وَالأَْفْضَل بِاسْمِ اللَّهِ وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَلاَ يَزِيدُ فِي الْبَسْمَلَةِ: (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) وَلاَ الصَّلاَةَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُشْتَرَطُ عِنْدَ الرَّمْيِ أَوِ الإِْرْسَال لِلْمُعَلَّمِ إِنْ ذَكَرَ وَقَدَرَ؛ لأَِنَّهُ وَقْتُ الْفِعْل مِنَ الرَّامِي وَالْمُرْسِل، فَتُعْتَبَرُ عِنْدَهُ. فَإِنْ تَرَكَهَا نَاسِيًا أَوْ عَجْزًا يَحِل وَيُؤْكَل، وَإِنْ تَرَكَهَا عَمْدًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا فَلاَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} (1) عَلَى مَعْنَى وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا تُرِكَتِ التَّسْمِيَةُ عَلَيْهِ عَمْدًا مَعَ الْقُدْرَةِ، وَخَالَفَ ابْنُ رُشْدٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَقَال: التَّسْمِيَةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِي صِحَّةِ الذَّكَاةِ؛ لأَِنَّ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} لاَ تَأْكُلُوا الْمَيْتَةَ الَّتِي لَمْ تُقْصَدْ ذَكَاتُهَا؛ لأَِنَّهَا فِسْقٌ. (2)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّسْمِيَةَ عِنْدَ الصَّيْدِ سُنَّةٌ، وَصِيغَتُهَا أَنْ يَقُول عِنْدَ الْفِعْل: بِاسْمِ اللَّهِ، وَالأَْكْمَل: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، لِمَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ فِي الذَّبْحِ لِلأُْضْحِيَّةِ، وَقِيسَ بِمَا فِيهِ غَيْرُهُ، وَيُكْرَهُ تَعَمُّدُ تَرْكُ التَّسْمِيَةِ. فَلَوْ تَرَكَهَا - وَلَوْ عَمْدًا - يَحِل وَيُؤْكَل لِلدَّلِيل الْمُبَيَّنِ فِي التَّسْمِيَةِ عِنْدَ الذَّبْحِ. (3)
__________
(1) سورة الأنعام / 121.
(2) حاشية ابن عابدين 5 / 300، 301، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 102، 106، 107، وجواهر الإكليل 1 / 212.
(3) نهاية المحتاج 8 / 112، 114، والبجيرمي على شرح الإقناع 4 / 251.(8/91)
وَلِمَزِيدٍ مِنَ التَّفْصِيل (ر: ذَبَائِح) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى اشْتِرَاطِ التَّسْمِيَةِ فِي حِل الصَّيْدِ عِنْدَ إِرْسَال الْجَارِحِ الْمُعَلَّمِ، وَهِيَ: بِاسْمِ اللَّهِ؛ لأَِنَّ إِطْلاَقَ التَّسْمِيَةِ يَنْصَرِفُ إِلَى ذَلِكَ، وَلَوْ قَال: بِاسْمِ اللَّهِ وَاللَّهُ أَكْبَرُ، فَلاَ بَأْسَ لِوُرُودِهِ، فَإِنْ تَرَكَ التَّسْمِيَةَ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا لَمْ يُبَحْ عَلَى التَّحْقِيقِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَاهُ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ: إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ وَسَمَّيْتَ فَكُل، قُلْتُ: فَإِنْ أَخَذَ مَعَهُ آخَرَ؟ قَال: لاَ تَأْكُل، فَإِنَّكَ سَمَّيْتَ عَلَى كَلْبِكَ، وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى الآْخَرِ (1) ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الذَّبْحِ وَالصَّيْدِ فِي التَّسْمِيَةِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّ الذَّبْحَ وَقَعَ فِي مَحَلِّهِ، فَجَازَ أَنْ يُتَسَامَحَ فِيهِ بِالنِّسْبَةِ لِنِسْيَانِ التَّسْمِيَةِ، بِخِلاَفِ الصَّيْدِ، فَلاَ يُتَسَامَحُ فِي نِسْيَانِهَا فِيهِ، وَنُقِل عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ: أَنَّهُ إِنْ نَسِيَ التَّسْمِيَةَ عِنْدَ الصَّيْدِ يُبَاحُ وَيُؤْكَل، وَعَنْهُ أَيْضًا: إِنْ نَسِيَهَا عَلَى السَّهْمِ أُبِيحَ، وَإِنْ نَسِيَهَا عَلَى الْجَارِحَةِ لَمْ يُبَحْ. (2)
وَلِمَزِيدٍ مِنَ التَّفْصِيل (ر: صَيْد) .
__________
(1) حديث: " إذا أرسلت كلبك المعلم وسميت. . . " أخرجه البخاري (الفتح 9 / 609) ط السلفية. ومسلم واللفظ له (3 / 1529ط عيسى البابى الحلبي) .
(2) المغني 8 / 539، 540، 541، والمقنع 3 / 544، 556، 557.(8/91)
هـ - التَّسْمِيَةُ عِنْدَ الأَْكْل:
10 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ التَّسْمِيَةَ عِنْدَ الْبَدْءِ فِي الأَْكْل مِنَ السُّنَنِ. وَصِيغَتُهَا: بِسْمِ اللَّهِ وَبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فَإِنْ نَسِيَهَا فِي أَوَّلِهِ سَمَّى فِي بَاقِيهِ، وَيَقُول: بِاسْمِ اللَّهِ أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا أَكَل أَحَدُكُمْ فَلْيَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ نَسِيَ أَنْ يَذْكُرَ اسْمَ اللَّهِ فِي أَوَّلِهِ فَلْيَقُل: بِاسْمِ اللَّهِ أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ. (1)
و التَّسْمِيَةُ عِنْدَ التَّيَمُّمِ:
11 - التَّسْمِيَةُ عِنْدَ التَّيَمُّمِ مَشْرُوعَةٌ: سُنَّةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَمَنْدُوبَةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَمُسْتَحَبَّةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَصِيغَتُهَا: بِسْمِ اللَّهِ، وَالأَْكْمَل عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَإِنْ نَسِيَ التَّسْمِيَةَ فِي أَوَّل التَّيَمُّمِ وَذَكَرَهَا فِي أَثْنَائِهِ أَتَى بِهَا، وَإِنْ تَرَكَهَا عَمْدًا لاَ يَبْطُل التَّيَمُّمُ، وَإِنْ فَعَلَهَا يُثَابُ. (2)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ التَّسْمِيَةَ عِنْدَ التَّيَمُّمِ
__________
(1) حديث: " إذا أكل أحدكم فليذكر اسم الله تعالى. . . " أخرجه أبو داود (4 / 110) ط عزت عبيد دعاس. والترمذي (/ 288ط مصطفى البابي) وقال: هذا حديث حسن صحيح. انظر حاشية ابن عابدين 1 / 74، وشرح الزرقاني 1 / 72، ونهاية المحتاج 1 / 168، والمغني 8 / 614.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 70 - 71، 154، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 100، 103، وشرح الزرقاني 1 / 72، وشرح المنهاج بحاشية القليوبي 1 / 91.(8/92)
وَاجِبَةٌ وَهِيَ: بِاسْمِ اللَّهِ، لاَ يَقُومُ غَيْرُهَا مَقَامَهَا، وَوَقْتُهَا أَوَّلُهُ، وَتَسْقُطُ سَهْوًا لِحَدِيثِ: تَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ. . . (1) وَإِنْ ذَكَرَهَا فِي أَثْنَائِهِ سَمَّى وَبَنَى، وَإِنْ تَرَكَهَا عَمْدًا حَتَّى مَسَحَ بَعْضَ أَعْضَائِهِ، وَلَمْ يَسْتَأْنِفْ مَا فَعَلَهُ، لَمْ تَصِحَّ طَهَارَتُهُ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ عَلَى طَهَارَتِهِ. (2)
ز - التَّسْمِيَةُ لِكُل أَمْرٍ ذِي بَالٍ:
12 - اتَّفَقَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ التَّسْمِيَةَ مَشْرُوعَةٌ لِكُل أَمْرٍ ذِي بَالٍ، عِبَادَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، فَتُقَال عِنْدَ الْبَدْءِ فِي تِلاَوَةِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَالأَْذْكَارِ، وَرُكُوبِ سَفِينَةٍ وَدَابَّةٍ، وَدُخُول الْمَنْزِل وَمَسْجِدٍ، أَوْ خُرُوجٍ مِنْهُ، وَعِنْدَ إِيقَادِ مِصْبَاحٍ أَوْ إِطْفَائِهِ، وَقَبْل وَطْءٍ مُبَاحٍ، وَصُعُودِ خَطِيبٍ مِنْبَرًا، وَنَوْمٍ، وَالدُّخُول فِي صَلاَةِ النَّفْل، وَتَغْطِيَةِ الإِْنَاءِ، وَفِي أَوَائِل الْكُتُبِ، وَعِنْدَ تَغْمِيضِ مَيِّتٍ وَلَحْدِهِ فِي قَبْرِهِ، وَوَضْعِ الْيَدِ عَلَى مَوْضِعِ أَلَمٍ بِالْجَسَدِ، وَصِيغَتُهَا (بِاسْمِ اللَّهِ) ، وَالأَْكْمَل (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) فَإِنْ نَسِيَ التَّسْمِيَةَ أَوْ تَرَكَهَا عَمْدًا فَلاَ شَيْءَ، وَيُثَابُ إِنْ فَعَل.
وَمِمَّا وَرَدَ: حَدِيثُ كُل أَمْرٍ ذِي بَالٍ لاَ يُبْدَأُ فِيهِ بِاسْمِ اللَّهِ فَهُوَ أَبْتَرُ، وَفِي رِوَايَةٍ فَهُوَ أَقْطَعُ
__________
(1) حديث: " تجاوز الله عن أمتي الخطأ والنسيان. . . . " سبق تخريجه (ف / 6) .
(2) كشاف القناع 1 / 91، 178.(8/92)
وَفِي أُخْرَى فَهُوَ أَجْذَمُ (1) ، وَمَا وَرَدَ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ضَعْ يَدَكَ عَلَى الَّذِي تَأَلَّمَ مِنْ جَسَدِكَ، وَقُل: بِاسْمِ اللَّهِ ثَلاَثًا. . . (2) الْحَدِيثَ.
وَحَدِيثُ: أَغْلِقْ بَابَكَ وَاذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لاَ يَفْتَحُ بَابًا مُغْلَقًا، وَأَطْفِئْ مِصْبَاحَكَ وَاذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ، وَخَمِّرْ إِنَاءَكَ. . . (3)
وَحَدِيثُ: إِذَا عَثَرَتْ بِكَ الدَّابَّةُ فَلاَ تَقُل: تَعِسَ الشَّيْطَانُ، فَإِنَّهُ يَتَعَاظَمُ، حَتَّى يَصِيرَ مِثْل الْبَيْتِ، وَيَقُول: بِقُوَّتِي صَرَعْتُهُ، وَلَكِنْ قُل: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فَإِنَّهُ يَتَصَاغَرُ، حَتَّى يَصِيرَ مِثْل الذُّبَابِ. (4)
__________
(1) حديث: " كل أمر ذي بال. . . " أخرجه السبكي في طبقات الشافعية (1 / 6 ط دار المعرفة) وعزاه السيوطي في الجامع الصغير إلى عبد القادر الرهاوي في الأربعين وضعفه (فيض القدير: 5 / 13 ط المكتبة التجارية) .
(2) حديث: " ضع يدك. . . " أخرجه مسلم (4 / 1728 ط عيسى البابي) .
(3) حديث: " أغلق بابك واذكر اسم الله. . . " أخرجه البخاري في صحيحه (الفتح 10 / 88 ط السلفية) ومسلم (3 / 1594 ط عيسى البابي الحلبي) وأحمد (3 / 319 ط المكتب الإسلامي) والسياق له.
(4) تفسير القرطبي 1 / 92، 97، 98، وحاشية ابن عابدين 1 / 86، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 103، وشرح الزرقاني 1 / 73، ونهاية المحتاج 1 / 168، والمهذب 1 / 38. وحديث: " لا تقل تعس الشيطان. . . " أخرجه أبو داود (5 / 260 ط عزت عبيد الدعاس) وأحمد (5 / 59 ط المكتب الإسلامي) والحاكم (4 / 292ط دار الكتاب الكتاب العربي) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد.(8/93)
بِشَارَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْبِشَارَةُ - بِكَسْرِ الْبَاءِ -: مَا يُبَشِّرُ بِهِ الإِْنْسَانُ غَيْرَهُ مِنْ أَمْرٍ، وَبِضَمِّ الْبَاءِ: مَا يُعْطَاهُ الْمُبَشِّرُ بِالأَْمْرِ، كَالْعِمَالَةِ لِلْعَامِل، قَال ابْنُ الأَْثِيرِ: الْبُشَارَةُ بِالضَّمِّ: مَا يُعْطَى الْبَشِيرُ، وَبِكَسْرِ الْبَاءِ: الاِسْمُ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ مِنَ الْبِشْرِ وَهُوَ السُّرُورُ؛ لأَِنَّهَا تُظْهِرُ طَلاَقَةَ وَجْهِ الإِْنْسَانِ. وَهُمْ يَتَبَاشَرُونَ بِذَلِكَ الأَْمْرِ أَيْ: يُبَشِّرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَالْبِشَارَةُ إِذَا أُطْلِقَتْ فَهِيَ لِلْبِشَارَةِ بِالْخَيْرِ، وَيَجُوزُ اسْتِعْمَالُهَا مُقَيَّدَةً فِي الشَّرِّ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} . (1)
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُهَا فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ عَنْ ذَلِكَ. (2)
__________
(1) سورة آل عمران / 21.
(2) لسان العرب وتاج العروس والمصباح المنير مادة " بشر "، والبدائع 3 / 54 ط أولى سنة 1327 هـ، وحاشية ابن عابدين 3 / 112 ط بيروت، وكشاف القناع 5 / 314 ط مكتبة النصر الحديثة بالرياض، والمهذب 2 / 98 ط دار المعرفة. بيروت، وتفسير القرطبي 1 / 238 ط دار الكتاب المصرية سنة 1354 هـ - 1935م، وطلبة الطلبة ص 59.(8/93)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْخَبَرُ:
2 - الْخَبَرُ يَكُونُ مِنَ الْمُخْبِرِ الأَْوَّل وَمَنْ يَلِيهِ، وَالْبِشَارَةُ لاَ تَكُونُ إِلاَّ مِنَ الْمُخْبِرِ الأَْوَّل. (1) وَالْخَبَرُ يَكُونُ بِالصِّدْقِ وَالْكَذِبِ، سَارًّا كَانَ أَوْ غَيْرَ سَارٍّ، وَالْبِشَارَةُ تَخْتَصُّ بِالْخَبَرِ الصَّادِقِ السَّارِّ غَالِبًا (2) .
ب - الْجُعْل:
3 - الْجُعْل لُغَةً: اسْمٌ لِمَا يَجْعَلُهُ الإِْنْسَانُ لِغَيْرِهِ عَلَى شَيْءٍ يَعْمَلُهُ. وَالْجُعْل اصْطِلاَحًا: عِوَضٌ مَعْلُومٌ مُلْتَزَمٌ بِهِ عَلَى عَمَلٍ مُعَيَّنٍ مَعْلُومٍ فِيهِ كُلْفَةٌ. (3)
وَالْبُشَارَةُ بِضَمِّ الْبَاءِ: مَا يُعْطَاهُ الْمُبَشِّرُ بِالأَْمْرِ، وَهِيَ بِهَذَا الْمَعْنَى تُشْبِهُ الْجُعْل، جَاءَ فِي نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ: لاَ بُدَّ مِنْ كَوْنِ الْعَمَل فِي الْجَعَالَةِ فِيهِ كُلْفَةٌ أَوْ مُؤْنَةٌ، كَرَدِّ آبِقٍ، أَوْ إِخْبَارٍ فِيهِ غَرَضٌ وَالْمُخْبِرُ صَادِقٌ فِيهِ (4) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
4 - إِخْبَارُ النَّاسِ بِمَا يَسُرُّهُمْ أَمْرٌ مُسْتَحَبٌّ؛ لِمَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ مِنَ الآْيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
__________
(1) تفسير الفخر الرازي 2 / 146 ط المكتبة البهية المصرية.
(2) المهذب 2 / 98 ط دار المعرفة بيروت. والمصباح المنير في المادة.
(3) شرح المنهاج 5 / 462 ط المكتبة الإسلامية بالرياض.
(4) نهاية المحتاج 5 / 469 ط المكتبة الإسلامية بالرياض.(8/94)
{وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَْنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْل وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (1) وَمَا وَرَدَ كَذَلِكَ مِنْ أَحَادِيثَ، مِنْهَا حَدِيثُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْمُخَرَّجُ فِي الصَّحِيحَيْنِ فِي قِصَّةِ تَوْبَتِهِ قَال: وَسَمِعْتُ صَوْتَ صَارِخٍ يَقُول بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا كَعْبُ بْنَ مَالِكٍ. أَبْشِرْ، فَذَهَبَ النَّاسُ يُبَشِّرُونَنَا، وَانْطَلَقْتُ أَتَأَمَّمُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَلَقَّانِي النَّاسُ فَوْجًا فَوْجًا يُهَنِّئُونَنِي بِالتَّوْبَةِ، وَيَقُولُونَ: لِتَهْنِكَ تَوْبَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْكَ، حَتَّى دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ، فَإِذَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَوْلَهُ النَّاسُ، فَقَامَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ يُهَرْوِل، حَتَّى صَافَحَنِي وَهَنَّأَنِي، وَكَانَ كَعْبٌ لاَ يَنْسَاهَا لِطَلْحَةَ، قَال كَعْبٌ: فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال - وَهُوَ يَبْرُقُ وَجْهُهُ مِنَ السُّرُورِ -: أَبْشِرْ بِخَيْرِ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْكَ مُنْذُ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ (2) .
وَفِي قِصَّةِ كَعْبٍ أَنَّهُ لَمَّا جَاءَهُ الْبَشِيرُ بِالتَّوْبَةِ، نَزَعَ لَهُ ثَوْبَيْهِ وَكَسَاهُمَا إِيَّاهُ نَظِيرَ بِشَارَتِهِ. وَنَقَل الأَْبِيُّ عَنِ الْقَاضِي عِيَاضٍ أَنَّهُ قَال: وَهَذَا يَدُل
__________
(1) سورة البقرة / 25.
(2) الفتوحات الربانية 6 / 316 - 317 ط المكتبة الإسلامية. وحديث كعب بن مالك أخرجه البخاري (الفتح 8 / 113 - 116 ط السلفية) ومسلم (4 / 2120 - 2128 - ط الحلبي) .(8/94)
عَلَى جَوَازِ الْبِشَارَةِ وَالتَّهْنِئَةِ بِمَا يَسُرُّ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ، وَإِعْطَاءِ الْجُعْل لِلْمُبَشِّرِ (1) .
وَفِي حَدِيثِ كَعْبٍ مَشْرُوعِيَّةُ الاِسْتِبَاقِ إِلَى الْبِشَارَةِ بِالْخَيْرِ (2) .
وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ بُشِّرَ بِخَبَرٍ سَارٍّ أَنْ يَحْمَدَ اللَّهَ تَعَالَى وَيُثْنِيَ عَلَيْهِ، لِمَا رُوِيَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، فِي مَقْتَل عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فِي حَدِيثِ الشُّورَى الطَّوِيل: أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَرْسَل ابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ إِلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا يَسْتَأْذِنُهَا أَنْ يُدْفَنَ مَعَ صَاحِبَيْهِ، فَلَمَّا أَقْبَل عَبْدُ اللَّهِ، قَال عُمَرُ: مَا لَدَيْكَ؟ قَال: الَّذِي تُحِبُّ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَذِنَتْ. فَقَال: الْحَمْدُ لِلَّهِ، مَا كَانَ شَيْءٌ أَهَمَّ إِلَيَّ مِنْ ذَلِكَ (3) .
وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْبِشَارَةَ تَتَحَقَّقُ مِنَ الْمُخْبِرِ الأَْوَّل مُنْفَرِدًا أَوْ مَعَ غَيْرِهِ، فَإِذَا قَال رَجُلٌ: مَنْ بَشَّرَنِي مِنْ عَبِيدِي بِكَذَا فَهُوَ حُرٌّ، فَبَشَّرَهُ وَاحِدٌ مِنْ عَبِيدِهِ فَأَكْثَرُ، فَإِنَّ أَوَّلَهُمْ يَكُونُ حُرًّا. (4)
__________
(1) صحيح مسلم مع شرح الأبي 7 / 174 ط مطبعة السعادة بمصر.
(2) فتح الباري 8 / 124 ط السلفية.
(3) الفتوحات الربانية 6 / 166 ط المكتبة الإسلامية. وحديث عمرو بن ميمون في قصة مقتل عمر بن الخطاب. أخرجه البخاري (الفتح 7 / 61 - ط السلفية) .
(4) تفسير القرطبي في قوله تعالى: {وبشر الذين آمنوا} 1 / 238 ط دار الكتب المصرية 1354 هـ، وتفسير الفخر الرازي 2 / 146 ط المكتبة البهية المصرية.(8/95)
وَأَوْرَدَ الْفُقَهَاءُ أَمْثِلَةً أُخْرَى فِي مَوَاطِنَ مُتَعَدِّدَةٍ. (1)
وَيَدُل عَلَى ذَلِكَ مَا رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَرَّ بِابْنِ مَسْعُودٍ وَهُوَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، فَقَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ غَضًّا طَرِيًّا كَمَا نَزَل فَلْيَقْرَأْ بِقِرَاءَةِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ، فَابْتَدَرَ إِلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بِالْبِشَارَةِ، فَسَبَقَ أَبُو بَكْرٍ عُمَرُ، فَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَقُول: بَشَّرَنِي أَبُو بَكْرٍ، وَأَخْبَرَنِي عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ. (2)
وَالْبُشَارَةُ مُسْتَحَبَّةٌ كَالْهِبَةِ إِذَا قُصِدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى. (3)
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
5 - وَرَدَ فِي الْكِتَابِ الْكَرِيمِ ذِكْرُ الْبِشَارَةِ، وَوَرَدَ فِي السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ بَيَانُ بَعْضِ أَحْكَامِ الْبِشَارَةِ وَمَا يُسْتَحَبُّ فِعْلُهُ لِمَنْ يُبَشَّرُ بِأَمْرٍ، وَيَرِدُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فِي الأَْيْمَانِ. كَمَا وَرَدَ فِي كُتُبِ الآْدَابِ الشَّرْعِيَّةِ حُكْمُ الْبِشَارَةِ، وَمَا يُسْتَحَبُّ فِعْلُهُ لِمَنْ يُبَشَّرُ بِأَمْرٍ.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 112، 113 ط بيروت، والمهذب 2 / 98 ط دار المعرفة - بيروت، وكشاف القناع 3 / 314 ط مكتبة النصر الحديثة بالرياض.
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 112 ط بيروت. وحديث: " من أحب أن يقرأ القرآن غضا طريا. . . " أخرجه أحمد (1 / 7 - ط الميمنية) والحاكم (3 / 318 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه ووافقه الذهبي.
(3) كشاف القناع 4 / 298 - 299 ط مكتبة النصر الحديثة بالرياض.(8/95)
بُصَاقٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْبُصَاقُ: مَاءُ الْفَمِ إِذَا خَرَجَ مِنْهُ. يُقَال: بَصَقَ يَبْصُقُ بُصَاقًا. وَيُقَال فِيهِ أَيْضًا: الْبُزَاقُ، وَالْبُسَاقُ. (1) وَهُوَ مِنَ الإِْبْدَال.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّفْل:
2 - التَّفْل لُغَةً: الْبَصْقُ. يُقَال: تَفَل يَتْفُل وَيَتْفِل تَفْلاً: بَصَقَ.
وَالتَّفْل بِالْفَمِ: نَفْخٌ مَعَهُ شَيْءٌ مِنَ الرِّيقِ. فَإِذَا كَانَ نَفْخًا بِلاَ رِيقٍ فَهُوَ النَّفْثُ. وَالتَّفْل شَبِيهٌ بِالْبُزَاقِ، وَهُوَ أَقَل مِنْهُ. أَوَّلُهُ الْبَزْقُ، ثُمَّ التَّفْل، ثُمَّ النَّفْخُ. (2)
ب - اللُّعَابُ:
3 - اللُّعَابُ: الرِّيقُ الَّذِي يَسِيل مِنَ الْفَمِ. (3)
__________
(1) لسان العرب، وترتيب القاموس المحيط، والمصباح المنير ومختار الصحاح مادة " بصق " و " بزق ".
(2) لسان العرب مادة " تفل "، وصحيح مسلم 3 / 1433، والمجموع شرح المهذب 4 / 29 - 20.
(3) الصحاح، مختار الصحاح، وترتيب القاموس المحيط، والمصباح المنير، ولسان العرب مادة " لعب ".(8/96)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
4 - الأَْصْل فِي مَاءِ فَمِ الإِْنْسَانِ طَهُورِيَّتُهُ مَا لَمْ يُنَجِّسْهُ نَجَسٌ. (1)
وَلِلْبُصَاقِ أَحْكَامٌ تَتَعَلَّقُ بِهِ. فَهُوَ حَرَامٌ فِي الْمَسْجِدِ وَمَكْرُوهٌ عَلَى حِيطَانِهِ. (2)
فَإِذَا بَصَقَ الْمُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَدْفِنَهُ، إِذِ الْبَصْقُ فِيهِ خَطِيئَةٌ، وَكَفَّارَتُهَا دَفْنُهُ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْبُصَاقُ فِي الْمَسْجِدِ خَطِيئَةٌ، وَكَفَّارَتُهَا دَفْنُهَا. (3)
وَالْمَشْهُورُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَدْفِنَهُ فِي تُرَابِ الْمَسْجِدِ وَرَمْلِهِ، إِنْ كَانَ لَهُ تُرَابٌ أَوْ رَمْلٌ وَنَحْوُهُمَا. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَخَذَهُ بِعُودٍ أَوْ خِرْقَةٍ أَوْ نَحْوِهِمَا أَوْ بِيَدِهِ وَأَخْرَجَهُ مِنْهُ. (4)
كَمَا لاَ يَبْصُقُ عَلَى حِيطَانِهِ، وَلاَ بَيْنَ يَدَيْهِ عَلَى الْحَصَى، وَلاَ فَوْقَ الْبَوَارِي (أَيِ الْحُصْرِ) وَلاَ تَحْتَهَا. وَلَكِنْ يَأْخُذُهُ بِطَرَفِ ثَوْبٍ وَيَحُكُّ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ، وَلاَ تَبْطُل بِهِ الصَّلاَةُ إِلاَّ أَنْ يَتَوَالَى وَيَكْثُرَ. وَإِنْ كَانَ قَدْ بَصَقَ فِي تُرَابِ الْمَسْجِدِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَدْفِنَهُ. فَإِنِ اضْطُرَّ إِلَى ذَلِكَ، كَانَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 93.
(2) الأشباه والنظائر لابن نجيم 370، وإعلام الساجد بأحكام المساجد ص 308.
(3) حديث: " البصاق في المسجد خطيئة. . . " أخرجه البخاري (1 / 511 - الفتح ط السلفية) ومسلم (1 / 390 - ط الحلبي) .
(4) المجموع شرح المهذب 4 / 101، وإعلام الساجد بأحكام المساجد ص 308 - 309.(8/96)
الإِْلْقَاءُ فَوْقَ الْحَصِيرِ أَهْوَنَ مِنَ الإِْلْقَاءِ تَحْتَهُ. لأَِنَّ الْبَوَارِيَ لَيْسَتْ بِمَسْجِدٍ حَقِيقَةً، وَمَا تَحْتَهَا مَسْجِدٌ حَقِيقَةً. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ الْبَوَارِي يَدْفِنُهُ فِي التُّرَابِ، وَلاَ يَتْرُكُهُ عَلَى وَجْهِ الأَْرْضِ. (1)
وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ لَمْ يَبْصُقْ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ، وَلاَ عَنْ يَمِينِهِ، بَل يَبْصُقُ تَحْتَ قَدَمِهِ الْيُسْرَى، أَوْ عَنْ يَسَارِهِ. (2)
وَمَنْ رَأَى مَنْ يَبْصُقُ فِي الْمَسْجِدِ لَزِمَهُ الإِْنْكَارُ عَلَيْهِ وَمَنْعُهُ مِنْهُ إِنْ قَدَرَ. وَمَنْ رَأَى بُصَاقًا وَنَحْوَهُ فِي الْمَسْجِدِ فَالسُّنَّةُ أَنْ يُزِيلَهُ بِدَفْنِهِ أَوْ إِخْرَاجِهِ، وَيُسْتَحَبُّ لَهُ تَطْيِيبُ مَحَلِّهِ.
وَأَمَّا مَا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ إِذَا بَصَقَ أَوْ رَأَى بُصَاقًا دَلَكَهُ بِأَسْفَل مَدَاسِهِ الَّذِي دَاسَ بِهِ النَّجَاسَةَ وَالأَْقْذَارَ فَحَرَامٌ، لأَِنَّهُ تَنْجِيسٌ لِلْمَسْجِدِ وَتَقْذِيرٌ لَهُ.
وَعَلَى مَنْ رَآهُ يَفْعَل ذَلِكَ الإِْنْكَارُ عَلَيْهِ بِشَرْطِهِ. (3)
وَلاَ يَسُوغُ مَسْحُ لَوْحِ الْقُرْآنِ أَوْ بَعْضِهِ بِالْبُصَاقِ. وَيَتَعَيَّنُ عَلَى مُعَلِّمِ الصِّبْيَانِ أَنْ يَمْنَعَهُمْ مِنْ ذَلِكَ. (4)
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 110، وبدائع الصنائع 1 / 216.
(2) المغني لابن قدامة 2 / 213 ط الرياض الحديثة، وقليوبي وعميرة 1 / 194، والمجموع شرح المهذب 4 / 100.
(3) المجموع شرح المهذب 4 / 101، وإعلام الساجد بأحكام المساجد ص308.
(4) حاشية البناني على شرح الزرقاني على مختصر خليل 1 / 93.(8/97)
وَمِنْ أَحْكَامِهِ بِالنِّسْبَةِ لِلصَّائِمِ: أَنَّ مَنِ ابْتَلَعَ رِيقَ نَفْسِهِ، وَهُوَ فِي فِيهِ قَبْل خُرُوجِهِ مِنْهُ، فَإِنَّهُ لاَ يُفْطِرُ، حَتَّى لَوْ جَمَعَهُ فِي الْفَمِ وَابْتَلَعَهُ. (1) وَإِنْ صَارَ خَارِجَ فِيهِ وَانْفَصَل عَنْهُ، وَأَعَادَهُ إِلَيْهِ بَعْدَ انْفِصَالِهِ وَابْتَلَعَهُ، فَسَدَ صَوْمُهُ. كَمَا لَوِ ابْتَلَعَ بُزَاقَ غَيْرِهِ. (2)
وَمَنْ تَرَطَّبَتْ شَفَتَاهُ بِلُعَابِهِ عِنْدَ الْكَلاَمِ أَوِ الْقِرَاءَةِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَابْتَلَعَهُ لاَ يَفْسُدُ صَوْمُهُ لِلضَّرُورَةِ. (3) وَلَوْ بَقِيَ بَلَلٌ فِي فَمِهِ بَعْدَ الْمَضْمَضَةِ فَابْتَلَعَهُ مَعَ الْبُزَاقِ لَمْ يُفَطِّرْهُ. (4)
وَلَوْ بَل الْخَيَّاطُ خَيْطًا بِرِيقِهِ ثُمَّ رَدَّهُ إِلَى فِيهِ عَلَى عَادَتِهِمْ حَال الْفَتْل، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ عَلَى الْخَيْطِ رُطُوبَةٌ تَنْفَصِل لَمْ يُفْطِرْ بِابْتِلاَعِ رِيقِهِ، بِخِلاَفِ مَا إِذَا كَانَتْ تَنْفَصِل. (5)
__________
(1) شرح الزرقاني على مختصر خليل 2 / 205، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 525، والفواكه الدواني 1 / 359، والفتاوى الهندية 1 / 203.
(2) الفتاوى الهندية 1 / 203.
(3) الفتاوى الهندية 1 / 203، ورد المحتار على الدر المختار 2 / 101 ط دار إحياء التراث العربي.
(4) الفتاوى الهندية 1 / 203، ورد المحتار على الدر المختار 2 / 98 ط دار إحياء التراث العربي.
(5) الفتاوى الهندية1 / 203، ورد المحتار على الدر المختار وحاشية ابن عابدين2 / 98، 101 ط دار إحياء التراث العربي، والمجموع شرح المهذب 6 / 318، وقليوبي وعميرة 2 / 57.(8/97)
بَصَرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْبَصَرُ: هُوَ الْقُوَّةُ الَّتِي أَوْدَعَهَا اللَّهُ فِي الْعَيْنِ، فَتُدْرِكُ بِهَا الأَْضْوَاءَ وَالأَْلْوَانَ وَالأَْشْكَال.
يُقَال: أَبْصَرْتُهُ بِرُؤْيَةِ الْعَيْنِ إِبْصَارًا، وَبَصُرْتُ بِالشَّيْءِ بِالضَّمِّ (وَالْكَسْرُ لُغَةٌ) بَصَرًا بِفَتْحَتَيْنِ: رَأَيْتُهُ. (1)
وَيُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى: الإِْدْرَاكِ لِلْمَعْنَوِيَّاتِ، كَمَا يُطْلَقُ عَلَى الْعَيْنِ نَفْسِهَا؛ لأَِنَّهَا مَحَل الإِْبْصَارِ.
وَالْبَصَرُ: ضِدُّ الْعَمَى. (2)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
الْجِنَايَةُ عَلَى الْبَصَرِ:
2 - اتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ عَلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ مِنَ الْجَانِي عَمْدًا عَلَى الْبَصَرِ، إِذَا أَدَّتْ جِنَايَتُهُ إِلَى إِذْهَابِ الْبَصَرِ - وَذَلِكَ بِإِذْهَابِ بَصَرِ الْجَانِي إِنْ أَمْكَنَ بِوَسِيلَةٍ مَا بِرَأْيِ أَهْل الْخِبْرَةِ - فَإِنْ لَمْ يُمْكِنِ الْقِصَاصُ، وَجَبَتِ الدِّيَةُ اتِّفَاقًا فِي مَال الْجَانِي.
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير مادة: " بصر ".
(2) التعريفات للجرجاني بتصرف.(8/98)
وَكَذَلِكَ تَجِبُ الدِّيَةُ فِي إِذْهَابِ الْبَصَرِ خَطَأً، وَتَكُونُ عَلَى الْعَاقِلَةِ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي الْجِنَايَاتِ. (1)
تَوْجِيهُ الْبَصَرِ فِي الصَّلاَةِ:
3 - أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْخُشُوعِ وَالْخُضُوعِ وَغَضِّ الْبَصَرِ عَمَّا يُلْهِي، وَكَرَاهَةِ الاِلْتِفَاتِ وَرَفْعِ الْبَصَرِ إِلَى السَّمَاءِ، وَأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْمُصَلِّي النَّظَرُ إِلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ إِذَا كَانَ قَائِمًا، وَيُسْتَحَبُّ نَظَرُهُ فِي رُكُوعِهِ إِلَى قَدَمَيْهِ، وَفِي حَال سُجُودِهِ إِلَى أَرْنَبَةِ أَنْفِهِ، وَفِي حَال التَّشَهُّدِ إِلَى حِجْرِهِ.
أَمَّا فِي صَلاَةِ الْخَوْفِ - إِذَا كَانَ الْعَدُوُّ أَمَامَهُ - فَيُوَجِّهُ نَظَرَهُ إِلَى جِهَتِهِ، وَبِهَذَا قَال الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يُسَنُّ.
وَالآْخَرُ عِنْدَهُمْ، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: النَّظَرُ إِلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ فِي جَمِيعِ صَلاَتِهِ (2) لِحَدِيثٍ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَا بَال أَقْوَامٍ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ فِي صَلاَتِهِمْ،
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 354، 369 - 371، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4 / 253، ونهاية المحتاج 7 / 272، وكشاف القناع 5 / 549 ط مكتبة النصر الحديثة بالرياض، والمغني 7 / 715 ط مكتبة الرياض.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 321 ط بيروت، والمغني 2 / 8، 9، 11 ط مكتبة الرياض، والمجموع شرح المهذب 3 / 249 ط الفجالة بمصر.(8/98)
فَاشْتَدَّ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ حَتَّى قَال: لَيَنْتَهُنَّ عَنْ ذَلِكَ، أَوْ لَتُخْطَفَنَّ أَبْصَارُهُمْ. (1)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ كَانَ رَفْعُ الْبَصَرِ إِلَى السَّمَاءِ لِلْمَوْعِظَةِ وَالاِعْتِبَارِ بِآيَاتِ السَّمَاءِ فَلاَ يُكْرَهُ. (2)
وَيُكْرَهُ أَيْضًا فِي الصَّلاَةِ تَغْمِيضُ الْعَيْنَيْنِ إِلاَّ لِحَاجَةٍ، وَلاَ يُعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلاَفٌ.
