 300 - 301.(12/138)
كَانَ غَيْرَ حَاذِقٍ فِيهَا، فَدَاوَى مَرِيضًا وَأَتْلَفَهُ بِمُدَاوَاتِهِ، أَوْ أَحْدَثَ بِهِ عَيْبًا. أَوْ عُلِّمَ قَوَاعِدَ التَّطْبِيبِ وَقَصَّرَ فِي تَطْبِيبِهِ، فَسَرَى التَّلَفُ أَوِ التَّعْيِيبُ. أَوْ عُلِّمَ قَوَاعِدَ التَّطْبِيبِ وَلَمْ يُقَصِّرْ وَلَكِنَّهُ طَبَّبَ الْمَرِيضَ بِلاَ إِذْنٍ مِنْهُ. كَمَا لَوْ خَتَنَ صَغِيرًا بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهِ، أَوْ كَبِيرًا قَهْرًا عَنْهُ، أَوْ وَهُوَ نَائِمٌ، أَوْ أَطْعَمَ مَرِيضًا دَوَاءً قَهْرًا عَنْهُ فَنَشَأَ عَنْ ذَلِكَ تَلَفٌ وَعَيْبٌ، أَوْ طَبَّبَ بِإِِذْنٍ غَيْرِ مُعْتَبَرٍ لِكَوْنِهِ مِنْ صَبِيٍّ، إِِذَا كَانَ الإِِْذْنُ فِي قَطْعِ يَدٍ مَثَلاً، أَوْ بِعَضُدٍ أَوْ حِجَامَةٍ أَوْ خِتَانٍ، فَأَدَّى إِِلَى تَلَفٍ أَوْ عَيْبٍ، فَإِِنَّهُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ يَضْمَنُ مَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ (1) .
أَمَّا إِِذَا أُذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَكَانَ الإِِْذْنُ مُعْتَبَرًا، وَكَانَ حَاذِقًا، وَلَمْ تَجْنِ يَدُهُ، وَلَمْ يَتَجَاوَزْ مَا أُذِنَ فِيهِ، وَسَرَى إِلَيْهِ التَّلَفُ فَإِِنَّهُ لاَ يَضْمَنُ؛ لأَِنَّهُ فَعَل فِعْلاً مُبَاحًا مَأْذُونًا فِيهِ (2) . وَلأَِنَّ مَا يَتْلَفُ بِالسِّرَايَةِ إِنْ كَانَ بِسَبَبٍ مَأْذُونٍ فِيهِ - دُونَ جَهْلٍ أَوْ تَقْصِيرٍ - فَلاَ ضَمَانَ. وَعَلَى هَذَا فَلاَ ضَمَانَ عَلَى طَبِيبٍ وَبَزَّاغٍ (جَرَّاحٍ) وَحَجَّامٍ وَخَتَّانٍ مَا دَامَ قَدْ أُذِنَ لَهُمْ بِهَذَا وَلَمْ يُقَصِّرُوا، وَلَمْ يُجَاوِزُوا الْمَوْضِعَ
__________
(1) جواهر الإكليل 2 / 296، والشرح الكبير 4 / 355، وأسنى المطالب 2 / 427 المكتبة الإسلامية، والمغني لابن قدامة 5 / 538 م الرياض الحديثة.
(2) منار السبيل في شرح الدليل 1 / 422، ط المكتب الإسلامي، ونيل المآرب بشرح دليل الطالب 1 / 164 م الفلاح.(12/139)
الْمُعْتَادَ، وَإِِلاَّ لَزِمَ الضَّمَانُ (1) .
يَقُول ابْنُ قُدَامَةَ: إِِذَا فَعَل الْحَجَّامُ وَالْخَتَّانُ وَالْمُطَبِّبُ مَا أُمِرُوا بِهِ، لَمْ يَضْمَنُوا بِشَرْطَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونُوا ذَوِي حِذْقٍ فِي صِنَاعَتِهِمْ، فَإِِذَا لَمْ يَكُونُوا كَذَلِكَ كَانَ فِعْلاً مُحَرَّمًا، فَيَضْمَنُ سِرَايَتَهُ.
الثَّانِي: أَلاَّ يَتَجَاوَزَ مَا يَنْبَغِي أَنْ يُقْطَعَ، فَإِِنْ كَانَ حَاذِقًا وَتَجَاوَزَ، أَوْ قَطَعَ فِي غَيْرِ مَحَل الْقَطْعِ، أَوْ فِي وَقْتٍ لاَ يَصْلُحُ فِيهِ الْقَطْعُ وَأَشْبَاهِ هَذَا، ضَمِنَ فِيهِ كُلَّهُ؛ لأَِنَّهُ إِتْلاَفٌ لاَ يَخْتَلِفُ ضَمَانُهُ بِالْعَمْدِ وَالْخَطَأِ، فَأَشْبَهَ إِتْلاَفَ الْمَال.
وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْقَاطِعِ فِي الْقِصَاصِ وَقَاطِعِ يَدِ السَّارِقِ. ثُمَّ قَال: لاَ نَعْلَمُ فِيهِ خِلاَفًا (2) .
قَال الدُّسُوقِيُّ: إِِذَا خَتَنَ الْخَاتِنُ صَبِيًّا، أَوْ سَقَى الطَّبِيبُ مَرِيضًا دَوَاءً، أَوْ قَطَعَ لَهُ شَيْئًا، أَوْ كَوَاهُ فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ، فَلاَ ضَمَانَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا لاَ فِي مَالِهِ وَلاَ عَلَى عَاقِلَتِهِ؛ لأَِنَّهُ مِمَّا فِيهِ تَغْرِيرٌ، فَكَأَنَّ صَاحِبَهُ هُوَ الَّذِي عَرَّضَهُ لِمَا أَصَابَهُ. وَهَذَا
__________
(1) ابن عابدين 5 / 43، والاختيار شرح المختار 1 / 226 ط مصطفى الحلبي 1936، والتاج والإكليل بهامش مواهب الجليل 6 / 320، والشرح الصغير 4 / 505، ونهاية المحتاج 7 / 291، وقليوبي وعميرة 4 / 110، والمغني مع الشرح الكبير 6 / 120.
(2) المغني لابن قدامة 5 / 538 م الرياض الحديثة، والموسوعة الفقهية 1 / 228 (إتلاف) ، 1 / 299 - 300 (إجارة) .(12/139)
إِِذَا كَانَ الْخَاتِنُ أَوِ الطَّبِيبُ مِنْ أَهْل الْمَعْرِفَةِ، وَلَمْ يُخْطِئْ فِي فِعْلِهِ. فَإِِذَا كَانَ أَخْطَأَ فِي فِعْلِهِ - وَالْحَال أَنَّهُ مِنْ أَهْل الْمَعْرِفَةِ - فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ.
فَإِِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْل الْمَعْرِفَةِ عُوقِبَ وَفِي كَوْنِ الدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِ أَوْ فِي مَالِهِ قَوْلاَنِ:
الأَْوَّل: لاِبْنِ الْقَاسِمِ.
وَالثَّانِي: لِمَالِكٍ. وَهُوَ الرَّاجِحُ لأَِنَّ فِعْلَهُ عَمْدٌ، وَالْعَاقِلَةُ لاَ تَحْمِل الْعَمْدَ (1) .
وَفِي الْقُنْيَةِ: سُئِل مُحَمَّدُ نَجْمُ الدِّينِ عَنْ صَبِيَّةٍ سَقَطَتْ مِنْ سَطْحٍ، فَانْفَتَحَ رَأْسُهَا، فَقَال كَثِيرٌ مِنَ الْجَرَّاحِينَ: إِنْ شَقَقْتُمْ رَأْسَهَا تَمُوتُ. وَقَال وَاحِدٌ مِنْهُمْ: إِنْ لَمْ تَشُقُّوهُ الْيَوْمَ تَمُوتُ، وَأَنَا أَشُقُّهُ وَأُبْرِئُهَا، فَشَقَّهُ فَمَاتَتْ بَعْدَ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ. هَل يَضْمَنُ؟ فَتَأَمَّل مَلِيًّا ثُمَّ قَال: لاَ، إِِذَا كَانَ الشَّقُّ بِإِِذْنٍ، وَكَانَ الشَّقُّ مُعْتَادًا، وَلَمْ يَكُنْ فَاحِشًا خَارِجَ الرَّسْمِ (أَيِ الْعَادَةِ) . قِيل لَهُ: فَلَوْ قَال: إِنْ مَاتَتْ فَأَنَا ضَامِنٌ، هَل يَضْمَنُ؟ فَتَأَمَّل مَلِيًّا، ثُمَّ قَال: لاَ. فَلَمْ يُعْتَبَرْ شَرْطُ الضَّمَانِ؛ لأَِنَّ شَرْطَهُ عَلَى الأَْمِينِ بَاطِلٌ عَلَى مَا عَلَيْهِ الْفَتْوَى (2) .
وَفِي مُخْتَصَرِ الطَّحَاوِيِّ: مَنِ اسْتُؤْجِرَ عَلَى عَبْدٍ يَحْجُمُهُ، أَوْ عَلَى دَابَّةٍ يُبَزِّغُهَا، فَفَعَل ذَلِكَ فَعَطِبَا بِفِعْلِهِ، فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ أَصْل الْعَمَل
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4 / 28.
(2) ابن عابدين 5 / 364.(12/140)
كَانَ مَأْذُونًا فِيهِ، فَمَا تَوَلَّدَ مِنْهُ لاَ يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ إِلاَّ إِِذَا تَعَدَّى، فَحِينَئِذٍ يَضْمَنُ.
وَكَذَلِكَ إِِذَا كَانَ فِي يَدِهِ أَكِلَةٌ، فَاسْتَأْجَرَ رَجُلاً لِيَقْطَعَ يَدَهُ فَمَاتَ، فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ (1) .
وَمَنِ اسْتُؤْجِرَ لِيَقْلَعَ ضِرْسًا لِمَرِيضٍ، فَأَخْطَأَ، فَقَلَعَ غَيْرَ مَا أُمِرَ بِقَلْعِهِ ضَمِنَهُ؛ لأَِنَّهُ مِنْ جِنَايَتِهِ (2) .
وَإِِنْ أَخْطَأَ الطَّبِيبُ، بِأَنْ سَقَى الْمَرِيضَ دَوَاءً لاَ يُوَافِقُ مَرَضَهُ، أَوْ زَلَّتْ يَدُ الْخَاتِنِ أَوِ الْقَاطِعِ فَتَجَاوَزَ فِي الْقَطْعِ، فَإِِنْ كَانَ مِنْ أَهْل الْمَعْرِفَةِ وَلَمْ يَغُرَّ مِنْ نَفْسِهِ فَذَلِكَ خَطَأٌ (أَيْ تَتَحَمَّلُهُ عَاقِلَتُهُ) إِلاَّ أَنْ يَكُونَ أَقَل مِنَ الثُّلُثِ فَفِي مَالِهِ. وَإِِنْ كَانَ لاَ يُحْسِنُ، أَوْ غُرَّ مِنْ نَفْسِهِ فَيُعَاقَبُ (3) . وَمَنْ أَمَرَ خَتَّانًا لِيَخْتِنَ صَبِيًّا، فَفَعَل الْخَتَّانُ ذَلِكَ فَقَطَعَ حَشَفَتَهُ، وَمَاتَ الصَّبِيُّ مِنْ ذَلِكَ، فَعَلَى عَاقِلَةِ الْخَتَّانِ نِصْفُ دِيَةٍ؛ لأَِنَّ الْمَوْتَ حَصَل بِفِعْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مَأْذُونٌ فِيهِ، وَهُوَ قَطْعُ الْقُلْفَةِ.
وَالآْخَرُ: غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ، وَهُوَ قَطْعُ الْحَشَفَةِ، فَيَجِبُ نِصْفُ الضَّمَانِ.
أَمَّا إِِذَا بَرِئَ، جُعِل قَطْعُ الْجِلْدَةِ - وَهُوَ مَأْذُونٌ فِيهِ - كَأَنْ لَمْ يَكُنْ، وَقَطْعُ الْحَشَفَةِ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ، فَوَجَبَ ضَمَانُ الْحَشَفَةِ كَامِلاً، وَهُوَ الدِّيَةُ (4) .
__________
(1) مختصر الطحاوي 129.
(2) المغني لابن قدامة 5 / 543 م الرياض الحديثة، ومنهاج الطالبين 3 / 70.
(3) جواهر الإكليل 2 / 191.
(4) ابن عابدين 5 / 400.(12/140)
تَطْبِيقٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّطْبِيقُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ طَبَّقَ، وَمِنْ مَعَانِيهِ: الْمُسَاوَاةُ وَالتَّعْمِيمُ وَالتَّغْطِيَةُ قَال فِي الْمِصْبَاحِ: وَأَصْل الطَّبَقِ: الشَّيْءُ عَلَى مِقْدَارِ الشَّيْءِ مُطْبِقًا لَهُ مِنْ جَمِيع جَوَانِبه كَالْغِطَاءِ لَهُ وَيُقَال: طَبَّقَ السَّحَابُ الْجَوَّ: إِِذَا غَشَّاهُ، وَطَبَّقَ الْمَاءُ وَجْهَ الأَْرْضِ: إِِذَا غَطَّاهُ، وَطَبَّقَ الْغَيْمُ: عَمَّ بِمَطَرِهِ (1) .
وَهُوَ فِي الاِصْطِلاَحِ الْفِقْهِيِّ: أَنْ يَجْعَل الْمُصَلِّي بَطْنَ إِحْدَى كَفَّيْهِ عَلَى بَطْنِ الأُْخْرَى، وَيَجْعَلُهُمَا بَيْنَ رُكْبَتَيْهِ وَفَخِذَيْهِ (2) .
الْحُكْمُ الإِِْجْمَالِيُّ:
2 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ كَرَاهَةَ التَّطْبِيقِ فِي الرُّكُوعِ. وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ
__________
(1) أساس البلاغة للزمخشري، والقاموس المحيط، والصحاح، والمصباح المنير مادة: " طبق ".
(2) المبدع في شرح المقنع 1 / 446 ط المكتب الإسلامي، والمجموع للنووي 3 / 407 ط المنيرية، ونيل الأوطار 2 / 244 ط العثمانية.(12/141)
مُصْعَبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّهُ قَال: صَلَّيْتُ إِِلَى جَنْبِ أَبِي، فَطَبَّقْتُ بَيْنَ كَفَّيَّ، ثُمَّ وَضَعْتُهُمَا بَيْنَ فَخِذَيَّ، فَنَهَانِي أَبِي وَقَال: كُنَّا نَفْعَلُهُ فَنُهِينَا عَنْهُ، وَأُمِرْنَا أَنْ نَضَعَ أَيْدِيَنَا عَلَى الرُّكَبِ. (1)
وَمِنَ الْمَعْرُوفِ أَنَّ قَوْل الصَّحَابِيِّ: كُنَّا نَفْعَل، وَأُمِرْنَا وَنُهِينَا، مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ مَرْفُوعٌ (2) .
وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَِنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِِذَا رَكَعْتَ فَضَعْ يَدَيْكَ عَلَى رُكْبَتَيْكَ، وَفَرِّجْ بَيْنَ أَصَابِعِكَ. (3)
قَال النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ: وَذَهَبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَصَاحِبَاهُ عَلْقَمَةُ وَالأَْسْوَدُ إِِلَى أَنَّ السُّنَّةَ التَّطْبِيقُ، فَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ عَنْ عَلْقَمَةَ وَالأَْسْوَدِ أَنَّهُمَا دَخَلاَ عَلَى
__________
(1) حديث مصعب قال: " صليت إلى جنب أبي فطبقت بين كفي. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 273 ط السلفية) ، ومسلم (1 / 380 ط الحلبي) واللفظ للبخاري.
(2) البناية 2 / 178، 179 ط دار الفكر، والمجموع 3 / 411، وكشاف القناع 1 / 346 ط مكتبة النصر الإسلامية، والكافي لابن عبد البر 1 / 203 نشر مكتبة الرياض، وعمدة القاري 6 / 63 ط المنيرية، وصحيح مسلم بشرح النووي 5 / 15 ط المطبعة المصرية بالأزهر، ونيل الأوطار 2 / 224 ط العثمانية.
(3) حديث: " إذا ركعت فضع يديك على ركبتيك. . . " أخرجه ابن عدي في الكامل من حديث أنس (الكامل 6 / 2086 ط دار الفكر) وأعله براويه، وهو كثير بن عبد الله الناجي الأبلي.(12/141)
عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَال: أُصَلِّي مِنْ خَلْفِكُمْ؟ قَالاَ: نَعَمْ. فَقَامَ بَيْنَهُمَا وَجَعَل أَحَدَهُمَا عَنْ يَمِينِهِ، وَالآْخَرَ عَنْ شِمَالِهِ، ثُمَّ رَكَعْنَا، فَوَضَعْنَا أَيْدِيَنَا عَلَى رُكَبِنَا، فَضَرَبَ أَيْدِيَنَا، ثُمَّ طَبَّقَ بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ جَعَلَهُمَا بَيْنَ فَخِذَيْهِ، فَلَمَّا صَلَّى قَال: هَكَذَا فَعَل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (1)
قَال الْعَيْنِيُّ: وَأَخَذَ بِذَلِكَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَأَبُو عُبَيْدَةَ. وَعَلَّل النَّوَوِيُّ فِعْلَهُمْ: بِأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُمُ النَّاسِخُ، وَهُوَ حَدِيثُ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ الْمُتَقَدِّمُ (2) .
__________
(1) حديث علقمة والأسود وغيرهما فقال: " أصلى من خلفكم؟ " أخرجه (مسلم 1 / 379 - 380 ط الحلبي) .
(2) صحيح مسلم بشرح النووي 5 / 15 - 17، وعمدة القاري 6 / 64، والمجموع 3 / 411، والبناية 2 / 178.(12/142)
تَطَفُّلٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّطَفُّل فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ تَطَفَّل. يُقَال: هُوَ مُتَطَفِّلٌ فِي الأَْعْرَاسِ وَالْوَلاَئِمِ أَيْ: هُوَ طُفَيْلِيٌّ. قَال الأَْصْمَعِيُّ: الطُّفَيْلِيُّ: هُوَ الَّذِي يَدْخُل عَلَى الْقَوْمِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدْعُوَهُ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِهَذَا اللَّفْظِ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى.
فَقَدْ عَرَّفَهُ فِي نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ: بِدُخُول الشَّخْصِ لِمَحَل غَيْرِهِ لِتَنَاوُل طَعَامِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَلاَ عَلِمَ رِضَاهُ، أَوْ ظَنَّهُ بِقَرِينَةٍ مُعْتَبَرَةٍ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الضَّيْفُ:
2 - الضَّيْفُ فِي اللُّغَةِ: النَّزِيل الزَّائِرُ. وَأَصْلُهُ مَصْدَرُ ضَافَ، وَلِذَا يُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدِ وَغَيْرِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {قَال إِنَّ هَؤُلاَءِ ضَيْفِي
__________
(1) المصباح المنير، ولسان العرب، وتاج العروس، ومحيط المحيط، ومتن اللغة، ومختار الصحاح مادة: " طفل ".
(2) نهاية المحتاج 6 / 377.(12/142)
فَلاَ تَفْضَحُونِ} (1) وَتَجُوزُ الْمُطَابَقَةُ، فَيُقَال: هَذَانِ ضَيْفَانِ
أَمَّا (الضَّيْفَنُ) فَهُوَ مَنْ يَجِيءُ مَعَ الضَّيْفِ مُتَطَفِّلاً، فَالضَّيْفَنُ أَخَصُّ مِنَ الطُّفَيْلِيِّ، وَيُطْلَقُ عَلَى الدَّاخِل عَلَى الْقَوْمِ فِي شَرَابِهِمْ بِلاَ دَعْوَةٍ (الْوَاغِل) . (2) وَفِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ: الضَّيْفُ: هُوَ مَنْ حَضَرَ طَعَامَ غَيْرِهِ بِدَعْوَتِهِ وَلَوْ عُمُومًا، أَوْ بِعِلْمِ رِضَاهُ وَضِدُّ الضَّيْفِ الطُّفَيْلِيُّ (3) .
ب - الْفُضُولِيُّ:
3 - الْفُضُولِيُّ: مِنَ الْفُضُول، جَمْعُ فَضْلٍ. وَقَدِ اسْتُعْمِل الْجَمْعُ اسْتِعْمَال الْفَرْدِ فِيمَا لاَ خَيْرَ فِيهِ. وَلِهَذَا نُسِبَ إِلَيْهِ عَلَى لَفْظِهِ، فَقِيل فُضُولِيٌّ: لِمَنْ يَشْتَغِل بِمَا لاَ يَعْنِيهِ وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هُوَ التَّصَرُّفُ عَنِ الْغَيْرِ بِلاَ إِذْنٍ وَلاَ وِلاَيَةٍ. وَأَظْهَرُ مَا يَكُونُ فِي الْعُقُودِ. أَمَّا التَّطَفُّل فَأَكْثَرُ مَا يَكُونُ فِي الْمَادِّيَّاتِ، وَقَدْ يُسْتَعْمَل فِي الْمَعْنَوِيَّاتِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلتَّطَفُّل:
4 - صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - وَهُوَ
__________
(1) سورة الحجر / 68.
(2) محيط المحيط، والمصباح المنير.
(3) محيط المحيط، والمصباح المنير، وقليوبي وعميرة 3 / 398.(12/143)
الْمُتَبَادَرُ مِنْ أَقْوَال الْحَنَفِيَّةِ - أَنَّ حُضُورَ طَعَامِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ دَعْوَةٍ، وَبِغَيْرِ عِلْمِ رِضَاهُ حَرَامٌ، بَل يُفَسَّقُ بِهِ إِنْ تَكَرَّرَ. لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: مَنْ دُعِيَ فَلَمْ يُجِبْ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَمَنْ دَخَل عَلَى غَيْرِ دَعْوَةٍ دَخَل سَارِقًا، وَخَرَجَ مُغِيرًا (1) فَكَأَنَّهُ شَبَّهَ دُخُولَهُ عَلَى الطَّعَامِ الَّذِي لَمْ يُدْعَ إِلَيْهِ بِدُخُول السَّارِقِ الَّذِي يَدْخُل بِغَيْرِ إِرَادَةِ الْمَالِكِ، لأَِنَّهُ اخْتَفَى بَيْنَ الدَّاخِلِينَ. وَشَبَّهَ خُرُوجَهُ بِخُرُوجِ مَنْ نَهَبَ قَوْمًا، وَخَرَجَ ظَاهِرًا بَعْدَمَا أَكَل. بِخِلاَفِ الدُّخُول، فَإِِنَّهُ دَخَل مُخْتَفِيًا، خَوْفًا مِنْ أَنْ يُمْنَعَ، وَبَعْدَ الْخُرُوجِ قَدْ قَضَى حَاجَتَهُ، فَلَمْ يَبْقَ لَهُ حَاجَةٌ إِِلَى التَّسَتُّرِ (2) .
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ مِنَ التَّطَفُّل: أَنْ يُدْعَى عَالِمٌ أَوْ صُوفِيٌّ، فَيَحْضُرُ جَمَاعَتُهُ مِنْ غَيْرِ إِذْنِ الدَّاعِي وَلاَ عِلْمِ رِضَاهُ بِذَلِكَ.
وَيَرَى بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: أَنَّهُ إِِذَا عُرِفَ مِنْ حَال الْمَدْعُوِّ أَنَّهُ لاَ يَحْضُرُ إِلاَّ وَمَعَهُ أَحَدٌ مِمَّنْ يُلاَزِمُهُ يُعْتَبَرُ ذَلِكَ كَالإِِْذْنِ، وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (دَعْوَةٌ) . (3)
__________
(1) حديث: " من دعي فلم يجب فقد عصى الله ورسوله. . . " أخرجه أبو داود (4 / 125 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. وأعله أبو داود بجهالة أحد رواته.
(2) قليوبي وعميرة 3 / 298، ونهاية المحتاج 6 / 369، والخرشي 3 / 139، 140، ونيل الأوطار للشوكاني 4 / 175، 180 ط المطبعة العثمانية المصرية سنة 1357 هـ.
(3) الدسوقي 2 / 338، وكشاف القناع 5 / 180، وحاشية القليوبي 3 / 298.(12/143)
شَهَادَةُ الطُّفَيْلِيِّ:
5 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الطُّفَيْلِيَّ - إِنْ تَكَرَّرَ تَطَفُّلُهُ - تُرَدُّ شَهَادَتُهُ لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ؛ وَلأَِنَّهُ يَأْكُل مُحَرَّمًا، وَيَفْعَل مَا فِيهِ سَفَهٌ وَدَنَاءَةٌ وَذَهَابُ مُرُوءَةٍ.
قَال ابْنُ الصَّبَّاغِ: وَإِِنَّمَا اشْتُرِطَ تَكَرُّرُ ذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ قَدْ يَكُونُ لَهُ شُبْهَةٌ حَتَّى يَمْنَعَهُ صَاحِبُ الطَّعَامِ، وَإِِذَا تَكَرَّرَ صَارَ دَنَاءَةً وَقِلَّةَ مُرُوءَةٍ (1) .
__________
(1) جواهر الإكليل 1 / 326، وابن عابدين 4 / 381، والفتاوى الهندية 3 / 469، والزيلعي 4 / 333، والخرشي 3 / 179، 3 / 977، وروضة الطالبين 11 / 232، والمغني 9 / 181.(12/144)
تَطْفِيفٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّطْفِيفُ لُغَةً: الْبَخْسُ فِي الْكَيْل وَالْوَزْنِ. وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} (1) فَالتَّطْفِيفُ: نَقْصٌ يَخُونُ بِهِ صَاحِبَهُ فِي كَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ (2) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لَهُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
التَّوْفِيَةُ:
2 - تَوْفِيَةُ الشَّيْءِ: بَذْلُهُ وَافِيًا (3) .
فَالتَّطْفِيفُ ضِدُّ التَّوْفِيَةِ (4) .
الْحُكْمُ الإِِْجْمَالِيُّ:
3 - التَّطْفِيفُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَهُوَ ضَرْبٌ مِنَ الْخِيَانَةِ وَأَكْل الْمَال بِالْبَاطِل، مَعَ مَا فِيهِ مِنْ عَدَمِ الْمُرُوءَةِ.
__________
(1) سورة المطففين / 1.
(2) لسان العرب، وتاج العروس، والصحاح مادة: " طفف ".
(3) المفردات للراغب الأصفهاني، والصحاح مادة: " وفى ".
(4) أحكام القرآن لابن العربي 4 / 1895 ط عيسى الحلبي.(12/144)
وَمِنْ ثَمَّ عَظَّمَ اللَّهُ أَمْرَ الْكَيْل وَالْوَزْنِ، وَأَمَرَ بِالْوَفَاءِ فِيهِمَا فِي عِدَّةِ آيَاتٍ، فَقَال سُبْحَانَهُ: {أَوْفُوا الْكَيْل وَلاَ تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَْرْضِ مُفْسِدِينَ} (1) وَقَال تَعَالَى: {وَأَوْفُوا الْكَيْل إِِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ} (2) كَمَا تَوَعَّدَ اللَّهُ الْمُطَفِّفِينَ بِالْوَيْل، وَهَدَّدَهُمْ بِعَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَقَال: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ أَلاَ يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} . (3)
وَفِي الْحَدِيثِ: خَمْسٌ بِخَمْسٍ، قِيل: يَا رَسُول اللَّهِ وَمَا خَمْسٌ بِخَمْسٍ؟ قَال: مَا نَقَضَ قَوْمٌ الْعَهْدَ إِلاَّ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوَّهُمْ، وَمَا حَكَمُوا بِغَيْرِ مَا أَنْزَل اللَّهُ إِلاَّ فَشَا فِيهِمُ الْفَقْرُ، وَمَا ظَهَرَتْ فِيهِمُ الْفَاحِشَةُ إِلاَّ فَشَا فِيهِمُ الْمَوْتُ، وَلاَ طَفَّفُوا الْكَيْل إِلاَّ مُنِعُوا النَّبَاتَ وَأُخِذُوا بِالسِّنِينَ، وَلاَ مَنَعُوا الزَّكَاةَ إِلاَّ حُبِسَ
__________
(1) سورة الشعراء / 182 - 183.
(2) سورة الإسراء / 35.
(3) سورة المطففين / 1 - 6، وانظر الزواجر 1 / 200 ط المطبعة الأزهرية، والكبائر للذهبي ص 162 ط مؤسسة علوم القرآن، والحسبة في الإسلام لابن تيمية ص 13 نشر المكتبة العلمية، وتفسير القرطبي 7 / 248.(12/145)
عَنْهُمُ الْمَطَرُ. (1)
قَال نَافِعٌ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَمُرُّ بِالْبَائِعِ فَيَقُول لَهُ: اتَّقِ اللَّهَ، أَوْفِ الْكَيْل وَالْوَزْنَ، فَإِِنَّ الْمُطَفِّفِينَ يُوقَفُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُلْجِمَهُمُ الْعَرَقُ.
وَنَقَل ابْنُ حَجَرٍ تَصْرِيحَ الْعُلَمَاءِ بِأَنَّهُ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَاسْتَظْهَرَهُ (2) .
مَنْعُ التَّطْفِيفِ، وَتَدَابِيرُهُ:
4 - مِمَّا يَتَأَكَّدُ عَلَى الْمُحْتَسِبِ: الْمَنْعُ مِنَ التَّطْفِيفِ وَالْبَخْسُ فِي الْمَكَايِيل وَالْمَوَازِينِ وَالصَّنَجَاتِ. فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَحْذَرَ الْكَيَّالِينَ وَالْوَزَّانِينَ وَيُخَوِّفَهُمْ عُقُوبَةَ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْبَخْسِ وَالتَّطْفِيفِ. وَمَتَى ظَهَرَ لَهُ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ خِيَانَةٌ عَزَّرَهُ عَلَى ذَلِكَ وَأَشْهَرَهُ، حَتَّى يَرْتَدِعَ بِهِ غَيْرُهُ (3) .
وَإِِذَا وَقَعَ فِي التَّطْفِيفِ تَخَاصُمٌ جَازَ أَنْ يَنْظُرَ فِيهِ الْمُحْتَسِبُ، إِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَ التَّخَاصُمِ فِيهِ
__________
(1) حديث: " خمس بخمس. . . " أخرجه الطبراني في الكبير 11 / 45 ط الوطن العربي، قال المنذري: رواه الطبراني في الكبير وسنده قريب من الحسن وله شواهد (الترغيب والترهيب 1 / 544 ط مصطفى الحلبي) .
(2) التفسير الكبير للرازي 31 / 88، 89، وتفسير الخازن 4 / 359 ط دار المعرفة، والفتوحات الإلهية 4 / 502 ط مطبعة حجازي، والزواجر لابن حجر الهيثمي المكي 1 / 192.
(3) الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 299 ط دار الكتب العلمية، والأحكام السلطانية للماوردي ص 220 ط مطبعة السعادة، ومعالم القربة في أحكام الحسبة ص 86 ط دار الفنون بكمبرج، والحسبة في الإسلام لابن تيمية ص 13.(12/145)
تَجَاحُدٌ وَتَنَاكُرٌ. فَإِِنْ أَفْضَى إِِلَى التَّجَاحُدِ وَالتَّنَاكُرِ كَانَ الْقُضَاةُ أَحَقَّ بِالنَّظَرِ فِيهِ مِنْ وُلاَةِ الْحِسْبَةِ؛ لأَِنَّهُمْ بِالأَْحْكَامِ أَحَقُّ. وَكَانَ التَّأْدِيبُ فِيهِ إِِلَى الْمُحْتَسِبِ.
فَإِِنْ تَوَلاَّهُ الْحَاكِمُ جَازَ لاِتِّصَالِهِ بِحُكْمِهِ (1) .
وَقَدْ فَصَّل الْفُقَهَاءُ الْقَوْل فِي التَّدَابِيرِ الَّتِي تُتَّخَذُ لِلْحَيْلُولَةِ دُونَ التَّطْفِيفِ وَالْبَخْسِ فِي الْكَيْل وَالْوَزْنِ، مِنْ قِيَامِ الْمُحْتَسِبِ بِتَفَقُّدِ عِيَارِ الصَّنْجِ وَنَحْوِهَا عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَصْحَابِهَا، وَتَجْدِيدُ النَّظَرِ فِي الْمَكَايِيل وَرِعَايَةِ مَا يُطَفِّفُونَ بِهِ الْمِكْيَال وَمَا إِِلَى ذَلِكَ (2) ، فَلْيُرْجَعْ إِلَيْهِ فِي مَوَاطِنِهِ مِنْ كُتُبِ الْحِسْبَةِ، وَفِي مُصْطَلَحَيْ (حِسْبَةٌ، وَغِشٌّ) .
تَطَهُّرٌ
انْظُرْ: طَهَارَةٌ
تَطْهِيرٌ
انْظُرْ: طَهَارَةٌ
__________
(1) الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 300، وللماوردي 220.
(2) غاية الرتبة في طلب الحسبة ص 18 - 20 ط دار الثقافة، ومعالم القربة في أحكام الحسبة 83 - 86 ط دار الفنون بكمبرج.(12/146)
تَطَوُّعٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّطَوُّعُ: هُوَ التَّبَرُّعُ، يُقَال: تَطَوَّعَ بِالشَّيْءِ: تَبَرَّعَ بِهِ.
وَقَال الرَّاغِبُ: التَّطَوُّعُ فِي الأَْصْل: تَكَلُّفُ الطَّاعَةِ، وَهُوَ فِي التَّعَارُفِ: التَّبَرُّعُ بِمَا لاَ يَلْزَمُ كَالتَّنَفُّل (1) . قَال تَعَالَى: {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} . (2)
وَالْفُقَهَاءُ عِنْدَمَا أَرَادُوا أَنْ يُعَرِّفُوا التَّطَوُّعَ، عَدَلُوا عَنْ تَعْرِيفِ الْمَصْدَرِ إِِلَى تَعْرِيفِ مَا هُوَ حَاصِلٌ بِالْمَصْدَرِ، فَذَكَرُوا لَهُ فِي الاِصْطِلاَحِ ثَلاَثَةَ مَعَانٍ:
الأَْوَّل: أَنَّهُ اسْمٌ لِمَا شُرِعَ زِيَادَةً عَلَى الْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ، أَوْ مَا كَانَ مَخْصُوصًا بِطَاعَةٍ غَيْرِ وَاجِبَةٍ، أَوْ هُوَ الْفِعْل الْمَطْلُوبُ طَلَبًا غَيْرَ جَازِمٍ. وَكُلُّهَا مَعَانٍ مُتَقَارِبَةٌ. وَهَذَا مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ، وَالْمَشْهُورُ
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، والصحاح للجوهري، والنظم المستعذب في شرح غريب المهذب 1 / 89، والمفردات للراغب الأصفهاني.
(2) سورة البقرة / 184.(12/146)
عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. وَهُوَ رَأْيُ الأُْصُولِيِّينَ مِنْ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ مَا يُفْهَمُ مِنْ عِبَارَاتِ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ (1) .
وَالتَّطَوُّعُ بِهَذَا الْمَعْنَى يُطْلَقُ عَلَى: السُّنَّةِ وَالْمَنْدُوبِ وَالْمُسْتَحَبِّ وَالنَّفَل وَالْمُرَغَّبِ فِيهِ وَالْقُرْبَةِ وَالإِِْحْسَانِ وَالْحَسَنِ، فَهِيَ أَلْفَاظٌ مُتَرَادِفَةٌ.
الثَّانِي: أَنَّ التَّطَوُّعَ هُوَ مَا عَدَا الْفَرَائِضَ وَالْوَاجِبَاتِ وَالسُّنَنَ، وَهُوَ اتِّجَاهُ الأُْصُولِيِّينَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، فَفِي كَشْفِ الأَْسْرَارِ: السُّنَّةُ هِيَ الطَّرِيقَةُ الْمَسْلُوكَةُ فِي الدِّينِ مِنْ غَيْرِ افْتِرَاضٍ وَلاَ وُجُوبٍ، وَأَمَّا حَدُّ النَّفْل - وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْمَنْدُوبِ وَالْمُسْتَحَبِّ وَالتَّطَوُّعِ - فَقِيل: مَا فِعْلُهُ خَيْرٌ مِنْ تَرْكِهِ فِي الشَّرْعِ (2) . . . إِلَخْ.
الثَّالِثُ: التَّطَوُّعُ: هُوَ مَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَقْلٌ بِخُصُوصِهِ، بَل يُنْشِئُهُ الإِِْنْسَانُ ابْتِدَاءً، وَهُوَ اتِّجَاهُ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ وَالْقَاضِي حُسَيْنٍ وَغَيْرِهِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ (3) .
هَذِهِ هِيَ الاِتِّجَاهَاتُ فِي مَعْنَى التَّطَوُّعِ
__________
(1) التعريفات للجرجاني، والبناية في شرح الهداية 2 / 527، وكشاف القناع 1 / 411، والمجموع شرح المهذب 4 / 2، والكافي لابن عبد البر 1 / 255، والحطاب 2 / 75، وجمع الجوامع 1 / 89، وشرح الكوكب المنير / 126، ونهاية المحتاج 2 / 100، وإرشاد الفحول 1 / 6.
(2) كشف الأسرار 2 / 302 نشر دار الكتاب العربي، وكشاف اصطلاحات الفنون مادتي: " طوع، ونفل ".
(3) المواق بهامش الحطاب 2 / 66، ونهاية المحتاج 2 / 100، 101، وجمع الجوامع 1 / 90(12/147)
وَمَا يُرَادِفُهُ. غَيْرَ أَنَّ الْمُتَتَبِّعَ لِمَا ذَكَرَهُ الأُْصُولِيُّونَ مِنْ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ، وَمَا ذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ فِي كُتُبِهِمْ - بِمَا فِي ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ - يَجِدُ أَنَّهُمْ يَتَوَسَّعُونَ بِإِِطْلاَقِ التَّطَوُّعِ عَلَى مَا عَدَا الْفَرَائِضَ وَالْوَاجِبَاتِ، وَبِذَلِكَ يَكُونُ التَّطَوُّعُ وَالسُّنَّةُ وَالنَّفَل وَالْمَنْدُوبُ وَالْمُسْتَحَبُّ وَالْمُرَغَّبُ فِيهِ أَلْفَاظًا مُتَرَادِفَةً، وَلِذَلِكَ قَال السُّبْكِيُّ: إِنَّ الْخِلاَفَ لَفْظِيٌّ (1) .
غَايَةُ الأَْمْرِ أَنَّ مَا يَدْخُل فِي دَائِرَةِ التَّطَوُّعِ بَعْضُهُ أَعْلَى مِنْ بَعْضٍ فِي الرُّتْبَةِ، فَأَعْلاَهُ هُوَ السُّنَّةُ الْمُؤَكَّدَةُ، كَالْعِيدَيْنِ، وَالْوِتْرِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَكَرَكْعَتَيِ الْفَجْرِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. وَيَلِي ذَلِكَ الْمَنْدُوبُ أَوِ الْمُسْتَحَبُّ كَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ، وَيَلِي ذَلِكَ مَا يُنْشِئُهُ الإِِْنْسَانُ ابْتِدَاءً، لَكِنَّ كُل ذَلِكَ يُسَمَّى تَطَوُّعًا (2) . وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلرَّجُل - الَّذِي سَأَل بَعْدَمَا عَرَفَ فَرَائِضَ الصَّلاَةِ وَالصِّيَامِ وَالزَّكَاةِ: هَل عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ فَقَال لَهُ: لاَ، إِلاَّ أَنْ تَطَوَّعَ (3) .
__________
(1) البدائع 1 / 285، 286، 290، 298، والكافي لابن عبد البر 1 / 255، والحطاب 2 / 75.
(2) جمع الجوامع 1 / 90، والكوكب المنير / 126، وإرشاد الفحول / 6، ونهاية المحتاج 2 / 101، وشرح منتهى الإرادات 1 / 222، والكافي لابن عبد البر 1 / 255.
(3) حديث: " لا، إلا أن تطوع " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 106 - ط السلفية) ، ومسلم (1 / 41 - ط الحلبي) من حديث طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه.(12/147)
أَنْوَاعُ التَّطَوُّعِ:
2 - مِنَ التَّطَوُّعِ مَا يَكُونُ لَهُ نَظِيرٌ مِنَ الْعِبَادَاتِ، مِنْ صَلاَةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ وَحَجٍّ وَجِهَادٍ، وَهَذَا هُوَ الأَْصْل، وَهُوَ الْمُتَبَادَرُ حِينَ يُذْكَرُ لَفْظُ التَّطَوُّعِ.
وَالتَّطَوُّعُ فِي الْعِبَادَاتِ يَخْتَلِفُ فِي جِنْسِهِ بِاعْتِبَارَاتٍ، فَهُوَ يَخْتَلِفُ مِنْ حَيْثُ الرُّتْبَةُ، إِذْ مِنْهُ مَا هُوَ مُؤَكَّدٌ كَالرَّوَاتِبِ مَعَ الْفَرَائِضِ، وَمِنْهُ مَا هُوَ أَقَل رُتْبَةً كَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ، وَمِنْهُ مَا هُوَ أَقَل كَالنَّوَافِل الْمُطْلَقَةِ لَيْلاً أَوْ نَهَارًا.
وَمِنْ ذَلِكَ فِي الصَّوْمِ: صِيَامُ يَوْمَيْ عَاشُورَاءَ وَعَرَفَةَ، فَهُمَا أَعْلَى رُتْبَةً مِنَ الصِّيَامِ فِي غَيْرِهِمَا، وَالاِعْتِكَافُ فِي الْعَشْرِ الأَْوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ أَفْضَل مِنْهُ فِي غَيْرِهَا. كَمَا أَنَّ التَّطَوُّعَ فِي الْعِبَادَاتِ يَخْتَلِفُ فِي جِنْسِهِ كَذَلِكَ مِنْ حَيْثُ الإِِْطْلاَقُ وَالتَّقْيِيدُ، فَمِنْهُ مَا هُوَ مُقَيَّدٌ، سَوَاءٌ أَكَانَ التَّقْيِيدُ بِوَقْتٍ أَوْ بِسَبَبٍ، كَالضُّحَى وَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ وَالرَّوَاتِبِ مَعَ الْفُرُوضِ. وَمِنْهُ مَا هُوَ مُطْلَقٌ كَالنَّفْل الْمُطْلَقِ بِاللَّيْل أَوْ بِالنَّهَارِ.
وَيَخْتَلِفُ كَذَلِكَ مِنْ حَيْثُ الْعَدَدُ كَالرَّوَاتِبِ مِنَ الْفُرُوضِ، إِذْ هِيَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ عَشْرٌ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ اثْنَتَا عَشْرَةَ رَكْعَةً: اثْنَتَانِ قَبْل الصُّبْحِ، وَاثْنَتَانِ قَبْل الظُّهْرِ (وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَرْبَعٌ) وَاثْنَتَانِ بَعْدَهُ، وَاثْنَتَانِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَاثْنَتَانِ بَعْدَ الْعِشَاءِ. وَالتَّطَوُّعُ فِي النَّهَارِ وَاللَّيْل مَثْنَى مَثْنَى عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ الأَْفْضَل أَرْبَعٌ بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ. وَمِثْل ذَلِكَ تَطَوُّعُ اللَّيْل عِنْدَ(12/148)
أَبِي حَنِيفَةَ خِلاَفًا لِلصَّاحِبَيْنِ، وَبِهَذَا يُفْتَى (1) .
وَفِي كُل مَا سَبَقَ تَفْصِيلٌ كَثِيرٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (السُّنَنُ الرَّوَاتِبُ، وَنَفْلٌ) وَفِيمَا لَهُ أَبْوَابٌ مِنْ ذَلِكَ مِثْل: عِيدٌ - كُسُوفٌ - اسْتِسْقَاءٌ. . . إِلَخْ.
وَمِنَ التَّطَوُّعِ مَا يَكُونُ فِي غَيْرِ الْعِبَادَاتِ كَطَلَبِ عِلْمٍ غَيْرِ مَفْرُوضٍ (2) .
وَكَذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْبِرِّ وَالْمَعْرُوفِ، كَالتَّطَوُّعِ بِالإِِْنْفَاقِ عَلَى قَرِيبٍ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ، أَوْ عَلَى أَجْنَبِيٍّ مُحْتَاجٍ، أَوْ قَضَاءِ الدَّيْنِ عَنْهُ، أَوْ إِبْرَاءِ الْمُعْسِرِ، أَوِ الْعَفْوِ عَنِ الْقِصَاصِ، أَوِ الإِِْرْفَاقِ الْمَعْرُوفِ بِجَعْل الْغَيْرِ يَحْصُل عَلَى مَنَافِعِ الْعَقَارِ، أَوْ إِسْقَاطِ الْحُقُوقِ. . . وَهَكَذَا.
وَمِنْهُ مَا يُعْرَفُ بِعُقُودِ التَّبَرُّعَاتِ، كَالْقَرْضِ وَالْوَصِيَّةِ وَالْوَقْفِ وَالإِِْعَارَةِ وَالْهِبَةِ، إِذْ إِنَّهَا قُرُبَاتٌ شُرِعَتْ لِلتَّعَاوُنِ بَيْنَ النَّاسِ.
3 - وَمِنَ التَّطَوُّعِ مَا هُوَ عَيْنِيٌّ مَطْلُوبٌ نَدْبًا مِنْ كُل فَرْدٍ، كَالتَّطَوُّعِ بِالْعِبَادَاتِ غَيْرِ الْمَفْرُوضَةِ مِنْ صَلاَةٍ وَصِيَامٍ. . . وَمِنْهُ مَا هُوَ عَلَى الْكِفَايَةِ كَالأَْذَانِ وَغَيْرِهِ. قَال النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ: ابْتِدَاءُ السَّلاَمِ سُنَّةٌ مُسْتَحَبَّةٌ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَهُوَ سُنَّةٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، فَإِِنْ كَانَ الْمُسَلِّمُ جَمَاعَةً كَفَى عَنْهُمْ
__________
(1) البدائع 1 / 284 - 294، 295، والهداية 1 / 66، 67، ومراقي الفلاح بحاشية الطحطاوي / 215، وجواهر الإكليل 1 / 73 - 76، والحطاب 1 / 415، ونهاية المحتاج 2 / 102 وما بعدها، وكشاف القناع 1 / 411 وما بعدها.
(2) شرح منتهى الإرادات 1 / 253.(12/148)
تَسْلِيمُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ. وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ سُنَّةٌ عَلَى الْكِفَايَةِ (1) .
حِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّةِ التَّطَوُّعِ:
4 - التَّطَوُّعُ يُقَرِّبُ الْعَبْدَ مِنْ رَبِّهِ وَيَزِيدُهُ ثَوَابًا، وَفِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ: وَمَا يَزَال عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِل حَتَّى أُحِبَّهُ. (2) الْحَدِيثُ. وَالْحِكْمَةُ مِنْ مَشْرُوعِيَّةِ التَّطَوُّعِ هِيَ:
أ - اكْتِسَابُ رِضْوَانِ اللَّهِ تَعَالَى: وَكَذَلِكَ نَيْل ثَوَابِهِ وَمُضَاعَفَةُ الْحَسَنَاتِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي ثَوَابِ التَّطَوُّعِ بِالْعِبَادَةِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا: قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ ثَابَرَ عَلَى اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ. (3) وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رَكْعَتَا الْفَجْرِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا (4)
__________
(1) البدائع 1 / 288، والفواكه الدواني 2 / 387، والذخيرة / 80، والأذكار للنووي / 210، 211.
(2) الحديث القدسي: " وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل. . . " أخرجه البخاري (الفتح 11 / 341 - ط السلفية) .
(3) حديث: " من ثابر على اثنتي عشرة ركعة في اليوم والليلة بنى الله له بيتا في الجنة " أخرجه الترمذي (2 / 273 - ط الحلبي) من حديث عائشة رضي الله عنها، وأصله في مسلم (1 / 503 - ط الحلبي) من حديث أم حبيبة رضي الله عنها.
(4) حديث: " ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها " أخرجه مسلم (1 / 501 ط الحلبي) من حديث عائشة رضي الله عنها.(12/149)
وَغَيْرُ ذَلِكَ كَثِيرٌ فِي شَأْنِ الصَّلاَةِ (1) .
وَفِي صَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ يَقُول النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي لأََحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ (2) وَالْمُرَادُ الصَّغَائِرُ. حَكَاهُ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ عَنِ الْعُلَمَاءِ، فَإِِنْ لَمْ تَكُنِ الصَّغَائِرُ رُجِيَ التَّخْفِيفُ مِنَ الْكَبَائِرِ، فَإِِنْ لَمْ تَكُنْ رُفِعَتِ الدَّرَجَاتُ، وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ صَامَ رَمَضَانَ، ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ. (3)
وَقَال الزُّهْرِيُّ: فِي الاِعْتِكَافِ تَفْرِيغُ الْقَلْبِ عَنْ أُمُورِ الدُّنْيَا، وَتَسْلِيمُ النَّفْسِ إِِلَى بَارِئِهَا، وَالتَّحَصُّنُ بِحِصْنٍ حَصِينٍ، وَمُلاَزَمَةُ بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَال عَطَاءٌ: مَثَل الْمُعْتَكِفِ كَمَثَل رَجُلٍ لَهُ حَاجَةٌ إِِلَى عَظِيمٍ يَجْلِسُ عَلَى بَابِهِ، وَيَقُول: لاَ أَبْرَحُ حَتَّى تُقْضَى حَاجَتِي (4) .
وَمِثْل ذَلِكَ فِي غَيْرِ الْعِبَادَاتِ. يَقُول اللَّهُ تَعَالَى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} (5) ، وَيَقُول
__________
(1) نهاية المحتاج 3 / 199، والمنثور 3 / 61، والبدائع 1 / 284.
(2) حديث: " إني لأحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله " أخرجه مسلم (2 / 819 - ط الحلبي) من حديث أبي قتادة رضي الله عنه.
(3) حديث: " من صام رمضان ثم اتبعه ستا من شوال كان كصيام الدهر " أخرجه مسلم (2 / 822 - ط الحلبي) من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه.
(4) شرح منتهى الإرادات 1 / 459، والمبسوط 3 / 114، 115.
(5) سورة البقرة / 245.(12/149)
ابْنُ عَابِدِينَ: مِنْ مَحَاسِنِ الْعَارِيَّةِ أَنَّهَا نِيَابَةٌ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى فِي إِجَابَةِ الْمُضْطَرِّ؛ لأَِنَّهَا لاَ تَكُونُ إِلاَّ لِمُحْتَاجٍ كَالْقَرْضِ، فَلِذَا كَانَتِ الصَّدَقَةُ بِعَشَرَةٍ وَالْقَرْضُ بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ (1) .
ب - الأُْنْسُ بِالْعِبَادَةِ وَالتَّهَيُّؤُ لَهَا:
5 - قَال ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: فِي تَقْدِيمِ النَّوَافِل عَلَى الْفَرَائِضِ مَعْنًى لَطِيفٌ مُنَاسِبٌ؛ لأَِنَّ النُّفُوسَ لاِنْشِغَالِهَا بِأَسْبَابِ الدُّنْيَا تَكُونُ بَعِيدَةً عَنْ حَالَةِ الْخُشُوعِ وَالْخُضُوعِ وَالْحُضُورِ، الَّتِي هِيَ رُوحُ الْعِبَادَةِ، فَإِِذَا قُدِّمَتِ النَّوَافِل عَلَى الْفَرَائِضِ أَنِسَتِ النُّفُوسُ بِالْعِبَادَةِ، وَتَكَيَّفَتْ بِحَالَةٍ تُقَرِّبُ مِنَ الْخُشُوعِ (2) .
ج - جُبْرَانُ الْفَرَائِضِ:
6 - قَال ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: النَّوَافِل الَّتِي بَعْدَ الْفَرَائِضِ هِيَ لِجَبْرِ النَّقْصِ الَّذِي قَدْ يَقَعُ فِي الْفَرَائِضِ، فَإِِذَا وَقَعَ نَقْصٌ فِي الْفَرْضِ نَاسَبَ أَنْ يَقَعَ بَعْدَهُ مَا يُجْبِرُ الْخَلَل الَّذِي قَدْ يَقَعُ فِيهِ (3) .
وَفِي الْحَدِيثِ: فَإِِنِ انْتُقِصَ مِنْ فَرِيضَتِهِ شَيْءٌ، قَال الرَّبُّ عَزَّ وَجَل: انْظُرُوا هَل لِعَبْدِي
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 502.
(2) الشرح الصغير 1 / 145 ط الحلبي.
(3) الشرح الصغير 1 / 145.(12/150)
مِنْ تَطَوُّعٍ؟ فَيُكَمَّل بِهِ مَا انْتَقَصَ مِنَ الْفَرِيضَةِ. (1)
قَال الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِهِ الْكَبِيرِ عَلَى الْجَامِعِ عِنْدَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوَّل مَا افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَى أُمَّتِي الصَّلاَةَ. . . " (2) وَاعْلَمْ أَنَّ الْحَقَّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمْ يُوجِبْ شَيْئًا مِنَ الْفَرَائِضِ غَالِبًا إِلاَّ وَجَعَل لَهُ مِنْ جِنْسِهِ نَافِلَةً، حَتَّى إِِذَا قَامَ الْعَبْدُ بِذَلِكَ الْوَاجِبِ - وَفِيهِ خَلَلٌ مَا - يُجْبَرُ بِالنَّافِلَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ جِنْسِهِ، فَلِذَا أَمَرَ بِالنَّظَرِ فِي فَرِيضَةِ الْعَبْدِ، فَإِِذَا قَامَ بِهَا كَمَا أَمَرَ اللَّهُ جُوزِيَ عَلَيْهَا، وَأُثْبِتَتْ لَهُ، وَإِِنْ كَانَ فِيهَا خَلَلٌ كُمِّلَتْ مِنْ نَافِلَتِهِ حَتَّى قَال الْبَعْضُ: إِنَّمَا تَثْبُتُ لَكَ نَافِلَةٌ إِِذَا سَلِمَتْ لَكَ الْفَرِيضَةُ (3) . وَلِذَلِكَ يَقُول الْقُرْطُبِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: مَنْ تَرَكَ التَّطَوُّعَاتِ وَلَمْ يَعْمَل بِشَيْءٍ مِنْهَا فَقَدْ فَوَّتَ عَلَى نَفْسِهِ رِبْحًا عَظِيمًا وَثَوَابًا جَسِيمًا (4) .
__________
(1) حديث: " فإن انتقص من فريضته شيء، قال الرب عز وجل: انظروا هل لعبدي من تطوع " أخرجه الترمذي وحسنه (2 / 269 - 270 ط مصطفى البابي) وابن ماجه (1 / 458 ط عيسى الحلبي) ونقل أحمد شاكر عن ابن حجر تصحيحه، (الترمذي 2 / 271 ط مصطفى الحلبي) .
(2) حديث: " أول ما افترض الله على أمتي الصلاة " عزاه السيوطي في الجامع الصغير إلى الحاكم في الكنى وحسنه، وسكت عنه المناوي، (فيض القدير 3 / 95. ط المكتبة التجارية) .
(3) نهاية المحتاج 2 / 102، وكشاف القناع 1 / 411.
(4) الحطاب 2 / 75.(12/150)
د - التَّعَاوُنُ بَيْنَ النَّاسِ وَتَوْثِيقُ الرَّوَابِطِ بَيْنَهُمْ وَاسْتِجْلاَبُ مَحَبَّتِهِمُ:
7 - التَّطَوُّعُ بِأَنْوَاعِ الْبِرِّ وَالْمَعْرُوفِ يَنْشُرُ التَّعَاوُنَ بَيْنَ النَّاسِ، وَلِذَلِكَ دَعَا اللَّهُ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (1) ، وَيَقُول النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا دَامَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ (2) وَفِي فَتْحِ الْبَارِي عِنْدَ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا. (3) يَقُول ابْنُ حَجَرٍ: فِي الْحَدِيثِ الْحَضُّ عَلَى الْخَيْرِ بِالْفِعْل، وَبِالتَّسَبُّبِ إِلَيْهِ بِكُل وَجْهٍ، وَالشَّفَاعَةِ إِِلَى الْكَبِيرِ فِي كَشْفِ كُرْبَةٍ وَمَعُونَةِ ضَعِيفٍ، إِذْ لَيْسَ كُل أَحَدٍ يَقْدِرُ عَلَى الْوُصُول إِِلَى الرَّئِيسِ (4) .
كَذَلِكَ يَقُول النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَهَادَوْا تَحَابُّوا (5)
أَفْضَل التَّطَوُّعِ:
8 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَفْضَل التَّطَوُّعِ، فَقِيل:
__________
(1) سورة المائدة / 2.
(2) حديث: " والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه " أخرجه مسلم (4 / 2074 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3) حديث: " اشفعوا تؤجروا " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 299 - ط السلفية) . من حديث أبي موسى الأشعري.
(4) فتح الباري 10 / 451 ط مكتبة الرياض الحديثة.
(5) حديث: " تهادوا تحابوا " أخرجه البخاري في الأدب المفرد (ص 155 - ط السلفية) وحسنه ابن حجر في التلخيص (3 / 70 - ط شركة الطباعة الفنية) .(12/151)
أَفْضَل عِبَادَاتِ الْبَدَنِ الصَّلاَةُ. فَفَرْضُهَا أَفْضَل مِنْ فَرْضِ غَيْرِهَا، وَتَطَوُّعُهَا أَفْضَل مِنْ تَطَوُّعِ غَيْرِهَا؛ لأَِنَّهَا أَعْظَمُ الْقُرُبَاتِ، لِجَمْعِهَا أَنْوَاعًا مِنَ الْعِبَادَاتِ لاَ تُجْمَعُ فِي غَيْرِهَا. قَال بِهَذَا الْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَلَهُمْ قَوْلٌ آخَرُ بِتَفْضِيل الصِّيَامِ.
قَال صَاحِبُ الْمَجْمُوعِ: وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِمْ: الصَّلاَةُ أَفْضَل مِنَ الصَّوْمِ: أَنَّ صَلاَةَ رَكْعَتَيْنِ أَفْضَل مِنْ صِيَامِ أَيَّامٍ أَوْ يَوْمٍ، فَإِِنَّ الصَّوْمَ أَفْضَل مِنْ رَكْعَتَيْنِ بِلاَ شَكٍّ، وَإِِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّ مَنْ لَمْ يُمْكِنْهُ الْجَمْعُ بَيْنَ الاِسْتِكْثَارِ مِنَ الصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ، وَأَرَادَ أَنْ يَسْتَكْثِرَ مِنْ أَحَدِهِمَا، أَوْ يَكُونُ غَالِبًا عَلَيْهِ، مَنْسُوبًا إِِلَى الإِِْكْثَارِ مِنْهُ، وَيَقْتَصِرُ مِنَ الآْخَرِ عَلَى الْمُتَأَكِّدِ مِنْهُ، فَهَذَا مَحَل الْخِلاَفِ وَالتَّفْصِيل. وَالصَّحِيحُ تَفْضِيل الصَّلاَةِ (1) .
وَيَقُول الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ أَفْضَل تَطَوُّعَاتِ الْبَدَنِ الْجِهَادُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَضَّل اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً} (2) ثُمَّ النَّفَقَةُ فِيهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَثَل الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيل اللَّهِ كَمَثَل حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِل} (3) الآْيَةَ، ثُمَّ تَعَلُّمُ الْعِلْمِ
__________
(1) الشرح الصغير 1 / 145 ط الحلبي، والمهذب 1 / 89، والمجموع شرح المهذب 3 / 456، 457، 459.
(2) سورة النساء / 95.
(3) سورة البقرة / 261.(12/151)
وَتَعْلِيمُهُ، لِحَدِيثِ: فَضْل الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ (1) .
ثُمَّ الصَّلاَةُ أَفْضَل بَعْدَ ذَلِكَ، لِلإِِْخْبَارِ بِأَنَّهَا أَحَبُّ الأَْعْمَال إِِلَى اللَّهِ، وَمُدَاوَمَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى نَفْلِهَا. وَنَصَّ الإِِْمَامُ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّ الطَّوَافَ لِغَرِيبٍ أَفْضَل مِنْهَا، أَيْ مِنَ الصَّلاَةِ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ؛ لأَِنَّهُ خَاصٌّ بِهِ يَفُوتُ بِمُفَارَقَتِهِ بِخِلاَفِ الصَّلاَةِ، فَالاِشْتِغَال بِمَفْضُولٍ يَخْتَصُّ بُقْعَةً أَوْ زَمَنًا أَفْضَل مِنْ فَاضِلٍ لاَ يَخْتَصُّ، وَاخْتَارَ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ تَبَعًا لِلْغَزَالِيِّ فِي الإِِْحْيَاءِ: أَنَّ أَفْضَل الطَّاعَاتِ عَلَى قَدْرِ الْمَصَالِحِ النَّاشِئَةِ عَنْهَا (2) .
9 - وَيَتَفَاوَتُ مَا يَتَعَدَّى نَفْعُهُ فِي الْفَضْل، فَصَدَقَةٌ عَلَى قَرِيبٍ مُحْتَاجٍ أَفْضَل مِنْ عِتْقِ أَجْنَبِيٍّ؛ لأَِنَّهَا صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ.
وَفِي الْمَنْثُورِ فِي الْقَوَاعِدِ لِلزَّرْكَشِيِّ: لَوْ مَلَكَ عَقَارًا، وَأَرَادَ الْخُرُوجَ عَنْهُ، فَهَل الأَْوْلَى الصَّدَقَةُ بِهِ حَالاً، أَمْ وَقْفُهُ؟ قَال ابْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ: إِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي وَقْتِ شِدَّةٍ وَحَاجَةٍ فَتَعْجِيل الصَّدَقَةِ أَفْضَل، وَإِِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَفِيهِ وَقْفَةٌ، وَلَعَل الْوَقْفَ أَوْلَى، لِكَثْرَةِ جَدْوَاهُ. وَأَطْلَقَ ابْنُ الرِّفْعَةِ
__________
(1) حديث: " فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم " أخرجه الترمذي (5 / 50 - ط الحلبي) من حديث أبي أمامة رضي الله عنه واستغربه.
(2) شرح منتهى الإرادات 1 / 222، 223، وكشاف القناع 1 / 411، 412، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 160.(12/152)
تَقْدِيمَ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ بِهِ، لِمَا فِيهِ مِنْ قَطْعِ حَظِّ النَّفْسِ فِي الْحَال بِخِلاَفِ الْوَقْفِ.
وَفِي الْمَنْثُورِ أَيْضًا: مَرَاتِبُ الْقُرْبِ تَتَفَاوَتُ، فَالْقُرْبَةُ فِي الْهِبَةِ أَتَمُّ مِنْهَا فِي الْقَرْضِ، وَفِي الْوَقْفِ أَتَمُّ مِنْهَا فِي الْهِبَةِ، لأَِنَّ نَفْعَهُ دَائِمٌ يَتَكَرَّرُ، وَالصَّدَقَةُ أَتَمُّ مِنَ الْكُل؛ لأَِنَّ قَطْعَ حَظِّهِ مِنَ الْمُتَصَدَّقِ بِهِ فِي الْحَال (1) .
وَقِيل: إِنَّ الْقَرْضَ أَفْضَل مِنَ الصَّدَقَةِ (2) .
لأَِنَّ رَسُول اللَّهِ رَأَى لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ مَكْتُوبًا عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ: دِرْهَمُ الْقَرْضِ بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وَدِرْهَمُ الصَّدَقَةِ بِعَشْرٍ، فَسَأَل جِبْرِيل: مَا بَال الْقَرْضِ أَفْضَل مِنَ الصَّدَقَةِ: فَقَال: لأَِنَّ السَّائِل يَسْأَل وَعِنْدَهُ، وَالْمُقْتَرِضُ لاَ يَقْتَرِضُ إِلاَّ مِنْ حَاجَةٍ. (3)
وَتَكَسُّبُ مَا زَادَ عَلَى قَدْرِ الْكِفَايَةِ - لِمُوَاسَاةِ الْفَقِيرِ أَوْ مُجَازَاةِ الْقَرِيبِ - أَفْضَل مِنَ التَّخَلِّي لِنَفْل الْعِبَادَةِ؛ لأَِنَّ مَنْفَعَةَ النَّفْل تَخُصُّهُ، وَمَنْفَعَةُ الْكَسْبِ لَهُ وَلِغَيْرِهِ (4) ، فَقَدْ قَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: خَيْرُ النَّاسِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ (5) وَعَنْ
__________
(1) المنثور 1 / 345، 3 / 62.
(2) منح الجليل 3 / 46، والمهذب 1 / 309.
(3) حديث: " رأيت ليلة أسري بي على باب الجنة. . . " أخرجه ابن ماجه (2 / 812 - ط الحلبي) وقال البوصيري: في إسناده خالد بن يزيد ضعفه أحمد وابن معين وغيرهم.
(4) الاختيار 4 / 172.
(5) حديث: " خير الناس أنفعهم للناس " أخرجه القضاعي في مسند الشهاب (2 / 223 - ط الرسالة) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، وهو حسن لطرقه.(12/152)
عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَال: إِنَّ الأَْعْمَال تَتَبَاهَى، فَتَقُول الصَّدَقَةُ: أَنَا أَفْضَلُكُمْ (1) .
وَفِي الأَْشْبَاهِ لاِبْنِ نُجَيْمٍ: بِنَاءُ الرِّبَاطِ بِحَيْثُ يَنْتَفِعُ بِهِ الْمُسْلِمُونَ، أَفْضَل مِنَ الْحَجَّةِ الثَّانِيَةِ (2) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
10 - الأَْصْل فِي التَّطَوُّعِ أَنَّهُ مَنْدُوبٌ (3) . سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ فِي الْعِبَادَاتِ مِنْ صَلاَةٍ وَصِيَامٍ. . . أَمْ كَانَ فِي غَيْرِهَا مِنْ أَنْوَاعِ الْبِرِّ وَالْمَعْرُوفِ، كَالإِِْعَارَةِ وَالْوَقْفِ وَالْوَصِيَّةِ وَأَنْوَاعِ الإِِْرْفَاقِ.
وَالدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْكِتَابِ آيَاتٌ مِنْهَا: قَوْله تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (4) ، وقَوْله تَعَالَى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} . (5)
__________
(1) عن عمر بن الخطاب قال: إن الأعمال تتباهى، فتقول الصدقة: أنا أفضلكم. أخرجه ابن خزيمة (4 / 95 - ط المكتب الإسلامي) وأعله بجهالة أحد رواته.
(2) الأشباه لابن نجيم / 174.
(3) الفواكه الدواني 2 / 216، 362، والاختيار 4 / 172 و 3 / 55، والمهذب 1 / 89، 194، 309، ومغني المحتاج 3 / 120، وشرح منتهى الإرادات 1 / 222، 223، ومنح الجليل 3 / 46، 487.
(4) سورة المائدة / 2.
(5) سورة البقرة / 245.(12/153)
وَمِنَ السُّنَّةِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ صَلَّى ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ بُنِيَ لَهُ بِهِنَّ بَيْتٌ فِي الْجَنَّةِ (1) قَوْلُهُ: مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ (2) وَقَوْلُهُ: اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ (3) وَقَوْلُهُ: لاَ يَمْنَعُ أَحَدُكُمْ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَهُ فِي جِدَارِهِ. (4)
وَقَدْ يَعْرِضُ لَهُ الْوُجُوبُ، كَبَذْل الطَّعَامِ لِلْمُضْطَرِّ، وَكَإِِعَارَةِ مَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ لِمَنْ يُخْشَى هَلاَكُهُ بِعَدَمِهَا، وَكَإِِعَارَةِ الْحَبْل لإِِِنْقَاذِ غَرِيقٍ (5) .
وَقَدْ يَكُونُ حَرَامًا، كَالْعِبَادَةِ الَّتِي تَقَعُ فِي الأَْوْقَاتِ الْمُحَرَّمَةِ كَالصَّلاَةِ وَقْتَ طُلُوعِ الشَّمْسِ أَوْ غُرُوبِهَا، وَكَصِيَامِ يَوْمَيِ الْعِيدِ، وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَكَتَصَدُّقِ الْمَدِينِ مَعَ حُلُول دَيْنِهِ
__________
(1) حديث: " من صلى ثنتي عشرة ركعة في يوم وليلة بني له بهن بيت في الجنة " أخرجه مسلم (1 / 503 - ط الحلبي) من حديث أم حبيبة رضي الله عنها.
(2) حديث: " من صام رمضان ثم ستا من شوال كان كصيام الدهر " تقدم تخريجه (ف / 4) .
(3) حديث: " اتقوا النار ولو بشق تمرة " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 283 - ط السلفية) ومسلم (2 / 704 - ط الحلبي) من حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه.
(4) حديث: " لا يمنع أحدكم جارة أن يغرز خشبه في جداره " أخرجه البخاري (الفتح 5 / 110 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1230 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(5) المهذب 1 / 257، والمنح 3 / 487، والقواعد لابن رجب ص 228.(12/153)
وَالْمُطَالَبَةِ بِهِ، وَعَدَمِ وُجُودِ مَا يُسَدِّدُ بِهِ دَيْنَهُ (1) .
وَقَدْ يَكُونُ مَكْرُوهًا، كَوُقُوعِ الصَّلاَةِ فِي الأَْوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ، كَمَا أَنَّهُ يُكْرَهُ تَرْكُ التَّسْوِيَةِ فِي الْعَطِيَّةِ لأَِوْلاَدِهِ (2) .
أَهْلِيَّةُ التَّطَوُّعِ:
11 - التَّطَوُّعُ يَكُونُ فِي الْعِبَادَاتِ وَغَيْرِهَا، أَمَّا الْعِبَادَاتُ فَإِِنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْمُتَطَوِّعِ بِهَا مَا يَلِي:
أ - أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا، فَلاَ يَصِحُّ التَّطَوُّعُ بِالْعِبَادَاتِ مِنَ الْكَافِرِ، لأَِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْل الْعِبَادَةِ.
ب - أَنْ يَكُونَ عَاقِلاً، فَلاَ تَصِحُّ الْعِبَادَةُ مِنَ الْمَجْنُونِ، لِعَدَمِ صِحَّةِ نِيَّتِهِ. وَهَذَا فِي غَيْرِ الْحَجِّ،
لأَِنَّهُ فِي الْحَجِّ يُحْرِمُ عَنْهُ وَلِيُّهُ، وَكَذَلِكَ يُحْرِمُ الْوَلِيُّ عَنَ الصَّبِيِّ غَيْرِ الْمُمَيِّزِ.
ج - التَّمْيِيزُ، فَلاَ يَصِحُّ التَّطَوُّعُ مِنْ غَيْرِ الْمُمَيِّزِ، وَلاَ يُشْتَرَطُ الْبُلُوغُ؛ لأَِنَّ تَطَوُّعَ الصَّبِيِّ بِالْعِبَادَاتِ صَحِيحٌ (3) .
وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِغَيْرِ الْعِبَادَاتِ: فَإِِنَّ الشَّرْطَ هُوَ أَهْلِيَّةُ التَّبَرُّعِ مِنْ عَقْلٍ وَبُلُوغٍ وَرُشْدٍ، فَلاَ يَصِحُّ
__________
(1) المنثور في القواعد 3 / 278، ومنح الجليل 3 / 489.
(2) جواهر الإكليل 1 / 34، ومغني المحتاج 3 / 401.
(3) الأشباه لابن نجيم ص 50، 307، والأشباه للسيوطي ص 214، 219.(12/154)
تَبَرُّعُ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ لِصِغَرٍ أَوْ سَفَهٍ أَوْ دَيْنٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ (1) .
وَتَفْصِيل هَذَا يُنْظَرُ فِي (أَهْلِيَّةٌ) .
أَحْكَامُ التَّطَوُّعِ:
12 - أَحْكَامُ التَّطَوُّعِ مِنْهَا مَا يَخُصُّ الْعِبَادَاتِ، وَمِنْهَا مَا يَشْمَل الْعِبَادَاتِ وَغَيْرَهَا، وَمِنْهَا مَا يَخُصُّ غَيْرَ الْعِبَادَاتِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي:
(أَوَّلاً) مَا يَخُصُّ الْعِبَادَاتِ:
أ - مَا تُسَنُّ لَهُ الْجَمَاعَةُ مِنْ صَلاَةِ التَّطَوُّعِ:
13 - تُسَنُّ الْجَمَاعَةُ لِصَلاَةِ الْكُسُوفِ بِاتِّفَاقٍ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ، وَتُسَنُّ لِلتَّرَاوِيحِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. وَهِيَ مَنْدُوبَةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، إِذِ الأَْفْضَل الاِنْفِرَادُ بِهَا - بَعِيدًا عَنِ الرِّيَاءِ - إِنْ لَمْ تُعَطَّل الْمَسَاجِدُ عَنْ فِعْلِهَا فِيهَا. وَتُسَنُّ الْجَمَاعَةُ كَذَلِكَ لِصَلاَةِ الاِسْتِسْقَاءِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَتُصَلَّى جَمَاعَةً وَفُرَادَى عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَلاَ تُصَلَّى إِلاَّ فُرَادَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَتُسَنُّ الْجَمَاعَةُ لِصَلاَةِ الْعِيدَيْنِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ. أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فَالْجَمَاعَةُ فِيهَا وَاجِبَةٌ. وَيُسَنُّ الْوِتْرُ جَمَاعَةً عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ
وَبَقِيَّةُ التَّطَوُّعَاتِ تَجُوزُ جَمَاعَةً وَفُرَادَى عِنْدَ
__________
(1) الشرح الصغير 2 / 312 ط الحلبي، والهداية 4 / 234، ونهاية المحتاج 5 / 356.(12/154)
الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَتُكْرَهُ جَمَاعَةً عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِِذَا كَانَتْ عَلَى سَبِيل التَّدَاعِي، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ الْجَمَاعَةُ فِي الشَّفْعِ وَالْوِتْرِ سُنَّةٌ وَالْفَجْرُ خِلاَفُ الأَْوْلَى. أَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ فَيَجُوزُ فِعْلُهُ جَمَاعَةً، إِلاَّ أَنْ تَكْثُرَ الْجَمَاعَةُ أَوْ يَشْتَهِرَ الْمَكَانُ فَتُكْرَهُ الْجَمَاعَةُ حَذَرَ الرِّيَاءِ (1) .
وَالتَّفْصِيل يُنْظَرُ فِي (صَلاَةُ الْجَمَاعَةِ - نَفْلٌ)
مَكَانُ صَلاَةِ التَّطَوُّعِ:
14 - صَلاَةُ التَّطَوُّعِ فِي الْبُيُوتِ أَفْضَل، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَلُّوا أَيُّهَا النَّاسُ فِي بُيُوتِكُمْ، فَإِِنَّ أَفْضَل صَلاَةِ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلاَّ الْمَكْتُوبَةَ (2) وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَا شُرِعَتْ لَهُ الْجَمَاعَةُ، فَفِعْلُهُ فِي الْمَسْجِدِ أَفْضَل، وَيُسْتَثْنَى كَذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ صَلاَةُ الرَّوَاتِبِ مَعَ الْفَرَائِضِ، فَيُنْدَبُ فِعْلُهَا فِي الْمَسْجِدِ، كَمَا أَنَّ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ تُصَلَّى فِي الْمَسْجِدِ.
وَيُسْتَحَبُّ لِلْمُصَلِّي عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنْ يَتَنَفَّل فِي غَيْرِ الْمَكَانِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ الْمَكْتُوبَةَ (3) . وَقَال
__________
(1) البدائع 1 / 274، 280، 298، والشرح الصغير 1 / 152، وجواهر الإكليل 1 / 74، 76، ونهاية المحتاج 1 / 102، 120، وشرح منتهى الإرادات 1 / 224، والمغني 2 / 142، ونيل المآرب 1 / 204 ط الفلاح.
(2) حديث: " صلوا أيها الناس في بيوتكم " أخرجه البخاري (الفتح 2 / 214 - ط السلفية) من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه.
(3) الفواكه الدواني 2 / 365، والحطاب 2 / 67، والكافي لابن عبد البر 1 / 212، 260، والمغني 1 / 561، 2 / 128، 141، ومنتهى الإرادات 1 / 231، والمهذب 1 / 91، 92، ومغني المحتاج 1 / 183.(12/155)
الْكَاسَانِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: يُكْرَهُ لِلإِِْمَامِ أَنْ يُصَلِّيَ شَيْئًا مِنَ السُّنَنِ فِي الْمَكَانِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ الْمَكْتُوبَةَ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ إِِذَا صَلَّى أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (1) ، وَلاَ يُكْرَهُ ذَلِكَ لِلْمَأْمُومِ، لأَِنَّ الْكَرَاهَةَ فِي حَقِّ الإِِْمَامِ لِلاِشْتِبَاهِ، وَهَذَا لاَ يُوجَدُ فِي حَقِّ الْمَأْمُومِ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَتَنَحَّى أَيْضًا، حَتَّى تَنْكَسِرَ الصُّفُوفُ، وَيَزُول الاِشْتِبَاهُ عَلَى الدَّاخِل مِنْ كُل وَجْهٍ (2) وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: قَال أَحْمَدُ: لاَ يَتَطَوَّعُ الإِِْمَامُ فِي مَكَانِهِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ الْمَكْتُوبَةَ. كَذَا قَال عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. قَال أَحْمَدُ: وَمَنْ صَلَّى وَرَاءَ الإِِْمَامِ فَلاَ بَأْسَ أَنْ يَتَطَوَّعَ مَكَانَهُ، فَعَل ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وَبِهَذَا قَال إِسْحَاقُ، وَرَوَى أَبُو بَكْرٍ حَدِيثَ عَلِيٍّ بِإِِسْنَادِهِ. وَبِإِِسْنَادِهِ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) حديث: " أيعجز أحدكم إذا صلى أن يتقدم أو يتأخر " أخرجه ابن ماجه (1 / 458 ط عيسى الحلبي) ، وأبو داود (1 / 409 ط عبيد الدعاس) . وضعف الحديث الحافظ في فتح الباري (2 / 335 ط السلفية) . لكنه حسن إسناده عند ابن أبي شيبة عن علي بلفظ " من السنة أن لا يتطوع الإمام حتى يتحول من مكانه " فهو إن شاء الله بشواهده حسن الإسناد.
(2) البدائع 1 / 285، 298.(12/155)
قَال: لاَ يَتَطَوَّعُ الإِِْمَامُ فِي مَقَامِهِ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ الْمَكْتُوبَةَ. (1)
صَلاَةُ التَّطَوُّعِ عَلَى الدَّابَّةِ:
15 - يَجُوزُ بِاتِّفَاقِ الْمَذَاهِبِ صَلاَةُ التَّطَوُّعِ عَلَى الدَّابَّةِ فِي السَّفَرِ. قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لاَ نَعْلَمُ خِلاَفًا بَيْنَ أَهْل الْعِلْمِ فِي إِبَاحَةِ التَّطَوُّعِ عَلَى الرَّاحِلَةِ فِي السَّفَرِ الطَّوِيل. قَال التِّرْمِذِيُّ: هَذَا عِنْدَ عَامَّةِ أَهْل الْعِلْمِ، وَقَال ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ جَائِزٌ لِكُل مَنْ سَافَرَ سَفَرًا يَقْصُرُ فِيهِ الصَّلاَةَ أَنْ يَتَطَوَّعَ عَلَى دَابَّتِهِ حَيْثُمَا تَوَجَّهَتْ، يُومِئُ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَيَجْعَل السُّجُودَ أَخْفَضَ مِنَ الرُّكُوعِ.
وَيَجُوزُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ التَّطَوُّعُ عَلَى الرَّاحِلَةِ فِي السَّفَرِ الْقَصِيرِ أَيْضًا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} (2) ، قَال ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: نَزَلَتْ هَذِهِ الآْيَةُ فِي التَّطَوُّعِ خَاصَّةً حَيْثُ تَوَجَّهَ بِهِ بَعِيرُك. وَهَذَا يَتَنَاوَل بِإِِطْلاَقِهِ مَحَل النِّزَاعِ، وَعَنِ
__________
(1) المغني 1 / 562. وحديث: " لا يتطوع الإمام في مقامه الذي يصل فيه المكتوبة " أخرجه ابن عدي في الكامل (5 / 1997 ط دار الفكر) ، وأبو داود (1 / 409 ط عبيد الدعاس) ، وابن ماجه (1 / 459 ط عيسى الحلبي) بنحوه. انظر تخريج الحديث السابق، وهو بشواهده حسن الإسناد.
(2) سورة البقرة / 115.(12/156)
ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُوتِرُ عَلَى بَعِيرِهِ، وَفِي رِوَايَةٍ: كَانَ يُسَبِّحُ عَلَى ظَهْرِ رَاحِلَتِهِ حَيْثُ كَانَ وَجْهُهُ، يُومِئُ بِرَأْسِهِ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُهُ (1) . وَلِلْبُخَارِيِّ: إِلاَّ الْفَرَائِضَ وَلِمُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُدَ: غَيْرَ أَنَّهُ لاَ يُصَلِّي عَلَيْهَا الْمَكْتُوبَةَ وَلَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَ قَصِيرِ السَّفَرِ وَطَوِيلِهِ؛ وَلأَِنَّ إِبَاحَةَ الصَّلاَةِ عَلَى الرَّاحِلَةِ تَخْفِيفٌ فِي التَّطَوُّعِ، كَيْ لاَ يُؤَدِّيَ إِِلَى قَطْعِهَا وَتَقْلِيلِهَا (2) .
وَالْوِتْرُ وَاجِبٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَلِهَذَا لاَ يُؤَدَّى عَلَى الرَّاحِلَةِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَى النُّزُول. كَذَلِكَ رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ مَنْ صَلَّى رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ عَلَى الدَّابَّةِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى النُّزُول لاَ يَجُوزُ، لاِخْتِصَاصِ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ بِزِيَادَةِ تَوْكِيدٍ وَتَرْغِيبٍ بِتَحْصِيلِهَا وَتَرْهِيبٍ وَتَحْذِيرٍ عَلَى تَرْكِهَا، فَالْتَحَقَتْ بِالْوَاجِبَاتِ كَالْوِتْرِ (3) . وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي: (نَفْلٌ - نَافِلَةٌ) .
__________
(1) حديث: " كان يوتر على بعيره " وفي رواية: " كان يسبح على ظهر راحلته حيث كان وجهه، يومئ برأسه وكان ابن عمر يفعله " أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 573 ط السلفية) ومسلم (1 / 487 ط الحلبي) .
(2) وهذا يتناول كل وسائل النقل الحديثة من السيارات والطائرات على تفصيل ينظر في ملحق المسائل المستحدثة.
(3) البدائع 1 / 271، 290 وما بعدها، والهداية 1 / 69، وجواهر الإكليل 1 / 44، ومغني المحتاج 1 / 142، والمغني 1 / 434، 435.(12/156)
صَلاَةُ التَّطَوُّعِ قَاعِدًا:
16 - تَجُوزُ صَلاَةُ التَّطَوُّعِ مِنْ قُعُودٍ بِاتِّفَاقٍ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ. قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لاَ نَعْلَمُ خِلاَفًا فِي إِبَاحَةِ التَّطَوُّعِ جَالِسًا، وَأَنَّهُ فِي الْقِيَامِ أَفْضَل، وَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ صَلَّى قَائِمًا فَهُوَ أَفْضَل، وَمَنْ صَلَّى قَاعِدًا فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِ الْقَائِمِ (1) وَلأَِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَشُقُّ عَلَيْهِ الْقِيَامُ، فَلَوْ وَجَبَ فِي التَّطَوُّعِ لَتَرَكَ أَكْثَرَهُ، فَسَامَحَ الشَّارِعُ فِي تَرْكِ الْقِيَامِ فِيهِ تَرْغِيبًا فِي تَكْثِيرِهِ (2) .
الْفَصْل بَيْنَ الصَّلاَةِ الْمَفْرُوضَةِ وَصَلاَةِ التَّطَوُّعِ:
17 - يُسْتَحَبُّ أَنْ يَفْصِل الْمُصَلِّي بَيْنَ الصَّلاَةِ الْمَفْرُوضَةِ وَصَلاَةِ التَّطَوُّعِ بَعْدَهَا بِالأَْذْكَارِ الْوَارِدَةِ، كَالتَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّكْبِيرِ، وَهَذَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يُكْرَهُ الْفَصْل بَيْنَ الْمَكْتُوبَةِ وَالسُّنَّةِ، بَل يَشْتَغِل بِالسُّنَّةِ (3) . وَلِلتَّفْصِيل: (ر: نَفْلٌ) .
قَضَاءُ التَّطَوُّعِ:
18 - إِِذَا فَاتَ التَّطَوُّعُ - سَوَاءٌ الْمُطْلَقُ، أَوِ الْمُقَيَّدُ
__________
(1) حديث: " من صلى قائما فهو أفضل، ومن صلى قاعدا فله نصف أجر القائم " أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 586 - ط السلفية) من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه.
(2) الهداية 1 / 69، والبدائع 1 / 297، 298، وجواهر الإكليل 1 / 57، ومغني المحتاج 1 / 155. والمغني 2 / 142.
(3) الاختيار 1 / 66، وجواهر الإكليل 1 / 73، والمهذب 1 / 87، ومنتهى الإرادات 1 / 194.(12/157)
بِسَبَبٍ أَوْ وَقْتٍ - فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ لاَ يُقْضَى سِوَى رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ، لِمَا رَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: صَلَّى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَصْرَ ثُمَّ دَخَل بَيْتِي فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ، صَلَّيْتَ صَلاَةً لَمْ تَكُنْ تُصَلِّيهَا فَقَال: قَدِمَ عَلَيَّ مَالٌ فَشَغَلَنِي عَنِ الرَّكْعَتَيْنِ كُنْتُ أَرْكَعُهُمَا بَعْدَ الظُّهْرِ، فَصَلَّيْتُهُمَا الآْنَ. فَقُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ أَفَنَقْضِيهِمَا إِِذَا فَاتَتَا؟ قَال: لاَ. (1) وَهَذَا نَصٌّ عَلَى أَنَّ الْقَضَاءَ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى الأُْمَّةِ، وَإِِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ اخْتَصَّ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلاَ شَرِكَةَ لَنَا فِي خَصَائِصِهِ. وَقِيَاسُ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ لاَ يَجِبُ قَضَاءُ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ أَصْلاً، إِلاَّ أَنَّا اسْتَحْسَنَّا الْقَضَاءَ إِِذَا فَاتَتَا مَعَ الْفَرْضِ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَهُمَا مَعَ الْفَرْضِ لَيْلَةَ التَّعْرِيسِ (2) فَنَحْنُ نَفْعَل ذَلِكَ لِنَكُونَ عَلَى طَرِيقَتِهِ. وَهَذَا بِخِلاَفِ الْوِتْرِ، لأَِنَّهُ وَاجِبٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْوَاجِبُ مُلْحَقٌ بِالْفَرْضِ فِي حَقِّ الْعَمَل.
وَقَال النَّوَوِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: لَوْ فَاتَ النَّفَل
__________
(1) حديث أم سلمة: " قالت: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر ثم دخل بيتي. . . " أخرجه أحمد (6 / 315 - ط الميمنية) وقال الهيثمي (2 / 224 - ط القدسي) : رجال أحمد رجال الصحيح.
(2) حديث: " فعلهما مع الفرض ليلة التعريس " أخرجه مسلم (1 / 473 - الحلبي) من حديث أبي قتادة رضي الله عنه.(12/157)
الْمُؤَقَّتُ (كَصَلاَةِ الْعِيدِ وَالضُّحَى) نُدِبَ قَضَاؤُهُ فِي الأَْظْهَرِ، لِحَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ: مَنْ نَسِيَ صَلاَةً أَوْ نَامَ عَنْهَا فَكَفَّارَتُهَا أَنْ يُصَلِّيَهَا إِِذَا ذَكَرَهَا (1) وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ لَمَّا نَامَ فِي الْوَادِي عَنْ صَلاَةِ الصُّبْحِ إِِلَى أَنْ طَلَعَتِ الشَّمْسُ. وَفِي مُسْلِمٍ نَحْوُهُ. وَقَضَى رَكْعَتَيْ سُنَّةِ الظُّهْرِ الْمُتَأَخِّرَةِ بَعْدَ الْعَصْرِ؛ وَلأَِنَّهَا صَلاَةٌ مُؤَقَّتَةٌ فَقُضِيَتْ كَالْفَرَائِضِ، وَسَوَاءٌ السَّفَرُ وَالْحَضَرُ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ الْمُقْرِي.
وَالثَّانِي: لاَ يُقْضَى كَغَيْرِ الْمُؤَقَّتِ.
وَالثَّالِثُ: إِنْ لَمْ يَتْبَعْ غَيْرَهُ كَالضُّحَى قُضِيَ، لِشَبَهِهِ بِالْفَرْضِ فِي الاِسْتِقْلاَل، وَإِِنْ تَبِعَ غَيْرَهُ كَالرَّوَاتِبِ فَلاَ. قَال الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ فِي شَرْحِ الْمِنْهَاجِ: قَضِيَّةُ كَلاَمِهِ (أَيِ النَّوَوِيِّ) أَنَّ الْمُؤَقَّتَ يُقْضَى أَبَدًا وَهُوَ الأَْظْهَرُ، وَالثَّانِي: يَقْضِي فَائِتَةَ النَّهَارِ مَا لَمْ تُضْرَبْ شَمْسُهُ، وَفَائِتَةَ اللَّيْل مَا لَمْ يَطْلُعْ فَجْرُهُ. وَالثَّالِثُ: يَقْضِي مَا لَمْ يُصَل الْفَرْضَ الَّذِي بَعْدَهُ. وَخَرَجَ بِالْمُؤَقَّتِ مَا لَهُ سَبَبٌ كَالتَّحِيَّةِ وَالْكُسُوفِ فَإِِنَّهُ لاَ مَدْخَل لِلْقَضَاءِ فِيهِ. نَعَمْ لَوْ فَاتَهُ وِرْدُهُ مِنَ الصَّلاَةِ، فَإِِنَّهُ يُنْدَبُ لَهُ قَضَاؤُهُ كَمَا قَالَهُ الأَْذْرَعِيُّ.
__________
(1) حديث: " من نسي صلاة أو نام عنها فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها " أخرجه مسلم (1 / 277 - ط الحلبي) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، وأخرجه البخاري (الفتح 2 / 70 ط السلفية) دون ذكر النوم.(12/158)
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، قَال الإِِْمَامُ أَحْمَدُ: لَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى شَيْئًا مِنَ التَّطَوُّعِ، إِلاَّ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ وَالرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ.
وَقَال الْقَاضِي وَبَعْضُ الأَْصْحَابِ: لاَ يُقْضَى إِلاَّ رَكْعَتَا الْفَجْرِ وَرَكْعَتَا الظُّهْرِ.
وَقَال ابْنُ حَامِدٍ: تُقْضَى جَمِيعُ السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بَعْضَهَا، وَقِسْنَا الْبَاقِيَ عَلَيْهَا.
وَفِي شَرْحِ مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ: يُسَنُّ قَضَاءُ الرَّوَاتِبِ، إِلاَّ مَا فَاتَ مَعَ فَرْضِهِ وَكَثُرَ، فَالأَْوْلَى تَرْكُهُ، إِلاَّ سُنَّةُ الْفَجْرِ فَيَقْضِيهَا مُطْلَقًا لِتَأَكُّدِهَا (1) .
انْقِلاَبُ الْوَاجِبِ تَطَوُّعًا:
19 - قَدْ يَنْقَلِبُ وَاجِبُ الْعِبَادَاتِ إِِلَى تَطَوُّعٍ، سَوَاءٌ أَكَانَ بِقَصْدٍ أَمْ بِغَيْرِ قَصْدٍ. وَمِنْ ذَلِكَ مَثَلاً فِي الصَّلاَةِ يَقُول ابْنُ نُجَيْمٍ: لَوِ افْتَتَحَ الصَّلاَةَ بِنِيَّةِ الْفَرْضِ، ثُمَّ غَيَّرَ نِيَّتَهُ فِي الصَّلاَةِ وَجَعَلَهَا تَطَوُّعًا، صَارَتْ تَطَوُّعًا.
وَفِي شَرْحِ مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ: إِنْ أَحْرَمَ مُصَلٍّ بِفَرْضٍ، كَظُهْرٍ فِي وَقْتِهِ الْمُتَّسِعِ لَهُ وَلِغَيْرِهِ، ثُمَّ قَلَبَهُ نَفْلاً، بِأَنْ فَسَخَ نِيَّةَ الْفَرْضِيَّةِ دُونَ نِيَّةِ الصَّلاَةِ،
__________
(1) البدائع 1 / 279، 287، 290، ومنح الجليل 1 / 210، والدسوقي 1 / 319، ومغني المحتاج 1 / 224، والمغني 2 / 128، وشرح منتهى الإرادات 1 / 230.(12/158)
صَحَّتْ مُطْلَقًا، أَيْ سَوَاءٌ كَانَ صَلَّى الأَْكْثَرَ مِنْهَا أَوِ الأَْقَل، وَسَوَاءٌ كَانَ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ أَوْ لاَ؛ لأَِنَّ النَّفَل يَدْخُل فِي نِيَّةِ الْفَرْضِ، وَكُرِهَ قَلْبُهُ نَفْلاً لِغَيْرِ غَرَضٍ صَحِيحٍ. ثُمَّ قَال: وَيَنْقَلِبُ نَفْلاً مَا بَانَ عَدَمُهُ، كَمَا لَوْ أَحْرَمَ بِفَائِتَةٍ ظَنَّهَا عَلَيْهِ، فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ تَكُنْ عَلَيْهِ فَائِتَةٌ، أَوْ أَحْرَمَ بِفَرْضٍ ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُل وَقْتُهُ؛ لأَِنَّ الْفَرْضَ لَمْ يَصِحَّ، وَلَمْ يُوجَدْ مَا يُبْطِل النَّفَل.
وَمِنْ ذَلِكَ الصِّيَامُ. جَاءَ فِي شَرْحِ مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ: مَنْ قَطَعَ نِيَّةَ صَوْمِ نَذْرٍ أَوْ كَفَّارَةٍ أَوْ قَضَاءٍ، ثُمَّ نَوَى صَوْمًا نَفْلاً صَحَّ نَفْلُهُ، وَإِِنْ قَلَبَ صَائِمٌ نِيَّةَ نَذْرٍ أَوْ قَضَاءٍ إِِلَى نَفْلٍ صَحَّ، كَقَلْبِ فَرْضِ الصَّلاَةِ نَفْلاً. وَخَالَفَ الْحَجَّاوِيُّ فِي " الإِِْقْنَاعِ " فِي مَسْأَلَةِ قَلْبِ الْقَضَاءِ، وَكُرِهَ لَهُ ذَلِكَ لِغَيْرِ غَرَضٍ (1) .
وَمِنْ ذَلِكَ الزَّكَاةُ. جَاءَ فِي بَدَائِعِ الصَّنَائِعِ: إِِذَا دَفَعَ الزَّكَاةَ إِِلَى رَجُلٍ، وَلَمْ يَخْطِرْ بِبَالِهِ أَنَّهُ لَيْسَ مِمَّنْ تُصْرَفُ الزَّكَاةُ إِلَيْهِمْ وَقْتَ الدَّفْعِ، وَلَمْ يَشُكَّ فِي أَمْرِهِ، فَإِِذَا ظَهَرَ بِيَقِينٍ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ مَصَارِفِهَا لَمْ تُجْزِئْهُ زَكَاةٌ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ الإِِْعَادَةُ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ مَا دَفَعَ إِلَيْهِ، وَيَقَعُ تَطَوُّعًا. ثُمَّ قَال الْكَاسَانِيُّ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: حُكْمُ الْمُعَجَّل إِِذَا لَمْ يَقَعْ زَكَاةً: أَنَّهُ إِنْ وَصَل إِِلَى يَدِ الْفَقِيرِ يَكُونُ
__________
(1) الأشباه لابن نجيم ص 51، وشرح منتهى الإرادات 1 / 168، 169، 447.(12/159)
تَطَوُّعًا، سَوَاءٌ وَصَل إِِلَى يَدِهِ مِنْ يَدِ رَبِّ الْمَال أَوْ مِنْ يَدِ الإِِْمَامِ أَوْ نَائِبِهِ - وَهُوَ السَّاعِي - لأَِنَّهُ حَصَل أَصْل الْقُرْبَةِ. وَصَدَقَةُ التَّطَوُّعِ لاَ يُحْتَمَل الرُّجُوعُ فِيهَا بَعْدَ وُصُولِهَا إِِلَى يَدِ الْفَقِيرِ.
وَفِي الْمُهَذَّبِ أَيْضًا: مَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ فِي غَيْرِ أَشْهُرِهِ انْعَقَدَ إِحْرَامُهُ بِالْعُمْرَةِ؛ لأَِنَّهَا عِبَادَةٌ مُؤَقَّتَةٌ، فَإِِذَا عَقَدَهَا فِي غَيْرِ وَقْتِهَا انْعَقَدَ غَيْرُهَا مِنْ جِنْسِهَا، كَصَلاَةِ الظُّهْرِ إِِذَا أَحْرَمَ بِهَا قَبْل الزَّوَال، فَإِِنَّهُ يَنْعَقِدُ إِحْرَامُهُ بِالنَّفْل.
وَفِي الأَْشْبَاهِ لاِبْنِ نُجَيْمٍ: لَوْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ نَذْرًا وَنَفْلاً كَانَ نَفْلاً، وَلَوْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ فَرْضًا وَتَطَوُّعًا كَانَ تَطَوُّعًا عِنْدَهُمَا فِي الأَْصَحِّ (1) .
حُصُول التَّطَوُّعِ بِأَدَاءِ الْفَرْضِ وَعَكْسُهُ:
20 - هُنَاكَ صُوَرٌ يَحْصُل التَّطَوُّعُ فِيهَا بِأَدَاءِ الْفَرْضِ، وَلَكِنَّ ثَوَابَ التَّطَوُّعِ لاَ يَحْصُل إِلاَّ بِنِيَّتِهِ. جَاءَ فِي الأَْشْبَاهِ لاِبْنِ نُجَيْمٍ (فِي الْجَمْعِ بَيْنَ عِبَادَتَيْنِ) قَالُوا: لَوِ اغْتَسَل الْجُنُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِلْجُمُعَةِ وَلِرَفْعِ الْجَنَابَةِ، ارْتَفَعَتْ جَنَابَتُهُ، وَحَصَل لَهُ ثَوَابُ غُسْل الْجُمُعَةِ.
وَفِي ابْنِ عَابِدِينَ: مَنْ عَلَيْهِ جَنَابَةٌ نَسِيَهَا وَاغْتَسَل لِلْجُمُعَةِ مَثَلاً، فَإِِنَّهُ يَرْتَفِعُ حَدَثُهُ ضِمْنًا،
__________
(1) البدائع 2 / 50، 52، والمهذب 1 / 207، 240، والأشباه لابن نجيم ص 41.(12/159)
وَلاَ يُثَابُ ثَوَابَ الْفَرْضِ، وَهُوَ غُسْل الْجَنَابَةِ مَا لَمْ يَنْوِهِ، لأَِنَّهُ لاَ ثَوَابَ إِلاَّ بِالنِّيَّةِ.
وَفِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ: تَتَأَدَّى تَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ بِصَلاَةِ الْفَرْضِ فَيَسْقُطُ طَلَبُ التَّحِيَّةِ بِصَلاَتِهِ، فَإِِنْ نَوَى الْفَرْضَ وَالتَّحِيَّةَ حَصَلاَ، وَإِِنْ لَمْ يَنْوِ التَّحِيَّةَ لَمْ يَحْصُل لَهُ ثَوَابُهَا؛ لأَِنَّ الأَْعْمَال بِالنِّيَّاتِ.
وَمِثْل ذَلِكَ غُسْل الْجُمُعَةِ وَالْجَنَابَةِ، وَصِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ مَعَ نِيَّةِ قَضَاءِ مَا عَلَيْهِ.
وَفِي الْقَوَاعِدِ لاِبْنِ رَجَبٍ: لَوْ طَافَ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنْ مَكَّةَ طَوَافًا يَنْوِي بِهِ الزِّيَارَةَ وَالْوَدَاعَ، فَقَال الْخِرَقِيُّ وَصَاحِبُ الْمُغْنِي: يُجْزِئُهُ عَنْهُمَا (1) .
(ثَانِيًا) مَا يَشْمَل الْعِبَادَاتِ وَغَيْرَهَا مِنْ أَحْكَامٍ:
أ - قَطْعُ التَّطَوُّعِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ:
21 - إِِذَا كَانَ التَّطَوُّعُ عِبَادَةً كَالصَّلاَةِ وَالصِّيَامِ، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ: إِِذَا شَرَعَ فِيهِ وَجَبَ إِتْمَامُهُ، وَإِِذَا فَسَدَ وَجَبَ قَضَاؤُهُ؛ لأَِنَّ التَّطَوُّعَ يَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ مُضِيًّا وَقَضَاءً. وَلأَِنَّ الْمُؤَدَّى عِبَادَةٌ، وَإِِبْطَال الْعِبَادَةِ حَرَامٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} (2) ، وَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَقَدْ أَفْطَرَتَا فِي
__________
(1) الأشباه لابن نجيم ص 40، وابن عابدين 1 / 77، والشرح الصغير 1 / 146، والقواعد لابن رجب ص 24.
(2) سورة محمد / 33.(12/160)
صَوْمِ التَّطَوُّعِ اقْضِيَا يَوْمًا مَكَانَهُ. (1)
غَيْرَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ لاَ يُوجِبُونَ الْقَضَاءَ إِلاَّ إِِذَا كَانَ الْفَسَادُ مُتَعَمِّدًا، فَإِِنْ كَانَ لِعُذْرٍ فَلاَ قَضَاءَ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: يُسْتَحَبُّ الإِِْتْمَامُ إِِذَا شَرَعَ فِي التَّطَوُّعِ وَلاَ يَجِبُ، كَمَا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْقَضَاءُ إِِذَا فَسَدَ، إِلاَّ فِي تَطَوُّعِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَيَجِبُ إِتْمَامُهُمَا إِِذَا شَرَعَ فِيهِمَا؛ لأَِنَّ نَفْلَهُمَا كَفَرْضِهِمَا نِيَّةً وَفِدْيَةً وَغَيْرَهُمَا (2) .
وَاسْتَدَل الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الإِِْتْمَامِ بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الصَّائِمُ الْمُتَطَوِّعُ أَمِيرُ نَفْسِهِ، إِنْ شَاءَ صَامَ، وَإِِنْ شَاءَ أَفْطَرَ. (3)
وَتُنْظَرُ التَّفَاصِيل فِي (نَفْلٌ، صَلاَةٌ، صِيَامٌ، حَجٌّ) .
