تَحَمُّلٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّحَمُّل فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ تَحَمَّل الشَّيْءَ أَيْ: حَمَلَهُ، وَلاَ يُطْلَقُ إِلاَّ عَلَى مَا فِي حَمْلِهِ كُلْفَةٌ وَمَشَقَّةٌ، يُقَال: رَجُلٌ حَمَّالٌ يَحْمِل الْكَل عَنِ النَّاسِ. (1)
وَفِي الأَْثَرِ: لاَ تَحِل الْمَسْأَلَةُ إِلاَّ لِثَلاَثٍ مِنْهَا: رَجُلٌ تَحَمَّل حَمَالَةً عَنْ قَوْمٍ.
وَفِي تَسْمِيَةِ مَا قَدْ يُطْلَبُ مِنَ الشَّخْصِ الشَّهَادَةُ فِيهِ تَحَمُّلاً، إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الشَّهَادَةَ مِنْ أَعْلَى الأَْمَانَاتِ الَّتِي يَحْتَاجُ حَمْلُهَا إِلَى كُلْفَةٍ وَمَشَقَّةٍ. (2)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ الشَّرْعِيِّ: التَّحَمُّل: الْتِزَامُ أَمْرٍ وَجَبَ عَلَى الْغَيْرِ ابْتِدَاءً بِاخْتِيَارِهِ، أَوْ قَهْرًا مِنَ الشَّرْعِ (3) .
حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - التَّحَمُّل يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ بِاخْتِلاَفِ مَوَاضِعِهِ،
__________
(1) لسان العرب مادة: " حمل ".
(2) تحفة المحتاج 8 / 480.
(3) الإنصاف 12 / 124 بتصرف.(10/262)
فَهُوَ فِي الشَّهَادَةِ فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَهُوَ وَاجِبٌ عَيْنِيٌّ عَلَى الْعَاقِلَةِ فِي دِيَةِ الْخَطَأِ وَشِبْهِ الْعَمْدِ.
أَوَّلاً - تَحَمُّل الشَّهَادَةِ:
3 - اتَّفَقَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ تَحَمُّل الشَّهَادَةِ فَرْضُ كِفَايَةٍ فِي غَيْرِ الْحُدُودِ، كَالنِّكَاحِ وَالإِْقْرَارِ بِأَنْوَاعِهِ، وَذَلِكَ لِلْحَاجَةِ إِلَى الشَّهَادَةِ، وَلِتَوَقُّفِ انْعِقَادِ النِّكَاحِ عَلَيْهَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} (1) وَسُمُّوا شُهَدَاءَ بِاعْتِبَارِ مَا سَيَئُول إِلَيْهِ أَمْرُهُمْ، فَإِنْ قَامَ بِالتَّحَمُّل الْعَدَدُ الْمُعْتَبَرُ فِي الشَّهَادَةِ سَقَطَ الْحَرَجُ عَنِ الْبَاقِينَ، وَإِلاَّ أَثِمُوا جَمِيعًا. هَذَا إِذَا كَانُوا كَثِيرِينَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ إِلاَّ الْعَدَدُ اللاَّزِمُ لِلشَّهَادَةِ تَعَيَّنَ عَلَيْهِمْ (2) .
الاِمْتِنَاعُ عَنْ تَحَمُّل الشَّهَادَةِ:
4 - إِذَا دُعِيَ الْمُكَلَّفُ إِلَى تَحَمُّل شَهَادَةٍ فِي نِكَاحٍ أَوْ دَيْنٍ أَوْ غَيْرِهِ لَزِمَتْهُ الإِْجَابَةُ. وَإِنْ كَانَتْ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ فَدُعِيَ إِلَى أَدَائِهَا لَزِمَهُ ذَلِكَ. فَإِنْ قَامَ بِالْفَرْضِ فِي التَّحَمُّل أَوِ الأَْدَاءِ اثْنَانِ سَقَطَ الإِْثْمُ عَنِ الْجَمِيعِ، وَإِنِ امْتَنَعَ الْكُل أَثِمُوا، وَإِنَّمَا يَأْثَمُ الْمُمْتَنِعُ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ضَرَرٌ، وَكَانَتْ شَهَادَتُهُ تَنْفَعُ، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ ضَرَرٌ فِي التَّحَمُّل أَوِ الأَْدَاءِ،
__________
(1) سورة البقرة / 282.
(2) المغني 9 / 149، وتحفة المحتاج 8 / 480، والزرقاني 7 / 190.(10/262)
أَوْ كَانَ مِمَّنْ لاَ تُقْبَل شَهَادَتُهُ، أَوْ يَحْتَاجُ إِلَى التَّبَذُّل فِي التَّزْكِيَةِ وَنَحْوِهَا لَمْ يَلْزَمْهُ، لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ} (1) وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ (2) وَلأَِنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ أَنْ يَضُرَّ بِنَفْسِهِ لِنَفْعِ غَيْرِهِ، وَإِذَا كَانَ مِمَّنْ لاَ تُقْبَل شَهَادَتُهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ مَقْصُودَ الشَّهَادَةِ لاَ يَحْصُل مِنْهُ، وَهَل يَأْثَمُ بِالاِمْتِنَاعِ إِذَا وُجِدَ غَيْرُهُ مِمَّنْ يَقُومُ مَقَامَهُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ لِلْحَنَابِلَةِ:
أَحَدُهُمَا: يَأْثَمُ، لأَِنَّهُ قَدْ تَعَيَّنَ بِدُعَائِهِ، وَلأَِنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنِ الاِمْتِنَاعِ بِقَوْلِهِ: {وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} .
وَالثَّانِي: لاَ يَأْثَمُ، لأَِنَّ غَيْرَهُ يَقُومُ مَقَامَهُ، فَلَمْ يَتَعَيَّنْ فِي حَقِّهِ، كَمَا لَوْ لَمْ يُدْعَ إِلَيْهَا. (3)
أَخْذُ الأُْجْرَةِ عَلَى التَّحَمُّل:
5 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى جَوَازِ أَخْذِ
__________
(1) سورة البقرة / 282.
(2) حديث: " لا ضرر ولا ضرار ". أخرجه ابن ماجه وأحمد بن حنبل من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وقال الهيثمي: رجاله ثقات. ورواه الحاكم والدارقطني عن أبي سعيد رضي الله عنه، والحديث حسنه النووي، وقال: رواه مالك وله طرق يقوي بعضها بعضا. وقال العلائي: للحديث شواهد ينتهي مجموعها إلى درجة الصحة أو الحسن المحتج به. (سنن ابن ماجه 2 / 784 ط الحلبي، وفيض القدير 6 / 431، 432، وجامع العلوم والحكم ص 286 ط الحلبي) .
(3) المغني 9 / 147.(10/263)
الأُْجْرَةِ عَلَى التَّحَمُّل قَوْلاً وَاحِدًا فِي الْمَذْهَبَيْنِ، إِنْ كَانَ التَّحَمُّل فَرْضَ كِفَايَةٍ وَفِيهِ كُلْفَةٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ كُلْفَةٌ فَلَيْسَ لَهُ أَخْذُ الأُْجْرَةِ عَلَيْهِ. وَإِنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ التَّحَمُّل، كَأَنْ لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهُ، فَلَهُ أَخْذُ الأُْجْرَةِ إِنْ كَانَ فِي التَّحَمُّل كُلْفَةٌ عَلَى الأَْصَحِّ فِي الْمَذْهَبَيْنِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الأَْقْوَال عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِي أَخْذِ الأُْجْرَةِ عَلَى التَّحَمُّل، فَلاَ يَجُوزُ أَخْذُ الأُْجْرَةِ لِمَنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ مُطْلَقًا، وَلاَ لِمَنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَهُمْ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ. وَقِيل: يَجُوزُ أَخْذُ الأُْجْرَةِ لِلْحَاجَةِ، وَقِيل: يَجُوزُ مُطْلَقًا.
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ: فَتَحَمُّل الشَّهَادَةِ - وَكَذَلِكَ أَدَاؤُهَا - يَجِبُ عَلَى الشَّاهِدِ إِنْ لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهُ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ يُعْتَبَرُ فَرْضَ عَيْنٍ، وَلاَ أُجْرَةَ لِلشَّاهِدِ. (1)
تَحَمُّل الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ:
6 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ فِي الأَْمْوَال، وَمَا يُقْصَدُ بِهِ الْمَال، وَالأَْنْكِحَةُ، وَالْفُسُوخُ، وَالطَّلاَقُ، وَالرَّضَاعُ، وَالْوِلاَدَةُ، وَعُيُوبُ النِّسَاءِ، وَحُقُوقُ اللَّهِ عَدَا
__________
(1) ابن عابدين 4 / 370، والاختيار 2 / 147، والفتاوى الهندية 3 / 452، والدسوقي 4 / 199، وتحفة المحتاج 8 / 481، والروضة 11 / 275، والإنصاف 12 / 6 - 7(10/263)
الْحُدُودِ كَالزَّكَاةِ، وَوَقْفِ الْمَسَاجِدِ وَالْجِهَاتِ الْعَامَّةِ. (1)
وَاخْتَلَفُوا فِي الْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ. فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ التَّحَمُّل فِي الْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ، لأَِنَّهُ حَقُّ آدَمِيٍّ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُنَازَعَةِ، وَلاَ يَسْقُطُ بِالرُّجُوعِ عَنِ الإِْقْرَارِ بِهِ، وَلاَ يُسْتَحَبُّ السَّتْرُ، فَأَشْبَهَ الأَْمْوَال.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لاَ يَجُوزُ التَّحَمُّل فِي الْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ، لأَِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا عُقُوبَةٌ بَدَنِيَّةٌ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ، وَتُبْنَى عَلَى الإِْسْقَاطِ، فَأَشْبَهَتِ الْحُدُودَ. (2)
وَهُنَاكَ شُرُوطٌ لِتَحَمُّل الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (شَهَادَةٌ) .
ثَانِيًا - تَحَمُّل الْعَاقِلَةِ عَنِ الْجَانِي دِيَةَ الْخَطَأِ، وَشِبْهِ الْعَمْدِ:
7 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْعَاقِلَةَ تَتَحَمَّل دِيَةَ الْخَطَأِ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا عَلَى مَنْ تَجِبُ أَوَّلاً. فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ، وَهُوَ الأَْصَحُّ وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِلَى أَنَّ دِيَةَ الْخَطَأِ تَلْزَمُ الْجَانِيَ ابْتِدَاءً، ثُمَّ تَتَحَمَّلُهَا عَنْهُ الْعَاقِلَةُ. وَالْقَوْل الآْخَرُ لِلشَّافِعِيَّةِ:
__________
(1) المغني 9 / 206، وروضة الطالبين 11 / 289، وتحفة المحتاج 8 / 487، وحاشية ابن عابدين 4 / 392.
(2) المغني 9 / 201، 209، وروضة الطالبين 11 / 289، وحاشية ابن عابدين 4 / 392 - 393، والزرقاني 7 / 194.(10/264)
تَجِبُ ابْتِدَاءً عَلَى الْعَاقِلَةِ. (1)
وَكَذَلِكَ دِيَةُ شِبْهِ الْعَمْدِ عِنْدَ الأَْئِمَّةِ الثَّلاَثَةِ: أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ. أَمَّا مَالِكٌ فَلاَ يَثْبُتُ شِبْهُ الْعَمْدِ فِي الْقَتْل أَصْلاً (2) . وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِقَضَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ (3) ، وَهُوَ: أَنَّ امْرَأَتَيْنِ اقْتَتَلَتَا، فَحَذَفَتْ إِحْدَاهُمَا الأُْخْرَى بِحَجَرٍ فَقَتَلَتْهَا وَمَا فِي بَطْنِهَا، فَقَضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ دِيَةَ جَنِينِهَا غُرَّةٌ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ، وَقَضَى بِدِيَةِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَاقِلَتِهَا. (4)
وَكَانَ قَتْلُهَا شِبْهَ عَمْدٍ، فَثُبُوتُ ذَلِكَ فِي الْخَطَأِ أَوْلَى.
أَمَّا جِهَاتُ الْعَاقِلَةِ وَتَرْتِيبُهُمْ فِي التَّحَمُّل فَيُرْجَعُ فِيهِ إِلَى مُصْطَلَحِ: (عَاقِلَةٌ) .
ثَالِثًا - تَحَمُّل الإِْمَامِ عَنِ الْمَأْمُومِ:
8 - لاَ تَجِبُ الْقِرَاءَةُ عَلَى الْمَأْمُومِ خَلْفَ الإِْمَامِ، وَيَتَحَمَّلُهَا عَنْهُ الإِْمَامُ، سَوَاءٌ أَكَانَ مَسْبُوقًا أَمْ غَيْرَ مَسْبُوقٍ عِنْدَ الأَْئِمَّةِ: أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ،
__________
(1) نهاية المحتاج 8 / 369 ط المكتبة الإسلامية، والقليوبي 4 / 155، والمغني 7 / 770، وحاشية الدسوقي 4 / 282، وحاشية ابن عابدين 5 / 410 - 411.
(2) المصادر السابقة.
(3) نهاية المحتاج 7 / 369.
(4) حديث: " قضاء النبي صلى الله عليه وسلم بالدية على العاقلة " أخرجه البخاري (الفتح 12 / 252 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1310 - ط الحلبي) .(10/264)
عَلَى خِلاَفٍ بَيْنَهُمْ فِي حُكْمِ قِرَاءَتِهِ خَلْفَ الإِْمَامِ، مِنْ كَرَاهَةِ الْقِرَاءَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ سِرًّا وَجَهْرًا، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ جَهْرًا، وَاسْتِحْبَابِهَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ. (1)
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: يَتَحَمَّل الإِْمَامُ عَنِ الْمَأْمُومِ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ إِذَا كَانَ مَسْبُوقًا، فَأَدْرَكَ الإِْمَامَ فِي الرُّكُوعِ، أَوْ فِي الْقِيَامِ بِقَدْرٍ لاَ يَتَّسِعُ لِقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ، كَمَا يَتَحَمَّل عَنْهُ سَهْوَهُ فِي حَال اقْتِدَائِهِ. (2)
أَمَّا غَيْرُ الْمَسْبُوقِ فَلاَ يَتَحَمَّل عَنْهُ الإِْمَامُ الْقِرَاءَةَ، وَتَجِبُ عَلَيْهِ عَلَى تَفْصِيلٍ يُعْرَفُ فِي مُصْطَلَحِ: (قِرَاءَةٌ) .
وَمِمَّا يَتَحَمَّلُهُ الإِْمَامُ عَنِ الْمَأْمُومِ أَيْضًا: سُجُودُ السَّهْوِ، وَسُجُودُ التِّلاَوَةِ، وَالسُّتْرَةُ؛ لأَِنَّ سُتْرَةَ الإِْمَامِ سُتْرَةٌ لِمَنْ خَلْفَهُ.
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
9 - يُذْكَرُ التَّحَمُّل عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فِي الشَّهَادَاتِ وَالدِّيَةِ، وَتَحَمُّل الإِْمَامِ خَطَأَ الْمَأْمُومِينَ، وَتَحَمُّل الْحَدِيثِ.
__________
(1) مواهب الجليل 1 / 518، وابن عابدين 1 / 366، والمغني 1 / 566.
(2) الجمل على شرح المنهج 1 / 345، 461.(10/265)
تَحْمِيدٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّحْمِيدُ فِي اللُّغَةِ: كَثْرَةُ الثَّنَاءِ بِالْمَحَامِدِ الْحَسَنَةِ، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنَ الْحَمْدِ (1) . وَالتَّحْمِيدُ فِي الإِْطْلاَقِ الشَّرْعِيِّ يُرَادُ بِهِ كَثْرَةُ الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، لأَِنَّهُ هُوَ مُسْتَحِقُّ الْحَمْدِ عَلَى الْحَقِيقَةِ.
وَالأَْحْسَنُ التَّحْمِيدُ بِسُورَةِ الْفَاتِحَةِ، وَبِمَا يُثْنَى عَلَيْهِ فِي الصَّلاَةِ بِقَوْلِهِ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الشُّكْرُ:
2 - الشُّكْرُ فِي اللُّغَةِ: الثَّنَاءُ عَلَى الْمُحْسِنِ بِمَا قَدَّمَ لِغَيْرِهِ مِنْ مَعْرُوفٍ (3) .
__________
(1) لسان العرب، والصحاح، ومختار الصحاح، والمصباح المنير مادة: " حمد "، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 1 / 133.
(2) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 1 / 133 - 134، وتنظر الرسالة الرابعة من قواعد الفقه للبركتي ص 222.
(3) لسان العرب، والصحاح، والمصباح المنير في مادة: " شكر ".(10/265)
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنْ ذَلِكَ. وَالشُّكْرُ كَمَا يَكُونُ بِاللِّسَانِ يَكُونُ بِالْيَدِ وَالْقَلْبِ.
وَالشُّكْرُ مُجَازَاةٌ لِلْمُحْسِنِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَقَدْ يُوضَعُ الْحَمْدُ مَكَانَ الشُّكْرِ، تَقُول: حَمِدْتُهُ عَلَى شَجَاعَتِهِ، يَعْنِي أَثْنَيْتَ عَلَى شَجَاعَتِهِ، كَمَا تَقُول: شَكَرْتُهُ عَلَى شَجَاعَتِهِ، وَهُمَا مُتَقَارِبَانِ، إِلاَّ أَنَّ الْحَمْدَ أَعَمُّ، لأَِنَّكَ تَحْمَدُ عَلَى الصِّفَاتِ وَلاَ تَشْكُرُ، وَذَلِكَ يَدُل عَلَى الْفَرْقِ (1) .
ب - الْمَدْحُ:
3 - الْمَدْحُ مِنْ مَعَانِيهِ فِي اللُّغَةِ: الثَّنَاءُ الْحَسَنُ تَقُول: مَدَحْتُهُ مَدْحًا مِنْ بَابِ نَفَعَ: أَثْنَيْتَ عَلَيْهِ بِمَا فِيهِ مِنَ الصِّفَاتِ الْجَمِيلَةِ، خَلْقِيَّةً كَانَتْ أَوِ اخْتِيَارِيَّةً. وَالْمَدْحُ فِي الاِصْطِلاَحِ: هُوَ الثَّنَاءُ بِاللِّسَانِ عَلَى الْجَمِيل الاِخْتِيَارِيِّ قَصْدًا. وَلِهَذَا كَانَ الْمَدْحُ أَعَمَّ مِنَ الْحَمْدِ (2) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
4 - مَوَاطِنُ التَّحْمِيدِ فِي حَيَاةِ الإِْنْسَانِ مُتَعَدِّدَةٌ.
__________
(1) التعريفات للجرجاني ص 128، والنظم المستعذب 1 / 9.
(2) المصباح المنير، ومختار الصحاح، ولسان العرب، والنظم المستعذب في شرح غريب المهذب بهامش المهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 82، والتعريفات للجرجاني ص 207.(10/266)
فَهُوَ مُطَالَبٌ بِهِ عِرْفَانًا مِنْهُ بِنِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى وَثَنَاءً عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، عَلَى مَا أَوْلاَهُ مِنْ نِعَمٍ لاَ حَصْرَ لَهَا، قَال تَعَالَى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا} (1) فَلاَ طَاقَةَ عَلَى عَدِّهَا، وَلاَ قُدْرَةَ عَلَى حَصْرِهَا لِكَثْرَتِهَا، كَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْعَافِيَةِ وَالرِّزْقِ، وَهِيَ نِعَمٌ مِنْهُ سُبْحَانَهُ، وَلِذَا هَيَّأَ لِلإِْنْسَانِ مِنَ الأَْسْبَابِ مَا يُعِينُهُ عَلَى الْقِيَامِ بِحَمْدِهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ.
وَالتَّحْمِيدُ تَارَةً يَكُونُ وَاجِبًا كَمَا فِي خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ. وَتَارَةً يَكُونُ سُنَّةً مُؤَكَّدَةً كَمَا هُوَ بَعْدَ الْعُطَاسِ. وَتَارَةً يَكُونُ مَنْدُوبًا كَمَا فِي خُطْبَةِ النِّكَاحِ، وَفِي ابْتِدَاءِ الدُّعَاءِ، وَفِي ابْتِدَاءِ كُل أَمْرٍ ذِي بَالٍ، وَبَعْدَ كُل أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَتَارَةً يَكُونُ مَكْرُوهًا كَمَا فِي الأَْمَاكِنِ الْمُسْتَقْذَرَةِ.
وَتَارَةً يَكُونُ حَرَامًا كَمَا فِي الْفَرَحِ بِالْمَعْصِيَةِ (2) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ كَمَا يَأْتِي:
التَّحْمِيدُ فِي خُطْبَتَيِ الْجُمُعَةِ:
5 - التَّحْمِيدُ فِي خُطْبَتَيِ الْجُمُعَةِ مَطْلُوبٌ شَرْعًا، عَلَى خِلاَفٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي فَرْضِيَّتِهِ أَوْ نَدْبِهِ (3) . وَالْبُدَاءَةُ بِهِ فِيهِمَا مُسْتَحَبَّةٌ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ
__________
(1) سورة إبراهيم / 34.
(2) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص4، وكشاف القناع 1 / 12.
(3) ابن عابدين 1 / 543 - 544، 561، ومراقي الفلاح ص 277 - 281، المهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 118، وكشاف القناع عن متن الإقناع 2 / 31 - 33 م النصر الحديثة، والشرح الكبير 1 / 378 - 379، والأذكار للنووي 104.(10/266)
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا: كُل كَلاَمٍ لاَ يُبْدَأُ فِيهِ بِالْحَمْدِ فَهُوَ أَجْذَمُ (1) ، وَلِمَا رَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَخْطُبُ النَّاسَ يَحْمَدُ اللَّهَ وَيُثْنِي عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي (صَلاَةُ الْجُمُعَةِ) .
التَّحْمِيدُ فِي خُطْبَةِ النِّكَاحِ:
6 - يُسْتَحَبُّ التَّحْمِيدُ فِي خُطْبَةِ النِّكَاحِ قَبْل إِجْرَاءِ الْعَقْدِ ْ؛ لِمَا وَرَدَ فِيهَا مِنْ لَفْظِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِل لَهُ، وَمَنْ يُضْلِل فَلاَ هَادِيَ لَهُ. وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ (3) {
__________
(1) حديث: " كل كلام لا يبدأ فيه بالحمد فهو أجذم " أخرجه أبو داود (5 / 172 - ط عزت عبيد دعاس) وأعله بالإرسال، وفي إسناده راو ضعيف. (فيض القدير للمناوي 5 / 13 - ط المكتبة التجارية) .
(2) حديث: " كان يخطب الناس يحمد الله. . . " أخرجه مسلم (2 / 593 - ط الحلبي) .
(3) حديث: " إن الحمد لله نحمده ونستعينه. . .) أخرجه أبو داود (3 / 592 - ط عزت عبيد دعاس) وهو صحيح الطرق. (التلخيص الحبير لابن حجر 3 / 152 - ط شركة الطباعة الفنية) .(10/267)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَْرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (1) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (2) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (3) .
التَّحْمِيدُ فِي افْتِتَاحِ الصَّلاَةِ:
7 - التَّحْمِيدُ فِي افْتِتَاحِ الصَّلاَةِ - وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِدُعَاءِ الاِسْتِفْتَاحِ - سُنَّةٌ: فَقَدْ كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا افْتَتَحَ الصَّلاَةَ كَبَّرَ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ بِإِبْهَامَيْهِ أُذُنَيْهِ، ثُمَّ يَقُول: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، وَتَبَارَكَ اسْمُكَ، وَتَعَالَى جَدُّكَ، وَلاَ إِلَهَ غَيْرُكَ (4) وَذَلِكَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ
__________
(1) سورة النساء / 1.
(2) سورة آل عمران / 102.
(3) الآيتان 70، 71 من سورة الأحزاب. وانظر ابن عابدين 1 / 561، 2 / 262، وكشاف القناع من متن الإقناع 5 / 21، والأذكار للنووي 250، والشرح الكبير 2 / 216.
(4) حديث: " قوله: سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك. . " أخرجه أبو داود (1 / 491 - ط عزت عبيد دعاس) من حديث عائشة وفي إسناده انقطاع، ولكن له طرق يتقوى بها. (التلخيص لابن حجر 1 / 229 - ط شركة الطباعة الفنية) .(10/267)
الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. (1)
وَالتَّحْمِيدُ عِنْدَ اسْتِوَاءِ الرَّفْعِ مِنَ الرُّكُوعِ فِي الصَّلاَةِ وَاجِبٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، لِمَا رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لِبُرَيْدَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَا بُرَيْدَةُ إِذَا رَفَعْتَ رَأْسَكَ مِنَ الرُّكُوعِ فَقُل: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ (2) وَسُنَّةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ لِلْمَأْمُومِ وَالْمُنْفَرِدِ، فَإِنَّهُمَا يَجْمَعَانِ بَيْنَ التَّسْمِيعِ وَالتَّحْمِيدِ، وَيَكْتَفِي الْمَأْمُومُ بِالتَّحْمِيدِ اتِّفَاقًا لِلأَْمْرِ بِهِ، لِمَا رَوَى أَنَسٌ وَأَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا قَال الإِْمَامُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقُولُوا: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ (3) وَلِمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ الزُّرَقِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: كُنَّا يَوْمًا نُصَلِّي وَرَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرَّكْعَةِ قَال: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَقَال رَجُلٌ وَرَاءَهُ: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ. فَلَمَّا انْصَرَفَ قَال: مَنِ الْمُتَكَلِّمُ؟ قَال:
__________
(1) مراقي الفلاح 139، 141، 153، والأذكار 43، وكشاف القناع 1 / 334.
(2) حديث: " يا بريدة إذا رفعت رأسك. . . " أخرجه الدارقطني (1 / 339 - ط شركة الطباعة الفنية) وإسناده ضعيف جدا. (ميزان الاعتدال للذهبي 3 / 268 - ط الحلبي) .
(3) حديث: " إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده. . . " أخرجه البخاري (الفتح 2 / 283 - ط السلفية) ومسلم (1 / 306 - ط الحلبي) .(10/268)
أَنَا. قَال: رَأَيْتُ بِضْعَةً وَثَلاَثِينَ مَلَكًا يَبْتَدِرُونَهَا، أَيُّهُمْ يَكْتُبُهَا أَوَّل (1) .
وَهَذَا التَّحْمِيدُ بَعْدَ قَوْل الإِْمَامِ أَوْ قَوْل الْفَرْدِ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، مَنْدُوبٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ. (2)
التَّحْمِيدُ لِمَنْ فَرَغَ مِنَ الصَّلاَةِ عَقِيبَ التَّسْلِيمِ:
8 - هُوَ مُسْتَحَبٌّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. (3) لِمَا رَوَى ابْنُ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُهَلِّل فِي إِثْرِ كُل صَلاَةٍ فَيَقُول: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُل شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَلاَ حَوْل وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ، وَلاَ نَعْبُدُ إِلاَّ إِيَّاهُ، وَلَهُ النِّعْمَةُ، وَلَهُ الْفَضْل، وَلَهُ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ. (4)
وَسُنَّةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ سَبَّحَ اللَّهَ فِي دُبُرِ كُل صَلاَةٍ ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ،
__________
(1) حديث رفاعة بن رافع أخرجه البخاري (الفتح 2 / 284 - ط السلفية) . وانظر كشاف القناع عن متن الإقناع 1 / 332، 348 - 349، وابن عابدين 1 / 334، ومراقي الفلاح 142، 154، والمهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 82، 89، والأذكار للنووي 53.
(2) الشرح الكبير 1 / 248، وجواهر الإكليل 1 / 51.
(3) المهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 87، والأذكار للنووي 68، ونزهة المتقين شرح رياض الصالحين للنووي 2 / 973 - 974.
(4) حديث: " كان يهلل في إثر كل صلاة. . . " أخرجه مسلم (1 / 415 - 416 - ط الحلبي) .(10/268)
وَحَمِدَ اللَّهَ ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ، وَكَبَّرَ اللَّهَ ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ، فَتِلْكَ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ، وَقَال فِي تَمَامِ الْمِائَةِ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُل شَيْءٍ قَدِيرٌ، غُفِرَتْ خَطَايَاهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْل زَبَدِ الْبَحْرِ (1) .
وَيُسَنُّ عِنْدَهُمْ أَنْ يَقُول بَعْدَ ذَلِكَ: " اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ " وَيَخْتِمُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلاَمٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (2) وَزَادَ الْحَنَابِلَةُ عَلَى مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ الْحَدِيثَ الَّذِي اسْتَدَل بِهِ الشَّافِعِيَّةُ. (3)
وَالأَْوْلَى الْبَدْءُ بِالتَّسْبِيحِ لأَِنَّهُ مِنْ بَابِ التَّخْلِيَةِ، ثُمَّ التَّحْمِيدِ لأَِنَّهُ مِنْ بَابِ التَّحْلِيَةِ، ثُمَّ التَّكْبِيرِ لأَِنَّهُ تَعْظِيمٌ. (4)
التَّحْمِيدُ فِي صَلاَةِ الْعِيدَيْنِ بَعْدَ التَّحْرِيمَةِ:
9 - هُوَ سُنَّةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لِلإِْمَامِ وَالْمُؤْتَمِّ، فَيُثْنِي وَيَحْمَدُ مُسْتَفْتِحًا: " سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ،
__________
(1) حديث: " من سبح الله في دبر كل صلاة " أخرجه مسلم (1 / 418 - ط الحلبي) .
(2) حديث: قوله في ختام ذكر الصلاة " سبحان ربك رب العزة. . . " أخرجه أبو يعلى من حديث أبي سعيد وإسناده ضعيف، كما في تفسير ابن كثير (6 / 43 - ط دار الأندلس) .
(3) مراقي الفلاح 171 - 173، وابن عابدين 1 / 356، وكشاف القناع عن متن الإقناع 1 / 365 - 367.
(4) مراقي الفلاح 172.(10/269)
وَتَبَارَكَ اسْمُكَ، وَتَعَالَى جَدُّكَ، وَلاَ إِلَهَ غَيْرُكَ " وَذَلِكَ مُقَدَّمٌ عَلَى تَكْبِيرَاتِ الزَّوَائِدِ. (1)
وَهُوَ سُنَّةٌ بَيْنَ التَّكْبِيرَاتِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، فَيَقُول بَيْنَهَا: اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا، وَسُبْحَانَ اللَّهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ وَآلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا؛ لِمَا رَوَى عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: سَأَلْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَمَّا يَقُولُهُ بَيْنَ تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ؟ قَال: يَحْمَدُ اللَّهَ وَيُثْنِي عَلَيْهِ وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يَدْعُو وَيُكَبِّرُ (2) .
التَّحْمِيدُ فِي صَلاَةِ الاِسْتِسْقَاءِ وَصَلاَةِ الْجِنَازَةِ:
10 - التَّحْمِيدُ فِي خُطْبَةِ صَلاَةِ الاِسْتِسْقَاءِ سُنَّةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَمُسْتَحَبٌّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ.
وَهُوَ فِي صَلاَةِ الْجِنَازَةِ بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الأُْولَى سُنَّةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. فَيَقُول الْمُصَلِّي: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ وَتَبَارَكَ اسْمُكَ وَتَعَالَى جَدُّكَ وَلاَ إِلَهَ غَيْرُكَ.
__________
(1) مراقي الفلاح 291، وكشاف القناع عن متن الإقناع 2 / 54، 56 م النصر الحديثة.
(2) حديث الذكر بين تكببرات العيد. أخرجه البيهقي عن ابن مسعود قولا وفعلا بإسناد جيد كما قال ابن علان في الفتوحات الربانية (4 / 242) ، وانظر السنن الكبرى للبيهقي (3 / 291، 292) .(10/269)
التَّحْمِيدُ فِي تَكْبِيرَاتِ التَّشْرِيقِ:
11 - التَّحْمِيدُ فِي تَكْبِيرَاتِ التَّشْرِيقِ سُنَّةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، فَيَقُول كَمَا قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. (1) وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال عَلَى الصَّفَا: اللَّهُ أَكْبَرُ. اللَّهُ أَكْبَرُ. اللَّهُ أَكْبَرُ. اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا، وَسُبْحَانَ اللَّهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً، لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَلاَ نَعْبُدُ إِلاَّ إِيَّاهُ، مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ، صَدَقَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الأَْحْزَابَ وَحْدَهُ. لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ. (2)
وَالْجَمْعُ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالتَّهْلِيل وَالتَّحْمِيدِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ أَفْضَل وَأَحْسَنُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، فَيَقُول إِنْ أَرَادَ الْجَمْعَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ،
__________
(1) حديث: قوله صلى الله عليه وسلم: " الله أكبر، الله أكبر. . . " أخرجه الدارقطني (2 / 50 - ط شركة الطباعة الفنية) . وقال ابن حجر: وفي إسناده عمرو بن شمر، وهو متروك. (التلخيص الحبير 2 / 87 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(2) حديث: قوله على الصفا: " الله أكبر، الله أكبر " ورد في مسلم عن جابر في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما رقى الصفا وحد الله وكبره وقال: " لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ". وزاد ابن ماجه: " وحمده ". صحيح مسلم (وابن ماجه (2 / 1023 - ط الحلبي) . وانظر مراقي الفلاح 296، والمهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 128، وكشاف القناع عن متن الإقناع 2 / 58.(10/270)
لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ. اللَّهُ أَكْبَرُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ هَذَا. (1)
التَّحْمِيدُ لِلْعَاطِسِ فِي غَيْرِ صَلاَةٍ:
12 - اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُسَنُّ لِلْعَاطِسِ إِذَا عَطَسَ أَنْ يَحْمَدَ اللَّهَ، فَيَقُول عَقِبَهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. وَلَوْ قَال: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَوِ الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُل حَالٍ كَانَ أَفْضَل، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُل: الْحَمْدُ لِلَّهِ. وَلْيَقُل لَهُ أَخُوهُ أَوْ صَاحِبُهُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ (2) وَعَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُل: الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُل حَالٍ (3) وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: عَطَسَ رَجُلاَنِ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشَمَّتَ أَحَدَهُمَا، وَلَمْ يُشَمِّتِ الآْخَرَ. فَقَال الَّذِي لَمْ يُشَمِّتْهُ: عَطَسَ فُلاَنٌ فَشَمَّتَّهُ، وَعَطَسْتُ فَلَمْ تُشَمِّتْنِي؟ فَقَال: هَذَا حَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى، وَإِنَّكَ لَمْ تَحْمَدِ اللَّهَ تَعَالَى. (4) وَعَنْ أَبِي مُوسَى الأَْشْعَرِيِّ
__________
(1) الفواكه الدواني 1 / 321 نشر دار المعرفة.
(2) حديث: " إذا عطس أحدكم فليقل: الحمد لله " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 608 - ط السلفية) .
(3) حديث: " إذا عطس أحدكم فليقل: الحمد لله على كل حال " أخرجه أبو داود (5 / 290 - ط عزت عبيد دعاس) وإسناده صحيح.
(4) حديث: " هذا حمد الله وإنك لم تحمد الله " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 610 - ط السلفية) . ومسلم (4 / 2292 - ط الحلبي) واللفظ لمسلم.(10/270)
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: إِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَحَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى فَشَمِّتُوهُ، فَإِنْ لَمْ يَحْمَدِ اللَّهَ فَلاَ تُشَمِّتُوهُ. (1)
التَّحْمِيدُ لِلْخَارِجِ مِنَ الْخَلاَءِ بَعْدَ قَضَاءِ حَاجَتِهِ:
13 - وَهُوَ مَنْدُوبٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَسُنَّةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، فَيَقُول: " غُفْرَانَكَ " (2) " الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنِّي الأَْذَى وَعَافَانِي " (3) . وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا خَرَجَ مِنَ الْخَلاَءِ يَقُول: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذَاقَنِي لَذَّتَهُ، وَأَبْقَى فِي قُوَّتَهُ، وَأَذْهَبَ عَنِّي أَذَاهُ (4) .
__________
(1) حديث: " إذا عطس أحدكم فحمد الله فشمتوه " أخرجه مسلم (4 / 2292 - ط الحلبي) . وانظر الأذكار للنووي ص 240.
(2) حديث: قوله: " غفرانك ". أخرجه أبو داود (1 / 30 - ط عزت عبيد دعاس) والحاكم (1 / 158 - ط دائرة المعارف العثمانية) . وصححه الذهبي.
(3) حديث: " الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني " أخرجه ابن ماجه (1 / 110 - ط الحلبي) . وفي التعليق على ابن ماجه: عن إسماعيل بن مسلم، متفق على تضعيفه، والحديث بهذا اللفظ غير ثابت.
(4) حديث: (والحمد لله الذي أذاقني لذته. . . " أخرجه ابن السني (ص 8 - ط دائرة المعارف العثمانية) وفي إسناده ضعيفان. والفتوحات الربانية (1 / 405 - ط المنيرية) .(10/271)
التَّحْمِيدُ لِمَنْ أَكَل أَوْ شَرِبَ:
14 - هُوَ مُسْتَحَبٌّ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى مِنَ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُل الأَْكْلَةَ أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا. (1)
وَلِمَا رَوَاهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَكَل أَوْ شَرِبَ قَال: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنَا وَسَقَانَا وَجَعَلَنَا مُسْلِمِينَ (2) وَرَوَى مُعَاذُ بْنُ أَنَسٍ الْجُهَنِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ أَكَل طَعَامًا فَقَال: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنِي هَذَا وَرَزَقَنِيهِ مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ مِنِّي وَلاَ قُوَّةٍ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ. (3)
وَلِمَا رَوَى أَبُو أَيُّوبَ خَالِدُ بْنُ زَيْدٍ الأَْنْصَارِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَكَل أَوْ شَرِبَ قَال: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَ وَسَقَى وَسَوَّغَهُ وَجَعَل لَهُ مَخْرَجًا. (4)
__________
(1) حديث: " إن الله ليرضى من العبد أن يأكل الأكلة. . . " أخرجه مسلم (4 / 2095 - ط الحلبي) .
(2) حديث: " كان إذا أكل أو شرب قال: الحمد لله. . . " أخرجه الترمذي (5 / 508 - ط الحلبي) والبغوي في شرح السنة (11 / 279 - ط المكتب الإسلامي) وأعله بالانقطاع.
(3) حديث: " من أكل طعاما فقال: الحمد لله الذي أطعمني هذا " أخرجه الترمذي (5 / 508 - ط الحلبي) وإسناده حسن.
(4) حديث: " كان إذا أكل أو شرب قال: الحمد لله الذي أطعم. . . " أخرجه أبو داود (4 / 187 - 188 - ط عزت عبيد دعاس) وصححه النووي في الأذكار (ص 212 - ط الحلبي) .(10/271)
وَلِمَا رَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جُبَيْرٍ التَّابِعِيُّ أَنَّهُ حَدَّثَهُ رَجُلٌ خَدَمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَمَانِيَ سَنَوَاتٍ أَنَّهُ كَانَ يَسْمَعُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَرَّبَ إِلَيْهِ طَعَامًا يَقُول: بِسْمِ اللَّهِ. فَإِذَا فَرَغَ مِنْ طَعَامِهِ قَال: اللَّهُمَّ أَطْعَمْتَ وَسَقَيْتَ وَأَغْنَيْتَ وَأَقْنَيْتَ وَهَدَيْتَ وَأَحْسَنْتَ، فَلَكَ الْحَمْدُ عَلَى مَا أَعْطَيْتَ. (1)
التَّحْمِيدُ لِمَنْ سَمِعَ بِشَارَةً تَسُرُّهُ، أَوْ تَجَدَّدَتْ لَهُ نِعْمَةٌ، أَوِ انْدَفَعَتْ عَنْهُ نِقْمَةٌ ظَاهِرَةٌ:
15 - يُسْتَحَبُّ لِلشَّخْصِ أَنْ يَحْمَدَهُ سُبْحَانَهُ، وَيُثْنِيَ عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، وَفِي هَذَا قَوْل اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} (2) وَهُوَ مَا يَقُولُهُ أَهْل الْجَنَّةِ.
وَفِي قِصَّةِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ {وَقَالاَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ} . (3)
__________
(1) حديث: " كان إذا قرب إليه طعاما يقول: بسم الله. . . " أخرجه ابن السني في عمل اليوم والليلة (ص 125 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه ابن حجر كما في الفتوحات الربانية لابن علان (5 / 636 - ط المنيرية) . وانظر كشاف القناع 5 / 174، والأذكار للنووي 212، والمدخل لابن الحاج 1 / 227، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 1 / 131، والآداب الشرعية لابن مفلح 3 / 179 - 181، 223.
(2) سورة فاطر / 34.
(3) سورة النمل / 15.(10/272)
وَقَوْل إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيل وَإِسْحَاقَ} . (1)
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَرْسَل ابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ إِلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا يَسْتَأْذِنُهَا أَنْ يُدْفَنَ مَعَ صَاحِبَيْهِ. فَلَمَّا أَقْبَل عَبْدُ اللَّهِ قَال عُمَرُ: مَا لَدَيْكَ؟ قَال: الَّذِي تُحِبُّ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَذِنَتْ. قَال: الْحَمْدُ لِلَّهِ، مَا كَانَ شَيْءٌ أَهَمَّ إِلَيَّ مِنْ ذَلِكَ. (2)
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ بِقَدَحَيْنِ مِنْ خَمْرٍ وَلَبَنٍ، فَنَظَرَ إِلَيْهِمَا، فَأَخَذَ اللَّبَنَ، فَقَال لَهُ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَامُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَاكَ لِلْفِطْرَةِ، لَوْ أَخَذْتَ الْخَمْرَ غَوَتْ أُمَّتُكَ. (3)
التَّحْمِيدُ لِلْقَائِمِ مِنَ الْمَجْلِسِ:
16 - التَّحْمِيدُ لِلْقَائِمِ مِنَ الْمَجْلِسِ مُسْتَحَبٌّ. فَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ جَلَسَ فِي مَجْلِسٍ فَكَثُرَ فِيهِ لَغَطُهُ فَقَال قَبْل أَنْ يَقُومَ مِنْ مَجْلِسِهِ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ
__________
(1) سورة إبراهيم / 39.
(2) مقالة عمر أخرجها البخاري (الفتح 3 / 256 - ط السلفية) .
(3) حديث الإسراء أخرجه البخاري (الفتح 6 / 477 - ط السلفية) ومسلم (1 / 154 - ط الحلبي) . وانظر الأذكار للنووي 104، 264.(10/272)
وَبِحَمْدِكَ، أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ إِلاَّ غُفِرَ لَهُ مَا كَانَ فِي مَجْلِسِهِ ذَلِكَ. (1)
التَّحْمِيدُ فِي أَعْمَال الْحَجِّ:
17 - التَّحْمِيدُ فِي أَعْمَال الْحَجِّ مُسْتَحَبٌّ، وَمِمَّا أُثِرَ مِنْ صِيَغِهِ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ الْمُلْتَزَمِ قَوْلُهُ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ حَمْدًا يُوَافِي نِعَمَكَ، وَيُكَافِئُ مَزِيدَكَ، أَحْمَدُكَ بِجَمِيعِ مَحَامِدِكَ، مَا عَلِمْتُ مِنْهَا وَمَا لَمْ أَعْلَمْ وَعَلَى كُل حَالٍ. اللَّهُمَّ صَل وَسَلِّمْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آل مُحَمَّدٍ. اللَّهُمَّ أَعِذْنِي مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، وَأَعِذْنِي مِنْ كُل سُوءٍ، وَقَنِّعْنِي بِمَا رَزَقْتَنِي، وَبَارِكْ لِي فِيهِ. اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنْ أَكْرَمِ وَفْدِكَ عَلَيْكَ، وَأَلْزِمْنِي سَبِيل الاِسْتِقَامَةِ حَتَّى أَلْقَاكَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ. (2)
التَّحْمِيدُ لِمَنْ لَبِسَ ثَوْبًا جَدِيدًا:
18 - التَّحْمِيدُ لِمَنْ لَبِسَ ثَوْبًا جَدِيدًا مُسْتَحَبٌّ. فَعَنْ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ
__________
(1) حديث: " من جلس في مجلس فكثر فيه لغطه. . . " أخرجه الترمذي (5 / 494 - ط الحلبي) . وقال: حديث حسن صحيح. وانظر الأذكار للنووي 264 - 265، والآداب الشرعية لابن مفلح 3 / 621 - 623، والأذكار للنووي 177.
(2) حديث الملتزم قال ابن حجر: لم أقف له على أصل (الفتوحات الربانية 4 / 391 - ط المنيرية) .(10/273)
لَبِسَ ثَوْبًا جَدِيدًا فَقَال: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي كَسَانِي هَذَا، وَرَزَقَنِيهِ مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ مِنِّي وَلاَ قُوَّةٍ غَفَرَ اللَّه لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ. (1)
التَّحْمِيدُ لِمَنِ اسْتَيْقَظَ مِنْ نَوْمِهِ:
19 - التَّحْمِيدُ لِمَنِ اسْتَيْقَظَ مِنْ نَوْمِهِ مُسْتَحَبٌّ. فَقَدْ كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول إِذَا اسْتَيْقَظَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أَمَاتَنَا، وَإِلَيْهِ النُّشُورُ. (2)
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُل: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَدَّ عَلَيَّ رُوحِي، وَعَافَانِي فِي جَسَدِي، وَأَذِنَ لِي بِذِكْرِهِ. (3)
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَا مِنْ عَبْدٍ يَقُول عِنْدَ رَدِّ اللَّهِ تَعَالَى رُوحَهُ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ
__________
(1) حديث: " من لبس ثوبا جديدا فقال. . . " أخرجه أبو داود (4 / 310 - ط عزت عبيد دعاس) وحسنه ابن حجر كما في الفتوحات الربانية (1 / 300 - ط المنيرية) . وانظر الأذكار للنووي ص 22.
(2) حديث: " كان إذا استيقظ قال: الحمد لله. . . " أخرجه البخاري (الفتح 11 / 130 - ط السلفية) .
(3) حديث: " إذا استيقظ أحدكم فليقل: الحمد لله الذي. . . " أخرجه ابن السني في عمل اليوم والليلة (ص 4 - ط دائرة المعارف العثمانية) وحسنه ابن حجر كما في الفتوحات (1 / 291 - ط المنيرية) .(10/273)
الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُل شَيْءٍ قَدِيرٌ إِلاَّ غَفَرَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ ذُنُوبَهُ، وَلَوْ كَانَتْ مِثْل زَبَدِ الْبَحْرِ. (1)
التَّحْمِيدُ لِمَنْ يَأْوِي إِلَى فِرَاشِهِ:
20 - التَّحْمِيدُ لِمَنْ يَأْوِي إِلَى فِرَاشِهِ لِلنَّوْمِ مُسْتَحَبٌّ. فَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لَهُ وَلِفَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إِذَا أَوَيْتُمَا إِلَى فِرَاشِكُمَا، أَوْ إِذَا أَخَذْتُمَا مَضَاجِعَكُمَا فَكَبِّرَا ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ، وَسَبِّحَا ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ، وَاحْمَدَا ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ (2) وَفِي رِوَايَةٍ التَّسْبِيحُ أَرْبَعًا وَثَلاَثِينَ. وَفِي رِوَايَةٍ التَّكْبِيرُ أَرْبَعًا وَثَلاَثِينَ. قَال عَلِيٌّ فَمَا تَرَكْتُهُ مُنْذُ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
التَّحْمِيدُ لِمَنْ يَشْرَعُ فِي الْوُضُوءِ، وَلِمَنْ فَرَغَ مِنْهُ:
21 - التَّحْمِيدُ فِي الْوُضُوءِ مُسْتَحَبٌّ. فَيَقُول الْمُتَوَضِّئُ بَعْدَ التَّسْمِيَةِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَل
__________
(1) حديث: (ما من عبد يقول عند رد الله روحه. . . " أخرجه ابن السني في عمل اليوم والليلة (ص 4 - ط دائرة المعارف العثمانية) وضعفه ابن حجر كما في الفتوحات (1 / 292 - ط المنيرية) . وانظر الأذكار للنووي 21.
(2) حديث: " إذا أويتما إلى فراشكما أو إذا أخذتما. . . " أخرجه البخاري (الفتح 11 / 119 - ط السلفية) ومسلم (4 / 2091 - ط الحلبي) .(10/274)
الْمَاءَ طَهُورًا. وَرُوِيَ عَنِ السَّلَفِ، وَقِيل عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي لَفْظِهَا: بِاسْمِ اللَّهِ الْعَظِيمِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى دِينِ الإِْسْلاَمِ. (1)
وَالتَّحْمِيدُ لِمَنْ فَرَغَ مِنَ الْوُضُوءِ مُسْتَحَبٌّ. فَيَقُول بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهُ: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ التَّوَّابِينَ، وَاجْعَلْنِي مِنَ الْمُتَطَهِّرِينَ. سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ. وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ تَوَضَّأَ فَأَسْبَغَ الْوُضُوءَ ثُمَّ قَال عِنْدَ فَرَاغِهِ مِنْ وُضُوئِهِ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ خُتِمَ عَلَيْهَا بِخَاتَمٍ فَوُضِعَتْ تَحْتَ الْعَرْشِ، فَلَمْ يُكْسَرْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. (2)
التَّحْمِيدُ لِلْمَسْئُول عَنْ حَالِهِ:
22 - وَالتَّحْمِيدُ لِلْمَسْئُول عَنْ حَالِهِ مُسْتَحَبٌّ. فَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَرَجَ مِنْ عِنْدِ
__________
(1) حديث: " باسم الله العظيم. . . " أخرجه الديلمي في سند الفردوس كما في إتحاف السادة المتقين (2 / 353 - ط الميمنية) وإسناده ضعيف.
(2) حديث: " سبحانك اللهم وبحمدك أشهد. . . " أخرجه ابن السني (ص 9 - ط دائرة المعارف العثمانية) وأورده الهيثمي بنحوه في المجمع (1 / 239 - ط القدسي) وقال: رواه الطبراني في الأوسط، ورجاله رجال الصحيح.(10/274)
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَجَعِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ، فَقَال النَّاسُ: يَا أَبَا حَسَنٍ: كَيْف أَصْبَحَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَال: أَصْبَحَ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى بَارِئًا. (1)
23 - كَذَلِكَ التَّحْمِيدُ لِمَنْ رَأَى مُبْتَلًى بِمَرَضٍ أَوْ غَيْرِهِ مُسْتَحَبٌّ. فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ رَأَى مُبْتَلًى فَقَال: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَافَانِي مِمَّا ابْتَلاَكَ بِهِ، وَفَضَّلَنِي عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقَ تَفْضِيلاً، لَمْ يُصِبْهُ ذَلِكَ الْبَلاَءُ. (2) قَال النَّوَوِيُّ: قَال الْعُلَمَاءُ: يَنْبَغِي أَنْ يَقُول هَذَا الذِّكْرَ سِرًّا بِحَيْثُ يُسْمِعُ نَفْسَهُ، وَلاَ يُسْمِعُهُ الْمُبْتَلَى لِئَلاَّ يَتَأَلَّمَ قَلْبُهُ بِذَلِكَ، إِلاَّ أَنْ تَكُونَ بَلِيَّتُهُ مَعْصِيَةً فَلاَ بَأْسَ أَنْ يُسْمِعَهُ ذَلِكَ إِنْ لَمْ يَخَفْ مِنْ ذَلِكَ مَفْسَدَةً. (3)
- كَذَلِكَ التَّحْمِيدُ لِمَنْ دَخَل السُّوقَ مُسْتَحَبٌّ. فَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ دَخَل السُّوقَ فَقَال: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ حَيٌّ لاَ يَمُوتُ، بِيَدِهِ الْخَيْرُ وَهُوَ عَلَى كُل شَيْءٍ قَدِيرٌ،
__________
(1) مقالة علي: (أصبح بحمد الله بارئا " أخرجها البخاري (الفتح 11 / 57 - ط السلفية) . وانظر الأذكار للنووي 269.
(2) حديث: " من رأى مبتلى فقال:. . . " أخرجه الترمذي (5 / 493 - ط الحلبي) وهو حسن لطرقه. وانظر الأذكار للنووي 269.
(3) الأذكار للنووي 269.(10/275)
كَتَبَ اللَّهُ لَهُ أَلْفَ أَلْفِ حَسَنَةٍ، وَمَحَا عَنْهُ أَلْفَ أَلْفِ سَيِّئَةٍ، وَرَفَعَ لَهُ أَلْفَ أَلْفِ دَرَجَةٍ. (1)
التَّحْمِيدُ لِمَنْ عَطَسَ فِي الصَّلاَةِ:
25 - التَّحْمِيدُ لِمَنْ عَطَسَ فِي الصَّلاَةِ مَكْرُوهٌ إِذَا جَهَرَ بِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَلاَ بَأْسَ بِهِ إِنْ أَسَرَّ بِهِ فِي نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ تَلَفُّظٍ. (2) وَحَرَامٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، لِمَا رَوَى مُعَاوِيَةُ بْنُ الْحَكَمِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: بَيْنَمَا أَنَا مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلاَةِ إِذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ فَقُلْتُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، فَحَدَّقَنِي الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ. فَقُلْتُ: وَاثُكْل أُمَّاهُ مَا لَكُمْ تَنْظُرُونَ إِلَيَّ؟ فَضَرَبَ الْقَوْمُ بِأَيْدِيهِمْ عَلَى أَفْخَاذِهِمْ، فَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَانِي، بِأَبِي وَأُمِّي هُوَ، مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ، وَاللَّهِ مَا ضَرَبَنِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلاَ كَهَرَنِي ثُمَّ قَال: إِنَّ صَلاَتَنَا هَذِهِ لاَ يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلاَمِ الآْدَمِيِّينَ، إِنَّمَا هِيَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ. (3)
__________
(1) حديث: " من دخل السوق فقال: لا إله إلا الله. . . " أخرجه الترمذي (5 / 491 - ط الحلبي) وصححه الحاكم. (الفتوحات لابن علان 6 / 193 - المنيرية) وانظر الأذكار للنووي 269.
(2) مراقي الفلاح 283، وكشاف القناع عن متن الإقناع 1 / 349، 381.
(3) حديث: " إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من. . . " أخرجه مسلم (1 / 381 - ط الحلبي) . وانظر المهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 94، 122. ومعنى كهرني: قهرني (المصباح) .(10/275)
هَذَا وَيُكْرَهُ التَّحْمِيدُ لِمَنْ يَقْضِي حَاجَتَهُ فِي الْخَلاَءِ وَعَطَسَ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ تَلَفُّظٍ بِهِ بِلِسَانِهِ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَرِهْتُ أَنْ أَذْكُرَ اللَّهَ تَعَالَى إِلاَّ عَلَى طُهْرٍ. (1)
__________
(1) حديث: " كرهت أن أذكر الله إلا على طهر " أخرجه أبو داود (1 / 23 - ط عزت عبيد دعاس) والحاكم (1 / 167 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه ووافقه الذهبي. وانظر مراقي الفلاح 31، والمهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 33، 283، وجواهر الإكليل 1 / 18، والشرح الكبير 1 / 106، والأذكار لنووي 28، 242.(10/276)
تَحْنِيكٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي التَّحْنِيكِ فِي اللُّغَةِ: أَنْ يُدَلِّكَ بِالتَّمْرِ حَنَكَ الصَّبِيِّ مِنْ دَاخِل فِيهِ، بَعْدَ أَنْ يَلِينَ. (1)
وَالتَّعْرِيفُ الاِصْطِلاَحِيُّ يَشْتَمِل عَلَى هَذَا الْمَعْنَى وَعَلَى غَيْرِهِ، كَتَحْنِيكِ الْمَيِّتِ وَغَيْرِهِ.
2 - فَتَحْنِيكُ الْمَيِّتِ هُوَ: إِدَارَةُ الْخِرْقَةِ تَحْتَ الْحَنَكِ وَتَحْتَ الذَّقَنِ. وَتَفْصِيلُهُ فِي (الْجَنَائِزُ) .
3 - وَتَحْنِيكُ الْوُضُوءِ هُوَ: مَسْحُ مَا تَحْتَ الْحَنَكِ وَالذَّقَنِ فِي الْوُضُوءِ. وَتَفْصِيلُهُ فِي (الْوُضُوءِ) .
4 - وَتَحْنِيكُ الْعِمَامَةِ (وَيُسَمَّى التَّلَحِّي) هُوَ: إِدَارَةُ الْعِمَامَةِ مِنْ تَحْتِ الْحَنَكِ كَوْرًا أَوْ كَوْرَيْنِ. (2)
تَحْنِيكُ الْمَوْلُودِ:
حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ:
5 - التَّحْنِيكُ مُسْتَحَبٌّ لِلْمَوْلُودِ، لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير مادة: " حنك ".
(2) كشاف القناع 1 / 119، 286.(10/276)
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: وُلِدَ لِي غُلاَمٌ فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَمَّاهُ إِبْرَاهِيمَ وَحَنَّكَهُ بِتَمْرَةٍ. (1)
6 - وَيَتَوَلَّى تَحْنِيكَ الصَّبِيِّ رَجُلٌ أَوِ امْرَأَةٌ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يُؤْتَى بِالصِّبْيَانِ فَيُبَرِّكُ عَلَيْهِمْ وَيُحَنِّكُهُمْ. (2)
وَأَوْرَدَ ابْنُ الْقَيِّمِ أَنَّ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ وُلِدَ لَهُ مَوْلُودٌ فَأَمَرَ امْرَأَةً بِتَحْنِيكِهِ. (3)
7 - وَيُحَنَّكُ الْمَوْلُودُ بِتَمْرٍ، لِمَا وَرَدَ عَنْ أَسْمَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا حَمَلَتْ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَتْ: خَرَجْتُ وَأَنَا مُتِمٌّ، فَأَتَيْتُ الْمَدِينَةَ، فَنَزَلْتُ بِقُبَاءَ، فَوَلَدْتُهُ بِقُبَاءَ، ثُمَّ أَتَيْتُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَضَعْتُهُ فِي حِجْرِهِ، ثُمَّ دَعَا بِتَمْرَةٍ فَمَضَغَهَا ثُمَّ تَفَل فِي فِيهِ، فَكَانَ أَوَّل شَيْءٍ دَخَل جَوْفَهُ رِيقُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ حَنَّكَهُ بِتَمْرَةٍ، ثُمَّ دَعَا لَهُ وَبَرَّكَ عَلَيْهِ.
فَإِنْ لَمْ يَتَيَسَّرْ تَمْرٌ فَرُطَبٌ، وَإِلاَّ فَشَيْءٌ حُلْوٌ،
__________
(1) حديث أبي موسى رضي الله عنه: " ولد لي غلام فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم. . . " أخرجه البخاري (الفتح 9 / 587 - ط السلفية) . مسلم (3 / 1690 - ط الحلبي) .
(2) حديث: " كان يؤتى بالصبيان فيبرك عليهم ويحنكهم " أخرجه مسلم (1 / 237 - ط الحلبي) .
(3) تحفة الودود في أحكام المولود ص 19، وفتح الباري 9 / 588، 7 / 249، وقليوبي وعميرة 4 / 256، وروضة الطالبين 3 / 233 ط المكتب الإسلامي، والمغني 8 / 650، والحطاب 3 / 256، وحاشية الجمل على شرح المنهج 2 / 89.(10/277)
وَعَسَل نَحْلٍ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ، ثُمَّ مَا لَمْ تَمَسَّهُ النَّارُ كَمَا فِي نَظِيرِهِ مِمَّا يُفْطِرُ الصَّائِمَ.
8 - وَيُحَنَّكُ الْغُلاَمُ غَدَاةَ يُولَدُ، قَال ابْنُ حَجَرٍ: وَقُيِّدَ بِالْغَدَاةِ اتِّبَاعًا لِلَفْظِ الْخَبَرِ، وَالْغَدَاةُ تُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهَا الْوَقْتُ هُنَا.
وَيَنْبَغِي عِنْدَ التَّحْنِيكِ أَنْ يَفْتَحَ الْمُحَنِّكُ فَمَ الصَّبِيِّ، حَتَّى تَنْزِل حَلاَوَةُ التَّمْرِ أَوْ نَحْوِهِ إِلَى جَوْفِهِ. (1)
التَّحْنِيكُ فِي الْعِمَامَةِ:
9 - تَحْنِيكُ الْعِمَامَةِ أَنْ يُدَارَ مِنْهَا تَحْتَ الْحَنَكِ كَوْرٌ أَوْ كَوْرَانِ، وَيُسَنُّ تَحْنِيكُهَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَمُحَصَّل الْكَلاَمِ فِي ذَلِكَ عِنْدَهُمْ: أَنَّ الْعِمَامَةَ بِغَيْرِ تَحْنِيكٍ وَلاَ عَذَبَةٍ بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ، فَإِنْ وُجِدَا فَهُوَ الأَْكْمَل وَهُوَ السُّنَّةُ، وَإِنْ وُجِدَ أَحَدُهُمَا فَقَدْ خَرَجَ مِنَ الْمَكْرُوهِ، وَاخْتَلَفُوا فِي وَجْهِ الْكَرَاهَةِ، فَقِيل لِمُخَالَفَةِ السُّنَّةِ.
وَلاَ يُسَنُّ تَحْنِيكُ الْعِمَامَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَتُسَنُّ الْعَذَبَةُ لاَ غَيْرُ. (2)
__________
(1) فتح الباري 9 / 588، 7 / 249.
(2) ابن عابدين 5 / 481، ومواهب الجليل 1 / 541، وحاشية الجمل 2 / 89، وكشاف القناع 1 / 119، 286.(10/277)
تَحَوُّلٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّحَوُّل فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ تَحَوَّل، وَمَعْنَاهُ: التَّنَقُّل مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى آخَرَ، وَمِنْ مَعَانِيهِ أَيْضًا: الزَّوَال، كَمَا يُقَال: تَحَوَّل عَنِ الشَّيْءِ أَيْ: زَال عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ.
وَكَذَلِكَ: التَّغَيُّرُ وَالتَّبَدُّل. وَالتَّحْوِيل مَصْدَرُ حَوَّل، وَهُوَ: النَّقْل، فَالتَّحَوُّل مُطَاوِعٌ وَأَثَرٌ لِلتَّحْوِيل. (1)
وَيَقْصِدُ الْفُقَهَاءُ بِالتَّحَوُّل مَا يُقْصَدُ بِهِ فِي اللُّغَةِ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الاِسْتِحَالَةُ:
2 - مِنْ مَعَانِي الاِسْتِحَالَةِ لُغَةً: تَغَيُّرُ الشَّيْءِ عَنْ طَبْعِهِ وَوَصْفِهِ، أَوْ عَدَمُ الإِْمْكَانِ. (2)
فَالاِسْتِحَالَةُ قَدْ تَكُونُ بِمَعْنَى التَّحَوُّل،
__________
(1) مختار الصحاح، والصحاح في اللغة والعلوم، ولسان العرب مادة: " حول ".
(2) المصباح المنير مادة: " حول ".(10/278)
كَاسْتِحَالَةِ الأَْعْيَانِ النَّجِسَةِ مِنَ الْعَذِرَةِ وَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَتَحَوُّلِهَا عَنْ أَعْيَانِهَا وَتَغَيُّرِ أَوْصَافِهَا، وَذَلِكَ بِالاِحْتِرَاقِ، أَوْ بِالتَّخْلِيل، أَوْ بِالْوُقُوعِ فِي شَيْءٍ، كَمَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ.
أَحْكَامُ التَّحَوُّل:
لِلتَّحَوُّل أَحْكَامٌ تَعْتَرِيهِ، وَهِيَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ مَوَاطِنِهَا، أَهَمُّهَا مَا يَلِي:
أ - تَحَوُّل الْعَيْنِ وَأَثَرُهُ فِي الطَّهَارَةِ وَالْحِل:
3 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى: أَنَّ نَجِسَ الْعَيْنِ يَطْهُرُ بِالاِسْتِحَالَةِ، فَرَمَادُ النَّجِسِ لاَ يَكُونُ نَجِسًا، وَلاَ يُعْتَبَرُ نَجِسًا مِلْحٌ كَانَ حِمَارًا أَوْ خِنْزِيرًا أَوْ غَيْرَهُمَا، وَلاَ نَجِسٌ وَقَعَ فِي بِئْرٍ فَصَارَ طِينًا، وَكَذَلِكَ الْخَمْرُ إِذَا صَارَتْ خَلًّا سَوَاءٌ بِنَفْسِهَا أَوْ بِفِعْل إِنْسَانٍ أَوْ غَيْرِهِ، لاِنْقِلاَبِ الْعَيْنِ، وَلأَِنَّ الشَّرْعَ رَتَّبَ وَصْفَ النَّجَاسَةِ عَلَى تِلْكَ الْحَقِيقَةِ، فَيَنْتَفِي بِانْتِقَائِهَا. فَإِذَا صَارَ الْعَظْمُ وَاللَّحْمُ مِلْحًا أَخَذَا حُكْمَ الْمِلْحِ؛ لأَِنَّ الْمِلْحَ غَيْرُ الْعَظْمِ وَاللَّحْمِ.
وَنَظَائِرُ ذَلِكَ فِي الشَّرْعِ كَثِيرَةٌ مِنْهَا: الْعَلَقَةُ فَإِنَّهَا نَجِسَةٌ، فَإِذَا تَحَوَّلَتْ إِلَى الْمُضْغَةِ تَطْهُرُ، وَالْعَصِيرُ طَاهِرٌ فَإِذَا تَحَوَّل خَمْرًا يَنْجُسُ.
فَيَتَبَيَّنُ مِنْ هَذَا: أَنَّ اسْتِحَالَةَ الْعَيْنِ تَسْتَتْبِعُ(10/278)
زَوَال الْوَصْفِ الْمُرَتَّبِ عَلَيْهَا. (1)
وَالأَْصْل عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ: أَنَّ نَجِسَ الْعَيْنِ لاَ يَطْهُرُ بِالاِسْتِحَالَةِ، فَالْكَلْبُ أَوْ غَيْرُهُ يُلْقَى فِي الْمَلاَّحَةِ فَيَصِيرُ مِلْحًا، وَالدُّخَانُ الْمُتَصَاعِدُ مِنْ وُقُودِ النَّجَاسَةِ، وَكَذَلِكَ الْبُخَارُ الْمُتَصَاعِدُ مِنْهَا إِذَا اجْتَمَعَتْ مِنْهُ نَدَاوَةٌ عَلَى جِسْمٍ صَقِيلٍ، ثُمَّ قَطَّرَ، نَجِسٌ. (2)
4 - ثُمَّ اسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ الْخَمْرَ إِذَا انْقَلَبَتْ بِنَفْسِهَا خَلًّا فَتَطْهُرُ بِالتَّخَلُّل؛ لأَِنَّ عِلَّةَ النَّجَاسَةِ الإِْسْكَارُ وَقَدْ زَالَتْ، وَلأَِنَّ الْعَصِيرَ لاَ يَتَخَلَّل إِلاَّ بَعْدَ التَّخَمُّرِ غَالِبًا، فَلَوْ لَمْ يُحْكَمْ بِالطَّهَارَةِ تَعَذَّرَ الْحُصُول عَلَى الْخَل، وَهُوَ حَلاَلٌ بِالإِْجْمَاعِ.
وَأَمَّا إِنْ خُلِّلَتْ بِطَرْحِ شَيْءٍ فِيهَا بِفِعْل إِنْسَانٍ فَلاَ تَطْهُرُ عِنْدَهُمْ.
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهَا لَوْ تَخَلَّلَتْ بِإِلْقَاءِ الرِّيحِ فَلاَ تَطْهُرُ عِنْدَهُمْ أَيْضًا، سَوَاءٌ أَكَانَ لَهُ دَخْلٌ فِي التَّخْلِيل كَبَصَلٍ وَخُبْزٍ حَارٍّ، أَمْ لاَ كَحَصَاةٍ.
وَكَذَلِكَ لاَ فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الْعَيْنُ الْمُلْقَاةُ طَاهِرَةً أَوْ نَجِسَةً. (3) وَفِي الْمَوْضُوعِ تَفْصِيلٌ أَكْثَرُ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى مُصْطَلَحِ: (تَخْلِيلٌ وَاسْتِحَالَةٌ) .
__________
(1) ابن عابدين 1 / 209، 217، والدسوقي 1 / 52 - 53، والإنصاف 1 / 318، والمغني 9 / 72.
(2) نهاية المحتاج 1 / 247، ط مصطفى البابي الحلبي، والمغني 1 / 72 ط مكتبة الرياض الحديثة، وروضة الطالبين 1 / 28 ط المكتب الإسلامي للطباعة والنشر.
(3) المراجع السابقة.(10/279)
ب - تَطْهِيرُ الْجِلْدِ بِالدِّبَاغِ:
5 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي نَجَاسَةِ جِلْدِ الْمَيْتَةِ قَبْل الدِّبَاغِ، (1) وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي طَهَارَتِهِ بَعْدَهُ عَلَى اتِّجَاهَاتٍ كَثِيرَةٍ. وَفِي الْمَوْضُوعِ فُرُوعٌ كَثِيرَةٌ وَخِلاَفٌ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ، فَصَّلَهُ الْفُقَهَاءُ عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنِ النَّجَاسَةِ وَكَيْفِيَّةِ تَطْهِيرِهَا، (2) وَيُرَاجَعُ فِيهِ أَيْضًا مُصْطَلَحُ: (دِبَاغَةٌ) .
ج - تَحَوُّل الْوَصْفِ أَوِ الْحَالَةِ:
تَحَوُّل الْمَاءِ الرَّاكِدِ إِلَى الْمَاءِ الْجَارِي:
6 - الْمُخْتَارُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْمَاءَ النَّجِسَ الرَّاكِدَ إِذَا تَحَوَّل إِلَى جَارٍ يَطْهُرُ بِمُجَرَّدِ جَرَيَانِهِ، وَالْجَارِي مَا يَعُدُّهُ النَّاسُ جَارِيًا (3) بِأَنْ يَدْخُل الْمَاءَ مِنْ جَانِبٍ وَيَخْرُجَ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ حَال دُخُولِهِ، وَإِنْ قَل الْخَارِجُ، لأَِنَّهُ صَارَ جَارِيًا حَقِيقَةً، وَبِخُرُوجِ بَعْضِهِ وَقَعَ الشَّكُّ فِي بَقَاءِ النَّجَاسَةِ، فَلاَ تَبْقَى مَعَ الشَّكِّ.
وَفِيهِ قَوْلاَنِ ضَعِيفَانِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
الأَْوَّل: لاَ يَطْهُرُ بِمُجَرَّدِ التَّحَوُّل، بَل لاَ بُدَّ مِنْ خُرُوجِ قَدْرِ مَا فِيهِ.
وَالثَّانِي: لاَ بُدَّ مِنْ خُرُوجِ ثَلاَثَةِ أَمْثَالِهِ.
__________
(1) يسمى الجلد قبل الدباغ (إهابا) و (مسكا) .
(2) ابن عابدين 1 / 135، 136 ط دار إحياء التراث الإسلامي بيروت، وحاشية الدسوقي 1 / 54، 55 ط دار الفكر، والمغني 1 / 66 وما بعدها.
(3) الاختيار 1 / 15.(10/279)
وَيَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْقَوْل الْمُخْتَارِ وَالْقَوْلَيْنِ الآْخَرَيْنِ فِي: أَنَّ الْخَارِجَ مِنَ الْحَوْضِ يَكُونُ طَاهِرًا بِمُجَرَّدِ خُرُوجِهِ، بِنَاءً عَلَى الْقَوْل الْمُخْتَارِ. وَلاَ يَكُونُ طَاهِرًا قَبْل الْحُكْمِ بِطَهَارَةِ الْمَاءِ الرَّاكِدِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ الآْخَرَيْنِ.
وَعَلَى هَذَا الْخِلاَفِ: الْبِئْرُ وَحَوْضُ الْحَمَّامِ وَالأَْوَانِي. (1)
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَعِنْدَهُمْ يَتَحَوَّل الْمَاءُ الْكَثِيرُ النَّجِسُ طَهُورًا بِزَوَال التَّغَيُّرِ، سَوَاءٌ أَكَانَ بِصَبِّ مَاءٍ مُطْلَقٍ عَلَيْهِ، قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ، أَوْ مَاءٍ مُضَافٍ مُقَيَّدٍ انْتَفَتْ نَجَاسَتُهُ، أَمْ بِإِلْقَاءِ شَيْءٍ فِيهِ كَتُرَابٍ أَوْ طِينٍ، وَلَمْ يَظْهَرْ فِيهِ أَحَدُ أَوْصَافِ مَا أُلْقِيَ فِيهِ. لأَِنَّ تَنَجُّسَهُ إِنَّمَا كَانَ لأَِجْل التَّغَيُّرِ وَقَدْ زَال، وَالْحُكْمُ يَدُورُ مَعَ عِلَّتِهِ وُجُودًا وَعَدَمًا، كَالْخَمْرِ إِذَا صَارَتْ خَلًّا، وَفِي تَغَيُّرِهِ بِنَفْسِهِ، أَوْ بِنَزْحِ بَعْضِهِ قَوْلاَنِ. (2)
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ الْمَاءَ إِذَا بَلَغَ قُلَّتَيْنِ لاَ يَنْجُسُ بِمُلاَقَاةِ نَجِسٍ، لِحَدِيثِ إِذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِل الْخَبَثَ (3) أَيْ لاَ يَقْبَل النَّجِسَ.
هَذَا مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ لَوْنُهُ أَوْ طَعْمُهُ أَوْ رِيحُهُ فَيَنْجُسُ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 130، 131.
(2) حاشية الدسوقي 1 / 46، 47.
(3) حديث: " إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث " أخرجه أبو داود واللفظ له والترمذي والحاكم، ونسبه ابن حجر أيضا إلى الشافعي وأحمد وابن خزيمة وابن حبان والدارقطني والبيهقي. قال المباركفوري بعد سرد طرق الحديث المختلفة: والحاصل أن الحديث صحيح قابل للاحتجاج، وكل ما اعتذروا به عن العمل والقول به فهو مدفوع. (سنن أبي داود 1 / 51 ط عزت عبيد دعاس، وتحفة الأحوذي 1 / 215 - 221 نشر المكتبة السلفية، والمستدرك 1 / 132، والتلخيص الحبير 1 / 16 نشر المكتبة الأثرية، ونيل الأوطار 1 / 37 ط دار الجيل، والسنن الكبرى للبيهقي 1 / 260) .(10/280)
لِحَدِيثِ: إِنَّ الْمَاءَ طَهُورٌ لاَ يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إِلاَّ مَا غَيَّرَ لَوْنَهُ أَوْ طَعْمَهُ أَوْ رِيحَهُ. (1)
فَإِنْ تَغَيَّرَ وَصْفٌ مِنْ هَذِهِ الأَْوْصَافِ تَنَجَّسَ، فَإِنْ زَال تَغَيُّرُهُ بِنَفْسِهِ أَوْ بِمَاءٍ انْضَمَّ إِلَيْهِ طَهُرَ. وَمَا دُونَ الْقُلَّتَيْنِ يَنْجُسُ بِالْمُلاَقَاةِ، فَإِنْ بَلَغَهُمَا بِمَاءٍ وَلاَ تَغَيُّرَ بِهِ فَطَهُورٌ. وَلَوْ كَوْثَرٌ بِإِيرَادِ طَهُورٍ فَلَمْ يَبْلُغْ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَطْهُرْ. وَقِيل: هُوَ طَاهِرٌ لاَ طَهُورٌ. (2)
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: يَخْتَلِفُ تَطْهِيرُ الْمَاءِ الْمُتَنَجِّسِ بِالْمُكَاثَرَةِ بِاخْتِلاَفِ أَحْوَالٍ ثَلاَثٍ لِلْمَاءِ:
__________
(1) حديث: " إن الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما. . . " أخرجه البيهقي بلفظ " إن الماء طاهر إلا إن تغير ريحه أو طعمه أو لونه بنجاسة تحدث فيها " وقال: الحديث غير قوي، إلا أنا لا نعلم خلافا في نجاسة الماء إذا تغير بالنجاسة. وقال النووي: اتفق المحدثون على تضعيفه، قال في البدر المنير: إن الاستثناء المذكور ضعيف فتعين الاحتجاج على نجاسة الماء المتغير بالنجاسة بالإجماع. أما شطر الحديث الأول: " إن الماء طهور لا ينجسه شيء " فقد أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وقال: حديث حسن. وقد صححه يحيى بن معين وأحمد بن حنبل والحاكم وغيره. (السنن الكبرى للبيهقي 1 / 260 ط الهند، وتحفة الأحوذي 1 / 203 - 205 نشر المكتبة السلفية، ونيل الأوطار للشوكاني 1 / 34، 35 ط دار الجيل) .
(2) المنهاج للنووي وشرحه للمحلي 1 / 21 و 22.(10/280)
أَنْ يَكُونَ دُونَ الْقُلَّتَيْنِ، أَوْ وَفْقَ الْقُلَّتَيْنِ، أَوْ زَائِدًا عَنْهُمَا.
(1) فَإِنْ كَانَ دُونَ الْقُلَّتَيْنِ فَتَطْهِيرُهُ بِالْمُكَاثَرَةِ بِمَاءٍ آخَرَ.
فَإِنِ اجْتَمَعَ نَجِسٌ إِلَى نَجِسٍ، فَالْكُل نَجِسٌ وَإِنْ كَثُرَ، لأَِنَّ اجْتِمَاعَ النَّجِسِ إِلَى النَّجِسِ لاَ يَتَوَلَّدُ بَيْنَهُمَا طَاهِرٌ، كَالْمُتَوَلِّدِ بَيْنَ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ، وَيَتَخَرَّجُ أَنْ يَطْهُرَ إِذَا زَال التَّغَيُّرُ وَبَلَغَ الْقُلَّتَيْنِ، (1) لِحَدِيثِ: إِذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِل الْخَبَثَ (2) وَحَدِيثِ: إِنَّ الْمَاءَ طَهُورٌ لاَ يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إِلاَّ مَاءٌ غُيِّرَ لَوْنُهُ أَوْ طَعْمُهُ أَوْ رِيحُهُ. (3)
وَجَمِيعُ النَّجَاسَاتِ فِي هَذَا سَوَاءٌ، إِلاَّ بَوْل الآْدَمِيِّينَ وَعَذِرَتَهُمُ الْمَائِعَةَ، فَإِنَّ أَكْثَرَ الرِّوَايَاتِ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهَا تُنَجِّسُ الْمَاءَ الْكَثِيرَ، إِلاَّ أَنْ يَبْلُغَ حَدًّا لاَ يُمْكِنُ نَزْحُهُ كَالْغُدْرَانِ، فَذَلِكَ الَّذِي لاَ يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ.
(2) فَإِنْ كَانَ وَفْقَ الْقُلَّتَيْنِ:
وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ فَيَطْهُرُ بِالْمُكَاثَرَةِ الْمَذْكُورَةِ.
وَإِنْ كَانَ مُتَغَيِّرًا يَطْهُرُ بِالْمُكَاثَرَةِ إِذَا أَزَالَتِ التَّغَيُّرَ، أَوْ بِتَرْكِهِ حَتَّى يَزُول تَغَيُّرُهُ بِطُول الْمُكْثِ.
__________
(1) الكافي 1 / 10 - 11 ط المكتب الإسلامي.
(2) الحديث سبق تخريجه.
(3) الحديث سبق تخريجه.(10/281)
(3) وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنَ الْقُلَّتَيْنِ: فَإِنْ كَانَ نَجِسًا بِغَيْرِ التَّغَيُّرِ فَلاَ طَرِيقَ إِلَى تَطْهِيرِهِ بِغَيْرِ الْمُكَاثَرَةِ.
وَإِنْ كَانَ نَجِسًا مُتَغَيِّرًا بِالنَّجَاسَةِ فَتَطْهِيرُهُ إِمَّا بِالْمُكَاثَرَةِ، أَوْ زَوَال تَغَيُّرِهِ بِمُكْثِهِ، أَوْ أَنْ يُنْزَحَ مِنْهُ مَا يَزُول بِهِ التَّغَيُّرُ، وَيَبْقَى بَعْدَ ذَلِكَ قُلَّتَانِ فَصَاعِدًا. (1)
وَفِي الْمَوْضُوعِ تَفْصِيلٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ: (طَهَارَةٌ) .
التَّحَوُّل إِلَى الْقِبْلَةِ أَوْ عَنْهَا:
7 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُصَلِّيَ إِذَا كَانَ مُعَايِنًا لِلْكَعْبَةِ، فَفَرْضُهُ الصَّلاَةُ إِلَى عَيْنِهَا بِجَمِيعِ بَدَنِهِ، بِأَنْ لاَ يَخْرُجَ شَيْءٌ مِنْهُ عَنِ الْكَعْبَةِ وَلَوْ عُضْوًا، فَلَوْ تَحَوَّل بِغَيْرِ عُذْرٍ إِلَى جِهَةٍ أُخْرَى بَطَلَتْ صَلاَتُهُ. (2)
وَأَمَّا فِي تَحْوِيل الْوَجْهِ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَوِ انْحَرَفَ وَجْهُهُ عَنْ عَيْنِ الْكَعْبَةِ انْحِرَافًا لاَ تَزُول فِيهِ الْمُقَابَلَةُ بِالْكُلِّيَّةِ، جَازَ مَعَ الْكَرَاهَةِ. (3)
__________
(1) المغني 1 / 35 و 36، والإنصاف 1 / 66، والكافي 1 / 11، 1 / 508، وروضة الطالبين 1 / 216، والمغني 1 / 439، وكشاف القناع 1 / 305.
(2) ابن عابدين 1 / 287، وحاشية الدسوقي 1 / 223، والحطاب 1 / 508، وروضة الطالبين 1 / 216، والمغني 1 / 439، وكشاف القناع 1 / 305.
(3) ابن عابدين 1 / 287، 288.(10/281)
وَأَمَّا تَحْوِيل الصَّدْرِ عَنِ الْقِبْلَةِ بِغَيْرِ عُذْرٍ فَمُفْسِدٌ لِلصَّلاَةِ. (1)
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: مَنِ الْتَفَتَ بِجَسَدِهِ كُلِّهِ عَنِ الْقِبْلَةِ لَمْ تَفْسُدْ صَلاَتُهُ، إِنْ بَقِيَتْ قَدَمَاهُ إِلَى الْقِبْلَةِ. (2)
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ التَّحَوُّل إِلَى جِهَةٍ أُخْرَى عَامِدًا مُبْطِلٌ لِلصَّلاَةِ، وَإِنْ فَعَلَهُ نَاسِيًا لَمْ تَبْطُل. (3) وَفِي الْمَوْضُوعِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى مُصْطَلَحِ: (اسْتِقْبَالٌ) .
التَّحَوُّل مِنَ الْقِيَامِ إِلَى الْقُعُودِ فِي الصَّلاَةِ:
8 - التَّحَوُّل مِنَ الْقِيَامِ إِلَى الْقُعُودِ، وَمِنْهُ إِلَى الاِسْتِلْقَاءِ أَوِ الاِضْطِجَاعِ مِنْ فُرُوعِ قَاعِدَةِ: " الْمَشَقَّةُ تَجْلِبُ التَّيْسِيرَ " وَالأَْصْل فِيهَا قَوْله تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (4) وقَوْله تَعَالَى: {وَمَا جَعَل عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (5) ، وَلِذَلِكَ أَجْمَعَ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ مَنْ لاَ يُطِيقُ الْقِيَامَ، وَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ قَبْل الصَّلاَةِ أَوْ أَثْنَاءَهَا حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا، بِأَنْ خَافَ زِيَادَةَ مَرَضٍ، أَوْ بُطْءَ بُرْئِهِ، أَوْ دَوَرَانَ رَأْسِهِ، أَوْ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 421، 432.
(2) الحطاب 1 / 508، 509، وشرح الزرقاني 1 / 184 ط دار الفكر، وكشاف القناع 1 / 369، 370.
(3) روضة الطالبين 1 / 212.
(4) سورة البقرة / 185.
(5) سورة الحج / 78.(10/282)
وَجَدَ لِقِيَامِهِ أَلَمًا شَدِيدًا وَنَحْوَهُ، لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ جَالِسًا، وَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَوْمَأَ مُسْتَلْقِيًا، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: صَل قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ (1) زَادَ النَّسَائِيُّ: فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَمُسْتَلْقِيًا.
وَيُزَادُ فِي النَّافِلَةِ: أَنَّ لَهُ التَّحَوُّل مِنَ الْقِيَامِ إِلَى الْقُعُودِ بِلاَ عُذْرٍ.
وَفِي الْمَوْضُوعِ تَفْصِيلٌ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى كِتَابِ الصَّلاَةِ عِنْدَ الْكَلاَمِ فِي صَلاَةِ الْمَرِيضِ.
تَحَوُّل الْمُقِيمِ إِلَى مُسَافِرٍ وَعَكْسُهُ:
أ - تَحَوُّل الْمُقِيمِ إِلَى مُسَافِرٍ:
9 - يَصِيرُ الْمُقِيمُ مُسَافِرًا بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ:
أَوَّلُهُمَا: إِذَا جَاوَزَ بُيُوتَ مَقَامِهِ، وَجَاوَزَ مَا اتَّصَل بِهِ مِنْ تَوَابِعِ الْبَلَدِ بِنِيَّةِ السَّفَرِ، قَاصِدًا الْمَسَافَةَ الَّتِي يَتَحَقَّقُ بِهَا السَّفَرُ الَّذِي تَتَغَيَّرُ بِهِ الأَْحْكَامُ. وَالْمُعْتَبَرُ فِي النِّيَّةِ نِيَّةُ الْمَتْبُوعِ لاَ التَّابِعِ، حَتَّى تَصِيرَ الزَّوْجَةُ مُسَافِرَةً بِنِيَّةِ الزَّوْجِ، وَالْجُنْدِيُّ بِنِيَّةِ الْقَائِدِ، وَكُل مَنْ لَزِمَهُ طَاعَةُ غَيْرِهِ كَالسُّلْطَانِ وَأَمِيرِ الْجَيْشِ. (2)
ثَانِيهِمَا: إِذَا أَنْشَأَ السَّيْرَ بَعْدَ الإِْقَامَةِ.
__________
(1) حديث: " صل قائما. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 587 ط السلفية، وجامع الأصول 5 / 312 نشر مكتبة الحلواني) .
(2) بدائع الصنائع 1 / 94 ط دار الكتاب العربي.(10/282)
وَلِتَفْصِيل الْمَوْضُوعِ يُرْجَعُ إِلَى (صَلاَةُ الْمُسَافِرِ) . (1)
ب - تَحَوُّل الْمُسَافِرِ إِلَى مُقِيمٍ:
10 - يَصِيرُ الْمُسَافِرُ مُقِيمًا بِأَحَدِ الأُْمُورِ التَّالِيَةِ:
الأَْوَّل: الْعَوْدُ إِلَى الْوَطَنِ الأَْصْلِيِّ، وَلَوْ لَمْ يَنْوِ الإِْقَامَةَ فِيهِ.
وَالضَّبْطُ فِيهِ: أَنْ يَعُودَ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي شَرَطَ الْفُقَهَاءُ مُفَارَقَتَهُ فِي إِنْشَاءِ السَّفَرِ مِنْهُ. (2)
الثَّانِي: الْوُصُول إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يُسَافِرُ إِلَيْهِ، إِذَا عَزَمَ عَلَى الإِْقَامَةِ فِيهِ الْقَدْرَ الْمَانِعَ مِنَ التَّرَخُّصِ، وَكَانَ صَالِحًا لِلإِْقَامَةِ. وَالْمُدَّةُ الْمَانِعَةُ مِنَ التَّرَخُّصِ خِلاَفِيَّةٌ يُرْجَعُ فِيهَا إِلَى (صَلاَةُ الْمُسَافِرِ) .
الثَّالِثُ: إِذَا تَزَوَّجَ الْمُسَافِرُ بِبَلَدٍ، وَإِنْ لَمْ يَتَّخِذْهُ وَطَنًا، وَلَمْ يَنْوِ الإِْقَامَةَ.
الرَّابِعُ: نِيَّةُ الإِْقَامَةِ فِي الطَّرِيقِ: وَلاَ بُدَّ فِيهِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: نِيَّةُ الإِْقَامَةِ، وَنِيَّةُ مُدَّةِ الإِْقَامَةِ، وَاتِّحَادُ الْمَكَانِ، وَصَلاَحِيَّتُهُ لِلإِْقَامَةِ.
وَأَمَّا الْمَفَازَةُ وَنَحْوُهَا فَفِي انْقِطَاعِ السَّفَرِ بِنِيَّةِ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 525، 526، وبدائع الصنائع 1 / 94، والاختيار لتعليل المختار 1 / 79، 80 ط دار المعرفة، والقوانين الفقهية / 89، 90، وروضة الطالبين 1 / 380، وما بعدها و 386، والمغني 2 / 258 وما بعدها، وكشاف القناع 1 / 503، 506 وما بعدها.
(2) ابن عابدين 1 / 528، والقوانين الفقهية / 90، وروضة الطالبين 1 / 383 والمغني 2 / 260، والشرح الصغير 1 / 481.(10/283)
الإِْقَامَةِ فِيهَا خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ (1) يُنْظَرُ فِي (صَلاَةُ الْمُسَافِرِ) .
الْخَامِسُ: الإِْقَامَةُ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ: وَهُوَ أَنْ يَصِيرَ الأَْصْل مُقِيمًا، فَيَصِيرَ التَّبَعُ أَيْضًا مُقِيمًا، بِإِقَامَةِ الأَْصْل. (2)
التَّحَوُّل عَنِ الْوَاجِبِ إِلَى الْبَدَل:
الْكَلاَمُ عَلَى التَّحَوُّل عَنِ الْوَاجِبِ إِلَى الْبَدَل يَكُونُ فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا:
أ - الزَّكَاةُ:
11 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى جَوَازِ التَّحَوُّل عَنِ الْوَاجِبِ إِلَى الْبَدَل فِي الزَّكَاةِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الأَْوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ. فَيَجُوزُ لِلْمَالِكِ أَنْ يَدْفَعَ الْعَيْنَ أَوِ الْقِيمَةَ مِنَ النَّقْدَيْنِ وَالْعُرُوضِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلَوْ مَعَ وُجُودِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} . (3)
نَصَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَأْخُوذِ (صَدَقَةً) وَكُل جِنْسٍ يَأْخُذُهُ فَهُوَ صَدَقَةٌ.
وَلِقَوْل مُعَاذٍ لأَِهْل الْيَمَنِ حِينَ بَعَثَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمُ: ائْتُونِي بِعَرْضِ ثِيَابٍ خَمِيصٍ أَوْ لَبِيسٍ فِي الصَّدَقَةِ مَكَانَ الشَّعِيرِ وَالذُّرَةِ، أَهْوَنُ عَلَيْكُمْ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 528، والشرح الصغير 1 / 481، وروضة الطالبين 1 / 383، 384، والمغني 2 / 288.
(2) بدائع الصنائع 1 / 101، وروضة الطالبين 1 / 384.
(3) سورة التوبة / 103.(10/283)
وَخَيْرٌ لأَِصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ، (1) وَكَانَ يَأْتِي بِهِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلاَ يُنْكِرُ عَلَيْهِ.
وَالْفِقْهُ فِيهِ: أَنَّ الْمَقْصُودَ إِيصَال الرِّزْقِ الْمَوْعُودِ إِلَى الْفَقِيرِ، وَدَفْعُ حَاجَةِ الْمِسْكِينِ، وَهُوَ يَحْصُل بِالْقِيمَةِ أَيْضًا. قَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ عَلَى الأَْغْنِيَاءِ قُوتَ الْفُقَرَاءِ، وَسَمَّاهُ زَكَاةً. (2)
وَفِي اعْتِبَارِ الْقِيمَةِ هَل تُدْفَعُ الْقِيمَةُ يَوْمَ الأَْدَاءِ
__________
(1) قول معاذ: " ائتوني بعرض ثياب خميص أو لبيس في الصدقة. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 311 ط السلفية) . و " خميص " بالصاد كذا ذكره البخاري فيما قاله عياض وابن قرقول. وقال الداودي والجوهري وغيرهما: ثوب خميس (بالسين) ويقال أيضا: خموس. وهو الثوب الذي طوله أذرع يعني الصغير من الثياب. (عمدة القاري 9 / 4 ط المنيرة، وفتح الباري 3 / 311، 314 ط السلفية، والنهاية لابن الأثير مادة: " خمس ".
(2) حديث: " إن الله تعالى فرض على الأغنياء. . . . " أورده صاحب الاختيار بهذا اللفظ ولم نعثر عليه فيما لدينا من مراجع السنن والآثار، إلا أنه يدل عليه ما أخرجه الطبراني في الأوسط والصغير بلفظ " إن الله فرض على أغنياء المسلمين في أموالهم بقدر الذي يسع فقراءهم، ولن يجهد الفقراء إذا جاءوا وعروا إلا بما يصنع أغنياؤهم، ألا وإن الله يحاسبهم حسابا شديدا ويعذبهم عذابا أليما " قال الطبراني: تفرد به ثابت بن محمد الزاهد، وقال الحافظ المنذري: وثابت ثقة صدوق، روى عنه البخاري وغيره وبقية رواته لا بأس بهم، وروي موقوفا عن علي رضي الله عنه، وهو أشبه. (الترغيب والترهيب للمنذري 2 / 107 ط مطبعة السعادة بمصر) .(10/284)
أَمْ يَوْمَ الْوُجُوبِ؟ خِلاَفٌ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى مَوْطِنِهِ. (1)
وَأَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: فَيَجُوزُ التَّحَوُّل عَنِ الْوَاجِبِ إِلَى الْبَدَل فِي الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ فَقَطْ، فَيَجُوزُ لِلْمُزَكِّي أَنْ يُخْرِجَ فِي زَكَاةِ الدَّنَانِيرِ دَرَاهِمَ بِقِيمَتِهَا، وَيُخْرِجَ عَنِ الْفِضَّةِ ذَهَبًا بِقِيمَتِهِ، قَلَّتِ الْقِيمَةُ أَوْ كَثُرَتْ، لأَِنَّ ذَلِكَ مُعَاوَضَةٌ فِي حَقِّهِ، فَكَانَتْ بِالْقِيمَةِ كَسَائِرِ الْمُعَاوَضَاتِ، (2) وَهُمَا كَجِنْسٍ وَاحِدٍ.
وَلَمْ يُجِزْ ذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ. (3)
وَأَمَّا فِي الْمَوَاشِي: فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ جَائِزٌ، بِنَاءً عَلَى قَاعِدَتِهِمْ بِجَوَازِ الْقِيمَةِ فِي كُل شَيْءٍ. وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. وَيُكْرَهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ التَّحَوُّل عَنِ الْوَاجِبِ إِلَى الْبَدَل، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ مَعْنَى الرُّجُوعِ فِي الصَّدَقَةِ، وَلِئَلاَّ تَكُونَ الْقِيمَةُ أَقَل مِمَّا عَلَيْهِ، فَيَكُونُ قَدْ بَخَسَ الْفُقَرَاءَ حَقَّهُمْ، إِلاَّ إِذَا أَجْبَرَ السَّاعِي الْمُزَكِّيَ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ دَرَاهِمَ فِيمَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ صَدَقَتِهِ، فَيُجْزِئُ عَنْهُ، إِذَا كَانَ فِيهِ وَفَاءٌ بِقِيمَةِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ، وَكَانَ عِنْدَ مَحَلِّهَا. (4)
__________
(1) ابن عابدين 2 / 22، والاختيار لتعليل المختار 1 / 102، 103.
(2) الحطاب 2 / 355، والمدونة 1 / 243، وكشاف القناع 2 / 217، ونيل المآرب 1 / 250.
(3) السراج الوهاج على متن المنهاج 124 ط الحلبي، والقليوبي 2 / 22.
(4) الحطاب 2 / 360، والمدونة 1 / 308.(10/284)
وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لاَ يُجْزِئُ إِنْ نَقَصَتْ قِيمَتُهُ عَنْ قِيمَةِ الشَّاةِ. وَوَجْهٌ ثَالِثٌ: أَنَّهُ إِنْ كَانَتِ الإِْبِل مِرَاضًا، أَوْ قَلِيلَةَ الْقِيمَةِ لِعَيْبٍ أَجْزَأَ الْبَعِيرُ النَّاقِصُ عَنْ قِيمَةِ الشَّاةِ، وَإِنْ كَانَتْ صِحَاحًا سَلِيمَةً لَمْ يُجْزِئِ النَّاقِصُ.
وَفِي الْمَوْضُوعِ تَفْصِيلٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي (الزَّكَاةُ) .
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَلاَ يَجُوزُ عِنْدَهُمُ التَّحَوُّل فِي الْمَاشِيَةِ مِنْ جِنْسٍ إِلَى آخَرَ وَلاَ إِلَى الْقِيمَةِ. .
ب - زَكَاةُ الْفِطْرِ:
12 - التَّحَوُّل عَنِ الْعَيْنِ إِلَى الْقِيمَةِ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ لاَ يَجُوزُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَكَذَلِكَ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ. وَيَجُوزُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. (1)
وَأَمَّا التَّحَوُّل مِنْ جِنْسٍ إِلَى آخَرَ مِنْ أَجْنَاسِ الأَْقْوَاتِ، أَوِ التَّحَوُّل مِنَ الأَْدْنَى إِلَى الأَْعْلَى وَعَكْسُهُ فَفِيهِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي (زَكَاةُ الْفِطْرِ) .
ج - الْعُشُورُ:
13 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 22، والاختيار 1 / 102 - 103، وروضة الطالبين 2 / 303، والمغني 3 / 62، 65 وكشاف القناع 2 / 252، 254، والمدونة 1 / 358، والحطاب 2 / 368، ونيل المآرب 1 / 258، وشرح المحلي على المنهاج 2 / 37.(10/285)
التَّحَوُّل عَنِ الْوَاجِبِ إِلَى الْبَدَل فِي الْعُشُورِ. (1)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى جَوَازِ التَّحَوُّل عَنِ الْوَاجِبِ إِلَى الْبَدَل فِي الْعُشُورِ، وَذَلِكَ لِلأَْدِلَّةِ الَّتِي سَبَقَ ذِكْرُهَا، وَكَذَلِكَ يَجُوزُ التَّحَوُّل مِنَ الْوَاجِبِ إِلَى الأَْعْلَى فَقَطْ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِذَا كَانَتِ الْحُبُوبُ وَالثِّمَارُ نَوْعًا وَاحِدًا.
وَإِنِ اخْتَلَفَتِ الأَْنْوَاعُ: أَخَذَ الْوَاجِبَ مِنْ كُل نَوْعٍ بِالْحِصَّةِ إِنْ لَمْ يَتَعَسَّرْ، فَإِنْ عَسُرَ أَخْذُ الْوَاجِبِ مِنْ كُل نَوْعٍ بِأَنْ كَثُرَتْ، وَقَل ثَمَرُهَا فَفِيهِ أَوْجُهٌ:
الْوَجْهُ الأَْوَّل، وَهُوَ الصَّحِيحُ: أَنَّهُ يُخْرِجُ مِنَ الْوَسَطِ رِعَايَةً لِلْجَانِبَيْنِ. (2)
وَالثَّانِي: يُؤْخَذُ مِنْ كُل نَوْعٍ بِقِسْطِهِ.
وَالثَّالِثُ: مِنَ الْغَالِبِ، وَقِيل: يُؤْخَذُ الْوَسَطُ قَطْعًا. (3)
وَفِي الْمَوْضُوعِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (عُشْرٌ) .
د - الْكَفَّارَاتُ:
14 - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ التَّحَوُّل عَنِ الْوَاجِبِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ إِلَى غَيْرِهِ فِي
__________
(1) الحطاب 2 / 360، والمدونة 1 / 308، وكشاف القناع 2 / 7، والمغني 2 / 578.
(2) متن المنهاج المطبوع مع السراج الوهاج 5 / 122، وروضة الطالبين 2 / 247.
(3) روضة الطالبين 2 / 247.(10/285)
الْكَفَّارَاتِ، فَإِنْ كَانَ مُعَيَّنًا تَعَيَّنَ، وَإِنْ كَانَ مُخَيَّرًا تَخَيَّرَ فِي الْخِصَال الَّتِي نَصَّ عَلَيْهَا الشَّارِعُ.
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ جَوَازَ التَّحَوُّل عَنِ الْوَاجِبِ إِنْ كَانَ مَالِيًّا إِلَى الْبَدَل فِي الْكَفَّارَاتِ. وَفِي ذَلِكَ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ: (كَفَّارَاتٌ) . (1)
هـ - النُّذُورُ:
15 - الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الْوَجْهُ الصَّحِيحُ لَدَى الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ مَنْ نَذَرَ نَذْرًا مُعَيَّنًا وَغَيْرَ مُطْلَقٍ فَعَلَيْهِ إِخْرَاجُهُ مِمَّا عَيَّنَهُ، وَلاَ يَجُوزُ الْعُدُول عَنِ الْمُعَيَّنِ إِلَى غَيْرِهِ بَدَلاً أَوْ قِيمَةً. وَفِي ذَلِكَ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي (النَّذْرُ) .
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ جَوَازَ ذَلِكَ مُطْلَقًا، كَمَا يَجُوزُ عِنْدَهُمُ الْعُدُول عَنِ الْوَاجِبِ إِلَى الْقِيمَةِ فِي النُّذُورِ، وَاسْتَثْنَوْا نَذْرَ الْعِتْقِ وَالْهَدْيِ وَالأُْضْحِيَّةِ. (2)
تَحَوُّل فَرِيضَةِ الصَّوْمِ إِلَى فِدْيَةٍ:
16 - اتَّفَقَ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الشَّيْخَ الْهَرِمَ
__________
(1) المدونة 1 / 345 و 2 / 111، وابن عابدين 2 / 22، والاختيار لتعليل المختار 1 / 102، 103، والمغني 8 / 738، وروضة الطالبين 8 / 298، 307، وكشاف القناع 1 / 214، 217، ونيل المآرب 1 / 258.
(2) ابن عابدين 2 / 222، والاختيار لتعليل المختار 1 / 102 - 103، والمدونة 1 / 358 و 2 / 111، والقوانين الفقهية / 175، وروضة الطالبين 2 / 247، و3 / 328، والمغني 9 / 18.(10/286)
الَّذِي لاَ يُطِيقُ الصَّوْمَ، أَوْ تَلْحَقُهُ بِهِ مَشَقَّةٌ شَدِيدَةٌ لاَ صَوْمَ عَلَيْهِ، وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الْفِدْيَةِ عَلَيْهِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ الأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَوْلٌ غَيْرُ مَشْهُورٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: إِلَى أَنَّهُ تَجِبُ عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَهُوَ غَيْرُ الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ لاَ فِدْيَةَ عَلَيْهِ. وَفِي وُجُوبِ الْفِدْيَةِ عَلَى الْحَامِل وَالْمُرْضِعِ خَافَتْ عَلَى نَفْسِهَا أَوْ وَلَدِهَا، وَالْمَرِيضِ الَّذِي لاَ يُرْجَى بُرْؤُهُ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ
، يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى مُصْطَلَحِ: (صَوْمٌ وَفِدْيَةٌ) . .
تَحَوُّل الْعَقْدِ الَّذِي لَمْ تُسْتَكْمَل شَرَائِطُهُ إِلَى عَقْدٍ آخَرَ:
17 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ الأَْظْهَرُ مِنَ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِلَى أَنَّ الْهِبَةَ إِذَا كَانَتْ بِشَرْطِ الْعِوَضِ يَصِحُّ الْعَقْدُ وَيَتَحَوَّل إِلَى بَيْعٍ، فَيَثْبُتُ فِيهِ الْخِيَارُ وَالشُّفْعَةُ، وَيَلْزَمُ قَبْل الْقَبْضِ، وَيُرَدُّ بِالْعَيْبِ وَخِيَارِ الرُّؤْيَةِ. وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ: يَبْطُل الْعَقْدُ، لأَِنَّهُ شَرَطَ فِي الْهِبَةِ مَا يُنَافِي مُقْتَضَاهَا.(10/286)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى: أَنَّ هِبَةَ الثَّوَابِ بَيْعٌ ابْتِدَاءً، وَلِذَا لاَ تَبْطُل بِمَوْتِ الْوَاهِبِ قَبْل حِيَازَةِ الْهِبَةِ، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُثَابَ عَنِ الذَّهَبِ فِضَّةً أَوِ الْعَكْسُ، لِمَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ مِنَ الصَّرْفِ الْمُؤَخَّرِ، مَا لَمْ يَحْدُثِ التَّقَابُضُ فِي الْمَجْلِسِ. وَفِي كَوْنِ الْعِوَضِ مَعْلُومًا أَوْ مَجْهُولاً، وَكَذَلِكَ فِي كَوْنِهَا بَيْعًا ابْتِدَاءً أَوِ انْتِهَاءً تَفْصِيلٌ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى مُصْطَلَحِ: (هِبَةٌ) . (1)
وَلِتَحَوُّل الْعَقْدِ الَّذِي لَمْ تُسْتَكْمَل شَرَائِطُهُ إِلَى عَقْدٍ آخَرَ أَمْثِلَةٌ أُخْرَى مِنْهَا: تَحَوُّل الْمُضَارَبَةِ الصَّحِيحَةِ إِلَى وَكَالَةٍ بِالنِّسْبَةِ لِتَصَرُّفَاتِ الْمُضَارِبِ، وَلِذَلِكَ يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ فِي الْجُمْلَةِ: أَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْمُضَارِبِ مَنُوطَةٌ بِالْمَصْلَحَةِ كَالْوَكِيل. (2)
وَإِلَى شَرِكَةٍ إِنْ رَبِحَ الْمُضَارِبُ، وَإِلَى إِجَارَةٍ فَاسِدَةٍ إِنْ فَسَدَتْ. (3)
وَمِنْهَا: تَحَوُّل السَّلَمِ إِلَى بَيْعٍ مُطْلَقًا، إِذَا كَانَ الْمُسْلَمُ فِيهِ عَيْنًا فِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. وَإِلَى هِبَةٍ
__________
(1) ابن عابدين 4 / 519، وبداية المجتهد ونهاية المقتصد 2 / 357، 358 ط مكتبة الكليات الأزهرية، وروضة الطالبين 5 / 386، والمغني 5 / 685، والفواكه الدواني 2 / 222.
(2) بدائع الصنائع 6 / 87، 92، والاختيار لتعليل المختار 3 / 19.
(3) ابن عابدين 4 / 484، والاختيار لتعليل المختار 3 / 20، والشرح الصغير 3 / 681، وروضة الطالبين 5 / 141، والمغني 5 / 63، 64.(10/287)
لَوْ قَال: بِعْتُ بِلاَ ثَمَنٍ، وَالأَْظْهَرُ الْبُطْلاَنُ. (1)
وَمِنْهَا: تَحَوُّل الاِسْتِصْنَاعِ سَلَمًا إِذَا ضُرِبَ فِيهِ الأَْجَل عِنْدَ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ، حَتَّى تُعْتَبَرَ فِيهِ شَرَائِطُ السَّلَمِ. (2)
وَفِي كُلٍّ مِنَ الأَْمْثِلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَاتِ (عَقْدٌ، وَسَلَمٌ، وَمُضَارَبَةٌ، وَشَرِكَةٌ، وَاسْتِصْنَاعٌ) .
تَحَوُّل الْعَقْدِ الْمَوْقُوفِ إِلَى نَافِذٍ:
18 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِلَى أَنَّ بَيْعَ الْفُضُولِيِّ يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ الْمَالِكِ، فَإِذَا أَجَازَهُ الْمَالِكُ أَصْبَحَ نَافِذًا، وَإِلاَّ فَلاَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْقَوْل الْجَدِيدِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ أُخْرَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى: أَنَّ هَذَا الْبَيْعَ بَاطِلٌ وَيَجِبُ رَدُّهُ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ. (3)
وَقَدْ فَصَّل الْقَائِلُونَ بِانْعِقَادِ بَيْعِ الْفُضُولِيِّ الْكَلاَمَ حَوْلَهُ، وَيُرْجَعُ فِيهِ إِلَى مُصْطَلَحَاتِ: (عَقْدٌ، وَمَوْقُوفٌ، وَفُضُولِيٌّ) .
__________
(1) روضة الطالبين 4 / 6، والوجيز 1 / 154.
(2) ابن عابدين 4 / 212.
(3) ابن عابدين 4 / 135 وما بعدها، والشرح الصغير 3 / 26، والقوانين الفقهية / 250، وروضة الطالبين 3 / 353، والمغني 4 / 227.(10/287)
تَحَوُّل الدَّيْنِ الآْجِل إِلَى حَالٍّ:
يَتَحَوَّل الدَّيْنُ الآْجِل إِلَى حَالٍّ فِي مَوَاطِنَ مِنْهَا:
أ - الْمَوْتُ:
19 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِلَى أَنَّ الدَّيْنَ الآْجِل يَتَحَوَّل بِالْمَوْتِ إِلَى حَالٍّ، لاِنْعِدَامِ ذِمَّةِ الْمَيِّتِ وَتَعَذُّرِ الْمُطَالَبَةِ. وَبِهِ قَال الشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: إِلَى أَنَّهُ لاَ يَحِل إِذَا وَثَّقَهُ الْوَرَثَةُ، وَهُوَ قَوْل ابْنِ سِيرِينَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي عُبَيْدٍ أَيْضًا. (1)
وَفِي لِحَاقِ الْمُرْتَدِّ بِدَارِ الْحَرْبِ هَل يَتَقَرَّرُ مَوْتُهُ، وَتَثْبُتُ الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِهِ؟ خِلاَفٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ يُنْظَرُ فِي مَوَاطِنِهِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ، (2) وَمُصْطَلَحِ: (رِدَّةٌ) . وَمُصْطَلَحِ أَجَلٌ (ف: 95 ج 2) .
ب - التَّفْلِيسُ:
20 - الْمُتَبَادَرُ مِنْ أَقْوَال أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِجَوَازِ الْحَجْرِ لِلإِْفْلاَسِ، وَهُوَ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 483، والشرح الصغير 3 / 353، 354، والقوانين الفقهية / 323، والقليوبي 2 / 285، وروضة الطالبين 4 / 128، والمغني 4 / 481، 482.
(2) ابن عابدين 3 / 300، والقليوبي 2 / 285، وجواهر الإكليل 2 / 279، 280، والمغني 8 / 129، 130.(10/288)
الأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّ الدَّيْنَ الْمُؤَجَّل لاَ يَحِل بِالتَّفْلِيسِ، لأَِنَّ الأَْجَل حَقٌّ لِلْمُفَلِّسِ فَلاَ يَسْقُطُ بِفَلَسِهِ، كَسَائِرِ حُقُوقِهِ، وَلأَِنَّهُ لاَ يُوجِبُ حُلُول مَا لَهُ، فَلاَ يُوجِبُ حُلُول مَا عَلَيْهِ. (1)
وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَلاَ يَتَأَتَّى هَذَا، لأَِنَّهُ لاَ يَجُوزُ عِنْدَهُ الْحَجْرُ عَلَى الْحُرِّ الْعَاقِل الْبَالِغِ بِسَبَبِ الدَّيْنِ. (2)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ ذَكَرَهَا أَبُو الْخَطَّابِ إِلَى: أَنَّ مَنْ حُجِرَ عَلَيْهِ لإِِفْلاَسِهِ يَتَحَوَّل دَيْنُهُ الآْجِل إِلَى حَالٍّ، لأَِنَّ التَّفْلِيسَ يَتَعَلَّقُ بِهِ الدَّيْنُ بِالْمَال، فَيَسْقُطُ الأَْجَل كَالْمَوْتِ. (3) وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (حَجْرٌ) .
تَحَوُّل الْوَقْفِ عِنْدَ انْقِطَاعِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ:
21 - ذَهَبَ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ التَّأْبِيدَ شَرْطٌ فِي الْوَقْفِ، وَأَنَّ الْوَقْفَ الَّذِي لاَ خِلاَفَ فِي صِحَّتِهِ: مَا كَانَ مَعْلُومَ الاِبْتِدَاءِ وَالاِنْتِهَاءِ غَيْرَ مُنْقَطِعٍ،
__________
(1) ابن عابدين 5 / 92، والشرح الصغير 3 / 353، 354، والقوانين الفقهية / 323، والقليوبي 2 / 285، وروضة الطالبين 4 / 128، والمغني 4 / 481.
(2) ابن عابدين 5 / 92.
(3) الشرح الصغير 3 / 353، 354، والقوانين الفقهية / 323، والقليوبي 2 / 285، وروضة الطالبين 4 / 128، والمغني 4 / 481.(10/288)
مِثْل أَنْ يَجْعَل نِهَايَتَهُ إِلَى جِهَةٍ لاَ تَنْقَطِعُ، كَأَنْ يَجْعَل آخِرَهُ عَلَى الْمَسَاكِينِ، أَوْ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ، فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ بِحُكْمِ الْعَادَةِ انْقِرَاضُهُمْ. (1)
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا لَوِ انْقَطَعَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِمْ:
فَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَرَأْيٌ لِلْحَنَابِلَةِ: إِلَى أَنَّهُ يُرْجَعُ إِلَى الْوَاقِفِ، أَوْ إِلَى وَرَثَتِهِ، إِلاَّ أَنْ يَقُول: صَدَقَةٌ مَوْقُوفَةٌ يُنْفَقُ مِنْهَا عَلَى فُلاَنٍ، وَعَلَى فُلاَنٍ فَإِذَا انْقَرَضَ الْمُسَمَّى كَانَتْ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ. (2)
وَالأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ يَبْقَى وَقْفًا، وَيَنْصَرِفُ إِلَى أَقْرَبِ النَّاسِ إِلَى الْوَاقِفِ. وَهُنَاكَ أَقْوَالٌ أُخْرَى عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي مَصْرِفِ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْوَقْفِ. (3)
وَيُرْجَعُ إِلَى تَفْصِيل الْمَوْضُوعِ فِي مُصْطَلَحِ: (وَقْفٌ) .
__________
(1) ابن عابدين 3 / 364، 365، والاختيار لتعليل المختار 3 / 42، والشرح الصغير 4 / 121 وما بعدها، والمغني 5 / 619، 623، 626، وروضة الطالبين 5 / 325، 326، 328.
(2) ابن عابدين 3 / 364، 365، والاختيار لتعليل المختار 3 / 42.
(3) الشرح الصغير 4 / 121 وما بعدها، والمغني 5 / 623، وروضة الطالبين 5 / 326.(10/289)
تَحَوُّل الْمِلْكِيَّةِ الْعَامَّةِ مِنَ الإِْبَاحَةِ إِلَى الْمِلْكِيَّةِ الْخَاصَّةِ وَعَكْسُهُ:
22 - قَدْ تَتَحَوَّل الْمِلْكِيَّةُ مِنَ الْعَامَّةِ إِلَى الْخَاصَّةِ بِأَيِّ سَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ التَّمَلُّكِ، كَالإِْقْطَاعِ مِنْ أَرَاضِي بَيْتِ الْمَال.
فَلِلإِْمَامِ أَنْ يُعْطِيَ الأَْرْضَ مِنْ بَيْتِ الْمَال عَلَى وَجْهِ التَّمْلِيكِ، كَمَا يُعْطِي الْمَال حَيْثُ رَأَى الْمَصْلَحَةَ، إِذْ لاَ فَرْقَ بَيْنَ الأَْرْضِ وَالْمَال فِي الدَّفْعِ لِلْمُسْتَحِقِّ. (1) وَرَاجِعْ مُصْطَلَحَ: (إِقْطَاعٌ) .
وَيَتَحَوَّل الْمِلْكُ الْخَاصُّ إِلَى الْعَامِّ إِذَا مَاتَ عَنْهُ أَرْبَابُهُ، وَلَمْ يَسْتَحِقَّهُ وَارِثُهُ بِفَرْضٍ وَلاَ تَعْصِيبٍ، فَيَنْتَقِل إِلَى بَيْتِ الْمَال مِيرَاثًا لِكَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ. (2)
وَذَكَرَ أَبُو يَعْلَى أَنَّهُ يَنْتَقِل إِلَى بَيْتِ الْمَال مَصْرُوفًا فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، لاَ عَلَى طَرِيقِ الْمِيرَاثِ. (3)
وَيَتَحَوَّل الْمِلْكُ الْخَاصُّ إِلَى عَامٍّ، فِي نَحْوِ الْبَيْتِ الْمَمْلُوكِ إِذَا اُحْتِيجَ إِلَيْهِ لِلْمَسْجِدِ، أَوْ تَوْسِعَةِ الطَّرِيقِ، أَوْ لِلْمَقْبَرَةِ وَنَحْوِهَا مِنْ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، بِشَرْطِ التَّعْوِيضِ.
__________
(1) ابن عابدين 5 / 265، 277، والشرح الصغير 4 / 87، 90، والقوانين الفقهية / 343، 344، والقليوبي 4 / 87 ط دار إحياء الكتب العربية، والمغني 5 / 563.
(2) الأحكام السلطانية للماوردي / 171.
(3) الأحكام السلطانية لأبي يعلى / 205.(10/289)
تَحَوُّل الْوِلاَيَةِ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ:
23 - تَتَحَوَّل الْوِلاَيَةُ مِنَ الْوَلِيِّ الأَْقْرَبِ إِلَى الْوَلِيِّ الأَْبْعَدِ فِي مَوَاطِنَ مِنْهَا:
- إِذَا فُقِدَ الْوَلِيُّ الأَْقْرَبُ، وَكَذَلِكَ إِذَا أُسِرَ أَوْ حُبِسَ. فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْوِلاَيَةَ تَتَحَوَّل مِنَ الْوَلِيِّ الأَْقْرَبِ إِلَى الأَْبْعَدِ.
وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَالْوِلاَيَةُ عِنْدَهُمْ تَنْتَقِل إِلَى الْحَاكِمِ.
- وَمِنْهَا غَيْبَةُ الْوَلِيِّ، فَإِذَا غَابَ الْوَلِيُّ غَيْبَةً مُنْقَطِعَةً تَنْتَقِل الْوِلاَيَةُ مِنَ الأَْقْرَبِ إِلَى الأَْبْعَدِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تَنْتَقِل إِلَى الْحَاكِمِ؛ لأَِنَّ الْحَاكِمَ وَلِيُّ الْغَائِبِ. وَكَذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، إِلاَّ إِذَا حَكَمَ الْقَاضِي بِمَوْتِ الْوَلِيِّ الأَْقْرَبِ وَقَسَّمَ مَالَهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ، فَتَنْتَقِل عِنْدَهُمْ إِلَى الأَْبْعَدِ.
وَمِنْهَا: الْعَضْل، وَهُوَ: مَنْعُ الْوَلِيِّ مُوَلِّيَتَهُ مِنْ زَوَاجِ الْكُفْءِ. فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ: إِلَى أَنَّ الْوَلِيَّ الأَْقْرَبَ إِذَا عَضَلَهَا انْتَقَلَتِ الْوِلاَيَةُ إِلَى السُّلْطَانِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَذُكِرَ ذَلِكَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَشُرَيْحٍ. وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَنْصُوصِ مِنَ الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّهَا تَنْتَقِل إِلَى الأَْبْعَدِ. (1) وَانْظُرْ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 315، 316، والاختيار لتعليل المختار 3 / 96 ط دار المعرفة، والشرح الصغير 1 / 365 ط دار المعارف بمصر، والقوانين الفقهية / 205، وروضة الطالبين 7 / 58، 68، 69، وكشاف القناع 5 / 54، 55، والمغني 6 / 476.(10/290)
لِتَفْصِيل ذَلِكَ وَالْخِلاَفِ فِيهِ مُصْطَلَحَ: (وِلاَيَةُ النِّكَاحِ) .
تَحَوُّل حَقِّ الْحَضَانَةِ:
24 - الأَْصْل فِي الْحَضَانَةِ أَنَّ الأُْمَّ أَوْلَى النَّاسِ بِحَضَانَةِ الطِّفْل إِذَا كَمُلَتِ الشُّرُوطُ، لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ: يَا رَسُول اللَّهِ، إِنَّ ابْنِي هَذَا كَانَ بَطْنِي لَهُ وِعَاءً، وَثَدْيِي لَهُ سِقَاءً، وَحِجْرِي لَهُ حِوَاءً، وَإِنَّ أَبَاهُ طَلَّقَنِي، وَأَرَادَ أَنْ يَنْزِعَهُ مِنِّي، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ مَا لَمْ تَنْكِحِي. (1)
فَإِنْ لَمْ تَكُنِ الأُْمُّ مِنْ أَهْل الْحَضَانَةِ لِفِقْدَانِ جَمِيعِ الشُّرُوطِ فِيهَا أَوْ بَعْضِهَا، أَوِ امْتَنَعَتْ مِنَ الْحَضَانَةِ، فَهِيَ كَالْمَعْدُومَةِ، وَتَنْتَقِل الْحَضَانَةُ إِلَى مَنْ يَلِيهَا، وَهَكَذَا تَتَحَوَّل مِنَ الأَْقْرَبِ إِلَى الأَْبْعَدِ فِي الاِسْتِحْقَاقِ. (2) عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (حَضَانَةٌ) .
__________
(1) حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: " أن امرأة قالت يا رسول الله إن ابني هذا كان بطني له وعاء. . . " أخرجه أبو داود، وسكت عنه ابن حجر والمنذري، وصححه الحاكم وأقره الذهبي وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده حسن. (عون المعبود 2 / 251 ط الهند، والتلخيص الحبير 4 / 10، 11، والمستدرك 2 / 207، ونيل الأوطار 7 / 138، 139 ط دار الجيل، وشرح السنة للبغوي 9 / 333) .
(2) ابن عابدين 2 / 643، 638، والاختيار لتعليل المختار 4 / 14، 15 والقوانين الفقهية / 229 وروضة الطالبين 9 / 98، والمغني 7 / 613، وكشاف القناع 5 / 499.(10/290)
تَحَوُّل الْمُعْتَدَّةِ مِنْ عِدَّةِ الطَّلاَقِ إِلَى عِدَّةِ الْوَفَاةِ:
25 - إِذَا مَاتَ الزَّوْجُ وَالْمَرْأَةُ فِي عِدَّةِ طَلاَقِهِ، فَإِنْ كَانَ الطَّلاَقُ رَجْعِيًّا سَقَطَتْ عَنْهَا عِدَّةُ الطَّلاَقِ، وَانْتَقَلَتْ إِلَى عِدَّةِ الْوَفَاةِ، أَيْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشَرَةِ أَيَّامٍ مِنْ حِينِ الْوَفَاةِ، بِلاَ خِلاَفٍ.
قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُل مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى ذَلِكَ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الْمُطَلَّقَةَ رَجْعِيًّا زَوْجَةٌ يَلْحَقُهَا طَلاَقُهُ، وَيَنَالُهَا مِيرَاثُهُ، فَعَلَيْهَا أَنْ تَعْتَدَّ عِدَّةَ الْوَفَاةِ.
وَإِذَا مَاتَ مُطَلِّقُ الْبَائِنِ، وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ، وَكَانَ الطَّلاَقُ فِي حَال صِحَّتِهِ، أَوْ طَلَّقَهَا بِطَلَبِهَا، بَنَتْ عَلَى مُدَّةِ الطَّلاَقِ، وَهَذَا بِالاِتِّفَاقِ. أَمَّا إِذَا طَلَّقَهَا فِي مَرَضِ مَوْتِهِ بِغَيْرِ طَلَبٍ مِنْهَا، فَهَذِهِ خِلاَفِيَّةٌ:
فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَالثَّوْرِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ إِلَى أَنَّهَا تَعْتَدُّ بِأَبْعَدِ الأَْجَلَيْنِ احْتِيَاطًا لِشُبْهَةِ قِيَامِ الزَّوْجِيَّةِ، بِاعْتِبَارِ إِرْثِهَا مِنْهُ.
وَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو يُوسُفَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ إِلَى أَنَّهَا تَبْنِي عَلَى عِدَّةِ الطَّلاَقِ لاِنْقِطَاعِ الزَّوْجِيَّةِ مِنْ كُل وَجْهٍ. (1)
__________
(1) فتح القدير 4 / 142، 143 ط دار إحياء التراث العربي، وابن عابدين 2 / 605، والقوانين / 242، والحطاب 4 / 150، 152 ط دار الفكر، وروضة الطالبين 8 / 399، والمغني 7 / 472.(10/291)
تَحَوُّل الْعِدَّةِ مِنَ الأَْشْهُرِ إِلَى الأَْقْرَاءِ وَعَكْسُهُ:
أ - تَحَوُّل الْعِدَّةِ مِنَ الأَْشْهُرِ إِلَى الأَْقْرَاءِ:
26 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الصَّغِيرَةَ الَّتِي لَمْ تَحِضْ، وَكَذَلِكَ الْبَالِغَةُ الَّتِي لَمْ تَحِضْ، إِذَا اعْتَدَّتْ بِبَعْضِ الأَْشْهُرِ، فَحَاضَتْ قَبْل انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا، أَنَّ عِدَّتَهَا تَتَحَوَّل مِنَ الأَْشْهُرِ إِلَى الأَْقْرَاءِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الشُّهُورَ بَدَلٌ عَنِ الأَْقْرَاءِ، وَقَدْ ثَبَتَتِ الْقُدْرَةُ عَلَى الْمُبْدَل، وَالْقُدْرَةُ عَلَى الْمُبْدَل، قَبْل حُصُول الْمَقْصُودِ بِالْبَدَل تُبْطِل حُكْمَ الْبَدَل كَالْقُدْرَةِ عَلَى الْوُضُوءِ فِي حَقِّ الْمُتَيَمِّمِ، فَيَبْطُل حُكْمُ الأَْشْهُرِ، وَتَنْتَقِل عِدَّتُهَا إِلَى الأَْقْرَاءِ. (1)
وَكَذَا الآْيِسَةُ إِذَا اعْتَدَّتْ بِبَعْضِ الأَْشْهُرِ، ثُمَّ رَأَتِ الدَّمَ، فَتَتَحَوَّل عِدَّتُهَا إِلَى الأَْقْرَاءِ عِنْدَ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ، وَذَلِكَ عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي لَمْ يُقَدِّرُوا فِيهَا لِلإِْيَاسِ سِنًّا مُعَيَّنَةً.
وَكَذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. (2)
وَأَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: فَإِذَا رَأَتِ الدَّمَ بَعْدَ الْخَمْسِينَ وَقَبْل السَّبْعِينَ - وَكَذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ بَعْدَ الْخَمْسِينَ وَقَبْل السِّتِّينَ - يَكُونُ دَمًا مَشْكُوكًا فِيهِ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى النِّسَاءِ.
__________
(1) ابن عابدين 2 / 606، وبدائع الصنائع 3 / 200 ط دار الكتاب العربي، والقوانين الفقهية / 241، وروضة الطالبين 8 / 370، والمغني لابن قدامة 7 / 467، 468.
(2) بدائع الصنائع 3 / 200، وفتح القدير 4 / 145، وروضة الطالبين 8 / 372، والسراج الوهاج / 449.(10/291)
إِلاَّ أَنَّ ابْنَ قُدَامَةَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ قَال: إِنَّ الْمَرْأَةَ إِنْ رَأَتِ الدَّمَ بَعْدَ الْخَمْسِينَ عَلَى الْعَادَةِ الَّتِي كَانَتْ تَرَاهُ فِيهَا، فَهُوَ حَيْضٌ عَلَى الصَّحِيحِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي وَقَّتُوا لِلإِْيَاسِ فِيهَا وَقْتًا: إِلَى أَنَّ مَا رَأَتْهُ مِنَ الدَّمِ بَعْدَهَا لَيْسَ بِحَيْضٍ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ، إِلاَّ إِذَا كَانَ دَمًا خَالِصًا فَحَيْضٌ، حَتَّى يَبْطُل بِهِ الاِعْتِدَادُ بِالأَْشْهُرِ. (1) وَلِتَفْصِيل الْمَوْضُوعِ يُرْجَعُ إِلَى مُصْطَلَحَيْ: (إِيَاسٌ، وَعِدَّةٌ) .
27 - وَأَمَّا مَنِ انْقَطَعَ حَيْضُهَا بَعْدَ أَنْ رَأَتِ الدَّمَ، وَقَبْل أَنْ تَبْلُغَ سِنَّ الْيَأْسِ - وَهِيَ الْمُرْتَابَةُ - فَذَهَبَ جَمِيعُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ انْقِطَاعُ الدَّمِ بِسَبَبٍ مَعْرُوفٍ كَرَضَاعٍ وَنِفَاسٍ أَوْ مَرَضٍ يُرْجَى بُرْؤُهُ، فَإِنَّهَا تَصْبِرُ حَتَّى تَحِيضَ، فَتَعْتَدُّ بِالأَْقْرَاءِ، أَوْ تَبْلُغُ سِنَّ الْيَأْسِ، فَتَعْتَدُّ بِالأَْشْهُرِ بَعْدَ سِنِّ الْيَأْسِ، وَلاَ عِبْرَةَ بِطُول مُدَّةِ الاِنْتِظَارِ؛ لأَِنَّ الاِعْتِدَادَ بِالأَْشْهُرِ جُعِل بَعْدَ الْيَأْسِ بِالنَّصِّ، فَلَمْ يَجُزِ الاِعْتِدَادُ بِالأَْشْهُرِ قَبْلَهُ.
أَمَّا مَنِ انْقَطَعَ حَيْضُهَا لاَ لِعِلَّةٍ تُعْرَفُ. فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِلَى أَنَّهَا تَتَرَبَّصُ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ تَعْتَدُّ بِثَلاَثَةِ أَشْهُرٍ، فَهَذِهِ سَنَةٌ. وَعَلَّلُوهُ بِأَنَّ الأَْغْلَبَ فِي مُدَّةِ الْحَمْل تِسْعَةُ أَشْهُرٍ،
__________
(1) البدائع 3 / 200، ابن عابدين 2 / 606، والزرقاني 4 / 204، والمغني 7 / 461، 465، 466.(10/292)
فَإِذَا مَضَتْ تَبَيَّنَتْ بَرَاءَةُ الرَّحِمِ، فَتَعْتَدُّ بِالأَْشْهُرِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَيْضًا، وَقَضَى بِهِ عُمَرُ بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ.
وَرُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ أَيْضًا أَنَّهَا تَتَرَبَّصُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ ثُمَّ ثَلاَثَةً، وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا فِي الْقَدِيمِ: أَنَّهَا تَتَرَبَّصُ أَرْبَعَ سِنِينَ ثُمَّ تَعْتَدُّ بِثَلاَثَةِ أَشْهُرٍ. (1)
تَحَوُّل الأَْرْضِ الْعُشْرِيَّةِ إِلَى خَرَاجِيَّةٍ وَالْعَكْسُ:
28 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الأَْرْضَ الْخَرَاجِيَّةَ لاَ تَصِيرُ عُشْرِيَّةً أَصْلاً، وَكَذَلِكَ لاَ تَتَحَوَّل الأَْرْضُ الْعُشْرِيَّةُ إِلَى خَرَاجِيَّةٍ. وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ إِلَى أَنَّ الأَْرْضَ الْعُشْرِيَّةَ تَتَحَوَّل إِلَى خَرَاجِيَّةٍ إِذَا اشْتَرَاهَا ذِمِّيٌّ. (2)
وَفِي كِتَابِ الْخَرَاجِ لأَِبِي يُوسُفَ: لِلإِْمَامِ أَنْ يُصَيِّرَ الأَْرْضَ الْعُشْرِيَّةَ خَرَاجِيَّةً، وَالْخَرَاجِيَّةَ عُشْرِيَّةً، إِلاَّ مَا كَانَ مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ وَالْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ وَالْيَمَنِ، فَإِنَّ هُنَالِكَ لاَ يَقَعُ خَرَاجٌ، فَلاَ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 606، وبدائع الصنائع 3 / 200، والقوانين الفقهية / 241، وروضة الطالبين 8 / 371، والمغني لابن قدامة 7 / 463 - 467، ومتن المنهاج المطبوع مع السراج الوهاج ص 449.
(2) ابن عابدين 3 / 262، والاختيار لتعليل المختار 1 / 114، 115 ط دار المعرفة، والشرح الصغير 1 / 608 وما بعدها، والأحكام السلطانية للماوردي / 135 ط مطبعة السعادة، والمغني 2 / 729، والأحكام السلطانية لأبي يعلى / 154.(10/292)
يَحِل لِلإِْمَامِ أَنْ يُغَيِّرَ ذَلِكَ، وَلاَ يُحَوِّلَهُ عَمَّا جَرَى عَلَيْهِ أَمْرُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحُكْمُهُ. (1) وَلِتَفْصِيل ذَلِكَ يُرْجَعُ إِلَى مُصْطَلَحَاتِ: (أَرْضٌ، وَعُشْرٌ، وَخَرَاجٌ) .
تَحَوُّل الْمُسْتَأْمَنِ إِلَى ذِمِّيٍّ:
29 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّ غَيْرَ الْمُسْلِمِ لاَ يُمَكَّنُ مِنَ الإِْقَامَةِ سَنَةً فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ، فَإِذَا أَقَامَ فِيهَا سَنَةً أَوْ أَكْثَرَ تُفْرَضُ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ، وَيَصِيرُ بَعْدَهَا ذِمِّيًّا.
وَظَاهِرُ الْمُتُونِ فِي الْمَذْهَبِ الْحَنَفِيِّ أَنَّ قَوْل الإِْمَامِ: إِنْ أَقَمْتَ سَنَةً أَوْ أَقَل مِنْ ذَلِكَ وَضَعْنَا عَلَيْكَ الْجِزْيَةَ، شَرْطٌ لِصَيْرُورَتِهِ ذِمِّيًّا، فَعَلَى هَذَا لَوْ أَقَامَ سَنَةً، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقُول الإِْمَامُ لَهُ ذَلِكَ لاَ يَصِيرُ ذِمِّيًّا.
وَكَذَلِكَ يَتَحَوَّل الْمُسْتَأْمَنُ إِلَى ذِمِّيٍّ بِالتَّبَعِيَّةِ: كَمَا لَوْ دَخَل مَعَ امْرَأَتِهِ، وَمَعَهُمَا أَوْلاَدٌ صِغَارٌ وَكِبَارٌ، فَصَارَ ذِمِّيًّا، فَالصِّغَارُ تَبَعٌ لَهُ بِخِلاَفِ الْكِبَارِ. (2)
وَتَتَرَتَّبُ عَلَى صَيْرُورَةِ الْمُسْتَأْمَنِ ذِمِّيًّا أَحْكَامٌ
__________
(1) هامش الأحكام السلطانية لأبي يعلى / 154 ط مصطفى البابي الحلبي، وكتاب الخارج لأبي يوسف / 65 ط مطبعة بولاق.
(2) ابن عابدين 3 / 249، والأحكام السلطانية للماوردي / 146 والمغني 8 / 400، والأحكام السلطانية لأبي يعلى / 145.(10/293)
عِدَّةٌ، يُرْجَعُ لِتَفْصِيلِهَا إِلَى مُصْطَلَحَيْ: (أَهْل الذِّمَّةِ، وَمُسْتَأْمَنٌ) .
تَحَوُّل الْمُسْتَأْمَنِ إِلَى حَرْبِيٍّ:
30 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْمُسْتَأْمَنَ يَصِيرُ حَرْبِيًّا بِأُمُورٍ:
- إِذَا لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ، وَلَوْ بِغَيْرِ بَلَدِهِ بِنِيَّةِ الإِْقَامَةِ، فَإِنْ دَخَل تَاجِرًا أَوْ رَسُولاً أَوْ مُتَنَزِّهًا، أَوْ لِحَاجَةٍ يَقْضِيهَا، ثُمَّ يَعُودُ إِلَى دَارِ الإِْسْلاَمِ، فَهُوَ عَلَى أَمَانِهِ فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ. (1)
- وَإِذَا نَقَضَ الأَْمَانَ: كَأَنْ يُقَاتِل عَامَّةَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ يَغْلِبَ عَلَى قَرْيَةٍ أَوْ حِصْنٍ لأَِجْل حَرْبِنَا، أَوْ يُقْدِمَ عَلَى عَمَلٍ مُخَالِفٍ لِمُقْتَضَى الأَْمَانِ، (2) انْتُقِضَ عَهْدُهُ وَصَارَ حَرْبِيًّا.
وَفِيمَا يُنْتَقَضُ بِهِ الأَْمَانُ وَالْعَهْدُ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَيْ: (أَهْل الْحَرْبِ وَمُسْتَأْمَنٌ) .
تَحَوُّل الذِّمِّيِّ إِلَى حَرْبِيٍّ:
31 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الذِّمِّيَّ يَتَحَوَّل إِلَى حَرْبِيٍّ بِاللَّحَاقِ بِدَارِ الْحَرْبِ مُخْتَارًا طَائِعًا
__________
(1) ابن عابدين 3 / 250، 251، والمغني 8 / 400.
(2) ابن عابدين 3 / 251، 252، والشرح الصغير 1 / 317، وجواهر الإكليل 1 / 269، ومغني المحتاج 4 / 258، 262، والمغني 8 / 400، و458 وما بعدها.(10/293)
وَالإِْقَامَةِ فِيهَا، أَوْ بِنَقْضِ عَهْدِ ذِمَّتِهِ، فَيَحِل دَمُهُ وَمَالُهُ. وَفِي مُحَارَبَتِهِ جَوَازًا أَوْ وُجُوبًا - بَعْدَ بُلُوغِ مَأْمَنِهِ - خِلاَفٌ بَيْنَهُمْ، وَكَذَلِكَ فِيمَا يُنْتَقَضُ بِهِ عَقْدُ الذِّمَّةِ تَفْصِيلٌ (1) يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَيْ: (أَهْل الْحَرْبِ، وَأَهْل الذِّمَّةِ) .
تَحَوُّل الْحَرْبِيِّ إِلَى مُسْتَأْمَنٍ:
32 - يَصِيرُ الْحَرْبِيُّ مُسْتَأْمَنًا بِالْحُصُول عَلَى أَمَانٍ مِمَّنْ لَهُ حَقُّ إِعْطَاءِ الأَْمَانِ، عَلَى خِلاَفٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ ذُكِرَ فِي مَوَاطِنِهِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ، وَانْظُرْ أَيْضًا مُصْطَلَحَيْ: (أَمَانٌ، وَمُسْتَأْمَنٌ) .
تَحَوُّل دَارِ الإِْسْلاَمِ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ وَعَكْسُهُ:
33 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ مَتَى ارْتَدَّ أَهْل بَلَدٍ وَجَرَتْ فِيهِ أَحْكَامُهُمْ صَارَتِ الدَّارُ دَارَ حَرْبٍ، وَعَلَى الإِْمَامِ قِتَالُهُمْ بَعْدَ الإِْنْذَارِ وَالإِْعْذَارِ، لأَِنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَاتَل أَهْل الرِّدَّةِ بِجَمَاعَةِ الصَّحَابَةِ. (2)
34 - وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ دَارَ الإِْسْلاَمِ لاَ تَصِيرُ دَارَ حَرْبٍ إِلاَّ بِأُمُورٍ ثَلاَثَةٍ:
أ - أَنْ تَجْرِيَ فِيهَا أَحْكَامُ أَهْل الشِّرْكِ عَلَى
__________
(1) ابن عابدين 3 / 310، والشرح الصغير 1 / 316، 317، وجواهر الإكليل 1 / 269، والمغني 8 / 458، ومغني المحتاج 4 / 258، 262.
(2) الأحكام السلطانية للماوردي / 45، 46، والمغني 8 / 138.(10/294)
الاِشْتِهَارِ، وَأَنْ لاَ يُحْكَمَ فِيهَا بِحُكْمِ أَهْل الإِْسْلاَمِ، أَمَّا لَوْ أُجْرِيَتْ أَحْكَامُ الْمُسْلِمِينَ، وَأَحْكَامُ أَهْل الشِّرْكِ، فَلاَ تَكُونُ دَارَ حَرْبٍ.
ب - أَنْ تَكُونَ مُتَاخِمَةً (أَيْ مُجَاوِرَةً) لِدَارِ الْحَرْبِ، بِأَنْ لاَ تَتَخَلَّل بَيْنَهُمَا بَلْدَةٌ مِنْ بِلاَدِ الإِْسْلاَمِ.
ج - أَنْ لاَ يَبْقَى فِيهَا مُسْلِمٌ أَوْ ذِمِّيٌّ آمِنًا بِالأَْمَانِ الأَْوَّل الَّذِي كَانَ ثَابِتًا قَبْل اسْتِيلاَءِ الْكُفَّارِ، لِلْمُسْلِمِ بِإِسْلاَمِهِ، وَلِلذِّمِّيِّ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ.
وَأَمَّا أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فَيَقُولاَنِ بِشَرْطٍ وَاحِدٍ لاَ غَيْرُ، وَهُوَ: إِظْهَارُ حُكْمِ الْكُفْرِ، وَهُوَ الْقِيَاسُ. (1)
وَتَتَرَتَّبُ عَلَى دَارِ الرِّدَّةِ أَحْكَامٌ، اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهَا، تُنْظَرُ فِي مَظَانِّهَا، وَفِي مُصْطَلَحِ: (رِدَّةٌ) .
35 - وَتَتَحَوَّل دَارُ الْحَرْبِ إِلَى إِسْلاَمٍ بِإِجْرَاءِ أَحْكَامِ أَهْل الإِْسْلاَمِ فِيهَا كَجُمُعَةٍ وَعِيدٍ، وَإِنْ بَقِيَ فِيهَا كَافِرٌ أَصْلِيٌّ، وَإِنْ لَمْ تَتَّصِل بِدَارِ الإِْسْلاَمِ. (2)
التَّحَوُّل مِنْ دِينٍ إِلَى آخَرَ:
36 - التَّحَوُّل مِنْ دِينٍ إِلَى آخَرَ ثَلاَثَةُ أَقْسَامٍ:
الْقِسْمُ الأَْوَّل: التَّحَوُّل مِنْ دِينٍ بَاطِلٍ إِلَى
__________
(1) ابن عابدين 3 / 253.
(2) الأحكام السلطانية للماوردي / 46، وابن عابدين 3 / 253.(10/294)
دِينٍ بَاطِلٍ، وَهُوَ عَلَى ثَلاَثَةِ أَضْرُبٍ: لأَِنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ دِينٍ يُقَرُّ أَهْلُهُ عَلَيْهِ إِلَى مَا يُقَرُّ أَهْلُهُ عَلَيْهِ، كَتَهَوُّدِ نَصْرَانِيٍّ أَوْ عَكْسُهُ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا يُقَرُّ عَلَيْهِ إِلَى مَا لاَ يُقَرُّ عَلَيْهِ، كَانْتِقَال يَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ إِلَى الْوَثَنِيَّةِ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا لاَ يُقَرُّ عَلَيْهِ إِلَى مَا يُقَرُّ عَلَيْهِ، كَتَهَوُّدِ وَثَنِيٍّ أَوْ تَنَصُّرِهِ. فَفِي هَذِهِ الْحَالاَتِ هَل يُقَرُّ عَلَى مَا انْتَقَل إِلَيْهِ بِالْجِزْيَةِ أَمْ لاَ؟ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مَوَاطِنِهِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ، وَانْظُرْ أَيْضًا مُصْطَلَحَيْ: (تَبْدِيلٌ، وَرِدَّةٌ) .
الْقِسْمُ الثَّانِي: التَّحَوُّل مِنْ دِينِ الإِْسْلاَمِ إِلَى بَاطِلٍ، وَهُوَ رِدَّةُ الْمُسْلِمِ - وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ - فَلاَ يُقْبَل مِنْهُ إِلاَّ الإِْسْلاَمُ. وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (رِدَّةٌ) .
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: التَّحَوُّل مِنْ دِينٍ بَاطِلٍ إِلَى الإِْسْلاَمِ، فَتَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَحْكَامٌ مُخْتَلِفَةٌ تُنْظَرُ فِي مَظَانِّهَا مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ، (1) وَفِي الْمُصْطَلَحَاتِ الْخَاصَّةِ، وَيُنْظَرُ أَيْضًا مُصْطَلَحَيْ: (تَبْدِيلٌ، وَإِسْلاَمٌ) .
__________
(1) ابن عابدين 2 / 366، وروضة الطالبين 7 / 132.(10/295)
تَحْوِيلٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّحْوِيل لُغَةً: مَصْدَرُ حَوَّل الشَّيْءَ، وَتَدُورُ مَعَانِيهِ عَلَى النَّقْل وَالتَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيل. (وَحَوَّلْتُهُ) تَحْوِيلاً: نَقَلْتَهُ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى مَوْضِعٍ، وَحَوَّلْتُ الرِّدَاءَ: نَقَلْتُ كُل طَرَفٍ إِلَى مَوْضِعِ الآْخَرِ.
(وَالْحَوَالَةُ) بِالْفَتْحِ مَأْخُوذَةٌ مِنَ النَّقْل، فَتَقُول: أَحَلْتُهُ بِدَيْنِهِ أَيْ: نَقَلْتَهُ إِلَى ذِمَّةٍ أُخْرَى.
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِهَذَا اللَّفْظِ عَنْ مَعَانِيهِ اللُّغَوِيَّةِ. (1)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - النَّقْل:
2 - النَّقْل: تَحْوِيل الشَّيْءِ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى مَوْضِعٍ، وَالأَْصْل فِيهِ النَّقْل مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ. وَقَدْ يُسْتَعْمَل فِي الأُْمُورِ الْمَعْنَوِيَّةِ، كَالنَّقْل مِنْ
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير مادة: " حول ".(10/295)
صِفَةٍ إِلَى صِفَةٍ، وَكَنَقْل اللَّفْظِ مِنَ الاِسْتِعْمَال الْحَقِيقِيِّ إِلَى الاِسْتِعْمَال الْمَجَازِيِّ. (1)
ب - التَّبْدِيل وَالإِْبْدَال وَالتَّغْيِيرُ:
3 - وَهِيَ أَنْ يُجْعَل مَكَانَ الشَّيْءِ شَيْءٌ آخَرُ، أَوْ تُحَوَّل صِفَتُهُ إِلَى صِفَةٍ أُخْرَى. وَمِنْ هُنَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ هَذِهِ الأَْلْفَاظَ مُتَقَارِبَةٌ فِي الْمَعْنَى، إِلاَّ أَنَّ التَّحْوِيل لاَ يُسْتَعْمَل فِي تَبْدِيل ذَاتٍ بِذَاتٍ أُخْرَى. (2)
أَحْكَامُ التَّحْوِيل:
أ - تَحْوِيل النِّيَّةِ فِي الْوُضُوءِ:
4 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ النِّيَّةَ مِنْ فُرُوضِ الْوُضُوءِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهَا شَرْطٌ فِي صِحَّتِهِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهَا سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَلَيْسَتْ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْوُضُوءِ، وَإِنَّمَا هِيَ شَرْطٌ فِي وُقُوعِهِ عِبَادَةً.
فَمِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ إِذَا حَوَّل النِّيَّةَ فِي الْوُضُوءِ مِنْ نِيَّةِ رَفْعِ الْحَدَثِ إِلَى نِيَّةِ التَّبَرُّدِ أَوِ التَّنَظُّفِ، فَلاَ أَثَرَ لِذَلِكَ فِي إِفْسَادِ الْوُضُوءِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، لِعَدَمِ اعْتِبَارِهِمُ النِّيَّةَ فَرْضًا. وَإِنَّمَا يَظْهَرُ أَثَرُ التَّحْوِيل فِي عَدَمِ اعْتِبَارِ الْوُضُوءِ عِبَادَةً، وَفِي هَذَا
__________
(1) المصباح المنير مادة: " نقل "، والفروق ص 139.
(2) المصباح المنير، ومختار الصحاح، والفروق ص 233، 309، والكليات 2 / 71، والتعريفات ص 63.(10/296)
يَقُول ابْنُ عَابِدِينَ: الصَّلاَةُ تَصِحُّ عِنْدَنَا بِالْوُضُوءِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَنْوِيًّا، وَإِنَّمَا تُسَنُّ النِّيَّةُ فِي الْوُضُوءِ لِيَكُونَ عِبَادَةً، فَإِنَّهُ بِدُونِهَا لاَ يُسَمَّى عِبَادَةً مَأْمُورًا بِهَا. . وَإِنْ صَحَّتْ بِهِ الصَّلاَةُ.
فَالْوُضُوءُ مَعَ النِّيَّةِ أَوْ بِدُونِهَا أَوْ مَعَ تَحْوِيلِهَا صَحِيحٌ بِاعْتِبَارِهِ شَرْطًا لِصِحَّةِ الصَّلاَةِ، وَإِنْ كَانَ لاَ يَصِحُّ عِبَادَةً بِدُونِ النِّيَّةِ أَوْ مَعَ تَحْوِيلِهَا.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: فَيَظْهَرُ أَثَرُ تَحْوِيل النِّيَّةِ عِنْدَهُمْ فِي إِفْسَادِ الْوُضُوءِ وَعَدَمِ اعْتِبَارِهِ شَرْعًا مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ. (1) وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ:
فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: رَفْضُ النِّيَّةِ فِي أَثْنَاءِ الْوُضُوءِ لاَ يَضُرُّ، إِذَا رَجَعَ وَكَمَّلَهُ بِالنِّيَّةِ الأُْولَى عَلَى الْفَوْرِ، بِأَنْ يَنْوِيَ رَفْعَ الْحَدَثِ - عَلَى الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ - أَمَّا إِذَا لَمْ يُكَمِّلْهُ أَوْ كَمَّلَهُ بِنِيَّةٍ أُخْرَى كَنِيَّةِ التَّبَرُّدِ أَوِ التَّنْظِيفِ، فَإِنَّهُ يَبْطُل بِلاَ خِلاَفٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَكْمَلَهُ بِالنِّيَّةِ الأُْولَى، وَلَكِنْ بَعْدَ طُول فَصْلٍ، فَإِنَّهُ يَبْطُل. (2)
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: مَنْ نَوَى نِيَّةً صَحِيحَةً ثُمَّ نَوَى بِغَسْل الرِّجْل - مَثَلاً - التَّبَرُّدَ أَوِ التَّنَظُّفَ فَلَهُ حَالاَنِ:
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 106، 107، وفتح القدير 1 / 28، وروضة الطالبين 1 / 47، وحاشية الدسوقي 1 / 93، 95، والحطاب 1 / 240، والإنصاف 1 / 142.
(2) الدسوقي 1 / 95، والحطاب 1 / 240.(10/296)
الْحَالَةُ الأُْولَى: أَنْ لاَ تَحْضُرَهُ نِيَّةُ الْوُضُوءِ فِي حَال غَسْل الرِّجْل، فَفِيهِ وَجْهَانِ:
الْوَجْهُ الأَْوَّل، وَهُوَ الصَّحِيحُ: أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ غَسْل الرِّجْلَيْنِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَصِحُّ لِبَقَاءِ حُكْمِ النِّيَّةِ الأُْولَى.
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ تَحْضُرَهُ نِيَّةُ الْوُضُوءِ مَعَ نِيَّةِ التَّبَرُّدِ - كَمَا لَوْ نَوَى أَوَّل الطَّهَارَةِ الْوُضُوءَ مَعَ التَّبَرُّدِ - فَفِيهِ وَجْهَانِ:
الْوَجْهُ الأَْوَّل، وَهُوَ الصَّحِيحُ: أَنَّ الْوُضُوءَ صَحِيحٌ؛ لأَِنَّ نِيَّةَ رَفْعِ الْحَدَثِ حَاصِلَةٌ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: لاَ يَصِحُّ غَسْل الرِّجْلَيْنِ، وَذَلِكَ لِتَشْرِيكِهِ بَيْنَ قُرْبَةٍ وَغَيْرِهَا. (1)
وَأَمَّا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: فَإِنَّ مَنْ غَسَل بَعْضَ أَعْضَائِهِ بِنِيَّةِ الْوُضُوءِ، وَغَسَل بَعْضَهَا بِنِيَّةِ التَّبَرُّدِ، فَلاَ يَصِحُّ إِلاَّ إِذَا أَعَادَ فِعْل مَا نَوَى بِهِ التَّبَرُّدَ بِنِيَّةِ الْوُضُوءِ، بِشَرْطِ أَنْ لاَ يَفْصِل فَصْلاً طَوِيلاً فَيَكُونُ وُضُوءُهُ صَحِيحًا، وَذَلِكَ لِوُجُودِ النِّيَّةِ مَعَ الْمُوَالاَةِ.
فَإِنْ طَال الْفَصْل بِحَيْثُ تَفُوتُ الْمُوَالاَةُ بَطَل الْوُضُوءُ لِفَوَاتِهَا (2) .
__________
(1) المجموع 1 / 327، 328، ونهاية المحتاج 1 / 147.
(2) كشاف القناع 1 / 87، ومطالب أولي النهى 1 / 107.(10/297)
ب - تَحْوِيل النِّيَّةِ فِي الصَّلاَةِ:
5 - لِلْفُقَهَاءِ فِي أَثَرِ تَحْوِيل النِّيَّةِ تَفْصِيلٌ: ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الصَّلاَةَ لاَ تَبْطُل بِنِيَّةِ الاِنْتِقَال إِلَى غَيْرِهَا وَلاَ تَتَغَيَّرُ، بَل تَبْقَى كَمَا نَوَاهَا قَبْل التَّغْيِيرِ، مَا لَمْ يُكَبِّرْ بِنِيَّةٍ مُغَايِرَةٍ، بِأَنْ يُكَبِّرَ نَاوِيًا النَّفْل بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الْفَرْضِ أَوْ عَكْسُهُ، أَوِ الاِقْتِدَاءَ بَعْدَ الاِنْفِرَادِ وَعَكْسُهُ، أَوِ الْفَائِتَةَ بَعْدَ الْوَقْتِيَّةِ وَعَكْسُهُ.
وَلاَ تَفْسُدُ حِينَئِذٍ إِلاَّ إِنْ وَقَعَ تَحْوِيل النِّيَّةِ قَبْل الْجُلُوسِ الأَْخِيرِ بِمِقْدَارِ التَّشَهُّدِ، فَإِنْ وَقَعَ بَعْدَهُ وَقُبَيْل السَّلاَمِ لاَ تَبْطُل. (1)
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: نَقْل النِّيَّةِ سَهْوًا مِنْ فَرْضٍ إِلَى فَرْضٍ آخَرَ أَوْ إِلَى نَفْلٍ سَهْوًا، دُونَ طُول قِرَاءَةٍ وَلاَ رُكُوعٍ، مُغْتَفَرٌ.
قَال ابْنُ فَرْحُونَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّ الْمُصَلِّيَ إِنْ حَوَّل نِيَّتَهُ مِنْ فَرْضٍ إِلَى نَفْلٍ، فَإِنْ قَصَدَ بِتَحْوِيل نِيَّتِهِ رَفْعَ الْفَرِيضَةِ وَرَفْضَهَا بَطَلَتْ، وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ رَفْضَهَا لَمْ تَكُنْ نِيَّتُهُ الثَّانِيَةُ مُنَافِيَةً لِلأُْولَى. لأَِنَّ النَّفَل مَطْلُوبٌ لِلشَّارِعِ، وَمُطْلَقُ الطَّلَبِ مَوْجُودٌ فِي الْوَاجِبِ، فَتَصِيرُ نِيَّةُ النَّفْل مُؤَكِّدَةً لاَ مُخَصِّصَةً. (2)
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 441، وحاشية الطحطاوي ص 184.
(2) حاشية الدسوقي 1 / 235، ومواهب الجليل مع التاج والإكليل 1 / 516.(10/297)
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لَوْ قَلَبَ الْمُصَلِّي صَلاَتَهُ الَّتِي هُوَ فِيهَا صَلاَةً أُخْرَى عَالِمًا عَامِدًا بَطَلَتْ، فَإِنْ كَانَ لَهُ عُذْرٌ صَحَّتْ صَلاَتُهُ، وَانْقَلَبَتْ نَفْلاً. وَذَلِكَ كَظَنِّهِ دُخُول الْوَقْتِ، فَأَحْرَمَ بِالْفَرْضِ، ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ عَدَمُ دُخُول الْوَقْتِ فَقَلَبَ صَلاَتَهُ نَفْلاً، أَوْ قَلَبَ صَلاَتَهُ الْمُنْفَرِدَةَ نَفْلاً لِيُدْرِكَ جَمَاعَةً. لَكِنْ لَوْ قَلَبَهَا نَفْلاً مُعَيَّنًا كَرَكْعَتَيِ الضُّحَى لَمْ تَصِحَّ، أَمَّا إِذَا حَوَّل نِيَّتَهُ بِلاَ سَبَبٍ أَوْ غَرَضٍ صَحِيحٍ فَالأَْظْهَرُ عِنْدَهُمْ بُطْلاَنُ الصَّلاَةِ. (1)
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّ بُطْلاَنَ الصَّلاَةِ مُقَيَّدٌ بِمَا إِذَا حَوَّل نِيَّتَهُ مِنْ فَرْضٍ إِلَى فَرْضٍ، وَتَنْقَلِبُ فِي هَذِهِ الْحَال نَفْلاً.
وَإِنِ انْتَقَل مِنْ فَرْضٍ إِلَى نَفْلٍ فَلاَ تَبْطُل، لَكِنْ تُكْرَهُ، إِلاَّ إِنْ كَانَ الاِنْتِفَال لِغَرَضٍ صَحِيحٍ فَلاَ تُكْرَهُ، وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّهَا لاَ تَصِحُّ، كَمَنْ أَدْرَكَ جَمَاعَةً مَشْرُوعَةً وَهُوَ مُنْفَرِدٌ، فَسَلَّمَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ لِيُدْرِكَهَا، فَإِنَّهُ يُسَنُّ لَهُ أَنْ يَقْلِبَهَا نَفْلاً، وَأَنْ يُسَلِّمَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ؛ لأَِنَّ نِيَّةَ الْفَرْضِ تَضَمَّنَتْ نِيَّةَ النَّفْل، فَإِذَا قَطَعَ نِيَّةَ الْفَرْضِ بَقِيَتْ نِيَّةُ النَّفْل. (2)
وَمِنْ هَذَا التَّفْصِيل يَتَبَيَّنُ اتِّفَاقُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ تَحْوِيل نِيَّةِ الصَّلاَةِ مِنْ نَفْلٍ إِلَى فَرْضٍ لاَ أَثَرَ لَهُ فِي نَقْلِهَا، وَتَظَل نَفْلاً، وَذَلِكَ لأَِنَّ فِيهِ بِنَاءَ الْقَوِيِّ عَلَى الضَّعِيفِ، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ.
__________
(1) المجموع 3 / 286، ونهاية المحتاج 1 / 438.
(2) كشاف القناع 1 / 318، والإنصاف 2 / 26.(10/298)
ج - تَحْوِيل النِّيَّةِ فِي الصَّوْمِ:
6 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: إِلَى أَنَّ صَوْمَ الْفَرْضِ لاَ يَبْطُل بِنِيَّةِ الاِنْتِقَال إِلَى النَّفْل، وَلاَ يَنْقَلِبُ نَفْلاً.
وَهَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى الأَْصَحِّ مِنْ وَجْهَيْنِ فِي الْمَذْهَبِ.
وَعَلَى الْوَجْهِ الآْخَرِ، يَنْقَلِبُ نَفْلاً إِذَا كَانَ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ، أَمَّا فِي رَمَضَانَ فَلاَ يَقْبَل النَّفَل؛ لأَِنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ يَتَعَيَّنُ لِصَوْمِ فَرْضِ رَمَضَانَ وَلاَ يَصِحُّ فِيهِ غَيْرُهُ.
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ صَائِمًا عَنْ نَذْرٍ، فَحَوَّل نِيَّتَهُ إِلَى كَفَّارَةٍ أَوْ عَكْسُهُ، لاَ يَحْصُل لَهُ الَّذِي انْتَقَل إِلَيْهِ - بِلاَ خِلاَفٍ عِنْدَهُمْ - لأَِنَّ مِنْ شَرْطِ الْكَفَّارَةِ التَّبْيِيتَ مِنَ اللَّيْل.
أَمَّا الصَّوْمُ الَّذِي نَوَاهُ أَوَّلاً فَعَلَى وَجْهَيْنِ:
الأَْوَّل: يَبْقَى عَلَى مَا كَانَ وَلاَ يَبْطُل.
الثَّانِي: يَبْطُل. وَلاَ يَنْقَلِبُ نَفْلاً عَلَى الأَْظْهَرِ. وَيُقَابِلُهُ: أَنَّهُ يَنْقَلِبُ نَفْلاً إِذَا كَانَ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ. (1)
وَلِكُلٍّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ تَفْصِيلٌ:
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ: فَذَهَبُوا إِلَى أَنَّ مَنْ تَحَوَّلَتْ نِيَّتُهُ إِلَى نَافِلَةٍ، وَهُوَ فِي فَرِيضَةٍ، فَإِنْ فَعَل هَذَا عَبَثًا
__________
(1) البحر الرائق 2 / 282، والأشباه والنظائر لابن نجيم بحاشية الحموي 1 / 78، وروضة الطالبين 2 / 325، والمجموع 6 / 298، 299.(10/298)
عَمْدًا فَلاَ خِلاَفَ - عِنْدَهُمْ - أَنَّهُ يُفْسِدُ صَوْمَهُ. أَمَّا إِنْ فَعَلَهُ سَهْوًا فَخِلاَفٌ فِي الْمَذْهَبِ. (1)
أَمَّا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: فَإِنْ نَوَى خَارِجَ رَمَضَانَ قَضَاءً، ثُمَّ حَوَّل نِيَّةَ الْقَضَاءِ إِلَى النَّفْل بَطَل الْقَضَاءُ لِقَطْعِهِ نِيَّتَهُ، وَلَمْ يَصِحَّ نَفْلاً لِعَدَمِ صِحَّةِ نَفْل مَنْ عَلَيْهِ قَضَاءُ رَمَضَانَ قَبْل الْقَضَاءِ، كَذَا فِي الإِْقْنَاعِ، وَأَمَّا فِي الْفُرُوعِ وَالتَّنْقِيحِ وَالْمُنْتَهَى فَيَصِحُّ نَفْلاً، وَإِنْ كَانَ فِي صَوْمِ نَذْرٍ أَوْ كَفَّارَةٍ فَقَطَعَ نِيَّتَهُ ثُمَّ نَوَى نَفْلاً صَحَّ.
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ مَنْ قَلَبَ نِيَّةَ الْقَضَاءِ إِلَى النَّفْل بَطَل الْقَضَاءُ، وَذَلِكَ لِتَرَدُّدِهِ فِي نِيَّتِهِ أَوْ قَطْعِهَا، وَلَمْ يَصِحَّ النَّفَل لِعَدَمِ صِحَّةِ نَفْل مَنْ عَلَيْهِ قَضَاءُ رَمَضَانَ قَبْل الْقَضَاءِ. (2)
د - تَحْوِيل الْمُحْتَضَرِ إِلَى الْقِبْلَةِ:
7 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ تَحْوِيل الْمُحْتَضَرِ إِلَى الْقِبْلَةِ مَنْدُوبٌ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُوَجَّهَ إِلَى الْقِبْلَةِ عَلَى شِقِّهِ الأَْيْمَنِ، إِلاَّ إِذَا تَعَسَّرَ ذَلِكَ لِضِيقِ الْمَوْضِعِ، أَوْ لأَِيِّ سَبَبٍ آخَرَ، فَيُلْقَى عَلَى قَفَاهُ، وَرِجْلاَهُ إِلَى الْقِبْلَةِ. (3)
وَدَلِيل تَحْوِيلِهِ إِلَى الْقِبْلَةِ: حَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
__________
(1) المواق على خليل بهامش الحطاب 2 / 433.
(2) كشاف القناع 2 / 316.
(3) البناية 2 / 942، والشرح الصغير 1 / 562، وروضة الطالبين 2 / 94 - 97 والمجموع 5 / 103، ومطالب أولي النهى 837.(10/299)
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ سَأَل عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالُوا: تُوُفِّيَ، وَأَوْصَى بِثُلُثِهِ لَكَ يَا رَسُول اللَّهِ، وَأَوْصَى أَنْ يُوَجَّهَ إِلَى الْقِبْلَةِ لَمَّا اُحْتُضِرَ. فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصَابَ الْفِطْرَةَ، وَقَدْ رَدَدْتُ ثُلُثَهُ عَلَى وَلَدِهِ، ثُمَّ ذَهَبَ فَصَلَّى عَلَيْهِ، وَقَال: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، وَارْحَمْهُ، وَأَدْخِلْهُ جَنَّتَكَ. وَقَدْ فَعَلْتَ. (1)
هـ - تَحْوِيل الرِّدَاءِ فِي الاِسْتِسْقَاءِ:
8 - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ - الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ الْمُفْتَى بِهِ عِنْدَهُمْ - إِلَى اسْتِحْبَابِ تَحْوِيل الرِّدَاءِ فِي الاِسْتِسْقَاءِ، وَخَالَفَ أَبُو حَنِيفَةَ، فَلاَ يُحَوَّل الرِّدَاءُ عِنْدَهُ فِي الاِسْتِسْقَاءِ. لأَِنَّهُ دُعَاءٌ لاَ صَلاَةَ فِيهِ عِنْدَهُ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ.
وَمَعْنَى تَحْوِيل الرِّدَاءِ: أَنْ يَجْعَل مَا عَلَى عَاتِقِهِ الأَْيْمَنِ عَلَى عَاتِقِهِ الأَْيْسَرِ، وَبِالْعَكْسِ. (2)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ - عَلَى الْقَوْل الْجَدِيدِ الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ - إِلَى اسْتِحْبَابِ التَّنْكِيسِ كَذَلِكَ. وَهُوَ: أَنْ يَجْعَل أَعْلَى الرِّدَاءِ أَسْفَلَهُ
__________
(1) حديث أبي قتادة: أن النبي صلى الله عليه وسلم " سأل عن البراء. . . " أخرجه الحاكم (1 / 353 - 354 - ط دائرة المعارف العثمانية) . وصححه ووافقه الذهبي.
(2) حاشية ابن عابدين 2 / 184، وفتح القدير 2 / 11، والشرح الصغير 1 / 539، وكشاف القناع 2 / 71.(10/299)
وَبِالْعَكْسِ، خِلاَفًا لِلْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فَإِنَّهُمْ لاَ يَقُولُونَ بِالتَّنْكِيسِ.
وَمَحَل تَحْوِيل الرِّدَاءِ عِنْدَ التَّوَجُّهِ إِلَى الْقِبْلَةِ لِلدُّعَاءِ، وَهُوَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَثْنَاءَ الْخُطْبَةِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْخُطْبَتَيْنِ.
وَدَلِيل تَحْوِيل الرِّدَاءِ مِنَ السُّنَّةِ: حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ يَسْتَسْقِي، فَتَوَجَّهَ إِلَى الْقِبْلَةِ يَدْعُو وَحَوَّل رِدَاءَهُ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ جَهَرَ فِيهِمَا بِالْقِرَاءَةِ. (1)
وَقَدْ قِيل: إِنَّ الْحِكْمَةَ مِنْ تَحْوِيل الرِّدَاءِ التَّفَاؤُل بِتَغْيِيرِ الْحَال إِلَى الْخِصْبِ وَالسَّعَةِ.
وَيُسْتَحَبُّ تَحْوِيل الرِّدَاءِ لِلإِْمَامِ وَالْمَأْمُومِينَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، خِلاَفًا لِلْحَنَفِيَّةِ فَلاَ يُحَوِّل رِدَاءَهُ إِلاَّ الإِْمَامُ فِي الْقَوْل الْمُفْتَى بِهِ. (2)
و تَحْوِيل الدَّيْنِ:
9 - عَرَّفَ الْفُقَهَاءُ الْحَوَالَةَ بِالدَّيْنِ تَعْرِيفَاتٍ مُتَقَارِبَةً، مِنْهَا: تَحَوُّل الْحَقِّ مِنْ ذِمَّةٍ إِلَى ذِمَّةٍ أُخْرَى فِي الْمُطَالَبَةِ. (3)
__________
(1) حديث عبد الله بن زيد: " خرج يستسقي. . . " أخرجه البخاري (الفتح 2 / 498 - ط السلفية) .
(2) نفس المراجع.
(3) كشاف القناع 3 / 382.(10/300)
وَمِنْهَا: نَقْل الدَّيْنِ وَتَحْوِيلُهُ مِنْ ذِمَّةِ الْمُحِيل إِلَى ذِمَّةِ الْمُحَال عَلَيْهِ. (1)
وَمَشْرُوعِيَّتُهَا ثَابِتَةٌ بِالإِْجْمَاعِ. وَمُسْتَنَدُهَا قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَطْل الْغَنِيِّ ظُلْمٌ، وَإِذَا أُحِيل أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ. (2)
وَيَظْهَرُ أَثَرُ الْحَوَالَةِ فِي نَقْل الْمَال الْمُحَال بِهِ مِنْ ذِمَّةِ الْمُحِيل إِلَى ذِمَّةِ الْمُحَال عَلَيْهِ.
فَيَبْرَأُ بِالْحَوَالَةِ الْمُحِيل عَنْ دَيْنِ الْمُحَال، وَيَبْرَأُ الْمُحَال عَلَيْهِ عَنْ دَيْنِ الْمُحِيل، وَيَتَحَوَّل حَقُّ الْمُحَال إِلَى ذِمَّةِ الْمُحَال عَلَيْهِ، هَذَا فِي الْحَوَالَةِ الْمُقَيَّدَةِ، وَهِيَ الأَْغْلَبُ حَيْثُ يَكُونُ الْمُحِيل دَائِنًا لِلْمُحَال عَلَيْهِ. أَمَّا فِي الْحَوَالَةِ الْمُطْلَقَةِ، وَهِيَ: إِذَا لَمْ يَكُنِ الْمُحِيل دَائِنَا لِلْمُحَال عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْبَرَاءَةَ تَحْصُل لِلْمُحِيل فَقَطْ. (3)
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (حَوَالَةٌ) .
__________
(1) الاختيار 3 / 3.
(2) حديث: " مطل الغني ظلم. . . " أخرجه البخاري (الفتح 5 / 61 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1197 - ط الحلبي) .
(3) الاختيار 3 / 3، والشرح الصغير 1 / 3، ونهاية المحتاج 4 / 413، وقليوبي وعميرة 2 / 321، وكشاف القناع 3 / 382.(10/300)
تَحَيُّزٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّحَيُّزُ: مِنْ مَعَانِيهِ فِي اللُّغَةِ: الْمَيْل. وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَْدْبَارَ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ} (1) مَعْنَاهُ أَوْ مَائِلاً إِلَى جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَيُقَال: انْحَازَ الرَّجُل إِلَى الْقَوْمِ بِمَعْنَى تَحَيَّزَ إِلَيْهِمْ.
وَفِي لِسَانِ الْعَرَبِ: انْحَازَ الْقَوْمُ: تَرَكُوا مَرْكَزَهُمْ وَمَعْرَكَةَ قِتَالِهِمْ (2) وَمَالُوا إِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: التَّحَيُّزُ إِلَى فِئَةٍ: أَنْ يَصِيرَ الْمُقَاتِل إِلَى فِئَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، لِيَكُونَ مَعَهُمْ فَيَتَقَوَّى بِهِمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ، وَسَوَاءٌ بَعُدَتِ الْمَسَافَةُ أَمْ قَرُبَتْ. فَقَدْ رَوَى ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: أَنَا فِئَةُ الْمُسْلِمِينَ (3) وَكَانُوا بِمَكَانٍ بَعِيدٍ عَنْهُ. وَقَال عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
__________
(1) سورة الأنفال / 15 - 16.
(2) المصباح المنير، ولسان العرب.
(3) حديث: " أنا فئة المسلمين " أخرجه أبو داود (3 / 107 - ط عزت عبيد دعاس) وإسناده ضعيف. (عون المعبود 2 / 349 - نشر دار الكتاب العربي) .(10/301)
: أَنَا فِئَةُ كُل مُسْلِمٍ وَكَانَ بِالْمَدِينَةِ وَجُيُوشُهُ بِمِصْرَ وَالشَّامِ وَالْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ. رَوَاهُمَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ. وَقَال عُمَرُ: رَحِمَ اللَّهُ أَبَا عُبَيْدَةَ، لَوْ كَانَ تَحَيَّزَ إِلَيَّ لَكُنْتُ لَهُ فِئَةً. (1)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
التَّحَرُّفُ:
2 - التَّحَرُّفُ مِنْ مَعَانِيهِ فِي اللُّغَةِ: الْمَيْل وَالْعُدُول. فَإِذَا مَال الإِْنْسَانُ عَنْ شَيْءٍ يُقَال: تَحَرَّفَ وَانْحَرَفَ وَاحْرَوْرَفَ. (2)
وقَوْله تَعَالَى: {إِلاَّ مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ} (3) أَيْ مَائِلاً لأَِجْل الْقِتَال لاَ مَائِلاً هَزِيمَةً، فَإِنَّ ذَلِكَ مَعْدُودٌ مِنْ مَكَايِدِ الْحَرْبِ، لأَِنَّهُ قَدْ يَكُونُ لِضِيقِ الْمَجَال، فَلاَ يَتَمَكَّنُ مِنَ الْجَوَلاَنِ، فَيَنْحَرِفُ لِلْمَكَانِ الْمُتَّسِعِ، لِيَتَمَكَّنَ مِنَ الْقِتَال. (4)
وَالتَّحَرُّفُ فِي الاِصْطِلاَحِ: أَنْ يَنْتَقِل الْمُقَاتِل إِلَى مَوْضِعٍ يَكُونُ الْقِتَال فِيهِ أَمْكَنَ، مِثْل أَنْ يَنْتَقِل مِنْ مُوَاجَهَةِ الشَّمْسِ أَوِ الرِّيحِ إِلَى اسْتِدْبَارِهِمَا، أَوْ مِنْ مُنْخَفِضٍ إِلَى عُلْوٍ أَوْ عَكْسُهُ،
__________
(1) المغني لابن قدامة 8 / 485 م الرياض الحديثة، وروضة الطالبين 10 / 247.
(2) لسان العرب.
(3) سورة الأنفال / 16.
(4) المصباح المنير.(10/301)
أَوْ مِنْ مَعْطَشَةٍ إِلَى مَوْضِعِ مَاءٍ، أَوْ لِيَجِدَ فِيهِمْ فُرْصَةً، أَوْ لِيَسْتَنِدَ إِلَى جَبَلٍ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ أَهْل الْحَرْبِ. (1)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (تَحَرُّفٌ) .
فَالتَّحَيُّزُ وَالتَّحَرُّفُ يَكُونَانِ فِيمَا إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمُونَ وَالْكُفَّارُ فِي الْحَرْبِ، وَالْتَحَمَ جَيْشَاهُمَا، فَالْمُتَحَيِّزُ إِنْ وَجَدَ مِنْ نَفْسِهِ أَنْ لاَ قُدْرَةَ لَهُ عَلَى مُوَاجَهَةِ عَدُوِّهِ وَالظَّفَرِ بِهِ لِكَثْرَةِ عَدَدِهِ وَعُدَدِهِ، إِلاَّ بِأَنْ يَسْتَنْصِرَ وَيَسْتَنْجِدَ بِغَيْرِهِ مِنْ فِئَاتِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّهُ يُبَاحُ لَهُ أَنْ يَنْحَازَ إِلَى فِئَةٍ مِنْهُمْ، لِيَتَقَوَّى بِهِمْ، وَيَسْتَطِيعُ بِذَلِكَ قَهْرَ الْعَدُوِّ وَالظَّفَرَ بِهِ وَالنَّصْرَ عَلَيْهِ.
وَالْمُتَحَرِّفُ لِقِتَالٍ إِذَا رَأَى أَنْ يَكِيدَ لِخَصْمِهِ وَيَتَغَلَّبَ عَلَيْهِ، وَأَنَّ السَّبِيل إِلَى النَّيْل مِنْهُ وَالظَّفَرِ بِهِ وَالنَّصْرِ عَلَيْهِ، إِنَّمَا فِي تَغْيِيرِ خُطَطِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ فِي تَغْيِيرِ الْمَكَانِ، أَمْ فِي التَّرَاجُعِ لِيَسْحَبَ الْعَدُوَّ وَرَاءَهُ، وَيُعَاوِدَهُ بِالْهُجُومِ عَلَيْهِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، مِمَّا يُطْلَقُ عَلَيْهِ (الْخُدَعَ الْحَرْبِيَّةَ) فَإِنَّهُ يُبَاحُ لَهُ ذَلِكَ، إِذِ الْحَرْبُ خُدْعَةٌ. أَمَّا لِغَيْرِ ذَلِكَ فَلاَ يَحِل لِكُلٍّ مِنْهُمَا.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
3 - التَّحَيُّزُ مُبَاحٌ، إِذَا اسْتَشْعَرَ الْمُتَحَيِّزُ عَجْزًا مُحْوِجًا إِلَى الاِسْتِنْجَادِ بِغَيْرِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ
__________
(1) المغني لابن قدامة 8 / 484 - 485، وروضة الطالبين 10 / 247.(10/302)
بِقَصْدِ الاِنْضِمَامِ إِلَى فِئَةٍ، أَيْ جَمَاعَةٍ مِنَ النَّاسِ، لِيَتَقَوَّى بِهِمْ عَلَى مُحَارَبَةِ عَدُوِّهِمْ وَإِيقَاعِ الْهَزِيمَةِ بِهِ وَالنَّصْرِ عَلَيْهِ. فَإِذَا انْتَفَى ذَلِكَ يَكُونُ فِرَارًا، وَهُوَ حَرَامٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَْدْبَارَ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} . (1)
فَإِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمُونَ وَالْكُفَّارُ فِي الْحَرْبِ وَالْتَحَمَ الْجَيْشَانِ، وَجَبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ كَأَصْلٍ عَامٍّ أَنْ يَثْبُتُوا فِي مُوَاجَهَةِ عَدُوِّهِمْ، وَحَرُمَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَفِرُّوا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَْدْبَارَ} . وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} . (2)
4 - وَعَدَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْفِرَارَ عِنْدَ الزَّحْفِ مِنَ الْكَبَائِرِ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ مِنْهَا: مَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ قَالُوا: يَا رَسُول اللَّهِ وَمَا هُنَّ؟ قَال: الشِّرْكُ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَالسِّحْرُ، وَقَتْل النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى إِلاَّ بِالْحَقِّ،
__________
(1) سورة الأنفال / 15 - 16.
(2) سورة الأنفال / 45.(10/302)
وَأَكْل الرِّبَا، وَأَكْل مَال الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاَتِ الْمُؤْمِنَاتِ. (1)
فَثَبَاتُ الْمُسْلِمِينَ فِي مُوَاجَهَةِ أَعْدَائِهِمُ الْكَفَرَةِ وَحُرْمَةُ فِرَارِهِمْ مِنْ لِقَائِهِمْ وَاجِبٌ، إِذَا كَانُوا فِي مِثْل عَدَدِهِمْ أَوْ عَلَى النِّصْفِ مِنْهُمْ أَوْ أَقَل مِنْ ذَلِكَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} . (2) إِلاَّ إِنْ كَانَ ذَلِكَ بِقَصْدِ تَحَيُّزِهِمْ إِلَى فِئَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ تُنَاصِرُهُمْ وَتَشُدُّ مِنْ أَزْرِهِمْ وَيَتَقَوَّوْنَ بِهَا عَلَى أَعْدَائِهِمْ، وَسَوَاءٌ أَكَانَتْ هَذِهِ الْفِئَةُ قَرِيبَةً لَهُمْ أَمْ بَعِيدَةً عَنْهُمْ، لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ} قَال الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: لَوْ كَانَتِ الْفِئَةُ بِخُرَاسَانَ وَالْفِئَةُ بِالْحِجَازِ جَازَ التَّحَيُّزُ إِلَيْهَا، لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِنِّي فِئَةٌ لَكُمْ (3) وَكَانُوا بِمَكَانٍ بَعِيدٍ عَنْهُ. وَقَال عُمَرُ: " أَنَا فِئَةٌ لِكُل مُسْلِمٍ " وَكَانَ بِالْمَدِينَةِ وَجُيُوشُهُ بِالشَّامِ وَالْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ. وَقَال عُمَرُ: رَحِمَ اللَّهُ أَبَا عُبَيْدَةَ لَوْ كَانَ تَحَيَّزَ إِلَيَّ لَكُنْتُ لَهُ فِئَةً.
__________
(1) حديث: " اجتنبوا السبع الموبقات. . . " أخرجه البخاري (الفتح5 / 393 - ط السلفية) . ومسلم (1 / 92 - ط الحلبي) .
(2) سورة الأنفال / 66.
(3) حديث: " إني فئة لكم. . . " سبق تخريجه في (ف 1) .(10/303)
5 - فَإِنْ زَادَ الْكُفَّارُ عَلَى مِثْلَيْ عَدَدِ الْمُسْلِمِينَ فَيُبَاحُ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَنْسَحِبُوا؛ لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَوْجَبَ عَلَى الْمِائَةِ مُصَابَرَةَ الْمِائَتَيْنِ فِي قَوْلِهِ: {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} دَل عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِمْ مُصَابَرَةُ مَا زَادَ عَلَى الْمِائَتَيْنِ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: مَنْ فَرَّ مِنِ اثْنَيْنِ فَقَدْ فَرَّ، وَمَنْ فَرَّ مِنْ ثَلاَثَةٍ فَلَمْ يَفِرَّ وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: " فَمَا فَرَّ " إِلاَّ أَنَّهُ إِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّ الْمُسْلِمِينَ الظَّفَرُ بِهِمْ وَالنَّصْرُ عَلَيْهِمْ، فَيَلْزَمُهُمُ الثَّبَاتُ إِعْلاَءً لِكَلِمَةِ اللَّهِ. وَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِمُ الْهَلاَكُ فِي الْبَقَاءِ وَالنَّجَاةُ فِي الاِنْصِرَافِ فَالأَْوْلَى لَهُمُ الاِنْصِرَافُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (1) وَإِنْ ثَبَتُوا جَازَ لأَِنَّ لَهُمْ غَرَضًا فِي الشَّهَادَةِ، وَحَتَّى لاَ يَنْكَسِرَ الْمُسْلِمُونَ، وَلأَِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَغْلِبُوا الْكُفَّارَ، فَفَضْل اللَّهِ وَاسِعٌ، وَهَذَا مَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ. وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ بَلَغَ الْمُسْلِمُونَ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا حَرُمَ عَلَيْهِمُ الْفِرَارُ، وَلَوْ كَثُرَ الْكُفَّارُ جِدًّا، مَا لَمْ تَخْتَلِفْ كَلِمَتُهُمْ، وَمَا لَمْ يَكُنْ بِقَصْدِ التَّحَيُّزِ لِقِتَالٍ. (2)
__________
(1) سورة البقرة / 195.
(2) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع 7 / 98 - 99، والمهذب في فقه الإمام الشافعي 2 / 233، 234، وروضة الطالبين 10 / 247 - 249، والشرح الكبير 2 / 178 - 179، والشرح الصغير 2 / 277 - 278، والمغني لابن قدامة 8 / 484 - 485، وكشاف القناع عن متن الإقناع 3 / 45 - 47، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 7 / 380 - 384، وتفسير روح المعاني 9 / 180 - 182.(10/303)
تَحِيَّةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّحِيَّةُ مَصْدَرُ حَيَّاهُ يُحَيِّيهِ تَحِيَّةً، أَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ: الدُّعَاءُ بِالْحَيَاةِ، وَمِنْهُ " التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ " أَيِ الْبَقَاءُ، وَقِيل: الْمُلْكُ، ثُمَّ كَثُرَ حَتَّى اُسْتُعْمِل فِي مَا يُحَيَّا بِهِ مِنْ سَلاَمٍ وَنَحْوِهِ، وَتَحِيَّةُ اللَّهِ الَّتِي جَعَلَهَا فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ لِمُؤْمِنِي عِبَادِهِ السَّلاَمُ، فَقَدْ شَرَعَ لَهُمْ إِذَا تَلاَقَوْا وَدَعَا بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ بِأَجْمَعِ الدُّعَاءِ أَنْ يَقُولُوا: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ. (1) قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} . (2)
وَاسْتَعْمَل الْفُقَهَاءُ عِبَارَةَ (التَّحِيَّةِ) فِي غَيْرِ السَّلاَمِ لِتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
2 - حُكْمُ التَّحِيَّةِ النَّدْبُ بِلاَ خِلاَفٍ بَيْنَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَهِيَ تَخْتَلِفُ فِي الأَْدَاءِ كَمَا يَلِي:
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير مادة: " حيا "، وتفسير القرطبي 5 / 297، 298 ط دار الكتب المصرية.
(2) سورة النساء / 58.(10/304)
أ - التَّحِيَّةُ بَيْنَ الأَْحْيَاءِ:
3 - أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الاِبْتِدَاءَ بِالسَّلاَمِ سُنَّةٌ مُرَغَّبٌ فِيهَا، وَرَدَّهُ فَرِيضَةٌ (1) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} . وَلِلتَّفْصِيل ر: (سَلاَمٌ) .
ب - تَحِيَّةُ الأَْمْوَاتِ:
4 - تَحِيَّةُ مَنْ فِي الْقُبُورِ السَّلاَمُ، فَإِذَا مَرَّ الْمُسْلِمُ بِالْقُبُورِ أَوْ زَارَهَا اُسْتُحِبَّ أَنْ يَقُول مَا وَرَدَ (2) وَهُوَ: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ أَهْل الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَلاَحِقُونَ، نَسْأَل اللَّهَ لَنَا وَلَكُمُ الْعَافِيَةَ وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ: وَيَرْحَمُ اللَّهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا، وَالْمُسْتَأْخِرِينَ. (3)
ج - تَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ:
5 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ يُسَنُّ لِكُل مَنْ يَدْخُل مَسْجِدًا غَيْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ - يُرِيدُ الْجُلُوسَ بِهِ لاَ الْمُرُورَ فِيهِ، وَكَانَ مُتَوَضِّئًا - أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ قَبْل الْجُلُوسِ. وَالأَْصْل فِيهِ حَدِيثٌ رَوَاهُ
__________
(1) تفسير القرطبي 5 / 297 - 304، وفتح الباري 11 / 2، 12 - 14 ط السعودية، وأسهل المدارك 3 / 351 - 353 ط عيسى الحلبي بمصر، وشرح المنهاج 4 / 215 ط مصطفى الحلبي بمصر.
(2) الفتاوى الهندية 5 / 350، والمغني 2 / 566، ومنهاج الطالبين 1 / 351.
(3) حديث: " السلام عليكم أهل الديار. . . . " أخرجه مسلم (2 / 671 - ط الحلبي) من حديث عائشة.(10/304)
أَبُو قَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا دَخَل أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ فَلاَ يَجْلِسْ حَتَّى يَرْكَعَ رَكْعَتَيْنِ (1) وَمَنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْهُمَا لِحَدَثٍ أَوْ غَيْرِهِ يَقُول نَدْبًا: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَلاَ حَوْل وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ. فَإِنَّهَا تَعْدِل رَكْعَتَيْنِ كَمَا فِي الأَْذْكَارِ، وَهِيَ الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ، وَالْقَرْضُ الْحَسَنُ. (2)
وَيُسَنُّ لِمَنْ جَلَسَ قَبْل الصَّلاَةِ أَنْ يَقُومَ فَيُصَلِّيَ، لِمَا رَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: جَاءَ سُلَيْكٌ الْغَطَفَانِيُّ، وَرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ، فَقَال: يَا سُلَيْكُ قُمْ فَارْكَعْ رَكْعَتَيْنِ وَتَجَوَّزْ فِيهِمَا (3) فَإِنَّهَا لاَ تَسْقُطُ بِالْجُلُوسِ.
كَمَا أَنَّهُ لاَ خِلاَفَ بَيْنَهُمْ فِي أَنَّ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ تَتَأَدَّى بِفَرْضٍ أَوْ نَفْلٍ.
6 - وَأَمَّا إِذَا تَكَرَّرَ دُخُولُهُ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ
__________
(1) حديث: " إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يركع ركعتين " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 537 - ط السلفية) ومسلم (1 / 495 - ط الحلبي) .
(2) ابن عابدين 1 / 456 - 457، والشرح الصغير 1 / 405، 406 ط دار المعارف بمصر، وجواهر الإكليل 1 / 73، والقليوبي 1 / 215، وروضة الطالبين 1 / 332، والمغني لابن قدامة 1 / 455، 2 / 135 ط مكتبة الرياض الحديثة، وكشاف القناع 1 / 327 ط عالم الكتب بيروت، ومواهب الجليل 2 / 68 - 69، والفتاوى الهندية 5 / 321، والدسوقي 1 / 313 - 314.
(3) حديث: " يا سليك قم فاركع ركعتين " أخرجه مسلم (2 / 597 - ط الحلبي) .(10/305)
وَالْمَالِكِيَّةُ - إِنْ قَرُبَ رُجُوعُهُ لَهُ عُرْفًا - وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ مُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ: إِلَى أَنَّهُ تَكْفِيهِ لِكُل يَوْمٍ مَرَّةً. وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ تَكَرُّرُ التَّحِيَّةِ بِتَكَرُّرِ الدُّخُول عَلَى قُرْبٍ كَالْبُعْدِ. (1) وَإِذَا كَانَتِ الْمَسَاجِدُ مُتَلاَصِقَةً، فَتُسَنُّ التَّحِيَّةُ لِكُل وَاحِدٍ مِنْهَا (2)
7 - وَكَذَلِكَ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ دَخَل الْمَسْجِدَ وَالإِْمَامُ يَخْطُبُ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجْلِسُ وَيُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَرْكَعَ رَكْعَتَيْنِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} (3) ، وَالصَّلاَةُ تُفَوِّتُ الاِسْتِمَاعَ وَالإِْنْصَاتَ، فَلاَ يَجُوزُ تَرْكُ الْفَرْضِ لإِِقَامَةِ السُّنَّةِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ شُرَيْحٌ، وَابْنُ سِيرِينَ وَالنَّخَعِيُّ وَقَتَادَةُ وَالثَّوْرِيُّ وَاللَّيْثُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَرْكَعُ رَكْعَتَيْنِ يُوجِزُ فِيهِمَا، لِحَدِيثِ سُلَيْكٍ الْغَطَفَانِيِّ الْمُتَقَدِّمِ. وَبِهَذَا قَال الْحَسَنُ وَابْنُ عُيَيْنَةَ وَمَكْحُولٌ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ (4) .
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) القليوبي 1 / 215.
(3) سورة الأعراف / 204.
(4) بدائع الصنائع 1 / 264 ط دار الكتاب العربي، وابن عابدين 1 / 550، والقوانين الفقهية / 86، وبداية المجتهد 1 / 166 ط مكتبة الكليات الأزهرية، وروضة الطالبين 2 / 30، والمغني لابن قدامة 2 / 319(10/305)
د - تَحِيَّةُ الْكَعْبَةِ:
8 - إِذَا وَصَل الْمُحْرِمُ مَكَّةَ وَدَخَل الْمَسْجِدَ وَرَأَى الْبَيْتَ، يَرْفَعُ يَدَيْهِ وَيَقُول: اللَّهُمَّ زِدْ هَذَا الْبَيْتَ تَشْرِيفًا وَتَعْظِيمًا وَتَكْرِيمًا وَمَهَابَةً، وَزِدْ مَنْ شَرَّفَهُ وَعَظَّمَهُ مِمَّنْ حَجَّهُ أَوِ اعْتَمَرَهُ تَشْرِيفًا وَتَكْرِيمًا وَتَعْظِيمًا (1) لِحَدِيثٍ رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَيَقُول: اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلاَمُ، وَمِنْكَ السَّلاَمُ فَحَيِّنَا رَبَّنَا بِالسَّلاَمِ. (2)
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَقُول ذَلِكَ، وَلَكِنْ لاَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ.
هـ - تَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ:
9 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الطَّوَافُ لِلْقَادِمِ لِمَكَّةَ، سَوَاءٌ كَانَ تَاجِرًا أَوْ حَاجًّا أَوْ غَيْرَهُمَا، لِقَوْل عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْهَا: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ تَوَضَّأَ، ثُمَّ طَافَ بِالْبَيْتِ (3) وَرَكْعَتَا تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ تُجْزِئُ عَنْهُمَا الرَّكْعَتَانِ بَعْدَ الطَّوَافِ. (4)
إِلاَّ إِذَا كَانَ لِلدَّاخِل فِيهِ عُذْرٌ مَانِعٌ، أَوْ لَمْ يُرِدِ
__________
(1) حديث: " اللهم زد هذا البيت تشريفا. . . " أخرجه البيهقي (5 / 73 - ط دائرة المعارف العثمانية) وقال: هذا منقطع.
(2) سنن البيهقي 5 / 73، وشرح المنهاج 2 / 102، والمغني 3 / 369، 370 وانظر مصطلح: (حج) .
(3) الحديث أخرجه البخاري (الفتح 3 / 477 ط السلفية) .
(4) ابن عابدين 2 / 165، والقليوبي 1 / 215، وكشاف القناع 2 / 477.(10/306)
الطَّوَافَ، فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ إِنْ لَمْ يَكُنْ وَقْتَ كَرَاهَةٍ. وَإِذَا خَافَ فَوَاتَ الْمَكْتُوبَةِ أَوْ جَمَاعَتَهَا، أَوِ الْوِتْرَ، أَوْ سُنَّةً رَاتِبَةً قَدَّمَهَا عَلَى الطَّوَافِ، إِلاَّ أَنَّهُ لاَ تَحْصُل بِهَا تَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، بِخِلاَفِ سَائِرِ الْمَسَاجِدِ.
10 - وَأَمَّا الْمَكِّيُّ الَّذِي لَمْ يُؤْمَرْ بِطَوَافٍ، وَلَمْ يَدْخُلْهُ لأَِجْل الطَّوَافِ، بَل لِلصَّلاَةِ أَوْ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ أَوْ لِلْعِلْمِ، فَتَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فِي حَقِّهِ الصَّلاَةُ، كَتَحِيَّةِ سَائِرِ الْمَسَاجِدِ. وَنَصَّ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّ الطَّوَافَ لِغَرِيبٍ أَفْضَل مِنَ الصَّلاَةِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الطَّوَافَ لأَِهْل الْعِرَاقِ، وَالصَّلاَةَ لأَِهْل مَكَّةَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ عَطَاءٌ. (1)
وَيُنْظَرُ لِلتَّفْصِيل مُصْطَلَحُ: (طَوَافٌ) .
و تَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ:
11 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ دَخَل الْمَسْجِدَ النَّبَوِيَّ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَقْصِدَ الرَّوْضَةَ إِنْ تَيَسَّرَ لَهُ - وَهِيَ مَا بَيْنَ الْقَبْرِ وَالْمِنْبَرِ - وَيُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ بِجَنْبِ الْمِنْبَرِ، لِحَدِيثِ جَابِرٍ قَال: جَاءَ سُلَيْكٌ. . . ثُمَّ يَأْتِيَ قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَقُول: السَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا رَسُول اللَّهِ ثُمَّ يُسَلِّمَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 456، 457 و 2 / 165، والشرح الصغير 1 / 406، 407، وجواهر الإكليل 1 / 73، وروضة الطالبين 3 / 76، 78، والمغني لابن قدامة 3 / 370، وكشاف القناع 2 / 477.(10/306)
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، ثُمَّ عَلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. (1)
حُكْمُ التَّحِيَّةِ بِغَيْرِ السَّلاَمِ لِلْمُسْلِمِ:
12 - ذَهَبَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ التَّحِيَّةَ بِغَيْرِ السَّلاَمِ لِلْمُسْلِمِ، كَنَحْوِ: صَبَّحَكَ اللَّهُ بِالْخَيْرِ، أَوِ السَّعَادَةِ، أَوْ طَابَ حِمَاكَ، أَوْ قَوَّاكَ اللَّهُ، مِنَ الأَْلْفَاظِ الَّتِي يَسْتَعْمِلُهَا النَّاسُ فِي الْعَادَةِ لاَ أَصْل لَهَا، وَلاَ يَجِبُ الرَّدُّ عَلَى قَائِلِهَا، لَكِنْ لَوْ دَعَا لَهُ مُقَابِل ذَلِكَ كَانَ حَسَنًا.
13 - كَمَا أَنَّ عَامَّةَ أَهْل الْعِلْمِ يَرَوْنَ أَنَّ الرَّدَّ عَلَى مَنْ حَيَّا بِغَيْرِ السَّلاَمِ غَيْرُ وَاجِبٍ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ تَحِيَّتُهُ بِلَفْظٍ، أَمْ بِإِشَارَةٍ بِالإِْصْبَعِ، أَوِ الْكَفِّ أَوِ الرَّأْسِ، إِلاَّ إِشَارَةَ الأَْخْرَسِ أَوِ الأَْصَمِّ، فَيَجِبُ الرَّدُّ بِالإِْشَارَةِ مَعَ اللَّفْظِ، لِيَحْصُل بِهِ الإِْفْهَامُ؛ لأَِنَّ إِشَارَتَهُ قَائِمَةٌ مَقَامَ الْعِبَارَةِ. (2)
14 - وَأَمَّا الرَّدُّ بِغَيْرِ السَّلاَمِ عَلَى مَنْ أَلْقَى السَّلاَمَ، فَعَامَّةُ أَهْل الْعِلْمِ يَرَوْنَ أَنَّهُ لاَ يُجْزِئُ، وَلاَ يَسْقُطُ الرَّدُّ الْوَاجِبُ، لأَِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 257، وحاشية الدسوقي 1 / 314، ومنهاج الطالبين 2 / 126، والمغني لابن قدامة 3 / 557.
(2) روضة الطالبين 10 / 233، ومغني المحتاج 4 / 214، ونهاية المحتاج 8 / 48، والإنصاف 4 / 233، والأذكار للنووي ص 234.(10/307)
بِالْمِثْل. (1) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} . (2)
حُكْمُ التَّحِيَّةِ بِالسَّلاَمِ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِ:
15 - حُكْمُ التَّحِيَّةِ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِ بِالسَّلاَمُ عَلَيْكُمْ مَمْنُوعٌ عَلَى سَبِيل الْحُرْمَةِ أَوِ الْكَرَاهَةِ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تَبْدَءُوا الْيَهُودَ وَلاَ النَّصَارَى بِالسَّلاَمِ، وَإِذَا سَلَّمُوا هُمْ عَلَى مُسْلِمٍ قَال فِي الرَّدِّ: وَعَلَيْكُمْ. وَلاَ يَزِيدُ عَلَى هَذَا. (3)
16 - قَال ابْنُ الْقَيِّمِ: هَذَا كُلُّهُ إِذَا تَحَقَّقَ أَنَّهُ قَال: السَّامُ عَلَيْكُمْ، أَوْ شَكَّ فِيمَا قَال، فَلَوْ تَحَقَّقَ السَّامِعُ أَنَّ الذِّمِّيَّ قَال لَهُ: " سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ " لاَ شَكَّ فِيهِ، فَهَل لَهُ أَنْ يَقُول: وَعَلَيْكَ السَّلاَمُ، أَوْ يَقْتَصِرَ عَلَى قَوْلِهِ: وَعَلَيْكَ؟ فَاَلَّذِي تَقْتَضِيهِ الأَْدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ وَقَوَاعِدُ الشَّرِيعَةِ أَنْ يُقَال لَهُ: وَعَلَيْكَ السَّلاَمُ، فَإِنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الْعَدْل، وَاللَّهُ يَأْمُرُ بِالْعَدْل وَالإِْحْسَانِ، وَقَدْ قَال تَعَالَى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} .
فَنَدَبَ إِلَى الْفَضْل، وَأَوْجَبَ الْعَدْل، وَلاَ
__________
(1) الفواكه الدواني 2 / 423، والجمل على شرح المنهج 5 / 188، وتفسير ابن كثير 2 / 351.
(2) سورة النساء / 58.
(3) حديث: " لا تبدءوا اليهود ولا النصارى بالسلام. . " أخرجه مسلم (4 / 1707 - ط الحلبي) .(10/307)
يُنَافِي هَذَا شَيْئًا مِنْ أَحَادِيثِ الْبَابِ بِوَجْهٍ مَا، فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا أَمَرَ بِالاِقْتِصَارِ عَلَى قَوْل الرَّادِّ " وَعَلَيْكُمْ "، بِنَاءً عَلَى السَّبَبِ الْمَذْكُورِ الَّذِي كَانُوا يَعْتَمِدُونَهُ فِي تَحِيَّتِهِمْ، وَأَشَارَ إِلَيْهِ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقَال أَلاَ تَرِينَنِي قُلْتُ: وَعَلَيْكُمْ، لَمَّا قَالُوا: السَّامُ عَلَيْكُمْ. ثُمَّ قَال: إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَهْل الْكِتَابِ فَقُولُوا: وَعَلَيْكُمْ (1)
وَالاِعْتِبَارُ وَإِنْ كَانَ لِعُمُومِ اللَّفْظِ فَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ عُمُومُهُ فِي نَظِيرِ الْمَذْكُورِ لاَ فِيمَا يُخَالِفُهُ. قَال تَعَالَى {وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُول} (2)
فَإِذَا زَال هَذَا السَّبَبُ وَقَال الْكِتَابِيُّ: سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، فَالْعَدْل فِي التَّحِيَّةِ يَقْتَضِي أَنْ يُرَدَّ عَلَيْهِ نَظِيرُ سَلاَمِهِ. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. (3)
17 - وَأَمَّا حُكْمُ التَّحِيَّةِ بِغَيْرِ السَّلاَمِ لِلْكَافِرِ، فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: أَنَّهَا مَكْرُوهَةٌ مَا لَمْ تَكُنْ لِعُذْرٍ، أَوْ غَرَضٍ كَحَاجَةٍ أَوْ جِوَارٍ أَوْ قَرَابَةٍ، فَإِذَا كَانَتْ لِعُذْرٍ
__________
(1) حديث: " إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم " أخرجه البخاري (الفتح 11 / 42 - ط السلفية) .
(2) سورة المجادلة / 8.
(3) أحكام أهل الذمة 1 / 199، 200 ط دار العلم للملايين، والأذكار للنووي ص 226.(10/308)
فَلاَ كَرَاهَةَ فِيهَا. وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ، إِلَى حُرْمَةِ تَحِيَّةِ الْكُفَّارِ وَلَوْ بِغَيْرِ السَّلاَمِ (1) . .
تَحِيَّاتٌ
اُنْظُرْ: تَشَهُّدٌ.
__________
(1) نهاية المحتاج 8 / 48، والإنصاف 4 / 233، وابن عابدين 5 / 265، والأذكار للنووي ص 227.(10/308)
تَخَارُجٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّخَارُجُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ تَخَارَجَ، يُقَال: تَخَارَجَ الْقَوْمُ: إِذَا أَخْرَجَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ نَفَقَةً عَلَى قَدْرِ نَفَقَةِ صَاحِبِهِ. وَتَخَارَجَ الشُّرَكَاءُ: خَرَجَ كُل وَاحِدٍ مِنْ شَرِكَتِهِ عَنْ مِلْكِهِ إِلَى صَاحِبِهِ بِالْبَيْعِ
وَفِي الاِصْطِلاَحِ هُوَ: أَنْ يَصْطَلِحَ الْوَرَثَةُ عَلَى إِخْرَاجِ بَعْضِهِمْ بِشَيْءٍ مَعْلُومٍ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الصُّلْحُ:
2 - الصُّلْحُ لُغَةً: اسْمٌ لِلْمُصَالَحَةِ الَّتِي هِيَ الْمُسَالَمَةُ خِلاَفَ الْمُخَاصَمَةِ وَاصْطِلاَحًا: عَقْدٌ وُضِعَ لِرَفْعِ الْمُنَازَعَةِ. (2) وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ التَّخَارُجِ؛ لأَِنَّهُ يَشْمَل الْمُصَالَحَةَ فِي الْمِيرَاثِ وَغَيْرِهِ.
__________
(1) لسان العرب والمعجم الوسيط، وفتح القدير 7 / 408، والبناية شرح الهداية 7 / 647
(2) لسان العرب، وفتح القدير 7 / 375، وابن عابدين 4 / 472.(11/5)
ب - الْقِسْمَةُ (أَوِ التَّقَاسُمُ) :
3 - الْقِسْمَةُ لُغَةً، اسْمٌ لِلاِقْتِسَامِ أَوِ التَّقْسِيمِ، وَتَقَاسَمُوا الشَّيْءَ: قَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ، وَهُوَ أَنْ يَأْخُذَ كُل وَاحِدٍ نَصِيبَهُ
وَشَرْعًا: جَمْعُ نَصِيبٍ شَائِعٍ فِي مَكَانٍ مُعَيَّنٍ (1) .
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ فِي الْقِسْمَةِ يَأْخُذُ جُزْءًا مِنَ الْمَال الْمُشْتَرَكِ، أَمَّا فِي التَّخَارُجِ فَإِنَّ الْوَارِثَ الَّذِي يَخْرُجُ يَأْخُذُ شَيْئًا مَعْلُومًا، سَوَاءٌ أَكَانَ مِنَ التَّرِكَةِ أَمْ مِنْ غَيْرِهَا.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
4 - التَّخَارُجُ جَائِزٌ عِنْدَ التَّرَاضِي، وَالأَْصْل فِي جَوَازِهِ مَا رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ تُمَاضِرَ بِنْتَ الأَْصْبَغِ الْكَلْبِيَّةَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ، ثُمَّ مَاتَ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ، فَوَرَّثَهَا عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ مَعَ ثَلاَثِ نِسْوَةٍ أُخَرَ، فَصَالَحُوهَا عَنْ رُبْعِ ثُمُنِهَا عَلَى ثَلاَثَةٍ وَثَمَانِينَ أَلْفًا. قِيل مِنَ الدَّنَانِيرِ، وَقِيل مِنَ الدَّرَاهِمِ (2) .
حَقِيقَةُ التَّخَارُجِ:
5 - الأَْصْل فِي التَّخَارُجِ أَنَّهُ عَقْدُ صُلْحٍ بَيْنَ الْوَرَثَةِ
__________
(1) لسان العرب والقاموس المحيط، وابن عابدين 5 / 160، وفتح القدير 8 / 348، 349.
(2) فتح القدير 7 / 409، والسراجية ص 236، 237.(11/5)
لإِِخْرَاجِ أَحَدِهِمْ، وَلَكِنَّهُ يُعْتَبَرُ عَقْدَ بَيْعٍ إِنْ كَانَ الْبَدَل الْمُصَالَحُ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ التَّرِكَةِ. وَيُعْتَبَرُ عَقْدَ قِسْمَةٍ وَمُبَادَلَةٍ، إِنْ كَانَ الْبَدَل الْمُصَالَحُ عَلَيْهِ مِنْ مَال التَّرِكَةِ، وَقَدْ يَكُونُ هِبَةً أَوْ إِسْقَاطًا لِلْبَعْضِ، إِنْ كَانَ الْبَدَل الْمُصَالَحُ عَلَيْهِ أَقَل مِنَ النَّصِيبِ الْمُسْتَحَقِّ. (1) وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ.
وَيُشْتَرَطُ فِي كُل حَالَةٍ شُرُوطُهَا الْخَاصَّةُ.
مَنْ يَمْلِكُ التَّخَارُجَ:
6 - التَّخَارُجُ عَقْدُ صُلْحٍ، وَهُوَ فِي أَغْلَبِ أَحْوَالِهِ يُعْتَبَرُ مِنْ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ، وَلِذَلِكَ يُشْتَرَطُ فِيمَنْ يَمْلِكُ التَّخَارُجَ أَهْلِيَّةَ التَّعَاقُدِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ عَاقِلاً غَيْرَ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ، فَلاَ يَصِحُّ التَّخَارُجُ مِنَ الصَّبِيِّ الَّذِي لاَ يُمَيِّزُ، وَلاَ مِنَ الْمَجْنُونِ وَأَشْبَاهِهِ.
وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ ذَا إِرَادَةٍ؛ لأَِنَّ التَّخَارُجَ مَبْنَاهُ عَلَى الرِّضَا. (ر: إِكْرَاهٌ) .
وَيُشْتَرَطُ فِيمَنْ يَمْلِكُ التَّخَارُجَ كَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مَالِكًا لِمَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ. وَفِي تَصَرُّفِ الْفُضُولِيِّ خِلاَفٌ بَيْنَ مَنْ يُجِيزُهُ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ
__________
(1) فتح القدير 7 / 409، وابن عابدين 4 / 481، 482 وما بعدها، والدسوقي 3 / 309، 315 و 4 / 478، والمواق بهامش الحطاب 5 / 85(11/6)
الْمَالِكِ، وَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَبَيْنَ مَنْ لاَ يُجِيزُهُ، وَهُمُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ. وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ مَوْضِعُهُ مُصْطَلَحُ (فُضُولِيٌّ) .
وَقَدْ يَكُونُ مِلْكُ التَّصَرُّفِ بِالْوَكَالَةِ، وَحِينَئِذٍ يَجِبُ أَنْ يَقْتَصِرَ التَّصَرُّفُ عَلَى الْمَأْذُونِ بِهِ لِلْوَكِيل. (ر: وَكَالَةٌ) .
وَقَدْ يَكُونُ مِلْكُ التَّصَرُّفِ كَذَلِكَ بِالْوِلاَيَةِ الشَّرْعِيَّةِ كَالْوَلِيِّ وَالْوَصِيِّ، وَحِينَئِذٍ يَجِبُ أَنْ يَقْتَصِرَ تَصَرُّفُهُمَا عَلَى مَا فِيهِ الْحَظُّ لِلْمُوَلَّى عَلَيْهِ.
فَقَدْ نَقَل ابْنُ فَرْحُونَ عَنْ مُفِيدِ الْحُكَّامِ فِي الأَْبِ يُصَالِحُ عَنِ ابْنَتِهِ الْبِكْرِ بِبَعْضِ حَقِّهَا مِنْ مِيرَاثٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَحَقُّهَا بَيِّنٌ لاَ خِصَامَ فِيهِ، أَنَّ صُلْحَهُ غَيْرُ جَائِزٍ، إِذْ لاَ نَظَرَ فِيهِ، أَيْ لاَ مَصْلَحَةَ، وَتَرْجِعُ الاِبْنَةُ بِبَقِيَّتِهِ عَلَى مَنْ هُوَ عَلَيْهِ. (1) وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي: (وِصَايَةٍ، وِلاَيَةٍ) .
شُرُوطُ صِحَّةِ التَّخَارُجِ:
لِلتَّخَارُجِ شُرُوطٌ عَامَّةٌ بِاعْتِبَارِهِ عَقْدَ صُلْحٍ،
__________
(1) البدائع 6 / 23، 28، 40، 41، 42، 52، والتكملة لابن عابدين 2 / 153، 169، 170، والتبصرة لابن فرحون بهامش فتح العلي 2 / 38، والحطاب 5 / 81، والشرح الصغير 2 / 142 ط الحلبي، ومغني المحتاج 2 / 181، 3 / 200، والمغني 4 / 530، 531، وشرح منتهى الإرادات 2 / 260، 302، 303 و 3 / 623(11/6)
وَشُرُوطٌ خَاصَّةٌ بِصُوَرِ التَّخَارُجِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الصُّوَرِ، وَسَتُذْكَرُ عِنْدَ بَيَانِهَا.
أَمَّا الشُّرُوطُ الْعَامَّةُ فَهِيَ:
7 - أ - يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ التَّخَارُجِ أَنْ تَكُونَ التَّرِكَةُ - مَحَل التَّخَارُجِ - مَعْلُومَةً، إِذِ التَّخَارُجُ فِي الْغَالِبِ بَيْعٌ فِي صُورَةِ صُلْحٍ، وَبَيْعُ الْمَجْهُول لاَ يَجُوزُ، وَكَذَا الصُّلْحُ عَنْهُ، وَذَلِكَ إِذَا أَمْكَنَ الْوُصُول إِلَى مَعْرِفَةِ التَّرِكَةِ، فَإِذَا تَعَذَّرَ الْوُصُول إِلَى مَعْرِفَتِهَا جَازَ الصُّلْحُ عَنِ الْمَجْهُول، كَمَا إِذَا صَالَحَتِ الزَّوْجَةُ عَنْ صَدَاقِهَا، وَلاَ عِلْمَ لَهَا وَلاَ لِلْوَرَثَةِ بِمَبْلَغِهِ، وَهَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالإِْمَامِ أَحْمَدَ، وَبَعْضِ الْحَنَابِلَةِ الَّذِينَ لاَ يُجِيزُونَ الصُّلْحَ عَنِ الْمَجْهُول. وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ جَوَازُ الصُّلْحِ عَنِ الْمَجْهُول مُطْلَقًا، سَوَاءٌ تَعَذَّرَ عِلْمُهُ أَوْ لَمْ يَتَعَذَّرْ. وَدَلِيل الصُّلْحِ عَنِ الْمَجْهُول عِنْدَ تَعَذُّرِ الْعِلْمِ بِهِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لِرَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا فِي مَوَارِيثَ دَرَسَتِ: اقْتَسِمَا وَتَوَخَّيَا الْحَقَّ ثُمَّ اسْتَهِمَا ثُمَّ تَحَالاَّ. (1)
أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَلاَ يُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ أَعْيَانُ
__________
(1) حديث: " اقتسما وتوخيا الحق. . . ". أخرجه أحمد وأبو داود من حديث أم سلمة رضي الله عنها مرفوعا. والحديث سكت عنه أبو داود والمنذري. وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده حسن. (مسند أحمد بن حنبل 6 / 320 ط الميمنية، وعون المعبود 3 / 329 ط الهند، وشرح السنة للبغوي بتحقيق شعيب الأرناؤوط 10 / 113 نشر المكتب الإسلامي) .(11/7)
التَّرِكَةِ مَعْلُومَةً فِيمَا لاَ يَحْتَاجُ إِلَى قَبْضٍ؛ لأَِنَّهُ لاَ حَاجَةَ فِيهِ إِلَى التَّسْلِيمِ، وَبَيْعُ مَا لَمْ يُعْلَمْ قَدْرُهُ جَائِزٌ، كَمَنْ أَقَرَّ بِغَصْبِ شَيْءٍ، فَبَاعَهُ الْمُقَرُّ لَهُ مِنَ الْمُقِرِّ جَازَ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفَا قَدْرَهُ؛ وَلأَِنَّ الْجَهَالَةَ هُنَا لاَ تُفْضِي إِلَى الْمُنَازَعَةِ، وَدَلِيل جَوَازِ ذَلِكَ أَثَرُ عُثْمَانَ فِي تَخَارُجِ تُمَاضِرَ امْرَأَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ (1) .
8 - ب - أَنْ يَكُونَ الْبَدَل مَالاً مُتَقَوِّمًا مَعْلُومًا مُنْتَفَعًا بِهِ مَقْدُورًا عَلَى تَسْلِيمِهِ، فَلاَ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْبَدَل مَجْهُولاً جِنْسًا أَوْ قَدْرًا أَوْ صِفَةً، وَلاَ أَنْ يَكُونَ مِمَّا لاَ يَصْلُحُ عِوَضًا فِي الْبَيْعِ. وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ، إِذْ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: إِذَا كَانَ الْعِوَضُ لاَ يَحْتَاجُ إِلَى تَسْلِيمٍ، وَكَانَ لاَ سَبِيل إِلَى مَعْرِفَتِهِ كَالْمُخْتَصِمِينَ فِي مَوَارِيثَ دَارِسَةٍ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ مَعَ الْجَهَالَةِ. (2)
9 - ج - التَّقَابُضُ فِي الْمَجْلِسِ فِيمَا يُعْتَبَرُ صَرْفًا، كَالتَّخَارُجِ عَنْ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ بِالآْخَرِ، وَكَذَا فِيمَا إِذَا اتَّفَقَ الْمُصَالَحُ عَنْهُ وَالْمُصَالَحُ عَلَيْهِ فِي عِلَّةِ الرِّبَا. وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ فِي الأَْصْل، مَعَ الاِخْتِلاَفِ
__________
(1) ابن عابدين 4 / 481، 482، والزيلعي 5 / 50، وفتح القدير 7 / 409 وما بعدها نشر دار المعرفة، والحطاب 5 / 80، 81، والشرح الصغير 2 / 147، والوجيز للغزالي 1 / 178، ونهاية المحتاج 4 / 376، والمغني 4 / 542، 543، وشرح منتهى الإرادات 2 / 263.
(2) تكملة ابن عابدين 2 / 154 وما بعدها، والبدائع 6 / 42، والتبصرة 2 / 37، والشرح الصغير 2 / 148، 149، ومنح الجليل 3 / 201، ومغني المحتاج 2 / 177، والمغني 4 / 544، وشرح منتهى الإرادات 2 / 262.(11/7)
فِي التَّفَاصِيل الَّتِي سَتَرِدُ عِنْدَ ذِكْرِ صُوَرِ التَّخَارُجِ. (1)
10 - د - تَوَافُرُ شُرُوطِ بَيْعِ الدَّيْنِ إِذَا كَانَ لِلتَّرِكَةِ دَيْنٌ عَلَى الْغَيْرِ، وَهَذَا عِنْدَ مَنْ يُجِيزُ بَيْعَ الدَّيْنِ لِغَيْرِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ كَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، أَوْ يُرَاعَى اسْتِعْمَال الْحِيلَةِ لِجَوَازِ التَّخَارُجِ كَالإِْبْرَاءِ أَوِ الْحَوَالَةِ بِهِ كَمَا يَقُول الْحَنَفِيَّةُ، (2) وَسَيَأْتِي تَفْصِيل ذَلِكَ عِنْدَ ذِكْرِ الصُّوَرِ.
صُوَرُ التَّخَارُجِ:
لَمْ تَرِدْ صُوَرٌ مُفَصَّلَةٌ لِلتَّخَارُجِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَإِنَّمَا وَرَدَ ذَلِكَ مُفَصَّلاً عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ مَعَ الاِخْتِلاَفِ فِي الاِتِّجَاهَاتِ، وَلاَ تَظْهَرُ هَذِهِ الاِتِّجَاهَاتُ إِلاَّ بِذِكْرِ كُل مَذْهَبٍ عَلَى حِدَةٍ.
صُوَرُ التَّخَارُجِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ:
11 - إِذَا تَخَارَجَ الْوَرَثَةُ مَعَ أَحَدِهِمْ عَنْ نَصِيبِهِ فِي التَّرِكَةِ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْمَال يَدْفَعُونَهُ لَهُ، فَلِذَلِكَ صُوَرٌ تَخْتَلِفُ بِحَسَبِ نَوْعِ الْبَدَل الَّذِي يَدْفَعُونَهُ، وَبِحَسَبِ نَوْعِيَّةِ التَّرِكَةِ، وَذَلِكَ كَمَا يَلِي:
__________
(1) ابن عابدين 4 / 481، والزيلعي 5 / 51، والدسوقي 3 / 315، ومغني المحتاج 2 / 178، والمغني 4 / 534، ومنتهى الإرادات 2 / 262.
(2) ابن عابدين 4 / 482، والدسوقي 3 / 316، ومغني المحتاج 2 / 400، والمغني 5 / 659، ومنتهى الإرادات 2 / 262.(11/8)
أ - إِذَا كَانَتِ التَّرِكَةُ عَقَارًا أَوْ عَرَضًا، فَأَخْرَجَ الْوَرَثَةُ أَحَدَهُمْ مِنْهَا بِمَالٍ أَعْطَوْهُ إِيَّاهُ، جَازَ التَّخَارُجُ سَوَاءٌ أَكَانَ مَا أَعْطَوْهُ أَقَل مِنْ حِصَّتِهِ أَمْ أَكْثَرَ؛ لأَِنَّهُ أَمْكَنَ تَصْحِيحُهُ بَيْعًا، وَالْبَيْعُ يَصِحُّ بِالْقَلِيل وَالْكَثِيرِ مِنَ الثَّمَنِ. وَلاَ يَصِحُّ جَعْلُهُ إِبْرَاءً؛ لأَِنَّ الإِْبْرَاءَ مِنَ الأَْعْيَانِ غَيْرِ الْمَضْمُونَةِ لاَ يَصِحُّ.
وَلاَ يُشْتَرَطُ مَعْرِفَةُ مِقْدَارِ حِصَّتِهِ مِنَ التَّرِكَةِ؛ إِذِ الْجَهَالَةُ هُنَا لاَ تُفْسِدُ الْبَيْعَ؛ لأَِنَّهَا لاَ تُفْضِي إِلَى النِّزَاعِ؛ لأَِنَّ الْمَبِيعَ هُنَا لاَ يَحْتَاجُ إِلَى تَسْلِيمٍ.
ب - إِذَا كَانَتِ التَّرِكَةُ ذَهَبًا فَأَعْطَوْهُ فِضَّةً، أَوْ كَانَتْ فِضَّةً فَأَعْطَوْهُ ذَهَبًا جَازَ الصُّلْحُ أَيْضًا، سَوَاءٌ أَكَانَ مَا أَعْطَوْهُ أَقَل مِنْ نَصِيبِهِ أَمْ أَكْثَرَ؛ لأَِنَّهُ بَيْعُ الْجِنْسِ بِخِلاَفِ الْجِنْسِ، فَلاَ يُعْتَبَرُ التَّسَاوِي.
لَكِنْ يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ فِي الْمَجْلِسِ لِكَوْنِهِ صَرْفًا غَيْرَ أَنَّ الْوَارِثَ الَّذِي فِي يَدِهِ بَقِيَّةُ التَّرِكَةِ إِنْ كَانَ جَاحِدًا وُجُودَهَا فِي يَدِهِ يَكْتَفِي بِذَلِكَ الْقَبْضِ؛ لأَِنَّهُ قَبْضُ ضَمَانٍ فَيَنُوبُ عَنْ قَبْضِ الصُّلْحِ.
وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ أَنَّهُ مَتَى تَجَانَسَ الْقَبْضَانِ، بِأَنْ يَكُونَ قَبْضَ أَمَانَةٍ أَوْ قَبْضَ ضَمَانٍ نَابَ أَحَدُهُمَا مَنَابَ الآْخَرِ، أَمَّا إِذَا اخْتَلَفَا فَالْمَضْمُونُ يَنُوبُ عَنْ غَيْرِهِ.
وَإِنْ كَانَ الَّذِي فِي يَدِهِ بَقِيَّةُ التَّرِكَةِ مُقِرًّا، فَإِنَّهُ(11/8)
لاَ بُدَّ مِنْ تَجْدِيدِ الْقَبْضِ، وَهُوَ الاِنْتِهَاءُ إِلَى مَكَانٍ يَتَمَكَّنُ مِنْ قَبْضِهِ؛ لأَِنَّهُ قَبْضُ أَمَانَةٍ، فَلاَ يَنُوبُ عَنْ قَبْضِ الصُّلْحِ.
ج - وَإِنْ كَانَتِ التَّرِكَةُ دَرَاهِمَ وَدَنَانِيرَ، وَبَدَل الصُّلْحِ كَذَلِكَ دَرَاهِمُ وَدَنَانِيرُ، جَازَ الصُّلْحُ كَيْفَمَا كَانَ، صَرْفًا لِلْجِنْسِ إِلَى خِلاَفِ جِنْسِهِ كَمَا فِي الْبَيْعِ، لَكِنْ لاَ بُدَّ مِنَ الْقَبْضِ فِي الْمَجْلِسِ لِكَوْنِهِ صَرْفًا.
د - وَإِنْ كَانَتِ التَّرِكَةُ ذَهَبًا وَفِضَّةً وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْعُرُوضِ وَالْعَقَارِ، فَصَالَحُوهُ عَلَى أَحَدِ النَّقْدَيْنِ فَلاَ يَجُوزُ الصُّلْحُ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَا أُعْطِيَ لَهُ أَكْثَرَ مِنْ حِصَّتِهِ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ؛ لِيَكُونَ نَصِيبُهُ بِمِثْلِهِ، وَالزِّيَادَةُ تَكُونُ فِي مُقَابِل حَقِّهِ مِنْ بَقِيَّةِ التَّرِكَةِ احْتِرَازًا عَنِ الرِّبَا، وَلاَ بُدَّ مِنَ التَّقَابُضِ فِيمَا يُقَابِل نَصِيبَهُ؛ لأَِنَّهُ صُرِفَ فِي هَذَا الْقَدْرِ.
فَإِنْ كَانَ مَا أَعْطَوْهُ مُسَاوِيًا لِنَصِيبِهِ، أَوْ كَانَ أَقَل مِنْ نَصِيبِهِ بَطَل الصُّلْحُ لِوُجُودِ الرِّبَا؛ لأَِنَّهُ إِذَا كَانَ الْبَدَل مُسَاوِيًا تَبْقَى الزِّيَادَةُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْبَدَل خَالِيَةً عَنِ الْعِوَضِ، فَيَكُونُ رِبًا. وَإِنْ كَانَ الْبَدَل أَقَل مِنْ نَصِيبِهِ تَبْقَى الزِّيَادَةُ مِنْ جِنْسِ ذَلِكَ وَمِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ خَالِيَةً عَنِ الْعِوَضِ، فَيَكُونُ رِبًا. وَتَعَذَّرَ تَجْوِيزُهُ بِطَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ لِلُزُومِ الرِّبَا، وَلاَ يَصِحُّ تَجْوِيزُهُ بِطَرِيقِ الإِْبْرَاءِ عَنِ الْبَاقِي؛ لأَِنَّ الإِْبْرَاءَ عَنِ الأَْعْيَانِ بَاطِلٌ.
وَكَذَلِكَ يَبْطُل التَّخَارُجُ إِنْ كَانَ نَصِيبُهُ مَجْهُولاً(11/9)
لاِحْتِمَال الرِّبَا؛ لأَِنَّ الْفَسَادَ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْبَدَل مُسَاوِيًا لَهُ أَوْ أَقَل، فَكَانَ أَرْجَحَ وَأَوْلَى بِالاِعْتِبَارِ.
وَنُقِل عَنِ الْحَاكِمِ أَبِي الْفَضْل أَنَّ الصُّلْحَ إِنَّمَا يَبْطُل عَلَى أَقَل مِنْ نَصِيبِهِ فِي مَال الرِّبَا فِي حَالَةِ التَّصَادُقِ، أَمَّا فِي حَالَةِ التَّنَاكُرِ بِأَنْ أَنْكَرُوا وِرَاثَتَهُ فَالصُّلْحُ جَائِزٌ؛ لأَِنَّهُ فِي حَالَةِ الْمُنَاكَرَةِ يَكُونُ الْمَدْفُوعُ لِقَطْعِ الْمُنَازَعَةِ وَلاِفْتِدَاءِ الْيَمِينِ، أَوْ لِحَمْلِهِ عَلَى أَخْذِ عَيْنِ الْحَقِّ فِي قَدْرِ الْمَأْخُوذِ وَإِسْقَاطِ الْحَقِّ فِي الْبَاقِي، كَمَا قَالُوا فِي الصُّلْحِ عَنِ الدَّيْنِ بِأَقَل مِنْ جِنْسِهِ.
هـ - وَلَوْ كَانَتِ التَّرِكَةُ ذَهَبًا وَفِضَّةً وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْعُرُوضِ وَالْعَقَارِ فَصَالَحُوهُ عَلَى عَرَضٍ جَازَ الصُّلْحُ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ أَكَانَ مَا أَعْطَوْهُ أَقَل مِنْ نَصِيبِهِ أَوْ أَكْثَرَ.
و إِذَا كَانَتْ أَعْيَانُ التَّرِكَةِ مَجْهُولَةً وَالصُّلْحُ عَلَى الْمَكِيل أَوِ الْمَوْزُونِ فَفِيهِ اخْتِلاَفٌ. قَال الْمَرْغِينَانِيُّ: لاَ يَجُوزُ الصُّلْحُ لِمَا فِيهِ مِنَ احْتِمَال الرِّبَا، بِأَنْ يَكُونَ فِي التَّرِكَةِ مَكِيلٌ أَوْ مَوْزُونٌ مِنْ جِنْسِهِ، فَيَكُونُ فِي حَقِّهِ بَيْعُ الْمُقَدَّرِ بِجِنْسِهِ جُزَافًا.
وَقَال الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ: يَجُوزُ لاِحْتِمَال أَنْ لاَ يَكُونَ فِي التَّرِكَةِ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا فَيُحْتَمَل أَنْ يَكُونَ نَصِيبُهُ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ فِي التَّرِكَةِ أَقَل مِمَّا وَقَعَ عَلَيْهِ الصُّلْحُ فَلاَ يَلْزَمُ الرِّبَا، وَاحْتِمَال أَنْ يَكُونَ نَصِيبُهُ مِنْ ذَلِكَ أَكْثَرَ، أَوْ مِثْل مَا(11/9)
وَقَعَ عَلَيْهِ الصُّلْحُ هُوَ احْتِمَال الاِحْتِمَال، فَفِيهِ شُبْهَةُ الشُّبْهَةِ وَلَيْسَتْ بِمُعْتَبَرَةٍ.
وَقَوْل أَبِي جَعْفَرٍ هُوَ الصَّحِيحُ عَلَى مَا فِي الزَّيْلَعِيِّ وَفَتَاوَى قَاضِي خَانْ.
ز - وَإِنْ كَانَتْ أَعْيَانُ التَّرِكَةِ مَجْهُولَةً، وَهِيَ غَيْرُ مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ فِي يَدِ بَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ، وَكَانَ الصُّلْحُ عَلَى الْمَكِيل أَوِ الْمَوْزُونِ قِيل: لاَ يَجُوزُ؛ لأَِنَّهُ بَيْعُ الْمَجْهُول؛ لأَِنَّ الْمُصَالِحَ بَاعَ نَصِيبَهُ مِنَ التَّرِكَةِ وَهُوَ مَجْهُولٌ بِمَا أَخَذَ مِنَ الْمَكِيل وَالْمَوْزُونِ.
وَالأَْصَحُّ أَنَّهُ يَجُوزُ؛ لأَِنَّ الْجَهَالَةَ هُنَا لاَ تُفْضِي إِلَى الْمُنَازَعَةِ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إِلَى التَّسْلِيمِ، لِقِيَامِ التَّرِكَةِ فِي يَدِهِمْ، حَتَّى لَوْ كَانَتْ فِي يَدِ الْمُصَالِحِ أَوْ بَعْضِهَا لَمْ يَجُزِ الصُّلْحُ، مَا لَمْ يَعْلَمْ جَمِيعَ مَا فِي يَدِهِ لِلْحَاجَةِ إِلَى التَّسْلِيمِ. (1)
صُوَرُ التَّخَارُجِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ:
يُفَرِّقُ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ بَدَل التَّخَارُجِ مِنْ نَفْسِ التَّرِكَةِ، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ مِنْ غَيْرِهَا.
أَوَّلاً: إِذَا كَانَ بَدَل التَّخَارُجِ مِنْ نَفْسِ التَّرِكَةِ:
12 - إِذَا كَانَتِ التَّرِكَةُ قَدِ اشْتَمَلَتْ عَلَى عَرَضٍ وَفِضَّةٍ وَذَهَبٍ، وَصَالَحَ الْوَرَثَةُ أَحَدَهُمْ عَنْ إِرْثِهِ. كَزَوْجَةٍ مَثَلاً مَاتَ زَوْجُهَا فَصَالَحَهَا الاِبْنُ عَلَى
__________
(1) ابن عابدين 4 / 481 - 483، والتكملة لابن عابدين 2 / 184 - 187، والزيلعي 5 / 49 - 52، وتكملة فتح القدير مع العناية 7 / 409 - 413، والفتاوى الهندية 4 / 268.(11/10)
مَا يَخُصُّهَا مِنَ التَّرِكَةِ، فَإِنَّ الصُّلْحَ يَجُوزُ فِي الْحَالاَتِ الآْتِيَةِ:
أ - إِذَا أَخَذَتْ ذَهَبًا مِنَ التَّرِكَةِ قَدْرَ حِصَّتِهَا مِنْ ذَهَبِ التَّرِكَةِ أَوْ أَقَل، أَوْ أَخَذَتْ دَرَاهِمَ مِنَ التَّرِكَةِ قَدْرَ حِصَّتِهَا مِنْ دَرَاهِمِ التَّرِكَةِ أَوْ أَقَل، وَذَلِكَ كَصُلْحِهَا بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ أَوْ أَقَل وَالذَّهَبُ ثَمَانُونَ عِنْدَ الْفَرْعِ الْوَارِثِ؛ لأَِنَّهَا أَخَذَتْ حَظَّهَا (أَيِ: الثَّمَنَ) مِنَ الدَّنَانِيرِ أَوْ بَعْضَهُ فَيَكُونُ الْبَاقِي كَأَنَّهُ هِبَةٌ لِلْوَرَثَةِ.
وَلَكِنْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الذَّهَبُ الَّذِي أَخَذَتْ مِنْهُ حَاضِرًا كُلَّهُ، أَوْ تَكُونَ الدَّرَاهِمُ حَاضِرَةً كُلَّهَا إِنْ أَخَذَتْ مِنْهَا، وَسَوَاءٌ حَضَرَ مَا عَدَا ذَلِكَ مِنَ التَّرِكَةِ أَمْ غَابَ؛ لأَِنَّ النَّوْعَ الَّذِي أَخَذَتْ مِنْهُ لَوْ كَانَ بَعْضُهُ غَائِبًا تَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ صُورَةٌ مَمْنُوعَةٌ، وَهِيَ: اشْتِرَاطُ تَعْجِيل الثَّمَنِ فِي بَيْعِ الشَّيْءِ الْغَائِبِ بَيْعًا لاَزِمًا. (1)
ب - إِذَا أَخَذَتْ ذَهَبًا مِنَ التَّرِكَةِ زَائِدًا عَلَى حَظِّهَا دِينَارًا وَاحِدًا فَقَطْ. كَصُلْحِهَا بِأَحَدَ عَشَرَ مِنَ الثَّمَانِينَ الْحَاضِرَةِ؛ لأَِنَّهَا أَخَذَتْ نَصِيبَهَا مِنَ الدَّنَانِيرِ، وَبَاعَتْ لِبَاقِي الْوَرَثَةِ حَظَّهَا مِنَ الدَّرَاهِمِ وَالْعَرَضِ بِالدِّينَارِ الزَّائِدِ، فَجَمِيعُ مَا فِيهِ مِنَ الْبَيْعِ وَالصَّرْفِ دِينَارٌ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَنْ يَجْتَمِعَ الْبَيْعُ وَالصَّرْفُ فِي أَكْثَرَ مِنْ دِينَارٍ. وَلَكِنْ يُشْتَرَطُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَنْ تَكُونَ التَّرِكَةُ كُلُّهَا مِنْ عَرَضٍ وَنَقْدٍ حَاضِرَةً.
__________
(1) جواهر الإكليل 2 / 10(11/10)
ج - إِذَا صُولِحَتْ بِذَهَبٍ مِنْ ذَهَبِ التَّرِكَةِ، وَكَانَ مَا أَخَذَتْهُ يَزِيدُ عَمَّا يَخُصُّهَا مِنَ الذَّهَبِ أَكْثَرَ مِنْ دِينَارٍ، جَازَ هَذَا الصُّلْحُ إِنْ قَلَّتِ الدَّرَاهِمُ الَّتِي تَسْتَحِقُّهَا عَنْ صَرْفِ دِينَارٍ، أَوْ قَلَّتْ قِيمَةُ الْعُرُوضِ الَّتِي تَسْتَحِقُّهَا عَنْ صَرْفِ دِينَارٍ، أَوْ قَلَّتِ الدَّرَاهِمُ وَالْعُرُوضُ عَنْ صَرْفِ دِينَارٍ.
وَإِنَّمَا جَازَ فِي هَذِهِ الْحَالاَتِ لاِجْتِمَاعِ الْبَيْعِ وَالصَّرْفِ فِي دِينَارٍ وَاحِدٍ فَقَطْ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَنْ يَجْتَمِعَ الْبَيْعُ وَالصَّرْفُ فِي أَكْثَرَ مِنْ دِينَارٍ (1)
وَيُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ التَّرِكَةُ كُلُّهَا مَعْلُومَةً وَحَاضِرَةً. فَإِنْ كَانَتِ الدَّرَاهِمُ وَقِيمَةُ الْعُرُوضِ أَكْثَرَ مِنْ صَرْفِ دِينَارٍ مُنِعَ الصُّلْحُ حِينَئِذٍ؛ لأَِنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى اجْتِمَاعِ الْبَيْعِ وَالصَّرْفِ فِي أَكْثَرَ مِنْ دِينَارٍ.
د - إِذَا صُولِحَتْ بِعَرَضٍ مِنْ عُرُوضِ التَّرِكَةِ جَازَ الصُّلْحُ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ أَكَانَ مَا أَخَذَتْهُ قَدْرَ نَصِيبِهَا أَمْ أَقَل أَمْ أَكْثَرَ.
ثَانِيًا: إِذَا كَانَ بَدَل التَّخَارُجِ مِنْ غَيْرِ التَّرِكَةِ:
13 - إِذَا كَانَ بَدَل التَّخَارُجِ مِنْ غَيْرِ التَّرِكَةِ فَإِنَّ حُكْمَ الصُّلْحِ يَخْتَلِفُ تَبَعًا لاِخْتِلاَفِ الْحَالاَتِ وَهِيَ:
أ - إِذَا كَانَتِ التَّرِكَةُ عُرُوضًا وَفِضَّةً وَذَهَبًا، وَصَالَحَهَا الْوَرَثَةُ بِذَهَبٍ مِنْ غَيْرِ ذَهَبِ التَّرِكَةِ، أَوْ
__________
(1) سبب التفريق بين ما كان دينارا وبين ما زاد عنه أن الدينار وما دونه يسير فيتسامح فيه. (الدسوقي 3 / 32)(11/11)
بِفِضَّةٍ مِنْ غَيْرِ فِضَّةِ التَّرِكَةِ، فَلاَ يَجُوزُ هَذَا الصُّلْحُ، قَل مَا أَخَذَتْهُ عَنْ نَصِيبِهَا أَوْ كَثُرَ؛ لأَِنَّهُ بَيْعُ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ وَعَرَضٍ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، وَهَذَا رِبَا فَضْلٍ، وَفِيهِ رِبَا النَّسَاءِ إِنْ غَابَتِ التَّرِكَةُ كُلُّهَا أَوْ بَعْضُهَا؛ لأَِنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ النَّقْدِ إِذَا صَاحَبَهُ النَّقْدُ.
ب - إِذَا كَانَتِ التَّرِكَةُ كَمَا ذُكِرَ فِي الصُّورَةِ السَّابِقَةِ، وَصَالَحَ الْوَرَثَةُ الزَّوْجَةَ بِعَرَضٍ مِنْ غَيْرِ عَرَضِ التَّرِكَةِ جَازَ هَذَا الصُّلْحُ بِشُرُوطٍ هِيَ:
أَنْ تَكُونَ التَّرِكَةُ كُلُّهَا مَعْلُومَةً لِلْمُتَصَالِحِينَ لِيَكُونَ الصُّلْحُ عَلَى مَعْلُومٍ، وَأَنْ تَكُونَ التَّرِكَةُ جَمِيعُهَا حَاضِرَةً حَقِيقَةً فِي الْعَيْنِ أَوْ حُكْمًا فِي الْعَرَضِ، بِأَنْ كَانَتْ قَرِيبَةَ الْغَيْبَةِ بِحَيْثُ يَجُوزُ النَّقْدُ فِيهِ فَهُوَ فِي حُكْمِ الْحَاضِرِ، وَأَنْ يَكُونَ الصُّلْحُ عَنْ إِقْرَارٍ، وَأَنْ يُقِرَّ الْمَدِينُ بِمَا عَلَيْهِ إِنْ كَانَ فِي التَّرِكَةِ دَيْنٌ، وَأَنْ يَحْضُرَ وَقْتَ الصُّلْحِ إِذْ لَوْ غَابَ لاَحْتُمِل إِنْكَارُهُ، وَأَنْ يَكُونَ مُكَلَّفًا.
ج - إِذَا كَانَتِ التَّرِكَةُ دَرَاهِمَ وَعَرَضًا، أَوْ ذَهَبًا وَعَرَضًا، جَازَ الصُّلْحُ بِذَهَبٍ مِنْ غَيْرِ ذَهَبِ التَّرِكَةِ، أَوْ بِفِضَّةٍ مِنْ غَيْرِ التَّرِكَةِ بِشَرْطِ أَنْ لاَ يَجْتَمِعَ الْبَيْعُ وَالصَّرْفُ فِي أَكْثَرَ مِنْ دِينَارٍ. (1)
__________
(1) . الشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 3 / 315 - 317، والشرح الصغير 2 / 150، 151 ط الحلبي، ومنح الجليل 3 / 212، 213، والمواق بهامش الحطاب 5 / 84، 85، والخرشي 6 / 6، 7، والمدونة 4 / 362.(11/11)
مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ:
14 - يُفَرِّقُ الشَّافِعِيَّةُ فِي تَخَارُجِ الْوَرَثَةِ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ الصُّلْحُ بَيْنَهُمْ عَنْ إِقْرَارٍ أَوْ عَنْ إِنْكَارٍ، فَإِنْ كَانَ عَنْ إِقْرَارٍ، وَكَانَ الْبَدَل مِنْ غَيْرِ الْمُتَصَالَحِ عَلَيْهِ كَانَ بَيْعًا تَثْبُتُ فِيهِ أَحْكَامُ الْبَيْعِ، كَاشْتِرَاطِ الْقَبْضِ إِنِ اتَّفَقَ الْمُصَالَحُ عَنْهُ وَالْمُصَالَحُ عَلَيْهِ فِي عِلَّةِ الرِّبَا، وَكَاشْتِرَاطِ التَّسَاوِي إِذَا كَانَ جِنْسًا رِبَوِيًّا وَغَيْرَ ذَلِكَ.
وَإِنْ جَرَى الصُّلْحُ عَلَى بَعْضِ الْمُتَصَالَحِ عَنْهُ فَهُوَ هِبَةٌ لِلْبَعْضِ، وَتَثْبُتُ فِيهِ أَحْكَامُ الْهِبَةِ.
هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلصُّلْحِ عَنْ إِقْرَارٍ، أَمَّا الصُّلْحُ عَنْ إِنْكَارٍ فَهُوَ بَاطِلٌ عِنْدَهُمْ، لَكِنَّهُمْ يَسْتَثْنُونَ مِنْ بُطْلاَنِ الصُّلْحِ عَلَى الإِْنْكَارِ صُلْحَ الْوَرَثَةِ فِيمَا بَيْنَهُمْ لِلضَّرُورَةِ، لَكِنْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مَا يُعْطَى لِلْمُتَصَالِحِ مِنْ نَفْسِ التَّرِكَةِ لاَ مِنْ غَيْرِهَا، وَيَسْتَوِي أَنْ يَكُونَ التَّصَالُحُ عَلَى تَسَاوٍ أَوْ تَفَاوُتٍ. (1)
مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ:
15 - لَمْ يَذْكُرِ الْحَنَابِلَةُ صُوَرًا لِلتَّخَارُجِ، وَهُوَ يَجْرِي عَلَى قَوَاعِدِ الصُّلْحِ الْعَامَّةِ الَّتِي قَدْ تَكُونُ بَيْعًا أَوْ هِبَةً أَوْ إِبْرَاءً.
__________
(1) روضة الطالبين 4 / 193 - 202، ونهاية المحتاج 4 / 371 - 377 و 6 / 301، والوجيز 1 / 177، 178، ومغني المحتاج 2 / 177، وأسنى المطالب 2 / 218، 3 / 173، وخبايا الزوايا ص 317.(11/12)
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْبَدَل مِنْ جِنْسِ الْمُتَصَالَحِ عَلَيْهِ وَمِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ بِقَدْرِهِ فَهُوَ اسْتِيفَاءٌ لَهُ، وَإِنْ كَانَ دُونَهُ فَهُوَ اسْتِيفَاءٌ لِبَعْضِهِ وَتَرْكٌ لِلْبَعْضِ الآْخَرِ: إِمَّا عَلَى سَبِيل الإِْبْرَاءِ أَوْ عَلَى سَبِيل الْهِبَةِ.
وَإِنْ كَانَ الْبَدَل مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْمُتَصَالَحِ عَلَيْهِ كَانَ بَيْعًا تَجْرِي فِيهِ أَحْكَامُ الْبَيْعِ، وَتُرَاعَى شُرُوطُ الصَّرْفِ إِنْ كَانَ عَنْ نَقْدٍ بِنَقْدٍ وَهَكَذَا.
وَيُشْتَرَطُ - إِنْ كَانَ الصُّلْحُ عَنْ إِنْكَارٍ - أَنْ لاَ يَأْخُذَ الْمُتَصَالِحُ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ أَكْثَرَ مِمَّا يَسْتَحِقُّ؛ لأَِنَّ الزَّائِدَ لاَ مُقَابِل لَهُ، فَيَكُونُ ظَالِمًا بِأَخْذِهِ، بِخِلاَفِ مَا إِذَا أَخَذَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ؛ لأَِنَّهُ يَكُونُ بَيْعًا فِي حَقِّ الْمُدَّعِي؛ لاِعْتِقَادِهِ أَخْذَهُ عِوَضًا، وَيَكُونُ فِي حَقِّ الْمُنْكِرِ بِمَنْزِلَةِ الإِْبْرَاءِ؛ لأَِنَّهُ دَفَعَ الْمَال افْتِدَاءً لِيَمِينِهِ وَرَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ. (1)
كَوْنُ بَعْضِ التَّرِكَةِ دَيْنًا قَبْل التَّخَارُجِ:
لَوْ كَانَ بَعْضُ التَّرِكَةِ دَيْنًا عَلَى النَّاسِ وَصَالَحَ الْوَرَثَةُ أَحَدَهُمْ عَلَى أَنْ يُخْرِجُوهُ مِنَ الدَّيْنِ وَيَكُونَ لَهُمْ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ الصُّلْحِ حَسَبَ الاِتِّجَاهَاتِ الآْتِيَةِ:
16 - فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ الصُّلْحُ بَاطِلٌ فِي الْعَيْنِ
__________
(1) المغني 4 / 529 - 534، وكشاف القناع 3 / 391 - 392، ومنتهى الإرادات 2 / 260 - 263، والعذب الفائض 2 / 136، 138، 140، 142، 144.(11/12)
وَالدَّيْنِ، أَمَّا فِي الدَّيْنِ فَلأَِنَّ فِيهِ تَمْلِيكَ الدَّيْنِ - وَهُوَ حِصَّةُ الْمُصَالِحِ - مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ وَهْمُ الْوَرَثَةُ، وَأَمَّا فِي الْعَيْنِ فَلأَِنَّ الصَّفْقَةَ وَاحِدَةٌ، سَوَاءٌ بَيَّنَ حِصَّةَ الدَّيْنِ أَوْ لَمْ يُبَيِّنْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ قَوْل صَاحِبَيْهِ عَلَى الأَْصَحِّ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ بَعْضَ الصُّوَرِ لِتَصْحِيحِ هَذَا الصُّلْحِ وَهِيَ:
أ - أَنْ يَشْتَرِطَ الْوَرَثَةُ أَنْ يُبْرِئَ الْمُصَالِحُ الْغُرَمَاءَ مِنْ حِصَّتِهِ مِنَ الدَّيْنِ؛ لأَِنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ إِسْقَاطًا، أَوْ هُوَ تَمْلِيكُ الدَّيْنِ مِمَّنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ وَهُوَ جَائِزٌ.
ب - أَنْ يُعَجِّل الْوَرَثَةُ قَضَاءَ نَصِيبِ الْمُصَالَحِ مِنَ الدَّيْنِ مُتَبَرِّعِينَ وَيُحِيلُهُمْ بِحِصَّتِهِ. وَفِي هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ ضَرَرُ بَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ؛ لأَِنَّ فِي الأُْولَى لاَ يُمْكِنُهُمُ الرُّجُوعُ عَلَى الْغُرَمَاءِ بِقَدْرِ الْمُصَالَحِ بِهِ. وَكَذَا فِي الثَّانِيَةِ؛ لأَِنَّ النَّقْدَ خَيْرٌ مِنَ النَّسِيئَةِ. (1)
17 - وَالْحَنَابِلَةُ كَالْحَنَفِيَّةِ لاَ يَجُوزُ عِنْدَهُمْ بَيْعُ الدَّيْنِ لِغَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ، وَلَكِنْ يَصِحُّ إِبْرَاءُ الْغَرِيمِ مِنْهُ أَوِ الْحَوَالَةُ بِهِ عَلَيْهِ. (2)
18 - أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: فَإِنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ الدَّيْنِ لِغَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ بِشُرُوطِهِ، وَعَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ
__________
(1) الزيلعي 5 / 51، والهداية 3 / 201، والبدائع 5 / 182، وابن عابدين 4 / 481
(2) المغني 5 / 659(11/13)
الصُّلْحُ عَنِ الدَّيْنِ الَّذِي عَلَى الْغَيْرِ، حَيْثُ يَجُوزُ بَيْعُ الدَّيْنِ، وَيُمْتَنَعُ الصُّلْحُ عَنْهُ حَيْثُ يُمْتَنَعُ بَيْعُهُ. فَيَجُوزُ الصُّلْحُ عَنِ الدَّيْنِ إِذَا كَانَ الدَّيْنُ حَيَوَانًا أَوْ عَرَضًا أَوْ طَعَامًا مِنْ قَرْضٍ، وَبِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْمَدِينُ حَاضِرًا، وَأَنْ يَكُونَ مُقِرًّا بِالدَّيْنِ، وَأَنْ يَكُونَ مُكَلَّفًا، وَيُمْتَنَعُ فِي غَيْرِ مَا تَقَدَّمَ. (1)
19 - وَالأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - عَلَى مَا جَاءَ فِي مُغْنِي الْمُحْتَاجِ - بُطْلاَنُ بَيْعِ الدَّيْنِ لِغَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ، وَالْمُعْتَمَدُ جَوَازُ بَيْعِهِ لِغَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ بِشُرُوطِهِ، بِأَنْ يَكُونَ الْمَدِينُ مَلِيًّا مُقِرًّا وَالدَّيْنُ حَالًّا مُسْتَقِرًّا.
وَقَال النَّوَوِيُّ: لَوْ قَال أَحَدُ الْوَارِثِينَ لِصَاحِبِهِ: صَالَحْتُكَ مِنْ نَصِيبِي عَلَى هَذَا الثَّوْبِ، فَإِنْ كَانَتِ التَّرِكَةُ دُيُونًا عَلَى غَيْرِهِ فَهُوَ بَيْعُ دَيْنٍ لِغَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا عَيْنٌ وَدَيْنٌ عَلَى الْغَيْرِ - وَلَمْ نُجَوِّزْ بَيْعَ الدَّيْنِ لِغَيْرِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ - بَطَل الصُّلْحُ فِي الدَّيْنِ، وَفِي الْعَيْنِ الْقَوْلاَنِ فِي تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ.
وَلَوْ مَاتَ شَخْصٌ عَنِ ابْنَيْنِ، وَالتَّرِكَةُ أَلْفَا دِرْهَمٍ وَمِائَةُ دِينَارٍ، وَهِيَ دَيْنٌ فِي ذِمَّةِ الْغَيْرِ، فَصَالَحَ أَحَدُهُمَا أَخَاهُ مِنَ الدَّيْنِ عَلَى أَلْفَيْ دِرْهَمٍ جَازَ؛ لأَِنَّهُ إِذَا كَانَ فِي الذِّمَّةِ فَلاَ ضَرُورَةَ إِلَى تَقْدِيرِ الْمُعَاوَضَةِ فِيهِ، فَيُجْعَل مُسْتَوْفِيًا لأَِحَدِ الأَْلْفَيْنِ وَمُعْتَاضًا عَنِ الدَّنَانِيرِ الأَْلْفَ الآْخَرَ. (2)
__________
(1) الدسوقي 3 / 316، 317
(2) مغني المحتاج 2 / 71، وروضة الطالبين 4 / 196، 197(11/13)
ظُهُورُ دَيْنٍ عَلَى التَّرِكَةِ بَعْدَ التَّخَارُجِ:
20 - الأَْصْل أَنَّ الدَّيْنَ يَتَعَلَّقُ بِالتَّرِكَةِ، وَيُقَدَّمُ سَدَادُهُ عَلَى تَقْسِيمِ التَّرِكَةِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} . (1)
لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ يَخْتَلِفُونَ فِي وَقْتِ ابْتِدَاءِ مِلْكِيَّةِ الْوَارِثِ لِلتَّرِكَةِ إِذَا كَانَتْ مَدِينَةً.
فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ لاَ تَنْتَقِل مِلْكِيَّةُ التَّرِكَةِ إِلَى الْوَرَثَةِ إِلاَّ بَعْدَ سَدَادِ الدَّيْنِ.
وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَإِحْدَى الرِّوَايَاتِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ. تَنْتَقِل مِلْكِيَّةُ التَّرِكَةِ لِلْوَارِثِ قَبْل سَدَادِ الدَّيْنِ مَعَ تَعَلُّقِ الدَّيْنِ بِهَا، وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ.
وَفَائِدَةُ هَذَا الْخِلاَفِ أَنَّ الْغَلَّةَ الَّتِي تَحْدُثُ مِنْ وَقْتِ الْوَفَاةِ إِلَى وَقْتِ السَّدَادِ يَتَعَلَّقُ بِهَا الدَّيْنُ عِنْدَ مَنْ يَقُول: إِنَّ التَّرِكَةَ لاَ تَدْخُل فِي مِلْكِ الْوَارِثِ مَعَ تَعَلُّقِ الدَّيْنِ بِهَا. وَتَكُونُ لِلْوَارِثِ عِنْدَ مَنْ يَقُول: إِنَّ التَّرِكَةَ تَدْخُل فِي مِلْكِ الْوَارِثِ وَلَوْ كَانَتْ مَدِينَةً.
وَمَعَ هَذَا الاِخْتِلاَفِ فَإِنَّهُ إِذَا تَصَالَحَ الْوَرَثَةُ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَأَخْرَجُوا أَحَدَهُمْ، وَاقْتَسَمُوا التَّرِكَةَ، ثُمَّ ظَهَرَ دَيْنٌ بَعْدَ الصُّلْحِ مُحِيطٌ بِالتَّرِكَةِ، فَإِنَّهُ إِذَا قَضَى الْوَرَثَةُ الدَّيْنَ، أَوْ أَبْرَأَ الْغُرَمَاءُ، أَوْ ضَمِنَ رَجُلٌ بِشَرْطِ أَنْ لاَ يَرْجِعَ عَلَى الْوَرَثَةِ مَضَى الصُّلْحُ وَلاَ يَبْطُل.
__________
(1) سورة النساء / 12(11/14)
وَإِنِ امْتَنَعَ الْوَرَثَةُ مِنَ الأَْدَاءِ، وَلَمْ يَضْمَنْ أَحَدٌ، وَلَمْ يُبْرِئِ الْغُرَمَاءُ بَطَل الصُّلْحُ. وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ فِي الْجُمْلَةِ. إِذْ فِي قَوْلٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُقَيَّدُ الْبُطْلاَنُ بِمَا إِذَا كَانَ الْمَقْسُومُ مُقَوَّمًا. بِخِلاَفِ مَا لَوْ كَانَ عَيْنًا أَوْ مِثْلِيًّا. (1)
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (صُلْحٍ - قِسْمَةٍ - دَيْنٍ - تَرِكَةٍ) .
ظُهُورُ دَيْنٍ لِلْمَيِّتِ بَعْدَ التَّخَارُجِ
21 - لَوْ صَالَحَ الْوَرَثَةُ أَحَدَهُمْ وَخَرَجَ مِنْ بَيْنِهِمْ، ثُمَّ ظَهَرَ لِلْمَيِّتِ شَيْءٌ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَيْنًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ دَيْنًا: فَإِنْ كَانَ عَيْنًا فَالأَْشْهَرُ أَنَّهَا لاَ تَنْدَرِجُ تَحْتَ الصُّلْحِ الَّذِي تَمَّ بَيْنَ الْوَرَثَةِ. وَإِنَّمَا تُقْسَمُ بَيْنَ الْكُل، أَيْ يَكُونُ هَذَا الَّذِي ظَهَرَ بَيْنَ الْكُل. وَتُسْمَعُ الدَّعْوَى بِهَا عَلَى هَذَا. وَقِيل: تَدْخُل فِي الصُّلْحِ فَلاَ تُسْمَعُ الدَّعْوَى بِهَا.
وَكَذَا الْحُكْمُ لَوْ صَدَرَ بَعْدَ الصُّلْحِ إِبْرَاءٌ عَامٌّ، ثُمَّ ظَهَرَ لِلْمُصَالَحِ عَيْنٌ، فَالأَْصَحُّ سَمَاعُ الدَّعْوَى بِنَاءً عَلَى الْقَوْل بِعَدَمِ دُخُولِهَا تَحْتَ الصُّلْحِ، وَلاَ تُسْمَعُ بِنَاءً عَلَى الْقَوْل بِدُخُولِهَا. وَهَذَا إِذَا
__________
(1) ابن عابدين 4 / 482، والزيلعي 5 / 52، 275، والبدائع 7 / 30، والدسوقي 3 / 514 - 516، ومنح الجليل 3 / 655 وما بعدها، والجمل 3 / 308، ومغني المحتاج 2 / 144 - 146، والمهذب 1 / 334 و 2 / 311، والمغني 4 / 483، 484 و 9 / 129، ومنتهى الإرادات 3 / 518(11/14)
اعْتَرَفَ بَقِيَّةُ الْوَرَثَةِ بِأَنَّ الْعَيْنَ مِنَ التَّرِكَةِ، وَإِلاَّ فَلاَ تُسْمَعُ دَعْوَاهُ بَعْدَ الإِْبْرَاءِ.
وَإِنْ كَانَ مَا ظَهَرَ فِي التَّرِكَةِ دَيْنًا فَعَلَى الْقَوْل بِعَدَمِ دُخُولِهِ فِي الصُّلْحِ يَصِحُّ الصُّلْحُ وَيُقْسَمُ الدَّيْنُ بَيْنَ الْكُل، وَعَلَى الْقَوْل بِالدُّخُول فَالصُّلْحُ فَاسِدٌ كَمَا لَوْ كَانَ الدَّيْنُ ظَاهِرًا وَقْتَ الصُّلْحِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مُخْرِجًا مِنَ الصُّلْحِ، بِأَنْ وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِالصُّلْحِ عَنْ غَيْرِ الدَّيْنِ مِنْ أَعْيَانِ التَّرِكَةِ فَلاَ يَفْسُدُ الصُّلْحُ. وَإِنْ وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَى جَمِيعِ التَّرِكَةِ فَسَدَ كَمَا لَوْ كَانَ الدَّيْنُ ظَاهِرًا وَقْتَ الصُّلْحِ،
هَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَقَوَاعِدُ الْمَذَاهِبِ الأُْخْرَى تُسَايِرُ مَا قَالَهُ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْجُمْلَةِ. (1)
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (صُلْحٍ - إِبْرَاءٍ - دَعْوَى - قِسْمَةٍ) .
كَيْفِيَّةُ تَقْسِيمِ التَّرِكَةِ بَعْدَ التَّخَارُجِ:
22 - إِذَا تَصَالَحَ الْوَرَثَةُ مَعَ أَحَدِهِمْ عَلَى أَنْ يَتْرُكَ حِصَّتَهُ لَهُمْ، وَيَأْخُذَ بَدَلَهَا جُزْءًا مُعَيَّنًا مِنَ التَّرِكَةِ، فَإِنَّ طَرِيقَةَ التَّقْسِيمِ أَنْ تُصَحَّحَ الْمَسْأَلَةُ بِاعْتِبَارِ الْمُصَالَحِ مَوْجُودًا بَيْنَ الْوَرَثَةِ، ثُمَّ تُطْرَحُ سِهَامُهُ مِنَ التَّصْحِيحِ، ثُمَّ يُقْسَمُ بَاقِي التَّرِكَةِ عَلَى سِهَامِ الْبَاقِينَ مِنَ الْوَرَثَةِ.
__________
(1) ابن عابدين 4 / 482، 483، وتكملة ابن عابدين 2 / 190، والتبصرة بهامش فتح العلي 2 / 39، والشرح الصغير 2 / 194 ط الحلبي، والدسوقي 3 / 411، والجمل على شرح المنهج 3 / 381، والفروع 4 / 197، 198(11/15)
مِثَال ذَلِكَ:
تُوُفِّيَتِ امْرَأَةٌ عَنْ زَوْجٍ وَأُمٍّ وَعَمٍّ، فَمَعَ وُجُودِ الزَّوْجِ تَكُونُ الْمَسْأَلَةُ مِنْ سِتَّةٍ، لِلزَّوْجِ مِنْهَا ثَلاَثَةُ أَسْهُمٍ، وَلِلأُْمِّ سَهْمَانِ، وَلِلْعَمِّ الْبَاقِي وَهُوَ سَهْمٌ وَاحِدٌ. فَإِنْ صَالَحَ الزَّوْجُ عَنْ نَصِيبِهِ - الَّذِي هُوَ النِّصْفُ - عَلَى مَا فِي ذِمَّتِهِ لِلزَّوْجَةِ مِنَ الْمَهْرِ عَلَى أَنْ يَخْرُجَ مِنَ التَّرِكَةِ، فَإِنَّ سِهَامَهُ تَسْقُطُ فِي نَظِيرِ مَا أَخَذَ، وَالْبَاقِي مِنَ التَّرِكَةِ - وَهُوَ مَا عَدَا الْمَهْرَ - يُقْسَمُ بَيْنَ الأُْمِّ وَالْعَمِّ بِقَدْرِ سِهَامِهِمَا مِنْ أَصْل الْمَسْأَلَةِ فَيَكُونُ لِلأُْمِّ سَهْمَانِ وَلِلْعَمِّ سَهْمٌ.
وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُجْعَل الزَّوْجُ كَأَنَّهُ غَيْرُ مَوْجُودٍ مَا دَامَ قَدْ خَرَجَ عَنْ نَصِيبِهِ؛ لأَِنَّهُ لَوْ جُعِل كَذَلِكَ وَجُعِلَتِ التَّرِكَةُ مَا وَرَاءَ الْمَهْرِ، وَتَمَّ التَّقْسِيمُ عَلَى هَذَا الأَْسَاسِ، لاَنْقَلَبَ فَرْضُ الأُْمِّ مِنْ ثُلُثِ أَصْل الْمَال إِلَى ثُلُثِ مَا بَقِيَ؛ إِذْ يُقْسَمُ الْبَاقِي بَيْنَهُمَا أَثْلاَثًا، فَيَكُونُ لِلأُْمِّ سَهْمٌ وَلِلْعَمِّ سَهْمَانِ، وَهُوَ خِلاَفُ الإِْجْمَاعِ إِذْ حَقُّهَا ثُلُثُ الأَْصْل، أَمَّا إِذَا أَدْخَلْنَا الزَّوْجَ كَانَ لِلأُْمِّ سَهْمَانِ مِنَ السِّتَّةِ وَلِلْعَمِّ سَهْمٌ وَاحِدٌ، فَيُقْسَمُ الْبَاقِي بَيْنَهُمَا عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ فَتَكُونُ مُسْتَوْفِيَةً حَقَّهَا مِنَ الْمِيرَاثِ.
هَذَا إِذَا كَانَ التَّخَارُجُ عَلَى شَيْءٍ مِنَ التَّرِكَةِ.
23 - أَمَّا إِذَا كَانَ التَّخَارُجُ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْمَال مِنْ غَيْرِ التَّرِكَةِ، فَإِنَّ الْمُتَخَارِجَ يَكُونُ قَدْ بَاعَ نَصِيبَهُ مِنَ التَّرِكَةِ نَظِيرَ الثَّمَنِ الَّذِي دَفَعَهُ سَائِرُ(11/15)
الْوَرَثَةِ مِنْ أَمْوَالِهِمُ الْخَاصَّةِ، لِتَخْلُصَ التَّرِكَةُ كُلُّهَا لَهُمْ.
24 - فَإِذَا كَانَ مَا دَفَعَهُ الْوَرَثَةُ هُوَ بِنِسْبَةِ سِهَامِ كُلٍّ مِنْهُمْ، فَإِنَّ التَّرِكَةَ تُقْسَمُ كَمَا قُسِمَتْ فِي الصُّورَةِ السَّابِقَةِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَعْرِفَ أَصْل الْمَسْأَلَةِ وَالسِّهَامَ الَّتِي تَخُصُّ كُل وَارِثٍ قَبْل التَّخَارُجِ، ثُمَّ تَسْقُطُ حِصَّةُ الْمُتَخَارِجِ فِي نَظِيرِ مَا تَخَارَجَ عَلَيْهِ وَتُقْسَمُ التَّرِكَةُ عَلَى بَاقِي الْوَرَثَةِ بِقَدْرِ سِهَامِهِمْ مِنْ أَصْل الْمَسْأَلَةِ، ثُمَّ تُقْسَمُ حِصَّةُ الْمُتَخَارِجِ بَيْنَهُمْ بِنِسْبَةِ سِهَامِ كُلٍّ مِنْهُمْ؛ لأَِنَّهُمْ دَفَعُوا الْبَدَل عَلَى هَذِهِ النِّسْبَةِ.
وَإِذَا كَانَ مَا دَفَعَهُ الْوَرَثَةُ بِالتَّسَاوِي فَإِنَّ حِصَّةَ الْخَارِجِ تُقْسَمُ بَيْنَهُمْ بِالتَّسَاوِي، وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ يَأْخُذَ كُلٌّ مِنْهُمْ نَصِيبَهُ مِنَ التَّرِكَةِ بِنِسْبَةِ سِهَامِهِ فِيهَا عَلَى اعْتِبَارِ أَنَّهُ لَمْ يَحْصُل تَخَارُجٌ مِنْ أَحَدٍ.
وَإِنْ كَانَ مَا دَفَعَهُ الْوَرَثَةُ مُتَفَاوِتًا فِي الْقَدْرِ فَإِنَّ حِصَّةَ الْخَارِجِ تُقْسَمُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ هَذَا التَّفَاوُتِ، بَعْدَ أَخْذِ كُلٍّ مِنْهُمْ نَصِيبَهُ مِنَ التَّرِكَةِ بِنِسْبَةِ سِهَامِهِ.
25 - وَإِذَا تَخَارَجَ وَارِثٌ مَعَ وَارِثٍ آخَرَ عَلَى أَنْ يَتْرُكَ لَهُ نَصِيبَهُ، فَإِنَّ التَّرِكَةَ تُقْسَمُ بَيْنَ الْوَرَثَةِ جَمِيعًا عَلَى اعْتِبَارِ أَنَّهُ لَمْ يَحْصُل تَخَارُجٌ، وَيَئُول نَصِيبُ الْمُتَخَارِجِ بَعْدَ ذَلِكَ لِمَنْ دَفَعَ لَهُ الْبَدَل. (1)
__________
(1) ابن عابدين 4 / 482 و 5 / 518، والزيلعي 5 / 252، والسراجية وشرحها ص 237، 238، والعذب الفائض 2 / 144 - 145(11/16)
تَخَارُجُ الْمُوصَى لَهُ بِشَيْءٍ مِنَ التَّرِكَةِ:
26 - الْمُوصَى لَهُ بِشَيْءٍ مِنَ التَّرِكَةِ. يَجُوزُ أَنْ يَتَخَارَجَ مَعَهُ الْوَرَثَةُ عَنْ نَصِيبِهِ الْمُوصَى لَهُ بِهِ. وَالْحُكْمُ فِي ذَلِكَ كَالْحُكْمِ فِي تَخَارُجِ الْوَرَثَةِ مَعَ أَحَدِهِمْ، فَيُرَاعَى فِيهِ الشُّرُوطُ الَّتِي سَبَقَ ذِكْرُهَا فِي صُوَرِ التَّخَارُجِ، مِنَ اعْتِبَارِ كَوْنِ الْبَدَل نَقْدًا أَوْ غَيْرَهُ، وَكَوْنِهِ أَقَل مِمَّا يَسْتَحِقُّ أَوْ مُسَاوِيًا أَوْ أَكْثَرَ، وَاعْتِبَارُ شُرُوطِ الصَّرْفِ وَالتَّحَرُّزِ عَنِ الرِّبَا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الشُّرُوطِ.
وَفِي كَيْفِيَّةِ تَخَارُجِ الْوَرَثَةِ مَعَ الْمُوصَى لَهُ يَقُول ابْنُ عَابِدِينَ: الْمُوصَى لَهُ بِمَبْلَغٍ مِنَ التَّرِكَةِ كَوَارِثٍ. وَصُورَةُ ذَلِكَ:
رَجُلٌ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِدَارٍ وَتَرَكَ ابْنًا وَابْنَةً فَصَالَحَ الاِبْنُ وَالاِبْنَةُ الْمُوصَى لَهُ بِالدَّارِ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ، قَال أَبُو يُوسُفَ: إِنْ كَانَتِ الْمِائَةُ مِنْ مَالِهِمَا غَيْرَ الْمِيرَاثِ كَانَتِ الدَّارُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَإِنْ صَالَحَاهُ مِنَ الْمَال الَّذِي وَرِثَاهُ عَنْ أَبِيهِمَا كَانَ الْمَال بَيْنَهُمَا أَثْلاَثًا؛ لأَِنَّ الْمِائَةَ كَانَتْ بَيْنَهُمَا أَثْلاَثًا.
وَذَكَرَ الْخَصَّافُ فِي الْحِيَل: إِنْ كَانَ الصُّلْحُ عَنِ إِقْرَارٍ كَانَتِ الدَّارُ الْمُوصَى بِهَا بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَإِنْ كَانَ الصُّلْحُ عَنْ إِنْكَارٍ فَعَلَى قَدْرِ الْمِيرَاثِ. وَعَلَى هَذَا بَعْضُ الْمَشَايِخِ. وَكَذَلِكَ الصُّلْحُ عَنِ الْمِيرَاثِ. كَذَا فِي قَاضِي خَانْ (1) وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ (صُلْحٌ - قِسْمَةٌ - تَرِكَةٌ) .
__________
(1) ابن عابدين 4 / 482، والتكملة لابن عابدين 2 / 190، ومنتهى الإرادات 2 / 263، والتبصرة 2 / 38، ونهاية المحتاج 4 / 364 - 367(11/16)
تَخَايُرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّخَايُرُ هُوَ: اخْتِيَارُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ لُزُومَ الْعَقْدِ فِي الْمَجْلِسِ، سَوَاءٌ أَكَانَ صَرِيحًا أَمْ ضِمْنًا.
أَمَّا الصَّرِيحُ: فَكَقَوْلِهِمَا بِهَذَا اللَّفْظِ: تَخَايَرْنَا، أَوِ اخْتَرْنَا إِمْضَاءَ الْعَقْدِ، أَوْ أَلْزَمْنَاهُ، أَوْ أَجَزْنَاهُ، وَمَا أَشْبَهَهَا؛ لأَِنَّ الْخِيَارَ حَقُّهُمَا، فَسَقَطَ بِإِسْقَاطِهِمَا. وَمِنْ صِيَغِ ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُهُمَا: أَبْطَلْنَا الْخِيَارَ. أَوْ أَفْسَدْنَاهُ، وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَأَمَّا الضِّمْنِيُّ: فَكَأَنْ يَتَبَايَعَ الْعَاقِدَانِ الْعِوَضَيْنِ بَعْدَ قَبْضِهِمَا فِي الْمَجْلِسِ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ يَتَضَمَّنُ الرِّضَا بِلُزُومِ الْعَقْدِ الأَْوَّل. (1)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ، وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
2 - اتَّفَقَ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي الأَْصَحِّ، وَابْنُ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى أَنَّ كُل عَقْدٍ ثَبَتَ
__________
(1) قليوبي وعميرة 2 / 191، وحاشية الجمل 3 / 106، وروضة الطالبين 3 / 437، وإعانة الطالبين 3 / 27، ونهاية المحتاج 4 / 7، 8، وتحفة المحتاج 4 / 126، ومغني المحتاج 3 / 42، والمجموع 9 / 179، 180، والمغني 3 / 567(11/17)
فِيهِ خِيَارُ الْمَجْلِسِ فَإِنَّ الْخِيَارَ يَنْقَطِعُ بِالتَّخَايُرِ، وَهَذَا لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْمُتَبَايِعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، أَوْ يَقُول أَحَدُهُمَا لِلآْخَرِ: اخْتَرْ. (1)
وَيَنْقَطِعُ الْخِيَارُ بِالتَّخَايُرِ، بِأَنْ يَخْتَارَا لُزُومَ الْعَقْدِ بِهَذَا اللَّفْظِ أَوْ نَحْوِهِ: كَأَمْضَيْنَاهُ، أَوْ أَلْزَمْنَاهُ، أَوْ أَجَزْنَاهُ. فَلَوِ اخْتَارَ أَحَدُهُمَا لُزُومَهُ سَقَطَ حَقُّهُ فِي الْخِيَارِ وَبَقِيَ الْحَقُّ فِيهِ لِلآْخَرِ. وَلَوْ قَال أَحَدُهُمَا لِلآْخَرِ: اخْتَرْ سَقَطَ خِيَارُهُ لِتَضَمُّنِهِ الرِّضَا بِاللُّزُومِ، وَيَدُل عَلَيْهِ الْحَدِيثُ السَّابِقُ، وَبَقِيَ خِيَارُ الآْخَرِ، وَلَوِ اخْتَارَ أَحَدُهُمَا لُزُومَ الْعَقْدِ وَالآْخَرُ فَسْخَهُ قُدِّمَ الْفَسْخُ. (2)
3 - ثُمَّ التَّخَايُرُ فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ وَبَعْدَهُ فِي الْمَجْلِسِ وَاحِدٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَالتَّخَايُرُ فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ أَنْ يَقُول الْبَائِعُ: بِعْتُكَ وَلاَ خِيَارَ بَيْنَنَا، وَيَقْبَل الآْخَرُ عَلَى ذَلِكَ، فَلاَ يَكُونُ لَهُمَا خِيَارُ الْمَجْلِسِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَلَوْ تَبَايَعَا بِشَرْطِ نَفْيِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ فَثَلاَثَةُ أَوْجُهٍ: أَصَحُّهَا: الْبَيْعُ بَاطِلٌ، وَالثَّانِي: الْبَيْعُ صَحِيحٌ
__________
(1) حاشية الجمل 3 / 52، 106، ونهاية المحتاج 4 / 184، 185، 3 / 427، وقليوبي وعميرة 2 / 191، وروضة الطالبين 3 / 379، والمغني 4 / 60. وحديث: " المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 328 - ط السلفية)
(2) قليوبي وعميرة 2 / 191، وحاشية الجمل 3 / 106، وروضة الطالبين 3 / 437، ونهاية المحتاج 4 / 7، ومغني المحتاج 2 / 42، وتحفة المحتاج 4 / 129، والمجموع 9 / 179، 180، والمغني 3 / 568(11/17)
وَلاَ خِيَارَ، وَالثَّالِثُ: الْبَيْعُ صَحِيحٌ، وَالْخِيَارُ ثَابِتٌ. (1)
وَطَالَمَا أَنَّ التَّخَايُرَ يَرِدُ عَلَى خِيَارِ الْمَجْلِسِ، فَلاَ مَجَال لِلْكَلاَمِ عَنْهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةِ مَا عَدَا ابْنَ حَبِيبٍ، لأَِنَّهُمْ لاَ يَرَوْنَ جَوَازَ خِيَارِ الْمَجْلِسِ وَلاَ يَقُولُونَ بِهِ. (2)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (خِيَارُ الْمَجْلِسِ) وَقَدْ تَحَدَّثَ الْفُقَهَاءُ عَنْهُ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنِ الْخِيَارِ.
__________
(1) روضة الطالبين 3 / 435، 436، والجمل 3 / 102، وقليوبي وعميرة 2 / 190، والمغني 3 / 568
(2) فتح القدير 5 / 464، وابن عابدين 4 / 20، والحطاب 4 / 409(11/18)
تَخْبِيبٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّخْبِيبُ: مَصْدَرُ خَبَّبَ، وَمَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ: إِفْسَادُ الرَّجُل عَبْدًا أَوْ أَمَةً لِغَيْرِهِ أَوْ صَدِيقًا عَلَى صَدِيقِهِ، يُقَال: خَبَّبَهَا فَأَفْسَدَهَا. وَخَبَّبَ فُلاَنٌ غُلاَمِي: أَيْ خَدَعَهُ. وَأَمَّا الْخَبُّ: فَمَعْنَاهُ الْفَسَادُ وَالْخُبْثُ وَالْغِشُّ، وَهُوَ ضِدُّ الْغِرِّ، إِذِ الْغِرُّ: هُوَ الَّذِي لاَ يَفْطِنُ لِلشَّرِّ بِخِلاَفِ الْخِبِّ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الإِْغْرَاءُ:
2 - الإِْغْرَاءُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ أَغْرَى، وَأُغْرِيَ بِالشَّيْءِ: أُولِعَ بِهِ، يُقَال: أَغْرَيْت الْكَلْبَ بِالصَّيْدِ، وَأَغْرَيْتُ بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ
__________
(1) في الصحاح والقاموس واللسان والمصباح والنهاية في غريب الحديث. مادة: " خبب "(11/18)
وَلاَ يَخْرُجُ الاِسْتِعْمَال الْفِقْهِيُّ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى (1) وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ التَّخْبِيبِ
ب - إِفْسَادٌ:
3 - الإِْفْسَادُ: مَصْدَرُ أَفْسَدَ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ يُقَابِل الإِْصْلاَحَ
وَأَمَّا فِي الاِصْطِلاَحِ، فَقَدْ ذَكَرَ صَاحِبُ الْكُلِّيَّاتِ أَنَّهُ: جَعْل الشَّيْءِ فَاسِدًا خَارِجًا عَمَّا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ وَعَنْ كَوْنِهِ مُنْتَفَعًا بِهِ، وَفِي الْحَقِيقَةِ: هُوَ إِخْرَاجُ الشَّيْءِ عَنْ حَالَةٍ مَحْمُودَةٍ لاَ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ (2) .
وَالإِْفْسَادُ أَعَمُّ؛ لأَِنَّهُ يَكُونُ فِي الأُْمُورِ الْمَادِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ، بِخِلاَفِ التَّخْبِيبِ لأَِنَّهُ إِفْسَادٌ خَاصٌّ.
ج - التَّحْرِيضُ:
4 - التَّحْرِيضُ: مَصْدَرُ حَرَّضَ، وَمَعْنَاهُ: الْحَثُّ عَلَى الشَّيْءِ وَالإِْحْمَاءُ عَلَيْهِ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَال} . (3) وَهُوَ أَعَمُّ؛ لأَِنَّهُ يَكُونُ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، بِخِلاَفِ التَّخْبِيبِ فَإِنَّهُ لاَ يَكُونُ إِلاَّ فِي الشَّرِّ
(
__________
(1) الصحاح والقاموس والمصباح مادة " غرى ". والكليات 1 / 246 ط دمشق
(2) القاموس والمصباح مادة: " فسد "، والكليات 1 / 249 ط دمشق.
(3) القاموس واللسان والمصباح مادة: " حرض " والآية من سورة الأنفال / 65(11/19)
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
5 - التَّخْبِيبُ حَرَامٌ، لِحَدِيثِ لَنْ يَدْخُل الْجَنَّةَ خَبٌّ وَلاَ بَخِيلٌ وَلاَ مَنَّانٌ، (1) وَحَدِيثِ الْفَاجِرُ خِبٌّ لَئِيمٌ (2) وَحَدِيثِ مَنْ خَبَّبَ زَوْجَةَ امْرِئٍ أَوْ مَمْلُوكَهُ فَلَيْسَ مِنَّا (3) أَيْ خَدَعَهُ وَأَفْسَدَهُ؛ وَلِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الإِْفْسَادِ وَالإِْضْرَارِ.
وَتَخْبِيبُ زَوْجَةِ الْغَيْرِ خِدَاعُهَا وَإِفْسَادُهَا، أَوْ تَحْسِينُ الطَّلاَقِ إِلَيْهَا لِيَتَزَوَّجَهَا أَوْ يُزَوِّجَهَا غَيْرَهُ، وَلَفْظُ الْمَمْلُوكِ الْوَارِدِ فِي الْحَدِيثِ يَتَنَاوَل الأَْمَةَ. (4)
حُكْمُ زَوَاجِ الْمُخَبِّبِ بِمَنْ خَبَّبَهَا:
6 - انْفَرَدَ الْمَالِكِيَّةُ بِذِكْرِهِمُ الْحُكْمَ فِي هَذِهِ
__________
(1) حديث: " لن يدخل الجنة خب ولا بخيل ولا منان ". أخرجه الترمذي من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه مرفوعا وقال: هذا حديث حسن غريب. (تحفة الأحوذي 6 / 98 نشر السلفية، والترغيب والترهيب 5 / 60 ط السعادة)
(2) حديث: " الفاجر خب لئيم ". أخرجه الترمذي وأبو داود والحاكم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا. قال المنذري: لم يضعفه أبو داود ورواته ثقات سوى بشر بن رافع وقد وثق. وحكم القزويني بوضعه، ورد عليه ابن حجر وقال: هو لا ينزل عن درجة الحسن. (تحفة الأحوذي 6 / 98 نشر السلفية، وفيض القدير 6 / 254 ط المكتبة التجارية)
(3) حديث: " من خبب زوجة امرئ أو مملوكه فليس منا " أخرجه أبو داود وسكت عنه، ونسبه المنذري للنسائي أيضا. (مختصر سنن أبي داود 8 / 53 ط دار المعرفة، وعون المعبود 4 / 508 ط الهند)
(4) عون المعبود 14 / 77 ط الفكر، والنهاية في غريب الحديث 2 / 4 ط الحلبي(11/19)
الْمَسْأَلَةِ، وَصُورَتُهَا: أَنْ يُفْسِدَ رَجُلٌ زَوْجَةَ رَجُلٍ آخَرَ، بِحَيْثُ يُؤَدِّي ذَلِكَ الإِْفْسَادُ إِلَى طَلاَقِهَا مِنْهُ، ثُمَّ يَتَزَوَّجُهَا ذَلِكَ الْمُفْسِدُ.
فَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ النِّكَاحَ يُفْسَخُ قَبْل الدُّخُول وَبَعْدَهُ بِلاَ خِلاَفٍ عِنْدَهُمْ، وَإِنَّمَا الْخِلاَفُ عِنْدَهُمْ فِي تَأْبِيدِ تَحْرِيمِهَا عَلَى ذَلِكَ الْمُفْسِدِ أَوْ عَدَمِ تَأْبِيدِهِ، فَذَكَرُوا فِيهِ قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا وَهُوَ الْمَشْهُورُ: أَنَّهُ لاَ يَتَأَبَّدُ، فَإِذَا عَادَتْ لِزَوْجِهَا الأَْوَّل وَطَلَّقَهَا، أَوْ مَاتَ عَنْهَا جَازَ لِذَلِكَ الْمُفْسِدِ نِكَاحُهَا.
الثَّانِي: أَنَّ التَّحْرِيمَ يَتَأَبَّدُ، وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا الْقَوْل يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ كَمَا جَاءَ فِي شَرْحِ الزَّرْقَانِيِّ، وَأَفْتَى بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي فَاسَ (1) .
هَذَا وَمَعَ أَنَّ غَيْرَ الْمَالِكِيَّةِ مِنَ الْفُقَهَاءِ لَمْ يُصَرِّحُوا بِحُكْمِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، إِلاَّ أَنَّ الْحُكْمَ فِيهَا وَهُوَ التَّحْرِيمُ مَعْلُومٌ مِمَّا سَبَقَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ.
عُقُوبَةُ الْمُخَبِّبِ:
7 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْمَعْصِيَةَ الَّتِي لاَ حَدَّ فِيهَا وَلاَ كَفَّارَةَ عُقُوبَتُهَا التَّعْزِيرُ بِمَا يَرَاهُ الإِْمَامُ مُنَاسِبًا، وَفِعْل الْمُخَبِّبِ هَذَا لاَ يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ مَعْصِيَةً لاَ حَدَّ فِيهَا وَلاَ كَفَّارَةَ. (2)
__________
(1) حاشية البناني على الزرقاني 3 / 166 - 167 ط الفكر، وحاشية العدوي على الخرشي 3 / 171 ط دار صادر، والدسوقي 2 / 219 ط دار الفكر
(2) ابن عابدين 3 / 177 ط المصرية، وجواهر الإكليل 2 / 296 دار المعرفة، والدسوقي 4 / 354 ط الفكر، وروضة الطالبين 10 / 174 - 176 ط المكتب الإسلامي، وحاشية قليوبي 4 / 205 - 206 ط الحلبي. والإنصاف 10 / 239 ط التراث، وكشاف القناع 6 / 121 ط النصر(11/20)
وَقَدْ ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ مَنْ خَدَعَ امْرَأَةَ رَجُلٍ أَوِ ابْنَتَهُ وَهِيَ صَغِيرَةٌ، وَزَوَّجَهَا مِنْ رَجُلٍ، قَال مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: أَحْبِسُهُ بِهَذَا أَبَدًا حَتَّى يَرُدَّهَا أَوْ يَمُوتَ. وَذَكَرَ ابْنُ نُجَيْمٍ أَنَّ هَذَا الْمُخَادِعَ يُحْبَسُ إِلَى أَنْ يُحْدِثَ تَوْبَةً أَوْ يَمُوتَ؛ لأَِنَّهُ سَاعٍ فِي الأَْرْضِ بِالْفَسَادِ. (1)
وَذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ فِي (الْقَوَّادَةِ) الَّتِي تُفْسِدُ النِّسَاءَ وَالرِّجَال، أَنَّ أَقَل مَا يَجِبُ عَلَيْهَا الضَّرْبُ الْبَلِيغُ، وَيَنْبَغِي شُهْرَةُ ذَلِكَ بِحَيْثُ يَسْتَفِيضُ فِي النِّسَاءِ وَالرِّجَال لِتُجْتَنَبَ.
وَإِذَا أُرْكِبَتِ الْقَوَّادَةُ دَابَّةً وَضُمَّتْ عَلَيْهَا ثِيَابُهَا، لِيُؤْمَنَ كَشْفُ عَوْرَتِهَا، وَنُودِيَ عَلَيْهَا هَذَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَل كَذَا وَكَذَا (أَيْ يُفْسِدُ النِّسَاءَ وَالرِّجَال) كَانَ مِنْ أَعْظَمِ الْمَصَالِحِ، قَالَهُ الشَّيْخُ (أَيِ ابْنُ قُدَامَةَ) لِيَشْتَهِرَ ذَلِكَ وَيَظْهَرَ. وَقَال: لِوَلِيِّ الأَْمْرِ كَصَاحِبِ الشُّرْطَةِ أَنْ يُعَرِّفَ ضَرَرَهَا، إِمَّا بِحَبْسِهَا أَوْ بِنَقْلِهَا عَنِ الْجِيرَانِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. (2)
__________
(1) الفتاوى الهندية 2 / 170 ط المكتبة الإسلامية، وابن عابدين 3 / 191 ط المصرية، وحاشية الطحطاوي على الدر المختار 2 / 417 ط دار المعرفة، والأشباه لابن نجيم ص 189 ط الهلال
(2) كشاف القناع 6 / 127 - 128 ط النصر(11/20)
تَخَتُّمٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّخَتُّمُ مَصْدَرُ تَخَتَّمَ، يُقَال: تَخَتَّمَ بِالْخَاتَمِ أَيْ لَبِسَهُ، وَأَصْلُهُ الثُّلاَثِيُّ خَتَمَ.
وَمِنْ مَعَانِي الْخَتْمِ أَيْضًا: الأَْثَرُ الْحَاصِل عَنِ النَّقْشِ، وَيُتَجَوَّزُ بِهِ فِي الاِسْتِيثَاقِ مِنِ الشَّيْءِ وَالْمَنْعِ مِنْهُ، اعْتِبَارًا لِمَا يَحْصُل مِنَ الْمَنْعِ بِالْخَتْمِ عَلَى الْكُتُبِ وَالأَْبْوَابِ.
وَخَتْمُ الشَّيْءِ: إِنْهَاؤُهُ، وَمِنْهُ: خَتْمُ الْقُرْآنِ وَخَاتَمُ الرُّسُل، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُول اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (1) أَيْ: آخِرَهُمْ؛ لأَِنَّهُ خُتِمَتْ بِهِ النُّبُوَّةُ وَالرِّسَالاَتُ.
وَمِنَ الْمَجَازِ: لُبْسُ الْخَاتَمِ، وَهُوَ حُلِيٌّ لِلأُْصْبُعِ، كَالْخَاتِمِ - بِكَسْرِ التَّاءِ - وَيُطْلَقُ عَلَى الْخَاتَمِ أَيْضًا وَالْخَاتِمِ وَالْخَتْمِ وَالْخَاتَامِ وَالْخَيْتَامِ، وَثَمَّةَ أَلْفَاظٌ أُخْرَى مُشْتَقَّةٌ مِنْ هَذِهِ الْمَادَّةِ بِالْمَعْنَى نَفْسِهِ، وَصَل بَعْضُهُمْ بِهَا إِلَى عَشَرَةِ أَلْفَاظٍ.
وَالْخَاتَمُ مِنَ الْحُلِيِّ كَأَنَّهُ أَوَّل وَهْلَةٍ خَتَمَ بِهِ،
__________
(1) سورة الأحزاب / 40(11/21)
فَدَخَل بِذَلِكَ فِي بَابِ الطَّابَعِ، ثُمَّ كَثُرَ اسْتِعْمَالُهُ لِذَلِكَ، وَإِنْ أُعِدَّ الْخَاتَمُ لِغَيْرِ الطَّبْعِ (1) . وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِلتَّخَتُّمِ عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّزَيُّنُ:
2 - التَّزَيُّنُ: مَصْدَرُ تَزَيَّنَ، يُقَال: تَزَيَّنَتِ الْمَرْأَةُ: أَيْ لَبِسَتِ الزِّينَةَ أَوِ اتَّخَذَتْهَا، وَتَزَيَّنَتِ الأَْرْضُ بِالنَّبَاتِ: أَيْ حَسُنَتْ وَبَهُجَتْ، وَالزِّينَةُ اسْمٌ جَامِعٌ لِمَا يُتَزَيَّنُ بِهِ، وَمَعْنَى الزِّينَةِ عِنْدَ الرَّاغِبِ: مَا لاَ يَشِينُ الإِْنْسَانَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَحْوَالِهِ لاَ فِي الدُّنْيَا وَلاَ فِي الآْخِرَةِ، وَهِيَ نَفْسِيَّةٌ وَبَدَنِيَّةٌ وَخَارِجِيَّةٌ (2) .
وَالتَّزَيُّنُ أَعَمُّ مِنَ التَّخَتُّمِ؛ لأَِنَّهُ يَكُونُ بِالتَّخَتُّمِ وَبِغَيْرِهِ.
ب - الْفَتْخَةُ:
3 - الْفَتْخَةُ قَرِيبَةٌ فِي الْمَعْنَى وَالاِسْتِعْمَال مِنَ الْخَاتَمِ، فَهِيَ مِثْلُهُ مِنَ الْحُلِيِّ، وَقَدْ تَعَدَّدَتِ الأَْقْوَال فِي مَعْنَاهَا.
فَقِيل: هِيَ خَاتَمٌ كَبِيرٌ يَكُونُ فِي الْيَدِ
__________
(1) القاموس المحيط، ولسان العرب والمفردات في غريب القرآن، والمصباح المنير مادة: " ختم "
(2) القاموس المحيط، وتاج العروس والمفردات مادة: " زين "(11/21)
وَالرِّجْل، وَقِيل: هِيَ كَالْخَاتَمِ أَيًّا كَانَ، وَقِيل: هِيَ خَاتَمٌ يَكُونُ فِي الْيَدِ وَالرِّجْل بِفَصٍّ وَبِغَيْرِ فَصٍّ، وَقِيل. هِيَ حَلْقَةٌ تُلْبَسُ فِي الأُْصْبُعِ كَالْخَاتَمِ، وَقِيل: هِيَ حَلْقَةٌ مِنْ فِضَّةٍ لاَ فَصَّ فِيهَا، فَإِذَا كَانَ فِيهَا فَصٌّ فَهِيَ الْخَاتَمُ، وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي تَفْسِيرِ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (1) أَنَّهَا قَالَتِ: الْمُرَادُ بِالزِّينَةِ فِي الآْيَةِ الْقُلْبُ وَالْفَتْخَةُ، وَقَالَتِ: الْفَتْخُ (2) : حَلَقٌ مِنْ فِضَّةٍ يَكُونُ فِي أَصَابِعِ الرِّجْلَيْنِ، قَال ابْنُ بَرِّيٍّ: حَقِيقَةُ الْفَتْخَةِ أَنْ تَكُونَ فِي أَصَابِعِ الرِّجْلَيْنِ. (3)
فَيَتَّفِقُ الْخَاتَمُ وَالْفَتْخَةُ فِي أَنَّهُ يُتَزَيَّنُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا، وَيَخْتَلِفَانِ فِي مَوْضِعِ لُبْسِ كُلٍّ مِنْهُمَا، وَفِي الْمَادَّةِ الَّتِي يُصْنَعُ مِنْهَا، وَفِي شَكْلِهِ.
ج - التَّسَوُّرُ:
4 - التَّسَوُّرُ مَصْدَرُ تَسَوَّرَ، وَيَأْتِي فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَى الْعُلُوِّ وَالتَّسَلُّقِ، يُقَال: تَسَوَّرْتُ الْحَائِطَ إِذَا عَلَوْتُهُ وَتَسَلَّقْتُهُ، وَبِمَعْنَى التَّزَيُّنِ بِالسِّوَارِ وَالتَّحَلِّي بِهِ، يُقَال: سَوَّرْتُهُ أَيْ أَلْبَسْتُهُ السِّوَارَ مِنَ الْحُلِيِّ فَتَسَوَّرَ (4) ، وَفِي الْحَدِيثِ: أَيَسُرُّكَ أَنْ
__________
(1) سورة النور / 31
(2) الفتخ: جمع فتخة
(3) القاموس المحيط، ولسان العرب، والصحاح مادة: " فتخ "
(4) لسان العرب مادة: " سور "(11/22)
يُسَوِّرَكَ اللَّهُ بِهِمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ سِوَارَيْنِ مِنْ نَارٍ (1) .
فَيَتَّفِقُ التَّخَتُّمُ مَعَ التَّسَوُّرِ فِي أَنَّهُمَا مِنَ الزِّينَةِ، وَيَخْتَلِفَانِ فِي الشَّكْل وَالصَّنْعَةِ وَمَوْضِعِ اللُّبْسِ.
د - التَّدَمْلُجُ:
5 - التَّدَمْلُجُ مَصْدَرُ تَدَمْلَجَ، يُقَال: تَدَمْلَجَ أَيْ لَبِسَ الدُّمْلُجَ - بِفَتْحِ اللاَّمِ وَضَمِّهَا - أَوِ الدُّمْلُوجَ وَهُوَ الْمُعَضَّدُ مِنَ الْحُلِيِّ، وَهُوَ مَا يُلْبَسُ فِي الْعَضُدِ، وَيُقَال أَيْضًا: أَلْقَى عَلَيْهِ دَمَالِيجَهُ (2) .
فَالتَّدَمْلُجُ كَالتَّخَتُّمِ فِي أَنَّهُ يُتَزَيَّنُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا، غَيْرَ أَنَّهُمَا يَخْتَلِفَانِ فِي الشَّكْل وَالصَّنْعَةِ وَمَوْضِعِ اللُّبْسِ.
هـ - التَّطَوُّقُ:
6 - التَّطَوُّقُ مَصْدَرُ تَطَوَّقَ، يُقَال: تَطَوَّقَ أَيْ لَبِسَ الطَّوْقَ، وَهُوَ حُلِيٌّ لِلْعُنُقِ، وَكُل شَيْءٍ اسْتَدَارَ فَهُوَ طَوْقٌ، كَطَوْقِ الرَّحَى الَّذِي يُدِيرُ الْقُطْبَ وَنَحْوِ ذَلِكَ (3) .
فَالتَّطَوُّقُ كَالتَّخَتُّمِ فِي أَنَّهُ يُتَحَلَّى وَيُتَزَيَّنُ بِكُلٍّ
__________
(1) حديث: " أيسرك أن يسورك الله بهما. . . ". أخرجه أبو داود من حديث عبد الله بن عمرو ضمن قصة. قال ابن القطان: إسناده صحيح، وقال المنذري: هذا إسناد تقوم به الحجة إن شاء الله. (سنن أبي داود 2 / 212 ط عزت عبيد دعاس، ونصب الراية 2 / 370 ط مطبعة دار المأمون)
(2) لسان العرب والقاموس المحيط وتاج العروس، وكشاف القناع 2 / 237
(3) القاموس المحيط ولسان العرب(11/22)
مِنْهُمَا، لَكِنَّهُمَا يَخْتَلِفَانِ فِي الشَّكْل وَالصَّنْعَةِ وَالْمَوْضِعِ الَّذِي يُلْبَسُ فِيهِ كُلٌّ مِنْهُمَا.
و التَّنَطُّقُ
7 - التَّنَطُّقُ مَصْدَرُ تَنَطَّقَ، يُقَال: تَنَطَّقَ الرَّجُل وَانْتَطَقَ أَيْ لَبِسَ الْمِنْطَقَ، وَالْمِنْطَقُ وَالنِّطَاقُ وَالْمِنْطَقَةُ: كُل مَا شَدَدْتَ بِهِ وَسْطَكَ، وَقِيل لأَِسْمَاءِ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا ذَاتُ النِّطَاقَيْنِ: لأَِنَّهَا كَانَتْ تُطَارِقُ (أَيْ تُطَابِقُ) نِطَاقًا عَلَى نِطَاقٍ، أَوْ لأَِنَّهَا شَقَّتْ نِطَاقَهَا لَيْلَةَ خُرُوجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْغَارِ، فَجَعَلَتْ وَاحِدَةً لِزَادِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالأُْخْرَى حَمَّالَةً لَهُ (1)
فَالنِّطَاقُ كَالْخَاتَمِ فِي الإِْحَاطَةِ، لَكِنَّهُمَا يَخْتَلِفَانِ مَادَّةً وَشَكْلاً وَحَجْمًا وَمَوْضِعًا.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلتَّخَتُّمِ بِاخْتِلاَفِ مَوْضِعِهِ:
أَوَّلاً: التَّخَتُّمُ بِالذَّهَبِ:
8 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلنِّسَاءِ التَّخَتُّمُ بِالذَّهَبِ، وَيَحْرُمُ عَلَى الرِّجَال ذَلِكَ، (2) لِمَا رُوِيَ
__________
(1) القاموس المحيط ولسان العرب
(2) الاختيار لتعليل المختار 4 / 159، وكفاية الطالب الرباني 2 / 359، وقليوبي وعميرة 2 / 23، وكشاف القناع 1 / 282(11/23)
أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال أُحِل الذَّهَبُ وَالْحَرِيرُ لإِِنَاثِ أُمَّتِي، وَحُرِّمَ عَلَى ذُكُورِهَا. (1)
وَاخْتَلَفُوا فِي تَخَتُّمِ الصَّبِيِّ بِالذَّهَبِ: فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ - فِي الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ - إِلَى أَنَّ تَخَتُّمَ الصَّبِيِّ بِالذَّهَبِ مَكْرُوهٌ، وَالْكَرَاهَةُ عَلَى مَنْ أَلْبَسَهُ أَوْ عَلَى وَلِيِّهِ، وَمُقَابِل الرَّاجِحِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ الْحُرْمَةُ. (2)
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ - وَهُوَ قَوْلٌ مَرْجُوحٌ لِلْمَالِكِيَّةِ - عَلَى حُرْمَةِ إِلْبَاسِ الصَّبِيِّ الذَّهَبَ، وَمِنْهُ الْخَاتَمُ. وَأَطْلَقَ الْحَنَفِيَّةُ هُنَا الْكَرَاهَةَ فِي التَّحْرِيمِ، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: كُنَّا نَنْزِعُهُ عَنِ الْغِلْمَانِ وَنَتْرُكُهُ عَلَى الْجَوَارِي (3) وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ - وَعَبَّرَ
__________
(1) حديث: " أحل الذهب والحرير لإناث أمتي. . . " أخرجه عبد الرزاق والنسائي والترمذي من حديث أبي موسى الأشعري، وقال شعيب الأرناؤوط محقق شرح السنة: هو حديث صحيح روي عن عدة من الصحابة. (سنن النسائي 8 / 161 المطبعة المصرية بالأزهر، ومصنف عبد الرزاق 11 / 68 نشر المجلس العلمي، ونصب الراية 4 / 222 - 225، وشرح السنة للبغوي 12 / 36 نشر المكتب الإسلامي)
(2) الدر المختار 5 / 231، والحاشية على كفاية الطالب الرباني 2 / 357
(3) حديث جابر: " كنا ننزعه عن الغلمان. . . ". أخرجه أبو داود (4 / 331 ط عزت عبيد دعاس) وإسناده صحيح(11/23)
بَعْضُهُمْ بِالأَْصَحِّ - إِلَى أَنَّ الصَّبِيَّ غَيْرَ الْبَالِغِ مِثْل الْمَرْأَةِ فِي جَوَازِ التَّخَتُّمِ بِالذَّهَبِ، وَأَنَّ لِلْوَلِيِّ تَزْيِينَهُ بِالْحُلِيِّ مِنَ الذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ، وَلَوْ فِي غَيْرِ يَوْمِ عِيدٍ. (1)
ثَانِيًا: التَّخَتُّمُ بِالْفِضَّةِ:
9 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ تَخَتُّمِ الْمَرْأَةِ بِالْفِضَّةِ.
وَأَمَّا تَخَتُّمُ الرَّجُل بِالْفِضَّةِ فَعَلَى التَّفْصِيل الآْتِي:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلرَّجُل التَّخَتُّمُ بِالْفِضَّةِ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ وَرِقٍ، وَكَانَ فِي يَدِهِ، ثُمَّ كَانَ فِي يَدِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، ثُمَّ كَانَ فِي يَدِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، ثُمَّ كَانَ فِي يَدِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، حَتَّى وَقَعَ فِي بِئْرِ أَرِيسٍ. نَقْشُهُ: مُحَمَّدٌ رَسُول اللَّهِ (2) .
وَقَالُوا: إِنَّ التَّخَتُّمَ سُنَّةٌ لِمَنْ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، كَالسُّلْطَانِ وَالْقَاضِي وَمَنْ فِي مَعْنَاهُمَا، وَتَرْكُهُ لِغَيْرِ السُّلْطَانِ وَالْقَاضِي وَذِي حَاجَةٍ إِلَيْهِ أَفْضَل. (3)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِالْخَاتَمِ مِنَ الْفِضَّةِ، فَيَجُوزُ اتِّخَاذُهُ، بَل يُنْدَبُ بِشَرْطِ قَصْدِ
__________
(1) قليوبي وعميرة 2 / 24، مغني المحتاج 1 / 306
(2) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتما من ورق وكان. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 323، 324 ط السلفية) ومسلم (3 / 1656 ط الحلبي)
(3) رد المحتار على الدر المختار 5 / 229 - 231(11/24)
الاِقْتِدَاءِ بِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلاَ يَجُوزُ لُبْسُهُ عُجْبًا. (1)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يَحِل لِلرَّجُل الْخَاتَمُ مِنَ الْفِضَّةِ، سَوَاءٌ مَنْ لَهُ وِلاَيَةٌ وَغَيْرُهُ، فَيَجُوزُ لِكُلٍّ لُبْسُهُ، بَل يُسَنُّ. (2)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يُبَاحُ لِلذَّكَرِ الْخَاتَمُ مِنَ الْفِضَّةِ؛ لأَِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ وَرِقٍ (3) ،
قَال أَحْمَدُ فِي خَاتَمِ الْفِضَّةِ لِلرَّجُل: لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ، وَاحْتَجَّ بِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَ لَهُ خَاتَمٌ، وَظَاهِرُ مَا نُقِل عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لاَ فَضْل فِيهِ. وَجَزَمَ بِهِ فِي التَّلْخِيصِ وَغَيْرِهِ، وَقِيل: يُسْتَحَبُّ، قَدَّمَهُ فِي الرِّعَايَةِ. وَقِيل: يُكْرَهُ لِقَصْدِ الزِّينَةِ. جَزَمَ بِهِ ابْنُ تَمِيمٍ (4) .
وَأَمَّا تَخَتُّمُ الصَّبِيِّ بِالْفِضَّةِ فَجَائِزٌ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ. (5)
ثَالِثًا: التَّخَتُّمُ بِغَيْرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ:
10 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ - فِي الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ - وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ التَّخَتُّمَ بِالْحَدِيدِ وَالنُّحَاسِ وَالرَّصَاصِ مَكْرُوهٌ لِلرِّجَال وَالنِّسَاءِ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ
__________
(1) كفاية الطالب الرباني وحاشية العدوي 2 / 358
(2) المجموع 4 / 464، وقليوبي وعميرة 2 / 24
(3) حديث: " إن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتما من ورق. . . . " سبق تخريجه (ف / 9)
(4) كشاف القناع 2 / 236
(5) المراجع السابقة(11/24)
رَجُلاً جَاءَ إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ خَاتَمٌ شِبْهُ - نُحَاسٍ أَصْفَرَ - فَقَال لَهُ: إِنِّي أَجِدُ مِنْكَ رِيحَ الأَْصْنَامِ (1) فَطَرَحَهُ. ثُمَّ جَاءَ وَعَلَيْهِ خَاتَمُ حَدِيدٍ فَقَال: مَا لِي أَرَى عَلَيْكَ حِلْيَةَ أَهْل النَّارِ فَطَرَحَهُ. فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ: مِنْ أَيِّ شَيْءٍ أَتَّخِذُهُ؟ قَال: اتَّخِذْهُ مِنْ وَرِقٍ وَلاَ تُتِمَّهُ مِثْقَالاً (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ التَّخَتُّمَ بِالْجِلْدِ وَالْعَقِيقِ وَالْقَصْدِيرِ وَالْخَشَبِ جَائِزٌ لِلرِّجَال وَالنِّسَاءِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنَّهُ يُبَاحُ لِلرَّجُل وَالْمَرْأَةِ التَّحَلِّي بِالْجَوْهَرِ وَالزُّمُرُّدِ وَالزَّبَرْجَدِ وَالْيَاقُوتِ وَالْفَيْرُوزِ وَاللُّؤْلُؤِ، أَمَّا الْعَقِيقُ فَقِيل: يُسْتَحَبُّ تَخَتُّمُهُمَا
__________
(1) من حيث أن ذلك الخاتم من جنس ما قد يتخذ منه الصنم
(2) حديث: " إن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعليه خاتم شبه. . . . " أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي. وقال: هذا حديث غريب. وصححه ابن حبان قال ابن حجر: في سنده أبو طيبة، قال أبو حاتم الرازي: يكتب حديثه ولا يحتج به، قال ابن حبان في الثقات: يخ (سنن أبي داود 4 / 428 ط عزت عبيد دعاس، وتحفة الأحوذي 5 / 483، 484 نشر السلفية، وسنن النسائي 8 / 172 ط المطبعة المصرية بالأزهر، وموارد الظمآن ص 353 نشر دار الكتب العلمية، وفتح الباري 10 / 323 ط السلفية، وعمدة القاري 22 / 33 ط المنيرية، وشرح السنة للبغوي 9 / 120، 121) .(11/25)
بِهِ، وَقِيل: يُبَاحُ التَّخَتُّمُ بِالْعَقِيقِ لِمَا فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا، وَقَدْ سُئِل الإِْمَامُ أَحْمَدُ: مَا السُّنَّةُ؟ يَعْنِي فِي التَّخَتُّمِ، فَأَجَابَ بِقَوْلِهِ: لَمْ تَكُنْ خَوَاتِيمُ الْقَوْمِ إِلاَّ مِنَ الْفِضَّةِ. قَال صَاحِبُ كَشَّافِ الْقِنَاعِ: الدُّمْلُجُ فِي مَعْنَى الْخَاتَمِ. (1)
وَاخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي التَّخَتُّمِ بِغَيْرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ.
وَالْحَاصِل كَمَا قَال ابْنُ عَابِدِينَ: أَنَّ التَّخَتُّمَ بِالْفِضَّةِ حَلاَلٌ لِلرِّجَال بِالْحَدِيثِ، وَبِالذَّهَبِ وَالْحَدِيدِ وَالصُّفْرِ حَرَامٌ عَلَيْهِمُ بِالْحَدِيثِ، وَبِالْحَجَرِ حَلاَلٌ عَلَى اخْتِيَارِ شَمْسِ الأَْئِمَّةِ وَقَاضِي خَانْ أَخْذًا مِنْ قَوْل الرَّسُول وَفِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأَِنَّ حِل الْعَقِيقِ لَمَّا ثَبَتَ بِهِمَا ثَبَتَ حِل سَائِرِ الأَْحْجَارِ لِعَدَمِ الْفَرْقِ بَيْنَ حَجَرٍ وَحَجَرٍ، وَحَرَامٌ عَلَى اخْتِيَارِ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ وَالْكَافِي أَخْذًا مِنْ عِبَارَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: وَلاَ يَتَخَتَّمُ إِلاَّ بِالْفِضَّةِ. فَإِنَّهَا يُحْتَمَل أَنْ يَكُونَ الْقَصْرُ فِيهَا بِالإِْضَافَةِ إِلَى الذَّهَبِ، وَلاَ يَخْفَى مَا بَيْنَ الْمَأْخَذَيْنِ مِنَ التَّفَاوُتِ. (2)
وَاخْتَلَفَ الشَّافِعِيَّةُ أَيْضًا فِي التَّخَتُّمِ بِغَيْرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْمَجْمُوعِ طَرَفٌ مِنْ هَذَا الْخِلاَفِ، وَهُوَ: قَال صَاحِبُ الإِْبَانَةِ: يُكْرَهُ
__________
(1) حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني 2 / 357 - 359، ومطالب أولي النهى 2 / 94 - 95، كشاف القناع 2 / 237
(2) رد المحتار على الدر المختار 5 / 229 - 230(11/25)
الْخَاتَمُ مِنْ حَدِيدٍ أَوْ شَبَهٍ - نَوْعٍ مِنَ النُّحَاسِ - وَتَابَعَهُ صَاحِبُ الْبَيَانِ، وَأَضَافَ إِلَيْهِمَا الْخَاتَمَ مِنْ رَصَاصٍ، وَقَال صَاحِبُ التَّتِمَّةِ: لاَ يُكْرَهُ الْخَاتَمُ مِنْ حَدِيدٍ أَوْ رَصَاصٍ لِحَدِيثِ الْوَاهِبَةِ نَفْسَهَا، فَفِيهِ قَوْلُهُ لِلَّذِي أَرَادَ تَزَوُّجَهَا: انْظُرْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ (1) .
وَفِي حَاشِيَةِ الْقَلْيُوبِيِّ: وَلاَ بَأْسَ بِلُبْسِ غَيْرِ الْفِضَّةِ مِنْ نُحَاسٍ أَوْ غَيْرِهِ. (2)
رَابِعًا: مَوْضِعُ التَّخَتُّمِ:
11 - لَمْ يَخْتَلِفِ الْفُقَهَاءُ فِي مَوْضِعِ التَّخَتُّمِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَرْأَةِ؛ لأَِنَّهُ تَزَيُّنٌ فِي حَقِّهَا، وَلَهَا أَنْ تَضَعَ خَاتَمَهَا فِي أَصَابِعِ يَدَيْهَا أَوْ رِجْلَيْهَا أَوْ حَيْثُ شَاءَتْ.
وَلَكِنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِي مَوْضِعِ التَّخَتُّمِ لِلرَّجُل، بَل إِنَّ فُقَهَاءَ بَعْضِ الْمَذَاهِبِ اخْتَلَفُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ:
فَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ تَخَتُّمُ الرَّجُل فِي خِنْصَرِ يَدِهِ الْيُسْرَى، دُونَ سَائِرِ أَصَابِعِهِ، وَدُونَ الْيُمْنَى.
وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَجْعَل خَاتَمَهُ فِي يَدِهِ الْيُمْنَى،
وَسَوَّى الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بَيْنَ الْيَمِينِ وَالْيَسَارِ؛ لأَِنَّهُ قَدِ اخْتَلَفَتِ
__________
(1) حديث: " انظر ولو خاتما من حديد ". أخرجه البخاري ضمن حديث طويل (فتح الباري 9 / 131 ط السلفية)
(2) المجموع 4 / 464، وقليوبي وعميرة 2 / 24(11/26)
الرِّوَايَاتُ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ، وَقَوْل بَعْضِهِمْ: إِنَّهُ فِي الْيَمِينِ مِنْ عَلاَمَاتِ أَهْل الْبَغْيِ لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لأَِنَّ النَّقْل الصَّحِيحَ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْفِي ذَلِكَ. (1)
وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ التَّخَتُّمُ فِي الْيَسَارِ عَلَى جِهَةِ النَّدْبِ، وَجَعْل الْخَاتَمِ فِي الْخِنْصَرِ، وَكَانَ مَالِكٌ يَلْبَسُهُ فِي يَسَارِهِ، قَال أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ فِي الْقَبَسِ شَرْحِ الْمُوَطَّأِ: صَحَّ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ تَخَتَّمَ فِي يَمِينِهِ وَفِي يَسَارِهِ، وَاسْتَقَرَّ الأَْكْثَرُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَتَخَتَّمُ فِي يَسَارِهِ، فَالتَّخَتُّمُ فِي الْيَمِينِ مَكْرُوهٌ، وَيَتَخَتَّمُ فِي الْخِنْصَرِ؛ لأَِنَّهُ بِذَلِكَ أَتَتِ السُّنَّةُ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالاِقْتِدَاءُ بِهِ حَسَنٌ. وَلأَِنَّ كَوْنَهُ فِي الْيَسَارِ أَبْعَدُ عَنِ الإِْعْجَابِ. (2)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يَجُوزُ لِلرَّجُل لُبْسُ خَاتَمِ الْفِضَّةِ فِي خِنْصَرِ يَمِينِهِ، وَإِنْ شَاءَ فِي خِنْصَرِ
__________
(1) رد المحتار على الدر المختار 5 / 230. وحديث: " تختم النبي صلى الله عليه وسلم في يده اليمنى ". أخرجه البغوي بإسناده عن أنس رضي الله عنه بلفظ " إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتختم في يمينه، ويجعل فصه في باطن كفه " وقال شعيب الأرناؤوط محقق شرح السنة: إسناده حسن. (شرح السنة للبغوي 12 / 6 وحديث: " تختم النبي صلى الله عليه وسلم في يده اليسرى " أخرجه مسلم من حديث أنس رضي الله عنه بلفظ " كان خاتم النبي صلى الله عليه وسلم في هذه، وأشار إلى الخنصر من يده اليسرى " (صحيح مسلم 3 / 1659 ط الحلبي)
(2) حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني 2 / 360(11/26)
يَسَارِهِ، كِلاَهُمَا صَحَّ فِعْلُهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكِنَّ الصَّحِيحَ الْمَشْهُورَ أَنَّهُ فِي الْيَمِينِ أَفْضَل لأَِنَّهُ زِينَةٌ، وَالْيَمِينُ أَشْرَفُ.
وَقَال بَعْضُهُمْ: فِي الْيَسَارِ أَفْضَل. وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَ يَتَخَتَّمُ فِي يَسَارِهِ، وَبِإِسْنَادٍ حَسَنٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا تَخَتَّمَ فِي يَمِينِهِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ التَّخَتُّمَ فِي الْوُسْطَى وَالسَّبَّابَةِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ (1) لِمَا وَرَدَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَال: نَهَانِي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَتَخَتَّمَ فِي أُصْبُعِي هَذِهِ أَوْ هَذِهِ قَال: فَأَوْمَأَ إِلَى الْوُسْطَى وَاَلَّتِي تَلِيهَا (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لُبْسُ الْخَاتَمِ فِي خِنْصَرِ الْيَسَارِ أَفْضَل مِنْ لُبْسِهِ فِي خِنْصَرِ الْيَمِينِ، نُصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ، وَضُعِّفَ فِي رِوَايَةِ الأَْثْرَمِ وَغَيْرِهِ التَّخَتُّمُ فِي الْيُمْنَى، قَال الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ: الْمَحْفُوظُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَخَتَّمُ فِي يَسَارِهِ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ فِي الْخِنْصَرِ لِكَوْنِهِ طَرَفًا، فَهُوَ أَبْعَدُ عَنِ الاِمْتِهَانِ فِيمَا تَتَنَاوَلُهُ الْيَدُ؛ وَلأَِنَّهُ لاَ يَشْغَل الْيَدَ عَمَّا تَتَنَاوَلُهُ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يُكْرَهُ لُبْسُ الْخَاتَمِ فِي سَبَّابَةٍ وَوُسْطَى لِلنَّهْيِ الصَّحِيحِ عَنْ ذَلِكَ. وَظَاهِرُهُ
__________
(1) المجموع 4 / 462 - 463، وقليوبي وعميرة 2 / 24
(2) حديث: " نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أتختم في أصبعي. . . " أخرجه مسلم (3 / 1659 ط الحلبي)(11/27)
لاَ يُكْرَهُ لُبْسُهُ فِي الإِْبْهَامِ وَالْبِنْصِرِ، وَإِنْ كَانَ الْخِنْصَرُ أَفْضَل اقْتِصَارًا عَلَى النَّصِّ. (1)
خَامِسًا: وَزْنُ خَاتَمِ الرَّجُل:
12 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْوَزْنِ الْمُبَاحِ لِخَاتَمِ الرَّجُل:
فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، قَال الْحَصْكَفِيُّ: لاَ يَزِيدُ الرَّجُل خَاتَمَهُ عَلَى مِثْقَالٍ. (2)
وَرَجَّحَ ابْنُ عَابِدِينَ قَوْل صَاحِبِ الذَّخِيرَةِ أَنَّهُ لاَ يَبْلُغُ بِهِ الْمِثْقَال، وَاسْتَدَل بِمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلاً سَأَل النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِلاً: مِنْ أَيِّ شَيْءٍ أَتَّخِذُهُ؟ - يَعْنِي الْخَاتَمَ - فَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اتَّخِذْهُ مِنْ وَرِقٍ، وَلاَ تُتِمَّهُ مِثْقَالاً (3) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَجُوزُ لِلذَّكَرِ لُبْسُ خَاتَمِ الْفِضَّةِ إِنْ كَانَ وَزْنَ دِرْهَمَيْنِ (4) شَرْعِيَّيْنِ أَوْ أَقَل، فَإِنْ زَادَ عَنْ دِرْهَمَيْنِ حَرُمَ. (5)
وَلَمْ يُحَدِّدِ الشَّافِعِيَّةُ وَزْنًا لِلْخَاتَمِ الْمُبَاحِ، قَال
__________
(1) كشاف القناع 2 / 236، ومطالب أولي النهى 2 / 92
(2) المثقال هو وزن الدينار الإسلامي من الذهب ويعادل 4. 25 جراما
(3) رد المحتار على الدر المختار 5 / 229 - 230 والحديث سبق تخريجه (ف / 10)
(4) وزن الدرهم الشرعي يعادل 2. 975 جراما
(5) جواهر الإكليل 1 / 10(11/27)
الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ: لَمْ يَتَعَرَّضِ الأَْصْحَابُ لِمِقْدَارِ الْخَاتَمِ الْمُبَاحِ، وَلَعَلَّهُمُ اكْتَفَوْا فِيهِ بِالْعُرْفِ، أَيْ عُرْفِ الْبَلَدِ وَعَادَةِ أَمْثَالِهِ فِيهَا، فَمَا خَرَجَ عَنْ ذَلِكَ كَانَ إِسْرَافًا. . . هَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَإِنْ قَال الأَْذْرَعِيُّ: الصَّوَابُ ضَبْطُهُ بِدُونِ مِثْقَالٍ؛ لِمَا فِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ وَسُنَنِ أَبِي دَاوُدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لِلاَبِسِ الْخَاتَمِ الْحَدِيدِ: مَا لِي أَرَى عَلَيْكَ حِلْيَةَ أَهْل النَّارِ فَطَرَحَهُ وَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ أَتَّخِذُهُ؟ قَال: اتَّخِذْهُ مِنْ وَرِقٍ وَلاَ تُتِمَّهُ مِثْقَالاً (1) قَال: وَلَيْسَ فِي كَلاَمِهِمْ مَا يُخَالِفُهُ. وَهَذَا لاَ يُنَافِي مَا ذُكِرَ لاِحْتِمَال أَنَّ ذَلِكَ كَانَ عُرْفَ بَلَدِهِ وَعَادَةَ أَمْثَالِهِ. (2)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ بَأْسَ بِجَعْلِهِ مِثْقَالاً فَأَكْثَرَ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِيهِ تَحْدِيدٌ، مَا لَمْ يَخْرُجْ عَنِ الْعَادَةِ، وَإِلاَّ حَرُمَ (قَالُوا) لأَِنَّ الأَْصْل التَّحْرِيمُ، وَإِنَّمَا خَرَجَ الْمُعْتَادُ لِفِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِعْل الصَّحَابَةِ. (3)
سَادِسًا: عَدَدُ خَوَاتِمِ الرَّجُل:
13 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ تَعَدُّدِ خَوَاتِمِ الرَّجُل:
فَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يُبَاحُ لِلرَّجُل أَكْثَرُ
__________
(1) حديث: " مالي أرى عليك حلية أهل النار. . . " سبق تخريجه (ف / 10)
(2) مغني المحتاج 1 / 392
(3) كشاف القناع 2 / 236(11/28)
مِنْ خَاتَمٍ وَاحِدٍ، فَإِنْ تَعَدَّدَ الْخَاتَمُ حَرُمَ وَلَوْ كَانَ فِي حُدُودِ الْوَزْنِ الْمُبَاحِ شَرْعًا. (1)
وَاخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الشَّافِعِيَّةِ فِي تَعَدُّدِ الْخَاتَمِ، وَنَقَل صَاحِبُ مُغْنِي الْمُحْتَاجِ جَانِبًا مِنْ هَذَا الْخِلاَفِ فِي قَوْلِهِ: وَفِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا: وَلَوْ اتَّخَذَ الرَّجُل خَوَاتِيمَ كَثِيرَةً لِيَلْبَسَ الْوَاحِدَ مِنْهَا بَعْدَ الْوَاحِدِ جَازَ، فَظَاهِرُهُ الْجَوَازُ فِي الاِتِّخَاذِ دُونَ اللُّبْسِ، وَفِيهِ خِلاَفٌ مَشْهُورٌ، وَاَلَّذِي يَنْبَغِي اعْتِمَادُهُ فِيهِ أَنَّهُ جَائِزٌ مَا لَمْ يُؤَدِّ إِلَى سَرَفٍ. (2)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لَوِ اتَّخَذَ الرَّجُل لِنَفْسِهِ عِدَّةَ خَوَاتِيمَ، فَالأَْظْهَرُ جَوَازُهُ إِنْ لَمْ يَخْرُجْ عَنِ الْعَادَةِ، وَالأَْظْهَرُ جَوَازُ لُبْسِ الرَّجُل خَاتَمَيْنِ فَأَكْثَرَ جَمِيعًا إِنْ لَمْ يَخْرُجْ عَنِ الْعَادَةِ. (3)
وَلَمْ نَجِدْ كَلاَمًا لِلْحَنَفِيَّةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
سَابِعًا: النَّقْشُ عَلَى الْخَاتَمِ:
14 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ النَّقْشِ عَلَى الْخَاتَمِ، وَعَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ نَقْشُ اسْمِ صَاحِبِ الْخَاتَمِ عَلَيْهِ، وَاخْتَلَفُوا فِي نَقْشِ لَفْظِ الْجَلاَلَةِ أَوِ الذِّكْرِ:
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: يَجُوزُ أَنْ يَنْقُشَ لَفْظَ الْجَلاَلَةِ أَوْ أَلْفَاظَ الذِّكْرِ عَلَى الْخَاتَمِ، وَلَكِنَّهُ
__________
(1) جواهر الإكليل 1 / 10
(2) مغني المحتاج 1 / 392
(3) كشاف القناع 2 / 238(11/28)
يَجْعَلُهُ فِي كُمِّهِ إِنْ دَخَل الْخَلاَءَ، وَفِي يَمِينِهِ إِذَا اسْتَنْجَى.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يُكْرَهُ أَنْ يَكْتُبَ عَلَى الْخَاتَمِ ذِكْرَ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْقُرْآنِ أَوْ غَيْرِهِ نَصًّا، قَال إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ: لاَ يَدْخُل الْخَلاَءَ بِهِ، وَقَال فِي الْفُرُوعِ: وَلَعَل أَحْمَدَ كَرِهَهُ لِذَلِكَ، قَال: وَلَمْ أَجِدْ لِلْكَرَاهَةِ دَلِيلاً سِوَى هَذَا، وَهِيَ تَفْتَقِرُ إِلَى دَلِيلٍ وَالأَْصْل عَدَمُهُ. وَقَال الْحَنَابِلَةُ أَيْضًا: يَحْرُمُ أَنْ يَنْقُشَ عَلَيْهِ صُورَةَ حَيَوَانٍ، وَيَحْرُمُ لُبْسُهُ وَالصُّورَةُ عَلَيْهِ كَالثَّوْبِ الْمُصَوَّرِ، وَلَمْ يَرَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ بَأْسًا فِي نَقْشِ ذَلِكَ إِذَا كَانَ صَغِيرًا بِحَيْثُ لاَ يُبْصَرُ عَنْ بُعْدٍ. (1)
ثَامِنًا: فَصُّ الْخَاتَمِ:
15 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِخَاتَمِ الرَّجُل الْمُبَاحِ فَصٌّ مِنْ مَادَّتِهِ الْفِضِّيَّةِ أَوْ مِنْ مَادَّةٍ أُخْرَى عَلَى التَّفْصِيل الآْتِي:
قَال الْحَنَفِيَّةُ: يَجُوزُ لِلرَّجُل أَنْ يَجْعَل فَصَّ خَاتَمِهِ عَقِيقًا أَوْ فَيْرُوزَجًا أَوْ يَاقُوتًا أَوْ نَحْوَهُ، وَلاَ بَأْسَ بِسَدِّ ثَقْبِ الْفَصِّ بِمِسْمَارِ الذَّهَبِ لِيَحْفَظَ بِهِ الْفَصَّ؛ لأَِنَّهُ قَلِيلٌ، فَأَشْبَهَ الْعَلَمَ فِي الثَّوْبِ فَلاَ يُعَدُّ لاَبِسًا لَهُ، وَيَجْعَل الرَّجُل فَصَّ خَاتَمِهِ إِلَى
__________
(1) رد المحتار على الدر المختار 5 / 230، وحاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني 2 / 360، والمجموع 4 / 463، وقليوبي وعميرة 2 / 24، ومطالب أولي النهى 2 / 95(11/29)
بَطْنِ كَفِّهِ بِخِلاَفِ النِّسَاءِ؛ لأَِنَّهُ لِلزِّينَةِ فِي حَقِّهِنَّ دُونَ الرِّجَال. (1)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ بَأْسَ بِالْفِضَّةِ فِي حِلْيَةِ الْخَاتَمِ. . . ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي الشَّرْحِ، فَقَال بَعْضُهُمْ: تَكُونُ الْحِلْيَةُ مِنَ الْفِضَّةِ فِي خَاتَمٍ مِنْ شَيْءٍ جَائِزٍ غَيْرَ الْحَدِيدِ وَالنُّحَاسِ وَالرَّصَاصِ، كَالْجِلْدِ وَالْعُودِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَجُوزُ، فَيُجْعَل الْفَصُّ فِيهِ.
وَقَال بَعْضُهُمْ: يَكُونُ الْخَاتَمُ كُلُّهُ مِنَ الْفِضَّةِ لِمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: كَانَ خَاتَمُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَرِقٍ، وَكَانَ فَصُّهُ حَبَشِيًّا (2) أَيْ كَانَ صَانِعُهُ حَبَشِيًّا، أَوْ كَانَ مَصْنُوعًا كَمَا يَصْنَعُهُ أَهْل الْحَبَشَةِ فَلاَ يُنَافِي رِوَايَةَ: أَنَّ فَصَّهُ مِنْهُ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ يَجُوزُ لِلذَّكَرِ خَاتَمٌ بَعْضُهُ ذَهَبٌ وَلَوْ قَل.
وَقَالُوا: يُجْعَل فَصُّ الْخَاتَمِ مِمَّا يَلِي الْكَفَّ؛ لأَِنَّهُ بِذَلِكَ أَتَتِ السُّنَّةُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالاِقْتِدَاءُ بِهِ حَسَنٌ، فَإِذَا أَرَادَ الاِسْتِنْجَاءَ خَلَعَهُ كَمَا يَخْلَعُهُ عِنْدَ إِرَادَةِ الْخَلاَءِ. (3)
__________
(1) رد المحتار على الدر المختار 5 / 230، والاختيار لتعليل المختار 4 / 159
(2) حديث: " كان خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم من ورق. . . ". أخرجه مسلم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه (صحيح مسلم 3 / 1658 ط الحلبي)
(3) حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني 2 / 358 - 360، وجواهر الإكليل 1 / 10(11/29)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يَجُوزُ الْخَاتَمُ بِفَصٍّ وَبِغَيْرِ فَصٍّ، وَأَضَافَ النَّوَوِيُّ: وَيُجْعَل الْفَصُّ مِنْ بَاطِنِ كَفِّهِ أَوْ ظَاهِرِهَا، وَبَاطِنُهَا أَفْضَل لِلأَْحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فِيهِ. وَقَال الْقَلْيُوبِيُّ: وَيُسَنُّ جَعْل فَصِّ الْخَاتَمِ دَاخِل الْكَفِّ. (1)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لِلرَّجُل جَعْل فَصِّ خَاتَمِهِ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ؛ لأَِنَّ فِي الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ فَصُّهُ مِنْهُ وَلِمُسْلِمٍ كَانَ فَصُّهُ حَبَشِيًّا.
وَقَالُوا: يُبَاحُ لِلذَّكَرِ مِنَ الذَّهَبِ فَصُّ خَاتَمٍ إِذَا كَانَ يَسِيرًا. . . اخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ وَمَجْدُ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَتَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلاَمِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ، وَإِلَيْهِ مَيْل ابْنِ رَجَبٍ، قَال فِي الإِْنْصَافِ: وَهُوَ الصَّوَابُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ، وَفِي الْفَتَاوَى الْمِصْرِيَّةِ: يَسِيرُ الذَّهَبِ التَّابِعُ لِغَيْرِهِ كَالطِّرَازِ وَنَحْوِهِ جَائِزٌ فِي الأَْصَحِّ مِنْ مَذْهَبِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ
وَاخْتَارَ الْقَاضِي وَأَبُو الْخَطَّابِ التَّحْرِيمَ، وَقَطَعَ بِهِ فِي شَرْحِ الْمُنْتَهَى فِي بَابِ الآْنِيَةِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: الأَْفْضَل أَنْ يَجْعَل الرَّجُل فَصَّ الْخَاتَمِ مِمَّا يَلِي ظَهْرَ كَفِّهِ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كَانَ يَفْعَل ذَلِكَ " (2) وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
__________
(1) المجموع 4 / 463، وقليوبي وعميرة 2 / 24
(2) حديث: " جعل النبي صلى الله عليه وسلم فص الخاتم. . . " أخرجه مسلم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه بلفظ " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبس خاتم فضة في يمينه، فيه فص حبشي، كان يجعل فصه مما يلي كفه ". (صحيح مسلم 3 / 1658 ط الحلبي)(11/30)
وَغَيْرُهُ يَجْعَلُهُ مِمَّا يَلِي ظَهْرَ كَفِّهِ. (1)
تَاسِعًا: تَحْرِيكُ الْخَاتَمِ فِي الْوُضُوءِ:
16 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ فِي الْوُضُوءِ تَحْرِيكُ الْخَاتَمِ أَثْنَاءَ غَسْل الْيَدِ، إِنْ كَانَ ضَيِّقًا وَلاَ يُعْلَمُ وُصُول مَاءِ الْوُضُوءِ إِلَى مَا تَحْتَهُ، فَإِنْ كَانَ الْخَاتَمُ وَاسِعًا، أَوْ كَانَ ضَيِّقًا وَعَلِمَ وُصُول الْمَاءِ إِلَى مَا تَحْتَهُ فَإِنَّ تَحْرِيكَهُ لاَ يَجِبُ، بَل يَكُونُ مُسْتَحَبًّا.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجِبُ تَحْوِيل خَاتَمِ الْمُتَوَضِّئِ مِنْ مَوْضِعِهِ وَلَوْ كَانَ ضَيِّقًا إِنْ كَانَ مَأْذُونًا فِيهِ، وَعَلَى الْمُتَوَضِّئِ إِزَالَةُ غَيْرِ الْمَأْذُونِ فِيهِ إِنْ كَانَ يَمْنَعُ وُصُول الْمَاءِ لِلْبَشَرَةِ وَإِلاَّ فَلاَ، وَلَيْسَ الْحُكْمُ بِإِزَالَةِ مَا يَمْنَعُ وُصُول الْمَاءِ لِلْبَشَرَةِ خَاصًّا بِالْخَاتَمِ غَيْرِ الْمَأْذُونِ فِيهِ، بَل هُوَ عَامٌّ فِي كُل حَائِلٍ كَشَمْعٍ وَزِفْتٍ وَوَسَخٍ. (2)
عَاشِرًا: تَحْرِيكُ الْخَاتَمِ فِي الْغُسْل:
17 - قَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: مِمَّا يَتَحَقَّقُ بِهِ الْغُسْل
__________
(1) كشاف القناع 2 / 236، ومطالب أولي النهى 2 / 93
(2) رد المحتار على الدر المختار 1 / 86، وجواهر الإكليل 1 / 14، وقليوبي وعميرة 1 / 49، ومسائل الإمام أحمد ص 8(11/30)
الْمُجْزِئُ أَنْ يُعَمِّمَ بَدَنَهُ بِالْغَسْل، حَتَّى مَا تَحْتَ خَاتَمٍ وَنَحْوِهِ، فَيُحَرِّكُهُ لِيَتَحَقَّقَ وُصُول الْمَاءِ إِلَى مَا تَحْتَهُ، وَلَوْ كَانَ الْخَاتَمُ ضَيِّقًا لاَ يَصِل الْمَاءُ إِلَى مَا تَحْتَهُ نَزَعَهُ وُجُوبًا.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَجِبُ غَسْل ظَاهِرِ الْجَسَدِ فِي الْغُسْل، وَأَمَّا الْخَاتَمُ فَلاَ يَلْزَمُ تَحْرِيكُهُ، كَالْوُضُوءِ. كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ ابْنُ الْمَوَّازِ خِلاَفًا لاِبْنِ رُشْدٍ (1) .
حَادِي عَشَرَ: نَزْعُ الْخَاتَمِ فِي التَّيَمُّمِ:
18 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى مَنْ يُرِيدُ التَّيَمُّمَ نَزْعُ خَاتَمِهِ لِيَصِل التُّرَابُ إِلَى مَا تَحْتَهُ عِنْدَ الْمَسْحِ، وَلاَ يَكْفِي تَحْرِيكُ الْخَاتَمِ؛ لأَِنَّ التُّرَابَ كَثِيفٌ لاَ يَسْرِي إِلَى مَا تَحْتَ الْخَاتَمِ بِخِلاَفِ الْمَاءِ فِي الْوُضُوءِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يَجِبُ عَلَى الْمُتَيَمِّمِ أَنْ يَسْتَوْعِبَ بِالْمَسْحِ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ فَيَنْزِعَ الْخَاتَمَ أَوْ يُحَرِّكَهُ (2) .
ثَانِيَ عَشَرَ: الْعَبَثُ بِالْخَاتَمِ فِي الصَّلاَةِ:
19 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْعَبَثَ فِي الصَّلاَةِ
__________
(1) رد المحتار على الدر المختار 1 / 104، والخرشي 1 / 166، ومغني المحتاج 1 / 73، وكشاف القناع 1 / 155
(2) رد المحتار على الدر المختار 1 / 101، وكشاف القناع 1 / 178(11/31)
مَكْرُوهٌ، وَالْعَبَثُ: هُوَ كُل فِعْلٍ لَيْسَ بِمُفِيدٍ لِلْمُصَلِّي، وَمِنْهُ كَفُّهُ لِثَوْبِهِ وَعَبَثُهُ بِهِ وَبِجَسَدِهِ وَبِالْحَصَى وَبِالْخَاتَمِ، وَتَفْصِيلُهُ وَالْخِلاَفُ فِيهِ يُنْظَرُ فِي الصَّلاَةِ عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنِ الْمَكْرُوهَاتِ وَالْمُبْطِلاَتِ. (1)
ثَالِثَ عَشَرَ: التَّخَتُّمُ فِي الإِْحْرَامِ:
20 - اتَّفَقَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ لِلْمُحْرِمِ التَّخَتُّمَ بِخَاتَمِهِ حَال إِحْرَامِهِ؛ لأَِنَّ التَّخَتُّمَ لَيْسَ لُبْسًا وَلاَ تَغْطِيَةً، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّهُ قَال: أَوْثِقُوا عَلَيْكُمْ نَفَقَاتِكُمْ - أَيْ بِشَدِّ الْهِمْيَانِ فِي الْوَسَطِ وَفِيهِ كِيسُ النَّفَقَةِ - وَرَخَّصَ فِي الْخَاتَمِ وَالْهِمْيَانِ لِلْمُحْرِمِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَحْرُمُ عَلَى الرَّجُل الْمُحْرِمِ لُبْسُ الْخَاتَمِ فِي الإِْحْرَامِ وَلَوْ فِضَّةً زِنَتُهُ دِرْهَمَانِ، وَفِيهِ الْفِدْيَةُ إِنْ طَال. (2)
رَابِعَ عَشَرَ: زَكَاةُ الْخَاتَمِ:
21 - اتَّفَقَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ - فِي الأَْظْهَرِ عِنْدَهُمْ - وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ الْحِلْيَةَ الْمُبَاحَةَ - وَمِنْهَا
__________
(1) رد المحتار على الدر المختار 1 / 430، وجواهر الإكليل 1 / 55، وقليوبي وعميرة 1 / 190، ومغني المحتاج 1 / 199، وكشاف القناع 1 / 272
(2) رد المحتار على الدر المختار 2 / 164، وجواهر الإكليل 1 / 186، وقليوبي وعميرة 1 / 518، والمغني 3 / 305(11/31)
خَاتَمُ الذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ لِلْمَرْأَةِ، وَخَاتَمُ الْفِضَّةِ الْمُبَاحِ لِلرَّجُل - لاَ زَكَاةَ فِيهِ؛ لأَِنَّهُ مَصْرُوفٌ عَنْ جِهَةِ النَّمَاءِ إِلَى اسْتِعْمَالٍ مُبَاحٍ، فَأَشْبَهَ ثِيَابَ الْبِذْلَةِ وَعَوَامِل الْمَاشِيَةِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ مُقَابِل الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: فِي خَاتَمِ الْفِضَّةِ الْمُبَاحِ لِلرَّجُل الزَّكَاةُ - بِشَرْطِ النِّصَابِ - لأَِنَّ الْفِضَّةَ خُلِقَتْ ثَمَنًا، فَيُزَكِّيهَا كَيْفَ كَانَتْ (1) . وَتَفْصِيلُهُ فِي الزَّكَاةِ
خَامِسَ عَشَرَ: دَفْنُ الْخَاتَمِ مَعَ الشَّهِيدِ وَغَيْرِهِ:
22 - يُنْزَعُ عَنِ الْمَيِّتِ قَبْل دَفْنِهِ مَا عَلَيْهِ مِنَ الْحِلْيَةِ مِنْ خَاتَمٍ وَغَيْرِهِ (2) لأَِنَّ دَفْنَهُ مَعَ الْمَيِّتِ إِضَاعَةٌ لِلْمَال، وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ. أَمَّا الشَّهِيدُ فَقَدِ اتَّفَقَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ يُنْزَعُ عَنْهُ عِنْدَ دَفْنِهِ الْجِلْدُ وَالسِّلاَحُ وَالْفَرْوُ وَالْحَشْوُ وَالْخُفُّ وَالْمِنْطَقَةُ وَالْقَلَنْسُوَةُ وَكُل مَا لاَ يُعْتَادُ لُبْسُهُ غَالِبًا، وَالْخَاتَمُ مِثْل هَذِهِ بَل أَوْلَى؛ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِقَتْلَى أُحُدٍ أَنْ يُنْزَعَ عَنْهُمُ الْحَدِيدُ وَالْجُلُودُ، وَأَنْ يُدْفَنُوا فِي ثِيَابِهِمْ بِدِمَائِهِمْ (3) وَلأَِنَّ مَا يُتْرَكُ عَلَى الشَّهِيدِ
__________
(1) رد المحتار على الدر المختار 2 / 30، وجواهر الإكليل 1 / 128، وقليوبي وعميرة 2 / 23، والمغني 3 / 15
(2) كشاف القناع 2 / 97
(3) حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم " أمر بقتلى أحد. . . " أخرجه أبو داود وابن ماجه واللفظ له، قال الشوكاني: في إسنادهما علي بن عاصم الواسطي وقد تكلم فيه جماعة، وعطاء بن السائب وفيه مقال. (سنن أبي داود 3 / 498 ط عزت عبيد دعاس، وسنن ابن ماجه 1 / 485 ط الحلبي، ونيل الأوطار 4 / 61 ط دار الجيل)(11/32)
يُتْرَكُ لِيَكُونَ كَفَنًا، وَالْكَفَنُ مَا يُلْبَسُ لِلسَّتْرِ، وَالْخَاتَمُ لاَ يُلْبَسُ لِلسَّتْرِ فَيُنْزَعُ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: نُدِبَ دَفْنُ الشَّهِيدِ بِخُفٍّ وَقَلَنْسُوَةٍ وَمِنْطَقَةٍ قَل ثَمَنُهَا، وَبِخَاتَمٍ قَل فَصُّهُ أَيْ قِيمَتُهُ، فَلاَ يُنْزَعُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ نَفِيسَ الْفَصِّ (1) .
__________
(1) رد المحتار على الدر المختار 1 / 610، وبدائع الصنائع 1 / 324، ومغني المحتاج 1 / 351، وكشاف القناع 2 / 97 - 2 / 99، وجواهر الإكليل 1 / 115(11/32)
تَخْدِيرٌ
التَّعْرِيفُ
1 - الْخَدَرُ - بِالتَّحْرِيكِ - اسْتِرْخَاءٌ يَغْشَى بَعْضَ الأَْعْضَاءِ أَوِ الْجَسَدَ كُلَّهُ. وَالْخَدَرُ: الْكَسَل وَالْفُتُورُ.
وَخَدَّرَ الْعُضْوَ تَخْدِيرًا: جَعَلَهُ خَدِرًا، وَحَقَنَهُ بِمُخَدِّرٍ لإِِزَالَةِ إِحْسَاسِهِ
وَيُقَال: خَدَّرَهُ الشَّرَابُ وَخَدَّرَهُ الْمَرَضُ
وَالْمُخَدِّرُ: مَادَّةٌ تُسَبِّبُ فِي الإِْنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ فِقْدَانَ الْوَعْيِ بِدَرَجَاتٍ مُتَفَاوِتَةٍ، كَالْبَنْجِ وَالْحَشِيشِ وَالأَْفْيُونِ، وَالْجَمْعُ مُخَدِّرَاتٌ، وَهِيَ مُحْدَثَةٌ (1)
. وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِلتَّخْدِيرِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّفْتِيرُ:
2 - فَتَرَ عَنِ الْعَمَل فُتُورًا: انْكَسَرَتْ حِدَّتُهُ وَلاَنَ بَعْدَ شِدَّتِهِ، وَمِنْهُ: فَتَرَ الْحَرُّ إِذَا انْكَسَرَ، (2)
__________
(1) لسان العرب وتاج العروس والوسيط مادة: " خدر "
(2) المصباح المنير " فتر "(11/33)
فَيَكُونُ التَّفْتِيرُ تَكْسِيرًا لِلْحِدَةِ، وَتَلْيِينًا بَعْدَ الشِّدَّةِ. وَعَلَى هَذَا فَالتَّفْتِيرُ أَعَمُّ مِنَ التَّخْدِيرِ؛ إِذِ التَّخْدِيرُ نَوْعٌ مِنَ التَّفْتِيرِ.
ب - الإِْغْمَاءُ:
3 - أُغْمِيَ عَلَيْهِ: عَرَضَ لَهُ مَا أَفْقَدَهُ الْحِسَّ وَالْحَرَكَةَ. وَالإِْغْمَاءُ: فُتُورٌ غَيْرُ أَصْلِيٍّ يُزِيل عَمَل الْقُوَى لاَ بِمُخَدِّرٍ.
فَالتَّخْدِيرُ مُبَايِنٌ لِلإِْغْمَاءِ. (1)
ج - الإِْسْكَارُ:
4 - أَسْكَرَهُ الشَّرَابُ أَزَال عَقْلَهُ، فَالإِْسْكَارُ: إِزَالَةُ الشَّرَابِ لِلْعَقْل دُونَ الْحِسِّ وَالْحَرَكَةِ، فَيَكُونُ التَّخْدِيرُ أَعَمَّ مِنَ الإِْسْكَارِ. (2)
وَهُنَاكَ أَلْفَاظٌ أُخْرَى لَهَا صِلَةٌ بِالتَّخْدِيرِ كَالْمُفْسِدِ
وَالْمُرَقِّدِ. قَال الْحَطَّابُ: فَائِدَةٌ تَنْفَعُ الْفَقِيهَ، يَعْرِفُ بِهَا الْفَرْقَ بَيْنَ الْمُسْكِرِ وَالْمُفْسِدِ وَالْمُرَقِّدِ، فَالْمُسْكِرُ: مَا غَيَّبَ الْعَقْل دُونَ الْحَوَاسِّ مَعَ نَشْوَةٍ وَفَرَحٍ، وَالْمُفْسِدُ: مَا غَيَّبَ الْعَقْل دُونَ الْحَوَاسِّ لاَ مَعَ نَشْوَةٍ وَفَرَحٍ كَعَسَل الْبَلاَدِرِ، وَالْمُرَقِّدُ: مَا غَيَّبَ الْعَقْل وَالْحَوَاسَّ كَالسَّكْرَانِ (3) .
__________
(1) المعجم الوسيط، والتعريفات للجرجاني
(2) المصباح المنير مادة: " سكر "
(3) الحطاب 1 / 90، والفتاوى الكبرى الفقهية 4 / 231(11/33)
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
5 - الْمُخَدِّرَاتُ أَنْوَاعٌ مُتَعَدِّدَةٌ تَخْتَلِفُ لاِخْتِلاَفِ أُصُولِهَا الْمُسْتَخْرَجَةِ مِنْهَا.
وَتَنَاوُل الْمُخَدِّرَاتِ كَالْحَشِيشَةِ (1) وَالأَْفْيُونِ (2) وَالْقَاتِّ (3) وَالْكُوكَايِينِ (4) وَالْبَنْجِ (5) وَالْكُفْتَةِ (6)
__________
(1) الحشيشة: يطلق هذا اللفظ غالبا في الشرق على مادة مخدرة تحضر من نبات القنب، وتستعمل الأجزاء المختلفة من النبات لتحضير مستحضرات تسمى بأسماء مختلفة، مثل البانج والكراسي والجنجا والكيف. قال ابن تيمية: إن الحشيشة أول ما ظهرت في آخر المائة السادسة من الهجرة والموسوعة العربية الميسرة ص 721)
(2) الأفيون: يطلق على العصارة اللبنية المجففة التي تجنى من تشقق ثمر الخشخاش غير الناضج، ويحتوي الأفيون على قلويات كثيرة أهمها المورفين والكوريين والبابفرين والشيابين وغيرها. (المعجم الوسيط (أفن) ، والموسوعة العربية الميسرة ص 183، وحاشية ابن عابدين 5 / 295 ط بولاق)
(3) القات: نبات من الفصيلة السلسترية، يزرع لأوراقه التي تمضغ خضراء، قليله منبه، وكثيره مخدر، موطنه الحبشة، ويزرع بكثرة في اليمن ويسمى شاي العرب. (المعجم الوسيط، والمنجد، والموسوعة العربية الميسرة ص 1359)
(4) الكوكايين: أحد قلويات أوراق الكوكا، يستعمل في الطب كمخدر موضعي، وبعض الناس يستعملونه لطرق غير مشروعة، واستمرار استعماله يحدث خمولا في الجهاز العصبي يؤدي إلى الجنون. (الموسوعة العربية الميسرة ص 1506)
(5) البنج: نبات سام من الفصيلة الباذنجانية، ويستعمل في الطب للتخدير، (المعجم الوسيط والمنجد مادة: " بنج ".)
(6) الكفتة: نبات له تأثير كتأثير القات. (الفتاوى الفقهية الكبرى 4 / 225)(11/34)
وَجَوْزَةِ الطِّيبِ (1) وَالْبُرْشِ (2) وَغَيْرِهَا بِالْمَضْغِ أَوِ التَّدْخِينِ أَوْ غَيْرِهِمَا يَنْتُجُ عَنْهُ تَغْيِيبُ الْعَقْل، وَقَدْ يُؤَدِّي إِلَى الإِْدْمَانِ، مِمَّا يُسَبِّبُ تَدَهْوُرًا فِي عَقْلِيَّةِ الْمُدْمِنِينَ وَصِحَّتِهِمْ، وَتَغَيُّرِ الْحَال الْمُعْتَدِلَةِ فِي الْخَلْقِ وَالْخُلُقِ.
قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: كُل مَا يُغَيِّبُ الْعَقْل فَإِنَّهُ حَرَامٌ، وَإِنْ لَمْ تَحْصُل بِهِ نَشْوَةٌ وَلاَ طَرَبٌ، فَإِنَّ تَغْيِيبَ الْعَقْل حَرَامٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، أَيْ إِلاَّ لِغَرَضٍ مُعْتَبَرٍ شَرْعًا. (3)
6 - وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى حُرْمَةِ تَنَاوُل الْمُخَدِّرَاتِ الَّتِي تَغْشَى الْعَقْل، وَلَوْ كَانَتْ لاَ تُحْدِثُ الشِّدَّةَ الْمُطْرِبَةَ الَّتِي لاَ يَنْفَكُّ عَنْهَا الْمُسْكِرُ الْمَائِعُ.
وَكَمَا أَنَّ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ حَرُمَ قَلِيلُهُ مِنَ الْمَائِعَاتِ، كَذَلِكَ يَحْرُمُ مُطْلَقًا مَا يُخَدِّرُ مِنَ الأَْشْيَاءِ الْجَامِدَةِ الْمُضِرَّةِ بِالْعَقْل أَوْ غَيْرِهِ مِنْ أَعْضَاءِ الْجَسَدِ.
وَذَلِكَ إِذَا تَنَاوَل قَدْرًا مُضِرًّا مِنْهَا. دُونَ مَا يُؤْخَذُ مِنْهَا مِنْ أَجْل الْمُدَاوَاةِ؛ لأَِنَّ حُرْمَتَهَا لَيْسَتْ لِعَيْنِهَا، بَل لِضَرَرِهَا.
7 - وَعَلَى هَذَا يَحْرُمُ تَنَاوُل الْبَنْجِ وَالْحَشِيشَةِ
__________
(1) جوزة الطيب: وسمي بذلك لعطريته ودخوله في الأطياب، وهو ثمر شجرة في عظم شجرة الرمان. (التذكرة لداود الأنطاكي 1 / 101 ط محمد على صبيح)
(2) البرش: وهو مركب من الأفيون والبنج. (تذكرة داود الأنطاكي 1 / 66)
(3) مجموعة فتاوى ابن تيمية 34 / 198، 204، 211(11/34)
وَالأَْفْيُونِ فِي غَيْرِ حَالَةِ التَّدَاوِي؛ لأَِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مُفْسِدٌ لِلْعَقْل، فَيُحْدِثُ لِمُتَنَاوِلِهِ فَسَادًا، وَيَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ. لَكِنْ تَحْرِيمُ ذَلِكَ لَيْسَ لِعَيْنِهِ بَل لِنَتَائِجِهِ.
8 - وَيَحْرُمُ الْقَدْرُ الْمُسْكِرُ الْمُؤْذِي مِنْ جَوْزَةِ الطِّيبِ، فَإِنَّهَا مُخَدِّرَةٌ، لَكِنْ حُرْمَتُهَا دُونَ حُرْمَةِ الْحَشِيشَةِ. (1)
9 - وَذَهَبَ الْفَقِيهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمُقْرِيُّ الْحَرَازِيُّ الشَّافِعِيُّ إِلَى تَحْرِيمِ الْقَاتِّ فِي مُؤَلَّفِهِ فِي تَحْرِيمِ الْقَاتِّ. حَيْثُ يَقُول: إِنِّي رَأَيْتُ مِنْ أَكْلِهَا الضَّرَرَ فِي بَدَنِي وَدِينِي فَتَرَكْتُ لَهَا، فَقَدْ ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ: أَنَّ الْمُضِرَّاتِ مِنْ أَشْهَرِ الْمُحَرَّمَاتِ، فَمِنْ ضَرَرِهَا أَنَّ آكِلَهَا يَرْتَاحُ وَيَطْرَبُ وَتَطِيبُ نَفْسُهُ وَيَذْهَبُ حُزْنُهُ، ثُمَّ يَعْتَرِيهِ بَعْدَ سَاعَتَيْنِ مِنْ أَكْلِهِ هُمُومٌ مُتَرَاكِمَةٌ وَغُمُومٌ مُتَزَاحِمَةٌ وَسُوءُ أَخْلاَقٍ. وَكَذَلِكَ ذَهَبَ الْفَقِيهُ حَمْزَةُ النَّاشِرِيُّ إِلَى تَحْرِيمِهِ (2) وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ كُل مُسْكِرٍ وَمُفْتِرٍ (3) .
__________
(1) ابن عابدين 1 / 295 و 5 / 323، والدسوقي 4 / 352، ومغني المحتاج 1 / 77 و 4 / 187، والقليوبي 1 / 69 و 4 / 203، وفتاوى ابن حجر 4 / 223 - 234، ومطالب أولي النهى 6 / 217، والسياسة الشرعية لابن تيمية ص 108
(2) الفتاوى الكبرى الفقهية لابن حجر 4 / 225 - 226 نشر المكتبة الإسلامية، وقد أدرج في فتاواه رسالة كاملة له في القات سماها " تحذير الثقات من أكل القات " 4 / 223 - 234 انتهى فيها إلى القول بالتحريم
(3) حديث: " نهى عن كل مسكر ومفتر " أخرجه أبو داود (4 / 90 - ط عزت عبيد دعاس) وإسناده ضعيف (عون المعبود 3 / 378 - نشر دار الكتاب العربي)(11/35)
أَدِلَّةُ تَحْرِيمِ الْمُخَدِّرَاتِ:
10 - الأَْصْل فِي تَحْرِيمِهَا مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَأَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كُل مُسْكِرٍ وَمُفْتِرٍ (1) .
قَال الْعُلَمَاءُ: الْمُفْتِرُ: كُل مَا يُورِثُ الْفُتُورَ وَالْخَدَرَ فِي الأَْطْرَافِ. قَال ابْنُ حَجَرٍ: وَهَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ الْحَشِيشِ بِخُصُوصِهِ، فَإِنَّهَا تُسْكِرُ وَتُخَدِّرُ وَتُفْتِرُ.
وَحَكَى الْقَرَافِيُّ وَابْنُ تَيْمِيَّةَ الإِْجْمَاعَ عَلَى تَحْرِيمِ الْحَشِيشَةِ، قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: وَمَنِ اسْتَحَلَّهَا فَقَدْ كَفَرَ، وَإِنَّمَا لَمْ تَتَكَلَّمْ فِيهَا الأَْئِمَّةُ الأَْرْبَعَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ؛ لأَِنَّهَا لَمْ تَكُنْ فِي زَمَنِهِمْ، وَإِنَّمَا ظَهَرَتْ فِي آخِرِ الْمِائَةِ السَّادِسَةِ وَأَوَّل الْمِائَةِ السَّابِعَةِ حِينَ ظَهَرَتْ دَوْلَةُ التَّتَارِ. (2)
طَهَارَةُ الْمُخَدِّرَاتِ وَنَجَاسَتُهَا:
11 - الْمُخَدِّرَاتُ الْجَامِدَةُ كُلُّهَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ طَاهِرَةٌ غَيْرُ نَجِسَةٍ وَإِنْ حَرُمَ تَعَاطِيهَا، وَلاَ تَصِيرُ نَجِسَةً بِمُجَرَّدِ إِذَابَتِهَا فِي الْمَاءِ وَلَوْ قَصَدَ شُرْبَهَا؛ لأَِنَّ الْحُكْمَ الْفِقْهِيَّ أَنَّ نَجَاسَةَ الْمُسْكِرَاتِ مَخْصُوصَةٌ بِالْمَائِعَاتِ مِنْهَا، وَهِيَ الْخَمْرُ الَّتِي
__________
(1) سبق تخريجه (ف / 9)
(2) الفروق 1 / 219(11/35)
سُمِّيَتْ رِجْسًا فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَمَا يُلْحَقُ بِهَا مِنْ سَائِرِ الْمُسْكِرَاتِ الْمَائِعَةِ.
بَل قَدْ حَكَى ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ الإِْجْمَاعَ عَلَى طَهَارَةِ الْمُخَدِّرَاتِ.
عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْحَنَابِلَةِ رَجَّحَ الْحُكْمَ بِنَجَاسَةِ هَذِهِ الْمُخَدِّرَاتِ الْجَامِدَةِ. (1)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مَوْضُوعِ النَّجَاسَاتِ.
عِلاَجُ مُدْمِنِي الْمُخَدِّرَاتِ:
12 - سُئِل ابْنُ حَجَرٍ الْمَكِّيُّ الشَّافِعِيُّ عَمَّنِ ابْتُلِيَ بِأَكْل الأَْفْيُونِ وَالْحَشِيشِ وَنَحْوِهِمَا، وَصَارَ إِنْ لَمْ يَأْكُل مِنْهُ هَلَكَ. فَأَجَابَ: إِنْ عُلِمَ أَنَّهُ يَهْلَكُ قَطْعًا (2) حَل لَهُ، بَل وَجَبَ، لاِضْطِرَارِهِ إِلَى إِبْقَاءِ رُوحِهِ، كَالْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ التَّدَرُّجُ فِي تَقْلِيل الْكَمِّيَّةِ الَّتِي يَتَنَاوَلُهَا شَيْئًا فَشَيْئًا، حَتَّى يَزُول تَوَلُّعُ الْمَعِدَةِ بِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَشْعُرَ، قَال الرَّمْلِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: وَقَوَاعِدُنَا لاَ تُخَالِفُهُ فِي ذَلِكَ. (3)
__________
(1) ابن عابدين 1 / 295 و 5 / 323، والدسوقي 4 / 352، ومغني المحتاج 1 / 77 و 4 / 187، والقليوبي 1 / 69 و 4 / 203، وفتاوى ابن حجر 4 / 223 - 234، ومطالب أولي النهى 6 / 217، والسياسة الشرعية لابن تيمية ص 108
(2) يقوم مقام القطع غلبة الظن المستندة إلى الخبرة الطيبة
(3) حاشية ابن عابدين 5 / 328، ولا يخفى أن هذا فيما لو ثبت بقول الأطباء الثقات أنه يهلك بالترك الكلي المفاجئ(11/36)
بَيْعُ الْمُخَدِّرَاتِ وَضَمَانُ إِتْلاَفِهَا:
13 - لَمَّا كَانَتِ الْمُخَدِّرَاتُ طَاهِرَةً - كَمَا سَبَقَ تَفْصِيل ذَلِكَ - وَأَنَّهَا قَدْ تَنْفَعُ فِي التَّدَاوِي بِهَا جَازَ بَيْعُهَا لِلتَّدَاوِي عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَضَمِنَ مُتْلِفُهَا، وَاسْتَثْنَى بَعْضُ الْفُقَهَاءِ الْحَشِيشَةَ، فَقَالُوا بِحُرْمَةِ بَيْعِهَا كَابْنِ نُجَيْمٍ الْحَنَفِيِّ، وَذَلِكَ لِقِيَامِ الْمَعْصِيَةِ بِذَاتِهَا، وَذَكَرَ ابْنُ الشِّحْنَةِ أَنَّهُ يُعَاقَبُ بَائِعُهَا، وَصَحَّحَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ نَجَاسَتَهَا وَأَنَّهَا كَالْخَمْرِ، وَبَيْعُ الْخَمْرِ لاَ يَصِحُّ فَكَذَا الْحَشِيشَةُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَذَهَبَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ.
أَمَّا إِذَا كَانَ بَيْعُهَا لاَ لِغَرَضٍ شَرْعِيٍّ كَالتَّدَاوِي، فَقَدْ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى تَحْرِيمِ بَيْعِ الْمُخَدِّرَاتِ لِمَنْ يَعْلَمُ أَوْ يَظُنُّ تَنَاوُلَهُ لَهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمُحَرَّمِ، وَلاَ يَضْمَنُ مُتْلِفُهَا، خِلاَفًا لِلشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ أَيِ الإِْسْفَرَايِينِيِّ وَيُفْهَمُ مِنْ كَلاَمِ ابْنِ عَابِدِينَ فِي حَاشِيَتِهِ أَنَّ الْبَيْعَ مَكْرُوهٌ وَيَضْمَنُ مُتْلِفُهَا. (1)
تَصَرُّفَاتُ مُتَنَاوِل الْمُخَدِّرَاتِ:
14 - إِنَّ مُتَنَاوِل الْقَدْرِ الْمُزِيل لِلْعَقْل مِنَ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 292، ومواهب الجليل 1 / 90، والمغني 4 / 192 مطابع سجل العرب، والإقناع 3 / 154 وما بعدها طبع الرياض، والفتاوى الكبرى الفقهية 4 / 234(11/36)
الْمُخَدِّرَاتِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِلتَّدَاوِي أَوْ لاَ، فَإِنْ كَانَ لِلتَّدَاوِي فَإِنَّ تَصَرُّفَاتِهِ لاَ تَصِحُّ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْفُقَهَاءِ.
أَمَّا إِذَا كَانَ زَوَال الْعَقْل بِتَنَاوُل الْمُخَدِّرَاتِ لاَ لِلتَّدَاوِي، فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ مُخْتَلِفُونَ فِيمَا يَصِحُّ مِنْ تَصَرُّفَاتِهِ وَمَا لاَ يَصِحُّ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ تَصَرُّفَاتِهِ صَحِيحَةٌ إِذَا اسْتَعْمَل الأَْفْيُونَ لِلَّهْوِ؛ لِكَوْنِهِ مَعْصِيَةً، وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ الرِّدَّةَ وَالإِْقْرَارَ بِالْحُدُودِ وَالإِْشْهَادَ عَلَى شَهَادَةِ نَفْسِهِ فَإِنَّهَا لاَ تَصِحُّ، وَمَحَل ذَلِكَ إِذَا كَانَ لاَ يَعْرِفُ الأَْرْضَ مِنَ السَّمَاءِ، أَمَّا إِذَا كَانَ يَعْرِفُ ذَلِكَ فَهُوَ كَالصَّاحِي، فَكُفْرُهُ صَحِيحٌ، وَكَذَلِكَ طَلاَقُهُ وَعَتَاقُهُ وَخُلْعُهُ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ فِي الْحَشِيشَةِ وَالسُّكْرِ بِهَا: فَلَمَّا ظَهَرَ مِنْ أَمْرِهَا - أَيِ الْحَشِيشَةِ - مِنَ الْفَسَادِ كَثِيرٌ وَفَشَا، عَادَ مَشَايِخُ الْمَذْهَبَيْنِ - الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ - إِلَى تَحْرِيمِهَا وَأَفْتَوْا بِوُقُوعِ الطَّلاَقِ بِهَا.
وَزَادَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ أَنَّ زَوَال الْعَقْل إِذَا كَانَ بِالْبَنْجِ وَالأَْفْيُونِ، وَكَانَ لِلتَّدَاوِي - أَيْ عَلَى سَبِيل الْجَوَازِ - أَنَّ الطَّلاَقَ يَقَعُ زَجْرًا وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى. (1)
__________
(1) ابن عابدين 2 / 424، وفتح القدير 3 / 40، وحاشية أبي السعود على منلا مسكين 2 / 110، والبحر الرائق 3 / 266 - 267، والفتاوى الفقهية 1 / 353(11/37)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى صِحَّةِ طَلاَقِهِ وَعِتْقِهِ وَتَلْزَمُهُ الْحُدُودُ وَالْجِنَايَاتُ عَلَى نَفْسٍ وَمَالٍ، بِخِلاَفِ عُقُودِهِ مِنْ بَيْعٍ وَشِرَاءٍ وَإِجَارَةٍ وَنِكَاحٍ وَإِقْرَارَاتٍ فَلاَ تَصِحُّ وَلاَ تَلْزَمُ عَلَى الْمَشْهُورِ. (1)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى صِحَّةِ جَمِيعِ تَصَرُّفَاتِهِ؛ لِعِصْيَانِهِ بِسَبَبِ زَوَال عَقْلِهِ، فَجُعِل كَأَنَّهُ لَمْ يَزُل. (2)
وَالصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ تَنَاوُل الْبَنْجِ وَنَحْوِهِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ - إِذَا زَال الْعَقْل بِهِ كَالْمَجْنُونِ - لاَ يَقَعُ طَلاَقُ مَنْ تَنَاوَلَهُ؛ لأَِنَّهُ لاَ لَذَّةَ فِيهِ، وَفَرَّقَ الإِْمَامُ أَحْمَدُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّكْرَانِ فَأَلْحَقَهُ بِالْمَجْنُونِ، وَقَدَّمَهُ فِي " النَّظْمِ " " وَالْفُرُوعِ " وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ كَلاَمِ الْخِرَقِيِّ فَإِنَّهُ قَال: وَطَلاَقُ الزَّائِل الْعَقْل بِلاَ سُكْرٍ لاَ يَقَعُ. قَال الزَّرْكَشِيُّ - مِنَ الْحَنَابِلَةِ - وَمِمَّا يُلْحَقُ بِالْبَنْجِ الْحَشِيشَةُ الْخَبِيثَةُ، وَأَبُو الْعَبَّاسِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ يَرَى أَنَّ حُكْمَهَا حُكْمُ الشَّرَابِ الْمُسْكِرِ حَتَّى فِي إِيجَابِ الْحَدِّ، وَهُوَ الصَّحِيحُ إِنْ أَسْكَرَتْ، أَوْ أَسْكَرَ كَثِيرُهَا وَإِلاَّ حَرُمَتْ، وَعُزِّرَ فَقَطْ فِيهَا. (3)
عُقُوبَةُ مُتَنَاوِل الْمُخَدِّرَاتِ:
15 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مُتَنَاوِل الْمُخَدِّرَاتِ
__________
(1) الدسوقي مع الشرح الكبير 2 / 325، وبلغة السالك 2 / 543 ط دار المعارف، والعدوي على الخرشي 4 / 32
(2) شرح البهجة 4 / 246 - 247، وإعانة الطالبين 4 / 5
(3) الإنصاف 8 / 438، وكشاف القناع 5 / 234(11/37)
لِلتَّدَاوِي وَلَوْ زَال عَقْلُهُ لاَ عُقُوبَةَ عَلَيْهِ، مِنْ حَدٍّ أَوْ تَعْزِيرٍ. أَمَّا إِذَا تَنَاوَل الْقَدْرَ الْمُزِيل لِلْعَقْل بِدُونِ عُذْرٍ فَإِنَّهُ لاَ حَدَّ عَلَيْهِ أَيْضًا عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ - إِلاَّ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ فِي إِيجَابِ الْحَدِّ عَلَى مَنْ سَكِرَ مِنَ الْحَشِيشَةِ، مُفَرِّقًا بَيْنَهَا وَبَيْنَ سَائِرِ الْمُخَدِّرَاتِ. بِأَنَّ الْحَشِيشَةَ تُشْتَهَى وَتُطْلَبُ بِخِلاَفِ الْبَنْجِ، فَالْحُكْمُ عِنْدَهُ مَنُوطٌ بِاشْتِهَاءِ النَّفْسِ.
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ أَيْضًا عَلَى تَعْزِيرِ مُتَنَاوِل الْمُخَدِّرَاتِ بِدُونِ عُذْرٍ، لَكِنْ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الأَْفْيُونَ وَغَيْرَهُ إِذَا أُذِيبَ وَاشْتَدَّ وَقُذِفَ بِالزُّبْدِ، فَإِنَّهُ يُلْحَقُ بِالْخَمْرِ فِي النَّجَاسَةِ وَالْحَدِّ، كَالْخُبْزِ إِذَا أُذِيبَ وَصَارَ كَذَلِكَ، بَل أَوْلَى.
وَقَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ عُقُوبَةَ مُتَنَاوِل الْمُخَدِّرَاتِ بِمَا إِذَا لَمْ يَصِل إِلَى حَالَةٍ تُلْجِئُهُ إِلَى ذَلِكَ كَمَا سَبَقَ، فَإِنْ وَصَل إِلَى تِلْكَ الْحَالَةِ لاَ يُعَزَّرُ، بَل يَجِبُ عَلَيْهِ الإِْقْلاَعُ عَنْهُ إِمَّا بِاسْتِعْمَال ضِدِّهِ أَوْ تَقْلِيلِهِ تَدْرِيجِيًّا. (1)
__________
(1) ابن عابدين 3 / 165، والجوهرة 2 / 228، ودر المنتقى شرح الملتقى بهامش مجمع الأنهر 1 / 610، والدسوقي 4 / 313، والحطاب 1 / 90، وحاشية الشبراملسي على نهاية المحتاج 8 / 10، وإعانة الطالبين 4 / 156، ومطالب أولي النهى 5 / 224 - 225، ومجموعة فتاوى ابن تيمية 34 / 198، 214(11/38)
تَخْذِيلٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّخْذِيل لُغَةً: حَمْل الرَّجُل عَلَى خِذْلاَنِ صَاحِبِهِ، وَتَثْبِيطِهِ عَنْ نُصْرَتِهِ، يُقَال: خَذَّلْتَهُ تَخْذِيلاً: حَمَلْتَهُ عَلَى الْفَشَل وَتَرْكِ الْقِتَال. (1)
وَاصْطِلاَحًا: صَدُّ النَّاسِ عَنِ الْغَزْوِ وَتَزْهِيدُهُمْ فِي الْخُرُوجِ إِلَيْهِ (2) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
2 - يَحْرُمُ تَخْذِيل الْمُجَاهِدِينَ عَنِ الْجِهَادِ بِأَيِّ وَسِيلَةٍ حَصَل مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ. قَال اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَمِّ الْمُخَذِّلِينَ: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلاَ يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً} (3) .
وَقَال أَيْضًا فِي شَأْنِ الْمُنَافِقِينَ: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُول اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيل اللَّهِ
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير مادة: " خذل "
(2) كشاف القناع 3 / 62 - نشر مكتبة النصر الحديثة، وروضة الطالبين 1 / 240
(3) سورة الأحزاب / 18(11/38)
وَقَالُوا لاَ تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُل نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} (1) .
اسْتِصْحَابُ الْمُخَذِّل وَالْمُرْجِفِ:
3 - لاَ يَسْتَصْحِبُ الأَْمِيرُ مَعَهُ مُخَذِّلاً، وَهُوَ الَّذِي يُثَبِّطُ النَّاسَ عَنِ الْغَزْوِ وَيُزَهِّدُهُمْ فِي الْخُرُوجِ إِلَى الْقِتَال وَالْجِهَادِ، مِثْل أَنْ يَقُول: الْحَرُّ أَوِ الْبَرْدُ شَدِيدٌ، وَالْمَشَقَّةُ شَدِيدَةٌ، وَلاَ تُؤْمَنُ هَزِيمَةُ هَذَا الْجَيْشِ وَأَشْبَاهُ هَذَا. وَلاَ مُرْجِفًا وَهُوَ الَّذِي يَقُول: قَدْ هَلَكَتْ سَرِيَّةُ الْمُسْلِمِينَ، وَمَا لَهُمْ مَدَدٌ وَلاَ طَاقَةَ لَهُمْ بِالْكُفَّارِ، وَالْكُفَّارُ لَهُمْ قُوَّةٌ وَمَدَدٌ وَصَبْرٌ، وَلاَ يَثْبُتُ لَهُمْ أَحَدٌ وَنَحْوُ هَذَا، وَلاَ مَنْ يُعِينُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِالتَّجَسُّسِ لِلْكُفَّارِ وَإِطْلاَعِهِمْ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ وَمُكَاتَبَتِهِمْ بِأَخْبَارِهِمْ وَدَلاَلَتِهِمْ عَلَى عَوْرَاتِهِمْ أَوْ إِيوَاءِ جَوَاسِيسِهِمْ، وَلاَ مَنْ يُوقِعُ الْعَدَاوَةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَيَسْعَى بِالْفَسَادِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأََعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيل اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلأََوْضَعُوا خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} (2) وَلأَِنَّ هَؤُلاَءِ مَضَرَّةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَيَلْزَمُهُ مَنْعُهُمْ، وَإِنْ خَرَجَ مَعَهُ أَحَدُ هَؤُلاَءِ لَمْ يُسْهِمْ لَهُ وَلَمْ يَرْضَخْ وَإِنْ أَظْهَرَ عَوْنَ الْمُسْلِمِينَ؛ لأَِنَّهُ يُحْتَمَل أَنْ يَكُونَ
__________
(1) سورة التوبة / 81
(2) سورة التوبة / 46، 47(11/39)
أَظْهَرَهُ نِفَاقًا وَقَدْ ظَهَرَ دَلِيلُهُ، فَيَكُونُ مُجَرَّدَ ضَرَرٍ فَلاَ يَسْتَحِقُّ مِمَّا غَنِمُوا شَيْئًا. وَإِنْ كَانَ الأَْمِيرُ أَحَدَ هَؤُلاَءِ لَمْ يُسْتَحَبَّ الْخُرُوجُ مَعَهُ؛ لأَِنَّهُ إِذَا مُنِعَ خُرُوجُ الْمُخَذِّل وَمَنْ فِي حُكْمِهِ تَبَعًا فَمَتْبُوعًا أَوْلَى؛ وَلأَِنَّهُ لاَ تُؤْمَنُ الْمَضَرَّةُ عَلَى مَنْ صَحِبَهُ. (1)
تَخْرِيبٌ
انْظُرْ: جِهَادٌ
__________
(1) المغني مع الشرح الكبير 10 / 372 ط المنار، وكشاف القناع 3 / 62 ط مكتبة النصر الحديثة، ونهاية المحتاج 8 / 57 ط المكتبة الإسلامية، وروضة الطالبين 10 / 240 ط المكتب الإسلامي، وتفسير الجصاص 3 / 148(11/39)
تَخْرِيجُ الْمَنَاطِ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّخْرِيجُ وَالاِسْتِخْرَاجُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ كَالاِسْتِنْبَاطِ
وَالْمَنَاطُ: مَوْضِعُ التَّعْلِيقِ.
وَمَنَاطُ الْحُكْمِ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ: عِلَّتُهُ. (1)
وَتَخْرِيجُ الْمَنَاطِ هُوَ: النَّظَرُ وَالاِجْتِهَادُ فِي إِثْبَاتِ عِلَّةِ الْحُكْمِ، إِذَا دَل النَّصُّ أَوِ الإِْجْمَاعُ عَلَى الْحُكْمِ دُونَ عِلَّتِهِ،
وَذَلِكَ أَنْ يَسْتَخْرِجَ الْمُجْتَهِدُ الْعِلَّةَ بِرَأْيِهِ. كَالاِجْتِهَادِ فِي إِثْبَاتِ كَوْنِ الشِّدَّةِ الْمُطْرِبَةِ عِلَّةً لِتَحْرِيمِ شُرْبِ الْخَمْرِ، وَكَوْنِ الْقَتْل الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ عِلَّةً لِوُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الْمُحَدَّدِ، وَكَوْنِ الطَّعْمِ عِلَّةَ رِبَا الْفَضْل فِي الْبُرِّ وَنَحْوِهِ حَتَّى يُقَاسَ عَلَيْهِ كُل مَا سِوَاهُ فِي عِلَّتِهِ. (2)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْمُنَاسَبَةُ:
2 - وَهِيَ: تَعْيِينُ الْعِلَّةِ بِإِبْدَاءِ وُجُودِ الْعَلاَقَةِ بَيْنَ
__________
(1) مختار الصحاح، والمصباح المنير، والمعجم الوسيط " خرج "، و " ناط "
(2) الأحكام للآمدي 3 / 63، والمستصفى للغزالي 2 / 233، وروضة الناظر ص 147(11/40)
الْوَصْفِ وَالْحُكْمِ، بِحَيْثُ يُدْرِكُهُ الْعَقْل السَّلِيمُ مَعَ السَّلاَمَةِ مِنَ الْقَوَادِحِ. وَيُسَمَّى اسْتِخْرَاجُ الْمُنَاسَبَةِ: تَخْرِيجَ الْمَنَاطِ (1) .
وَبِذَلِكَ يَكُونُ تَخْرِيجُ الْمَنَاطِ أَعَمَّ مِنَ الْمُنَاسَبَةِ؛ إِذْ قَدْ يَكُونُ بِاسْتِخْرَاجِ الْمُنَاسَبَةِ أَوْ بِغَيْرِهَا.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
3 - عَدَّ بَعْضُ الأُْصُولِيِّينَ تَخْرِيجَ الْمَنَاطِ مَسْلَكًا مِنْ مَسَالِكِ الْعِلَّةِ؛ إِذْ هُوَ اجْتِهَادٌ فِي اسْتِخْرَاجِهَا، لَكِنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي الرُّتْبَةِ دُونَ تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ وَتَنْقِيحِهِ. وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ الأُْصُولِيُّونَ فِي الأَْخْذِ بِهِ، فَأَنْكَرَهُ أَهْل الظَّاهِرِ وَالشِّيعَةُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ الْبَغْدَادِيِّينَ، وَقَال الْغَزَالِيُّ عَنْهُ: الْعِلَّةُ الْمُسْتَنْبَطَةُ عِنْدَنَا لاَ يَجُوزُ التَّحَكُّمُ بِهَا، بَل قَدْ تُعْلَمُ بِالإِْيمَاءِ وَإِشَارَةِ النَّصِّ فَتُلْحَقُ بِالْمَنْصُوصِ، وَقَدْ تُعْلَمُ بِالسَّبْرِ. . إِلَخْ ثُمَّ قَال: وَكُل ذَلِكَ قَرِيبٌ مِنَ الْقِسْمَيْنِ الأَْوَّلَيْنِ (تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ وَتَنْقِيحِهِ) وَالْقِسْمُ الأَْوَّل (تَحْقِيقُ الْمَنَاطِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَالثَّانِي (تَنْقِيحُ الْمَنَاطِ) مُسَلَّمٌ مِنَ الأَْكْثَرِينَ. (2)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
__________
(1) جمع الجوامع 2 / 273، وإرشاد الفحول للشوكاني ص 214
(2) الأحكام للآمدي 3 / 63، والمستصفى للغزالي 2 / 233، 234، وهامش جمع الجوامع 2 / 293(11/40)
تَخَصُّرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - لِلتَّخَصُّرِ فِي اللُّغَةِ مَعَانٍ، مِنْهَا: أَنَّهُ وَضْعُ الْيَدِ عَلَى الْخَصْرِ، وَمِثْلُهُ الاِخْتِصَارُ.
وَالْخَصْرُ مِنَ الإِْنْسَانِ: وَسَطُهُ وَهُوَ الْمُسْتَدَقُّ فَوْقَ الْوَرِكَيْنِ، وَالْجَمْعُ خُصُورٌ، مِثْل فَلْسٍ وَفُلُوسٍ. وَالْخَصْرَانِ وَالْخَاصِرَتَانِ: مَعْرُوفَانِ.
وَالاِخْتِصَارُ وَالتَّخَصُّرُ: أَنْ يَضَعَ الرَّجُل يَدَهُ عَلَى خَصْرِهِ فِي الصَّلاَةِ أَوْ غَيْرِهَا مِنَ الاِتِّكَاءِ عَلَى الْمِخْصَرَةِ، وَهِيَ: مَا يُتَوَكَّأُ عَلَيْهِ مِنْ عَصًا وَنَحْوِهَا. وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُل مُخْتَصِرًا وَمُتَخَصِّرًا (1) .
قِيل: هُوَ مِنَ الْمِخْصَرَةِ، وَقِيل: مَعْنَاهُ أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُل وَهُوَ وَاضِعٌ يَدَهُ عَلَى خَاصِرَتِهِ، وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ: الاِخْتِصَارُ فِي الصَّلاَةِ رَاحَةُ أَهْل النَّارِ (2) أَيْ أَنَّهُ فِعْل الْيَهُودِ فِي صَلاَتِهِمْ.
__________
(1) حديث: " نهى أن يصلي الرجل مختصرا " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 88 - ط السلفية) ومسلم (1 / 387 - ط الحلبي)
(2) حديث: " الاختصار في الصلاة. . . " أخرجه البيهقي في سننه (2 / 286 - ط دائرة المعارف العثمانية) . وضعفه الذهبي في الميزان (2 / 392 ط الحلبي)(11/41)
وَهُمْ أَهْل النَّارِ قَال ابْنُ مَنْظُورٍ: لَيْسَ الرَّاحَةُ الْمَنْسُوبَةُ لأَِهْل النَّارِ هِيَ رَاحَتُهُمْ فِي النَّارِ؛ إِذْ لاَ رَاحَةَ لَهُمْ فِيهَا، وَإِنَّمَا هِيَ رَاحَتُهُمْ فِي صَلاَتِهِمْ فِي الدُّنْيَا. يَعْنِي أَنَّهُ إِذَا وَضَعَ يَدَهُ عَلَى خَصْرِهِ كَأَنَّهُ اسْتَرَاحَ بِذَلِكَ، وَسَمَّاهُمْ أَهْل النَّارِ لِمَصِيرِهِمْ إِلَيْهَا، لاَ لأَِنَّ ذَلِكَ رَاحَتُهُمْ فِي النَّارِ. (1)
وَهُوَ: أَيِ التَّخَصُّرُ فِي الاِصْطِلاَحِ لاَ يَخْرُجُ عَنْ ذَلِكَ (2) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ التَّخَصُّرَ فِي الصَّلاَةِ مَكْرُوهٌ، أَيْ تَنْزِيهًا.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ مَكْرُوهٌ تَحْرِيمًا؛ لِمُنَافَاتِهِ هَيْئَةَ الصَّلاَةِ الْمَأْثُورَةِ، وَالتَّشَبُّهِ بِالْجَبَابِرَةِ، وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ. رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُل مُخْتَصِرًا (3) وَعَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، ومختار الصحاح مادة: " خصر "
(2) الاختيار شرح المختار 1 / 60 ط مصطفى الحلبي 1936، والمهذب للشيرازي 1 / 96، الشرح الكبير 1 / 254، وجواهر الإكليل 1 / 54، وكشاف القناع عن متن الإقناع 1 / 372 م النصر الحديثة، ونيل المآرب بشرح دليل الطالب 1 / 47 م الفلاح، وفتح الباري شرح صحيح البخاري 3 / 89
(3) حديث: " نهى أن يصلي الرجل مختصرا " سبق تخريجه (ف / 1)(11/41)
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الْخَصْرِ فِي الصَّلاَةِ (1) وَالْمُرَادُ وَضْعُ الْيَدِ عَلَى الْخَاصِرَةِ.
وَفِي رِوَايَةٍ: نَهَى أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُل مُتَخَصِّرًا - بِتَشْدِيدِ الصَّادِ - وَهُوَ أَنْ يَضَعَ يَدَهُ عَلَى خَاصِرَتِهِ - وَهُوَ يُصَلِّي - مَا لَمْ تَكُنْ بِهِ حَاجَةٌ تَدْعُو إِلَى وَضْعِهَا. فَإِنْ كَانَ بِهِ عُذْرٌ كَمَنْ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى خَاصِرَتِهِ لِوَجَعٍ فِي جَنْبِهِ أَوْ تَعَبٍ فِي قِيَامِ اللَّيْل، فَتَخَصَّرَ، جَازَ لَهُ ذَلِكَ فِي حُدُودِ مَا تَقْتَضِي بِهِ الْحَاجَةُ، وَيُقَدَّرُ ذَلِكَ بِقَدْرِهَا. (2)
وَفِيهِ وَرَدَ حَدِيثُ: الْمُتَخَصِّرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمُ النُّورُ (3) . وَقَال ثَعْلَبٌ: أَيِ الْمُصَلُّونَ
__________
(1) حديث: " نهي عن الخصر في الصلاة " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 88 - ط السلفية)
(2) الاختيار شرح المختار 1 / 60 ط مصطفى الحلبي 1936، وابن عابدين 1 / 432، وحاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح 190 - 191 ط دار الإيمان، والمهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 96، نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج 2 / 59، والشرح الكبير 1 / 254، وجواهر الإكليل 1 / 54، وكشاف القناع عن متن الإقناع 1 / 372 م النصر الحديثة، ونيل المآرب بشرح دليل الطالب 1 / 47 م الفلاح، ومنار السبيل في شرح الدليل 1 / 95 المكتب الإسلامي، وفتح الباري شرح صحيح البخاري 3 / 88 - 89، ونزهة المتقين شرح رياض الصالحين للنووي 2 / 1192
(3) حديث: " المتخصرون يوم القيامة على وجوههم النور " ورد هكذا في كتاب النهاية لابن الأثير (2 / 36 - ط دار إحياء الكتب العربية عيسى الحلبي) وتاج العروس (11 / 175 ط الكويت) ولم نجد له تخريجا في كتب الحديث(11/42)
بِاللَّيْل، فَإِذَا تَعِبُوا وَضَعُوا أَيْدِيَهُمْ عَلَى خَوَاصِرِهِمْ. وَتَابَعَهُ صَاحِبُ الْقَامُوسِ فَفَسَّرَ الْحَدِيثَ بِغَيْرِ ذَلِكَ. (1)
وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ زِيَادٍ قَال: صَلَّيْتُ إِلَى جَنْبِ ابْنِ عُمَرَ فَوَضَعْتُ يَدَيَّ عَلَى خَاصِرَتَيَّ. فَلَمَّا صَلَّى قَال: هَذَا. الصَّلْبُ فِي الصَّلاَةِ، وَكَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَى عَنْهُ (2) .
وَأَمَّا التَّخَصُّرُ خَارِجَ الصَّلاَةِ فَقَدْ جَاءَ فِي تَنْوِيرِ الأَْبْصَارِ وَشَرْحِهِ: أَنَّهُ مَكْرُوهٌ تَنْزِيهًا. (3)
لأَِنَّهُ فِعْل الْمُتَكَبِّرِينَ (ر: الصَّلاَةُ: مَكْرُوهَاتُ الصَّلاَةِ) .
وَأَمَّا الاِخْتِصَارُ بِمَعْنَى الاِتِّكَاءِ فِي الصَّلاَةِ عَلَى الْمِخْصَرَةِ أَوْ غَيْرِهَا فَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيل حُكْمِهِ فِي مُصْطَلَحِ (اسْتِنَادٌ) . (4)
الاِتِّكَاءُ عَلَى الْمِخْصَرَةِ وَنَحْوِهَا فِي خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ:
3 - تَوَكُّؤُ الْخَطِيبِ عَلَى الْمِخْصَرَةِ فِي حَال خُطْبَةِ
__________
(1) شرح القاموس والنهاية لابن الأثير مادة: " خصر "
(2) حديث: " هذا الصلب في الصلاة. . . " أخرجه أبو داود (1 / 556 - ط عزت عبيد دعاس) وصححه العراقي في تخريج الإحياء (1 / 156 - ط المكتبة التجارية)
(3) فتح الباري شرح صحيح البخاري 3 / 89، وابن عابدين 1 / 432 وتفسير ابن كثير 2 / 377 دار القرآن الكريم بيروت
(4) الموسوعة الفقهية 4 / 104(11/42)
الْجُمُعَةِ مَنْدُوبٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَيْضًا مِنْ سُنَنِ الْخُطْبَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. وَيَجْعَلُهَا بِيَمِينِهِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَيُسْتَحَبُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنْ يَجْعَلَهَا فِي يَدِهِ الْيُسْرَى كَعَادَةِ مَنْ يُرِيدُ الضَّرْبَ بِالسَّيْفِ وَالرَّمْيَ بِالْقَوْسِ، وَيَشْغَل يَدَهُ الْيُمْنَى بِحَرْفِ الْمِنْبَرِ. وَجَاءَ فِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ مِنْ كُتُبِ الْحَنَابِلَةِ: أَنْ يَجْعَلَهَا بِإِحْدَى يَدَيْهِ، إِلاَّ أَنَّ صَاحِبَ الْفُرُوعِ ذَكَرَ أَنَّهُ يَتَوَجَّهُ بِالْيُسْرَى وَيَعْتَمِدُ بِالأُْخْرَى عَلَى حَرْفِ الْمِنْبَرِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ شَيْئًا يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ، فَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ يَجْعَل الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى أَوْ يُرْسِلُهُمَا وَلاَ يَعْبَثُ بِهِمَا. (1)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ - كَمَا جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ - إِلَى كَرَاهَةِ اتِّكَاءِ الْخَطِيبِ عَلَى قَوْسٍ أَوْ عَصًا فِي أَثْنَاءِ الْخُطْبَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَإِنَّمَا يَتَقَلَّدُ الْخَطِيبُ السَّيْفَ فِي كُل بَلْدَةٍ فُتِحَتْ بِهِ. (2)
وَمِثْل الْعَصَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: الْقَوْسُ وَالسَّيْفُ، وَالْعَصَا أَوْلَى مِنَ الْقَوْسِ وَالسَّيْفِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْمُرَادُ بِالْقَوْسِ كَمَا جَاءَ فِي الدُّسُوقِيِّ قَوْسُ النُّشَّابِ، وَهِيَ الْقَوْسُ الْعَرَبِيَّةُ لِطُولِهَا وَاسْتِقَامَتِهَا، لاَ الْعَجَمِيَّةُ لِقِصَرِهَا وَعَدَمِ اسْتِقَامَتِهَا.
وَاسْتَدَل الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى
__________
(1) حاشية قليوبي 1 / 282 - 283 ط. حلبي، وكشاف القناع 2 / 36 ط النصر، والزرقاني 2 / 60 ط الفكر
(2) الفتاوى الهندية 1 / 148 ط المكتبة الإسلامية(11/43)
مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ مِنَ اتِّكَاءِ الْخَطِيبِ عَلَى الْمِخْصَرَةِ فِي حَال الْخُطْبَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ بِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنِ الْحَكَمِ بْنِ حَزْنٍ: قَال: وَفَدْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشَهِدْنَا مَعَهُ الْجُمُعَةَ، فَقَامَ مُتَوَكِّئًا عَلَى سَيْفٍ أَوْ قَوْسٍ أَوْ عَصَا مُخْتَصِرًا (1) .
قَال مَالِكٌ: وَذَلِكَ مِمَّا يُسْتَحَبُّ لِلأَْئِمَّةِ أَصْحَابِ الْمَنَابِرِ أَنْ يَخْطُبُوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَمَعَهُمُ الْعَصَا، يَتَوَكَّئُونَ عَلَيْهَا فِي قِيَامِهِمْ، وَهُوَ الَّذِي رَأَيْنَا وَسَمِعْنَا. (2)
__________
(1) حديث الحكم بن حزن أخرجه أبو داود (1 / 659 - ط عزت عبيد دعاس) وحسنه ابن حجر في التلخيص (2 / 65 - شركة الطباعة الفنية)
(2) جواهر الإكليل 1 / 97 ط دار المعرفة، وحاشية الدسوقي 1 / 382 - 383 ط الفكر، والزرقاني 2 / 60 ط الفكر، والمدونة الكبرى 1 / 151 ط دار صادر، وروضة الطالبين 2 / 32 ط المكتب الإسلامي، وحاشية قليوبي 1 / 282 - 283 ط حلبي، وكشاف القناع 2 / 36 النصر، والإنصاف 2 / 397 ط التراث، وانظر ما جاء في المغني 2 / 309 الرياض(11/43)
تَخْصِيصٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - تَخْصِيصُ الإِْنْسَانِ بِالشَّيْءِ: تَفْضِيلُهُ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ.
وَفِي اصْطِلاَحِ جُمْهُورِ الأُْصُولِيِّينَ يُطْلَقُ عَلَى: قَصْرِ الْعَامِّ عَلَى بَعْضِ مَا يَتَنَاوَلُهُ بِدَلِيلٍ يَدُل عَلَى ذَلِكَ، سَوَاءٌ أَكَانَ هَذَا الدَّلِيل مُسْتَقِلًّا أَمْ غَيْرَ مُسْتَقِلٍّ، مُقَارِنًا أَمْ غَيْرَ مُقَارِنٍ. (1)
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: قَصْرُ الْعَامِّ عَلَى بَعْضِ أَفْرَادِهِ بِدَلِيلٍ مُسْتَقِلٍّ مُقَارِنٍ، فَخَرَجَ الاِسْتِثْنَاءُ وَالصِّفَةُ وَنَحْوُهُمَا؛ لأَِنَّ الْقَصْرَ حَصَل فِيمَا ذُكِرَ بِدَلِيلٍ غَيْرِ مُسْتَقِلٍّ. وَخَرَجَ النَّسْخُ؛ لأَِنَّهُ قَصْرٌ بِدَلِيلٍ غَيْرِ مُقَارِنٍ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - النَّسْخُ:
2 - النَّسْخُ هُوَ: الرَّفْعُ وَالإِْزَالَةُ.
وَفِي اصْطِلاَحِ الأُْصُولِيِّينَ: رَفْعُ الشَّارِعِ
__________
(1) كشاف اصطلاحات الفنون 2 / 428، وجمع الجوامع 2 / 2، 3
(2) مسلم الثبوت 1 / 300، 301، وكشف الأسرار للبزدوي 1 / 306، والتوضيح شرح التنقيح لصدر الشريعة 2 / 20(11/44)
الْحُكْمَ الْمُتَقَدِّمَ بِحُكْمٍ مُتَأَخِّرٍ بِدَلِيلٍ يَدُل عَلَى ذَلِكَ.
فَالْفَرْقُ بَيْنَ النَّسْخِ وَبَيْنَ التَّخْصِيصِ: أَنَّ التَّخْصِيصَ لَيْسَ فِيهِ رَفْعٌ لِلْحُكْمِ، وَأَمَّا النَّسْخُ فَهُوَ رَفْعُ الْحُكْمِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ. وَالتَّخْصِيصُ قَصْرٌ بِدَلِيلٍ مُقَارِنٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالنَّسْخُ فِيهِ تَرَاخٍ. (1)
ب - التَّقْيِيدُ:
3 - التَّقْيِيدُ: تَقْلِيل شُيُوعِ اللَّفْظِ الْمُطْلَقِ بِاقْتِرَانِهِ بِلَفْظٍ آخَرَ يَدُل عَلَى تَقْيِيدِهِ بِشَرْطٍ أَوْ صِفَةٍ أَوْ حَالٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ.
وَمِثَالُهُ لَفْظُ " رَجُلٍ " إِذَا اقْتَرَنَ بِلَفْظِ " مُؤْمِنٍ " مَثَلاً، وَقِيل: رَجُلٌ مُؤْمِنٌ، فَإِنَّ لَفْظَ " رَجُلٍ " مُطْلَقٌ وَهُوَ شَائِعٌ وَمُنْتَشِرٌ فِي كُل مَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ مَعْنَاهُ، وَهُوَ أَيُّ ذَكَرٍ بَالِغٍ مِنْ نَوْعِ الإِْنْسَانِ، مُؤْمِنًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُؤْمِنٍ، وَلَمَّا اقْتَرَنَ بِهِ لَفْظُ " مُؤْمِنٍ " قَلَّل مِنْ شُيُوعِهِ وَانْتِشَارِهِ، وَجَعَلَهُ مَقْصُورًا عَلَى مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا دُونَ غَيْرِهِ.
فَالتَّقْيِيدُ إِنَّمَا يَكُونُ لِلأَْلْفَاظِ الْمُطْلَقَةِ، لِيُقَلِّل مِنْ شُيُوعِهَا وَانْتِشَارِهَا فِيمَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ مَعْنَاهَا، وَيَجْعَلُهَا مَقْصُورَةً عَلَى مَا يُوجَدُ فِيهِ الْقَيْدُ دُونَ مَا عَدَاهُ.
أَمَّا التَّخْصِيصُ: فَإِنَّهُ يَكُونُ فِي الأَْلْفَاظِ
__________
(1) المستصفى للغزالي 1 / 107، وكشف الأسرار للبزدوي 1 / 307(11/44)
الْعَامَّةِ؛ لِيُقَلِّل مِنْ شُمُولِهَا وَيَقْصُرَهَا عَلَى بَعْضِ مَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ مَعْنَاهَا دُونَ بَعْضِهَا الآْخَرِ.
ج - الاِسْتِثْنَاءُ:
4 - الاِسْتِثْنَاءُ: إِخْرَاجٌ مِنْ مُتَعَدِّدٍ بِإِلاَّ أَوْ إِحْدَى أَخَوَاتِهَا. (1) أَوْ هُوَ الْمَنْعُ مِنْ دُخُول بَعْضِ مَا يَتَنَاوَلُهُ صَدْرُ الْكَلاَمِ فِي حُكْمِهِ بِإِلاَّ أَوْ إِحْدَى أَخَوَاتِهَا. (2)
وَالاِسْتِثْنَاءُ نَوْعٌ مِنَ الْمُخَصِّصَاتِ لِلْعَامِّ عِنْدَ جُمْهُورِ الأُْصُولِيِّينَ، وَلَيْسَ مُخَصِّصًا لِلْعَامِّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَإِنَّمَا هُوَ قَاصِرٌ لِلْعَامِّ عَلَى بَعْضِ أَفْرَادِهِ (3) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
5 - التَّخْصِيصُ جَائِزٌ عَقْلاً وَوَاقِعٌ اسْتِقْرَاءً، وَيَجُوزُ التَّخْصِيصُ إِلَى وَاحِدٍ، إِذَا لَمْ يَكُنْ لَفْظُ الْعَامِّ جَمْعًا، وَإِلَى أَقَل الْجَمْعِ إِذَا كَانَ جَمْعًا. وَيَجُوزُ التَّخْصِيصُ بِالْعَقْل عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ كَمَا يَجُوزُ بِاللَّفْظِ. (4)
وَاخْتَلَفَ الأُْصُولِيُّونَ فِي أَنَّ الْعَامَّ بَعْدَ التَّخْصِيصِ يَبْقَى عَامًّا فِي الْبَاقِي بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ
__________
(1) روضة الناظر ص 132، وجمع الجوامع 2 / 9 - 10، والمستصفى للغزالي 2 / 163
(2) التوضيح 2 / 20، ومسلم الثبوت 1 / 316
(3) مسلم الثبوت 1 / 300، 301، وجمع الجوامع 2 / 9
(4) مسلم الثبوت 1 / 306، 307، وجمع الجوامع 2 / 3(11/45)
أَمْ يَصِيرُ مَجَازًا؟ وَالأَْشْبَهُ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْبَعْضِ الْبَاقِي، وَهَذَا رَأْيُ الْحَنَابِلَةِ وَكَثِيرٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَقَيَّدَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنْ كَانَ الْبَاقِي غَيْرَ مُنْحَصِرٍ، وَبَعْضُهُمْ بِقُيُودٍ أُخْرَى.
قَال الْبَزْدَوِيُّ: مَنْ شَرَطَ فِي الْعَامِّ الاِجْتِمَاعَ دُونَ الاِسْتِغْرَاقِ قَال: إِنَّهُ يَبْقَى حَقِيقَةً فِي الْعُمُومِ بَعْدَ التَّخْصِيصِ، وَمَنْ قَال: شَرْطُهُ الاِسْتِيعَابُ وَالاِسْتِغْرَاقُ قَال: يَصِيرُ مَجَازًا بَعْدَ التَّخْصِيصِ، وَإِنْ خُصَّ مِنْهُ فَرْدٌ وَاحِدٌ. (1)
وَهَل يَبْقَى الْعَامُّ حُجَّةً بَعْدَ التَّخْصِيصِ أَمْ لاَ؟ قَال أَكْثَرُ الأُْصُولِيِّينَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ فِي مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّ الْعَامَّ يَبْقَى حُجَّةً بَعْدَ التَّخْصِيصِ، مَعْلُومًا كَانَ الْمَخْصُوصُ أَوْ مَجْهُولاً. وَبَعْضُهُمْ قَيَّدَ حُجِّيَّتَهُ بِمَا إِذَا كَانَ الْمَخْصُوصُ مَعْلُومًا لاَ مَجْهُولاً. وَقَال الْكَرْخِيُّ: لاَ يَبْقَى حُجَّةً أَصْلاً، وَهُوَ قَوْل أَبِي ثَوْرٍ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ. (2)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
__________
(1) كشف الأسرار للبزدوي 1 / 307، وجمع الجوامع 2 / 5، 6
(2) كشف الأسرار للبزدوي 1 / 306، 307، وجمع الجوامع 2 / 6، 7، ومسلم الثبوت 1 / 308(11/45)
تَخَطِّي الرِّقَابِ
التَّعْرِيفُ:
1 - يُقَال فِي اللُّغَةِ: تَخَطَّى النَّاسَ وَاخْتَطَاهُمْ أَيْ: جَاوَزَهُمْ. وَيُقَال: تَخَطَّيْتُ رِقَابَ النَّاسِ إِذَا تَجَاوَزْتُهُمْ. قَال ابْنُ الْمُنِيرِ: التَّفْرِقَةُ بَيْنَ اثْنَيْنِ الْمَنْهِيُّ عَنْهَا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ اثْنَيْنِ (1) تَتَنَاوَل الْقُعُودَ بَيْنَهُمَا وَإِخْرَاجَ أَحَدِهِمَا وَالْقُعُودَ مَكَانَهُ. وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى مُجَرَّدِ التَّخَطِّي. وَفِي التَّخَطِّي زِيَادَةُ رَفْعِ رِجْلَيْهِ عَلَى رُءُوسِهِمَا أَوْ أَكْتَافِهِمَا، وَرُبَّمَا تَعَلَّقَ بِثِيَابِهِمَا شَيْءٌ مِمَّا فِي رِجْلَيْهِ. (2)
وَلاَ يَخْرُجُ فِي مَعْنَاهُ الاِصْطِلاَحِيِّ عَنْ هَذَا.
حُكْمُهُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - لِتَخَطِّي الرِّقَابِ أَحْكَامٌ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ حَالاَتِهِ.
__________
(1) حديث: " فلم يفرق بين اثنين " أخرجه البخاري (الفتح 2 / 392 - ط السلفية)
(2) لسان العرب، والمصباح المنير، ومختار الصحاح والمهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 121، وفتح الباري 2 / 392، والمغني لابن قدامة 2 / 349 ط الرياض الحديثة(11/46)
فَفِي الْجُمُعَةِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُتَخَطِّي هُوَ الإِْمَامَ أَوْ غَيْرَهُ.
فَإِنْ كَانَ الْمُتَخَطِّي هُوَ الإِْمَامَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ طَرِيقٌ إِلاَّ أَنْ يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ لِيَصِل إِلَى مَكَانِهِ، جَازَ لَهُ ذَلِكَ بِغَيْرِ كَرَاهَةٍ؛ لأَِنَّهُ مَوْضِعُ حَاجَةٍ.
وَإِنْ كَانَ غَيْرَ الإِْمَامِ: فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ دُخُولُهُ الْمَسْجِدَ قَبْل أَنْ يَشْرَعَ الإِْمَامُ فِي الْخُطْبَةِ أَوْ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهَا.
فَإِنْ كَانَ قَبْلَهُ: فَإِنَّهُ لاَ بَأْسَ بِالتَّخَطِّي إِنْ كَانَ لاَ يَجِدُ إِلاَّ فُرْجَةً أَمَامَهُ، فَيَتَخَطَّى إِلَيْهَا لِلضَّرُورَةِ، مَا لَمْ يُؤْذِ بِذَلِكَ أَحَدًا؛ لأَِنَّهُ يُنْدَبُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَتَقَدَّمَ وَيَدْنُوَ مِنَ الْمِحْرَابِ إِذَا لَمْ يَكُنْ أَثْنَاءَ الْخُطْبَةِ؛ لِيَتَّسِعَ الْمَكَانُ لِمَنْ يَجِيءُ بَعْدَهُ، وَيَنَال فَضْل الْقُرْبِ مِنَ الإِْمَامِ.
فَإِذَا لَمْ يَفْعَل الأَْوَّل ذَلِكَ فَقَدْ ضَيَّعَ الْمَكَانَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، فَكَانَ لِلَّذِي جَاءَ بَعْدَهُ أَنْ يَأْخُذَ ذَلِكَ الْمَكَانَ
وَإِنْ كَانَ دُخُولُهُ الْمَسْجِدَ وَالإِْمَامُ يَخْطُبُ: فَإِنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَقِرَّ فِي أَوَّل مَكَانٍ يَجِدُهُ؛ لأَِنَّ مَشْيَهُ فِي الْمَسْجِدِ وَتَقَدُّمَهُ فِي حَالَةِ الْخُطْبَةِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ؛ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَقَوْلِهِ: وَلَمْ يَتَخَطَّ رَقَبَةَ مُسْلِمٍ، وَلَمْ يُؤْذِ أَحَدًا (1) وَقَوْلِهِ لِلَّذِي
__________
(1) حديث: " ولم يتخط رقبة مسلم ولم يؤذ أحدا " أخرجه أبو داود (1 / 666 - ط عزت عبيد دعاس) وابن خزيمة (3 / 157 - 158 ط المكتب الإسلامي) وإسناده حسن(11/46)
جَاءَ يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ: اجْلِسْ: فَقَدْ آذَيْتَ وَآنَيْتَ (1) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَجُوزُ لِدَاخِل الْمَسْجِدِ أَنْ يَتَخَطَّى الصُّفُوفَ لِفُرْجَةٍ قَبْل جُلُوسِ الْخَطِيبِ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَلاَ يَجُوزُ التَّخَطِّي بَعْدَهُ وَلَوْ لِفُرْجَةٍ. (2)
وَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ لِلدَّاخِل مَوْضِعٌ وَبَيْنَ يَدَيْهِ فُرْجَةٌ لاَ يَصِل إِلَيْهَا إِلاَّ بِتَخَطِّي رَجُلٍ أَوْ رَجُلَيْنِ لَمْ يُكْرَهْ لَهُ ذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ يَسِيرٌ. وَإِنْ كَانَ بَيْنَ يَدَيْهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، فَإِنْ رَجَا إِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاَةِ أَنْ يَتَقَدَّمُوا جَلَسَ حَتَّى يَقُومُوا، وَإِنْ لَمْ يَرْجُ أَنْ يَتَقَدَّمُوا جَازَ أَنْ يَتَخَطَّى لِيَصِل إِلَى الْفُرْجَةِ؛ لأَِنَّهُ مَوْضِعُ حَاجَةٍ، وَهَذِهِ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّ لِلدَّاخِل إِذَا رَأَى فُرْجَةً لاَ يَصِل إِلَيْهَا إِلاَّ بِالتَّخَطِّي جَازَ لَهُ ذَلِكَ. (3)
__________
(1) حديث: " اجلس فقد آذيت وآنيت " أخرجه أحمد (4 / 188 - ط الميمنية) ، وأبو داود (1 / 668 - ط عزت عبيد دعاس) وقواه ابن حجر في الفتح (2 / 392 - ط السلفية)
(2) ابن عابدين 1 / 553، والفتاوى الهندية 1 / 147 - 148، ومنهاج الطالبين 1 / 287، والمغني لابن قدامة 2 / 349 - 350 وجواهر الإكليل 1 / 97، والشرح الكبير 1 / 385
(3) الفتاوى الهندية 1 / 148، وجواهر الإكليل 1 / 97، والشرح الكبير 1 / 385، والمهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 121، ومنهاج الطالبين 1 / 287، والمغني لابن قدامة 2 / 349 - 350(11/47)
3 - وَإِذَا جَلَسَ فِي مَكَانٍ، ثُمَّ بَدَتْ لَهُ حَاجَةٌ أَوِ احْتَاجَ الْوُضُوءَ فَلَهُ الْخُرُوجُ وَلَوْ بِالتَّخَطِّي. قَال عُقْبَةُ: صَلَّيْتُ وَرَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ الْعَصْرَ فَسَلَّمَ، ثُمَّ قَامَ مُسْرِعًا فَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ إِلَى بَعْضِ حُجَرِ نِسَائِهِ، فَقَال: ذَكَرْتُ شَيْئًا مِنْ تِبْرٍ عِنْدَنَا، فَكَرِهْتُ أَنْ يَحْبِسَنِي، فَأَمَرْتُ بِقِسْمَتِهِ (1) فَإِذَا قَامَ مِنْ مَجْلِسِهِ ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ؛ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ قَامَ مِنْ مَجْلِسِهِ ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ (2) وَحُكْمُهُ فِي التَّخَطِّي إِلَى مَوْضِعِهِ حُكْمُ مَنْ رَأَى بَيْنَ يَدَيْهِ فُرْجَةً عَلَى نَحْوِ مَا مَرَّ. (3)
4 - وَيَجُوزُ التَّخَطِّي بَعْدَ الْخُطْبَةِ وَقَبْل الصَّلاَةِ، وَلَوْ لِغَيْرِ فُرْجَةٍ، كَمَشْيٍ بَيْنَ الصُّفُوفِ وَلَوْ حَال الْخُطْبَةِ. قَال بِهِ الْمَالِكِيَّةُ. (4)
وَالتَّخَطِّي لِلسُّؤَال كَرِهَهُ الْحَنَفِيَّةُ، فَلاَ يَمُرُّ السَّائِل بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي، وَلاَ يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ، وَلاَ يَسْأَل النَّاسَ إِلْحَافًا إِلاَّ إِذَا كَانَ لأَِمْرٍ لاَ بُدَّ مِنْهُ. (5)
وَيَجُوزُ تَخَطِّي رِقَابِ الَّذِينَ يَجْلِسُونَ عَلَى
__________
(1) حديث: " ذكرت شيئا من تبر عندنا. . . " أخرجه البخاري (الفتح 2 / 337 - ط السلفية)
(2) حديث: " من قام من مجلسه ثم رجع إليه فهو أحق به " أخرجه مسلم (4 / 1715 - ط الحلبي)
(3) المغني لابن قدامة 2 / 350 م الرياض الحديثة
(4) الشرح الكبير 1 / 385
(5) الفتاوى الهندية 1 / 148، وابن عابدين 1 / 554(11/47)
أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ حَيْثُ لاَ حُرْمَةَ لَهُمْ، عَلَى مَا هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ. (1)
5 - وَيُكْرَهُ التَّخَطِّي فِي غَيْرِ الصَّلاَةِ مِنْ مَجَامِعِ النَّاسِ بِلاَ أَذًى، فَإِنْ كَانَ فِيهِ أَذًى حَرُمَ (2)
6 - وَيَحْرُمُ إِقَامَةُ شَخْصٍ، وَلَوْ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ؛ لِيَجْلِسَ مَكَانَهُ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ يُقِيمُ الرَّجُل الرَّجُل مِنْ مَجْلِسِهِ، ثُمَّ يَجْلِسُ فِيهِ وَلَكِنْ يَقُول تَفَسَّحُوا وَتَوَسَّعُوا (3) وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ سَبَقَ إِلَى مَا لَمْ يَسْبِقْ إِلَيْهِ مُسْلِمٌ فَهُوَ لَهُ (4) وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَكْرَهُ أَنْ يَقُومَ الرَّجُل مِنْ مَجْلِسِهِ، ثُمَّ يَجْلِسَ مَكَانَهُ.
فَإِنْ قَعَدَ وَاحِدٌ مِنَ النَّاسِ فِي مَوْضِعٍ مِنَ الْمَسْجِدِ، لاَ يَجُوزُ لِغَيْرِهِ أَنْ يُقِيمَهُ حَتَّى يَقْعُدَ مَكَانَهُ، لِمَا رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ يُقِيمَنَّ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، ثُمَّ لْيُخَالِفْ إِلَى مَقْعَدِهِ فَيَقْعُدَ فِيهِ، وَلَكِنْ يَقُول: افْسَحُوا (5)
__________
(1) المغني لابن قدامة 2 / 350
(2) حاشية قليوبي على منهاج الطالبين 1 / 287
(3) حديث: " لا يقم الرجل الرجل من مقعده ثم يجلس فيه ولكن تفحسوا وتوسعوا ". أخرجه مسلم (4 / 1714 - ط الحلبي)
(4) حديث: " من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو له ". أخرجه أبو داود (3 / 453 - ط عزت عبيد دعاس) وفي إسناده جهالة، ستغربه المنذري. (عون المعبود 3 / 142 - نشر دار الكتاب العربي)
(5) حديث: " لا يقيمن أحدكم أخاه يوم الجمعة، ثم ليخالف. . . " أخرجه مسلم (4 / 1715 - ط الحلبي)(11/48)
قَال تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيل لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ} (1) فَإِنْ قَامَ رَجُلٌ وَأَجْلَسَهُ مَكَانَهُ بِاخْتِيَارِهِ جَازَ لَهُ أَنْ يَجْلِسَ. وَأَمَّا صَاحِبُ الْمَوْضِعِ فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَنْتَقِل إِلَيْهِ مِثْل الأَْوَّل فِي سَمَاعِ كَلاَمِ الإِْمَامِ لَمْ يُكْرَهْ لَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الْمَوْضِعُ الَّذِي انْتَقَل إِلَيْهِ دُونَ الَّذِي كَانَ فِيهِ فِي الْقُرْبِ مِنَ الإِْمَامِ كُرِهَ لَهُ ذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ آثَرَ غَيْرَهُ فِي الْقُرْبَةِ، وَفِيهِ تَفْوِيتُ حَظِّهِ.
7 - وَإِذَا أَمَرَ إِنْسَانٌ إِنْسَانًا أَنْ يُبَكِّرَ إِلَى الْجَامِعِ فَيَأْخُذَ لَهُ مَكَانًا يَقْعُدُ فِيهِ لاَ يُكْرَهُ، فَإِذَا جَاءَ الآْمِرُ يَقُومُ مِنَ الْمَوْضِعِ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ ابْنَ سِيرِينَ كَانَ يُرْسِل غُلاَمَهُ إِلَى مَجْلِسٍ لَهُ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ، فَيَجْلِسُ لَهُ فِيهِ، فَإِذَا جَاءَ قَامَ لَهُ مِنْهُ (2) .
تَخْفِيفٌ
انْظُرْ: تَيْسِيرٌ
__________
(1) سورة المجادلة / 11
(2) المهذب في فقه الشافعي 1 / 121، وقليوبي على المنهاج 1 / 287، والمغني لابن قدامة 2 / 351 ط الرياض الحديثة، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 17 / 297 - 298(11/48)
تَخَلُّلٌ
انْظُرْ: تَخْلِيلٌ
تَخَلِّي
انْظُرْ: قَضَاءَ الْحَاجَةِ
تَخْلِيلٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّخْلِيل لُغَةً يَأْتِي بِمَعَانٍ، مِنْهَا: تَفْرِيقُ شَعْرِ اللِّحْيَةِ وَأَصَابِعِ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ، يُقَال: خَلَّل الرَّجُل لِحْيَتَهُ: إِذَا أَوْصَل الْمَاءَ إِلَى خِلاَلِهَا، وَهُوَ الْبَشَرَةُ الَّتِي بَيْنَ الشَّعْرِ. وَأَصْلُهُ مِنْ إِدْخَال الشَّيْءِ فِي خِلاَل الشَّيْءِ، وَهُوَ وَسَطُهُ. وَيُقَال: خَلَّل الشَّخْصُ أَسْنَانَهُ تَخْلِيلاً: إِذَا أَخْرَجَ(11/49)
مَا يَبْقَى مِنَ الْمَأْكُول بَيْنَهَا. وَخَلَّلْتُ النَّبِيذَ تَخْلِيلاً: جَعَلْتُهُ خَلًّا (1) .