حُكْمُ رَفْعِ الْبَصَرِ إِلَى السَّمَاءِ فِي الدُّعَاءِ خَارِجَ الصَّلاَةِ:
4 - نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ الأَْوْلَى فِي الدُّعَاءِ خَارِجَ الصَّلاَةِ رَفْعُ الْبَصَرِ إِلَى السَّمَاءِ، وَقَال الْغَزَالِيُّ مِنْهُمْ: لاَ يَرْفَعُ الدَّاعِي بَصَرَهُ إِلَيْهَا. (3)
غَضُّ الْبَصَرِ عَنِ الْمُحَرَّمِ:
5 - أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِأَنْ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ عَمَّا حَرَّمَهُ عَلَيْهِمْ، دُونَ مَا أَبَاحَ لَهُمْ رُؤْيَتَهُ - وَإِذَا اتَّفَقَ أَنْ وَقَعَ الْبَصَرُ عَلَى مُحَرَّمٍ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، فَلْيَصْرِفِ الْبَصَرَ عَنْهُ سَرِيعًا - لأَِنَّ الْبَصَرَ هُوَ الْبَابُ الأَْوَّل إِلَى الْقَلْبِ وَرَائِدُهُ، وَغَضُّهُ وَاجِبٌ عَنْ جَمِيعِ الْمُحَرَّمَاتِ وَكُل مَا يُخْشَى مِنْهُ الْفِتْنَةُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُل لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُل لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ
__________
(1) حديث: " ما بال أقوام يرفعون أبصارهم. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 2 / 233 ط السلفية) .
(2) الدسوقي 1 / 254.
(3) نهاية المحتاج 1 / 180، 486، 2 / 55.(8/99)
أَبْصَارِهِنَّ} . (1)
وَانْظُرْ لِلتَّفْصِيل مُصْطَلَحَ: (نَظَر. عَوْرَة) .
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
6 - لِلْبَصَرِ أَحْكَامٌ فِي مَوَاطِنَ مُتَعَدِّدَةٍ، تَتَعَلَّقُ بِالْجِنَايَةِ عَلَيْهِ، وَالدِّيَةِ فِيهِ، وَاشْتِرَاطِهِ فِي الشَّاهِدِ، وَشَهَادَةِ الأَْعْمَى وَتَحَمُّلِهِ وَأَدَائِهِ، وَاشْتِرَاطِهِ وَاسْتِدَامَتِهِ فِيمَنْ يَتَوَلَّى الْقَضَاءَ، وَنَفَاذِ حُكْمِ قَاضٍ طَرَأَ الْعَمَى عَلَيْهِ، وَتَوْجِيهِ الْبَصَرِ فِي الصَّلاَةِ، وَرَفْعِ الْبَصَرِ إِلَى السَّمَاءِ فِي الدُّعَاءِ فِي غَيْرِ الصَّلاَةِ، وَمَا يَجُوزُ النَّظَرُ إِلَيْهِ مِمَّنْ يُرَادُ خِطْبَتُهَا، وَغَضِّ الْبَصَرِ عَمَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ. وَيُفَصِّل الْفُقَهَاءُ أَحْكَامَ ذَلِكَ فِي مَبَاحِثِ (الْجِنَايَاتِ، وَالدِّيَاتِ، وَالشَّهَادَةِ، وَالْقَضَاءِ، وَالصَّلاَةِ، وَالنِّكَاحِ) عَلَى النَّحْوِ الْمُبَيَّنِ فِي الْحُكْمِ الإِْجْمَالِيِّ وَمَوَاطِنِهِ.
بِضَاعَةٌ
انْظُرْ: إِبْضَاع.
بُضْعٌ
انْظُرْ: فَرْج.
__________
(1) سورة النور / 29، 30 وانظر القرطبي 12 / 327.(8/99)
بَطَالَةٌ
التَّعْرِيفُ
1 - الْبَطَالَةُ لُغَةً: التَّعَطُّل عَنِ الْعَمَل. يُقَال: بَطَل الْعَامِل، أَوِ الأَْجِيرُ عَنِ الْعَمَل فَهُوَ بَطَّالٌ بَيِّنُ الْبَطَالَةِ (بِفَتْحِ الْبَاءِ) وَحَكَى بَعْضُ شَارِحِي الْمُعَلَّقَاتِ الْبِطَالَةَ (بِالْكَسْرِ) وَقَال: هُوَ أَفْصَحُ، وَيُقَال: بَطَل الأَْجِيرُ مِنَ الْعَمَل، يَبْطُل بَطَالَةً وَبِطَالَةً: تَعَطَّل فَهُوَ بَطَّالٌ. (1)
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
حُكْمُهَا التَّكْلِيفِيُّ:
2 - يَخْتَلِفُ حُكْمُ الْبَطَالَةِ تَبَعًا لِلأَْحْوَال الَّتِي تَكُونُ فِيهَا كَالآْتِي:
الْبَطَالَةُ حَتَّى لَوْ كَانَتْ لِلتَّفَرُّغِ لِلْعِبَادَةِ، مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْعَمَل، وَالْحَاجَةِ إِلَى الْكَسْبِ لَقُوتِهِ وَقُوتِ مَنْ يَعُولُهُ تَكُونُ حَرَامًا، لِخَبَرِ إِنَّ اللَّهَ يَكْرَهُ الرَّجُل الْبَطَّال (2) وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَال: إِنَّ اللَّهَ
__________
(1) المصباح المنير ولسان العرب ومفردات الراغب الأصفهاني مادة: " بطل ".
(2) حيث: " إن الله يكره الرجل البطال ". قال الزركشي: لم أجده، ومثله في اللالئ (كشف الخفاء للعجلوني 1 / 291 - ط مؤسسة الرسالة) .(8/100)
يُحِبُّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ الْمُحْتَرِفَ (1) وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَال: إِنِّي لأََمْقُتُ الرَّجُل فَارِغًا لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ عَمَل دُنْيَا وَلاَ آخِرَةٍ (2) وَفِي الشُّعَبِ لِلْبَيْهَقِيِّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سُئِل: مَا شَرُّ شَيْءٍ فِي الْعَالَمِ؟ فَقَال: الْبَطَالَةُ.
وَالْبَطَالَةُ تَهَاوُنًا وَكَسَلاً مَعَ عَدَمِ الْحَاجَةِ لِلْكَسْبِ مَكْرُوهَةٌ أَيْضًا، وَتُزْرِي بِصَاحِبِهَا. أَمَّا الْبَطَالَةُ لِعُذْرٍ - كَزَمَانَةٍ وَعَجْزٍ لِعَاهَةٍ - فَلاَ إِثْمَ فِيهَا وَلاَ كَرَاهَةَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} . (3)
التَّوَكُّل لاَ يَدْعُو إِلَى الْبَطَالَةِ:
3 - التَّوَكُّل لاَ يَدْعُو إِلَى الْبَطَالَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ وَاجِبٌ، وَلَكِنْ يَجِبُ مَعَهُ الأَْخْذُ بِالأَْسْبَابِ. وَوَرَدَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا سَأَل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ: أُرْسِل نَاقَتِي وَأَتَوَكَّل؟ فَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اعْقِلْهَا وَتَوَكَّل (4) وَقَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ:
__________
(1) حديث: " إن الله يحب العبد المؤمن المحترف " أورده الهيثمي في المجتمع وقال: رواه الطبراني في الكبير والأوسط وفيه عاصم بن عبد الله وهو ضعيف. (مجمع الزوائد 4 / 62 - ط القدسي) .
(2) أثر ابن مسعود: " إني لأكره الرجل فارغا. . . . " أورده. الهيثمي في المجمع وقال " رواه الطبرانى في الكبير، وفيه راو لم يسم، وبقية رجاله ثقات " مجمع الزوائد (4 / 63 - ط القدسي) .
(3) سورة البقرة / 286.
(4) حديث: " اعقلها وتوكل " أخرجه الترمذي (4 / 668 - ط الحلبي) من حديث أنس، وابن حبان (موارد الظمآن - ص 633 - ط السلفية) من حديث عمرو بن أمية. وقال العراقي: إسناده جيد. فيض القدير (2 / 8 - ط المكتبة التجارية) .(8/100)
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُؤْمِنَ الْمُحْتَرِفَ. (1)
وَمَرَّ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِقَوْمٍ فَقَال: مَا أَنْتُمْ؟ قَالُوا مُتَوَكِّلُونَ قَال: لاَ بَل أَنْتُمْ مُتَأَكِّلُونَ، إِنَّمَا الْمُتَوَكِّل مَنْ أَلْقَى حَبَّةً فِي الأَْرْضِ، وَتَوَكَّل عَلَى رَبِّهِ. فَلَيْسَ فِي طَلَبِ الْمَعَاشِ وَالْمُضِيِّ فِي الأَْسْبَابِ عَلَى تَدْبِيرِ اللَّهِ تَرْكُ التَّفْوِيضِ، وَالتَّوَكُّل إِنَّمَا هُوَ بِالْقَلْبِ، وَتَرْكُ التَّوَكُّل يَكُونُ إِذَا غَفَل عَنِ اللَّهِ، وَاعْتَمَدَ عَلَى الأَْسْبَابِ وَنَسِيَ مُسَبِّبَهَا، وَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِذَا نَظَرَ إِلَى ذِي سِيمَا سَأَل: أَلَهُ حِرْفَةٌ؟ فَإِنْ قِيل: لاَ، سَقَطَ مِنْ عَيْنِهِ.
الْعِبَادَةُ لَيْسَتْ مُسَوِّغًا لِلْبَطَالَةِ:
4 - يَرَى الْفُقَهَاءُ: أَنَّ الْعِبَادَةَ لَيْسَتْ مُسَوِّغًا لِلْبَطَالَةِ، وَأَنَّ الإِْسْلاَمَ لاَ يُقِرُّ الْبَطَالَةَ مِنْ أَجْل الاِنْقِطَاعِ لِلْعِبَادَةِ؛ لأَِنَّ فِي هَذَا تَعْطِيلاً لِلدُّنْيَا الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ عِبَادَهُ بِالسَّعْيِ فِيهَا، قَال تَعَالَى {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} (2) وَقَال
__________
(1) الحديث سبق تخريجه (ف / 2) .
(2) سورة الملك / 15.(8/101)
جَل شَأْنُهُ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} وَأَعْقَبَهَا بِقَوْلِهِ {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَْرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْل اللَّهِ} (1)
وَوَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ عَلَى شَخْصٍ، قَالُوا لَهُ عَنْهُ إِنَّهُ كَانَ يَقُومُ اللَّيْل وَيَصُومُ النَّهَارَ، وَهُوَ مُنْقَطِعٌ لِلْعِبَادَةِ انْقِطَاعًا كُلِّيًّا، فَسَأَل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّنْ يَعُولُهُ؟ فَقَالُوا: كُلُّنَا. فَقَال: عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كُلُّكُمْ أَفْضَل مِنْهُ. (2)
أَثَرُ الْبَطَالَةِ فِي طَلَبِ الْمُتَعَطِّل نَفَقَةً لَهُ:
5 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ نَفَقَةَ الاِبْنِ الْمُتَعَطِّل عَنِ الْعَمَل - مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الْكَسْبِ - لاَ تَجِبُ عَلَى أَبِيهِ؛ لأَِنَّ مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِهَا: أَنْ يَكُونَ عَاجِزًا عَنِ الْكَسْبِ، وَالْعَاجِزُ عَنِ الْكَسْبِ هُوَ مَنْ لاَ يُمْكِنُهُ اكْتِسَابُ مَعِيشَتِهِ بِالْوَسَائِل الْمَشْرُوعَةِ الْمُعْتَادَةِ، وَالْقَادِرُ غَنِيٌّ بِقُدْرَتِهِ، وَيَسْتَطِيعُ أَنْ يَتَكَسَّبَ بِهَا وَيُنْفِقَ عَلَى نَفْسِهِ، وَلاَ يَكُونُ فِي حَالَةِ ضَرُورَةٍ يَتَعَرَّضُ فِيهَا لِلْهَلاَكِ. (3)
__________
(1) سورة الجمعة / 10.
(2) حديث: " كلكم أفضل منه. . . " أخرجه ابن قتيبة في عيون الأخبار (1 / 26 - ط مطبعة دار الكتب المصرية) من حديث مسلم بن يسار وإسناده ضعيف لإرساله.
(3) حاشية ابن عابدين 2 / 670 وما بعدها ط دار إحياء التراث العربي بيروت، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 518، 524 ط عيسى الحلبي بمصر، ونهاية المحتاج 7 / 201، 209 ط المكتبة الإسلامية، وكشاف القناع 5 / 476، 481 ط مكتبة النصر الحديثة.(8/101)
أَثَرُ الْبَطَالَةِ فِي اسْتِحْقَاقِ الزَّكَاةِ:
6 - إِنَّ الْقَادِرَ عَلَى الْكَسْبِ مُكَلَّفٌ بِالْعَمَل لِيَكْفِيَ نَفْسَهُ بِنَفْسِهِ، أَمَّا الْعَاجِزُ عَنِ الْكَسْبِ لِضَعْفٍ ذَاتِيٍّ، كَالصِّغَرِ وَالأُْنُوثَةِ وَالْعَتَهِ وَالشَّيْخُوخَةِ وَالْمَرَضِ إِذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَالٌ مَوْرُوثٌ يَسُدُّ حَاجَتَهُ، كَانَ فِي كَفَالَةِ أَقَارِبِهِ الْمُوسِرِينَ، وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ لَهُ شَخْصٌ يَكْفُلُهُ بِمَا يَحْتَاجُهُ فَقَدْ حَل لَهُ الأَْخْذُ مِنَ الزَّكَاةِ، وَلاَ حَرَجَ عَلَيْهِ فِي دِينِ اللَّهِ. (1)
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (زَكَاة) .
رِعَايَةُ الدَّوْلَةِ وَالْمُجْتَمَعِ لِلْمُتَعَطِّلِينَ بِعَدَمِ وُجُودِ عَمَلٍ:
7 - صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّ عَلَى الدَّوْلَةِ الْقِيَامَ بِشُئُونِ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْعَجَزَةِ وَاللُّقَطَاءِ وَالْمَسَاجِينِ الْفُقَرَاءِ، الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ مَا يُنْفَقُ عَلَيْهِمْ مِنْهُ وَلاَ أَقَارِبُ تَلْزَمُهُمْ نَفَقَتُهُمْ، فَيَتَحَمَّل بَيْتُ الْمَال نَفَقَاتِهِمْ وَكِسْوَتَهُمْ، وَمَا يُصْلِحُهُمْ مِنْ دَوَاءٍ وَأُجْرَةِ عِلاَجٍ وَتَجْهِيزِ مَيِّتٍ وَنَحْوِهَا. (2) وَلِلتَّفْصِيل (ر: بَيْتُ الْمَال) .
__________
(1) البدائع، والخرشي 2 / 215، والمجموع 6 / 192، والمغني 2 / 525، والأموال لأبى عبيد ص 556.
(2) القليوبي 2 / 292، و3 / 125، و4 / 211، 214، والمقنع 2 / 303، وكشاف القناع 1 / 234.(8/102)
بِطَانَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْبِطَانَةُ: بِطَانَةُ الثَّوْبِ، وَهِيَ: مَا يُجْعَل وِقَاءً لَهُ مِنَ الدَّاخِل، وَهِيَ خِلاَفُ الظِّهَارَةِ. وَبِطَانَةُ الرَّجُل: خَاصَّتُهُ، وَأَبْطَنْتُ الرَّجُل: جَعَلْتُهُ مِنْ خَوَاصِّكَ، وَفِي الْحَدِيثِ: وَمَا بَعَثَ اللَّهُ مِنْ نَبِيٍّ وَلاَ اسْتَخْلَفَ مِنْ خَلِيفَةٍ إِلاَّ كَانَتْ لَهُ بِطَانَتَانِ: بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، وَبِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالشَّرِّ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، فَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى (1)
وَهُوَ مَصْدَرٌ سُمِّيَ بِهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ.
وَالْبِطَانَةُ اصْطِلاَحًا: خَاصَّةُ الرَّجُل الْمُقَرَّبُونَ الَّذِينَ يُفْضِي إِلَيْهِمْ بِأَسْرَارِهِ. (2)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْحَاشِيَةُ:
2 - الْحَاشِيَةُ: هِيَ وَاحِدَةُ حَوَاشِي الثَّوْبِ.
__________
(1) حديث: " ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة. . . " أخرجه البخاري (الفتح 13 / 189 - ط السلفية) .
(2) ترتيب القاموس مادة: " بطن ".(8/102)
وَتُطْلَقُ عَلَى صِغَارِ الإِْبِل. وَعَلَى مَا يُكْتَبُ عَلَى جَوَانِبِ صَفَحَاتِ الْكِتَابِ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: أَهْل الرَّجُل مِنْ غَيْرِ أُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ كَالإِْخْوَةِ وَالأَْعْمَامِ. (1)
ب - أَهْل الشُّورَى:
3 - الشُّورَى: اسْمُ مَصْدَرٍ مِنَ التَّشَاوُرِ. وَأَهْل الشُّورَى: هُمْ أَهْل الرَّأْيِ الَّذِينَ يُقَدِّمُونَ الْمَشُورَةَ لِمَنْ يَسْتَشِيرُهُمْ، وَقَدْ يَكُونُونَ مِنْ بِطَانَةِ الرَّجُل أَوْ غَيْرِهِمْ مِنْ ذَوِي الرَّأْيِ. (2)
مَا يَتَعَلَّقُ بِالْبِطَانَةِ مِنْ أَحْكَامٍ:
أَوَّلاً: الْبِطَانَةُ بِمَعْنَى خَاصَّةِ الرَّجُل.
اتِّخَاذُ الْبِطَانَةِ الصَّالِحَةِ:
4 - لَمَّا كَانَتِ الشُّورَى مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ، وَمِنْ لَوَازِمِ الْحُكْمِ فِي الإِْسْلاَمِ، وَإِنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِأَنَّ الإِْنْسَانَ يَطْمَئِنُّ إِلَى بِطَانَتِهِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى وُلاَةِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَتَّخِذُوا بِطَانَةً صَالِحَةً، مِنْ أَهْل التَّقْوَى وَالأَْمَانَةِ، وَمِمَّنْ يَخْشَى اللَّهَ.
قَال ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادَ: وَاجِبٌ عَلَى الْوُلاَةِ مُشَاوَرَةُ الْعُلَمَاءِ فِيمَا لاَ يَعْلَمُونَ، وَمَا أَشْكَل عَلَيْهِمْ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ، وَمُشَاوَرَةُ وُجُوهِ الْجَيْشِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْحَرْبِ، وَمُشَاوَرَةُ وُجُوهِ النَّاسِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَصَالِحِ، وَمُشَاوَرَةُ وُجُوهِ الْكُتَّابِ وَالْوُزَرَاءِ وَالْعُمَّال فِيمَا يَفْعَلُونَ بِمَصَالِحِ الْبِلاَدِ
__________
(1) الصحاح.
(2) القرطبي 4 / 249.(8/103)
وَعِمَارَتِهَا. (1)
وَجَاءَ فِي كِتَابِ " الأَْحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ " لِلْمَاوَرْدِيِّ فِي مَعْرِضِ عَدِّ وَاجِبَاتِ الإِْمَامِ: اسْتِكْفَاءُ الأُْمَنَاءِ، وَتَقْلِيدُ النُّصَحَاءِ فِيمَا يُفَوِّضُهُ إِلَيْهِمْ مِنَ الأَْعْمَال، وَيَكِلُهُ إِلَيْهِمْ مِنَ الأَْمْوَال؛ لِتَكُونَ الأَْعْمَال بِالْكَفَاءَةِ مَضْبُوطَةً، وَالأَْمْوَال بِالأُْمَنَاءِ مَحْفُوظَةً. (2)
وَفِي الأَْثَرِ الصَّحِيحِ: إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِالأَْمِيرِ خَيْرًا جَعَل لَهُ وَزِيرَ صِدْقٍ، إِنْ نَسِيَ ذَكَّرَهُ، وَإِنْ ذَكَرَ أَعَانَهُ، وَإِنْ أَرَادَ غَيْرَ ذَلِكَ جَعَل لَهُ وَزِيرَ سُوءٍ: إِنْ نَسِيَ لَمْ يُذَكِّرْهُ، وَإِنْ ذَكَرَ لَمْ يُعِنْهُ. (3)
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: مَا بَعَثَ اللَّهُ مِنْ نَبِيٍّ وَلاَ اسْتَخْلَفَ مِنْ خَلِيفَةٍ إِلاَّ كَانَتْ لَهُ بِطَانَتَانِ: بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالْخَيْرِ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، وَبِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالشَّرِّ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، فَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. (4)
اتِّخَاذُ بِطَانَةٍ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ:
5 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ عُلَمَاءِ الإِْسْلاَمِ فِي أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لأَِوْلِيَاءِ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنَ الْكُفَّارِ
__________
(1) تفسير القرطبي 4 / 250 - 251.
(2) الأحكام السلطانية للماوردي: 12 - 13.
(3) حديث: " إذا أراد الله بالأمير خيرا. . . " أخرجه أبو داود (3 / 345 - ط عزت عبيد دعاس) وجود إسناده النووي في رياض الصالحين (ص 317 - ط الرسالة) .
(4) الحديث: سبق تخريجه (ف / 1) .(8/103)
وَالْمُنَافِقِينَ، يُطْلِعُونَهُمْ عَلَى سَرَائِرِهِمْ، وَمَا يُضْمِرُونَهُ لأَِعْدَائِهِمْ، وَيَسْتَشِيرُونَهُمْ فِي الأُْمُورِ؛ لأَِنَّ هَذَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَضُرَّ مَصْلَحَةَ الْمُسْلِمِينَ، وَيُعَرِّضَ أَمْنَهُمْ لِلْخَطَرِ، وَقَدْ وَرَدَ التَّنْزِيل بِتَحْذِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ مُوَالاَةِ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ يُخَالِفُونَهُمْ فِي الْعَقِيدَةِ وَالدِّينِ، وَقَال عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآْيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} . (1) وَقَال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُول وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَل سَوَاءَ السَّبِيل} . (2)
وَنَهَى اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَنِ اتِّخَاذِ بِطَانَةٍ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، يُطْلِعُونَهُمْ عَلَى سَرَائِرِهِمْ، وَيَكْشِفُونَ لَهُمْ عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ. بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} . (3) وَفِي مَعْنَى ذَلِكَ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ فِي شَأْنِ
__________
(1) سورة آل عمران / 118.
(2) سورة الممتحنة / 1.
(3) سورة النساء / 144.(8/104)
بِطَانَةِ السُّوءِ.
وَقَال ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: قِيل لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّ هُنَا غُلاَمًا مِنْ أَهْل الْحِيرَةِ حَافِظًا كَاتِبًا، فَلَوِ اتَّخَذْتَهُ كَاتِبًا؟ قَال: اتَّخَذْتُ إِذَنْ بِطَانَةً مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ. (1) قَال ابْنُ كَثِيرٍ: فِي الأَْثَرِ مَعَ هَذِهِ الآْيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ اسْتِعْمَال أَهْل الذِّمَّةِ فِي الْكِتَابَةِ، الَّتِي فِيهَا اسْتِطَالَةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَاطِّلاَعٌ عَلَى دَخَائِل أُمُورِهِمُ الَّتِي يُخْشَى أَنْ يُفْشُوهَا إِلَى الأَْعْدَاءِ مِنْ أَهْل الْحَرْبِ. (2) وَقَال السُّيُوطِيُّ نَقْلاً عَنْ إِلْكِيَا الْهِرَّاسِيِّ: فِي قَوْله تَعَالَى: {لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ} فِيهِ دَلاَلَةٌ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الاِسْتِعَانَةُ بِأَهْل الذِّمَّةِ فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ. (3)
وَقَال الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الآْيَةِ: أَكَّدَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الزَّجْرَ عَنِ الرُّكُونِ إِلَى الْكُفَّارِ وَهُوَ مُتَّصِلٌ بِمَا سَبَقَ مِنْ قَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} ، (4) وَنَهَى الْمُؤْمِنِينَ بِهَذِهِ الآْيَةِ أَنْ يَتَّخِذُوا مِنَ الْكُفَّارِ وَأَهْل الأَْهْوَاءِ دُخَلاَءَ وَوُلَجَاءَ، يُفَاوِضُونَهُمْ فِي الآْرَاءِ، وَيُسْنِدُونَ إِلَيْهِمْ أُمُورَهُمْ. ثُمَّ بَيَّنَ اللَّهُ الْمَعْنَى الَّذِي مِنْ
__________
(1) أثر عمر بن الخطاب. . . أخرجه ابن أبي حاتم كما في تفسير ابن كثير (2 / 101 - 102 ط دار الأندلس) .
(2) تفسير ابن كثير 1 / 313.
(3) الإكليل للسيوطي ص: 56.
(4) سورة آل عمران / 100.(8/104)
أَجْلِهِ نَهَى عَنِ الْمُوَاصَلَةِ فَقَال: {لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} يَعْنِي لاَ يَتْرُكُونَ الْجَهْدَ فِي إِفْسَادِكُمْ، أَيْ أَنَّهُمْ وَإِنْ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فَإِنَّهُمْ لاَ يَتْرُكُونَ الْجَهْدَ فِي الْمَكْرِ وَالْخَدِيعَةِ. (1)
وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا مُوسَى الأَْشْعَرِيَّ اسْتَكْتَبَ ذِمِّيًّا، فَعَنَّفَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَتَلاَ عَلَيْهِ هَذِهِ الآْيَةَ. وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال أَيْضًا: لاَ تَسْتَعْمِلُوا أَهْل الْكِتَابِ فَإِنَّهُمْ يَسْتَحِلُّونَ الرِّشَا، وَاسْتَعِينُوا عَلَى أُمُورِكُمْ وَعَلَى رَعِيَّتِكُمْ بِالَّذِينَ يَخْشَوْنَ اللَّهَ تَعَالَى.
ثَانِيًا: الْبِطَانَةُ فِي الثَّوْبِ:
الصَّلاَةُ عَلَى ثَوْبٍ بِطَانَتُهُ نَجِسَةٌ:
6 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالْحَنَابِلَةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ إِلَى أَنَّهُ تَصِحُّ الصَّلاَةُ عَلَى بِسَاطٍ ظَاهِرُهُ طَاهِرٌ، وَبِطَانَتُهُ نَجِسٌ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ حَامِلاً وَلاَ لاَبِسًا، وَلاَ مُبَاشِرًا لِلنَّجَاسَةِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ صَلَّى عَلَى بِسَاطٍ طَرَفُهُ نَجِسٌ، أَوْ مَفْرُوشٍ عَلَى نَجِسٍ. وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ الصَّلاَةُ عَلَيْهِ؛ نَظَرًا لاِتِّحَادِ الْمَحَل، فَاسْتَوَى ظَاهِرُهُ وَبَاطِنُهُ. (2)
__________
(1) تفسير القرطبي 4 / 178 - 179.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 420 - 421، ومراقي الفلاح بحاشية الطحطاوي 129، ومغني المحتاج 1 / 190، والمغني لابن قدامة 2 / 57، وشرح الزرقاني 1 / 9.(8/105)
حُكْمُ لُبْسِ الرَّجُل ثَوْبًا بِطَانَتُهُ مِنْ حَرِيرٍ:
7 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الرَّجُل لُبْسُ ثَوْبٍ بِطَانَتُهُ مِنْ حَرِيرٍ، لِحَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تَلْبَسُوا الْحَرِيرَ، فَإِنَّهُ مَنْ لَبِسَهُ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الآْخِرَةِ. (1)
وَفِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ، بَعْدَ بَيَانِ تَحْرِيمِ الْحَرِيرِ عَلَى الرِّجَال وَالاِسْتِدْلاَل بِالْحَدِيثِ، قَال: وَلَوْ كَانَ الْحَرِيرُ بِطَانَةً، لِعُمُومِ الْخَبَرِ، لَكِنْ قَيَّدَ الْمَالِكِيَّةُ حُرْمَةَ الْمُبَطَّنِ بِالْحَرِيرِ بِمَا إِذَا كَانَ كَثِيرًا، كَمَا قَال الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ.
وَهُوَ مَكْرُوهٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ كَمَا جَاءَ فِي ابْنِ عَابِدِينَ نَقْلاً عَنِ الْهِنْدِيَّةِ، وَقَال فِي تَعْلِيلِهِ: لأَِنَّ الْبِطَانَةَ مَقْصُودَةٌ. (2) وَالْكَرَاهَةُ حَيْثُ أُطْلِقَتْ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَهِيَ لِكَرَاهَةِ التَّحْرِيمِ. وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (حَرِير) .
__________
(1) الحديث: " لا تلبسوا الحرير. . . " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 284 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1642 - ط الحلبي) .
(2) لسان العرب والمصباح المنير مادة: (بطل) ، والتلويح على التوضيح 1 / 215.(8/105)
بُطْلاَنٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْبُطْلاَنُ لُغَةً: الضَّيَاعُ وَالْخُسْرَانُ، أَوْ سُقُوطُ الْحُكْمِ. يُقَال: بَطَل الشَّيْءُ يَبْطُل بَطَلاً وَبُطْلاَنًا بِمَعْنَى: ذَهَبَ ضَيَاعًا وَخُسْرَانًا، أَوْ سَقَطَ حُكْمُهُ، وَمِنْ مَعَانِيهِ: الْحُبُوطُ. (1)
وَهُوَ فِي الاِصْطِلاَحِ يَخْتَلِفُ تَبَعًا لِلْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلاَتِ.
فَفِي الْعِبَادَاتِ: الْبُطْلاَنُ: عَدَمُ اعْتِبَارِ الْعِبَادَةِ حَتَّى كَأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ. كَمَا لَوْ صَلَّى بِغَيْرِ وُضُوءٍ. (2)
وَالْبُطْلاَنُ فِي الْمُعَامَلاَتِ يَخْتَلِفُ فِيهَا تَعْرِيفُ الْحَنَفِيَّةِ عَنْ غَيْرِهِمْ، فَهُوَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنْ تَقَعَ عَلَى وَجْهٍ غَيْرِ مَشْرُوعٍ بِأَصْلِهِ وَلاَ بِوَصْفِهِ، وَيَنْشَأُ عَنِ الْبُطْلاَنِ تَخَلُّفُ الأَْحْكَامِ كُلِّهَا عَنِ التَّصَرُّفَاتِ، وَخُرُوجُهَا عَنْ كَوْنِهَا أَسْبَابًا مُفِيدَةً لِتِلْكَ الأَْحْكَامِ الَّتِي تَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا، فَبُطْلاَنُ الْمُعَامَلَةِ لاَ يُوَصِّل إِلَى الْمَقْصُودِ الدُّنْيَوِيِّ أَصْلاً؛
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير مادة: (بطل) ، والتلويح على التوضيح 1 / 215.
(2) جمع الجوامع 1 / 105، ودستور العلماء 1 / 251، وكشف الأسرار 1 / 258.(8/106)
لأَِنَّ آثَارَهَا لاَ تَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا. (1)
وَتَعْرِيفُ الْبُطْلاَنِ عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ هُوَ تَعْرِيفُ الْفَسَادِ بِعَيْنِهِ، وَهُوَ: أَنْ تَقَعَ الْمُعَامَلَةُ عَلَى وَجْهٍ غَيْرِ مَشْرُوعٍ بِأَصْلِهِ أَوْ بِوَصْفِهِ أَوْ بِهِمَا.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْفَسَادُ:
2 - الْفَسَادُ: مُرَادِفٌ لِلْبُطْلاَنِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) فَكُلٌّ مِنَ الْبَاطِل وَالْفَاسِدِ يُطْلَقُ عَلَى الْفِعْل الَّذِي يُخَالِفُ وُقُوعُهُ الشَّرْعَ، وَلاَ تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الآْثَارُ، وَلاَ يَسْقُطُ الْقَضَاءُ فِي الْعِبَادَاتِ.
وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ، فَفِي بَعْضِ أَبْوَابِ الْفِقْهِ يَأْتِي التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْبُطْلاَنِ وَالْفَسَادِ، كَالْحَجِّ وَالْعَارِيَّةِ وَالْكِتَابَةِ وَالْخُلْعِ (2) وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ.
أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَالْفَسَادُ يُبَايِنُ الْبُطْلاَنَ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُعَامَلاَتِ، فَالْبُطْلاَنُ عِنْدَهُمْ: مُخَالَفَةُ الْفِعْل لِلشَّرْعِ لِخَلَلٍ فِي رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِهِ أَوْ شَرْطٍ
__________
(1) كشف الأسرار 1 / 258، 259 والمستصفى للغزالي 2 / 25، والأسنوي على البيضاوي1 / 58، والبدخشي 1 / 57، والتلويح على التوضيح2 / 123، وكشاف اصطلاحات الفنون 1 / 148 ودرر الحكام الكتاب الأول ص94 مادة: 110، وحاشية ابن عابدين 2 / 97 ومنح الجليل 2 / 550، وجمع الجوامع1 / 105.
(2) جمع الجوامع 1 / 105، والمنثور في القواعد للزركشي 3 / 7، وأشباه السيوطي ص 312، والقواعد والفوائد الأصولية ص 110.(8/106)
مِنْ شَرَائِطِ انْعِقَادِهِ.
أَمَّا الْفَسَادُ فَهُوَ: مُخَالَفَةُ الْفِعْل لِلشَّرْعِ فِي شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ صِحَّتِهِ، وَلَوْ مَعَ مُوَافَقَةِ الشَّرْعِ فِي أَرْكَانِهِ وَشَرَائِطِ انْعِقَادِهِ. (1)
ب - الصِّحَّةُ:
3 - الصِّحَّةُ فِي اللُّغَةِ. بِمَعْنَى: السَّلاَمَةِ فَالصَّحِيحُ ضِدُّ الْمَرِيضِ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: وُقُوعُ الْفِعْل مُوَافِقًا لِلشَّرْعِ بِاسْتِجْمَاعِ الأَْرْكَانِ وَالشُّرُوطِ. وَأَثَرُهُ فِي الْمُعَامَلاَتِ: تَرَتُّبُ ثَمَرَةِ التَّصَرُّفِ الْمَطْلُوبَةِ مِنْهُ عَلَيْهِ، كَحِل الاِنْتِفَاعِ فِي الْبَيْعِ، وَالاِسْتِمْتَاعِ فِي النِّكَاحِ.
وَأَثَرُهُ فِي الْعِبَادَاتِ هُوَ سُقُوطُ الْقَضَاءِ بِفِعْل الْعِبَادَةِ. (2)
ج - الاِنْعِقَادُ:
4 - الاِنْعِقَادُ: يَشْمَل الصِّحَّةَ، وَيَشْمَل الْفَسَادَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَهُوَ ارْتِبَاطُ أَجْزَاءِ التَّصَرُّفِ شَرْعًا. أَوْ هُوَ: تَعَلُّقُ كُلٍّ مِنَ الإِْيجَابِ وَالْقَبُول بِالآْخَرِ
__________
(1) التلويح على التوضيح 2 / 132، ودرر الحكام 1 / 93 م 108، والأحكام للآمدي 1 / 67 - 68، وكشف الأسرار 1 / 258، والبدخشي 1 / 57 - 58، وجمع الجوامع 1 / 100 - 101.
(2) التلويح على التوضيح 1 / 93، 219، 2 / 123، وكشف الأسرار 1 / 259، 270، 271، وابن عابدين 2 / 97، 5 / 273، وشرح المجلة للأتاسي ص 74، والذخيرة ص 62، وإعلام الموقعين 3 / 110 - 111.(8/107)
عَلَى وَجْهٍ مَشْرُوعٍ، يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي مُتَعَلَّقِهِمَا.
فَالْعَقْدُ الْفَاسِدُ مُنْعَقِدٌ بِأَصْلِهِ، وَلَكِنَّهُ فَاسِدٌ بِوَصْفِهِ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. فَالاِنْعِقَادُ ضِدُّ الْبُطْلاَنِ. (1)
عَدَمُ التَّلاَزُمِ بَيْنَ بُطْلاَنِ التَّصَرُّفِ فِي الدُّنْيَا وَبُطْلاَنِ أَثَرِهِ فِي الآْخِرَةِ:
5 - لاَ تَلاَزُمَ بَيْنَ صِحَّةِ التَّصَرُّفِ أَوْ بُطْلاَنِهِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا، وَبَيْنَ بُطْلاَنِ أَثَرِهِ فِي الآْخِرَةِ، فَقَدْ يَكُونُ مَحْكُومًا عَلَيْهِ بِالصِّحَّةِ فِي الدُّنْيَا، لاِسْتِكْمَالِهِ الأَْرْكَانَ وَالشُّرُوطَ الْمَطْلُوبَةَ شَرْعًا، لَكِنِ اقْتَرَنَ بِهِ مِنَ الْمَقَاصِدِ وَالنِّيَّاتِ مَا يُبْطِل ثَمَرَتَهُ فِي الآْخِرَةِ، فَلاَ يَكُونُ لَهُ عَلَيْهِ ثَوَابٌ، بَل قَدْ يَلْزَمُهُ الإِْثْمُ، وَدَلِيل ذَلِكَ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا الأَْعْمَال بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُل امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ (2) وَقَدْ يَصِحُّ الْعَمَل وَيَسْتَحِقُّ عَامِلُهُ الثَّوَابَ، وَلَكِنْ يُتْبِعُهُ صَاحِبُهُ عَمَلاً يُبْطِلُهُ، فَالْمَنُّ وَالأَْذَى يُبْطِل أَجْرَ
__________
(1) التلويح على التوضيح 2 / 123، ودرر الحكام 1 / 92 م 104، وفتح القدير 5 / 456 ط دار إحياء التراث، وحاشية ابن عابدين 4 / 7، والمنثور في القواعد 2 / 303.
(2) حديث: " إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى. . . " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 9 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1515 - ط الحلبي) واللفظ للبخاري.(8/107)
الصَّدَقَةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَْذَى} (1) وَقَال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُول وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} . (2)
6 - وَيُوَضِّحُ الشَّاطِبِيُّ ذَلِكَ فَيَقُول: (3) يُرَادُ بِالْبُطْلاَنِ إِطْلاَقَانِ:
أَحَدُهُمَا: عَدَمُ تَرَتُّبِ آثَارِ الْعَمَل عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا، كَمَا نَقُول فِي الْعِبَادَاتِ: إِنَّهَا غَيْرُ مُجْزِئَةٍ وَلاَ مُبَرِّئَةٍ لِلذِّمَّةِ وَلاَ مُسْقِطَةٍ لِلْقَضَاءِ، فَهِيَ بَاطِلَةٌ بِهَذَا الْمَعْنَى لِمُخَالَفَتِهَا لِمَا قَصَدَ الشَّارِعُ فِيهَا. وَقَدْ تَكُونُ بَاطِلَةً لِخَلَلٍ فِي بَعْضِ أَرْكَانِهَا أَوْ شُرُوطِهَا، كَكَوْنِهَا نَاقِصَةً رَكْعَةً أَوْ سَجْدَةً.