22 - أَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ التَّطَوُّعَاتِ، فَإِِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ قَبِيل عُقُودِ التَّبَرُّعَاتِ الْمَعْرُوفَةِ كَالْهِبَةِ
__________
(1) حديث: " اقضيا يوما مكانه " أخرجه الترمذي (3 / 112 - ط الحلبي) من حديث عائشة رضي الله عنها، وأعله بالانقطاع.
(2) البدائع 1 / 290، 291، والاختيار 1 / 66، والشرح الصغير 1 / 408، والحطاب 2 / 90، والكافي لابن عبد البر 1 / 350، ومغني المحتاج 1 / 448، 523، والمهذب 1 / 95، والمغني 3 / 153، 365، وشرح منتهى الإرادات 1 / 461.
(3) حديث: " الصائم المتطوع أمير نفسه: إن شاء صام وإن شاء أفطر " أخرجه الترمذي (3 / 109 - ط الحلبي) والحاكم (1 / 439 - ط دائرة المعارف العثمانية) وأعله ابن التركماني بالاضطراب في سنده ومتنه (الجوهر النقي بهامش البيهقي 4 / 278 ط دائرة المعارف العثمانية) .(12/160)
وَالْعَارِيَّةِ وَالْوَقْفِ وَالْوَصِيَّةِ، وَإِِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ.
فَإِِنْ كَانَ مِنْ عُقُودِ التَّبَرُّعَاتِ، فَلِكُل عَقْدٍ حُكْمُهُ فِي جَوَازِ الرُّجُوعِ أَوْ عَدَمِ جَوَازِهِ. فَفِي الْوَصِيَّةِ مَثَلاً: يَجُوزُ بِاتِّفَاقٍ الرُّجُوعُ فِيهَا مَا دَامَ الْمُوصِي حَيًّا. وَفِي الْعَارِيَّةِ وَالْقَرْضِ: يَجُوزُ الرُّجُوعُ بِطَلَبِ رَدِّ الشَّيْءِ الْمُسْتَعَارِ وَاسْتِرْدَادِ بَدَل الْقَرْضِ فِي الْحَال بَعْدَ الْقَبْضِ. وَهَذَا عِنْدَ غَيْرِ الْمَالِكِيَّةِ، بَل قَال الْجُمْهُورُ: إِنَّ الْمُقْرِضَ إِِذَا أَجَّل الْقَرْضَ لاَ يَلْزَمُهُ التَّأْجِيل؛ لأَِنَّهُ لَوْ لَزِمَ فِيهِ الأَْجَل لَمْ يَبْقَ تَبَرُّعًا.
وَيَجُوزُ الرُّجُوعُ فِي الْهِبَةِ قَبْل الْقَبْضِ، فَإِِذَا تَمَّ الْقَبْضُ فَلاَ رُجُوعَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، إِلاَّ فِيمَا وَهَبَ الْوَالِدُ لِوَلَدِهِ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: يَجُوزُ الرُّجُوعُ إِنْ كَانَتْ لأَِجْنَبِيٍّ (1) .
وَفِي كُل ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي أَبْوَابِهِ. وَفِي (تَبَرُّعٌ) .
أَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ التَّبَرُّعَاتِ كَالصَّدَقَةِ وَالإِِْنْفَاقِ وَمَا شَابَهُ ذَلِكَ، فَإِِنْ كَانَ قَدْ مَضَى فَلاَ رُجُوعَ فِيهِ، مَا دَامَ ذَلِكَ قَدْ تَمَّ بِنِيَّةِ التَّبَرُّعِ.
__________
(1) البدائع 5 / 234 و 6 / 216 و 7 / 378، 396، والهداية 3 / 222 - 231 و 4 / 235، ومنح الجليل 3 / 50، وجواهر الإكليل 2 / 212، ومغني المحتاج 3 / 71، والمهذب 1 / 310، 370، 454، 468، ومنتهى الإرادات 2 / 227، 520، 525، والمغني 4 / 349 و 5 / 229.(12/161)
يَقُول ابْنُ عَابِدِينَ: لاَ رُجُوعَ فِي الصَّدَقَةِ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ فِيهَا الثَّوَابُ لاَ الْعِوَضُ. وَيَقُول ابْنُ قُدَامَةَ: لاَ يَجُوزُ لِلْمُتَصَدِّقِ الرُّجُوعُ فِي صَدَقَتِهِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا، لأَِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال فِي حَدِيثِهِ: مَنْ وَهَبَ هِبَةً عَلَى وَجْهِ صَدَقَةٍ فَإِِنَّهُ لاَ يَرْجِعُ فِيهَا. وَمِثْل ذَلِكَ الإِِْنْفَاقُ إِِذَا كَانَ بِقَصْدِ التَّبَرُّعِ فَلاَ رُجُوعَ فِيهِ.
يَقُول ابْنُ عَابِدِينَ: إِِذَا أَنْفَقَ الْوَصِيُّ مِنْ مَال نَفْسِهِ عَلَى الصَّبِيِّ، وَلِلصَّبِيِّ مَالٌ غَائِبٌ، فَهُوَ مُتَطَوِّعٌ فِي الإِِْنْفَاقِ اسْتِحْسَانًا، إِلاَّ أَنْ يَشْهَدَ أَنَّهُ قَرْضٌ، أَوْ أَنَّهُ يُرْجَعُ بِهِ عَلَيْهِ. وَيَقُول ابْنُ الْقَيِّمِ: الْمَقَاصِدُ تُغَيِّرُ أَحْكَامَ التَّصَرُّفَاتِ، فَالنِّيَّةُ لَهَا تَأْثِيرٌ فِي التَّصَرُّفَاتِ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ قَضَى عَنْ غَيْرِهِ دَيْنًا، أَوْ أَنْفَقَ عَلَيْهِ نَفَقَةً وَاجِبَةً أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ - يَنْوِي التَّبَرُّعَ وَالْهِبَةَ - لَمْ يَمْلِكِ الرُّجُوعَ بِالْبَدَل، وَإِِنْ لَمْ يَنْوِ فَلَهُ الرُّجُوعُ. عَلَى أَنَّ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلاً وَخِلاَفًا بَيْنَ الْمَذَاهِبِ فِي بَعْضِ الْفُرُوعِ، وَمِنْ ذَلِكَ مَثَلاً: أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ يُجِيزُونَ لِلأَْبِ وَلِسَائِرِ الأُْصُول الرُّجُوعَ فِي الصَّدَقَةِ الْمُتَطَوَّعِ بِهَا عَلَى الْوَلَدِ، أَمَّا الْوَاجِبَةُ فَلاَ رُجُوعَ فِيهَا. وَلاَ يُجِيزُونَ لِلأَْبِ الرُّجُوعَ فِي الإِِْبْرَاءِ لِوَلَدِهِ عَنْ دَيْنِهِ. بَيْنَمَا يُجِيزُ الْحَنَابِلَةُ رُجُوعَ الأَْبِ فِيمَا أَبْرَأَ ابْنَهُ مِنْهُ مِنَ الدُّيُونِ (1) .
__________
(1) ابن عابدين 4 / 422، 5 / 458، والمغني 5 / 684، وإعلام الموقعين 3 / 98، وأسنى المطالب 2 / 483، والاختبارات الفقهية ص 187.(12/161)
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (تَبَرُّعٌ، صَدَقَةٌ، إِبْرَاءٌ، هِبَةٌ، نَفَقَةٌ) .
23 - أَمَّا مَا شَرَعَ فِيهِ مِنَ الصَّدَقَةِ. فَأَخْرَجَ بَعْضَهُ، فَلاَ يَلْزَمُهُ الصَّدَقَةُ بِبَاقِيهِ.
يَقُول ابْنُ قُدَامَةَ: انْعَقَدَ الإِِْجْمَاعُ عَلَى أَنَّ الإِِْنْسَانَ لَوْ نَوَى الصَّدَقَةَ بِمَالٍ مُقَدَّرٍ، وَشَرَعَ فِي الصَّدَقَةِ بِهِ، فَأَخْرَجَ بَعْضَهُ لَمْ تَلْزَمْهُ الصَّدَقَةُ بِبَاقِيهِ، وَهُوَ نَظِيرُ الاِعْتِكَافِ؛ لأَِنَّهُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ بِالشَّرْعِ فَأَشْبَهَ الصَّدَقَةَ، غَيْرَ أَنَّ ابْنَ رَجَبٍ ذَكَرَ خِلاَفًا فِي ذَلِكَ.
وَالْحَطَّابُ عَدَّ الأَْشْيَاءَ الَّتِي تَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ، وَهِيَ سَبْعٌ: الصَّلاَةُ وَالصَّوْمُ وَالاِعْتِكَافُ وَالْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ وَالاِئْتِمَامُ وَالطَّوَافُ. ثُمَّ ذَكَرَ مَا لاَ يَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ، وَأَنَّهُ لاَ يَجِبُ الْقَضَاءُ بِقَطْعِهِ، وَهُوَ: الصَّدَقَةُ وَالْقِرَاءَةُ وَالأَْذْكَارُ وَالْوَقْفُ وَالسَّفَرُ لِلْجِهَادِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْقُرُبَاتِ (1) . وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (تَبَرُّعٌ، صَدَقَةٌ) .
ب - نِيَّةُ التَّطَوُّعِ:
24 - التَّطَوُّعُ - إِنْ كَانَ عِبَادَةً - فَلاَ بُدَّ فِيهِ مِنَ النِّيَّةِ بِالإِِْجْمَاعِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (2) وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
__________
(1) المغني 3 / 185، والقواعد لابن رجب 86، ومواهب الجليل 2 / 90.
(2) سورة البينة / 5.(12/162)
{إِنَّمَا الأَْعْمَال بِالنِّيَّاتِ (1) وَهِيَ مَقْصُودَةٌ بِهَا تَمْيِيزُ الْعِبَادَاتِ عَنِ الْعَادَاتِ، وَتَمْيِيزُ بَعْضِ الْعِبَادَاتِ عَنْ بَعْضٍ. فَالْغُسْل قَدْ يَكُونُ تَبَرُّدًا وَعِبَادَةً، وَالإِِْمْسَاكُ عَنِ الْمُفْطِرَاتِ قَدْ يَكُونُ حَمِيَّةً أَوْ تَدَاوِيًا، وَدَفْعُ الْمَال يَكُونُ صَدَقَةً شَرْعِيَّةً وَصِلَةً مُتَعَارَفَةً. . وَهَكَذَا، وَعَلَى ذَلِكَ فَالنِّيَّةُ شَرْطٌ فِي الْعِبَادَاتِ بِاتِّفَاقٍ (2) ، إِلاَّ أَنَّ الْفُقَهَاءَ يَخْتَلِفُونَ فِي النِّيَّةِ فِي تَطَوُّعِ الْعِبَادَاتِ بِالنِّسْبَةِ لِلتَّعْيِينِ أَوِ الإِِْطْلاَقِ.
25 - وَالتَّطَوُّعُ فِي الْعِبَادَاتِ، مِنْهُ مَا هُوَ مُطْلَقٌ كَالتَّهَجُّدِ وَالصَّوْمِ، وَمِنْهُ مَا هُوَ مُقَيَّدٌ كَصَلاَةِ الْكُسُوفِ وَالسُّنَنِ الرَّوَاتِبِ مَعَ الْفَرَائِضِ، وَكَصِيَامِ عَرَفَةَ وَعَاشُورَاءَ.
أَمَّا التَّطَوُّعُ الْمُطْلَقُ، فَيَصِحُّ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ أَدَاؤُهُ دُونَ تَعْيِينِهِ بِالنِّيَّةِ، وَتَكْفِي نِيَّةُ مُطْلَقِ الصَّلاَةِ أَوْ مُطْلَقِ الصَّوْمِ.
أَمَّا التَّطَوُّعُ الْمُعَيَّنُ كَالرَّوَاتِبِ وَالْوِتْرِ وَالتَّرَاوِيحِ، وَصَلاَةِ الْكُسُوفِ وَالاِسْتِسْقَاءِ، وَصِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ، فَإِِنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيهِ تَعْيِينُهُ بِالنِّيَّةِ، وَذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ
__________
(1) حديث: " إنما الأعمال بالنيات " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 9 - ط السلفية ومسلم (3 / 1515 - ط الحلبي) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه. واللفظ للبخاري.
(2) الأشباه لابن نجيم ص 19، 23 والذخيرة للقرافي ص 235، 236، والمنثور 3 / 287، والمغني 1 / 464.(12/162)
وَبَعْضِ مَشَايِخِ الْحَنَفِيَّةِ، غَيْرَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ حَدَّدُوا الْمُعَيَّنَ عِنْدَهُمْ بِأَنَّهُ: الْوِتْرُ وَالْعِيدَانِ وَصَلاَةُ الْكُسُوفِ وَالاِسْتِسْقَاءِ وَرَغِيبَةِ الْفَجْرِ، أَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ فَهُوَ مِنَ الْمُطْلَقِ عِنْدَهُمْ. وَالصَّحِيحُ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ التَّطَوُّعَ الْمُعَيَّنَ أَوَ الْمُقَيَّدَ يَصِحُّ دُونَ تَعْيِينِهِ، وَأَنَّهُ يَكْفِي فِيهِ مُطْلَقُ النِّيَّةِ كَالتَّطَوُّعِ الْمُطْلَقِ، وَهُوَ مَا عَلَيْهِ أَكْثَرُ مَشَايِخِ الْحَنَفِيَّةِ (1) .
26 - أَمَّا غَيْرُ الْعِبَادَاتِ مِنَ التَّطَوُّعَاتِ، فَالأَْصْل أَنَّهُ لاَ مَدْخَل لِلنِّيَّةِ فِيهَا، إِلاَّ أَنَّ نِيَّةَ الْقُرْبَةِ فِيهَا - امْتِثَالاً لأَِوَامِرِ الشَّرْعِ الَّتِي تَحُثُّ عَلَى الْمَعْرُوفِ - مَطْلُوبَةً لاِسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ، إِذْ إِنَّهَا لاَ تَتَمَحَّضُ قُرْبَةً إِلاَّ بِهَذِهِ النِّيَّةِ. يَقُول الشَّاطِبِيُّ: الْمَقَاصِدُ مُعْتَبَرَةٌ فِي التَّصَرُّفَاتِ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَالْعَادَاتِ.
إِِلَى أَنْ قَال: وَأَمَّا الأَْعْمَال الْعَادِيَّةُ - وَإِِنْ لَمْ تَفْتَقِرْ فِي الْخُرُوجِ عَنْ عُهْدَتِهَا إِِلَى نِيَّةٍ - فَلاَ تَكُونُ عِبَادَاتٍ وَلاَ مُعْتَبَرَاتٍ فِي الثَّوَابِ إِلاَّ مَعَ قَصْدِ الاِمْتِثَال، وَفِي الأَْشْبَاهِ لاِبْنِ نُجَيْمٍ: لاَ يَتَوَقَّفُ الْوَقْفُ وَلاَ الْهِبَةُ وَلاَ الْوَصِيَّةُ عَلَى النِّيَّةِ، فَالْوَصِيَّةُ إِنْ قُصِدَ التَّقَرُّبُ بِهَا
__________
(1) الأشباه لابن نجيم ص 32، 33، والبدائع 1 / 288، وحاشية الدسوقي 1 / 318، والحطاب 1 / 515، والأشباه للسيوطي ص 15 - 17، والمنثور 3 / 276، والمهذب 1 / 77، والمغني 1 / 466، وشرح منتهى الإرادات 1 / 167.(12/163)
فَلَهُ الثَّوَابُ، وَإِِلاَّ فَهِيَ صَحِيحَةٌ فَقَطْ، وَكَذَلِكَ الْوَقْفُ إِنْ نَوَى الْقُرْبَةَ فَلَهُ الثَّوَابُ وَإِِلاَّ فَلاَ، وَعَلَى هَذَا سَائِرُ الْقُرَبِ لاَ بُدَّ فِيهَا مِنَ النِّيَّةِ، بِمَعْنَى تَوَقُّفِ حُصُول الثَّوَابِ عَلَى قَصْدِ التَّقَرُّبِ بِهَا إِِلَى اللَّهِ تَعَالَى.
وَفِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ: الْهِبَةُ مِنَ التَّبَرُّعَاتِ الْمَنْدُوبَةِ كَالصَّدَقَةِ، وَهَذَا إِنْ صَحَّ الْقَصْدُ، وَإِِنِ اسْتَحْضَرَ أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا رَغَّبَ فِيهِ الشَّرْعُ فَإِِنَّهُ يُثَابُ. وَفِي الْمَنْثُورِ فِي الْقَوَاعِدِ لِلزَّرْكَشِيِّ: عِيَادَةُ الْمَرِيضِ وَاتِّبَاعُ الْجِنَازَةِ وَرَدُّ السَّلاَمِ قُرْبَةٌ، لاَ يُسْتَحَقُّ الثَّوَابُ عَلَيْهَا إِلاَّ بِالنِّيَّةِ (1) .
ج - النِّيَابَةُ فِي التَّطَوُّعِ:
27 - التَّطَوُّعُ إِنْ كَانَ مِنَ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ كَالصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ، فَلاَ تَجُوزُ فِيهِ النِّيَابَةُ، لأَِنَّهُ لاَ تَجُوزُ النِّيَابَةُ فِي فَرْضِهِ فِي الْجُمْلَةِ، فَلاَ تَجُوزُ فِي نَفْلِهِ. وَإِِنْ كَانَ مُرَكَّبًا مِنْهُمَا كَالْحَجِّ، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ تَصِحُّ النِّيَابَةُ فِيهِ، وَهُوَ الأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَأَحَدُ قَوْلَيْنِ مُعْتَمَدَيْنِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.
أَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ وَالتَّطَوُّعَاتِ بِأَنْوَاعِ الْبِرِّ وَالْمَعْرُوفِ، كَالصَّدَقَةِ وَالْهَدْيِ وَالْعِتْقِ وَالْوَقْفِ وَالْوَصِيَّةِ وَالْهِبَةِ وَالإِِْبْرَاءِ وَغَيْرِهَا فَإِِنَّهُ تَجُوزُ النِّيَابَةُ فِيهَا.
كَمَا أَنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنْ يَتَطَوَّعَ
__________
(1) الموافقات للثساطبي 2 / 323، 329، والأشباه لابن نجيم ص 23، 24، والشرح الصغير 2 / 312 ط الحلبي بتصرف، والمنثور في القواعد 3 / 61.(12/163)
الإِِْنْسَانُ بِجَعْل ثَوَابِ عَمَلِهِ مِنْ صَلاَةٍ وَصِيَامٍ وَحَجٍّ وَصَدَقَةٍ وَعِتْقٍ وَطَوَافٍ وَعُمْرَةٍ وَقِرَاءَةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ، مِنْ حَيٍّ أَوْ مَيِّتٍ. بِدَلِيل أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَحَّى بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ، أَحَدُهُمَا عَنْهُ، وَالآْخَرُ عَنْ أُمَّتِهِ. (1) وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، لَمَّا سَأَلَهُ عَنْ أَبِيهِ: لَوْ كَانَ مُسْلِمًا فَأَعْتَقْتُمْ عَنْهُ أَوْ تَصَدَّقْتُمْ عَنْهُ أَوْ حَجَجْتُمْ عَنْهُ بَلَغَهُ ذَلِكَ. (2)
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَهَذَا عَامٌّ فِي حَجِّ التَّطَوُّعِ وَغَيْرِهِ؛ وَلأَِنَّهُ عَمَل بِرٍّ وَطَاعَةٍ فَوَصَل نَفْعُهُ وَثَوَابُهُ كَالصَّدَقَةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ الْوَاجِبِ. عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: يَا رَسُول اللَّهِ، إِنَّا نَتَصَدَّقُ عَنْ مَوْتَانَا، وَنَحُجُّ عَنْهُمْ، وَنَدْعُو لَهُمْ، فَهَل يَصِل ذَلِكَ لَهُمْ؟ قَال: نَعَمْ، إِنَّهُ لَيَصِل إِلَيْهِمْ، وَإِِنَّهُمْ لَيَفْرَحُونَ بِهِ كَمَا يَفْرَحُ أَحَدُكُمْ بِالطَّبَقِ إِِذَا أُهْدِيَ إِلَيْهِ (3) وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ مِنَ الْبِرِّ بَعْدَ الْمَوْتِ أَنْ
__________
(1) حديث: " ضحى بكبشين أملحين: أحدهما عنه، والآخر عن أمته " أخرجه البيهقي (9 / 267 - ط دائرة المعارف العثمانية) وأبو يعلى كما في مجمع الزوائد (4 / 22 - ط القدسي) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، وقال الهيثمي: إسناده حسن.
(2) حديث: " لو كان مسلما فأعتقتم عنه أو تصدقتم عنه أو حججتم عنه بلغه ذلك " أخرجه أبو داود (3 / 302 - تحقيق عزت عبيد دعاس) .
(3) حديث: " إنه ليصل إليهم، وإنهم ليفرحون به كما يفرح أحدكم بالطبق إذا أهدى إليه ". رواه أبو حفص العكبري كما ورد في ابن عابدين 2 / 237.(12/164)
تُصَلِّيَ لأَِبَوَيْكَ مَعَ صَلاَتِكَ، وَأَنْ تَصُومَ لَهُمَا مَعَ صَوْمِكَ (1)
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ يَجُوزُ فِيمَا عَدَا الصَّلاَةَ وَالصِّيَامَ (2) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي: (نِيَابَةٌ - وَكَالَةٌ - نَفْلٌ - صَدَقَةٌ - صَلاَةٌ - وَصَوْمٌ) .
د - الأُْجْرَةُ عَلَى التَّطَوُّعِ:
28 - الأَْصْل أَنَّ كُل طَاعَةٍ يَخْتَصُّ بِهَا الْمُسْلِمُ لاَ يَجُوزُ أَخْذُ الأُْجْرَةِ عَلَيْهَا، كَالإِِْمَامَةِ وَالأَْذَانِ وَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ وَتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ. لِمَا رَوَى عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ قَال: إِنَّ آخِرَ مَا عَهِدَ إِلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنِ اتَّخِذْ مُؤَذِّنًا لاَ يَأْخُذُ عَلَى أَذَانِهِ أَجْرًا (3)
__________
(1) حديث: " إن من البر بعد الموت أن تصلي لأبويك مع صلاتك، وأن تصوم لهما مع صومك ". رواه الدارقطني كما ورد في ابن عابدين 2 / 237.
(2) البدائع 2 / 13، 41، 103، وابن عابدين 1 / 493، 606، 2 / 118، 237 - 241، والهداية 1 / 127 و 3 / 138، ومنح الجليل 1 / 306، 442، 449، 3 / 352، وجواهر الإكليل 2 / 125، والفروق للقرافي 3 / 191، والشرح الصغير 1 / 264، 2 / 182، ومغني المحتاج 3 / 67، ونهاية المحتاج 6 / 92 و 8 / 136، وقليوبي 2 / 338، والمنثور 3 / 312، والمهذب 1 / 355، والمغني 2 / 567، 568، 5 / 89، وشرح منتهى الإرادات 1 / 121، 362، 2 / 6.
(3) حديث: " اتخذ مؤذنا لا يأخذ على أذانه أجرا " أخرجه أبو داود (1 / 363 ط. عبيد دعاس) والترمذي (1 / 410 - مصطفى البابي) . وقال: حديث عثمان حديث حسن صحيح.(12/164)
وَلأَِنَّ الْقُرْبَةَ مَتَى حَصَلَتْ وَقَعَتْ عَنِ الْعَامِل، وَلِهَذَا تُعْتَبَرُ أَهْلِيَّتُهُ، فَلاَ يَجُوزُ أَخْذُ الأَْجْرِ عَنْ غَيْرِهِ كَمَا فِي الصَّوْمِ وَالصَّلاَةِ.
هَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (1) .
وَيَصِحُّ مَعَ الْكَرَاهَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ. جَاءَ فِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ: تُكْرَهُ إِجَارَةُ الإِِْنْسَانِ نَفْسَهُ فِي عَمَلٍ لِلَّهِ تَعَالَى، حَجًّا أَوْ غَيْرَهُ، كَقِرَاءَةٍ وَإِِمَامَةٍ وَتَعْلِيمِ عِلْمٍ، وَصِحَّتُهُ مَعَ الْكَرَاهَةِ. كَمَا تُكْرَهُ الإِِْجَارَةُ عَلَى الأَْذَانِ، قَال مَالِكٌ: لأََنْ يُؤَاجِرَ الرَّجُل نَفْسَهُ فِي عَمَل اللَّبِنِ وَقَطْعِ الْحَطَبِ وَسَوْقِ الإِِْبِل أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَعْمَل عَمَلاً لِلَّهِ بِأُجْرَةٍ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ، كَمَا فِي نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ: لاَ تَصِحُّ إِجَارَةُ مُسْلِمٍ لِجِهَادٍ وَلاَ لِعِبَادَةٍ يَجِبُ لَهَا نِيَّةٌ، وَأَلْحَقُوا بِذَلِكَ الإِِْمَامَةَ وَلَوْ لِنَفْلٍ؛ لأَِنَّهُ حَصَل لِنَفْسِهِ. أَمَّا مَا لاَ تَجِبُ لَهُ نِيَّةٌ كَالأَْذَانِ فَيَصِحُّ الاِسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ، وَاسْتُثْنِيَ مِمَّا فِيهِ نِيَّةٌ: الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ، فَيَجُوزُ الاِسْتِئْجَارُ لَهُمَا أَوْ لأَِحَدِهِمَا عَنْ عَاجِزٍ أَوْ مَيِّتٍ، وَتَقَعُ صَلاَةُ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ تَبَعًا لَهُمَا، وَتَجُوزُ الإِِْجَارَةُ عَنْ تَفْرِقَةِ زَكَاةٍ وَكَفَّارَةٍ وَأُضْحِيَّةٍ وَهَدْيٍ وَذَبْحٍ وَصَوْمٍ عَنْ مَيِّتٍ وَسَائِرِ مَا يَقْبَل النِّيَابَةَ وَإِِنْ تَوَقَّفَ عَلَى النِّيَّةِ، لِمَا فِيهَا مِنْ شَائِبَةِ الْمَال. وَتَصِحُّ الإِِْجَارَةُ لِكُل مَا لاَ تَجِبُ لَهُ
__________
(1) البدائع 4 / 192، والهداية 3 / 240، والمغني 3 / 231 و 5 / 555 - 559، والاختيارات الفقهية ص 55.(12/165)
نِيَّةٌ. وَتَصِحُّ لِتَجْهِيزِ مَيِّتٍ وَدَفْنِهِ وَتَعْلِيمِ قُرْآنٍ وَلِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ عِنْدَ الْقَبْرِ أَوْ مَعَ الدُّعَاءِ (1) .
وَفِي الاِخْتِيَارَاتِ الْفِقْهِيَّةِ لاِبْنِ تَيْمِيَّةَ: لاَ يَجُوزُ لِلإِِْنْسَانِ أَنْ يَقْبَل هَدِيَّةً مِنْ شَخْصٍ لِيَشْفَعَ لَهُ عِنْدَ ذِي أَمْرٍ، أَوْ أَنْ يَرْفَعَ عَنْهُ مَظْلَمَةً، أَوْ يُوصِل إِلَيْهِ حَقَّهُ أَوْ يُوَلِّيَهُ وِلاَيَةً يَسْتَحِقُّهَا، أَوْ يَسْتَخْدِمُهُ فِي الْجُنْدِ الْمُقَاتِلَةِ وَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لِذَلِكَ، وَإِِذَا امْتَنَعَتِ الْهَدِيَّةُ امْتَنَعَتِ الأُْجْرَةُ مِنْ بَابٍ أَوْلَى.
وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ: أَنَّ مَنْ أَخَذَ أَجْرًا عَلَى عَمَل تَطَوُّعٍ - مِمَّا يَجُوزُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ - فَإِِنَّهُ يُعْتَبَرُ أَجِيرًا، وَلَيْسَ مُتَطَوِّعًا بِالْقُرُبَاتِ؛ لأَِنَّ الْقُرَبَ وَالطَّاعَاتِ إِِذَا وَقَعَتْ بِأُجْرَةٍ لَمْ تَكُنْ قُرْبَةً وَلاَ عِبَادَةً؛ لأَِنَّهُ لاَ يَجُوزُ التَّشْرِيكُ فِي الْعِبَادَةِ، لَكِنْ إِِذَا كَانَ الرِّزْقُ مِنْ بَيْتِ الْمَال أَوْ مِنْ وَقْفٍ فَإِِنَّهُ يُعْتَبَرُ نَفَقَةً فِي الْمَعْنَى، وَلاَ يُعْتَبَرُ أَجْرًا.
جَاءَ فِي الاِخْتِيَارَاتِ الْفِقْهِيَّةِ: الأَْعْمَال الَّتِي يَخْتَصُّ فَاعِلُهَا أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْل الْقُرْبَةِ، هَل يَجُوزُ إِيقَاعُهَا عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْقُرْبَةِ؟ فَمَنْ قَال: لاَ يَجُوزُ ذَلِكَ، لَمْ يُجِزِ الإِِْجَارَةَ عَلَيْهَا، لأَِنَّهَا بِالْعِوَضِ تَقَعُ غَيْرَ قُرْبَةٍ وَإِِنَّمَا الأَْعْمَال بِالنِّيَّاتِ وَاللَّهُ تَعَالَى لاَ يَقْبَل مِنَ الْعَمَل إِلاَّ مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهُهُ، وَمَنْ جَوَّزَ الإِِْجَارَةَ جَوَّزَ إِيقَاعَهَا عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْقُرْبَةِ، وَقَال: تَجُوزُ الإِِْجَارَةُ عَلَيْهَا لاَ فِيهَا
__________
(1) الشرح الصغير 1 / 264 ط الحلبي، ونهاية المحتاج 5 / 287، 288، 6 / 91.(12/165)
مِنْ نَفْعِ الْمُسْتَأْجِرِ، وَأَمَّا مَا يُؤْخَذُ مِنْ بَيْتِ الْمَال فَلَيْسَ عِوَضًا وَأُجْرَةً، بَل رِزْقٌ لِلإِِْعَانَةِ عَلَى الطَّاعَةِ، فَمَنْ عَمِل مِنْهُمْ لِلَّهِ أُثِيبَ. وَكَذَلِكَ الْمَال الْمَوْقُوفُ عَلَى أَعْمَال الْبِرِّ وَالْمُوصَى بِهِ كَذَلِكَ، وَالْمَنْذُورُ كَذَلِكَ، لَيْسَ كَالأُْجْرَةِ. وَيَقُول الْقَرَافِيُّ: بَابُ الأَْرْزَاقِ أَدْخَل فِي بَابِ الإِِْحْسَانِ وَأَبْعَدُ عَنْ بَابِ الْمُعَاوَضَةِ، وَبَابُ الإِِْجَارَةِ أَبْعَدُ مِنْ بَابِ الْمُسَامَحَةِ وَأَدْخَل فِي بَابِ الْمُكَايَسَةِ (1) ، ثُمَّ يَقُول: الأَْرْزَاقُ مُجْمَعٌ عَلَى جَوَازِهَا، لأَِنَّهَا إِحْسَانٌ وَمَعْرُوفٌ وَإِِعَانَةٌ لاَ إِجَارَةٌ (2) .
انْقِلاَبُ التَّطَوُّعِ إِِلَى وَاجِبٍ:
29 - يَنْقَلِبُ التَّطَوُّعُ إِِلَى وَاجِبٍ لأَِسْبَابٍ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْهَا:
أ - الشُّرُوعُ:
30 - التَّطَوُّعُ بِالْحَجِّ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ يَصِيرُ وَاجِبًا بِالشُّرُوعِ فِيهِ، بِحَيْثُ إِِذَا فَسَدَ وَجَبَ قَضَاؤُهُ. وَمِثْل ذَلِكَ: الصَّلاَةُ وَالصِّيَامُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ (3) .
__________
(1) المكايسة: المغالبة والمسامحة (حاشية الدسوقي 3 / 2) .
(2) الاختيارات الفقهية ص 184، والمغني 3 / 231، والفروق للقرافي 3 / 3، 4. وحديث: " إنما الأعمال بالنيات. . . " سبق تخريجه (ف 24) .
(3) البدائع 1 / 226 و 2 / 52، 108، 117، والشرح الصغير 1 / 248، ومغني المحتاج 1 / 448، والمغني 3 / 3.(12/166)
ب - التَّطَوُّعُ بِالْحَجِّ مِمَّنْ لَمْ يَحُجَّ حَجَّةَ الإِِْسْلاَمِ:
31 - قَال ابْنُ قُدَامَةَ: مَنْ أَحْرَمَ بِحَجِّ تَطَوُّعٍ - مِمَّنْ لَمْ يَحُجَّ حَجَّةَ الإِِْسْلاَمِ - وَقَعَ عَنْ حَجَّةِ الإِِْسْلاَمِ، وَبِهَذَا قَال ابْنُ عُمَرَ وَأَنَسٌ وَالشَّافِعِيُّ؛ لأَِنَّهُ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ وَعَلَيْهِ فَرْضُهُ، فَوَقَعَ عَنْ فَرْضِهِ كَالْمُطْلَقِ. وَلَوْ أَحْرَمَ بِتَطَوُّعٍ وَعَلَيْهِ مَنْذُورَةٌ وَقَعَتْ عَنِ الْمَنْذُورَةِ، وَلأَِنَّهَا وَاجِبَةٌ فَهِيَ كَحَجَّةِ الإِِْسْلاَمِ. وَالْعُمْرَةُ كَالْحَجِّ فِيمَا ذَكَرْنَا لأَِنَّهَا أَحَدُ النُّسُكَيْنِ، فَأَشْبَهَتِ الآْخَرَ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِِلَى: أَنَّهُ إِِذَا نَوَى حَجَّةَ نَفْلٍ - وَلَمْ يَكُنْ قَدْ حَجَّ حَجَّةَ الإِِْسْلاَمِ - وَقَعَ عَمَّا نَوَاهُ؛ لأَِنَّ وَقْتَ الْحَجِّ يُشْبِهُ وَقْتَ الصَّلاَةِ (ظَرْفٌ) وَوَقْتُ الصَّوْمِ (مِعْيَارٌ) فَأُعْطِيَ حُكْمَهُمَا، فَيَتَأَدَّى فَرْضُهُ بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ، وَيَقَعُ عَنِ النَّفْل إِِذَا نَوَاهُ.
وَقَال ابْنُ نُجَيْمٍ: لَوْ طَافَ بِنِيَّةِ التَّطَوُّعِ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ وَقَعَ عَنِ الْفَرْضِ.
وَفِي الْبَدَائِعِ: لَوْ تَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَالِهِ عَلَى فَقِيرٍ، وَلَمْ يَنْوِ الزَّكَاةَ أَجْزَأَهُ عَنِ الزَّكَاةِ اسْتِحْسَانًا.
وَالْقِيَاسُ: أَنْ لاَ يَجُوزَ؛ لأَِنَّ الزَّكَاةَ عِبَادَةٌ مَقْصُودَةٌ، فَلاَ بُدَّ لَهَا مِنَ النِّيَّةِ. وَوَجْهُ الاِسْتِحْسَانِ أَنَّ النِّيَّةَ وُجِدَتْ دَلاَلَةً، وَعَلَى هَذَا إِِذَا وَهَبَ جَمِيعَ النِّصَابِ مِنَ الْفَقِيرِ، أَوْ نَوَى تَطَوُّعًا، وَلَوْ أَدَّى مِائَةً لاَ يَنْوِي الزَّكَاةَ، وَنَوَى تَطَوُّعًا، لاَ تَسْقُطُ زَكَاةُ الْمِائَةِ وَعَلَيْهِ أَنْ يُزَكِّيَ الْكُل(12/166)
عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَسْقُطُ عَنْهُ زَكَاةُ مَا تَصَدَّقَ، وَلاَ يَسْقُطُ عَنْهُ زَكَاةُ الْبَاقِي (1) .
ج - الاِلْتِزَامُ أَوِ التَّعْيِينُ بِالنِّيَّةِ وَالْقَوْل:
32 - جَاءَ فِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ: لَوْ نَذَرَ التَّصَدُّقَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِمَكَّةَ بِهَذَا الدِّرْهَمِ عَلَى فُلاَنٍ، فَخَالَفَ، جَازَ. قَال ابْنُ عَابِدِينَ: فَلَوْ خَالَفَ فِي بَعْضِهَا أَوْ كُلِّهَا، بِأَنْ تَصَدَّقَ فِي غَيْرِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ بِبَلَدٍ آخَرَ بِدِرْهَمٍ آخَرَ عَلَى شَخْصٍ آخَرَ جَازَ؛ لأَِنَّ الدَّاخِل تَحْتَ النَّذْرِ مَا هُوَ قُرْبَةٌ، وَهُوَ أَصْل التَّصَدُّقِ دُونَ التَّعْيِينِ، فَبَطَل التَّعْيِينُ وَلَزِمَهُ الْقُرْبَةُ.
ثُمَّ قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَهَذَا لَيْسَ عَلَى إِطْلاَقِهِ لِمَا فِي الْبَدَائِعِ: لَوْ قَال: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُطْعِمَ هَذَا الْمِسْكِينَ شَيْئًا سَمَّاهُ وَلَمْ يُعَيِّنْهُ، فَلاَ بُدَّ أَنْ يُعْطِيَهُ لِلَّذِي سَمَّى؛ لأَِنَّهُ إِِذَا لَمْ يُعَيِّنِ الْمَنْذُورَ صَارَ تَعْيِينُ الْفَقِيرِ مَقْصُودًا، فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ غَيْرَهُ.
وَفِي الاِخْتِيَارِ: لاَ تَجِبُ الأُْضْحِيَّةُ عَلَى الْفَقِيرِ، لَكِنَّهَا تَجِبُ بِالشِّرَاءِ، وَيَتَعَيَّنُ مَا اشْتَرَاهُ لِلأُْضْحِيَّةِ. فَإِِنْ مَضَتْ أَيَّامُ الأُْضْحِيَّةِ وَلَمْ يَذْبَحْ، تَصَدَّقَ بِهَا حَيَّةً؛ لأَِنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ عَلَى الْفَقِيرِ، فَإِِذَا اشْتَرَاهَا بِنِيَّةِ الأُْضْحِيَّةِ تَعَيَّنَتْ لِلْوُجُوبِ، وَالإِِْرَاقَةُ إِنَّمَا عُرِفَتْ قُرْبَةً فِي وَقْتٍ مَعْلُومٍ، وَقَدْ فَاتَ فَيَتَصَدَّقُ بِعَيْنِهَا.
__________
(1) البدائع 2 / 40، والمغني 3 / 246، والأشباه لابن نجيم ص 45، وجواهر الإكليل 1 / 175، ومسلم الثبوت 1 / 72، وحاشية الدسوقي مع شرح الدردير 2 / 5.(12/167)
وَإِِنْ كَانَ الْمُضَحِّي غَنِيًّا، وَفَاتَ وَقْتُ الأُْضْحِيَّةِ، تَصَدَّقَ بِثَمَنِهَا، اشْتَرَاهَا أَوْ لاَ؛ لأَِنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ، فَإِِذَا فَاتَ وَقْتُ الْقُرْبَةِ فِي الأُْضْحِيَّةِ تَصَدَّقَ بِالثَّمَنِ إِخْرَاجًا لَهُ عَنِ الْعُهْدَةِ.
وَجَاءَ فِي نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ: الأُْضْحِيَّةُ سُنَّةٌ، وَلَكِنَّهَا تَجِبُ بِالاِلْتِزَامِ، كَقَوْلِهِ: جَعَلْتُ هَذِهِ الشَّاةَ أُضْحِيَّةً كَسَائِرِ الْقُرَبِ.
وَفِي تَحْرِيرِ الْكَلاَمِ فِي مَسَائِل الاِلْتِزَامِ لِلْحَطَّابِ: الاِلْتِزَامُ الْمُطْلَقُ يُقْضَى بِهِ عَلَى الْمُلْتَزِمِ، مَا لَمْ يُفْلِسْ أَوْ يَمُتْ أَوْ يَمْرَضْ.
وَقَال ابْنُ رُشْدٍ فِي نَوَازِلِهِ فِيمَنْ عَزَل لِمِسْكِينٍ مُعَيَّنٍ شَيْئًا، وَبَتَّلَهُ لَهُ بِقَوْلٍ أَوْ نِيَّةٍ، فَلاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَصْرِفَهُ إِِلَى غَيْرِهِ، وَهُوَ ضَامِنٌ لَهُ إِنْ فَعَل. وَلَوْ نَوَى أَنْ يُعْطِيَهُ وَلَمْ يُبَتِّلْهُ لَهُ بِقَوْلٍ وَلاَ نِيَّةٍ كُرِهَ لَهُ أَنْ يَصْرِفَهُ إِِلَى غَيْرِهِ. وَمَعْنَى بَتَّلَهُ: جَعَلَهُ لَهُ مِنَ الآْنَ.
وَفِي الْفَوَاكِهِ الدَّوَانِي: مَنْ أَخْرَجَ كِسْرَةً لِسَائِلٍ فَوَجَدَهُ قَدْ ذَهَبَ لاَ يَجُوزُ لَهُ أَكْلُهَا، وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا عَلَى غَيْرِهِ، كَمَا قَالَهُ مَالِكٌ. وَقَال غَيْرُهُ: يَجُوزُ لَهُ أَكْلُهَا، وَقَال ابْنُ رُشْدٍ: يُحْمَل كَلاَمُ غَيْرِ مَالِكٍ عَلَى مَا إِِذَا أَخْرَجَهَا لِمُعَيَّنٍ، فَيَجُوزُ لَهُ أَكْلُهَا عِنْدَ عَدَمِ وُجُودِهِ أَوْ عَدَمِ قَبُولِهِ، وَحُمِل كَلاَمُ مَالِكٍ عَلَى إِخْرَاجِهَا لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ، فَلاَ يَجُوزُ لَهُ أَكْلُهَا بَل يَتَصَدَّقُ بِهَا عَلَى غَيْرِهِ، لأَِنَّهُ لَمْ يُعَيِّنِ الَّذِي يَأْخُذُهَا.(12/167)
وَفِي الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ لاِبْنِ رَجَبٍ: الْهَدْيُ وَالأُْضْحِيَّةُ يَتَعَيَّنَانِ بِالتَّعْيِينِ بِالْقَوْل بِلاَ خِلاَفٍ. وَفِي تَعْيِينِهِ بِالنِّيَّةِ وَجْهَانِ، فَإِِذَا قَال: هَذِهِ صَدَقَةٌ، تَعَيَّنَتْ وَصَارَتْ فِي حُكْمِ الْمَنْذُورَةِ، وَإِِذَا عَيَّنَ بِنِيَّتِهِ أَنْ يَجْعَلَهَا صَدَقَةً - وَعَزَلَهَا عَنْ مَالِهِ - فَهُوَ كَمَا لَوِ اشْتَرَى شَاةً يَنْوِي التَّضْحِيَةَ (1) .
د - النَّذْرُ:
33 - النَّذْرُ بِالْقُرَبِ وَالطَّاعَاتِ يَجْعَلُهَا وَاجِبَةً. قَال الْكَاسَانِيُّ: النَّذْرُ مِنْ أَسْبَابِ الْوُجُوبِ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْقُرَبِ الْمَقْصُودَةِ. وَفِي فَتْحِ الْعَلِيِّ الْمَالِكِ: النَّذْرُ الْمُطْلَقُ: هُوَ الْتِزَامُ طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِنِيَّةِ الْقُرْبَةِ (2) .
هـ - اسْتِدْعَاءُ الْحَاجَةِ:
34 - قَال ابْنُ رَجَبٍ فِي قَوَاعِدِهِ: مَا تَدْعُو الْحَاجَةُ إِِلَى الاِنْتِفَاعِ بِهِ مِنَ الأَْعْيَانِ - وَلاَ ضَرَرَ فِي بَذْلِهِ لِتَيَسُّرِهِ، وَكَثْرَةِ وُجُودِهِ - أَوِ الْمَنَافِعِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهَا يَجِبُ بَذْلُهُ مَجَّانًا بِغَيْرِ عِوَضٍ فِي الأَْظْهَرِ، وَمِنْ ذَلِكَ وَضْعُ الْخَشَبِ عَلَى جِدَارِ الْجَارِ إِِذَا لَمْ يَضُرَّ، وَاخْتَارَ بَعْضُهُمْ وُجُوبَ بَذْل الْمَاعُونِ، وَهُوَ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 126، والاختيار 5 / 19، ونهاية المحتاج 8 / 207، وفتح العلي المالك 1 / 234، 248، والفواكه الدواني 2 / 220، والقواعد الفقهية لابن رجب ص 86، والمغني 3 / 537.
(2) البدائع 2 / 223، وفتح العلي المالك 1 / 218.(12/168)
مَا خَفَّ قَدْرُهُ وَسَهُل (وَجَرَتِ الْعَادَةُ بِبَذْلِهِ) ،
وَمِنْهَا: الْمُصْحَفُ تَجِبُ إِعَارَتُهُ لِمُسْلِمٍ احْتَاجَ الْقِرَاءَةَ فِيهِ. وَفِي حَاشِيَةِ الصَّاوِيِّ عَلَى الشَّرْحِ الصَّغِيرِ: الْعَارِيَّةُ مَنْدُوبَةٌ، وَقَدْ يَعْرِضُ وُجُوبُهَا، كَغَنِيٍّ عَنْهَا لِمَنْ يَخْشَى بِعَدَمِهَا هَلاَكَهُ. وَفِي الْقَرْضِ قَال: الْقَرْضُ مَنْدُوبٌ، وَقَدْ يَعْرِضُ لَهُ مَا يُوجِبُهُ كَالْقَرْضِ لِتَخْلِيصِ مُسْتَهْلِكٍ (1) .
و الْمِلْكُ:
35 - الأَْصْل فِي الْعِتْقِ أَنَّهُ مَنْدُوبٌ مُرَغَّبٌ فِيهِ، لَكِنْ يَكُونُ وَاجِبًا عَلَى مَنْ مَلَكَ أَصْلَهُ أَوْ فَرْعَهُ، حَيْثُ يُعْتَقُ عَلَيْهِ بِنَفْسِ الْمِلْكِ (2) .
أَسْبَابُ مَنْعِ التَّطَوُّعِ:
36 - يُمْنَعُ التَّطَوُّعُ لأَِسْبَابٍ مُتَعَدِّدَةٍ، مِنْهَا:
أ - وُقُوعُهُ فِي الأَْوْقَاتِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا:
37 - التَّطَوُّعُ بِالْعِبَادَةِ فِي الأَْوْقَاتِ الَّتِي نَهَى الشَّارِعُ عَنْ وُقُوعِ الْعِبَادَةِ فِيهَا مَمْنُوعٌ، كَالصَّلاَةِ وَقْتَ طُلُوعِ الشَّمْسِ أَوْ غُرُوبِهَا أَوْ عِنْدَ الاِسْتِوَاءِ، لِحَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: ثَلاَثُ سَاعَاتٍ كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَانَا أَنْ نُصَلِّيَ فِيهِنَّ، أَوْ أَنْ نَقْبُرَ فِيهِنَّ مَوْتَانَا: حِينَ
__________
(1) القواعد لابن رجب ص 227، والشرح الصغير وحاشية الصاوي 2 / 104، 205 ط الحلبي.
(2) الشرح الصغير 2 / 445، والمهذب 2 / 5.(12/168)
تَطْلُعُ الشَّمْسُ بَازِغَةً حَتَّى تَرْتَفِعَ، وَحِينَ يَقُومُ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ حَتَّى تَمِيل الشَّمْسُ، وَحِينَ تَضِيفُ الشَّمْسُ لِلْغُرُوبِ حَتَّى تَغْرُبَ (1) وَمِثْل ذَلِكَ التَّطَوُّعُ بِالصَّوْمِ فِي أَيَّامِ الْعِيدِ وَالتَّشْرِيقِ (2) ، لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ صِيَامِ يَوْمَيْنِ: يَوْمِ الْفِطْرِ، وَيَوْمِ النَّحْرِ. (3)
وَيُنْظَرُ فِي صِحَّةِ ذَلِكَ وَتَفْصِيلِهِ: (أَوْقَاتُ الصَّلَوَاتِ - صَلاَةٌ - نَفْلٌ - صَوْمٌ) .
ب - إِقَامَةُ الصَّلاَةِ الْمَكْتُوبَةِ:
38 - يُمْنَعُ التَّطَوُّعُ بِالصَّلاَةِ إِِذَا شَرَعَ الْمُؤَذِّنُ فِي الإِِْقَامَةِ لِلصَّلاَةِ، أَوْ تَضَيَّقَ الْوَقْتُ بِحَيْثُ لاَ يَتَّسِعُ لأَِدَاءِ أَيِّ نَافِلَةٍ (4) . قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِِذَا أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ فَلاَ صَلاَةَ إِلاَّ الْمَكْتُوبَةُ (5) (ر: أَوْقَاتُ الصَّلاَةِ، نَفْلٌ) .
__________
(1) حديث: " ثلاث ساعات. . . . " أخرجه مسلم (1 / 568 - 569 - ط الحلبي) .
(2) الاختيار 1 / 41، والدسوقي 1 / 186، وأسنى المطالب 1 / 123، والمغني 2 / 107.
(3) حديث: " نهى عن صيام يومين: يوم الفطر ويوم النحر " أخرجه أحمد (2 / 511 ط المكتب الإسلامي) ، والبيهقي (4 / 297 ط دار المعرفة) وأصله عند الشيخين.
(4) جواهر الإكليل 1 / 77، ومنتهى الإرادات 1 / 347، ومراقي الفلاح / 102.
(5) حديث: " إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة " أخرجه مسلم (1 / 493 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(12/169)
ج - عَدَمُ الإِِْذْنِ مِمَّنْ يَمْلِكُ الإِِْذْنَ:
39 - مَنْ يَتَوَقَّفُ تَطَوُّعُهُ عَلَى إِذْنِ غَيْرِهِ لاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَطَوَّعَ إِلاَّ بَعْدَ الإِِْذْنِ لَهُ، وَعَلَى ذَلِكَ فَلاَ يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَتَطَوَّعَ بِصَوْمٍ أَوِ اعْتِكَافٍ أَوْ حَجٍّ إِلاَّ بِإِِذْنِ زَوْجِهَا، وَلاَ يَصُومُ الأَْجِيرُ تَطَوُّعًا إِلاَّ بِإِِذْنِ الْمُسْتَأْجِرِ إِِذَا تَضَرَّرَ بِالصَّوْمِ، وَلاَ يَجُوزُ لِلْوَلَدِ الْبَالِغِ الإِِْحْرَامُ بِنَفْل حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ نَفْل جِهَادٍ إِلاَّ بِإِِذْنِ الأَْبَوَيْنِ (1) .
وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ، وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي: (نَفْلٌ، صَلاَةٌ، صَوْمٌ، حَجٌّ، إِجَارَةٌ، أُنْثَى) .
د - الإِِْفْلاَسُ فِي الْحَجْرِ بِالنِّسْبَةِ لِلتَّبَرُّعَاتِ الْمَالِيَّةِ:
40 - مَنْ أَحَاطَ الدَّيْنُ بِمَالِهِ فَإِِنَّهُ يُمْنَعُ شَرْعًا مِنَ التَّصَرُّفِ فِي أَيِّ وَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ التَّبَرُّعِ كَالصَّدَقَةِ وَالْهِبَةِ، وَهَذَا بَعْدَ الْحَجْرِ بِاتِّفَاقٍ، أَمَّا قَبْل الْحَجْرِ فَفِيهِ اخْتِلاَفُ الْفُقَهَاءِ (ر: حَجْرٌ، تَبَرُّعٌ، إِفْلاَسٌ) .
وَتُمْنَعُ التَّبَرُّعَاتُ الْمُنَجَّزَةُ - كَالْعِتْقِ وَالْهِبَةِ الْمَقْبُوضَةِ وَالصَّدَقَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ - إِنْ زَادَتْ عَلَى الثُّلُثِ، وَكَانَتِ التَّبَرُّعَاتُ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ،
__________
(1) البدائع 2 / 107، 108، والأشباه لابن نجيم / 173، والحطاب 2 / 453، 454، ونهاية المحتاج 3 / 356، والمغني 3 / 240.(12/169)
لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ قَبْل وَفَاتِكُمْ بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ. (1)
وَيَتَوَقَّفُ نَفَاذُ تِلْكَ التَّصَرُّفَاتِ عَلَى إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ بَعْدَ وَفَاةِ الْمُوَرِّثِ.
وَمَنْ وَقَفَ وَقْفًا مُسْتَقِلًّا، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّ عَلَيْهِ دَيْنًا، وَلَمْ يُمْكِنْ وَفَاءُ الدَّيْنِ إِلاَّ بِبَيْعِ شَيْءٍ مِنَ الْوَقْفِ، وَهُوَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ، بِيعَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. وَيُمْنَعُ مِنَ التَّبَرُّعِ أَيْضًا مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَةُ غَيْرِهِ، بِحَيْثُ لاَ يَفْضُل شَيْءٌ بَعْدَ ذَلِكَ.
جَاءَ فِي الْمَنْثُورِ: الْقُرُبَاتُ الْمَالِيَّةُ كَالْعِتْقِ وَالْوَقْفِ وَالصَّدَقَةِ وَالْهِبَةِ إِِذَا فَعَلَهَا مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ، أَوْ مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَةُ غَيْرِهِ مِمَّا لاَ يَفْضُل عَنْ حَاجَتِهِ، يَحْرُمُ عَلَيْهِ فِي الأَْصَحِّ؛ لأَِنَّهُ حَقٌّ وَاجِبٌ فَلاَ يَحِل تَرْكُهُ لِسُنَّةٍ. وَفِي الْقَوَاعِدِ لاِبْنِ رَجَبٍ: نَصَّ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ فِيمَنْ تَبَرَّعَ بِمَالِهِ بِوَقْفٍ أَوْ صَدَقَةٍ وَأَبَوَاهُ مُحْتَاجَانِ: أَنَّ لَهُمَا رَدَّهُ، وَنَصَّ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: أَنَّ مَنْ أَوْصَى لأَِجَانِبَ، وَلَهُ أَقَارِبُ مُحْتَاجُونَ، أَنَّ الْوَصِيَّةَ تُرَدُّ عَلَيْهِمْ. فَتَخْرُجُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ تَبَرَّعَ، وَعَلَيْهِ نَفَقَةٌ
__________
(1) حديث: " إن الله تصدق عليكم بوفاتكم بثلث أموالكم " أخرجه ابن ماجه (2 / 904 ط. الحلبي) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وفي إسناده ضعف، قال ابن حجر: طرقه كلها ضعيفة، لكن قد يقوي بعضها بعضا (بلوغ المرام ص 221 ط. عبد الحميد أحمد حنفي) .(12/170)
وَاجِبَةٌ لِوَارِثٍ أَوْ دَيْنٍ - لَيْسَ لَهُ وَفَاءٌ - لَهُمَا رَدُّهُ (1) . وَكُل هَذَا فِي الْجُمْلَةِ وَيُنْظَرُ فِي: (حَجْرٌ، تَبَرُّعٌ، هِبَةٌ، وَقْفٌ، وَصِيَّةٌ) .
هـ - التَّطَوُّعُ بِشَيْءٍ مِنَ الْقُرُبَاتِ فِي الْمَعْصِيَةِ:
41 - لاَ يَجُوزُ التَّبَرُّعُ بِشَيْءٍ فِيهِ مَعْصِيَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ: -
لاَ تَصِحُّ إِعَارَةُ الصَّيْدِ لِمُحْرِمٍ بِالْحَجِّ (2) . - لاَ تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِمَا هُوَ مُحَرَّمٌ، كَالْوَصِيَّةِ لِلْكَنِيسَةِ، وَالْوَصِيَّةِ بِالسِّلاَحِ لأَِهْل الْحَرْبِ. وَلاَ الْوَصِيَّةُ بِبِنَاءِ كَنِيسَةٍ أَوْ بَيْتِ نَارٍ أَوْ عِمَارَتِهِمَا أَوِ الاِتِّفَاقِ عَلَيْهِمَا (3) .
لاَ يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَى مَعْصِيَةٍ، وَلاَ عَلَى مَا هُوَ مُحَرَّمٌ كَالْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ وَكَتْبِ التَّوْرَاةِ وَالإِِْنْجِيل. وَمَنْ وَقَفَ عَلَى مَنْ يَقْطَعُ الطَّرِيقَ لَمْ يَصِحَّ الْوَقْفُ؛ لأَِنَّ الْقَصْدَ بِالْوَقْفِ الْقُرْبَةُ. وَفِي وَقْفِ ذَلِكَ إِعَانَةٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ (4) . وَهَذَا كُلُّهُ فِي الْجُمْلَةِ.
__________
(1) البدائع 7 / 174، والشرح الصغير 2 / 312 ط الحلبي، والحطاب 5 / 60، 61، ونهاية المحتاج 4 / 355، ومغني المحتاج 3 / 120، والمغني 5 / 633، 6 / 71، والاختيارات الفقهية ص 179، والمنثور في القواعد 3 / 278، والقواعد لابن رجب ص 14.
(2) البدائع 6 / 214، 215، والفتاوى الهندية 4 / 372، والشرح الصغير 2 / 206 ط الحلبي، والمغني 5 / 225.
(3) المهذب 1 / 458، والمغني 6 / 105.
(4) الحطاب 5 / 23، ونهاية المحتاج 5 / 365، والمغني 5 / 645.(12/170)
وَفِي ذَلِكَ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي: (الْوَقْفُ، وَالْوَصِيَّةُ، وَالْهِبَةُ، وَالتَّبَرُّعُ)
ثَالِثًا: مَا يَخُصُّ غَيْرَ الْعِبَادَاتِ (مِنْ أَحْكَامِ التَّطَوُّعِ) :
الإِِْيجَابُ وَالْقَبُول وَالْقَبْضُ:
42 - مِنَ التَّطَوُّعَاتِ مَا يَحْتَاجُ إِِلَى الإِِْيجَابِ وَالْقَبُول، وَذَلِكَ فِي عُقُودِ التَّبَرُّعَاتِ، مِثْل الْعَارِيَّةِ وَالْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ لِمُعَيَّنٍ، وَكَذَا الْوَقْفُ عَلَى مُعَيَّنٍ - مَعَ اخْتِلاَفِ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ، وَاخْتِلاَفِهِمْ فِي اشْتِرَاطِ الْقَبْضِ أَيْضًا - وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي:
أ - الْعَارِيَّةُ
43 - الإِِْيجَابُ وَالْقَبُول رُكْنٌ فِي عَقْدِ الْعَارِيَّةِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَقَدْ يَحِل التَّعَاطِي مَحَل الإِِْيجَابِ أَوِ الْقَبُول.
وَالْقَبْضُ لاَ يَمْنَعُ الرُّجُوعَ فِي الْعَارِيَّةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ لأَِنَّهَا عَقْدٌ غَيْرُ لاَزِمٍ عِنْدَهُمْ، وَلِلْمُعِيرِ الرُّجُوعُ فِي الْعَارِيَّةِ فِي أَيِّ وَقْتٍ، سَوَاءٌ أَقَبَضَهَا الْمُسْتَعِيرُ أَمْ لَمْ يَقْبِضْهَا، وَيَقُولُونَ: إِنَّ الْمَنَافِعَ الْمُسْتَقْبَلَةَ لَمْ تَحْصُل فِي يَدِ الْمُسْتَعِيرِ؛ لأَِنَّهَا تُسْتَوْفَى شَيْئًا فَشَيْئًا، فَكُلَّمَا اسْتَوْفَى شَيْئًا فَقَدْ قَبَضَهُ، وَالَّذِي لَمْ يَسْتَوْفِهِ لَمْ يَقْبِضْهُ، فَجَازَ الرُّجُوعُ فِيهِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الرُّجُوعُ فِي حَالٍ يَسْتَضِرُّ بِهِ الْمُسْتَعِيرُ، كَإِِعَارَةِ(12/171)
أَرْضٍ لِزِرَاعَةٍ أَوْ دَفْنِ مَيِّتٍ. وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ عِنْدَهُمْ، وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي: (عَارِيَّةٌ) .
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ: فَالإِِْعَارَةُ عَقْدٌ لاَزِمٌ عِنْدَهُمْ، فَهِيَ تُفِيدُ تَمْلِيكَ الْمَنْفَعَةِ بِالإِِْيجَابِ وَالْقَبُول، وَلاَ يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهَا قَبْل الْمُدَّةِ الْمُحَدَّدَةِ، أَوْ قَبْل إِمْكَانِ الاِنْتِفَاعِ بِالْمُسْتَعَارِ إِنْ كَانَتْ مُطْلَقَةً (1) . وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ كَذَلِكَ.
ب - الْهِبَةُ:
44 - الإِِْيجَابُ وَالْقَبُول رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْهِبَةِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ. أَمَّا الْقَبْضُ فَلاَ بُدَّ مِنْهُ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ، وَذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ؛ لأَِنَّ الْمِلْكَ لَوْ ثَبَتَ بِدُونِهِ لَلَزِمَ الْمُتَبَرِّعَ شَيْءٌ لَمْ يَلْتَزِمْهُ، وَهُوَ التَّسَلُّمُ، فَلاَ تُمْلَكُ بِالْعَقْدِ بَل بِالْقَبْضِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا قَالَتْ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ كَانَ نَحَلَهَا جَادَّ عِشْرِينَ وَسْقًا مِنْ مَالِهِ بِالْغَابَةِ. فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قَال: " وَاللَّهِ، يَا بُنَيَّةُ مَا مِنَ النَّاسِ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيَّ غِنًى بَعْدِي مِنْكِ، وَلاَ أَعَزُّ عَلَيَّ فَقْرًا بَعْدِي مِنْكِ، وَإِِنِّي كُنْتُ نَحَلْتُكِ جَادَّ عِشْرِينَ وَسْقًا، فَلَوْ كُنْتِ جَدَّدْتِيهِ وَاحْتَزْتِيهِ كَانَ لَكِ، وَإِِنَّمَا هُوَ الْيَوْمَ مَال وَارِثٍ (2) .
__________
(1) الهداية 3 / 220، والمهذب 1 / 370، وشرح منتهى الإرادات 2 / 393، وجواهر الإكليل 2 / 146.
(2) عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: " إن أبا بكر الصديق كان نحلها جاد عشرين وسقا من ماله ". . . أخرجه مالك في الموطأ (2 / 752 - ط الجمل) .(12/171)
وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ هُوَ رَأْيُ بَعْضِ الْحَنَابِلَةِ. قَال الْمَجْدُ بْنُ تَيْمِيَّةَ فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ: الْمِلْكُ فِي الْمَوْهُوبِ لاَ يَثْبُتُ بِدُونِ الْقَبْضِ، وَكَذَا صَرَّحَ ابْنُ عَقِيلٍ الْحَنْبَلِيُّ: أَنَّ الْقَبْضَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْهِبَةِ كَالإِِْيجَابِ فِي غَيْرِهَا، وَكَلاَمُ الْخِرَقِيِّ يَدُل عَلَيْهِ.
وَالرَّأْيُ الآْخَرُ لِلْحَنَابِلَةِ: أَنَّ الْهِبَةَ تُمْلَكُ بِالْعَقْدِ، فَيَصِحُّ التَّصَرُّفُ مِنَ الْمَوْهُوبِ لَهُ فِيهَا قَبْل الْقَبْضِ، كَذَا فِي الْمُنْتَهَى وَشَرْحِهِ، وَهُوَ الَّذِي قَدَّمَهُ فِي الإِِْنْصَافِ.
وَعَلَى رَأْيِ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَمَنْ رَأَى رَأْيَهُمْ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهَا قَبْل الْقَبْضِ؛ لأَِنَّ عَقْدَ الْهِبَةِ لَمْ يَتِمَّ. وَلَكِنَّهُ عِنْدَ مَنْ يَرَى ذَلِكَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ يَكُونُ مَعَ الْكَرَاهَةِ، خُرُوجًا مِنْ خِلاَفِ مَنْ قَال: إِنَّ الْهِبَةَ تَلْزَمُ بِالْعَقْدِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: تُمْلَكُ الْهِبَةُ بِالْقَبُول عَلَى الْمَشْهُورِ، وَلِلْمُتَّهِبِ طَلَبُهَا مِنَ الْوَاهِبِ إِنَ امْتَنَعَ وَلَوْ عِنْدَ حَاكِمٍ، لِيُجْبِرَهُ عَلَى تَمْكِينِ الْوَهُوبِ لَهُ مِنْهَا. لَكِنْ قَال ابْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ: الْقَبُول وَالْحِيَازَةُ مُعْتَبَرَانِ فِي الْهِبَةِ، إِلاَّ أَنَّ الْقَبُول رُكْنٌ وَالْحِيَازَةَ شَرْطٌ. أَيْ فِي تَمَامِهَا، فَإِِنْ عُدِمَ لَمْ تَلْزَمْ، وَإِِنْ كَانَتْ صَحِيحَةً.
عَلَى أَنَّ الْهِبَةَ لَوْ تَمَّتْ بِالْقَبْضِ، فَإِِنَّهُ يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِنْ كَانَتْ لأَِجْنَبِيٍّ، أَيْ غَيْرِ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الرَّجُل(12/172)
أَحَقُّ بِهِبَتِهِ مَا لَمْ يُثَبْ مِنْهَا (1) أَمَّا عِنْدَ الْجُمْهُورِ فَلاَ يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهَا بَعْدَ الْقَبْضِ، إِلاَّ الْوَالِدُ فِيمَا يَهَبُ لِوَلَدِهِ فَإِِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ الرُّجُوعُ (2) لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْعَائِدِ فِي قَيْئِهِ. (3)
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (هِبَةٌ) .
ج - الْوَصِيَّةُ لِمُعَيَّنٍ:
45 - مِنْ أَرْكَانِ الْوَصِيَّةِ الإِِْيجَابُ مِنَ الْمُوصِي وَالْقَبُول مِنَ الْمُوصَى لَهُ الْمُعَيَّنِ، لَكِنَّ الْقَبُول لاَ يُعْتَبَرُ إِلاَّ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي، وَلاَ يُفِيدُ الْقَبُول قَبْل مَوْتِهِ؛ لأَِنَّ الْوَصِيَّةَ عَقْدٌ غَيْرُ لاَزِمٍ، وَالْمُوصِي يَمْلِكُ الرُّجُوعَ فِي وَصِيَّتِهِ مَا دَامَ حَيًّا، وَبِالْقَبُول يَمْلِكُ الْمُوصَى لَهُ الْمُوصَى بِهِ، وَلاَ يَتَوَقَّفُ الْمِلْكُ عَلَى الْقَبْضِ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - غَيْرَ زُفَرَ - وَالْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. أَمَّا عِنْدَ زُفَرَ فَرُكْنُ الْوَصِيَّةِ هُوَ الإِِْيجَابُ فَقَطْ مِنَ الْمُوصِي،
__________
(1) حديث: " الرجل أحق بهبته ما لم يثب منها " أخرجه ابن ماجه (2 / 798 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال البوصيري: في إسناده إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع، وهو ضعيف.
(2) الاختيار 3 / 48، والهداية 3 / 224 - 227، والدسوقي 4 / 101، والشرح الصغير 2 / 312 ط الحلبي، وأسنى المطالب 2 / 478، 482، والمهذب 1 / 454، وكشاف القناع 4 / 298، 300 - 301، 312، وشرح منتهى الإرادات 2 / 519.
(3) حديث: " العائد في هبته كالعائد في قيئه " أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 234 - ط السلفية) ومسلم (3 / 124 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما.(12/172)
وَيَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلْمُوصَى لَهُ مِنْ غَيْرِ قَبُولٍ كَالإِِْرْثِ (1) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (وَصِيَّةٌ) .
د - الْوَقْفُ عَلَى مُعَيَّنٍ:
46 - الإِِْيجَابُ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْوَقْفِ، سَوَاءٌ أَكَانَ عَلَى مُعَيَّنٍ أَمْ لَمْ يَكُنْ. أَمَّا الْقَبُول: فَإِِنْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى مُعَيَّنٍ فَإِِنَّهُ يُشْتَرَطُ قَبُولُهُ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ. وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: لاَ يَفْتَقِرُ الْوُقُوفُ عَلَى مُعَيَّنٍ إِِلَى الْقَبُول؛ لأَِنَّهُ إِزَالَةُ مِلْكٍ يَمْنَعُ الْبَيْعَ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ الْقَبُول كَالْعِتْقِ، أَمَّا الْقَبْضُ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَمُحَمَّدٍ: الْقَبْضُ شَرْطٌ (2) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي: (وَقْفٌ) .
__________
(1) البدائع 7 / 331، 342، 378، والاختيار 5 / 65، والهداية 4 / 233 - 234، والدسوقي 4 / 423 - 424، والشرح الصغير 2 / 466 ط الحلبي، وأسنى المطالب 3 / 43، والمهذب 1 / 459، وكشاف القناع 4 / 344، 348.
(2) ابن عابدين 3 / 360، 364 - 365، والاختيار 3 / 42، والدسوقي 4 / 78، 88، والشرح الصغير 2 / 300، وأسنى المطالب 2 / 463، وكشاف القناع 4 / 252.(12/173)
تَطَيُّبٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّطَيُّبُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ تَطَيَّبَ، وَهُوَ التَّعَطُّرُ. وَالطِّيبُ هُوَ: الْعِطْرُ، وَهُوَ مَا لَهُ رَائِحَةٌ مُسْتَلَذَّةٌ، كَالْمِسْكِ وَالْكَافُورِ وَالْوَرْدِ وَالْيَاسَمِينِ وَالْوَرْسِ وَالزَّعْفَرَانِ (1) . وَلاَ يَخْرُجُ مَعْنَاهُ فِي الاِصْطِلاَحِ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
2 - وَالطِّيبُ يَنْقَسِمُ إِِلَى قِسْمَيْنِ:: مُذَكَّرٌ، وَمُؤَنَّثٌ.
فَالْمُذَكَّرُ: مَا يَخْفَى أَثَرُهُ، أَيْ تَعَلُّقُهُ بِمَا مَسَّهُ مِنْ ثَوْبٍ أَوْ جَسَدٍ، وَيَظْهَرُ رِيحُهُ. وَالْمُرَادُ بِهِ أَنْوَاعُ الرَّيَاحِينِ، وَالْوَرْدِ، وَالْيَاسَمِينِ. وَأَمَّا الْمِيَاهُ الَّتِي تُعْصَرُ مِمَّا ذُكِرَ فَلَيْسَ مِنْ قَبِيل الْمُؤَنَّثِ.
وَالْمُؤَنَّثُ: هُوَ مَا يَظْهَرُ لَوْنُهُ وَأَثَرُهُ، أَيْ تَعَلُّقُهُ بِمَا مَسَّهُ تَعَلُّقًا شَدِيدًا كَالْمِسْكِ، وَالْكَافُورِ، وَالزَّعْفَرَانِ (2) .
__________
(1)) لسان العرب، والمصباح المنير، والصحاح مادة: " طيب "، ورد المحتار على الدر المختار 2 / 275، والمجموع شرح المهذب 7 / 274، ومغني المحتاج 1 / 520.
(2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 59 ط عيسى الحلبي بمصر.(12/173)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
التَّزَيُّنُ:
3 - التَّزَيُّنُ: هُوَ اتِّخَاذُ الزِّينَةِ، وَهِيَ اسْمٌ جَامِعٌ لِكُل شَيْءٍ يُتَزَيَّنُ بِهِ، فَالتَّزَيُّنُ مَا يَحْسُنُ بِهِ مَنْظَرُ الإِِْنْسَانِ (1) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
4 - الأَْصْل سُنِّيَّةُ التَّطَيُّبِ، وَيَخْتَلِفُ الْحُكْمُ بِحَسَبِ الأَْحْوَال، عَلَى مَا سَيَأْتِي.
تَطَيُّبُ الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ:
5 - يُسَنُّ التَّطَيُّبُ، لِخَبَرِ أَبِي أَيُّوبَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا أَرْبَعٌ مِنْ سُنَنِ الْمُرْسَلِينَ: الْحِنَّاءُ، وَالتَّعَطُّرُ، وَالسِّوَاكُ، وَالنِّكَاحُ (2) وَلِقَوْل الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُبِّبَ إِلَيَّ مِنْ دُنْيَاكُمُ: النِّسَاءُ وَالطِّيبُ، وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلاَةِ (3) وَالطِّيبُ
__________
(1) لسان العرب، والصحاح، والمصباح المنير مادة: " زين ".
(2) حديث: " أربع من سنن المرسلين: الحناء، والتعطر، والسواك، والنكاح ". أخرجه الترمذي (3 / 382 ط. مصطفى الحلبي) ، وأحمد (5 / 421 ط. المكتب الإسلامي) ، والبغوي في شرح السنة (9 / 5 ط. المكتب الإسلامي) ، وضعفه الأرنؤوط (شرح السنة 9 / 5 ط. المكتب الإسلامي) .
(3) حديث: " حبب إلي من دنياكم: النساء والطيب. . . ". أخرجه أحمد (3 / 128 ط. المكتب الإسلامي) والحاكم والبيهقي. قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم. وقال الحافظ العراقي: إسناده جيد. وقال ابن حجر: حسن. (فيض القدير 3 / 370) .(12/174)
يُسْتَحَبُّ لِلرَّجُل دَاخِل بَيْتِهِ وَخَارِجَهُ، بِمَا يَظْهَرُ رِيحُهُ وَيَخْفَى لَوْنُهُ، كَبَخُورِ الْعَنْبَرِ وَالْعُودِ.
وَيُسَنُّ لِلْمَرْأَةِ فِي غَيْرِ بَيْتِهَا بِمَا يَظْهَرُ لَوْنُهُ وَيَخْفَى رِيحُهُ، لِخَبَرٍ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ طِيبُ الرِّجَال مَا ظَهَرَ رِيحُهُ وَخَفِيَ لَوْنُهُ، وَطِيبُ النِّسَاءِ مَا خَفِيَ رِيحُهُ وَظَهَرَ لَوْنُهُ (1) وَلأَِنَّهَا مَمْنُوعَةٌ فِي غَيْرِ بَيْتِهَا مِمَّا يَنِمُّ عَلَيْهَا، لِحَدِيثِ: أَيُّمَا امْرَأَةٍ اسْتَعْطَرَتْ، فَمَرَّتْ بِقَوْمٍ لِيَجِدُوا رِيحَهَا فَهِيَ زَانِيَةٌ (2) وَفِي بَيْتِهَا تَتَطَيَّبُ بِمَا شَاءَتْ، مِمَّا يَخْفَى أَوْ يَظْهَرُ، لِعَدَمِ الْمَانِعِ.
التَّطَيُّبُ لِصَلاَةِ الْجُمُعَةِ:
6 - يُنْدَبُ التَّطَيُّبُ لِصَلاَةِ الْجُمُعَةِ بِلاَ خِلاَفٍ (3) . لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ هَذَا يَوْمُ عِيدٍ جَعَلَهُ اللَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ، فَمَنْ جَاءَ مِنْكُمْ إِِلَى
__________
(1) حديث: " طيب الرجال ما ظهر ريحه وخفي. . . ". أخرجه أحمد (2 / 541 ط. المكتب الإسلامي) ، وأبو داود (2 / 625 ط عبيد الدعاس) ، والترمذي (4 / 107 ط. مصطفى الحلبي) . واللفظ له. وقال: هذا حديث حسن.
(2) حديث: " أيما امرأة استعطرت. . . " أخرجه أحمد (4 / 414، 418 ط. المكتب الإسلامي) ، والترمذي (5 / 106 ط. مصطفى الحلبي) . بنحوه، وقال: هذا حديث حسن صحيح.
(3) رد المحتار على الدر المختار 1 / 547 ط دار إحياء التراث العربي. بيروت. وجواهر الإكليل 1 / 13، 96، ونهاية المحتاج 2 / 262 ط مصطفى الحلبي بمصر، والمغني لابن قدامة 2 / 349، وكشاف القناع 2 / 42 ط الرياض.(12/174)
الْجُمُعَةِ فَلْيَغْتَسِل، وَإِِنْ كَانَ طِيبٌ فَلْيَمَسَّ مِنْهُ، وَعَلَيْكُمْ بِالسِّوَاكِ (1) وَعَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ يَغْتَسِل رَجُلٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَيَتَطَهَّرُ مَا اسْتَطَاعَ مِنْ طُهْرٍ، وَيَدْهُنُ مِنْ دُهْنِهِ أَوْ يَمَسُّ مِنْ طِيبِ بَيْتِهِ، ثُمَّ يَخْرُجُ لاَ يُفَرِّقُ بَيْنَ اثْنَيْنِ، ثُمَّ يُصَلِّي مَا كُتِبَ لَهُ، ثُمَّ يُنْصِتُ إِِذَا تَكَلَّمَ الإِِْمَامُ، إِلاَّ غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الأُْخْرَى (2) .
التَّطَيُّبُ لِصَلاَةِ الْعِيدِ:
7 - يُنْدَبُ لِلرَّجُل قَبْل خُرُوجِهِ لِصَلاَةِ الْعِيدِ أَنْ يَتَطَيَّبَ بِمَا لَهُ رِيحٌ لاَ لَوْنَ لَهُ، وَبِهَذَا قَال الْجُمْهُورُ (3) .
أَمَّا النِّسَاءُ فَلاَ بَأْسَ بِخُرُوجِهِنَّ غَيْرِ مُتَطَيِّبَاتٍ وَلاَ لاَبِسَاتٍ ثِيَابَ زِينَةٍ أَوْ شُهْرَةٍ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ، وَلْيَخْرُجْنَ تَفِلاَتٍ (4) وَالْمُرَادُ بِالتَّفِلاَتِ: غَيْرُ الْمُتَطَيِّبَاتِ.
__________
(1) حديث: " إن هذا يوم عيد جعله الله للمسلمين فمن جاء إلى الجمعة. . . " أخرجه ابن ماجه (1 / 349 ط. عيسى الحلبي) . والشافعي (بدائع المغني للساعاتي 1 / 154 ط دار الأنوار) . قال المنذري: إسناده حسن (الترغيب والترهيب) (2 / 83 ط. التجارية) .
(2) حديث: " لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر بما استطاع من طهر. . . " أخرجه البخاري (2 / 370 ط. السلفية) .
(3) رد المحتار على الدر المختار 2 / 168 ط مصطفى الحلبي، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 398، ونهاية المحتاج 2 / 382 وما بعدها، والمغني لابن قدامة 2 / 370، 375، 376، وكشاف القناع 2 / 52 ط الرياض.
(4) حديث: " لا تمنعوا إماء الله مساجد الله. . . ". أخرجه أبو داود (1 / 381 ط. عبيد دعاس) . وأحمد (2 / 438 ط. الكتاب الإسلامي) واللفظ له. قال الهيثمي: إسناده حسن. (مجمع الزوائد 2 / 33 ط دار الكتاب العربي) .(12/175)
تَطَيُّبُ الصَّائِمِ:
8 - يُبَاحُ لِلصَّائِمِ أَنْ يَتَطَيَّبَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (1) . وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَجُوزُ التَّطَيُّبُ لِلصَّائِمِ الْمُعْتَكِفِ، وَيُكْرَهُ لِلصَّائِمِ غَيْرِ الْمُعْتَكِفِ. قَال الدَّرْدِيرُ: لأَِنَّ الْمُعْتَكِفَ مَعَهُ مَانِعٌ يَمْنَعُهُ مِمَّا يُفْسِدُ اعْتِكَافَهُ، وَهُوَ لُزُومُهُ الْمَسْجِدَ وَبُعْدُهُ عَنِ النِّسَاءِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يُسَنُّ لِلصَّائِمِ تَرْكُ شَمِّ الرَّيَاحِينِ وَلَمْسِهَا. وَالْمُرَادُ أَنْوَاعُ الطِّيبِ، كَالْمِسْكِ وَالْوَرْدِ وَالنَّرْجِسِ، إِِذَا اسْتَعْمَلَهُ نَهَارًا لِمَا فِيهَا مِنَ التَّرَفُّهِ، وَيَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ لَيْلاً، وَلَوْ دَامَتْ رَائِحَتُهُ فِي النَّهَارِ، كَمَا فِي الْمُحْرِمِ (3) .
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ، فَقَالُوا: يُكْرَهُ لِلصَّائِمِ شَمُّ مَا لاَ يَأْمَنُ أَنْ يَجْذِبَهُ نَفَسُهُ إِِلَى حَلْقِهِ كَسَحِيقِ مِسْكٍ، وَكَافُورٍ، وَدُهْنٍ وَنَحْوِهَا، كَبَخُورِ عُودٍ وَعَنْبَرٍ (4) .
تَطَيُّبُ الْمُعْتَكِفِ:
9 - يَجُوزُ لِلْمُعْتَكِفِ أَنْ يَتَطَيَّبَ نَهَارًا أَوْ لَيْلاً بِأَنْوَاعِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 417.
(2) حاشية الدسوقي 1 / 549.
(3) شرح المنهج والحاشية 2 / 329، وتحفة المحتاج بشرح المنهاج 4 / 58.
(4) كشاف القناع 2 / 330 ط النصر الحديثة.(12/175)
الطِّيبِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، إِلاَّ فِي رِوَايَةٍ عَنِ الإِِْمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَال: إِنَّهُ لاَ يُعْجِبُنِي أَنْ يَتَطَيَّبَ. وَذَلِكَ لأَِنَّ الاِعْتِكَافَ عِبَادَةٌ تَخْتَصُّ مَكَانًا، فَكَانَ تَرْكُ الطِّيبِ فِيهِ مَشْرُوعًا كَالْحَجِّ (1) .
وَاسْتَدَل الْقَائِلُونَ بِجَوَازِ التَّطَيُّبِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُل مَسْجِدٍ} (2) .
التَّطَيُّبُ فِي الْحَجِّ:
10 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ التَّطَيُّبَ أَثْنَاءَ الإِِْحْرَامِ فِي الْبَدَنِ أَوِ الثَّوْبِ مَحْظُورٌ. أَمَّا التَّطَيُّبُ لِلإِِْحْرَامِ قَبْل الدُّخُول فِيهِ فَهُوَ مَسْنُونٌ اسْتِعْدَادًا لِلإِِْحْرَامِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَكَرِهَهُ مَالِكٌ (3) لِمَا رُوِيَ مِنْ كَرَاهَتِهِ عَنْ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَجَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ.
وَدَلِيل سُنِّيَّةِ التَّطَيُّبِ فِي الْبَدَنِ لِلإِِْحْرَامِ مَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كُنْت أُطَيِّبُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لإِِِحْرَامِهِ قَبْل أَنْ يُحْرِمَ، وَلِحِلِّهِ قَبْل أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ (4) وَعَنْهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 116، 117، وحاشية الدسوقي 1 / 549، ومواهب الجليل للحطاب 2 / 462 ط بيروت، ونهاية المحتاج 3 / 214، والمغني لابن قدامة 3 / 205 ط الرياض.
(2) سورة الأعراف / 31.
(3) بداية المجتهد 1 / 341 ط الكليات الأزهرية بمصر.
(4) حديث: " كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه. . . " أخرجه البخاري (3 / 396 ط السلفية) ، ومسلم (2 / 846 ط عيسى الحلبي) . واللفظ له.(12/176)
قَالَتْ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِِلَى وَبِيصِ (1) الطِّيبِ فِي مَفَارِقِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ (2) . وَالصَّحِيحُ عِنْدَهُمْ جَوَازُ التَّطَيُّبِ بِمَا يَبْقَى جُرْمُهُ بَعْدَ الإِِْحْرَامِ، لِصَرِيحِ حَدِيثِ عَائِشَةَ الثَّانِي.
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ: فَحَظَرُوا بَقَاءَ جِرْمِ الطِّيبِ وَإِِنْ ذَهَبَتْ رَائِحَتُهُ.
11 - أَمَّا التَّطَيُّبُ فِي الثَّوْبِ لِلإِِْحْرَامِ: فَمَنَعَهُ الْجُمْهُورُ، وَأَجَازَهُ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْقَوْل الْمُعْتَمَدِ. فَلاَ يَضُرُّ بَقَاءُ الرَّائِحَةِ الطَّيِّبَةِ فِي الثَّوْبِ اتِّفَاقًا قِيَاسًا لِلثَّوْبِ عَلَى الْبَدَنِ. لَكِنْ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ نَزَعَ ثَوْبَ الإِِْحْرَامِ أَوْ سَقَطَ عَنْهُ، فَلاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَعُودَ إِِلَى لُبْسِهِ مَا دَامَتِ الرَّائِحَةُ فِيهِ، بَل يُزِيل مِنْهُ الرَّائِحَةَ ثُمَّ يَلْبَسُهُ، وَهَذَا قَوْل سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ، وَعَائِشَةَ، وَأُمِّ حَبِيبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَالثَّوْرِيِّ وَغَيْرِهِمْ.
وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيَّةُ بِحَدِيثَيْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا السَّابِقَيْنِ
، وَهُمَا صَحِيحَانِ رَوَاهُمَا الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَقَالُوا: إِنَّ الطِّيبَ مَعْنًى يُرَادُ لِلاِسْتِدَامَةِ فَلَمْ يَمْنَعِ الإِِْحْرَامَ مِنِ اسْتِدَامَتِهِ كَالنِّكَاحِ (3)
__________
(1) الوبيص: البريق واللمعان.
(2) حديث: " كأني أنظر إلى وبيص الطيب. . . " أخرجه البخاري (3 / 396 ط السلفية) ، ومسلم (2 / 847 ط عيسى الحلبي) .
(3) المجموع شرح المهذب 7 / 221، 222 ط المكتبة السلفية بالمدينة المنورة.(12/176)
وَسَوَاءٌ فِيمَا ذُكِرَ الطِّيبُ الَّذِي يَبْقَى لَهُ جِرْمٌ بَعْدَ الإِِْحْرَامِ وَالَّذِي لاَ يَبْقَى، وَسَوَاءٌ الرَّجُل وَالْمَرْأَةُ الشَّابَّةُ وَالْعَجُوزُ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ - فِي الأَْصَحِّ - إِِلَى عَدَمِ جَوَازِ التَّطَيُّبِ لِلإِِْحْرَامِ فِي الثَّوْبِ، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَلْبَسَ ثَوْبَ إِحْرَامٍ مُطَيَّبًا؛ لأَِنَّهُ بِذَلِكَ يَكُونُ مُسْتَعْمِلاً لِلطِّيبِ فِي إِحْرَامِهِ بِاسْتِعْمَال الثَّوْبِ، وَهُوَ مَحْظُورٌ عَلَى الْمُحْرِمِ، وَالْفَرْقُ: أَنَّ الطِّيبَ فِي الثَّوْبِ مُنْفَصِلٌ، أَمَّا فِي الْبَدَنِ فَهُوَ تَابِعٌ لَهُ، وَسُنِّيَّةُ التَّطَيُّبِ تَحْصُل بِتَطْيِيبِ الْبَدَنِ، فَأَغْنَى عَنْ تَجْوِيزِهِ فِي الثَّوْبِ (2) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ: إِِلَى أَنَّهُ إِنْ تَطَيَّبَ قَبْل الإِِْحْرَامِ يَجِبُ عَلَيْهِ إِزَالَتُهُ عِنْدَ الإِِْحْرَامِ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِي بَدَنِهِ أَوْ ثَوْبِهِ، فَإِِنْ بَقِيَ فِي الْبَدَنِ أَوِ الثَّوْبِ بَعْدَ الإِِْحْرَامِ شَيْءٌ مِنْ جِرْمِ الطِّيبِ - الَّذِي تَطَيَّبَ بِهِ قَبْل الإِِْحْرَامِ - وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، وَأَمَّا إِِذَا كَانَ فِي الثَّوْبِ رَائِحَتُهُ، فَلاَ يَجِبُ نَزْعُ الثَّوْبِ لَكِنْ يُكْرَهُ اسْتِدَامَتُهُ وَلاَ فِدْيَةَ.
وَأَمَّا اللَّوْنُ: فَفِيهِ قَوْلاَنِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهَذَا كُلُّهُ فِي الْيَسِيرِ، وَأَمَّا الأَْثَرُ الْكَثِيرُ فَفِيهِ الْفِدْيَةُ، وَاسْتَدَل الْمَالِكِيَّةُ بِحَدِيثِ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ
__________
(1) المرجع السابق 7 / 218، ونهاية المحتاج 3 / 262 ط المكتبة الإسلامية.
(2) حاشية رد المحتار على الدر المختار 2 / 481.(12/177)
مُتَضَمِّخٌ بِطِيبٍ وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ، كَيْفَ تَرَى فِي رَجُلٍ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ فِي جُبَّةٍ، بَعْدَمَا تَضَمَّخَ بِطِيبٍ؟ فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَّا الطِّيبُ الَّذِي بِكَ فَاغْسِلْهُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، وَأَمَّا الْجُبَّةُ فَانْزِعْهَا، ثُمَّ اصْنَعْ فِي عُمْرَتِكَ مَا تَصْنَعُ فِي حَجِّكَ (1) . فَاسْتَدَلُّوا بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى حَظْرِ الطِّيبِ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي الْبَدَنِ وَالثَّوْبِ (2) .
وَيَقُول ابْنُ قُدَامَةَ: إِنْ طَيَّبَ ثَوْبَهُ فَلَهُ اسْتِدَامَةُ لُبْسِهِ مَا لَمْ يَنْزِعْهُ، فَإِِنْ نَزَعَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَلْبَسَهُ، فَإِِنْ لَبِسَهُ افْتَدَى؛ لأَِنَّ الإِِْحْرَامَ يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الطِّيبِ وَلُبْسَ الْمُطَيَّبِ دُونَ الاِسْتِدَامَةِ. وَكَذَلِكَ إِنْ نَقَل الطِّيبَ مِنْ مَوْضِعِ بَدَنِهِ إِِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ افْتَدَى؛ لأَِنَّهُ تَطَيَّبَ فِي إِحْرَامِهِ، وَكَذَا إِنْ تَعَمَّدَ مَسَّهُ أَوْ نَحَّاهُ مِنْ مَوْضِعِهِ ثُمَّ رَدَّهُ إِلَيْهِ، فَأَمَّا إِنْ عَرِقَ الطِّيبُ أَوْ ذَابَ بِالشَّمْسِ فَسَال مِنْ مَوْضِعِهِ إِِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ، فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ مِنْ فِعْلِهِ (3) ،
قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: كُنَّا نَخْرُجُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِِلَى مَكَّةَ فَنُضَمِّدُ (4) جِبَاهَنَا بِالْمِسْكِ
__________
(1) حديث: " أما الطيب الذي بك فاغسله ثلاث مرات. . . . " أخرجه البخاري (3 / 393 ط. السلفية) ، ومسلم (2 / 837 ط. عيسى الحلبي) واللفظ له.
(2) بداية المجتهد 3 / 341.
(3) المغني لابن قدامة 3 / 274، 275، ومطالب أولي النهى 2 / 303، 304.
(4) أي: نضعه على جباهنا. والحديث دليل على استحباب تطيب المرأة عند الإحرام كالرجل.(12/177)
الْمُطَيِّبِ عِنْدَ الإِِْحْرَامِ، فَإِِذَا عَرِقَتْ إِحْدَانَا سَال عَلَى وَجْهِهَا، فَيَرَاهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلاَ يَنْهَانَا (1) .
12 - وَأَمَّا التَّطَيُّبُ بَعْدَ الإِِْحْرَامِ، فَإِِنَّهُ يَحْظُرُ عَلَى الْمُحْرِمِ اسْتِعْمَالُهُ فِي ثِيَابِهِ وَبَدَنِهِ، لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال وَلاَ تَلْبَسُوا مِنَ الثِّيَابِ مَا مَسَّهُ وَرْسٌ أَوْ زَعْفَرَانٌ (2) وَلِمَا وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال فِي شَأْنِ الْمُحْرِمِ الَّذِي وَقَصَتْهُ رَاحِلَتُهُ لاَ تَمَسُّوهُ بِطِيبٍ، وَفِي لَفْظٍ لاَ تُحَنِّطُوهُ (3) وَوَجْهُهُ: أَنَّهُ لَمَّا مُنِعَ الْمَيِّتُ مِنَ الطِّيبِ لإِِِحْرَامِهِ، فَالْحَيُّ أَوْلَى. وَمَتَى تَطَيَّبَ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ؛ لأَِنَّهُ اسْتَعْمَل مَا حَرَّمَهُ الإِِْحْرَامُ وَلَوْ لِلتَّدَاوِي، وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْمُحْرِمُ: الأَْشْعَثُ الأَْغْبَرُ (4) . وَالطِّيبُ يُنَافِي الشَّعَثَ.
__________
(1) حديث: " كنا نخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة فنضمد جباهنا بالمسك. . . " أخرجه أبو داود (2 / 414 ط عبيد دعاس) . والبيهقي (5 / 48 ط. دار المعرفة) . وقال الأرناؤوط إسناده حسن (جامع الأصول 3 / 36 ط. دار البيان) .
(2) حديث: " ولا تلبسوا من الثياب ما مسه ورس. . . " أخرجه البخاري (3 / 401 ط السلفية) ، ومسلم (2 / 834 ط عيسى الحلبي) ، وأحمد (2 / 63 ط المكتب الإسلامي) واللفظ له.
(3) قال في شأن المحرم الذي وقصته ناقته " لا تمسوه بطيب " وفي لفظ " لا تحنطوه ". أخرجه البخاري (4 / 63 - 64 ط السلفية) . ومسلم (2 / 866 ط. عيسى الحلبي) .
(4) حديث: " المحرم الأشعث الأغبر. . " ذكره ابن قدامة في المغني (3 / 320) ط الرياض بلفظ " إن المحرم الأشعث الأغبر " ولم أعثر على من أخرجه بهذا اللفظ. ولكن أخرج الترمذي (5 / 225 ط مصطفى الحلبي) . بمعناه عن ابن عمر قال: قام رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من الحاج يا رسول الله؟ : الشعث التفل وقال الهيثمي: رواه أحمد والبزار. . . ثم قال: ورجال أحمد رجال الصحيح. (مجمع الزوائد 3 / 218 ط دار الكتاب العربي) .(12/178)
وَيَجِبُ الْفِدَاءُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ (1) . وَالشَّافِعِيَّةِ (2) ، وَالْحَنَابِلَةِ (3) ، لأَِيِّ تَطَيُّبٍ مِمَّا هُوَ مَحْظُورٌ، دُونَ تَقْيِيدٍ بِأَنْ يُطَيِّبَ عُضْوًا كَامِلاً أَوْ مِقْدَارًا مِنَ الثَّوْبِ مُعَيَّنًا. وَإِِنَّمَا وَجَبَتِ الْفِدْيَةُ قِيَاسًا عَلَى الْحَلْقِ، لأَِنَّهُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي الْقُرْآنِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلاَ تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} (4) .
وَلِمَا وَرَدَ عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لَهُ، حِينَ رَأَى هَوَامَّ رَأْسِهِ: أَيُؤْذِيكَ هَوَامُّ رَأْسِكَ؟ قَال: قُلْتُ: نِعْمَ قَال: فَاحْلِقْ، وَصُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِين، أَوِ انْسُكْ نَسِيكَةً (5)
وَفَرَّقَ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ تَطَيُّبٍ وَتَطَيُّبٍ، فَقَالُوا: تَجِبُ شَاةٌ إِنْ طَيَّبَ الْمُحْرِمُ عُضْوًا كَامِلاً، مِثْل
__________
(1) حاشية الدسوقي والشرح الكبير 2 / 61 - 63، وشرح الزرقاني 2 / 298 - 299.
(2) المجموع 7 / 269 - 274 ط المكتبة السلفية بالمدينة المنورة، ونهاية المحتاج 3 / 325، 333 ط. مصطفى الحلبي بمصر.
(3) مطالب أولي النهى 2 / 331.
(4) سورة البقرة / 196.
(5) حديث: " أيؤذيك هوام رأسك؟ . . . " أخرجه البخاري (7 / 457 ط. السلفية) .(12/178)
الرَّأْسِ وَالْيَدِ وَالسَّاقِ، أَوْ مَا بَلَغَ عُضْوًا كَامِلاً لَوْ جُمِعَ. وَالْبَدَنُ كُلُّهُ كَعُضْوٍ وَاحِدٍ إِنِ اتَّحَدَ الْمَجْلِسُ، وَإِِنْ تَفَرَّقَ الْمَجْلِسُ فَلِكُل طِيبٍ كَفَّارَةٌ إِنْ شَمِل عُضْوًا وَاحِدًا أَوْ أَكْثَرَ، سَوَاءٌ كَفَّرَ لِلأَْوَّل أَمْ لاَ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ. وَقَال مُحَمَّدٌ: عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلَوْ فَدَى وَلَمْ يَزَل الطِّيبُ لَزِمَهُ فِدْيَةٌ أُخْرَى؛ لأَِنَّ ابْتِدَاءَهُ كَانَ مَحْظُورًا، فَيَكُونُ لِبَقَائِهِ حُكْمُ ابْتِدَائِهِ.
وَوَجْهُ وُجُوبِ الشَّاةِ: أَنَّ الْجِنَايَةَ تَتَكَامَل بِتَكَامُل الاِرْتِفَاقِ، وَذَلِكَ فِي الْعُضْوِ الْكَامِل فَيَتَرَتَّبُ كَمَال الْمُوجِبِ.
وَإِِنْ طَيَّبَ أَقَل مِنْ عُضْوٍ: فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِنِصْفِ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ، لِقُصُورِ الْجِنَايَةِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الطِّيبُ كَثِيرًا، فَعَلَيْهِ دَمٌ. وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ. وَقَال مُحَمَّدٌ: يَقُومُ مَا يَجِبُ فِيهِ الدَّمُ فَيَتَصَدَّقُ بِذَلِكَ الْقَدْرِ، حَتَّى لَوْ طَيَّبَ رُبْعَ عُضْوٍ فَعَلَيْهِ مِنَ الصَّدَقَةِ قَدْرُ رُبُعِ شَاةٍ، وَهَكَذَا؛ لأَِنَّ تَطْيِيبَ عُضْوٍ كَامِلٍ ارْتِفَاقٌ كَامِلٌ، فَكَانَ جِنَايَةً كَامِلَةً، فَيُوجِبُ كَفَّارَةً كَامِلَةً، وَتَطْيِيبُ مَا دُونَ الْعُضْوِ الْكَامِل ارْتِفَاقٌ قَاصِرٌ، فَيُوجِبُ كَفَّارَةً قَاصِرَةً، إِذِ الْحُكْمُ يَثْبُتُ عَلَى قَدْرِ السَّبَبِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الطِّيبُ كَثِيرًا فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَلَمْ يَشْتَرِطِ الْحَنَفِيَّةُ اسْتِمْرَارَ الطِّيبِ لِوُجُوبِ الْجَزَاءِ، بَل يَجِبُ بِمُجَرَّدِ التَّطَيُّبِ (1) .
وَأَمَّا تَطْيِيبُ الثَّوْبِ فَتَجِبُ فِيهِ الْفِدْيَةُ عِنْدَ
__________
(1) رد المحتار على الدر المختار 2 / 200 - 202، والهداية بهامش فتح القدير 2 / 438، 439 ط. دار إحياء التراث العربي / بيروت.(12/179)
الْحَنَفِيَّةِ بِشَرْطَيْنِ:
أَوَّلُهُمَا: أَنْ يَكُونَ كَثِيرًا، وَهُوَ مَا يَصْلُحُ أَنْ يُغَطِّيَ مِسَاحَةً تَزِيدُ عَلَى شِبْرٍ فِي شِبْرٍ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَسْتَمِرَّ نَهَارًا، أَوْ لَيْلَةً.
فَإِِنِ اخْتَل أَحَدُ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ وَجَبَتِ الصَّدَقَةُ، وَإِِنِ اخْتَل الشَّرْطَانِ وَجَبَ التَّصَدُّقُ بِقَبْضَةٍ مِنْ قَمْحٍ (1) .
وَالأَْصْل فِي حَظْرِ تَطْيِيبِ الثَّوْبِ وَلُبْسِهِ بَعْدَ الإِِْحْرَامِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تَلْبَسُوا شَيْئًا مِنَ الثِّيَابِ مَسَّهُ الزَّعْفَرَانُ وَلاَ الْوَرْسُ (2) .
وَالْمُحْرِمُ - ذَكَرًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ - مَمْنُوعٌ مِنِ اسْتِعْمَال الطِّيبِ فِي إِزَارِهِ أَوْ رِدَائِهِ وَجَمِيعِ ثِيَابِهِ، وَفِرَاشِهِ وَنَعْلِهِ، حَتَّى لَوْ عَلَقَ بِنَعْلِهِ طِيبٌ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُبَادِرَ لِنَزْعِهِ، وَلاَ يَضَعُ عَلَيْهِ ثَوْبًا مَسَّهُ الْوَرْسُ أَوْ الزَّعْفَرَانُ أَوْ نَحْوُهُمَا مِنْ صِبْغٍ لَهُ طِيبٌ (3) .
وَاسْتِعْمَال الطِّيبِ هُوَ: أَنْ يُلْصِقَ الطِّيبَ بِبَدَنِهِ أَوْ مَلْبُوسِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ فِي ذَلِكَ الطِّيبِ، مِمَّا يُقْصَدُ مِنْهُ رِيحُهُ غَالِبًا وَلَوْ مَعَ غَيْرِهِ، كَمِسْكٍ أَوْ عُودٍ، وَكَافُورٍ، وَوَرْسٍ، وَزَعْفَرَانٍ،
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 189، 190 طبعة أولى.
(2) حديث: إلا تلبسوا شيئا من الثياب مسه الزعفران ولا الورس " سبق تخريجه ف / 12.
(3) الاختيار 1 / 145 ط دار المعرفة، ونهاية المحتاج 1 / 210 ط. مصطفى الحلبي بمصر.(12/179)
وَرَيْحَانٍ، وَوَرْدٍ، وَيَاسَمِينَ، وَنَرْجِسٍ، وَآسٍ، وَسَوْسَنٍ، وَمَنْثُورٍ، وَنَمَّامٍ، وَغَيْرِ مَا ذُكِرَ، مِمَّا يُتَطَيَّبُ بِهِ، وَيُتَّخَذُ مِنْهُ الطِّيبُ، أَوْ يَظْهَرُ فِيهِ هَذَا الْغَرَضُ (1)
13 - وَيُكْرَهُ لِلْمُحْرِمِ شَمُّ الطِّيبِ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُكْرَهُ شَمُّ الطِّيبِ مُذَكَّرُهُ وَمُؤَنَّثُهُ دُونَ مَسٍّ (2) . وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ: فَقَالُوا: يَحْرُمُ تَعَمُّدُ شَمِّ الطِّيبِ كَالْمِسْكِ وَالْكَافُورِ وَنَحْوِهِمَا، مِمَّا يُتَطَيَّبُ بِشَمِّهِ كَالْوَرْدِ وَالْيَاسَمِينَ. فَإِِنْ فَعَل الْمُحْرِمُ ذَلِكَ وَجَبَ الْفِدَاءُ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ الْفِدْيَةَ تَجِبُ فِيمَا يُتَّخَذُ مِنْهُ، فَكَذَلِكَ فِي أَصْلِهِ، وَعَنِ الإِِْمَامِ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى فِي الْوَرْدِ: لاَ فِدْيَةَ عَلَيْهِ فِي شَمِّهِ، لأَِنَّهُ زَهْرٌ شَمُّهُ عَلَى جِهَتِهِ، أَشْبَهَ زَهْرَ سَائِرِ الشَّجَرِ، وَالأَْوْلَى تَحْرِيمُهُ؛ لأَِنَّهُ يَنْبُتُ لِلطِّيبِ وَيُتَّخَذُ مِنْهُ، أَشْبَهَ الزَّعْفَرَانَ، وَالْعَنْبَرَ (3) .