وَيَسْتَعْمِل الْفُقَهَاءُ كَلِمَةَ التَّخْلِيل بِهَذِهِ الْمَعَانِي اللُّغَوِيَّةِ.
أَحْكَامُ التَّخْلِيل بِأَنْوَاعِهِ:
أَوَّلاً: التَّخْلِيل فِي الطَّهَارَةِ:
أ - تَخْلِيل الأَْصَابِعِ فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْل:
2 - إِيصَال الْمَاءِ بَيْنَ أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ بِالتَّخْلِيل أَوْ غَيْرِهِ مِنْ مُتَمِّمَاتِ الْغُسْل، (2) فَهُوَ فَرْضٌ فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْل عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} (3) .
أَمَّا التَّخْلِيل بَعْدَ دُخُول الْمَاءِ خِلاَل الأَْصَابِعِ، فَعِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) أَنَّ تَخْلِيل الأَْصَابِعِ فِي الْوُضُوءِ سُنَّةٌ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَقِيطِ بْنِ صَبْرَةَ: أَسْبِغِ الْوُضُوءَ، وَخَلِّل بَيْنَ الأَْصَابِعِ (4) ، وَقَدْ
__________
(1) لسان العرب صباح المنير مادة: " خلل "
(2) ابن عابدين 1 / 80، وجواهر الإكليل 1 / 14، ومغني المحتاج 1 / 60، والإقناع للشربيني 1 / 45، وكشاف القناع 1 / 97
(3) سورة المائدة / 6
(4) حديث: " أسبغ الوضوء وخلل بين الأصابع. . . " أخرجه الترمذي (4 / 155 - ط عيسى الحلبي) من حديث لقيط بن صبرة، وصححه ابن حجر في الإصابة (3 / 329 - ط مطبعة السعادة)(11/49)
صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَالْحَنَابِلَةُ يَرَوْنَ أَنَّ التَّخْلِيل فِي أَصَابِعِ الرِّجْلَيْنِ آكَدُ، وَعَلَّلُوا اسْتِحْبَابَ التَّخْلِيل بِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي إِزَالَةِ الدَّرَنِ وَالْوَسَخِ مِنْ بَيْنِ الأَْصَابِعِ. (1)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ إِلَى وُجُوبِ التَّخْلِيل فِي أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ وَاسْتِحْبَابِهِ فِي أَصَابِعِ الرِّجْلَيْنِ، وَقَالُوا: إِنَّمَا وَجَبَ تَخْلِيل أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ دُونَ أَصَابِعِ الرِّجْلَيْنِ لِعَدَمِ شِدَّةِ الْتِصَاقِهَا، فَأَشْبَهَتِ الأَْعْضَاءَ الْمُسْتَقِلَّةَ، بِخِلاَفِ أَصَابِعِ الرِّجْلَيْنِ لِشِدَّةِ الْتِصَاقِهَا، فَأَشْبَهَ مَا بَيْنَهَا الْبَاطِنُ.
وَفِي الْقَوْل الآْخَرِ عِنْدَهُمْ: يَجِبُ التَّخْلِيل فِي الرِّجْلَيْنِ كَالْيَدَيْنِ.
وَمُرَادُ الْمَالِكِيَّةِ بِوُجُوبِ التَّخْلِيل إِيصَال الْمَاءِ لِلْبَشَرَةِ بِالدَّلْكِ. (2)
3 - وَكَذَلِكَ يُسَنُّ تَخْلِيل أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ فِي الْغُسْل عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ كَلاَمِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، حَيْثُ ذَكَرُوا فِي بَيَانِ الْغُسْل الْكَامِل الْمُشْتَمِل عَلَى الْوَاجِبَاتِ وَالسُّنَنِ أَنْ يَتَوَضَّأَ كَامِلاً قَبْل أَنْ يَحْثُوَ عَلَى رَأْسِهِ ثَلاَثًا، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ثُمَّ يَتَوَضَّأُ كَمَا يَتَوَضَّأُ لِلصَّلاَةِ (3) وَقَدْ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 80، ومغني المحتاج 1 / 60، والمغني لابن قدامة 1 / 108، وكشاف القناع 1 / 102
(2) الدسوقي مع الشرح الكبير 1 / 89، والفواكه الدواني 1 / 163، 166، والشرح الصغير 1 / 106، 107
(3) حديث: " ثم يتوضأ كما يتوضأ للصلاة. . . " لفعله صلى الله عليه وسلم كما ذكرت عائشة. أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 360 - ط السلفية) ، ومسلم (1 / 254 ط عيسى الحلبي)(11/50)
سَبَقَ أَنَّ تَخْلِيل الأَْصَابِعِ سُنَّةٌ عِنْدَهُمْ فِي الْوُضُوءِ، فَكَذَلِكَ فِي الْغُسْل. (1)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ إِلَى وُجُوبِ تَخْلِيل أَصَابِعِ الرِّجْلَيْنِ كَأَصَابِعِ الْيَدَيْنِ فِي الْغُسْل؛ لأَِنَّهُ يَتَأَكَّدُ فِيهِ الْمُبَالَغَةُ عَلَى خِلاَفِ مَا قَالُوا فِي الْوُضُوءِ مِنِ اسْتِحْبَابِ تَخْلِيل أَصَابِعِ الرِّجْلَيْنِ. (2)
ب - تَخْلِيل الأَْصَابِعِ فِي التَّيَمُّمِ:
4 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ فِي أَنَّ مَسْحَ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ فَرْضٌ فِي التَّيَمُّمِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} (3)
كَذَلِكَ يَجِبُ تَعْمِيمُ وَاسْتِيعَابُ مَحَل الْفَرْضِ بِغَيْرِ خِلاَفٍ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ الأَْرْبَعَةِ، وَلِهَذَا صَرَّحُوا بِوُجُوبِ نَزْعِ الْخَاتَمِ وَالسِّوَارِ إِذَا كَانَا ضَيِّقَيْنِ يُخْشَى عَدَمُ وُصُول الْغُبَارِ إِلَى مَا تَحْتَهُمَا، حَتَّى إِنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَالُوا بِوُجُوبِ نَزْعِ الْخَاتَمِ، وَلَوْ كَانَ وَاسِعًا، وَإِلاَّ كَانَ حَائِلاً.
وَعَلَى ذَلِكَ يَجِبُ تَخْلِيل أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ فِي التَّيَمُّمِ إِنْ لَمْ يَدْخُل بَيْنَهَا غُبَارٌ، أَوْ لَمْ تُمْسَحْ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.
__________
(1) ابن عابدين 1 / 105، ونهاية المحتاج 1 / 208، وكشاف القناع 1 / 152
(2) الفواكه الدواني 1 / 166
(3) سورة المائدة / 6(11/50)
أَمَّا تَخْلِيل أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ بَعْدَ مَسْحِهِمَا، فَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِاسْتِحْبَابِهِ احْتِيَاطًا، وَهُوَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِنْ فَرَّقَ أَصَابِعَهُ فِي الضَّرْبَتَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يُفَرِّقْهَا فِيهِمَا، أَوْ فَرَّقَهَا فِي الأُْولَى دُونَ الثَّانِيَةِ وَجَبَ التَّخْلِيل. وَيُفْهَمُ مِنْ كَلاَمِ الْحَنَفِيَّةِ مَا يُوَافِقُ مَا صَرَّحَ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، حَيْثُ قَيَّدَ الْحَنَفِيَّةُ وُجُوبَ التَّخْلِيل بِعَدَمِ وُصُول الْغُبَارِ إِلَى الأَْصَابِعِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّهُ يَلْزَمُ تَعْمِيمُ يَدَيْهِ لِكُوعَيْهِ مَعَ تَخْلِيل أَصَابِعِهِ مُطْلَقًا. (1)
كَيْفِيَّةُ تَخْلِيل الأَْصَابِعِ:
5 - صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ تَخْلِيل أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ يَكُونُ بِالتَّشْبِيكِ بَيْنَهُمَا. وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يُدْخِل أَصَابِعَ إِحْدَاهُمَا بَيْنَ أَصَابِعِ الأُْخْرَى، سَوَاءٌ أَدَخَل مِنَ الظَّاهِرِ أَوِ الْبَاطِنِ، وَلاَ يَكْرَهُونَ التَّشْبِيكَ فِي الْوُضُوءِ.
وَقَال بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ بِكَرَاهَةِ التَّشْبِيكِ، مُسْتَدِلِّينَ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فِي بَيْتِهِ، ثُمَّ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 158، 159، والزيلعي 1 / 38، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 1 / 155، ومغني المحتاج 1 / 100، ونهاية المحتاج 1 / 285، والمغني لابن قدامة 1 / 254، وكشاف القناع 1 / 179(11/51)
أَتَى الْمَسْجِدَ، كَانَ فِي صَلاَةٍ حَتَّى يَرْجِعَ، فَلاَ يَفْعَل هَكَذَا، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ (1) .
أَمَّا تَخْلِيل أَصَابِعِ الرِّجْل، فَيُسْتَحَبُّ فِيهِ أَنْ يَبْدَأَ بِخِنْصَرِ الرِّجْل الْيُمْنَى، وَيَخْتِمَ بِخِنْصَرِ الرَّجُل الْيُسْرَى لِيَحْصُل التَّيَامُنُ، وَهُوَ مَحَل اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ؛ لِحَدِيثِ الْمُسْتَوْرِدِ بْنِ شَدَّادٍ قَال: رَأَيْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ فَخَلَّل أَصَابِعَ رِجْلَيْهِ بِخِنْصَرِهِ (2) وَلِمَا وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُحِبُّ التَّيَامُنَ فِي وُضُوئِهِ (3) إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ قَالُوا: التَّخْلِيل يَكُونُ بِخِنْصَرِ يَدِهِ الْيُسْرَى؛ لأَِنَّهَا مُعَدَّةٌ لإِِزَالَةِ الْوَسَخِ وَالدَّرَنِ مِنْ بَاطِنِ رِجْلَيْهِ؛ لأَِنَّهُ أَبْلَغُ.
__________
(1) ابن عابدين 1 / 80، والفواكه الدواني 1 / 163، والدسوقي 1 / 87، ومغني المحتاج 1 / 60، وكشاف القناع 1 / 102، ومطالب أولي النهى 1 / 96. حديث: " إذا توضأ أحدكم. . . " أخرجه الحاكم (1 / 206 ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث أبي هريرة وقال: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي
(2) حديث: المستورد بن شداد: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم " توضأ فخلل. . . " أخرجه ابن ماجه (1 / 152 ط - عيسى الحلبي) . صححه ابن القطان (التلخيص لابن حجر 1 / 94 - ط شركة الطباعة الفنية)
(3) حديث: " كان يحب التيامن في وضوئه. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 523 - ط السلفية) . مسلم (1 / 226 - ط عيسى الحلبي) من حديث عائشة رضي الله عنها(11/51)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يَكُونُ بِخِنْصَرِ يَدِهِ الْيُمْنَى أَوِ الْيُسْرَى، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَكُونُ بِسَبَّابَتَيْهِ. (1)
ج - تَخْلِيل الشَّعْرِ:
(1) تَخْلِيل اللِّحْيَةِ:
6 - اللِّحْيَةُ الْخَفِيفَةُ - وَهِيَ الَّتِي تَظْهَرُ الْبَشَرَةُ تَحْتَهَا وَلاَ تَسْتُرُهَا عَنِ الْمُخَاطَبِ - يَجِبُ غَسْل ظَاهِرِهَا وَإِيصَال الْمَاءِ إِلَى مَا تَحْتَهَا فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْل، وَلاَ يَكْفِي مُجَرَّدُ تَخْلِيلِهَا بِغَيْرِ خِلاَفٍ، وَذَلِكَ لِفَرْضِيَّةِ غَسْل الْوَجْهِ بِعُمُومِ الآْيَةِ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} . . الآْيَةَ. (2)
أَمَّا اللِّحْيَةُ الْكَثِيفَةُ - وَهِيَ الَّتِي لاَ تَظْهَرُ الْبَشَرَةُ تَحْتَهَا - فَيَجِبُ غَسْل ظَاهِرِهَا، وَلَوْ كَانَتْ مُسْتَرْسِلَةً عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَظَاهِرُ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ. (3)
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - وَهُوَ قَوْلٌ آخَرُ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - أَنَّهُ لاَ يَجِبُ غَسْل مَا اسْتَرْسَل مِنَ اللِّحْيَةِ، لأَِنَّهُ خَارِجٌ عَنْ دَائِرَةِ الْوَجْهِ، فَأَشْبَهَ مَا نَزَل مِنْ شَعْرِ الرَّأْسِ. (4)
__________
(1) ابن عابدين 1 / 80، والفواكه الدواني 1 / 166، والدسوقي 1 / 89، ومغني المحتاج 1 / 60، وكشاف القناع 1 / 102، والمغني 1 / 108
(2) سورة المائدة / 6
(3) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 1 / 86، ومغني المحتاج 1 / 51، والمغني لابن قدامة 1 / 117
(4) ابن عابدين 1 / 68، 69، ومغني المحتاج 1 / 52، 60، والمغني لابن قدامة 1 / 117، وكشاف القناع 1 / 96(11/52)
وَلأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِغَسْل الْوَجْهِ، وَهُوَ مَا تَحْصُل بِهِ الْمُوَاجَهَةُ، وَفِي اللِّحْيَةِ الْكَثِيفَةِ تَحْصُل الْمُوَاجَهَةُ بِالشَّعْرِ الظَّاهِرِ.
أَمَّا بَاطِنُهَا فَلاَ يَجِبُ غَسْلُهُ اتِّفَاقًا بَيْنَ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ؛ لِمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ فَغَسَل وَجْهَهُ، أَخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ فَمَضْمَضَ بِهَا وَاسْتَنْشَقَ، ثُمَّ أَخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ فَجَعَل بِهَا هَكَذَا: أَضَافَهَا إِلَى يَدِهِ الأُْخْرَى، فَغَسَل بِهَا وَجْهَهُ (1) وَكَانَتْ لِحْيَتُهُ الْكَرِيمَةُ كَثِيفَةً، وَبِالْغَرْفَةِ الْوَاحِدَةِ لاَ يَصِل الْمَاءُ إِلَى بَاطِنِهَا غَالِبًا، وَيَعْسُرُ إِيصَال الْمَاءِ إِلَيْهِ.
7 - وَيُسَنُّ تَخْلِيل اللِّحْيَةِ الْكَثِيفَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا تَوَضَّأَ أَخَذَ كَفًّا مِنْ مَاءٍ تَحْتَ حَنَكِهِ فَخَلَّل بِهِ لِحْيَتَهُ، وَقَال: هَكَذَا أَمَرَنِي رَبِّي (2) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي تَخْلِيل شَعْرِ اللِّحْيَةِ الْكَثِيفَةِ ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ: الْوُجُوبُ، وَالْكَرَاهَةُ
__________
(1) حديث " أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فغسل وجهه " أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 240 ط السلفية)
(2) ابن عابدين 1 / 79، 80، والمغني 1 / 105، وكشاف القناع 1 / 106. وحديث: " كان إذا توضأ أخذ كفا من ماء تحت حنكه. . . " أخرجه أبو داود (1 / 101 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث أنس، وهو صحيح لطرقه. التلخيص لابن حجر (1 / 86 ط شركة الطباعة الفنية)(11/52)
وَالاِسْتِحْبَابُ، أَظْهَرُهَا الْكَرَاهَةُ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّعَمُّقِ. (1)
8 - أَمَّا فِي الْغُسْل فَلاَ يَكْفِي مُجَرَّدُ التَّخْلِيل، بَل يَجِبُ إِيصَال الْمَاءِ إِلَى أُصُول شَعْرِ اللِّحْيَةِ وَلَوْ كَثِيفَةً اتِّفَاقًا بَيْنَ الْمَذَاهِبِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَحْتَ كُل شَعْرَةٍ جَنَابَةٌ، فَاغْسِلُوا الشَّعْرَ وَأَنْقُوا الْبَشَرَةَ (2) .
وَلِكَيْ يَتَأَكَّدَ مِنْ وُصُول الْمَاءِ إِلَى أُصُول الشَّعْرِ وَيَتَجَنَّبَ الإِْسْرَافَ قَالُوا: يُدْخِل الْمُغْتَسِل أَصَابِعَهُ الْعَشْرَ يَرْوِي بِهَا أُصُول الشَّعْرِ، ثُمَّ يُفِيضُ الْمَاءَ لِيَكُونَ أَبْعَدَ عَنِ الإِْسْرَافِ فِي الْمَاءِ.
وَمَنْ عَبَّرَ بِوُجُوبِ تَخْلِيل اللِّحْيَةِ كَالْمَالِكِيَّةِ، أَرَادَ بِذَلِكَ أَيْضًا إِيصَال الْمَاءِ إِلَى أُصُول الشَّعْرِ. (3)
(2) تَخْلِيل شَعْرِ الرَّأْسِ:
9 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ إِرْوَاءُ أُصُول شَعْرِ الرَّأْسِ فِي الْغُسْل، سَوَاءٌ كَانَ الشَّعْرُ خَفِيفًا أَوْ كَثِيفًا (4) ، لِمَا رَوَتْ أَسْمَاءُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا سَأَلَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ غُسْل الْجَنَابَةِ فَقَال: تَأْخُذُ
__________
(1) الدسوقي 1 / 86، والفواكه الدواني 1 / 162
(2) حديث: " تحت كل شعرة جنابة. . . " أخرجه أبو داود (1 / 172 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث أبي هريرة وقال ابن حجر: مداره على الحارث بن وجبة وهو ضعيف جدا. (التلخيص الحبير 1 / 142 - ط شركة الطباعة الفنية)
(3) ابن عابدين 1 / 103، وحاشية الدسوقي مع الشرح الكبير 1 / 134، ومغني المحتاج 1 / 74، والمهذب 1 / 34، وكشاف القناع 1 / 154
(4) ابن عابدين 1 / 104، وحاشية الدسوقي 1 / 134، وكشاف القناع 1 / 154، والمغني لابن قدامة 1 / 227، ومغني المحتاج 1 / 73(11/53)
إِحْدَاكُنَّ مَاءَهَا وَسِدْرَتَهَا فَتَطَهَّرُ فَتُحْسِنُ الطُّهُورَ، ثُمَّ تَصُبُّ عَلَى رَأْسِهَا فَتُدَلِّكُهُ، حَتَّى تَبْلُغَ شُؤُونَ رَأْسِهَا، ثُمَّ تُفِيضُ عَلَيْهَا الْمَاءَ (1) ، وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ تَرَكَ مَوْضِعَ شَعْرَةٍ مِنْ جَنَابَةٍ لَمْ يَغْسِلْهَا فُعِل بِهِ مِنَ النَّارِ كَذَا وَكَذَا، قَال عَلِيٌّ: فَمِنْ ثَمَّ عَادَيْت شَعْرِي (2) وَعَلَى ذَلِكَ فَلاَ يُجْزِي مُجَرَّدُ تَخْلِيل الشَّعْرِ فِي الْغُسْل عِنْدَ الْفُقَهَاءِ. (3)
وَقَدْ صَرَّحَ فُقَهَاءُ الْمَالِكِيَّةِ بِوُجُوبِ تَخْلِيل شَعْرِ الرَّأْسِ وَلَوْ كَثِيفًا، لِلتَّأَكُّدِ مِنْ وُصُول الْمَاءِ إِلَى أُصُولِهِ، حَيْثُ قَالُوا: وَيَجِبُ تَخْلِيل شَعْرٍ وَلَوْ كَثِيفًا وَضَغْثُ مَضْفُورِهِ - أَيْ جَمْعُهُ وَتَحْرِيكُهُ - لِيَعُمَّهُ بِالْمَاءِ، (4) وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَلاَ يَخْتَلِفُ حُكْمُ الشَّعْرِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُحْرِمِ وَغَيْرِ الْمُحْرِمِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، لَكِنَّ الْمُحْرِمَ يُخَلِّل
__________
(1) حديث: " تأخذ إحداكن ماءها وسدرتها فتطهر. . . " أخرجه مسلم (1 / 261 - ط عيسى الحلبي) من حديث أسماء
(2) حديث: " من ترك موضع شعرة من جنابة. . . " أخرجه أبو داود (1 / 173 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث علي بن أبي طالب وفي إسناده راو مختلط. التلخيص الحبير لابن حجر (1 / 142 - ط شركة الطباعة الفنية)
(3) ابن عابدين 1 / 103، 104، وجواهر الإكليل 1 / 13، ومغني المحتاج 1 / 73، والمغني لابن قدامة 1 / 227، 228
(4) جواهر الإكليل 1 / 23، والشرح الصغير 1 / 106، 107(11/53)
بِرِفْقٍ لِئَلاَّ يَتَسَاقَطَ الشَّعْرُ. وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يُكْرَهُ التَّخْلِيل لِلْمُحْرِمِ. (1)
ثَانِيًا: تَخْلِيل الأَْسْنَانِ:
10 - تَنْظِيفُ الأَْسْنَانِ بِالسِّوَاكِ سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ الْفِطْرَةِ، وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (اسْتِيَاكٌ) .
11 - أَمَّا تَخْلِيلُهَا بَعْدَ الأَْكْل بِالْخِلاَل لإِِخْرَاجِ مَا بَيْنَهَا مِنَ الطَّعَامِ، فَقَدْ ذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ فِي آدَابِ الأَْكْل. قَال الْبُهُوتِيُّ الْحَنْبَلِيُّ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يُخَلِّل أَسْنَانَهُ إِنْ عَلِقَ بِهَا شَيْءٌ مِنَ الطَّعَامِ، قَال فِي الْمُسْتَوْعَبِ: رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: تَرْكُ الْخِلاَل يُوهِنُ الأَْسْنَانَ. وَرُوِيَ: تَخَلَّلُوا مِنَ الطَّعَامِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ أَشَدَّ عَلَى الْمَلَكَيْنِ أَنْ يَرَيَا بَيْنَ أَسْنَانِ صَاحِبِهِمَا طَعَامًا وَهُوَ يُصَلِّي (2) .
قَال الأَْطِبَّاءُ: وَهُوَ نَافِعٌ أَيْضًا لِلِّثَةِ وَمِنْ تَغَيُّرِ النَّكْهَةِ. وَلاَ يُخَلِّل أَسْنَانَهُ فِي أَثْنَاءِ الطَّعَامِ، بَل إِذَا فَرَغَ. (3) وَمِثْلُهُ مَا ذُكِرَ فِي كُتُبِ سَائِرِ الْمَذَاهِبِ. (4)
__________
(1) ابن عابدين 1 / 79، وجواهر الإكليل 1 / 189، ومغني المحتاج 1 / 60
(2) حديث: " تخللوا من الطعام فإنه ليس شيء أشد على. . . " قال الهيثمي: رواه الطبراني أحمد، وفي إسناده واصل بن السائب وهو ضعيف. (مجمع الزوائد 5 / 30 - ط القدسي)
(3) كشاف القناع عن متن الإقناع 5 / 178
(4) انظر بلغة السالك للدردير 4 / 752، وأسنى المطالب 3 / 228(11/54)
مَا تُخَلَّل بِهِ الأَْسْنَانُ:
12 - يُسَنُّ التَّخْلِيل قَبْل السِّوَاكِ وَبَعْدَهُ، وَمِنْ أَثَرِ الطَّعَامِ، وَكَوْنُ الْخِلاَل مِنْ عُودٍ، وَيُكْرَهُ بِالْحَدِيدِ وَنَحْوِهِ، وَبِعُودٍ يَضُرُّهُ كَرُمَّانٍ وَآسٍ، وَلاَ يُخَلِّل بِمَا يَجْهَلُهُ لِئَلاَّ يَكُونَ مِمَّا يَضُرُّهُ، وَكَذَا مَا يَجْرَحُهُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْفُقَهَاءُ. (1)
وَلاَ يَجُوزُ تَخْلِيل الأَْسْنَانِ أَوِ الشَّعْرِ بِآلَةٍ مِنَ الذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْمَذَاهِبِ الأَْرْبَعَةِ، (2) وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (آنِيَةٌ) .
وَاخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ بَلْعِ مَا يَخْرُجُ مِنْ خِلاَل الأَْسْنَانِ: فَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، يُلْقِي مَا أَخْرَجَهُ الْخَلاَّل، وَيُكْرَهُ أَنْ يَبْتَلِعَهُ، وَإِنْ قَلَعَهُ بِلِسَانِهِ لَمْ يُكْرَهُ ابْتِلاَعُهُ كَسَائِرِ مَا بِفَمِهِ. وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَجُوزُ بَلْعُ مَا بَيْنَ الأَْسْنَانِ إِلاَّ لِخَلْطِهِ بِدَمٍ، فَلَيْسَ مُجَرَّدُ التَّغَيُّرِ يُصَيِّرُهُ نَجَسًا خِلاَفًا لِمَا قِيل. (3)
__________
(1) الإقناع للشربيني 1 / 32، وكشاف القناع 5 / 178، وأسنى المطالب 3 / 228
(2) تكملة فتح القدير 8 / 81 ط بولاق، وابن عابدين 5 / 217، وحاشية الدسوقي 1 / 64، والمجموع 1 / 246، 250، 254، والمغني لابن قدامة 1 / 75 77 ط الرياض
(3) أسنى المطالب 3 / 228، وكشاف القناع 5 / 178، والشرح الصغير 4 / 752(11/54)
ثَالِثًا: تَخْلِيل الْخَمْرِ:
13 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْخَمْرَ إِذَا تَخَلَّلَتْ بِغَيْرِ عِلاَجٍ، بِأَنْ تَغَيَّرَتْ مِنَ الْمَرَارَةِ إِلَى الْحُمُوضَةِ وَزَالَتْ أَوْصَافُهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ الْخَل حَلاَلٌ طَاهِرٌ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نِعْمَ الأُْدْمُ أَوِ الإِْدَامُ الْخَل (1) ، وَلأَِنَّ عِلَّةَ النَّجَاسَةِ وَالتَّحْرِيمِ الإِْسْكَارُ، وَقَدْ زَالَتْ، وَالْحُكْمُ يَدُورُ مَعَ عِلَّتِهِ وُجُودًا وَعَدَمًا (2) .
وَكَذَلِكَ إِذَا تَخَلَّلَتْ بِنَقْلِهَا مِنْ شَمْسٍ إِلَى ظِلٍّ وَعَكْسِهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ) وَبِهِ قَال الْحَنَابِلَةُ إِذَا كَانَ النَّقْل لِغَيْرِ قَصْدِ التَّخْلِيل. (3)
14 - وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ تَخْلِيل الْخَمْرِ بِإِلْقَاءِ شَيْءٍ فِيهَا، كَالْخَل وَالْبَصَل وَالْمِلْحِ وَنَحْوِهِ. فَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ رِوَايَةُ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: إِنَّهُ لاَ يَحِل تَخْلِيل الْخَمْرِ بِالْعِلاَجِ، وَلاَ تَطْهُرُ بِذَلِكَ، لِحَدِيثِ مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: سُئِل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْخَمْرِ تُتَّخَذُ خَلًّا، قَال: لاَ (4) .
__________
(1) حديث: " نعم الأدم أو الإدام الخل ". أخرجه مسلم (4 / 1621 - ط عيسى الحلبي) من حديث عائشة رضي الله عنها
(2) ابن عابدين 1 / 209، 5 / 290، وتبيين الحقائق للزيلعي 1 / 48، والدسوقي 1 / 52، والحطاب 1 / 97، 98، ونهاية المحتاج 1 / 230، 231، وكشاف القناع 1 / 187، والمغني 1 / 72
(3) المراجع السابقة
(4) حديث: " سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الخمر تتخذ خلا؟ . . . " أخرجه مسلم (3 / 1573 - ط عيسى الحلبي) من حديث أنس(11/55)
وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِإِهْرَاقِهَا. (1) وَلأَِنَّ الْخَمْرَ نَجِسَةٌ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِاجْتِنَابِهَا، وَمَا يُلْقَى فِي الْخَمْرِ يَتَنَجَّسُ بِأَوَّل الْمُلاَقَاةِ، وَمَا يَكُونُ نَجِسًا لاَ يُفِيدُ الطَّهَارَةَ. (2)
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ - وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ بِجَوَازِ تَخْلِيل الْخَمْرِ، فَتَصِيرُ بَعْدَ التَّخْلِيل طَاهِرَةً حَلاَلاً عِنْدَهُمْ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: نِعْمَ الإِْدَامُ الْخَل (3) فَيَتَنَاوَل جَمِيعَ أَنْوَاعِهَا؛
وَلأَِنَّ بِالتَّخْلِيل إِزَالَةَ الْوَصْفِ الْمُفْسِدِ وَإِثْبَاتَ الصَّلاَحِ، وَالإِْصْلاَحُ مُبَاحٌ كَمَا فِي دَبْغِ الْجِلْدِ، فَإِنَّ الدِّبَاغَ يُطَهِّرُهُ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ (4) . وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (خَمْرٌ)
__________
(1) حديث: " أمر بإهراقها " أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 37 - السلفية) ، ومسلم (3 / 1571 - ط عيسى الحلبي) من حديث أنس بن مالك
(2) نهاية المحتاج 1 / 131، 132، وكشاف القناع 1 / 187، والحطاب 1 / 98
(3) حديث: " نعم الإدام الخل " سبق تخريجه (ف 13)
(4) الزيلعي 3 / 48، وحاشية ابن عابدين على الدر 1 / 209، 5 / 290، والحطاب 1 / 98، وحاشية الدسوقي 1 / 52. وحديث: " أيما إهاب دبغ. . . " أخرجه النسائي 7 / 173 ط المكتبة التجارية من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وأصله في صحيح مسلم (1 / 177، ط عيسى الحلبي) بلفظ " إذا دبغ الإهاب فقد طهر "(11/55)
تَخْلِيَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّخْلِيَةُ لُغَةً: مَصْدَرُ خَلَّى، وَمِنْ مَعَانِيهَا فِي اللُّغَةِ: التَّرْكُ وَالإِْعْرَاضُ. (1)
وَفِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ: تَمْكِينُ الشَّخْصِ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الشَّيْءِ دُونَ مَانِعٍ. فَفِي الْبَيْعِ مَثَلاً إِذَا أَذِنَ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي فِي قَبْضِ الْمَبِيعِ مَعَ عَدَمِ وُجُودِ الْمَانِعِ حَصَلَتِ التَّخْلِيَةُ، وَيُعْتَبَرُ الْمُشْتَرِي قَابِضًا لِلْمَبِيعِ مُطْلَقًا. (2)
وَتُسْتَعْمَل التَّخْلِيَةُ أَحْيَانًا بِمَعْنَى الإِْفْرَاجِ، كَمَا يَقُولُونَ: يُحْبَسُ الْقَاتِل وَلاَ يُخَلَّى بِكَفِيلٍ (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْقَبْضُ:
2 - قَبْضُ الشَّيْءِ: أَخْذُهُ. وَاسْتَعْمَلَهُ الْفُقَهَاءُ بِمَعْنَى حِيَازَةِ الشَّيْءِ وَالتَّمَكُّنِ مِنَ التَّصَرُّفِ
__________
(1) تاج العروس ومتن اللغة مادة: " خلا "
(2) البدائع 5 / 244، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 3 / 145، وحاشية القليوبي 2 / 215، والمغني لابن قدامة 4 / 125، 126 - ومجلة الأحكام العدلية مادة: " 263 "
(3) القليوبي 4 / 122(11/56)
فِيهِ (1) ، فَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّخْلِيَةِ وَالْقَبْضِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
الأَْوَّل: أَنَّ التَّخْلِيَةَ نَوْعٌ مِنَ الْقَبْضِ، وَيَحْصُل الْقَبْضُ بِأُمُورٍ أُخْرَى أَيْضًا، كَالتَّنَاوُل بِالْيَدِ وَالنَّقْل، وَكَذَلِكَ الإِْتْلاَفُ، فَإِذَا أَتْلَفَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ فِي يَدِ الْبَائِعِ مَثَلاً صَارَ قَابِضًا لَهُ. (2)
الثَّانِي: أَنَّ التَّخْلِيَةَ تَكُونُ مِنْ قِبَل الْمُعْطِي، وَالْقَبْضَ مِنْ قِبَل الآْخِذِ، فَإِذَا خَلَّى الْبَائِعُ بَيْنَ الْمَبِيعِ وَبَيْنَ الْمُشْتَرِي بِرَفْعِ الْحَائِل بَيْنَهُمَا، حَصَلَتِ التَّخْلِيَةُ مِنَ الْبَائِعِ وَالْقَبْضُ مِنَ الْمُشْتَرِي. (3)
ب - التَّسْلِيمُ:
3 - تَسْلِيمُ الشَّيْءِ: إِعْطَاؤُهُ وَجَعْلُهُ سَالِمًا خَالِصًا، يُقَال: سَلَّمَ الشَّيْءَ لَهُ أَخْلَصَهُ وَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ، فَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ التَّخْلِيَةِ فِي الْمَعْنَى، حَتَّى إِنَّ الأَْحْنَافَ قَالُوا: التَّسْلِيمُ عِنْدَنَا هُوَ التَّخْلِيَةُ. (4)
وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ التَّخْلِيَةَ تَسْلِيمٌ إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ عَقَارًا، أَمَّا فِي الْمَنْقُول فَبِحَسَبِهِ أَوْ بِالْعُرْفِ، كَمَا سَيَأْتِي.
__________
(1) شرح مرشد الحيران 1 / 58، والبدائع 5 / 246، وقليوبي 2 / 215، والحطاب 4 / 478، والمغني 4 / 226
(2) البدائع 5 / 246، وكشاف القناع 3 / 244، وقليوبي 2 / 211 - 217
(3) القليوبي 2 / 215، والوجيز للغزالي 1 / 146، والبدائع 5 / 244، والمغني 4 / 125
(4) معجم اللغة مادة " سلم " بدائع الصنائع 5 / 244(11/56)
وَالأَْصْل أَنَّ التَّخْلِيَةَ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ التَّسْلِيمِ، وَالْقَبْضَ أَثَرٌ لَهُمَا، فَالتَّسْلِيمُ قَدْ يَكُونُ بِالنَّقْل وَالتَّحْوِيل، وَقَدْ يَكُونُ بِالتَّخْلِيَةِ، فَإِذَا بَاعَ دَارًا مَثَلاً، وَخَلَّى الْبَائِعُ بَيْنَ الْمَبِيعِ وَبَيْنَ الْمُشْتَرِي، بِرَفْعِ الْحَائِل بَيْنَهُمَا عَلَى وَجْهٍ يَتَمَكَّنُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ، أَصْبَحَ الْبَائِعُ مُسَلِّمًا لِلْمَبِيعِ وَالْمُشْتَرِي قَابِضًا لَهُ. (1)
الأَْحْكَامُ الإِْجْمَالِيَّةُ لِلتَّخْلِيَةِ:
4 - التَّخْلِيَةُ قَبْضٌ فِي الْعَقَارِ اتِّفَاقًا، وَكَذَلِكَ فِي بَيْعِ الثَّمَرِ عَلَى الشَّجَرِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، خِلاَفًا لِلْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. (2)
أَمَّا تَخْلِيَةُ مَا يُمْكِنُ نَقْلُهُ مِنَ الأَْعْيَانِ فَاخْتَلَفُوا فِيهَا:
قَال الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِنَّ التَّخْلِيَةَ قَبْضٌ حُكْمًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ بِلاَ كُلْفَةٍ، وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ اخْتِلاَفِ الْمَبِيعِ، فَفِي نَحْوِ حِنْطَةٍ فِي بَيْتٍ مَثَلاً دَفْعُ الْمِفْتَاحِ إِذَا أَمْكَنَهُ الْفَتْحُ بِلاَ كُلْفَةٍ قَبْضٌ، وَفِي نَحْوِ بَقَرٍ فِي مَرْعًى بِحَيْثُ يُرَى وَيُشَارُ إِلَيْهِ قَبْضٌ، وَفِي نَحْوِ ثَوْبٍ بِحَيْثُ لَوْ مَدَّ يَدَهُ فَتَصِل إِلَيْهِ قَبْضٌ، وَفِي
__________
(1) البدائع 5 / 244، والدسوقي 3 / 145، والمجموع 9 / 265، 272، والمغني لابن قدامة 4 / 125
(2) شرح معاني الآثار للطحاوي 4 / 36، وجواهر الإكليل 2 / 52، والمجموع للنووي 9 / 265، 266، والمغني 4 / 118، 119(11/57)
نَحْوِ فَرَسٍ أَوْ طَيْرٍ فِي بَيْتٍ يُمْكِنُ أَخْذُهُ مِنْهُ بِلاَ مُعِينٍ قَبْضٌ. (1)
وَاشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ لاِعْتِبَارِ التَّخْلِيَةِ قَبْضًا أَنْ يَقُول الْبَائِعُ: خَلَّيْتُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ الْمَبِيعِ، فَلَوْ لَمْ يَقُلْهُ، أَوْ كَانَ بَعِيدًا لَمْ يَصِرْ قَابِضًا، وَالْمُرَادُ بِهِ الإِْذْنُ بِالْقَبْضِ، لاَ خُصُوصُ لَفْظِ التَّخْلِيَةِ. (2)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ: إِنَّ مَا يُنْقَل فِي الْعَادَةِ، كَالأَْخْشَابِ وَالْحُبُوبِ وَنَحْوِهَا، فَقَبْضُهُ بِالنَّقْل إِلَى مَكَانٍ لاَ اخْتِصَاصَ لِلْبَائِعِ بِهِ، وَمَا يُتَنَاوَل بِالْيَدِ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالثَّوْبِ وَالْكِتَابِ فَقَبْضُهُ بِالتَّنَاوُل. (3)
وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَابِلَةُ. (4) فَلاَ تَكْفِي التَّخْلِيَةُ فِي الْمَنْقُول عِنْدَهُمْ.
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ قَبْضَ الْعَقَارِ يَكُونُ بِالتَّخْلِيَةِ لِلْمُشْتَرِي وَتَمْكِينُهُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ، بِتَسْلِيمِ مَفَاتِيحِهِ إِنْ كَانَتْ، وَقَبْضُ غَيْرِهِ يَكُونُ حَسَبَ الْمُتَعَارَفِ بَيْنَ النَّاسِ كَحِيَازَةِ الثَّوْبِ وَاسْتِلاَمِ مِقْوَدِ الدَّابَّةِ. (5)
5 - وَفِي الْمَوَاضِيعِ الَّتِي تُعْتَبَرُ التَّخْلِيَةُ فِيهَا تَسْلِيمًا وَقَبْضًا يَنْتَقِل الضَّمَانُ مِنْ ذِمَّةِ الْمُخَلِّي إِلَى ذِمَّةِ
__________
(1) ابن عابدين 4 / 43، والمجموع للنووي 9 / 265 - 270، والمغني لابن قدامة 4 / 125
(2) ابن عابدين 4 / 43
(3) المجموع للنووي 9 / 270 - 272
(4) المغني لابن قدامة 4 / 126، 129
(5) جواهر الإكليل 2 / 51(11/57)
الْقَابِضِ، وَهُوَ يَتَحَمَّل الْخَسَارَةَ، فَفِي عَقْدِ الْبَيْعِ مَثَلاً إِذَا حَصَل الْقَبْضُ بِالتَّخْلِيَةِ بَيْنَ الْمَبِيعِ وَالْمُشْتَرِي فَالضَّمَانُ عَلَى الْمُشْتَرِي؛ لأَِنَّ ضَمَانَ الْمَبِيعِ بَعْدَ الْقَبْضِ عَلَى الْمُشْتَرِي بِالاِتِّفَاقِ. (1) انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (ضَمَانٌ) .
وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الضَّمَانَ يَحْصُل فِي الْبَيْعِ الصَّحِيحِ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ، وَلاَ يَحْتَاجُ إِلَى الْقَبْضِ إِلاَّ فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا: بَيْعُ الْغَائِبِ وَالْبَيْعُ الْفَاسِدُ وَالْبَيْعُ بِالْخِيَارِ، وَبَيْعُ مَا فِيهِ حَقُّ التَّوْفِيَةِ بِالْكَيْل أَوِ الْوَزْنِ أَوِ الْعَدَدِ. (2)
وَهُنَاكَ عُقُودٌ لاَ تَتِمُّ إِلاَّ بِالْقَبْضِ، كَعَقْدِ الرَّهْنِ وَالْقَرْضِ وَالْعَارِيَةِ وَالْهِبَةِ وَنَحْوِهَا، مَعَ تَفْصِيلٍ فِي بَعْضِهَا، فَفِي هَذِهِ الْعُقُودِ إِذَا حَصَلَتِ التَّخْلِيَةُ بِشُرُوطِهَا، وَاعْتُبِرَتْ قَبْضًا، تَمَّ الْعَقْدُ وَتَرَتَّبَتْ عَلَيْهِ آثَارُهُ.
وَتَفْصِيل هَذِهِ الْمَسَائِل وَمَا يَتَعَلَّقُ بِآثَارِ الْقَبْضِ وَالتَّخْلِيَةِ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (قَبْضٌ) .
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
6 - بَحَثَ الْفُقَهَاءُ التَّخْلِيَةَ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ فِي بَحْثِ كَيْفِيَّةِ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ، وَفِي السَّلَمِ وَالرَّهْنِ وَالْهِبَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْعُقُودِ وَالتَّصَرُّفَاتِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا
__________
(1) البدائع 5 / 240، والقوانين الفقهية ص 164، والوجيز للغزالي 1 / 146، والمغني 4 / 120، 125
(2) الدسوقي 3 / 146، والقوانين الفقهية ص 164(11/58)
حُكْمُ الْقَبْضِ فِيمَا إِذَا كَانَ مَوْضُوعُهَا عَقَارًا أَوْ مَنْقُولاً، (1) كَمَا ذَكَرَهَا بَعْضُهُمْ بِمَعْنَى الإِْفْرَاجِ فِي بَحْثِ الْجِنَايَاتِ وَتَخْلِيَةِ الْمَحْبُوسِ بِالْكَفَالَةِ. (2) وَبَحَثَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ تَخْلِيَةَ الطَّرِيقِ بِمَعْنَى كَوْنِ الطَّرِيقِ خَالِيًا مِنْ مَانِعٍ، كَعَدُوٍّ وَنَحْوِهِ، فِي كِتَابِ الْحَجِّ (3) .
__________
(1) ابن عابدين 4 / 42، 44، وجواهر الإكليل 2 / 50 - 52، وقليوبي 2 / 215، والمغني 4 / 125، 126
(2) القليوبي 4 / 122
(3) المغني 3 / 163(11/58)
تَخْمِيسٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّخْمِيسُ فِي اللُّغَةِ: جَعْل الشَّيْءِ خَمْسَةَ أَخْمَاسٍ، وَاشْتُهِرَ اسْتِعْمَال هَذَا اللَّفْظِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فِي أَخْذِ خُمُسِ الْغَنَائِمِ (1) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
أ - تَخْمِيسُ الْغَنِيمَةِ:
2 - يَجِبُ عَلَى الإِْمَامِ تَخْمِيسُ الْغَنِيمَةِ وَتَوْزِيعُ الأَْرْبَعَةِ الأَْخْمَاسِ عَلَى الْغَانِمِينَ، بَعْدَ إِخْرَاجِ الْخُمُسِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُول وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيل} (2) ، وَلاَ يُعْلَمُ خِلاَفٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ مَا يُعْتَبَرُ غُنَيْمَةً يُخَمَّسُ.
وَأَمَّا مَا حَكَاهُ ابْنُ كَجٍّ وَجْهًا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ مِنْ عَدَمِ تَخْمِيسِ الْغَنِيمَةِ إِذَا شَرَطَهُ الإِْمَامُ لِضَرُورَةٍ، فَقَدْ قَال عَنْهُ النَّوَوِيُّ: شَاذٌّ وَبَاطِلٌ. (3)
__________
(1) المصباح المنير، وتاج العروس مادة: " خمس "
(2) سورة الأنفال / 41
(3) الزيلعي 3 / 254 ط دار المعرفة، وفتح القدير 4 / 320، وروضة الطالبين 6 / 376، 385، 386، ومغني المحتاج 3 / 101 نشر دار إحياء التراث العربي، وحاشية العدوي على شرح الرسالة 2 / 8 نشر دار المعرفة، وبداية المجتهد 1 / 390 ط دار المعرفة، وجواهر الإكليل 1 / 260، والمغني مع الشرح الكبير 7 / 299(11/59)
وَلِلْفُقَهَاءِ فِيمَا يُعْتَبَرُ غَنِيمَةً وَمَا لاَ يُعْتَبَرُ، صَرْفُ خُمُسِ الْغَنِيمَةِ، وَكَيْفِيَّةُ قِسْمَةِ الأَْرْبَعَةِ الأَْخْمَاسِ، وَشُرُوطُ مَنْ يَسْتَحِقُّهَا خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي: (غَنِيمَةٌ) .
ب - تَخْمِيسُ الْفَيْءِ:
3 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ - وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ - إِلَى أَنَّ الْفَيْءَ لاَ يُخَمَّسُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوَجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ} (1) فَجَعَلَهُ كُلَّهُ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ.
قَال عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا قَرَأَ هَذِهِ الآْيَةَ: اسْتَوْعَبَتِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَئِنْ عِشْتُ لَيَأْتِيَنَّ الرَّاعِيَ - وَهُوَ بِسَرْوِ حِمْيَرَ - (2) نَصِيبُهُ مِنْهَا لَمْ يَعْرَقْ فِيهَا جَبِينُهُ.
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْخِرَقِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ - وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ - تَخْمِيسُ الْفَيْءِ، وَصَرْفُ خُمُسِهِ إِلَى مَنْ يُصْرَفُ إِلَيْهِ خُمُسُ الْغَنِيمَةِ.
وَقَال الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ: إِنَّ الْفَيْءَ لأَِهْل
__________
(1) سورة الحشر / 6
(2) سرو حمير: منازل حمير بأرض اليمن(11/59)
الْجِهَادِ خَاصَّةً دُونَ غَيْرِهِمْ مِنَ الأَْعْرَابِ وَمَنْ لاَ يَعُدُّ نَفْسَهُ لِلْجِهَادِ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ كَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحُصُول النُّصْرَةِ بِهِ، فَلَمَّا مَاتَ أُعْطِيَ لِمَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي ذَلِكَ، وَهُمُ الْمُقَاتِلَةُ دُونَ غَيْرِهِمْ. (1) وَلِلْفُقَهَاءِ فِي تَعْرِيفِ الْفَيْءِ وَمَصْرِفِهِ تَفَاصِيل تُنْظَرُ فِي (فَيْءٍ) .
ج - تَخْمِيسُ الأَْرْضِ الْمَغْنُومَةِ عَنْوَةً:
4 - يَرَى الشَّافِعِيَّةُ - وَهُوَ قَوْلٌ لِلْمَالِكِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ لِلْحَنَابِلَةِ ذَكَرَهَا أَبُو الْخَطَّابِ - تَخْمِيسَ الأَْرْضِ الَّتِي فُتِحَتْ عَنْوَةً؛ لأَِنَّ الأَْرْضَ غَنِيمَةٌ كَسَائِرِ مَا ظَهَرَ عَلَيْهِ الإِْمَامُ مِنْ قَلِيل أَمْوَال الْمُشْرِكِينَ أَوْ كَثِيرِهِ، وَحُكْمُ اللَّهِ عَزَّ وَجَل فِي الْغَنِيمَةِ أَنْ تُخَمَّسَ. (2)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ - وَهُوَ قَوْلٌ لِلْمَالِكِيَّةِ - إِلَى أَنَّ الإِْمَامَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ تَخْمِيسِ الأَْرْضِ الَّتِي فُتِحَتْ عَنْوَةً وَتَقْسِيمِهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ، كَسَائِرِ الْمَغْنَمِ بَعْدَ إِخْرَاجِ الْخُمُسِ لِجِهَاتِهِ، كَمَا فَعَل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 116 ط الجمالية، وحاشية العدوي على شرح الرسالة 2 / 9، وبداية المجتهد 1 / 402، 403، وروضة الطالبين 6 / 355، والأحكام السلطانية للماوردي ص 126 ط الحلبي، والكافي 4 / 318، 319 نشر المكتب الإسلامي
(2) الأم للشافعي 4 / 103 ط الأميرية، والأحكام السلطانية للماوردي ص 137، وحاشية العدوي 2 / 8، والكافي 4 / 328(11/60)
بِخَيْبَرَ، وَبَيْنَ إِقْرَارِ أَهْلِهَا عَلَيْهَا وَوَضْعِ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِمْ وَضَرْبِ الْخَرَاجِ عَلَى أَرَاضِيِهِمْ، كَمَا فَعَل عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِسَوَادِ الْعِرَاقِ بِمُوَافَقَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَقَال صَاحِبُ الدُّرِّ الْمُخْتَارِ: الأَْوَّل أَوْلَى عِنْدَ حَاجَةِ الْغَانِمِينَ. (1)
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: إِنَّ مَا فَعَلَهُ عُمَرُ إِنَّمَا فَعَلَهُ لأَِنَّهُ كَانَ هُوَ الأَْصْلَحُ إِذْ ذَاكَ، كَمَا يُعْلَمُ مِنَ الْقِصَّةِ، لاَ لِكَوْنِهِ هُوَ اللاَّزِمَ. كَيْفَ وَقَدْ قَسَّمَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْضَ خَيْبَرَ بَيْنَ الْغَانِمِينَ، فَعُلِمَ أَنَّ الإِْمَامَ مُخَيَّرٌ فِي فِعْل مَا هُوَ الأَْصْلَحُ فَيَفْعَلُهُ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْمَشْهُورِ - وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ - إِلَى أَنَّ الأَْرْضَ الْمَفْتُوحَةَ عَنْوَةً لاَ تُخَمَّسُ وَلاَ تُقْسَمُ، بَل تُوقَفُ وَيُصْرَفُ خَرَاجُهَا فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ؛ لأَِنَّ الأَْئِمَّةَ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقْسِمُوا أَرْضًا افْتَتَحُوهَا. (2)
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الإِْمَامَ يُخَيَّرُ فِي الأَْرْضِ الْمَغْنُومَةِ عَنْوَةً، بَيْنَ قِسْمَتِهَا كَمَنْقُولٍ، وَبَيْنَ وَقْفِهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ.
قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: إِذَا قَسَّمَ الإِْمَامُ الأَْرْضَ بَيْنَ الْغَانِمِينَ، فَمُقْتَضَى كَلاَمِ الْمَجْدِ وَغَيْرِهِ: أَنَّهُ يُخَمِّسُهَا حَيْثُ قَالُوا " كَالْمَنْقُول " قَال: وَعُمُومُ
__________
(1) ابن عابدين 3 / 229، والهداية مع شروحها 4 / 303، 304 ط الأميرية، وحاشية العدوي على شرح الرسالة 2 / 8
(2) حاشية العدوي 2 / 8، والكافي 4 / 328، والإنصاف 4 / 190 ط دار إحياء التراث العربي(11/60)
كَلاَمِ أَحْمَدَ وَالْقَاضِي وَقِصَّةِ خَيْبَرَ، تَدُل عَلَى أَنَّهَا لاَ تُخَمَّسُ؛ لأَِنَّهَا فَيْءٌ وَلَيْسَتْ بِغَنِيمَةٍ. (1)
د - تَخْمِيسُ السَّلَبِ:
5 - إِنَّ السَّلَبَ لاَ يُخَمَّسُ، سَوَاءٌ أَقَال الإِْمَامُ: مَنْ قَتَل قَتِيلاً فَلَهُ سَلَبُهُ، أَمْ لَمْ يَقُلْهُ. لِمَا رَوَى عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِي السَّلَبِ لِلْقَاتِل، وَلَمْ يُخَمِّسِ السَّلَبَ (2) .
وَبِهَذَا قَال الشَّافِعِيَّةُ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ قَوْل الأَْوْزَاعِيِّ وَاللَّيْثِ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَأَبِي ثَوْرٍ (3) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ لِلإِْمَامِ تَنْفِيل السَّلَبِ قَبْل حُصُول الْغَنِيمَةِ فِي يَدِ الْغَانِمِينَ، وَلاَ خُمُسَ فِيمَا يُنَفَّل؛ لأَِنَّ الْخُمُسَ إِنَّمَا يَجِبُ فِي غَنِيمَةٍ مُشْتَرَكَةٍ بَيْنَ الْغَانِمِينَ، وَالنَّفَل مَا أَخْلَصَهُ الإِْمَامُ لِصَاحِبِهِ وَقَطَعَ شَرِكَةَ الأَْغْيَارِ عَنْهُ، فَلاَ يَجِبُ فِيهِ الْخُمُسُ. (4)
__________
(1) الكافي 4 / 328، والإنصاف 4 / 190
(2) حديث: " قضى في السلب للقاتل،. . . " أخرجه أبو داود (3 / 165 - ط عزت عبيد دعاس) وقال ابن حجر في التلخيص (3 / 105 ط شركة الطباعة الفنية) وهو في صحيح مسلم (5 / 149 - ط دار الفكر)
(3) روضة الطالبين 6 / 375 نشر المكتب الإسلامي، وكشاف القناع 3 / 55 ط أنصار السنة، والكافي 4 / 293، والمغني على الشرح الكبير 1 / 426
(4) بدائع الصنائع 6 / 115 ط الجمالية، وفتح القدير 4 / 333، 334 ط الأميرية(11/61)
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ السَّلَبَ مِنْ جُمْلَةِ النَّفَل، يَسْتَحِقُّهُ كُل مَنْ قَتَل قَتِيلاً بَعْدَ قَوْل الإِْمَامِ: مَنْ قَتَل قَتِيلاً فَلَهُ سَلَبُهُ، وَلاَ يُعْطِيهِ الإِْمَامُ إِلاَّ مِنَ الْخُمُسِ عَلَى حَسَبِ اجْتِهَادِهِ؛ لأَِنَّ النَّفَل لاَ يَكُونُ إِلاَّ مِنَ الْخُمُسِ، أَيْ لاَ مِنَ الأَْرْبَعَةِ الأَْخْمَاسِ، فَكَذَا السَّلَبُ. (1)
أَمَّا إِذَا لَمْ يَجْعَل الإِْمَامُ السَّلَبَ لِلْقَاتِل، فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ - وَهُوَ قَوْل الثَّوْرِيِّ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ - أَنَّ الْقَاتِل لاَ يَسْتَحِقُّ سَلَبَ الْمَقْتُول فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْغَنِيمَةِ، بِمَعْنَى أَنَّ السَّلَبَ يُخَمَّسُ، فَيُدْفَعُ خُمُسُهُ لأَِهْل الْخُمُسِ، ثُمَّ يُقْسَمُ بَاقِيهِ كَسَائِرِ الْمَغْنَمِ، الْقَاتِل وَغَيْرُهُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ. (2)
وَهُنَاكَ قَوْلٌ آخَرُ لِلشَّافِعِيَّةِ يُقَابِل الْمَشْهُورَ، بِتَخْمِيسِ السَّلَبِ وَدَفْعِ خُمُسِهِ لأَِهْل الْخُمُسِ بَاقِيهِ لِلْقَاتِل، ثُمَّ تَقْسِيمُ بَاقِي الْغَنِيمَةِ. (3)
وَلِلْفُقَهَاءِ فِي تَعْرِيفِ السَّلَبِ وَشُرُوطِ اسْتِحْقَاقِهِ تَفَاصِيل يُرْجَعُ إِلَيْهَا فِي (تَنْفِيلٍ، وَسَلَبٍ، وَغَنِيمَةٍ) .
__________
(1) حاشية العدوي على شرح الرسالة 2 / 14 نشر دار المعرفة، والمغني مع الشرح الكبير 10 / 427
(2) بدائع الصنائع 6 / 115، وفتح القدير 4 / 333، 334، وحاشية العدوي على شرح الرسالة 2 / 14، وبداية المجتهد 1 / 397 ط دار المعرفة، والمغني مع الشرح الكبير 10 / 426 - 427، وكشاف القناع 3 / 55 ط أنصار السنة
(3) روضة الطالبين 6 / 375(11/61)
هـ - تَخْمِيسُ الرِّكَازِ:
6 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي تَخْمِيسِ الرِّكَازِ (1)
بِشُرُوطٍ ذَكَرُوهَا؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ، وَالْبِئْرُ جُبَارٌ، وَالْمَعْدِنُ جُبَارٌ، وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ (2) وَلأَِنَّهُ مَال كَافِرٍ مَظْهُورٍ عَلَيْهِ بِالإِْسْلاَمِ فَوَجَبَ فِيهِ الْخُمُسُ كَالْغَنِيمَةِ (3) .
وَفِي تَعْرِيفِ الرِّكَازِ وَأَنْوَاعِهِ وَحُكْمِ كُل نَوْعٍ وَشُرُوطِ إِخْرَاجِ الْخُمُسِ مِنْهُ وَمَصْرِفِهِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ مَوْطِنُهُ (رِكَازٌ، وَزَكَاةٌ)
.
تَخْمِينٌ
انْظُرْ: خَرْصٌ
__________
(1) الركاز: المال المدفون في الجاهلية. المصباح مادة: " ركز "
(2) حديث: " العجماء جبار. . . " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 364 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1332 - ط الحلبي) اللفظ للبخاري
(3) بدائع الصنائع 2 / 66، والزيلعي 1 / 288، وحاشية العدوي 1 / 436 نشر دار المعرفة، ومغني المحتاج 1 / 395 ط مصطفى الحلبي، وروضة الطالبين 2 / 286، والكافي 1 / 313، والمغني مع الشرح الكبير 2 / 612(11/62)
تَخَنُّثٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّخَنُّثُ فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَى: التَّثَنِّي وَالتَّكَسُّرِ، وَتَخَنَّثَ الرَّجُل إِذَا فَعَل فِعْل الْمُخَنَّثِ. وَخَنَّثَ الرَّجُل كَلاَمَهُ: إِذَا شَبَّهَهُ بِكَلاَمِ النِّسَاءِ لِينًا وَرَخَامَةً. (1)
وَالتَّخَنُّثُ اصْطِلاَحًا كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ تَعْرِيفِ ابْنِ عَابِدِينَ لِلْمُخَنَّثِ: هُوَ التَّزَيِّي بِزِيِّ النِّسَاءِ وَالتَّشَبُّهُ بِهِنَّ فِي تَلْيِينِ الْكَلاَمِ عَنِ اخْتِيَارٍ، أَوِ الْفِعْل الْمُنْكَرِ.
وَقَال صَاحِبُ الدُّرِّ: الْمُخَنَّثُ بِالْفَتْحِ مَنْ يَفْعَل الرَّدِيءَ. وَأَمَّا بِالْكَسْرِ فَالْمُتَكَسِّرُ الْمُتَلَيِّنُ فِي أَعْضَائِهِ وَكَلاَمِهِ وَخَلْقِهِ. وَيُفْهَمُ مِنَ الْقَلْيُوبِيِّ أَنَّهُ لاَ فَرْقَ بَيْنَ الْفَتْحِ وَالْكَسْرِ فِي الْمَعْنَى، فَهُوَ عِنْدَهُ الْمُتَشَبِّهُ بِحَرَكَاتِ النِّسَاءِ (2) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - يَحْرُمُ عَلَى الرِّجَال التَّخَنُّثُ وَالتَّشَبُّهُ بِالنِّسَاءِ
__________
(1) لسان العرب المصباح مادة: " خنث "
(2) ابن عابدين 4 / 381 و 5 / 239، وجواهر الإكليل 2 / 40، 41، وقليوبي 4 / 320، والمغني 6 / 562، وفتح الباري 2 / 188(11/62)
فِي اللِّبَاسِ وَالزِّينَةِ الَّتِي تَخْتَصُّ بِالنِّسَاءِ، وَكَذَلِكَ فِي الْكَلاَمِ وَالْمَشْيِ، لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَال: لَعَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُخَنَّثِينَ مِنَ الرِّجَال وَالْمُتَرَجِّلاَتِ مِنَ النِّسَاءِ (1) وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: لَعَنَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُتَشَبِّهِينَ مِنَ الرِّجَال بِالنِّسَاءِ، وَالْمُتَشَبِّهَاتِ مِنَ النِّسَاءِ بِالرِّجَال (2) قَال ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ: وَالنَّهْيُ مُخْتَصٌّ بِمَنْ تَعَمَّدَ ذَلِكَ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ أَصْل خِلْقَتِهِ، فَإِنَّمَا يُؤْمَرُ بِتَكَلُّفِ تَرْكِهِ وَالإِْدْمَانِ (3) عَلَى ذَلِكَ بِالتَّدْرِيجِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَل وَتَمَادَى دَخَلَهُ الذَّمُّ، وَلاَ سِيَّمَا إِذَا بَدَا مِنْهُ مَا يَدُل عَلَى الرِّضَا بِهِ، وَأَمَّا إِطْلاَقُ مَنْ قَال: إِنَّ الْمُخَنَّثَ خِلْقَةً لاَ يَتَّجِهُ عَلَيْهِ الذَّمُّ، فَمَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى تَرْكِ التَّثَنِّي وَالتَّكَسُّرِ فِي الْمَشْيِ وَالْكَلاَمِ بَعْدَ تَعَاطِيهِ الْمُعَالَجَةَ لِتَرْكِ ذَلِكَ (4)
. إِمَامَةُ الْمُخَنَّثِ:
3 - الْمُخَنَّثُ بِالْخِلْقَةِ، وَهُوَ مَنْ يَكُونُ فِي كَلاَمِهِ لِينٌ وَفِي أَعْضَائِهِ تَكَسُّرٌ خِلْقَةً، وَلَمْ يَشْتَهِرْ بِشَيْءٍ
__________
(1) حديث: " لعن النبي صلى الله عليه وسلم المخنثين من الرجال والمترجلات من النساء ". أخرجه البخاري (الفتح 10 / 333 - ط السلفية)
(2) حديث: " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال ". أخرجه البخاري (الفتح 10 / 332 - ط السلفية)
(3) أي المواظبة والملازمة
(4) فتح الباري 10 / 332، وانظر ابن عابدين 4 / 381(11/63)
مِنَ الأَْفْعَال الرَّدِيئَةِ لاَ يُعْتَبَرُ فَاسِقًا، وَلاَ يَدْخُلُهُ الذَّمُّ وَاللَّعْنَةُ الْوَارِدَةُ فِي الأَْحَادِيثِ، فَتَصِحُّ إِمَامَتُهُ، لَكِنَّهُ يُؤْمَرُ بِتَكَلُّفِ تَرْكِهِ وَالإِْدْمَانِ عَلَى ذَلِكَ بِالتَّدْرِيجِ، فَإِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى تَرْكِهِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ لَوْمٌ. (1)
أَمَّا الْمُتَخَلِّقُ بِخُلُقِ النِّسَاءِ حَرَكَةً وَهَيْئَةً، وَاَلَّذِي يَتَشَبَّهُ بِهِنَّ فِي تَلْيِينِ الْكَلاَمِ وَتَكَسُّرِ الأَْعْضَاءِ عَمْدًا، فَإِنَّ ذَلِكَ عَادَةٌ قَبِيحَةٌ وَمَعْصِيَةٌ وَيُعْتَبَرُ فَاعِلُهَا آثِمًا وَفَاسِقًا. وَالْفَاسِقُ تُكْرَهُ إِمَامَتُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ. وَقَال الْحَنَابِلَةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى، بِبُطْلاَنِ إِمَامَةِ الْفَاسِقِ (2) ، كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي مُصْطَلَحِ: (إِمَامَةٌ) .
وَنَقَل الْبُخَارِيُّ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَوْلَهُ: لاَ نَرَى أَنْ يُصَلَّى خَلْفَ الْمُخَنَّثِ إِلاَّ مِنْ ضَرُورَةٍ لاَ بُدَّ مِنْهَا (3) .
شَهَادَةُ الْمُخَنَّثِ:
4 - صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْمُخَنَّثَ الَّذِي لاَ تُقْبَل شَهَادَتُهُ هُوَ الَّذِي فِي كَلاَمِهِ لِينٌ وَتَكَسُّرٌ، إِذَا كَانَ يَتَعَمَّدُ ذَلِكَ تَشَبُّهًا بِالنِّسَاءِ. وَأَمَّا إِذَا كَانَ فِي
__________
(1) الزيلعي 4 / 221، وفتح الباري 10 / 332، ونهاية المحتاج 8 / 283
(2) مراقي الفلاح ص 156، وجواهر الإكليل 1 / 78 - 82، ومغني المحتاج 1 / 242، وكشاف القناع 1 / 475
(3) فتح الباري 2 / 190(11/63)
كَلاَمِهِ لِينٌ، وَفِي أَعْضَائِهِ تَكَسُّرٌ خِلْقَةً، وَلَمْ يَشْتَهِرْ بِشَيْءٍ مِنَ الأَْفْعَال الرَّدِيئَةِ، فَهُوَ عَدْلٌ مَقْبُول الشَّهَادَةِ.
وَاعْتَبَرَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ التَّشَبُّهَ بِالنِّسَاءِ مُحَرَّمًا تُرَدُّ بِهِ الشَّهَادَةُ، وَلاَ يَخْفَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّشَبُّهِ التَّعَمُّدُ، لاَ الْمُشَابَهَةُ الَّتِي تَأْتِي طَبْعًا.
وَاعْتَبَرَ الْمَالِكِيَّةُ الْمُجُونَ مِمَّا تُرَدُّ بِهِ الشَّهَادَةُ، وَمِنَ الْمُجُونِ التَّخَنُّثُ.
وَعَلَيْهِ تَكُونُ الْمَذَاهِبُ مُتَّفِقَةً فِي التَّفْصِيل الَّذِي أَوْرَدَهُ الْحَنَفِيَّةُ، وَتَفْصِيلُهُ فِي (شَهَادَةٍ) . (1)
نَظَرُ الْمُخَنَّثِ لِلنِّسَاءِ:
هـ - الْمُخَنَّثُ بِالْمَعْنَى الْمُتَقَدِّمِ، وَاَلَّذِي لَهُ أَرَبٌ فِي النِّسَاءِ، لاَ خِلاَفَ فِي حُرْمَةِ اطِّلاَعِهِ عَلَى النِّسَاءِ وَنَظَرِهِ إِلَيْهِنَّ؛ لأَِنَّهُ فَحْلٌ فَاسِقٌ - كَمَا قَال ابْنُ عَابِدِينَ.
أَمَّا إِذَا كَانَ مُخَنَّثًا بِالْخِلْقَةِ، وَلاَ إِرْبَ لَهُ فِي النِّسَاءِ، فَقَدْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّهُ يُرَخَّصُ بِتَرْكِ مِثْلِهِ مَعَ النِّسَاءِ، وَلاَ بَأْسَ بِنَظَرِهِ إِلَيْهِنَّ، اسْتِدْلاَلاً بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِيمَنْ يَحِل لَهُمُ النَّظْرُ إِلَى النِّسَاءِ، وَيَحِل لِلنِّسَاءِ الظُّهُورُ أَمَامَهُمْ مُتَزَيِّنَاتٍ، حَيْثُ عُدَّ مِنْهُمْ أَمْثَال
__________
(1) تبيين الحقائق للزيلعي 4 / 221، وابن عابدين 4 / 381، والقليوبي 2 / 320، 321، وجواهر الإكليل 2 / 233، والحطاب 6 / 152، والمغني 9 / 174(11/64)
هَؤُلاَءِ، وَهُوَ {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإِْرْبَةِ مِنَ الرِّجَال} (1) . . .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَأَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْمُخَنَّثَ - وَلَوْ كَانَ لاَ إِرْبَ لَهُ فِي النِّسَاءِ - لاَ يَجُوزُ نَظَرُهُ إِلَى النِّسَاءِ، وَحُكْمُهُ فِي هَذَا كَالْفَحْل: اسْتِدْلاَلاً بِحَدِيثِ لاَ يَدْخُلَنَّ هَؤُلاَءِ عَلَيْكُنَّ (2) .
عُقُوبَةُ الْمُخَنَّثِ:
6 - الْمُخَنَّثُ بِالاِخْتِيَارِ مِنْ غَيْرِ ارْتِكَابِ الْفِعْل الْقَبِيحِ مَعْصِيَةٌ لاَ حَدَّ فِيهَا وَلاَ كَفَّارَةَ، فَعُقُوبَتُهُ عُقُوبَةٌ تَعْزِيرِيَّةٌ تُنَاسِبُ حَالَةَ الْمُجْرِمِ وَشِدَّةَ الْجُرْمِ. وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَزَّرَ الْمُخَنَّثِينَ بِالنَّفْيِ، فَأَمَرَ بِإِخْرَاجِهِمْ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَقَال: أَخْرِجُوهُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ (3) وَكَذَلِكَ فَعَل الصَّحَابَةُ مِنْ بَعْدِهِ. (4)
أَمَّا إِنْ صَدَرَ مِنْهُ مَعَ تَخَنُّثِهِ تَمْكِينُ الْغَيْرِ مِنْ فِعْل الْفَاحِشَةِ بِهِ، فَقَدِ اُخْتُلِفَ فِي عُقُوبَتِهِ،
__________
(1) سورة النور / 31
(2) ابن عابدين 5 / 239، وأسنى المطالب 3 / 112، والبجيرمي على الخطيب 3 / 314، والقرطبي 12 / 234، والمغني 6 / 561، 562. وحديث: " لا يدخلن هؤلاء عليكن ". أخرجه البخاري (الفتح 10 / 333 - ط السلفية)
(3) حديث: " أخرجوهم من بيوتكم ". أخرجه البخاري (الفتح 10 / 333 - ط السلفية)
(4) تبصرة الحكام على هامش فتح العلي المالك 2 / 260، وفتح الباري 10 / 332(11/64)
فَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ تُطَبَّقُ عَلَيْهِ عُقُوبَةُ الزِّنَى:
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ عُقُوبَتَهُ تَعْزِيرِيَّةٌ قَدْ تَصِل إِلَى الْقَتْل أَوِ الإِْحْرَاقِ أَوِ الرَّمْيِ مِنْ شَاهِقِ جَبَلٍ مَعَ التَّنْكِيسِ؛ لأَِنَّ الْمَنْقُول عَنِ الصَّحَابَةِ اخْتِلاَفُهُمْ فِي هَذِهِ الْعُقُوبَةِ، وَيُرَاجَعُ فِي هَذَا مُصْطَلَحُ: (حَدٌّ عُقُوبَةٌ، تَعْزِيرٌ، وَلِوَاطٌ) .
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
7 - يَذْكُرُ الْفُقَهَاءُ أَحْكَامَ التَّخَنُّثِ فِي مَبَاحِثِ خِيَارِ الْعَيْبِ إِذَا كَانَ الْعَبْدُ الْمَبِيعُ مُخَنَّثًا، وَيَذْكُرُونَهَا فِي بَحْثِ الشَّهَادَةِ، وَالنِّكَاحِ، وَالنَّظَرِ إِلَى الْمَرْأَةِ الأَْجْنَبِيَّةِ، وَفِي مَسَائِل اللِّبَاسِ وَالزِّينَةِ وَأَبْوَابِ الْحَظْرِ وَالإِْبَاحَةِ وَنَحْوِهَا.(11/65)
تَخْوِيفٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّخْوِيفُ مَصْدَرٌ مِنْ بَابِ التَّفْعِيل، وَمَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ: جَعْل الشَّخْصِ يَخَافُ، أَوْ جَعْلُهُ بِحَالَةٍ يَخَافُ النَّاسَ. يُقَال: خَوَّفَهُ تَخْوِيفًا: أَيْ جَعَلَهُ يَخَافُ، أَوْ صَيَّرَهُ بِحَالٍ يَخَافُهُ النَّاسُ. وَفِي التَّنْزِيل الْعَزِيزِ: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} (1) أَيْ يَجْعَلُكُمْ تَخَافُونَ أَوْلِيَاءَهُ، وَقَال ثَعْلَبٌ: مَعْنَاهُ يُخَوِّفُكُمْ بِأَوْلِيَائِهِ. (2)
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِهَذَا اللَّفْظِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الإِْنْذَارُ:
2 - الإِْنْذَارُ هُوَ: التَّخْوِيفُ مَعَ إِعْلاَمِ مَوْضِعِ الْمَخَافَةِ. فَإِذَا خَوَّفَ الإِْنْسَانُ غَيْرَهُ وَأَعْلَمَهُ حَال مَا يُخَوِّفُهُ بِهِ، فَقَدْ أَنْذَرَهُ.
فَالإِْنْذَارُ أَخَصُّ مِنَ التَّخْوِيفِ.
__________
(1) سورة آل عمران / 175
(2) محيط المحيط، والقاموس المحيط، ولسان العرب مادة: " خوف "(11/65)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
مَا يَكُونُ التَّخْوِيفُ بِهِ إِكْرَاهًا:
أ - التَّخْوِيفُ بِالْقَتْل وَالضَّرْبِ وَالْحَبْسِ:
3 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ - وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ كُلٍّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ - أَنَّ الإِْكْرَاهَ يَحْصُل بِتَخْوِيفٍ بِقَتْلٍ أَوْ ضَرْبٍ شَدِيدٍ أَوْ حَبْسٍ طَوِيلٍ. (1)
أَمَّا التَّخْوِيفُ بِالضَّرْبِ وَالْحَبْسِ الْيَسِيرَيْنِ فَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ طَبَقَاتِ النَّاسِ وَأَحْوَالِهِمْ، فَالتَّخْوِيفُ بِضَرْبِ سَوْطٍ أَوْ حَبْسِ يَوْمٍ فِي حَقِّ مَنْ لاَ يُبَالِي لَيْسَ بِإِكْرَاهٍ، إِلاَّ أَنَّ التَّخْوِيفَ بِهِمَا يُعْتَبَرُ إِكْرَاهًا فِي حَقِّ ذِي جَاهٍ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَسْتَضِرُّ بِهِمَا، كَمَا يَتَضَرَّرُ وَاحِدٌ مِنْ أَوْسَاطِ النَّاسِ بِالضَّرْبِ الشَّدِيدِ، وَذَلِكَ كَالْقَاضِي وَعَظِيمِ الْبَلَدِ، فَإِنَّ مُطْلَقَ الْقَيْدِ وَالْحَبْسِ إِكْرَاهٌ فِي حَقِّهِ. (2)
وَقَال الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ
__________
(1) نهاية المحتاج 6 / 436 - 437 ط مصطفى الحلبي، والبناية شرح الهداية 8 / 173، وجواهر الإكليل 1 / 340، والمغني مع الشرح الكبير 8 / 260، و 261، والإنصاف 8 / 439 - 440 ط دار إحياء التراث العربي
(2) نهاية المحتاج 6 / 437، وروضة الطالبين 8 / 59، والبناية شرح الهداية 8 / 175، وحاشية ابن عابدين 5 / 81، والمغني مع الشرح الكبير 8 / 261، 262، والإنصاف 8 / 440، وجواهر الإكليل 1 / 340، وبلغة السالك 2 / 169 ط عيسى الحلبي(11/66)
الشَّافِعِيَّةِ - حَكَاهُ الْحَنَّاطِيُّ - أَنَّ الإِْكْرَاهَ يَحْصُل بِالتَّخْوِيفِ بِالْقَتْل فَقَطْ.
وَهُنَاكَ وَجْهٌ آخَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ التَّخْوِيفَ بِالْحَبْسِ لاَ يَكُونُ إِكْرَاهًا. (1)
ب - التَّخْوِيفُ بِأَخْذِ الْمَال وَإِتْلاَفِهِ:
4 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ - وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ - حُصُول الإِْكْرَاهِ بِالتَّخْوِيفِ بِأَخْذِ الْمَال " إِذَا قَال مُتَغَلِّبٌ لِرَجُلٍ: إِمَّا أَنْ تَبِيعَنِي هَذِهِ الدَّارَ أَوْ أَدْفَعَهَا إِلَى خَصْمِكَ، فَبَاعَهَا مِنْهُ، فَهُوَ بَيْعُ مُكْرَهٍ.
وَيَشْتَرِطُ الْقُهُسْتَانِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ لِحُصُول الإِْكْرَاهِ - كَمَا يُفْهَمُ مِنْ سِيَاقِ عِبَارَةِ رَدِّ الْمُحْتَارِ - كَوْنُ التَّخْوِيفِ بِإِتْلاَفِ كُل الْمَال. (2)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ - وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَقَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ - إِنَّ الإِْكْرَاهَ يَحْصُل بِأَخْذِ الْمَال الْكَثِيرِ وِإِتْلاَفِهِ. وَهُنَاكَ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - وَهُوَ أَحَدُ الأَْقْوَال الثَّلاَثَةِ لِلْمَالِكِيَّةِ - أَنَّ التَّخْوِيفَ بِأَخْذِ الْمَال لَيْسَ إِكْرَاهًا. (3)
وَلِلْفُقَهَاءِ تَفَاصِيل فِي مَعْنَى الإِْكْرَاهِ وَأَنْوَاعِهِ
__________
(1) نهاية المحتاج 6 / 437، وروضة الطالبين 8 / 59 - 60، والإنصاف 8 / 440
(2) حاشية ابن عابدين 5 / 80 ط بولاق، وبلغة السالك 2 / 169 ط عيسى الحلبي
(3) بلغة السالك 2 / 169، ونهاية المحتاج 6 / 437، وروضة الطالبين 8 / 59 - 60، والإنصاف 8 / 439 - 440(11/66)
وَشُرُوطِهِ وَأَثَرِهِ وَمَا يَكُونُ التَّخْوِيفُ بِهِ إِكْرَاهًا تُنْظَرُ فِي مَوَاطِنِهَا مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ، وَفِي مُصْطَلَحِ (إِكْرَاهٌ) .
الْقَتْل تَخْوِيفًا:
5 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي إِمْكَانِ حُصُول الْقَتْل بِالتَّخْوِيفِ. كَمَنْ شَهَرَ سَيْفًا فِي وَجْهِ إِنْسَانٍ، أَوْ دَلاَّهُ مِنْ مَكَانٍ شَاهِقٍ فَمَاتَ مِنْ رَوْعَتِهِ، وَكَمَنْ صَاحَ فِي وَجْهِ إِنْسَانٍ فَجْأَةً فَمَاتَ مِنْهَا، وَكَمَنْ رَمَى عَلَى شَخْصٍ حَيَّةً فَمَاتَ رُعْبًا وَمَا إِلَى ذَلِكَ. (1)
وَتُنْظَرُ التَّفَاصِيل الْمُتَعَلِّقَةُ بِأَنْوَاعِ الْقَتْل، وَصِفَةِ كُل نَوْعٍ، وَحُكْمِ الْقَتْل بِالتَّخْوِيفِ فِي مُخْتَلَفِ صُوَرِهِ فِي مُصْطَلَحِ (قَتْلٌ) .
الإِْجْهَاضُ بِسَبَبِ التَّخْوِيفِ:
6 - يَرَى الْفُقَهَاءُ وُجُوبَ الضَّمَانِ عَلَى مَنْ خَوَّفَ امْرَأَةً فَأَجْهَضَتْ بِسَبَبِ التَّخْوِيفِ، عَلَى خِلاَفٍ وَتَفْصِيلٍ فِي الإِْجْهَاضِ الْمُعَاقَبِ عَلَيْهِ، (2) وَعُقُوبَةُ الإِْجْهَاضِ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ (إِجْهَاضٌ) .
__________
(1) المغني مع الشرح الكبير 9 / 578، وحاشية ابن عابدين 5 / 377 ط بولاق، وبدائع الصنائع 7 / 235 ط الجمالية، والشرح الصغير للدردير 4 / 342، ونهاية المحتاج 7 / 329، 330، وقليوبي وعميرة 4 / 145
(2) قليوبي وعميرة 4 / 159، والشرح الصغير للدردير 4 / 377، وحاشية ابن عابدين 5 / 377 ط بولاق، وكشاف القناع 6 / 16 ط عالم الكتب(11/67)
تَخْيِيرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّخْيِيرُ لُغَةً: مَصْدَرُ خَيَّرَ، يُقَال: خَيَّرْتُهُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ، أَيْ: فَوَّضْتُ إِلَيْهِ الْخِيَارَ، وَتَخَيَّرَ الشَّيْءَ: اخْتَارَهُ، وَالاِخْتِيَارُ: الاِصْطِفَاءُ وَطَلَبُ خَيْرِ الأَْمْرَيْنِ، وَكَذَلِكَ التَّخَيُّرُ. وَالاِسْتِخَارَةُ: طَلَبُ الْخِيرَةِ فِي الشَّيْءِ، وَخَارَ اللَّهُ لَكَ أَيْ: أَعْطَاكَ مَا هُوَ خَيْرٌ لَكَ. وَالْخَيْرَةُ - بِسُكُونِ الْيَاءِ - الاِسْمُ مِنْهُ (1)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: لاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِمُصْطَلَحِ (تَخْيِيرٌ) عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ.
فَهُوَ عِنْدَهُمْ: تَفْوِيضُ الأَْمْرِ إِلَى اخْتِيَارِ الْمُكَلَّفِ فِي انْتِقَاءِ خَصْلَةٍ مِنْ خِصَالٍ مُعَيَّنَةٍ شَرْعًا، وَيُوكَل إِلَيْهِ تَعْيِينُ أَحَدِهَا، بِشُرُوطٍ مَعْلُومَةٍ،
كَتَخْيِيرِهِ بَيْنَ خِصَال الْكَفَّارَةِ، وَتَخْيِيرِهِ بَيْنَ الْقِصَاصِ وَالْعَفْوِ، وَتَخْيِيرِهِ فِي جِنْسِ مَا يُخْرَجُ فِي الزَّكَاةِ، وَتَخْيِيرِهِ فِي فِدْيَةِ الْحَجِّ، وَتَخْيِيرِهِ فِي
__________
(1) تهذيب الأسماء واللغات ط المنيرية، والمصباح المنير مادة: " خير "(11/67)
التَّصَرُّفِ فِي الأَْسْرَى، وَتَخْيِيرِهِ فِي حَدِّ الْمُحَارِبِ، وَغَيْرِهَا مِنَ الأَْحْكَامِ.
وَالتَّخْيِيرُ بِهَذَا دَلِيلٌ عَلَى سَمَاحَةِ الشَّرِيعَةِ وَيُسْرِهَا وَمُرَاعَاتِهَا لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ فِيمَا فَوَّضَتْ إِلَيْهِمُ اخْتِيَارَهُ، مِمَّا يَجْلِبُ النَّفْعَ لَهُمْ وَيَدْفَعُ الضُّرَّ عَنْهُمْ.
التَّخْيِيرُ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ:
2 - يَتَكَلَّمُ الأُْصُولِيُّونَ عَلَى التَّخْيِيرِ فِي الْمُبَاحِ، وَالْمَنْدُوبِ، وَالْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ، وَالْوَاجِبِ الْمُوَسَّعِ، وَالنَّهْيِ عَلَى جِهَةِ التَّخْيِيرِ، وَالرُّخْصَةِ. وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الإِْبَاحَةُ:
3 - الإِْبَاحَةُ فِي اللُّغَةِ: الإِْحْلاَل، يُقَال: أَبَحْتُكَ الشَّيْءَ أَيْ: أَحْلَلْتُهُ لَكَ، وَالْمُبَاحُ خِلاَفُ الْمَحْظُورِ.
وَفِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ: الإِْذْنُ بِالإِْتْيَانِ بِالْفِعْل حَسَبَ مَشِيئَةِ الْفَاعِل فِي حُدُودِ الإِْذْنِ (1) .
ب - التَّفْوِيضُ:
4 - التَّفْوِيضُ مَصْدَرُ فَوَّضَ، يُقَال: فَوَّضَ إِلَيْهِ الاِخْتِيَارَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ، فَاخْتَارَ أَحَدَهُمَا، وَمِنْهُ
__________
(1) الموسوعة 1 / 126 مصطلح: (إباحة)(11/68)
تَفْوِيضُ الزَّوْجِ إِلَى زَوْجَتِهِ طَلاَقَ نَفْسِهَا أَوْ بَقَاءَهَا فِي عِصْمَتِهِ (1) .
أَحْكَامُ التَّخْيِيرِ:
لِلتَّخْيِيرِ أَحْكَامٌ خَاصَّةٌ فِي الشَّرِيعَةِ الإِْسْلاَمِيَّةِ نُبَيِّنُهَا فِيمَا يَلِي:
أَوَّلاً: تَخْيِيرُ الْمُصَلِّي فِي أَدَاءِ الصَّلاَةِ فِي الْوَقْتِ الْمُوَسَّعِ:
5 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى الْقَوْل بِتَخْيِيرِ الْمُصَلِّي فِي أَدَاءِ الصَّلاَةِ فِي الْوَقْتِ الْمُوَسَّعِ، وَهُوَ الْوَقْتُ الَّذِي وُكِّل إِيقَاعُ الصَّلاَةِ فِيهِ لاِخْتِيَارِ الْمُصَلِّي، فَإِنْ شَاءَ أَوْقَعَهَا فِي أَوَّلِهِ، أَوْ فِي وَسَطِهِ، أَوْ فِي آخِرِهِ، وَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ فِيمَا يَخْتَارُ.
وَذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى الْقَوْل بِالإِْثْمِ إِنْ أَخَّرَ إِلَى وَقْتِ الْكَرَاهَةِ فِي بَعْضِ الأَْوْقَاتِ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي (أَوْقَاتِ الصَّلاَةِ) .
6 - وَتَجِبُ الصَّلاَةُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ بِأَوَّل الْوَقْتِ وُجُوبًا مُوَسَّعًا، بِمَعْنَى أَنَّهُ لاَ يَأْثَمُ بِتَأْخِيرِهَا. فَلَوْ أَخَّرَهَا عَازِمًا عَلَى فِعْلِهَا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، فَمَاتَ فِي أَثْنَاءِ الْوَقْتِ لَمْ يَأْثَمْ؛ لأَِنَّهُ فَعَل مَا يَجُوزُ لَهُ فِعْلُهُ، إِذْ هُوَ بِالْخِيَارِ فِي أَدَاءِ الصَّلاَةِ فِي أَيِّ جُزْءٍ مِنْ وَقْتِهَا، وَالْمَوْتُ لَيْسَ مِنْ فِعْلِهِ، فَلاَ يَأْثَمُ بِالتَّخَيُّرِ. إِلاَّ أَنْ يَظُنَّ الْمَوْتَ، وَلَمْ يُؤَدِّ حَتَّى مَاتَ، فَإِنَّهُ
__________
(1) المصباح المنير، وتهذيب الأسماء واللغات مادة: " فوض "(11/68)
يَمُوتُ عَاصِيًا. وَكَذَا إِذَا تَخَلَّفَ ظَنُّهُ فَلَمْ يَمُتْ؛ لأَِنَّ الْمُوَسَّعَ صَارَ فِي حَقِّهِ مُضَيَّقًا، وَانْتَفَى بِذَلِكَ اخْتِيَارُهُ. فَإِنْ أَخَّرَهَا غَيْرَ عَازِمٍ عَلَى الْفِعْل أَثِمَ بِالتَّأْخِيرِ، وَإِنْ أَخَّرَهَا بِحَيْثُ لَمْ يَبْقَ مِنَ الْوَقْتِ مَا يَتَّسِعُ لِجَمِيعِ الصَّلاَةِ أَثِمَ أَيْضًا.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الصَّلاَةَ لاَ تَجِبُ فِي أَوَّل الْوَقْتِ عَلَى التَّعْيِينِ، وَإِنَّمَا تَجِبُ فِي جُزْءٍ مِنَ الْوَقْتِ غَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَالتَّعْيِينُ لِلْمُصَلِّي بِاخْتِيَارِهِ مِنْ حَيْثُ الْفِعْل.
فَإِذَا شَرَعَ فِي أَوَّل الْوَقْتِ يَجِبُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَكَذَا إِذَا شَرَعَ فِي وَسَطِهِ أَوْ آخِرِهِ. وَمَتَى لَمْ يُعَيِّنْ بِالْفِعْل حَتَّى بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ مِقْدَارُ مَا يَسَعُ الصَّلاَةَ يَجِبُ عَلَيْهِ تَعْيِينُ ذَلِكَ الْوَقْتِ لِلأَْدَاءِ فِعْلاً، حَتَّى يَأْثَمَ بِتَرْكِ التَّعْيِينِ؛ لأَِنَّهُ لاَ خِيَارَ لَهُ فِي غَيْرِهِ. (1)
7 - وَدَلِيل التَّخْيِيرِ فِي أَدَاءِ الصَّلاَةِ فِي الْوَقْتِ الْمُوَسَّعِ حَدِيثُ جِبْرِيل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الَّذِي يَرْوِيهِ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: أَمَّنِي جِبْرِيل عِنْدَ الْبَيْتِ مَرَّتَيْنِ، فَصَلَّى الظُّهْرَ فِي الأُْولَى مِنْهُمَا حِينَ كَانَ الْفَيْءُ مِثْل الشِّرَاكِ، ثُمَّ صَلَّى الْعَصْرَ حِينَ كَانَ كُل
__________
(1) روضة الطالبين 1 / 183 ط المكتب الإسلامي، والمغني 1 / 395 ط الرياض الحديثة - السعودية، وحاشية الدسوقي 1 / 176 - ط دار الفكر بيروت مصورة عن الطبعة الأميرية. بدائع الصنائع 1 / 96 الطبعة الأولى 1327 هـ - شركة المطبوعات العلمية - مصر(11/69)
شَيْءٍ مِثْل ظِلِّهِ، ثُمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ حِينَ وَجَبَتِ الشَّمْسُ وَأَفْطَرَ الصَّائِمُ، ثُمَّ صَلَّى الْعِشَاءَ حِينَ غَابَ الشَّفَقُ، ثُمَّ صَلَّى الْفَجْرَ حِينَ بَرِقَ الْفَجْرُ وَحَرُمَ الطَّعَامُ عَلَى الصَّائِمِ، وَصَلَّى الْمَرَّةَ الثَّانِيَةَ الظُّهْرَ حِينَ كَانَ ظِل كُل شَيْءٍ مِثْلَهُ، لِوَقْتِ الْعَصْرِ بِالأَْمْسِ، ثُمَّ صَلَّى الْعَصْرَ حِينَ كَانَ ظِل كُل شَيْءٍ مِثْلَيْهِ، ثُمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ لِوَقْتِهِ الأَْوَّل، ثُمَّ صَلَّى الْعِشَاءَ الآْخِرَةَ حِينَ ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْل، ثُمَّ صَلَّى الصُّبْحَ حِينَ أَسْفَرَتِ الأَْرْضُ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيَّ جِبْرِيل وَقَال: يَا مُحَمَّدُ هَذَا وَقْتُ الأَْنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِكَ، وَالْوَقْتُ فِيمَا بَيْنَ هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ (1) .
وَفِي حَدِيثِ بُرَيْدَةَ عَنْ مُسْلِمٍ: وَقْتُ صَلاَتِكُمْ بَيْنَ مَا رَأَيْتُمْ (2) .
ثَانِيًا: التَّخْيِيرُ فِي نَوْعِ مَا يَجِبُ إِخْرَاجُهُ فِي الزَّكَاةِ
8 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْبَقَرَ إِذَا بَلَغَتْ مِائَةً
__________
(1) حديث: " أمني جبريل عند البيت مرتين. . . " أخرجه الترمذي (1 / 279 - 280 ط مصطفى الحلبي من حديث ابن عباس) وقال ابن حجر: وفي إسناده عبد الرحمن بن الحارث بن عياش بن أبي ربيعة، مختلف فيه، لكنه توبع. أخرجه عبد الرزاق عن عمر بن نافع بن جبير بن مطعم عن أبيه عن ابن عباس نحوه، قال ابن دقيق العيد: هي متابعة حسنة (التلخيص الحبير لابن حجر 1 / 173 - ط شركة الطباع
(2) حديث بريدة: " وقت صلاتكم بين ما رأيتم ". أخرجه مسلم (1 / 428 - ط عيسى الحلبي)(11/69)
وَعِشْرِينَ يُخَيَّرُ فِي أَخْذِ زَكَاتِهَا بَيْنَ ثَلاَثِ مُسِنَّاتٍ أَوْ أَرْبَعِ تَبِيعَاتٍ. وَالْخِيَارُ فِي ذَلِكَ لِلسَّاعِي عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَلِلْمَالِكِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهَكَذَا كُلَّمَا أَمْكَنَ أَدَاءُ الْوَاجِبِ مِنَ الأَْتْبِعَةِ أَوِ الْمُسِنَّاتِ.
أَمَّا الإِْبِل فَإِذَا بَلَغَتْ مِائَةً وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ، فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ زَكَاتُهَا حِقَّتَانِ أَوْ ثَلاَثُ بَنَاتِ لَبُونٍ، وَالْخِيَارُ فِيهِ لِلسَّاعِي. فَإِنِ اخْتَارَ السَّاعِي أَحَدَ الصِّنْفَيْنِ، وَكَانَ عِنْدَ رَبِّ الْمَال مِنَ الصِّنْفِ الآْخَرِ أَفْضَل أَجْزَأَهُ مَا أَخَذَهُ السَّاعِي، وَلاَ يُسْتَحَبُّ لَهُ إِخْرَاجُ شَيْءٍ زَائِدٍ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ زَكَاتُهَا ثَلاَثُ بَنَاتِ لَبُونٍ بِلاَ تَخْيِيرٍ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ تُسْتَأْنَفُ الْفَرِيضَةُ، (1) وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (زَكَاةٌ) .
9 - أَمَّا إِذَا ضَمَّتْ أَنْوَاعًا مُخْتَلِفَةً مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ لِتَكْمِيل نِصَابِ السَّائِمَةِ، كَأَنْ تَضُمَّ الْعِرَابَ إِلَى الْبَخَاتِيِّ مِنَ الإِْبِل، وَالْجَوَامِيسَ إِلَى الْبَقَرِ، وَالضَّأْنَ إِلَى الْمَعْزِ مِنَ الْغَنَمِ: فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُخَيَّرُ السَّاعِي فِي الأَْخْذِ مِنْ أَيُّهَا شَاءَ إِذَا تَسَاوَى النَّوْعَانِ الْمَضْمُومَانِ، وَإِذَا لَمْ يَتَسَاوَيَا أَخَذَ مِنَ الأَْكْثَرِ إِذْ الْحُكْمُ لِلأَْغْلَبِ.
__________
(1) حاشية الدسوقي 1 / 435 - 436، والمجموع 5 / 382، 416، وكشاف القناع 2 / 187، 192، والبناية 3 / 52، وفتح القدير 2 / 131(11/70)
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ فِي الْمَذْهَبِ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنَ الأَْغْلَبِ، فَإِنِ اسْتَوَيَا يُؤْخَذُ مِنَ الأَْغْبَطِ لِلْمَسَاكِينِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَذَلِكَ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ، كَاجْتِمَاعِ الْحِقَاقِ وَبَنَاتِ اللَّبُونِ.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنَ الأَْعْلَى، كَمَا لَوِ انْقَسَمَتْ إِلَى صِحَاحٍ وَمِرَاضٍ.
وَالْقَوْل الثَّالِثُ: أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنَ الْوَسَطِ كَمَا فِي الثِّمَارِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ. وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْ أَحَدِهِمَا عَلَى قَدْرِ قِيمَةِ الْمَالَيْنِ الْمُزَكَّيَيْنِ، فَإِذَا كَانَ النَّوْعَانِ سَوَاءً، وَقِيمَةُ الْمُخْرَجِ مِنْ أَحَدِهِمَا اثْنَا عَشَرَ، وَالْمُخْرَجُ مِنَ الآْخَرِ خَمْسَةَ عَشَرَ، أَخْرَجَ مِنْ أَحَدِهِمَا مَا قِيمَتُهُ ثَلاَثَةَ عَشَرَ وَنِصْفٍ. (1)
10 - فَإِنِ اتَّفَقَ فِي نِصَابٍ فَرْضَانِ، كَالْمِائَتَيْنِ مِنَ الإِْبِل، وَهِيَ نِصَابُ خَمْسِ بَنَاتِ لَبُونٍ وَنِصَابُ أَرْبَعِ حِقَاقٍ، فَيُخَيَّرُ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ شَاءَ أَخْرَجَ أَرْبَعَ حِقَاقٍ، وَإِنْ شَاءَ أَخْرَجَ خَمْسَ بَنَاتِ لَبُونٍ؛ لِحَدِيثِ: فَإِذَا كَانَتْ مِائَتَيْنِ فَفِيهَا أَرْبَعُ حِقَاقٍ أَوْ خَمْسُ بَنَاتِ لَبُونٍ (2) ، وَلأَِنَّهُ وَجَدَ مَا يَقْتَضِي إِخْرَاجَ كُل نَوْعٍ مِنْهُمَا.
__________
(1) حاشية الدسوقي 1 / 436، والمجموع 5 / 424، وبدائع الصنائع 2 / 33، وكشاف القناع 2 / 193
(2) حديث: " فإذا كانت مائتين ففيها. . . " أخرجه أبو داود (2 / 227 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والحاكم (1 / 393 - 394 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما وصححه الحاكم على شرط الشيخين(11/70)
وَالْخِيَارُ فِي هَذَا لِلْمَالِكِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ،
وَلِلشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ أَنَّهُ تَجِبُ أَرْبَعُ حِقَاقٍ؛ لأَِنَّهُ إِذَا أَمْكَنَ تَغَيُّرُ الْفَرْضِ بِالسِّنِّ، لَمْ يُغَيَّرْ بِالْعَدَدِ. (1)
ثَالِثًا: التَّخْيِيرُ فِي فِدْيَةِ الْجِنَايَةِ عَلَى الإِْحْرَامِ فِي الْحَجِّ
11 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ إِذَا جَنَى عَلَى إِحْرَامِهِ بِأَنْ حَلَقَ شَعْرَهُ، أَوْ قَلَّمَ أَظْفَارَهُ، أَوْ تَطَيَّبَ، أَوْ لَبِسَ مَخِيطًا، أَنَّهُ تَجِبُ عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ وَهِيَ عَلَى التَّخْيِيرِ بَيْنَ خِصَالٍ ثَلاَثٍ: فَإِمَّا أَنْ يُهْدِيَ شَاةً، أَوْ يُطْعِمَ سِتَّةَ مَسَاكِينَ، أَوْ يَصُومَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ. (2) وَتَفْصِيل مُوجِبِ الْفِدْيَةِ تَقَدَّمَ فِي مُصْطَلَحِ: (إِحْرَامٌ) .
12 - وَدَلِيل ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} (3) .
وَلِحَدِيثِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لَهُ: لَعَلَّكَ آذَاكَ هَوَامُّ
__________
(1) حاشية الدسوقي 1 / 434، وكشاف القناع 2 / 187، والمجموع 5 / 410، وفتح القدير 2 / 130
(2) المجموع 7 / 364 - 384، وكشاف القناع 2 / 451، وفتح القدير 2 / 451، وحاشية الدسوقي 2 / 67
(3) سورة البقرة / 196(11/71)
رَأْسِكَ، قَال: نَعَمْ يَا رَسُول اللَّهِ، فَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: احْلِقْ رَأْسَكَ وَصُمْ ثَلاَثَةً، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ، أَوِ انْسُكْ شَاةً (1) .
وَقَصَرَ الْحَنَفِيَّةُ التَّخْيِيرَ فِي الْفِدْيَةِ عَلَى أَصْحَابِ الأَْعْذَارِ، أَمَّا غَيْرُ الْمَعْذُورِ فَيَفْدِي بِذَبْحِ شَاةٍ، وَلاَ خِيَارَ لَهُ فِي غَيْرِهَا. وَلَمْ يُفَرِّقِ الْجُمْهُورُ بَيْنَهُمَا.
وَدَلِيل الْحَنَفِيَّةِ عَلَى مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ، أَنَّ الآْيَةَ وَارِدَةٌ فِي الْمَعْذُورِ بِدَلِيل حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ الْمُفَسِّرَةِ لِلآْيَةِ، فَجَاءَ فِي رِوَايَةٍ: قَال: حُمِلْتُ إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقَمْل يَتَنَاثَرُ عَلَى وَجْهِي، فَقَال: مَا كُنْتُ أَرَى الْوَجَعَ بَلَغَ بِكَ مَا أَرَى، أَوْ مَا كُنْتُ أَرَى الْجَهْدَ بَلَغَ بِكَ مَا أَرَى. أَتَجِدُ شَاةً؟ فَقُلْتُ: لاَ، فَقَال: صُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ لِكُل مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ (2) .
فَدَل عَلَى أَنَّهُ كَانَ مَعْذُورًا وَحُمِلَتِ الآْيَةُ عَلَيْهِ. وَدَلِيل الْجُمْهُورِ مَا تَقَدَّمَ فِي الآْيَةِ وَالْحَدِيثِ مِنَ التَّخْيِيرِ بِلَفْظِ " أَوْ ".
13 - وَالْحُكْمُ ثَابِتٌ فِي غَيْرِ الْمَعْذُورِ بِطَرِيقِ التَّنْبِيهِ
__________
(1) حديث: " لعلك آذاك هوام رأسك. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 12 ط السلفية) ومسلم (2 / 860 - ط عيسى الحلبي) من حديث كعب بن عجرة واللفظ للبخاري
(2) حديث كعب بن عجرة أخرجه البخاري (فتح الباري 8 / 186 - ط السلفية) ومسلم (2 / 862 - ط عيسى الحلبي)(11/71)
تَبَعًا لِلْمَعْذُورِ؛ لأَِنَّ كُل كَفَّارَةٍ ثَبَتَ التَّخْيِيرُ فِيهَا مَعَ الْعُذْرِ ثَبَتَ مَعَ عَدَمِهِ. (1)
14 - كَمَا يَثْبُتُ التَّخْيِيرُ فِي كَفَّارَةِ قَتْل الصَّيْدِ فِي الْحَرَمِ. وَيُخَيَّرُ فِيهِ قَاتِلُهُ بَيْنَ ثَلاَثِ خِصَالٍ: فَإِمَّا أَنْ يُهْدِيَ مِثْل مَا قَتَلَهُ مِنَ النَّعَمِ لِفُقَرَاءِ الْحَرَمِ، إِنْ كَانَ الصَّيْدُ لَهُ مِثْلٌ مِنَ الإِْبِل أَوِ الْبَقَرِ أَوِ الْغَنَمِ. أَوْ أَنْ يُقَوِّمَهُ بِالْمَال، وَيُقَوِّمَ الْمَال طَعَامًا، وَيَتَصَدَّقَ بِالطَّعَامِ عَلَى الْفُقَرَاءِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الصَّيْدَ يُقَوَّمُ ابْتِدَاءً بِالطَّعَامِ، وَلَوْ قَوَّمَهُ بِالْمَال ثُمَّ اشْتَرَى بِهِ طَعَامًا أَجْزَأَهُ.
وَالْخَصْلَةُ الثَّالِثَةُ الَّتِي يُخَيَّرُ فِيهَا قَاتِل الصَّيْدِ أَنْ يَصُومَ عَنْ كُل مُدٍّ مِنَ الطَّعَامِ يَوْمًا. (2) وَدَلِيل الاِتِّفَاقِ عَلَى التَّخْيِيرِ فِي كَفَّارَةِ صَيْدِ الْحَرَمِ قَوْله تَعَالَى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْل ذَلِكَ صِيَامًا} (3) وَ " أَوْ " تُفِيدُ التَّخْيِيرَ.
رَابِعًا: مَنْ أَسْلَمَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ:
15 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ إِلَى تَخْيِيرِ مَنْ أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ أَكْثَرُ
__________
(1) المراجع السابقة
(2) فتح القدير 3 / 7، والمجموع 7 / 427، والمغني 3 / 519، والحطاب على خليل 3 / 179، والشرح الصغير 2 / 115
(3) سورة المائدة / 95(11/72)
مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ، أَوْ أُخْتَانِ، أَوْ مَنْ لاَ يَحِل لَهُ الْجَمْعُ بَيْنَهُنَّ بِنَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ، فَيُخَيَّرُ فِي إِمْسَاكِ مَنْ أَرَادَ مِنْهُنَّ، بِأَنْ يُمْسِكَ أَرْبَعًا أَوْ أَقَل، أَوْ أَنْ يُمْسِكَ إِحْدَى الأُْخْتَيْنِ، وَهَكَذَا. وَيُفْسَخُ نِكَاحُهُ مِمَّنْ سِوَى مَنِ اخْتَارَهُنَّ. (1) وَذَلِكَ لِحَدِيثِ قَيْسِ بْنِ الْحَارِثِ قَال: أَسْلَمْتُ وَتَحْتِي ثَمَانِ نِسْوَةٍ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْتُ لَهُ ذَلِكَ، فَقَال: اخْتَرْ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا (2) .
وَلِحَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ سُوَيْدٍ الثَّقَفِيِّ: أَنَّ غَيْلاَنَ بْنَ سَلَمَةَ أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ، فَأَسْلَمْنَ مَعَهُ، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَخْتَارَ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا (3) . وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّ الْكَافِرَ إِذَا أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ خَمْسُ نِسْوَةٍ فَصَاعِدًا أَوْ أُخْتَانِ بَطَل نِكَاحُهُنَّ، إِنْ كَانَ قَدْ تَزَوَّجَهُنَّ بِعَقْدٍ
__________
(1) نهاية المحتاج 6 / 291، وروضة الطالبين 7 / 156، وكشاف القناع 5 / 122، وحاشية الدسوقي 2 / 271، وحاشية ابن عابدين 2 / 397
(2) قول قيس بن الحارث " أسلمت وتحتي ثمان نسوة. . . الحديث " أخرجه أبو داود (2 / 677 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، وفي رواية: الحارث بن قيس قال الشوكاني: قال أبو عمر ابن عبد البر: ليس له إلا حديث واحد ولم يأت من وجه صحيح (نيل الأوطار 6 / 169 - ط مصطفى الحلبي)
(3) حديث محمد بن سويد الثقفي في قصة غيلان أخرجه الترمذي (3 / 435 - ط عيسى الحلبي) وصححه ابن القطان كما في التلخيص الحبير لابن حجر (3 / 169 - ط شركة الطباعة الفنية)(11/72)
وَاحِدٍ، فَإِنْ كَانَ قَدْ رَتَّبَ فَالآْخِرُ هُوَ الَّذِي يَبْطُل. (1)
وَدَلِيلُهُمْ عَلَى مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ أَنَّ هَذِهِ الْعُقُودَ فَاسِدَةٌ، وَلَكِنَّا لاَ نَتَعَرَّضُ لَهُمْ؛ لأَِنَّا أُمِرْنَا بِتَرْكِهِمْ وَمَا يَدِينُونَ، فَإِذَا أَسْلَمُوا بَطَلَتِ الأَْنْكِحَةُ الْفَاسِدَةُ.
16 - وَمِنْ أَحْكَامِ التَّخْيِيرِ فِي هَذَا الْبَابِ وَآثَارِهِ: أَنَّ الاِخْتِيَارَ يَحْصُل بِاللَّفْظِ الصَّرِيحِ (2) كَأَنْ يَقُول: اخْتَرْتُ نِكَاحَ هَؤُلاَءِ، أَوِ اخْتَرْتُ إِمْسَاكَهُنَّ، كَمَا يَحْصُل بِأَنْ يُطَلِّقَ بَعْضَهُنَّ؛ لأَِنَّ الطَّلاَقَ لاَ يَكُونُ إِلاَّ لِزَوْجَةٍ.
كَمَا يَحْصُل إِذَا وَطِئَهَا، وَإِذَا وَطِئَ الْكُل يَتَعَيَّنُ الأَْرْبَعُ الأُْوَل لِلإِْمْسَاكِ، وَمَا عَدَاهُنَّ يَتَعَيَّنُ لِلتَّرْكِ.
وَخَالَفَ الشَّافِعِيَّةُ (3) فِي اعْتِبَارِ الْوَطْءِ اخْتِيَارًا؛ لأَِنَّ الاِخْتِيَارَ رَهْنًا كَالاِبْتِدَاءِ، وَلاَ يَصِحُّ ابْتِدَاءُ النِّكَاحِ وَاسْتِدَامَتُهُ إِلاَّ بِالْقَوْل.
وَإِذَا لَمْ يَخْتَرْ أُجْبِرَ عَلَى الاِخْتِيَارِ بِالْحَبْسِ أَوْ بِالتَّعْزِيرِ بِالضَّرْبِ وَغَيْرِهِ؛ لأَِنَّ الاِخْتِيَارَ حَقٌّ عَلَيْهِ، فَأُلْزِمَ بِالْخُرُوجِ مِنْهُ إِنِ امْتَنَعَ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ.
وَعَنِ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لاَ يُضْرَبُ مَعَ الْحَبْسِ، بَل يُشَدِّدُ عَلَيْهِ الْحَبْسَ،
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 397
(2) نهاية المحتاج 6 / 299، وكشاف القناع 5 / 123، 124
(3) روضة الطالبين 7 / 167(11/73)
فَإِنْ أَصَرَّ عُزِّرَ ثَانِيًا وَثَالِثًا إِلَى أَنْ يَخْتَارَ. وَإِذَا حُبِسَ لاَ يُعَزَّرُ عَلَى الْفَوْرِ. فَلَعَلَّهُ يُؤَخَّرُ لِيُفَكِّرَ فَيَتَخَيَّرَ بَعْدَ رَوِيَّةٍ وَإِمْعَانِ نَظَرٍ. وَمُدَّةُ الإِْمْهَال ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ. وَلَيْسَ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَخْتَارَ عَلَى الْمُمْتَنِعِ؛ لأَِنَّ الْحَقَّ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَهُوَ اخْتِيَارُ رَغْبَةٍ، فَكَانَ مِنْ حَقِّ الزَّوْجِ. (1)
وَمِنَ الأَْحْكَامِ كَذَلِكَ: أَنَّهُ إِذَا أَسْلَمَ بَعْضُ زَوْجَاتِهِ، وَلَيْسَ الْبَوَاقِي كِتَابِيَّاتٍ، فَيَنْحَصِرُ تَخْيِيرُهُ فِي الْمُسْلِمَاتِ فَقَطْ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ مَنْ لَمْ يُسْلِمْنَ؛ لِعَدَمِ حِلِّهِنَّ لَهُ. (2)
وَمِنَ الأَْحْكَامِ أَنَّهُ يَلْزَمُ الزَّوْجَ النَّفَقَةُ لِجَمِيعِهِنَّ فِي مُدَّةِ التَّخْيِيرِ إِلَى أَنْ يَخْتَارَ؛ لأَِنَّهُنَّ مَحْبُوسَاتٌ لأَِجْلِهِ، وَهُنَّ فِي حُكْمِ الزَّوْجَاتِ. (3)
خَامِسًا: تَخْيِيرُ الطِّفْل فِي الْحَضَانَةِ:
17 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى تَخْيِيرِ الْمَحْضُونِ بَيْنَ أَبِيهِ وَأُمِّهِ إِذَا تَنَازَعَا فِيهِ عَلَى مَا يَأْتِي مِنَ التَّفْصِيل، فَيُلْحَقُ بِأَيِّهِمَا اخْتَارَ. فَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمَحْضُونُ عِنْدَ أَحَدِهِمَا جَازَ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يَبْقَى التَّخْيِيرُ وَإِنْ أَسْقَطَ أَحَدُهُمَا حَقَّهُ قَبْل التَّخْيِيرِ - خِلاَفًا لِلْمَاوَرْدِيِّ وَالرُّويَانِيِّ - وَلاَ فَرْقَ فِي التَّخْيِيرِ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالأُْنْثَى.
__________
(1) نهاية المحتاج 6 / 300، وكشاف القناع 5 / 124
(2) كشاف القناع 5 / 123
(3) نهاية المحتاج 6 / 300، وكشاف القناع 5 / 123(11/73)
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: يُخَيَّرُ الْغُلاَمُ إِذَا بَلَغَ سَبْعَ سِنِينَ عَاقِلاً؛ لأَِنَّهَا السِّنُّ الَّتِي أَمَرَ الشَّرْعُ فِيهَا بِمُخَاطَبَتِهِ بِالصَّلاَةِ. وَحَدَّهُ الشَّافِعِيَّةُ بِالتَّمْيِيزِ بِأَنْ يَأْكُل وَحْدَهُ، وَيَشْرَبَ وَحْدَهُ، وَلَمْ يَعْتَبِرُوا بُلُوغَهُ السَّابِعَةَ حَدًّا، فَلَوْ جَاوَزَ السَّبْعَ بِلاَ تَمْيِيزٍ بَقِيَ عِنْدَ أُمِّهِ، وَلاَ فَرْقَ فِي هَذَا بَيْنَ الذَّكَرِ وَالأُْنْثَى. وَهَذَا يُخَالِفُ فِي ظَاهِرِهِ مَا وَرَدَ مِنْ أَمْرِهِ بِالصَّلاَةِ إِذَا بَلَغَ سَبْعَ سِنِينَ، وَعَدَمُ أَمْرِهِ بِهَا قَبْل أَنْ يَبْلُغَهَا وَإِنْ مَيَّزَ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ فِي أَمْرِهِ بِالصَّلاَةِ قَبْل السَّبْعِ مَشَقَّةً، فَخَفَّفَ عَنْهُ ذَلِكَ. بِخِلاَفِ الْحَضَانَةِ؛ لأَِنَّ الْمَدَارَ فِي التَّخْيِيرِ عَلَى مَعْرِفَةِ مَا فِيهِ صَلاَحُ نَفْسِهِ وَعَدَمِهِ، فَيُقَيَّدُ بِالتَّمْيِيزِ، وَإِنْ لَمْ يُجَاوِزِ السَّبْعَ.
وَفَرَّقَ الْحَنَابِلَةُ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالأُْنْثَى، فَيُخَيَّرُ الصَّبِيُّ إِذَا بَلَغَ سَبْعَ سِنِينَ، أَمَّا الْبِنْتُ فَتَكُونُ فِي حَضَانَةِ وَالِدِهَا إِذَا تَمَّ لَهَا سَبْعُ سِنِينَ، حَتَّى سِنِّ الْبُلُوغِ، وَبَعْدَ الْبُلُوغِ تَكُونُ عِنْدَ الأَْبِ أَيْضًا إِلَى الزِّفَافِ وُجُوبًا، وَلَوْ تَبَرَّعَتِ الأُْمُّ بِحَضَانَتِهَا؛ لأَِنَّ الْغَرَضَ مِنَ الْحَضَانَةِ الْحِفْظُ، وَالأَْبُ أَحْفَظُ لَهَا. وَلأَِنَّهَا تُخْطَبُ مِنْهُ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ تَحْتَ نَظَرِهِ (1)
18 - وَالتَّخْيِيرُ فِي الْحَضَانَةِ مَشْرُوطٌ بِالسَّلاَمَةِ مِنَ الْفَسَادِ، فَإِذَا عَلِمَ أَنَّهُ يَخْتَارُ أَحَدَهُمَا لِيُمَكِّنَهُ مِنَ
__________
(1) نهاية المحتاج 7 / 219، وكشاف القناع 5 / 501(11/74)
الْفَسَادِ، وَيَكْرَهُ الآْخَرَ لِمَا سَيُلْزِمُهُ بِهِ مِنْ أَدَبٍ، لَمْ يُعْمَل بِمُقْتَضَى اخْتِيَارِهِ؛ لأَِنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الشَّهْوَةِ، فَيَكُونُ فِيهِ إِضَاعَةٌ لَهُ.
كَمَا أَنَّهُ مَشْرُوطٌ بِأَنْ يَظْهَرَ لِلْحَاكِمِ مَعْرِفَتُهُ بِأَسْبَابِ الاِخْتِيَارِ.
19 - وَدَلِيل التَّخْيِيرِ مَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: إِنَّ زَوْجِي يُرِيدُ أَنْ يَذْهَبَ بِابْنِي، وَقَدْ سَقَانِي مِنْ بِئْرِ أَبِي عِنَبَةَ وَنَفَعَنِي، فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَذَا أَبُوكِ وَهَذِهِ أُمُّكِ، فَخُذْ بِيَدِ أَيِّهِمَا شِئْتَ، فَأَخَذَ بِيَدِ أُمِّهِ، فَانْطَلَقَتْ بِهِ (1) "
وَمَا وَرَدَ مِنْ قَضَاءِ عُمَرَ بِذَلِكَ.
20 - وَمِنْ أَحْكَامِ التَّخْيِيرِ: أَنَّهُ لَوْ امْتَنَعَ الْمُخْتَارُ مِنْ كَفَالَةِ الْمَحْضُونِ كَفَلَهُ الآْخَرُ، فَإِنْ رَجَعَ الْمُمْتَنِعُ مِنْهَا أُعِيدَ التَّخْيِيرُ.
وَإِنِ امْتَنَعَا أَيِ الأَْبُ وَالأُْمُّ، خُيِّرَ بَيْنَ الْجَدِّ وَالْجَدَّةِ، وَإِلاَّ أُجْبِرَ عَلَيْهَا مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ؛ لأَِنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ الْكَفَالَةِ. (2)
21 - وَمِنْ أَحْكَامِهِ كَذَلِكَ أَنَّ الْمُمَيِّزَ الَّذِي لاَ أَبَ لَهُ يُخَيَّرُ بَيْنَ أُمٍّ وَإِنْ عَلَتْ وَجَدٍّ وَإِنْ عَلاَ، عِنْدَ
__________
(1) حديث: " هذا أبوك وهذه أمك " أخرجه أبو داود (2 / 708 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث أبي هريرة. وصححه ابن القطان. (التلخيص الحبير 4 / 12 - ط شركة الطباعة الفنية)
(2) نهاية المحتاج 7 / 219، وكشاف القناع 5 / 501(11/74)
فَقْدِ مَنْ هُوَ أَقْرَبُ مِنْهُ، أَوْ قِيَامِ مَانِعٍ بِهِ لِوُجُودِ الْوِلاَدَةِ فِي الْكُل.
22 - وَمِنْ أَحْكَامِهِ كَذَلِكَ أَنَّ الْمُمَيِّزَ إِنْ اخْتَارَ أَحَدَ الأَْبَوَيْنِ، ثُمَّ اخْتَارَ الآْخَرَ حُوِّل إِلَيْهِ؛ لأَِنَّهُ قَدْ يَظْهَرُ الأَْمْرُ عَلَى خِلاَفِ مَا ظَنَّهُ، أَوْ يَتَغَيَّرُ حَال مَنِ اخْتَارَهُ أَوَّلاً. إِلاَّ إِذَا ظَهَرَ أَنَّ سَبَبَ اخْتِيَارِهِ لِلآْخَرِ قِلَّةُ عَقْلِهِ، فَيُجْعَل عِنْدَ أُمِّهِ وَإِنْ بَلَغَ، كَمَا قَبْل التَّمْيِيزِ.
23 - وَمِنَ الأَْحْكَامِ كَذَلِكَ: أَنَّ الْمَحْضُونَ إِذَا اخْتَارَ أَبَوَيْهِ مَعًا أُقْرِعَ بَيْنَهُمَا لاِنْتِفَاءِ الْمُرَجِّحِ.
أَمَّا إِذَا لَمْ يَخْتَرْ وَاحِدًا مِنْهُمَا، فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ الأُْمُّ أَوْلَى؛ لأَِنَّهَا أَشْفَقُ وَاسْتِصْحَابًا لِمَا كَانَ عَلَيْهِ. وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا؛ لأَِنَّهُ لاَ أَوْلَوِيَّةَ حِينَئِذٍ لأَِحَدِهِمَا، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ. فَإِذَا اخْتَارَ الْمَحْضُونُ غَيْرَ مَنْ قُدِّمَ بِالْقُرْعَةِ رُدَّ إِلَيْهِ، كَمَا لَوِ اخْتَارَهُ ابْتِدَاءً.
وَلاَ يُخَيَّرُ الْغُلاَمُ إِذَا كَانَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ لَيْسَ مِنْ أَهْل الْحَضَانَةِ؛ لأَِنَّهُ غَيْرُ أَهْلٍ فَيَكُونُ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ، وَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ الْغُلاَمُ عِنْدَ الآْخَرِ. وَإِنِ اخْتَارَ ابْنُ سَبْعٍ أَبَاهُ ثُمَّ زَال عَقْلُهُ رُدَّ إِلَى الأُْمِّ؛ لِحَاجَتِهِ إِلَى مَنْ يَتَعَهَّدُهُ كَالصَّغِيرِ، وَبَطَل اخْتِيَارُهُ لأَِنَّهُ لاَ حُكْمَ لِكَلاَمِهِ. (1)
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فَذَهَبُوا إِلَى أَنَّهُ لاَ خِيَارَ لِلصَّغِيرِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، وَأَنَّ الأُْمَّ أَحَقُّ بِهِمَا. وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَبْقَى الصَّبِيُّ عِنْدَ أُمِّهِ إِلَى أَنْ
__________
(1) المراجع السابقة(11/75)
يَسْتَغْنِيَ بِنَفْسِهِ، بِأَنْ يَأْكُل وَحْدَهُ وَيَشْرَبَ وَحْدَهُ وَيَسْتَنْجِيَ وَحْدَهُ وَيَلْبَسَ وَحْدَهُ. وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى الْبُلُوغِ فِي الْمَشْهُورِ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَيُقَابِل الْمَشْهُورَ مَا قَالَهُ ابْنُ شَعْبَانَ: إِنَّ أَمَدَ الْحَضَانَةِ فِي الذَّكَرِ حَتَّى يَبْلُغَ عَاقِلاً غَيْرَ زَمِنٍ. أَمَّا الْبِنْتُ فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ تَبْقَى حَضَانَةُ أُمِّهَا إِلَى أَنْ تَحِيضَ. وَبَعْدَ الْبُلُوغِ تَحْتَاجُ إِلَى التَّحْصِينِ وَالْحِفْظِ وَالأَْبُ فِيهِ أَقْوَى.
وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَنَّ الْبِنْتَ تُدْفَعُ إِلَى الأَْبِ إِذَا بَلَغَتْ حَدَّ الشَّهْوَةِ، لِتَحَقُّقِ الْحَاجَةِ إِلَى الصِّيَانَةِ.
أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَتَبْقَى عِنْدَ أُمِّهَا إِلَى أَنْ يَدْخُل بِهَا زَوْجُهَا؛ لأَِنَّهَا تَحْتَاجُ إِلَى مَعْرِفَةِ آدَابِ النِّسَاءِ، وَالْمَرْأَةُ عَلَى ذَلِكَ أَقْدَرُ. (1)
24 - وَالْعِلَّةُ فِي عَدَمِ تَخْيِيرِ الْمَحْضُونِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ هِيَ: قُصُورُ عَقْلِهِ الدَّاعِي إِلَى قُصُورِ اخْتِيَارِهِ. فَقَدْ يَخْتَارُ مَنْ عِنْدَهُ الدَّعَةُ وَالتَّخْلِيَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنِ اللَّعِبِ، فَلاَ يَتَحَقَّقُ الْمَقْصُودُ مِنَ الْحَضَانَةِ وَهُوَ النَّظَرُ فِي مَصَالِحِ الْمَحْضُونِ.
وَمَا وَرَدَ مِنْ أَحَادِيثَ تُفِيدُ تَخْيِيرَ الطِّفْل، جَاءَ فِيهَا أَنَّ اخْتِيَارَهُ كَانَ لِدُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَهْدِيَهُ إِلَى الأَْصْلَحِ. كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ رَافِعِ بْنِ سِنَانٍ أَنَّهُ أَسْلَمَ، وَأَبَتِ امْرَأَتُهُ أَنْ تُسْلِمَ فَقَالَتْ: ابْنَتِي وَهِيَ فَطِيمٌ، وَقَال رَافِعٌ: ابْنَتِي. فَأَقْعَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأُْمَّ نَاحِيَةً، وَالأَْبَ نَاحِيَةً، وَأَقْعَدَ الصَّبِيَّةَ نَاحِيَةً
__________
(1) فتح القدير 4 / 189، وحاشية الدسوقي 2 / 526(11/75)
وَقَال لَهُمَا: اُدْعُوَاهَا فَمَالَتِ الصَّبِيَّةُ إِلَى أُمِّهَا، فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّهُمَّ اهْدِهَا فَمَالَتْ إِلَى أَبِيهَا (1) } .
وَجَاءَ فِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ ابْنُهُمَا وَلَيْسَتْ بِنْتَهُمَا، وَلَعَلَّهُمَا قَضِيَّتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ.
كَمَا يُحْمَل مَا وَرَدَ فِي تَخْيِيرِ الْغُلاَمِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ بَالِغًا، بِدَلِيل أَنَّهُ كَانَ يَسْتَسْقِي مِنْ بِئْرِ أَبِي عِنَبَةَ، وَمَنْ يَكُونُ دُونَ الْبُلُوغِ لاَ يُرْسَل إِلَى الآْبَارِ لِلْخَوْفِ عَلَيْهِ مِنَ السُّقُوطِ.
سَادِسًا: تَخْيِيرُ الإِْمَامِ فِي الأَْسْرَى:
25 - اتَّفَقَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى تَخْيِيرِ إِمَامِ الْمُسْلِمِينَ فِي أَسْرَى الْحَرْبِ بَيْنَ خَمْسِ خِصَالٍ: فَإِمَّا أَنْ يَسْتَرِقَّهُمْ، وَإِمَّا أَنْ يَقْتُلَهُمْ، وَإِمَّا أَنْ يَأْخُذَ الْجِزْيَةَ مِنْهُمْ، وَإِمَّا أَنْ يَطْلُبَ الْفِدْيَةَ مُقَابِل إِعْتَاقِهِمْ سَوَاءٌ بِالْمَال، أَوْ بِمُفَادَاتِهِمْ بِأَسْرَى الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ فِي أَيْدِي الْكُفَّارِ، وَإِمَّا أَنْ يَمُنَّ عَلَيْهِمْ فَيُعْتِقَهُمْ.
وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ الْخَصْلَتَيْنِ الأَْخِيرَتَيْنِ، وَهُمَا الْفِدَاءُ وَالْمَنُّ، فَقَالُوا بِعَدَمِ جَوَازِ الْمَنِّ، وَعَدَمِ جَوَازِ الْمُفَادَاةِ بِالْمَال فِي الْمَشْهُورِ مِنَ الْمَذْهَبِ، أَمَّا الْمُفَادَاةُ بِأَسْرَى الْمُسْلِمِينَ فَلاَ يَجُوزُ فِي قَوْلٍ لأَِبِي حَنِيفَةَ،
__________
(1) حديث رافع بن سنان أخرجه أبو داود (2 / 679 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وقال ابن المنذر: لا يثبته أهل النقل، وفي إسناده مقال (التلخيص الحبير لابن حجر 4 / 11 - ط شركة الطباعة الفنية)(11/76)
وَجَائِزٌ فِي قَوْل الصَّاحِبَيْنِ، وَهُوَ قَوْلٌ لأَِبِي حَنِيفَةَ كَذَلِكَ. (1) وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلاَتٌ يُرْجَعُ إِلَيْهَا فِي بَحْثِ (أَسْرَى) .
وَدَلِيل جَوَازِ أَخْذِ الْجِزْيَةِ قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (2) .
وَكَذَلِكَ مَا جَاءَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَعَل ذَلِكَ فِي أَهْل السَّوَادِ.
26 - وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ تَخْيِيرِ الإِْمَامِ فِي الأَْسْرَى مَحَلُّهُ فِي الرِّجَال الْبَالِغِينَ، أَمَّا النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ فَلاَ خِيَارَ فِيهِمْ، وَلاَ يُحْكَمُ فِيهِمْ إِلاَّ بِالاِسْتِرْقَاقِ، وَحُكْمُهُمْ حُكْمُ سَائِرِ أَمْوَال الْغَنِيمَةِ. كَمَا فِي سَبَايَا هَوَازِنَ وَخَيْبَرَ وَبَنِي الْمُصْطَلِقِ.
وَجَاءَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ قَتْل النِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ. (3)
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: لِلإِْمَامِ الْخِيَرَةُ فِيهِمْ بَيْنَ الاِسْتِرْقَاقِ وَالْفِدَاءِ (4)
27 - وَتَخْيِيرُ الإِْمَامِ بَيْنَ هَذِهِ الْخِصَال مُقَيَّدٌ بِمَا يَظْهَرُ لَهُ مِنَ الْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ فِي أَحَدِهَا،
__________
(1) فَأَخَذَهَا روضة الطالبين 10 / 250 - 251، والخرشي على خليل 3 / 121، وحاشية الدسوقي 2 / 184، وكشاف القناع 3 / 51 - 54، وفتح القدير 5 / 218 - 221
(2) سورة التوبة / 29
(3) حديث: " نهى عن قتل النساء والولدان " أخرجه البخاري (فتح الباري 6 / 148 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1364 - ط عيسى الحلبي) من حديث ابن عمر رضي اله عنهما
(4) المراجع السابقة(11/76)
فَيَخْتَارُ الأَْصْلَحَ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ بَيْنِهَا. فَإِنْ كَانَ الأَْسِيرُ ذَا قُوَّةٍ وَشَوْكَةٍ فَقَتْلُهُ هُوَ الْمَصْلَحَةُ، وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا صَاحِبَ مَالٍ كَانَتِ الْمَصْلَحَةُ فِي أَخْذِ الْفِدْيَةِ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يُرْجَى إِسْلاَمُهُ فَيَمُنُّ عَلَيْهِ تَقْرِيبًا وَتَأْلِيفًا لِقَلْبِهِ عَلَى الإِْسْلاَمِ. وَإِنْ تَرَدَّدَ نَظَرُ الإِْمَامِ وَرَأْيُهُ فِي اخْتِيَارِ الأَْصْلَحِ، فَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (1) الْقَتْل أَوْلَى لِمَا فِيهِ مِنْ كِفَايَةِ شَرِّهِمْ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يَحْبِسُهُمْ حَتَّى يَظْهَرَ لَهُ الأَْصْلَحُ. فَالتَّخْيِيرُ فِي تَصَرُّفِ الإِْمَامِ فِي الأَْسْرَى مُقَيَّدٌ بِالْمَصْلَحَةِ بِخِلاَفِ التَّخْيِيرِ فِي خِصَال الْكَفَّارَةِ؛ إِذْ هُوَ تَخْيِيرٌ مُطْلَقٌ أُبِيحَ لِلْحَانِثِ بِمُوجِبِهِ أَنْ يَخْتَارَ أَيَّ خَصْلَةٍ دُونَ النَّظَرِ إِلَى الْمَصْلَحَةِ. (2)
28 - أَمَّا إِذَا اخْتَارَ الإِْمَامُ خَصْلَةً بَعْدَ الاِجْتِهَادِ وَتَقْلِيبِ وُجُوهِ الْمَصَالِحِ، ثُمَّ ظَهَرَ لَهُ بِالاِجْتِهَادِ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ فِي غَيْرِهَا، فَقَدْ قَال ابْنُ حَجَرٍ فِي تُحْفَةِ الْمُحْتَاجِ: الَّذِي يَظْهَرُ لِي فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ لاَ بُدَّ مِنْهُ أَوَّلاً:
فَإِنْ كَانَتْ رِقًّا لَمْ يَجُزْ لَهُ الرُّجُوعُ عَنْهَا مُطْلَقًا، سَوَاءٌ اسْتَرَقَّهُمْ لِسَبَبٍ أَمْ لِغَيْرِ سَبَبٍ، وَذَلِكَ لأَِنَّ أَهْل الْخُمُسِ مَلَكُوهُمْ بِمُجَرَّدِ ضَرْبِ الرِّقِّ، فَلَمْ يَمْلِكْ إِبْطَالَهُ عَلَيْهِمْ إِلاَّ بِرِضَا مَنْ دَخَلُوا فِي مِلْكِهِمْ.
وَإِنِ اخْتَارَ الْقَتْل جَازَ لَهُ الرُّجُوعُ عَنْهُ تَغْلِيبًا لِحَقْنِ الدِّمَاءِ، كَمَا فِي جَوَازِ رُجُوعِ الْمُقِرِّ بِالزِّنَى
__________
(1) الفروق 3 / 17، وكشاف القناع 3 / 53
(2) روضة الطالبين 10 / 251، والفروق 3 / 17(11/77)
وَسُقُوطِ الْقَتْل عَنْهُ، بَل إِنَّ الرُّجُوعَ عَنْ قَتْل الأَْسِيرِ أَوْلَى؛ لأَِنَّهُ مَحْضُ حَقٍّ لِلَّهِ تَعَالَى، أَمَّا حَدُّ الزِّنَا فَفِيهِ شَائِبَةُ حَقِّ آدَمِيٍّ.
أَمَّا إِذَا كَانَ مَا اخْتَارَهُ الإِْمَامُ أَوَّلاً هُوَ الْمَنُّ أَوِ الْفِدَاءُ فَلاَ يَرْجِعُ عَنْهُ بِاجْتِهَادٍ آخَرَ؛ لأَِنَّهُ مِنْ قَبِيل نَقْضِ الاِجْتِهَادِ بِالاِجْتِهَادِ مِنْ غَيْرِ مُوجِبٍ، كَمَا أَنَّ الْحَاكِمَ إذَا اجْتَهَدَ فِي قَضِيَّةٍ فَلاَ يَنْقُضُ اجْتِهَادَهُ بِاجْتِهَادٍ آخَرَ.
أَمَّا إِذَا اخْتَارَ أَحَدَهُمَا لِسَبَبٍ، ثُمَّ زَال ذَلِكَ السَّبَبُ، وَظَهَرَتِ الْمَصْلَحَةُ فِي اخْتِيَارِ الثَّانِي لَزِمَهُ الْعَمَل بِمَا أَدَّاهُ إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ ثَانِيًا، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ قَبِيل نَقْضِ الاِجْتِهَادِ بِالاِجْتِهَادِ؛ لأَِنَّهُ انْتِقَالٌ إِلَى الاِخْتِيَارِ الثَّانِي لِزَوَال مُوجِبِ الاِخْتِيَارِ الأَْوَّل.
وَيُشْتَرَطُ فِي الاِسْتِرْقَاقِ وَالْفِدَاءِ اللَّفْظُ الدَّال عَلَى اخْتِيَارِهِمَا، وَلاَ يَكْفِي مُجَرَّدُ الْفِعْل؛ لأَِنَّهُ لاَ يَدُل عَلَيْهِ دَلاَلَةً صَرِيحَةً. أَمَّا فِي غَيْرِهِمَا مِنَ الْخِصَال، فَيَكْفِي الْفِعْل لِدَلاَلَتِهِ الصَّرِيحَةِ عَلَى اخْتِيَارِهَا. (1)
سَابِعًا: تَخْيِيرُ الإِْمَامِ فِي حَدِّ الْمُحَارِبِ:
29 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ حَدَّ الْمُحَارِبِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الْجِنَايَةِ، فَلِكُل جِنَايَةٍ عُقُوبَتُهَا، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَْرْضِ فَسَادًا
__________
(1) تحفة المحتاج مع الحواشي 9 / 247 - 248(11/77)
أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلاَفٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَْرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآْخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الإِْمَامَ مُخَيَّرٌ فِي بَعْضِ جِنَايَاتِ الْمُحَارِبِ دُونَ بَعْضِهَا عَلَى تَفْصِيلٍ عِنْدَهُمْ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الإِْمَامَ بِالْخِيَارِ فِي الْمُحَارِبِ بَيْنَ أَرْبَعَةِ أُمُورٍ:
أَنْ يَقْتُلَهُ بِلاَ صَلْبٍ، أَوْ أَنْ يَصْلُبَهُ مَعَ الْقَتْل، أَوْ أَنْ يَنْفِيَ الذَّكَرَ الْحُرَّ الْبَالِغَ الْعَاقِل فِي مَكَانٍ بَعِيدٍ وَيُسْجَنَ حَتَّى تَظْهَرَ تَوْبَتُهُ أَوْ يَمُوتَ، أَوْ أَنْ تُقْطَعَ يَدُهُ الْيُمْنَى وَرِجْلُهُ الْيُسْرَى.
وَهَذِهِ الأَْرْبَعَةُ فِي حَقِّ الرِّجَال، أَمَّا النِّسَاءُ فَلاَ يُصْلَبْنَ وَلاَ يُنْفَيْنَ، وَحَدُّهُنَّ الْقَتْل أَوِ الْقَطْعُ.
وَتَخْيِيرُ الإِْمَامِ بَيْنَ هَذِهِ الأُْمُورِ يَكُونُ عَلَى أَسَاسِ الْمَصْلَحَةِ (2) .
ثَامِنًا: تَخْيِيرُ مُلْتَقِطِ اللُّقَطَةِ بَعْدَ التَّعْرِيفِ بِهَا:
30 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُلْتَقِطَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَتَمَلَّكَ مَا الْتَقَطَهُ وَيَنْتَفِعَ بِهِ، أَوْ يَتَصَدَّقَ بِهِ، أَوْ يَحْفَظَهُ أَمَانَةً إِلَى أَنْ يَظْهَرَ صَاحِبُ اللُّقَطَةِ فَيَدْفَعَهَا إِلَيْهِ، وَهَذَا بَعْدَ التَّعْرِيفِ بِهَا.
__________
(1) سورة المائدة / 33
(2) فتح القدير 5 / 177، وحاشية الدسوقي 4 / 439، وروضة الطالبين 10 / 156، والمغني 8 / 288(11/78)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ إِلَى أَنَّ الْمُلْتَقِطَ يَمْلِكُ مَا الْتَقَطَهُ حَتْمًا - كَالْمِيرَاثِ - بِمُجَرَّدِ تَمَامِ التَّعْرِيفِ بِهَا، عَلَى التَّفْصِيل الْمَذْكُورِ فِي مُصْطَلَحِ: (لُقَطَةٌ) .
وَفِي الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ قَوْل أَبِي الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ لاَ يَمْلِكُ اللُّقَطَةَ حَتَّى يَخْتَارَ التَّمَلُّكَ بِلَفْظٍ صَرِيحٍ أَوْ كِنَايَةٍ مَعَ النِّيَّةِ، وَفِي وَجْهٍ آخَرَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ يَمْلِكُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ بَعْدَ التَّعْرِيفِ. (1)
وَدَلِيل التَّمَلُّكِ وَالاِنْتِفَاعِ بِمُجَرَّدِ التَّعْرِيفِ مَا جَاءَ فِي رِوَايَاتِ الْحَدِيثِ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ عَمَّا يَلْتَقِطُهُ فَقَال: عَرِّفْهَا سَنَةً، ثُمَّ اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا، فَإِنْ جَاءَ أَحَدٌ يُخْبِرُكَ بِهَا، وَإِلاَّ فَاسْتَنْفِقْهَا وَفِي أُخْرَى: وَإِلاَّ فَهِيَ كَسَبِيل مَالِكَ وَفِي لَفْظٍ: ثُمَّ كُلْهَا وَفِي لَفْظٍ: فَانْتَفِعْ بِهَا وَفِي لَفْظٍ: فَشَأْنَكَ بِهَا (2)
31 - أَمَّا دَلِيل أَنَّهُ لاَ يَتَمَلَّكُ حَتَّى يَخْتَارَ فَمَا وَرَدَ فِي
__________
(1) الشرح الصغير 4 / 172، وحاشية ابن عابدين 3 / 320، والبناية شرح الهداية 6 / 23 - 26، وكشاف القناع 4 / 218، والمغني 5 / 701، والمهذب 1 / 437، وروضة الطالبين 5 / 407، ونهاية المحتاج 5 / 440
(2) حديث زيد بن خالد الجهني في اللقطة أخرج البخاري بعض هذه الروايات (فتح الباري 5 / 80، 84، 93 - ط السلفية) . ومسلم بعضها (3 / 1347، 1348، 1349، 1351 ط عيسى الحلبي) وأحمد في المسند (5 / 127 - ط الميمنية)(11/78)
حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلاَّ فَشَأْنَكَ بِهَا (1) فَجَعَلَهُ إِلَى اخْتِيَارِهِ، وَلأَِنَّهُ تَمَلُّكٌ بِبَدَلٍ فَاعْتُبِرَ فِيهِ اخْتِيَارُ التَّمَلُّكِ كَالْمِلْكِ بِالْبَيْعِ.
وَإِنَّمَا جَازَ لِلْمُلْتَقِطِ اخْتِيَارُ التَّصَدُّقِ؛ لأَِنَّ فِيهِ إِيصَالاً لِلْحَقِّ إِلَى الْمُسْتَحِقِّ، وَهُوَ وَاجِبٌ بِقَدْرِ الإِْمْكَانِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِإِيصَال الْعَيْنِ لِصَاحِبِهَا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِإِيصَال الْعِوَضِ عِنْدَ تَعَذُّرِهِ، وَهُوَ الثَّوَابُ عَلَى اعْتِبَارِ إِجَازَةِ صَاحِبِ اللُّقَطَةِ التَّصَدُّقَ بِهَا. وَلِهَذَا كَانَ لَهُ الْخِيَارُ عِنْدَ ظُهُورِهِ بَيْنَ إِمْضَاءِ الصَّدَقَةِ أَوِ الرُّجُوعِ بِالضَّمَانِ عَلَى الْمُلْتَقِطِ. (2) وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلاَتٌ أُخْرَى تُنْظَرُ فِي (لُقَطَةٍ) .
تَاسِعًا: التَّخْيِيرُ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ:
32 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى التَّخْيِيرِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ بَيْنَ أَرْبَعِ خِصَالٍ: إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ، أَوْ كُسْوَتُهُمْ، أَوْ عِتْقُ رَقَبَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَا يُكَفِّرُ بِهِ مِنْ هَذِهِ الثَّلاَثَةِ - بِأَنْ عَجَزَ عَنِ الإِْطْعَامِ وَالْكُسْوَةِ وَالْعِتْقِ - صَامَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ.
فَهِيَ كَفَّارَةٌ عَلَى التَّخْيِيرِ فِي الثَّلاَثَةِ الأُْولَى، وَعَلَى التَّرْتِيبِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْخَصْلَةِ الرَّابِعَةِ. (3)
__________
(1) حديث: " فإن جاء صاحبها " تقدم في التخريج السابق
(2) البناية 6 / 23 - 26
(3) كشاف القناع 6 / 242، وحاشية الدسوقي 2 / 132، 133، وحاشية قليوبي وعميرة 4 / 274، وفتح القدير 4 / 365(11/79)
وَالأَْصْل فِي التَّخْيِيرِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ قَوْله تَعَالَى: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَْيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (1) .
وَالْمَقْصُودُ بِالتَّخْيِيرِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ أَنَّ لِلْمُكَفِّرِ أَنْ يَأْتِيَ بِأَيِّ خَصْلَةٍ شَاءَ، وَأَنْ يَنْتَقِل عَنْهَا إِلَى غَيْرِهَا بِحَسَبِ مَا يَرَاهُ وَيَمِيل إِلَيْهِ وَمَا يَرَاهُ الأَْسْهَل فِي حَقِّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَا خَيَّرَهُ إِلاَّ لُطْفًا بِهِ.
وَهَذَا مَا يَفْتَرِقُ بِهِ التَّخْيِيرُ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ عَنِ التَّخْيِيرِ فِي حَدِّ الْمُحَارِبِ وَالتَّصَرُّفِ بِالأَْسْرَى حَيْثُ قُيِّدَا بِالْمَصْلَحَةِ. (2)
عَاشِرًا: التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ وَالْعَفْوِ:
33 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ وَلِيَّ الدَّمِ مُخَيَّرٌ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى النَّفْسِ بَيْنَ ثَلاَثِ خِصَالٍ: فَإِمَّا أَنْ يَقْتَصَّ مِنَ الْقَاتِل، أَوْ يَعْفُوَ عَنْهُ إِلَى الدِّيَةِ أَوْ بَعْضِهَا، أَوْ أَنْ يُصَالِحَهُ عَلَى مَالٍ مُقَابِل الْعَفْوِ، أَوْ يَعْفُوَ عَنْهُ مُطْلَقًا. (3)
__________
(1) سورة المائدة / 89
(2) الفروق 3 / 16، 17
(3) المغني 7 / 742 - 752، وبدائع الصنائع 7 / 241 و 247، وروضة الطالبين 9 / 239، وكشاف القناع 5 / 542، والبناية 10 / 8، وحاشية الدسوقي 4 / 239(11/79)
وَدَلِيل ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُْنْثَى بِالأُْنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} (1) الآْيَةَ، وقَوْله تَعَالَى
: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} إِلَى قَوْلِهِ {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} (2) الآْيَةَ: أَيْ كَفَّارَةٌ لِلْعَافِي بِصَدَقَتِهِ عَلَى الْجَانِي.
وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مِنْ قُتِل لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يُودِيَ، وَإِمَّا أَنْ يُقَادَ (3)
وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال: مَا رَأَيْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُفِعَ إِلَيْهِ شَيْءٌ فِيهِ قِصَاصٌ إِلاَّ أَمَرَ فِيهِ بِالْعَفْوِ (4) .
وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِنَّكُمْ يَا مَعْشَرَ خُزَاعَةَ قَتَلْتُمْ هَذَا الرَّجُل مِنْ هُذَيْلٍ،
__________
(1) سورة البقرة / 178
(2) سورة المائدة / 45
(3) حديث أبي هريرة: " من قتل له قتيل. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 12 / 205 - ط السلفية) . ومسلم (2 / 989 - ط عيسى الحلبي)
(4) حديث أنس: " ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع إليه. . . " أخرجه أبو داود (4 / 634 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وقال الشوكاني: إسناده لا بأس به. (نيل الأوطار 7 / 32 - ط مصطفى الحلبي)(11/80)
وَإِنِّي عَاقِلُهُ، فَمَنْ قُتِل لَهُ قَتِيلٌ بَعْدَ الْيَوْمِ فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيرَتَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَقْتُلُوا، أَوْ يَأْخُذُوا الْعَقْل (1) .
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَوَقُّفِ تَخْيِيرِ وَلِيِّ الدَّمِ فِي أَخْذِ الدِّيَةِ عَلَى رِضَا الْجَانِي.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَنْ يَعْفُوَ وَلِيُّ الدَّمِ إِلَى الدِّيَةِ إِلاَّ بِرِضَا الْجَانِي، وَأَنَّهُ لَيْسَ لِوَلِيِّ الدَّمِ جَبْرُ الْجَانِي عَلَى دَفْعِ الدِّيَةِ إِذَا سَلَّمَ نَفْسَهُ لِلْقِصَاصِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْظْهَرِ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمُعْتَمَدِ إِلَى أَنَّ مُوجِبَ الْقَتْل الْعَمْدِ هُوَ الْقَوَدُ، وَأَنَّ الدِّيَةَ بَدَلٌ عَنْهُ عِنْدَ سُقُوطِهِ. فَإِذَا عَفَا عَنِ الْقِصَاصِ وَاخْتَارَ الدِّيَةَ وَجَبَتْ دُونَ تَوَقُّفٍ عَلَى رِضَا الْجَانِي. وَهُوَ قَوْل أَشْهَبَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ. وَفِي قَوْلٍ آخَرَ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ مُوجِبَ الْقَتْل الْعَمْدِ هُوَ الْقِصَاصُ أَوِ الدِّيَةُ أَحَدُهُمَا لاَ بِعَيْنِهِ، وَيَتَخَيَّرُ وَلِيُّ الدَّمِ فِي تَعْيِينِ أَحَدِهِمَا. (2)
34 - أَمَّا دَلِيل الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ فِيمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ فَهُوَ مَا وَرَدَ مِنْ نُصُوصٍ تُوجِبُ الْقِصَاصَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ
__________
(1) حديث: " إنكم يا معشر خزاعة. . . " أخرجه الترمذي (3 / 21 - ط عيسى الحلبي) من حديث أبي شريح الكعبي وقال: حسن صحيح، وقال ابن حجر: أصله متفق عليه. (التلخيص الحبير 4 / 21 - ط شركة الطباعة الفنية)
(2) بدائع الصنائع 7 / 241، وحاشية الدسوقي 4 / 240، وروضة الطالبين 9 / 239، وكشاف القناع 5 / 543(11/80)
الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} (1) مِمَّا يُعَيِّنُ الْقِصَاصَ. فَهُوَ إِخْبَارٌ عَنْ كَوْنِ الْقِصَاصِ هُوَ الْوَاجِبَ، وَهَذَا يُبْطِل الْقَوْل بِأَنَّ الدِّيَةَ وَاجِبَةٌ كَذَلِكَ. وَلَمَّا كَانَ الْقَتْل لاَ يُقَابَل بِالْجَمْعِ بَيْنَ الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ، كَانَ الْقِصَاصُ هُوَ عَيْنَ حَقِّ الْوَلِيِّ، وَالدِّيَةُ بَدَل حَقِّهِ، وَلَيْسَ لِصَاحِبِ الْحَقِّ أَنْ يَعْدِل مِنْ عَيْنِ الْحَقِّ إِلَى بَدَلِهِ مِنْ غَيْرِ رِضَا مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ، وَلِهَذَا لاَ يَجُوزُ اخْتِيَارُ الدِّيَةِ مِنْ غَيْرِ رِضَا الْقَاتِل.
وَأَمَّا دَلِيل الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فَهُوَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَدِلَّةِ جَوَازِ الْعَفْوِ إِلَى الدِّيَةِ؛ وقَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} (2) فَأَوْجَبَ سُبْحَانَهُ عَلَى الْقَاتِل أَدَاءَ الدِّيَةِ إِلَى الْوَلِيِّ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ الرِّضَا، دَفْعًا لِلْهَلاَكِ عَنْ نَفْسِهِ.
وَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ تَشْرِيعِ الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ هُوَ الزَّجْرَ، فَكَانَ يَنْبَغِي الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، كَمَا فِي شُرْبِ خَمْرِ الذِّمِّيِّ، إِلاَّ أَنَّهُ تَعَذَّرَ الْجَمْعُ؛ لأَِنَّ الدِّيَةَ بَدَل النَّفْسِ، وَفِي الْقِصَاصِ مَعْنَى الْبَدَلِيَّةِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} (3) وَالْبَاءُ تُفِيدُ الْبَدَلِيَّةَ، فَيُؤَدِّي إِلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الْبَدَلَيْنِ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ، فَخُيِّرَ وَلِيُّ الدَّمِ بَيْنَهُمَا.
__________
(1) سورة البقرة / 178
(2) سورة البقرة / 178
(3)) سورة المائدة / 45(11/81)
تَدَاخُلٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّدَاخُل فِي اللُّغَةِ: تَشَابُهُ الأُْمُورِ وَالْتِبَاسُهَا وَدُخُول بَعْضِهَا فِي بَعْضٍ. (1)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: دُخُول شَيْءٍ فِي شَيْءٍ آخَرَ بِلاَ زِيَادَةِ حَجْمٍ وَمِقْدَارٍ. وَتَدَاخُل الْعَدَدَيْنِ أَنْ يَعُدَّ أَقَلُّهُمَا الأَْكْثَرَ، أَيْ يُفْنِيهِ، مِثْل ثَلاَثَةٍ وَتِسْعَةٍ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الاِنْدِرَاجُ:
2 - الاِنْدِرَاجُ مَصْدَرُ انْدَرَجَ، وَمِنْ مَعَانِيهِ فِي اللُّغَةِ: الاِنْقِرَاضُ.
وَيَسْتَعْمِلُهُ الْفُقَهَاءُ بِمَعْنَى دُخُول أَمْرٍ فِي أَمْرٍ آخَرَ أَعَمَّ مِنْهُ، كَالْحَدَثِ الأَْصْغَرِ مَعَ الْجَنَابَةِ فِي الطَّهَارَةِ (3) .
__________
(1) الصحاح والقاموس واللسان والمصباح مادة: " دخل "
(2) التعريفات للجرجاني / 76 ط دار الكتاب العربي
(3) المنثور 1 / 271 ط الأولى(11/81)
ب - التَّبَايُنُ:
3 - مَعْنَى التَّبَايُنِ فِي اللُّغَةِ: التَّهَاجُرُ وَالتَّبَاعُدُ. (1)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: عِبَارَةٌ عَمَّا إِذَا نُسِبَ أَحَدُ الشَّيْئَيْنِ إِلَى الآْخَرِ لَمْ يَصْدُقْ أَحَدُهُمَا عَلَى شَيْءٍ مِمَّا صَدَقَ عَلَيْهِ الآْخَرُ، فَإِنْ لَمْ يَتَصَادَقَا عَلَى شَيْءٍ أَصْلاً فَبَيْنَهُمَا التَّبَايُنُ الْكُلِّيُّ، وَإِنْ صَدَقَا فِي الْجُمْلَةِ فَبَيْنَهُمَا التَّبَايُنُ الْجُزْئِيُّ. كَالْحَيَوَانِ وَالأَْبْيَضِ وَبَيْنَهُمَا الْعُمُومُ مِنْ وَجْهٍ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّدَاخُل وَاضِحٌ، إِذِ التَّدَاخُل إِنَّمَا يَكُونُ فِي الأُْمُورِ الْمُتَشَابِهَةِ وَالْمُتَقَارِبَةِ، أَمَّا التَّبَايُنُ فَيَكُونُ فِي الأُْمُورِ الْمُتَفَاوِتَةِ كُلِّيًّا أَوْ جُزْئِيًّا. (2)
ج - التَّمَاثُل:
4 - التَّمَاثُل: مَصْدَرُ تَمَاثَل، وَمَادَّةُ مِثْل فِي اللُّغَةِ تَأْتِي بِمَعْنَى الشَّبَهِ، وَبِمَعْنَى نَفْسِ الشَّيْءِ وَذَاتِهِ
وَالْفُقَهَاءُ يَسْتَعْمِلُونَ التَّمَاثُل بِمَعْنَى التَّسَاوِي، كَمَا فِي تَمَاثُل الْعَدَدَيْنِ فِي مَسَائِل الإِْرْثِ (3) .
__________
(1) الصحاح والقاموس مادة: " بين "
(2) التعريفات للجرجاني ص 72 ط دار الكتاب العربي
(3) المصباح واللسان مادة: " مثل "، والاختيار 5 / 122 ط دار المعرفة، والزرقاني 8 / 220 ط الفكر، ومغني المحتاج 3 / 33 - 34 ط الحلبي(11/82)
د - التَّوَافُقُ:
5 - مَعْنَى التَّوَافُقِ فِي اللُّغَةِ: الاِتِّفَاقُ وَالتَّظَاهُرُ. (1)
وَتَوَافُقُ الْعَدَدَيْنِ: أَلاَّ يَعُدَّ أَقَلُّهُمَا الأَْكْثَرَ، وَلَكِنْ يَعُدُّهُمَا عَدَدٌ ثَالِثٌ، كَالثَّمَانِيَةِ مَعَ الْعِشْرِينَ، يَعُدُّهُمَا أَرْبَعَةٌ، فَهُمَا مُتَوَافِقَانِ بِالرُّبْعِ؛ لأَِنَّ الْعَدَدَ الْعَادَّ مُخْرِجٌ لِجُزْءِ الْوَفْقِ (2) .
مَحَل التَّدَاخُل:
6 - ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ التَّدَاخُل: إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الأَْسْبَابِ: وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الأَْحْكَامِ. وَالأَْلْيَقُ بِالْعِبَادَاتِ الأَْوَّل، وَبِالْعُقُوبَاتِ الثَّانِي، وَذَلِكَ مَا جَاءَ فِي الْعِنَايَةِ: أَنَّ التَّدَاخُل فِي الْعِبَادَاتِ إِذَا كَانَ فِي الْحُكْمِ دُونَ السَّبَبِ كَانَتِ الأَْسْبَابُ بَاقِيَةً عَلَى تَعَدُّدِهَا، فَيَلْزَمُ وُجُودُ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلْعِبَادَةِ بِدُونِ الْعِبَادَةِ، وَفِي ذَلِكَ تَرْكُ الاِحْتِيَاطِ فِيمَا يَجِبُ فِيهِ الاِحْتِيَاطُ، فَقُلْنَا بِتَدَاخُل الأَْسْبَابِ فِيهَا لِيَكُونَ جَمِيعُهَا بِمَنْزِلَةِ سَبَبٍ وَاحِدٍ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ حُكْمُهُ إِذَا وُجِدَ دَلِيل الْجَمْعِ وَهُوَ اتِّحَادُ الْمَجْلِسِ، وَأَمَّا الْعُقُوبَاتُ فَلَيْسَ مِمَّا يُحْتَاطُ فِيهَا، بَل فِي دَرْئِهَا احْتِيَاطٌ فَيُجْعَل التَّدَاخُل فِي الْحُكْمِ؛ لِيَكُونَ عَدَمُ الْحُكْمِ مَعَ وُجُودِ الْمُوجِبِ مُضَافًا إِلَى
__________
(1) القاموس مادة: " وفق "
(2) التعريفات للجرجاني ص 95 ط دار الكتاب العربي، وحاشية قليوبي 3 / 153 ط الحلبي(11/82)
عَفْوِ اللَّهِ وَكَرَمِهِ، فَإِنَّهُ هُوَ الْمَوْصُوفُ بِسُبُوغِ الْعَفْوِ وَكَمَال الْكَرَمِ.
وَفَائِدَةُ ذَلِكَ تَظْهَرُ فِيمَا لَوْ تَلاَ آيَةَ سَجْدَةٍ فِي مَكَانٍ فَسَجَدَهَا، ثُمَّ تَلاَهَا فِيهِ مَرَّاتٍ فَإِنَّهُ يَكْفِيهِ تِلْكَ الْوَاقِعَةُ أَوَّلاً؛ إِذْ لَوْ لَمْ يَكُنِ التَّدَاخُل فِي السَّبَبِ لَكَانَتِ التِّلاَوَةُ الَّتِي بَعْدَ السَّجْدَةِ سَبَبًا، وَحُكْمُهُ قَدْ تَقَدَّمَ، وَذَلِكَ لاَ يَجُوزُ.
وَأَمَّا فِي الْعُقُوبَاتِ: فَإِنَّهُ لَوْ زَنَى، ثُمَّ زَنَى ثَانِيَةً قَبْل أَنْ يُحَدَّ الأُْولَى، فَإِنَّ عَلَيْهِ حَدًّا وَاحِدًا، بِخِلاَفِ مَا لَوْ زَنَى فَحُدَّ، ثُمَّ زَنَى فَإِنَّهُ يُحَدُّ ثَانِيًا. (1)
وَذَكَرَ صَاحِبُ الْفُرُوقِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ التَّدَاخُل مَحَلُّهُ الأَْسْبَابُ لاَ الأَْحْكَامُ، وَلَمْ يُفَرِّقْ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الطِّهَارَاتِ وَالْعِبَادَاتِ، كَالصَّلاَةِ وَالصِّيَامِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالْحُدُودِ وَالأَْمْوَال. بَل ذَكَرَ أَنَّ الْحُدُودَ الْمُتَمَاثِلَةَ إِنِ اخْتَلَفَتْ أَسْبَابُهَا كَالْقَذْفِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ، أَوْ تَمَاثَلَتْ كَالزِّنَى مِرَارًا وَالسَّرِقَةِ مِرَارًا وَالشُّرْبِ مِرَارًا قَبْل إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ، فَإِنَّهَا مِنْ أَوْلَى الأَْسْبَابِ بِالتَّدَاخُل؛ لأَِنَّ تَكَرُّرَهَا مُهْلِكٌ. (2)
وَيَظْهَرُ مِمَّا ذَكَرَهُ الْحَنَابِلَةُ فِي الطِّهَارَاتِ وَكَفَّارَةِ الصِّيَامِ، فِيمَا لَوْ تَكَرَّرَ مِنْهُ الْجِمَاعُ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ قَبْل
__________
(1) العناية مع فتح القدير ونتائج الأفكار 1 / 390 ط الأميرية، والبحر الرائق 2 / 135 ط العلمية
(2) الفروق للقرافي، الفرق السابع والخمسون 2 / 29 - 30 ط دار المعرفة(11/83)
التَّكْفِيرِ، وَفِي الْحُدُودِ إِنْ كَانَتْ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ أَوْ أَجْنَاسٍ أَنَّ التَّدَاخُل عِنْدَهُمْ أَيْضًا إِنَّمَا يَكُونُ فِي الأَْسْبَابِ دُونَ الأَْحْكَامِ. (1)
هَذَا وَيَظْهَرُ مِمَّا ذَكَرَهُ الزَّرْكَشِيُّ فِي الْمَنْثُورِ أَنَّ التَّدَاخُل إِنَّمَا يَكُونُ فِي الأَْحْكَامِ دُونَ الأَْسْبَابِ، وَلاَ فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْعِبَادَاتِ وَالْعُقُوبَاتِ وَالإِْتْلاَفَاتِ. (2)
آثَارُ التَّدَاخُل الْفِقْهِيَّةِ وَمَوَاطِنُهُ:
7 - ذَكَرَ الْقَرَافِيُّ فِي الْفُرُوقِ أَنَّ التَّدَاخُل وَقَعَ فِي الشَّرِيعَةِ فِي سِتَّةِ أَبْوَابٍ، وَهِيَ الطِّهَارَاتُ وَالصَّلَوَاتُ وَالصِّيَامُ وَالْكَفَّارَاتُ وَالْحُدُودُ وَالأَْمْوَال. (3)
وَذَكَرَ الزَّرْكَشِيُّ فِي الْمَنْثُورِ أَنَّهُ يَدْخُل فِي ضُرُوبٍ، وَهِيَ: الْعِبَادَاتُ وَالْعُقُوبَاتُ وَالإِْتْلاَفَاتُ. (4)
وَذَكَرَ السُّيُوطِيُّ وَابْنُ نُجَيْمٍ أَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ أَمْرَانِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، وَلَمْ يَخْتَلِفْ مَقْصُودُهُمَا، دَخَل أَحَدُهُمَا فِي الآْخَرِ غَالِبًا، كَالْحَدَثِ مَعَ الْجَنَابَةِ. (5)
__________
(1) كشاف القناع 1 / 156 و 2 / 326 و 6 / 85 - 87 ط النصر، والمغني 8 / 213 ط الرياض، والإنصاف 3 / 320 ط النصر، والكافي 1 / 61 ط المكتب الإسلامي، ومنتهى الإرادات 1 / 32 ط العروبة
(2) المنثور 1 / 269 - 277 ط الأولى
(3) الفروق للقرافي، الفرق السابع والخمسون 2 / 29 - 30 ط دار المعرفة
(4) المنثور للزركشي 1 / 269 - 277 ط الأولى
(5) الأشباه والنظائر للسيوطي / 126 ط العلمية، والأشباه والنظائر لابن نجيم / 132 ط الهلال(11/83)
هَذَا وَالتَّدَاخُل يَذْكُرُهُ الْفُقَهَاءُ فِي الطَّهَارَةِ وَالصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ، وَالْفِدْيَةِ وَالْكَفَّارَةِ وَالْعِدَدِ، وَالْجِنَايَةِ عَلَى النَّفْسِ وَالأَْطْرَافِ وَالدِّيَاتِ، وَالْحُدُودِ وَالْجِزْيَةِ، وَفِي حِسَابِ الْمَوَارِيثِ. وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي: -
أَوَّلاً - الطِّهَارَاتُ:
8 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ مِنْ سُنَنِ الْغُسْل: الْوُضُوءَ قَبْلَهُ، لأَِنَّهُ صِفَةُ غُسْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ وَمَيْمُونَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَنَصُّ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا اغْتَسَل مِنَ الْجَنَابَةِ يَبْدَأُ فَيَغْسِل يَدَيْهِ، ثُمَّ يُفْرِغُ بِيَمِينِهِ عَلَى شِمَالِهِ فَيَغْسِل فَرْجَهُ، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ وُضُوءَهُ لِلصَّلاَةِ، ثُمَّ يَأْخُذُ الْمَاءَ وَيُدْخِل أَصَابِعَهُ فِي أُصُول الشَّعْرِ، حَتَّى إِذَا رَأَى أَنْ قَدِ اسْتَبْرَأَ، حَفَنَ عَلَى رَأْسِهِ ثَلاَثَ حَثَيَاتٍ، ثُمَّ أَفَاضَ عَلَى سَائِرِ جَسَدِهِ، ثُمَّ غَسَل رِجْلَيْهِ (1) .
هَذَا عَنْ تَحْصِيل السُّنَّةِ. أَمَّا الأَْجْزَاءُ فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الطِّهَارَاتِ كَالْوُضُوءِ وَالْغُسْل إِذَا تَكَرَّرَتْ أَسْبَابُهُمَا الْمُخْتَلِفَةُ كَالْحَيْضِ وَالْجَنَابَةِ، أَوِ الْمُتَمَاثِلَةُ كَالْجَنَابَتَيْنِ، وَالْمُلاَمَسَتَيْنِ، فَإِنَّ تِلْكَ الأَْسْبَابَ تَتَدَاخَل، فَيَكْفِي فِي الْجَنَابَتَيْنِ، أَوْ فِي
__________
(1) حديث: " كان إذا اغتسل من الجنابة يبدأ فيغسل. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 360 - ط السلفية) ومسلم (1 / 253 - ط عيسى الحلبي) واللفظ لمسلم(11/84)
الْحَيْضِ وَالْجَنَابَةِ، أَوْ فِي الْجَنَابَةِ وَالْمُلاَمَسَةِ غُسْلٌ وَاحِدٌ، لاَ يَحْتَاجُ بَعْدَهُ إِلَى وُضُوءٍ؛ لاِنْدِرَاجِ سَبَبِهِ فِي السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلْغُسْل. (1)
وَذَكَرَ الزَّرْكَشِيُّ فِي الْمَنْثُورِ أَنَّ الْفِعْلَيْنِ فِي الْعِبَادَاتِ، إِنْ كَانَا فِي وَاجِبٍ وَلَمْ يَخْتَلِفَا فِي الْقَصْدِ، تَدَاخَلاَ، كَغُسْل الْحَيْضِ مَعَ الْجَنَابَةِ، فَإِذَا أَجْنَبَتْ ثُمَّ حَاضَتْ، كَفَى لَهُمَا غُسْلٌ وَاحِدٌ (2) .
هَذَا وَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي تَدَاخُل الْوُضُوءِ وَالْغُسْل إِذَا وَجَبَا عَلَيْهِ - كَمَا لَوْ أَحْدَثَ ثُمَّ أَجْنَبَ أَوْ عَكْسُهُ - أَرْبَعَةَ أَوْجُهٍ، انْفَرَدَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَوَّلِهَا، وَاتَّفَقُوا مَعَ الْحَنَابِلَةِ فِي الْبَاقِي.
أَحَدُهُمَا، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَدِ انْفَرَدُوا فِيهِ عَنِ الْحَنَابِلَةِ، لَكِنَّ ابْنَ تَيْمِيَّةَ اخْتَارَهُ: أَنَّهُ يَكْفِيهِ الْغُسْل، نَوَى الْوُضُوءَ مَعَهُ أَوْ لَمْ يَنْوِهِ، غَسَل الأَْعْضَاءَ مُرَتَّبَةً أَمْ لاَ؛ لأَِنَّهُمَا طَهَارَتَانِ، فَتَدَاخَلَتَا. (3)
وَالثَّانِي، وَذَهَبَ إِلَيْهِ أَيْضًا الْحَنَابِلَةُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْ أَحْمَدَ، وَهُوَ مِنْ مُفْرَدَاتِ الْمَذْهَبِ عِنْدَهُمْ: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ وَالْغُسْل؛ لأَِنَّهُمَا
__________
(1) الفروق للقرافي، الفرق السابع والخمسون 2 / 29 ط دار المعرفة، والأشباه لابن نجيم / 132 ط الهلال
(2) المنثور 1 / 269 ط الأولى
(3) نهاية المحتاج 1 / 213، 214 ط المكتبة الإسلامية، وتحفة المحتاج 1 / 286 ط دار صادر، وحاشية قليوبي 1 / 68 ط دار المعرفة، والمنثور 1 / 269 ط الأولى، والمهذب 1 / 39 ط دار المعرفة(11/84)
حَقَّانِ مُخْتَلِفَانِ يَجِبَانِ بِسَبَبَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، فَلَمْ يَدْخُل أَحَدُهُمَا فِي الآْخَرِ كَحَدِّ الزِّنَى وَالسَّرِقَةِ، فَإِنْ نَوَى الْوُضُوءَ دُونَ الْغُسْل أَوْ عَكْسَهُ، فَلَيْسَ لَهُ غَيْرُ مَا نَوَى. (1)
الثَّالِثُ، وَاخْتَارَهُ أَيْضًا أَبُو بَكْرٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَقَطَعَ بِهِ فِي الْمُبْهِجِ: أَنَّهُ يَأْتِي بِخَصَائِصِ الْوُضُوءِ، بِأَنْ يَتَوَضَّأَ مُرَتَّبًا، ثُمَّ يَغْسِل سَائِرَ الْبَدَنِ؛ لأَِنَّهُمَا مُتَّفِقَانِ فِي الْغُسْل وَمُخْتَلِفَانِ فِي التَّرْتِيبِ، فَمَا اتَّفَقَا فِيهِ تَدَاخَلاَ، وَمَا اخْتَلَفَا فِيهِ لَمْ يَتَدَاخَلاَ. (2)
الرَّابِعُ، وَهُوَ مَا حَكَاهُ أَبُو حَاتِمٍ الْقَزْوِينِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ مُطْلَقًا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَعَلَيْهِ جَمَاهِيرُ أَصْحَابِهِمْ، وَقَطَعَ بِهِ كَثِيرٌ مِنْهُمْ: أَنَّهُمَا يَتَدَاخَلاَنِ فِي الأَْفْعَال دُونَ النِّيَّةِ؛ لأَِنَّهُمَا عِبَادَتَانِ مُتَجَانِسَتَانِ صُغْرَى وَكُبْرَى، فَدَخَلَتِ الصُّغْرَى فِي الْكُبْرَى فِي الأَْفْعَال دُونَ النِّيَّةِ، كَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ (3) .
هَذَا، وَجَاءَ فِي الإِْنْصَافِ عَنِ الدَّيْنَوَرِيِّ فِي وَجْهٍ حَكَاهُ: أَنَّهُ إِنْ أَحْدَثَ ثُمَّ أَجْنَبَ فَلاَ
__________
(1) المهذب 1 / 39 ط. دار المعرفة، والكافي 1 / 61 ط المكتب الإسلامي، ومنتهى الإرادات 1 / 32 ط العروبة، والإنصاف 1 / 259 ط التراث
(2) المهذب 1 / 39 ط. دار المعرفة، والإنصاف 1 / 259 ط التراث
(3) المهذب 1 / 39 ط دار المعرفة، والمجموع 2 / 194 - 195 ط السلفية، والإنصاف 1 / 259 ط التراث، وكشاف القناع 1 / 156 ط النصر(11/85)
تَدَاخُل، وَجَاءَ فِيهِ أَيْضًا أَنَّ مَنْ أَحْدَثَ ثُمَّ أَجْنَبَ، أَوْ أَجْنَبَ ثُمَّ أَحْدَثَ يَكْفِيهِ الْغُسْل عَلَى الأَْصَحِّ، وَهُوَ مُمَاثِلٌ لِمَا حَكَاهُ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْوَجْهِ الأَْوَّل. (1)
ثَانِيًا: التَّدَاخُل فِي الصَّلاَةِ وَلَهُ أَمْثِلَةٌ:
أ - تَدَاخُل تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ وَصَلاَةِ الْفَرْضِ:
9 - ذَكَرَ ابْنُ نُجَيْمٍ فِي الأَْشْبَاهِ، وَالْقَرَافِيُّ فِي الْفُرُوقِ: أَنَّ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ تَدْخُل فِي صَلاَةِ الْفَرْضِ مَعَ تَعَدُّدِ سَبَبِهِمَا، فَإِنَّ سَبَبَ التَّحِيَّةِ هُوَ دُخُول الْمَسْجِدِ، وَسَبَبُ الظُّهْرِ مَثَلاً هُوَ الزَّوَال، فَيَقُومُ سَبَبُ الزَّوَال مَقَامَ سَبَبِ الدُّخُول، فَيَكْتَفِي بِهِ.
وَذَكَرَ الزَّرْكَشِيُّ فِي الْمَنْثُورِ أَنَّ التَّدَاخُل فِي الْعِبَادَاتِ إِنْ كَانَ فِي مَسْنُونٍ، وَكَانَ ذَلِكَ الْمَسْنُونُ مِنْ جِنْسِ الْمَفْعُول، دَخَل تَحْتَهُ، كَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ مَعَ صَلاَةِ الْفَرْضِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ تَدْخُل فِي الْفَرْضِ وَالسُّنَّةِ الرَّاتِبَةِ. (2)
ب - تَدَاخُل سُجُودِ السَّهْوِ:
10 - جَاءَ صَرِيحًا فِي حَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ - مِنْ
__________
(1) الإنصاف 1 / 259
(2) الفروق للقرافي، الفرق السابع والخمسون 2 / 29 ط دار المعرفة، والأشباه لابن نجيم / 132 ط. الهلال، والمنثور 1 / 269 - 270 ط الأولى، وكشاف القناع 1 / 324 و 2 / 46(11/85)
كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ - فِيمَنْ تَكَرَّرَ سَهْوُهُ بِحَيْثُ أَدَّى ذَلِكَ إِلَى تَرْكِ جَمِيعِ وَاجِبَاتِ الصَّلاَةِ، فَإِنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ إِلاَّ سَجْدَتَانِ.
وَقَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ مَا جَاءَ فِي الْمُدَوَّنَةِ مِنْ كُتُبِ الْمَالِكِيَّةِ فِيمَنْ نَسِيَ تَكْبِيرَةً أَوْ تَكْبِيرَتَيْنِ، أَوْ نَسِيَ " سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ " مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ، أَوْ نَسِيَ التَّشَهُّدَ أَوِ التَّشَهُّدَيْنِ.
وَجَاءَ فِي الْمَنْثُورِ وَالأَْشْبَاهِ مِنْ كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ جُبْرَانَاتِ الصَّلاَةِ تَتَدَاخَل لاِتِّحَادِ الْجِنْسِ، فَسُجُودُ السَّهْوِ وَإِنْ تَعَدَّدَ سَجْدَتَانِ؛ لأَِنَّ الْقَصْدَ بِسُجُودِ السَّهْوِ إِرْغَامُ أَنْفِ الشَّيْطَانِ، وَقَدْ حَصَل بِالسَّجْدَتَيْنِ آخِرَ الصَّلاَةِ، بِخِلاَفِ جُبْرَانَاتِ الإِْحْرَامِ فَلاَ تَتَدَاخَل؛ لأَِنَّ الْقَصْدَ جَبْرُ النُّسُكِ وَهُوَ لاَ يَحْصُل إِلاَّ بِالتَّعَدُّدِ. (1)
وَقَال صَاحِبُ الْمُغْنِي: إِذَا سَهَا سَهْوَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ جِنْسٍ كَفَاهُ سَجْدَتَانِ لِلْجَمِيعِ، لاَ نَعْلَمُ أَحَدًا خَالَفَ فِيهِ. وَإِنْ كَانَ السَّهْوُ مِنْ جِنْسَيْنِ، فَكَذَلِكَ، حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ قَوْلاً لأَِحْمَدَ، وَهُوَ قَوْل أَكْثَرِ أَهْل الْعِلْمِ، مِنْهُمْ: النَّخَعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَمَالِكٌ وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ فِيهِ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مَا ذَكَرْنَا.
__________
(1) ابن عابدين 1 / 497 ط بولاق، والمدونة 1 / 138 ط. دار صادر، والمنثور 1 / 270 ط. الأولى، والأشباه للسيوطي / 126 ط العلمية(11/86)
وَالثَّانِي: يَسْجُدُ سُجُودَيْنِ، قَال الأَْوْزَاعِيُّ وَابْنُ أَبِي حَازِمٍ وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ: إِذَا كَانَ عَلَيْهِ سُجُودَانِ، أَحَدُهُمَا قَبْل السَّلاَمِ، وَالآْخَرُ بَعْدَهُ سَجَدَهُمَا فِي مَحَلَّيْهِمَا؛ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِكُل سَهْوٍ سَجْدَتَانِ (1) . وَهَذَانِ سَهْوَانِ، فَلِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَجْدَتَانِ؛ وَلأَِنَّ كُل سَهْوٍ يَقْتَضِي سُجُودًا، وَإِنَّمَا تَدَاخَلاَ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ لاِتِّفَاقِهِمَا، وَهَذَانِ مُخْتَلِفَانِ. (2)
ج - التَّدَاخُل فِي سُجُودِ التِّلاَوَةِ:
11 - ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ سَجْدَةَ التِّلاَوَةِ مَبْنَاهَا عَلَى التَّدَاخُل دَفْعًا لِلْحَرَجِ.
وَالتَّدَاخُل فِيهَا تَدَاخُلٌ فِي السَّبَبِ دُونَ الْحُكْمِ؛ لأَِنَّهَا عِبَادَةٌ، فَتَنُوبُ الْوَاحِدَةُ عَمَّا قَبْلَهَا وَعَمَّا بَعْدَهَا، وَلاَ يَتَكَرَّرُ وُجُوبُهَا إِلاَّ بِاخْتِلاَفِ الْمَجْلِسِ أَوِ اخْتِلاَفِ التِّلاَوَةِ (أَيِ الآْيَةِ) أَوِ السَّمَاعِ، فَمَنْ تَلاَ آيَةً وَاحِدَةً فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ مِرَارًا تَكْفِيهِ سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ وَأَدَاءُ السَّجْدَةِ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ الأُْولَى أَوْلَى.
وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ أَنَّ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَنْزِل بِالْوَحْيِ فَيَقْرَأُ آيَةَ السَّجْدَةِ
__________
(1) حديث: " لكل سهو سجدتان ". أخرجه أبو داود (1 / 1038 - ط تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث ثوبان، وأصله في صحيح مسلم (1 / 402 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن مسعود
(2) المغني 2 / 39 - 40 ط الرياض(11/86)
عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسْمَعُ وَيَتَلَقَّنُ، ثُمَّ يَقْرَأُ عَلَى أَصْحَابِهِ، وَكَانَ لاَ يَسْجُدُ إِلاَّ مَرَّةً وَاحِدَةً (1) .
وَإِنْ تَلاَهَا فِي غَيْرِ الصَّلاَةِ فَسَجَدَ، ثُمَّ دَخَل فِي الصَّلاَةِ فَتَلاَهَا فِيهَا، سَجَدَ أُخْرَى. وَلَوْ لَمْ يَسْجُدْ أَوَّلاً كَفَتْهُ وَاحِدَةٌ؛ لأَِنَّ الصَّلاَتِيَّةَ أَقْوَى مِنْ غَيْرِهَا، فَتَسْتَتْبِعُ غَيْرَهَا وَإِنِ اخْتَلَفَ الْمَجْلِسُ. وَلَوْ لَمْ يَسْجُدْ فِي الصَّلاَةِ سَقَطَتَا فِي الأَْصَحِّ. (2)
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَاعِدَةُ الْمَذْهَبِ عِنْدَهُمْ تَكْرِيرُ سَجْدَةِ التِّلاَوَةِ، إِنْ كَرَّرَ حِزْبًا فِيهِ سَجْدَةً، وَلاَ تَكْفِيهِ السَّجْدَةُ الأُْولَى؛ لِوُجُودِ الْمُقْتَضِي لِلسُّجُودِ، بِاسْتِثْنَاءِ الْمُعَلِّمِ وَالْمُتَعَلِّمِ فَقَطْ عِنْدَ الإِْمَامِ مَالِكٍ وَابْنِ الْقَاسِمِ، وَاخْتَارَهُ الْمَازِرِيُّ، خِلاَفًا لأََصْبَغَ وَابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ الْقَائِلَيْنِ بِعَدَمِ السُّجُودِ عَلَيْهِمَا وَلاَ فِي أَوَّل مَرَّةٍ.
وَمَحَل الْخِلاَفِ كَمَا فِي حَاشِيَةِ الدُّسُوقِيِّ إِذَا حَصَل التَّكْرِيرُ لِحِزْبٍ فِيهِ سَجْدَةٌ، وَأَمَّا قَارِئُ
__________
(1) حديث: " كان يسمع ويتلقن ثم يقرأ. . . " يدل على ذلك حديث البخاري عن ابن عباس " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتاه جبريل استمع، فإذا انطلق جبريل قرأه النبي صلى الله عليه وسلم كما قرأه ". فهذا شامل للآيات التي فيها سجدات وقد كان يسجد فيها سجدة واح (فتح الباري 1 / 29)
(2) ابن عابدين 1 / 520، 521 ط. بولاق، بدائع الصنائع 1 / 181 ط. الجمالية، وتبيين الحقائق 1 / 207 ط. دار المعرفة، والبحر الرائق 2 / 135، 136 ط. العلمية، والاختيار 1 / 76 ط. دار المعرفة(11/87)
الْقُرْآنِ بِتَمَامِهِ فَإِنَّهُ يَسْجُدُ جَمِيعَ سَجَدَاتِهِ فِي غَيْرِ الصَّلاَةِ وَفِي الصَّلاَةِ، حَتَّى لَوْ قَرَأَهُ كُلَّهُ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ، سَوَاءٌ أَكَانَ مُعَلِّمًا أَمْ مُتَعَلِّمًا اتِّفَاقًا. (1)
وَجَاءَ فِي الرَّوْضَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ إِذَا قَرَأَ آيَاتِ السَّجَدَاتِ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ، سَجَدَ لِكُل وَاحِدَةٍ، وَمِثْل ذَلِكَ قِرَاءَتُهُ الآْيَةَ الْوَاحِدَةَ فِي مَجْلِسَيْنِ.
فَلَوْ كَرَّرَ الآْيَةَ الْوَاحِدَةَ فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ نُظِرَ، إِنْ لَمْ يَسْجُدْ لِلْمَرَّةِ الأُْولَى كَفَاهُ سُجُودٌ وَاحِدٌ، وَإِنْ سَجَدَ لِلأُْولَى فَثَلاَثَةُ أَوْجُهٍ: أَصَحُّهَا يَسْجُدُ مَرَّةً أُخْرَى لِتَجَدُّدِ السَّبَبِ، وَالثَّانِي تَكْفِيهِ الأُْولَى، وَالثَّالِثُ إِنْ طَال الْفَصْل سَجَدَ أُخْرَى، وَإِلاَّ فَتَكْفِيهِ الأُْولَى.
وَلَوْ كَرَّرَ الآْيَةَ الْوَاحِدَةَ فِي الصَّلاَةِ، فَإِنْ كَانَ فِي رَكْعَةٍ فَكَالْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ، وَإِنْ كَانَ فِي رَكْعَتَيْنِ فَكَالْمَجْلِسَيْنِ. وَلَوْ قَرَأَ مَرَّةً فِي الصَّلاَةِ، وَمَرَّةً خَارِجَهَا فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ وَسَجَدَ لِلأُْولَى، فَلَمْ يَرَ النَّوَوِيُّ فِيهِ نَصًّا لِلأَْصْحَابِ، وَإِطْلاَقُهُمْ يَقْتَضِي طَرْدَ الْخِلاَفِ فِيهِ. (2)
__________
(1) جواهر الإكليل 1 / 73 ط دار المعرفة، والدسوقي 1 / 311 ط الفكر، والزرقاني 1 / 277، 278 ط الفكر، ومواهب الجليل مع التاج والإكليل 2 / 65، 66 ط النجاح
(2) روضة الطالبين 1 / 320 - 321 ط. المكتب الإسلامي، وحاشية قليوبي 1 / 208 ط. الحلبي، ونهاية المحتاج 2 / 97 ط المكتبة الإسلامية(11/87)
وَتَذْكُرُ كُتُبُ الْحَنَابِلَةِ أَيْضًا أَنَّ سُجُودَ التِّلاَوَةِ يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ التِّلاَوَةِ، حَتَّى فِي طَوَافٍ مَعَ قَصْرِ فَصْلٍ.
وَذَكَرَ صَاحِبُ الإِْنْصَافِ وَجْهَيْنِ فِي إِعَادَةِ سُجُودِ مَنْ قَرَأَ بَعْدَ سُجُودِهِ، وَكَذَا يَتَوَجَّهُ فِي تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ إِنْ تَكَرَّرَ دُخُولُهُ.
وَقَال ابْنُ تَمِيمٍ: وَإِنْ قَرَأَ سَجْدَةً فَسَجَدَ، ثُمَّ قَرَأَهَا فِي الْحَال مَرَّةً أُخْرَى، لاَ لأَِجْل السُّجُودِ، فَهَل يُعِيدُ السُّجُودَ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. وَقَال الْقَاضِي فِي تَخْرِيجِهِ: إِنْ سَجَدَ فِي غَيْرِ الصَّلاَةِ ثُمَّ صَلَّى فَقَرَأَهَا فِيهَا أَعَادَ السُّجُودَ، وَإِنْ سَجَدَ فِي صَلاَةٍ ثُمَّ قَرَأَهَا فِي غَيْرِ صَلاَةٍ لَمْ يَسْجُدْ. وَقَال: إِذَا قَرَأَ سَجْدَةً فِي رَكْعَةٍ فَسَجَدَ، ثُمَّ قَرَأَهَا فِي الثَّانِيَةِ، فَقِيل يُعِيدُ السُّجُودَ، وَقِيل لاَ. (1)
ثَالِثًا: تَدَاخُل صَوْمِ رَمَضَانَ وَصَوْمِ الاِعْتِكَافِ:
12 - مِنَ الْمُقَرَّرِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ اشْتِرَاطُ الصَّوْمِ لِصِحَّةِ الاِعْتِكَافِ مُطْلَقًا، وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ ذَكَرَ الْقَرَافِيُّ أَنَّ صَوْمَ الاِعْتِكَافِ يَدْخُل فِي صَوْمِ رَمَضَانَ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الاِعْتِكَافَ سَبَبٌ لِتَوَجُّهِ الأَْمْرِ بِالصَّوْمِ، وَرُؤْيَةُ هِلاَل رَمَضَانَ هِيَ سَبَبُ تَوَجُّهِ الأَْمْرِ بِصَوْمِ رَمَضَانَ، فَيَدْخُل السَّبَبُ الَّذِي هُوَ الاِعْتِكَافُ فِي
__________
(1) كشاف القناع 1 / 449 ط. النصر، ومنتهى الإرادات 1 / 103 دار العروبة، والإنصاف 2 / 195، 196 ط التراث(11/88)
السَّبَبِ الآْخَرِ وَهُوَ رُؤْيَةُ الْهِلاَل فَيَكْتَفِي بِهِ وَيَتَدَاخَل الاِعْتِكَافُ وَرُؤْيَةُ الْهِلاَل. (1)
رَابِعًا: تَدَاخُل الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ لِلْقَارِنِ:
13 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالإِْمَامُ أَحْمَدَ فِيمَا اشْتُهِرَ عَنْهُ إِلَى أَنَّ مَنْ قَرَنَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فِي إِحْرَامٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّهُ يَطُوفُ لَهُمَا طَوَافًا وَاحِدًا، وَيَسْعَى لَهُمَا سَعْيًا وَاحِدًا، وَهُوَ قَوْل ابْنِ عُمَرَ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَبِهِ قَال عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَطَاوُسٌ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَأَهْلَلْنَا بِعُمْرَةٍ. . . (2) . الْحَدِيثَ. وَفِيهِ: وَأَمَّا الَّذِينَ جَمَعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَإِنَّمَا طَافُوا طَوَافًا وَاحِدًا؛
وَلأَِنَّ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ عِبَادَتَانِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، فَإِذَا اجْتَمَعَتَا دَخَلَتْ أَفْعَال الصُّغْرَى فِي الْكُبْرَى كَالطَّهَارَتَيْنِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ الْجَامِعَ بَيْنَهُمَا نَاسِكٌ يَكْفِيهِ حَلْقٌ وَاحِدٌ وَرَمْيٌ وَاحِدٌ، فَكَفَاهُ طَوَافٌ وَاحِدٌ وَسَعْيٌ وَاحِدٌ كَالْفَرْدِ.
__________
(1) الفروق للقرافي، الفرق السابع والخمسون 2 / 29 ط دار المعرفة
(2) حديث: " خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع. . . " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 494 - ط السلفية)(11/88)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالإِْمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لَمْ تُشْتَهَرْ إِلَى أَنَّ عَلَيْهِ طَوَافَيْنِ وَسَعْيَيْنِ، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْقَوْل عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَبِهِ قَال الشَّعْبِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى مُسْتَدِلِّينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} (1) وَتَمَامُهُمَا أَنْ يَأْتِيَ بِأَفْعَالِهِمَا عَلَى الْكَمَال بِلاَ فَرْقٍ بَيْنَ الْقَارِنِ وَغَيْرِهِ.
وَبِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: مَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَعَلَيْهِ طَوَافَانِ (2) وَلأَِنَّهُمَا نُسُكَانِ، فَكَانَ لَهُمَا طَوَافَانِ، كَمَا لَوْ كَانَا مُنْفَرِدَيْنِ.
وَأَثَرُ هَذَا الْخِلاَفِ يَظْهَرُ فِي الْقَارِنِ إِذَا قَتَل صَيْدًا فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ جَزَاءٌ وَاحِدٌ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِالتَّدَاخُل. (3)
__________
(1) سورة البقرة / 196
(2) حديث: " من جمع بين الحج والعمرة فعليه طوافان. . . " ورد من فعله صلى الله عليه وسلم ولم يرد من قوله، أخرجه الدارقطني في سننه (2 / 258 - ط شركة الطباعة الفنية) وقال: لم يروه عن الحكم - يعني ابن عتيبة - غير الحسن بن عمارة، وهو متروك الحديث
(3) مسلم الثبوت 2 / 48 ط. الأميرية، وابن عابدين 2 / 192 ط المصرية، والخرشي 2 / 309 ط دار صادر، والدسوقي 2 / 28 ط. الفكر، وجواهر الإكليل 1 / 171 ط دار المعرفة، والقرطبي 2 / 369 ط دار الكتب، وروضة الطالبين 3 / 44 ط المكتب الإسلامي، والمنثور للزركشي 1 / 272 ط الأولى، وفتح الباري 3 / 493، 494 ط، الرياض، وكشاف القناع 2 / 412 ط النصر، والمغني 3 / 465، 466 ط الرياض(11/89)
خَامِسًا: تَدَاخُل الْفِدْيَةِ:
14 - ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَنَّ الْفِدْيَةَ تَتَدَاخَل. وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ مَنْ قَلَّمَ أَظَافِرَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَإِنَّ عَلَيْهِ دَمًا وَاحِدًا؛ لأَِنَّهَا مِنَ الْمَحْظُورَاتِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ قَضَاءِ التَّفَثِ، وَهِيَ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ، فَلاَ يُزَادُ عَلَى دَمٍ وَاحِدٍ. وَإِنْ كَانَ قَلَّمَهَا فِي مَجَالِسَ، فَكَذَلِكَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ؛ لأَِنَّ مَبْنَاهَا عَلَى التَّدَاخُل كَكَفَّارَةِ الْفِطْرِ.
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ يَجِبُ لِكُل يَدٍ دَمٌ، وَلِكُل رِجْلٍ دَمٌ إِذَا تَعَدَّدَ الْمَجْلِسُ؛ لأَِنَّ الْغَالِبَ فِي الْفِدْيَةِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ فَيَتَقَيَّدُ التَّدَاخُل بِاتِّحَادِ الْمَجْلِسِ كَمَا فِي آيَةِ السَّجْدَةِ؛ وَلأَِنَّ هَذِهِ الأَْعْضَاءَ مُتَبَايِنَةٌ حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا جُعِلَتِ الْجِنَايَةُ - وَهِيَ تَقْلِيمُ الأَْظَافِرِ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ - جِنَايَةً وَاحِدَةً فِي الْمَعْنَى لاِتِّحَادِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ الرِّفْقُ. (1)
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِمِثْل ذَلِكَ فِيمَنْ فَعَل شَيْئًا مِنْ مُقَدِّمَاتِ الْجِمَاعِ، وَجَامَعَ بَعْدَهُ، فَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ فِدْيَةَ الْمُقَدِّمَةِ تَدْخُل فِي الْبَدَنَةِ الْوَاجِبَةِ جَزَاءً عَنِ الْجِمَاعِ. (2)
وَقَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ الْحَنَابِلَةُ فِيمَنْ حَلَقَ شَعْرَ رَأْسِهِ وَبَدَنِهِ، بِأَنَّ عَلَيْهِ فِدْيَةً وَاحِدَةً فِي أَصَحِّ
__________
(1) تبيين الحقائق 2 / 55 ط دار المعرفة، والاختيار 1 / 162 ط، دار المعرفة
(2) حاشية قليوبي 2 / 137 ط. الحلبي، والمنثور 1 / 272 ط الأولى، ونهاية المحتاج 3 / 329 ط المكتبة الإسلامية(11/89)
الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ أَيْضًا؛ لأَِنَّ شَعْرَ الرَّأْسِ وَالْبَدَنِ وَاحِدٌ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ: إِنَّ لِكُلٍّ مِنْهُمَا حُكْمًا مُنْفَرِدًا. وَكَذَا لَوْ لَبِسَ أَوْ تَطَيَّبَ فِي ثَوْبِهِ وَبَدَنِهِ فَفِيهِ الرِّوَايَتَانِ وَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ عَلَيْهِ فِدْيَةً وَاحِدَةً. (1)
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَإِنَّهُمْ وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحُوا بِتَدَاخُل الْفِدْيَةِ، إِلاَّ أَنَّهُمْ أَوْرَدُوا أَرْبَعَ صُوَرٍ تَتَّحِدُ فِيهَا الْفِدْيَةُ وَهِيَ أَنْ يَظُنَّ الْفَاعِل الإِْبَاحَةَ:
أ - بِأَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ إِحْرَامِهِ فَيَفْعَل أُمُورًا كُلٌّ مِنْهَا يُوجِبُ الْفِدْيَةَ.
ب - أَوْ يَتَعَدَّدُ مُوجِبُهَا مِنْ لُبْسٍ وَتَطَيُّبٍ وَقَلْمِ أَظْفَارٍ وَقَتْل دَوَابَّ بِفَوْرٍ.
ج - أَوْ يَتَرَاخَى مَا بَيْنَ الْفِعْلَيْنِ، لَكِنَّهُ عِنْدَ الْفِعْل الأَْوَّل أَوْ إِرَادَتُهُ نَوَى تَكْرَارَ الْفِعْل الْمُوجِبِ لَهَا.
د - أَوْ يَتَرَاخَى مَا بَيْنَ الْفِعْلَيْنِ، إِلاَّ أَنَّهُ لَمْ يَنْوِ التَّكْرَارَ عِنْدَ الْفِعْل الأَْوَّل مِنْهُمَا، لَكِنَّهُ قَدَّمَ مَا نَفْعُهُ أَعَمُّ، كَتَقْدِيمِهِ لُبْسَ الثَّوْبِ عَلَى لُبْسِ السَّرَاوِيل. (2)
وَتَفْصِيلُهُ فِي مَحْظُورَاتِ الْحَجِّ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ
__________
(1) الإنصاف 3 / 458، 459 ط التراث، وكشاف القناع 2 / 423 ط النصر
(2) الدسوقي 2 / 65، 66 ط الفكر، وجواهر الإكليل 1 / 191 ط. دار المعرفة(11/90)
سَادِسًا: تَدَاخُل الْكَفَّارَاتِ:
أ - تَدَاخُلُهَا فِي إِفْسَادِ صَوْمِ رَمَضَانَ بِالْجِمَاعِ:
15 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي وُجُوبِ كَفَّارَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى مَنْ تَكَرَّرَ مِنْهُ الْجِمَاعُ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ مِنْ أَيَّامِ رَمَضَانَ؛ لأَِنَّ الْفِعْل الثَّانِيَ لَمْ يُصَادِفْ صَوْمًا، وَإِنَّمَا الْخِلاَفُ بَيْنَهُمْ فِيمَنْ تَكَرَّرَ مِنْهُ ذَلِكَ الْفِعْل فِي يَوْمَيْنِ، أَوْ فِي رَمَضَانَيْنِ، وَلَمْ يُكَفِّرْ لِلأَْوَّل، فَذَهَبَ مُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي وَجْهٍ، وَالزُّهْرِيُّ وَالأَْوْزَاعِيُّ إِلَى أَنَّهُ تَكْفِيهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ؛ لأَِنَّهَا جَزَاءٌ عَنْ جِنَايَةٍ تَكَرَّرَ سَبَبُهَا قَبْل اسْتِيفَائِهَا، فَتَتَدَاخَل كَالْحَدِّ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ الَّذِي اخْتَارَهُ بَعْضُهُمْ لِلْفَتْوَى وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ أَيْضًا الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِلَى أَنَّ الْكَفَّارَةَ الْوَاحِدَةَ لاَ تُجْزِئُهُ، بَل عَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ؛ لأَِنَّ كُل يَوْمٍ عِبَادَةٌ مُنْفَرِدَةٌ، فَإِذَا وَجَبَتِ الْكَفَّارَةُ بِإِفْسَادِهِ لَمْ تَتَدَاخَل كَالْعُمْرَتَيْنِ وَالْحَجَّتَيْنِ، (1) وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (كَفَّارَةٌ) .
ب - تَدَاخُل الْكَفَّارَاتِ فِي الأَْيْمَانِ:
16 - لاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ مَنْ حَلَفَ يَمِينًا فَحَنِثَ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 110 ط بولاق، الفروق للقرافي 2 / 29، الفرق السابع والخمسون ط دار المعرفة، والأشباه والنظائر للسيوطي 127 ط العلمية. وحاشية قليوبي 2 / 71 ط الحلبي، والمهذب للشيرازي 1 / 191 ط دار المعرفة، والإنصاف 3 / 319 ط التراث، وكشاف القناع 6 / 232 ط النصر، والمغني 3 / 132، 133 ط. الرياض(11/90)
فِيهَا وَأَدَّى مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنَ الْكَفَّارَةِ، أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ يَمِينًا أُخْرَى وَحَنِثَ فِيهَا تَجِبُ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ أُخْرَى، وَلاَ تُغْنِي الْكَفَّارَةُ الأُْولَى عَنْ كَفَّارَةِ الْحِنْثِ فِي هَذِهِ الْيَمِينِ الثَّانِيَةِ، وَإِنَّمَا الْخِلاَفُ فِيمَنْ حَلَفَ أَيْمَانًا وَحَنِثَ فِيهَا. ثُمَّ أَرَادَ التَّكْفِيرَ، هَل تَتَدَاخَل الْكَفَّارَاتُ فَتُجْزِئُهُ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ؟ أَوْ لاَ تَتَدَاخَل فَيَجِبُ عَلَيْهِ لِكُل يَمِينٍ كَفَّارَةٌ؟ تَتَدَاخَل الْكَفَّارَاتُ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَأَحَدِ الأَْقْوَال عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَلاَ تَتَدَاخَل عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَلاَ الشَّافِعِيَّةِ، (1) وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي الْكَفَّارَاتِ.
سَابِعًا: تَدَاخُل الْعِدَّتَيْنِ:
17 - مَعْنَى التَّدَاخُل فِي الْعِدَدِ: أَنْ تَبْتَدِئَ الْمَرْأَةُ عِدَّةً جَدِيدَةً وَتَنْدَرِجَ بَقِيَّةُ الْعِدَّةِ الأُْولَى فِي الْعِدَّةِ الثَّانِيَةِ، وَالْعِدَّتَانِ إِمَّا أَنْ تَكُونَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ لِرَجُلٍ وَاحِدٍ أَوْ رَجُلَيْنِ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَا مِنْ جِنْسَيْنِ كَذَلِكَ أَيْ لِرَجُلٍ وَاحِدٍ أَوْ رَجُلَيْنِ، وَعَلَى هَذَا فَإِنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا لَزِمَهَا عِدَّتَانِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، وَكَانَتَا لِرَجُلٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّهُمَا تَتَدَاخَلاَنِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لاِتِّحَادِهِمَا فِي الْجِنْسِ وَالْقَصْدِ. مِثَال ذَلِكَ: مَا لَوْ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ ثَلاَثًا، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فِي الْعِدَّةِ وَوَطِئَهَا، وَقَال: ظَنَنْتُ أَنَّهَا تَحِل لِي. أَوْ طَلَّقَهَا بِأَلْفَاظِ الْكِنَايَةِ، فَوَطِئَهَا فِي
__________
(1) الموسوعة الفقهية 7 / 300 نشر وزارة الأوقاف الكويتية(11/91)
الْعِدَّةِ، فَإِنَّ الْعِدَّتَيْنِ تَتَدَاخَلاَنِ، فَتَعْتَدُّ ثَلاَثَةَ أَقْرَاءٍ ابْتِدَاءً مِنَ الْوَطْءِ الْوَاقِعِ فِي الْعِدَّةِ، وَيَنْدَرِجُ مَا بَقِيَ مِنَ الْعِدَّةِ الأُْولَى فِي الْعِدَّةِ الثَّانِيَةِ. أَمَّا إِذَا كَانَتَا لِرَجُلَيْنِ فَإِنَّهُمَا تَتَدَاخَلاَنِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ التَّعَرُّفُ عَلَى فَرَاغِ الرَّحِمِ، وَقَدْ حَصَل بِالْوَاحِدَةِ فَتَتَدَاخَلاَنِ. وَمِثَالُهُ: الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا إِذَا وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ، فَهَاتَانِ عِدَّتَانِ مِنْ رَجُلَيْنِ وَمِنْ جِنْسَيْنِ. وَمِثَال الْعِدَّتَيْنِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ وَمِنْ رَجُلَيْنِ: الْمُطَلَّقَةُ إِذَا تَزَوَّجَتْ فِي عِدَّتِهَا فَوَطِئَهَا الثَّانِي، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا، تَتَدَاخَلاَنِ وَتَعْتَدُّ مِنْ بَدْءِ التَّفْرِيقِ، وَيَنْدَرِجُ مَا بَقِيَ مِنَ الْعِدَّةِ الأُْولَى فِي الْعِدَّةِ الثَّانِيَةِ.
وَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ والْحَنَابِلَةِ فَلاَ تَتَدَاخَلاَنِ؛ لأَِنَّهُمَا حَقَّانِ مَقْصُودَانِ لآِدَمِيَّيْنِ، فَلَمْ يَتَدَاخَلاَ كَالدَّيْنَيْنِ؛ وَلأَِنَّ الْعِدَّةَ احْتِبَاسٌ يَسْتَحِقُّهُ الرِّجَال عَلَى النِّسَاءِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ الْمُعْتَدَّةُ فِي احْتِبَاسِ رَجُلَيْنِ كَاحْتِبَاسِ الزَّوْجَةِ.
وَأَمَّا إِذَا اخْتَلَفَتِ الْعِدَّتَانِ فِي الْجِنْسِ، وَكَانَتَا لِرَجُلَيْنِ، فَإِنَّهُمَا تَتَدَاخَلاَنِ أَيْضًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لأَِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا أَجَلٌ، وَالآْجَال تَتَدَاخَل. وَلاَ تَدَاخُل بَيْنَهُمَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ لأَِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا حَقٌّ مَقْصُودٌ لِلآْدَمِيِّ، فَعَلَيْهَا أَنْ تَعْتَدَّ لِلأَْوَّل لِسَبْقِهِ، ثُمَّ تَعْتَدَّ لِلثَّانِي، وَلاَ تَتَقَدَّمُ عِدَّةُ الثَّانِي عَلَى عِدَّةِ الأَْوَّل إِلاَّ بِالْحَمْل.
وَإِنْ كَانَتَا مِنْ جِنْسَيْنِ لِشَخْصٍ وَاحِدٍ تَدَاخَلَتَا أَيْضًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَفِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَ(11/91)
الشَّافِعِيَّةِ، وَفِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ؛ لأَِنَّهُمَا لِرَجُلٍ وَاحِدٍ. وَلاَ تَدَاخُل بَيْنَهُمَا عَلَى مُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لاِخْتِلاَفِهِمَا فِي الْجِنْسِ. (1)
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ لَخَصَّ ابْنُ جُزَيٍّ مَذْهَبَهُمْ فِي تَدَاخُل الْعِدَدِ بِقَوْلِهِ: فُرُوعٌ فِي تَدَاخُل الْعِدَّتَيْنِ:
(الْفَرْعُ الأَْوَّل) مَنْ طَلُقَتْ طَلاَقًا رَجْعِيًّا، ثُمَّ مَاتَ زَوْجُهَا فِي الْعِدَّةِ انْتَقَلَتْ إِلَى عِدَّةِ الْوَفَاةِ؛ لأَِنَّ الْمَوْتَ يَهْدِمُ عِدَّةَ الرَّجْعِيِّ بِخِلاَفِ الْبَائِنِ.
(الْفَرْعُ الثَّانِي) إِنْ طَلَّقَهَا رَجْعِيًّا ثُمَّ ارْتَجَعَهَا فِي الْعِدَّةِ، ثُمَّ طَلَّقَهَا، اسْتَأْنَفَتِ الْعِدَّةَ مِنَ الطَّلاَقِ الثَّانِي، سَوَاءٌ كَانَ قَدْ وَطِئَهَا أَمْ لاَ؛ لأَِنَّ الرَّجْعَةَ تَهْدِمُ الْعِدَّةَ، وَلَوْ طَلَّقَهَا ثَانِيَةً فِي الْعِدَّةِ مِنْ غَيْرِ رَجْعَةٍ بَانَتِ اتِّفَاقًا، وَلَوْ طَلَّقَهَا طَلْقَةً ثَانِيَةً ثُمَّ رَاجَعَهَا فِي الْعِدَّةِ أَوْ بَعْدَهَا، ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْل الْمَسِيسِ بَنَتْ عَلَى عِدَّتِهَا الأُْولَى، وَلَوْ طَلَّقَهَا بَعْدَ الدُّخُول اسْتَأْنَفَتْ مِنَ الطَّلاَقِ الثَّانِي.
__________
(1) الأشباه لابن نجيم ص 134 ط الهلال، وابن عابدين 2 / 608، 609 ط بولاق، وتبيين الحقائق 3 / 31 ط دار المعرفة، وفتح القدير 3 / 283، 284 ط الأميرية، والأشباه والنظائر للسيوطي / 128 ط العلمية، وحاشية قليوبي 4 / 46، 47 ط الحلبي، وروضة الطالبين 8 / 384 - 394 ط المكتب الإسلامي، والمهذب للشيرازي 2 / 151 - 153 ط دار المعرفة، والمنثور للزركشي 1 / 276، 277 ط الأولى، ونهاية المحتاج 7 / 132 - 135 ط المكتب الإسلامي، والكافي 3 / 316 - 320 ط المكتب الإسلامي، وكشاف القناع 2 / 425 - 428 ط النصر، والمغني 7 / 482 ط الرياض(11/92)
(الْفَرْعُ الثَّالِثُ) إِذَا تَزَوَّجَتْ فِي عِدَّتِهَا مِنَ الطَّلاَقِ، فَدَخَل بِهَا الثَّانِي، ثُمَّ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا، اعْتَدَّتْ بَقِيَّةَ عِدَّتِهَا مِنَ الأَْوَّل، ثُمَّ اعْتَدَّتْ مِنَ الثَّانِي، وَقِيل: تَعْتَدُّ مِنَ الثَّانِي وَتُجْزِيهَا عَنْهُمَا، وَإِنْ كَانَتْ حَامِلاً فَالْوَضْعُ يُجْزِي عَنِ الْعِدَّتَيْنِ اتِّفَاقًا. (1)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (عِدَّةٌ) .