وَنَقُول أَيْضًا فِي الْعَادَاتِ: إِنَّهَا بَاطِلَةٌ، بِمَعْنَى عَدَمِ حُصُول فَوَائِدِهَا بِهَا شَرْعًا، مِنْ حُصُول إِمْلاَكٍ وَاسْتِبَاحَةِ فُرُوجٍ وَانْتِفَاعٍ بِالْمَطْلُوبِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يُرَادَ بِالْبُطْلاَنِ عَدَمُ تَرَتُّبِ آثَارِ الْعَمَل عَلَيْهِ فِي الآْخِرَةِ، وَهُوَ الثَّوَابُ. فَتَكُونُ الْعِبَادَةُ بَاطِلَةً بِالإِْطْلاَقِ الأَْوَّل، فَلاَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا جَزَاءٌ؛ لأَِنَّهَا غَيْرُ مُطَابِقَةٍ لِمُقْتَضَى الأَْمْرِ بِهَا،
__________
(1) سورة البقرة / 64 م.
(2) سورة محمد / 33.
(3) الموافقات للشاطبي 1 / 292، والمنح 1 / 89.(8/108)
كَالْمُتَعَبِّدِ رِئَاءَ النَّاسِ، فَهِيَ غَيْرُ مُجْزِئَةٍ (1) وَلاَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا ثَوَابٌ، وَقَدْ تَكُونُ صَحِيحَةً بِالإِْطْلاَقِ الأَْوَّل، وَلاَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا ثَوَابٌ أَيْضًا، كَالْمُتَصَدِّقِ بِالصَّدَقَةِ يُتْبِعُهَا بِالْمَنِّ وَالأَْذَى، وَقَدْ قَال اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَْذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ} . (2)
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلإِْقْدَامِ عَلَى تَصَرُّفٍ بَاطِلٍ مَعَ الْعِلْمِ وَعَدَمِهِ:
7 - الإِْقْدَامُ عَلَى فِعْلٍ بَاطِلٍ - مَعَ الْعِلْمِ بِبُطْلاَنِهِ - حَرَامٌ، وَيَأْثَمُ فَاعِلُهُ؛ لاِرْتِكَابِهِ الْمَعْصِيَةَ بِمُخَالَفَتِهِ الْمَشْرُوعَ؛ لأَِنَّ الْبُطْلاَنَ وَصْفٌ لِلْفِعْل الَّذِي يَقَعُ مُخَالِفًا لِلشَّرْعِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ فِي الْعِبَادَاتِ، كَالصَّلاَةِ بِدُونِ طَهَارَةٍ، وَالأَْكْل فِي نَهَارِ رَمَضَانَ، أَمْ كَانَ ذَلِكَ فِي الْمُعَامَلاَتِ، كَبَيْعِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَالْمَلاَقِيحِ وَالْمَضَامِينِ، وَكَالاِسْتِئْجَارِ عَلَى النَّوْحِ، وَكَرَهْنِ الْخَمْرِ عِنْدَ الْمُسْلِمِ وَلَوْ كَانَتْ لِذِمِّيٍّ، وَمَا شَابَهُ ذَلِكَ، أَمْ كَانَ فِي النِّكَاحِ،
__________
(1) عدم إجزاء العبادة لأجل الرياء أمر مختلف فيه، ففي ابن عابدين 5 / 273، أن من صلى رياء وسمعة تجوز صلاته في الحكم (الدنيوي) لوجود الشرائط والأركان، ولكن لا يستحق الثواب، قال الفقيه أبو الليث في النوازل: قال بعض مشايخنا: الرياء لا يدخل في شيء من الفرائض،
و (2) سورة البقرة / 264.(8/108)
كَنِكَاحِ الأُْمِّ وَالْبِنْتِ.
وَهَذَا الْحُكْمُ يَشْمَل الْفَاسِدَ أَيْضًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ يُفِيدُ بَعْضَ الأَْحْكَامِ - كَإِفَادَتِهِ الْمِلْكَ بِالْقَبْضِ فِي الْبَيْعِ مَثَلاً - إِلاَّ أَنَّ الإِْقْدَامَ عَلَيْهِ حَرَامٌ، وَيَجِبُ فَسْخُهُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى دَفْعًا لِلْفَسَادِ؛ لأَِنَّ فِعْلَهُ مَعْصِيَةٌ، فَعَلَى الْعَاقِدِ التَّوْبَةُ مِنْهُ بِفَسْخِهِ.
وَيُسْتَثْنَى مِنْ حُكْمِ الإِْقْدَامِ عَلَى التَّصَرُّفِ الْبَاطِل حَالَةُ الضَّرُورَةِ، كَالْمُضْطَرِّ يَشْتَرِي الْمَيْتَةَ. (1)
هَذَا فِيمَنْ يُقْدِمُ عَلَى الْبَاطِل مَعَ عِلْمِهِ بِبُطْلاَنِهِ.
8 - وَأَمَّا الإِْقْدَامُ عَلَى التَّصَرُّفِ الْبَاطِل مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ، فَهَذَا يَشْمَل النَّاسِيَ وَالْجَاهِل. وَالأَْصْل بِالنِّسْبَةِ لِلْجَاهِل: (2) أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُقْدِمَ عَلَى فِعْلٍ حَتَّى يَعْلَمَ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِ، فَمَنْ بَاعَ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَعَلَّمَ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ فِي
__________
(1) جمع الجوامع 1 / 105، 106، 107، والتلويح على التوضيح 1 / 216 - 221، والموافقات للشاطبي 2 / 333 - 337، وابن عابدين 4 / 5، 99، وبدائع الصنائع 5 / 300، 301، 305، 4 / 190، والمستصفى للغزالي 2 / 25 - 30، وكشف الأسرار 1 / 257 - 261، وروضة الناظر ص 113 ومغني المحتاج 2 / 30، ونهاية المحتاج 3 / 429، والمنثور في القواعد للزركشي 1 / 352 - 355، وأشباه السيوطي ص 312، والمغني 5 / 550، ومنتهى الإرادات 2 / 232، وجواهر الإكليل 2 / 78، 145، والدسوقي 3 / 54.
(2) الفروق للقرافي 2 / 148 الفرق 93، والذخيرة 1 / 133.(8/109)
الْبَيْعِ، وَمَنْ آجَرَ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَعَلَّمَ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ فِي الإِْجَارَةِ، وَمَنْ صَلَّى وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَعَلَّمَ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الصَّلاَةِ، وَهَكَذَا فِي كُل مَا يُرِيدُ الإِْقْدَامَ عَلَيْهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} (1) فَلاَ يَجُوزُ الشُّرُوعُ فِي شَيْءٍ حَتَّى يَعْلَمَ حُكْمَهُ، فَيَكُونُ طَلَبُ الْعِلْمِ وَاجِبًا فِي كُل مَسْأَلَةٍ، وَتَرْكُ التَّعَلُّمِ مَعْصِيَةٌ يُؤَاخَذُ بِهَا.
أَمَّا الْمُؤَاخَذَةُ بِالنِّسْبَةِ لِلتَّصَرُّفِ الَّذِي وَقَعَ بَاطِلاً مَعَ الْجَهْل، فَقَدْ ذَكَرَ الْقَرَافِيُّ فِي الْفُرُوقِ: أَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ قَدْ تَسَامَحَ فِي جَهَالاَتٍ فِي الشَّرِيعَةِ، فَعَفَا عَنْ مُرْتَكِبِهَا، وَأَخَذَ بِجَهَالاَتٍ، فَلَمْ يَعْفُ عَنْ مُرْتَكِبِهَا. (2) وَانْظُرْ لِلتَّفْصِيل مُصْطَلَحَ (جَهْلٌ، نِسْيَانٌ) .
الإِْنْكَارُ عَلَى مَنْ فَعَل الْبَاطِل:
9 - إِنْ كَانَ الْفِعْل مُتَّفَقًا عَلَى بُطْلاَنِهِ، فَإِنْكَارُهُ وَاجِبٌ عَلَى مُسْلِمٍ. أَمَّا إِنْ كَانَ مُخْتَلَفًا فِيهِ، فَلاَ إِنْكَارَ فِيهِ.
قَال الزَّرْكَشِيُّ: الإِْنْكَارُ مِنَ الْمُنْكِرِ إِنَّمَا يَكُونُ فِيمَا اجْتُمِعَ عَلَيْهِ، فَأَمَّا الْمُخْتَلَفُ فِيهِ فَلاَ إِنْكَارَ فِيهِ؛ لأَِنَّ كُل مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، أَوِ الْمُصِيبُ وَاحِدٌ
__________
(1) سورة الإسراء / 36.
(2) الفروق للقرافي 2 / 149، 150، 151، والمنثور 2 / 15، 3 / 218، 315، والأشباه لابن نجيم ص 302، والأشباه للسيوطي ص 207، 220 ط عيسى الحلبي.(8/109)
وَلاَ نَعْلَمُهُ، وَلَمْ يَزَل الْخِلاَفُ بَيْنَ السَّلَفِ فِي الْفُرُوعِ، وَلاَ يُنْكِرُ أَحَدٌ عَلَى غَيْرِهِ أَمْرًا مُجْتَهَدًا فِيهِ، وَإِنَّمَا يُنْكِرُونَ مَا خَالَفَ نَصًّا، أَوْ إِجْمَاعًا قَطْعِيًّا أَوْ قِيَاسًا جَلِيًّا، وَهَذَا إِذَا كَانَ الْفَاعِل لاَ يَرَى تَحْرِيمَهُ، فَإِنْ كَانَ يَرَاهُ فَالأَْصَحُّ الإِْنْكَارُ. (1)
وَفِي كُل ذَلِكَ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي (إِنْكَار، أَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ، اجْتِهَاد، تَقْلِيد، اخْتِلاَف، إِفْتَاء، رُخْصَة) .
الاِخْتِلاَفُ فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْبُطْلاَنِ وَالْفَسَادِ، وَسَبَبُ ذَلِكَ:
10 - يَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ لاَ فَرْقَ بَيْنَ الْبُطْلاَنِ وَالْفَسَادِ فِي التَّصَرُّفَاتِ، سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ فِي الْعِبَادَاتِ، كَالصَّلاَةِ مَعَ تَرْكِ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِهَا، أَوْ شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِهَا، أَمْ كَانَ ذَلِكَ فِي النِّكَاحِ، كَالْعَقْدِ عَلَى إِحْدَى الْمَحَارِمِ، أَمْ كَانَ فِي الْمُعَاوَضَاتِ، كَبَيْعِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ، وَالشِّرَاءِ بِالْخَمْرِ، وَالْبَيْعِ الْمُشْتَمِل عَلَى الرِّبَا، فَكُلٌّ مِنَ الْبُطْلاَنِ وَالْفَسَادِ يُوصَفُ بِهِ الْفِعْل الَّذِي يَقَعُ عَلَى خِلاَفِ مَا طَلَبَهُ الشَّارِعُ، وَمِنْ أَجْل هَذِهِ
__________
(1) المنثور في القواعد للزركشي2 / 127 - 128، 140، ورفع الملام في مجموع الفتاوى 19 / 278 وما بعدها، والذخيرة ص 133، 139 - 141، وفتح العلي المالك 1 / 60 - 65، والتقرير والتحبير 3 / 349، وإرشاد الفحول ص 271، والموافقات للشاطبي 4 / 133، 140 - 147.(8/110)
الْمُخَالَفَةِ لَمْ يَعْتَبِرْهُ، وَلَمْ يُرَتِّبْ عَلَيْهِ أَيَّ أَثَرٍ مِنَ الآْثَارِ الَّتِي تَتَرَتَّبُ عَلَى الْفِعْل الصَّحِيحِ.
فَالْجُمْهُورُ يُطْلِقُونَهُمَا، وَيُرِيدُونَ بِهِمَا مَعْنًى وَاحِدًا، وَهُوَ: وُقُوعُ الْفِعْل عَلَى خِلاَفِ مَا طَلَبَهُ الشَّارِعُ، سَوَاءٌ أَكَانَ هَذَا الْخِلاَفُ رَاجِعًا إِلَى فَوَاتِ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الْفِعْل، أَمْ رَاجِعًا إِلَى فَوَاتِ شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِهِ. (1)
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَإِنَّهُمْ - عَلَى الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ - يُوَافِقُونَ الْجُمْهُورَ فِي أَنَّ الْبُطْلاَنَ وَالْفَسَادَ مُتَرَادِفَانِ بِالنِّسْبَةِ لِلْعِبَادَاتِ. أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْمُعَامَلاَتِ، فَإِنَّهُمْ يُخَالِفُونَ الْجُمْهُورَ، فَيُفَرِّقُونَ بَيْنَهُمَا، وَيَجْعَلُونَ لِلْفَسَادِ مَعْنًى يُخَالِفُ مَعْنَى الْبُطْلاَنِ، وَيَقُومُ هَذَا التَّفْرِيقُ عَلَى أَسَاسِ التَّمْيِيزِ بَيْنَ أَصْل الْعَقْدِ وَوَصْفِهِ.
فَأَصْل الْعَقْدِ هُوَ أَرْكَانُهُ وَشَرَائِطُ انْعِقَادِهِ، مِنْ أَهْلِيَّةِ الْعَاقِدِ وَمَحَلِّيَّةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَغَيْرِهِمَا، كَالإِْيجَابِ وَالْقَبُول. . . وَهَكَذَا.
أَمَّا وَصْفُ الْعَقْدِ، فَهِيَ شُرُوطُ الصِّحَّةِ، وَهِيَ الْعَنَاصِرُ الْمُكَمِّلَةُ لِلْعَقْدِ، كَخُلُوِّهِ عَنِ الرِّبَا، وَعَنْ شَرْطٍ مِنَ الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ، وَعَنِ الْغَرَرِ وَالضَّرَرِ. وَعَلَى هَذَا الأَْسَاسِ يَقُول الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا حَصَل خَلَلٌ فِي أَصْل الْعَقْدِ - بِأَنْ تَخَلَّفَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِهِ، أَوْ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ انْعِقَادِهِ - كَانَ الْعَقْدُ
__________
(1) حاشية الدسوقي 3 / 54، ونهاية المحتاج 3 / 429، وشرح منتهى الإرادات 2 / 422.(8/110)
بَاطِلاً، وَلاَ وُجُودَ لَهُ، وَلاَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَيُّ أَثَرٍ دُنْيَوِيٍّ؛ لأَِنَّهُ لاَ وُجُودَ لِلتَّصَرُّفِ إِلاَّ مِنَ الأَْهْل فِي الْمَحَل، وَيَكُونُ الْعَقْدُ فَائِتَ الْمَعْنَى مِنْ كُل وَجْهٍ مَعَ وُجُودِ الصُّورَةِ فَحَسْبُ، إِمَّا لاِنْعِدَامِ مَحَل التَّصَرُّفِ كَبَيْعِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ، أَوْ لاِنْعِدَامِ أَهْلِيَّةِ الْمُتَصَرِّفِ كَالْبَيْعِ الصَّادِرِ مِنَ الْمَجْنُونِ أَوِ الصَّبِيِّ الَّذِي لاَ يَعْقِل.
أَمَّا إِذَا كَانَ أَصْل الْعَقْدِ سَالِمًا مِنَ الْخَلَل، وَحَصَل خَلَلٌ فِي الْوَصْفِ، بِأَنِ اشْتَمَل الْعَقْدُ عَلَى شَرْطٍ فَاسِدٍ، أَوْ رِبًا، فَإِنَّ الْعَقْدَ يَكُونُ فَاسِدًا لاَ بَاطِلاً، وَتَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ بَعْضُ الآْثَارِ دُونَ بَعْضٍ. (1)
11 - وَالسَّبَبُ فِي هَذَا الاِخْتِلاَفِ بَيْنَ الْجُمْهُورِ وَالْحَنَفِيَّةِ، يَرْجِعُ إِلَى اخْتِلاَفِ هَؤُلاَءِ الْفُقَهَاءِ فِي أَثَرِ النَّهْيِ إِذَا تَوَجَّهَ إِلَى وَصْفٍ مِنْ أَوْصَافِ الْعَمَل اللاَّزِمَةِ لَهُ، كَالنَّهْيِ عَنِ الْبَيْعِ الْمُشْتَمِل عَلَى الرِّبَا أَوْ شَرْطٍ فَاسِدٍ. فَالْجُمْهُورُ يَقُولُونَ: إِنَّهُ يَقْتَضِي بُطْلاَنَ كُلٍّ مِنَ الْوَصْفِ وَالأَْصْل، كَأَثَرِ النَّهْيِ الْمُتَوَجِّهِ إِلَى ذَاتِ الْفِعْل وَحَقِيقَتِهِ، وَيُطْلِقُونَ عَلَى الْفِعْل الْمَنْهِيِّ عَنْهُ لِوَصْفٍ لاَزِمٍ لَهُ اسْمَ الْفَاسِدِ أَوِ الْبَاطِل، وَلاَ يُرَتِّبُونَ عَلَيْهِ أَيَّ أَثَرٍ مِنَ الآْثَارِ
__________
(1) الأشباه لابن نجيم 337، ابن عابدين 4 / 99، وبدائع الصنائع 5 / 299، وما بعدها، والزيلعي 4 / 63، وكشف الأسرار 1 / 259.(8/111)
الْمَقْصُودَةِ مِنْهُ، وَلِهَذَا كَانَ الْبَيْعُ الْمُشْتَمِل عَلَى الرِّبَا، أَوْ عَلَى شَرْطٍ فَاسِدٍ، أَوْ نَحْوِ هَذَا مِنْ قَبِيل الْبَاطِل عِنْدَهُمْ أَوِ الْفَاسِدِ.
وَالْحَنَفِيَّةُ يَقُولُونَ: إِنَّهُ يَقْتَضِي بُطْلاَنَ الْوَصْفِ فَقَطْ، أَمَّا أَصْل الْعَمَل فَهُوَ بَاقٍ عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهِ بِخِلاَفِ النَّهْيِ الْمُتَوَجِّهِ إِلَى ذَاتِ الْفِعْل وَحَقِيقَتِهِ، وَيُطْلِقُونَ عَلَى الْفِعْل الْمَنْهِيِّ عَنْهُ لِوَصْفٍ لاَزِمٍ لَهُ اسْمَ الْفَاسِدِ لاَ الْبَاطِل، وَيُرَتِّبُونَ عَلَيْهِ بَعْضَ الآْثَارِ دُونَ بَعْضٍ، وَلِهَذَا كَانَ الْبَيْعُ الْمُشْتَمِل عَلَى الرِّبَا، أَوْ عَلَى شَرْطٍ فَاسِدٍ وَنَحْوِهِمَا مِنْ قَبِيل الْفَاسِدِ عِنْدَهُمْ، لاَ مِنْ قَبِيل الْبَاطِل.
12 - وَقَدِ اسْتَدَل كُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بِأَدِلَّةٍ كَثِيرَةٍ، أَهَمُّهَا مَا يَأْتِي:
أَمَّا الْجُمْهُورُ فَقَدِ اسْتَدَلُّوا بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ (1) فَإِنَّهُ يَدُل عَلَى أَنَّ الْعَمَل مَتَى خَالَفَ أَمْرَ الشَّارِعِ صَارَ غَيْرَ مُعْتَبَرٍ فِي نَظَرِهِ، فَلاَ تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الأَْحْكَامُ الَّتِي يَقْصِدُهَا مِنْهُ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْمُخَالَفَةُ رَاجِعَةً إِلَى ذَاتِ الْعَمَل وَحَقِيقَتِهِ، أَمْ إِلَى وَصْفٍ مِنَ الأَْوْصَافِ اللاَّزِمَةِ لَهُ.
وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَإِنَّهُمُ اسْتَنَدُوا إِلَى أَنَّ الشَّارِعَ قَدْ وَضَعَ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلاَتِ أَسْبَابًا لأَِحْكَامٍ
__________
(1) حديث: " من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد ". أخرجه البخاري (الفتح 5 / 301 ـ ط السلفية) ومسلم (3 / 1343 ـ ط الحلبي) .(8/111)
تَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا، فَإِذَا نَهَى الشَّارِعُ عَنْ شَيْءٍ مِنْهَا لِوَصْفٍ مِنَ الأَْوْصَافِ اللاَّزِمَةِ لَهُ، كَانَ النَّهْيُ مُقْتَضِيًا بُطْلاَنَ هَذَا الْوَصْفِ فَقَطْ؛ لأَِنَّ النَّهْيَ مُتَوَجِّهٌ إِلَيْهِ، فَيَقْتَصِرُ أَثَرُهُ عَلَيْهِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ وُجُودُ هَذَا الْوَصْفِ مُخِلًّا بِحَقِيقَةِ التَّصَرُّفِ الْمَوْصُوفِ بِهِ، بَقِيَتْ حَقِيقَتُهُ قَائِمَةً، وَحِينَئِذٍ يَجِبُ أَنْ يَثْبُتَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا مُقْتَضَاهُ. فَإِذَا كَانَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ بَيْعًا مَثَلاً، وَوُجِدَتْ حَقِيقَتُهُ بِوُجُودِ رُكْنِهِ وَمَحَلِّهِ، ثَبَتَ الْمِلْكُ بِهِ نَظَرًا لِوُجُودِ حَقِيقَتِهِ، وَوَجَبَ فَسْخُهُ نَظَرًا لِوُجُودِ الْوَصْفِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَبِذَلِكَ يُمْكِنُ مُرَاعَاةُ الْجَانِبَيْنِ، وَإِعْطَاءُ كُلٍّ مِنْهَا حُكْمَهُ اللاَّئِقَ بِهِ. إِلاَّ أَنَّ الْعِبَادَاتِ لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهَا الاِمْتِثَال وَالطَّاعَةَ، وَلاَ يَتَحَقَّقُ هَذَا إِلاَّ إِذَا لَمْ تَحْصُل فِيهَا مُخَالَفَةٌ مَا، لاَ فِي الأَْصْل وَلاَ فِي الْوَصْفِ، كَانَتْ مُخَالَفَةُ أَمْرِ الشَّارِعِ فِيهَا مُقْتَضِيَةً لِلْفَسَادِ وَالْبُطْلاَنِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ هَذِهِ الْمُخَالَفَةُ رَاجِعَةً إِلَى ذَاتِ الْعِبَادَةِ، أَمْ إِلَى صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهَا اللاَّزِمَةِ. (1)
بَقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ نَذْكُرَ أَنَّ الْجُمْهُورَ وَإِنْ كَانُوا لاَ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْفَاسِدِ وَالْبَاطِل - عَلَى مَا جَاءَ فِي قَوَاعِدِهِمُ الْعَامَّةِ - إِلاَّ أَنَّهُ يَتَبَيَّنُ وُجُودُ الْخِلاَفِ فِي
__________
(1) جمع الجوامع 1 / 105، المستصفى للغزالي 2 / 26، 27، وروضة الناظر ص 113، والمنثور في القواعد 3 / 313، وكشف الأسرار 1 / 258، 259، والتلويح على التوضيح 1 / 216 وما بعدها، وأصول السرخسي 1 / 85، وما بعدها ومسلم الثبوت وشرح فواتح الرحموت1 / 403.(8/112)
كَثِيرٍ مِنْ أَبْوَابِ الْفِقْهِ، كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ نُصُوصِهِمْ، غَيْرَ أَنَّهُمُ اعْتَبَرُوا ذَلِكَ اسْتِثْنَاءً مِنَ الْقَاعِدَةِ الْعَامَّةِ كَمَا يَقُول الشَّافِعِيَّةُ، أَوْ لِلتَّفْرِقَةِ فِي مَسَائِل الدَّلِيل كَمَا يَقُول الْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي كُل بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْفِقْهِ يُنْظَرُ فِي مَوَاضِعِهِ.
تَجَزُّؤُ الْبُطْلاَنِ:
13 - الْمُرَادُ بِتَجَزُّؤِ الْبُطْلاَنِ: أَنْ يَشْمَل التَّصَرُّفَ عَلَى مَا يَجُوزُ وَمَا لاَ يَجُوزُ، فَيَكُونُ فِي شِقٍّ مِنْهُ صَحِيحًا، وَفِي الشِّقِّ الآْخَرِ بَاطِلاً.
وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ مَا يُسَمَّى بِتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. وَهِيَ الْجَمْعُ بَيْنَ مَا يَجُوزُ وَمَا لاَ يَجُوزُ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ.
وَأَهَمُّ الصُّوَرِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ مَا جَاءَ فِي الْبَيْعِ وَهِيَ.
14 - عَقْدُ الْبَيْعِ إِذَا كَانَ فِي شِقٍّ مِنْهُ صَحِيحًا، وَفِي الشِّقِّ الآْخَرِ بَاطِلاً، كَبَيْعِ الْعَصِيرِ وَالْخَمْرِ صَفْقَةً وَاحِدَةً، وَكَذَلِكَ بَيْعُ الْمُذَكَّاةِ وَالْمَيْتَةِ، فَالصَّفْقَةُ كُلُّهَا بَاطِلَةٌ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ - عَدَا ابْنِ الْقَصَّارِ مِنْهُمْ - وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيَّةِ (وَادَّعَى فِي الْمُهِمَّاتِ أَنَّهُ الْمَذْهَبُ) ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ.
وَذَلِكَ لأَِنَّهُ مَتَى بَطَل الْعَقْدُ فِي الْبَعْضِ بَطَل فِي الْكُل؛ لأَِنَّ الصَّفْقَةَ غَيْرُ مُتَجَزِّئَةٍ، أَوْ لِتَغْلِيبِ الْحَرَامِ عَلَى الْحَلاَل عِنْدَ اجْتِمَاعِهِمَا، أَوْ لِجَهَالَةِ الثَّمَنِ.(8/112)
وَالْقَوْل الآْخَرُ لِلشَّافِعِيَّةِ - قَالُوا: وَهُوَ الأَْظْهَرُ -
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ، وَقَوْل ابْنِ الْقَصَّارِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّهُ يَجُوزُ تَجْزِئَةُ الصَّفْقَةِ، فَيَصِحُّ الْبَيْعُ فِيمَا يَجُوزُ، وَيَبْطُل فِيمَا لاَ يَجُوزُ؛ لأَِنَّ الإِْبْطَال فِي الْكُل لِبُطْلاَنِ أَحَدِهِمَا لَيْسَ بِأَوْلَى مِنْ تَصْحِيحِ الْكُل لِصِحَّةِ أَحَدِهِمَا، فَيَبْقَيَانِ عَلَى حُكْمِهِمَا، وَيَصِحُّ فِيمَا يَجُوزُ وَيَبْطُل فِيمَا لاَ يَجُوزُ.
وَقَال أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إِنْ عُيِّنَ ابْتِدَاءً لِكُل شِقٍّ حِصَّتُهُ مِنَ الثَّمَنِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ نُعْتَبَرُ الصَّفْقَةُ صَفْقَتَيْنِ مُسْتَقِلَّتَيْنِ، تَجُوزُ فِيهِمَا التَّجْزِئَةُ، فَتَصِحُّ وَاحِدَةٌ، وَتَبْطُل الأُْخْرَى.
وَإِذَا كَانَ الْعَقْدُ فِي شِقٍّ مِنْهُ صَحِيحًا، وَفِي الشِّقِّ الآْخَرِ مَوْقُوفًا، كَالْجَمْعِ بَيْنَ مَا يَمْلِكُهُ وَمَا يَمْلِكُهُ غَيْرُهُ، وَبَيْعِهِمَا صَفْقَةً وَاحِدَةً، فَإِنَّ الْبَيْعَ يَصِحُّ فِيهِمَا وَيَلْزَمُ فِي مِلْكِهِ، وَيَقِفُ اللاَّزِمُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ عَلَى إِجَازَتِهِ، وَهَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ عَدَا زُفَرَ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى قَاعِدَةِ عَدَمِ جَوَازِ الْبَيْعِ بِالْحِصَّةِ ابْتِدَاءً، وَجَوَازِ ذَلِكَ بَقَاءً. وَعِنْدَ زُفَرَ: يَبْطُل الْجَمِيعُ؛ لأَِنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ عَلَى الْمَجْمُوعِ، وَالْمَجْمُوعُ لاَ يَتَجَزَّأُ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ يَجْرِي الْخِلاَفُ السَّابِقُ؛ لأَِنَّ الْعَقْدَ الْمَوْقُوفَ عِنْدَهُمْ بَاطِلٌ فِي الأَْصَحِّ.
15 - كَذَلِكَ تَجْرِي التَّجْزِئَةُ فِي النِّكَاحِ، فَلَوْ جُمِعَ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ بَيْنَ مَنْ تَحِل وَمَنْ لاَ تَحِل، كَمُسْلِمَةٍ وَوَثَنِيَّةٍ، صَحَّ نِكَاحُ الْحَلاَل اتِّفَاقًا، وَبَطَل فِي مَنْ لاَ تَحِل.(8/113)
أَمَّا لَوْ جُمِعَ بَيْنَ خَمْسٍ، أَوْ بَيْنَ أُخْتَيْنِ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ فَإِنَّهُ يَبْطُل فِي الْكُل؛ لأَِنَّ الْمُحَرَّمَ الْجَمْعُ، لاَ إِحْدَاهُنَّ أَوْ إِحْدَاهُمَا فَقَطْ، وَإِنَّمَا يَجْرِي خِلاَفُ الْفُقَهَاءِ فِيمَا لَوْ جُمِعَ بَيْنَ أَمَةٍ وَحُرَّةٍ مَعًا فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَبْطُل فِيهِمَا، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ صَحَّ نِكَاحُ الْحُرَّةِ، وَبَطَل نِكَاحُ الأَْمَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَهُوَ أَظْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. (1)
وَالْحُكْمُ فِي سَائِرِ عُقُودِ الْمُعَامَلاَتِ كَالإِْجَارَةِ وَغَيْرِهَا كَالْحُكْمِ فِي الْبَيْعِ فِي الْجُمْلَةِ، وَقَدْ عَقَدَ الْفُقَهَاءُ فَصْلاً لِتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهَا مِنْ تَصَرُّفَاتٍ. انْظُرْ (تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ) .
بُطْلاَنُ الشَّيْءِ يَسْتَلْزِمُ بُطْلاَنَ مَا فِي ضِمْنِهِ وَمَا بُنِيَ عَلَيْهِ:
16 - مِنَ الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ الَّتِي ذَكَرَهَا ابْنُ نُجَيْمٍ فِي الأَْشْبَاهِ: (2) إِذَا بَطَل الشَّيْءُ بَطَل مَا فِي ضِمْنِهِ، ثُمَّ قَال: وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِمْ: إِذَا بَطَل الْمُتَضَمِّنُ (بِالْكَسْرِ) بَطَل الْمُتَضَمَّنُ (بِالْفَتْحِ)
__________
(1) الأشباه لابن نجيم 113، 114، والبدائع 5 / 145، وابن عابدين 4 / 104، والاختيار 2 / 22، وجواهر الإكليل 2 / 6، والقوانين الفقهية ص 172، والدسوقي 2 / 266، والأشباه للسيوطي / 120، 121، 122، والمنثور في القواعد1 / 382، ونهاية المحتاج 3 / 461، وروضة الطالبين 3 / 410، والمغني 4 / 261، 6 / 583، ومنتهى الإرادات 2 / 153.
(2) الأشباه والنظائر لابن نجيم / 391 نشر دار ومكتبة الهلال بيروت.(8/113)
وَأَوْرَدَ لِذَلِكَ عِدَّةَ أَمْثِلَةٍ مِنْهَا:
أ - لَوْ قَال: بِعْتُكَ دَمِي بِأَلْفٍ، فَقَتَلَهُ وَجَبَ الْقِصَاصُ، وَلاَ يُعْتَبَرُ مَا فِي ضِمْنِهِ مِنَ الإِْذْنِ بِقَتْلِهِ.
ب - التَّعَاطِي ضِمْنَ عَقْدٍ فَاسِدٍ أَوْ بَاطِلٍ لاَ يَنْعَقِدُ بِهِ الْبَيْعُ. (1)
ج - لَوْ أَبْرَأَهُ أَوْ أَقَرَّ لَهُ ضِمْنَ عَقْدٍ فَاسِدٍ فَسَدَ الإِْبْرَاءُ.
د - لَوْ جَدَّدَ النِّكَاحَ لِمَنْكُوحَتِهِ بِمَهْرٍ لَمْ يَلْزَمْهُ؛ لأَِنَّ النِّكَاحَ الثَّانِي لَمْ يَصِحَّ، فَلَمْ يَلْزَمْ مَا فِي ضِمْنِهِ مِنَ الْمَهْرِ.
إِلاَّ أَنَّ أَغْلَبَ كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ تُجْرِي الْقَاعِدَةَ عَلَى الْفَسَادِ لاَ عَلَى الْبُطْلاَنِ؛ لأَِنَّ الْبَاطِل مَعْدُومٌ شَرْعًا أَصْلاً وَوَصْفًا، وَالْمَعْدُومُ لاَ يَتَضَمَّنُ شَيْئًا، أَمَّا الْفَاسِدُ فَهُوَ فَائِتُ الْوَصْفِ دُونَ الأَْصْل، فَلَمْ يَكُنْ مَعْدُومًا بِأَصْلِهِ فَصَحَّ أَنْ يَكُونَ مُتَضَمَّنًا، فَإِنْ فَسَدَ الْمُتَضَمِّنُ فَسَدَ الْمُتَضَمَّنُ. (2)
17 - هَذَا وَالْمَذَاهِبُ الأُْخْرَى - وَهِيَ الَّتِي لاَ
__________
(1) المقصود بالتعاطي هنا تسليم المعقود عليه، فلو اتفق شخص مع صانع على أن يصنع له شيئا، ولم يحدد أجلا للتسليم، كان العقد فاسدا، ومن ثم فلا يترتب على التسليم بعد ذلك أثرـ يراجع شرح الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 592.
(2) حاشية ابن عابدين 4 / 39، 40، وحاشية الشلبي على الزيلعي 4 / 12، وفتح القدير وهوامشه 5 / 490 نشر دار إحياء التراث العربي، والبحر الرائق 5 / 327، والاختيار 2 / 7، والبدائع 5 / 173.(8/114)
تُفَرِّقُ بَيْنَ الْبُطْلاَنِ وَالْفَسَادِ - تَسِيرُ عَلَى هَذَا النَّهْجِ، وَاسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ صُوَرًا. فَفِي كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ: الْفَاسِدُ مِنَ الْعُقُودِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِلإِْذْنِ، إِذَا صَدَرَتْ مِنَ الْمَأْذُونِ، صَحَّتْ، كَمَا فِي الْوَكَالَةِ الْمُعَلَّقَةِ إِذَا أَفْسَدْنَاهَا فَتَصَرُّفُ الْوَكِيل، صَحَّ لِوُجُودِ الإِْذْنِ، وَالْوَكِيل بِالْبَيْعِ مَعَ شَرْطِ عِوَضٍ فَاسِدٍ لِلْوَكِيل، فَالإِْذْنُ صَحِيحٌ وَالْعِوَضُ فَاسِدٌ. (1)
وَفِي الْقَوَاعِدِ لاِبْنِ رَجَبٍ الْحَنْبَلِيِّ: (2) الْعُقُودُ الْجَائِزَةُ كَالشَّرِكَةِ وَالْمُضَارَبَةِ وَالْوَكَالَةِ لاَ يَمْنَعُ فَسَادُهَا نُفُوذَ الْمُتَصَرِّفِ فِيهَا بِالإِْذْنِ. ثُمَّ يُفَرِّقُ بَيْنَ الإِْذْنِ فِي الْبَيْعِ - وَهُوَ عَقْدُ تَمْلِيكٍ - وَبَيْنَ الإِْذْنِ فِي الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ، فَيَقُول: الْبَيْعُ وُضِعَ لِنَقْل الْمِلْكِ لاَ لِلإِْذْنِ، وَصِحَّةُ التَّصَرُّفِ فِيهِ تُسْتَفَادُ مِنَ الْمِلْكِ لاَ مِنَ الإِْذْنِ، بِخِلاَفِ الْوَكَالَةِ فَإِنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لِلإِْذْنِ.
وَيَقُول ابْنُ قُدَامَةَ: (3) إِذَا تَصَرَّفَ الْعَامِل فِي الْمُضَارَبَةِ الْفَاسِدَةِ نَفَذَ تَصَرُّفُهُ؛ لأَِنَّهُ أُذِنَ لَهُ فِيهِ، فَإِذَا بَطَل الْعَقْدُ بَقِيَ الإِْذْنُ، فَمَلَكَ بِهِ التَّصَرُّفَ.
وَقَوَاعِدُ الْمَالِكِيَّةِ لاَ تَأْبَى ذَلِكَ. (4)
__________
(1) المنثور في القواعد 3 / 15، 2 / 409، ونهاية المحتاج 5 / 228، 229، والجمل 3 / 517، الأشباه والنظائر للسيوطي ص 119 ط مصطفى الحلبي.
(2) القواعد لابن رجب / 64، 65، 66.
(3) المغني 5 / 72.