مَا يُبَاحُ مِنَ الطِّيبِ وَمَا لاَ يُبَاحُ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُحْرِمِ:
14 - قَال ابْنُ قُدَامَةَ: النَّبَاتُ الَّذِي تُسْتَطَابُ
__________
(1) المجموع شرح المهذب 7 / 269 وما بعدها ط. المكتبة الإسلامية بالمدينة المنورة، والخرشي على مختصر خليل 2 / 352.
(2) رد المحتار على الدر المختار 2 / 487 ط. مصطفى الحلبي بمصر الطبعة الثانية، والمجموع شرح المهذب 7 / 272، وحاشية الدسوقي 2 / 59، وشرح الزرقاني 2 / 296 ط دار الفكر.
(3) مطالب أولي النهى 2 / 331 ط المكتب الإسلامي بدمشق، والمغني لابن قدامة 3 / 316، 323 ط. مكتبة الرياض الحديثة بالرياض.(12/180)
رَائِحَتُهُ عَلَى ثَلاَثَةِ أَضْرُبٍ:
أَحَدُهَا: مَا لاَ يَنْبُتُ لِلطِّيبِ وَلاَ يُتَّخَذُ مِنْهُ كَنَبَاتِ الصَّحْرَاءِ مِنَ الشِّيحِ وَالْقَيْصُومِ، وَالْخُزَامَى، وَالْفَوَاكِهِ كُلِّهَا، مِنَ الأُْتْرُجِّ، وَالتُّفَّاحِ وَالسَّفَرْجَل، وَغَيْرِهِ، وَمَا يُنْبِتُهُ الآْدَمِيُّونَ لِغَيْرِ قَصْدِ الطِّيبِ، كَالْحِنَّاءِ، وَالْعُصْفُرِ، وَهَذَانِ يُبَاحُ شَمُّهُمَا وَلاَ فِدْيَةَ فِيهِمَا بِلاَ خِلاَفٍ، غَيْرَ أَنَّهُ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَشُمَّ شَيْئًا مِنْ نَبَاتِ الأَْرْضِ، مِنَ الشِّيحِ وَالْقَيْصُومِ (1) وَغَيْرِهِمَا، وَقَدْ " رُوِيَ أَنَّ أَزْوَاجَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُنَّ يُحْرِمْنَ فِي الْمُعَصْفَرَاتِ ".
الثَّانِي: مَا يُنْبِتُهُ الآْدَمِيُّونَ لِلطِّيبِ وَلاَ يُتَّخَذُ مِنْهُ طِيبٌ، كَالرَّيْحَانِ الْفَارِسِيِّ وَالنَّرْجِسِ، وَالْبَرَمِ (2) ، وَفِيهِ وَجْهَانِ،
أَحَدُهُمَا: يُبَاحُ بِغَيْرِ فِدْيَةٍ، قَالَهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَالْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ، وَإِِسْحَاقُ. وَالآْخَرُ: يَحْرُمُ شَمُّهُ، فَإِِنْ فَعَل فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، وَهُوَ قَوْل جَابِرٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ؛ لأَِنَّهُ يُتَّخَذُ لِلطِّيبِ، فَأَشْبَهَ الْوَرْدَ (3) .
الثَّالِثُ: مَا يَنْبُتُ لِلطِّيبِ، وَيُتَّخَذُ مِنْهُ طِيبٌ، كَالْوَرْدِ، وَالْبَنَفْسَجِ، وَالْخَيْرِيِّ (4) وَهَذَا إِِذَا
__________
(1) القيصوم: نبات له رائحة كالشيح.
(2) البرم: نبات طيب الرائحة.
(3) المغني لابن قدامة 3 / 315.
(4) الخيري: نبات طيب الزهر.(12/180)
اسْتَعْمَلَهُ الْمُحْرِمُ وَشَمَّهُ فَفِيهِ الْفِدْيَةُ، لأَِنَّ الْفِدْيَةَ تَجِبُ فِيمَا يُتَّخَذُ مِنْهُ، فَكَذَلِكَ فِي أَصْلِهِ (1) . وَإِِنْ مَسَّ الْمُحْرِمُ مِنَ الطِّيبِ مَا يَعْلَقُ بِبَدَنِهِ، كَالْغَالِيَةِ وَمَاءِ الْوَرْدِ، وَالْمِسْكِ الْمَسْحُوقِ الَّذِي يَعْلَقُ بِأَصَابِعِهِ، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ؛ لأَِنَّهُ مُسْتَعْمِلٌ لِلطِّيبِ. وَإِِنْ مَسَّ مَا لاَ يَعْلَقُ بِيَدِهِ، كَالْمِسْكِ غَيْرِ الْمَسْحُوقِ، وَقِطَعِ الْكَافُورِ، وَالْعَنْبَرِ، فَلاَ فِدْيَةَ؛ لأَِنَّهُ غَيْرُ مُسْتَعْمَلٍ لِلطِّيبِ. فَإِِنْ شَمَّهُ فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ لأَِنَّهُ يُسْتَعْمَل هَكَذَا، وَإِِنْ شَمَّ الْعُودَ (أَيْ خَشَبَ الْعُودِ) فَلاَ فِدْيَةَ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يُتَطَيَّبُ بِهِ (2)
تَطَيُّبُ الْمُحْرِمِ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلاً:
15 - إِنْ تَطَيَّبَ الْمُحْرِمُ نَاسِيًا فَلاَ فِدْيَةَ عَلَيْهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (3) ، فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ، وَهُوَ مَذْهَبُ عَطَاءٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَإِِسْحَاقَ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ، لِعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ (4)
وَإِِنْ أَخَّرَ ذَلِكَ عَنْ زَمَنِ الإِِْمْكَانِ فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ
__________
(1) المغني لابن قدامة 3 / 316.
(2) المرجع السابق.
(3) نهاية المحتاج 3 / 325، والمجموع شرح المهذب 7 / 280، والمغني لابن قدامة 3 / 501، 502، ومطالب أولي النهى 2 / 363.
(4) حديث: " إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " أخرجه ابن ماجه (1 / 659 ط. عيسى الحلبي) . وصححه السيوطي (فيض القدير 6 / 362 ط. المكتبة التجارية) .(12/181)
عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَاسْتَدَل الْقَائِلُونَ بِعَدَمِ وُجُوبِ الْفِدْيَةِ عَلَى النَّاسِي أَيْضًا: بِخَبَرِ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِالْجِعْرَانَةِ، وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ، وَعَلَيْهِ أَثَرُ خَلُوقٍ، أَوْ قَال: أَثَرُ صُفْرَةٍ. فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ كَيْفَ تَأْمُرُنِي أَنْ أَصْنَعَ فِي عُمْرَتِي؟ قَال: اخْلَعْ عَنْكَ الْجُبَّةَ، وَاغْسِل أَثَرَ الْخَلُوقِ عَنْكَ. أَوْ قَال: الصُّفْرَةِ، وَاصْنَعْ فِي عُمْرَتِكَ كَمَا تَصْنَعُ فِي حَجِّكَ (1) فَدَل ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ عَذَرَهُ لِجَهْلِهِ، وَالنَّاسِي فِي مَعْنَاهُ، وَلَهُ غَسْل الطِّيبِ بِيَدِهِ بِلاَ حَائِلٍ، لِعُمُومِ أَمْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغَسْلِهِ.
وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ أَحْمَدَ فَقَالُوا: يَجِبُ دَمٌ عَلَى الْمُحْرِمِ الْبَالِغِ وَلَوْ نَاسِيًا إِنْ طَيَّبَ عُضْوًا كَامِلاً، أَوْ مَا يَبْلُغُ عُضْوًا لَوْ جُمِعَ (2) .
تَطَيُّبُ الْمَبْتُوتَةِ:
16 - يَحْرُمُ عَلَى الْمُطَلَّقَةِ ثَلاَثًا التَّطَيُّبُ لِوُجُوبِ الإِِْحْدَادِ عَلَيْهَا؛ لأَِنَّهَا مُعْتَدَّةُ بَائِنٍ مِنْ نِكَاحٍ صَحِيحٍ، وَهِيَ كَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (3) ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ (4) ،
__________
(1) حديث: " اخلع عنك الجبة واغسل. . . " أخرجه البخاري (3 / 614 ط السلفية) . ومسلم (2 / 836 ط. عيسى الحلبي) .
(2) رد المحتار على الدر المختار 2 / 200، 201، والعدوي على الخرشي 2 / 353، والمغني 3 / 502.
(3) رد المحتار على الدر المختار 2 / 617.
(4) نهاية المحتاج 7 / 141 - 143.(12/181)
وَالْحَنَابِلَةِ (1) . أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ (2) فَقَالُوا: إِنَّ التَّطَيُّبَ لاَ يَحْرُمُ إِلاَّ عَلَى الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، وَمَنْ فِي حُكْمِهَا وَهِيَ: زَوْجَةُ الْمَفْقُودِ الْمَحْكُومِ بِفَقْدِهِ. لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} (3)
وَالْقَوْل الآْخَرُ لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: لاَ يَحْرُمُ التَّطَيُّبُ؛ لأَِنَّ الإِِْحْدَادَ لاَ يَجِبُ عَلَى الْمُطَلَّقَةِ ثَلاَثًا، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ يَحِل لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ أَنْ تَحُدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاَثٍ، إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا (4) وَهَذِهِ عِدَّةُ الْوَفَاةِ، فَدَل عَلَى أَنَّ الإِِْحْدَادَ يَجِبُ فِيهَا فَقَطْ. وَالْمُطَلَّقَةُ بَائِنًا مُعْتَدَّةٌ عَنْ غَيْرِ وَفَاةٍ، فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهَا الإِِْحْدَادُ كَالرَّجْعِيَّةِ؛ وَلأَِنَّ الْمُطَلَّقَةَ بَائِنًا فَارَقَهَا زَوْجُهَا بِاخْتِيَارِ نَفْسِهِ وَقَطَعَ نِكَاحَهَا، فَلاَ مَعْنَى لِتَكْلِيفِهَا الْحُزْنَ عَلَيْهِ، فَيَجُوزُ لَهَا أَنْ تَتَطَيَّبَ.
وَزَادَ الْحَنَفِيَّةُ الْمُطَلَّقَةَ طَلْقَةً وَاحِدَةً بَائِنَةً، وَقَالُوا: يَلْزَمُهَا تَرْكُ التَّطَيُّبِ؛ لأَِنَّهُ يَلْزَمُهَا الْحِدَادُ، وَلَوْ أَمَرَهَا الْمُطَلِّقُ بِتَرْكِهِ؛ لأَِنَّهُ حَقُّ الشَّرْعِ (5) .
__________
(1) المغني لابن قدامة 7 / 518، 519.
(2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 478، 479.
(3) سورة البقرة / 234.
(4) حديث: " لا يحل لامرأة تؤمن بالله. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 146 ط السلفية) من حديث أم حبيبة رضي الله عنها.
(5) رد المحتار على الدر المختار 2 / 617.(12/182)
تَطَيُّرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّطَيُّرُ فِي اللُّغَةِ: التَّشَاؤُمُ. يُقَال: تَطَيَّرَ بِالشَّيْءِ، وَمِنَ الشَّيْءِ: تَشَاءَمَ بِهِ. وَالاِسْمُ الطِّيَرَةُ. جَاءَ فِي فَتْحِ الْبَارِي: التَّطَيُّرُ، وَالتَّشَاؤُمُ شَيْءٌ وَاحِدٌ (1) .
وَالْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ لاَ يَخْتَلِفُ عَنِ اللُّغَوِيِّ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْفَأْل:
2 - الْفَأْل ضِدُّ الطِّيَرَةِ، يُقَال: تَفَاءَل الرَّجُل: إِِذَا تَيَمَّنَ بِسَمَاعِ كَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ (2) .
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنِ الطِّيَرَةِ: أَنَّ الْفَأْل يُسْتَعْمَل فِيمَا يُسْتَحَبُّ، وَالتَّطَيُّرُ فِيمَا يُكْرَهُ غَالِبًا.
ب - الْكِهَانَةُ:
3 - الْكِهَانَةُ: ادِّعَاءُ عِلْمِ الْغَيْبِ، وَالإِِْخْبَارُ بِمَا سَيَحْدُثُ فِي الْمُسْتَقْبَل مَعَ الإِِْسْنَادِ إِِلَى سَبَبٍ (3) .
__________
(1) مختار الصحاح مادة: " طير "، وفتح الباري 10 / 213.
(2) متن اللغة مادة: " فأل ".
(3) فتح الباري 10 / 212 - 216.(12/182)
أَصْل التَّطَيُّرِ:
4 - أَصْل التَّطَيُّرِ: أَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِِذَا خَرَجَ أَحَدُهُمْ لأَِمْرٍ قَصَدَ إِِلَى عُشِّ طَائِرٍ، فَيُهَيِّجُهُ، فَإِِذَا طَارَ الطَّيْرُ يَمْنَةً تَيَمَّنَ بِهِ، وَمَضَى فِي الأَْمْرِ، وَيُسَمُّونَهُ " السَّانِحَ ". أَمَّا إِِذَا طَارَ يَسْرَةً تَشَاءَمَ بِهِ، وَرَجَعَ عَمَّا عَزَمَ عَلَيْهِ، وَكَانُوا يُسَمُّونَهُ " الْبَارِحَ ". فَأَبْطَل الإِِْسْلاَمُ ذَلِكَ وَنَهَى عَنْهُ، وَأَرْجَعَ الأَْمْرَ إِِلَى سُنَنِ اللَّهِ الثَّابِتَةِ، وَإِِلَى قَدَرِهِ الْمُحِيطِ، وَمَشِيئَتِهِ الْمُطْلَقَةِ (1) ، جَاءَ فِي الأَْثَرِ الصَّحِيحِ: مَنْ رَدَّتْهُ الطِّيَرَةُ مِنْ حَاجَةٍ فَقَدْ أَشْرَكَ (2) وَنَحْوُهُ كَثِيرٌ.
حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ:
5 - إِنِ اعْتَقَدَ الْمُكَلَّفُ أَنَّ الَّذِي شَاهَدَهُ مِنْ حَال الطَّيْرِ مُوجِبٌ لِمَا ظَنَّهُ، مُؤَثِّرٌ فِيهِ، فَقَدْ كَفَرَ. لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّشْرِيكِ فِي تَدْبِيرِ الأُْمُورِ. أَمَّا إِِذَا عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ الْمُتَصَرِّفُ وَالْمُدَبِّرُ وَحْدَهُ، وَلَكِنَّهُ فِي نَفْسِهِ يَجِدُ شَيْئًا مِنَ الْخَوْفِ مِنَ الشَّرِّ؛ لأَِنَّ التَّجَارِبَ عِنْدَهُ قَضَتْ أَنَّ صَوْتًا مِنْ أَصْوَاتِ الطَّيْرِ، أَوْ حَالاً مِنْ حَالاَتِهِ يُرَادِفُهُ مَكْرُوهٌ، فَإِِنْ وَطَّنَ نَفْسَهُ عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ أَسَاءَ، وَإِِنِ اسْتَعَاذَ بِاللَّهِ مِنَ الشَّرِّ، وَسَأَلَهُ الْخَيْرَ وَمَضَى مُتَوَكِّلاً عَلَى اللَّهِ، فَلاَ يَضُرُّهُ مَا وَجَدَ فِي نَفْسِهِ مِنْ
__________
(1) المصدر السابق.
(2) حديث: " من ردته الطيرة من حاجة فقد. . . ". أخرجه أحمد، وصحح إسناده أحمد شاكر (مسند أحمد بن حنبل بتحقيق أحمد شاكر 12 / 10 ط المعارف) .(12/183)
ذَلِكَ، وَإِِلاَّ فَيُؤَاخَذُ (1) . لِحَدِيثِ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَكِيمٍ. قَال: قُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ: مِنَّا رِجَالٌ يَتَطَيَّرُونَ. قَال: ذَلِكَ شَيْءٌ يَجِدُونَهُ فِي صُدُورِهِمْ فَلاَ يَصُدَّنَّهُمْ (2) .
هَذَا وَقَدِ اتَّفَقَ أَهْل التَّوْحِيدِ عَلَى تَحْرِيمِ التَّطَيُّرِ، وَنَفْيِ تَأْثِيرِهِ فِي حُدُوثِ الْخَيْرِ أَوِ الشَّرِّ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الإِِْشْرَاكِ بِاللَّهِ فِي تَدْبِيرِ الأُْمُورِ. وَالنُّصُوصُ فِي النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا: حَدِيثُ: لاَ عَدْوَى، وَلاَ طِيَرَةَ وَلاَ هَامَّةَ، وَلاَ صَفَرَ (3)
أَمَّا الْفَأْل الْحَسَنُ فَهُوَ جَائِزٌ (4) ، وَجَاءَ فِي الأَْثَرِ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَفَاءَل وَلاَ يَتَطَيَّرُ، وَكَانَ يُحِبُّ أَنْ يَسْمَعَ يَا رَاشِدُ يَا رَجِيحُ (5) . وَرُوِيَ عَنْهُ: لاَ عَدْوَى وَلاَ طِيَرَةَ، وَيُعْجِبُنِي الْفَأْل الصَّالِحُ: الْكَلِمَةُ الْحَسَنَةُ (6) .
__________
(1) فتح الباري 10 / 215.
(2) حديث: " معاوية بن حكم العلمي. . . " أخرجه مسلم (1 / 381 - 382 ط عيسى البابي) .
(3) حديث: " لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر "، أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 214 ط. السلفية) ، ومسلم (4 / 1742، 1743 ط. عيسى الحلبي) .
(4) حاشية ابن عابدين 1 / 555.
(5) الشطر الأول من الحديث " كان يتفاءل ولا يتطير " أخرجه أحمد (4 / 94 - 95 ط. المعارف) وصحح أحمد شاكر إسناده. أما الشطر الثاني فقد أخرجه الترمذي بلفظ مقارب. وقال: هذا حديث حسن صحيح (سنن الترمذي 4 / 161 ط. مصطفى الحلبي) .
(6) حديث: " لا عدوى ولا طيرة، ويعجبني. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 214 ط. السلفية) .(12/183)
وَالْفَأْل أَمَلٌ وَرَجَاءٌ لِلْخَيْرِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ كُل سَبَبٍ ضَعِيفٍ أَوْ قَوِيٍّ، بِخِلاَفِ الطِّيَرَةِ، فَهِيَ سُوءُ ظَنٍّ بِاللَّهِ، وَالْمُؤْمِنُ مَأْمُورٌ بِحُسْنِ الظَّنِّ بِاللَّهِ (1) ، لِخَبَرِ قَال اللَّهُ تَعَالَى فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، إِنْ ظَنَّ بِي خَيْرًا فَلَهُ، وَإِِنْ ظَنَّ شَرًّا فَلَهُ (2) . وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (شُؤْمٌ) .
__________
(1) أسنى المطالب 1 / 549، وروضة الطالبين 3 / 232.
(2) حديث: قال الله تعإلى: " أنا عند ظن عبدي. . . . . ". أخرجه أحمد (2 / 391 ط. المكتب الإسلامي) ، وابن حبان في صحيحه (موارد الظمآن ص 2394 ط دار الكتب العلمية) .(12/184)
تَعَارُضٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّعَارُضُ فِي اللُّغَةِ: التَّقَابُل. أَصْلُهُ مِنَ الْعَرْضِ وَهُوَ الْمَنْعُ. يُقَال: لاَ تَعْتَرِضْ لَهُ، أَيْ: لاَ تَمْنَعْهُ بِاعْتِرَاضِكَ أَنْ يَبْلُغَ مُرَادَهُ. وَمِنْهُ: الاِعْتِرَاضَاتُ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ الْوَارِدَةِ عَلَى الْقِيَاسِ وَغَيْرِهِ مِنَ الأَْدِلَّةِ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لأَِنَّهَا تَمْنَعُ مِنَ التَّمَسُّكِ بِالدَّلِيل وَمِنْهُ: تَعَارُضُ الْبَيِّنَاتِ، لأَِنَّ كُل وَاحِدَةٍ تَعْتَرِضُ الأُْخْرَى وَتَمْنَعُ نُفُوذَهَا. وَمِنْهُ: تَعَارُضُ الأَْدِلَّةِ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ، وَمَوْطِنُهُ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
وَالتَّعَارُضُ اصْطِلاَحًا: التَّمَانُعُ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ مُطْلَقًا، بِحَيْثُ يَقْتَضِي أَحَدُهُمَا غَيْرَ مَا يَقْتَضِي الآْخَرُ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّنَاقُضُ:
2 - التَّنَاقُضُ: هُوَ التَّدَافُعُ يُقَال: تَنَاقَضَ الْكَلاَمَانِ، أَيْ: تَدَافَعَا، كَأَنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا
__________
(1) المصباح المنير مادة: " عرض "، وحاشية البناني 2 / 357.(12/184)
يَنْقُضُ الآْخَرَ وَيَدْفَعَهُ، وَالْمُتَنَاقَضَانِ لاَ يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا وَلاَ يَرْتَفِعَانِ (1) .
أَمَّا الْمُتَعَارِضَانِ فَقَدْ يُمْكِنُ ارْتِفَاعُهُمَا.
ب - التَّنَازُعُ:
3 - التَّنَازُعُ الاِخْتِلاَفُ. يُقَال: تَنَازَعَ الْقَوْمُ، أَيِ: اخْتَلَفُوا (2) وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} (3) .
فَالتَّنَازُعُ أَعَمُّ، لأَِنَّهُ يَشْمَل الاِخْتِلاَفَ فِي الرَّأْيِ وَغَيْرِهِ.
حُكْمُ التَّعَارُضِ:
4 - إِِذَا تَعَارَضَتِ الْبَيِّنَتَانِ، وَأَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا جُمِعَ، وَإِِذَا لَمْ يُمْكِنِ الْجَمْعُ يُصَارُ إِِلَى التَّرْجِيحِ (4) .
وَالتَّرْجِيحُ: تَقْدِيمُ دَلِيلٍ عَلَى دَلِيلٍ آخَرَ يُعَارِضُهُ، لاِقْتِرَانِ الأَْوَّل بِمَا يُقَوِّيهِ وَالتَّعَارُضُ وَالتَّرْجِيحُ يَرِدُ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ.
فَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِالأُْصُول فَيُنْظَرُ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
وَأَمَّا اسْتِعْمَالُهُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فَمُعْظَمُهُ فِي شَأْنِ الْبَيِّنَاتِ، وَفِيمَا يَلِي تَفْصِيل ذَلِكَ:
__________
(1) التعريفات للجرجاني.
(2) المصباح المنير مادة: " نزع ".
(3) سورة الأنفال / 4.
(4) التعريفات للجرجاني.(12/185)
وُجُوهُ التَّرْجِيحِ فِي تَعَارُضِ الْبَيِّنَاتِ:
5 - فِي كُل مَذْهَبٍ مِنَ الْمَذَاهِبِ الْفِقْهِيَّةِ وُجُوهٌ لِلتَّرْجِيحِ.
ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ - فِي بَابِ دَعْوَى الرَّجُلَيْنِ - وُجُوهًا لِتَرْجِيحِ إِحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ عَلَى الأُْخْرَى إِِذَا تَعَارَضَتَا وَتَسَاوَتَا فِي الْقُوَّةِ، فَقَالُوا: إِنْ كَانَتِ الْعَيْنُ فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ عَلَى بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ فِي دَعْوَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ (الَّذِي لَمْ يُذْكَرْ سَبَبُهُ) إِنْ وَقَّتَ أَحَدُهُمَا فَقَطْ (أَيْ ذَكَرَ تَارِيخًا) وَقَال أَبُو يُوسُفَ: مَنْ وَقَّتَ أَحَقُّ بِالْعَيْنِ، فَإِِنْ أَرَّخَا وَاتَّحَدَ الْمُمَلَّكُ، فَالأَْسْبَقُ تَارِيخًا أَحَقُّ بِالْعَيْنِ لِقُوَّةِ بَيِّنَتِهِ، وَلَوِ اخْتَلَفَ الْمُمَلَّكُ اسْتَوَيَا.
وَإِِنْ كَانَتِ الْعَيْنُ فِي يَدِ ثَالِثٍ، وَأَقَامَ خَارِجَانِ كُل بَيِّنَةٍ، وَتَسَاوَتَا، قُضِيَ لَهُمَا بِهَا مُنَاصَفَةً، وَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ.
وَإِِنْ كَانَ النِّزَاعُ عَلَى نِكَاحِ امْرَأَةٍ، فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ حَيَّةً أَوْ مَيِّتَةً، فَإِِنْ كَانَتْ حَيَّةً سَقَطَتِ الْبَيِّنَتَانِ لِعَدَمِ إِمْكَانِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا. وَإِِنْ كَانَتْ مَيِّتَةً وَرِثَاهَا مِيرَاثَ زَوْجٍ وَاحِدٍ، وَلَوْ وَلَدَتْ يَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهُمَا.
وَإِِنْ كَانَتِ الْعَيْنُ فِي أَيْدِيهِمَا مَعًا، وَاسْتَوَيَا فِي الْحُجَّةِ وَالتَّارِيخِ، فَالْعَيْنُ بَيْنَهُمَا. فَإِِنِ اخْتَلَفَا فِي التَّارِيخِ فَهِيَ لِلسَّابِقِ.
وَلاَ عِبْرَةَ عِنْدَهُمْ بِكَثْرَةِ الشُّهُودِ وَلاَ بِزِيَادَةِ(12/185)
الْعَدَالَةِ (1) - وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ تَفْصِيلاَتٌ أُخْرَى تُنْظَرُ فِي كُتُبِهِمْ. وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ التَّرْجِيحُ يَحْصُل بِوُجُوهٍ:
6 - الأَْوَّل: بِزِيَادَةِ الْعَدَالَةِ فِي الْمَشْهُورِ. وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لاَ يُرَجَّحُ بِهَا، وَذَلِكَ مُوَافِقٌ لِمَا قَالَهُ الْحَنَفِيَّةُ. وَعَلَى الْقَوْل بِالتَّرْجِيحِ بِزِيَادَةِ الْعَدَالَةِ فَلاَ بُدَّ أَنْ يَحْلِفَ مَنْ زَادَتْ عَدَالَتُهُ، وَفِي الْمَوَّازِيَّةِ: لاَ يَحْلِفُ، وَلاَ يُرَجَّحُ بِكَثْرَةِ الْعَدَدِ عَلَى الْمَشْهُورِ كَمَا هُوَ رَأْيُ الْحَنَفِيَّةِ. وَرُوِيَ عَنْ مُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ أَنَّهُ يُرَجَّحُ بِكَثْرَةِ الْعَدَدِ عِنْدَ تَكَافُؤِ الْبَيِّنَتَيْنِ فِي الْعَدَالَةِ، إِلاَّ أَنْ يَكْثُرُوا كَثْرَةً يُكْتَفَى بِهَا فِيمَا يُرَادُ مِنَ الاِسْتِظْهَارِ، وَالآْخَرُونَ كَثِيرُونَ جِدًّا، فَلاَ تُرَاعَى الْكَثْرَةُ حِينَئِذٍ، وَإِِنَّمَا يَقَعُ التَّرْجِيحُ بِمَزِيَّةِ الْعَدَالَةِ دُونَ مَزِيَّةِ الْعَدَدِ.
قَال ابْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ: مَنْ رَجَّحَ بِزِيَادَةِ الْعَدَدِ لَمْ يَقُل بِهِ كَيْفَمَا اتَّفَقَ، وَإِِنَّمَا اعْتَبَرَهُ مَعَ قَيْدِ الْعَدَالَةِ.
7 - الثَّانِي: يَكُونُ التَّرْجِيحُ أَيْضًا بِقُوَّةِ الْحُجَّةِ فَيُقَدَّمُ الشَّاهِدَانِ عَلَى الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ. وَعَلَى الشَّاهِدِ وَالْمَرْأَتَيْنِ، وَذَلِكَ إِِذَا اسْتَوَوْا فِي الْعَدَالَةِ، قَال ذَلِكَ أَشْهَبُ. وَقَال ابْنُ الْقَاسِمِ: لاَ يُقَدَّمَانِ ثُمَّ رَجَعَ لِقَوْل أَشْهَبَ. قَال ابْنُ الْقَاسِمِ: وَلَوْ كَانَ الشَّاهِدُ أَعْدَل مِنْ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكِمَ بِهِ مَعَ الْيَمِينِ، وَقُدِّمَ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ. وَقَال
__________
(1) ابن عابدين 4 / 437، دار الطباعة العامر ببولاق.(12/186)
ابْنُ الْمَاجِشُونِ وَمُطَرِّفٌ: لاَ يُقَدَّمُ وَلَوْ كَانَ أَعْدَل أَهْل زَمَانِهِ، وَهُوَ أَقْيَسُ؛ لأَِنَّ بَعْضَ أَهْل الْمَذْهَبِ لاَ يَرَى الْيَمِينَ مَعَ الشَّاهِدِ.
8 - الثَّالِثُ: اشْتِمَال إِحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ عَلَى زِيَادَةِ تَارِيخٍ مُتَقَدِّمٍ أَوْ سَبَبِ مِلْكٍ، وَهَذَا يَتَّفِقُ مَعَ قَوْل الْحَنَفِيَّةِ بِالأَْخْذِ بِتَارِيخِ السَّابِقِ.
وَذَكَرَ الْقَرَافِيُّ أَنَّهُ لاَ يُحْكَمُ بِأَعْدَل الْبَيِّنَتَيْنِ عِنْدَ مَنْ رَأَى ذَلِكَ إِلاَّ فِي الأَْمْوَال خَاصَّةً.
وَقَالُوا: تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الْمِلْكِ عَلَى بَيِّنَةِ الْحَوْزِ، وَإِِنْ كَانَ تَارِيخُ الْحَوْزِ مُتَقَدِّمًا، لأَِنَّ الْمِلْكَ أَقْوَى مِنَ الْحَوْزِ. وَتُقَدَّمُ الْبَيِّنَةُ النَّاقِلَةُ عَلَى الْبَيِّنَةِ الْمُسْتَصْحَبَةِ. وَمِثَالُهَا: أَنْ تَشْهَدَ بَيِّنَةٌ أَنَّ هَذِهِ الدَّارَ لِزَيْدٍ بَنَاهَا مُنْذُ مُدَّةٍ، وَلاَ نَعْلَمُ أَنَّهَا خَرَجَتْ مِنْ مِلْكِهِ إِِلَى الآْنَ. وَتَشْهَدُ الْبَيِّنَةُ الأُْخْرَى: أَنَّ هَذَا اشْتَرَاهَا مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَالْبَيِّنَةُ النَّاقِلَةُ عُلِمَتْ، وَالْمُسْتَصْحَبَةُ لَمْ تُعْلَمْ، فَلاَ تَعَارُضَ بَيْنَ الشَّهَادَتَيْنِ.
وَإِِذَا لَمْ يُمْكِنِ التَّرْجِيحُ بَيْنَ الْبَيِّنَتَيْنِ سَقَطَتَا، وَبَقِيَ الْمُتَنَازَعُ عَلَيْهِ بِيَدِ حَائِزِهِ مَعَ يَمِينِهِ. فَإِِنْ كَانَ بِيَدِ غَيْرِهِمَا، فَقِيل: يَبْقَى بِيَدِهِ. وَقِيل: يُقْسَمُ بَيْنَ مُقِيمِي الْبَيِّنَتَيْنِ، لاِتِّفَاقِ الْبَيِّنَتَيْنِ عَلَى سُقُوطِ مِلْكِ الْحَائِزِ. وَإِِقْرَارِ مَنْ هُوَ بِيَدِهِ لأَِحَدِهِمَا يُنَزَّل مَنْزِلَةَ الْيَدِ لِلْمُقَرِّ لَهُ (1) .
9 - وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ لَوْ تَنَازَعَ اثْنَانِ عَيْنًا، وَكَانَتْ بِيَدِ أَحَدِهِمَا، وَأَقَامَ كُلٌّ بَيِّنَةً، وَتَسَاوَتَا
__________
(1) تبصرة الحكام بهامش فتح العلي المالك 1 / 309.(12/186)
قُدِّمَتْ بَيِّنَةُ صَاحِبِ الْيَدِ. وَلاَ تُسْمَعُ بَيِّنَتُهُ إِلاَّ بَعْدَ بَيِّنَةِ الْمُدَّعِي.
وَإِِنْ كَانَتِ الْعَيْنُ فِي يَدِ ثَالِثٍ، وَأَقَامَ كُلٌّ مِنْهُمَا بَيِّنَةً سَقَطَتِ الْبَيِّنَتَانِ، وَيُصَارُ إِِلَى التَّحْلِيفِ، فَيَحْلِفُ صَاحِبُ الْيَدِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا يَمِينًا. وَقِيل: تُسْتَعْمَل الْبَيِّنَتَانِ وَتُنْزَعُ الْعَيْنُ مِمَّنْ هِيَ فِي يَدِهِ، وَتُقْسَمُ بَيْنَهُمَا مُنَاصَفَةً فِي قَوْلٍ، وَفِي قَوْلٍ آخَرَ: يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا فَيَأْخُذَهَا مَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ، وَفِي قَوْلٍ: يُوقَفُ الأَْمْرُ حَتَّى يُتَبَيَّنَ أَوْ يَصْطَلِحَا.
وَسَكَتَ فِي الرَّوْضَةِ عَنْ تَرْجِيحٍ وَاحِدٍ مِنَ الأَْقْوَال الثَّلاَثَةِ. وَقَال الْقَلْيُوبِيُّ: قَضِيَّةُ كَلاَمِ جُمْهُورِ الشَّافِعِيَّةِ تَرْجِيحُ الثَّالِثِ؛ لأَِنَّهُ أَعْدَل.
وَإِِنْ كَانَتْ فِي أَيْدِيهِمَا، وَأَقَامَا بَيِّنَتَيْنِ، بَقِيَتْ فِي أَيْدِيهِمَا، كَمَا كَانَتْ عَلَى قَوْل السُّقُوطِ. وَقِيل: تُقْسَمُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَوْل الْقِسْمَةِ، وَلاَ يَجِيءُ الْوَقْفُ، وَفِي الْقُرْعَةِ قَوْلاَنِ.
وَلَوْ أُزِيلَتْ يَدُهُ بِبَيِّنَةٍ، ثُمَّ أَقَامَ بَيِّنَةً بِمِلْكِهِ مُسْتَنِدًا إِِلَى مَا قَبْل إِزَالَةِ يَدِهِ، وَاعْتَذَرَ بِغَيْبَةِ شُهُودِهِ، سُمِعَتْ وَقُدِّمَتْ؛ لأَِنَّهَا إِنَّمَا أُزِيلَتْ لِعَدَمِ الْحُجَّةِ، وَقَدْ ظَهَرَتْ، فَيُنْقَضُ الْقَضَاءُ. وَقِيل: لاَ، وَالْقَضَاءُ عَلَى حَالِهِ. وَلَوْ قَال الْخَارِجُ: هُوَ مِلْكِي اشْتَرَيْته مِنْكَ. فَقَال: بَل مِلْكِي. وَأَقَامَا بَيِّنَتَيْنِ بِمَا قَالاَهُ تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ، لِزِيَادَةِ عِلْمِ بَيِّنَتِهِ بِالاِنْتِقَال.
وَالْمَذْهَبُ أَنَّ زِيَادَةَ عَدَدِ شُهُودِ أَحَدِهِمَا(12/187)
لاَ تُرَجَّحُ، لِكَمَال الْحُجَّةِ فِي الطَّرَفَيْنِ، كَمَا قَال الْحَنَفِيَّةُ.
وَفِي قَوْلٍ مِنْ طَرِيقٍ تُرَجَّحُ؛ لأَِنَّ الْقَلْبَ إِِلَى الزَّائِدِ أَمْيَل. وَكَذَا لَوْ كَانَ لأَِحَدِهِمَا رَجُلاَنِ، لِلآْخَرِ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ، لاَ يُرَجَّحُ الرَّجُلاَنِ. وَفِي قَوْلٍ مِنْ طَرِيقٍ يُرَجَّحَانِ، لِزِيَادَةِ الْوُثُوقِ بِقَوْلِهِمَا.
فَإِِنْ كَانَ لِلآْخَرِ شَاهِدٌ وَيَمِينٌ يُرَجَّحُ الشَّاهِدَانِ فِي الأَْظْهَرِ، لأَِنَّهُمَا حُجَّةٌ بِالإِِْجْمَاعِ. وَفِي الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ خِلاَفٌ. وَالْقَوْل الثَّانِي: يَتَعَادَلاَنِ؛ لأَِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا حُجَّةٌ كَافِيَةٌ.
وَلَوْ شَهِدَتْ بَيِّنَةٌ لأَِحَدِهِمَا بِمِلْكٍ مِنْ سَنَةٍ، وَبَيِّنَةٌ لِلآْخَرِ بِمِلْكٍ مِنْ أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ إِِلَى الآْنَ كَسَنَتَيْنِ، وَالْعَيْنُ فِي يَدِ غَيْرِهِمَا، فَالأَْظْهَرُ تَرْجِيحُ الأَْكْثَرِ؛ لأَِنَّ الأُْخْرَى لاَ تُعَارِضُهَا فِيهِ. وَالرَّأْيُ الثَّانِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ لاَ تَرْجِيحَ بِهِ؛ لأَِنَّ مَنَاطَ الشَّهَادَةِ الْمِلْكُ فِي الْحَال، وَقَدِ اسْتَوَيَا فِيهِ، وَلِصَاحِبِ بَيِّنَةِ الأَْكْثَرِ - عَلَى الْقَوْل بِتَرْجِيحِهَا - الأُْجْرَةُ، وَالزِّيَادَةُ الْحَادِثَةُ مِنْ يَوْمِ الْحُكْمِ. وَعَلَى الْقَوْل الثَّانِي: تُقْسَمُ بَيْنَهُمَا، أَوْ يُقْرَعُ، أَوْ يُوقَفُ حَتَّى يُبَيِّنَ أَوْ يَصْطَلِحَا حَسَبَ الأَْقْوَال الثَّلاَثَةِ.
وَلَوْ أُطْلِقَتْ بَيِّنَةٌ، وَأُرِّخَتْ بَيِّنَةٌ، فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُمَا سَوَاءٌ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُدَّعَى بِهِ بِيَدِهِمَا أَوْ بِيَدِ غَيْرِهِمَا، أَوْ لاَ بِيَدِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا.
وَقِيل - كَمَا فِي أَصْل الرَّوْضَةِ - تُقَدَّمُ الْبَيِّنَةُ الْمُؤَرِّخَةُ؛ لأَِنَّهَا تَقْتَضِي الْمِلْكَ قَبْل الْحَال، بِخِلاَفِ الْمُطْلَقَةِ. وَلَوْ شَهِدَتْ بَيِّنَةُ أَحَدِهِمَا(12/187)
بِالْحَقِّ، وَبَيِّنَةُ الآْخَرِ بِالإِِْبْرَاءِ قُدِّمَتْ بَيِّنَةُ الإِِْبْرَاءِ. هَذَا وَمَحَل الاِسْتِوَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ - عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْقَلْيُوبِيُّ - مَا لَمْ يُوجَدْ مُرَجِّحٌ. فَإِِنْ وُجِدَ الْمُرَجِّحُ كَكَوْنِهِ بِيَدِ أَحَدِهِمَا، أَوْ كَانَتْ بَيِّنَتُهُ غَيْرَ شَاهِدٍ وَيَمِينٍ، أَوْ أُسْنِدَتْ بَيِّنَتُهُ لِسَبَبٍ: كَأَنْ شَهِدَتْ بِأَنَّهُ نَتَجَ فِي مِلْكِهِ، أَوْ ثَمَرَ فِيهِ، أَوْ حُمِل فِيهِ، أَوْ وَرِثَهُ مِنْ أَبِيهِ فَتُقَدَّمُ بَيِّنَتُهُ (1) .
10 - وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّ مَنِ ادَّعَى شَيْئًا بِيَدِ غَيْرِهِ فَأَنْكَرَهُ، وَلِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ، فَقَدِ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ فِيمَا إِِذَا تَعَارَضَتَا: فَالْمَشْهُورُ عَنْهُ تَقْدِيمُ بَيِّنَةِ الْمُدَّعِي، وَلاَ يُلْتَفَتُ إِِلَى بَيِّنَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِحَالٍ، وَهَذَا قَوْل إِسْحَاقَ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ (2) فَأُمِرْنَا بِسَمَاعِ بَيِّنَةِ الْمُدَّعِي وَيَمِينِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَسَوَاءٌ شَهِدَتْ بَيِّنَةُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهَا لَهُ، أَوْ قَالَتْ: وُلِدَتْ فِي مِلْكِهِ عَلَيْهِ. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ: إِنْ شَهِدَتْ بَيِّنَةُ الدَّاخِل (أَيْ صَاحِبِ الْيَدِ وَهُوَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ) بِسَبَبِ الْمِلْكِ، وَقَالَتْ مَثَلاً: إِنَّ الدَّابَّةَ الْمُتَنَازَعَ عَلَيْهَا نَتَجَتْ فِي مِلْكِهِ أَوِ اشْتَرَاهَا، أَوْ كَانَتْ بَيِّنَتُهُ أَقْدَمَ تَارِيخًا قُدِّمَتْ بَيِّنَتُهُ، وَإِِلاَّ قُدِّمَتْ بَيِّنَةُ الْمُدَّعِي، لأَِنَّ (بَيِّنَةَ الدَّاخِل) أَفَادَتْ بِذِكْرِ السَّبَبِ مَا لاَ تُفِيدُهُ
__________
(1) منهاج الطالبين والقليوبي وعميرة 4 / 343 - 345.
(2) حديث: " البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه " أخرجه الترمذي (3 / 617 ط مصطفى البابي) . والبيهقي (10 / 252 ط دار المعرفة) . وصحح إسناده البغوي في شرح السنة (10 / 101 ط المكتب الإسلامي) .(12/188)
الْيَدُ. وَاسْتُدِل لِتَقْدِيمِ بَيِّنَةِ الدَّاخِل: بِمَا رَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اخْتَصَمَ إِلَيْهِ رَجُلاَنِ فِي دَابَّةٍ أَوْ بَعِيرٍ، فَأَقَامَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ بِأَنَّهَا لَهُ نَتْجُهَا، فَقَضَى بِهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّذِي هِيَ فِي يَدِهِ (1) .
وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ رِوَايَةً ثَالِثَةً: أَنَّ بَيِّنَةَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ تُقَدَّمُ بِكُل حَالٍ، وَهُوَ قَوْل شُرَيْحٍ وَأَهْل الشَّامِ وَالشَّعْبِيِّ وَالْحَكَمِ وَأَبِي عُبَيْدٍ. وَقَال: هُوَ قَوْل أَهْل الْمَدِينَةِ، وَرُوِيَ عَنْ طَاوُسٍ.
وَأَنْكَرَ الْقَاضِي كَوْنَ هَذَا رِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ، وَقَال: لاَ تُقْبَل بَيِّنَةُ الدَّاخِل إِِذَا لَمْ تُفِدْ إِلاَّ مَا أَفَادَتْهُ يَدُهُ، رِوَايَةً وَاحِدَةً. وَاحْتَجَّ مَنْ ذَهَبَ إِِلَى هَذَا الْقَوْل بِأَنَّ جِهَةَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَقْوَى؛ لأَِنَّ الأَْصْل مَعَهُ، وَيَمِينُهُ تُقَدَّمُ عَلَى يَمِينِ الْمُدَّعِي. فَإِِذَا تَعَارَضَتِ الْبَيِّنَتَانِ: وَجَبَ إِبْقَاءُ يَدِهِ عَلَى مَا فِيهَا، وَتَقْدِيمُهُ، كَمَا لَوْ لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَحَدِيثُ جَابِرٍ يَدُل عَلَى هَذَا، فَإِِنَّهُ إِنَّمَا قُدِّمَتْ بَيِّنَتُهُ لِيَدِهِ.
11 - وَاسْتَدَل لِتَقْدِيمِ بَيِّنَةِ الْمُدَّعِي بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ (2) فَجَعَل جِنْسَ الْبَيِّنَةِ فِي جِهَةِ الْمُدَّعِي، فَلاَ يَبْقَى فِي جِهَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ.
وَلأَِنَّ بَيِّنَةَ الْمُدَّعِي أَكْثَرُ فَائِدَةً فَوَجَبَ تَقْدِيمُهَا
__________
(1) حديث جابر بن عبد الله: " فقضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . " أخرجه البيهقي (10 / 256 ط دار المعارف) . وضعفه ابن التركماني في الجوهر النقي (10 / 256 ط دار المعارف) .
(2) تقدم تخريجه (ف 10) .(12/188)
كَتَقْدِيمِ بَيِّنَةِ الْجُرْحِ عَلَى بَيِّنَةِ التَّعْدِيل.
وَدَلِيل كَثْرَةِ فَائِدَتِهَا: أَنَّهَا تُثْبِتُ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ. وَبَيِّنَةُ الْمُنْكِرِ إِنَّمَا تُثْبِتُ ظَاهِرًا تَدُل الْيَدُ عَلَيْهِ، فَلَمْ تَكُنْ مُفِيدَةً؛ وَلأَِنَّ الشَّهَادَةَ بِالْمِلْكِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَنِدُهَا رُؤْيَةَ الْيَدِ وَالتَّصَرُّفَ، فَإِِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ، فَصَارَتِ الْبَيِّنَةُ بِمَنْزِل الْيَدِ الْمُجَرَّدَةِ، فَتُقَدَّمُ عَلَيْهَا بَيِّنَةُ الْمُدَّعِي، كَمَا تٌقَدَّمُ عَلَى الْيَدِ، كَمَا أَنَّ شَاهِدَيِ الْفَرْعِ لَمَّا كَانَا مَبْنِيَّيْنِ عَلَى شَاهِدَيِ الأَْصْل، لَمْ تَكُنْ لَهُمَا مَزِيَّةٌ عَلَيْهِمَا.
وَإِِذَا كَانَ فِي يَدِ رَجُلٍ شَاةٌ، فَادَّعَى رَجُلٌ أَنَّهَا لَهُ مُنْذُ سَنَةٍ، وَأَقَامَ بِذَلِكَ بَيِّنَةً. وَادَّعَى الَّذِي هِيَ فِي يَدِهِ أَنَّهَا فِي يَدِهِ مُنْذُ سِنِينَ، وَأَقَامَ لِذَلِكَ بَيِّنَةً، فَهِيَ لِلْمُدَّعِي بِغَيْرِ خِلاَفٍ، لأَِنَّ بَيِّنَتَهُ تَشْهَدُ لَهُ بِالْمِلْكِ، وَبَيِّنَةُ الدَّاخِل تَشْهَدُ لَهُ بِالْيَدِ خَاصَّةً، فَلاَ تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا، لإِِِمْكَانِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا بِأَنْ تَكُونَ الْيَدُ عَلَى غَيْرِ مِلْكٍ، فَكَانَتْ بَيِّنَةُ الْمِلْكِ أَوْلَى. فَإِِنْ شَهِدَتْ بَيِّنَةٌ بِأَنَّهَا مِلْكُهُ مُنْذُ سَنَتَيْنِ، فَقَدْ تَعَارَضَ تَرْجِيحَانِ: فَقُدِّمَ التَّارِيخُ مِنْ جِهَةِ بَيِّنَةِ الدَّاخِل، وَكَوْنُ الأُْخْرَى بَيِّنَةَ الْخَارِجِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ، وَهُوَ قَوْل صَاحِبَيْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي ثَوْرٍ. وَالثَّانِيَةُ: تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الدَّاخِل، وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ؛ لأَِنَّهَا تَضَمَّنَتْ زِيَادَةً (1) .
__________
(1) المغني 9 / 275 - 281.(12/189)
تَعَارُضُ الأَْدِلَّةِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى:
12 - الْمُقَرَّرُ شَرْعًا: أَنَّ الْحُدُودَ الَّتِي هِيَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى تَسْقُطُ بِالشُّبُهَاتِ، فَإِِذَا أُقِيمَتْ بَيِّنَةٌ تَامَّةٌ عَلَى فِعْلٍ كَالزِّنَى مَثَلاً، وَعَارَضَتْهَا بَيِّنَةٌ وَلَوْ أَقَل مِنْهَا بِعَدَمِ الْفِعْل قُدِّمَتْ، وَذَلِكَ اسْتِنَادًا إِِلَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ مَا اسْتَطَعْتُمْ (1) بَل قَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ أُقِيمَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ بِمَا يُوجِبُ الْحَدَّ، وَادَّعَى شُبْهَةً مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ، سَقَطَ الْحَدُّ (2) .
وَلِلْمَالِكِيَّةِ تَفْصِيلٌ، قَالُوا: إِِذَا شَهِدَتْ بَيِّنَةٌ بِأَنَّهُ زَنَى عَاقِلاً، وَشَهِدَتِ الأُْخْرَى بِأَنَّهُ كَانَ مَجْنُونًا: إِنْ كَانَ الْقِيَامُ عَلَيْهِ (أَيِ الاِدِّعَاءِ) وَهُوَ عَاقِلٌ، قُدِّمَتْ بَيِّنَةُ الْعَقْل. وَإِِنْ كَانَ الْقِيَامُ عَلَيْهِ وَهُوَ مَجْنُونٌ، قُدِّمَتْ بَيِّنَةُ الْجُنُونِ، فَاعْتَبَرُوا شَهَادَةَ الْحَال فِي التَّرْجِيحِ.
وَقَال ابْنُ اللَّبَّادِ: يُعْتَبَرُ وَقْتُ الرُّؤْيَةِ لاَ وَقْتُ الْقِيَامِ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ ظَاهِرُ الْحَال. وَنُقِل عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ: إِثْبَاتُ الزِّيَادَةِ، فَإِِذَا شَهِدَتْ
إِحْدَاهُمَا: بِالْقَتْل أَوِ السَّرِقَةِ أَوِ الزِّنَى، وَشَهِدَتِ الأُْخْرَى: أَنَّهُ كَانَ فِي مَكَان بَعِيدٍ أَنَّهُ تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ
__________
(1) حديث: " ادرءوا الحدود بالشبهات ما استطعتم " أخرجه أبو حنيفة في مسنده (149 ط الأصيل) . قال السخاوي - وعزاه إلى مسند أبي حنيفة وابن عدي - وقال: قال شيخنا: وفي سنده من لا يعرف. (المقاصد الحسنة رقم 46 ط دار الكتب العلمية) .
(2) ابن عابدين 5 / 150، وحاشية الشبراملسي على المنهاج 7 / 431، والمغني 8 / 807.(12/189)
الْقَتْل وَنَحْوِهِ؛ لأَِنَّهَا مُثْبِتَةٌ زِيَادَةً، وَلاَ يُدْرَأُ عَنْهُ الْحَدُّ. قَال سَحْنُونٌ: إِلاَّ أَنْ يَشْهَدَ الْجَمْعُ الْعَظِيمُ - كَالْحَجِيجِ وَنَحْوِهِمْ - أَنَّهُ كَانَ مَعَهُمْ فِي الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، أَوْ صَلَّى بِهِمُ الْعِيدَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ؛ لأَِنَّ هَؤُلاَءِ لاَ يُشْتَبَهُ عَلَيْهِمْ أَمْرُهُ، بِخِلاَفِ الشَّاهِدَيْنِ (1) .
تَعَارُضُ تَعْدِيل الشُّهُودِ وَتَجْرِيحِهِمُ:
13 - اعْتِبَارُ الْعَدَالَةِ فِي الشَّاهِدِ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، وَلِهَذَا لَوْ رَضِيَ الْخَصْمُ بِأَنْ يُحْكَمَ عَلَيْهِ بِقَوْل فَاسِقٍ لَمْ يَجُزِ الْحُكْمُ بِهِ. وَالْعَدَالَةُ أَوِ التَّجْرِيحُ لاَ يَثْبُتُ كُلٌّ مِنْهُمَا إِلاَّ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ، خِلاَفًا لأَِبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ، فَيَثْبُتُ كُلٌّ مِنَ التَّعْدِيل وَالتَّجْرِيحِ عِنْدَهُمَا بِشَهَادَةِ وَاحِدٍ. وَسَبَبُ الْخِلاَفِ هَل هُمَا شَهَادَةٌ أَوْ إِخْبَارٌ؟ فَعِنْدَ الْجُمْهُورِ: شَهَادَةٌ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ: إِخْبَارٌ، فَيَكْفِي الْوَاحِدُ فِي تَزْكِيَةِ السِّرِّ، وَنِصَابُ الشَّهَادَةِ فِي تَزْكِيَةِ الْعَلاَنِيَةِ.
فَلَوْ عَدَّل الشَّاهِدَ اثْنَانِ، وَجَرَّحَهُ اثْنَانِ، فَالْجَرْحُ أَوْلَى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَاسْتَدَلُّوا: بِأَنَّ الْجَارِحَ مَعَهُ زِيَادَةُ عِلْمٍ خَفِيَتْ عَلَى الْمُعَدِّل، فَوَجَبَ تَقْدِيمُهُ؛ لأَِنَّ التَّعْدِيل يَتَضَمَّنُ تَرْكَ الرِّيَبِ وَالْمَحَارِمِ، وَالْجَارِحُ مُثْبِتٌ لِوُجُودِ ذَلِكَ، وَالإِِْثْبَاتُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّفْيِ؛ وَلأَِنَّ الْجَارِحَ
__________
(1) القرافي 4 / 62.(12/190)
يَقُول: رَأَيْتُهُ يَفْعَل كَذَا، وَالْمُعَدِّل مُسْتَنَدُهُ أَنَّهُ لَمْ يَرَهُ يَفْعَل، وَيُمْكِنُ صِدْقُهُمَا، وَالْجَمْعُ بَيْنَ قَوْلَيْهِمَا: بِأَنْ يَرَاهُ الْجَارِحُ يَفْعَل الْمَعْصِيَةَ، وَلاَ يَرَاهُ الْمُعَدِّل، فَيَكُونُ مَجْرُوحًا. وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ لاَ بُدَّ فِي الْجَرْحِ مِنْ ذِكْرِ السَّبَبِ، وَلَمْ يَشْتَرِطُوا ذَلِكَ فِي التَّعْدِيل. وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ الْمُزَكِّيَ يَقُول فِي الشَّاهِدِ الْمَجْرُوحِ " وَاللَّهُ أَعْلَمُ " وَلاَ يَزِيدُ عَلَى هَذَا؛ لأَِنَّ فِي ذِكْرِ فِسْقِهِ هَتْكَ عِرْضِهِ، وَقَدْ أُمِرْنَا بِالسَّتْرِ عَلَى الْمُسْلِمِ. وَهَذَا كُلُّهُ إِِذَا لَمْ يَعْلَمِ الْقَاضِي حَال الشُّهُودِ، إِذْ إِنَّهُ إِِذَا كَانَ يَعْلَمُ حَكَمَ بِمُقْتَضَى عِلْمِهِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لَوْ عَدَّلَهُ شَاهِدَانِ رَجُلاَنِ وَجَرَّحَهُ آخَرَانِ، فَفِي ذَلِكَ قَوْلاَنِ، قِيل: يُقْضَى بِأَعْدَلِهِمَا، لاِسْتِحَالَةِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، وَقِيل: يُقْضَى بِشَهَادَةِ الْجَرْحِ، لأَِنَّ شُهُودَ الْجَرْحِ زَادُوا عَلَى شُهُودِ التَّعْدِيل، إِذِ الْجَرْحُ يَبْطُنُ، فَلاَ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ كُل النَّاسِ، بِخِلاَفِ الْعَدَالَةِ.
وَلِلَّخْمِيِّ تَفْصِيلٌ، قَال: إِنْ كَانَ اخْتِلاَفُ الْبَيِّنَتَيْنِ فِي فِعْل شَيْءٍ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، كَدَعْوَى إِحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ: أَنَّهُ فَعَل كَذَا، فِي وَقْتِ كَذَا، وَقَالَتِ الْبَيِّنَةُ الأُْخْرَى: لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ، فَإِِنَّهُ يُقْضَى بِأَعْدَلِهِمَا. وَإِِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي مَجْلِسَيْنِ مُتَقَارِبَيْنِ قُضِيَ بِشَهَادَةِ الْجَرْحِ؛ لأَِنَّهَا زَادَتْ عِلْمًا فِي الْبَاطِنِ.
__________
(1) معين الحكام 105، وقليوبي وعميرة 4 / 307، والمغني 9 / 67.(12/190)
وَإِِنْ تَبَاعَدَ مَا بَيْنَ الْمَجْلِسَيْنِ قُضِيَ بِآخِرِهِمَا تَارِيخًا، وَيُحْمَل عَلَى أَنَّهُ كَانَ عَدْلاً فَفَسَقَ، أَوْ فَاسِقًا فَتَزَكَّى، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ فِي وَقْتِ تَقْيِيدِ الْجَرْحِ ظَاهِرُ الْعَدَالَةِ، فَبَيِّنَةُ الْجَرْحِ مُقَدَّمَةٌ؛ لأَِنَّهَا زَادَتْ (1) .
تَعَارُضُ احْتِمَال بَقَاءِ الإِِْسْلاَمِ وَحُدُوثِ الرِّدَّةِ:
14 - فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ لَمْ يُجْمِعُوا عَلَى حُكْمٍ وَاحِدٍ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ. وَأَكْثَرُ الْمَذَاهِبِ تَوَسُّعًا فِيهِ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ: إِذْ قَالُوا: لاَ يُخْرِجُ الرَّجُل مِنَ الإِِْيمَانِ إِلاَّ جُحُودُ مَا أَدْخَلَهُ فِيهِ، ثُمَّ مَا تَيَقَّنَ أَنَّهُ رِدَّةٌ يُحْكَمُ بِهَا، وَمَا يُشَكُّ أَنَّهُ رِدَّةٌ لاَ يُحْكَمُ بِهَا، إِذِ الإِِْسْلاَمُ الثَّابِتُ لاَ يَزُول بِالشَّكِّ، وَالإِِْسْلاَمُ يَعْلُو. وَيَنْبَغِي لِلْعَالِمِ إِِذَا رُفِعَ إِلَيْهِ هَذَا أَلاَّ يُبَادِرَ بِتَكْفِيرِ أَهْل الإِِْسْلاَمِ، مَعَ أَنَّهُ يَتَسَاهَل فِي إِثْبَاتِ الإِِْسْلاَمِ، فَيُقْضَى بِصِحَّةِ إِسْلاَمِ الْمُكْرَهِ. وَنَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنْ صَاحِبِ الْفَتَاوَى الصُّغْرَى قَوْلَهُ: الْكُفْرُ شَيْءٌ عَظِيمٌ، فَلاَ أَجْعَل الْمُؤْمِنَ كَافِرًا مَتَى وُجِدَتْ رِوَايَةٌ أَنَّهُ لاَ يَكْفُرُ. وَفِي كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ: إِِذَا كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ وُجُوهٌ تُوجِبُ التَّكْفِيرَ، وَوَجْهٌ وَاحِدٌ يَمْنَعُهُ، فَعَلَى الْمُفْتِي أَنْ يَمِيل إِِلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَمْنَعُ التَّكْفِيرَ، تَحْسِينًا لِلظَّنِّ بِالْمُسْلِمِ، إِلاَّ إِِذَا صَرَّحَ بِإِِرَادَةِ مُوجِبِ الْكُفْرِ، فَلاَ يَنْفَعُهُ التَّأْوِيل. وَلاَ يَكْفُرُ بِالْمُحْتَمَل؛ لأَِنَّ عُقُوبَةَ الْكُفْرِ نِهَايَةٌ فِي الْعُقُوبَةِ، تَسْتَدْعِي
__________
(1) تبصرة الحكام 1 / 233.(12/191)
نِهَايَةً فِي الْجِنَايَةِ، وَمَعَ الاِحْتِمَال لاَ نِهَايَةَ فِي الْجِنَايَةِ، وَالَّذِي تَقَرَّرَ: أَنَّهُ لاَ يُفْتَى بِكُفْرِ مُسْلِمٍ أَمْكَنَ حَمْل كَلاَمِهِ عَلَى مَحْمَلٍ حَسَنٍ، أَوْ كَانَ فِي كُفْرِهِ اخْتِلاَفٌ، وَلَوْ رِوَايَةً ضَعِيفَةً (1) .
15 - وَفُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ الأُْخْرَى يَقُولُونَ أَيْضًا: إِِذَا قَامَ دَلِيلٌ أَوْ قَرِينَةٌ تَقْتَضِي عَدَمَ الْقَتْل قُدِّمَتْ. قَالُوا: وَلَوْ أَسْلَمَ ثُمَّ ارْتَدَّ عَنْ قُرْبٍ، وَقَال: أَسْلَمْتُ عَنْ ضِيقٍ أَوْ خَوْفٍ أَوْ غُرْمٍ، وَظَهَرَ عُذْرُهُ، فَفِي قَبُول عُذْرِهِ قَوْلاَنِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.
هَذَا، وَقَدْ أَوْرَدَ الْفُقَهَاءُ قَوَاعِدَ عَامَّةً فِي التَّعَارُضِ، وَهِيَ إِنْ كَانَتْ أَقْرَب إِِلَى الأُْصُول مِنْهَا إِِلَى الْفِقْهِ، إِلاَّ أَنَّهُ رُتِّبَتْ عَلَيْهَا مَسَائِل فِقْهِيَّةٌ يَسُوغُ ذِكْرُهَا هُنَا (2) .
تَعَارُضُ الأَْحْكَامِ التَّكْلِيفِيَّةِ فِي الْفِعْل الْوَاحِدِ:
16 - مِنَ الْقَوَاعِدِ الَّتِي أَوْرَدَهَا الزَّرْكَشِيُّ: أَنَّهُ لَوْ تَعَارَضَ الْحَظْرُ وَالإِِْبَاحَةُ فِي فِعْلٍ وَاحِدٍ يُقَدَّمُ الْحَظْرُ.
وَمِنْ ثَمَّ لَوْ تَوَلَّدَ الْحَيَوَانُ مِنْ مَأْكُولٍ وَغَيْرِهِ، حَرُمَ أَكْلُهُ، وَإِِذَا ذَبَحَهُ الْمُحْرِمُ وَجَبَ الْجَزَاءُ تَغْلِيبًا لِلتَّحْرِيمِ.
وَمِنْهَا: لَوْ تَعَارَضَ الْوَاجِبُ وَالْمَحْظُورُ، يُقَدَّمُ الْوَاجِبُ، كَمَا إِِذَا اخْتَلَطَ مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ بِمَوْتَى
__________
(1) ابن عابدين 3 / 285.
(2) تبصرة الحكام 2 / 250، وقليوبي وعميرة 4 / 176، وشرح منتهى الإرادات 3 / 392.(12/191)
الْكُفَّارِ، وَجَبَ غَسْل الْجَمِيعِ، وَالصَّلاَةُ عَلَيْهِمْ. وَكَذَلِكَ اخْتِلاَطُ الشُّهَدَاءِ بِغَيْرِهِمْ. وَإِِنْ كَانَ الشَّهِيدُ لاَ يُغَسَّل، وَلاَ يُصَلَّى عَلَيْهِ، إِلاَّ أَنَّهُ يُنْوَى الصَّلاَةُ عَلَيْهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ شَهِيدًا. وَلَوْ أَسْلَمَتِ الْمَرْأَةُ وَجَبَ عَلَيْهَا الْهِجْرَةُ إِِلَى دَارِ الإِِْسْلاَمِ، وَلَوْ سَافَرَتْ وَحْدَهَا، وَإِِنْ كَانَ سَفَرُهَا وَحْدَهَا فِي الأَْصْل حَرَامًا. وَيُعْذَرُ الْمُصَلِّي فِي التَّنَحْنُحِ إِِذَا تَعَذَّرَتْ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ الْوَاجِبَةُ.
17 - وَمِنَ الْقَوَاعِدِ: مَا لَوْ تَعَارَضَ وَاجِبَانِ، قُدِّمَ آكَدُهُمَا، فَيُقَدَّمُ فَرْضُ الْعَيْنِ عَلَى فَرْضِ الْكِفَايَةِ. فَالطَّائِفُ حَوْل الْكَعْبَةِ لاَ يَقْطَعُ الطَّوَافَ لِصَلاَةِ الْجِنَازَةِ. وَلَوِ اجْتَمَعَتْ جِنَازَةٌ وَجُمُعَةٌ وَضَاقَ الْوَقْتُ، قُدِّمَتِ الْجُمُعَةُ. وَمِنْ هَذَا لَيْسَ لِلْوَالِدَيْنِ مَنْعُ الْوَلَدِ مِنْ حَجَّةِ الإِِْسْلاَمِ عَلَى الصَّحِيحِ، بِخِلاَفِ الْجِهَادِ، فَإِِنَّهُ لاَ يَجُوزُ إِلاَّ بِرِضَاهُمَا، لأَِنَّ بِرَّهُمَا فَرْضُ عَيْنٍ، وَالْجِهَادُ فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَفَرْضُ الْعَيْنِ مُقَدَّمٌ.
18 - وَلَوْ تَعَارَضَتْ فَضِيلَتَانِ، يُقَدَّمُ أَفْضَلُهُمَا، فَلَوْ تَعَارَضَ الْبُكُورُ إِِلَى الْجُمُعَةِ بِلاَ غُسْلٍ وَتَأْخِيرُهُ مَعَ الْغُسْل، فَالظَّاهِرُ: أَنَّ تَحْصِيل الْغُسْل أَوْلَى لِلْخِلاَفِ فِي وُجُوبِهِ. وَهَذَا كُلُّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ (1) .
19 - وَمِنْ فُرُوعِ قَاعِدَةِ تَعَارُضِ الْحَظْرِ وَالإِِْبَاحَةِ: مَا إِِذَا تَعَارَضَ دَلِيلاَنِ أَحَدُهُمَا يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ،
__________
(1) المنثور في القواعد للزركشي 1 / 337 - 345، وانظر تفسير القرطبي 6 / 320.(12/192)
وَالآْخَرُ الإِِْبَاحَةَ، قُدِّمَ التَّحْرِيمُ. وَعَلَّلَهُ الأُْصُولِيُّونَ بِتَقْدِيمِ النَّسْخِ؛ لأَِنَّهُ لَوْ قُدِّمَ الْمُبِيحُ لَلَزِمَ تَكْرَارُ النَّسْخِ، لأَِنَّ الأَْصْل فِي الأَْشْيَاءِ الإِِْبَاحَةُ، فَلَوْ جُعِل الْمُبِيحُ مُتَأَخِّرًا كَانَ الْمُحَرَّمُ نَاسِخًا لِلإِِْبَاحَةِ الأَْصْلِيَّةِ، ثُمَّ يَصِيرُ مَنْسُوخًا بِالْمُبِيحِ، وَلَوْ جُعِل الْمُحَرَّمُ مُتَأَخِّرًا كَانَ نَاسِخًا لِلْمُبِيحِ، وَهُوَ لَمْ يَنْسَخْ شَيْئًا لِكَوْنِهِ عَلَى وَفْقِ الأَْصْل، وَلِذَلِكَ قَال عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا سُئِل عَنِ الْجَمْعِ بَيْنَ الأُْخْتَيْنِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ - أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ، وَالتَّحْرِيمُ أَحَبُّ إِلَيْنَا. قَالُوا: وَإِِنَّمَا كَانَ التَّحْرِيمُ أَحَبَّ لأَِنَّ فِيهِ تَرْكَ مُبَاحٍ، لاَ اجْتِنَابَ مُحَرَّمٍ، وَذَلِكَ أَوْلَى مِنْ عَكْسِهِ (1) .
20 - وَمِنْ أَقْسَامِ التَّعَارُضِ: أَنْ يَتَعَارَضَ أَصْلاَنِ، فَإِِذَا وَقَعَ ذَلِكَ يُعْمَل بِالأَْرْجَحِ مِنْهُمَا، لاِعْتِضَادِهِ بِمَا يُرَجِّحُهُ.
وَمِنْ صُوَرِهِ: مَا إِِذَا جَاءَ بَعْضُ الْعَسْكَرِ بِمُشْرِكٍ، فَادَّعَى الْمُشْرِكُ: أَنَّ الْمُسْلِمَ أَمَّنَهُ، وَأَنْكَرَ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: الْقَوْل قَوْل الْمُسْلِمِ فِي إِنْكَارِ الأَْمَانِ، لأَِنَّ الأَْصْل عَدَمُ الأَْمَانِ.
وَالثَّانِيَةُ: الْقَوْل قَوْل الْمُشْرِكِ، لأَِنَّ الأَْصْل فِي الدِّمَاءِ الْحَظْرُ إِلاَّ بِيَقِينِ الإِِْبَاحَةِ، وَقَدْ وَقَعَ الشَّكُّ هُنَا فِيهَا. وَفِيهِ رِوَايَةٌ
ثَالِثَةٌ: أَنَّ الْقَوْل قَوْل مَنْ يَدُل الْحَال عَلَى صِدْقِهِ مِنْهُمَا، تَرْجِيحًا
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 110.(12/192)
لأَِحَدِ الأَْصْلَيْنِ بِالظَّاهِرِ الْمُوَافِقِ لَهُ (1) . وَلَوْ تَعَارَضَ الْحِنْثُ وَالْبِرُّ فِي يَمِينٍ، قُدِّمَ الْحِنْثُ عَلَى الْبِرِّ، فَمَنْ حَلَفَ عَلَى الإِِْقْدَامِ عَلَى فِعْل شَيْءٍ أَوْ وُجُودِهِ فَهُوَ عَلَى حِنْثٍ، حَتَّى يَقَعَ الْفِعْل فَيَبَرُّ. وَالْحِنْثُ يَدْخُل عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ بِأَقَل الْوُجُوهِ، وَالْبِرُّ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بِأَكْمَل الْوُجُوهِ، فَمَنْ حَلَفَ أَنْ يَأْكُل رَغِيفًا لَمْ يَبَرَّ إِلاَّ بِأَكْل الرَّغِيفِ كُلِّهِ، وَإِِنْ حَلَفَ أَلاَّ يَأْكُلَهُ حَنِثَ بِأَكْل بَعْضِهِ (2) .
قَال الْغَزَالِيُّ فِي الْمُسْتَصْفَى: وَقَدْ ذَهَبَ قَوْمٌ: إِِلَى أَنَّ الْخَاصَّ وَالْعَامَّ يَتَعَارَضَانِ وَيَتَدَافَعَانِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخَاصُّ سَابِقًا، وَقَدْ وَرَدَ الْعَامُّ بَعْدَهُ لإِِِرَادَةِ الْعُمُومِ، فَنُسِخَ الْخَاصُّ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَامُّ سَابِقًا وَقَدْ أُرِيدَ بِهِ الْعُمُومُ، ثُمَّ نُسِخَ بِاللَّفْظِ الْخَاصِّ بَعْدَهُ. فَعُمُومُ الرَّقَبَةِ مَثَلاً يَقْتَضِي إِجْزَاءَ الْكَافِرَةِ مَهْمَا أُرِيدَ بِهِ الْعُمُومُ، وَالتَّقْيِيدُ بِالْمُؤْمِنَةِ يَقْتَضِي مَنْعَ إِجْزَاءِ الْكَافِرَةِ، فَهُمَا مُتَعَارِضَانِ. وَإِِذَا أَمْكَنَ النَّسْخُ وَالْبَيَانُ جَمِيعًا فَلَمْ يَتَحَكَّمْ بِحَمْلِهِ عَلَى الْبَيَانِ دُونَ النَّسْخِ؟ وَلَمْ يُقْطَعْ بِالْحُكْمِ عَلَى الْعَامِّ بِالْخَاصِّ؟ وَلَعَل الْعَامَّ هُوَ الْمُتَأَخِّرُ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْعُمُومُ، وَيُنْسَخُ بِهِ الْخَاصُّ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ الْقَاضِي، وَالأَْصَحُّ عِنْدَنَا: تَقْدِيمُ الْخَاصِّ وَإِِنْ كَانَ مَا ذَكَرَهُ
__________
(1) القواعد لابن رجب 335 - 338.
(2) القوانين الفقهية ص 159 نشر دار الكتاب العربي - بيروت.(12/193)
الْقَاضِي مُمْكِنًا، وَلَكِنَّ تَقْدِيرَ النَّسْخِ مُحْتَاجٌ إِِلَى الْحُكْمِ بِدُخُول الْكَافِرَةِ تَحْتَ اللَّفْظِ، ثُمَّ خُرُوجُهُ عَنْهُ، فَهُوَ إِثْبَاتُ وَضْعٍ، وَرَفْعٌ بِالتَّوَهُّمِ، وَإِِرَادَةُ الْخَاصِّ بِاللَّفْظِ الْعَامِّ غَالِبٌ مُعْتَادٌ، بَل هُوَ الأَْكْثَرُ، وَالنَّسْخُ كَالنَّادِرِ، فَلاَ سَبِيل إِِلَى تَقْدِيرِهِ بِالتَّوَهُّمِ، وَيَكَادُ يَشْهَدُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ سِيَرِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ كَثِيرٌ، فَإِِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ إِِلَى الْحُكْمِ بِالْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، وَمَا اشْتَغَلُوا بِطَلَبِ التَّارِيخِ وَالتَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ (1) .
وَقِيل عَلَى الشُّذُوذِ: إِنَّهُ يُخَصَّصُ مِنْ طَرِيقِ الْمَفْهُومِ، فَإِِنَّ الرِّجَال يَقْتَضِي مَفْهُومُهُ قَتْل غَيْرِهِمْ، فَإِِذَا لَمْ يَتَنَافَيَا، وَكَانَ لأَِحَدِهِمَا مُنَاسَبَةٌ تَخُصُّهُ فِي مُتَعَلَّقَهِ - كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} (2) وقَوْله تَعَالَى: {لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} (3) - فَيُضْطَرُّ الْمُحْرِمُ إِِلَى أَكْل الْمَيْتَةِ أَوِ الصَّيْدِ، فَعِنْدَ مَالِكٍ: يَأْكُل الْمَيْتَةَ وَيَتْرُكُ الصَّيْدَ؛ لأَِنَّ كِلَيْهِمَا - وَإِِنْ كَانَ مُحَرَّمًا - إِلاَّ أَنَّ تَحْرِيمَ الصَّيْدِ لَهُ مُنَاسَبَةٌ بِالإِِْحْرَامِ، وَمَفْسَدَتُهُ الَّتِي اعْتَمَدَهَا النَّهْيُ إِنَّمَا هِيَ فِي الإِِْحْرَامِ، وَأَمَّا مَفْسَدَةُ أَكْل الْمَيْتَةِ فَذَلِكَ أَمْرٌ عَامٌّ، لاَ تَعَلُّقَ لَهُ بِخُصُوصِ الإِِْحْرَامِ، وَالْمُنَاسِبُ إِِذَا كَانَ لأَِمْرٍ عَامٍّ - وَهُوَ كَوْنُهَا مَيْتَةً - لاَ يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خُصُوصِ الإِِْحْرَامِ
__________
(1) المستصفى 2 / 103 - 105 ط دار صادر بيروت.
(2) سورة المائدة / 3.
(3) سورة المائدة / 95.(12/193)
مُنَافَاةٌ وَلاَ تَعَلُّقٌ، وَالْمُنَافِي الأَْخَصُّ أَوْلَى بِالاِجْتِنَابِ.
وَمِنْ هَذَا الْقَبِيل: إِِذَا لَمْ يَجِدِ الْمُصَلِّي ثَوْبًا يَسْتُرُهُ إِلاَّ حَرِيرًا أَوْ نَجِسًا فَإِِنَّهُ يُصَلِّي فِي الْحَرِيرِ وَيَتْرُكَ النَّجِسَ؛ لأَِنَّ مَفْسَدَةَ النَّجَاسَةِ خَاصَّةٌ بِالصَّلاَةِ، بِخِلاَفِ مَفْسَدَةِ الْحَرِيرِ لاَ تَعَلُّقَ لَهَا بِخُصُوصِ الصَّلاَةِ، وَلاَ مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا.
وَهُنَاكَ فُرُوعٌ كَثِيرَةٌ أُخْرَى تَتَرَتَّبُ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ، يُرْجَعُ إِلَيْهَا فِي الأُْصُول وَأَبْوَابِ الْفِقْهِ.
تَعَارُضُ الأَْصْل وَالظَّاهِرِ:
21 - الْمُرَادُ بِالأَْصْل: بَقَاءُ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ، وَالظَّاهِرُ: مَا يَتَرَجَّحُ وُقُوعُهُ.
فَالأَْصْل بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ، وَلِذَا لَمْ يُقْبَل فِي شَغْلِهَا شَاهِدٌ وَاحِدٌ، وَلِذَا كَانَ الْقَوْل قَوْل الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِمُوَافَقَتِهِ الأَْصْل، وَالْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، لِدَعْوَاهُ مَا خَالَفَ الأَْصْل، فَإِِذَا اخْتَلَفَا فِي قِيمَةِ الْمُتْلَفِ وَالْمَغْصُوبِ - فَالْقَوْل قَوْل الْغَارِمِ، لأَِنَّ الأَْصْل الْبَرَاءَةُ عَمَّا زَادَ عَنْ قَوْلِهِ، وَلَوْ أَقَرَّ بِشَيْءٍ أَوْ حَقٍّ قَبْل تَفْسِيرِهِ بِمَا لَهُ قِيمَةٌ، فَالْقَوْل لِلْمُقِرِّ مَعَ يَمِينِهِ. وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ. وَالْحُكْمُ كَذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ (1) . وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: الْحُكْمُ عِنْدَهُمْ كَذَلِكَ فِي تَقْدِيمِ الظَّاهِرِ الثَّابِتِ بِالْبَيِّنَةِ.
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 23، والقوانين الفقهية لابن جزي ص 198، والأشباه والنظائر للسيوطي 64، والقواعد 339.(12/194)
وَلِلشَّافِعِيَّةِ تَفْصِيلٌ فِي غَيْرِ الثَّابِتِ بِالْبَيِّنَةِ، إِذْ قَالُوا: إِنَّ الأَْصْل يُرَجَّحُ جَزْمًا. وَضَابِطُهُ: أَنْ يُعَارِضَهُ احْتِمَالٌ مُجَرَّدٌ. وَمَا يُرَجَّحُ فِيهِ الظَّاهِرُ جَزْمًا، وَضَابِطُهُ: أَنْ يَسْتَنِدَ إِِلَى سَبَبٍ مَنْصُوبٍ شَرْعًا، كَالشَّهَادَةِ تُعَارِضُ الأَْصْل، وَالرِّوَايَةَ، وَالْيَدَ فِي الدَّعْوَى. وَإِِخْبَارُ الثِّقَةِ بِدُخُول الْوَقْتِ. وَمَا يُرَجَّحُ فِيهِ الأَْصْل عَلَى الظَّاهِرِ فِي الأَْصَحِّ، وَضَابِطُهُ: أَنْ يَسْتَنِدَ الاِحْتِمَال إِِلَى سَبَبٍ ضَعِيفٍ، وَمِثْلُهُ الشَّيْءُ الَّذِي لاَ يُتَيَقَّنُ بِنَجَاسَتِهِ، وَلَكِنَّ الْغَالِبَ فِيهِ النَّجَاسَةُ كَثِيَابِ مُدْمِنِ الْخَمْرِ، وَالْقَصَّابِينَ، وَالْكُفَّارِ، وَأَوَانِيهِمْ. وَمَا يُتَرَجَّحُ فِيهِ الظَّاهِرُ عَلَى الأَْصْل، بِأَنْ كَانَ سَبَبًا قَوِيًّا مُنْضَبِطًا، كَمَنْ شَكَّ بَعْدَ الصَّلاَةِ أَوْ غَيْرِهَا مِنَ الْعِبَادَاتِ فِي تَرْكِ رُكْنٍ غَيْرِ النِّيَّةِ فَالْمَشْهُورُ لاَ يُؤَثِّرُ.
وَالْحَنَابِلَةُ يُقَدِّمُونَ كَغَيْرِهِمُ الظَّاهِرَ، الَّذِي هُوَ حُجَّةٌ يَجِبُ قَبُولُهَا شَرْعًا، كَالشَّهَادَةِ عَلَى الأَْصْل، وَإِِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، بِأَنْ كَانَ مُسْتَنِدًا إِِلَى الْعُرْفِ أَوِ الْعَادَةِ الْغَالِبَةِ أَوِ الْقَرَائِنِ أَوْ غَلَبَةِ الظَّنِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَتَارَةً يُعْمَل بِالأَْصْل وَلاَ يُلْتَفَتُ إِِلَى الظَّاهِرِ، وَتَارَةً يُعْمَل بِالظَّاهِرِ وَلاَ يُلْتَفَتُ إِِلَى الأَْصْل، وَتَارَةً يَخْرُجُ فِي الْمَسْأَلَةِ خِلاَفٌ، فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ:
(1) مَا تُرِكَ فِيهِ الْعَمَل بِالأَْصْل لِلْحُجَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَهِيَ قَوْل مَنْ يَجِبُ الْعَمَل بِقَوْلِهِ، كَشَهَادَةِ عَدْلَيْنِ بِشَغْل ذِمَّةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَهَذِهِ(12/194)
مَحَل إِجْمَاعٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ.
(2) مَا عُمِل فِيهِ بِالأَْصْل، وَلَمْ يُلْتَفَتْ إِِلَى الْقَرَائِنِ الظَّاهِرَةِ وَنَحْوِهَا. وَذَلِكَ كَمَا إِِذَا ادَّعَتْ زَوْجَةٌ بَعْدَ طُول مُقَامِهَا مَعَ الزَّوْجِ: أَنَّهَا لَمْ تَصِلْهَا مِنْهُ النَّفَقَةُ الْوَاجِبَةُ، فَإِِنَّ الْقَوْل قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا عِنْدَ الأَْصْحَابِ، لأَِنَّ الأَْصْل مَعَهَا، مَعَ أَنَّ الْعَادَةَ تُبْعِدُ ذَلِكَ جِدًّا، وَاخْتَارَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ الرُّجُوعَ إِِلَى الْعَادَةِ، وَخَرَّجَهُ وَجْهًا مِنَ الْمَسَائِل الْمُخْتَلَفِ فِيهَا.
(3) مَا عُمِل فِيهِ بِالظَّاهِرِ وَلَمْ يُلْتَفَتْ إِِلَى الأَْصْل، كَمَا إِِذَا شَكَّ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الصَّلاَةِ أَوْ غَيْرِهَا مِنَ الْعِبَادَاتِ فِي تَرْكِ رُكْنٍ مِنْهَا، فَإِِنَّهُ لاَ يُلْتَفَتُ إِِلَى الشَّكِّ، وَإِِنْ كَانَ الأَْصْل عَدَمَ الإِِْتْيَانِ بِهِ وَعَدَمَ بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ، لَكِنَّ الظَّاهِرَ مِنْ فِعْل الْمُكَلَّفِينَ لِلْعِبَادَاتِ: أَنْ تَقَعَ عَلَى وَجْهِ الْكَمَال، فَيُرَجَّحُ هَذَا الظَّاهِرُ عَلَى الأَْصْل، وَلاَ فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْوُضُوءِ وَغَيْرِهِ فِي الْمَنْصُوصِ عَنِ الإِِْمَامِ أَحْمَدَ.
(4) مَا خَرَجَ فِيهِ خِلاَفٌ فِي تَرْجِيحِ الظَّاهِرِ عَلَى الأَْصْل وَبِالْعَكْسِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ غَالِبًا عِنْدَ تَقَادُمِ الظَّاهِرِ وَالأَْصْل وَتَسَاوِيهِمَا، وَمِنْ صُوَرِهِ: طَهَارَةُ طِينِ الشَّوَارِعِ، نَصَّ عَلَيْهِ الإِِْمَامُ أَحْمَدُ فِي مَوَاضِعَ، تَرْجِيحًا لِلأَْصْل، وَهُوَ الطَّهَارَةُ فِي الأَْعْيَانِ كُلِّهَا. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ ثَانِيَةٍ: أَنَّهُ نَجِسٌ(12/195)
تَرْجِيحًا لِلظَّاهِرِ، وَجَعَلَهُ صَاحِبُ التَّلْخِيصِ الْمَذْهَبَ (1) .
تَعَارُضُ الْعِبَارَةِ (اللَّفْظِ) وَالإِِْشَارَةِ الْحِسِّيَّةِ:
22 - قَال الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنَّ الْعِبَارَةَ تُقَدَّمُ عَلَى الإِِْشَارَةِ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا أَوْرَدَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ: عَلَى الْجَبْهَةِ وَأَشَارَ بِيَدِهِ عَلَى أَنْفِهِ. . . إِلَخْ (2) . وَأَحَال شَرْحَ الْحَدِيثِ عَلَى مَا قَالَهُ فِي الرِّوَايَةِ الأُْخْرَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى جَبْهَتِهِ وَأَمَرَّهَا عَلَى أَنْفِهِ، وَقَال: هَذَا وَاحِدٌ فَهَذِهِ رِوَايَةٌ مُفَسِّرَةٌ. قَال الْقُرْطُبِيُّ: هَذَا يَدُل عَلَى أَنَّ الْجَبْهَةَ الأَْصْل، وَالسُّجُودَ عَلَى الأَْنْفِ تَبَعٌ.
وَقَال ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: قِيل: مَعْنَاهُ أَنَّهُمَا جُعِلاَ كَعُضْوٍ وَاحِدٍ، وَإِِلاَّ لَكَانَتِ الأَْعْضَاءُ ثَمَانِيَةً. قَال: وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يُكْتَفَى بِالسُّجُودِ عَلَى الأَْنْفِ. قَال: وَالْحَقُّ أَنَّ مِثْل هَذَا لاَ يُعَارِضُ التَّصْرِيحَ بِذِكْرِ الْجَبْهَةِ، وَإِِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُعْتَقَدَ أَنَّهُمَا كَعُضْوٍ وَاحِدٍ فَذَاكَ فِي التَّسْمِيَةِ وَالْعِبَارَةِ، لاَ فِي الْحُكْمِ الَّذِي عَلَيْهِ الأَْمْرُ بِالسُّجُودِ.
__________
(1) الأشباه للسيوطي ص 64، والقواعد الفقهية لابن رجب القاعدة (159) ص 339 - 343.
(2) حديث: " أمرت أن أسجد على سبعة أعظم: على الجبهة، وأشار بيده على أنفه. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 297 ط السلفية) .(12/195)
وَأَيْضًا فَإِِنَّ الإِِْشَارَةَ قَدْ لاَ تُعَيِّنُ الْمُشَارَ إِلَيْهِ، فَإِِنَّهَا إِنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِالْجَبْهَةِ لأَِجْل الْعِبَارَةِ، فَإِِذَا تَقَارَبَ مَا فِي الْجَبْهَةِ أَمْكَنَ أَنْ لاَ يُعَيَّنَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ تَعْيِينًا. وَأَمَّا الْعِبَارَةُ: فَإِِنَّهَا مُعَيَّنَةٌ لِمَا وُصِفَتْ لَهُ، فَتَقْدِيمُهُ أَوْلَى. وَمَا ذَكَرَهُ مِنَ الاِقْتِصَارِ عَلَى بَعْضِ الْجَبْهَةِ قَال بِهِ كَثِيرٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، ثُمَّ قَال: وَنَقَل ابْنُ الْمُنْذِرِ إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ: عَلَى أَنَّهُ لاَ يُجْزِئُ السُّجُودُ عَلَى الأَْنْفِ وَحْدَهُ. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِِلَى أَنَّهُ يُجْزِئُ عَلَى الْجَبْهَةِ وَحْدَهَا.
وَعَنِ الأَْوْزَاعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِِسْحَاقَ وَابْنِ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ: يَجِبُ أَنْ يَجْمَعَهُمَا، وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيِّ أَيْضًا.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِِذَا اجْتَمَعَتِ الإِِْشَارَةُ إِِلَى شَيْءٍ، وَالْعِبَارَةُ عَنْهُ فِي الْمَهْرِ - فَالأَْصْل أَنَّ الْمُسَمَّى إِِذَا كَانَ مِنْ جِنْسِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِالْمُشَارِ إِلَيْهِ؛ لأَِنَّ الْمُسَمَّى مَوْجُودٌ فِي الْمُشَارِ إِلَيْهِ ذَاتًا، وَالْوَصْفُ يَتْبَعُهُ، وَإِِنْ كَانَ مِنْ خِلاَفِ جِنْسِهِ يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِالْمُسَمَّى؛ لأَِنَّ الْمُسَمَّى مِثْل الْمُشَارِ إِلَيْهِ، وَلَيْسَ بِتَابِعٍ لَهُ. وَالتَّسْمِيَةُ أَبْلَغُ فِي التَّعْرِيفِ، مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا تُعَرِّفُ الْمَاهِيَّةَ، وَالإِِْشَارَةُ تُعَرِّفُ الذَّاتَ. فَمَنِ اشْتَرَى فَصًّا عَلَى أَنَّهُ يَاقُوتٌ، فَإِِذَا هُوَ زُجَاجٌ لاَ يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ، لاِخْتِلاَفِ الْجِنْسِ. وَلَوِ اشْتَرَى عَلَى أَنَّهُ يَاقُوتٌ أَحْمَرُ فَإِِذَا هُوَ أَخْضَرُ، انْعَقَدَ الْعَقْدُ لاِتِّحَادِ الْجِنْسِ.(12/196)
وَقَال الشَّارِحُونَ: إِنَّ هَذَا الأَْصْل مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِي النِّكَاحِ، وَالْبَيْعِ، وَالإِِْجَارَةِ، وَسَائِرِ الْعُقُودِ، وَلَكِنَّ الإِِْمَامَ أَبَا حَنِيفَةَ جَعَل الْخَل وَالْخَمْرَ جِنْسًا، فَتَعَلَّقَ بِالْمُشَارِ إِلَيْهِ، فَوَجَبَ مَهْرُ الْمِثْل، فِيمَا لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى هَذَا الدَّنِّ مِنَ الْخَل، وَأَشَارَ إِِلَى خَمْرٍ. وَلَوْ سَمَّى حَرَامًا، وَأَشَارَ إِِلَى حَلاَلٍ فَلَهَا الْحَلاَل فِي الأَْصَحِّ.
وَأَمَّا فِي النِّكَاحِ فَقَال فِي الْخَانِيَّةِ: رَجُلٌ لَهُ بِنْتٌ وَاحِدَةٌ اسْمُهَا عَائِشَةُ: فَقَال الأَْبُ وَقْتَ الْعَقْدِ: زَوَّجْتُ مِنْكَ بِنْتِي فَاطِمَةَ، لاَ يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ. وَلَوْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ حَاضِرَةً فَقَال الأَْبُ: زَوَّجْتُكَ بِنْتِي فَاطِمَةَ هَذِهِ، وَأَشَارَ إِِلَى عَائِشَةَ وَغَلِطَ فِي اسْمِهَا، فَقَال الزَّوْجُ: قَبِلْتُ، جَازَ (1) .
23 - وَمِمَّا سَبَقَ تَبَيَّنَ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ وَحْدَهُمْ هُمُ الَّذِينَ قَالُوا بِإِِجْزَاءِ السُّجُودِ عَلَى الأَْنْفِ وَحْدَهُ، تَقْدِيمًا لِلإِِْشَارَةِ عَلَى الْعِبَارَةِ، وَأَنَّ الْجُمْهُورَ يُجْزِئُ عِنْدَهُمُ السُّجُودُ عَلَى الْجَبْهَةِ دُونَ الأَْنْفِ، وَأَنَّ الْعِبَارَةَ عِنْدَهُمْ تُقَدَّمُ عَلَى الإِِْشَارَةِ لأَِنَّهَا تُعَيِّنُ الْمُرَادَ، وَالإِِْشَارَةُ قَدْ لاَ تُعَيِّنُهُ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِِذَا اجْتَمَعَتِ الإِِْشَارَةُ وَالْعِبَارَةُ، وَاخْتَلَفَ مُوجِبُهُمَا، غُلِّبَتِ الإِِْشَارَةُ. فَلَوْ قَال: أُصَلِّي خَلْفَ زَيْدٍ هَذَا، أَوْ قَال: أُصَلِّي عَلَى زَيْدٍ هَذَا، فَبَانَ عَمْرًا فَالأَْصَحُّ الصِّحَّةُ. وَلَوْ قَال: زَوَّجْتُكَ فُلاَنَةَ هَذِهِ، وَسَمَّاهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم 138.
(2) فتح الباري 2 / 296 ط السلفية.(12/196)
صَحَّ قَطْعًا، وَحُكِيَ فِيهِ وَجْهٌ. وَلَوْ قَال: زَوَّجْتُكِ هَذَا الْغُلاَمَ، وَأَشَارَ إِِلَى بِنْتِهِ، نَقَل الرُّويَانِيُّ عَنِ الأَْصْحَابِ صِحَّةَ النِّكَاحِ. تَعْوِيلاً عَلَى الإِِْشَارَةِ. وَهَذَا يَتَّفِقُ وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ.
وَلَوْ قَال: زَوَّجْتُكَ هَذِهِ الْعَرَبِيَّةَ، فَكَانَتْ أَعْجَمِيَّةً. أَوْ: هَذِهِ الْعَجُوزَ، فَكَانَتْ شَابَّةً. أَوْ: هَذِهِ الْبَيْضَاءَ، فَكَانَتْ سَوْدَاءَ أَوْ عَكْسُهُ - وَكَذَا الْمُخَالَفَةُ فِي جَمِيعِ وُجُوهِ النَّسَبِ وَالصِّفَاتِ وَالْعُلُوِّ وَالنُّزُول - فَفِي صِحَّةِ النِّكَاحِ قَوْلاَنِ، وَالأَْصَحُّ: الصِّحَّةُ.
وَلَوْ قَال: بِعْتُكَ دَارِي هَذِهِ وَحَدَّدَهَا وَغَلِطَ فِي حُدُودِهَا، صَحَّ الْبَيْعُ. بِخِلاَفِ مَا لَوْ قَال: بِعْتُك الدَّارَ الَّتِي فِي الْمَحَلَّةِ الْفُلاَنِيَّةِ وَحَدَّدَهَا وَغَلِطَ؛ لأَِنَّ التَّعْوِيل هُنَاكَ عَلَى الإِِْشَارَةِ.
وَلَوْ قَال: بِعْتُكَ هَذَا الْفَرَسَ فَكَانَ بَغْلاً أَوْ عَكْسُهُ، فَوَجْهَانِ، وَالأَْصَحُّ هُنَا الْبُطْلاَنُ. وَإِِنَّمَا صُحِّحَ الْبُطْلاَنُ هُنَا تَغْلِيبًا لاِخْتِلاَفِ غَرَضِ الْمَالِيَّةِ. وَصَحَّحَ الصِّحَّةَ فِي الْبَاقِي تَغْلِيبًا لِلإِِْشَارَةِ. وَحِينَئِذٍ يُسْتَثْنَى هَذِهِ الصُّورَةُ مِنَ الْقَاعِدَةِ.
وَيُضَمُّ إِِلَى هَذِهِ الصُّورَةِ صُوَرٌ، مِنْهَا: مَا لَوْ حَلَفَ لاَ يُكَلِّمُ هَذَا الصَّبِيَّ فَكَلَّمَهُ شَيْخًا، أَوْ لاَ يَأْكُل هَذَا الرُّطَبَ فَأَكَلَهُ تَمْرًا، أَوْ لاَ يَدْخُل هَذِهِ الدَّارَ فَدَخَلَهَا عَرْصَةً، فَالأَْصَحُّ: أَنَّهُ لاَ يَحْنَثُ. وَلَوْ خَالَعَهَا عَلَى هَذَا الثَّوْبِ الْكَتَّانِ فَبَانَ قُطْنًا،(12/197)
أَوْ عَكْسُهُ، فَالأَْصَحُّ فَسَادُ الْخُلْعِ، وَيُرْجَعُ بِمَهْرِ الْمِثْل.
وَهُنَاكَ صُوَرٌ كَثِيرَةٌ تَتَرَتَّبُ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ (1) .
هَذِهِ جُمْلَةُ قَوَاعِدَ أُصُولِيَّةٍ فِي التَّعَارُضِ، ذُكِرَتْ مَعَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنْ أَحْكَامٍ.
وَأَمَّا التَّعَارُضُ بَيْنَ الأَْدِلَّةِ فَيُنْظَرُ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
__________
(1) الأشباه والنظائر للسيوطي 314، 315.(12/197)
تَعَاطِي
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّعَاطِي لُغَةً: مَصْدَرُ تَعَاطَى، بِمَعْنَى: تَنَاوَل الإِِْنْسَانُ الشَّيْءَ بِيَدِهِ، مِنَ الْعَطْوِ، وَهُوَ بِمَعْنَى التَّنَاوُل (1) . قَال اللَّهُ تَعَالَى: {فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ} (2) وَتَفْسِيرُهَا: أَنَّهُ تَنَاوَل آلَةَ الْعَقْرِ، وَجَاءَ فِي تَفْسِيرِهَا أَيْضًا: أَنَّهُ تَنَاوَل الْفِعْل بَعْدَ أَنْ أَعَدَّ لَهُ عُدَّتَهُ، بِأَنْ كَمَنَ لِلنَّاقَةِ فَرَمَاهَا بِسَهْمِهِ، ثُمَّ ضَرَبَهَا بِسَيْفِهِ حَتَّى قَتَلَهَا (3) .
وَاصْطِلاَحًا: التَّعَاطِي فِي الْبَيْعِ، وَيُقَال فِيهِ أَيْضًا الْمُعَاطَاةُ: أَنْ يَأْخُذَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ وَيَدْفَعَ لِلْبَائِعِ الثَّمَنَ، أَوْ يَدْفَعَ الْبَائِعُ الْمَبِيعَ فَيَدْفَعَ لَهُ الآْخَرُ الثَّمَنَ، مِنْ غَيْرِ تَكَلُّمٍ وَلاَ إِشَارَةٍ. وَيَكُونُ التَّعَاطِي فِي الْبَيْعِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمُعَاوَضَاتِ (4) .
__________
(1) لسان العرب مادة: " عطى ".
(2) سورة القمر آية / 29.
(3) تفسير القرطبي 17 / 141، وتفسير الرازي 29 / 54.
(4) حاشية الدسوقي 3 / 3 المكتبة التجارية بيروت.(12/198)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْعَقْدُ:
2 - الْعَقْدُ: عُقُودُ الْبَيْعِ مِنْهَا مَا يَتِمُّ بِاللَّفْظِ (وَهُوَ الصِّيغَةُ) وَهُوَ الإِِْيجَابُ وَالْقَبُول، وَمِنْهَا مَا يَتِمُّ بِالْفِعْل، وَهُوَ التَّعَاطِي (1) .
الْحُكْمُ الإِِْجْمَالِيُّ:
الْبَيْعُ بِالتَّعَاطِي:
3 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي انْعِقَادِ الْبَيْعِ بِالتَّعَاطِي. فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ إِِلَى: جَوَازِ الْبَيْعِ بِالتَّعَاطِي. وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ اشْتِرَاطُ الصِّيغَةِ لِصِحَّةِ الْبَيْعِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ. وَلِلشَّافِعِيَّةِ قَوْلٌ ثَالِثٌ بِجَوَازِ الْمُعَاطَاةِ فِي الْمُحَقَّرَاتِ.
وَلِبَيْعِ الْمُعَاطَاةِ صُورَتَانِ:
الأُْولَى: أَنْ يَتِمَّ التَّعَاطِي مِنْ غَيْرِ تَكَلُّمٍ وَلاَ إِشَارَةٍ مِنْ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ، وَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَرَجَّحَ النَّوَوِيُّ الْجَوَازَ بِخِلاَفِ الْمَذْهَبِ.
الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَتِمَّ التَّعَاطِي بِتَكَلُّمِ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ وَيَتِمُّ التَّسْلِيمُ، وَهُوَ تَعَاطٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. وَلَمْ يَعُدَّهُ الْحَنَفِيَّةُ تَعَاطِيًا (2) .
__________
(1) الفروق في اللغة لأبي هلال العسكري.
(2) حاشية ابن عابدين 4 / 17 ط العثمانية، وحاشية الدسوقي 3 / 3، والمغني لابن قدامة 3 / 561 - 562، وروضة الطالبين 3 / 337، وحاشية بلغة السالك لأقرب المسالك 2 / 343، ومجمع الأنهر على ملتقى الأبحر 2 / 4، ونهاية المحتاج 3 / 364.(12/198)
4 - وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ فِي الاِسْتِدْلاَل لِمَشْرُوعِيَّةِ بَيْعِ التَّعَاطِي: إِنَّ اللَّهَ أَحَل الْبَيْعَ، وَلَمْ يُبَيِّنْ كَيْفِيَّتَهُ، فَوَجَبَ الرُّجُوعُ فِيهِ إِِلَى الْعُرْفِ، كَمَا رَجَعَ إِلَيْهِ فِي الْقَبْضِ وَالإِِْحْرَازِ وَالتَّفَرُّقِ. وَالْمُسْلِمُونَ فِي أَسْوَاقِهِمْ وَبِيَاعَاتِهِمْ عَلَى ذَلِكَ. وَلأَِنَّ الْبَيْعَ كَانَ مَوْجُودًا بَيْنَهُمْ مَعْلُومًا عِنْدَهُمْ، وَإِِنَّمَا عَلَّقَ الشَّرْعُ عَلَيْهِ أَحْكَامًا، وَأَبْقَاهُ عَلَى مَا كَانَ، فَلاَ يَجُوزُ تَغْيِيرُهُ بِالرَّأْيِ وَالتَّحَكُّمِ، وَلَمْ يُنْقَل عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلاَ عَنْ أَصْحَابِهِ - مَعَ كَثْرَةِ وُقُوعِ الْبَيْعِ بَيْنَهُمْ - اسْتِعْمَال الإِِْيجَابِ وَالْقَبُول، وَلَوِ اسْتَعْمَلُوا ذَلِكَ فِي بِيَاعَاتِهِمْ لَنُقِل نَقْلاً شَائِعًا. وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ شَرْطًا لَوَجَبَ نَقْلُهُ، وَلَمْ يُتَصَوَّرْ مِنْهُمْ إِهْمَالُهُ وَالْغَفْلَةُ عَنْ نَقْلِهِ؛ وَلأَِنَّ الْبَيْعَ مِمَّا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى فَلَوِ اشْتُرِطَ لَهُ الإِِْيجَابُ وَالْقَبُول لَبَيَّنَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَانًا عَامًّا، وَلَمْ يَخْفَ حُكْمُهُ؛ لأَِنَّهُ يُفْضِي إِِلَى وُقُوعِ الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ كَثِيرًا وَأَكْلِهِمُ الْمَال بِالْبَاطِل، وَلَمْ يُنْقَل ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلاَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فِيمَا عَلِمْنَاهُ. وَلأَِنَّ النَّاسَ يَتَبَايَعُونَ فِي أَسْوَاقِهِمْ بِالْمُعَاطَاةِ فِي كُل عَصْرٍ.