ثَامِنًا: تَدَاخُل الْجِنَايَاتِ عَلَى النَّفْسِ وَالأَْطْرَافِ:
18 - ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْجِنَايَاتِ عَلَى النَّفْسِ وَالأَْطْرَافِ إِذَا تَعَدَّدَتْ، كَمَا لَوْ قَطَعَ عُضْوًا مِنْ أَعْضَائِهِ، ثُمَّ قَتَلَهُ، فَإِنَّهَا لاَ تَتَدَاخَل إِلاَّ فِي حَالَةِ اجْتِمَاعِ جِنَايَتَيْنِ عَلَى وَاحِدٍ، وَلَمْ يَتَخَلَّلْهُمَا بُرْءٌ، وَصُوَرُهَا سِتَّ عَشْرَةَ، كَمَا ذَكَرَ ابْنُ نُجَيْمٍ فِي الأَْشْبَاهِ؛ لأَِنَّهُ إِذَا قَطَعَ ثُمَّ قَتَل، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَا عَمْدَيْنِ أَوْ خَطَأَيْنِ، أَوْ أَحَدُهُمَا عَمْدًا وَالآْخَرُ خَطَأً، وَكُلٌّ مِنَ الأَْرْبَعَةِ إِمَّا عَلَى وَاحِدٍ أَوِ اثْنَيْنِ، وَكُلٌّ مِنَ الثَّمَانِيَةِ. إِمَّا أَنْ يَكُونَ الثَّانِي قَبْل الْبُرْءِ أَوْ بَعْدَهُ. (2)
__________
(1) القوانين الفقهية لابن جزي ص 157، والدسوقي 2 / 499 ط الفكر، والزرقاني 4 / 235 ط الفكر، وجواهر الإكليل 1 / 398 ط دار المعرفة، والخرشي 4 / 172 - 175 ط دار صادر، ومواهب الجليل 4 / 176 - 178 ط النجاح
(2) الأشباه والنظائر لابن نجيم / 134 ط الهلال(11/92)
وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْجِنَايَةَ عَلَى الطَّرَفِ تَنْدَرِجُ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى النَّفْسِ، أَيْ فِي الْقِصَاصِ، إِنْ تَعَمَّدَهَا الْجَانِي، سَوَاءٌ أَكَانَ الطَّرَفُ لِلْمَقْتُول أَمْ لِغَيْرِهِ بِأَنْ قَطَعَ يَدَ شَخْصٍ عَمْدًا، وَفَقَأَ عَيْنَ آخَرَ عَمْدًا، فَيُقْتَل فَقَطْ وَلاَ يُقْطَعُ شَيْءٌ مِنْ أَطْرَافِهِ وَلاَ تُفْقَأُ عَيْنُهُ، إِنْ لَمْ يَقْصِدِ الْجَانِي بِجِنَايَتِهِ عَلَى الطَّرَفِ مُثْلَةً - أَيْ تَمْثِيلاً وَتَشْوِيهًا - فَإِنْ قَصَدَهَا فَلاَ يَنْدَرِجُ الطَّرَفُ فِي الْقَتْل، فَيُقْتَصُّ مِنَ الطَّرَفِ، ثُمَّ يُقْتَل.
أَمَّا إِذَا لَمْ يَتَعَمَّدِ الْجَانِي الْجِنَايَةَ عَلَى الطَّرَفِ، فَإِنَّهَا لاَ تَنْدَرِجُ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى النَّفْسِ، كَمَا لَوْ قَطَعَ يَدَ شَخْصٍ خَطَأً، ثُمَّ قَتَلَهُ عَمْدًا عُدْوَانًا، فَإِنَّهُ يُقْتَل بِهِ، وَدِيَةُ الْيَدِ عَلَى عَاقِلَتِهِ. (1)
وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ الْجِنَايَةَ عَلَى النَّفْسِ وَالأَْطْرَافِ إِذَا اتَّفَقَتَا فِي الْعَمْدِ أَوِ الْخَطَأِ، وَكَانَتِ الْجِنَايَةُ عَلَى النَّفْسِ بَعْدَ انْدِمَال الْجِنَايَةِ عَلَى الطَّرَفِ وَجَبَتْ دِيَةُ الطَّرَفِ بِلاَ خِلاَفٍ. أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَلَى النَّفْسِ قَبْل انْدِمَال الْجِنَايَةِ عَلَى الطَّرَفِ فَوَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: دُخُول الْجِنَايَةِ عَلَى الطَّرَفِ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى النَّفْسِ، بِحَيْثُ لاَ يَجِبُ إِلاَّ مَا يَجِبُ فِي النَّفْسِ كَالسِّرَايَةِ.
وَثَانِيهِمَا: عَدَمُ التَّدَاخُل بَيْنَ الْجِنَايَتَيْنِ، خَرَّجَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ، وَبِهِ قَال الإِْصْطَخْرِيُّ، وَاخْتَارَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ.
__________
(1) جواهر الإكليل 2 / 265 ط دار المعرفة(11/93)
أَمَّا إِذَا كَانَتْ إِحْدَاهُمَا عَمْدًا وَالأُْخْرَى خَطَأً، وَقُلْنَا بِالتَّدَاخُل عِنْدَ الاِتِّفَاقِ، فَهُنَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا التَّدَاخُل أَيْضًا.
وَأَصَحُّهُمَا: لاَ، لاِخْتِلاَفِهِمَا (1) .
والْحَنَابِلَةُ يَقُولُونَ: التَّدَاخُل فِي الْقِصَاصِ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ فِيمَا لَوْ جَرَحَ رَجُلٌ رَجُلاً، ثُمَّ قَتَلَهُ قَبْل انْدِمَال جُرْحِهِ، وَاخْتَارَ الْوَلِيُّ الْقِصَاصَ، فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ لَيْسَ لِلْوَلِيِّ إِلاَّ ضَرْبُ عُنُقِهِ بِالسَّيْفِ. لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ قَوَدَ إِلاَّ بِالسَّيْفِ (2) ، وَلَيْسَ لَهُ جُرْحُهُ أَوْ قَطْعُ طَرَفِهِ؛ لأَِنَّ الْقِصَاصَ أَحَدُ بَدَلَيِ النَّفْسِ، فَدَخَل الطَّرَفُ فِي حُكْمِ الْجُمْلَةِ كَالدِّيَةِ.
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَفْعَل بِالْجَانِي مِثْلَمَا فَعَل، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْل مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} (3)
أَمَّا إِذَا عَفَا الْوَلِيُّ عَنِ الْقِصَاصِ، أَوْ صَارَ الأَْمْرُ إِلَى الدِّيَةِ لِكَوْنِ الْفِعْل خَطَأً أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ، فَالْوَاجِبُ حِينَئِذٍ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ؛ لأَِنَّهُ قُتِل قَبْل اسْتِقْرَارِ الْجُرْحِ، فَدَخَل أَرْشُ الْجِرَاحَةِ فِي أَرْشِ النَّفْسِ (4) وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (جِنَايَةٌ) .
__________
(1) روضة الطالبين 9 / 307 ط المكتب الإسلامي
(2) حديث: " لا قود إلا بالسيف " أخرجه ابن ماجه (2 / 889 - ط الحلبي) وقال ابن حجر في التلخيص (4 / 19 - ط شركة الطباعة الفنية) : إسناده ضعيف
(3) سورة النحل / 126
(4) المغني 7 / 685، 686 ط الرياض(11/93)
تَاسِعًا: تَدَاخُل الدِّيَاتِ:
19 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الدِّيَاتِ قَدْ تَتَدَاخَل، فَيَدْخُل الأَْدْنَى مِنْهَا فِي الأَْعْلَى، وَمِنْ ذَلِكَ دُخُول دِيَةِ الأَْعْضَاءِ وَالْمَنَافِعِ فِي دِيَةِ النَّفْسِ، وَدُخُول أَرْشِ الْمُوضِحَةِ الْمُذْهِبَةِ لِلْعَقْل فِي دِيَةِ الْعَقْل، وَدُخُول حُكُومَةِ الثَّدْيِ فِي دِيَةِ الْحَلَمَةِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْفُرُوعِ. (1) وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (دِيَةٌ) .
عَاشِرًا: تَدَاخُل الْحُدُودِ:
20 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْحُدُودَ - كَحَدِّ الزِّنَى وَالسَّرِقَةِ وَالشُّرْبِ - إِذَا اتَّفَقَتْ فِي الْجِنْسِ وَالْمُوجِبِ أَيِ الْحَدِّ فَإِنَّهَا تَتَدَاخَل، فَمَنْ زَنَى مِرَارًا، أَوْ سَرَقَ مِرَارًا، أَوْ شَرِبَ مِرَارًا، أُقِيمَ عَلَيْهِ حَدٌّ وَاحِدٌ لِلزِّنَى الْمُتَكَرِّرِ، وَآخَرُ لِلسَّرِقَةِ الْمُتَكَرِّرَةِ. وَآخَرُ لِلشُّرْبِ الْمُتَكَرِّرِ؛ لأَِنَّ مَا تَكَرَّرَ مِنْ هَذِهِ الأَْفْعَال هُوَ مِنْ جِنْسِ مَا سَبَقَهُ، فَدَخَل تَحْتَهُ.
وَمِثْل ذَلِكَ حَدُّ الْقَذْفِ إِذَا قَذَفَ شَخْصًا وَاحِدًا مِرَارًا، أَوْ قَذَفَ جَمَاعَةً بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، فَإِنَّهُ يَكْتَفِي فِيهِ بِحَدٍّ وَاحِدٍ اتِّفَاقًا، بِخِلاَفِ مَا لَوْ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 374 ط المصرية، وتبيين الحقائق 6 / 135 ط دار المعرفة، والفروق للقرافي 2 / 30 ط دار المعرفة، وروضة الطالبين 9 / 285 و 306 - 307 ط المكتب الإسلامي، والمهذب 2 / 192 ط دار المعرفة، والمغني 8 / 38 ط الرياض(11/94)
قَذَفَ جَمَاعَةً بِكَلِمَاتٍ، أَوْ خَصَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِقَذْفٍ.
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ أَيْضًا عَلَى أَنَّ مَنْ زَنَى أَوْ سَرَقَ أَوْ شَرِبَ، فَأُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، ثُمَّ صَدَرَ مِنْهُ أَحَدُ هَذِهِ الأَْفْعَال مَرَّةً أُخْرَى، فَإِنَّهُ يُحَدُّ ثَانِيًا، وَلاَ يَدْخُل تَحْتَ الْفِعْل الَّذِي سَبَقَهُ، وَاتَّفَقُوا أَيْضًا عَلَى عَدَمِ التَّدَاخُل بَيْنَ هَذِهِ الأَْفْعَال عِنْدَ اخْتِلاَفِهَا فِي الْجِنْسِ وَالْقَدْرِ الْوَاجِبِ فِيهَا، فَمَنْ زَنَى وَسَرَقَ وَشَرِبَ حُدَّ لِكُل فِعْلٍ مِنْ هَذِهِ الأَْفْعَال؛ لاِخْتِلاَفِهَا فِي الْجِنْسِ وَالْقَدْرِ الْوَاجِبِ فِيهَا، فَلاَ تَتَدَاخَل. أَمَّا إِذَا اتَّحَدَتْ فِي الْقَدْرِ الْوَاجِبِ وَاخْتَلَفَتْ فِي الْجِنْسِ، كَالْقَذْفِ وَالشُّرْبِ مَثَلاً، فَلاَ تَدَاخُل بَيْنَهَا عِنْدَ غَيْرِ الْمَالِكِيَّةِ، وَأَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَتَتَدَاخَل؛ لاِتِّفَاقِهَا فِي الْقَدْرِ الْوَاجِبِ فِيهَا، وَهُوَ الْحَدُّ، فَإِنَّ الْوَاجِبَ فِي الْقَذْفِ ثَمَانُونَ جَلْدَةً وَفِي الشُّرْبِ أَيْضًا مِثْلُهُ، فَإِذَا أُقِيمَ عَلَيْهِ أَحَدُهُمَا سَقَطَ عَنْهُ الآْخَرُ.
وَلَوْ لَمْ يَقْصِدْ عِنْدَ إِقَامَةِ الْحَدِّ إِلاَّ وَاحِدًا فَقَطْ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ شَرِبَ أَوْ قَذَفَ، فَإِنَّهُ يَكْتَفِي بِمَا ضُرِبَ لَهُ عَمَّا ثَبَتَ.
وَمِثْل ذَلِكَ عِنْدَهُمْ - أَيِ الْمَالِكِيَّةِ - مَا لَوْ سَرَقَ وَقَطَعَ يَمِينَ آخَرَ، فَإِنَّهُ يَكْتَفِي فِيهِ بِحَدٍّ وَاحِدٍ. وَهَذَا كُلُّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي تِلْكَ الْحُدُودِ الْقَتْل، فَإِنْ كَانَ فِيهَا الْقَتْل، فَإِنَّهُ يَكْتَفِي بِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، لِقَوْل ابْنِ مَسْعُودٍ: مَا كَانَتْ حُدُودٌ فِيهَا قَتْلٌ إِلاَّ أَحَاطَ الْقَتْل بِذَلِكَ كُلِّهِ،(11/94)
وَلأَِنَّ الْمَقْصُودَ الزَّجْرُ وَقَدْ حَصَل. وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ حَدَّ الْقَذْفِ، فَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّهُ لاَ يَدْخُل فِي الْقَتْل، بَل لاَ بُدَّ مِنِ اسْتِيفَائِهِ قَبْلَهُ.
وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَإِنَّهُمْ لاَ يَكْتَفُونَ بِالْقَتْل، وَلَمْ يَقُولُوا بِالتَّدَاخُل فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، بَل يُقَدِّمُونَ الأَْخَفَّ ثُمَّ الأَْخَفَّ، فَمَنْ سَرَقَ وَزَنَى وَهُوَ بِكْرٌ، وَشَرِبَ وَلَزِمَهُ قَتْلٌ بِرِدَّةٍ، أُقِيمَتْ عَلَيْهِ الْحُدُودُ الْوَاجِبَةُ فِيهَا بِتَقْدِيمِ الأَْخَفِّ ثُمَّ الأَْخَفِّ. (1)
الْحَادِيَ عَشَرَ: تَدَاخُل الْجِزْيَةِ:
21 - ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تَتَدَاخَل كَمَا إِذَا اجْتَمَعَ عَلَى الذِّمِّيِّ جِزْيَةُ عَامَيْنِ، فَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهُ إِلاَّ جِزْيَةُ عَامٍ وَاحِدٍ؛ لأَِنَّ الْجِزْيَةَ وَجَبَتْ عُقُوبَةً لِلَّهِ تَعَالَى تُؤْخَذُ مِنَ الذِّمِّيِّ عَلَى وَجْهِ الإِْذْلاَل. وَالْعُقُوبَاتُ الْوَاجِبَةُ لِلَّهِ تَعَالَى إِذَا اجْتَمَعَتْ، وَكَانَتْ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، تَدَاخَلَتْ
__________
(1) الأشباه لابن نجيم / 133 ط الهلال، والاختيار 4 / 96 - 97 ط دار المعرفة، وفتح القدير مع العناية 4 / 208 - 209 ط الأميرية. وجواهر الإكليل 2 / 294 ط دار المعرفة، والخرشي 8 / 103 ط دار صادر، الدسوقي 4 / 347 - 348 ط الفكر، والفروق للقرافي 2 / 30 الفرق السابع والخمسون ط دار المعرفة، والأشباه للسيوطي / 126 ط العلمية، وروضة الطالبين 10 / 166 ط المكتب الإسلامي، والمنثور 1 / 270 - 271 ط الأولى، وكشاف القناع 6 / 85 - 86 ط النصر، والمغني 8 / 213 - 214 ط الرياض(11/95)
كَالْحُدُودِ؛ وَلأَِنَّهَا وَجَبَتْ بَدَلاً عَنِ الْقَتْل فِي حَقِّهِمْ وَعَنِ النُّصْرَةِ فِي حَقِّنَا، لَكِنْ فِي الْمُسْتَقْبَل لاَ فِي الْمَاضِي؛ لأَِنَّ الْقَتْل إِنَّمَا يُسْتَوْفَى لِحِرَابٍ قَائِمٍ فِي الْحَال، لاَ لِحِرَابٍ مَاضٍ، وَكَذَا النُّصْرَةُ فِي الْمُسْتَقْبَل لأَِنَّ الْمَاضِيَ وَقَعَتِ الْغُنْيَةُ عَنْهُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى أَنَّهَا لاَ تَتَدَاخَل، وَلاَ تَسْقُطُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ؛ لأَِنَّ مُضِيَّ الْمُدَّةِ لاَ تَأْثِيرَ لَهُ فِي إِسْقَاطِ الْوَاجِبِ كَالدُّيُونِ.
وَأَمَّا خَرَاجُ الأَْرْضِ فَقِيل عَلَى هَذَا الْخِلاَفِ، وَقِيل لاَ تَدَاخُل فِيهِ بِالاِتِّفَاقِ. (1)
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَإِنَّهُمْ لَمْ يُصَرِّحُوا بِتَدَاخُل الْجِزْيَةِ، وَلَكِنْ يُفْهَمُ التَّدَاخُل مِنْ قَوْل أَبِي الْوَلِيدِ ابْنِ رُشْدٍ: وَمَنِ اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ جِزْيَةُ سِنِينَ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لِفِرَارِهِ بِهَا أُخِذَتْ مِنْهُ لِمَا مَضَى، وَإِنْ كَانَ لِعُسْرِهِ لَمْ تُؤْخَذْ مِنْهُ، وَلاَ يُطَالَبُ بِهَا بَعْدَ غِنَاهُ. (2) وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (جِزْيَةٌ) .
__________
(1) فتح القدير 4 / 376، 377 ط الأميرية، وتبيين الحقائق 3 / 279 ط دار المعرفة، وابن عابدين 3 / 270 ط بولاق، والاختيار 4 / 139 ط دار المعرفة، وروضة الطالبين 10 / 312 ط المكتب الإسلامي، والمغني 8 / 512 ط الرياض
(2) الدسوقي 2 / 202 ط الفكر، والحطاب 3 / 382، وجواهر الإكليل 1 / 267 ط دار المعرفة، والخرشي 3 / 145، 146 ط دار صادر(11/95)
الثَّانِي عَشَرَ: تَدَاخُل الْعَدَدَيْنِ فِي حِسَابِ الْمَوَارِيثِ:
22 - الْعَدَدَانِ فِي حِسَابِ الْمَوَارِيثِ إِمَّا أَنْ يَكُونَا مُتَمَاثِلَيْنِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَا مُخْتَلِفَيْنِ. وَفِي حَال اخْتِلاَفِهِمَا إِمَّا أَنْ يَفْنَى الأَْكْثَرُ بِالأَْقَل، وَإِمَّا أَنْ يُفْنِيَهُمَا عَدَدٌ ثَالِثٌ، وَإِمَّا أَنْ لاَ يُفْنِيَهُمَا إِلاَّ وَاحِدٌ لَيْسَ بِعَدَدٍ، بَل هُوَ مَبْدَؤُهُ، فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ. وَقَدْ وَقَعَ التَّدَاخُل فِي الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْهَا، وَهُوَ مَا إِذَا اخْتَلَفَا وَفَنِيَ الأَْكْثَرُ بِالأَْقَل عِنْدَ إِسْقَاطِهِ مِنَ الأَْكْثَرِ مَرَّتَيْنِ فَأَكْثَرَ مِنْهُمَا، فَيُقَال حِينَئِذٍ: إِنَّهُمَا مُتَدَاخِلاَنِ، كَثَلاَثَةٍ مَعَ سِتَّةٍ أَوْ تِسْعَةٍ أَوْ خَمْسَةَ عَشَرَ، فَإِنَّ السِّتَّةَ تَفْنَى بِإِسْقَاطِ الثَّلاَثَةِ مَرَّتَيْنِ، وَالتِّسْعَةَ بِإِسْقَاطِهَا ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، وَالْخَمْسَةَ عَشَرَ بِإِسْقَاطِهَا خَمْسَ مَرَّاتٍ؛ لأَِنَّهَا خُمُسُهَا، وَسُمِّيَا مُتَدَاخِلَيْنِ لِدُخُول الأَْقَل فِي الأَْكْثَرِ.
وَحُكْمُ الأَْعْدَادِ الْمُتَدَاخِلَةِ: أَنَّهُ يُكْتَفَى فِيهَا بِالأَْكْبَرِ وَيُجْعَل أَصْل الْمَسْأَلَةِ.
أَمَّا فِي الأَْقْسَامِ الأُْخْرَى، وَهِيَ الأَْوَّل وَالثَّالِثُ وَالرَّابِعُ، فَلاَ تَدَاخُل بَيْنَ الْعَدَدَيْنِ فِيهَا؛ لأَِنَّ الْعَدَدَيْنِ إِنْ كَانَا مُتَمَاثِلَيْنِ - كَمَا فِي الْقِسْمِ الأَْوَّل - فَإِنَّهُ يُكْتَفَى بِأَحَدِهِمَا، فَيُجْعَل أَصْلاً لِلْمَسْأَلَةِ كَالثَّلاَثَةِ وَالثَّلاَثَةِ مَخْرَجَيِ الثُّلُثِ وَالثُّلُثَيْنِ؛ لأَِنَّ حَقِيقَةَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ إِذَا سُلِّطَ أَحَدُهُمَا عَلَى الآْخَرِ أَفْنَاهُ مَرَّةً وَاحِدَةً.
وَإِنْ كَانَا مُخْتَلِفَيْنِ، وَلاَ يُفْنِيهِمَا إِلاَّ عَدَدٌ ثَالِثٌ - وَهُوَ الْقِسْمُ الثَّالِثُ - فَهُمَا مُتَوَافِقَانِ،(11/96)
وَلاَ تَدَاخُل بَيْنَهُمَا أَيْضًا؛ لأَِنَّ الإِْفْنَاءَ حَصَل بِغَيْرِهِمَا، كَأَرْبَعَةٍ وَسِتَّةٍ بَيْنَهُمَا مُوَافَقَةٌ بِالنِّصْفِ، لأَِنَّك إِذَا سَلَّطْتَ الأَْرْبَعَةَ عَلَى السِّتَّةِ يَبْقَى مِنْهُمَا اثْنَانِ، سَلِّطْهُمَا عَلَى الأَْرْبَعَةِ مَرَّتَيْنِ تَفْنَى بِهِمَا، فَقَدْ حَصَل الإِْفْنَاءُ بِاثْنَيْنِ وَهُوَ عَدَدٌ غَيْرُ الأَْرْبَعَةِ وَالسِّتَّةِ، فَهُمَا مُتَوَافِقَانِ بِجُزْءِ الاِثْنَيْنِ وَهُوَ النِّصْفُ. وَحُكْمُ الْمُتَوَافِقَيْنِ: أَنْ تَضْرِبَ وَفْقَ أَحَدِهِمَا فِي كَامِل الآْخَرِ، وَالْحَاصِل أَصْل الْمَسْأَلَةِ. وَإِنْ كَانَا مُخْتَلِفَيْنِ لاَ يَفْنَى أَكْثَرُهُمَا بِأَقَلِّهِمَا وَلاَ بِعَدَدٍ ثَالِثٍ، بِأَنْ لَمْ يُفْنِهِمَا إِلاَّ الْوَاحِدُ كَمَا فِي الْقِسْمِ الرَّابِعِ فَهُمَا مُتَبَايِنَانِ، وَلاَ تَدَاخُل بَيْنَهُمَا أَيْضًا كَثَلاَثَةٍ وَأَرْبَعَةٍ، لأَِنَّك إِذَا أَسْقَطْتَ الثَّلاَثَةَ مِنَ الأَْرْبَعَةِ يَبْقَى وَاحِدٌ، فَإِذَا سَلَّطْتَهُ عَلَى الثَّلاَثَةِ فَنِيَتْ بِهِ. وَحُكْمُ الْمُتَبَايِنَيْنِ أَنَّكَ تَضْرِبُ أَحَدَ الْعَدَدَيْنِ فِي الآْخَرِ. (1)
وَالتَّفْصِيل فِي بَابِ حِسَابِ الْفَرَائِضِ، وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (إِرْثٌ) .
__________
(1) الاختيار 5 / 122 - 124 ط دار المعرفة، وتبيين الحقائق 6 / 245 ط دار المعرفة، والزرقاني 8 / 220 ط الفكر، والدسوقي 4 / 476 وما بعدها ط الفكر، وجواهر الإكليل 2 / 334، 355 ط دار المعرفة، ومغني المحتاج 3 / 33 - 34 ط الحلبي، ونهاية المحتاج 6 / 35 ط المكتبة الإسلامية، وحاشية قليوبي 3 / 153 - 154 ط الحلبي، وحاشية الجمل على المنهج 4 / 35 ط الميمنية، وروضة الطالبين 6 / 69 - 73 ط المكتب الإسلامي، والكافي 2 / 539 ط المكتب الإسلامي(11/96)
تَدَارُكٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّدَارُكُ: مَصْدَرُ تَدَارَكَ، وَثُلاَثِيُّهُ: دَرَكَ، وَمَصْدَرُهُ الدَّرْكُ بِمَعْنَى: اللَّحَاقِ وَالْبُلُوغِ. وَمِنْهُ الاِسْتِدْرَاكُ
وَلِلاِسْتِدْرَاكِ فِي اللُّغَةِ اسْتِعْمَالاَنِ: الأَْوَّل: أَنْ يُسْتَدْرَكَ الشَّيْءُ بِالشَّيْءِ.
الثَّانِي: أَنْ يُتَلاَفَى مَا فَرَّطَ فِي الرَّأْيِ أَوِ الأَْمْرِ مِنَ الْخَطَأِ أَوِ النَّقْصِ. (1)
وَلِلاِسْتِدْرَاكِ فِي الاِصْطِلاَحِ مَعْنَيَانِ أَيْضًا:
الأَْوَّل، لِلأُْصُولِيِّينَ وَالنَّحْوِيِّينَ: وَهُوَ رَفْعُ مَا يُتَوَهَّمُ ثُبُوتُهُ، أَوْ إِثْبَاتُ مَا يُتَوَهَّمُ نَفْيُهُ.
وَالثَّانِي: يَرِدُ فِي كَلاَمِ الْفُقَهَاءِ: وَهُوَ إِصْلاَحُ مَا حَصَل فِي الْقَوْل أَوِ الْعَمَل مِنْ خَلَلٍ أَوْ قُصُورٍ أَوْ فَوَاتٍ.
وَقَدْ وَرَدَ فِي كَلاَمِ الْفُقَهَاءِ التَّعْبِيرُ بِالتَّدَارُكِ فِي مَوْضِعِ الاِسْتِدْرَاكِ، الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى فِعْل الشَّيْءِ الْمَتْرُوكِ بَعْدَ مَحَلِّهِ، سَوَاءٌ أَتَرَكَ سَهْوًا أَمْ عَمْدًا، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْل الرَّمْلِيِّ: إِذَا سَلَّمَ الإِْمَامُ
__________
(1) لسان العرب والمعجم الوسيط مادة: " درك "(11/97)
مِنْ صَلاَةِ الْجِنَازَةِ، تَدَارَكَ الْمَسْبُوقُ بَاقِيَ التَّكْبِيرَاتِ بِأَذْكَارِهَا (1) . وَقَوْله: لَوْ نَسِيَ تَكْبِيرَاتِ صَلاَةِ الْعِيدِ فَتَذَكَّرَهَا قَبْل رُكُوعِهِ، أَوْ تَعَمَّدَ تَرْكَهَا بِالأَْوْلَى - وَشَرَعَ فِي الْقِرَاءَةِ وَإِنْ لَمْ يُتِمَّ فَاتِحَتَهُ - فَاتَتْ فِي الْجَدِيدِ فَلاَ يَتَدَارَكُهَا. (2)
وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا مَا ذَكَرَهُ الْبُهُوتِيُّ، مِنْ أَنَّهُ لَوْ دُفِنَ الْمَيِّتُ قَبْل الْغُسْل، وَقَدْ أَمْكَنَ غُسْلُهُ، لَزِمَ نَبْشُهُ، وَأَنْ يُخْرَجَ وَيُغَسَّل، تَدَارُكًا لِوَاجِبِ غُسْلِهِ. (3)
وَعَلَى هَذَا يُمْكِنُ تَعْرِيفُ التَّدَارُكِ فِي الاِصْطِلاَحِ الْفِقْهِيِّ بِأَنَّهُ: فِعْل الْعِبَادَةِ، أَوْ فِعْل جُزْئِهَا إِذَا تَرَكَ الْمُكَلَّفُ فِعْل ذَلِكَ فِي مَحَلِّهِ الْمُقَرَّرِ شَرْعًا مَا لَمْ يَفُتْ.
وَبِالتَّتَبُّعِ وَجَدْنَا الْفُقَهَاءَ لاَ يُطْلِقُونَ التَّدَارُكَ إِلاَّ عَلَى مَا كَانَ اسْتِدْرَاكًا فِي الْعِبَادَةِ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
2 - مِنْهَا الْقَضَاءُ وَالإِْعَادَةُ وَالاِسْتِدْرَاكُ، وَكَذَلِكَ الإِْصْلاَحُ فِي اصْطِلاَحِ الْمَالِكِيَّةِ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ مَعَانِيهَا، وَالتَّفْرِيقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ التَّدَارُكِ فِي مُصْطَلَحِ (اسْتِدْرَاكٌ) .
__________
(1) نهاية المحتاج 2 / 473 ط مصطفى الحلبي
(2) نهاية المحتاج 2 / 379
(3) كشاف القناع 2 / 86(11/97)
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
3 - الأَْصْل أَنَّ تَدَارُكَ رُكْنِ الْعِبَادَةِ الْمَفْرُوضَةِ فَرْضٌ، وَذَلِكَ إِنْ فَاتَ الرُّكْنُ لِعُذْرٍ - كَنِسْيَانٍ أَوْ جَهْلٍ - مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، أَوْ فُعِل عَلَى وَجْهٍ غَيْرِ مُجْزِئٍ.
وَلاَ يَحْصُل الثَّوَابُ الْمُرَتَّبُ عَلَى الرُّكْنِ مَعَ تَرْكِهِ؛ لِعَدَمِ الاِمْتِثَال. وَلاَ تَصِحُّ الْعِبَادَةُ إِلاَّ بِالتَّدَارُكِ.
فَإِنْ لَمْ يَتَدَارَكِ الرُّكْنَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ فِيهِ فَسَدَتِ الْعِبَادَةُ، وَوَجَبَ الاِسْتِدْرَاكُ بِاسْتِئْنَافِ الْعِبَادَةِ أَوْ قَضَائِهَا، بِحَسَبِ اخْتِلاَفِ الأَْحْوَال.
وَأَمَّا تَدَارُكُ الْوَاجِبَاتِ وَالسُّنَنِ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ. وَيَتَّضِحُ ذَلِكَ مِنَ الأَْمْثِلَةِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَبِهَا يَتَبَيَّنُ الْحُكْمُ.
التَّدَارُكُ فِي الْوُضُوءِ:
أ - التَّدَارُكُ فِي أَرْكَانِ الْوُضُوءِ:
4 - أَرْكَانُ الْوُضُوءِ يَتَحَتَّمُ الإِْتْيَانُ بِهَا، فَإِنْ تَرَكَ غَسْل عُضْوٍ مِنَ الثَّلاَثَةِ أَوِ جُزْءًا مِنْهُ، أَوْ تَرَكَ مَسْحَ الرَّأْسِ، فَإِنَّهُ لاَ بُدَّ مِنْ تَدَارُكِهِ، بِالإِْتْيَانِ بِالْفَائِتِ مِنْ غَسْلٍ أَوْ مَسْحٍ ثُمَّ الإِْتْيَانُ بِمَا بَعْدَهُ، فَمَنْ نَسِيَ غَسْل الْيَدَيْنِ، وَتَذَكَّرَهُ بَعْدَ غَسْل الرِّجْلَيْنِ، لَمْ يَصِحَّ وُضُوءُهُ حَتَّى يُعِيدَ غَسْل الْيَدَيْنِ وَيَمْسَحَ بِرَأْسِهِ وَيَغْسِل رِجْلَيْهِ.
وَهَذَا عَلَى قَوْل مَنْ يَجْعَل التَّرْتِيبَ فَرْضًا فِي(11/98)
الْوُضُوءِ، وَهُمُ الشَّافِعِيَّةُ، وَعَلَى الْقَوْل الْمُقَدَّمِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
أَمَّا مَنْ أَجَازُوا الْوُضُوءَ دُونَ تَرْتِيبٍ، وَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، فَيُجْزِئُ عِنْدَهُمُ التَّدَارُكُ بِغَسْل الْمَتْرُوكِ وَحْدَهُ. وَإِعَادَةُ مَا بَعْدَهُ مُسْتَحَبٌّ، وَلَيْسَ وَاجِبًا.
وَلَوْ تَرَكَ غَسْل الْيُمْنَى مِنَ الْيَدَيْنِ أَوِ الرِّجْلَيْنِ، وَتَذَكَّرَهُ بَعْدَ غَسْل الْيُسْرَى، أَجْزَأَهُ غَسْل الْيُمْنَى فَقَطْ، وَلاَ يَلْزَمُهُ غَسْل الْيُسْرَى اتِّفَاقًا؛ لأَِنَّهُمَا بِمَنْزِلَةِ عُضْوٍ وَاحِدٍ.
وَإِنَّمَا يُجْزِئُ التَّدَارُكُ بِالإِْتْيَانِ بِالْفَائِتِ وَمَا بَعْدَهُ، أَوْ بِالْفَائِتِ وَحْدَهُ - عَلَى الْقَوْلَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ - إِنْ لَمْ تَفُتِ الْمُوَالاَةُ عِنْدَ مَنْ أَوْجَبَهَا، فَإِنْ طَال الْفَصْل، وَفَاتَتِ الْمُوَالاَةُ، فَلاَ بُدَّ مِنْ إِعَادَةِ الْوُضُوءِ كُلِّهِ. أَمَّا مَنْ لَمْ يُوجِبِ الْمُوَالاَةَ - وَذَلِكَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ - فَإِنَّهُ يُجْزِئُ عِنْدَهُمُ التَّدَارُكُ بِغَسْل الْفَائِتِ وَحْدَهُ. (1)
وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلاَتٌ يُرْجَعُ إِلَيْهَا فِي (وُضُوءٍ) .
__________
(1) ابن عابدين 1 / 83، والدسوقي على الشرح الكبير 1 / 99، ونهاية المحتاج 1 / 178 ط مصطفى الحلبي، وكشاف القناع 1 / 104(11/98)
ب - التَّدَارُكُ فِي وَاجِبَاتِ الْوُضُوءِ:
5 - لَيْسَ لِلْوُضُوءِ وَلاَ لِلْغُسْل وَاجِبَاتٌ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ. (1)
وَمِنْ وَاجِبَاتِ الْوُضُوءِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ مَثَلاً التَّسْمِيَةُ فِي أَوَّلِهِ - وَلَيْسَتْ رُكْنًا فِي الْوُضُوءِ عِنْدَهُمْ - قَالُوا: وَتَسْقُطُ لَوْ تَرَكَهَا سَهْوًا. وَإِنْ ذَكَرَهَا فِي أَثْنَاءِ الْوُضُوءِ سَمَّى وَبَنَى، أَيْ فَلاَ يَلْزَمُهُ الاِسْتِئْنَافُ. قَالُوا: لأَِنَّهُ لَمَّا عُفِيَ عَنْهَا مَعَ السَّهْوِ فِي جُمْلَةِ الطَّهَارَةِ، فَفِي بَعْضِهَا أَوْلَى. وَهُوَ الْمَذْهَبُ خِلاَفًا لِمَا صَحَّحَهُ فِي الإِْنْصَافِ. (2)
ج - التَّدَارُكُ فِي سُنَنِ الْوُضُوءِ:
6 - أَمَّا سُنَنُ الْوُضُوءِ فَقَدْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِعَدَمِ مَشْرُوعِيَّةِ تَدَارُكِهَا إِذَا فَاتَ مَحَلُّهَا.
فَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ سُنَّةَ الْوُضُوءِ يُطَالَبُ بِإِعَادَتِهَا لَوْ نَكَّسَهَا سَهْوًا أَوْ عَمْدًا، طَال الْوَقْتُ أَوْ قَصُرَ. (3) أَمَّا لَوْ تَرَكَهَا بِالْكُلِّيَّةِ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا - وَذَلِكَ مُنْحَصِرٌ عِنْدَهُمْ فِي الْمَضْمَضَةِ وَالاِسْتِنْشَاقِ وَمَسْحِ الأُْذُنَيْنِ - قَال الدَّرْدِيرُ: يَفْعَلُهَا اسْتِنَانًا دُونَ مَا بَعْدَهَا طَال التَّرْكُ أَوْ لاَ. وَإِنَّمَا لَمْ تَجِبْ إِعَادَةُ مَا بَعْدَهُ لِنَدْبِ تَرْتِيبِ السُّنَنِ فِي نَفْسِهَا، أَوْ
__________
(1) الدر المختار بهامش ابن عابدين 1 / 70، والشرح الكبير للدردير 1 / 96 حيث لم يذكر واجبات للوضوء
(2) كشاف القناع 1 / 91
(3) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 99(11/99)
مَعَ الْفَرَائِضِ. وَالْمَنْدُوبُ - كَمَا قَال الدُّسُوقِيُّ - إِذَا فَاتَ لاَ يُؤْمَرُ بِفِعْلِهِ لِعَدَمِ التَّشْدِيدِ فِيهِ، وَإِنَّمَا يَتَدَارَكُهَا لِمَا يُسْتَقْبَل مِنَ الصَّلَوَاتِ، لاَ إِنْ أَرَادَ مُجَرَّدَ الْبَقَاءِ عَلَى طَهَارَةٍ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ بِالْقُرْبِ، أَيْ بِحَضْرَةِ الْمَاءِ وَقَبْل فَرَاغِهِ مِنَ الْوُضُوءِ. (1)
وَكَذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لَوْ قَدَّمَ مُؤَخَّرًا، كَأَنِ اسْتَنْشَقَ قَبْل الْمَضْمَضَةِ - وَهُمَا عِنْدَهُمْ سُنَّتَانِ - قَال الرَّمْلِيُّ: يُحْتَسَبُ مَا بَدَأَ بِهِ، وَفَاتَ مَا كَانَ مَحَلُّهُ قَبْلَهُ عَلَى الأَْصَحِّ فِي الرَّوْضَةِ، خِلاَفًا لِمَا فِي الْمَجْمُوعِ، أَيْ فَلاَ يَتَدَارَكُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَهَذَا قَوْلُهُمْ فِي سُنَنِ الْوُضُوءِ بِصِفَةٍ عَامَّةٍ، فَيُحْسَبُ مِنْهَا مَا أَوْقَعَهُ أَوَّلاً، فَكَأَنَّهُ تَرَكَ غَيْرَهُ، فَلاَ يُعْتَدُّ بِفِعْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ. (2)
لَكِنْ فِي التَّسْمِيَةِ فِي أَوَّل الْوُضُوءِ - وَهِيَ سُنَّةٌ عِنْدَهُمْ - قَالُوا: إِنْ تَرَكَهَا عَمْدًا أَوْ سَهْوًا (أَوْ فِي أَوَّل طَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ كَذَلِكَ) يَأْتِي بِهَا فِي أَثْنَائِهِ تَدَارُكًا لِمَا فَاتَهُ، فَيَقُول: بِسْمِ اللَّهِ أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ، وَلاَ يَأْتِي بِهَا بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الْوُضُوءِ، بِخِلاَفِ الأَْكْل، فَإِنَّهُ يَأْتِي بِهَا بَعْدَهُ. (3)
وَشَبِيهٌ بِهَذَا مَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. حَيْثُ قَالُوا: لَوْ نَسِيَهَا، فَسَمَّى فِي خِلاَل الْوُضُوءِ لاَ تَحْصُل
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 1 / 100
(2) نهاية المحتاج 1 / 171
(3) نهاية المحتاج 1 / 169(11/99)
السُّنَّةُ، بَل الْمَنْدُوبُ، (1) فَيَأْتِي بِهَا لِئَلاَّ يَخْلُوَ وُضُوءُهُ مِنْهَا.
وَأَمَّا فِي الطَّعَامِ فَتَحْصُل السُّنَّةُ فِي بَاقِيهِ. وَهَل تَكُونُ التَّسْمِيَةُ أَثْنَاءَهُ اسْتِدْرَاكًا لِمَا فَاتَ، فَتَحْصُل فِيهِ، أَمْ لاَ تَحْصُل؟ .
قَال شَارِحُ الْمُنْيَةِ: الأَْوْلَى أَنَّهَا اسْتِدْرَاكٌ؛ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا أَكَل أَحَدُكُمْ فَلْيَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ نَسِيَ أَنْ يَذْكُرَ اسْمَ اللَّهِ فِي أَوَّلِهِ فَلْيَقُل: بِسْمِ اللَّهِ أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ (2) . وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ: إِذَا قَال فِي الْوُضُوءِ بِسْمِ اللَّهِ أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ، حَصَل اسْتِدْرَاكُ السُّنَّةِ أَيْضًا، بِدَلاَلَةِ النَّصِّ. (3)
7 - أَمَّا الْمَضْمَضَةُ وَالاِسْتِنْشَاقُ فِي الْوُضُوءِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فَفِعْلُهُمَا فَرْضٌ؛ لأَِنَّ الْفَمَ وَالأَْنْفَ مِنْ أَجْزَاءِ الْوَجْهِ، وَلَيْسَا مِنْ سُنَنِ الْوُضُوءِ، وَلِذَا فَلاَ يَجِبُ التَّرْتِيبُ فِيمَا بَيْنَهُمَا. وَيَجِبُ أَنْ يَتَدَارَكَ
__________
(1) السنة عند الحنفية: هي التي واظب عليها النبي صلى الله عليه وسلم مع الترك بلا عذر مرة أو مرتين، وحكمها الثواب، وفي تركها العتاب لا العقاب. وأما المندوب عندهم: فهو ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم مرة أو مرتين ولم يواظب عليه. وحكمه الثواب بفعله وعدم ال
(2) حديث: " إذا أكل أحدكم فليذكر اسم الله تعالى. . . " أخرجه أبو داود (4 / 140 - ط عزت عبيد دعاس) والترمذي (4 / 288 ط الحلبي) من حديث عائشة رضي الله عنها، وصححه الحاكم (4 / 108 ط دائرة المعارف العثمانية) ووافقه الذهبي
(3) رد المحتار 1 / 74 و 75(11/100)
الْمَضْمَضَةَ بَعْدَ الاِسْتِنْشَاقِ، أَوْ بَعْدَ غَسْل الْوَجْهِ، وَحَتَّى بَعْدَ غَسْل سَائِرِ الأَْعْضَاءِ، (1) إِلاَّ أَنَّهُ إِنْ تَذَكَّرَهُمَا بَعْدَ غَسْل الْيَدَيْنِ تَدَارَكَهُمَا وَغَسَل مَا بَعْدَهُمَا كَمَا تَقَدَّمَ.
التَّدَارُكُ فِي الْغُسْل:
8 - التَّرْتِيبُ وَالْمُوَالاَةُ فِي الْغُسْل غَيْرُ وَاجِبَيْنِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
وَقَال اللَّيْثُ: لاَ بُدَّ مِنَ الْمُوَالاَةِ. وَاخْتُلِفَ فِيهِ عَنِ الإِْمَامِ مَالِكٍ، وَالْمُقَدَّمُ عِنْدَ أَصْحَابِهِ: وُجُوبُ الْمُوَالاَةِ، وَفِيهِ وَجْهٌ لأَِصْحَابِ الإِْمَامِ الشَّافِعِيِّ.
فَعَلَى قَوْل الْجُمْهُورِ: إِذَا تَوَضَّأَ مَعَ الْغُسْل لَمْ يَلْزَمِ التَّرْتِيبُ بَيْنَ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ
مِنْ أَجْل ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَوْ تَرَكَ غَسْل عُضْوٍ أَوْ لُمْعَةٍ مِنْ عُضْوٍ، سَوَاءٌ أَكَانَ فِي أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ أَمْ فِي غَيْرِهَا، تَدَارَكَ الْمَتْرُوكَ وَحْدَهُ بَعْدُ، طَال الْوَقْتُ أَوْ قَصُرَ، وَلَوْ غَسَل بَدَنَهُ إِلاَّ أَعْضَاءَ الْوُضُوءِ تَدَارَكَهَا، وَلَمْ يَجِبِ التَّرْتِيبُ بَيْنَهَا. (2)
وَمِنْ أَجْل ذَلِكَ قَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ تَرَكَ الْوُضُوءَ فِي الْغُسْل، أَوِ الْمَضْمَضَةَ أَوِ الاِسْتِنْشَاقَ كُرِهَ لَهُ، وَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ وَلَوْ طَال الْفَصْل
__________
(1) كشاف القناع 1 / 93، 94
(2) شرح منية المصلي ص 50، وحاشية الدسوقي 1 / 133، والمغني 1 / 220، وكشاف القناع 1 / 53(11/100)
دُونَ إعَادَةٍ لِلْغُسْل. (1) وَيَجِبُ تَدَارُكُهُمَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ إِذْ هُمَا وَاجِبَانِ فِي الْغُسْل عِنْدَهُمْ، بِخِلاَفِهِمَا فِي الْوُضُوءِ، فَهُمَا فِيهِ سُنَّةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَلَيْسَا بِوَاجِبَيْنِ (2)
تَدَارُكُ غُسْل الْمَيِّتِ:
9 - عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لَوْ دُفِنَ الْمَيِّتُ دُونَ غُسْلٍ، وَقَدْ أَمْكَنَ غُسْلُهُ، لَزِمَ نَبْشُهُ وَأَنْ يُخْرَجَ وَيُغَسَّل، تَدَارُكًا لِوَاجِبِ غُسْلِهِ. أَيْ مَا لَمْ يُخْشَ تَغَيُّرُهُ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ. وَكَذَلِكَ تَكْفِينُهُ وَالصَّلاَةُ عَلَيْهِ يَجِبُ تَدَارُكُهُمَا بِنَبْشِهِ.
قَال الدَّرْدِيرُ: وَتُدُورِكَ نَدْبًا بِالْحَضْرَةِ (وَهِيَ مَا قَبْل تَسْوِيَةِ التُّرَابِ عَلَيْهِ) وَمِثَال الْمُخَالَفَةِ الَّتِي تُتَدَارَكُ: تَنْكِيسُ رِجْلَيْهِ مَوْضِعَ رَأْسِهِ، أَوْ وَضْعِهِ غَيْرَ مُسْتَقْبِل الْقِبْلَةِ، أَوْ عَلَى ظَهْرِهِ، وَكَتَرْكِ الْغُسْل، أَوِ الصَّلاَةِ عَلَيْهِ، وَدَفْنِ مَنْ أَسْلَمَ بِمَقْبَرَةِ الْكُفَّارِ، فَيُتَدَارَكُ إِنْ لَمْ يُخَفْ عَلَيْهِ التَّغَيُّرُ. (3)
أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: فَلاَ يُنْبَشُ الْمَيِّتُ إِذَا أُهِيل عَلَيْهِ التُّرَابُ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا لَوْ دُفِنَ دُونَ
__________
(1) نهاية المحتاج 1 / 209
(2) شرح منية المصلي ص 46
(3) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 419، والجمل على شرح المنهج 2 / 211، وكشاف القناع 2 / 86، 143(11/101)
غُسْلٍ أَوْ صَلاَةٍ، وَيُصَلَّى عَلَى قَبْرِهِ دُونَ غُسْلٍ. (1)
التَّدَارُكُ فِي الصَّلاَةِ:
10 - إِذَا تَرَكَ الْمُصَلِّي شَيْئًا مِنْ صَلاَتِهِ، أَوْ فَعَلَهُ عَلَى وَجْهٍ غَيْرِ مُجْزِئٍ، فَإِنَّ فِي مَشْرُوعِيَّةِ تَدَارُكِهِ تَفْصِيلاً:
أ - (تَدَارُكُ الأَْرْكَانِ) :
11 - إِنْ كَانَ الْمَتْرُوكُ رُكْنًا، وَكَانَ تَرْكُهُ عَمْدًا، بَطَلَتْ صَلاَتُهُ حَالاً لِتَلاَعُبِهِ. وَإِنْ تَرَكَهُ سَهْوًا أَوْ شَكَّ فِي تَرْكِهِ وَجَبَ تَدَارُكُهُ بِفِعْلِهِ، وَإِلاَّ لَمْ تَصِحَّ الرَّكْعَةُ الَّتِي تَرَكَ رُكْنًا مِنْهَا، فَإِنَّ الرُّكْنَ لاَ يَسْقُطُ عَمْدًا وَلاَ سَهْوًا وَلاَ جَهْلاً وَلاَ غَلَطًا، وَيُعِيدُ مَا بَعْدَ الْمَتْرُوكِ لِوُجُوبِ التَّرْتِيبِ.
وَفِي كَيْفِيَّةِ تَدَارُكِهِ اخْتِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ بَيْنَ أَصْحَابِ الْمَذَاهِبِ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي (أَرْكَانِ الصَّلاَةِ وَسُجُودِ السَّهْوِ) .
وَقَدْ يُشْرَعُ سُجُودُ السَّهْوِ مَعَ تَدَارُكِهِ، عَلَى مَا فِي سُجُودِ السَّهْوِ مِنَ الْخِلاَفِ، فِي كَوْنِهِ وَاجِبًا أَوْ مُسْتَحَبًّا (2) عَلَى مَا هُوَ مُفَصَّلٌ فِي سُجُودِ السَّهْوِ.
__________
(1) ابن عابدين 1 / 582، 602
(2) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 1 / 302، 310، ونهاية المحتاج 1 / 430، 521، وكشاف القناع 1 / 338، 403(11/101)
تَدَارُكُ الْوَاجِبَاتِ:
12 - لَيْسَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَاجِبَاتٌ لِلصَّلاَةِ غَيْرَ الأَْرْكَانِ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَاجِبَاتُ الصَّلاَةِ لاَ تَفْسُدُ الصَّلاَةُ بِتَرْكِهَا، بَل يَجِبُ سُجُودُ السَّهْوِ إِنْ كَانَ تَرْكُهُ سَهْوًا، وَتَجِبُ إِعَادَتُهَا إِنْ كَانَ عَمْدًا مَعَ الْحُكْمِ بِإِجْزَاءِ الأُْولَى. (1)
أَمَّا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: فَوَاجِبَاتُ الصَّلاَةِ - كَالتَّشَهُّدِ الأَْوَّل، وَالتَّكْبِيرِ لِلاِنْتِقَال، وَتَسْبِيحِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ - فَإِنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ عَمْدًا بَطَلَتْ صَلاَتُهُ. وَإِنْ تَرَكَهُ سَهْوًا ثُمَّ تَذَكَّرَهُ، فَإِنَّهُ يَجِبُ تَدَارُكُهُ مَا لَمْ يَفُتْ مَحَلُّهُ، بِانْتِقَالِهِ بَعْدَهُ إِلَى رُكْنٍ مَقْصُودٍ؛ إِذْ لاَ يَعُودُ بَعْدَهُ لِوَاجِبٍ. فَيَرْجِعُ إِلَى تَسْبِيحِ رُكُوعٍ قَبْل اعْتِدَالٍ لاَ بَعْدَهُ، وَيَرْجِعُ إِلَى التَّشَهُّدِ الأَْوَّل مَا لَمْ يَشْرَعْ فِي قِرَاءَةِ الرَّكْعَةِ الثَّالِثَةِ. ثُمَّ إِنْ فَاتَ مَحَل الْوَاجِبِ - كَمَا لَوْ شَرَعَ فِي الْقِرَاءَةِ مَنْ تَرَكَ التَّشَهُّدَ الأَْوَّل - لَمْ يَجُزِ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ. وَفِي كِلاَ الْحَالَيْنِ يَجِبُ سُجُودُ السَّهْوِ. (2)
- تَدَارُكُ سُنَنِ الصَّلاَةِ:
13 - السُّنَنُ لاَ تَبْطُل الصَّلاَةُ بِتَرْكِهَا وَلَوْ عَمْدًا،
__________
(1) شرح منية المصلي ص 13
(2) كشاف القناع 1 / 350، 404، 405(11/102)
وَلاَ تَجِبُ الإِْعَادَةُ، وَإِنَّمَا حُكْمُ تَرْكِهَا: كَرَاهَةُ التَّنْزِيهِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ. (1)
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنْ نَسِيَ سُنَّةً مِنْ سُنَنِ الصَّلاَةِ يَسْتَدْرِكُهَا مَا لَمْ يَفُتْ مَحَلُّهَا، فَلَوْ تَرَكَ التَّشَهُّدَ الأَْوْسَطَ، وَتَذَكَّرَ قَبْل مُفَارَقَتِهِ الأَْرْضَ بِيَدَيْهِ وَرُكْبَتَيْهِ، يَرْجِعُ لِلإِْتْيَانِ بِهِ، وَإِلاَّ فَقَدْ فَاتَ. وَأَمَّا السُّجُودُ لِلسَّهْوِ بِتَرْكِ سُنَّةٍ، فَعِنْدَهُمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلاَتٌ يُرْجَعُ إِلَيْهَا فِي (سُجُودِ السَّهْوِ) . (2)
وَالسُّنَنُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ نَوْعَانِ: نَوْعٌ هُوَ أَبْعَاضٌ يُشْرَعُ سُجُودُ السَّهْوِ لِتَرْكِهَا عَمْدًا أَوْ سَهْوًا، كَالْقُنُوتِ، وَقِيَامِهِ، وَالتَّشَهُّدِ الأَْوَّل، وَقُعُودِهِ، وَالصَّلاَةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ.
وَنَوْعٌ لاَ يُشْرَعُ السُّجُودُ لِتَرْكِهِ، كَأَذْكَارِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، فَإِنْ سَجَدَ لِشَيْءٍ مِنْهَا عَامِدًا بَطَلَتْ صَلاَتُهُ؛ لأَِنَّهُ زَادَ عَلَى الصَّلاَةِ مِنْ جِنْسِ أَفْعَالِهَا مَا لَيْسَ مِنْهَا، إِلاَّ أَنْ يُعْذَرَ بِجَهْلِهِ.
وَعَلَى كُل حَالٍ فَلاَ يُتَدَارَكُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ إِذَا فَاتَ مَحَلُّهُ، كَالاِسْتِفْتَاحِ إِذَا شَرَعَ فِي الْقِرَاءَةِ. (3)
وَكَذَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لاَ تُتَدَارَكُ السُّنَنُ إِذَا فَاتَ مَحَلُّهَا، كَمَا إِذَا تَرَكَ الاِسْتِفْتَاحَ حَتَّى تَعَوَّذَ، أَوْ تَرَكَ
__________
(1) شرح منية المصلي ص 13
(2) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 1 / 278
(3) نهاية المحتاج 2 / 66 - 67، 455(11/102)
التَّعَوُّذَ حَتَّى بَسْمَل، أَوْ تَرَكَ الْبَسْمَلَةَ حَتَّى شَرَعَ فِي الْقِرَاءَةِ، أَوْ تَرَكَ التَّأْمِينَ حَتَّى شَرَعَ فِي السُّورَةِ. لَكِنْ إِنْ لَمْ يَكُنِ اسْتَعَاذَ فِي الأُْولَى عَمْدًا أَوْ نِسْيَانًا يَسْتَعِيذُ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ. وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ تَدَارُكِ التَّعَوُّذِ الْفَائِتِ، وَلَكِنْ إِنَّمَا يَسْتَعِيذُ لِلْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ. وَكَمَا لاَ تُتَدَارَكُ السُّنَنُ إِذَا فَاتَ مَحَلُّهَا، فَكَذَلِكَ لاَ يُشْرَعُ السُّجُودُ لِتَرْكِ شَيْءٍ مِنْهَا سَهْوًا أَوْ عَمْدًا، قَوْلِيَّةً كَانَتْ أَوْ فِعْلِيَّةً، وَإِنْ سَجَدَ لِذَلِكَ فَلاَ بَأْسَ. (1)
د - تَدَارُكُ الْمَسْبُوقِ مَا فَاتَهُ مِنَ الصَّلاَةِ مَعَ الْجَمَاعَةِ:
14 - مَنْ جَاءَ مُتَأَخِّرًا عَنْ تَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ، فَدَخَل مَعَ الإِْمَامِ، لاَ يَتَدَارَكُ مَا فَاتَهُ مِنَ الرَّكْعَةِ مَعَهُ إِنْ أَدْرَكَهُ قَبْل الرَّفْعِ مِنَ الرُّكُوعِ، فَإِنْ أَدْرَكَهُ فِي الرَّفْعِ مِنَ الرُّكُوعِ أَوْ بَعْدَ ذَلِكَ فَاتَتْهُ الرَّكْعَةُ وَوَجَبَ عَلَيْهِ تَدَارُكُهَا. وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ وَأَحْكَامٌ مُخْتَلِفَةٌ تُنْظَرُ فِي صَلاَةِ الْجَمَاعَةِ (صَلاَةِ الْمَسْبُوقِ) (2)
هـ - تَدَارُكُ سُجُودِ السَّهْوِ:
15 - لَوْ نَسِيَ مَنْ سَهَا فِي صَلاَتِهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْجُدَ لِلسَّهْوِ حَتَّى سَلَّمَ، ثُمَّ تَذَكَّرَهُ
__________
(1) كشاف القناع 1 / 336، 339، 356، 393
(2) نهاية المحتاج 1 / 472، 2 / 231 - 235(11/103)
عَنْ قُرْبٍ، يَتَدَارَكُهُ. (1) وَفِي ذَلِكَ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي بَابِ (سُجُودُ السَّهْوِ) .
و تَدَارُكُ النَّاسِي لِلتَّكْبِيرِ فِي صَلاَةِ الْعِيدِ:
16 - إِذَا نَسِيَ تَكْبِيرَاتِ صَلاَةِ الْعِيدِ حَتَّى شَرَعَ فِي الْقِرَاءَةِ، فَاتَتْ فَلاَ يَتَدَارَكُهَا فِي الرَّكْعَةِ نَفْسِهَا، لأَِنَّهَا سُنَّةٌ فَاتَ مَحَلُّهَا، كَمَا لَوْ نَسِيَ الاِسْتِفْتَاحَ أَوِ التَّعَوُّذَ، وَهَذَا قَوْل الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. (2) وَلأَِنَّهُ إِنْ أَتَى بِالتَّكْبِيرَاتِ ثُمَّ عَادَ إِلَى الْقِرَاءَةِ، فَقَدْ أَلْغَى الْقِرَاءَةَ الأُْولَى، وَهِيَ فَرْضٌ يَصِحُّ أَنْ يُعْتَدَّ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَعُدْ إِلَى الْقِرَاءَةِ فَقَدْ حَصَلَتِ التَّكْبِيرَاتُ فِي غَيْرِ مَحَلِّهَا. لَكِنْ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - كَمَا قَال الشَّبْرَامَلِّسِيُّ - يُسَنُّ إِذَا نَسِيَ تَكْبِيرَاتِ الرَّكْعَةِ الأُْولَى أَنْ يَتَدَارَكَهَا فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مَعَ تَكْبِيرَاتِهَا، كَمَا فِي قِرَاءَةِ سُورَةِ (الْجُمُعَةِ) فِي الرَّكْعَةِ الأُْولَى مِنْ صَلاَةِ الْجُمُعَةِ، فَإِنَّهُ إِذَا تَرَكَهَا فِيهَا سُنَّ لَهُ أَنْ يَقْرَأَهَا مَعَ سُورَةِ (الْمُنَافِقُونَ) فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ. (3)
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: يَتَدَارَكُ التَّكْبِيرَاتِ إِذَا نَسِيَهَا، سَوَاءٌ أَذَكَرَهَا أَثْنَاءَ الْقِرَاءَةِ أَمْ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ أَثْنَاءَ
__________
(1) المغني 2 / 34، وكشاف القناع 1 / 409، ونهاية المحتاج 2 / 86، ومراقي الفلاح بحاشية الطحطاوي ص 257، وابن عابدين 1 / 505، والقوانين الفقهية ص 51
(2) نهاية المحتاج 2 / 379، والقليوبي 1 / 305، وكشاف القناع 2 / 54
(3) النهاية وحاشية الشبرامسلي 2 / 379، وكشاف القناع 2 / 54(11/103)
الرُّكُوعِ. فَإِنْ نَسِيَهَا حَتَّى رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ فَاتَتْ فَلاَ يُكَبِّرُ. غَيْرَ أَنَّهُ إِنْ ذَكَرَ أَثْنَاءَ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ وَبَعْدَهَا، قَبْل أَنْ يَضُمَّ إِلَيْهَا السُّورَةَ، يُعِيدُ بَعْدَ التَّكْبِيرِ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ وُجُوبًا، وَإِنْ ذَكَرَ بَعْدَ ضَمِّ السُّورَةِ كَبَّرَ وَلَمْ يُعِدِ الْقِرَاءَةَ؛ لأَِنَّ الْقِرَاءَةَ تَمَّتْ فَلاَ يُحْتَمَل النَّقْضُ. (1)
وَقَوْل الْمَالِكِيَّةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَرِيبٌ مِنْ قَوْل الْحَنَفِيَّةِ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ نَاسِيَ التَّكْبِيرِ كُلًّا أَوْ بَعْضًا يُكَبِّرُ حَيْثُ تَذَكَّرَ فِي أَثْنَاءِ الْقِرَاءَةِ أَوْ بَعْدَهَا مَا لَمْ يَرْكَعْ. وَيُعِيدُ الْقِرَاءَةَ اسْتِحْبَابًا، وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ؛ لأَِنَّ الْقِرَاءَةَ الأُْولَى وَقَعَتْ فِي غَيْرِ مَحَلِّهَا.
فَإِنْ رَكَعَ قَبْل أَنْ يَتَذَكَّرَ التَّكْبِيرَ تَمَادَى لِفَوَاتِ مَحَل التَّدَارُكِ، وَلاَ يَرْجِعُ لِلتَّكْبِيرِ، فَإِنْ رَجَعَ فَالظَّاهِرُ الْبُطْلاَنُ. (2)
ز - تَدَارُكُ الْمَسْبُوقِ تَكْبِيرَاتِ صَلاَةِ الْعِيدِ:
17 - عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَتَدَارَكُ الْمَسْبُوقُ مَا فَاتَهُ مِنْ تَكْبِيرَاتِ صَلاَةِ الْعِيدِ، فَيُكَبِّرُ لِلاِفْتِتَاحِ قَائِمًا، فَإِنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالتَّكْبِيرَاتِ وَيُدْرِكَ الرُّكُوعَ فَعَل، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ رَكَعَ، وَاشْتَغَل بِالتَّكْبِيرَاتِ وَهُوَ رَاكِعٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، خِلاَفًا لأَِبِي يُوسُفَ، وَإِنْ رَفَعَ الإِْمَامُ رَأْسَهُ سَقَطَ عَنْهُ مَا بَقِيَ
__________
(1) فتح القدير على الهداية 2 / 46، والفتاوى الهندية 1 / 151، وابن عابدين 1 / 560
(2) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 1 / 397(11/104)
مِنَ التَّكْبِيرِ، وَإِنْ أَدْرَكَهُ بَعْدَ رَفْعِ رَأْسِهِ قَائِمًا لاَ يَأْتِي بِالتَّكْبِيرِ؛ لأَِنَّهُ يَقْضِي الرَّكْعَةَ مَعَ تَكْبِيرَاتِهَا. (1)
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: يَتَدَارَكُهَا إِنْ أَدْرَكَ الْقِرَاءَةَ مَعَ الإِْمَامِ، لاَ إِذَا أَدْرَكَهُ رَاكِعًا. ثُمَّ إِنْ أَدْرَكَهُ فِي أَثْنَاءِ التَّكْبِيرَاتِ يُتَابِعُ الإِْمَامَ فِيمَا أَدْرَكَهُ مَعَهُ، ثُمَّ يَأْتِي بِمَا فَاتَهُ. وَلاَ يُكَبِّرُ مَا فَاتَهُ خِلاَل تَكْبِيرِ الإِْمَامِ. وَإِنْ أَدْرَكَهُ فِي الْقِرَاءَةِ كَبَّرَ أَثْنَاءَ قِرَاءَةِ الإِْمَامِ. (2)
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْجَدِيدِ، وَالْحَنَابِلَةِ: إِنْ حَضَرَ الْمَأْمُومُ، وَقَدْ سَبَقَهُ الإِْمَامُ بِالتَّكْبِيرَاتِ أَوْ بِبَعْضِهَا، لَمْ يَتَدَارَكْ شَيْئًا مِمَّا فَاتَهُ؛ لأَِنَّهُ ذِكْرٌ مَسْنُونٌ فَاتَ مَحَلُّهُ.
وَفِي الْقَدِيمِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يَقْضِي؛ لأَِنَّ مَحَلَّهُ الْقِيَامُ وَقَدْ أَدْرَكَهُ. قَال الشِّيرَازِيُّ: وَلَيْسَ بِشَيْءٍ. (3)
التَّدَارُكُ فِي الْحَجِّ:
أ - التَّدَارُكُ فِي الإِْحْرَامِ:
18 - إِنْ تَجَاوَزَ الَّذِي يُرِيدُ الْحَجَّ الْمِيقَاتَ دُونَ أَنْ يُحْرِمَ، فَعَلَيْهِ دَمٌ إِنْ أَحْرَمَ مِنْ مَكَانِهِ. لَكِنْ إِنْ
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 151، وشرح فتح القدير 2 / 46، ومراقي الفلاح ص 292
(2) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 1 / 397.
(3) الشبرامسلي على النهاية 2 / 397، والجمل على شرح المنهج 2 / 96، وكشاف القناع 2 / 54، والمجموع 5 / 15، وانظر القليوبي 1 / 305.(11/104)
تَدَارَكَ مَا فَاتَهُ بِالرُّجُوعِ إِلَى الْمِيقَاتِ وَالإِْحْرَامِ مِنْهُ فَلاَ دَمَ عَلَيْهِ. وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ إِنْ رَجَعَ قَبْل أَنْ يُحْرِمَ، أَمَّا إِنْ أَحْرَمَ مِنْ مَكَانِهِ دُونَ الْمِيقَاتِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهِ، فَقَدْ قِيل: يَسْتَقِرُّ الدَّمُ عَلَيْهِ وَلاَ يَنْفَعُهُ التَّدَارُكُ. وَقِيل: يَنْفَعُهُ. وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ وَخِلاَفٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ (إِحْرَامٌ) (1) .
ب - التَّدَارُكُ فِي الطَّوَافِ:
19 - إِنْ تَرَكَ جُزْءًا مِنَ الطَّوَافِ الْمَشْرُوعِ، كَمَا لَوْ طَافَ دَاخِل الْحِجْرِ بَعْضَ طَوَافِهِ، لَمْ يَصِحَّ حَتَّى يَأْتِيَ بِمَا تَرَكَهُ، قَال الْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: فِي وَقْتٍ قَرِيبٍ؛ لاِشْتِرَاطِ الْمُوَالاَةِ بَيْنَ الطَّوَافَاتِ. وَلَمْ يَشْتَرِطِ الْبَعْضُ الْمُوَالاَةَ، وَمِمَّنْ قَال ذَلِكَ: سَائِرُ الشَّافِعِيَّةِ، بَل هُوَ عِنْدَهُمْ مُسْتَحَبٌّ. (2)
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ شَكَّ فِي شَيْءٍ مِنْ شُرُوطِ حَجِّهِ يَجِبُ التَّدَارُكُ مَا لَمْ يَتَحَلَّل، وَلاَ يُؤَثِّرُ الشَّكُّ بَعْدَ الْفَرَاغِ. (3)
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ غَيْرَ ابْنِ الْهُمَامِ: الْفَرْضُ فِي الطَّوَافِ أَكْثَرُهُ - وَهُوَ أَرْبَعُ طَوْفَاتٍ - وَمَا زَادَ وَاجِبٌ، أَمَّا عِنْدَ ابْنِ الْهُمَامِ فَالسَّبْعُ كُلُّهَا فَرْضٌ،
__________
(1) المغني لابن قدامة 3 / 266، وابن عابدين 2 / 154، وفتح القدير 3 / 40، والدسوقي على الشرح الكبير 2 / 24، 25، وشرح المنهاج وحاشية القليوبي 2 / 94.
(2) شرح المنهاج وحاشية القليوبي 2 / 108، والمغني 3 / 396
(3) شرح المنهاج 2 / 108(11/105)
كَقَوْل جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ. وَعَلَى قَوْل جُمْهُورِ الْحَنَفِيَّةِ إِنْ تَرَكَ ثَلاَثَ طَوْفَاتٍ مِنْ طَوَافِ الزِّيَارَةِ أَوْ أَقَل صَحَّ طَوَافُهُ لِفَرْضِهِ، وَعَلَيْهِ دَمٌ لِمَا نَقَصَ مِنَ الْوَاجِبِ. لَكِنْ إِنْ تَدَارَكَ فَطَافَ الأَْشْوَاطَ الْبَاقِيَةَ صَحَّ وَسَقَطَ عَنْهُ الدَّمُ، وَلَوْ كَانَ طَوَافُهُ بَعْدَ فَتْرَةٍ، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ إيقَاعُ الطَّوْفَاتِ الْمُتَمِّمَةِ قَبْل آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ. (1)
وَإِنْ تَرَكَ الْحَاجُّ طَوَافَ الْقُدُومِ، أَوْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ طَافَ لِلْقُدُومِ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ، فَلاَ يَلْزَمُهُ التَّدَارُكُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ؛ لأَِنَّهُ مُسْتَحَبٌّ غَيْرُ وَاجِبٍ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُفْرِدِ، قَال الشَّافِعِيَّةُ: وَفِي فَوَاتِهِ بِالتَّأْخِيرِ - أَيْ عَنْ قُدُومِ مَكَّةَ - وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: لاَ يَفُوتُ إِلاَّ بِالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، وَإِذَا فَاتَ فَلاَ يُقْضَى. (2) عَلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي مُلاَحَظَةُ أَنَّ مَنْ تَرَكَ طَوَافَ الْقُدُومِ، أَوْ طَافَهُ وَلَمْ يَصِحَّ لَهُ، كَأَنْ طَافَهُ مُحْدِثًا وَلَمْ يَتَدَارَكْهُ، فَعَلَيْهِ إِعَادَةُ السَّعْيِ عِنْدَ كُل مَنْ شَرَطَ لِصِحَّةِ السَّعْيِ أَنْ يَتَقَدَّمَهُ الطَّوَافُ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ (3) (ر: سَعْيٌ) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ طَافَ لِلْقُدُومِ، أَوْ تَطَوُّعًا عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ، فَعَلَيْهِ دَمٌ إِنْ كَانَ جُنُبًا؛ لِوُجُوبِ الطَّوَافِ بِالشُّرُوعِ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ مُحْدِثًا
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 2 / 250
(2) شرح المنهاج وحاشية القليوبي 2 / 102
(3) الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 34(11/105)
فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ لاَ غَيْرَ. وَيُمْكِنُهُ التَّدَارُكُ بِإِعَادَةِ الطَّوَافِ، فَيَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ أَوِ الصَّدَقَةُ. وَالْحُكْمُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ كَذَلِكَ فِي طَوَافِ الْوَدَاعِ. (1)
أَمَّا الرَّمَل وَالاِضْطِبَاعُ فِي الطَّوَافِ فَهُمَا سُنَّتَانِ فِي حَقِّ الرِّجَال، فِي الأَْشْوَاطِ الثَّلاَثَةِ الأُْولَى مِنْ طَوَافِ الْقُدُومِ خَاصَّةً، فَلَوْ تَرَكَهُمَا فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، وَلاَ يُشْرَعُ لَهُ تَدَارُكُهُمَا، وَمِثْلُهُمَا تَرْكُ الرَّمَل بَيْنَ الْمِيلَيْنِ (الأَْخْضَرَيْنِ) فِي السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الأَْصَحُّ أَوِ الأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلاَمِ الْحَنَفِيَّةِ، قَال ابْنُ الْهُمَامِ: إِنْ تَرَكَ الرَّمَل فِي أَشْوَاطِ الطَّوَافِ الأُْولَى لاَ يَرْمُل بَعْدَ ذَلِكَ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلٌ خِلاَفُ الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَوْل الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ يَقْضِي الاِضْطِبَاعَ فِي طَوَافِ الإِْفَاضَةِ. (2)
ج - التَّدَارُكُ فِي السَّعْيِ:
20 - الْحَاجُّ الْمُفْرِدُ إِنْ لَمْ يَسْعَ بَعْدَ طَوَافِ الْقُدُومِ وَجَبَ عَلَيْهِ تَدَارُكُ السَّعْيِ، فَيَسْعَى بَعْدَ طَوَافِ الإِْفَاضَةِ وَلاَ بُدَّ، وَإِلاَّ لَمْ يَصِحَّ حَجُّهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ؛ لأَِنَّ السَّعْيَ عِنْدَهُمْ رُكْنٌ. وَهُوَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَفِي قَوْل الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ: وَاجِبٌ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 209، والدسوقي على الشرح الكبير 2 / 34
(2) الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 43، والمغني لابن قدامة 3 / 375 - 377، 388، وشرح المنهاج للمحلي 2 / 108، وفتح القدير 2 / 358.(11/106)
فَقَطْ، فَإِنْ لَمْ يَتَدَارَكْهُ يُجْبَرُ بِدَمٍ وَحَجُّهُ تَامٌّ. وَهَذَا إِنْ كَانَ الْمَتْرُوكُ السَّعْيَ كُلَّهُ أَوْ أَكْثَرَهُ، فَإِنْ كَانَ الْمَتْرُوكُ ثَلاَثَةَ أَشْوَاطٍ أَوْ أَقَل فَلَيْسَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِلاَّ التَّصَدُّقُ بِنِصْفِ صَاعٍ عَنْ كُل شَوْطٍ، وَكُل هَذَا عِنْدَهُمْ إِنْ كَانَ التَّرْكُ بِلاَ عُذْرٍ، فَإِنْ كَانَ بِعُذْرٍ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، وَهَذَا فِي جَمِيعِ وَاجِبَاتِ الْحَجِّ. (1)
وَلَوْ سَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَتَرَكَ بَعْضَ الأَْشْوَاطِ عَمْدًا أَوْ نِسْيَانًا، أَوْ تَرَكَ فِي بَعْضِهَا أَنْ يَصِل إِلَى الصَّفَا أَوْ إِلَى الْمَرْوَةِ لَمْ يَصِحَّ سَعْيُهُ، وَلَوْ كَانَ مَا تَرَكَهُ ذِرَاعًا وَاحِدًا، وَعَلَيْهِ أَنْ يَتَدَارَكَ مَا فَاتَهُ، وَيُمْكِنُ التَّدَارُكُ بِالإِْتْيَانِ بِالْبَعْضِ الَّذِي تَرَكَهُ وَلَوْ بَعْدَ أَيَّامٍ. وَلاَ يَلْزَمُهُ إِعَادَةُ السَّعْيِ كُلِّهِ؛ لأَِنَّ الْمُوَالاَةَ غَيْرُ مُشْتَرَطَةٍ فِيهِ بِخِلاَفِ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ. (2) وَقِيل: هِيَ مُشْتَرَطَةٌ فِي السَّعْيِ أَيْضًا، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيَّةِ.
وَمِثْل ذَلِكَ: مَا لَوْ سَعَى مُبْتَدِئًا بِالْمَرْوَةِ، فَإِنَّ الشَّوْطَ الأَْوَّل لاَ يُعْتَبَرُ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {إنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} (3) الآْيَةَ ثُمَّ قَال: نَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ وَفِي رِوَايَةٍ ابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ (4)
__________
(1) الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 34، وشرح المحلي على المنهاج 2 / 110، والمغني 3 / 388، وفتح القدير 2 / 466
(2) المغني 3 / 396
(3) سورة البقرة / 158.
(4) حديث " نبدأ بما بدأ الله " وفي رواية " ابدؤوا بما بدأ الله به " أخرجه مسلم (2 / 888 - ط الحلبي) من حديث جابر رضي الله عنه بلفظ: " أبدأ بما بدأ الله "، وأخرجه مالك في الموطأ (1 / 372 ط الحلبي) من حديثه كذلك بلفظ: " نبدأ بما بدأ الله ". ولمح الحافظ ابن حجر في التلخيص (2 / 250 ط شركة الطباعة الفنية) إلى شذوذ رواية " ابدؤوا ".(11/106)
د - الْخَطَأُ فِي الْوُقُوفِ:
21 - إِذَا وَقَفَ الْحَجِيجُ يَوْمَ الْعَاشِرِ مِنْ شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ، وَتَبَيَّنَ خَطَؤُهُمْ، فَالْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ مُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ أَجْزَأَهُمُ الْوُقُوفُ وَلاَ يُعِيدُونَ، دَفْعًا لِلْحَرَجِ الشَّدِيدِ، وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّهُ يُجْزِئُهُمُ الْوُقُوفُ إِلاَّ أَنْ يَقِلُّوا عَلَى خِلاَفِ الْعَادَةِ فِي الْحَجِيجِ، فَيَقْضُونَ هَذَا الْحَجَّ فِي الأَْصَحِّ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ فِي قَضَائِهِمْ مَشَقَّةٌ عَامَّةٌ.
أَمَّا إِذَا وَقَفُوا فِي الْيَوْمِ الثَّامِنِ، ثُمَّ عَلِمُوا بِخَطَئِهِمْ، وَأَمْكَنَهُمُ التَّدَارُكُ قَبْل الْفَوَاتِ، أَعَادُوا عِنْدَ الْجُمْهُورِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ أَيْضًا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ) وَالرِّوَايَةُ الأُْخْرَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يُجْزِئُهُمُ الْوُقُوفُ دُونَ تَدَارُكٍ؛ لأَِنَّهُمْ لَوْ أَعَادُوا الْوُقُوفَ لَتَعَدَّدَ، وَهُوَ بِدْعَةٌ، كَمَا قَال الشَّيْخُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ.
أَمَّا لَوْ عَلِمُوا بِخَطَئِهِمْ، بِحَيْثُ لاَ يُمْكِنُهُمُ التَّدَارُكُ، لِلْفَوَاتِ، فَالْحُكْمُ فِي الْمُعْتَمَدِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ لاَ يُجْزِئُهُمْ هَذَا الْوُقُوفُ، وَيَجِبُ عَلَيْهِمُ الْقَضَاءُ لِهَذَا الْحَجِّ.(11/107)
وَفَرَّقُوا بَيْنَ تَأْخِيرِ الْعِبَادَةِ عَنْ وَقْتِهَا وَتَقْدِيمِهَا عَلَيْهِ بِأَنَّ التَّأْخِيرَ أَقْرَبُ إِلَى الاِحْتِسَابِ مِنَ التَّقْدِيمِ، وَبِأَنَّ اللَّفْظَ فِي التَّقْدِيمِ يُمْكِنُ الاِحْتِرَازُ عَنْهُ؛ لأَِنَّهُ يَقَعُ الْغَلَطُ فِي الْحِسَابِ، أَوِ الْخَلَل فِي الشُّهُودِ الَّذِينَ شَهِدُوا بِتَقْدِيمِ الْهِلاَل، وَالْغَلَطُ بِالتَّأْخِيرِ قَدْ يَكُونُ بِالْغَيْمِ الْمَانِعِ مِنْ رُؤْيَةِ الْهِلاَل، وَمِثْل ذَلِكَ لاَ يُمْكِنُ الاِحْتِرَازُ عَنْهُ.
وَهَذَا أَحَدُ التَّخْرِيجَيْنِ عَنِ الْحَنَفِيَّةِ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ التَّخْرِيجُ الآْخَرُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّهُ يُجْزِئُهُمْ، وَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِمْ؛ لأَِنَّ الْوُقُوفَ مَرَّتَيْنِ فِي عَامٍ وَاحِدٍ بِدْعَةٌ - كَمَا يَقُول الْحَنَابِلَةُ - وَلأَِنَّ الْقَوْل بِعَدَمِ الإِْجْزَاءِ فِيهِ حَرَجٌ بَيِّنٌ - كَمَا يَقُول الْحَنَفِيَّةُ - (1)
هـ - التَّدَارُكُ فِي وُقُوفِ عَرَفَةَ:
22 - لَوْ تَرَكَ الْحَاجُّ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ عَمْدًا أَوْ نِسْيَانًا أَوْ جَهْلاً حَتَّى طَلَعَ فَجْرُ يَوْمِ النَّحْرِ لَمْ يَصِحَّ حَجُّهُ، فَلاَ يُمْكِنُ التَّدَارُكُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُحِل بِعُمْرَةٍ. (2)
وَلَوْ وَقَفَ نَهَارًا، ثُمَّ دَفَعَ قَبْل الْغُرُوبِ، فَقَدْ أَتَى بِالرُّكْنِ، وَتَرَكَ وَاجِبَ الْوُقُوفِ فِي جُزْءٍ مِنَ اللَّيْل، فَيَكُونُ عَلَيْهِ دَمٌ وُجُوبًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
__________
(1) الهداية والعناية 3 / 85، وحاشية الدسوقي 2 / 38، وشرح المحلي مع المنهاج 2 / 115، و 116، والفروع 3 / 524، وكشاف القناع 2 / 525.
(2) شرح المنهاج 2 / 115، والمغني 3 / 396.(11/107)
وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. لَكِنَّ الرَّاجِحَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ اسْتِحْبَابُ إِرَاقَةِ الدَّمِ؛ لأَِنَّ أَخْذَ جُزْءٍ مِنَ اللَّيْل عَلَى هَذَا الْقَوْل سُنَّةٌ لاَ غَيْرَ، وَإِنَّمَا يُسْتَحَبُّ الدَّمُ خُرُوجًا مِنْ خِلاَفِ مَنْ أَوْجَبَهُ.
وَلَوْ تَدَارَكَ مَا فَاتَهُ بِالرُّجُوعِ إِلَى عَرَفَةَ قَبْل غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَبَقِيَ إِلَى مَا بَعْدَ الْغُرُوبِ سَقَطَ عَنْهُ الدَّمُ اتِّفَاقًا. وَلَوْ رَجَعَ بَعْدَ الْغُرُوبِ وَقَبْل طُلُوعِ الْفَجْرِ سَقَطَ عَنْهُ الدَّمُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، خِلاَفًا لِلْحَنَفِيَّةِ؛ لأَِنَّ الدَّمَ عِنْدَهُمْ لَزِمَهُ بِالدَّفْعِ مِنْ عَرَفَةَ، فَلاَ يَسْقُطُ بِالرُّجُوعِ إِلَيْهَا.
أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَلاَ يَدْفَعُ الْحَاجُّ مِنْ عَرَفَةَ إِلاَّ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَإِنْ دَفَعَ قَبْل الْغُرُوبِ فَعَلَيْهِ الْعَوْدُ لَيْلاً (تَدَارُكًا) وَإِلاَّ بَطَل حَجُّهُ. (1)
و تَدَارُكُ الْوُقُوفِ بِالْمُزْدَلِفَةِ:
23 - عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ الْوُجُودُ بِمُزْدَلِفَةَ وَاجِبٌ وَلَوْ لَحْظَةً، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي النِّصْفِ الثَّانِي مِنَ اللَّيْل بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، وَلاَ يُشْتَرَطُ الْمُكْثُ، بَل يَكْفِي مُجَرَّدُ الْمُرُورِ بِهَا.
وَمَنْ دَفَعَ مِنْ مُزْدَلِفَةَ قَبْل مُنْتَصَفِ اللَّيْل، وَعَادَ إِلَيْهَا قَبْل الْفَجْرِ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّهُ أَتَى
__________
(1) المغني 3 / 494، وابن عابدين 2 / 176، 206، ونهاية المحتاج 3 / 290، والفواكه الدواني 1 / 421، والقوانين الفقهية (90) ، والشرح الكبير مع الدسوقي 2 / 37.(11/108)
بِالْوَاجِبِ، فَإِنْ لَمْ يَعُدْ بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْل حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ فَعَلَيْهِ دَمٌ عَلَى الأَْرْجَحِ.
أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: فَيَجِبُ الْوُقُوفُ بِمُزْدَلِفَةَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَقِفَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَلَوْ لَحْظَةً، فَإِنْ تَرَكَ الْوُقُوفَ لِعُذْرٍ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، وَالْعُذْرُ كَأَنْ يَكُونَ بِهِ ضَعْفٌ أَوْ عِلَّةٌ أَوْ كَانَتِ امْرَأَةٌ تَخَافُ الزِّحَامَ، وَإِنْ أَفَاضَ مِنْ مُزْدَلِفَةَ قَبْل ذَلِكَ لاَ لِعُذْرٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ. وَظَاهِرٌ أَنَّهُ إِنْ تَدَارَكَ الْوُقُوفَ بِالرُّجُوعِ إِلَى مُزْدَلِفَةَ قَبْل طُلُوعِ الشَّمْسِ سَقَطَ عَنْهُ الدَّمُ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: النُّزُول بِمُزْدَلِفَةَ بِقَدْرِ حَطِّ الرِّحَال - وَإِنْ لَمْ تَحُطَّ بِالْفِعْل - وَاجِبٌ، فَإِنْ لَمْ يَنْزِل بِهَا بِقَدْرِ حَطِّ الرِّحَال حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ فَالدَّمُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ إِلاَّ لِعُذْرٍ، فَإِنْ تَرَكَ النُّزُول لِعُذْرٍ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ. (1)
ز - تَدَارُكُ رَمْيِ الْجِمَارِ:
24 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مَنْ تَرَكَ رَمْيَ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ - عَمْدًا أَوْ سَهْوًا - تَدَارَكَهُ فِي بَاقِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ عَلَى الأَْظْهَرِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ أَدَاءً، وَفِي قَوْلٍ قَضَاءً، وَلاَ دَمَ مَعَ التَّدَارُكِ.
__________
(1) شرح فتح القدير 2 / 380، وابن عابدين 2 / 178، والشرح الكبير وعليه حاشية الدسوقي 2 / 44، وشرح المنهاج للمحلي 2 / 116، والفروع 3 / 510.(11/108)
وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ مَنْ أَخَّرَ الرَّمْيَ فِي الْيَوْمِ الأَْوَّل وَالثَّانِي مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ إِلَى اللَّيْل، فَرَمَى قَبْل طُلُوعِ الْفَجْرِ جَازَ وَلاَ شَيْءِ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ اللَّيْل وَقْتٌ لِلرَّمْيِ فِي أَيَّامِ الرَّمْيِ.
وَأَمَّا رَمْيُ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، فَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَمْتَدُّ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَإِنْ لَمْ يَرْمِ حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، فَرَمَى قَبْل طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنَ الْيَوْمِ الثَّانِي أَجْزَأَهُ، وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ.
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ تَأْخِيرَ الرَّمْيِ إِلَى اللَّيْل يَكُونُ تَدَارُكُهُ قَضَاءً، وَعَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ. (1)
ح - تَدَارُكُ طَوَافِ الإِْفَاضَةِ:
25 - مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ مَنْ طَافَ بَعْدَ عَرَفَةَ طَوَافًا صَحِيحًا - سَوَاءٌ أَكَانَ وَاجِبًا أَمْ نَفْلاً - وَقَعَ عَنْ طَوَافِ الإِْفَاضَةِ وَإِنْ لَمْ يَنْوِهِ.
أَمَّا مَنْ تَرَكَ الطَّوَافَ بَعْدَ عَرَفَةَ، وَخَرَجَ إِلَى بَلَدِهِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ مُحْرِمًا لِيَطُوفَ طَوَافَ الإِْفَاضَةِ، وَيَبْقَى مُحْرِمًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى النِّسَاءِ حَتَّى يَطُوفَ طَوَافًا صَحِيحًا.
وَهُنَاكَ تَفْصِيلاَتٌ فِي بَعْضِ الْمَذَاهِبِ يُرْجَعُ إِلَيْهَا فِي الْحَجِّ.
__________
(1) البدائع 2 / 137، وفتح القدير 3 / 86، والدسوقي 2 / 51، وجواهر الإكليل 1 / 182، وشرح المنهاج مع حاشية القليوبي 2 / 123 - 124، والمغني 3 / 5، والفروع لابن مفلح 3 / 518 - 519.(11/109)
وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ مَنْ تَرَكَ طَوَافَ الإِْفَاضَةِ، لَكِنَّهُ طَافَ طَوَافَ الصَّدْرِ (الْوَدَاعِ) أَوْ طَوَافَ نَفْلٍ، وَقَعَ الطَّوَافُ عَمَّا نَوَاهُ، وَلاَ يَقَعُ عَنْ طَوَافِ الإِْفَاضَةِ، حَتَّى لَوْ رَجَعَ إِلَى بَلَدِهِ بَعْدَ هَذَا الطَّوَافِ عَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ مُحْرِمًا، لِيَطُوفَ طَوَافَ الإِْفَاضَةِ لأَِنَّهُ رُكْنٌ، وَيَبْقَى مُحْرِمًا أَيْضًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى النِّسَاءِ. (1)
ط - تَدَارُكُ طَوَافِ الْوَدَاعِ:
26 - طَوَافُ الْوَدَاعِ وَاجِبٌ عَلَى غَيْرِ الْحَائِضِ يُجْبَرُ تَرْكُهُ بِدَمٍ، وَلَوْ كَانَ تَرْكُهُ لِنِسْيَانٍ أَوْ جَهْلٍ، وَهَذَا قَوْل الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيَّةِ. وَالثَّانِي عِنْدَهُمْ: هُوَ سُنَّةٌ لاَ يَجِبُ جَبْرُهُ، فَعَلَى قَوْل الْوُجُوبِ قَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنْ خَرَجَ بِلاَ وَدَاعٍ وَجَبَ عَلَيْهِ الرُّجُوعُ لِتَدَارُكِهِ إِنْ كَانَ قَرِيبًا، أَيْ دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ، فَإِنْ عَادَ قَبْل مَسَافَةِ الْقَصْرِ فَطَافَ لِلْوَدَاعِ سَقَطَ عَنْهُ الإِْثْمُ وَالدَّمُ، وَإِنْ تَجَاوَزَ مَسَافَةَ الْقَصْرِ اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الدَّمُ، فَلَوْ تَدَارَكَهُ بَعْدَهَا لَمْ يَسْقُطِ الدَّمُ، وَقِيل: يَسْقُطُ. (2)
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: طَوَافُ الْوَدَاعِ وَاجِبٌ، وَيُجْزِئُ
__________
(1) المغني 3 / 464، والقليوبي على شرح المنهاج 2 / 103، 110، والدر المختار 2 / 187، والدسوقي على الشرح الكبير 2 / 36.
(2) شرح المنهاج وحاشية القليوبي 2 / 125، والمغني 3 / 458 - 462.(11/109)
عَنْهُ مَا لَوْ طَافَ نَفْلاً بَعْدَ إِرَادَةِ السَّفَرِ، فَإِنْ سَافَرَ وَلَمْ يَكُنْ فَعَل ذَلِكَ وَجَبَ عَلَيْهِ الرُّجُوعُ لِتَدَارُكِهِ مَا لَمْ يُجَاوِزِ الْمِيقَاتَ، فَيُخَيَّرُ بَيْنَ إِرَاقَةِ الدَّمِ وَبَيْنَ الرُّجُوعِ بِإِحْرَامٍ جَدِيدٍ بِعُمْرَةٍ، فَيَبْتَدِئُ بِطَوَافِهَا ثُمَّ بِطَوَافِ الْوَدَاعِ، فَإِنْ فَعَل ذَلِكَ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ لِتَأْخِيرِهِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: طَوَافُ الْوَدَاعِ مَنْدُوبٌ، فَلَوْ تَرَكَهُ وَخَرَجَ، أَوْ طَافَهُ طَوَافًا بَاطِلاً يَرْجِعُ لِتَدَارُكِهِ مَا لَمْ يَخَفْ فَوْتَ رُفْقَتِهِ الَّذِينَ يَسِيرُ بِسَيْرِهِمْ، أَوْ خَافَ مَنْعًا مِنَ الْكِرَاءِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ. (1)
تَدَارُكُ الْمَجْنُونِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ لِلْعِبَادَاتِ: أَوَّلاً - بِالنِّسْبَةِ لِلصَّلاَةِ:
27 - لاَ تَدَارُكَ لِمَا فَاتَ مِنْ صَلاَةٍ حَال الْجُنُونِ أَوِ الإِْغْمَاءِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ لِعَدَمِ الأَْهْلِيَّةِ وَقْتَ الْوُجُوبِ؛ لِقَوْل النَّبِيِّ. صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثَةٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَشِبَّ، وَعَنِ الْمَعْتُوهِ حَتَّى يَعْقِل (2) .
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِنْ جُنَّ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ خَمْسَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين على الدر المختار 2 / 186، والشرح الكبير والدسوقي عليه 2 / 53.
(2) حديث: " رفع القلم عن ثلاثة. . . " أخرجه أحمد (1 / 116 ط الميمنية) والحاكم (4 / 389 ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقال الذهبي: فيه إرسال. ولكن له شاهد من حديث عائشة، أخرجه أبو داود (4 / 558 - ط عزت عبيد دعاس) والحاكم (2 / 59) وصححه ووافقه الذهبي.(11/110)
صَلَوَاتٍ - أَوْ سِتًّا عَلَى قَوْل مُحَمَّدٍ - قَضَاهَا، وَإِنْ جُنَّ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ نَفْيًا لِلْحَرَجِ، وَقَال بِشْرٌ: الإِْغْمَاءُ لَيْسَ بِمُسْقِطٍ، وَيَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ وَإِنْ طَالَتْ مُدَّةُ الإِْغْمَاءِ.
وَفَرَّقَ الْحَنَابِلَةُ بَيْنَ الْجُنُونِ وَالإِْغْمَاءِ، فَلَمْ يُوجِبُوا الْقَضَاءَ عَلَى مَا فَاتَ حَال الْجُنُونِ، وَأَوْجَبُوهُ فِيمَا فَاتَ حَال الإِْغْمَاءِ؛ لأَِنَّ الإِْغْمَاءَ لاَ تَطُول مُدَّتُهُ غَالِبًا، وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ عَمَّارًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أُغْمِيَ عَلَيْهِ ثَلاَثًا، ثُمَّ أَفَاقَ فَقَال: هَل صَلَّيْتُ؟ قَالُوا: مَا صَلَّيْتَ مُنْذُ ثَلاَثٍ، ثُمَّ تَوَضَّأَ وَصَلَّى تِلْكَ الثَّلاَثَ. وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ وَسَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا نَحْوُهُ، وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُمْ مُخَالِفٌ، فَكَانَ كَالإِْجْمَاعِ.
28 - وَمَنْ أَدْرَكَ جُزْءًا مِنَ الْوَقْتِ وَهُوَ أَهْلٌ ثُمَّ جُنَّ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ مَا أَدْرَكَهُ لاَ يَسَعُ الْفَرْضَ فَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ. وَإِنْ كَانَ مَا أَدْرَكَهُ يَسَعُ الْفَرْضَ فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لاَ يَجِبُ الْقَضَاءُ؛ لأَِنَّ الْوُجُوبَ يَتَعَيَّنُ فِي آخِرِ الْوَقْتِ إِذَا لَمْ يُوجَدِ الأَْدَاءُ قَبْلَهُ، فَيَسْتَدْعِيَ الأَْهْلِيَّةَ فِيهِ لاِسْتِحَالَةِ الإِْيجَابِ عَلَى غَيْرِ الأَْهْل، وَلَمْ يُوجَدْ، فَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَهُوَ أَيْضًا رَأْيُ الْمَالِكِيَّةِ خِلاَفًا لِبَعْضِ أَهْل الْمَدِينَةِ وَابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ، حَيْثُ الْقَضَاءُ عِنْدَهُمْ أَحْوَطُ.(11/110)
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ؛ لأَِنَّ الْوُجُوبَ يَثْبُتُ فِي أَوَّل الْوَقْتِ فَلَزِمَ الْقَضَاءُ.
29 - وَإِنْ أَفَاقَ الْمَجْنُونُ أَوِ الْمُغْمَى عَلَيْهِ فِي آخِرِ الْوَقْتِ فَلِلْحَنَفِيَّةِ قَوْلاَنِ:
أَحَدُهُمَا، وَهُوَ قَوْل زُفَرَ: لاَ يُصْبِحُ مُدْرِكًا لِلْفَرْضِ إِلاَّ إِذَا بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ مِقْدَارُ مَا يُمْكِنُ فِيهِ أَدَاءُ الْفَرْضِ.
وَالثَّانِي، لِلْكَرْخِيِّ وَأَكْثَرِ الْمُحَقِّقِينَ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ: أَنَّهُ يَجِبُ الْفَرْضُ وَيَصِيرُ مُدْرِكًا إِذَا أَدْرَكَ مِنَ الْوَقْتِ مَا يَسَعُ التَّحْرِيمَةَ فَقَطْ، وَهُوَ قَوْل الْحَنَابِلَةِ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: يَجِبُ الْفَرْضُ إِذَا بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ مِقْدَارُ رَكْعَةٍ مِنْ زَمَنٍ يَسَعُ الطُّهْرَ، وَهُوَ قَوْل بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ. وَفِي قَوْلٍ آخَرَ لِلشَّافِعِيَّةِ: إِذَا بَقِيَ مِقْدَارُ رَكْعَةٍ فَقَطْ. (1)
ثَانِيًا: بِالنِّسْبَةِ لِلصَّوْمِ:
30 - إِذَا اسْتَوْعَبَ الْجُنُونُ شَهْرَ رَمَضَانَ بِأَكْمَلِهِ فَلاَ قَضَاءَ عَلَى الْمَجْنُونِ سَوَاءٌ، أَكَانَ الْجُنُونُ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 512، والاختيار 1 / 77، والزيلعي 1 / 203 - 204، والبدائع 1 / 95 - 96 - 246، والفروق للقرافي 2 / 137، وجواهر الإكليل 1 / 34، والكافي لابن عبد البر 1 / 238، والمهذب 1 / 60 - 61 وأسنى المطالب 1 / 123، والمغني 1 / 373 - 397 - 400، وكشاف القناع 1 / 259.(11/111)
أَصْلِيًّا أَمْ عَارِضًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ لِحَدِيثِ: رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثٍ. . . وَإِذَا اسْتَوْعَبَ الإِْغْمَاءُ الشَّهْرَ كُلَّهُ وَجَبَ الْقَضَاءُ عَلَى الْمُغْمَى عَلَيْهِ إِلاَّ عِنْدَ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَدَلِيل وُجُوبِ الْقَضَاءِ قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وَالإِْغْمَاءُ مَرَضٌ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: يَجِبُ الْقَضَاءُ عَلَى الْمَجْنُونِ بَعْدَ إِفَاقَتِهِ لِلآْيَةِ السَّابِقَةِ، وَالْجُنُونُ مَرَضٌ، وَعَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ مِثْل ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَجْنُونِ.
وَإِنْ أَفَاقَ الْمَجْنُونُ فِي أَيِّ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ الشَّهْرِ كَانَ عَلَيْهِ قَضَاءُ مَا مَضَى مِنَ الشَّهْرِ اسْتِحْسَانًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْقِيَاسُ أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ، وَهُوَ قَوْل زُفَرَ.
وَفَرَّقَ مُحَمَّدٌ فَقَال: لاَ قَضَاءَ لِمَا فَاتَ فِي الْجُنُونِ الأَْصْلِيِّ، وَيَجِبُ الْقَضَاءُ إِذَا كَانَ الْجُنُونُ عَارِضًا.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لاَ قَضَاءَ لِمَا فَاتَ زَمَنَ الْجُنُونِ لِلْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ - وَيَجِبُ الْقَضَاءُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.
وَيَجِبُ الْقَضَاءُ عَلَى الْمُغْمَى عَلَيْهِ لِمَا فَاتَ عِنْدَ الْجَمِيعِ.
31 - أَمَّا الْيَوْمُ الَّذِي جُنَّ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ فِيهِ، فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ مُدْرِكًا لِصِيَامِ هَذَا الْيَوْمِ إِنْ كَانَ نَوَى الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْل، وَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.(11/111)
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنْ جُنَّ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ بَعْدَ الْفَجْرِ، وَاسْتَمَرَّ الْجُنُونُ أَوِ الإِْغْمَاءُ أَكْثَرَ الْيَوْمِ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْفَجْرِ وَلَمْ يَسْتَمِرَّ نِصْفَ يَوْمٍ فَأَقَل أَجْزَأَهُ، وَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ.
وَإِنْ كَانَ الإِْغْمَاءُ أَوِ الْجُنُونُ مَعَ الْفَجْرِ أَوْ قَبْلَهُ فَالْقَضَاءُ مُطْلَقًا؛ لِزَوَال الْعَقْل وَقْتَ النِّيَّةِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْظْهَرِ، وَهُوَ قَوْل الْحَنَابِلَةِ: أَنَّ الإِْغْمَاءَ لاَ يَضُرُّ صَوْمَهُ إِذَا أَفَاقَ لَحْظَةً مِنْ نَهَارٍ، أَيَّ لَحْظَةٍ كَانَتْ، اكْتِفَاءً بِالنِّيَّةِ مَعَ الإِْفَاقَةِ فِي جُزْءٍ.
وَالثَّانِي لِلشَّافِعِيَّةِ: يَضُرُّ مُطْلَقًا، وَالثَّالِثُ: لاَ يَضُرُّ إِذَا أَفَاقَ أَوَّل النَّهَارِ. وَإِنْ نَوَى الصَّوْمَ ثُمَّ جُنَّ فَفِيهِ قَوْلاَنِ: فِي الْجَدِيدِ يَبْطُل الصَّوْمُ؛ لأَِنَّهُ عَارِضٌ يُسْقِطُ فَرْضَ الصَّلاَةِ فَأَبْطَل الصَّوْمَ، وَقَال فِي الْقَدِيمِ: هُوَ كَالإِْغْمَاءِ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: الْجُنُونُ كَالإِْغْمَاءِ يُجْزِئُ صَوْمُهُ إِذَا كَانَ مُفِيقًا فِي أَيِّ لَحْظَةٍ مِنْهُ مَعَ تَبْيِيتِ النِّيَّةِ.
32 - أَمَّا الْيَوْمُ الَّذِي تَحْدُثُ فِيهِ الإِْفَاقَةُ مِنَ الْجُنُونِ أَوِ الإِْغْمَاءِ، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ الْمَجْنُونَ جُنُونًا عَارِضًا لَوْ أَفَاقَ فِي النَّهَارِ قَبْل الزَّوَال، فَنَوَى الصَّوْمَ أَجْزَأَهُ. وَفِي الْجُنُونِ الأَْصْلِيِّ خِلاَفٌ، وَيُجْزِئُ فِي الإِْغْمَاءِ بِلاَ خِلاَفٍ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنْ أَفَاقَ قَبْل الْفَجْرِ أَجْزَأَ ذَلِكَ الْيَوْمُ عَنِ الصِّيَامِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَجْنُونِ وَالْمُغْمَى(11/112)
عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَتِ الإِْفَاقَةُ بَعْدَ الْفَجْرِ فَهُوَ عَلَى التَّفْصِيل السَّابِقِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِنْ أَفَاقَ الْمَجْنُونُ فِي النَّهَارِ فَعَلَى الأَْصَحِّ لاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَيُسْتَحَبُّ لَهُ الإِْمْسَاكُ، وَهَذَا فِي وَجْهٍ. وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي: يَجِبُ الْقَضَاءُ، أَمَّا الْمُغْمَى عَلَيْهِ فَإِذَا أَفَاقَ أَجْزَأَهُ. وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِي قَضَاءِ الْيَوْمِ الَّذِي أَفَاقَ فِيهِ الْمَجْنُونُ وَإِمْسَاكِهِ رِوَايَتَانِ، أَمَّا الْمُغْمَى عَلَيْهِ فَيَصِحُّ صَوْمُهُ إِنْ أَفَاقَ فِي جُزْءٍ مِنَ النَّهَارِ. (1)
ثَالِثًا: بِالنِّسْبَةِ لِلْحَجِّ:
33 - مَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ، وَطَرَأَ عَلَيْهِ جُنُونٌ أَوْ إِغْمَاءٌ ثُمَّ أَفَاقَ مِنْهُ قَبْل الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، وَوَقَفَ، أَجْزَأَهُ الْحَجُّ بِاتِّفَاقٍ.
وَكَذَلِكَ مَنْ لَمْ يُحْرِمْ بِالْحَجِّ لِجُنُونٍ أَوْ إِغْمَاءٍ، وَلَكِنَّهُ أَفَاقَ مِنْ قَبْل الْوُقُوفِ، وَأَحْرَمَ وَوَقَفَ بِعَرَفَةَ أَجْزَأَهُ، عَلَى تَفْصِيلٍ فِي وُجُوبِ الْجَزَاءِ عَلَيْهِ.
وَمِثْل ذَلِكَ أَيْضًا الْمَجْنُونُ الَّذِي أَحْرَمَ عَنْهُ وَلِيُّهُ، أَوِ الْمُغْمَى عَلَيْهِ - عِنْدَ مَنْ يَقُول بِجَوَازِ الإِْحْرَامِ عَنْهُ كَالْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ - إِذَا أَفَاقَا قَبْل الْوُقُوفِ وَوَقَفَا أَجْزَأَهُمَا الْحَجُّ، وَمَنْ وَقَفَ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 123، والبدائع 2 / 88 - 89، وفتح القدير 2 / 285، وجواهر الإكليل 1 / 148، والشرح الصغير 1 / 247 ط الحلبي، والمهذب 1 / 184، 192، ونهاية المحتاج 3 / 183، والمغني 3 / 98، 99، 156، ومنتهى الإرادات 1 / 118.(11/112)
بِعَرَفَةَ وَهُوَ مَجْنُونٌ أَوْ مُغْمًى عَلَيْهِ بَعْدَ أَنْ أَحْرَمَ وَهُوَ مُفِيقٌ، أَوْ أَحْرَمَ وَلِيُّهُ عَنْهُ فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ: كَانَ حَجُّهُمَا صَحِيحًا، مَعَ الاِخْتِلاَفِ بَيْنَ وُقُوعِهِ فَرْضًا أَوْ نَفْلاً.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ كَانَ حَجُّ الْمُغْمَى عَلَيْهِ صَحِيحًا، وَفِي الْمَجْنُونِ خِلاَفٌ. (1)
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل جَمِيعِ مَا مَرَّ فِي الْعِبَادَاتِ فِي: (صَلاَةٍ، صَوْمٍ، حَجٍّ، جُنُونٍ، إِغْمَاءٍ) .
تَدَارُكُ الْمَرِيضِ الْعَاجِزِ عَنِ الإِْيمَاءِ:
34 - مَنْ عَجَزَ عَنِ الإِْيمَاءِ فِي الصَّلاَةِ بِرَأْسِهِ لِرُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ أَوْمَأَ بِطَرْفِهِ (عَيْنِهِ) وَنَوَى بِقَلْبِهِ، لِحَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يُصَلِّي الْمَرِيضُ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ صَلَّى جَالِسًا، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ صَلَّى عَلَى جَنْبِهِ مُسْتَقْبِل الْقِبْلَةِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ صَلَّى مُسْتَلْقِيًا عَلَى قَفَاهُ، وَرِجْلاَهُ إِلَى الْقِبْلَةِ، وَأَوْمَأَ بِطَرْفِهِ (2) .
وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.
فَإِنْ عَجَزَ عَنِ الإِْيمَاءِ بِطَرْفِهِ أَوْمَأَ بِأُصْبُعِهِ، فَإِنْ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 147، 188، 189، والبدائع 2 / 121، وجواهر الإكليل 1 / 160 - 161، ومنح الجليل 1 / 434، 476، ونهاية المحتاج 3 / 230، 234، 290، وأشباه السيوطي 234، والمغني 3 / 249، 255، 416، وشرح منتهى الإرادات 2 / 13، 58.
(2) الحديث " يصلي المريض قائما. . . " عزاه الزيلعي في نصب الراية (2 / 176 ط المجلس العلمي) إلى الدارقطني في سننه، وضعفه.(11/113)
لَمْ يَسْتَطِعْ أَتَى بِالصَّلاَةِ بِقَدْرِ مَا يُطِيقُ وَلَوْ بِنِيَّةِ أَفْعَالِهَا، وَلاَ تَسْقُطُ عَنْهُ أَبَدًا مَا دَامَ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ عَقْلٍ، وَيَأْتِي بِالصَّلاَةِ بِأَنْ يَقْصِدَ الصَّلاَةَ بِقَلْبِهِ مُسْتَحْضِرًا الأَْفْعَال وَالأَْقْوَال إِنْ عَجَزَ عَنِ النُّطْقِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} (1) .
وَهَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَزُفَرَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ. وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ غَيْرَ زُفَرَ: الإِْيمَاءُ يَكُونُ بِالرَّأْسِ فَقَطْ وَلاَ يَكُونُ بِعَيْنَيْهِ أَوْ جَبِينِهِ أَوْ قَلْبِهِ؛ لأَِنَّ فَرْضَ السُّجُودِ لاَ يَتَأَتَّى بِهَذِهِ الأَْشْيَاءِ، بِخِلاَفِ الرَّأْسِ لأَِنَّهُ يَتَأَدَّى بِهِ فَرْضُ السُّجُودِ، فَمَنْ عَجَزَ عَنِ الإِْيمَاءِ بِرَأْسِهِ أَخَّرَ الصَّلاَةَ، وَإِنْ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ الْحَال لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ بَرَأَ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لاَ غَيْرَ نَفْيًا لِلْحَرَجِ. (2)
تَدَارُكُ النَّاسِي وَالسَّاهِي:
35 - النِّسْيَانُ أَوِ السَّهْوُ إِنْ وَقَعَ فِي تَرْكِ مَأْمُورٍ لَمْ يَسْقُطْ، بَل يَجِبُ تَدَارُكُهُ. فَمَنْ نَسِيَ صَلاَةً أَوْ صَوْمًا أَوْ زَكَاةً أَوْ كَفَّارَةً أَوْ نَذْرًا وَجَبَ عَلَيْهِ الأَْدَاءُ إِنْ أَمْكَنَ، أَوْ أَنْ يَتَدَارَكَهُ بِالْقَضَاءِ بِلاَ خِلاَفٍ،
__________
(1) سورة البقرة / 286.
(2) الاختيار 1 / 76 - 77، والبدائع 1 / 107، 246، والفواكه الدواني 1 / 285، ونهاية المحتاج 1 / 450، والمهذب 1 / 108، وكشاف القناع 1 / 499، وشرح منتهى الإرادات 1 / 271.(11/113)
لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ نَسِيَ صَلاَةً أَوْ نَامَ عَنْهَا، فَكَفَّارَتُهَا أَنْ يُصَلِّيَهَا إِذَا ذَكَرَهَا (1) .
وَتَكُونُ الصَّلاَةُ أَدَاءً إِذَا أَدَّى مِنْهَا رَكْعَةً فِي الْوَقْتِ، أَوِ التَّحْرِيمَةَ عَلَى الْخِلاَفِ فِي ذَلِكَ. وَإِذَا فَاتَ الْوَقْتُ تَدَارَكَهَا بِالْقَضَاءِ. (2)
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي: (صَلاَةٍ، صَوْمٍ، زَكَاةٍ) .
تَدَارُكُ مَنْ أَفْسَدَ عِبَادَةً شَرَعَ فِيهَا مِنْ صَلاَةٍ أَوْ صَوْمٍ أَوْ حَجٍّ:
36 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ مَنْ أَفْسَدَ عِبَادَةً مَفْرُوضَةً وَجَبَ عَلَيْهِ أَدَاؤُهَا إِنْ كَانَ وَقْتُهَا يَسَعُهَا كَالصَّلاَةِ، أَوِ الْقَضَاءُ إِنْ خَرَجَ الْوَقْتُ أَوْ كَانَ لاَ يَسَعُهَا كَالصَّلاَةِ إِنْ خَرَجَ الْوَقْتُ، وَكَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ لِعَدَمِ اتِّسَاعِ الْوَقْتِ.
أَمَّا التَّطَوُّعُ بِالْعِبَادَةِ فَإِنَّهَا تَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ فِيهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَتَجِبُ إِتْمَامُهَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: لاَ تَجِبُ بِالشُّرُوعِ، وَيُسْتَحَبُّ الإِْتْمَامُ فِيمَا عَدَا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ فَيَلْزَمَانِ بِالشُّرُوعِ، وَيَجِبُ إِتْمَامُهُمَا، وَعَلَى ذَلِكَ فَمَنْ
__________
(1) حديث: " من نسي صلاة أو نام عنها، فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها ". . أخرجه مسلم (1 / 477 - ط الحلبي) .
(2) أشباه ابن نجيم 303، والبدائع 1 / 245، وحاشية الدسوقي 1 / 184، وأشباه السيوطي 207، 429 ط عيسى الحلبي، وشرح منتهى الإرادات 1 / 118.(11/114)
دَخَل فِي عِبَادَةِ تَطَوُّعٍ وَأَفْسَدَهَا وَجَبَ عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} (1) .
وَلاَ يَجِبُ الْقَضَاءُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي غَيْرِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا قَالَتْ: دَخَل عَلَيَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: هَل عِنْدَكِ شَيْءٌ؟ فَقُلْتُ: لاَ، فَقَال: إِنِّي إِذًا أَصُومُ، ثُمَّ دَخَل عَلَيَّ يَوْمًا آخَرَ فَقَال: هَل عِنْدَكِ شَيْءٌ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَقَال: إِذًا أُفْطِرُ، وَإِنْ كُنْت قَدْ فَرَضْتُ الصَّوْمَ (2) .
أَمَّا الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ فَيَجِبُ قَضَاؤُهُمَا إِذَا أَفْسَدَهُمَا؛ لأَِنَّ الْوُصُول إِلَيْهِمَا لاَ يَحْصُل فِي الْغَالِبِ إِلاَّ بَعْدَ كُلْفَةٍ عَظِيمَةٍ، وَلِهَذَا يَجِبَانِ بِالشُّرُوعِ. (3)
تَدَارُكُ الْمُرْتَدِّ لِمَا فَاتَهُ:
37 - مَا فَاتَ الْمُرْتَدَّ مِنَ الْعِبَادَاتِ أَيَّامَ الرِّدَّةِ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاؤُهُ، إِذَا تَابَ وَرَجَعَ إِلَى الإِْسْلاَمِ؛ لأَِنَّهُ غَيْرُ مُخَاطَبٍ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ،
__________
(1) سورة محمد / 33.
(2) حديث عائشة: " هل عندك شيء؟ " أخرجه مسلم (2 / 809 ط الحلبي) والدارقطني في سننه (2 / 175 - ط دار المحاسن - مصر) واللفظ له.
(3) ابن عابدين 1 / 463 - 464، والبدائع 1 / 290 - 291، والحطاب 2 / 90، والمهذب 1 / 195، وكشاف القناع 2 / 324.(11/114)
وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} (1) ، وَلِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الإِْسْلاَمُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ (2) .
وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ مَا فَاتَهُ أَيَّامَ رِدَّتِهِ مِنْ عِبَادَاتٍ؛ لأَِنَّ الْمُرْتَدَّ كَانَ مُقِرًّا بِإِسْلاَمِهِ وَلأَِنَّهُ لاَ يَسْتَحِقُّ التَّخْفِيفَ.
38 - وَمَا فَاتَهُ أَيَّامَ إِسْلاَمِهِ مِنْ عِبَادَاتٍ قَبْل رِدَّتِهِ وَحَال إِسْلاَمِهِ، يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاؤُهُ بَعْدَ تَوْبَتِهِ مِنَ الرِّدَّةِ؛ لاِسْتِقْرَارِ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ عَلَيْهِ حَال إِسْلاَمِهِ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: لاَ يُطَالَبُ بِمَا فَاتَهُ قَبْل رِدَّتِهِ، فَالرِّدَّةُ تُسْقِطُ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ صَلاَةٍ وَصِيَامٍ إِلاَّ الْحَجَّ الَّذِي تَقَدَّمَ مِنْهُ، فَإِنَّهُ لاَ يَبْطُل، وَيَجِبُ عَلَيْهِ إِعَادَتُهُ إِذَا أَسْلَمَ؛ لِبَقَاءِ وَقْتِهِ وَهُوَ الْعُمْرُ.
39 - وَإِذَا رَجَعَ الْمُرْتَدُّ إِلَى الإِْسْلاَمِ وَأَدْرَكَ وَقْتَ صَلاَةٍ، أَوْ أَدْرَكَ جُزْءًا مِنْ رَمَضَانَ وَجَبَ عَلَيْهِ أَدَاؤُهُ (3)
.
__________
(1) سورة الأنفال / 38.
(2) حديث: " الإسلام يجب ما قبله ". أخرجه أحمد (4 / 199 - ط الميمنية) وعزاه الهيثمي في مجمع الزوائد (9 / 351 ط القدسي) إلى أحمد والطبراني وقال: رجالهما ثقات.
(3) ابن عابدين 1 / 494 و 3 / 302، وأشباه ابن نجيم 189، 326، وحاشية الدسوقي 4 / 307، والمهذب 1 / 51، والجمل 1 / 288، وكشاف القناع 6 / 184.(11/115)
تَدَاوِي
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّدَاوِي لُغَةً: مَصْدَرُ تَدَاوَى أَيْ: تَعَاطَى الدَّوَاءَ، وَأَصْلُهُ دَوِيَ يَدْوِي دَوًى أَيْ مَرِضَ، وَأَدْوَى فُلاَنًا يُدْوِيهِ بِمَعْنَى: أَمْرَضَهُ، وَبِمَعْنَى: عَالَجَهُ أَيْضًا، فَهِيَ مِنَ الأَْضْدَادِ، وَيُدَاوِي: أَيْ يُعَالِجُ، وَيُدَاوِي بِالشَّيْءِ أَيْ: يُعَالِجُ بِهِ، وَتَدَاوَى بِالشَّيْءِ: تَعَالَجَ بِهِ، وَالدَّوَاءُ وَالدِّوَاءُ وَالدُّوَاءُ: مَا دَاوَيْتُهُ بِهِ.
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لَهُ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى، كَمَا تَدُل عَلَى ذَلِكَ عِبَارَاتُهُمْ. (1)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّطْبِيبُ:
2 - التَّطْبِيبُ لُغَةً: الْمُدَاوَاةُ وَالْعِلاَجُ، يُقَال: طَبَّ فُلاَنٌ فُلاَنًا أَيْ: دَاوَاهُ، وَجَاءَ يَسْتَطِبُّ لِوَجَعِهِ: أَيْ يَسْتَوْصِفُ الأَْدْوِيَةَ أَيُّهَا يَصْلُحُ لِدَائِهِ.
__________
(1) لسان العرب ومختار الصحاح والمعجم الوسيط مادة: " دوي ".(11/115)
وَالطِّبُّ: عِلاَجُ الْجِسْمِ وَالنَّفْسِ، فَالتَّطْبِيبُ مُرَادِفٌ لِلْمُدَاوَاةِ (1) .
ب - التَّمْرِيضُ:
3 - التَّمْرِيضُ مَصْدَرُ مَرَّضَ، وَهُوَ التَّكَفُّل بِالْمُدَاوَاةِ. يُقَال: مَرَّضَهُ تَمْرِيضًا: إِذَا قَامَ عَلَيْهِ وَوَلِيَهُ فِي مَرَضِهِ وَدَاوَاهُ لِيَزُول مَرَضُهُ، وَقَال بَعْضُهُمْ: التَّمْرِيضُ حُسْنُ الْقِيَامِ عَلَى الْمَرِيضِ (2) .
ج - الإِْسْعَافُ:
4 - الإِْسْعَافُ فِي اللُّغَةِ: الإِْعَانَةُ وَالْمُعَالَجَةُ بِالْمُدَاوَاةِ، وَيَكُونُ الإِْسْعَافُ فِي حَال الْمَرَضِ وَغَيْرِهِ، فَهُوَ أَعَمُّ مِنَ التَّدَاوِي؛ لأَِنَّهُ لاَ يَكُونُ إِلاَّ فِي حَال الْمَرَضِ. (3)
حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ:
5 - التَّدَاوِي مَشْرُوعٌ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ؛ لِمَا رَوَى أَبُو الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ أَنْزَل الدَّاءَ وَالدَّوَاءَ، وَجَعَل لِكُل دَاءٍ دَوَاءً، فَتَدَاوَوْا، وَلاَ تَتَدَاوَوْا بِالْحَرَامِ (4) ، وَلِحَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير ومختار الصحاح مادة: " طبب ".
(2) لسان العرب والمصباح المنير مادة: " مرض "
(3) لسان العرب والمصباح المنير مادة: " سعف ".
(4) حديث: " إن الله أنزل الداء والدواء. . . " أخرجه أبو داود (4 / 217 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وقال المناوي: فيه إسماعيل بن عياش وفيه مقال (فيض القدير 2 / 216 - ط المكتبة التجارية بمصر) .(11/116)
قَال: قَالَتِ الأَْعْرَابُ يَا رَسُول اللَّهِ أَلاَ نَتَدَاوَى؟ قَال: نَعَمْ عِبَادَ اللَّهِ تَدَاوَوْا، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلاَّ وَضَعَ لَهُ شِفَاءً إِلاَّ دَاءً وَاحِدًا. قَالُوا: يَا رَسُول اللَّهِ وَمَا هُوَ؟ قَال: الْهَرَمُ (1) .
وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الرُّقَى، فَجَاءَ آل عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ فَقَالُوا: يَا رَسُول اللَّهِ إِنَّهُ كَانَتْ عِنْدَنَا رُقْيَةٌ نَرْقِي بِهَا مِنَ الْعَقْرَبِ: فَإِنَّكَ نَهَيْتَ عَنِ الرُّقَى فَعَرَضُوهَا عَلَيْهِ، فَقَال: مَا أَرَى بِهَا بَأْسًا، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَفْعَل. (2)
وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ بَأْسَ بِالرُّقَى مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ شِرْكٌ (3) وَلِمَا ثَبَتَ مِنْ فِعْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ تَدَاوَى، فَقَدْ رَوَى الإِْمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ أَنَّ عُرْوَةَ كَانَ يَقُول لِعَائِشَةَ: يَا أُمَّتَاهُ، لاَ أَعْجَبُ مِنْ فِقْهِك، أَقُول: زَوْجَةُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَابْنَةُ أَبِي بَكْرٍ، وَلاَ أَعْجَبُ مِنْ عِلْمِكِ بِالشِّعْرِ وَأَيَّامِ
__________
(1) حديث: " نعم عباد الله تداووا. . . ". أخرجه الترمذي (4 / 383 - ط الحلبي) من حديث أسامة بن شريك وقال: هذا حديث حسن صحيح.
(2) حديث: " ما أرى بها بأسا. . . " أخرجه مسلم (4 / 1727 - ط الحلبي) من حديث عوف بن مالك الأشجعي.
(3) حديث: " لا بأس بالرقى. . . " جزء من حديث عوف بن مالك السابق.(11/116)
النَّاسِ، أَقُول: ابْنَةُ أَبِي بَكْرٍ، وَكَانَ أَعْلَمَ النَّاسِ أَوْ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ، وَلَكِنْ أَعْجَبُ مِنْ عِلْمِكِ بِالطِّبِّ، كَيْفَ هُوَ؟ وَمِنْ أَيْنَ هُوَ؟ قَال: فَضَرَبَتْ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، وَقَالَتْ: " أَيْ عُرَيَّةُ؟ إِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسْقَمُ عِنْدَ آخِرِ عُمْرِهِ، وَكَانَتْ تَقْدَمُ عَلَيْهِ وُفُودُ الْعَرَبِ مِنْ كُل وَجْهٍ، فَكَانَتْ تَنْعَتُ لَهُ الأَْنْعَاتَ، وَكُنْتُ أُعَالِجُهَا لَهُ، فَمِنْ ثَمَّ عَلِمْتُ ".
وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثُرَتْ أَسَقَامُهُ، فَكَانَ يَقْدَمُ عَلَيْهِ أَطِبَّاءُ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ، فَيَصِفُونَ لَهُ فَنُعَالِجُهُ (1) .
وَقَال الرَّبِيعُ: سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُول: الْعِلْمُ عِلْمَانِ: عِلْمُ الأَْدْيَانِ وَعِلْمُ الأَْبْدَانِ. (2)
6 - وَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ) إِلَى أَنَّ التَّدَاوِيَ مُبَاحٌ، غَيْرَ أَنَّ عِبَارَةَ الْمَالِكِيَّةِ: لاَ بَأْسَ بِالتَّدَاوِي.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ وَابْنُ الْجَوْزِيِّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى اسْتِحْبَابِهِ؛ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ أَنْزَل الدَّاءَ وَالدَّوَاءَ، وَجَعَل
__________
(1) حديث عروة مع عائشة: أخرجه أحمد (6 / 67 - ط الميمنية) وقال الهيثمي في المجمع (9 / 242 - ط القدس) فيه عبد الله بن معاوية الزبيري، قال أبو حاتم: مستقيم الحديث، وفيه ضعف.
(2) الفواكه الدواني 2 / 439، وروضة الطالبين 2 / 96، والإقناع للشربيني الخطيب 1 / 193، والمغني لابن قدامة 5 / 539، وزاد المعاد 3 / 66 وما بعدها ط مصطفى الحلبي، والآداب الشرعية 2 / 365، وما بعدها، وتحفة الأحوذي 6 / 190 ط الفجالة الجديدة.(11/117)
لِكُل دَاءٍ دَوَاءً فَتَدَاوَوْا، وَلاَ تَتَدَاوَوْا بِالْحَرَامِ (1) .
وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأَْحَادِيثِ الْوَارِدَةِ، وَاَلَّتِي فِيهَا الأَْمْرُ بِالتَّدَاوِي. قَالُوا: وَاحْتِجَامُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَدَاوِيهِ دَلِيلٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ التَّدَاوِي. وَمَحَل الاِسْتِحْبَابِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عِنْدَ عَدَمِ الْقَطْعِ بِإِفَادَتِهِ. أَمَّا لَوْ قَطَعَ بِإِفَادَتِهِ كَعَصْبِ مَحَل الْفَصْدِ فَإِنَّهُ وَاجِبٌ.
وَمَذْهَبُ جُمْهُورِ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّ تَرْكَهُ أَفْضَل، وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، قَالُوا: لأَِنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى التَّوَكُّل. (2)
قَال ابْنُ الْقَيِّمِ: فِي الأَْحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الأَْمْرُ بِالتَّدَاوِي، وَأَنَّهُ لاَ يُنَافِي التَّوَكُّل، كَمَا لاَ يُنَافِيهِ دَفْعُ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ وَالْحَرِّ وَالْبَرْدِ بِأَضْدَادِهَا، بَل لاَ تَتِمُّ حَقِيقَةُ التَّوْحِيدِ إِلاَّ بِمُبَاشَرَةِ الأَْسْبَابِ الَّتِي نَصَبَهَا اللَّهُ مُقْتَضِيَاتٍ لِمُسَبَّبَاتِهَا قَدَرًا وَشَرْعًا، وَأَنَّ تَعْطِيلَهَا يَقْدَحُ فِي نَفْسِ التَّوَكُّل، كَمَا يَقْدَحُ فِي الأَْمْرِ وَالْحِكْمَةِ، وَيُضْعِفُهُ مِنْ حَيْثُ يَظُنُّ مُعَطِّلُهَا أَنَّ تَرْكَهَا أَقْوَى فِي التَّوَكُّل، فَإِنَّ تَرْكَهَا عَجْزٌ يُنَافِي التَّوَكُّل الَّذِي حَقِيقَتُهُ اعْتِمَادُ الْقَلْبِ عَلَى اللَّهِ فِي حُصُول مَا يَنْفَعُ
__________
(1) حديث: " إن الله أنزل الداء والدواء، وجعل لكل داء دواء " تقدم تخريجه (ف 5) .
(2) ابن عابدين 5 / 215، 249، والهداية تكملة فتح القدير 8 / 134، والفواكه الدواني 2 / 440، وروضة الطالبين 2 / 96، وكشاف القناع 2 / 76، والإنصاف 2 / 463، والآداب الشرعية 2 / 359 وما بعدها، وحاشية الجمل 2 / 134.(11/117)
الْعَبْدَ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ، وَدَفْعِ مَا يَضُرُّهُ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ، وَلاَ بُدَّ مَعَ هَذَا الاِعْتِمَادِ مِنْ مُبَاشَرَةِ الأَْسْبَابِ، وَإِلاَّ كَانَ مُعَطِّلاً لِلْحِكْمَةِ وَالشَّرْعِ، فَلاَ يَجْعَل الْعَبْدُ عَجْزَهُ تَوَكُّلاً، وَلاَ تَوَكُّلُهُ عَجْزًا (1) .
أَنْوَاعُ التَّدَاوِي:
7 - التَّدَاوِي قَدْ يَكُونُ بِالْفِعْل أَوْ بِالتَّرْكِ، فَالتَّدَاوِي بِالْفِعْل: يَكُونُ بِتَنَاوُل الأَْغْذِيَةِ الْمُلاَئِمَةِ لِحَال الْمَرِيضِ، وَتَعَاطِي الأَْدْوِيَةِ وَالْعَقَاقِيرِ، وَيَكُونُ بِالْفَصْدِ وَالْكَيِّ وَالْحِجَامَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْعَمَلِيَّاتِ الْجِرَاحِيَّةِ.
فَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَرْفُوعًا الشِّفَاءُ فِي ثَلاَثَةٍ: فِي شَرْطَةِ مِحْجَمٍ، أَوْ شَرْبَةِ عَسَلٍ، أَوْ كَيَّةٍ بِنَارٍ، وَأَنْهَى أُمَّتِي عَنِ الْكَيِّ (2) وَفِي رِوَايَةٍ وَمَا أُحِبُّ أَنْ أَكْتَوِيَ (3) . وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا خَيْرُ مَا تَدَاوَيْتُمْ بِهِ السَّعُوطُ، وَاللَّدُودُ، وَالْحِجَامَةُ، وَالْمَشْيُ (4) وَإِنَّمَا كَرِهَ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكَيَّ لِمَا فِيهِ مِنَ الأَْلَمِ الشَّدِيدِ وَالْخَطَرِ الْعَظِيمِ، وَلِهَذَا كَانَتِ الْعَرَبُ تَقُول فِي أَمْثَالِهَا "
__________
(1) زاد المعاد 4 / 15 ط الرسالة.
(2) حديث: " الشفاء في ثلاثة: في شرطة محجم أو شربة عسل. . . " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 137 - ط السلفية) .
(3) حديث: " وما أحب أن أكتوي ". أخرجه مسلم (4 / 1430 - ط الحلبي) من حديث جابر بن عبد الله.
(4) حديث: " خير ما تداويتم به السعوط. . . " أخرجه الترمذي (4 / 388 - ط الحلبي) وإسناده ضعيف. (ميزان الاعتدال للذهبي 2 / 376 - ط الحلبي) .(11/118)
آخِرُ الدَّوَاءِ الْكَيُّ " وَقَدْ كَوَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ وَغَيْرَهُ، وَاكْتَوَى غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، فَدَل عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّهْيِ لَيْسَ الْمَنْعُ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ مِنْهُ التَّنْفِيرُ عَنِ الْكَيِّ إِذَا قَامَ غَيْرُهُ مَقَامَهُ.
قَال ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ: وَلَمْ يُرِدِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَصْرَ فِي الثَّلاَثَةِ، فَإِنَّ الشِّفَاءَ قَدْ يَكُونُ فِي غَيْرِهَا، وَإِنَّمَا نَبَّهَ بِهَا عَلَى أُصُول الْعِلاَجِ.
وَأَمَّا التَّدَاوِي بِالتَّرْكِ: فَيَكُونُ بِالْحِمْيَةِ، وَذَلِكَ بِالاِمْتِنَاعِ عَنْ كُل مَا يُزِيدُ الْمَرَضَ أَوْ يَجْلِبُهُ إِلَيْهِ، سَوَاءٌ كَانَ بِالاِمْتِنَاعِ عَنْ أَطْعِمَةٍ وَأَشْرِبَةٍ مُعَيَّنَةٍ، أَوِ الاِمْتِنَاعِ عَنِ الدَّوَاءِ نَفْسِهِ إِذَا كَانَ يَزِيدُ مِنْ حِدَّةِ الْمَرَضِ. لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ أَرَادَ أَنْ يَأْكُل مِنَ الدَّوَالِي إِنَّك نَاقِهٌ (1) .
التَّدَاوِي بِالنَّجَسِ وَالْمُحَرَّمِ:
8 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ التَّدَاوِي بِالْمُحَرَّمِ وَالنَّجَسِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَل شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ (2)
__________
(1) حديث: " إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 78 - ط السلفية) معلقا، ووصله الإمام أحمد من قول ابن مسعود موقوفا عليه في كتاب الأشربة (ص 63 ط وزارة الأوقاف العراقية) وصححه ابن حجر في الفتح (10 / 79 - ط السلفية) .(11/118)
وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ أَنْزَل الدَّاءَ وَالدَّوَاءَ، وَجَعَل لِكُل دَاءٍ دَوَاءً، فَتَدَاوَوْا، وَلاَ تَتَدَاوَوْا بِالْحَرَامِ (1)
وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ " إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّكَ تُدَلِّكُ بِالْخَمْرِ، وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ ظَاهِرَ الْخَمْرِ وَبَاطِنَهَا، وَقَدْ حَرَّمَ مَسَّ الْخَمْرِ كَمَا حَرَّمَ شُرْبَهَا، فَلاَ تُمِسُّوهَا أَجْسَادَكُمْ، فَإِنَّهَا نَجَسٌ ".
وَقَدْ عَمَّمَ الْمَالِكِيَّةُ هَذَا الْحُكْمَ فِي كُل نَجَسٍ وَمُحَرَّمٍ، سَوَاءٌ أَكَانَ خَمْرًا، أَمْ مَيْتَةً، أَمْ أَيَّ شَيْءٍ حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَسَوَاءٌ كَانَ التَّدَاوِي بِهِ عَنْ طَرِيقِ الشُّرْبِ أَوْ طِلاَءِ الْجَسَدِ بِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ صِرْفًا أَوْ مَخْلُوطًا مَعَ دَوَاءٍ جَائِزٍ، وَاسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ حَالَةً وَاحِدَةً أَجَازُوا التَّدَاوِيَ بِهِمَا، وَهِيَ أَنْ يَكُونَ التَّدَاوِي بِالطِّلاَءِ، وَيُخَافُ بِتَرْكِهِ الْمَوْتُ، سَوَاءٌ كَانَ الطِّلاَءُ نَجَسًا أَوْ مُحَرَّمًا، صِرْفًا أَوْ مُخْتَلِطًا بِدَوَاءٍ جَائِزٍ.
وَأَضَافَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى الْمُحَرَّمِ وَالنَّجَسِ كُل مُسْتَخْبَثٍ، كَبَوْل مَأْكُول اللَّحْمِ أَوْ غَيْرِهِ، إِلاَّ أَبْوَال الإِْبِل فَيَجُوزُ التَّدَاوِي بِهَا، وَذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الدَّوَاءَ الْمَسْمُومَ إِنْ غَلَبَتْ مِنْهُ
__________
(1) حديث: " إن الله أنزل الداء والدواء " سبق تخريجه (ف 5) .(11/119)
السَّلاَمَةُ، وَرُجِيَ نَفْعُهُ، أُبِيحَ شُرْبُهُ لِدَفْعِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ، كَغَيْرِهِ مِنَ الأَْدْوِيَةِ، كَمَا أَنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَهُمُ التَّدَاوِي بِالْمُحَرَّمِ وَالنَّجَسِ، بِغَيْرِ أَكْلٍ وَشُرْبٍ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ أَيْضًا إِلَى حُرْمَةِ التَّدَاوِي بِصَوْتِ مَلْهَاةٍ، كَسَمَاعِ الْغِنَاءِ الْمُحَرَّمِ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَلاَ تَتَدَاوَوْا بِالْحَرَامِ.
وَشَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ لِجَوَازِ التَّدَاوِي بِالنَّجَسِ وَالْمُحَرَّمِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ فِيهِ شِفَاءً، وَلاَ يَجِدُ دَوَاءً غَيْرَهُ، قَالُوا: وَمَا قِيل إِنَّ الاِسْتِشْفَاءَ بِالْحَرَامِ حَرَامٌ غَيْرُ مُجْرًى عَلَى إِطْلاَقِهِ، وَإِنَّ الاِسْتِشْفَاءَ بِالْحَرَامِ إِنَّمَا لاَ يَجُوزُ إِذَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّ فِيهِ شِفَاءً، أَمَّا إِذَا عَلِمَ، وَلَيْسَ لَهُ دَوَاءٌ غَيْرَهُ، فَيَجُوزُ.
وَمَعْنَى قَوْل ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " لَمْ يَجْعَل شِفَاءَكُمْ فِيمَا حُرِّمَ عَلَيْكُمْ يُحْتَمَل أَنْ يَكُونَ قَالَهُ فِي دَاءٍ عُرِفَ لَهُ دَوَاءٌ غَيْرَ الْمُحَرَّمِ، لأَِنَّهُ حِينَئِذٍ يَسْتَغْنِي بِالْحَلاَل عَنِ الْحَرَامِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَال تَنْكَشِفُ الْحُرْمَةُ عِنْدَ الْحَاجَةِ، فَلاَ يَكُونُ الشِّفَاءُ بِالْحَرَامِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ بِالْحَلاَل.
وَقَصَرَ الشَّافِعِيَّةُ الْحُكْمَ عَلَى النَّجَسِ وَالْمُحَرَّمِ الصِّرْفِ، فَلاَ يَجُوزُ التَّدَاوِي بِهِمَا، أَمَّا إِذَا كَانَا مُسْتَهْلَكَيْنِ مَعَ دَوَاءٍ آخَرَ، فَيَجُوزُ التَّدَاوِي بِهِمَا بِشَرْطَيْنِ: أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِالطِّبِّ، حَتَّى وَلَوْ كَانَ فَاسِقًا فِي نَفْسِهِ، أَوْ إِخْبَارِ طَبِيبٍ مُسْلِمٍ عَدْلٍ، وَأَنْ يَتَعَيَّنَ هَذَا الدَّوَاءُ فَلاَ يُغْنِي عَنْهُ طَاهِرٌ.(11/119)
وَإِذَا كَانَ التَّدَاوِي بِالنَّجَسِ وَالْمُحَرَّمِ لِتَعْجِيل الشِّفَاءِ بِهِ، فَقَدْ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى جَوَازِهِ بِالشُّرُوطِ الْمَذْكُورَةِ عِنْدَهُمْ، وَلِلْحَنَفِيَّةِ فِيهِ قَوْلاَنِ (1) .
التَّدَاوِي بِلُبْسِ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ:
9 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ لُبْسِ الْحَرِيرِ لِلرِّجَال لِحِكَّةٍ؛ لِمَا رَوَى أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رَخَّصَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَالزُّبَيْرِ فِي الْقَمِيصِ الْحَرِيرِ فِي السَّفَرِ مِنْ حِكَّةٍ كَانَتْ بِهِمَا (2) . وَرَوَى أَنَسٌ أَيْضًا: أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ وَالزُّبَيْرَ شَكَيَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقَمْل فَأَرْخَصَ لَهُمَا فِي الْحَرِيرِ، فَرَأَيْتُهُ عَلَيْهِمَا فِي غَزَاةٍ (3) وَجَازَ لِلْمَرِيضِ قِيَاسًا عَلَى الْحِكَّةِ وَالْقَمْل.
وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ الْحُرْمَةُ مُطْلَقًا.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 113، 215، وحاشية الدسوقي 4 / 353، 354، والفواكه الدواني 2 / 441، وحواشي الشرواني وابن القاسم على التحفة 9 / 170، وقليوبي وعميرة 3 / 203، وكشاف القناع 2 / 76، 6 / 116، 200، والإنصاف 2 / 463، 464، والفروع 2 / 165 وما بعدها.
(2) حديث: " رخص لعبد الرحمن بن عوف والزبير في سفر في. . . " أخرجه مسلم (3 / 1646 - ط الحلبي) .
(3) حديث: " أن عبد الرحمن بن عوف والزبير شكيا إلى النبي صلى الله عليه وسلم القمل فأرخص. . . " أخرجه البخاري (الفتح 6 / 101 - ط السلفية) .(11/120)
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى جَوَازِ لُبْسِهِ فِي الثَّلاَثِ الْمَذْكُورَةِ، وَلَوْ لَمْ يُؤَثِّرْ لُبْسُهُ فِي زَوَالِهَا، وَلَكِنْ لاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ نَافِعًا فِي لُبْسِهِ.
وَأَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ عَصْبَ الْجِرَاحَةِ بِالْحَرِيرِ مَعَ الْكَرَاهَةِ. (1)
10 - كَمَا اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ اتِّخَاذِ الأَْنْفِ مِنَ الذَّهَبِ، وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: السِّنَّ، وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ: الأُْنْمُلَةَ.
كَمَا نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: عَلَى جَوَازِ رَبْطِ السِّنِّ أَوِ الأَْسْنَانِ بِالذَّهَبِ.
وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ أَنَّ عَرْفَجَةَ بْنَ أَسْعَدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قُطِعَ أَنْفُهُ يَوْمَ الْكُلاَبِ، فَاتَّخَذَ أَنْفًا مِنْ وَرِقٍ، فَأَنْتَنَ عَلَيْهِ، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاتَّخَذَ أَنْفًا مِنْ ذَهَبٍ (2) .
وَلِمَا رَوَى الأَْثْرَمُ عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ، وَأَبِي جَمْرَةَ الضُّبَعِيِّ، وَأَبِي رَافِعِ بْنِ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ وَإِسْمَاعِيل بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَالْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّهُمْ شَدُّوا أَسْنَانَهُمْ بِالذَّهَبِ. وَالسِّنُّ مَقِيسٌ عَلَى الأَْنْفِ، وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْقِيَاسِ الأُْنْمُلَةَ دُونَ الأُْصْبُعِ وَالْيَدِ، قَالُوا: وَالْفَرْقُ بَيْنَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 226، والفواكه الدواني 2 / 403، وقليوبي وعميرة 1 / 302، وكشاف القناع 1 / 282، والمغني 1 / 589.
(2) حديث: " أمر النبي صلى الله عليه وسلم عرفجة فاتخذ أنفا من ذهب " أخرجه الترمذي (4 / 240 - ط الحلبي) وحسنه.(11/120)
الأُْنْمُلَةِ وَالأُْصْبُعِ أَوِ الْيَدِ أَنَّهَا تَعْمَل بِخِلاَفِهِمَا، وَعِنْدَهُمْ وَجْهٌ أَنَّهُ يَجُوزُ، وَإِنَّمَا قَصَرَ الْحَنَفِيَّةُ الْجَوَازَ عَلَى الأَْنْفِ فَقَطْ لِضَرُورَةِ نَتْنِ الْفِضَّةِ؛ لأَِنَّ الْمُحَرَّمَ لاَ يُبَاحُ إِلاَّ لِضَرُورَةٍ. قَالُوا: وَقَدِ انْدَفَعَتْ فِي السِّنِّ بِالْفِضَّةِ، فَلاَ حَاجَةَ إِلَى الأَْعْلَى، وَهُوَ الذَّهَبُ. (1)
تَدَاوِي الْمُحْرِمِ:
11 - الأَْصْل أَنَّ الْمُحْرِمَ مَمْنُوعٌ مِنَ الطِّيبِ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمُحْرِمِ الَّذِي وَقَصَتْهُ رَاحِلَتُهُ فَمَاتَ: لاَ تُمِسُّوهُ طِيبًا وَفِي رِوَايَةٍ لاَ تُحَنِّطُوهُ (2) فَلَمَّا مُنِعَ الْمَيِّتُ مِنَ الطِّيبِ لإِِحْرَامِهِ فَالْحَيُّ أَوْلَى، وَمَتَى تَطَيَّبَ الْمُحْرِمُ فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ؛ لأَِنَّهُ اسْتَعْمَل مَا حُظِرَ عَلَيْهِ بِالإِْحْرَامِ، فَوَجَبَتْ عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ كَاللِّبَاسِ.
وَلَمْ يَسْتَثْنِ الْفُقَهَاءُ مِنْ هَذَا الأَْصْل مَا لَوْ تَدَاوَى الْمُحْرِمُ بِالطِّيبِ، أَوْ بِمَا لَهُ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ، وَأَوْجَبُوا عَلَيْهِ الْفِدْيَةَ، غَيْرَ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ خَصُّوا الْحُكْمَ بِالطِّيبِ بِنَفْسِهِ كَالْمِسْكِ وَالْعَنْبَرِ وَالْكَافُورِ وَنَحْوِهَا، وَأَمَّا الزَّيْتُ وَالْخَل مِمَّا فِيهِمَا رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ بِسَبَبِ مَا يُلْقَى فِيهِمَا مِنَ الأَْنْوَارِ كَالْوَرْدِ وَالْبَنَفْسَجِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 231، وحاشية الدسوقي 1 / 63، والفواكه الدواني 2 / 404، وقليوبي وعميرة 2 / 23، 24، وكشاف القناع 2 / 238.
(2) حديث: " لا تمسوه طيبا ". أخرجه البخاري (الفتح 3 / 137 - ط السلفية) .(11/121)
فَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ إِنْ تَدَاوَى بِهَا.
قَال ابْنُ الْهُمَامِ: وَإِنْ دَاوَى قُرْحَةً بِدَوَاءٍ فِيهِ طِيبٌ، ثُمَّ خَرَجَتْ قُرْحَةٌ أُخْرَى فَدَاوَاهَا مَعَ الأُْولَى، فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلاَّ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ مَا لَمْ تَبْرَأِ الأُْولَى، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ قَصْدِهِ وَعَدَمِهِ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ إِذَا خَضَّبَ (أَيِ الْمُحْرِمُ) رَأْسَهُ بِالْوَسْمَةِ لأَِجْل الْمُعَالَجَةِ مِنَ الصُّدَاعِ، فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ يُغَلِّفُ رَأْسَهُ، قَال ابْنُ الْهُمَامِ: هَذَا صَحِيحٌ أَيْ فَيَنْبَغِي أَنْ لاَ يَكُونَ فِيهِ خِلاَفٌ؛ لأَِنَّ التَّغْطِيَةَ مُوجِبَةٌ بِالاِتِّفَاقِ، غَيْرَ أَنَّهَا لِلْعِلاَجِ، فَلِهَذَا ذَكَرَ الْجَزَاءَ وَلَمْ يَذْكُرِ الدَّمَ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: فِيهِ صَدَقَةٌ؛ لأَِنَّهُ يُلَيِّنُ الشَّعْرَ وَيَقْتُل الْهَوَامَّ، فَإِنِ اسْتَعْمَل زَيْتًا مُطَيَّبًا كَالْبَنَفْسَجِ وَالزَّنْبَقِ وَمَا أَشْبَهَهُمَا كَدُهْنِ الْبَانِ وَالْوَرْدِ، فَيَجِبُ بِاسْتِعْمَالِهِ الدَّمُ بِالاِتِّفَاقِ؛ لأَِنَّهُ طِيبٌ، وَهَذَا إِذَا اسْتَعْمَلَهُ عَلَى وَجْهِ التَّطَيُّبِ، وَلَوْ دَاوَى بِهِ جُرْحَهُ أَوْ شُقُوقَ رِجْلَيْهِ فَلاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ بِطِيبٍ فِي نَفْسِهِ، إِنَّمَا هُوَ أَصْل الطِّيبِ، أَوْ طِيبٌ مِنْ وَجْهٍ، فَيُشْتَرَطُ اسْتِعْمَالُهُ عَلَى وَجْهِ التَّطَيُّبِ، بِخِلاَفِ مَا إِذَا تَدَاوَى بِالْمِسْكِ وَمَا أَشْبَهَهُ؛ لأَِنَّهُ طِيبٌ بِنَفْسِهِ، فَيَجِبُ الدَّمُ بِاسْتِعْمَالِهِ وَإِنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ التَّدَاوِي. (1)
وَفِي حَاشِيَةِ الدُّسُوقِيِّ: أَنَّ الْجَسَدَ وَبَاطِنَ
__________
(1) فتح القدير 2 / 225 - 227 ط دار صادر.(11/121)
الْكَفِّ وَالرِّجْل يَحْرُمُ دَهْنُ كُل وَاحِدٍ مِنْهَا كُلًّا أَوْ بَعْضًا، إِنْ كَانَ لِغَيْرِ عِلَّةٍ، وَإِلاَّ فَلاَ حُرْمَةَ. وَأَمَّا الْفِدْيَةُ فَإِنْ كَانَ الدُّهْنُ مُطَيَّبًا افْتَدَى مُطْلَقًا كَانَ الإِْدْهَانُ لِعِلَّةٍ أَوْ لاَ. وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُطَيَّبٍ، فَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ عِلَّةٍ افْتَدَى أَيْضًا، وَإِنْ كَانَ لِعِلَّةٍ فَقَوْلاَنِ. وَفِي الْكُحْل إِذَا كَانَ فِيهِ طِيبٌ حَرُمَ اسْتِعْمَالُهُ عَلَى الْمُحْرِمِ رَجُلاً كَانَ أَوِ امْرَأَةً إِذَا كَانَ اسْتِعْمَالُهُ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ كَالزِّينَةِ، وَلاَ حُرْمَةَ إِذَا اسْتَعْمَلَهُ لِضَرُورَةِ حَرٍّ وَنَحْوِهِ، وَالْفِدْيَةُ لاَزِمَةٌ لِمُسْتَعْمِلِهِ مُطْلَقًا اسْتَعْمَلَهُ لِضَرُورَةٍ أَوْ لِغَيْرِهَا. وَإِنْ كَانَ الْكُحْل لاَ طِيبَ فِيهِ فَلاَ فِدْيَةَ مَعَ الضَّرُورَةِ، وَافْتَدَى فِي غَيْرِهَا. (1)
وَفِي الإِْقْنَاعِ لِلشِّرْبِينِيِّ الشَّافِعِيِّ: أَنَّ اسْتِعْمَال الطِّيبِ حَرَامٌ عَلَى الْمُحْرِمِ سَوَاءٌ أَكَانَ ذَكَرًا أَمْ غَيْرَهُ، وَلَوْ أَخْشَمَ بِمَا يَقْصِدُ مِنْهُ رَائِحَتَهُ غَالِبًا وَلَوْ مَعَ غَيْرِهِ كَالْمِسْكِ وَالْعُودِ وَالْكَافُورِ وَالْوَرْسِ وَالزَّعْفَرَانِ، وَإِنْ كَانَ يُطْلَبُ لِلصَّبْغِ وَالتَّدَاوِي أَيْضًا، سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ فِي مَلْبُوسِهِ كَثَوْبِهِ أَمْ فِي بَدَنِهِ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَلاَ تَلْبَسُوا مِنَ الثِّيَابِ مَا مَسَّهُ وَرْسٌ أَوْ زَعْفَرَانٌ (2) سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ بِأَكْلٍ أَمِ اسْتِعَاطٍ أَمِ احْتِقَانٍ، فَيَجِبُ مَعَ التَّحْرِيمِ فِي ذَلِكَ الْفِدْيَةُ.
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 61.
(2) حديث: " لا تلبسوا من الثياب ما مسه ورس أو زعفران ". أخرجه البخاري (الفتح 3 / 401 - ط السلفية) .(11/122)
وَلَوِ اسْتَهْلَكَ الطِّيبَ فِي الْمُخَالِطِ لَهُ بِأَنْ لَمْ يَبْقَ رِيحٌ وَلاَ طَعْمٌ وَلاَ لَوْنٌ، كَأَنِ اُسْتُعْمِل فِي دَوَاءٍ، جَازَ اسْتِعْمَالُهُ وَأَكْلُهُ وَلاَ فِدْيَةَ. وَمَا يُقْصَدُ بِهِ الأَْكْل أَوِ التَّدَاوِي لاَ يَحْرُمُ وَلاَ فِدْيَةَ فِيهِ وَإِنْ كَانَ لَهُ رِيحٌ طَيِّبَةٌ، كَالتُّفَّاحِ وَالسُّنْبُل وَسَائِرِ الأَْبَازِيرِ الطَّيِّبَةِ كَالْمُصْطَكَى؛ لأَِنَّ مَا يُقْصَدُ مِنْهُ الأَْكْل أَوِ التَّدَاوِي لاَ فِدْيَةَ فِيهِ. (1)
وَفِي الْمُغْنِي لاِبْنِ قُدَامَةَ حُرْمَةُ التَّدَاوِي بِمَا لَهُ رِيحٌ طَيِّبَةٌ لِلْمُحْرِمِ. أَمَّا مَا لاَ طِيبَ فِيهِ كَالزَّيْتِ وَالشَّيْرَجِ وَالسَّمْنِ وَالشَّحْمِ وَدُهْنِ الْبَانِ فَنَقَل الأَْثْرَمُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ سُئِل عَنِ الْمُحْرِمِ يَدْهُنُ بِالزَّيْتِ وَالشَّيْرَجِ فَقَال: نَعَمْ يَدْهُنُ بِهِ إِذَا احْتَاجَ إِلَيْهِ، وَيَتَدَاوَى الْمُحْرِمُ بِمَا يَأْكُل. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ صَدَعَ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَقَالُوا: أَلاَ نَدْهُنُكَ بِالسَّمْنِ؟ فَقَال: لاَ. قَالُوا: أَلَيْسَ تَأْكُلُهُ؟ قَال: لَيْسَ أَكْلُهُ كَالإِْدْهَانِ بِهِ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ قَال: إِنْ تَدَاوَى بِهِ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ. (2)
أَثَرُ التَّدَاوِي فِي الضَّمَانِ:
12 - ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ إِذَا لَمْ يُدَاوِ جُرْحَهُ وَمَاتَ كَانَ عَلَى الْجَانِي الضَّمَانُ؛ لأَِنَّ التَّدَاوِيَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَلاَ مُسْتَحَبٍّ، فَتَرْكُهُ لَيْسَ بِقَاتِلٍ.
__________
(1) الإقناع للشربيني الخطيب 1 / 239 ط مصطفى الحلبي.
(2) المغني لابن قدامة 3 / 315، 322 م الرياض الحديثة.(11/122)
وَفَرَّقَ الشَّافِعِيَّةُ بَيْنَ عِلاَجِ الْجُرْحِ الْمُهْلِكِ وَغَيْرِهِ، فَإِنْ تَرَكَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ عِلاَجَ الْجُرْحِ الْمُهْلِكِ وَمَاتَ، فَعَلَى الْجَانِي الضَّمَانُ؛ لأَِنَّ الْبُرْءَ لاَ يَوْثُقُ بِهِ وَإِنْ عَالَجَ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْجُرْحُ غَيْرَ مُهْلِكٍ فَلاَ ضَمَانَ عَلَى الْجَانِي. (1)
التَّدَاوِي بِالرُّقَى وَالتَّمَائِمِ:
13 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ التَّدَاوِي بِالرُّقَى عِنْدَ اجْتِمَاعِ ثَلاَثَةِ شُرُوطٍ: أَنْ يَكُونَ بِكَلاَمِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَبِاللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ أَوْ بِمَا يُعْرَفُ مَعْنَاهُ مِنْ غَيْرِهِ، وَأَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ الرُّقْيَةَ لاَ تُؤَثِّرُ بِذَاتِهَا بَل بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى. فَعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: كُنَّا نَرْقِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَقُلْنَا: يَا رَسُول اللَّهِ كَيْفَ تَرَى فِي ذَلِكَ؟ فَقَال: اعْرِضُوا عَلَيَّ رُقَاكُمْ، لاَ بَأْسَ بِالرُّقَى مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ شِرْكٌ (2) وَمَا لاَ يُعْقَل مَعْنَاهُ لاَ يُؤْمَنُ أَنْ يُؤَدِّيَ إِلَى الشِّرْكِ فَيُمْنَعُ احْتِيَاطًا.
وَقَال قَوْمٌ: لاَ تَجُوزُ الرُّقْيَةُ إِلاَّ مِنَ الْعَيْنِ وَاللَّدْغَةِ لِحَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لاَ رُقْيَةَ إِلاَّ مِنْ عَيْنٍ أَوْ حُمَّةٍ (3) وَأُجِيبَ بِأَنَّ
__________
(1) حواشي الشرواني وابن القاسم على التحفة 8 / 385، وحاشية الجمل 5 / 14، وكشاف القناع 5 / 505، والإنصاف 9 / 434.
(2) حديث عوف بن مالك: " كنا نرقي في الجاهلية " أخرجه مسلم (4 / 1727 - ط الحلبي) .
(3) حديث: " لا رقية إلا من عين أو حمة " أخرجه الترمذي (4 / 394 - ط الحلبي) واختلف في إسناده كما بينه الحافظ ابن حجر في الفتح (10 / 156 - ط السلفية) ، ورجح كون هذه الرواية محفوظة.(11/123)
مَعْنَى الْحَصْرِ فِيهِ أَنَّهُمَا أَصْل كُل مَا يَحْتَاجُ إِلَى الرُّقْيَةِ، وَقِيل: الْمُرَادُ بِالْحَصْرِ مَعْنَى الأَْفْضَل، أَوْ لاَ رُقْيَةَ أَنْفَعَ، كَمَا قِيل لاَ سَيْفَ إِلاَّ ذُو الْفَقَارِ.
وَقَال قَوْمٌ: الْمَنْهِيُّ عَنْهُ مِنَ الرُّقَى مَا يَكُونُ قَبْل وُقُوعِ الْبَلاَءِ، وَالْمَأْذُونُ فِيهِ مَا كَانَ بَعْدَ وُقُوعِهِ، ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمَا؛ لِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا إِنَّ الرُّقَى وَالتَّمَائِمَ وَالتَّوَلَةَ شِرْكٌ (1)
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ مِنَ الشِّرْكِ لأَِنَّهُمْ أَرَادُوا دَفْعَ الْمَضَارِّ وَجَلْبَ الْمَنَافِعِ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ، وَلاَ يَدْخُل فِي ذَلِكَ مَا كَانَ بِأَسْمَاءِ اللَّهِ وَكَلاَمِهِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الأَْحَادِيثِ اسْتِعْمَال ذَلِكَ قَبْل وُقُوعِهِ كَحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ نَفَثَ فِي كَفَّيْهِ بِ " قُل هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " وَبِالْمُعَوِّذَتَيْنِ ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ (2) .
وَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُعَوِّذُ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ
__________
(1) حديث ابن مسعود: " إن الرقى والتمائم والتولة شرك " أخرجه أحمد (1 / 381 - ط الميمنية) والحاكم (4 / 417، 418 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه ووافقه الذهبي.
(2) حديث: " كان إذا أوى إلى فراشه. . . " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 209 ط السلفية) .(11/123)
التَّامَّةِ، مِنْ كُل شَيْطَانٍ وَهَامَّةٍ (1) .
قَال الرَّبِيعُ: سَأَلْتُ الشَّافِعِيَّ عَنِ الرُّقْيَةِ فَقَال: لاَ بَأْسَ أَنْ يَرْقِيَ بِكِتَابِ اللَّهِ وَمَا يَعْرِفُ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ. قُلْتُ: أَيَرْقِي أَهْل الْكِتَابِ الْمُسْلِمِينَ؟ قَال: نَعَمْ إِذَا رَقُوا بِمَا يُعْرَفُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَبِذِكْرِ اللَّهِ، وَقَال ابْنُ التِّينِ: الرُّقْيَةُ بِالْمُعَوِّذَاتِ وَغَيْرِهَا مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ هُوَ الطِّبُّ الرُّوحَانِيُّ، إِذَا كَانَ عَلَى لِسَانِ الأَْبْرَارِ مِنَ الْخَلْقِ حَصَل الشِّفَاءُ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَمَّا عَزَّ هَذَا النَّوْعُ فَزِعَ النَّاسُ إِلَى الطِّبِّ الْجُسْمَانِيِّ. (2)
__________
(1) حديث: " كان يعوذ الحسن والحسين بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة " أخرجه البخاري (الفتح 6 / 408 ط السلفية) .
(2) فتح الباري 10 / 195 وما بعدها ط الرياض، وحاشية ابن عابدين 5 / 232، والفواكه الدواني 2 / 439، 442، والفتاوى الحديثية ص 88، وكشاف القناع 2 / 77.(11/124)
تَدْبِيرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - دَبَّرَ الرَّجُل عَبْدَهُ تَدْبِيرًا: إِذَا أَعْتَقَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَالتَّدْبِيرُ فِي الأَْمْرِ: النَّظَرُ إِلَى مَا تَئُول إِلَيْهِ عَاقِبَةُ الأَْمْرِ، وَالتَّدْبِيرُ أَيْضًا: عِتْقُ الْعَبْدِ عَنْ دُبُرٍ وَهُوَ مَا بَعْدَ الْمَوْتِ. (1)
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الشَّرْعِيُّ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى الأَْخِيرِ (2) .
حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - التَّدْبِيرُ نَوْعٌ مِنَ الْعِتْقِ، وَالْعِتْقُ مَطْلُوبٌ شَرْعًا، وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْقُرَبِ، وَيَكُونُ كَفَّارَةً لِلْجِنَايَاتِ، إِمَّا وُجُوبًا أَيْ فِي قَتْل الْخَطَأِ، وَالْحِنْثِ فِي الْيَمِينِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، أَوْ نَدْبًا (3) أَيْ فِي قَتْل الْعَمْدِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَسَائِرِ الذُّنُوبِ؛ لأَِنَّ الْعِتْقَ مِنْ أَكْبَرِ الْحَسَنَاتِ، وَقَدْ قَال اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} (4) .
__________
(1) مختار الصحاح، والمصباح مادة: " دبر ".
(2) المغني 9 / 386.
(3) حاشية الدسوقي 4 / 359، 382.
(4) سورة هود / 114.(11/124)
وَيُعْتَقُ الْمُدَبَّرُ بَعْدَ الْمَوْتِ مِنْ ثُلُثِ الْمَال فِي قَوْل أَكْثَرِ أَهْل الْعِلْمِ، وَيُعْتَقُ مِنْ جَمِيعِ مَال الْمَيِّتِ فِي قَوْل بَعْضِ الْعُلَمَاءِ كَابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِ. (1)
حِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّتِهِ:
3 - يُؤَدِّي التَّدْبِيرُ إِلَى حُرِّيَّةِ الْمُدَبَّرِ بَعْدَ مَوْتِ مَنْ دَبَّرَهُ، وَالشَّارِعُ يَحْرِصُ عَلَى تَحْرِيرِ الرِّقَابِ، وَالتَّدْبِيرُ طَرِيقَةٌ مُيَسَّرَةٌ لِذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ تَدُومُ مَعَهُ مَنْفَعَةُ الرَّقِيقِ مُدَّةَ حَيَاتِهِ، ثُمَّ يَكُونُ قُرْبَةً لَهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ.
صِيغَتُهُ:
4 - يَثْبُتُ التَّدْبِيرُ بِكُل لَفْظٍ يُفِيدُ إِثْبَاتَ الْعِتْقِ لِلْمَمْلُوكِ بَعْدَ مَوْتِ سَيِّدِهِ، كَأَنْ يَقُول، مُعَلِّقًا: إِذَا مِتُّ فَأَنْتَ حُرٌّ، أَوْ يَقُول مُضِيفًا لِمُسْتَقْبَلٍ: أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي. وَلاَ تُفِيدُ الصِّيغَةُ حُكْمَهَا إِلاَّ إِذَا صَدَرَتْ مِمَّنْ لَهُ أَهْلِيَّةُ التَّبَرُّعِ عَلَى سَبِيل الْوَصِيَّةِ.
آثَارُهُ:
5 - الْفُقَهَاءُ مُخْتَلِفُونَ فِي الآْثَارِ الَّتِي تَتَرَتَّبُ عَلَى التَّدْبِيرِ. فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلاَمِ الْخِرَقِيِّ، وَأَوْمَأَ إِلَيْهِ أَحْمَدُ إِلَى: أَنَّهُ لاَ يُبَاعُ، وَلاَ يُوهَبُ، وَلاَ يُرْهَنُ، وَلاَ يَخْرُجُ مِنَ الْمِلْكِ إِلاَّ
__________
(1) المغني 9 / 387.(11/125)
بِالإِْعْتَاقِ وَالْكِتَابَةِ، وَيُسْتَخْدَمُ وَيُسْتَأْجَرُ، وَمَوْلاَهُ أَحَقُّ بِكَسْبِهِ وَأَرْشِهِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ: أَنَّهُ يُبَاعُ مُطْلَقًا فِي الدَّيْنِ وَغَيْرِهِ، وَعِنْدَ حَاجَةِ السَّيِّدِ إِلَى بَيْعِهِ وَعَدَمِهَا. لِحَدِيثِ: أَنَّ رَجُلاً أَعْتَقَ مَمْلُوكًا لَهُ عَنْ دُبُرٍ، فَاحْتَاجَ، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ يَشْتَرِيهِ مِنِّي. فَبَاعَهُ مِنْ نُعَيْمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ وَقَال: أَنْتَ أَحْوَجُ مِنْهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. (1)
وَفَسَّرَ الشَّافِعِيَّةُ الْحَاجَةَ هُنَا بِالدَّيْنِ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ قَيْدًا احْتِرَازِيًّا، بَل هُوَ اتِّفَاقِيٌّ لِمَا وَرَدَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بَاعَتْ مُدَبَّرَةً لَهَا وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهَا أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ (2) .
مِنْ مُبْطِلاَتِهِ:
6 - مِنْ مُبْطِلاَتِ التَّدْبِيرِ: قَتْل الْمُدَبَّرِ سَيِّدَهُ، وَاسْتِغْرَاقُ تَرِكَةِ السَّيِّدِ بِالدَّيْنِ. وَهُنَاكَ تَفْصِيلاَتٌ كَثِيرَةٌ وَأَحْكَامٌ فِي الْمَذَاهِبِ مُخْتَلِفَةٌ لاَ حَاجَةَ لإِِيرَادِهَا؛ لِعَدَمِ وُجُودِ الرِّقِّ الآْنَ.
__________
(1) حديث: " أن رجلا أعتق مملوكا. . . " أخرج أصله البخاري (الفتح 4 / 354 ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1289 ط الحلبي) واللفظ للبيهقي (10 / 310 ط دائرة المعارف العثمانية) .
(2) الدر المختار 3 / 32، 33، والقليوبي 4 / 359، والدسوقي 4 / 385، والمغني 9 / 393.(11/125)
تَدْخِينٌ
انْظُرْ: تَبَغٌ
تَدْرِيسٌ
انْظُرْ: تَعْلِيمٌ(11/126)
تَدْلِيسٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّدْلِيسُ: مَصْدَرُ دَلَّسَ، يُقَال: دَلَّسَ فِي الْبَيْعِ وَفِي كُل شَيْءٍ: إِذَا لَمْ يُبَيِّنْ عَيْبَهُ.
وَالتَّدْلِيسُ فِي الْبَيْعِ: كِتْمَانُ عَيْبِ السِّلْعَةِ عَنِ الْمُشْتَرِي.
قَال الأَْزْهَرِيُّ: وَمِنْ هَذَا أُخِذَ التَّدْلِيسُ فِي الإِْسْنَادِ. (1)
وَهُوَ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ لاَ يَخْرُجُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، وَهُوَ كِتْمَانُ الْعَيْبِ.
قَال صَاحِبُ الْمُغْرِبِ: كِتْمَانُ عَيْبِ السِّلْعَةِ عَنِ الْمُشْتَرِي.
وَعِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ هُوَ قِسْمَانِ:
أَحَدُهُمَا: تَدْلِيسُ الإِْسْنَادِ. وَهُوَ: أَنْ يَرْوِيَ عَمَّنْ لَقِيَهُ مَا لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْهُ، مُوهِمًا أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْهُ، أَوْ عَمَّنْ عَاصَرَهُ وَلَمْ يَلْقَهُ مُوهِمًا أَنَّهُ لَقِيَهُ أَوْ سَمِعَهُ مِنْهُ.
وَالآْخَرُ: تَدْلِيسُ الشُّيُوخِ. وَهُوَ أَنْ يَرْوِيَ
__________
(1) مختار الصحاح والمصباح المنير والقاموس المحيط ولسان العرب. مادة: " دلس ".(11/126)
عَنْ شَيْخٍ حَدِيثًا سَمِعَهُ مِنْهُ فَيُسَمِّيهِ أَوْ يُكَنِّيهِ، وَيَصِفُهُ بِمَا لَمْ يُعْرَفْ بِهِ كَيْ لاَ يُعْرَفَ. (1)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْخِلاَبَةُ:
2 - الْخِلاَبَةُ هِيَ: الْمُخَادَعَةُ. وَقِيل: هِيَ الْخَدِيعَةُ بِاللِّسَانِ. (2)
وَالْخِلاَبَةُ أَعَمُّ مِنَ التَّدْلِيسِ؛ لأَِنَّهَا كَمَا تَكُونُ بِسَتْرِ الْعَيْبِ، قَدْ تَكُونُ بِالْكَذِبِ وَغَيْرِهِ.
ب - التَّلْبِيسُ:
3 - التَّلْبِيسُ مِنَ اللَّبْسِ، وَهُوَ: اخْتِلاَطُ الأَْمْرِ. يُقَال: لَبَّسَ عَلَيْهِ الأَْمْرَ يُلَبِّسُهُ لَبْسًا فَالْتَبَسَ. إِذَا خَلَطَهُ عَلَيْهِ حَتَّى لاَ يَعْرِفَ جِهَتَهُ، وَالتَّلْبِيسُ كَالتَّدْلِيسِ وَالتَّخْلِيطِ، شُدِّدَ لِلْمُبَالَغَةِ. (3)
وَالتَّلْبِيسُ بِهَذَا الْمَعْنَى أَعَمُّ مِنَ التَّدْلِيسِ؛ لأَِنَّ التَّدْلِيسَ يَكُونُ بِإِخْفَاءِ الْعَيْبِ، وَالتَّلْبِيسُ يَكُونُ بِإِخْفَاءِ الْعَيْبِ، كَمَا يَكُونُ بِإِخْفَاءِ صِفَاتٍ أَوْ وَقَائِعَ أَوْ غَيْرِهَا لَيْسَتْ صَحِيحَةً.
ج - التَّغْرِيرُ:
4 - وَهُوَ مِنَ الْغَرَرِ، يُقَال: غَرَّرَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ
__________
(1) التعريفات للجرجاني ص 77، وتدريب الراوي ص 139 - 143 ط الأولى 1379 هـ - 1959 م.
(2) لسان العرب ومختار الصحاح مادة: " خلب ".
(3) لسان العرب ومختار الصحاح مادة: " لبس ".(11/127)
تَغْرِيرًا وَتَغِرَّةً: عَرَّضَهُمَا لِلْهَلَكَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْرِفَ. وَيُقَال: غَرَّهُ يَغُرُّهُ غَرًّا وَغُرُورًا وَغُرَّةً: خَدَعَهُ وَأَطْمَعَهُ بِالْبَاطِل.
وَالتَّغْرِيرُ فِي الاِصْطِلاَحِ: إِيقَاعُ الشَّخْصِ فِي الْغَرَرِ، وَالْغَرَرُ: مَا انْطَوَتْ عَنْكَ عَاقِبَتُهُ. (1)
وَعَلَى هَذَا يَكُونُ التَّغْرِيرُ أَعَمَّ مِنَ التَّدْلِيسِ؛ لأَِنَّ الْغَرَرَ قَدْ يَكُونُ بِإِخْفَاءِ عَيْبٍ، وَقَدْ يَكُونُ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تُجْهَل عَاقِبَتُهُ.
د - الْغِشُّ:
5 - وَهُوَ اسْمٌ مِنَ الْغِشِّ، مَصْدَرُ غَشَّهُ: إِذَا لَمْ يُمَحِّضْهُ النُّصْحَ، وَزَيَّنَ لَهُ غَيْرَ الْمَصْلَحَةِ، أَوْ أَظْهَرَ لَهُ خِلاَفَ مَا أَضْمَرَهُ. (2) وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ التَّدْلِيسِ؛ إِذِ التَّدْلِيسُ خَاصٌّ بِكِتْمَانِ الْعَيْبِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
6 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ التَّدْلِيسَ حَرَامٌ بِالنَّصِّ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ. فَقَدْ قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا، وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا (3)
__________
(1) متن اللغة، والمبسوط 13 / 194، والمهذب 1 / 262.
(2) القاموس والمصباح المنير. مادة " غش ".
(3) حديث: " البيعان بالخيار ما لم يتفرقا. . . " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 328 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1164 ط الحلبي) .(11/127)
وَقَال عَلَيْهِ أَفْضَل الصَّلاَةِ وَالسَّلاَمِ: مَنْ بَاعَ عَيْبًا لَمْ يُبَيِّنْهُ لَمْ يَزَل فِي مَقْتِ اللَّهِ، وَلَمْ تَزَل الْمَلاَئِكَةُ تَلْعَنُهُ (1) .
وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا (2)
وَلِهَذَا يُؤَدِّبُ الْحَاكِمُ الْمُدَلِّسَ؛ لِحَقِّ اللَّهِ وَلِحَقِّ الْعِبَادِ.
التَّدْلِيسُ فِي الْمُعَامَلاَتِ:
7 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ كُل تَدْلِيسٍ يَخْتَلِفُ الثَّمَنُ لأَِجْلِهِ فِي الْمُعَامَلاَتِ يَثْبُتُ بِهِ الْخِيَارُ: كَتَصْرِيَةِ الشِّيَاهِ وَنَحْوِهَا قَبْل بَيْعِهَا لِيَظُنَّ الْمُشْتَرِي كَثْرَةَ اللَّبَنِ، وَصَبْغَ الْمَبِيعِ بِلَوْنٍ مَرْغُوبٍ فِيهِ، عَلَى اخْتِلاَفٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ.
وَاسْتَدَلُّوا لِثُبُوتِ الْخِيَارِ بِالتَّصْرِيَةِ بِحَدِيثِ: مَنِ اشْتَرَى شَاةً مُصَرَّاةً فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ: إِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا، وَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا وَصَاعًا مِنْ تَمْرٍ (3) . وَقِيسَ عَلَيْهَا غَيْرُهَا، وَهُوَ كُل فِعْلٍ مِنَ الْبَائِعِ
__________
(1) حديث: " من باع عيبا لم يبينه لم يزل في مقت الله. . . " أخرجه ابن ماجه (2 / 755 - ط الحلبي) وقال البوصيري في الزوائد: في إسناده بقية بن الوليد وهو مدلس، وشيخه ضعيف.
(2) حديث: " من غشنا فليس منا " أخرجه مسلم (1 / 99 - ط الحلبي) .
(3) حديث: " من اشترى شاة مصراة فهو بخير النظرين، إن شاء أمسكها وإن شاء ردها وصاعا من تمر لا سمراء " أخرجه مسلم (3 / 1159 - ط الحلبي) .(11/128)
بِالْمَبِيعِ يَظُنُّ الْمُشْتَرِي بِهِ كَمَالاً فَلاَ يُوجَدُ؛ لأَِنَّ الْخِيَارَ غَيْرُ مَنُوطٍ بِالتَّصْرِيَةِ لِذَاتِهَا، بَل لِمَا فِيهَا مِنَ التَّلْبِيسِ وَالإِْيهَامِ (1)
شَرْطُ الرَّدِّ بِالتَّدْلِيسِ:
8 - لاَ يَثْبُتُ الْخِيَارُ بِمُجَرَّدِ التَّدْلِيسِ، بَل يُشْتَرَطُ أَلاَّ يَعْلَمَ الْمُدَلَّسُ عَلَيْهِ بِالْعَيْبِ قَبْل الْعَقْدِ، فَإِنْ عَلِمَ فَلاَ خِيَارَ لَهُ لِرِضَاهُ بِهِ، كَمَا يُشْتَرَطُ أَلاَّ يَكُونَ الْعَيْبُ ظَاهِرًا، أَوْ مِمَّا يَسْهُل مَعْرِفَتُهُ.
وَيَثْبُتُ خِيَارُ التَّدْلِيسِ فِي كُل مُعَاوَضَةٍ، كَمَا فِي الْبَيْعِ وَالإِْجَارَةِ، وَبَدَل الصُّلْحِ عَنْ إِقْرَارٍ، وَبَدَل الصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ. (2)
التَّدْلِيسُ الْقَوْلِيُّ:
9 - التَّدْلِيسُ الْقَوْلِيُّ كَالتَّدْلِيسِ الْفِعْلِيِّ فِي الْعُقُودِ، كَالْكَذِبِ فِي السِّعْرِ فِي بُيُوعِ الأَْمَانَاتِ (وَهِيَ الْمُرَابَحَةُ وَالتَّوْلِيَةُ وَالْحَطِيطَةُ) فَيَثْبُتُ فِيهَا خِيَارُ التَّدْلِيسِ. (3)
التَّدْلِيسُ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ:
10 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ
__________
(1) روضة الطالبين 3 / 469، وجواهر الإكليل 2 / 42، والمغني 4 / 157، وحاشية ابن عابدين 4 / 71، وحاشية الدسوقي 3 / 228، والفروع 4 / 93.
(2) المصادر السابقة، ومطالب أولي النهى 3 / 105، ومغني المحتاج 2 / 64، والفروع 4 / 93، وابن عابدين 4 / 71، والزرقاني 5 / 181.
(3) روضة الطالبين 3 / 470، وشرح الزرقاني 5 / 133.(11/128)
وَالْحَنَابِلَةِ) إِلَى أَنَّهُ إِذَا دَلَّسَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ عَلَى الآْخَرِ، بِأَنْ كَتَمَ عَيْبًا فِيهِ، يَثْبُتُ بِهِ الْخِيَارُ، لَمْ يَعْلَمْهُ الْمُدَلَّسُ عَلَيْهِ وَقْتَ الْعَقْدِ، وَلاَ قَبْلَهُ. أَوْ شَرَطَ أَحَدُهُمَا فِي صُلْبِ الْعَقْدِ وَصْفًا مِنْ صِفَاتِ الْكَمَال كَإِسْلاَمٍ، وَبَكَارَةٍ، وَشَبَابٍ، فَتَخَلُّفُ الشَّرْطِ: يُثْبِتُ لِلْمُدَلَّسِ عَلَيْهِ وَالْمَغْرُورِ بِخَلْفِ الْمَشْرُوطِ خِيَارَ فَسْخِ النِّكَاحِ. (1)
وَقَال: أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ: لَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ خِيَارُ الْفَسْخِ لِعَيْبٍ، فَالنِّكَاحُ عِنْدَهُمْ لاَ يَقْبَل الْفَسْخَ.
وَقَالُوا: إِنَّ فَوْتَ الاِسْتِيفَاءِ أَصْلاً بِالْمَوْتِ لاَ يُوجِبُ الْفَسْخَ، فَاخْتِلاَلُهُ بِهَذِهِ الْعُيُوبِ أَوْلَى بِأَلاَّ يُوجِبَ الْفَسْخَ؛ وَلأَِنَّ الاِسْتِيفَاءَ مِنْ ثَمَرَاتِ الْعَقْدِ، وَالْمُسْتَحَقُّ هُوَ التَّمَكُّنُ، وَهُوَ حَاصِلٌ.
وَقَال مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: لاَ خِيَارَ لِلزَّوْجِ بِعَيْبٍ فِي الْمَرْأَةِ، وَلَهَا هِيَ الْخِيَارُ بِعَيْبٍ فِي الزَّوْجِ مِنَ الْعُيُوبِ الثَّلاَثَةِ: الْجُنُونِ، وَالْجُذَامِ، وَالْبَرَصِ فَلِلْمَرْأَةِ الْخِيَارُ فِي طَلَبِ التَّفْرِيقِ أَوِ الْبَقَاءِ مَعَهُ؛ لأَِنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهَا الْوُصُول إِلَى حَقِّهَا بِمَعْنًى فِيهِ، فَكَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ وَجَدَتْهُ مَجْبُوبًا، أَوْ عِنِّينًا بِخِلاَفِ الرَّجُل؛ لأَِنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ دَفْعِ الضَّرَرِ
__________
(1) روضة الطالبين 7 / 176 - 183، ومغني المحتاج 3 / 202 - 208، وقليوبي 3 / 261، ومطالب أولي النهى 5 / 141 - 150، والزرقاني 3 / 235 - 243، والمغني 6 / 650.(11/129)
عَنْ نَفْسِهِ بِالطَّلاَقِ (1)
وَالْكَلاَمُ عَنِ الْعُيُوبِ الْمُثْبِتَةِ لِلْخِيَارِ فِي النِّكَاحِ مَوْطِنُهُ بَابُ النِّكَاحِ.
سُقُوطُ الْمَهْرِ بِالْفَسْخِ:
11 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ مَنْ يَقُول بِالْفَسْخِ بِالْعُيُوبِ مِنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْفَسْخَ قَبْل الدُّخُول، أَوِ الْخَلْوَةِ الصَّحِيحَةِ يُسْقِطُ الْمَهْرَ.
وَقَالُوا: إِنْ كَانَ الْعَيْبُ بِالزَّوْجِ فَهِيَ الْفَاسِخَةُ (أَيْ طَالِبَةُ الْفَسْخِ) فَلاَ شَيْءَ لَهَا، وَإِنْ كَانَ الْعَيْبُ بِهَا فَسَبَبُ الْفَسْخِ مَعْنًى وُجِدَ فِيهَا، فَكَأَنَّهَا هِيَ الْفَاسِخَةُ؛ لأَِنَّهَا غَارَّةٌ وَمُدَلِّسَةٌ.
وَإِنْ كَانَ الْفَسْخُ بَعْدَ الدُّخُول، بِأَنْ لَمْ يَعْلَمْ إِلاَّ بَعْدَهُ فَلَهَا الْمَهْرُ؛ لأَِنَّ الْمَهْرَ يَجِبُ بِالْعَقْدِ، وَيَسْتَقِرُّ بِالدُّخُول، فَلاَ يَسْقُطُ بِحَادِثٍ بَعْدَهُ. (2)
رُجُوعُ الْمَغْرُورِ عَلَى مَنْ غَرَّهُ:
12 - إِنْ فَسَخَ الزَّوْجُ النِّكَاحَ بِعَيْبٍ فِي الْمَرْأَةِ بَعْدَ الدُّخُول، يَرْجِعُ بِالْمَهْرِ عَلَى مَنْ غَرَّهُ مِنْ زَوْجَةٍ أَوْ وَكِيلٍ أَوْ وَلِيٍّ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ،
__________
(1) الهداية 2 / 26 - 27، وفتح القدير 4 / 133 - 134 ط إحياء التراث العربي بيروت، وابن عابدين 2 / 593.
(2) مغني المحتاج 3 / 204 - 205، وشرح الزرقاني 3 / 243 - 244، والمغني 6 / 655.(11/129)
وَالْحَنَابِلَةُ، وَقَالَهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ لِلتَّدْلِيسِ عَلَيْهِ بِإِخْفَاءِ الْعَيْبِ الْمُقَارِنِ (1)
وَقَال الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ: إِنَّهُ لاَ يَرْجِعُ بِالْمَهْرِ عَلَى مَنْ غَرَّهُ؛ لاِسْتِيفَائِهِ مَنْفَعَةَ الْبُضْعِ الْمُتَقَوِّمِ عَلَيْهِ بِالْعَقْدِ. أَمَّا الْعَيْبُ الْحَادِثُ بَعْدَ الْعَقْدِ فَلاَ يَرْجِعُ جَزْمًا. (2)
أَمَّا هَل خِيَارُ الْعَيْبِ عَلَى التَّرَاخِي؟ وَهَل يَحْتَاجُ إِلَى حُكْمِ حَاكِمٍ؟ وَحُكْمِ وَلَدِ الْمَغْرُورِ، وَالتَّفْصِيل فِي ذَلِكَ فَيُرْجَعُ فِيهِ إِلَى مُصْطَلَحِ: (تَغْرِيرٌ) (وَفَسْخٌ) .
الْمَغْرُورُ بِخَلْفِ الشَّرْطِ:
13 - لَوْ شَرَطَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ صِفَةً مِنْ صِفَاتِ الْكَمَال، مِمَّا لاَ يَمْنَعُ عَدَمُهُ صِحَّةَ النِّكَاحِ كَبَكَارَةٍ وَشَبَابٍ وَإِسْلاَمٍ، أَوْ نَفْيِ عَيْبٍ لاَ يَثْبُتُ بِهِ الْخِيَارُ كَأَلاَّ تَكُونَ عَوْرَاءَ أَوْ خَرْسَاءَ، أَوْ شَرَطَ مَا لَيْسَ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَال وَلاَ النَّقْصَ كَطُولٍ وَبَيَاضٍ وَسُمْرَةٍ، فَتَخَلَّفَ الشَّرْطُ، صَحَّ النِّكَاحُ، وَثَبَتَ لِلْمَغْرُورِ خِيَارُ الْفَسْخِ. (3) عِنْدَ الْجُمْهُورِ عَلَى خِلاَفٍ وَتَفْصِيلٍ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى مُصْطَلَحِ: (تَغْرِيرٌ، وَشَرْطٌ) .
__________
(1) الزرقاني 3 / 244، والمغني 6 / 656، ومغني المحتاج 3 / 205.
(2) مغني المحتاج 3 / 205، وروضة الطالبين 7 / 181.
(3) مغني المحتاج 3 / 208، والمغني 6 / 526، والزرقاني 3 / 238.(11/130)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ يَثْبُتُ الْخِيَارُ بِخَلْفِ الشَّرْطِ.
وَجَاءَ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ: فَلَوْ شَرَطَ وَصْفًا مَرْغُوبًا فِيهِ كَالْعُذْرَةِ (الْبَكَارَةِ) وَالْجَمَال، وَالرَّشَاقَةِ، وَصِغَرِ السِّنِّ: فَظَهَرَتْ ثَيِّبًا عَجُوزًا شَوْهَاءَ، ذَاتَ شِقٍّ مَائِلٍ، وَلُعَابٍ سَائِلٍ، وَأَنْفٍ هَائِلٍ، وَعَقْلٍ زَائِلٍ، فَلاَ خِيَارَ لَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ (1) .
تَأْدِيبُ الْمُدَلِّسِ:
14 - يُؤَدَّبُ الْمُدَلِّسُ بِالتَّعْزِيرِ بِمَا يَرَاهُ الْحَاكِمُ زَاجِرًا وَمُؤَدِّبًا.
جَاءَ فِي مَوَاهِبِ الْجَلِيل: قَال مَالِكٌ: مَنْ بَاعَ شَيْئًا وَبِهِ عَيْبٌ غَرَّ بِهِ أَوْ دَلَّسَهُ يُعَاقَبُ عَلَيْهِ.
قَال ابْنُ رُشْدٍ: مِمَّا لاَ خِلاَفَ فِيهِ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى مَنْ غَشَّ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، أَوْ غَرَّهُ، أَوْ دَلَّسَ بِعَيْبٍ: أَنْ يُؤَدَّبَ عَلَى ذَلِكَ، مَعَ الْحُكْمِ عَلَيْهِ بِالرَّدِّ؛ لأَِنَّهُمَا حَقَّانِ مُخْتَلِفَانِ: أَحَدُهُمَا لِلَّهِ؛ لِيَتَنَاهَى النَّاسُ عَنْ حُرُمَاتِ اللَّهِ، وَالآْخَرُ لِلْمُدَلَّسِ عَلَيْهِ بِالْعَيْبِ فَلاَ يَتَدَاخَلاَنِ، (2) وَتَعْزِيرُ الْمُدَلِّسِ مَحَل اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، كَكُل مَعْصِيَةٍ لاَ حَدَّ فِيهَا وَلاَ كَفَّارَةَ. (3)
__________
(1) فتح القدير 4 / 133 دار إحياء التراث العربي لبنان بيروت.
(2) مواهب الجليل 4 / 449، وشرح الزرقاني 5 / 133.
(3) قليوبي 4 / 205، وابن عابدين 3 / 182، ومطالب أولي النهى 3 / 531.(11/130)
تَدْمِيَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّدْمِيَةُ لُغَةً: مِنْ دَمَّيْتُهُ تَدْمِيَةً: إِذَا حَزَبْتُهُ حَتَّى خَرَجَ مِنْهُ دَمٌ، وَمِثْلُهُ أَدْمَيْتُهُ (1)
وَاصْطِلاَحًا: قَوْل الْمَقْتُول قَبْل مَوْتِهِ: دَمِي عِنْدَ فُلاَنٍ، أَوْ قَتَلَنِي فُلاَنٌ
وَهُوَ اصْطِلاَحُ الْمَالِكِيَّةِ وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُمْ قَدْ تَنَاوَل هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي بَابِ الْقَسَامَةِ وَلَمْ يُسَمِّهَا بِالتَّدْمِيَةِ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الدَّامِيَةُ
2 - الدَّامِيَةُ هِيَ: جِرَاحَةٌ تُضْعِفُ الْجِلْدَ حَتَّى يَرْشَحَ مِنْهُ شَيْءٌ كَالدَّمِ مِنْ غَيْرِ انْشِقَاقِ الرَّأْسِ. (2) وَهِيَ مِنَ الْجِرَاحَاتِ الْعَشْرِ الَّتِي لَهَا أَسْمَاءٌ خَاصَّةٌ، فَهِيَ غَيْرُ التَّدْمِيَةِ الاِصْطِلاَحِيَّةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، لَكِنَّهَا وَالتَّدْمِيَةُ لُغَةً مِنْ بَابٍ وَاحِدَةٍ
__________
(1) لسان العرب، مادة: " دمي ".
(2) جواهر الإكليل 2 / 259، ورحمة الأمة ص 265 ط البابي الحلبي.(11/131)
3 - الإِْشْعَارُ هُوَ إِدْمَاءُ الْهَدْيِ مِنَ الإِْبِل وَالْبَقَرِ بِطَعْنٍ أَوْ رَمْيٍ أَوْ وَجْءٍ بِحَدِيدَةٍ؛ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ هَدْيٌ فَلاَ يُتَعَرَّضُ لَهُ. (1)
فَالإِْشْعَارُ تَدْمِيَةٌ لُغَةً، وَلَيْسَ كَمَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
4 - اعْتَبَرَ الْمَالِكِيَّةُ (التَّدْمِيَةَ) مِنَ اللَّوْثِ الَّذِي تَثْبُتُ بِهِ الْقَسَامَةُ، إِنْ صَدَرَ مِنْ حُرٍّ مُسْلِمٍ بَالِغٍ عَاقِلٍ، إِنْ شَهِدَ عَلَى قَوْلِهِ عَدْلاَنِ، وَاسْتَمَرَّ عَلَى إِقْرَارِهِ، وَكَانَ بِهِ جُرْحٌ. وَتُسَمَّى حِينَئِذٍ التَّدْمِيَةُ الْحَمْرَاءُ، وَهِيَ إِنْ كَانَ بِالْمَقْتُول جُرْحٌ. وَأَثَرُ الضَّرْبِ أَوِ السُّمِّ مُنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ الْجُرْحِ، وَالْعَمَل بِالتَّدْمِيَةِ قَوْل اللَّيْثِ.
أَمَّا غَيْرُهُمْ فَقَدْ رَأَوْا أَنَّ قَوْل الْمَقْتُول: دَمِي عِنْدَ فُلاَنٍ، دَعْوَى مِنَ الْمَقْتُول وَالنَّاسُ لاَ يُعْطَوْنَ بِدَعْوَاهُمْ، وَالأَْيْمَانُ لاَ تُثْبِتُ الدَّعْوَى، وَإِنَّمَا تَرُدُّهَا مِنَ الْمُنْكِرِ.
وَرَأَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الشَّخْصَ عِنْدَ مَوْتِهِ لاَ يَتَجَاسَرُ عَلَى الْكَذِبِ فِي سَفْكِ الدَّمِ، كَيْفَ وَهُوَ الْوَقْتُ الَّذِي يَنْدَمُ فِيهِ النَّادِمُ وَيُقْلِعُ فِيهِ الظَّالِمُ. وَمَدَارُ الأَْحْكَامِ عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ، وَأَيَّدُوا ذَلِكَ بِكَوْنِ الْقَسَامَةِ خَمْسِينَ يَمِينًا مُغَلَّظَةً احْتِيَاطًا فِي الدِّمَاءِ؛ وَلأَِنَّ الْغَالِبَ عَلَى الْقَاتِل إِخْفَاءُ الْقَتْل
__________
(1) لسان العرب، مادة: " شعر ".(11/131)
عَلَى الْبَيِّنَاتِ، فَاقْتَضَى الاِسْتِحْسَانُ ذَلِكَ. (1)
أَمَّا التَّدْمِيَةُ الْبَيْضَاءُ، فَهِيَ الَّتِي لَيْسَ مَعَهَا جُرْحٌ، وَلاَ أَثَرُ ضَرْبٍ، فَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ عَدَمُ قَبُولِهَا. فَإِذَا قَال الْمَيِّتُ فِي حَال مَرَضِهِ، وَلَيْسَ بِهِ جُرْحٌ، وَلاَ أَثَرُ ضَرْبٍ: قَتَلَنِي فُلاَنٌ، أَوْ دَمِّي عِنْدَ فُلاَنٍ، فَلاَ يُقْبَل قَوْلُهُ إِلاَّ بِالْبَيِّنَةِ عَلَى ذَلِكَ. (2)
وَتَفْصِيل الْقَوْل فِي ذَلِكَ فِي الْجِنَايَاتِ، وَفِي الْقَسَامَةِ.
تَدْيِينٌ
انْظُرْ: دِيَانَةٌ
__________
(1) حاشية الدسوقي 4 / 288.
(2) حاشية الدسوقي 4 / 288، وشرح الزرقاني 8 / 54.(11/132)
تَذْفِيفٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّذْفِيفُ بِالذَّال وَبِالدَّال فِي اللُّغَةِ: الإِْجْهَازُ عَلَى الْجَرِيحِ، وَهُوَ قَتْلُهُ، وَقَال بَعْضُهُمْ: هُوَ الإِْسْرَاعُ بِقَتْلِهِ، يُقَال: ذَفَفْتُ عَلَى الْقَتِيل: إِذَا أَسْرَعْتَ فِي قَتْلِهِ، وَيُقَال: ذَفَفْتُ عَلَى الْجَرِيحِ إِذَا عَجَّلْتَ قَتْلَهُ. (1)
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لَهُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
يَخْتَلِفُ حُكْمُ التَّذْفِيفِ بِاخْتِلاَفِ مَوَاضِعِهِ:
أ - التَّذْفِيفُ فِي الْجِهَادِ:
2 - يَجُوزُ التَّذْفِيفُ عَلَى جَرْحَى الْكُفَّارِ فِي الْمَعْرَكَةِ؛ لأَِنَّ تَرْكَهُمْ أَحْيَاءً ضَرَرٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير مادة: " ذفف "، والنظم المستعذب شرح غريب المهذب بذيل المهذب 2 / 219.
(2) الاختيار 4 / 152، وجواهر الإكليل 2 / 277، والمهذب 2 / 219، والمغني 8 / 109.(11/132)
وَتَقْوِيَةٌ لِلْكُفَّارِ، وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (جِهَادٌ) . (1)
ب - الإِْجْهَازُ عَلَى جَرِيحِ الْبُغَاةِ:
3 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ جَرْحَى الْبُغَاةِ بَعْدَ انْهِزَامِهِمْ أَمَامَ الْمُسْلِمِينَ وَتَوَلِّيهِمْ. فَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَتْ لَهُمْ فِئَةٌ فَإِنَّهُ يَجُوزُ قَتْل مُدْبِرِهِمْ وَالإِْجْهَازُ عَلَى جَرِيحِهِمْ؛ لِئَلاَّ يَنْحَازُوا إِلَى هَذِهِ الْفِئَةِ؛ لاِحْتِمَال أَنْ يَتَجَمَّعُوا وَيُثِيرُوا الْفِتْنَةَ تَارَةً أُخْرَى، فَيَكُرُّوا عَلَى أَهْل الإِْسْلاَمِ، وَقَتْلِهِمْ إِذَا كَانَ لَهُمْ فِئَةٌ لاَ يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ دَفْعًا؛ لأَِنَّهُ لَوْ لَمْ يُذَفَّفْ عَلَيْهِمْ يَتَحَيَّزُونَ إِلَى الْفِئَةِ، وَيَعُودُ شَرُّهُمْ كَمَا كَانَ، (2) وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ فِئَةٌ قَائِمَةٌ يَحْرُمُ قَتْل جَرْحَى الْبُغَاةِ. وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ قَوْل عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمَ الْجَمَل: لاَ تَتَّبِعُوا مُدْبِرًا، وَلاَ تُجْهِزُوا عَلَى جَرِيحٍ، وَلاَ تَقْتُلُوا أَسِيرًا، وَإِيَّاكُمْ وَالنِّسَاءَ وَإِنْ شَتَمْنَ أَعْرَاضَكُمْ وَسَبَبْنَ أُمَرَاءَكُمْ. وَقَدْ حَمَلَهُ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى مَا إِذَا لَمْ تَكُنْ لِلْبُغَاةِ فِئَةٌ. (3) وَنَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنْ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ جَرِيحَ الْبُغَاةِ وَمُدْبِرَهُمْ يَخْتَارُ الإِْمَامُ
__________
(1) المغني لابن قدامة 1 / 377، والسياسة الشرعية لإصلاح الراعي والرعية لابن تيمية ص 193 ط الثانية، ونهاية المحتاج 8 / 65 ط الجهاد، وكشاف القناع 3 / 50.
(2) البدائع 7 / 140، 141، وفتح القدير 4 / 411.
(3) فتح القدير 4 / 412 ط بولاق.(11/133)
مَا فِيهِ الْمَصْلَحَةُ، تَارِكًا هَوَى النَّفْسِ وَالتَّشَفِّي، وَإِنْ وُجِدَتِ الْفِئَةُ. (1)
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ فِي جَرْحَى الْبُغَاةِ يَعْتَمِدُ عَلَى مَدَى تَيَقُّنِ الإِْمَامِ مِنَ الْتِحَاقِهِمْ بِالْبُغَاةِ، أَوْ رُجُوعِهِمْ إِلَى الطَّاعَةِ، فَإِنْ أَمِنَ الإِْمَامُ بَغْيَهُمْ لاَ يَجُوزُ لَهُ اتِّبَاعُ مُنْهَزِمِهِمْ، وَلاَ التَّذْفِيفُ عَلَى جَرِيحِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَأْمَنِ الإِْمَامُ بَغْيَهُمُ اتَّبَعَ مُنْهَزِمَهُمْ، وَذَفَّفَ عَلَى جَرِيحِهِمْ، حَسَبَ مُقْتَضَيَاتِ مَصْلَحَةِ الْحَرْبِ لِحُصُول الْمَقْصُودِ. (2)
وَلَمْ يَشْتَرِطِ الْمَالِكِيَّةُ وُجُودَ الْفِئَةِ الَّتِي يُحْتَمَل التَّحَيُّزُ إِلَيْهَا؛ لأَِنَّ الْمَصْلَحَةَ هِيَ الأَْسَاسُ عِنْدَهُمْ. (3) وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (بُغَاةٌ) .
وَالشَّافِعِيَّةُ قَالُوا: إِذَا كَانَتْ لَهُمْ فِئَةٌ بَعِيدَةٌ يَنْحَازُونَ إِلَيْهَا، وَلاَ يَتَوَقَّعُ فِي الْعَادَةِ مَجِيئُهَا إِلَيْهِمْ وَالْحَرْبُ قَائِمَةٌ، أَوْ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ عَدَمُ وُصُولِهَا إِلَيْهِمْ، لاَ يُجْهَزُ عَلَى جَرِيحِهِمْ لأَِمْنِ غَائِلَتِهِ، إِلاَّ إِذَا كَانَ مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ. وَأَمَّا إِذَا كَانَتْ لَهُمْ فِئَةٌ قَرِيبَةٌ تُسْعِفُهُمْ عَادَةً، وَالْحَرْبُ قَائِمَةٌ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ اتِّبَاعُهُمْ وَالتَّذْفِيفُ عَلَى جَرِيحِهِمْ. (4)
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ أَهْل الْبَغْيِ إِذَا تَرَكُوا الْقِتَال بِالرُّجُوعِ إِلَى الطَّاعَةِ، أَوْ بِإِلْقَاءِ السِّلاَحِ،
__________
(1) حاشية رد المحتار 4 / 265.
(2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4 / 299، 300 ط عيسى الحلبي بمصر.
(3) الشرح الصغير للدردير 4 / 429.
(4) نهاية المحتاج 7 / 386، 387، والمهذب 2 / 221 ط دار المعرفة / بيروت - لبنان.(11/133)
أَوْ بِالْهَزِيمَةِ إِلَى فِئَةٍ، أَوْ إِلَى غَيْرِ فِئَةٍ، أَوْ بِالْعَجْزِ لِجِرَاحٍ أَوْ مَرَضٍ، فَلاَ يُجْهَزُ عَلَى جَرِيحِهِمْ، (1) وَبِهَذَا قَال بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ (2)
وَسَاقَ ابْنُ قُدَامَةَ، وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ الآْثَارَ الْوَارِدَةَ فِي النَّهْيِ عَنْ قَتْل الْمُدْبِرِ وَالإِْجْهَازِ عَلَى الْجَرِيحِ، وَمِنْهَا مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال يَوْمَ الْجَمَل: لاَ يُذَفَّفُ عَلَى جَرِيحٍ. كَمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: يَا ابْنَ مَسْعُودٍ أَتَدْرِي مَا حُكْمُ اللَّهِ فِيمَنْ بَغَى مِنْ هَذِهِ الأُْمَّةِ؟ قَال ابْنُ مَسْعُودٍ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَال: فَإِنَّ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِمْ أَنْ لاَ يُتْبَعَ مُدْبِرُهُمْ، وَلاَ يُقْتَل أَسِيرُهُمْ، وَلاَ يُذَفَّفَ عَلَى جَرِيحِهِمْ. (3) وَلأَِنَّ قِتَالَهُمْ لِلدَّفْعِ وَالرَّدِّ إِلَى الطَّاعَةِ دُونَ الْقَتْل، فَلاَ يَجُوزُ فِيهِ الْقَصْدُ إِلَى الْقَتْل مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ (ر: بُغَاةٌ) .
ج - التَّذْفِيفُ فِي الذَّبَائِحِ:
4 - مِنْ صُوَرِ الذَّكَاةِ مَا إِذَا رَمَى الصَّيْدَ، ثُمَّ أَدْرَكَهُ وَبِهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ، فَلاَ يَحِل إِلاَّ بِتَذْكِيَتِهِ. أَمَّا إِنْ أَدْرَكَهُ وَلَمْ يَبْقَ بِهِ إِلاَّ حَرَكَةُ الْمَذْبُوحِ،
__________
(1) المغني لابن قدامة 8 / 114، 115.
(2) المهذب 2 / 219.
(3) حديث: " يا ابن مسعود. . . " أخرجه الحاكم (2 / 155 - ط دائرة المعارف العثمانية) وقال الذهبي: قلت: كوثر - يعني ابن حكيم راويه عن نافع - متروك. وكذا أعله البيهقي في سننه الكبرى (8 / 182 - ط دائرة المعارف العثمانية) .(11/134)
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ يَحِل وَلَوْ لَمْ يُذَفَّفْ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ حَرَكَةَ الْمَذْبُوحِ لاَ تُعْتَبَرُ حَيَاةً عِنْدَهُمْ، وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ - فِيمَا نَقَل عَنْهُ الْجَصَّاصُ - إِلَى أَنَّهُ لاَ يَحِل مَا لَمْ يُذَفَّفْ عَلَيْهِ بِالتَّذْكِيَةِ؛ لأَِنَّهُ يَعْتَبِرُ حَرَكَةَ الْمَذْبُوحِ حَيَاةً. وَالنَّقْل الرَّاجِحُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُوَافِقُ الْجُمْهُورَ. (1)
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (صَيْدٌ) (وَذَبَائِحٌ) .
__________
(1) روضة الطالبين 3 / 201، 202، والاختيار 5 / 19، والتاج والإكليل 3 / 207 - 209، والمغني لابن قدامة 8 / 573 - 575، والوجيز 2 / 212 ط دار المعرفة. بيروت - لبنان.(11/134)
تَذَكُّرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّذْكِيرُ وَالتَّذَكُّرُ: مِنْ مَادَّةِ ذَكَرَ، ضِدُّ نَسِيَ، يُقَال: ذَكَرْتُ الشَّيْءَ بَعْدَ نِسْيَانٍ، وَذَكَرْتُهُ بِلِسَانِي، وَقَلْبِي، وَتَذَكَّرْتُهُ، وَأَذْكَرْتُهُ غَيْرِي، وَذَكَّرْتُهُ تَذْكِيرًا. (1)
وَهُوَ فِي الاِصْطِلاَحِ الشَّرْعِيِّ لاَ يَخْرُجُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - السَّهْوُ:
2 - السَّهْوُ فِي اللُّغَةِ: نِسْيَانُ الشَّيْءِ وَالْغَفْلَةُ عَنْهُ وَذَهَابُ الْقَلْبِ إِلَى غَيْرِهِ، فَالسَّهْوُ عَنِ الصَّلاَةِ: الْغَفْلَةُ عَنْ شَيْءٍ مِنْهَا، قَال ابْنُ الأَْثِيرِ: السَّهْوُ مِنَ الشَّيْءِ: تَرْكُهُ عَنْ غَيْرِ عِلْمٍ، وَالسَّهْوُ عَنْهُ: تَرْكُهُ مَعَ الْعِلْمِ، (2) وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ} (3) .
__________
(1) لسان العرب، والمصباح مادة: " ذكر ".
(2) لسان العرب، والمصباح مادة: " سها ".
(3) سورة الماعون / 5.(11/135)
وَاصْطِلاَحًا، قَال صَاحِبُ الْمَوَاقِفِ: السَّهْوُ زَوَال الصُّورَةِ عَنِ الْمُدْرِكَةِ مَعَ بَقَائِهَا فِي الْحَافِظَةِ، (1) وَقِيل: هُوَ الذُّهُول عَنِ الشَّيْءِ، بِحَيْثُ لَوْ نُبِّهَ لَهُ أَدْنَى تَنْبِيهٍ لَتَنَبَّهَ (2)
وَفِي الْمِصْبَاحِ: إِنَّ السَّهْوَ لَوْ نُبِّهَ صَاحِبُهُ لَمْ يَتَنَبَّهْ
ب - النِّسْيَانُ:
3 - النِّسْيَانُ: ضِدُّ الذِّكْرِ وَالْحِفْظِ، يُقَال: نَسِيَهُ نَسْيًا، وَنِسْيَانًا، وَهُوَ تَرْكُ الشَّيْءِ عَنْ ذُهُولٍ وَغَفْلَةٍ، وَيُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى التَّرْكِ عَنْ عَمْدٍ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} (3) أَيْ تَرَكُوا أَمْرَ اللَّهِ فَحَرَمَهُمْ رَحْمَتَهُ. وَيُقَال: رَجُلٌ نِسْيَانٌ أَيْ: كَثِيرُ النِّسْيَانِ وَالْغَفْلَةِ (4) .
وَاصْطِلاَحًا: هُوَ الذُّهُول عَنِ الشَّيْءِ، لَكِنْ لاَ يَتَنَبَّهُ لَهُ بِأَدْنَى تَنْبِيهٍ، لِكَوْنِ الشَّيْءِ قَدْ زَال مِنَ الْمُدْرِكَةِ وَالْحَافِظَةِ مَعًا، فَيَحْتَاجُ إِلَى سَبَبٍ جَدِيدٍ (5)
__________
(1) الشبراملسي على النهاية 2 / 62.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 495 ط دار إحياء التراث العربي لبنان، وحاشية الدسوقي 1 / 272.
(3) سورة التوبة / 67.
(4) لسان العرب مادة: " نسي ".
(5) حاشية ابن عابدين 1 / 495، وحاشية الدسوقي 1 / 273، والشبرامسلي على النهاية 2 / 62.(11/135)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
تَذَكُّرُ الْمُصَلِّي لِصَلاَتِهِ بَعْدَ الأَْكْل فِيهَا:
4 - قَال الْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ: (1) لاَ تَبْطُل صَلاَةُ مَنْ أَكَل نَاسِيًا وَإِنْ كَثُرَ، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ: إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ، وَالنِّسْيَانَ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ. (2)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا أَكَل فِي الصَّلاَةِ نَاسِيًا بَطَلَتْ صَلاَتُهُ، وَإِنْ قَل. (3)
وَفَرَّقَ الشَّافِعِيَّةُ بَيْنَ الْقَلِيل وَالْكَثِيرِ، فَإِنْ كَانَ نَاسِيًا فَلاَ تَبْطُل صَلاَتُهُ إِذَا كَانَ قَلِيلاً. (4)
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي: (صَلاَةٍ) (وَنِسْيَانٍ) .