(4) الكافي لابن عبد البر 2 / 777.(8/114)
هَذِهِ هِيَ قَاعِدَةُ التَّضَمُّنِ. لَكِنْ هُنَاكَ قَاعِدَةٌ أُخْرَى شَبِيهَةٌ بِهَا، وَهِيَ: إِذَا سَقَطَ الأَْصْل سَقَطَ الْفَرْعُ، وَمِنْهَا: التَّابِعُ يَسْقُطُ بِسُقُوطِ الْمَتْبُوعِ، وَقَدْ مَثَّل الْفُقَهَاءُ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِمْ: لَوْ أَبْرَأَ الدَّائِنُ الْمَدِينَ مِنَ الدَّيْنِ، فَكَمَا أَنَّهُ يَبْرَأُ الْمَدِينُ يَبْرَأُ مِنْهُ الْكَفِيل أَيْضًا؛ لأَِنَّ الْمَدِينَ فِي الدَّيْنِ أَصْلٌ، وَالْكَفِيل فَرْعٌ. (1)
تَصْحِيحُ الْعَقْدِ الْبَاطِل:
18 - تَصْحِيحُ الْعَقْدِ الْبَاطِل يُمْكِنُ تَصْوِيرُهُ بِصُورَتَيْنِ:
الأُْولَى: إِذَا ارْتَفَعَ مَا يُبْطِل الْعَقْدَ فَهَل يَنْقَلِبُ صَحِيحًا
الثَّانِيَةُ: أَنْ تُؤَدِّيَ صِيغَةُ الْعَقْدِ الْبَاطِل إِلَى مَعْنَى عَقْدٍ آخَرَ صَحِيحٍ.
19 - أَمَّا الصُّورَةُ الأُْولَى: فَإِنَّ الْحَنَفِيَّةَ وَالشَّافِعِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ لاَ يَصِيرُ الْعَقْدُ الْبَاطِل صَحِيحًا عِنْدَهُمْ إِذَا ارْتَفَعَ مَا يُبْطِلُهُ. وَعَلَى ذَلِكَ: لاَ يَجُوزُ بَيْعُ الدَّقِيقِ فِي الْحِنْطَةِ، وَالزَّيْتِ فِي الزَّيْتُونِ، وَاللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ، وَالْبَذْرِ فِي الْبِطِّيخِ، وَالنَّوَى فِي التَّمْرِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يُعْلَمُ وُجُودُهُ فَهُوَ كَالْمَعْدُومِ، حَتَّى لَوْ سُلِّمَ اللَّبَنُ أَوِ الدَّقِيقُ أَوِ الْعَصِيرُ لاَ يَنْقَلِبُ صَحِيحًا؛ لأَِنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ
__________
(1) أشباه ابن نجيم / 121، ودرر الحكام 1 / 85 م 50، وأشباه السيوطي / 132 ط عيسى الحلبي، الدسوقي 3 / 336، وكشاف القناع 3 / 387.(8/115)
كَالْمَعْدُومِ حَالَةَ الْعَقْدِ، وَلاَ يُتَصَوَّرُ انْعِقَادُ الْعَقْدِ بِدُونِهِ، فَلَمْ يَنْعَقِدْ أَصْلاً، فَلاَ يَحْتَمِل التَّصْحِيحَ. (1)
أَمَّا الْجُمْهُورُ (وَهُمْ لاَ يُفَرِّقُونَ فِي الْجُمْلَةِ بَيْنَ الْفَاسِدِ وَالْبَاطِل) فَالْحُكْمُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ كَالْحَنَفِيَّةِ، لاَ يَنْقَلِبُ الْعَقْدُ الْبَاطِل صَحِيحًا بِرَفْعِ الْمُفْسِدِ.
فَفِي كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ: لَوْ حَذَفَ الْعَاقِدَانِ الْمُفْسِدَ لِلْعَقْدِ، وَلَوْ فِي مَجْلِسِ الْخِيَارِ، لَمْ يَنْقَلِبِ الْعَقْدُ صَحِيحًا؛ إِذْ لاَ عِبْرَةَ بِالْفَاسِدِ. (2)
وَفِي مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ: الْفَاسِدُ لاَ يَنْقَلِبُ صَحِيحًا.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ: فَإِنَّهُمْ يُوَافِقُونَ الْجُمْهُورَ فِي هَذَا الْحُكْمِ، إِلاَّ فِي الْبَيْعِ بِشَرْطٍ لاَ يُؤَدِّي إِلَى الإِْخْلاَل بِشَيْءٍ مِنْ شُرُوطِ الصِّحَّةِ، فَإِنَّ الْعَقْدَ يَنْقَلِبُ صَحِيحًا إِذَا أُسْقِطَ الشَّرْطُ، وَذَلِكَ كَبَيْعِ الثُّنْيَا، وَهُوَ أَنْ يَبْتَاعَ السِّلْعَةَ عَلَى أَنَّ الْبَائِعَ مَتَى رَدَّ الثَّمَنَ فَالسِّلْعَةُ لَهُ، وَكَالْبَيْعِ بِشَرْطِ السَّلَفِ، فَإِنَّ الْبَيْعَ عِنْدَهُمْ يَكُونُ فَاسِدًا، لَكِنَّهُ يَنْقَلِبُ صَحِيحًا إِنْ حُذِفَ الشَّرْطُ. (3)
__________
(1) ابن عابدين 4 / 108، 113، والزيلعي 4 / 74ـ 50، وفتح القدير 6 / 52 نشر دار إحياء التراث، والبدائع 5 / 139.
(2) نهاية المحتاج 3 / 434، 435، وروضة الطالبين 3 / 410، ومغني المحتاج 2 / 40، وحاشية الجمل 3 / 84، 85.
(3) المغني 4 / 259 ط الرياض، وشرح منتهى الإرادات 2 / 250، ومنح الجليل 2 / 570، 571، 572، وينظر مع ذلك الموافقات للشاطبي 1 / 294، 295.(8/115)
أَمَّا الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ تَحَوُّل الْعَقْدِ الْبَاطِل إِلَى عَقْدٍ آخَرَ صَحِيحٍ، فَيَكَادُ الْفُقَهَاءُ يَتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ مَتَى أَمْكَنَ تَحْوِيل الْعَقْدِ الْبَاطِل إِلَى عَقْدٍ آخَرَ صَحِيحٍ - لِتَوَفُّرِ أَسْبَابِ الصِّحَّةِ فِيهِ - صَحَّ ذَلِكَ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الصِّحَّةُ عَنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ، أَمْ عَنْ طَرِيقِ اللَّفْظِ عِنْدَ الْبَعْضِ الآْخَرِ؛ نَظَرًا لاِخْتِلاَفِهِمْ فِي قَاعِدَةِ: هَل الْعِبْرَةُ بِصِيَغِ الْعُقُودِ أَوْ مَعَانِيهَا. (1)
21 - وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ مَا يَأْتِي:
الْمُضَارَبَةُ، وَهِيَ: أَنْ يَدْفَعَ شَخْصٌ إِلَى آخَرَ مَالَهُ لِيَتَّجِرَ فِيهِ، وَيَكُونَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا بِحَسَبِ مَا يَتَّفِقَانِ، وَيُسَمَّى الْقَائِمُ بِالتِّجَارَةِ مُضَارِبًا، فَلَوْ شَرَطَ فِي عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ الرِّبْحَ كُلَّهُ لِلْمُضَارِبِ لَمْ يَكُنْ مُضَارَبَةً، وَلَكِنْ يَكُونُ قَرْضًا، تَصْحِيحًا لِلْعَقْدِ؛ لأَِنَّهُ لَوْ بَقِيَ مُضَارَبَةً لَكَانَ بَاطِلاً؛ لأَِنَّ الْمُضَارِبَ لاَ يَمْلِكُ رَأْسَ مَال الْمُضَارَبَةِ حَتَّى يَكُونَ الرِّبْحُ كُلُّهُ لَهُ، فَجُعِل قَرْضًا؛ نَظَرًا لِلْمَعْنَى، لِيَصِحَّ الْعَقْدُ.
وَكَذَلِكَ لَوْ شَرَطَ الرِّبْحَ كُلَّهُ لِرَبِّ الْمَال، اعْتُبِرَ
__________
(1) درر الحكام شرح مجلة الأحكام 1 / 18، 19مادة (3) ، والأشباه لابن نجيم ص 207، والأشباه للسيوطي ص 184، وما بعدها ط عيسى الحلبي، والمنثور في القواعد 2 / 371، وإعلام الموقعين 3 / 95 نشر دار الجيل، والقواعد لابن رجب ص 49، والاختيار 3 / 49.(8/116)
الْعَقْدُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ إِبْضَاعًا، تَصْحِيحًا لِلْعَقْدِ، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَكُونُ الْمُضَارِبُ وَكِيلاً مُتَبَرِّعًا لِصَاحِبِ الْمَال. نَصَّ عَلَى ذَلِكَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ.
وَبِهِ قَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَصَحَّحُوا الْوَكَالَةَ إِذَا عُقِدَتْ بِلَفْظِ الْحَوَالَةِ، وَالْحَوَالَةَ إِذَا عُقِدَتْ بِلَفْظِ الْوَكَالَةِ؛ لاِشْتِرَاكِهِمَا فِي الْمَعْنَى، حَيْثُ قَالُوا: إِنْ أَحَال مَنْ لَيْسَ عَلَيْهِ دَيْنٌ رَجُلاً عَلَى رَجُلٍ آخَرَ مَدِينٍ لَهُ، لَمْ يَكُنْ هَذَا التَّصَرُّفُ حَوَالَةً، بَل وَكَالَةً تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَحْكَامُهَا، وَإِنْ أَحَال مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ صَاحِبَ الدَّيْنِ عَلَى رَجُلٍ لَيْسَ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ، لَمْ يُجْعَل هَذَا التَّصَرُّفُ حَوَالَةً، بَل اقْتِرَاضًا،
وَإِنْ كَانَ الَّذِي أَحَالَهُ لاَ دَيْنَ لَهُ عَلَيْهِ اعْتُبِرَ وَكَالَةً فِي الاِقْتِرَاضِ.
وَفِي الْفِقْهِ الشَّافِعِيِّ: إِذَا وَهَبَ شَخْصٌ لآِخَرَ شَيْئًا بِشَرْطِ الثَّوَابِ، اعْتُبِرَ هَذَا التَّصَرُّفُ بَيْعًا بِالثَّمَنِ لاَ هِبَةً، فِي أَصَحِّ الأَْقْوَال. (1)
الْبَاطِل لاَ يَصِيرُ صَحِيحًا بِتَقَادُمِ الزَّمَانِ أَوْ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ:
22 - التَّصَرُّفَاتُ الْبَاطِلَةُ لاَ تَنْقَلِبُ صَحِيحَةً بِتَقَادُمِ الزَّمَانِ، وَلَوْ حَكَمَ حَاكِمٌ بِنَفَاذِ التَّصَرُّفَاتِ
__________
(1) الاختيار 3 / 20، الشرح الصغير، وبلغة السالك 2 / 249، (طبع الحلبي) ، والمغني 4 / 57، 5 / 35، ومنتهى الإرادات 2 / 328، 259، والمنثور في القواعد2 / 373، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 184.(8/116)
الْبَاطِلَةِ، فَإِنَّ ثُبُوتَ الْحَقِّ وَعَوْدَتِهِ يُعْتَبَرُ قَائِمًا فِي نَفْسِ الأَْمْرِ، وَلاَ يَحِل لأَِحَدٍ الاِنْتِفَاعُ بِحَقِّ غَيْرِهِ نَتِيجَةَ تَصَرُّفٍ بَاطِلٍ مَا دَامَ يَعْلَمُ بِذَلِكَ. فَإِنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ لاَ يُحِل حَرَامًا وَلاَ يُحَرِّمُ حَلاَلاً.
هَذَا هُوَ الأَْصْل، وَالْقُضَاةُ إِنَّمَا يَقْضُونَ بِحَسَبِ مَا يَظْهَرُ لَهُمْ مِنْ أَدِلَّةٍ وَحُجَجٍ يَبْنُونَ عَلَيْهَا أَحْكَامَهُمْ، وَقَدْ تَكُونُ غَيْرَ صَحِيحَةٍ فِي نَفْسِ الأَْمْرِ. (1)
وَلِذَلِكَ يَقُول النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ عَنْهُ: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَل بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَأَقْضِيَ لَهُ بِمَا أَسْمَعُ، وَأَظُنُّهُ صَادِقًا، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ فَلاَ يَأْخُذْ مِنْهُ شَيْئًا، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ. (2)
23 - وَمُضِيِّ فَتْرَةٍ مِنَ الزَّمَنِ عَلَى أَيِّ تَصَرُّفٍ، مَعَ عَدَمِ تَقَدُّمِ أَحَدٍ إِلَى الْقَضَاءِ بِدَعْوَى بُطْلاَنِ هَذَا التَّصَرُّفِ، رُبَّمَا يَعْنِي صِحَّةَ هَذَا التَّصَرُّفِ أَوْ رِضَى صَاحِبِ الْحَقِّ بِهِ. وَمِنْ هُنَا نَشَأَ عَدَمُ سَمَاعِ الدَّعْوَى بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ، يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي تَحْدِيدِهَا بِحَسَبِ الأَْحْوَال، وَبِحَسَبِ الشَّيْءِ الْمُدَّعَى بِهِ، وَبِحَسَبِ الْقَرَابَةِ وَعَدَمِهَا، وَمُدَّةِ
__________
(1) التبصرة بهامش فتح العلي المالك 1 / 75، نشر دار المعرفة، والمهذب 2 / 343، والمغني 9 / 59.
(2) حديث: " إنكم تختصمون إلي، وإنما أنا بشر. . . " أخرجه البخاري (الفتح 13 / 157 ـ ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1337 ـ ط الحلبي) واللفظ للبخاري.(8/117)
الْحِيَازَةِ، لَكِنَّ مُضِيَّ الْمُدَّةِ الَّتِي تَمْنَعُ سَمَاعَ الدَّعْوَى لاَ أَثَرَ لَهُ فِي صِحَّةِ التَّصَرُّفِ، إِنْ كَانَ بَاطِلاً. يَقُول ابْنُ نُجَيْمٍ: (1) الْحَقُّ لاَ يَسْقُطُ بِتَقَادُمِ الزَّمَانِ، قَذْفًا أَوْ قِصَاصًا أَوْ لِعَانًا أَوْ حَقًّا لِلْعَبْدِ.
وَيَقُول: (2) يَنْفُذُ قَضَاءُ الْقَاضِي فِي الْمَسَائِل الْمُجْتَهَدِ فِيهَا، إِلاَّ فِي مَسَائِل مِنْهَا: لَوْ قَضَى بِبُطْلاَنِ الْحَقِّ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ، أَوْ بِصِحَّةِ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ، أَوْ بِسُقُوطِ الْمَهْرِ بِالتَّقَادُمِ.
وَفِي التَّكْمِلَةِ لاِبْنِ عَابِدِينَ: مِنَ الْقَضَاءِ الْبَاطِل: الْقَضَاءُ بِسُقُوطِ الْحَقِّ بِمُضِيِّ سِنِينَ. ثُمَّ يَقُول. عَدَمُ سَمَاعِ الدَّعْوَى بَعْدَ مُضِيِّ ثَلاَثِينَ سَنَةً، أَوْ بَعْدَ الاِطِّلاَعِ عَلَى التَّصَرُّفِ، لَيْسَ مَبْنِيًّا عَلَى بُطْلاَنِ الْحَقِّ فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا هُوَ مُجَرَّدُ مَنْعٍ لِلْقَضَاءِ عَنْ سَمَاعِ الدَّعْوَى، مَعَ بَقَاءِ الْحَقِّ لِصَاحِبِهِ، حَتَّى لَوْ أَقَرَّ بِهِ الْخَصْمُ يَلْزَمُهُ. (3)
وَفِي مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ: تُقْبَل الشَّهَادَةُ بِحَدٍّ قَدِيمٍ عَلَى الصَّحِيحِ؛ لأَِنَّهَا شَهَادَةٌ بِحَقٍّ، فَجَازَتْ مَعَ تَقَادُمِ الزَّمَانِ. (4)
وَالْمَالِكِيَّةُ - وَإِنْ كَانُوا يَشْتَرِطُونَ لِعَدَمِ سَمَاعِ الدَّعْوَى حِيَازَةَ الشَّيْءِ الْمُدَّعَى بِهِ مُدَّةً تَخْتَلِفُ بِحَسَبِهِ مِنْ عَقَارٍ وَغَيْرِهِ - إِلاَّ أَنَّ ذَلِكَ مُقَيَّدٌ بِكَوْنِ
__________
(1) الأشباه لابن نجيم ص 222.
(2) الأشباه لابن نجيم ص 232.
(3) التكملة لابن عابدين 1 / 346، 347.
(4) منتهى الإرادات 3 / 536.(8/117)
الْمُدَّعِي حَاضِرًا مُدَّةَ حِيَازَةِ الْغَيْرِ، وَيَرَاهُ يَقُومُ بِالْهَدْمِ وَالْبِنَاءِ وَالتَّصَرُّفِ وَهُوَ سَاكِتٌ. أَمَّا إِذَا كَانَ يُنَازِعُهُ فَإِنَّ الْحِيَازَةَ لاَ تُفِيدُ شَيْئًا مَهْمَا طَالَتِ الْمُدَّةُ، وَفِي فَتْحِ الْعَلِيِّ لِمَالِكٍ: (1) رَجُلٌ اسْتَوْلَى عَلَى أَرْضٍ بَعْدَ مَوْتِ أَهْلِهَا بِغَيْرِ حَقٍّ، مَعَ وُجُودِ وَرَثَتِهِمْ، وَبَنَاهَا وَنَازَعَهُ الْوَرَثَةُ، وَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى مَنْعِهِ لِكَوْنِهِ مِنْ رُؤَسَاءِ بَلْدَتِهِمْ، فَهَل لاَ تُعْتَبَرُ حِيَازَتُهُ وَلَوْ طَالَتْ مُدَّتُهَا؟ أُجِيبَ: نَعَمْ. لاَ تُعْتَبَرُ حِيَازَتُهُ وَلَوْ طَالَتْ مُدَّتُهَا. . . سَمِعَ يَحْيَى مِنِ ابْنِ الْقَاسِمِ: مَنْ عُرِفَ بِغَصْبِ أَمْوَال النَّاسِ لاَ يَنْتَفِعُ بِحِيَازَتِهِ مَال غَيْرِهِ فِي وَجْهِهِ، فَلاَ يُصَدَّقُ فِيمَا يَدَّعِيهِ مِنْ شِرَاءٍ أَوْ عَطِيَّةٍ، وَإِنْ طَال بِيَدِهِ أَعْوَامًا إِنْ أَقَرَّ بِأَصْل الْمِلْكِ لِمُدَّعِيهِ، أَوْ قَامَتْ لَهُ بِهِ بَيِّنَةٌ. قَال ابْنُ رُشْدٍ: هَذَا صَحِيحٌ لاَ خِلاَفَ فِيهِ؛ لأَِنَّ الْحِيَازَةَ لاَ تُوجِبُ الْمِلْكَ، وَإِنَّمَا هِيَ دَلِيلٌ عَلَيْهِ تُوجِبُ تَصْدِيقَ غَيْرِ الْغَاصِبِ فِيمَا ادَّعَاهُ مَنْ تَصِيرُ إِلَيْهِ؛ لأَِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَخْذُ مَال أَحَدٍ، وَهُوَ حَاضِرٌ لاَ يَطْلُبُهُ وَلاَ يَدَّعِيهِ، إِلاَّ وَقَدْ صَارَ إِلَى حَائِزَةٍ إِذَا حَازَهُ عَشَرَةَ أَعْوَامٍ وَنَحْوَهَا.
وَتُنْظَرُ تَفْصِيلاَتُ ذَلِكَ فِي (دَعْوَى. تَقَادُم. حِيَازَة) .
وَبِالنِّسْبَةِ لِلْعِبَادَاتِ: فَمِنَ الْمُقَرَّرِ أَنَّ مَنْ بَطَلَتْ عِبَادَتُهُ، فَإِنَّ ذِمَّتَهُ تَظَل مَشْغُولَةً بِهَا حَتَّى يَقْضِيَهَا.
__________
(1) فتح العلي المالك 2 / 321 نشر دار المعرفة.(8/118)
آثَارُ الْبُطْلاَنِ:
تَخْتَلِفُ آثَارُ الْبُطْلاَنِ بِالنِّسْبَةِ لِلتَّصَرُّفَاتِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
أَوَّلاً - بِالنِّسْبَةِ لِلْعِبَادَاتِ:
24 - بُطْلاَنُ الْعِبَادَاتِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ عِدَّةُ آثَارٍ مِنْهَا:
أ - اسْتِمْرَارُ انْشِغَال الذِّمَّةِ بِالْعِبَادَةِ (1) إِلَى أَنْ
- تُؤَدَّى إِنْ كَانَتِ الْعِبَادَةُ لَيْسَ لَهَا وَقْتٌ مُحَدَّدٌ كَالزَّكَاةِ، وَعَبَّرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ فِيهَا بِالإِْعَادَةِ (2)
- أَوْ تُقْضَى، إِنْ كَانَتِ الْعِبَادَةُ لاَ يَتَّسِعُ وَقْتُهَا لِمِثْلِهَا كَرَمَضَانَ.
- أَوْ تُعَادُ، إِنْ كَانَ وَقْتُهَا يَتَّسِعُ لِغَيْرِهَا مَعَهَا كَالصَّلاَةِ. فَإِنْ خَرَجَ الْوَقْتُ كَانَتْ قَضَاءً (3)
أَوْ يُؤْتَى بِالْبَدَل، كَالظُّهْرِ لِمَنْ بَطَلَتْ جُمُعَتُهُ. (4)
ب - الْعُقُوبَةُ الدُّنْيَوِيَّةُ فِي بَعْضِ الْعِبَادَاتِ كَالْكَفَّارَةِ عَلَى مَنْ تَعَمَّدَ الإِْفْطَارَ فِي رَمَضَانَ. (5)
__________
(1) دستور العلماء 1 / 251، وجمع الجوامع 1 / 105، وكشف الأسرار 1 / 258.
(2) البطلان في الزكاة مقصود به عدم الإجزاء، كعدم النية التي هي شرط فيها. فواتح الرحموت1 / 86، والمستصفى 1 / 94، 95، وبدائع الصنائع 2 / 40ـ 43، والهداية 1 / 114.
(3) التلويح 1 / 161، وما بعدها، وجمع الجوامع 1 / 109ـ 118، والبدخشي 1 / 64.
(4) المغني 2 / 332، وجواهر الإكليل 1 / 97.
(5) البدائع 2 / 98، 103، والفواكه الدواني 1 / 363، 365، والمهذب 1 / 190، ومنتهى الإردات 1 / 451(8/118)
ج - وُجُوبُ الاِنْقِطَاعِ عَنِ الْمُضِيِّ فِي الصَّلاَةِ إِذَا بَطَلَتْ لاَ فِي الصِّيَامِ وَالْحَجِّ؛ إِذْ يَجِبُ الإِْمْسَاكُ فِي الصَّوْمِ فِي رَمَضَانَ، وَالْمُضِيُّ فِي الْحَجِّ الْفَاسِدِ، مَعَ الْقَضَاءِ فِيهِمَا. (1)
د - حَقُّ اسْتِرْدَادِ الزَّكَاةِ إِذَا أُعْطِيَتْ لِغَيْرِ مُسْتَحِقٍّ. (2)
وَفِي كُل مَا سَبَقَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي أَبْوَابِهِ.
ثَانِيًا: أَثَرُ الْبُطْلاَنِ فِي الْمُعَامَلاَتِ:
25 - الْعَقْدُ الْبَاطِل فِي اصْطِلاَحِ الْحَنَفِيَّةِ لاَ وُجُودَ لَهُ إِلاَّ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ، فَلَيْسَ لَهُ وُجُودٌ شَرْعِيٌّ، وَمِنْ ثَمَّ فَهُوَ عَدَمٌ، وَالْعَدَمُ لاَ يُنْتِجُ أَثَرًا. (3)
وَهُوَ مَنْقُوضٌ مِنْ أَسَاسِهِ، وَلاَ يَحْتَاجُ لِحُكْمِ حَاكِمٍ لِنَقْضِهِ. (4)
وَلاَ تَلْحَقُهُ الإِْجَازَةُ؛ لأَِنَّهُ غَيْرُ مُنْعَقِدٍ أَصْلاً فَهُوَ مَعْدُومٌ، وَالإِْجَازَةُ لاَ تَلْحَقُ الْمَعْدُومَ؛ لأَِنَّهُ مُتَلاَشٍ. (5)
__________
(1) البدائع 2 / 102، 103، 218، وجواهر الإكليل 1 / 192، والمنصور 3 / 19، 18، ومنتهى الإرادات 2 / 31.
(2) البدائع 2 / 40ـ 43، جواهر الإكليل 1 / 140، 141، والمهذب 1 / 182، نيل المآرب 1 / 266.
(3) بدائع الصنائع 5 / 305، ابن عابدين 5 / 28، وحاشية الدسوقي 3 / 54، منتهى الإرادات 2 / 190.
(4) الدسوقي 3 / 71، والمغني 6 / 666.
(5) ابن عابدين 4 / 7، والبدائع 4 / 177، 5 / 271، ومنح الجليل 2 / 572، كشاف القناع 3 / 157، وقليوبي 2 / 160.(8/119)
وَلاَ يُمْلَكُ بِالْعَقْدِ الْبَاطِل مَا يُمْلَكُ بِغَيْرِهِ، وَإِذَا حَدَثَ فِيهِ تَسْلِيمٌ يَجِبُ الرَّدُّ.
فَفِي الْبَيْعِ الْبَاطِل لاَ يَنْتَقِل الْمِلْكُ بِالْقَبْضِ وَلِذَا يَجِبُ الرَّدُّ.
يَقُول ابْنُ رُشْدٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْبُيُوعَ الْفَاسِدَةَ - وَهِيَ الْبَاطِلَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - إِذَا وَقَعَتْ وَلَمْ تَفُتْ، حُكْمُهَا الرَّدُّ، أَيْ أَنْ يَرُدَّ الْبَائِعُ الثَّمَنَ، وَيَرُدَّ الْمُشْتَرِي الْمُثَمَّنَ. (1) وَلاَ يَمْلِكُ الْمُصَالِحُ مَا صَالَحَ بِهِ فِي الصُّلْحِ الْبَاطِل، وَيَرْجِعُ الدَّافِعُ بِمَا دَفَعَ (2) . (3)
وَلاَ يَمْلِكُ الْمَوْهُوبُ لَهُ الْهِبَةَ فِي الْهِبَةِ الْبَاطِلَةِ. (4)
وَلاَ يَمْلِكُ الْمُرْتَهِنُ حَبْسَ الْمَرْهُونِ فِي الرَّهْنِ الْبَاطِل. (5)
وَلاَ يَمْلِكُ الْمُكَاتَبُ حُرِّيَّتَهُ فِي الْكِتَابَةِ الْبَاطِلَةِ. (6)
وَفِي الإِْجَارَةِ الْبَاطِلَةِ الَّتِي لَيْسَتْ مَحَلًّا
__________
(1) البدائع 5 / 305، وأشباه ابن نجيم ص 337، وبداية المجتهد 2 / 193، ونهاية المحتاج 3 / 364، ومنتهى الإرادات 2 / 190.
(2) أشباه ابن نجيم / 337، وجواهر الإكليل 2 / 103، والمغني 4 / 550 ومنتهى الإرادات2 / 264.
(3) أشباه ابن نجيم / 337، وجواهر الإكليل 2 / 103، والمغني 4 / 550 ومنتهى الإرادات2 / 264.
(4) الدسوقي 4 / 98، 99، والمهذب 1 / 455، ومنتهى الإرادات 2 / 519.
(5) أشباه ابن نجيم ص 337، وجواهر الإكليل 2 / 80، والمغني 4 / 440.
(6) أشباه ابن نجيم / 338، والبدائع 4 / 137، ونهاية المحتاج 8 / 396، والقواعد والفوائد الأصولية / 111.(8/119)
لِلإِْجَارَةِ، لاَ تُمْلَكُ الأُْجْرَةُ وَيَجِبُ رَدُّهَا؛ لأَِنَّ أَخْذَهَا حَرَامٌ، وَتُعْتَبَرُ مِنْ أَكْل الأَْمْوَال بِالْبَاطِل. (1)
وَلاَ يُمْلَكُ الاِسْتِمْتَاعُ بِالْبُضْعِ وَالاِنْتِفَاعُ بِهِ فِي النِّكَاحِ الْبَاطِل. (2)
وَهَكَذَا الْحُكْمُ فِي كُل الْعُقُودِ الْبَاطِلَةِ عَلَى وَجْهِ الإِْجْمَال، مَعَ تَفْصِيلاَتٍ تُنْظَرُ فِي مَوَاضِعِهَا. لَكِنَّ وُجُودَ الْعَقْدِ الْبَاطِل كَصُورَةٍ قَدْ يُنْتِجُ أَثَرًا، وَذَلِكَ إِذَا حَدَثَ فِيهِ تَسْلِيمٌ وَامْتَنَعَ الرَّدُّ لِلْفَوَاتِ، فَهَل يَكُونُ فِيهِ الضَّمَانُ أَوْ لاَ يَكُونُ.
وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
الضَّمَانُ:
26 - رَغْمَ أَنَّ جُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ لاَ يُفَرِّقُونَ فِي قَوَاعِدِهِمُ الْعَامَّةِ بَيْنَ الْبَاطِل وَالْفَاسِدِ إِلاَّ أَنَّهُ بِالنِّسْبَةِ لِبَعْضِ الأَْحْكَامِ نَجِدُ التَّفْرِيقَ بَيْنَهُمَا.
وَالضَّمَانُ مِمَّا يَفْتَرِقَانِ فِيهِ وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
فِي قَاعِدَةٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّ كُل عَقْدٍ اقْتَضَى صَحِيحُهُ الضَّمَانَ بَعْدَ التَّسْلِيمِ كَالْبَيْعِ فَفَاسِدُهُ كَذَلِكَ يَقْتَضِي الضَّمَانَ، وَإِنِ اقْتَضَى صَحِيحُهُ عَدَمَ الضَّمَانِ كَالْقِرَاضِ فَفَاسِدُهُ كَذَلِكَ لاَ يَقْتَضِي الضَّمَانَ.
لَكِنَّ عَدَمَ اقْتِضَاءِ الضَّمَانِ مُقَيَّدٌ بِمَا إِذَا كَانَ
__________
(1) أشباه ابن نجيم ص 337، ومنتهى الإرادات 2 / 359، ومنح الجليل 3 / 778، وقليوبي 3 / 86.
(2) المغني 6 / 456، والبدائع 2 / 335، ومنح الجليل2 / 9.(8/120)
الْقَبْضُ صَحِيحًا، بِأَنْ كَانَ الإِْذْنُ فِي قَبْضِهِ صَادِرًا مِنْ أَهْلِهِ، وَيَكُونُ وَضْعُ الْيَدِ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ صَحِيحًا، وَحِينَئِذٍ فَلاَ ضَمَانَ مَعَ فَسَادِ الْقَبْضِ.
أَمَّا إِذَا لَمْ يُوجَدْ إِذْنٌ أَصْلاً، أَوْ صَدَرَ وَلَمْ يَكُنْ صَحِيحًا، لِكَوْنِهِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِ، أَوْ فِي ظِل الإِْكْرَاهِ، فَإِنَّ الْقَبْضَ يَكُونُ بَاطِلاً، وَحِينَئِذٍ يَجِبُ الضَّمَانُ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ أَكَانَ صَحِيحُهُ لاَ ضَمَانَ فِيهِ، أَمْ كَانَ فِيهِ الضَّمَانُ.
جَاءَ فِي نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ: فَاسِدُ كُل عَقْدٍ صَدَرَ مِنْ رَشِيدٍ كَصَحِيحِهِ، فِي الضَّمَانِ وَعَدَمِهِ؛ لأَِنَّ الْعَقْدَ إِنِ اقْتَضَى صَحِيحُهُ الضَّمَانَ بَعْدَ التَّسْلِيمِ كَالْبَيْعِ وَالإِْعَارَةِ فَفَاسِدُهُ أَوْلَى.
وَإِنِ اقْتَضَى صَحِيحُهُ عَدَمَ الضَّمَانِ كَالرَّهْنِ، وَالْهِبَةِ مِنْ غَيْرِ ثَوَابٍ، وَالْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ، فَفَاسِدُهُ كَذَلِكَ لاَ يَقْتَضِي الضَّمَانَ. (1)
وَمِثْل ذَلِكَ فِي حَاشِيَةِ الْجَمَل وَغَيْرِهَا مِنْ كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ. (2)
27 - وَاعْتِبَارُ عَدَمِ الضَّمَانِ مَعَ الْبُطْلاَنِ فِي عُقُودِ التَّصَرُّفَاتِ وَالأَْمَانَاتِ لِوُجُودِ الإِْذْنِ الصَّادِرِ مِنْ أَهْلِهِ، وَالضَّمَانِ إِنْ كَانَ الإِْذْنُ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِ، هُوَ
__________
(1) نهاية المحتاج 5 / 228، 229، 4 / 274، 275، والجمل على المنهج 3 / 517، وأشباه السيوطي / 309 ط عيسى الحلبي، وأسنى المطالب 4 / 479، وشرح منتهى الإرادات 2 / 326، والمغني 4 / 425 و 5 / 73، والقواعد لابن رجب / 67 و 153
(2) الجمل على شرح المنهج 3 / 291.(8/120)
أَيْضًا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى مَا يُسْتَفَادُ مِنْ أَقْوَالِهِمْ، مَعَ الاِخْتِلاَفِ فِيمَنْ يُعْتَبَرُ أَهْلاً لِلإِْذْنِ، وَمَنْ لاَ يُعْتَبَرُ كَالسَّفِيهِ، وَمَعَ الاِخْتِلاَفِ أَيْضًا فِي الْعُقُودِ الْمَضْمُونَةِ فِي صَحِيحِهَا، أَوْ غَيْرِ الْمَضْمُونَةِ كَالرَّهْنِ وَالْعَارِيَّةِ. (1)
وَيَعْتَبِرُ أَبُو حَنِيفَةَ الْمَبِيعَ فِي الْبَيْعِ الْبَاطِل إِذَا قَبَضَهُ الْمُشْتَرِي أَمَانَةً، وَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ لَوْ هَلَكَ؛ لأَِنَّ الْعَقْدَ إِذَا بَطَل بَقِيَ مُجَرَّدُ الْقَبْضِ بِإِذْنِ الْمَالِكِ، وَهُوَ لاَ يُوجِبُ الضَّمَانَ إِلاَّ بِالتَّعَدِّي، وَالْقَائِلُونَ بِالضَّمَانِ يُعَلِّلُونَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ لاَ يَكُونُ أَدْنَى مِنَ الْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ. (2)
وَيُفَرِّقُ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْعَقْدِ الْفَاسِدِ بَيْنَ مَا قُبِضَ عَلَى جِهَةِ التَّمَلُّكِ فَيَكُونُ مَضْمُونًا، وَمَا قُبِضَ عَلَى جِهَةِ الأَْمَانَةِ فَلاَ ضَمَانَ فِيهِ.
جَاءَ فِي الْفَوَاكِهِ الدَّوَانِي: كُل مَبِيعٍ فَاسِدٍ قَبَضَهُ الْمُبْتَاعُ قَبْضًا مُسْتَمِرًّا بَعْدَ بَتِّ الْبَيْعِ فَضَمَانُهُ مِنَ الْمُبْتَاعِ مِنْ يَوْمِ قَبْضِهِ؛ لأَِنَّهُ قَبَضَهُ عَلَى جِهَةِ التَّمَلُّكِ، لاَ عَلَى جِهَةِ الأَْمَانَةِ. (3)
وَمِثْل ذَلِكَ فِي الشَّرِكَةِ: لَوِ اشْتَرَكَ مَنْ لاَ يُعْتَبَرُ
__________
(1) القواعد والفوائد الأصولية ص 112، والهداية 4 / 134، وأشباه ابن نجيم ص 337، وجامع أحكام الصغار 1 / 172، والبدائع 5 / 173، وفتح القدير والعناية والكفاية عليه 5 / 490، وابن عابدين 4 / 40.
(2) ابن عابدين 4 / 105، البدائع 5 / 305، وينظر جامع الفصوليين2 / 81.
(3) الفواكه الدواني2 / 129.(8/121)
إِذْنُهُ، كَصَبِيٍّ غَيْرِ مَأْذُونٍ أَوْ سَفِيهٍ، فَلاَ ضَمَانَ. (1)
أَثَرُ الْبُطْلاَنِ فِي النِّكَاحِ:
28 - مِنَ الْقَوَاعِدِ الْعَامَّةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ لاَ فَرْقَ بَيْنَ الْبَاطِل وَالْفَاسِدِ، وَيُتَابِعُهُمُ الْحَنَفِيَّةُ فِي ذَلِكَ فِي بَابِ النِّكَاحِ عَلَى مَا عُرِفَ مِنَ الْقَوَاعِدِ الْعَامَّةِ عِنْدَهُمْ. إِلاَّ أَنَّ الْفُقَهَاءَ يُعَبِّرُونَ عَنِ النِّكَاحِ غَيْرِ الصَّحِيحِ بِالْبَاطِل أَحْيَانًا، وَبِالْفَاسِدِ أَحْيَانًا أُخْرَى. وَيُرِيدُونَ بِهِمَا مَا قَابَل الصَّحِيحَ.
لَكِنَّهُمْ يَقْصِدُونَ بِالْفَاسِدِ مَا كَانَ مُخْتَلَفًا فِي فَسَادِهِ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ، كَالنِّكَاحِ بِدُونِ شُهُودٍ، حَيْثُ يُجِيزُ الْمَالِكِيَّةُ الْعَقْدَ بِدُونِهِ، وَإِنْ كَانُوا يَشْتَرِطُونَ الإِْشْهَادَ قَبْل الدُّخُول، وَيُجِيزُهُ أَيْضًا أَبُو ثَوْرٍ وَجَمَاعَةٌ. وَكَنِكَاحِ الْمُحْرِمِ بِالْحَجِّ، وَالنِّكَاحِ بِدُونِ وَلِيٍّ، حَيْثُ يُجِيزُهُمَا الْحَنَفِيَّةُ. وَكَنِكَاحِ الشِّغَارِ يُصَحِّحُهُ الْحَنَفِيَّةُ وَيُلْغُونَ الشَّرْطَ، وَيُوجِبُونَ مَهْرَ الْمِثْل لِكُلٍّ مِنَ الْمَرْأَتَيْنِ.