وَلَمْ يُنْقَل إِنْكَارُهُ قَبْل مُخَالِفِينَا، فَكَانَ ذَلِكَ إِجْمَاعًا. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الإِِْيجَابِ وَالْقَبُول فِي الْهِبَةِ وَالْهَدِيَّةِ وَالصَّدَقَةِ، وَلَمْ يُنْقَل عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلاَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ اسْتِعْمَال ذَلِكَ فِيهِ، وَقَدْ أُهْدِيَ إِِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْحَبَشَةِ(12/199)
وَغَيْرِهَا، وَكَانَ النَّاسُ يَتَحَرَّوْنَ بِهَدَايَاهُمْ يَوْمَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ( x661 ;) . وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِِذَا أُتِيَ بِطَعَامٍ سَأَل عَنْهُ: أَهَدِيَّةٌ أَمْ صَدَقَةٌ؟ فَإِِنْ قِيل: صَدَقَةٌ. قَال لأَِصْحَابِهِ: كُلُوا، وَلَمْ يَأْكُل. وَإِِنْ قِيل: هَدِيَّةٌ ضَرَبَ بِيَدِهِ وَأَكَل مَعَهُمْ (2) وَفِي حَدِيثِ سَلْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ جَاءَ إِِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَمْرٍ فَقَال: هَذَا شَيْءٌ مِنَ الصَّدَقَةِ، رَأَيْتُكَ أَنْتَ وَأَصْحَابَكَ أَحَقَّ النَّاسِ بِهِ. فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَِصْحَابِهِ: كُلُوا وَلَمْ يَأْكُل ثُمَّ أَتَاهُ ثَانِيَةً بِتَمْرٍ فَقَال: رَأَيْتُكَ لاَ تَأْكُل الصَّدَقَةَ وَهَذَا شَيْءٌ أَهْدَيْتُهُ لَكَ، فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِسْمِ اللَّهِ، وَأَكَل (3) وَلَمْ يُنْقَل قَبُولٌ وَلاَ أَمْرٌ بِإِِيجَابٍ، وَإِِنَّمَا سَأَل لِيَعْلَمَ: هَل هُوَ صَدَقَةٌ أَوْ هَدِيَّةٌ؟ وَفِي أَكْثَرِ الأَْخْبَارِ لَمْ يُنْقَل إِيجَابٌ وَلاَ قَبُولٌ، وَلَيْسَ إِلاَّ الْمُعَاطَاةُ، وَالتَّفَرُّقُ عَنْ تَرَاضٍ يَدُل عَلَى صِحَّتِهِ، وَلَوْ كَانَ الإِِْيجَابُ وَالْقَبُول شَرْطًا فِي هَذِهِ الْعُقُودِ لَشَقَّ ذَلِكَ، وَلَكَانَتْ أَكْثَرُ عُقُودِ الْمُسْلِمِينَ فَاسِدَةً، وَأَكْثَرُ أَمْوَالِهِمْ مُحَرَّمَةً؛ وَلأَِنَّ
__________
(1) حديث: " كان الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة ". أخرجه البخاري (الفتح 5 / 203 - ط السلفية) .
(2) حديث: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتي بطعام سأل. . . " أخرجه البخاري (الفتح 5 / 203 - ط السلفية) ، ومسلم (2 / 756 - ط الحلبي) .
(3) حديث: " سلمان ". أخرجه أحمد (5 / 444 - ط الميمنية) والحاكم (2 / 16 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه ووافقه الذهبي.(12/199)
الإِِْيجَابَ وَالْقَبُول إِنَّمَا يُرَادَانِ لِلدَّلاَلَةِ عَلَى التَّرَاضِي، فَإِِذَا وُجِدَ مَا يَدُل عَلَيْهِ مِنَ الْمُسَاوَمَةِ وَالتَّعَاطِي قَامَ مَقَامَهُمَا وَأَجْزَأَ عَنْهُمَا؛ لِعَدَمِ التَّعَبُّدِ فِيهِ (1) .
الإِِْقَالَةُ بِالتَّعَاطِي:
5 - جَوَّزَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِقَالَةَ الْبَيْعِ بِالتَّعَاطِي، وَقَالُوا: الإِِْقَالَةُ تَنْعَقِدُ بِالتَّعَاطِي أَيْضًا مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ عَلَى الصَّحِيحِ (2) . . .
الإِِْجَارَةُ بِالتَّعَاطِي:
6 - جَوَّزَهَا الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَقَالُوا: إِنَّمَا هِيَ كَالْبَيْعِ، وَقَدِ اقْتَصَرَتْ عَلَى الْمَنَافِعِ دُونَ الْعَيْنِ.
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: إِِذَا دَفَعَ ثَوْبَهُ إِِلَى خَيَّاطٍ أَوْ قَصَّارٍ لِيَخِيطَهُ أَوْ يُقَصِّرَهُ مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ وَلاَ شَرْطٍ وَلاَ تَعْرِيضٍ بِأَجْرٍ، مِثْل أَنْ يَقُول: خُذْ هَذَا فَاعْمَلْهُ، وَكَانَ الْخَيَّاطُ وَالْقَصَّارُ مُنْتَصِبَيْنِ لِذَلِكَ، فَفَعَلاَ ذَلِكَ فَلَهُمَا الأَْجْرُ، لأَِنَّ الْعُرْفَ جَارٍ بِذَلِكَ. وَقَال أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: لاَ أَجْرَ لَهُمَا؛ لأَِنَّهُمَا فَعَلاَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ جَعَل لَهُمَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ تَبَرَّعَا بِعَمَلِهِ.
وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَفِي التَّتَارْخَانِيَّةَ أَنَّ
__________
(1) المغني 4 / 561 - 562 ط مكتبة الرياض.
(2) حاشية ابن عابدين 4 / 12، و 5 / 4، وحاشية الدسوقي 3 / 155، والمغني لابن قدامة - 4 / 137 الرياض.(12/200)
أَبَا يُوسُفَ سُئِل عَنِ الرَّجُل يَدْخُل السَّفِينَةَ أَوْ يَحْتَجِمُ أَوْ يَفْتَصِدُ أَوْ يَدْخُل الْحَمَّامَ أَوْ يَشْرَبُ مِنْ مَاءِ السِّقَاءِ، ثُمَّ يَدْفَعُ الأُْجْرَةَ وَثَمَنَ الْمَاءِ؟ فَقَال: يَجُوزُ اسْتِحْسَانًا، وَلاَ يَحْتَاجُ إِِلَى الْعَقْدِ قَبْل ذَلِكَ (1) .
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
7 - يُفَصِّل الْفُقَهَاءُ أَحْكَامَ التَّعَاطِي بِالنِّسْبَةِ لِكُل مَسْأَلَةٍ فِي مَوْضِعِهَا، وَمِنْ تِلْكَ الْمَوَاطِنِ: الْبُيُوعُ، وَالإِِْقَالَةُ، وَالإِِْجَارَةُ.
تَعَاوِيذُ
انْظُرْ: تَعْوِيذَةٌ.
__________
(1) حاشية الدسوقي 4 / 2، والمغني لابن قدامة 5 / 561، وابن عابدين 4 / 12.(12/200)
تَعَبُّدِيٌّ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّعَبُّدِيُّ لُغَةً: الْمَنْسُوبُ إِِلَى التَّعَبُّدِ.
وَالتَّعَبُّدُ مَصْدَرُ تَعَبَّدَ، يُقَال: تَعَبَّدَ الرَّجُل الرَّجُل: إِِذَا اتَّخَذَهُ عَبْدًا، أَوْ صَيَّرَهُ كَالْعَبْدِ.
وَتَعَبَّدَ اللَّهُ الْعَبْدَ بِالطَّاعَةِ: اسْتَعْبَدَهُ، أَيْ طَلَبَ مِنْهُ الْعِبَادَةَ.
وَمَعْنَى الْعِبَادَةِ فِي اللُّغَةِ: الطَّاعَةُ وَالْخُضُوعُ. وَمِنْهُ طَرِيقٌ مُعَبَّدٌ: إِِذَا كَانَ مُذَلَّلاً بِكَثْرَةِ الْمَشْيِ فِيهِ.
وَيَرِدُ التَّعَبُّدُ فِي اللُّغَةِ أَيْضًا بِمَعْنَى: التَّذَلُّل، يُقَال: تَعَبَّدَ فُلاَنٌ لِفُلاَنٍ: إِِذَا خَضَعَ لَهُ وَذَل. وَبِمَعْنَى: التَّنَسُّكُ، يُقَال: تَعَبَّدَ فُلاَنٌ لِلَّهِ تَعَالَى: إِِذَا أَكْثَرَ مِنْ عِبَادَتِهِ، وَظَهَرَ فِيهِ الْخُشُوعُ وَالإِِْخْبَاتُ (1) .
وَالتَّعَبُّدُ مِنَ اللَّهِ لِلْعِبَادِ: تَكْلِيفُهُمْ أُمُورَ الْعِبَادَةِ وَغَيْرَهَا. وَيُكْثِرُ الْفُقَهَاءُ وَالأُْصُولِيُّونَ مِنِ
__________
(1) لسان العرب. مادة: " عبد ".(12/201)
اسْتِعْمَالِهِ بِهَذَا الْمَعْنَى، كَقَوْلِهِمْ: نَحْنُ مُتَعَبَّدُونَ بِالْعَمَل بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَبِالْقِيَاسِ، أَيْ مُكَلَّفُونَ بِذَلِكَ. وَيَقُولُونَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَعَبَّدًا بِشَرْعِ مَنْ قَبْلَهُ، أَيْ مُكَلَّفًا بِالْعَمَل بِهِ (1) .
2 - وَالتَّعَبُّدِيَّاتُ - فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ وَالأُْصُولِيِّينَ - تُطْلَقُ عَلَى أَمْرَيْنِ:
الأَْوَّل: أَعْمَال الْعِبَادَةِ وَالتَّنَسُّكِ (2) . وَيُرْجَعُ لِمَعْرِفَةِ أَحْكَامِهَا بِهَذَا الْمَعْنَى إِِلَى مُصْطَلَحِ (عِبَادَةٌ) .
الثَّانِي: الأَْحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ الَّتِي لاَ يَظْهَرُ لِلْعِبَادِ فِي تَشْرِيعِهَا حِكْمَةٌ غَيْرُ مُجَرَّدِ التَّعَبُّدِ، أَيِ التَّكْلِيفِ بِهَا، لاِخْتِبَارِ عُبُودِيَّةِ الْعَبْدِ، فَإِِنْ أَطَاعَ أُثِيبَ، وَإِِنْ عَصَى عُوقِبَ.
وَالْمُرَادُ بِالْحِكْمَةِ هُنَا: مَصْلَحَةُ الْعَبْدِ مِنَ الْمُحَافَظَةِ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عِرْضِهِ أَوْ دِينِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ عَقْلِهِ. أَمَّا مَصْلَحَتُهُ الأُْخْرَوِيَّةُ - مِنْ دُخُول جَنَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْخَلاَصِ مِنْ عَذَابِهِ - فَهِيَ مُلاَزِمَةٌ لِتَلْبِيَةِ كُل أَمْرٍ أَوْ نَهْيٍ، تَعَبُّدِيًّا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ.
__________
(1) مسلم الثبوت، مطبوع بهامش المستصفى للغزالي. القاهرة، مطبعة بولاق.
(2) الموافقات للشاطبي، (طبعة مصورة عن طبعة المكتبة التجارية بالقاهرة بتحقيق الشيخ عبد الله دراز) 2 / 328 هـ.(12/201)
3 - هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي تَعْرِيفِ التَّعَبُّدِيَّاتِ. وَقَدْ لاَحَظَ الشَّاطِبِيُّ فِي مُوَافَقَاتِهِ أَنَّ حِكْمَةَ الْحُكْمِ قَدْ تَكُونُ مَعْلُومَةً عَلَى وَجْهِ الإِِْجْمَال، وَلاَ يُخْرِجُهُ ذَلِكَ عَنْ كَوْنِهِ تَعَبُّدِيًّا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، مَا لَمْ يُعْقَل مَعْنَاهُ عَلَى وَجْهِ الْخُصُوصِ. قَال: وَمِنْ ذَلِكَ: طَلَبُ الصَّدَاقِ فِي النِّكَاحِ، وَالذَّبْحُ فِي الْمَحَل الْمَخْصُوصِ فِي الْحَيَوَانِ الْمَأْكُول، وَالْفُرُوضُ الْمُقَدَّرَةُ فِي الْمَوَارِيثِ، وَعَدَدُ الأَْشْهُرِ فِي عِدَّةِ الطَّلاَقِ وَالْوَفَاةِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الأُْمُورِ الَّتِي لاَ مَجَال لِلْعُقُول فِي فَهْمِ مَصَالِحِهَا الْجُزْئِيَّةِ، حَتَّى يُقَاسُ عَلَيْهَا غَيْرُهَا. فَإِِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ الشُّرُوطَ الْمُعْتَبَرَةَ فِي النِّكَاحِ، مِنَ الْوَلِيِّ وَالصَّدَاقِ وَشِبْهِ ذَلِكَ، هِيَ لِتَمْيِيزِ النِّكَاحِ عَنِ السِّفَاحِ، وَأَنَّ فُرُوضَ الْمَوَارِيثِ تَرَتَّبَتْ عَلَى تَرْتِيبِ الْقُرْبَى مِنَ الْمَيِّتِ، وَأَنَّ الْعِدَدَ وَالاِسْتِبْرَاءَاتِ، الْمُرَادُ بِهَا اسْتِبْرَاءُ الرَّحِمِ خَوْفًا مِنِ اخْتِلاَطِ الْمِيَاهِ، وَلَكِنَّهَا أُمُورٌ جُمَلِيَّةٌ، كَمَا أَنَّ الْخُضُوعَ وَالإِِْجْلاَل عِلَّةُ شَرْعِ الْعِبَادَاتِ. وَهَذَا الْمِقْدَارُ لاَ يَقْضِي بِصِحَّةِ الْقِيَاسِ عَلَى الأَْصْل فِيهَا، بِحَيْثُ يُقَال: إِِذَا حَصَل الْفَرْقُ بَيْنَ النِّكَاحِ وَالسِّفَاحِ بِأُمُورٍ أُخَرَ مَثَلاً، لَمْ تُشْتَرَطْ تِلْكَ الشُّرُوطُ. وَمَتَى عُلِمَ بَرَاءَةُ الرَّحِمِ لَمْ تُشْرَعِ الْعِدَّةُ بِالأَْقْرَاءِ وَلاَ بِالأَْشْهُرِ، وَلاَ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ (1) .
__________
(1) الموافقات 2 / 308، 318.(12/202)
4 - هَذَا وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الْفُقَهَاءُ فِي أَنَّ التَّعَبُّدِيَّاتِ شُرِعَتْ لَنَا لِحِكْمَةٍ يَعْلَمُهَا اللَّهُ تَعَالَى وَخَفِيَتْ عَلَيْنَا، أَوْ إِنَّهَا شُرِعَتْ لاَ لِحِكْمَةٍ أَصْلاً غَيْرَ مُجَرَّدِ تَعَبُّدِ اللَّهِ لِلْعِبَادِ وَاسْتِدْعَائِهِ الاِمْتِثَال مِنْهُمْ، اخْتِبَارًا لِطَاعَةِ الْعَبْدِ لِمُجَرَّدِ الأَْمْرِ وَالنَّهْيِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْرِفَ وَجْهَ الْمَصْلَحَةِ فِيمَا يَعْمَل، بِمَنْزِلَةِ سَيِّدٍ أَرَادَ أَنْ يَخْتَبِرَ عَبِيده أَيَّهمْ أَطْوَعُ لَهُ، فَأَمَرَهُمْ بِالتَّسَابُقِ إِِلَى لَمْسِ حَجَرٍ، أَوِ الاِلْتِفَاتِ يَمِينًا أَوْ يَسَارًا مِمَّا لاَ مَصْلَحَةَ فِيهِ غَيْرُ مُجَرَّدِ الطَّاعَةِ.
5 - قَال ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلاً عَنِ الْحِلْيَةِ: أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْقَوْل الأَْوَّل، وَهُوَ الْمُتَّجَهُ، بِدَلاَلَةِ اسْتِقْرَاءِ تَكَالِيفِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى كَوْنِهَا جَالِبَةً لِلْمَصَالِحِ دَارِئَةً لِلْمَفَاسِدِ (1) .
وَكَذَلِكَ الشَّاطِبِيُّ فِي مُوَافَقَاتِهِ اعْتَمَدَ الاِسْتِقْرَاءَ دَلِيلاً عَلَى أَنَّ كُل الأَْحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ مُعَلَّلَةٌ بِمَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ، وَقَال: إِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ أَحْكَامَهُ مُعَلَّلَةٌ بِرِعَايَةِ مَصَالِحِ الْعِبَادِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ. قَال: وَلَمَّا اضْطُرَّ الرَّازِيَّ إِِلَى إِثْبَاتِ الْعِلَل لِلأَْحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ أَثْبَتْ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْعِلَل بِمَعْنَى الْعَلاَمَاتِ الْمُعَرِّفَةِ لِلأَْحْكَامِ. وَذَكَرَ
__________
(1) رد المحتار، على الدر المختار 1 / 301 ط. بولاق الأولى سنة 1272 هـ.(12/202)
الشَّاطِبِيُّ مِنَ الأَْدِلَّةِ الَّتِي اسْتَقْرَأَهَا قَوْله تَعَالَى فِي شَأْنِ الْوُضُوءِ وَالْغُسْل {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَل عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (1) وَفِي الصِّيَامِ {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (2) وَفِي الْقِصَاصِ {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَْلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (3) وَآيَاتٌ نَحْوُ هَذِهِ (4) .
وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِِلَى مِثْل ذَلِكَ ابْنُ الْقَيِّمِ، حَيْثُ قَال: قَالَتْ طَائِفَةٌ: إِنَّ عِدَّةَ الْوَفَاةِ تَعَبُّدٌ مَحْضٌ، وَهَذَا بَاطِلٌ، فَإِِنَّهُ لَيْسَ فِي الشَّرِيعَةِ حُكْمٌ وَاحِدٌ إِلاَّ وَلَهُ مَعْنًى وَحِكْمَةٌ، يَعْقِلُهُ مَنْ يَعْقِلُهُ، وَيَخْفَى عَلَى مَنْ خَفِيَ عَلَيْهِ (5) . وَقَرَّرَ هَذَا الْمَعْنَى تَقْرِيرًا أَوْسَعَ فَقَال: شَرَعَ اللَّهُ الْعُقُوبَاتِ، وَرَتَّبَهَا عَلَى أَسْبَابِهَا، جِنْسًا وَقَدْرًا، فَهُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَأَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ وَأَعْلَمُ الْعَالِمِينَ، وَمَنْ أَحَاطَ بِكُل شَيْءٍ عِلْمًا، وَعَلِمَ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ، وَأَحَاطَ عِلْمُهُ بِوُجُوهِ الْمَصَالِحِ دَقِيقِهَا وَجَلِيلِهَا وَخَفِيِّهَا وَظَاهِرِهَا، مَا يُمْكِنُ اطِّلاَعُ الْبَشَرِ عَلَيْهِ
__________
(1) سورة المائدة / 5.
(2) سورة البقرة / 183.
(3) سورة البقرة / 179.
(4) الموافقات 2 / 6، 7.
(5) إعلام الموقعين 2 / 86.(12/203)
وَمَا لاَ يُمْكِنُهُمْ. وَلَيْسَتْ هَذِهِ التَّخْصِيصَاتُ وَالتَّقْدِيرَاتُ خَارِجَةً عَنْ وُجُوهِ الْحِكَمِ وَالْغَايَاتِ الْمَحْمُودَةِ، كَمَا أَنَّ التَّخْصِيصَاتِ وَالتَّقْدِيرَاتِ وَاقِعَةٌ فِي خَلْقِهِ كَذَلِكَ، فَهَذَا فِي خَلْقِهِ وَذَاكَ فِي أَمْرِهِ، وَمَصْدَرُهُمَا جَمِيعًا عَنْ كَمَال عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ وَوَضْعِهِ كُل شَيْءٍ فِي مَوْضِعِهِ الَّذِي لاَ يَلِيقُ بِهِ سِوَاهُ وَلاَ يَتَقَاضَى إِلاَّ إِيَّاهُ، كَمَا وَضَعَ قُوَّةَ الْبَصَرِ وَالنُّورِ الْبَاصِرِ فِي الْعَيْنِ، وَقُوَّةَ السَّمْعِ فِي الأُْذُنِ، وَقُوَّةَ الشَّمِّ فِي الأَْنْفِ، وَخَصَّ كُل حَيَوَانٍ وَغَيْرَهُ بِمَا يَلِيقُ بِهِ وَيَحْسُنُ أَنْ يُعْطَاهُ مِنْ أَعْضَائِهِ وَهَيْئَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَقَدْرِهِ، فَشَمِل إِتْقَانَهُ وَإِِحْكَامَهُ، وَإِِذَا كَانَ سُبْحَانَهُ قَدْ أَتْقَنَ خَلْقَهُ غَايَةَ الإِِْتْقَانِ، وَأَحْكَمَهُ غَايَةَ الإِِْحْكَامِ، فَلأََنْ يَكُونَ أَمْرُهُ فِي غَايَةِ الإِِْتْقَانِ أَوْلَى وَأَحْرَى، وَلاَ يَكُونُ الْجَهْل بِحِكْمَةِ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ وَإِِتْقَانِهِ كَذَلِكَ وَصُدُورِهِ عَنْ مَحْضِ الْحِكْمَةِ وَالْعِلْمِ مُسَوِّغًا لإِِِنْكَارِهِ فِي نَفْسِ الأَْمْرِ (1) .
وَسَارَ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ وَلِيُّ اللَّهِ الدَّهْلَوِيُّ فِي حُجَّةِ اللَّهِ الْبَالِغَةِ وَقَال: إِنَّ الْقَوْل الآْخَرَ (الآْتِي) تُكَذِّبُهُ السُّنَّةُ وَإِِجْمَاعُ الْقُرُونِ الْمَشْهُودِ لَهَا بِالْخَيْرِ (2) .
6 - أَمَّا الْقَوْل الثَّانِي بِوُجُودِ أَحْكَامٍ وَلَوْ عَلَى سَبِيل النُّدْرَةِ قُصِدَ مِنْهَا التَّعَبُّدُ وَالاِمْتِثَال. فَيَدُل عَلَيْهِ مَا وَرَدَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ قوله تعالى: قَوْله تَعَالَى
__________
(1) إعلام الموقعين 2 / 120.
(2) حجة الله البالغة 1 / 11.(12/203)
{. . . وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَْغْلاَل الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} (1) أَنَّهُ كَانَ قَدْ جَعَل عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَنَا آصَارًا وَأَغْلاَلاً لِتَعَنُّتِهِمْ وَشِقَاقِهِمْ، كَمَا أَلْزَمَ بَنِي إِسْرَائِيل بِأَنْ تَكُونَ الْبَقَرَةُ الَّتِي أَمَرَهُمْ بِذَبْحِهَا لاَ فَارِضًا وَلاَ بِكْرًا، وَأَنْ تَكُونَ صَفْرَاءَ.
وَأَيْضًا فَإِِنَّ فِي بَعْضِ الاِبْتِلاَءِ وَاسْتِدْعَاءِ الطَّاعَةِ وَالاِمْتِثَال وَالتَّدْرِيبِ عَلَى ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ كَبِيرَةٌ، لاَ يَزَال أَوْلِيَاءُ الأُْمُورِ يُدَرِّبُونَ عَلَيْهَا أَنْصَارَهُمْ وَأَتْبَاعَهُمْ، وَيَبْذُلُونَ فِي ذَلِكَ الأَْمْوَال الطَّائِلَةَ، لِيَكُونُوا عِنْدَ الْحَاجَةِ مُلَبِّينَ لِلأَْوَامِرِ دُونَ تَرَدُّدٍ أَوْ حَاجَةٍ إِِلَى التَّفَهُّمِ، اكْتِفَاءً وَثِقَةً بِأَنَّ وَلِيَّ أَمْرِهِمْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُمْ بِمَا يُرِيدُ. بَل إِنَّ مَصْلَحَةَ الطَّاعَةِ وَالاِمْتِثَال وَالْمُسَارَعَةِ إِلَيْهِمَا هِيَ الْحِكْمَةُ الأُْولَى الْمُبْتَغَاةُ مِنْ وَضْعِ الشَّرِيعَةِ، بَل مِنَ الْخَلْقِ فِي أَسَاسِهِ، قَال اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِِْنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} (2) وَقَال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} (3) . وَقَال: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} (4) وَقَال {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ
__________
(1) سورة الأعراف / 157.
(2) سورة الذاريات / 56.
(3) سورة المائدة / 94.
(4) سورة محمد / 31.(12/204)
عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُول مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} (1)
وَلَكِنْ مِنْ فَضْل اللَّهِ عَلَيْنَا فِي شَرِيعَةِ الإِِْسْلاَمِ أَنَّهُ جَعَل غَالِبَ أَحْكَامِهَا تُرَاعِي مَصْلَحَةَ الْعِبَادِ بِالإِِْضَافَةِ إِِلَى مَصْلَحَةِ الاِبْتِلاَءِ، وَلَكِنْ لاَ يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ وُجُودِ أَحْكَامٍ لاَ تُرَاعِي ذَلِكَ، بَل قُصِدَ بِهَا الاِبْتِلاَءُ خَاصَّةً، وَذَلِكَ عَلَى سَبِيل النُّدْرَةِ.
وَفِي هَذَا يَقُول الْغَزَالِيُّ: عُرِفَ مِنْ دَأْبِ الشَّرْعِ اتِّبَاعُ الْمَعَانِي الْمُنَاسَبَةِ دُونَ التَّحَكُّمَاتِ الْجَامِدَةِ، وَهَذَا غَالِبُ عَادَةِ الشَّرْعِ. وَيَقُول: حَمْل تَصَرُّفَاتِ الشَّارِعِ عَلَى التَّحَكُّمِ أَوْ عَلَى الْمَجْهُول الَّذِي لاَ يُعْرَفُ، نَوْعُ ضَرُورَةٍ يُرْجَعُ إِلَيْهَا عِنْدَ الْعَجْزِ. وَقَال: مَا يَتَعَلَّقُ مِنَ الأَْحْكَامِ بِمَصَالِحِ الْخَلْقِ مِنَ الْمُنَاكَحَاتِ وَالْمُعَامَلاَتِ وَالْجِنَايَاتِ وَالضَّمَانَاتِ وَمَا عَدَا الْعِبَادَاتِ فَالتَّحَكُّمُ فِيهَا نَادِرٌ، وَأَمَّا الْعِبَادَاتُ وَالْمُقَدَّرَاتُ فَالتَّحَكُّمَاتُ فِيهَا غَالِبَةٌ، وَاتِّبَاعُ الْمَعْنَى نَادِرٌ (2) . وَصَرَّحَ بِذَلِكَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ فِي قَوَاعِدِهِ فَقَال: يَجُوزُ أَنْ تَتَجَرَّدَ التَّعَبُّدَاتُ عَنْ جَلْبِ الْمَصَالِحِ وَدَرْءِ الْمَفَاسِدِ، ثُمَّ يَقَعُ الثَّوَابُ عَلَيْهَا بِنَاءً عَلَى الطَّاعَةِ وَالإِِْذْعَانِ مِنْ غَيْرِ جَلْبِ مَصْلَحَةٍ غَيْرَ مَصْلَحَةِ الثَّوَابِ
__________
(1) سورة البقرة / 143.
(2) قواعد الأحكام في مصالح الأنام 1 / 18. القاهرة، المكتبة التجارية.(12/204)
وَلاَ دَرْءِ مَفْسَدَةٍ غَيْرَ مَفْسَدَةِ الْعِصْيَانِ.
7 - فَالتَّعَبُّدِيُّ عَلَى الْقَوْل الأَْوَّل: اسْتَأْثَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِعِلْمِ حِكْمَتِهِ، وَلَمْ يُطْلِعْ عَلَيْهَا أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ، وَلَمْ يَجْعَل سَبِيلاً لِلاِطِّلاَعِ عَلَيْهِ مَعَ ثُبُوتِ الْمَصْلَحَةِ فِيهِ فِي نَفْسِ الأَْمْرِ، أَخْفَى ذَلِكَ عَنْهُمُ ابْتِلاَءً وَاخْتِبَارًا. هَل يَمْتَثِلُونَ وَيُطِيعُونَ دُونَ أَنْ يَعْرِفُوا وَجْهَ الْمَصْلَحَةِ، أَمْ يَعْصُونَ اتِّبَاعًا لِمَصْلَحَةِ أَنْفُسِهِمْ؟ .
وَعَلَى الْقَوْل الثَّانِي: ابْتَلاَهُمْ بِمَا لاَ مَصْلَحَةَ لَهُمْ فِيهِ أَصْلاً غَيْرَ مُجَرَّدِ الثَّوَابِ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْعِبَادَةُ:
8 - أَصْل الْعِبَادَةِ: الطَّاعَةُ وَالْخُضُوعُ. وَالْعِبَادَاتُ، أَنْوَاعٌ: مِنْهَا الصَّلاَةُ وَالزَّكَاةُ وَالصَّوْمُ وَالْحَجُّ. وَكَثِيرٌ مِنْهَا مَعْقُول الْمَعْنَى، بَيَّنَتِ الشَّرِيعَةُ حِكْمَتَهُ، أَوِ اسْتَنْبَطَهَا الْفُقَهَاءُ. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى فِي شَأْنِ الصَّلاَةِ {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} (1) وَقَوْلُهُ فِي شَأْنِ الْحَجِّ {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} (2) وَقَوْل الْفُقَهَاءِ فِي حِكْمَةِ التَّرْخِيصِ فِي الإِِْفْطَارِ فِي السَّفَرِ أَثْنَاءَ رَمَضَانَ: إِنَّهَا دَفْعُ الْمَشَقَّةِ. فَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ تَعَبُّدِيًّا.
وَبَعْضُ أَحْكَامِ الْعِبَادَاتِ غَيْرُ مَعْقُول
__________
(1) سورة العنكبوت / 45.
(2) سورة الحج / 28.(12/205)
الْمَعْنَى، فَيَكُونُ تَعَبُّدِيًّا، كَكَوْنِ رَمْيِ الْجِمَارِ سَبْعًا سَبْعًا.
وَتَكُونُ التَّعَبُّدِيَّاتُ أَيْضًا فِي غَيْرِ الْعِبَادَاتِ، وَمِنْ ذَلِكَ: اسْتِبْرَاءُ الأَْمَةِ الَّتِي اشْتَرَاهَا بَائِعُهَا فِي مَجْلِسِ الْبَيْعِ، وَعَادَتْ إِلَيْهِ بِفَسْخٍ أَوْ إِقَالَةٍ قَبْل غَيْبَةِ الْمُشْتَرِي بِهَا (1) .
ب - حَقُّ اللَّهِ:
9 - قَدْ يُقَال فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَْحْكَامِ: إِنَّهُ لِحَقِّ اللَّهِ، كَالصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ وَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ وَكَحَدِّ السَّرِقَةِ وَحَدِّ الزِّنَى. وَيُقَال فِي كَثِيرٍ مِنْهَا: إِنَّهُ لِحَقِّ الإِِْنْسَانِ، كَحَقِّ الْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ وَالدَّيْنِ وَالضَّمَانَاتِ. وَقَدْ يُظَنُّ أَنَّ كُل مَا كَانَ مِنْهَا لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ تَعَبُّدِيٌّ، إِلاَّ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ (حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى) أَنَّهُ لاَ خِيَرَةَ فِيهِ لِلْعِبَادِ، وَلاَ يَجُوزُ لأَِحَدٍ إِسْقَاطُهُ، بَل لاَ بُدَّ لِلْعِبَادِ مِنْ تَنْفِيذِهِ إِِذَا وُجِدَ سَبَبُهُ، وَتَمَّتْ شُرُوطُ وُجُوبِهِ أَوْ تَحْرِيمِهِ (2) . وَلَيْسَ كُل مَا كَانَ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى تَعَبُّدِيًّا، بَل يَكُونُ تَعَبُّدِيًّا إِِذَا خَفِيَ وَجْهُ الْحِكْمَةِ فِيهِ. وَيَكُونُ غَيْرَ تَعَبُّدِيٍّ، وَذَلِكَ إِِذَا ظَهَرَتْ حِكْمَتُهُ.
قَال الشَّاطِبِيُّ: الْحِكَمُ الْمُسْتَخْرَجَةُ لِمَا
__________
(1) المغني شرح مختصر الخرقي 7 / 512، 513. ط. ثالثة. القاهرة، دار المنار، 1367 هـ، وشرح جمع الجوامع 2 / 280. مصطفى الحلبي، 1356 هـ، 2 / 280.
(2) الموافقات 2 / 318.(12/205)
لاَ يُعْقَل مَعْنَاهُ عَلَى وَجْهِ الْخُصُوصِ فِي التَّعَبُّدَاتِ، كَاخْتِصَاصِ الْوُضُوءِ بِالأَْعْضَاءِ الْمَخْصُوصَةِ، وَالصَّلاَةِ بِتِلْكَ الْهَيْئَةِ مِنْ رَفْعِ الْيَدَيْنِ وَالْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَكَوْنِهَا عَلَى بَعْضِ الْهَيْئَاتِ دُونَ بَعْضٍ، وَاخْتِصَاصِ الصِّيَامِ بِالنَّهَارِ دُونَ اللَّيْل، وَتَعْيِينِ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ فِي تِلْكَ الأَْحْيَانِ الْمُعَيَّنَةِ دُونَ سِوَاهَا مِنْ أَحْيَانِ النَّهَارِ وَاللَّيْل، وَاخْتِصَاصِ الْحَجِّ بِتِلْكَ الأَْعْمَال الْمَعْرُوفَةِ، فِي الأَْمَاكِنِ الْمَعْلُومَةِ، وَإِِلَى مَسْجِدٍ مَخْصُوصٍ، إِِلَى أَشْبَاهِ ذَلِكَ مِمَّا لاَ تَهْتَدِي الْعُقُول إِلَيْهِ بِوَجْهٍ، وَلاَ تَحُومُ حَوْلَهُ، يَأْتِي بَعْضُ النَّاسِ فَيَطْرُقُ إِلَيْهِ بِزَعْمِهِ حِكَمًا، يَزْعُمُ أَنَّهَا مَقْصُودُ الشَّارِعِ مِنْ تِلْكَ الأَْوْضَاعِ، وَجَمِيعُهَا مَبْنِيٌّ عَلَى ظَنٍّ وَتَخْمِينٍ غَيْرِ مُطَّرِدٍ فِي بَابِهِ، وَلاَ مَبْنِيٍّ عَلَيْهِ عَمَلٌ، بَل كَالتَّعْلِيل بَعْدَ السَّمَاعِ لِلأُْمُورِ الشَّوَاذِّ، لِجِنَايَتِهِ عَلَى الشَّرِيعَةِ فِي دَعْوَى مَا لَيْسَ لَنَا بِهِ عِلْمٌ، وَلاَ دَلِيل لَنَا عَلَيْهِ (1) .
ج - الْمُعَلَّل بِالْعِلَّةِ الْقَاصِرَةِ:
10 - وَلَمَّا كَانَ حُكْمُ التَّعَبُّدِيَّاتِ أَنَّهُ لاَ يُقَاسُ عَلَيْهَا، فَقَدْ يُشْتَبَهُ بِهَا الْمُعَلَّل بِالْعِلَّةِ الْقَاصِرَةِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يُقَاسُ عَلَيْهِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ التَّعَبُّدِيَّ لَيْسَ لَهُ عِلَّةٌ ظَاهِرَةٌ، فَيَمْتَنِعُ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ لأَِنَّ الْقِيَاسَ فَرْعُ مَعْرِفَةِ الْعِلَّةِ، أَمَّا الْمُعَلَّل بِالْعِلَّةِ الْقَاصِرَةِ فَعِلَّتُهُ مَعْلُومَةٌ لَكِنَّهَا لاَ تَتَعَدَّى مَحَلَّهَا، إِذْ
__________
(1) الموافقات 1 / 80.(12/206)
لَمْ يُعْلَمْ وُجُودُهَا فِي شَيْءٍ آخَرَ غَيْرِ الأَْصْل. مِثَالُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَل شَهَادَةَ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ (1) . وَهَذَا حُكْمٌ خَاصٌّ بِهِ، وَعِلَّتُهُ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ أَوَّل مَنْ تَنَبَّهَ وَبَادَرَ إِِلَى تَصْدِيقِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تِلْكَ الْحَادِثَةِ بِعَيْنِهَا وَالشَّهَادَةِ لَهُ، بِمُوجِبِ التَّصْدِيقِ الْعَامِّ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالأَْوَّلِيَّةُ مَعْنًى لاَ يَتَكَرَّرُ، فَاخْتَصَّ بِهِ (2) ، فَلَيْسَ ذَلِكَ تَعَبُّدِيًّا، لِكَوْنِ عِلَّتِهِ مَعْلُومَةً.
د - الْمَعْدُول بِهِ عَنْ سُنَنِ الْقِيَاسِ:
11 - مَا خَالَفَ الْقِيَاسَ قَدْ يَكُونُ غَيْرَ مَعْقُول الْمَعْنَى كَتَخْصِيصِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنِكَاحِ تِسْعِ نِسْوَةٍ وَإِِجْزَاءِ الْعَنَاقِ فِي التَّضْحِيَةِ فِي حَقِّ أَبِي بُرْدَةَ هَانِئِ بْنِ دِينَارٍ (3) ، وَكَتَقْدِيرِ عَدَدِ الرَّكَعَاتِ.
وَقَدْ يَكُونُ مَعْقُول الْمَعْنَى كَاسْتِثْنَاءِ بَيْعِ الْعَرَايَا مِنَ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ التَّمْرِ بِالتَّمْرِ خَرْصًا (4) .
__________
(1) حديث: " أن النبي صلى عليه وسلم جعل شهادة خزيمة بن ثابت. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 6 / 21 ط السلفية) .
(2) المعتمد لأبي الحسين البصري 2 / 802. دمشق، المعهد الفرنسي، 1384 هـ وإعلام الموقعين لابن القيم 2 / 136. بيروت، دار الجيل، وشرح مسلم الثبوت 2 / 251، والمستصفى 2 / 345.
(3) حديث: " إجزاء العناق في التضحية في حق أبي بردة. . " أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 13 ط. السلفية) بنحوه ومثله معلق، ووصله مسلم (3 / 1553 ط. دار عيسى الحلبي) . والنسائي (7 / 222 ط. دار الكتاب) .
(4) المستصفى للغزالي 2 / 327 - 329.(12/206)
هـ - الْمَنْصُوصُ عَلَى عِلَّتِهِ:
12 - أَوْرَدَ الشَّاطِبِيُّ أَنَّ بَعْضَ مَا عُرِفَتْ عِلَّتُهُ قَدْ يَكُونُ تَعَبُّدِيًّا. فَقَال: إِنَّ الْمَصَالِحَ فِي التَّكْلِيفِ ظَهَرَ لَنَا مِنَ الشَّارِعِ أَنَّهَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مَا يُمْكِنُ الْوُصُول إِِلَى مَعْرِفَتِهِ بِمَسَالِكِهِ الْمَعْرُوفَةِ كَالإِِْجْمَاعِ وَالنَّصِّ وَالسَّبْرِ وَالإِِْشَارَةِ وَالْمُنَاسَبَةِ، وَهَذَا هُوَ الْقِسْمُ الظَّاهِرُ الَّذِي نُعَلِّل بِهِ، وَتَقُول: إِنَّ الأَْحْكَامَ شُرِعَتْ لأَِجْلِهِ.
وَالثَّانِي: مَا لاَ يُمْكِنُ الْوُصُول إِلَيْهِ بِتِلْكَ الْمَسَالِكِ الْمَعْهُودَةِ، وَلاَ يُطَّلَعُ عَلَيْهِ إِلاَّ بِالْوَحْيِ كَالأَْحْكَامِ الَّتِي أَخْبَرَ الشَّارِعُ فِيهَا أَنَّهَا أَسْبَابٌ لِلْخِصْبِ وَالسَّعَةِ وَقِيَامِ أُبَّهَةِ الإِِْسْلاَمِ - كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سِيَاقِ قِصَّةِ نُوحٍ: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِل السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَكُمْ أَنْهَارًا} (1) . فَلاَ يُعْلَمُ وَجْهُ كَوْنِ الاِسْتِغْفَارِ سَبَبًا لِلْمَطَرِ وَلِلْخِصْبِ إِلاَّ بِالْوَحْيِ. وَلِذَلِكَ لاَ يُقَاسُ عَلَيْهِ، فَلاَ يُعْلَمُ كَوْنُ الاِسْتِغْفَارِ سَبَبًا فِي حُصُول الْعِلْمِ وَقُوَّةِ الأَْبْدَانِ مَثَلاً، فَلاَ يَكُونُ إِِلَى اعْتِبَارِ هَذِهِ الْعِلَّةِ فِي الْقِيَاسِ سَبِيلٌ، فَبَقِيَتْ مَوْقُوفَةً عَلَى التَّعَبُّدِ الْمَحْضِ. وَلِذَا يَكُونُ أَخْذُ الْحُكْمِ الْمُعَلَّل بِهَا مُتَعَبَّدًا بِهِ، وَمَعْنَى التَّعَبُّدِ هُنَا: الْوُقُوفُ عِنْدَ مَا حَدَّ الشَّارِعُ فِيهِ (2) .
__________
(1) سورة نوح / 11.
(2) الموافقات 2 / 314.(12/207)
حِكْمَةُ تَشْرِيعِ التَّعَبُّدِيَّاتِ:
13 - حِكْمَةُ تَشْرِيعِ التَّعَبُّدِيَّاتِ اسْتِدْعَاءُ الاِمْتِثَال، وَاخْتِبَارُ مَدَى الطَّاعَةِ وَالْعُبُودِيَّةِ. وَقَدْ عَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ الْغَزَالِيُّ فِي الإِِْحْيَاءِ بِقَوْلِهِ - فِي بَيَانِ أَسْرَارِ رَمْيِ الْجِمَارِ - وَظَّفَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْعِبَادِ أَعْمَالاً لاَ تَأْنَسُ بِهَا النُّفُوسُ، وَلاَ تَهْتَدِي إِِلَى مَعَانِيهَا الْعُقُول، كَرَمْيِ الْجِمَارِ بِالأَْحْجَارِ، وَالتَّرَدُّدِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ عَلَى سَبِيل التَّكْرَارِ. وَبِمِثْل هَذِهِ الأَْعْمَال يَظْهَرُ كَمَال الرِّقِّ وَالْعُبُودِيَّةِ، فَإِِنَّ الزَّكَاةَ إِرْفَاقٌ، وَوَجْهُهُ مَفْهُومٌ، وَلِلْعَقْل إِلَيْهِ مَيْلٌ، وَالصَّوْمُ كَسْرٌ لِلشَّهْوَةِ الَّتِي هِيَ آلَةُ عَدُوِّ اللَّهِ، وَتَفَرُّغٌ لِلْعِبَادَةِ، بِالْكَفِّ عَنِ الشَّوَاغِل. وَالرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ فِي الصَّلاَةِ تَوَاضُعٌ لِلَّهِ عَزَّ وَجَل بِأَفْعَالٍ هِيَ هَيْئَةُ التَّوَاضُعِ، وَلِلنُّفُوسِ السَّعْيُ بِتَعْظِيمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَل. فَأَمَّا تَرَدُّدَاتُ السَّعْيِ وَرَمْيُ الْجِمَارِ وَأَمْثَال هَذِهِ الأَْعْمَال، فَلاَ حَظَّ لِلنُّفُوسِ فِيهَا وَلاَ أُنْسَ لِلطَّبْعِ بِهَا، وَلاَ اهْتِدَاءَ لِلْعُقُول إِِلَى مَعَانِيهَا، فَلاَ يَكُونُ فِي الإِِْقْدَامِ عَلَيْهَا بَاعِثٌ إِلاَّ الأَْمْرُ الْمُجَرَّدُ، وَقَصْدُ الاِمْتِثَال لِلأَْمْرِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ أَمْرٌ وَاجِبُ الاِتِّبَاعِ فَقَطْ، وَفِيهِ عَزْلٌ لِلْعَقْل عَنْ تَصَرُّفِهِ وَصَرْفُ النَّفْسِ وَالطَّبْعِ عَنْ مَحَل أُنْسِهِ. فَإِِنَّ كُل مَا أَدْرَكَ الْعَقْل مَعْنَاهُ مَال الطَّبْعُ إِلَيْهِ مَيْلاً مَا، فَيَكُونُ ذَلِكَ الْمَيْل مُعَيِّنًا لِلأَْمْرِ وَبَاعِثًا مَعَهُ عَلَى الْفِعْل، فَلاَ يَكَادُ يَظْهَرُ بِهِ كَمَال الرِّقِّ وَالاِنْقِيَادِ. وَلِذَلِكَ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَجِّ عَلَى وَجْهِ الْخُصُوصِ: لَبَّيْكَ(12/207)
بِحَجَّةٍ حَقًّا، تَعَبُّدًا وَرِقًّا (1) وَلَمْ يَقُل ذَلِكَ فِي صَلاَةٍ وَلاَ غَيْرِهَا.
وَإِِذَا اقْتَضَتْ حِكْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى رَبْطَ نَجَاةِ الْخَلْقِ بِأَنْ تَكُونَ أَعْمَالُهُمْ عَلَى خِلاَفِ هَوَى طِبَاعِهِمْ، وَأَنْ يَكُونَ زِمَامُهَا بِيَدِ الشَّرْعِ، فَيَتَرَدَّدُونَ فِي أَعْمَالِهِمْ عَلَى سُنَنِ الاِنْقِيَادِ وَعَلَى مُقْتَضَى الاِسْتِعْبَادِ، كَانَ مَا لاَ يُهْتَدَى إِِلَى مَعَانِيهِ أَبْلَغَ أَنْوَاعِ التَّعَبُّدَاتِ فِي تَزْكِيَةِ النُّفُوسِ، وَصَرْفِهَا عَنْ مُقْتَضَى الطِّبَاعِ وَالأَْخْلاَقِ إِِلَى مُقْتَضَى الاِسْتِرْقَاقِ (2) .
طُرُقُ مَعْرِفَةِ التَّعَبُّدِيِّ:
14 - لَمْ يُعْرَفْ فِي تَمْيِيزِ التَّعَبُّدِيَّاتِ عَنْ غَيْرِهَا مِنَ الأَْحْكَامِ الْمُعَلَّلَةِ وَجْهٌ مُعَيَّنٌ، غَيْرُ الْعَجْزِ عَنِ التَّعْلِيل بِطَرِيقٍ مِنَ الطُّرُقِ الْمُعْتَبَرَةِ، عَلَى مَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي مَبَاحِثِ الْقِيَاسِ مِنْ عِلْمِ الأُْصُول. وَلِذَلِكَ يَقُول ابْنُ عَابِدِينَ: مَا شَرَعَهُ اللَّهُ إِنْ ظَهَرَتْ لَنَا حِكْمَتُهُ، قُلْنَا: إِنَّهُ مَعْقُول الْمَعْنَى، وَإِِلاَّ قُلْنَا: إِنَّهُ تَعَبُّدِيٌّ (3) . وَإِِلَى هَذَا يُشِيرُ كَلاَمُ
__________
(1) حديث: " لبيك حجا حقا، تعبدا ورقا " أخرجه البزار (كشف الأستار 2 / 13 ط. مؤسسة الرسالة) . وذكره مرفوعا وموقوفا، وقال ابن حجر: وذكر الدارقطني في العلل الاختلاف فيه، وساقه بسنده مرفوعا ورجح وقفه. (التلخيص الحبير 2 / 240 ط المكتبة الأثرية) .
(2) إحياء علوم الدين المطبعة التجارية 1 / 274.
(3) رد المحتار 1 / 301.(12/208)
الْغَزَالِيِّ الْمُتَقَدِّمُ آنِفًا، مِنْ أَنَّ الْمَصِيرَ إِِلَى التَّعَبُّدِ نَوْعُ ضَرُورَةٍ يُرْجَعُ إِلَيْهَا عِنْدَ الْعَجْزِ (1) .
وَمِنْ هُنَا اخْتَلَفَتْ أَقْوَال الْفُقَهَاءِ فِي اعْتِبَارِ بَعْضِ الأَْحْكَامِ تَعَبُّدِيًّا أَوْ مَعْقُول الْمَعْنَى، فَمَا يَرَاهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ تَعَبُّدِيًّا قَدْ يَرَاهُ الْبَعْضُ الآْخَرُ مُعَلَّلاً بِمَصَالِحَ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ رِعَايَتُهَا. فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ صَاحِبَ الدُّرِّ الْمُخْتَارِ قَال: إِنَّ تَكْرَارَ السُّجُودِ أَمْرٌ تَعَبُّدِيٌّ، أَيْ لَمْ يُعْقَل مَعْنَاهُ، تَحْقِيقًا لِلاِبْتِلاَءِ. وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَقِيل: إِنَّهُ ثُنِّيَ تَرْغِيمًا لِلشَّيْطَانِ، حَيْثُ أُمِرَ بِالسُّجُودِ مَرَّةً فَلَمْ يَسْجُدْ، فَنَحْنُ نَسْجُدُ مَرَّتَيْنِ (2) .
وَكَوْنُ طَلاَقِ الْحَائِضِ بِدْعِيًّا، قِيل: هُوَ تَعَبُّدِيٌّ. قَال الدَّرْدِيرُ: وَالأَْصَحُّ أَنَّهُ مُعَلَّلٌ بِتَطْوِيل الْعِدَّةِ؛ لأَِنَّ أَوَّلَهَا مِنَ الطُّهْرِ بَعْدَ الْحَيْضِ (3) .
وَالسَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَرَمْيُ الْجِمَارِ يُمَثِّل بِهَا الْفُقَهَاءُ لِغَيْرِ الْمَعْقُول الْمَعْنَى، كَمَا تَقَدَّمَ عَنِ الْغَزَالِيِّ. غَيْرَ أَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ يُعَلِّلُونَهُ وَأَمْثَالَهُ مِمَّا وُضِعَ مِنَ الْمَنَاسِكِ عَلَى هَيْئَةِ أَعْمَال بَعْضِ الصَّالِحِينَ، كَالسَّعْيِ الَّذِي جُعِل عَلَى هَيْئَةِ سَعْيِ أُمِّ إِسْمَاعِيل عَلَيْهِ السَّلَامُ بَيْنَهُمَا. يَقُول تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ
__________
(1) شفاء الغليل ص 200.
(2) الدر وحاشية ابن عابدين 1 / 300.
(3) الشرح الصغير على مختصر خليل 2 / 539. القاهرة، ط. دار المعارف.(12/208)
تَذَكُّرُ الْوَقَائِعِ الْمَاضِيَةِ لِلسَّلَفِ الْكِرَامِ، وَفِي طَيِّ تَذَكُّرِهَا مَصَالِحُ دِينِيَّةٌ، إِذْ يَتَبَيَّنُ فِي أَثْنَاءِ كَثِيرٍ مِنْهَا مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنِ امْتِثَال أَمْرِ اللَّهِ، وَالْمُبَادَرَةِ إِلَيْهِ، وَبَذْل الأَْنْفُسِ فِي ذَلِكَ. وَبِذَلِكَ يَظْهَرُ لَنَا أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الأَْعْمَال الَّتِي وَقَعَتْ فِي الْحَجِّ، وَيُقَال بِأَنَّهَا (تَعَبُّدٌ) لَيْسَتْ كَمَا قِيل. أَلاَ تَرَى أَنَّا إِِذَا فَعَلْنَاهَا وَتَذَكَّرْنَا أَسْبَابَهَا حَصَل لَنَا مِنْ ذَلِكَ تَعْظِيمُ الأَْوَّلِينَ، وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنِ احْتِمَال الْمَشَاقِّ فِي امْتِثَال أَمْرِ اللَّهِ، فَكَانَ هَذَا التَّذَكُّرُ بَاعِثًا لَنَا عَلَى مِثْل ذَلِكَ، وَمُقَرِّرًا فِي أَنْفُسِنَا تَعْظِيمَ الأَْوَّلِينَ، وَذَلِكَ مَعْنًى مَعْقُولٌ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ السَّعْيَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ اقْتِدَاءٌ بِفِعْل هَاجَرَ، وَأَنَّ رَمْيَ الْجِمَارِ اقْتِدَاءٌ بِفِعْل إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِذْ رَمَى إِبْلِيسَ بِالْجِمَارِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ (1) .
وَابْنُ الْقَيِّمِ فِي إِعْلاَمِ الْمُوَقِّعِينَ، سَيْرًا عَلَى خُطَى شَيْخِهِ شَيْخِ الإِِْسْلاَمِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ رَأَى كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الشَّرِيعَةِ تَعَبُّدٌ مَحْضٌ، وَرَدَّ كُل مَا قِيل فِيهِ: إِنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْقِيَاسِ، كَفَرْضِ الصَّاعِ فِي لَبَنِ الْمُصَرَّاةِ الْمَرْدُودَةِ عَلَى بَائِعِهَا، وَمَا قِيل مِنْ أَنَّ الشَّرِيعَةَ فَرَّقَتْ بَيْنَ الْمُتَسَاوِيَاتِ، كَأَمْرِهَا بِالْغُسْل مِنْ بَوْل الْجَارِيَةِ وَبِالنَّضْحِ مِنْ بَوْل الصَّبِيِّ، وَسَوَّتْ بَيْنَ الْمُفْتَرِقَاتِ، كَتَسْوِيَتِهَا بَيْنَ الْخَطَأِ وَالْعَمْدِ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ. فَعَلَّل كُل
__________
(1) إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام لابن دقيق العيد 2 / 75.(12/209)
مَا قِيل فِيهِ ذَلِكَ، وَبَيَّنَ وَجْهَ الْحِكْمَةِ فِيهِ، وَأَنَّ عِلَّتَهُ مَعْقُولَةٌ، وَيُوَافِقُ الْقِيَاسَ وَلاَ يُخَالِفُهُ، وَأَطَال فِي ذَلِكَ (1) .
مَا تَكُونُ فِيهِ التَّعَبُّدِيَّاتُ، وَأَمْثِلَةٌ مِنْهَا:
15 - يَذْكُرُ بَعْضُ الأُْصُولِيِّينَ أَنَّ التَّعَبُّدِيَّاتِ أَكْثَرُ مَا تَكُونُ فِي أُصُول الْعِبَادَاتِ، كَاشْتِرَاعِ أَصْل الصَّلاَةِ أَوِ الصَّوْمِ أَوِ الاِعْتِكَافِ. وَفِي نَصْبِ أَسْبَابِهَا، كَزَوَال الشَّمْسِ لِصَلاَةِ الظُّهْرِ، وَغُرُوبِهَا لِصَلاَةِ الْمَغْرِبِ. وَفِي الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ. وَفِي التَّقْدِيرَاتِ الْعَدَدِيَّةِ بِوَجْهٍ عَامٍّ، كَتَقْدِيرِ أَعْدَادِ الرَّكَعَاتِ، وَتَقْدِيرِ عَدَدِ الْجَلَدَاتِ فِي الْحُدُودِ، وَتَقْدِيرِ أَعْدَادِ الشُّهُودِ.
وَذَكَرَ الشَّاطِبِيُّ مِنْ أَمْثِلَةِ وُقُوعِهَا فِي الْعَادَاتِ: طَلَبُ الصَّدَاقِ فِي النِّكَاحِ، وَتَخْصِيصُ الذَّبْحِ بِمَحَلٍّ مَخْصُوصٍ، وَالْفُرُوضُ الْمُقَدَّرَةُ فِي الْمَوَارِيثِ، وَعَدَدُ الأَْشْهُرِ فِي عِدَّةِ الطَّلاَقِ وَعِدَّةِ الْوَفَاةِ (2) .
وَمِنْ أَمْثِلَتِهَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ حَدِيثُ: «نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتَوَضَّأَ الرَّجُل بِفَضْل طَهُورِ الْمَرْأَةِ» (3) .
__________
(1) إعلام الموقعين: 2 / 3 - 50، 74.
(2) الموافقات للشاطبي 2 / 307، 308، وشرح جمع الجوامع 2 / 206.
(3) حديث: " نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يتوضأ بفضل. . . " أخرجه أحمد (5 / 66 ط. المكتب الإسلامي) . وأبو داود (1 / 63 ط عبيد الدعاس) . وقال ابن حجر: إسناده صحيح. (سبل السلام 1 / 49 ط دار الكتاب العربي)(12/209)
قَال صَاحِبُ الْمُغْنِي: مَنْعُ الرَّجُل مِنِ اسْتِعْمَال فَضْلَةِ طَهُورِ الْمَرْأَةِ تَعَبُّدِيٌّ غَيْرُ مَعْقُول الْمَعْنَى، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، وَلِذَلِكَ يُبَاحُ لاِمْرَأَةٍ سِوَاهَا التَّطَهُّرُ بِهِ فِي طَهَارَةِ الْحَدَثِ وَغَسْل النَّجَاسَةِ وَغَيْرِهَا؛ لأَِنَّ النَّهْيَ اخْتَصَّ بِالرَّجُل، وَلَمْ يُعْقَل مَعْنَاهُ، فَيَجِبُ قَصْرُهُ عَلَى مَحَل النَّهْيِ. وَهَل يَجُوزُ لِلرَّجُل غَسْل النَّجَاسَةِ بِهِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لاَ يَجُوزُ وَهُوَ قَوْل الْقَاضِي.
وَالثَّانِي: يَجُوزُ وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لأَِنَّهُ مَاءٌ يُطَهِّرُ الْمَرْأَةَ مِنَ الْحَدَثِ وَالنَّجَاسَةِ، فَيُزِيل النَّجَاسَةَ إِِذَا فَعَلَهُ الرَّجُل كَسَائِرِ الْمِيَاهِ. وَالْحَدِيثُ لاَ تُعْقَل عِلَّتُهُ، فَيُقْتَصَرُ عَلَى مَا وَرَدَ بِهِ لَفْظُهُ - (1) أَيِ التَّطَهُّرُ مِنَ الْحَدَثِ لاَ غَيْرُ.
الأَْصْل فِي الأَْحْكَامِ مِنْ حَيْثُ التَّعْلِيل أَوِ التَّعَبُّدُ:
16 - اخْتَلَفَ الأُْصُولِيُّونَ هَل الأَْصْل فِي الأَْحْكَامِ التَّعْلِيل أَوْ عَدَمُهُ؟ فَذَهَبَ الْبَعْضُ إِِلَى الأَْوَّل، فَلاَ تُعَلَّل الأَْحْكَامُ إِلاَّ بِدَلِيلٍ. قَالُوا: لأَِنَّ النَّصَّ مُوجِبٌ بِصِيغَتِهِ لاَ بِالْعِلَّةِ. وَنُسِبَ إِِلَى الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ الأَْصْل التَّعْلِيل بِوَصْفٍ، لَكِنْ لاَ بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ يُمَيِّزُهُ مِنْ غَيْرِهِ. قَال فِي التَّلْوِيحِ: وَالْمَشْهُورُ بَيْنَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّ الأَْصْل فِي الأَْحْكَامِ التَّعَبُّدُ دُونَ التَّعْلِيل. قَال: وَالْمُخْتَارُ: أَنَّ الأَْصْل فِي
__________
(1) المغني 1 / 216 ط الثالثة.(12/210)
النُّصُوصِ التَّعْلِيل، وَأَنَّهُ لاَ بُدَّ - أَيْ لِصِحَّةِ الْقِيَاسِ - مِنْ دَلِيلٍ يُمَيِّزُ الْوَصْفَ الَّذِي هُوَ عِلَّةٌ، وَمَعَ ذَلِكَ لاَ بُدَّ قَبْل التَّعْلِيل وَالتَّمْيِيزُ مِنْ دَلِيلٍ يَدُل عَلَى أَنَّ هَذَا الْوَصْفَ الَّذِي يُرِيدُ اسْتِخْرَاجَ عِلَّتِهِ مُعَلَّلٌ فِي الْجُمْلَةِ (1) .
وَذَهَبَ الشَّاطِبِيُّ إِِلَى أَنَّ الأَْمْرَ فِي ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بَيْنَ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلاَتِ، قَال: الأَْصْل فِي الْعِبَادَاتِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُكَلَّفِ التَّعَبُّدُ، دُونَ الاِلْتِفَاتِ إِِلَى الْمَعَانِي، وَالأَْصْل فِي الْعَادَاتِ الاِلْتِفَاتُ إِِلَى الْمَعَانِي.
17 - فَأَمَّا أَنَّ الأَْصْل فِي الْعِبَادَاتِ التَّعَبُّدُ، فَيَدُل لَهُ أُمُورٌ مِنْهَا:
الاِسْتِقْرَاءُ. فَالصَّلَوَاتُ خُصَّتْ بِأَفْعَالٍ مَخْصُوصَةٍ عَلَى هَيْئَاتٍ مَخْصُوصَةٍ إِنْ خَرَجَتْ عَنْهَا لَمْ تَكُنْ عِبَادَاتٍ، وَوَجَدْنَا الذِّكْرَ فِي هَيْئَةٍ مَا مَطْلُوبًا، وَفِي هَيْئَةٍ أُخْرَى غَيْرَ مَطْلُوبٍ، وَأَنَّ طَهَارَةَ الْحَدَثِ مَخْصُوصَةٌ بِالْمَاءِ الطَّهُورِ، وَإِِنْ أَمْكَنَتِ النَّظَافَةُ بِغَيْرِهِ، وَأَنَّ التَّيَمُّمَ - وَلَيْسَتْ فِيهِ نَظَافَةٌ حِسِّيَّةٌ - يَقُومُ مَقَامَ الطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ الْمُطَهِّرِ. وَهَكَذَا سَائِرُ الْعِبَادَاتِ كَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَغَيْرِهِمَا، وَإِِنَّمَا فَهِمْنَا مِنْ حِكْمَةِ التَّعَبُّدِ الْعَامَّةِ الاِنْقِيَادُ لأَِوَامِرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا الْمِقْدَارُ لاَ يُعْطِي عِلَّةً خَاصَّةً يُفْهَمُ مِنْهَا حُكْمٌ خَاصٌّ، فَعَلِمْنَا أَنَّ
__________
(1) شرح التلويح على التوضيح لسعد الدين التفتازاني 2 / 376 المطبعة الخيرية، وشفاء الغليل للغزالي ص 200.(12/210)
الْمَقْصُودَ الشَّرْعِيَّ الأَْوَّل التَّعَبُّدُ لِلَّهِ بِذَلِكَ الْمَحْدُودِ، وَأَنَّ غَيْرَهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ شَرْعًا.
وَمِنْهَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمَقْصُودُ التَّوْسِعَةَ فِي التَّعَبُّدِ بِمَا حُدَّ وَمَا لَمْ يُحَدَّ، لَنَصَبَ الشَّارِعُ عَلَيْهِ دَلِيلاً وَاضِحًا، وَلَمَّا لَمْ نَجِدْ ذَلِكَ كَذَلِكَ - بَل عَلَى خِلاَفِهِ - دَل عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ الْوُقُوفُ عِنْدَ ذَلِكَ الْمَحْدُودِ، إِلاَّ أَنْ يَتَبَيَّنَ بِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ مَعْنًى مُرَادٌ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ، فَلاَ لَوْمَ عَلَى مَنِ اتَّبَعَهُ. لَكِنَّ ذَلِكَ قَلِيلٌ، فَلَيْسَ بِأَصْلٍ، وَإِِنَّمَا الأَْصْل مَا عَمَّ فِي الْبَابِ وَغَلَبَ عَلَى الْمَوْضِعِ.
18 - ثُمَّ قَال الشَّاطِبِيُّ: وَأَمَّا إِنَّ الأَْصْل فِي الْعَادَاتِ الاِلْتِفَاتُ إِِلَى الْمَعَانِي فَلأُِمُورٍ:
الأَْوَّل: الاِسْتِقْرَاءُ، فَنَرَى الشَّيْءَ الْوَاحِدَ يُمْنَعُ فِي حَالٍ لاَ تَكُونُ فِيهِ مَصْلَحَةٌ، فَإِِذَا كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ جَازَ كَالدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمِ إِِلَى أَجَلٍ: تَمْتَنِعُ فِي الْمُبَايَعَةِ، وَيَجُوزُ فِي الْقَرْضِ. وَكَبَيْعِ الرُّطَبِ مِنْ جِنْسٍ بِيَابِسِهِ. يَمْتَنِعُ حَيْثُ يَكُونُ مُجَرَّدَ غَرَرٍ وَرِبًا مِنْ غَيْرِ مَصْلَحَةٍ، وَيَجُوزُ إِِذَا كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ (كَمَا فِي تَمْرِ الْعَرَايَا أُبِيحَ بَيْعُهُ بِالتَّمْرِ تَوْسِعَةً عَلَى النَّاسِ) ، وَلِتَعْلِيل النُّصُوصِ أَحْكَامُ الْعَادَاتِ بِالْمَصْلَحَةِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} (1) وَفِي آيَةِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ
__________
(1) سورة البقرة / 179.(12/211)
عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَل أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (1) وَفِي حَدِيثٍ: لاَ يَقْضِي الْقَاضِي بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ (2) وَنَحْوُ ذَلِكَ.
وَالثَّانِي: أَنَّ أَكْثَرَ مَا عَلَّل اللَّهُ تَعَالَى فِي الْعَادَاتِ بِالْمُنَاسِبِ الَّذِي إِِذَا عُرِضَ عَلَى الْعُقُول تَلَقَّتْهُ بِالْقَبُول، فَفَهِمْنَا مِنْ ذَلِكَ أَنَّ قَصْدَ الشَّارِعِ فِيهَا اتِّبَاعُ الْمَعَانِي، لاَ الْوُقُوفُ مَعَ النُّصُوصِ. بِخِلاَفِ الْعِبَادَاتِ، فَإِِنَّ الْمَعْلُومَ فِيهَا خِلاَفُ ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا تَوَسَّعَ مَالِكٌ حَتَّى قَال بِقَاعِدَةِ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ، وَالاِسْتِحْسَانِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ الاِلْتِفَاتَ إِِلَى الْمَعَانِي فِي أُمُورِ الْعَادَاتِ كَانَ مَعْلُومًا فِي الْفَتَرَاتِ، وَاعْتَمَدَ عَلَيْهِ الْعُقَلاَءُ، حَتَّى جَرَتْ بِذَلِكَ مَصَالِحُهُمْ، سَوَاءٌ أَهْل الْحِكْمَةِ الْفَلْسَفِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ. إِلاَّ أَنَّهُمْ قَصَّرُوا فِي جُمْلَةٍ مِنَ التَّفَاصِيل، فَجَاءَتِ الشَّرِيعَةُ لِتُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَْخْلاَقِ. وَمِنْ هُنَا أَقَرَّتِ الشَّرِيعَةُ جُمْلَةً مِنَ الأَْحْكَامِ الَّتِي كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، كَالدِّيَةِ، وَالْقَسَامَةِ، وَالْقِرَاضِ، وَكِسْوَةِ الْكَعْبَةِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ مِمَّا كَانَ مِنْ مَحَاسِنِ الْعَوَائِدِ وَمَكَارِمِ الأَْخْلاَقِ الَّتِي تَقْبَلُهَا الْعُقُول (3) .
__________
(1) سورة المائدة / 91.
(2) حديث: " لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان " أخرجه البخاري (فتح الباري 13 / 136 ط السلفية) بلفظ: (لا يقضين) ولفظ الباب لابن ماجه (2 / 776 ط عيسى الحلبي) .
(3) الموافقات 2 / 300 - 306.(12/211)
الْمُفَاضَلَةُ بَيْنَ التَّعَبُّدِيِّ وَمَعْقُول الْمَعْنَى:
19 - نَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنْ صَاحِبِ الْفَتَاوَى التُّمُرْتَاشِيَّةَ أَنَّهُ قَال: لَمْ أَقِفْ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لِعُلَمَائِنَا فِي هَذَا، سِوَى قَوْلِهِمْ: الأَْصْل فِي النُّصُوصِ التَّعْلِيل، فَإِِنَّهُ يُشِيرُ إِِلَى أَفْضَلِيَّةِ الْمَعْقُول مَعْنَاهُ. قَال: وَوَقَفْتُ عَلَى ذَلِكَ فِي فَتَاوَى ابْنِ حَجَرٍ، قَال: قَضِيَّةُ كَلاَمِ ابْنِ عَبْدِ السَّلاَمِ أَنَّ التَّعَبُّدِيَّ أَفْضَل؛ لأَِنَّهُ بِمَحْضِ الاِنْقِيَادِ، بِخِلاَفِ مَا ظَهَرَتْ عِلَّتُهُ، فَإِِنَّ مُلاَبِسَهُ قَدْ يُفْعَل لِتَحْصِيل فَائِدَتِهِ، وَخَالَفَهُ الْبُلْقِينِيُّ فَقَال: لاَ شَكَّ أَنَّ مَعْقُول الْمَعْنَى مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ أَفْضَل؛ لأَِنَّ أَكْثَرَ الشَّرِيعَةِ كَذَلِكَ (1) .
وَظَاهِرُ كَلاَمِ الشَّاطِبِيِّ الأَْخْذُ بِقَوْل مَنْ يَقُول: إِنَّ التَّعَبُّدِيَّ أَفْضَل، وَذَلِكَ حَيْثُ قَال: إِنَّ التَّكَالِيفَ إِِذَا عُلِمَ قَصْدُ الْمَصْلَحَةِ فِيهَا فَلِلْمُكَلَّفِ فِي الدُّخُول تَحْتَهَا ثَلاَثَةُ أَحْوَالٍ:
الأَْوَّل: أَنْ يَقْصِدَ بِهَا مَا فُهِمَ مِنْ مَقْصِدِ الشَّارِعِ فِي شَرْعِهَا. وَهَذَا لاَ إِشْكَال فِيهِ، وَلَكِنْ لاَ يَنْبَغِي أَنْ يُخَلِّيَهُ مِنْ قَصْدِ التَّعَبُّدِ، فَكَمْ مِمَّنْ فَهِمَ الْمَصْلَحَةَ فَلَمْ يَلْوِ عَلَى غَيْرِهَا، فَغَابَ عَنْ أَمْرِ الآْمِرِ بِهَا. وَهِيَ غَفْلَةٌ تُفَوِّتُ خَيْرَاتٍ كَثِيرَةً، بِخِلاَفِ مَا إِِذَا لَمْ يُهْمَل التَّعَبُّدَ. ثُمَّ إِنَّ الْمَصَالِحَ لاَ يَقُومُ دَلِيلٌ عَلَى انْحِصَارِهَا فِيمَا عُلِمَ إِلاَّ نَادِرًا، فَإِِذَا لَمْ يَثْبُتِ الْحَصْرُ كَانَ قَصْدُ تِلْكَ الْحِكْمَةِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 301.(12/212)
الْمُعَيَّنَةِ رُبَّمَا أَسْقَطَ مَا هُوَ مَقْصُودٌ أَيْضًا مِنْ شَرْعِ الْحُكْمِ.
الثَّانِي: أَنْ يُقْصَدَ بِهَا مَا عَسَى أَنْ يَقْصِدَهُ الشَّارِعُ، مِمَّا اطَّلَعَ عَلَيْهِ أَوْ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ.
وَهَذَا أَكْمَل مِنَ الْقَصْدِ الأَْوَّل، إِلاَّ أَنَّهُ رُبَّمَا فَاتَهُ النَّظَرُ إِِلَى التَّعَبُّدِ.
الثَّالِثُ: أَنْ يُقْصَدَ مُجَرَّدُ امْتِثَال الأَْمْرِ، فُهِمَ قَصْدُ الْمَصْلَحَةِ أَوْ لَمْ يُفْهَمْ.
قَال: فَهَذَا أَكْمَل وَأَسْلَمُ.
أَمَّا كَوْنُهُ أَكْمَل فَلأَِنَّهُ نَصَبَ نَفْسَهُ عَبْدًا مُؤْتَمَرًا وَمَمْلُوكًا مُلَبِّيًا، إِذْ لَمْ يَعْتَبِرْ إِلاَّ مُجَرَّدَ الأَْمْرِ. وَقَدْ وُكِّل الْعِلْمُ بِالْمَصْلَحَةِ إِِلَى الْعَالِمِ بِهَا جُمْلَةً وَتَفْصِيلاً وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَأَمَّا كَوْنُهُ أَسْلَمَ؛ فَلأَِنَّ الْعَامِل بِالاِمْتِثَال عَامِلٌ بِمُقْتَضَى الْعُبُودِيَّةِ، فَإِِنْ عَرَضَ لَهُ قَصْدٌ غَيْرَ اللَّهِ رَدَّهُ قَصْدُ التَّعَبُّدِ (1) .
فَهَذَا الَّذِي قَالَهُ يَتَجَلَّى فِي التَّعَبُّدِيَّاتِ أَكْثَرَ مِمَّا يَظْهَرُ فِيمَا كَانَ مَعْقُول الْمَعْنَى مِنَ الأَْحْكَامِ.
وَمَذْهَبُ الْغَزَالِيِّ فِي ذَلِكَ أَيْضًا أَنَّ التَّعَبُّدِيَّ أَفْضَل، كَمَا هُوَ وَاضِحٌ فِيمَا تَقَدَّمَ النَّقْل عَنْهُ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ مَا لاَ يُهْتَدَى لِمَعَانِيهِ أَبْلَغُ أَنْوَاعِ التَّعَبُّدَاتِ فِي تَزْكِيَةِ النُّفُوسِ (2) .
وَفِي حَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ: أَنَّ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ فِي الأَْفْضَلِيَّةِ هُمَا عَلَى سَبِيل الإِِْجْمَال، أَمَّا بِالنَّظَرِ
__________
(1) الموافقات 2 / 373، 474.
(2) إحياء علوم الدين بحاشية شرح الزبيدي 4 / 444.(12/212)
إِِلَى الْجُزَيْئَاتِ، فَقَدْ يَكُونُ التَّعَبُّدِيُّ أَفْضَل كَالْوُضُوءِ وَغُسْل الْجَنَابَةِ، فَإِِنَّ الْوُضُوءَ أَفْضَل. وَقَدْ يَكُونُ الْمَعْقُول أَفْضَل كَالطَّوَافِ وَالرَّمْيِ، فَإِِنَّ الطَّوَافَ أَفْضَل (1) .
خَصَائِصُ التَّعَبُّدِيَّاتِ:
20 - مِنْ أَحْكَامِ التَّعَبُّدِيَّاتِ:
أ - أَنَّهُ لاَ يُقَاسُ عَلَيْهَا؛ لأَِنَّ الْقِيَاسَ فَرْعُ مَعْرِفَةِ الْعِلَّةِ، وَالْفَرْضُ: أَنَّ التَّعَبُّدِيَّ لَمْ تُعْرَفْ عِلَّتُهُ، فَيَمْتَنِعُ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ، وَلاَ يَتَعَدَّى حُكْمُهُ مَوْضِعَهُ، سَوَاءٌ أَكَانَ مُسْتَثْنًى مِنْ قَاعِدَةٍ عَامَّةٍ وَلاَ يُعْقَل مَعْنَى الاِسْتِثْنَاءِ، كَتَخْصِيصِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنِكَاحِ تِسْعِ نِسْوَةٍ، وَتَخْصِيصِ أَبِي بُرْدَةَ بِالتَّضْحِيَةِ بِعَنَاقٍ، أَمْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، بَل كَانَ حُكْمًا مُبْتَدَأً، كَتَقْدِيرِ أَعْدَادِ الرَّكَعَاتِ، وَوُجُوبِ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَمَقَادِيرِ الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ وَأَجْنَاسِهَا، وَجَمِيعُ التَّحَكُّمَاتِ الْمُبْتَدَأَةِ الَّتِي لاَ يَنْقَدِحُ فِيهَا مَعْنًى، فَلاَ يُقَاسُ عَلَيْهَا غَيْرُهَا. (2)
21 - وَبِنَاءً عَلَى هَذَا الأَْصْل وَقَعَ الْخِلاَفُ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي فُرُوعٍ فِقْهِيَّةٍ، مِنْهَا: رَجْمُ اللُّوطِيِّ، رَفَضَهُ الْحَنَفِيَّةُ، وَأَثْبَتَهُ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ
__________
(1) رد المحتار 1 / 300.
(2) شرح جمع الجوامع وحاشية البناني 2 / 218، والمستصفى 2 / 326 - 328، 347، وشرح مسلم الثبوت 2 / 250، والمعتمد لأبي الحسين 1 / 795، وإرشاد الفحول للشوكاني ص 222، 223.(12/213)
وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ. قَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ يَجْرِي الْقِيَاسُ فِي الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ؛ لأَِنَّ الْحُدُودَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى تَقْدِيرَاتٍ لاَ تُعْرَفُ، كَعَدَدِ الْمِائَةِ فِي حَدِّ الزِّنَى، وَالثَّمَانِينَ فِي الْقَذْفِ، فَإِِنَّ الْعَقْل لاَ يُدْرِكُ الْحِكْمَةَ فِي اعْتِبَارِ خُصُوصِ هَذَا الْعَدَدِ، قَالُوا: وَمَا كَانَ يُعْقَل مِنْهَا - أَيْ مِنْ أَحْكَامِ الْحُدُودِ - فَإِِنَّ الشُّبْهَةَ فِي الْقِيَاسِ لاِحْتِمَالِهِ الْخَطَأَ تُوجِبُ عَدَمَ إِثْبَاتِهِ بِالْقِيَاسِ، وَهَذَا كَقَطْعِ يَدِ السَّارِقِ لِكَوْنِهَا جَنَتْ بِالسَّرِقَةِ فَقُطِعَتْ. وَهَكَذَا اخْتِلاَفُ تَقْدِيرَاتِ الْكَفَّارَاتِ، فَإِِنَّهُ لاَ يُعْقَل كَمَا لاَ تُعْقَل أَعْدَادُ الرَّكَعَاتِ.
وَأَجَازَ غَيْرُ الْحَنَفِيَّةِ الْقِيَاسَ فِي الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ، لَكِنْ فِيمَا يُعْقَل مَعْنَاهُ مِنْ أَحْكَامِهَا لاَ فِيمَا لاَ يُعْقَل مِنْهَا، كَمَا فِي غَيْرِ الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ. (1)
ب - قَال الشَّاطِبِيُّ: إِنَّ التَّعَبُّدِيَّاتِ مَا كَانَ مِنْهَا مِنَ الْعِبَادَاتِ فَلاَ بُدَّ فِيهِ مِنْ نِيَّةٍ كَالطَّهَارَةِ، وَالصَّلاَةِ، وَالصَّوْمِ. وَمَنْ لَمْ يَشْتَرِطِ النِّيَّةَ فِي بَعْضِهَا فَإِِنَّهُ يَبْنِي عَلَى كَوْنِ ذَلِكَ الْبَعْضِ مَعْقُول الْمَعْنَى، فَحُكْمُهُ كَمَا لَوْ كَانَ مِنْ أُمُورِ الْعَادَاتِ. أَمَّا صَوْمُ رَمَضَانَ وَالنَّذْرُ الْمُعَيَّنُ، فَلَمْ يَشْتَرِطِ الْحَنَفِيَّةُ لَهُمَا تَبْيِيتَ النِّيَّةِ وَلاَ التَّعْيِينَ، وَوَجْهُ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ: أَنَّهُ لَوْ نَوَى غَيْرَهُمَا فِي وَقْتِهِمَا انْصَرَفَ إِلَيْهِمَا، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْكَفَّ عَنِ الْمُفْطِرَاتِ قَدِ
__________
(1) الموافقات 2 / 329.(12/213)
اسْتَحَقَّهُ الْوَقْتُ، فَلاَ يَنْصَرِفُ لِغَيْرِهِ، وَلاَ يَصْرِفُهُ عَنْهُ قَصْدٌ سِوَاهُ.
وَمِنْ هَذَا مَا قَال الْحَنَابِلَةُ فِي غَسْل الْقَائِمِ مِنْ نَوْمِ اللَّيْل يَدَهُ قَبْل إِدْخَالِهَا الإِِْنَاءَ: إِنَّهُ تَعَبُّدِيٌّ، فَتُعْتَبَرُ لَهُ النِّيَّةُ الْخَاصَّةُ، وَلاَ يُجْزِئُ عَنْ غَسْلِهِمَا نِيَّةُ الْوُضُوءِ أَوِ الْغُسْل؛ لأَِنَّهُمَا عِبَادَةٌ مُفْرَدَةٌ. (1)
__________
(1) كشاف القناع 1 / 91. الرياض، المكتبة الحديثة.(12/214)
تَعْبِيرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّعْبِيرُ لُغَةً: التَّبْيِينُ. يُقَال: عَبَّرَ عَمَّا فِي نَفْسِهِ: أَيْ أَعْرَبَ وَبَيَّنَ وَيُقَال لِمَنْ أَعْرَبَ عَنْ عَيِيٍّ: عَبَّرَ عَنْهُ. وَاللِّسَانُ يُعَبِّرُ عَمَّا فِي الضَّمِيرِ: أَيْ يُبَيِّنُ. وَالاِسْمُ: الْعِبْرَةُ وَالْعِبَارَةُ وَالْعِبَارَةُ. وَخَصَّهُ أَبُو الْبَقَاءِ الْكَفَوِيُّ بِتَعْبِيرِ الرُّؤْيَا، وَهُوَ: الْعُبُورُ مِنْ ظَوَاهِرِهَا إِِلَى بَوَاطِنِهَا وَاسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لَهُ لاَ يَخْرُجُ عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ. (1)
طُرُقُ التَّعْبِيرِ:
2 - هُنَاكَ أَكْثَرُ مِنْ طَرِيقٍ لِلتَّعْبِيرِ عَنِ الإِِْرَادَةِ، فَقَدْ يَكُونُ بِالْقَوْل، وَقَدْ يَكُونُ بِالْفِعْل، وَقَدْ يَكُونُ بِالسُّكُوتِ أَوِ الضَّحِكِ وَالْبُكَاءِ. وَالْفِعْل: إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِالْمُعَاطَاةِ، أَوْ بِالْكِتَابَةِ، أَوْ بِالإِِْشَارَةِ.
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير مادة " عبر "، والكليات كلمة " تعبير " 2 / 103.(12/214)
أَوَّلاً: التَّعْبِيرُ بِالْقَوْل:
3 - الأَْصْل فِي التَّعْبِيرِ عَنِ الإِِْرَادَةِ: أَنْ يَكُونَ بِالْقَوْل؛ لأَِنَّهُ مِنْ أَوْضَحِ الدَّلاَلاَتِ عَلَى تِلْكَ الإِِْرَادَةِ؛ وَلأَِنَّ الرِّضَا أَوْ عَدَمَهُ أَمْرٌ خَفِيٌّ قَلْبِيٌّ، لاَ اطِّلاَعَ لَنَا عَلَيْهِ، فَنِيطَ الْحُكْمُ بِسَبَبٍ ظَاهِرٍ وَهُوَ الْقَوْل، لِذَلِكَ كَانَتِ الصِّيغَةُ أَوِ الإِِْيجَابُ وَالْقَبُول رُكْنًا فِي جَمِيعِ الْعُقُودِ، سَوَاءٌ كَانَتْ تِلْكَ الْعُقُودُ مُعَاوَضَاتٍ: كَالْبَيْعِ وَالإِِْجَارَةِ، أَوْ تَبَرُّعَاتٍ: كَالْهِبَةِ وَالإِِْعَارَةِ، أَوِ اسْتِيثَاقَاتٍ: كَالرَّهْنِ، أَوْ مَا تَكُونُ تَبَرُّعًا ابْتِدَاءً وَمُعَاوَضَةً انْتِهَاءً: كَالْقَرْضِ، أَوْ غَيْرِهَا مِنَ الْعُقُودِ كَالشَّرِكَةِ وَالْوَكَالَةِ وَالنِّكَاحِ وَالطَّلاَقِ. (1)
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (صِيغَةٌ)
ثَانِيًا: التَّعْبِيرُ بِالْفِعْل:
4 - تَظْهَرُ صُورَةُ التَّعْبِيرِ بِالْفِعْل وَاضِحَةً فِي الْمُعَاطَاةِ، وَذَلِكَ فِي بَيْعِ الْمُعَاطَاةِ أَوِ التَّعَاطِي. وَصُورَتُهُ: أَنْ يَدْفَعَ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ وَيَأْخُذَ الْمَبِيعَ مِنْ غَيْرِ إِيجَابٍ وَلاَ قَبُولٍ قَوْلِيَّيْنِ. وَهُوَ مَوْضِعُ خِلاَفٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ:
__________
(1) ابن عابدين 2 / 262 وما بعدها، 415، 4 / 5 وما بعدها، 171، 339، 483، 502، 508، 5 / 3، والقوانين الفقهية ص 200، 232، 250، 371، 378، ومغني المحتاج 2 / 3 وما بعدها 117، 217، 121، 222، 264، 310، 232، 397، وكشاف القناع 3 / 146، 312، 314، 322، 461، 508، 547، 4 / 62، 298 و 5 / 37.(12/215)
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَالْمُتَوَلِّي وَالْبَغَوِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ) إِِلَى صِحَّتِهِ وَانْعِقَادِهِ بِتِلْكَ الصُّورَةِ؛ لأَِنَّ الْفِعْل يَدُل عَلَى الرِّضَا عُرْفًا. وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْبَيْعِ إِنَّمَا هُوَ أَخْذُ مَا فِي يَدِ غَيْرِهِ بِعِوَضٍ يَرْضَاهُ، فَلاَ يُشْتَرَطُ الْقَوْل، وَيَكْفِي الْفِعْل بِالْمُعَاطَاةِ.
وَذَهَبَ أَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ: إِِلَى أَنَّ الْبَيْعَ لاَ يَنْعَقِدُ بِالْمُعَاطَاةِ، لأَِنَّ الْفِعْل لاَ يَدُل بِوَضْعِهِ عَلَى التَّرَاضِي، فَالْمَقْبُوضُ بِهَا كَالْمَقْبُوضِ بِبَيْعٍ فَاسِدٍ، فَيُطَالِبُ كُلٌّ صَاحِبَهُ بِمَا دَفَعَ إِلَيْهِ إِنْ بَقِيَ، أَوْ بِبَدَلِهِ إِنْ تَلِفَ.
وَخَصَّ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ (كَابْنِ سُرَيْجٍ وَالرُّويَانِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْكَرْخِيِّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ) جَوَازَ بَيْعِ الْمُعَاطَاةِ بِالْمُحَقَّرَاتِ، وَهِيَ مَا جَرَتِ الْعَادَةُ فِيهَا بِالْمُعَاطَاةِ، كَرِطْل خُبْزٍ وَحُزْمَةِ بَقْلٍ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ بِصِحَّةِ بَيْعِ الْمُعَاطَاةِ، بِشَرْطِ عَدَمِ تَأْخِيرِ الْقَبْضِ لِلطَّالِبِ فِي نَحْوِ: خُذْ هَذَا بِدِرْهَمٍ، أَوْ عَدَمِ تَأْخِيرِ الإِِْقْبَاضِ لِلطَّلَبِ نَحْوِ: أَعْطِنِي بِهَذَا الدِّرْهَمِ خُبْزًا لأَِنَّهُ إِِذَا اعْتُبِرَ عَدَمُ التَّأْخِيرِ فِي الإِِْيجَابِ وَالْقَبُول اللَّفْظِيِّ، فَاعْتِبَارُ عَدَمِ التَّأْخِيرِ فِي الْمُعَاطَاةِ أَوْلَى.
قَال الْبُهُوتِيُّ: وَظَاهِرُهُ أَنَّ التَّأْخِيرَ فِي الْمُعَاطَاةِ مُبْطِلٌ، وَلَوْ كَانَ بِالْمَجْلِسِ وَلَمْ يَتَشَاغَلاَ بِمَا يَقْطَعُهُ لِضَعْفِهَا عَنِ الصِّيغَةِ الْقَوْلِيَّةِ.
وَاعْتَبَرَ الْمَالِكِيَّةُ التَّقَابُضَ فِي الْمُعَاطَاةِ شَرْطَ لُزُومٍ، فَمَنْ أَخَذَ رَغِيفًا مِنْ شَخْصٍ وَدَفَعَ لَهُ(12/215)
ثَمَنَهُ، فَلاَ يَجُوزُ لَهُ رَدُّهُ وَأَخْذُ بَدَلِهِ، لِلشَّكِّ فِي التَّمَاثُل. بِخِلاَفِ مَا لَوْ أَخَذَ رَغِيفًا وَلَمْ يَدْفَعْ ثَمَنَهُ، فَيَجُوزُ لَهُ رَدُّهُ وَأَخْذُ بَدَلِهِ؛ لِعَدَمِ لُزُومِ الْبَيْعِ.
وَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ: الإِِْقَالَةَ، وَالإِِْجَارَةَ - إِنْ عُلِمَتِ الأُْجْرَةُ - وَالصَّرْفَ، وَالْهِبَةَ، وَالْهَدِيَّةَ، وَنَحْوَهَا. تَصِحُّ وَتَنْعَقِدُ بِالتَّعَاطِي، وَنَصُّوا كَذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْقَبُول فِي الْعَارِيَّةِ يَصِحُّ بِالْفِعْل كَالتَّعَاطِي، وَأَمَّا الإِِْيجَابُ فَلاَ يَصِحُّ بِهِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: كُل إِشَارَةٍ فُهِمَ مِنْهَا الإِِْيجَابُ وَالْقَبُول لَزِمَ بِهَا الْبَيْعُ وَسَائِرُ الْعُقُودِ، وَنَصُّوا عَلَى أَنَّ الشَّرِكَةَ تَنْعَقِدُ بِالْفِعْل الدَّال عَلَيْهَا كَمَا لَوْ خَلَطَا مَالَيْهِمَا وَبَاعَا.
وَتَمَسَّكَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَصْلِهِمْ، وَهُوَ: عَدَمُ صِحَّةِ الْعَقْدِ بِالْمُعَاطَاةِ فِي سَائِرِ الْعُقُودِ. إِلاَّ الْعَارِيَّةَ، فَإِِنَّهَا تَصِحُّ عِنْدَهُمْ بِلَفْظٍ مِنْ أَحَدِهِمَا مَعَ فِعْلٍ مِنَ الآْخَرِ، وَلاَ يَكْفِي الْفِعْل مِنَ الطَّرَفَيْنِ إِلاَّ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ، كَمَنِ اشْتَرَى شَيْئًا وَسَلَّمَهُ لَهُ فِي ظَرْفٍ، فَالظَّرْفُ مُعَارٌ فِي الأَْصَحِّ. وَاخْتَارَ النَّوَوِيُّ صِحَّةَ الْهِبَةِ بِالْمُعَاطَاةِ.
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى انْعِقَادِ الإِِْجَارَةِ وَالْمُضَارَبَةِ وَالإِِْقَالَةِ وَالْعَارِيَّةِ وَالْوَكَالَةِ وَالْهِبَةِ بِالْفِعْل كَالتَّعَاطِي، وَذَلِكَ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ الْمَعْنَى، فَجَازَ بِكُل مَا يَدُل عَلَيْهِ. (1)
__________
(1) ابن عابدين 4 / 11 وما بعدها، 502، 508 و 5 / 3 وما بعدها، وحاشية الدسوقي 3 / 3، ومواهب الجليل 4 / 228، 5 / 133، 6 / 53، ومغني المحتاج 2 / 3 وما بعدها، 118، 121، 308، 313، 333، 266، وكشاف القناع 3 / 148 وما بعدها، 250، 462، 508، 555، 4 / 62، 298.(12/216)
ثَالِثًا: التَّعْبِيرُ بِالْكِتَابَةِ:
5 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى صِحَّةِ الْعُقُودِ وَانْعِقَادِهَا بِالْكِتَابَةِ، وَيُعْتَبَرُ فِي الْقَبُول أَنْ يَكُونَ فِي مَجْلِسِ بُلُوغِ الْكِتَابِ، لِيَقْتَرِنَ بِالإِِْيجَابِ بِقَدْرِ الإِِْمْكَانِ.
وَجَعَل الشَّافِعِيَّةُ الْكِتَابَةَ مِنْ بَابِ الْكِنَايَةِ، فَتَنْعَقِدُ بِهَا الْعُقُودُ مَعَ النِّيَّةِ. (1)
وَاسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ عَقْدَ النِّكَاحِ، فَلاَ يَنْعَقِدُ بِالْكِتَابَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) . وَأَجَازَهُ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْغَائِبِ دُونَ الْحَاضِرِ، (2) بِشَرْطِ إِعْلاَمِ الشُّهُودِ بِمَا فِي الْكِتَابِ.
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ أَيْضًا عَلَى وُقُوعِ الطَّلاَقِ بِالْكِتَابَةِ، لأَِنَّ الْكِتَابَةَ حُرُوفٌ يُفْهَمُ مِنْهَا الطَّلاَقُ، فَأَشْبَهَتِ النُّطْقَ؛ وَلأَِنَّ الْكِتَابَةَ تَقُومُ مَقَامَ قَوْل الْكَاتِبِ، بِدَلِيل أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مَأْمُورًا بِتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ، فَبَلَّغَ بِالْقَوْل مَرَّةً، وَبِالْكِتَابَةِ أُخْرَى.
وَالْكِتَابَةُ الَّتِي يَقَعُ بِهَا الطَّلاَقُ إِنَّمَا هِيَ الْكِتَابَةُ
__________
(1) ابن عابدين 4 / 10، وحاشية الدسوقي 3 / 3، ومغني المحتاج 2 / 5، وكشاف القناع 3 / 148، والأشباه والنظائر لابن نجيم 339، والأشباه والنظائر للسيوطي 308. # (2) ابن عابدين 2 / 365، ومواهب الجليل 3 / 419، ومغني المحتاج 3 / 141، وكشاف القناع 5 / 39.
(2) ابن عابدين 2 / 365، ومواهب الجليل 3 / 419، ومغني المحتاج 3 / 141، وكشاف القناع 5 / 39.(12/216)
الْمُسْتَبِينَةِ، كَالْكِتَابَةِ عَلَى الصَّحِيفَةِ وَالْحَائِطِ وَالأَْرْضِ، عَلَى وَجْهٍ يُمْكِنُ فَهْمُهُ وَقِرَاءَتُهُ. وَأَمَّا الْكِتَابَةُ غَيْرُ الْمُسْتَبِينَةِ كَالْكِتَابَةِ عَلَى الْهَوَاءِ وَالْمَاءِ وَشَيْءٍ لاَ يُمْكِنُ فَهْمُهُ وَقِرَاءَتُهُ، فَلاَ يَقَعُ بِهَا الطَّلاَقُ، لأَِنَّ هَذِهِ الْكِتَابَةَ بِمَنْزِلَةِ الْهَمْسِ بِلِسَانِهِ بِمَا لاَ يُسْمَعُ. وَاعْتَبَرَ الشَّافِعِيَّةُ الْكِتَابَةَ بِالطَّلاَقِ مِنْ بَابِ الْكِنَايَةِ، فَتَفْتَقِرُ إِِلَى نِيَّةٍ مِنَ الْكَاتِبِ، وَقَصَرَ الْحَنَفِيَّةُ النِّيَّةَ عَلَى الْكِتَابَةِ الْمُسْتَبِينَةِ غَيْرِ الْمَرْسُومَةِ (أَيْ أَنْ لاَ يَكُونَ الْكِتَابُ مُصَوَّرًا وَمُعَنْوَنًا) .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِنْ كَتَبَ طَلاَقَهَا بِالصَّرِيحِ وَقَعَ وَإِِنْ لَمْ يَنْوِهِ. وَإِِنْ كَتَبَهُ بِالْكِنَايَةِ فَهُوَ كِنَايَةٌ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنْ كَتَبَهُ عَازِمًا عَلَى الطَّلاَقِ بِكِتَابَتِهِ فَيَقَعُ بِمُجَرَّدِ فَرَاغِهِ مِنْ كِتَابَةِ: هِيَ طَالِقٌ. وَمِثْلُهُ: لَوْ كَتَبَ: إِِذَا جَاءَكَ كِتَابِي فَأَنْتِ طَالِقٌ. وَعِنْدَهُمْ قَوْلٌ ثَانٍ: بِأَنْ يُوقَفَ الطَّلاَقُ عَلَى وُصُول الْكِتَابِ، وَقَوَّاهُ الدُّسُوقِيُّ لِتَضَمُّنِ " إِِذَا " مَعْنَى الشَّرْطِ.
وَإِِنْ كَتَبَهُ مُسْتَشِيرًا أَوْ مُتَرَدِّدًا فَلاَ يَقَعُ الطَّلاَقُ، إِلاَّ إِِذَا أَخْرَجَهُ عَازِمًا، أَوْ أَخْرَجَهُ وَلاَ نِيَّةَ لَهُ فَيَقَعُ الطَّلاَقُ بِمُجَرَّدِ إِخْرَاجِهِ. وَأَمَّا إِِذَا أَخْرَجَهُ - وَهُوَ كَذَلِكَ - مُتَرَدِّدًا أَوْ مُسْتَشِيرًا، أَوْ لَمْ يُخْرِجْهُ، فَإِِمَّا أَنْ يَصِل إِلَيْهَا، وَإِِمَّا أَنْ لاَ يَصِل إِلَيْهَا، فَإِِنْ وَصَل إِلَيْهَا حَنِثَ وَإِِلاَّ فَلاَ. وَأَمَّا إِنْ كَتَبَهُ وَلاَ نِيَّةَ لَهُ أَصْلاً حِينَ الْكِتَابَةِ فَيَلْزَمُهُ(12/217)
الطَّلاَقُ، لِحَمْلِهِ عَلَى الْعَزْمِ عِنْدَ ابْنِ رُشْدٍ خِلاَفًا لِلَّخْمِيِّ. (1)
رَابِعًا: التَّعْبِيرُ بِالإِِْشَارَةِ:
6 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ إِشَارَةَ الأَْخْرَسِ الْمُفْهِمَةِ تَقُومُ مَقَامَ اللَّفْظِ فِي سَائِرِ الْعُقُودِ لِلضَّرُورَةِ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ يَدُل عَلَى مَا فِي فُؤَادِهِ، كَمَا يَدُل عَلَيْهِ النُّطْقُ مِنَ النَّاطِقِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي إِشَارَةِ غَيْرِ الأَْخْرَسِ. فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) إِِلَى عَدَمِ اعْتِبَارِهَا فِي الْعُقُودِ. وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِِلَى أَنَّ إِشَارَةَ النَّاطِقِ مُعْتَبَرَةٌ كَنُطْقِهِ - قَالُوا - وَهِيَ أَوْلَى بِالْجَوَازِ مِنَ الْمُعَاطَاةِ - لأَِنَّهَا يُطْلَقُ عَلَيْهَا أَنَّهَا كَلاَمٌ. قَال اللَّهُ تَعَالَى: {آيَتُكَ أَنْ لاَ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا} (2) وَالرَّمْزُ: الإِِْشَارَةُ. (3)
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ (إِشَارَةٌ) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 428، وحاشية الدسوقي 2 / 384، ومواهب الجليل 4 / 58، ومغني المحتاج 3 / 284، وكشاف القناع 5 / 248.
(2) سورة آل عمران / 41.
(3) حاشية ابن عابدين 2 / 9، وحاشية الدسوقي 2 / 3، ومواهب الجليل 4 / 58، 229، ومغني المحتاج 2 / 7، 3 / 284، وحاشية الجمل 3 / 11، وكشاف القناع 3 / 364، 6 / 453، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 312، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص 343 وما بعدها.(12/217)
خَامِسًا: التَّعْبِيرُ بِالسُّكُوتِ:
7 - اعْتَبَرَ الْفُقَهَاءُ سُكُوتَ الْبِكْرِ الْبَالِغَةِ الْعَاقِلَةِ تَعْبِيرًا عَنْ رِضَاهَا بِالنِّكَاحِ، لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُول اللَّهِ. إِنَّ الْبِكْرَ تَسْتَحِي. قَال: رِضَاهَا صُمَاتُهَا (1) وَأَخْرَجَ الإِِْمَامُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ: الأَْيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا، وَالْبِكْرُ تُسْتَأْمَرُ، وَإِِذْنُهَا سُكُوتُهَا (2)
وَأَلْحَقُوا بِالسُّكُوتِ الضَّحِكَ وَالْبُكَاءَ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْيَتِيمَةُ تُسْتَأْمَرُ فِي نَفْسِهَا، فَإِِنْ صَمَتَتْ فَهُوَ إِذْنُهَا، وَإِِنْ أَبَتْ فَلاَ جَوَازَ عَلَيْهَا (3) وَلأَِنَّهَا غَيْرُ نَاطِقَةٍ بِالاِمْتِنَاعِ مَعَ سَمَاعِهَا لِلاِسْتِئْذَانِ، فَكَانَ ذَلِكَ إِذْنًا مِنْهَا.
وَلَمْ يَعْتَبِرِ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ الْبُكَاءَ إِنْ كَانَ مَعَ الصِّيَاحِ وَالصَّوْتِ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ يُشْعِرُ بِعَدَمِ الرِّضَا.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ عُلِمَ مِنْ بُكَائِهَا أَنَّهُ مَنْعٌ لَمْ تُزَوَّجْ.
وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ الضَّحِكِ إِنْ كَانَ بِاسْتِهْزَاءٍ؛ لأَِنَّ الضَّحِكَ إِنَّمَا جُعِل إِذْنًا
__________
(1) حديث: " رضاها صماتها ". أخرجه البخاري (الفتح 9 / 191 - ط السلفية) .
(2) حديث: " الأيم أحق بنفسها. . . ". أخرجه مسلم (2 / 1037 ط الحلبي) .