سَهْوُ الإِْمَامِ:
5 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا أَخْبَرَهُ عَدْلاَنِ بِعَدَمِ الإِْتْمَامِ لاَ يُعْتَبَرُ شَكُّهُ، وَعَلَيْهِ الأَْخْذُ بِقَوْلِهِمْ. أَمَّا إِذَا أَخْبَرَهُ عَدْلٌ فِي صَلاَةٍ رُبَاعِيَّةٍ مَثَلاً أَنَّهُ مَا صَلَّى أَرْبَعًا، وَشَكَّ فِي صِدْقِهِ وَكَذِبِهِ أَعَادَ احْتِيَاطًا. أَمَّا
__________
(1) المغني 2 / 62، وحاشية الدسوقي 1 / 289.
(2) حديث: " إن الله وضع عن أمتي الخطأ. . . " أخرجه الحاكم (2 / 198 - ط دائرة المعارف العثمانية) . وحسنه النووي كما في المقاصد الحسنة للسخاوي (ص 230 - نشر دار الكتب العلمية) .
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 418.
(4) روضة الطالبين 1 / 296.(11/136)
إِذَا كَذَّبَهُ، فَلاَ يُعِيدُ. وَإِنِ اخْتَلَفَ الإِْمَامُ وَالْقَوْمُ فَإِنْ كَانَ عَلَى يَقِينٍ لَمْ يُعِدْ، وَإِلاَّ أَعَادَ بِقَوْلِهِمْ. (1)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا أَخْبَرَتْهُ جَمَاعَةٌ مُسْتَفِيضَةٌ، يُفِيدُ خَبَرُهُمُ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ بِتَمَامِ صَلاَتِهِ أَوْ نَقْصِهَا، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الرُّجُوعُ لِخَبَرِهِمْ، سَوَاءٌ كَانُوا مِنْ مَأْمُومِيهِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَإِنْ تَيَقَّنَ كَذِبَهُمْ. وَإِنْ أَخْبَرَهُ عَدْلاَنِ فَأَكْثَرُ فَإِنَّهُ يَعْمَل بِالْخَبَرِ إِنْ لَمْ يَتَيَقَّنْ خِلاَفَ ذَلِكَ، وَكَانَا مِنْ مَأْمُومِيهِ. فَإِنْ لَمْ يَكُونَا مِنْ مَأْمُومِيهِ فَلاَ يَرْجِعُ لِخَبَرِهِمَا، بَل يَعْمَل عَلَى يَقِينِهِ.
أَمَّا الْمُنْفَرِدُ وَالْمَأْمُومُ فَلاَ يَرْجِعَانِ لِخَبَرِ الْعَدْلَيْنِ، وَإِنْ أَخْبَرَ الإِْمَامَ وَاحِدٌ، فَإِنْ أَخْبَرَ بِالتَّمَامِ فَلاَ يَرْجِعُ لِخَبَرِهِ، بَل يَبْنِي عَلَى يَقِينِ نَفْسِهِ، أَمَّا إِذَا أَخْبَرَهُ بِالنَّقْصِ (2) رَجَعَ لِخَبَرِهِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ الإِْمَامَ إِذَا شَكَّ هَل صَلَّى ثَلاَثًا أَوْ أَرْبَعًا؟ أَخَذَ بِالأَْقَل، وَلاَ يُعْمَل بِتَذْكِيرِ غَيْرِهِ، وَلَوْ كَانُوا جَمْعًا غَفِيرًا كَانُوا يَرْقُبُونَ صَلاَتَهُ. وَلاَ فَرْقَ عِنْدَهُمْ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ التَّذْكِيرُ مِنَ الْمَأْمُومِينَ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ. (3)
وَاسْتَدَلُّوا بِخَبَرِ: إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلاَتِهِ
__________
(1) حاشية الطحاوي 1 / 317، وحاشية ابن عابدين 1 / 507.
(2) المدونة الكبرى 2 / 133، وحاشية الدسوقي 1 / 283.
(3) روضة الطالبين 1 / 308، وحاشية الجمل 1 / 454 - 455.(11/136)
فَلَمْ يَدْرِ أَصَلَّى ثَلاَثًا أَمْ أَرْبَعًا؟ فَلْيَطْرَحِ الشَّكَّ، وَلْيَبْنِ عَلَى مَا اسْتَيْقَنَ. (1)
وَقَدْ أَجَابُوا عَنِ الْمُرَاجَعَةِ بَيْنَ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ، وَعَوْدِهِ لِلصَّلاَةِ فِي خَبَرِ ذِي الْيَدَيْنِ، بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ بَابِ الرُّجُوعِ إِلَى قَوْل الْغَيْرِ، وَإِنَّمَا هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى تَذَكُّرِهِ بَعْدَ مُرَاجَعَتِهِ لَهُمْ، أَوْ لأَِنَّهُمْ بَلَغُوا حَدَّ التَّوَاتُرِ الَّذِي يُفِيدُ الْيَقِينَ، أَيِ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ، فَرَجَعَ إِلَيْهِمْ. (2)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ: إِذَا سَبَّحَ اثْنَانِ يَثِقُ بِقَوْلِهِمَا لِتَذْكِيرِهِ، لَزِمَهُ الْقَبُول وَالرُّجُوعُ لِخَبَرِهِمَا، سَوَاءٌ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ صَوَابُهُمَا أَوْ خِلاَفُهُ. وَقَالُوا: إِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رَجَعَ إِلَى قَوْل أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي حَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ لَمَّا سَأَلَهُمَا: " أَحَقٌّ مَا قَال ذُو الْيَدَيْنِ؟ فَقَالاَ: نَعَمْ " (3) مَعَ أَنَّهُ كَانَ شَاكًّا فِيمَا قَالَهُ ذُو الْيَدَيْنِ بِدَلِيل أَنَّهُ أَنْكَرَهُ، وَسَأَلَهُمَا عَنْ صِحَّةِ قَوْلِهِ، وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِالتَّسْبِيحِ لِيُذَكِّرُوا الإِْمَامَ، وَيَعْمَل بِقَوْلِهِمْ. (4) وَلِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَلَّى فَزَادَ أَوْ نَقَصَ. . . الْحَدِيثَ، وَفِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ،
__________
(1) حديث: " إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى. . . " أخرجه مسلم (1 / 400 - ط عيسى الحلبي) .
(2) المصادر السابقة.
(3) حديث: " ذي اليدين " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 99 ط السلفية) ومسلم (1 / 404 - ط عيسى الحلبي) .
(4) حديث: " التسبيح للرجال والتصفيق للنساء " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 77 - ط السلفية) .(11/137)
فَإِذَا نَسِيتُ فَذَكِّرُونِي. (1) وَإِنْ سَبَّحَ وَاحِدٌ لِتَذْكِيرِهِ لَمْ يَرْجِعْ إِلَى قَوْلِهِ، إِلاَّ أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ صِدْقُهُ، فَيَعْمَل بِغَالِبِ ظَنِّهِ، لاَ بِتَسْبِيحِ الْغَيْرِ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقْبَل قَوْل ذِي الْيَدَيْنِ وَحْدَهُ. وَإِنْ ذَكَّرَهُ فَسَقَةٌ بِالتَّسْبِيحِ لَمْ يَرْجِعْ إِلَى قَوْلِهِمْ؛ لأَِنَّ قَوْلَهُمْ غَيْرُ مَقْبُولٍ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ (2) .
تَذَكُّرُ الصَّائِمِ لِصَوْمِهِ وَهُوَ يَأْكُل:
6 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ مَنْ أَكَل أَوْ شَرِبَ وَهُوَ صَائِمٌ، ثُمَّ تَذَكَّرَ وَأَمْسَكَ لَمْ يُفْطِرْ؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ أَكَل نَاسِيًا وَهُوَ صَائِمٌ، فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: مَنْ أَكَل أَوْ شَرِبَ نَاسِيًا فَلاَ يُفْطِرُ، فَإِنَّمَا هُوَ رِزْقٌ رَزَقَهُ اللَّهُ (3) .
وَقَال عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لاَ شَيْءَ عَلَى مَنْ أَكَل نَاسِيًا وَهُوَ صَائِمٌ.
وَلأَِنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ ذَاتُ تَحْرِيمٍ وَتَحْلِيلٍ، فَكَانَ مِنْ مَحْظُورَاتِهِ مَا يُخَالِفُ عَمْدُهُ سَهْوَهُ كَالصَّلاَةِ، وَهُوَ قَوْل أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عُمَرَ، وَطَاوُوسٍ وَالأَْوْزَاعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَإِسْحَاقَ.
__________
(1) حديث: " إنما أنا بشر أنسى كما تنسون. . . " أخرجه مسلم (1 / 400 - ط عيسى الحلبي) .
(2) المغني لابن قدامة 2 / 20.
(3) حديث: " من أكل ناسيا وهو صائم فليتم صومه. . . " أخرجه البخاري (الفتح 11 / 549 - ط السلفية) . وفي رواية: " من أكل أو شرب ناسيا. . . " أخرجه الترمذي (3 / 100 - ط عيسى الحلبي) .(11/137)
وَقَال بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الأَْكْل أَوِ الشُّرْبُ قَلِيلاً، فَإِنْ كَانَ كَثِيرًا أَفْطَرَ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنْ أَكَل أَوْ شَرِبَ نَاسِيًا فَقَدْ أَفْطَرَ (1) ، وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (صَوْمٌ) .
تَذَكُّرُ الْقَاضِي لِحُكْمٍ قَضَاهُ:
7 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْقَاضِيَ إِذَا رَأَى خَطَأً فِي حُكْمِهِ، لَمْ يَعْتَمِدْ عَلَيْهِ فِي إِمْضَاءِ الْحُكْمِ حَتَّى يَتَذَكَّرَ؛ لأَِنَّهُ حُكْمُ حَاكِمٍ لَمْ يَعْلَمْهُ، وَلأَِنَّهُ يَجُوزُ فِيهِ التَّزْوِيرُ عَلَيْهِ وَعَلَى خَتْمِهِ، فَلَمْ يَجُزْ إِنْفَاذُهُ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ كَحُكْمِ غَيْرِهِ. وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الإِْمَامُ: أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ فِي إِحْدَى رِوَايَتَيْنِ عَنْهُ. (2)
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ: إِذَا كَانَ الْحُكْمُ عِنْدَهُ، وَتَحْتَ يَدِهِ جَازَ الاِعْتِمَادُ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لاَ يَحْتَمِل التَّغْيِيرَ فِيهِ، وَأَجَازَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْعَمَل بِالْخَطِّ إِذَا عَرَفَ أَنَّهُ
__________
(1) رد المحتار على الدر المختار 2 / 394 وما بعدها ط مصطفى البابي الحلبي، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 514، ونهاية المحتاج 3 / 169، والمغني 3 / 116.
(2) قليوبي 4 / 304، وروضة الطالبين 11 / 157، وحاشية ابن عابدين 4 / 375، والمغني لابن قدامة 9 / 76.(11/138)
خَطُّهُ، وَلَوْ لَمْ يَتَذَكَّرِ الْحَادِثَةَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْخَطُّ بِيَدِهِ؛ لأَِنَّ الْغَلَطَ نَادِرٌ فِي مِثْل ذَلِكَ، وَأَثَرُ التَّغْيِيرِ يُمْكِنُ الاِطِّلاَعُ عَلَيْهِ، وَقَلَّمَا يَتَشَابَهُ الْخَطُّ مِنْ كُل وَجْهٍ، فَإِذَا تَيَقَّنَ أَنَّهُ خَطُّهُ جَازَ الاِعْتِمَادُ عَلَيْهِ، تَوْسِعَةً عَلَى النَّاسِ. (1)
أَمَّا إِذَا شَهِدَ عَدْلاَنِ عِنْدَ الْقَاضِي: بِأَنَّ هَذَا حُكْمُهُ وَلَمْ يَتَذَكَّرْ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْعَمَل بِقَوْلِهِمَا:
فَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَأَحْمَدُ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: يَلْزَمُهُ الْعَمَل بِذَلِكَ وَإِمْضَاءُ الْحُكْمِ. وَقَالُوا: إِنَّهُ لَوْ شَهِدَا عِنْدَهُ بِحُكْمِ غَيْرِهِ قُبِل، فَكَذَلِكَ يُقْبَل إِذَا شَهِدَا عِنْدَهُ بِحُكْمِ نَفْسِهِ. وَلأَِنَّهُمَا شَهِدَا بِحُكْمِ حَاكِمٍ، فَيَجِبُ قَبُول شَهَادَتِهِمَا. (2)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّهُ لاَ يَعْمَل بِقَوْلِهِمَا حَتَّى يَتَذَكَّرَ. (3)
تَذَكُّرُ الشَّاهِدِ الشَّهَادَةَ وَعَدَمُهُ:
8 - إِذَا رَأَى الشَّاهِدُ بِخَطِّهِ شَهَادَةً أَدَّاهَا عِنْدَ حَاكِمٍ، وَلَمْ يَتَذَكَّرِ الْحَادِثَةَ، فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهِيَ إِحْدَى رِوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ: لَمْ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 354 ط إحياء التراث العربي ببيروت.
(2) المغني 9 / 76 - 77، وحاشية الدسوقي 4 / 159.
(3) قليوبي 4 / 304 و 305، وروضة الطالبين 11 / 159.(11/138)
يَشْهَدْ عَلَى مَضْمُونِهَا حَتَّى يَتَذَكَّرَ، وَإِنْ كَانَ الْكِتَابُ مَحْفُوظًا عِنْدَهُ لإِِمْكَانِ التَّزْوِيرِ. (1)
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّهُ إِذَا عَرَفَ خَطَّهُ شَهِدَ بِهِ، وَهُوَ رَأْيُ أَبِي يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ. (2)
تَذَكُّرُ الرَّاوِي لِلْحَدِيثِ وَعَدَمُهُ:
9 - أَمَّا رِوَايَةُ الْحَدِيثِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِلشَّخْصِ أَنْ يَرْوِيَ مَضْمُونَ خَطِّهِ اعْتِمَادًا عَلَى الْخَطِّ الْمَحْفُوظِ عِنْدَهُ، لِعَمَل الْعُلَمَاءِ بِهِ سَلَفًا وَخَلَفًا. وَقَدْ يَتَسَاهَل فِي الرِّوَايَةِ؛ لأَِنَّهَا تُقْبَل مِنَ الْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ، بِخِلاَفِ الشَّهَادَةِ. (3) هَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ،
وَقَال الإِْمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ: لاَ يُعْمَل بِهَا لِمُشَابَهَةِ الْخَطِّ بِالْخَطِّ، وَخَالَفَهُ صَاحِبَاهُ. (4)
تَذْكِيرٌ
انْظُرْ: تَذَكُّرٌ
.
__________
(1) روضة الطالبين 11 / 157، وحاشية الدسوقي 4 / 193.
(2) المغني 9 / 160، وابن عابدين 4 / 375.
(3) روض الطالب 4 / 308، وروضة الطالبين 11 / 157.
(4) ابن عابدين 4 / 375.(11/139)
تَذْكِيَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّذْكِيَةُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ ذَكَّى، وَالاِسْمُ (الذَّكَاةُ) وَمَعْنَاهَا: إِتْمَامُ الشَّيْءِ وَالذَّبْحُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هِيَ السَّبَبُ الْمُوَصِّل لِحِل أَكْل الْحَيَوَانِ الْبَرِّيِّ اخْتِيَارًا. (2)
هَذَا تَعْرِيفُ الْجُمْهُورِ،
وَيُعْرَفُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: بِأَنَّهُ السَّبِيل الشَّرْعِيَّةُ لِبَقَاءِ طَهَارَةِ الْحَيَوَانِ، وَحِل أَكْلِهِ إِنْ كَانَ مَأْكُولاً، وَحِل الاِنْتِفَاعِ بِجِلْدِهِ وَشَعْرِهِ إِنْ كَانَ غَيْرَ مَأْكُولٍ (3) .
__________
(1) المصباح المنير، ولسان العرب مادة: " ذكي " والقرطبي 6 / 52، 53. وحديث " ذكاة الجنين ذكاة أمه ". أخرجه أحمد (3 / 39 - ط الميمنية) وحسنه المنذري كما في نصب الراية للزيلعي (4 / 189 - ط المجلس العلمي) .
(2) الشرح الصغير بهامش بلغة السالك 1 / 312.
(3) حاشية ابن عابدين 5 / 186، 195 - 196 و 305، والاختيار 5 / 9، وجواهر الإكليل 1 / 208، والقليوبي 4 / 342، والمغني لابن قدامة 8 / 573، 275.(11/139)
أَنْوَاعُ التَّذْكِيَةِ:
التَّذْكِيَةُ لَفْظٌ عَامٌّ، يَشْمَل: الذَّبْحَ، وَالنَّحْرَ، وَالْعَقْرَ، وَالصَّيْدَ، وَلِكُلٍّ مَوْطِنُهُ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
أ - الذَّبْحُ:
2 - الذَّبْحُ لُغَةً: الشَّقُّ وَعِنْدَ الْفُقَهَاءِ: قَطْعُ الْحُلْقُومِ مِنْ بَاطِنٍ عَنِ الْمِفْصَل بَيْنَ الْعُنُقِ وَالرَّأْسِ. وَيُسْتَعْمَل فِي ذَكَاةِ الاِخْتِيَارِ، فَهُوَ أَخَصُّ مِنَ التَّذْكِيَةِ، حَيْثُ إِنَّهَا تَشْمَل ذَكَاةَ الاِخْتِيَارِ وَالاِضْطِرَارِ (1) .
ب - النَّحْرُ:
3 - نَحَرَ الْبَعِيرَ: طَعَنَهُ فِي مَنْحَرِهِ حَيْثُ يَبْدَأُ الْحُلْقُومُ مِنْ أَعْلَى الصَّدْرِ، قَال فِي الْمُغْنِي: مَعْنَى النَّحْرِ أَنْ يَضْرِبَ الْبَعِيرَ بِالْحَرْبَةِ أَوْ نَحْوِهَا فِي الْوَهْدَةِ الَّتِي بَيْنَ أَصْل عُنُقِهَا وَصَدْرِهَا. فَهُوَ قَطْعُ الْعُرُوقِ فِي أَسْفَل الْعُنُقِ عِنْدَ الصَّدْرِ، وَبِهَذَا يَفْتَرِقُ عَنِ الذَّبْحِ؛ لأَِنَّ الْقَطْعَ فِي أَعْلَى الْعُنُقِ.
وَالنَّحْرُ نَوْعٌ آخَرُ مِنْ أَنْوَاعِ التَّذْكِيَةِ الاِخْتِيَارِيَّةِ (2) .
__________
(1) الكليات لأبي البقاء، وابن عابدين 1 / 186، والمراجع السابقة.
(2) المغني 8 / 576، وابن عابدين 5 / 192، وجواهر الإكليل 1 / 208، والقليوبي 2 / 240.(11/140)
ج - الْعَقْرُ:
4 - الْعَقْرُ: هُوَ الْجُرْحُ. وَيَسْتَعْمِلُهُ الْفُقَهَاءُ فِي: تَذْكِيَةِ حَيَوَانٍ غَيْرِ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ بِالطَّعْنِ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ وَقَعَ مِنَ الْبَدَنِ. وَبِهَذَا يَخْتَلِفُ عَنِ الذَّبْحِ وَالنَّحْرِ؛ لأَِنَّهُمَا تَذْكِيَةٌ اخْتِيَارًا، وَالْعَقْرُ تَذْكِيَةٌ ضَرُورَةً (1) .
د - الصَّيْدُ:
5 - الصَّيْدُ: هُوَ إِزْهَاقُ رُوحِ الْحَيَوَانِ الْبَرِّيِّ الْمُتَوَحِّشِ، بِإِرْسَال نَحْوِ سَهْمٍ أَوْ كَلْبٍ أَوْ صَقْرٍ (2) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
6 - التَّذْكِيَةُ سَبَبٌ لإِِبَاحَةِ أَكْل لَحْمِ الْحَيَوَانِ غَيْرِ الْمُحَرَّمِ وَاَلَّذِي مِنْ شَأْنِهِ الذَّبْحُ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ بِالذَّبْحِ أَمِ النَّحْرِ أَمِ الْعَقْرِ.
أَمَّا مَا لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ الذَّبْحُ كَالسَّمَكِ وَالْجَرَادِ فَيَحِلاَّنِ بِلاَ ذَكَاةٍ (3) .
وَيُشْتَرَطُ فِي الْمُذَكِّي عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا أَوْ كِتَابِيًّا، كَمَا يُشْتَرَطُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ:
__________
(1) ابن عابدين 5 / 192، وجواهر الإكليل 1 / 210، والقليوبي 4 / 240.
(2) البدائع 5 / 43، ونهاية المحتاج 8 / 108، والمقنع 3 / 538، والمغني مع الشرح الكبير 11 / 34.
(3) ابن عابدين 5 / 186، وجواهر الإكليل 1 / 208، وقليوبي 4 / 241.(11/140)
الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ) : أَنْ يَكُونَ الْمُذَكِّي مُمَيِّزًا؛ لِيَعْقِل التَّسْمِيَةَ وَالذَّبْحَ. وَفِي الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لاَ يُشْتَرَطُ التَّمْيِيزُ (1) .
7 - وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) عَلَى أَنَّهُ تُشْتَرَطُ التَّسْمِيَةُ وَقْتَ التَّذْكِيَةِ إِلاَّ إِذَا نَسِيَهَا (2) . وَقَال الشَّافِعِيَّةُ بِاسْتِحْبَابِ التَّسْمِيَةِ وَقْتَ التَّذْكِيَةِ (3) .
وَيَحِل الذَّبْحُ بِكُل مُحَدَّدٍ يَجْرَحُ، كَحَدِيدٍ وَنُحَاسٍ وَذَهَبٍ وَخَشَبٍ وَحَجَرٍ وَزُجَاجٍ، وَلاَ يَجُوزُ بِالسِّنِّ وَالظُّفْرِ الْقَائِمَيْنِ اتِّفَاقًا. (4) أَمَّا إِذَا كَانَا مُنْفَصِلَيْنِ فَفِيهِ خِلاَفٌ، وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (ذَبَائِحٌ) .
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
8 - ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَحْكَامَ التَّذْكِيَةِ فِي أَبْوَابِ الصَّيْدِ وَالذَّبَائِحِ وَالأُْضْحِيَّةِ، وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ أَحْكَامَهَا فِي بَابِ الذَّكَاةِ.
__________
(1) ابن عابدين 5 / 188، وجواهر الإكليل 1 / 208، والقليوبي 4 / 240، والمغني 8 / 573، 581.
(2) ابن عابدين 5 / 190، وجواهر الإكليل 1 / 212، والمغني 8 / 581.
(3) القليوبي 4 / 243.
(4) ابن عابدين 5 / 187، وجواهر الإكليل 1 / 213، والقليوبي 4 / 243، والمغني 8 / 574.(11/141)
تُرَابٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التُّرَابُ: مَا نَعُمَ مِنْ أَدِيمِ الأَْرْضِ. بِهَذَا عَرَّفَهُ الْمُعْجَمُ الْوَسِيطُ، وَهُوَ اسْمُ جِنْسٍ، وَقَال الْمُبَرِّدُ: هُوَ جَمْعٌ وَاحِدُهُ تُرَابَةٌ، وَجَمْعُهُ أَتْرِبَةٌ وَتِرْبَانٌ، وَتُرْبَةُ الأَْرْضِ: ظَاهِرُهَا.
وَأَتْرَبْتُ الشَّيْءَ: وَضَعْتُ عَلَيْهِ التُّرَابَ، وَتَرَّبْتُهُ تَتْرِيبًا فَتَتَرَّبَ: أَيْ تَلَطَّخَ بِالتُّرَابِ. وَيُقَال: تَرِبَ الرَّجُل: إِذَا افْتَقَرَ، كَأَنَّهُ لَصِقَ بِالتُّرَابِ، وَفِي الْحَدِيثِ: فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ (1) وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ الدُّعَاءَ، بَل الْحَثُّ وَالتَّحْرِيضُ. وَيُقَال: أَتْرَبَ الرَّجُل: أَيِ اسْتَغْنَى، كَأَنَّهُ صَارَ لَهُ مِنَ الْمَال بِقَدْرِ التُّرَابِ (2) .
وَفِي الْمُصْطَلَحَاتِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْفَنِّيَّةِ: أَنَّهُ جُزْءُ
__________
(1) حديث: " فاظفر بذات الدين. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 9 / 132 - ط السلفية) ومسلم (2 / 1086 ط الحلبي) .
(2) لسان العرب، والصحاح، والمصباح المنير، مادة: " ترب ".(11/141)
الأَْرْضِ السَّطْحِيِّ الْمُتَجَانِسِ التَّرْكِيبِ، أَوِ الَّذِي تَتَنَاوَلُهُ آلاَتُ الْحِرَاثَةِ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ. وَيُفْهَمُ مِنْ كَلاَمِ الْفُقَهَاءِ فِي بَابِ التَّيَمُّمِ أَنَّ الرَّمْل وَنُحَاتَةَ الصَّخْرِ لَيْسَا مِنَ التُّرَابِ، وَإِنْ أُعْطِيَا حُكْمَهُ فِي بَعْضِ الْمَذَاهِبِ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الصَّعِيدُ:
2 - الصَّعِيدُ: وَجْهُ الأَْرْضِ تُرَابًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ، قَال الزَّجَّاجُ: وَلاَ أَعْلَمُ اخْتِلاَفًا بَيْنَ أَهْل اللُّغَةِ فِي ذَلِكَ. (3)
وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الصَّعِيدُ أَعَمَّ مِنَ التُّرَابِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
أ - فِي التَّيَمُّمِ:
3 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ التَّيَمُّمَ يَصِحُّ بِكُل تُرَابٍ طَاهِرٍ فِيهِ غُبَارٌ يَعْلَقُ بِالْيَدِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} (4) وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي: كَانَ كُل نَبِيٍّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ
__________
(1) المصطلحات العلمية ملحق لسان العرب ط بيروت مادة: " ترب ".
(2) حاشية قليوبي 1 / 86.
(3) المصباح المنير، والمغرب، مادة: " صعد ".
(4) سورة المائدة / 6.(11/142)
خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إِلَى كُل أَحْمَرَ وَأَسْوَدَ، وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ وَلَمْ تَحِل لأَِحَدٍ قَبْلِي، وَجُعِلَتْ لِيَ الأَْرْضُ طَيِّبَةً طَهُورًا وَمَسْجِدًا، فَأَيُّمَا رَجُلٍ أَدْرَكَتْهُ الصَّلاَةُ صَلَّى حَيْثُ كَانَ، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ بَيْنَ يَدَيَّ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ (1) .
وَاخْتَلَفُوا فِي صِحَّةِ التَّيَمُّمِ بِمَا عَدَا التُّرَابَ، كَالنُّورَةِ وَالْحِجَارَةِ وَالرَّمْل وَالْحَصَى وَالطِّينِ الرَّطْبِ وَالْحَائِطِ الْمُجَصَّصِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مِنْ جِنْسِ الأَْرْضِ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى صِحَّةِ التَّيَمُّمِ بِهَذِهِ الأَْشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ.
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ التَّيَمُّمَ لاَ يَصِحُّ إِلاَّ بِالتُّرَابِ الطَّاهِرِ ذِي الْغُبَارِ الْعَالِقِ. وَكَذَا يَصِحُّ بِرَمْلٍ فِيهِ غُبَارٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَفِي قَوْل الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ (2) .
وَالتَّفَاصِيل يُرْجَعُ إِلَيْهَا فِي مُصْطَلَحِ (تَيَمُّمٌ) .
ب - فِي إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ:
4 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مَا نَجَسَ بِمُلاَقَاةِ شَيْءٍ، مِنْ كَلْبٍ أَوْ خِنْزِيرٍ أَوْ مَا تَوَلَّدَ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا، يُغْسَل سَبْعَ مَرَّاتٍ: إِحْدَاهُنَّ
__________
(1) حديث: " أعطيت خمسا. . . " أخرجه مسلم (1 / 371 - ط الحلبي) .
(2) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع 1 / 53، والدر المختار 1 / 160، والقوانين الفقهية ص 30، والشرح الكبير للدردير 1 / 156، ومغني المحتاج 1 / 96، والمغني لابن قدامة 1 / 247، والفروع 1 / 223.(11/142)
بِالتُّرَابِ. سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ لُعَابَهُ أَوْ بَوْلَهُ أَوْ سَائِرَ رُطُوبَاتِهِ أَوْ أَجْزَاءَهُ الْجَافَّةَ إِذَا لاَقَتْ رَطْبًا؛ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: طَهُورُ إِنَاءِ أَحَدِكُمْ إِذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ أَنْ يَغْسِلَهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ، أُولاَهُنَّ بِالتُّرَابِ وَفِي رِوَايَةٍ: أُخْرَاهُنَّ بِالتُّرَابِ وَفِي أُخْرَى وَعَفِّرُوهُ الثَّامِنَةَ بِالتُّرَابِ (1) وَأُلْحِقَ الْخِنْزِيرُ بِالْكَلْبِ لأَِنَّهُ أَسْوَأُ حَالاً. (2) وَلِهَذَا قَال اللَّهُ تَعَالَى فِي حَقِّهِ: {أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} (3)
وَرُوِيَ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ رِوَايَةً أُخْرَى بِوُجُوبِ غَسْل نَجَاسَةِ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ ثَمَانِيَ مَرَّاتٍ إِحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْحَدِيثِ: وَعَفِّرُوهُ الثَّامِنَةَ بِالتُّرَابِ (4) وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَعُمَّ التُّرَابُ الْمَحَل، وَأَنْ يَكُونَ طَاهِرًا، وَأَنْ يَكُونَ قَدْرًا يُكَدِّرُ الْمَاءَ، وَيَكْتَفِي بِوُجُودِ التُّرَابِ فِي وَاحِدَةٍ مِنَ الْغَسَلاَتِ السَّبْعِ، وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ فِي غَيْرِ الأَْخِيرَةِ، وَجَعْلُهُ فِي الأُْولَى أَوْلَى. (5)
__________
(1) حديث: " طهور إناء أحدكم. . . " أخرجه مسلم (1 / 234 - 235 - ط الحلبي) .
(2) مغني المحتاج 1 / 83، والمغني لابن قدامة 1 / 52، وسبل السلام 1 / 25.
(3) سورة الأنعام / 145.
(4) المغني لابن قدامة 1 / 52.
(5) مغني المحتاج 1 / 83، والمغني لابن قدامة 1 / 52 وما بعدها، والجمل على شرح المنهاج 1 / 184 وما بعدها.(11/143)
وَالأَْظْهَرُ تَعَيُّنُ التُّرَابِ جَمْعًا بَيْنَ نَوْعَيِ الطَّهُورِ. فَلاَ يَكْفِي غَيْرَهُ، كَأُشْنَانٍ وَصَابُونٍ. وَمُقَابِلُهُ أَنَّهُ لاَ يَتَعَيَّنُ التُّرَابُ. وَيَقُومُ مَا ذُكِرَ وَنَحْوُهُ مَقَامَهُ. وَهُنَاكَ رَأْيٌ ثَالِثٌ: بِأَنَّهُ يَقُومُ مَقَامَ التُّرَابِ عِنْدَ فَقْدِهِ لِلضَّرُورَةِ، وَلاَ يَقُومُ عِنْدَ وُجُودِهِ. وَفِي قَوْلٍ رَابِعٍ: أَنَّهُ يَقُومُ مَقَامَهُ فِيمَا يُفْسِدُهُ التُّرَابُ، كَالثِّيَابِ دُونَ مَا لاَ يُفْسِدُهُ. (1)
وَيَرَى بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ الْخِنْزِيرَ لَيْسَ كَالْكَلْبِ، بَل يَكْفِي لإِِزَالَةِ نَجَاسَتِهِ غَسْلَةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ دُونِ تُرَابٍ، كَغَيْرِهِ مِنَ النَّجَاسَاتِ الأُْخْرَى؛ لأَِنَّ الْوَارِدَ فِي التَّتْرِيبِ إِنَّمَا هُوَ فِي الْكَلْبِ فَقَطْ. (2)
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ: فَيَرَوْنَ الاِكْتِفَاءَ بِغَسْل مَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِيهِ مِنَ الأَْوَانِي مِنْ غَيْرِ تَتْرِيبٍ، وَحُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ أَنَّ رِوَايَاتِ التَّتْرِيبِ فِي الْحَدِيثِ مُضْطَرِبَةٌ حَيْثُ وَرَدَتْ بِلَفْظِ: إِحْدَاهُنَّ، فِي رِوَايَةٍ، وَفِي أُخْرَى بِلَفْظِ: أُولاَهُنَّ، وَفِي ثَالِثَةٍ بِلَفْظِ: أُخْرَاهُنَّ، وَفِي رَابِعَةٍ: السَّابِعَةُ بِالتُّرَابِ، وَفِي خَامِسَةٍ وَعَفِّرُوهُ الثَّامِنَةَ بِالتُّرَابِ، وَالاِضْطِرَابُ قَادِحٌ فَيَجِبُ طَرْحُهَا. ثُمَّ إِنَّ ذِكْرَ التُّرَابِ لَمْ يَثْبُتْ فِي كُل الرِّوَايَاتِ. (3)
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 83، والمغني لابن قدامة 1 / 53.
(2) مغني المحتاج 1 / 84، والمغني لابن قدامة 1 / 55.
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 139، والبدائع 1 / 87، ومواهب الجليل 1 / 179، وجواهر الإكليل 1 / 14، وسبل السلام 1 / 25، والمغني لابن قدامة 1 / 53.(11/143)
وَالتَّفَاصِيل يُرْجَعُ إِلَيْهَا فِي مُصْطَلَحِ: (نَجَاسَةٌ، وَطَهَارَةٌ، وَصَيْدٌ، وَكَلْبٌ) .
5 - وَيَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ أَنَّ الْخُفَّ وَالنَّعْل إِذَا أَصَابَتْهُمَا نَجَاسَةٌ لَهَا جِرْمٌ كَالرَّوْثِ فَمَسْحُهُمَا بِالتُّرَابِ يُطَهِّرُهُمَا. (1) وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِمَا رَوَاهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى يَوْمًا، فَخَلَعَ نَعْلَيْهِ فِي الصَّلاَةِ، فَخَلَعَ الْقَوْمُ نِعَالَهُمْ، فَلَمَّا فَرَغَ سَأَلَهُمْ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالُوا: رَأَيْنَاكَ خَلَعْتَ نَعْلَيْكَ، فَقَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: أَتَانِي جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَخْبَرَنِي أَنَّ بِهِمَا أَذًى فَخَلَعْتُهُمَا، ثُمَّ قَال: إِذَا أَتَى أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ فَلْيُقَلِّبْ نَعْلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ بِهِمَا أَذًى فَلْيَمْسَحْهُمَا بِالأَْرْضِ، فَإِنَّ الأَْرْضَ لَهُمَا طَهُورٌ (2)
وَأَمَّا مَا لاَ جِرْمَ لَهُ مِنَ النَّجَاسَةِ كَالْبَوْل فَفِيهِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (نَجَاسَةٌ) (وَقَضَاءُ الْحَاجَةِ) .
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ،
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 84، وحاشية ابن عابدين 1 / 206، والإنصاف 1 / 323، وجواهر الإكليل 1 / 12.
(2) حديث أبي سعيد " صلى يوما فخلع نعليه. . . " أخرجه أبو داود (1 / 426 - ط عزت عبيد دعاس) ، والحاكم (1 / 260 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه ووافقه الذهبي.(11/144)
فَيَرَوْنَ أَنَّ التُّرَابَ لاَ يُطَهِّرُ الْخُفَّ أَوِ النَّعْل، وَأَنَّهُ يَجِبُ غَسْلُهُمَا إِذَا أُرِيدَ تَطْهِيرَهُمَا (1) .
ج - فِي الصَّوْمِ:
6 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ أَكْل التُّرَابِ وَالْحَصَاةِ وَنَحْوَهُمَا عَمْدًا يُبْطِل الصَّوْمَ، وَكَذَلِكَ إِذَا وَصَل إِلَى الْجَوْفِ عَنْ طَرِيقِ الأَْنْفِ أَوِ الأُْذُنِ أَوْ نَحْوِهِمَا عَمْدًا؛ لأَِنَّ الصَّوْمَ هُوَ الإِْمْسَاكُ عَنْ كُل مَا يَصِل إِلَى الْجَوْفِ، وَفِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مَبْحَثِ (كَفَّارَةٌ) .
أَمَّا الْغُبَارُ الَّذِي يَصِل إِلَى الْجَوْفِ عَنْ طَرِيقِ الأَْنْفِ أَوْ نَحْوِهِ بِصُورَةٍ غَيْرِ مَقْصُودَةٍ فَلاَ يُفْطِرُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ لِمَشَقَّةِ الاِحْتِرَازِ عَنْهُ. (2)
وَيَرَى بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ الصَّائِمَ لَوْ فَتَحَ فَاهُ عَمْدًا حَتَّى دَخَل التُّرَابُ جَوْفَهُ لَمْ يُفْطِرْ لأَِنَّهُ مَعْفُوٌّ عَنْ جِنْسِهِ (3) . وَالتَّفَاصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (صَوْمٌ) .
د - فِي الْبَيْعِ:
7 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ
__________
(1) الإنصاف 1 / 323، ومغني المحتاج 1 / 17.
(2) بدائع الصنائع 2 / 93، وحاشية ابن عابدين 2 / 108، وكشف المخدرات ص 159، وجواهر الإكليل 1 / 142، والمغني لابن قدامة 3 / 115.
(3) مغني المحتاج 1 / 429.(11/144)
وَهُوَ الأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - أَنَّ بَيْعَ التُّرَابِ مِمَّنْ حَازَهُ جَائِزٌ لِظُهُورِ الْمَنْفَعَةِ فِيهِ. (1)
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ مُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ بَيْعُ التُّرَابِ لأَِنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ وَلاَ مَرْغُوبٍ فِيهِ؛ وَلأَِنَّهُ يُمْكِنُ تَحْصِيل مِثْلِهِ بِلاَ تَعَبٍ وَلاَ مُؤْنَةٍ. لَكِنَّ الْحَنَفِيَّةَ قَيَّدُوهُ بِأَنْ لاَ يَعْرِضَ لَهُ مَا يَصِيرُ بِهِ مَالاً مُعْتَبَرًا كَالنَّقْل وَالْخَلْطِ بِغَيْرِهِ. (2) وَالتَّفَاصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (بَيْعٌ) .
هـ - فِي الأَْكْل:
8 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى حُرْمَةِ أَكْل التُّرَابِ لِمَنْ يَضُرُّهُ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ.
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ كَرَاهَةَ أَكْلِهِ. (3)
وَالتَّفَاصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (أَطْعِمَةٌ) .
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 12، ومواهب الجليل لشرح مختصر خليل 4 / 265، والإنصاف 4 / 270.
(2) حاشية ابن عابدين 4 / 4، 101.
(3) الفتاوى الهندية 5 / 340، 341، ومواهب الجليل (4 / 265) ونهاية المحتاج 8 / 148، والمغني لابن قدامة 8 / 611 ط الرياض(11/145)
تُرَابُ الصَّاغَةِ
التَّعْرِيفُ:
1 - تُرَابُ الصَّاغَةِ: مُرَكَّبٌ إِضَافِيٌّ يَتَكَوَّنُ مِنْ كَلِمَتَيْنِ، وَهُمَا، تُرَابٌ: وَالصَّاغَةُ.
أَمَّا التُّرَابُ: فَهُوَ اسْمُ جِنْسٍ، وَيُجْمَعُ عَلَى أَتْرِبَةٍ وَتِرْبَانٍ، وَتُرْبَةُ الأَْرْضِ ظَاهِرُهَا. (1)
وَأَمَّا الصَّاغَةُ: فَهِيَ جَمْعُ صَائِغٍ، وَهُوَ الَّذِي حِرْفَتُهُ الصِّيَاغَةُ، وَهِيَ جَعْل الذَّهَبِ حُلِيًّا. يُقَال: صَاغَ الذَّهَبَ: إِذَا جَعَلَهُ حُلِيًّا، وَصَاغَ اللَّهُ فُلاَنًا صِيغَةً حَسَنَةً: خَلَقَهُ. وَصَاغَ الشَّيْءَ: هَيَّأَهُ عَلَى مِثَالٍ مُسْتَقِيمٍ. وَتُرَابُ الصَّاغَةِ - كَمَا عَرَفَهُ الْمَالِكِيَّةُ - هُوَ الرَّمَادُ (الَّذِي يُوجَدُ فِي حَوَانِيتِهِمْ) وَلاَ يُدْرَى مَا فِيهِ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التِّبْرُ:
2 - مِنْ مَعَانِي التِّبْرِ فِي اللُّغَةِ: مَا كَانَ مِنَ الذَّهَبِ
__________
(1) الصحاح، والقاموس، واللسان، والمصباح، مادة: " ترب " وحاشية قليوبي 1 / 86 ط الحلبي.
(2) المدونة 4 / 20 ط دار صادر، والشرح الكبير 3 / 16 ط الفكر.(11/145)
غَيْرَ مَضْرُوبٍ، فَإِذَا ضُرِبَ دَنَانِيرَ فَهُوَ عَيْنٌ. وَلاَ يُقَال تِبْرٌ إِلاَّ لِلذَّهَبِ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُهُ لِلْفِضَّةِ أَيْضًا، وَقَدْ يُطْلَقُ التِّبْرُ عَلَى غَيْرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ مِنَ الْمَعْدِنِيَّاتِ (1) .
وَفِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ، عَرَّفَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ: الذَّهَبُ غَيْرُ الْمَضْرُوبِ (2) .
وَعَرَّفَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ: اسْمٌ لِلذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ قَبْل ضَرْبِهِمَا، أَوْ لِلذَّهَبِ فَقَطْ، وَالْمُرَادُ الأَْعَمُّ (3) .
ب - تُرَابُ الْمَعَادِنِ:
3 - أَمَّا التُّرَابُ فَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ مَعْنَاهُ، وَأَمَّا الْمَعَادِنُ فَهِيَ: جَمْعُ مَعْدِنٍ بِكَسْرِ الدَّال، وَالْمَعْدِنُ - كَمَا قَال اللَّيْثُ: مَكَانُ كُل شَيْءٍ يَكُونُ فِيهِ أَصْلُهُ وَمَبْدَؤُهُ كَمَعْدِنِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ (4)
وَأَمَّا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، فَهُوَ كَمَا عَرَّفَهُ الزَّيْلَعِيُّ: اسْمٌ لِمَا يَكُونُ فِي الأَْرْضِ خِلْقَةً، بِخِلاَفِ الرِّكَازِ وَالْكَنْزِ؛ إِذِ الْكَنْزُ اسْمٌ لِمَدْفُونِ الْعِبَادِ، وَالرِّكَازُ اسْمٌ لِمَا يَكُونُ فِي الأَْرْضِ خِلْقَةً، أَوْ بِدَفْنِ الْعِبَادِ. (5)
وَقَال الرَّمْلِيُّ الشَّافِعِيُّ: إِنَّ الْمَعْدِنَ لَهُ
__________
(1) الصحاح، واللسان، مادة: " تبر "، وابن عابدين 2 / 44.
(2) جواهر الإكليل 2 / 171 ط دار المعرفة.
(3) حاشية قليوبي 3 / 52 ط الحلبي.
(4) الصحاح، والقاموس، واللسان، والمصباح، مادة: " عدن ".
(5) تبيين الحقائق 1 / 287 - 288 ط دار المعرفة.(11/146)
إِطْلاَقَانِ: أَحَدُهُمَا عَلَى الْمُسْتَخْرَجِ، وَالآْخَرُ عَلَى الْمُخْرَجِ مِنْهُ (1) .
هَذَا، وَالْفَرْقُ بَيْنَ تُرَابِ الْمَعْدِنِ وَتُرَابِ الصَّاغَةِ - كَمَا يُفْهَمُ مِنْ كَلاَمِ الْمَالِكِيَّةِ - أَنَّ تُرَابَ الْمَعْدِنِ: هُوَ مَا يَتَسَاقَطُ مِنْ جَوْهَرِ الْمَعْدِنِ نَفْسِهِ، دُونَ اخْتِلاَطٍ بِجَوْهَرٍ آخَرَ.
أَمَّا تُرَابُ الصَّاغَةِ فَهُوَ الْمُتَسَاقِطُ مِنَ الْمَعْدِنِ مُخْتَلِطًا بِالتُّرَابِ أَوِ الرَّمْل أَوْ نَحْوِهِمَا. (2)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
4 - تُرَابُ الصَّاغَةِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَا فِيهِ مِنَ الذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ مَجْهُولاً أَوْ مَعْلُومًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ جِنْسٍ، وَإِمَّا أَنْ يُصَفَّى وَيُمَيَّزَ مَا فِيهِ مِنَ الذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ أَوْ لاَ.
قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنِ اشْتَرَى تُرَابَ الْفِضَّةِ بِفِضَّةٍ لاَ يَجُوزُ، لأَِنَّهُ إِنْ لَمْ يَظْهَرْ فِي التُّرَابِ شَيْءٌ فَظَاهِرٌ، وَإِنْ ظَهَرَ فَهُوَ بَيْعُ الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ مُجَازَفَةً، وَلِهَذَا لَوِ اشْتَرَاهُ بِتُرَابِ فِضَّةٍ لاَ يَجُوزُ؛ لأَِنَّ الْبَدَلَيْنِ هُمَا الْفِضَّةُ لاَ التُّرَابُ. وَلَوِ اشْتَرَاهُ بِتُرَابِ ذَهَبٍ أَوْ بِذَهَبٍ جَازَ، لِعَدَمِ لُزُومِ الْعِلْمِ بِالْمُمَاثَلَةِ، لاِخْتِلاَفِ الْجِنْسِ، فَلَوْ ظَهَرَ أَنْ لاَ شَيْءَ فِي التُّرَابِ لاَ يَجُوزُ.
__________
(1) نهاية المحتاج 3 / 96 ط المكتبة الإسلامية.
(2) المدونة 4 / 19 - 20 ط دار صادر، وجواهر الإكليل 2 / 7.(11/146)
وَكُل مَا جَازَ فَمُشْتَرِي التُّرَابِ بِالْخِيَارِ إِذَا رَأَى، لأَِنَّهُ اشْتَرَى مَا لَمْ يَرَهُ.
وَهُوَ أَيْضًا قَوْل الْحَنَابِلَةِ فِي تُرَابِ الصَّاغَةِ؛ إِذْ لاَ يَجُوزُ عِنْدَهُمْ بَيْعُهُ بِشَيْءٍ مِنْ جِنْسِهِ؛ لأَِنَّهُ مَال رِبًا بِيعَ بِجِنْسِهِ عَلَى وَجْهٍ لاَ تُعْلَمُ فِيهِ الْمُمَاثَلَةُ.
وَلاَ يَجُوزُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ بَيْعُ تُرَابِ الصَّاغَةِ لِشِدَّةِ الْغَرَرِ فِيهِ، وَإِنْ وَقَعَ فَسْخٌ.
وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَلاَ يَجُوزُ عِنْدَهُمْ بَيْعُ تُرَابِ الصَّاغَةِ قَبْل تَصْفِيَتِهِ وَتَمْيِيزُ الذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ مِنْهُ، سَوَاءٌ أَبَاعَهُ بِذَهَبٍ أَمْ بِفِضَّةٍ أَمْ بِغَيْرِهِمَا؛ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ مَجْهُولٌ أَوْ مَسْتُورٌ بِمَا لاَ مَصْلَحَةَ لَهُ فِيهِ فِي الْعَادَةِ، فَلَمْ يَصِحَّ بَيْعُهُ فِيهِ كَبَيْعِ اللَّحْمِ فِي الْجِلْدِ بَعْدَ الذَّبْحِ وَقَبْل السَّلْخِ. (1)
__________
(1) المبسوط 14 / 44 ط دار المعرفة، فتح القدير 5 / 379 ط الأميرية، الفتاوى الهندية 3 / 227 ط المكتبة الإسلامية، وحاشية الدسوقي مع الشرح 3 / 16 ط الفكر، الزرقاني 5 / 25 ط الفكر، والمدونة 4 / 19 - 20 ط دار صادر، والخرشي مع حاشية الشيخ على العدوي 5 / 23 ط دار صادر، وجواهر الإكليل 2 / 6 - 7 ط دار المعرفة، والمجموع 9 / 307 ط السلفية، وتحفة المحتاج 4 / 258 ط دار صادر، ونهاية المحتاج 3 / 399 ط المكتبة الإسلامية، ومغني المحتاج 2 / 20 ط الحلبي، والمغني 4 / 65 ط الرياض.(11/147)
تُرَابُ الْمَعَادِنِ
التَّعْرِيفُ:
1 - تُرَابُ الْمَعَادِنِ: مُرَكَّبٌ إِضَافِيٌّ، أَمَّا التُّرَابُ: فَهُوَ ظَاهِرُ الأَْرْضِ، وَهُوَ اسْمُ جِنْسٍ. (1) وَأَمَّا الْمَعَادِنُ: فَهِيَ جَمْعُ مَعْدِنٍ - بِكَسْرِ الدَّال - وَهُوَ كَمَا قَال اللَّيْثُ: مَكَانُ كُل شَيْءٍ يَكُونُ فِيهِ أَصْلُهُ وَمَبْدَؤُهُ كَمَعْدِنِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ. (2) وَأَمَّا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فَهُوَ، كَمَا عَرَّفَهُ الزَّيْلَعِيُّ وَابْنُ عَابِدِينَ: اسْمٌ لِمَا يَكُونُ فِي الأَْرْضِ خِلْقَةً. (3) وَقَال الرَّمْلِيُّ الشَّافِعِيُّ: إِنَّ الْمَعْدِنَ لَهُ إِطْلاَقَانِ: أَحَدُهُمَا عَلَى الْمُسْتَخْرَجِ، وَالآْخَرُ عَلَى الْمُخْرَجِ مِنْهُ (4) .
__________
(1) الصحاح، والقاموس، واللسان، والمصباح، مادة: " ترب " وحاشية قليوبي 1 / 86 ط الحلبي.
(2) الصحاح، والقاموس، واللسان، والمصباح، مادة: " عدن ".
(3) تبيين الحقائق 1 / 287 - 288 ط دار المعرفة، وابن عابدين 2 / 44.
(4) نهاية المحتاج 3 / 96 ط المكتبة الإسلامية.(11/147)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - تُرَابُ الصَّاغَةِ:
2 - وَهُوَ - كَمَا عَرَّفَهُ الْمَالِكِيَّةُ - الرَّمَادُ الَّذِي يُوجَدُ فِي حَوَانِيتِ الصَّاغَةِ، وَلاَ يُدْرَى مَا فِيهِ (1) . وَالْفَرْقُ بَيْنَ تُرَابِ الصَّاغَةِ وَتُرَابِ الْمَعْدِنِ، هُوَ أَنَّ تُرَابَ الصَّاغَةِ هُوَ الْمُتَسَاقِطُ مِنَ الْمَعْدِنِ مُخْتَلِطًا بِتُرَابٍ أَوْ رَمْلٍ أَوْ نَحْوِهِمَا، أَمَّا تُرَابُ الْمَعْدِنِ فَهُوَ مَا يَتَسَاقَطُ مِنْ جَوْهَرِ الْمَعْدِنِ نَفْسِهِ دُونَ أَنْ يَخْتَلِطَ بِجَوْهَرٍ آخَرَ (2) .
ب - الْكَنْزُ:
3 - هُوَ فِي الأَْصْل مَصْدَرُ كَنَزَ، وَمَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ: جَمْعُ الْمَال وَادِّخَارُهُ، وَجَمْعُ التَّمْرِ فِي وِعَائِهِ، وَالْكَنْزُ أَيْضًا: الْمَال الْمَدْفُونُ تَسْمِيَةً بِالْمَصْدَرِ، وَالْجَمْعُ كُنُوزٌ كَفَلْسٍ وَفُلُوسٍ (3) . وَأَمَّا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فَهُوَ: اسْمٌ لِمَدْفُونِ الْعِبَادِ (4) .
ج - الرِّكَازُ:
4 - الرِّكَازُ مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ: الْمَال الْمَدْفُونُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَهُوَ عَلَى وَزْنِ فِعَالٍ، بِمَعْنَى مَفْعُولٍ كَالْبِسَاطِ بِمَعْنَى الْمَبْسُوطِ، وَيُقَال هُوَ الْمَعْدِنُ (5) .
__________
(1) المدونة 4 / 20، والشرح الكبير 3 / 16.
(2) جواهر الإكليل 2 / 7، والمدونة 4 / 19
(3) المصباح، مادة: " كنز ".
(4) تبيين الحقائق 1 / 287، 288 ط دار المعرفة، والدر المختار 2 / 44.
(5) المصباح، مادة: " ركز ".(11/148)
وَأَمَّا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فَهُوَ: اسْمٌ لِمَا يَكُونُ تَحْتَ الأَْرْضِ خِلْقَةً أَوْ بِدَفْنِ الْعِبَادِ (1) .
فَالرِّكَازُ بِهَذَا الْمَعْنَى أَعَمُّ مِنَ الْمَعْدِنِ وَالْكَنْزِ، فَكَانَ حَقِيقَةً فِيهِمَا مُشْتَرَكًا مَعْنَوِيًّا، وَلَيْسَ خَاصًّا بِالدَّفِينِ (2) .
وَقَيَّدَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِكَوْنِهِ دَفِينَ الْجَاهِلِيَّةِ (3) .
أَنْوَاعُ الْمَعَادِنِ:
5 - لِلْمَعَادِنِ أَنْوَاعٌ ثَلاَثَةٌ:
(أ) جَامِدٌ يَذُوبُ وَيَنْطَبِعُ، كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْحَدِيدِ وَالرَّصَاصِ وَالصُّفْرِ.
(ب) جَامِدٌ لاَ يَذُوبُ، كَالْجِصِّ وَالنُّورَةِ، وَالْكُحْل وَالزِّرْنِيخِ.
(ج) مَائِعٌ لاَ يَتَجَمَّدُ، كَالْمَاءِ وَالْقِيرِ وَالنِّفْطِ (4) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ الأَْحْكَامَ الْخَاصَّةَ بِتُرَابِ الْمَعَادِنِ فِي مَوَاطِنَ نُجْمِلُهَا فِيمَا يَلِي:
أ - تَغَيُّرُ الْمَاءِ بِتُرَابِ الْمَعَادِنِ:
6 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ تَغَيُّرَ الْمَاءِ
__________
(1) تبيين الحقائق 1 / 287 ط دار المعرفة.
(2) فتح القدير 1 / 537 ط الأميرية.
(3) نهاية المحتاج 3 / 98، والمحلي على المنهاج 2 / 26.
(4) العناية على الهداية هامش فتح القدير 1 / 537 ط الأميرية.(11/148)
الْمُطْلَقِ بِتُرَابِ الْمَعْدِنِ لاَ يَضُرُّ، وَيَجُوزُ التَّطَهُّرُ بِهِ؛ لأَِنَّهُ تَغَيَّرَ بِمَا هُوَ مِنْ أَجْزَاءِ الأَْرْضِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى: أَنَّ الْمَاءَ الْمُتَغَيِّرَ بِمَا لاَ يُمْكِنُ صَوْنُهُ عَنْهُ مِنْ تُرَابِ الْمَعَادِنِ، بِأَنْ يَكُونَ فِي مَقَرِّهِ أَوْ مَمَرِّهِ لاَ يَمْنَعُ التَّطَهُّرُ بِهِ، وَلاَ يُكْرَهُ اسْتِعْمَالُهُ فِيهِ. (1) وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (مِيَاهٌ) .
ب - حُكْمُ التَّيَمُّمِ بِتُرَابِ الْمَعَادِنِ:
7 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى: أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ التَّيَمُّمُ إِلاَّ بِتُرَابٍ طَاهِرٍ، أَوْ بِرَمْلٍ فِيهِ غُبَارٌ يَعْلَقُ بِالْيَدِ، وَأَمَّا مَا لاَ غُبَارَ لَهُ كَالصَّخْرِ وَسَائِرِ الْمَعَادِنِ فَلاَ يَصِحُّ التَّيَمُّمُ بِهَا؛ لأَِنَّهَا لَيْسَتْ فِي مَعْنَى التُّرَابِ (2) .
وَيَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ التَّيَمُّمُ بِكُل مَا لاَ يَنْطَبِعُ وَلاَ يَلِينُ مِنَ الْمَعَادِنِ، كَالْجِصِّ وَالنُّورَةِ وَالْكُحْل وَالزِّرْنِيخِ، سَوَاءٌ الْتَصَقَ عَلَى يَدِهِ شَيْءٌ مِنْهَا أَوْ لَمْ يَلْتَصِقْ.
وَأَمَّا الْمَعَادِنُ الَّتِي تَلِينُ وَتَنْطَبِعُ، كَالْحَدِيدِ
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 21 ط المكتبة الإسلامية، وابن عابدين 1 / 125 ط المصرية، وجواهر الإكليل 1 / 7 ط الفكر، وروضة الطالبين 1 / 10 ط المكتب الإسلامي، وكشاف القناع 1 / 27 ط النصر.
(2) روضة الطالبين 1 / 108 - 109 ط المكتب الإسلامي، وحاشية قليوبي 1 / 87 ط. الحلبي، وكشاف القناع 1 / 172 ط. النصر، والمغني 1 / 247 ط. الرياض.(11/149)
وَالنُّحَاسِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، فَلاَ يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِهَا إِلاَّ فِي مَحَالِّهَا، بِشَرْطِ أَنْ يَغْلِبَ عَلَيْهَا التُّرَابُ؛ لأَِنَّ التَّيَمُّمَ حِينَئِذٍ يَكُونُ بِالتُّرَابِ لاَ بِهَا؛ وَلأَِنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الأَْرْضِ.
وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ: فَلاَ يَجُوزُ التَّيَمُّمُ إِلاَّ بِالتُّرَابِ وَالرَّمْل فِي رِوَايَةٍ، أَوْ بِالتُّرَابِ فَقَطْ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى (1) .
وَيَجُوزُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ التَّيَمُّمُ بِالْمَعَادِنِ الْمُنْطَبِعَةِ وَغَيْرِ الْمُنْطَبِعَةِ مَا لَمْ تُنْقَل مِنْ مَحَالِّهَا؛ لأَِنَّهَا مِنْ أَجْزَاءِ الأَْرْضِ بِاسْتِثْنَاءِ مَعْدِنِ النَّقْدَيْنِ، وَهُمَا: تِبْرُ الذَّهَبِ وَنُقَارُ الْفِضَّةِ (2) . وَالْجَوَاهِرُ النَّفِيسَةُ كَالْيَاقُوتِ وَاللُّؤْلُؤِ وَالزُّمُرُّدِ وَالْمَرْجَانِ مِمَّا لاَ يَقَعُ بِهِ التَّوَاضُعُ لِلَّهِ. (3) وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (تَيَمُّمٌ) .
ج - زَكَاةُ تُرَابِ الْمَعَادِنِ:
8 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِي مَعْدِنَيِ: الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ (4) .
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 53 ط الجمالية، وفتح القدير 1 / 88 ط الأميرية، ومراقي الفلاح / 64 ط الأميرية، وابن عابدين 1 / 160 ط المصرية، وتبيين الحقائق 1 / 39 ط دار المعرفة.
(2) جمع نقرة، وهي القطعة المذابة من الفضة أو الذهب. القاموس مادة: " نقر ".
(3) حاشية الدسوقي 1 / 156 ط الفكر، جواهر الإكليل 1 / 27 ط دار المعرفة، الزرقاني 1 / 121، 122 ط الفكر، الخرشي 1 / 192، 193 ط دار صادر.
(4) فتح القدير 1 / 537 وما بعدها ط الأميرية، وتبيين الحقائق مع حاشية الشلبي عليه 1 / 288 ط دار المعرفة، والخرشي 2 / 207 - 209 ط دار صادر، والزرقاني 2 / 169 - 171 ط الفكر، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 486 - 488 ط الفكر، وروضة الطالبين 2 / 282 ط المكتب الإسلامي، ونهاية المحتاج 3 / 96 ط المكتبة الإسلامية، وكشاف القناع 2 / 222 - 223 ط النصر، والمغني 3 / 24 ط الرياض.(11/149)
أَمَّا غَيْرُهُمَا مِنَ الْمَعَادِنِ، فَفِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِ وَوَقْتِ وُجُوبِهَا، تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (زَكَاةٌ)
د - بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ:
9 - تُرَابُ الْمَعَادِنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ صِنْفٍ وَاحِدٍ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ أَصْنَافٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَإِمَّا أَنْ يُصَفَّى وَيُمَيَّزَ مَا فِيهِ أَوْ لاَ.
فَإِنْ كَانَ مِنْ صِنْفٍ وَاحِدٍ، فَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ، كَتُرَابِ ذَهَبٍ بِتُرَابِ ذَهَبٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لِلْجَهْل بِالْمُمَاثَلَةِ.
وَإِنْ كَانَ مِنْ أَصْنَافٍ كَتُرَابِ ذَهَبٍ بِتُرَابِ فِضَّةٍ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ لِخِفَّةِ الْغَرَرِ فِيهِ؛ وَلِعَدَمِ لُزُومِ الْعِلْمِ بِالْمُمَاثَلَةِ، وَيُكْرَهُ بَيْعُهُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لأَِنَّهُ مَجْهُولٌ.
وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ: فَلاَ يَجُوزُ عِنْدَهُمْ بَيْعُ تُرَابِ الْمَعْدِنِ قَبْل تَصْفِيَتِهِ وَتَمْيِيزِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ مِنْهُ، سَوَاءٌ أَبَاعَهُ بِذَهَبٍ أَمْ بِفِضَّةٍ أَمْ بِغَيْرِهِمَا؛ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ النَّقْدُ وَهُوَ مَجْهُولٌ أَوْ مَسْتُورٌ بِمَا(11/150)
لاَ مَصْلَحَةَ لَهُ فِيهِ فِي الْعَادَةِ، فَلَمْ يَصِحَّ بَيْعُهُ فِيهِ، كَبَيْعِ اللَّحْمِ فِي الْجِلْدِ بَعْدَ الذَّبْحِ وَقَبْل السَّلْخِ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (بَيْعٍ) (وَرِبًا) (وَصَرْفٍ) .
__________
(1) المبسوط 14 / 44 ط دار المعرفة، وفتح القدير 5 / 379 ط الأميرية، الفتاوى الهندية 3 / 227 ط المكتبة الإسلامية، وحاشية الدسوقي مع الشرح 3 / 16 ط الفكر، والزرقاني 5 / 25 ط الفكر، والمدونة 4 / 19 - 20 ط دار صادر، والخرشي مع حاشية الشيخ على العدوي 5 / 23 ط دار صادر، وجواهر الإكليل 2 / 6 - 7 ط دار المعرفة، والمجموع 9 / 307 ط السلفية، وتحفة المحتاج 4 / 258 ط، دار صادر، ونهاية المحتاج 3 / 399 ط المكتبة الإسلامية، ومغني المحتاج 2 / 20 ط الحلبي، والمغني 4 / 65 الرياض.(11/150)
تَرَاخِي
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّرَاخِي: مَصْدَرُ تَرَاخَى، وَمَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ: التَّقَاعُدُ عَنِ الشَّيْءِ وَالتَّقَاعُسِ عَنْهُ.
وَتَرَاخَى الأَْمْرُ تَرَاخِيًا: امْتَدَّ زَمَانُهُ، وَفِي الأَْمْرِ تَرَاخٍ أَيْ: فُسْحَةٌ (1) .
وَمَعْنَى التَّرَاخِي فِي الاِصْطِلاَحِ: كَوْنُ الأَْدَاءِ مُتَأَخِّرًا عَنْ أَوَّل وَقْتِ الإِْمْكَانِ إِلَى مَظِنَّةِ الْفَوْتِ. (2)
وَعَلَى ذَلِكَ لاَ يَخْرُجُ مَعْنَاهُ الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْفَوْرُ:
2 - يُطْلَقُ الْفَوْرُ فِي اللُّغَةِ عَلَى: الْوَقْتِ الْحَاضِرِ الَّذِي لاَ تَأْخِيرَ فِيهِ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: فَارَ
__________
(1) لسان العرب، والقاموس المحيط، والمصباح المنير، والصحاح، مادة: " رخو ".
(2) كشاف مصطلحات الفنون 3 / 594.(11/151)
الْمَاءُ يَفُورُ فَوْرًا أَيْ: نَبَعَ وَجَرَى، ثُمَّ اسْتُعْمِل فِي الْحَالَةِ الَّتِي لاَ بُطْءَ فِيهَا (1) .
يُقَال: جَاءَ فُلاَنٌ فِي حَاجَتِهِ، ثُمَّ رَجَعَ مِنْ فَوْرِهِ أَيْ: مِنْ حَرَكَتِهِ الَّتِي وَصَل فِيهَا وَلَمْ يَسْكُنْ بَعْدَهَا، وَحَقِيقَتُهُ: أَنْ يَصِل مَا بَعْدَ الْمَجِيءِ بِمَا قَبْلَهُ مِنْ غَيْرِ لُبْثٍ.
وَمَعْنَى الْفَوْرِ فِي الاِصْطِلاَحِ: كَوْنُ الأَْدَاءِ فِي أَوَّل أَوْقَاتِ الإِْمْكَانِ (2) .
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّرَاخِي: أَنَّ الْفَوْرَ ضِدُّ التَّرَاخِي.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
تُبْحَثُ الأَْحْكَامُ الْخَاصَّةُ بِالتَّرَاخِي فِي عَدَدٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ تُوجَزُ فِيمَا يَلِي:
أَوَّلاً: مَوَاضِعُهُ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ:
ذَكَرَ الأُْصُولِيُّونَ التَّرَاخِيَ فِي مَوَاضِعَ وَهِيَ:
أ - الأَْمْرُ:
3 - اخْتَلَفَ الأُْصُولِيُّونَ فِي الأَْمْرِ الْمُطْلَقِ الَّذِي لَمْ يُقَيَّدْ بِوَقْتٍ مُحَدَّدٍ أَوْ مُعَيَّنٍ، سَوَاءٌ أَكَانَ مُوَسَّعًا أَوْ مُضَيَّقًا، وَالْخَالِي عَنْ قَرِينَةٍ تَدُل عَلَى أَنَّهُ لِلتَّكْرَارِ أَوْ لِلْمَرَّةِ: هَل يُفِيدُ الْفَوْرَ، أَوِ التَّرَاخِيَ، أَوْ
__________
(1) المصباح، مادة: " فور ".
(2) التعريفات للجرجاني مادة: " فور "، والكليات 3 / 318 ط دمشق.(11/151)
غَيْرَهُمَا؟ فَالْقَائِلُونَ بِأَنَّ الأَْمْرَ الْمُطْلَقَ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ يَقُولُونَ: بِأَنَّهُ يَقْتَضِي الْفَوْرَ؛ لأَِنَّهُ يَلْزَمُ مِنَ الْقَوْل بِالتَّكْرَارِ اسْتِغْرَاقُ الأَْوْقَاتِ بِالْفِعْل الْمَأْمُورِ بِهِ.
وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ لِلْمَرَّةِ، فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ:
الأَْوَّل: إِنَّهُ يَكُونُ لِمُجَرَّدِ الطَّلَبِ، وَهُوَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ الْفَوْرِ وَالتَّرَاخِي، فَيَجُوزُ التَّأْخِيرُ عَلَى وَجْهٍ لاَ يَفُوتُ الْمَأْمُورُ بِهِ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ، وَاخْتَارَهُ الرَّازِيُّ وَالآْمَدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ وَالْبَيْضَاوِيُّ (1) .
الثَّانِي: أَنَّهُ يُوجِبُ الْفَوْرَ، فَيَأْثَمُ بِالتَّأْخِيرِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَالْكَرْخِيِّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ (2) .
الثَّالِثُ: أَنَّهُ يُفِيدُ التَّرَاخِيَ جَوَازًا، فَلاَ يَثْبُتُ حُكْمُ وُجُوبِ الأَْدَاءِ عَلَى الْفَوْرِ بِمُطْلَقِ الأَْمْرِ، وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا الْقَوْل الْبَيْضَاوِيُّ وَنَسَبَهُ لِقَوْمٍ، وَاخْتَارَهُ السَّرَخْسِيُّ فِي أُصُولِهِ (3) .
__________
(1) مسلم الثبوت 1 / 387 ط الأولى بولاق، وشرح البدخشي 2 / 47 ط صبيح، إرشاد الفحول / 99 ط الحلبي، والأحكام للآمدي 2 / 165 ط المكتب الإسلامي.
(2) مسلم الثبوت 1 / 397 ط الأولى بولاق، وإرشاد الفحول / 100 ط الحلبي.
(3) شرح البدخشي 2 / 47 ط صبيح، وأصول السرخسي 1 / 26 ط دار الكتاب العربي بحيدر آباد.(11/152)
الرَّابِعُ: أَنَّهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْفَوْرِ وَالتَّرَاخِي، وَهُوَ رَأْيُ الْقَائِلِينَ بِالتَّوَقُّفِ فِي دَلاَلَتِهِ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَحْمِلُوهُ عَلَى الْفَوْرِ وَلاَ عَلَى التَّرَاخِي، وَإِنَّمَا تَوَقَّفُوا فِيهِ. وَتَوَقَّفَ فِيهِ أَيْضًا الْجُوَيْنِيُّ، كَمَا جَاءَ فِي إِرْشَادِ الْفُحُول، فَقَدْ ذَكَرَ أَنَّ الأَْمْرَ بِاعْتِبَارِ اللُّغَةِ لاَ يُفِيدُ الْفَوْرَ وَلاَ التَّرَاخِيَ، فَيَمْتَثِل الْمَأْمُورُ بِكُلٍّ مِنَ الْفَوْرِ وَالتَّرَاخِي لِعَدَمِ رُجْحَانِ أَحَدِهِمَا عَلَى الآْخَرِ، مَعَ التَّوَقُّفِ فِي إِثْمِهِ بِالتَّرَاخِي لاَ بِالْفَوْرِ؛ لِعَدَمِ احْتِمَال وُجُوبِ التَّرَاخِي، وَقِيل بِالتَّوَقُّفِ فِي الاِمْتِثَال، أَيْ لاَ يَدْرِي هَل يَأْثَمُ إِنْ بَادَرَ، أَوْ إِنْ أَخَّرَ؟ لاِحْتِمَال وُجُوبِ التَّرَاخِي (1) .
وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْخِلاَفِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ اخْتِلاَفُهُمْ فِي الْحَجِّ، أَهُوَ عَلَى الْفَوْرِ، أَمْ عَلَى التَّرَاخِي؟ .
وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ أَيْضًا: الأَْمْرُ بِالْكَفَّارَاتِ، وَالأَْمْرُ بِقَضَاءِ الصَّوْمِ وَبِقَضَاءِ الصَّلاَةِ. وَمَحَل تَفْصِيل مَا قَالُوهُ فِي ذَلِكَ، مَعَ مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ، هُوَ الْمُلْحَقُ الأُْصُولِيُّ، وَمُصْطَلَحُ: (أَمْرٍ) .
الْفَوْرُ فِي النَّهْيِ:
4 - النَّهْيُ يَقْتَضِي الدَّوَامَ وَالْعُمُومَ عِنْدَ الأَْكْثَرِ مِنْ أَهْل الأُْصُول وَأَهْل الْعَرَبِيَّةِ، فَهُوَ لِلْفَوْرِ. وَقِيل: هُوَ كَالأَْمْرِ فِي عَدَمِ اقْتِضَائِهِ الدَّوَامَ (2) .
__________
(1) إرشاد الفحول / 100 ط الحلبي، وشرح البدخشي 2 / 47 ط صبيح.
(2) مسلم الثبوت 1 / 406.(11/152)
ب - الرُّخْصَةُ:
5 - ذَكَرَ صَاحِبُ مُسَلَّمِ الثَّبُوتِ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ لِمَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الرُّخْصَةِ، مِنْ حَيْثُ كَوْنُهَا رُخْصَةً. وَذَكَرَ أَنَّ ثَانِيَ تِلْكَ الأَْقْسَامِ، مَا تَرَاخَى حُكْمُ سَبَبِهِ مَعَ بَقَائِهِ عَلَى السَّبَبِيَّةِ إِلَى زَوَال الْعُذْرِ الْمُوجِبِ لِلرُّخْصَةِ، كَفِطْرِ الْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ، فَإِنَّ سَبَبِيَّةَ الشَّهْرِ بَاقِيَةٌ فِي حَقِّهِمَا، حَتَّى لَوْ صَامَا بِنِيَّةِ الْفَرْضِ أَجْزَأَ؛ لِمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لِحَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو الأَْسْلَمِيِّ إِنْ شِئْتَ فَصُمْ، وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ (1) . وَتَأَخَّرَ الْخِطَابُ عَنْهُمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (2) وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (رُخْصَةٍ) .
ج - مَعْنَى (ثُمَّ) :
6 - أَوْرَدَ السَّرَخْسِيُّ فِي أُصُولِهِ: أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي اخْتَصَّتْ بِهِ (ثُمَّ) فِي أَصْل الْوَضْعِ هُوَ: الْعَطْفُ عَلَى وَجْهِ التَّعْقِيبِ مَعَ التَّرَاخِي.
وَحُكْمُ هَذَا التَّرَاخِي فِيهِ اخْتِلاَفٌ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ، وَتَفْصِيلُهُ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ وَمُصْطَلَحِ (طَلاَقٌ) .
__________
(1) حديث: " إن شئت فصم وإن شئت فأفطر. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 4 / 179 - ط السلفية) ومسلم (2 / 789 - ط الحلبي) .
(2) سورة البقرة / 184.(11/153)
وَأَثَرُ هَذَا الْخِلاَفِ يَظْهَرُ فِي قَوْل الزَّوْجِ لِغَيْرِ الْمَدْخُول بِهَا، أَوْ لِلْمَدْخُول بِهَا، إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٌ، أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٌ إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ، أَيْ مَعَ تَقْدِيمِ الشَّرْطِ أَوْ تَأْخِيرِهِ (1) .
وَتَفْصِيلُهُ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ وَمُصْطَلَحِ: (طَلاَقٌ) .
ثَانِيًا: مَوَاضِعُهُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ:
ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ التَّرَاخِيَ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ فِي عَدَدٍ مِنَ الْعُقُودِ وَالتَّصَرُّفَاتِ، تُوجَزُ فِيمَا يَلِي:
أ - التَّرَاخِي فِي رَدِّ الْمَغْصُوبِ:
7 - صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِوُجُوبِ رَدِّ الْمَغْصُوبِ فَوْرًا مِنْ غَيْرِ تَرَاخٍ، إِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْغَاصِبِ عُذْرٌ فِي التَّرَاخِي، كَخَوْفِهِ عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ مَا بِيَدِهِ مِنْ مَغْصُوبٍ وَغَيْرِهِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَهُ (2) وَلأَِنَّهُ يَأْثَمُ بِاسْتِدَامَتِهِ تَحْتَ يَدِهِ لِحَيْلُولَتِهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ صَاحِبِهِ،
__________
(1) أصول السرخسي 1 / 209، 210 ط دار الكتاب العربي حيدر آباد، والتلويح على التوضيح 1 / 104 - 105 ط صبيح، ومسلم الثبوت 1 / 234 - 236 ط الأولى بولاق، وانظر ما ذكره الآمدي في كتابه الإحكام في أصول الأحكام 1 / 69 ط المكتب الإسلامي.
(2) حديث: " على اليد ما أخذت حتى تؤديه. . . " أخرجه أبو داود (3 / 822 - ط عزت عبيد دعاس) وأعله ابن حجر في التلخيص (3 / 53 - ط شركة الطباعة الفنية) .(11/153)
فَيَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّهُ عَلَى الْفَوْرِ بِنَفْسِهِ أَوْ وَلِيِّهِ أَوْ وَكِيلِهِ، وَإِنْ تَكَلَّفَ عَلَيْهِ أَضْعَافُ قِيمَتِهِ؛ إِذْ لاَ تُقْبَل تَوْبَتُهُ مَا دَامَ فِي يَدِهِ (1) .
وَلَمْ نَجِدْ لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ نَصًّا فِي ذَلِكَ، وَلَكِنَّ قَوَاعِدَهُمُ الْعَامَّةَ فِي وُجُوبِ رَفْعِ الظُّلْمِ تَقْتَضِي مُوَافَقَةَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِيمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ.
ب - تَرَاخِي الإِْيجَابِ عَنِ الْقَبُول فِي الْهِبَةِ:
8 - لاَ يَجُوزُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ تَرَاخِي الْقَبُول عَنِ الإِْيجَابِ فِي الْهِبَةِ، بَل يُشْتَرَطُ الاِتِّصَال الْمُعْتَادُ كَالْبَيْعِ. وَأَجَازَ الْحَنَابِلَةُ التَّرَاخِيَ فِي الْمَجْلِسِ إِذَا لَمْ يَتَشَاغَلاَ بِمَا يَقْطَعُ الاِتِّصَال. وَلَمْ يُصَرِّحِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ بِذَلِكَ (2) . وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (هِبَةٌ) .
ج - التَّرَاخِي فِي طَلَبِ الشُّفْعَةِ:
9 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى الْقَوْل الأَْظْهَرِ، وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ طَلَبَ الشُّفْعَةِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِهَا يَكُونُ عَلَى الْفَوْرِ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَاهُ
__________
(1) حاشية قليوبي 3 / 28 ط الحلبي، مطالب أولي النهى 4 / 69، 70 ط المكتب الإسلامي.
(2) روضة الطالبين 5 / 366 ط المكتب الإسلامي، ومطالب أولي النهى 4 / 385 ط المكتب الإسلامي، والفتاوى الهندية 4 / 374 ط المكتبة الإسلامية، وجواهر الإكليل 2 / 211 - 217 ط دار المعرفة.(11/154)
ابْنُ مَاجَهْ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الشُّفْعَةُ كَحَل الْعِقَال (1) .
وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ طَلَبَهَا إِلَى سَنَةٍ وَمَا قَارَبَهَا وَتَسْقُطُ بَعْدَهَا (2) . وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (شُفْعَةٌ) .
د - التَّرَاخِي فِي قَبُول الْوَصِيَّةِ:
10 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اشْتِرَاطِ الْقَبُول فِي الْوَصِيَّةِ إِنْ كَانَتْ لِمُعَيَّنٍ، وَمَحَل الْقَبُول بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي. وَلاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْفَوْرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، فَلَهُ الْقَبُول عَلَى الْفَوْرِ أَوْ عَلَى التَّرَاخِي بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي (3) . وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (وَصِيَّةٍ) .
هـ - حُكْمُ تَرَاخِي الْقَبُول عَنِ الإِْيجَابِ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ:
11 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى اشْتِرَاطِ
__________
(1) حديث: " الشفعة كحل العقال. . . ". أخرجه ابن ماجه (2 / 835 - ط الحلبي) وقال ابن حجر في التلخيص (3 / 56 - ط شركة الطباعة الفنية) : إسناده ضعيف جدا.
(2) تبيين الحقائق 5 / 242 ط دار المعرفة، وروضة الطالبين 5 / 107 ط المكتب الإسلامي، ومطالب أولي النهى 4 / 110 ط المكتب الإسلامي، وحاشية الدسوقي 3 / 485 ط الفكر.
(3) الفتاوى الهندية 6 / 90 ط المكتبة الإسلامية، وجواهر الإكليل 2 / 317 ط دار المعرفة، وروضة الطالبين 6 / 141، 142 ط المكتب الإسلامي، وكشاف القناع 4 / 344 ط النصر.(11/154)
ارْتِبَاطِ الْقَبُول بِالإِْيجَابِ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ، حَتَّى إِنَّ النَّوَوِيَّ ذَكَرَ أَنَّ الْقَبُول فِي الْمَجْلِسِ لاَ يَكْفِي، بَل يُشْتَرَطُ الْفَوْرُ. إِلاَّ أَنَّهُ يُغْتَفَرُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ التَّأْخِيرُ الْيَسِيرُ (1) .
وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، فَيَصِحُّ عِنْدَهُمْ تَرَاخِي الْقَبُول عَنِ الإِْيجَابِ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ، وَإِنْ طَال الْفَصْل بَيْنَهُمَا مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا عَنِ الْمَجْلِسِ أَوْ يَتَشَاغَلاَ بِمَا يَقْطَعُهُ عُرْفًا؛ لأَِنَّ الْمَجْلِسَ لَهُ حُكْمٌ حَالَةَ الْعَقْدِ، بِدَلِيل صِحَّةِ الْقَبْضِ فِيمَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّتِهِ قَبْضَهُ فِي الْمَجْلِسِ (2) . وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (نِكَاحٍ) .
و التَّرَاخِي فِي خِيَارِ الْعُيُوبِ وَالشُّرُوطِ فِي النِّكَاحِ:
12 - نَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ خِيَارَ الْعُيُوبِ وَالشُّرُوطِ فِي النِّكَاحِ عَلَى التَّرَاخِي؛ لأَِنَّهُ لِدَفْعِ ضَرَرٍ مُتَحَقَّقٍ، فَيَكُونُ عَلَى التَّرَاخِي، كَخِيَارِ أَوْلِيَاءِ الدَّمِ بَيْنَ الْقِصَاصِ أَوِ الدِّيَةِ أَوِ الْعَفْوِ، فَلاَ يَسْقُطُ إِلاَّ أَنْ يُوجَدَ مِمَّنْ لَهُ الْخِيَارُ دَلاَلَةٌ عَلَى الرِّضَا، مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، مِنَ الزَّوْجِ إِنْ كَانَ الْخِيَارُ لَهُ، أَوْ مِنَ الزَّوْجَةِ إِنْ كَانَ الْخِيَارُ لَهَا، أَوْ
__________
(1) الروضة 7 / 38 ط المكتب الإسلامي، ونهاية المحتاج 6 / 205 ط المكتبة الإسلامية، وجواهر الإكليل 1 / 277 ط دار المعرفة.
(2) بدائع الصنائع 2 / 232 ط الجمالية، ومطالب أولي النهى 5 / 50 ط المكتب الإسلامي.(11/155)
يَأْتِي بِصَرِيحِ الرِّضَا كَأَنْ يَقُول: رَضِيتُ بِالْعَيْبِ (1) .
وَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، فَقَدْ نَصَّ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ عَلَى: أَنَّ خِيَارَ الْعَيْبِ فِي النِّكَاحِ يَكُونُ عَلَى الْفَوْرِ، كَخِيَارِ الْعَيْبِ فِي الْبَيْعِ، وَقَال: إِنَّ هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَهُوَ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ.
وَرُوِيَ قَوْلاَنِ آخَرَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَمْتَدُّ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ.
وَالثَّانِي: يَبْقَى إِلَى أَنْ يُوجَدَ صَرِيحُ الرِّضَا بِالْمَقَامِ مَعَهُ أَوْ مَا يَدُل عَلَيْهِ. حَكَاهُمَا الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ، وَهُمَا ضَعِيفَانِ (2) .
وَلاَ يَثْبُتُ خِيَارُ الْعَيْبِ فِي النِّكَاحِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، فَقَدْ جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: خِيَارُ الرُّؤْيَةِ وَالْعَيْبِ وَالشَّرْطِ - سَوَاءٌ جُعِل الْخِيَارُ لِلزَّوْجِ أَوْ لِلزَّوْجَةِ أَوْ لَهُمَا - ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ أَوْ أَقَل أَوْ أَكْثَرَ، حَتَّى أَنَّهُ إِذَا شَرَطَ ذَلِكَ فَالنِّكَاحُ جَائِزٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ، إِلاَّ إِذَا كَانَ الْعَيْبُ هُوَ الْجَبَّ وَالْخِصَاءَ وَالْعُنَّةَ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ بِالْخِيَارِ (3) .
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ لِكُل وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ الْخِيَارَ بِشُرُوطِهِ إِذَا وَجَدَ بِصَاحِبِهِ عَيْبًا، إِلاَّ أَنَّهُمْ لَمْ يُصَرِّحُوا بِكَوْنِ ذَلِكَ عَلَى الْفَوْرِ أَوْ
__________
(1) كشاف القناع 5 / 112 ط النصر.
(2) روضة الطالبين 7 / 180 ط المكتب الإسلامي.
(3) الفتاوى الهندية 1 / 273 ط المكتبة الإسلامية.(11/155)
عَلَى التَّرَاخِي (1) . وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (نِكَاحٌ) .
ز - التَّرَاخِي فِي تَطْلِيقِ الْمَرْأَةِ نَفْسَهَا بَعْدَ تَفْوِيضِ الطَّلاَقِ إِلَيْهَا:
13 - إِذَا فَوَّضَ الزَّوْجُ الطَّلاَقَ إِلَى زَوْجَتِهِ، فَإِنَّ تَطْلِيقَهَا نَفْسَهَا لاَ يَتَقَيَّدُ بِالْمَجْلِسِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (2) .
غَيْرَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ لاَ فَرْقَ عِنْدَهُمْ بَيْنَ كَوْنِ التَّفْوِيضِ تَخْيِيرًا أَوْ تَمْلِيكًا، فَإِنْ قَيَّدَهُ بِوَقْتٍ كَسَنَةٍ فَلَيْسَ لِلزَّوْجَةِ الْخُرُوجُ عَنْهُ، وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بَعْدَ التَّفْوِيضِ إِلَى أَنْ تَخْتَارَ الْبَقَاءَ أَوِ الْفِرَاقَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ (3) .
وَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَإِنَّ التَّفْوِيضَ يَقْتَضِي الْفَوْرَ فِي الْجَدِيدِ عَلَى أَنَّهُ تَمْلِيكٌ مَا لَمْ يُعَلِّقْهُ بِشَرْطٍ (4) . (ر: طَلاَقٌ) .
وَتَفْصِيل مَا لَمْ يُذْكَرْ هُنَا مِنْ مَسَائِل التَّرَاخِي مَوْطِنُهُ الْمُلْحَقُ الأُْصُولِيُّ.
__________
(1) الخرشي 3 / 235 ط دار صادر، والدسوقي 2 / 277 ط الفكر، وجواهر الإكليل 1 / 298 ط دار المعرفة.
(2) ابن عابدين 2 / 476 ط المصرية، ومطالب أولي النهى 5 / 353 ط المكتب الإسلامي، وكشاف القناع 5 / 254 ط النصر.
(3) حاشية الدسوقي 2 / 405 - 408 ط الفكر، وجواهر الإكليل 1 / 357 ط دار المعرفة.
(4) نهاية المحتاج 6 / 429، 430 ط المكتبة الإسلامية، والروضة 8 / 51 ط المكتب الإسلامي.(11/156)
تَرَاضي
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّرَاضِي فِي اللُّغَةِ: تَفَاعُلٌ مِنَ الرِّضَا ضِدُّ السُّخْطِ، وَالرِّضَا: هُوَ الرَّغْبَةُ فِي الْفِعْل أَوِ الْقَوْل وَالاِرْتِيَاحُ إِلَيْهِ، وَالتَّفَاعُل يَدُل عَلَى الاِشْتِرَاكِ (1) .
وَيَسْتَعْمِلُهُ الْفُقَهَاءُ فِي نَفْسِ الْمَعْنَى، حِينَمَا يَتَّفِقُ الْعَاقِدَانِ عَلَى إِنْشَاءِ الْعَقْدِ دُونَ إِكْرَاهٍ أَوْ نَحْوِهِ، فَيَقُولُونَ مَثَلاً: الْبَيْعُ مُبَادَلَةُ الْمَال بِالْمَال بِالتَّرَاضِي (2) . وَفِي الآْيَةِ الْكَرِيمَةِ: {لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِل إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} . (3)
قَال الْقُرْطُبِيُّ: عَنْ رِضًا مِنْكُمْ، وَجَاءَتْ مِنَ الْمُفَاعَلَةِ، إِذِ التِّجَارَةُ تَكُونُ بَيْنَ طَرَفَيْنِ. (4)
__________
(1) المصباح المنير، ولسان العرب مادة: " رضي ".
(2) فتح القدير 5 / 455، وابن عابدين 4 / 7.
(3) سورة النساء / 29.
(4) تفسير القرطبي 5 / 153.(11/156)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الإِْرَادَةُ:
2 - الإِْرَادَةُ فِي اللُّغَةِ: الطَّلَبُ وَالْمَشِيئَةُ. وَيَسْتَعْمِلُهَا الْفُقَهَاءُ بِمَعْنَى: الْقَصْدِ وَالاِتِّجَاهِ إِلَى الشَّيْءِ، فَهِيَ أَعَمُّ مِنَ الرِّضَا، فَقَدْ يُرِيدُ الْمَرْءُ شَيْئًا وَيَرْتَاحُ إِلَيْهِ، فَيَجْتَمِعُ الرِّضَا مَعَ الإِْرَادَةِ، وَقَدْ لاَ يَرْتَاحُ إِلَيْهِ وَلاَ يُحِبُّهُ، فَتَنْفَرِدُ الإِْرَادَةُ عَنِ الرِّضَا (1) .
ب - الاِخْتِيَارُ:
3 - الاِخْتِيَارُ: إِرَادَةُ الشَّيْءِ بَدَلاً مِنْ غَيْرِهِ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْخَيْرِ، فَالْمُخْتَارُ هُوَ الْمُرِيدُ لِخَيْرِ الشَّيْئَيْنِ فِي الْحَقِيقَةِ، أَوْ خَيْرُ الشَّيْئَيْنِ عِنْدَ نَفْسِهِ، وَقَدْ يَتَوَجَّهُ الْقَصْدُ إِلَى أَمْرٍ وَاحِدٍ دُونَ النَّظَرِ إِلَى أَمْرٍ آخَرَ، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ تَنْفَرِدُ الإِْرَادَةُ عَنِ الاِخْتِيَارِ.
وَقَدْ يَخْتَارُ الْمُرْءُ أَمْرًا لاَ يُحِبُّهُ وَلاَ يَرْتَاحُ إِلَيْهِ، فَيَأْتِي الاِخْتِيَارُ بِدُونِ الرِّضَا، كَمَا يَقُول الْفُقَهَاءُ: (يَخْتَارُ أَهْوَنَ الشَّرَّيْنِ) ، وَالْمُكْرَهُ قَدْ يَخْتَارُ الشَّيْءَ وَلاَ يَرْضَاهُ كَمَا يَقُول الْحَنَفِيَّةُ (2) .
__________
(1) المصباح المنير، وتاج العروس مادة: " رود "، والفروق في اللغة ص 118، وكشف الأسرار للبزدوي 4 / 1503.
(2) الفروق في اللغة ص 118، وكشاف اصطلاحات الفنون، والقاموس المحيط مادة: " خير "، وكشف الأسرار للبزدوي 4 / 1503، وابن عابدين 4 / 7، ومجلة الأحكام العدلية م (29) .(11/157)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
4 - الأَْصْل أَنَّ التَّرَاضِيَ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ يَكُونُ قَوْلاً بِالإِْيجَابِ وَالْقَبُول، وَقَدْ يَكُونُ قَوْلاً مِنْ أَحَدِهِمَا وَفِعْلاً مِنَ الطَّرَفِ الآْخَرِ، أَوْ فِعْلاً مِنَ الْجَانِبَيْنِ كَمَا فِي الْمُعَاطَاةِ، (1) وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (عَقْدٍ) .
وَإِذَا حَصَل التَّرَاضِي بِالْقَوْل يَتِمُّ بِمُجَرَّدِ الإِْيجَابِ وَالْقَبُول عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، فَيَلْزَمُ الْعَقْدُ بِذَلِكَ، وَيَرْتَفِعُ الْخِيَارُ. (2)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: تَمَّامُ التَّرَاضِي وَلُزُومُهُ بِافْتِرَاقِ الأَْبْدَانِ، فَهُمَا عَلَى خِيَارِهِمَا أَبَدًا مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا بِأَبْدَانِهِمَا، (3) كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا (4) .
وَقَدْ فَسَّرَهُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ بِافْتِرَاقِ الأَْقْوَال بِالإِْيجَابِ وَالْقَبُول (5) .
__________
(1) فتح القدير 5 / 455، وابن عابدي 4 / 7 - 9، والدسوقي 3 / 2، 3، وجواهر الإكليل 2 / 2، والقليوبي 3 / 211، و 217، والمغني 4 / 453.
(2) تفسير الألوسي 5 / 16، والاختيار لتعليل المختار 2 / 5، وتبيين الحقائق للزيلعي 4 / 3، والشرح الصغير للدردير 3 / 134، وتفسير القرطبي 5 / 153.
(3) نهاية المحتاج 4 / 3، والقليوبي 2 / 153، والمغني لابن قدامة 3 / 563.
(4) حديث: " البيعان بالخيار ما لم يتفرقا. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 4 / 328 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1163 - ط الحلبي) واللفظ للبخاري.
(5) ابن عابدين 4 / 20، 21، وبلغة السالك 3 / 134.(11/157)
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (افْتِرَاقٍ، وَخِيَارِ الْمَجْلِسِ) .
5 - هَذَا، وَحَيْثُ إِنَّ التَّرَاضِيَ أَسَاسُ انْعِقَادِ الْعُقُودِ، وَالإِْيجَابَ وَالْقَبُول أَوِ التَّعَاطِيَ وَنَحْوَهُمَا وَسِيلَةٌ لِلتَّعْبِيرِ عَنْهُ، يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الرِّضَا الَّذِي دَل عَلَيْهِ التَّعْبِيرُ خَالِيًا عَنِ الْعُيُوبِ، وَإِلاَّ اخْتَل التَّرَاضِي، فَيَخْتَل الْعَقْدُ.
وَيَخْتَل التَّرَاضِي بِأَسْبَابٍ نَذْكُرُ مِنْهَا مَا يَلِي:
أ - الإِْكْرَاهُ:
6 - وَهُوَ حَمْل الإِْنْسَانِ عَلَى أَمْرٍ يَمْتَنِعُ عَنْهُ بِتَخْوِيفٍ يَقْدِرُ الْحَامِل عَلَى إِيقَاعِهِ (1) .
وَبِمَا أَنَّ الإِْكْرَاهَ يُعْدِمُ الرِّضَا، فَإِنَّ الْعَقْدَ يَفْسُدُ بِهِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ، وَيَصِيرُ قَابِلاً لِلْفَسْخِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَقَال بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: يَتَوَقَّفُ حُكْمُهُ عَلَى إِجَازَةِ الْمُكْرَهِ بَعْدَ زَوَال الإِْكْرَاهِ، (2) وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (إِكْرَاهٍ) .
ب - الْهَزْل:
7 - وَهُوَ ضِدُّ الْجِدِّ، بِأَنْ يُرَادَ بِالشَّيْءِ مَا لَمْ يُوضَعْ لَهُ، وَلاَ مَا صَحَّ لَهُ اللَّفْظُ اسْتِعَارَةً. وَالْهَازِل يَتَكَلَّمُ بِصِيغَةِ الْعَقْدِ بِاخْتِيَارِهِ، لَكِنْ لاَ يَخْتَارُ ثُبُوتَ الْحُكْمِ وَلاَ يَرْضَاهُ، وَلِهَذَا لاَ تَنْعَقِدُ بِهِ
__________
(1) كشف الأسرار للبزدوي 4 / 1503.
(2) مجلة الأحكام العدلية مادة: (1006) والدسوقي 3 / 6، ومغني المحتاج 2 / 7، والبدائع 1 / 177.(11/158)
الْعُقُودُ الْمَالِيَّةُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ، وَلَهُ آثَارُهُ فِي بَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ كَالزَّوَاجِ وَالطَّلاَقِ وَالرَّجْعَةِ (1) (ر: هَزْلٌ) .
ج - الْمُوَاضَعَةُ أَوِ التَّلْجِئَةُ:
8 - وَهِيَ أَنْ يَتَظَاهَرَ الْعَاقِدَانِ بِإِنْشَاءِ عَقْدٍ صُورِيٍّ لِلْخَوْفِ مِنْ ظَالِمٍ وَنَحْوِهِ، وَلاَ يُرِيدَانِهِ فِي الْوَاقِعِ، وَالْعَقْدُ بِهَذِهِ الصُّورَةِ: فَاسِدٌ، أَوْ بَاطِلٌ، أَوْ جَائِزٌ (2) ، عَلَى خِلاَفٍ وَتَفْصِيلٍ مَوْضِعُهُ مُصْطَلَحُ: (مُوَاضَعَةٌ وَتَلْجِئَةٌ) .
د - التَّغْرِيرُ:
9 - هُوَ إِيقَاعُ الشَّخْصِ فِي الْغَرَرِ، أَيِ: الْخَطَرِ، كَأَنْ يُوصَفَ الْمَبِيعُ لِلْمُشْتَرِي بِغَيْرِ صِفَتِهِ الْحَقِيقِيَّةِ لِتَرْغِيبِهِ فِي الْعَقْدِ. فَإِذَا غَرَّ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ الآْخَرَ، وَتَحَقَّقَ أَنَّ فِي الْبَيْعِ غَبْنًا فَاحِشًا (3) فَلِلْمَغْبُونِ أَنْ يَفْسَخَ الْعَقْدَ (4) عَلَى
__________
(1) ابن عابدين 4 / 7، والدسوقي 3 / 4، والمغني 6 / 535، والقليوبي 3 / 323، 331.
(2) البدائع 5 / 176، 177، وأسنى المطالب 2 / 11، وابن عابدين 4 / 460، 5 / 244، والمغني 4 / 214، 215 ط الرياض.
(3) اختلفت عبارات الفقهاء في تحديد الغبن الفاحش، فحدده الحنفية على قدر نصف العشر في العروض، والعشر في الحيوانات، والخمس في العقار، وقيل: بالثلث مطلقا، وقيل: بالسدس، وقيل: يحدد بالعرف والعادة (مجلة الأحكام م 165، والمغني 3 / 584، 585 ط الرياض.
(4) مجلة الأحكام العدلية م: (164، 357) ، والمغني 3 / 584، 585 ط الرياض.(11/158)
تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (غَبْنٌ وَتَغْرِيرٌ) . وَهُنَاكَ أَسْبَابٌ أُخْرَى يَخْتَل بِهَا التَّرَاضِي كَالْغَلَطِ وَالتَّدْلِيسِ وَالْجَهْل وَالنِّسْيَانِ وَنَحْوِهَا، وَتَفْصِيل الْقَوْل فِي كُلٍّ مِنْهَا فِي مُصْطَلَحَاتِهَا.
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
10 - يَتَكَلَّمُ الْفُقَهَاءُ عَنِ التَّرَاضِي فِي: إِنْشَاءِ الْعُقُودِ، وَلاَ سِيَّمَا فِي تَعْرِيفِ الْبَيْعِ، وَفِي الإِْقَالَةِ، وَفِي مُوَافَقَةِ الزَّوْجَيْنِ عَلَى مِقْدَارِ الصَّدَاقِ بَعْدَ الْعَقْدِ، أَوِ الزِّيَادَةِ أَوِ النُّقْصَانِ فِيهِ فِي بَحْثِ الْمَهْرِ، وَفِي الْخُلْعِ، وَالصُّلْحِ، وَاتِّفَاقِ الأَْبَوَيْنِ عَلَى فِطَامِ الْمَوْلُودِ لأَِقَل مِنْ سَنَتَيْنِ فِي بَحْثِ الرَّضَاعِ. وَتَفْصِيل مَا يَتَّصِل بِالتَّرَاضِي مِنْ طَرَفَيْنِ أَوْ طَرَفٍ وَاحِدٍ مَوْطِنُهُ مُصْطَلَحُ: (رِضًا) .
تَرَاوِيحُ
انْظُرْ: صَلاَةَ التَّرَاوِيحِ
تَرَبُّصٌ
انْظُرْ: عِدَّةٌ.(11/159)
تَرَبُّعٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّرَبُّعُ فِي اللُّغَةِ: ضَرْبٌ مِنَ الْجُلُوسِ، وَهُوَ خِلاَفُ الْجُثُوِّ وَالإِْقْعَاءِ. وَكَيْفِيَّتُهُ: أَنْ يَقْعُدَ الشَّخْصُ عَلَى وَرِكَيْهِ، وَيَمُدَّ رُكْبَتَهُ الْيُمْنَى إِلَى جَانِبِ يَمِينِهِ، وَقَدَمَهُ الْيُمْنَى إِلَى جَانِبِ يَسَارِهِ. وَالْيُسْرَى بِعَكْسِ ذَلِكَ. (1)
وَاسْتَعْمَلَهُ الْفُقَهَاءُ بِهَذَا الْمَعْنَى.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
2 - التَّرَبُّعُ: غَيْرُ الاِحْتِبَاءِ: وَالاِفْتِرَاشِ، وَالإِْفْضَاءِ، وَالإِْقْعَاءِ، وَالتَّوَرُّكِ.
فَالاِحْتِبَاءُ:
أَنْ يَجْلِسَ عَلَى أَلْيَتَيْهِ، رَافِعًا رُكْبَتَيْهِ مُحْتَوِيًا عَلَيْهِمَا بِيَدَيْهِ أَوْ غَيْرِهِمَا (2) .
وَالاِفْتِرَاشُ:
أَنْ يَثْنِيَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى فَيَبْسُطَهَا وَيَجْلِسَ عَلَيْهَا، وَيَنْصِبَ قَدَمَهُ الْيُمْنَى وَيُخْرِجَهَا مِنْ تَحْتِهِ، وَيَجْعَل بُطُونَ أَصَابِعِهِ عَلَى الأَْرْضِ
__________
(1) تاج العروس، والقاموس المحيط، ولسان العرب، مادة: " ربع " والتعريفات الفقهية للمجلد البركتي ص 226.
(2) أسنى المطالب 1 / 56 نشر المكتبة الإسلامية، والموسوع الفقهية الكويتية 2 / 66.(11/159)
مُعْتَمِدًا عَلَيْهَا لِتَكُونَ أَطْرَافُ أَصَابِعِهَا إِلَى الْقِبْلَةِ (1) .
وَالإِْفْضَاءُ
فِي الْجُلُوسِ فِي الصَّلاَةِ هُوَ: أَنْ يُلْصِقَ أَلْيَتَهُ بِالأَْرْضِ، وَيَنْصِبَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى وَظَاهِرُ إِبْهَامِهَا مِمَّا يَلِي الأَْرْضَ، وَيَثْنِيَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى (2) .
وَالإِْقْعَاءُ:
أَنْ يُلْصِقَ أَلْيَتَيْهِ بِالأَْرْضِ، وَيَنْصِبَ سَاقَيْهِ، وَيَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى الأَْرْضِ. أَوْ أَنْ يَجْعَل أَلْيَتَيْهِ عَلَى عَقِبَيْهِ، وَيَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى الأَْرْضِ. (3)
وَفِي نَصِّ الشَّافِعِيَّةِ: الإِْقْعَاءُ الْمَكْرُوهُ: أَنْ يَجْلِسَ الشَّخْصُ عَلَى وَرِكَيْهِ نَاصِبًا رُكْبَتَيْهِ (4) .
وَالتَّوَرُّكُ:
أَنْ يَنْصِبَ الْيُمْنَى وَيَثْنِيَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى، وَيَقْعُدَ عَلَى الأَْرْضِ (5) .
وَلِتَمَامِ الْفَائِدَةِ تُنْظَرُ هَذِهِ الأَْلْفَاظُ فِي مُصْطَلَحَاتِهَا.
__________
(1) المغني لابن قدامة 1 / 523 ط الرياض، والجمل على شرح المنهج 1 / 383.
(2) حاشية العدوي على شرح الرسالة 1 / 240، 241 نشر دار المعرفة، والفواكه الدواني 1 / 216، والشرح الصغير 1 / 330، والزرقاني 1 / 213، والمغني 1 / 539.
(3) الموسوعة الفقهية الكويتية 6 / 87، 88، وأوجز المسالك إلى موطأ مالك 2 / 120 ط دار الفكر.
(4) شرح المنهاج مع حاشية القليوبي 1 / 145.
(5) أوجز المسالك إلى موطأ مالك 1 / 113، وعمدة القاري 6 / 102 ط المنيرية.(11/160)
حُكْمُ التَّرَبُّعِ:
أَوَّلاً - التَّرَبُّعُ فِي الصَّلاَةِ:
أ - التَّرَبُّعُ فِي الْفَرِيضَةِ لِعُذْرٍ:
3 - أَجْمَعَ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ مَنْ لاَ يُطِيقُ الْقِيَامَ، لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ جَالِسًا، وَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: صَل قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ وَفِي رِوَايَةٍ: فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَمُسْتَلْقِيًا. (1)
وَلأَِنَّ الطَّاعَةَ بِحَسَبِ الْقُدْرَةِ (2) لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} (3)
4 - وَاخْتَلَفُوا فِي هَيْئَةِ الْجُلُوسِ إِذَا عَجَزَ الْمُصَلِّي عَنِ الْقِيَامِ كَيْفَ يَقْعُدُ؟
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ، وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى: أَنَّهُ إِذَا قَعَدَ الْمَعْذُورُ يُنْدَبُ لَهُ أَنْ يَجْلِسَ مُتَرَبِّعًا، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ.
وَيَرَى أَبُو حَنِيفَةَ - فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ عَنْهُ وَهِيَ
__________
(1) حديث: " صل قائما فإن لم تستطع. . . " أخرجه البخاري (الفتح 2 / 587 - ط السلفية) وزيادة " فإن لم تستطع فمستلقيا " للنسائي كما في (فتح القدير 1 / 375 ط الأميرية والبناية 2 / 688) .
(2) المغني مع الشرح الكبير 1 / 781، والبناية شرح الهداية 2 / 687 وما بعدها، وروضة الطالبين 1 / 234، وحاشية العدوي 1 / 306 نشر دار المعرفة.
(3) سورة البقرة / 286.(11/160)
مَا صَحَّحَهَا الْعَيْنِيُّ - أَنَّ الْمَعْذُورَ إِذَا افْتَتَحَ الصَّلاَةَ يَجْلِسُ كَيْفَمَا شَاءَ، لأَِنَّ عُذْرَ الْمَرَضِ يُسْقِطُ الأَْرْكَانَ عَنْهُ، فَلأََنْ يُسْقِطَ عَنْهُ الْهَيْئَاتِ أَوْلَى.
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ يَتَرَبَّعُ، وَإِذَا رَكَعَ يَفْتَرِشُ رِجْلَهُ الْيُسْرَى وَيَجْلِسُ عَلَيْهَا.
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْظْهَرِ مِنَ الْقَوْلَيْنِ - وَهُوَ قَوْل زُفَرَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ - أَنَّهُ يَقْعُدُ مُفْتَرِشًا.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ - وَهُوَ مَا اخْتَارَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ - أَنَّ الْمَعْذُورَ يَجْلِسُ كَمَا يَجْلِسُ لِلتَّشَهُّدِ (1) .
وَهُنَاكَ تَفَاصِيل فِيمَنْ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ جَالِسًا، وَفِي هَيْئَةِ الَّذِي لاَ يَقْدِرُ عَلَى الْجُلُوسِ وَلاَ عَلَى الْقِيَامِ تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَاتِ: (صَلاَةُ الْمَرِيضِ، عُذْرٌ، وَقِيَامٌ) .
ب - التَّرَبُّعُ فِي الْفَرِيضَةِ بِغَيْرِ عُذْرٍ:
5 - التَّرَبُّعُ مُخَالِفٌ لِلْهَيْئَةِ الْمَشْرُوعَةِ فِي الْفَرِيضَةِ فِي التَّشَهُّدَيْنِ جَمِيعًا.
وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِكَرَاهَةِ التَّرَبُّعِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا رَأَى ابْنَهُ يَتَرَبَّعُ فِي صَلاَتِهِ، فَنَهَاهُ عَنْ
__________
(1) حاشية العدوي 1 / 307 نشر دار المعرفة، وكشاف القناع 1 / 498 نشر عالم الكتب، وروضة الطالبين 1 / 235، ونهاية المحتاج 1 / 449، والبناية شرح الهداية 2 / 689 ط دار الفكر، وعمدة القاري 17 / 161 ط المنيرية.(11/161)
ذَلِكَ، فَقَال: رَأَيْتُكَ تَفْعَلُهُ يَا أَبَتِ، فَقَال: إِنَّ رِجْلَيَّ لاَ تَحْمِلاَنِي. وَلأَِنَّ الْجُلُوسَ عَلَى الرُّكْبَتَيْنِ أَقْرَبُ إِلَى الْخُشُوعِ، فَكَانَ أَوْلَى (1) .
وَهَذَا مَا يُفْهَمُ مِنْ عِبَارَاتِ الْمَالِكِيَّةِ أَيْضًا، لأَِنَّهُمْ يَعُدُّونَ الإِْفْضَاءَ فِي الْجُلُوسِ مِنْ مَنْدُوبَاتِ الصَّلاَةِ، وَيَعْتَبِرُونَ تَرْكَ سُنَّةٍ خَفِيفَةٍ عَمْدًا مِنْ سُنَنِ الصَّلاَةِ مَكْرُوهًا.
وَيُسَنُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي قُعُودِ آخِرِ الصَّلاَةِ التَّوَرُّكُ، وَفِي أَثْنَائِهَا الاِفْتِرَاشُ.
وَيَقُول الْحَنَابِلَةُ بِسُنِّيَّةِ الاِفْتِرَاشِ فِي التَّشَهُّدِ الأَْوَّل، وَالتَّوَرُّكِ فِي التَّشَهُّدِ الثَّانِي (2) .
وَنَقَل ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ إِجْمَاعَ الْعُلَمَاءِ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ التَّرَبُّعِ لِلصَّحِيحِ فِي الْفَرِيضَةِ. وَقَال ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلاَنِيُّ: لَعَل الْمُرَادَ بِكَلاَمِ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ بِنَفْيِ الْجَوَازِ إِثْبَاتُ الْكَرَاهَةِ (3) .
ج - التَّرَبُّعُ فِي صَلاَةِ التَّطَوُّعِ:
6 - لاَ خِلاَفَ فِي جَوَازِ التَّطَوُّعِ قَاعِدًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ، وَلاَ فِي أَنَّ الْقِيَامَ أَفْضَل، (4) لِقَوْل
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 215 ط الجمالية، وفتح القدير 1 / 292 ط الأميرية، والاختيار 1 / 60.
(2) الشرح الصغير 1 / 329 و 342، ونهاية المحتاج 1 / 500، وروضة الطالبين 1 / 261، والمبدع 1 / 472، والمغني مع الشرح الكبير 1 / 581.
(3) فتح الباري 2 / 306 ط السلفية.
(4) المغني مع الشرح الكبير 1 / 776، وبدائع الصنائع 1 / 297 ط الجمالية، ونهاية المحتاج 1 / 451، والشرح الصغير 1 / 358.(11/161)
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ صَلَّى قَائِمًا فَهُوَ أَفْضَل، وَمَنْ صَلَّى قَاعِدًا فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِ الْقَائِمِ (1) وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَمُتْ حَتَّى كَانَ كَثِيرٌ مِنْ صَلاَتِهِ وَهُوَ جَالِسٌ. (2)
7 - أَمَّا كَيْفِيَّةُ الْقُعُودِ فِي التَّطَوُّعِ فَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهَا:
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ - وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْمُتَطَوِّعِ جَالِسًا أَنْ يُكَبِّرَ لِلإِْحْرَامِ مُتَرَبِّعًا وَيَقْرَأَ، ثُمَّ يُغَيِّرَ هَيْئَتَهُ لِلرُّكُوعِ أَوِ السُّجُودِ عَلَى اخْتِلاَفٍ بَيْنَهُمْ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَأَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. كَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ وَمُجَاهِدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالثَّوْرِيِّ وَإِسْحَاقَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ. (3)
وَيَرَى أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ - فِيمَا نَقَلَهُ الْكَرْخِيُّ عَنْهُ - تَخْيِيرَ الْمُتَطَوِّعِ فِي حَالَةِ الْقِرَاءَةِ بَيْنَ الْقُعُودِ وَالتَّرَبُّعِ وَالاِحْتِبَاءِ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَحْتَبِي، هَذَا مَا اخْتَارَهُ الإِْمَامُ خُوَاهَرْ زَادَهْ؛ لأَِنَّ عَامَّةَ صَلاَةِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) حديث: " من صلى قائما فهو أفضل ومن صلى قاعدا. . . " أخرجه البخاري (الفتح 2 / 586 - ط السلفية) .
(2) حديث: " لم يمت النبي صلى الله عليه وسلم حتى كان كثير من. . . " أخرجه مسلم (1 / 506 - عيسى الحلبي) .
(3) المغني مع الشرح الكبير 1 / 780، وروضة الطالبين 1 / 235، والبحر الرائق 2 / 68، والشرح الصغير 1 / 360.(11/162)
فِي آخِرِ الْعُمْرِ كَانَ مُحْتَبِيًا؛ وَلأَِنَّهُ يَكُونُ أَكْثَرَ تَوَجُّهًا بِأَعْضَائِهِ إِلَى الْقِبْلَةِ.
وَقَال زُفَرُ: يَقْعُدُ فِي جَمِيعِ الصَّلاَةِ كَمَا فِي التَّشَهُّدِ، هَذَا مَا اخْتَارَهُ السَّرَخْسِيُّ.
وَقَال الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ: وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى لأَِنَّهُ الْمَعْهُودُ شَرْعًا فِي الصَّلاَةِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي أَصَحِّ الأَْقْوَال: إِنَّ الْمُتَطَوِّعَ يَقْعُدُ مُفْتَرِشًا. (1)
ثَانِيًا - التَّرَبُّعُ عِنْدَ تِلاَوَةِ الْقُرْآنِ:
8 - لاَ بَأْسَ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي كُل حَالٍ: قَائِمًا أَوْ جَالِسًا، مُتَرَبِّعًا أَوْ غَيْرَ مُتَرَبِّعٍ، أَوْ مُضْطَجِعًا أَوْ رَاكِبًا أَوْ مَاشِيًا، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَّكِئُ فِي حِجْرِي وَأَنَا حَائِضٌ ثُمَّ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ (2) وَعَنْهَا قَالَتْ: إِنِّي لأََقْرَأُ الْقُرْآنَ وَأَنَا مُضْطَجِعَةٌ عَلَى سَرِيرِي.
__________
(1) البحر الرائق 2 / 68 - 69، وروضة الطالبين 1 / 235.
(2) حديث عائشة: " كان النبي صلى الله عليه وسلم يتكئ في حجري وأنا حائض ثم يقرأ القرآن " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 401 - ط السلفية) .(11/162)
تَرْتِيبٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّرْتِيبُ فِي اللُّغَةِ: جَعْل كُل شَيْءٍ فِي مَرْتَبَتِهِ.
وَاصْطِلاَحًا: هُوَ جَعْل الأَْشْيَاءِ الْكَثِيرَةِ بِحَيْثُ يُطْلَقُ عَلَيْهَا اسْمُ الْوَاحِدِ، وَيَكُونُ لِبَعْضِ أَجْزَائِهِ نِسْبَةٌ إِلَى الْبَعْضِ بِالتَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
التَّتَابُعُ وَالْمُوَالاَةُ:
2 - التَّتَابُعُ: مَصْدَرُ تَتَابَعَ، يُقَال: تَتَابَعَتِ الأَْشْيَاءُ وَالأَْمْطَارُ وَالأُْمُورُ، إِذَا جَاءَ وَاحِدٌ مِنْهَا خَلْفَ وَاحِدٍ عَلَى أَثَرِهِ بِشَرْطِ عَدَمِ الْقَطْعِ وَفَسَّرَ الْفُقَهَاءُ التَّتَابُعَ فِي الصِّيَامِ: بِأَنْ لاَ يُفْطِرَ الْمَرْءُ فِي أَيَّامِ الصِّيَامِ (2) .
__________
(1) متن اللغة، والتعريفات للجرجاني، مادة: " رتب "، وكشاف اصطلاحات الفنون 2 / 527، 528، ودستور العلماء 1 / 285.
(2) متن اللغة، وتاج العروس مادة: " تبع "، وتفسير الطبري 9 / 56، وروح المعاني 5 / 115، والمنثور للزركشي 1 / 241، والقليوبي 2 / 94، والمغني 7 / 365.(11/163)
وَعَلَى ذَلِكَ، فَالتَّتَابُعُ وَالْمُوَالاَةُ مُتَقَارِبَانِ فِي الْمَعْنَى، إِلاَّ أَنَّ الْفُقَهَاءَ يَسْتَعْمِلُونَ التَّتَابُعَ غَالِبًا فِي الاِعْتِكَافِ وَكَفَّارَةِ الصِّيَامِ وَنَحْوِهِمَا، وَيَسْتَعْمِلُونَ الْمُوَالاَةَ غَالِبًا فِي الطَّهَارَةِ مِنَ الْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ وَالْغُسْل.
وَيَخْتَلِفُ التَّرْتِيبُ عَنِ التَّتَابُعِ وَالْمُوَالاَةِ فِي أَنَّ التَّرْتِيبَ يَكُونُ لِبَعْضِ الأَْجْزَاءِ نِسْبَةٌ إِلَى الْبَعْضِ بِالتَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ، بِخِلاَفِ التَّتَابُعِ وَالْمُوَالاَةِ، وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى فَإِنَّ التَّتَابُعَ وَالْمُوَالاَةَ يُشْتَرَطُ فِيهِمَا عَدَمُ الْقَطْعِ وَالتَّفْرِيقِ، فَيَضُرُّهُمَا التَّرَاخِي، بِخِلاَفِ التَّرْتِيبِ (1) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
3 - التَّرْتِيبُ إِنَّمَا يَكُونُ بَيْنَ أَشْيَاءَ مُخْتَلِفَةٍ كَالأَْعْضَاءِ فِي الْوُضُوءِ، وَالْجَمَرَاتِ الثَّلاَثِ، فَإِنِ اتَّحَدَ الْمَحَل وَلَمْ يَتَعَدَّدْ فَلاَ مَعْنَى لِلتَّرْتِيبِ كَمَا يَقُول الزَّرْكَشِيُّ، وَمِنْ ثَمَّ لَمْ يَجِبِ التَّرْتِيبُ فِي الْغُسْل؛ لأَِنَّهُ فَرْضٌ يَتَعَلَّقُ بِجَمِيعِ الْبَدَنِ، تَسْتَوِي فِيهِ الأَْعْضَاءُ كُلُّهَا. وَكَذَلِكَ الرُّكُوعُ الْوَاحِدُ وَالسُّجُودُ الْوَاحِدُ لاَ يَظْهَرُ فِيهِ أَثَرُ التَّرْتِيبِ، فَإِذَا اجْتَمَعَ الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ ظَهَرَ أَثَرُهُ. (2)
__________
(1) المراجع السابقة، ابن عابدين 2 / 83، وجواهر الإكليل 1 / 15، والمغني 1 / 139.
(2) المنثور في القواعد للزركشي 1 / 277.(11/163)
هَذَا، وَقَدْ بَيَّنَ الْفُقَهَاءُ حُكْمَ وَأَهَمِّيَّةَ التَّرْتِيبِ فِي مَبَاحِثِ الْعِبَادَاتِ مِنَ: الطَّهَارَةِ، وَأَرْكَانِ الصَّلاَةِ، وَنُسُكِ الْحَجِّ، وَالْكَفَّارَاتِ فِي النُّذُورِ وَالأَْيْمَانِ وَنَحْوِهَا. وَاتَّفَقُوا عَلَى فَرْضِيَّةِ التَّرْتِيبِ فِي بَعْضِ الْعِبَادَاتِ، كَالتَّرْتِيبِ فِي أَرْكَانِ الصَّلاَةِ مِنَ الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَاخْتَلَفُوا فِي بَعْضِهَا، نَذْكُرُ مِنْهَا مَا يَلِي:
أ - التَّرْتِيبُ فِي الْوُضُوءِ:
4 - التَّرْتِيبُ فِي أَعْمَال الْوُضُوءِ فَرْضٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ لأَِنَّهَا وَرَدَتْ فِي الآْيَةِ مُرَتَّبَةً، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} (1) لأَِنَّ إِدْخَال الْمَمْسُوحِ (أَيِ الرَّأْسِ) بَيْنَ الْمَغْسُولاَتِ (أَيِ الأَْيْدِي وَالأَْرْجُل) قَرِينَةٌ عَلَى أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ التَّرْتِيبُ، فَالْعَرَبُ لاَ تَقْطَعُ النَّظِيرَ عَنِ النَّظِيرِ إِلاَّ لِفَائِدَةٍ، وَالْفَائِدَةُ هَاهُنَا التَّرْتِيبُ. (2)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ (3) إِلَى عَدَمِ وُجُوبِ التَّرْتِيبِ فِي الْوُضُوءِ، بَل هُوَ سُنَّةٌ عِنْدَهُمْ؛ لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِغَسْل الأَْعْضَاءِ، وَعَطَفَ
__________
(1) سورة المائدة / 6.
(2) القليوبي 1 / 50، والمغني لابن قدامة 1 / 137.
(3) ابن عابدين 1 / 83، وجواهر الإكليل 1 / 16.(11/164)
بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ بِوَاوِ الْجَمْعِ، وَهِيَ لاَ تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: مَا أُبَالِي بِأَيِّ أَعْضَائِي بَدَأْتُ (1) .
وَالتَّرْتِيبُ إِنَّمَا يَكُونُ فِي عُضْوَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، فَإِنْ كَانَا فِي حُكْمِ الْعُضْوِ الْوَاحِدِ لَمْ يَجِبْ، وَلِهَذَا لاَ يَجِبُ التَّرْتِيبُ بَيْنَ الْيُمْنَى وَالْيُسْرَى فِي الْوُضُوءِ اتِّفَاقًا (2) . وَلَكِنْ يُسَنُّ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُحِبُّ التَّيَامُنَ (3) .
ب - التَّرْتِيبُ فِي قَضَاءِ الْفَوَائِتِ:
5 - جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ قَالُوا بِوُجُوبِ التَّرْتِيبِ بَيْنَ الصَّلَوَاتِ الْفَائِتَةِ، وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ الصَّلاَةِ الْوَقْتِيَّةِ إِذَا اتَّسَعَ الْوَقْتُ. فَمَنْ فَاتَتْهُ صَلاَةٌ أَوْ صَلَوَاتٌ وَهُوَ فِي وَقْتِ أُخْرَى، فَعَلَيْهِ أَنْ يَبْدَأَ بِقَضَاءِ الْفَوَائِتِ مُرَتَّبَةً، ثُمَّ يُؤَدِّيَ الصَّلاَةَ الْوَقْتِيَّةَ، إِلاَّ إِذَا كَانَ الْوَقْتُ ضَيِّقًا لاَ يَتَّسِعُ لأَِكْثَرَ مِنَ الْحَاضِرَةِ فَيُقَدِّمُهَا، ثُمَّ يَقْضِي الْفَوَائِتَ عَلَى التَّرْتِيبِ.
__________
(1) ابن عابدين 1 / 83، والدسوقي 1 / 99.
(2) المنثور للزركشي 1 / 277، 279، والمراجع السابقة.
(3) حديث: " كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب التيامن ". أخرجه البخاري (الفتح 1 / 269 - ط السلفية) ومسلم (1 / 226 - ط الحلبي) .(11/164)
عَلَى أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ يَقُولُونَ بِوُجُوبِ التَّرْتِيبِ فِي قَضَاءِ يَسِيرِ الْفَوَائِتِ مَعَ صَلاَةٍ حَاضِرَةٍ، وَإِنْ خَرَجَ وَقْتُهَا. (1)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يَجِبُ ذَلِكَ، بَل يُسَنُّ تَرْتِيبُ الْفَوَائِتِ، كَأَنْ يَقْضِيَ الصُّبْحَ قَبْل الظُّهْرِ، وَالظُّهْرَ قَبْل الْعَصْرِ. وَكَذَلِكَ يُسَنُّ تَقْدِيمُ الْفَوَائِتِ عَلَى الْحَاضِرَةِ مُحَاكَاةً لِلأَْدَاءِ، فَإِنْ خَافَ فَوْتَ الْحَاضِرَةِ بَدَأَ بِهَا وُجُوبًا لِئَلاَّ تَصِيرَ فَائِتَةً. (2)
هَذَا، وَيَسْقُطُ التَّرْتِيبُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ بِالنِّسْيَانِ، وَخَوْفِ فَوْتِ الْوَقْتِيَّةِ، وَزَادَ الْحَنَفِيَّةُ مُسْقِطًا آخَرَ هُوَ زِيَادَةُ الْفَوَائِتِ عَلَى خَمْسٍ. (3) وَفِي الْمَسْأَلَةِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي (قَضَاءُ الْفَوَائِتِ) .
ج - التَّرْتِيبُ فِي صُفُوفِ الصَّلاَةِ:
6 - صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّهُ: لَوْ اجْتَمَعَ الرِّجَال وَالنِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ، فَأَرَادُوا أَنْ يَصْطَفُّوا لِصَلاَةِ الْجَمَاعَةِ، يَقُومُ الرِّجَال صَفًّا مِمَّا يَلِي الإِْمَامَ، ثُمَّ الصِّبْيَانُ بَعْدَهُمْ ثُمَّ الإِْنَاثُ (4) . وَإِذَا تَقَدَّمَتِ
__________
(1) الاختيار 1 / 63، 64، وابن عابدين 1 / 487، وجواهر الإكليل 1 / 58، والمغني 1 / 607، 610.
(2) حاشية القليوبي على المنهاج 1 / 118.
(3) الاختيار للموصلي 1 / 64، وجواهر الإكليل 1 / 58، 59، والمغني 1 / 608، 612.
(4) البدائع 1 / 159، وجواهر الإكليل 1 / 83، والمهذب 1 / 107، وكشاف القناع 1 / 488.(11/165)
النِّسَاءُ عَلَى الرِّجَال فَسَدَتْ صَلاَةُ مَنْ وَرَاءَهُنَّ مِنْ صُفُوفِ الرِّجَال عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، خِلاَفًا لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ حَيْثُ صَرَّحُوا بِكَرَاهَةِ الصَّلاَةِ حِينَئِذٍ دُونَ الْفَسَادِ، (1) كَمَا هُوَ مُفَصَّلٌ فِي مُصْطَلَحِ: (اقْتِدَاءٌ، صَلاَةُ الْجَمَاعَةِ) .
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
يَرِدُ ذِكْرُ التَّرْتِيبِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ - إِضَافَةً إِلَى مَا سَبَقَ - فِي مَوَاضِعَ مُخْتَلِفَةٍ مِنْهَا:
أ - التَّرْتِيبُ فِي الْجَنَائِزِ:
7 - إِذَا كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ، فَإِذَا اجْتَمَعَتْ جَنَائِزُ الرِّجَال وَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ حِينَ الصَّلاَةِ عَلَيْهَا، فَإِنَّهُ يَصُفُّ الرِّجَال مِمَّا يَلِي الإِْمَامَ، ثُمَّ صَفَّ الصِّبْيَانِ، ثُمَّ صَفَّ النِّسَاءِ، وَكَذَلِكَ التَّرْتِيبُ فِي وَضْعِ الأَْمْوَاتِ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ، وَيُفَصِّل الْفُقَهَاءُ هَذِهِ الْمَسَائِل فِي أَبْوَابِ الْجَنَائِزِ.
ب - التَّرْتِيبُ فِي الْحَجِّ:
8 - التَّرْتِيبُ فِي أَعْمَال الْحَجِّ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الإِْخْلاَل بِهِ، فَصَّلَهُ الْفُقَهَاءُ فِي كِتَابِ الْحَجِّ. (ر: إِحْرَامٌ) .
__________
(1) تبيين الحقائق للزيلعي 1 / 138، 139، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 1 / 332، ومغني المحتاج 1 / 245، وكشاف القناع 1 / 488.(11/165)
ج - الدُّيُونُ:
9 - التَّرْتِيبُ فِي قَضَاءِ الدُّيُونِ، وَمَا يَجِبُ تَقْدِيمُهُ مِنْهَا عَلَى غَيْرِهِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ الْعِبَادِ، فَصَّلَهُ الْفُقَهَاءُ فِي بَابِ الرَّهْنِ وَالنَّفَقَةِ وَالْكَفَّارَةِ وَغَيْرِهَا (ر: دَيْنٌ) .
د - أَدِلَّةُ الإِْثْبَاتِ:
10 - التَّرْتِيبُ فِي أَدِلَّةِ الإِْثْبَاتِ مِنَ الإِْقْرَارِ وَالشَّهَادَةِ وَالْقَرَائِنِ وَنَحْوِهَا يَذْكُرُهُ الْفُقَهَاءُ فِي كِتَابِ الدَّعْوَى.
هـ - النِّكَاحُ:
11 - تَرْتِيبُ الأَْوْلِيَاءِ فِي النِّكَاحِ وَحَقِّ الْقِصَاصِ وَسَائِرِ الْحُقُوقِ كَالإِْرْثِ وَالْحَضَانَةِ وَغَيْرِهِمَا مَذْكُورٌ فِي أَبْوَابِهَا مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ، وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحَاتِهَا.
و الْكَفَّارَاتُ:
12 - التَّرْتِيبُ بَيْنَ أَنْوَاعِ الْكَفَّارَاتِ فِي الأَْيْمَانِ وَالنُّذُورِ وَغَيْرِهَا أَوْرَدَهُ الْفُقَهَاءُ فِي بَابِ الْكَفَّارَةِ.
وَتَفْصِيل هَذِهِ الْمَسَائِل يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحَاتِهَا.
تَرْتِيلٌ
انْظُرْ: تِلاَوَةٌ.(11/166)
تَرْجَمَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّرْجَمَةُ: مَصْدَرُ تَرْجَمَ، يُقَال: تَرْجَمَ كَلاَمَهُ: إِذَا بَيَّنَهُ، وَيُقَال: تَرْجَمَ كَلاَمَ غَيْرِهِ: إِذَا عَبَّرَ عَنْهُ بِلِسَانٍ آخَرَ. وَمِنْهُ التُّرْجُمَانُ، وَالتَّرْجُمَانُ، وَالتَّرْجَمَانُ. (1)
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِكَلِمَةِ التَّرْجَمَةِ عَنِ الْمَعْنَى الثَّانِي (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
التَّفْسِيرُ:
2 - التَّفْسِيرُ مَصْدَرُ فَسَّرَ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَى: الْبَيَانِ وَالْكَشْفِ وَالإِْظْهَارِ (3) .
وَفِي الشَّرْعِ: تَوْضِيحُ مَعْنَى الآْيَةِ (أَيْ وَنَحْوِهَا) وَشَأْنِهَا، وَقِصَّتِهَا، وَالسَّبَبِ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ بِلَفْظٍ يَدُل عَلَيْهِ دَلاَلَةً ظَاهِرَةً (4) .
__________
(1) المصباح المنير، ومختار الصحاح، ومتن اللغة مادة: " ترجم "، وكشاف القناع 6 / 352.
(2) كشاف القناع 6 / 352 ط عالم الكتب.
(3) مختار الصحاح، ومتن اللغة، والصحاح في اللغة والعلوم مادة: " فسر ".
(4) التعريفات للجرجاني، ودستور العلماء مادة: " التفسير ".(11/166)
فَالتَّرْجَمَةُ تَكُونُ بِلُغَةٍ مُغَايِرَةٍ، وَعَلَى قَدْرِ الْكَلاَمِ الْمُتَرْجَمِ، دُونَ زِيَادَةٍ أَوْ نَقْصٍ، بِخِلاَفِ التَّفْسِيرِ فَقَدْ يَطُول وَيَتَنَاوَل الدَّلاَلاَتِ التَّابِعَةَ لِلَّفْظِ.
تَرْجَمَةُ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَأَنْوَاعُهَا:
3 - قَال الشَّاطِبِيُّ: لِلُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ - مِنْ حَيْثُ هِيَ أَلْفَاظٌ دَالَّةٌ عَلَى مَعَانٍ - نَظَرَانِ:
أَحَدُهُمَا: مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا أَلْفَاظًا وَعِبَارَاتٍ مُطْلَقَةً دَالَّةً عَلَى مَعَانٍ مُطَلَّقَةٍ، وَهِيَ الدَّلاَلَةُ الأَْصْلِيَّةُ.
وَالثَّانِي: مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا أَلْفَاظًا وَعِبَارَاتٍ مُقَيَّدَةً، دَالَّةً عَلَى مَعَانٍ خَادِمَةٍ، وَهِيَ الدَّلاَلَةُ التَّابِعَةُ.
فَالْجِهَةُ الأُْولَى: هِيَ الَّتِي يَشْتَرِكُ فِيهَا جَمِيعُ الأَْلْسِنَةِ، وَإِلَيْهَا تَنْتَهِي مَقَاصِدُ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَلاَ تَخْتَصُّ بِأُمَّةٍ دُونَ أُخْرَى، فَإِنَّهُ إِذَا حَصَل فِي الْوُجُودِ فِعْلٌ لِزَيْدٍ مَثَلاً كَالْقِيَامِ، ثُمَّ أَرَادَ كُل صَاحِبِ لِسَانٍ الإِْخْبَارَ عَنْ زَيْدٍ بِالْقِيَامِ، تَأَتَّى لَهُ مَا أَرَادَ مِنْ غَيْرِ كُلْفَةٍ. وَمِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ يُمْكِنُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ الإِْخْبَارُ عَنْ أَقْوَال الأَْوَّلِينَ - مِمَّنْ لَيْسُوا مِنْ أَهْل اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ - وَحِكَايَةِ كَلاَمِهِمْ. وَيَتَأَتَّى فِي لِسَانِ الْعَجَمِ حِكَايَةُ أَقْوَال الْعَرَبِ وَالإِْخْبَارُ عَنْهَا، وَهَذَا لاَ إِشْكَال فِيهِ.
وَأَمَّا الْجِهَةُ الثَّانِيَةُ: فَهِيَ الَّتِي يَخْتَصُّ بِهَا لِسَانُ الْعَرَبِ فِي تِلْكَ الْحِكَايَةِ وَذَلِكَ الإِْخْبَارِ، فَإِنَّ كُل خَبَرٍ يَقْتَضِي فِي هَذِهِ الْجِهَةِ أُمُورًا خَادِمَةً لِذَلِكَ(11/167)
الإِْخْبَارِ، بِحَسَبِ الْمُخْبِرِ، وَالْمُخْبَرِ عَنْهُ، وَالْمُخْبَرِ بِهِ، وَنَفْسِ الإِْخْبَارِ، فِي الْحَال وَالْمَسَاقِ، وَنَوْعِ الأُْسْلُوبِ: مِنَ الإِْيضَاحِ وَالإِْخْفَاءِ، وَالإِْيجَازِ، وَالإِْطْنَابِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَذَلِكَ أَنَّكَ تَقُول فِي ابْتِدَاءِ الإِْخْبَارِ: قَامَ زَيْدٌ إِنْ لَمْ تَكُنْ ثَمَّ عِنَايَةٌ بِالْمُخْبَرِ عَنْهُ، بَل بِالْخَبَرِ. فَإِنْ كَانَتِ الْعِنَايَةُ بِالْمُخْبَرِ عَنْهُ قُلْتَ: زَيْدٌ قَامَ. وَفِي جَوَابِ السُّؤَال أَوْ مَا هُوَ مُنَزَّلٌ تِلْكَ الْمَنْزِلَةَ: إِنَّ زَيْدًا قَامَ. وَفِي جَوَابِ الْمُنْكِرِ لِقِيَامِهِ: وَاَللَّهِ إِنَّ زَيْدًا قَامَ. وَفِي إِخْبَارِ مَنْ يَتَوَقَّعُ قِيَامَهُ، أَوِ الإِْخْبَارِ بِقِيَامِهِ: قَدْ قَامَ زَيْدٌ، أَوْ زَيْدٌ قَدْ قَامَ. وَفِي التَّنْكِيتِ عَلَى مَنْ يُنْكِرُ: إِنَّمَا قَامَ زَيْدٌ.
ثُمَّ يَتَنَوَّعُ أَيْضًا بِحَسَبِ تَعْظِيمِهِ أَوْ تَحْقِيرِهِ - أَعْنِي الْمُخْبَرَ عَنْهُ - وَبِحَسَبِ الْكِنَايَةِ عَنْهُ وَالتَّصْرِيحِ بِهِ، وَبِحَسَبِ مَا يُقْصَدُ فِي مَسَاقِ الإِْخْبَارِ، وَمَا يُعْطِيهِ مُقْتَضَى الْحَال، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأُْمُورِ الَّتِي لاَ يُمْكِنُ حَصْرُهَا، وَجَمِيعُ ذَلِكَ دَائِرٌ حَوْل الإِْخْبَارِ بِالْقِيَامِ عَنْ زَيْدٍ.
فَمِثْل هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي يَخْتَلِفُ مَعْنَى الْكَلاَمِ الْوَاحِدِ بِحَسَبِهَا، لَيْسَتْ هِيَ الْمَقْصُودَ الأَْصْلِيَّ، وَلَكِنَّهَا مِنْ مُكَمِّلاَتِهِ وَمُتَمِّمَاتِهِ. وَبِطُول الْبَاعِ فِي هَذَا النَّوْعِ يَحْسُنُ مَسَاقُ الْكَلاَمِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مُنْكَرٌ. وَبِهَذَا النَّوْعِ الثَّانِي اخْتَلَفَتِ الْعِبَارَاتُ وَكَثِيرٌ مِنْ أَقَاصِيصِ الْقُرْآنِ؛ لأَِنَّهُ يَأْتِي مَسَاقُ الْقِصَّةِ فِي بَعْضِ السُّوَرِ عَلَى وَجْهٍ، وَفِي بَعْضِهَا عَلَى وَجْهٍ آخَرَ، وَفِي ثَالِثَةٍ عَلَى وَجْهٍ(11/167)
ثَالِثٍ، وَهَكَذَا مَا تَقَرَّرَ فِيهِ مِنَ الإِْخْبَارَاتِ لاَ بِحَسَبِ النَّوْعِ الأَْوَّل، إِلاَّ إِذَا سَكَتَ عَنْ بَعْضِ التَّفَاصِيل فِي بَعْضٍ، وَنَصَّ عَلَيْهِ فِي بَعْضٍ. وَذَلِكَ أَيْضًا لِوَجْهٍ اقْتَضَاهُ الْحَال وَالْوَقْتُ. {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} (1)
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَلاَ يُمْكِنُ لِمَنِ اعْتَبَرَ هَذَا الْوَجْهَ الأَْخِيرَ أَنْ يُتَرْجِمَ كَلاَمًا مِنَ الْكَلاَمِ الْعَرَبِيِّ بِكَلاَمِ الْعَجَمِ عَلَى حَالٍ، فَضْلاً عَنْ أَنْ يُتَرْجَمَ الْقُرْآنُ وَيُنْقَل إِلَى لِسَانٍ غَيْرِ عَرَبِيٍّ، إِلاَّ مَعَ فَرْضِ اسْتِوَاءِ اللِّسَانَيْنِ فِي اعْتِبَارِهِ عَيْنًا، كَمَا إِذَا اسْتَوَى اللِّسَانُ فِي اسْتِعْمَال مَا تَقَدَّمَ تَمْثِيلُهُ وَنَحْوُهُ. فَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي اللِّسَانِ الْمَنْقُول إِلَيْهِ مَعَ لِسَانِ الْعَرَبِ، أَمْكَنَ أَنْ يُتَرْجَمَ أَحَدُهُمَا إِلَى الآْخَرِ. وَإِثْبَاتُ مِثْل هَذَا بِوَجْهٍ بَيِّنٍ عَسِيرٌ جِدًّا. وَرُبَّمَا أَشَارَ إِلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَهْل الْمَنْطِقِ مِنَ الْقُدَمَاءِ، وَمَنْ حَذَا حَذْوَهُمْ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَلَكِنَّهُ غَيْرُ كَافٍ وَلاَ مُغْنٍ فِي هَذَا الْمَقَامِ.
وَقَدْ نَفَى ابْنُ قُتَيْبَةَ إِمْكَانَ التَّرْجَمَةِ فِي الْقُرْآنِ يَعْنِي عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الثَّانِي، فَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الأَْوَّل فَهُوَ مُمْكِنٌ، وَمِنْ جِهَتِهِ صَحَّ تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ وَبَيَانُ مَعْنَاهُ لِلْعَامَّةِ وَمَنْ لَيْسَ لَهُ فَهْمٌ يَقْوَى عَلَى تَحْصِيل مَعَانِيهِ، وَكَانَ ذَلِكَ جَائِزًا بِاتِّفَاقِ أَهْل الإِْسْلاَمِ، فَصَارَ هَذَا الاِتِّفَاقُ حُجَّةً فِي صِحَّةِ التَّرْجَمَةِ عَلَى الْمَعْنَى الأَْصْلِيِّ (2) .
__________
(1) سورة مريم / 64.
(2) الموافقات 2 / 66 - 68.(11/168)
4 - هَذَا وَتَنْقَسِمُ التَّرْجَمَةُ إِلَى نَوْعَيْنِ:
أ - التَّرْجَمَةُ الْحَرْفِيَّةُ: وَهِيَ النَّقْل مِنْ لُغَةٍ إِلَى أُخْرَى، مَعَ الْتِزَامِ الصُّورَةِ اللَّفْظِيَّةِ لِلْكَلِمَةِ، أَوْ تَرْتِيبِ الْعِبَارَةِ. (1)
ب - التَّرْجَمَةُ لِمَعَانِي الْكَلاَمِ: وَهِيَ تَعْبِيرٌ بِأَلْفَاظٍ تُبَيِّنُ مَعَانِيَ الْكَلاَمِ وَأَغْرَاضَهُ، وَتَكُونُ بِمَنْزِلَةِ التَّفْسِيرِ.
مَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّرْجَمَةِ مِنْ أَحْكَامٍ:
أ - كِتَابَةُ الْقُرْآنِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ وَهَل تُسَمَّى قُرْآنًا؟
5 - ذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى جَوَازِ كِتَابَةِ آيَةٍ أَوْ آيَتَيْنِ بِحُرُوفٍ غَيْرِ عَرَبِيَّةٍ، لاَ كِتَابَتِهِ كُلِّهِ، لَكِنْ كِتَابَةُ الْقُرْآنِ بِالْعَرَبِيَّةِ وَتَفْسِيرُ كُل حَرْفٍ وَتَرْجَمَتُهُ جَائِزٌ عِنْدَهُمْ. لِمَا رُوِيَ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ قَوْمًا مِنَ الْفُرْسِ سَأَلُوهُ أَنْ يَكْتُبَ لَهُمْ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ، فَكَتَبَ لَهُمْ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ بِالْفَارِسِيَّةِ.
ب - قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ:
وَنَظَرُ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ عَلَى اخْتِلاَفِ آرَائِهِمْ مُتَوَجِّهٌ إِلَى عَدَمِ الإِْخْلاَل بِحِفْظِ الْقُرْآنِ، وَأَنْ لاَ تَكُونَ مُؤَدِّيَةً إِلَى التَّهَاوُنِ بِأَمْرِهِ، وَلَكِنَّهَا لاَ تُسَمَّى قُرْآنًا عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَتْ. (2)
__________
(1) الصحاح في اللغة والعلوم مادة: " ترجم ".
(2) ابن عابدين 1 / 325، 326، 327، وبدائع الصنائع 1 / 112 ط دار الكتاب العربي، والقوانين / 65، ومواهب الجليل 1 / 159 ط دار الفكر، والقليوبي 1 / 151 ط عيسى البابي الحلبي، وروضة الطالبين 1 / 244 ط دار المكتب الإسلامي، ونهاية المحتاج 1 / 462 ط مصطفى البابي الحلبي.(11/168)
6 - وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلاَةِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ.
فَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الْقِرَاءَةُ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ، سَوَاءٌ أَحْسَنَ قِرَاءَتَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ أَمْ لَمْ يُحْسِنْ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} (1) أَمَرَ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الصَّلاَةِ، وَالْقُرْآنُ هُوَ الْمُنَزَّل بِلُغَةِ الْعَرَبِ، كَمَا قَال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} (2) وَقَال أَيْضًا: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} (3)
وَلأَِنَّ تَرْجَمَةَ الْقُرْآنِ مِنْ قَبِيل التَّفْسِيرِ، وَلَيْسَتْ قُرْآنًا؛ لأَِنَّ الْقُرْآنَ هُوَ اللَّفْظُ الْعَرَبِيُّ الْمُنَزَّل عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَالْقُرْآنُ دَلِيل النُّبُوَّةِ وَعَلاَمَةُ الرِّسَالَةِ، وَهُوَ الْمُعْجِزُ بِلَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ، وَالإِْعْجَازُ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ يَزُول بِزَوَال النَّظْمِ الْعَرَبِيِّ، فَلاَ تَكُونُ التَّرْجَمَةُ قُرْآنًا لاِنْعِدَامِ الإِْعْجَازِ، وَلِذَا لَمْ تَحْرُمْ قِرَاءَةُ التَّرْجَمَةِ عَلَى الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ، وَلاَ يَحْنَثُ بِهَا مَنْ حَلَفَ لاَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ. (4)
__________
(1) سورة المزمل / 20.
(2) سورة يوسف / 2.
(3) سورة الشعراء / 195.
(4) القوانين ص 65، ومواهب الجليل 1 / 519، والقليوبي 1 / 151، وروضة الطالبين 1 / 244، ونهاية المحتاج 1 / 462، والمجموع 3 / 299، والمغني 1 / 486، 487، كشاف القناع 1 / 340.(11/169)
وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى أَنَّ الْمُصَلِّيَ إِنْ كَانَ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ لاَ يَجُوزُ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ بِغَيْرِهَا، وَإِنْ كَانَ لاَ يُحْسِنُ يَجُوزُ. وَقَدْ ثَبَتَ رُجُوعُ أَبِي حَنِيفَةَ إِلَى قَوْلِهِمَا لِقُوَّةِ دَلِيلِهِمَا وَهُوَ: أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ، وَهُوَ اسْمٌ لِلْمُنَزَّل بِاللَّفْظِ الْعَرَبِيِّ الْمَنْظُومِ هَذَا النَّظْمِ الْخَاصِّ الْمَكْتُوبِ فِي الْمَصَاحِفِ، الْمَنْقُول إِلَيْنَا نَقْلاً مُتَوَاتِرًا. وَالأَْعْجَمِيَّةُ إِنَّمَا تُسَمَّى قُرْآنًا مَجَازًا، وَلِذَا يَصِحُّ نَفْيُ اسْمِ الْقُرْآنِ عَلَى الْمُتَرْجَمِ إِلَيْهَا (1) .
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْمَشْهُورِ مِنْ قَوْلِهِ إِلَى جَوَازِ الْقِرَاءَةِ بِالْفَارِسِيَّةِ - فِيمَا يُمْكِنُ تَرْجَمَتُهُ حَرْفِيًّا - كَمَا يَجُوزُ بِالْعَرَبِيَّةِ، سَوَاءٌ أَكَانَ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ أَمْ لاَ يُحْسِنُ، فَتَجِبُ لأَِنَّهَا اعْتُبِرَتْ خَلَفًا عَنِ النَّظْمِ الْعَرَبِيِّ، وَلَيْسَ لِكَوْنِهَا قُرْآنًا، فَهِيَ حِينَئِذٍ رُخْصَةٌ عِنْدَهُ. غَيْرَ أَنَّهُ إِنْ كَانَ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ يَصِيرُ مُسِيئًا لِمُخَالَفَتِهِ السُّنَّةَ الْمُتَوَارَثَةَ (2) . وَقَدْ رَجَعَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى رَأْيِ صَاحِبَيْهِ كَمَا سَبَقَ.
ثُمَّ الْجَوَازُ عَلَى قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ - الْمَرْجُوعِ عَنْهُ - مَقْصُورٌ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ لاَ يَكُونُ مُتَّهَمًا بِالْعَبَثِ بِالْقُرْآنِ، وَأَنْ لاَ يَكُونَ مُعْتَادًا لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 325، وبدائع الصنائع 1 / 112.
(2) الهداية 1 / 47 ط مصطفى البابي الحلبي، وبدائع الصنائع 1 / 112 ط دار الكتاب العربي، وابن عابدين 1 / 325، 326، 327.(11/169)
بِالْعَجَمِيَّةِ، أَمَّا اعْتِيَادُ الْقِرَاءَةِ بِالأَْعْجَمِيَّةِ فَمَمْنُوعٌ مُطْلَقًا. (1)
ج - مَسُّ الْمُحْدِثِ التَّرْجَمَةَ وَحَمْلَهَا وَقِرَاءَتَهَا:
7 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْحَائِضِ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ بِقَصْدِ الْقِرَاءَةِ وَلاَ مَسُّهُ، وَلَوْ مَكْتُوبًا بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ، وَقَال بَعْضُهُمْ: يَجُوزُ، وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلاً عَنِ الْبَحْرِ: وَهَذَا أَقْرَبُ إِلَى الْقِيَاسِ، وَالْمَنْعُ أَقْرَبُ إِلَى التَّعْظِيمِ، وَالصَّحِيحُ الْمَنْعُ. (2)
وَالْمُتَبَادَرُ مِنْ أَقْوَال الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ مَا صَرَّحَ بِهِ الْحَنَابِلَةُ: جَوَازُ مَسِّ كُتُبِ التَّفْسِيرِ مُطْلَقًا، قَل التَّفْسِيرُ أَوْ كَثُرَ، لأَِنَّهُ لاَ يَقَعُ عَلَيْهَا اسْمُ الْمُصْحَفِ، وَلاَ تَثْبُتُ لَهَا حُرْمَتُهُ. (3)
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ حُرْمَةَ حَمْل التَّفْسِيرِ وَمَسِّهِ، إِذَا كَانَ الْقُرْآنُ أَكْثَرَ مِنَ التَّفْسِيرِ، وَكَذَلِكَ إِنْ تَسَاوَيَا عَلَى الأَْصَحِّ، وَيَحِل إِذَا كَانَ التَّفْسِيرُ أَكْثَرَ عَلَى الأَْصَحِّ، وَفِي رِوَايَةٍ: يَحْرُمُ لإِِخْلاَلِهِ بِالتَّعْظِيمِ. (4) وَالتَّرْجَمَةُ مِنْ قَبِيل التَّفْسِيرِ.
__________
(1) ابن عابدين 1 / 326، 327 ط دار إحياء التراث العربي.
(2) ابن عابدين 1 / 195، 325، وبدائع الصنائع 1 / 112.
(3) مواهب الجليل 1 / 375، والمغني 1 / 148، وكشاف القناع 1 / 135، وتصحيح الفروع للمقدسي 1 / 308 ط مطبعة المنار.
(4) القليوبي 1 / 37، وروضة الطالبين 1 / 80.(11/170)
د - تَرْجَمَةُ الأَْذَانِ:
8 - لَوْ أَذَّنَ بِالْفَارِسِيَّةِ أَوْ بِلُغَةٍ أُخْرَى غَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ، فَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ، وَلَوْ عُلِمَ أَنَّهُ أَذَانٌ. (1) وَهُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ كَلاَمِ الْمَالِكِيَّةِ؛ لأَِنَّهُمْ يَشْتَرِطُونَ فِي الأَْذَانِ: أَنْ يَكُونَ بِالأَْلْفَاظِ الْمَشْرُوعَةِ. (2)
وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ فَصَّلُوا الْكَلاَمَ فِيهِ، وَقَالُوا: إِنْ كَانَ يُؤَذِّنُ لِجَمَاعَةٍ، وَفِيهِمْ مَنْ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ، لَمْ يُجْزِئِ الأَْذَانُ بِغَيْرِهَا، وَيُجْزِئُ إِنْ لَمْ يُوجَدْ مَنْ يُحْسِنُهَا. وَإِنْ كَانَ يُؤَذِّنُ لِنَفْسِهِ، فَإِنْ كَانَ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ لاَ يُجْزِئُهُ الأَْذَانُ بِغَيْرِهَا، وَإِنْ كَانَ لاَ يُحْسِنُهَا أَجْزَأَهُ. (3)
هـ - تَرْجَمَةُ التَّكْبِيرِ وَالتَّشَهُّدِ وَخُطْبَةِ الْجُمُعَةِ وَأَذْكَارِ الصَّلاَةِ:
9 - لَوْ كَبَّرَ الْمُصَلِّي بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ، فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى جَوَازِهِ مُطْلَقًا، عَجَزَ عَنِ الْعَرَبِيَّةِ أَمْ لَمْ يَعْجِزْ، وَاحْتَجَّ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} ، (4) وَقِيَاسًا عَلَى إِسْلاَمِ الْكَافِرِ (5) .
وَشَرَطَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ عَجْزَ الشَّخْصِ عَنِ الْعَرَبِيَّةِ.
__________
(1) ابن عابدين 1 / 256، وكشاف القناع 1 / 237.
(2) حاشية الدسوقي 1 / 191.
(3) المجموع 3 / 129.
(4) سورة الأعلى / 15.
(5) ابن عابدين 1 / 325، 326، وبدائع الصنائع 1 / 3، والمجموع 3 / 301.(11/170)
وَعَلَى هَذَا الْخِلاَفِ: الْخُطْبَةُ وَأَذْكَارُ الصَّلاَةِ، كَمَا لَوْ سَبَّحَ بِالْفَارِسِيَّةِ فِي الصَّلاَةِ، أَوْ أَثْنَى عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ تَعَوَّذَ، أَوْ هَلَّل، أَوْ تَشَهَّدَ، أَوْ صَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصِحُّ عِنْدَهُ، وَأَمَّا أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فَشَرَطَا الْعَجْزَ وَذَكَرَ ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلاً عَنْ شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ: أَنَّهُ لَوْ كَبَّرَ الشَّخْصُ بِالْفَارِسِيَّةِ، أَوْ سَمَّى عِنْدَ الذَّبْحِ، أَوْ لَبَّى عِنْدَ الإِْحْرَامِ بِالْفَارِسِيَّةِ أَوْ بِأَيِّ لِسَانٍ، سَوَاءٌ أَكَانَ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ أَمْ لاَ، جَازَ بِالاِتِّفَاقِ بَيْنَ الإِْمَامِ وَصَاحِبَيْهِ، وَهَذَا يَعْنِي أَنَّ الصَّاحِبَيْنِ رَجَعَا إِلَى قَوْل الإِْمَامِ فِي جَوَازِ التَّكْبِيرِ وَالأَْذْكَارِ مُطْلَقًا، كَمَا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَجَعَ إِلَى قَوْلِهِمَا فِي عَدَمِ جَوَازِ الْقِرَاءَةِ بِالْعَجَمِيَّةِ إِلاَّ عِنْدَ الْعَجْزِ (1) .
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ إِنْ عَجَزَ عَنِ التَّكْبِيرِ بِالْعَرَبِيَّةِ سَقَطَ، وَلاَ يَجُوزُ بِغَيْرِهَا، وَيَكْفِيهِ نِيَّتُهُ كَالأَْخْرَسِ، فَإِنْ أَتَى الْعَاجِزُ عَنْهُ بِمُرَادِفِهِ مِنْ لُغَةٍ أُخْرَى لَمْ تَبْطُل، قِيَاسًا عَلَى الدُّعَاءِ بِالْعَجَمِيَّةِ وَلَوْ لِلْقَادِرِ عَلَى الْعَرَبِيَّةِ.
وَعِنْدَ بَعْضِ شُيُوخِ الْقَاضِي عِيَاضٍ: يَجُوزُ الإِْتْيَانُ بِالتَّكْبِيرِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ، وَأَمَّا الْخُطْبَةُ فَلاَ تَجُوزُ عِنْدَهُمْ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ وَلَوْ كَانَ الْجَمَاعَةُ عَجَمًا لاَ يَعْرِفُونَ الْعَرَبِيَّةَ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ مَنْ يُحْسِنُ الإِْتْيَانَ بِالْخُطْبَةِ عَرَبِيَّةً لَمْ تَلْزَمْهُمْ جُمُعَةٌ. (2)
__________
(1) ابن عابدين 1 / 325، وبدائع الصنائع 1 / 113.
(2) مواهب الجليل 1 / 515، وحاشية الدسوقي 1 / 233 و 1 / 378.(11/171)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ التَّكْبِيرِ بِالْعَجَمِيَّةِ إِذَا أَحْسَنَ الْعَرَبِيَّةَ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي (1) وَكَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يُكَبِّرُ بِالْعَرَبِيَّةِ، وَأَيْضًا قَال لِلْمُسِيءِ فِي صَلاَتِهِ: إِذَا قُمْتَ لِلصَّلاَةِ فَكَبِّرْ. . (2) وَلأَِنَّهُ لَمْ يُنْقَل عَنْهُ الْعُدُول عَنْ ذَلِكَ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا. هَذَا إِذَا أَحْسَنَ الْعَرَبِيَّةَ، أَمَّا إِنْ لَمْ يُحْسِنِ الْعَرَبِيَّةَ لَزِمَهُ تَعَلُّمُ التَّكْبِيرِ بِهَا إِنْ كَانَ فِي الْوَقْتِ مُتَّسَعٌ، وَإِلاَّ كَبَّرَ بِلُغَتِهِ. وَكَذَلِكَ التَّشَهُّدُ الأَْخِيرُ وَالصَّلاَةُ عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجُوزَانِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ عِنْدَهُمْ لِلْعَاجِزِ عَنْهَا، وَلاَ يَجُوزُ لِلْقَادِرِ (3) .
وَأَمَّا خُطْبَةُ الْجُمُعَةِ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ مِنَ الْمَذْهَبِ إِلَى: أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ بِالْعَرَبِيَّةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ مَنْ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ، وَلَمْ يُمْكِنْ تَعَلُّمُهَا، خَطَبَ بِغَيْرِهَا، فَإِنِ انْقَضَتْ مُدَّةُ إِمْكَانِ التَّعَلُّمِ - وَلَمْ يَتَعَلَّمُوا - عَصَوْا كُلُّهُمْ وَلاَ جُمُعَةَ لَهُمْ (4) .
__________
(1) حديث: " صلوا كما رأيتموني أصلي ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 111 - ط السلفية) .
(2) حديث: " إذا قمت للصلاة فكبر " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 277 - ط السلفية) ومسلم (1 / 298 - ط الحلبي) .
(3) المجموع 3 / 299، 301، ونهاية المحتاج 1 / 462، وروضة الطالبين 1 / 221، 226، والقليوبي 1 / 143، 151، 168، والمغني 1 / 545، وكشاف القناع 2 / 34.
(4) روضة الطالبين 2 / 26، والجمل على شرح المنهج 2 / 27، والمنثور للزركشي 1 / 282.(11/171)
وَفِي السَّلاَمِ بِالْعَجَمِيَّةِ ثَلاَثَةُ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهُمَا: إِنْ قَدَرَ عَلَى الْعَرَبِيَّةِ لَمْ يَجُزْ، وَقَال النَّوَوِيُّ: الصَّوَابُ صِحَّةُ سَلاَمِهِ بِالْعَجَمِيَّةِ إِنْ كَانَ الْمُخَاطَبُ يَفْهَمُهَا (1) .
وَالضَّابِطُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي مَسْأَلَةِ التَّرْجَمَةِ هُوَ: أَنَّ مَا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ لَفْظَهُ وَمَعْنَاهُ، فَإِنْ كَانَ لإِِعْجَازِهِ امْتَنَعَ قَطْعًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ امْتَنَعَ لِلْقَادِرِ، كَالأَْذَانِ وَتَكْبِيرِ الإِْحْرَامِ وَالتَّشَهُّدِ وَالأَْذْكَارِ الْمَنْدُوبَةِ، وَالأَْدْعِيَةِ الْمَأْثُورَةِ فِي الصَّلاَةِ، وَالسَّلاَمِ وَالْخُطْبَةِ. وَمَا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ مَعْنَاهُ دُونَ لَفْظِهِ، فَجَائِزٌ، كَالْبَيْعِ وَالْخُلْعِ وَالطَّلاَقِ وَنَحْوِهَا.
وَالْقَوْل الآْخَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ كَوْنَ الْخُطْبَةِ بِالْعَرَبِيَّةِ مُسْتَحَبٌّ فَقَطْ، قَال النَّوَوِيُّ: لأَِنَّ الْمَقْصُودَ الْوَعْظُ، وَهُوَ حَاصِلٌ بِكُل اللُّغَاتِ (2) .
و الدُّعَاءُ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ فِي الصَّلاَةِ:
10 - الْمَنْقُول عَنِ الْحَنَفِيَّةِ فِي الدُّعَاءِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ الْكَرَاهَةُ؛ لأَِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ نَهَى عَنْ رَطَانَةِ الأَْعَاجِمِ، وَالرَّطَانَةُ كَمَا فِي الْقَامُوسِ: الْكَلاَمُ بِالأَْعْجَمِيَّةِ. وَظَاهِرُ التَّعْلِيل: أَنَّ الدُّعَاءَ
__________
(1) روضة الطالبين 10 / 230.
(2) المنثور في القواعد للزركشي 1 / 282، 283، والمجموع 4 / 522. وترى اللجنة أن ما اختلفوا في صحته بالعجمية أو عدم صحته بها هو أركان الخطبة التي لا تجزئ الخطبة إلا بها، أما ما زاد على ذلك فلا بأس به بغير العربية إن لم يكن السامعون عربا.(11/172)
بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ خِلاَفُ الأَْوْلَى، وَأَنَّ الْكَرَاهَةَ فِيهِ تَنْزِيهِيَّةٌ، وَلاَ يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الدُّعَاءُ بِالْعَجَمِيَّةِ مَكْرُوهًا تَحْرِيمًا فِي الصَّلاَةِ، وَتَنْزِيهًا خَارِجَهَا (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ الدُّعَاءُ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ - عَلَى مَا نَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْقَرَافِيِّ - مُعَلِّلاً بِاشْتِمَالِهِ عَلَى مَا يُنَافِي التَّعْظِيمَ، وَقَيَّدَ اللَّقَّانِيُّ كَلاَمَ الْقَرَافِيِّ بِالأَْعْجَمِيَّةِ الْمَجْهُولَةِ الْمَدْلُول، أَخْذًا مِنْ تَعْلِيلِهِ، وَهُوَ اشْتِمَالُهَا عَلَى مَا يُنَافِي جَلاَل الرُّبُوبِيَّةِ.
وَأَمَّا إِذَا عَلِمَ مَدْلُولَهَا فَيَجُوزُ اسْتِعْمَالُهَا مُطْلَقًا فِي الصَّلاَةِ وَغَيْرِهَا؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَْسْمَاءَ كُلَّهَا} (2) وقَوْله تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ} (3) وَهَذَا مَا صَرَّحَ بِهِ الدُّسُوقِيُّ أَيْضًا. (4)
وَقَدْ فَصَّل الشَّافِعِيَّةُ الْكَلاَمَ فَقَالُوا: الدُّعَاءُ فِي الصَّلاَةِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَأْثُورًا أَوْ غَيْرَ مَأْثُورٍ. أَمَّا الدُّعَاءُ الْمَأْثُورُ فَفِيهِ ثَلاَثَةُ أَوْجُهٍ:
أَصَحُّهَا، وَيُوَافِقُهُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَابِلَةُ: أَنَّهُ يَجُوزُ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ لِلْعَاجِزِ عَنْهَا، وَلاَ يَجُوزُ لِلْقَادِرِ، فَإِنْ فَعَل بَطَلَتْ صَلاَتُهُ. وَالثَّانِي: يَجُوزُ لِمَنْ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ وَغَيْرِهِ.
__________
(1) ابن عابدين 1 / 350.
(2) سورة البقرة / 31.
(3) سورة إبراهيم / 4.
(4) ابن عابدين 1 / 350، وحاشية الدسوقي 1 / 233 ط دار الفكر.(11/172)
وَالثَّالِثُ: لاَ يَجُوزُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا لِعَدَمِ الضَّرُورَةِ إِلَيْهِ.
وَأَمَّا الدُّعَاءُ غَيْرُ الْمَأْثُورِ فِي الصَّلاَةِ، فَلاَ يَجُوزُ اخْتِرَاعُهُ وَالإِْتْيَانُ بِهِ بِالْعَجَمِيَّةِ قَوْلاً وَاحِدًا.
وَأَمَّا سَائِرُ الأَْذْكَارِ كَالتَّشَهُّدِ الأَْوَّل وَالصَّلاَةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ، وَالْقُنُوتِ، وَالتَّسْبِيحِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَتَكْبِيرَاتِ الاِنْتِقَالاَتِ، فَعَلَى الْقَوْل بِجَوَازِ الدُّعَاءِ بِالأَْعْجَمِيَّةِ تَجُوزُ بِالأُْولَى، وَإِلاَّ فَفِي جَوَازِهَا لِلْعَاجِزِ أَوْجُهٌ:
أَصَحُّهَا: الْجَوَازُ. وَالثَّانِي: لاَ. وَالثَّالِثُ: يَجُوزُ فِيمَا يُجْبَرُ بِسُجُودِ السَّهْوِ.
وَذَكَرَ صَاحِبُ الْحَاوِي: أَنَّهُ إِذَا لَمْ يُحْسِنِ الْعَرَبِيَّةَ أَتَى بِكُل الأَْذْكَارِ بِالْعَجَمِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ يُحْسِنُهَا أَتَى بِالْعَرَبِيَّةِ، فَإِنْ خَالَفَ وَقَالَهَا بِالْفَارِسِيَّةِ: فَمَا كَانَ وَاجِبًا كَالتَّشَهُّدِ وَالسَّلاَمِ لَمْ يُجْزِهِ، وَمَا كَانَ سُنَّةً كَالتَّسْبِيحِ وَالاِفْتِتَاحِ أَجْزَأَهُ وَقَدْ أَسَاءَ (1) .
ز - الإِْتْيَانُ بِالشَّهَادَتَيْنِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ لِمَنْ أَرَادَ الإِْسْلاَمَ:
11 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْكَافِرَ إِذَا أَرَادَ الإِْسْلاَمَ، فَإِنْ لَمْ يُحْسِنِ الْعَرَبِيَّةَ جَازَ أَنْ يَأْتِيَ بِالشَّهَادَتَيْنِ بِلِسَانِهِ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ يُحْسِنُهَا: فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ عَامَّةِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ
__________
(1) المجموع 3 / 299، 300، والمغني 3 / 292، وكشاف القناع 2 / 420، 421.(11/173)
جَائِزٌ؛ لأَِنَّ الْمُرَادَ مِنَ الشَّهَادَتَيْنِ الإِْخْبَارُ عَنِ اعْتِقَادِهِ، وَذَلِكَ يَحْصُل بِكُل لِسَانٍ. (1)
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَالأَْصْل عِنْدَهُمْ أَنَّ النُّطْقَ بِالشَّهَادَتَيْنِ بِالْعَرَبِيَّةِ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الإِْسْلاَمِ إِلاَّ لِعَجْزٍ - بِخَرَسٍ وَنَحْوِهِ - مَعَ قِيَامِ الْقَرِينَةِ عَلَى تَصْدِيقِهِ بِقَلْبِهِ، فَيُحْكَمُ لَهُ بِالإِْسْلاَمِ، وَتَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُهُ. (2)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَثْبُتُ إِسْلاَمُ الْكَافِرِ الأَْصْلِيِّ بِالنُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ. (3) وَأَمَّا إِنْ قَال: أَنَا مُؤْمِنٌ أَوْ أَنَا مُسْلِمٌ، قَال الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: يُحْكَمُ بِإِسْلاَمِهِ بِهَذَا وَإِنْ لَمْ يَلْفِظِ الشَّهَادَتَيْنِ.
ح - الأَْمَانُ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ:
12 - الأَْمَانُ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ يَجُوزُ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ قَال: إِذَا قُلْتُمْ: لاَ بَأْسَ أَوْ: لاَ تَذْهَل أَوْ: مَتْرَسَ (4) ، فَقَدْ آمَنْتُمُوهُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَعْلَمُ الأَْلْسِنَةَ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ مِثْل ذَلِكَ (5) .
__________
(1) ابن عابدين 1 / 325، والمجموع 3 / 301.
(2) جواهر الإكليل 1 / 22 ط دار المعرفة.
(3) المغني 1 / 141.
(4) ابن عابدين 3 / 226، 227، والقوانين / 159، والقليوبي 4 / 226، والمغني 8 / 489، وكشاف القناع 3 / 106.(11/173)
ط - انْعِقَادُ النِّكَاحِ وَوُقُوعُ الطَّلاَقِ، بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ
أَوَّلاً - تَرْجَمَةُ صِيغَةِ النِّكَاحِ:
13 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ مَنْ لاَ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ يَصِحُّ مِنْهُ عَقْدُ النِّكَاحِ بِلِسَانِهِ؛ لأَِنَّهُ عَاجِزٌ عَمَّا سِوَاهُ، فَسَقَطَ عَنْهُ كَالأَْخْرَسِ، وَيَحْتَاجُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْمَعْنَى الْخَاصِّ بِحَيْثُ يَشْتَمِل عَلَى مَعْنَى اللَّفْظِ الْعَرَبِيِّ، وَقَال أَبُو الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: عَلَيْهِ أَنْ يَتَعَلَّمَ مَا كَانَتِ الْعَرَبِيَّةُ شَرْطًا فِيهِ كَالتَّكْبِيرِ.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ يَقْدِرُ عَلَى لَفْظِ النِّكَاحِ بِالْعَرَبِيَّةِ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ، وَالشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَابْنُ قُدَامَةَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى: أَنَّهُ يَنْعَقِدُ بِغَيْرِهَا؛ لأَِنَّهُ أَتَى بِلَفْظِهِ الْخَاصِّ، فَانْعَقَدَ بِهِ، كَمَا يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْعَرَبِيَّةِ. وَلأَِنَّ اللُّغَةَ الْعَجَمِيَّةَ تَصْدُرُ عَمَّنْ تَكَلَّمَ بِهَا عَنْ قَصْدٍ صَحِيحٍ.
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ آخَرَ أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ، حَتَّى وَإِنْ كَانَ لاَ يُحْسِنُهَا.
وَلِلشَّافِعِيَّةِ قَوْلٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ أَنَّهُ يَنْعَقِدُ إِنْ لَمْ يُحْسِنِ الْعَرَبِيَّةَ وَإِلاَّ فَلاَ (1) . وَقَال فِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ: فَإِنْ كَانَ أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي النِّكَاحِ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ دُونَ الآْخَرِ أَتَى الَّذِي يُحْسِنُ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 270، وروضة الطالبين 7 / 36، والمغني 6 / 533، وكشاف القناع 5 / 38، 40.(11/174)
الْعَرَبِيَّةَ بِمَا هُوَ مِنْ قِبَلِهِ - مِنْ إِيجَابٍ أَوْ قَبُولٍ - بِالْعَرَبِيَّةِ لِقُدْرَتِهِ عَلَيْهِ، وَالْعَاقِدُ الآْخَرُ يَأْتِي بِمَا هُوَ مِنْ قِبَلِهِ بِلُغَتِهِ، وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا لاَ يُحْسِنُ لِسَانَ الآْخَرِ تَرْجَمَ بَيْنَهُمَا ثِقَةٌ يَعْرِفُ اللِّسَانَيْنِ (1) .
ثَانِيًا - التَّطْلِيقُ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ:
14 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى: أَنَّ الْعَجَمِيَّ إِذَا أَتَى بِصَرِيحِ الطَّلاَقِ بِالْعَجَمِيَّةِ كَانَ طَلاَقًا، وَإِذَا أَتَى بِالْكِنَايَةِ لاَ يَقَعُ إِلاَّ بِنِيَّتِهِ.
وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي الأَْلْفَاظِ الَّتِي تُعْتَبَرُ صَرِيحَ الطَّلاَقِ وَكِنَايَتَهُ بِالْعَجَمِيَّةِ، وَبَيَّنَ الْفُقَهَاءُ بَعْضَهَا فِي كِتَابِ الطَّلاَقِ (2) .
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ مَنْ طَلَّقَ بِالْعَجَمِيَّةِ لَزِمَهُ إِنْ شَهِدَ بِذَلِكَ عَدْلاَنِ يَعْرِفَانِ الْعَجَمِيَّةَ. قَال ابْنُ نَاجِي: قَال أَبُو إِبْرَاهِيمَ: يُؤْخَذُ مِنْهَا أَنَّ التُّرْجُمَانَ لاَ يَكُونُ أَقَل مِنْ عَدْلَيْنِ (3) .
وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (طَلاَقٌ) .
ي - التَّرْجَمَةُ فِي الْقَضَاءِ:
15 - جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الْقَاضِيَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَّخِذَ مُتَرْجِمًا (4) .
__________
(1) كشاف القناع 5 / 39.
(2) ابن عابدين 2 / 429، 464، والفتاوى الهندية ط المطبعة الأميرية، والقليوبي 3 / 324، 327، ونهاية المحتاج 6 / 428، وروضة الطالبين 8 / 23، 25، والمغني 7 / 124، 238.
(3) مواهب الجليل 4 / 44.
(4) ابن عابدين 4 / 374، ومواهب الجليل 6 / 111، والشرح الصغير 4 / 202، وروضة الطالبين 11 / 136، والمغني 9 / 100، 101، وكشاف القناع 6 / 352.(11/174)
وَأَمَّا تَعَدُّدُهُ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى: أَنَّهُ يَكْفِي وَاحِدٌ عَدْلٌ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ وَقَالَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَيْضًا. قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ فِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ أَنْ يَتَعَلَّمَ كِتَابَ يَهُودَ، قَال: فَكُنْتُ أَكْتُبُ لَهُ إِذَا كَتَبَ إِلَيْهِمْ، وَأَقْرَأُ لَهُ إِذَا كَتَبُوا (1) .
وَلأَِنَّهُ مِمَّا لاَ يَفْتَقِرُ إِلَى لَفْظِ الشَّهَادَةِ فَأَجْزَأَ فِيهِ الْوَاحِدُ كَأَخْبَارِ الدِّيَانَاتِ.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ يَكْفِي الْوَاحِدُ الْعَدْل إِنْ رَتَّبَهُ الْقَاضِي. أَمَّا غَيْرُ الْمُرَتَّبِ بِأَنْ أَتَى بِهِ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ، أَوْ طَلَبَهُ الْقَاضِي لِلتَّبْلِيغِ، فَلاَ بُدَّ فِيهِ مِنَ التَّعَدُّدِ؛ لأَِنَّهُ صَارَ كَالشَّاهِدِ. وَفِي قَوْلٍ: لاَ بُدَّ مِنْ تَعَدُّدِهِ، وَلَوْ رُتِّبَ (2) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى: أَنَّ التَّرْجَمَةَ شَهَادَةٌ؛ لأَِنَّ الْمُتَرْجِمَ يَنْقُل إِلَى الْقَاضِي قَوْلاً لاَ يَعْرِفُهُ الْقَاضِي، وَمَا خَفِيَ عَلَيْهِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُتَخَاصِمَيْنِ، وَلِذَا فَإِنَّهَا تَفْتَقِرُ إِلَى الْعَدَدِ وَالْعَدَالَةِ، وَيُعْتَبَرُ فِيهِ مِنَ الشُّرُوطِ مَا يُعْتَبَرُ فِي الشَّهَادَةِ. فَإِنْ كَانَ الْحَقُّ مِمَّا يَثْبُتُ بِرَجُلٍ أَوِ امْرَأَتَيْنِ قُبِلَتِ التَّرْجَمَةُ مِنْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَمَا لاَ
__________
(1) حديث زيد بن ثابت: " أنه أمره أن يتعلم كتاب يهود. . . " أخرجه الترمذي (5 / 67 - ط الحلبي) وقال: حسن صحيح.
(2) الشرح الصغير 4 / 202، ومواهب الجليل 6 / 116.(11/175)
يَثْبُتُ إِلاَّ بِرَجُلَيْنِ يُشْتَرَطُ فِي تَرْجَمَتِهِ رَجُلاَنِ، وَفِي حَدِّ الزِّنَا قَوْلاَنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لاَ يَكْفِي فِيهِ أَقَل مِنْ أَرْبَعَةِ رِجَالٍ أَحْرَارٍ عُدُولٍ:
وَالثَّانِي: يَكْفِي فِيهِ اثْنَانِ. وَقِيل عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: يَكْفِي رَجُلاَنِ قَطْعًا (1) .
تَرْجِيحٌ
انْظُرْ: تَعَارُضٌ.
__________
(1) روضة الطالبين 11 / 136، والمغني 9 / 100، 101، وكشاف القناع 6 / 352، 353.(11/175)
تَرْجِيعٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّرْجِيعُ فِي اللُّغَةِ هُوَ: تَرْدِيدُ الصَّوْتِ فِي قِرَاءَةٍ أَوْ أَذَانٍ أَوْ غِنَاءٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُتَرَنَّمُ بِهِ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ هُوَ: أَنْ يَخْفِضَ الْمُؤَذِّنُ صَوْتَهُ بِالشَّهَادَتَيْنِ مَعَ إِسْمَاعِهِ الْحَاضِرِينَ، ثُمَّ يَعُودُ فَيَرْفَعَ صَوْتَهُ بِهِمَا (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
التَّثْوِيبُ:
2 - التَّثْوِيبُ لُغَةً: الْعَوْدُ إِلَى الإِْعْلاَمِ بَعْدَ الإِْعْلاَمِ.
وَاصْطِلاَحًا: قَوْل الْمُؤَذِّنِ فِي أَذَانِ الصُّبْحِ بَعْدَ الْحَيْعَلَتَيْنِ، أَوْ بَعْدَ الأَْذَانِ وَقَبْل الإِْقَامَةِ - كَمَا يَقُول بَعْضُ الْفُقَهَاءِ - الصَّلاَةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ، مَرَّتَيْنِ (3) .
وَيَخْتَلِفُ التَّثْوِيبُ عَنِ التَّرْجِيعِ - بِالْمَعْنَى
__________
(1) لسان العرب مادة: " رجع ".
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 259.
(3) الزيلعي 1 / 92، وروضة الطالبين 1 / 199 نشر المكتب الإسلامي. وقليوبي وعميرة 1 / 128.(11/176)
الأَْوَّل - فِي أَنَّ التَّثْوِيبَ يَكُونُ فِي أَذَانِ الْفَجْرِ بَعْدَ الْحَيْعَلَتَيْنِ أَوْ بَعْدَ الأَْذَانِ، وَأَمَّا التَّرْجِيعُ فَيَكُونُ فِي الإِْتْيَانِ بِالشَّهَادَتَيْنِ فِي كُل أَذَانٍ (1) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
3 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ - وَهُوَ قَوْل الثَّوْرِيِّ وَإِسْحَاقَ - أَنَّهُ لاَ تَرْجِيعَ فِي الأَْذَانِ (2) ، لِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ مِنْ غَيْرِ تَرْجِيعٍ.
فَقَال لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّهَا حَقٌّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَقُمْ مَعَ بِلاَلٍ فَأَلْقِ عَلَيْهِ مَا رَأَيْتَ، فَلْيُؤَذِّنْ بِهِ، فَإِنَّهُ أَنْدَى صَوْتًا مِنْكَ. فَقُمْتُ مَعَ بِلاَلٍ، فَجَعَلْتُ أُلْقِيهِ عَلَيْهِ وَيُؤَذِّنُ بِهِ (3) .
فَإِذَا رَجَعَ الْمُؤَذِّنُ، فَقَدْ نَصَّ الإِْمَامُ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِهِ، وَاعْتُبِرَ الاِخْتِلاَفُ فِي التَّرْجِيعِ مِنَ الاِخْتِلاَفَاتِ الْمُبَاحَةِ، وَقَال
__________
(1) حاشية العدوي 1 / 223 نشر دار المعرفة، والمجموع للنووي بتحقيق محمد نجيب المطيعي 3 / 89، وروضة الطالبين 1 / 199.
(2) الزيلعي 1 / 90، والبحر الرائق 1 / 269، والبناية في شرح الهداية 2 / 9 نشر دار الفكر، والمغني مع الشرح الكبير 1 / 416، والإنصاف 1 / 412 الطبعة الأولى 1374 هـ.
(3) حديث: " عبد الله بن زيد من غير ترجيع ". أخرجه أبو داود (1 / 338 ط عزت عبيد دعاس) . وصححه البخاري كما في التلخيص لابن حجر (1 / 197 ط شركة الطباعة الفنية) .(11/176)
ابْنُ نُجَيْمٍ: الظَّاهِرُ مِنْ عِبَارَاتِ مَشَايِخِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ التَّرْجِيعَ مُبَاحٌ لَيْسَ بِسُنَّةٍ وَلاَ مَكْرُوهٍ؛ لأَِنَّ كِلاَ الأَْمْرَيْنِ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَقَل الْحَصْكَفِيُّ عَنْ مُلْتَقَى الأَْبْحُرِ كَرَاهَةَ التَّرْجِيعِ فِي الأَْذَانِ، وَحَمَلَهَا ابْنُ عَابِدِينَ عَلَى الْكَرَاهَةِ التَّنْزِيهِيَّةِ (1) .
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ يُسَنُّ التَّرْجِيعُ فِي الأَْذَانِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي مَحْذُورَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلْقَى عَلَيْهِ التَّأْذِينَ هُوَ بِنَفْسِهِ، فَقَال لَهُ: قُل: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّهِ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّهِ، ثُمَّ قَال: ارْجِعْ فَامْدُدْ صَوْتَكَ، ثُمَّ قَال: قُل: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّهِ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّهِ. . إِلَخْ (2) .
وَهُنَاكَ وَجْهٌ لِلشَّافِعِيَّةِ حَكَاهُ الْخُرَاسَانِيُّونَ: أَنَّ التَّرْجِيعَ رُكْنٌ لاَ يَصِحُّ الأَْذَانُ إِلاَّ بِهِ. قَال الْقَاضِي حُسَيْنٌ: نَقَل الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الإِْمَامِ
__________
(1) البحر الرائق ومنحة الخالق 1 / 269، وحاشية ابن عابدين 1 / 259، والمغني مع الشرح الكبير 1 / 417.
(2) حديث أبي محذورة. أخرجه النسائي (2 / 6 ط المكتبة التجارية) وصحه ابن دقيق العيد. التلخيص (1 / 200 ط شركة الطباعة الفنية) .(11/177)
الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ إِنْ تَرَكَ التَّرْجِيعَ لاَ يَصِحُّ أَذَانُهُ (1) .
مَحَل التَّرْجِيعِ:
4 - التَّرْجِيعُ يَكُونُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ أَبِي مَحْذُورَةَ بَعْدَ الإِْتْيَانِ بِالشَّهَادَتَيْنِ مَعًا، فَلاَ يُرَجِّعُ الشَّهَادَةَ الأُْولَى قَبْل الإِْتْيَانِ بِالشَّهَادَةِ الثَّانِيَةِ (2) .
حِكْمَةُ التَّرْجِيعِ:
5 - حِكْمَةُ التَّرْجِيعِ هِيَ تَدَبُّرُ كَلِمَتَيِ الإِْخْلاَصِ؛ لِكَوْنِهِمَا الْمُنَجِّيَتَيْنِ مِنَ الْكُفْرِ، الْمُدْخِلَتَيْنِ فِي الإِْسْلاَمِ، وَتَذَكُّرِ خَفَائِهِمَا فِي أَوَّل الإِْسْلاَمِ ثُمَّ ظُهُورِهِمَا (3) .
__________
(1) حاشية العدوي 1 / 223، والمجموع للنووي 3 / 90، 91، وروضة الطالبين 1 / 199، والمغني مع الشرح الكبير 1 / 416.
(2) حاشية العدوي على شرح الرسالة 1 / 223، والزرقاني 1 / 158.
(3) حاشية العدوي على شرح الرسالة 1 / 224، ونهاية المحتاج 1 / 391.(11/177)
تَرْجِيلٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّرْجِيل لُغَةً: تَسْرِيحُ الشَّعْرِ وَتَنْظِيفُهُ وَتَحْسِينُهُ. يُقَال: رَجَّلْتُهُ تَرْجِيلاً: إِذَا سَرَّحْتُهُ وَمَشَّطْتُهُ
وَقَدْ يَكُونُ التَّرْجِيل أَخَصَّ مِنَ التَّمْشِيطِ؛ لأَِنَّهُ يُرَاعَى فِيهِ الزِّيَادَةُ فِي تَحْسِينِ الشَّعْرِ (1) .
أَمَّا التَّسْرِيحُ فَهُوَ: إِرْسَال الشَّعْرِ وَحَلُّهُ قَبْل الْمَشْطِ، وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ التَّسْرِيحُ مُغَايِرًا لِلتَّرْجِيل، وَمُضَادًّا لِلتَّمْشِيطِ.
وَقَال الأَْزْهَرِيُّ: تَسْرِيحُ الشَّعْرِ تَرْجِيلُهُ، وَتَخْلِيصُ بَعْضِهِ مِنْ بَعْضٍ بِالْمُشْطِ. فَعَلَى الْمَعْنَى الأَْوَّل يَكُونُ مُغَايِرًا لِلتَّرْجِيل، وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ مُرَادِفًا (2) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِلَفْظِ التَّرْجِيل عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ (3) .
__________
(1) النهاية لابن الأثير، ولسان العرب وتاج العروس، والمصباح المنير مادة: " رجل "، " مشط ".
(2) لسان العرب مادة: " سرح "، وحاشية السندي على سنن النسائي 8 / 132 ط المطبعة المصرية بالأزهر.
(3) مطالب أولي النهى 1 / 84، وعمدة القاري 22 / 60.(11/178)
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - الأَْصْل فِي تَرْجِيل الشَّعْرِ الاِسْتِحْبَابُ (1) ، لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا: مَنْ كَانَ لَهُ شَعْرٌ فَلْيُكْرِمْهُ (2) وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُحِبُّ التَّرْجِيل، وَكَانَ يُرَجِّل نَفْسَهُ تَارَةً، وَتُرَجِّلُهُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَارَةً أُخْرَى
فَقَدْ رَوَتْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصْغِي إِلَيَّ رَأْسَهُ وَهُوَ مُجَاوِرٌ فِي الْمَسْجِدِ، فَأُرَجِّلُهُ وَأَنَا حَائِضٌ (3) .
وَهُنَاكَ حَالاَتٌ يَخْتَلِفُ فِيهَا حُكْمُ التَّرْجِيل بِاخْتِلاَفِ الأَْشْخَاصِ وَالأَْوْقَاتِ مِنْهَا:
أ - تَرْجِيل الْمُعْتَكِفِ:
3 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: أَنَّهُ لاَ يُكْرَهُ لِلْمُعْتَكِفِ إِلاَّ مَا يُكْرَهُ فِعْلُهُ فِي الْمَسْجِدِ، فَيَجُوزُ لَهُ تَرْجِيل شَعْرِهِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا
__________
(1) روضة الطالبين 3 / 234، والمجموع 1 / 293 نشر المكتبة الإسلامية، والمغني مع الشرح الكبير 1 / 73، وعمدة القاري 22 / 60 ط المنيرية، ونيل الأوطار 1 / 146 ط الحلبي، وزاد المعاد 1 / 176 ط مؤسسة الرسالة، والفواكه الدواني 2 / 402 نشر دار المعرفة، والمنتقى 7 / 268، 269، وحاشية ابن عابدين 5 / 161، وحاشية الطحطاوي 4 / 203.
(2) حديث: " من كان له شعر فليكرمه ". أخرجه أبو داود (4 / 395 - ط عزت عبيد دعاس) وحسنه ابن حجر في الفتح (1 / 368 - ط السلفية) .
(3) حديث: " كان يصغي إلي رأسه. . . " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 273 - ط السلفية) .(11/178)
قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصْغِي إِلَيَّ رَأْسَهُ، وَهُوَ مُجَاوِرٌ فِي الْمَسْجِدِ، فَأُرَجِّلُهُ وَأَنَا حَائِضٌ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ بَأْسَ بِأَنْ يُدْنِيَ الْمُعْتَكِفُ رَأْسَهُ لِمَنْ هُوَ خَارِجُ الْمَسْجِدِ لِتَرْجِيل شَعْرِهِ، كَأَنَّهُمْ يَرَوْنَ كَرَاهَةَ التَّرْجِيل فِي الْمَسْجِدِ؛ لأَِنَّ التَّرْجِيل لاَ يَخْلُو مِنْ سُقُوطِ شَيْءٍ مِنَ الشَّعْرِ، وَالأَْخْذُ مِنَ الشَّعْرِ فِي الْمَسْجِدِ مَكْرُوهٌ عِنْدَهُمْ (2) .
وَلِلتَّفْصِيل يُرْجَعُ إِلَى مُصْطَلَحِ: (اعْتِكَافٍ) .
ب - تَرْجِيل الْمُحْرِمِ:
4 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ التَّرْجِيل لِلْمُحْرِمِ - وَهُوَ قَوْل الْمَالِكِيَّةِ إِذَا كَانَ التَّرْجِيل بِالدُّهْنِ - لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْحَاجُّ الشَّعِثُ التَّفِل (3) . وَالْمُرَادُ بِالشَّعَثِ انْتِشَارُ شَعْرِ الْحَاجِّ فَلاَ يَجْمَعُهُ بِالتَّسْرِيحِ وَالدَّهْنِ وَالتَّغْطِيَةِ وَنَحْوِهِ (4) .
__________
(1) حديث: " كان يصغي إلي رأسه. . . " سبق تخريجه (ف / 2) . وانظر روضة الطالبين 2 / 392، والمغني مع الشرح الكبير 3 / 151، وعمدة القاري شرح صحيح البخاري 11 / 144 ط المنيرية، وفتح الباري 4 / 272، 273 ط السلفية.
(2) جواهر الإكليل 1 / 159، والزرقاني 2 / 226، والحطاب 2 / 463، وإعلام الساجد بأحكام المساجد ص 407.
(3) حديث: " الحاج الشعث التفل " أخرجه الترمذي (5 / 225 ط الحلبي) وإسناده ضعيف، (التلخيص لابن حجر 2 / 221 - ط شركة الطباعة الفنية المحدودة) .
(4) الاختيار لتعليل المختار 1 / 143، ومنح الجليل 1 / 512.(11/179)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ بِكَرَاهِيَّةِ التَّرْجِيل لِلْمُحْرِمِ لأَِنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى نَتْفِ الشَّعْرِ (1) .
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ أَنَّ التَّرْجِيل فِي حَالَةِ الإِْحْرَامِ لاَ بَأْسَ بِهِ، مَا لَمْ يُؤَدِّ إِلَى إِبَانَةِ شَعْرِهِ (2) .
أَمَّا إِذَا تَيَقَّنَ الْمُحْرِمُ سُقُوطَ الشَّعْرِ بِالتَّرْجِيل فَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي حُرْمَتِهِ حِينَئِذٍ (3) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي: (إِحْرَامٍ) .
ج - تَرْجِيل الْمُحِدَّةِ:
5 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي عَدَمِ جَوَازِ التَّرْجِيل لِلْمُحِدَّةِ بِشَيْءٍ مِنَ الطِّيبِ أَوْ بِمَا فِيهِ زِينَةٌ. أَمَّا التَّرْجِيل بِغَيْرِ مَوَادِّ الزِّينَةِ وَالطِّيبِ - كَالسِّدْرِ وَشِبْهِهِ مِمَّا لاَ يَخْتَمِرُ فِي الرَّأْسِ - فَقَدْ أَجَازَهُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ؛ لِمَا رَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ تَمْتَشِطِي بِالطِّيبِ وَلاَ بِالْحِنَّاءِ فَإِنَّهُ خِضَابٌ، قَالَتْ: قُلْتُ: بِأَيِّ شَيْءٍ أَمْتَشِطُ؟ قَال: بِالسِّدْرِ تُغَلِّفِينَ بِهِ رَأْسَكِ (4) وَلأَِنَّهُ يُرَادُ لِلتَّنْظِيفِ لاَ لِلتَّطَيُّبِ.
__________
(1) شرح روض الطالب 1 / 510، والمجموع 7 / 352 ط المنيرية.
(2) كشاف القناع 1 / 423.
(3) قليوبي وعميرة 2 / 134، والشرح الصغير 2 / 85، وجواهر الإكليل 1 / 189، وشرح منتهى الإرادات 2 / 20 ط عالم الكتب.
(4) حديث: " لا تمتشطي بالطيب ولا بالحناء فإنه خضاب. . . " أخرجه أبو داود (2 / 728 - ط عزت عبيد دعاس) وأعله عبد الحق الإشبيلي بجهالة بعض رواته، نيل الأوطار (6 / 333 - ط الحلبي) .(11/179)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ بِعَدَمِ جَوَازِ تَرْجِيل الْمُحِدَّةِ - وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ طِيبٍ - لأَِنَّهُ زِينَةٌ، فَإِنْ كَانَ فَبِمُشْطٍ ذِي أَسْنَانٍ مُنْفَرِجَةٍ دُونَ الْمَضْمُومَةِ. وَقَيَّدَ صَاحِبُ الْجَوْهَرَةِ جَوَازَ تَرْجِيل الْمُحِدَّةِ بِأَسْنَانِ الْمُشْطِ الْوَاسِعَةِ بِالْعُذْرِ (1) .
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي (إِحْدَادٌ، وَامْتِشَاطٌ) .
كَيْفِيَّةُ التَّرْجِيل:
6 - يُسْتَحَبُّ التَّيَامُنُ فِي التَّرْجِيل، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُعْجِبُهُ التَّيَامُنَ فِي تَنَعُّلِهِ وَتَرَجُّلِهِ وَطَهُورِهِ، وَفِي شَأْنِهِ كُلِّهِ (2) .
الإِْغْبَابُ فِي التَّرْجِيل:
يُسَنُّ تَرْجِيل الشَّعْرِ وَدُهْنُهُ غِبًّا (3) ، فَالاِسْتِكْثَارُ
__________
(1) الشرح الصغير 2 / 686، ومواهب الجليل 4 / 155 ط ليبيا، ونهاية المحتاج 7 / 143، وروضة الطالبين 8 / 408، والكافي 3 / 328 ط المكتب الإسلامي، والاختيار 2 / 236، والبناية شرح الهداية 4 / 805 ط دار الفكر، وحاشية ابن عابدين 2 / 617، ونيل الأوطار 6 / 334 ط الحلبي، والموسوعة الفقهية 2 / 107.
(2) حديث: " كان يعجبه التيامن في تنعله. . . " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 269 - ط السلفية) . وانظر عمدة القاري 3 / 29 - 32 و 22 / 60، وسبل السلام 1 / 50، 51 ط الحلبي، والعدة على شرح عمدة الأحكام 1 / 209، وقليوبي 1 / 54، 55، وفتح الباري 1 / 269، 270 ط السلفية.
(3) الغب بكسر المعجمة وتشديد الباء: أن يفعل يوما ويترك يوما. قال السندي: والمراد كراهة المداومة عليه، وخصوصية الفعل يوما والترك يوما غير مراد. (حاشية السندي على سنن النسائي 8 / 132) .(11/180)
مِنَ التَّرْجِيل وَالْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهِ مَكْرُوهٌ إِلاَّ لِحَاجَةٍ؛ لِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ التَّرَجُّل إِلاَّ غِبًّا (1) .
وَلِمَا رَوَى حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِمْيَرِيُّ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَمْتَشِطَ أَحَدُنَا كُل يَوْمٍ (2) .
__________
(1) حديث: " نهي عن الترجل إلا غبا " أخرجه أبو داود (4 / 392 - ط عزت عبيد دعاس) والترمذي (3 / 234 - ط الحلبي) وقال: حسن صحيح.
(2) حديث: " نهي أن يمتشط أحدنا كل يوم. . . " أخرجه أبو داود (1 / 30 - ط عزت عبيد دعاس) والنسائي (1 / 130 - ط المكتبة التجارية) وصححه ابن حجر في الفتح (10 / 367 - ط السلفية) وانظر المجموع للنووي 1 / 293 نشر المكتبة السلفية، وكشاف القناع 1 / 74 ط عالم الكتب، ومطالب أولي النهى 1 / 85 نشر المكتب الإسلامي، ونيل الأوطار 1 / 147 ط الحلبي، وحاشية السندي على سنن النسائي 8 / 132، 133.(11/180)
تَرَحُّمٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّرَحُّمُ: مِنَ الرَّحْمَةِ، وَمِنْ مَعَانِيهَا: الرِّقَةُ، وَالْعَطْفُ، وَالْمَغْفِرَةُ
وَالتَّرَحُّمُ: طَلَبُ الرَّحْمَةِ، وَهُوَ أَيْضًا الدُّعَاءُ بِالرَّحْمَةِ، كَقَوْلِكَ: رَحِمَهُ اللَّهُ. وَتَرَحَّمْتَ عَلَيْهِ: أَيْ قُلْتَ لَهُ: رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ، وَرَحَّمَ عَلَيْهِ: قَال لَهُ: رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ. وَتَرَاحَمَ الْقَوْمُ: رَحِمَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّرَضِّي:
2 - التَّرَضِّي مِنَ الرِّضَا، وَهُوَ ضِدُّ السُّخْطِ،
__________
(1) لسان العرب المحيط، وتاج العروس، والصحاح في اللغة والعلوم، ومتن اللغة، ومختار الصحاح مادة: " رحم " ودستور العلماء مادة: " ترضى، وترحم ".
(2) ابن عابدين 5 / 480، ونهاية المحتاج 1 / 22.(11/181)
وَالتَّرَضِّي: طَلَبُ الرِّضَا، وَالتَّرَضِّي أَيْضًا: أَنْ تَقُول: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى، فَالتَّرَضِّي دُعَاءٌ بِالرُّضْوَانِ، وَالتَّرَحُّمُ دُعَاءٌ بِالرَّحْمَةِ.
وَلِلتَّفْصِيل ر: (تَرَضِّي) .
ب - التَّبْرِيكُ:
3 - التَّبْرِيكُ: الدُّعَاءُ بِالْبَرَكَةِ، وَهِيَ بِمَعْنَى الزِّيَادَةِ وَالنَّمَاءِ، يُقَال: بَارَكَ اللَّهُ فِيكَ وَعَلَيْكَ وَلَكَ وَبَارَكَكَ، كُلُّهَا بِمَعْنَى: زَادَكَ خَيْرًا، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} (2)
وَتَبَرَّكَ بِهِ: أَيْ تَيَمَّنَ (3) .
فَالتَّبْرِيكُ بِمَعْنَى: الدُّعَاءِ بِالْبَرَكَةِ، يَتَّفِقُ مَعَ التَّرَحُّمِ فِي نَفْسِ هَذَا الْمَعْنَى، أَيِ الدُّعَاءِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
4 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي اسْتِحْبَابِ التَّرَحُّمِ عَلَى الْوَالِدَيْنِ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا، وَعَلَى التَّابِعِينَ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالْعِبَادِ الصَّالِحِينَ، وَعَلَى سَائِرِ الأَْخْيَارِ، أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا.
وَأَمَّا التَّرَحُّمُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
__________
(1) لسان العرب المحيط مادة: " رضا " ودستور العلماء مادة: " ترضى وترحم ".
(2) سورة النمل / 8.
(3) مختار الصحاح.(11/181)
الصَّلاَةِ وَخَارِجِهَا، فَفِيهِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ عَلَى النَّحْوِ الآْتِي:
أ - التَّرَحُّمُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى آلِهِ فِي الصَّلاَةِ:
5 - وَهُوَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي التَّشَهُّدِ أَوْ خَارِجَهُ. وَقَدْ وَرَدَ التَّرَحُّمُ عَلَى الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّشَهُّدِ، وَهُوَ عِبَارَةُ: " السَّلاَمُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ " (1) وَتَفْصِيل أَحْكَامِ التَّشَهُّدِ فِي مُصْطَلَحِهِ.
أَمَّا التَّرَحُّمُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَارِجَ التَّشَهُّدِ، فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ، وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى اسْتِحْبَابِ زِيَادَةِ: " وَارْحَمْ مُحَمَّدًا وَآل مُحَمَّدٍ " فِي الصَّلاَةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلاَةِ.
وَعِبَارَةُ الرِّسَالَةِ لاِبْنِ أَبِي زَيْدٍ الْقَيْرَوَانِيِّ: اللَّهُمَّ صَل عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آل مُحَمَّدٍ، وَارْحَمْ مُحَمَّدًا وَآل مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ وَرَحِمْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ.
وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: قَال: قُلْنَا: يَا رَسُول اللَّهِ: قَدْ عَلِمْنَا كَيْفَ نُسَلِّمُ عَلَيْكَ، فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟ قَال: قُولُوا: اللَّهُمَّ اجْعَل صَلَوَاتِكَ وَرَحْمَتَكَ وَبَرَكَاتِكَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آل
__________
(1) ابن عابدين 1 / 344، 345، والأذكار ص 107، والفتوحات الربانية 3 / 329.(11/182)
مُحَمَّدٍ، كَمَا جَعَلْتَهَا عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آل إِبْرَاهِيمَ إِنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ (1) .
قَال الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: فَهَذِهِ الأَْحَادِيثُ - وَإِنْ كَانَتْ ضَعِيفَةَ الأَْسَانِيدِ - إِلاَّ أَنَّهَا يَشُدُّ بَعْضُهَا بَعْضًا، أَقْوَاهَا أَوَّلُهَا، وَيَدُل مَجْمُوعُهَا عَلَى أَنَّ لِلزِّيَادَةِ أَصْلاً. وَأَيْضًا الضَّعِيفُ يُعْمَل بِهِ فِي فَضَائِل الأَْعْمَال (2) .
وَمَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الاِقْتِصَارُ عَلَى صِيغَةِ الصَّلاَةِ دُونَ إِضَافَةِ (التَّرَحُّمِ) كَمَا وَرَدَ فِي الرِّوَايَاتِ الْمَشْهُورَةِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، بَل ذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيُّ وَالنَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُمْ إِلَى أَنَّ زِيَادَةَ " وَارْحَمْ مُحَمَّدًا. . . إِلَخْ " بِدْعَةٌ لاَ أَصْل لَهَا، وَقَدْ بَالَغَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي إِنْكَارِ ذَلِكَ وَتَخْطِئَةِ ابْنِ أَبِي زَيْدٍ، وَتَجْهِيل فَاعِلِهِ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّمَنَا كَيْفِيَّةَ الصَّلاَةِ. فَالزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ اسْتِقْصَارٌ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتِدْرَاكٌ عَلَيْهِ.
وَانْتَصَرَ لَهُمْ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِمَّنْ جَمَعَ بَيْنَ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ، فَقَال: وَلاَ يُحْتَجُّ بِالأَْحَادِيثِ الْوَارِدَةِ، فَإِنَّهَا كُلَّهَا وَاهِيَةٌ جِدًّا. إِذْ لاَ يَخْلُو سَنَدُهَا مِنْ كَذَّابٍ أَوْ مُتَّهَمٍ بِالْكَذِبِ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا ذَكَرَهُ
__________
(1) حديث: " قد علمنا كيف نسلم عليك. . . " أخرجه بهذا اللفظ المعمرين في عمل اليوم والليلة كما في الفتوحات الربانية لابن علان (3 / 330 ط المنيرية) وضعفه ابن حجر كما نقله ابن علان في المصدر السابق.
(2) الفتوحات الربانية 3 / 327 وما بعدها.(11/182)
السُّبْكِيُّ: أَنَّ مَحَل الْعَمَل بِالْحَدِيثِ الضَّعِيفِ مَا لَمْ يَشْتَدَّ ضَعْفُهُ (1) .
ب - التَّرَحُّمُ فِي التَّسْلِيمِ مِنَ الصَّلاَةِ:
6 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الأَْكْمَل فِي التَّسْلِيمِ فِي الصَّلاَةِ أَنْ يَقُول: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، عَنْ يَمِينِهِ وَيَسَارِهِ؛ لِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَجَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ (2) وَغَيْرِهِمَا رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ (3) .
فَإِنْ قَال: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ - وَلَمْ يَزِدْ - يُجْزِئُهُ؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: تَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ (4) وَالتَّحْلِيل يَحْصُل بِهَذَا الْقَوْل، وَلأَِنَّ ذِكْرَ الرَّحْمَةِ تَكْرِيرٌ لِلثَّنَاءِ فَلَمْ يَجِبْ، كَقَوْلِهِ: وَبَرَكَاتُهُ. وَقَال ابْنُ عَقِيلٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ - وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي الْمَذْهَبِ - الأَْصَحُّ أَنَّهُ لاَ يُجْزِئُهُ الاِقْتِصَارُ عَلَى: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ، لأَِنَّ الصَّحِيحَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 344، والأذكار ص 107، والفتوحات الربانية 3 / 227 وما بعدها.
(2) حديث ابن مسعود أخرجه الترمذي (2 / 89 ط الحلبي) وقال: حسن صحيح، وحديث جابر بن سمرة أخرجه مسلم (1 / 322 - ط الحلبي) .
(3) ابن عابدين 1 / 353، والاختيار 1 / 54، وروضة الطالبين 1 / 568، والمغني 1 / 554، وكشاف القناع 1 / 361.
(4) حديث: " تحليلها التسليم. . . " أخرجه الترمذي (1 / 9 - ط الحلبي) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقد حسنه النووي في الخلاصة كما في نصب الراية (1 / 307 ط المجلس العلمي بالهند) .(11/183)
يَقُول: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ (1) ، وَلأَِنَّ السَّلاَمَ فِي الصَّلاَةِ وَرَدَ مَقْرُونًا بِالرَّحْمَةِ، فَلَمْ يَجُزْ بِدُونِهَا، كَالتَّسْلِيمِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّشَهُّدِ.
قَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: وَالأَْوْلَى تَرْكُ " وَبَرَكَاتُهُ " كَمَا فِي أَكْثَرِ الأَْحَادِيثِ.
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ: بِأَنَّ زِيَادَةَ " وَرَحْمَةُ اللَّهِ " لاَ يَضُرُّ؛ لأَِنَّهَا خَارِجَةٌ عَنِ الصَّلاَةِ، وَظَاهِرُ كَلاَمِ أَهْل الْمَذْهَبِ أَنَّهَا غَيْرُ سُنَّةٍ، وَإِنْ ثَبَتَ بِهَا الْحَدِيثُ؛ لأَِنَّهَا لَمْ يَصْحَبْهَا عَمَل أَهْل الْمَدِينَةِ، وَذَكَرَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الأَْوْلَى الاِقْتِصَارُ عَلَى: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ، وَأَنَّ زِيَادَةَ: وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ هُنَا خِلاَفُ الأَْوْلَى (2) .
ج - التَّرَحُّمُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَارِجَ الصَّلاَةِ:
7 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ التَّرَحُّمِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَارِجَ الصَّلاَةِ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى الْمَنْعِ مُطْلَقًا وَوَجَّهَهُ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: بِأَنَّ الرَّحْمَةَ إِنَّمَا تَكُونُ غَالِبًا عَنْ فِعْلٍ يُلاَمُ عَلَيْهِ، وَنَحْنُ أُمِرْنَا بِتَعْظِيمِهِ، وَلَيْسَ فِي التَّرَحُّمِ مَا يَدُل عَلَى التَّعْظِيمِ، مِثْل الصَّلاَةِ، وَلِهَذَا يَجُوزُ أَنْ يُدْعَى بِهَا
__________
(1) الحديث الذي فيه زيادة وبركاته: أخرجه أبو داود (1 / 607 - ط عزت عبيد دعاس) من حديث وائل بن حجر وصححه النووي في المجموع (3 / 479 ط السلفية) .
(2) حاشية الدسوقي 1 / 241 ط دار الفكر.(11/183)
لِغَيْرِ الأَْنْبِيَاءِ وَالْمَلاَئِكَةِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ. أَمَّا هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَرْحُومٌ قَطْعًا، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ تَحْصِيل الْحَاصِل، وَقَدِ اسْتَغْنَيْنَا عَنْ هَذِهِ بِالصَّلاَةِ، فَلاَ حَاجَةَ إِلَيْهَا؛ وَلأَِنَّهُ يُجَل مَقَامُهُ عَنِ الدُّعَاءِ بِهَا.