وَيَقْصِدُونَ بِالْبَاطِل: مَا كَانَ مُجْمَعًا عَلَى فَسَادِهِ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ، كَنِكَاحِ الْخَامِسَةِ، أَوِ الْمُتَزَوِّجَةِ مِنَ الْغَيْرِ، أَوِ الْمُطَلَّقَةِ ثَلاَثًا، أَوْ نِكَاحِ الْمَحَارِمِ. (2)
__________
(1) الدسوقي 3 / 348.
(2) بدائع الصنائع 2 / 335، وفتح القدير 4 / 147، وابن عابدين 2 / 350، 351، 607، 608، وحاشية الدسوقي 2 / 241 - 248، وجواهر الإكليل 1 / 285، ومنح الجليل 2 / 49ـ 52، ونهاية المحتاج 6 / 220، والمهذب 2 / 36، 63، ومغني المحتاج 3 / 147، 148، المغني 6 / 454ـ 456، ومنتهى الإرادات 3 / 82، 83، 217.(8/121)
وَالنِّكَاحُ الْبَاطِل أَوِ الْفَاسِدُ وَاجِبُ الْفَسْخِ عِنْدَ الْجَمِيعِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُتَّفَقِ عَلَى فَسَادِهِ، وَعِنْدَ الْقَائِلِينَ بِالْفَسَادِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُخْتَلَفِ فِيهِ، إِلاَّ إِذَا حَكَمَ حَاكِمٌ بِصِحَّتِهِ، فَلاَ يُنْقَضُ حُكْمُهُ.
وَالتَّفْرِيقُ فِي الْمُتَّفَقِ عَلَى فَسَادِهِ لَيْسَ طَلاَقًا بِالإِْجْمَاعِ، وَإِنَّمَا هُوَ فَسْخٌ أَوْ مُتَارَكَةٌ، وَأَمَّا الْمُخْتَلَفُ فِيهِ، فَفِي اعْتِبَارِ التَّفْرِيقِ طَلاَقًا أَمْ لاَ اخْتِلاَفُ الْفُقَهَاءِ. (1) ر: (طَلاَق - فُرْقَة - فَسْخ) .
وَلاَ حُكْمَ لِلنِّكَاحِ الْبَاطِل أَوِ الْفَاسِدِ قَبْل الدُّخُول فِي الْجُمْلَةِ عَلَى مَا سَيُعْرَفُ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ بِنِكَاحٍ حَقِيقَةً؛ لاِنْعِدَامِ مِلْكِ مَنَافِعِ الْبُضْعِ بِالْعَقْدِ الْبَاطِل أَوِ الْفَاسِدِ.
أَمَّا بَعْدَ الدُّخُول فَيَتَعَلَّقُ بِالْفَاسِدِ بَعْضُ الأَْحْكَامِ؛ لاِعْتِبَارِهِ مُنْعَقِدًا ضَرُورَةً فِي حَقِّ الْمَنَافِعِ الْمُسْتَوْفَاةِ. (2) وَفِيمَا يَلِي بَيَانُ أَهَمِّ الأَْحْكَامِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِهِ:
__________
(1) ابن عابدين 2 / 315، والفتاوى الهندية 1 / 279، 330، والبدائع 2 / 263، والفواكه الدواني 2 / 35، والقوانين الفقهية ص 140، والمهذب 2 / 36، 47، وروضة الطالبين7 / 51، ومنتهى الإرادات 3 / 84، والمغني 6 / 450.
(2) بدائع الصنائع 2 / 335.(8/122)
الْمَهْرُ:
29 - لاَ يُسْتَحَقُّ الْمَهْرُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ مُطْلَقًا - سَوَاءٌ اتُّفِقَ عَلَى فَسَادِهِ أَمْ لاَ - إِذَا حَصَل التَّفْرِيقُ قَبْل الدُّخُول بِاتِّفَاقٍ فِي الْجُمْلَةِ، أَوْ قَبْل الْخَلْوَةِ فِيمَا اخْتُلِفَ فِيهِ، وَذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ. (1)
هَذَا مَعَ اسْتِثْنَاءِ بَعْضِ الْمَسَائِل الَّتِي يَثْبُتُ فِيهَا نِصْفُ الْمَهْرِ قَبْل الدُّخُول، وَمِنْ ذَلِكَ مَا يَقُولُهُ الْمَالِكِيَّةُ مِنْ أَنَّ سَبَبَ الْفَسَادِ إِذَا لَمْ يُؤَثِّرْ خَلَلاً فِي الْمَهْرِ، كَنِكَاحِ الْمُحْرِمِ بِالْحَجِّ، فَفِيهِ نِصْفُ الصَّدَاقِ بِالطَّلاَقِ، وَجَمِيعُهُ بِالْمَوْتِ.
وَكَذَلِكَ النِّكَاحُ الْفَاسِدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لِوُقُوعِ صَدَاقِهِ أَقَل مِنَ الصَّدَاقِ الشَّرْعِيِّ، وَامْتَنَعَ الزَّوْجُ مِنْ إِتْمَامِهِ (وَهُوَ مَا يُسَمَّى بِنِكَاحِ الدِّرْهَمَيْنِ؛ لأَِنَّهُمَا أَقَل مِنَ الصَّدَاقِ الشَّرْعِيِّ) فَفِيهِ نِصْفُ الدِّرْهَمَيْنِ بِفَسْخِهِ قَبْل الدُّخُول. (2)
وَمِنْ ذَلِكَ مَا إِذَا ادَّعَى الزَّوْجُ قَبْل الدُّخُول رَضَاعًا مُحَرَّمًا بِلاَ بَيِّنَةٍ، وَكَذَّبَتْهُ الزَّوْجَةُ، فَإِنَّهُ يُفْسَخُ، وَعَلَيْهِ نِصْفُ الصَّدَاقِ كَمَا يَقُول الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ. (3)
وَيَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ الْمَهْرِ فِي
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 335، وفتح القدير 3 / 243، والفتاوى الهندية 1 / 330، والدسوقي 2 / 240، والمنثور في القواعد 3 / 9، منتهى الإرادات 3 / 83، والمغني 6 / 455.
(2) جواهر الإكليل 1 / 285، ومنح الجليل 2 / 35.
(3) جواهر الإكليل 1 / 285، المغني 7 / 560، ومنتهى الإرادات 3 / 243.(8/122)
النِّكَاحِ الْفَاسِدِ مُطْلَقًا بِالدُّخُول (أَيْ بِالْوَطْءِ) لَمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَنْكَحَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَإِنْ دَخَل بِهَا فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا (1) جَعَل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهَا مَهْرَ الْمِثْل فِيمَا لَهُ حُكْمُ النِّكَاحِ الْفَاسِدِ، وَعَلَّقَهُ بِالدُّخُول، فَدَل أَنَّ وُجُوبَهُ مُتَعَلِّقٌ بِهِ. وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَجِبُ الْمَهْرُ كَذَلِكَ فِي النِّكَاحِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ بِالْخَلْوَةِ. قَال فِي مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ: نَصًّا لِمَا فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَل مِنْ فَرْجِهَا. (2)
إِلاَّ أَنَّ ابْنَ قُدَامَةَ ذَكَرَ فِي الْمُغْنِي أَنَّ الْخَلْوَةَ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ لاَ يَجِبُ بِهَا شَيْءٌ مِنَ الْمَهْرِ، وَإِنَّمَا يُوجِبُهُ الْوَطْءُ وَلَمْ يُوجَدْ، ثُمَّ قَال: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُل عَلَى أَنَّ الْخَلْوَةَ فِيهِ كَالصَّحِيحِ، فَيَتَقَرَّرُ بِهِ الْمَهْرُ كَالصَّحِيحِ، وَالأَْوَّل أَوْلَى. وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْمُتَلَذَّذَ بِهَا مِنْ غَيْرِ وَطْءٍ تُعَوَّضُ وُجُوبًا بِالاِجْتِهَادِ، سَوَاءٌ أَكَانَ النِّكَاحُ مُخْتَلَفًا فِيهِ أَمْ مُتَّفَقًا عَلَى فَسَادِهِ. (3)
__________
(1) حديث: " أيما امرأة أنكحت نفسها بغير إذن وليها. . " أخرجه أبو داود (2 / 566 ـ ط عزت عبيد دعاس) وأحمد (6 / 47 ـ ط الميمنية) وحسنه الترمذي (3 / 408 ـ ط الحلبي) .
(2) حديث: " فلها المهر بما استحل من فرجها. . . " تقدم تخريجه آنفا.
(3) بدائع الصنائع 2 / 335، وفتح القدير 3 / 243، وابن عابدين 2 / 350، 351، وحاشية الدسوقي 2 / 240، 241، 317، جواهر الإكليل 1 / 285، ومنح الجليل 2 / 35، 51، 52، والمهذب 2 / 36، 63، وروضة الطالبين 7 / 42، 51 ونهاية المحتاج 6 / 220، المنثور 3 / 9، ومنتهى الإرادات 3 / 83، ونيل المآرب 2 / 200، المغني 6 / 727.(8/123)
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْوَاجِبِ مِنَ الْمَهْرِ، هَل هُوَ الْمُسَمَّى أَوْ مَهْرُ الْمِثْل؟ .
فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - غَيْرِ زُفَرَ - لَهَا الأَْقَل مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا وَمِنَ الْمُسَمَّى. وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لَهَا الْمُسَمَّى، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسَمًّى - كَنِكَاحِ الشِّغَارِ - فَلَهَا مَهْرُ الْمِثْل، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَزُفَرَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ لَهَا مَهْرُ الْمِثْل، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لَهَا الْمُسَمَّى فِي الْفَاسِدِ وَمَهْرُ الْمِثْل فِي الْبَاطِل. (1)
وَفِي الْمَوْضُوعِ تَفْصِيلاَتٌ كَثِيرَةٌ تُنْظَرُ فِي (مَهْر، صَدَاق، نِكَاح) .
ب - الْعِدَّةُ وَالنَّسَبُ:
30 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ الْعِدَّةِ وَثُبُوتِ النَّسَبِ بِالْوَطْءِ فِي النِّكَاحِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ، كَالنِّكَاحِ بِدُونِ شُهُودٍ، أَوْ بِدُونِ وَلِيٍّ، وَكَنِكَاحِ الْمُحْرِمِ بِالْحَجِّ، وَنِكَاحِ الشِّغَارِ. وَيَزِيدُ الْحَنَابِلَةُ ثُبُوتَهُمَا بِالْخَلْوَةِ؛ لأَِنَّهُ يَنْفُذُ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ أَشْبَهَ الصَّحِيحَ.
وَيَتَّفِقُونَ كَذَلِكَ عَلَى وُجُوبِ الْعِدَّةِ وَثُبُوتِ النَّسَبِ فِي النِّكَاحِ الْمُجْمَعِ عَلَى فَسَادِهِ بِالْوَطْءِ كَنِكَاحِ الْمُعْتَدَّةِ، وَزَوْجَةِ الْغَيْرِ وَالْمَحَارِمِ إِذَا كَانَتْ هُنَاكَ شُبْهَةٌ تُسْقِطُ الْحَدَّ، بِأَنْ كَانَ لاَ يَعْلَمُ بِالْحُرْمَةِ
__________
(1) المراجع السابقة.(8/123)
؛ وَلأَِنَّ الأَْصْل عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: أَنَّ كُل نِكَاحٍ يُدْرَأُ فِيهِ الْحَدُّ فَالْوَلَدُ لاَحِقٌ بِالْوَاطِئِ.
أَمَّا إِذَا لَمْ تَكُنْ هُنَاكَ شُبْهَةٌ تُسْقِطُ الْحَدَّ، بِأَنْ كَانَ عَالِمًا بِالْحُرْمَةِ، فَلاَ يَلْحَقُ بِهِ الْوَلَدُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَكَذَلِكَ عِنْدَ بَعْضِ مَشَايِخِ الْحَنَفِيَّةِ؛ لأَِنَّهُ حَيْثُ وَجَبَ الْحَدُّ فَلاَ يَثْبُتُ النَّسَبُ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَبَعْضِ مَشَايِخِ الْحَنَفِيَّةِ يَثْبُتُ النَّسَبُ لأَِنَّ الْعَقْدَ شُبْهَةٌ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّ الشُّبْهَةَ تَنْتَفِي إِذَا كَانَ النِّكَاحُ مُجْمَعًا عَلَى تَحْرِيمِهِ وَالْمَنْكُوحَةُ مُحَرَّمَةٌ عَلَى التَّأْبِيدِ، كَالأُْمِّ وَالأُْخْتِ، وَعَلَى ذَلِكَ فَلاَ يَثْبُتُ النَّسَبُ عِنْدَهُمَا فِي الْمُحَرَّمَةِ عَلَى التَّأْبِيدِ، فَقَدْ ذَكَرَ الْخَيْرُ الرَّمْلِيُّ فِي بَابِ الْمَهْرِ عَنِ الْعَيْنِيِّ وَمَجْمَعِ الْفَتَاوَى أَنَّهُ يَثْبُتُ النَّسَبُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلاَفًا لَهُمَا، إِلاَّ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَال سُقُوطُ الْحَدِّ عَنْهُ لِشُبْهَةٍ حُكْمِيَّةٍ فَيَثْبُتُ النَّسَبُ. هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلنَّسَبِ فِي النِّكَاحِ الْمُجْمَعِ عَلَى تَحْرِيمِهِ مَعَ الْعِلْمِ بِالْحُرْمَةِ.
وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْعِدَّةِ، فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالْقَائِلِينَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ بِثُبُوتِ النَّسَبِ فَإِنَّ الْعِدَّةَ تَجِبُ وَتُسَمَّى اسْتِبْرَاءً،
وَلاَ يَجِبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِعَدَمِ ثُبُوتِ النَّسَبِ. (1)
__________
(1) البدائع 2 / 335، 7 / 35، 36، ابن عابدين 2 / 350، 351، 352، 607، 608، 3 / 153، 154، وفتح القدير 3 / 243ـ 245 و 4 / 147 و 5 / 40ـ42، والفتاوى الهندية 1 / 279، 280، والزيلعي 2 / 153، وحاشية الدسوقي2 / 219، 471، 475، وجواهر الإكليل 1 / 386، ومنح الجليل2 / 375، 381، القوانين الفقهية لابن جزي ص 140، ونهاية المحتاج7 / 119، 120، 168، وشرح روض الطالب 3 / 121، 150، وروضة الطالبين7 / 42، 51، 10 / 94، ومغني المحتاج 3 / 147، 148، والمهذب 2 / 146، 151، 269، والوجيز 2 / 11، وأشباه السيوطي ص 507، والمنثور في القواعد 3 / 329، والمغني 6 / 455، 456، 577، 7 / 450، 484، منتهى الإرادات 3 / 216، 217.(8/124)
هَذَا مَعَ اخْتِلاَفِهِمْ فِي الْعِدَّةِ وَهَل تُعْتَبَرُ وَقْتَ التَّفْرِيقِ أَوْ مِنْ آخَرِ الْوَطَآتِ.
وَهَل تَتَدَاخَل الْعِدَدُ أَوْ لاَ تَتَدَاخَل، بَل تُسْتَأْنَفُ.
وَهَل يُعْتَبَرُ النَّسَبُ مِنْ وَقْتِ الدُّخُول أَوْ مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ.
وَهَل تَثْبُتُ بِالنِّكَاحِ الْبَاطِل حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ أَوْ لاَ تَثْبُتُ. وَهَل يَثْبُتُ بِهِ الإِْرْثُ أَوْ لاَ يَثْبُتُ؟
فَفِي كُل ذَلِكَ تَفْصِيلاَتٌ كَثِيرَةٌ تُنْظَرُ فِي مَوَاضِعِهَا.
بَعْضٌ
انْظُرْ: بَعْضِيَّة.(8/124)
بَعْضِيَّةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْبَعْضِيَّةُ: مَصْدَرٌ صِنَاعِيٌّ مِنَ الْبَعْضِ، وَبَعْضُ الشَّيْءِ: الطَّائِفَةُ مِنْهُ، وَبَعْضُهُمْ يَقُول: الْجُزْءُ مِنْهُ، وَالْجَمْعُ: أَبْعَاضٌ.
قَال ثَعْلَبٌ: أَجْمَعَ أَهْل النَّحْوِ عَلَى أَنَّ الْبَعْضَ: شَيْءٌ مِنْ شَيْءٍ، أَوْ شَيْءٌ مِنْ أَشْيَاءَ، وَهَذَا يَتَنَاوَل مَا فَوْقَ النِّصْفِ، كَالثَّمَانِيَةِ، فَإِنَّهُ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ شَيْءٌ مِنَ الْعَشَرَةِ، وَيَتَنَاوَل أَيْضًا مَا دُونَ النِّصْفِ.
وَبَعَّضْتُ الشَّيْءَ تَبْعِيضًا: جَعَلْتَهُ أَبْعَاضًا مُتَمَايِزَةً. (1) وَفِي الاِصْطِلاَحِ لاَ يَخْرُجُ عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ. (2)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
2 - مِنَ الأَْلْفَاظِ ذَاتِ الصِّلَةِ " الْجُزْئِيَّةُ وَالْفَرْعِيَّةُ " وَهَذِهِ الأَْلْفَاظُ مُقَارِبَةٌ؛ لأَِنَّ الْجُزْئِيَّةَ
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير مادة: " بعض ".
(2) نهاية المحتاج 8 / 363، ومغني المحتاج 4 / 499، الإقناع 2 / 116.(8/125)
مِنَ الْجُزْءِ، وَالْجُزْءُ مِنَ الشَّيْءِ: الطَّائِفَةُ مِنْهُ. (1)
وَالْفَرْعِيَّةُ مِنَ الْفَرْعِ، وَهُوَ مَا يَتَفَرَّعُ مِنْ أَصْلِهِ. (2)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
وَرَدَ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِهَذَا الْمُصْطَلَحِ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ فِي مَوَاطِنَ أَهَمُّهَا مَا يَأْتِي:
فِي الطَّهَارَةِ:
3 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْقَدْرِ الْوَاجِبِ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ، فَذَهَبَ الأَْحْنَافُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ مَسْحُ مِقْدَارِ النَّاصِيَةِ، وَهُوَ رُبُعُ الرَّأْسِ. وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ مَسْحُ جَمِيعِ الرَّأْسِ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَكْفِي مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمَسْحِ مِنَ الرَّأْسِ، وَإِنْ قَل. (3)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (وُضُوء) .
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ كَذَلِكَ فِيمَنْ لَمْ يَجِدْ مِنَ الْمَاءِ إِلاَّ مَا يَكْفِي بَعْضَ أَعْضَائِهِ. فَذَهَبَ الأَْحْنَافُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّهُ يَتْرُكُ الْمَاءَ الَّذِي لاَ يَكْفِي إِلاَّ لِبَعْضِ أَعْضَائِهِ وَيَتَيَمَّمُ، وَهَذَا أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْظْهَرِ إِلَى أَنَّهُ يَلْزَمُهُ اسْتِعْمَالُهُ، ثُمَّ يَتَيَمَّمُ، وَهُوَ
__________
(1) المصباح المنير مادة: " جزأ ".
(2) المصباح المنير مادة: " فرع ".
(3) الهداية مع فتح القدير 1 / 10، وكشاف القناع 1 / 98، والمغني 1 / 125، المجموع 1 / 399.(8/125)
الْوَجْهُ الثَّانِي عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ. (1)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (تَيَمُّم) .
فِي الصَّلاَةِ:
4 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَجِدْ إِلاَّ مَا يَسْتُرُ بِهِ بَعْضَ عَوْرَتِهِ لَزِمَهُ سَتْرُهُ. (2) وَأَبْعَاضُ الصَّلاَةِ فِي اصْطِلاَحِ الشَّافِعِيَّةِ: هِيَ السُّنَنُ الَّتِي تُجْبَرُ بِسُجُودِ السَّهْوِ، وَهِيَ الْقُنُوتُ فِي الصُّبْحِ، أَوْ فِي وِتْرِ نِصْفِ رَمَضَانَ، وَالْقِيَامُ لَهُ، وَالتَّشَهُّدُ الأَْوَّل، وَقُعُودُهُ، وَالصَّلاَةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الأَْظْهَرِ. وَسُمِّيَتْ أَبْعَاضًا؛ لأَِنَّهَا لَمَّا تَأَكَّدَتْ بِالْجَبْرِ بِالسُّجُودِ أَشْبَهَتِ الأَْبْعَاضَ الْحَقِيقِيَّةَ، وَهِيَ الأَْرْكَانُ. (3)
وَمَا عَدَاهَا مِنَ السُّنَنِ يُسَمَّى هَيْئَاتٍ لاَ تُجْبَرُ بِسُجُودِ السَّهْوِ، وَلاَ يُشْرَعُ لَهَا. وَيَتَمَيَّزُ الْبَعْضُ مِنَ الْهَيْئَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ بِعِدَّةِ أُمُورٍ.
أَوَّلُهَا: أَنَّ الْبَعْضَ يُجْبَرُ بِسُجُودِ السَّهْوِ بِخِلاَفِ الْهَيْئَةِ، فَإِنَّهَا لاَ تُجْبَرُ بِسُجُودِ السَّهْوِ؛ لِعَدَمِ وُرُودِهِ فِيهَا.
ثَانِيهَا: أَنَّ الْبَعْضَ سُنَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ وَلَيْسَتْ
__________
(1) حاشية الطحطاوي على الدر المختار 1 / 125، ومواهب الجليل 1 / 332، قليوبي وعميرة 1 / 80، والمغني 1 / 242.
(2) مواهب الجليل 1 / 332، وحاشية ابن عابدين 1 / 289، والمحلي مع القليوبي1 / 178، وكشاف القناع 1 / 271.
(3) شرح المنهاج بحاشية القليوبي1 / 196ـ 197.(8/126)
تَابِعَةً لِغَيْرِهَا، بِخِلاَفِ الْهَيْئَاتِ، فَإِنَّهَا لَيْسَتْ مُسْتَقِلَّةً، بَل هِيَ تَابِعَةٌ لِلأَْرْكَانِ، كَالتَّكْبِيرَاتِ وَالتَّسْبِيحَاتِ وَالأَْدْعِيَةِ الْوَاقِعَةِ إِمَّا فِي الْقِيَامِ، أَوِ الرُّكُوعِ، أَوِ الاِعْتِدَال مِنْهَا، أَوِ السُّجُودِ، أَوِ الْجُلُوسِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ.
ثَالِثُهَا: الأَْبْعَاضُ لَهَا مَحَلٌّ خَاصٌّ بِهَا مِنَ الصَّلاَةِ لاَ يُشَارِكُهَا غَيْرُهَا، بِخِلاَفِ الْهَيْئَاتِ فَلَيْسَ لَهَا مَحَلٌّ خَاصٌّ بِهَا، بَل تَقَعُ فِي دَاخِل الأَْرْكَانِ، كَمَا ذَكَرْنَا آنِفًا.
رَابِعُهَا: أَنَّ الأَْبْعَاضَ لاَ يُطْلَبُ الإِْتْيَانُ بِهَا خَارِجَ الصَّلاَةِ إِلاَّ الصَّلاَةَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخِلاَفِ الْهَيْئَاتِ، فَالتَّكْبِيرَاتُ وَالتَّسْبِيحَاتُ وَغَيْرُهَا مِنَ الأَْذْكَارِ مَطْلُوبَةٌ فِي الصَّلاَةِ وَخَارِجَ الصَّلاَةِ. وَيُكْرَهُ تَرْكُ الْبَعْضِ عَمْدًا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَلاَ تَبْطُل الصَّلاَةُ بِهِ، وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ نَدْبًا بِتَرْكِهِ، كَمَا يَسْجُدُ كَذَلِكَ بِتَرْكِهِ نِسْيَانًا فِي الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ؛ لأَِنَّ الْخَلَل حَاصِلٌ فِي الْحَالَتَيْنِ، بَل خَلَل الْعَمْدِ أَكْثَرُ، فَكَانَ لِلْجَبْرِ أَحْوَجَ.
وَالْمَرْجُوحُ لَدَيْهِمْ أَنَّهُ إِنْ تُرِكَ عَمْدًا فَلاَ يَسْجُدُ لِتَقْصِيرِهِ بِتَفْوِيتِ السُّنَّةِ عَلَى نَفْسِهِ، بِخِلاَفِ النَّاسِي فَإِنَّهُ مَعْذُورٌ، فَنَاسَبَ أَنْ يُشْرَعَ لَهُ الْجَبْرُ. (1)
__________
(1) تحفة المحتاج 2 / 3، 170، 173، ومغني المحتاج 1 / 148، 206، والجمل على شرح المنهج 1 / 446.(8/126)
وَيُقَابِل الْبَعْضُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ الْوَاجِبَ، وَهُوَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: مَا لاَ تَفْسُدُ الصَّلاَةُ بِتَرْكِهِ، وَلَكِنْ يَجِبُ إِعَادَتُهَا فِي الْعَمْدِ وَالسَّهْوِ إِنْ لَمْ يَسْجُدْ لِلسَّهْوِ فِي حَالَةِ النِّسْيَانِ، وَإِنْ لَمْ يُعِدْهَا يَكُونُ آثِمًا، وَتَصِحُّ صَلاَتُهُ فِي الْحَالَتَيْنِ.
وَتَبْطُل صَلاَتُهُ إِذَا تَرَكَ الْوَاجِبَ عَمْدًا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَيَجِبُ سُجُودُ السَّهْوِ عِنْدَ الْفَرِيقَيْنِ إِذَا تَرَكَ الْوَاجِبَ نِسْيَانًا. (1) أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَيَرَوْنَ أَنَّ الأَْبْعَاضَ سُنَّةٌ كَالشَّافِعِيَّةِ، وَإِنْ لَمْ يُسَمُّوهَا بِهَذَا الاِسْمِ. كَمَا أَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ سُنَّةٌ عِنْدَهُمْ كَذَلِكَ (2) (ر: صَلاَة) .
فِي الزَّكَاةِ:
5 - لاَ يُعْطَى مَنْ تَلْزَمُ الْمُزَكِّيَ نَفَقَتُهُ بِزَوْجِيَّةٍ أَوْ بَعْضِيَّةٍ، كَالأَْبْنَاءِ وَالْبِنْتِ، مِنْ سَهْمِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، بِلاَ خِلاَفٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ، فِيمَا إِذَا كَانَ الْمُزَكِّي يَجِبُ عَلَيْهِ الإِْنْفَاقُ. (3)
فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ:
6 - لَوْ وَجَدَ بَعْضَ الصَّاعِ مِنَ الْفِطْرَةِ فَهَل يَلْزَمُهُ إِخْرَاجُهُ؟ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْفِطْرَةَ لاَ تَجِبُ إِلاَّ عَلَى
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 306، 495، والمغني لابن قدامة 2 / 6، 27، 36.
(2) القوانين الفقهية ص 66، 69، 70.
(3) الإقناع 2 / 116، والمجموع 6 / 178، المغني 2 / 482.(8/127)
مَنْ مَلَكَ نِصَابَ الزَّكَاةِ، فَاضِلاً عَنْ مَسْكَنِهِ وَثِيَابِهِ وَأَثَاثِهِ وَمَا يَحْتَاجُهُ. (1)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ مِلْكِ نِصَابِ الزَّكَاةِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مَنْ مَلَكَ صَاعًا زَائِدًا عَنْ قُوتِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَجَبَ عَلَيْهِ إِخْرَاجُهُ. أَمَّا مَنْ مَلَكَ بَعْضَ صَاعٍ، فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ إِخْرَاجُهُ، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ إِخْرَاجُ بَعْضِ الصَّاعِ فِي الأَْصَحِّ مُحَافَظَةً عَلَى الْوَاجِبِ قَدْرَ الإِْمْكَانِ. (2)
رَاجِعْ مُصْطَلَحَ: (زَكَاة) .
فِي الطَّلاَقِ وَالظِّهَارِ وَالْعِتْقِ:
7 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الطَّلاَقَ أَوِ الظِّهَارَ لاَ يَتَبَعَّضُ وَلاَ يَتَجَزَّأُ، فَإِنْ قَال لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ بَعْضَ طَلْقَةٍ أَوْ نِصْفَهَا أَوْ جُزْأَهَا تَقَعُ طَلْقَةً كَامِلَةً. (3) كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَضَافَ الطَّلاَقَ أَوِ الظِّهَارَ إِلَى بَعْضِ زَوْجَتِهِ يَلْزَمُهُ الطَّلاَقُ أَوِ الظِّهَارُ، إِنْ كَانَ ذَلِكَ الْبَعْضُ جُزْءًا شَائِعًا كَنِصْفِهَا أَوْ ثُلُثِهَا، أَمَّا إِذَا أَسْنَدَ الطَّلاَقَ أَوِ الظِّهَارَ
__________
(1) الهداية مع فتح القدير 2 / 92ـ 30.
(2) الزرقاني 2 / 186، والمغني 3 / 75، والمحلي مع قليوبي وعميرة 2 / 35.
(3) حاشية ابن عابدين 2 / 515، والقوانين الفقهية ص233، ومغني المحتاج 3 / 298، كشف المخدرات ص 391.(8/127)
إِلَى جُزْءٍ مُعَيَّنٍ (1) فَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ وَخِلاَفٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ: (طَلاَق وَظِهَار) .
وَالْكَلاَمُ فِي تَبْعِيضِ الْعِتْقِ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ: (عِتْق) .
فِي الشَّهَادَةِ:
8 - تُرَدُّ شَهَادَةُ الاِبْنِ لأَِبِيهِ بِعِلَّةِ الْبَعْضِيَّةِ، وَهُوَ قَوْل جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ، أَمَّا شَهَادَةُ الاِبْنِ عَلَى أَبِيهِ فَهِيَ مَقْبُولَةٌ عِنْدَ عَامَّةِ أَهْل الْعِلْمِ، وَإِنَّمَا رَدُّوا شَهَادَةَ الاِبْنِ لأَِبِيهِ لأَِنَّ بَيْنَهُمَا بَعْضِيَّةً، فَكَأَنَّهُ يَشْهَدُ لِنَفْسِهِ أَوْ عَلَيْهَا. (2) رَاجِعْ مُصْطَلَحَ: (شَهَادَة) .
الْعِتْقُ بِالْبَعْضِيَّةِ:
9 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنْ مَلَكَ أَحَدَ أُصُولِهِ أَوْ فُرُوعِهِ عَتَقَ عَلَيْهِ. أَمَّا الأَْحْنَافُ وَالْحَنَابِلَةُ فَقَدْ وَسَّعُوا دَائِرَةَ الْعِتْقِ وَقَالُوا: إِنَّ الْعِلَّةَ هُنَا الْمَحْرَمِيَّةُ، فَمَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ عَتَقَ عَلَيْهِ.
__________
(1) الرزقاني شرح مختصر خليل 4 / 109، والخرشي 4 / 105، وفتح القدير 3 / 52 - 54، 228، 229، 361، والمغني 7 / 242 - 246، كشاف القناع 4 / 515 و 5 / 369، 370، والمحلي شرح المنهاج 3 / 334، 4 / 15، 24، 351. الرزقاني شرح مختصر خليل 4 / 109، والخرشي 4 / 105، وفتح القدير 3 / 52 - 54، 228، 229، 361، والمغني 7 / 242 - 246، كشاف القناع 4 / 515 و 5 / 369، 370، والمحلي شرح المنهاج 3 / 334، 4 / 15، 24، 351.
(2) فتح القدير 6 / 30، الخرشي 7 / 179، والمحلي على المنهاج 4 / 322، والوجيز 2 / 250، المغني 9 / 191، 192.(8/128)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَعْتِقُ بِنَفْسِ الْمِلْكِ الأَْبَوَانِ وَإِنْ عَلَوْا، وَالْوَلَدُ وَإِنْ سَفَل، وَأَخٌ وَأُخْتٌ شَقِيقَانِ أَوْ لأَِبٍ أَوْ لأُِمٍّ. (1)
رَاجِعْ مُصْطَلَحَ: (عِتْق) .
__________
(1) فتح القدير 3 / 37، وحاشية ابن عابدين 3 / 9، والدسوقي على الشرح الكبير 4 / 366، ونهاية المحتاج 8 / 63، والتحفة 10 / 366.(8/128)
بِغَاءٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْبِغَاءُ مَصْدَرُ: بَغَتِ الْمَرْأَةُ تَبْغِي بِغَاءً، بِمَعْنَى: فَجَرَتْ، فَهِيَ بَغِيٌّ، وَالْجَمْعُ بَغَايَا، وَهُوَ وَصْفٌ مُخْتَصٌّ بِالْمَرْأَةِ، وَلاَ يُقَال لِلرَّجُل: بَغِيٌّ. (1)
وَيُعَرِّفُ الْفُقَهَاءُ الْبِغَاءَ بِأَنَّهُ: زِنَى الْمَرْأَةِ. أَمَّا الرَّجُل فَلاَ يُسَمَّى زِنَاهُ بِغَاءً. وَالْمُرَادُ مِنْ بِغَاءِ الْمَرْأَةِ هُوَ خُرُوجُهَا تَبْحَثُ عَمَّنْ يَفْعَل بِهَا ذَلِكَ الْفِعْل، سَوَاءٌ أَكَانَتْ مُكْرَهَةً أَمْ غَيْرَ مُكْرَهَةٍ، وَيُفْهَمُ ذَلِكَ مِنْ كَلاَمِ الْعُلَمَاءِ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى: {وَلاَ تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} (2) وَقَدْ ذَكَرَتْ كُتُبُ التَّفْسِيرِ سَبَبَ نُزُول هَذِهِ الآْيَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ كَانَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُول جَوَارٍ، وَكَانَ يُكْرِهُهُنَّ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْل، فَقَدْ سُمِّيَ فِعْلُهُنَّ وَهُنَّ مُكْرَهَاتٌ عَلَيْهِ بِغَاءً، فَإِطْلاَقُ هَذَا الاِسْمِ عَلَيْهِ مَعَ رِضَاهُنَّ يَصِحُّ، بَل أَوْلَى، وَبِالنِّسْبَةِ لِلْقَيْدِ الَّذِي فِي الآْيَةِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، والصحاح، ومحيط المحيط، القاموس المحيط مادة: " بغي "
(2) سورة النور / 33.(8/129)
: {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} فَسَتَأْتِي الإِْشَارَةُ إِلَيْهِ. (1)
حُكْمُ أَخْذِ الْبَغِيِّ مَهْرًا:
2 - نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ مَهْرِ الْبَغِيِّ، لِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَال: نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ، وَمَهْرِ الْبَغِيِّ، وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ (2) فَإِنَّ مِنَ الْبَغَايَا مَنْ كُنَّ يَأْخُذْنَ عِوَضًا عَنِ الْبِغَاءِ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَى مُجَاهِدٌ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلاَ تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ} قَال: كَانُوا يَأْمُرُونَ وَلاَئِدَهُمْ فَيُبَاغِينَ، فَكُنَّ يَفْعَلْنَ ذَلِكَ فَيُصَبْنَ، فَيَأْتِينَهُمْ بِكَسْبِهِنَّ. وَكَانَتْ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُول جَارِيَةٌ كَانَتْ تُبَاغِي، فَكَرِهَتْ ذَلِكَ، وَحَلَفَتْ أَلاَّ تَفْعَلَهُ، فَأَكْرَهَهَا، فَانْطَلَقَتْ فَبَاغَتَ بِبُرْدٍ أَخْضَرَ، فَأَتَتْهُمْ بِهِ، فَأَنْزَل اللَّهُ الآْيَةَ (3) . (4)
وَالْمُرَادُ بِمَهْرِ الْبَغِيِّ: مَا تُؤْجِرُ بِهِ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا عَلَى الزِّنَى، وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي تَحْرِيمِهِ. وَتَفْصِيل بَقِيَّةِ الأَْحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْبِغَاءِ مَحَلُّهَا مُصْطَلَحُ: (زِنَى) .
__________
(1) روح المعاني 18 / 156، القرطبي 12 / 254، وأحكام القرآن لابن العربي 2 / 1374، وتفسير 18 / 3.
(2) حديث: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب. . . " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 426 ـ سلفية) ومسلم (3 / 1198 ـ ط الحلبي) .
(3) أحكام القرآن لابن العربي 2 / 1374، وأحكام القرآن للكيالهراس 4 / 297، وصحيح الترمذي 5 / 67، وسنن ابن ماجه 2 / 730.
(4) سورة النور / 33.(8/129)
بُغَاةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - يُقَال فِي اللُّغَةِ: بَغَى عَلَى النَّاسِ بَغْيًا: أَيْ ظَلَمَ وَاعْتَدَى، فَهُوَ بَاغٍ وَالْجَمْعُ بُغَاةٌ، وَبَغَى: سَعَى بِالْفَسَادِ، وَمِنْهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ. (1)
وَالْفُقَهَاءُ لاَ يَخْرُجُونَ فِي الْجُمْلَةِ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى إِلاَّ بِوَضْعِ بَعْضِ قُيُودٍ فِي التَّعْرِيفِ فَقَدْ عَرَّفُوا الْبُغَاةَ بِأَنَّهُمُ: الْخَارِجُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ طَاعَةِ الإِْمَامِ الْحَقِّ بِتَأْوِيلٍ، وَلَهُمْ شَوْكَةٌ.
وَيُعْتَبَرُ بِمَنْزِلَةِ الْخُرُوجِ: الاِمْتِنَاعُ مِنْ أَدَاءِ الْحَقِّ الْوَاجِبِ الَّذِي يَطْلُبُهُ الإِْمَامُ، كَالزَّكَاةِ.
وَيُطْلَقُ عَلَى مَنْ سِوَى الْبُغَاةِ اسْمُ (أَهْل الْعَدْل) وَهُمُ الثَّابِتُونَ عَلَى مُوَالاَةِ الإِْمَامِ. (2)
__________
(1) المصباح ولسان العرب، مادة: " بغي ".