(3) حديث: " اليتيمة تستأمر في نفسها، فإن صمتت. . . " أخرجه الترمذي (3 / 408 ط الحلبي) وقال: حديث حسن.(12/218)
لِدَلاَلَتِهِ عَلَى الرِّضَا، فَإِِذَا لَمْ يَدُل عَلَى الرِّضَا لَمْ يَكُنْ إِذْنًا.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلاً عَنِ الْفَتْحِ: وَالْمُعَوَّل اعْتِبَارُ قَرَائِنِ الأَْحْوَال فِي الْبُكَاءِ وَالضَّحِكِ، فَإِِنْ تَعَارَضَتْ أَوْ أَشْكَل احْتِيطَ. (1)
وَثَمَّةَ تَفْصِيلاَتٌ وَاسْتِثْنَاءَاتٌ تَفْصِيلُهَا فِي (النِّكَاحِ)
تَعْبِيرُ الرُّؤْيَا
انْظُرْ: رُؤْيَا
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 299، وحاشية الدسوقي 2 / 227 وما بعدها، ومغني المحتاج 3 / 150، وكشاف القناع 5 / 46، 47، والأشباه والنظائر لابن نجيم 154 وما بعدها، والأشباه والنظائر للسيوطي 142، 143.(12/218)
تَعْجِيزٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّعْجِيزُ لُغَةً: مَصْدَرُ عَجَّزَ. يُقَال: عَجَّزْتُهُ تَعْجِيزًا: إِِذَا جَعَلْتَهُ عَاجِزًا، وَعَجَّزَ فُلاَنٌ رَأْيَ فُلاَنٍ: إِِذَا نَسَبَهُ إِِلَى خِلاَفِ الْحَزْمِ، كَأَنَّهُ نَسَبَهُ إِِلَى الْعَجْزِ وَهُوَ لاَ يَخْرُجُ فِي الاِصْطِلاَحِ الْفِقْهِيِّ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ: نِسْبَةُ الشَّخْصِ إِِلَى الْعَجْزِ. (1)
وَلَكِنَّ الْفُقَهَاءَ لَمْ يَسْتَعْمِلُوا هَذَا اللَّفْظَ إِلاَّ فِي حَالَتَيْنِ:
الأُْولَى: تَعْجِيزُ الْمُكَاتَبِ.
وَالأُْخْرَى: تَعْجِيزُ الْقَاضِي أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ عَنْ إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ.
وَفِيمَا يَلِي بَيَانُ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ إِجْمَالاً:
أَوَّلاً: تَعْجِيزُ الْمُكَاتَبِ:
2 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْكِتَابَةَ عَقْدٌ لاَزِمٌ مِنْ جَانِبِ السَّيِّدِ، وَهُوَ: أَنْ يَتَعَاقَدَ السَّيِّدُ مَعَ عَبْدِهِ. أَوْ أَمَتِهِ عَلَى أَنْ يُؤَدِّيَ إِلَيْهِ كَذَا مِنَ الْمَال مُنَجَّزًا، أَوْ مُؤَجَّلاً، وَيَكُونُ حُرًّا. فَلاَ يَمْلِكُ فَسْخَهَا،
__________
(1) لسان العرب، مادة: " عجز "، وتبصرة الحكام ص 144.(12/219)
وَلاَ يَجُوزُ تَعْجِيزُ الْمُكَاتَبِ قَبْل عَجْزِ الْمُكَاتَبِ عَنْ أَدَاءِ مَا عَلَيْهِ.
أَمَّا إِنْ حَل النَّجْمُ (الْقِسْطُ) فَلِلسَّيِّدِ مُطَالَبَتُهُ بِمَا حَل مِنْ نُجُومِهِ؛ لأَِنَّهُ حَقٌّ لَهُ.
فَإِِنْ عَجَزَ الْمُكَاتَبُ عَنْهَا، فَهَل يَحِقُّ لِلسَّيِّدِ فَسْخُ الْكِتَابَةِ وَتَعْجِيزُ الْمُكَاتَبِ أَمْ لاَ؟ .
ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: إِِلَى أَنَّ لِلسَّيِّدِ أَنْ يَفْسَخَ الْكِتَابَةَ بِنَفْسِهِ، دُونَ الرُّجُوعِ إِِلَى الْحَاكِمِ أَوِ السُّلْطَانِ، إِِذَا عَجَزَ الْمُكَاتَبُ عَنْ أَدَاءِ مَا عَلَيْهِ بَعْدَ حُلُول النَّجْمِ، لِفِعْل ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ذَلِكَ.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ: أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، إِلاَّ عَنْ طَرِيقِ الْحَاكِمِ أَوِ السُّلْطَانِ. (1)
3 - وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ كَذَلِكَ - وَهُمْ: الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ - إِِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُكَاتَبِ أَنْ يُعَجِّزَ نَفْسَهُ. كَأَنْ يَقُول: أَنَا عَاجِزٌ عَنْ كِتَابَتِي، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَجُوزُ لِلسَّيِّدِ الصَّبْرُ أَوِ الْفَسْخُ، إِمَّا عَنْ طَرِيقِ الْحَاكِمِ أَوْ بِنَفْسِهِ. كَمَا أَنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يُعَجِّزَهُ إِِذَا طَلَبَ ذَلِكَ السَّيِّدُ أَوْ وَرَثَتُهُ، بَعْدَ حُلُول النَّجْمِ وَعَدَمِ الْوَفَاءِ بِمَا كُوتِبَ عَلَيْهِ.
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَيَرَوْنَ: أَنَّهُ لَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يُعَجِّزَ
__________
(1) البدائع 4 / 159، جواهر الإكليل 2 / 309، ومغني المحتاج 4 / 530، والمغني لابن قدامة 9 / 468.(12/219)
نَفْسَهُ إِِذَا كَانَ مُقْتَدِرًا؛ لأَِنَّ عَقْدَ الْكِتَابَةِ عِنْدَهُمْ لاَزِمٌ مِنَ الطَّرَفَيْنِ.
وَالتَّفَاصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (كِتَابَةٌ) .
ثَانِيًا: عَجْزُ الْمُدَّعِي أَوِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ:
4 - أَكْثَرُ مَنِ اسْتَعْمَل مِنَ الْفُقَهَاءِ لَفْظَ التَّعْجِيزِ هُمُ الْمَالِكِيَّةُ، حَيْثُ ذَهَبُوا: إِِلَى أَنَّهُ إِِذَا انْقَضَتِ الآْجَال الَّتِي ضَرَبَهَا الْقَاضِي لِلْمُدَّعِي لإِِِحْضَارِ بَيِّنَتِهِ، وَفَتْرَةُ التَّلَوُّمِ، وَلَمْ يَأْتِ الشَّخْصُ الْمُؤَجَّل بِشَيْءٍ يُوجِبُ لَهُ نَظِرَةً، عَجَّزَهُ الْقَاضِي، وَأَنْفَذَ الْقَضَاءَ عَلَيْهِ، وَسَجَّل، وَقَطَعَ بِذَلِكَ تَبِعَتَهُ عَنْ خَصْمِهِ، ثُمَّ لاَ يُسْمَعُ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ حُجَّةً، وَلاَ تُقْبَل مِنْهُ بَيِّنَةٌ إِنْ أَتَى بِهَا، سَوَاءٌ أَكَانَ مُدَّعِيًا أَمْ مُدَّعًى عَلَيْهِ. (1)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِِلَى أَنَّ الْمُدَّعِيَ يُمْهَل إِِذَا طَلَبَ مُهْلَةً لإِِِحْضَارِ الْبَيِّنَةِ، وَيُتْرَكُ مَا تُرِكَ؛ لأَِنَّهُ هُوَ الطَّالِبُ لِلْحَقِّ.
أَمَّا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَلاَ يُمْهَل أَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ، ثُمَّ يُحْكَمُ بِتَعْجِيزِهِ، وَيَسْقُطُ حَقُّهُ فِي الْحَلِفِ، ثُمَّ يَحْلِفُ الْمُدَّعِي فَيُحْكَمُ لَهُ.
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَيَرَوْنَ: أَنَّ الْقَاضِيَ يَحْكُمُ لِلْمُدَّعِي عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِنَفْسِ النُّكُول، بَعْدَ أَنْ يُكَرِّرَ عَلَيْهِ الْيَمِينَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ. (2) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) تبصرة الحكام 1 / 141، والقوانين الفقهية 308.
(2) البدائع 6 / 224، والمجموع التكملة 20 / 158، والمغني لابن قدامة 9 / 79.(12/220)
الْبَيِّنَةُ عَلَى مَنِ ادَّعَى، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ. (1)
وَالتَّفَاصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (دَعْوَى) .
__________
(1) حديث: " البينة على من ادعى واليمين على من أنكر " هذا الحديث جزء من حديث أخرجه البيهقي (10 / 252 ط دار المعارف) أوله " لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال أموال قوم ودماءهم، ولكن البينة. . . إلخ ". (فتح الباري 5 / 283 ط السلفية) . وحسن ابن حجر إسناد الحديث.(12/220)
تَعْجِيلٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّعْجِيل: مَصْدَرُ عَجَّل. وَهُوَ فِي اللُّغَةِ: الاِسْتِحْثَاثُ، وَطَلَبُ الْعَجَلَةِ، وَهِيَ: السُّرْعَةُ. وَيُقَال: عَجَّلْتُ إِلَيْهِ الْمَال: أَسْرَعْتُ إِلَيْهِ، فَتَعَجَّلَهُ: فَأَخَذَهُ بِسُرْعَةٍ وَهُوَ فِي الشَّرْعِ: الإِِْتْيَانُ بِالْفِعْل قَبْل الْوَقْتِ الْمُحَدَّدِ لَهُ شَرْعًا، كَتَعْجِيل الزَّكَاةِ، أَوْ فِي أَوَّل الْوَقْتِ، كَتَعْجِيل الْفِطْرِ. (1)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الإِِْسْرَاعُ:
2 - الإِِْسْرَاعُ: مَصْدَرُ أَسْرَعَ، وَالسُّرْعَةُ: اسْمٌ مِنْهُ، وَهِيَ نَقِيضُ الْبُطْءِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الإِِْسْرَاعِ وَالتَّعْجِيل كَمَا قَال الْعَسْكَرِيُّ: إِنَّ السُّرْعَةَ التَّقَدُّمُ فِيمَا يَنْبَغِي أَنْ يُتَقَدَّمَ فِيهِ، وَهِيَ مَحْمُودَةٌ، وَنَقِيضُهَا مَذْمُومٌ، وَهُوَ: الإِِْبْطَاءُ. وَالْعَجَلَةُ التَّقَدُّمُ فِيمَا لاَ يَنْبَغِي أَنْ يَتَقَدَّمَ فِيهِ، وَهِيَ مَذْمُومَةٌ، وَنَقِيضُهَا مَحْمُودٌ، وَهُوَ: الأَْنَاةُ. فَأَمَّا قَوْله تَعَالَى
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير مادة: " عجل ". انظر مصطلح: (تأخير) .(12/221)
{وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} (1) فَإِِنَّ ذَلِكَ بِمَعْنَى: أَسْرَعْتُ. (2)
الْحُكْمُ الإِِْجْمَالِيُّ:
3 - التَّعْجِيل مَشْرُوعٌ فِي مَوَاضِعَ: كَتَعْجِيل تَجْهِيزِ الْمَيِّتِ، وَقَضَاءِ الدَّيْنِ. وَغَيْرُ مَشْرُوعٍ فِي مَوَاضِعَ: كَتَعْجِيل الصَّلاَةِ قَبْل وَقْتِهَا.
وَالْمَشْرُوعُ مِنْهُ تَارَةً يَكُونُ وَاجِبًا: كَتَعْجِيل التَّوْبَةِ مِنَ الذَّنْبِ. وَتَارَةً يَكُونُ مَنْدُوبًا: كَتَعْجِيل الْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ. وَتَارَةً يَكُونُ مُبَاحًا: كَتَعْجِيل الْكَفَّارَاتِ، وَتَارَةً يَكُونُ مَكْرُوهًا أَوْ خِلاَفَ الأَْوْلَى: كَتَعْجِيل إِخْرَاجِ الزَّكَاةِ قَبْل الْحَوْل.
وَغَيْرُ الْمَشْرُوعِ: مِنْهُ مَا يَكُونُ بَاطِلاً، كَتَعْجِيل الصَّلاَةِ قَبْل وَقْتِهَا.
أَنْوَاعُ التَّعْجِيل
أَوَّلاً: التَّعْجِيل بِالْفِعْل عِنْدَ وُجُودِ سَبَبِهِ
أ - التَّعْجِيل بِالتَّوْبَةِ مِنَ الذَّنْبِ:
4 - تَجِبُ التَّوْبَةُ عَلَى كُل مُكَلَّفٍ عَلَى الْفَوْرِ عُقَيْبَ الذَّنْبِ. وَقَدْ دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِِجْمَاعِ الأُْمَّةِ. قَال اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ
__________
(1) سورة طه / 84.
(2) لسان العرب والمصباح المنير مادة: " سرع " والفروق في اللغة لأبي هلاك العسكري ص 198.(12/221)
بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} (1) وقَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} (2)
وَنَقَل الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُ: الإِِْجْمَاعَ عَلَى وُجُوبِ تَعْجِيل التَّوْبَةِ، وَأَنَّهَا عَلَى الْفَوْرِ. (3)
ب - التَّعْجِيل بِتَجْهِيزِ الْمَيِّتِ:
5 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ الإِِْسْرَاعُ بِتَجْهِيزِ الْمَيِّتِ إِِذَا تُيُقِّنَ مَوْتُهُ، لِمَا ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا عَادَ طَلْحَةُ بْنُ الْبَرَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال: إِنِّي لاَ أَرَى طَلْحَةَ إِلاَّ قَدْ حَدَثَ فِيهِ الْمَوْتُ، فَآذِنُونِي بِهِ، وَعَجِّلُوا، فَإِِنَّهُ لاَ يَنْبَغِي لِجِيفَةِ مُسْلِمٍ أَنْ تُحْبَسَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ أَهْلِهِ. (4) وَالصَّارِفُ عَنْ وُجُوبِ التَّعْجِيل: الاِحْتِيَاطُ لِلرُّوحِ؛ لاِحْتِمَالِهِ الإِِْغْمَاءَ وَنَحْوَهُ. وَفِي الْحَدِيثِ أَسْرِعُوا بِالْجِنَازَةِ، فَإِِنْ تَكُ صَالِحَةً فَخَيْرٌ
__________
(1) سورة النساء / 17.
(2) سورة الأعراف / 201.
(3) حاشية العدوي 1 / 68، والفواكه الدواني 1 / 89، وتفسير القرطبي 5 / 90، 18 / 197 ط دار الكتب المصرية، وإحياء علوم الدين 4 / 7 ط مطبعة الاستقامة بالقاهرة، ودليل الفالحين 1 / 78 وما بعدها.
(4) حديث: " إني لا أرى طلحة إلا وقد حدث فيه الموت. . . " أخرجه أبو داود (3 / 511 - تحقيق عزت عبيد دعاس) واستغربه البغوي كما في مختصر المنذري (4 / 304 - ط دار إحياء السنة النبوية) وذلك لجهالة بعض رواته.(12/222)
تُقَدِّمُونَهَا إِلَيْهِ، وَإِِنْ يَكُ سِوَى ذَلِكَ فَشَرٌّ تَضَعُونَهُ عَنْ رِقَابِكُمْ. (1)
وَيُنْدَبُ تَأْخِيرُ مَنْ مَاتَ فَجْأَةً أَوْ غَرَقًا. (2)
ج - التَّعْجِيل بِقَضَاءِ الدَّيْنِ:
6 - يَجِبُ تَعْجِيل الْوَفَاءِ بِالدَّيْنِ عِنْدَ اسْتِحْقَاقِهِ وَيَحْرُمُ عَلَى الْقَادِرِ الْمَطْل فِيهِ. فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَطْل الْغَنِيِّ ظُلْمٌ، فَإِِنْ أُتْبِعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ أَيْ فَإِِنْ أُحِيل عَلَى مُوسِرٍ فَلْيَقْبَل الْحَوَالَةَ. (3)
قَال ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ: الْمَعْنَى: أَنَّهُ مِنَ الظُّلْمِ، وَأَطْلَقَ ذَلِكَ لِلْمُبَالَغَةِ فِي التَّنْفِيرِ عَنِ الْمَطْل، وَالْمُرَادُ مِنَ الْمَطْل هُنَا: تَأْخِيرُ مَا اسْتُحِقَّ أَدَاؤُهُ بِغَيْرِ عُذْرٍ. (4)
د - التَّعْجِيل بِإِِعْطَاءِ أُجْرَةِ الأَْجِيرِ:
7 - ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال أَعْطُوا الأَْجِيرَ أَجْرَهُ قَبْل أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ (5)
__________
(1) حديث: " أسرعوا بالجنازة فإن تك صالحة. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 3 / 183 - ط السلفية) ومسلم (2 / 652 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 572، والفواكه الدواني 1 / 330، ومغني المحتاج 1 / 332، وشرح روض الطالب 1 / 298، 299، وكشاف القناع 2 / 84.
(3) حديث: " مطل الغني ظلم، فإذا اتبع. . . " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 464 - ط السلفية) .
(4) فتح الباري 4 / 465 ط رئاسة إدارة البحوث بالسعودية، وتحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي 4 / 535 ط المكتبة السلفية.
(5) حديث: " أعطوا الأجير أجره. . . " أخرجه ابن ماجه (2 / 817 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وحسنه المناوي في الفيض (1 / 563 - ط المكتبة التجارية) .(12/222)
وَالأَْمْرُ بِإِِعْطَائِهِ قَبْل جَفَافِ عَرَقِهِ إِنَّمَا هُوَ كِنَايَةٌ عَنْ وُجُوبِ الْمُبَادَرَةِ عَقِبَ فَرَاغِ الْعَمَل، إِِذَا طَلَبَ، وَإِِنْ لَمْ يَعْرَقْ، أَوْ عَرِقَ وَجَفَّ. وَذَلِكَ لأَِنَّ أَجْرَهُ عِمَالَةُ جَسَدِهِ، وَقَدْ عَجَّل مَنْفَعَتَهُ، فَإِِذَا عَجَّلَهَا اسْتَحَقَّ التَّعْجِيل. وَمِنْ شَأْنِ الْبَاعَةِ: إِِذَا سَلَّمُوا قَبَضُوا الثَّمَنَ عِنْدَ التَّسْلِيمِ، فَهُوَ أَحَقُّ وَأَوْلَى، إِذْ كَانَ ثَمَنَ مُهْجَتِهِ، لاَ ثَمَنَ سِلْعَتِهِ، فَيَحْرُمُ مَطْلُهُ وَالتَّسْوِيفُ بِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ. (1)
هـ - التَّعْجِيل بِتَزْوِيجِ الْبِكْرِ:
8 - اسْتَحَبَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ التَّعْجِيل بِإِِنْكَاحِ الْبِكْرِ إِِذَا بَلَغَتْ، لِحَدِيثِ: يَا عَلِيُّ: ثَلاَثٌ لاَ تُؤَخِّرُهَا: الصَّلاَةُ إِِذَا أَتَتْ، وَالْجِنَازَةُ إِِذَا حَضَرَتْ، وَالأَْيِّمُ إِِذَا وَجَدَتْ لَهَا كُفُؤًا (2) وَاسْتَثْنَوْا ذَلِكَ مِنْ ذَمِّ الْعَجَلَةِ، وَأَنَّهَا مِنَ الشَّيْطَانِ. (3)
__________
(1) فيض القدير شرح الجامع الصغير 1 / 562 ط المكتبة التجارية الكبرى بمصر.
(2) حديث: " يا علي، ثلاث لا تؤخرها الصلاة إذا أتت، والجنازة إذا حضرت، والأيم إذا وجدت لها كفؤا " أخرجه الترمذي (3 / 378 - ط الحلبي) وقال: هذا حديث غريب وما أرى إسناده بمتصل. وجهل ابن حجر أحد رواته كما في التلخيص (3 / 186 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(3) الفواكه الدواني 1 / 330.(12/223)
و - التَّعْجِيل بِالإِِْفْطَارِ فِي رَمَضَانَ:
9 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ: عَلَى أَنَّ تَعْجِيل الْفِطْرِ مِنَ السُّنَّةِ، لِقَوْل الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ يَزَال النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ (1) وَلِحَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ تَزَال أُمَّتِي بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ، وَأَخَّرُوا السُّحُورَ. (2)
وَإِِنَّمَا يُسَنُّ لَهُ التَّعْجِيل: إِِذَا تَحَقَّقَ مِنْ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَعَدَمِ الشَّكِّ فِيهِ؛ لأَِنَّهُ إِِذَا شَكَّ فِي الْغُرُوبِ حَرُمَ عَلَيْهِ الْفِطْرُ اتِّفَاقًا، وَأَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ تَعْجِيل الْفِطْرِ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ. (3)
ز - تَعْجِيل الْحَاجِّ بِالنَّفْرِ مِنْ مِنًى:
10 - يَجُوزُ لِلْحَاجِّ التَّعَجُّل فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ الرَّمْيِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ تَعَجَّل فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} (4) وَلِمَا رَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَعْمُرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: أَيَّامُ مِنًى ثَلاَثٌ، فَمَنْ
__________
(1) حديث: " لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر. . . " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 198 - ط السلفية) ومسلم (2 / 771 - ط الحلبي) من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه.
(2) حديث: " لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الفطر وأخروا السحور " أخرجه أحمد (5 / 172 ط الميمنية) من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه، وقال الهيثمي: فيه سليمان بن أبي عثمان، قال أبو حاتم: مجهول.
(3) حاشية ابن عابدين 2 / 114، مواهب الجليل 2 / 397، ومغني المحتاج 1 / 434، وكشاف القناع 2 / 331.
(4) سورة البقرة / 203.(12/223)
تَعَجَّل فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ، وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ (1) وَشَرْطُ جَوَازِهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) أَنْ يَخْرُجَ الْحَاجُّ مِنْ مِنًى قَبْل الْغُرُوبِ، فَيَسْقُطُ عَنْهُ رَمْيُ الْيَوْمِ الثَّالِثِ، فَإِِنْ لَمْ يَخْرُجْ حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ لَزِمَهُ الْمَبِيتُ بِمِنًى، وَرَمَى الْيَوْمَ الثَّالِثَ. وَذَلِكَ لأَِنَّ الْيَوْمَ اسْمٌ لِلنَّهَارِ، فَمَنْ أَدْرَكَهُ اللَّيْل فَمَا تَعَجَّل فِي يَوْمَيْنِ، وَثَبَتَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال " مَنْ غَرَبَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَهُوَ بِمِنًى، فَلاَ يَنْفِرَنْ، حَتَّى يَرْمِيَ الْجِمَارَ مِنْ أَوْسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ (2)
وَلَمْ يُفَرِّقِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي هَذَا الشَّرْطِ بَيْنَ الْمَكِّيِّ وَالآْفَاقِيِّ، وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ: إِِلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا، وَخَصُّوا شَرْطَ التَّعْجِيل بِالْمُتَعَجِّل مِنْ أَهْل مَكَّةَ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِهَا فَلاَ يُشْتَرَطُ خُرُوجُهُ مِنْ مِنًى قَبْل الْغُرُوبِ مِنَ الْيَوْمِ الثَّانِي، وَإِِنَّمَا يُشْتَرَطُ نِيَّةُ الْخُرُوجِ قَبْل الْغُرُوبِ مِنَ الْيَوْمِ الثَّانِي.
وَلَمْ يَشْتَرِطِ الْحَنَفِيَّةُ ذَلِكَ، وَقَالُوا: لَهُ أَنْ يَنْفِرَ بَعْدَ الْغُرُوبِ مَعَ الْكَرَاهَةِ، مَا لَمْ يَطْلُعْ فَجْرُ الْيَوْمِ الثَّالِثِ، وَذَلِكَ لأَِنَّهُ لَمْ يَدْخُل الْيَوْمُ الآْخَرُ، فَجَازَ
__________
(1) حديث: " أيام منى ثلاث، فمن تعجل في يومين. . . " أخرجه أبو داود (2 / 486 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والحاكم (1 / 464 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه ووافقه الذهبي.
(2) الأثر: " عن ابن عمر. . . " أخرجه مالك (1 / 407 - ط الحلبي) وإسناده صحيح.(12/224)
لَهُ النَّفْرُ، كَمَا قَبْل الْغُرُوبِ.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَهْل مَكَّةَ هَل يَنْفِرُونَ النَّفْرَ الأَْوَّل؟ فَقِيل: لَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ. فَقَدْ ثَبَتَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: مَنْ شَاءَ مِنَ النَّاسِ كُلِّهِمْ أَنْ يَنْفِرُوا فِي النَّفْرِ الأَْوَّل، إِلاَّ آل خُزَيْمَةَ، فَلاَ يَنْفِرُونَ إِلاَّ فِي النَّفْرِ الآْخَرِ. وَكَانَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ يَقُول: لاَ يُعْجِبُنِي لِمَنْ نَفَرَ النَّفْرَ الأَْوَّل أَنْ يُقِيمَ بِمَكَّةَ، وَقَال: أَهْل مَكَّةَ أَخَفُّ، وَجَعَل أَحْمَدُ مَعْنَى قَوْل عُمَرَ (إِلاَّ آل خُزَيْمَةَ) أَيْ: أَنَّهُمْ أَهْل الْحَرَمِ، وَحَمَلَهُ فِي الْمُغْنِي عَلَى الاِسْتِحْبَابِ، مُحَافَظَةً عَلَى الْعُمُومِ. وَكَانَ مَالِكٌ يَقُول فِي أَهْل مَكَّةَ مَنْ كَانَ لَهُ عُذْرٌ فَلَهُ أَنْ يَتَعَجَّل فِي يَوْمَيْنِ، فَإِِنْ أَرَادَ التَّخْفِيفَ عَنْ نَفْسِهِ مِمَّا هُوَ فِيهِ مِنْ أَمْرِ الْحَجِّ فَلاَ، فَرَأَى أَنَّ التَّعْجِيل لِمَنْ بَعُدَ قُطْرُهُ. وَقَال أَكْثَرُ أَهْل الْعِلْمِ: الآْيَةُ عَلَى الْعُمُومِ، وَالرُّخْصَةُ لِجَمِيعِ النَّاسِ، أَهْل مَكَّةَ وَغَيْرِهِمْ، سَوَاءٌ أَرَادَ الْخَارِجُ مِنْ مِنًى الْمُقَامَ بِمَكَّةَ، أَوِ الشُّخُوصَ إِِلَى بَلَدِهِ.
11 - وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الأَْفْضَلِيَّةِ بَيْنَ التَّعْجِيل وَالتَّأْخِيرِ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ (الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) : إِِلَى أَنَّ تَأْخِيرَ النَّفْرِ إِِلَى الثَّالِثِ أَفْضَل، لِلاِقْتِدَاءِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ: إِِلَى أَنَّهُ لاَ تَفْضِيل بَيْنَ التَّعْجِيل وَالتَّأْخِيرِ، بَل هُمَا مُسْتَوِيَانِ.
وَنَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى كَرَاهَةِ التَّعْجِيل لِلإِِْمَامِ، لأَِجْل مَنْ يَتَأَخَّرُ.(12/224)
وَأَمَّا ثَمَرَةُ التَّعْجِيل فَهِيَ سُقُوطُ رَمْيِ الْيَوْمِ الثَّالِثِ، وَمَبِيتُ لَيْلَتِهِ عَنْهُ. (1)
ثَانِيًا: تَعْجِيل الْفِعْل قَبْل وُجُوبِهِ
أ - التَّعْجِيل بِالصَّلاَةِ قَبْل الْوَقْتِ:
12 - أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ: عَلَى أَنَّ لِكُل صَلاَةٍ مِنَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَقْتًا مُحَدَّدًا، لاَ يَجُوزُ إِخْرَاجُهَا عَنْهُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} (2) أَيْ: مُحَتَّمَةً مُؤَقَّتَةً: وَلِحَدِيثِ الْمَوَاقِيتِ الْمَشْهُورِ.
وَقَدْ رَخَّصَ الشَّارِعُ فِي تَعْجِيل الصَّلاَةِ قَبْل وَقْتِهَا فِي حَالاَتٍ، مِنْهَا:
(1) جَمْعُ الْحَاجِّ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمْعَ تَقْدِيمٍ فِي عَرَفَةَ.
(2) جَوَازُ الْجَمْعِ لِلْمُسَافِرِ بَيْنَ الْعَصْرَيْنِ (الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ) وَالْعِشَاءَيْنِ (الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ) تَقْدِيمًا عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، خِلاَفًا لِلْحَنَفِيَّةِ.
(3) جَوَازُ الْجَمْعِ لِلْمَرِيضِ، جَمْعَ تَقْدِيمٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
(4) جَوَازُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ تَقْدِيمًا، لأَِجْل
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 185، وحاشية الدسوقي 2 / 49، ومغني المحتاج 1 / 506، وكشاف القناع 2 / 511، والمغني لابن قدامة 3 / 454، 455، والإنصاف 4 / 49، المبدع في شرح المقنع 3 / 254، 255، وتفسير القرطبي 3 / 12، 13 ط دار الكتب المصرية.
(2) سورة النساء / 103.(12/225)
الْمَطَرِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرْدِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ جَوَازَهُ بَيْنَ الْعَصْرَيْنِ أَيْضًا.
(5) جَوَازُ الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلاَتَيْنِ، إِِذَا اجْتَمَعَ الطِّينُ مَعَ الظُّلْمَةِ، عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَجَوَّزَهُ الْحَنَابِلَةُ بِمُجَرَّدِ الْوَحْل، فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَصَحَّحَهَا ابْنُ قُدَامَةَ.
(6) جَوَازُ الْجَمْعِ لأَِجْل الْخَوْفِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
(7) جَوَازُ الْجَمْعِ لأَِجْل الرِّيحِ الشَّدِيدَةِ فِي اللَّيْلَةِ الْمُظْلِمَةِ الْبَارِدَةِ، عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، وَصَحَّحَهُ الآْمِدِيُّ. (1)
ب - التَّعْجِيل بِإِِخْرَاجِ الزَّكَاةِ قَبْل الْحَوْل:
13 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: إِِلَى جَوَازِ تَعْجِيل إِخْرَاجِ الزَّكَاةِ قَبْل الْحَوْل فِي الْجُمْلَةِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الْعَبَّاسَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَأَل النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَعْجِيل صَدَقَتِهِ قَبْل أَنْ تَحِل، فَرَخَّصَ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَلأَِنَّهُ حَقٌّ مَالِيٌّ جُعِل لَهُ أَجَلٌ لِلرِّفْقِ، فَجَازَ تَعْجِيلُهُ قَبْل أَجَلِهِ، كَالدَّيْنِ
وَلأَِنَّهُ - كَمَا قَال الشَّافِعِيَّةُ - وَجَبَ بِسَبَبَيْنِ، وَهُمَا: النِّصَابُ، وَالْحَوْل: فَجَازَ تَقْدِيمُهُ عَلَى أَحَدِهِمَا، كَتَقْدِيمِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ عَلَى الْحِنْثِ.
__________
(1) ابن عابدين 1 / 255، 256، دسوقي 1 / 369، وجواهر الإكليل 1 / 91، 92، 180، ومغني المحتاج 1 / 271، 274، 495، والمجموع 4 / 383، 378، وكشاف القناع 2 / 5 وما بعدها 491، 496، والمغني لابن قدامة 2 / 275، 276.(12/225)
وَمَنَعَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَأَشْهَبُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَقَال: لاَ تُجْزِئُ قَبْل مَحَلِّهِ كَالصَّلاَةِ، وَرَوَاهُ عَنْ مَالِكٍ، وَرَوَاهُ كَذَلِكَ ابْنُ وَهْبٍ. قَال ابْنُ يُونُسَ: وَهُوَ الأَْقْرَبُ، وَغَيْرُهُ اسْتِحْسَانٌ.
وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: عَلَى أَنَّ تَرْكَهُ أَفْضَل، خُرُوجًا مِنَ الْخِلاَفِ.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي يَجُوزُ تَعْجِيل الزَّكَاةِ فِيهَا:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ: إِِلَى جَوَازِ تَعْجِيل الزَّكَاةِ لِسِنِينَ، لِوُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ، وَهُوَ: مِلْكُ النِّصَابِ النَّامِي. وَقَيَّدَهُ الْحَنَابِلَةُ بِحَوْلَيْنِ فَقَطْ، اقْتِصَارًا عَلَى مَا وَرَدَ. فَقَدْ رَوَى عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعَجَّل مِنَ الْعَبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَدَقَةَ سَنَتَيْنِ (1) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَّا الْعَبَّاسُ فَهِيَ عَلَيَّ وَمِثْلُهَا مَعَهَا (2) وَلِمَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسَلَّفَ مِنَ الْعَبَّاسِ صَدَقَةَ عَامَيْنِ (3) وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، صَحَّحَهُ الإِِْسْنَوِيُّ وَغَيْرُهُ، وَعَزَوْهُ لِلنَّصِّ.
__________
(1) حديث: " سأل العباس النبي صلى الله عليه وسلم في تعجيل صدقته " أخرجه أحمد (1 / 104 - ط الميمنية) وأبو داود (2 / 276 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ونوه ابن حجر بتقويته لطرقه. (الفتح 3 / 334 - ط السلفية) .
(2) حديث علي أخرجه مسلم (2 / 677 - ط الحلبي) .
(3) حديث: " إن النبي صلى الله عليه وسلم تسلف من العباس صدقة عامين " تقدم تخريجه.(12/226)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ: إِِلَى عَدَمِ جَوَازِ تَعْجِيل الزَّكَاةِ لأَِكْثَرَ مِنْ عَامٍ، وَذَلِكَ: لأَِنَّ زَكَاةَ غَيْرِ الْعَامِ الأَْوَّل لَمْ يَنْعَقِدْ حَوْلُهَا، وَالتَّعْجِيل قَبْل انْعِقَادِ الْحَوْل لاَ يَجُوزُ، كَالتَّعْجِيل قَبْل كَمَال النِّصَابِ فِي الزَّكَاةِ الْعَيْنِيَّةِ.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ: فَلَمْ يُجِيزُوا تَعْجِيل الزَّكَاةِ لأَِكْثَرَ مِنْ شَهْرٍ قَبْل الْحَوْل عَلَى الْمُعْتَمَدِ، وَتُكْرَهُ عِنْدَهُمْ بِشَهْرٍ. (1)
وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلاَتٌ تُنْظَرُ فِي الزَّكَاةِ.
ج - تَعْجِيل الْكَفَّارَاتِ:
تُعَجَّل كَفَّارَةُ الْيَمِينِ قَبْل الْحِنْثِ:
14 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) : إِِلَى جَوَازِ تَعْجِيل كَفَّارَةِ الْيَمِينِ قَبْل الْحِنْثِ، لِمَا رَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَمُرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ، إِِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِك، ثُمَّ ائْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ. (2)
وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ الصَّوْمَ مِنْ خِصَال الْكَفَّارَةِ، وَقَالُوا بِعَدَمِ جَوَازِ التَّعْجِيل بِهِ قَبْل
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 27، وحاشية الدسوقي 1 / 431، 502، ومواهب الجليل 2 / 360، وشرح روض الطالب 1 / 361، ومغني المحتاج 1 / 416 حاشية الجمل 2 / 296، وكشاف القناع 2 / 265.
(2) حديث: " يا عبد الرحمن: إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها. . . " أخرجه البخاري (الفتح 11 / 608 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1274 - ط الحلبي) .(12/226)
الْحِنْثِ، وَذَلِكَ لأَِنَّهُ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ، فَلاَ يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ عَلَى وَقْتِ وُجُوبِهِ بِغَيْرِ حَاجَةٍ، كَالصَّلاَةِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ؛ وَلأَِنَّهُ إِنَّمَا يَجُوزُ التَّكْفِيرُ بِهِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ جَمِيعِ الْخِصَال الْمَالِيَّةِ. وَالْعَجْزُ إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ بَعْدَ الْوُجُوبِ. وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ: إِِلَى عَدَمِ جَوَازِ تَعْجِيل كَفَّارَةِ الْيَمِينِ قَبْل الْحِنْثِ؛ لأَِنَّ الْكَفَّارَةَ لِسَتْرِ الْجِنَايَةِ، وَلاَ جِنَايَةَ قَبْل الْحِنْثِ. (1)
15 - ثُمَّ إِنَّ الْقَائِلِينَ بِجَوَازِ التَّعْجِيل اخْتَلَفُوا فِي أَيِّهِمَا أَفْضَل: التَّكْفِيرُ قَبْل الْحِنْثِ أَمْ بَعْدَهُ؟ .
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ، وَابْنُ أَبِي مُوسَى، وَصَوَّبَهُ الْمِرْدَاوِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: إِِلَى أَنَّ تَأْخِيرَهَا عَنِ الْحِنْثِ أَفْضَل، خُرُوجًا مِنَ الْخِلاَفِ. وَالرِّوَايَةُ الأُْخْرَى عَنْ أَحْمَدَ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ: أَنَّ التَّكْفِيرَ قَبْل الْحِنْثِ وَبَعْدَهُ فِي الْفَضِيلَةِ سَوَاءٌ، وَذَلِكَ فِي غَيْرِ الصَّوْمِ، لِتَعْجِيل النَّفْعِ لِلْفُقَرَاءِ. (2)
تَعْجِيل كَفَّارَةِ الظِّهَارِ:
16 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ تَعْجِيل كَفَّارَةِ
__________
(1) الهداية وشرحها بتصرف (4 / 2 ط. الأولى بولاق) .
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 60 وما بعدها، ومواهب الجليل 3 / 275، وحاشية الدسوقي 2 / 133، وشرح روض الطالب 4 / 245، وكشاف القناع 6 / 243 وما بعدها، والإنصاف 11 / 42 وما بعدها.(12/227)
الظِّهَارِ قَبْل الْعَوْدِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِِلَى جَوَازِ تَعْجِيلِهَا، لِوُجُودِ سَبَبِهَا، وَذَلِكَ كَتَعْجِيل الزَّكَاةِ قَبْل الْحَوْل، وَبَعْدَ كَمَال النِّصَابِ. وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ: إِِلَى أَنَّهَا لاَ تُجْزِئُ قَبْل الْعَوْدِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ: إِِلَى جَوَازِ التَّعْجِيل بِكَفَّارَةِ الظِّهَارِ قَبْل الْعَوْدِ بِهِ، وَذَلِكَ بِالْمَال (وَهُوَ التَّحْرِيرُ وَالإِِْطْعَامُ) لاَ بِالصَّوْمِ، وَالْمُرَادُ بِالْعَوْدِ عِنْدَهُمْ: إِمْسَاكُ الْمُظَاهِرِ مِنْهَا مُدَّةً يُمْكِنُ لِلْمُظَاهِرِ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِيهَا، مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الطَّلاَقِ. وَصُورَةُ التَّعْجِيل فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ: أَنْ يُظَاهِرَ مِنْ مُطَلَّقَتِهِ رَجْعِيًّا، ثُمَّ يُكَفِّرَ، ثُمَّ يُرَاجِعَهَا.
وَعِنْدَهُمْ صُوَرٌ أُخْرَى.
وَالْمُرَادُ بِالْعَوْدِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: إِرَادَةُ الْعَزْمِ عَلَى الْوَطْءِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ هُوَ إِرَادَةُ الْوَطْءِ، مَعَ اسْتِدَامَةِ الْعِصْمَةِ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ رُشْدٍ. (1)
تَعْجِيل كَفَّارَةِ الْقَتْل:
17 - يَجُوزُ تَعْجِيل كَفَّارَةِ الْقَتْل بَعْدَ الْجُرْحِ، وَقَبْل الزُّهُوقِ، وَتُجْزِئُ عَنْهُ، وَذَلِكَ لِتَقَدُّمِ السَّبَبِ، كَتَعْجِيل إِخْرَاجِ الزَّكَاةِ قَبْل الْحَوْل.
__________
(1) شرح العناية على الهداية بهامش فتح القدير 4 / 94، ومواهب الجليل 4 / 124، الدسوقي 2 / 446، ومغني المحتاج 3 / 356، وكشاف القناع 5 / 374، وشرح روض الطالب 4 / 246.(12/227)
وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ تَعْجِيل التَّكْفِيرِ بِالصَّوْمِ؛ لأَِنَّهُ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ، فَلاَ يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ عَلَى وَقْتِ وُجُوبِهِ بِغَيْرِ حَاجَةٍ، كَالصَّلاَةِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ. (1)
د - التَّعْجِيل بِقَضَاءِ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّل:
18 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ لاَ يَجِبُ أَدَاءُ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّل قَبْل حُلُول أَجَلِهِ، لَكِنْ لَوْ أُدِّيَ قَبْلَهُ صَحَّ، وَسَقَطَ عَنْ ذِمَّةِ الْمَدِينِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الأَْجَل حَقُّ الْمَدِينِ، فَلَهُ إِسْقَاطُهُ، وَيُجْبَرُ الدَّائِنُ عَلَى الْقَبُول. (2)
هـ - التَّعْجِيل بِالْحُكْمِ قَبْل التَّبَيُّنِ:
19 - رُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى الأَْشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَال: لاَ يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ الْحَقُّ، كَمَا يَتَبَيَّنُ اللَّيْل مِنَ النَّهَارِ فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَال: صَدَقَ.
وَهَذَا لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ لاَ تَشْهَدْ إِلاَّ عَلَى أَمْرٍ يُضِيءُ لَكَ كَضِيَاءِ هَذَا الشَّمْسِ (3) وَوِلاَيَةُ الْقَضَاءِ فَوْقَ وِلاَيَةِ الشَّهَادَةِ؛
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 109، وشرح روض الطالب 4 / 246، وكشاف القناع 5 / 389.
(2) حاشية ابن عابدين 4 / 171، 5 / 482، ومواهب الجليل 4 / 516، ومغني المحتاج 2 / 116، والمغني لابن قدامة 4 / 339.
(3) حديث: " يا ابن عباس، لا تشهد إلا على أمر يضيء لك كضياء هذه الشمس " أخرجه ابن عدي في الكامل (6 / 2213 - ط دار الفكر) والحاكم (4 / 98 - ط دائرة المعارف العثمانية) عن ابن عباس، وأعله الذهبي بضعف أحد رواته.(12/228)
لأَِنَّ الْقَضَاءَ مُلْزِمٌ بِنَفْسِهِ، وَالشَّهَادَةُ غَيْرُ مُلْزِمَةٍ بِنَفْسِهَا، حَتَّى يَنْضَمَّ إِلَيْهَا الْقَضَاءُ، فَإِِذَا أُخِذَ هَذَا عَلَى الشَّاهِدِ، كَانَ عَلَى الْقَاضِي بِطَرِيقِ الأَْوْلَى.
قَال الصَّدْرُ الشَّهِيدُ فِي شَرْحِ أَدَبِ الْقَاضِي: وَهَذَا فِي مَوْضِعِ النَّصِّ، وَأَمَّا فِي غَيْرِ مَوْضِعِ النَّصِّ فَلاَ؛ لأَِنَّهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ النَّصِّ يُقْضَى بِالاِجْتِهَادِ، وَالاِجْتِهَادُ لَيْسَ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ، فَلاَ يَتَبَيَّنُ لَهُ بِهِ الْحَقُّ، كَمَا يَتَبَيَّنُ اللَّيْل مِنَ النَّهَارِ. (1)
__________
(1) روضة الطالبين 11 / 156، والقوانين الفقهية / 229، 300، وشرح أدب القاضي للصدر الشهيد 1 / 171 وما بعدها.(12/228)
تَعَدُّدٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّعَدُّدُ فِي اللُّغَةِ: الْكَثْرَةُ. وَهُوَ مِنَ الْعَدَدِ: أَيِ الْكَمِّيَّةِ الْمُتَأَلِّفَةِ مِنَ الْوَحَدَاتِ، فَيَخْتَصُّ التَّعَدُّدُ بِمَا زَادَ عَنِ الْوَاحِدِ؛ لأَِنَّ الْوَاحِدَ لاَ يَتَعَدَّدُ. (1)
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - يَخْتَلِفُ حُكْمُ التَّعَدُّدِ بِاخْتِلاَفِ مُتَعَلِّقِهِ. فَيَكُونُ: جَائِزًا فِي حَالاَتٍ، وَغَيْرَ جَائِزٍ فِي حَالاَتٍ أُخْرَى.
أ - تَعَدُّدُ الْمُؤَذِّنِينَ:
3 - تَعَدُّدُ الْمُؤَذِّنِينَ جَائِزٌ لِمَسْجِدٍ وَاحِدٍ، لِتَعَدُّدِهِمْ فِي زَمَنِ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنَّ ذَلِكَ مُسْتَحَبٌّ، وَيَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَنِ الاِثْنَيْنِ. وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ لاَ يَزِيدَ عَنْ أَرْبَعَةٍ. وَرُوِيَ: أَنَّ
__________
(1) محيط المحيط، ولسان العرب مادة " عد ".(12/229)
عُثْمَانَ كَانَ لَهُ أَرْبَعَةُ مُؤَذِّنِينَ، وَإِِنْ دَعَتِ الْحَاجَةُ إِِلَى أَكْثَرَ كَانَ مَشْرُوعًا. (1)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (أَذَانٌ) .
ب - تَعَدُّدُ الْجَمَاعَةِ فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ:
4 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ: إِِلَى أَنَّهُ إِِذَا صَلَّى إِمَامُ الْحَيِّ، ثُمَّ حَضَرَتْ جَمَاعَةٌ أُخْرَى كُرِهَ أَنْ يُقِيمُوا جَمَاعَةً فِيهِ عَلَى الأَْصَحِّ. إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَسْجِدَ طَرِيقٍ، وَلاَ إِمَامَ لَهُ، وَلاَ مُؤَذِّنَ فَلاَ يُكْرَهُ إِقَامَةُ الْجَمَاعَةِ فِيهِ حِينَئِذٍ. (2) وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ لِيُصْلِحَ بَيْنَ الأَْنْصَارِ، فَرَجَعَ وَقَدْ صُلِّيَ فِي الْمَسْجِدِ بِجَمَاعَةٍ، فَدَخَل مَنْزِل بَعْضِ أَهْلِهِ، فَجَمَعَ أَهْلَهُ فَصَلَّى بِهِمْ جَمَاعَةً. (3) وَقَالُوا: وَلَوْ لَمْ يُكْرَهْ تَكْرَارُ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ لَصَلَّى فِيهِ.
كَمَا اسْتَدَلُّوا بِأَثَرٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: إِنَّ أَصْحَابَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا إِِذَا فَاتَتْهُمُ الْجَمَاعَةُ فِي الْمَسْجِدِ، صَلَّوْا فِي الْمَسْجِدِ
__________
(1) مواهب الجليل 1 / 452، وروضة الطالبين 1 / 206، والمغني 1 / 429.
(2) ابن عابدين 1 / 265 - 371، وروضة الطالبين 1 / 196، ومواهب الجليل 2 / 85.
(3) حديث: أبي بكرة رضي الله عنه " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من بيته ليصلح بين الأنصار. . . " أخرجه الطبراني كما في مجمع الزوائد (2 / 45 - ط القدسي) واستنكره الذهبي في الميزان (4 / 140 ط الحلبي) لضعف أحد رواته.(12/229)
فُرَادَى. قَالُوا: وَلأَِنَّ التَّكْرَارَ يُؤَدِّي إِِلَى تَقْلِيل الْجَمَاعَةِ، لأَِنَّ النَّاسَ إِِذَا عَلِمُوا: أَنَّهُمْ تَفُوتُهُمُ الْجَمَاعَةُ يَتَعَجَّلُونَ، فَتَكْثُرُ الْجَمَاعَةُ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ يُكْرَهُ إِعَادَةُ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ. (1) وَاسْتَدَلُّوا بِعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَلاَةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُل صَلاَةَ الْفَذِّ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً، (2) وَحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: جَاءَ رَجُلٌ وَقَدْ صَلَّى الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: أَيُّكُمْ يَتَّجِرُ عَلَى هَذَا؟ (3) فَقَامَ رَجُلٌ فَصَلَّى مَعَهُ وَجَاءَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: فَلَمَّا صَلَّيَا قَال: وَهَذَانِ جَمَاعَةٌ (4) وَلأَِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْجَمَاعَةِ، فَاسْتُحِبَّ لَهُ فِعْلُهَا، كَمَا لَوْ كَانَ الْمَسْجِدُ فِي مَمَرِّ النَّاسِ.
وَالتَّفْصِيل: فِي مُصْطَلَحِ: (جَمَاعَةٌ) أَوْ (صَلاَةُ الْجَمَاعَةِ) .
__________
(1) المغني 2 / 180.
(2) حديث: " صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بخمسة وعشرين درجة ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 131 ط السلفية) .
(3) حديث: " أيكم يتجر على هذا؟ فقام رجل فصلى معه ". أخرجه البيهقي (3 / 69 ط دار المعرفة) . والترمذي (1 / 427 ط عيسى الحلبي) واللفظ له، وقال: حديث حسن.
(4) حديث: " فلما صليا قال: وهذان جماعة ". أخرجه البيهقي (3 / 69 ط دار المعرفة) بلفظ " اثنان فما فوقهما جماعة ". قال البيهقي: كذلك رواه جماعة عن عليلة وهو الربيع بن بدر وهو ضعيف والله أعلم، وقد روي من وجه آخر أيضا ضعيف.(12/230)
ج - تَعَدُّدُ الْجُمُعَةِ:
5 - لاَ يَجُوزُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ إِقَامَةُ جُمُعَتَيْنِ فِي بَلَدٍ وَاحِدٍ إِلاَّ لِضَرُورَةٍ، كَضِيقِ الْمَسْجِدِ، لأَِنَّ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْخُلَفَاءَ بَعْدَهُ لَمْ يُقِيمُوا سِوَى جُمُعَةٍ وَاحِدَةٍ. (1)
وَتَعَدُّدُ الْجُمُعَةِ فِي الْبَلَدِ الْوَاحِدِ جَائِزٌ مُطْلَقًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ هُنَاكَ ضَرُورَةٌ أَمْ لاَ، فَصَل بَيْنَ جَانِبَيِ الْبَلَدِ نَهْرٌ أَمْ لاَ، لأَِنَّ الأَْثَرَ الْوَارِدَ بِأَنَّهُ لاَ جُمُعَةَ إِلاَّ فِي مِصْرٍ جَامِعٍ (2) قَدْ أُطْلِقَ، وَلَمْ يُشْتَرَطْ إِلاَّ أَنْ تَقَعَ فِي مِصْرٍ (ر: صَلاَةُ الْجُمُعَةِ) .
د - تَعَدُّدُ كَفَّارَةِ الصَّوْمِ:
6 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَى مَنْ أَفْسَدَ صَوْمَ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ بِالْجِمَاعِ، وَأَنَّهَا لاَ تَتَعَدَّدُ بِتَكْرَارِ الْجِمَاعِ فِي الْيَوْمِ الْوَاحِدِ، كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى تَعَدُّدِ الْكَفَّارَةِ إِِذَا تَكَرَّرَ مِنْهُ الإِِْفْسَادُ بِالْجِمَاعِ، بَعْدَ التَّكْفِيرِ مِنَ الأَْوَّل.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِِذَا أَفْسَدَ أَيَّامًا بِالْجِمَاعِ قَبْل التَّكْفِيرِ مِنَ الأَْوَّل، فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
__________
(1) أسنى المطالب 1 / 248، وشرح الزرقاني 3 / 54، والمغني 2 / 334 - 335.
(2) حديث: " لا جمعة إلا في مصر ". أخرجه عبد الرزاق (3 / 167 ط المكتب الإسلامي) ، والبيهقي (3 / 179 ط دار المعرفة) . ضعفه ابن حجر في التلخيص الحبير (2 / 54 ط الأثرية) ، والزيلعي في نصب الراية (2 / 195 ط المجلس العلمي) .(12/230)
وَالْحَنَابِلَةُ: إِِلَى تَعَدُّدِ الْكَفَّارَةِ، لأَِنَّ كُل يَوْمٍ عِبَادَةٌ بِرَأْسِهَا، وَقَدْ تَكَرَّرَ مِنْهُ الإِِْفْسَادُ فَأَشْبَهَ الْحَجِينَ. (1)
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: تَكْفِيهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي الْمَذْهَبِ. وَاخْتَارَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ هَذَا خَاصٌّ بِالإِِْفْسَادِ بِغَيْرِ الْجِمَاعِ، أَمَّا الإِِْفْسَادُ بِالْجِمَاعِ فَتَتَعَدَّدُ الْكَفَّارَةُ فِيهِ لِعِظَمِ الْجِنَايَةِ. (2) (ر: كَفَّارَةٌ) .
هـ - تَعَدُّدُ الْفِدْيَةِ بِتَعَدُّدِ ارْتِكَابِ الْمَحْظُورِ فِي الإِِْحْرَامِ:
7 - إِِذَا ارْتَكَبَ فِي حَالَةِ الإِِْحْرَامِ جِنَايَاتٍ تُوجِبُ كُلٌّ مِنْهَا فِدْيَةً، فَإِِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ صَيْدًا فَفِي كُلٍّ مِنْهَا جَزَاؤُهُ، سَوَاءٌ أَفَعَلَهُ مُجْتَمِعًا، أَمْ مُتَفَرِّقًا. كَفَّرَ عَنِ الأَْوَّل، أَمْ لَمْ يُكَفِّرْ عَنْهُ. وَهَذَا مَحَل اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ. (3) وَمَا عَدَا ذَلِكَ فَفِيهِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ وَيُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي (فِدْيَةٌ) (وَإِِحْرَامٌ) .
و تَعَدُّدُ الصَّفْقَةِ:
8 - تَتَعَدَّدُ الصَّفْقَةُ بِتَعَدُّدِ الْبَائِعِ، وَتَعَدُّدِ الْمُشْتَرِي، وَبِتَفْصِيل الثَّمَنِ، وَبِاخْتِلاَفِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ.
__________
(1) أسنى المطالب 1 / 425، وكشاف القناع 2 / 326، والزرقاني 2 / 208.
(2) ابن عابدين 2 / 110، وبدائع الصنائع 2 / 101.
(3) أسنى المطالب 1 / 523، والمغني 3 / 496، وهناك قول لأحمد بالتداخل.(12/231)
فَإِِنْ جَمَعَ بَيْنَ عَيْنَيْنِ فَأَكْثَرَ فِي صَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ جَازَ، وَيُوَزَّعُ الثَّمَنُ فِي الْمِثْلِيِّ. وَفِي الْعَيْنِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ اثْنَيْنِ يُوَزَّعُ عَلَى الأَْجْزَاءِ، وَفِي غَيْرِهِمَا مِنَ الْمُتَقَوَّمَاتِ عَلَى الرُّءُوسِ، بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ، فَإِِنْ بَطَل الْعَقْدُ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا ابْتِدَاءً صَحَّ فِي الآْخَرِ، بِأَنْ كَانَ أَحَدُهُمَا قَابِلاً لِلْعَقْدِ وَالآْخَرُ غَيْرُ قَابِلٍ، (1) (ر: عَقْدٌ - تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ) .
ز - تَعَدُّدُ الْمَرْهُونِ أَوِ الْمُرْتَهِنِ:
9 - إِِذَا رَهَنَ دَارَيْنِ لَهُ بِمَبْلَغٍ مِنَ الدَّيْنِ، فَقَضَى حِصَّةَ إِحْدَى الدَّارَيْنِ مِنَ الدَّيْنِ لَمْ يَسْتَرِدَّهَا حَتَّى يَقْضِيَ بَاقِيَ الدَّيْنِ؛ لأَِنَّ الْمَرْهُونَ مَحْبُوسٌ بِكُل الدَّيْنِ. وَكَذَا إِنْ رَهَنَ عَيْنًا وَاحِدَةً عِنْدَ رَجُلَيْنِ بِدَيْنٍ عَلَيْهِ لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَقَضَى دَيْنَ أَحَدِهِمَا؛ لأَِنَّ الْعَيْنَ كُلَّهَا رَهْنٌ عِنْدَ الدَّائِنَيْنِ، وَأُضِيفَ الرَّهْنُ إِِلَى جَمِيعِ الْعَيْنِ فِي صَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ. (2) ر: (رَهْنٌ) .
ح - تَعَدُّدُ الشُّفَعَاءِ فِي الْعَقَارِ:
10 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الشُّفْعَةِ إِِذَا اسْتَحَقَّهَا جَمْعٌ، فَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يَأْخُذُونَ عَلَى قَدْرِ الْحِصَصِ؛ لأَِنَّ الشُّفْعَةَ مِنْ مَرَافِقِ الْمِلْكِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهِ. (3)
__________
(1) أسنى المطالب 2 / 42 - 43، وابن عابدين 4 / 104.
(2) أسنى المطالب 2 / 17، والهداية 4 / 104.
(3) القليوبي 3 / 48.(12/231)
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: يُوَزَّعُ عَلَى عَدَدِ رُءُوسِهِمْ، (1) وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ؛ لأَِنَّهُمُ اسْتَوَوْا فِي سَبَبِ الاِسْتِحْقَاقِ، فَيَسْتَوُونَ فِي الاِسْتِحْقَاقِ. ر: (شُفْعَةٌ) .
ط - تَعَدُّدُ الْوَصَايَا:
11 - إِِذَا أَوْصَى بِوَصَايَا مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ قُدِّمَتِ الْفَرَائِضُ مِنْهَا، سَوَاءٌ قَدَّمَهَا الْمُوصِي أَمْ أَخَّرَهَا؛ لأَِنَّ الْفَرِيضَةَ أَهَمُّ مِنَ النَّافِلَةِ، فَإِِنْ تَسَاوَتْ وَقَدَّمَ الْمُوصِي بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ بِمَا يُفِيدُ التَّرْتِيبَ بُدِئَ بِمَا قَدَّمَهُ الْمُوصِي. ر: (وَصِيَّةٌ) .
ي - تَعَدُّدُ الزَّوْجَاتِ:
12 - تَعَدُّدُ الزَّوْجَاتِ إِِلَى أَرْبَعٍ مَشْرُوعٌ وَرَدَ بِهِ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} (2) وَفِي تَفْصِيل مَشْرُوعِيَّةِ التَّعَدُّدِ وَشُرُوطِهِ وَوُجُوبِ الْعَدْل بَيْنَ الزَّوْجَاتِ يُرْجَعُ إِِلَى (نِكَاحٌ وَقَسْمٌ وَنَفَقَةٌ) .
ك - تَعَدُّدُ أَوْلِيَاءِ النِّكَاحِ:
13 - إِِذَا اسْتَوَى أَوْلِيَاءُ الْمَرْأَةِ فِي دَرَجَةِ الْقَرَابَةِ كَالإِِْخْوَةِ وَالأَْعْمَامِ، يُنْدَبُ تَقْدِيمُ أَكْبَرِهِمْ
__________
(1) الهداية 4 / 25.
(2) سورة النساء / 3.(12/232)
وَأَفْضَلِهِمْ، فَإِِنْ تَشَاحُّوا وَلَمْ يُقَدِّمُوهُ أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ. فَإِِنْ زَوَّجَ أَحَدُهُمْ قَبْل الْقُرْعَةِ بِإِِذْنِهَا، أَوْ زَوَّجَهَا غَيْرُ مَنْ خَرَجَتْ لَهُ الْقُرْعَةُ صَحَّ. (1) لأَِنَّهُ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ، هَذَا رَأْيُ الشَّافِعِيَّةِ. وَلِتَفْصِيل الْمَوْضُوعِ وَآرَاءِ الْفُقَهَاءِ يُرْجَعُ إِِلَى مُصْطَلَحِ (نِكَاحٌ) (وَوَلِيٌّ) .
ل - تَعَدُّدُ الطَّلاَقِ:
14 - يَمْلِكُ الزَّوْجُ الْحُرُّ عَلَى زَوْجَتِهِ الْحُرَّةِ ثَلاَثَ تَطْلِيقَاتٍ، تَبِينُ بَعْدَهَا الزَّوْجَةُ مِنْهُ بَيْنُونَةً كُبْرَى، لاَ تَحِل لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ يَدْخُل بِهَا، ثُمَّ يُطَلِّقُهَا أَوْ يَمُوتُ عَنْهَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى {الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ} إِِلَى قَوْلِهِ {فَإِِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِل لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} . (2)
وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ وَخِلاَفٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي (طَلاَقٌ) .
م - تَعَدُّدُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، أَوِ الْجَانِي:
15 - إِِذَا قَتَلَتْ جَمَاعَةٌ وَاحِدًا يُقْتَلُونَ جَمِيعًا قِصَاصًا، وَإِِنْ تَفَاضَلَتْ جِرَاحَاتُهُمْ فِي الْعَدَدِ، بِشَرْطِ أَنْ تَكُونَ كُل جِرَاحَةٍ مُؤَثِّرَةً فِي إِزْهَاقِ الرُّوحِ. وَإِِنْ قَتَل وَاحِدٌ جَمَاعَةً يُقْتَل قِصَاصًا
__________
(1) أسنى المطالب 3 / 141.
(2) سورة البقرة / 229 - 230.(12/232)
أَيْضًا، هَذَا مَحَل اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ. (1)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (قِصَاصٌ) (وَجِنَايَةٌ) .
ن - تَعَدُّدُ التَّعْزِيرِ بِتَعَدُّدِ الأَْلْفَاظِ:
16 - مَنْ سَبَّ رَجُلاً بِأَلْفَاظٍ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْ أَلْفَاظِ الشَّتْمِ الْمُوجِبِ لِلتَّعْزِيرِ، فَقَدْ أَفْتَى بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ - وَأَيَّدَهُ ابْنُ عَابِدِينَ - بِأَنَّهُ يُعَزَّرُ لِكُلٍّ مِنْهَا؛ لأَِنَّ حُقُوقَ الْعِبَادِ لاَ تَتَدَاخَل. وَكَذَا إِنْ سَبَّ جَمَاعَةً بِلَفْظٍ وَاحِدٍ. (2) انْظُرْ مُصْطَلَحَ (تَعْزِيرٌ) .
س - تَعَدُّدُ الْقُضَاةِ فِي بَلَدٍ وَاحِدٍ:
17 - يَجُوزُ لِلإِِْمَامِ تَعْيِينُ قَاضِيَيْنِ فَأَكْثَرَ فِي بَلَدٍ وَاحِدٍ، إِلاَّ أَنْ يُشْتَرَطَ اجْتِمَاعُهُمْ عَلَى الْحُكْمِ فِي الْقَضِيَّةِ الْوَاحِدَةِ لِمَا يَقَعُ بَيْنَهُمْ مِنْ خِلاَفٍ فِي مَحَل الاِجْتِهَادِ. (3) ر: (قَضَاءٌ) .
ع - تَعَدُّدُ الأَْئِمَّةِ:
18 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ تَنْصِيبُ إِمَامَيْنِ فَأَكْثَرَ لِلْمُسْلِمِينَ فِي زَمَنٍ وَاحِدٍ، وَإِِنْ تَبَاعَدَتْ أَقَالِيمُهُمْ. (4) ر: (إِمَامَةٌ عُظْمَى) .
__________
(1) مواهب الجليل 1 / 241، وأسنى المطالب 4 / 17، وحاشية الطحطاوي على الدر المختار 4 / 270.
(2) ابن عابدين 3 / 186.
(3) قليوبي 4 / 298، وحاشية الدسوقي 4 / 134. وهذه من المسائل الإجرائية وقد تغيرت بتغير الزمن (اللجنة) .
(4) روضة الطالبين 10 / 47، والأحكام السلطانية للماوردي ص 9، وحاشية الدسوقي 4 / 134.(12/233)
تَعَدِّي
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّعَدِّي لُغَةً: الظُّلْمُ، وَأَصْلُهُ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ وَالْقَدْرِ وَالْحَقِّ. يُقَال: تَعَدَّيْتُ الْحَقَّ وَاعْتَدَيْتُهُ وَعَدَوْتُهُ أَيْ: جَاوَزْتَهُ. (1) وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِهَذَا اللَّفْظِ عَنْ مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ، فَيُسْتَعْمَل بِمَعْنَى: الاِعْتِدَاءُ عَلَى حَقِّ الْغَيْرِ، وَبِمَعْنَى: انْتِقَال الْحُكْمِ إِِلَى مَحَلٍّ آخَرَ، كَتَعَدِّي الْعِلَّةِ، وَالتَّعَدِّي فِي الْحُرْمَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - سَبَقَ أَنَّ التَّعَدِّيَ لَهُ إِطْلاَقَانِ، وَيُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ: الاِعْتِدَاءُ عَلَى الْغَيْرِ، وَهَذَا الْبَحْثُ مَحَل تَفْصِيلِهِ. وَيُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ: انْتِقَال الْحُكْمِ إِِلَى مَحَلٍّ آخَرَ.
أَمَّا التَّعَدِّي بِالإِِْطْلاَقِ الأَْوَّل فَهُوَ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِهِ حَرَامٌ. وَلِلتَّعَدِّي أَحْكَامُهُ الْخَاصَّةُ: كَالْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ، وَالأَْطْرَافِ،
__________
(1) اللسان والمصباح والمغرب.(12/233)
وَالتَّعْوِيضِ، وَالْحَبْسِ وَمَا إِِلَى ذَلِكَ، كَمَا سَيَتَبَيَّنُ.
التَّعَدِّي عَلَى الأَْمْوَال:
التَّعَدِّي بِالْغَصْبِ وَالإِِْتْلاَفِ وَالسَّرِقَةِ وَالاِخْتِلاَسِ:
3 - مَنْ تَعَدَّى عَلَى مَال غَيْرِهِ فَغَصَبَهُ، أَوْ أَتْلَفَ مَالاً غَيْرَ مَأْذُونٍ فِي إِتْلاَفِهِ شَرْعًا أَوْ سَرَقَهُ أَوِ اخْتَلَسَهُ - تَرَتَّبَ عَلَيْهِ حُكْمَانِ:
أَحَدُهُمَا أُخْرَوِيٌّ. وَهُوَ: الإِِْثْمُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِل} (1) وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَحِل مَال امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلاَّ بِطِيبِ نَفْسِهِ. (2)
وَالآْخَرُ دُنْيَوِيٌّ: وَهُوَ الْحَدُّ أَوِ التَّعْزِيرُ مَعَ وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَهُ (3) وَلِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
__________
(1) سورة البقرة / 188.
(2) حديث: " لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه " أخرجه الدارقطني (3 / 26 - ط دار المحاسن) من حديث أبي حرة الرقاشي وفي إسناده مقال. وقد أورد ابن حجر في التلخيص شواهد تقويه. (التلخيص 3 / 46 - 47 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(3) حديث: " على اليد ما أخذت حتى تؤديه " أخرجه أبو داود (3 / 822 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث سمرة بن جندب وأعله ابن حجر في التلخيص بالاختلاف في سماع الحسن عن سمرة. (التلخيص 3 / 53 - ط شركة الطباعة الفنية) .(12/234)
السَّائِبِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: لاَ يَأْخُذَنَّ أَحَدُكُمْ مَتَاعَ أَخِيهِ لاَعِبًا أَوْ جَادًّا، وَمَنْ أَخَذَ عَصَا أَخِيهِ فَلْيَرُدَّهَا (1) فَيَجِبُ عَلَى الْمُتَعَدِّي رَدُّ الْعَيْنِ الْمَغْصُوبَةِ إِنْ بَقِيَتْ بِيَدِهِ كَمَا هِيَ، فَإِِنْ تَلِفَتْ فِي يَدِهِ، أَوْ تَعَدَّى عَلَيْهَا فَأَتْلَفَهَا بِدُونِ غَصْبٍ وَجَبَ عَلَيْهِ رَدُّ مِثْلِهَا إِنْ كَانَتْ مِثْلِيَّةً، فَإِِذَا انْقَطَعَ الْمِثْل أَوْ لَمْ تَكُنْ مِثْلِيَّةً وَجَبَ عَلَيْهِ قِيمَتُهَا. (2)
وَمِثْل مَا تَقَدَّمَ: الْبَاغِي فِي غَيْرِ زَمَنِ الْقِتَال، حَيْثُ يَضْمَنُ الأَْمْوَال الَّتِي أَتْلَفَهَا أَوْ أَخَذَهَا.
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (غَصْبٌ، إِتْلاَفٌ، ضَمَانٌ، سَرِقَةٌ، اخْتِلاَسٌ، بُغَاةٌ) .
التَّعَدِّي فِي الْعُقُودِ:
أَوَّلاً: التَّعَدِّي فِي الْوَدِيعَةِ:
4 - الأَْصْل فِي الْوَدِيعَةِ: أَنَّهَا أَمَانَةٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي ائْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} ، (3) وَأَنَّهُ لاَ ضَمَانَ عَلَى الْمُودَعِ فِي الْوَدِيعَةِ، لِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ أَوْدَعَ وَدِيعَةً فَلاَ
__________
(1) حديث: " لا يأخذن أحدكم متاع أخيه لاعبا أو جادا. . . " أخرجه أبو داود (5 / 273 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والترمذي (4 / 262 - ط الحلبي) وحسنه.
(2) ابن عابدين 5 / 114، 116، وحاشية الدسوقي 3 / 443، والقوانين الفقهية ص 335، ومغني المحتاج 2 / 277، 282، وكشاف القناع 4 / 78، 106.
(3) سورة البقرة / 283.(12/234)
ضَمَانَ عَلَيْهِ (1) وَلأَِنَّ الْمُسْتَوْدَعَ يَحْفَظُهَا لِمَالِكِهَا فَلَوْ ضُمِنَتْ لاَمْتَنَعَ النَّاسُ مِنَ الدُّخُول فِيهَا، وَذَلِكَ مُضِرٌّ، لِمَا فِيهِ مِنْ مَسِيسِ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا.
وَيَضْمَنُ الْوَدِيعُ فِي حَالَيْنِ:
الأَْوَّل: إِِذَا فَرَّطَ فِي حِفْظِ الْوَدِيعَةِ؛ لأَِنَّ الْمُفَرِّطَ مُتَسَبِّبٌ بِتَرْكِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ حِفْظِهَا.
الثَّانِي: أَنْ يَتَعَدَّى الْوَدِيعُ عَلَى الْوَدِيعَةِ، لأَِنَّ الْمُتَعَدِّيَ مُتْلِفٌ لِمَال غَيْرِهِ فَضَمِنَهُ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَهُ مِنْ غَيْرِ إِيدَاعٍ.
وَمِنْ صُوَرِ التَّعَدِّي عَلَيْهَا: انْتِفَاعُهُ بِهَا، كَأَنْ يَرْكَبَ الدَّابَّةَ الْمُودَعَةَ لِغَيْرِ نَفْعِهَا، أَوْ يَلْبَسَ الثَّوْبَ الْمُودَعَ فَيَبْلَى. وَمِنْ صُوَرِ التَّعَدِّي أَيْضًا: جُحُودُهَا. (2)
ثَانِيًا: التَّعَدِّي فِي الرَّهْنِ:
5 - يَكُونُ التَّعَدِّي فِي الرَّهْنِ مِنَ الرَّاهِنِ أَوْ مِنَ الْمُرْتَهِنِ.
أ - تَعَدِّي الرَّاهِنِ:
6 - إِِذَا تَعَدَّى الرَّاهِنُ عَلَى الرَّهْنِ فَأَتْلَفَهُ أَوْ أَتْلَفَ
__________
(1) حديث: " من أودع وديعة فلا ضمان عليه " أخرجه ابن ماجه (2 / 802 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. وقال ابن حجر في (التلخيص 3 / 97 - ط شركة الطباعة الفنية) : فيه المثنى بن الصباح وهو متروك، وتابعه ابن لهيعة فيما ذكره البيهقي.
(2) ابن عابدين 4 / 494، 498، والدسوقي 3 / 419 وما بعدها، ومغني المحتاج 3 / 79 وما بعدها، وكشاف القناع 4 / 166 وما بعدها.(12/235)
جُزْءًا مِنْهُ، فَإِِنَّهُ يُؤْمَرُ بِدَفْعِ قِيمَةِ مَا أَتْلَفَهُ، لِتَكُونَ رَهْنًا إِِلَى حُلُول الأَْجَل.
وَأَمَّا تَصَرُّفَاتُ الرَّاهِنِ الَّتِي تَنْقُل مِلْكَ الْعَيْنِ الْمَرْهُونَةِ كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ، فَإِِنَّهَا مَوْقُوفَةٌ عَلَى إِجَازَةِ الْمُرْتَهِنِ أَوْ قَضَاءِ الدَّيْنِ. (1)
ب - تَعَدِّي الْمُرْتَهِنِ:
7 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ: إِِلَى أَنَّ الرَّهْنَ إِنْ هَلَكَ بِنَفْسِهِ فَإِِنَّهُ يَهْلِكُ مَضْمُونًا بِالدَّيْنِ، وَكَذَلِكَ لَوِ اسْتَهْلَكَهُ الْمُرْتَهِنُ؛ لأَِنَّهُ لَوْ أَتْلَفَ مَمْلُوكًا مُتَقَوِّمًا بِغَيْرِ إِذْنِ مَالِكِهِ، فَيَضْمَنُ مِثْلَهُ أَوْ قِيمَتَهُ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَهُ أَجْنَبِيٌّ وَكَانَ رَهْنًا مَكَانَهُ.
وَفَرَّقَ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ مَا يُغَابُ عَلَيْهِ: أَيْ مَا يُمْكِنُ إِخْفَاؤُهُ كَبَعْضِ الْمَنْقُولاَتِ، وَمَا لاَ يُغَابُ عَلَيْهِ، كَالْعَقَارِ وَالسَّفِينَةِ وَالْحَيَوَانِ، فَأَوْجَبُوا الضَّمَانَ فِي الأَْوَّل - دُونَ الثَّانِي بِشَرْطَيْنِ:
الأَْوَّل: أَنْ يَكُونَ بِيَدِهِ، لاَ أَنْ يَكُونَ بِيَدِ أَمِينٍ.
وَالثَّانِي: أَنْ لاَ تَشْهَدَ بَيِّنَةٌ لِلْمُرْتَهِنِ عَلَى التَّلَفِ أَوِ الضَّيَاعِ، بِغَيْرِ سَبَبِهِ، وَغَيْرِ تَفْرِيطِهِ. (2)
__________
(1) ابن عابدين 5 / 327 - 328، والدسوقي 3 / 242، والقوانين الفقهية ص 329، وروضة الطالبين 4 / 74، 82، وكشاف القناع 3 / 336.
(2) بدائع الصنائع 8 / 3759، 3780، وابن عابدين 5 / 326، والدسوقي 3 / 253 - 254، والفواكه الدواني 2 / 232 - 233، وروضة الطالبين 4 / 96، وكشاف القناع 3 / 341.(12/235)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِِلَى أَنَّ الرَّهْنَ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ، وَأَنَّهُ لاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ إِنْ هَلَكَ بِيَدِهِ، إِلاَّ إِِذَا تَعَدَّى عَلَيْهِ، أَوْ فَرَّطَ فِي حِفْظِهِ.
وَعَلَى هَذَا: فَالْفُقَهَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْمُرْتَهِنَ ضَامِنٌ لِلرَّهْنِ بِتَعَدِّيهِ عَلَيْهِ أَوْ تَفْرِيطِهِ فِي حِفْظِهِ.
ثَالِثًا: التَّعَدِّي فِي الْعَارِيَّةِ:
8 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ: عَلَى أَنَّ الْعَارِيَّةَ مَضْمُونَةٌ بِالتَّعَدِّي وَالتَّفْرِيطِ مِنَ الْمُسْتَعِيرِ، لِحَدِيثِ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَهُ (1)
أَمَّا إِِذَا هَلَكَتْ بِلاَ تَعَدٍّ وَلاَ تَفْرِيطٍ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ: إِِلَى أَنَّ الْعَارِيَّةَ إِنْ هَلَكَتْ مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ وَلاَ تَفْرِيطٍ مِنْهُ فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيْسَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ غَيْرِ الْمُغِل ضَمَانٌ، (2) وَلأَِنَّهُ قَبَضَهَا بِإِِذْنِ مَالِكِهَا فَكَانَتْ أَمَانَةً كَالْوَدِيعَةِ، وَهُوَ: قَوْل الْحَسَنِ
__________
(1) حديث: " على اليد ما أخذت حتى تؤديه " تقدم تخريجه ف / 3.
(2) حديث: " ليس على المستعير غير المغل ضمان " أخرجه الدارقطني (3 / 41 - ط دار المحاسن) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وأعله براويين ضعيفين في إسناده.(12/236)
وَالنَّخَعِيِّ، وَالشَّعْبِيِّ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالثَّوْرِيِّ. وَالأَْوْزَاعِيِّ، وَابْنِ شُبْرُمَةَ.
وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ فِي تَضْمِينِ الْمُسْتَعِيرِ: مَا إِِذَا لَمْ يَظْهَرْ سَبَبُ هَلاَكِ الْعَارِيَّةِ، وَكَانَتْ مِمَّا يُغَابُ عَلَيْهِ، فَإِِنْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ عَلَى تَلَفِهَا أَوْ ضَيَاعِهَا بِدُونِ سَبَبِهِ فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِِلَى أَنَّ الْعَارِيَّةَ مَضْمُونَةٌ مُطْلَقًا، تَعَدَّى الْمُسْتَعِيرُ، أَوْ لَمْ يَتَعَدَّ، لِحَدِيثِ سَمُرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَهُ، (1) وَعَنْ صَفْوَانَ: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعَارَ مِنْهُ يَوْمَ حُنَيْنٍ أَدْرَاعًا، فَقَال: أَغَصْبًا يَا مُحَمَّدُ؟ قَال: بَل عَارِيَّةً مَضْمُونَةٌ. (2) وَهُوَ: قَوْل عَطَاءٍ، وَإِِسْحَاقَ، وَأَشْهَبَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. (3)
رَابِعًا: التَّعَدِّي فِي الْوَكَالَةِ:
9 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ: عَلَى أَنَّ الْوَكِيل أَمِينٌ، لاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيمَا تَلِفَ فِي يَدِهِ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ
__________
(1) حديث: " على اليد ما أخذت حتى تؤديه " تقدم تخريجه ف / 3.
(2) حديث: " بل عارية مضمونة " أخرجه أحمد (3 / 401 - ط الميمنية) وحسنه ابن حزم في المحلى (9 / 173 - ط المنيرية) .
(3) ابن عابدين 4 / 503، وحاشية الدسوقي 3 / 436، والقوانين الفقهية ص 378، ومغني المحتاج 2 / 267، وكشاف القناع 4 / 70، والمغني 5 / 220.(12/236)
وَلاَ تَعَدٍّ، لأَِنَّهُ نَائِبٌ عَنِ الْمَالِكِ فِي الْيَدِ وَالتَّصَرُّفِ، فَكَانَ الْهَلاَكُ فِي يَدِهِ كَالْهَلاَكِ فِي يَدِ الْمَالِكِ، فَأَصْبَحَ كَالْمُودَعِ.
وَلأَِنَّ الْوَكَالَةَ عَقْدُ إِرْفَاقٍ وَمَعُونَةٍ، وَالضَّمَانُ مُنَافٍ لِذَلِكَ وَمُنَفِّرٌ عَنْهُ. أَمَّا إِِذَا تَعَدَّى الْوَكِيل فَإِِنَّهُ يَكُونُ ضَامِنًا. (1) وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ (وَكَالَةٌ) .
خَامِسًا: التَّعَدِّي فِي الإِِْجَارَةِ:
10 - سَبَقَ الْكَلاَمُ عَنِ التَّعَدِّي فِي الإِِْجَارَةِ فِي مُصْطَلَحِ (إِجَارَةٌ) .
سَادِسًا: التَّعَدِّي فِي الْمُضَارَبَةِ:
11 - الْمُضَارَبَةُ: عَقْدٌ عَلَى الشَّرِكَةِ فِي الرِّبْحِ بِمَالٍ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ، وَعَمَلٍ مِنَ الْجَانِبِ الآْخَرِ، وَلاَ مُضَارَبَةَ بِدُونِهِمَا.
ثُمَّ الْمَدْفُوعُ إِِلَى الْمُضَارِبِ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ؛ لأَِنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِيهِ بِأَمْرِ مَالِكِهِ، لاَ عَلَى وَجْهِ الْبَدَل وَالْوَثِيقَةِ، وَهُوَ وَكِيلٌ فِيهِ، فَإِِذَا رَبِحَ فَهُوَ شَرِيكٌ فِيهِ، وَإِِذَا فَسَدَتِ انْقَلَبَتْ إِجَارَةً، وَاسْتَوْجَبَ الْعَامِل أَجْرَ مِثْلِهِ، وَإِِذَا خَالَفَ كَانَ غَاصِبًا لِوُجُودِ التَّعَدِّي مِنْهُ عَلَى مَال غَيْرِهِ. (2)
__________
(1) ابن عابدين 4 / 416، 409، وفتح القدير 7 / 49، 52، 73، والقوانين الفقهية ص 333، ومغني المحتاج 2 / 230، وروضة الطالبين 4 / 325، وكشاف القناع 3 / 469، 475، 484، والدسوقي 3 / 282، 390.
(2) مجمع الضمانات ص 303، ومغني المحتاج 2 / 314 وما بعدها، والدسوقي 3 / 517 وما بعدها، وكشاف القناع 3 / 507 وما بعدها.(12/237)
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (قِرَاضٌ، شَرِكَةٌ) .
12 - هَذَا وَقَدْ سَبَقَ الْكَلاَمُ عَنِ التَّعَدِّي فِي الصَّدَقَةِ، وَالْوَصِيَّةِ، وَالأَْكْل، وَالشُّرْبِ، فِي مُصْطَلَحِ (إِسْرَافٌ) .
سَابِعًا: التَّعَدِّي عَلَى النَّفْسِ وَمَا دُونَهَا:
13 - التَّعَدِّي عَلَى الأَْبْدَانِ بِمَا يُوجِبُ قِصَاصًا أَوْ غَيْرَهُ هُوَ: قَتْل الآْدَمِيِّ بِغَيْرِ حَقٍّ، بِأَنْ لاَ يَكُونَ مُرْتَدًّا، أَوْ زَانِيًا مُحْصَنًا، أَوْ قَاتِلاً لِمُكَافِئِهِ، أَوْ حَرْبِيًّا. (وَمِثْلُهُ قَتْل الصَّائِل) .
وَالتَّعَدِّي عَلَى النَّفْسِ وَمَا دُونَهَا: يَكُونُ بِالْمُبَاشَرَةِ أَوْ بِالتَّسَبُّبِ، كَمَنْ حَفَرَ بِئْرًا أَوْ حُفْرَةً فِي غَيْرِ مِلْكِهِ فَوَقَعَ فِيهِ إِنْسَانٌ. أَوْ بِالسَّبَبِ، كَالإِِْكْرَاهِ عَلَى التَّعَدِّي.
وَالتَّعَدِّي بِأَنْوَاعِهِ يُوجِبُ الضَّمَانَ؛ لأَِنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهَا يُلْحِقُ ضَرَرًا بِالْغَيْرِ.
أَمَّا الْقَتْل مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ - وَهُوَ الْقَتْل بِحَقٍّ - فَلاَ ضَمَانَ فِيهِ، كَرَجْمِ الزَّانِي.
وَالتَّعَدِّي عَلَى النَّفْسِ يَكُونُ بِالْقَتْل عَمْدًا أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ - عِنْدَ الْجُمْهُورِ - أَوْ قَتْلاً خَطَأً. وَيَجِبُ بِالْقَتْل الْعَمْدِ: الْقَوَدُ، أَوِ الدِّيَةُ. وَيَجِبُ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ: الدِّيَةُ فَقَطْ، عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي (جِنَايَةٌ، قَتْلٌ، قِصَاصٌ) .(12/237)
أَمَّا التَّعَدِّي عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ، فَإِِنْ كَانَ عَمْدًا فَفِيهِ الْقِصَاصُ، أَوِ الدِّيَةُ، وَإِِنْ كَانَ خَطَأً فَفِيهِ الدِّيَةُ. عَلَى خِلاَفٍ وَتَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (جِنَايَةٌ، جِرَاحٌ، قِصَاصٌ) .
وَمِثْل التَّعَدِّي بِإِِتْلاَفِ الْعُضْوِ: التَّعَدِّي بِإِِتْلاَفِ مَنْفَعَةِ الْعُضْوِ، فَفِيهِ الضَّمَانُ أَيْضًا. (1)
14 - وَقَدْ سَبَقَ الْكَلاَمُ عَنِ التَّعَدِّي فِي الْعُقُوبَاتِ وَالْقِصَاصِ وَالتَّعْزِيرِ فِي مُصْطَلَحِ: (إِسْرَافٌ) .
ثَامِنًا: التَّعَدِّي عَلَى الْعِرْضِ:
15 - التَّعَدِّي عَلَى الأَْعْرَاضِ حَرَامٌ؛ لأَِنَّ الأَْعْرَاضَ يَجِبُ أَنْ تُصَانَ مِنَ الدَّنَسِ، وَقَدْ أَبَاحَ الإِِْسْلاَمُ دَمَ مَنِ اعْتَدَى عَلَى الْعِرْضِ، لأَِنَّ حِفْظَ الأَْعْرَاضِ مِنْ مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ، قَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: مَنْ قُتِل دُونَ أَهْلِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، (2) وَجْهُ الدَّلاَلَةِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ: أَنَّهُ لَمَّا جَعَلَهُ شَهِيدًا دَل أَنَّ لَهُ الْقَتْل وَالْقِتَال. وَأَنَّ الدِّفَاعَ عَنِ الْعَرْضِ وَاجِبٌ؛ لأَِنَّهُ لاَ سَبِيل إِِلَى إِبَاحَتِهِ. وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ بُضْعُ زَوْجَتِهِ أَوْ غَيْرِهِ. وَمِثْل الدِّفَاعِ عَنِ الْبُضْعِ:
__________
(1) ابن عابدين 5 / 369 وما بعدها، والدسوقي 4 / 272 وما بعدها، ومغني المحتاج 4 / 68 وما بعدها، وكشاف القناع 6 / 34 وما بعدها.
(2) حديث: " من قتل دون أهله فهو شهيد " أخرجه الترمذي (4 / 30 - ط الحلبي) وقال: حسن صحيح.(12/238)
الدِّفَاعُ عَنْ مُقَدِّمَاتِهِ كَالْقُبْلَةِ وَغَيْرِهَا. (1)
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (صِيَالٌ) .
تَاسِعًا: تَعَدِّي الْبُغَاةِ:
16 - مَا يُتْلِفُهُ الْبُغَاةُ - إِِذَا تَحَقَّقَتْ فِيهِمُ الشُّرُوطُ - مِنْ نَفْسٍ أَوْ مَالٍ، يُنْظَرُ إِنْ كَانَ أَثْنَاءَ الْقِتَال فَلاَ ضَمَانَ، وَإِِنْ كَانَ فِي غَيْرِ قِتَالٍ ضَمِنُوا النَّفْسَ وَالْمَال، وَهَذَا الْقَدْرُ هُوَ مَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ (2) وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (بُغَاةٌ) .
عَاشِرًا: التَّعَدِّي فِي الْحُرُوبِ:
17 - يَجِبُ مُرَاعَاةُ الأَْحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ فِي الْحُرُوبِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ، فَلاَ يَجُوزُ قِتَال مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُمُ الدَّعْوَةُ، حَتَّى نَدْعُوَهُمْ إِِلَى الإِِْسْلاَمِ، عَلَى خِلاَفٍ وَتَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (دَعْوَةٌ) .
وَلاَ يَجُوزُ فِي الْحُرُوبِ قَتْل مَنْ لَمْ يَحْمِل السِّلاَحَ مِنَ الصِّبْيَانِ، وَالْمَجَانِينِ، وَالنِّسَاءِ، وَالشَّيْخِ الْكَبِيرِ، وَالرَّاهِبِ، وَالزَّمِنِ، وَالأَْعْمَى - بِلاَ خِلاَفٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ - إِلاَّ إِِذَا اشْتَرَكُوا فِي الْقِتَال، أَوْ كَانُوا ذَا رَأْيٍ وَتَدْبِيرٍ وَمَكَايِدَ فِي الْحَرْبِ، أَوْ أَعَانُوا الْكُفَّارَ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، كَمَا لاَ يَجُوزُ الاِعْتِدَاءُ عَلَى الأَْسْرَى، بَل يَجِبُ الإِِْحْسَانُ إِلَيْهِمْ.
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ: (جِهَادٌ، جِزْيَةٌ، أَسْرَى) .
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 194 - 195.
(2) مغني المحتاج 4 / 125، وكشاف القناع 6 / 165.(12/238)
التَّعَدِّي بِالإِِْطْلاَقِ الثَّانِي بِمَعْنَى الاِنْتِقَال:
أ - تَعَدِّي الْعِلَّةِ:
الْعِلَّةُ: هِيَ الْمَعْنَى الَّذِي شُرِعَ الْحُكْمُ عِنْدَهُ تَحْصِيلاً لِلْمَصْلَحَةِ. (1)
18 - وَهِيَ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُتَعَدِّيَةً، أَوْ قَاصِرَةً وَتُسَمَّى (نَاقِصَةً) .
فَالْمُتَعَدِّيَةُ: هِيَ الَّتِي يَثْبُتُ وُجُودُهَا فِي الأَْصْل وَالْفُرُوعِ، أَيْ: أَنَّهَا تَتَعَدَّى مِنْ مَحَل النَّصِّ إِِلَى غَيْرِهِ، كَعِلَّةِ الإِِْسْكَارِ.
وَالْقَاصِرَةُ: هِيَ الَّتِي لاَ تَتَعَدَّى مَحَل الأَْصْل، كَالرَّمَل فِي الطَّوَافِ، فِي الأَْشْوَاطِ الثَّلاَثَةِ الأُْولَى، لإِِِظْهَارِ الْجَلَدِ وَالْقُوَّةِ لِلْمُشْرِكِينَ.
وَقَدِ اتَّفَقَ الأُْصُولِيُّونَ: عَلَى أَنَّ التَّعْلِيل بِالْعِلَّةِ الْمُتَعَدِّيَةِ صَحِيحٌ؛ لأَِنَّ الْقِيَاسَ لاَ يَتِمُّ إِلاَّ بِعِلَّةٍ مُتَعَدِّيَةٍ إِِلَى الْفَرْعِ، لِيُلْحَقَ بِالأَْصْل. (2)
وَاخْتَلَفُوا فِي التَّعْلِيل بِالْعِلَل الْقَاصِرَةِ. وَمَحَل تَفْصِيل ذَلِكَ الْمُلْحَقُ الأُْصُولِيُّ.
ب - التَّعَدِّي بِالسِّرَايَةِ:
19 - وَمِثَالُهُ: إِِذَا أَوْقَدَ شَخْصٌ نَارًا فِي أَرْضِهِ أَوْ فِي مِلْكِهِ، أَوْ فِي مَوَاتِ حِجْرِهِ، أَوْ فِيمَا يَسْتَحِقُّ الاِنْتِفَاعَ بِهِ، فَطَارَتْ شَرَارَةٌ إِِلَى دَارِ جَارِهِ
__________
(1) فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت 2 / 260.
(2) المستصفى 2 / 345، وإرشاد الفحول ص 208 - 209، وجمع الجوامع بحاشية البناني 2 / 241، وفواتح الرحموت 2 / 286.(12/239)
فَأَحْرَقَتْهَا، فَإِِنْ كَانَ الإِِْيقَادُ بِطَرِيقَةٍ مِنْ شَأْنِهَا أَلاَّ تَنْتَقِل النَّارُ إِِلَى مِلْكِ الْغَيْرِ - فَإِِنَّهُ لاَ يَضْمَنُ، وَإِِلاَّ فَإِِنَّهُ يَضْمَنُ لِتَعَدِّيهِ، سَوَاءٌ كَانَ إِيقَادُ النَّارِ، وَالرِّيحُ عَاصِفٌ، أَمْ بِاسْتِعْمَال مَوَادَّ تَنْتَشِرُ مَعَهَا النَّارُ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ. (1) وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ (ضَمَانٌ، إِحْرَاقٌ) .
آثَارُ التَّعَدِّي:
20 - سَبَقَ أَنَّ التَّعَدِّيَ يَكُونُ عَلَى الْمَال، وَعَلَى النَّفْسِ وَمَا دُونَهَا، وَعَلَى الْعِرْضِ، وَلِلتَّعَدِّي بِأَنْوَاعِهِ آثَارٌ نُجْمِلُهَا فِيمَا يَلِي:
(1) الضَّمَانُ: وَذَلِكَ فِيمَا يَخُصُّ الأَْمْوَال بِالْغَصْبِ وَالإِِْتْلاَفِ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ، أَوْ فِيمَا يَخُصُّ الْقَتْل بِأَنْوَاعِهِ، إِِذَا صُولِحَ فِي عَمْدِهِ عَلَى مَالٍ، أَوْ عَفَا أَحَدُ الأَْوْلِيَاءِ عَنِ الْقِصَاصِ - وَمِثْل ذَلِكَ الْجِنَايَةُ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ.
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ كُلٌّ فِي بَابِهِ.
(2) الْقِصَاصُ: وَيَكُونُ فِي الْعَمْدِ مِنْ قَتْلٍ أَوْ قَطْعِ عُضْوٍ أَوْ إِتْلاَفِهِ مِمَّا فِيهِ الْقِصَاصُ، وَيُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (قَتْلٌ، قِصَاصٌ) .
(3) الْحَدُّ: وَهُوَ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ التَّعَدِّي فِي السَّرِقَةِ، وَالزِّنَى، وَالْقَذْفِ، وَمَا إِِلَى ذَلِكَ، وَيُنْظَرُ كُلٌّ فِي مُصْطَلَحِهِ.
__________
(1) الفتاوى الهندية 3 / 459، ومواهب الجليل 6 / 321، وروضة الطالبين 5 / 285، وكشاف القناع 2 / 367، ومجمع الضمانات ص 161.(12/239)
(4) التَّعْزِيرُ: وَهُوَ حَقُّ الإِِْمَامِ يُعَاقِبُ بِهِ الْجُنَاةَ وَيَكُونُ التَّعْزِيرُ: بِالْحَبْسِ أَوْ بِالْجَلْدِ أَوْ بِمَا يَرَاهُ الْحَاكِمُ مُنَاسِبًا. انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (تَعْزِيرٌ) .
(5) الْمَنْعُ مِنَ الْمِيرَاثِ: وَذَلِكَ كَقَتْل الْوَارِثِ مُوَرِّثَهُ، عَلَى خِلاَفٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي الْعَمْدِ وَغَيْرِهِ. انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (إِرْثٌ) .(12/240)
تَعْدِيلٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - لِلتَّعْدِيل فِي اللُّغَةِ مَعْنَيَانِ:
أ - التَّسْوِيَةُ وَالتَّقْوِيمُ، يُقَال: عَدَّل الْحُكْمَ وَالشَّيْءَ تَعْدِيلاً: أَقَامَهُ، وَالْمِيزَانَ: سَوَّاهُ فَاعْتَدَل.
ب - التَّزْكِيَةُ، يُقَال: عَدَّل الشَّاهِدَ أَوِ الرَّاوِيَ تَعْدِيلاً: نَسَبَهُ إِِلَى الْعَدَالَةِ وَوَصَفَهُ بِهَا. (1) وَمَعْنَاهُ فِي الاِصْطِلاَحِ الشَّرْعِيِّ، لاَ يَخْرُجُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
التَّجْرِيحُ:
2 - التَّجْرِيحُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ جَرَّحَهُ، يُقَال: جَرَّحْت الشَّاهِدَ: إِِذَا أَظْهَرَتْ فِيهِ مَا تُرَدُّ بِهِ شَهَادَتُهُ
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنْ ذَلِكَ. (2)
__________
(1) لسان العرب تاج العروس والمصباح المنير مادة: " عدل "، وروضة الطالبين 3 / 184، وفتح القدير 1 / 210.
(2) تاج العروس مادة: " جرح "، وجامع الأصول في أحاديث الرسول لابن الأثير 1 / 126.(12/240)
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
أ - تَعْدِيل الشُّهُودِ:
3 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ إِِلَى أَنَّهُ: يَجِبُ عَلَى الْقَاضِي أَنْ يَطْلُبَ تَعْدِيل الشُّهُودِ إِِذَا لَمْ يَعْلَمْ عَدَالَتَهُمْ، سَوَاءٌ أَطَعَنَ الْخَصْمُ أَمْ لَمْ يَطْعَنْ، وَلاَ يَجُوزُ لَهُ قَبُول شَهَادَتِهِمْ بِغَيْرِ تَعْدِيلٍ. (1)
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: يَقْبَل الْحَاكِمُ شَهَادَةَ الشَّاهِدِ الْمُسْلِمِ الظَّاهِرِ الْعَدَالَةِ، وَلاَ يَسْأَل عَنْ حَال الشُّهُودِ حَتَّى يَطْعَنَ الْخَصْمُ، لِقَوْل النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: الْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، إِلاَّ مَحْدُودًا فِي فِرْيَةٍ (2) .
وَاسْتُثْنِيَ مِنْ هَذَا شُهُودُ الْحُدُودِ، وَالْقِصَاصِ فَيُشْتَرَطُ عِنْدَهُ الاِسْتِقْصَاءُ، لأَِنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ. (3)
وَفِي تَعْدِيل الشُّهُودِ وَرُوَاةِ الْحَدِيثِ تَفْصِيلاَتٌ وَخِلاَفٌ تُنْظَرُ فِي (تَزْكِيَةٌ) .
ب - تَعْدِيل الأَْرْكَانِ فِي الصَّلاَةِ:
4 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ: عَلَى وُجُوبِ تَعْدِيل الأَْرْكَانِ
__________
(1) روضة الطالبين 11 / 166 - 167، ومعين الحكام ص 105، وابن عابدين 4 / 372، ومواهب الجليل 6 / 151، وكشاف القناع 6 / 348.
(2) حديث: " المسلمون عدول بعضهم على بعض. . . " أخرجه ابن أبي شيبة (6 / 172 - ط الدار السلفية - بمبي) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وإسناده حسن.
(3) فتح القدير 6 / 457، وابن عابدين 4 / 372، ومعين الحكام ص 105.(12/241)
فِي الصَّلاَةِ، بِمَعْنَى الطُّمَأْنِينَةِ فِيهَا، مِنْ رُكُوعٍ، وَسُجُودٍ وَجُلُوسٍ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ وَاعْتِدَالٍ مِنَ الرُّكُوعِ، إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ قَالُوا بِالْوُجُوبِ دُونَ الْفَرْضِيَّةِ، عَلَى اصْطِلاَحِهِمْ - بِمَعْنَى: أَنَّهُ يَأْثَمُ بِتَرْكِ الْوَاجِبِ عَمْدًا، وَتَجِبُ إِعَادَةُ الصَّلاَةِ، لِرَفْعِ الإِِْثْمِ مَعَ صِحَّتِهَا - دُونَ الْفَرْضِ.
وَقَال الْجُمْهُورُ: إِنَّ التَّعْدِيل فِي الْمَذْكُورَاتِ وَاجِبٌ، بِمَعْنَى: أَنَّهُ فَرْضٌ وَرُكْنٌ، تَبْطُل الصَّلاَةُ بِتَرْكِهِ، عَمْدًا أَوْ سَهْوًا. (1)
وَدَلِيل الْمَسْأَلَةِ حَدِيثِ الْمُسِيءِ صَلاَتُهُ الْمَعْرُوفُ. (2)
ج - قِسْمَةُ التَّعْدِيل:
5 - وَهِيَ: أَنْ تُقْسَمَ الْعَيْنُ الْمُشْتَرَكَةُ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ، لاَ بِعَدَدِ الأَْجْزَاءِ، كَأَرْضٍ مَثَلاً تَخْتَلِفُ قِيمَةُ أَجْزَائِهَا بِاخْتِلاَفِهَا فِي قُوَّةِ الإِِْنْبَاتِ، أَوِ الْقُرْبِ مِنَ الْمَاءِ، أَوْ بِسَقْيِ بَعْضِهَا بِالنَّهْرِ، وَبَعْضِهَا بِالنَّاضِحِ أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ.
فَيَكُونُ ثُلُثُهَا مَثَلاً يُسَاوِي بِالْقِيمَةِ ثُلُثَيْهَا، فَتُقْسَمُ قِسْمَةُ التَّعْدِيل. فَيُجْعَل الثُّلُثُ سَهْمًا وَالثُّلُثَانِ سَهْمًا، إِلْحَاقًا لِلتَّسَاوِي بِالْقِيمَةِ
__________
(1) مراقي الفلاح بحاشية الطحطاوي (135 و 136) ، ومواهب الجليل 1 / 125، ومغني المحتاج 1 / 163 وما بعدها، والمغني 1 / 508.
(2) حديث " المسيء صلاته. . . " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 99 - ط السلفية) ومسلم (1 / 403 - ط الحلبي) .(12/241)
بِالتَّسَاوِي فِي الأَْجْزَاءِ. وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (قِسْمَةٌ) .
د - التَّعْدِيل فِي دَمِ جَزَاءِ الصَّيْدِ فِي الْمَنَاسِكِ:
6 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: إِِلَى أَنَّ جَزَاءَ الصَّيْدِ الْمِثْلِيِّ عَلَى التَّخْيِيرِ وَالتَّعْدِيل، فَيَجُوزُ فِيهِ الْعُدُول عَنِ الْمِثْل إِِلَى قِيمَةِ الْمِثْل، أَوْ قِيمَةِ الصَّيْدِ، عَلَى اخْتِلاَفٍ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ، يُرْجَعُ إِِلَى مَوْطِنِهِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} ، (1) أَمَّا غَيْرُ الْمِثْلِيِّ مِنَ الصَّيْدِ فَيَتَصَدَّقُ بِقِيمَتِهِ طَعَامًا، أَوْ يَصُومُ عَنْ كُل مُدٍّ يَوْمًا. (2)
أَمَّا بَاقِي الدِّمَاءِ الْوَاجِبَةِ بِتَرْكِ وَاجِبٍ، أَوِ ارْتِكَابِ مَنْهِيٍّ، فَفِي جَوَازِ التَّعْدِيل فِيهَا خِلاَفٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، وَتَفْصِيلُهُ فِي (إِحْرَامٌ) .
__________
(1) سورة المائدة / 95.
(2) ابن عابدين 2 / 214 و 215، والقوانين الفقهية 93، ومغني المحتاج 1 / 529، والمغني 3 / 519.(12/242)
تَعْذِيبٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّعْذِيبُ: مَصْدَرُ عَذَّبَ، يُقَال: عَذَّبَهُ تَعْذِيبًا: إِِذَا مَنَعَهُ، وَفَطَمَهُ عَنِ الأَْمْرِ. قَال ابْنُ فَارِسٍ: أَصْل الْعَذَابِ الضَّرْبُ، ثُمَّ اسْتُعِيرَ ذَلِكَ فِي كُل شِدَّةٍ، يُقَال مِنْهُ: عَذَّبَ تَعْذِيبًا وَالْعَذَابُ: اسْمٌ بِمَعْنَى النَّكَال وَالْعُقُوبَةِ. (1) وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} . (2) وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنْ ذَلِكَ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّعْزِيرُ:
2 - التَّعْزِيرُ: تَفْعِيلٌ مِنَ الْعَزْرِ، بِمَعْنَى: الْمَنْعِ وَالإِِْجْبَارِ عَلَى الأَْمْرِ، وَأَصْلُهُ النُّصْرَةُ وَالتَّعْظِيمُ. (3)
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 1 / 192، ولسان العرب، والمصباح المنير مادة: " عذب "، ومعجم مقاييس اللغة لابن فارس 4 / 260.