قَال ابْنُ دِحْيَةَ: يَنْبَغِي لِمَنْ ذَكَرَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَتَرَحَّمَ عَلَيْهِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُول بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} (1)
وَنُقِل مِثْلُهُ عَنِ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ، وَالصَّيْدَلاَنِيِّ، كَمَا حَكَاهُ عَنْهُ الرَّافِعِيُّ وَلَمْ يَتَعَقَّبْهُ.
وَصَرَّحَ أَبُو زُرْعَةَ ابْنُ الْحَافِظِ الْعِرَاقِيُّ فِي فَتَاوَاهُ، بِأَنَّ الْمَنْعَ أَرْجَحُ لِضَعْفِ الأَْحَادِيثِ الَّتِي اسْتَنَدَ إِلَيْهَا، فَيُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ: حُرْمَتُهُ مُطْلَقًا (2) .
وَذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى الْجَوَازِ مُطْلَقًا: أَيْ وَلَوْ بِدُونِ انْضِمَامِ صَلاَةٍ أَوْ سَلاَمٍ.
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْل الأَْعْرَابِيِّ فِيمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَهُوَ قَوْلُهُ: اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي، وَارْحَمْ مُحَمَّدًا، وَلاَ تَرْحَمْ مَعَنَا أَحَدًا لِتَقْرِيرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَوْلِهِ: اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي وَارْحَمْ مُحَمَّدًا، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ سِوَى قَوْلِهِ: وَلاَ تَرْحَمْ مَعَنَا أَحَدًا (3) .
__________
(1) سورة النور / 63.
(2) ابن عابدين 5 / 480، والطحطاوي على الدر، 1 / 266، والقليوبي 3 / 175، ونهاية المحتاج 1 / 21، 22، 531.
(3) حديث: " تقرير النبي صلى الله عليه وسلم الأعرابي. . . " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 438 - ط السلفية) .(11/184)
وَقَال السَّرَخْسِيُّ: لاَ بَأْسَ بِالتَّرَحُّمِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأَِنَّ الأَْثَرَ وَرَدَ بِهِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ؛ وَلأَِنَّ أَحَدًا وَإِنْ جَل قَدْرُهُ لاَ يَسْتَغْنِي عَنْ رَحْمَةِ اللَّهِ (1) .
كَمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: لَنْ يُدْخِل أَحَدًا عَمَلُهُ الْجَنَّةَ، قَالُوا: وَلاَ أَنْتَ يَا رَسُول اللَّهِ؟ قَال: وَلاَ أَنَا إِلاَّ أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ (2) .
وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مِنْ أَشْوَقِ الْعُبَّادِ إِلَى مَزِيدِ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَعْنَاهَا مَعْنَى الصَّلاَةِ، فَلَمْ يُوجَدْ مَا يَمْنَعُ ذَلِكَ.
وَلاَ يُنَافِي الدُّعَاءَ لَهُ بِالرَّحْمَةِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَيَّنَ الرَّحْمَةَ بِنَصٍّ: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (3) لأَِنَّ حُصُول ذَلِكَ لاَ يَمْنَعُ طَلَبَ الزِّيَادَةِ لَهُ؛ إِذْ فَضْل اللَّهِ لاَ يَتَنَاهَى، وَالْكَامِل يَقْبَل الْكَمَال (4) .
وَفَصَّل بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ، فَقَال بِالْحُرْمَةِ إِنْ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 345، والطحطاوي 1 / 226، ونهاية المحتاج 1 / 531.
(2) حديث: " لن يدخل أحدا عمله الجنة. . . " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 127 - ط السلفية) ومسلم (4 / 2170 ط الحلبي) .
(3) سورة الأنبياء / 107.
(4) ابن عابدين 5 / 480، والبدائع 1 / 213، والطحطاوي 1 / 226، والفتوحات الربانية 3 / 329 وما بعدها.(11/184)
ذَكَرَهَا اسْتِقْلاَلاً: كَأَنْ يَقُول الْمُتَكَلِّمُ: قَال النَّبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَبِالْجَوَازِ إِنْ ذَكَرَهَا تَبَعًا: أَيْ مَضْمُومَةً إِلَى الصَّلاَةِ وَالسَّلاَمِ، فَيَجُوزُ: اللَّهُمَّ صَل عَلَى مُحَمَّدٍ وَارْحَمْ مُحَمَّدًا.
وَلاَ يَجُوزُ: ارْحَمْ مُحَمَّدًا، بِدُونِ الصَّلاَةِ؛ لأَِنَّهَا وَرَدَتْ فِي الأَْحَادِيثِ الَّتِي وَرَدَتْ فِيهَا عَلَى سَبِيل التَّبَعِيَّةِ لِلصَّلاَةِ وَالْبَرَكَةِ، وَلَمْ يَرِدْ مَا يَدُل عَلَى وُقُوعِهَا مُفْرَدَةً، وَرُبَّ شَيْءٍ يَجُوزُ تَبَعًا، لاَ اسْتِقْلاَلاً. وَبِهِ أَخَذَ جَمْعٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، بَل نَقَلَهُ الْقَاضِي عَنِ الْجُمْهُورِ، وَقَال الْقُرْطُبِيُّ: وَهُوَ الصَّحِيحُ (1) .
د - التَّرَحُّمُ عَلَى الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الأَْخْيَارِ:
8 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ التَّرَحُّمِ عَلَى الصَّحَابَةِ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ عِنْدَ ذِكْرِ الصَّحَابَةِ الأَْوْلَى أَنْ يُقَال: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَأَمَّا عِنْدَ ذِكْرِ التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَالْعُبَّادِ، وَسَائِرِ الأَْخْيَارِ فَيُقَال: رَحِمَهُمُ اللَّهُ.
قَال الزَّيْلَعِيُّ: الأَْوْلَى أَنْ يَدْعُوَ لِلصَّحَابَةِ بِالرِّضَى، وَلِلتَّابِعَيْنِ بِالرَّحْمَةِ، وَلِمَنْ بَعْدَهُمْ بِالْمَغْفِرَةِ وَالتَّجَاوُزِ؛ لأَِنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يُبَالِغُونَ فِي طَلَبِ الرِّضَى مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَجْتَهِدُونَ فِي
__________
(1) ابن عابدين 1 / 344، 345، 5 / 480، والطحطاوي 1 / 226، والقليوبي 3 / 675، ونهاية المحتاج 1 / 531.(11/185)
فِعْل مَا يُرْضِيهِ، وَيَرْضَوْنَ بِمَا يَلْحَقُهُمْ مِنَ الاِبْتِلاَءِ مِنْ جِهَتِهِ أَشَدَّ الرِّضَى، فَهَؤُلاَءِ أَحَقُّ بِالرِّضَى، وَغَيْرُهُمْ لاَ يَلْحَقُ أَدْنَاهُمْ وَلَوْ أَنْفَقَ مِلْءَ الأَْرْضِ ذَهَبًا.
وَذَكَرَ ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلاً عَنِ الْقَرْمَانِيِّ عَلَى الرَّاجِحِ عِنْدَهُ: أَنَّهُ يَجُوزُ عَكْسُهُ أَيْضًا، وَهُوَ التَّرَحُّمُ لِلصَّحَابَةِ، وَالتَّرَضِّي لِلتَّابِعَيْنِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ (1) .
وَإِلَيْهِ مَال النَّوَوِيُّ فِي الأَْذْكَارِ، وَقَال: يُسْتَحَبُّ التَّرَضِّي وَالتَّرَحُّمُ عَلَى الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالْعُبَّادِ وَسَائِرِ الأَْخْيَارِ. فَيُقَال: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَوْ رَحِمَهُ اللَّهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَأَمَّا مَا قَالَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ قَوْلَهُ: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَخْصُوصٌ بِالصَّحَابَةِ، وَيُقَال فِي غَيْرِهِمْ: رَحِمَهُ اللَّهُ فَقَطْ فَلَيْسَ كَمَا قَال، وَلاَ يُوَافَقُ عَلَيْهِ، بَل الصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ اسْتِحْبَابُهُ، وَدَلاَئِلُهُ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَرَ. وَذَكَرَ فِي النِّهَايَةِ نَقْلاً عَنِ الْمَجْمُوعِ: أَنَّ اخْتِصَاصَ التَّرَضِّي بِالصَّحَابَةِ وَالتَّرَحُّمِ بِغَيْرِهِمْ ضَعِيفٌ (2) .
هـ - التَّرَحُّمُ عَلَى الْوَالِدَيْنِ:
9 - الأَْصْل فِي وُجُوبِ التَّرَحُّمِ عَلَى الْوَالِدَيْنِ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 480.
(2) ابن عابدين 5 / 480، ونهاية المحتاج 1 / 48، و 3 / 69، والأذكار 1 / 109، وتدريب الراوي ص 293.(11/185)
قَوْله تَعَالَى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّل مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَبِّ ارْحَمْهُمَا} (1) حَيْثُ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عِبَادَهُ بِالتَّرَحُّمِ عَلَى آبَائِهِمْ وَالدُّعَاءِ لَهُمْ.
وَمَحَل طَلَبِ الدُّعَاءِ وَالتَّرَحُّمِ لَهُمَا إِنْ كَانَا مُؤْمِنَيْنِ، أَمَّا إِنْ كَانَا كَافِرَيْنِ فَيَحْرُمُ ذَلِكَ (2) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} (3) .
و التَّرَحُّمُ فِي التَّحِيَّةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ:
10 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الأَْفْضَل أَنْ يَقُول الْمُسْلِمُ لِلْمُسْلِمِ فِي التَّحِيَّةِ: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ (4) ، وَيَقُول الْمُجِيبُ أَيْضًا: وَعَلَيْكُمُ السَّلاَمُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، لِمَا رَوَى عِمْرَانُ بْنُ الْحُصَيْنِ أَنَّهُ قَال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ، فَرَدَّ عَلَيْهِ، ثُمَّ جَلَسَ، فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَشْرٌ. ثُمَّ جَاءَ آخَرُ، فَقَال: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، فَرَدَّ عَلَيْهِ، ثُمَّ جَلَسَ، فَقَال: عِشْرُونَ. ثُمَّ جَاءَ آخَرُ، فَقَال: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، فَرَدَّ عَلَيْهِ، فَجَلَسَ، فَقَال: ثَلاَثُونَ (5) قَال
__________
(1) سورة الإسراء / 24.
(2) الشرح الصغير 4 / 741، والقليوبي 3 / 175، وتفسير القرطبي 8 / 272، 10 / 244، 245، والأذكار ص 335.
(3) سورة التوبة / 113.
(4) ابن عابدين 5 / 266، والقوانين الفقهية ص 447، والأذكار ص 218.
(5) حديث عمران بن حصين: " جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم. . . " أخرجه الترمذي (5 / 53 ط الحلبي) وقال: حديث حسن صحيح.(11/186)
التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ.
وَهَذَا التَّعْمِيمُ مَخْصُوصٌ بِالْمُسْلِمِينَ، فَلاَ تَرَحُّمَ عَلَى كَافِرٍ لِمَنْعِ بَدْئِهِ بِالسَّلاَمِ عِنْدَ الأَْكْثَرِينَ تَحْرِيمًا، لِحَدِيثِ: لاَ تَبْدَءُوا الْيَهُودَ وَلاَ النَّصَارَى بِالسَّلاَمِ (1) . وَلَوْ سَلَّمَ الْيَهُودِيُّ وَالنَّصْرَانِيُّ، فَلاَ بَأْسَ بِالرَّدِّ، وَلَكِنْ لاَ يَزِيدُ عَلَى قَوْلِهِ: " وَعَلَيْكَ " (2) .
وَاَلَّذِينَ جَوَّزُوا ابْتِدَاءَهُمْ بِالسَّلاَمِ، صَرَّحُوا بِالاِقْتِصَارِ عَلَى: " السَّلاَمُ عَلَيْكَ " دُونَ الْجَمْعِ، وَدُونَ أَنْ يَقُول: " وَرَحْمَةُ اللَّهِ " (3) لِمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَهْل الْكِتَابِ، فَقُولُوا: وَعَلَيْكُمْ أَوْ عَلَيْكُمْ (4) بِغَيْرِ وَاوٍ.
ز - التَّرَحُّمُ عَلَى الْكُفَّارِ:
11 - صَرَّحَ النَّوَوِيُّ فِي كِتَابِهِ الأَْذْكَارِ بِأَنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَنْ يُدْعَى لِلذِّمِّيِّ بِالْمَغْفِرَةِ وَمَا أَشْبَهَهَا فِي حَال حَيَاتِهِ مِمَّا لاَ يُقَال لِلْكُفَّارِ، لَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يُدْعَى لَهُ
__________
(1) حديث: " لا تبدءوا اليهود ولا النصارى. . . " أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا (صحيح مسلم 4 / 1707 ط الحلبي) .
(2) ابن عابدين 5 / 265.
(3) الأذكار ص 277، والقوانين الفقهية ص 448.
(4) قوله صلى الله عليه وسلم: " إذا سلم عليكم أهل الكتاب. . . " أخرجه البخاري (الفتح 11 / 42 - ط السلفية) .(11/186)
بِالْهِدَايَةِ، وَصِحَّةِ الْبَدَنِ وَالْعَافِيَةِ وَشِبْهِ ذَلِكَ (1) . لِحَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: اسْتَسْقَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَقَاهُ يَهُودِيٌّ، فَقَال لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: جَمَّلَكَ اللَّهُ (2) فَمَا رَأَى الشَّيْبَ حَتَّى مَاتَ.
وَأَمَّا بَعْدَ وَفَاتِهِ فَيَحْرُمُ الدُّعَاءُ لِلْكَافِرِ بِالْمَغْفِرَةِ وَنَحْوِهَا؛ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} (3) وَقَدْ جَاءَ الْحَدِيثُ بِمَعْنَاهُ، وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ (4) .
ح - الْتِزَامُ التَّرَحُّمِ كِتَابَةً وَنُطْقًا عِنْدَ الْقِرَاءَةِ:
يَنْبَغِي لِكَاتِبِ الْحَدِيثِ وَرَاوِيهِ أَنْ يُحَافِظَ عَلَى كِتَابَةِ التَّرَضِّي وَالتَّرَحُّمِ عَلَى الصَّحَابَةِ وَالْعُلَمَاءِ وَسَائِرِ الأَْخْيَارِ، وَالنُّطْقِ بِهِ، وَلاَ يَسْأَمُ مِنْ تَكْرَارِهِ، وَلاَ يَتَقَيَّدُ فِيهِ بِمَا فِي الأَْصْل إِنْ كَانَ نَاقِصًا (5) .
تَرْخِيصٌ
انْظُرْ: رُخْصَةٌ.
__________
(1) الأذكار ص 282، والفتوحات الربانية 6 / 262.
(2) حديث أنس: " استسقى النبي صلى الله عليه وسلم فسقاه يهودي. . . " أخرجه ابن السني (ص 79 ط دائرة المعارف العثمانية) وضعف ابن حجر أحد رواته في التهذيب (4 / 161 ط دائرة المعارف العثمانية) .
(3) سورة التوبة / 113.
(4) الأذكار ص 324، والفتوحات الربانية 7 / 238.
(5) تدريب الراوي ص 292، 293.(11/187)
تَرَدِّي
التَّعْرِيفُ:
1 - لِلتَّرَدِّي فِي اللُّغَةِ مَعَانٍ، مِنْهَا: السُّقُوطُ مِنْ عُلُوٍّ إِلَى سُفْلٍ يُقَال: تَرَدَّى فِي مُهْوَاةٍ: إِذَا سَقَطَ فِيهَا، وَرَدَيْتُهُ تَرْدِيَةً: أَسْقَطْتُهُ (1) وَهُوَ فِي الاِصْطِلاَحِ لاَ يَخْرُجُ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى فَقَدْ عَرَّفَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ: السُّقُوطُ مِنْ عَالٍ إِلَى سَافِلٍ (2) .
وَمِنْهُ الْمُتَرَدِّيَةُ: وَهِيَ الَّتِي وَقَعَتْ فِي بِئْرٍ أَوْ مِنْ جَبَلٍ (3) .
وَفِي النَّظْمِ الْمُسْتَعْذَبِ: هِيَ الَّتِي تَتَرَدَّى مِنَ الْجَبَل فَتَسْقُطُ (4) .
وَفِي مَطَالِبِ أُولِي النُّهَى: هِيَ الْوَاقِعَةُ مِنْ عُلُوٍّ كَجَبَلٍ وَحَائِطٍ، وَسَاقِطَةٌ فِي نَحْوِ بِئْرٍ (5) .
__________
(1) المصباح المنير مادة: " ردي ".
(2) جواهر الإكليل 1 / 211.
(3) ابن عابدين 5 / 303.
(4) النظم المستعذب بأسفل المهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 258.
(5) مطالب أولي النهى 6 / 332 - 333.(11/187)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - يَقُول اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِّل لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَل السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَْزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ. . .} (1) فَقَدْ حَرَّمَ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ الآْيَةِ أَنْوَاعًا مِنْهَا: الْمُتَرَدِّيَةُ إِلاَّ إِذَا ذُكِّيَتْ ذَكَاةً شَرْعِيَّةً، اخْتِيَارِيَّةً كَانَتْ بِالذَّبْحِ أَوِ النَّحْرِ فِي مَحَلِّهِ. أَوِ اضْطِرَارِيَّةً بِالْجُرْحِ بِالطَّعْنِ وَإِنْهَارِ الدَّمِ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ تَيَسَّرَ مِنَ الْبَدَنِ. وَلاَ يَنْتَقِل إِلَى الثَّانِيَةِ إِلاَّ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ الأُْولَى (2) .
وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الذَّكَاةَ: إِمَّا اخْتِيَارِيَّةٌ فِي الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ، وَتَكُونُ بِالذَّبْحِ فِيمَا يُذْبَحُ، كَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ، أَوِ النَّحْرِ فِيمَا يُنْحَرُ كَالإِْبِل، وَلاَ تَحِل بِغَيْرِ الذَّكَاةِ فِي مَحَلِّهَا. وَإِمَّا اضْطِرَارِيَّةٌ فِي غَيْرِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ، كَالْحَيَوَانِ الْمُتَوَحِّشِ الشَّارِدِ وَالْمُتَرَدِّي فِي بِئْرٍ مَثَلاً، وَتَعَذَّرَتْ ذَكَاتُهُ فِي مَحَلِّهَا، وَهِيَ - أَيِ الاِضْطِرَارِيَّةُ - تَكُونُ بِالْعُقْرِ، وَهُوَ الْجُرْحُ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ مِنَ الْبَدَنِ (3) .
__________
(1) سورة المائدة / 3.
(2) ابن عابدين 5 / 186 - 187، 192، والفتاوى الهندية 5 / 285.
(3) الفتاوى الهندية 5 / 285، والاختيار شرح المختار 3 / 142، 145 ط مصطفى الحلبي 1355 هـ، والخرشي على مختصر خليل 3 / 2، والإقناع للشربيني الخطيب 5 / 33 - 34 ط محمد على صبيح، ومنار السبيل في شرح الدليل 2 / 424 - 425 م المكتب الإسلامي.(11/188)
وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ الشَّاةَ إِذَا نَدَّتْ فِي الْمِصْرِ، فَقَالُوا بِعَدَمِ جَوَازِ عَقْرِهَا، حَيْثُ يُمْكِنُ الْقُدْرَةُ عَلَيْهَا وَإِمْسَاكُهَا (1) .
3 - فَمَا تَرَدَّى مِنَ النَّعَمِ فِي بِئْرٍ مَثَلاً، وَوَقَعَ الْعَجْزُ عَنْ تَذْكِيَتِهِ الذَّكَاةَ الاِخْتِيَارِيَّةَ، فَذَكَاتُهُ الْعَقْرُ وَالْجُرْحُ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ مِنْ جِسْمِهِ تَيَسَّرَ لِلْعَاقِرِ فِعْلُهُ، كَالنَّادِّ غَيْرِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ. وَبِذَلِكَ يَحِل أَكْلُهُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ رَأْسُهُ فِي الْمَاءِ، فَلاَ يَحِل أَكْلُهُ؛ لأَِنَّ الْمَاءَ يُعِينُ عَلَى قَتْلِهِ، وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُونَ قَتْلُهُ بِالْمَاءِ - فِي قَوْل أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَفِي قَوْلٍ لاِبْنِ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ) - لِمَا رَوَى رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَدَّ بَعِيرٌ، وَكَانَ فِي الْقَوْمِ خَيْلٌ يَسِيرَةٌ، فَطَلَبُوهُ فَأَعْيَاهُمْ، فَأَهْوَى إِلَيْهِ رَجُلٌ بِسَهْمٍ فَحَبَسَهُ اللَّهُ، فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ لِهَذِهِ الْبَهَائِمِ أَوَابِدَ كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ، فَمَا غَلَبَكُمْ مِنْهَا فَاصْنَعُوا بِهِ هَكَذَا، وَفِي لَفْظٍ فَمَا نَدَّ عَلَيْكُمْ فَاصْنَعُوا بِهِ هَكَذَا (2) . وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي الْعُشَرَاءِ الدَّارِمِيِّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَال: يَا رَسُول اللَّهِ. أَمَا تَكُونُ
__________
(1) الفتاوى الهندية 5 / 285.
(2) حديث: " إن لهذه البهائم. . . " أخرجه البخاري (الفتح 6 / 188 و 9 / 638 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1558 ط عيسى الحلبي) .(11/188)
الذَّكَاةُ إِلاَّ فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ؟ فَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ طُعِنَتْ فِي فَخِذِهَا لأََجْزَأَكَ (1) قَال أَبُو دَاوُدَ: هَذَا لاَ يَصِحُّ إِلاَّ فِي الْمُتَرَدِّيَةِ وَالْمُتَوَحِّشِ. وَقَال الْمَجْدُ: هَذَا فِيمَا لاَ يُقْدَرُ عَلَيْهِ (2) .
وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ - سِوَى ابْنِ حَبِيبٍ - أَنَّ الْمُتَرَدِّيَةَ لاَ يُحِلُّهَا الْعَقْرُ، وَإِنَّمَا تُحِلُّهَا الذَّكَاةُ بِالذَّبْحِ إِنْ كَانَتْ مِمَّا يُذْبَحُ، أَوِ النَّحْرِ إِنْ كَانَتْ مِمَّا يُنْحَرُ (3) .
4 - وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ رَمَى صَيْدًا فَوَقَعَ فِي مَاءٍ فَيَحْرُمُ؛ لاِحْتِمَال قَتْلِهِ بِالْمَاءِ، أَوْ وَقَعَ عَلَى سَطْحٍ أَوْ جَبَلٍ فَتَرَدَّى مِنْهُ إِلَى الأَْرْضِ حَرُمَ؛ لأَِنَّ الاِحْتِرَازَ عَنْ مِثْل هَذَا مُمْكِنٌ (4) .
5 - وَفِي الْمُغْنِي وَمَطَالِبِ أُولِي النُّهَى لِلْحَنَابِلَةِ: لَوْ رَمَى حَيَوَانًا فَوَقَعَ فِي مَاءٍ يَقْتُلُهُ مِثْلُهُ، أَوْ تَرَدَّى تَرَدِّيًا يَقْتُلُهُ مِثْلُهُ لَمْ يُؤْكَل؛ لأَِنَّهُ يُحْتَمَل أَنَّ الْمَاءَ أَعَانَ عَلَى خُرُوجِ رُوحِهِ. أَمَّا لَوْ وَقَعَ الْحَيَوَانُ فِي الْمَاءِ عَلَى وَجْهٍ لاَ يَقْتُلُهُ، مِثْل أَنْ يَكُونَ رَأْسُهُ
__________
(1) حديث: " لو طعنت في. . . " أخرجه أبو داود (3 / 251 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وأعله ابن حجر في التلخيص (4 / 134 - ط شركة الطباعة الفنية) بجهالة أحد رواته.
(2) ابن عابدين 5 / 303 - 304، وفتح القدير 8 / 416 ط دار إحياء التراث العربي، ونهاية المحتاج للرملي 8 / 108، والمهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 262، ومنار السبيل في شرح الدليل 2 / 424 المكتب الإسلامي، والمغني لابن قدامة 8 / 566 - 567 م الرياض الحديثة، فتح الباري بشرح صحيح البخاري 9 / 629.
(3) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 2 / 103.
(4) ابن عابدين 5 / 304.(11/189)
خَارِجًا مِنَ الْمَاءِ، أَوْ يَكُونَ مِنْ طَيْرِ الْمَاءِ الَّذِي لاَ يَقْتُلُهُ الْمَاءُ، أَوْ كَانَ التَّرَدِّي لاَ يَقْتُل مِثْل ذَلِكَ الْحَيَوَانِ فَلاَ خِلاَفَ فِي إِبَاحَتِهِ؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال:. . . فَإِنْ وَجَدْتَهُ غَرِيقًا فِي الْمَاءِ فَلاَ تَأْكُلْهُ (1)
وَلأَِنَّ الْوُقُوعَ فِي الْمَاءِ وَالتَّرَدِّي إِنَّمَا حَرُمَ خَشْيَةَ أَنْ يَكُونَ قَاتِلاً أَوْ مُعِينًا عَلَى الْقَتْل. فَإِنْ رَمَى طَائِرًا فِي الْهَوَاءِ أَوْ عَلَى شَجَرَةٍ أَوْ جَبَلٍ فَوَقَعَ إِلَى الأَْرْضِ فَمَاتَ حَل (2) ؛ لأَِنَّ الاِحْتِرَازَ مِنْهُ غَيْرُ مُمْكِنٍ.
6 - وَلَوْ تَرَدَّى بَعِيرَانِ - مَثَلاً - أَحَدُهُمَا فَوْقَ الآْخَرِ فِي نَحْوِ بِئْرٍ. فَإِنْ مَاتَ الأَْسْفَل بِثِقَل الأَْعْلَى مَثَلاً لَمْ يَحُل، بِخِلاَفِ مَا لَوْ طَعَنَ الأَْعْلَى بِنَحْوِ سَهْمٍ أَوْ رُمْحٍ، فَوَصَل إِلَى الأَْسْفَل وَأَثَّرَ فِيهِ يَقِينًا، فَهُمَا حَلاَلٌ وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ بِالأَْسْفَل (3) .
__________
(1) حديث: " فإن وجدته غريقا في الماء فلا تأكله " أخرجه مسلم (3 / 1531 - ط عيسى الحلبي) .
(2) المغني، لابن قدامة 8 / 555 - 556 م الرياض الحديثة، ومطالب أولي النهى 6 / 345 - 346
(3) منهاج الطالبين 4 / 242.(11/189)
تَرَسُّلٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - لِلتَّرَسُّل فِي اللُّغَةِ مَعَانٍ، مِنْهَا: التَّمَهُّل وَالتَّأَنِّي. يُقَال: تَرَسَّل فِي قِرَاءَتِهِ بِمَعْنَى: تَمَهَّل وَاتَّأَدَ فِيهَا. وَتَرَسَّل الرَّجُل فِي كَلاَمِهِ وَمَشْيِهِ: إِذَا لَمْ يَعْجَل (1) . وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِذَا أَذَّنْتَ فَتَرَسَّل (2) : أَيْ تَأَنَّ وَلاَ تَعْجَل.
وَلاَ يَخْرُجُ مَعْنَاهُ اصْطِلاَحًا عَنْ هَذَا، فَقَالُوا: إِنَّهُ فِي الأَْذَانِ: التَّمَهُّل وَالتَّأَنِّي وَتَرْكُ الْعَجَلَةِ، وَيَكُونُ بِسَكْتَةٍ بَيْنَ كُل جُمْلَتَيْنِ مِنْ جُمَل الأَْذَانِ تَسَعُ الإِْجَابَةَ، وَذَلِكَ مِنْ غَيْرِ تَمْطِيطٍ وَلاَ مَدٍّ مُفْرِطٍ (3) .
2 - وَالْحَدْرُ يُقَابِل التَّرَسُّل، وَلَهُ فِي اللُّغَةِ مَعَانٍ
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، ومعجم متن اللغة دار مكتبة الحياة بيروت. مادة: " رسل ".
(2) حديث: " إذا أذنت فترسل ". أخرجه الترمذي (1 / 373 - ط الحلبي) وضعفه ابن حجر في التلخيص (1 / 200 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(3) ابن عابدين 1 / 259، والاختيار شرح المختار 1 / 42 ط دار المعرفة، ومراقي الفلاح / 106، والنظم المستعذب في شرح غريب المهذب بذيل المهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 65، ونهاية المحتاج للرملي 1 / 391، والمغني لابن قدامة 1 / 407 م الرياض الحديثة، ومواهب الجليل بشرح مختصر خليل 1 / 437 م الرياض الحديثة، ومواهب الجليل بشرح مختصر خليل 1 / 437 م النجاح ليبيا.(11/190)
مِنْهَا: الإِْسْرَاعُ فِي الْقِرَاءَةِ. يُقَال: حَدَرَ الرَّجُل الأَْذَانَ وَالإِْقَامَةَ وَالْقِرَاءَةَ وَحَدَرَ فِيهَا كُلِّهَا حَدْرًا مِنْ بَابِ قَتَل: إِذَا أَسْرَعَ (1) . وَفِي حَدِيثِ الأَْذَانِ: إِذَا أَذَّنْتَ فَتَرَسَّل، وَإِذَا أَقَمْتَ فَاحْدُرْ (2) أَيْ أَسْرِعْ وَلاَ يَخْرُجُ مَعْنَاهُ فِي الاِصْطِلاَحِ عَنْ ذَلِكَ.
وَالْحَدْرُ سُنَّةٌ فِي الإِْقَامَةِ، مَكْرُوهٌ فِي الأَْذَانِ (3) . لِمَا رَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لِبِلاَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَا بِلاَل إِذَا أَذَّنْتَ فَتَرَسَّل، وَإِذَا أَقَمْتَ فَاحْدُرْ (4)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ لِلتَّرَسُّل:
3 - لِلتَّرَسُّل أَحْكَامٌ تَعْتَرِيهِ.
فَهُوَ فِي الأَْذَانِ مَسْنُونٌ.
وَصِفَتُهُ: أَنْ يَتَمَهَّل الْمُؤَذِّنُ فِيهِ بِسَكْتَةٍ بَيْنَ كُل
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، ومختار الصحاح مادة: " حدر " وكشاف القناع 1 / 238 م النصر الحديثة.
(2) حديث: " إذا أذنت فترسل. . . ". سبق تخريجه (ف / 1)
(3) كشاف القناع 1 / 238 م النصر الحديثة، والمغني لابن قدامة 1 / 407 م الرياض الحديثة، وابن عابدين 1 / 260، والاختيار شرح المختار 1 / 43 ط دار المعرفة، ومراقي الفلاح 106، والمهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 65، ونهاية المحتاج للرملي 1 / 390 - 391، ومواهب الجليل لشرح مختصر خليل 1 / 437.
(4) حديث: " يا بلال إذا أذنت فترسل. . . " سبق تخريجه (ف / 1) .(11/190)
جُمْلَتَيْنِ مِنْهُ تَسَعُ إِجَابَةَ السَّامِعِ لَهُ، وَذَلِكَ مِنْ غَيْرِ تَمْطِيطٍ وَلاَ مَدٍّ مُفْرِطٍ وَلاَ تَطْرِيبٍ، لِمَا رَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لِبِلاَلٍ: يَا بِلاَل إِذَا أَذَّنْتَ فَتَرَسَّل، وَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ مُؤَذِّنِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: " إِذَا أَذَّنْتَ فَتَرَسَّل (1) وَمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلاً قَال لاِبْنِ عُمَرَ: إِنِّي لأَُحِبُّكَ فِي اللَّهِ. قَال: وَأَنَا أَبْغَضُكَ فِي اللَّهِ. إِنَّك تُغَنِّي فِي أَذَانِكَ.
هَذَا مَا عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ (2) .
وَالتَّرَسُّل فِي الإِْقَامَةِ مَكْرُوهٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يُسَنُّ لِمَنْ يُقِيمُ الصَّلاَةَ أَنْ يُسْرِعَ فِيهَا وَلاَ يَتَرَسَّل؛ لِلأَْحَادِيثِ السَّابِقَةِ (3) .
هَذَا، وَالأَْذَانُ قَدْ شُرِعَ لِلإِْعْلاَمِ بِدُخُول
__________
(1) حديث: " إذا أذنت فترسل. . . " سبق تخريجه (ف / 1) .
(2) ابن عابدين 1 / 259، والاختيار شرح المختار 1 / 43 ط دار المعرفة، ومراقي الفلاح 106، ونهاية المحتاج للرملي 1 / 391، والمهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 65، ومواهب الجليل لشرح مختصر خليل 1 / 437 م النجاح ليبيا، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 6 / 230 (ط الثامنة) والمغني لابن قدامة 1 / 407 م الرياض الحديثة، كشاف القناع 1 / 238 م. النصر الحديثة.
(3) ابن عابدين 1 / 260، والاختيار شرح المختار 1 / 43 ط دار المعرفة، ومراقي الفلاح 106، والمهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 65، نهاية المحتاج للرملي 1 / 391، والمغني لابن قدامة 1 / 407 م الرياض الحديثة، كشاف القناع 1 / 238 م النصر الحديثة، ومواهب الجليل لشرح مختصر خليل 1 / 437 م النجاح ليبيا.(11/191)
الْوَقْتِ وَتَنْبِيهِ الْغَائِبِينَ إِلَيْهِ وَدَعْوَتِهِمْ إِلَى الْحُضُورِ لِلصَّلاَةِ. أَمَّا الإِْقَامَةُ فَقَدْ شُرِعَتْ لإِِعْلاَمِ الْحَاضِرِينَ بِالتَّأَهُّبِ لِلصَّلاَةِ وَالْقِيَامِ لَهَا، وَلِذَا كَانَ التَّرَسُّل فِي الأَْذَانِ أَبْلَغَ فِي الإِْعْلاَمِ، أَمَّا الإِْقَامَةُ فَلاَ حَاجَةَ فِيهَا إِلَى التَّرَسُّل (1) . وَلِذَا ثُنِّيَ الأَْذَانُ وَأُفْرِدَتِ الإِْقَامَةُ، لِمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: أُمِرَ بِلاَلٌ أَنْ يَشْفَعَ الأَْذَانَ وَيُوتِرَ الإِْقَامَةَ (2) . زَادَ حَمَّادٌ فِي حَدِيثِهِ " إِلاَّ الإِْقَامَةَ "، وَاسْتُحِبَّ أَنْ يَكُونَ الأَْذَانُ فِي مَكَانٍ عَالٍ بِخِلاَفِ الإِْقَامَةِ، وَأَنْ يَكُونَ الصَّوْتُ فِي الأَْذَانِ أَرْفَعَ مِنْهُ فِي الإِْقَامَةِ، وَأَنْ يَكُونَ الأَْذَانُ مُرَتَّلاً وَالإِْقَامَةُ مُسْرِعَةً، وَسُنَّ تَكْرَارُ قَدْ قَامَتِ الصَّلاَةُ مَرَّتَيْنِ فِي الإِْقَامَةِ؛ لأَِنَّهَا الْمَقْصُودَةُ مِنَ الإِْقَامَةِ بِالذَّاتِ (3) . (ر: أَذَانٌ، إِقَامَةٌ) .
__________
(1) مواهب الجليل لشرح مختصر خليل 1 / 464، والمهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 65، ونهاية المحتاج للرملي 1 / 390، والمغني لابن قدامة 1 / 407 م الرياض الحديثة.
(2) حديث: " أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة ". أخرجه البخاري (2 / 82 - الفتح ط السلفية) ومسلم (1 / 286 - ط الحلبي) .
(3) عون المعبود شرح سنن أبي داود 2 / 201 - 203 ط دار الفكر.(11/191)
تَرْسِيمٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّرْسِيمُ لُغَةً مَصْدَرُ رَسَمَ. جَاءَ فِي الْمُعْجَمِ الْوَسِيطِ: رَسَمَ الثَّوْبَ: خَطَّطَهُ خُطُوطًا خَفِيَّةً. وَالاِسْمُ: الرَّسْمُ.
وَلِلرَّسْمِ مَعَانٍ مِنْهَا الأَْثَرُ يُقَال: رَسَمَتِ النَّاقَةُ: إِذَا أَثَّرَتْ فِي الأَْرْضِ مِنْ شِدَّةِ الْوَطْءِ.
وَرَسَمَ الْغَيْثُ الدِّيَارَ يَرْسُمُهَا رَسْمًا: إِذَا عَفَاهَا وَأَبْقَى أَثَرَهَا لاَصِقًا بِالأَْرْضِ. وَيُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى الأَْمْرِ بِالشَّيْءِ يُقَال: رَسَمَ لَهُ كَذَا إِذَا أَمَرَهُ بِهِ فَارْتَسَمَ: أَيِ امْتَثَل بِهِ (1) .
وَالتَّرْسِيمُ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ - كَمَا يُفْهَمُ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ - هُوَ: التَّضْيِيقُ عَلَى الشَّخْصِ، وَتَحْدِيدُ حَرَكَتِهِ، بِحَيْثُ لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَذْهَبَ مِنْ مَكَانٍ إِلَى آخَرَ (2) .
__________
(1) المعجم الوسيط، لسان العرب، ومتن اللغة، ومحيط المحيط، مادة: " رسم ".
(2) تحفة الحبيب على شرح الخطيب والإقناع 3 / 120، وحاشية البجيرمي على شرح المنهج 3 / 73، وحاشية القليوبي 3 / 4.(11/192)
حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ:
الشَّهَادَةُ عَلَى إِقْرَارِ ذِي التَّرْسِيمِ:
2 - جَاءَ فِي حَاشِيَةِ الْقَلْيُوبِيِّ عَلَى شَرْحِ الْمِنْهَاجِ: لاَ تَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَى إِقْرَارٍ نَحْوَ مَحْبُوسٍ وَذِي تَرْسِيمٍ؛ لِوُجُودِ أَمَارَةِ الإِْكْرَاهِ (1) .
كَمَا لاَ يَصِحُّ مِنَ الْمَحْبُوسِ وَذِي التَّرْسِيمِ إِقْرَارُهُ بِحَقٍّ أَوْ مَا يُوجِبُ الْعُقُوبَةَ. قَال فِي شَرْحِ مَطَالِبِ أُولِي النُّهَى: تُقْبَل مِنْ مُقِرٍّ وَنَحْوِهِ دَعْوَى إِكْرَاهٍ عَلَى إِقْرَارٍ بِقَرِينَةٍ دَالَّةٍ عَلَى إِكْرَاهٍ، كَتَهْدِيدِ قَادِرٍ عَلَى مَا هُدِّدَ بِهِ مِنْ ضَرْبٍ أَوْ حَبْسٍ، وَتَرْسِيمٍ عَلَيْهِ أَوْ سِجْنِهِ أَوْ أَخْذِ مَالِهِ وَنَحْوِهِ؛ لِدَلاَلَةِ الْحَال عَلَيْهِ (2) .
__________
(1) القليوبي 3 / 4.
(2) مطالب أولي النهى 6 / 657.(11/192)
تَرْشِيدٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّرْشِيدُ لُغَةً: مَأْخُوذٌ مِنَ الرُّشْدِ، وَهُوَ الصَّلاَحُ وَإِصَابَةُ الصَّوَابِ. وَرَشَّدَهُ الْقَاضِي تَرْشِيدًا: جَعَلَهُ رَشِيدًا (1) .
وَالتَّرْشِيدُ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ هُوَ: رَفْعُ الْحَجْرِ عَنِ الصَّغِيرِ بَعْدَ اخْتِبَارِهِ،
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: يَكُونُ الرُّشْدُ بِالصَّلاَحِ فِي الْمَال (2) . وَهُوَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: الصَّلاَحُ فِي الدِّينِ وَالْمَال (3)
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - يَجُوزُ لِوَلِيِّ الصَّبِيِّ الْعَاقِل أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهِ شَيْئًا مِنْ أَمْوَالِهِ، وَيَأْذَنَ لَهُ بِالتِّجَارَةِ لِلاِخْتِبَارِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ
__________
(1) المصباح مادة: " رشد ".
(2) حاشية ابن عابدين 5 / 94، 95 ط بيروت - لبنان، وبدائع الصنائع للكاساني 7 / 170، 171 ط الجمالية بمصر، والخرشي على مختصر خليل 5 / 294 ط دار صادر بيروت، والمغني والشرح الكبير 4 / 515 وما بعدها.
(3) نهاية المحتاج 4 / 350 ط المكتبة الإسلامية.(11/193)
فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} (1) أَذِنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي ابْتِلاَءِ الْيَتَامَى، وَالاِبْتِلاَءُ: الاِخْتِبَارُ، وَذَلِكَ بِالتِّجَارَةِ، فَكَانَ الإِْذْنُ بِالاِبْتِلاَءِ إِذْنًا بِالتِّجَارَةِ، وَإِذَا اخْتَبَرَهُ: فَإِنْ آنَسَ مِنْهُ رُشْدًا وَقَدْ بَلَغَ دَفَعَ الْبَاقِيَ إِلَيْهِ لِلآْيَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَإِنْ لَمْ يَأْنَسْ مِنْهُ رُشْدًا مَنَعَهُ مِنْهُ إِلَى أَنْ يَبْلُغَ، فَإِنْ بَلَغَ رَشِيدًا دَفَعَ إِلَيْهِ، وَإِنْ بَلَغَ سَفِيهًا مُفْسِدًا مُبَذِّرًا فَإِنَّهُ يَمْنَعُ عَنْهُ مَالَهُ. عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَلَوْ صَارَ شَيْخًا، حَتَّى يُؤْنَسَ رُشْدُهُ بِالاِخْتِبَارِ. لَكِنَّ الْحَنَابِلَةَ قَالُوا: إِنَّ الاِخْتِبَارَ يَكُونُ بِتَفْوِيضِ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي يَتَصَرَّفُ فِيهَا أَمْثَالُهُ، فَأَوْلاَدُ التُّجَّارِ غَيْرُ أَوْلاَدِ الدَّهَاقِينَ وَالْكُبَرَاءِ، وَكَذَا أَبْنَاءُ الْمُزَارِعِينَ، وَأَصْحَابُ الْحِرَفِ، وَكُل وَاحِدٍ مِمَّا ذُكِرَ يُخْتَبَرُ فِيمَا هُوَ أَهْلٌ لَهُ، وَالأُْنْثَى يُفَوَّضُ إِلَيْهَا مَا يُفَوَّضُ إِلَى رَبَّةِ الْبَيْتِ، فَإِنْ وُجِدَتْ ضَابِطَةً لِمَا فِي يَدِهَا مُسْتَوْفِيَةً مِنْ وَكِيلِهَا فَهِيَ رَشِيدَةٌ.
وَوَقْتُ الاِخْتِبَارِ عِنْدَهُمْ قَبْل الْبُلُوغِ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لأَِصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَال: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} فَظَاهِرُ الآْيَةِ أَنَّ ابْتِلاَءَهُمْ قَبْل الْبُلُوغِ لِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ سَمَّاهُمْ يَتَامَى، وَإِنَّمَا يَكُونُونَ يَتَامَى قَبْل الْبُلُوغِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَدَّ اخْتِبَارَهُمْ إِلَى الْبُلُوغِ بِلَفْظِ:
__________
(1) سورة النساء / 6(11/193)
حَتَّى، فَدَل عَلَى أَنَّ الاِخْتِبَارَ قَبْلَهُ.
وَالرِّوَايَةُ الأُْخْرَى عَنْ أَحْمَدَ، وَهُوَ الْوَجْهُ الآْخَرُ لأَِصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّ الاِخْتِبَارَ بَعْدَ الْبُلُوغِ.
وَالاِخْتِبَارُ وَاجِبٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يَخْتَبِرُ الْوَلِيُّ وُجُوبًا رُشْدَ الصَّبِيِّ فِي الدِّينِ وَالْمَال لِلآْيَةِ السَّابِقَةِ، أَمَّا فِي الدِّينِ: فَبِمُشَاهَدَةِ حَالِهِ فِي الْعِبَادَاتِ، وَالْمُعَامَلاَتِ، وَتَجَنُّبِ الْمَحْظُورَاتِ، وَتَوَقِّي الشُّبُهَاتِ، وَمُخَالَطَةِ أَهْل الْخَيْرِ، وَأَمَّا فِي الْمَال: فَكَمَا قَال الأَْئِمَّةُ الثَّلاَثَةُ (1) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ بَلَغَ سَفِيهًا مُفْسِدًا مُبَذِّرًا يَمْنَعُ عَنْهُ مَالَهُ إِلَى خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً مَا لَمْ يُؤْنَسْ رُشْدُهُ قَبْلَهَا، فَإِذَا بَلَغَ السِّنَّ الْمَذْكُورَةَ يُسَلَّمُ إِلَيْهِ مَالُهُ وُجُوبًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَشِيدًا؛ لأَِنَّهُ بَلَغَ سِنًّا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَصِيرَ جَدًّا؛ وَلأَِنَّ الْمَنْعَ لِلتَّأْدِيبِ فَإِذَا بَلَغَ هَذِهِ السِّنَّ انْقَطَعَ رَجَاءُ التَّأْدِيبِ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ (2) .
مَنْ يَتَوَلَّى التَّرْشِيدَ:
3 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى: أَنَّ تَرْشِيدَ الصَّبِيِّ إِذَا بَلَغَ وَأُونِسَ مِنْهُ الرُّشْدُ، أَوِ الْمَجْنُونُ إِذَا عَقَل يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ
__________
(1) الخرشي 5 / 294، ونهاية المحتاج 4 / 350 - 353، والمغني مع الشرح الكبير 4 / 515 وما بعدها.
(2) ابن عابدين 5 / 94، 95، وبدائع الصنائع 7 / 170، 171.(11/194)
مِنَ الْوَلِيِّ، وَلاَ يَحْتَاجُ إِلَى حُكْمِ حَاكِمٍ، وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْحَاكِمِ أَيْضًا عِنْدَ الاِخْتِلاَفِ.
وَالأُْنْثَى عِنْدَهُمْ فِي ذَلِكَ كَالذَّكَرِ، فَيَدْفَعُ إِلَيْهَا مَالَهَا إِذَا بَلَغَتْ وَأُونِسَ رُشْدُهَا، سَوَاءٌ تَزَوَّجَتْ أَمْ لَمْ تَتَزَوَّجْ. وَهُنَاكَ رِوَايَةٌ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ أَنَّ الْحَجْرَ لاَ يَزُول عَنِ الأُْنْثَى حَتَّى تَتَزَوَّجَ وَتَلِدَ، أَوْ تَمْضِيَ عَلَيْهَا سَنَةٌ فِي بَيْتِ الزَّوْجِ (1) .
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ فَرَّقُوا بَيْنَ تَرْشِيدِ الصَّبِيِّ وَتَرْشِيدِ الصَّبِيَّةِ، وَفَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُمَا، وَكَذَلِكَ بَيْنَ التَّرْشِيدِ لِلأُْنْثَى إِذَا كَانَتْ مَعْلُومَةَ الرُّشْدِ وَبَيْنَ غَيْرِهَا، وَفَرَّقُوا أَيْضًا بَيْنَ التَّرْشِيدِ فِي الأَْبِ وَالْوَصِيِّ وَالْمُقَدَّمِ.
أَمَّا الصَّبِيُّ فَإِنْ كَانَ فِي وِلاَيَةِ الأَْبِ يَنْفَكُّ الْحَجْرُ عَنْهُ بِمُجَرَّدِ الْبُلُوغِ مَعَ حِفْظِهِ لِمَالِهِ، وَلاَ يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يَفُكَّ الأَْبُ الْحَجْرَ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ فِي وِصَايَةِ الْوَصِيِّ أَوِ الْمُقَدَّمِ فَلاَ بُدَّ مِنَ الْفَكِّ مِنْهُمَا، وَلاَ يَحْتَاجُ إِلَى إِذْنِ الْقَاضِي.
وَفِي الأُْنْثَى يَكُونُ الْحَجْرُ عَلَيْهَا لِحِينِ بُلُوغِهَا مَعَ حِفْظِ الْمَال، وَدُخُول الزَّوْجِ بِهَا وَشَهَادَةِ عَدْلَيْنِ عَلَى حُسْنِ تَصَرُّفِهَا.
فَإِنْ كَانَتْ فِي وِلاَيَةِ الأَْبِ، فَإِنَّ الْحَجْرَ يَنْفَكُّ
__________
(1) الفتاوى الهندية 5 / 54، ومجلة الأحكام العدلية م (968، 974، 975) والدسوقي 2 / 223، وروضة الطالبين 4 / 181، 365 وما بعدها، والقليوبي 2 / 302، وكشاف القناع 3 / 452، وكتاب الفروع 4 / 313 - 326، ومطالب أولي النهى 3 / 403، والمغني لابن قدامة 4 / 525.(11/194)
عَنْهَا بِذَلِكَ، وَلاَ يَحْتَاجُ لِفَكٍّ مِنَ الأَْبِ، وَيَجُوزُ لِلأَْبِ تَرْشِيدُهَا قَبْل الدُّخُول إِذَا بَلَغَتْ، وَإِنْ كَانَتْ فِي وِصَايَةِ الْوَصِيِّ أَوِ الْمُقَدَّمِ، فَلاَ بُدَّ مِنَ الْفَكِّ مِنْهُمَا بَعْدَ الدُّخُول.
ثُمَّ إِنْ كَانَتِ الأُْنْثَى مَعْلُومَةَ الرُّشْدِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ تَرْشِيدُهَا مُطْلَقًا: أَيْ قَبْل الدُّخُول وَبَعْدَهُ لِكُلٍّ مِنَ الأَْبِ وَالْوَصِيِّ وَالْمُقَدَّمِ.
وَأَمَّا مَجْهُولَةُ الرُّشْدِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِلأَْبِ تَرْشِيدُهَا قَبْل الدُّخُول وَبَعْدَهُ، وَلِلْوَصِيِّ تَرْشِيدُهَا بَعْدَ الدُّخُول لاَ قَبْلَهُ، وَلاَ يَجُوزُ لِلْمُقَدَّمِ تَرْشِيدُهَا لاَ قَبْل الدُّخُول وَلاَ بَعْدَهُ (1) .
مَا يَكُونُ بِهِ التَّرْشِيدُ:
4 - لَيْسَ لِلتَّرْشِيدِ لَفْظٌ مُعَيَّنٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، فَكَمَا يَكُونُ صَرَاحَةً يَكُونُ دَلاَلَةً أَيْضًا (2) .
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّ تَرْشِيدَ الصَّبِيِّ يَكُونُ بِقَوْل الْوَلِيِّ لِلْعُدُول: اشْهَدُوا أَنِّي فَكَكْتُ الْحَجْرَ عَنْ فُلاَنٍ مَحْجُورِي، وَأَطْلَقْتُ لَهُ التَّصَرُّفَ، وَمَلَّكْتُ لَهُ أَمْرَهُ.
وَتَرْشِيدُ الأُْنْثَى يَكُونُ بِقَوْلِهِ لَهَا: رَشَّدْتُكِ، أَوْ أَطْلَقْتُ يَدَكِ، أَوْ رَفَعْتُ الْحَجْرَ عَنْكِ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ (3) .
__________
(1) الدسوقي 2 / 223، 3 / 296، 298، 299.
(2) مجلة الأحكام العدلية م (971) ، وروضة الطالبين 4 / 181، 182، وكشاف القناع 3 / 452.
(3) الدسوقي 2 / 223، 3 / 296.(11/195)
ضَمَانُ الْمَال إِذَا أَخْطَأَ الْوَلِيُّ فِي التَّرْشِيدِ:
5 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ وَصِيَّ الصَّغِيرِ إِذَا دَفَعَ إِلَيْهِ مَالَهُ قَبْل ثُبُوتِ رُشْدِهِ، فَضَاعَ الْمَال فِي يَدِهِ أَوْ أَتْلَفَهُ الصَّغِيرُ، يَصِيرُ الْوَصِيُّ ضَامِنًا. وَأَمَّا إِذَا بَلَغَ وَلَمْ يَعْلَمْ رُشْدَهُ وَسَفَهَهُ، فَأَعْطَى الْوَصِيُّ لَهُ مَالَهُ، وَثَبَتَ كَوْنُهُ مُفْسِدًا وَغَيْرَ رَشِيدٍ، فَيَلْزَمُ الْوَصِيَّ الضَّمَانُ عَلَى مَا فِي الْوَلْوَالِجِيَّةِ وَالشَّلَبِيِّ، وَفِي قَوْلٍ آخَرَ: لاَ يَلْزَمُ الْوَصِيَّ ضَمَانٌ عَلَى مَا أَفَادَهُ صَاحِبُ تَنْقِيحِ الْفَتَاوَى الْحَامِدِيَّةِ (1) .
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْوَلِيَّ لاَ يَضْمَنُ شَيْئًا مِمَّا أَتْلَفَهُ بَعْدَ تَرْشِيدِهِ؛ لأَِنَّ الْوَلِيَّ فَعَلَهُ بِاجْتِهَادِهِ (2) .
وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَلَمْ يَنُصُّوا عَلَى مَسْأَلَةِ الضَّمَانِ.
__________
(1) مجلة الأحكام العدلية م / 983، ودرر الحكام 2 / 629، 632.
(2) الخرشي، وحاشية العدوي عليه 5 / 294، وكتاب الفروع 4 / 324، والمغني لابن قدامة 4 / 525.(11/195)
تَرَضِّي
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّرَضِّي: طَلَبُ الرِّضَا. وَالرِّضَا: خِلاَفُ السُّخْطِ. وَالتَّرَضِّي عَنْ فُلاَنٍ قَوْل: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِكَلِمَةِ التَّرَضِّي عَنْ هَذَا الْمَعْنَى.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّرَحُّمُ:
2 - التَّرَحُّمُ: مِنَ الرَّحْمَةِ، وَلَهَا فِي اللُّغَةِ مَعَانٍ مُتَعَدِّدَةٌ مِنْهَا: الرِّقَةُ، وَالْخَيْرُ، وَالنِّعْمَةُ، وَالنُّبُوَّةُ. وَمِنْهُ الآْيَةُ الْكَرِيمَةُ: {وَاَللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} (2) أَيْ بِنُبُوَّتِهِ.
وَالتَّرَحُّمُ قَوْل: رَحِمَهُ اللَّهُ، وَتَرَحَّمْتَ عَلَيْهِ: أَيْ قُلْتَ لَهُ: رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ، وَرَحَّمَ عَلَيْهِ قَال:
__________
(1) لسان العرب المحيط مادة: " رضا "، ودستور العلماء مادة: " ترضي، وترحم ".
(2) سورة البقرة / 105.(11/196)
رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَتَرَاحَمَ الْقَوْمُ: رَحِمَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا (1) .
فَالتَّرَضِّي دُعَاءٌ بِالرِّضَا، وَالتَّرَحُّمُ دُعَاءٌ بِالرَّحْمَةِ.
حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ:
3 - يَخْتَلِفُ حُكْمُ التَّرَضِّي بِاخْتِلاَفِ الْمُتَرَضَّى عَنْهُ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
أ - التَّرَضِّي عَمَّنِ اخْتُلِفَ فِي نُبُوَّتِهِ:
4 - يُسْتَحَبُّ التَّرَضِّي عَمَّنِ اخْتُلِفَ فِي نُبُوَّتِهِ: كَذِي الْقَرْنَيْنِ، وَلُقْمَانَ، وَذِي الْكِفْل وَغَيْرِهِمْ. وَذَكَرَ ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلاً عَنِ النَّوَوِيِّ: أَنَّ الدُّعَاءَ بِالصَّلاَةِ عَلَيْهِمْ لاَ بَأْسَ بِهِ، وَلَكِنَّ الأَْرْجَحَ أَنْ يُقَال: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ؛ لأَِنَّ مَرْتَبَتَهُمْ غَيْرُ مَرْتَبَةِ الأَْنْبِيَاءِ، وَلَمْ يَثْبُتْ كَوْنُهُمْ أَنْبِيَاءَ (2) .
ب - التَّرَضِّي عَنِ الصَّحَابَةِ:
5 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ التَّرَضِّي عَنِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، لأَِنَّهُمْ كَانُوا يُبَالِغُونَ فِي طَلَبِ الرِّضَا مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ
__________
(1) لسان العرب المحيط، وتاج العروس، والصحاح في اللغة والعلوم، ومتن اللغة، ومختار الصحاح مادة: " رحم " ودستور العلماء مادة: " ترضى، وترحم ".
(2) ابن عابدين 5 / 480 ط دار إحياء التراث العربي، والأذكار ص 109.(11/196)
وَتَعَالَى، وَيَجْتَهِدُونَ فِي فِعْل مَا يُرْضِيهِ، وَيَرْضَوْنَ بِمَا يَلْحَقُهُمْ مِنَ الاِبْتِلاَءِ مِنْ عِنْدِهِ أَشَدَّ الرِّضَا، فَهَؤُلاَءِ أَحَقُّ بِالرِّضَا (1) .
وَإِنْ كَانَ صَحَابِيًّا ابْنَ صَحَابِيٍّ كَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ قَال: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا؛ لِتَشْمَلَهُ وَأَبَاهُ. وَإِذَا كَانَ هُوَ وَأَبُوهُ وَجَدُّهُ مِنَ الصَّحَابَةِ قَال: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ بْنِ أَبِي قُحَافَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ (2) .
ج - التَّرَضِّي عَنْ غَيْرِ الصَّحَابَةِ:
6 - قَال صَاحِبُ عُمْدَةِ الأَْبْرَارِ: يَجُوزُ التَّرَضِّي عَنِ السَّلَفِ مِنَ الْمَشَايِخِ وَالْعُلَمَاءِ وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِّيَّةِ جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَْنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} (3) .
فَفِي الآْيَةِ الْكَرِيمَةِ ذِكْرُ عَامَّةِ الْمُؤْمِنِينَ بِهَذَا، مِنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ.
وَكَمَا ذُكِرَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْكُتُبِ مِثْل: التَّقْوِيمِ، وَالْبَزْدَوِيِّ، وَالسَّرَخْسِيِّ، وَالْهِدَايَةِ وَغَيْرِهَا بَعْدَ ذِكْرِ الأَْسَاتِذَةِ أَوْ بَعْدَ ذِكْرِ نَفْسِهِ رَضِيَ اللَّهُ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 480.
(2) الأذكار ص 109، والفتوحات الربانية على الأذكار النووية 2 / 342 - ط المكتبة الإسلامية.
(3) سورة البينة / 7، 8.(11/197)
فَلَوْ لَمْ يَجُزِ الدُّعَاءُ بِهَذَا اللَّفْظِ مَا ذَكَرُوهُ فِي كُتُبِهِمْ، وَهَكَذَا جَرَتِ الْعَادَةُ بَيْنَ أَهْل الْعِلْمِ بِالاِبْتِدَاءِ بِهَذَا الدُّعَاءِ، حَيْثُ يَقُولُونَ: رَضِيَ اللَّهُ عَنْكَ وَعَنْ وَالِدَيْكَ إِلَى آخِرِهِ.
وَلَمْ يُنْكِرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ، بَل اسْتَحْسَنُوا الدُّعَاءَ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَكَانُوا يُعَلِّمُونَ ذَلِكَ لِتَلاَمِذَتِهِمْ، فَعَلَيْهِ عَمَل الأُْمَّةِ (1) .
د - الْمُحَافَظَةُ عَلَى كِتَابَةِ التَّرَضِّي:
7 - يَنْبَغِي أَنْ يُحَافَظَ عَلَى كِتَابَةِ التَّرَضِّي عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَسَائِرِ الأَْخْيَارِ، وَلاَ يَسْأَمُ مِنْ تَكْرَارِهِ، وَمَنْ أَغْفَلَهُ حُرِمَ حَظًّا عَظِيمًا، وَإِذَا جَاءَتِ الرِّوَايَةُ بِالتَّرَضِّي كَانَتِ الْعِنَايَةُ بِهِ أَشَدَّ (2) .
هـ - مَا يَجِبُ عَلَى سَامِعِ التَّرَضِّي:
8 - يَنْبَغِي لِسَامِعِ التَّرَضِّي عَنِ الصَّحَابَةِ وَلَوْ حَال الْخُطْبَةِ أَنْ يَتَرَضَّى عَنْهُمْ، كَمَا يَنْبَغِي لِسَامِعِ الصَّلاَةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأَِنَّهُ أَفْضَل مِنَ الإِْنْصَاتِ (3) .
وَفِي ذَلِكَ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي (خُطْبَةٌ) .
__________
(1) ذيل الجواهر المضية 2 / 557، 558، وابن عابدين 1 / 35، ونهاية المحتاج 1 / 48، والمجموع 1 / 14.
(2) تدريب الراوي ص 292، 293 ط المكتبة العلمية.
(3) بغية المسترشدين ص 83 ط مصطفى البابي الحلبي.(11/197)
تَرْكٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّرْكُ لُغَةً: وَدْعُكَ الشَّيْءَ، وَيُقَال: تَرَكْتُ الشَّيْءَ: إِذَا خَلَّيْتَهُ، وَتَرَكْتُ الْمَنْزِل: إِذَا رَحَلْتَ عَنْهُ، وَتَرَكْتُ الرَّجُل: إِذَا فَارَقْتَهُ. ثُمَّ اسْتُعِيرَ لِلإِْسْقَاطِ فِي الْمَعَانِي، فَقِيل: تَرَكَ حَقَّهُ: إِذَا أَسْقَطَهُ، وَتَرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصَّلاَةِ: إِذَا لَمْ يَأْتِ بِهَا، فَإِنَّهُ إِسْقَاطٌ لِمَا ثَبَتَ شَرْعًا (1)
وَالتَّرْكُ فِي اصْطِلاَحِ أَكْثَرِ الأُْصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ: كَفُّ النَّفْسِ عَنِ الإِْيقَاعِ، فَهُوَ فِعْلٌ نَفْسِيٌّ، وَقِيل: إِنَّهُ لَيْسَ بِفِعْلٍ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الإِْهْمَال:
2 - الإِْهْمَال: التَّرْكُ عَنْ عَمْدٍ أَوْ نِسْيَانٍ،
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير. مادة " ترك ".
(2) جمع الجوامع 1 / 213 وما بعدها، والأحكام للآمدي 1 / 147، وشرح مسلم الثبوت 1 / 132، والمستصفى 1 / 90، وأصول السرخسي 1 / 90، وشرح العضد 2 / 13، 14، وحاشية الدسوقي 2 / 110، 4 / 301، والمنثور للزركشي 1 / 284، والأشباه لابن نجيم ص 26، 29.(11/198)
وَيُقَال: أَهْمَلَهُ إِهْمَالاً إِذَا خَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَفْسِهِ، وَيَأْتِي عِنْدَ الْفُقَهَاءِ بِمَعْنَى التَّرْكِ (1) .
ب - التَّخْلِيَةُ:
3 - التَّخْلِيَةُ: التَّرْكُ وَيَسْتَعْمِلُهُ الْفُقَهَاءُ فِي: تَمْكِينِ الشَّخْصِ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الشَّيْءِ دُونَ حَائِلٍ (2) .
فَالتَّرْكُ أَعَمُّ مِنَ التَّخْلِيَةِ.
ج - الإِْسْقَاطُ وَالإِْبْرَاءُ:
4 - الإِْسْقَاطُ: إِزَالَةُ الْمِلْكِ أَوِ الْحَقِّ لاَ إِلَى مَالِكٍ أَوْ مُسْتَحِقٍّ.
وَالإِْبْرَاءُ: إِسْقَاطُ الشَّخْصِ حَقًّا لَهُ فِي ذِمَّةِ آخَرَ أَوْ قِبَلَهُ (3) .
وَكِلاَهُمَا يُسْتَعْمَل فِي مَوْطِنِ التَّرْكِ إِلاَّ أَنَّ التَّرْكَ أَعَمُّ فِي اسْتِعْمَالاَتِهِ.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
أَوَّلاً - التَّرْكُ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ:
أ - التَّرْكُ وَالْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ:
5 - اقْتِضَاءُ التَّرْكِ فِي خِطَابِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُتَعَلِّقِ
__________
(1) المعجم الوسيط، والمصباح المنير، ونهاية المحتاج 7 / 445.
(2) المعجم الوسيط وتاج العروس ومتن اللغة، وابن عابدين 4 / 43، والفروق في اللغة ص 106، والبدائع 5 / 244، وحاشية الدسوقي 3 / 145، والقليوبي 2 / 215، والمغني 4 / 125 و 126.
(3) لسان العرب، والمصباح المنير، وابن عابدين 4 / 276، والموسوعة الفقهية (الكويت) 4 / 226.(11/198)
بِفِعْل الْمُكَلَّفِ هُوَ أَحَدُ أَقْسَامِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ.
وَاقْتِضَاءُ التَّرْكِ لِشَيْءٍ إِنْ كَانَ جَازِمًا فَهُوَ لِلتَّحْرِيمِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ جَازِمٍ فَهُوَ لِلْكَرَاهَةِ، وَإِنْ كَانَ مُسَاوِيًا لاِقْتِضَاءِ الْفِعْل فِي الْخِطَابِ فَهُوَ لِلإِْبَاحَةِ (1) .
وَانْظُرِ الْمُلْحَقَ الأُْصُولِيَّ.
ب - التَّرْكُ فِعْلٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّكْلِيفُ:
6 - يَتَعَلَّقُ التَّكْلِيفُ بِالتَّرْكِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ فِعْلٌ؛ إِذِ الْمُكَلَّفُ بِهِ فِي النَّهْيِ الْمُقْتَضِي لِلتَّرْكِ هُوَ الْكَفُّ، أَيْ كَفُّ النَّفْسِ عَنِ الْفِعْل إِذَا أَقْبَلَتْ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ فِعْلٌ، وَمِنْ ثَمَّ كَانَتِ الْقَاعِدَةُ الأُْصُولِيَّةُ (لاَ تَكْلِيفَ إِلاَّ بِفِعْلٍ) وَذَلِكَ مُتَحَقِّقٌ فِي الأَْمْرِ، وَفِي النَّهْيِ عَلَى اعْتِبَارِ أَنَّ مُقْتَضَاهُ وَهُوَ التَّرْكُ فِعْلٌ، وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَكْثَرُ الأُْصُولِيِّينَ. وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ التَّرْكَ مِنْ مُقْتَضَى النَّهْيِ، وَالنَّهْيُ تَكْلِيفٌ، وَالتَّكْلِيفُ إِنَّمَا يَرِدُ بِمَا كَانَ مَقْدُورًا لِلْمُكَلَّفِ، وَالْعَدَمُ الأَْصْلِيُّ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مَقْدُورًا؛ لأَِنَّ الْقُدْرَةَ لاَ بُدَّ لَهَا مِنْ أَثَرٍ وُجُودِيٍّ، وَالْعَدَمُ نَفْيٌ مَحْضٌ، فَيُمْتَنَعُ إِسْنَادُهُ إِلَيْهَا. وَلأَِنَّ الْعَدَمَ الأَْصْلِيَّ - أَيِ الْمُسْتَمِرَّ - حَاصِلٌ، وَالْحَاصِل لاَ يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ ثَانِيًا، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ مُقْتَضَى النَّهْيِ لَيْسَ هُوَ الْعَدَمَ ثَبَتَ أَنَّهُ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ.
__________
(1) جمع الجوامع 1 / 80، والتلويح على التوضيح 1 / 13، والبدخشي والأسنوي 1 / 40.(11/199)
كَذَلِكَ قَالُوا: إِنَّ مُمْتَثِل التَّكْلِيفِ مُطِيعٌ وَالطَّاعَةُ حَسَنَةٌ، وَالْحَسَنَةُ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلثَّوَابِ، وَلاَ يُثَابُ إِلاَّ عَلَى شَيْءٍ (وَأَلاَّ يَفْعَل) عَدَمٌ مَحْضٌ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَإِذَا لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ شَيْءٌ فَكَيْفَ يُثَابُ عَلَى لاَ شَيْءَ؟ .
وَقَال قَوْمٌ، مِنْهُمْ أَبُو هَاشِمٍ: إِنَّ التَّرْكَ غَيْرُ فِعْلٍ، وَهُوَ انْتِفَاءُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَذَلِكَ مَقْدُورٌ لِلْمُكَلَّفِ بِأَنْ لاَ يَشَاءَ فِعْلَهُ الَّذِي يُوجَدُ بِمَشِيئَتِهِ (1) .
وَانْظُرِ: الْمُلْحَقَ الأُْصُولِيَّ.
هَذَا، وَالْخُرُوجُ عَنِ الْعُهْدَةِ لاَ يُشْتَرَطُ لَهُ قَصْدُ التَّرْكِ امْتِثَالاً، بَل يَكْفِي مُجَرَّدُ التَّرْكِ. إِنَّمَا يُشْتَرَطُ قَصْدُ التَّرْكِ امْتِثَالاً لِحُصُول الثَّوَابِ (2) .
لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا الأَْعْمَال بِالنِّيَّاتِ (3) .
وَفِي تَقْرِيرَاتِ الشِّرْبِينِيِّ عَلَى جَمْعِ الْجَوَامِعِ: فِي التَّكْلِيفِ بِالنَّهْيِ ثَلاَثَةُ أُمُورٍ:
الأَْوَّل: الْمُكَلَّفُ بِهِ، وَهُوَ مُطْلَقُ التَّرْكِ، وَلاَ يَتَوَقَّفُ عَلَى قَصْدِ الاِمْتِثَال، بَل مَدَارُهُ عَلَى إِقْبَال النَّفْسِ عَلَى الْفِعْل، ثُمَّ كَفِّهَا عَنْهُ.
__________
(1) الأسنوي 2 / 55، والآمدي 1 / 147، وجمع الجوامع 1 / 213 وما بعدها، وشرح العضد 2 / 13، 14، والمستصفى 1 / 90، والتقرير والتحبير 2 / 81 و 82.
(2) جمع الجوامع 1 / 216، والذخيرة ص 62.
(3) حديث: " إنما الأعمال بالنيات. . . " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 9 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1515 - ط الحلبي) واللفظ للبخاري.(11/199)
الثَّانِي: الْمُكَلَّفُ بِهِ الْمُثَابُ عَلَيْهِ، وَهُوَ التَّرْكُ بِقَصْدِ الاِمْتِثَال.
الثَّالِثُ: عَدَمُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ، لَكِنَّهُ لَيْسَ مُكَلَّفًا بِهِ؛ لِعَدَمِ قُدْرَةِ الْمُكَلَّفِ عَلَيْهِ (1) . وَانْظُرِ الْمُلْحَقَ الأُْصُولِيَّ.
ج التَّرْكُ وَسِيلَةٌ لِبَيَانِ الأَْحْكَامِ:
7 - قَدْ يَكُونُ التَّرْكُ وَسِيلَةً لِبَيَانِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، يَقُول الْقَرَافِيُّ: الْبَيَانُ إِمَّا بِالْقَوْل أَوْ بِالْفِعْل كَالْكِتَابَةِ وَالإِْشَارَةِ، أَوْ بِالدَّلِيل الْعَقْلِيِّ، أَوْ بِالتَّرْكِ.
وَالتَّرْكُ يُبَيَّنُ بِهِ حُكْمُ الْمُحَرَّمِ وَالْمَكْرُوهِ وَالْمَنْدُوبِ (2) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
ثَانِيًا - التَّرْكُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ:
أ - تَرْكُ الْمُحَرَّمَاتِ:
8 - الْمُحَرَّمَاتُ الَّتِي نَهَى الشَّرْعُ عَنْهَا، سَوَاءٌ أَكَانَتْ مِنْ عَمَل الْجَوَارِحِ كَالزِّنَى وَالسَّرِقَةِ وَالْقَتْل وَالْكَذِبِ وَالْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ، أَمْ كَانَتْ مِنْ عَمَل الْقَلْبِ كَالْحِقْدِ وَالْحَسَدِ. هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتُ يَجِبُ
__________
(1) هامش جمع الجوامع 1 / 69.
(2) الذخيرة ص 100، وهامش الفروق 4 / 220، والمستصفى 2 / 223، والموافقات للشاطبي 3 / 319 - 321.(11/200)
تَرْكُهَا امْتِثَالاً لِلنَّهْيِ الْوَارِدِ مِنَ الشَّرْعِ، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى} (1) ، وقَوْله تَعَالَى: {وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ} (2) وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ، قِيل: وَمَا هُنَّ يَا رَسُول اللَّهِ؟ قَال: الشِّرْكُ بِاَللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْل النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ، وَأَكْل مَال الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاَتِ الْمُؤْمِنَاتِ، وَأَكْل الرِّبَا، وَشَهَادَةُ الزُّورِ (3) .
يَقُول الْفُقَهَاءُ: يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ كَفُّ الْجَوَارِحِ عَنِ الْحَرَامِ، وَكَفُّ الْقَلْبِ عَنِ الْفَوَاحِشِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِْثْمِ وَبَاطِنَهُ} (4) وَفِعْل الْمُحَرَّمَاتِ مَعْصِيَةٌ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْعُقُوبَةُ الْمُقَرَّرَةُ لِكُل مَعْصِيَةٍ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ حَدًّا كَمَا فِي الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ، أَمْ كَانَتْ قِصَاصًا كَمَا فِي الْجِنَايَاتِ، أَمْ كَانَتْ تَعْزِيرًا كَمَا فِي الْمَعَاصِي الَّتِي لاَ حَدَّ فِيهَا (5) .
__________
(1) سورة الإسراء / 32.
(2) سورة الأنعام / 151.
(3) حديث: " اجتنبوا السبع الموبقات. . . " أخرجه البخاري (الفتح 5 / 393 - ط السلفية) ومسلم (1 / 92 - ط الحلبي) .
(4) سورة الأنعام / 120.
(5) الاختيار 4 / 79، والشرح الصغير 4 / 735، والفروق للقرافي 1 / 121، 122، والتبصرة بهامش فتح العلي 2 / 133، 134، 294، والأحكام السلطانية للماوردي / 221، والأذكار للنووي / 284، والمغني 7 / 635 و 8 / 156، 215، 240، والآداب الشرعية 1 / 58.(11/200)
وَمِنَ الْمُقَرَّرِ أَنَّ بَعْضَ الْمُحَرَّمَاتِ تُبَاحُ عِنْدَ الاِضْطِرَارِ، وَقَدْ تَجِبُ، كَأَكْل الْمَيْتَةِ فِي الْمَخْمَصَةِ إِحْيَاءً لِلنَّفْسِ، وَكَشُرْبِ الْخَمْرِ لإِِزَالَةِ الْغُصَّةِ، وَذَلِكَ بِالشُّرُوطِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا فِي الْحَالَتَيْنِ (1) . وَهَكَذَا
وَيُنْظَرُ كُل مَا سَبَقَ فِي أَبْوَابِهِ.
ب - تَرْكُ الْحُقُوقِ:
الْحَقُّ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِلْعِبَادِ.
9 - أَمَّا حَقُّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَالْعِبَادَاتِ مَثَلاً، فَتَرْكُهَا حَرَامٌ بِالإِْجْمَاعِ، وَيَعْصِي تَارِكُهَا، وَيَكُونُ آثِمًا، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْكُفْرُ إِنْ كَانَ تَرَكَهَا جَحْدًا لَهَا مَعَ كَوْنِهَا فَرْضًا مَعْلُومًا مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، أَوِ الإِْثْمُ وَالْعُقُوبَةُ إِنْ كَانَ تَرَكَهَا كَسَلاً (2) .
يَقُول الزَّرْكَشِيُّ: إِذَا امْتَنَعَ الْمُكَلَّفُ مِنَ الْوَاجِبِ، فَإِنْ لَمْ تَدْخُل النِّيَابَةُ نُظِرَ: فَإِنْ كَانَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى نُظِرَ: إِنْ كَانَتْ صَلاَةً طُولِبَ بِهَا فَإِنْ لَمْ يَفْعَل قُتِل، وَإِنْ كَانَ صَوْمًا حُبِسَ وَمُنِعَ
__________
(1) نهاية المحتاج 8 / 150، والمغني 8 / 332، 569، والأشباه لابن نجيم / 34، ومنح الجليل 1 / 596، والأشباه للسيوطي 75 و 76، والآداب الشرعية 1 / 58.
(2) ابن عابدين 1 / 235، وجواهر الإكليل 1 / 35، والتبصرة لابن فرحون 2 / 188، 192، 294، والفواكه الدواني 2 / 276.(11/201)
الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ. . . وَإِنْ دَخَلَتْهُ النِّيَابَةُ قَامَ الْقَاضِي مَقَامَهُ، كَمَا فِي عَضْل الْوَلِيِّ الْمُجْبَرِ فِي النِّكَاحِ، عَلَى تَفْصِيلٍ فِي ذَلِكَ وَفِيمَا تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ (1) .
وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلْمُجْمَعِ عَلَيْهِ. أَمَّا الْمُخْتَلَفُ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ تَارِكُهُ مُعْتَقِدًا جَوَازَ ذَلِكَ فَلاَ شَيْءَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ مُعْتَقِدًا تَحْرِيمَهُ فَهُوَ آثِمٌ (2) .
وَكَذَلِكَ يَأْثَمُ الْمُسْلِمُ الْمُكَلَّفُ بِتَرْكِ السُّنَنِ الْمُؤَكَّدَةِ الَّتِي تُعْتَبَرُ مِنْ شَعَائِرِ الإِْسْلاَمِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، كَالْجَمَاعَةِ وَالأَْذَانِ وَصَلاَةِ الْعِيدَيْنِ إِذْ فِي تَرْكِهَا تَهَاوُنٌ بِالشَّرْعِ، وَلِذَلِكَ لَوْ اتَّفَقَ أَهْل بَلْدَةٍ عَلَى تَرْكِهَا وَجَبَ قِتَالُهُمْ، بِخِلاَفِ سَائِرِ الْمَنْدُوبَاتِ؛ لأَِنَّهَا تُفْعَل فُرَادَى.
هَذَا وَيُبَاحُ تَرْكُ الْوَاجِبِ لِلضَّرُورَةِ؛ إِذِ الْمَعْهُودُ فِي الشَّرِيعَةِ دَفْعُ الضَّرَرِ بِتَرْكِ الْوَاجِبِ إِذَا تَعَيَّنَ طَرِيقًا لِدَفْعِ الضَّرَرِ (3) . وَمِنْ ثَمَّ كَانَتِ الْمُسَامَحَةُ فِي تَرْكِ الْوَاجِبِ أَوْسَعَ مِنَ الْمُسَامَحَةِ فِي فِعْل الْمُحَرَّمِ، وَاعْتِنَاءُ الشَّرْعِ بِالْمَنْهِيَّاتِ فَوْقَ اعْتِنَائِهِ بِالْمَأْمُورَاتِ، وَلِهَذَا قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا
__________
(1) المنثور في القواعد 3 / 110، 323.
(2) المغني 2 / 447، وجواهر الإكليل 1 / 35، والمنثور 2 / 140.
(3) الفروق للقرافي 3 / 122، 123.(11/201)
نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ (1) .
10 - وَالْحُدُودُ الَّتِي تَكُونُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، كَحَدِّ الزِّنَى وَالسَّرِقَةِ يَجِبُ إِقَامَتُهَا مَتَى بَلَغَتِ الإِْمَامَ.
قَال الْفُقَهَاءُ: الْحَدُّ لاَ يَقْبَل الإِْسْقَاطَ بَعْدَ ثُبُوتِ سَبَبِهِ عِنْدَ الْحَاكِمِ. وَعَلَيْهِ بُنِيَ عَدَمُ جَوَازِ الشَّفَاعَةِ فِيهِ، فَإِنَّهَا طَلَبُ تَرْكِ الْوَاجِبِ، وَلِذَا أَنْكَرَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا حِينَ شَفَعَ فِي الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ فَقَال: أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ؟ . . . (2) وَلأَِنَّ الْحَدَّ بَعْدَ بُلُوغِ الإِْمَامِ يَصِيرُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، فَلاَ يَجُوزُ لِلإِْمَامِ تَرْكُهُ وَلاَ يَجُوزُ لأَِحَدٍ الشَّفَاعَةُ فِي إِسْقَاطِهِ.
11 - أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلتَّعْزِيرِ فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى: أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْحَقُّ لِلَّهِ تَعَالَى وَجَبَ إِقَامَتُهُ كَالْحُدُودِ، إِنْ رَأَى الإِْمَامُ أَنَّهُ لاَ يَنْزَجِرُ إِلاَّ بِهِ، أَوْ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ فِي إِقَامَتِهِ. وَقَال الشَّافِعِيُّ: هُوَ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى الإِْمَامِ، إِنْ شَاءَ أَقَامَهُ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ (3) .
__________
(1) المنثور 3 / 272، 397، 398. وحديث: " إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه. . . " أخرجه البخاري (الفتح 13 / 251 - ط السلفية) ومسلم (4 / 1830 - ط الحلبي) واللفظ لمسلم.
(2) حديث: " أتشفع في حد من حدود الله. . . " أخرجه البخاري (الفتح 12 / 87 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1315 - ط الحلبي) .
(3) البدائع 7 / 55، 56، وفتح القدير 5 / 4، 113، والفروق للقرافي 4 / 179، والفواكه الدواني 2 / 295، والمهذب 2 / 283، 286، والمغني 8 / 282، 326.(11/202)
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (حَدٌّ - تَعْزِيرٌ) .
12 - وَأَمَّا حَقُّ الْعَبْدِ، فَإِنْ كَانَ حَقًّا لَهُ فَتَرْكُهُ جَائِزٌ، إِذِ الأَْصْل أَنَّ كُل جَائِزِ التَّصَرُّفِ لاَ يُمْنَعُ مِنْ تَرْكِ حَقِّهِ، مَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَانِعٌ مِنْ ذَلِكَ كَتَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ بِهِ، بَل قَدْ يَكُونُ التَّرْكُ مَنْدُوبًا إِذَا كَانَ قُرْبَةً، كَإِبْرَاءِ الْمُعْسِرِ وَالْعَفْوِ عَنِ الْقِصَاصِ (1) .
هَذَا إِذَا كَانَ الْحَقُّ قِبَل الْغَيْرِ، أَمَّا إِذَا كَانَ قِبَل نَفْسِهِ فَقَدْ يَكُونُ التَّرْكُ حَرَامًا كَمَا إِذَا تَرَكَ الأَْكْل وَالشُّرْبَ حَتَّى هَلَكَ، وَكَمَا إِذَا أُلْقِيَ فِي مَاءٍ يُمْكِنُهُ الْخَلاَصُ مِنْهُ عَادَةً، فَمَكَثَ فِيهِ مُخْتَارًا حَتَّى هَلَكَ (2) .
وَقِيل فِي التَّمَتُّعِ بِأَنْوَاعِ الطَّيِّبَاتِ: إِنَّ التَّرْكَ مِنَ الْبِدَعِ الْمَذْمُومَةِ. قَال تَعَالَى: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} (3) وَقِيل: إِنَّ التَّرْكَ أَفْضَل (4) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} (5) .
__________
(1) الأشباه لابن نجيم ص 257، والمنثور في القواعد 3 / 393، ومنتهى الإرادات 2 / 260، 439.
(2) الاختيار 4 / 172، والفتاوى الهندية 6 / 5، ونهاية المحتاج 7 / 243، ومنتهى الإرادات 3 / 269.
(3) سورة البقرة / 172.
(4) الاختيار 4 / 174، ومغني المحتاج 4 / 310، والاختيارات الفقهية ص 323.
(5) سورة الأحقاف / 10.(11/202)
13 - وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ لِلْغَيْرِ، وَتَرَتَّبَ فِي ذِمَّةِ شَخْصٍ، وَأَصْبَحَ مُلْتَزِمًا بِهِ حِفْظًا أَوْ أَدَاءً، فَإِنَّ تَرْكَ الْحِفْظِ أَوِ الأَْدَاءِ يُعْتَبَرُ مَعْصِيَةً تَسْتَوْجِبُ التَّعْزِيرَ حَتَّى يُؤَدِّيَ الْحَقَّ لأَِهْلِهِ، مَعَ الضَّمَانِ فِيمَا ضَاعَ أَوْ تَلِفَ.
وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ يَتَعَلَّقُ بِنَفْعِ الْغَيْرِ، لَكِنْ لَمْ يَلْتَزِمْ بِهِ شَخْصٌ، وَكَانَ فِي تَرْكِ الْقِيَامِ بِمَا يُحَقِّقُ النَّفْعَ ضَيَاعُ الْمَال أَوْ تَلَفُهُ، كَمَنْ تَرَكَ الْتِقَاطَ لُقَطَةٍ تَضِيعُ لَوْ تَرَكَهَا، أَوْ تَرَكَ قَبُول وَدِيعَةٍ تَضِيعُ لَوْ لَمْ يَقْبَلْهَا، فَتَلِفَ الْمَال أَوْ ضَاعَ، فَإِنَّهُ يَأْثَمُ بِالتَّرْكِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ لِحُرْمَةِ مَال الْغَيْرِ، خِلاَفًا لِلْحَنَابِلَةِ إِذِ الأَْخْذُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ عِنْدَهُمْ، بَل هُوَ مُسْتَحَبٌّ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ يَخْتَلِفُونَ فِي تَرَتُّبِ الضَّمَانِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلاَفِهِمْ، هَل يُعَدُّ التَّرْكُ فِعْلاً يُكَلَّفُ الإِْنْسَانُ بِمُوجَبِهِ؛ إِذْ لاَ تَكْلِيفَ إِلاَّ بِفِعْلٍ، أَمْ لاَ يُعْتَبَرُ فِعْلاً؟ .
فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَجُمْهُورِ الْحَنَفِيَّةِ، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: لاَ ضَمَانَ بِالتَّرْكِ عِنْدَ الضَّيَاعِ أَوِ التَّلَفِ؛ إِذْ التَّرْكُ فِي نَظَرِهِمْ لَيْسَ سَبَبًا وَلاَ تَضْيِيعًا، بَل هُوَ امْتِنَاعٌ مِنْ حِفْظٍ غَيْرِ مُلْزِمٍ؛ وَلأَِنَّ الْمَال إِنَّمَا يُضْمَنُ بِالْيَدِ أَوِ الإِْتْلاَفِ، وَلَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَهَذَا بِخِلاَفِ مَا إِذَا الْتَقَطَ أَوْ قَبِل الْوَدِيعَةَ وَتَرَكَ الْحِفْظَ حَتَّى ضَاعَ الْمَال أَوْ تَلِفَ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُ حِينَئِذٍ لِتَرْكِهِ مَا الْتَزَمَ بِهِ.
وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ(11/203)
الْحَنَفِيَّةِ: تَرَتُّبُ الضَّمَانِ عَلَى التَّرْكِ فِي مِثْل ذَلِكَ. بِنَاءً عَلَى أَنَّ التَّرْكَ فِعْلٌ فِي الْمَشْهُورِ مِنَ الْمَذْهَبِ، بَل إِنَّ الْمَالِكِيَّةَ يُضَمِّنُونَ الصَّبِيَّ فِي تَرْكِ مَا يَجُوزُ لَهُ فِعْلُهُ، فَلَوْ مَرَّ صَبِيٌّ مُمَيِّزٌ عَلَى صَيْدٍ مَجْرُوحٍ لَمْ يَنْفُذْ مَقْتَلُهُ، وَأَمْكَنَتْهُ ذَكَاتُهُ، فَتَرَكَ تَذْكِيَتَهُ حَتَّى مَاتَ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ مَجْرُوحًا لِصَاحِبِهِ؛ لأَِنَّ الضَّمَانَ مِنْ خِطَابِ الْوَضْعِ؛ وَلأَِنَّ الشَّارِعَ جَعَل التَّرْكَ سَبَبًا فِي الضَّمَانِ، فَيَتَنَاوَل الْبَالِغَ وَغَيْرَهُ (1) .
14 - هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلْمَال، أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِتَرْكِ إِنْقَاذِ نَفْسٍ مِنَ الْهَلاَكِ، فَالْمُتَتَبِّعُ لأَِقْوَال الْفُقَهَاءِ يَرَى أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ فِي حَالَتَيْنِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَقُومَ شَخْصٌ بِعَمَلٍ ضَارٍ نَحْوَ شَخْصٍ آخَرَ يُمْكِنُ أَنْ يُؤَدِّيَ إِلَى هَلاَكِهِ غَالِبًا، ثُمَّ يَتْرُكَ مَا يُمْكِنُ بِهِ إِنْقَاذُ هَذَا الشَّخْصِ فَيَهْلِكُ.
وَمِثَال ذَلِكَ: أَنْ يَحْبِسَ غَيْرَهُ فِي مَكَانٍ، وَيَمْنَعَهُ الطَّعَامَ أَوِ الشَّرَابَ، فَيَمُوتَ جُوعًا وَعَطَشًا لِزَمَنٍ يَمُوتُ فِيهِ غَالِبًا، وَكَانَ قَدْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الطَّلَبُ. فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: يَكُونُ فِيهِ الْقَوَدُ لِظُهُورِ قَصْدِ الإِْهْلاَكِ بِذَلِكَ.
__________
(1) البدائع 6 / 200، وابن عابدين 3 / 318، 319، وحاشية الدسوقي 2 / 110، 111، والحطاب 3 / 224، 225، والخرشي 3 / 20، 21، ونهاية المحتاج 5 / 424 و 6 / 110، والمهذب 1 / 436، ونيل المآرب 1 / 476، والمغني 5 / 694.(11/203)
وَعِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ - أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - يَكُونُ فِي ذَلِكَ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ. لأَِنَّ حَبْسَهُ هُوَ الَّذِي تَسَبَّبَ فِي هَلاَكِهِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: لاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ الْهَلاَكَ حَصَل بِالْجُوعِ وَالْعَطَشِ لاَ بِالْحَبْسِ، وَلاَ صُنْعَ لأَِحَدٍ فِي الْجُوعِ وَالْعَطَشِ.
فَإِنْ لَمْ يَمْنَعْهُ الطَّعَامَ أَوِ الشَّرَابَ، بِأَنْ كَانَ مَعَهُ فَلَمْ يَتَنَاوَل خَوْفًا أَوْ حُزْنًا، أَوْ كَانَ يُمْكِنُهُ الطَّلَبُ فَلَمْ يَفْعَل، فَمَاتَ، فَلاَ قِصَاصَ وَلاَ دِيَةَ، لأَِنَّهُ قَتَل نَفْسَهُ (1) .
الْحَال الثَّانِيَةُ: مَنْ أَمْكَنَهُ إِنْقَاذُ إِنْسَانِ مِنَ الْهَلاَكِ، فَلَمْ يَفْعَل حَتَّى مَاتَ.
وَمِثَال ذَلِكَ: مَنْ رَأَى إِنْسَانًا اشْتَدَّ جُوعُهُ. وَعَجَزَ عَنِ الطَّلَبِ، فَامْتَنَعَ مَنْ رَآهُ مِنْ إِعْطَائِهِ فَضْل طَعَامِهِ حَتَّى مَاتَ، أَوْ رَأَى إِنْسَانًا فِي مَهْلَكَةٍ فَلَمْ يُنْجِهِ مِنْهَا، مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى ذَلِكَ - فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ - عَدَا أَبِي الْخَطَّابِ لاَ ضَمَانَ عَلَى الْمُمْتَنِعِ، لأَِنَّهُ لَمْ يُهْلِكْهُ وَلَمْ يُحْدِثْ فِيهِ فِعْلاً مُهْلِكًا، لَكِنَّهُ يَأْثَمُ. وَهَذَا الْحُكْمُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِذَا كَانَ الْمُضْطَرُّ لَمْ يَطْلُبِ الطَّعَامَ، أَمَّا إِذَا طَلَبَهُ فَمَنَعَهُ رَبُّ الطَّعَامِ حَتَّى مَاتَ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ؛ لأَِنَّ
__________
(1) البدائع 7 / 234، وابن عابدين 5 / 349، والدسوقي 4 / 242، والتاج والإكليل بهامش الحطاب 6 / 240، ومغني المحتاج 4 / 5، ونهاية المحتاج 7 / 239، وكشاف القناع 5 / 508، ومنتهى الإرادات 3 / 269، 270.(11/204)
مَنْعَهُ مِنْهُ كَانَ سَبَبًا فِي هَلاَكِهِ، فَضَمِنَهُ بِفِعْلِهِ الَّذِي تَعَدَّى بِهِ. وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَأَبِي الْخَطَّابِ يَضْمَنُ، لأَِنَّهُ لَمْ يُنْجِهِ مِنَ الْهَلاَكِ مَعَ إِمْكَانِهِ.
هَذَا وَيُلاَحَظُ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُضْطَرِّ قِتَال مَنْ مَنَعَ مِنْهُ فَضْل طَعَامِهِ، فَإِنْ قُتِل رَبُّ الطَّعَامِ فَدَمُهُ هَدَرٌ، وَإِنْ قُتِل الْمُضْطَرُّ فَفِيهِ الْقِصَاصُ؛ لِقَضَاءِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِذَلِكَ (1) .
عُقُوبَةُ تَرْكِ الْوَاجِبِ:
15 - يَقُول ابْنُ فَرْحُونَ: التَّعْزِيرُ يَكُونُ عَلَى تَرْكِ الْوَاجِبِ، وَمِنْ ذَلِكَ تَرْكُ قَضَاءِ الدَّيْنِ وَأَدَاءِ الأَْمَانَاتِ: مِثْل الْوَدَائِعِ وَأَمْوَال الأَْيْتَامِ وَغَلاَّتِ الْوُقُوفِ وَمَا تَحْتَ أَيْدِي الْوُكَلاَءِ وَالْمُقَارِضِينَ، وَالاِمْتِنَاعِ مِنْ رَدِّ الْمَغْصُوبِ وَالْمَظَالِمِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الأَْدَاءِ، وَيُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ إِنْ أَبَاهُ وَلَوْ بِالْحَبْسِ وَالضَّرْبِ (2) .
وَيَقُول الزَّرْكَشِيُّ: إِذَا امْتَنَعَ الْمُكَلَّفُ مِنَ الْوَاجِبِ، فَإِنْ كَانَ حَقًّا لآِدَمِيٍّ لاَ تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ حُبِسَ حَتَّى يَفْعَلَهُ. كَمَا إِذَا امْتَنَعَ الْمُشْتَرِي مِنْ تَسْلِيمِ الثَّمَنِ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ يُخَيَّرُ بَيْنَ حَبْسِهِ وَبَيْنَ النِّيَابَةِ عَنْهُ فِي التَّسْلِيمِ، كَالْمُقِرِّ بِمُبْهَمٍ يُحْبَسُ
__________
(1) الاختيار 4 / 175، ومغني المحتاج 4 / 309، والمغني 7 / 834، 835، ومنتهى الإرادات 3 / 304، 305، وحاشية الدسوقي 2 / 112 و 4 / 242.
(2) التبصرة بهامش فتح العلي 2 / 294، وانظر الاختيارات الفقهية ص 300، 301.(11/204)
حَتَّى يُبَيِّنَ. وَإِنْ كَانَتْ تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ قَامَ الْقَاضِي مَقَامَهُ (1) .
النِّيَّةُ فِي التَّرْكِ:
16 - تَرْكُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ لاَ يَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ لِلْخُرُوجِ عَنْ عُهْدَةِ النَّهْيِ. وَأَمَّا لِحُصُول الثَّوَابِ، بِأَنْ كَانَ التَّرْكُ كَفًّا - وَهُوَ: أَنْ تَدْعُوهُ النَّفْسُ إِلَيْهِ قَادِرًا عَلَى فِعْلِهِ، فَكَفَّ نَفْسَهُ عَنْهُ خَوْفًا مِنْ رَبِّهِ - فَهُوَ مُثَابٌ، وَإِلاَّ فَلاَ ثَوَابَ عَلَى تَرْكِهِ، فَلاَ يُثَابُ الْعِنِّينُ عَلَى تَرْكِ الزِّنَا، وَلاَ الأَْعْمَى عَلَى تَرْكِ النَّظَرِ.
آثَارُ التَّرْكِ:
17 - تَتَعَدَّدُ آثَارُ التَّرْكِ وَتَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ مُتَعَلِّقِهِ، وَبِاخْتِلاَفِ مَا إِذَا كَانَ التَّرْكُ عَمْدًا أَوْ نِسْيَانًا أَوْ جَهْلاً وَهَكَذَا. وَفِيمَا يَأْتِي بَعْضُ آثَارِ التَّرْكِ.
أ - يَسْقُطُ الْحَقُّ فِي الشُّفْعَةِ بِتَرْكِ طَلَبِهَا بِلاَ عُذْرٍ. وَيَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي يَسْقُطُ بِهَا هَذَا الْحَقُّ (2) . (ر: شُفْعَةٌ) .
ب - لاَ تُؤْكَل الذَّبِيحَةُ إِذَا تَرَكَ الذَّابِحُ التَّسْمِيَةَ عَمْدًا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَأَمَّا إِنْ تَرَكَ نِسْيَانًا
__________
(1) المنثور في القواعد 3 / 109، 323.
(2) البدائع 5 / 17، وجواهر الإكليل 2 / 160.(11/205)
فَتُؤْكَل اتِّفَاقًا، وَفِي الْمَسْأَلَةِ خِلاَفٌ يُنْظَرُ (ذَبَائِحُ - أُضْحِيَّةٌ) .
وَالأَْجِيرُ إِنْ تَرَكَ التَّسْمِيَةَ عَمْدًا ضَمِنَ قِيمَةَ الذَّبِيحَةِ (1) .
ج - تَرْكُ الْقِيَامِ بِالدَّعْوَى بِلاَ عُذْرٍ، وَبَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ الْمُحَدَّدَةِ يَمْنَعُ سَمَاعَهَا، وَهَذَا عِنْدَ مُتَأَخِّرِي الْحَنَفِيَّةِ بِنَاءً عَلَى أَمْرٍ سُلْطَانِيٍّ، وَكَمَا لاَ تُسْمَعُ فِي حَيَاةِ الْمُدَّعِي لِلتَّرْكِ لاَ تُسْمَعُ مِنَ الْوَرَثَةِ.
وَإِذَا تَرَكَ الْمُوَرِّثُ الدَّعْوَى مُدَّةً وَتَرَكَهَا الْوَارِثُ مُدَّةً، وَبَلَغَ مَجْمُوعُ الْمُدَّتَيْنِ حَدَّ مُرُورِ الزَّمَانِ فَلاَ تُسْمَعُ (2) . (ر: دَعْوَى) .
د - يَلْزَمُ الْحِنْثُ وَالْكَفَّارَةُ فِي الْحَلِفِ عَلَى تَرْكِ الْوَاجِبِ (3) . (ر: أَيْمَانٌ) .
هـ - تَرْكُ الْعِبَادَاتِ أَوْ بَعْضِ أَجْزَائِهَا يَسْتَلْزِمُ الْجُبْرَانَ. وَالْمَتْرُوكَاتُ مِنْهَا مَا يُجْبَرُ بِالْعَمَل الْبَدَنِيِّ كَسُجُودِ السَّهْوِ فِي الصَّلاَةِ، وَالْقَضَاءِ أَوِ الإِْعَادَةِ لِمَنْ تَرَكَ فَرْضًا.
وَمِنْهَا مَا يُجْبَرُ بِالْمَال كَجَبْرِ الصَّوْمِ بِالإِْطْعَامِ فِي
__________
(1) الاختيار 5 / 9، وابن عابدين 5 / 212، ومنح الجليل 1 / 580، وشرح منتهى الإرادات 3 / 408.
(2) تكملة حاشية ابن عابدين 1 / 347، ومجلة الأحكام العدلية المواد 1669، 1670، وفتح العلي المالك 2 / 315 - 321.
(3) نهاية المحتاج 8 / 170.(11/205)
حَقِّ الشَّيْخِ الْعَاجِزِ، وَالدَّمُ لِتَرْكِ وَاجِبٍ مِنْ وَاجِبَاتِ الْحَجِّ (1) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مَوَاضِعِهِ.
هَذَا وَقَدْ وَرَدَ فِي ثَنَايَا الْبَحْثِ آثَارُ التَّرْكِ، كَتَرَتُّبِ الْحَدِّ أَوِ التَّعْزِيرِ فِي تَرْكِ وَاجِبٍ أَوْ عَدَمِ تَرْكِ مُحَرَّمٍ، وَكَالضَّمَانِ فِي التَّلَفِ بِالتَّرْكِ.
__________
(1) المنثور 2 / 8، والفروق للقرافي 1 / 213، والوجيز 1 / 50.(11/206)
تَرِكَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّرِكَةُ لُغَةً: اسْمٌ مَأْخُوذٌ مِنْ تَرَكَ الشَّيْءَ يَتْرُكُهُ تَرْكًا. يُقَال: تَرَكْتُ الشَّيْءَ تَرْكًا: خَلَّفْتُهُ، وَتَرِكَةُ الْمَيِّتِ: مَا يَتْرُكُهُ مِنَ الْمِيرَاثِ، وَالْجَمْعُ تَرِكَاتٌ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ، اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَعْرِيفِهَا.
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - إِلَى أَنَّ التَّرِكَةَ: هِيَ كُل مَا يُخَلِّفُهُ الْمَيِّتُ مِنَ الأَْمْوَال وَالْحُقُوقِ الثَّابِتَةِ مُطْلَقًا.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّرِكَةَ: هِيَ مَا يَتْرُكُهُ الْمَيِّتُ مِنَ الأَْمْوَال صَافِيًا عَنْ تَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ بِعَيْنِهِ.
وَيَتَبَيَّنُ مِنْ خِلاَل التَّعْرِيفَيْنِ أَنَّ التَّرِكَةَ تَشْمَل الْحُقُوقَ مُطْلَقًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَمِنْهَا الْمَنَافِعُ. فِي حِينِ أَنَّ الْمَنَافِعَ لاَ تَدْخُل فِي التَّرِكَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. فَإِنَّ الْحَنَفِيَّةَ يَحْصُرُونَ التَّرِكَةَ فِي الْمَال أَوِ الْحَقِّ الَّذِي لَهُ صِلَةٌ بِالْمَال فَقَطْ عَلَى تَفْصِيلٍ يَأْتِي (2) .
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير. مادة: " ترك ".
(2) ابن عابدين 5 / 500 ط بولاق، وحاشية الفناري على شرح السراجية ص 13، والدسوقي 4 / 470، ومغني المحتاج 3 / 3 وحاشية الرملي على أسنى المطالب 3 / 3، وكشاف القناع 4 / 402.(11/206)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الإِْرْثُ:
2 - الإِْرْثُ لُغَةً: الأَْصْل وَالأَْمْرُ الْقَدِيمُ تَوَارَثَهُ الآْخَرُ عَنِ الأَْوَّل. وَالْبَقِيَّةُ مِنْ كُل شَيْءٍ (1) .
وَيُطْلَقُ الإِْرْثُ وَيُرَادُ بِهِ: الْمَوْرُوثُ، وَيُسَاوِيهِ عَلَى هَذَا الإِْطْلاَقُ فِي الْمَعْنَى: التَّرِكَةُ
وَاصْطِلاَحًا: هُوَ حَقٌّ قَابِلٌ لِلتَّجَزُّؤِ يَثْبُتُ لِمُسْتَحِقِّهِ بَعْدَ مَوْتِ مَنْ كَانَ لَهُ ذَلِكَ لِقَرَابَةٍ بَيْنَهُمَا أَوْ نَحْوِهَا (2) .
مَا تَشْمَلُهُ التَّرِكَةُ وَمَا يُورَثُ مِنْهَا:
3 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّ التَّرِكَةَ تَشْمَل جَمِيعَ مَا تَرَكَهُ الْمُتَوَفَّى مِنْ أَمْوَالٍ وَحُقُوقٍ.
وَقَدِ اسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ مَاتَ وَتَرَكَ مَالاً فَمَالُهُ لِمَوَالِي الْعَصَبَةِ، وَمَنْ تَرَكَ كَلًّا أَوْ ضَيَاعًا فَأَنَا وَلِيُّهُ (3) . فَقَدْ جَمَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْمَال وَالْحَقِّ وَجَعَلَهُمَا
__________
(1) القاموس المحيط. مادة " ورث ".
(2) العذب الفائض 1 / 16، وحاشية البقري على الرحبية ص 10، وابن عابدين 5 / 499، والدسوقي مع الشرح الكبير 4 / 456، ونهاية المحتاج 6 / 2.
(3) حديث: " من مات وترك مالا فماله لموالي. . . " أخرجه البخاري (الفتح 12 / 27 - ط السلفية) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(11/207)
تَرِكَةً لِوَرَثَةِ الْمَيِّتِ، إِلاَّ أَنَّ هَذِهِ الْحُقُوقَ أَنْوَاعٌ مُخْتَلِفَةٌ، وَلِكُلٍّ مِنْهَا حُكْمُهُ مِنْ نَاحِيَةِ إِرْثِهِ، أَوْ عَدَمِ إِرْثِهِ وَذَلِكَ تَبَعًا لِطَبِيعَتِهِ وَهِيَ:
أ - حُقُوقٌ غَيْرُ مَالِيَّةٍ:
وَهِيَ حُقُوقٌ شَخْصِيَّةٌ لاَ تَتَعَدَّى إِلَى غَيْرِ صَاحِبِهَا بِحَالٍ مَا، فَهِيَ لاَ تُورَثُ عَنْهُ مُطْلَقًا، كَحَقِّ الأُْمِّ فِي الْحَضَانَةِ، وَحَقِّ الأَْبِ فِي الْوِلاَيَةِ عَلَى الْمَال، وَحَقِّ الْوَصِيِّ فِي الإِْشْرَافِ عَلَى مَال مَنْ تَحْتَ وِصَايَتِهِ.
ب - حُقُوقٌ مَالِيَّةٌ، وَلَكِنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِشَخْصِ الْمُوَرِّثِ نَفْسِهِ
، وَهَذِهِ لاَ تُورَثُ عَنْهُ أَيْضًا، كَرُجُوعِ الْوَاهِبِ فِي هِبَتِهِ، وَحَقِّ الاِنْتِفَاعِ بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ يَمْلِكُهُ الْغَيْرُ، كَدَارٍ يَسْكُنُهَا أَوْ أَرْضٍ يَزْرَعُهَا، أَوْ سَيَّارَةٍ يَرْكَبُهَا، فَهَذَا وَنَحْوُهُ لاَ يُورَثُ عَنْ صَاحِبِهِ. وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ الأَْجَل فِي الدَّيْنِ، فَالدَّائِنُ يَمْنَحُ هَذَا الأَْجَل لِلْمَدِينِ لاِعْتِبَارَاتٍ خَاصَّةٍ يُقَدِّرُهَا الدَّائِنُ وَحْدَهُ، وَذَلِكَ مِنَ الأُْمُورِ الشَّخْصِيَّةِ الَّتِي لاَ تُورَثُ عَنْهُ. وَلِذَلِكَ يَحِل الدَّيْنُ بِمَوْتِ الْمَدِينِ، وَلاَ يَرِثُ الْوَرَثَةُ حَقَّ الأَْجَل.
ج - حُقُوقٌ مَالِيَّةٌ أُخْرَى تَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَةِ الْمُوَرِّثِ وَإِرَادَتِهِ
، وَهِيَ تُورَثُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهَا لاَ تُورَثُ.
وَأَهَمُّ هَذِهِ الْحُقُوقِ حَقُّ الشُّفْعَةِ، وَحَقُّ الْخِيَارَاتِ الْمَعْرُوفَةِ فِي عُقُودِ الْبَيْعِ، كَخِيَارِ الشَّرْطِ، وَخِيَارِ الرُّؤْيَةِ، وَخِيَارِ التَّعْيِينِ.(11/207)
وَلِلتَّفْصِيل تُنْظَرُ أَحْكَامُ (الْخِيَارِ، وَالشُّفْعَةِ)
د - حُقُوقٌ مَالِيَّةٌ تَتَعَلَّقُ بِمَال الْمُوَرِّثِ، لاَ بِشَخْصِهِ وَلاَ بِإِرَادَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ،
وَهَذِهِ حُقُوقٌ تُورَثُ عَنْهُ بِلاَ خِلاَفٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، وَذَلِكَ كَحَقِّ الرَّهْنِ، وَحُقُوقِ الاِرْتِفَاقِ الْمَعْرُوفَةِ، كَحَقِّ الْمُرُورِ وَحَقِّ الشُّرْبِ وَحَقِّ الْمَجْرَى وَحَقِّ التَّعَلِّي.
4 - فَيَدْخُل فِي التَّرِكَةِ مَا كَانَ لِلإِْنْسَانِ حَال حَيَاتِهِ، وَخَلَّفَهُ بَعْدَ مَمَاتِهِ، مِنْ مَالٍ أَوْ حُقُوقٍ أَوِ اخْتِصَاصٍ، كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَالْقِصَاصِ وَالْوَلاَءِ وَحَدِّ الْقَذْفِ.
وَكَذَا مَنْ أَوْصَى لَهُ بِمَنْفَعَةِ شَيْءٍ مِنَ الأَْشْيَاءِ كَدَارٍ مَثَلاً، كَانَتِ الْمَنْفَعَةُ لَهُ حَال حَيَاتِهِ وَلِوَرَثَتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، إِلاَّ إِذَا كَانَتِ الْمَنْفَعَةُ مُؤَقَّتَةً بِمُدَّةِ حَيَاتِهِ فِي الْوَصِيَّةِ.
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ مِنَ التَّرِكَةِ أَيْضًا مَا دَخَل فِي مِلْكِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، بِسَبَبٍ كَانَ مِنْهُ فِي حَيَاتِهِ، كَصَيْدٍ وَقَعَ فِي شَبَكَةٍ نَصَبَهَا فِي حَيَاتِهِ، فَإِنَّ نَصْبَهُ لِلشَّبَكَةِ لِلاِصْطِيَادِ هُوَ سَبَبُ الْمِلْكِ،
وَكَمَا لَوْ مَاتَ عَنْ خَمْرٍ فَتَخَلَّلَتْ بَعْدَ مَوْتِهِ (1) .
قَال الْقَرَافِيُّ: اعْلَمْ أَنَّهُ يُرْوَى عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) الدسوقي 4 / 461، 470، ومغني المحتاج 3 / 3، وبجيرمي على المنهج 3 / 257، والمهذب 1 / 383، وكشاف القناع 4 / 402، وبداية المجتهد 2 / 260، والمغني 5 / 346 - 347، وابن عابدين 5 / 482 وما بعدها.(11/208)
أَنَّهُ قَال: مَنْ مَاتَ عَنْ حَقٍّ فَلِوَرَثَتِهِ (1) وَهَذَا اللَّفْظُ لَيْسَ عَلَى عُمُومِهِ، بَل مِنَ الْحُقُوقِ مَا يُنْقَل إِلَى الْوَارِثِ، وَمِنْهَا مَا لاَ يَنْتَقِل. فَمِنْ حَقِّ الإِْنْسَانِ أَنْ يُلاَعِنَ عِنْدَ سَبَبِ اللِّعَانِ، وَأَنْ يَفِيءَ بَعْدَ الإِْيلاَءِ، وَأَنْ يَعُودَ بَعْدَ الظِّهَارِ، وَأَنْ يَخْتَارَ مِنْ نِسْوَةٍ إِذَا أَسْلَمَ عَلَيْهِنَّ وَهُنَّ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعٍ، وَأَنْ يَخْتَارَ إِحْدَى الأُْخْتَيْنِ إِذَا أَسْلَمَ عَلَيْهِمَا، وَإِذَا جَعَل الْمُتَبَايِعَانِ الْخِيَارَ لأَِجْنَبِيٍّ عَنِ الْعَقْدِ فَمِنْ حَقِّهِ أَنْ يَمْلِكَ إِمْضَاءَ الْبَيْعِ عَلَيْهِمَا أَوْ فَسْخَهُ، وَمِنْ حَقِّهِ مَا فُوِّضَ إِلَيْهِ مِنَ الْوِلاَيَاتِ وَالْمَنَاصِبِ كَالْقِصَاصِ وَالإِْمَامَةِ وَالْخَطَابَةِ وَغَيْرِهِمَا، وَكَالأَْمَانَةِ وَالْوَكَالَةِ. فَجَمِيعُ هَذِهِ الْحُقُوقِ لاَ يَنْتَقِل لِلْوَارِثِ مِنْهَا شَيْءٌ وَإِنْ كَانَتْ ثَابِتَةً لِلْمُوَرِّثِ. وَالضَّابِطُ: أَنَّهُ يَنْتَقِل إِلَيْهِ كُل مَا كَانَ مُتَعَلِّقًا بِالْمَال، أَوْ يَدْفَعُ ضَرَرًا عَنِ الْوَارِثِ فِي عِرْضِهِ بِتَخْفِيفِ أَلَمِهِ. أَمَّا مَا كَانَ مُتَعَلِّقًا بِنَفْسِ الْمُوَرِّثِ وَعَقْلِهِ وَشَهَوَاتِهِ فَلاَ يَنْتَقِل لِلْوَارِثِ.
وَالسِّرُّ فِي الْفَرْقِ: أَنَّ الْوَرَثَةَ يَرِثُونَ الْمَال، فَيَرِثُونَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ تَبَعًا لَهُ، وَلاَ يَرِثُونَ عَقْلَهُ وَلاَ شَهْوَتَهُ وَلاَ نَفْسَهُ، فَلاَ يَرِثُونَ مَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ، وَمَا لاَ يُورَثُ لاَ يَرِثُونَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، فَاللِّعَانُ يَرْجِعُ إِلَى أَمْرٍ يَعْتَقِدُهُ لاَ يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ غَالِبًا، وَالاِعْتِقَادَاتُ لَيْسَتْ مِنْ بَابِ الْمَال، وَالْفَيْئَةُ شَهْوَتُهُ، وَالْعَوْدُ إِرَادَتُهُ، وَاخْتِيَارُ الأُْخْتَيْنِ وَالنِّسْوَةِ
__________
(1) حديث: " من مات وترك مالا فماله لموالي العصبة. . . " أخرجه البخاري (12 / 27 - الفتح - ط السلفية) من حديث أبي هريرة.(11/208)
إِرَبُهُ وَمَيْلُهُ، وَقَضَاؤُهُ عَلَى الْمُتَبَايِعَيْنِ عَقْلُهُ وَفِكْرَتُهُ، وَرَأْيُهُ وَمَنَاصِبُهُ وَوِلاَيَاتُهُ وَآرَاؤُهُ وَاجْتِهَادَاتُهُ، وَأَفْعَالُهُ الدِّينِيَّةُ فَهُوَ دِينُهُ، وَلاَ يَنْتَقِل شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لِلْوَارِثِ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَرِثْ مُسْتَنَدَهُ وَأَصْلَهُ، وَانْتَقَل لِلْوَارِثِ خِيَارُ الشَّرْطِ فِي الْبِيَاعَاتِ، وَقَالَهُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ قَال الْقَرَافِيُّ: إِنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ حُقُوقِ الأَْمْوَال - فِيمَا يُورَثُ - إِلاَّ صُورَتَانِ فِيمَا عَلِمْتُ: حَدُّ الْقَذْفِ وَقِصَاصُ الأَْطْرَافِ وَالْجُرْحِ وَالْمَنَافِعِ فِي الأَْعْضَاءِ. فَإِنَّ هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ تَنْتَقِلاَنِ لِلْوَارِثِ، وَهُمَا لَيْسَتَا بِمَالٍ، لأَِجْل شِفَاءِ غَلِيل الْوَارِثِ بِمَا دَخَل عَلَى عِرْضِهِ مِنْ قَذْفِ مُوَرِّثِهِ وَالْجِنَايَةِ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا قِصَاصُ النَّفْسِ فَإِنَّهُ لاَ يُورَثُ، فَإِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ قَبْل مَوْتِهِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ لِلْوَارِثِ ابْتِدَاءً؛ لأَِنَّ اسْتِحْقَاقَهُ فَرْعُ زَهُوقِ النَّفْسِ، فَلاَ يَقَعُ إِلاَّ لِلْوَارِثِ بَعْدَ مَوْتِ الْمَوْرُوثِ (1) .
5 - وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ مَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ الْمُوَرِّثِ، وَيَجِبُ لَهُ بِمَوْتِهِ، كَالدِّيَةِ وَالْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ فَلِلْوَرَثَةِ اسْتِيفَاؤُهُ.
وَمَا كَانَ وَاجِبًا لِلْمُوَرِّثِ فِي حَيَاتِهِ إِنْ كَانَ قَدْ طَالَبَ بِهِ، أَوْ هُوَ فِي يَدِهِ ثَبَتَ لِلْوَرَثَةِ إِرْثُهُ، وَذَلِكَ
__________
(1) الفروق 3 / 275 - 279، وبداية المجتهد 2 / 229 نشر مكتبة الكليات الأزهرية.(11/209)
عَلَى تَفْصِيلٍ فِي الْمَذْهَبِ (1) .
6 - وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّرِكَةَ هِيَ الْمَال فَقَطْ، وَيَدْخُل فِيهَا الدِّيَةُ الْوَاجِبَةُ بِالْقَتْل الْخَطَأِ، أَوْ بِالصُّلْحِ عَنْ عَمْدٍ، أَوْ بِانْقِلاَبِ الْقِصَاصِ بِعَفْوِ بَعْضِ الأَْوْلِيَاءِ، فَتُعْتَبَرُ كَسَائِرِ أَمْوَالِهِ، حَتَّى تُقْضَى مِنْهَا دُيُونُهُ وَتُخْرَجَ وَصَايَاهُ، وَيَرِثُ الْبَاقِيَ وَرَثَتُهُ.
وَلاَ تَدْخُل الْحُقُوقُ فِي التَّرِكَةِ؛ لأَِنَّهَا لَيْسَتْ ثَابِتَةً بِالْحَدِيثِ، وَمَا لَمْ يَثْبُتْ لاَ يَكُونُ دَلِيلاً. وَلأَِنَّ الْحُقُوقَ لَيْسَتْ أَمْوَالاً، وَلاَ يُورَثُ مِنْهَا إِلاَّ مَا كَانَ تَابِعًا لِلْمَال أَوْ فِي مَعْنَى الْمَال، مِثْل حُقُوقِ الاِرْتِفَاقِ وَالتَّعَلِّي وَحَقِّ الْبَقَاءِ فِي الأَْرْضِ الْمُحْتَكَرَةِ لِلْبِنَاءِ وَالْغِرَاسِ، أَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْحُقُوقِ فَلاَ يُعْتَبَرُ تَرِكَةً، كَحَقِّ الْخِيَارِ فِي السِّلْعَةِ الَّتِي اشْتَرَاهَا الْمُوَرِّثُ وَكَانَ لَهُ فِيهَا حَقُّ الْخِيَارِ - كَمَا سَبَقَ - وَحَقُّ الاِنْتِفَاعِ بِمَا أُوصِيَ لَهُ بِهِ، وَمَاتَ قَبْل مُضِيِّ الْمُدَّةِ الَّتِي حَدَّدَهَا الْمُوصِي (2) .
قَال ابْنُ رُشْدٍ: وَعُمْدَةُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ (وَالْحَنَابِلَةِ أَيْضًا) أَنَّ الأَْصْل هُوَ أَنْ تُورَثَ الْحُقُوقُ وَالأَْمْوَال، إِلاَّ مَا قَامَ دَلِيلٌ عَلَى مُفَارَقَةِ الْحَقِّ فِي هَذَا الْمَعْنَى لِلْمَال.
وَعُمْدَةُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الأَْصْل هُوَ أَنْ يُورَثَ الْمَال
__________
(1) القواعد لابن رجب ص 315 وما بعدها.
(2) ابن عابدين 5 / 483، وحاشية الفناري على شرح السراجية ص 13، والبدائع 7 / 386، وتبيين الحقائق 5 / 257 - 258.(11/209)
دُونَ الْحُقُوقِ، إِلاَّ مَا قَامَ دَلِيلُهُ مِنْ إِلْحَاقِ الْحُقُوقِ بِالأَْمْوَال.
فَمَوْضِعُ الْخِلاَفِ: هَل الأَْصْل أَنْ تُورَثَ الْحُقُوقُ كَالأَْمْوَال أَوْ لاَ؟
وَكُل وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ يُشْبِهُ مِنْ هَذَا مَا لَمْ يُسَلِّمْ لَهُ خَصْمُهُ مِنْهَا بِمَا يُسَلِّمُهُ مِنْهَا لَهُ، وَيَحْتَجَّ عَلَى خَصْمِهِ (1) .
الْحُقُوقُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالتَّرِكَةِ:
7 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْحُقُوقَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالتَّرِكَةِ أَرْبَعَةٌ:
وَهِيَ تَجْهِيزُ الْمَيِّتِ لِلدَّفْنِ، وَقَضَاءُ دُيُونِهِ إِنْ مَاتَ مَدِينًا، وَتَنْفِيذُ مَا يَكُونُ أَوْصَى بِهِ قَبْل مَوْتِهِ مِنْ وَصَايَا، ثُمَّ حُقُوقُ الْوَرَثَةِ.
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ، وَصَاحِبُ الدُّرِّ الْمُخْتَارِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّهَا خَمْسَةٌ بِالاِسْتِقْرَاءِ. قَال الدَّرْدِيرُ: وَغَايَتُهَا - أَيِ الْحُقُوقِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالتَّرِكَةِ - خَمْسَةٌ: حَقٌّ تَعَلَّقَ بِعَيْنٍ، وَحَقٌّ تَعَلَّقَ بِالْمَيِّتِ، وَحَقٌّ تَعَلَّقَ بِالذِّمَّةِ، وَحَقٌّ تَعَلَّقَ بِالْغَيْرِ، وَحَقٌّ تَعَلَّقَ بِالْوَارِثِ.
وَالْحَصْرُ فِي هَذِهِ اسْتِقْرَائِيٌّ، فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ تَتَبَّعُوا ذَلِكَ فَلَمْ يَجِدُوا مَا يَزِيدُ عَلَى هَذِهِ الأُْمُورِ الْخَمْسَةِ، لاَ عَقْلِيٌّ كَمَا قِيل.
وَقَال صَاحِبُ الدُّرِّ الْمُخْتَارِ: وَالْحُقُوقُ هَاهُنَا
__________
(1) بداية المجتهد 2 / 231 نشر مكتبة الكليات الأزهرية.(11/210)
خَمْسَةٌ بِالاِسْتِقْرَاءِ؛ لأَِنَّ الْحَقَّ إِمَّا لِلْمَيِّتِ، أَوْ عَلَيْهِ، أَوْ لاَ.
الأَْوَّل: التَّجْهِيزُ، وَالثَّانِي: إِمَّا أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالذِّمَّةِ وَهُوَ الدَّيْنُ الْمُطْلَقُ أَوْ لاَ، وَهُوَ الْمُتَعَلِّقُ بِالْعَيْنِ، وَالثَّالِثُ: إِمَّا اخْتِيَارِيٌّ وَهُوَ الْوَصِيَّةُ، أَوِ اضْطِرَارِيٌّ وَهُوَ الْمِيرَاثُ (1) .
أَحْكَامُ التَّرِكَةِ:
لِلتَّرِكَةِ أَحْكَامٌ خَاصَّةٌ بَيَانُهَا فِيمَا يَلِي:
مِلْكِيَّةُ التَّرِكَةِ:
تَنْتَقِل مِلْكِيَّةُ التَّرِكَةِ جَبْرًا إِلَى الْوَرَثَةِ، وَلِهَذَا الاِنْتِقَال شُرُوطٌ (2) :
الشَّرْطُ الأَْوَّل - مَوْتُ الْمُوَرِّثِ:
8 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ انْتِقَال التَّرِكَةِ مِنَ الْمُوَرِّثِ إِلَى الْوَارِثِ يَكُونُ بَعْدَ وَفَاةِ الْمُوَرِّثِ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا أَوْ تَقْدِيرًا.
فَالْمَوْتُ الْحَقِيقِيُّ: هُوَ انْعِدَامُ الْحَيَاةِ إِمَّا بِالْمُعَايَنَةِ، كَمَا إِذَا شُوهِدَ مَيِّتًا، أَوْ بِالْبَيِّنَةِ أَوِ السَّمَاعِ.
__________
(1) ابن عابدين 1 / 483، والدسوقي 4 / 456، وحاشية الفناري مع شرح السراجية ص 10، وأسنى المطالب 3 / 3 - 4، وكشاف القناع 4 / 403 - 404.
(2) ابن عابدين 5 / 482.(11/210)
وَالْمَوْتُ الْحُكْمِيُّ: هُوَ أَنْ يَكُونَ بِحُكْمِ الْقَاضِي إِمَّا مَعَ احْتِمَال الْحَيَاةِ أَوْ تَيَقُّنِهَا.
مِثَال الأَْوَّل: الْحُكْمُ بِمَوْتِ الْمَفْقُودِ.
وَمِثَال الثَّانِي: حُكْمُ الْقَاضِي عَلَى الْمُرْتَدِّ بِاعْتِبَارِهِ فِي حُكْمِ الأَْمْوَاتِ إِذَا لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ.
وَتُقَسَّمُ التَّرِكَةُ فِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ مِنْ وَقْتِ صُدُورِ الْحُكْمِ بِالْمَوْتِ.
وَالْمَوْتُ التَّقْدِيرِيُّ: هُوَ إِلْحَاقُ الشَّخْصِ بِالْمَوْتَى تَقْدِيرًا، كَمَا فِي الْجَنِينِ الَّذِي انْفَصَل عَنْ أُمِّهِ بِجِنَايَةٍ، بِأَنْ يَضْرِبَ شَخْصٌ امْرَأَةً حَامِلاً، فَتُلْقِي جَنِينًا مَيِّتًا، فَتَجِبُ الْغُرَّةُ، وَتُقَدَّرُ بِنِصْفِ عُشْرِ الدِّيَةِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إِرْثِ هَذَا الْجَنِينِ: فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَرِثُ؛ لأَِنَّهُ لَمْ تَتَحَقَّقْ حَيَاتُهُ، وَمِنْ ثَمَّ فَلَمْ تَتَحَقَّقْ أَهْلِيَّتُهُ لِلتَّمَلُّكِ بِالإِْرْثِ، وَلاَ يُورَثُ عَنْهُ إِلاَّ الدِّيَةُ فَقَطْ.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ يَرِثُ وَيُورَثُ؛ لأَِنَّهُ يَقْدِرُ أَنَّهُ كَانَ حَيًّا وَقْتَ الْجِنَايَةِ، وَأَنَّهُ مَاتَ بِسَبَبِهَا (1) .
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ (إِرْثٌ، جَنِينٌ، جِنَايَةٌ، مَوْتٌ) .
الشَّرْطُ الثَّانِي - حَيَاةُ الْوَارِثِ:
9 - تَحَقُّقُ حَيَاةِ الْوَارِثِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ، أَوْ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 482، والتحفة الخيرية ص 47، والعذب الفائض 1 / 16 - 17، والمغني 6 / 320، وكشاف القناع 4 / 448.(11/211)
إِلْحَاقِهِ بِالأَْحْيَاءِ تَقْدِيرًا، فَالْحَيَاةُ الْحَقِيقِيَّةُ هِيَ الْمُسْتَقِرَّةُ الثَّابِتَةُ لِلإِْنْسَانِ الْمُشَاهَدَةُ لَهُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ.
وَالْحَيَاةُ التَّقْدِيرِيَّةُ هِيَ الثَّابِتَةُ تَقْدِيرًا لِلْجَنِينِ عِنْدَ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ، فَإِذَا انْفَصَل حَيًّا حَيَاةً مُسْتَقِرَّةً لِوَقْتٍ يَظْهَرُ مِنْهُ وُجُودُهُ عِنْدَ الْمَوْتِ - وَلَوْ نُطْفَةً - فَيُقَدَّرُ وُجُودُهُ حَيًّا حِينَ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ بِوِلاَدَتِهِ حَيًّا (1) .
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (إِرْثٍ) .
الشَّرْطُ الثَّالِثُ - الْعِلْمُ بِجِهَةِ الْمِيرَاثِ:
10 - يُشْتَرَطُ الْعِلْمُ بِالْجِهَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلإِْرْثِ مِنْ زَوْجِيَّةٍ أَوْ قَرَابَةٍ أَوْ وَلاَءٍ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الأَْحْكَامَ تَخْتَلِفُ فِي ذَلِكَ، وَيَجِبُ أَيْضًا أَنْ تُعَيَّنَ جِهَةُ الْقَرَابَةِ، مَعَ الْعِلْمِ بِالدَّرَجَةِ الَّتِي يَجْتَمِعُ الْوَارِثُ فِيهَا مَعَ الْمُوَرِّثِ (2) .
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (إِرْثٍ) .
أَسْبَابُ انْتِقَال التَّرِكَةِ:
11 - أَسْبَابُ انْتِقَال التَّرِكَةِ أَرْبَعَةٌ، اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى ثَلاَثَةٍ مِنْهَا وَهِيَ: النِّكَاحُ وَالْوَلاَءُ وَالْقَرَابَةُ. وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ جِهَةَ الإِْسْلاَمِ وَهِيَ: بَيْتُ الْمَال، عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مَوْضِعِهِ.
__________
(1) المصادر السابقة.
(2) المصادر السابقة.(11/211)
وَكُل سَبَبٍ مِنْ هَذِهِ الأَْسْبَابِ يُفِيدُ الإِْرْثَ عَلَى الاِسْتِقْلاَل (1) . وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (إِرْثٌ) .
مَوَانِعُ انْتِقَال التَّرِكَةِ بِالإِْرْثِ:
12 - مَوَانِعُ انْتِقَال التَّرِكَةِ عَنْ طَرِيقِ الإِْرْثِ ثَلاَثَةٌ: الرِّقُّ، وَالْقَتْل، وَاخْتِلاَفُ الدِّينِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي ثَلاَثَةٍ: وَهِيَ الرِّدَّةُ، وَاخْتِلاَفُ الدَّارَيْنِ، وَالدَّوْرُ الْحُكْمِيُّ (2) .
وَهُنَاكَ مَوَانِعُ أُخْرَى لِبَعْضِ الْفُقَهَاءِ، مَعَ خِلاَفٍ وَتَفْصِيلٍ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى مُصْطَلَحِ (إِرْثٌ) .
انْتِقَال التَّرِكَةِ:
13 - لاَ يُشْتَرَطُ لاِنْتِقَال التَّرِكَةِ إِلَى الْوَارِثِ قَبُول الْوِرَاثَةِ، وَلاَ إِلَى أَنْ يَتَرَوَّى قَبْل أَنْ يَقْبَلَهَا، بَل إِنَّهَا تَئُول إِلَيْهِ جَبْرًا بِحُكْمِ الشَّرْعِ مِنْ غَيْرِ قَبُولٍ مِنْهُ.
وَقَدْ تَكُونُ التَّرِكَةُ خَالِيَةً مِنَ الدُّيُونِ، وَقَدْ تَكُونُ مَدِينَةً. وَالدَّيْنُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسْتَغْرِقًا أَوْ لاَ،
وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ التَّرِكَةَ تَنْتَقِل
__________
(1) ابن عابدين 5 / 486، والعذب الفائض 1 / 18 وما بعدها.
(2) العذب الفائض 1 / 23 وما بعدها، وشرح الرحبية ص 23، والسراجية ص 18 - 19.(11/212)
إِلَى الْوَارِثِ، إِذَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا دَيْنٌ مِنْ حِينِ وَفَاةِ الْمَيِّتِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي انْتِقَال التَّرِكَةِ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا الدَّيْنُ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
أ - فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ أَشْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى: أَنَّ أَمْوَال التَّرِكَةِ تَنْتَقِل إِلَى مِلْكِ الْوَرَثَةِ بِمُجَرَّدِ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ، مَعَ تَعَلُّقِ الدَّيْنِ بِهَا، سَوَاءٌ أَكَانَ الدَّيْنُ مُسْتَغْرِقًا لِلتَّرِكَةِ أَمْ غَيْرَ مُسْتَغْرِقٍ لَهَا.
ب - وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى: أَنَّ أَمْوَال التَّرِكَةِ تَبْقَى عَلَى مِلْكِ الْمَيِّتِ بَعْدَ مَوْتِهِ إِلَى أَنْ يُسَدِّدَ الدَّيْنَ، سَوَاءٌ أَكَانَ الدَّيْنُ مُسْتَغْرِقًا لَهَا أَمْ غَيْرَ مُسْتَغْرِقٍ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} . (1)
ج - وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُمَيِّزُ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَتِ التَّرِكَةُ مُسْتَغْرَقَةً بِالدَّيْنِ، أَوْ كَانَتْ غَيْرَ مُسْتَغْرَقَةٍ بِهِ.
فَإِنِ اسْتَغْرَقَ الدَّيْنُ أَمْوَال التَّرِكَةِ تَبْقَى أَمْوَال التَّرِكَةِ عَلَى مِلْكِ الْمَيِّتِ، وَلاَ تَنْتَقِل إِلَى مِلْكِ الْوَرَثَةِ،
وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ غَيْرَ مُسْتَغْرِقٍ، فَالرَّأْيُ الرَّاجِحُ أَنَّ أَمْوَال التَّرِكَةِ تَنْتَقِل إِلَى الْوَرَثَةِ بِمُجَرَّدِ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ، مَعَ تَعَلُّقِ الدَّيْنِ بِهَذِهِ الأَْمْوَال عَلَى تَفْصِيلٍ سَيَأْتِي.
__________
(1) سورة النساء / 11(11/212)
قَال السَّرَخْسِيُّ: الدَّيْنُ إِذَا كَانَ مُحِيطًا بِالتَّرِكَةِ يَمْنَعُ مِلْكَ الْوَارِثِ فِي التَّرِكَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحِيطًا فَكَذَلِكَ فِي قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ الأَْوَّل.
وَفِي قَوْلِهِ الآْخِرِ: لاَ يَمْنَعُ مِلْكَ الْوَارِثِ بِحَالٍ، لأَِنَّ الْوَارِثَ يَخْلُفُ الْمُوَرِّثَ فِي الْمَال، وَالْمَال كَانَ مَمْلُوكًا لِلْمَيِّتِ فِي حَال حَيَاتِهِ مَعَ اشْتِغَالِهِ بِالدَّيْنِ كَالْمَرْهُونِ، فَكَذَلِكَ يَكُونُ مِلْكًا لِلْوَارِثِ، قَال: وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} .
فَقَدْ جَعَل اللَّهُ تَعَالَى أَوَانَ الْمِيرَاثِ مَا بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ، وَالْحُكْمُ لاَ يَسْبِقُ أَوَانَهُ فَيَكُونُ حَال الدَّيْنِ كَحَال حَيَاةِ الْمُوَرِّثِ فِي الْمَعْنَى. ثُمَّ الْوَارِثُ يَخْلُفُهُ فِيمَا يَفْضُل مِنْ حَاجَتِهِ، فَأَمَّا الْمَشْغُول بِحَاجَتِهِ فَلاَ يَخْلُفُهُ وَارِثُهُ فِيهِ. وَإِذَا كَانَ الدَّيْنُ مُحِيطًا بِتَرِكَتِهِ فَالْمَال مَشْغُولٌ بِحَاجَتِهِ، وَقِيَامُ الأَْصْل يَمْنَعُ ظُهُورَ حُكْمِ الْخَلَفِ.
وَلاَ نَقُول: يَبْقَى مَمْلُوكًا بِغَيْرِ مَالِكٍ، وَلَكِنْ تَبْقَى مَالِكِيَّةُ الْمَدْيُونِ فِي مَالِهِ حُكْمًا لِبَقَاءِ حَاجَتِهِ.
وَخِلاَفَةُ الْوَارِثِ فِي التَّرِكَةِ نَاقِصَةٌ فِي حَال تَعَلُّقِ الدَّيْنِ بِهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِغْرَاقٍ، وَهِيَ صُورِيَّةٌ إِذَا كَانَتْ مُسْتَغْرَقَةً بِالدَّيْنِ، وَذَلِكَ لاَ يَعْنِي أَنَّهُ لاَ قِيمَةَ لِهَذِهِ الْخِلاَفَةِ، بَل لَهَا شَأْنُهَا، وَيُعْلَمُ ذَلِكَ مِنْ أَقْوَال الْفُقَهَاءِ.
قَال ابْنُ قَاضِي سَمَاوَةَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: لِلْوَرَثَةِ(11/213)
أَخْذُ التَّرِكَةِ لأَِنْفُسِهِمْ وَدَفْعُ الدَّيْنِ وَالْوَصِيَّةِ مِنْ مَالِهِمْ.
وَلَوْ كَانَتِ التَّرِكَةُ مُسْتَغْرَقَةً بِدَيْنٍ أَوْ غَيْرَ مُسْتَغْرَقَةٍ، فَأَدَّاهُ الْوَرَثَةُ لاِسْتِخْلاَصِ التَّرِكَةِ يُجْبَرُ رَبُّ الدَّيْنِ عَلَى قَبُولِهِ؛ إِذْ لَهُمُ الاِسْتِخْلاَصُ وَإِنْ لَمْ يَمْلِكُوهَا، بِخِلاَفِ الأَْجْنَبِيِّ.
وَلَوْ كَانَتِ التَّرِكَةُ مُسْتَغْرَقَةً بِالدَّيْنِ فَالْخَصْمُ فِي إِثْبَاتِ الدَّيْنِ إِنَّمَا هُوَ وَارِثُهُ؛ لأَِنَّهُ خَلَفُهُ، فَتُسْمَعُ الْبَيِّنَةُ الَّتِي يَتَقَدَّمُ بِهَا الدَّائِنُ عَلَيْهِ. (1)
أَثَرُ الْخِلاَفِ السَّابِقِ فِي انْتِقَال التَّرِكَةِ:
14 - أ - نَمَاءُ التَّرِكَةِ أَوْ نِتَاجُهَا إِذَا حَصَل بَيْنَ الْوَفَاةِ وَأَدَاءِ الدَّيْنِ، هَل تُضَمُّ إِلَى التَّرِكَةِ لِمَصْلَحَةِ الدَّائِنِينَ أَمْ هِيَ لِلْوَرَثَةِ؟
وَذَلِكَ كَأُجْرَةِ دَارٍ لِلسُّكْنَى، أَوْ أَرْضٍ زِرَاعِيَّةٍ اسْتُحِقَّتْ بَعْدَ وَفَاتِهِ، وَكَدَابَّةٍ وَلَدَتْ أَوْ سَمِنَتْ فَزَادَتْ قِيمَتُهَا، وَكَشَجَرٍ صَارَ لَهُ ثَمَرٌ. كُل ذَلِكَ نَمَاءٌ أَوْ زِيَادَةٌ فِي التَّرِكَةِ، وَفِيهِ خِلاَفٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ التَّرِكَةَ قَبْل وَفَاءِ الدَّيْنِ الْمُتَعَلِّقِ بِهَا هَل تَنْتَقِل إِلَى الْوَرَثَةِ أَمْ لاَ؟ فَمَنْ قَال: تَنْتَقِل إِلَى الْوَرَثَةِ قَال: إِنَّ الزِّيَادَةَ لِلْوَارِثِ وَلَيْسَتْ
__________
(1) المبسوط 29 / 137، وتبيين الحقائق 5 / 213، وجامع الفصولين 2 / 23 - 24، وبداية المجتهد 2 / 284، وأسنى المطالب 3 / 4، وحاشية الجمل 2 / 361 - 363، والمهذب 1 / 327، وحاشية البجيرمي على شرح منهج الطلاب 2 / 143 وما بعدها، والمغني مع الشرح الكبير 12 / 104 وما بعدها.(11/213)
لِلدَّائِنِ، وَمَنْ قَال بِعَدَمِ انْتِقَالِهَا ضُمَّتِ الزِّيَادَةُ إِلَى التَّرِكَةِ لِوَفَاءِ الدَّيْنِ، فَإِنْ فَضَل شَيْءٌ انْتَقَل إِلَى الْوَرَثَةِ.
ب - صَيْدٌ وَقَعَ فِي شَبَكَةٍ أَعَدَّهَا الْمُوَرِّثُ حَال حَيَاتِهِ، وَوُقُوعُ الصَّيْدِ كَانَ بَعْدَ وَفَاتِهِ، فَعَلَى الْخِلاَفِ السَّابِقِ. وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (دَيْنٌ، وَصَيْدٌ، وَإِرْثٌ) .
وَقْتُ انْتِقَال التَّرِكَةِ:
يَخْتَلِفُ وَقْتُ وِرَاثَةِ الْوَارِثِ لِمُوَرِّثِهِ بِنَاءً عَلَى مَا يَسْبِقُ الْوَفَاةَ.
وَهُنَا يُفَرَّقُ بَيْنَ حَالاَتٍ ثَلاَثٍ:
أ - الْحَالَةُ الأُْولَى:
15 - مَنْ مَاتَ دُونَ سَابِقِ مَرَضٍ ظَاهِرٍ، وَذَلِكَ كَأَنْ مَاتَ فَجْأَةً بِالسَّكْتَةِ الْقَلْبِيَّةِ، أَوْ فِي حَادِثٍ مَثَلاً.
فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَكُونُ وَقْتَ خِلاَفَةِ الْوَارِثِ لِمُوَرِّثِهِ هُوَ نَفْسُ وَقْتِ الْمَوْتِ، وَبِلاَ خِلاَفٍ يُعْتَدُّ بِهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.
قَال الْفَنَارِيُّ: فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَخْلُفُ الْوَارِثُ مُوَرِّثَهُ فِي التَّرِكَةِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَعَلَيْهِ مَشَايِخُ بَلْخٍ؛ لأَِنَّهُ مَا دَامَ حَيًّا مَالِكٌ لِجَمِيعِ أَمْوَالِهِ، فَلَوْ مَلَكَهَا الْوَارِثُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَدَّى إِلَى أَنْ يَصِيرَ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ مَمْلُوكًا لِشَخْصَيْنِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهَذَا غَيْرُ مَعْهُودٍ فِي الشَّرْعِ، لَكِنْ عِنْدَ مُحَمَّدٍ(11/214)
مِلْكُ الْوَارِثِ يَتَعَقَّبُ الْمَوْتَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لاَ يَتَعَقَّبُ، بَل يَتَحَقَّقُ إِذَا اسْتَغْنَى الْمَيِّتُ عَنْ مَالِهِ بِتَجْهِيزِهِ وَأَدَاءِ دَيْنِهِ؛ لأَِنَّ كُل جُزْءٍ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُحْتَاجًا إِلَيْهِ بِتَقْدِيرِ هَلاَكِ الْبَاقِي.
وَعَنْ مُحَمَّدٍ يَنْتَقِل الْمِلْكُ إِلَى الْوَارِثِ قَبْل مَوْتِهِ فِي آخِرِ أَجْزَاءِ الْحَيَاةِ، وَعَلَيْهِ مَشَايِخُ الْعِرَاقِ؛ لأَِنَّ الإِْرْثَ يَجْرِي بَيْنَ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ، وَالزَّوْجِيَّةُ تَرْتَفِعُ بِالْمَوْتِ أَوْ تَنْتَهِي عَلَى حَسَبِ مَا اخْتَلَفُوا، فَبِأَيِّ سَبَبٍ يَجْرِي الإِْرْثُ بَيْنَهُمَا.
وَعِنْدَ الْبَعْضِ يَجْرِي الإِْرْثُ مَعَ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ لاَ قَبْلَهُ وَلاَ بَعْدَهُ - كَمَا ذَكَرَهُ شَارِحُ الْفَرَائِضِ الْعُثْمَانِيَّةِ وَاخْتَارَهُ - لأَِنَّ انْتِقَال الشَّيْءِ إِلَى مِلْكِ الْوَارِثِ مُقَارِنٌ لِزَوَال مِلْكِ الْمُوَرِّثِ عَنْ ذَلِكَ الشَّيْءِ، فَحِينَ يَتِمُّ يَحْصُل الاِنْتِقَال وَالإِْرْثُ. (1)
ب - الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ:
16 - هِيَ حَالَةُ مَنْ مَاتَ بَعْدَ أَنْ كَانَ مَرِيضًا مَرَضَ الْمَوْتِ وَاتَّصَلَتِ الْوَفَاةُ بِهِ.
وَقَدْ عَرَّفَتْ مَجَلَّةُ الأَْحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ مَرَضَ الْمَوْتِ بِأَنَّهُ: الْمَرَضُ الَّذِي يُخَافُ فِيهِ الْمَوْتُ فِي الأَْكْثَرِ، الَّذِي يَعْجِزُ الْمَرِيضُ عَنْ رَوِيَّةِ مَصَالِحِهِ الْخَارِجِيَّةِ عَنْ دَارِهِ إِنْ كَانَ مِنَ الذُّكُورِ، وَيَعْجِزُهُ عَنْ رُؤْيَةِ الْمَصَالِحِ الدَّاخِلِيَّةِ فِي دَارِهِ إِنْ كَانَ مِنَ الإِْنَاثِ، وَيَمُوتُ عَلَى ذَلِكَ الْحَال قَبْل مُرُورِ سَنَةٍ، كَانَ صَاحِبَ فِرَاشٍ أَوْ لَمْ يَكُنْ. وَإِنِ امْتَدَّ
__________
(1) حاشية الفناري على شرح السراجية ص 40 - 41.(11/214)
مَرَضُهُ دَائِمًا عَلَى حَالٍ، وَمَضَى عَلَيْهِ سَنَةٌ يَكُونُ فِي حُكْمِ الصَّحِيحِ، وَتَكُونُ تَصَرُّفَاتُهُ كَتَصَرُّفَاتِ الصَّحِيحِ، مَا لَمْ يَشْتَدَّ مَرَضُهُ وَيَتَغَيَّرْ حَالُهُ، وَلَكِنْ لَوِ اشْتَدَّ مَرَضُهُ وَتَغَيَّرَ حَالُهُ وَمَاتَ، يُعَدُّ حَالُهُ اعْتِبَارًا مِنْ وَقْتِ التَّغَيُّرِ إِلَى الْوَفَاةِ مَرَضَ مَوْتٍ.
وَيُلْحَقُ بِالْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ: الْحَامِل إِذَا أَتَمَّتْ سِتَّةَ أَشْهُرٍ وَدَخَلَتْ فِي السَّابِعِ، وَالْمَحْبُوسُ لِلْقَتْل، وَحَاضِرُ صَفِّ الْقِتَال وَإِنْ لَمْ يُصَبْ بِجُرْحٍ كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ. وَنَحْوُهُ تَصْرِيحُ الْحَنَابِلَةِ فِي الْحَامِل إِذَا ضَرَبَهَا الْمَخَاضُ. (1)
17 - وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ وَقْتَ انْتِقَال تَرِكَةِ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ إِلَى وَرَثَتِهِ، يَكُونُ عَقِبَ الْمَوْتِ بِلاَ تَرَاخٍ، وَهُوَ قَوْل أَكْثَرِ الْحَنَفِيَّةِ أَيْضًا.
وَقَال بَعْضُ مُتَقَدِّمِي الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّ انْتِقَال الْمِلْكِيَّةِ فِي ثُلُثَيْ تَرِكَةِ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ يَكُونُ مِنْ حِينِ ابْتِدَاءِ مَرَضِ الْمَوْتِ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ وَدَلِيلُهُ يُنْظَرُ فِي الْمُطَوَّلاَتِ.
قَالُوا: وَلأَِجْل هَذَا مُنِعَ الْمَرِيضُ مَرَضَ الْمَوْتِ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي ثُلُثَيِ التَّرِكَةِ، وَتَرِثُ زَوْجَتُهُ مِنْهُ لَوْ طَلَّقَهَا بَائِنًا فِيهِ (2) .
__________
(1) مجلة الأحكام العدلية م (1595) والدسوقي 3 / 306 - 307 ط مطبعة مصطفى الحلبي، والمغني مع الشرح الكبير 6 / 508.
(2) البدائع 3 / 218 - 220، وكشف الأسرار للبزدوي 4 / 1427 - 1431.(11/215)
الْحَجْرُ عَلَى الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ صَوْنًا لِلتَّرِكَةِ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ:
18 - إِذَا شَعَرَ الْمَرِيضُ بِدُنُوِّ أَجَلِهِ رُبَّمَا تَنْطَلِقُ يَدُهُ فِي التَّبَرُّعَاتِ رَجَاءَ اسْتِدْرَاكِ مَا فَاتَهُ فِي حَال صِحَّتِهِ، وَقَدْ يُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَى تَبْدِيدِ مَالِهِ وَحِرْمَانِ الْوَرَثَةِ، فَشُرِعَ الْحَجْرُ عَلَيْهِ.
وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَرِيضَ مَرَضَ الْمَوْتِ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الشَّرْعِ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ، وَاَلَّذِي يُحْجَرُ فِيهِ عَلَى الْمَرِيضِ هُوَ تَبَرُّعَاتُهُ فَقَطْ فِيمَا زَادَ عَنْ ثُلُثِ تَرِكَتِهِ حَيْثُ لاَ دَيْنَ. (1)
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ هَذَا الْحَجْرَ عَلَى الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ هُوَ فِي التَّبَرُّعِ، كَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَالْوَقْفِ وَبَيْعِ الْمُحَابَاةِ فِيمَا يَزِيدُ عَنْ ثُلُثِ مَالِهِ، أَيْ أَنَّ حُكْمَ تَبَرُّعَاتِهِ حُكْمُ وَصِيَّتِهِ: تَنْفُذُ مِنَ الثُّلُثِ، وَتَكُونُ مَوْقُوفَةً عَلَى إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ فِيمَا زَادَ عَنِ الثُّلُثِ،
فَإِنْ بَرِئَ مِنْ مَرَضِهِ صَحَّ تَبَرُّعُهُ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ يَنْفُذُ مِنَ الثُّلُثِ تَبَرُّعُ الْمَرِيضِ، إِلاَّ إِذَا كَانَ الْمَال الْبَاقِي بَعْدَ التَّبَرُّعِ مَأْمُونًا، أَيْ لاَ يُخْشَى تَغَيُّرُهُ، وَهُوَ الْعَقَارُ كَدَارٍ وَأَرْضٍ وَشَجَرٍ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَأْمُونٍ فَلاَ يَنْفُذُ، وَإِنَّمَا يُوقَفُ وَلَوْ بِدُونِ الثُّلُثِ حَتَّى يَظْهَرَ حَالُهُ مِنْ
__________
(1) الزيلعي 5 / 23 وما بعدها، والدسوقي 3 / 306، 307، ومغني المحتاج 2 / 165، وكشاف القناع 3 / 412، والمغني 4 / 650.(11/215)
مَوْتٍ أَوْ حَيَاةٍ، كَمَا يُمْنَعُ مِنَ الزَّوَاجِ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ (1) . قَال الدُّسُوقِيُّ: وَالْمَرِيضُ لاَ يُحْجَرُ عَلَيْهِ فِي تَدَاوِيهِ وَمُؤْنَتِهِ، وَلاَ فِي الْمُعَاوَضَةِ الْمَالِيَّةِ وَلَوْ بِكُل مَالِهِ. وَأَمَّا التَّبَرُّعَاتُ فَيُحْجَرُ عَلَيْهِ فِيهَا بِمَا زَادَ عَنِ الثُّلُثِ (2) .
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (مَرَضِ الْمَوْتِ) .
ج - الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ:
19 - وَهِيَ حَالَةُ التَّرِكَةِ الْمَدِينَةِ بِدَيْنٍ مُسْتَغْرِقٍ أَوْ غَيْرِ مُسْتَغْرِقٍ لَهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلاَمُ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ فِي " انْتِقَال التَّرِكَةِ ".
زَوَائِدُ التَّرِكَةِ:
20 - الْمُرَادُ بِزَوَائِدِ التَّرِكَةِ نَمَاءُ أَعْيَانِهَا بَعْدَ وَفَاةِ الْمُوَرِّثِ.
وَقَدْ فَصَّل الْفُقَهَاءُ حُكْمَ هَذِهِ الزَّوَائِدِ، آخِذِينَ بِعَيْنِ الاِعْتِبَارِ مَا إِذَا كَانَتِ التَّرِكَةُ خَالِيَةً مِنَ الدُّيُونِ أَوْ مَدِينَةً بِدَيْنٍ مُسْتَغْرِقٍ أَوْ غَيْرِ مُسْتَغْرِقٍ.
فَإِذَا كَانَتِ التَّرِكَةُ غَيْرَ مَدِينَةٍ، فَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ التَّرِكَةَ بِزَوَائِدِهَا لِلْوَرَثَةِ، كُلٌّ حَسَبَ حِصَّتِهِ فِي الْمِيرَاثِ.
أَمَّا إِذَا كَانَتِ التَّرِكَةُ مَدِينَةً بِدِينٍ مُسْتَغْرِقٍ أَوْ غَيْرِ مُسْتَغْرِقٍ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي زَوَائِدِهَا
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) الدسوقي 3 / 307.(11/216)
هَل تَبْقَى عَلَى مِلْكِ الْمَيِّتِ، وَمِنْ ثَمَّ تُصْرَفُ لِلدَّائِنِينَ؟ أَمْ تَنْتَقِل لِلْوَرَثَةِ؟
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ - فِي الدَّيْنِ الْمُسْتَغْرِقِ - وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى: أَنَّ نَمَاءَ أَعْيَانِ التَّرِكَةِ بِزِيَادَتِهَا الْمُتَوَلِّدَةِ مِلْكٌ لِلْمَيِّتِ، كَمَا أَنَّ نَفَقَاتِ أَعْيَانِ التَّرِكَةِ، مِنْ حِفْظٍ وَصِيَانَةٍ وَمَصْرُوفَاتِ حَمْلٍ وَنَقْلٍ وَطَعَامِ حَيَوَانٍ تَكُونُ فِي التَّرِكَةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الدَّيْنِ غَيْرِ الْمُسْتَغْرِقِ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ - إِلَى أَنَّ زَوَائِدَ التَّرِكَةِ الَّتِي تَعَلَّقَ بِهَا دَيْنٌ مِلْكٌ لِلْوَرَثَةِ، وَعَلَيْهِمْ مَا تَحْتَاجُهُ مِنْ نَفَقَاتٍ. (1)
تَرْتِيبُ الْحُقُوقِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالتَّرِكَةِ:
21 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْحُقُوقَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالتَّرِكَةِ لَيْسَتْ عَلَى مَرْتَبَةٍ وَاحِدَةٍ، وَأَنَّ بَعْضَهَا مُقَدَّمٌ عَلَى بَعْضٍ، فَيُقَدَّمُ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ تَجْهِيزُ الْمَيِّتِ وَتَكْفِينُهُ، ثُمَّ أَدَاءُ الدَّيْنِ، ثُمَّ تَنْفِيذُ وَصَايَاهُ، وَالْبَاقِي لِلْوَرَثَةِ.
أَوَّلاً: تَجْهِيزُ الْمَيِّتِ وَتَكْفِينُهُ:
22 - إِذَا كَانَتِ التَّرِكَةُ خَالِيَةً مِنْ تَعَلُّقِ دَيْنٍ بِعَيْنِهَا قَبْل الْوَفَاةِ، فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ أَوَّل
__________
(1) ابن عابدين 5 / 482 وما بعدها، ومغني المحتاج 2 / 144 - 145، وحاشية بجيرمي على شرح المنهج 2 / 402 - 403، وجامع الفصولين 2 / 23، والدسوقي 4 / 457 وما بعدها، والمغني مع الشرح الكبير 12 / 104 - 105.(11/216)
الْحُقُوقِ مَرْتَبَةً وَأَقْوَاهَا هُوَ: تَجْهِيزُهُ لِلدَّفْنِ وَالْقِيَامُ بِتَكْفِينِهِ وَبِمَا لاَ بُدَّ لَهُ مِنْهُ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الَّذِي وَقَصَتْهُ نَاقَتُهُ: كَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْنِ (1) وَلَمْ يَسْأَل هَل عَلَيْهِ دَيْنٌ أَمْ لاَ؟ لأَِنَّهُ مُحْتَاجٌ إِلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَدْفَعُ إِلَى الْوَارِثِ مَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ الْمُوَرِّثُ؛ لأَِنَّهُ إِذَا تُرِكَ لِلْمُفْلِسِ الْحَيِّ ثِيَابٌ تَلِيقُ بِهِ فَالْمَيِّتُ أَوْلَى أَنْ يُسْتَرَ وَيُوَارَى؛ لأَِنَّ الْحَيَّ يُعَالِجُ لِنَفْسِهِ، وَقَدْ كَفَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ مُصْعَبًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي - بُرْدَةٍ لَهُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ غَيْرُهَا، وَكَفَّنَ حَمْزَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَيْضًا، وَلَمْ يَسْأَل عَنْ دَيْنٍ قَدْ يَكُونُ عَلَى أَحَدِهِمَا قَبْل التَّكْفِينِ.
أَمَّا إِذَا لَمْ تَكُنِ التَّرِكَةُ خَالِيَةً مِنْ تَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ بِأَعْيَانِهَا قَبْل الْوَفَاةِ، كَأَنْ كَانَ فِيهَا شَيْءٌ مِنَ الأَْعْيَانِ الْمَرْهُونَةِ، أَوْ شَيْءٌ اشْتَرَاهُ وَلَمْ يَقْبِضْهُ وَلَمْ يَدْفَعْ ثَمَنَهُ، كَانَ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ مُتَعَلِّقًا بِعَيْنِ الشَّيْءِ الْمَرْهُونِ، وَكَانَ حَقُّ الْبَائِعِ مُتَعَلِّقًا بِالْمَبِيعِ نَفْسِهِ الَّذِي لاَ يَزَال تَحْتَ يَدِهِ، فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَكُونُ الدَّيْنُ مُتَقَدِّمًا فِي الدَّفْعِ عَلَى تَكْفِينِ الْمَيِّتِ وَتَجْهِيزِهِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهِيَ الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَغَيْرُ الْمَشْهُورِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّهُ إِذَا مَاتَ الإِْنْسَانُ بُدِئَ بِتَكْفِينِهِ وَتَجْهِيزِهِ مُقَدَّمًا عَلَى غَيْرِهِ، كَمَا تُقَدَّمُ نَفَقَةُ الْمُفْلِسِ عَلَى
__________
(1) حديث: " كفنوه في ثوبين " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 137 - ط السلفية) .(11/217)
دُيُونِ غُرَمَائِهِ، ثُمَّ تُقْضَى دُيُونُهُ بَعْدَ تَجْهِيزِهِ وَدَفْنِهِ. (1)
وَالتَّفْصِيل فِي (جَنَائِزُ، وَدَيْنٌ) .
ثَانِيًا: أَدَاءُ الدَّيْنِ:
23 - يَأْتِي فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ أَدَاءُ الدُّيُونِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالتَّرِكَةِ بَعْدَ تَجْهِيزِ الْمَيِّتِ - عَلَى التَّفْصِيل السَّابِقِ - لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} . (2)
وَيُقَدَّمُ الدَّيْنُ عَلَى الْوَصِيَّةِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ؛ لأَِنَّ الدَّيْنَ وَاجِبٌ مِنْ أَوَّل الأَْمْرِ، لَكِنَّ الْوَصِيَّةَ تَبَرُّعٌ ابْتِدَاءً، وَالْوَاجِبُ يُؤَدَّى قَبْل التَّبَرُّعِ.
وَعَنِ الإِْمَامِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ الْوَصِيَّةَ قَبْل الدَّيْنِ، وَقَدْ شَهِدْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَدَأَ بِالدَّيْنِ قَبْل الْوَصِيَّةِ (3) وَهَذِهِ الدُّيُونُ أَوِ الْحُقُوقُ أَنْوَاعٌ: مِنْهَا: مَا يَكُونُ لِلَّهِ تَعَالَى، كَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالْحَجِّ الْوَاجِبِ.
وَمِنْهَا: مَا يَكُونُ لِلْعِبَادِ، كَدَيْنِ الصِّحَّةِ وَدَيْنِ الْمَرَضِ.
وَهَذِهِ الدُّيُونُ بِشَطْرَيْهَا، إِمَّا أَنْ تَتَعَلَّقَ بِعَيْنِ التَّرِكَةِ أَوْ بِجُزْءٍ مِنْهَا.
__________
(1) تبيين الحقائق 5 / 229 - 230، وابن عابدين 5 / 463، 483، وشرح السراجية ص 4، والشرح الكبير 4 / 457، وأسنى المطالب 3 / 3، ونهاية المحتاج 6 / 7، والعذب الفائض 1 / 13.
(2) سورة النساء / 11.
(3) المبسوط 29 / 137.(11/217)
وَمِنْهَا: دُيُونٌ مُطْلَقَةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِالذِّمَّةِ وَحْدَهَا.
24 - وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالثَّوْرِيُّ وَالشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَسَوَّارٌ، وَهُوَ الرِّوَايَةُ الْمَرْجُوحَةُ لِلْحَنَابِلَةِ إِلَى: أَنَّ الدُّيُونَ الَّتِي عَلَى الْمَيِّتِ تَحُل بِمَوْتِهِ. قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لأَِنَّهُ لاَ يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَبْقَى الدَّيْنُ فِي ذِمَّةِ الْمَيِّتِ، أَوِ الْوَرَثَةِ، أَوْ يَتَعَلَّقَ بِالْمَال لاَ يَجُوزُ بَقَاؤُهُ فِي ذِمَّةِ الْمَيِّتِ لِخَرَابِهَا وَتَعَذُّرِ مُطَالَبَتِهِ بِهَا، وَلاَ ذِمَّةِ الْوَرَثَةِ لأَِنَّهُمْ لَمْ يَلْتَزِمُوهَا، وَلاَ رَضِيَ صَاحِبُ الدَّيْنِ بِذِمَمِهِمْ، وَهِيَ مُخْتَلِفَةٌ مُتَبَايِنَةٌ، وَلاَ يَجُوزُ تَعْلِيقُهُ عَلَى الأَْعْيَانِ وَتَأْجِيلُهُ؛ لأَِنَّهُ ضَرَرٌ بِالْمَيِّتِ وَصَاحِبِ الدَّيْنِ وَلاَ نَفْعَ لِلْوَرَثَةِ فِيهِ أَمَّا الْمَيِّتُ فَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: نَفْسُ الْمُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ مَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ، (1) وَأَمَّا صَاحِبُهُ فَيَتَأَخَّرُ حَقُّهُ، وَقَدْ تَتْلَفُ الْعَيْنُ فَيَسْقُطُ حَقُّهُ، وَأَمَّا الْوَرَثَةُ فَإِنَّهُمْ لاَ يَنْتَفِعُونَ بِالأَْعْيَانِ وَلاَ يَتَصَرَّفُونَ فِيهَا، وَإِنْ حَصَلَتْ لَهُمْ مَنْفَعَةٌ فَلاَ يَسْقُطُ حَظُّ الْمَيِّتِ وَصَاحِبُ الدَّيْنِ لِمَنْفَعَةٍ لَهُمْ.
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْل ابْنِ سِيرِينَ وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيِّ وَأَبِي عُبَيْدٍ: أَنَّ الدُّيُونَ عَلَى الْمَيِّتِ لاَ تَحُل بِمَوْتِهِ، إِذَا وَثِقَ الْوَرَثَةُ أَوْ غَيْرُهُمْ بِرَهْنٍ أَوْ كَفِيلٍ مَلِيءٍ عَلَى أَقَل الأَْمْرَيْنِ مِنْ قِيمَةِ التَّرِكَةِ أَوِ الدَّيْنِ. قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لأَِنَّ الْمَوْتَ مَا جُعِل مُبْطِلاً لِلْحُقُوقِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِيقَاتٌ
__________
(1) حديث: " نفس المؤمن معلقة. . . " أخرجه أحمد (2 / 440 - ط الميمنية) والحاكم (2 / 26 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه ووافقه الذهبي.(11/218)
لِلْخِلاَفَةِ وَعَلاَمَةٌ عَلَى الْوِرَاثَةِ، وَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ تَرَكَ حَقًّا أَوْ مَالاً فَلِوَرَثَتِهِ (1) ، فَعَلَى هَذَا يَبْقَى الدَّيْنُ فِي ذِمَّةِ الْمَيِّتِ كَمَا كَانَ، وَيَتَعَلَّقُ بِعَيْنِ مَالِهِ كَتَعَلُّقِ حُقُوقِ الْغُرَمَاءِ بِمَال الْمُفْلِسِ عِنْدَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ، فَإِنْ أَحَبَّ الْوَرَثَةُ أَدَاءَ الدَّيْنِ وَالْتِزَامَهُ لِلْغَرِيمِ وَيَتَصَرَّفُونَ فِي الْمَال لَمْ يَكُنْ لَهُمْ ذَلِكَ إِلاَّ أَنْ يَرْضَى الْغَرِيمُ، أَوْ يُوَثِّقُوا الْحَقَّ بِضَمِينٍ مَلِيءٍ أَوْ رَهْنٍ يَثِقُ بِهِ لِوَفَاءِ حَقِّهِ، فَأَنَّهُمْ قَدْ لاَ يَكُونُونَ أَمْلِيَاءَ وَلَمْ يَرْضَ بِهِمُ الْغَرِيمُ، فَيُؤَدِّي إِلَى فَوَاتِ الْحَقِّ، وَذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: أَنَّ الْحَقَّ يَنْتَقِل إِلَى ذِمَمِ الْوَرَثَةِ بِمَوْتِ مُوَرِّثِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَشْتَرِطَ الْتِزَامَهُمْ لَهُ. قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَلاَ يَنْبَغِي أَنْ يَلْزَمَ الإِْنْسَانَ دَيْنٌ لَمْ يَلْتَزِمْهُ وَلَمْ يَتَعَاطَ سَبَبَهُ، وَلَوْ لَزِمَهُمْ ذَلِكَ لِمَوْتِ مُوَرِّثِهِمْ لَلَزِمَهُمْ وَإِنْ لَمْ يُخَلِّفْ وَفَاءً (2) .
25 - وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَيِّ الدَّيْنَيْنِ يُؤَدَّى أَوَّلاً إِذَا ضَاقَتِ التَّرِكَةُ عَنْهُمَا. فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى: أَنَّ دُيُونَ اللَّهِ تَعَالَى تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ إِلاَّ إِذَا أَوْصَى بِهَا كَمَا سَيَأْتِي.
__________
(1) رواه البخاري (الفتح 12 / 9 - ط السلفية) من حديث أبي هريرة: " من ترك مالا فلورثته " وقال ابن حجر في التلخيص (3 / 56 - ط شركة الطباعة الفنية) . أورده الشافعي بلفظ: " من ترك حقا " ولم أره. انتهى كلام ابن حجر.
(2) بداية المجتهد 2 / 282، والمهذب 1 / 327، والمغني 4 / 482 - 483 ط الرياض، وكشاف القناع 3 / 483، وفتح القدير 6 / 244، وابن عابدين 5 / 463، 483.(11/218)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ حَقَّ الْعَبْدِ يُقَدَّمُ عَلَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى؛ لأَِنَّ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْمُسَامَحَةِ، وَحُقُوقَ الْعِبَادِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْمُشَاحَّةِ، أَوْ لاِسْتِغْنَاءِ اللَّهِ وَحَاجَةِ النَّاسِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى تَقْدِيمِ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ دُيُونِهِ عَلَى حُقُوقِ الآْدَمِيِّ إِذَا ضَاقَتِ التَّرِكَةُ عَنْهُمَا، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى (1) وَقَوْلِهِ: اقْضُوا اللَّهَ، فَاَللَّهُ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ. (2) وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَإِنَّهُمْ يُقَدِّمُونَ وَفَاءَ الدَّيْنِ الْمُتَعَلِّقِ بِعَيْنِ التَّرِكَةِ أَوْ بِبَعْضِهَا، كَالدَّيْنِ الْمَرْهُونِ بِهِ شَيْءٌ مِنْهَا، ثُمَّ بَعْدَهَا الدَّيْنُ الْمُطْلَقَةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِذِمَّةِ الْمُتَوَفَّى، وَلاَ فَرْقَ فِي التَّقْدِيمِ بَيْنَ حَقِّ اللَّهِ أَوْ حَقِّ الْعَبْدِ. (3)
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (إِرْثٌ، وَدَيْنٌ) .
تَعَلُّقُ دَيْنِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِالتَّرِكَةِ:
26 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ
__________
(1) حديث: " دين الله أحق أن يقضى ". أخرجه البخاري (الفتح 4 / 192 ط السلفية) ومسلم (2 / 804 ط الحلبي) .
(2) حديث: " اقضوا الله فالله أحق بالوفاء " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 64 - ط السلفية) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(3) شرح السراجية للجرجاني بحاشية السجاوندي ص 5 وما بعدها، وحاشية الدسوقي 4 / 408 ط دار الفكر، ونهاية المحتاج 6 / 76 وما بعدها، والعذب الفائض 1 / 13.(11/219)
دَيْنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَجِبُ أَدَاؤُهُ مِنَ التَّرِكَةِ، سَوَاءٌ أَوْصَى بِهِ أَمْ لاَ، عَلَى خِلاَفٍ سَبَقَ فِي تَقْدِيمِهِ عَلَى دَيْنِ الآْدَمِيِّ. وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ دَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لاَ يَجِبُ أَدَاؤُهُ مِنَ التَّرِكَةِ إِلاَّ إِذَا أَوْصَى بِهِ الْمَيِّتُ، فَإِنْ أَوْصَى بِهِ فَيَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِ التَّرِكَةِ.
قَال الْفَنَارِيُّ فِي تَوْجِيهِ ذَلِكَ: إِنَّ أَدَاءَ دَيْنِ اللَّهِ عِبَادَةٌ، وَمَعْنَى الْعِبَادَةِ لاَ يَتَحَقَّقُ إِلاَّ بِنِيَّةٍ وَفِعْلٍ مِمَّنْ يَجِبُ عَلَيْهِ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا، كَمَا فِي الإِْيصَاءِ لِتَحَقُّقِ أَدَائِهَا مُخْتَارًا، فَيَظْهَرُ اخْتِيَارُهُ الطَّاعَةَ مِنِ اخْتِيَارِهِ الْمَعْصِيَةِ الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ التَّكْلِيفِ، وَفِعْل الْوَارِثِ مِنْ غَيْرِ أَمْرِ الْمُبْتَلَى بِالأَْمْرِ وَالنَّهْيِ لاَ يُحَقِّقُ اخْتِيَارَهُ، فَإِذَا مَاتَ مِنْ غَيْرِ فِعْلٍ وَلاَ أَمْرٍ بِهِ فَقَدْ تَحَقَّقَ عِصْيَانُهُ؛ لِخُرُوجِهِ مِنْ دَارِ التَّكْلِيفِ وَلَمْ يَمْتَثِل، وَذَلِكَ تَقْرِيرٌ عَلَيْهِ مُوجِبُ الْعِصْيَانِ، فَلَيْسَ فِعْل الْوَارِثِ الْفِعْل الْمَأْمُورَ بِهِ، فَلاَ يَسْقُطُ بِهِ الْوَاجِبُ، كَمَا لَوْ تَبَرَّعَ بِهِ فِي حَال حَيَاتِهِ، بِخِلاَفِ حُقُوقِ الْعِبَادِ، فَإِنَّ الْوَاجِبَ فِيهَا وُصُولُهَا إِلَى مُسْتَحِقِّيهَا لاَ غَيْرُ، وَلِهَذَا لَوْ ظَفِرَ بِهِ الْغَرِيمُ يَأْخُذُهُ، وَيَبْرَأُ مَنْ عَلَيْهِ بِذَلِكَ. ثُمَّ الإِْيصَاءُ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى تَبَرُّعٌ؛ لأَِنَّ الْوَاجِبَ فِي ذِمَّةِ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ فِعْلٌ لاَ مَالٌ، وَالأَْفْعَال تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ، وَلاَ يَتَعَلَّقُ اسْتِيفَاؤُهَا بِالتَّرِكَةِ؛ لأَِنَّ التَّرِكَةَ مَالٌ يَصْلُحُ لاِسْتِيفَاءِ الْمَال مِنْهَا لاَ لاِسْتِيفَاءِ الْفِعْل. أَلاَ يُرَى أَنَّهُ إِذَا مَاتَ وَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ لاَ يُسْتَوْفَى مِنْ تَرِكَتِهِ، فَصَارَتِ الْحُقُوقُ الْمَذْكُورَةُ(11/219)
كَالسَّاقِطِ فِي حَقِّ الدُّنْيَا؛ لأَِنَّهَا لَوْ لَمْ يُوصِ بِهَا لَمْ يَجِبْ عَلَى الْوَرَثَةِ أَدَاؤُهَا، فَكَانَ الإِْيصَاءُ بِأَدَائِهَا تَبَرُّعًا، فَيُعْتَبَرُ كَسَائِرِ التَّبَرُّعَاتِ مِنَ الثُّلُثِ بِخِلاَفِ دُيُونِ الْعِبَادِ، فَإِنَّهَا لاَ تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ؛ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ ثَمَّةَ الْمَال لاَ الْفِعْل؛ لِحَاجَةِ الْعِبَادِ إِلَى الأَْمْوَال. وَفِيهِ بَحْثٌ وَهُوَ أَنَّ الإِْيصَاءَ بِأَدَاءِ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَاجِبٌ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْهِدَايَةِ، وَالإِْيصَاءُ بِسَائِرِ التَّبَرُّعَاتِ لَيْسَ بِلاَزِمٍ، فَلاَ وَجْهَ لِقِيَاسِ الإِْيصَاءِ بِأَدَاءِ حُقُوقِ اللَّهِ عَلَى الإِْيصَاءِ بِسَائِرِ التَّبَرُّعَاتِ، فَتَأَمَّل. (1)
هَذَا وَقَدِ اخْتَلَفَ الْجُمْهُورُ فِي بَعْضِ التَّفْصِيلاَتِ:
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ بَعْدَ وَفَاءِ دَيْنِ الْعَبْدِ يَبْدَأُ بِوَفَاءِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، فَيُقَدَّمُ هَدْيُ التَّمَتُّعِ إِنْ مَاتَ الْحَاجُّ بَعْدَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، أَوْصَى بِهِ أَمْ لاَ، ثُمَّ زَكَاةُ فِطْرٍ فَرَّطَ فِيهَا، وَكَفَّارَاتٌ فَرَّطَ فِيهَا أَيْضًا، كَكَفَّارَةِ يَمِينٍ وَصَوْمٍ وَظِهَارٍ وَقَتْلٍ إِذَا أَشْهَدَ فِي صِحَّتِهِ أَنَّهَا بِذِمَّتِهِ، كُل ذَلِكَ يَخْرُجُ مِنْ رَأْسِ الْمَال، أَوْصَى بِإِخْرَاجِهَا أَمْ لَمْ يُوصِ؛ لأَِنَّ الْمُقَرَّرَ فِي مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ حُقُوقَ اللَّهِ مَتَى أَشْهَدَ فِي صِحَّتِهِ بِهَا خَرَجَتْ مِنْ رَأْسِ الْمَال، فَإِنْ أَوْصَى بِهَا وَلَمْ يُشْهِدْ فَتَخْرُجُ مِنَ الثُّلُثِ.
وَمِثْل مَا تَقَدَّمَ: زَكَاةُ النَّقْدَيْنِ الَّتِي حَلَّتْ وَأَوْصَى بِهَا، وَزَكَاةُ مَاشِيَةٍ وَجَبَتْ وَلاَ سَاعِيَ
__________
(1) شرح السراجية للجرجاني بحاشية الفناري ص 30.(11/220)
لأَِخْذِهَا وَلَمْ تُوجَدِ السِّنُّ الَّتِي تَجِبُ فِيهَا، فَإِنْ وُجِدَتْ فَهُوَ كَالدَّيْنِ الْمُتَعَلِّقِ بِعَيْنٍ، فَيَجِبُ إِخْرَاجُهُ قَبْل الْكَفَنِ وَالتَّجْهِيزِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى: أَنَّهُ بَعْدَ تَجْهِيزِ الْمَيِّتِ وَتَكْفِينِهِ تُقْضَى دُيُونُهُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِذِمَّتِهِ مِنْ رَأْسِ الْمَال، سَوَاءٌ أَكَانَتْ لِلَّهِ تَعَالَى أَمْ لآِدَمِيٍّ، أَوْصَى بِهَا أَمْ لَمْ يُوصِ؛ لأَِنَّهَا حَقُّ وَاجِبٌ عَلَيْهِ. هَذَا وَإِنَّ مَحَل تَأْخِيرِ الدَّيْنِ عَنْ مُؤَنِ التَّجْهِيزِ إِذَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِعَيْنِ التَّرِكَةِ حَقٌّ، فَإِنْ تَعَلَّقَ بِعَيْنِ التَّرِكَةِ حَقٌّ قُدِّمَ عَلَى التَّجْهِيزِ، وَذَلِكَ كَالزَّكَاةِ الْوَاجِبَةِ فِيمَا قَبْل مَوْتِهِ، وَلَوْ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ، فَيُقَدَّمُ عَلَى مُؤَنِ التَّجْهِيزِ، بَل عَلَى كُل حَقٍّ تَعَلَّقَ بِهَا فَكَانَتْ كَالْمَرْهُونِ بِهَا.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى: أَنَّهُ بَعْدَ التَّجْهِيزِ وَالتَّكْفِينِ يُوَفَّى حَقَّ مُرْتَهِنٍ بِقَدْرِ الرَّهْنِ، ثُمَّ إِنْ فَضَل لِلْمُرْتَهِنِ شَيْءٌ مِنْ دَيْنِهِ شَارَكَ الْغُرَمَاءَ.
ثُمَّ بَعْدَ مَا سَبَقَ مِنْ تَسْدِيدِ الدُّيُونِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِأَعْيَانِ التَّرِكَةِ، تُسَدَّدُ الدُّيُونُ غَيْرُ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالأَْعْيَانِ، وَهِيَ الَّتِي تَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ، وَيَتَعَلَّقُ حَقُّ الْغُرَمَاءِ بِالتَّرِكَةِ كُلِّهَا، سَوَاءٌ اسْتَغْرَقَهَا الدَّيْنُ أَمْ لَمْ يَسْتَغْرِقْهَا، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الدَّيْنُ لِلَّهِ تَعَالَى كَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالْحَجِّ الْوَاجِبِ، أَمْ كَانَ لآِدَمِيٍّ كَالْقَرْضِ وَالثَّمَنِ وَالأُْجْرَةِ.
فَإِنْ زَادَتِ الدُّيُونُ عَنِ التَّرِكَةِ، وَلَمْ تَفِ بِدَيْنِ(11/220)
اللَّهِ تَعَالَى وَدَيْنِ الآْدَمِيِّ، يَتَحَاصُّونَ بِنِسْبَةِ دُيُونِهِمْ كَمَال الْمُفْلِسِ. (1)
وَالتَّفْصِيل فِي الزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالْحَجِّ
وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (حَجٍّ، وَدَيْنٍ، وَإِرْثٍ) .
دَيْنُ الآْدَمِيِّ:
27 - دَيْنُ الآْدَمِيِّ هُوَ الدَّيْنُ الَّذِي لَهُ مُطَالِبٌ مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ، فَإِنَّ إِخْرَاجَ هَذَا الدَّيْنِ مِنَ التَّرِكَةِ وَالْوَفَاءَ بِهِ وَاجِبٌ شَرْعًا عَلَى الْوَرَثَةِ قَبْل تَوْزِيعِ التَّرِكَةِ بَيْنَهُمْ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى. {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} (2) وَعَلَى ذَلِكَ الإِْجْمَاعُ، وَذَلِكَ حَتَّى تَبْرَأَ ذِمَّتُهُ مِنْ حُقُوقِ النَّاسِ، أَوْ حَتَّى تَبْرُدَ جِلْدَتُهُ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ.
وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ فِي نَوْعِ تَعَلُّقِ دَيْنِ الآْدَمِيِّ بَيْنَ كَوْنِهِ مُتَعَلِّقًا بِعَيْنِ التَّرِكَةِ أَوْ بِذِمَّةِ الْمُتَوَفَّى، وَفِي دَيْنِ الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ، وَفِي ضِيقِ التَّرِكَةِ عَنْ تَسْدِيدِ الدَّيْنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا سَيَأْتِي.
نَوْعُ التَّعَلُّقِ:
الدَّيْنُ الَّذِي لَهُ مُطَالِبٌ مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ إِمَّا أَنْ يَتَعَلَّقَ بِعَيْنِ التَّرِكَةِ أَوْ لاَ.
__________
(1) شرح السراجية ص 5 وحاشية الدسوقي 4 / 456، وابن عابدين 1 / 463، 483، ونهاية المحتاج 6 / 7، 76، والعذب الفائض 1 / 13، وكشاف القناع 4 / 403 - 404.
(2) سورة النساء / 11.(11/221)
أ - الدَّيْنُ الْمُتَعَلِّقُ بِعَيْنِ التَّرِكَةِ:
28 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ عِنْدَهُمْ، وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ) إِلَى أَنَّهُ يَبْدَأُ مِنَ الدُّيُونِ بِمَا تَعَلَّقَ بِعَيْنِ التَّرِكَةِ، كَالدَّيْنِ الْمُوثَقِ بِرَهْنٍ، وَمِنْ ثَمَّ يَجِبُ تَقْدِيمُ هَذِهِ الدُّيُونِ عَلَى تَجْهِيزِ الْمَيِّتِ وَتَكْفِينِهِ، لأَِنَّ الْمُوَرِّثَ فِي حَال حَيَاتِهِ لاَ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي الأَْعْيَانِ الَّتِي تَعَلَّقَ بِهَا حَقُّ الْغَيْرِ، فَأَوْلَى أَلاَّ يَكُونَ لَهُ فِيهَا حَقٌّ بَعْدَ وَفَاتِهِ.
فَإِنْ فَضَل شَيْءٌ مِنَ التَّرِكَةِ بَعْدَ سَدَادِ هَذَا الدَّيْنِ جَهَّزَ مِنْهُ الْمَيِّتَ، وَإِنْ لَمْ يَفْضُل شَيْءٌ بَعْدَ سَدَادِ الدَّيْنِ، كَانَ تَجْهِيزُ الْمَيِّتِ عَلَى مَنْ كَانَتْ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ فِي حَيَاتِهِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ، وَالْحَنَفِيَّةُ فِي غَيْرِ الْمَشْهُورِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا مَاتَ الإِْنْسَانُ بُدِئَ بِتَكْفِينِهِ وَتَجْهِيزِهِ مُقَدَّمًا عَلَى غَيْرِهِ، كَمَا تُقَدَّمُ نَفَقَةُ الْمُفْلِسِ عَلَى دُيُونِ غُرَمَائِهِ، ثُمَّ بَعْدَ التَّجْهِيزِ وَالتَّكْفِينِ تُقْضَى دُيُونُهُ مِمَّا بَقِيَ مِنْ مَالِهِ. (1)
ب - الدُّيُونُ الْمُطْلَقَةُ:
29 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الدُّيُونَ الْمُطْلَقَةَ، وَهِيَ الَّتِي لاَ تَتَعَلَّقُ بِعَيْنٍ مِنْ أَعْيَانِ التَّرِكَةِ تُؤَخَّرُ عَنْ تَجْهِيزِ الْمَيِّتِ وَتَكْفِينِهِ، فَإِنْ فَضَل شَيْءٌ بَعْدَ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 463، 483، وشرح السراجية ص 4، والدسوقي 4 / 457، ونهاية المحتاج 6 / 7، والعذب الفائض 1 / 13.(11/221)
التَّجْهِيزِ وَالتَّكْفِينِ دُفِعَ لِلدَّائِنِ وَاحِدًا كَانَ أَوْ أَكْثَرَ بِقَدْرِ حِصَصِهِمْ.
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (دَيْنٌ وَإِرْثٌ)
ج - دَيْنُ الصِّحَّةِ وَدَيْنُ الْمَرَضِ:
30 - دَيْنُ الصِّحَّةِ: هُوَ مَا كَانَ ثَابِتًا بِالْبَيِّنَةِ مُطْلَقًا، أَيْ فِي حَال الصِّحَّةِ أَوِ الْمَرَضِ عَلَى السَّوَاءِ. وَمَا كَانَ ثَابِتًا بِالإِْقْرَارِ فِي حَال الصِّحَّةِ وَكَذَا الدَّيْنُ الثَّابِتُ بِنُكُول الْمُتَوَفَّى فِي زَمَانِ صِحَّتِهِ.
وَدَيْنُ الْمَرَضِ: هُوَ مَا كَانَ ثَابِتًا بِإِقْرَارِهِ فِي مَرَضِهِ، أَوْ مَا هُوَ فِي حُكْمِ الْمَرَضِ، كَإِقْرَارِ مَنْ خَرَجَ لِلْمُبَارَزَةِ، أَوْ خَرَجَ لِلْقَتْل قِصَاصًا، أَوْ لِيُرْجَمَ.
ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى إِلَى: أَنَّ دَيْنَ الصِّحَّةِ وَدَيْنَ الْمَرَضِ سَوَاءٌ فِي الأَْدَاءِ، وَلِهَذَا إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي التَّرِكَةِ وَفَاءٌ بِهِمَا يَكُونُ لِكُل دَائِنٍ حِصَّةٌ مِنْهُمَا، بِنِسْبَةِ مِقْدَارِ دَيْنِهِ، بِلاَ تَمْيِيزٍ بَيْنَ مَا كَانَ مِنْهَا مِنْ دُيُونِ الصِّحَّةِ أَوْ دُيُونِ الْمَرَضِ، فَهِيَ فِي مَرْتَبَةٍ وَاحِدَةٍ؛ لأَِنَّهُ إِنْ عَرَّفَ سَبَبَهَا لِلنَّاسِ فَهِيَ دُيُونُ الصِّحَّةِ - وَوَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ - وَإِنْ لَمْ يُعَرِّفْ سَبَبَهَا فَيَكْفِي الإِْقْرَارُ فِي إِثْبَاتِهَا؛ لأَِنَّ الإِْقْرَارَ حُجَّةٌ، إِلاَّ إِذَا قَامَ دَلِيلٌ أَوْ قَرِينَةٌ عَلَى كَذِبِهِ. وَالإِْنْسَانُ وَهُوَ مَرِيضٌ يَكُونُ أَبْعَدَ عَنْ هَوَاهُ، وَأَقْرَبَ إِلَى اللَّهِ، وَإِلَى مَا يُؤْمَرُ بِهِ مِنَ الصِّدْقِ فِي حَال الصِّحَّةِ؛ لأَِنَّ الْمَرَضَ(11/222)
مَظِنَّةُ التَّوْبَةِ. يَصْدُقُ فِيهِ الْكَاذِبُ، وَيَبَرُّ فِيهِ الْفَاجِرُ، وَتَنْتَفِي تُهْمَةُ الْكَذِبِ عَنْ إِقْرَارِهِ، فَيَكُونُ الثَّابِتُ بِالإِْقْرَارِ كَالثَّابِتِ بِالْبَيِّنَةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى تَقْدِيمِ دَيْنِ الصِّحَّةِ عَلَى دَيْنِ الْمَرَضِ الَّذِي ثَبَتَ بِطَرِيقِ الإِْقْرَارِ، وَلَمْ يَعْلَمِ النَّاسُ بِهِ، لأَِنَّ الإِْقْرَارَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ مَظِنَّةُ التَّبَرُّعِ أَوِ الْمُحَابَاةِ، فَيَكُونُ فِي حُكْمِ الْوَصَايَا الَّتِي تَنْفُذُ مِنَ الثُّلُثِ، وَالْوَصَايَا مُؤَخَّرَةٌ عَنِ الدُّيُونِ. (1)
تَزَاحُمُ الدُّيُونِ:
31 - إِذَا كَانَتِ التَّرِكَةُ مُتَّسِعَةً لِلدُّيُونِ كُلِّهَا عَلَى اخْتِلاَفِ أَنْوَاعِهَا، فَلاَ إِشْكَال فِي ذَلِكَ حِينَئِذٍ، إِذْ يُمْكِنُ الْوَفَاءُ بِهَا جَمِيعًا مِنَ التَّرِكَةِ.
أَمَّا إِذَا ضَاقَتِ التَّرِكَةُ وَلَمْ تَتَّسِعْ لِجَمِيعِ الدُّيُونِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَقْدِيمِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ أَقْوَال الْفُقَهَاءِ فِي تَقْدِيمِ الدُّيُونِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِعَيْنِ التَّرِكَةِ عَلَى غَيْرِهَا، وَتَقْدِيمِ دَيْنِ الصِّحَّةِ عَلَى دَيْنِ الْمَرَضِ أَوْ عَدَمِ تَقْدِيمِهِ.
__________
(1) ابن عابدين 5 / 501، وشرح السراجية مع حاشية الفناري ص 27 - 28، والمبسوط 5 / 23 - 25، والصاوي على الشرح الصغير 4 / 617 وما بعدها، ومغني المحتاج 3 / 3 - 4، وكشاف القناع 4 / 447، والدسوقي 4 / 456.(11/222)
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (دَيْنٌ، وَرَهْنٌ، وَقِسْمَةٌ) .
ثَالِثًا: الْوَصِيَّةُ:
32 - يَأْتِي فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّالِثَةِ تَنْفِيذُ الْوَصِيَّةِ.
وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ تَنْفِيذَ مَا يُوصِي بِهِ الْمَيِّتُ يَجِيءُ بَعْدَ الدَّيْنِ وَقَبْل أَخْذِ الْوَرَثَةِ أَنْصِبَاءَهُمْ مِنَ التَّرِكَةِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} (1) وَلاَ يَكُونُ تَنْفِيذُ مَا يُوصَى بِهِ مِنْ أَصْل الْمَال؛ لأَِنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ التَّكْفِينِ وَقَضَاءِ الدَّيْنِ قَدْ صَارَ مَصْرُوفًا فِي ضَرُورَاتِهِ الَّتِي لاَ بُدَّ مِنْهَا، وَالْبَاقِي هُوَ مَالُهُ الَّذِي كَانَ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي ثُلُثِهِ. وَأَيْضًا رُبَّمَا اسْتَغْرَقَ ثُلُثُ الأَْصْل جَمِيعَ الْبَاقِي، فَيُؤَدِّي إِلَى حِرْمَانِ الْوَرَثَةِ بِسَبَبِ الْوَصِيَّةِ، وَهَذَا سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْوَصِيَّةُ مُطْلَقَةً أَمْ مُعَيَّنَةً.
وَتَقْدِيمُ الْوَصِيَّةِ عَلَى الدَّيْنِ فِي الآْيَةِ الْكَرِيمَةِ لاَ يُفِيدُ التَّقْدِيمَ فِعْلاً كَمَا تَبَيَّنَ مِنْ قَبْل (ف 23) وَإِنَّمَا يُفِيدُ الْعِنَايَةَ بِأَمْرِ وَصِيَّةِ الْمَيِّتِ، وَإِنْ كَانَتْ تَبَرُّعًا مِنْهُ، كَيْ لاَ تَشِحَّ نُفُوسُ الْوَرَثَةِ بِإِخْرَاجِهَا مِنَ التَّرِكَةِ قَبْل تَوْزِيعِهَا بَيْنَهُمْ.
وَمِنْ هُنَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا عَلَى الدَّيْنِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهَا مِثْلُهُ فِي وُجُوبِ الأَْدَاءِ أَوِ الْمُسَارَعَةِ إِلَيْهِ، وَلِذَلِكَ جِيءَ بَيْنَهُمَا بِأَوِ الَّتِي هِيَ هُنَا لِلتَّسْوِيَةِ. (2)
__________
(1) سورة النساء
(2) الفناري على شرح السراجية ص 4 - 5، والدسوقي 4 / 458، ونهاية المحتاج 6 / 7، والعذب الفائض 1 / 15، وتفسير القرطبي 5 / 73 - 74.(11/223)
وَتَقْدِيمُ الْوَصِيَّةِ عَلَى حُقُوقِ الْوَرَثَةِ لَيْسَ عَلَى إِطْلاَقِهِ؛ لأَِنَّ تَنْفِيذَ الْوَصِيَّةِ مُقَيَّدٌ بِحُدُودِ الثُّلُثِ، فَإِنْ كَانَ الْمُوصَى بِهِ شَيْئًا مُعَيَّنًا أَخَذَهُ، وَإِنْ كَانَ بِثُلُثٍ أَوْ رُبُعٍ مَثَلاً كَانَ الْمُوصَى لَهُ شَرِيكًا لِلْوَرَثَةِ فِي التَّرِكَةِ بِنِسْبَةِ نَصِيبِهِ الْمُوصَى لَهُ بِهِ، لاَ مُقَدَّمًا عَلَيْهِمْ. فَإِذَا نَقَصَ الْمَال لَحِقَهُ النَّقْصُ، وَهَذَا بِخِلاَفِ التَّجْهِيزِ وَالدَّيْنِ، فَإِنَّهُمَا مُتَقَدِّمَانِ حَقًّا عَلَى الْوَصِيَّةِ وَحُقُوقِ الْوَرَثَةِ.
وَلَمَّا كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِنِسْبَةٍ شَائِعَةٍ عَلَى سَبِيل الْمُشَارَكَةِ مَعَ حُقُوقِ الْوَرَثَةِ - فَلَوْ هَلَكَ شَيْءٌ مِنَ التَّرِكَةِ قَبْل الْقِسْمَةِ فَإِنَّهُ يَهْلِكُ عَلَى الْمُوصَى لَهُ وَالْوَرَثَةِ جَمِيعًا، وَلاَ يُعْطَى الْمُوصَى لَهُ كُل الثُّلُثِ مِنَ الْبَاقِي، بَل الْهَالِكُ يَهْلِكُ عَلَى الْحَقَّيْنِ، وَالْبَاقِي يَبْقَى عَلَى الْحَقَّيْنِ، بِخِلاَفِ الدَّيْنِ - فَإِنَّهُ إِذَا هَلَكَ بَعْضُ التَّرِكَةِ يُسْتَوْفَى كُل الدَّيْنِ مِنَ الْبَاقِي.
ثُمَّ إِنَّ طَرِيقَةَ حِسَابِ الْوَصِيَّةِ: أَنْ يَحْسِبَ قَدْرَ الْوَصِيَّةِ مِنْ جُمْلَةِ التَّرِكَةِ لِتَظْهَرَ سِهَامُ الْوَرَثَةِ، كَمَا تُحْسَبُ سِهَامُ أَصْحَابِ الْفَرَائِضِ أَوَّلاً لِيَظْهَرَ الْفَاضِل لِلْعَصَبَةِ. (1)
وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي (وَصِيَّةٍ، وَإِرْثٍ) .
__________
(1) المراجع السابقة.(11/223)
رَابِعًا: قِسْمَةُ التَّرِكَةِ بَيْنَ الْوَرَثَةِ:
33 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ التَّرِكَةَ تُقْسَمُ بَيْنَ الْوَارِثِينَ بَعْدَ أَدَاءِ الْحُقُوقِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَا
انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (إِرْثٌ) .
إِلاَّ أَنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا قُسِّمَتِ التَّرِكَةُ بَيْنَ الْوَرَثَةِ قَبْل أَدَاءِ الْحُقُوقِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَا، هَل تُنْقَضُ هَذِهِ الْقِسْمَةُ أَمْ تَلْزَمُ؟
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّرِكَةَ الْمُسْتَغْرَقَةَ بِالدَّيْنِ تَبْقَى عَلَى مِلْكِ الْمُوَرِّثِ، أَوْ هِيَ فِي حُكْمِ مِلْكِهِ؛ لأَِنَّ الدَّيْنَ يَشْغَلُهَا جَمِيعًا.
أَمَّا غَيْرُ الْمُسْتَغْرَقَةِ فَإِنَّهَا تَنْتَقِل إِلَى مِلْكِ الْوَارِثِ مِنْ حِينِ وَفَاةِ الْمُوَرِّثِ أَوْ يَنْتَقِل الْجُزْءُ الْفَارِغُ مِنَ الدَّيْنِ.
وَمِنْ ثَمَّ لاَ يَجُوزُ لِلْوَرَثَةِ اقْتِسَامُ التَّرِكَةِ مَا دَامَتْ مَشْغُولَةً بِالدَّيْنِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ مِلْكَهُمْ لاَ يَظْهَرُ إِلاَّ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} (1) فَإِذَا قَسَمُوهَا نُقِضَتْ قِسْمَتُهُمْ حِفْظًا لِحَقِّ الدَّائِنِينَ؛ لأَِنَّهُمْ قَسَمُوا مَا لاَ يَمْلِكُونَ.
قَال الْكَاسَانِيُّ: الَّذِي يُوجِبُ نَقْضَ الْقِسْمَةِ بَعْدَ وُجُودِهَا أَنْوَاعٌ: مِنْهَا ظُهُورُ دَيْنٍ عَلَى الْمَيِّتِ، إِذَا طَلَبَ الْغُرَمَاءُ دُيُونَهُمْ وَلاَ مَال لِلْمَيِّتِ سِوَاهُ وَلاَ قَضَاهُ الْوَرَثَةُ مِنْ مَال أَنْفُسِهِمْ.
وَإِذَا لَمْ يَكُنِ الدَّيْنُ مُحِيطًا بِالتَّرِكَةِ فَمِلْكُ الْمَيِّتِ
__________
(1) سورة النساء / 11.(11/224)
وَحَقُّ الْغُرَمَاءِ ثَابِتٌ فِي قَدْرِ الدَّيْنِ مِنَ التَّرِكَةِ عَلَى الشُّيُوعِ، فَيَمْنَعُ جَوَازَ الْقِسْمَةِ.
وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى: جَوَازِ الْقِسْمَةِ اسْتِحْسَانًا، إِذَا كَانَ الدَّيْنُ غَيْرَ مُسْتَغْرِقٍ لِلتَّرِكَةِ، لأَِنَّهُ قَلَّمَا تَخْلُو تَرِكَةٌ مِنْ دَيْنٍ يَسِيرٍ.
وَلاَ تُنْقَضُ الْقِسْمَةُ أَيْضًا إِذَا أَبْرَأَ الدَّائِنُ الْمَيِّتَ مِنَ الدَّيْنِ، أَوْ ضَمِنَ الدَّيْنَ بَعْضُ الْوَرَثَةِ بِرِضَى الدَّائِنِ نَفْسِهِ، أَوْ كَانَ فِي التَّرِكَةِ مِنْ غَيْرِ الْمَقْسُومِ مَا يَكْفِي لأَِدَاءِ الدَّيْنِ.
وَقَدْ جَاءَ فِي مَجَلَّةِ الأَْحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ مَا نَصُّهُ:
إِذَا ظَهَرَ دَيْنٌ عَلَى الْمَيِّتِ بَعْدَ تَقْسِيمِ التَّرِكَةِ تُفْسَخُ الْقِسْمَةُ، إِلاَّ إِذَا أَدَّى الْوَرَثَةُ الدَّيْنَ، أَوْ أَبْرَأَهُمُ الدَّائِنُونَ مِنْهُ، أَوْ تَرَكَ الْمَيِّتُ مَالاً سِوَى الْمَقْسُومِ يَفِي بِالدَّيْنِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ لاَ تُفْسَخُ الْقِسْمَةُ. (1)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى: أَنَّ مِلْكَ الْوَرَثَةِ لِلتَّرِكَةِ يَبْدَأُ مِنْ حِينِ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ، سَوَاءٌ أَحَاطَ الدَّيْنُ بِالتَّرِكَةِ أَمْ لاَ. وَقِسْمَةُ التَّرِكَةِ مَا هِيَ إِلاَّ تَمْيِيزٌ وَإِفْرَازٌ لِحُقُوقِ كُلٍّ مِنَ الْوَرَثَةِ، وَمِنْ ثَمَّ فَلاَ وَجْهَ لِنَقْضِ الْقِسْمَةِ عِنْدَهُمْ. وَإِنْ قِيل: إِنَّهَا بَيْعٌ فَفِي نَقْضِهَا وَجْهَانِ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: لاَ تَبْطُل الْقِسْمَةُ بِظُهُورِ دَيْنٍ
__________
(1) المبسوط 15 / 59 - 60، والبدائع 7 / 30، وتبيين الحقائق 5 / 52، وابن عابدين 5 / 75، ومجلة الأحكام العدلية م (1161) والدسوقي 4 / 457 وما بعدها.(11/224)
عَلَى الْمَيِّتِ؛ لأَِنَّ تَعَلُّقَ الدَّيْنِ بِالتَّرِكَةِ لاَ يَمْنَعُ صِحَّةَ التَّصَرُّفِ فِيهَا؛ لأَِنَّهُ تَعَلَّقَ بِهَا بِغَيْرِ رِضَا الْوَرَثَةِ. (1)
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (قِسْمَةٌ) .
نَقْضُ قِسْمَةِ التَّرِكَةِ:
34 - الْمَقْصُودُ بِنَقْضِ الْقِسْمَةِ: إِبْطَالُهَا بَعْدَ تَمَامِهَا، وَتُنْقَضُ قِسْمَةُ التَّرِكَةِ فِي الْحَالاَتِ التَّالِيَةِ: -
أ - الإِْقَالَةُ أَوِ التَّرَاضِي عَلَى فَسْخِ الْقِسْمَةِ.
ب - ظُهُورُ دَيْنٍ عَلَى الْمَيِّتِ وَقَدْ تَقَدَّمَ.
ج - ظُهُورُ وَارِثٍ أَوْ مُوصًى لَهُ فِي قِسْمَةِ التَّرَاضِي؛ لأَِنَّ الْوَارِثَ وَالْمُوصَى لَهُ شَرِيكَانِ لِلْوَرَثَةِ فِي التَّرِكَةِ.
د - ظُهُورُ غَبْنٍ فَاحِشٍ لَحِقَ بِبَعْضِ الْوَرَثَةِ، وَهُوَ الَّذِي لاَ يَدْخُل تَحْتَ تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ، كَأَنْ قُوِّمَ الْمَال بِأَلْفٍ، وَهُوَ يُسَاوِي خَمْسَمِائَةٍ. وَتُنْقَضُ هُنَا قِسْمَةُ الْقَاضِي؛ لأَِنَّ تَصَرُّفَ الْقَاضِي مُقَيَّدٌ بِالْعَدْل وَلَمْ يُوجَدْ. وَتُنْقَضُ أَيْضًا قِسْمَةُ التَّرَاضِي؛ لأَِنَّ شَرْطَ جَوَازِهَا الْمُعَادَلَةُ وَلَمْ تُوجَدْ، فَجَازَ نَقْضُهَا.
هـ - وُقُوعُ غَلَطٍ فِي الْمَال الْمَقْسُومِ. (2)
__________
(1) المهذب 1 / 310، 327 - 328، ونهاية المحتاج 4 / 298، والمغني 4 / 437، 9 / 129.
(2) البدائع 7 / 30، وابن عابدين 5 / 168 - 169، وتبيين الحقائق 5 / 273، ومجلة الأحكام العدلية م 125، 160، والمهذب 1 / 327، 2 / 310، وبجيرمي على الخطيب 4 / 344، والشرح الصغير 3 / 677، والمغني 9 / 127 - 129، وكشاف القناع 6 / 376.(11/225)
وَفِي جَمِيعِ هَذِهِ الصُّورَةِ تَفْصِيلٌ وَخِلاَفٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (قِسْمَةٌ) .
التَّصَرُّفُ فِي التَّرِكَةِ:
35 - تَقَدَّمَ خِلاَفُ الْفُقَهَاءِ فِي نَفَاذِ أَوْ عَدَمِ نَفَاذِ قِسْمَةِ التَّرِكَةِ إِذَا كَانَتْ مُسْتَغْرَقَةً بِالدَّيْنِ كُلًّا أَوْ بَعْضًا.
وَإِذَا تَصَرَّفَ الْوَرَثَةُ فِي التَّرِكَةِ الْمَدِينَةِ بِالْبَيْعِ أَوِ الْهِبَةِ أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَنْقُل الْمِلْكِيَّةَ أَوْ تَرَتَّبَ عَلَيْهَا حُقُوقًا عَيْنِيَّةً كَالرَّهْنِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ التَّالِي:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ - وَهُمُ الَّذِينَ قَالُوا بِمَنْعِ مِلْكِيَّةِ الْوَارِثِ إِلاَّ بَعْدَ سَدَادِ الدَّيْنِ - إِلَى: أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَيُّ تَصَرُّفٍ مِنَ الْوَرَثَةِ فِي التَّرِكَةِ إِلاَّ فِي الأَْحْوَال التَّالِيَةِ:
أ - أَنْ تَبْرَأَ ذِمَّةُ الْمَيِّتِ مِنَ الدَّيْنِ قَبْل تَصَرُّفِ الْوَرَثَةِ، إِمَّا بِالأَْدَاءِ أَوِ الْكَفَالَةِ.
ب - أَنْ يَرْضَى الدَّائِنُونَ بِقِيَامِ الْوَرَثَةِ بِبَيْعِ التَّرِكَةِ لِسَدَادِ دُيُونِهِمْ؛ لأَِنَّ مَنْعَ تَصَرُّفِ الْوَرَثَةِ بِالتَّرِكَةِ كَانَ ضَمَانًا لِحَقِّ الدَّائِنِينَ الْمُتَعَلِّقِ بِالتَّرِكَةِ.(11/225)
ج - أَنْ يَأْذَنَ الْقَاضِي بِالتَّصَرُّفِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الْقَاضِيَ بِمَا لَهُ مِنَ الْوِلاَيَةِ الْعَامَّةِ يَمْلِكُ الإِْذْنَ لِلْوَرَثَةِ بِالْبَيْعِ لِجَمِيعِ التَّرِكَةِ أَوْ بَعْضِهَا. (1)
وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ فِي الرِّوَايَةِ الأُْخْرَى - وَهُمُ الَّذِينَ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ مِلْكَ الْوَارِثِ يَبْدَأُ مِنْ وَقْتِ وَفَاةِ الْمُوَرِّثِ، سَوَاءٌ كَانَتِ التَّرِكَةُ مَدِينَةً أَمْ لاَ - فَإِنَّهُمْ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ تَصَرُّفَ الْوَارِثِ بِالْبَيْعِ أَوِ الْهِبَةِ مَعَ اسْتِغْرَاقِ التَّرِكَةِ بِالدَّيْنِ لاَ يَنْفُذُ مُرَاعَاةً لِحَقِّ الْمَيِّتِ، أَذِنَ الدَّائِنُ أَمْ لاَ، إِلاَّ إِذَا كَانَ التَّصَرُّفُ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ فَإِنَّهُ يَنْفُذُ. (2)
وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى الْهِبَةِ، وَإِلَى بَيْعٍ مَنْهِيٍّ عَنْهُ، وَمُصْطَلَحِ: (دَيْنٌ) .
تَصْفِيَةُ التَّرِكَةِ:
36 - تَقَدَّمَ الْكَلاَمُ حَوْل تَصَرُّفِ الْوَارِثِينَ الْبَالِغِينَ فِي التَّرِكَةِ قِسْمَةً أَوْ بَيْعًا، أَمَّا إِذَا كَانَ الْوَرَثَةُ أَوْ بَعْضُهُمْ قُصَّرًا: فَإِنَّ التَّصَرُّفَ فِيهَا يَكُونُ رَاجِعًا لِلْوَصِيِّ إِنْ كَانَ، أَوْ لِلْقَاضِي إِنْ لَمْ يَكُنْ وَصِيٌّ، وَذَلِكَ لِضَمَانِ الْحُقُوقِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالتَّرِكَةِ مِنْ جِهَةٍ، وَلِحِفْظِ أَمْوَال الْوَرَثَةِ الضُّعَفَاءِ كَيْ لاَ يُظْلَمُوا مِنْ غَيْرِهِمْ.
__________
(1) جامع الفصولين 2 / 32، 37، والمدونة الكبرى 5 / 207، 208 ط الساسي.
(2) حاشية البجيرمي على منهج الطلاب 2 / 400 وما بعدها، والمغني 4 / 328 مطابع سجل العرب، و 12 / 104 وما بعدها مع الشرح الكبير.(11/226)
وَلِتَفْصِيل هَذِهِ الأَْحْكَامِ يُنْظَرُ (الْوَصِيَّةُ) وَمُصْطَلَحُ: (إِيصَاءٌ) .