(2) القرطبي 6 / 316، وروح المعاني 26 / 150، ومعالم التنزيل بهامش ابن كثير 8 / 15، وحاشية ابن عابدين 3 / 308، الهداية والفتح 4 / 408، وحاشية الشلبي على تبيين الحقائق 3 / 293، والشرح الصغير 4 / 426، ومواهب الجليل 6 / 278، والتاج والإكليل 6 / 276، ومنهاج الطالبين وحاشية قليوبي 4 / 170، وكشاف القناع 6 / 158.(8/130)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْخَوَارِجُ:
2 - يَقُول الْجُرْجَانِيُّ: هُمُ الَّذِينَ يَأْخُذُونَ الْعُشْرَ مِنْ غَيْرِ إِذْنِ السُّلْطَانِ. (1) وَهُمْ فِي الأَْصْل كَانُوا فِي صَفِّ الإِْمَامِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْقِتَال، وَخَرَجُوا عَلَيْهِ لَمَّا قَبِل التَّحْكِيمَ. قَالُوا: لِمَ تُحَكِّمْ وَأَنْتَ عَلَى حَقٍّ.
وَيَقُول ابْنُ عَابِدِينَ: إِنَّهُمْ يَرَوْنَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى بَاطِلٍ بِقَبُولِهِ التَّحْكِيمَ، وَيُوجِبُونَ قِتَالَهُ، وَيَسْتَحِلُّونَ دِمَاءَ أَهْل الْعَدْل، وَيَسْبُونَ نِسَاءَهُمْ وَذَرَارِيَّهُمْ؛ لأَِنَّهُمْ فِي نَظَرِهِمْ كُفَّارٌ. (2)
وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ بُغَاةٌ، وَلاَ يَرَوْنَ تَكْفِيرَهُمْ، وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْل الْحَدِيثِ إِلَى أَنَّهُمْ كُفَّارٌ مُرْتَدُّونَ. وَقَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: لاَ أَعْلَمُ أَحَدًا وَافَقَ أَهْل الْحَدِيثِ عَلَى تَكْفِيرِهِمْ، وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبِرِّ أَنَّ الإِْمَامَ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سُئِل عَنْهُمْ: أَكُفَّارٌ هُمْ؟ قَال: مِنَ الْكُفْرِ فَرُّوا. قِيل: فَمُنَافِقُونَ؟ قَال: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً. قِيل فَمَا هُمْ؟ قَال: هُمْ قَوْمٌ أَصَابَتْهُمْ فِتْنَةٌ، فَعَمُوا وَصَمُّوا، وَبَغَوْا عَلَيْنَا، وَقَاتَلُوا فَقَاتَلْنَاهُمْ. وَقَال لَهُمْ: لَكُمْ عَلَيْنَا ثَلاَثٌ: لاَ نَمْنَعُكُمْ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ تَذْكُرُوا فِيهَا اسْمَ اللَّهِ، وَلاَ نَبْدَؤُكُمْ بِقِتَالٍ، وَلاَ نَمْنَعُكُمُ الْفَيْءَ مَا دَامَتْ
__________
(1) التعريفات للجرجاني ص 91.
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 310، والبدائع 7 / 140.(8/130)
أَيْدِيكُمْ مَعَنَا. (1)
وَيَقُول الْمَاوَرْدِيُّ: إِنْ تَظَاهَرَ الْخَوَارِجُ بِاعْتِقَادِهِمْ، وَهُمْ عَلَى اخْتِلاَطٍ بِأَهْل الْعَدْل، جَازَ لِلإِْمَامِ أَنْ يُعَزِّرَهُمْ. (2)
وَتَفْصِيل الْكَلاَمِ فِي مُصْطَلَحِ (فِرَق) .
ب - الْمُحَارِبُونَ:
3 - الْمُحَارِبُونَ: لَفْظٌ مُشْتَقٌّ مِنَ الْحِرَابَةِ مَصْدَرُ حَرَبَ، وَحَرَبَهُ يَحْرُبُهُ: إِذَا أَخَذَ مَالَهُ، وَالْحَارِبُ: الْغَاصِبُ النَّاهِبُ. (3)
وَعَبَّرَ عَنْهَا الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: بِقَطْعِ الطَّرِيقِ، وَقَالُوا: إِنَّهُ الْخُرُوجُ عَلَى الْمَارَّةِ لأَِخْذِ الْمَال عَلَى سَبِيل الْمُغَالَبَةِ، عَلَى وَجْهٍ يَمْنَعُ الْمَارَّةَ مِنَ الْمُرُورِ، فَيَنْقَطِعُ الطَّرِيقُ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْقَطْعُ مِنْ جَمَاعَةٍ أَمْ وَاحِدٍ، بَعْدَ أَنْ يَكُونَ لَهُ قُوَّةُ الْقَطْعِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْقَطْعُ بِسِلاَحٍ أَمْ بِغَيْرِهِ مِنَ الْعَصَا وَالْحَجَرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَتُسَمَّى الْحِرَابَةُ بِالسَّرِقَةِ الْكُبْرَى.
أَمَّا كَوْنُهَا سَرِقَةً؛ فَبِاعْتِبَارِ أَنَّ قَاطِعَ الطَّرِيقِ يَأْخُذُ الْمَال خُفْيَةً عَنْ عَيْنِ الإِْمَامِ الَّذِي عَلَيْهِ حِفْظُ الأَْمْنِ. وَأَمَّا كَوْنُهَا كُبْرَى؛ فَلأَِنَّ ضَرَرَهُ يَعُمُّ، حَيْثُ يَقْطَعُ الطَّرِيقَ عَلَى الْجَمَاعَةِ بِزَوَال الأَْمْنِ. (4)
__________
(1) المغني 8 / 105 - 107.
(2) الأحكام السلطانية ص 158.
(3) لسان العرب مادة: " حرب ".
(4) البحر الرائق 5 / 72، والبدائع 7 / 90، وحاشية الشلبي على تبيين الحقائق 3 / 235، ومواهب الجليل، 6 / 914، والشرح الصغير 4 / 491.(8/131)
فَالْفَرْقُ بَيْنَ الْحِرَابَةِ وَالْبَغْيِ هُوَ أَنَّ الْبَغْيَ يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ تَأْوِيلٍ، أَمَّا الْحِرَابَةُ فَالْغَرَضُ مِنْهَا الإِْفْسَادُ فِي الأَْرْضِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلْبَغْيِ:
4 - الْبَغْيُ حَرَامٌ، وَالْبُغَاةُ آثِمُونَ، وَلَكِنْ لَيْسَ الْبَغْيُ خُرُوجًا عَنِ الإِْيمَانِ؛ لأَِنَّ اللَّهَ سَمَّى الْبُغَاةَ مُؤْمِنِينَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُْخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ. . .} إِلَى أَنْ قَال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} ، (1) وَيَحِل قِتَالُهُمْ، وَيَجِبُ عَلَى النَّاسِ مَعُونَةُ الإِْمَامِ فِي قِتَالِهِمْ. وَمَنْ قُتِل مِنْ أَهْل الْعَدْل أَثْنَاءَ قِتَالِهِمْ فَهُوَ شَهِيدٌ. وَيَسْقُطُ قِتَالُهُمْ إِذَا فَاءُوا إِلَى أَمْرِ اللَّهِ، وَيَقُول الصَّنْعَانِيُّ: إِذَا فَارَقَ أَحَدٌ الْجَمَاعَةَ وَلَمْ يَخْرُجْ عَلَيْهِمْ وَلاَ قَاتَلَهُمْ يُخَلَّى وَشَأْنَهُ؛ إِذْ مُجَرَّدُ الْخِلاَفِ عَلَى الإِْمَامِ لاَ يُوجِبُ قِتَال الْمُخَالِفِ. (2)
وَفِي حَدِيثٍ رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَغَيْرُهُ قَال النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لاِبْنِ مَسْعُودٍ: يَا ابْنَ مَسْعُودٍ: أَتَدْرِي مَا حُكْمُ اللَّهِ فِيمَنْ بَغَى مِنْ هَذِهِ الأُْمَّةِ؟ قَال ابْنُ مَسْعُودٍ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَال: حُكْمُ اللَّهِ فِيهِمْ أَلاَّ يُتْبَعَ مُدْبِرُهُمْ،
__________
(1) سورة الحجرات / 9، 10.
(2) روح المعاني 26 / 151، وسبل 3 / 407.(8/131)
وَلاَ يُقْتَل أَسِيرُهُمْ، وَلاَ يُذَفَّفُ عَلَى جَرِيحِهِمْ. (1)
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ الْبَغْيَ لَيْسَ اسْمَ ذَمٍّ؛ لأَِنَّ الْبُغَاةَ خَالَفُوا بِتَأْوِيلٍ جَائِزٍ فِي اعْتِقَادِهِمْ، لَكِنَّهُمْ مُخْطِئُونَ فِيهِ، فَلَهُمْ نَوْعُ عُذْرٍ؛ لِمَا فِيهِمْ مِنْ أَهْلِيَّةِ الاِجْتِهَادِ.
وَقَالُوا: إِنَّ مَا وَرَدَ فِي ذَمِّهِمْ، وَمَا وَقَعَ فِي كَلاَمِ الْفُقَهَاءِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ مِنْ وَصْفِهِمْ بِالْعِصْيَانِ أَوِ الْفِسْقِ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ لاَ أَهْلِيَّةَ فِيهِ لِلاِجْتِهَادِ، أَوْ لاَ تَأْوِيل لَهُ. (2) وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ تَأْوِيلُهُ قَطْعِيَّ الْبُطْلاَنِ.
5 - وَقَدْ بَيَّنَ الْفُقَهَاءُ أَنْوَاعَ الْبُغَاةِ مِنْ حَيْثُ جَوَازُ فِعْلِهِمْ، أَوْ كَوْنُهُ صَغِيرَةً أَوْ كَبِيرَةً كَمَا يَلِي:
أ - الْبُغَاةُ إِذَا لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْل الْبِدَعِ لَيْسُوا بِفَاسِقِينَ، وَإِنَّمَا هُمْ مُخْطِئُونَ فِي تَأْوِيلِهِمْ، كَالْمُجْتَهِدِينَ مِنَ الْفُقَهَاءِ، يَقُول ابْنُ قُدَامَةَ: لاَ أَعْلَمُ خِلاَفًا فِي قَبُول شَهَادَتِهِمْ. (3) وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ. وَكَذَا إِنْ تَكَلَّمُوا بِالْخُرُوجِ لَكِنْ لَمْ يَعْزِمُوا عَلَى الْخُرُوجِ بَعْدُ، فَلَيْسَ لِلإِْمَامِ أَنْ يَتَعَرَّضَ
__________
(1) سبل السلام 3 / 409، وروح المعاني 26 / 151 وحديث: " أتدري ما حكم الله فيمن بغي. . . " أخرجه الحاكم (2 / 155 ـ ط دائرة المعارف العثمانية) والبيهقي (8 / 182 ـ دائرة المعارف العثمانية) وقال البيهقي: تفرد به كوثر بن حكيم وهو ضعيف.
(2) نهاية المحتاج 7 / 382.
(3) المغني 8 / 117.(8/132)
لَهُمْ؛ لأَِنَّ الْعَزْمَ عَلَى الْجِنَايَةِ لَمْ يُوجَدْ. وَمِثَال ذَلِكَ: مَا وَقَعَ لِبَعْضِ الصَّحَابَةِ، مِمَّنْ عَصَى الإِْمَامَ لاَ عَلَى سَبِيل الْمُغَالَبَةِ، مِنْ أَنَّهُ مَكَثَ أَشْهُرًا لَمْ يُبَايِعِ الْخَلِيفَةَ ثُمَّ بَايَعَهُ. يَقُول الْقُرْطُبِيُّ: وَلَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ لَعْنَ الْبُغَاةِ وَالْبَرَاءَةَ مِنْهُمْ وَتَفْسِيقَهُمْ. (1)
ب - إِنْ خَالَطَ الْبُغَاةَ أَهْل الْعَدْل، وَتَظَاهَرُوا بِاعْتِقَادِهِمْ، دُونَ مُقَاتَلَتِهِمْ جَازَ لِلإِْمَامِ تَعْزِيرُهُمْ؛ إِذِ التَّظَاهُرُ بِاعْتِقَادِهِمْ، وَنَشْرُهُ بَيْنَ أَهْل الْعَدْل دُونَ قِتَالٍ يُعْتَبَرُ مِنَ الصَّغَائِرِ. (2)
ج - إِذَا اجْتَمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى إِمَامٍ، وَصَارُوا آمَنِينَ بِهِ، فَخَرَجَ عَلَيْهِ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِظُلْمٍ ظَلَمَهُمْ إِيَّاهُ، وَلَكِنْ لِدَعْوَى الْحَقِّ وَالْوِلاَيَةِ. فَقَالُوا: الْحَقُّ مَعَنَا، وَيَدَّعُونَ الْوِلاَيَةَ، وَلَهُمْ تَأْوِيلٌ وَمَنَعَةٌ، فَهُمْ أَهْل بَغْيٍ، فَعَلَى كُل مَنْ يَقْوَى عَلَى الْقِتَال مُنَاصَرَةُ الإِْمَامِ عَلَيْهِمْ. قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَمِنَ الْبُغَاةِ الْخَوَارِجُ.
وَيَقُول ابْنُ قُدَامَةَ: إِذَا خَرَجُوا عَلَى الإِْمَامِ فَهُمْ فُسَّاقٌ. (3)
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 309، ومواهب الجليل 6 / 278، وحاشية الدسوقي 4 / 298، وتفسير القرطبي 16 / 321.
(2) الأحكام السلطانية للماوردي ص 58.
(3) حاشية ابن عابدين 3 / 309، وحاشية الشلبي 3 / 294، والمغني 8 / 118.(8/132)
شُرُوطُ تَحَقُّقِ الْبَغْيِ:
6 - يَتَحَقَّقُ الْبَغْيُ بِمَا يَلِي:
أ - أَنْ يَكُونَ الْخَارِجُونَ عَلَى الإِْمَامِ جَمَاعَةً مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَهُمْ شَوْكَةٌ، وَخَرَجُوا عَلَيْهِ بِغَيْرِ حَقٍّ لإِِرَادَةِ خَلْعِهِ بِتَأْوِيلٍ فَاسِدٍ. فَلَوْ خَرَجَ عَلَيْهِ أَهْل الذِّمَّةِ لَكَانُوا حَرْبِيِّينَ لاَ بُغَاةً. وَلَوْ خَرَجَتْ عَلَيْهِ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِغَيْرِ تَأْوِيلٍ وَلاَ طَلَبِ إِمْرَةٍ لَكَانُوا قُطَّاعَ طَرِيقٍ، وَكَذَا لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ قُوَّةٌ وَمَنَعَةٌ، وَلاَ يُخْشَى قِتَالُهُمْ، وَلَوْ كَانُوا مُتَأَوِّلِينَ. وَلَوْ خَرَجُوا عَلَى الإِْمَامِ بِحَقٍّ - كَدَفْعِ ظُلْمٍ - فَلَيْسُوا بِبُغَاةٍ، وَعَلَى الإِْمَامِ أَنْ يَتْرُكَ الظُّلْمَ وَيُنْصِفَهُمْ، وَلاَ يَنْبَغِي لِلنَّاسِ مَعُونَةُ الإِْمَامِ عَلَيْهِمْ؛ لأَِنَّ فِيهِ إِعَانَةً عَلَى الظُّلْمِ، وَلاَ أَنْ يُعِينُوا تِلْكَ الطَّائِفَةَ الْخَارِجَةَ؛ لأَِنَّ فِيهِ إِعَانَةً عَلَى خُرُوجِهِمْ، وَاتِّسَاعِ الْفِتْنَةِ، وَقَدْ لَعَنَ اللَّهُ مَنْ أَيْقَظَ الْفِتْنَةَ.
وَأَمَّا مَنْ خَرَجُوا عَلَى الإِْمَامِ بِمَنَعَةٍ، بِتَأْوِيلٍ يُقْطَعُ بِفَسَادِهِ، مُسْتَحِلِّينَ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالَهُمْ، مِمَّا كَانَ قَطْعِيَّ التَّحْرِيمِ، كَتَأْوِيل الْمُرْتَدِّينَ، فَلَيْسُوا بِبُغَاةٍ؛ لأَِنَّ الْبَاغِيَ تَأْوِيلُهُ مُحْتَمِلٌ لِلصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ، وَلَكِنَّ فَسَادَهُ هُوَ الأَْظْهَرُ، وَهُوَ مُتَّبِعٌ لِلشَّرْعِ فِي زَعْمِهِ، وَالْفَاسِدُ مِنْهُ مُلْحَقٌ بِالصَّحِيحِ، إِذَا ضُمَّتْ إِلَيْهِ الْمَنَعَةُ فِي حَقِّ الدَّفْعِ. (1)
ب - أَنْ يَكُونَ النَّاسُ قَدِ اجْتَمَعُوا عَلَى إِمَامٍ
__________
(1) التاج والإكليل 6 / 277 - 278، ونهاية المحتاج 7 / 382ـ 383، وفتح القدير 4 / 414.(8/133)
وَصَارُوا بِهِ آمَنِينَ، وَالطُّرُقَاتُ بِهِ آمِنَةٌ؛ لأَِنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ يَكُونُ عَاجِزًا، أَوْ جَائِرًا ظَالِمًا يَجُوزُ الْخُرُوجُ عَلَيْهِ وَعَزْلُهُ، إِنْ لَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ فِتْنَةٌ، وَإِلاَّ فَالصَّبْرُ أَوْلَى مِنَ التَّعَرُّضِ لإِِفْسَادِ ذَاتِ الْبَيْنِ.
ج - أَنْ يَكُونَ الْخُرُوجُ عَلَى سَبِيل الْمُغَالَبَةِ، أَيْ بِإِظْهَارِ الْقَهْرِ. وَقِيل: بِالْمُقَاتَلَةِ؛ وَذَلِكَ لأَِنَّ مَنْ يَعْصِي الإِْمَامَ لاَ عَلَى سَبِيل الْمُغَالَبَةِ لاَ يَكُونُ مِنَ الْبُغَاةِ، فَمَنْ خَرَجَ عَنْ طَاعَةِ الإِْمَامِ مِنْ غَيْرِ إِظْهَارِ الْقَهْرِ لاَ يَكُونُ بَاغِيًا. (1)
د - وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِاشْتِرَاطِ أَنْ يَكُونَ لِلْخَارِجِينَ مُطَاعٌ فِيهِمْ، يَصْدُرُونَ عَنْ رَأْيِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ إِمَامًا مَنْصُوبًا؛ إِذْ لاَ شَوْكَةَ لِمَنْ لاَ مُطَاعَ لَهُمْ.
وَقِيل: بَل يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ إِمَامٌ مَنْصُوبٌ مِنْهُمْ،
هَذَا وَلاَ يُشْتَرَطُ لِتَحَقُّقِ الْبَغْيِ انْفِرَادُهُمْ بِنَحْوِ بَلَدٍ (2) وَلَكِنَّ ذَلِكَ شَرْطٌ لِمُقَاتَلَتِهِمْ. (3)
__________
(1) الشرح الصغير 4 / 427.
(2) نهاية المحتاج 7 / 382ـ 383.
(3) راجع ما قلناه في الشروط جميعها: حاشية ابن عابدين (3 / 309ـ 310) ، وفتح القدير 4 / 408، وحاشية الشلبي على تبيين الحقائق 3 / 294، والتاج والإكليل 6 / 277، ومواهب الجليل 6 / 277 ـ 278، وحاشية الدسوقي 4 / 299، والشرح الصغير 4 / 427، المهذب 2 / 219، ومنهاج الطالبين وحاشية قليوبي 1 / 170ـ 171، ونهاية المحتاج 7 / 382 ـ 383، كشاف القناع 6 / 161، والمغني 8 / 107.(8/133)
الإِْمَامُ الَّذِي يُعْتَبَرُ الْخُرُوجُ عَلَيْهِ بَغْيًا:
7 - مَنِ اتَّفَقَ، الْمُسْلِمُونَ عَلَى إِمَامَتِهِ وَبَيْعَتِهِ، وَثَبَتَتْ إِمَامَتُهُ، وَجَبَتْ طَاعَتُهُ وَمَعُونَتُهُ، وَمِثْلُهُ مَنْ تَثْبُتُ إِمَامَتُهُ بِعَهْدِ إِمَامٍ قَبْلَهُ إِلَيْهِ؛ إِذِ الإِْمَامُ يَصِيرُ إِمَامًا بِالْمُبَايَعَةِ أَوْ بِالاِسْتِخْلاَفِ مِمَّنْ قَبْلَهُ. وَلَوْ خَرَجَ رَجُلٌ عَلَى الإِْمَامِ فَقَهَرَهُ، وَغَلَبَ النَّاسَ بِسَيْفِهِ، حَتَّى أَذْعَنُوا لَهُ وَتَابَعُوهُ، صَارَ إِمَامًا يَحْرُمُ قِتَالُهُ وَالْخُرُوجُ عَلَيْهِ. (1) وَيُنْظَرُ لِلتَّفْصِيل بَحْثُ (الإِْمَامَةِ الْكُبْرَى) .
أَمَارَاتُ الْبَغْيِ:
8 - إِذَا تَكَلَّمَ جَمَاعَةٌ فِي الْخُرُوجِ عَلَى الإِْمَامِ وَمُخَالَفَةِ أَوَامِرِهِ، وَأَظْهَرُوا الاِمْتِنَاعَ، وَكَانُوا مُتَحَيِّزِينَ مُتَهَيِّئِينَ لِقَصْدِ الْقِتَال، لِخَلْعِ الإِْمَامِ وَطَلَبِ الإِْمْرَةِ لَهُمْ، وَكَانَ لَهُمْ تَأْوِيلٌ يُبَرِّرُ فِي نَظَرِهِمْ مَسْلَكَهُمْ دُونَ الْمُقَاتَلَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ أَمَارَةَ بَغْيِهِمْ.
وَيَنْبَغِي إِذَا مَا بَلَغَ الإِْمَامَ أَمْرُهُمْ، وَأَنَّهُمْ يَشْتَرُونَ السِّلاَحَ وَيَتَأَهَّبُونَ لِلْقِتَال، أَنْ يَأْخُذَهُمْ وَيَحْبِسَهُمْ حَتَّى يُقْلِعُوا عَنْ ذَلِكَ، وَيُحْدِثُوا تَوْبَةً؛ دَفْعًا لِلشَّرِّ بِقَدْرِ الإِْمْكَانِ؛ لأَِنَّهُ لَوِ انْتَظَرَ أَنْ يَبْدَءُوهُ بِالْقِتَال، فَرُبَّمَا لاَ يُمْكِنُهُ الدَّفْعُ، لِتَقَوِّي شَوْكَتِهِمْ
__________
(1) المغني 8 / 107، الدر المختار وحاشية ابن عابدين 3 / 310، التاج والإكليل 6 / 277، منهاج الطالبين وحاشية قليوبي 4 / 173ـ 174.(8/134)
وَتَكَثُّرِ جَمْعِهِمْ، خُصُوصًا وَالْفِتْنَةُ يُسْرِعُ إِلَيْهَا أَهْل الْفَسَادِ. (1) وَيَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي بَدْئِهِمْ بِالْقِتَال عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ.
وَكَذَلِكَ فَإِنَّ مُخَالَفَتَهُمْ لِلإِْمَامِ لِمَنْعِ حَقِّ اللَّهِ، أَوْ لآِدَمِيٍّ كَزَكَاةٍ، وَكَأَدَاءِ مَا عَلَيْهِمْ مِمَّا جَبَوْهُ لِبَيْتِ مَال الْمُسْلِمِينَ كَخَرَاجِ الأَْرْضِ، مَعَ التَّحَيُّزِ وَالتَّهَيُّؤِ لِلْخُرُوجِ عَلَى الإِْمَامِ عَلَى وَجْهِ الْمُغَالَبَةِ، وَعَدَمِ الْمُبَالاَةِ بِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ أَمَارَةَ بَغْيِهِمْ. (2)
أَمَّا لَوْ أَظْهَرُوا رَأْيَ الْخَوَارِجِ، كَتَكْفِيرِ فَاعِل الْكَبِيرَةِ وَتَرْكِ الْجَمَاعَاتِ وَاسْتِبَاحَةِ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالِهِمْ، وَلَكِنْ لَمْ يَرْتَكِبُوا ذَلِكَ، وَلَمْ يَقْصِدُوا الْقِتَال، وَلَمْ يَخْرُجُوا عَنْ طَاعَةِ الإِْمَامِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لاَ يَكُونُ أَمَارَةَ الْبَغْيِ، حَتَّى لَوِ امْتَازُوا بِمَوْضِعٍ يَتَجَمَّعُونَ فِيهِ، لَكِنْ إِنْ حَصَل مِنْهُمْ ضَرَرٌ تَعَرَّضْنَا لَهُمْ إِلَى زَوَال الضَّرَرِ. (3)
بَيْعُ السِّلاَحِ لأَِهْل الْفِتْنَةِ
9 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى تَحْرِيمِ بَيْعِ السِّلاَحِ لِلْبُغَاةِ وَأَهْل الْفِتْنَةِ؛ لأَِنَّ هَذَا سَدٌّ لِذَرِيعَةِ الإِْعَانَةِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَكَذَا مَا كَانَ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ مِنْ
__________
(1) فتح القدير 4 / 411، وتبيين الحقائق وحاشية الشلبي 3 / 194، والبدائع 7 / 140.
(2) الشرح الكبير، حاشية الدسوقي 4 / 299.
(3) نهاية المحتاج 7 / 383، كشاف القناع 6 / 166، والمغني 8 / 111.(8/134)
إِجَارَةٍ أَوْ مُعَاوَضَةٍ، وَقَدْ قَال الإِْمَامُ أَحْمَدُ: نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ السِّلاَحِ فِي الْفِتْنَةِ. (1)
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِكَرَاهَةِ بَيْعِ السِّلاَحِ لَهُمْ كَرَاهَةً تَحْرِيمِيَّةً؛ لأَِنَّهُ إِعَانَةٌ عَلَى مَعْصِيَةٍ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِْثْمِ وَالْعُدْوَانِ} ؛ (2) وَلأَِنَّ الْوَاجِبَ أَخْذُ سِلاَحِهِمْ بِمَا أَمْكَنَ، حَتَّى لاَ يَسْتَعْمِلُوهُ فِي الْفِتْنَةِ، فَمَنْعُ بَيْعِهِ لَهُمْ أَوْلَى.
وَالَّذِي يُكْرَهُ هُوَ بَيْعُ السِّلاَحِ نَفْسِهِ الْمُعَدِّ لِلاِسْتِعْمَال. وَإِنْ لَمْ يَدْرِ أَنَّ طَالِبَ السِّلاَحِ مِنْ أَهْل الْفِتْنَةِ لاَ يُكْرَهُ الْبَيْعُ لَهُ؛ لأَِنَّ الْغَلَبَةَ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ لأَِهْل الصَّلاَحِ، وَالأَْحْكَامُ تُبْنَى عَلَى الْغَالِبِ.
وَأَمَّا مَا لاَ يُقَاتَل بِهِ إِلاَّ بِصَنْعَةٍ كَالْحَدِيدِ، فَلاَ يُكْرَهُ بَيْعُهُ؛ لأَِنَّ الْمَعْصِيَةَ تَقَعُ بِعَيْنِ السِّلاَحِ، بِخِلاَفِ الْحَدِيدِ، وَقَاسُوهُ عَلَى الْخَشَبِ الَّذِي
__________
(1) الحطاب 4 / 254، ونهاية المحتاج 3 / 455، المغني 4 / 246، وإعلام الموقعين 3 / 158. وحديث: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع السلاح في الفتنة " أخرجه البيهقي من حديث عمران بن حصين بإسنادين، أما الإسناد الأول فقد قال عنه البيهقي: رفعه وهم الموقوف أصح. . . . أما الإسناد الثاني ففيه (بحر السقاء) وقد قال عنه: ضعيف لا يحتج به (السنن الكبرى للبيهقي 5 / 327) .
(2) سورة المائدة / 2.(8/135)
يُتَّخَذُ مِنْهُ الْمَعَازِفُ، فَإِنَّهُ لاَ يُكْرَهُ بَيْعُهُ؛ لأَِنَّ عَيْنَهُ لَيْسَ مُنْكَرًا، وَإِنَّمَا الْمُنْكَرُ فِي اسْتِعْمَالِهِ الْمَحْظُورِ.
وَالْحَدِيدُ وَإِنْ كَانَ يُكْرَهُ تَحْرِيمًا بَيْعُهُ لأَِهْل الْحَرْبِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ لأَِهْل الْبَغْيِ؛ لأَِنَّهُمْ لاَ يَتَفَرَّغُونَ لاِسْتِعْمَال الْحَدِيدِ سِلاَحًا؛ لأَِنَّ فَسَادَهُمْ فِي الْغَالِبِ يَكُونُ عَلَى شَرَفِ الزَّوَال بِالتَّوْبَةِ، أَوْ بِتَفْرِيقِ جَمْعِهِمْ، بِخِلاَفِ أَهْل الْحَرْبِ. (1)
وَاسْتَظْهَرَ ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّ الْكَرَاهَةَ تَنْزِيهِيَّةٌ، وَقَال: وَلَمْ أَرَ مَنْ تَعَرَّضَ لِهَذَا. (2)
وَاجِبُ الإِْمَامِ نَحْوَ الْبُغَاةِ:
أ - قَبْل الْقِتَال:
10 - يَنْبَغِي لِلإِْمَامِ أَنْ يَدْعُوَ الْبُغَاةِ الْخَارِجِينَ عَلَيْهِ إِلَى الْعَوْدَةِ إِلَى الْجَمَاعَةِ، وَالدُّخُول فِي طَاعَتِهِ رَجَاءَ الإِْجَابَةِ، وَقَبُول الدَّعْوَةِ، لَعَل الشَّرَّ يَنْدَفِعُ بِالتَّذْكِرَةِ؛ لأَِنَّهُ تُرْجَى تَوْبَتُهُمْ، وَيَسْأَلُهُمْ عَنْ سَبَبِ خُرُوجِهِمْ، فَإِنْ كَانَ لِظُلْمٍ مِنْهُ أَزَالَهُ، وَإِنْ ذَكَرُوا عِلَّةً يُمْكِنُ إِزَالَتُهَا أَزَالَهَا، وَإِنْ ذَكَرُوا شُبْهَةً كَشَفَهَا؛ (3) لأَِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بَدَأَ الأَْمْرَ
__________
(1) تبيين الحقائق 3 / 296ـ 297، والفتح والعناية4 / 415، والبدائع 7 / 140.
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 313.
(3) تبيين الحقائق3 / 294، والدر وحاشية ابن عابدين 3 / 311، وفتح القدير 4 / 410، والبدائع 7 / 140، والشرح الكبير 4 / 299، الشرح الصغير 4 / 408، والمهذب 2 / 219، ونهاية المحتاج 7 / 385ـ 386، والمغني 8 / 108، وكشاف القناع 6 / 162.(8/135)
بِالإِْصْلاَحِ قَبْل الْقِتَال فَقَال: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} . (1) وَلأَِنَّ الْمَقْصُودَ كَفُّهُمْ وَدَفْعُ شَرِّهِمْ، لاَ قَتْلُهُمْ. فَإِذَا أَمْكَنَ بِمُجَرَّدِ الْقَوْل كَانَ أَوْلَى مِنَ الْقِتَال؛ لِمَا فِيهِ مِنَ الضَّرَرِ بِالْفَرِيقَيْنِ. وَلاَ يَجُوزُ قِتَالُهُمْ قَبْل ذَلِكَ إِلاَّ أَنْ يُخَافَ شَرُّهُمْ. (2) وَإِنْ طَلَبُوا الإِْنْظَارَ - وَكَانَ الظَّاهِرُ مِنْ قَصْدِهِمُ الرُّجُوعَ إِلَى الطَّاعَةِ - أَمْهَلَهُمْ.
قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ عَلَى هَذَا كُل مَنْ أَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ. (3) وَقَال أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ: يُنْظِرُهُمْ إِلَى مُدَّةٍ قَرِيبَةٍ كَيَوْمَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةٍ. (4)
وَإِنْ أَصَرُّوا عَلَى بَغْيِهِمْ، بَعْدَ أَنْ بَعَثَ إِلَيْهِمْ أَمِينًا نَاصِحًا لِدَعْوَتِهِمْ، نَصَحَهُمْ نَدْبًا بِوَعْظٍ تَرْغِيبًا وَتَرْهِيبًا، وَحَسَّنَ لَهُمُ اتِّحَادَ كَلِمَةِ الدِّينِ وَعَدَمَ شَمَاتَةِ الْكَافِرِينَ، فَإِنْ أَصَرُّوا آذَنَهُمْ بِالْقِتَال. (5)
وَإِنْ قَاتَلَهُمْ بِلاَ دَعْوَةٍ جَازَ؛ لأَِنَّ الدَّعْوَةَ لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ. (6)
__________
(1) سورة الحجرات / 9.
(2) المغني 8 / 108، وكشاف القناع6 / 162.
(3) المغني 8 / 108.
(4) المهذب 2 / 219.
(5) نهاية المحتاج 7 / 386.
(6) تبيين الحقائق 3 / 294، والدر وحاشية ابن عابدين 3 / 311.(8/136)
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: يَجِبُ إِنْذَارُهُمْ وَدَعْوَتُهُمْ مَا لَمْ يُعَاجِلُوهُ. (1)
وَكَوْنُ الْمَبْعُوثِ إِلَيْهِمْ عَارِفًا فَطِنًا وَاجِبٌ، إِنْ بُعِثَ لِلْمُنَاظَرَةِ وَكَشْفِ الشُّبْهَةِ، وَإِلاَّ فَمُسْتَحَبٌّ. (2)
وَفَصَّل الْكَاسَانِيُّ فَقَال: إِنْ عَلِمَ الإِْمَامُ أَنَّهُمْ يُجَهِّزُونَ السِّلاَحَ وَيَتَأَهَّبُونَ لِلْقِتَال، فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُمْ، وَيَحْبِسَهُمْ حَتَّى يَتُوبُوا، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ حَتَّى تَعَسْكَرُوا وَتَأَهَّبُوا لِلْقِتَال، فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَدْعُوَهُمْ إِلَى الرُّجُوعِ إِلَى رَأْيِ الْجَمَاعَةِ أَوَّلاً، فَإِنَّ الإِْمَامَ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا خَرَجَ عَلَيْهِ أَهْل حَرُورَاءَ، نَدَبَ إِلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لِيَدْعُوَهُمْ إِلَى الْعَدْل، فَإِنْ أَجَابُوا كَفَّ عَنْهُمْ وَإِنْ أَبَوْا قَاتَلَهُمْ. . . وَإِنْ قَاتَلَهُمْ قَبْل الدَّعْوَةِ لاَ بَأْسَ بِذَلِكَ؛ لأَِنَّ الدَّعْوَةَ قَدْ بَلَغَتْهُمْ، فَهُمْ مُسْلِمُونَ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ. (3)
وَقَدْ أَسْنَدَ النَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ الْكُبْرَى إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ قَال: لَمَّا خَرَجَتِ الْحَرُورِيَّةُ اعْتَزَلُوا فِي دَارٍ، وَكَانُوا سِتَّةَ آلاَفٍ، فَقُلْتُ لِعَلِيٍّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ: لَعَلِّي أُكَلِّمُ هَؤُلاَءِ الْقَوْمَ. قَال إِنِّي أَخَافُهُمْ عَلَيْكَ. قُلْتُ: كَلاَّ. فَلَبِسْتُ ثِيَابِي، وَمَضَيْتُ إِلَيْهِمْ، حَتَّى دَخَلْتُ عَلَيْهِمْ وَهُمْ مُجْتَمِعُونَ.
__________
(1) الشرح الصغير4 / 428.
(2) نهاية المحتاج 7 / 385.
(3) البدائع 7 / 140.(8/136)
وَقُلْتُ: أَتَيْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عِنْدِ ابْنِ عَمِّ النَّبِيِّ وَصِهْرِهِ وَعَلَيْهِمْ نَزَل الْقُرْآنُ، وَهُمْ أَعْرَفُ بِتَأْوِيلِهِ مِنْكُمْ. وَلَيْسَ فِيكُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ. وَقُلْتُ: هَاتُوا مَا نَقَمْتُمْ عَلَى أَصْحَابِ رَسُول اللَّهِ وَخَتَنِهِ. قَالُوا: ثَلاَثٌ. أَنَّهُ حَكَّمَ الرِّجَال فِي دِينِ اللَّهِ، وَقَدْ قَال اللَّهُ تَعَالَى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ} (1) وَأَنَّهُ قَاتَل وَلَمْ يَسْبِ وَلَمْ يَغْنَمْ، فَإِنْ كَانُوا كُفَّارًا فَقَدْ حَلَّتْ لَنَا نِسَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ، وَإِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْنَا دِمَاؤُهُمْ. وَأَنَّهُ مَحَا نَفْسَهُ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (2) فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّهُ يَكُونُ أَمِيرَ الْكَافِرِينَ. قُلْتُ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ قَرَأْتُ عَلَيْكُمْ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، وَحَدَّثْتُكُمْ مِنْ سُنَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَرُدُّ قَوْلَكُمْ هَذَا، تَرْجِعُونَ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قُلْتُ: أَمَّا قَوْلُكُمْ: إِنَّهُ حَكَّمَ الرِّجَال فِي دِينِ اللَّهِ، فَأَنَا أَقْرَأُ عَلَيْكُمْ أَنْ قَدْ صَيَّرَ اللَّهُ حُكْمَهُ إِلَى الرِّجَال فِي أَرْنَبٍ ثَمَنُهَا رُبُعُ دِرْهَمٍ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} إِلَى قَوْلِهِ {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} (3) وَقَال اللَّهُ تَعَالَى فِي الْمَرْأَةِ وَزَوْجِهَا: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ
__________
(1) سورة الأنعام / 57.