(2) سورة الأحزاب / 30.
(3) القاموس والمصباح مادة: " عزر ".(12/242)
وَفِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ: عِبَارَةٌ عَنِ التَّأْدِيبِ دُونَ الْحَدِّ. وَكُل مَا لَيْسَ فِيهِ حَدٌّ مُقَدَّرٌ شَرْعًا فَمُوجِبُهُ التَّعْزِيرُ.
وَالتَّعْذِيبُ أَعَمُّ مِنَ التَّعْزِيرِ مِنْ وَجْهٍ، لأَِنَّ التَّعْزِيرَ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بِحَقٍّ شَرْعِيٍّ، بِخِلاَفِ التَّعْذِيبِ. فَقَدْ يَكُونُ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا.
وَالتَّعْزِيرُ أَعَمُّ مِنْ حَيْثُ مَا يَكُونُ بِهِ التَّعْزِيرُ.
ب - التَّأْدِيبُ:
3 - التَّأْدِيبُ مَصْدَرُ أَدَّبَ، مُضَعَّفًا، وَثُلاَثِيُّهُ: أَدَبَ، مِنْ بَابِ ضَرَبَ، يُقَال: أَدَّبْتُهُ أَدَبًا، أَيْ عَلَّمْتَهَ رِيَاضَةَ النَّفْسِ، وَمَحَاسِنَ الأَْخْلاَقِ. وَيُقَال: أَدَّبْتُهُ تَأْدِيبًا مُبَالَغَةً وَتَكْثِيرًا: أَيْ عَاقَبْتَهُ عَلَى إِسَاءَتِهِ، لأَِنَّ التَّأْدِيبَ سَبَبٌ يَدْعُو إِِلَى حَقِيقَةِ الأَْدَبِ. (1)
وَالنِّسْبَةُ بَيْنَ التَّعْذِيبِ وَالتَّأْدِيبِ: عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مِنْ وَجْهٍ، يَجْتَمِعَانِ فِي التَّعْزِيرِ، لأَِنَّ فِيهِ تَعْذِيبًا وَتَأْدِيبًا.
وَيَفْتَرِقُ التَّعْذِيبُ عَنِ التَّأْدِيبِ فِي التَّعْذِيبِ الْمَمْنُوعِ شَرْعًا، فَإِِنَّهُ تَعْذِيبٌ، وَلَيْسَ تَأْدِيبًا، وَيَفْتَرِقُ التَّأْدِيبُ عَنِ التَّعَذُّبِ فِي التَّأْدِيبِ بِالْكَلاَمِ وَالنُّصْحِ مِنْ غَيْرِ ضَرْبٍ، فَإِِنَّهُ تَأْدِيبٌ وَلاَ يُطْلَقُ عَلَيْهِ تَعْذِيبٌ.
ج - التَّمْثِيل:
4 - التَّمْثِيل: مَصْدَرُ مَثَّل. وَأَصْلُهُ الثُّلاَثِيِّ:
__________
(1) لسان العرب المحيط، والمصباح المنير مادة: " أدب ".(12/243)
مَثَل، يُقَال: مُثَلَّثُ بِالْقَتِيل: إِِذَا جَدَعْتَهُ، وَظَهَرَتْ آثَارُ فِعْلِك عَلَيْهِ تَنْكِيلاً وَالتَّشْدِيدُ مُبَالَغَةٌ، وَالاِسْمُ الْمُثْلَةُ - وِزَانُ غُرْفَةٍ - وَالْمَثُلَةُ - بِفَتْحِ الْمِيمِ وَضَمِّ الثَّاءِ: الْعُقُوبَةُ. (1)
وَالنِّسْبَةُ بَيْنَ التَّعْذِيبِ وَالتَّمْثِيل، عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مُطْلَقٌ. فَالتَّعْذِيبُ أَعَمُّ مِنَ التَّمْثِيل، فَكُل تَمْثِيلٍ تَعْذِيبٌ، وَلَيْسَ كُل تَعْذِيبٍ تَمْثِيلاً. وَلاَ فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ، لأَِنَّ الآْثَارَ تَدُل: عَلَى أَنَّ الْمَيِّتَ يَتَأَذَّى بِمَا يَتَأَذَّى بِهِ الْحَيُّ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
5 - يَخْتَلِفُ حُكْمُ التَّعْذِيبِ بِاخْتِلاَفِ الأَْحْوَال وَالأَْسْبَابِ. وَالدَّوَاعِي لِلتَّعْذِيبِ بَعْضُهَا يَرْجِعُ إِِلَى قَصْدِ الْمُعَذِّبِ، سَوَاءٌ أَكَانَ بِالطَّرِيقِ الْمُبَاشِرِ، أَمْ غَيْرِ الْمُبَاشِرِ.
التَّعْذِيبُ فِي الأَْصْل مَمْنُوعٌ شَرْعًا، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِينَ يُعَذِّبُونَ النَّاسَ فِي الدُّنْيَا. (2)
وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الَّذِي يَتَوَلَّى الْقِصَاصَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ: هُوَ الإِِْمَامُ، وَلَيْسَ لِلأَْوْلِيَاءِ ذَلِكَ، لأَِنَّهُ لاَ يُؤْمَنُ مِنْهُمُ التَّجَاوُزُ، أَوِ التَّعْذِيبُ. وَأَمَّا فِي النَّفْسِ، فَالْحَنَابِلَةُ اشْتَرَطُوا
__________
(1) المصباح المنير والمغرب في ترتيب المعرب، وتهذيب الأسماء واللغات والمنجد في اللغة مادة: " مثل " ومعجم الفقه الحنبلي 2 / 874.
(2) حديث: " إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا ". أخرجه مسلم (4 / 2017 ط الحلبي) في حديث هشام بن حكيم بن حزام.(12/243)
حُضُورَ الإِِْمَامِ، أَوْ نَائِبِهِ، لِلاِحْتِرَازِ عَنِ التَّعْذِيبِ. (1)
أَنْوَاعُ التَّعْذِيبِ:
6 - يَنْقَسِمُ التَّعْذِيبُ إِِلَى قِسْمَيْنِ:
الأَْوَّل: تَعْذِيبُ الإِِْنْسَانِ.
الثَّانِي: تَعْذِيبُ الْحَيَوَانِ.
وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَنْقَسِمُ: إِِلَى مَشْرُوعٍ، وَغَيْرِ مَشْرُوعٍ، فَالأَْقْسَامُ أَرْبَعَةٌ وَهِيَ:
(1) التَّعْذِيبُ الْمَشْرُوعُ لِلإِِْنْسَانِ.
(2) التَّعْذِيبُ غَيْرُ الْمَشْرُوعِ لِلإِِْنْسَانِ.
(3) التَّعْذِيبُ الْمَشْرُوعُ لِلْحَيَوَانِ
(4) التَّعْذِيبُ غَيْرُ الْمَشْرُوعِ لِلْحَيَوَانِ
7 - أَمَّا الأَْوَّل: فَهُوَ التَّعْذِيبُ الَّذِي أَمَرَ بِهِ الشَّارِعُ عَلَى وَجْهِ الْفَرْضِيَّةِ، كَالْحُدُودِ، وَالْقِصَاصِ، وَالتَّعْزِيرَاتِ بِأَنْوَاعِهَا. أَوْ عَلَى وَجْهِ النَّدْبِ: كَتَأْدِيبِ الأَْوْلاَدِ. أَوْ عَلَى وَجْهِ الإِِْبَاحَةِ، كَالْكَيِّ فِي التَّدَاوِي، إِِذَا تَعَيَّنَ عِلاَجًا فَإِِنَّهُ مُبَاحٌ. وَإِِذَا لَمْ تَكُنِ الْحَاجَةُ لأَِجْل التَّدَاوِي فَإِِنَّهُ حَرَامٌ، لأَِنَّهُ تَعْذِيبٌ بِالنَّارِ، وَلاَ يُعَذِّبُ بِالنَّارِ إِلاَّ خَالِقُهَا. (2)
وَمِنَ الْمَشْرُوعِ رَمْيُ الأَْعْدَاءِ بِالنَّارِ وَلَوْ حَصَل
__________
(1) البدائع 7 / 242، ونهاية المحتاج 7 / 386، والدسوقي 4 / 359، والبحر الرائق 8 / 339.
(2) حاشية ابن عابدين 6 / 388، والمغني لابن قدامة 1 / 176، ونيل الأوطار 8 / 212، 215، ونهاية المحتاج 8 / 30.(12/244)
تَعْذِيبُهُمْ بِهَا، وَذَلِكَ عِنْدَ عَدَمِ إِمْكَانِ أَخْذِهِمْ بِغَيْرِ التَّحْرِيقِ، لأَِنَّ الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ فَعَلُوا ذَلِكَ فِي غَزَوَاتِهِمْ، وَأَمَّا تَعْذِيبُهُمْ بِالنَّارِ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ فَلاَ يَجُوزُ، لِمَا رَوَى حَمْزَةُ الأَْسْلَمِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّرَهُ عَلَى سَرِيَّةٍ وَقَال لَهُ: إِنْ وَجَدْتُمْ فُلاَنًا فَأحْرِقُوهُ بِالنَّارِ فَوَلَّيْتُ فَنَادَانِي، فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ فَقَال: إِنْ وَجَدْتُمْ فُلاَنًا فَاقْتُلُوهُ، وَلاَ تَحْرُقُوهُ، فَإِِنَّهُ لاَ يُعَذِّبُ بِالنَّارِ إِلاَّ رَبُّ النَّارِ (1)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (إِحْرَاقٌ 2 125)
وَمِنْ أَنْوَاعِ التَّعْذِيبِ الْمَشْرُوعِ: ضَرْبُ الأَْبِ أَوِ الأُْمِّ وَلَدَهُمَا تَأْدِيبًا، وَكَذَلِكَ الْوَصِيُّ، أَوِ الْمُعَلِّمِ بِإِِذْنِ الأَْبِ تَعْلِيمًا.
وَذَكَرَ فِي الْقُنْيَةِ:
لَهُ إِكْرَاهُ طِفْلِهِ عَلَى تَعَلُّمِ الْقُرْآنِ، وَالأَْدَبِ، وَالْعِلْمِ، لِفَرْضِيَّتِهِ عَلَى الْوَالِدَيْنِ، وَلَهُ ضَرْبُ الْيَتِيمِ فِيمَا يَضْرِبُ وَلَدَهُ، وَالأُْمُّ كَالأَْبِ فِي التَّعْلِيمِ، بِخِلاَفِ التَّأْدِيبِ، فَإِِنَّهُ لَوْ مَاتَ الصَّبِيُّ بِضَرْبِ الأُْمِّ تَأْدِيبًا فَعَلَيْهَا الضَّمَانُ.
وَمِمَّا يُذْكَرُ: أَنَّ ضَرْبَ التَّأْدِيبِ مُقَيَّدٌ بِوَصْفِ السَّلاَمَةِ، وَمَحَلُّهُ فِي الضَّرْبِ الْمُعْتَادِ، كَمًّا وَكَيْفًا وَمَحَلًّا، فَلَوْ ضَرَبَهُ عَلَى الْوَجْهِ أَوْ عَلَى الْمَذَاكِيرِ
__________
(1) حديث: " إن وجدتم فلانا فأحرقوه بالنار " أخرجه أبو داود (3 / 124 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وصححه ابن حجر في الفتح (6 / 149 - ط السلفية) .(12/244)
يَجِبُ الضَّمَانُ بِلاَ خِلاَفٍ، وَلَوْ سَوْطًا وَاحِدًا، لأَِنَّهُ إِتْلاَفٌ. (1)
وَمِنَ التَّعْذِيبِ الْمَشْرُوعِ لِلإِِْنْسَانِ ثَقْبُ أُذُنِ الطِّفْل مِنَ الْبَنَاتِ، لأَِنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يَفْعَلُونَهُ فِي زَمَنِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ.
تَعْذِيبُ الْمُتَّهَمِ:
8 - قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ الْمُتَّهَمَ بِسَرِقَةٍ وَنَحْوِهَا إِِلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ:
إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُتَّهَمُ مَعْرُوفًا بِالصَّلاَحِ، فَلاَ تَجُوزُ عُقُوبَتُهُ اتِّفَاقًا.
وَإِِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُتَّهَمُ مَجْهُول الْحَال لاَ يُعْرَفُ بِبِرٍّ وَلاَ فُجُورٍ، فَهَذَا يُحْبَسُ حَتَّى يَنْكَشِفَ حَالُهُ، وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ. وَالْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ عِنْدَ أَكْثَرِ الأَْئِمَّةِ: أَنَّهُ يَحْبِسُهُ الْقَاضِي وَالْوَالِي، لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ، وَأَحْمَدُ، مِنْ حَدِيثِ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ. عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَبَسَ فِي تُهْمَةٍ (2) .
وَإِِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُتَّهَمُ مَعْرُوفًا بِالْفُجُورِ، كَالسَّرِقَةِ، وَقَطْعِ الطَّرِيقِ، وَالْقَتْل، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَيَجُوزُ حَبْسُهُ وَضَرْبُهُ، كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزُّبَيْرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، بِتَعْذِيبِ الْمُتَّهَمِ الَّذِي غَيَّبَ مَالَهُ حَتَّى أَقَرَّ بِهِ. (3) وَقَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: مَا عَلِمْتُ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 363.
(2) حديث: " حبس النبي صلى الله عليه وسلم في تهمة " أخرجه الترمذي (3 / 28 - ط الحلبي) وقال: حديث حسن.
(3) حديث: أمر النبي صلى الله عليه وسلم الزبير بتعذيب المتهم الذي غيب ماله. أورده ابن عابدين في حاشيته (3 / 195) . ولم نجده فيما بين أيدينا من كتب السنة.(12/245)
أَحَدًا مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ يَقُول: إِنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الدَّعَاوَى يَحْلِفُ، وَيُرْسَل بِلاَ حَبْسٍ، وَلاَ غَيْرِهِ. وَقَال الْبُجَيْرِمِيُّ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّرْبَ حَرَامٌ فِي الشِّقَّيْنِ، أَيْ سَوَاءٌ كَانَ ضُرِبَ لِيُقِرَّ، أَوْ لِيَصْدُقَ، خِلاَفًا لِمَا تُوُهِّمَ حِلُّهُ إِِذَا ضُرِبَ لِيَصْدُقَ.
وَقَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: وَاخْتَلَفُوا فِيهِ: هَل الَّذِي يَضْرِبُهُ الْوَالِي دُونَ الْقَاضِي، أَوْ كِلاَهُمَا؟ أَوْ لاَ يُسَوَّغُ ضَرْبُهُ، عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَضْرِبُهُ الْوَالِي وَالْقَاضِي، وَهَذَا قَوْل طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ، مِنْهُمْ أَشْهَبُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَإِِنَّهُ قَال: يُمْتَحَنُ بِالْحَبْسِ وَالضَّرْبِ، وَيُضْرَبُ بِالسَّوْطِ مُجَرَّدًا.
الْقَوْل الثَّانِي: أَنَّهُ يَضْرِبُهُ الْوَالِي دُونَ الْقَاضِي، وَهَذَا قَوْل بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ.
الْقَوْل الثَّالِثُ: أَنَّهُ يُحْبَسُ وَلاَ يُضْرَبُ، وَهَذَا قَوْل أَصْبَغَ، ثُمَّ قَالَتْ طَائِفَةٌ، مِنْهُمْ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَمُطَرِّفٌ، وَابْنُ الْمَاجِشُونِ: إِنَّهُ يُحْبَسُ حَتَّى يَمُوتَ. (1)
9 - أَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي: وَهُوَ التَّعْذِيبُ غَيْرُ الْمَشْرُوعِ
__________
(1) المبسوط 9 / 195 و 24 / 51، 70، وابن عابدين 3 / 195، والمدونة 6 / 293، والدسوقي 4 / 345، والزرقاني 8 / 106 - 107، والطرق الحكمية 100 - 104، وحاشية البجيرمي 3 / 73، ونهاية المحتاج 5 / 71.(12/245)
لِلإِِْنْسَانِ، فَمِنْهُ تَعْذِيبُ الأَْسْرَى، فَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ عَدَمَ جَوَازِ تَعْذِيبِهِمْ، لأَِنَّ الإِِْسْلاَمَ يَدْعُو إِِلَى الرِّفْقِ بِالأَْسْرَى، وَإِِطْعَامِهِمْ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} (1) وَفِي الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ لاَ تَجْمَعُوا عَلَيْهِمْ حَرَّ الشَّمْسِ، وَحَرَّ السِّلاَحِ، قِيلُوهُمْ حَتَّى يَبْرُدُوا (2) وَهَذَا الْكَلاَمُ فِي أَسَارَى بَنِي قُرَيْظَةَ، حِينَمَا كَانُوا فِي الشَّمْسِ. (3)
وَإِِذَا كَانَ هُنَاكَ خَوْفُ الْفِرَارِ، فَيَصِحُّ حَبْسُ الأَْسِيرِ مِنْ غَيْرِ تَعْذِيبٍ، وَإِِذَا رُجِيَ أَنْ يَدُل عَلَى أَسْرَارِ الْعَدُوِّ جَازَ تَهْدِيدُهُ وَتَعْذِيبُهُ بِالْقَدْرِ الْكَافِي، لِتَحْقِيقِ ذَلِكَ، وَدَلِيل ذَلِكَ: مَا رُوِيَ عَنِ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ أَمَرَ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ بِتَعْذِيبِ مَنْ كَتَمَ خَبَرَ الْمَال، الَّذِي كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ عَاهَدَهُمْ عَلَيْهِ، وَقَال لَهُ: أَيْنَ كَنْزُ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ؟ فَقَال: يَا مُحَمَّدُ، أَنْفَذَتْهُ النَّفَقَاتُ وَالْحُرُوبُ، فَقَال: الْمَال كَثِيرٌ وَالْمَسْأَلَةُ أَقْرَبُ، وَقَال لِلزُّبَيْرِ: دُونَكَ هَذَا. فَمَسَّهُ الزُّبَيْرُ بِشَيْءٍ مِنَ الْعَذَابِ، فَدَلَّهُمْ عَلَى الْمَال. (4)
__________
(1) سورة الإنسان / 8.
(2) حديث: " لا تجمعوا عليهم حر الشمس وحر السلاح ". أخرجه الواقدي في كتاب المغازي (2 / 514 - نشر مؤسسة الأعلمي) .
(3) شرح السير الكبير 3 / 1029، وفتح الباري 1 / 555، والتاج والإكليل بهامش مواهب الجليل 3 / 353، والنووي شرح صحيح مسلم 13 / 87.
(4) حديث: " أمر بتعذيب من كتم خبر المال ". أورده ابن عابدين وحاشيته (3 / 195) ولم نجده فيما بين أيدينا من كتاب السنة.(12/246)
لَكِنْ إِِذَا كَانُوا يُعَذِّبُونَ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ يَجُوزُ مُعَامَلَتُهُمْ بِالْمِثْل، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْل مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} (1) وَقَوْلُهُ أَيْضًا {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْل مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} (2)
قَال الْبَاجِيُّ: لاَ يُمَثَّل بِالأَْسِيرِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونُوا مَثَّلُوا بِالْمُسْلِمِينَ.
وَقَال ابْنُ حَبِيبٍ: قَتْل الأَْسِيرِ بِضَرْبِ عُنُقِهِ، لاَ يُمَثَّل بِهِ، وَلاَ يُعْبَثُ عَلَيْهِ. قِيل لِمَالِكٍ: أَيُضْرَبُ وَسَطُهُ؟ فَقَال: قَال اللَّهُ سُبْحَانَهُ {فَضَرْبَ الرِّقَابِ} (3) لاَ خَيْرَ فِي الْعَبَثِ. (4)
10 - وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّالِثُ: وَهُوَ التَّعْذِيبُ الْمَشْرُوعُ لِلْحَيَوَانِ - فَقَدْ ذَكَرُوا لَهُ أَمْثِلَةً، مِنْهَا:
أ - تَعْذِيبُ مَاشِيَةِ الزَّكَاةِ وَالْجِزْيَةِ بِالْوَسْمِ - فَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِِلَى جَوَازِهِ، لِمَا رُوِيَ مِنْ فِعْل الصَّحَابَةِ فِي مَاشِيَةِ الزَّكَاةِ وَالْجِزْيَةِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ بَأْسَ بِكَيِّ الْبَهَائِمِ لِلْعَلاَمَةِ، لأَِنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِي زَمَنِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ إِنْكَارٍ. (5)
__________
(1) سورة النحل / 126.
(2) سورة البقرة / 194.
(3) سورة محمد / 4.
(4) شرح السير الكبير 3 / 1029، وفتح الباري 1 / 555، والتاج والإكليل 3 / 353.
(5) حاشية ابن عابدين 6 / 388 ط الحلبي 1966، والمغني لابن قدامة 3 / 574، ونيل الأوطار 8 / 90 / 92.(12/246)
ب - إِلْقَاءُ السَّمَكِ الْحَيِّ فِي النَّارِ لِيَصِيرَ مَشْوِيًّا فَإِِنَّ الْمَالِكِيَّةَ ذَهَبُوا: إِِلَى جَوَازِهِ، وَذَهَبَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: إِِلَى أَنَّ هَذَا الْعَمَل مَكْرُوهٌ، وَمَعَ هَذَا فَقَدْ رَأَى جَوَازَ أَكْلِهِ، وَهَذَا بِخِلاَفِ شَيِّ الْجَرَادِ حَيًّا، فَإِِنَّهُ يُجِيزُهُ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ، لِمَا أُثِرَ أَنَّ الصَّحَابَةَ فَعَلُوا ذَلِكَ، مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ. (1)
ج - وَمِنْ ذَلِكَ التَّعْذِيبِ الْجَائِزِ: ضَرْبُ الْحَيَوَانِ بِقَدْرِ مَا يَحْصُل بِهِ التَّعْلِيمُ وَالتَّرْوِيضُ، وَيُخَاصَمُ الضَّارِبُ فِيمَا زَادَ عَلَى الْقَدْرِ الَّذِي يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، كَمَا فِي الْبَحْرِ الرَّائِقِ. (2)
11 - وَأَمَّا النَّوْعُ الرَّابِعُ: وَهُوَ التَّعْذِيبُ (غَيْرُ الْمَشْرُوعِ) لِلْحَيَوَانِ:
فَمِنْهُ: تَعْذِيبُ الْحَيَوَانِ بِالْمَنْعِ مِنَ الأَْكْل وَالشُّرْبِ، لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا، فَلَمْ تُطْعِمْهَا، وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُل مِنْ خَشَاشِ الأَْرْضِ. (3)
وَمِنْهُ: اتِّخَاذُ ذِي رُوحٍ غَرَضًا، أَيْ هَدَفًا لِلرَّمْيِ. (4)
__________
(1) المغني 11 / 41، والحرشي 1 / 93 ط دار صادر بيروت، وحاشية ابن عابدين 6 / 354، ونهاية المحتاج 1 / 132.
(2) ابن عابدين 5 / 24.
(3) حديث: " دخلت امرأة النار في هرة. . . " أخرجه البخاري (الفتح 6 / 356 - ط السلفية) . وانظر نيل الأوطار 7 / 144.
(4) نيل الأوطار 8 / 249.(12/247)
وَمِنْهُ: قَطْعُ رَأْسِ الْحَيَوَانِ الْمَذْبُوحِ وَسَلْخُهُ قَبْل أَنْ يَبْرُدَ، وَيَسْكُنَ عَنِ الاِضْطِرَابِ. (1)
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
12 - ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ التَّعْذِيبَ فِي مَوَاضِعَ شَتَّى سَبَقَ ذِكْرُ عَدَدٍ مِنْهَا خِلاَل الْبَحْثِ. وَمِنْهَا أَيْضًا: الْجِنَايَاتُ، وَالتَّعْزِيرَاتُ، وَالتَّأْدِيبُ، وَالتَّذْكِيَةُ، وَالأَْسْرُ، وَالسِّيَاسَةُ الشَّرْعِيَّةُ، وَالْجِهَادُ (السِّيَرُ) .
__________
(1) ابن عابدين 5 / 188.(12/247)
تَعْرِيضٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّعْرِيضُ: لُغَةً ضِدُّ التَّصْرِيحِ، يُقَال: عَرَّضَ لِفُلاَنٍ وَبِفُلاَنٍ: إِِذَا قَال قَوْلاً عَامًّا، وَهُوَ يَعْنِي فُلاَنًا، وَمِنْهُ: الْمَعَارِيضُ فِي الْكَلاَمِ، كَقَوْلِهِمْ: إِنَّ فِي الْمَعَارِيضِ لَمَنْدُوحَةٌ عَنِ الْكَذِبِ. (1)
وَهُوَ فِي الاِصْطِلاَحِ: مَا يَفْهَمُ بِهِ السَّامِعُ مُرَادَ الْمُتَكَلِّمِ مِنْ غَيْرِ تَصْرِيحٍ. (2)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْكِنَايَةُ
2 - الْكِنَايَةُ: وَهِيَ ذِكْرُ اللاَّزِمِ، وَإِِرَادَةُ الْمَلْزُومِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْكِنَايَةِ وَالتَّعْرِيضِ: أَنَّ التَّعْرِيضَ هُوَ تَضْمِينُ الْكَلاَمِ دَلاَلَةً لَيْسَ فِيهَا ذِكْرٌ، كَقَوْل الْمُحْتَاجِ: جِئْتُكَ لأُِسَلِّمَ عَلَيْكَ، فَيَقْصِدَ مِنَ اللَّفْظِ السَّلاَمَ، وَمِنَ السِّيَاقِ طَلَبَ الْحَاجَةِ. (3)
ب - التَّوْرِيَةُ:
3 - التَّوْرِيَةُ: وَهِيَ أَنْ تُطْلِقَ لَفْظًا ظَاهِرًا (قَرِيبًا)
__________
(1) مختار الصحاح مادة: " عرض ".
(2) تعريفات الجرجاني.
(3) حاشية الطحطاوي 2 / 229، وشرح الزرقاني 3 / 167، والمغرب مادة: " عرض ".(12/248)
فِي مَعْنًى، تُرِيدُ بِهِ مَعْنًى آخَرَ (بَعِيدًا) يَتَنَاوَلُهُ ذَلِكَ اللَّفْظُ، لَكِنَّهُ خِلاَفُ ظَاهِرِهِ. (1) وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ التَّعْرِيضِ: أَنَّ فَائِدَةَ التَّوْرِيَةِ تُرَادُ مِنَ اللَّفْظِ، فَهِيَ أَخَصُّ مِنَ التَّعْرِيضِ، الَّذِي قَدْ يُفْهَمُ الْمُرَادُ مِنْهُ مِنَ السِّيَاقِ وَالْقَرَائِنِ، أَوِ اللَّفْظِ، فَهُوَ أَعَمُّ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
يَخْتَلِفُ حُكْمُ التَّعْرِيضِ بِحَسَبِ مَوْضُوعِهِ كَمَا يَلِي:
أَوَّلاً: التَّعْرِيضُ فِي الْخِطْبَةِ:
4 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي حُرْمَةِ التَّعْرِيضِ بِالْخِطْبَةِ لِمَنْكُوحَةِ الْغَيْرِ، وَالْمُعْتَدَّةِ مِنْ طَلاَقٍ رَجْعِيٍّ، لأَِنَّهَا فِي حُكْمِ الْمَنْكُوحَةِ، كَمَا اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى حُرْمَةِ التَّعْرِيضِ لِمَخْطُوبَةِ مَنْ صُرِّحَ بِإِِجَابَتِهِ وَعُلِمَتْ خِطْبَتُهُ، وَلَمْ يَأْذَنِ الْخَاطِبُ وَلَمْ يُعْرِضْ عَنْهَا. (2) لِخَبَرِ: لاَ يَخْطِبُ الرَّجُل عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ، حَتَّى يَتْرُكَ الْخَاطِبُ قَبْلَهُ أَوْ يَأْذَنَ لَهُ الْخَاطِبُ (3) ر: مُصْطَلَحَ: (خِطْبَةٌ) .
__________
(1) المصباح المنير.
(2) حاشية ابن عابدين 2 / 619، وروضة الطالبين 7 / 30 - 31، والمغني 1 / 658، وحاشية الدسوقي 2 / 219، وشرح روض الطالب 3 / 115، شرح الزرقاني 3 / 167.
(3) حديث: " لا يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى يترك الخاطب. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 9 / 198 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1029 - ط الحلبي) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، واللفظ للبخاري.(12/248)
ثَانِيًا: التَّعْرِيضُ بِخُطْبَةِ الْمُعْتَدَّةِ غَيْرِ الرَّجْعِيَّةِ:
5 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: إِِلَى جَوَازِ التَّعْرِيضِ بِالْخِطْبَةِ لِلْمُعْتَدَّةِ عَنْ وَفَاةٍ، وَلَمْ نَقِفْ عَلَى خِلاَفٍ بَيْنَهُمْ فِيهَا، إِلاَّ قَوْلاً لِلشَّافِعِيَّةِ، مُؤَدَّاهُ: إِنْ كَانَتْ عِدَّةُ الْوَفَاةِ بِالْحَمْل لَمْ يُعَرِّضْ لَهَا، خَوْفًا مِنْ تَكَلُّفِ إِلْقَاءِ الْجَنِينِ، وَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ عِنْدَهُمْ. (1) وَاسْتَدَل الْجُمْهُورُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ} . (2) لأَِنَّهَا وَرَدَتْ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ، كَمَا قَال جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ.
وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ التَّعْرِيضِ لِلْمُعْتَدَّةِ مِنْ طَلاَقٍ بَائِنٍ أَوْ فَسْخٍ فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْظْهَرِ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ: إِِلَى أَنَّهُ يَحِل التَّعْرِيضُ لِبَائِنٍ مُعْتَدَّةٍ بِالأَْقْرَاءِ أَوِ الأَْشْهُرِ، وَذَلِكَ لِعُمُومِ الآْيَةِ، وَلاِنْقِطَاعِ سُلْطَةِ الزَّوْجِ عَلَيْهَا، وَلاَ فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ بَائِنًا بَيْنُونَةً صُغْرَى أَوْ كُبْرَى، أَوْ بِفَسْخٍ، أَوْ فُرْقَةٍ بِلِعَانٍ، أَوْ رَضَاعٍ، فِي الأَْظْهَرِ عِنْدَهُمْ. (3) وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَأَحْمَدَ. (4)
وَمُقَابِل الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَأَحَدُ قَوْلَيْ
__________
(1) المصادر السابقة.
(2) سورة البقرة / 235.
(3) نهاية المحتاج 6 / 203، وقليوبي 3 / 213 - 214، وروضة الطالبين 7 / 30.
(4) المغني 6 / 608، وحاشية الدسوقي 2 / 219.(12/249)
أَحْمَدَ: لاَ يَحِل التَّعْرِيضُ لِلْبَائِنِ بِطَلاَقٍ رَجْعِيٍّ، لأَِنَّ لِصَاحِبِ الْعِدَّةِ الْمُنْتَهِيَةِ أَنْ يَنْكِحَهَا بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ، فَأَشْبَهَتِ الرَّجْعِيَّةَ. (1)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ: إِِلَى أَنَّهُ لاَ يَحِل التَّعْرِيضُ لِمُعْتَدَّةٍ مِنْ طَلاَقٍ بِنَوْعَيْهِ، لإِِِفْضَائِهِ إِِلَى عَدَاوَةِ الْمُطَلِّقِ. وَنَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْفَتْحِ " الإِِْجْمَاعَ " بَيْنَ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى حُرْمَةِ التَّعْرِيضِ لِلْمُعْتَدَّةِ مِنْ طَلاَقٍ مُطْلَقًا، وَيَجُوزُ التَّعْرِيضُ عِنْدَهُمْ لِلْمُعْتَدَّةِ مِنْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ، وَوَطْءِ شُبْهَةٍ. (2)
وَجَوَازُ التَّعْرِيضِ بِالْخِطْبَةِ لِلْمُعْتَدَّةِ مُرْتَبِطٌ بِجَوَازِ خُرُوجِ الْمُعْتَدَّةِ، فَمَنْ يُجَوِّزُ لَهَا الْخُرُوجَ مِنْ بَيْتِ الْعِدَّةِ، يُجَوِّزُ التَّعْرِيضَ بِالْخِطْبَةِ لَهَا، وَمَنْ لاَ يُجَوِّزُ لَهَا الْخُرُوجَ لاَ يُجَوِّزُ التَّعْرِيضَ لَهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. (3)
أَلْفَاظُ التَّعْرِيضِ بِالْخِطْبَةِ:
6 - التَّعْرِيضُ: هُوَ كُل لَفْظٍ يَحْتَمِل الْخِطْبَةَ وَغَيْرَهَا، وَلَكِنَّ الْفُقَهَاءَ يَذْكُرُونَ أَلْفَاظًا لِلتَّمْثِيل لَهُ: كَأَنْتِ جَمِيلَةٌ، وَمَنْ يَجِدُ مِثْلَكَ؟ وَأَنَّ اللَّهَ سَاقَ لَكَ خَيْرًا، رُبَّ رَاغِبٍ فِيكِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ. (4)
__________
(1) المغني 6 / 618، وروضة الطالبين 7 / 30 - 31.
(2) حاشية ابن عابدين 2 / 219.
(3) المصدر السابق.
(4) نهاية المحتاج 6 / 203، وحاشية الدسوقي 2 / 119، والمغني 6 / 608.(12/249)
ثَالِثًا: التَّعْرِيضُ بِالْقَذْفِ:
7 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ بِالتَّعْرِيضِ بِالْقَذْفِ، فَذَهَبَ مَالِكٌ: إِِلَى أَنَّهُ إِِذَا عَرَّضَ بِالْقَذْفِ غَيْرُ أَبٍ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ - إِنْ فُهِمَ الْقَذْفُ بِتَعْرِيضِهِ بِالْقَرَائِنِ، كَخِصَامٍ بَيْنَهُمْ، وَلاَ فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ النَّظْمِ وَالنَّثْرِ، أَمَّا الأَْبُ إِِذَا عَرَّضَ لِوَلَدِهِ فَإِِنَّهُ لاَ يُحَدُّ لِبُعْدِهِ عَنِ التُّهْمَةِ. (1)
وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْنِ لِلإِِْمَامِ أَحْمَدَ، لأَِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اسْتَشَارَ بَعْضَ الصَّحَابَةِ فِي رَجُلٍ قَال لآِخَرَ: مَا أَنَا بِزَانٍ وَلاَ أُمِّي بِزَانِيَةٍ؟ فَقَالُوا: إِنَّهُ قَدْ مَدَحَ أَبَاهُ وَأُمَّهُ، فَقَال عُمَرُ: قَدْ عَرَّضَ لِصَاحِبِهِ، فَجَلَدَهُ الْحَدَّ. (2)
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ التَّعْرِيضَ بِالْقَذْفِ، قَذْفٌ. كَقَوْلِهِ: مَا أَنَا بِزَانٍ، وَأُمِّي لَيْسَتْ بِزَانِيَةٍ، وَلَكِنَّهُ لاَ يُحَدُّ، لأَِنَّ الْحَدَّ يَسْقُطُ لِلشُّبْهَةِ، وَيُعَاقَبُ بِالتَّعْزِيرِ، لأَِنَّ الْمَعْنَى: بَل أَنْتَ زَانٍ. (3)
وَالتَّعْرِيضُ بِالْقَذْفِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، كَقَوْلِهِ: يَا ابْنَ الْحَلاَل، وَأَمَّا أَنَا فَلَسْتُ بِزَانٍ، وَأُمِّي لَيْسَتْ بِزَانِيَةٍ، فَهَذَا كُلُّهُ لَيْسَ بِقَذْفٍ وَإِِنْ نَوَاهُ، لأَِنَّ النِّيَّةَ إِنَّمَا تُؤَثِّرُ، إِِذَا احْتَمَل اللَّفْظَ الْمَنْوِيَّ، وَلاَ دَلاَلَةَ هُنَا فِي اللَّفْظِ وَلاَ احْتِمَال، وَمَا يُفْهَمُ مِنْهُ
__________
(1) شرح الزرقاني 8 / 87.
(2) المغني 8 / 222.
(3) حاشية ابن عابدين 3 / 191.(12/250)
مُسْتَنَدُهُ قَرَائِنُ الأَْحْوَال. هَذَا هُوَ الأَْصَحُّ. وَقِيل: هُوَ كِنَايَةٌ، أَيْ عَنِ الْقَذْفِ، لِحُصُول الْفَهْمِ وَالإِِْيذَاءِ. فَإِِنْ أَرَادَ النِّسْبَةَ إِِلَى الزِّنَى فَقَذْفٌ، وَإِِلاَّ فَلاَ.
وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ حَالَةُ الْغَضَبِ وَغَيْرِهَا. (1)
وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الإِِْمَامِ أَحْمَدَ.
رَابِعًا: التَّعْرِيضُ لِلْمُسْلِمِ بِقَتْل طَالِبِهِ مِنَ الْكُفَّارِ:
8 - يَجُوزُ التَّعْرِيضُ لِلْمُسْلِمِ لِقَتْل مَنْ جَاءَ يَطْلُبُهُ لِيَرُدَّهُ إِِلَى دَارِ الْكُفْرِ، (2) لأَِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال لأَِبِي جَنْدَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ رُدَّ لأَِبِيهِ: اصْبِرْ أَبَا جَنْدَلٍ فَإِِنَّمَا هُمُ الْمُشْرِكُونَ، وَإِِنَّمَا دَمُ أَحَدِهِمْ دَمُ كَلْبٍ (3) يُعَرِّضُ لَهُ بِقَتْل أَبِيهِ.
خَامِسًا - التَّعْرِيضُ لِلْمُقِرِّ بِحَدٍّ خَالِصٍ بِالرُّجُوعِ:
9 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ: إِِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يُعَرِّضَ لَهُ بِالرُّجُوعِ، كَأَنْ يَقُول لَهُ فِي السَّرِقَةِ: لَعَلَّكَ أَخَذْتَ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ، وَفِي الزِّنَى: لَعَلَّكَ فَاخَذْتَ أَوْ لَمَسْتَ، وَفِي
__________
(1) روضة الطالبين 8 / 312.
(2) مغني المحتاج 4 / 264، والمغني 8 / 465 - 466.
(3) قول عمر: اصبر أبا جندل. . . أخرجه أحمد (2 / 325 - ط الميمنية) والبيهقي في سننه (9 / 227 - ط دار المعارف العثمانية) من حديث المسور بن مخرمة الزهري، ومروان بن الحكم، وإسناده حسن.(12/250)
الشُّرْبِ: لَعَلَّك لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ مَا شَرِبْتَ مُسْكِرٌ (1) لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لِمَنْ أَقَرَّ عِنْدَهُ بِالسَّرِقَةِ مَا أَخَالُكَ سَرَقْتَ (2) فَأَعَادَ عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا، وَقَال لِمَاعِزٍ: لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ، أَوْ غَمَزْتَ، أَوْ نَظَرْتَ. (3)
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَهُمْ: لاَ يُعَرَّضُ لَهُ بِالرُّجُوعِ، كَمَا لاَ يُصَرَّحُ.
وَفِي قَوْلٍ: يُعَرَّضُ لَهُ، إِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ لَهُ الرُّجُوعَ، فَإِِنْ عُلِمَ فَلاَ يُعَرَّضُ لَهُ. (4) وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالإِِْمَامُ أَحْمَدُ: إِِلَى أَنَّ التَّعْرِيضَ مَنْدُوبٌ، لِحَدِيثِ مَاعِزٍ وَتَفْصِيلُهُ فِي الْحُدُودِ. (5)
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
10 - يَذْكُرُ الْفُقَهَاءُ التَّعْرِيضَ فِي الأَْبْوَابِ الآْتِيَةِ: فِي كِتَابِ النِّكَاحِ، وَالْعِدَّةِ، وَفِي الْحُدُودِ: فِي الْقَذْفِ، وَالرُّجُوعِ عَنِ الإِِْقْرَارِ. وَفِي الْهُدْنَةِ: وَفِي الأَْيْمَانِ فِي الْقَضَاءِ فَقَطْ.
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 176.
(2) حديث: " ما أخالك سرقت " أخرجه أبو داود (4 / 543 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث أبي أمية المخزومي، وفي إسناده جهالة. (التلخيص لابن حجر 4 / 66 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(3) حديث: " لعلك قبلت. . . " أخرجه البخاري (الفتح 12 / 135 - ط السلفية) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(4) مغني المحتاج 4 / 176.
(5) المغني 8 / 212، وحاشية ابن عابدين 3 / 145.(12/251)
تَعْرِيفٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّعْرِيفُ: مَصْدَرُ عَرَّفَ. وَمِنْ مَعَانِيهِ: الإِِْعْلاَمُ وَالتَّوْضِيحُ، (وَيُقَابِلُهُ التَّجْهِيل) وَإِِنْشَادُ الضَّالَّةِ، وَالتَّطْيِيبُ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْعَرْفِ (1) أَيِ: الرَّائِحَةِ، كَمَا قَال ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (2) فِي قَوْله تَعَالَى: {وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} (3) أَيْ طَيَّبَهَا لَهُمْ. وَالتَّعْرِيفُ: الْوُقُوفُ بِعَرَفَاتٍ. وَيُرَادُ بِهِ أَيْضًا: مَا يَصْنَعُهُ بَعْضُ النَّاسِ فِي بِلاَدِهِمْ يَوْمَ عَرَفَةَ، مِنَ التَّجَمُّعِ وَالدُّعَاءِ، تَشَبُّهًا بِالْحُجَّاجِ، وَيُرَادُ بِهِ أَيْضًا: ذَهَابُ الْحَاجِّ بِالْهَدْيِ إِِلَى عَرَفَاتٍ، لِيُعَرِّفَ النَّاسَ أَنَّهُ هَدْيٌ. (4)
وَأَمَّا فِي الاِصْطِلاَحِ، فَلِلتَّعْرِيفِ عِدَّةُ إِطْلاَقَاتٍ تَبَعًا لِلْعُلُومِ الْمُخْتَلِفَةِ:
أ - فَعِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ:
2 - هُوَ تَحْدِيدُ الْمَفْهُومِ الْكُلِّيِّ، بِذِكْرِ خَصَائِصِهِ
__________
(1) مختار الصحاح، ولسان العرب، والمحيط مادة: " عرف ".
(2) تفسير القرطبي 16 / 231.
(3) سورة محمد / 6.
(4) لسان العرب، والمحيط، ومختار الصحاح، والصحاح في اللغة والعلوم مادة: " عرف "، ودستور العلماء 1 / 315.(12/251)
وَمُمَيَّزَاتِهِ. وَالتَّعْرِيفُ الْكَامِل: هُوَ مَا يُسَاوِي الْمُعَرَّفَ تَمَّامَ الْمُسَاوَاةِ، بِحَيْثُ يَكُونُ جَامِعًا مَانِعًا. وَالْحَدُّ وَالتَّعْرِيفُ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَهُوَ: الْجَامِعُ الْمَانِعُ، سَوَاءٌ أَكَانَ بِالذَّاتِيَّاتِ، أَمْ بِالْعَرْضِيَّاتِ. (1)
ب - عِنْدَ الْفُقَهَاءِ:
3 - لَمْ نَقِفْ لِلْفُقَهَاءِ عَلَى تَعْرِيفٍ خَاصٍّ لِلتَّعْرِيفِ، وَالَّذِي يُسْتَفَادُ مِنَ الْفُرُوعِ الْفِقْهِيَّةِ: أَنَّ اسْتِعْمَالَهُمْ هَذَا اللَّفْظَ لاَ يَخْرُجُ عَنِ الْمَعَانِي اللُّغَوِيَّةِ، لَكِنَّهُمْ عِنْدَ الإِِْطْلاَقِ يُرِيدُونَ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيَّ لَدَى الأُْصُولِيِّينَ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الإِِْعْلاَنُ:
4 - الإِِْعْلاَنُ خِلاَفُ الْكِتْمَانِ، وَالتَّعْرِيفُ أَعَمُّ، مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ قَدْ يَكُونُ سِرًّا، وَقَدْ يَكُونُ عَلاَنِيَةً. (2)
ب - الْكِتْمَانُ أَوِ الإِِْخْفَاءُ:
5 - الْكِتْمَانُ: هُوَ السُّكُوتُ عَنِ الْمَعْنَى، أَوْ إِخْفَاءُ الشَّيْءِ وَسَتْرُهُ، وقَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} أَيْ يَسْكُتُونَ عَنْ ذِكْرِهِ، فَالتَّعْرِيفُ مُقَابِل الإِِْخْفَاءِ وَالْكِتْمَانِ. (3)
__________
(1) الصحاح في اللغة والعلوم " عرف "، والباجوري على السلم ص 72.
(2) الفروق في اللغة / 281.
(3) مختار الصحاح مادة: " خفى " و " كتم " - والفروق اللغة ص 281، والآية من سورة البقرة / 159.(12/252)
حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ:
يَخْتَلِفُ حُكْمُ التَّعْرِيفِ بِاخْتِلاَفِ الْمُعَرَّفِ:
أَوَّلاً: التَّعْرِيفُ فِي الأَْمْصَارِ:
6 - هُوَ قَصْدُ الرَّجُل مَسْجِدَ بَلَدِهِ يَوْمَ عَرَفَةَ، لِلدُّعَاءِ وَالذِّكْرِ، فَهَذَا هُوَ التَّعْرِيفُ فِي الأَْمْصَارِ الَّذِي اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ، فَفَعَلَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَمْرُو بْنُ حُرَيْثٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، مِنَ الصَّحَابَةِ، وَطَائِفَةٌ مِنَ الْبَصْرِيِّينَ، وَالْمَدَنِيِّينَ، وَرَخَّصَ فِيهِ أَحْمَدُ، وَإِِنْ كَانَ مَعَ ذَلِكَ لاَ يَسْتَحِبُّهُ. هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عَنْهُ. وَكَرِهَهُ طَائِفَةٌ مِنَ الْكُوفِيِّينَ، وَالْمَدَنِيِّينَ، كَإِِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَغَيْرِهِمْ.
وَمَنْ كَرِهَهُ قَال: هُوَ مِنَ الْبِدَعِ، فَيَنْدَرِجُ فِي الْعُمُومِ، لَفْظًا وَمَعْنًى. وَمَنْ رَخَّصَ فِيهِ قَال: فَعَلَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بِالْبَصْرَةِ، حِينَ كَانَ خَلِيفَةً لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ، وَمَا يُفْعَل فِي عَهْدِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ غَيْرِ إِنْكَارٍ لاَ يَكُونُ بِدْعَةً.
لَكِنْ مَا يُزَادُ عَلَى ذَلِكَ: مِنْ رَفْعِ الأَْصْوَاتِ الرَّفْعَ الشَّدِيدَ فِي الْمَسَاجِدِ بِالدُّعَاءِ، وَأَنْوَاعٍ مِنَ الْخُطَبِ، وَالأَْشْعَارِ الْبَاطِلَةِ، مَكْرُوهٌ فِي هَذَا الْيَوْمِ وَغَيْرِهِ. قَال الْمَرُّوذِيُّ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُول: يَنْبَغِي أَنْ يُسِرَّ دُعَاءَهُ، لِقَوْلِهِ: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِك وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا} (1) قَال: هَذَا فِي
__________
(1) سورة الإسراء / 110.(12/252)
الدُّعَاءِ. قَال: وَسَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُول: وَكَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالدُّعَاءِ. (1)
ثَانِيًا - تَعْرِيفُ اللُّقَطَةِ:
7 - ذَهَبَ الأَْئِمَّةُ الثَّلاَثَةُ، وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: إِِلَى أَنَّهُ يَجِبُ تَعْرِيفُ اللُّقَطَةِ، سَوَاءٌ أَرَادَ تَمَلُّكَهَا، أَمْ حِفْظَهَا لِصَاحِبِهَا. وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَبِهِ قَطَعَ الأَْكْثَرُونَ مِنْهُمْ، وَهُوَ: أَنَّهُ لاَ يَجِبُ التَّعْرِيفُ فِيمَا إِِذَا قَصَدَ الْحِفْظَ أَبَدًا، وَقَالُوا: إِنَّ التَّعْرِيفَ إِنَّمَا يَجِبُ لِتَحْقِيقِ شَرْطِ التَّمَلُّكِ. (2)
وَبَيَانُ كَيْفِيَّةِ التَّعْرِيفِ وَمُدَّتِهِ وَمَكَانِهِ يَرْجِعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ (لُقَطَةٌ) .
ثَالِثًا - التَّعْرِيفُ فِي الدَّعْوَى:
8 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ: فِي أَنَّ تَعْرِيفَ الشَّيْءِ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ - بِمَعْنَى كَوْنِهِمَا مَعْلُومَيْنِ - شَرْطٌ لِسَمَاعِ الدَّعْوَى، فَلاَ بُدَّ مِنْ ذِكْرِ مَا يُعَيِّنُهُمَا وَيُعَرِّفُهُمَا، لأَِنَّ فَائِدَةَ الدَّعْوَى الإِِْلْزَامُ
__________
(1) اقتضاء الصراط المستقيم 2 / 638 الطبعة الأولى، وسنن البيهقي 5 / 117، والمغني والشرح الكبير 2 / 259 ط دار الكتاب العربي - بيروت.
(2) ابن عابدين 3 / 311، والحطاب 6 / 73، وروضة الطالبين 5 / 409، والمغني 5 / 693.(12/253)
بِإِِقَامَةِ الْحُجَّةِ، وَالإِِْلْزَامُ فِي الْمَجْهُول غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ. (1)
وَفِي كُل ذَلِكَ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ، يُذْكَرُ فِي مَوْطِنِهِ فِي مُصْطَلَحِ (دَعْوَى) .
__________
(1) فتح القدير 7 / 148، 149، 150، 151، والحطاب 6 / 124، وروضة الطالبين 12 / 8، 9، والمغني 9 / 85.(12/253)
تَعْزِيرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّعْزِيرُ لُغَةً: مَصْدَرُ عَزَّرَ مِنَ الْعَزْرِ، وَهُوَ الرَّدُّ وَالْمَنْعُ، وَيُقَال: عَزَّرَ أَخَاهُ بِمَعْنَى: نَصَرَهُ، لأَِنَّهُ مَنَعَ عَدُوَّهُ مِنْ أَنْ يُؤْذِيَهُ، وَيُقَال: عَزَّرْته بِمَعْنَى: وَقَّرْته، وَأَيْضًا: أَدَّبْته، فَهُوَ مِنْ أَسْمَاءِ الأَْضْدَادِ. وَسُمِّيَتِ الْعُقُوبَةُ تَعْزِيرًا، لأَِنَّ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَدْفَعَ الْجَانِيَ وَتَرُدَّهُ عَنِ ارْتِكَابِ الْجَرَائِمِ، أَوِ الْعَوْدَةِ إِلَيْهَا
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هُوَ عُقُوبَةٌ غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ شَرْعًا، تَجِبُ حَقًّا لِلَّهِ، أَوْ لآِدَمِيٍّ، فِي كُل مَعْصِيَةٍ لَيْسَ فِيهَا حَدٌّ وَلاَ كَفَّارَةَ غَالِبًا. (1)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْحَدُّ:
2 - الْحَدُّ لُغَةً: الْمَنْعُ وَاصْطِلاَحًا: عُقُوبَةٌ مُقَدَّرَةٌ
__________
(1) المبسوط للسرخسي 9 / 36، وفتح القدير 7 / 119 ط الميمنية، وكشاف القناع 4 / 72 ط المطبعة الشرقية بالقاهرة، والأحكام السلطانية للماوردي ص 224 مطبعة السعادة، ونهاية المحتاج 7 / 72، وقليوبي 4 / 205. قال القليوبي: هذا الضابط للغالب فقد يشرع التعزير ولا معصية، كتأديب طفل وكافر، وكمن يكتسب بآلة لهو لا معصية فيها.(12/254)
شَرْعًا وَجَبَتْ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى كَحَدِّ الزِّنَى، أَوْ لِلْعَبْدِ كَحَدِّ الْقَذْفِ.
ب - الْقِصَاصُ:
3 - الْقِصَاصُ لُغَةً: تَتَبُّعُ الأَْثَرِ. وَاصْطِلاَحًا: هُوَ أَنْ يُفْعَل بِالْجَانِي مِثْل مَا فَعَل.
ج - الْكَفَّارَةُ:
4 - الْكَفَّارَةُ لُغَةً: مِنَ التَّكْفِيرِ، وَهُوَ الْمَحْوُ، وَالْكَفَّارَةُ جَزَاءٌ مُقَدَّرٌ مِنَ الشَّرْعِ، لِمَحْوِ الذَّنْبِ. (1)
5 - وَيَخْتَلِفُ التَّعْزِيرُ عَنِ الْحَدِّ وَالْقِصَاصِ وَالْكَفَّارَةِ مِنْ وُجُوهٍ مِنْهَا:
أ - فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، إِِذَا ثَبَتَتِ الْجَرِيمَةُ الْمُوجِبَةُ لَهُمَا لَدَى الْقَاضِي شَرْعًا، فَإِِنَّ عَلَيْهِ الْحُكْمَ بِالْحَدِّ أَوِ الْقِصَاصِ عَلَى حَسَبِ الأَْحْوَال، وَلَيْسَ لَهُ اخْتِيَارٌ فِي الْعُقُوبَةِ، بَل هُوَ يُطَبِّقُ الْعُقُوبَةَ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهَا شَرْعًا بِدُونِ زِيَادَةٍ أَوْ نَقْصٍ، وَلاَ يُحْكَمُ بِالْقِصَاصِ إِِذَا عُفِيَ عَنْهُ، وَلَهُ هُنَا التَّعْزِيرُ. وَمَرَدُّ ذَلِكَ: أَنَّ الْقِصَاصَ حَقٌّ لِلأَْفْرَادِ، بِخِلاَفِ الْحَدِّ.
وَفِي التَّعْزِيرِ يَخْتَارُ الْقَاضِي مِنَ الْعُقُوبَاتِ الشَّرْعِيَّةِ مَا يُنَاسِبُ الْحَال، فَيَجِبُ عَلَى الَّذِينَ لَهُمْ سُلْطَةُ التَّعْزِيرِ الاِجْتِهَادُ فِي اخْتِيَارِ الأَْصْلَحِ،
__________
(1) التعريفات للجرجاني، وبدائع الصنائع 7 / 33، وحاشية ابن عابدين 2 / 578.(12/254)
لاِخْتِلاَفِ ذَلِكَ بِاخْتِلاَفِ مَرَاتِبِ النَّاسِ، وَبِاخْتِلاَفِ الْمَعَاصِي. (1)
ب - إِقَامَةُ الْحَدِّ الْوَاجِبِ لِحَقِّ اللَّهِ لاَ عَفْوَ فِيهِ وَلاَ شَفَاعَةَ وَلاَ إِسْقَاطَ، إِِذَا وَصَل الأَْمْرُ لِلْحَاكِمِ، وَثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ، وَكَذَلِكَ الْقِصَاصُ إِِذَا لَمْ يَعْفُ صَاحِبُ الْحَقِّ فِيهِ. وَالتَّعْزِيرُ إِِذَا كَانَ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى تَجِبُ إِقَامَتُهُ، وَيَجُوزُ فِيهِ الْعَفْوُ وَالشَّفَاعَةُ إِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ، أَوِ انْزَجَرَ الْجَانِي بِدُونِهِ، وَإِِذَا كَانَ مِنْ حَقِّ الْفَرْدِ فَلَهُ تَرْكُهُ الْعَفْوَ وَبِغَيْرِهِ، وَهُوَ يَتَوَقَّفُ عَلَى الدَّعْوَى، وَإِِذَا طَالَبَ صَاحِبُهُ لاَ يَكُونُ لِوَلِيِّ الأَْمْرِ عَفْوٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَلاَ إِسْقَاطٌ. (2)
ج - إِثْبَاتُ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ لاَ يَثْبُتُ إِلاَّ بِالْبَيِّنَةِ أَوِ الاِعْتِرَافِ، بِشُرُوطٍ خَاصَّةٍ. وَعَلَى سَبِيل الْمِثَال: لاَ يُؤْخَذُ فِيهِ بِأَقْوَال الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ كَشَاهِدٍ، وَلاَ بِالشَّهَادَةِ السَّمَاعِيَّةِ، وَلاَ بِالْيَمِينِ، وَلاَ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ. بِخِلاَفِ التَّعْزِيرِ فَيَثْبُتُ بِذَلِكَ، وَبِغَيْرِهِ. (3)
د - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ مَنْ حَدَّهُ الإِِْمَامُ فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ فَدَمُهُ هَدَرٌ، لأَِنَّ الإِِْمَامَ مَأْمُورٌ
__________
(1) سبل السلام 4 / 54 ط مصطفى الحلبي، وابن عابدين 3 / 183 ط بولاق.
(2) سبل السلام 4 / 54، وحاشية الشرنبلالي على درر الحكام 2 / 94 - 95 ط المطبعة الوهبية، وابن عابدين 3 / 183، وواقعات المفتين / 60، والفتاوى الهندية 2 / 167.
(3) الفتاوى الهندية 2 / 167.(12/255)
بِإِِقَامَةِ الْحَدِّ، وَفِعْل الْمَأْمُورِ لاَ يَتَقَيَّدُ بِشَرْطِ السَّلاَمَةِ. أَمَّا التَّعْزِيرُ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: الْحُكْمُ كَذَلِكَ فِي التَّعْزِيرِ. أَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: فَالتَّعْزِيرُ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ، وَقَدِ اسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِفِعْل عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، إِذْ أَرْهَبَ امْرَأَةً فَفَزِعَتْ فَزَعًا، فَدَفَعَتِ الْفَزِعَةُ فِي رَحِمِهَا، فَتَحَرَّكَ وَلَدُهَا، فَخَرَجَتْ، فَأَخَذَهَا الْمَخَاضُ، فَأَلْقَتْ غُلاَمًا جَنِينًا، فَأُتِيَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِذَلِكَ، فَأَرْسَل إِِلَى الْمُهَاجِرِينَ فَقَصَّ عَلَيْهِمْ أَمْرَهَا، فَقَال: مَا تَرَوْنَ؟ فَقَالُوا: مَا نَرَى عَلَيْك شَيْئًا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّمَا أَنْتَ مُعَلِّمٌ وَمُؤَدِّبٌ، وَفِي الْقَوْمِ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَعَلِيٌّ سَاكِتٌ. قَال: فَمَا تَقُول: أَنْتَ يَا أَبَا الْحَسَنِ قَال: أَقُول: إِنْ كَانُوا قَارَبُوك فِي الْهَوَى فَقَدْ أَثِمُوا، وَإِِنْ كَانَ هَذَا جَهْدَ رَأْيِهِمْ فَقَدْ أَخْطَئُوا، وَأَرَى عَلَيْكَ الدِّيَةَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَال: صَدَقْتَ، اذْهَبْ فَاقْسِمْهَا عَلَى قَوْمِكَ. (1)
أَمَّا مَنْ يَتَحَمَّل الدِّيَةَ فِي النِّهَايَةِ، فَقِيل: إِنَّمَا تَكُونُ عَلَى عَاقِلَةِ وَلِيِّ الأَْمْرِ. وَقِيل: إِنَّهَا تَكُونُ فِي بَيْتِ الْمَال. (2)
__________
(1) أثر عمر: أخرجه البيهقي (6 / 123 - ط دائرة المعارف العثمانية) من طريق الحسن البصري عن عمر بالقصة.
(2) ابن عابدين 3 / 183، وواقعات المفتين / 60، وحاشية الشرنبلالي على هامش درر الحكام 2 / 94 - 95، وسبل السلام 4 / 54، والأحكام السلطانية للماوردي / 226.(12/255)
هـ - إِنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ، بِخِلاَفِ التَّعْزِيرِ، فَإِِنَّهُ يَثْبُتُ بِالشُّبْهَةِ. (1)
و يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِي الْحُدُودِ إِنْ ثَبَتَتْ بِالإِِْقْرَارِ، أَمَّا التَّعْزِيرُ فَلاَ يُؤَثِّرُ فِيهِ الرُّجُوعُ.
ز - إِنَّ الْحَدَّ لاَ يَجِبُ عَلَى الصَّغِيرِ، وَيَجُوزُ تَعْزِيرُهُ.
ح - إِنَّ الْحَدَّ قَدْ يَسْقُطُ بِالتَّقَادُمِ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ، بِخِلاَفِ التَّعْزِيرِ. (2)
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
6 - جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: عَلَى أَنَّ الأَْصْل فِي التَّعْزِيرِ أَنَّهُ مَشْرُوعٌ فِي كُل مَعْصِيَةٍ لاَ حَدَّ فِيهَا، وَلاَ كَفَّارَةَ.
وَيَخْتَلِفُ حُكْمُهُ بِاخْتِلاَفِ حَالِهِ وَحَال فَاعِلِهِ. (3)
حِكْمَةُ التَّشْرِيعِ:
7 - التَّعْزِيرُ مَشْرُوعٌ لِرَدْعِ الْجَانِي وَزَجْرِهِ، وَإِِصْلاَحِهِ وَتَهْذِيبِهِ. قَال الزَّيْلَعِيُّ: إِنَّ الْغَرَضَ مِنَ التَّعْزِيرِ الزَّجْرُ. وَسَمَّى التَّعْزِيرَاتِ: بِالزَّوَاجِرِ غَيْرِ الْمُقَدَّرَةِ. (4)
وَالزَّجْرُ مَعْنَاهُ: مَنْعُ الْجَانِي مِنْ مُعَاوَدَةِ
__________
(1) أشباه ابن نجيم مع حاشية الحموي 1 / 164.
(2) رد المحتار على الدر المختار 3 / 177.
(3) الأحكام السلطانية للماوردي ص 236.
(4) الزيلعي 3 / 210.(12/256)
الْجَرِيمَةِ، وَمَنْعُ غَيْرِهِ مِنِ ارْتِكَابِهَا، وَمِنْ تَرْكِ الْوَاجِبَاتِ، كَتَرْكِ الصَّلاَةِ وَالْمُمَاطَلَةِ فِي أَدَاءِ حُقُوقِ النَّاسِ. (1)
أَمَّا الإِِْصْلاَحُ وَالتَّهْذِيبُ فَهُمَا مِنْ مَقَاصِدِ التَّعْزِيرِ، وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ الزَّيْلَعِيُّ بِقَوْلِهِ: التَّعْزِيرُ لِلتَّأْدِيبِ. وَمِثْلُهُ تَصْرِيحُ الْمَاوَرْدِيُّ وَابْنُ فَرْحُونَ بِأَنَّ: التَّعْزِيرَ تَأْدِيبُ اسْتِصْلاَحٍ وَزَجْرٍ. (2)
وَقَال الْفُقَهَاءُ: إِنَّ الْحَبْسَ غَيْرَ الْمُحَدَّدِ الْمُدَّةِ حَدُّهُ التَّوْبَةُ وَصَلاَحُ حَال الْجَانِي. (3) وَقَالُوا: إِنَّ التَّعْزِيرَ شُرِعَ لِلتَّطْهِيرِ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ سَبِيلٌ لإِِِصْلاَحِ الْجَانِي. (4)
وَقَالُوا: الزَّوَاجِرُ غَيْرُ الْمُقَدَّرَةِ مُحْتَاجٌ إِلَيْهَا، لِدَفْعِ الْفَسَادِ كَالْحُدُودِ. (5)
وَلَيْسَ التَّعْزِيرُ لِلتَّعْذِيبِ، أَوْ إِهْدَارُ الآْدَمِيَّةِ، أَوِ الإِِْتْلاَفُ، حَيْثُ لاَ يَكُونُ ذَلِكَ وَاجِبًا. وَفِي ذَلِكَ يَقُول الزَّيْلَعِيُّ: التَّعْزِيرُ لِلتَّأْدِيبِ، وَلاَ يَجُوزُ الإِِْتْلاَفُ، وَفِعْلُهُ مُقَيَّدٌ بِشَرْطِ السَّلاَمَةِ. وَيَقُول ابْنُ فَرْحُونَ: التَّعْزِيرُ إِنَّمَا يَجُوزُ مِنْهُ مَا أُمِنَتْ عَاقِبَتُهُ غَالِبًا، وَإِِلاَّ لَمْ يَجُزْ. وَيَقُول الْبُهُوتِيُّ:
__________
(1) تبصرة الحكام 1 / 366 - 368 - 370، ونهاية المحتاج 7 / 174، والأحكام السلطانية للماوردي / 424، وكشاف القناع 4 / 73 - 75 - 76.
(2) الزيلعي 3 / 211، والأحكام السلطانية للماوردي / 224، والتبصرة 1 / 366.
(3) ابن عابدين 3 / 187.
(4) ابن عابدين 3 / 183، والسندي 7 / 599.
(5) الزيلعي 3 / 210، وابن عابدين 3 / 182، وكشاف القناع 4 / 74 - 76، والحسبة لابن تيمية / 39.(12/256)
لاَ يَجُوزُ قَطْعُ شَيْءٍ مِمَّنْ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّعْزِيرُ، وَلاَ جَرْحُهُ، لأَِنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَرِدْ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، عَنْ أَحَدٍ يُقْتَدَى بِهِ؛ وَلأَِنَّ الْوَاجِبَ أَدَبٌ، وَالأَْدَبُ لاَ يَكُونُ بِالإِِْتْلاَفِ. (1) وَكُل ضَرْبٍ يُؤَدِّي إِِلَى الإِِْتْلاَفِ مَمْنُوعٌ، سَوَاءٌ أَكَانَ هَذَا الاِحْتِمَال نَاشِئًا مِنْ آلَةِ الضَّرْبِ، أَمْ مِنْ حَالَةِ الْجَانِي نَفْسِهِ، أَمْ مِنْ مَوْضِعِ الضَّرْبِ، وَتَفْرِيعًا عَلَى ذَلِكَ: مَنَعَ الْفُقَهَاءُ الضَّرْبَ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي قَدْ يُؤَدِّي فِيهَا إِِلَى الإِِْتْلاَفِ. وَلِذَلِكَ فَالرَّاجِحُ: أَنَّ الضَّرْبَ عَلَى الْوَجْهِ وَالْفَرْجِ وَالْبَطْنِ وَالصَّدْرِ مَمْنُوعٌ. (2)
وَعَلَى الأَْسَاسِ الْمُتَقَدِّمِ مَنَعَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ فِي التَّعْزِيرِ: الصَّفْعَ، وَحَلْقَ اللِّحْيَةِ، وَتَسْوِيدَ الْوَجْهِ، وَإِِنْ كَانَ الْبَعْضُ قَال بِهِ فِي شَهَادَةِ الزُّورِ، قَال الأُْسْرُوشَنِيُّ: لاَ يُبَاحُ التَّعْزِيرُ بِالصَّفْعِ؛ لأَِنَّهُ مِنْ أَعْلَى مَا يَكُونُ مِنَ الاِسْتِخْفَافِ. وَقَال: تَسْوِيدُ الْوَجْهِ فِي شَهَادَةِ الزُّورِ مَمْنُوعٌ بِالإِِْجْمَاعِ، أَيْ بَيْنَ الْحَنَفِيَّةِ. (3) قَال الْبُهُوتِيُّ: (يَحْرُمُ) التَّعْزِيرُ (بِحَلْقِ لِحْيَتِهِ) لِمَا فِيهِ مِنَ الْمُثْلَةِ (وَلاَ تَسْوِيدِ وَجْهِهِ) . وَالتَّعْزِيرُ بِالْقَتْل عِنْدَ مَنْ يَرَاهُ يُشْتَرَطُ فِي آلَتِهِ: أَنْ تَكُونَ حَادَّةً مِنْ
__________
(1) الزيلعي 3 / 211، وتبصرة الحكام 2 / 369، وكشاف القناع 4 / 74 ط المطبعة الشرقية بالقاهرة، والمغني 10 / 348.
(2) فصول الأستروشني في التعزير / 21 - 22.
(3) فصول الأستروشني في التعزير / 30.(12/257)
شَأْنِهَا إِحْدَاثُ الْقَتْل بِسُهُولَةٍ، بِحَيْثُ لاَ يَتَخَلَّفُ عَنْهَا الْقَتْل، وَأَلاَّ تَكُونَ كَالَّةً، فَذَلِكَ مِنَ الْمُثْلَةِ، وَالرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَل كَتَبَ الإِِْحْسَانَ عَلَى كُل شَيْءٍ، فَإِِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ (1) وَفِي ذَلِكَ أَمْرٌ بِالإِِْحْسَانِ فِي الْقَتْل، وَإِِرَاحَةُ مَا أَحَل اللَّهُ ذَبْحَهُ مِنَ الأَْنْعَامِ، فَالإِِْحْسَانُ فِي الآْدَمِيِّ أَوْلَى. (2)
الْمَعَاصِي الَّتِي شُرِعَ فِيهَا التَّعْزِيرُ:
8 - الْمَعْصِيَةُ: فِعْل مَا حَرُمَ، وَتَرْكُ مَا فُرِضَ، يَسْتَوِي فِي ذَلِكَ كَوْنُ الْعِقَابِ دُنْيَوِيًّا أَوْ أُخْرَوِيًّا.
أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى: أَنَّ تَرْكَ الْوَاجِبِ أَوْ فِعْل الْمُحَرَّمِ مَعْصِيَةٌ فِيهَا التَّعْزِيرُ، إِِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ حَدٌّ مُقَدَّرٌ (3)
وَمِثَال تَرْكِ الْوَاجِبِ عِنْدَهُمْ: مَنْعُ الزَّكَاةِ،
__________
(1) حديث: " إن الله كتب الإحسان على كل شيء. . . " أخرجه (مسلم 3 / 1548 - ط الحلبي) من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه.
(2) الزيلعي 3 / 210، والسندي 598 - 599، وابن عابدين 3 / 182 - 187، وفصول الأستروشني 21 - 30، وتبصرة الحكام 2 / 366، ونهاية المحتاج 7 / 174، والأحكام السلطانية للماوردي 224، وكشاف القناع 4 / 72 - 76، والحسبة لابن تيمية / 39، والمغني 10 / 348.
(3) تبصرة الحكام 2 / 366 - 367، ومعين الحكام / 189، وكشاف القناع 4 / 75، والسياسة الشرعية لابن تيمية / 55، والأحكام السلطانية للماوردي / 10.(12/257)
وَتَرْكُ قَضَاءِ الدَّيْنِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَى ذَلِكَ، وَعَدَمُ أَدَاءِ الأَْمَانَةِ، وَعَدَمُ رَدِّ الْمَغْصُوبِ، وَكَتْمُ الْبَائِعِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ بَيَانُهُ، كَأَنْ يُدَلِّسَ فِي الْمَبِيعِ عَيْبًا خَفِيًّا وَنَحْوِهِ، وَالشَّاهِدُ وَالْمُفْتِي وَالْحَاكِمُ يُعَزِّرُونَ عَلَى تَرْكِ الْوَاجِبِ (1) .
وَمِثَال فِعْل الْمُحَرَّمِ: سَرِقَةُ مَا لاَ قَطْعَ فِيهِ، لِعَدَمِ تَوَافُرِ شُرُوطِ النِّصَابِ أَوِ الْحِرْزِ مَثَلاً، وَتَقْبِيل الأَْجْنَبِيَّةِ، وَالْخَلْوَةُ بِهَا، وَالْغِشُّ فِي الأَْسْوَاقِ، وَالْعَمَل بِالرِّبَا، وَشَهَادَةُ الزُّورِ (2) .
وَقَدْ يَكُونُ الْفِعْل مُبَاحًا فِي ذَاتِهِ لَكِنَّهُ يُؤَدِّي لِمَفْسَدَةٍ، وَحُكْمُهُ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ - وَعَلَى الْخُصُوصِ الْمَالِكِيَّةِ - أَنَّهُ يَصِيرُ حَرَامًا، بِنَاءً عَلَى قَاعِدَةِ سَدِّ الذَّرَائِعِ، وَعَلَى ذَلِكَ فَارْتِكَابُ مِثْل هَذَا الْفِعْل فِيهِ التَّعْزِيرُ، مَا دَامَ لَيْسَتْ لَهُ عُقُوبَةٌ مُقَدَّرَةٌ.
وَمَا ذُكِرَ هُوَ عَنِ الْوَاجِبِ وَالْمُحَرَّمِ، أَمَّا عَنِ الْمَنْدُوبِ وَالْمَكْرُوهِ - فَعِنْدَ بَعْضِ الأُْصُولِيِّينَ: الْمَنْدُوبُ مَأْمُورٌ بِهِ، وَمَطْلُوبٌ فِعْلُهُ، وَالْمَكْرُوهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَمَطْلُوبٌ تَرْكُهُ، وَيُمَيَّزُ الْمَنْدُوبُ عَنِ الْوَاجِبِ أَنَّ الذَّمَّ يَسْقُطُ عَنْ تَارِكِ الْمَنْدُوبِ، لَكِنَّهُ يَلْحَقُ تَارِكَ الْوَاجِبِ. وَيُمَيَّزُ الْمَكْرُوهُ عَنِ الْمُحَرَّمِ: أَنَّ الذَّمَّ يَسْقُطُ عَنْ مُرْتَكِبِ الْمَكْرُوهِ، وَلَكِنَّهُ يَثْبُتُ عَلَى مُرْتَكِبِ الْمُحَرَّمِ، وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ لَيْسَ
__________
(1) تبصرة الحكام 2 / 366، ومعين الحكام / 189 ط بولاق، وكشاف القناع 4 / 75، والأحكام السلطانية للماوردي / 210.
(2) تبصرة الحكام 2 / 367.(12/258)
تَارِكُ الْمَنْدُوبِ أَوْ فَاعِل الْمَكْرُوهِ عَاصِيًا؛ لأَِنَّ الْعِصْيَانَ اسْمُ ذَمٍّ، وَالذَّمُّ أُسْقِطَ عَنْهُمَا، وَلَكِنَّهُمْ يَعْتَبِرُونَ مَنْ يَتْرُكُ الْمَنْدُوبَ أَوْ يَأْتِي الْمَكْرُوهَ مُخَالِفًا، وَغَيْرَ مُمْتَثِلٍ.
وَعِنْدَ آخَرِينَ: الْمَنْدُوبُ غَيْرُ دَاخِلٍ تَحْتَ الأَْمْرِ، وَالْمَكْرُوهُ غَيْرُ دَاخِلٍ تَحْتَ النَّهْيِ، فَيَكُونُ الْمَنْدُوبُ مُرَغَّبًا فِي فِعْلِهِ، وَالْمَكْرُوهُ مُرَغَّبًا عَنْهُ. وَعِنْدَهُمْ لاَ يُعْتَبَرُ تَارِكُ الْمَنْدُوبِ وَفَاعِل الْمَكْرُوهِ عَاصِيًا. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي تَعْزِيرِ تَارِكِ الْمَنْدُوبِ، وَفَاعِل الْمَكْرُوهِ، فَفَرِيقٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ عَلَى عَدَمِ جَوَازِهِ؛ لِعَدَمِ التَّكْلِيفِ، وَلاَ تَعْزِيرَ بِغَيْرِ تَكْلِيفٍ. وَفَرِيقٌ أَجَازَهُ، اسْتِنَادًا عَلَى فِعْل عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَدْ عَزَّرَ رَجُلاً أَضْجَعَ شَاةً لِذَبْحِهَا، وَأَخَذَ يُحِدُّ شَفْرَتَهُ وَهِيَ عَلَى هَذَا الْوَضْعِ، وَهَذَا الْفِعْل لَيْسَ إِلاَّ مَكْرُوهًا، وَيَأْخُذُ هَذَا الْحُكْمَ مَنْ يَتْرُكُ الْمَنْدُوبَ.
وَقَال الْقَلْيُوبِيُّ: قَدْ يُشْرَعُ التَّعْزِيرُ وَلاَ مَعْصِيَةَ، كَتَأْدِيبِ طِفْلٍ، وَكَافِرٍ، وَكَمَنْ يَكْتَسِبُ بِآلَةِ لَهْوٍ لاَ مَعْصِيَةَ فِيهَا (1) .
__________
(1) معين الحكام / 189، وفتح القدير 4 / 117، وتبصرة الحكام 2 / 366 - 367، ومواهب الجليل 6 / 320، ونهاية المحتاج 7 / 173 - 174، والأحكام السلطانية للماوردي / 210، وكشاف القناع 4 / 75، والسياسة الشرعية لابن تيمية / 55، والأحكام السلطانية لأبي يعلى / 244، والمستصفى للغزالي 1 / 75 - 76، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي 1 / 160، والقليوبي 4 / 205.(12/258)
اجْتِمَاعُ التَّعْزِيرِ مَعَ الْحَدِّ أَوِ الْقِصَاصِ أَوِ الْكَفَّارَةِ:
9 - قَدْ يَجْتَمِعُ التَّعْزِيرُ مَعَ الْحَدِّ، فَالْحَنَفِيَّةُ لاَ يَرَوْنَ تَغْرِيبَ الزَّانِي غَيْرِ الْمُحْصَنِ مِنْ حَدِّ الزِّنَى. فَعِنْدَهُمْ أَنَّ حَدَّهُ مِائَةُ جَلْدَةٍ لاَ غَيْرُ، وَلَكِنَّهُمْ يُجِيزُونَ تَغْرِيبَهُ بَعْدَ الْجَلْدِ، وَذَلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّعْزِيرِ (1) . وَيَجُوزُ تَعْزِيرُ شَارِبِ الْخَمْرِ بِالْقَوْل، بَعْدَ إِقَامَةِ حَدِّ الشُّرْبِ عَلَيْهِ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِتَبْكِيتِ شَارِبِ الْخَمْرِ بَعْدَ الضَّرْبِ (2) .
وَالتَّبْكِيتُ تَعْزِيرٌ بِالْقَوْل، وَمِمَّنْ قَال بِذَلِكَ: الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ (3) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ الْجَارِحَ عَمْدًا يُقْتَصُّ مِنْهُ وَيُؤَدَّبُ. وَمِنْ ثَمَّ فَالتَّعْزِيرُ قَدِ اجْتَمَعَ مَعَ الْقِصَاصِ فِي الاِعْتِدَاءِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ عَمْدًا. وَالشَّافِعِيُّ يُجِيزُ اجْتِمَاعَ التَّعْزِيرِ مَعَ الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ مِنَ الْجِنَايَاتِ عَلَى الْبَدَنِ، وَهُوَ أَيْضًا يَقُول بِجَوَازِ اجْتِمَاعِ التَّعْزِيرِ مَعَ الْحَدِّ، مِثْل تَعْلِيقِ يَدِ السَّارِقِ فِي عُنُقِهِ بَعْدَ قَطْعِهَا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، زِيَادَةً فِي النَّكَال. وَقَال أَحْمَدُ
__________
(1) معين الحكام / 182، وبداية المجتهد 2 / 364 - 365 ط الجمالية.
(2) حديث: " أمر صلى الله عليه وسلم بتبكيت شارب الخمر بعد الضرب " أخرجه أبو داود (4 / 620 - 621 تحقيق عزت عبيد دعاس) . وإسناده حسن.
(3) معين الحكام 189، وتبصرة الحكام لابن فرحون 2 / 266، ومواهب الجليل 6 / 247.(12/259)
بِذَلِكَ، لِمَا رَوَى فَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ أَنَّ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطَعَ يَدَ سَارِقٍ، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَعُلِّقَتْ فِي عُنُقِهِ (1) . وَأَنَّ عَلِيًّا فَعَل ذَلِكَ، وَمِثْل: الزِّيَادَةِ عَنِ الأَْرْبَعِينَ فِي حَدِّ الشُّرْبِ؛ لأَِنَّ حَدَّ الشُّرْبِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَرْبَعُونَ (2) .
وَقَدْ يَجْتَمِعُ التَّعْزِيرُ مَعَ الْكَفَّارَةِ. فَمِنَ الْمَعَاصِي مَا فِيهِ الْكَفَّارَةُ مَعَ الأَْدَبِ، كَالْجِمَاعِ فِي حَرَامٍ، وَفِي نَهَارِ رَمَضَانَ، وَوَطْءِ الْمُظَاهَرِ مِنْهَا قَبْل الْكَفَّارَةِ إِِذَا كَانَ الْفِعْل مُتَعَمِّدًا فِي جَمِيعِهَا.
وَقِيل بِالتَّعْزِيرِ كَذَلِكَ فِي حَلِفِ الْيَمِينِ الْغَمُوسِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، خِلاَفًا لِلْحَنَفِيَّةِ، فَإِِنَّهُ لاَ كَفَّارَةَ فِي يَمِينِ الْغَمُوسِ، وَفِيهَا التَّعْزِيرُ. وَعِنْدَ مَالِكٍ فِي الْقَتْل الَّذِي لاَ قَوَدَ فِيهِ، كَالْقَتْل الَّذِي عُفِيَ عَنِ الْقِصَاصِ فِيهِ، تَجِبُ عَلَى الْقَاتِل الدِّيَةُ، وَتُسْتَحَبُّ لَهُ الْكَفَّارَةُ، وَيُضْرَبُ مِائَةً، وَيُحْبَسُ سَنَةً، وَهَذَا تَعْزِيرٌ قَدِ اجْتَمَعَ مَعَ الْكَفَّارَةِ (3) .
وَقَال الْبَعْضُ فِي الْقَتْل شِبْهِ الْعَمْدِ: بِوُجُوبِ التَّعْزِيرِ مَعَ الْكَفَّارَةِ، لأَِنَّ هَذِهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، بِمَنْزِلَةِ الْكَفَّارَةِ فِي الْخَطَأِ، وَلَيْسَتْ لأَِجْل الْفِعْل،
__________
(1) حديث فضالة بن عبيد " أن الرسول صلى الله عليه وسلم قطع يد سارق ". أخرجه النسائي (8 / 92 - المكتبة التجارية) وقال النسائي عقبه: الحجاج بن أرطأة ضعيف، لا يحتج به.
(2) نهاية المحتاج 7 / 172 - 173، والمغني لابن قدامة 10 / 266 - 267.
(3) تبصرة الحكام 2 / 236 - 237، ونهاية المحتاج 7 / 172 - 173، وجواهر الإكليل 2 / 272.(12/259)
بَل هِيَ بَدَل النَّفْسِ الَّتِي فَاتَتْ بِالْجِنَايَةِ. وَنَفْسُ الْفِعْل الْمُحَرَّمِ - وَهُوَ جِنَايَةُ الْقَتْل شِبْهِ الْعَمْدِ - لاَ كَفَّارَةَ فِيهِ. وَقَدِ اسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ: بِأَنَّهُ إِِذَا جَنَى شَخْصٌ عَلَى آخَرَ دُونَ أَنْ يُتْلِفَ شَيْئًا فَإِِنَّهُ يَسْتَحِقُّ التَّعْزِيرَ، وَلاَ كَفَّارَةَ فِي هَذِهِ الْجِنَايَةِ. بِخِلاَفِ مَا لَوْ أَتْلَفَ بِلاَ جِنَايَةٍ مُحَرَّمَةٍ، فَإِِنَّ الْكَفَّارَةَ تَجِبُ بِلاَ تَعْزِيرٍ. وَإِِنَّ الْكَفَّارَةَ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ بِمَنْزِلَةِ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْمُجَامِعِ فِي الصِّيَامِ وَالإِِْحْرَامِ (1) .
التَّعْزِيرُ حَقٌّ لِلَّهِ وَحَقٌّ لِلْعَبْدِ:
10 - يَنْقَسِمُ التَّعْزِيرُ إِِلَى مَا هُوَ حَقٌّ لِلَّهِ، وَمَا هُوَ حَقٌّ لِلْعَبْدِ. وَالْمُرَادُ بِالأَْوَّل غَالِبًا: مَا تَعَلَّقَ بِهِ نَفْعُ الْعَامَّةِ، وَمَا يَنْدَفِعُ بِهِ ضَرَرٌ عَامٌّ عَنِ النَّاسِ، مِنْ غَيْرِ اخْتِصَاصٍ بِأَحَدٍ. وَالتَّعْزِيرُ هُنَا مِنْ حَقِّ اللَّهِ؛ لأَِنَّ إِخْلاَءَ الْبِلاَدِ مِنَ الْفَسَادِ وَاجِبٌ مَشْرُوعٌ، وَفِيهِ دَفْعٌ لِلضَّرَرِ عَنِ الأُْمَّةِ، وَتَحْقِيقُ نَفْعٍ عَامٍّ. وَيُرَادُ بِالثَّانِي: مَا تَعَلَّقَتْ بِهِ مَصْلَحَةٌ خَاصَّةٌ لأَِحَدِ الأَْفْرَادِ.
وَقَدْ يَكُونُ التَّعْزِيرُ خَالِصَ حَقِّ اللَّهِ، كَتَعْزِيرِ تَارِكِ الصَّلاَةِ، وَالْمُفْطِرِ عَمْدًا فِي رَمَضَانَ بِغَيْرِ عُذْرٍ، وَمَنْ يَحْضُرُ مَجْلِسَ الشَّرَابِ.
وَقَدْ يَكُونُ لِحَقِّ اللَّهِ وَلِلْفَرْدِ، مَعَ غَلَبَةِ حَقِّ اللَّهِ، كَنَحْوِ تَقْبِيل زَوْجَةِ آخَرَ وَعِنَاقِهَا.
__________
(1) كشاف القناع 4 / 72 - 73.(12/260)
وَقَدْ تَكُونُ الْغَلَبَةُ لِحَقِّ الْفَرْدِ، كَمَا فِي السَّبِّ وَالشَّتْمِ وَالْمُوَاثَبَةِ. وَقَدْ قِيل بِحَالاَتٍ يَكُونُ فِيهَا التَّعْزِيرُ لِحَقِّ الْفَرْدِ وَحْدَهُ، كَالصَّبِيِّ يَشْتُمُ رَجُلاً لأَِنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَبْقَى تَعْزِيرُهُ مُتَمَحِّضًا لِحَقِّ الْمَشْتُومِ (1) .
وَتَظْهَرُ أَهَمِّيَّةُ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ نَوْعَيِ التَّعْزِيرِ فِي أُمُورٍ:
مِنْهَا: أَنَّ التَّعْزِيرَ الْوَاجِبَ حَقًّا لِلْفَرْدِ أَوِ الْغَالِبَ فِيهِ حَقُّهُ - وَهُوَ يَتَوَقَّفُ عَلَى الدَّعْوَى - إِِذَا طَلَبَهُ صَاحِبُ الْحَقِّ فِيهِ لَزِمَتْ إِجَابَتُهُ، وَلاَ يَجُوزُ لِلْقَاضِي فِيهِ الإِِْسْقَاطُ، وَلاَ يَجُوزُ فِيهِ الْعَفْوُ أَوِ الشَّفَاعَةُ مِنْ وَلِيِّ الأَْمْرِ. أَمَّا التَّعْزِيرُ الَّذِي يَجِبُ حَقًّا لِلَّهِ فَإِِنَّ الْعَفْوَ فِيهِ مِنْ وَلِيِّ الأَْمْرِ جَائِزٌ، وَكَذَلِكَ الشَّفَاعَةُ إِنْ كَانَتْ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ، أَوْ حَصَل انْزِجَارُ الْجَانِي بِدُونِهِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلُهُ (2) : اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا وَيَقْضِي اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مَا يَشَاءُ (3) .
__________
(1) شرح طوالع الأنوار للسندي على الدر المختار 7 / 621، 636 (مخطوط) الفصول الخمسة عشر فيما يوجب التعزير وما لا يوجب وغير ذلك، للأستروشني ص 5، والأحكام السلطانية للماوردي 225، والأحكام السلطانية لأبي يعلى 265.
(2) حديث: " اشفعوا تؤجروا. . . " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 299 - ط السلفية) ، ومسلم (4 / 2026 ط الحلبي) .
(3) حاشية ابن عابدين 3 / 192، الفصول الخمسة عشر في التعزير ص 3، الماوردي ص 225.(12/260)
وَقَدْ حَصَل الْخِلاَفُ فِي التَّعْزِيرِ هَل هُوَ وَاجِبٌ عَلَى وَلِيِّ الأَْمْرِ أَمْ لاَ فَمَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدُ قَالُوا بِوُجُوبِ التَّعْزِيرِ فِيمَا شَرَعَ فِيهِ.
وَقَال الشَّافِعِيُّ: إِنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، اسْتِنَادًا إِِلَى أَنَّ رَجُلاً قَال لِلرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي لَقِيتُ امْرَأَةً فَأَصَبْتُ مِنْهَا دُونَ أَنْ أَطَأَهَا. فَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) أَصَلَّيْت مَعَنَا؟ قَال نَعَمْ: فَتَلاَ عَلَيْهِ آيَةَ: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْل إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} (2) . وَإِِلَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الأَْنْصَارِ. اقْبَلُوا مِنْ مُحْسِنِهِمْ، وَتَجَاوَزُوا عَنْ مُسِيئِهِمْ (3) وَإِِلَى أَنَّ رَجُلاً قَال لِلرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حُكْمٍ حَكَمَ بِهِ لِلزُّبَيْرِ لَمْ يَرُقْهُ: أَنْ كَانَ
__________
(1) حديث: " عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رجلا أصاب من امرأة قبلة، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له، فأنزلت عليه (وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين) قال الرجل: ألي هذه؟ قال: لمن عمل بها من أمتي " (الفتح 8 / 355 - ط السلفية) ، ومسلم (4 / 2115 - 2116 - ط الحلبي.) . وأخرج مسلم (4 / 2117 - ط الحلبي) عن أنس رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أصبت حدا، فأقمه علي قال: وحضرت الصلاة فصلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما قضى الصلاة قال: يا رسول الله، إني أصبت حدا فأقم
(2) سورة هود / 114.
(3) حديث: " اقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم ". أخرجه البخاري (الفتح 7 / 121 - ط السلفية) ، ومسلم (4 / 1949 - ط الحلبي) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.(12/261)
ابْنَ عَمَّتِكَ، فَغَضِبَ. وَلَمْ يُنْقَل أَنَّهُ عَزَّرَهُ (1) .
وَقَال آخَرُونَ، وَمِنْهُمْ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ: إِنَّ مَا كَانَ مِنَ التَّعْزِيرِ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ كَوَطْءِ جَارِيَةٍ مُشْتَرَكَةٍ يَجِبُ امْتِثَال الأَْمْرِ فِيهِ. أَمَّا مَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصٌّ فَإِِنَّهُ يَجِبُ إِِذَا كَانَتْ فِيهِ مَصْلَحَةٌ، أَوْ كَانَ لاَ يَنْزَجِرُ الْجَانِي إِلاَّ بِهِ، فَإِِنَّهُ يَجِبُ كَالْحَدِّ، أَمَّا إِِذَا عُلِمَ أَنَّ الْجَانِيَ يَنْزَجِرُ بِدُونِ التَّعْزِيرِ فَإِِنَّهُ لاَ يَجِبُ. وَيَجُوزُ لِلإِِْمَامِ فِيهِ الْعَفْوُ إِنْ كَانَتْ فِيهِ مَصْلَحَةٌ، وَكَانَ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، خِلاَفُ مَا هُوَ مِنْ حَقِّ الأَْفْرَادِ (2) .
التَّعْزِيرُ عُقُوبَةٌ مُفَوَّضَةٌ:
الْمُرَادُ بِالتَّفَوُّضِ وَأَحْكَامِهِ:
11 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ الرَّاجِحُ عَنِ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ التَّعْزِيرَ عُقُوبَةٌ مُفَوَّضَةٌ إِِلَى رَأْيِ الْحَاكِمِ، وَهَذَا التَّفْوِيضُ فِي التَّعْزِيرِ مِنْ أَهَمِّ أَوْجُهِ الْخِلاَفِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَدِّ الَّذِي هُوَ عُقُوبَةٌ مُقَدَّرَةٌ مِنَ الشَّارِعِ. وَعَلَى الْحَاكِمِ فِي تَقْدِيرِ عُقُوبَةِ التَّعْزِيرِ مُرَاعَاةُ حَال الْجَرِيمَةِ وَالْمُجْرِمِ. أَمَّا مُرَاعَاةُ حَال الْجَرِيمَةِ فَلِلْفُقَهَاءِ فِيهِ نُصُوصٌ كَثِيرَةٌ، مِنْهُ قَوْل الأُْسْرُوشَنِيِّ: يَنْبَغِي أَنْ يَنْظُرَ الْقَاضِي إِِلَى سَبَبِهِ، فَإِِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ
__________
(1) حديث: " أن رجلا قال للرسول صلى الله عليه وسلم في حكم. . . " أخرجه البخاري (الفتح 8 / 254 ط السلفية) ، ومسلم (4 / 1829 - ط الحلبي) .
(2) ابن عابدين 3 / 192، والأحكام السلطانية للماوردي / 225.(12/261)
مَا يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ وَلَمْ يَجِبْ لِمَانِعٍ وَعَارِضٍ، يَبْلُغُ التَّعْزِيرُ أَقْصَى غَايَاتِهِ. وَإِِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ مَا لاَ يَجِبُ الْحَدُّ لاَ يَبْلُغُ أَقْصَى غَايَاتِهِ، وَلَكِنَّهُ مُفَوَّضٌ إِِلَى رَأْيِ الإِِْمَامِ (1) . " وَأَمَّا مُرَاعَاةُ حَال الْمُجْرِمِ فَيَقُول الزَّيْلَعِيُّ: إِنَّهُ فِي تَقْدِيرِ التَّعْزِيرِ يُنْظَرُ إِِلَى أَحْوَال الْجَانِينَ، فَإِِنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَنْزَجِرُ بِالْيَسِيرِ. وَمِنْهُمْ مَنْ لاَ يَنْزَجِرُ إِلاَّ بِالْكَثِيرِ. يَقُول ابْنُ عَابِدِينَ: إِنَّ التَّعْزِيرَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الأَْشْخَاصِ، فَلاَ مَعْنَى لِتَقْدِيرِهِ مَعَ حُصُول الْمَقْصُودِ بِدُونِهِ، فَيَكُونُ مُفَوَّضًا إِِلَى رَأْيِ الْقَاضِي، يُقِيمُهُ بِقَدْرِ مَا يَرَى الْمَصْلَحَةَ فِيهِ (2) .
وَيَقُول السِّنْدِيُّ: إِنَّ أَدْنَى التَّعْزِيرِ عَلَى مَا يَجْتَهِدُ الإِِْمَامُ فِي الْجَانِي، بِقَدْرِ مَا يُعْلَمُ أَنَّهُ يَنْزَجِرُ بِهِ؛ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ التَّعْزِيرِ الزَّجْرُ، وَالنَّاسُ تَخْتَلِفُ أَحْوَالُهُمْ فِي الاِنْزِجَارِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَحْصُل لَهُ الزَّجْرُ بِأَقَل الضَّرَبَاتِ، وَيَتَغَيَّرُ بِذَلِكَ. وَمِنْهُمْ مَنْ لاَ يَحْصُل لَهُ الزَّجْرُ بِالْكَثِيرِ مِنَ الضَّرْبِ (3) . وَنُقِل عَنْ أَبِي يُوسُفَ: إِنَّ التَّعْزِيرَ يَخْتَلِفُ عَلَى قَدْرِ احْتِمَال الْمَضْرُوبِ.
وَقَدْ مَنَعَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ تَفْوِيضَ التَّعْزِيرِ، وَقَالُوا بِعَدَمِ تَفْوِيضِ ذَلِكَ لِلْقَاضِي، لاِخْتِلاَفِ حَال الْقُضَاةِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي قَال بِهِ الطَّرَسُوسِيُّ
__________
(1) فصول الأستروشني ص 14.
(2) ابن عابدين 3 / 183.
(3) مطالع الأنوار للسندي 7 / 605، والأستروشني ص 18 - 20.(12/262)
فِي شَرْحِ مَنْظُومَةِ الْكَنْزِ. وَقَدْ أَيَّدُوا هَذَا الرَّأْيَ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ تَفْوِيضِ التَّعْزِيرِ إِِلَى رَأْيِ الْقَاضِي لَيْسَ مَعْنَاهُ التَّفْوِيضَ لِرَأْيِهِ مُطْلَقًا، بَل الْمَقْصُودُ الْقَاضِي الْمُجْتَهِدُ. وَقَدْ ذَكَرَ السِّنْدِيُّ: أَنَّ عَدَمَ التَّفْوِيضِ هُوَ الرَّأْيُ الضَّعِيفُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (1) .
وَقَال أَبُو بَكْرٍ الطَّرَسُوسِيُّ فِي أَخْبَارِ الْخُلَفَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ: إِنَّهُمْ كَانُوا يُرَاعُونَ قَدْرَ الْجَانِي وَقَدْرَ الْجِنَايَةِ، فَمِنَ الْجَانِينَ مَنْ يُضْرَبُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُحْبَسُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُقَامُ وَاقِفًا عَلَى قَدَمَيْهِ فِي الْمَحَافِل، وَمِنْهُمْ مَنْ يُنْتَزَعُ عِمَامَتُهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُحَل حِزَامُهُ.
وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ: عَلَى أَنَّ التَّعْزِيرَ يَخْتَلِفُ مِنْ حَيْثُ الْمَقَادِيرُ، وَالأَْجْنَاسُ، وَالصِّفَاتُ، بِاخْتِلاَفِ الْجَرَائِمِ، مِنْ حَيْثُ كِبَرِهَا، وَصِغَرِهَا، وَبِحَسَبِ حَال الْمُجْرِمِ نَفْسِهِ، وَبِحَسَبِ حَال الْقَائِل وَالْمَقُول فِيهِ وَالْقَوْل، وَهُوَ مَوْكُولٌ إِِلَى اجْتِهَادِ الإِِْمَامِ.
قَال الْقَرَافِيُّ: إِنَّ التَّعْزِيرَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الأَْزْمِنَةِ وَالأَْمْكِنَةِ، وَتَطْبِيقًا لِذَلِكَ قَال ابْنُ فَرْحُونَ: رُبَّ تَعْزِيرٍ فِي بَلَدٍ يَكُونُ إِكْرَامًا فِي بَلَدٍ آخَرَ، كَقَطْعِ الطَّيْلَسَانِ لَيْسَ تَعْزِيرًا فِي الشَّامِ بَل إِكْرَامٌ (2) ، وَكَشْفُ الرَّأْسِ عِنْدَ الأَْنْدَلُسِيِّينَ
__________
(1) السندي 7 / 603 - 605.
(2) الطيلسان: طرحة تشبه الخمار المقور، يطرح على الكتفين، أو يلاث جزء منه على العمامة ثم يدلى عليهما، وكان لا يلبسه إلا الكبراء والقضاة. وكان خلعه والمشي بدونه أمارة الخضوع والتذلل (المصباح، المعجم المفصل بأسماء الملابس عند العرب، للمستشرق دوزي ص 229) .(12/262)
لَيْسَ هَوَانًا مَعَ أَنَّهُ فِي مِصْرَ وَالْعِرَاقِ هَوَانٌ. وَقَال: إِنَّهُ يُلاَحَظُ فِي ذَلِكَ أَيْضًا نَفْسُ الشَّخْصِ، فَإِِنَّ فِي الشَّامِ مَثَلاً مَنْ كَانَتْ عَادَتُهُ الطَّيْلَسَانَ وَأَلِفَهُ - مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ - يُعْتَبَرُ قَطْعُهُ تَعْزِيرًا لَهُمْ. فَمَا ذُكِرَ ظَاهِرٌ مِنْهُ: أَنَّ الأَْمْرَ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى اخْتِلاَفِ التَّعْزِيرِ بِاخْتِلاَفِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَالأَْشْخَاصِ، مَعَ كَوْنِ الْفِعْل مَحَلًّا لِذَلِكَ، بَل إِنَّ هَذَا الاِخْتِلاَفَ قَدْ يَجْعَل الْفِعْل نَفْسَهُ غَيْرَ مُعَاقَبٍ عَلَيْهِ، بَل قَدْ يَكُونُ مَكْرُمَةً (1) .
الأَْنْوَاعُ الْجَائِزَةُ فِي عُقُوبَةِ التَّعْزِيرِ:
12 - يَجُوزُ فِي مَجَال التَّعْزِيرِ: إِيقَاعُ عُقُوبَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، يَخْتَارُ مِنْهَا الْحَاكِمُ فِي كُل حَالَةٍ مَا يَرَاهُ مُنَاسِبًا مُحَقِّقًا لأَِغْرَاضِ التَّعْزِيرِ.
وَهَذِهِ الْعُقُوبَاتُ قَدْ تَنْصَبُّ عَلَى الْبَدَنِ، وَقَدْ تَكُونُ مُقَيِّدَةً لِلْحُرِّيَّةِ، وَقَدْ تُصِيبُ الْمَال، وَقَدْ تَكُونُ غَيْرَ ذَلِكَ. وَفِيمَا يَلِي بَيَانُ هَذَا الإِِْجْمَال.
__________
(1) يراجع فيما سبق: فصول الأستروشني ص 14 - 20، ابن عابدين 3 / 183، السندي 7 / 603 - 605، وتبصرة الحكام 2 / 366، ونهاية المحتاج 7 / 174 - 175، والأحكام السلطانية للماوردي ص 224، والسياسة الشرعية ص 53، والحسبة ص 38.(12/263)
الْعُقُوبَاتُ الْبَدَنِيَّةُ:
أ - التَّعْزِيرُ بِالْقَتْل:
13 - الأَْصْل: أَنَّهُ لاَ يُبْلَغُ بِالتَّعْزِيرِ الْقَتْل، وَذَلِكَ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ} (1) وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَحِل دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلاَّ بِإِِحْدَى ثَلاَثٍ: الثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ (2) . وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِِلَى جَوَازِ الْقَتْل تَعْزِيرًا فِي جَرَائِمَ مُعَيَّنَةٍ بِشُرُوطٍ مَخْصُوصَةٍ، مِنْ ذَلِكَ: قَتْل الْجَاسُوسِ الْمُسْلِمِ إِِذَا تَجَسَّسَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَذَهَبَ إِِلَى جَوَازِ تَعْزِيرِهِ بِالْقَتْل مَالِكٌ وَبَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَدَ، وَمَنَعَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو يَعْلَى مِنَ الْحَنَابِلَةِ. وَتَوَقَّفَ فِيهِ أَحْمَدُ. وَمِنْ ذَلِكَ: قَتْل الدَّاعِيَةِ إِِلَى الْبِدَعِ الْمُخَالِفَةِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَالْجَهْمِيَّةِ. ذَهَبَ إِِلَى ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ. وَأَجَازَ أَبُو حَنِيفَةَ التَّعْزِيرَ بِالْقَتْل فِيمَا تَكَرَّرَ مِنَ الْجَرَائِمِ، إِِذَا كَانَ جِنْسُهُ يُوجِبُ الْقَتْل، كَمَا يُقْتَل مَنْ تَكَرَّرَ مِنْهُ اللِّوَاطُ أَوِ الْقَتْل
__________
(1) سورة الأنعام / 151.