التَّرِكَةُ الَّتِي لاَ وَارِثَ لَهَا:
37 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي التَّرِكَةِ الَّتِي لاَ وَارِثَ لَهَا، أَوْ لَهَا وَارِثٌ لاَ يَرِثُهَا جَمِيعَهَا، فَمَنْ قَال مِنَ الْفُقَهَاءِ بِالرَّدِّ قَال: لاَ تَئُول التَّرِكَةُ إِلَى بَيْتِ الْمَال مَا دَامَ لَهَا وَارِثٌ. وَمَنْ لاَ يَرَى الرَّدَّ مِنَ الْفُقَهَاءِ قَال: إِنَّ بَيْتَ الْمَال يَرِثُ جَمِيعَ التَّرِكَةِ، أَوْ مَا بَقِيَ بَعْدَ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ.
وَإِذَا آلَتِ التَّرِكَةُ إِلَى بَيْتِ الْمَال كَانَتْ عَلَى سَبِيل الْفَيْءِ لاَ الإِْرْثِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ حَقَّ بَيْتِ الْمَال هُنَا هُوَ عَلَى سَبِيل الْمِيرَاثِ، أَيْ عَلَى سَبِيل الْعُصُوبَةِ. (1)
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (إِرْثٌ، وَبَيْتُ الْمَال) .
__________
(1) ابن عابدين 5 / 488، والقليوبي 3 / 136 - 137، والمغني 5 / 684، والعذب الفائض 1 / 19.(11/226)
تَرْمِيمٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - لِلتَّرْمِيمِ فِي اللُّغَةِ مَعَانٍ. مِنْهَا: الإِْصْلاَحُ. يُقَال: رَمَّمْتُ الْحَائِطَ وَغَيْرَهُ تَرْمِيمًا: أَصْلَحْتُهُ.
وَرَمَّمْتُ الشَّيْءَ أَرُمُّهُ وَأَرِمُّهُ رَمًّا وَمَرَمَّةً: إِذَا أَصْلَحْتُهُ.
وَيُقَال: قَدْ رَمَّ شَأْنَهُ. وَاسْتَرَمَّ الْحَائِطَ: أَيْ حَانَ لَهُ أَنْ يُرَمَّ، وَذَلِكَ إِذَا بَعُدَ عَهْدُهُ بِالتَّطْيِينِ وَنَحْوِهِ.
وَالرَّمُّ: إِصْلاَحُ الشَّيْءِ الَّذِي فَسَدَ بَعْضُهُ مِنْ نَحْوِ حَبْلٍ يَبْلَى فَيَرُمُّهُ، أَوْ دَارٍ تُرَمُّ مَرَمَّةً. (1)
وَلاَ يَخْرُجُ فِي مَعْنَاهُ الاِصْطِلاَحِيِّ عَنْ هَذَا.
وَالتَّرْمِيمُ قَدْ يَكُونُ بِقَصْدِ التَّقْوِيَةِ، إِذَا كَانَ الشَّيْءُ مُعَرَّضًا لِلتَّلَفِ، وَقَدْ يَكُونُ بِقَصْدِ التَّحْسِينِ.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
أَوَّلاً: تَرْمِيمُ الْوَقْفِ:
2 - إِذَا احْتَاجَتْ عَيْنُ الْوَقْفِ إِلَى تَرْمِيمٍ، فَإِنَّهُ
__________
(1) المصباح المنير، والصحاح للمرعشلي، ولسان العرب، ومختار الصحاح مادة: " رمم ".(11/227)
يَبْدَأُ بِهِ مِنْ غَلَّتِهِ قَبْل الصَّرْفِ إِلَى الْمُسْتَحِقِّينَ؛ لأَِنَّ قَصْدَ الْوَاقِفِ صَرْفُ الْغَلَّةِ مُؤَبَّدًا، وَلاَ تَبْقَى دَائِمَةً إِلاَّ بِعِمَارَتِهِ، وَمَا بَقِيَ بَعْدَ الْعِمَارَةِ يُصْرَفُ لِلْمُسْتَحِقِّينَ، هَذَا مَا عَلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ.
وَفِي هَذَا يَقُول الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ شَرَطَ الْوَاقِفُ تَقْدِيمَ الْعِمَارَةِ، ثُمَّ الْفَاضِل لِلْفُقَرَاءِ أَوْ لِلْمُسْتَحِقِّينَ، لَزِمَ النَّاظِرَ إِمْسَاكُ قَدْرِ مَا تَحْتَاجُهُ الْعِمَارَةُ كُل سَنَةٍ، وَإِنْ لَمْ يَحْتَجْهُ وَقْتَ الإِْمْسَاكِ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَحْدُثَ فِي الْوَقْفِ بَعْدَ التَّوْزِيعِ حَدَثٌ يَحْتَاجُ إِلَى تَرْمِيمٍ وَلاَ يَجِدُ غَلَّةً يُرَمِّمُ بِهَا، بِخِلاَفِ مَا إِذَا لَمْ يَشْتَرِطْهُ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الشَّرْطِ وَعَدَمِهِ: أَنَّهُ مَعَ السُّكُوتِ تُقَدَّمُ الْعِمَارَةُ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا، وَلاَ يُدَّخَرُ لَهَا عِنْدَ عَدَمِ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا، وَمَعَ الاِشْتِرَاطِ تُقَدَّمُ عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَيُدَّخَرُ لَهَا عِنْدَ عَدَمِهَا، ثُمَّ يُفَرَّقُ الْبَاقِي؛ لأَِنَّ الْوَاقِفَ إِنَّمَا جَعَل الْفَاضِل عَنْهَا لِلْفُقَرَاءِ.
وَلَوْ كَانَ الْمَوْقُوفُ دَارًا، فَعِمَارَتُهَا عَلَى مَنْ لَهُ السُّكْنَى، أَيْ عَلَى مَنْ يَسْتَحِقُّهَا مِنْ مَالِهِ لاَ مِنَ الْغَلَّةِ، إِذْ الْغُرْمُ بِالْغُنْمِ. وَمُفَادُهُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ بَعْضُ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلسُّكْنَى غَيْرَ سَاكِنٍ فِيهَا يَلْزَمُهُ التَّعْمِيرُ مَعَ السَّاكِنِينَ؛ لأَِنَّ تَرْكَهُ لِحَقِّهِ لاَ يُسْقِطُ حَقَّ الْوَقْفِ، فَيُعَمِّرُ مَعَهُمْ، وَإِلاَّ تُؤَجَّرُ حِصَّتُهُ. وَلَوْ أَبَى مَنْ لَهُ السُّكْنَى، أَوْ عَجَزَ لِفَقْرِهِ، آجَرَهَا الْحَاكِمُ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ، وَعَمَّرَهَا بِأُجْرَتِهَا(11/227)
كَعِمَارَةِ الْوَقْفِ، ثُمَّ يَرُدُّهَا بَعْدَ التَّعْمِيرِ إِلَى مَنْ لَهُ السُّكْنَى رِعَايَةً لِلْحَقَّيْنِ.
3 - فَإِذَا امْتَنَعَ عَنِ الْعِمَارَةِ مِنْ مَالِهِ يُؤَجِّرُهَا الْمُتَوَلِّي وَيُعَمِّرُهَا مِنْ غَلَّتِهَا؛ لأَِنَّهَا مَوْقُوفَةٌ لِلْغَلَّةِ.
وَلَوْ كَانَ هُوَ الْمُتَوَلِّيَ وَامْتَنَعَ مِنْ عِمَارَتِهَا يَنْصِبُ غَيْرَهُ لِيُعَمِّرَهَا، أَوْ يُعَمِّرُهَا الْحَاكِمُ. وَلَوْ احْتَاجَ الْخَانُ (1) الْمَوْقُوفُ إِلَى الْمَرَمَّةِ آجَرَ بَيْتًا أَوْ بَيْتَيْنِ مِنْهُ وَأَنْفَقَ عَلَيْهِ، أَوْ يُؤْذَنُ لِلنَّاسِ بِالنُّزُول فِيهِ سَنَةً، وَيُؤَجَّرُ سَنَةً أُخْرَى، وَيُرَمُّ مِنْ أُجْرَتِهِ. (2)
وَيَقُول الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ إِصْلاَحَ الْوَقْفِ مِنْ غَلَّتِهِ. فَإِنْ شَرَطَ عَلَى الْمُسْتَحِقِّ إِصْلاَحَهُ يُلْغَى الشَّرْطُ، وَالْوَقْفُ صَحِيحٌ، وَيُصْلَحُ مِنْ غَلَّتِهِ. فَإِنْ أَصْلَحَ مَنْ شُرِطَ عَلَيْهِ الإِْصْلاَحُ رَجَعَ بِمَا أَنْفَقَ لاَ بِقِيمَتِهِ مَنْقُوضًا.
فَلَوْ شَرَطَ الْوَاقِفُ أَنْ يَبْدَأَ مِنْ غَلَّتِهِ بِمَنَافِعِ أَهْلِهِ، وَيَتْرُكَ إِصْلاَحَ مَا تَهَدَّمَ مِنْهُ، أَوْ يَتْرُكَ الإِْنْفَاقَ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ حَيَوَانًا بَطَل شَرْطُهُ، وَتَجِبُ الْبُدَاءَةُ بِمَرَمَّتِهِ وَالنَّفَقَةِ عَلَيْهِ مِنْ غَلَّتِهِ لِبَقَاءِ عَيْنِهِ. (3)
وَلَمَّا كَانَتْ رَقَبَةُ الْوَقْفِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لِلْوَاقِفِ وَالْغَلَّةُ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ، يَتَرَتَّبُ عَلَى هَذَا أَنَّهُ إِذَا خَرِبَ الْوَقْفُ فَلِلْوَاقِفِ إِنْ كَانَ حَيًّا - وَلِوَارِثِهِ إِنْ مَاتَ - مَنْعُ مَنْ يُرِيدُ إِصْلاَحَهُ إِذَا خَرِبَ أَوِ احْتَاجَ
__________
(1) مكان عام لنزول المسافرين وإيواء دوابهم وبضائعهم.
(2) ابن عابدين 3 / 376 - 382.
(3) الشرح الكبير 4 / 89 - 92، وجواهر الإكليل 2 / 209.(11/228)
لِلإِْصْلاَحِ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ لأَِحَدٍ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ، وَلأَِنَّ إِصْلاَحَ الْغَيْرِ مَظِنَّةٌ لِتَغْيِيرِ مَعَالِمِهِ، وَهَذَا إِذَا أَصْلَحَهُ الْوَاقِفُ أَوْ وَرَثَتُهُ، وَإِلاَّ فَلَيْسَ لَهُمُ الْمَنْعُ، بَل الأَْوْلَى لَهُمْ تَمْكِينُ مَنْ أَرَادَ بِنَاءَهُ إِذَا خَرِبَ؛ لأَِنَّهُ مِنَ التَّعَاوُنِ عَلَى الْخَيْرِ.
وَهَذَا فِي غَيْرِ الْمَسَاجِدِ، وَأَمَّا هِيَ فَقَدِ ارْتَفَعَ مِلْكُهُ عَنْهَا قَطْعًا. (1)
وَيَقُول الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ خَرِبَتِ الدَّارُ الْمَوْقُوفَةُ، وَلَمْ يُعَمِّرْهَا الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ لِلْوَقْفِ مَالٌ كَانَتْ عِمَارَتُهُ فِي مَال الْوَقْفِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ أُوجِرَ وَعُمِّرَ مِنْ أُجْرَتِهِ. فَإِذَا تَعَطَّلَتْ مَنَافِعُ الْوَقْفِ وَكَانَ حَيَوَانًا كَخَيْل الْجِهَادِ، فَالنَّفَقَةُ مِنْ بَيْتِ الْمَال.
أَمَّا عِمَارَةُ الدَّارِ الْمَوْقُوفَةِ فَلاَ تَجِبُ عَلَى أَحَدٍ كَالْمِلْكِ الْمُطْلَقِ بِخِلاَفِ الْحَيَوَانِ فَإِنَّ نَفَقَتَهُ تَجِبُ لِصِيَانَةِ رُوحِهِ. وَرَيْعُ الأَْعْيَانِ الْمَوْقُوفَةِ عَلَى الْمَسْجِدِ إِذَا انْهَدَمَ وَتُوُقِّعَ عَوْدُهُ حُفِظَ لَهُ، وَإِلاَّ فَإِنْ أَمْكَنَ صَرْفُهُ إِلَى مَسْجِدٍ آخَرَ صُرِفَ إِلَيْهِ، وَإِلاَّ فَمُنْقَطِعُ الآْخِرِ فَيُصْرَفُ لأَِقْرَبِ النَّاسِ إِلَى الْوَاقِفِ، فَإِنْ لَمْ يَكُونُوا صُرِفَ إِلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ أَوْ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ.
4 - أَمَّا غَيْرُ الْمُنْهَدِمِ فَمَا فَضَل مِنْ غَلَّةِ الْمَوْقُوفِ عَلَى مَصَالِحِهِ يُشْتَرَى بِهَا عَقَارٌ وَيُوقَفُ عَلَيْهِ، بِخِلاَفِ الْمَوْقُوفِ عَلَى عِمَارَتِهِ يَجِبُ ادِّخَارُهُ
__________
(1) الشرح الكبير 4 / 47.(11/228)
لأَِجْلِهَا، وَإِلاَّ لَمْ يَعُدْ مِنْهُ شَيْءٌ لأَِجْلِهَا؛ لأَِنَّهُ يُعَرَّضُ لِلضَّيَاعِ أَوْ لِظَالِمٍ يَأْخُذُ.
5 - وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَيَرْجِعُ عِنْدَهُمْ إِلَى شَرْطِ الْوَاقِفِ فِي الإِْنْفَاقِ عَلَى الْوَقْفِ وَفِي سَائِرِ أَحْوَالِهِ، لأَِنَّهُ ثَبَتَ بِوَقْفِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يُتْبَعَ فِيهِ شَرْطُهُ. فَإِنْ عَيَّنَ الْوَاقِفُ الإِْنْفَاقَ عَلَيْهِ مِنْ غَلَّتِهِ أَوْ مِنْ غَيْرِهَا عَمِل بِهِ رُجُوعًا إِلَى شَرْطِهِ، وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْهُ - وَكَانَ الْمَوْقُوفُ ذَا رُوحٍ كَالْخَيْل - فَإِنَّهُ يُنْفِقُ عَلَيْهِ مِنْ غَلَّتِهِ؛ لأَِنَّ الْوَقْفَ يَقْتَضِي تَحْبِيسَ الأَْصْل وَتَسْبِيل مَنْفَعَتِهِ، وَلاَ يَحْصُل ذَلِكَ إِلاَّ بِالإِْنْفَاقِ عَلَيْهِ فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ ضَرُورَتِهِ
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَوْقُوفِ غَلَّةٌ لِضَعْفٍ بِهِ وَنَحْوِهِ فَنَفَقَتُهُ عَلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ الْمُعَيَّنِ؛ لأَِنَّ الْوَقْفَ عِنْدَهُمْ يَخْرُجُ مِنْ مِلْكِ الْوَاقِفِ إِلَى مِلْكِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ آدَمِيًّا مُعَيَّنًا، مَعَ مَنْعِهِ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ. فَإِنْ تَعَذَّرَ الإِْنْفَاقُ مِنَ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ لِعَجْزِهِ أَوْ غَيْبَتِهِ وَنَحْوِهِمَا بِيعَ الْوَقْفُ، وَصُرِفَ ثَمَنُهُ فِي عَيْنٍ أُخْرَى تَكُونُ وَقْفًا لِمَحَل الضَّرُورَةِ.
وَلَوِ احْتَاجَ خَانٌ مُسَبَّلٌ إِلَى مَرَمَّةٍ، أَوِ احْتَاجَتْ دَارٌ مَوْقُوفَةٌ لِسُكْنَى الْحَاجِّ أَوِ الْغُزَاةِ أَوْ أَبْنَاءِ السَّبِيل وَنَحْوِهِمْ إِلَى مَرَمَّةٍ، يُؤَجَّرُ مِنْهُ بِقَدْرِ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي مَرَمَّتِهِ.
6 - وَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ كَالْمَسَاكِينِ وَنَحْوِهِمْ كَالْفُقَهَاءِ فَنَفَقَتُهُ فِي بَيْتِ الْمَال؛ لاِنْتِفَاءِ الْمَالِكِ الْمُعَيَّنِ فِيهِ. فَإِنْ تَعَذَّرَ الإِْنْفَاقُ عَلَيْهِ مِنْ(11/229)
بَيْتِ الْمَال بِيعَ وَصُرِفَ ثَمَنُهُ فِي عَيْنٍ أُخْرَى تَكُونُ وَقْفًا. (1)
وَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ مِمَّا لاَ رُوحَ فِيهِ كَالْعَقَارِ وَنَحْوِهِ مِنْ سِلاَحٍ وَمَتَاعٍ وَكُتُبٍ، لَمْ تَجِبْ عِمَارَتُهُ عَلَى أَحَدٍ إِلاَّ بِشَرْطِ الْوَاقِفِ. فَإِنْ شَرَطَ عِمَارَتَهُ عُمِل بِشَرْطِهِ، سَوَاءٌ شَرَطَ الْبُدَاءَةَ بِالْعِمَارَةِ أَوْ تَأْخِيرَهَا، فَيُعْمَل بِمَا شُرِطَ. لَكِنْ إِنْ شَرَطَ تَقْدِيمَ الْجِهَةِ عُمِل بِهِ مَا لَمْ يُؤَدِّ إِلَى التَّعْطِيل، فَإِذَا أَدَّى إِلَيْهِ قُدِّمَتِ الْعِمَارَةُ حِفْظًا لأَِصْل الْوَقْفِ. فَإِنْ لَمْ يَذْكُرِ الْبُدَاءَةَ بِالْعِمَارَةِ أَوْ تَأْخِيرَهَا، فَتُقَدَّمُ عَلَى أَرْبَابِ الْوَظَائِفِ، مَا لَمْ يُفْضِ ذَلِكَ إِلَى تَعْطِيل مَصَالِحِهِ، فَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا حَسَبَ الإِْمْكَانِ.
وَيَصِحُّ بَيْعُ بَعْضِهِ لإِِصْلاَحِ بَاقِيهِ؛ لأَِنَّهُ إِذَا جَازَ بَيْعُ الْكُل عِنْدَ الْحَاجَةِ فَبَيْعُ الْبَعْضِ مَعَ بَقَاءِ الْبَعْضِ أَوْلَى، إِنِ اتَّحَدَ الْوَاقِفُ. (2) وَتَفْصِيل ذَلِكَ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ: (وَقْفٍ) .
ثَانِيًا: التَّرْمِيمُ فِي الإِْجَارَةِ:
7 - إِذَا احْتَاجَتِ الدَّارُ الْمُسْتَأْجَرَةُ لِلتَّرْمِيمِ. فَإِنَّ عِمَارَتَهَا وَإِصْلاَحَ مَا تَلِفَ مِنْهَا وَكُل مَا يُخِل بِالسُّكْنَى عَلَى الْمُؤَجِّرِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَيَقُول الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ أَبَى صَاحِبُهَا أَنْ يَفْعَل كَانَ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهَا، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ
__________
(1) نهاية المحتاج 5 / 386، 392 - 393، 397.
(2) كشاف القناع 4 / 265 - 268 م النصر الحديثة.(11/229)
الْمُسْتَأْجِرُ اسْتَأْجَرَهَا وَهِيَ كَذَلِكَ وَقَدْ رَآهَا لِرِضَاهُ بِالْعَيْبِ، وَأَنَّهُ لاَ يُجْبَرُ الْمُؤَجِّرُ عَلَى إِصْلاَحِ بِئْرِ الْمَاءِ وَالْبَالُوعَةِ وَالْمَخْرَجِ إِنْ أَبَى إِصْلاَحَ ذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ لاَ يُجْبَرُ عَلَى إِصْلاَحِ مِلْكِهِ، فَإِنْ فَعَلَهُ الْمُسْتَأْجِرُ فَهُوَ مُتَبَرِّعٌ، وَلَهُ أَنْ يَخْرُجَ إِنْ أَبَى الْمُؤَجِّرُ.
وَعَلَى الْمُسْتَأْجِرِ إِصْلاَحُ مَا تَلِفَ مِنَ الْعَيْنِ بِسَبَبِ اسْتِعْمَالِهِ.
وَيَقُول الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ بَادَرَ الْمُؤَجِّرُ إِلَى إِصْلاَحِ مَا تَلِفَ فَلاَ خِيَارَ لِلْمُكْتَرِي، وَإِلاَّ فَلَهُ الْخِيَارُ لِتَضَرُّرِهِ بِنَقْصِ الْمَنْفَعَةِ.
وَالْحَنَابِلَةُ كَالشَّافِعِيَّةِ فِي هَذَا، إِلاَّ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَوْ شَرَطَ الْمُؤَجِّرُ عَلَى الْمُكْتَرِي النَّفَقَةَ الْوَاجِبَةَ لِعِمَارَةِ الْمَأْجُورِ لَمْ يَصِحَّ؛ لأَِنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى جَهَالَةِ الإِْجَارَةِ، فَلَوْ عَمَّرَ الْمُسْتَأْجِرُ بِهَذَا الشَّرْطِ أَوْ عَمَّرَ بِإِذْنِ الْمُؤَجِّرِ رَجَعَ عَلَيْهِ. وَإِنْ أَنْفَقَ الْمُسْتَأْجِرُ مِنْ غَيْرِ إِذْنِهِ لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ؛ لأَِنَّهُ مُتَبَرِّعٌ، لَكِنْ لَهُ أَخْذُ أَعْيَانِ آلاَتِهِ.
وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ شَرْطَ الْمَرَمَّةِ لِلدَّارِ وَتَطْيِينَهَا إِنِ احْتَاجَتْ عَلَى الْمُكْتَرِي، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ مِنْ كِرَاءٍ وَجَبَ عَلَى الْمُكْتَرِي، إِمَّا فِي مُقَابَلَةِ سُكْنَى مَضَتْ، أَوْ بِاشْتِرَاطِ تَعْجِيل الْكِرَاءِ، أَوْ يَجْرِي الْعُرْفُ بِتَعْجِيلِهِ، لاَ إِنْ لَمْ يَجِبْ فَلاَ يَجُوزُ. أَوْ وَقَعَ الْعَقْدُ عَلَى أَنَّ مَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ الدَّارُ مِنَ الْمَرَمَّةِ(11/230)
وَالتَّطْيِينِ مِنْ عِنْدِ الْمُكْتَرِي، فَلاَ يَجُوزُ لِلْجَهَالَةِ. (1)
تَرْمِيمُ الْمُسْتَأْجَرِ مِنْ شَرِيكَيْنِ:
8 - إِذَا اسْتَأْجَرَ شَخْصٌ مَا دَارًا مُشْتَرَكَةً بَيْنَ اثْنَيْنِ مَثَلاً مِنْ صَاحِبَيْهَا، ثُمَّ احْتَاجَتْ إِلَى مَرَمَّةٍ، فَاسْتَأْذَنَ فِيهَا وَاحِدًا مِنْهُمَا فَحَسْبُ، فَأَذِنَ لَهُ دُونَ رُجُوعٍ إِلَى شَرِيكِهِ فَلَيْسَ لِلْمُسْتَأْجِرِ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَى الشَّرِيكِ الآْخَرِ بِمَا أَنْفَقَهُ فِي الْمَرَمَّةِ.
فَإِنْ كَانَ لِلآْذِنِ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَى شَرِيكِهِ كَانَ لِلْمُسْتَأْجِرِ الرُّجُوعُ عَلَى آذِنِهِ بِالنَّفَقَةِ كُلًّا، ثُمَّ يَرْجِعُ هَذَا عَلَى شَرِيكِهِ بِحِصَّتِهِ مِنَ النَّفَقَةِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ فَإِذْنُهُ لَغْوٌ فِي حِصَّةِ شَرِيكِهِ، وَلَيْسَ لِلْمُسْتَأْجِرِ إِلاَّ الرُّجُوعُ عَلَى الآْذِنِ وَحْدَهُ بِنِسْبَةِ حِصَّتِهِ (2) .
ثَالِثًا: تَرْمِيمُ الرَّهْنِ:
9 - كُل مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ لِبَقَاءِ الرَّهْنِ وَمَصْلَحَتِهِ فَهُوَ عَلَى الرَّاهِنِ؛ لأَِنَّهُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ، وَذَلِكَ مُؤْنَةُ الْمِلْكِ.
وَكُل مَا كَانَ لِحِفْظِهِ فَعَلَى الْمُرْتَهِنِ؛ لأَِنَّ حَبْسَهُ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 49، والفتاوى الهندية 4 / 470، ومنهاج الطالبين 3 / 78، وكشاف القناع 4 / 21 ط مطبعة النصر الحديثة، والشرح الكبير 4 / 47.
(2) ابن عابدين 3 / 367 - 368. وتفصيل ذلك يرجع إليه في بحث: (شركة) .(11/230)
لَهُ، فَلَوْ شُرِطَ مِنْهُ شَيْءٌ عَلَى الرَّاهِنِ لاَ يَلْزَمُهُ (1) لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الظَّهْرُ يُرْكَبُ بِنَفَقَتِهِ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا، وَلَبَنُ الدَّرِّ يُشْرَبُ بِنَفَقَتِهِ، وَعَلَى الَّذِي يَرْكَبُ وَيَشْرَبُ النَّفَقَةُ (2) وَاَلَّذِي يَرْكَبُ هُوَ الرَّاهِنُ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ النَّفَقَةُ عَلَيْهِ؛ وَلأَِنَّ الرَّقَبَةَ وَالْمَنْفَعَةَ عَلَى مِلْكِهِ، فَكَانَتِ النَّفَقَةُ عَلَيْهِ. (3)
وَيَقُول الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ مُؤْنَةَ الرَّهْنِ عَلَى رَاهِنِهِ؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ يَغْلَقُ الرَّهْنُ مِنْ صَاحِبِهِ الَّذِي رَهَنَهُ، لَهُ غُنْمُهُ وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ (4) وَلأَِنَّهُ مِلْكٌ لِلرَّاهِنِ فَكَانَ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ وَمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ.
فَإِنِ امْتَنَعَ الرَّاهِنُ مِنْ بَذْل مَا وَجَبَ عَلَيْهِ أَجْبَرَهُ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَل أَخَذَ الْحَاكِمُ
__________
(1) الاختيار شرح المختار 1 / 237 مصطفى الحلبي 1355 هـ، وابن عابدين 5 / 314، وجواهر الإكليل 2 / 84، والشرح الكبير 3 / 251 - 252، والخرشي على مختصر خليل 5 / 253، والتاج والإكليل بهامش مواهب الجليل لشرح مختصر خليل 5 / 25.
(2) حديث: " الظهر يركب بنفقته. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 5 / 143 ط السلفية) من حديث أبي هريرة.
(3) المهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 321، وشرح روض الطالب من أسنى المطالب 2 / 169 نشر المكتبة الإسلامية.
(4) حديث: " لا يغلق الرهن من صاحبه. . . " أخرجه البيهقي (6 / 39 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث سعيد بن المسيب مرسلا، وأعله بالإرسال.(11/231)
مِنْ مَالِهِ وَفَعَلَهُ، فَإِنْ تَعَذَّرَ أَخْذُ ذَلِكَ مِنَ الرَّهْنِ بِيعَ مِنْهُ فِيمَا يَجِبُ عَلَى الرَّاهِنِ فِعْلُهُ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ؛ لأَِنَّ حِفْظَ الْبَعْضِ أَوْلَى مِنْ إِضَاعَةِ الْكُل، فَإِنْ خِيفَ اسْتِغْرَاقُ الْبَيْعِ لِلرَّهْنِ فِي الإِْنْفَاقِ عَلَيْهِ بِيعَ كُلُّهُ وَجُعِل ثَمَنُهُ رَهْنًا مَكَانَهُ لأَِنَّهُ أَحَظُّ لَهُمَا. (1)
وَإِنْ أَنْفَقَ الْمُرْتَهِنُ عَلَى الرَّهْنِ بِلاَ إِذْنِ الرَّاهِنِ، مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى اسْتِئْذَانِهِ، فَمُتَبَرِّعٌ حُكْمًا لِتَصَدُّقِهِ بِهِ، فَلاَ يَرْجِعُ بِعِوَضِهِ وَلَوْ نَوَى الرُّجُوعَ، كَالصَّدَقَةِ عَلَى مِسْكِينٍ؛ وَلِتَفْرِيطِهِ بِعَدَمِ الاِسْتِئْذَانِ. وَإِنْ تَعَذَّرَ اسْتِئْذَانُهُ وَأَنْفَقَ بِنِيَّةِ الرُّجُوعِ رَجَعَ وَلَوْ لَمْ يَسْتَأْذِنِ الْحَاكِمَ؛ لاِحْتِيَاجِهِ لِحِرَاسَةِ حَقِّهِ. (2)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي (رَهْنٍ) .
تَرْوِيَةٌ
انْظُرْ: يَوْمَ التَّرْوِيَةِ.
__________
(1) كشاف القناع 3 / 339 ط مطبعة النصر الحديثة.
(2) منار السبيل في شرح الدليل 1 / 357.(11/231)
تِرْيَاقٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التِّرْيَاقُ بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ، وَجُوِّزَ ضَمُّهُ وَفَتْحُهُ، وَلَكِنَّ الْمَشْهُورَ الأَْوَّل وَهُوَ مُعَرَّبٌ، وَيُقَال بِالدَّال وَالطَّاءِ أَيْضًا: دَوَاءٌ يُسْتَعْمَل لِدَفْعِ السُّمِّ وَهُوَ أَنْوَاعٌ. (1)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - قَال الْحَنَابِلَةُ: التِّرْيَاقُ دَوَاءٌ يُتَعَالَجُ بِهِ مِنَ السُّمِّ، وَيُجْعَل فِيهِ مِنْ لُحُومِ الْحَيَّاتِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُبِيحُوا أَكْلَهُ وَلاَ شُرْبَهُ؛ لأَِنَّ لَحْمَ الْحَيَّةِ حَرَامٌ، وَلاَ يَجُوزُ التَّدَاوِي بِمُحَرَّمٍ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَل شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ (2)
__________
(1) عون المعبود شرح سنن أبي داود للعلامة أبي الطيب محمد شمس الحق 10 / 350 نشر المكتبة السلفية، ومرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح للمحدث علي بن سلطان محمد 8 / 361 م إمدادية ملتان.
(2) المغني لابن قدامة 8 / 605 م الرياض الحديثة. وحديث: " إن الله لم يجعل شفاءكم فيما. . . " أخرجه الإمام أحمد في كتاب الأشربة (ص 63 - ط وزارة الأوقاف العراقية) . من حديث ابن مسعود وصححه ابن حجر في الفتح (10 / 79 - ط السلفية) .(11/232)
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: مَا أُبَالِي مَا أَتَيْتُ إِنْ أَنَا شَرِبْتُ تِرْيَاقًا، أَوْ تَعَلَّقْتُ بِتَمِيمَةٍ، أَوْ قُلْتُ الشِّعْرَ مِنْ قِبَل نَفْسِي (1) وَالْمَعْنَى: أَنِّي إِنْ فَعَلْتُ هَذِهِ الأَْشْيَاءَ كُنْتُ مِمَّنْ لاَ يُبَالِي بِمَا فَعَلَهُ مِنَ الأَْفْعَال، وَلاَ يَنْزَجِرُ عَمَّا لاَ يَجُوزُ فِعْلُهُ شَرْعًا.
وَقَال الْخَطَّابِيُّ: لَيْسَ شُرْبُ التِّرْيَاقِ مَكْرُوهًا مِنْ أَجْل التَّدَاوِي. وَقَدْ أَبَاحَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّدَاوِيَ وَالْعِلاَجَ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ، وَلَكِنْ مِنْ أَجْل مَا يَقَعُ فِيهِ مِنْ لُحُومِ الأَْفَاعِي، وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ.
وَالتِّرْيَاقُ أَنْوَاعٌ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مِنْ لُحُومِ الأَْفَاعِي فَلاَ بَأْسَ بِتَنَاوُلِهِ. (2)
وَمِمَّا وَرَدَ مِنْ أَحَادِيثَ فِي التَّدَاوِي وَالْعِلاَجِ مَا رُوِيَ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَاءَتِ الأَْعْرَابُ فَقَالُوا: يَا رَسُول اللَّهِ أَنَتَدَاوَى؟ فَقَال: نَعَمْ يَا عِبَادَ اللَّهِ تَدَاوَوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَل لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلاَّ وَضَعَ لَهُ شِفَاءً، غَيْرَ دَاءٍ وَاحِدٍ قَالُوا: مَا هُوَ؟ قَال: الْهَرَمُ وَفِي لَفْظٍ إِنَّ اللَّهَ لَمْ يُنْزِل دَاءً إِلاَّ أَنْزَل لَهُ شِفَاءً، عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ، وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ (3)
__________
(1) حديث: " ما أبالي ما أتيت إن أنا شربت ترياقا أو تعلقت. . . " أخرجه أبو داود (10 / 349 - عون المعبود - ط السلفية) وأعله المنذري بضعف أحد رواته.
(2) عون المعبود في شرح سنن أبي داود 10 / 349 - 351.
(3) الطب النبوي لابن القيم الجوزية 13 مؤسسة الرسالة، وزاد المعاد في هدي خير العباد لابن قيم الجوزية 3 / 66 ط مصطفى الحلبي. وحديث: " إن الله لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء، علمه. . . " أخرجه أحمد (1 / 377 - ط الميمنية) والحاكم (2 / 399 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه ووافقه الذهبي.(11/232)
وَفِي مِرْقَاةِ الْمَفَاتِيحِ: إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي التِّرْيَاقِ مُحَرَّمٌ شَرْعًا مِنْ لُحُومِ الأَْفَاعِي وَالْخَمْرِ وَنَحْوِهِ، فَإِنَّهُ لاَ يَكُونُ حَرَامًا. (1)
وَبِتَحْرِيمِ لُحُومِ الْحَيَّاتِ يَقُول الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ. (2)
وَلِلْحَنَفِيَّةِ فِيمَا إِذَا جُعِل لَحْمُ الْحَيَّاتِ فِي التِّرْيَاقِ لِلتَّدَاوِي - أُسْوَةً بِالتَّدَاوِي بِالْمُحَرَّمِ - رَأْيَانِ:
ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ: الْمَنْعُ. وَقِيل: يُرَخَّصُ إِذَا عَلِمَ فِيهِ الشِّفَاءَ وَلَمْ يُعْلَمْ دَوَاءٌ آخَرُ، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى.
فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَذِنَ بِالتَّدَاوِي، وَجَعَل لِكُل دَاءٍ دَوَاءً، فَإِذَا كَانَ فِي ذَلِكَ الدَّوَاءِ مَا هُوَ مُحَرَّمٌ وَعُلِمَ فِيهِ الشِّفَاءُ فَقَدْ زَالَتْ حُرْمَةُ اسْتِعْمَالِهِ، وَحَل تَنَاوُلُهُ لِلتَّدَاوِي بِهِ. وَحَدِيثُ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَل شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ (3) مَعْنَاهُ: نَفْيُ
__________
(1) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح 8 / 361.
(2) الاختيار شرح المختار 3 / 147 مصطفى الحلبي 1355 هـ، وابن عابدين 5 / 193 ط دار إحياء التراث، والمهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 255، وروضة الطالبين 3 / 272 المكتب الإسلامي، والمغني 8 / 586.
(3) حديث: " إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم " سبق تخريجه (ص 332) .(11/233)
الْحُرْمَةِ عِنْدَ الْعِلْمِ بِالشِّفَاءِ. دَل عَلَيْهِ جَوَازُ إِسَاغَةِ اللُّقْمَةِ بِالْخَمْرِ، وَجَوَازُ شُرْبِهَا لإِِزَالَةِ الْعَطَشِ، مَا لَمْ يُوجَدْ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا. (1)
وَلِلشَّافِعِيَّةِ فِي التَّدَاوِي بِهِ أُسْوَةً بِالْمُحَرَّمِ الْمُخَالِطِ لِلدَّوَاءِ الْمَنْعُ عِنْدَ الْبَعْضِ، وَالْجَوَازُ عِنْدَ الْبَعْضِ الآْخَرِ مَتَى عُلِمَ فِيهِ الشِّفَاءُ وَلَمْ يُوجَدْ غَيْرُهُ. (2)
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ أَبَاحُوا أَكْل الْحَيَّةِ مَتَى ذُكِّيَتْ فِي مَوْضِعِ ذَكَاتِهَا، وَأُمِنَ سُمُّهَا، وَاحْتِيجَ لأَِكْلِهَا بِسُمِّهَا لِمَنْ يَنْفَعُهُ ذَلِكَ لِمَرَضِهِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَكْلُهَا. (3) وَمَفْهُومُ هَذَا أَنَّ لَحْمَهَا مَتَى دَخَل فِي التِّرْيَاقِ وَخَالَطَهُ فَإِنَّهُ يَجُوزُ التَّدَاوِي بِهِ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ: (تَدَاوِي) .
__________
(1) ابن عابدين 1 / 140، 2 / 404، 5 / 249 ط دار إحياء التراث العربي.
(2) منهاج الطالبين وحاشية قليوبي عليه 4 / 203.
(3) جواهر الإكليل 1 / 217، والشرح الكبير 2 / 115.(11/233)
تَزَاحُمٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّزَاحُمُ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ تَزَاحَمَ، يُقَال: تَزَاحَمَ الْقَوْمُ: إِذَا زَحَمَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، أَيْ تَضَايَقُوا فِي الْمَجْلِسِ، أَوْ تَدَافَعُوا فِي الْمَكَانِ الضَّيِّقِ. (1)
وَالاِصْطِلاَحُ الشَّرْعِيُّ لاَ يَخْتَلِفُ عَنْ هَذَا.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - تَحْرُمُ الْمُزَاحَمَةُ إِنْ تَرَتَّبَ عَلَيْهَا أَذًى لأَِحَدٍ، كَمُزَاحَمَةِ الأَْقْوِيَاءِ لِلضُّعَفَاءِ عِنْدَ اسْتِلاَمِ الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ، أَوْ تَرَتَّبَ عَلَيْهَا أَمْرٌ مَحْظُورٌ شَرْعًا، كَمُزَاحَمَةِ الْمَرْأَةِ لِلرِّجَال فِي الطَّوَافِ وَعِنْدَ اسْتِلاَمِ الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ وَغَيْرِهِ مِنَ الأَْمَاكِنِ الْعَامَّةِ.
وَقَدْ وَرَدَ التَّزَاحُمُ فِي أُمُورٍ مِنْهَا:
أَوَّلاً: زَحْمُ الْمَأْمُومِ:
3 - إِذَا زُحِمَ الْمَأْمُومُ وَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ السُّجُودُ عَلَى الأَْرْضِ مُتَابَعَةً لِلإِْمَامِ، وَقَدَرَ عَلَى السُّجُودِ عَلَى ظَهْرِ إِنْسَانٍ أَوْ دَابَّةٍ، فَهَل يَلْزَمُهُ السُّجُودُ عَلَى
__________
(1) مختار الصحاح ومتن اللغة مادة: " زحم ".(11/234)
ذَلِكَ؟ اخْتَلَفَ فِيهِ الأَْئِمَّةُ. فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى: أَنَّهُ يَلْزَمُهُ أَنْ يَسْجُدَ عَلَى مَا يُمْكِنُهُ السُّجُودُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى ظَهْرِ إِنْسَانٍ أَوْ قَدَمِهِ؛ لِتَمَكُّنِهِ مِنَ الْمُتَابَعَةِ، وَلِخَبَرِ إِذَا اشْتَدَّ الزِّحَامُ فَلْيَسْجُدْ أَحَدُكُمْ عَلَى ظَهْرِ أَخِيهِ (1) فَإِنْ لَمْ يَسْجُدْ فَمُتَخَلِّفٌ عَنِ الْمُتَابَعَةِ بِغَيْرِ عُذْرٍ عِنْدَ الأَْئِمَّةِ الْمَذْكُورِينَ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: لاَ يَجُوزُ السُّجُودُ عَلَى ظَهْرِ الإِْنْسَانِ، فَإِنْ سَجَدَ أَعَادَ الصَّلاَةَ. وَيَسْتَدِلُّونَ لِذَلِكَ بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَكِّنْ جَبْهَتَكَ مِنَ الأَْرْضِ (2) وَلاَ يَحْصُل التَّمْكِينُ مِنَ الأَْرْضِ فِي حَالَةِ السُّجُودِ عَلَى ظَهْرِ إِنْسَانٍ. (3)
أَمَّا إِذَا لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ السُّجُودِ مُطْلَقًا، فَهَل يَخْرُجُ عَنِ الْمُتَابَعَةِ أَوْ يَنْتَظِرُ؟
فِيهِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي (صَلاَةُ الْجَمَاعَةِ) (وَصَلاَةُ الْجُمُعَةِ) .
__________
(1) حديث: " إذا اشتد الزحام فليسجد أحدكم على ظهر أخيه. . . " ورد موقوفا على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أخرجه البيهقي (3 / 183 - ط دائرة المعارف العثمانية) ، وعزاه ابن قدامة في المغني (2 / 314 - ط الرياض) إلى سعيد بن منصور في سننه موقوفا أيضا على عمر رضي الله عنه.
(2) حديث: " مكن جبهتك من الأرض " أخرجه البزار (2 / 8 - 9 - كشف الأستار - ط الرسالة) وقال الهيثمي: رجاله موثقون (مجمع الزوائد 3 / 275 - ط القدسي) .
(3) أسنى المطالب 1 / 254، والمغني لابن قدامة 2 / 313، والروضة 3 / 18، والمدونة 1 / 147.(11/234)
ثَانِيًا: التَّزَاحُمُ فِي الطَّوَافِ:
4 - إِذَا مَنَعَتِ الزَّحْمَةُ الطَّائِفَ مِنْ تَقْبِيل الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ أَوِ اسْتِلاَمِهِ اقْتَصَرَ عَلَى الإِْشَارَةِ إِلَيْهِ وَهَذَا مَحَل اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.
لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال لِعُمَرَ: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَا عُمَرُ إِنَّك رَجُلٌ قَوِيٌّ، لاَ تُؤْذِ الضَّعِيفَ، إِذَا أَرَدْتَ اسْتِلاَمَ الْحَجَرِ، فَإِنْ خَلاَ لَكَ فَاسْتَلِمْهُ، وَإِلاَّ فَاسْتَقْبِلْهُ وَكَبِّرْ (1) ،.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (إِشَارَةٌ وَطَوَافٌ) .
ثَالِثًا: تَزَاحُمُ الْغُرَمَاءِ فِي مَال الْمُفْلِسِ:
5 - إِذَا أَقَرَّ الْمَدِينُ الْمُفْلِسُ - بَعْدَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ لِحَقِّ الْغُرَمَاءِ - بِدَيْنٍ قَدْ لَزِمَهُ قَبْل الْحَجْرِ عَلَيْهِ، فَهَل يُقْبَل فِي حَقِّ الْغُرَمَاءِ الَّذِينَ حُجِرَ عَلَيْهِ لِحَقِّهِمْ وَيُزَاحِمُهُمُ الْمُقَرُّ لَهُ فِي الْمَال، أَمْ يَبْقَى الدَّيْنُ فِي ذِمَّةِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ؛ لِئَلاَّ يَتَضَرَّرَ الْغُرَمَاءُ بِالْمُزَاحَمَةِ؟
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى: أَنَّهُ لاَ يُقْبَل إِقْرَارُهُ فِي حَقِّ الْغُرَمَاءِ، إِنْ أَقَرَّ فِي حَال الْحَجْرِ؛ لأَِنَّ هَذَا الْحَقَّ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الأَْوَّلِينَ. وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: لاَ يُقْبَل إِقْرَارُهُ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ.
وَأَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يُقْبَل أَيْضًا فِي حَقِّهِمْ وَيُزَاحِمُهُمْ فِي الْمَال، كَإِقْرَارِ الْمَرِيضِ فِي
__________
(1) حديث: " يا عمر إنك رجل قوي. . . " أخرجه البيهقي (5 / 80 - ط دائرة المعارف العثمانية) من طريقين يقوي أحدهما الآخر.(11/235)
مَرَضِهِ بِدَيْنٍ يُزَاحِمُ غُرَمَاءَ دَيْنِ الصِّحَّةِ. (1)
هَذَا إِذَا أَقَرَّ أَنَّهُ لَزِمَ الدَّيْنُ قَبْل الْحَجْرِ. أَمَّا إِذَا لَزِمَهُ بَعْدَ الْحَجْرِ فَفِي ذَلِكَ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ: (تَفْلِيسٌ) .
تَزَاحُمُ الْوَصَايَا:
6 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَزَاحَمَتِ الْوَصَايَا نُظِرَ فَإِنْ كَانَتْ كُلُّهَا لِلَّهِ تَعَالَى: فَإِنْ كَانَتْ كُلُّهَا فَرَائِضٌ كَالْحَجِّ وَالزَّكَاةِ، أَوْ كَانَتْ كُلُّهَا وَاجِبَاتٍ كَالْكَفَّارَاتِ وَالنَّذْرِ، وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ، أَوْ كَانَتْ كُلُّهَا تَطَوُّعَاتٍ: كَحَجِّ التَّطَوُّعِ وَالصَّدَقَةِ عَلَى الْفُقَرَاءِ يُبْدَأُ بِمَا بَدَأَ بِهِ الْمُوصِي. وَإِنْ جَمَعَتْ مَا ذُكِرَ كَحَجَّةِ الإِْسْلاَمِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالنَّذْرِ وَصَدَقَةِ التَّطَوُّعِ عَلَى الْفُقَرَاءِ فَيُبْدَأُ بِالْفَرْضِ، ثُمَّ بِالْوَاجِبِ، ثُمَّ بِالتَّطَوُّعِ أَمَّا إِذَا جَمَعَتْ بَيْنَ حَقِّ اللَّهِ وَحَقِّ الْعِبَادِ فَإِنَّهُ يُقْسَمُ الثُّلُثُ عَلَى جَمِيعِهَا؛ لأَِنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ كُلَّهَا لِلَّهِ فِي وَاقِعِ الأَْمْرِ فَكُل وَاحِدَةٍ مِنْهَا مَقْصُودَةٌ فِي نَفْسِهَا فَتَنْفَرِدُ.
فَلَوْ قَال: ثُلُثُ مَالِي فِي الْحَجِّ وَالزَّكَاةِ وَلِزَيْدٍ وَالْكَفَّارَاتِ. قُسِمَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ، وَلاَ يُقَدَّمُ الْفَرْضُ عَلَى حَقِّ الآْدَمِيِّ لِحَاجَتِهِ.
هَذَا إِذَا كَانَ الآْدَمِيُّ مُعَيَّنًا، أَمَّا إِذَا كَانَ غَيْرَ مُعَيَّنٍ فَلاَ يُقْسَمُ بَل يُقَدَّمُ الأَْقْوَى فَالأَْقْوَى؛ لأَِنَّ
__________
(1) فتح القدير 8 / 208، وروضة الطالبين 4 / 132 - 133، والمغني 4 / 486.(11/235)
الْكُل يَبْقَى حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، إِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مُسْتَحِقٌّ مُعَيَّنٌ. (1)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يُقَدَّمُ الْوَاجِبُ عَلَى غَيْرِ الْوَاجِبِ سَوَاءٌ كَانَ تَطَوُّعًا لِلَّهِ أَوْ لآِدَمِيٍّ. بَل تَتَزَاحَمُ الْوَصَايَا فَيُوَزَّعُ عَلَيْهِ وَعَلَى غَيْرِهِ، ثُمَّ يُكَمَّل الْوَاجِبُ مِنْ صُلْبِ الْمَال، إِنْ لَمْ يَفِ الثُّلُثُ، وَبِهَذَا قَال: أَبُو الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ. (2)
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِنْ أَوْصَى بِأَدَاءِ الْوَاجِبِ مِنَ الثُّلُثِ تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ وَصِيَّةٌ غَيْرَ هَذِهِ لَمْ تُفِدِ الْوَصِيَّةُ شَيْئًا وَيُؤَدِّي مِنْ مَالِهِ كُلِّهِ كَمَا لَوْ لَمْ يُوصِ. وَإِنْ أَوْصَى لِجِهَةٍ أُخْرَى قُدِّمَ الْوَاجِبُ، وَإِنْ فَضَل شَيْءٌ مِنَ الثُّلُثِ بَعْدَ الْوَاجِبِ فَهُوَ لِلتَّبَرُّعِ. (3) (ر: الْوَصِيَّةُ) .
7 - وَإِنْ أَوْصَى بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ لِشَخْصٍ، ثُمَّ أَوْصَى بِهِ لآِخَرَ، فَالْمُوصَى بِهِ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُ بِهِ أَوَّلاً وَالْمُوصَى لَهُ بِهِ ثَانِيًا؛ لِتَعَلُّقِ حَقِّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى السَّوَاءِ، فَوَجَبَ أَنْ يَشْتَرِكَا كَمَا لَوْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي الْوَصِيَّةِ.
وَإِنْ أَوْصَى لِشَخْصٍ بِثُلُثِ مَالِهِ ثُمَّ أَوْصَى بِثُلُثِهِ لآِخَرَ فَالثُّلُثُ بَيْنَهُمَا إِنْ لَمْ يُجِزِ الْوَرَثَةُ الثُّلُثَيْنِ، وَإِنْ أَجَازَ الْوَرَثَةُ أَخَذَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثُلُثَهُ؛
__________
(1) ابن عابدين 5 / 423 - 424.
(2) مغني المحتاج 3 / 67، وأسنى المطالب 3 / 59، والمغني 6 / 129.
(3) المغني 6 / 129، 130.(11/236)
لِتَغَايُرِهِمَا. وَكَذَا إِنْ أَوْصَى بِكُل مَالِهِ لِشَخْصٍ ثُمَّ أَوْصَى بِهِ لآِخَرَ فَهُوَ بَيْنَهُمَا لِلتَّزَاحُمِ. (1)
وَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْل مَوْتِ الْمُوصِي فَكُل الْمَال لِلآْخَرِ، وَكَذَا إِنْ تَأَخَّرَ مَوْتُهُمَا عَنْ مَوْتِ الْمُوصِي وَرَدَّ أَحَدُهُمَا الْوَصِيَّةَ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي لأَِنَّهُ اشْتِرَاكُ تَزَاحُمٍ، وَقَدْ زَال بِمَوْتِ الْمُزَاحِمِ وَرَدِّهِ. (2)
هَذَا إِذَا لَمْ يُوجَدْ مَا يَدُل عَلَى رُجُوعِ الْمُوصِي عَنِ الْوَصِيَّةِ، فَإِنْ وُجِدَ مَا يَدُل عَلَى الرُّجُوعِ عَنِ الْوَصِيَّةِ الأُْولَى، كَأَنْ يَقُول: أَوْصَيْتُ لِفُلاَنٍ بِمَا أَوْصَيْتُ بِهِ لِفُلاَنٍ، فَهُوَ رُجُوعٌ عَنِ الْوَصِيَّةِ لِظُهُورِهِ فِيهِ. (3)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (وَصِيَّةٌ) .
خَامِسًا: الْقَتْل بِالزِّحَامِ:
8 - ذَهَبَ الأَْئِمَّةُ الثَّلاَثَةُ: أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَزَاحَمَ قَوْمٌ عَلَى بِئْرٍ، أَوْ بَابِ الْكَعْبَةِ، أَوْ فِي الطَّوَافِ، أَوْ فِي مَضِيقٍ، ثُمَّ تَفَرَّقُوا عَلَى قَتِيلٍ لَمْ يُعْرَفْ قَاتِلُهُ لاَ يَكُونُ ذَلِكَ لَوْثًا، وَهُوَ
__________
(1) مطالب أولي النهى 4 / 460 - 461، وروض الطالب 3 / 64، وحاشية ابن عابدين 5 / 427، وحاشية الدسوقي 4 / 429.
(2) المصادر السابقة.
(3) طالب أولي النهى 4 / 460 - 461، وحاشية الدسوقي 4 / 429، وروض الطالب 4 / 460 - 461، وحاشية ابن عابدين 5 / 475.(11/236)
قَوْل إِسْحَاقَ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي دِيَتِهِ، فَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنَّ دِيَتَهُ فِي بَيْتِ الْمَال (1) ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَال: قُتِل رَجُلٌ فِي زِحَامِ النَّاسِ بِعَرَفَةَ، فَجَاءَ أَهْلُهُ لِعُمَرِ فَقَال: بَيِّنَتُكُمْ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ. فَقَال عَلِيٌّ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ: لاَ يُطَل دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، إِنْ عَلِمْتَ قَاتِلَهُ، وَإِلاَّ فَأَعْطِ دِيَتَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَال.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: دَمُهُ هَدَرٌ؛ لأَِنَّهُ لاَ يُعْلَمُ لَهُ قَاتِلٌ، وَلاَ وُجِدَ لَوْثٌ فَيُحْكَمَ بِالْقَسَامَةِ، لأَِنَّ أَسْبَابَ الْقَسَامَةِ عِنْدَهُمْ خَمْسَةٌ. وَلَيْسَ فِيهَا التَّفَرُّقُ فِي الزِّحَامِ عَنْ قَتِيلٍ. (2)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ لَوْثًا، وَلاَ يُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ. وَقَال الْحَسَنُ وَالزُّهْرِيُّ فِيمَنْ مَاتَ فِي الزِّحَامِ: دِيَتُهُ عَلَى مَنْ حَضَرَ لأَِنَّ قَتْلَهُ حَصَل مِنْهُمْ، وَكَذَا لَوْ تَزَاحَمَ قَوْمٌ لاَ يُتَصَوَّرُ اجْتِمَاعُهُمْ عَلَى الْقَتْل فِي مَضِيقٍ، وَتَفَرَّقُوا عَنْ قَتِيلٍ، فَادَّعَى الْوَلِيُّ الْقَتْل عَلَى عَدَدٍ مِنْهُمْ يُتَصَوَّرُ اجْتِمَاعُهُمْ فَيُقْبَل، وَيُمَكَّنُ مِنَ الْقَسَامَةِ. (3)
__________
(1) المغني 8 / 69، وحاشية ابن عابدين 5 / 406.
(2) حاشية الدسوقي 4 / 287.
(3) روضة الطالبين 10 / 11، 12، والمغني 8 / 69.(11/237)
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
9 - يَذْكُرُ الْفُقَهَاءُ التَّزَاحُمَ فِي صَلاَةِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ: فِي حَال تَعَذُّرِ مُتَابَعَةِ الْمَأْمُومِ لِلإِْمَامِ فِي انْتِقَالاَتِهِ لِلزَّحْمَةِ.
وَفِي بَابِ التَّفْلِيسِ: إِذَا ظَهَرَ دَيْنٌ بَعْدَ حَجْرِ الْمُفْلِسِ لِلْغُرَمَاءِ أَوْ طَرَأَ الْتِزَامٌ مَالِيٌّ جَدِيدٌ.
وَفِي الطَّوَافِ: إِذَا عَسُرَ عَلَيْهِ اسْتِلاَمُ الْحَجَرِ أَوْ تَقْبِيلُهُ.(11/237)
تَزْكِيَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّزْكِيَةُ لُغَةً: مَصْدَرُ زَكَّى. يُقَال: زَكَّى فُلاَنٌ فُلاَنًا: إِذَا نَسَبَهُ إِلَى الزَّكَاءِ، وَهُوَ الصَّلاَحُ. وَزَكَا الرَّجُل يَزْكُو: إِذَا صَلُحَ، فَهُوَ زَكِيٌّ وَالْجَمْعُ أَزْكِيَاءٌ. (1)
قَال الرَّاغِبُ: أَصْل الزَّكَاةِ النُّمُوُّ الْحَاصِل عَنْ بَرَكَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَيُعْتَبَرُ ذَلِكَ بِالأُْمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالأُْخْرَوِيَّةِ. يُقَال: زَكَا الزَّرْعُ يَزْكُو: إِذَا حَصَل مِنْهُ نُمُوٌّ وَبَرَكَةٌ. وَقَال تَعَالَى: {أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا} (2) إِشَارَةٌ إِلَى مَا يَكُونُ حَلاَلاً لِمَا لاَ يُسْتَوْخَمُ عُقْبَاهُ، وَمِنْهُ الزَّكَاةُ لِمَا يُخْرِجُ الإِْنْسَانُ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى الْفُقَرَاءِ، وَتَسْمِيَتُهُ بِذَلِكَ لِمَا يَكُونُ فِيهَا مِنْ رَجَاءِ الْبَرَكَةِ، أَوْ لِتَزْكِيَةِ النَّفْسِ أَيْ تَنْمِيَتِهَا بِالْخَيْرَاتِ وَالْبَرَكَاتِ، أَوْ لَهُمَا جَمِيعًا، فَإِنَّ الْخَيْرَيْنِ مَوْجُودَانِ فِيهَا.
وَبِزَكَاةِ النَّفْسِ وَطَهَارَتِهَا يَصِيرُ الإِْنْسَانُ بِحَيْثُ يَسْتَحِقُّ فِي الدُّنْيَا الأَْوْصَافَ الْمَحْمُودَةَ،
__________
(1) المصباح. مادة: " زكى ".
(2) سورة الكهف / 19.(11/238)
وَفِي الآْخِرَةِ الأَْجْرَ وَالْمَثُوبَةَ، وَهُوَ أَنْ يَتَحَرَّى الإِْنْسَانُ مَا فِيهِ تَطْهِيرُهُ، وَذَلِكَ يُنْسَبُ تَارَةً إِلَى الْعَبْدِ؛ لِكَوْنِهِ مُكْتَسِبًا لِذَلِكَ؛ نَحْوُ {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} (1) وَتَارَةً يُنْسَبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِكَوْنِهِ فَاعِلاً لِذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ نَحْوُ {بَل اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} (2) وَتَارَةً إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِكَوْنِهِ وَاسِطَةً فِي وُصُول ذَلِكَ إِلَيْهِمْ نَحْوُ {تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} (3) وقَوْله تَعَالَى: {يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ} (4) وَتَارَةً إِلَى الْعِبَادَةِ الَّتِي هِيَ آلَةٌ فِي ذَلِكَ نَحْوُ {وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً} (5) وَنَحْوُ {لأَِهَبَ لَكِ غُلاَمًا زَكِيًّا} (6) أَيْ مُزَكًّى بِالْخِلْقَةِ، وَذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الاِجْتِبَاءِ، وَهُوَ أَنْ يَجْعَل بَعْضَ عِبَادِهِ عَالِمًا وَطَاهِرَ الْخَلْقِ لاَ بِالتَّعَلُّمِ وَالْمُمَارَسَةِ، بَل بِتَوْفِيقٍ إِلَهِيٍّ.
وَتَزْكِيَةُ الإِْنْسَانِ نَفْسَهُ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: بِالْفِعْل وَهُوَ مَحْمُودٌ، وَإِلَيْهِ قُصِدَ بِقَوْلِهِ: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} وَقَوْلِهِ {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} . (7)
وَالثَّانِي: بِالْقَوْل كَتَزْكِيَةِ الْعَدْل غَيْرَهُ، وَذَلِكَ
__________
(1) سورة الشمس / 9.
(2) سورة النساء / 49.
(3) سورة التوبة / 103.
(4) سورة التوبة / 151.
(5) سورة مريم / 13.
(6) سورة مريم / 13.
(7) سورة الأعلى / 14.(11/238)
مَذْمُومٌ أَنْ يَفْعَل الإِْنْسَانُ بِنَفْسِهِ، وَقَدْ نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فَقَال: {فَلاَ تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} (1) وَنَهْيُهُ عَنْ ذَلِكَ تَأْدِيبٌ؛ لِقُبْحِ مَدْحِ الإِْنْسَانِ نَفْسَهُ عَقْلاً وَشَرْعًا، وَلِهَذَا قِيل لِحَكِيمٍ: مَا الَّذِي لاَ يَحْسُنُ وَإِنْ كَانَ حَقًّا؟ فَقَال: مَدْحُ الرَّجُل نَفْسَهُ. (2)
وَالْفُقَهَاءُ يُعَبِّرُونَ عَنِ النِّسْبَةِ إِلَى الصَّلاَحِ بِالتَّزْكِيَةِ أَوِ التَّعْدِيل فَهُمَا مُتَرَادِفَانِ. (3)
وَيُعَرِّفُونَ التَّزْكِيَةَ فِي بَابِ الْقَضَاءِ بِأَنَّهَا: تَعْدِيل الشُّهُودِ.
وَتَزْكِيَةُ الرَّجُل مَالَهُ: أَنْ يُخْرِجَ الْقَدْرَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ مِنَ الزَّكَاةِ فِيهِ.
وَالْجَرْحُ ضِدُّ التَّزْكِيَةِ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ: الْقَطْعُ فِي الْجِسْمِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: جَرَحَهُ بِلِسَانِهِ جَرْحًا: إِذَا عَابَهُ وَتَنَقَّصَهُ، وَمِنْهُ: جَرَحْتُ الشَّاهِدَ أَوِ الرَّاوِيَ: إِذَا أَظْهَرْتَ فِيهِ مَا تُرَدُّ بِهِ شَهَادَتُهُ أَوْ رِوَايَتُهُ (4) .
وَقَدْ أَطْلَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَنْ يُبْعَثُ إِلَيْهِ لِلتَّحَرِّي عَنِ الشُّهُودِ (الْمُزَكِّي) وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ يُزَكِّي وَيَجْرَحُ، وَلَكِنْ وُصِفَ بِأَحْسَنِ الْوَصْفَيْنِ.
__________
(1) سورة النجم / 32.
(2) المفردات في غريب القرآن ص 213 ط دار المعرفة ببيروت.
(3) تبصرة الحكام هامش فتح العلي المالك 1 / 256، والبدائع 6 / 270.
(4) معين الحكام 104، 105، والمصباح.(11/239)
حُكْمُ التَّزْكِيَةِ:
2 - ذَهَبَ الإِْمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ: أَنَّهُ يَقْضِي بِظَاهِرِ الْعَدَالَةِ، إِلاَّ إِذَا طَعَنَ الْخَصْمُ فِي عَدَالَةِ مَنْ شَهِدَ، وَاسْتَثْنَى أَبُو حَنِيفَةَ الْحُدُودَ وَالْقِصَاصَ، فَأَوْجَبَ فِيهِمَا التَّزْكِيَةَ وَإِنْ لَمْ يَطْعَنِ الْخَصْمُ.
وَعِنْدَ الإِْمَامِ أَحْمَدَ فِي الرِّوَايَةِ الْمَذْكُورَةِ: يَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الْحَدُّ وَالْمَال.
وَقَال الإِْمَامُ مَالِكٌ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالإِْمَامُ أَحْمَدُ فِي الرِّوَايَةِ الأُْخْرَى عَنْهُ: إِنَّ التَّزْكِيَةَ وَاجِبَةٌ فِي كُل الأُْمُورِ، لَكِنَّ ذَلِكَ مَشْرُوطٌ بِمَا إِذَا لَمْ يَعْرِفِ الْقَاضِي حَال الشُّهُودِ، فَإِنْ عَرَفَ عَدَالَتَهُمْ فَلاَ حَاجَةَ إِلَى التَّزْكِيَةِ. وَإِنْ عَرَفَ أَنَّهُمْ مَجْرُوحُونَ رَدَّ شَهَادَتَهُمْ، وَذَلِكَ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ.
3 - وَاسْتَدَل أَصْحَابُ الْقَوْل الأَْوَّل عَلَى جَوَازِ الْحُكْمِ بِظَاهِرِ الْعَدَالَةِ بِقَوْل عُمَرَ: الْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ. وَبِأَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشَهِدَ بِرُؤْيَةِ الْهِلاَل، فَقَال لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَشْهَدُ أَلاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ؟ فَقَال: نَعَمْ. فَقَال: أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُول اللَّهِ؟ فَقَال: نَعَمْ. فَصَامَ وَأَمَرَ النَّاسَ بِالصِّيَامِ (1) .
__________
(1) حديث: " أن أعرابيا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشهد برؤية الهلال. . . " أخرجه الترمذي (3 / 74 - 75 - ط الحلبي) والنسائي (4 / 132 - ط المكتبة التجارية) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وحكم الترمذي والنسائي عليه بالإرسال.(11/239)
وَلأَِنَّ الْعَدَالَةَ أَمْرٌ خَفِيٌّ سَبَبُهَا الْخَوْفُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَدَلِيل ذَلِكَ الإِْسْلاَمُ، فَإِذَا وُجِدَ فَلْيُكْتَفَ بِهِ، مَا لَمْ يَقُمْ عَلَى خِلاَفِهِ دَلِيلٌ.
وَاسْتُدِل لأَِبِي حَنِيفَةَ فِي اسْتِثْنَاءِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ وَلُزُومِ التَّحَرِّي فِيهَا وَإِنْ لَمْ يَطْعَنِ الْخَصْمُ: بِأَنَّ الْحُدُودَ وَالْقِصَاصَ مِمَّا يُحْتَاطُ فِيهَا وَتَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ بِخِلاَفِ غَيْرِهَا.
وَاسْتَدَل الْقَائِلُونَ بِوُجُوبِ التَّزْكِيَةِ فِي كُل الأُْمُورِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} (1) وَلاَ يُعْلَمُ أَنَّهُ مَرْضِيٌّ حَتَّى نَعْرِفَهُ.
وَبِأَنَّ الْعَدَالَةَ شَرْطٌ، فَوَجَبَ الْعِلْمُ بِهَا كَالإِْسْلاَمِ، كَمَا لَوْ طَعَنَ الْخَصْمُ فِي الشُّهُودِ.
أَمَّا الأَْعْرَابِيُّ الْمُسْلِمُ، فَإِنَّهُ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ ثَبَتَتْ عَدَالَتُهُمْ بِثَنَاءِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ مَنْ تَرَكَ دِينَهُ فِي زَمَنِ رَسُول اللَّهِ إِيثَارًا لِدِينِ الإِْسْلاَمِ وَصُحْبَةِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَبَتَتْ عَدَالَتُهُ. وَلِلأَْثَرِ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أُتِيَ بِشَاهِدَيْنِ، فَقَال لَهُمَا عُمَرُ: لَسْتُ أَعْرِفُكُمَا وَلاَ يَضُرُّكُمَا إِنْ لَمْ أَعْرِفْكُمَا، جِيئَا بِمَنْ يَعْرِفُكُمَا، فَأَتَيَا بِرَجُلٍ، فَقَال لَهُ عُمَرُ: تَعْرِفُهُمَا؟ فَقَال: نَعَمْ. فَقَال عُمَرُ: صَحِبْتُهُمَا فِي السَّفَرِ الَّذِي يَتَبَيَّنُ فِيهِ جَوَاهِرُ النَّاسِ؟ قَال: لاَ
__________
(1) سورة البقرة / 282.(11/240)
قَال: عَامَلْتُهُمَا بِالدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ الَّتِي تُقْطَعُ فِيهَا الرَّحِمُ؟ قَال: لاَ. قَال: كُنْتُ جَارًا لَهُمَا تَعْرِفُ صَبَاحَهُمَا وَمَسَاءَهُمَا؟ قَال: لاَ. قَال: يَا ابْنَ أَخِي لَسْت تَعْرِفُهُمَا. جِيئَا بِمَنْ يَعْرِفُكُمَا.
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَهَذَا بَحْثٌ يَدُل عَلَى أَنَّهُ لاَ يُكْتَفَى بِدُونِهِ. (1)
4 - هَذَا، وَقَدْ قَال عُلَمَاءُ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّ الْخِلاَفَ بَيْنَ الإِْمَامِ وَصَاحِبَيْهِ لَيْسَ اخْتِلاَفًا حَقِيقِيًّا، بَل هُوَ اخْتِلاَفُ عَصْرٍ وَزَمَانٍ، فَإِنَّ النَّاسَ فِي عَهْدِهِ كَانُوا أَهْل خَيْرٍ وَصَلاَحٍ؛ لأَِنَّهُ زَمَنُ التَّابِعِينَ، وَقَدْ شَهِدَ لَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْخَيْرِيَّةِ بِقَوْلِهِ: خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَجِيءُ مِنْ بَعْدِهِمْ قَوْمٌ تَسْبِقُ شَهَادَتُهُمْ أَيْمَانَهُمْ، وَأَيْمَانُهُمْ شَهَادَتَهُمْ (2) فَكَانَ الْغَالِبُ فِي أَهْل زَمَانِهِ الصَّلاَحَ وَالسَّدَادَ، فَوَقَعَتِ الْغُنْيَةُ عَنِ السُّؤَال عَنْ حَالِهِمْ فِي السِّرِّ، ثُمَّ تَغَيَّرَ الزَّمَانُ وَظَهَرَ الْفَسَادُ فِي قَرْنِهِمَا، فَوَقَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى السُّؤَال عَنِ الْعَدَالَةِ. وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ حَقَّقَ الاِخْتِلاَفَ. (3)
__________
(1) البدائع 6 / 270، وابن عابدين 4 / 57، وتبصرة الحكام 1 / 256، وقليوبي وعميرة 4 / 306، والمغني 9 / 63 - 64.
(2) حديث: " خير القرون قرني. . . " أخرجه البخاري (الفتح 11 / 244 - ط السلفية) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
(3) البدائع 6 / 270، والمغني 9 / 64، ومعين الحكام ص 103.(11/240)
مَتَى تَسْقُطُ التَّزْكِيَةُ:
5 - قَال إِسْمَاعِيل بْنُ حَمَّادٍ نَاقِلاً عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَرْبَعَةُ شُهُودٍ لاَ يُسْأَل عَنْ عَدَالَتِهِمْ: شَاهِدَا رَدِّ الظِّنَّةِ، وَشَاهِدَا تَعْدِيل الْعَلاَنِيَةِ، وَشَاهِدَا الْغُرْبَةِ، وَشَاهِدَا الأَْشْخَاصِ. (1)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ الشَّاهِدَ الْمُبْرِزَ فِي الْعَدَالَةِ - أَيِ الْفَائِقَ أَقْرَانَهُ فِيهَا - لاَ يُعْذَرُ فِيهِ لِغَيْرِ الْعَدَاوَةِ، وَيُعْذَرُ فِيهِ فِيهَا. وَمِثْلُهَا الْقَرَابَةُ.
وَمِنْهَا أَنَّ الْمَحْكُومَ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ يُخْشَى مِنْهُ عَلَى مَنْ شَهِدَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لاَ يُعْذَرُ إِلَيْهِ فِيمَنْ شَهِدَ عَلَيْهِ. (2)
وَنَقَل صَاحِبُ الْمُغْنِي عَنْ مَالِكٍ: أَنَّهُ يُقْبَل شَهَادَةُ الْمُتَوَسِّمِينَ، وَذَلِكَ إِذَا حَضَرَ مُسَافِرَانِ، فَشَهِدَا عِنْدَ حَاكِمٍ لاَ يَعْرِفُهُمَا، يُقْبَل شَهَادَتُهُمَا إِذَا رَأَى فِيهِمَا سِيمَا الْخَيْرِ، لأَِنَّهُ لاَ سَبِيل إِلَى مَعْرِفَةِ عَدَالَتِهِمَا، فَفِي التَّوَقُّفِ عَنْ قَبُولِهَا تَضْيِيعُ الْحُقُوقِ، فَوَجَبَ الرُّجُوعُ فِيهِمَا إِلَى السِّيمَا الْجَمِيلَةِ. (3)
وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الشُّهُودَ الْمَذْكُورِينَ لاَ يُسَمُّونَ لِمَنْ شَهِدُوا عَلَيْهِ لِيُزَكِّيَهُمْ أَوْ يَطْعَنَ فِيهِمْ، بَل يُحْكَمُ بِشَهَادَتِهِمْ مِنْ غَيْرِ تَزْكِيَةٍ؛ لِلأَْسْبَابِ الَّتِي أَوْرَدُوهَا.
__________
(1) معين الحكام ص 106.
(2) الخرشي 7 / 159.
(3) المغني 9 / 70.(11/241)
أَقْسَامُ التَّزْكِيَةِ:
6 - التَّزْكِيَةُ نَوْعَانِ: تَزْكِيَةُ السِّرِّ، وَتَزْكِيَةُ الْعَلاَنِيَةِ.
أَمَّا تَزْكِيَةُ السِّرِّ، فَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَخْتَارَ لِلْمَسْأَلَةِ عَنِ الشُّهُودِ مَنْ هُوَ أَوْثَقُ النَّاسِ وَأَوْرَعُهُمْ دِيَانَةً وَأَعْظَمُهُمْ دِرَايَةً وَأَكْثَرُهُمْ خِبْرَةً وَأَعْلَمُهُمْ بِالتَّمْيِيزِ فِطْنَةً، فَيُوَلِّيهِ الْبَحْثَ عَنْ أَحْوَال الشُّهُودِ؛ لأَِنَّ الْقَاضِيَ مَأْمُورٌ بِالتَّفَحُّصِ عَنِ الْعَدَالَةِ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْمُبَالَغَةُ فِي الاِحْتِيَاطِ فِيهِ. وَبَعْدَ أَنْ يَخْتَارَ، يَكْتُبَ فِي رُقْعَةٍ أَسْمَاءَ الشُّهُودِ جُمْلَةً بِأَنْسَابِهِمْ وَقَبَائِلِهِمْ وَمَحَالِّهِمْ وَمُصَلاَّهُمْ، وَعَلَى الْجُمْلَةِ كُل مَا يُمَيِّزُهُمْ عَنْ غَيْرِهِمْ تَمْيِيزًا لاَ تَتَمَكَّنُ مَعَهُ الشُّبْهَةُ، فَقَدْ يَتَّفِقُ أَنْ تَتَّحِدَ الأَْسْمَاءُ وَتَتَّفِقَ الأَْوْصَافُ وَغَيْرُ ذَلِكَ.
فَإِذَا كَتَبَ الْقَاضِي دَفَعَ الْمَكْتُوبَ إِلَى مَنْ يَسْتَأْمِنُهُ عَلَى ذَلِكَ، وَأَخْفَاهُ عَنْ كُل مَنْ سِوَاهُ؛ لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَحَدٌ فَيَخْدَعَ الأَْمِينَ، وَعَلَى الْمُرْسَل أَمِينِ الْقَاضِي أَنْ يَتَعَرَّفَ أَحْوَال الشُّهُودِ مِمَّنْ يَعْرِفُ حَالَهُمْ، فَيَسْأَل عَنْهُمْ أَهْل الثِّقَةِ مِنْ جِيرَانِهِمْ وَأَهْل مَحِلاَّتِهِمْ، وَأَنْ يَسْأَل أَهْل أَسْوَاقِهِمْ.
أَمَّا تَزْكِيَةُ الْعَلاَنِيَةِ، فَتَكُونُ بَعْدَ تَزْكِيَةِ السِّرِّ. وَكَيْفِيَّتُهَا: أَنْ يُحْضِرَ الْقَاضِي الْمُزَكِّيَ بَعْدَمَا زَكَّى؛ لِيُزَكِّيَ الشُّهُودَ أَمَامَهُ. وَهَل يَلْزَمُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ التَّزْكِيَةِ فِي السِّرِّ وَالتَّزْكِيَةِ فِي الْعَلاَنِيَةِ؟ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ.(11/241)
قَال الْحَنَفِيَّةُ: الْيَوْمَ وَقَعَ الاِكْتِفَاءُ بِتَزْكِيَةِ السِّرِّ؛ لِمَا فِي تَزْكِيَةِ الْعَلاَنِيَةِ مِنْ بَلاَءٍ وَفِتْنَةٍ. (1)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُنْدَبُ لِلْقَاضِي تَزْكِيَةُ السِّرِّ مَعَ تَزْكِيَةِ الْعَلاَنِيَةِ. فَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى تَزْكِيَةِ السِّرِّ أَجْزَأَهُ قَطْعًا كَالْعَلاَنِيَةِ عَلَى الرَّاجِحِ. (2)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: بَعْدَ تَزْكِيَةِ السِّرِّ يُشَافِهُ الْمَبْعُوثُ الْحَاكِمَ بِمَا سَمِعَهُ مِنَ الْمَبْعُوثِ إِلَيْهِ.
وَقِيل: يُشَافِهُ الْمَبْعُوثُ إِلَيْهِ بِمَا يَعْلَمُهُ الْمَبْعُوثُ مِنْ جِهَةِ الْحَاكِمِ. وَقِيل: تَكْفِي كِتَابَتُهُ. (3)
وَالظَّاهِرُ مِنْ كَلاَمِ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يُكْتَفَى بِتَزْكِيَةِ السِّرِّ. (4)
7 - ثُمَّ هَل الْمُعْتَبَرُ قَوْل الْمُرْسَل إِلَيْهِ (الْمُزَكِّي) أَوْ قَوْل الْمُرْسَلِينَ، وَيُسَمُّونَ أَصْحَابَ الْمَسَائِل؟
قَال بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: الْمُعَوَّل عَلَيْهِ شَهَادَةُ الْمُزَكِّي. وَنَقَل الشَّيْخَانِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُمَا نَقَلاَ عَنْ جَمْعٍ مِنَ الأَْصْحَابِ أَنَّ الْمُعَوَّل عَلَى قَوْل أَصْحَابِ الْمَسَائِل، خِلاَفًا لأَِبِي إِسْحَاقَ، وَأَنَّ ابْنَ الصَّبَّاغِ اعْتَذَرَ عَنْ قَبُولِهَا، وَهِيَ شَهَادَةٌ عَلَى شَهَادَةٍ - وَالأَْصْل حَاضِرٌ - لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ. (5)
__________
(1) معين الحكام ص 107.
(2) الشرح الكبير 4 / 170 - 171.
(3) قليوبي وعميرة 4 / 307.
(4) المغني 9 / 15.
(5) قليوبي وعميرة 4 / 306.(11/242)
التَّعَارُضُ بَيْنَ التَّزْكِيَةِ وَالْجَرْحِ:
اخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ فِي التَّعَارُضِ بَيْنَ التَّزْكِيَةِ وَالْجَرْحِ، فَقَدْ نَقَل مُعِينُ الْحُكَّامِ عَنِ الْمَبْسُوطِ أَنَّهُ لَوْ عَدَّلَهُ وَاحِدٌ، وَجَرَّحَهُ آخَرُ، أَعَادَ الْمَسْأَلَةَ. وَهَذَا قَوْل مُحَمَّدٍ. لأَِنَّ الْعَدَالَةَ وَالْجَرْحَ لاَ يَثْبُتُ عِنْدَهُ بِقَوْل الْوَاحِدِ فَصَارَا مُتَسَاوِيَيْنِ.
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ: الْجَرْحُ أَوْلَى، لأَِنَّ الْجَرْحَ وَالتَّعْدِيل يَثْبُتُ بِقَوْل الْوَاحِدِ عِنْدَهُمَا، وَتَرَجَّحَ الْجَرْحُ عَلَى التَّعْدِيل؛ لأَِنَّ الْجَارِحَ فِي الْجَرْحِ اعْتَمَدَ عَلَى الدَّلِيل، وَهُوَ الْعِيَانُ وَالْمُشَاهَدَةُ، فَإِنَّ سَبَبَ الْجَرْحِ ارْتِكَابُ الْكَبِيرَةِ.
وَلَوْ جَرَّحَهُ وَاحِدٌ وَعَدَّلَهُ اثْنَانِ، فَالتَّعْدِيل أَوْلَى. وَلَوْ عَدَّلَهُ جَمَاعَةٌ وَجَرَّحَهُ اثْنَانِ فَالْجَرْحُ أَوْلَى؛ لأَِنَّهُ لاَ يَثْبُتُ التَّرْجِيحُ بِزِيَادَةِ الْعَدَدِ عَلَى الاِثْنَيْنِ. (1)
8 - وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لَوْ عَدَّل شَاهِدَانِ رَجُلاً وَجَرَّحَهُ آخَرَانِ، فَفِي ذَلِكَ قَوْلاَنِ.
قِيل: يُقْضَى بِأَعْدَلِهِمَا؛ لاِسْتِحَالَةِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا.
وَقِيل: يُقْضَى بِشُهُودِ الْجَرْحِ، لأَِنَّهُمْ زَادُوا عَلَى شُهُودِ التَّعْدِيل، إِذِ الْجَرْحُ مِمَّا يَبْطُنُ فَلاَ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ كُل النَّاسِ، بِخِلاَفِ الْعَدَالَةِ. وَلِلَّخْمِيِّ تَفْصِيلٌ، قَال:
__________
(1) معين الحكام / 107.(11/242)
إِنْ كَانَ اخْتِلاَفُ الْبَيِّنَتَيْنِ فِي فِعْل شَيْءٍ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، كَدَعْوَى إِحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ أَنَّهُ فَعَل كَذَا فِي وَقْتِ كَذَا، وَقَالَتِ الْبَيِّنَةُ الأُْخْرَى: لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يُقْضَى بِأَعْدَلِهِمَا. وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي مَجْلِسَيْنِ مُتَقَارِبَيْنِ قُضِيَ بِشَهَادَةِ الْجَرْحِ؛ لأَِنَّهَا زَادَتْ عِلْمًا فِي الْبَاطِنِ. وَإِنْ تَبَاعَدَ مَا بَيْنَ الْمَجْلِسَيْنِ قُضِيَ بِآخِرِهِمَا تَارِيخًا، وَيُحْمَل عَلَى أَنَّهُ كَانَ عَدْلاً فَفَسَقَ، أَوْ كَانَ فَاسِقًا فَتَزَكَّى، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ فِي وَقْتِ تَقْيِيدِ الْجَرْحِ ظَاهِرَ الْعَدَالَةِ فَبَيِّنَةُ الْجَرْحِ مُقَدَّمَةٌ؛ لأَِنَّهَا زَادَتْ. (1)
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ يُقَدَّمُ الْجَرْحُ عَلَى التَّعْدِيل لِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ الْعِلْمِ.
فَإِنْ قَال الْمُعَدِّل: عَرَفْتُ سَبَبَ الْجَرْحِ وَتَابَ مِنْهُ وَأَصْلَحَ، قُدِّمَ قَوْلُهُ عَلَى قَوْل الْجَارِحِ. (2)
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ قَال فِي الْمُغْنِي: فَإِذَا رَجَعَ أَصْحَابُ مَسْأَلَةٍ فَأَخْبَرَ اثْنَانِ بِالْعَدَالَةِ، قَبِل الْقَاضِي شَهَادَتَهُ. وَإِنْ أَخْبَرَا بِالْجَرْحِ رَدَّ شَهَادَتَهُ وَإِنْ أَخْبَرَ أَحَدُهُمَا بِالْعَدَالَةِ وَالآْخَرُ بِالْجَرْحِ بَعَثَ آخَرَيْنِ، فَإِنْ عَادَا فَأَخْبَرَا بِالتَّعْدِيل تَمَّتْ بَيِّنَةُ التَّعْدِيل، وَسَقَطَ الْجَرْحُ لأَِنَّ بَيِّنَتَهُ لَمْ تَتِمَّ، وَإِنْ أَخْبَرَا بِالْجَرْحِ ثَبَتَ وَرَدَّ الشَّهَادَةَ. وَإِنْ أَخْبَرَ أَحَدُهُمَا بِالْجَرْحِ وَالآْخَرُ بِالتَّعْدِيل تَمَّتِ الْبَيِّنَتَانِ وَيُقَدَّمُ الْجَرْحُ. (3)
__________
(1) فتح العلي المالك 1 / 259.
(2) قليوبي وعميرة 4 / 107.
(3) المغني 9 / 65، 66 ط الرياض.(11/243)
وَقْتُ التَّزْكِيَةِ:
9 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ التَّزْكِيَةَ تَكُونُ بَعْدَ الشَّهَادَةِ لاَ قَبْلَهَا. (1)
عَدَدُ مَنْ يُقْبَل فِي التَّزْكِيَةِ:
10 - تَقَدَّمَ أَنَّ التَّزْكِيَةَ نَوْعَانِ: تَزْكِيَةُ السِّرِّ، وَتَزْكِيَةُ الْعَلاَنِيَةِ.
فَبِالنِّسْبَةِ لِتَزْكِيَةِ السِّرِّ، قَال أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمَالِكٌ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: إِنَّ الْقَاضِيَ يَجْتَزِئُ بِوَاحِدٍ فِي تَزْكِيَةِ السِّرِّ؛ لأَِنَّهَا لَيْسَتْ شَهَادَةً بَل هِيَ إِخْبَارٌ.
وَالْقَوْل الآْخَرُ لِمَالِكٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ لاَ بُدَّ مِنَ اثْنَيْنِ.
أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِتَزْكِيَةِ الْعَلاَنِيَةِ، فَالأَْئِمَّةُ الثَّلاَثَةُ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّهُ لاَ يُقْبَل فِيهَا إِلاَّ اثْنَانِ؛ لأَِنَّهَا شَهَادَةٌ.
وَقَال ابْنُ كِنَانَةَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: لاَ بُدَّ مِنْ ثَلاَثَةٍ. وَعَنِ ابْنِ الْمَاجِشُونِ: أَنَّ أَقَل مَا يُزَكِّي الرَّجُل أَرْبَعَةُ شُهُودٍ. وَقَال ابْنُ حَبِيبٍ فِي الْوَاضِحَةِ: وَالتَّزْكِيَةُ تَخْتَلِفُ، فَتَكُونُ بِالْوَاحِدِ وَالاِثْنَيْنِ وَالْجَمَاعَةِ، بِقَدْرِ مَا يَظْهَرُ لِلْحَاكِمِ وَيَتَأَكَّدُ عِنْدَهُ.
قَال الْمُتَيْطِيُّ: وَمَا كَثُرَ مِنَ الشُّهُودِ فَهُوَ أَحْسَنُ، إِلاَّ أَنْ تَكُونَ التَّزْكِيَةُ فِي شَاهِدٍ شَهِدَ
__________
(1) ابن عابدين 4 / 573، وتبصرة الحكام 1 / 257، وقليوبي وعميرة 4 / 306، والمغني 9 / 63.(11/243)
بِزِنًا، فَإِنَّ مُطَرِّفًا رَوَى عَنْ مَالِكٍ: أَنَّهُ لاَ يُزَكِّيهِ إِلاَّ أَرْبَعَةٌ. (1)
مَنْ تُقْبَل تَزْكِيَتُهُ:
11 - فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ - عَدَا الْحَنَفِيَّةِ - قَالُوا: يُشْتَرَطُ فِي شَاهِدِ التَّزْكِيَةِ أَنْ يَكُونَ مُبْرِزًا نَاقِدًا فَطِنًا، لاَ يُخْدَعُ فِي عَقْلِهِ، وَلاَ تَخْفَى عَلَيْهِ شُرُوطُ التَّعْدِيل. وَلاَ تُقْبَل التَّزْكِيَةُ مِنَ الأَْبْلَهِ وَالْجَاهِل بِشُرُوطِ الْعَدَالَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ عَدْلاً مَقْبُولاً فِي غَيْرِ ذَلِكَ. وَلاَ يُقْبَل قَوْل مَنْ يَرَى تَعْدِيل كُل مُسْلِمٍ.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ: تَعْدِيل السِّرِّ يُقْبَل فِيهِ تَعْدِيل الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ وَكُل ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ لِرَحِمِهِ؛ لأَِنَّ تَعْدِيل السِّرِّ لَيْسَ بِشَهَادَةٍ.
وَقَال مُحَمَّدٌ: هُوَ شَهَادَةٌ فَلاَ بُدَّ مِنْ شَهَادَةِ اثْنَيْنِ.
12 - وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يُقْبَل تَعْدِيل الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا وَغَيْرِهِ، إِذَا كَانَتِ امْرَأَةً بَرْزَةً تُخَالِطُ النَّاسَ وَتُعَامِلُهُمْ؛ لأَِنَّ لَهَا خِبْرَةً بِأُمُورِهِمْ فَيُفِيدُ السُّؤَال. قَالُوا: وَتَجُوزُ تَزْكِيَةُ السِّرِّ مِنَ الأَْعْمَى وَالصَّبِيِّ وَالْمَحْدُودِ فِي قَذْفٍ. وَهَذَا خِلاَفًا لِمُحَمَّدٍ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ تُقْبَل تَزْكِيَةُ النِّسَاءِ، لاَ فِي حَقِّ الرِّجَال وَلاَ فِي حَقِّ النِّسَاءِ.
__________
(1) معين الحكام 104، وتبصرة الحكام 1 / 256، وقليوبي وعميرة 4 / 306، والمغني 9 / 67 وما بعدها.(11/244)
قَال ابْنُ رُشْدٍ: إِنَّ التَّزْكِيَةَ يُشْتَرَطُ فِيهَا التَّبْرِيزُ فِي الْعَدَالَةِ، وَهِيَ صِفَةٌ تَخْتَصُّ بِالرِّجَال.
قَال: وَقَدْ قِيل: إِنَّهُنَّ يُزَكِّينَ الرِّجَال إِذَا شَهِدُوا فِيمَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُنَّ فِيهِ، وَهُوَ قَوْل ابْنِ نَافِعٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ فِي الْمَبْسُوطَةِ. وَالْقِيَاسُ جَوَازُ تَزْكِيَتِهِنَّ لِلنِّسَاءِ. (1)
تَزْكِيَةُ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ لِلشَّاهِدِ
13 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا عَدَّل الْمُدَّعَى عَلَيْهِ شُهُودَ الْمُدَّعِي، بِأَنْ قَال: صَدَقُوا فِي شَهَادَتِهِمْ، أَوْ قَال: هُمْ عُدُولٌ فِي شَهَادَتِهِمْ، يُقْضَى عَلَيْهِ بِالْمَال بِإِقْرَارِهِ لاَ بِالشَّهَادَةِ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ إِقْرَارٌ مِنْهُ بِالْمَال.
وَإِنْ قَال: هُمْ عُدُولٌ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ، ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ هَذَا التَّعْدِيل؛ لأَِنَّ مِنْ زَعْمِ الْمُدَّعِي وَشُهُودِهِ أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي الْجُحُودِ ظَالِمٌ وَكَاذِبٌ، فَلاَ تَصِحُّ تَزْكِيَتُهُ.
وَقَال فِي كِتَابِ التَّزْكِيَةِ: وَيَجُوزُ تَعْدِيل الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِهِ؛ لأَِنَّ تَعْدِيل الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ تَعْدِيل الْمُزَكِّي، وَإِقْرَارُهُ بِكَوْنِ الشَّاهِدِ عَدْلاً لاَ يَكُونُ إِقْرَارًا بِوُجُوبِ الْحَقِّ عَلَى نَفْسِهِ لاَ مَحَالَةَ. (2)
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: لَوْ أَقَرَّ الْخَصْمُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ
__________
(1) تبصرة الحكام 1 / 255، ومعين الحكام 106، وقليوبي وعميرة 4 / 306، والمغني 9 / 63 - 64.
(2) معين الحكام ص 106 - 107.(11/244)
بِالْعَدَالَةِ لِمَنْ شَهِدَ عَلَيْهِ يَحْكُمُ الْقَاضِي بِهَذَا الإِْقْرَارِ، وَلَوْ عَلِمَ خِلاَفَ ذَلِكَ؛ لأَِنَّ إِقْرَارَهُ بِعَدَالَتِهِ كَإِقْرَارِهِ بِالْحَقِّ، حَتَّى لَوْ شَهِدَتْ بَيِّنَةٌ بِخِلاَفِ عَدَالَةِ الشَّاهِدِ. (1)
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: فَإِذَا شَهِدَ عِنْدَ الْقَاضِي مَجْهُول الْحَال، فَقَال الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ: هُوَ عَدْلٌ، فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: فِيهِ قَوْلاَنِ، وَهُمَا وَجْهَانِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
أَوَّلاً - لاَ يَكْفِي فِي الأَْصَحِّ فِي التَّعْدِيل قَوْل الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: هُوَ عَدْلٌ، وَقَدْ غَلِطَ فِي شَهَادَتِهِ عَلَيَّ.
وَقِيل: يَكْفِي فِي حَقِّهِ؛ لأَِنَّهُ اعْتَرَفَ بِمَا لَوْ ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ يُقْضَى عَلَيْهِ. (2)
وَالْقَوْلاَنِ هُمَا الْوَجْهَانِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
الأَْوَّل: أَنَّهُ يَلْزَمُ الْحَاكِمَ الْحُكْمُ بِشَهَادَتِهِ؛ لأَِنَّ الْبَحْثَ عَنْ عَدَالَتِهِ لِحَقِّ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، وَقَدِ اعْتَرَفَ بِهَا، وَلأَِنَّهُ إِذَا أَقَرَّ بِعَدَالَتِهِ فَقَدْ أَقَرَّ بِمَا يُوجِبُ الْحُكْمَ لِخَصْمِهِ عَلَيْهِ، فَيُؤْخَذُ بِإِقْرَارِهِ كَسَائِرِ أَقَارِيرِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الْحُكْمُ بِشَهَادَتِهِ؛ لأَِنَّ فِي الْحُكْمِ بِهَا تَعْدِيلاً لَهُ، فَلاَ يَثْبُتُ بِقَوْلٍ وَاحِدٍ؛ وَلأَِنَّ اعْتِبَارَ الْعَدَالَةِ فِي الشَّاهِدِ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، وَلِهَذَا لَوْ رَضِيَ الْخَصْمُ أَنْ يُحْكَمَ عَلَيْهِ
__________
(1) الشرح الكبير 4 / 159.
(2) قليوبي وعميرة 4 / 307.(11/245)
بِقَوْل فَاسِقٍ لَمْ يَجُزِ الْحُكْمُ بِهِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَخْلُو إِمَّا أَنْ يُحْكَمَ عَلَيْهِ مَعَ تَعْدِيلِهِ أَوْ مَعَ انْتِفَائِهِ: لاَ يَجُوزُ أَنْ يُقَال مَعَ تَعْدِيلِهِ؛ لأَِنَّ التَّعْدِيل لاَ يَثْبُتُ بِقَوْل الْوَاحِدِ. وَلاَ يَجُوزُ مَعَ انْتِفَاءِ تَعْدِيلِهِ؛ لأَِنَّ الْحُكْمَ بِشَهَادَةِ غَيْرِ الْعَدْل غَيْرُ جَائِزٍ، بِدَلِيل شَهَادَةِ مَنْ ظَهَرَ فِسْقُهُ. فَإِنْ قُلْنَا بِالأَْوَّل فَلاَ يَثْبُتُ تَعْدِيلُهُ فِي حَقِّ غَيْرِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّهُ لَمْ تُوجَدْ بَيِّنَةُ التَّعْدِيل، وَإِنَّمَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ لإِِقْرَارِهِ بِوُجُودِ شُرُوطِ الْحُكْمِ، وَإِقْرَارُهُ يَثْبُتُ فِي حَقِّهِ دُونَ غَيْرِهِ كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِحَقٍّ عَلَيْهِ وَعَلَى غَيْرِهِ ثَبَتَ فِي حَقِّهِ دُونَ غَيْرِهِ. (1)
تَجْدِيدُ التَّزْكِيَةِ:
14 - قَال الإِْمَامُ أَحْمَدُ: يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَسْأَل عَنْ شُهُودِهِ كُل قَلِيلٍ؛ لأَِنَّ الرَّجُل يَنْتَقِل مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ. قَال ابْنُ قُدَامَةَ: هَل هَذَا مُسْتَحَبٌّ أَوْ وَاجِبٌ؟ فِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ؛ لأَِنَّ الأَْصْل بَقَاءُ مَا كَانَ، فَلاَ يَزُول حَتَّى يَثْبُتَ الْجَرْحُ.
وَالثَّانِي: يَجِبُ الْبَحْثُ كُلَّمَا مَضَتْ مُدَّةٌ يَتَغَيَّرُ الْحَال فِيهَا؛ لأَِنَّ الْعَيْبَ يَحْدُثُ، وَذَلِكَ عَلَى مَا يَرَاهُ الْحَاكِمُ.
وَلأَِصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِيهِ وَجْهَانِ مِثْل هَذَيْنِ. (2)
__________
(1) المغني 9 / 66 - 67.
(2) المغني 9 / 71.(11/245)
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ: أَنَّهُ مَتَى ثَبَتَتِ الْعَدَالَةُ عِنْدَ الْقَاضِي، ثُمَّ شَهِدَ الشُّهُودُ فِي حَادِثَةٍ أُخْرَى، فَلاَ يَشْتَغِل بِتَعْدِيلِهِمْ إِنْ كَانَ الْعَهْدُ قَرِيبًا، وَإِلاَّ سَأَل عَنْهُمْ.
وَفِي الْحَدِّ الْفَاصِل بَيْنَهُمَا قَوْلاَنِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَرِيبَ مُقَدَّرٌ بِسِتِّهِ أَشْهُرٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مُفَوَّضٌ إِلَى رَأْيِ الْقَاضِي. (1)
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّهُ لَوْ شَهِدَ الْمُزَكِّي ثَانِيًا: قَبْل عَامٍ مِنْ تَارِيخِ شَهَادَتِهِ السَّابِقَةِ، وَجَهِل، وَلَمْ يَكْثُرْ مُعَدِّلُوهُ، وَوُجِدَ مَنْ يُعَدِّلُهُ عِنْدَ شَهَادَتِهِ ثَانِيًا، فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الأَْوَّل: مَا قَالَهُ أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لاَ يَحْتَاجُ إِلَى تَزْكِيَةٍ.
وَالْقَوْل الثَّانِي لِسَحْنُونَ: أَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى تَزْكِيَةٍ.
فَإِنْ فُقِدَ قَيْدٌ مِنَ الثَّلاَثَةِ الأَْخِيرَةِ: بِأَنْ لَمْ يُجْهَل حَالُهُ، أَوْ كَثُرَ مُعَدِّلُوهُ، أَوْ لَمْ يُوجَدْ مَنْ يُعَدِّلُهُ ثَانِيًا لَمْ يَحْتَجْ إِلَى تَزْكِيَةٍ أُخْرَى اكْتِفَاءً بِالتَّزْكِيَةِ السَّابِقَةِ اتِّفَاقًا بَيْنَ الْمَالِكِيَّةِ. أَمَّا لَوْ فُقِدَ الْقَيْدُ الأَْوَّل، كَمَا لَوْ شَهِدَ مَجْهُول الْحَال بَعْدَ تَمَامِ سَنَةٍ، وَلَمْ يَكُنْ زَكَّاهُ قَبْلَهُ كَثِيرُونَ احْتَاجَ لإِِعَادَةِ التَّزْكِيَةِ اتِّفَاقًا. (2)
__________
(1) معين الحكام ص 106، وشرح أدب القاضي للصدر الشهيد 3 / 42 بغداد نشر وزارة الأوقاف.
(2) حاشية الدسوقي 4 / 171.(11/246)
بَيَانُ سَبَبِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيل:
15 - قَال أَبُو حَنِيفَةَ وَالْمَالِكِيَّةُ: يُقْبَل الْجَرْحُ الْمُطْلَقُ، وَهُوَ: أَنْ يَشْهَدَ أَنَّهُ فَاسِقٌ، أَوْ أَنَّهُ لَيْسَ بِعَدْلٍ. وَعَنْ أَحْمَدَ مِثْلُهُ؛ لأَِنَّ التَّعْدِيل يُسْمَعُ مُطْلَقًا فَكَذَلِكَ الْجَرْحُ؛ لأَِنَّ التَّصْرِيحَ بِالسَّبَبِ يَجْعَل الْمُجَرَّحَ فَاسِقًا، وَيُوجِبُ عَلَيْهِ الْحَدَّ فِي بَعْضِ الْحَالاَتِ. وَهُوَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ بِالزِّنَى، فَيُفْضِي الْجَرْحُ إِلَى جَرْحِ الْجَارِحِ، وَتَبْطُل شَهَادَتُهُ، وَلاَ يَتَجَرَّحُ بِهَا الْمَجْرُوحُ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يَجِبُ ذِكْرُ سَبَبِ الْجَرْحِ لِلاِخْتِلاَفِ فِيهِ، بِخِلاَفِ سَبَبِ التَّعْدِيل. وَاسْتَدَل مَنْ قَالُوا بِاشْتِرَاطِ بَيَانِ سَبَبِ الْجَرْحِ بِأَنَّ النَّاسَ يَخْتَلِفُونَ فِي أَسْبَابِ الْجَرْحِ، كَاخْتِلاَفِهِمْ فِي شَارِبِ النَّبِيذِ، فَوَجَبَ أَلاَّ يُقْبَل مُجَرَّدُ الْجَرْحِ؛ لِئَلاَّ يُجَرِّحَهُ بِمَا لاَ يَرَاهُ الْقَاضِي جَرْحًا؛ وَلأَِنَّ الْجَرْحَ يَنْقُل عَنِ الأَْصْل، فَإِنَّ الأَْصْل فِي الْمُسْلِمِينَ الْعَدَالَةُ وَالْجَرْحُ يَنْقُل عَنْهَا، فَلاَ بُدَّ أَنْ يَعْرِفَ النَّاقِل؛ لِئَلاَّ يَعْتَقِدَ نَقْلَهُ عَنْ أَصْل الْعَدَالَةِ بِمَا لاَ يَرَاهُ الْحَاكِمُ نَاقِلاً. (1)
الْفَرْقُ بَيْنَ شُهُودِ الدَّعْوَى وَشُهُودِ التَّزْكِيَةِ:
16 - يَخْتَلِفُ شُهُودُ التَّزْكِيَةِ عَنْ شُهُودِ الدَّعْوَى فِي أُمُورٍ، وَيَتَّفِقَانِ فِي أُمُورٍ:
فَيَتَّفِقَانِ فِي الْجُمْلَةِ فِي اشْتِرَاطِ الْعَقْل الْكَامِل
__________
(1) معين الحكام ص 105، والمغني 9 / 68 - 69، وتبصرة الحكام 1 / 458، وقليوبي وعميرة 4 / 307.(11/246)
وَالضَّبْطِ وَالْوِلاَيَةِ وَالْعَدَالَةِ وَالْبَصَرِ وَالنُّطْقِ، وَأَلاَّ يَكُونَ الشَّاهِدُ مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ، وَعَدَمِ الْقَرَابَةِ الْمَانِعَةِ مِنْ قَبُول الشَّهَادَةِ، وَأَلاَّ تَجُرَّ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّاهِدِ نَفْعًا. وَهَذِهِ الشَّرَائِطُ هِيَ فِي الْجُمْلَةِ، إِذْ فِي كُل مَذْهَبٍ تَفْصِيلٌ. وَهَذَا فِي تَزْكِيَةِ الْعَلاَنِيَةِ.
أَمَّا فِي تَزْكِيَةِ السِّرِّ، فَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلاَمُ عَمَّنْ تُقْبَل شَهَادَتُهُمْ فِيهَا، وَمِنْ ذَلِكَ يُعْلَمُ الْفَرْقُ بَيْنَ شُهُودِ تَزْكِيَةِ السِّرِّ وَالشَّهَادَةِ أَمَامَ الْقَاضِي.
وَيَخْتَلِفَانِ فِي أَنَّ شَاهِدَ التَّزْكِيَةِ فِي الْعَلاَنِيَةِ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ: مُبْرَزًّا فِي الْعَدَالَةِ فَطِنًا حَذِرًا لاَ يُخْدَعُ وَلاَ يُسْتَغْفَل.
قَال مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي النَّوَادِرِ: كَمْ مِنْ رَجُلٍ أَقْبَل شَهَادَتَهُ وَلاَ أَقْبَل تَعْدِيلَهُ؛ لأَِنَّهُ يُحْسِنُ أَنْ يُؤَدِّيَ مَا سَمِعَ وَلاَ يُحْسِنُ التَّعْدِيل. (1)
وَفِي كِتَابِ (الْمُتَيْطِيَّةِ) مِنْ كُتُبِ الْمَالِكِيَّةِ: شُهُودُ التَّزْكِيَةِ بِخِلاَفِ شُهُودِ الْحُقُوقِ. قَال مَالِكٌ: قَدْ تَجُوزُ شَهَادَةُ الرَّجُل وَلاَ يَجُوزُ تَعْدِيلُهُ، وَلاَ يَجُوزُ إِلاَّ تَعْدِيل الْعَارِفِ.
وَقَال سَحْنُونٌ: لاَ يَجُوزُ فِي التَّعْدِيل إِلاَّ الْعَدْل الْمُبَرَّزُ الْفَطِنُ الَّذِي لاَ يُخْدَعُ فِي عَقْلِهِ وَلاَ يَسْتَزِل فِي رَأْيِهِ. وَعَلَى هَذَا أَكْثَرُ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَبِهِ جَرَى الْعَمَل. وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا: شُهُودُ التَّزْكِيَةِ كَشُهُودِ سَائِرِ الْحُقُوقِ. (2)
__________
(1) معين الحكام ص 106.
(2) تبصرة الحكام 1 / 255.(11/247)
17 - وَمِثْل مَا تَقَدَّمَ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيَّةُ: أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْمُزَكِّي مَا يُشْتَرَطُ فِي الشَّاهِدِ وَيَزِيدُ عَلَيْهِ أَمْرَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَعْرِفَةُ أَسْبَابِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيل؛ لأَِنَّهُ يَشْهَدُ بِهِمَا.
وَالأَْمْرُ الثَّانِي: خِبْرَةُ بَاطِنِ مَنْ يُعَدِّلُهُ أَوْ يُجَرِّحُهُ، بِصُحْبَةٍ أَوْ جِوَارٍ أَوْ مُعَامَلَةٍ، لِيَتَأَتَّى لَهُ بِهَا التَّعْدِيل أَوِ الْجَرْحُ. (1)
وَلاَ يَخْرُجُ كَلاَمُ الْحَنَابِلَةِ عَنْ ذَلِكَ. فَقَدْ قَالُوا: لاَ يُقْبَل التَّعْدِيل إِلاَّ مِنْ أَهْل الْخِبْرَةِ الْبَاطِنَةِ وَالْمَعْرِفَةِ الْمُتَقَادِمَةِ؛ وَلأَِنَّ عَادَةَ النَّاسِ إِظْهَارُ الصَّالِحَاتِ وَإِسْرَارُ الْمَعَاصِي، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ ذَا خِبْرَةٍ بَاطِنَةٍ رُبَّمَا اغْتَرَّ بِحُسْنِ ظَاهِرِهِ، وَهُوَ فِي بَاطِنِهِ فَاسِقٌ. (2)
تَزْكِيَةُ الشُّهُودِ الذِّمِّيِّينَ لِمِثْلِهِمْ:
18 - إِذَا تَرَافَعَ الذِّمِّيُّونَ أَمَامَ قَاضٍ مُسْلِمٍ، وَطَلَبُوا مِنْهُ الْفَصْل فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ، وَأَحْضَرَ الْمُدَّعِي شُهُودَهُ الذِّمِّيِّينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِمُ الذِّمِّيِّينَ، فَقَدْ قَال الْحَنَفِيَّةُ: التَّزْكِيَةُ لِلذِّمِّيِّ تَكُونُ بِالأَْمَانَةِ فِي دِينِهِ وَلِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَأَنَّهُ صَاحِبُ يَقَظَةٍ. فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُ الْمُسْلِمُونَ سَأَلُوا عَنْهُ عُدُول الذِّمِّيِّينَ. (3)
__________
(1) قليوبي وعميرة 4 / 307.
(2) المغني 9 / 68 - 69.
(3) ابن عابدين 4 / 375.(11/247)
وَلَمْ يُعْثَرْ عَلَى حُكْمِ تَزْكِيَةِ الذِّمِّيِّينَ فِي الْمَذَاهِبِ الأُْخْرَى.
رُجُوعُ الْمُزَكِّي عَنِ التَّزْكِيَةِ:
19 - يَرَى أَبُو حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَوْ رَجَعَ الْمُزَكُّونَ عَنْ تَزْكِيَتِهِمْ لِلشُّهُودِ، بِأَنْ قَالُوا مَثَلاً: إِنَّ الشُّهُودَ عَبِيدٌ أَوْ مَجُوسٌ، وَقَدْ زَكَّيْنَاهُمْ وَنَحْنُ نَعْلَمُ ذَلِكَ، فَالدِّيَةُ عَلَى الْمُزَكِّينَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلاَ يُقْتَصُّ مِنْهُمْ لَوْ رُجِمَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِالزِّنَا وَهُوَ مُحْصَنٌ. وَقَال الصَّاحِبَانِ: بَل يُقْتَصُّ مِنْهُمْ وَأَمَّا إِذَا قَالُوا: أَخْطَأْنَا فِي التَّزْكِيَةِ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِمْ.
وَقِيل: الْخِلاَفُ بَيْنَ الإِْمَامِ وَصَاحِبَيْهِ فِيمَا إِذَا أَخْبَرَ الْمُزَكُّونَ أَنَّ الشُّهُودَ أَحْرَارٌ، فَإِذَا هُمْ عَبِيدٌ أَمَّا إِذَا قَالُوا: هُمْ عُدُولٌ، فَبَانُوا عَبِيدًا لاَ يَضْمَنُونَ إِجْمَاعًا؛ لأَِنَّ الْعَبْدَ قَدْ يَكُونُ عَدْلاً. (1)
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّهُ لَوْ رَجَعَ الْمُزَكِّي لِشُهُودِ الزِّنَا أَوْ قَتْل الْعَمْدِ عَنْ تَزْكِيَتِهِمْ، بَعْدَ رَجْمِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، أَوْ قَتْلِهِ قِصَاصًا، فَلاَ يَغْرَمُ الْمُزَكِّي شَيْئًا مِنَ الدِّيَةِ، سَوَاءٌ رَجَعَ الشُّهُودُ الأُْصُول أَمْ لاَ. (2)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي الْوَجْهِ الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ: إِنَّهُ
__________
(1) ابن عابدين 4 / 398.
(2) التاج والإكليل 2 / 245.(11/248)
يَتَعَلَّقُ بِالْمُزَكِّي الرَّاجِعِ الْقِصَاصُ وَالضَّمَانُ؛ لأَِنَّهُ أَلْجَأَ الْقَاضِيَ إِلَى الْحُكْمِ الْمُفْضِي إِلَى الْقَتْل.
وَفِي وَجْهٍ آخَرَ: لاَ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا أَثْنَى عَلَى الشَّاهِدِ، وَالْحُكْمُ يَقَعُ بِالشَّاهِدِ، فَكَانَ كَالْمُمْسِكِ مَعَ الْقَاتِل.
وَفِي وَجْهٍ ثَالِثٍ: يَتَعَلَّقُ بِهِ الضَّمَانُ دُونَ الْقِصَاصِ. قَال الْقَفَّال: الْخِلاَفُ فِيمَا إِذَا قَال الْمُزَكِّيَانِ: عَلِمْنَا كَذِبَ الشَّاهِدَيْنِ. فَإِنْ قَالاَ: عَلِمْنَا فِسْقَهُمَا فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِمَا؛ لأَِنَّهُمَا قَدْ يَكُونَانِ صَادِقَيْنِ مَعَ الْفِسْقِ، وَطَرَدَ الإِْمَامُ الْخِلاَفَ فِي الْحَالَيْنِ. (1)
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْمُزَكِّيَيْنِ إِذَا رَجَعَا عَنِ التَّزْكِيَةِ ضَمِنَا؛ لأَِنَّهُمَا تَسَبَّبَا فِي الْحُكْمِ غَيْرِ الْحَقِّ، فَيَضْمَنَانِ كَرُجُوعِ شُهُودِ الإِْحْصَانِ. (2)
تَزْكِيَةُ الشُّهُودِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ:
20 - يَكْفِي عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ تَزْكِيَةُ أَحَدِ الشَّاهِدَيْنِ صَاحِبَهُ فِي الأَْصَحِّ؛ لأَِنَّ الْعَدْل لاَ يُتَّهَمُ بِمِثْلِهِ. وَغَايَةُ مَا فِيهِ أَنَّ فِيهِ مَنْفَعَةً مِنْ حَيْثُ الْقَضَاءُ بِشَهَادَتِهِ، وَلَكِنَّ الْعَدْل لاَ يُتَّهَمُ بِمِثْلِهِ كَمَا لاَ يُتَّهَمُ فِي شَهَادَةِ نَفْسِهِ. وَفِي الْفَتْحِ أَنَّ بَعْضَهُمْ قَال: لاَ يَجُوزُ؛ لأَِنَّهُ مُتَّهَمٌ، حَيْثُ كَانَ بِتَعْدِيلِهِ رَفِيقَهُ يَثْبُتُ الْقَضَاءُ بِشَهَادَتِهِ. وَلَكِنَّ الصَّحِيحَ
__________
(1) روضة الطالبين 11 / 298 ط المكتب الإسلامي.
(2) الكافي 3 / 561 ط المكتب الإسلامي.(11/248)
مَا ذُكِرَ؛ لأَِنَّ شَهَادَتَهُ تَتَضَمَّنُ مِثْل هَذِهِ الْمَنْفَعَةِ وَهِيَ الْقَضَاءُ بِهَا، فَكَمَا أَنَّهُ لَمْ يَعْتَبِرِ الشَّرْعُ مَعَ عَدَالَتِهِ ذَلِكَ مَانِعًا، كَذَلِكَ تَعْدِيلُهُ لِمَنْ شَهِدَ مَعَهُ. (1)
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ الشَّاهِدَ لاَ يُزَكِّي مَنْ شَهِدَ مَعَهُ، وَلاَ تُقْبَل مَعَهُ شَهَادَتُهُ فِي ذَلِكَ الْحَقِّ.
وَأَجَازَ سَحْنُونٌ إِذَا شَهِدَتْ طَائِفَةٌ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ تُزَكِّيَ كُل طَائِفَةٍ صَاحِبَتَهَا، وَهُوَ عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ شَهِدَتَا فِي حَقَّيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّ ذَلِكَ لاَ يَجُوزُ وَلَوْ شَهِدَتَا فِي حَقَّيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ. (2)
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَنْ يُزَكِّيَ أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ الآْخَرَ، وَفِيهِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ أَنَّهُ يَجُوزُ. (3)
التَّزْكِيَةُ تَكُونُ عَلَى عَيْنِ الْمُزَكِّي:
21 - التَّزْكِيَةُ الَّتِي تُشْتَرَطُ وَتُقْبَل تَكُونُ عَلَى عَيْنِ الْمُزَكِّي، وَذَلِكَ فِي تَزْكِيَةِ الْعَلاَنِيَةِ. وَصِفَتُهَا: أَنْ يُحْضِرَ الْقَاضِي الْمُزَكِّيَ - بَعْدَمَا زَكَّى الشُّهُودَ فِي السِّرِّ - لِيُزَكِّيَهُمْ عَلاَنِيَةً بَيْنَ يَدَيْهِ، وَيُشِيرَ إِلَيْهِمْ فَيَقُول: هَؤُلاَءِ عُدُولٌ عِنْدِي، إِزَالَةً لِلاِلْتِبَاسِ، وَاحْتِرَازًا عَنِ التَّبْدِيل وَالتَّزْوِيرِ.
قَال ابْنُ فَرْحُونَ: لاَ يُزَكَّى الشَّاهِدُ إِذَا لَمْ يَعْرِفْهُ الْقَاضِي إِلاَّ عَلَى عَيْنِهِ، وَلَيْسَ عَلَى
__________
(1) ابن عابدين 4 / 394.
(2) تبصرة الحكام 1 / 258.
(3) روضة الطالبين 11 / 172، والمغني 1 / 63، 67.(11/249)
الْقَاضِي أَنْ يَسْأَل الْمُزَكِّيَ عَنْ تَفْسِيرِ الْعَدَالَةِ إِذَا كَانَ الْمُزَكِّي عَالِمًا بِوُجُوهِهَا، وَلاَ عَنِ الْجُرْحَةِ إِذَا كَانَ عَالِمًا بِهَا. (1)
وَلَمْ يُصَرِّحِ الْحَنَابِلَةُ بِتَكْرَارِ سُؤَال الْمُزَكِّي أَمَامَ الشُّهُودِ وَإِشَارَتِهِ إِلَى عَيْنِ مَنْ يُزَكِّيهِمْ. (2)
الإِْعْذَارُ إِلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي تَزْكِيَةِ الْمُزَكِّينَ
22 - هَل عَلَى الْقَاضِي أَنْ يَعْذُرَ إِلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِيمَنْ زَكَّى مَنْ شَهِدَ عَلَيْهِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ؟ أَوْ يَطْلُبَ مِنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَوْ لاَ يَعْذُرَ أَصْلاً.
الَّذِي يُفِيدُهُ كَلاَمُ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّهُ لاَ يَعْذُرُ إِلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِيمَنْ زَكَّى شُهُودَ الْمُدَّعِي. إِذْ قَالُوا: الْيَوْمَ وَقَعَ الاِكْتِفَاءُ بِتَزْكِيَةِ السِّرِّ؛ لِمَا فِي تَزْكِيَةِ الْعَلاَنِيَةِ مِنْ بَلاَءٍ وَفِتْنَةٍ. (3)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: مِمَّا لاَ يُعْذَرُ فِيهِ مُزَكِّي السِّرِّ، وَهُوَ مَنْ يُخْبِرُ الْقَاضِيَ فِي السِّرِّ بِحَال الشُّهُودِ مِنْ عَدَالَةٍ أَوْ جَرْحٍ. وَلَوْ سَأَل الطَّالِبُ الْمُقِيمَ لِلْبَيِّنَةِ عَمَّنْ جَرَّحَهَا لاَ يُلْتَفَتُ إِلَى سُؤَالِهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ سَأَل الْمَطْلُوبُ عَمَّنْ زَكَّى بَيِّنَةَ الطَّالِبِ، فَإِنَّهُ لاَ يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يُقِيمُ لِذَلِكَ إِلاَّ مَنْ يَثِقُ بِهِ، فَهُوَ قَائِمٌ مَقَامَ الْقَاضِي فَلاَ يُعْذَرُ فِي نَفْسِهِ.
__________
(1) معين الحكام ص 105، وتبصرة الحكام 1 / 256، والروضة 11 / 169، ومغني المحتاج 4 / 403.
(2) المغني 10 / 60، مكتبة القاهرة، والإنصاف 11 / 286، وكشاف القناع 6 / 350 - 351.
(3) معين الحكام ص 105.(11/249)
وَكَذَلِكَ الشَّاهِدُ الْمُبَرَّزُ فِي الْعَدَالَةِ الْفَائِقُ أَقْرَانَهُ فِيهَا لاَ يُعْذَرُ فِيهِ لِغَيْرِ الْعَدَاوَةِ، وَيُعْذَرُ فِيهِ فِيهَا، وَمِثْلُهَا الْقَرَابَةُ. وَكَذَلِكَ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ يُخْشَى مِنْهُ عَلَى مَنْ شَهِدَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لاَ يُعْذَرُ إِلَيْهِ فِيمَنْ شَهِدَ عَلَيْهِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الشَّاهِدَ عَلَى مَنْ يُخْشَى مِنْهُ لاَ يُسَمَّى لَهُ. (1)
وَمُؤَدَّى ذَلِكَ أَنَّ غَيْرَ الْمَذْكُورِينَ يُعْذَرُ فِيهِمْ إِلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: بَعْدَ السُّؤَال وَالْبَحْثِ وَمُشَافَهَةِ الْمُزَكِّي بِمَا عِنْدَهُ، فَإِنْ كَانَ جَرْحًا سَتَرَهُ، وَقَال لِلْمُدَّعِي: زِدْنِي فِي شُهُودِكَ، أَوْ تَعْدِيلاً عَمِل بِمُقْتَضَاهُ. (2)
وَظَاهِرُ ذَلِكَ أَنَّهُ يَعْمَل بِمُقْتَضَى الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيل، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقُول لِلْمُدَّعِي الَّذِي أَحْضَرَ الشُّهُودَ: إِنَّ شُهُودَكَ قَدْ جَرَّحَهُمْ فُلاَنٌ وَفُلاَنٌ، وَلاَ يَقُول لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ: إِنَّ مَنْ شَهِدُوا عَلَيْكَ قَدْ عَدَّلَهُمْ فُلاَنٌ وَفُلاَنٌ.
هَذَا وَلَمْ نَطَّلِعْ عَلَى حُكْمِ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
تَزْكِيَةُ رُوَاةِ الأَْحَادِيثِ:
23 - الأَْحْكَامُ الَّتِي تَقَدَّمَتْ هِيَ فِي شُهُودِ الدَّعَاوَى.
أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِرُوَاةِ الأَْحَادِيثِ فَقَدْ أَجْمَعَ جَمَاهِيرُ
__________
(1) الخرشي 7 / 158 - 159.
(2) نهاية المحتاج 8 / 265 ط البابي الحلبي.(11/250)
أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيمَنْ يُحْتَجُّ بِرِوَايَتِهِ: أَنْ يَكُونَ عَدْلاً ضَابِطًا لِمَا يَرْوِيهِ، بِأَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا بَالِغًا عَاقِلاً، سَالِمًا مِنْ أَسْبَابِ الْفِسْقِ وَمَا يُخِل بِالْمُرُوءَةِ مُتَيَقِّظًا غَيْرَ مُغَفَّلٍ، حَافِظًا إِنْ حَدَّثَ مِنْ حِفْظِهِ، ضَابِطًا لِكِتَابِهِ إِنْ حَدَّثَ مِنْ كِتَابِهِ. وَإِنْ كَانَ يُحَدِّثُ بِالْمَعْنَى اشْتُرِطَ فِيهِ مَعَ ذَلِكَ: أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِمَا يُحِيل الْمَعَانِيَ.
وَعَدَالَةُ الرَّاوِي تَارَةً تَثْبُتُ بِتَنْصِيصِ مُعَدِّلَيْنِ عَلَى عَدَالَتِهِ، وَتَارَةً تَثْبُتُ بِالاِسْتِفَاضَةِ، فِيمَنِ اشْتُهِرَتْ عَدَالَتُهُ مِنْ أَهْل النَّقْل أَوْ نَحْوِهِمْ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ، وَمَنْ شَاعَ الثَّنَاءُ عَلَيْهِ بِالثِّقَةِ وَالأَْمَانَةِ اسْتُغْنِيَ فِيهِ بِذَلِكَ عَنْ بَيِّنَةٍ شَاهِدَةٍ بِعَدَالَتِهِ تَنْصِيصًا، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَعَلَيْهِ الاِعْتِمَادُ فِي فَنِّ أُصُول الْفِقْهِ. وَذَلِكَ مِثْل الإِْمَامِ مَالِكٍ وَأَبِي بَكْرٍ الْخَطِيبِ الْحَافِظِ.
وَالتَّعْدِيل مَقْبُولٌ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ سَبَبِهِ عَلَى الْمَذْهَبِ الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ؛ لأَِنَّ أَسْبَابَهُ كَثِيرَةٌ يَصْعُبُ حَصْرُهَا، بِخِلاَفِ الْجَرْحِ، فَإِنَّهُ لاَ يُقْبَل إِلاَّ مُفَسَّرًا مُبَيَّنَ السَّبَبِ؛ لأَِنَّ النَّاسَ يَخْتَلِفُونَ فِيمَا يُجَرَّحُ وَلاَ يُجَرَّحُ. (1)
وَهُنَاكَ تَفْصِيلاَتٌ وَأَحْكَامٌ أُخْرَى يُرْجَعُ إِلَيْهَا فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ، وَفِي عِلْمِ مُصْطَلَحِ الْحَدِيثِ.
__________
(1) علوم الحديث لابن الصلاح 94 - 96.(11/250)
تَزْكِيَةُ الإِْنْسَانِ نَفْسَهُ:
24 - نَهَى اللَّهُ عَزَّ وَجَل عَنْ تَزْكِيَةِ الإِْنْسَانِ نَفْسَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلاَ تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} (1) وَقَال تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَل اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} . (2) وَلَيْسَ مِنَ التَّزْكِيَةِ الْمَذْمُومَةِ بَيَانُ الإِْنْسَانِ لِبَعْضِ صِفَاتِهِ عَلَى سَبِيل التَّعْرِيفِ، حَيْثُ يَحْتَاجُ إِلَى ذَلِكَ فِي تَوْلِيَتِهِ، كَمَا حَصَل لِنَبِيِّ اللَّهِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَيْثُ قَال: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَْرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} . (3)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (مَدْحٌ) .
__________
(1) سورة النجم / 32.
(2) سورة النساء / 49.
(3) سورة يوسف / 55.(11/251)
تَزْوِيجٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّزْوِيجُ لُغَةً: مَصْدَرُ زَوَّجَ. يُقَال: تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً، وَزَوَّجَهُ امْرَأَةً أَيْ: قَرَنَهُ بِهَا. وَفِي التَّنْزِيل: {وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} (1) أَيْ قَرَنَّاهُمْ بِهِنَّ، وَكُل شَيْئَيْنِ اقْتَرَنَ أَحَدُهُمَا بِالآْخَرِ فَهُمَا زَوْجَانِ، (2) وَالاِسْمُ مِنَ التَّزْوِيجِ: الزَّوَاجُ.
وَهُوَ فِي الاِصْطِلاَحِ كَمَا عَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ: عَقْدٌ يُفِيدُ مِلْكَ اسْتِمْتَاعِ الرَّجُل بِالْمَرْأَةِ، وَحِل اسْتِمْتَاعِ الْمَرْأَةِ بِالرَّجُل عَلَى وَجْهٍ مَشْرُوعٍ. (3)
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - التَّزْوِيجُ لَيْسَ لَهُ حُكْمٌ وَاحِدٌ يَنْطَبِقُ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ الْحَالاَتِ بَل يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ بِاخْتِلاَفِ النَّاسِ مِنْ نَاحِيَةِ قُدْرَتِهِمْ عَلَى مَطَالِبِ الزَّوَاجِ وَاسْتِعْدَادِهِمْ لِلْقِيَامِ بِالْحُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ.
__________
(1) سورة الدخان / 54
(2) لسان العرب، والمصباح المنير مادة " زوج ".
(3) المغني لابن قدامة 6 / 445 ط الرياض، والشرح الصغير 2 / 332، وابن عابدين 2 / 258 ط الأميرية.(11/251)
فَيَكُونُ فَرْضًا أَوْ وَاجِبًا أَوْ حَرَامًا أَوْ مَكْرُوهًا أَوْ مَنْدُوبًا أَوْ مُبَاحًا.
فَيَكُونُ فَرْضًا أَوْ وَاجِبًا: إِذَا كَانَ الشَّخْصُ فِي حَالَةٍ يَتَيَقَّنُ فِيهَا الْوُقُوعَ فِي الزِّنَى إِنْ لَمْ يَتَزَوَّجْ، وَكَانَ قَادِرًا عَلَى النَّفَقَةِ وَالْمَهْرِ وَحُقُوقِ الزَّوَاجِ الشَّرْعِيَّةِ، وَلاَ يَسْتَطِيعُ الاِحْتِرَازَ عَنِ الْوُقُوعِ فِي الزِّنَى وَنَحْوِهِ.
وَيَكُونُ حَرَامًا: إِذَا كَانَ الْمَرْءُ فِي حَالَةٍ يَتَيَقَّنُ فِيهَا عَدَمَ الْقِيَامِ بِأُمُورِ الزَّوْجِيَّةِ وَالإِْضْرَارَ بِالْمَرْأَةِ إِذَا هُوَ تَزَوَّجَ.
وَيَكُونُ مَكْرُوهًا: إِذَا خَافَ الشَّخْصُ الْوُقُوعَ فِي الْجَوْرِ وَالضَّرَرِ إِنْ تَزَوَّجَ؛ لِعَجْزِهِ عَنِ الإِْنْفَاقِ أَوْ عَدَمِ الْقِيَامِ بِالْوَاجِبَاتِ الزَّوْجِيَّةِ.
وَيَكُونُ مَنْدُوبًا: فِي حَالَةِ الاِعْتِدَال، وَهِيَ أَنْ يَكُونَ الشَّخْصُ مُعْتَدِل الطَّبِيعَةِ، بِحَيْثُ لاَ يَخْشَى الْوُقُوعَ فِي الزِّنَى إِنْ لَمْ يَتَزَوَّجْ، وَلاَ يَخْشَى أَنْ يَظْلِمَ زَوْجَتَهُ إِنْ تَزَوَّجَ، وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ. وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ الزَّوَاجَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مُبَاحٌ، يَجُوزُ فِعْلُهُ وَتَرْكُهُ. (1)
مَنْ لَهُ وِلاَيَةُ التَّزْوِيجِ:
3 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الرَّجُل الْحُرَّ الْبَالِغَ الْعَاقِل الرَّشِيدَ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَ نَفْسَهُ، وَأَنْ يُبَاشِرَ عَقْدَ النِّكَاحِ دُونَ إِذْنٍ مِنْ أَحَدٍ؛ لِمَا لَهُ مِنْ حُرِّيَّةِ
__________
(1) المغني 6 / 446 ط الرياض، وابن عابدين 2 / 260، 261، ومغني المحتاج 3 / 124، والشرح الصغير 2 / 330، وحاشية الدسوقي 2 / 214، 215.(11/252)
التَّصَرُّفِ فِي خَالِصِ حَقِّهِ. كَمَا أَنَّ لَهُ أَنْ يُوَكِّل غَيْرَهُ فِي تَزْوِيجِهِ، وَأَنْ يُزَوِّجَ غَيْرَهُ بِالْوِلاَيَةِ أَوِ الْوَكَالَةِ.
أَمَّا الصَّغِيرُ وَالْمَجْنُونُ فَلاَ وِلاَيَةَ لَهُمَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا، وَإِنَّمَا يُزَوِّجُهُمَا الْوَلِيُّ أَبًا أَوْ جَدًّا، أَوِ الْوَصِيُّ عَلَيْهِمَا. وَلاَ يَجُوزُ لِلصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ مُبَاشَرَةُ عَقْدِ النِّكَاحِ؛ لِعَدَمِ أَهْلِيَّتِهِمَا.
وَالسَّفِيهُ لاَ يَصِحُّ لَهُ الزَّوَاجُ بِدُونِ إِذْنِ الْقَيِّمِ عَلَيْهِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، خِلاَفًا لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِلاَ إِذْنِ وَلِيِّهِ، وَأَنْ يُبَاشِرَ الْعَقْدَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لأَِنَّهُ عَقْدٌ غَيْرُ مَالِيٍّ فَصَحَّ مِنْهُ، وَإِنْ لَزِمَ مِنْهُ الْمَال، فَحُصُولُهُ بِطَرِيقِ الضِّمْنِ، فَلاَ يَمْنَعُ الْحَجْرُ عَلَيْهِ مِنَ الْعَقْدِ. وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ فِي تَزْوِيجِ الْقَيِّمِ لِلسَّفِيهِ: إِنْ تَزَوَّجَ صَحَّ النِّكَاحُ بِإِذْنِ وَلِيِّهِ وَبِغَيْرِ إِذْنِهِ. وَقَال أَبُو الْخَطَّابِ: لاَ يَصِحُّ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهِ.
وَالْوِلاَيَةُ عَلَى الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ وِلاَيَةُ إِجْبَارٍ، فَيَجُوزُ لِلْوَلِيِّ تَزْوِيجُهُمَا، بِدُونِ إِذْنِهِمَا، إِذَا كَانَ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ. وَهَذَا بِلاَ خِلاَفٍ. (1)
__________
(1) الهداية 1 / 190، 199، 215، 216، والاختيار 2 / 94، 96، 97، والبدائع 2 / 241، وجواهر الإكليل 1 / 274، 285، 286، والكافي لابن عبد البر 2 / 529، 545، ومنح الجليل 3 / 439، 440، والمهذب 2 / 34، 36، 37، 41، ونهاية المحتاج 6 / 223، 224، 241، 242، 243، 244، ومنتهى الإرادات 3 / 13، 14، 15، 19، 20، والمغني 6 / 469، 470، 502، 515، 4 / 523.(11/252)
لَكِنِ الاِخْتِلاَفُ فِيمَنْ لَهُ وِلاَيَةُ الإِْجْبَارِ، هَل الأَْبُ فَقَطْ أَوِ الأَْبُ وَالْجَدُّ، أَوِ الأَْبُ وَالْجَدُّ وَالْوَصِيُّ أَوْ غَيْرُهُمَا. وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (وِلاَيَةٌ) .
تَزْوِيجُ الْمَرْأَةِ نَفْسَهَا:
4 - الْمَرْأَةُ الْبَالِغَةُ الْعَاقِلَةُ الْحُرَّةُ الرَّشِيدَةُ لاَ يَجُوزُ لَهَا تَزْوِيجُ نَفْسِهَا، بِمَعْنَى أَنَّهَا لاَ تُبَاشِرُ الْعَقْدَ بِنَفْسِهَا، وَإِنَّمَا يُبَاشِرُهُ الْوَلِيُّ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، لِحَدِيثِ لاَ نِكَاحَ إِلاَّ بِوَلِيٍّ (1) وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَإِنْ دَخَل بِهَا فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَل مِنْ فَرْجِهَا، فَإِنْ تَشَاجَرُوا فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لاَ وَلِيَّ لَهُ (2) وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ تُنْكِحُ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ، وَلاَ تُنْكِحُ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا. (3)
__________
(1) حديث: " لا نكاح إلا بولي " أخرجه أبو داود (2 / 568 - ط عزت عبيد دعاس) وأحمد (4 / 394 - ط الميمنية) . وقال الحاكم: وقد صحت الرواية فيه عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم (المستدرك 2 / 170 - ط دائرة المعارف العثمانية) .
(2) حديث " أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل. . . " أخرجه أبو داود (2 / 568 - ط عزت عبيد دعاس، والترمذي 3 / 407 ط عزت عبيد دعاس) وصححه ابن معين كما في الكامل لابن عدي (3 / 1115 - ط دار الفكر) .
(3)) حديث " لا تنكح المرأة المرأة ولا تنكح المرأة نفسها " أخرجه ابن ماجه (1 / 606 - ط الحلبي) والدارقطني (3 / 228 ط دار المحاسن) واللفظ للدارقطني. وإسناده حسن. (التلخيص لابن حجر 3 / 157 ط شركة الطباعة الفنية) .(11/253)
وَلاَ يَجُوزُ لَهَا أَنْ تُزَوِّجَ غَيْرَهَا، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْمَرْأَةُ بِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا. وَقَالُوا: الْبِكْرُ يُجْبِرُهَا الْوَلِيُّ عَلَى النِّكَاحِ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ إِذْنُهَا. أَمَّا الثَّيِّبُ إِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً فَلاَ يَجُوزُ تَزْوِيجُهَا حَتَّى تَبْلُغَ، وَتُسْتَأْذَنَ. وَذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْل الْخِرَقِيِّ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ حَامِدٍ وَابْنُ بَطَّةَ وَالْقَاضِي. وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الْوَجْهُ الثَّانِي عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّ لأَِبِيهَا تَزْوِيجَهَا، وَلاَ يَجِبُ أَنْ يَسْتَأْمِرَهَا، وَهُوَ أَيْضًا قَوْلٌ لِلْحَنَفِيَّةِ. وَالْعِلَّةُ عِنْدَهُمْ هِيَ الصِّغَرُ، وَلِذَلِكَ لَهُ وِلاَيَةُ إِجْبَارِهَا.
أَمَّا الثَّيِّبُ الْكَبِيرَةُ - فَإِنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ لاَ تَلِي عَقْدَ نِكَاحِهَا بِنَفْسِهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ - إِلاَّ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ تَزْوِيجُهَا بِدُونِ إِذْنِهَا وَرِضَاهَا (1) لِمَا رَوَتْ الْخَنْسَاءُ بِنْتُ خِذَامٍ الأَْنْصَارِيَّةُ أَنَّ أَبَاهَا زَوَّجَهَا وَهِيَ ثَيِّبٌ، فَكَرِهَتْ ذَلِكَ، فَأَتَتْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَدَّ نِكَاحَهُ (2) . وَلِحَدِيثِ الثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا (3)
__________
(1) جواهر الإكليل 1 / 278، والمهذب 2 / 38، ونهاية المحتاج 6 / 219، 223، 224، والمغني 6 / 486، 488، 490، 493، وشرح منتهى الإرادات 3 / 13، 14، ونيل الأوطار 6 / 120 - 121.
(2) أخرجه البخاري (الفتح 9 / 194 - ط السلفية) .
(3) حديث: " الثيب أحق بنفسها من وليها " أخرجه بهذا اللفظ الدارقطني (3 / 240 ط دار المحاسن) . وأخرجه مسلم (2 / 1037 ط الحلبي) بلفظ: " الأيم ".(11/253)
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ: فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ عِنْدَهُمْ إِجْبَارُ الْبَالِغَةِ عَلَى النِّكَاحِ بِكْرًا كَانَتْ أَمْ ثَيِّبًا، (1) وَلَهَا أَنْ تَعْقِدَ النِّكَاحَ بِنَفْسِهَا. فَفِي الْهِدَايَةِ: يَنْعَقِدُ نِكَاحُ الْحُرَّةِ الْعَاقِلَةِ الْبَالِغَةِ بِرِضَاهَا، وَإِنْ لَمْ يَعْقِدْ عَلَيْهَا وَلِيٌّ، بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لاَ يَنْعَقِدُ إِلاَّ بِوَلِيٍّ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا. وَوَجْهُ الْجَوَازِ: أَنَّهَا تَصَرَّفَتْ فِي خَالِصِ حَقِّهَا وَهِيَ مِنْ أَهْلِهِ؛ لِكَوْنِهَا عَاقِلَةً بَالِغَةً مُمَيِّزَةً، وَإِنَّمَا يُطَالَبُ الْوَلِيُّ بِالتَّزْوِيجِ كَيْ لاَ تُنْسَبَ إِلَى الْوَقَاحَةِ. (2)
وَالثَّيِّبُ مِنْ بَابِ أَوْلَى إِذَا كَانَتْ كَبِيرَةً، فَإِنَّهَا تَعْقِدُ عَلَى نَفْسِهَا. أَمَّا الصَّغِيرَةُ سَوَاءٌ أَكَانَتْ بِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا فَلِوَلِيِّهَا إِجْبَارُهَا عَلَى النِّكَاحِ؛ لأَِنَّ وِلاَيَةَ الإِْجْبَارِ تَدُورُ مَعَ الصِّغَرِ وُجُودًا وَعَدَمًا. (3)
وَأَمَّا الْمَجْنُونَةُ فَلِلْوَلِيِّ إِجْبَارُهَا عَلَى النِّكَاحِ مُطْلَقًا، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ. (4)
وَفِي كُل مَا مَرَّ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي (نِكَاحٌ - وِلاَيَةٌ) .
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 241.
(2) الهداية 1 / 196.
(3) البدائع 2 / 241.
(4) البدائع 2 / 241، والهداية 1 / 216، وجواهر الإكليل 2 / 277، 278، ونهاية المحتاج 6 / 224، 241، والمهذب 2 / 38، ومنتهى الإرادات 3 / 14، 15.(11/254)
تَزْوِيرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّزْوِيرُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ زَوَّرَ، وَهُوَ مِنَ الزُّورِ، وَالزُّورُ: الْكَذِبُ، قَال تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ} (1) وَزَوَّرَ كَلاَمَهُ: أَيْ زَخْرَفَهُ، وَهُوَ أَيْضًا: تَزْيِينُ الْكَذِبِ. وَزَوَّرْتُ الْكَلاَمَ فِي نَفْسِي: هَيَّأْتُهُ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْل عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَا زَوَّرْتُ كَلاَمًا لأَِقُولَهُ إِلاَّ سَبَقَنِي إِلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ. أَيْ: هَيَّأْتُهُ وَأَتْقَنَتْهُ.
وَلَهُ فِي اللُّغَةِ مَعَانٍ أُخْرَى. (2)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: تَحْسِينُ الشَّيْءِ وَوَصْفُهُ بِخِلاَفِ صِفَتِهِ، حَتَّى يُخَيَّل إِلَى مَنْ سَمِعَهُ أَوْ رَآهُ أَنَّهُ بِخِلاَفِ مَا هُوَ عَلَيْهِ فِي الْحَقِيقَةِ. فَهُوَ تَمْوِيهُ الْبَاطِل بِمَا يُوهِمُ أَنَّهُ حَقٌّ. (3)
__________
(1) سورة الفرقان / 72.
(2) تاج العروس ومختار الصحاح. مادة: " زور ".
(3) سبل السلام 4 / 130 ط الكتب العلمية ببيروت.(11/254)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ
أ - الْكَذِبُ:
2 - الْكَذِبُ هُوَ: الإِْخْبَارُ بِمَا لَيْسَ مُطَابِقًا لِلْوَاقِعِ. وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّزْوِيرِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ وَجْهِيٌّ، فَالتَّزْوِيرُ يَكُونُ فِي الْقَوْل وَالْفِعْل، وَالْكَذِبُ لاَ يَكُونُ إِلاَّ فِي الْقَوْل.
وَالْكَذِبُ قَدْ يَكُونُ مُزَيَّنًا أَوْ غَيْرَ مُزَيَّنٍ، وَالتَّزْوِيرُ لاَ يَكُونُ إِلاَّ فِي الْكَذِبِ الْمُمَوَّهِ. (1)
ب - الْخِلاَبَةُ:
3 - الْخِلاَبَةُ هِيَ: الْمُخَادَعَةُ، وَتَكُونُ بِسَتْرِ الْعَيْبِ، وَتَكُونُ بِالْكَذِبِ وَغَيْرِهِ. (2)
ج - التَّلْبِيسُ:
4 - التَّلْبِيسُ مِنَ اللَّبْسِ، وَهُوَ اخْتِلاَطُ الأَْمْرِ، وَهُوَ سَتْرُ الْحَقِيقَةِ وَإِظْهَارُهَا بِخِلاَفِ مَا هِيَ عَلَيْهَا. (3)
د - التَّغْرِيرُ:
5 - التَّغْرِيرُ هُوَ: الْخَدِيعَةُ وَالإِْيقَاعُ فِي الْبَاطِل وَفِيمَا انْطَوَتْ عَاقِبَتُهُ.
هـ - الْغِشُّ:
6 - الْغِشُّ مَصْدَرُ غَشَّهُ إِذَا لَمْ يُمَحِّضْهُ النُّصْحَ، بَل خَدَعَهُ.
__________
(1) تاج العروس.
(2) اللسان وتاج العروس والمصباح.
(3) التعريفات للجرجاني.(11/255)
وَالْغِشُّ يَكُونُ بِالْقَوْل وَالْفِعْل، فَالتَّزْوِيرُ وَالْغِشُّ لَفْظَانِ مُتَقَارِبَانِ.
و التَّدْلِيسُ:
7 - التَّدْلِيسُ: كِتْمَانُ الْعَيْبِ، وَهُوَ فِي الْبَيْعِ كِتْمَانُ عَيْبِ السِّلْعَةِ عَنِ الْمُشْتَرِي.
وَالتَّدْلِيسُ أَخَصُّ مِنَ التَّزْوِيرِ؛ لأَِنَّهُ خَاصٌّ بِكِتْمَانِ الْعَيْبِ فِي السِّلْعَةِ الْمَبِيعَةِ، أَمَّا التَّزْوِيرُ فَهُوَ أَعَمُّ، لأَِنَّهُ يَكُونُ بِالْقَوْل وَالْفِعْل وَفِي السِّلْعَةِ الْمَبِيعَةِ وَغَيْرِهَا.
ز - التَّحْرِيفُ:
8 - التَّحْرِيفُ: تَغْيِيرُ الْكَلاَمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَالْعُدُول بِهِ عَنْ حَقِيقَتِهِ.
ج - التَّصْحِيفُ:
9 - وَالتَّصْحِيفُ: هُوَ تَغْيِيرُ اللَّفْظِ حَتَّى يَتَغَيَّرَ الْمَعْنَى الْمُرَادُ.
وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ أَحْكَامٍ فِي مُصْطَلَحِ (تَدْلِيسٌ) (وَتَحْرِيفٌ) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
10 - الأَْصْل فِي التَّزْوِيرِ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ شَرْعًا فِي الشَّهَادَةِ لإِِبْطَال حَقٍّ أَوْ إِثْبَاتِ بَاطِلٍ. (1)
وَالدَّلِيل عَلَى حُرْمَتِهِ قَوْله تَعَالَى: {فَاجْتَنِبُوا
__________
(1) المغني 9 / 260.(11/255)
الرِّجْسَ مِنَ الأَْوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْل الزُّورِ} (1)
وَمِنَ السُّنَّةِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُول اللَّهِ. قَال الإِْشْرَاكُ بِاَللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَجَلَسَ وَكَانَ مُتَّكِئًا، ثُمَّ قَال: أَلاَ وَقَوْل الزُّورِ. فَمَا يَزَال يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ. (2)
11 - وَقَدِ اسْتُثْنِيَ مِنْ حُرْمَةِ التَّزْوِيرِ أُمُورٌ:
مِنْهَا الْكَذِبُ فِي الْحَرْبِ، وَتَطْيِيبُ خَاطِرِ زَوْجَتِهِ لِيُرْضِيَهَا، وَالإِْصْلاَحُ بَيْنَ النَّاسِ. (3)
وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ: أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ مَرْفُوعًا: لاَ يَحِل الْكَذِبُ إِلاَّ فِي ثَلاَثٍ: يُحَدِّثُ الرَّجُل امْرَأَتَهُ لِيُرْضِيَهَا، وَالْكَذِبُ فِي الْحَرْبِ، وَالْكَذِبُ لِيُصْلِحَ بَيْنَ النَّاسِ (4) وَمِنْهُ: الْكَذِبُ لِدَفْعِ ظَالِمٍ عَلَى مَالٍ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ أَوْ عِرْضٍ، وَفِي سَتْرِ مَعْصِيَةٍ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ. (5) وَقَدْ نُقِل عَنْ النَّوَوِيِّ: الظَّاهِرُ إِبَاحَةُ حَقِيقَةِ الْكَذِبِ فِي الأُْمُورِ الثَّلاَثَةِ، وَلَكِنَّ التَّعْرِيضَ أَوْلَى.
__________
(1) سورة الحج / 30.
(2) حديث: " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 405 - ط السلفية) ، ومسلم (1 / 91 ط عيسى الحلبي) .
(3) فتح الباري 6 / 156.
(4) حديث: " لا يحل الكذب إلا في ثلاث. . . " أخرجه أحمد (6 / 459، 461 ط المكتب الإسلامي) ، والترمذي (تحفة الأحوذي 6 / 70 ط الليثي) . واللفظ له وقال: هذا حديث حسن.
(5) قليوبي 3 / 215.(11/256)
وَقَال ابْنُ الْعَرَبِيِّ: الْكَذِبُ فِي الْحَرْبِ هُوَ مِنَ الْمُسْتَثْنَى الْجَائِزِ بِالنَّصِّ. (1)
قَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْحَرْبُ خُدْعَةٌ (2) ، وَفِيهِ: الأَْمْرُ بِاسْتِعْمَال الْحِيلَةِ فِي الْحَرْبِ مَهْمَا أَمْكَنَ ذَلِكَ. وَفِيهِ: التَّحْرِيضُ عَلَى أَخْذِ الْحَذَرِ فِي الْحَرْبِ، وَالنَّدْبُ إِلَى خِدَاعِ الْكُفَّارِ.
وَقَال النَّوَوِيُّ: اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ خِدَاعِ الْكُفَّارِ فِي الْحَرْبِ كَيْفَمَا أَمْكَنَ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ فِيهِ نَقْضُ عَهْدٍ أَوْ أَمَانٍ، فَلاَ يَجُوزُ. وَأَصْل الْخُدَعِ إِظْهَارُ أَمْرٍ وَإِضْمَارُ خِلاَفِهِ. (3)
وَجَاءَ فِي حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ لِكَعْبِ بْنِ الأَْشْرَفِ؟ فَإِنَّهُ قَدْ آذَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ؟ قَال مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ: أَتُحِبُّ أَنْ أَقْتُلَهُ يَا رَسُول اللَّهِ؟ قَال: نَعَمْ. قَال: فَأَتَاهُ، فَقَال: هَذَا - يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ عَنَّانَا وَسَأَلَنَا الصَّدَقَةَ. قَال: وَأَيْضًا وَاَللَّهِ لَتَمَلُّنَّهُ قَال: فَإِنَّا اتَّبَعْنَاهُ فَنَكْرَهُ أَنْ نَدَعَهُ حَتَّى نَنْظُرَ إِلَى مَا يَصِيرُ أَمْرُهُ. قَال: فَلَمْ يَزَل يُكَلِّمُهُ حَتَّى اسْتَمْكَنَ مِنْهُ فَقَتَلَهُ. (4)
__________
(1) فتح الباري 6 / 158 - 159، والمغني 8 / 369.
(2) حديث: " الحرب خدعة. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 6 / 158) ط السلفية.
(3) المراجع السابقة.
(4) حديث: " مَنْ لكعب بن الأشرف. . .؟ " أخرجه البخاري (فتح الباري 6 / 159 ط السلفية) .(11/256)
فَقَوْلُهُ: عَنَّانَا أَيْ: كَلَّفَنَا بِالأَْوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَقَوْلُهُ: سَأَلَنَا الصَّدَقَةَ أَيْ: طَلَبَهَا مِنَّا لِيَضَعَهَا مَوَاضِعَهَا، وَقَوْلُهُ: نَكْرَهُ أَنْ نَدَعَهُ أَيْ نَكْرَهُ فِرَاقَهُ. فَقَوْلُهُ لَهُ مِنْ قَبِيل التَّعْرِيضِ وَالتَّمْوِيهِ وَالتَّزْوِيرِ، حَتَّى يَأْمَنَهُ فَيَتَمَكَّنَ مِنْ قَتْلِهِ.
وَجَاءَ فِي رِوَايَةٍ: ائْذَنْ لِي أَنْ أَقُول. قَال: قُل (1) فَيَدْخُل فِيهِ الْكَذِبُ تَصْرِيحًا وَتَلْوِيحًا
وَفِي سِيرَةِ ابْنِ هِشَامٍ: أَتَى نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ، إِنِّي قَدْ أَسْلَمْتُ، وَإِنَّ قَوْمِي لَمْ يَعْلَمُوا بِإِسْلاَمِي، فَمُرْنِي بِمَا شِئْتَ، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا أَنْتَ فِينَا رَجُلٌ وَاحِدٌ، فَخَذِّل عَنَّا إِنِ اسْتَطَعْتَ، فَإِنَّ الْحَرْبَ خُدْعَةٌ. فَخَرَجَ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ حَتَّى أَتَى بَنِي قُرَيْظَةَ، فَقَال لَهُمْ: لاَ تُقَاتِلُوا مَعَ الْقَوْمِ - الأَْحْزَابِ - حَتَّى تَأْخُذُوا مِنْهُمْ رَهْنًا مِنْ أَشْرَافِهِمْ، يَكُونُونَ بِأَيْدِيكُمْ ثِقَةً لَكُمْ عَلَى أَنْ تُقَاتِلُوا مَعَهُمْ مُحَمَّدًا، حَتَّى تُنَاجِزُوهُ، فَقَالُوا لَهُ: لَقَدْ أَشَرْتَ بِالرَّأْيِ.
ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى أَتَى قُرَيْشًا فَقَال لَهُمْ: قَدْ عَرَفْتُمْ وُدِّي لَكُمْ وَفِرَاقِي مُحَمَّدًا، وَأَنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَمْرٌ قَدْ رَأَيْتُ عَلَيَّ حَقًّا أَنْ أُبَلِّغَكُمُوهُ، نُصْحًا لَكُمْ. تَعْلَمُوا أَنَّ مَعْشَرَ يَهُودَ قَدْ نَدِمُوا عَلَى مَا صَنَعُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ، وَقَدْ أَرْسَلُوا إِلَيْهِ:
__________
(1) وفي وراية: " ائذن لي أن أقول. قال: قل " أخرجه البخاري (فتح الباري 7 / 336) ط السلفية.(11/257)
إِنَّا قَدْ نَدِمْنَا عَلَى مَا فَعَلْنَا، فَهَل يُرْضِيكَ أَنْ نَأْخُذَ لَكَ مِنَ الْقَبِيلَتَيْنِ، مِنْ قُرَيْشٍ وَغَطَفَانَ، رِجَالاً مِنْ أَشْرَافِهِمْ فَنُعْطِيكَهُمْ، فَتَضْرِبَ أَعْنَاقَهُمْ، ثُمَّ نَكُونَ مَعَكَ عَلَى مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ حَتَّى نَسْتَأْصِلَهُمْ؟ فَأَرْسَل إِلَيْهِمْ: أَنْ نَعَمْ. فَإِنْ بَعَثَتْ إِلَيْكُمْ يَهُودُ يَلْتَمِسُونَ مِنْكُمْ رَهْنًا مِنْ رِجَالِكُمْ فَلاَ تَدْفَعُوا إِلَيْهِمْ مِنْكُمْ رَجُلاً وَاحِدًا.
ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى أَتَى غَطَفَانَ، فَقَال لَهُمْ مِثْل مَا قَال لِقُرَيْشٍ، وَحَذَّرَهُمْ مَا حَذَّرَهُمْ
وَأَرْسَل أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ وَرُءُوسُ غَطَفَانَ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ: فَاغْدُوا لِلْقِتَال حَتَّى نُنَاجِزَ مُحَمَّدًا وَنَفْرُغَ مِمَّا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ، فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِمْ: وَلَسْنَا بِاَلَّذِينَ نُقَاتِل مَعَكُمْ مُحَمَّدًا حَتَّى تُعْطُونَا رَهْنًا مِنْ رِجَالِكُمْ، يَكُونُونَ بِأَيْدِينَا ثِقَةً لَنَا، حَتَّى نُنَاجِزَ مُحَمَّدًا، فَإِنَّا نَخْشَى إِنْ ضَرَّسَتْكُمُ الْحَرْبُ وَاشْتَدَّ عَلَيْكُمُ الْقِتَال أَنْ تَنْشَمِرُوا إِلَى بِلاَدِكُمْ وَتَتْرُكُونَا، وَالرَّجُل فِي بَلَدِنَا، وَلاَ طَاقَةَ لَنَا بِذَلِكَ مِنْهُ. فَلَمَّا رَجَعَتْ إِلَيْهِمُ الرُّسُل بِمَا قَالَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ، قَالَتْ قُرَيْشٌ وَغَطَفَانُ: وَاَللَّهِ إِنَّ الَّذِي حَدَّثَكُمْ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ لَحَقٌّ. فَأَرْسَلُوا إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ: إِنَّا وَاَللَّهِ لاَ نَدْفَعُ إِلَيْكُمْ رَجُلاً وَاحِدًا مِنْ رِجَالِنَا، فَإِنْ كُنْتُمْ تُرِيدُونَ الْقِتَال فَاخْرُجُوا فَقَاتِلُوا. فَقَالَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ، حِينَ انْتَهَتِ الرُّسُل إِلَيْهِمْ بِهَذَا: إِنَّ الَّذِي ذَكَرَ لَكُمْ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ لَحَقٌّ مَا يُرِيدُ الْقَوْمُ إِلاَّ أَنْ يُقَاتِلُوا، فَإِنْ رَأَوْا فُرْصَةً انْتَهَزُوهَا وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ انْشَمَرُوا إِلَى(11/257)
بِلاَدِهِمْ، وَخَلَّوْا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الرَّجُل فِي بَلَدِكُمْ، فَأَرْسَلُوا إِلَى قُرَيْشٍ وَغَطَفَانَ: إِنَّا وَاَللَّهِ لاَ نُقَاتِل مَعَكُمْ مُحَمَّدًا حَتَّى تُعْطُونَا رَهْنًا. فَأَبَوْا عَلَيْهِمْ، وَخَذَل اللَّهُ بَيْنَهُمْ، وَبَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الرِّيحَ فِي لَيَالٍ شَاتِيَةٍ بَارِدَةٍ شَدِيدَةِ الْبَرْدِ، فَجَعَلَتْ تَكْفَأُ قُدُورَهُمْ، وَتَطْرَحُ أَبْنِيَتَهُمْ. (1)
ثَانِيًا: الْقَضَاءُ بِشَهَادَةِ الزُّورِ:
12 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ، وَهُوَ الْمُفْتَى بِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، إِلَى أَنَّ قَضَاءَ الْحَاكِمِ بِشَهَادَةِ الزُّورِ يَنْفُذُ ظَاهِرًا لاَ بَاطِنًا، وَلاَ يُزِيل الشَّيْءَ عَنْ صِفَتِهِ الشَّرْعِيَّةِ سَوَاءٌ الْعُقُودُ مِنَ النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ وَالْفُسُوخِ، وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الأَْمْلاَكُ الْمُرْسَلَةُ (أَيِ الَّتِي لَمْ يُبَيَّنْ سَبَبُ مِلْكِهَا مِنْ إِرْثٍ أَوْ شِرَاءٍ) وَغَيْرُ الْمُرْسَلَةِ. (2) وَاسْتَدَلُّوا: بِخَبَرِ: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَل بَعْضَكُمْ أَنْ
__________
(1) السيرة النبوية لابن هشام 3 / 240 - 242 وحديث: " نعيم بن مسعود أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني قد أسلمت وإن قومي. . . " (سيرة ابن هشام 3 / 240 ط مصطفى الحلبي) رواه عن ابن إسحاق. وساقه ابن إسحاق من غير إسناد. وقال ابن كثير في وانظر دلائل النبوة للبيهقي (3 / 398 ط دار الكتب العلمية) .
(2) المغني 9 / 58، والأم للشافعي 7 / 40، وقليوبي 4 / 304، والشرح الصغير 2 / 295.(11/258)
يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلاَ يَأْخُذْ مِنْهُ شَيْئًا، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ (1) .
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الْقَضَاءَ بِشَهَادَةِ الزُّورِ يَنْفُذُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا فِي الْفُسُوخِ وَالْعُقُودِ، حَيْثُ كَانَ الْمَحَل قَابِلاً، وَالْقَاضِي غَيْرُ عَالِمٍ. لِقَوْل عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لاِمْرَأَةٍ أَقَامَ عَلَيْهَا رَجُلٌ بَيِّنَةً عَلَى أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا، فَأَنْكَرَتْ، فَقَضَى لَهُ عَلِيٌّ. فَقَالَتْ لَهُ: لَمْ يَتَزَوَّجْنِي، فَأَمَّا وَقَدْ قَضَيْتَ عَلَيَّ فَجَدِّدْ نِكَاحِي، فَقَال: لاَ أُجَدِّدُ نِكَاحَكِ، الشَّاهِدَانِ زَوَّجَاكِ (2) .
وَمَحَل تَفْصِيل هَذَا فِي مُصْطَلَحِ: (قَضَاءٌ) (وَشَهَادَةٌ) .
التَّزْوِيرُ فِي الأَْيْمَانِ
13 - الأَْصْل أَنَّ التَّزْوِيرَ فِي الْيَمِينِ حَرَامٌ، وَهِيَ الْيَمِينُ الْغَمُوسُ: وَهِيَ الَّتِي يَكْذِبُ فِيهَا الْحَالِفُ عَامِدًا عَالِمًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ الَّتِي يَكْذِبُ فِيهَا الْحَالِفُ عَمْدًا، أَوْ يَشُكُّ فِي الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، أَوْ يَظُنُّ مِنْهُ ظَنًّا غَيْرَ قَوِيٍّ.
وَقَدْ يَكُونُ تَزْوِيرُ الْيَمِينِ جَائِزًا أَوْ وَاجِبًا - عَلَى
__________
(1) حديث: " إنما أنا بشر. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 12 / 339 ط السلفية) .
(2) ابن عابدين 4 / 333 - 334.(11/258)
الْخِلاَفِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ - فِيمَا إِذَا تَعَيَّنَ تَزْوِيرُ الْيَمِينِ عِنْدَ الإِْكْرَاهِ عَلَيْهَا أَوِ الاِضْطِرَارِ إِلَيْهَا، لِدَفْعِ الأَْذَى عَنْ نَفْسِهِ أَوْ عَنْ مَظْلُومٍ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْصِيل أَحْكَامِ الْيَمِينِ الْغَمُوسِ فِي مُصْطَلَحِ: (أَيْمَانٌ) (1)
تَضْمِينُ شُهُودِ الزُّورِ:
14 - يَضْمَنُ شُهُودُ الزُّورِ مَا تَرَتَّبَ عَلَى شَهَادَتِهِمْ مِنْ ضَمَانٍ، فَإِنْ كَانَ الْمَحْكُومُ بِهِ مَالاً رُدَّ إِلَى صَاحِبِهِ، وَإِنْ كَانَ إِتْلاَفًا فَعَلَى الشُّهُودِ ضَمَانُهُ؛ لأَِنَّهُمْ سَبَبُ إِتْلاَفِهِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، (2) وَالْحَنَابِلَةُ (3) إِلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَى شُهُودِ الزُّورِ، إِذَا شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ بِمَا يُوجِبُ قَتْلَهُ، كَأَنْ شَهِدُوا عَلَيْهِ بِقَتْلٍ عَمْدٍ عُدْوَانٍ، أَوْ بِرِدَّةٍ، أَوْ بِزِنًى وَهُوَ مُحْصَنٌ، فَقُتِل بِشَهَادَتِهِمَا، ثُمَّ رَجَعَا، وَأَقَرَّا بِتَعَمُّدِ قَتْلِهِ بِتِلْكَ الشَّهَادَةِ؛ لِعِلْمِهِمَا أَنَّهُ يُقْتَل بِشَهَادَتِهِمَا. فَيَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَيْهِمَا لِتَعَمُّدِ الْقَتْل بِتَزْوِيرِ الشَّهَادَةِ؛ لأَِنَّ شَهَادَتَهُمَا سَبَبُ الْقَتْل، وَلاَ يَجِبُ الْقِصَاصُ بِنَفْسِ التَّزْوِيرِ وَالْكَذِبِ.
وَتَجِبُ عَلَيْهِمَا الدِّيَةُ الْمُغَلَّظَةُ إِذَا آل الأَْمْرُ إِلَيْهَا بَدَل الْقِصَاصِ. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ إِذَا شَهِدَا زُورًا بِمَا
__________
(1) الموسوعة الفقهية 7 / 282، 286، 287.
(2) نهاية المحتاج 8 / 311.
(3) المغني 9 / 262، 8 / 645.(11/259)
يُوجِبُ الْقَطْعَ قِصَاصًا فَقُطِعَ، أَوْ فِي سَرِقَةٍ لَزِمَهُمَا الْقَطْعُ، وَإِذَا سَرَى أَثَرُ الْقَطْعِ إِلَى النَّفْسِ فَعَلَيْهِمَا الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ. كَمَا يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْقَاضِي إِذَا قَضَى زُورًا بِالْقِصَاصِ، وَكَانَ يَعْلَمُ بِكَذِبِ الشُّهُودِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ (1) وَالْحَنَفِيَّةُ (2) : إِلَى أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الدِّيَةُ لاَ الْقِصَاصُ. لأَِنَّ الْقَتْل بِشَهَادَةِ الزُّورِ قَتْلٌ بِالسَّبَبِ، وَالْقَتْل تَسَبُّبًا لاَ يُسَاوِي الْقَتْل مُبَاشَرَةً، وَلِذَا قَصَرَ أَثَرُهُ فَوَجَبَتْ بِهِ الدِّيَةُ لاَ الْقِصَاصُ. وَمَحَل وُجُوبِ الْقِصَاصِ أَوِ الدِّيَةِ إِذَا تَبَيَّنَ كَذِبُ الشُّهُودِ، أَوْ رَجَعُوا عَنْ شَهَادَتِهِمْ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ. أَمَّا إِذَا رَجَعُوا قَبْلَهُ وَبَعْدَ الْحُكْمِ فَيُنْقَضُ الْحُكْمُ، وَلاَ غُرْمَ عَلَى الشُّهُودِ، بَل يُعَزَّرُونَ.
وَيَجِبُ حَدُّ الْقَذْفِ عَلَى شُهُودِ الزُّورِ إِذَا شَهِدُوا بِالزِّنَى، وَيُقَامُ عَلَيْهِمُ الْحَدُّ سَوَاءٌ تَبَيَّنَ كَذِبُهُمْ قَبْل الاِسْتِيفَاءِ أَوْ بَعْدَهُ، إِلاَّ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِمُ الْقِصَاصُ مَعَ حَدِّ الْقَذْفِ إِذَا شَهِدُوا بِالزِّنَى عَلَى مُحْصَنٍ، فَرُجِمَ بِسَبَبِ شَهَادَتِهِمْ. (3) وَلِلتَّفْصِيل فِي أَحْكَامِ الْقِصَاصِ وَالْقَذْفِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (جِنَايَةٌ، حُدُودٌ، قِصَاصٌ) وَكَذَلِكَ (شَهَادَةٌ) (وَقَضَاءٌ) .
__________
(1) الشرح الصغير 4 / 295.
(2) بدائع الصنائع 7 / 239.
(3) المغني 8 / 215، ونهاية المحتاج 8 / 311.(11/259)
التَّزْوِيرُ بِالأَْفْعَال:
15 - يَقَعُ التَّزْوِيرُ فِي الْبُيُوعِ بِإِخْفَاءِ عُيُوبِ السِّلْعَةِ وَتَزْيِينِهَا وَتَحْسِينِهَا؛ لإِِظْهَارِهَا بِشَكْلٍ مَقْبُولٍ تَرْغِيبًا فِيهَا، كَتَصْرِيَةِ الْحَيَوَانِ لِيَظُنَّ الْمُشْتَرِي كَثْرَةَ اللَّبَنِ، أَوْ صَبْغِ الْمَبِيعِ بِلَوْنٍ مَرْغُوبٍ فِيهِ، وَكَالْكَذِبِ فِي سِعْرِ السِّلْعَةِ فِي بُيُوعِ الأَْمَانَاتِ وَهِيَ: الْمُرَابَحَةُ وَالتَّوْلِيَةُ وَالْحَطِيطَةُ.
وَيَقَعُ التَّزْوِيرُ كَذَلِكَ بِمُحَاكَاةِ خَطِّ الْقَاضِي أَوْ تَزْوِيرِ تَوْقِيعِهِ أَوْ شَهَادَةِ الشُّهُودِ فِي سِجِلاَّتِ الْقَضَاءِ بِمَا يَسْلُبُ الْحُقُوقَ مِنْ أَصْحَابِهَا. كَمَا يَقَعُ التَّزْوِيرُ فِي النِّكَاحِ بِأَنْ يَكْتُمَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ عَيْبًا فِيهِ عَنِ الآْخَرِ.
وَقَدْ يَقَعُ التَّزْوِيرُ بِتَسْوِيدِ الشَّعْرِ بِقَصْدِ التَّغْرِيرِ وَالْكَذِبِ.
وَهَذِهِ الأَْنْوَاعُ مِنَ التَّزْوِيرِ هِيَ مِنَ التَّزْوِيرِ الْمُحَرَّمِ، وَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا (1)
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (تَدْلِيسٌ، تَسْوِيدٌ، بَيْعٌ، نِكَاحٌ، شَهَادَةٌ، قَضَاءٌ وَعَيْبٌ) .
التَّزْوِيرُ فِي النُّقُودِ وَالْمَوَازِينِ وَالْمَكَايِيل:
16 - التَّزْوِيرُ فِيهَا يَكُونُ بِالنَّقْصِ مِنْ مَقَادِيرِهَا، بِغِشِّهَا أَوْ تَغْيِيرِ أَوْزَانِهَا أَوْ أَحْجَامِهَا، كَأَنْ تُخْلَطَ
__________
(1) حديث: " من غشنا فليس منا " أخرجه مسلم (1 / 99 ط عيسى الحلبي) .(11/260)
دَنَانِيرُ الذَّهَبِ أَوْ دَرَاهِمُ الْفِضَّةِ بِمَعَادِنَ أُخْرَى كَالنُّحَاسِ وَالرَّصَاصِ، رَغْبَةً فِي نَقْصِ مِقْدَارِ الذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ الْخَالِصَيْنِ، أَوْ بِالنَّقْصِ مِنْ حَجْمِ الدِّينَارِ أَوِ الدِّرْهَمِ.
أَوْ أَنْ يُنْقِصَ مِنْ وَزْنِ الصَّنْجِ الَّتِي يَسْتَعْمِلُهَا فِي الْمَوَازِينِ، أَوْ حَجْمِ الْمِكْيَال، رَغْبَةً فِي زِيَادَةِ الرِّبْحِ وَتَقْلِيل الْمَبِيعِ الْمَوْزُونِ أَوِ الْمَكِيل.
وَالتَّزْوِيرُ فِي النُّقُودِ وَالْمَوَازِينِ وَالْمَكَايِيل مُحَرَّمٌ دَاخِلٌ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} (1) .
وَدَاخِلٌ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا كَمَا أَنَّ فِيهِ إِفْسَادًا لِلنُّقُودِ، وَإِضْرَارًا بِذَوِي الْحُقُوقِ، وَإِغْلاَءَ الأَْسْعَارِ، وَالنَّقْصَ مِنَ الصَّدَقَاتِ، وَانْقِطَاعَ مَا يُجْلَبُ إِلَى الْبِلاَدِ مِنْ حَوَائِجِ النَّاسِ.
وَلِذَلِكَ كَانَ مِنْ وَظِيفَةِ الْمُحْتَسِبِ أَنْ يَتَفَقَّدَ عِيَارَ الْمَثَاقِيل وَالصَّنْجِ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُعَيِّرَ أَوْزَانَهَا وَيَخْتِمَهَا بِخَتْمِهِ، حَتَّى يَأْمَنَ تَزْوِيرَهَا وَتَغْيِيرَ مَقَادِيرِهَا.
كَمَا تَدْخُل فِي وَظِيفَتِهِ مُرَاقَبَةُ مَقَادِيرِ دَنَانِيرِ الذَّهَبِ وَدَرَاهِمِ الْفِضَّةِ وَزْنًا وَحَجْمًا. وَلاَ يَجُوزُ لِلإِْمَامِ ضَرْبُ الدَّرَاهِمِ الْمَغْشُوشَةِ، وَحُرْمَتُهُ فِي حَقِّ غَيْرِ الإِْمَامِ أَشَدُّ، لأَِنَّ الْغِشَّ فِيهَا يَخْفَى
__________
(1) سورة المطففين / 1 - 3.(11/260)
عَلَى النَّاسِ فَيَكُونُ الْغَرَرُ بِهَا أَكْبَرَ. بِخِلاَفِ الإِْمَامِ؛ لأَِنَّ مَا يَضْرِبُهُ مِنْ دَنَانِيرَ وَدَرَاهِمَ يُشْهَرُ وَيُعْرَفُ مِقْدَارُهُ.
كَمَا لاَ يَجُوزُ لِغَيْرِ الإِْمَامِ ضَرْبُ الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ الْخَالِصَةِ غَيْرِ الْمَغْشُوشَةِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يُؤْمَنُ فِيهَا الْغِشُّ وَالْفَسَادُ. (1)
صُوَرُ التَّزْوِيرِ فِي الْمُسْتَنَدَاتِ وَطُرُقُ التَّحَرُّزِ مِنْهَا:
17 - جَاءَ فِي تَبْصِرَةِ الْحُكَّامِ: وَمِثْلُهُ فِي مُعِينِ الْحُكَّامِ: يَنْبَغِي لِلْمُوَثِّقِ أَنْ يَتَأَمَّل الأَْسْمَاءَ الَّتِي تَنْقَلِبُ بِإِصْلاَحٍ يَسِيرٍ، فَيَتَحَفَّظُ فِي تَغْيِيرِهَا، نَحْوُ مُظْفِرٍ فَإِنَّهُ يَنْقَلِبُ إِلَى مُظْهِرٍ، وَنَحْوُ بَكْرٍ فَإِنَّهُ يَنْقَلِبُ إِلَى بُكَيْرٍ، وَنَحْوُ عَائِشَة فَإِنَّهُ يَصْلُحُ عَاتِكَةَ. وَقَدْ يَكُونُ آخِرُ السَّطْرِ بَيَاضًا يُمْكِنُ أَنْ يُزَادَ فِيهِ شَيْءٌ آخَرُ. وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَحْذَرَ مِنْ أَنْ يُتَمِّمَ عَلَيْهِ زِيَادَةَ حَرْفٍ مِنَ الْكِتَابِ مِثْل أَنْ يَكْتُبَ فِي الْوَثِيقَةِ: أَقَرَّ أَنَّ لَهُ عِنْدَهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ عَقِبَ الْعَدَدِ بَيَانَ نِصْفِهِ بِأَنْ يَقُول: (الَّذِي نِصْفُهُ خَمْسُمِائَةٍ مَثَلاً) أَمْكَنَ زِيَادَةُ أَلْفٍ فَتَصِيرُ (أَلْفَا دِرْهَمٍ) (2) .
وَفِي التَّنْبِيهِ لاِبْنِ الْمُنَاصِفِ: وَلاَ يَنْبَغِي أَنْ يُنْصَبَ لِكِتَابَةِ الْوَثَائِقِ إِلاَّ الْعُلَمَاءُ الْعُدُول، كَمَا قَال مَالِكٌ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: لاَ يَكْتُبُ
__________
(1) المجموع 6 / 10، ونهاية الرتبة في طلب الحسبة ص 74 - 78، ومعالم القربة ص 85.
(2) تبصرة الحكام 1 / 185، ومعين الحكام ص 89.(11/261)
الْكُتُبَ بَيْنَ النَّاسِ إِلاَّ عَارِفٌ بِهَا، عَدْلٌ فِي نَفْسِهِ، مَأْمُونٌ عَلَى مَا يَكْتُبُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْل} (1) وَأَمَّا مَنْ لاَ يُحْسِنُ وُجُوهَ الْكِتَابَةِ، وَلاَ يَقِفُ عَلَى فِقْهِ الْوَثِيقَةِ، فَلاَ يَنْبَغِي أَنْ يُمَكَّنَ مِنَ الاِنْتِصَابِ لِذَلِكَ؛ لِئَلاَّ يُفْسِدَ عَلَى النَّاسِ كَثِيرًا مِنْ مُعَامَلاَتِهِمْ. وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ عَالِمًا بِوُجُوهِ الْكِتَابَةِ إِلاَّ أَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي دِينِهِ، فَلاَ يَنْبَغِي تَمْكِينُهُ مِنْ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ لاَ يَضَعُ اسْمَهُ بِشَهَادَةٍ فِيمَا يَكْتُبُ؛ لأَِنَّ مِثْل هَذَا يُعَلِّمُ النَّاسَ وُجُوهَ الشَّرِّ وَالْفَسَادِ، وَيُلْهِمُهُمْ تَحْرِيفَ الْمَسَائِل لِتَوَجُّهِ الإِْشْهَادِ، فَكَثِيرًا مَا يَأْتِي النَّاسُ الْيَوْمَ يَسْتَفْتُونَ فِي نَوَازِل مِنَ الْمُعَامَلاَتِ الرِّبَوِيَّةِ وَالْمُشَارَكَةِ الْفَاسِدَةِ وَالأَْنْكِحَةِ الْمَفْسُوخَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لاَ يَجُوزُ، فَإِذَا صَرَفَهُمْ عَنْ ذَلِكَ أَهْل الدِّيَانَةِ أَتَوْا إِلَى مِثْل هَؤُلاَءِ، فَحَرَّفُوا أَلْفَاظَهَا، وَتَحَيَّلُوا لَهَا بِالْعِبَارَةِ الَّتِي ظَاهِرُهَا الْجَوَازُ، وَهِيَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى صَرِيحِ الْفَسَادِ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا. وَتَمَالأََ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ عَلَى التَّهَاوُنِ بِحُدُودِ الإِْسْلاَمِ، وَالتَّلاَعُبِ فِي طَرِيقِ الْحَرَامِ، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} (2) .
وَجَاءَ فِي " تَبْصِرَةِ الْحُكَّامِ " أَيْضًا، وَفِي " الْعَالِي الرُّتْبَةِ فِي أَحْكَامِ الْحِسْبَةِ " لأَِحْمَدَ بْنِ مُوسَى بْنِ النَّحْوِيِّ الدِّمَشْقِيِّ الشَّافِعِيِّ
__________
(1) سورة البقرة / 282.
(2) تبصرة الحكام ص 89، ومعين الحكام ص 92. والآية في سورة الشعراء آية 227(11/261)
فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُوَثِّقِ مِمَّا لاَ يُخَالِفُ قَوَاعِدَ مَذْهَبِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، قَال: فَإِذَا فَرَغَ الْكَاتِبُ مِنْ كِتَابَتِهِ اسْتَوْعَبَهُ (أَيْ كِتَابَتَهُ) وَقَرَأَهُ وَتَمَيَّزَ أَلْفَاظُهُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُمَيِّزَ فِي خَطِّهِ بَيْنَ السَّبْعَةِ وَالتِّسْعَةِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ مِائَةُ دِرْهَمٍ كَتَبَ بَعْدَهَا (وَاحِدَةً) وَيَنْبَغِي أَنْ يَذْكُرَ نِصْفَهَا، فَإِنْ كَانَتْ (أَيِ الدَّرَاهِمُ) أَلْفًا كَتَبَ وَاحِدًا وَذَكَرَ نِصْفَهُ رَفْعًا لِلَّبْسِ، وَإِنْ كَانَتْ خَمْسَةَ آلاَفٍ زَادَ فِيهَا لاَ مَا تُصَيِّرُهَا (آلاَفَ) لِئَلاَّ تُصَلَّحَ الْخَمْسَةُ فَتَصِيرُ خَمْسِينَ أَلْفًا وَيُحْتَرَزُ بِذِكْرِ التَّنْصِيفِ مِمَّا يُمْكِنُ الزِّيَادَةُ فِيهِ كَالْخَمْسَةَ عَشَرَ تَصِيرُ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ، وَالسَّبْعِينَ تِسْعِينَ، فَإِنْ لَمْ يَذْكُرِ الْكَاتِبُ النِّصْفَ مِنَ الْمَبْلَغِ فَيَنْبَغِي لِلشُّهُودِ أَنْ يَذْكُرُوا الْمَبْلَغَ فِي شَهَادَتِهِمْ لِئَلاَّ يَدْخُل عَلَيْهِمُ الشَّكُّ لَوْ طَرَأَ فِي الْكِتَابِ تَغْيِيرٌ وَتَبْدِيلٌ، وَإِنْ وَقَعَ فِي الْكِتَابِ إِصْلاَحٌ وَإِلْحَاقٌ نُبِّهَ عَلَيْهِ وَعَلَى مَحَلِّهِ فِي الْكِتَابِ، وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُكْمِل أَسْطُرَ الْمَكْتُوبِ جَمِيعَهَا لِئَلاَّ يُلْحَقَ فِي آخِرِ السَّطْرِ مَا يُفْسِدُ بَعْضَ أَحْكَامِ الْمَكْتُوبِ أَوْ يُفْسِدُهُ كُلَّهُ، فَلَوْ كَانَ آخِرُ سَطْرٍ مَثَلاً. (وَجَعَل النَّظَرَ فِي الْوَقْفِ الْمَذْكُورِ) وَفِي أَوَّل السَّطْرِ الَّذِي يَلِيهِ (لِزَيْدٍ) وَكَانَ فِي آخِرِ السَّطْرِ فُرْجَةٌ أَمْكَنَ أَنْ يُلْحِقَ فِيهَا (لِنَفْسِهِ) ثُمَّ لِزَيْدٍ، فَيَبْطُل الْوَقْفُ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَإِنِ اتَّفَقَ أَنَّهُ بَقِيَ فِي آخِرِ السَّطْرِ فُرْجَةٌ لاَ تَسَعُ الْكَلِمَةَ الَّتِي يُرِيدُ كِتَابَتَهَا لِطُولِهَا وَكَثْرَةِ حُرُوفِهَا، فَإِنَّهُ يَسُدُّ تِلْكَ الْفُرْجَةَ بِتَكْرَارِهِ تِلْكَ الْكَلِمَةَ الَّتِي وَقَفَ(11/262)
عَلَيْهَا أَوْ كَتَبَ فِيهَا صَحَّ، أَوْ صَادًا مَمْدُودَةً، أَوْ دَائِرَةً مَفْتُوحَةً، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يَشْغَل بِهِ تِلْكَ الْفُرْجَةَ، وَلاَ يُمْكِنُ إِصْلاَحُهَا بِمَا يُخَالِفُ الْمَكْتُوبَ. وَإِنْ تَرَكَ فُرْجَةً فِي السَّطْرِ الأَْخِيرِ كَتَبَ فِيهَا حَسْبِي اللَّهُ أَوِ الْحَمْدُ لِلَّهِ، مُسْتَحْضِرًا لِذِكْرِ اللَّهِ نَاوِيًا لَهُ، أَوْ يَأْمُرُ أَوَّل شَاهِدٍ يَضَعُ خَطَّهُ فِي الْمَكْتُوبِ أَنْ يَكْتُبَ فِي تِلْكَ الْفُرْجَةِ. وَإِنْ كَتَبَ فِي وَرَقَةٍ ذَاتِ أَوْصَالٍ كَتَبَ عَلاَمَتَهُ عَلَى كُل وَصْلٍ، وَكَتَبَ عَدَدَ الأَْوْصَال فِي آخِرِ الْمَكْتُوبِ، وَبَعْضُهُمْ يَكْتُبُ عَدَدَ أَسْطُرِ الْمَكْتُوبِ، وَإِنْ كَانَ لِلْمَكْتُوبِ نُسَخٌ ذَكَرَهَا وَذَكَرَ عُدَّتَهَا، وَأَنَّهَا مُتَّفِقَةٌ، وَهَذَا نَبَّهَ عَلَيْهِ ابْنُ سَهْلٍ وَابْنُ الْهِنْدِيِّ وَغَيْرُهُمَا.
وَمِثْلُهُ فِي مُعِينِ الْحُكَّامِ أَيْضًا وَقَال: إِنَّ ذَلِكَ مِمَّا لاَ يُخَالِفُ قَوَاعِدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. (1)
وَجَاءَ فِي مَجَلَّةِ الأَْحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ (الْمَادَّةُ 1814) وَنَصُّهَا:
يَضَعُ الْقَاضِي فِي الْمَحْكَمَةِ دَفْتَرًا لِلسِّجِلاَّتِ، وَيُقَيِّدُ وَيُحَرِّرُ فِي ذَلِكَ الدَّفْتَرِ الإِْعْلاَمَاتِ وَالسَّنَدَاتِ الَّتِي يُعْطِيهَا بِصُورَةٍ مُنْتَظِمَةٍ سَالِمَةٍ عَنِ الْحِيلَةِ وَالْفَسَادِ، وَيَعْتَنِي بِالدِّقَّةِ بِحِفْظِ ذَلِكَ الدَّفْتَرِ، وَإِذَا عُزِل سَلَّمَ السِّجِلاَّتِ الْمَذْكُورَةَ إِلَى خَلَفِهِ، إِمَّا بِنَفْسِهِ أَوْ بِوَاسِطَةِ أَمِينِهِ.
__________
(1) تبصرة الحكام 1 / 89، ومعين الحكام ص 92، 93.(11/262)
إِثْبَاتُ التَّزْوِيرِ:
18 - يَثْبُتُ التَّزْوِيرُ بِإِقْرَارِ الْمُزَوِّرِ عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ ظُهُورِ الْكَذِبِ يَقِينًا، كَأَنْ يَشْهَدَ بِقَتْل رَجُلٍ وَهُوَ حَيٌّ، أَوْ شَهِدَ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ فَعَل شَيْئًا فِي وَقْتٍ، وَقَدْ مَاتَ قَبْل ذَلِكَ الْوَقْتِ، أَوْ لَمْ يُولَدْ إِلاَّ بَعْدَهُ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ. (1)
19 - أَمَّا التَّزْوِيرُ فِي الْوَثَائِقِ، فَذَهَبَ اللَّخْمِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَأَبُو اللَّيْثِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إِلَى أَنَّهُ إِذَا ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ بِمَالٍ فَجَحَدَهُ، فَأَخْرَجَ الْمُدَّعِي صَحِيفَةً مَكْتُوبَةً بِخَطِّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا بَيِّنَةٌ، فَطَلَبَ الْمُدَّعِي أَنْ يُجْبَرَ عَلَى أَنْ يَكْتُبَ بِحَضْرَةِ الْعُدُول، وَيُقَابِل مَا كَتَبَهُ بِمَا أَظْهَرَهُ الْمُدَّعِي، فَإِنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى الْكِتَابَةِ، وَعَلَى أَنْ يُطَوِّل فِيمَا يَكْتُبُ تَطْوِيلاً لاَ يُمْكِنُ مَعَهُ أَنْ يَسْتَعْمِل خَطًّا غَيْرَ خَطِّهِ، فَإِنْ ظَهَرَ بَيْنَ الْخَطَّيْنِ تَشَابُهٌ ظَاهِرٌ دَالٌّ عَلَى أَنَّهُمَا خَطُّ كَاتِبٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّهُ حُجَّةٌ يَقْضِي بِهَا.
وَقَال أَبُو اللَّيْثِ: وَبِهِ قَال أَئِمَّةُ بُخَارَى (2) . وَقَال عَبْدُ الْحَمِيدِ الصَّائِغُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّهُ لاَ يُجْبَرُ عَلَيْهِ، كَمَا لاَ يُجْبَرُ عَلَى إِحْضَارِ بَيِّنَةٍ تَشْهَدُ عَلَيْهِ.
وَفَرَّقَ اللَّخْمِيُّ بَيْنَ إِلْزَامِهِ بِالْكِتَابَةِ وَعَدَمِ إِلْزَامِهِ بِإِحْضَارِ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ بِأَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ
__________
(1) المغني 9 / 211، وابن عابدين 4 / 395.
(2) تبصرة الحكام 1 / 295، ومعين الحكام 157.(11/263)
يَقْطَعُ بِتَكْذِيبِ الْبَيِّنَةِ الَّتِي تَشْهَدُ عَلَيْهِ، فَلاَ يَنْبَغِي أَنْ يَسْعَى فِي أَمْرٍ يَقْطَعُ بِبُطْلاَنِهِ، أَمَّا خَطُّهُ فَإِنَّهُ صَادِرٌ مِنْهُ بِإِقْرَارِهِ، وَالْعُدُول يُقَابِلُونَ بِمَا يَكْتُبُهُ الآْنَ بِمَا أَحْضَرَهُ الْمُدَّعِي، وَيَشْهَدُونَ بِمُوَافَقَتِهِ أَوْ مُخَالَفَتِهِ.
كَمَا نَقَل صَاحِبُ الْمُحِيطِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ نَصَّ أَنَّ ذَلِكَ لاَ يَكُونُ حُجَّةً؛ لأَِنَّهَا لاَ تَكُونُ أَعْلَى حَالاً مِمَّا لَوْ أَقَرَّ فَقَال: هَذَا خَطِّي، وَأَنَا كَتَبْتُهُ، غَيْرَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ عَلَيَّ هَذَا الْمَال، كَانَ الْقَوْل قَوْلَهُ وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ. (1)
عُقُوبَةُ التَّزْوِيرِ
20 - عُقُوبَةُ التَّزْوِيرِ: التَّعْزِيرُ بِمَا يَرَاهُ الْحَاكِمُ. كَأَيِّ جَرِيمَةٍ لَيْسَ لَهَا عُقُوبَةٌ مُقَدَّرَةٌ، إِنْ عَلِمَ أَنَّهُ تَعَمَّدَ التَّزْوِيرَ، فَيُعَزَّرُ بِمَا يَرَاهُ الْحَاكِمُ مِنْ تَشْهِيرٍ أَوْ ضَرْبٍ أَوْ حَبْسٍ، أَوْ كَشْفِ رَأْسِهِ وَإِهَانَتِهِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. (2)
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي: (شَهَادَةٌ، تَعْزِيرٌ، تَشْهِيرٌ) .
تَزْيِينٌ
انْظُرْ: تَزَيُّنٌ.
__________
(1) المصادر السابقة.
(2) المغني 9 / 259 - 260، وابن عابدين 4 / 395، ومطالب أولي النهى 6 / 648، وكشاف القناع 6 / 447، وقليوبي 4 / 205، ومواهب الجليل 4 / 449، والزرقاني 5 / 133.(11/263)
تَزَيُّنٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّزَيُّنُ هُوَ: اتِّخَاذُ الزِّينَةِ، وَهِيَ فِي اللُّغَةِ: اسْمٌ جَامِعٌ لِكُل شَيْءٍ يُتَزَيَّنُ بِهِ، مِنْ بَابِ إِطْلاَقِ اسْمِ الْمَصْدَرِ وَإِرَادَةِ الْمَفْعُول.
وَفِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَل: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (1) مَعْنَاهُ لاَ يُبْدِينَ الزِّينَةَ الْبَاطِنَةَ كَالْقِلاَدَةِ وَالْخَلْخَال وَالدُّمْلُجِ وَالسِّوَارِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ هُوَ الثِّيَابُ وَزِينَةُ الْوَجْهِ. (2)
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
التَّحَسُّنُ، وَالتَّحَلِّي:
2 - التَّحَسُّنُ مِنَ الْحُسْنِ، نَقِيضُ الْقُبْحِ. وَمَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ: التَّزَيُّنُ. يُقَال: حَسَّنَ الشَّيْءَ تَحْسِينًا زَيَّنَهُ، قَال الرَّاغِبُ الأَْصْفَهَانِيُّ: الْحُسْنُ أَكْثَرُ مَا يُقَال فِي تَعَارُفِ الْعَامَّةِ فِي الْمُسْتَحْسَنِ بِالْبَصَرِ،
__________
(1) سورة النور / 31.
(2) لسان العرب، والمصباح المنير، والصحاح مادة: " زين ". وانظر ابن عابدين 2 / 617، وحاشية القليوبي 3 / 208، 209.(11/264)
وَأَكْثَرُ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فِي الْمُسْتَحْسَنِ مِنْ جِهَةِ الْبَصِيرَةِ (1) .
3 - وَالتَّحْلِيَةُ فِي اللُّغَةِ: لُبْسُ الْحُلِيِّ، يُقَال: تَحَلَّتِ الْمَرْأَةُ: لَبِسَتِ الْحُلِيَّ أَوِ اتَّخَذَتْهُ، وَحَلَّيْتَهَا - بِالتَّشْدِيدِ - أَلْبَسْتَهَا الْحُلِيَّ أَوِ اتَّخَذْتَهُ لَهَا لِتَلْبَسَهُ (2) .
4 - وَالتَّزَيُّنُ وَالتَّجَمُّل وَالتَّحَسُّنُ تَكَادُ تَكُونُ مُتَقَارِبَةَ الْمَعَانِي، وَكُلُّهَا أَعَمُّ مِنَ التَّحْلِيَةِ لِتَنَاوُلِهَا مَا لَيْسَ حِلْيَةً، كَالاِكْتِحَال وَتَسْرِيحِ الشَّعْرِ وَالاِخْتِضَابِ وَنَحْوِهَا.
وَقَدْ فَرَّقَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ التَّحَسُّنِ وَالتَّجَمُّل، بِأَنَّ التَّحَسُّنَ مِنَ الْحُسْنِ، وَهُوَ فِي الأَْصْل الصُّورَةُ، ثُمَّ اسْتُعْمِل فِي الأَْخْلاَقِ وَالأَْفْعَال.
وَالتَّجَمُّل مِنَ الْجَمَال، وَهُوَ فِي الأَْصْل لِلأَْفْعَال وَالأَْخْلاَقِ وَالأَْحْوَال الظَّاهِرَةِ، ثُمَّ اسْتُعْمِل فِي الصُّوَرِ. (3)
أَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَ كُلٍّ مِنَ التَّحَسُّنِ وَالتَّجَمُّل، وَبَيْنَ التَّزَيُّنِ، فَقِيل: إِنَّ التَّزَيُّنَ يَكُونُ بِالزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ عَنِ الأَْصْل، قَال تَعَالَى: {وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} (4) .
__________
(1) مختار الصحاح والمصباح المنير مادة: " حسن " والمفردات للراغب الأصفهاني مادتي: " حسن "، " زين ".
(2) المصباح المنير.
(3) الفروق في اللغة لأبي الهلال العسكري ص 257 نشر دار الآفاق.
(4) سورة فصلت / 12.(11/264)
وَقَال الْقُرْطُبِيُّ: الزِّينَةُ الْمُكْتَسَبَةُ مَا تُحَاوِل الْمَرْأَةُ أَنْ تُحَسِّنَ نَفْسَهَا بِهِ، كَالثِّيَابِ وَالْحُلِيِّ وَالْكُحْل وَالْخِضَابِ (1) ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُل مَسْجِدٍ} (2)
أَمَّا كُلٌّ مِنَ التَّحَسُّنِ وَالتَّجَمُّل فَيَكُونُ بِزِيَادَةٍ مُتَّصِلَةٍ بِالأَْصْل أَوْ نُقْصَانٍ فِيهِ، كَمَا تُفِيدُهُ الآْيَةُ الْكَرِيمَةُ: {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} (3) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
5 - الأَْصْل فِي التَّزَيُّنِ: الاِسْتِحْبَابُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُل مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} (4) وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ نِعْمَةً، فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِ (5) .
فَفِي هَذِهِ الآْيَةِ دَلاَلَةٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ لُبْسِ الرَّفِيعِ مِنَ الثِّيَابِ، وَالتَّجَمُّل بِهَا فِي الْجُمَعِ وَالأَْعْيَادِ وَعِنْدَ لِقَاءِ النَّاسِ وَزِيَارَةِ الإِْخْوَانِ. قَال أَبُو الْعَالِيَةِ: كَانَ الْمُسْلِمُونَ إِذَا تَزَاوَرُوا تَجَمَّلُوا.
وَقَدْ رَوَى مَكْحُولٌ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
__________
(1) تفسير القرطبي 12 / 229، وانظر تفسير ابن كثير 2 / 210، 3 / 304.
(2) سورة الأعراف / 31.
(3) سورة غافر / 64.
(4) سورة الأعراف / 32.
(5) حديث: " من أنعم الله عليه نعمة. . . " أخرجه أحمد (4 / 438 - ط الميمنية) وقال الهيثمي: رجاله ثقات (المجمع 5 / 132 - ط القدسي) .(11/265)
قَالَتْ: كَانَ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْتَظِرُونَهُ عَلَى الْبَابِ، فَخَرَجَ يُرِيدُهُمْ، وَفِي الدَّارِ رَكْوَةٌ فِيهَا مَاءٌ، فَجَعَل يَنْظُرُ فِي الْمَاءِ وَيُسَوِّي لِحْيَتَهُ وَشَعْرَهُ. فَقُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ. وَأَنْتَ تَفْعَل هَذَا؟ قَال: نَعَمْ، إِذَا خَرَجَ الرَّجُل إِلَى إِخْوَانِهِ فَلْيُهَيِّئْ مِنْ نَفْسِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَال (1) وَالأَْحَادِيثُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ تَدُل كُلُّهَا عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ التَّزَيُّنِ وَتَحْسِينِ الْهَيْئَةِ (2) .
6 - وَيَنْبَغِي أَلاَّ يُقْصَدَ بِالتَّزَيُّنِ التَّكَبُّرُ وَلاَ الْخُيَلاَءُ؛ لأَِنَّ قَصْدَ ذَلِكَ حَرَامٌ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ فِي حَاشِيَتِهِ مَا نَصُّهُ: اعْلَمْ أَنَّهُ لاَ تَلاَزُمَ بَيْنَ قَصْدِ الْجَمَال وَقَصْدِ الزِّينَةِ، فَالْقَصْدُ الأَْوَّل: لِدَفْعِ الشَّيْنِ وَإِقَامَةِ مَا بِهِ الْوَقَارُ وَإِظْهَارُ النِّعْمَةِ، شُكْرًا لاَ فَخْرًا، وَهُوَ أَثَرُ أَدَبِ النَّفْسِ وَشَهَامَتِهَا.
وَأَمَّا الثَّانِي: وَهُوَ قَصْدُ الزِّينَةِ أَثَرُ ضَعْفِهَا، وَقَالُوا بِالْخِضَابِ وَرَدَتِ السُّنَّةُ وَلَمْ يَكُنْ لِقَصْدِ الزِّينَةِ. ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ إِنْ حَصَلَتْ زِينَةٌ فَقَدْ حَصَلَتْ فِي ضِمْنِ قَصْدٍ مَطْلُوبٍ فَلاَ يَضُرُّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُلْتَفِتًا إِلَيْهِ. وَلِهَذَا قَال فِي الْوَلْوَالِجِيَّةِ: لُبْسُ
__________
(1) حديث: " إذا خرج الرجل إلى إخوانه. . . " أخرجه السمعاني في أدب الإملاء والاستملاء (ص 32 - ط ليدن) وفي إسناده انقطاع بين مكحول وعائشة.
(2) حاشية ابن عابدين 5 / 481، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 7 / 195 - 198.(11/265)
الثِّيَابِ الْجَمِيلَةِ مُبَاحٌ إِذَا كَانَ لاَ يَتَكَبَّرُ؛ لأَِنَّ التَّكَبُّرَ حَرَامٌ، وَتَفْسِيرُهُ أَنْ يَكُونَ مَعَهَا كَمَا كَانَ قَبْلَهَا. (1)
7 - هَذَا، وَقَدْ تَعْرِضُ لِلتَّزَيُّنِ أَحْكَامٌ تَكْلِيفِيَّةٌ أُخْرَى، فَمِنْهُ مَا هُوَ وَاجِبٌ، وَمَا هُوَ مَكْرُوهٌ، وَمَا هُوَ حَرَامٌ.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ مَا هُوَ وَاجِبٌ: سَتْرُ الْعَوْرَةِ، وَتَزَيُّنُ الزَّوْجَةِ لِزَوْجِهَا مَتَى طَلَبَ مِنْهَا ذَلِكَ.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ مَا هُوَ مُسْتَحَبٌّ: تَزَيُّنُ الرَّجُل لِلْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ، وَخِضَابُ الشَّيْبِ لِلرَّجُل وَالْمَرْأَةِ (2) . (ر: اخْتِضَابٌ) .
وَمِنْ أَمْثِلَةِ مَا هُوَ مَكْرُوهٌ: لُبْسُ الْمُعَصْفَرِ وَالْمُزَعْفَرِ لِلرِّجَال (3) .
وَمِنْ أَمْثِلَةِ مَا هُوَ حَرَامٌ: تَشَبُّهُ الرِّجَال بِالنِّسَاءِ وَالْعَكْسُ فِي التَّزَيُّنِ (4) ، وَتَزَيُّنُ الرَّجُل بِالذَّهَبِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 113.
(2) الاختيار شرح المختار 1 / 45، والمهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 67 - 71، والمغني لابن قدامة 1 / 577 - 579 م الرياض الحديثة، وحاشية ابن عابدين 1 / 545، 556، 2 / 652، 3 / 188، 5 / 223، 274، 481 - 482، وفتح القدير 2 / 40، وروضة الطالبين 7 / 344، وحاشية الجمل على شرح المنهج 2 / 46، 98، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 1 / 381، 398، وجواهر الإكليل 1 / 96، 103، وكشاف القناع عن متن الإقناع 2 / 42، 51 ط النصر الحديثة.
(3) حاشية ابن عابدين 5 / 481 - 482.
(4) حاشية ابن عابدين 5 / 261، 269، 271، وروضة الطالبين 2 / 263، والمكتب الإسلامي، ونهاية المحتاج إلى شرح المنهاج 2 / 362، وكشاف القناع عن متن الإقناع 1 / 285 - 286 ط النصر الحديثة.(11/266)
وَلُبْسُهُ الْحَرِيرَ إِلاَّ لِعَارِضٍ. (1) وَتَزَيُّنُ مُعْتَدَّةِ الْوَفَاةِ (2) . وَتَزَيُّنُ الْمُحْرِمِ بِمَا أُمِرَ بِاجْتِنَابِهِ كَالطِّيبِ (3) . وَتَزَيُّنُ الْمَرْأَةِ لِغَيْرِ زَوْجِهَا (4) ، وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ وَتَفْصِيلُهَا فِي مَوَاضِعِهَا.
مَا يَكُونُ بِهِ التَّزَيُّنُ:
8 - لِكُل شَخْصٍ زِينَتُهُ الَّتِي يَتَزَيَّنُ بِهَا، فَمَثَلاً زِينَةُ الزَّوْجَةِ لِزَوْجِهَا فِي مَلْبَسِهَا وَحُلِيِّهَا وَطِيبِهَا، وَزِينَةُ الرَّجُل يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ أَنْ يَلْبَسَ أَحْسَنَ ثِيَابِهِ، وَيُفَضَّل الْبَيَاضُ مِنْهَا، وَيَتَطَيَّبُ.
9 - وَيَحْرُمُ عَلَى الرَّجُل التَّزَيُّنُ بِالْحَرِيرِ، وَالتَّحَلِّي بِالذَّهَبِ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ فِي يَمِينِهِ قِطْعَةَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 224، ونهاية المحتاج إلى شرح المنهاج 2 / 361، 365، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 1 / 62، والمغني لابن قدامة 1 / 588 الرياض الحديثة، والآداب الشرعية والمنح المرعية لابن مفلح الحنبلي 3 / 2.
(2) ابن عابدين 2 / 536، 616 - 617، وحاشية الجمل على شرح المنهج 4 / 457، وجواهر الإكليل 1 / 389، ونيل المآرب لشرح دليل الطالب 2 / 109 م الفلاح، ومنار السبيل في شرح الدليل 2 / 285 المكتب الإسلامي.
(3) الاختيار شرح المختار 1 / 143، والمهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 214 - 216، والشرح الكبير 2 / 54 - 61، وكشاف القناع عن متن الإقناع 2 / 366، 429، 430، 447 - 448.
(4) الآداب الشرعية والمنح المرعية لابن مفلح الحنبلي 3 / 356 م. الرياض الحديثة.(11/266)
حَرِيرٍ وَفِي شِمَالِهِ قِطْعَةَ ذَهَبٍ، وَقَال: هَذَانِ حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي (1)
وَلِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تَلْبَسُوا الْحَرِيرَ، فَإِنَّ مَنْ لَبِسَهُ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الآْخِرَةِ (2)
وَلِمَا فِي ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِلرَّجُل مِنْ مَعْنَى الْخُيَلاَءِ وَالرَّفَاهِيَةِ مِمَّا لاَ يَلِيقُ بِالرِّجَال، وَهَذَا مَا قَالَهُ الْفُقَهَاءُ. (3)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى: أَنَّهُ يُكْرَهُ لِلرَّجُل لُبْسُ الْمُعَصْفَرِ وَالْمُزَعْفَرِ، وَقَال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: رَأَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيَّ ثَوْبَيْنِ مُعَصْفَرَيْنِ فَقَال: إِنَّ هَذَا مِنْ ثِيَابِ الْكُفَّارِ فَلاَ تَلْبَسْهُمَا (4) وَيَحْرُمُ عِنْدَ بَعْضِ
__________
(1) حديث: " هذان حرام على ذكور أمتي. . . " أخرجه أحمد (1 / 115 - ط الميمنية) والنسائي (8 / 161 - ط المكتبة التجارية) ، من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو صحيح لطرقه. (التلخيص لابن حجر 3 / 52 - 54 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(2) حديث: " لا تلبسوا الحرير فإن من لبسه. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 10 / 284 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1642 - ط الحلبي) واللفظ لمسلم.
(3) حاشية ابن عابدين 5 / 224، ونهاية المحتاج إلى شرح المنهاج 2 / 361 - 362، والشرح الكبير 1 / 64، وجواهر الإكليل 1 / 10 - 11، والمغني لابن قدامة 1 / 588 م. الرياض الحديثة، والآداب الشرعية 3 / 2.
(4) حاشية ابن عابدين 5 / 231، والشرح الكبير 2 / 59، والمغني لابن قدامة 1 / 585. وحديث: " إن هذه من ثياب. . . " أخرجه مسلم (3 / 1647 - ط الحلبي) .(11/267)
الشَّافِعِيَّةِ الْمُزَعْفَرُ دُونَ الْمُعَصْفَرِ. وَفِي قَوْلٍ آخَرَ: عِنْدَهُمْ يَحْرُمُ الْمُعَصْفَرُ كَذَلِكَ. (1)
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ: يُكْرَهُ لِوَلِيِّ الصَّغِيرِ إِلْبَاسُهُ الذَّهَبَ وَالْحَرِيرَ، وَأَجَازُوا إِلْبَاسَهُ الْفِضَّةَ عَلَى الْمُعْتَمَدِ. (2)
وَلِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي ذَلِكَ قَوْلاَنِ:
أَحَدُهُمَا: الْجَوَازُ. وَالثَّانِي: الْمَنْعُ، لِعُمُومِ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْحَرِيرُ وَالذَّهَبُ حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي، وَحِلٌّ لإِِنَاثِهِمْ (3) .
وَجَازَ لِلْمَرْأَةِ التَّزَيُّنُ بِالْمَلْبُوسِ، ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً أَوْ مُحَلًّى بِهِمَا أَوْ حَرِيرًا، أَوْ مَا يَجْرِي مَجْرَى اللِّبَاسِ مِنْ زِرٍّ وَفُرُشٍ وَمَسَانِدَ، وَلَوْ نَعْلاً وَقَبْقَابًا، (4) وَتَفْصِيلُهُ فِي بَحْثِ: (أَلْبِسَةٌ) .
10 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الرِّجَال أَنْ يَتَشَبَّهُوا بِالنِّسَاءِ فِي الْحَرَكَاتِ وَلِينِ الْكَلاَمِ وَالزِّينَةِ وَاللِّبَاسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأُْمُورِ
__________
(1) نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج 2 / 369.
(2) رد المحتار على الدر المختار 5 / 224، 231، الشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 1 / 62.
(3) حديث: " الحرير والذهب حرام على. . . " أخرجه أحمد (4 / 394 - ط الميمنية) والنسائي (8 / 161 - ط المكتبة التجارية) من حديث أبي موسى رضي الله عنه، واللفظ لأحمد. وهو صحيح لطرقه. (التلخيص 3 / 53 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(4) نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج 2 / 364 - 365، والمغني لابن قدامة 1 / 590 - 592 ط الرياض الحديثة، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 1 / 64، وجواهر الإكليل 1 / 11.(11/267)
الْخَاصَّةِ بِهِنَّ عَادَةً أَوْ طَبْعًا. وَأَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى النِّسَاءِ أَيْضًا أَنْ يَتَشَبَّهْنَ بِالرِّجَال فِي مِثْل ذَلِكَ؛ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: لَعَنَ رَسُول اللَّهِ الْمُتَشَبِّهِينَ مِنَ الرِّجَال بِالنِّسَاءِ، وَالْمُتَشَبِّهَاتِ مِنَ النِّسَاءِ بِالرِّجَال (1) وَضَبَطَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ مَا يَحْرُمُ التَّشَبُّهُ بِهِنَّ فِيهِ: بِأَنَّهُ مَا كَانَ مَخْصُوصًا بِهِنَّ فِي جِنْسِهِ وَهَيْئَتِهِ أَوْ غَالِبًا فِي زِيِّهِنَّ، وَكَذَا يُقَال عَكْسُهُ. (2)
(ر: تَشَبُّهٌ) .
التَّزَيُّنُ فِي الْمُنَاسَبَاتِ:
11 - يُسْتَحَبُّ التَّزَيُّنُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ لِلْجُمَعِ وَالأَْعْيَادِ، وَعِنْدَ لِقَاءِ النَّاسِ وَتَزَاوُرِ الإِْخْوَانِ. وَذَلِكَ بِلُبْسِ أَحْسَنِ الثِّيَابِ وَالتَّطَيُّبِ، وَكَذَلِكَ التَّنْظِيفُ بِحَلْقِ الشَّعْرِ وَقَلْمِ الظُّفْرِ وَالسِّوَاكِ وَالاِغْتِسَال أَيَّامَ الْعِيدِ وَالْجُمُعَةِ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَغْتَسِل يَوْمَ الْفِطْرِ
__________
(1) حديث ابن عباس رضي الله عنه: " لعن رسول الله المتشبهين من الرجال. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 10 / 332 - ط السلفية) .