(2) أي رضي بحذف عبارة:) أمير المؤمنين) في صك التحكيم بينه وبين معاوية.
(3) سورة المائدة / 95.(8/137)
وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} (1) أَنْشُدُكُمُ اللَّهَ أَحُكْمُ الرِّجَال فِي حَقْنِ دِمَائِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَإِصْلاَحِ ذَاتِ الْبَيْنِ أَحَقُّ، أَمْ فِي أَرْنَبٍ ثَمَنُهَا رُبُعُ دِرْهَمٍ؟ . وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: إِنَّهُ قَاتَل وَلَمْ يَسْبِ وَلَمْ يَغْنَمْ، أَتَسْبُونَ أُمَّكُمْ عَائِشَةَ، فَتَسْتَحِلُّونَ مِنْهَا مَا تَسْتَحِلُّونَ مِنْ غَيْرِهَا، وَهِيَ أُمُّكُمْ؟ لَئِنْ فَعَلْتُمْ لَقَدْ كَفَرْتُمْ. فَإِنْ قُلْتُمْ: لَيْسَتْ أُمَّنَا فَقَدْ كَفَرْتُمْ؛ لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُول: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} . (2) وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: إِنَّهُ مَحَا نَفْسَهُ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. فَإِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا قُرَيْشًا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، عَلَى أَنْ يَكْتُبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ كِتَابًا، فَقَال لِكَاتِبِهِ: اكْتُبْ: هَذَا مَا قَضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُول اللَّهِ. فَقَالُوا: وَاللَّهِ لَوْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُول اللَّهِ مَا صَدَدْنَاكَ عَنِ الْبَيْتِ وَلاَ قَاتَلْنَاكَ، وَلَكِنِ اكْتُبْ: مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ. فَقَال: وَاللَّهِ إِنِّي لَرَسُول اللَّهِ وَإِنْ كَذَّبْتُمُونِي. يَا عَلِيُّ اكْتُبْ: مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، فَرَسُول اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ عَلِيٍّ، وَقَدْ مَحَا نَفْسَهُ وَلَمْ يَكُنْ مَحْوُ ذَلِكَ مَحْوًا مِنَ النُّبُوَّةِ. فَرَجَعَ مِنْهُمْ أَلْفَانِ وَبَقِيَ سَائِرُهُمْ، فَقُوتِلُوا. (3)
__________
(1) سورة النساء / 35.
(2) الأحزاب / 6.
(3) الفتح 4 / 410، وانظر البدائع 7 / 140، والمغني 8 / 116، والمهذب 2 / 219، ونيل الأوطار 7 / 168.(8/137)
وَيُصَرِّحُ الأَْلُوسِيُّ أَنَّهُ يَجِبُ قَبْل الْقِتَال إِزَالَةُ الشُّبْهَةِ بِالْحُجَجِ النَّيِّرَةِ وَالْبَرَاهِينِ الْقَاطِعَةِ، وَدَعْوَةِ الْبُغَاةِ إِلَى الرُّجُوعِ إِلَى الْجَمَاعَةِ وَالدُّخُول فِي طَاعَةِ الإِْمَامِ. (1)
ب - قِتَال الْبُغَاةِ:
11 - إِذَا مَا دَعَا الإِْمَامُ الْبُغَاةَ إِلَى الدُّخُول فِي طَاعَتِهِ، وَكَشَفَ شُبْهَتَهُمْ، فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا وَتَحَيَّزُوا مُجْتَمِعِينَ، وَكَانُوا مُتَهَيِّئِينَ لِلْقِتَال فَإِنَّهُ يَحِل قِتَالُهُمْ. وَلَكِنْ هَل نَبْدَؤُهُمْ بِالْقِتَال، أَمْ لاَ نُقَاتِلُهُمْ إِلاَّ إِذَا أَظْهَرُوا الْمُغَالَبَةَ؟ هُنَاكَ اتِّجَاهَانِ:
الاِتِّجَاهُ الأَْوَّل: جَوَازُ الْبَدْءِ بِالْقِتَال؛ لأَِنَّهُ لَوِ انْتَظَرْنَا قِتَالَهُمْ رُبَّمَا لاَ يُمْكِنُ الدَّفْعُ، وَهُوَ مَا نَقَلَهُ خُوَاهَرْ زَادَهْ، قَال الزَّيْلَعِيُّ: وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لأَِنَّ النَّصَّ جَاءَ غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِالْبُدَاءَةِ مِنْهُمْ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُْخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي. . .} (2) وَقَوْل عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: سَيَخْرُجُ قَوْمٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، حِدَاثُ الأَْسْنَانِ سُفَهَاءُ الأَْحْلاَمِ، يَقُولُونَ مِنْ قَوْل خَيْرِ الْبَرِيَّةِ، لاَ يُجَاوِزُ إِيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ، فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (3) ؛
__________
(1) روح المعاني 16 / 151
(2) الحجرات / 9.
(3) حديث: " سيخرج قوم في آخر الزمان. . . " أخرجه البخاري (الفتح 12 / 283ـ ط السلفية) ومسلم (2 / 746ـ 747 ـ ط الحلبي) .(8/138)
وَلأَِنَّ الْحُكْمَ يُدَارُ عَلَى عَلاَمَتِهِ، وَهِيَ هُنَا التَّحَيُّزُ وَالتَّهَيُّؤُ، فَلَوِ انْتَظَرْنَا حَقِيقَةَ قِتَالِهِمْ لَصَارَ ذَرِيعَةً لِتَقْوِيَتِهِمْ. فَيُدَارُ الْحُكْمُ عَلَى الإِْمَارَةِ ضَرُورَةَ دَفْعِ شَرِّهِمْ؛ وَلأَِنَّهُمْ بِالْخُرُوجِ عَلَى الإِْمَامِ صَارُوا عُصَاةً فَجَازَ قِتَالُهُمْ، إِلَى أَنْ يُقْلِعُوا عَنْ ذَلِكَ. وَمَا نُقِل عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ قَوْلِهِ فِي الْخَوَارِجِ لَنْ نُقَاتِلَكُمْ حَتَّى تُقَاتِلُونَا مَعْنَاهُ: حَتَّى تَعْزِمُوا عَلَى قِتَالِنَا. وَلَوْ أَمْكَنَ دَفْعُ شَرِّهِمْ بِالْحَبْسِ بَعْدَمَا تَأَهَّبُوا فَعَل ذَلِكَ، وَلاَ نُقَاتِلُهُمْ؛ لأَِنَّهُ أَمْكَنَ دَفْعُ شَرِّهِمْ بِأَهْوَنَ مِنْهُ (1) .
وَإِلَى الْقَوْل بِحِل بَدْئِهِمْ بِالْقِتَال اتَّجَهَ فُقَهَاءُ الْحَنَابِلَةِ، جَاءَ فِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ: إِنْ أَبَوُا الرُّجُوعَ وَعَظَهُمْ وَخَوَّفَهُمْ بِالْقِتَال، فَإِنْ رَجَعُوا إِلَى الطَّاعَةِ تَرَكَهُمْ، وَإِلاَّ لَزِمَهُ قِتَالُهُمْ إِنْ كَانَ قَادِرًا؛ لإِِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ (2) .
الاِتِّجَاهُ الثَّانِي: نَقَل الْقُدُورِيُّ أَنَّهُ لاَ يَبْدَؤُهُمْ بِالْقِتَال حَتَّى يَبْدَءُوهُ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ الْكَاسَانِيُّ وَالْكَمَال. قَال الْكَاسَانِيُّ: لأَِنَّ قِتَالَهُمْ لِدَفْعِ شَرِّهِمْ، لاَ لِشَرِّ شِرْكِهِمْ؛ لأَِنَّهُمْ مُسْلِمُونَ، فَمَا لَمْ يَتَوَجَّهِ الشَّرُّ مِنْهُمْ لاَ يُقَاتِلُهُمُ الإِْمَامُ؛ إِذْ لاَ يَجُوزُ قِتَال الْمُسْلِمِ إِلاَّ دَفْعًا، بِخِلاَفِ الْكَافِرِ؛ لأَِنَّ
__________
(1) تبيين الحقائق 3 / 294، والفتح 4 / 411.
(2) كشاف القناع 6 / 162، وانظر المغني 8 / 108.(8/138)
نَفْسَ الْكُفْرِ قَبِيحٌ (1) . وَهُوَ مَا اسْتَظْهَرَهُ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَوْل أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ؛ لأَِنَّ عَلِيًّا أَمَرَ أَصْحَابَهُ أَلاَّ يَبْدَءُوا مَنْ خَرَجُوا عَلَيْهِ بِالْقِتَال، وَإِنْ أَمْكَنَ دَفْعُهُمْ دُونَ الْقَتْل لَمْ يَجُزِ الْقَتْل. وَلاَ يَجُوزُ قِتَالُهُمْ قَبْل ذَلِكَ إِلاَّ أَنْ يُخَافَ شَرُّهُمْ كَالصَّائِل. وَقَال ابْنُ تَيْمِيَةَ: " الأَْفْضَل تَرْكُهُ حَتَّى يَبْدَءُوهُ " أَيِ الْقِتَال (2) .
الْمُعَاوَنَةُ فِي مُقَاتَلَةِ الْبُغَاةِ:
12 - مَنْ دَعَاهُ الإِْمَامُ إِلَى مُقَاتَلَةِ الْبُغَاةِ افْتُرِضَ عَلَيْهِ إِجَابَتُهُ؛ لأَِنَّ طَاعَةَ الإِْمَامِ فِيمَا لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ فَرْضٌ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: يَجِبُ عَلَى كُل مَنْ أَطَاقَ الدَّفْعَ أَنْ يُقَاتِل مَعَ الإِْمَامِ، إِلاَّ إِنْ كَانَ سَبَبُ الْخُرُوجِ ظُلْمَ الإِْمَامِ بِمَا لاَ شُبْهَةَ فِيهِ؛ إِذْ يَجِبُ مَعُونَتُهُمْ لإِِنْصَافِهِمْ إِنْ كَانَ ذَلِكَ مُمْكِنًا. وَمَنْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا لَزِمَ بَيْتَهُ. وَعَلَيْهِ يُحْمَل مَا رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ قَعَدُوا فِي الْفِتْنَةِ، وَرُبَّمَا كَانَ بَعْضُهُمْ فِي تَرَدُّدٍ مِنْ حِل الْقِتَال.
وَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ قَوْلِهِ: " إِذَا
__________
(1) البدائع 7 / 140، والفتح 4 / 410.
(2) حاشية الدسوقي 4 / 299، كشاف القناع 6 / 162، والمغني 8 / 108، والمهذب 2 / 219، 222، ونهاية المحتاج 7 / 383.(8/139)
وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، فَالْوَاجِبُ عَلَى كُل مُسْلِمٍ أَنْ يَعْتَزِل الْفِتْنَةَ، وَيَقْعُدَ فِي بَيْتِهِ " فَإِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا لَمْ يَكُنْ إِمَامٌ. أَمَّا مَا رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ: إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِل وَالْمَقْتُول فِي النَّارِ (1) فَإِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى اقْتِتَالِهِمَا حَمِيَّةً وَعَصَبِيَّةً، أَوْ لأَِجْل الدُّنْيَا وَالْمُلْكِ. وَلَوْ كَانَ السُّلْطَانُ ظَالِمًا، وَبَغَتْ عَلَيْهِ طَائِفَةٌ لِرَفْعِ الظُّلْمِ، وَطُلِبَ مِنْهُ ذَلِكَ فَلَمْ يَسْتَجِبْ، فَلاَ يَنْبَغِي لِلنَّاسِ مُعَاوَنَةُ السُّلْطَانِ وَلاَ مُعَاوَنَةُ الْبُغَاةِ (2) ؛ إِذْ غَيْرُ الْعَدْل لاَ تَجِبُ مُعَاوَنَتُهُ. قَال مَالِكٌ: دَعْهُ وَمَا يُرَادُ مِنْهُ، يَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنَ الظَّالِمِ بِظَالِمٍ، ثُمَّ يَنْتَقِمُ مِنْ كِلَيْهِمَا (3) . وَيَنُصُّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى مَنْ خَرَجُوا عَلَى الإِْمَامِ - وَلَوْ جَائِرًا - يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ إِعَانَتُهُ مِمَّنْ قَرُبَ مِنْهُمْ، حَتَّى تَبْطُل شَوْكَتُهُمْ (4) .
وَيَدُل عَلَى وُجُوبِ مَعُونَةِ الإِْمَامِ لِدَفْعِ الْبُغَاةِ مَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: مَنْ أَعْطَى إِمَامًا
__________
(1) حديث: " إذا التقى المسلمان بسيفيهما. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 13 / 31 - ط السلفية) ومسلم (4 / 2214 ـ ط الحلبي) .
(2) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 3 / 311، وفتح القدير 4 / 411، والبدائع 7 / 140، وحاشية الدسوقي 4 / 399، وحاشية الشبراملسي مع نهاية المحتاج 7 / 385، والمغني 8 / 107، كشاف القناع 6 / 162.
(3) حاشية الدسوقي 4 / 299.
(4) حاشية الشبراملسي على نهاية المحتاج 7 / 385.(8/139)
صَفْقَةَ يَدِهِ وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ فَلْيُطِعْهُ إِنِ اسْتَطَاعَ، فَإِنْ جَاءَ آخَرُ يُنَازِعُهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَ الآْخَرِ (1) وَلأَِنَّ كُل مَنْ ثَبَتَتْ إِمَامَتُهُ وَجَبَتْ طَاعَتُهُ؛ لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ يَخْرُجُ قَوْمٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ. . . . (2)
شُرُوطُ قِتَال الْبُغَاةِ وَمَا يَتَمَيَّزُ بِهِ:
13 - إِذَا لَمْ يُجْدِ مَعَ الْبُغَاةِ النُّصْحُ، وَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لِلرُّجُوعِ إِلَى طَاعَةِ الإِْمَامِ وَالدُّخُول فِي الْجَمَاعَةِ، أَوْ لَمْ يَقْبَلُوا الاِسْتِتَابَةَ - إِنْ كَانُوا فِي قَبْضَةِ الإِْمَامِ - وَرَأَوْا مُقَاتَلَتَنَا وَجَبَ قِتَالُهُمْ (3) . بِشَرْطِ أَنْ يَتَعَرَّضُوا لِحُرُمَاتِ أَهْل الْعَدْل، أَوْ يَتَعَطَّل جِهَادُ الْمُشْرِكِينَ بِهِمْ، أَوْ يَأْخُذُوا مِنْ حُقُوقِ بَيْتِ الْمَال مَا لَيْسَ لَهُمْ، أَوْ يَمْتَنِعُوا مِنْ دَفْعِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِمْ، أَوْ يَتَظَاهَرُوا عَلَى خَلْعِ الإِْمَامِ الَّذِي انْعَقَدَتْ لَهُ الْبَيْعَةُ. عَلَى مَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. وَقَال الرَّمْلِيُّ: الأَْوْجَهُ وُجُوبُ قِتَالِهِمْ مُطْلَقًا؛ لأَِنَّ بِبَقَائِهِمْ - وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مَا ذُكِرَ - تَتَوَلَّدُ مَفَاسِدُ، قَدْ لاَ تُتَدَارَكُ مَا دَامُوا قَدْ خَرَجُوا عَنْ قَبْضَةِ الإِْمَامِ وَتَهَيَّئُوا لِلْقِتَال (4) .
وَلَوِ انْدَفَعَ شَرُّهُمْ بِمَا هُوَ أَهْوَنُ وَجَبَ بِقَدْرِ مَا يَنْدَفِعُ؛ إِذْ يُشْتَرَطُ لِمُقَاتَلَتِهِمْ أَنْ يَتَعَيَّنَ الْقِتَال
__________
(1) حديث: " من أعطي إماما صفقة يده. . . " أخرجه مسلم (3 / 1473 ـ ط الحلبي) .
(2) المغني 8 / 104، 105.
(3) حاشية ابن عابدين 3 / 310، والتاج والإكليل 6 / 278، والمغني 8 / 105.
(4) نهاية المحتاج 7 / 386، والمهذب 2 / 222.(8/140)
لِدَفْعِ شَرِّهِمْ، وَإِذَا أَمْكَنَ ذَلِكَ بِمُجَرَّدِ الْقَوْل كَانَ أَوْلَى مِنَ الْقِتَال (1) .
كَيْفِيَّةُ قِتَال الْبُغَاةِ:
14 - الأَْصْل أَنَّ قِتَالَهُمْ إِنَّمَا يَكُونُ دَرْءًا لِتَفْرِيقِ الْكَلِمَةِ، مَعَ عَدَمِ التَّأْثِيمِ؛ لأَِنَّهُمْ مُتَأَوِّلُونَ، وَلِذَا فَإِنَّ قِتَالَهُمْ يَفْتَرِقُ عَنْ قِتَال الْكُفَّارِ بِأَحَدَ عَشَرَ وَجْهًا: أَنْ يَقْصِدَ بِالْقِتَال رَدْعَهُمْ لاَ قَتْلَهُمْ، وَأَنْ يَكُفَّ عَنْ مُدْبِرِهِمْ، وَلاَ يُجْهِزَ عَلَى جَرِيحِهِمْ (2) ، وَلاَ تُقْتَل أَسْرَاهُمْ، وَلاَ تُغْنَمُ أَمْوَالُهُمْ، وَلاَ تُسْبَى ذَرَارِيُّهُمْ، وَلاَ يُسْتَعَانُ عَلَيْهِمْ بِمُشْرِكٍ، وَلاَ يُوَادِعُهُمْ عَلَى مَالٍ، وَلاَ تُنْصَبُ عَلَيْهِمُ الْعَرَّادَاتُ (الْمَجَانِيقُ وَنَحْوُهَا) ، وَلاَ تُحَرَّقُ مَسَاكِنُهُمْ، وَلاَ يُقْطَعُ شَجَرُهُمْ (3) .
وَإِذَا تَحَيَّزَ الْبُغَاةُ إِلَى جِهَةٍ مُجْتَمَعِينَ، أَوْ إِلَى جَمَاعَةٍ وَلَمْ يُمْكِنْ دَفْعُ شَرِّهِمْ إِلاَّ بِالْقِتَال، حَل قِتَالُهُمْ حَتَّى يَتَفَرَّقَ جَمْعُهُمْ، وَلَوْ أَمْكَنَ دَفْعُ شَرِّهِمْ بِالْحَبْسِ بَعْدَمَا تَأَهَّبُوا فَعَل ذَلِكَ؛ إِذِ الْجِهَادُ مَعَهُمْ وَاجِبٌ بِقَدْرِ مَا يَنْدَفِعُ بِهِ شَرُّهُمْ عَلَى مَا سَبَقَ. وَقَدْ قَاتَل عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَهْل حَرُورَاءَ بِالنَّهْرَوَانِ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ، تَصْدِيقًا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَهُ أَنَا أُقَاتِل عَلَى
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 310، والمغني 8 / 108، 109.
(2) وللحنفية تفصيل، وهذا سيذكر بعد.
(3) التاج والإكليل 6 / 277، وحاشية الدسوقي 4 / 299، وحاشية الصاوي على الشرح الصغير 4 / 429.(8/140)
تَنْزِيل الْقُرْآنِ، وَعَلِيٌّ يُقَاتِل عَلَى تَأْوِيلِهِ (1) وَالْقِتَال مَعَ التَّأْوِيل هُوَ الْقِتَال مَعَ الْبُغَاةِ، وَذَلِكَ كَقِتَال أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَانِعِي الزَّكَاةِ (2) .
وَإِذَا قَاتَلَهُمْ الإِْمَامُ فَهَزَمَهُمْ، وَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ، وَأُمِنَ جَانِبُهُمْ، أَوْ تَرَكُوا الْقِتَال بِإِلْقَاءِ السِّلاَحِ أَوْ بِالْهَزِيمَةِ أَوْ بِالْعَجْزِ، لِجِرَاحٍ أَوْ أَسِيرٍ، فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ لأَِهْل الْعَدْل أَنْ يَتَّبِعُوهُمْ، وَلاَ يُجْهِزُوا عَلَى جَرِيحِهِمْ، وَلاَ يَقْتُلُوا أَسِيرَهُمْ؛ لِوُقُوعِ الأَْمْنِ عَنْ شَرِّهِمْ، وَلاَ تُسْبَى لَهُمْ ذُرِّيَّةٌ، وَلاَ يُقْسَمُ لَهُ مَالٌ، لِقَوْل عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لاَ يُقْتَل بَعْدَ الْهَزِيمَةِ مُقْبِلٌ وَلاَ مُدْبِرٌ، وَلاَ يُفْتَحُ بَابٌ، وَلاَ يُسْتَحَل فَرْجٌ وَلاَ مَالٌ بَل قَال لَهُمْ: مَنِ اعْتَرَفَ شَيْئًا فَلْيَأْخُذْهُ، أَيْ مَنْ عَرَفَ مِنَ الْبُغَاةِ مَتَاعَهُ اسْتَرَدَّهُ، وَقَال يَوْمَ الْجَمَل: لاَ تَتَّبِعُوا مُدْبِرًا، وَلاَ تُجْهِزُوا عَلَى جَرِيحٍ، وَلاَ تَقْتُلُوا أَسِيرًا، وَإِيَّاكُمْ وَالنِّسَاءَ (3) ؛ وَلأَِنَّ قِتَالَهُمْ لِلدَّفْعِ وَالرَّدِّ إِلَى الطَّاعَةِ
__________
(1) حديث: " أنا أقاتل على تنزيل القرآن وعلي يقاتل. . . " أخرجه الدارقطني في الأفراد، وقال: تفرد به جابر الجعفي وهو رافضي (كنز العمال 11 / 613 ـ ط الرسالة) .
(2) البدائع 7 / 140، والفتح 4 / 411، وحاشية ابن عابدين 3 / 311، وتبيين الحقائق 3 / 294، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي 4 / 299، والتاج والإكليل 6 / 278، والمهذب 2 / 219، المغني 8 / 108.
(3) الفتح 4 / 411، والبدائع 7 / 140 - 141، وحاشية الدسوقي 4 / 299ـ 300، التاج الإكليل 6 / 278، والمهذب 2 / 219، نهاية المحتاج 7 / 386، والمغني 8 / 114، 116 - 117، كشاف القناع 6 / 164.(8/141)
دُونَ الْقَتْل (1) . وَيَقُول ابْنُ قُدَامَةَ: أَمَّا غَنِيمَةُ أَمْوَالِهِمْ وَسَبْيُ ذُرِّيَّتِهِمْ فَلاَ نَعْلَمُ فِي تَحْرِيمِهِ بَيْنَ أَهْل الْعِلْمِ خِلاَفًا؛ لأَِنَّهُمْ مَعْصُومُونَ، وَإِنَّمَا أُبِيحَ مِنْ دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ مَا حَصَل مِنْ ضَرُورَةِ دَفْعِهِمْ وَقِتَالِهِمْ، وَمَا عَدَاهُ يَبْقَى عَلَى أَصْل التَّحْرِيمِ (2) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَتْ لَهُمْ فِئَةٌ بَعِيدَةٌ يَنْحَازُونَ إِلَيْهَا، وَلاَ يُتَوَقَّعُ فِي الْعَادَةِ مَجِيئُهَا إِلَيْهِمْ وَالْحَرْبُ قَائِمَةٌ، وَغَلَبَ عَلَى الظَّنِّ عَدَمُ وُصُولِهَا لَهُمْ، فَإِنَّهُ لاَ يُقَاتَل مُدْبِرُهُمْ، وَلاَ يُجْهَزُ عَلَى جَرِيحِهِمْ؛ لأَِمْنِ غَائِلَتِهِ إِلاَّ إِذَا كَانَ مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ.
وَأَمَّا إِذَا كَانَ لَهُمْ فِئَةٌ قَرِيبَةٌ تُسْعِفُهُمْ عَادَةً، وَالْحَرْبُ قَائِمَةٌ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ اتِّبَاعُهُمْ وَالإِْجْهَازُ عَلَى جَرِيحِهِمْ. أَوْ كَانَتْ لَهُمْ فِئَةٌ بَعِيدَةٌ يُتَوَقَّعُ فِي الْعَادَةِ مَجِيئُهَا إِلَيْهِمْ وَالْحَرْبُ قَائِمَةٌ، وَغَلَبَ عَلَى الظَّنِّ ذَلِكَ فَالْمُتَّجَهُ أَنْ يُقَاتَل (3) .
وَقَرِيبٌ مِنْهُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ، فَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ إِذَا أُمِنَ جَانِبُهُمْ بِالظُّهُورِ عَلَيْهِمْ، لَمْ يُتْبَعْ مُنْهَزِمُهُمْ، وَلَمْ يُذَفَّفْ عَلَى جَرِيحِهِمْ (4) .
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَيَنُصُّونَ عَلَى أَنَّ أَهْل الْبَغْيِ إِذَا
__________
(1) المهذب 2 / 219، والمغني 8 / 115.
(2) المغني 8 / 115ـ 116.
(3) نهاية المحتاج 7 / 386.
(4) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 4 / 299 - 300، والتاج والإكليل 6 / 278(8/141)
تَرَكُوا الْقِتَال، بِالرُّجُوعِ إِلَى الطَّاعَةِ، أَوْ بِإِلْقَاءِ السِّلاَحِ، أَوْ بِالْهَزِيمَةِ إِلَى فِئَةٍ، أَوْ إِلَى غَيْرِ فِئَةٍ، أَوْ بِالْعَجْزِ لِجِرَاحٍ أَوْ مَرَضٍ أَوْ أَسْرٍ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ قَتْلُهُمْ وَاتِّبَاعُ مُدْبِرِهِمْ. وَسَاقَ ابْنُ قُدَامَةَ الآْثَارَ الْوَارِدَةَ فِي النَّهْيِ عَنْ قَتْل الْمُدْبِرِ وَالإِْجْهَازِ عَلَى الْجَرِيحِ وَقَتْل الأَْسِيرِ، وَهِيَ عَامَّةٌ. ثُمَّ قَال: لأَِنَّ الْمَقْصُودَ كَفُّهُمْ وَقَدْ حَصَل، فَلَمْ يَجُزْ قَتْلُهُمْ كَالصَّائِل، وَلاَ يُقْتَلُونَ لِمَا يُخَافُ فِي التَّالِي - إِنْ كَانَ لَهُمْ فِئَةٌ - كَمَا لَوْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ فِئَةٌ (1) .
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ: فَقَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَتْ لَهُمْ فِئَةٌ يَنْحَازُونَ إِلَيْهَا - مُطْلَقًا - فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لأَِهْل الْعَدْل أَنْ يَقْتُلُوا مُدْبِرَهُمْ، وَيُجْهِزُوا عَلَى جَرِيحِهِمْ؛ لِئَلاَّ يَنْحَازُوا إِلَى الْفِئَةِ، فَيَمْتَنِعُوا بِهَا، فَيَكُرُّوا عَلَى أَهْل الْعَدْل. وَالْمُعْتَبَرُ فِي جَوَازِ الْقَتْل أَمَارَةُ قِتَالِهِمْ لاَ حَقِيقَتُهُ؛ وَلأَِنَّ قَتْلَهُمْ إِذَا كَانَ لَهُمْ فِئَةٌ، لاَ يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ دَفْعًا؛ لأَِنَّهُ يَتَحَيَّزُ إِلَى الْفِئَةِ وَيَعُودُ شَرُّهُ كَمَا كَانَ. وَقَالُوا: إِنَّ مَا قَالَهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى تَأْوِيل إِذَا لَمْ تَكُنْ لَهُمْ فِئَةٌ (2) .
الْمَرْأَةُ الْمُقَاتِلَةُ مِنْ أَهْل الْبَغْيِ:
15 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ مِنَ الْبُغَاةِ - إِنْ كَانَتْ
__________
(1) المغني 8 / 115.
(2) البدائع 7 / 140 - 141، والفتح 4 / 411.(8/142)
تُقَاتِل - فَإِنَّهَا تُحْبَسُ، وَلاَ تُقْتَل إِلاَّ فِي حَال مُقَاتَلَتِهَا، وَإِنَّمَا تُحْبَسُ لِلْمَعْصِيَةِ، وَلِمَنْعِهَا مِنَ الشَّرِّ وَالْفِتْنَةِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ لَمْ يَكُنْ قِتَالُهُنَّ إِلاَّ بِالتَّحْرِيضِ وَالرَّمْيِ بِالْحِجَارَةِ، فَإِنَّهُنَّ لاَ يُقْتَلْنَ (2) .
أَمْوَالُهُمْ بِالنِّسْبَةِ لاِغْتِنَامِهَا وَإِتْلاَفِهَا وَضَمَانِهَا:
16 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ أَمْوَال الْبُغَاةِ لاَ تُغْنَمُ، وَلاَ تُقَسَّمُ، وَلاَ يَجُوزُ إِتْلاَفُهَا، وَإِنَّمَا يَجِبُ أَنْ تُرَدَّ إِلَيْهِمْ. لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَحْبِسَ الإِْمَامُ أَمْوَالَهُمْ دَفْعًا لِشَرِّهِمْ بِكَسْرِ شَوْكَتِهِمْ حَتَّى يَتُوبُوا، فَيَرُدَّهَا إِلَيْهَا لاِنْدِفَاعِ الضَّرُورَةِ؛ وَلأَِنَّهَا لاَ اسْتِغْنَامَ فِيهَا، وَإِذَا كَانَ فِي أَمْوَالِهِمْ خَيْلٌ وَنَحْوُهَا - مِمَّا يُحْتَاجُ فِي حِفْظِهِ إِلَى إِنْفَاقٍ - كَانَ الأَْفْضَل بَيْعَهُ وَحَبْسَ ثَمَنِهِ.
وَفِي ضَمَانِ إِتْلاَفِ مَالِهِمْ كَلاَمٌ. فَإِنَّ الْعَادِل إِذَا أَتْلَفَ نَفْسَ الْبَاغِي أَوْ مَالَهُ حَال الْقِتَال بِسَبَبِ الْقِتَال أَوْ ضَرُورَتِهِ لاَ يَضْمَنُ؛ إِذْ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَقْتُلَهُمْ إِلاَّ بِإِتْلاَفِ شَيْءٍ مِنْ أَمْوَالِهِمْ كَالْخَيْل،
__________
(1) فتح القدير 4 / 412، وحاشية ابن عابدين 3 / 311، وتبيين الحقائق 3 / 295، والبحر الرائق 5 / 152، وحاشية الدسوقي 4 / 299، المهذب 2 / 221، المغني 8 / 115.
(2) التاج والإكليل 6 / 279، والشرح الصغير 4 / 430.(8/142)
فَيَجُوزُ عَقْرُ دَوَابِّهِمْ إِذَا قَاتَلُوا عَلَيْهَا، وَإِذَا كَانُوا لاَ يَضْمَنُونَ الأَْنْفُسَ فَالأَْمْوَال أَوْلَى.
أَمَّا فِي غَيْرِ حَال الْقِتَال وَضَرُورَتِهِ فَلاَ تُحَرَّقُ مَسَاكِنُهُمْ، وَلاَ يُقْطَعُ شَجَرُهُمْ؛ لأَِنَّ الإِْمَامَ إِذَا ظَفِرَ لَهُمْ بِمَالٍ حَال الْمُقَاتَلَةِ فَإِنَّهُ يَحْبِسُهُ حَتَّى يُرَدَّ إِلَيْهِمْ، فَلاَ تُؤْخَذُ أَمْوَالُهُمْ؛ لأَِنَّ مَوَارِيثَهُمْ قَائِمَةٌ، وَإِنَّمَا قُوتِلُوا بِمَا أَحْدَثُوا مِنَ الْبِدَعِ، فَكَانَ ذَلِكَ كَالْحَدِّ يُقَامُ عَلَيْهِمْ (1) .
وَقَيَّدَ الْمَاوَرْدِيُّ الضَّمَانَ بِمَا إِذَا كَانَ الإِْتْلاَفُ خَارِجَ الْقِتَال بِقَصْدِ التَّشَفِّي وَالاِنْتِقَامِ، أَمَّا إِذَا كَانَ لإِِضْعَافِهِمْ أَوْ هَزِيمَتِهِمْ فَلاَ ضَمَانَ (2) .
وَاسْتَظْهَرَ الزَّيْلَعِيُّ وَابْنُ عَابِدِينَ حَمْل الضَّمَانِ عَلَى مَا قَبْل تَحَيُّزِهِمْ وَخُرُوجِهِمْ، أَوْ بَعْدَ كَسْرِهِمْ وَتَفَرُّقِ جَمْعِهِمْ (3) .
مَا أَتْلَفَهُ أَهْل الْعَدْل لِلْبُغَاةِ:
17 - نَقَل الزَّيْلَعِيُّ عَنِ الْمَرْغِينَانِيِّ: أَنَّ الْعَادِل إِذَا أَتْلَفَ نَفْسَ الْبَاغِي أَوْ مَالَهُ لاَ يَضْمَنُ وَلاَ يَأْثَمُ؛ لأَِنَّهُ مَأْمُورٌ بِقِتَالِهِمْ دَفْعًا لِشَرِّهِمْ. وَفِي الْمُحِيطِ: إِذَا أَتْلَفَ مَال الْبَاغِي يُؤْخَذُ بِالضَّمَانِ؛ لأَِنَّ مَال الْبَاغِي مَعْصُومٌ فِي حَقِّنَا، وَأَمْكَنَ إِلْزَامُ الضَّمَانِ، فَكَانَ فِي إِيجَابِهِ فَائِدَةٌ (4)
__________
(1) حاشية الدسوقي 4 / 300، والتاج والإكليل 6 / 278ـ 279.
(2) نهاية المحتاج 7 / 385.
(3) حاشية ابن عابدين 3 / 312، وتبيين الحقائق 3 / 296.
(4) تبيين الحقائق 3 / 296.(8/143)
مَا أَتْلَفَهُ الْبُغَاةُ لأَِهْل الْعَدْل:
18 - إِذَا أَتْلَفَ أَهْل الْبَغْيِ لأَِهْل الْعَدْل مَالاً فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِمْ؛ لأَِنَّهُمْ طَائِفَةٌ مُتَأَوِّلَةٌ فَلاَ تَضْمَنُ كَأَهْل الْعَدْل؛ وَلأَِنَّهُ ذُو مَنَعَةٍ فِي حَقِّنَا، وَأَمَّا الإِْثْمُ فَإِنَّهُ لاَ مَنَعَةَ لَهُ فِي حَقِّ الشَّارِعِ؛ وَلأَِنَّ تَضْمِينَهُمْ يُفْضِي إِلَى تَنْفِيرِهِمْ عَنِ الرُّجُوعِ إِلَى الطَّاعَةِ، لِمَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِإِسْنَادِهِ عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ هِشَامٍ كَتَبَ إِلَيْهِ يَسْأَلُهُ عَنِ امْرَأَةٍ خَرَجَتْ مِنْ عِنْدِ زَوْجِهَا، وَشَهِدَتْ عَلَى قَوْمِهَا بِالشِّرْكِ، وَلَحِقَتْ بِالْحَرُورِيَّةِ فَتَزَوَّجَتْ، ثُمَّ إِنَّهَا رَجَعَتْ إِلَى أَهْلِهَا تَائِبَةً، قَال فَكَتَبَ إِلَيْهِ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الْفِتْنَةَ الأُْولَى ثَارَتْ، وَأَصْحَابُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا - كَثِيرٌ، فَاجْتَمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَى أَلاَّ يُقِيمُوا عَلَى أَحَدٍ حَدًّا فِي فَرْجٍ اسْتَحَلُّوهُ بِتَأْوِيل الْقُرْآنِ، وَلاَ قِصَاصًا فِي دَمٍ اسْتَحَلُّوهُ بِتَأْوِيل الْقُرْآنِ، وَلاَ يُرَدُّ مَالٌ اسْتَحَلُّوهُ بِتَأْوِيل الْقُرْآنِ، إِلاَّ أَنْ يُوجَدَ شَيْءٌ بِعَيْنِهِ فَيُرَدُّ عَلَى صَاحِبِهِ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تُرَدَّ إِلَى زَوْجِهَا، وَأَنْ يُحَدَّ مَنِ افْتَرَى عَلَيْهَا.
وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيِّ: يَضْمَنُونَ؛ لِقَوْل أَبِي بَكْرٍ تَدُونَ قَتَلاَنَا، وَلاَ نَدِي - مِنَ الدِّيَةِ - قَتْلاَكُمْ (1) وَلأَِنَّهَا نُفُوسٌ وَأَمْوَالٌ مَعْصُومَةٌ أُتْلِفَتْ
__________
(1) المغني 8 / 113. وقد نقل ابن قدامة عن أبي بكر رجوعه عن ذلك ولم يمضه، ولم ينقل أنه غرم أحدا شيئا من ذلك. ولو وجب التغريم في حق المرتدين لم يلزم مثله هنا، وإذا البغاة مسلمون متأولون.(8/143)
بِغَيْرِ حَقٍّ وَلاَ ضَرُورَةِ دَفْعِ مُبَاحٍ، فَوَجَبَ ضَمَانُهُ، كَالَّتِي أُتْلِفَتْ فِي غَيْرِ حَال الْحَرْبِ (1) .
وَإِذَا تَابَ الْبُغَاةُ وَرَجَعُوا أَخَذَ مِنْهُمْ مَا وُجِدَ بِأَيْدِيهِمْ مِنْ أَمْوَال أَهْل الْحَقِّ، وَمَا اسْتَهْلَكُوهُ لَمْ يُتْبَعُوا بِهِ، وَلَوْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ؛ لأَِنَّهُمْ مُتَأَوِّلُونَ (2) .
وَإِذَا قَتَل الْبَاغِي أَحَدًا مِنْ أَهْل الْعَدْل فِي غَيْرِ الْمَعْرَكَةِ يُقْتَل بِهِ؛ لأَِنَّهُ قُتِل بِإِشْهَارِ السِّلاَحِ وَالسَّعْيِ فِي الأَْرْضِ بِالْفَسَادِ كَقَاطِعِ الطَّرِيقِ، وَقِيل: لاَ يَتَحَتَّمُ قَتْلُهُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: لِقَوْل عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنْ شِئْتُ أَنْ أَعْفُوَ، وَإِنْ شِئْتُ اسْتَقَدْتُ (3) .