(2) حديث: " لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث. . . " أخرجه البخاري (الفتح 12 / 201 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1302 - 1303 ط الحلبي) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.(12/263)
بِالْمُثَقَّل (1) . وَقَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ (2) : وَقَدْ يُسْتَدَل عَلَى أَنَّ الْمُفْسِدَ إِِذَا لَمْ يَنْقَطِعْ شَرُّهُ إِلاَّ بِقَتْلِهِ فَإِِنَّهُ يُقْتَل، لِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَرْفَجَةَ الأَْشْجَعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ يُرِيدُ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ، أَوْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ فَاقْتُلُوهُ (3)
ب - التَّعْزِيرُ بِالْجَلْدِ:
14 - الْجَلْدُ فِي التَّعْزِيرِ مَشْرُوعٌ، وَدَلِيلُهُ قَوْل الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يُجْلَدُ أَحَدٌ فَوْقَ عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ، إِلاَّ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى (4) .
وَفِي الْحَرِيسَةِ (5) الَّتِي تُؤْخَذُ مِنْ مَرَاتِعِهَا غُرْمُ ثَمَنِهَا مَرَّتَيْنِ، وَضَرْبُ نَكَالٍ. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي سَرِقَةِ التَّمْرِ يُؤْخَذُ مِنْ أَكْمَامِهِ، لِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَال سُئِل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص 1 / 61، وابن عابدين 3 / 184 - 185، والقرطبي 6 / 151 - 152، وتبصرة الحكام ص 193، 206، والمهذب 2 / 268، والأحكام السلطانية للماوردي ص 212 - 213، وكشاف القناع 4 / 74 - 76.
(2) السياسة الشرعية لابن تيمية ص 99.
(3) حديث: " من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد. . . " أخرجه مسلم (3 / 1480 - ط الحلبي) .
(4) حديث " لا يجلد أحد فوق عشرة أسواط. . . " أخرجه البخاري (الفتح 12 / 176 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1333 ط الحلبي) من حديث أبي بردة الأنصاري رضي الله عنه.
(5) الحريسة، هي الشاة في الجبل يدركها الليل قبل رجوعها إلى مأواها فتسرق.(12/264)
عَنِ التَّمْرِ الْمُعَلَّقِ، فَقَال: مَنْ أَصَابَ مِنْهُ بِفِيهِ مِنْ ذِي حَاجَةٍ غَيْرَ مُتَّخِذٍ خُبْنَةً فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، وَمَنْ خَرَجَ بِشَيْءٍ مِنْهُ فَعَلَيْهِ غَرَامَةُ مِثْلَيْهِ وَالْعُقُوبَةُ، وَمَنْ سَرَقَ مِنْهُ شَيْئًا بَعْدَ أَنْ يُؤْوِيَهُ الْجَرِينُ فَبَلَغَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ فَعَلَيْهِ الْقَطْعُ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ. وَفِي رِوَايَةٍ قَال سَمِعْتُ رَجُلاً مِنْ مُزَيْنَةَ يَسْأَل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْحَرِيسَةِ الَّتِي تُوجَدُ فِي مَرَاتِعِهَا؟ قَال: فِيهَا ثَمَنُهَا مَرَّتَيْنِ، وَضَرْبُ نَكَالٍ. وَمَا أُخِذَ مِنْ عَطَنِهِ فَفِيهِ الْقَطْعُ إِِذَا بَلَغَ مَا يُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ. قَال: يَا رَسُول اللَّهِ، فَالثِّمَارُ وَمَا أُخِذَ مِنْهَا فِي أَكْمَامِهَا؟ قَال: مَنْ أَخَذَ بِفَمِهِ وَلَمْ يَتَّخِذْ خُبْنَةً فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَمَنِ احْتَمَل فَعَلَيْهِ ثَمَنُهُ مَرَّتَيْنِ، وَضَرْبُ نَكَالٍ، وَمَا أُخِذَ مِنْ أَجْرَانِهِ فَفِيهِ الْقَطْعُ، إِِذَا بَلَغَ مَا يُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ. وَلاِبْنِ مَاجَهْ مَعْنَاهُ، وَزَادَ النَّسَائِيُّ فِي آخِرِهِ: وَمَا لَمْ يَبْلُغْ ثَمَنَ الْمِجَنِّ فَفِيهِ غَرَامَةُ مِثْلَيْهِ، وَجَلَدَاتُ نَكَالٍ (1) .
وَقَدْ سَارَ عَلَى هَذِهِ الْعُقُوبَةِ فِي التَّعْزِيرِ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْحُكَّامِ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ (2) .
__________
(1) حديث عبد الله بن عمرو: " من أصاب بفيه. . . " أخرجه أبو داود (2 / 335 - 336 - تحقيق عزت عبيد دعاس) . والنسائي (8 / 85 - ط المكتبة التجارية) واللفظ لأبي داود، ونيل الأوطار 7 / 300 - 301 ط دار الجيل.
(2) المغني 10 / 348، وتبصرة الحكام 2 / 200، والحسبة 39.(12/264)
مِقْدَارُ الْجَلْدِ فِي التَّعْزِيرِ:
15 - مِمَّا لاَ خِلاَفَ فِيهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ التَّعْزِيرَ لاَ يَبْلُغُ الْحَدَّ، لِحَدِيثِ: مَنْ بَلَغَ حَدًّا فِي غَيْرِ حَدٍّ فَهُوَ مِنَ الْمُعْتَدِينَ (1) وَاخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي أَقْصَى الْجَلْدِ فِي التَّعْزِيرِ:
فَيَرَى أَبُو حَنِيفَةَ: أَنَّهُ لاَ يَزِيدُ عَنْ تِسْعَةٍ وَثَلاَثِينَ سَوْطًا بِالْقَذْفِ وَالشُّرْبِ، أَخْذًا عَنِ الشَّعْبِيِّ، إِذْ صَرَفَ كَلِمَةَ الْحَدِّ فِي الْحَدِيثِ إِِلَى حَدِّ الأَْرِقَّاءِ وَهُوَ أَرْبَعُونَ. وَأَبُو يُوسُفَ قَال بِذَلِكَ أَوَّلاً، ثُمَّ عَدَل عَنْهُ إِِلَى اعْتِبَارِ أَقَل حُدُودِ الأَْحْرَارِ وَهُوَ ثَمَانُونَ جَلْدَةً.
وَجْهُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ: أَنَّ الْحَدِيثَ ذَكَرَ حَدًّا مُنَكَّرًا، وَأَرْبَعُونَ جَلْدَةً حَدٌّ كَامِلٌ فِي الأَْرِقَّاءِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي الْقَذْفِ وَالشُّرْبِ، فَيَنْصَرِفُ إِِلَى الأَْقَل. وَأَبُو يُوسُفَ اعْتَمَدَ عَلَى أَنَّ الأَْصْل فِي الإِِْنْسَانِ الْحُرِّيَّةُ، وَحَدُّ الْعَبْدِ نِصْفُ حَدِّ الْحُرِّ، فَلَيْسَ حَدًّا كَامِلاً، وَمُطْلَقُ الاِسْمِ يَنْصَرِفُ إِِلَى الْكَامِل فِي كُل بَابٍ (2) .
وَفِي عَدَدِ الْجَلَدَاتِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ:
إِحْدَاهُمَا: أَنَّ التَّعْزِيرَ يَصِل إِِلَى تِسْعَةٍ وَسَبْعِينَ سَوْطًا، وَهِيَ رِوَايَةُ هِشَامٍ عَنْهُ، وَقَدْ أَخَذَ بِذَلِكَ
__________
(1) حديث: " من بلغ حدا في غير حد. . . " أخرجه البيهقي في السنن (8 / 327 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما، وقال: المحفوظ: هذا الحديث مرسل.
(2) الكاساني 7 / 64.(12/265)
زُفَرُ، وَهُوَ قَوْل عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، وَهُوَ الْقِيَاسُ، لأَِنَّهُ لَيْسَ حَدًّا فَيَكُونُ مِنْ أَفْرَادِ الْمَسْكُوتِ عَنِ النَّهْيِ عَنْهُ فِي حَدِيثِ: مَنْ بَلَغَ حَدًّا فِي غَيْرِ حَدٍّ. . . (1)
وَالثَّانِيَةُ: وَهِيَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّ التَّعْزِيرَ لاَ يَزِيدُ عَلَى خَمْسَةٍ وَسَبْعِينَ سَوْطًا، وَرُوِيَ ذَلِكَ أَثَرًا عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، كَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَيْضًا، وَأَنَّهُمَا قَالاَ: فِي التَّعْزِيرِ خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ. وَأَنَّ أَبَا يُوسُفَ أَخَذَ بِقَوْلِهِمَا فِي نُقْصَانِ الْخَمْسَةِ، وَاعْتُبِرَ عَمَلُهُمَا أَدْنَى الْحُدُودِ (2) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ قَال الْمَازِرِيُّ: إِنَّ تَحْدِيدَ الْعُقُوبَةِ لاَ سَبِيل إِلَيْهِ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ أَهْل الْمَذْهَبِ، وَقَال: إِنَّ مَذْهَبَ مَالِكٍ يُجِيزُ فِي الْعُقُوبَاتِ فَوْقَ الْحَدِّ. وَحُكِيَ عَنْ أَشْهَبَ: أَنَّ الْمَشْهُورَ أَنَّهُ قَدْ يُزَادُ عَلَى الْحَدِّ (3) . وَعَلَى ذَلِكَ فَالرَّاجِحُ لَدَى الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ الإِِْمَامَ لَهُ أَنْ يَزِيدَ التَّعْزِيرَ عَنِ الْحَدِّ، مَعَ مُرَاعَاةِ الْمَصْلَحَةِ الَّتِي لاَ يَشُوبُهَا الْهَوَى.
وَمِمَّا اسْتَدَل بِهِ الْمَالِكِيَّةُ: فِعْل عُمَرَ فِي مَعْنِ بْنِ زِيَادٍ لَمَّا زَوَّرَ كِتَابًا عَلَى عُمَرَ وَأَخَذَ بِهِ مِنْ صَاحِبِ بَيْتِ الْمَال مَالاً، إِذْ جَلَدَهُ مِائَةً، ثُمَّ مِائَةً
__________
(1) حديث: " من بلغ حدا في غير. . . " تقدم تخريجه.
(2) الأستروشني ص 16، والكاساني 7 / 64، والجوهرة 2 / 253، واللباب للميداني 3 / 65.
(3) تبصرة الحكام 2 / 204.(12/265)
أُخْرَى، ثُمَّ ثَالِثَةً، وَلَمْ يُخَالِفْهُ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ فَكَانَ إِجْمَاعًا، كَمَا أَنَّهُ ضَرَبَ صَبِيغَ بْنَ عِسْلٍ أَكْثَرَ مِنَ الْحَدِّ (1) . وَرَوَى أَحْمَدُ بِإِِسْنَادِهِ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أُتِيَ بِالنَّجَاشِيِّ قَدْ شَرِبَ خَمْرًا فِي رَمَضَانَ فَجَلَدَهُ ثَمَانِينَ (الْحَدَّ) وَعِشْرِينَ سَوْطًا، لِفِطْرِهِ فِي رَمَضَانَ.
كَمَا رُوِيَ: أَنَّ أَبَا الأَْسْوَدِ اسْتَخْلَفَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَلَى قَضَاءِ الْبَصْرَةِ فَأُتِيَ بِسَارِقٍ قَدْ جَمَعَ الْمَتَاعَ فِي الْبَيْتِ وَلَمْ يُخْرِجْهُ، فَضَرَبَهُ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ سَوْطًا وَخَلَّى سَبِيلَهُ (2) . وَقَالُوا فِي حَدِيثِ أَبِي بُرْدَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لاَ يُجْلَدُ أَحَدٌ فَوْقَ عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ إِلاَّ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ (3) إِنَّهُ مَقْصُورٌ عَلَى زَمَنِ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأَِنَّهُ كَانَ يَكْفِي الْجَانِيَ مِنْهُمْ هَذَا الْقَدْرُ، وَتَأَوَّلُوهُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: فِي حَدٍّ، أَيْ فِي حَقٍّ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِِنْ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْمَعَاصِي الْمُقَدَّرِ حُدُودُهَا لأَِنَّ الْمَعَاصِيَ كُلَّهَا مِنْ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى (4) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ التَّعْزِيرَ إِنْ كَانَ بِالْجَلْدِ فَإِِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَنْقُصَ عَنْ أَقَل حُدُودِ مَنْ يَقَعُ عَلَيْهِ
__________
(1) كان يعنت الجند بالمشتبهات والتساؤلات فضربه سيدنا عمر رضي الله عنه ونفاه إلى البصرة.
(2) تبصرة الحكام 2 / 204، والمغني 10 / 348، وفتح القدير 5 / 115 - 116.
(3) حديث: " لا يجلد أحد فوق عشرة أسواط إلا في حد. . . " تقدم تخريجه.
(4) تبصرة الحكام 2 / 205.(12/266)
التَّعْزِيرُ، فَيَنْقُصُ فِي الْعَبْدِ عَنْ عِشْرِينَ، وَفِي الْحُرِّ عَنْ أَرْبَعِينَ، وَهُوَ حَدُّ الْخَمْرِ عِنْدَهُمْ، وَقِيل بِوُجُوبِ النَّقْصِ فِيهِمَا عَنْ عِشْرِينَ، لِحَدِيثِ: مَنْ بَلَغَ حَدًّا فِي غَيْرِ حَدٍّ فَهُوَ مِنَ الْمُعْتَدِينَ (1) وَيَسْتَوِي فِي النَّقْصِ عَمَّا ذُكِرَ جَمِيعُ الْجَرَائِمِ عَلَى الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ. وَقِيل بِقِيَاسِ كُل جَرِيمَةٍ بِمَا يَلِيقُ بِهَا مِمَّا فِيهِ أَوْ فِي جِنْسِهِ حَدٌّ، فَيَنْقُصُ عَلَى سَبِيل الْمِثَال تَعْزِيرُ مُقَدِّمَةِ الزِّنَى عَنْ حَدِّهِ، وَإِِنْ زَادَ عَلَى حَدِّ الْقَذْفِ، وَتَعْزِيرُ السَّبِّ عَنْ حَدِّ الْقَذْفِ، وَإِِنْ زَادَ عَلَى حَدِّ الشُّرْبِ. وَقِيل فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ: لاَ يَزِيدُ فِي أَكْثَرِ الْجَلْدِ فِي التَّعْزِيرِ عَنْ عَشْرِ جَلَدَاتٍ أَخْذًا بِحَدِيثِ أَبِي بُرْدَةَ: لاَ يُجْلَدُ فَوْقَ عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ إِلاَّ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ (2) لِمَا اشْتَهَرَ مِنْ قَوْل الشَّافِعِيِّ: إِِذَا صَحَّ الْحَدِيثُ فَهُوَ مَذْهَبِي، وَقَدْ صَحَّ هَذَا الْحَدِيثُ (3) .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ فِي قَدْرِ جَلْدِ التَّعْزِيرِ، فَرُوِيَ أَنَّهُ لاَ يَبْلُغُ الْحَدَّ. وَقَدْ ذَكَرَ الْخِرَقِيُّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ، وَالْمَقْصُودُ بِمُقْتَضَاهَا: أَنَّهُ لاَ يُبْلَغُ بِالتَّعْزِيرِ أَدْنَى حَدٍّ مَشْرُوعٍ، فَلاَ يَبْلُغُ بِالتَّعْزِيرِ أَرْبَعِينَ؛ لأَِنَّ الأَْرْبَعِينَ حَدُّ الْعَبْدِ فِي
__________
(1) حديث: " من بلغ حدا في غير حد. . . " تقدم تخريجه.
(2) حديث: " لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حد. . . " تقدم تخريجه.
(3) نهاية المحتاج 7 / 175، والمهذب 2 / 228، ومغني المحتاج 4 / 193.(12/266)
الْخَمْرِ وَالْقَذْفِ، وَلاَ يُجَاوِزُ تِسْعَةً وَثَلاَثِينَ سَوْطًا فِي الْحُرِّ، وَلاَ تِسْعَةَ عَشَرَ فِي الْعَبْدِ عَلَى الْقَوْل بِأَنَّ حَدَّ الْخَمْرِ أَرْبَعُونَ سَوْطًا.
وَنَصُّ مَذْهَبِ أَحْمَدَ: أَنْ لاَ يُزَادَ عَلَى عَشْرِ جَلَدَاتٍ فِي التَّعْزِيرِ، لِلأَْثَرِ: لاَ يُجْلَدُ أَحَدٌ فَوْقَ عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ إِلاَّ فِي حَدٍّ. . . إِلاَّ مَا وَرَدَ مِنَ الآْثَارِ مُخَصِّصًا لِهَذَا الْحَدِيثِ، كَوَطْءِ جَارِيَةِ امْرَأَتِهِ بِإِِذْنِهَا، وَوَطْءِ جَارِيَةٍ مُشْتَرَكَةٍ الْمَرْوِيِّ عَنْ عُمَرَ.
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَيَحْتَمِل كَلاَمُ أَحْمَدَ وَالْخِرَقِيِّ: أَنَّهُ لاَ يَبْلُغُ التَّعْزِيرُ فِي كُل جَرِيمَةٍ حَدًّا مَشْرُوعًا فِي جِنْسِهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى حَدٍّ غَيْرِ جِنْسِهَا، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُل عَلَى هَذَا. وَاسْتَدَل بِمَا رُوِيَ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِيمَنْ وَطِئَ جَارِيَةَ امْرَأَتِهِ بِإِِذْنِهَا: أَنَّهُ يُجْلَدُ مِائَةَ جَلْدَةٍ، وَهَذَا تَعْزِيرٌ؛ لأَِنَّ عِقَابَ هَذِهِ الْجَرِيمَةِ لِلْمُحْصَنِ الرَّجْمُ، وَبِمَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الرَّجُل الَّذِي وَطِئَ أَمَةً مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُ وَآخَرَ: أَنَّهُ يُجْلَدُ الْحَدَّ إِلاَّ سَوْطًا وَاحِدًا، وَقَدِ احْتَجَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَحْمَدُ.
وَقَدْ زَادَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَابْنُ الْقَيِّمِ رَأْيًا رَابِعًا: هُوَ أَنَّ التَّعْزِيرَ يَكُونُ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ، وَعَلَى قَدْرِ الْجَرِيمَةِ، فَيَجْتَهِدُ فِيهِ وَلِيُّ الأَْمْرِ عَلَى أَلاَّ يَبْلُغَ التَّعْزِيرُ فِيمَا فِيهِ حَدٌّ مُقَدَّرٌ ذَلِكَ الْمُقَدَّرَ، فَالتَّعْزِيرُ عَلَى سَرِقَةِ مَا دُونَ النِّصَابِ مَثَلاً لاَ يُبْلَغُ بِهِ(12/267)
الْقَطْعَ، وَقَالاَ: إِنَّ هَذَا هُوَ أَعْدَل الأَْقْوَال، وَإِِنَّ السُّنَّةَ دَلَّتْ عَلَيْهِ، كَمَا مَرَّ فِي ضَرْبِ الَّذِي أَحَلَّتْ لَهُ امْرَأَتُهُ جَارِيَتَهَا مِائَةً لاَ الْحَدَّ وَهُوَ الرَّجْمُ، كَمَا أَنَّ عَلِيًّا وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ضَرَبَا رَجُلاً وَامْرَأَةً وُجِدَا فِي لِحَافٍ وَاحِدٍ مِائَةً مِائَةً، وَحَكَمَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيمَنْ قَلَّدَ خَاتَمَ بَيْتِ الْمَال بِضَرْبِهِ ثَلاَثَمِائَةٍ عَلَى مَرَّاتٍ، وَضَرَبَ صَبِيغَ بْنَ عِسْلٍ لِلْبِدْعَةِ ضَرْبًا كَثِيرًا لَمْ يَعُدُّهُ (1) .
وَخُلاَصَةُ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّ فِيهِ مَنْ يَقُول بِأَنَّ التَّعْزِيرَ لاَ يَزِيدُ عَلَى عَشْرِ جَلَدَاتٍ، وَمَنْ يَقُول: بِأَنَّهُ لاَ يَزِيدُ عَلَى أَقَل الْحُدُودِ، وَمَنْ يَقُول: بِأَنَّهُ لاَ يَبْلُغُ فِي جَرِيمَةٍ قَدْرَ الْحَدِّ فِيهَا، وَهُنَاكَ مَنْ يَقُول: بِأَنَّهُ لاَ يَتَقَيَّدُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ يَكُونُ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ، وَعَلَى قَدْرِ الْجَرِيمَةِ، فِيمَا لَيْسَ فِيهِ حَدٌّ مُقَدَّرٌ. وَالرَّاجِحُ عِنْدَهُمُ التَّحْدِيدُ سَوَاءٌ أَكَانَ بِعَشْرِ جَلَدَاتٍ أَمْ بِأَقَل مِنْ أَدْنَى الْحُدُودِ أَمْ بِأَقَل مِنَ الْحَدِّ الْمُقَرَّرِ لِجِنْسِ الْجَرِيمَةِ.
وَمَا ذُكِرَ هُوَ عَنِ الْحَدِّ الأَْعْلَى، أَمَّا عَنِ الْحَدِّ الأَْدْنَى فَقَدْ قَال الْقُدُورِيُّ: إِنَّهُ ثَلاَثُ جَلَدَاتٍ؛ لأَِنَّ هَذَا الْعَدَدَ أَقَل مَا يَقَعُ بِهِ الزَّجْرُ. وَلَكِنَّ غَالِبِيَّةَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى أَنَّ الأَْمْرَ فِي أَقَل جَلْدِ التَّعْزِيرِ مَرْجِعُهُ الْحَاكِمُ، بِقَدْرِ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ يَكْفِي لِلزَّجْرِ.
وَقَال فِي الْخُلاَصَةِ: إِنَّ اخْتِيَارَ التَّعْزِيرِ إِِلَى
__________
(1) الحسبة في الإسلام ص 39، والسياسة الشرعية ص 54، والطرق الحكمية ص 106(12/267)
الْقَاضِي مِنْ وَاحِدٍ إِِلَى تِسْعَةٍ وَثَلاَثِينَ، وَقَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ تَصْرِيحُ ابْنِ قُدَامَةَ، فَقَدْ قَال: إِنَّ أَقَل التَّعْزِيرِ لَيْسَ مُقَدَّرًا فَيُرْجَعُ فِيهِ إِِلَى اجْتِهَادِ الإِِْمَامِ أَوِ الْحَاكِمِ فِيمَا يَرَاهُ وَمَا تَقْتَضِيهِ حَال الشَّخْصِ (1) .
ج - التَّعْزِيرُ بِالْحَبْسِ:
16 - الْحَبْسُ مَشْرُوعٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِِْجْمَاعِ
أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَل اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً} (2) وَقَوْلُهُ: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَْرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلاَفٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَْرْضِ} (3) . فَقَدْ قَال الزَّيْلَعِيُّ: إِنَّ الْمَقْصُودَ بِالنَّفْيِ هُنَا الْحَبْسُ.
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَدْ ثَبَتَ: أَنَّ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَبَسَ بِالْمَدِينَةِ أُنَاسًا فِي تُهْمَةِ دَمٍ، وَحَكَمَ بِالضَّرْبِ
__________
(1) يراجع في التعزير بالجلد عموما الكاساني في 7 / 64، والسرخسي 24 / 36، والسندي 7 / 599 - 600، 601، 602، والجوهرة 2 / 253، واللباب لميداني 3 / 65، وفتح القدير 5 / 115 - 116، والزيلعي والشلبي 3 / 210، والأستروشني ص 16، وتبصرة الحكام 2 / 200 - 204، ونهاية المحتاج 7 / 175، والمهذب 2 / 228، وكشاف القناع 4 / 73 - 74، والسياسة الشرعية ص 47، 48، 53، 54، 55، 56، والحسبة ص 39، والطرق الحكمية ص 106، والمغني 10 / 347 - 348.
(2) سورة النساء / 15.
(3) سورة المائدة / 33.(12/268)
وَالسَّجْنِ، وَأَنَّهُ قَال فِيمَنْ أَمْسَكَ رَجُلاً لآِخَرَ حَتَّى قَتَلَهُ: اقْتُلُوا الْقَاتِل، وَاصْبِرُوا الصَّابِرَ (1) . وَفُسِّرَتْ عِبَارَةُ اصْبِرُوا الصَّابِرَ بِحَبْسِهِ حَتَّى الْمَوْتِ؛ لأَِنَّهُ حَبَسَ الْمَقْتُول لِلْمَوْتِ بِإِِمْسَاكِهِ إِيَّاهُ.
وَأَمَّا الإِِْجْمَاعُ فَقَدْ أَجْمَعَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ، عَلَى الْمُعَاقَبَةِ بِالْحَبْسِ. وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْحَبْسَ يَصْلُحُ عُقُوبَةً فِي التَّعْزِيرِ. وَمِمَّا جَاءَ فِي هَذَا الْمَقَامِ: أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَجَنَ الْحُطَيْئَةَ عَلَى الْهَجْوِ، وَسَجَنَ صَبِيغًا عَلَى سُؤَالِهِ عَنِ الذَّارِيَاتِ، وَالْمُرْسَلاَتِ، وَالنَّازِعَاتِ، وَشِبْهِهِ، وَأَنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَجَنَ ضَابِئَ بْنَ الْحَارِثِ، وَكَانَ مِنْ لُصُوصِ بَنِي تَمِيمٍ وَفُتَّاكِهِمْ، وَأَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَجَنَ بِالْكُوفَةِ. وَأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَجَنَ بِمَكَّةَ، وَسَجَنَ فِي " دَارِمٍ " مُحَمَّدَ ابْنَ الْحَنَفِيَّةِ لَمَّا امْتَنَعَ عَنْ بَيْعَتِهِ (2) .
__________
(1) حديث: " اقتلوا القاتل واصبروا الصابر ". أخرجه البيهقي (8 / 51 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث إسماعيل بن أمية مرسلا. وأورده قبله بلفظ مقارب، ولكنه رجح الإرسال، ومن قبله الدارقطني (3 / 140 - ط دار المحاسن) .
(2) أقضية الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي عبد الله محمد بن فرح المالكي القرطبي ص 5 - 6، وتبصرة الحكام 2 / 373، والزيلعي 3 / 207 و 4 / 179 - 180، وابن عابدين 4 / 326، وفتح القدير 6 / 375، والمغني 10 / 313 - 314 - 348، والسياسة الشرعية ص 54، وكشاف القناع 4 / 74، والماوردي ص 224.(12/268)
مُدَّةُ الْحَبْسِ فِي التَّعْزِيرِ:
17 - الأَْصْل أَنَّ تَقْدِيرَ مُدَّةِ الْحَبْسِ يَرْجِعُ إِِلَى الْحَاكِمِ، مَعَ مُرَاعَاةِ ظُرُوفِ الشَّخْصِ، وَالْجَرِيمَةِ وَالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ.
وَقَدْ أَشَارَ الزَّيْلَعِيُّ إِِلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: لَيْسَ لِلْحَبْسِ مُدَّةٌ مُقَدَّرَةٌ.
وَقَال الْمَاوَرْدِيُّ: إِنَّ الْحَبْسَ تَعْزِيرًا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الْمُجْرِمِ، وَبِاخْتِلاَفِ الْجَرِيمَةِ، فَمِنَ الْجَانِينَ مَنْ يُحْبَسُ يَوْمًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُحْبَسُ أَكْثَرُ، إِِلَى غَايَةٍ غَيْرِ مُقَدَّرَةٍ.
لَكِنَّ الشِّرْبِينِيَّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، ذَكَرَ أَنَّ شَرْطَ الْحَبْسِ: النَّقْصُ عَنْ سَنَةٍ، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الأُْمِّ، وَصَرَّحَ بِهِ مُعْظَمُ الأَْصْحَابِ.
وَأَطْلَقَ الْحَنَابِلَةُ فِي تَقْدِيرِ الْمُدَّةِ (1) .
د - التَّعْزِيرُ بِالنَّفْيِ (التَّغْرِيب) :
مَشْرُوعِيَّةُ التَّعْزِيرِ بِالنَّفْيِ:
18 - التَّعْزِيرُ بِالنَّفْيِ مَشْرُوعٌ بِلاَ خِلاَفٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، وَدَلِيل مَشْرُوعِيَّتِهِ: الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالإِِْجْمَاعُ.
أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ
__________
(1) فتح القدير 6 / 375، والزيلعي 4 / 179 - 180 و 3 / 181 - 208، وابن عابدين 4 / 326، والفتاوى الهندية 2 / 188، والتاج والإكليل 5 / 48، والمدونة 13 / 54 - 55، وتبصرة الحكام 2 / 373، ونهاية المحتاج 7 / 175، والأحكام السلطانية للماوردي / 224، ومغني المحتاج 4 / 192، وكشاف القناع 4 / 74 - 75، والمغني 10 / 313 - 314.(12/269)
الأَْرْضِ} وَمِنْ ثَمَّ فَهُوَ عُقُوبَةٌ مَشْرُوعَةٌ فِي الْحُدُودِ.
وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَإِِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالنَّفْيِ تَعْزِيرًا فِي الْمُخَنَّثِينَ، إِذْ نَفَاهُمْ مِنَ الْمَدِينَةِ (1) .
وَأَمَّا الإِِْجْمَاعُ: فَإِِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَفَى نَصْرَ بْنَ حَجَّاجٍ لاِفْتِتَانِ النِّسَاءِ بِهِ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ (2) .
وَيَجُوزُ كَوْنُ التَّغْرِيبِ لأَِكْثَرَ مِنْ مَسَافَةِ الْقَصْرِ، لأَِنَّ عُمَرَ غَرَّبَ مِنَ الْمَدِينَةِ نَصْرَ بْنَ حَجَّاجٍ إِِلَى الْبَصْرَةِ، وَنَفَى عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِِلَى مِصْرَ، وَنَفَى عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِِلَى الْبَصْرَةِ. وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ التَّغْرِيبُ لِبَلَدٍ مُعَيَّنٍ، فَلاَ يُرْسِل الْمَحْكُومَ عَلَيْهِ بِهِ إِرْسَالاً، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ غَيْرَ الْبَلَدِ الْمُعَيَّنِ لإِِِبْعَادِهِ، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَغْرِيبُ الْجَانِي لِبَلَدِهِ (3) .
وَيَرَى الشَّافِعِيُّ: أَنْ لاَ تَقِل الْمَسَافَةُ بَيْنَ بَلَدِ الْجَانِي وَالْبَلَدِ الْمُغَرَّبِ إِلَيْهِ عَنْ مَسِيرَةِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ (4) . وَيَرَى ابْنُ أَبِي لَيْلَى: أَنْ يُنْفَى الْجَانِي
__________
(1) أخرج أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بمخنث قد خضب يديه ورجليه بالحناء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " ما بال هذا؟ فقيل: يا رسول الله، يتشبه بالنساء، فأمر به فنفي إلى النقيع ". أخرجه أبو داود (5 / 224 - تحقيق عز وأعله المنذري بجهالة أحد رواته. (مختصر سنن أبي داود 7 / 240 - نشر المعرفة) .
(2) المبسوط للسرخسي 9 / 45، والزيلعي 3 / 174.
(3) حاشية البجيرمي 4 / 145.
(4) الأحكام السلطانية للماوردي ص 212.(12/269)
إِِلَى بَلَدٍ غَيْرِ الْبَلَدِ الَّذِي ارْتُكِبَتْ فِيهِ الْجَرِيمَةُ بِحَيْثُ تَكُونُ الْمَسَافَةُ بَيْنَ الْبَلَدِ الَّذِي يُنْفَى إِلَيْهِ وَبَلَدِ الْجَرِيمَةِ، دُونَ مَسِيرَةِ سَفَرٍ (1) .
مُدَّةُ التَّغْرِيبِ:
19 - لاَ يَعْتَبِرُ أَبُو حَنِيفَةَ التَّغْرِيبَ فِي الزِّنَى حَدًّا، بَل يَعْتَبِرُهُ مِنَ التَّعْزِيرِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ: أَنَّهُ يُجِيزُ أَنْ يَزِيدَ مِنْ حَيْثُ الْمُدَّةُ عَنْ سَنَةٍ (2) .
وَيَجُوزُ عِنْدَ مَالِكٍ أَنْ يَزِيدَ التَّغْرِيبُ فِي التَّعْزِيرِ عَنْ سَنَةٍ، مَعَ أَنَّ التَّغْرِيبَ عِنْدَهُ فِي الزِّنَى حَدٌّ؛ لأَِنَّهُ يَقُول بِنَسْخِ حَدِيثِ: مَنْ بَلَغَ حَدًّا فِي غَيْرِ حَدٍّ فَهُوَ مِنَ الْمُعْتَدِينَ. وَالرَّاجِحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ لِلإِِْمَامِ أَنْ يَزِيدَ فِي التَّعْزِيرِ عَنِ الْحَدِّ، مَعَ مُرَاعَاةِ الْمَصْلَحَةِ غَيْرِ الْمَشُوبَةِ بِالْهَوَى (3) .
وَعَلَى ذَلِكَ بَعْضُ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ. وَيَرَى الْبَعْضُ الآْخَرُ مِنْهُمْ: أَنَّ مُدَّةَ التَّغْرِيبِ فِي التَّعْزِيرِ لاَ يَجُوزُ أَنْ تَصِل إِِلَى سَنَةٍ، لأَِنَّهُمْ يَعْتَبِرُونَ التَّغْرِيبَ فِي جَرِيمَةِ الزِّنَى حَدًّا، وَإِِذَا كَانَتْ مُدَّتُهُ فِيهَا عَامًا فَلاَ يَجُوزُ عِنْدَهُمْ فِي التَّعْزِيرِ أَنْ يَصِل التَّغْرِيبُ لِعَامٍ، لِحَدِيثِ: مَنْ بَلَغَ حَدًّا فِي غَيْرِ حَدٍّ فَهُوَ مِنَ الْمُعْتَدِينَ (4) . وَتَفْصِيلُهُ فِي (نَفْيٌ) .
__________
(1) المبسوط للسرخسي 9 / 45.
(2) معين الحكام ص 184، وبداية المجتهد 2 / 364 - 35.
(3) تبصرة الحكام 2 / 204، والشرح الصغير 4 / 504.
(4) يراجع في التغريب عموما السرخسي 9 / 45، والزيلعي 3 / 174، ومعين الحكام ص 182، وبداية المجتهد 2 / 381 ثم 364 - 365، وتبصرة الحكام 2 / 204، أقضية الرسول صلى الله عليه وسلم ص 5، ونهاية المحتاج 7 / 174 - 175، والمهذب 2 / 228، وحاشية البجيرمي 4 / 153، وشرح الخطيب على هامشها الماوردي ص 212، وكشاف القناع 4 / 73 - 74 - 76، والمغني 10 / 347، والحسبة ص 40، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 247.(12/270)
هـ - التَّعْزِيرُ بِالْمَال:
مَشْرُوعِيَّةُ التَّعْزِيرِ بِالْمَال:
20 - الأَْصْل فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ التَّعْزِيرَ بِأَخْذِ الْمَال غَيْرُ جَائِزٍ، فَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ لاَ يُجِيزَانِهِ (1) ، بَل إِنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يَذْكُرْهُ فِي كِتَابٍ مِنْ كُتُبِهِ (2) . أَمَّا أَبُو يُوسُفَ فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ: أَنَّ التَّعْزِيرَ بِأَخْذِ الْمَال مِنَ الْجَانِي جَائِزٌ إِنْ رُئِيَتْ فِيهِ مَصْلَحَةٌ (3) .
وَقَال الشبراملسي: وَلاَ يَجُوزُ عَلَى الْجَدِيدِ بِأَخْذِ الْمَال. يَعْنِي لاَ يَجُوزُ التَّعْزِيرُ بِأَخْذِ الْمَال فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ الْجَدِيدِ (4) ، وَفِي الْمَذْهَبِ الْقَدِيمِ: يَجُوزُ.
أَمَّا فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ، فَقَدْ قَال ابْنُ فَرْحُونَ: التَّعْزِيرُ بِأَخْذِ الْمَال قَال بِهِ الْمَالِكِيَّةُ (5) . وَقَدْ ذَكَرَ مَوَاضِعَ مَخْصُوصَةً يُعَزَّرُ فِيهَا
__________
(1) ابن عابدين 3 / 184.
(2) فصول الأستروشني ص 7.
(3) ابن عابدين 3 / 184، والزيلعي 3 / 208، والسندي 7 / 604 - 605، وفتاوى البزازية 2 / 457 طبع أوروبا سنة 1308 هـ.
(4) حاشية الشبراملسي على شرح المنهاج 7 / 174، والحسبة ص 40.
(5) الحسبة ص 40، وتبصرة الحكام 2 / 367 - 368.(12/270)
بِالْمَال، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: سُئِل مَالِكٌ عَنِ اللَّبَنِ الْمَغْشُوشِ أَيُرَاقُ؟ قَال: لاَ، وَلَكِنْ أَرَى أَنْ يُتَصَدَّقَ بِهِ، إِِذَا كَانَ هُوَ الَّذِي غَشَّهُ. وَقَال فِي الزَّعْفَرَانِ وَالْمِسْكِ الْمَغْشُوشِ مِثْل ذَلِكَ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ قَلِيلاً أَوْ كَثِيرًا، وَخَالَفَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْكَثِيرِ، وَقَال: يُبَاعُ الْمِسْكُ وَالزَّعْفَرَانُ عَلَى مَا يُغَشُّ بِهِ، وَيَتَصَدَّقُ بِالثَّمَنِ أَدَبًا لِلْغَاشِّ.
وَأَفْتَى ابْنُ الْقَطَّانِ الأَْنْدَلُسِيُّ فِي الْمَلاَحِفِ الرَّدِيئَةِ النَّسْجِ بِأَنْ تُحَرَّقَ. وَأَفْتَى ابْنُ عَتَّابٍ: بِتَقْطِيعِهَا وَالصَّدَقَةِ بِهَا خِرَقًا (1) .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَحْرُمُ التَّعْزِيرُ بِأَخْذِ الْمَال أَوْ إِتْلاَفِهِ؛ لأَِنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَرِدْ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ عَمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ.
وَخَالَفَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَابْنُ الْقَيِّمِ، فَقَالاَ: إِنَّ التَّعْزِيرَ بِالْمَال سَائِغٌ إِتْلاَفًا وَأَخْذًا (2) .
وَاسْتَدَلاَّ لِذَلِكَ بِأَقْضِيَةٍ لِلرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَإِِبَاحَتِهِ سَلْبَ مَنْ يَصْطَادُ فِي حَرَمِ الْمَدِينَةِ لِمَنْ يَجِدُهُ، وَأَمْرِهِ بِكَسْرِ دِنَانِ الْخَمْرِ، وَشَقِّ ظُرُوفِهَا، وَأَمْرِهِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بِحَرْقِ الثَّوْبَيْنِ الْمُعَصْفَرَيْنِ، وَتَضْعِيفِهِ الْغَرَامَةَ عَلَى مَنْ
__________
(1) تبصرة الحكام ص 468، والطرق الحكمية ص 250.
(2) كشاف القناع 4 / 74 - 75، وشرح المنتهى على هامشه ص 110، والحسبة ص 40، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 295.(12/271)
سَرَقَ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ، وَسَارِقِ مَا لاَ قَطْعَ فِيهِ مِنَ الثَّمَرِ وَالْكَثَرِ (1) ، وَكَاتِمِ الضَّالَّةِ.
وَمِنْهَا أَقَضِيَّةُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، مِثْل أَمْرِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بِتَحْرِيقِ الْمَكَانِ الَّذِي يُبَاعُ فِيهِ الْخَمْرُ، وَأَخْذُ شَطْرِ مَال مَانِعِ الزَّكَاةِ، وَأَمْرِ عُمَرَ بِتَحْرِيقِ قَصْرِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الَّذِي بَنَاهُ حَتَّى يَحْتَجِبَ فِيهِ عَنِ النَّاسِ. وَقَدْ نَفَّذَ هَذَا الأَْمْرَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (2) .
أَنْوَاعُ التَّعْزِيرِ بِالْمَال
التَّعْزِيرُ بِالْمَال يَكُونُ بِحَبْسِهِ أَوْ بِإِِتْلاَفِهِ، أَوْ بِتَغْيِيرِ صُورَتِهِ، أَوْ بِتَمْلِيكِهِ لِلْغَيْرِ.
أ - حَبْسُ الْمَال عَنْ صَاحِبِهِ:
21 - وَهُوَ أَنْ يُمْسِكَ الْقَاضِي شَيْئًا مِنْ مَال الْجَانِي مُدَّةً زَجْرًا لَهُ، ثُمَّ يُعِيدُهُ لَهُ عِنْدَمَا تَظْهَرُ تَوْبَتُهُ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَخْذُهُ لِبَيْتِ الْمَال؛ لأَِنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَخْذُ مَال إِنْسَانٍ بِغَيْرِ سَبَبٍ شَرْعِيٍّ يَقْتَضِي ذَلِكَ (3) . وَفَسَّرَهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَبُو يَحْيَى الْخُوَارِزْمِيُّ. وَنَظِيرُهُ مَا يُفْعَل فِي خُيُول الْبُغَاةِ وَسِلاَحِهِمْ، فَإِِنَّهَا تُحْبَسُ عَنْهُمْ مُدَّةً وَتُعَادُ إِلَيْهِمْ
__________
(1) الكثر معناه: الجمار أي قلب النخلة ويقال: الطلع.
(2) السندي 7 / 604، 1 / 605، والبزازية 2 / 457، وابن عابدين 3 / 184.
(3) فصول الأستروشني ص 7 - 8، والبزازية 2 / 457.(12/271)
إِِذَا تَابُوا. وَصَوَّبَ هَذَا الرَّأْيَ الإِِْمَامُ ظَهِيرُ الدِّينِ التُّمُرْتَاشِيُّ الْخُوَارِزْمِيُّ.
أَمَّا إِِذَا صَارَ مَيْئُوسًا مِنْ تَوْبَتِهِ، فَإِِنَّ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَصْرِفَ هَذَا الْمَال فِيمَا يَرَى فِيهِ الْمَصْلَحَةَ (1) .
ب - الإِِْتْلاَفُ:
22 - قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: إِنَّ الْمُنْكَرَاتِ مِنَ الأَْعْيَانِ وَالصِّفَاتِ يَجُوزُ إِتْلاَفُ مَحَلِّهَا تَبَعًا لَهَا، فَالأَْصْنَامُ صُوَرُهَا مُنْكَرَةٌ، فَيَجُوزُ إِتْلاَفُ مَادَّتِهَا، وَآلاَتُ اللَّهْوِ يَجُوزُ إِتْلاَفُهَا عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ، وَبِذَلِكَ أَخَذَ مَالِكٌ، وَهُوَ أَشْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ. وَمِنْ هَذَا الْقَبِيل أَيْضًا أَوْعِيَةُ الْخَمْرِ، يَجُوزُ تَكْسِيرُهَا وَتَحْرِيقُهَا، وَالْمَحَل الَّذِي يُبَاعُ فِيهِ الْخَمْرُ يَجُوزُ تَحْرِيقُهُ، وَاسْتَدَل لِذَلِكَ بِفِعْل عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي تَحْرِيقِ مَحَلٍّ يُبَاعُ فِيهِ الْخَمْرُ، وَقَضَاءُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَحْرِيقَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَ يُبَاعُ فِيهَا الْخَمْرُ، وَلأَِنَّ مَكَانَ الْبَيْعِ كَالأَْوْعِيَةِ. وَقَال: إِنَّ هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَمَالِكٍ، وَغَيْرِهِمَا (2) . وَمِنْ هَذَا الْقَبِيل أَيْضًا: إِرَاقَةُ عُمَرَ اللَّبَنَ الْمَخْلُوطَ بِالْمَاءِ لِلْبَيْعِ. وَمِنْهُ مَا يَرَاهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنْ جَوَازِ إِتْلاَفِ الْمَغْشُوشَاتِ فِي الصِّنَاعَاتِ، كَالثِّيَابِ رَدِيئَةِ النَّسْجِ، بِتَمْزِيقِهَا
__________
(1) السندي 2 / 604، 1 / 605، فصول الأستروشني ص 8.
(2) الحسبة ص 143، والطرق الحكمية ص 241، وتبصرة الحكام 2 / 202 - 204.(12/272)
وَإِِحْرَاقِهَا، وَتَحْرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لِثَوْبِهِ الْمُعَصْفَرِ بِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) .
وَقَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: إِنَّ هَذَا الإِِْتْلاَفَ لِلْمَحَل الَّذِي قَامَتْ بِهِ الْمَعْصِيَةُ نَظِيرُهُ إِتْلاَفُ الْمَحَل مِنَ الْجِسْمِ الَّذِي وَقَعَتْ بِهِ الْمَعْصِيَةُ، كَقَطْعِ يَدِ السَّارِقِ. وَهَذَا الإِِْتْلاَفُ لَيْسَ وَاجِبًا فِي كُل حَالَةٍ، فَإِِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمَحَل مُفْسِدٌ فَإِِنَّ إِبْقَاءَهُ جَائِزٌ، إِمَّا لَهُ أَوْ يَتَصَدَّقُ بِهِ. وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ أَفْتَى فَرِيقٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: بِأَنْ يُتَصَدَّقَ بِالطَّعَامِ الْمَغْشُوشِ. وَفِي هَذَا إِتْلاَفٌ لَهُ.
وَكَرِهَ فَرِيقٌ الإِِْتْلاَفَ، وَقَالُوا بِالتَّصَدُّقِ بِهِ، وَمِنْهُمْ مَالِكٌ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَهِيَ الْمَشْهُورَةُ فِي الْمَذْهَبِ. وَقَدِ اسْتَحْسَنَ مَالِكٌ التَّصَدُّقَ بِاللَّبَنِ الْمَغْشُوشِ؛ لأَِنَّ فِي ذَلِكَ عِقَابًا لِلْجَانِي بِإِِتْلاَفِهِ عَلَيْهِ، وَنَفْعًا لِلْمَسَاكِينِ بِالإِِْعْطَاءِ لَهُمْ. وَقَال مَالِكٌ فِي الزَّعْفَرَانِ وَالْمِسْكِ بِمِثْل قَوْلِهِ فِي اللَّبَنِ إِِذَا غَشَّهُمَا الْجَانِي. وَقَال ابْنُ الْقَاسِمِ بِذَلِكَ فِي الْقَلِيل مِنْ تِلْكَ الأَْمْوَال؛ لأَِنَّ التَّصَدُّقَ بِالْمَغْشُوشِ فِي الْكَثِيرِ مِنْ هَذِهِ الأَْمْوَال الثَّمِينَةِ تَضِيعُ بِهِ أَمْوَالٌ عَظِيمَةٌ عَلَى أَصْحَابِهَا، فَيُعَزَّرُونَ فِي مِثْل تِلْكَ الأَْحْوَال بِعُقُوبَاتٍ أُخْرَى. وَعِنْدَ الْبَعْضِ: أَنَّ مَذْهَبَ مَالِكٍ
__________
(1) حديث: " تحريق عبد الله بن عمر لثوبه المعصفر ". أخرجه مسلم (3 / 1647 ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.(12/272)
التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْقَلِيل وَالْكَثِيرِ.
وَرَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ مَنْعَ الْعُقُوبَاتِ الْمَالِيَّةِ، وَأَخَذَ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ كُلٌّ مِنْ مُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَذْهَبِ، وَعِنْدَهُمَا: أَنَّ مَنْ غَشَّ أَوْ نَقَصَ مِنَ الْوَزْنِ يُعَاقَبُ بِالضَّرْبِ، وَالْحَبْسِ، وَالإِِْخْرَاجِ مِنَ السُّوقِ، وَأَنَّ مَا غُشَّ مِنَ الْخُبْزِ وَاللَّبَنِ، أَوْ غُشَّ مِنَ الْمِسْكِ وَالزَّعْفَرَانِ لاَ يُفَرَّقُ وَلاَ يُنْهَبُ (1) .
ج - التَّغْيِيرُ:
23 - مِنَ التَّعْزِيرِ بِالتَّغْيِيرِ نَهْيُ (2) النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كَسْرِ سِكَّةِ الْمُسْلِمِينَ الْجَائِزَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، إِلاَّ إِِذَا كَانَ بِهَا بَأْسٌ، فَإِِذَا كَانَتْ كَذَلِكَ كُسِرَتْ، وَفِعْل الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التِّمْثَال الَّذِي كَانَ فِي بَيْتِهِ (3) ، وَالسِّتْرِ الَّذِي بِهِ تَمَاثِيل (4) ، إِذْ قَطَعَ رَأْسَ التِّمْثَال فَصَارَ
__________
(1) الحسبة ص 43 - 46، والطرق الحكمية ص 247 - 258، وتبصرة الحكام 2 / 202 - 204.
(2) حديث " نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كسر. . . " أخرجه الخطيب البغدادي في تاريخه (6 / 346 ط السعادة) من حديث علقمة بن عبد الله المزني رضي الله عنه، وفي إسناده انقطاع.
(3) حديث: " قطع رأس التمثال فصار كالشجرة " أخرجه أبو داود (4 / 388 تحقيق عزت عبيد دعاس) ، والترمذي (5 / 115 ط الحلبي) من حديث أبي هريرة وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
(4) حديث " قطع الستر إلى وسادتين منتبذتين يوطآن. . . " أخرجه أحمد (2 / 308 ط الميمنية) من حديث أبي هريرة، وأخرجه الترمذي (5 / 115 - ط الحلبي) وقال: حسن صحيح.(12/273)
كَالشَّجَرَةِ، وَقَطَعَ السِّتْرَ إِِلَى وِسَادَتَيْنِ مُنْتَبَذَتَيْنِ (1) يُوطَآنِ.
وَمِنْ ذَلِكَ: تَفْكِيكُ آلاَتِ اللَّهْوِ، وَتَغْيِيرُ الصُّوَرِ الْمُصَوَّرَةِ.
د - التَّمْلِيكُ:
24 - مِنَ التَّعْزِيرِ بِالتَّمْلِيكِ: قَضَاءُ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَنْ سَرَقَ مِنَ الثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ قَبْل أَنْ يُؤْخَذَ إِِلَى الْجَرِينِ بِجَلَدَاتِ نَكَالٍ، وَغَرِمَ مَا أَخَذَ مَرَّتَيْنِ (2) ، وَفِيمَنْ سَرَقَ مِنَ الْمَاشِيَةِ قَبْل أَنْ تُؤْوَى إِِلَى الْمَرَاحِ بِجَلَدَاتِ نَكَالٍ، وَغَرِمَ ذَلِكَ مَرَّتَيْنِ (3) ، وَقَضَاءِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِتَضْعِيفِ الْغُرْمِ عَلَى كَاتِمِ الضَّالَّةِ، وَقَدْ قَال بِذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، مِنْهُمْ: أَحْمَدُ، وَغَيْرُهُ، وَمِنْ ذَلِكَ إِضْعَافُ عُمَرَ وَغَيْرِهِ الْغُرْمَ فِي نَاقَةِ أَعْرَابِيٍّ أَخَذَهَا مَمَالِيكُ جِيَاعٌ، إِذْ أَضْعَفَ الْغُرْمَ عَلَى سَيِّدِهِمْ، وَدَرَأَ الْقَطْعَ (4) .
__________
(1) منتبذتين: ملقاتين.
(2) حديث " قضاء الرسول صلى الله عليه وسلم فيمن سرق من الثمر المعلق. . . " تقدم تخريجه.
(3) حديث: " قضاء الرسول صلى الله عليه وسلم فيمن سرق من الماشية قبل. . . " تقدم تخريجه.
(4) يراجع للتعزير بالمال عموما: الزيلعي 3 / 208، والسندي 7 / 604، 605، وابن عابدين 3 / 184، وفصول الأستروشني عن 7 - 8، وفتاوى البزازية 2 / 45، ونهاية المحتاج شرح المنهاج 7 / 174، والحسبة ص 40، 44، 45، 46، 47، والطرق الحكمية 247 - 258، وكشاف القناع 4 / 74 - 75، وشرح المنتهى على هامشه ص 110.(12/273)
أَنْوَاعٌ أُخْرَى مِنَ التَّعْزِيرِ:
هُنَاكَ أَنْوَاعٌ أُخْرَى مِنَ التَّعْزِيرِ غَيْرِ مَا سَبَقَ. مِنْهَا: الإِِْعْلاَمُ الْمُجَرَّدُ، وَالإِِْحْضَارُ لِمَجْلِسِ الْقَضَاءِ، وَالتَّوْبِيخُ وَالْهَجْرُ.
أ - الإِِْعْلاَمُ الْمُجَرَّدُ:
25 - الإِِْعْلاَمُ: صُورَتُهُ أَنْ يَقُول الْقَاضِي لِلْجَانِي: بَلَغَنِي أَنَّك فَعَلْتَ كَذَا وَكَذَا، أَوْ يَبْعَثُ الْقَاضِي أَمِينَهُ لِلْجَانِي، لِيَقُول لَهُ ذَلِكَ. وَقَدْ قَيَّدَ الْبَعْضُ الإِِْعْلاَمَ، بِأَنْ يَكُونَ مَعَ النَّظَرِ بِوَجْهٍ عَابِسٍ (1) .
ب - الإِِْحْضَارُ لِمَجْلِسِ الْقَضَاءِ:
26 - قَال الْكَاسَانِيُّ: إِنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ التَّعْزِيرِ يَكُونُ بِالإِِْعْلاَمِ، وَالذَّهَابِ إِِلَى بَابِ الْقَاضِي، وَالْخِطَابِ بِالْمُوَاجَهَةِ.
وَقَال الْبَعْضُ: إِنَّهُ يَكُونُ بِالإِِْعْلاَمِ، وَالْجَرِّ لِبَابِ الْقَاضِي، وَالْخُصُومَةِ فِيمَا نُسِبَ إِِلَى الْجَانِي.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْعُقُوبَةِ وَالإِِْعْلاَمِ الْمُجَرَّدِ: أَنَّ فِي هَذِهِ الْعُقُوبَةِ يُؤْخَذُ الْجَانِي إِِلَى الْقَاضِي زِيَادَةً عَنِ الإِِْعْلاَمِ، وَذَلِكَ لِيُخَاطِبَهُ فِي الْمُوَاجَهَةِ.
__________
(1) الكاساني 7 / 64، والزيلعي 3 / 208، والجوهرة 2 / 254، والفتاوى الهندية 2 / 188، ودرر الحكام 2 / 75.(12/274)
وَبِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْكَمَال بْنُ الْهُمَامِ: تَتَمَيَّزُ هَذِهِ عَنِ الإِِْعْلاَمِ الْمُجَرَّدِ بِالْخُصُومَةِ فِيمَا نُسِبَ إِِلَى الْجَانِي.
وَكَثِيرًا مَا يَلْجَأُ الْقَاضِي لِهَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ أَوْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا إِِذَا كَانَ الْجَانِي قَدِ ارْتَكَبَ الْجَرِيمَةَ عَلَى سَبِيل الزَّلَّةِ وَالنُّدُورِ ابْتِدَاءً، إِِذَا كَانَ ذَلِكَ زَاجِرًا، عَلَى شَرِيطَةِ كَوْنِ الْجَرِيمَةِ غَيْرَ جَسِيمَةٍ (1) .
ج - التَّوْبِيخُ:
مَشْرُوعِيَّةُ التَّوْبِيخِ:
27 - التَّعْزِيرُ بِالتَّوْبِيخِ مَشْرُوعٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، فَقَدْ رَوَى أَبُو ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّهُ سَابَّ رَجُلاً فَعَيَّرَهُ بِأُمِّهِ، فَقَال الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا أَبَا ذَرٍّ، أَعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ،، إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ (2) .
وَقَال الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيُّ الْوَاجِدِ (3) يُحِل عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ (4) . وَقَدْ فُسِّرَ النَّيْل مِنَ الْعِرْضِ
__________
(1) يراجع في الإعلام والإحضار عموما: الكاساني 7 / 64، والزيلعي 3 / 208، والجوهرة 2 / 254، ودرر الحكام 2 / 75، وفتح القدير 5 / 113، وابن عابدين 3 / 183 - 184 - 197، والسندي 7 / 663، والفتاوى الهندية 2 / 188، وقاضيخان 2 / 493 - 494.
(2) حديث " يا أبا ذر، أعيرته بأمه؟ . . . . " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 84 - ط السلفية) .
(3) ليّ الواجد: مطله.
(4) حديث " ليّ الواجد يحل عرضه وعقوبته ". أخرجه أحمد (4 / 222 ط الميمنية) وقال ابن حجر في الفتح (5 / 62 ط السلفية) إسناده حسن.(12/274)
بِأَنْ يُقَال لَهُ مَثَلاً: يَا ظَالِمُ، يَا مُعْتَدٍ. وَهَذَا نَوْعٌ مِنَ التَّعْزِيرِ بِالْقَوْل. وَقَدْ جَاءَ فِي تَبْصِرَةِ الْحُكَّامِ لاِبْنِ فَرْحُونَ: وَأَمَّا التَّعْزِيرُ بِالْقَوْل فَدَلِيلُهُ مَا ثَبَتَ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ فَقَال: اضْرِبُوهُ فَقَال أَبُو هُرَيْرَةَ: فَمِنَّا الضَّارِبُ بِيَدِهِ، وَمِنَّا الضَّارِبُ بِنَعْلِهِ، وَالضَّارِبُ بِثَوْبِهِ. وَفِي رِوَايَةٍ بِإِِسْنَادِهِ: ثُمَّ قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَِصْحَابِهِ بَكِّتُوهُ فَأَقْبَلُوا عَلَيْهِ يَقُولُونَ: مَا اتَّقَيْتَ اللَّهَ، مَا خَشِيتَ اللَّهَ، مَا اسْتَحْيَيْتَ مِنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهَذَا التَّبْكِيتُ مِنَ التَّعْزِيرِ بِالْقَوْل (1) .
وَقَدْ عَزَّرَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالتَّوْبِيخِ. فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ أَنْفَذَ جَيْشًا فَغَنِمُوا غَنَائِمَ، فَلَمَّا رَجَعُوا لَبِسُوا الْحَرِيرَ وَالدِّيبَاجَ، فَلَمَّا رَآهُمْ تَغَيَّرَ وَجْهُهُ، وَأَعْرَضَ عَنْهُمْ، فَقَالُوا: أَعْرَضْتَ عَنَّا، فَقَال: انْزَعُوا ثِيَابَ أَهْل النَّارِ، فَنَزَعُوا مَا كَانُوا
__________
(1) حديث " بكتوه ". وقال في آخره: " ولكن قولوا: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه ". أخرجه أبو داود (4 / 620 - 621 تحقيق عزت عبيد دعاس) ، وإسناده حسن، والحديث لفظه في نيل الأوطار: عن أبي هريرة قال: " أتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل قد شرب، فقال: اضربوه فقال أبو هريرة: فمنا الضارب بيده، والضارب بنعله، والضارب بثوبه، فلما انصرف قال بعض القوم: أخزاك الله قال: لا تقولوا هكذا، لا تعينوا عليه ال وراجع تبصرة الحكام 2 / 200، وكشاف القناع 4 / 74، والشرح الكبير 4 / 458، والفتاوى 1 / 167، ومغني المحتاج 4 / 192.(12/275)
يَلْبَسُونَ مِنَ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ. وَذَلِكَ فِيهِ تَعْزِيرٌ لَهُمْ بِالإِِْعْرَاضِ عَنْهُمْ، وَفِيهِ تَوْبِيخٌ لَهُمْ (1) .
كَيْفِيَّةُ التَّوْبِيخِ:
28 - التَّوْبِيخُ قَدْ يَكُونُ بِإِِعْرَاضِ الْقَاضِي عَنِ الْجَانِي، أَوْ بِالنَّظَرِ لَهُ بِوَجْهٍ عَبُوسٍ، وَقَدْ يَكُونُ بِإِِقَامَةِ الْجَانِي مِنْ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ، وَقَدْ يَكُونُ بِالْكَلاَمِ الْعَنِيفِ، وَيَكُونُ بِزَوَاجِرِ الْكَلاَمِ وَغَايَةِ الاِسْتِخْفَافِ، عَلَى شَرِيطَةِ أَنْ لاَ يَكُونَ فِيهِ قَذْفٌ، وَمَنَعَ الْبَعْضُ مَا فِيهِ السَّبُّ أَيْضًا (2) .
د - الْهَجْرُ:
29 - الْهَجْرُ مَعْنَاهُ: مُقَاطَعَةُ الْجَانِي، وَالاِمْتِنَاعُ عَنِ الاِتِّصَال بِهِ، أَوْ مُعَامَلَتِهِ بِأَيِّ نَوْعٍ، أَوْ أَيَّةِ طَرِيقَةٍ كَانَتْ.
وَهُوَ مَشْرُوعٌ بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى: {وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي
__________
(1) فصول الأستروشني ص 14، والكاساني 7 / 64.
(2) يراجع للتوبيخ: الكاساني 7 / 64، والزيلعي 3 / 208، ودرر الحكام 2 / 75، واللباب للميداني 3 / 65، والسندي 7 / 604، وفصول الأستروشني ص 14، والأنقروية 1 / 158، والهندية 2 / 188، وتبصرة الحكام 2 / 200، ونهاية المحتاج 7 / 174، والأحكام السلطانية للماوردي ص 224، وكشاف القناع 4 / 74، والشرح الكبير 4 / 458، والحسبة ص 38، والسياسة الشرعية ص 53.(12/275)
الْمَضَاجِعِ} (1) وَقَدْ هَجَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ الثَّلاَثَةَ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنْهُ فِي غَزْوَةِ تَبُوكٍ. وَعَاقَبَ عُمَرُ صَبِيغًا بِالْهَجْرِ لَمَّا نَفَاهُ إِِلَى الْبَصْرَةِ، وَأَمَرَ أَلاَّ يُجَالِسَهُ أَحَدٌ. وَهَذَا مِنْهُ عُقُوبَةٌ بِالْهَجْرِ (2) .
الْجَرَائِمُ الَّتِي شُرِعَ فِيهَا التَّعْزِيرُ:
30 - الْجَرَائِمُ الَّتِي شُرِعَ فِيهَا التَّعْزِيرُ قَدْ تَكُونُ مِنْ قَبِيل مَا شُرِعَ فِي جِنْسِهِ عُقُوبَةٌ مُقَدَّرَةٌ مِنْ حَدٍّ أَوْ قِصَاصٍ، لَكِنَّ هَذِهِ الْعُقُوبَةَ لاَ تُطَبَّقُ؛ لِعَدَمِ تَوَافُرِ شَرَائِطِ تَطْبِيقِهَا، وَمِنْهَا مَا فِيهِ عُقُوبَةٌ مُقَدَّرَةٌ، وَلَكِنَّ هَذِهِ الْعُقُوبَةَ لاَ تُطَبَّقُ عَلَيْهَا لِمَانِعٍ، كَوُجُودِ شُبْهَةٍ تَسْتَوْجِبُ دَرْءَ الْحَدِّ، أَوْ عَفْوِ صَاحِبِ الْحَقِّ عَنْ طَلَبِهِ.
وَقَدْ تَكُونُ الْجَرَائِمُ التَّعْزِيرِيَّةُ غَيْرَ مَا ذُكِرَ فَيَكُونُ فِيهَا التَّعْزِيرُ أَصْلاً. وَيَدْخُل فِي هَذَا الْقِسْمِ مَا لاَ يَدْخُل فِي سَابِقِهِ مِنْ جَرَائِمَ.
وَفِيمَا يَلِي تَفْصِيل ذَلِكَ.
الْجَرَائِمُ الَّتِي يُشْرَعُ فِيهَا التَّعْزِيرُ بَدِيلاً عَنِ الْحُدُودِ:
جَرَائِمُ الاِعْتِدَاءِ عَلَى النَّفْسِ، وَمَا دُونَهَا:
31 - يَدْخُل فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ: الْكَلاَمُ فِي جَرَائِمِ
__________
(1) سورة النساء / 34.
(2) يراجع في الهجر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 8 / 281 - 288، وأقضية الرسول ص 5، والحسبة ص 40، والسياسة الشرعية ص 53.(12/276)
الاِعْتِدَاءِ عَلَى النَّفْسِ، وَهِيَ الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا إِزْهَاقُ الرُّوحِ، وَالْكَلاَمُ فِي جَرَائِمِ الاِعْتِدَاءِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ وَهِيَ الَّتِي تَقَعُ عَلَى الْبَدَنِ دُونَ أَنْ تُؤَدِّيَ لإِِِزْهَاقِ الرُّوحِ:
جَرَائِمُ الْقَتْل (الْجِنَايَةُ عَلَى النَّفْسِ) :
الْقَتْل الْعَمْدُ:
32 - الْقَتْل الْعَمْدُ الْعُدْوَانُ مُوجِبُهُ الْقِصَاصُ، وَيَجِبُ لِذَلِكَ تَوَافُرُ شُرُوطٍ، أَهَمُّهَا: كَوْنُ الْقَاتِل قَدْ تَعَمَّدَ تَعَمُّدًا مَحْضًا لَيْسَ فِيهِ شُبْهَةٌ، وَكَوْنُهُ مُخْتَارًا، وَمُبَاشِرًا لِلْقَتْل، وَأَلاَّ يَكُونَ الْمَقْتُول جُزْءَ الْقَاتِل، وَأَنْ يَكُونَ مَعْصُومَ الدَّمِ مُطْلَقًا. وَفَضْلاً عَنْ ذَلِكَ يَجِبُ لِلْقِصَاصِ: أَنْ يُطْلَبَ مِنْ وَلِيِّ الدَّمِ (1) .
فَإِِذَا اخْتَل شَرْطٌ مِنْ هَذِهِ الشُّرُوطِ امْتَنَعَ الْقِصَاصُ، وَفِيهِ التَّعْزِيرُ.
وَفِي ذَلِكَ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي (قَتْلٌ - قِصَاصٌ) .
الْقَتْل شِبْهُ الْعَمْدِ:
33 - قَال الْبُهُوتِيُّ، نَقْلاً عَنِ (الْمُبْدِعِ) : قَدْ يُقَال بِوُجُوبِ التَّعْزِيرِ فِي الْقَتْل شِبْهِ الْعَمْدِ؛ لأَِنَّ الْكَفَّارَةَ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى وَلَيْسَتْ لأَِجْل الْفِعْل، بَل بَدَل النَّفْسِ الْفَائِتَةِ، فَأَمَّا نَفْسُ الْفِعْل الْمُحَرَّمِ - الَّذِي هُوَ الْجِنَايَةُ - فَلاَ كَفَّارَةَ فِيهِ.
__________
(1) الكاساني 7 / 234.(12/276)
34 - وَمِنَ الأُْصُول الثَّابِتَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ مَا لاَ قِصَاصَ فِيهِ عِنْدَهُمْ كَالْقَتْل بِالْمُثَقَّل (وَهُوَ الْقَتْل بِمِثْل الْحَجَرِ الْكَبِيرِ أَوِ الْخَشَبَةِ الْعَظِيمَةِ) يَجُوزُ لِلإِِْمَامِ أَنْ يُعَزِّرَ فِيهِ بِمَا يَصِل لِلْقَتْل، إِِذَا تَكَرَّرَ ارْتِكَابُهُ، مَا دَامَتْ فِيهِ مَصْلَحَةٌ. وَبِنَاءً عَلَى هَذَا الأَْصْل قَالُوا بِالتَّعْزِيرِ بِالْقَتْل لِمَنْ يَتَكَرَّرُ مِنْهُ الْخَنْقُ، أَوِ التَّغْرِيقُ، أَوِ الإِِْلْقَاءُ مِنْ مَكَان مُرْتَفِعٍ، إِِذَا لَمْ يَنْدَفِعْ فَسَادُهُ إِلاَّ بِالْقَتْل (1) .
الاِعْتِدَاءُ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ:
35 - إِِذَا كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ عَمْدًا فَيُشْتَرَطُ لِلْقِصَاصِ فَضْلاً عَنْ شُرُوطِهِ فِي النَّفْسِ: الْمُمَاثَلَةُ، وَإِِمْكَانُ اسْتِيفَاءِ الْمِثْل (2) .
وَيَرَى مَالِكٌ التَّعْزِيرَ أَيْضًا فِي الْجِنَايَةِ الْعَمْدَ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ، إِِذَا سَقَطَ الْقِصَاصُ، أَوِ امْتَنَعَ لِسَبَبٍ أَوْ لآِخَرَ، فَيَكُونُ فِي الْجَرِيمَةِ التَّعْزِيرُ مَعَ الدِّيَةِ، أَوِ الأَْرْشُ، أَوْ بِدُونِهِ، تَبَعًا لِلأَْحْوَال. وَمِثَال ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ الْجِنَايَةُ عَلَى عَظْمٍ خَطَرٍ. إِذِ الْعِظَامُ الْخَطِرَةُ لاَ قِصَاصَ فِيهَا عِنْدَهُ، مِثْل عِظَامِ الصُّلْبِ، وَالْفَخِذِ، وَالْعُنُقِ، وَمِثْل الْمُنَقِّلَةِ، وَالْمَأْمُومَةِ، وَيُقَال ذَلِكَ أَيْضًا فِي الْجَائِفَةِ؛
__________
(1) الكاساني 7 / 234، وابن عابدين 3 / 184 - 185، وكشاف القناع 4 / 73، والسياسة الشرعية ص 55.
(2) تبصرة الحكام على هامش فتح العلي المالك 2 / 366 - 367، ومواهب الجليل 6 / 247.(12/277)
لأَِنَّهُ لاَ يُسْتَطَاعُ فِيهَا الْقِصَاصُ (1) ، وَفِي كُل مَا ذَهَبَتْ مَنْفَعَتُهُ بِالْجِنَايَةِ مَعَ بَقَائِهِ قَائِمًا فِي الْجِسْمِ، وَبَقَاءِ جَمَالِهِ، فَإِِذَا ضَرَبَهُ عَلَى عَيْنِهِ فَذَهَبَ بَصَرُهَا، وَبَقِيَ جَمَالُهَا فَلاَ قَوَدَ فِيهَا. وَمِثْل ذَلِكَ الْيَدِ إِِذَا شُلَّتْ وَلَمْ تَبِنْ عَنِ الْجِسْمِ، فَفِي هَذِهِ وَمَا يُمَاثِلُهَا يُعَزَّرُ الْجَانِي مَعَ أَخْذِ الْعَقْل مِنْهُ (أَيِ الدِّيَةِ) (2) .
وَإِِذَا لَمْ يَتْرُكِ الاِعْتِدَاءُ عَلَى الْجِسْمِ أَثَرًا: فَأَغْلَبُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ فِي ذَلِكَ التَّعْزِيرَ، لاَ الْقِصَاصَ. وَلَدَى بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ الْقِصَاصُ فِي ضَرْبَةِ السَّوْطِ، وَلَوْ لَمْ يُحْدِثْ جُرْحًا وَلاَ شَجَّةً، مَعَ أَنَّهُ لاَ قِصَاصَ عِنْدَهُمْ فِي اللَّطْمَةِ، وَضَرْبَةِ الْعَصَا، إِلاَّ إِِذَا خَلَّفَتْ جُرْحًا أَوْ شَجَّةً. وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّ ضَرْبَةَ السَّوْطِ فِي ذَلِكَ كَاللَّطْمَةِ فِيهِ الأَْدَبُ، وَنَقَل ذَلِكَ ابْنُ عَرَفَةَ عَنْ أَشْهَبَ.
وَيَرَى ابْنُ الْقَيِّمِ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ: الْقِصَاصَ فِي اللَّطْمَةِ وَالضَّرْبَةِ (3) .
الزِّنَى الَّذِي لاَ حَدَّ فِيهِ، وَمُقَدِّمَاتُهُ:
36 - الزِّنَى إِِذَا تَوَافَرَتِ الشَّرَائِطُ الشَّرْعِيَّةُ لِثُبُوتِهِ
__________
(1) مواهب الجليل 6 / 247، والتاج والإكليل على هامشه، والمدونة 16 / 112
(2) مواهب الجليل 6 / 247 - 249.
(3) الكاساني 7 / 299، ومعين الحكام ص 177، ومواهب الجليل 6 / 247، وكشاف القناع 4 / 72 - 73، وإعلام الموقعين 2 / 2.(12/277)
فَإِِنَّ فِيهِ حَدَّ الزِّنَى، أَمَّا إِِذَا لَمْ يُطَبَّقِ الْحَدُّ الْمُقَدَّرُ لِوُجُودِ شُبْهَةٍ (1) ، أَوْ لِعَدَمِ تَوَافُرِ شَرِيطَةٍ مِنَ الشَّرَائِطِ الشَّرْعِيَّةِ لِثُبُوتِ الْحَدِّ، فَإِِنَّ الْفِعْل يَكُونُ جَرِيمَةً شُرِعَ الْحُكْمُ فِيهَا - أَوْ فِي جِنْسِهَا - لَكِنَّهُ لَمْ يُطَبَّقْ. وَكُل جَرِيمَةٍ لاَ حَدَّ فِيهَا وَلاَ قِصَاصَ فَفِيهَا التَّعْزِيرُ.
وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ: إِِذَا كَانَتْ هُنَاكَ شُبْهَةٌ تَدْرَأُ الْحَدَّ، سَوَاءٌ كَانَتْ شُبْهَةَ فِعْلٍ (2) ، أَوْ شُبْهَةَ مِلْكٍ، أَوْ شُبْهَةَ عَقْدٍ، فَإِِنَّ الْحَدَّ لاَ يُطَبَّقُ. لَكِنَّ الْجَانِيَ يُعَزَّرُ؛ لأَِنَّهُ ارْتَكَبَ جَرِيمَةً لَيْسَتْ فِيهَا عُقُوبَةٌ مُقَدَّرَةٌ.
وَتُعْرَفُ الشُّبْهَةُ بِأَنَّهَا: مَا يُشْبِهُ الثَّابِتَ وَلَيْسَ بِثَابِتٍ. أَوْ: هِيَ وُجُودُ الْمُبِيحِ صُورَةً، مَعَ عَدَمِ حُكْمِهِ أَوْ حَقِيقَتِهِ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي (اشْتِبَاهٌ) .
وَإِِذَا كَانَتِ الْمَزْنِيُّ بِهَا مَيِّتَةً فَفِي هَذَا الْفِعْل التَّعْزِيرُ؛ لأَِنَّهُ لاَ يُعْتَبَرُ زِنًى، إِذْ حَيَاةُ الْمَزْنِيِّ بِهَا شَرِيطَةٌ فِي الْحَدِّ.
وَإِِذَا لَمْ يَكُنِ الْفِعْل مِنْ رَجُلٍ فَلاَ يُقَامُ الْحَدُّ،
__________
(1) درء الحد بالشبهة أساسه حديث " ادرؤوا الحدود بالشبهات، فإن كان له مخرج فخلوا سبيله، فإن الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة ". وقد أخذ الجمهور بهذا الحديث في إثبات الشبهة. والحديث المذكور رواه الترمذي قريبا من لفظه، وذكر أنه روي موقوفا، (نيل الأوطار 7 / 110 - 111) .
(2) السرخسي 9 / 151، والكاساني 7 / 42 - 45، 235.(12/278)
بَل التَّعْزِيرُ، وَمِنْ ذَلِكَ: الْمُسَاحَقَةُ.
وَإِِذَا لَمْ يَكُنِ الْفِعْل فِي قُبُل امْرَأَةٍ فَأَبُو حَنِيفَةَ عَلَى عَدَمِ الْحَدِّ، لَكِنَّ فِيهِ التَّعْزِيرَ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْفِعْل فِي الدُّبُرِ. وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ. وَالْقَوْل بِالْقَتْل عَلَى كُل حَالٍ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَهُوَ قَوْلٌ آخَرُ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ زِنًى، وَفِيهِ الْحَدُّ.
وَقَال قَوْمٌ: إِنَّ اللِّوَاطَ زِنًى، وَفِيهِ حَدُّ الزِّنَى. وَمِنْ هَؤُلاَءِ: مَالِكٌ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ لَدَى الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ رَأْيُ أَبِي يُوسُفَ صَاحِبِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ: فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّ فِيهِ حَدَّ الزِّنَى: وَإِِذَا كَانَ الْفِعْل فِي زَوْجَةِ الْفَاعِل فَلاَ حَدَّ فِيهِ بِالإِِْجْمَاعِ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ يَسْتَوْجِبُ التَّعْزِيرَ.
وَمِمَّا يَسْتَوْجِبُ التَّعْزِيرَ فِي هَذَا الْمَجَال كُل مَا دُونَ الْوِقَاعِ مِنْ أَفْعَالٍ، كَالْوَطْءِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ، وَيَسْتَوِي فِيهِ الْمُسْلِمُ، وَالْكَافِرُ، وَالْمُحْصَنُ، وَغَيْرُهُ. وَمِنْهُ أَيْضًا: إِصَابَةُ كُل مُحَرَّمٍ مِنَ الْمَرْأَةِ غَيْرِ الْجِمَاعِ. وَعِنَاقُ الأَْجْنَبِيَّةِ، أَمْ تَقْبِيلُهَا.
وَمِمَّا فِيهِ التَّعْزِيرُ كَذَلِكَ: كَشْفُ الْعَوْرَةِ لآِخَرَ، وَخِدَاعُ النِّسَاءِ، وَالْقَوَادَةُ، وَهِيَ: الْجَمْعُ بَيْنَ الرِّجَال وَالنِّسَاءِ لِلزِّنَى، وَبَيْنَ الرِّجَال وَالرِّجَال لِلِّوَاطِ (1) .
__________
(1) يراجع في التعزير في مجال الزنى وما يتعلق به: السرخسي 9 / 77، 79، 85، 88 و 24 / 36، والكاساني 7 / 34 - 35، وفتح القدير 4 / 142، 147، 4 / 179 - 180، واللباب للميداني 3 / 58 - 59، والجوهرة 148، 150، وشرح الكنز للعيني 1 / 225 - 226، والزيلعي 2 / 245، ومختصر القدوري ص 160، والأشباه والنظائر 1 / 100، والخراج لأبي يوسف ص 66، والفتاوى الهندية 2 / 157، وعدة أرباب الفتوى ص 78، وواقعات المفتين ص 59، والفتاوى الأسعدية 1 / 159، والفتاوى الأنقروية 1 / 159، والمدونة 16 / 52، 13، 58، والماوردي ص 212 - 214، والمغني 10 / 51 - 54، 16.(12/278)
الْقَذْفُ الَّذِي لاَ حَدَّ فِيهِ وَالسَّبُّ:
37 - حَدُّ الْقَذْفِ لاَ يُقَامُ عَلَى الْقَاذِفِ إِلاَّ بِشَرَائِطِهِ، فَإِِذَا انْعَدَمَ وَاحِدٌ مِنْهَا أَوِ اخْتَل فَإِِنَّ الْجَانِيَ لاَ يُحَدُّ. وَيُعَزَّرُ عِنْدَ طَلَبِ الْمَقْذُوفِ؛ لأَِنَّهُ ارْتَكَبَ مَعْصِيَةً لاَ حَدَّ فِيهَا.
وَمِنْ شُرُوطِ الْقَذْفِ الَّذِي فِيهِ الْحَدُّ: كَوْنُ الْمَقْذُوفِ مُحْصَنًا (1) . فَإِِذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَلاَ يُحَدُّ الْقَاذِفُ، وَلَكِنْ يُعَزَّرُ. وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَقْذِفَ مَجْنُونًا بِالزِّنَى. أَوْ صَغِيرًا بِالزِّنَى. أَوْ مُسْلِمَةً قَدْ زَنَتْ. أَوْ مُسْلِمًا قَدْ زَنَى، أَوْ مَنْ مَعَهَا أَوْلاَدٌ لاَ يُعْرَفُ لَهُمْ أَبٌ، وَذَلِكَ لِعَدَمِ الْعِفَّةِ فِي هَذِهِ الثَّلاَثَةِ الأَْخِيرَةِ.
وَمِنْهَا كَوْنُ الْمَقْذُوفِ مَعْلُومًا، فَإِِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَلاَ حَدَّ، بَل التَّعْزِيرُ؛ لأَِنَّ الْفِعْل مَعْصِيَةٌ لاَ حَدَّ فِيهَا. وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ يُعَزَّرُ - وَلاَ يُحَدُّ - مَنْ قَذَفَ بِالزِّنَى جَدَّ آخَرَ دُونَ بَيَانِ الْجَدِّ. أَوْ
__________
(1) من شرائط الإحصان في القذف لدى الجمهور: العقل والبلوغ والحرية والإسلام والعفة عن الزنى (الكاساني 7 / 40، والمغني 10 / 202) .(12/279)
أَخَاهُ كَذَلِكَ، وَكَانَ لَهُ أَكْثَرُ مِنْ أَخٍ.
وَلاَ حَدَّ فِي الْقَذْفِ بِغَيْرِ الصَّرِيحِ، وَمِنْ ذَلِكَ: الْقَذْفُ بِالْكِنَايَةِ، أَوِ التَّعْرِيضِ، فَلَيْسَ فِيهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ حَدٌّ، بَل التَّعْزِيرُ، وَكَذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. وَيَرَى مَالِكٌ: الْحَدَّ فِي الْقَذْفِ بِالتَّعْرِيضِ أَوِ الْكِنَايَةِ.
وَالَّذِينَ مَنَعُوا الْحَدَّ قَالُوا بِالتَّعْزِيرِ؛ لأَِنَّ الْفِعْل يَكُونُ جَرِيمَةً لاَ حَدَّ فِيهَا.
وَلاَ حَدَّ إِِذَا رَمَاهُ بِأَلْفَاظٍ لاَ تُفِيدُ الزِّنَى صَرَاحَةً. كَقَوْلِهِ: يَا فَاجِرُ، بَل يُعَزَّرُ.
وَكَذَلِكَ الشَّأْنُ إِِذَا رَمَاهُ بِمَا لاَ يُعْتَبَرُ زِنًى، كَمَنْ رَمَى آخَرَ بِالتَّخَنُّثِ.
وَيُعَزَّرُ كَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مَنْ يَرْمِي آخَرَ بِأَنَّهُ يَعْمَل عَمَل قَوْمِ لُوطٍ؛ لأَِنَّ هَذَا الْفِعْل لاَ يُوجِبُ حَدَّ الزِّنَى عِنْدَهُ.
أَمَّا مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فَإِِنَّهُمْ يَقُولُونَ بِالْحَدِّ، وَمِنْ ثَمَّ فَلاَ تَعْزِيرَ فِي ذَلِكَ، بَل فِيهِ حَدُّ الْقَذْفِ عِنْدَ هَؤُلاَءِ.
وَمَرَدُّ الْخِلاَفِ: هُوَ فِي أَنَّ اللِّوَاطَ هَل هُوَ زِنًى أَمْ لاَ؟ .
فَمَنْ قَالُوا: بِأَنَّهُ زِنًى، جَعَلُوا فِي الْقَذْفِ بِهِ حَدَّ الْقَذْفِ. وَمَنْ قَالُوا: بِغَيْرِ ذَلِكَ، جَعَلُوا فِي الْقَذْفِ بِهِ التَّعْزِيرَ.
وَمَنْ قَذَفَ آخَرَ قَذْفًا مُقَيَّدًا بِشَرْطٍ أَوْ أَجَلٍ يُعَزَّرُ وَلاَ يُحَدُّ.
وَإِِذَا لَمْ يَكُنِ الْقَوْل قَذْفًا، بَل مُجَرَّدُ سَبٍّ أَوْ شَتْمٍ فَإِِنَّهُ يَكُونُ مَعْصِيَةً لاَ حَدَّ فِيهَا، فَفِيهَا التَّعْزِيرُ. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ: يَا نَصْرَانِيُّ، أَوْ(12/279)
يَا زِنْدِيقُ، أَوْ يَا كَافِرُ، فِي حِينِ أَنَّهُ مُسْلِمٌ. وَكَذَلِكَ مَنْ قَال لآِخَرَ: يَا مُخَنَّثُ، أَوْ يَا مُنَافِقُ، مَا دَامَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ غَيْرَ مُتَّصِفٍ بِذَلِكَ. وَيُعَزَّرُ كَذَلِكَ فِي مِثْل: يَا آكِل الرِّبَا، أَوْ يَا شَارِبَ الْخَمْرِ، أَوْ يَا خَائِنُ، أَوْ يَا سَارِقُ، وَكُلُّهُ بِشَرْطِ كَوْنِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ غَيْرَ مَعْرُوفٍ بِمَا نُسِبَ إِلَيْهِ. وَكَذَلِكَ مَنْ قَال لآِخَرَ: يَا بَلِيدُ، أَوْ يَا قَذِرُ، أَوْ يَا سَفِيهُ، أَوْ يَا ظَالِمُ، أَوْ يَا أَعْوَرُ، وَهُوَ صَحِيحٌ، أَوْ يَا مُقْعَدُ، وَهُوَ صَحِيحٌ كَذَلِكَ عَلَى سَبِيل الشَّتْمِ.
وَعَلَى وَجْهِ الْعُمُومِ يُعَزَّرُ مَنْ شَتَمَ آخَرَ، مَهْمَا كَانَ الشَّتْمُ؛ لأَِنَّهُ مَعْصِيَةٌ.
وَيُرْجَعُ فِي تَحْدِيدِ الْفِعْل الْمُوجِبِ لِلتَّعْزِيرِ إِِلَى الْعُرْفِ، فَإِِذَا لَمْ يَكُنِ الْفِعْل الْمَنْسُوبُ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ مِمَّا يَلْحَقُ بِهِ فِي الْعُرْفِ الْعَارَ وَالأَْذَى وَالشَّيْنَ، فَلاَ عِقَابَ عَلَى الْجَانِي، إِذْ لاَ يَكُونُ ثَمَّةَ جَرِيمَةٌ (1) .
__________
(1) يراجع في القذف والسب الذي فيه التعزير: السرخسي 19 / 102، 118، 120 و 14 / 36 - 37، والزيلعي 3 / 208 - 209، والشلبي عليه، والعيني 1 / 234 - 235، والكاساني 7 / 42 - 46، وفتح القدير 4 / 203 - 206، 211 - 214، واللباب 3 / 64، 66، والجامع الصغير ص 69، ومختصر القدوري ص 111، والجوهرة 2 / 253، ودرر الحكام 2 / 96 - 98، والفتاوى الأسعدية 157 - 159، والفتاوى الهندية 2 / 155 - 156، وقاضيخان 3 / 493، والأنقروية 1 / 198 - 159، وكذلك المدونة 16 / 3، 14، 17، 22، 24، 32، 34، 38، وكذلك الماوردي ص 217 - 218، والمغني 10 / 202 - 203، 225.(12/280)
السَّرِقَةُ الَّتِي لاَ حَدَّ فِيهَا:
38 - السَّرِقَةُ مِنْ جَرَائِمِ الْحُدُودِ مَا دَامَتْ قَدِ اسْتَوْفَتْ شُرُوطَهَا الشَّرْعِيَّةَ، وَأَهَمُّهَا: الْخُفْيَةُ. وَكَوْنُ مَوْضُوعِ السَّرِقَةِ مَالاً، مَمْلُوكًا لِغَيْرِ السَّارِقِ، مُحَرَّزًا، نِصَابًا. فَإِِذَا تَخَلَّفَ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ الْحَدِّ فَلاَ يُقَامُ، وَلَكِنْ يُعَزَّرُ الْفَاعِل؛ لأَِنَّهُ ارْتَكَبَ جَرِيمَةً لَيْسَ فِيهَا حَدٌّ مُقَدَّرٌ. وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (سَرِقَةٌ) .
قَطْعُ الطَّرِيقِ الَّذِي لاَ حَدَّ فِيهِ:
39 - قَطْعُ الطَّرِيقِ كَغَيْرِهِ مِنْ جَرَائِمِ الْحُدُودِ، يَجِبُ لِكَيْ يَكُونَ فِيهِ الْحَدُّ أَنْ تَتَوَافَرَ شُرُوطٌ مُعَيَّنَةٌ، وَإِِلاَّ فَلاَ يُقَامُ الْحَدُّ، وَيُعَزَّرُ الْجَانِي مَا دَامَ قَدِ ارْتَكَبَ مَعْصِيَةً لاَ حَدَّ فِيهَا.
وَمِنَ الشُّرُوطِ: أَنْ يَكُونَ الْجَانِي بَالِغًا، ذَكَرًا، وَأَنْ يَكُونَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ مُسْلِمًا، أَوْ ذِمِّيًّا، وَأَنْ تَكُونَ يَدُهُ عَلَى الْمَال صَحِيحَةً، وَأَنْ لاَ يَكُونَ فِي الْقُطَّاعِ ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ لأَِحَدِ الْمَقْطُوعِ عَلَيْهِ، وَأَنْ يَكُونَ الْمَقْطُوعُ فِيهِ مَالاً مُتَقَوِّمًا مَعْصُومًا مَمْلُوكًا، لاَ مِلْكَ فِيهِ لِلْقَاطِعِ، وَلاَ شُبْهَةَ مِلْكٍ، مُحَرَّزًا، نِصَابًا، وَأَنْ يَكُونَ قَطْعُ الطَّرِيقِ فِي غَيْرِ الْمِصْرِ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي (حِرَابَةٌ) .
الْجَرَائِمُ الَّتِي مُوجِبُهَا الأَْصْلِيُّ التَّعْزِيرُ:
بَعْضُ الْجَرَائِمِ الَّتِي تَقَعُ عَلَى آحَادِ النَّاسِ:
شَهَادَةُ الزُّورِ:
40 - حُرِّمَ قَوْل الزُّورِ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ بِقَوْلِهِ(12/280)
تَعَالَى {وَاجْتَنِبُوا قَوْل الزُّورِ} (1)
وَفِي السُّنَّةِ بِمَا وَرَدَ: أَنَّ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَدَّ قَوْل الزُّورِ وَشَهَادَةَ الزُّورِ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ (2) وَمَا دَامَ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا عُقُوبَةٌ مُقَدَّرَةٌ، فَفِيهَا التَّعْزِيرُ (3) .
الشَّكْوَى بِغَيْرِ حَقٍّ:
41 - ذَكَرَ صَاحِبُ (تَبْصِرَةُ الْحُكَّامِ) أَنَّ مَنْ قَامَ بِشَكْوَى بِغَيْرِ حَقٍّ يُؤَدَّبُ. وَقَال الْبُهُوتِيُّ: إِنَّهُ إِِذَا ظَهَرَ كَذِبُ الْمُدَّعِي فِي دَعْوَاهُ بِمَا يُؤْذِي بِهِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَإِِنَّهُ يُعَزَّرُ لِكَذِبِهِ وَإِِيذَائِهِ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ (4) .
قَتْل حَيَوَانٍ غَيْرِ مُؤْذٍ أَوِ الإِِْضْرَارِ بِهِ:
42 - نَهَى الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ تَعْذِيبِ الْحَيَوَانِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ امْرَأَةً دَخَلَتِ النَّارَ فِي هِرَّةٍ حَبَسَتْهَا، فَلاَ هِيَ أَطْعَمَتْهَا وَسَقَتْهَا، وَلاَ هِيَ تَرَكَتْهَا تَأْكُل
__________
(1) سورة الحج / 30.
(2) حديث " أن الرسول صلى الله عليه وسلم عد قول الزور. . . " أخرجه البخاري (الفتح 5 / 261 - ط السلفية) ، ومسلم (1 / 91 - ط الحلبي) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه.
(3) السرخسي 16 / 145 - 146، والخراج ص 107، ومختصر القدوري ص 126، والجوهرة 2 / 338، واللباب 3 / 138، والفتاوى الأسعدية 1 / 166.
(4) كشاف القناع 4 / 76، وتبصرة الحكام 2 / 370.(12/281)
مِنْ خَشَاشِ (1) الأَْرْضِ (2) فَهَذَا الْفِعْل مَعْصِيَةٌ، فَيُعَزَّرُ الْفَاعِل مَا دَامَ الْفِعْل لَيْسَ فِيهِ حَدٌّ مُقَدَّرٌ.
وَمِنَ الأَْمْثِلَةِ عَلَى الْجَرَائِمِ فِي هَذَا الْمَجَال: قَطْعُ ذَنَبِ حَيَوَانٍ، فَقَدْ ذَكَرَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ: مِمَّا يُوجِبُ التَّعْزِيرَ مَا ذَكَرَ ابْنُ رُسْتُمَ فِيمَنْ قَطَعَ ذَنَبَ بِرْذَوْنٍ (3) .
انْتِهَاكُ حُرْمَةِ مِلْكِ الْغَيْرِ:
43 - دُخُول بُيُوتِ الْغَيْرِ بِدُونِ إِذْنٍ مَمْنُوعٌ شَرْعًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} (4)
وَبِنَاءً عَلَى هَذَا الأَْصْل قِيل بِتَعْزِيرِ مَنْ يُوجَدُ فِي مَنْزِل آخَرَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ أَوْ عِلْمِهِ، وَدُونَ أَنْ يَتَّضِحَ سَبَبٌ مَشْرُوعٌ لِهَذَا الدُّخُول (5) .
جَرَائِمُ مُضِرَّةٌ بِالْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ:
44 - تُوجَدُ جَرَائِمُ مُضِرَّةٌ بِالْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ لَيْسَتْ فِيهَا عُقُوبَاتٌ مُقَدَّرَةٌ، وَفِيهَا التَّعْزِيرُ.
__________
(1) الخشاش بالكسر: حشرات الأرض، وقد يفتح (المختار) .
(2) حديث " دخلت امرأة النار. . . " أخرجه البخاري (الفتح 6 / 356 - ط السلفية) ، ومسلم (4 / 2110 ط الحلبي) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3) الفتاوى الهندية 2 / 169.
(4) سورة النور / 27.
(5) الفتاوى الأسعدية 1 / 170 - 171.(12/281)
مِنْ هَذِهِ الْجَرَائِمِ: التَّجَسُّسُ لِلْعَدُوِّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلاَ تَجَسَّسُوا} (1) ، وَقَوْلُهُ {لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} (2) .
وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْجَرِيمَةُ لَيْسَتْ لَهَا عُقُوبَةٌ مُقَدَّرَةٌ فَفِيهَا التَّعْزِيرُ (3) . وَتَفْصِيلُهُ فِي (تَجَسُّسٌ) .
الرِّشْوَةُ:
45 - هِيَ جَرِيمَةٌ مُحَرَّمَةٌ بِالْقُرْآنِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} (4) وَهِيَ فِي الْيَهُودِ وَكَانُوا يَأْكُلُونَ السُّحْتَ مِنَ الرِّشْوَةِ. وَهِيَ كَذَلِكَ مُحَرَّمَةٌ بِالسُّنَّةِ لِحَدِيثِ: لَعَنَ اللَّهُ الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ وَالرَّائِشَ (5) . وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْجَرِيمَةُ لَيْسَتْ فِيهَا عُقُوبَةٌ مُقَدَّرَةٌ فَفِيهَا التَّعْزِيرُ (6) .
__________
(1) سورة الحجرات / 12.
(2) سورة الممتحنة / 1.
(3) الخراج ص 117، وتبصرة الحكام 2 / 138 - 206، والسياسة الشرعية ص 54، والحسبة ص 40، وكشاف القناع 4 / 76.
(4) سورة المائدة / 42.
(5) حديث: " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي. . . " أخرجه الترمذي (3 / 613 - الحلبي) ، والحاكم (4 / 102 - 103 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(6) السياسة الشرعية ص 19 - 20 - 30، والرائش: هو الواسطة بين الراشي والمرتشي وراجع كذلك في الرشوة: جامع الفصولين 1 / 17 - 18.(12/282)
تَجَاوُزُ الْمُوَظَّفِينَ حُدُودَهُمْ، وَتَقْصِيرُهُمْ:
هَذِهِ مَعْصِيَةٌ لَيْسَتْ فِيهَا عُقُوبَةٌ مُقَدَّرَةٌ، وَلَهَا صُوَرٌ مِنْهَا:
أ - جَوْرُ الْقَاضِي:
46 - إِِذَا جَارَ الْقَاضِي فِي الْحُكْمِ عَمْدًا يُعَزَّرُ، وَيُعْزَل، وَيَضْمَنُ فِي مَالِهِ؛ لأَِنَّهُ فِيمَا جَارَ لَيْسَ بِقَاضٍ، وَلَكِنَّهُ إِتْلاَفٌ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَيَكُونُ فِيهِ كَغَيْرِهِ فِي إِيجَابِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ. إِِذَا جَارَ مُخْطِئًا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ غُرْمُ قَضَائِهِ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ مَعْصُومًا عَنِ الْخَطَأِ (1) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} (2)
ب - تَرْكُ الْعَمَل أَوِ الاِمْتِنَاعُ عَمْدًا عَنْ تَأْدِيَةِ الْوَاجِبِ:
47 - كُل عَمَلٍ مِنْ شَأْنِهِ تَعْطِيل الْوَظَائِفِ الْعَامَّةِ أَوْ عَدَمُ انْتِظَامِهَا هُوَ جَرِيمَةٌ تَسْتَوْجِبُ التَّعْزِيرَ، وَالْغَرَضُ مِنْ ذَلِكَ ضَمَانُ حُسْنِ سَيْرِ الْعَمَل، حَتَّى تَقُومَ السُّلْطَةُ بِوَاجِبَاتِهَا عَلَى أَكْمَل وَجْهٍ. وَعَلَى ذَلِكَ: فَيُعَزَّرُ كُل مَنْ تَرَكَ عَمَلَهُ، أَوِ امْتَنَعَ عَنْ عَمَلٍ مِنْ أَعْمَال الْوَظِيفَةِ قَاصِدًا عَرْقَلَةَ سَيْرِ الْعَمَل، أَوِ الإِِْخْلاَل بِانْتِظَامِهِ، وَيُعَزَّرُ عُمُومًا كُل
__________
(1) جامع الفصولين 1 / 16 - 17، واللآلي الدرية على هامشه، والسرخسي 9 / 80.
(2) سورة الأحزاب / 5.(12/282)
مَنْ يَتَمَرَّدُ فِي وَظِيفَتِهِ، أَوْ يَسْتَعْمِل الْقُوَّةَ، أَوِ الْعُنْفَ مَعَ رُؤَسَائِهِ، وَيَتْرُكُ عَمَلَهُ. وَمِنْ ذَلِكَ تَعَدِّي أَحَدِ الْمُوَظَّفِينَ الْمَدَنِيِّينَ أَوِ الْعَسْكَرِيِّينَ عَلَى غَيْرِهِ اسْتِغْلاَلاً لِوَظِيفَتِهِ (1) .
مُقَاوَمَةُ رِجَال السُّلْطَةِ وَالاِعْتِدَاءُ عَلَيْهِمُ:
48 - التَّعَدِّي عَلَى الْمُوَظَّفِينَ الْعُمُومِيِّينَ وَالْمُكَلَّفِينَ بِخِدْمَةٍ عَامَّةٍ يَسْتَحِقُّ التَّعْزِيرَ. وَمِنَ الأَْمْثِلَةِ الَّتِي أَوْرَدَهَا الْفُقَهَاءُ فِي هَذَا الْمَجَال: إِهَانَةُ الْعُلَمَاءِ أَوْ رِجَال الدَّوْلَةِ بِمَا لاَ يَلِيقُ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ بِالإِِْشَارَةِ، أَوِ الْقَوْل، أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ.
وَالتَّعَدِّي عَلَى أَحَدِ الْجُنُودِ بِالْيَدِ، أَوْ تَمْزِيقِ ثِيَابِهِ، أَوْ سَبِّهِ، فَفِيهِ التَّعْزِيرُ، وَالتَّضْمِينُ عَنِ التَّلَفِ. وَمِنْ ذَلِكَ: إِهَانَةُ مَحْكَمَةٍ قَضَائِيَّةٍ، وَكَذَلِكَ جَرَائِمُ الْجِلْسَةِ، فَالْقَاضِي لَهُ فِيهَا التَّعْزِيرُ، وَإِِنْ عَفَا فَحَسَنٌ (2) .
هَرَبُ الْمَحْبُوسِينَ وَإِِخْفَاءُ الْجُنَاةِ:
49 - مِنْ ذَلِكَ مَنْ يُؤْوِي مُحَارِبًا، أَوْ سَارِقًا، أَوْ نَحْوَهُمَا، مِمَّنْ عَلَيْهِ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى أَوْ لآِدَمِيٍّ، وَيُمْنَعُ مِنْ أَنْ يُسْتَوْفَى هَذَا الْحَقُّ. فَقَدْ قِيل: إِنَّهُ شَرِيكٌ فِي جُرْمِهِ وَيُعَزَّرُ، وَيُطْلَبُ إِحْضَارُهُ، أَوِ
__________
(1) الفتاوى الأسعدية 1 / 167 - 168.
(2) الفتاوى الأسعدية 1 / 166 - 167، 173، والفتاوى الأنقروية 1 / 157، وعدة أرباب الفتوى ص 77، وواقعات المفتين ص 59.(12/283)
الإِِْعْلاَمُ عَنْ مَكَانِهِ، فَإِِنِ امْتَنَعَ يُحْبَسُ، وَيُضْرَبُ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، حَتَّى يَسْتَجِيبَ (1) .
تَقْلِيدُ الْمَسْكُوكَاتِ الزُّيُوفِ وَالْمُزَوَّرَةِ:
50 - تَقْلِيدُ الْمَسْكُوكَاتِ الَّتِي فِي التَّدَاوُل وَالإِِْعَانَةِ عَلَى صَرْفِ الْعُمْلَةِ الْفَاسِدَةِ وَنَشْرُهَا جَرِيمَةٌ فِيهَا التَّعْزِيرُ. فَفِي (عِدَّةُ أَرْبَابِ الْفَتْوَى) فِي رَجُلٍ يَعْمَل السِّكَّةَ الْمَصْنُوعَةَ رِيَالاً وَذَهَبًا وَرُوبِيَّةً، وَفِي رَجُلٍ يَنْشُرُ هَذِهِ الْمَسْكُوكَاتِ الزَّائِفَةَ وَيُرَوِّجُهَا: أَنَّهُمَا يُعَزَّرَانِ (2) .
التَّزْوِيرُ:
51 - فِي هَذِهِ الْجَرِيمَةِ التَّعْزِيرُ، فَقَدْ رُوِيَ: أَنَّ مَعْنَ بْنَ زِيَادٍ عَمِل خَاتَمًا عَلَى نَقْشِ خَاتَمِ بَيْتِ الْمَال فَأَخَذَ مَالاً، فَضَرَبَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِائَةَ جَلْدَةٍ، وَحَبَسَهُ، ثُمَّ ضَرَبَهُ مِائَةً أُخْرَى، ثُمَّ ثَالِثَةً، ثُمَّ نَفَاهُ. وَمِنْ مُوجِبَاتِ التَّعْزِيرِ: كِتَابَةُ الْخُطُوطِ وَالصُّكُوكِ بِالتَّزْوِيرِ (3) .