(2) حاشية ابن عابدين 5 / 261، 269، 271، وروضة الطالبين 2 / 263 المكتب الإسلامي، ونهاية المحتاج إلى شرح المنهاج 2 / 362، وكشاف القناع عن متن الإقناع 1 / 285 - 286 م. النصر الحديثة، وفتح الباري لابن حجر العسقلاني 10 / 332 - 333 م. السعودية، ونزهة المتقين شرح كتاب رياض الصالحين من كلام سيد المرسلين للنووي 2 / 1121 ط مؤسسة الرسالة.(11/268)
وَالأَْضْحَى (1) وَرُوِيَ أَيْضًا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال فِي جُمُعَةٍ مِنَ الْجُمَعِ إِنَّ هَذَا يَوْمٌ جَعَلَهُ اللَّهُ عِيدًا لِلْمُسْلِمِينَ، فَاغْتَسِلُوا، وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ طِيبٌ فَلاَ يَضُرُّهُ أَنْ يَمَسَّ مِنْهُ، وَعَلَيْكُمْ بِالسِّوَاكِ (2) وَرَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَعْتَمُّ، وَيَلْبَسُ بُرْدَهُ الأَْحْمَرَ فِي الْعِيدَيْنِ وَالْجُمُعَةِ (3) .
وَقَدْ رَوَى مَكْحُولٌ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْتَظِرُونَهُ عَلَى الْبَابِ فَخَرَجَ يُرِيدُهُمْ وَفِي الدَّارِ رَكْوَةٌ فِيهَا مَاءٌ فَجَعَل يَنْظُرُ فِي الْمَاءِ وَيُسَوِّي لِحْيَتَهُ وَشَعْرَهُ، فَقُلْتُ يَا رَسُول اللَّهِ وَأَنْتَ تَفْعَل هَذَا؟ قَال نَعَمْ، إِذَا خَرَجَ الرَّجُل إِلَى إِخْوَانِهِ فَلْيُهَيِّئْ مِنْ نَفْسِهِ فَإِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَال (4) (ر: تَحْسِينٌ ف 7 - 10) .
وَهَذَا كُلُّهُ بِالنِّسْبَةِ لِلرِّجَال، وَالإِْمَامُ بِذَلِكَ أَحَقُّ لأَِنَّهُ الْمَنْظُورُ إِلَيْهِ مِنْ بَيْنِهِمْ. (5) وَالتَّفْصِيل يُنْظَرُ فِي بَحْثَيْ: (جُمُعَةٌ وَعِيدٌ) .
__________
(1) حديث: " كان يغتسل يوم الفطر ويوم الأضحى " أخرجه ابن ماجه (1 / 417 - ط الحلبي) وقال ابن القطان: هذا حديث معلول بجبارة بن المفلس، فإنه ضعيف.
(2) حديث: " إن هذا يوم جعله الله. . . " أخرجه ابن ماجه (1 / 349 - ط الحلبي) من حديث ابن عباس رضي الله عنه، وهو صحيح لطرقه.
(3) حديث: " كان يلبس برده الأحمر في العيدين والجمعة " أخرجه البيهقي في سننه (3 / 247 - ط دائرة المعارف العثمانية) وفي إسناده ضعف.
(4) سبق تخريجه (ف / 5) .
(5) ابن عابدين 1 / 545، 556، والدسوقي 1 / 381، 398، وجواهر الإكليل 1 / 96، 103، وتفسير القرطبي 7 / 195 - 197، وروضة الطالبين 2 / 45، 76، وحاشية الجمل 2 / 37، 38، 46، 47، 98، وكشاف القناع 2 / 42، 51، 52، والمغني 2 / 370.(11/268)
التَّزَيُّنُ لِلصَّلاَةِ
12 - يُسْتَحَبُّ التَّزَيُّنُ لِلصَّلاَةِ خُشُوعًا لِلَّهِ وَاسْتِحْضَارًا لِعَظَمَتِهِ، لاَ تَكَبُّرًا وَخُيَلاَءَ، فَإِنَّهُ حَرَامٌ. وَالْمُسْتَحَبُّ لِلرَّجُل أَنْ يُصَلِّيَ فِي ثَوْبَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ إِلاَّ وَاحِدًا يَتَوَشَّحُ بِهِ جَازَ؛ لِحَدِيثِ: إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَلْبَسْ ثَوْبَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ أَحَقُّ مَنْ تُزُيِّنَ لَهُ (1)
قَال ابْنُ قُدَامَةَ فِي بَيَانِ الْفَضِيلَةِ فِي لِبَاسِ الصَّلاَةِ: وَهُوَ أَنْ يُصَلِّيَ فِي ثَوْبَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ، فَإِنَّهُ إِذًا أَبْلَغُ فِي السَّتْرِ، يُرْوَى عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: إِذَا أَوْسَعَ اللَّهُ فَأَوْسِعُوا، جَمَعَ رَجُلٌ عَلَيْهِ ثِيَابَهُ، وَصَلَّى رَجُلٌ فِي إِزَارٍ وَبُرْدٍ، أَوْ فِي إِزَارٍ وَقَمِيصٍ. فِي إِزَارٍ وَقَبَاءٍ، فِي سَرَاوِيل وَرِدَاءٍ، فِي سَرَاوِيل وَقَمِيصٍ، فِي سَرَاوِيل وَقَبَاءٍ، فِي تُبَّانٍ وَقَمِيصٍ. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ قَال عُمَرُ: إِذَا كَانَ لأَِحَدِكُمْ ثَوْبَانِ فَلْيُصَل فِيهِمَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ إِلاَّ ثَوْبٌ وَاحِدٌ فَلْيَتَّزِرْ بِهِ، وَلاَ يَشْتَمِل اشْتِمَال الْيَهُودِ (2) .
قَال التَّمِيمِيُّ: الثَّوْبُ الْوَاحِدُ
__________
(1) حديث: " إذا صلى أحدكم فليلبس ثوبيه. . . " أخرجه البيهقي (2 / 236 - ط دائرة المعارف العثمانية) موقوفا على ابن عمر رضي الله عنهما، وإسناده صحيح.
(2) حديث: " إذا كان لأحدكم ثوبان. . . " أخرجه أبو داود (1 / 418) ط عبيد الدعاس، والبيهقي (2 / 236) ط دار المعرفة، وقال الأرناؤوط، إسناده صحيح (شرح السنة 2 / 423 ط المكتب الإسلامي) .(11/269)
يُجْزِئُ، وَالثَّوْبَانِ أَحْسَنُ، وَالأَْرْبَعُ أَكْمَل: قَمِيصٌ وَسَرَاوِيل وَعِمَامَةٌ وَإِزَارٌ. وَرَوَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّهُ رَأَى نَافِعًا يُصَلِّي فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، قَال: أَلَمْ تَكْتَسِ ثَوْبَيْنِ: قُلْتُ: بَلَى. قَال: فَلَوْ أُرْسِلْتَ فِي الدَّارِ، أَكُنْتَ تَذْهَبُ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ؟ قُلْتُ: لاَ. قَال: فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُزَّيَّنَ لَهُ أَوِ النَّاسُ؟ قُلْتُ: بَل اللَّهُ.
وَقَال الْقَاضِي: ذَلِكَ فِي الإِْمَامِ آكَدُ مِنْهُ فِي غَيْرِهِ؛ لأَِنَّهُ بَيْنَ يَدَيِ الْمَأْمُومِينَ، وَتَتَعَلَّقُ صَلاَتُهُمْ بِصَلاَتِهِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ إِلاَّ ثَوْبٌ وَاحِدٌ فَالْقَمِيصُ؛ لأَِنَّهُ أَعَمُّ فِي السَّتْرِ، فَإِنَّهُ يَسْتُرُ جَمِيعَ الْجَسَدِ إِلاَّ الرَّأْسَ وَالرِّجْلَيْنِ، ثُمَّ الرِّدَاءُ؛ لأَِنَّهُ يَلِيهِ فِي السَّتْرِ، ثُمَّ الْمِئْزَرُ، ثُمَّ السَّرَاوِيل. وَلاَ يُجْزِئُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ إِلاَّ مَا سَتَرَ الْعَوْرَةَ عَنْ غَيْرِهِ وَعَنْ نَفْسِهِ. (1) وَالتَّفْصِيل فِي بَحْثِ (أَلْبِسَةٌ) .
التَّزَيُّنُ فِي الإِْحْرَامِ:
13 - يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ الْمُحْرِمَةِ أَنْ تَلْبَسَ مَا أَحَبَّتْ مِنْ أَلْوَانِ الثِّيَابِ وَالْحُلِيِّ، إِلاَّ أَنَّ فِي لُبْسِهَا الْقُفَّازَيْنِ وَالْخَلْخَال خِلاَفًا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ. فَرَخَّصَ فِيهِ عَلِيٌّ وَعَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَبِهِ قَال الثَّوْرِيُّ
__________
(1) المغني 1 / 583 ط. الرياض، ومغني المحتاج 1 / 184، وابن عابدين 1 / 270 وما بعدها.(11/269)
وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ. وَمَنَعَهُ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَبِهِ قَال طَاوُسٌ وَمُجَاهِدٌ وَالنَّخَعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ، وَهُوَ الْقَوْل الآْخَرُ لَلشَّافِعِيِّ. وَحَمَل بَعْضُهُمْ كَلاَمَ أَحْمَدَ فِي مَنْعِ الْخَلْخَال عَلَى الْكَرَاهَةِ.
وَيَحْرُمُ لُبْسُ الْمَخِيطِ اتِّفَاقًا لِلرِّجَال. (1)
وَلاَ يَجُوزُ التَّزَيُّنُ بِالتَّطَيُّبِ وَالْحَلْقِ أَوِ التَّقْصِيرِ وَتَقْلِيمِ الأَْظْفَارِ وَنَحْوِهَا أَثْنَاءَ الإِْحْرَامِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمُحْرِمُ رَجُلاً أَمِ امْرَأَةً.
وَيُسَنُّ التَّطَيُّبُ فِي الْبَدَنِ اسْتِعْدَادًا لِلإِْحْرَامِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
أَمَّا التَّطَيُّبُ فِي الثَّوْبِ قَبْل الإِْحْرَامِ فَمَنَعَهُ الْجُمْهُورُ، وَأَجَازَهُ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ (2) .
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (إِحْرَامٌ، وَتَحْلِيَةٌ) .
التَّزَيُّنُ فِي الاِعْتِكَافِ:
14 - يَجُوزُ لِلْمُعْتَكِفِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ التَّزَيُّنُ بِالتَّطَيُّبِ وَلُبْسِ الثِّيَابِ الْحَسَنَةِ وَأَخْذِ الظُّفْرِ وَالشَّارِبِ وَنَحْوِهِ، لَكِنَّ الْمَالِكِيَّةَ صَرَّحُوا بِكَرَاهَةِ قَلْمِ الأَْظْفَارِ وَقَصِّ الشَّارِبِ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 162 - 164، والمسلك المتقسط ص 83، والدسوقي 2 / 55، 56، والمجموع 7 / 263، والمغني 3 / 328 - 330.
(2) المراجع السابقة، وبداية المجتهد 1 / 328.(11/270)
دَاخِل الْمَسْجِدِ، كَمَا قَالُوا بِكَرَاهَةِ حَلْقِ رَأْسِهِ مُطْلَقًا إِلاَّ أَنْ يَتَضَرَّرَ. (1) وَيُسْتَحَبُّ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنْ يَتْرُكَ الْمُعْتَكِفُ لُبْسَ رَفِيعِ الثِّيَابِ، وَالتَّلَذُّذَ بِمَا يُبَاحُ لَهُ قَبْل الاِعْتِكَافِ. وَيُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَتَطَيَّبَ، لَكِنْ لاَ بَأْسَ بِأَخْذِ شَعْرِهِ وَأَظْفَارِهِ عِنْدَهُمْ. (2) (ر: اعْتِكَافٌ) .
تَزَيُّنُ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ لِلآْخَرِ:
15 - يُسْتَحَبُّ لِكُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ أَنْ يَتَزَيَّنَ لِلآْخَرِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (3) وقَوْله تَعَالَى: {وَلَهُنَّ مِثْل الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (4) فَالْمُعَاشَرَةُ بِالْمَعْرُوفِ حَقٌّ لِكُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى الآْخَرِ، وَمِنَ الْمَعْرُوفِ أَنْ يَتَزَيَّنَ كُلٌّ مِنْهُمَا لِلآْخَرِ، فَكَمَا يُحِبُّ الزَّوْجُ أَنْ تَتَزَيَّنَ لَهُ زَوْجَتُهُ، كَذَلِكَ الْحَال بِالنِّسْبَةِ لَهَا تُحِبُّ أَنْ يَتَزَيَّنَ لَهَا.
قَال أَبُو زَيْدٍ: تَتَّقُونَ اللَّهَ فِيهِنَّ، كَمَا عَلَيْهِنَّ أَنْ يَتَّقِينَ اللَّهَ فِيكُمْ. وَقَال ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إِنِّي لأَُحِبُّ أَنْ أَتَزَيَّنَ لِلْمَرْأَةِ، كَمَا أُحِبُّ أَنْ تَتَزَيَّنَ لِي، لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُول: {وَلَهُنَّ مِثْل
__________
(1) البدائع 2 / 116، 117، والدسوقي 1 / 549، والقليوبي 2 / 77.
(2) كشاف القناع 2 / 364.
(3) سورة النساء / 19.
(4) سورة البقرة / 228.(11/270)
الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} ، وَحَقُّ الزَّوْجِ عَلَيْهَا أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ حَقِّهَا؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِلرِّجَال عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} (1) .
وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ يَلْبَسُ الثِّيَابَ النَّفِيسَةَ، وَيَقُول: إِنَّ لِي نِسَاءً وَجِوَارِيَ، فَأُزَيِّنُ نَفْسِي كَيْ لاَ يَنْظُرْنَ إِلَى غَيْرِي.
وَقَال أَبُو يُوسُفَ: يُعْجِبُنِي أَنْ تَتَزَيَّنَ لِي امْرَأَتِي، كَمَا يُعْجِبُهَا أَنْ أَتَزَيَّنَ لَهَا.
وَمِنَ الزِّينَةِ فِي هَذَا الْمَقَامِ: أَنَّهُ إِنْ نَبَتَ شَعْرٌ غَلِيظٌ لِلْمَرْأَةِ فِي وَجْهِهَا، كَشَعْرِ الشَّارِبِ وَاللِّحْيَةِ، فَيَجِبُ عَلَيْهَا نَتْفُهُ لِئَلاَّ تَتَشَبَّهَ بِالرِّجَال، فَقَدْ رَوَتِ امْرَأَةُ ابْنِ أَبِي الصَّقْرِ - وَهِيَ الْعَالِيَةُ بِنْتُ أَيْفَعَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّهَا كَانَتْ عِنْدَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَسَأَلَتْهَا امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ فِي وَجْهِي شَعَرَاتٍ أَفَأَنْتِفُهُنَّ: أَتَزَيَّنُ بِذَلِكَ لِزَوْجِي؟ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: أَمِيطِي عَنْكِ الأَْذَى، وَتَصَنَّعِي لِزَوْجِكِ كَمَا تَصْنَعِينَ لِلزِّيَارَةِ، وَإِنْ أَمَرَكِ فَأَطِيعِيهِ، وَإِنْ أَقْسَمَ عَلَيْكِ فَأَبِرِّيهِ، وَلاَ تَأْذَنِي فِي بَيْتِهِ لِمَنْ يَكْرَهُ.
وَإِنْ نَبَتَ فِي غَيْرِ أَمَاكِنِهِ فِي وَجْهِ الرَّجُل فَلَهُ إِزَالَتُهُ، حَتَّى أَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ لِلرَّجُل الأَْخْذَ مِنَ الْحَاجِبَيْنِ إِذَا فَحُشَا. (2)
__________
(1) سورة البقرة / 228.
(2) حاشية ابن عابدين 2 / 113، 5 / 239، 271، 481 - 482، وروضة الطالبين 7 / 344، والمهذب في فقه الإمام الشافعي 2 / 67 - 68، وحاشية الجمل على شرح المنهج 4 / 280، وكشاف القناع عن متن الإقناع 5 / 184 - 185 ط. النصر الحديثة، والمغني لابن قدامة 7 / 18 ط. الرياض الحديثة، وشرح منتهى الإرادات 3 / 92، ومصنف عبد الرزاق 3 / 146.(11/271)
فَإِذَا أَمَرَ الزَّوْجُ زَوْجَتَهُ بِالتَّزَيُّنِ لَهُ كَانَ التَّزَيُّنُ وَاجِبًا عَلَيْهَا؛ لأَِنَّهُ حَقُّهُ؛ وَلأَِنَّ طَاعَةَ الزَّوْجِ فِي الْمَعْرُوفِ وَاجِبَةٌ عَلَى الزَّوْجَةِ.
تَأْدِيبُ الرَّجُل زَوْجَتَهُ لِتَرْكِ الزِّينَةِ:
16 - مِنْ حُقُوقِ الزَّوْجِ عَلَى زَوْجَتِهِ أَنْ تَتَزَيَّنَ لَهُ بِالْمَلْبَسِ وَالطِّيبِ، وَأَنْ تُحَسِّنَ هَيْئَتَهَا وَغَيْرَ ذَلِكَ، مِمَّا يُرَغِّبُهُ فِيهَا وَيَدْعُوهُ إِلَيْهَا، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خَيْرُ النِّسَاءِ الَّتِي تَسُرُّهُ إِذَا نَظَرَ، وَتُطِيعُهُ إِذَا أَمَرَ، وَلاَ تُخَالِفُهُ فِيمَا يَكْرَهُ فِي نَفْسِهَا وَمَالِهِ (1) فَإِنْ أَمَرَ الزَّوْجُ زَوْجَتَهُ بِالتَّزَيُّنِ فَلَمْ تَتَزَيَّنْ لَهُ كَانَ لَهُ حَقُّ تَأْدِيبِهَا؛ لأَِنَّ الزِّينَةَ حَقُّهُ. قَال تَعَالَى: {الرِّجَال قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّل اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} (2) .
__________
(1) حديث: " خير النساء التي تسره إذا نظر. . . " أخرجه أحمد (2 / 251 - ط الميمنية) والحاكم (2 / 161 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه ووافقه الذهبي.
(2) سورة النساء / 34، وانظر ابن عابدين 2 / 537، 652، وفتح القدير 4 / 200، وقليوبي 4 / 73، وجواهر الإكليل 1 / 328 - 329، وشرح منتهى الإرادات 3 / 96، وعقود اللجين في بيان حقوق الزوجين ص 5، 8 طبع مصر دار إحياء الكتب العربية.(11/271)
تَزَيُّنُ الْمُعْتَدَّةِ:
17 - الْمُعْتَدَّةُ لِلْوَفَاةِ لاَ يَجُوزُ لَهَا التَّزَيُّنُ اتِّفَاقًا لِوُجُوبِ الإِْحْدَادِ عَلَيْهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} (1) وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَحِل لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاَثٍ، إِلاَّ عَلَى زَوْجِهَا فَإِنَّهَا تُحِدُّ عَلَيْهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا (2) .
وَكَذَلِكَ الْمُعْتَدَّةُ لِلطَّلاَقِ الْبَائِنِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الْقَوْل الْقَدِيمُ لِلشَّافِعِيِّ: لاَ يَجُوزُ لَهَا التَّزَيُّنُ، حِدَادًا وَأَسَفًا عَلَى فَوْتِ نِعْمَةِ النِّكَاحِ الَّذِي هُوَ سَبَبٌ لِصَوْنِهَا وَكِفَايَةِ مُؤْنَتِهَا؛ وَلِحُرْمَةِ خِطْبَتِهَا، وَعَدَمِ مَشْرُوعِيَّةِ الرَّجْعَةِ.
وَيُسْتَحَبُّ لَهَا الْحِدَادُ وَتَرْكُ الزِّينَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الأَْظْهَرُ فِي الْجَدِيدِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَيُبَاحُ لَهَا الزِّينَةُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
وَأَمَّا الْمُطَلَّقَةُ الرَّجْعِيَّةُ فَلَهَا أَنْ تَتَزَيَّنَ؛ لأَِنَّهَا حَلاَلٌ لِلزَّوْجِ لِقِيَامِ نِكَاحِهَا، وَالرَّجْعَةُ مُسْتَحَبَّةٌ، وَالتَّزَيُّنُ حَامِلٌ عَلَيْهَا، فَيَكُونُ مَشْرُوعًا، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
__________
(1) سورة البقرة / 234.
(2) حديث: " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر. . . " أخرجه مسلم (2 / 1126 - 1127 ط الحلبي) .(11/272)
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ: فَقَدْ رَوَى أَبُو ثَوْرٍ عَنِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهَا الإِْحْدَادُ، وَحَيْثُ كَانَ كَذَلِكَ فَلاَ يُسْتَحَبُّ لَهَا التَّزَيُّنُ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَال: الأَْوْلَى أَنْ تَتَزَيَّنَ مِمَّا يَدْعُو الزَّوْجَ إِلَى رَجْعَتِهَا. (1)
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (إِحْدَادٌ، عِدَّةٌ) .
الْجِرَاحَةُ لأَِجْل التَّزَيُّنِ:
أَوَّلاً - تَثْقِيبُ الأُْذُنِ:
18 - جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ تَثْقِيبَ أُذُنِ الصَّغِيرَةِ لِتَعْلِيقِ الْقُرْطِ جَائِزٌ، فَقَدْ كَانَ النَّاسُ يَفْعَلُونَهُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ إِنْكَارٍ، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى يَوْمَ الْعِيدِ رَكْعَتَيْنِ، لَمْ يُصَل قَبْلَهُمَا وَلاَ بَعْدَهُمَا، ثُمَّ أَتَى النِّسَاءَ - وَمَعَهُ بِلاَلٌ - فَأَمَرَهُنَّ بِالصَّدَقَةِ، فَجَعَلَتِ الْمَرْأَةُ تُلْقِي قُرْطَهَا» (2) .
وَنَقَل عُمَيْرَةُ عَنِ الْغَزَالِيِّ الْحُرْمَةَ؛ لأَِنَّهُ جُرْحٌ لَمْ تَدْعُ إِلَيْهِ ضَرُورَةٌ إِلاَّ أَنْ يَثْبُتَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ جِهَةِوَنَقَل عُمَيْرَةُ عَنِ الْغَزَالِيِّ الْحُرْمَةَ؛ لأَِنَّهُ جُرْحٌ لَمْ تَدْعُ إِلَيْهِ ضَرُورَةٌ إِلاَّ أَنْ يَثْبُتَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ جِهَةِ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 536، 616 - 618 ط دار إحياء التراث العربي، وحاشية الجمل على شرح المنهج 4 / 457 - 459 ط دار إحياء التراث العربي، وروضة الطالبين 8 / 405 - 407 ط المكتب الإسلامي، والشرح الكبير 2 / 478 - 479، وجواهر الإكليل 1 / 389، ونيل المآرب بشرح دليل الطالب 2 / 109 مكتبة الفلاح، ومنار السبيل في شرح الدليل 2 / 285، والمكتب الإسلامي، والمغني لابن قدامة 7 / 518 - 519 م. الرياض الحديثة.
(2) حديث ابن عباس رضي الله عنهما " أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى يوم العيد. . . " أخرجه البخاري (الفتح 2 / 466 - 467 ط السلفية) .(11/272)
الشَّرْعِ، وَلَمْ يَبْلُغْنَا ذَلِكَ. قَال عُمَيْرَةُ: وَاعْتُرِضَ بِحَدِيثِ أُمِّ زَرْعٍ الَّذِي فِيهِ: وَأَنَاسَ مِنْ حُلِيٍّ أُذُنَيَّ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُنْتُ لَكِ كَأَبِي زَرْعٍ لأُِمِّ زَرْعٍ.
وَاتَّفَقُوا عَلَى كَرَاهَةِ ذَلِكَ فِي الصَّبِيِّ. (1)
ثَانِيًا - الْوَشْمُ وَالْوَشْرُ:
19 - وَمِنْ أَنْوَاعِ الْجِرَاحَةِ أَيْضًا مِنْ أَجْل التَّزَيُّنِ: مَا اعْتَادَهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنَ الْوَشْمِ وَالْوَشْرِ الْوَارِدَيْنِ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَعَنَ اللَّهُ الْوَاشِمَاتِ وَالْمُسْتَوْشِمَاتِ، (2) وَالنَّامِصَاتِ وَالْمُتَنَمِّصَاتِ (3) ، وَالْمُتَفَلِّجَاتِ (4) لِلْحُسْنِ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 249، وفتح الباري 10 / 331، والقليوبي مع حاشية عميرة 4 / 211، وتفسير القرطبي 5 / 392، 393. وحديث أم زرع: أخرجه البخاري (الفتح 9 / 254 - 255 - ط السلفية) ومسلم (4 / 1896 - 1901 - ط الحلبي) .
(2) الوشم: أن يغرز في العضو إبرة أو نحوها حتى يسيل الدم ثم يحشي بنورة أو غيرها فيخضر. والواشمات جمع واشمة وهي: التي تشم، والمستوشمات جمع مستوشمة وهي التي تطلب الوشم.
(3) النماص: إزالة شعر الوجه بالمنقاش ويسمى المنقاش منماصا، والمتنمصات جمع متنمصة وهي التي تطلب النماص، والنامصة التي تفعله.
(4) المتفلجات جمع متفلجة، وهي التي تفعل الفلج في أسنانها. أي تعانيه حتى ترجع المصمتة الأسنان خلفة فلجاء صنعة.(11/273)
الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ، (1) وَفِي رِوَايَةٍ: نَهَى عَنِ الْوَاشِرَةِ (2) .
قَال الْقُرْطُبِيُّ: هَذِهِ الأُْمُورُ مُحَرَّمَةٌ، نَصَّتِ الأَْحَادِيثُ عَلَى لَعْنِ فَاعِلِهَا؛ وَلأَِنَّهَا مِنْ بَابِ التَّدْلِيسِ، وَقِيل: مِنْ بَابِ تَغْيِيرِ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى. (3)
فَفِي الآْيَةِ: {وَلآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} (4) .
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: النَّهْيُ عَنِ النَّمْصِ أَيْ نَتْفِ الشَّعْرِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا فَعَلَتْهُ لِتَتَزَيَّنَ لِلأَْجَانِبِ، وَإِلاَّ فَلَوْ كَانَ فِي وَجْهِهَا شَعْرٌ يَنْفِرُ زَوْجُهَا بِسَبَبِهِ، فَفِي تَحْرِيمِ إِزَالَتِهِ بُعْدٌ؛ لأَِنَّ الزِّينَةَ لِلنِّسَاءِ مَطْلُوبَةٌ، ثُمَّ قَال: إِذَا نَبَتَ لِلْمَرْأَةِ لِحْيَةٌ أَوْ شَوَارِبُ فَلاَ تَحْرُمُ إِزَالَتُهُ، بَل تُسْتَحَبُّ. وَلاَ بَأْسَ بِأَخْذِ الْحَاجِبَيْنِ وَشَعْرِ وَجْهِهِ مَا لَمْ يُشْبِهِ الْمُخَنَّثَ. (5)
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِإِزَالَةِ شَعْرِ
__________
(1) حديث: " لعن الله الواشمات والمستوشمات. . . " أخرجه مسلم (3 / 1678 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وفي رواية: نهى عن الواشرة. أخرجه أحمد في مسنده وصححه أحمد شاكر. (المسند 6 / 22 - ط المعارف) .
(2) والوشر: أن تحد الأسنان بمبرد ليتباعد بعضها عن بعض قليلا تحسينا لها.
(3) تفسير القرطبي 5 / 392، 393، وفتح الباري 10 / 372.
(4) سورة النساء / 119.
(5) ابن عابدين 5 / 239.(11/273)
الْجَسَدِ فِي حَقِّ الرِّجَال، وَأَمَّا النِّسَاءُ فَيَجِبُ عَلَيْهِنَّ إِزَالَةُ مَا فِي إِزَالَتِهِ جَمَالٌ لَهَا - وَلَوْ شَعْرَ اللِّحْيَةِ إِنْ لَهَا لِحْيَةٌ - وَإِبْقَاءُ مَا فِي بَقَائِهِ جَمَالٌ. وَالْوُجُوبُ قَوْل الشَّافِعِيَّةِ أَيْضًا إِذَا أَمَرَهَا الزَّوْجُ. (1)
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَأَمَّا حَفُّ الْوَجْهِ فَقَال مُهَنَّا: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنِ الْحَفِّ؟ فَقَال: لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ لِلنِّسَاءِ، وَأَكْرَهُهُ لِلرِّجَال. (2) وَلِلتَّفْصِيل: (ر: تَحْسِينٌ) .
ثَالِثًا - قَطْعُ الأَْعْضَاءِ الزَّائِدَةِ:
20 - يَجُوزُ قَطْعُ أُصْبُعٍ زَائِدَةٍ، أَوْ شَيْءٍ آخَرَ كَسِنٍّ زَائِدَةٍ إِنْ لَمْ يَكُنِ الْغَالِبُ مِنْهُ الْهَلاَكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَنَقَل الْقُرْطُبِيُّ عَنْ عِيَاضٍ: أَنَّ مَنْ خُلِقَ بِإِصْبَعٍ زَائِدَةٍ أَوْ عُضْوٍ زَائِدٍ لاَ يَجُوزُ لَهُ قَطْعُهُ وَلاَ نَزْعُهُ؛ لأَِنَّهُ مِنْ تَغْيِيرِ خَلْقِ اللَّهِ. (3)
وَقَال ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ نَقْلاً عَنِ الطَّبَرِيِّ: لاَ يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ تَغْيِيرُ شَيْءٍ مِنْ خِلْقَتِهَا الَّتِي خَلَقَهَا اللَّهُ عَلَيْهَا بِزِيَادَةٍ أَوْ نَقْصٍ الْتِمَاسَ الْحُسْنِ، لاَ لِلزَّوْجِ وَلاَ لِغَيْرِهِ، كَمَنْ تَكُونُ مَقْرُونَةَ الْحَاجِبَيْنِ، فَتُزِيل مَا بَيْنَهُمَا تُوهِمُ الْبُلُجَ أَوْ عَكْسَهُ، وَمَنْ تَكُونُ لَهَا سِنٌّ زَائِدَةٌ فَتَقْلَعُهَا، أَوْ طَوِيلَةٌ فَتَقْطَعُ مِنْهَا، أَوْ لِحْيَةٌ أَوْ شَارِبٌ أَوْ عَنْفَقَةٌ
__________
(1) الفواكه الدواني 2 / 401، وحاشية القليوبي 3 / 252.
(2) المغني 1 / 91 ط الرياض.
(3) الفتاوى الهندية 5 / 360.(11/274)
فَتُزِيلُهَا بِالنَّتْفِ، وَمَنْ يَكُونُ شَعْرُهَا قَصِيرًا أَوْ حَقِيرًا فَتُطَوِّلُهُ أَوْ تُغْزِرُهُ بِشَعْرِ غَيْرِهَا، فَكُل ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي النَّهْيِ وَهُوَ مِنْ تَغْيِيرِ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَا يَحْصُل بِهِ الضَّرَرُ وَالأَْذِيَّةُ، كَمَنْ يَكُونُ لَهَا سِنٌّ زَائِدَةٌ أَوْ طَوِيلَةٌ تُعِيقُهَا عَنِ الأَْكْل، أَوْ أُصْبُعٌ زَائِدَةٌ تُؤْذِيهَا أَوْ تُؤْلِمُهَا، فَيَجُوزُ ذَلِكَ، وَالرَّجُل فِي هَذَا الأَْخِيرِ كَالْمَرْأَةِ (1) .
تَزْيِينُ الْبُيُوتِ وَالأَْفْنِيَةِ
21 - تَزْيِينُ الْبُيُوتِ وَالأَْفْنِيَةِ - بِتَنْظِيفِهَا وَتَرْتِيبِهَا - مَطْلُوبٌ شَرْعًا، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ يُحِبُّ الطَّيِّبَ، نَظِيفٌ يُحِبُّ النَّظَافَةَ (2)
وَيَجُوزُ تَزْيِينُ الْبُيُوتِ بِالدِّيبَاجِ، وَتَجْمِيلُهَا بِأَوَانِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِلاَ تَفَاخُرٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. كَمَا أَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ تَزْوِيقَ حِيطَانِ الْبُيُوتِ وَسُقُفِهَا وَخَشَبِهَا وَسَاتِرِهَا بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ (3) .
وَفَصَّل الشَّافِعِيَّةُ، فَقَالُوا: يَحِل الإِْنَاءُ الْمُمَوَّهُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَكَالإِْنَاءِ السُّقُوفُ وَالْجُدْرَانُ وَلَوْ لِلْكَعْبَةِ وَالْمُصْحَفُ وَالْكُرْسِيُّ وَالصُّنْدُوقُ
__________
(1) فتح الباري 10 / 377.
(2) حديث: " إن الله طيب يحب الطيب. . . " أخرجه الترمذي (5 / 111 - ط الحلبي) من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وقال: هذا حديث غريب، وخالد بن إلياس يضعف.
(3) ابن عابدين 5 / 226، وحاشية الدسوقي 1 / 65.(11/274)
وَغَيْرُ ذَلِكَ، إِنْ لَمْ يَحْصُل بِالْعَرْضِ عَلَى النَّارِ شَيْءٌ مِنْهُ، فَإِنْ كَثُرَ الْمُمَوَّهُ بِهِ بِأَنْ كَانَ يَحْصُل مِنْهُ شَيْءٌ بِالْعَرْضِ عَلَى النَّارِ حَرُمَ. وَمَحَل الْحِل الاِسْتِدَامَةُ، أَمَّا الْفِعْل فَحَرَامٌ مُطْلَقًا.
وَصَرَّحُوا بِكَرَاهَةِ تَزْيِينِ الْبُيُوتِ لِلرِّجَال وَغَيْرِهِمْ حَتَّى مَشَاهِدِ الصُّلَحَاءِ وَالْعُلَمَاءِ بِالثِّيَابِ، وَحُرْمَةِ تَزْيِينِهَا بِالْحَرِيرِ وَالصُّوَرِ لِعُمُومِ الأَْخْبَارِ. (1)
وَيُكْرَهُ تَزْوِيقُ الْبُيُوتِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ بِالسُّتُورِ مَا لَمْ يَكُنْ لِحَاجَةٍ، وَيَحْرُمُ عِنْدَهُمْ تَزْيِينُهَا بِالدِّيبَاجِ وَالْحَرِيرِ وَآنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْمُمَوَّهِ بِهَا - قَلِيلاً كَانَ أَوْ كَثِيرًا - وَبِصُوَرِ الْحَيَوَانَاتِ، فَإِنْ كَانَتْ مُزَيَّنَةً بِالنُّقُوشِ وَصُوَرِ شَجَرٍ فَلاَ بَأْسَ بِذَلِكَ. (2)
وَانْظُرْ: (تَصْوِيرٌ) .
تَزْيِينُ الْمَسَاجِدِ
22 - يَحْرُمُ تَزْيِينُ الْمَسَاجِدِ بِنَقْشِهَا وَتَزْوِيقِهَا بِمَال الْوَقْفِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِوُجُوبِ ضَمَانِ الْوَقْفِ الَّذِي صُرِفَ فِيهِ؛ لأَِنَّهُ لاَ مَصْلَحَةَ فِيهِ. وَظَاهِرُ كَلاَمِ الشَّافِعِيَّةِ مَنْعُ صَرْفِ مَال الْوَقْفِ فِي ذَلِكَ. وَلَوْ وَقَفَ الْوَاقِفُ ذَلِكَ عَلَيْهِمَا - النَّقْشِ وَالتَّزْوِيقِ - لَمْ يَصِحَّ فِي الْقَوْل الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ، أَمَّا إِذَا كَانَ النَّقْشُ وَالتَّزْوِيقُ مِنْ مَال النَّاقِشِ فَيُكْرَهُ اتِّفَاقًا فِي الْجُمْلَةِ
__________
(1) القليوبي 1 / 28، ونهاية المحتاج 1 / 91، 2 / 369.
(2) المغني 7 / 5 - 10، والفروع 1 / 100.(11/275)
إِذَا كَانَ يُلْهِي الْمُصَلِّيَ، كَمَا إِذَا كَانَ فِي الْمِحْرَابِ وَجِدَارِ الْقِبْلَةِ، (1) وَقَدْ وَرَدَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: إِذَا سَاءَ عَمَل قَوْمٍ زَخْرَفُوا مَسَاجِدَهُمْ (2) .
وَفِيمَا عَدَا جِدَارَ الْكَعْبَةِ تَفْصِيلٌ وَخِلاَفٌ يُنْظَرُ فِي بَحْثِ: (مَسْجِدٌ) .
تَزْيِينُ الأَْضْرِحَةِ
23 - يُكْرَهُ تَجْصِيصُ الْقُبُورِ وَالْبِنَاءُ عَلَيْهَا اتِّفَاقًا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ؛ لِقَوْل جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُجَصَّصَ الْقَبْرُ، وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ (3) وَلأَِنَّ ذَلِكَ مِنَ الْمُبَاهَاةِ وَزِينَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَتِلْكَ مَنَازِل الآْخِرَةِ، وَلَيْسَتْ بِمَوْضِعٍ لِلْمُبَاهَاةِ.
وَكَذَا يُكْرَهُ تَطْيِينُهَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ جَوَازُهُ. (4)
وَتَفْصِيلُهُ فِي بَحْثِ: (قَبْرٌ) .
__________
(1) ابن عابدين 1 / 442، 443، والفتاوى الهندية 2 / 461، والدسوقي 1 / 62، 65، 255، وجواهر الإكليل 1 / 55، ونهاية المحتاج 1 / 91، 5 / 393، وكشاف القناع 2 / 366.
(2) حديث: " ما ساء عمل قوم إلا زخرفوا مساجدهم " أخرجه ابن ماجه (1 / 255 - ط الحلبي) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقال البوصيري في الزوائد: في إسناده أبو إسحاق كان يدلس، وجبارة - يعني ابن المفلس - كذاب.
(3) حديث: " نهى أن يجصص القبر وأن يبني عليه " أخرجه مسلم (2 / 667 - ط الحلبي) .
(4) ابن عابدين 1 / 601، 5 / 269، وجواهر الإكليل 1 / 115، ونهاية المحتاج 2 / 369، والقليوبي 4 / 51، 52، 1 / 351، ومنار السبيل 1 / 176، وشرح منتهى الإرادات 1 / 352.(11/275)
حُكْمُ بَيْعِ مَا يُتَزَيَّنُ بِهِ
24 - يَجُوزُ بَيْعُ مَا تَتَزَيَّنُ بِهِ الْمَرْأَةُ لِزَوْجِهَا مِنْ طِيبٍ وَحِنَّاءٍ وَخِضَابٍ وَكُحْلٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا أُبِيحَ اسْتِعْمَالُهُ مِمَّا يُبَاعُ وَيُشْتَرَى، وَلاَ يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ شِرَاؤُهُ لَهَا مِنْ مَالِهِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ تَتَزَيَّنَ لَهُ بِذَلِكَ هَيَّأَهُ لَهَا، لأَِنَّهُ هُوَ الْمُرِيدُ لِذَلِكَ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، فِيمَا عَدَا الطِّيبَ، فَقَدْ قَالُوا: إِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ مِنَ الطِّيبِ مَا تَقْطَعُ بِهِ الرَّائِحَةَ الْكَرِيهَةَ لاَ غَيْرُ.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ قَالُوا: يُفْرَضُ لَهَا ذَلِكَ عَلَى الزَّوْجِ إِنْ تَضَرَّرَتْ بِتَرْكِهِ وَكَانَ مُعْتَادًا لَهَا (1) .
الاِسْتِئْجَارُ لِلتَّزَيُّنِ:
25 - الأَْصْل إِبَاحَةُ إِجَارَةِ كُل عَيْنٍ يُمْكِنُ أَنْ يُنْتَفَعَ بِهَا مَنْفَعَةً مُبَاحَةً مَعَ بَقَائِهَا، وَلِهَذَا صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِجَوَازِ الثِّيَابِ وَالْحُلِيِّ لِلتَّزَيُّنِ، فَإِنَّ النَّفَقَةَ بِهِمَا مُبَاحَةٌ مَقْصُودَةٌ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهَا، وَالزِّينَةُ مِنَ الْمَقَاصِدِ الْمَشْرُوعَةِ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {قُل مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} (2) .
وَجَوَازُ إِجَارَةِ حُلِيِّ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِغَيْرِ جِنْسِهِ مَحَل اتِّفَاقٍ بَيْنَهُمْ، وَتَرَدَّدَ أَحْمَدُ فِيمَا إِذَا كَانَتِ الأُْجْرَةُ مِنْ جِنْسِهَا، وَرُوِيَ عَنْهُ جَوَازُهُ مُطْلَقًا.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 649، قليوبي وعميرة 4 / 73 وكشاف القناع عن متن الإقناع 5 / 463 ط النصر الحديثة، وجواهر الإكليل 1 / 402.
(2) سورة الأعراف / 32.(11/276)
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدْ صَرَّحُوا بِفَسَادِ إِجَارَةِ مِثْل الثِّيَابِ وَالأَْوَانِي لِلتَّزَيُّنِ حَيْثُ قَالُوا: لَوِ اسْتَأْجَرَ ثِيَابًا أَوْ أَوَانِيَ لِيَتَجَمَّل بِهَا أَوْ دَابَّةً لِيَجْنِيَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ أَوْ دَارًا لاَ لِيَسْكُنَهَا. . . فَالإِْجَارَةُ فَاسِدَةٌ فِي الْكُل وَلاَ أَجْرَ لَهُ، لأَِنَّهَا مَنْفَعَةٌ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ مِنَ الْعَيْنِ. وَيَجُوزُ إِجَارَةُ الأَْلْبِسَةِ لِلُّبْسِ، وَالأَْسْلِحَةِ لِلْجِهَادِ، وَالْخِيَامِ لِلسَّكَنِ وَأَمْثَالِهَا إِلَى مُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ مُقَابِل بَدَلٍ مَعْلُومٍ، وَالْحُلِيُّ كَاللِّبَاسِ عِنْدَهُمْ.
وَكَرِهَ الْمَالِكِيَّةُ إِجَارَةَ الْحُلِيِّ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَأْنِ النَّاسِ، وَقَالُوا: الأَْوْلَى إِعَارَتُهُ لأَِنَّهَا مِنَ الْمَعْرُوفِ. (1)
هَذَا، وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِجَوَازِ اسْتِئْجَارِ الْمَاشِطَةِ لِتُزَيِّنَ الْعَرُوسَ وَغَيْرَهَا إِنْ ذُكِرَ الْعَمَل أَوِ الْمُدَّةُ، وَالْجَوَازُ مَفْهُومٌ مِنْ قَوَاعِدِ الْمَذَاهِبِ الأُْخْرَى أَيْضًا؛ لأَِنَّ أَصْل التَّزَيُّنِ مَشْرُوعٌ، وَالإِْجَارَةُ عَلَى الْمَنَافِعِ الْمَشْرُوعَةِ صَحِيحَةٌ. (2)
حُكْمُ إِعَارَةِ مَا يُتَزَيَّنُ بِهِ:
26 - يَجُوزُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) إِعَارَةُ كُل عَيْنٍ يُنْتَفَعُ بِهَا مَنْفَعَةً مُبَاحَةً - مَعَ بَقَائِهَا عَلَى الدَّوَامِ مِنْ غَيْرِ
__________
(1) روضة الطالبين 5 / 225، وحاشية القليوبي 3 / 68، 69، والمغني 5 / 545، 546، وابن عابدين 5 / 3، 21، ومجلة الأحكام العدلية م (534 و 737) ، والدسوقي 4 / 17، وجواهر الإكليل 2 / 188.
(2) ابن عابدين 5 / 39، وقليوبي 4 / 261.(11/276)
اسْتِهْلاَكٍ بِالتَّجَمُّل وَالتَّزَيُّنِ - كَالنَّقْدَيْنِ وَالْحُلِيِّ وَمِنْهُ الْقَلاَئِدُ وَغَيْرُهَا. فَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: هَلَكَتْ قِلاَدَةٌ لأَِسْمَاءَ، فَبَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي طَلَبِهَا رِجَالاً، فَحَضَرَتِ الصَّلاَةُ وَلَيْسُوا عَلَى وُضُوءٍ، وَلَمْ يَجِدُوا مَاءً فَصَلَّوْا وَهُمْ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَل اللَّهُ آيَةَ التَّيَمُّمِ (1) .
زَادَ ابْنُ نُمَيْرٍ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا اسْتَعَارَتْ مِنْ أَسْمَاءَ يَعْنِي أَنَّهَا اسْتَعَارَتْ مِنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا الْقِلاَدَةَ الْمَذْكُورَةَ. (2)
تَسَاقُطٌ
انْظُرْ: تَهَاتُرٌ
__________
(1) حديث عائشة رضي الله عنها قالت: " هلكت قلادة لأسماء. . . " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 330 - 331 ط السلفية) .
(2) بدائع الصنائع 6 / 215، وشرح روض الطالب وأسنى المطالب 2 / 325، وحاشية الجمل على شرح المنهج 3 / 454، والشرح الصغير 4 / 33 ط دار المعارف بمصر، والمغني لابن قدامة 5 / 124 ط الرياض.(11/277)
تَسَامُعٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّسَامُعُ: مَصْدَرُ تَسَامَعَ النَّاسُ، وَهُوَ مَا حَصَل مِنَ الْعِلْمِ بِالتَّوَاتُرِ أَوْ بِالشُّهْرَةِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، يُقَال: تَسَامَعَ بِهِ النَّاسُ أَيِ اشْتَهَرَ عِنْدَهُمْ، وَسَمِعَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَتَسَامَعَ النَّاسُ بِفُلاَنٍ: شَاعَ بَيْنَهُمْ عَيْبُهُ. (1)
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ الأَْوَّل.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الإِْفْشَاءُ:
2 - الإِْفْشَاءُ: نَشْرُ الْخَبَرِ، سِرًّا كَانَ أَوْ جَهْرًا، بِبَثِّهِ بَيْنَ النَّاسِ (2) .
ب - الإِْعْلاَمُ:
3 - الإِْعْلاَمُ: إِيصَال الْخَبَرِ إِلَى شَخْصٍ أَوْ
__________
(1) كشاف مصطلحات الفنون 3 / 675، ومتن اللغة 3 / 209، والمعجم الوسيط، ولسان العرب، والصحاح للجوهري مادة: " سمع ".
(2) لسان العرب.(11/277)
طَائِفَةٍ مِنَ النَّاسِ، سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ بِالإِْعْلاَنِ، أَمْ بِالتَّحْدِيثِ مِنْ غَيْرِ إِعْلاَنٍ (1) .
ج - الإِْعْلاَنُ:
4 - الإِْعْلاَنُ: الْمُجَاهَرَةُ بِالْقَوْل أَوِ الْفِعْل، وَيُلاَحَظُ فِيهِ قَصْدُ الشُّيُوعِ وَالاِنْتِشَارِ (2) .
د - الإِْشْهَارُ:
5 - الإِْشْهَارُ: مَصْدَرُ أَشْهَرَ، وَالشَّهْرُ مَصْدَرُ شَهَرَ الشَّيْءَ، وَكِلاَهُمَا فِي اللُّغَةِ وَالاِصْطِلاَحِ بِمَعْنَى الإِْعْلاَنِ وَالإِْظْهَارِ (3) .
هـ - السَّمْعُ:
6 - السَّمْعُ: قُوَّةٌ فِي الأُْذُنِ بِهَا تُدْرَكُ الأَْصْوَاتُ، وَيُسْتَعْمَل أَيْضًا بِمَعْنَى الْمَسْمُوعِ، (4) وَبِمَعْنَى الذِّكْرِ.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
7 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ الشَّهَادَةِ بِالتَّسَامُعِ فِي سِتَّةِ أَشْيَاءَ هِيَ: الْعِتْقُ، وَالنَّسَبُ، وَالْمَوْتُ، وَالنِّكَاحُ، وَالْوَلاَءُ، وَالْوَقْفُ. (5)
__________
(1) لسان العرب.
(2) لسان العرب.
(3) لسان العرب.
(4) لسان العرب.
(5) رد المحتار على الدر المختار 4 / 375 - 376 ط دار إحياء التراث العربي. بيروت، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4 / 197، 198 ط دار الفكر، ونهاية المحتاج 8 / 302 ط مصطفى الحلبي بمصر، والمغني لابن قدامة 9 / 161 وما بعدها ط الرياض.(11/278)
8 - وَزَادَ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى السِّتَّةِ: الْمَهْرُ - عَلَى الأَْصَحِّ - وَالدُّخُول بِزَوْجَتِهِ، وَوِلاَيَةُ الْقَاضِي، وَمَنْ فِي يَدِهِ شَيْءٌ - سِوَى رَقِيقٍ لَمْ يَعْلَمْ رِقَّهُ وَيُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ. وَفِي عَدِّ الأَْخِيرِ مِنْهَا نَظَرٌ ذَكَرَهُ فِي الْفَتْحِ وَالْبَحْرِ. (1)
9 - وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى السِّتَّةِ: الشَّهَادَةُ بِمِلْكِ الشَّيْءِ مِنْ عَقَارٍ أَوْ غَيْرِهِ لِحَائِزٍ لَهُ - وَتُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الْبَتِّ بِالْمِلْكِ عَلَى بَيِّنَةِ السَّمَاعِ، إِلاَّ أَنْ تَشْهَدَ بَيِّنَةُ السَّمَاعِ بِنَقْل الْمِلْكِ - وَعَزْل قَاضٍ، وَتَعْدِيلٌ وَتَجْرِيحٌ لِبَيِّنَةٍ، وَإِسْلاَمٌ وَكُفْرٌ لِشَخْصٍ مُعَيَّنٍ، وَرُشْدٌ، وَسَفَهٌ لِمُعَيَّنٍ، وَفِي النِّكَاحِ اشْتَرَطُوا: ادِّعَاءَ الْحَيِّ مِنْهُمَا عَلَى الْمَيِّتِ لِيَرِثَهُ، أَوِ ادِّعَاهُ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ الْحَيَّيْنِ وَلَمْ يُنْكِرِ الآْخَرُ، وَكَانَتِ الزَّوْجَةُ فِي عِصْمَتِهِ. وَأَمَّا لَوِ ادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا وَأَنْكَرَهُ الآْخَرُ فَلاَ يَثْبُتُ بِهِ النِّكَاحُ، وَفِي الطَّلاَقِ - وَأَنْ يُخْلَعَ - يَثْبُتُ بِالسَّمَاعِ الطَّلاَقُ لاَ دَفْعُ الْعِوَضِ، وَبِضَرَرِ زَوْجٍ لِزَوْجَتِهِ - نَحْوُ: لَمْ نَزَل نَسْمَعُ عَنِ الثِّقَاتِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُ يُضَارُّهَا فَيُطَلِّقُهَا عَلَيْهِ الْحَاكِمُ - وَبِالْوِلاَدَةِ لإِِثْبَاتِ أَنَّهَا أُمُّ وَلَدٍ، أَوْ لِخُرُوجٍ مِنْ عِدَّةٍ، وَبِالرَّضَاعِ، وَالْحِرَابَةِ، وَالإِْبَاقِ، وَالأَْسْرِ، وَالْفَقْدِ، وَالصَّدَقَةِ، وَالْهِبَةِ، وَاللَّوْثِ - نَحْوُ: لَمْ
__________
(1) ابن عابدين 4 / 375، والاختيار 2 / 143.(11/278)
نَزَل نَسْمَعُ بِأَنَّ فُلاَنًا قَتَل فُلاَنًا، فَتَكُونُ الشَّهَادَةُ لَوْثًا تُسَوِّغُ لِلْوَلِيِّ الْقَسَامَةَ - وَالْبَيْعَ، وَالْقِسْمَةَ، وَالْوَصِيَّةَ، وَالْعُسْرَ وَالْيُسْرَ. قَال الدُّسُوقِيُّ: فَجُمْلَةُ الْمَسَائِل الَّتِي تُقْبَل فِيهَا شَهَادَةُ السَّمَاعِ ثَلاَثُونَ مَسْأَلَةً. (1)
10 - وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى السِّتَّةِ: الْمِلْكُ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ، وَتَنْبَنِي الشَّهَادَةُ فِيهِ عَلَى ثَلاَثَةِ أُمُورٍ: الْيَدِ وَالتَّصَرُّفِ وَالتَّسَامُعِ. (2)
11 - وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ زَادُوا عَلَى السِّتَّةِ: الْمِلْكُ الْمُطْلَقُ، وَالْوِلاَدَةُ، وَالطَّلاَقُ، وَالْخُلْعُ، وَأَصْل الْوَقْفِ وَشَرْطُهُ، وَمَصْرِفُهُ، وَالْعَزْل، وَهَذِهِ الأَْنْوَاعُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ عَلَى سَبِيل الْحَصْرِ كَمَا فِي الْمُغْنِي وَالْفُرُوعِ. أَمَّا صَاحِبُ الإِْقْنَاعِ وَشَرْحِ الْمُنْتَهَى بَعْدَ أَنْ ذَكَرَهَا فَقَدْ قَالاَ: وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. (3)
12 - وَاشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ لِجَوَازِ الشَّهَادَةِ بِمَا ذُكِرَ أَنْ يَحْصُل عِلْمُ الشَّاهِدِ بِهَذِهِ الأَْشْيَاءِ عَنْ خَبَرِ جَمَاعَةٍ لاَ يُتَصَوَّرُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ، وَلَوْ بِلاَ شَرْطِ عَدَالَةٍ، أَوْ شَهَادَةِ عَدْلَيْنِ. أَمَّا فِي الْمَوْتِ فَيَكْفِي الْعَدْل وَلَوْ أُنْثَى وَهُوَ الْمُخْتَارُ، وَقَيَّدَهُ شَارِحُ الْوَهْبَانِيَّةِ بِأَنْ لاَ يَكُونَ الْمُخْبِرُ مُتَّهَمًا كَوَارِثٍ وَمُوصًى لَهُ، وَلَوْ فَسَّرَ الشَّاهِدُ لِلْقَاضِي أَنَّ
__________
(1) الدسوقي على الشرح الكبير 4 / 197.
(2) روضة الطالبين 11 / 267، ونهاية المحتاج 8 / 301.
(3) المغني 9 / 161، وكشاف القناع 6 / 409، وانظر الفروع 6 / 552، وشرح المنتهى 3 / 538.(11/279)
شَهَادَتَهُ بِالتَّسَامُعِ رُدَّتْ عَلَى الصَّحِيحِ إِلاَّ فِي الْوَقْفِ وَالْمَوْتِ إِذَا فُسِّرَا، وَقَالاَ فِيهِ بِأَخْبَرَنَا مَنْ نَثِقُ بِهِ فَتُقْبَل عَلَى الأَْصَحِّ. (1)
وَقَال فِي الْهِدَايَةِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ مَا يَجُوزُ الشَّهَادَةُ فِيهِ بِالتَّسَامُعِ: يَسَعُهُ أَنْ يَشْهَدَ بِهَذِهِ الأَْشْيَاءِ إِذَا أَخْبَرَهُ بِهَا مَنْ يَثِقُ بِهِ - وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ - وَوَجْهُهُ أَنَّ هَذِهِ أُمُورٌ تَخْتَصُّ بِالْمُعَايَنَةِ، وَتَتَعَلَّقُ بِهَا أَحْكَامٌ تَبْقَى عَلَى انْقِضَاءِ الْقُرُونِ، فَلَوْ لَمْ تُقْبَل فِيهَا الشَّهَادَةُ بِالتَّسَامُعِ أَدَّى إِلَى الْحَرَجِ وَتَعْطِيل الأَْحْكَامِ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَشْهَدَ بِالاِشْتِهَارِ، وَذَلِكَ بِالتَّوَاتُرِ، أَوْ بِإِخْبَارِ مَنْ يَثِقُ بِهِ، وَيُشْتَرَطُ أَنْ يُخْبِرَهُ رَجُلاَنِ عَدْلاَنِ، أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ لِيَحْصُل لَهُ نَوْعُ عِلْمٍ، وَقِيل: فِي الْمَوْتِ يُكْتَفَى بِإِخْبَارِ وَاحِدٍ أَوْ وَاحِدَةٍ. (2)
13 - وَالشَّافِعِيَّةُ قَالُوا: إِنَّ شَرْطَ التَّسَامُعِ - لِيُسْتَنَدَ إِلَيْهِ فِي الشَّهَادَةِ - هُوَ سَمَاعُ الْمَشْهُودِ بِهِ مِنْ جَمْعٍ يُؤْمَنُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ، وَيَحْصُل الظَّنُّ الْقَوِيُّ بِصِدْقِهِمْ، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونُوا مُكَلَّفِينَ، وَلاَ يُشْتَرَطُ فِيهِمْ حُرِّيَّةٌ وَلاَ ذُكُورَةٌ وَلاَ عَدَالَةٌ، وَقِيل: يَكْفِي التَّسَامُعُ مِنْ عَدْلَيْنِ إِذَا سَكَنَ الْقَلْبُ لِخَبَرِهِمَا. (3)
14 - وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: تَجُوزُ الشَّهَادَةُ بِالتَّسَامُعِ فِيمَا
__________
(1) رد المحتار على الدر المختار 4 / 375 وما بعدها.
(2) الهداية وفتح القدير 6 / 466 - 468 ط بيروت.
(3) نهاية المحتاج 8 / 302 ط مصطفى الحلبي بمصر.(11/279)
تَظَاهَرَتْ بِهِ الأَْخْبَارُ، وَاسْتَقَرَّتْ مَعْرِفَتُهُ فِي قَلْبِ الشَّاهِدِ، وَهُوَ مَا يُعْلَمُ بِالاِسْتِفَاضَةِ. (1)
وَالتَّفْصِيل لِمَا سَبَقَ فِي مُصْطَلَحِ (شَهَادَةٌ) .
تَسَبُّبٌ
انْظُرْ: سَبَبٌ
__________
(1) المغني لابن قدامة 9 / 161 ط الرياض.(11/280)
تَسْبِيحٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي التَّسْبِيحِ فِي اللُّغَةِ: التَّنْزِيهُ. تَقُول: سَبَّحْتُ اللَّهَ تَسْبِيحًا: أَيْ نَزَّهْتُهُ تَنْزِيهًا.
وَيَكُونُ بِمَعْنَى الذِّكْرِ وَالصَّلاَةِ. يُقَال: فُلاَنٌ يُسَبِّحُ اللَّهَ: أَيْ يَذْكُرُهُ بِأَسْمَائِهِ، نَحْوُ: سُبْحَانَ اللَّهِ. وَهُوَ يُسَبِّحُ أَيْ يُصَلِّي السُّبْحَةَ وَهِيَ النَّافِلَةُ.
وَسُمِّيَتِ الصَّلاَةُ ذِكْرًا لاِشْتِمَالِهَا عَلَيْهِ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} (1) أَيِ اذْكُرُوا اللَّهَ. وَيَكُونُ بِمَعْنَى التَّحْمِيدِ، نَحْوُ: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا} (2) وَسُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ. أَيِ الْحَمْدُ لِلَّهِ. (3)
وَلاَ يَخْرُجُ مَعْنَاهُ الاِصْطِلاَحِيُّ عَنْ هَذِهِ الْمَعَانِي، فَقَدْ عَرَّفَهُ الْجُرْجَانِيُّ بِأَنَّهُ: تَنْزِيهُ الْحَقِّ عَنْ نَقَائِصِ الإِْمْكَانِ وَالْحُدُوثِ (4) .
__________
(1) سورة الروم / 17.
(2) سورة الزخرف / 13.
(3) لسان العرب والصحاح وطلبة الطلبة، والنهاية لابن الأثير مادة: " سبح " وتهذيب الأسماء واللغات للنووي ص 142. وذكر الفيومي في المصباح أن السبحة هي الصلاة فريضة كانت أو نافلة.
(4) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 153 دار الإيمان، والتعريفات للجرجاني " تسبيح "، والفواكه الدواني 1 / 211 ط دار المعرفة، ونيل المآرب بشرح دليل الطالب 1 / 45 م الفلاح.(11/280)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الذِّكْرُ:
2 - الذِّكْرُ مِنْ مَعَانِيهِ فِي اللُّغَةِ: الصَّلاَةُ لِلَّهِ وَالدُّعَاءُ إِلَيْهِ وَالثَّنَاءُ عَلَيْهِ. فَفِي الْحَدِيثِ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ صَلَّى (1) . وَفِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ قَوْلٌ سِيقَ لِثَنَاءٍ أَوْ دُعَاءٍ وَقَدْ يُسْتَعْمَل شَرْعًا لِكُل قَوْلٍ يُثَابُ قَائِلُهُ، فَالذِّكْرُ شَامِلٌ لِلدُّعَاءِ فَهُوَ أَعَمُّ مِنَ التَّسْبِيحِ (2) .
ب - التَّهْلِيل:
3 - هُوَ قَوْل لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ: يُقَال: هَلَّل الرَّجُل أَيْ مِنَ الْهَيْلَلَةِ، مِنْ قَوْل لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ (3) وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنْ هَذَا. (4) فَالتَّسْبِيحُ أَعَمُّ مِنَ التَّهْلِيل؛ لأَِنَّ التَّسْبِيحَ تَنْزِيهُ اللَّهِ عَزَّ وَجَل عَنْ كُل نَقْصٍ.
أَمَّا التَّهْلِيل فَهُوَ تَنْزِيهُهُ عَنِ الشَّرِيكِ.
__________
(1) حديث: " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حز به أمر. . . " أخرجه أبو داود (2 / 78 ط عبيد الدعاس) ، وأحمد عن ذريعة (5 / 388 ط المكتب الإسلامي) وقال السبكي في المنهل: العذب إسناده حسن (7 / 248 ط المكتبة الإسلامية) .
(2) لسان العرب ونهاية المحتاج إلى شرح المنهاج 1 / 528.
(3) المصباح المنير، ولسان العرب، ومختار الصحاح مادة: " هلل ".
(4) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 398.(11/281)
ج - التَّقْدِيسُ:
4 - مِنْ مَعَانِيهِ فِي اللُّغَةِ تَنْزِيهُ اللَّهِ عَزَّ وَجَل عَنْ كُل مَا لاَ يَلِيقُ بِهِ.
وَالتَّقْدِيسُ: التَّطْهِيرُ وَالتَّبْرِيكُ. وَتَقَدَّسَ أَيْ تَطَهَّرَ، وَفِي التَّنْزِيل {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} (1) قَال الزَّجَّاجُ: مَعْنَى نُقَدِّسُ لَكَ: أَيْ نُطَهِّرُ أَنْفُسَنَا لَكَ، وَكَذَلِكَ نَفْعَل بِمَنْ أَطَاعَكَ، وَالأَْرْضُ الْمُقَدَّسَةُ أَيِ الْمُطَهَّرَةُ. (2)
وَمَعْنَاهُ الاِصْطِلاَحِيُّ لاَ يَخْرُجُ عَنْ هَذَا.
وَالتَّقْدِيسُ أَخَصُّ مِنَ التَّسْبِيحِ؛ لأَِنَّهُ تَنْزِيهٌ مَعَ تَبْرِيكٍ وَتَطْهِيرٍ (3) .
حِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّةِ التَّسْبِيحِ:
5 - حِكْمَةُ التَّسْبِيحِ اسْتِحْضَارُ الْعَبْدِ عَظَمَةَ الْخَالِقِ، لِيَمْتَلِئَ قَلْبُهُ هَيْبَةً فَيَخْشَعَ وَلاَ يَغِيبَ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ هُوَ مَقْصُودُ الذَّاكِرِ، سَوَاءٌ أَكَانَ فِي الصَّلاَةِ أَمْ فِي غَيْرِهَا، فَيَحْرِصُ عَلَى تَحْصِيلِهِ، وَيَتَدَبَّرُ مَا يَذْكُرُ، وَيَتَعَقَّل مَعْنَاهُ، فَالتَّدَبُّرُ فِي الذِّكْرِ مَطْلُوبٌ، كَمَا هُوَ مَطْلُوبٌ فِي الْقِرَاءَةِ لاِشْتِرَاكِهِمَا فِي الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ؛ وَلأَِنَّهُ يُوقِظُ الْقَلْبَ، فَيَجْمَعُ هَمَّهُ إِلَى الْفِكْرِ، وَيَصْرِفُ سَمْعَهُ إِلَيْهِ، وَيَطْرُدُ النَّوْمَ، وَيَزِيدُ النَّشَاطَ. (4)
__________
(1) سورة البقرة / 30.
(2) لسان العرب، ومختار الصحاح مادة: " قدس ".
(3) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 1 / 277.
(4) كشاف القناع عن متن الإقناع 1 / 330 النصر الحديثة، والأذكار للنووي 12 - 13.(11/281)
آدَابُ التَّسْبِيحِ:
6 - آدَابُهُ كَثِيرَةٌ: مِنْهَا أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الذَّاكِرُ الْمُسَبِّحُ عَلَى أَكْمَل الصِّفَاتِ، فَإِنْ كَانَ جَالِسًا فِي مَوْضِعٍ اسْتَقْبَل الْقِبْلَةَ، وَجَلَسَ مُتَذَلِّلاً مُتَخَشِّعًا بِسَكِينَةٍ وَوَقَارٍ مُطْرِقًا رَأْسَهُ، وَلَوْ ذَكَرَ عَلَى غَيْرِ هَذِهِ الأَْحْوَال جَازَ وَلاَ كَرَاهَةَ فِي حَقِّهِ. لَكِنْ إِنْ كَانَ بِغَيْرِ عُذْرٍ كَانَ تَارِكًا لِلأَْفْضَل، وَالدَّلِيل عَلَى عَدَمِ الْكَرَاهَةِ قَوْل اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَْرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْل وَالنَّهَارِ لآَيَاتٍ لأُِولِي الأَْلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَْرْضِ} (1)
وَجَاءَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: إِنِّي لأََقْرَأُ حِزْبِيَ، وَأَنَا مُضْطَجِعَةٌ عَلَى السَّرِيرِ.
وَصِيَغُهُ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا مَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَمَا وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ، كَمَا هُوَ الْحَال فِي تَسْبِيحَاتِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَدُبُرِ الصَّلَوَاتِ. وَمِنْهَا مَا هُوَ مُسْتَحَبٌّ، وَهُوَ مَا كَانَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ كَالتَّسْبِيحَاتِ لَيْلاً وَنَهَارًا (2)
. حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ:
7 - يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلتَّسْبِيحِ بِحَسَبِ مَوْضِعِهِ وَسَبَبِهِ عَلَى التَّفْصِيل الآْتِي:
__________
(1) سورة آل عمران / 191.
(2) الأذكار للنووي 12، وكشاف القناع 1 / 367.(11/282)
التَّسْبِيحُ عَلَى طُهْرٍ:
8 - أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ الذِّكْرِ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ لِلْمُحْدِثِ وَالْجُنُبِ وَالْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ، وَذَلِكَ فِي التَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيل وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّكْبِيرِ وَالصَّلاَةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالدُّعَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. (1)
فَقَدْ رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ اللَّهَ عَلَى كُل أَحْيَانِهِ. (2)
عَلَى أَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ عَلَى طَهَارَةٍ سَوَاءٌ أَكَانَ تَسْبِيحًا أَمْ غَيْرَهُ، أَوْلَى وَأَفْضَل لِحَدِيثِ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَلَّمَ عَلَيْهِ أَحَدُ الصَّحَابَةِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ، حَتَّى تَيَمَّمَ فَرَدَّ السَّلاَمَ، ثُمَّ قَال: كَرِهْتُ أَنْ أَذْكُرَ اللَّهَ إِلاَّ عَلَى طُهْرٍ. (3)
__________
(1) الأذكار للنووي ص 10، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 4 / 310، 311 و 14 / 197، والاختيار شرح المختار1 / 12 ط مصطفى الحلبي 1936، وشرح روض الطالب عن أسنى المطالب 1 / 46 المكتبة الإسلامية، وشرح جلال الدين المحلي على منهاج الطالبين بهامش قليوبي وعميرة 1 / 41، وبدائع الصنائع في ترتيب الشرائع 1 / 151، ومواهب الجليل لشرح مختصر خليل للحطاب 1 / 436 - 437، ونيل المآرب بشرح دليل الطالب للشيباني 1 / 28.
(2) حديث: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله. . . " أخرجه مسلم (1 / 282 - ط الحلبي) .
(3) حديث: " كرهت أن أذكر الله إلا على طهر " أخرجه أبو داود (1 / 23 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والحاكم (1 / 167 ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث المهاجر بن قنفذ رضي الله عنه. وصححه ووافقه الذهبي.(11/282)
التَّوَسُّطُ فِي رَفْعِ الصَّوْتِ فِي التَّسْبِيحِ وَغَيْرِهِ مُسْتَحَبٌّ عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} (1) وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُهُ. فَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ لَيْلَةً فَإِذَا هُوَ بِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُصَلِّي يَخْفِضُ مِنْ صَوْتِهِ. قَال: وَمَرَّ بِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ يُصَلِّي رَافِعًا صَوْتَهُ قَال: فَلَمَّا اجْتَمَعَا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: يَا أَبَا بَكْرٍ مَرَرْتُ بِكَ وَأَنْتَ تُصَلِّي تَخْفِضُ صَوْتَكَ؟ قَال: قَدْ أَسْمَعْتُ مَنْ نَاجَيْتُ يَا رَسُول اللَّهِ. قَال: فَارْفَعْ قَلِيلاً، وَقَال لِعُمَرَ: مَرَرْتُ بِكَ وَأَنْتَ تُصَلِّي رَافِعًا صَوْتَكَ؟ فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ: أُوقِظُ الْوَسْنَانَ وَأَطْرُدُ الشَّيْطَانَ. قَال: اخْفِضْ مِنْ صَوْتِكَ شَيْئًا (2)
وَقَال أَبُو سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اعْتَكَفَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ، فَسَمِعَهُمْ يَجْهَرُونَ بِالْقِرَاءَةِ، فَكَشَفَ السِّتْرَ وَقَال: أَلاَ إِنَّ كُلَّكُمْ مُنَاجٍ رَبَّهُ، فَلاَ يُؤْذِيَنَّ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَلاَ يَرْفَعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْقِرَاءَةِ، أَوْ قَال فِي الصَّلاَةِ (3) .
__________
(1) سورة الإسراء / 110.
(2) حديث: " مررت بك وأنت تصلي تخفض صوتك. . . " أخرجه أبو داود (2 / 82 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والحاكم (1 / 310 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه ووافقه الذهبي.
(3) حديث: " ألا إن كلكم مناج ربه. . . " أخرجه أبو داود (2 / 83 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والحاكم (1 / 311 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه ووافقه الذهبي.(11/283)
وَالْمُرَادُ بِالتَّوَسُّطِ أَنْ يَزِيدَ عَلَى أَدْنَى مَا يُسْمِعُ نَفْسَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَبْلُغَ تِلْكَ الزِّيَادَةُ سَمَاعَ مَنْ يَلِيهِ. (1)
مَا يَجُوزُ بِهِ التَّسْبِيحُ:
10 - أَجَازَ الْفُقَهَاءُ التَّسْبِيحَ بِالْيَدِ وَالْحَصَى وَالْمَسَابِحِ خَارِجَ الصَّلاَةِ، كَعَدِّهِ بِقَلْبِهِ أَوْ بِغَمْزِهِ أَنَامِلَهُ. أَمَّا فِي الصَّلاَةِ، فَإِنَّهُ يُكْرَهُ لأَِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَعْمَالِهَا. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ: أَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِذَلِكَ فِي الْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِل جَمِيعًا مُرَاعَاةً لِسُنَّةِ الْقِرَاءَةِ وَالْعَمَل بِمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ.
فَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ دَخَل مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى امْرَأَةٍ، وَبَيْنَ يَدَيْهَا نَوًى أَوْ حَصًى تُسَبِّحُ بِهِ، فَقَال: أُخْبِرُكِ بِمَا هُوَ أَيْسَرُ عَلَيْكِ مِنْ هَذَا أَوْ أَفْضَل. فَقَال: سُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ مَا خَلَقَ فِي السَّمَاءِ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ مَا خَلَقَ فِي الأَْرْضِ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ مَا بَيْنَ ذَلِكَ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ مَا هُوَ خَالِقٌ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ مِثْل ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ مِثْل ذَلِكَ، وَلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ مِثْل ذَلِكَ، وَلاَ حَوْل وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ مِثْل ذَلِكَ (2) فَلَمْ يَنْهَهَا
__________
(1) ابن عابدين 5 / 255، وحاشية الجمل على شرح المنهج 1 / 496، والأذكار للنووي ص 100، ومواهب الجليل لشرح مختصر خليل 2 / 29، والمغني لابن قدامة 2 / 139 ط الرياض الحديثة.
(2) حديث: سعد بن أبي وقاص: " أخبرك بما هو أيسر عليك. . . " أخرجه أبو داود (2 / 169 - 170 - تحقيق عزت عبيد دعاس) . وفي إسناده جهالة. (ميزان الاعتدال للذهبي 1 / 653 - ط الحلبي) .(11/283)
عَنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا أَرْشَدَهَا إِلَى مَا هُوَ أَيْسَرُ وَأَفْضَل، وَلَوْ كَانَ مَكْرُوهًا لَبَيَّنَ لَهَا ذَلِكَ.
وَعَنْ يُسَيْرَةَ الصَّحَابِيَّةِ الْمُهَاجِرَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُنَّ أَنْ يُرَاعِينَ بِالتَّكْبِيرِ وَالتَّقْدِيسِ وَالتَّهْلِيل، وَأَنْ يَعْقِدْنَ بِالأَْنَامِل فَإِنَّهُنَّ مَسْئُولاَتٌ مُسْتَنْطَقَاتٌ. (1)
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: رَأَيْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْقِدُ التَّسْبِيحَ وَفِي رِوَايَةٍ بِيَمِينِهِ. (2)
وَنَقَل الطَّحْطَاوِيُّ عَنِ ابْنِ حَجَرٍ قَوْلَهُ: الرِّوَايَاتُ بِالتَّسْبِيحِ بِالنَّوَى وَالْحَصَى كَثِيرَةٌ عَنِ الصَّحَابَةِ فِي بَعْضِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، بَل رَأَى ذَلِكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَقَرَّ عَلَيْهِ.
وَعَقْدُ التَّسْبِيحِ بِالأَْنَامِل أَفْضَل مِنَ السُّبْحَةِ، وَقِيل: إِنْ أَمِنَ الْغَلَطَ فَهُوَ أَوْلَى، وَإِلاَّ فَهِيَ أَوْلَى. (3)
__________
(1) حديث يسيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهن أن يراعين. . . أخرجه أبو داود (2 / 170 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وحسنه النووي في الأذكار (ص 19 - ط الحلبي) . ".
(2) حديث عبد الله بن عمر: " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعقد التسبيح " أخرجه أبو داود (2 / 170 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والترمذي (5 / 521 - ط الحلبي) . وحسنه النووي في الأذكار (ص 19 - ط الحلبي) .
(3) رد المحتار على الدر المختار 1 / 437، والهداية 1 / 65 ط الحلبي، والفتاوى الهندية 1 / 105 - 106، ومراقي الفلاح وحاشية الطحطاوي عليه 172، والمهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 96، وقليوبي وعميرة 1 / 190، والأذكار للنووي 19، وشرح الزرقاني على مختصر خليل 1 / 220، ومواهب الجليل لشرح مختصر خليل 1 / 552، والتاج والإكليل بهامشه، وكشاف القناع عن متن الإقناع 1 / 366، 376 ط النصر الحديثة، وحاشية الطحطاوي ص 172 ط: الثالثة الأميرية ببولاق.(11/284)
أَوْقَاتُهُ وَمَا يُسْتَحَبُّ مِنْهَا:
11 - لَيْسَ لِلذِّكْرِ - وَمِنْهُ التَّسْبِيحُ - وَقْتٌ مُعَيَّنٌ، بَل هُوَ مَشْرُوعٌ فِي كُل الأَْوْقَاتِ. رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ اللَّهَ عَلَى كُل أَحْيَانِهِ. (1)
وَفِي قَوْله تَعَالَى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} (2) مَا يَدُل عَلَى اسْتِحْبَابِ الذِّكْرِ فِي جَمِيعِ الأَْحْوَال الَّتِي يَكُونُ عَلَيْهَا الإِْنْسَانُ مِنْ يَوْمِهِ وَلَيْلِهِ.
إِلاَّ أَنَّ أَحْوَالاً مِنْهَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِاسْتِثْنَائِهَا: كَالْخَلاَءِ عِنْدَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ، وَفِي حَالَةِ الْجِمَاعِ، وَفِي حَالَةِ الْخُطْبَةِ لِمَنْ يَسْمَعُ صَوْتَ الْخَطِيبِ، وَفِي الأَْمَاكِنِ الْمُسْتَقْذَرَةِ وَالدَّنِسَةِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا يُكْرَهُ الذِّكْرُ مَعَهُ.
وَلَكِنْ وَرَدَ فِي بَعْضِ الأَْخْبَارِ اسْتِحْبَابُ التَّسْبِيحِ فِي أَوْقَاتٍ خَاصَّةٍ، مِنْ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ سَبَّحَ اللَّهَ فِي دُبُرِ كُل صَلاَةٍ ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ، وَحَمِدَ اللَّهَ ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ، وَكَبَّرَ اللَّهَ ثَلاَثًا
__________
(1) حديث: " كان يذكر الله على كل أحيانه ". تقدم تخريجه ف / 8.
(2) سورة آل عمران / 191.(11/284)
وَثَلاَثِينَ، فَتِلْكَ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ، وَقَال تَمَامَ الْمِائَةِ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُل شَيْءٍ قَدِيرٌ، غُفِرَتْ خَطَايَاهُ، وَإِنْ كَانَتْ مِثْل زَبَدِ الْبَحْرِ (1)
وَيُسْتَحَبُّ التَّسْبِيحُ فِي الإِْصْبَاحِ وَالإِْمْسَاءِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ قَال حِينَ يُصْبِحُ وَحِينَ يُمْسِي: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ مِائَةَ مَرَّةٍ، لَمْ يَأْتِ أَحَدٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَفْضَل مِمَّا جَاءَ بِهِ، إِلاَّ أَحَدٌ قَال مِثْل مَا قَال أَوْ زَادَ عَلَيْهِ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ وَبِحَمْدِهِ. (2)
وَيُسْتَحَبُّ التَّسْبِيحُ وَنَحْوُهُ عِنْدَ الْكُسُوفِ وَالْخُسُوفِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ كَسَفَتِ الشَّمْسُ وَهُوَ قَائِمٌ فِي الصَّلاَةِ رَافِعٌ يَدَيْهِ، فَجَعَل يُسَبِّحُ وَيُهَلِّل وَيُكَبِّرُ وَيَحْمَدُ وَيَدْعُو حَتَّى حُسِرَ عَنْهَا. فَلَمَّا حُسِرَ عَنْهَا قَرَأَ سُورَتَيْنِ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ. (3)
__________
(1) الأذكار للنووي / 68. وحديث: " من سبح الله في دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين. . . " أخرجه مسلم (1 / 418 - ط الحلبي) .
(2) حديث: " من قال حين يصبح وحين يمسي: سبحان الله. . . " أخرجه مسلم (4 / 2071 - ط الحلبي) وأبو داود (5 / 326 - تحقيق عزت عبيد دعاس) . والأذكار للنووي ص 72.
(3) حديث عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وقد كسفت الشمس. . . " أخرجه مسلم (2 / 629 - ط الحلبي) .(11/285)
التَّسْبِيحُ فِي افْتِتَاحِ الصَّلاَةِ:
12 - هُوَ سُنَّةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَإِنَّهُمْ لاَ يَرَوْنَهُ، بَل كَرِهُوهُ فِي افْتِتَاحِهَا.
وَاسْتَدَل الْجُمْهُورُ بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَارْفَعُوا أَيْدِيَكُمْ، وَلاَ تُخَالِفْ آذَانَكُمْ، ثُمَّ قُولُوا: اللَّهُ أَكْبَرُ، سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، وَتَبَارَكَ اسْمُكَ وَتَعَالَى جَدُّكَ، وَلاَ إِلَهَ غَيْرُكَ (1) وَبِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا اسْتَفْتَحَ الصَّلاَةَ قَال: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ وَتَبَارَكَ اسْمُكَ وَتَعَالَى جَدُّكَ وَلاَ إِلَهَ غَيْرُكَ (2)
وَاسْتَدَل الْمَالِكِيَّةُ بِمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: صَلَّيْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ، وَكَانُوا يَسْتَفْتِحُونَ بِالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. (3)
__________
(1) حديث: " إذا قمتم إلى الصلاة فارفعوا أيديكم ولا تخالف. . . " أخرجه الطبراني في معجمه الكبير (3 / 246 - ط وزارة الأوقاف العراقية) وقال الهيثمي: فيه يحيى بن يعلى الأسلمي، وهو ضعيف. مجمع الزوائد (2 / 102 - ط القدسي) .
(2) حديث: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استفتح الصلاة. . . " أخرجه أبو داود (1 / 483 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والحاكم (1 / 235 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه ووافقه الذهبي.
(3) حديث أنس: " صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر. . . " أخرجه مسلم (1 / 299 - ط الحلبي) .(11/285)
وَلَمْ يَذْكُرُوا التَّسْبِيحَ فِي افْتِتَاحِ الصَّلاَةِ لاَ مِنَ الْفَرَائِضِ وَلاَ مِنَ السُّنَنِ. (1)
التَّسْبِيحُ فِي الرُّكُوعِ
13 - التَّسْبِيحُ فِي الرُّكُوعِ سُنَّةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي الْمَشْهُورِ، وَقِيل وَاجِبٌ. وَمُسْتَحَبٌّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَمَنْدُوبٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ. وَوَاجِبٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ بِتَسْبِيحَةٍ وَاحِدَةٍ، وَالسُّنَّةُ الثَّلاَثُ.
وَأَقَل الْمَسْنُونِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. وَالْمُسْتَحَبُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: ثَلاَثُ تَسْبِيحَاتٍ. لِمَا رَوَاهُ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا رَكَعَ أَحَدُكُمْ فَقَال: سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ ثَلاَثًا، فَقَدْ تَمَّ رُكُوعُهُ، وَذَلِكَ أَدْنَاهُ (2)
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ التَّسْبِيحُ
__________
(1) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح 139، 141، وفتح القدير والعناية بهامشه 1 / 251 ط دار إحياء التراث العربي، ورد المحتار على الدر المختار 1 / 328، والشرح الكبير 1 / 231 - 236، 251 - 252، والمهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 78، وقليوبي 1 / 147، وشرح روض الطالب من أسنى المطالب 1 / 148، والمغني لابن قدامة 1 / 473 - 475 م الرياض الحديثة، ومنار السبيل في شرح الدليل 1 / 89 المكتب الإسلامي.
(2) حديث: " إذا ركع أحدكم فقال: سبحان ربي العظيم ثلاثا. . . " أخرجه أبو داود (1 / 550 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والترمذي (2 / 47 - ط الحلبي) واللفظ له. وفي إسناده انقطاع. (التلخيص الحبير 1 / 242 - ط شركة الطباعة الفنية) .(11/286)
بِأَيِّ لَفْظٍ كَانَ بِرُكُوعٍ وَسُجُودٍ (1)
وَنَصَّ ابْنُ جَزِيٍّ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ فِي الرُّكُوعِ سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ. (2)
وَدَلِيلُهُ مَا وَرَدَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَل قَوْل اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} (3) قَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اجْعَلُوهَا فِي رُكُوعِكُمْ (4)
وَالتَّسْبِيحُ فِيهِ لاَ يَتَحَدَّدُ بِعَدَدٍ، بِحَيْثُ إِذَا نَقَصَ عَنْهُ يَفُوتُهُ الثَّوَابُ، بَل إِذَا سَبَّحَ مَرَّةً يَحْصُل لَهُ الثَّوَابُ، وَإِنْ كَانَ يُزَادُ الثَّوَابُ بِزِيَادَتِهِ.
وَالزِّيَادَةُ عَلَى هَذِهِ التَّسْبِيحَاتِ أَفْضَل إِلَى خَمْسٍ أَوْ سَبْعٍ أَوْ تِسْعٍ بِطَرِيقِ الاِسْتِحْبَابِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. وَفِي مُنْيَةِ الْمُصَلِّي: أَدْنَاهُ ثَلاَثٌ، وَأَوْسَطُهُ خَمْسٌ، وَأَكْمَلُهُ سَبْعٌ.
وَأَدْنَى الْكَمَال عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي التَّسْبِيحِ ثَلاَثٌ ثُمَّ خَمْسٌ ثُمَّ سَبْعٌ ثُمَّ تِسْعٌ ثُمَّ إِحْدَى عَشْرَةَ وَهُوَ الأَْكْمَل. وَهَذَا لِلْمُنْفَرِدِ وَلإِِمَامِ قَوْمٍ مَحْصُورِينَ رَضُوا بِالتَّطْوِيل. أَمَّا غَيْرُهُ فَيَقْتَصِرُ عَلَى الثَّلاَثِ، وَلاَ يَزِيدُ عَلَيْهَا لِلتَّخْفِيفِ عَلَى الْمُقْتَدِينَ. وَيَزِيدُ الْمُنْفَرِدُ وَإِمَامُ قَوْمٍ مَحْصُورِينَ
__________
(1) الدسوقي 1 / 248.
(2) القوانين الفقهية ص 45.
(3) سورة الواقعة / 96.
(4) حديث: " اجعلوها في ركوعكم " أخرجه ابن ماجه (1 / 287 - ط الحلبي) من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه. وصححه ابن حبان (موارد الظمآن ص 135 - ط السلفية) .(11/286)
عَلَى ذَلِكَ: اللَّهُمَّ لَكَ رَكَعْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ إِلَخْ. قَال فِي الرَّوْضَةِ: وَهَذَا مَعَ الثَّلاَثِ أَفْضَل مِنْ مُجَرَّدِ أَكْمَل التَّسْبِيحِ.
وَالزِّيَادَةُ عَلَى التَّسْبِيحَةِ الْوَاحِدَةِ مُسْتَحَبَّةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، فَأَعْلَى الْكَمَال فِي حَقِّ الإِْمَامِ يُزَادُ إِلَى عَشْرِ تَسْبِيحَاتٍ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَشْبَهَ صَلاَةً بِصَلاَةِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَذَا الْفَتَى - يَعْنِي عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ - فَحَزَرْنَا فِي رُكُوعِهِ عَشْرَ تَسْبِيحَاتٍ وَفِي سُجُودِهِ عَشْرَ تَسْبِيحَاتٍ (1) .
وَقَال أَحْمَدُ: جَاءَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ التَّسْبِيحَ التَّامَّ سَبْعٌ، وَالْوَسَطَ خَمْسٌ، وَأَدْنَاهُ ثَلاَثٌ.
وَأَعْلَى التَّسْبِيحِ فِي حَقِّ الْمُنْفَرِدِ الْعُرْفُ، وَقِيل: مَا لَمْ يَخَفْ سَهْوًا، وَقِيل: بِقَدْرِ قِيَامِهِ، وَقِيل: سَبْعٌ. (2)
__________
(1) حديث أنس أنه قال: ما رأيت أحدا أشبه صلاة بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الفتى. . . " أخرجه النسائي (2 / 225 - ط المكتبة التجارية) .
(2) مراقي الفلاح 144 - 145، 154، ورد المحتار على الدر المختار 1 / 320، 332، والمهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 82، ونهاية المحتاج إلى شرح المنهاج 1 / 478 - 479، والقليوبي 1 / 155، والفواكه الدواني 1 / 208 - 209 دار المعرفة، والشرح الكبير 1 / 248، 253، والشرح الصغير 1 / 110، وكشاف القناع 1 / 347 - 348، والمغني لابن قدامة 1 / 502 - 503 الرياض الحديثة، منار السبيل في شرح الدليل 1 / 88 - 91.(11/287)
التَّسْبِيحُ فِي السُّجُودِ:
14 - يُقَال فِي السُّجُودِ مَا قِيل فِي الرُّكُوعِ، مِنْ حَيْثُ الصِّفَةُ وَالْعَدَدُ وَالاِخْتِلاَفُ فِي ذَلِكَ.
فَالتَّسْبِيحُ فِي السُّجُودِ سُنَّةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي الْمَشْهُورِ، وَقِيل وَاجِبٌ. وَمَنْدُوبٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ. وَمُسْتَحَبٌّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. وَوَاجِبٌ عِنْد الْحَنَابِلَةِ فِي أَقَلِّهِ، وَهُوَ الْوَاحِدَةُ، وَسُنَّةٌ فِي الثَّلاَثِ، كَمَا فِي الرُّكُوعِ. وَلاَ خِلاَفَ إِلاَّ فِي أَنَّ تَسْبِيحَ السُّجُودِ أَنْ يَقُول: سُبْحَانَ رَبِّيَ الأَْعْلَى، أَمَّا فِي الرُّكُوعِ فَيَقُول: سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ
. تَسْبِيحُ الْمُقْتَدِي تَنْبِيهًا لِلإِْمَامِ:
15 - لَوْ عَرَضَ لِلإِْمَامِ شَيْءٌ فِي صَلاَتِهِ سَهْوًا مِنْهُ كَانَ لِلْمَأْمُومِ تَنْبِيهُهُ بِالتَّسْبِيحِ اسْتِحْبَابًا، إِنْ كَانَ رَجُلاً، وَبِالتَّصْفِيقِ إِنْ كَانَتْ أُنْثَى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. لِحَدِيثِ: إِنَّمَا التَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ، وَمَنْ نَابَهُ شَيْءٌ فِي صَلاَتِهِ فَلْيَقُل سُبْحَانَ اللَّهِ. (1)
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَكَرِهُوا لِلْمَرْأَةِ التَّصْفِيقَ فِي الصَّلاَةِ مُطْلَقًا، وَقَالُوا: إِنَّهَا تُسَبِّحُ لِعُمُومِ حَدِيثِ: مَنْ نَابَهُ شَيْءٌ فِي صَلاَتِهِ فَلْيَقُل سُبْحَانَ اللَّهِ وَوَجْهُ الاِسْتِدْلاَل أَنَّ (مَنْ) مِنْ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ فَيَشْمَل النِّسَاءَ. (2)
__________
(1) حديث: " إنما التصفيق للنساء. . . " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 107 - ط السلفية) ومسلم (1 / 317 - ط الحلبي) من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه.
(2) الفتاوى الهندية 1 / 99 المكتبة الإسلامية، والمهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 94 - 95، 103 ط الحلبي ونهاية المحتاج إلى شرح المنهاج 2 / 43 - 45، وقليوبي وعميرة على شرح منهاج الطالبين 1 / 189 - 190، ومواهب الجليل لشرح مختصر خليل 2 / 29 مكتبة النجاح بليبيا، والشرح الكبير 1 / 282، والمغني لابن قدامة 2 / 19، 54 م الرياض الحديثة، وكشاف القناع 1 / 380 ط النصر الحديثة.(11/287)
تَنْبِيهُ الْمُصَلِّي غَيْرَهُ بِالتَّسْبِيحِ:
16 - إِذَا أَتَى الْمُصَلِّي بِذِكْرٍ مَشْرُوعٍ يَقْصِدُ بِهِ تَنْبِيهَ غَيْرِهِ إِلَى أَنَّهُ فِي صَلاَةٍ، كَأَنْ يَسْتَأْذِنَ عَلَيْهِ إِنْسَانٌ يُرِيدُ الدُّخُول وَهُوَ فِي الصَّلاَةِ، أَوْ يَخْشَى الْمُصَلِّي عَلَى إِنْسَانٍ الْوُقُوعَ فِي بِئْرٍ أَوْ هَلَكَةٍ، أَوْ يَخْشَى أَنْ يُتْلِفَ شَيْئًا، كَانَ لِلْمُصَلِّي اسْتِحْبَابًا أَنْ يُسَبِّحَ تَنْبِيهًا لَهُ، وَتُصَفِّقَ الْمَرْأَةُ عَلَى الْخِلاَفِ السَّابِقِ بَيَانُهُ. لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ آنِفًا، وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَنْ نَابَهُ شَيْءٌ فِي صَلاَتِهِ فَلْيَقُل: سُبْحَانَ اللَّهِ، فَإِنَّهُ لاَ يَسْمَعُهُ أَحَدٌ يَقُول سُبْحَانَ اللَّهِ إِلاَّ الْتَفَتَ (1) وَفِي الْمُسْنَدِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَانَ لِي مِنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاعَةٌ آتِيهِ فِيهَا فَإِذَا أَتَيْتُهُ اسْتَأْذَنْتُهُ إِنْ وَجَدْتُهُ يُصَلِّي فَسَبَّحَ دَخَلْتُ، وَإِنْ وَجَدْتُهُ فَارِغًا أَذِنَ لِي (2) .
__________
(1) حديث: " من نابه شيء في صلاته فيقل سبحان الله. . . " أخرجه البخاري (الفتح - 3 / 107 - ط السلفية) عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه.
(2) حديث: " كان لي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة آتية فيها. . . " رواه ابن ماجه. من حديث علي رضي الله عنه ورواه من حديث مغيرة بلفظ " فتنحنح " بدل: " فسبح " وأخرجه النسائي (1 / 283 وشركة الطباعة الفنية) وصححه ابن السكن كما في التلخيص لابن حجر (1 / 283 - ط شركة الطباعة الفنية) .(11/288)
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ تَبْطُل الصَّلاَةُ إِذَا مَحَّضَ التَّسْبِيحَ لِلإِْعْلاَمِ، أَوْ قَصَدَ بِهِ التَّعَجُّبَ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ. . وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ التَّسْبِيحَاتِ فِي الصَّلاَةِ " لاَ تَضُرُّ إِلاَّ مَا كَانَ فِيهِ خِطَابٌ لِمَخْلُوقٍ غَيْرِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّ كُل ذَلِكَ لاَ يُؤَثِّرُ فِي صِحَّةِ الصَّلاَةِ. (1)
التَّسْبِيحُ أَثْنَاءَ الْخُطْبَةِ
17 - قَال الْحَنَفِيَّةُ بِكَرَاهَةِ التَّسْبِيحِ لِمُسْتَمِعِ الْخُطْبَةِ؛ لأَِنَّهُ يَشْغَلُهُ عَنْ سَمَاعِهَا. فَإِنْ كَانَ بَعِيدًا عَنِ الْخَطِيبِ وَلاَ يَسْمَعُهُ فَلاَ بَأْسَ بِهِ سِرًّا عِنْدَ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمُعْتَمَدُ فِي الْمَذْهَبِ الْمَنْعُ مُطْلَقًا لِلْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ السَّامِعِ وَغَيْرِهِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَجُوزُ الذِّكْرُ - عَلَى أَنَّهُ خِلاَفُ الأَْوْلَى عَلَى الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ - مِنْ تَسْبِيحٍ وَتَهْلِيلٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، إِنْ كَانَ قَلِيلاً وَبِالسِّرِّ، وَيَحْرُمُ الْكَثِيرُ مُطْلَقًا، كَمَا يَحْرُمُ الْقَلِيل إِذَا كَانَ جَهْرًا.
وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لَمْ يَتَعَرَّضُوا لِلتَّسْبِيحِ بِخُصُوصِهِ، لَكِنْ تَعَرَّضُوا لِلذِّكْرِ أَثْنَاءَ الْخُطْبَةِ،
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 99 م المكتبة الإسلامية، والمهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 94 - 95، وروضة الطالبين 1 / 291، ومواهب الجليل لشرح مختصر خليل للحطاب 2 / 29، والمغني لابن قدامة 2 / 54 - 55، وكشاف القناع عن متن الإقناع 1 / 380.(11/288)
فَقَالُوا: الأَْوْلَى لِغَيْرِ السَّامِعِ لِلْخُطْبَةِ أَنْ يَشْتَغِل بِالتِّلاَوَةِ وَالذِّكْرِ. وَأَمَّا السَّامِعُ فَلاَ يَشْتَغِل بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إِلاَّ بِالصَّلاَةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَمِعَ ذِكْرَهُ. (1)
التَّسْبِيحُ فِي افْتِتَاحِ صَلاَةِ الْعِيدَيْنِ وَبَيْنَ تَكْبِيرَاتِ الزَّوَائِدِ فِيهَا:
18 - الثَّنَاءُ عَقِبَ تَكْبِيرَةِ الاِفْتِتَاحِ فِي صَلاَةِ الْعِيدَيْنِ سُنَّةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، مُسْتَحَبٌّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ كَمَا فِي افْتِتَاحِ الصَّلاَةِ عَلَى نَحْوِ مَا سَبَقَ بَيَانُهُ. وَالتَّسْبِيحُ بَيْنَ التَّكْبِيرَاتِ الزَّوَائِدِ فِي صَلاَةِ الْعِيدَيْنِ سُنَّةٌ كَذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَمُسْتَحَبٌّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَلاَ يَقُول بِهِ الْمَالِكِيَّةُ، بَل كَرِهُوهُ، أَوْ أَنَّهُ خِلاَفُ الأَْوْلَى عِنْدَهُمْ، فَلاَ يَفْصِل الإِْمَامُ بَيْنَ آحَادِهِ إِلاَّ بِقَدْرِ تَكْبِيرِ الْمُؤْتَمِّ، بِلاَ قَوْلٍ مِنْ تَسْبِيحٍ وَتَحْمِيدٍ وَتَهْلِيلٍ وَتَكْبِيرٍ.
وَلَيْسَ فِيهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ ذِكْرٌ مَسْنُونٌ بَيْنَ هَذِهِ التَّكْبِيرَاتِ، وَلاَ بَأْسَ بِأَنْ يَقُول: سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ. وَهُوَ أَوْلَى مِنَ السُّكُوتِ، كَمَا فِي الْقُهُسْتَانِيِّ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: يَذْكُرُ اللَّهَ بَيْنَ كُل تَكْبِيرَتَيْنِ
__________
(1) مراقي الفلاح وحاشية الطحطاوي عليه 282 - 283، ورد المحتار على الدر المختار 1 / 551، والفتاوى الهندية 1 / 147، والشرح الصغير للدردير 1 / 509 - 510، والشرح الكبير 1 / 385 - 386، ونهاية المحتاج إلى شرح المنهاج 2 / 308، وحاشية الجمل على شرح المنهج 2 / 32، وكشاف القناع 2 / 48.(11/289)
بِالْمَأْثُورِ، وَهُوَ عِنْدَ الأَْكْثَرِينَ مِنْهُمْ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ.
وَيَجُوزُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنْ يَقُول بَيْنَ كُل تَكْبِيرَتَيْنِ مِنْ هَذِهِ التَّكْبِيرَاتِ: اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا، وَسُبْحَانَ اللَّهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ وَآلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا؛ لِقَوْل عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ سَأَلْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِمَّا يَقُولُهُ بَيْنَ تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ فَقَال: يَحْمَدُ اللَّهَ وَيُثْنِي عَلَيْهِ وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَوَاهُ الأَْثْرَمُ وَحَرْبٌ وَاحْتَجَّ بِهِ أَحْمَدُ (1) .
التَّسْبِيحُ لِلإِْعْلاَمِ بِالصَّلاَةِ
19 - اخْتُلِفَ فِي تَسْبِيحِ الْمُؤَذِّنِينَ لِلإِْعْلاَمِ بِالصَّلاَةِ بَيْنَ كَوْنِهِ بِدْعَةً حَسَنَةً، أَوْ مَكْرُوهَةً عَلَى خِلاَفٍ سَبَقَ فِي مُصْطَلَحِ: (أَذَانٌ) (2)
__________
(1) مراقي الفلاح 291، وحاشية ابن عابدين 1 / 559، والشرح الكبير 1 / 396 - 397، 400، والفواكه الدواني 1 / 317 - 318، وشرح الزرقاني 2 / 73، وشرح روض الطالب من أسنى المطالب 1 / 279 - 280، وشرح المنهج 2 / 95، وروضة الطالبين 2 / 71، والمهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 127، والمغني لابن قدامة 2 / 382 - 383، والإقناع 1 / 201 دار المعرفة، ومنار السبيل في شرح الدليل 1 / 151.
(2) بدائع الصنائع 1 / 155، ابن عابدين 1 / 258، 261، ومواهب الجليل 1 / 429 - 432، والفواكه الدواني 1 / 202، وأسنى المطالب 1 / 133، ونهاية المحتاج 1 / 401، وحاشية الجمل 1 / 303، وكشاف القناع عن متن الإقناع 1 / 243، والموسوعة الفقهية في الكويت 2 / 361.(11/289)
صَلاَةُ التَّسْبِيحِ
20 - وَرَدَ فِي صَلاَةِ التَّسْبِيحِ حَدِيثٌ اخْتُلِفَ فِي صِحَّتِهِ. وَلِلْفُقَهَاءِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (صَلاَةِ التَّسْبِيحِ) .
أَمَاكِنُ يُنْهَى عَنِ التَّسْبِيحِ فِيهَا:
21 - لَمَّا كَانَ التَّسْبِيحُ نَوْعًا مِنَ الذِّكْرِ، وَهُوَ مَكْرُوهٌ فِي الأَْمَاكِنِ التَّالِيَةِ، كَانَ التَّسْبِيحُ مَكْرُوهًا كَذَلِكَ فِيهَا؛ لأَِنَّ النَّهْيَ عَنِ الْعَامِّ نَهْيٌ عَنِ الْخَاصِّ، وَذَلِكَ تَنْزِيهًا لاِسْمِ اللَّهِ عَنِ الذِّكْرِ فِي هَذِهِ الأَْمَاكِنِ الْمُسْتَقْذَرَةِ طَبْعًا. فَيُكْرَهُ التَّسْبِيحُ وَغَيْرُهُ مِنَ الذِّكْرِ فِي الْخَلاَءِ عِنْدَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ، وَفِي مَوَاضِعِ النَّجَاسَاتِ وَالْقَاذُورَاتِ، وَالْمَوَاضِعِ الدَّنِسَةِ بِنَجَاسَةٍ أَوْ قَذَارَةٍ، وَعِنْدَ الْجِمَاعِ، وَفِي الْحَمَّامِ وَالْمُغْتَسَل، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مَتَى كَانَ بِاللِّسَانِ. أَمَّا بِالْقَلْبِ فَقَطْ فَإِنَّهُ لاَ يُكْرَهُ. وَمَا لَمْ تَكُنْ هُنَاكَ ضَرُورَةٌ لَهُ كَإِنْقَاذِ أَعْمَى مِنَ الْوُقُوعِ فِي بِئْرٍ أَوْ غَيْرِهِ، أَوْ تَحْذِيرِ مَعْصُومٍ مِنْ هَلَكَةٍ كَغَافِلٍ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَالأَْوْلَى التَّحْذِيرُ بِغَيْرِ التَّسْبِيحِ وَالذِّكْرِ فِي مِثْل هَذِهِ الْحَالاَتِ.
كَمَا يُكْرَهُ الذِّكْرُ - وَمِنْهُ التَّسْبِيحُ - لِمَنْ يَسْمَعُ صَوْتَ الْخَطِيبِ فِي الْجُمُعَةِ لِمَا تَقَدَّمَ. (1)
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 50، وابن عابدين 1 / 230، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 1 / 106، ومواهب الجليل 1 / 273 - 275، وشرح الزرقاني 1 / 77، وأسنى المطالب 1 / 46، 131، وروضة الطالبين 1 / 66، وكشاف القناع 1 / 63، 245، ونيل المآرب 1 / 8، والإقناع 1 / 14 - 15، والأذكار للنووي ص 12.(11/290)
التَّعَجُّبُ بِلَفْظِ التَّسْبِيحِ
22 - يَجُوزُ التَّعَجُّبُ بِلَفْظِ التَّسْبِيحِ (1) . فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقِيَ أَبَا هُرَيْرَةَ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ جُنُبٌ، فَانْسَل، فَذَهَبَ فَاغْتَسَل، فَتَفَقَّدَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا جَاءَ قَال: أَيْنَ كُنْتَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ قَال: يَا رَسُول اللَّهِ لَقِيتَنِي وَأَنَا جُنُبٌ، فَكَرِهْتُ أَنْ أُجَالِسَكَ حَتَّى أَغْتَسِل. فَقَال: سُبْحَانَ اللَّهِ، إِنَّ الْمُؤْمِنَ لاَ يَنْجُسُ. (2)
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ أُخْتَ الرُّبَيِّعِ أُمَّ حَارِثَةَ جَرَحَتْ إِنْسَانًا، فَاخْتَصَمُوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: الْقِصَاصَ الْقِصَاصَ، فَقَالَتْ أُمُّ الرُّبَيِّعِ: يَا رَسُول اللَّهِ أَتَقْتَصُّ مِنْ فُلاَنَةَ؟ وَاللَّهِ لاَ يُقْتَصُّ مِنْهَا. فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْقِصَاصُ كِتَابُ اللَّهِ. سُبْحَانَ اللَّهِ يَا أُمَّ الرُّبَيِّعِ،. (3)
__________
(1) الأذكار للنووي 292 - 293، والفتاوى الهندية 1 / 99، والمغني لابن قدامة 2 / 56 - 58، وكشاف القناع 1 / 381.
(2) حديث: " سبحان الله إن المؤمن لا ينجس " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 390 - ط السلفية) ومسلم (1 / 281 - ط الحلبي) .
(3) حديث أنس: " سبحان الله يا أم الربيع. . . " أخرجه مسلم (3 / 1302 - ط الحلبي) .(11/290)
التَّسْبِيحُ أَمَامَ الْجِنَازَةِ:
23 - يُكْرَهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لِمُشَيِّعِ الْجِنَازَةِ رَفْعُ صَوْتِهِ بِالذِّكْرِ وَالتَّسْبِيحِ، لأَِنَّهُ مِنَ الْبِدَعِ الْمُنْكَرَاتِ، وَلاَ كَرَاهَةَ فِي ذَلِكَ لَوْ كَانَ فِي نَفْسِهِ سِرًّا، بِحَيْثُ يُسْمِعُ نَفْسَهُ، وَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَشْغَل نَفْسَهُ بِذِكْرِ اللَّهِ وَالتَّفْكِيرِ فِيمَا يَلْقَاهُ الْمَيِّتُ، وَأَنَّ هَذَا عَاقِبَةُ أَهْل الدُّنْيَا. وَيَتَجَنَّبُ ذِكْرَ مَا لاَ فَائِدَةَ فِيهِ مِنَ الْكَلاَمِ، فَعَنْ قَيْسِ بْنِ عُبَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: كَانَ أَصْحَابُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكْرَهُونَ رَفْعَ الصَّوْتِ عِنْدَ الْجَنَائِزِ، وَعِنْدَ الْقِتَال، وَعِنْدَ الذِّكْرِ، (1) وَلأَِنَّهُ تَشَبُّهٌ بِأَهْل الْكِتَابِ فَكَانَ مَكْرُوهًا. (2)
التَّسْبِيحُ عِنْدَ الرَّعْدِ:
24 - التَّسْبِيحُ عِنْدَ الرَّعْدِ مُسْتَحَبٌّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، فَيَقُول سَامِعُهُ عِنْدَ سَمَاعِهِ: سُبْحَانَ مَنْ يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ
__________
(1) حديث قيس بن عبادة: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرهون رفع الصوت عند. . . " أخرجه البيهقي (4 / 74 - ط دائرة المعارف العثمانية) .
(2) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح 332 ط دار الإيمان، وفتح القدير 2 / 57، وابن عابدين 1 / 598، الفتاوى الهندية 1 / 162، وبدائع الصنائع 1 / 310، والخرشي 2 / 138 - 139، وشرح الزرقاني 2 / 108، وحاشية الجمل 2 / 166، والأذكار للنووي ص 145، وكشاف القناع 2 / 129 - 130.(11/291)
وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ. اللَّهُمَّ لاَ تَقْتُلْنَا بِغَضَبِكَ، وَلاَ تُهْلِكْنَا بِعَذَابِكَ، وَعَافِنَا مِنْ قَبْل ذَلِكَ. (1)
فَقَدْ رَوَى مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ كَانَ إِذَا سَمِعَ الرَّعْدَ تَرَكَ الْحَدِيثَ وَقَال: سُبْحَانَ الَّذِي يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ (2)
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: كُنَّا مَعَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي سَفَرٍ، فَأَصَابَنَا رَعْدٌ وَبَرْقٌ وَبَرَدٌ، فَقَال لَنَا كَعْبٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَنْ قَال حِينَ يَسْمَعُ الرَّعْدَ: سُبْحَانَ مَنْ يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ - ثَلاَثًا - عُوفِيَ مِنْ ذَلِكَ الرَّعْدِ، فَقُلْنَا فَعُوفِينَا (3) .
قَطْعُ التَّسْبِيحِ:
25 - الْفُقَهَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْمُسَبِّحَ وَغَيْرَهُ مِنَ الذَّاكِرِينَ، أَوِ التَّالِينَ لِكِتَابِ اللَّهِ، إِذَا سَمِعُوا
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 568، وقليوبي 1 / 317 - 318، وأسنى المطالب 1 / 293، وروضة الطالبين 2 / 95، ونهاية المحتاج 2 / 416، والإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع 2 / 55 - 56، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 1 / 218، 9 / 296، والإقناع في فقه الإمام أحمد بن حنبل للمقدسي 1 / 209.
(2) مقالة عبد الله بن الزبير: كان إذا سمع الرعد. . . " أخرجها مالك في الموطأ (2 / 992 - ط الحلبي) وصححها النووي في الأذكار (ص 164 - ط الحلبي) .
(3) أثر كعب " من قال حين يسمع الرعد. . . " أخرجه الطبراني وحسنه ابن حجر كما في الفتوحات الربانية لابن علان (4 / 286 - ط المنيرية) .(11/291)
الْمُؤَذِّنَ - وَهُوَ يُؤَذِّنُ أَذَانًا مَسْنُونًا - يَقْطَعُونَ تَسْبِيحَهُمْ، وَذِكْرَهُمْ وَتِلاَوَتَهُمْ، وَيُجِيبُونَ الْمُؤَذِّنَ. وَهُوَ مَنْدُوبٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَهُنَاكَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بِالْوُجُوبِ. (1)
ثَوَابُ التَّسْبِيحِ
: 26 - ثَوَابُ التَّسْبِيحِ عَظِيمٌ، (2) لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ قَال سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ حُطَّتْ خَطَايَاهُ، وَلَوْ كَانَتْ مِثْل زَبَدِ الْبَحْرِ (3)
وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ.
__________
(1) مراقي الفلاح 109 - 110، وابن عابدين 1 / 265 - 267، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 1 / 196 - 197، ومواهب الجليل 1 / 422، 448، والفواكه الدواني 1 / 202 دار المعرفة، وحاشية الجمل على شرح المنهج 1 / 308 - 309، ونهاية المحتاج 1 / 402 - 403، وكشاف القناع 1 / 245 والمغني لابن قدامة 1 / 209 - 210، والأذكار للنووي ص 17 - 18.
(2) موطأ الإمام مالك 1 / 209 - 210، والأذكار للنووي ص 17 - 18.
(3) حديث: " من قال: سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة حطت خطاياه. . . " أخرجه مسلم (4 / 2971 - ط الحلبي) .(11/292)
تَسْبِيلٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي التَّسْبِيل لُغَةً وَاصْطِلاَحًا جَعْل الشَّيْءِ فِي سَبِيل اللَّهِ. يُقَال: سَبَّل فُلاَنٌ ضَيْعَتَهُ تَسْبِيلاً: أَيْ جَعَلَهَا فِي سَبِيل اللَّهِ، وَسَبَّلْتَ الثَّمَرَةَ: حَمَلْتَهَا فِي سَبِيل الْخَيْرِ وَأَنْوَاعِ الْبِرِّ. وَفِي حَدِيثِ وَقْفِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْتَ بِهَا (1) أَيِ: اجْعَلْهَا وَقْفًا وَأَبِحْ ثَمَرَتَهَا لِمَنْ وَقَفْتَهَا عَلَيْهِ. وَسَبَّلْتَ الشَّيْءَ: إِذَا أَبَحْتَهُ، كَأَنَّكَ جَعَلْتَ إِلَيْهِ طَرِيقًا مَطْرُوقَةً. وَسَبِيل اللَّهِ عَامٌّ يَقَعُ عَلَى كُل عَمَلٍ خَالِصٍ سُلِكَ بِهِ طَرِيقُ التَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِأَدَاءِ الْفَرَائِصِ وَالنَّوَافِل وَأَنْوَاعِ التَّطَوُّعَاتِ، وَقَدْ يُطْلَقُ السَّبِيل عَلَى حَوْضِ الْمَاءِ الْمُبَاحِ لِلْوَارِدِينَ. (2)
وَفِي النَّظْمِ الْمُسْتَعْذَبِ فِي شَرْحِ غَرِيبِ الْمُهَذَّبِ
__________
(1) حديث: " إن شئت حسبت أصلها وتصدقت بها " أخرجه البخاري. فتح الباري 5 / 355 ط السلفية، ومسلم 3 / 1255 ط عيسى الحلبي من حديث ابن عمر.
(2) لسان العرب، والمصباح المنير، ومختار الصحاح، ومحيط المحيط مادة: " سبل ".(11/292)
تَسْبِيل الثَّمَرَةِ: أَنْ يَجْعَل الْوَاقِفُ لَهَا سَبِيلاً: أَيْ طَرِيقًا لِمَصْرِفِهَا. وَفِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ: تَسْبِيل الْمَنْفَعَةِ: أَيْ إِطْلاَقُ فَوَائِدِ الْعَيْنِ الْمَوْقُوفَةِ مِنْ غَلَّةٍ وَثَمَرَةٍ وَغَيْرِهَا لِلْجِهَةِ الْمُعَيَّنَةِ تَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.
وَيُطْلَقُ التَّسْبِيل أَيْضًا - اصْطِلاَحًا - عَلَى الْوَقْفِ، يُقَال: سَبَّلْتَ الدَّارَ أَيْ وَقَفْتَهَا. (1)
فَالتَّسْبِيل مِنْ أَلْفَاظِ الْوَقْفِ الصَّرِيحَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، بِأَنْ يَقُول الْوَاقِفُ: سَبَّلْتُ دَارِي لِسُكْنَى فُقَرَاءِ بَلْدَةِ كَذَا وَسَاكِنِيهَا. فَلَفْظُ التَّسْبِيل صَرِيحٌ فِي الْوَقْفِ؛ لأَِنَّهُ مَوْضُوعٌ لَهُ وَمَعْرُوفٌ فِيهِ، وَثَبَتَ لَهُ عُرْفُ الشَّرْعِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا وَسَبَّلْتَ ثَمَرَتَهَا (2) فَصَارَ هَذَا اللَّفْظُ فِي الْوَقْفِ كَلَفْظِ التَّطْلِيقِ فِي الطَّلاَقِ. وَإِضَافَةُ التَّحْبِيسِ إِلَى الأَْصْل وَالتَّسْبِيل إِلَى الثَّمَرَةِ لاَ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ فِي الْمَعْنَى، فَإِنَّ الثَّمَرَةَ مُحَبَّسَةٌ أَيْضًا عَلَى مَا شَرَطَ صَرْفَهَا إِلَيْهِ. (3)
وَأَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، لَوْ قَال الْوَاقِفُ: أَرْضِي
__________
(1) النظم المستعذب في شرح غريب المهذب بذيل صحائف المهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 447 دار المعرفة، وكشاف القناع 4 / 241 م النصر الحديثة.
(2) الحديث تقم تخريجه (ف 1) .
(3) المهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 449، وكشاف القناع 4 / 241 م النصر الحديثة، ومنار السبيل في شرح الدليل 2 / 4 المكتب الإسلامي.(11/293)
هَذِهِ لِلسَّبِيل إِنْ تَعَارَفُوا وَقْفًا مُؤَبَّدًا، كَانَ كَذَلِكَ. وَإِلاَّ سُئِل فَإِنْ قَال: أَرَدْتُ الْوَقْفَ صَارَ وَقْفًا؛ لأَِنَّ لَفْظَهُ يَحْتَمِل ذَلِكَ، أَوْ قَال: أَرَدْتُ مَعْنَى الصَّدَقَةِ فَهُوَ نَذْرٌ، فَيَتَصَدَّقُ بِهَا أَوْ بِثَمَنِهَا.
وَإِنْ لَمْ يَنْوِ كَانَتْ مِيرَاثًا. (1)
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَالَّذِي يَظْهَرُ مِنْ كَلاَمِهِمْ أَنَّ جَعْل الشَّيْءِ فِي السَّبِيل يَقْتَضِي التَّصَدُّقَ بِعَيْنِهِ مَا لَمْ تُوجَدْ قَرِينَةٌ تَصْرِفُهُ إِلَى مَعْنَى وَقْفِ الْعَيْنِ وَالتَّصَدُّقِ بِثَمَرَتِهَا أَوْ مَنْفَعَتِهَا. (2)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - التَّسْبِيل قُرْبَةٌ مَنْدُوبٌ إِلَيْهَا بِالاِتِّفَاقِ؛ لِحَدِيثِ إِذَا مَاتَ الإِْنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاَثَةٍ: إِلاَّ مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ (3) وقَوْله تَعَالَى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} (4) وَفَعَلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ، رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ قَدْ مَلَكَ مِائَةَ سَهْمٍ مِنْ خَيْبَرَ فَقَال: قَدْ أَصَبْتُ مَالاً لَمْ أُصِبْ مِثْلَهُ، وَقَدْ أَرَدْتُ أَنْ أَتَقَرَّبَ بِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى،
__________
(1) البحر الرائق 5 / 205، 206، والفتاوى الهندية 2 / 357 - 359.
(2) الدسوقي 4 / 84، 85، والحطاب 6 / 28.
(3) حديث: " إذا مات الإنسان انقطع عمله. . . " أخرجه مسلم 3 / 1255 ط عيسى الحلبي من حديث أبي هريرة.
(4) سورة الحج / 77.(11/293)
فَقَال إِنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْتَ بِهَا (1) وَقَال جَابِرٌ: لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذُو مَقْدِرَةٍ إِلاَّ وَقَفَ (2)
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (صَدَقَةٌ - وَقْفٌ)
.
تَسْجِيلٌ
انْظُرْ: تَوْثِيقٌ
__________
(1) حديث: " إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها " سبق تخريجه (ف 1) .
(2) المهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 447، وكشاف القناع 4 / 240، 241 م النصر الحديثة، وابن عابدين 3 / 358 - 359، والبحر الرائق شرح كنز الدقائق 5 / 206 / والشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 4 / 75.(11/294)
تَسَرِّي
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّسَرِّي فِي اللُّغَةِ: اتِّخَاذُ السُّرِّيَّةِ. يُقَال: تَسَرَّى الرَّجُل جَارِيَتَهُ وَتَسَرَّى بِهَا وَاسْتَسَرَّهَا: إِذَا اتَّخَذَهَا سُرِّيَّةً، وَهِيَ الأَْمَةُ الْمَمْلُوكَةُ يَتَّخِذُهَا سَيِّدُهَا لِلْجِمَاعِ. وَهِيَ فِي الأَْصْل مَنْسُوبَةٌ إِلَى السِّرِّ بِمَعْنَى: الْجِمَاعِ، غَيْرَ أَنَّهُمْ ضَمُّوا السِّينَ تَجَنُّبًا لِحُصُول اللَّبْسِ، فَرْقًا بَيْنَهَا وَبَيْنَ السِّرِّيَّةِ وَهِيَ الْحُرَّةُ الَّتِي يَتَزَوَّجُهَا الرَّجُل سِرًّا. وَقِيل هِيَ مِنَ السِّرِّ بِمَعْنَى الإِْخْفَاءِ؛ لأَِنَّ الرِّجَال كَثِيرًا مَا كَانُوا يَتَّخِذُونَ السَّرَارِيَّ سِرًّا، وَيُخْفُونَهُنَّ عَنْ زَوْجَاتِهِمُ الْحَرَائِرِ. وَقِيل: هِيَ مِنَ السُّرِّ بِالضَّمِّ بِمَعْنَى السُّرُورِ، وَسُمِّيَتِ الْجَارِيَةُ سُرِّيَّةً؛ لأَِنَّهَا مَوْضِعُ سُرُورِ الرَّجُل، وَلأَِنَّهُ يَجْعَلُهَا فِي حَالٍ تَسُرُّهَا مِنْ دُونِ سَائِرِ جَوَارِيهِ. (1)
__________
(1) لسان العرب المحيط، بيروت، دار لسان العرب، 1389 هـ، وحاشية ابن عابدين على الدر المختار 3 / 113، القاهرة، مطبعة بولاق 1272 هـ، وفتح القدير لابن الهمام على الهداية للمرغيناني 4 / 440، 441، القاهرة المطبعة الميمنية، 1319 هـ.(11/294)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: إِعْدَادُ الأَْمَةِ لأََنْ تَكُونَ مَوْطُوءَةً (1) .
2 - وَيَتِمُّ التَّسَرِّي عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بِأَمْرَيْنِ: الأَْوَّل: أَنْ يُحْصِنَ الرَّجُل أَمَتَهُ، وَالثَّانِي: أَنْ يُجَامِعَهَا. وَتَحْصِينُهَا: بِأَنْ يُبَوِّئَهَا مَنْزِلاً وَيَمْنَعَهَا مِنَ الْخُرُوجِ، فَلَوْ وَطِئَ دُونَ تَحْصِينٍ لَمْ يَثْبُتْ بِذَلِكَ التَّسَرِّي، وَلَوْ حَمَلَتْ مِنْهُ.
وَالْجِمَاعُ بِأَنْ يُجَامِعَهَا فِعْلاً، فَلَوْ حَصَّنَهَا وَأَعَدَّهَا لِلْوَطْءِ لَمْ يَثْبُتِ التَّسَرِّي بِذَلِكَ مَا لَمْ يَطَأْ فِعْلاً. فَإِذَا وَطِئَ الْمُحْصَنَةَ ثَبَتَ التَّسَرِّي سَوَاءٌ أَفْضَى بِمَائِهِ إِلَيْهَا أَمْ لاَ، بِأَنْ لَمْ يُنْزِل أَصْلاً، أَوْ أَنْزَل وَعَزَل. وَهَذَا قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ. وَقَال أَبُو يُوسُفَ، وَنُقِل عَنِ الشَّافِعِيِّ: لاَ يَتِمُّ التَّسَرِّي إِلاَّ بِأَنْ يُفْضِيَ إِلَيْهَا بِمَائِهِ، فَلَوْ وَطِئَ فَلَمْ يُنْزِل، أَوْ أَنْزَل وَعَزَل، لَمْ يَثْبُتِ التَّسَرِّي بِذَلِكَ، وَلَوْ حَلَفَ لاَ يَتَسَرَّى لَمْ يَحْنَثْ بِذَلِكَ. (2)
وَالْمُقَدَّمُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ التَّسَرِّيَ يَثْبُتُ بِوَطْءِ الأَْمَةِ الْمَمْلُوكَةِ غَيْرِ الْمُحَرَّمَةِ عَلَى وَاطِئِهَا، سَوَاءٌ حَصَّنَهَا أَمْ لاَ، أَنْزَل أَمْ لاَ. وَفِي قَوْل الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى: لاَ يَتِمُّ التَّسَرِّي إِلاَّ بِالْوَطْءِ وَالإِْنْزَال. وَلَمْ نَجِدْ لِلْمَالِكِيَّةِ نَصًّا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
__________
(1) تعريفات الجرجاني (تسري) .
(2) فتح القدير 4 / 440، 441، وابن عابدين 3 / 113، والمغني 8 / 723 ط ثالثة، القاهرة، دار المنار، 1367 هـ، وشرح المنهاج مع حاشية القليوبي 4 / 367.(11/295)
وَسَوْفَ يَكُونُ هَذَا الْبَحْثُ عَلَى أَنَّ التَّسَرِّيَ هُوَ وَطْءُ الرَّجُل مَمْلُوكَتَهُ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ كَانَ مَعَ الْوَطْءِ تَحْصِينٌ أَمْ لَمْ يَكُنْ؛ لِيَكُونَ شَامِلاً لِكُل مَا يَتَعَلَّقُ بِوَطْءِ الإِْمَاءِ بِالْمِلْكِ، وَلأَِنَّ مَا ذُكِرَ مِنَ الْخِلاَفِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لاَ يَظْهَرُ أَثَرُهُ، إِلاَّ فِي نَحْوِ الْحِنْثِ فِي الْحَلِفِ عَلَى التَّسَرِّي.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - النِّكَاحُ:
3 - النِّكَاحُ: هُوَ التَّزَوُّجُ بِعَقْدٍ. وَقَدْ يَتَزَوَّجُ الرَّجُل أَمَةً لِغَيْرِهِ يُنْكِحُهُ إِيَّاهَا سَيِّدُهَا، وَلاَ يُسَمَّى ذَلِكَ تَسَرِّيًا. وَلاَ يَنْكِحُ الْحُرُّ الأَْمَةَ إِلاَّ إِذَا خَافَ الْعَنَتَ.
ب - الْحَظِيَّةُ:
4 - الْحَظِيَّةُ: الْمَرْأَةُ تَنَال حُظْوَةً لَدَى الرَّجُل مِنْ بَيْنِ نِسَائِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ زَوْجَةً أَمْ سُرِّيَّةً (1) .
ج - مِلْكُ الْيَمِينِ:
5 - مِلْكُ الْيَمِينِ أَعَمُّ مِنَ التَّسَرِّي؛ لأَِنَّهُ قَدْ يَطَأُ بِمِلْكِ الْيَمِينِ بِدُونِ تَسَرٍّ، أَمَّا السُّرِّيَّةُ فَلاَ بُدَّ أَنْ تَكُونَ مُعَدَّةً لِلْوَطْءِ.
حُكْمُ التَّسَرِّي:
6 - التَّسَرِّي جَائِزٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ إِذَا تَمَّتْ شُرُوطُهُ كَمَا يَأْتِي.
__________
(1) لسان العرب.(11/295)
أَمَّا الْكِتَابُ فَفِي مَوَاضِعَ مِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا} (1) وَقَوْلُهُ {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ. . .} إِلَى قَوْلِهِ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} (2) وَقَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} (3) قَال ابْنُ عَابِدِينَ (4) : فَمَنْ لاَمَ الْمُتَسَرِّيَ عَلَى أَصْل الْفِعْل، بِمَعْنَى: أَنَّكَ فَعَلْتَ أَمْرًا قَبِيحًا فَهُوَ كَافِرٌ لِهَذِهِ الآْيَةِ، لَكِنْ لاَ يَكْفُرُ إِنْ لاَمَهُ عَلَى تَسَرِّيهِ؛ لأَِنَّهُ يَشُقُّ عَلَى زَوْجَتِهِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ.
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَبَايَا أَوْطَاسٍ لاَ تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ، وَلاَ غَيْرُ ذَاتِ حَمْلٍ حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً (5) وَأَعْطَى حَسَّانَ بْنَ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِحْدَى الْجَوَارِي الَّتِي أَهْدَاهَا لَهُ الْمُقَوْقِسُ، وَقَال لِحَسَّانَ دُونَكَ
__________
(1) سورة النساء / 3.
(2) سورة النساء / 24.
(3) سورة المؤمنون / 6.
(4) ابن عابدين 2 / 291.
(5) حديث: " لا توطأ حامل حتى تضع. . . " رواه أبو داود (2 / 614 - ط عزت عبيد دعاس) وحسنه ابن حجر في التلخيص (1 / 172 - ط شركة الطباعة الفنية) .(11/296)
هَذِهِ بَيِّضْ بِهَا وَلَدَكَ (1) .
وَالسُّنَّةُ الْفِعْلِيَّةُ أَيْضًا دَالَّةٌ عَلَى جَوَازِ التَّسَرِّي، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ لَهُ سَرَارٌ: قَال ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ} قَال: أَيْ وَأَبَاحَ لَكَ التَّسَرِّيَ مِمَّا أَخَذْتَ مِنَ الْغَنَائِمِ، وَقَدْ مَلَكَ صَفِيَّةَ وَجُوَيْرِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَأَعْتَقَهُمَا وَتَزَوَّجَهُمَا، وَمَلَكَ رَيْحَانَةَ بِنْتَ شَمْعُونَ النَّصْرَانِيَّةَ وَمَارِيَةَ الْقِبْطِيَّةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَكَانَتَا مِنَ السَّرَارِيِّ. (2) أَيْ فَكَانَ يَطَؤُهُمَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ.
وَكَذَلِكَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ اتَّخَذُوا السَّرَارِيَّ، فَكَانَ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أُمَّهَاتُ أَوْلاَدٍ أَوْصَى لِكُل وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ بِأَرْبَعِمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَكَانَ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أُمَّهَاتُ أَوْلاَدٍ، وَكَانَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَسَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ مِنْ أُمَّهَاتِ الأَْوْلاَدِ. وَرُوِيَ أَنَّ النَّاسَ لَمْ يَكُونُوا يَرْغَبُونَ فِي أُمَّهَاتِ الأَْوْلاَدِ حَتَّى وُلِدَ هَؤُلاَءِ الثَّلاَثَةُ، فَرَغِبَ النَّاسُ فِيهِنَّ. (3)
__________
(1) قصة إعطاء النبي صلى الله عليه وسلم إحدى الجواري لحسان. . . أخرجها ابن سعد في طبقاته (1 / 135 - ط دار بيروت) ، وأوردها ابن هشام في السيرة (2 / 306 - ط الحلبي) وابن حجر في الإصابة (4 / 339 - ط السعادة) .
(2) تفسير ابن كثير 3 / 499 بيروت، دار الفكر، طبعة مصورة عن الطبعة المصرية القديمة.
(3) المغني 9 / 529، وابن عابدين 2 / 291، وشرح المنهاج 4 / 374.(11/296)
وَأَجْمَعَتِ الأُْمَّةُ عَلَى ذَلِكَ، وَاسْتَمَرَّ ذَلِكَ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ دُونَ نَكِيرٍ مِنْ أَحَدٍ إِلَى حِينِ انْتِهَاءِ الرِّقِّ فِي الْعَصْرِ الْحَدِيثِ. وَقَدْ كَثُرَ التَّسَرِّي فِي الْعَصْرِ الأُْمَوِيِّ وَالْعَصْرِ الْعَبَّاسِيِّ لِكَثْرَةِ السَّبْيِ فِي الْفُتُوحِ، حَتَّى إِنَّ كَثِيرًا مِنْ نِسَاءِ الْخُلَفَاءِ الْعَبَّاسِيِّينَ كُنَّ مِنَ السَّرَارِيِّ. وَكَثِيرًا مِنْهُنَّ وَلَدْنَ الْخُلَفَاءَ. (1)
هَذَا وَلَيْسَ التَّسَرِّي خَاصًّا بِالأُْمَّةِ الإِْسْلاَمِيَّةِ، فَقَدْ وَرَدَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَسَرَّى بِهَاجَرَ الَّتِي وَهَبَهُ إِيَّاهَا مَلِكُ مِصْرَ (2) ، فَوَلَدَتْ لَهُ إِسْمَاعِيل عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقِيل: كَانَ لِسُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ثَلاَثُمِائَةِ سُرِّيَّةٍ، (3) وَكَانَ التَّسَرِّي فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَيْضًا.
مِلْكُ السَّيِّدِ لأَِمَتِهِ يُبِيحُ لَهُ وَطْأَهَا دُونَ عَقْدٍ:
7 - لاَ يَحْتَاجُ وَطْءُ السَّيِّدِ لأَِمَتِهِ إِلَى إِنْشَاءِ عَقْدِ زَوَاجٍ، وَلَوْ عَقَدَ النِّكَاحَ لِنَفْسِهِ عَلَى مَمْلُوكَتِهِ لَمْ يَصِحَّ النِّكَاحُ، وَلَمْ تَكُنْ بِذَلِكَ زَوْجَةً. قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لأَِنَّ مِلْكَ الرَّقَبَةِ يُفِيدُ مِلْكَ الْمَنْفَعَةِ وَإِبَاحَةَ الْبُضْعِ، فَلاَ يَجْتَمِعُ مَعَهُ عَقْدٌ أَضْعَفُ مِنْهُ. وَلَوْ كَانَ الْحُرُّ مُتَزَوِّجًا بِأَمَةٍ، ثُمَّ مَلَكَ زَوْجَتَهُ
__________
(1) نساء الخلفاء المسمى جهات الأئمة الخلفاء من الحرائر والإماء، تحقيق د. مصطفى جواد. القاهرة، دار المعارف بمصر.
(2) صحيح البخاري وفتح الباري، القاهرة، المكتبة السلفية، 1370 هـ.
(3) تفسير القرطبي 5 / 252، القاهرة، دار الكتب المصرية.(11/297)
الأَْمَةَ انْفَسَخَ نِكَاحُهَا مِنْهُ. وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَمَةً لَهُ فِيهَا شِرْكٌ. (1)
حِكْمَةُ إِبَاحَةِ التَّسَرِّي:
8 - الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ - بِالإِْضَافَةِ إِلَى اسْتِعْفَافِ مَالِكِ الأَْمَةِ بِهَا - أَنَّ فِي التَّسَرِّي تَحْصِينَ الإِْمَاءِ لَكَيْ لاَ يَمِلْنَ إِلَى الْفُجُورِ، وَثُبُوتَ نَسَبِ أَوْلاَدِهِنَّ إِلَى السَّيِّدِ، وَكَوْنَ الأَْوْلاَدِ أَحْرَارًا. وَإِذَا وَلَدَتِ الأَْمَةُ مِنْ سَيِّدِهَا تَكُونُ أُمَّ وَلَدٍ، فَتَصِيرُ حُرَّةً عِنْدَ مَوْتِهِ كَمَا يَأْتِي.
حُكْمُ السُّرِّيَّةِ إِذَا وَلَدَتْ مِنْ سَيِّدِهَا
9 - إِذَا وَلَدَتِ السُّرِّيَّةُ لِسَيِّدِهَا اسْتَحَقَّتِ الْعِتْقَ بِمَوْتِ سَيِّدِهَا بِحُكْمِ الشَّرْعِ، وَتُسَمَّى حِينَئِذٍ (أُمَّ وَلَدٍ) وَلاَ يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنَ اسْتِمْرَارِ تَسَرِّي سَيِّدِهَا بِهَا إِلَى أَنْ يَمُوتَ أَحَدُهُمَا، وَلاَ تُبَاعُ، وَلَهَا أَحْكَامٌ خَاصَّةٌ (ر: أُمُّ وَلَدٍ) .
شُرُوطُ إِبَاحَةِ التَّسَرِّي
10 - يُشْتَرَطُ لِجَوَازِ التَّسَرِّي مَا يَلِي:
الشَّرْطُ الأَْوَّل: الْمِلْكُ. فَلاَ يَحِل لِرَجُلٍ أَنْ يَطَأَ امْرَأَةً فِي غَيْرِ زَوَاجٍ إِلاَّ بِأَنْ يَكُونَ مَالِكًا لَهَا؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ
__________
(1) المغني 6 / 610، والفروق للقرافي 3 / 136، الفرق 153، وشرح المنهاج وحاشية القليوبي 3 / 247.(11/297)
مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} (1) .
وَهَذَا الشَّرْطُ لاَ يُحِل لاِمْرَأَةٍ مَالِكَةٍ لِعَبْدٍ أَنْ يَطَأَهَا عَبْدُهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ، وَلاَ يُعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلاَفٌ.
وَسَوَاءٌ مَلَكَ السَّيِّدُ أَمَتَهُ بِالشِّرَاءِ أَوِ الْمِيرَاثِ أَوِ الْهِبَةِ أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ وَسَائِل كَسْبِ الْمِلْكِيَّةِ الْمَشْرُوعَةِ. أَمَّا إِنْ عَلِمَ أَنَّ الأَْمَةَ مَسْرُوقَةٌ أَوْ مَغْصُوبَةٌ فَلاَ تَحِل لَهُ.
هَذَا، وَلاَ يَحِل لِلرَّجُل أَنْ يَطَأَ جَارِيَةً لَهُ فِيهَا شَرِيكٌ، مَهْمَا قَلَّتْ نِسْبَةُ مِلْكِ ذَلِكَ الشَّرِيكِ فِيهَا. قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَلاَ نَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلاَفًا. وَكَذَا لاَ يَحِل وَطْءُ الأَْمَةِ الْمُبَعَّضَةِ، وَهِيَ الَّتِي بَعْضُهَا مُعْتَقٌ وَبَعْضُهَا رَقِيقٌ؛ لأَِنَّ الْمِلْكَ فِي الْحَالَيْنِ غَيْرُ تَامٍّ. وَمَعَ ذَلِكَ فَإِذَا وَطِئَ جَارِيَةً لَهُ فِيهَا شِرْكٌ، فَإِنَّهُ لاَ يُحَدُّ لِلشُّبْهَةِ، لَكِنْ يُعَزَّرُ، وَإِنْ وَلَدَتْ مِنْهُ لَحِقَهُ النَّسَبُ. (2)
الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الْجَارِيَةُ مُسْلِمَةً أَوْ كِتَابِيَّةً إِذَا كَانَ الْمُتَسَرِّي مُسْلِمًا. فَإِنْ كَانَتْ مَجُوسِيَّةً أَوْ وَثَنِيَّةً لَمْ تَحِل لِسَيِّدِهَا الْمُسْلِمِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، كَمَا لاَ تَحِل لَهُ بِالزَّوَاجِ لَوْ كَانَتْ حُرَّةً، وَهَذَا قَوْل جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ
__________
(1) سورة المؤمنون / 5 - 7.
(2) المغني 9 / 353، 354.(11/298)
تَعَالَى: {وَلاَ تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} . (1)
ج - الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ لاَ تَكُونَ مِمَّنْ يَحْرُمْنَ مُؤَبَّدًا أَوْ مُؤَقَّتًا، وَأَلاَّ تَكُونَ زَوْجَةَ غَيْرِهِ، أَوْ مُعْتَدَّتَهُ أَوْ مُسْتَبْرَأَتَهُ، مَا عَدَا التَّحْرِيمَ مِنْ حَيْثُ الْعَدَدُ. وَلِمَعْرِفَةِ الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ غَيْرِهِنَّ عَلَى التَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (نِكَاحٌ) .
وَبِهَذَا الشَّرْطِ يُعْلَمُ أَنَّهُ لاَ يَحِل لِلرَّجُل بِمِلْكِ الْيَمِينِ عَمَّتُهُ أَوْ خَالَتُهُ أَوْ غَيْرُهُنَّ مِنْ مُحَرَّمَاتِ النَّسَبِ، وَيُعْتَقْنَ عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِ الشِّرَاءِ. لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ فَهُوَ حُرٌّ (2) وَلاَ تَحِل لَهُ بِمِلْكِ الْيَمِينِ أُمُّهُ أَوْ أُخْتُهُ أَوْ خَالَتُهُ مِنَ الرَّضَاعِ لَوْ مَلَكَهُنَّ - وَإِنْ لَمْ يُعْتَقْنَ عَلَيْهِ لِكَوْنِهِنَّ مِنْ غَيْرِ ذَوِي الأَْرْحَامِ - وَكَذَا سَائِرُ مَنْ يَحْرُمُ نِكَاحُهُنَّ بِالرَّضَاعَةِ.
وَإِذَا وَطِئَ الرَّجُل امْرَأَةً بِنِكَاحٍ أَوْ مِلْكِ يَمِينٍ، حَرُمَتْ عَلَيْهِ أُمَّهَاتُهَا وَبَنَاتُهَا. وَحَرُمَتِ الْمَرْأَةُ عَلَى أَبِيهِ وَابْنِهِ، وَهُوَ تَحْرِيمُ الصِّهْرِ. وَيَشْمَل ذَلِكَ التَّحْرِيمُ النِّكَاحَ وَالتَّسَرِّيَ (3)
أَمَّا سَائِرُ ذَوِي الأَْرْحَامِ مِنْ بِنْتِ عَمٍّ أَوْ بِنْتِ
__________
(1) سورة البقرة / 221.
(2) حديث: " من ملك ذا رحم محرم فهو حر " أخرجه أبو داود (4 / 260 - ط عزت عبيد دعاس) وصححه ابن حزم وعبد الحق الأشبيلي كما في التلخيص لابن حجر (4 / 212 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(3) المغني 6 / 571، وجواهر الإكليل 1 / 289.(11/298)
خَالٍ، وَسَائِرِ مَنْ يَحِل لِلرَّجُل نِكَاحُهُنَّ مِنْ غَيْرِ الْمَحَارِمِ، فَيَجُوزُ إِذَا كُنَّ فِي مِلْكِهِ أَنْ يَطَأَ مِنْهُنَّ عَلَى سَبِيل التَّسَرِّي.
التَّسَرِّي بِأُخْتَيْنِ وَنَحْوِهِمَا
11 - يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الأُْخْتَيْنِ أَوْ نَحْوِهِمَا - كَالْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا - فِي مِلْكِ الْيَمِينِ، لَكِنْ إِنْ وَطِئَ إِحْدَاهُمَا حَرُمَتْ عَلَيْهِ الأُْخْرَى تَحْرِيمًا مُؤَقَّتًا، فَلَوْ وَطِئَ الثَّانِيَةَ أَثِمَ، وَهَذَا قَوْل الْجُمْهُورِ، وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ تَحْرِيمَ الأُْخْتَيْنِ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُْخْتَيْنِ} (1) مُطْلَقٌ، فَيَدْخُل فِيهِ التَّحْرِيمُ بِالزَّوَاجِ وَبِمِلْكِ الْيَمِينِ.
وَعَلَى قَوْل الْجُمْهُورِ: تَحِل لَهُ الأُْخْرَى إِنْ حَرَّمَ الَّتِي وَطِئَهَا بِإِعْتَاقِهَا وَبِإِخْرَاجِهَا عَنْ مِلْكِهِ بِبَيْعٍ أَوْ نَحْوِهِ، أَوْ بِتَزْوِيجِهَا، وَلاَ يَكْفِي أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا مَعَ بَقَائِهَا فِي مِلْكِهِ. وَنُقِل عَنْ قَتَادَةَ: يَكْفِيهِ اسْتِبْرَاؤُهَا.
وَقَالُوا جَمِيعًا: فَإِنْ كَانَتْ حَامِلاً لَمْ تَحِل لَهُ الأُْخْرَى حَتَّى تَضَعَ الْحَامِل حَمْلَهَا. (2)
الاِسْتِبْرَاءُ لِلأَْمَةِ الْمُتَمَلَّكَةِ:
12 - مَنْ تَمَلَّكَ جَارِيَةً غَيْرَ مُحَرَّمَةٍ عَلَيْهِ مُؤَقَّتًا أَوْ
__________
(1) سورة النساء / 23.
(2) المغني 6 / 584، 587، وابن عابدين 2 / 284، 285، و 5 / 243 وجواهر الإكليل 1 / 290.(11/299)
مُؤَبَّدًا، لَمْ يَحِل لَهُ وَطْؤُهَا قَبْل اسْتِبْرَائِهَا. فَلاَ يَطَؤُهَا إِنْ كَانَتْ حَامِلاً حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا، وَإِنْ كَانَتْ حَائِلاً فَحَتَّى تَحِيضَ عِنْدَهُ حَيْضَةً كَامِلَةً، لِيَعْلَمَ بَرَاءَةَ رَحِمِهَا مِنَ الْحَمْل. (ر: اسْتِبْرَاءٌ) .
وَإِنْ كَانَتْ آيِسَةً لَمْ يَلْزَمْهُ اسْتِبْرَاؤُهَا. وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ لاَ حَاجَةَ إِلَى الاِسْتِبْرَاءِ إِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ بَرَاءَةُ رَحِمِهَا مِنَ الْحَمْل. وَيَكْفِي قَوْل مَالِكِهَا أَنَّهُ قَدِ اسْتَبْرَأَهَا. (1)
عَدَدُ السَّرَارِيِّ وَالْقَسْمُ لَهُنَّ:
13 - لاَ يَتَحَدَّدُ مَا يَحِل لِلرَّجُل مِنَ السَّرَارِيِّ بِأَرْبَعٍ وَلاَ بِعَدَدٍ مُعَيَّنٍ. وَلَوْ كَانَ عِنْدَهُ مِنَ الزَّوْجَاتِ وَاحِدَةٌ فَأَكْثَرَ إِلَى أَرْبَعٍ أَوْ لَمْ يَكُنْ جَازَ لَهُ أَنْ يَتَسَرَّى بِمَا شَاءَ مِنَ الْجَوَارِي؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا} (2)
وَإِذَا كَانَ عِنْدَهُ أَكْثَرُ مِنْ سُرِّيَّةٍ لَمْ يَلْزَمْهُ الْقَسْمُ بَيْنَهُنَّ فِي الْمَبِيتِ. (3)
__________
(1) المغني 7 / 506، وجواهر الإكليل 2 / 394، وابن عابدين 5 / 240.
(2) سورة النساء / 3.
(3) تفسير القرطبي 5 / 20 سورة النساء / 3، والشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي 2 / 339، والفروق للقرافي 3 / 111، 112، الفرق 144، وجواهر الإكليل 1 / 277، وشرح المنهاج 3 / 299، والمغني 7 / 36، 630.(11/299)
تَخَيُّرُ السَّرَارِيِّ وَتَحْصِينُهُنَّ:
14 - يُسْتَحْسَنُ لِلرَّجُل إِنْ أَرَادَ التَّسَرِّيَ أَنْ يَتَخَيَّرَ السُّرِّيَّةَ ذَاتَ دِينٍ غَيْرَ مَائِلَةٍ لِلْفُجُورِ، وَذَلِكَ لِتَصُونَ عِرْضَهُ، وَأَنْ تَكُونَ ذَاتَ جَمَالٍ لأَِنَّهَا أَسْكُنُ لِنَفْسِهِ وَأَغَضُّ لِبَصَرِهِ، وَأَنْ تَكُونَ ذَاتَ عَقْلٍ، فَيَجْتَنِبَ الْحَمْقَاءَ لأَِنَّهَا لاَ تَصْلُحُ لِلْعِشْرَةِ؛ وَلأَِنَّهَا قَدْ تَحْمِل مِنْهُ فَيَنْتَقِل ذَلِكَ إِلَى وَلَدِهِ مِنْهَا. وَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَخَيَّرُوا لِنُطَفِكُمْ (1) وَكُل هَذَا مَأْخُوذٌ مِنْ فَحْوَى مَا يَذْكُرُهُ الْعُلَمَاءُ فِي تَخَيُّرِ الزَّوْجَاتِ. (2)
وَإِذَا اخْتَارَ السُّرِّيَّةَ وَجَبَ عَلَيْهِ قَبْل وَطْئِهَا - إِنْ كَانَ قَدْ تَمَلَّكَهَا فِي الْحَال - اسْتِبْرَاؤُهَا، وَعَلَيْهِ أَنْ يُحْصِنَهَا بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِئَلاَّ تُلْحِقَ بِهِ وَلَدًا لَيْسَ لَهُ.
قَال عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: حَصِّنُوا هَذِهِ الْوَلاَئِدَ (3) .
آثَارُ التَّسَرِّي:
15 - إِذَا ثَبَتَ التَّسَرِّي تَبِعَهُ التَّحْرِيمُ بِالصِّهْرِ، وَالْمَحْرَمِيَّةُ، وَلُحُوقُ النَّسَبِ الْمَوْلُودَ، عَلَى التَّفْصِيل التَّالِي:
أَوَّلاً: التَّحْرِيمُ:
16 - إِذَا وَطِئَ الرَّجُل امْرَأَةً بِمِلْكِ الْيَمِينِ
__________
(1) حديث: " تخيروا لنطفكم. . . " أخرجه ابن ماجه (1 / 633 - ط الحلبي) . وحسنه ابن حجر في التلخيص (3 / 146 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(2) المغني 6 / 565، وابن عابدين 2 / 262.
(3) المغني 9 / 528.(11/300)
حَرُمَتْ عَلَيْهِ إِلَى الأَْبَدِ أُمَّهَاتُهَا وَبَنَاتُهَا، وَحَرُمَتْ هِيَ عَلَى آبَائِهِ وَأَبْنَائِهِ؛ لأَِنَّ الْوَطْءَ فِي مِلْكِ الْيَمِينِ يَنْزِل مَنْزِلَةَ عَقْدِ النِّكَاحِ (1) . وَحَرُمَتْ عَلَيْهِ أُخْتُهَا وَعَمَّتُهَا وَخَالَتُهَا وَبِنْتُ أَخِيهَا وَبِنْتُ أُخْتِهَا مُؤَقَّتًا كَمَا تَقَدَّمَ.
ثَانِيًا: الْمَحْرَمِيَّةُ:
17 - تَثْبُتُ الْمَحْرَمِيَّةُ بِالْوَطْءِ الْمَذْكُورِ بَيْنَ الْوَاطِئِ وَبَيْنَ أُمَّهَاتِ الْمَوْطُوءَةِ وَبَنَاتِهَا، وَبَيْنَ الْمَوْطُوءَةِ وَآبَائِهِ وَأَبْنَائِهِ. (2)
نَسَبُ وَلَدِ السُّرِّيَّةِ
18 - إِذَا وَطِئَ الرَّجُل سُرِّيَّتَهُ فَأَتَتْ بِوَلَدٍ فَلِلْفُقَهَاءِ أَقْوَالٌ فِي لُحُوقِ نَسَبِ وَلَدِهَا بِهِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: أَنَّهُ يَلْحَقُهُ إِنْ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ، بِأَنْ أَتَتْ بِهِ تَامًّا لأَِكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَلأَِقَل مِنْ أَكْثَرِ مُدَّةِ الْحَمْل مِنْ يَوْمِ وَطِئَهَا. وَهَذَا قَوْل الْحَنَابِلَةِ وَالْمَالِكِيَّةِ. فَإِنْ أَتَتْ بِهِ لأَِقَل مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ لَمْ يَلْحَقْهُ؛ لأَِنَّ أَقَل مُدَّةِ الْحَمْل سِتَّةُ أَشْهُرٍ. وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِأَنَّ أَمَتَهُ صَارَتْ فِرَاشًا لَهُ بِالْوَطْءِ، فَلَحِقَهُ وَلَدُهَا كَوَلَدِ الزَّوْجَةِ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ (3) وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ
__________
(1) شرح المنهاج وحاشية القليوبي 3 / 243.
(2) حاشية القليوبي على شرح المنهاج 3 / 243.
(3) حديث: " الولد للفراش ". أخرجه البخاري (الفتح 12 / 127 - ط السلفية) من حديث عائشة رضي الله عنها.(11/300)
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: حَصِّنُوا هَذِهِ الْوَلاَئِدَ، فَلاَ يَطَأُ رَجُلٌ وَلِيدَتَهُ ثُمَّ يُنْكِرُ وَلَدَهَا إِلاَّ أَلْزَمْتُهُ إِيَّاهُ. رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ. وَرَوَى سَعِيدٌ أَيْضًا أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: أَيُّمَا رَجُلٍ غَشِيَ أَمَتَهُ ثُمَّ ضَيَّعَهَا فَالضَّيْعَةُ عَلَيْهِ وَالْوَلَدُ وَلَدُهُ.
ثُمَّ قَال أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْل: إِنْ نَفَى الْوَلَدَ عَنْ نَفْسِهِ مَعَ ثُبُوتِ الْوَطْءِ لَمْ يَنْتِفْ عَنْهُ، إِلاَّ أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّهُ اسْتَبْرَأَهَا بَعْدَ الْوَطْءِ، وَأَتَتْ بِالْوَلَدِ بَعْدَ اسْتِبْرَائِهَا، بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَأَكْثَرَ، فَيَنْتَفِي الْوَلَدُ بِذَلِكَ. وَفِي تَحْلِيفِهِ عَلَى ذَلِكَ وَجْهَانِ.
الْقَوْل الثَّانِي: أَنَّهُ لاَ يَلْحَقُهُ وَلَوْ أَقَرَّ بِالْوَطْءِ إِلاَّ أَنْ يَسْتَلْحِقَهُ، وَلاَ تَصِيرُ الأَْمَةُ فِرَاشًا بِالْوَطْءِ إِلاَّ بِالدَّعْوَةِ، أَيِ اسْتِلْحَاقِ نَسَبِ الْمَوْلُودِ. ثُمَّ إِذَا اسْتَلْحَقَ أَحَدَ أَوْلاَدِ الأَْمَةِ لَحِقَهُ مَنْ تَلِدُهُمْ بَعْدَهُ، لَكِنْ إِنِ انْتَفَى مِنْ نَسَبِ أَحَدِهِمْ لَمْ يَلْحَقْهُ. وَلاَ يَحْرُمُ عَلَيْهِ الاِنْتِفَاءُ مِنْ نَسَبِ وَلَدِهَا إِنْ كَانَ عَزَل عَنْهَا، وَهَذَا قَوْل الْحَنَفِيَّةِ.
الْقَوْل الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَلْحَقُهُ، لَكِنْ لَوْ نَفَاهُ لَمْ يَلْحَقْهُ وَهُوَ قَوْل الْحَسَنِ وَالشَّعْبِيِّ (1) . وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (نَسَبٌ) .
__________
(1) المغني 9 / 529، 530، وجواهر الإكليل 2 / 312، 313، وابن عابدين 2 / 380، 630.(11/301)
تَسْعِيرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّسْعِيرُ فِي اللُّغَةِ: هُوَ تَقْدِيرُ السِّعْرِ. يُقَال: سَعَّرْتُ الشَّيْءَ تَسْعِيرًا: أَيْ جَعَلْتُ لَهُ سِعْرًا مَعْلُومًا يَنْتَهِي إِلَيْهِ. وَسَعَّرُوا تَسْعِيرًا: أَيِ: اتَّفَقُوا عَلَى سِعْرٍ. وَالسِّعْرُ مَأْخُوذٌ مِنْ سَعَّرَ النَّارَ إِذَا رَفَعَهَا، لأَِنَّ السِّعْرَ يُوصَفُ بِالاِرْتِفَاعِ. ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ (1) . وَالتَّسْعِيرُ فِي الاِصْطِلاَحِ: تَقْدِيرُ السُّلْطَانِ أَوْ نَائِبِهِ لِلنَّاسِ سِعْرًا، وَإِجْبَارُهُمْ عَلَى التَّبَايُعِ بِمَا قَدَّرَهُ (2) .
وَقَال ابْنُ عَرَفَةَ: حَدُّ التَّسْعِيرِ: تَحْدِيدُ حَاكِمِ السُّوقِ لِبَائِعِ الْمَأْكُول فِيهِ قَدْرًا لِلْمَبِيعِ بِدِرْهَمٍ مَعْلُومٍ (3) .
__________
(1) المصباح المنير، ومختار الصحاح، والقاموس المحيط، ولسان العرب، وأساس البلاغة مادة: " سعر "، والنظم المستعذب في شرح غريب المهذب 1 / 292 ط مصطفى البابي الحلبي.
(2) مطالب أولي النهى 3 / 62، وأسنى المطالب 2 / 38 ط المكتبة الإسلامية.
(3) التيسير في أحكام التسعير تأليف القاضي أحمد بن سعيد المجيلدي / 41 ط الشركة الوطنية للنشر والتوزيع - الجزائر.(11/301)
وَقَال الشَّوْكَانِيُّ: التَّسْعِيرُ أَنْ يَأْمُرَ السُّلْطَانُ أَوْ نُوَّابُهُ أَوْ كُل مَنْ وَلِيَ مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ أَمْرًا أَهْل السُّوقِ أَلاَّ يَبِيعُوا أَمْتِعَتَهُمْ إِلاَّ بِسِعْرِ كَذَا، فَيَمْنَعُ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ أَوِ النُّقْصَانِ إِلاَّ لِمَصْلَحَةٍ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الاِحْتِكَارُ:
2 - الاِحْتِكَارُ لُغَةً: مِنَ الْحَكْرِ، وَهُوَ الظُّلْمُ وَالاِلْتِوَاءُ وَالْعُسْرُ وَسُوءُ الْمُعَاشَرَةِ، وَاحْتِكَارُ الطَّعَامِ: حَبْسُهُ تَرَبُّصًا لِغَلاَئِهِ، وَالْحُكْرَةُ: اسْمٌ مِنَ الاِحْتِكَارِ (2) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: اخْتَلَفَتْ تَعْرِيفَاتُ الْفُقَهَاءِ فِيهِ، بِنَاءً عَلَى الْقُيُودِ الَّتِي وَضَعَهَا كُل مَذْهَبٍ وَتَرْجِعُ كُلُّهَا إِلَى حَبْسِ السِّلَعِ انْتِظَارًا لاِرْتِفَاعِ أَثْمَانِهَا.
وَيُرْجَعُ فِيهِ إِلَى مُصْطَلَحِ (احْتِكَارٌ)
فَالاِحْتِكَارُ مُبَايِنٌ لِلتَّسْعِيرِ. إِلاَّ أَنَّ وُجُودَ الاِحْتِكَارِ مِمَّا يَسْتَدْعِي التَّسْعِيرَ لِمُقَاوَمَةِ الْغَلاَءِ.
ب - التَّثْمِينُ:
3 - التَّثْمِينُ: مَصْدَرُ ثَمَّنْتَ الشَّيْءَ أَيْ: جَعَلْتَ لَهُ ثَمَنًا بِالْحَدْسِ وَالتَّخْمِينِ.
__________
(1) نيل الأوطار 5 / 220 ط المطبعة العثمانية المصرية، ومغني المحتاج 2 / 38 ط مصطفى البابي الحلبي.
(2) أساس البلاغة، والقاموس المحيط، والمصباح المنير مادة: " حكر "، وابن عابدين 5 / 255 ط دار إحياء التراث العربي، والاختيار لتعليل المختار 4 / 160 ط دار المعرفة.(11/302)
ج - التَّقْوِيمُ
4 - تَقْوِيمُ الشَّيْءِ: أَنْ يُجْعَل لَهُ قِيمَةٌ مَعْلُومَةٌ (1) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلتَّسْعِيرِ:
5 - اتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ الأَْرْبَعَةِ عَلَى أَنَّ الأَْصْل فِي التَّسْعِيرِ هُوَ الْحُرْمَةُ (2) . أَمَّا جَوَازُ التَّسْعِيرِ فَمُقَيَّدٌ عِنْدَهُمْ بِشُرُوطٍ مُعَيَّنَةٍ يَأْتِي بَيَانُهَا.
6 - وَاسْتَدَل صَاحِبُ الْبَدَائِعِ لإِِثْبَاتِ الْحُرْمَةِ بِالْمَنْقُول مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ:
أَمَّا الْكِتَابُ: فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِل إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (3) .
__________
(1) المصباح المنير.
(2) الهداية 4 / 93 ط مصطفى الحلبي، والبدائع 5 / 129 ط دار الكتاب العربي، والجوهرة النيرة 2 / 387 ط مكتبة إمدادية، والزيلعي 6 / 28 ط دار المعرفة، وكشف الحقائق 2 / 237 ط مطبعة الموسوعات، والاختيار 4 / 160 - 161، وابن عابدين 5 / 256، والشرح الصغير 1 / 639، والمواق على هامش مواهب الجليل 4 / 380 ط دار الفكر، والقوانين الفقهية / 260 ط الدار العربية للكتاب، والمنتقى 5 / 18 ط دار الكتاب العربي، والتحفة 2 / 109 ط المطبعة الأميرية بمكة، ونهاية المحتاج 3 / 456، والقليوبي 2 / 186 ط دار إحياء الكتب العربية، وأسنى المطالب 2 / 38، وحاشية الجمل ط دار إحياء التراث العربي، وروضة الطالبين 3 / 411، 412، ومغني المحتاج 2 / 38، ومطالب أولي النهى 3 / 62، وكشاف القناع 4 / 44، والإنصاف 4 / 338 ط مطبعة السنة المحمدية. والمغني 4 / 240، 244.
(3) سورة النساء / 29.(11/302)
فَاشْتَرَطَتِ الآْيَةُ التَّرَاضِيَ، وَالتَّسْعِيرُ لاَ يَتَحَقَّقُ بِهِ التَّرَاضِي.
وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: لاَ يَحِل مَال امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلاَّ بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ (1) .
وَاسْتَدَل صَاحِبُ الْمُغْنِي بِمَا رَوَى أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: غَلاَ السِّعْرُ فِي الْمَدِينَةِ عَلَى عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال النَّاسُ: يَا رَسُول اللَّهِ: غَلاَ السِّعْرُ فَسَعِّرْ لَنَا، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّازِقُ، إِنِّي لأََرْجُو أَنْ أَلْقَى اللَّهَ وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يُطَالِبُنِي بِمَظْلَمَةٍ فِي دَمٍ وَلاَ مَالٍ. (2)
قَال ابْنُ قُدَامَةَ وَالدَّلاَلَةُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
1 - أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُسَعِّرْ، وَقَدْ سَأَلُوهُ ذَلِكَ، وَلَوْ جَازَ لأََجَابَهُمْ إِلَيْهِ.
2 - أَنَّهُ عَلَّل بِكَوْنِهِ مَظْلَمَةً وَالظُّلْمُ حَرَامٌ. وَبِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ مَرَّ بِحَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ يَبِيعُ
__________
(1) حديث: " لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه منه ". أخرجه أحمد (5 / 72 - ط الميمنية) من حديث أبي حرة الرقاشي، وهو حديث صحيح بطرقه. (التلخيص لابن حجر 3 / 46 - 47 ط شركة الطباعة الفنية) . وانظر البدائع 5 / 129 ط دار الكتاب العربي.
(2) حديث أنس: " إن الله هو المسعر القابض. . . " أخرجه أبو داود (3 / 731 - ط عزت عبيد دعاس) وقال ابن حجر: إسناده على شرط مسلم، (التلخيص 3 / 14 - ط شركة الطباعة الفنية) .(11/303)
زَبِيبًا لَهُ فِي السُّوقِ، فَقَال لَهُ: إِمَّا أَنْ تَزِيدَ فِي السِّعْرِ، وَإِمَّا أَنْ تَرْفَعَ مِنْ سُوقِنَا، فَلَمَّا رَجَعَ عُمَرُ حَاسَبَ نَفْسَهُ، ثُمَّ أَتَى حَاطِبًا فِي دَارِهِ، فَقَال لَهُ: إِنَّ الَّذِي قُلْتُ لَكَ لَيْسَ بِعَزِيمَةٍ مِنِّي وَلاَ قَضَاءٍ، إِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ أَرَدْتُ بِهِ الْخَيْرَ لأَِهْل الْبَلَدِ، فَحَيْثُ شِئْتَ فَبِعْ، وَكَيْفَ شِئْتَ فَبِعْ (1) .
7 - وَاسْتَدَلُّوا بِالْمَعْقُول:
وَهُوَ أَنَّ لِلنَّاسِ حُرِّيَّةَ التَّصَرُّفِ فِي أَمْوَالِهِمْ، وَالتَّسْعِيرُ حَجْرٌ عَلَيْهِمْ، وَالإِْمَامُ مَأْمُورٌ بِرِعَايَةِ مَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَيْسَ نَظَرُهُ لِمَصْلَحَةِ الْمُشْتَرِي بِرُخْصِ الثَّمَنِ أَوْلَى مِنْ نَظَرِهِ لِمَصْلَحَةِ الْبَائِعِ بِتَوْفِيرِ الثَّمَنِ (2) .
وَالثَّمَنُ حَقُّ الْعَاقِدِ فَإِلَيْهِ تَقْدِيرُهُ (3) .
__________
(1) ابن عابدين 5 / 256، والاختيار لتعليل المختار 4 / 160، 161، والهداية 4 / 93 ط مصطفى البابي الحلبي، ومواهب الجليل 4 / 380 ط دار الفكر، والقوانين الفقهية / 260، والمنتقى شرح الموطأ 5 / 18 ط دار الكتاب العربي، والقليوبي 2 / 186 ط مطبعة دار إحياء الكتب العربية، وحاشية الجمل 3 / 93 ط دار إحياء التراث العربي، وروضة الطالبين 3 / 411، 412 ط المكتب الإسلامي، ومطالب أولي النهى 3 / 62 ط المكتب الإسلامي بدمشق، والمغني 4 / 241، وسبل السلام 3 / 36 ط مطبعة مصطفى محمد.
(2) المغني 4 / 240، 241، ونيل الأوطار 5 / 220 ط المطبعة العثمانية المصرية.
(3) الهداية 4 / 93، والزيلعي 6 / 28 ط دار المعرفة، والجوهرة النيرة 2 / 387، وكشف الحقائق 2 / 237، ومجمع الأنهر شرح ملتقى الأبحر والدر المنتقى في شرح الملتقى 2 / 548 ط المطبعة العثمانية، والاختيار لتعليل المختار 4 / 161، ونيل الأوطار 5 / 220.(11/303)
ثُمَّ إِنَّ التَّسْعِيرَ سَبَبُ الْغَلاَءِ وَالتَّضْيِيقِ عَلَى النَّاسِ فِي أَمْوَالِهِمْ؛ لأَِنَّ الْجَالِبِينَ إِذَا بَلَغَهُمْ ذَلِكَ لَمْ يَقْدُمُوا بِسِلَعِهِمْ بَلَدًا يُكْرَهُونَ عَلَى بَيْعِهَا فِيهِ بِغَيْرِ مَا يُرِيدُونَ، وَمَنْ عِنْدَهُ الْبِضَاعَةُ يَمْتَنِعُ مِنْ بَيْعِهَا وَيَكْتُمُهَا، وَيَطْلُبُهَا أَهْل الْحَاجَةِ إِلَيْهَا، فَلاَ يَجِدُونَهَا إِلاَّ قَلِيلاً، فَيَرْفَعُونَ فِي ثَمَنِهَا لِيَصِلُوا إِلَيْهَا، فَتَغْلُو الأَْسْعَارُ وَيَحْصُل الإِْضْرَارُ بِالْجَانِبَيْنِ، جَانِبِ الْمُشْتَرِي فِي مَنْعِهِ مِنَ الْوُصُول إِلَى غَرَضِهِ، وَجَانِبِ الْمُلاَّكِ فِي مَنْعِهِمْ مِنْ بَيْعِ أَمْلاَكِهِمْ، فَيَكُونُ حَرَامًا (1) .
شُرُوطُ جَوَازِ التَّسْعِيرِ:
8 - تَقَدَّمَ أَنَّ الأَْصْل مَنْعُ التَّسْعِيرِ، وَمَنْعُ تَدَخُّل وَلِيِّ الأَْمْرِ فِي أَسْعَارِ السِّلَعِ، إِلاَّ أَنَّ هُنَاكَ حَالاَتٍ يَكُونُ لِلْحَاكِمِ بِمُقْتَضَاهَا حَقُّ التَّدَخُّل بِالتَّسْعِيرِ، أَوْ يَجِبُ عَلَيْهِ التَّدَخُّل عَلَى اخْتِلاَفِ الأَْقْوَال.
وَهَذِهِ الْحَالاَتُ هِيَ:
أ - تَعَدِّي أَرْبَابِ الطَّعَامِ عَنِ الْقِيمَةِ تَعَدِّيًا فَاحِشًا:
9 - وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ صَرَّحَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّهُ يَجُوزُ
__________
(1) المغني 4 / 240، وشرح الإقناع 3 / 150 ط مطبعة السنة المحمدية.(11/304)
لِلْحَاكِمِ أَنْ يُسَعِّرَ عَلَى النَّاسِ إِنْ تَعَدَّى أَرْبَابُ الطَّعَامِ عَنِ الْقِيمَةِ تَعَدِّيًا فَاحِشًا، وَعَجَزَ عَنْ صِيَانَةِ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ إِلاَّ بِالتَّسْعِيرِ، وَذَلِكَ بَعْدَ مَشُورَةِ أَهْل الرَّأْيِ وَالْبَصِيرَةِ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ، وَبِهِ يُفْتَى؛ لأَِنَّ فِيهِ صِيَانَةَ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الضَّيَاعِ، وَدَفْعَ الضَّرَرِ عَنِ الْعَامَّةِ (1) .
وَالتَّعَدِّي الْفَاحِشُ كَمَا عَرَّفَهُ الزَّيْلَعِيُّ وَغَيْرُهُ هُوَ الْبَيْعُ بِضِعْفِ الْقِيمَةِ (2) .
ب - حَاجَةُ النَّاسِ إِلَى السِّلْعَةِ:
10 - وَفِي هَذَا الْمَعْنَى قَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ يَنْبَغِي لِلسُّلْطَانِ أَنْ يُسَعِّرَ عَلَى النَّاسِ، إِلاَّ إِذَا تَعَلَّقَ بِهِ دَفْعُ ضَرَرِ الْعَامَّةِ، كَمَا اشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ وُجُودَ مَصْلَحَةٍ فِيهِ، وَنُسِبَ إِلَى الشَّافِعِيِّ مِثْل هَذَا الْمَعْنَى.
وَكَذَا إِذَا احْتَاجَ النَّاسُ إِلَى سِلاَحٍ لِلْجِهَادِ، فَعَلَى أَهْل السِّلاَحِ بَيْعُهُ بِعِوَضِ الْمِثْل، وَلاَ يُمَكَّنُونَ مِنْ أَنْ يَحْبِسُوا السِّلاَحَ حَتَّى يَتَسَلَّطَ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 256، والفتاوى الهندية 3 / 214 ط المطبعة الكبرى الأميرية، والاختيار لتعليل المختار 4 / 161، والهداية 4 / 93، وكشف الحقائق 2 / 237، والزيلعي 6 / 28.
(2) الزيلعي 6 / 28، والعناية، والكفاية المطبوعتان على هامش فتح القدير 8 / 192 ط دار إحياء التراث العربي، وكشف الحقائق 2 / 237، وابن عابدين 5 / 256 نقلا عن الزيلعي.(11/304)
الْعَدُوُّ، أَوْ يُبْذَل لَهُمْ مِنَ الأَْمْوَال مَا يَخْتَارُونَ (1) .
وَيَقُول ابْنُ تَيْمِيَّةَ: إِنَّ لِوَلِيِّ الأَْمْرِ أَنْ يُكْرِهَ النَّاسَ عَلَى بَيْعِ مَا عِنْدَهُمْ بِقِيمَةِ الْمِثْل عِنْدَ ضَرُورَةِ النَّاسِ إِلَيْهِ، مِثْل مَنْ عِنْدَهُ طَعَامٌ لاَ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، وَالنَّاسُ فِي مَخْمَصَةٍ، فَإِنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهِ لِلنَّاسِ بِقِيمَةِ الْمِثْل. وَلِهَذَا قَال الْفُقَهَاءُ: مَنْ اضْطُرَّ إِلَى طَعَامِ الْغَيْرِ أَخَذَهُ مِنْهُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ بِقِيمَةِ مِثْلِهِ، وَلَوِ امْتَنَعَ مِنْ بَيْعِهِ إِلاَّ بِأَكْثَرَ مِنْ سِعْرِهِ لَمْ يَسْتَحِقَّ إِلاَّ سِعْرَهُ (2) .
وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ حَدِيثُ الْعِتْقِ، وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ، فَكَانَ لَهُ مِنَ الْمَال يَبْلُغُ ثَمَنَ الْعَبْدِ، قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيمَةَ الْعَدْل، فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ، وَعَتَقَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ وَإِلاَّ فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ (3) وَيَقُول ابْنُ الْقَيِّمِ: إِنَّ هَذَا الَّذِي أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ " صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تَقْوِيمِ الْجَمِيعِ (أَيْ جَمِيعِ الْعَبْدِ) قِيمَةَ الْمِثْل هُوَ حَقِيقَةُ التَّسْعِيرِ، فَإِذَا كَانَ الشَّارِعُ
__________
(1) الهداية 4 / 93، والحسبة في الإسلام لابن تيمية ص 27، 28، 41 ط المطبعة العلمية، والطرق الحكمية / 253، 262، 263 ط مطبعة السنة المحمدية، والمواق المطبوع مع الحطاب 4 / 380.
(2) الحسبة في الإسلام لابن تيمية / 17 و 41 ط المكتبة العلمية، والطرق الحكمية في السياسة الشرعية لابن القيم / 262 ط مطبعة السنة المحمدية.
(3) حديث: " من أعتق شركا له في عبد. . . " أخرجه مسلم (2 / 1139 - ط الحلبي) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وهو متفق عليه بألفاظ عدة.(11/305)
يُوجِبُ إِخْرَاجَ الشَّيْءِ عَنْ مِلْكِ مَالِكِهِ بِعِوَضِ الْمِثْل لِمَصْلَحَةِ تَكْمِيل الْعِتْقِ، وَلَمْ يُمَكِّنِ الْمَالِكَ مِنَ الْمُطَالَبَةِ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الْقِيمَةِ، فَكَيْفَ إِذَا كَانَتِ الْحَاجَةُ بِالنَّاسِ إِلَى التَّمَلُّكِ أَعْظَمَ، مِثْل حَاجَةِ الْمُضْطَرِّ إِلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَاللِّبَاسِ وَغَيْرِهِ (1) .
ج - احْتِكَارُ الْمُنْتِجِينَ أَوِ التُّجَّارِ:
11 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الاِحْتِكَارَ حَرَامٌ فِي الأَْقْوَاتِ، كَمَا أَنَّهُ لاَ خِلاَفَ بَيْنَهُمْ فِي أَنَّ جَزَاءَ الاِحْتِكَارِ هُوَ بَيْعُ السِّلَعِ الْمُحْتَكَرَةِ جَبْرًا عَلَى صَاحِبِهَا بِالثَّمَنِ الْمَعْقُول مَعَ تَعْزِيرِهِ وَمُعَاقَبَتِهِ (2) ، عَلَى التَّفْصِيل الْمُتَقَدِّمِ بَيَانُهُ فِي مُصْطَلَحِ (احْتِكَارٌ) . وَمَا تَحْدِيدُ الثَّمَنِ الْمَعْقُول مِنْ جَانِبِ وَلِيِّ الأَْمْرِ إِلاَّ حَقِيقَةُ التَّسْعِيرِ، وَهَذَا تَوْجِيهٌ صَرَّحَ بِهِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ (3) . فِي حِينِ اعْتَبَرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ الْمُحْتَكِرَ مِمَّنْ لاَ يُسَعَّرُ عَلَيْهِ كَمَا سَيَأْتِي.
د - حَصْرُ الْبَيْعِ لأُِنَاسٍ مُعَيَّنِينَ:
12 - صَرَّحَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ بِأَنَّهُ لاَ تَرَدُّدَ عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ
__________
(1) الطرق الحكمية / 259 ط مطبعة السنة المحمدية.
(2) الاختيار 4 / 161، والفتاوى الهندية 3 / 214، وشرح الزرقاني 5 / 4، والمنتقى شرح الموطأ 5 / 17، ونهاية المحتاج 3 / 456 ط مصطفى البابي الحلبي، وكشاف القناع 2 / 36.
(3) الحسبة في الإسلام ص 17، 18.(11/305)
الْعُلَمَاءِ فِي وُجُوبِ رَدِّ التَّسْعِيرِ فِي حَالَةِ إِلْزَامِ النَّاسِ أَنْ لاَ يَبِيعَ الطَّعَامَ أَوْ غَيْرَهُ إِلاَّ أُنَاسٌ مَعْرُوفُونَ، فَهُنَا يَجِبُ التَّسْعِيرُ عَلَيْهِمْ بِحَيْثُ لاَ يَبِيعُونَ إِلاَّ بِقِيمَةِ الْمِثْل، وَلاَ يَشْتَرُونَ إِلاَّ بِقِيمَةِ الْمِثْل. لأَِنَّهُ إِذَا كَانَ قَدْ مَنَعَ غَيْرَهُمْ أَنْ يَبِيعَ ذَلِكَ النَّوْعَ أَوْ يَشْتَرِيَهُ، فَلَوْ سَوَّغَ لَهُمْ أَنْ يَبِيعُوا بِمَا اخْتَارُوا، أَوْ يَشْتَرُوا بِمَا اخْتَارُوا لَكَانَ ذَلِكَ ظُلْمًا لِلْبَائِعِينَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ بَيْعَ تِلْكَ الأَْمْوَال، وَظُلْمًا لِلْمُشْتَرِينَ مِنْهُمْ.
فَالتَّسْعِيرُ فِي مِثْل هَذِهِ الْحَالَةِ وَاجِبٌ بِلاَ نِزَاعٍ، وَحَقِيقَةُ إِلْزَامِهِمْ أَنْ لاَ يَبِيعُوا أَوْ لاَ يَشْتَرُوا إِلاَّ بِثَمَنِ الْمِثْل (1) .
هـ - تَوَاطُؤُ الْبَائِعِينَ ضِدَّ الْمُشْتَرِينَ أَوِ الْعَكْسِ:
13 - إِذَا تَوَاطَأَ التُّجَّارُ أَوْ أَرْبَابُ السِّلَعِ عَلَى سِعْرٍ يُحَقِّقُ لَهُمْ رِبْحًا فَاحِشًا، أَوْ تَوَاطَأَ مُشْتَرُونَ عَلَى أَنْ يَشْتَرِكُوا فِيمَا يَشْتَرِيهِ أَحَدُهُمْ حَتَّى يَهْضِمُوا سِلَعَ النَّاسِ يَجِبُ التَّسْعِيرُ، وَهَذَا مَا اخْتَارَهُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ، وَأَضَافَ قَائِلاً:
وَلِهَذَا مَنَعَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ - كَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ - الْقُسَّامَ الَّذِينَ يَقْسِمُونَ بِالأَْجْرِ أَنْ يَشْتَرِكُوا، فَإِنَّهُمْ إِذَا اشْتَرَكُوا، وَالنَّاسُ مُحْتَاجُونَ إِلَيْهِمْ أَغَلَوْا عَلَيْهِمُ الأَْجْرَ، فَمَنْعُ الْبَائِعِينَ - الَّذِينَ تَوَاطَئُوا عَلَى أَنْ لاَ يَبِيعُوا إِلاَّ بِثَمَنٍ
__________
(1) الحسبة في الإسلام ص 18، 19، والطرق الحكمية ص 245.(11/306)
قَدَّرُوهُ - أَوْلَى، وَكَذَلِكَ مَنْعُ الْمُشْتَرِينَ إِذَا تَوَاطَئُوا عَلَى أَنْ يَشْتَرِكُوا فِيمَا يَشْتَرِيهِ أَحَدُهُمْ، حَتَّى يَهْضِمُوا سِلَعَ النَّاسِ أَوْلَى (1) . لأَِنَّ إِقْرَارَهُمْ عَلَى ذَلِكَ مُعَاوَنَةٌ لَهُمْ عَلَى الظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ (2) . وَقَدْ قَال تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِْثْمِ وَالْعُدْوَانِ} . (3)
و احْتِيَاجُ النَّاسِ إِلَى صِنَاعَةِ طَائِفَةٍ:
14 - وَهَذَا مَا يُقَال لَهُ التَّسْعِيرُ فِي الأَْعْمَال: وَهُوَ أَنْ يَحْتَاجَ النَّاسُ إِلَى صِنَاعَةِ طَائِفَةٍ كَالْفِلاَحَةِ وَالنِّسَاجَةِ وَالْبِنَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَلِوَلِيِّ الأَْمْرِ أَنْ يُلْزِمَهُمْ بِذَلِكَ بِأُجْرَةِ الْمِثْل إِذَا امْتَنَعُوا عَنْهُ، وَلاَ يُمَكِّنُهُمْ مِنْ مُطَالَبَةِ النَّاسِ بِزِيَادَةٍ عَنْ عِوَضِ الْمِثْل، وَلاَ يُمَكِّنُ النَّاسَ مِنْ ظُلْمِهِمْ بِأَنْ يُعْطُوهُمْ دُونَ حَقِّهِمْ (4) .
15 - وَخُلاَصَةُ رَأْيِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ وَابْنِ الْقَيِّمِ أَنَّهُ إِذَا لَمْ تَتِمَّ مَصْلَحَةٌ إِلاَّ بِالتَّسْعِيرِ سَعَّرَ عَلَيْهِمُ السُّلْطَانُ تَسْعِيرَ عَدْلٍ بِلاَ وَكْسٍ وَلاَ شَطَطٍ، وَإِذَا انْدَفَعَتْ حَاجَتُهُمْ، وَقَامَتْ مَصْلَحَتُهُمْ بِدُونِهِ لَمْ يَفْعَل (5) .
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) الطرق الحكمية / 247.
(3) سورة المائدة / 2.
(4) الطرق الحكمية ص 247.
(5) الحسبة في الإسلام ص 44، 45، والطرق الحكمية ص 264.(11/306)
وَهَذَا يَدُل عَلَى أَنَّ الْحَالاَتِ الْمَذْكُورَةَ لَيْسَتْ حَصْرًا لِلْحَالاَتِ الَّتِي يَجِبُ فِيهَا التَّسْعِيرُ، بَل كُلَّمَا كَانَتْ حَاجَةُ النَّاسِ لاَ تَنْدَفِعُ إِلاَّ بِالتَّسْعِيرِ، وَلاَ تَتَحَقَّقُ مَصْلَحَتُهُمْ إِلاَّ بِهِ كَانَ وَاجِبًا عَلَى الْحَاكِمِ حَقًّا لِلْعَامَّةِ، مِثْل وُجُوبِ التَّسْعِيرِ عَلَى الْوَالِي عَامَ الْغَلاَءِ كَمَا قَال بِهِ مَالِكٌ، وَهُوَ وَجْهٌ لِلشَّافِعِيَّةِ أَيْضًا. (1)
الصِّفَةُ الْوَاجِبُ تَوَافُرُهَا فِي التَّسْعِيرِ:
16 - إِنَّ الْمُتَتَبِّعَ لِلنُّصُوصِ الْفِقْهِيَّةِ وَآرَاءِ الْفُقَهَاءِ يَجِدُ أَنَّهُ لاَ بُدَّ لِفَرْضِ التَّسْعِيرِ مِنْ تَحَقُّقِ صِفَةِ الْعَدْل؛ إِذْ لاَ يَكُونُ التَّسْعِيرُ مُحَقِّقًا لِلْمَصْلَحَةِ إِلاَّ إِذَا كَانَتْ فِيهِ الْمَصْلَحَةُ لِلْبَائِعِ وَالْمُبْتَاعِ، وَلاَ يَمْنَعُ الْبَائِعَ رِبْحًا، وَلاَ يُسَوِّغُ لَهُ مِنْهُ مَا يَضُرُّ بِالنَّاسِ (2) .
وَلِهَذَا اشْتَرَطَ مَالِكٌ عِنْدَمَا رَأَى التَّسْعِيرَ عَلَى الْجَزَّارِينَ أَنْ يَكُونَ التَّسْعِيرُ مَنْسُوبًا إِلَى قَدْرِ شِرَائِهِمْ، أَيْ أَنْ تُرَاعَى فِيهِ ظُرُوفُ شِرَاءِ الذَّبَائِحِ، وَنَفَقَةُ الْجِزَارَةِ، وَإِلاَّ فَإِنَّهُ يُخْشَى أَنْ يُقْلِعُوا عَنْ تِجَارَتِهِمْ، وَيَقُومُوا مِنَ السُّوقِ.
وَهَذَا مَا أَعْرَبَ عَنْهُ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ مِنْ أَنَّ التَّسْعِيرَ بِمَا لاَ رِبْحَ فِيهِ لِلتُّجَّارِ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 256، والزيلعي 6 / 28، والأحكام السلطانية للماوردي ص 256 ط مصطفى البابي الحلبي، ونيل الأوطار 5 / 220.
(2) المنتقى شرح الموطأ 5 / 19، ومواهب الجليل 4 / 380.(11/307)
يُؤَدِّي إِلَى فَسَادِ الأَْسْعَارِ، وَإِخْفَاءِ الأَْقْوَاتِ وَإِتْلاَفِ أَمْوَال النَّاسِ (1) .
كَيْفِيَّةُ التَّسْعِيرِ:
17 - تَعَرَّضَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْقَائِلُونَ بِجَوَازِ التَّسْعِيرِ لِبَيَانِ كَيْفِيَّةِ تَعْيِينِ الأَْسْعَارِ، وَقَالُوا: يَنْبَغِي لِلإِْمَامِ أَنْ يَجْمَعَ وُجُوهَ أَهْل سُوقِ ذَلِكَ الشَّيْءِ، وَيُحْضِرَ غَيْرَهُمُ اسْتِظْهَارًا عَلَى صِدْقِهِمْ، وَأَنْ يُسَعِّرَ بِمَشُورَةِ أَهْل الرَّأْيِ وَالْبَصِيرَةِ، فَيَسْأَلَهُمْ كَيْفَ يَشْتَرُونَ وَكَيْفَ يَبِيعُونَ؟ فَيُنَازِلُهُمْ إِلَى مَا فِيهِ لَهُمْ وَلِلْعَامَّةِ سَدَادٌ حَتَّى يَرْضَوْا بِهِ. (2)
قَال أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ: وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ بِهَذَا يُتَوَصَّل إِلَى مَعْرِفَةِ مَصَالِحِ الْبَاعَةِ وَالْمُشْتَرِينَ، وَيَجْعَل لِلْبَاعَةِ فِي ذَلِكَ مِنَ الرِّبْحِ مَا يَقُومُ بِهِمْ، وَلاَ يَكُونُ فِيهِ إِجْحَافٌ بِالنَّاسِ (3) .
وَلاَ يَجُوزُ عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنْ يَقُول لَهُمْ: لاَ تَبِيعُوا إِلاَّ بِكَذَا رَبِحْتُمْ أَوْ خَسِرْتُمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنْظَرَ إِلَى مَا يَشْتَرُونَ بِهِ. وَكَذَلِكَ لاَ يَقُول لَهُمْ: لاَ تَبِيعُوا إِلاَّ بِمِثْل الثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَيْتُمْ بِهِ (4) .
__________
(1) المنتقى شرح الموطأ 5 / 19.
(2) ابن عابدين 5 / 256، والاختيار 4 / 161، والهداية 4 / 93، وكشف الحقائق 2 / 237، والفتاوى الهندية 3 / 214، والمنتقى للباجي 5 / 18، والمواق بهامش الحطاب 4 / 380.
(3) المنتقى 5 / 19.
(4) الطرق الحكمية ص 255.(11/307)
مَا يَدْخُلُهُ التَّسْعِيرُ
18 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَحْدِيدِ الأَْشْيَاءِ الَّتِي يَجْرِي فِيهَا التَّسْعِيرُ عَلَى الأَْصْل الْمُشَارِ إِلَيْهِ فِي حُكْمِهِ التَّكْلِيفِيِّ.
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْظْهَرِ عِنْدَهُمْ - وَهُوَ قَوْل الْقُهُسْتَانِيِّ الْحَنَفِيِّ - إِلَى أَنَّ التَّسْعِيرَ يَجْرِي فِي الْقُوتَيْنِ (قُوتِ الْبَشَرِ، وَقُوتِ الْبَهَائِمِ) وَغَيْرِهِمَا، وَلاَ يَخْتَصُّ بِالأَْطْعِمَةِ وَعَلَفِ الدَّوَابِّ. (1)
وَاسْتَظْهَرَ ابْنُ عَابِدِينَ - بِنَاءً عَلَى قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْحَجْرِ لِلضَّرَرِ، وَقَوْل أَبِي يُوسُفَ فِي الاِحْتِكَارِ - جَوَازَ تَسْعِيرِ مَا عَدَا الْقُوتَيْنِ أَيْضًا كَاللَّحْمِ وَالسَّمْنِ رِعَايَةً لِمَصْلَحَةِ النَّاسِ.
وَهُنَاكَ قَوْلٌ آخَرُ لِلْحَنَفِيَّةِ صَرَّحَ بِهِ الْعَتَّابِيُّ وَالْحَسَّاسُ وَغَيْرُهُمَا، وَهُوَ أَنَّ التَّسْعِيرَ يَكُونُ فِي الْقُوتَيْنِ فَقَطْ. (2) وَعَلَيْهِ اخْتِيَارُ ابْنِ تَيْمِيَّةَ، فَلَمْ يَقْصُرِ التَّسْعِيرَ عَلَى الطَّعَامِ، بَل ذَكَرَهُ كَمِثَالٍ كَمَا سَبَقَ.
وَانْتَهَجَ ابْنُ الْقَيِّمِ مَنْهَجَ ابْنِ تَيْمِيَّةَ فِي هَذَا الْبَابِ، وَأَطْلَقَ جَوَازَ التَّسْعِيرِ لِلسِّلَعِ أَيًّا كَانَتْ، مَا دَامَتْ لاَ تُبَاعُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَعْرُوفِ وَبِقِيمَةِ الْمِثْل.
__________
(1) ابن عابدين 5 / 256، 257، وروضة الطالبين 3 / 411، 412، وأسنى المطالب 2 / 38.
(2) ابن عابدين 5 / 257، والدر المنتقى 2 / 548.(11/308)
وَأَوْجَبَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ إِلْزَامَ أَهْل السُّوقِ الْمُعَاوَضَةَ بِثَمَنِ الْمِثْل، وَقَال: إِنَّهُ لاَ نِزَاعَ فِيهِ؛ لأَِنَّهُ مَصْلَحَةٌ عَامَّةٌ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَلاَ تَتِمُّ مَصْلَحَةُ النَّاسِ إِلاَّ بِهَا كَالْجِهَادِ. ثُمَّ يَقُول صَاحِبُ مَطَالِبِ أُولِي النُّهَى: وَهُوَ إِلْزَامٌ حَسَنٌ فِي مَبِيعٍ ثَمَنُهُ مَعْلُومٌ بَيْنَ النَّاسِ لاَ يَتَفَاوَتُ كَمَوْزُونٍ وَنَحْوِهِ. (1)
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ قَوْلاَنِ كَذَلِكَ:
الْقَوْل الأَْوَّل: يَكُونُ التَّسْعِيرُ فِي الْمَكِيل وَالْمَوْزُونِ فَقَطْ طَعَامًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ، وَأَمَّا غَيْرُ الْمَكِيل وَالْمَوْزُونِ فَلاَ يُمْكِنُ تَسْعِيرُهُ لِعَدَمِ التَّمَاثُل فِيهِ، وَهُوَ قَوْل ابْنِ حَبِيبٍ. قَال أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ: هَذَا إِذَا كَانَ الْمَكِيل وَالْمَوْزُونُ مُتَسَاوِيَيْنِ، أَمَّا إِذَا اخْتَلَفَا لَمْ يُؤْمَرْ صَاحِبُ الْجَيِّدِ أَنْ يَبِيعَهُ بِمِثْل سِعْرِ مَا هُوَ أَدْوَنُ، لأَِنَّ الْجَوْدَةَ لَهَا حِصَّةٌ مِنَ الثَّمَنِ كَالْمِقْدَارِ.
الْقَوْل الثَّانِي: يَكُونُ التَّسْعِيرُ فِي الْمَأْكُول فَقَطْ وَهُوَ قَوْل ابْنِ عَرَفَةَ (2) .
مَنْ يُسَعَّرُ عَلَيْهِ وَمَنْ لاَ يُسَعَّرُ عَلَيْهِ
19 - مَنْ يُسَعَّرُ عَلَيْهِمْ هُمْ أَهْل الأَْسْوَاقِ.
وَأَمَّا مَنْ لاَ يُسَعَّرُ عَلَيْهِمْ فَهُمْ:
__________
(1) الحسبة في الإسلام ص 17، والطرق الحكمية ص 245، ومطالب أولي النهى 3 / 162.
(2) المنتقى للباجي 5 / 18، 19، والطرق الحكمية ص 257.(11/308)
أَوَّلاً: الْجَالِبُ:
20 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَكْثَرُ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ لَدَى الشَّافِعِيَّةِ أَيْضًا إِلَى: أَنَّ الْجَالِبَ لاَ يُسَعَّرُ عَلَيْهِ إِلاَّ إِذَا خِيفَ الْهَلاَكُ عَلَى النَّاسِ، فَيُؤْمَرُ الْجَالِبُ أَنْ يَبِيعَ طَعَامَهُ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ، وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَسَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَدَمُ جَوَازِ التَّسْعِيرِ عَلَى الْجَالِبِ.
وَقَال ابْنُ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ يُسَعَّرُ عَلَيْهِ فِيمَا عَدَا الْقَمْحَ وَالشَّعِيرَ، وَأَمَّا جَالِبُهُمَا فَيَبِيعُ كَيْفَ شَاءَ (1) .
وَكَذَلِكَ جَالِبُ الزَّيْتِ وَالسَّمْنِ وَاللَّحْمِ وَالْبَقْل وَالْفَوَاكِهِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا يَشْتَرِيهِ أَهْل السُّوقِ مِنَ الْجَالِبِينَ، فَهَذَا أَيْضًا لاَ يُسَعَّرُ عَلَى الْجَالِبِ وَلاَ يُقْصَدُ بِالتَّسْعِيرِ، وَلَكِنَّهُ إِذَا اسْتَقَرَّ أَمْرُ أَهْل السُّوقِ عَلَى سِعْرٍ قِيل لَهُ: إِمَّا أَنْ تَلْحَقَ بِهِ، وَإِلاَّ فَاخْرُجْ (2) .
ثَانِيًا: الْمُحْتَكِرُ:
21 - مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ لاَ يُسَعَّرُ عَلَى الْمُحْتَكِرِ بَل يُؤْمَرُ بِإِخْرَاجِ طَعَامِهِ إِلَى السُّوقِ، وَيَبِيعُ مَا فَضَل عَنْ قُوتِ سَنَةٍ لِعِيَالِهِ كَيْفَ شَاءَ،
__________
(1) الفتاوى الهندية 3 / 214، والمنتقى 5 / 18، والطرق الحكمية / 254، 255، ومواهب الجليل 4 / 380، والمعيار المغرب 5 / 84 ط دار الغرب الإسلامي.
(2) المنتقى 5 / 19.(11/309)
وَلاَ يُسَعَّرُ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ أَكَانُوا تُجَّارًا، أَمْ زُرَّاعًا لأَِنْفُسِهِمْ (1) .
وَقَال مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: يُجْبَرُ الْمُحْتَكِرُ عَلَى بَيْعِ مَا احْتَكَرَ وَلاَ يُسَعَّرُ عَلَيْهِ، وَيُقَال لَهُ: بِعْ كَمَا يَبِيعُ النَّاسُ، وَبِزِيَادَةٍ يُتَغَابَنُ فِي مِثْلِهَا، وَلاَ أَتْرُكُهُ يَبِيعُ بِأَكْثَرَ (2) .
ثَالِثًا: مَنْ يَبِيعُ فِي غَيْرِ دُكَّانٍ:
22 - قَال صَاحِبُ التَّيْسِيرِ: لاَ يُسَعَّرُ عَلَى مَنْ يَبِيعُ فِي غَيْرِ دُكَّانٍ وَلاَ حَانُوتٍ يَعْرِضُ لِلْخَاصِّ وَالْعَامِّ، وَلاَ عَلَى بَائِعِ الْفَوَاكِهِ وَالذَّبَائِحِ وَجَمِيعِ أَهْل الْحِرَفِ وَالصَّنَائِعِ، وَالْمُتَسَبَّبِينَ مِنْ حَمَّالٍ وَدَلاَّلٍ وَسِمْسَارٍ وَغَيْرِهِمْ، وَلَكِنَّهُ يَنْبَغِي لِلْوَالِي أَنْ يَقْبِضَ مِنْ أَهْل كُل صَنْعَةٍ ضَامِنًا أَمِينًا، وَثِقَةً، وَعَارِفًا بِصَنْعَتِهِ خَبِيرًا بِالْجَيِّدِ وَالرَّدِيءِ مِنْ حِرْفَتِهِ يَحْفَظُ لِجَمَاعَتِهِ مَا يَجِبُ أَنْ يَحْفَظَ مِنْ أُمُورِهِمْ، وَيُجْرِيَ أُمُورَهُمْ عَلَى مَا يَجِبُ أَنْ تَجْرِيَ، وَلاَ يَخْرُجُونَ عَنِ الْعَادَةِ فِيمَا جَرَتْ فِيهِ الْعَادَةُ فِي صَنْعَتِهِمْ (3) .
أَمْرُ الْحَاكِمِ بِخَفْضِ السِّعْرِ وَرَفْعِهِ مُجَارَاةً لأَِغْلَبِ التُّجَّارِ:
23 - قَال الْبَاجِيُّ: السِّعْرُ الَّذِي يُؤْمَرُ مَنْ حَطَّ
__________
(1) الزيلعي 6 / 28، والمنتقى للباجي 5 / 17.
(2) الاختيار 4 / 161، والهداية 4 / 93.
(3) كتاب التيسير في أحكام التسعير ص 55، 56.(11/309)
عَنْهُ أَنْ يَلْحَقَ بِهِ هُوَ السِّعْرُ الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ النَّاسِ، فَإِذَا انْفَرَدَ عَنْهُمُ الْوَاحِدُ أَوِ الْعَدَدُ الْيَسِيرُ بِحَطِّ السِّعْرِ، أُمِرَ مَنْ حَطَّهُ بِاللَّحَاقِ بِسِعْرِ النَّاسِ أَوْ تَرَكَ الْبَيْعَ، وَإِنْ زَادَ فِي السِّعْرِ وَاحِدٌ أَوْ عَدَدٌ يَسِيرٌ لَمْ يُؤْمَرِ الْجُمْهُورُ بِاللَّحَاقِ بِسِعْرِهِ، أَوِ الاِمْتِنَاعِ مِنَ الْبَيْعِ؛ لأَِنَّ مَنْ بَاعَ بِهِ مِنَ الزِّيَادَةِ لَيْسَ بِالسِّعْرِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، وَلاَ بِمَا تُقَامُ بِهِ الْمَبِيعَاتُ، وَإِنَّمَا يُرَاعِي فِي ذَلِكَ حَال الْجُمْهُورِ وَمُعْظَمَ النَّاسِ (1) .
مُخَالَفَةُ التَّسْعِيرِ
أ - حُكْمُ الْبَيْعِ مَعَ مُخَالَفَةِ التَّسْعِيرِ:
24 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ - فِي الأَْصَحِّ - إِلَى أَنَّ مَنْ خَالَفَ التَّسْعِيرَ صَحَّ بَيْعُهُ؛ إِذْ لَمْ يُعْهَدِ الْحَجْرُ عَلَى الشَّخْصِ فِي مِلْكِهِ أَنْ يَبِيعَ بِثَمَنٍ مُعَيَّنٍ. وَلَكِنْ إِذَا سَعَّرَ الإِْمَامُ وَخَافَ الْبَائِعُ أَنْ يُعَزِّرَهُ الإِْمَامُ لَوْ نَقَصَ عَمَّا سَعَّرَهُ، فَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ لاَ يَحِل لِلْمُشْتَرِي الشِّرَاءُ بِمَا سَعَّرَهُ الإِْمَامُ؛ لأَِنَّهُ فِي مَعْنَى الْمُكْرِهِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَقُول: بِعْنِي بِمَا تُحِبُّ، لِيَصِحَّ الْبَيْعُ (2) .
وَصِحَّةُ الْبَيْعِ مَعَ مُخَالَفَةِ التَّسْعِيرِ مُتَبَادَرٌ مِنْ
__________
(1) المنتقى شرح الموطأ 5 / 17.
(2) ابن عابدين 5 / 265، والاختيار 4 / 161، والفتاوى الهندية 3 / 214، والهداية 4 / 93، وأسنى المطالب 2 / 38، ومطالب أولي النهى 3 / 62، ونهاية المحتاج 3 / 473 ط مصطفى البابي، وروضة الطالبين 3 / 411 - 412، ومغني المحتاج 2 / 38 ط مصطفى البابي الحلبي.(11/310)
كَلاَمِ الْمَالِكِيَّةِ أَيْضًا؛ لأَِنَّهُمْ يَقُولُونَ: وَمَنْ زَادَ فِي سِعْرٍ أَوْ نَقَصَ مِنْهُ أُمِرَ بِإِلْحَاقِهِ بِسِعْرِ النَّاسِ، فَإِنْ أَبَى أُخْرِجَ مِنَ السُّوقِ (1) .
وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ بُطْلاَنُ الْبَيْعِ. لَكِنْ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِنْ هَدَّدَ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ الْمُخَالِفَ لِلتَّسْعِيرِ بَطَل الْبَيْعُ؛ لأَِنَّهُ صَارَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ لِنَوْعِ مَصْلَحَةٍ؛ وَلأَِنَّ الْوَعِيدَ إِكْرَاهٌ. (2)
ب - عُقُوبَةُ الْمُخَالِفِ:
25 - صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ الإِْمَامَ لَهُ أَنْ يُعَزِّرَ مَنْ خَالَفَ التَّسْعِيرَ الَّذِي رَسَمَهُ؛ لِمَا فِيهِ مُجَاهَرَةُ الإِْمَامِ بِالْمُخَالَفَةِ.
وَسُئِل أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ مُتَوَلِّي الْحِسْبَةِ إِذَا سَعَّرَ الْبَضَائِعَ بِالْقِيمَةِ، وَتَعَدَّى بَعْضُ السُّوقِيَّةِ، فَبَاعَ بِأَكْثَرَ مِنَ الْقِيمَةِ، هَل لَهُ أَنْ يُعَزِّرَهُ عَلَى ذَلِكَ؟ فَأَجَابَ: إِذَا تَعَدَّى السُّوقِيُّ وَبَاعَ بِأَكْثَرَ مِنَ الْقِيمَةِ يُعَزِّرُهُ عَلَى ذَلِكَ. (3)
وَأَمَّا قَدْرُ التَّعْزِيرِ، وَكَيْفِيَّتُهُ، فَمُفَوَّضٌ إِلَى الإِْمَامِ أَوْ نَائِبِهِ، وَقَدْ يَكُونُ الْحَبْسَ أَوِ الضَّرْبَ،
__________
(1) القوانين الفقهية ص 260.
(2) أسنى المطالب 2 / 38، ومطالب أولي النهى 3 / 62، وكشاف القناع 3 / 187 ط عالم الكتب.
(3) الفتاوى الأنقروية 1 / 147 ط آستانة، والقوانين الفقهية ص 260، وأسنى المطالب 2 / 38، وروضة الطالبين 3 / 411، 412، والقليوبي 2 / 186، وحاشية الجمل 3 / 93، ومغني المحتاج 2 / 38.(11/310)
أَوِ الْعُقُوبَةَ الْمَالِيَّةَ، أَوِ الطَّرْدَ مِنَ السُّوقِ وَغَيْرَ ذَلِكَ. (1)
هَذَا كُلُّهُ فِي الْحَالاَتِ الَّتِي يَجُوزُ فِيهَا التَّسْعِيرُ. أَمَّا حَيْثُ لاَ يَجُوزُ التَّسْعِيرُ عِنْدَ مَنْ لاَ يَرَاهُ فَلاَ عُقُوبَةَ عَلَى مُخَالِفِ التَّسْعِيرِ. (2)
تَسَلُّمٌ
انْظُرْ: تَسْلِيمٌ
__________
(1) القوانين الفقهية ص 260.
(2) مطالب أولي النهى 3 / 62، وكشاف القناع 3 / 187.(11/311)
تَسْلِيفٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي التَّسْلِيفِ فِي اللُّغَةِ: التَّقْدِيمُ، وَهُوَ مَصْدَرُ سَلَّفَ. يُقَال: سَلَّفْتَ إِلَيْهِ وَتَسَلَّفَ مِنْهُ كَذَا وَاسْتَسْلَفَ: اقْتَرَضَ أَوْ أَخَذَ السَّلَفَ، وَالسَّلَفُ: الْقَرْضُ وَالسَّلَمُ. (1)
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: مَنْ أَسْلَفَ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ، وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ، إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ. (2) وَالسَّلَفُ فِي الْمُعَامَلاَتِ: الْقَرْضُ الَّذِي لاَ مَنْفَعَةَ فِيهِ لِلْمُقْرِضِ غَيْرِ الأَْجْرِ وَالشُّكْرِ، وَعَلَى الْمُقْتَرِضِ رَدُّهُ كَمَا أَخَذَهُ.
وَالسَّلَفُ: نَوْعٌ مِنَ الْبُيُوعِ يُعَجَّل فِيهِ الثَّمَنُ وَتُضْبَطُ السِّلْعَةُ بِالْوَصْفِ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى
__________
(1) المصباح المنير، ولسان العرب، والصحاح، ومحيط المحيط، ومعجم متن اللغة مادة: " سلف ".
(2) حديث: " من أسلف فليسلف. . . " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 429 - ط السلفية) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.(11/311)
اللُّغَوِيِّ الْمُتَقَدِّمِ. فَقَدْ وَرَدَ أَنَّ السَّلَفَ أَوِ السَّلَمَ: بَيْعُ شَيْءٍ مَوْصُوفٍ فِي الذِّمَّةِ، يَتَقَدَّمُ فِيهِ رَأْسُ الْمَال، وَيَتَأَخَّرُ الْمُثَمَّنُ لأَِجَلٍ (1) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - السَّلَفُ جَائِزٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ. أَمَّا الْكِتَابُ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (2) قَال ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَشْهَدُ أَنَّ السَّلَفَ الْمَضْمُونَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَدْ أَحَلَّهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ وَأَذِنَ فِيهِ، ثُمَّ قَرَأَ الآْيَةَ (3) .
وَأَمَّا السَّلَفُ الَّذِي بِمَعْنَى السَّلَمِ فَقَدْ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ، فَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ، وَهُمْ يُسْلِفُونَ فِي الثِّمَارِ، السَّنَةَ وَالسَّنَتَيْنِ وَالثَّلاَثَ، فَقَال: مَنْ أَسْلَفَ فِي شَيْءٍ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ. (4)
وَأَمَّا الإِْجْمَاعُ، فَقَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُل مَنْ
__________
(1) المغني لابن قدامة 4 / 304، 305، والمبدع في شرح المقنع 4 / 177، والمبسوط 12 / 124، وفتح القدير 5 / 323.
(2) سورة البقرة / 282.
(3) أثر ابن عباس: أشهد أن السلف المضمون. أخرجه الحاكم (2 / 286 ط دائرة المعارف العثمانية) ، وصححه ووافقه الذهبي. رواه الشافعي والطبراني والبيهقي. (نصب الراية 4 / 44) .
(4) حديث: " قدم المدينة وهم يسلفون. . . " تقدم تخريجه (ف / 1) .(11/312)
نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ السَّلَمَ جَائِزٌ، وَلأَِنَّ الْمُثَمَّنَ فِي الْبَيْعِ أَحَدُ عِوَضَيِ الْعَقْدِ فَجَازَ أَنْ يَثْبُتَ فِي الذِّمَّةِ كَالثَّمَنِ؛ وَلأَِنَّ بِالنَّاسِ حَاجَةً إِلَيْهِ - لأَِنَّ أَرْبَابَ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ وَالتِّجَارَاتِ يَحْتَاجُونَ إِلَى النَّفَقَةِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَوْ عَلَى الزُّرُوعِ وَنَحْوِهَا حَتَّى تَنْضَجَ - فَجُوِّزَ لَهُمُ السَّلَمُ دَفْعًا لِلْحَاجَةِ.
وَقَدِ اسْتُثْنِيَ عَقْدُ السَّلَمِ مِنْ قَاعِدَةِ عَدَمِ جَوَازِ بَيْعِ الْمَعْدُومِ لِمَا فِيهِ مِنْ مَصْلَحَةٍ لِلنَّاسِ، رُخْصَةً لَهُمْ وَتَيْسِيرًا عَلَيْهِمْ (1) .
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (سَلَمٌ) .
3 - وَالسَّلَفُ - بِمَعْنَى الْقَرْضِ - ثَابِتٌ بِالْكِتَابِ فِي آيَةِ الْمُدَايَنَةِ السَّابِقَةِ، وَبِالسُّنَّةِ فِيمَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ أَقْرَضَ مَرَّتَيْنِ كَانَ لَهُ مِثْل أَجْرِ أَحَدِهِمَا لَوْ تَصَدَّقَ بِهِ (2) .
وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَوَازِ الْقَرْضِ، وَهُوَ قُرْبَةٌ مَنْدُوبٌ إِلَيْهَا، مُبَاحٌ لِلْمُقْتَرِضِ؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ
__________
(1) المبسوط 12 / 124 ط السعادة بمصر، وفتح القدير 6 / 204 - 206 ط بيروت / لبنان، ورد المحتار 4 / 202، وبداية المجتهد 2 / 217، ومغني المحتاج 2 / 102 ط بيروت / لبنان، والمغني لابن قدامة 4 / 304، 305 ط الرياض، والمبدع في شرح المقنع 4 / 77 ط المكتب الإسلامي.
(2) حديث: " من أقرض مرتين. . . " أخرجه ابن حبان في صحيحه (ص 281 - موارد الظمآن - ط السلفية) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.(11/312)