الْبَيْعُ بِأَكْثَرَ مِنَ السِّعْرِ الْجَبْرِيِّ:
52 - قَدْ تَدْعُو الْحَال لِتَسْعِيرِ الْحَاجِيَّاتِ، فَإِِنْ كَانَ ذَلِكَ: فَالْبَيْعُ بِأَكْثَرَ مِنَ السِّعْرِ الْمُحَدَّدِ فِيهِ
__________
(1) السياسة الشرعية ص 40 وما بعدها.
(2) عدة أرباب الفتوى ص 81 - 82، والفتاوى الأسعدية 1 / 157 - 158.
(3) الفتاوى الهندية 2 / 190، والمغني 10 / 348.(12/283)
التَّعْزِيرُ. وَمِنْ ذَلِكَ: الاِمْتِنَاعُ عَنِ الْبَيْعِ، فَفِيهِ الأَْمْرُ بِالْوَاجِبِ وَالْعِقَابِ عَلَى تَرْكِ الْوَاجِبِ. وَمِنْ ذَلِكَ: احْتِكَارُ الْحَاجَاتِ لِلتَّحَكُّمِ فِي السِّعْرِ (1) لِحَدِيثِ: لاَ يَحْتَكِرُ إِلاَّ خَاطِئٌ (2) .
الْغِشُّ فِي الْمَكَايِيل وَالْمَوَازِينِ:
53 - يَقُول اللَّهُ تَعَالَى: {أَوْفُوا الْكَيْل وَلاَ تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ} (3) . وَفِي الْحَدِيثِ: مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا (4) وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ: فَالْغِشُّ فِي الْكَيْل وَالْوَزْنِ مَعْصِيَةٌ، وَلَيْسَ فِيهَا حَدٌّ مُقَدَّرٌ، فَفِيهَا التَّعْزِيرُ.
الْمُشْتَبَهُ فِيهِمْ:
54 - قَدْ يَكُونُ التَّعْزِيرُ لاَ لاِرْتِكَابِ فِعْلٍ مُعَيَّنٍ، وَلَكِنْ لِحَالَةِ الْجَانِي الْخَطِرَةِ، وَقَدْ قَال بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِتَعْزِيرِ مَنْ يُتَّهَمُ بِالسَّرِقَةِ، وَلَوْ لَمْ يَرْتَكِبْ سَرِقَةً جَدِيدَةً، وَمَنْ يُعْرَفُ أَوْ يُتَّهَمُ بِارْتِكَابِ
__________
(1) الفتاوى الأنقروية 1 / 159، والحسبة في الإسلام ص 24، 28.
(2) حديث " لا يحتكر إلا خاطئ " أخرجه أحمد (3 / 453 ط الميمنية) ، ومسلم (3 / 1227 - ط الحلبي) من حديث معمر بن عبد الله العدوي رضي الله عنه، ولفظ مسلم: " من احتكر فهو خاطئ ".
(3) سورة الشعراء / 181 - 182.
(4) حديث: " من غشنا فليس منا " أخرجه مسلم (1 / 99 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(12/284)
جَرَائِمَ ضِدِّ النَّفْسِ، كَالْقَتْل وَالضَّرْبِ وَالْجَرْحِ (1) .
سُقُوطُ التَّعْزِيرِ:
55 - تَسْقُطُ الْعُقُوبَةُ التَّعْزِيرِيَّةُ بِأَسْبَابٍ، مِنْهَا: مَوْتُ الْجَانِي، وَالْعَفْوُ عَنْهُ، وَتَوْبَتُهُ.
أ - سُقُوطُ التَّعْزِيرِ بِالْمَوْتِ:
56 - إِِذَا كَانَتِ الْعُقُوبَةُ بَدَنِيَّةً أَوْ مُقَيِّدَةً لِلْحُرِّيَّةِ فَإِِنَّ مَوْتَ الْجَانِي مُسْقِطٌ لَهَا بَدَاهَةً؛ لأَِنَّ الْعُقُوبَةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِشَخْصِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ: الْهَجْرُ، وَالتَّوْبِيخُ، وَالْحَبْسُ، وَالضَّرْبُ.
أَمَّا إِِذَا لَمْ تَكُنِ الْعُقُوبَةُ مُتَعَلِّقَةً بِشَخْصِ الْجَانِي بَل كَانَتْ مُنَصَّبَةً عَلَى مَالِهِ، كَالْغَرَامَةِ وَالْمُصَادَرَةِ، فَمَوْتُ الْجَانِي بَعْدَ الْحُكْمِ لاَ يُسْقِطُهَا؛ لأَِنَّهُ يُمْكِنُ التَّنْفِيذُ بِهَا عَلَى الْمَال، وَهِيَ تَصِيرُ بِالْحُكْمِ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ، وَتَتَعَلَّقُ تَبَعًا لِذَلِكَ بِتَرِكَةِ الْجَانِي الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ.
ب - سُقُوطُ التَّعْزِيرِ بِالْعَفْوِ:
57 - الْعَفْوُ جَائِزٌ فِي التَّعْزِيرِ إِِذَا كَانَ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، لِقَوْل الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَجَافُوا عَنْ عُقُوبَةِ
__________
(1) السرخسي 23 / 36، وحاشية الشرنبلالي على الدرر 2 / 81، والفتاوى الهندية 2 / 189 - 190، وعدة أرباب الفتوى ص 80 - 81.(12/284)
ذَوِي الْمُرُوءَةِ إِلاَّ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ (1) وَقَوْلُهُ: أَقِيلُوا ذَوِي الْهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ (2) وَقَوْلُهُ فِي الأَْنْصَارِ: اقْبَلُوا مِنْ مُحْسِنِهِمْ، وَتَجَاوَزُوا عَنْ مُسِيئِهِمْ (3) ، وَقَوْلُهُ لِرَجُلٍ - قَال لَهُ: إِنِّي لَقِيتُ امْرَأَةً فَأَصَبْتُ مِنْهَا دُونَ أَنْ أَطَأَهَا -: أَصَلَّيْتَ مَعَنَا؟ فَرَدَّ عَلَيْهِ بِنَعَمْ، فَتَلاَ قَوْله تَعَالَى {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} (4) (5) فَالإِِْمَامُ لَهُ الْعَفْوُ.
وَقِيل: إِنَّهُ لاَ يَجُوزُ الْعَفْوُ إِِذَا تَعَلَّقَ التَّعْزِيرُ بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا فِي تَارِكِ الصَّلاَةِ. وَقَال الإِِْصْطَخْرِيُّ فِي رِسَالَتِهِ: وَمَنْ طَعَنَ عَلَى أَحَدِ الصَّحَابَةِ، وَجَبَ عَلَى السُّلْطَانِ تَأْدِيبُهُ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ. وَقَال الْبَعْضُ: إِنَّ مَا كَانَ مِنَ
__________
(1) حديث: " تجافوا عن عقوبة. . . " أخرجه الطبراني في المعجم الصغير عن زيد بن ثابت رضي الله عنه مرفوعا. قال الهيثمي: في سنده محمد بن كثير بن مروان الفهري. وهو ضعيف (مجمع الزوائد 6 / 282 ط القدسي) .
(2) حديث: " أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود. . . " أخرجه أحمد (6 / 181 ط الميمنية) من حديث عائشة رضي الله عنها. وقال عبد الحق: ذكره ابن عدي في باب واصل بن عبد الرحمن الرقاشي ولم يذكر علة. قال الحافظ: وواصل هو أبو حرة ضعيف. وفي إسناد ابن حبان: أبو بكر بن نافع، وقد نص أبو زرعة على ضعفه في هذا الحديث (نيل الأوطار 7 / 143 - 144) .
(3) حديث: " اقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم. . . " تقدم تخريجه ف / 10.
(4) سورة هود / 114.
(5) حديث: " أصليت معنا؟ " تقدم تخريجه ف / 10.(12/285)
التَّعْزِيرِ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ كَوَطْءِ جَارِيَةِ امْرَأَتِهِ، أَوْ جَارِيَةٍ مُشْتَرَكَةٍ، يَجِبُ امْتِثَال الأَْمْرِ فِيهِ، فَهُنَا لاَ يَجُوزُ الْعَفْوُ عِنْدَهُمْ، بَل يَجِبُ التَّعْزِيرُ، لاِمْتِنَاعِ تَطْبِيقِ الْحَدِّ.
وَقَال الْبَعْضُ: إِنَّ الْعَفْوَ يَكُونُ لِمَنْ كَانَتْ مِنْهُ الْفَلْتَةُ وَالزَّلَّةُ، وَفِي أَهْل الشَّرَفِ وَالْعَفَافِ، وَعَلَى ذَلِكَ: فَشَخْصُ الْجَانِي لَهُ اعْتِبَارٌ فِي الْعَفْوِ.
وَإِِذَا كَانَ التَّعْزِيرُ لِحَقِّ آدَمِيٍّ فَقَدْ قِيل كَذَلِكَ: إِنَّ لِوَلِيِّ الأَْمْرِ تَرْكَهُ، وَالْعَفْوَ عَنْهُ، حَتَّى وَلَوْ طَلَبَهُ صَاحِبُ الْحَقِّ فِيهِ، شَأْنُهُ فِي ذَلِكَ شَأْنُ التَّعْزِيرِ الَّذِي هُوَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى. وَقِيل: لاَ يَجُوزُ تَرْكُهُ عِنْدَ طَلَبِهِ، مِثْل الْقِصَاصِ، فَلَيْسَ لِوَلِيِّ الأَْمْرِ هُنَا تَرْكُهُ بِعَفْوٍ أَوْ نَحْوِهِ، وَعَلَى ذَلِكَ أَغْلَبُ الْفُقَهَاءِ.
وَإِِذَا عَفَا وَلِيُّ الأَْمْرِ عَنِ التَّعْزِيرِ فِيمَا يَمَسُّ الْمَصْلَحَةَ الْعَامَّةَ، وَكَانَ قَدْ تَعَلَّقَ بِالتَّعْزِيرِ حَقُّ آدَمِيٍّ كَالشَّتْمِ، فَلاَ يَسْقُطُ حَقُّ الآْدَمِيِّ، فَعَلَى وَلِيِّ الأَْمْرِ الاِسْتِيفَاءُ؛ لأَِنَّ الإِِْمَامَ لَيْسَ لَهُ - عَلَى الرَّاجِحِ - الْعَفْوُ عَنْ حَقِّ الْفَرْدِ.
وَإِِذَا عَفَا الآْدَمِيُّ عَنْ حَقِّهِ فَإِِنَّ عَفْوَهُ يَجُوزُ، وَلَكِنْ لاَ يَمَسُّ هَذَا حَقَّ السُّلْطَةِ. وَقَدْ فَرَّقَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي هَذَا الْمَجَال بَيْنَ حَالَتَيْنِ:
أ - إِِذَا حَصَل عَفْوُ الآْدَمِيِّ قَبْل التَّرَافُعِ، فَلِوَلِيِّ الأَْمْرِ الْخِيَارُ بَيْنَ التَّعْزِيرِ أَوِ الْعَفْوِ.(12/285)
ب - وَإِِذَا حَصَل بَعْدَ التَّرَافُعِ، فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الْعِقَابِ عَنْ حَقِّ السُّلْطَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
الأَْوَّل: فِي قَوْل أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيِّ يَسْقُطُ بِالْعَفْوِ، وَلَيْسَ لِوَلِيِّ الأَْمْرِ أَنْ يُعَزِّرَ فِيهِ، لأَِنَّ حَدَّ الْقَذْفِ أَغْلَظُ وَيَسْقُطُ حُكْمُهُ بِالْعَفْوِ، فَكَانَ حُكْمُ التَّعْزِيرِ لِحَقِّ السُّلْطَةِ أَوْلَى بِالسُّقُوطِ.
وَالثَّانِي - وَهُوَ الأَْظْهَرُ - أَنَّ لِوَلِيِّ الأَْمْرِ أَنْ يُعَزِّرَ فِيهِ مَعَ الْعَفْوِ قَبْل التَّرَافُعِ إِلَيْهِ، كَمَا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ بَعْدَ التَّرَافُعِ مُخَالَفَةً لِلْعَفْوِ عَنْ حَدِّ الْقَذْفِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ؛ لأَِنَّ التَّقْوِيمَ مِنَ الْحُقُوقِ الْعَامَّةِ (1) .
سُقُوطُ التَّعْزِيرِ بِالتَّوْبَةِ:
58 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَثَرِ التَّوْبَةِ فِي التَّعْزِيرِ:
فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ لاَ تَسْقُطُ الْعُقُوبَةُ بِالتَّوْبَةِ؛ لأَِنَّهَا كَفَّارَةٌ عَنِ الْمَعْصِيَةِ. وَعِنْدَ هَؤُلاَءِ فِي تَعْلِيل ذَلِكَ: عُمُومُ أَدِلَّةِ الْعُقُوبَةِ بِلاَ تَفْرِقَةٍ بَيْنَ تَائِبٍ وَغَيْرِهِ عَدَا الْمُحَارِبَةَ. وَفَضْلاً عَنْ ذَلِكَ فَجَعْل التَّوْبَةِ ذَاتَ أَثَرٍ فِي إِسْقَاطِ الْعُقُوبَةِ يَجْعَل لِكُلٍّ ادِّعَاءَهَا، لِلإِِْفْلاَتِ مِنَ الْعِقَابِ.
وَعِنْدَ فَرِيقٍ آخَرَ، مِنْهُمُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ:
__________
(1) يراجع في العفو: فصول الأستروشني ص 3، وابن عابدين 3 / 188، ومواهب الجليل 6 / 320، وتبصرة الحكام 2 / 369، وأسنى المطالب 4 / 162 - 163، ونهاية المحتاج 7 / 175، والماوردي ص 225، وكشاف القناع 4 / 74، والمغني 10 / 349، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 266.(12/286)
أَنَّ التَّوْبَةَ قَبْل الْقُدْرَةِ تُسْقِطُ الْعُقُوبَةَ قِيَاسًا عَلَى حَدِّ الْمُحَارَبَةِ، اسْتِنَادًا إِِلَى مَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَ رَجُلٌ فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ، إِنِّي أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَيَّ، وَلَمْ يَسْأَلْهُ عَنْهُ. فَحَضَرَتِ الصَّلاَةُ فَصَلَّى مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلاَةَ قَامَ إِلَيْهِ الرَّجُل، فَأَعَادَ قَوْلَهُ، فَقَال: أَلَيْسَ قَدْ صَلَّيْت مَعَنَا؟ قَال نَعَمْ. قَال: فَإِِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَل قَدْ غَفَرَ لَكَ ذَنْبَكَ. وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْجَانِيَ غُفِرَ لَهُ لَمَّا تَابَ. وَفَضْلاً عَنْ ذَلِكَ فَإِِنَّهُ إِِذَا جَازَتِ التَّوْبَةُ فِي الْمُحَارَبَةِ مَعَ شِدَّةِ ضَرَرِهَا وَتَعَدِّيهِ، فَأَوْلَى التَّوْبَةُ فِيمَا دُونَهَا.
وَهَؤُلاَءِ يَقْصُرُونَ السُّقُوطَ بِالتَّوْبَةِ عَلَى مَا فِيهِ اعْتِدَاءٌ عَلَى حَقِّ اللَّهِ، بِخِلاَفِ مَا يَمَسُّ الأَْفْرَادَ.
وَقَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَابْنُ الْقَيِّمِ: إِنَّ التَّوْبَةَ تَدْفَعُ الْعُقُوبَةَ فِي التَّعْزِيرِ وَغَيْرِهِ، كَمَا تَدْفَعُهَا فِي الْمُحَارَبَةِ، بَل إِنَّ ذَلِكَ أَوْلَى مِنَ الْمُحَارَبَةِ، لِشِدَّةِ ضَرَرِهَا، وَهَذَا يُعْتَبَرُ مَسْلَكًا وَسَطًا بَيْنَ مَنْ يَقُول: بِعَدَمِ جَوَازِ إِقَامَةِ الْعُقُوبَةِ بَعْدَ التَّوْبَةِ أَلْبَتَّةَ. وَبَيْنَ مَسْلَكِ مَنْ يَقُول: إِنَّهُ لاَ أَثَرَ لِلتَّوْبَةِ فِي إِسْقَاطِ الْعُقُوبَةِ أَلْبَتَّةَ. وَيَتَرَتَّبُ عَلَى هَذَا الرَّأْيِ: أَنَّ التَّعْزِيرَ الْوَاجِبَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ، إِلاَّ إِِذَا اخْتَارَ الْجَانِي الْعُقُوبَةَ لِيُطَهِّرَ بِهَا نَفْسَهُ، فَالتَّوْبَةُ تُسْقِطُ التَّعْزِيرَ، عَلَى شَرِيطَةِ أَلاَّ(12/286)
يَطْلُبَ الْجَانِي إِقَامَتَهُ، وَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِحُقُوقِ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ.
وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَل جَعَل تَوْبَةَ الْكُفَّارِ سَبَبًا لِغُفْرَانِ مَا سَلَفَ (1) وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} (2) وَأَنَّ السُّنَّةَ عَلَيْهِ كَذَلِكَ، فَفِي الْحَدِيثِ: التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لاَ ذَنْبَ لَهُ (3) .
__________
(1) يراجع في التوبة في التعزير: الكاساني 7 / 96، والأستروشني ص 3 - 4، ومواهب الجليل 6 / 316 - 317، والتاج والإكليل على هامشه، وبداية المجتهد 2 / 382، وحاشية الرهوني على شرح الزرقاني 8 / 152 - 153، وأسنى المطالب 4 / 155 - 156، ونهاية المحتاج 8 / 6، والمغني 10 / 316 - 317، وإعلام الموقعين 2 / 197 - 198.
(2) سورة الأنفال / 38.
(3) حديث: " التائب من الذنب كمن لا ذنب له. . . " أخرجه ابن ماجه (2 / 1420 ط الحلبي) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وحسنه ابن حجر لشواهده. كما في المقاصد الحسنة للسخاوي (ص 152 ط الخانجي) .(12/287)
تَعْزِيَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّعْزِيَةُ لُغَةً: مَصْدَرُ عَزَّى: إِِذَا صَبَّرَ الْمُصَابَ وَوَاسَاهُ وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ وَقَال الشِّرْبِينِيُّ: هِيَ الأَْمْرُ بِالصَّبْرِ وَالْحَمْل عَلَيْهِ بِوَعْدِ الأَْجْرِ، وَالتَّحْذِيرُ مِنَ الْوِزْرِ، وَالدُّعَاءُ لِلْمَيِّتِ بِالْمَغْفِرَةِ، وَلِلْمُصَابِ بِجَبْرِ الْمُصِيبَةِ (1) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي اسْتِحْبَابِ التَّعْزِيَةِ لِمَنْ أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ (2) . وَالأَْصْل فِي مَشْرُوعِيَّتِهَا: خَبَرُ: مَنْ عَزَّى مُصَابًا فَلَهُ مِثْل أَجْرِهِ (3) .
__________
(1) أسنى المطالب 1 / 334، ومغني المحتاج 1 / 355، وحاشية الدسوقي 1 / 419، وحاشية ابن عابدين 1 / 603.
(2) المصادر السابقة، والمغني لابن قدامة 2 / 543.
(3) حديث: " من عزى مصابا فله مثل أجره " أخرجه الترمذي (3 / 376 ط الحلبي) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعا، وضعفه ابن حجر في التلخيص (2 / 138 ط شركة الطباعة الفنية) .(12/287)
وَخَبَرِ مَا مِنْ مُؤْمِنٍ يُعَزِّي أَخَاهُ بِمُصِيبَةٍ إِلاَّ كَسَاهُ اللَّهُ مِنْ حُلَل الْكَرَامَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (1) .
كَيْفِيَّةُ التَّعْزِيَةِ وَلِمَنْ تَكُونُ:
3 - يُعَزَّى أَهْل الْمُصِيبَةِ، كِبَارُهُمْ وَصِغَارُهُمْ، ذُكُورُهُمْ وَإِِنَاثُهُمْ، إِلاَّ الصَّبِيُّ الَّذِي لاَ يَعْقِل، وَالشَّابَّةُ مِنَ النِّسَاءِ، فَلاَ يُعَزِّيهَا إِلاَّ النِّسَاءُ وَمَحَارِمُهَا، خَوْفًا مِنَ الْفِتْنَةِ. وَنَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنْ شَرْحِ الْمُنْيَةِ: تُسْتَحَبُّ التَّعْزِيَةُ لِلرِّجَال وَالنِّسَاءِ اللاَّتِي لاَ يُفْتِنَّ. وَقَال الدَّرْدِيرُ: وَنُدِبَ تَعْزِيَةٌ لأَِهْل الْمَيِّتِ إِلاَّ مَخْشِيَّةَ الْفِتْنَةِ (2) .
مُدَّةُ التَّعْزِيَةِ:
4 - جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: عَلَى أَنَّ مُدَّةَ التَّعْزِيَةِ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ. وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِإِِذْنِ الشَّارِعِ فِي الإِِْحْدَادِ فِي الثَّلاَثِ فَقَطْ، بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَحِل لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ أَنْ تَحُدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاَثٍ، إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ: أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا (3) وَتُكْرَهُ بَعْدَهَا؛ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا سُكُونُ قَلْبِ الْمُصَابِ، وَالْغَالِبُ سُكُونُهُ بَعْدَ الثَّلاَثَةِ، فَلاَ
__________
(1) خبر " ما من مؤمن يعزي أخاه بمصيبة إلا كساه الله. . . " أخرجه الخطيب في تاريخه (7 / 397 ط مطبعة السعادة) وفي إسناده جهالة.
(2) مغني المحتاج 1 / 354، 355، والمغني 2 / 543 - 545، وحاشية الدسوقي 1 / 419، 603، وحاشية ابن عابدين 1 / 603 - 604.
(3) حديث " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر. . . " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 146 ط السلفية) من حديث أم حبيبة رضي الله عنها.(12/288)
يُجَدَّدُ لَهُ الْحُزْنُ بِالتَّعْزِيَةِ، إِلاَّ إِِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا (الْمُعَزَّى أَوِ الْمُعَزِّي) غَائِبًا، فَلَمْ يَحْضُرْ إِلاَّ بَعْدَ الثَّلاَثَةِ، فَإِِنَّهُ يُعَزِّيهِ بَعْدَ الثَّلاَثَةِ.
وَحَكَى إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَجْهًا وَهُوَ قَوْل بَعْضِ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ لاَ أَمَدَ لِلتَّعْزِيَةِ، بَل تَبْقَى بَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ؛ لأَِنَّ الْغَرَضَ الدُّعَاءُ، وَالْحَمْل عَلَى الصَّبْرِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْجَزَعِ، وَذَلِكَ يَحْصُل عَلَى طُول الزَّمَانِ.
وَقْتُ التَّعْزِيَةِ:
5 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: إِِلَى أَنَّ الأَْفْضَل فِي التَّعْزِيَةِ أَنْ تَكُونَ بَعْدَ الدَّفْنِ؛ لأَِنَّ أَهْل الْمَيِّتِ قَبْل الدَّفْنِ مَشْغُولُونَ بِتَجْهِيزِهِ؛ وَلأَِنَّ وَحْشَتَهُمْ بَعْدَ دَفْنِهِ لِفِرَاقِهِ أَكْثَرُ، فَكَانَ ذَلِكَ الْوَقْتُ أَوْلَى بِالتَّعْزِيَةِ.
وَقَال جُمْهُورُ الشَّافِعِيَّةِ: إِلاَّ أَنْ يَظْهَرَ مِنْ أَهْل الْمَيِّتِ شِدَّةُ جَزَعٍ قَبْل الدَّفْنِ، فَتُعَجَّل التَّعْزِيَةُ، لِيَذْهَبَ جَزَعُهُمْ أَوْ يَخِفَّ.
وَحُكِيَ عَنِ الثَّوْرِيِّ: أَنَّهُ تُكْرَهُ التَّعْزِيَةُ بَعْدَ الدَّفْنِ (1) .
مَكَانُ التَّعْزِيَةِ:
6 - كَرِهَ الْفُقَهَاءُ الْجُلُوسَ لِلتَّعْزِيَةِ فِي الْمَسْجِدِ.
وَكَرِهَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ الْجُلُوسَ لِلتَّعْزِيَةِ،
__________
(1) المجموع 5 / 306.(12/288)
بِأَنْ يَجْتَمِعَ أَهْل الْمَيِّتِ فِي مَكَان لِيَأْتِيَ إِلَيْهِمُ النَّاسُ لِلتَّعْزِيَةِ؛ لأَِنَّهُ مُحْدَثٌ وَهُوَ بِدْعَةٌ؛ وَلأَِنَّهُ يُجَدِّدُ الْحُزْنَ. وَوَافَقَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى كَرَاهَةِ الْجُلُوسِ لِلتَّعْزِيَةِ عَلَى بَابِ الدَّارِ، إِِذَا اشْتَمَل عَلَى ارْتِكَابِ مَحْظُورٍ، كَفَرْشِ الْبُسُطِ وَالأَْطْعِمَةِ مِنْ أَهْل الْمَيِّتِ.
وَنَقَل الطَّحْطَاوِيُّ عَنْ شَرْحِ السَّيِّدِ أَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِالْجُلُوسِ لَهَا ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ مِنْ غَيْرِ ارْتِكَابِ مَحْظُورٍ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ: إِِلَى أَنَّ الأَْفْضَل كَوْنُ التَّعْزِيَةِ فِي بَيْتِ الْمُصَابِ (2) .
وَقَال بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ: إِنَّمَا الْمَكْرُوهُ الْبَيْتُوتَةُ عِنْدَ أَهْل الْمَيِّتِ، وَأَنْ يَجْلِسَ إِلَيْهِمْ مَنْ عَزَّى مَرَّةً، أَوْ يَسْتَدِيمَ الْمُعَزِّي الْجُلُوسَ زِيَادَةً كَثِيرَةً عَلَى قَدْرِ التَّعْزِيَةِ (3) .
صِيغَةُ التَّعْزِيَةِ:
7 - قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لاَ نَعْلَمُ فِي التَّعْزِيَةِ شَيْئًا مَحْدُودًا، إِلاَّ مَا رُوِيَ أَنَّ الإِِْمَامَ أَحْمَدَ قَال: يُرْوَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَزَّى رَجُلاً فَقَال: رَحِمَكَ اللَّهُ وَآجَرَكَ (4) . وَعَزَّى أَحْمَدُ أَبَا طَالِبٍ
__________
(1) الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 339.
(2) الدسوقي 1 / 419.
(3) كشاف القناع 2 / 160.
(4) الأثر عن الإمام أحمد. رواه أبو داود في مسائل الإمام أحمد ص 138 - 139 نشر دار المعرفة.(12/289)
(أَحَدَ أَصْحَابِهِ) فَوَقَفَ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ فَقَال: أَعْظَمَ اللَّهُ أَجْرَكُمْ وَأَحْسَنَ عَزَاءَكُمْ. وَقَال بَعْضُ أَصْحَابِنَا إِِذَا عَزَّى مُسْلِمًا بِمُسْلِمٍ قَال: أَعْظَمَ اللَّهُ أَجْرَك، وَأَحْسَن عَزَاك، وَرَحِمَ اللَّهُ مَيِّتَكَ.
وَاسْتَحَبَّ بَعْضُ أَهْل الْعِلْمِ: أَنْ يَقُول مَا رَوَى جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَال: لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَاءَتِ التَّعْزِيَةُ، سَمِعُوا قَائِلاً يَقُول: إِنَّ فِي اللَّهِ عَزَاءً مِنْ كُل مُصِيبَةٍ، وَخَلَفًا مِنْ كُل هَالِكٍ، وَدَرْكًا مِنْ كُل مَا فَاتَ، فَبِاللَّهِ فَثِقُوا، وَإِِيَّاهُ فَارْجُوا، فَإِِنَّ الْمُصَابَ مَنْ حُرِمَ الثَّوَابَ (1) .
وَهَل يُعَزَّى الْمُسْلِمُ بِالْكَافِرِ أَوِ الْعَكْسُ؟
8 - ذَهَبَ الأَْئِمَّةُ: الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: إِِلَى أَنَّهُ يُعَزَّى الْمُسْلِمُ بِالْكَافِرِ، وَبِالْعَكْسِ، وَالْكَافِرُ غَيْرُ الْحَرْبِيِّ.
وَذَهَبَ الإِِْمَامُ مَالِكٌ: إِِلَى أَنَّهُ لاَ يُعَزَّى الْمُسْلِمُ بِالْكَافِرِ.
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: إِنْ عَزَّى مُسْلِمًا بِكَافِرٍ قَال: أَعْظَمَ اللَّهُ أَجْرَكَ وَأَحْسَنَ عَزَاءَكَ (2) .
__________
(1) أثر: " لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاءت التعزية. . . " أخرجه الشافعي في مسنده (1 / 216 نشر دار الكتب العلمية) ، وانظر المغني 2 / 544.
(2) مغني المحتاج 1 / 355، وابن عابدين 1 / 603، والمغني 1 / 544 - 545، وحاشية الدسوقي 1 / 419.(12/289)
صُنْعُ الطَّعَامِ لأَِهْل الْمَيِّتِ:
9 - يُسَنُّ لِجِيرَانِ أَهْل الْمَيِّتِ أَنْ يَصْنَعُوا طَعَامًا لَهُمْ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اصْنَعُوا لأَِهْل جَعْفَرٍ طَعَامًا، فَإِِنَّهُ قَدْ جَاءَهُمْ مَا يَشْغَلُهُمْ (1) .
وَيُكْرَهُ أَنْ يَصْنَعَ أَهْل الْمَيِّتِ طَعَامًا لِلنَّاسِ، لأَِنَّ فِيهِ زِيَادَةً عَلَى مُصِيبَتِهِمْ، وَشُغْلاً عَلَى شُغْلِهِمْ، وَتَشَبُّهًا بِأَهْل الْجَاهِلِيَّةِ، لِخَبَرِ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كُنَّا نَعُدُّ الاِجْتِمَاعَ إِِلَى أَهْل الْمَيِّتِ، وَصَنِيعَةَ الطَّعَامِ بَعْدَ دَفْنِهِ مِنَ النِّيَاحَةِ (2) .
__________
(1) حديث: " اصنعوا لأهل جعفر طعاما. . . " أخرجه الترمذي (3 / 314 ط الحلبي) من حديث عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما، وحسنه الترمذي.
(2) خبر جرير بن عبد الله: " كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت. . . " أخرجه أحمد (2 / 204 ط الميمنية) . وصححه النووي في المجموع (5 / 320 ط المنيرية) . وانظر ابن عابدين 1 / 603، ومغني المحتاج 1 / 368، والمغني لأبن قدامة 2 / 550.(12/290)
تَعْشِيرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّعْشِيرُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ عَشَّرَ، يُقَال: عَشَّرَ الْقَوْمَ، وَعَشَّرَهُمْ: إِِذَا أَخَذَ عُشْرَ أَمْوَالِهِمْ. وَالْعَشَّارُ: هُوَ مَنْ يَأْخُذُ الْعُشْرَ. وَقَدْ عَشَّرَتِ النَّاقَةُ: صَارَتْ عُشَرَاءَ - أَيْ حَامِلاً - إِِذَا تَمَّ لَهَا عَشْرَةُ أَشْهُرٍ.
وَمَعْنَاهُ فِي الاِصْطِلاَحِ كَمَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ. وَيُسْتَعْمَل فِي الاِصْطِلاَحِ أَيْضًا بِمَعْنَى: جَعْل الْعَوَاشِرِ فِي الْمُصْحَفِ، وَالْعَاشِرَةُ: هِيَ الْحَلْقَةُ فِي الْمُصْحَفِ عِنْدَ مُنْتَهَى كُل عَشْرِ آيَاتٍ (1) . وَالْعَاشِرَةُ أَيْضًا: الآْيَةُ الَّتِي تَتِمُّ بِهَا الْعُشْرُ.
وَالتَّعْشِيرُ - بِمَعْنَى أَخْذِ الْعُشْرِ - يُرْجَعُ لِمَعْرِفَةِ أَحْكَامِهِ إِِلَى مُصْطَلَحِ (عُشْرٌ) .
تَارِيخُ التَّعْشِيرِ فِي الْمُصْحَفِ:
2 - قَال ابْنُ عَطِيَّةَ: مَرَّ بِي فِي بَعْضِ التَّوَارِيخِ: أَنَّ الْمَأْمُونَ الْعَبَّاسِيَّ أَمَرَ بِذَلِكَ. وَقِيل: إِنَّ الْحَجَّاجَ فَعَل ذَلِكَ، وَقَال قَتَادَةَ: بَدَءُوا فَنَقَّطُوا، ثُمَّ خَمَّسُوا، ثُمَّ عَشَّرُوا.
__________
(1) القاموس، ومختار الصحاح، ولسان العرب، ومفردات غريب القرآن للراغب، والمغني 8 / 516.(12/290)
وَقَال يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ: كَانَ الْقُرْآنُ مُجَرَّدًا فِي الْمَصَاحِفِ، فَأَوَّل مَا أَحْدَثُوا فِيهِ النَّقْطُ عَلَى الْبَاءِ وَالتَّاءِ وَالثَّاءِ، وَقَالُوا: لاَ بَأْسَ بِهِ، هُوَ نُورٌ لَهُ، ثُمَّ أَحْدَثُوا نُقَطًا عِنْدَ مُنْتَهَى الآْيِ، ثُمَّ أَحْدَثُوا الْفَوَاتِحَ وَالْخَوَاتِمَ (1) .
حُكْمُ التَّعْشِيرِ:
3 - ذَكَرَ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ فِي كِتَابِ الْبَيَانِ لَهُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّهُ كَرِهَ التَّعْشِيرَ فِي الْمَصَاحِفِ، وَأَنَّهُ كَانَ يَحُكُّهُ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ: أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ التَّعْشِيرَ وَالطِّيبَ فِي الْمَصَاحِفِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: تَجُوزُ تَحْلِيَةُ الْمُصْحَفِ وَتَعْشِيرُهُ وَنَقْطُهُ: أَيْ إِظْهَارُ إِعْرَابِهِ، وَبِهِ يَحْصُل الرِّفْقُ جِدًّا، خُصُوصًا لِلْعَجَمِ، فَيُسْتَحْسَنُ. وَعَلَى هَذَا لاَ بَأْسَ بِكِتَابَةِ أَسْمَاءِ السُّوَرِ، وَعَدُّ الآْيِ، وَعَلاَمَاتُ الْوَقْفِ وَنَحْوِهَا، فَهِيَ بِدْعَةٌ حَسَنَةٌ. وَقَالُوا: إِنَّ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " جَرِّدُوا الْقُرْآنَ كَانَ فِي زَمَنِهِمْ، وَكَمْ شَيْءٍ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ (2) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّهُ مَكْرُوهٌ بِالْحُمْرَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الأَْلْوَانِ، إِلاَّ الْحِبْرُ. قَال أَشْهَبُ: سَمِعْنَا
__________
(1) تفسير القرطبي 1 / 63، والإتقان 2 / 171.
(2) البرهان في علوم القرآن 1 / 250 - 251، والتبيان في آداب حملة القرآن 38 (ط البابي الحلبي) .(12/291)
مَالِكًا وَسُئِل عَنِ الْعُشُورِ الَّتِي فِي الْمُصْحَفِ بِالْحُمْرَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الأَْلْوَانِ فَكَرِهَ ذَلِكَ، وَقَال: تَعْشِيرُ الْمُصْحَفِ بِالْحِبْرِ لاَ بَأْسَ بِهِ (1) .
تَعْصِيبٌ
انْظُرْ: عَصَبَةٌ
تَعْقِيبٌ
انْظُرْ: مُوَالاَةٌ، تَتَابُعٌ
تَعَلُّمٌ
انْظُرْ: تَعْلِيمٌ
__________
(1) القرطبي 1 / 14 ط دار الكتب.(12/291)
تَعَلِّي
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّعَلِّي فِي اللُّغَةِ لَهُ مَعَانٍ، مِنْهَا: أَنَّهُ مِنَ الْعُلُوِّ، وَهُوَ: الاِرْتِفَاعُ وَعُلُوُّ كُل شَيْءٍ وَعُلْوُهُ وَعِلْوُهُ: أَرْفَعُهُ. وَعَلاَ الشَّيْءُ عُلُوًّا فَهُوَ عَلِيٌّ: ارْتَفَعَ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: فَإِِذَا هُوَ يَتَعَلَّى عَنِّي: أَيْ يَتَرَفَّعُ عَلَيَّ. وَتَعَالَى: تَرَفَّعَ. وَتَعَلَّى: أَيْ عَلاَ فِي مُهْلَةٍ (1) .
وَهُوَ فِي الاِصْطِلاَحِ لاَ يَخْرُجُ عَنْ هَذَا، إِذْ يُرَادُ بِهِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: رَفْعُ بِنَاءٍ فَوْقَ بِنَاءٍ آخَرَ.
أَحْكَامُ حَقِّ التَّعَلِّي:
2 - حَقُّ التَّعَلِّي: إِمَّا أَنْ يَسْتَعْمِلَهُ صَاحِبُهُ لِنَفْسِهِ، وَإِِمَّا يَبِيعُهُ لِغَيْرِهِ.
أَمَّا اسْتِعْمَالُهُ لِنَفْسِهِ: فَقَدْ نَصَّتِ الْمَادَّةُ (1198) مِنْ مَجَلَّةِ الأَْحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ عَلَى أَنَّ: كُل أَحَدٍ لَهُ التَّعَلِّي عَلَى حَائِطِهِ الْمِلْكِ، وَبِنَاءُ مَا يُرِيدُ، وَلَيْسَ لِجَارِهِ مَنْعُهُ مَا لَمْ يَكُنْ ضَرَرًا فَاحِشًا.
__________
(1) المغرب في ترتيب المعرب، ولسان العرب.(12/292)
وَقَال الأَْتَاسِيُّ فِي شَرْحِ الْمَادَّةِ: وَلاَ عِبْرَةَ بِزَعْمِهِ أَنَّهُ يَسُدُّ عَنْهُ الرِّيحَ وَالشَّمْسَ، كَمَا أَفْتَى بِهِ فِي الْحَامِدِيَّةِ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ مِنَ الضَّرَرِ الْفَاحِشِ. وَفِي الأَْنْقِرَوِيَّةِ: لَهُ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى حَائِطِ نَفْسِهِ أَزْيَدَ مِمَّا كَانَ، وَلَيْسَ لِجَارِهِ مَنْعُهُ وَإِِنْ بَلَغَ عَنَانَ السَّمَاءِ (1) .
وَأَمَّا بَيْعُهُ لِغَيْرِهِ فَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) : إِِلَى جَوَازِهِ عَلَى التَّفْصِيل التَّالِي:
أَجَازَهُ الْمَالِكِيَّةُ مَتَى كَانَ الْمَبِيعُ قَدْرًا مُعَيَّنًا، كَعَشْرَةِ أَذْرُعٍ مَثَلاً مِنْ مَحَل هَوَاءٍ، فَوْقَ مَحَلٍّ مُتَّصِلٍ بِأَرْضٍ أَوْ بِنَاءٍ، بِأَنْ كَانَ لِشَخْصٍ أَرْضٌ خَالِيَةٌ مِنَ الْبِنَاءِ أَرَادَ الْبِنَاءَ بِهَا، أَوْ كَانَ لَهُ بِنَاءٌ أَرَادَ الْبِنَاءَ عَلَيْهِ، فَيَشْتَرِي شَخْصٌ مِنْهُ قَدْرًا مُعَيَّنًا مِنَ الْفَرَاغِ الَّذِي يَكُونُ فَوْقَ الْبِنَاءِ الَّذِي أَرَادَ إِحْدَاثَهُ، فَيَجُوزُ مَتَى وَصَفَ الْبِنَاءَ الَّذِي أُرِيدَ إِحْدَاثُهُ أَسْفَل وَأَعْلَى، لِيَقِل الضَّرَرُ؛ لأَِنَّ صَاحِبَ الأَْسْفَل رَغْبَتُهُ فِي خِفَّةِ الأَْعْلَى، وَصَاحِبُ الأَْعْلَى رَغْبَتُهُ فِي مَتَانَةِ الأَْسْفَل، وَلِصَاحِبِ الْبِنَاءِ الأَْعْلَى الاِنْتِفَاعُ بِمَا فَوْقَ بِنَائِهِ بِغَيْرِ الْبِنَاءِ، إِذْ يَمْلِكُ جَمِيعَ الْهَوَاءِ الَّذِي فَوْقَ بِنَاءِ الأَْسْفَل، وَلَيْسَ لِصَاحِبِ الأَْسْفَل الاِنْتِفَاعُ بِمَا فَوْقَ بِنَاءِ الأَْعْلَى، لاَ بِالْبِنَاءِ وَلاَ بِغَيْرِهِ.
وَأَجَازَهُ الشَّافِعِيَّةُ، مَتَى كَانَ الْمَبِيعُ حَقَّ الْبِنَاءِ
__________
(1) شرح مجلة الأحكام العدلية 4 / 167 ط حمص.(12/292)
أَوِ الْعُلْوِ: بِأَنْ قَال لَهُ: بِعْتُكَ حَقَّ الْبِنَاءِ أَوِ الْعُلْوِ لِلْبِنَاءِ عَلَيْهِ بِثَمَنٍ مَعْلُومٍ، بِخِلاَفِ مَا إِِذَا بَاعَهُ وَشَرَطَ أَنْ لاَ يَبْنِيَ عَلَيْهِ، أَوْ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْبِنَاءِ عَلَيْهِ. لَكِنْ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَنْتَفِعَ بِمَا عَدَا الْبِنَاءَ مِنْ مُكْثٍ وَغَيْرِهِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ السُّبْكِيُّ، تَبَعًا لِلْمَاوَرْدِيِّ.
وَأَجَازَهُ الْحَنَابِلَةُ، وَلَوْ قَبْل بِنَاءِ الْبَيْتِ الَّذِي اشْتَرَى عُلْوَهُ، إِِذَا وَصَفَ الْعُلْوَ وَالسُّفْل لِيَكُونَا مَعْلُومَيْنِ، لِيَبْنِيَ الْمُشْتَرِي أَوْ يَضَعُ عَلَيْهِ بُنْيَانًا أَوْ خَشَبًا مَوْصُوفَيْنِ، وَإِِنَّمَا صَحَّ ذَلِكَ لأَِنَّ الْعُلْوَ مِلْكٌ لِلْبَائِعِ، فَكَانَ لَهُ بَيْعُهُ، وَالاِعْتِيَاضُ عَنْهُ، كَالْقَرَارِ (1) .
وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ: فَقَدْ ذَهَبُوا إِِلَى أَنَّ بَيْعَ حَقِّ التَّعَلِّي غَيْرُ جَائِزٍ، لأَِنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ، وَلاَ هُوَ حَقٌّ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَال، بَل حَقٌّ مُتَعَلِّقٌ بِالْهَوَاءِ (أَيِ الْفَرَاغِ) وَلَيْسَ الْهَوَاءُ مَا لاَ يُبَاعُ، إِذِ الْمَال مَا يُمْكِنُ قَبْضُهُ وَإِِحْرَازُهُ. وَصُورَتُهُ: أَنْ يَكُونَ السُّفْل لِرَجُلٍ، وَعُلْوُهُ لآِخَرَ، فَسَقَطَا أَوْ سَقَطَ الْعُلْوُ وَحْدَهُ فَبَاعَ صَاحِبُ الْعُلْوِ عُلْوَهُ، فَإِِنَّهُ لاَ يَجُوزُ؛ لأَِنَّ الْمَبِيعَ حِينَئِذٍ لَيْسَ إِلاَّ حَقُّ التَّعَلِّي.
وَعَلَى هَذَا: فَلَوْ بَاعَ الْعُلْوَ قَبْل سُقُوطِهِ جَازَ، فَإِِنْ سَقَطَ قَبْل الْقَبْضِ بَطَل الْبَيْعُ، لِهَلاَكِ الْمَبِيعِ
__________
(1) جواهر الإكليل 2 / 6، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 3 / 14، وشرح الزرقاني على مختصر خليل 5 / 22، وأسنى المطالب شرح روض الطالب 2 / 255، وحاشية الجمل على شرح المنهج 3 / 364، ومطالب أولي النهى 3 / 350 منشورات المكتب الإسلامي بدمشق.(12/293)
قَبْل الْقَبْضِ، وَهُوَ بَعْدَ سُقُوطِهِ بَيْعٌ لِحَقِّ التَّعَلِّي، وَهُوَ لَيْسَ بِمَالٍ. فَلَوْ كَانَ الْعُلْوُ لِصَاحِبِ السُّفْل فَقَال: بِعْتُك عُلْوَ هَذَا السُّفْل بِكَذَا صَحَّ، وَيَكُونُ سَطْحُ السُّفْل لِصَاحِبِ السُّفْل، وَلِلْمُشْتَرِي حَقُّ الْقَرَارِ، حَتَّى لَوِ انْهَدَمَ الْعُلْوُ كَانَ لَهُ أَنْ يَبْنِيَ عَلَيْهِ عُلْوًا آخَرَ، مِثْل الأَْوَّل؛ لأَِنَّ السُّفْل اسْمٌ لِمَبْنًى مُسَقَّفٍ، فَكَانَ سَطْحُ السُّفْل سَقْفًا لِلسُّفْل (1) .
أَحْكَامُ الْعُلْوِ وَالسُّفْل فِي الاِنْهِدَامِ وَالْبِنَاءِ:
3 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ: إِِلَى أَنَّ السُّفْل إِنِ انْهَدَمَ بِنَفْسِهِ بِلاَ صُنْعِ صَاحِبِهِ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى الْبِنَاءِ، لِعَدَمِ التَّعَدِّي، فَلَوْ هَدَمَهُ يُجْبَرُ عَلَى بِنَائِهِ؛ لأَِنَّهُ تَعَدَّى عَلَى صَاحِبِ الْعُلْوِ، وَهُوَ قَرَارُ الْعُلْوِ، وَلِذِي الْعُلْوِ أَنْ يَبْنِيَ السُّفْل ثُمَّ يَرْجِعَ بِمَا أَنْفَقَ إِنْ بَنَى بِإِِذْنِهِ أَوْ إِذْنِ قَاضٍ، وَإِِلاَّ فَبِقِيمَةِ الْبِنَاءِ يَوْمَ بَنَى.
وَمَتَى بَنَى صَاحِبُ الْعُلْوِ السُّفْل: كَانَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ صَاحِبَ السُّفْل مِنَ السُّكْنَى، حَتَّى يَدْفَعَ إِلَيْهِ مِثْل مَا أَنْفَقَهُ فِي بِنَاءِ سُفْلِهِ لِكَوْنِهِ مُضْطَرًّا.
فَلِكُلٍّ مِنْهُمَا حَقٌّ فِي مِلْكِ الآْخَرِ: لِذِي الْعُلْوِ حَقُّ قَرَارِهِ، وَلِذِي السُّفْل حَقُّ دَفْعِ الْمَطَرِ وَالشَّمْسِ عَنِ السُّفْل، وَلَوْ هَدَمَ ذُو السُّفْل سُفْلَهُ وَذُو الْعُلْوِ عُلْوَهُ، أُلْزِمَ ذُو السُّفْل بِبِنَاءِ سُفْلِهِ، إِذْ
__________
(1) الهداية وفتح القدير والكفاية والعناية بالهامش 6 / 64 - 66 دار إحياء التراث العربي، وحاشية ابن عابدين 4 / 101.(12/293)
فَوَّتَ عَلَى صَاحِبِ الْعُلْوِ حَقًّا أُلْحِقَ بِالْمِلْكِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ فَوَّتَ عَلَيْهِ مِلْكًا.
فَإِِذَا بَنَى ذُو السُّفْل سُفْلَهُ وَطَلَب مِنْ ذِي الْعُلْوِ بِنَاءَ عُلْوِهِ فَإِِنَّهُ يُجْبَرُ؛ لأَِنَّ لِذِي السُّفْل حَقًّا فِي الْعُلْوِ، وَأَمَّا لَوِ انْهَدَمَ الْعُلْوُ بِلاَ صُنْعِهِ فَلاَ يُجْبَرُ لِعَدَمِ تَعَدِّيهِ، كَمَا لَوِ انْهَدَمَ السُّفْل بِلاَ تَعَدٍّ، وَسَقْفُ السُّفْل لِذِي السُّفْل (1) .
4 - وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ السُّفْل إِنْ وَهَى وَأَشْرَفَ عَلَى السُّقُوطِ وَخِيفَ سُقُوطُ بِنَاءٍ عَلَيْهِ لآِخَرَ غَيْرِ صَاحِبِ السُّفْل - فَإِِنَّهُ يُقْضَى عَلَى صَاحِبِ السُّفْل أَنْ يُعَمِّرَ سُفْلَهُ فَإِِنْ أَبَى قُضِيَ عَلَيْهِ بِبَيْعِهِ لِمَنْ يُعَمِّرُهُ، فَإِِنْ سَقَطَ الأَْعْلَى عَلَى الأَْسْفَل فَهَدَمَهُ أُجْبِرَ رَبُّ الأَْسْفَل عَلَى الْبِنَاءِ، أَوِ الْبَيْعِ مِمَّنْ يَبْنِي، لِيَبْنِيَ رَبُّ الْعُلْوِ عُلْوَهُ عَلَيْهِ. وَعَلَى ذِي السُّفْل التَّعْلِيقُ لِلأَْعْلَى - أَيْ حَمْلُهُ عَلَى خَشَبٍ وَنَحْوِهِ - حَتَّى يَبْنِيَ السُّفْل، وَعَلَيْهِ السَّقْفُ السَّاتِرُ لِسُفْلِهِ، إِذْ لاَ يُسَمَّى السُّفْل بَيْتًا إِلاَّ بِهِ، وَلِذَا فَإِِنَّهُ يُقْضَى بِهِ لِصَاحِبِ السُّفْل عِنْدَ التَّنَازُعِ. وَأَمَّا الْبَلاَطُ الَّذِي فَوْقَهُ: فَهُوَ لِصَاحِبِ الأَْعْلَى.
وَيُقْضَى عَلَى ذِي الْعُلْوِ بِعَدَمِ زِيَادَةِ بِنَاءِ الْعُلْوِ عَلَى السُّفْل؛ لأَِنَّهَا تَضُرُّ السُّفْل، إِلاَّ الشَّيْءَ الْخَفِيفَ الَّذِي لاَ يَضُرُّ السُّفْل حَالاً وَمَآلاً، وَيُرْجَعُ فِي ذَلِكَ لأَِهْل الْمَعْرِفَةِ (2) .
__________
(1) ابن عابدين 4 / 358، 359.
(2) جواهر الإكليل 2 / 121 - 123، والشرح الكبير 3 / 360 - 365، 370.(12/294)
5 - وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ: أَنَّهُ لَوِ انْهَدَمَ حِيطَانُ السُّفْل لَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِهِ أَنْ يُجْبِرَ صَاحِبَ الْعُلْوِ عَلَى الْبِنَاءِ قَوْلاً وَاحِدًا؛ لأَِنَّ حِيطَانَ السُّفْل لِصَاحِبِ السُّفْل، فَلاَ يُجْبَرُ صَاحِبُ الْعُلْوِ عَلَى بِنَائِهِ.
وَهَل لِصَاحِبِ الْعُلْوِ إِجْبَارُ صَاحِبِ السُّفْل عَلَى الْبِنَاءِ؟ فِيهِ قَوْلاَنِ، فَإِِنْ قِيل: يُجْبَرُ، أَلْزَمَهُ الْحَاكِمُ، فَإِِنْ لَمْ يَفْعَل - وَلَهُ مَالٌ - بَاعَ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ مَالَهُ، وَأَنْفَقَ عَلَيْهِ، وَإِِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ اقْتَرَضَ عَلَيْهِ. فَإِِذَا بَنَى الْحَائِطَ كَانَ الْحَائِطُ مِلْكًا لِصَاحِبِ السُّفْل؛ لأَِنَّهُ بُنِيَ لَهُ، وَتَكُونُ النَّفَقَةُ فِي ذِمَّتِهِ، وَيُعِيدُ صَاحِبُ الْعُلْوِ غُرْفَتَهُ عَلَيْهِ، وَتَكُونُ نَفَقَةُ الْغُرْفَةِ وَحِيطَانُهَا مِنْ مِلْكِ صَاحِبِ الْعُلْوِ دُونَ صَاحِبِ السُّفْل؛ لأَِنَّهَا مِلْكُهُ، لاَ حَقَّ لِصَاحِبِ السُّفْل فِيهِ.
وَأَمَّا السَّقْفُ فَهُوَ بَيْنَهُمَا، وَمَا يُنْفِقُ عَلَيْهِ فَهُوَ مِنْ مَالِهِمَا، فَإِِنْ تَبَرَّعَ صَاحِبُ الْعُلْوِ، وَبَنَى مِنْ غَيْرِ إِذْنِ الْحَاكِمِ، لَمْ يَرْجِعْ صَاحِبُ الْعُلْوِ عَلَى صَاحِبِ السُّفْل بِشَيْءٍ. ثُمَّ يُنْظَرُ: فَإِِنْ كَانَ قَدْ بَنَاهَا بِآلَتِهَا كَانَتِ الْحِيطَانُ لِصَاحِبِ السُّفْل، لأَِنَّ الآْلَةَ كُلَّهَا لَهُ، وَلَيْسَ لِصَاحِبِ الْعُلْوِ مَنْعُهُ مِنَ الاِنْتِفَاعِ بِهَا، وَلاَ يَمْلِكُ نَقْضُهَا؛ لأَِنَّهَا لِصَاحِبِ السُّفْل، وَلَهُ أَنْ يُعِيدَ حَقَّهُ مِنَ الْغُرْفَةِ. وَإِِنْ بَنَاهَا بِغَيْرِ آلَتِهَا كَانَتِ الْحِيطَانُ لِصَاحِبِ الْعُلْوِ، وَلَيْسَ لِصَاحِبِ السُّفْل أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا مِنْ غَيْرِ إِذْنِ صَاحِبِ الْعُلْوِ، وَلَكِنْ لَهُ أَنْ يَسْكُنَ فِي قَرَارِ السُّفْل؛ لأَِنَّ الْقَرَارَ لَهُ، وَلِصَاحِبِ الْعُلْوِ أَنْ(12/294)
يَنْقُضَ مَا بَنَاهُ مِنَ الْحِيطَانِ؛ لأَِنَّهُ لاَ حَقَّ لِغَيْرِهِ فِيهَا، فَإِِنْ بَذَل صَاحِبُ السُّفْل الْقِيمَةَ لِيَتْرُكَ نَقْضَهَا لَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُهَا؛ لأَِنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ بِنَاؤُهَا قَوْلاً وَاحِدًا، فَلاَ يَلْزَمُهُ تَبْقِيَتُهَا بِبَذْل الْعِوَضِ (1) .
6 - وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِنْ كَانَ السُّفْل لِرَجُلٍ وَالْعُلْوُ لآِخَرَ، فَانْهَدَمَ السَّقْفُ الَّذِي بَيْنَهُمَا، فَطَلَبَ أَحَدُهُمَا الْمُبَانَاةَ مِنَ الآْخَرِ، فَامْتَنَعَ، فَهَل يُجْبَرُ الْمُمْتَنِعُ عَلَى ذَلِكَ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. كَالْحَائِطِ بَيْنَ الْبَيْتَيْنِ.
وَإِِنِ انْهَدَمَتْ حِيطَانُ السُّفْل فَطَالَبَهُ صَاحِبُ الْعُلْوِ بِإِِعَادَتِهَا، فَعَلَى رِوَايَتَيْنِ:
إِحْدَاهُمَا: يُجْبَرُ. فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ يُجْبَرُ عَلَى الْبِنَاءِ وَحْدَهُ؛ لأَِنَّهُ مِلْكُهُ خَاصَّةً.
وَالثَّانِيَةُ: لاَ يُجْبَرُ، وَإِِنْ أَرَادَ صَاحِبُ الْعُلْوِ بِنَاءَهُ لَمْ يُمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ جَمِيعًا، فَإِِنْ بَنَاهُ بِآلَتِهِ فَهُوَ عَلَى مَا كَانَ، وَإِِنْ بَنَاهُ بِآلَةٍ مِنْ عِنْدِهِ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ: لاَ يَنْتَفِعُ بِهِ صَاحِبُ السُّفْل، يَعْنِي حَتَّى يُؤَدِّيَ الْقِيمَةَ، فَيُحْتَمَل أَنْ لاَ يَسْكُنَ، لأَِنَّ الْبَيْتَ إِنَّمَا يُبْنَى لِلسَّكَنِ فَلَمْ يَمْلِكْهُ كَغَيْرِهِ، وَيُحْتَمَل أَنَّهُ أَرَادَ الاِنْتِفَاعَ بِالْحِيطَانِ خَاصَّةً مِنْ طَرْحِ الْخَشَبِ وَسَمْرِ الْوَتَدِ وَفَتْحِ الطَّاقِ، وَيَكُونُ لَهُ السُّكْنَى مِنْ غَيْرِ تَصَرُّفٍ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ؛ لأَِنَّ السُّكْنَى إِنَّمَا هِيَ
__________
(1) المهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 344، وشرح روض الطالب من أسنى المطالب 2 / 224، 225 المكتبة الإسلامية.(12/295)
إِقَامَتُهُ فِي الْفِنَاءِ بَيْنَ الْحِيطَانِ مِنْ غَيْرِ تَصَرُّفٍ فِيهَا، فَأَشْبَهَ الاِسْتِظْلاَل بِهَا مِنْ خَارِجٍ.
فَأَمَّا إِنْ طَالَبَ صَاحِبُ السُّفْل بِالْبِنَاءِ، وَأَبَى صَاحِبُ الْعُلْوِ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: لاَ يُجْبَرُ عَلَى بِنَائِهِ، وَلاَ مُسَاعَدَتِهِ لأَِنَّ الْحَائِطَ مِلْكُ صَاحِبِ السُّفْل مُخْتَصٌّ بِهِ، فَلَمْ يُجْبَرْ غَيْرُهُ عَلَى بِنَائِهِ وَلاَ الْمُسَاعَدَةِ فِيهِ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ عُلْوٌ.
وَالثَّانِيَةُ: يُجْبَرُ عَلَى مُسَاعَدَتِهِ وَالْبِنَاءِ مَعَهُ، وَهُوَ قَوْل أَبِي الدَّرْدَاءِ؛ لأَِنَّهُ حَائِطٌ يَشْتَرِكَانِ فِي الاِنْتِفَاعِ بِهِ، أَشْبَهَ الْحَائِطَ بَيْنَ الدَّارَيْنِ (1) .
جَعْل عُلْوِ الدَّارِ مَسْجِدًا:
7 - أَجَازَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ جَعْل عُلْوِ الدَّارِ مَسْجِدًا، دُونَ سُفْلِهَا، وَالْعَكْسُ؛ لأَِنَّهُمَا عَيْنَانِ يَجُوزُ وَقْفُهُمَا، فَجَازَ وَقْفُ أَحَدِهِمَا دُونَ الآْخَرِ، كَالْعَبْدَيْنِ (2) .
وَمَنْ جَعَل مَسْجِدًا تَحْتَهُ سِرْدَابٌ أَوْ فَوْقَهُ بَيْتٌ، وَجَعَل بَابَ الْمَسْجِدِ إِِلَى الطَّرِيقِ، وَعَزْلُهُ عَنْ مِلْكِهِ، فَلاَ يَكُونُ مَسْجِدًا، فَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُ، وَإِِنْ مَاتَ يُورَثُ عَنْهُ لأَِنَّهُ لَمْ يَخْلُصْ لِلَّهِ تَعَالَى، لِبَقَاءِ حَقِّ الْعَبْدِ مُتَعَلِّقًا بِهِ وَلَوْ كَانَ السِّرْدَابُ
__________
(1) المغني لابن قدامة 4 / 568 ط الرياض.
(2) المهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 448 ط دار المعرفة، ومواهب الجليل لشرح مختصر خليل 6 / 19 ط النجاح ليبيا، والمغني لابن قدامة 5 / 607 ط الرياض، وكشاف القناع 4 / 241 ط النصر الحديثة.(12/295)
لِمَصَالِحِ الْمَسْجِدِ جَازَ، كَمَا فِي مَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ (1) .
هَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، خِلاَفًا لِصَاحِبَيْهِ. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ يَجُوزُ جَعْل السُّفْل مَسْجِدًا وَعَلَيْهِ مَسْكَنٌ، وَلاَ يَجُوزُ الْعَكْسُ؛ لأَِنَّ الْمَسْجِدَ مِمَّا يَتَأَبَّدُ، وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ: عَكْسُ هَذَا؛ لأَِنَّ الْمَسْجِدَ مُعَظَّمٌ، وَإِِذَا كَانَ فَوْقَهُ مَسْكَنٌ أَوْ مُسْتَغِلٌّ فَيَتَعَذَّرُ تَعْظِيمُهُ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ جَوَّزَهُ فِي الْوَجْهَيْنِ حِينَ قَدِمَ بَغْدَادَ، وَرَأَى ضِيقَ الْمَنَازِل، فَكَأَنَّهُ اعْتَبَرَ الضَّرُورَةَ.
أَمَّا لَوْ تَمَّتِ الْمَسْجِدِيَّةُ ثُمَّ أَرَادَ الْبِنَاءَ مُنِعَ (2) .
نَقْبُ كُوَّةِ الْعُلْوِ أَوِ السُّفْل:
8 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِصَاحِبِ عُلْوٍ تَحْتَهُ سُفْلٌ لآِخَرَ أَنْ يَنْقُبَ كُوَّةً فِي عُلْوِهِ، وَكَذَا الْعَكْسُ، إِلاَّ بِرِضَا الآْخَرِ. وَذَهَبَ الصَّاحِبَانِ: إِِلَى أَنَّ لِكُلٍّ مِنْهُمَا فِعْل مَا لاَ يَضُرُّ بِالآْخَرِ، فَإِِنْ أَضَرَّ بِهِ مُنِعَ مِنْهُ، كَأَنْ يُشْرِفَ مِنَ الْكُوَّةِ عَلَى جَارِهِ وَعِيَالِهِ فَيَضُرُّ بِهِمْ، وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ إِِذَا أَشْكَل أَنَّهُ يَضُرُّ أَمْ لاَ؟ لاَ يَمْلِكُ فَتْحَهَا، وَإِِذَا عَلِمَ أَنَّهُ لاَ يَضُرُّ يَمْلِكُ فَتْحَهَا (3) .
__________
(1) فتح القدير 5 / 444، 445 دار إحياء التراث العربي، وحاشية ابن عابدين 3 / 370 - 371 دار إحياء التراث العربي.
(2) ابن عابدين والدر المختار 3 / 370.
(3) ابن عابدين 4 / 358 من مسائل شتى، والمهذب في الإمام الشافعي 1 / 342، وشرح روض الطالب من أسنى المطالب 2 / 223، والمغني لابن قدامة 4 / 554 ط الرياض، ومطالب أولي النهى 3 / 359 المكتبة الإسلامية.(12/296)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ: إِِلَى أَنَّهُ يُقْضَى عَلَى مَنْ أَحْدَث فَتْحَهَا بِسَدِّهَا إِِذَا لَمْ تَكُنْ عَالِيَةً، وَيُشْرِفُ مِنْهَا عَلَى جَارِهِ. وَأَمَّا الْقَدِيمَةُ فَلاَ يُقْضَى بِسَدِّهَا، وَيُقَال لِلْجَارِ: اسْتُرْ عَلَى نَفْسِكَ إِنْ شِئْت، فَقَدْ قَال الدُّسُوقِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّ الْكُوَّةَ الَّتِي أُحْدِثَ فَتْحُهَا يُقْضَى بِسَدِّهَا، وَإِِنْ أُرِيدَ سَدُّ خَلْفِهَا فَقَطْ بَعْدَ الأَْمْرِ بِسَدِّهَا فَإِِنَّهُ يُقْضَى بِسَدِّ جَمِيعِهَا، وَيُزَال كُل مَا يَدُل عَلَيْهَا.
وَهَذَا إِِذَا كَانَتْ غَيْرَ عَالِيَةٍ لاَ يَحْتَاجُ فِي كَشْفِ الْجَارِ مِنْهَا إِِلَى صُعُودٍ عَلَى سُلَّمٍ وَنَحْوِهِ، وَإِِلاَّ فَلاَ يُقْضَى بِسَدِّهَا.
وَإِِذَا سَكَتَ مَنْ حَدَثَ عَلَيْهِ فَتْحُ الْكُوَّةِ وَنَحْوِهَا عَشْرَ سِنِينَ - وَلَمْ يُنْكِرْ - جُبِرَ عَلَيْهِ، وَلاَ مَقَال لَهُ، حَيْثُ لَمْ يَكُنْ لَهُ عُذْرٌ فِي تَرْكِ الْقِيَامِ (الاِدِّعَاءِ) وَهَذَا قَوْل ابْنِ الْقَاسِمِ، وَبِهِ الْقَضَاءُ (1) .
تَعَلِّي الذِّمِّيِّ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي الْبِنَاءِ:
9 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ: فِي أَنَّ أَهْل الذِّمَّةِ
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 3 / 369، وجواهر الإكليل 2 / 122، والشرح الصغير 4 / 484، وتبصرة الحكام لابن فرحون 2 / 252 - 254 دار الكتب العلمية.(12/296)
مَمْنُوعُونَ مِنْ أَنْ تَعْلُوَ أَبْنِيَتُهُمْ عَلَى أَبْنِيَةِ جِيرَانِهِمُ الْمُسْلِمِينَ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ قَال الإِِْسْلاَمُ يَعْلُو وَلاَ يُعْلَى عَلَيْهِ (1) وَلأَِنَّ فِي ذَلِكَ رُتْبَةً عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَأَهْل الذِّمَّةِ مَمْنُوعُونَ مِنْ ذَلِكَ. عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْحَنَفِيَّةِ قَدْ ذَهَبَ: إِِلَى أَنَّهُ إِِذَا كَانَ التَّعَلِّي لِلْحِفْظِ مِنَ اللُّصُوصِ فَإِِنَّهُمْ لاَ يُمْنَعُونَ مِنْهُ؛ لأَِنَّ عِلَّةَ الْمَنْعِ مُقَيَّدَةٌ بِالتَّعَلِّي فِي الْبِنَاءِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَإِِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ - بَل لِلتَّحَفُّظِ - فَلاَ يُمْنَعُونَ (2) .
10 - وَأَمَّا مُسَاوَاتُهُمْ فِي الْبِنَاءِ، فَلِلْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ قَوْلاَنِ:
مَنَعَهُ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ، وَأَجَازَهُ بَعْضُهُمْ. فَقَدْ أَجَازَهُ الْمَالِكِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ اسْتِطَالَةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. وَمَنَعَهُ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الإِِْسْلاَمُ يَعْلُو وَلاَ يُعْلَى عَلَيْهِ (3) وَلأَِنَّهُمْ مُنِعُوا مِنْ مُسَاوَاةِ الْمُسْلِمِينَ فِي لِبَاسِهِمْ وَشُعُورِهِمْ وَرُكُوبِهِمْ، كَذَلِكَ فِي بِنَائِهِمْ.
__________
(1) حديث: " الإسلام يعلو ولا يعلى عليه " أخرجه الدارقطني (3 / 252 - ط دار المحاسن) وحسنه ابن حجر في الفتح (3 / 220 - ط السلفية) .
(2) ابن عابدين 3 / 276، 277، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 3 / 370، وحاشية العدوي بهامش الخرشي على مختصر خليل 6 / 61 دار صادر، والشرح الصغير 4 / 486، ونهاية المحتاج للرملي 8 / 94، والمهذب في فقه الإمام الشافعي 2 / 255، والمغني لابن قدامة 8 / 528، 533 ط الرياض.
(3) تقدم تخريحه في ف / 9.(12/297)
وَأَصَحُّ قَوْلَيِ الشَّافِعِيَّةِ: الْمَنْعُ، تَمْيِيزًا بَيْنَهُمْ؛ وَلأَِنَّ الْقَصْدَ أَنْ يَعْلُوَ الإِِْسْلاَمُ، وَلاَ يَحْصُل ذَلِكَ مَعَ الْمُسَاوَاةِ (1) .
11 - أَمَّا لَوِ اشْتَرَى الذِّمِّيُّ دَارًا عَالِيَةً مُجَاوِرَةً لِدَارِ مُسْلِمٍ دُونَهَا فِي الْعُلْوِ، فَلِلذِّمِّيِّ سُكْنَى دَارِهِ، وَلاَ يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، وَلاَ يَلْزَمُهُ هَدْمُ مَا عَلاَ دَارَ الْمُسْلِمِ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَعْل عَلَيْهِ شَيْئًا، إِلاَّ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ الإِِْشْرَافُ مِنْهَا عَلَى دَارِ الْمُسْلِمِ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَمْنَعَ صِبْيَانَهُ مِنْ طُلُوعِ سَطْحِهَا إِلاَّ بَعْدَ تَحْجِيرِهِ. أَيْ بِنَاءِ مَا يَمْنَعُ مِنَ الرُّؤْيَةِ.
فَإِِنِ انْهَدَمَتْ دَارُ الذِّمِّيِّ الْعَالِيَةِ ثُمَّ جَدَّدَ بِنَاءَهَا، لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُعَلِّيَ بِنَاءَهَا عَلَى بِنَاءِ الْمُسْلِمِ. وَإِِنِ انْهَدَمَ مَا عَلاَ مِنْهَا لَمْ تَكُنْ لَهُ إِعَادَتُهُ. هَذَا مَا عَلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ: الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ (2) .
12 - وَأَمَّا تَعْلِيَةُ بِنَائِهِ عَلَى مَنْ لَيْسَ مُجَاوِرًا لَهُ مِنَ
__________
(1) ابن عابدين 3 / 276، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 3 / 370، وحاشية العدوي بهامش الخرشي على مختصر خليل 6 / 61 دار صادر، وشرح الزرقاني على مختصر خليل 6 / 64، ونهاية المحتاج للرملي 8 / 95 ط الحلبي، والمهذب في فقه الإمام الشافعي 2 / 255 - 256، والمغني لابن قدامة 8 / 528 م الرياض الحديثة.
(2) ابن عابدين 3 / 276، ونهاية المحتاج للرملي 8 / 94، والمهذب في فقه الإمام الشافعي 2 / 256، والمغني لابن قدامة 8 / 528 - 529 ط الرياض، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 370، وحاشية العدوي بهامش الخرشي على مختصر خليل 6 / 61 دار صادر.(12/297)
الْمُسْلِمِينَ - فَإِِنَّهُ لاَ يُمْنَعُ مِنْهُ؛ لأَِنَّ عُلْوَهُ إِنَّمَا يَكُونُ ضَرَرًا عَلَى الْمُجَاوِرِ لِبِنَائِهِ دُونَ غَيْرِهِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةِ، مَا لَمْ يُشْرِفْ مِنْهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. وَلِلشَّافِعِيَّةِ فِي ذَلِكَ قَوْلاَنِ:
أَحَدُهُمَا: عَدَمُ الْمَنْعِ، وَهُوَ أَصَحُّهُمَا؛ لأَِنَّهُ يُؤْمَنُ مَعَ الْبُعْدِ بَيْنَ الْبِنَاءَيْنِ أَنْ يَعْلُوَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَلاِنْتِفَاءِ الضَّرَرِ.
وَالثَّانِي: الْمَنْعُ، لِمَا فِيهِ مِنَ التَّجَمُّل وَالشَّرَفِ؛ وَلأَِنَّهُمْ بِذَلِكَ يَتَطَاوَلُونَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ (1) .
__________
(1) ابن عابدين 3 / 276، 277، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 370، والمهذب في فقه الإمام الشافعي 2 / 256، ونهاية المحتاج 8 / 95، والمغني لابن قدامة 8 / 528 الرياض.(12/298)
تَعْلِيقٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّعْلِيقُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ عَلَّقَ، يُقَال: عَلَّقَ الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ، وَمِنْهُ، وَعَلَيْهِ تَعْلِيقًا: نَاطَهُ بِهِ (1) . وَالتَّعْلِيقُ فِي الاِصْطِلاَحِ: هُوَ رَبْطُ حُصُول مَضْمُونِ جُمْلَةٍ بِحُصُول مَضْمُونِ جُمْلَةٍ أُخْرَى. وَيُسَمَّى يَمِينًا مَجَازًا، لأَِنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ شَرْطٌ وَجَزَاءٌ، وَلِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى السَّبَبِيَّةِ كَالْيَمِينِ (2) . وَالتَّعْلِيقُ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ: حَذْفُ رَاوٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنِ ابْتِدَاءِ السَّنَدِ (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الإِِْضَافَةُ:
2 - الإِِْضَافَةُ فِي اللُّغَةِ تَأْتِي بِمَعْنَى: الضَّمِّ، وَالإِِْمَالَةِ، وَالإِِْسْنَادِ، وَالتَّخْصِيصِ (4) .
__________
(1) لسان العرب.
(2) حاشية ابن عابدين 2 / 492 ط المصرية، والكليات 2 / 5 ط دمشق.
(3) مقدمة ابن الصلاح / 20 ط العلمية.
(4) المصباح، والقاموس المحيط، والصحاح.(12/298)
وَأَمَّا الإِِْضَافَةُ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ فَإِِنَّهُمْ يَسْتَعْمِلُونَهَا بِمَعْنَى: الإِِْسْنَادِ وَالتَّخْصِيصِ. فَإِِذَا قِيل: الْحُكْمُ مُضَافٌ إِِلَى فُلاَنٍ، أَوْ صِفَتُهُ كَذَا، كَانَ ذَلِكَ إِسْنَادًا إِلَيْهِ. وَإِِذَا قِيل: الْحُكْمُ مُضَافٌ إِِلَى زَمَانِ كَذَا، كَانَ تَخْصِيصًا لَهُ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الإِِْضَافَةِ وَالتَّعْلِيقِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ التَّعْلِيقَ يَمِينٌ، وَهِيَ لِلْبِرِّ إِعْدَامُ مُوجِبِ الْمُعَلَّقِ، وَلاَ يُفْضِي إِِلَى الْحُكْمِ. أَمَّا الإِِْضَافَةُ فَلِثُبُوتِ حُكْمِ السَّبَبِ فِي وَقْتِهِ، لاَ لِمَنْعِهِ، فَيَتَحَقَّقُ السَّبَبُ بِلاَ مَانِعٍ، إِذِ الزَّمَانُ مِنْ لَوَازِمِ الْوُجُودِ.
وَثَانِيهِمَا: أَنَّ الشَّرْطَ عَلَى خَطَرٍ، وَلاَ خَطَرَ فِي الإِِْضَافَةِ. وَفِي هَذَيْنِ الْفَرْقَيْنِ مُنَازَعَةٌ تُنْظَرُ فِي كُتُبِ الأُْصُول (1) .
ب - الشَّرْطُ:
3 - الشَّرْطُ - بِسُكُونِ الرَّاءِ - لَهُ عَدَدٌ مِنَ الْمَعَانِي، وَمِنْ بَيْنِ تِلْكَ الْمَعَانِي: إِلْزَامُ الشَّيْءِ وَالْتِزَامُهُ. قَال فِي الْقَامُوسِ: الشَّرْطُ إِلْزَامُ الشَّيْءِ وَالْتِزَامُهُ فِي الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ، كَالشَّرِيطَةِ.
وَأَمَّا بِفَتْحِ الرَّاءِ فَمَعْنَاهُ: الْعَلاَمَةُ، وَيُجْمَعُ عَلَى أَشْرَاطٍ. . كَسَبَبٍ وَأَسْبَابٍ (2) .
__________
(1) تيسير التحرير 1 / 128 - 129 ط الحلبي، وفتح الغفار على المنار 2 / 55 - 56، وانظر مصطلح (إضافة) (الموسوعة الفقهية ج 5 / 66) .
(2) القاموس المحيط، والمصباح المنير.(12/299)
وَالشَّرْطُ فِي الاِصْطِلاَحِ نَوْعَانِ:
الأَْوَّل: الشَّرْطُ الشَّرْعِيُّ، وَهُوَ مَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الْعَدَمِ، وَلاَ يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ وُجُودٌ وَلاَ عَدَمٌ لِذَاتِهِ. وَهُوَ أَنْوَاعٌ: شَرْطٌ لِلْوُجُوبِ، وَشَرْطٌ لِلاِنْعِقَادِ، وَشَرْطٌ لِلصِّحَّةِ، وَشَرْطٌ لِلُّزُومِ، وَشَرْطٌ لِلنَّفَاذِ. إِِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الشُّرُوطِ الشَّرْعِيَّةِ الْمُعْتَبَرَةِ.
وَالنَّوْعُ الآْخَرُ: الشَّرْطُ الْجَعْلِيُّ، وَهُوَ: الْتِزَامُ أَمْرٍ لَمْ يُوجَدْ فِي أَمْرٍ قَدْ وُجِدَ بِصِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ - كَمَا قَال الْحَمَوِيُّ - وَهُوَ مَا يَشْتَرِطُهُ الْمُتَعَاقِدَانِ فِي تَصَرُّفَاتِهِمَا.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّعْلِيقِ وَالشَّرْطِ - كَمَا قَال الزَّرْكَشِيُّ -: أَنَّ التَّعْلِيقَ مَا دَخَل عَلَى أَصْل الْفِعْل بِأَدَاتِهِ كَإِِنْ وَإِِذَا، وَالشَّرْطُ مَا جُزِمَ فِيهِ بِالأَْصْل وَشَرْطُ فِيهِ أَمْرٌ آخَرُ.
وَقَال الْحَمَوِيُّ: الْفَرْقُ أَنَّ التَّعْلِيقَ تَرْتِيبُ أَمْرٍ لَمْ يُوجَدْ عَلَى أَمْرٍ يُوجَدُ بِإِِنْ أَوْ إِحْدَى أَخَوَاتِهَا، وَالشَّرْطُ الْتِزَامُ أَمْرٍ لَمْ يُوجَدْ فِي أَمْرٍ وُجِدَ بِصِيغَةٍ مَخْصُوصَةٍ (1) .
ج - الْيَمِينُ:
4 - الْيَمِينُ وَالْقَسَمُ وَالإِِْيلاَءُ وَالْحَلِفُ أَلْفَاظٌ مُتَرَادِفَةٌ، أَوْ أَنَّ الْحَلِفَ أَعَمُّ (2)
__________
(1) حاشية الحموي 2 / 225 ط العامرة، والمنثور للزركشي 1 / 370 ط الفليج، وانظر مصطلح (شرط) .
(2) حاشية قليوبي 4 / 270 ط الحلبي.(12/299)
وَمَعْنَى الْيَمِينِ فِي اللُّغَةِ: الْجِهَةُ وَالْجَارِحَةُ وَالْقُوَّةُ وَالشِّدَّةُ، وَيُسَمَّى بِهِ الْحَلِفُ مَجَازًا (1) . وَأَمَّا فِي الشَّرْعِ فَهِيَ: عِبَارَةٌ عَنْ عَقْدٍ قَوِيٍّ بِهِ عَزَمَ الْحَالِفُ عَلَى الْفِعْل أَوِ التَّرْكِ. وَقَال الْبُهُوتِيُّ: إِنَّهَا تَوْكِيدُ الْحُكْمِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ بِذِكْرٍ مُعَظَّمٍ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ.
وَبَيْنَ التَّعْلِيقِ وَالْيَمِينِ تَشَابُهٌ؛ لأَِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا فِيهِ حَمْلٌ لِلنَّفْسِ عَلَى فِعْل الشَّيْءِ أَوْ تَرْكِهِ، وَمَا سُمِّيَ الْحَلِفُ بِاللَّهِ تَعَالَى يَمِينًا إِلاَّ لإِِِفَادَتِهِ الْقُوَّةَ عَلَى الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ مِنَ الْفِعْل أَوِ التَّرْكِ.
وَالْيَمِينُ تَنْقَسِمُ بِحَسَبِ صِيغَتِهَا إِِلَى يَمِينٍ مُنَجَّزَةٍ بِالصِّيغَةِ الأَْصْلِيَّةِ لِلْيَمِينِ، نَحْوُ: وَاللَّهِ لأََفْعَلَن. وَيَمِينٌ بِالتَّعْلِيقِ، وَهِيَ: أَنْ يُرَتِّبَ الْمُتَكَلِّمُ جَزَاءً مَكْرُوهًا لَهُ فِي حَالَةِ مُخَالَفَةِ الْوَاقِعِ، أَوْ تَخَلُّفِ الْمَقْصُودِ (2) .
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (أَيْمَانٌ) (3)
صِيغَةُ التَّعْلِيقِ:
5 - يَكُونُ التَّعْلِيقُ بِكُل مَا يَدُل عَلَى رَبْطِ حُصُول مَضْمُونِ جُمْلَةٍ بِحُصُول مَضْمُونِ جُمْلَةٍ أُخْرَى، سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ الرَّبْطُ بِأَدَاةٍ مِنْ أَدَوَاتِ
__________
(1) المصباح المنير.
(2) ابن عابدين 3 / 45 ط المصرية، وجواهر الإكليل 1 / 224 ط دار المعرفة، وحاشية قليوبي 4 / 270، وكشاف القناع 6 / 228 النصر.
(3) الموسوعة الفقهية ج 7 / 247.(12/300)
الشَّرْطِ، أَمْ بِغَيْرِهَا مِمَّا يَقُومُ مَقَامَهَا، كَمَا لَوْ دَل سِيَاقُ الْكَلاَمِ عَلَى الاِرْتِبَاطِ دَلاَلَةَ كَلِمَةِ الشَّرْطِ عَلَيْهِ.
وَمِثَال الرَّبْطِ بَيْنَ جُمْلَتَيِ التَّعْلِيقِ بِأَدَاةٍ مِنْ أَدَوَاتِ الشَّرْطِ: قَوْل الزَّوْجِ لِزَوْجَتِهِ: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَقَدْ رَتَّبَ وُقُوعَ الطَّلاَقِ عَلَى دُخُولِهَا الدَّارَ، فَإِِنْ دَخَلَتْ وَقَعَ الطَّلاَقُ، وَإِِلاَّ فَلاَ. وَمِثَال الرَّبْطِ بَيْنَ جُمْلَتَيِ التَّعْلِيقِ بِلاَ أَدَاةِ شَرْطٍ: هُوَ قَوْل الْقَائِل مَثَلاً: الرِّبْحُ الَّذِي سَيَعُودُ إِلَيَّ مِنْ تِجَارَتِي هَذَا الْعَامِ وَقْفٌ عَلَى الْفُقَرَاءِ، فَقَدْ رَتَّبَ حُصُول الْوَقْفِ عَلَى حُصُول الرِّبْحِ بِلاَ أَدَاةِ شَرْطٍ؛ لأَِنَّ مِثْل هَذَا الأُْسْلُوبِ يَقُومُ مَقَامَ أَدَاةِ الشَّرْطِ (1) .
وَالْمُرَادُ بِالشَّرْطِ الَّذِي تُسْتَعْمَل فِيهِ أَدَاتُهُ لِلرَّبْطِ بَيْنَ جُمْلَتَيِ التَّعْلِيقِ: الشَّرْطُ اللُّغَوِيُّ؛ لأَِنَّ ارْتِبَاطَ الْجُمْلَتَيْنِ النَّاشِئَ عَنْهُ كَارْتِبَاطِ الْمُسَبَّبِ بِالسَّبَبِ (2) .
أَدَوَاتُ التَّعْلِيقِ:
6 - الْمُرَادُ بِهَا: كُل أَدَاةٍ تَدُل عَلَى رَبْطِ حُصُول مَضْمُونٍ بِحُصُول مَضْمُونِ جُمْلَةٍ أُخْرَى، سَوَاءٌ أَكَانَتْ مِنْ أَدَوَاتِ الشَّرْطِ الْجَازِمَةِ أَمْ مِنْ غَيْرِهَا. وَتِلْكَ الأَْدَوَاتُ كَمَا جَاءَ فِي الْمُغْنِي عِنْدَ الْكَلاَمِ
__________
(1) تبيين الحقائق 2 / 233 ط دار المعرفة.
(2) الفروق للقرافي 1 / 60، 61 ط دار إحياء الكتب العربية.(12/300)
عَلَى تَعْلِيقِ الطَّلاَقِ بِالشَّرْطِ، (إِنْ) (وَإِِذَا) (وَمَتَى) (وَمَنْ) (وَأَيْ) وَ (كُلَّمَا) .
وَزَادَ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ (مَتَى مَا) (وَمَهْمَا) . وَزَادَ صَاحِبُ مُسْلِمٍ الثُّبُوتَ (لَوْ) (وَكَيْفَ) . (1)
وَزَادَ السَّرَخْسِيُّ فِي أُصُولِهِ وَالْبَزْدَوِيُّ فِي أُصُولِهِ وَصَاحِبُ فَتْحِ الْغَفَّارِ وَصَاحِبُ كَشَّافِ الْقِنَاعِ (حَيْثُ) ، وَذَكَرَ صَاحِبُ فَتْحِ الْغَفَّارِ وَصَاحِبُ كَشَّافِ الْقِنَاعِ أَيْضًا أَنْ (أَيْنَ) مِنْ صِيَغِ التَّعْلِيقِ.
وَزَادَ صَاحِبُ كَشَّافِ الْقِنَاعِ أَيْضًا (أَنَّى) وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ (إِنْ) .
وَفِيمَا يَلِي بَعْضُ مَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ فِي كُل أَدَاةٍ مِنْ هَذِهِ الأَْدَوَاتِ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ وَمِنْ حَيْثُ التَّعْلِيقُ.
أ - إِنْ:
7 - إِنِ الشَّرْطِيَّةُ هِيَ الْمُسْتَعْمَلَةُ فِي الرَّبْطِ بَيْنَ جُمْلَتَيِ التَّعْلِيقِ، فَإِِنَّهَا أَصْلٌ فِي التَّعْلِيقِ وَفِي حُرُوفِ الشَّرْطِ وَأَدَوَاتِهِ، لِتَمَحُّضِهَا لِلتَّعْلِيقِ وَالشَّرْطِ، فَلَيْسَ لَهَا مَعْنًى آخَرُ سِوَى الشَّرْطِ وَالتَّعْلِيقِ، بِخِلاَفِ غَيْرِهَا مِنْ أَدَوَاتِ الشَّرْطِ
__________
(1) المغني لابن قدامة 7 / 193 ط الرياض، والروضة 8 / 128 ط المكتب الإسلامي، ومسلم الثبوت 1 / 248، 249 دار صادر.(12/301)
كَإِِذَا وَمَتَى، فَإِِنَّ لَهَا مَعَانِيَ أُخْرَى تُسْتَعْمَل فِيهَا إِِلَى جَانِبِ الشَّرْطِ. (1)
وَتُسْتَعْمَل إِنْ وَغَيْرُهَا مِنَ الأَْدَوَاتِ الْجَازِمَةِ الْمُشَابِهَةِ لَهَا فِي أَمْرٍ مُتَرَدِّدٍ عَلَى خَطَرِ الْوُجُودِ، أَيْ: بَيْنَ أَنْ يَكُونَ وَأَنْ لاَ يَكُونَ. وَلاَ تُسْتَعْمَل فِيمَا هُوَ قَطْعِيُّ الْوُجُودِ، أَوْ قَطْعِيُّ الاِنْتِفَاءِ، إِلاَّ عَلَى تَنْزِيلِهِمَا مَنْزِلَةَ الْمَشْكُوكِ لِنُكْتَةٍ. (2)
8 - وَيَتَرَتَّبُ عَلَى كَوْنِ (إِنْ) لِلشَّرْطِ الْمَحْضِ: أَنَّهُ لَوْ عَلَّقَ طَلاَقَ امْرَأَتِهِ بِعَدَمِ تَطْلِيقِهِ لَهَا، بِأَنْ قَال: إِنْ لَمْ أُطَلِّقْكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى يَمُوتَ أَحَدُهُمَا قَبْل أَنْ يُطَلِّقَهَا؛ لأَِنَّ إِنْ لِلشَّرْطِ، وَأَنَّهُ جَعَل عَدَمَ إِيقَاعِ الطَّلاَقِ عَلَيْهَا شَرْطًا، وَلاَ يُتَيَقَّنُ وُجُودُ هَذَا الشَّرْطِ مَا بَقِيَا حَيَّيْنِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: إِنْ لَمْ آتِ الْبَصْرَةَ فَأَنْتِ طَالِقٌ. ثُمَّ إِنْ مَاتَ الزَّوْجُ وَقَعَ الطَّلاَقُ عَلَيْهَا قَبْل مَوْتِهِ بِقَلِيلٍ، وَلَيْسَ لِذَلِكَ الْقَلِيل حَدٌّ مَعْرُوفٌ. وَلَكِنْ قُبَيْل مَوْتِهِ يَتَحَقَّقُ عَجْزُهُ عَنْ إِيقَاعِ الطَّلاَقِ عَلَيْهَا، فَيَتَحَقَّقُ شَرْطُ الْحِنْثِ. فَإِِنْ كَانَ لَمْ يَدْخُل بِهَا فَلاَ
__________
(1) مغني اللبيب 1 / 17 - 24 ط دار الفكر بدمشق، وفتح الغفار 2 / 35 ط الحلبي، وبدائع الصنائع 3 / 21 ط الجمالية، وكشف الأسرار للبزدوي 2 / 192 ط دار الكتاب العربي.
(2) التلويح على التوضيح 1 / 120 ط صبيح، وتيسير التحرير 2 / 120 ط الحلبي، وأصول السرخسي 1 / 231 ط دار الكتاب العربي، ومسلم الثبوت 1 / 248 ط دار صادر، وكشف الأسرار للبزدوي 2 / 193 ط دار الكتاب العربي، والقرطبي 5 / 403 ط دار الكتب المصرية.(12/301)
مِيرَاثَ لَهَا، وَإِِنْ كَانَ قَدْ دَخَل بِهَا، فَلَهَا الْمِيرَاثُ بِحُكْمِ الْفِرَارِ. (1) وَإِِنْ مَاتَتِ الْمَرْأَةُ تَطْلُقُ أَيْضًا فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ بِلاَ فَصْلٍ - كَمَا فِي أُصُول السَّرَخْسِيِّ - لأَِنَّ فِعْل التَّطْلِيقِ لاَ يَتَحَقَّقُ بِدُونِ الْمَحَل، وَبِفَوَاتِ الْمَحَل يَتَحَقَّقُ الشَّرْطُ.
وَذَكَرَ ابْنُ قُدَامَةَ أَنَّهُ لَوْ عَلَّقَ الطَّلاَقَ بِالنَّفْيِ بِإِِحْدَى كَلِمَاتِ الشَّرْطِ، كَانَتْ (إِنْ) عَلَى التَّرَاخِي، وَأَمَّا غَيْرُهَا (كَمَتَى وَمَنْ وَكُلَّمَا وَأَيُّ) فَإِِنَّهُ يَكُونُ عَلَى الْفَوْرِ. (2)
وَالتَّفْصِيل مَحَلُّهُ مُصْطَلَحُ: (طَلاَقٌ) .
ب - إِِذَا:
9 - (إِِذَا) تَرِدُ فِي اللُّغَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ لِلْمُفَاجَأَةِ، فَتَخْتَصُّ بِالْجُمَل الاِسْمِيَّةِ، وَلاَ تَحْتَاجُ إِِلَى جَوَابٍ، وَلاَ تَقَعُ فِي الاِبْتِدَاءِ، وَمَعْنَاهَا الْحَال لاَ الاِسْتِقْبَال.
ثَانِيهِمَا: أَنْ تَكُونَ لِغَيْرِ مُفَاجَأَةٍ، فَالْغَالِبُ أَنْ تَكُونَ ظَرْفًا لِلْمُسْتَقْبَل مُضَمَّنَةً مَعْنَى الشَّرْطِ. (3)
وَخُلاَصَةُ الْقَوْل فِي إِِذَا: أَنَّهَا تُسْتَعْمَل عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ فِي مَعْنَى الْوَقْتِ، وَفِي مَعْنَى الشَّرْطِ،
__________
(1) كشف الأسرار للبزدوي 2 / 193.
(2) أصول السرخسي 1 / 231 ط دار الكتاب العربي، والمغني 7 / 193، والقليوبي 3 / 352.
(3) مغني اللبيب 1 / 92 ط دار الفكر بدمشق.(12/302)
وَإِِذَا اسْتُعْمِلَتْ فِي مَعْنَى الشَّرْطِ سَقَطَ عَنْهَا مَعْنَى الْوَقْتِ، وَصَارَتْ حَرْفًا كَإِِنْ، وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَقَدْ سَبَقَ.
وَعِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ هِيَ حَقِيقَةٌ فِي الْوَقْتِ، وَتُسْتَعْمَل فِي الشَّرْطِ مَعَ بَقَاءِ الْوَقْتِ، وَهُوَ قَوْل أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، فَعِنْدَهُمَا أَنَّهَا مِثْل مَتَى، أَيْ لاَ يَسْقُطُ عَنْهَا مَعْنَى الظَّرْفِ، وَعِنْدَهُ أَنَّهَا كَإِِنْ فِي التَّمَحُّضِ لِلشَّرْطِيَّةِ، فَلاَ يَبْقَى فِيهَا مَعْنَى الظَّرْفِ. (1)
10 - وَيَتَرَتَّبُ عَلَى الْخِلاَفِ بَيْنَ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ: أَنَّهُ لَوْ قَال: إِِذَا لَمْ أُطَلِّقْكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ إِِذَا مَا لَمْ أُطَلِّقْكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَإِِنْ عَنَى بِهَا الْوَقْتَ تَطْلُقُ فِي الْحَال، وَإِِنْ عَنَى بِهَا الشَّرْطَ لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى تَمُوتَ، وَإِِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى تَمُوتَ. وَهَذَا عَلَى قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ (إِِذَا) إِنِ اسْتُعْمِلَتْ فِي مَعْنَى الشَّرْطِ سَقَطَ عَنْهَا مَعْنَى الْوَقْتِ، وَهُوَ رَأْيُ الْكُوفِيِّينَ.
وَأَمَّا عَلَى قَوْل أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فَإِِنَّهَا تَطْلُقُ فِي الْحَال عِنْدَ عَدَمِ النِّيَّةِ، بِنَاءً عَلَى رَأْيِ الْبَصْرِيِّينَ فِي أَنَّ إِِذَا تُسْتَعْمَل لِلْوَقْتِ غَالِبًا، وَتُقْرَنُ بِمَا لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى الْخَطَرِ، فَإِِنَّهُ يُقَال: الرَّطْبُ إِِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ، وَالْبَرْدُ إِِذَا جَاءَ الشِّتَاءُ. وَلاَ يَسْتَقِيمُ مَكَانُهَا إِنْ. (2)
وَجَاءَ فِي الْمُغْنِي: أَيْضًا وَجْهَانِ فِي (إِِذَا) فِيمَا لَوْ
__________
(1) التلويح 1 / 121 ط صبيح.
(2) أصول السرخسي 1 / 232 ط دار الكتاب العربي.(12/302)
قَال: إِِذَا لَمْ تَدْخُلِي الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ.
أَحَدُهُمَا: هِيَ عَلَى التَّرَاخِي، وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ، وَنَصَرَهُ الْقَاضِي؛ لأَِنَّهَا تُسْتَعْمَل شَرْطًا. بِمَعْنَى إِنْ. قَال الشَّاعِرُ:
اسْتَغْنِ مَا أَغْنَاكَ رَبُّكَ بِالْغِنَى
وَإِِذَا تُصِبْكَ خَصَاصَةٌ فَتَجَمَّل
فَجَزَمَ بِهَا كَمَا يَجْزِمُ بِإِِنْ، وَلأَِنَّهَا تُسْتَعْمَل بِمَعْنَى مَتَى وَإِِنْ، وَإِِذَا احْتَمَلَتِ الأَْمْرَيْنِ فَالْيَقِينُ بَقَاءُ النِّكَاحِ فَلاَ يَزُول بِالاِحْتِمَال.
وَالْوَجْهُ الآْخَرُ: أَنَّهَا عَلَى الْفَوْرِ، وَهُوَ قَوْل أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنِ الشَّافِعِيِّ لأَِنَّهَا اسْمٌ لِزَمَنٍ مُسْتَقْبَلٍ، فَتَكُونُ كَمَتَى. وَأَمَّا الْمُجَازَاةُ بِهَا فَلاَ تُخْرِجْهَا مِنْ مَوْضُوعِهَا.
وَأَمَّا إِِذَا عَلَّقَ التَّصَرُّفَ بِإِِيجَادِ فِعْلٍ بِإِِذَا، كَقَوْلِهِ مَثَلاً: إِِذَا دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَإِِنَّهَا تَكُونُ عَلَى التَّرَاخِي كَغَيْرِهَا مِنْ أَدَوَاتِ التَّعْلِيقِ.
وَقَدِ اطَّرَدَ فِي عُرْفِ أَهْل الْيَمَنِ - كَمَا جَاءَ فِي نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ - اسْتِعْمَالُهُمْ إِِلَى بِمَعْنَى إِِذَا كَقَوْلِهِمْ: إِِلَى دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ. وَلِهَذَا أَلْحَقَهَا غَيْرُ وَاحِدٍ بِإِِذَا فِي الاِسْتِعْمَال. (1)
ج - مَتَى:
11 - وَهِيَ اسْمٌ بِاتِّفَاقِ مَوْضُوعٌ لِلدَّلاَلَةِ عَلَى
__________
(1) المغني 7 / 193 - 194 ط الرياض، ونهاية المحتاج 7 / 17، 22 ط المكتبة الإسلامية.(12/303)
الزَّمَانِ ثُمَّ ضُمِّنَ مَعْنَى الشَّرْطِ. (1)
وَالْفَرْقُ بَيْنَ إِِذَا وَمَتَى: أَنَّ إِِذَا تُسْتَعْمَل فِي الأُْمُورِ الْوَاجِبِ وُجُودُهَا، كَطُلُوعِ الشَّمْسِ وَمَجِيءِ الْغَدِ، بِخِلاَفِ مَتَى، فَإِِنَّهَا تُسْتَعْمَل فِي الأُْمُورِ الْمُبْهَمَةِ، أَيْ فِيمَا يَكُونُ وَفِيمَا لاَ يَكُونُ، بِمَعْنَى أَنَّهَا لاَ تَخُصُّ وَقْتًا دُونَ وَقْتٍ، فَلِذَلِكَ كَانَتْ مُشَارَكَةً ل (إِنْ) فِي الإِِْبْهَامِ، وَلِهَذَا أَيْضًا كَانَتِ الْمُجَازَاةُ بِهَا لاَزِمَةً فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الاِسْتِفْهَامِ كَإِِنْ، إِلاَّ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ مَتَى وَإِِنْ أَنَّ (مَتَى) يُجَازَى بِهَا مَعَ بَقَاءِ مَعْنَى الْوَقْتِ فِيهَا، وَأَمَّا مَتَى الاِسْتِفْهَامِيَّةُ فَإِِنَّهَا لاَ يُجَازَى بِهَا؛ لأَِنَّ الاِسْتِفْهَامَ عِبَارَةٌ عَنْ طَلَبِ الْفَهْمِ عَنْ وُجُودِ الْفِعْل، فَلاَ يَسْتَقِيمُ فِي مَقَامِهِ إِضْمَارُ حَرْفِ إِنْ. (2)
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لَوْ عَلَّقَ التَّصَرُّفَ بِإِِيجَادِ فِعْلٍ بِمَتَى فَإِِنَّهَا تَكُونُ عَلَى التَّرَاخِي، فَمَنْ قَال لِزَوْجَتِهِ: مَتَى تَدْخُلِي الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَإِِنَّ الطَّلاَقَ لاَ يَقَعُ إِلاَّ عِنْدَ وُجُودِ الصِّفَةِ أَوِ الْفِعْل وَهُوَ الدُّخُول، أَمَّا إِِذَا عَلَّقَ التَّصَرُّفَ بِنَفْيِ صِفَةٍ بِمَتَى، كَمَا إِِذَا قَال: مَتَى لَمْ أُطَلِّقْكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ مَتَى لَمْ تَدْخُلِي الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَإِِنَّهُ إِنْ مَضَى زَمَنٌ عُقَيْبَ الْيَمِينِ لَمْ تَدْخُل فِيهِ أَوْ لَمْ يُطَلِّقْهَا فِيهِ فَقَدْ وُجِدَتِ الصِّفَةُ، فَإِِنَّهَا اسْمٌ لِوَقْتِ
__________
(1) شرح التصريح على التوضيح 2 / 248 ط الحلبي، وكشف الأسرار للبزدوي 2 / 196 ط دار الكتاب العربي.
(2) التلويح 1 / 121، وكشف الأسرار 2 / 196.(12/303)
الْفِعْل، فَتُقَدَّرُ بِهِ وَيَقَعُ الطَّلاَقُ. (1)
12 - وَمِثْل مَتَى فِي الْحُكْمِ (مَتَى مَا) فَكُل مَا قِيل فِي مَتَى يُقَال أَيْضًا فِي (مَتَى مَا) ، فَحُكْمُهَا فِي الشَّرْطِ كَحُكْمِ مَتَى بَل أَوْلَى؛ لأَِنَّ اقْتِرَانَ (مَا) بِهَا يَجْعَلُهَا لِلْجَزَاءِ الْمَحْضِ دُونَ غَيْرِهِ كَالاِسْتِفْهَامِ. (2)
د - مَنْ:
13 - وَهِيَ اسْمٌ بِاتِّفَاقٍ وُضِعَ لِلدَّلاَلَةِ عَلَى مَنْ يَعْقِل، ثُمَّ ضُمِّنَ مَعْنَى الشَّرْطِ. (3) وَهِيَ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ بِوَضْعِ اللُّغَةِ، وَهِيَ تَعُمُّ بِنَفْسِهَا مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إِِلَى قَرِينَةٍ، وَهِيَ كَمَا قَال الْبَيْضَاوِيُّ عَامَّةٌ فِي الْعَالِمِينَ أَيْ: أُولِي الْعِلْمِ، لِتَشْمَل الْعُقَلاَءَ وَالذَّاتَ الإِِْلَهِيَّةَ، لأَِنَّ (مَنْ) تُطْلَقُ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ} (4) وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُوصَفُ بِالْعِلْمِ وَلاَ يُوصَفُ بِالْعَقْل، وَهُوَ مَعْنًى حَسَنٌ غَفَل عَنْهُ الشَّارِحُونَ، كَمَا قَال الإِِْسْنَوِيُّ (5) .
قَال عَبْدُ الْعَزِيزِ الْبُخَارِيُّ فِي كَشْفُ الأَْسْرَارِ شَرْحُ أُصُول الْبَزْدَوِيِّ مَا نَصُّهُ: وَمَنْ وَمَا يَدْخُلاَنِ
__________
(1) المغني 7 / 193، ونهاية المحتاج 7 / 22.
(2) كشف الأسرار وأصول السرخسي 1 / 233، والروضة 8 / 128.
(3) التصريح على التوضيح 2 / 248 ط الحلبي.
(4) سورة الحجر / 20.
(5) الأسنوي مع شرح البدخشي 2 / 65، 66 ط صبيح.(12/304)