التَّمْثِيل بِقَتْلَى الْبُغَاةِ:
19 - التَّمْثِيل بِقَتْلَى الْبُغَاةِ مَكْرُوهٌ تَحْرِيمًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، حَرَامٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، أَمَّا نَقْل رُءُوسِهِمْ، فَقَدْ قَال الْحَنَفِيَّةُ: يُكْرَهُ أَخْذُ رُءُوسِهِمْ، فَيُطَافُ بِهَا فِي الآْفَاقِ؛ لأَِنَّهُ مُثْلَةٌ. وَجَوَّزَهُ بَعْضُ مُتَأَخِّرِي الْحَنَفِيَّةِ، إِذَا كَانَ فِيهِ طُمَأْنِينَةُ قُلُوبِ أَهْل
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 312، والبدائع 7 / 141، وتبيين الحقائق 3 / 296، وحاشية الدسوقي 4 / 299ـ 300، والتاج والإكليل 6 - 278ـ 279، ونهاية المحتاج 7 / 385، المغني 8 / 112، 113.
(2) التاج والإكليل 6 / 278ـ 279.
(3) المغني 8 / 114.(8/144)
الْعَدْل، أَوْ كَسْرُ شَوْكَةِ الْبُغَاةِ. وَجَوَّزَ الْمَالِكِيَّةُ رَفْعَ رُءُوسِ قَتْلَى الْبُغَاةِ فِي مَحَل قَتْلِهِمْ (1) .
أَسْرَى الْبُغَاةِ:
20 - أَسْرَى الْبُغَاةِ يُعَامَلُونَ مُعَامَلَةً خَاصَّةً؛ لأَِنَّ قِتَالَهُمْ كَانَ لِمُجَرَّدِ دَفْعِ شَرِّهِمْ، فَلاَ يُسْتَبَاحُ دَمُهُمْ إِلاَّ بِقَدْرِ مَا يَدْفَعُ الْقِتَال، وَلِذَا فَإِنَّهُمْ لاَ يُقْتَلُونَ إِذَا لَمْ تَكُنْ لَهُمْ فِئَةٌ اتِّفَاقًا، لِلتَّعْلِيل السَّابِقِ؛ وَلِذَا لاَ يُسْتَرَقُّونَ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ أَكَانَتْ لَهُمْ فِئَةٌ أَمْ لاَ اتِّفَاقًا؛ لأَِنَّهُمْ أَحْرَارٌ مُسْلِمُونَ، وَلاَ تُسْبَى لَهُمْ نِسَاءٌ وَلاَ ذُرِّيَّةٌ (2) .
أَمَّا إِنْ كَانَتْ لَهُمْ فِئَةٌ، فَقَدْ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ (3)
__________
(1) الفتح 4 / 416، وحاشية ابن عابدين 3 / 312، وتبيين الحقائق 3 / 295، وحاشية الدسوقي 4 / 299، والتاج والإكليل 6 / 277ـ 278، ونهاية المحتاج 7 / 386، والمغني 8 / 114ـ 116، وكشاف القناع 6 / 164.
(2) تبيين الحقائق 3 / 295، والشرح الصغير وبلغة السالك 2 / 415، حاشية الجمل 5 / 117، 118، الفروع 3 / 54. قال الكمال: ولولا أنه فيه إجماعا لأمكن التمسك ببعض الظواهر في تملكه، فإن ابن أبي شيبة (15 / 264) أسند عن أبي البختري لما انهزم أهل الجمل قال علي: لا تطلبوا من كان خارجا من العسكر، وما كان من دابة أو سلاح فهو لكم، وليس لكم أم ولد، وأ (الفتح 4 / 413) .
(3) حاشية الدسوقي 4 / 299.(8/144)
وَالشَّافِعِيَّةُ (1) وَالْحَنَابِلَةُ (2) إِلَى أَنَّهُمْ لاَ يُقْتَلُونَ أَيْضًا. غَيْرَ أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ قَال: إِنْ أُسِرَ مِنْهُمْ أَسِيرٌ وَقَدِ انْقَطَعَتِ الْحَرْبُ لاَ يُقْتَل، وَإِنْ كَانَتِ الْحَرْبُ قَائِمَةً فَلِلإِْمَامِ قَتْلُهُ، إِذَا خَافَ مِنْهُ الضَّرَرَ (3) .
وَفِي بَعْضِ كُتُبِ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّهُ إِذَا أُسِرَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْحَرْبِ يُسْتَتَابُ، فَإِنْ لَمْ يَتُبْ قُتِل، وَقِيل: يُؤَدَّبُ وَلاَ يُقْتَل (4) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ قَتَلَهُ ضَمِنَهُ بِالدِّيَةِ؛ لأَِنَّهُ بِالأَْسْرِ صَارَ مَحْقُونَ الدَّمِ، وَقِيل: فِيهِ قِصَاصٌ. وَقِيل: لاَ قِصَاصَ فِيهِ؛ لأَِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يُجِيزُ قَتْلَهُ فَصَارَ ذَلِكَ شُبْهَةً (5) . وَإِنْ كَانَ أَسِيرٌ بَالِغًا فَدَخَل فِي الطَّاعَةِ أَطْلَقَهُ، وَإِنْ لَمْ يَدْخُل فِي الطَّاعَةِ حَبَسَهُ إِلَى أَنْ تَنْتَهِيَ الْحَرْبُ (6) . وَإِنْ كَانَ عَبْدًا أَوْ صَبِيًّا لَمْ يُحْبَسْ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْل الْبَيْعَةِ، وَقَال بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: يُحْبَسُ لأَِنَّ فِي حَبْسِهِ كَسْرًا لِقُلُوبِهِمْ (7) . وَهَذَا مَا قَالَهُ الْحَنَابِلَةُ (8) .
__________
(1) المهذب 2 / 119.
(2) المغني 8 / 114، كشاف القناع 6 / 162ـ163.
(3) التاج والإكليل 6 / 278.
(4) بداية المجتهد2 / 498.
(5) المهذب 2 / 220.
(6) المهذب 2 / 220، وكشاف القناع 6 / 165.
(7) المهذب 2 / 220، ونهاية المحتاج 7 / 387.
(8) كشاف القناع 6 / 165.(8/145)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا كَانَتْ لِلأَْسِيرِ فِئَةٌ، فَالإِْمَامُ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ قَتَلَهُ، وَإِنْ شَاءَ حَبَسَهُ دَفْعًا لِشَرِّهِ بِقَدْرِ الإِْمْكَانِ، وَيَحْكُمُ الإِْمَامُ بِنَظَرِهِ فِيمَا هُوَ أَحْسَنُ فِي كَسْرِ الشَّوْكَةِ (1) .
فِدَاءُ الأَْسْرَى:
21 - نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ فِدَاءِ أُسَارَى أَهْل الْعَدْل بِأُسَارَى الْبُغَاةِ، وَقَالُوا: إِنْ قَتَل أَهْل الْبَغْيِ أَسْرَى أَهْل الْعَدْل لَمْ يَجُزْ لأَِهْل الْعَدْل قَتْل أَسَرَاهُمْ؛ لأَِنَّهُمْ لاَ يُقْتَلُونَ بِجِنَايَةِ غَيْرِهِمْ، وَإِنْ أَبَى الْبُغَاةُ مُفَادَاةَ الأَْسْرَى الَّذِينَ مَعَهُمْ وَحَبَسُوهُمْ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: احْتُمِل أَنْ يَجُوزَ لأَِهْل الْعَدْل حَبْسُ مَنْ مَعَهُمْ لِيُتَوَصَّلُوا إِلَى تَخْلِيصِ أَسَرَاهُمْ بِذَلِكَ، وَيُحْتَمَل أَلاَّ يَجُوزَ حَبْسُهُمْ، وَيُطْلَقُونَ؛ لأَِنَّ الذَّنْبَ فِي حَبْسِ أُسَارَى أَهْل الْعَدْل لِغَيْرِهِمْ (2) . وَتَفْصِيل الْكَلاَمِ عَنْ أَسْرَى الْبُغَاةِ فِي مُصْطَلَحِ (أَسْرَى) .
مُوَادَعَةُ الْبُغَاةِ:
22 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ مُوَادَعَةُ الْبُغَاةِ عَلَى مَالٍ. فَإِنْ وَادَعَهُمُ الإِْمَامُ عَلَى مَالٍ بَطَلَتِ الْمُوَادَعَةُ (3) . وَلَوْ طَلَبُوا الْمُوَادَعَةَ - أَيْ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 311.
(2) المغني 8 / 115، وكشاف القناع 6 / 165.
(3) الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 40.(8/145)
الصُّلْحَ عَلَى تَرْكِ الْمُقَاتَلَةِ بِغَيْرِ مَالٍ - أُجِيبُوا إِلَيْهَا إِنْ كَانَ ذَلِكَ خَيْرًا. فَإِنْ بَانَ لَهُ أَنَّ قَصْدَهُمُ الرُّجُوعُ إِلَى الطَّاعَةِ وَمَعْرِفَةُ الْحَقِّ أَمْهَلَهُمْ. وَقَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ عَلَى هَذَا كُل مَنْ أَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ. فَإِنْ كَانَ قَصْدُهُمُ الاِجْتِمَاعَ عَلَى قِتَالِهِ وَانْتِظَارِ مَدَدٍ، أَوْ لِيَأْخُذُوا الإِْمَامَ عَلَى غِرَّةٍ عَاجَلَهُمْ وَلَمْ يُنْظِرْهُمْ (1) .
وَإِذَا وَقَعَتِ الْمُوَادَعَةُ فَأَعْطَى كُل فَرِيقٍ رَهْنًا عَلَى أَيِّهِمَا غَدَرَ يَقْتُل الآْخَرُونَ الرَّهْنَ، فَغَدَرَ أَهْل الْبَغْيِ وَقَتَلُوا الرَّهْنَ، لاَ يَحِل لأَِهْل الْعَدْل قَتْل الرَّهْنِ، بَل يَحْبِسُونَهُمْ حَتَّى يَهْلِكَ أَهْل الْبَغْيِ أَوْ يَتُوبُوا؛ لأَِنَّهُمْ صَارُوا آمِنِينَ بِالْمُوَادَعَةِ، أَوْ بِإِعْطَائِهِ الأَْمَانَ لَهُمْ حِينَ أَخَذْنَاهُمْ رَهْنًا. وَالْغَدْرُ مِنْ غَيْرِهِمْ لاَ يُؤَاخَذُونَ بِهِ، لَكِنَّهُمْ يُحْبَسُونَ مَخَافَةَ أَنْ يَرْجِعُوا إِلَى فِئَتِهِمْ (2) فَيَكُونُونَ لَهُمْ قُوَّةً تُغْرِيهِمْ عَلَى الْمُقَاتَلَةِ.
23 - وَإِنْ بَذَل الْبُغَاةُ لأَِهْل الْعَدْل رَهَائِنَ عَلَى إِنْظَارِهِمْ لَمْ يَجُزْ أَخْذُهَا لِذَلِكَ؛ لأَِنَّ الرَّهَائِنَ لاَ يَجُوزُ قَتْلُهُمْ لِغَدْرِ أَهْلِهِمْ، وَإِنْ كَانَ فِي أَيْدِيهِمْ أَسْرَى مِنْ أَهْل الْعَدْل، وَأَعْطَوْا بِذَلِكَ رَهَائِنَ مِنْهُمْ قَبِلَهُمُ الإِْمَامُ، وَاسْتَظْهَرَ لأَِهْل الْعَدْل. فَإِنْ أَطْلَقُوا أَسْرَى أَهْل الْعَدْل الَّذِينَ عِنْدَهُمْ أَطْلَقَ
__________
(1) الفتح 4 / 415، حاشية ابن عابدين 3 / 311، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي 4 / 299، التاج والإكليل 6 / 278، والمهذب 2 / 219، والمغني 8 / 108.
(2) الفتح 4 / 415 - 416.(8/146)
رَهَائِنَهُمْ. وَإِنْ قَتَلُوا مَنْ عِنْدَهُمْ لَمْ يَجُزْ قَتْل رَهَائِنِهِمْ؛ لأَِنَّهُمْ لاَ يُقْتَلُونَ بِقَتْل غَيْرِهِمْ؛ لأَِنَّهُمْ صَارُوا آمِنِينَ. فَإِذَا انْقَضَتِ الْحَرْبُ خُلِّيَ الرَّهَائِنُ كَمَا تُخَلَّى الأَْسْرَى مِنْهُمْ (1) .
مَنْ لاَ يَجُوزُ قَتْلُهُ مِنَ الْبُغَاةِ:
24 - يَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَصْل قَاعِدَةٍ: أَنَّ مَنْ لاَ يَجُوزُ قَتْلُهُ مِنْ أَهْل الْحَرْبِ - كَالنِّسَاءِ وَالشُّيُوخِ وَالصِّبْيَانِ وَالْعُمْيَانِ - لاَ يَجُوزُ قَتْلُهُ مِنَ الْبُغَاةِ مَا لَمْ يُقَاتِلُوا؛ لأَِنَّ قَتْلَهُمْ لِدَفْعِ شَرِّ قِتَالِهِمْ، فَيَخْتَصُّ ذَلِكَ بِأَهْل الْقِتَال. وَهَؤُلاَءِ لَيْسُوا مِنْ أَهْل الْقِتَال عَادَةً، فَلاَ يُقْتَلُونَ إِلاَّ إِذَا قَاتَلُوا (2) وَلَوْ بِالتَّحْرِيضِ؛ لِوُجُودِ الْقِتَال مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، فَيُبَاحُ قَتْلُهُمْ إِلاَّ الصَّبِيَّ وَالْمَعْتُوهَ. فَالأَْصْل أَنَّهُمَا لاَ يَقْصِدَانِ الْقَتْل. فَيَحِل قَتْلُهُمَا حَال الْقِتَال إِنْ قَاتَلاَ حَقِيقَةً أَوْ مَعْنًى (3) .
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ، فَعَلَى مَذْهَبِهِمْ فِي تَخْيِيرِ الإِْمَامِ بَيْنَ قَتْل أَسْرَى الْبُغَاةِ أَوْ حَبْسِهِمْ، يَرَوْنَ جَوَازَ قَتْل مَنْ قَاتَل أَوْ حَرَّضَ مِنَ الشُّيُوخِ وَنَحْوِهِمْ، فَيُقْتَلُونَ حَال الْقِتَال أَوْ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهُ. لَكِنْ لاَ يُقْتَل الصَّبِيُّ وَالْمَعْتُوهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْقِتَال؛ لأَِنَّ
__________
(1) البدائع 7 / 141، الفتح 4 / 415، والمهذب 2 / 219، والمغني 8 / 108، 109.
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 311، والبدائع 7 / 141، وحاشية الدسوقي 4 / 299، والمهذب 2 / 200، والمغني 8 / 110.
(3) البدائع 7 / 101.(8/146)
الْقَتْل بَعْدَ الْفَرَاغِ وَالأَْسْرَ بِطَرِيقِ الْعُقُوبَةِ، وَهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْل الْعُقُوبَةِ. وَأَمَّا قَتْلُهُمَا حَال الْحَرْبِ فَدَفْعًا لِشَرِّهِمْ كَدَفْعِ الصَّائِل (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ حَضَرَ مَعَ الْبُغَاةِ عَبِيدٌ وَنِسَاءٌ وَصِبْيَانٌ قُوتِلُوا مُقْبِلِينَ، وَتُرِكُوا مُدْبِرِينَ كَغَيْرِهِمْ مِنَ الأَْحْرَارِ وَالذُّكُورِ الْبَالِغِينَ؛ لأَِنَّ قِتَالَهُمْ لِلدَّفْعِ، وَلَوْ أَرَادَ أَحَدُ هَؤُلاَءِ قَتْل إِنْسَانٍ جَازَ دَفْعُهُ وَقِتَالُهُ.
وَقَدْ نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْبُغَاةَ لَوْ تَتَرَّسُوا بِذُرِّيَّتِهِمْ تُرِكُوا، إِلاَّ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَى تَرْكِهِمْ تَلَفُ أَكْثَرِ الْمُسْلِمِينَ (2) .
حُضُورُ مَنْ لاَ يُقَاتِل مِنَ الْقَادِرِينَ عَلَى الْقِتَال مَعَ الْبُغَاةِ:
25 - إِذَا حَضَرَ مَعَ الْبُغَاةِ مَنْ لاَ يُقَاتِل - بِرَغْمِ قُدْرَتِهِ عَلَى الْقِتَال - لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقْصَدَ بِالْقَتْل؛ لأَِنَّ الْقَصْدَ مِنْ قِتَالِهِمْ كَفُّهُمْ، وَهَذَا قَدْ كَفَّ نَفْسَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَقْتُل مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} (3) فَإِنَّهُ يَدُل عَلَى تَحْرِيمِ قَتْل الْمُؤْمِنِ
__________
(1) البدائع 7 / 141، 101، وابن عابدين 3 / 311، والمهذب 2 / 220، حاشية الدسوقي4 / 299، والتاج والإكليل6 / 278.
(2) كشاف القناع 6 / 163، والمغني 8 / 110، والدسوقي 4 / 99.
(3) سورة النساء / 93.(8/147)
عَمْدًا عَلَى وَجْهِ الْعُمُومِ، وَإِنَّمَا خُصَّ مِنْ ذَلِكَ مَا حَصَل ضَرُورَةَ دَفْعِ الْبَاغِي وَالصَّائِل، فَفِيمَا عَدَاهُ يَبْقَى عَلَى الْعُمُومِ، فَمَنْ لاَ يُقَاتِل تَوَرُّعًا عَنْهُ - مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ - وَلاَ يُخَافُ مِنْهُ الْقِتَال بَعْدَ ذَلِكَ، وَهُوَ مُسْلِمٌ لاَ يَحْتَاجُ لِدَفْعٍ فَلاَ يَحِل دَمُهُ (1) .
وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يَجُوزُ قَتْلُهُ؛ لأَِنَّ عَلِيًّا نَهَاهُمْ عَنْ قَتْل مُحَمَّدٍ السَّجَّادِ بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ وَلَمْ يَكُنْ يُقَاتِل، وَإِنَّمَا كَانَ يَحْمِل رَايَةَ أَبِيهِ، فَقَتَلَهُ رَجُلٌ وَأَنْشَدَ شِعْرًا، فَلَمْ يُنْكِرْ عَلِيٌّ قَتْلَهُ؛ وَلأَِنَّهُ صَارَ رِدْءًا لَهُمْ (2) .
حُكْمُ قِتَال الْمَحَارِمِ مِنَ الْبُغَاةِ:
26 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ قَتْل الْعَادِل لِذِي رَحِمِهِ الْمَحْرَمِ مِنْ أَهْل الْبَغْيِ، وَقَصَرَ الْمَالِكِيَّةُ ذَلِكَ عَلَى الأَْبَوَيْنِ فَقَطْ. بَل مِنْهُمْ مَنْ قَال بِجَوَازِ قَتْل أَبَوَيْهِ، وَكَذَا فِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ ذَكَرَهَا الْقَاضِي. وَمِنْهُمْ مَنْ صَرَّحَ بِالْكَرَاهَةِ، وَهُوَ الأَْصَحُّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} (3) وَلِمَا رَوَى الشَّافِعِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَفَّ أَبَا حُذَيْفَةَ بْنَ عُتْبَةَ
__________
(1) المغني 8 / 109 - 110.
(2) المهذب2 / 219 - 220.
(3) سورة لقمان / 15.(8/147)
عَنْ قَتْل أَبِيهِ. (1) وَصَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِعَدَمِ الْحِل؛ لأَِنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِالْمُصَاحَبَةِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالأَْمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ (2) . وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ وَأَدِلَّةٌ.
يَقُول الْحَنَفِيَّةُ: لاَ يَجُوزُ لِلْعَادِل أَنْ يَبْتَدِئَ بِقَتْل ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ أَهْل الْبَغْيِ مُبَاشَرَةً؛ إِذِ اجْتَمَعَ فِيهِ حُرْمَتَانِ: حُرْمَةُ الإِْسْلاَمِ وَحُرْمَةُ الْقَرَابَةِ. وَإِذَا أَرَادَ الْبَاغِي قَتْل الْعَادِل فَلَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ، وَإِنْ كَانَ لاَ يَنْدَفِعُ إِلاَّ بِالْقَتْل فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَسَبَّبَ لِيَقْتُلَهُ غَيْرُهُ؛ لأَِنَّ الإِْسْلاَمَ فِي الأَْصْل عَاصِمٌ: فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ. . . (3) وَالْبَاغِي مُسْلِمٌ، إِلاَّ أَنَّهُ أُبِيحَ قَتْل غَيْرِ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ مِنْ أَهْل الْبَغْيِ لِدَفْعِ شَرِّهِمْ، لاَ لِشِرْكِهِمْ، وَدَفْعُ الشَّرِّ
__________
(1) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كف أبا حذيفة. . . " رواه الشافعي (الأم 4 / 222 ط دار المعرفة) وأخرجه البيهقي في سننه (8 / 186ـ ط دائرة المعارف العثمانية) وفي إسناده محمد بن عمر الواقدي، وهو مهتم بالكذب. التهذيب لابن حجر (9 / 363 ـ ط دائرة المعارف النظامية) .
(2) البدائع 7 / 141، وحاشية ابن عابدين 3 / 311، والفتح 4 / 414، وتبيين الحقائق 3 / 276، وحاشية الدسوقي 4 / 300، والتاج والإكليل 6 / 279، والشرح الصغير 4 / 429، والمهذب 2 / 220، ونهاية المحتاج 7 / 387، وكشاف القناع 6 / 163، والمغني 8 / 118.
(3) حديث: " فإذا قالوها عصموا مني دماءهم. . . . . " أخرجه البخاري (الفتح 6 / 112ـ ط السلفية) ومسلم (1 / 53ـ ط الحلبي) .(8/148)
يَحْصُل بِالدَّفْعِ وَالتَّسَبُّبِ لِيَقْتُلَهُ غَيْرُهُ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: كُرِهَ لِلرَّجُل قَتْل أَبِيهِ الْبَاغِي، وَمِثْل أَبِيهِ أُمُّهُ، بَل هِيَ أَوْلَى، لِمَا جُبِلَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْحَنَانِ وَالشَّفَقَةِ، وَلاَ يُكْرَهُ قَتْل جَدِّهِ وَأَخِيهِ وَابْنِهِ (2) . وَقَال ابْنُ سَحْنُونٍ: وَلاَ بَأْسَ أَنْ يَقْتُل الرَّجُل فِي قِتَال الْبُغَاةِ أَخَاهُ وَقَرَابَتَهُ، فَأَمَّا الأَْبُ وَحْدَهُ فَلاَ أُحِبُّ قَتْلَهُ عَمْدًا، وَرَوَى ابْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ جَوَازَ قَتْل الاِبْنِ الْبَاغِي، وَهُوَ غَيْرُ الْمَشْهُورِ (3) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يُكْرَهُ أَنْ يُقْصَدَ قَتْل ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ، كَمَا يُكْرَهُ فِي قِتَال الْكُفَّارِ، فَإِنْ قَاتَلَهُ لَمْ يُكْرَهْ. وَقَال الْحَنَابِلَةُ: الأَْصَحُّ كَرَاهَةُ قَتْل ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ الْبَاغِي، وَنَقَل ابْنُ قُدَامَةَ عَنِ الْقَاضِي أَنَّهُ لاَ يُكْرَهُ؛ لأَِنَّهُ قَتْلٌ بِحَقٍّ، فَأَشْبَهَ إِقَامَةَ الْحَدِّ عَلَيْهِ (4) .
إِرْثُ الْعَادِل مِنَ الْبَاغِي الَّذِي قَتَلَهُ وَالْعَكْسُ:
27 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ - وَهُوَ قَوْلٌ لأَِبِي بَكْرٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ - إِلَى أَنَّ الْعَادِل إِذَا قَتَل قَرِيبَهُ
__________
(1) البدائع 7 / 141، وحاشية ابن عابدين 3 / 311، والفتح4 / 411، وتبيين الحقائق 3 / 276.
(2) حاشية الدسوقي 4 / 300، والشرح الصغير 4 / 429.
(3) التاج والإكليل6 / 279.
(4) المهذب 2 / 220، ونهاية المحتاج 7 / 387، وكشاف القناع 6 / 163، والمغني 8 / 118.(8/148)
الْبَاغِيَ وَرِثَهُ؛ لأَِنَّهُ قَتْلٌ بِحَقٍّ، فَلَمْ يَمْنَعِ الْمِيرَاثَ كَالْقِصَاصِ؛ وَلأَِنَّ قَتْل الْبَاغِي وَاجِبٌ، وَلاَ إِثْمَ عَلَى الْقَاتِل بِقَتْلِهِ، وَلاَ يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَيْهِ. فَكَذَا لاَ يُحْرَمُ مِنَ الإِْرْثِ. وَكَذَا لَوْ قَتَل الْبَاغِي ذَا رَحِمِهِ الْعَادِل عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَأَبِي بَكْرٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ (1) ، لِقَوْلِهِمْ " وَمَوَارِيثُهُمْ قَائِمَةٌ (2) ".
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَالُوا: لَوْ قَتَل الْبَاغِي قَرِيبَهُ الْعَادِل وَقَال: أَنَا عَلَى حَقٍّ وَرِثَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، خِلاَفًا لأَِبِي يُوسُفَ. وَإِنْ قَال: قَتَلْتُهُ وَأَنَا عَلَى الْبَاطِل لاَ يَرِثُ اتِّفَاقًا بَيْنَ الإِْمَامِ وَصَاحِبَيْهِ. وَاسْتَدَل - أَبُو حَنِيفَةَ - بِأَنَّهُ أَتْلَفَ مَا أَتْلَفَ عَنْ تَأْوِيلٍ فَاسِدٍ، وَالْفَاسِدُ مِنْهُ مُلْحَقٌ بِالصَّحِيحِ إِذَا انْضَمَّتْ إِلَيْهِ مَنَعَةٌ، وَهُوَ إِنْ كَانَ فَاسِدًا فِي نَفْسِهِ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ بِهِ الضَّمَانُ، فَكَذَا لاَ يُوجِبُ الْحِرْمَانَ، كَمَا أَنَّ التَّأْوِيل فِي اعْتِقَادِهِ هُوَ صَحِيحٌ (3) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ قَوْل ابْنِ حَامِدٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَرِثُ لِعُمُومِ حَدِيثِ: لَيْسَ لِقَاتِلٍ شَيْءٌ (4) وَكَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلْبَاغِي إِذَا قَتَل
__________
(1) لمغني 8 / 118، وكشاف القناع 6 / 163.
( x662 ;) التاج والإكليل 6 / 279، وحاشية الدسوقي 4 / 300، والشرح الصغير 4 / 429.
(3) الفتح 4 / 414ـ 415، وتبيين الحقائق 3 / 295ـ 296.
(4) حديث: " ليس لقاتل شيء. . . . " أخرجه مالك في الموطأ (1 / 867 ـ ط الحلبي) مرسلا. وأخرجه البيهقي بلفظ: " القاتل لا يرث " وفي إسناده مقال. وقال البيهقي: شواهد تقويه (سنن البيهقي (6 / 220 ـ ط دائرة المعارف العثمانية) .(8/149)
الْعَادِل (1) ، وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يَرِثُ قَاتِلٌ مِنْ مَقْتُولِهِ مُطْلَقًا (2) .
مَا يَجُوزُ قِتَال الْبُغَاةِ بِهِ:
28 - يَجُوزُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ قِتَال الْبُغَاةِ - إِذَا تَحَصَّنُوا - بِكُل مَا يُقَاتَل بِهِ أَهْل الْحَرْبِ، بِالسَّيْفِ وَالرَّمْيِ بِالنَّبْل وَبِالْمَنْجَنِيقِ وَالْحَرِيقِ وَالتَّغْرِيقِ، وَقَطْعِ الْمِيرَةِ (الْمُؤَنِ) وَالْمَاءِ عَنْهُمْ، وَكَذَا إِذَا فَعَل الْبُغَاةُ مَعَهُمْ مِثْل ذَلِكَ؛ لأَِنَّ قِتَالَهُمْ لِدَفْعِ شَرِّهِمْ وَكَسْرِ شَوْكَتِهِمْ، فَيُقَاتَلُونَ بِكُل مَا يَحْصُل بِهِ ذَلِكَ (3) . وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِلاَّ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ نِسْوَةٌ أَوْ ذَرَارِيُّ، فَلاَ نَرْمِيهِمْ بِالنَّارِ (4) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِعَدَمِ جَوَازِ قِتَالِهِمْ بِالنَّارِ وَالرَّمْيِ بِالْمَنْجَنِيقِ، وَلاَ بِكُل عَظِيمٍ يَعُمُّ، كَالتَّغْرِيقِ وَإِرْسَال سُيُولٍ جَارِفَةٍ، وَلاَ يَجُوزُ مُحَاصَرَتُهُمْ وَقَطْعُ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ عَنْهُمْ إِلاَّ لِضَرُورَةٍ، بِأَنْ قَاتَلُوا بِهِ، أَوْ أَحَاطُوا بِنَّا وَلَمْ يَنْدَفِعُوا إِلاَّ بِهِ، وَيَكُونُ فِعْل ذَلِكَ بِقَصْدِ الْخَلاَصِ مِنْهُمْ
__________
(1) المغني 8 / 118.
(2) منهاج الطالبين وحاشية قليوبي 3 / 148.
(3) البدائع 7 / 141، وحاشية ابن عابدين 3 / 311، والفتح 4 / 411.
(4) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 4 / 299، والتاج والإكليل 6 / 278.(8/149)
لاَ بِقَصْدِ قَتْلِهِمْ (1) ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَجُوزُ قَتْل مَنْ لاَ يُقَاتِل، وَمَا يَعُمُّ إِتْلاَفُهُ يَقَعُ عَلَى مَنْ يُقَاتِل وَمَنْ لاَ يُقَاتِل.
مُقَاتَلَةُ الْبُغَاةِ بِسِلاَحِهِمُ الَّذِي فِي أَيْدِينَا:
29 - يَجُوزُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، قِتَالُهُمْ بِسِلاَحِهِمْ وَخَيْلِهِمْ وَكُل أَدَوَاتِ الْقِتَال الَّتِي اسْتَوْلَيْنَا عَلَيْهَا مِنْهُمْ، إِنِ احْتَاجَ أَهْل الْعَدْل إِلَى هَذَا؛ لأَِنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَسَّمَ مَا اسْتَوْلَى عَلَيْهِ مِنْ سِلاَحِ الْبُغَاةِ بَيْنَ أَصْحَابِهِ بِالْبَصْرَةِ، وَكَانَتْ قِسْمَةً لِلْحَاجَةِ لاَ لِلتَّمْلِيكِ؛ وَلأَِنَّ لِلإِْمَامِ أَنْ يَفْعَل ذَلِكَ فِي مَال أَهْل الْعَدْل عِنْدَ الْحَاجَةِ، فَفِي مَال الْبَاغِي أَوْلَى (2) .
وَنَقَل ابْنُ قُدَامَةَ عَنِ الْقَاضِي أَنَّ أَحْمَدَ أَوْمَأَ إِلَى جَوَازِ الاِنْتِفَاعِ بِهِ حَال الْتِحَامِ الْحَرْبِ، وَمَنَعَهُ فِي غَيْرِ قِتَالِهِمْ؛ لأَِنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ يَجُوزُ فِيهَا إِتْلاَفُ نُفُوسِهِمْ، وَحَبْسُ سِلاَحِهِمْ وَكُرَاعِهِمْ، فَجَازَ الاِنْتِفَاعُ بِهِ كَسِلاَحِ أَهْل الْحَرْبِ. وَقَال أَبُو الْخَطَّابِ: فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَجْهَانِ (3) .
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ الْوَجْهُ الآْخَرُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو الْخَطَّابِ، فَيَرَوْنَ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لأَِحَدٍ
__________
(1) نهاية المحتاج 7 / 378، 388 والمهذب 2 / 220، والمغني 8 / 110، وكشاف القناع 6 / 163.
(2) الفتح والهداية 4 / 413، وحاشية ابن عابدين 3 / 311، وتبيين الحقائق 3 / 294، المغني 8 / 116، والتاج والإكليل 6 / 278، وحاشية الدسوقي 4 / 300.
(3) المغني 8 / 116.(8/150)
اسْتِعْمَال شَيْءٍ مِمَّا اسْتَوْلَيْنَا عَلَيْهِ مِنْ سِلاَحِ الْبُغَاةِ وَخَيْلِهِمْ إِلاَّ لِضَرُورَةٍ، وَيَلْزَمُ دَفْعُ أُجْرَةِ الْمِثْل لَهُمْ، كَمُضْطَرٍّ لأَِكْل طَعَامِ غَيْرِهِ يَلْزَمُهُ ثَمَنُهُ (1) ، وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَحِل مَال امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلاَّ بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ (2) وَلأَِنَّ مَنْ لاَ يَجُوزُ أَخْذُ مَالِهِ لَمْ يَجُزِ الاِنْتِفَاعُ بِمَالِهِ مِنْ غَيْرِ إِذْنِهِ وَمِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ؛ وَلأَِنَّ الإِْسْلاَمَ عَصَمَ أَمْوَالَهُمْ، وَإِنَّمَا أُبِيحَ قِتَالُهُمْ لِرَدِّهِمْ إِلَى الطَّاعَةِ، فَيَبْقَى الْمَال عَلَى عِصْمَتِهِ، وَمَتَى انْقَضَتِ الْحَرْبُ وَجَبَ رَدُّهُ إِلَيْهِمْ كَسَائِرِ أَمْوَالِهِمْ، وَلاَ يُرَدُّ إِلَيْهِمْ قَبْل ذَلِكَ لِئَلاَّ يُقَاتِلُونَا بِهِ. (3)
الاِسْتِعَانَةُ فِي قِتَالِهِمْ بِالْمُشْرِكِينَ:
30 - اتَّفَقَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى تَحْرِيمِ الاِسْتِعَانَةِ بِالْكُفَّارِ فِي قِتَال الْبُغَاةِ؛ لأَِنَّ الْقَصْدَ كَفُّهُمْ لاَ قَتْلُهُمْ، وَالْكُفَّارُ لاَ يَقْصِدُونَ إِلاَّ قَتْلَهُمْ، وَإِنْ دَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى الاِسْتِعَانَةِ بِهِمْ، فَإِنْ كَانَ مِنَ الْمُمْكِنِ الْقُدْرَةُ عَلَى كَفِّ هَؤُلاَءِ الْكُفَّارِ الْمُسْتَعَانِ بِهِمْ جَازَ، وَإِنْ لَمْ يُقْدَرْ لَمْ يَجُزْ.
__________
(1) نهاية المحتاج 7 / 387، والمهذب 2 / 221.
(2) حديث: " لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب. . . " أخرجه أحمد (5 / 425 ـ ط الميمنية) من حديث أبي حميد الساعدي، وأورده الهيثمي في المجمع وقال: رواه أحمد والبزار، ورجال الجميع رجال الصحيح. (مجمع الزوائد 4 / 171 ـ ط القدسي) .
(3) نهاية المحتاج 7 / 387، والمهذب 2 / 221، وكشاف القناع 6 / 164.(8/150)
كَمَا نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الاِسْتِعَانَةُ عَلَى قِتَالِهِمْ بِمَنْ يَرَى مِنْ أَهْل الْعَدْل (وَهُمْ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ) قَتْل الْبُغَاةِ وَهُمْ مُدْبِرُونَ، عَلَى مَا سَبَقَ بَيَانُهُ.
وَيَتَّفِقُ الْحَنَفِيَّةُ مَعَ الْجُمْهُورِ فِي أَنَّهُ لاَ يَحِل الاِسْتِعَانَةُ بِأَهْل الشِّرْكِ إِذَا كَانَ حُكْمُ أَهْل الشِّرْكِ، هُوَ الظَّاهِرَ، أَمَّا إِذَا كَانَ حُكْمُ أَهْل الْعَدْل هُوَ الظَّاهِرَ فَلاَ بَأْسَ بِالاِسْتِعَانَةِ بِالذِّمِّيِّينَ وَصِنْفٍ مِنَ الْبُغَاةِ، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ هُنَاكَ حَاجَةٌ؛ لأَِنَّ أَهْل الْعَدْل يُقَاتِلُونَ لإِِعْزَازِ الدِّينِ، وَالاِسْتِعَانَةُ عَلَى الْبُغَاةِ بِهِمْ كَالاِسْتِعَانَةِ عَلَيْهِمْ بِأَدَوَاتِ الْقِتَال (1) .
قَتْلَى مَعَارِكِ الْبُغَاةِ وَحُكْمُ الصَّلاَةِ عَلَيْهِمْ:
31 - مَنْ قُتِل مِنْ أَهْل الْعَدْل كَانَ شَهِيدًا؛ لأَِنَّهُ قُتِل فِي قِتَالٍ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، وَذَلِكَ بِقَوْلِهِ جَل شَأْنُهُ: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} (2) وَلاَ يُغَسَّل، وَلاَ يُصَلَّى عَلَيْهِ؛ لأَِنَّهُ شَهِيدُ مَعْرَكَةٍ أُمِرَ بِالْقِتَال فِيهَا، فَأَشْبَهَ شَهِيدَ مَعْرَكَةِ الْكُفَّارِ. وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: يُغَسَّل وَيُصَلِّي عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْل الأَْوْزَاعِيِّ وَابْنِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 416، وحاشية الدسوقي 4 / 299، والتاج والإكليل 6 / 278، والمهذب2 / 220، ونهاية المحتاج 7 / 387، والمغني 8 / 111، وكشاف القناع 6 / 164.
(2) سورة الحجرات / 9.(8/151)
الْمُنْذِرِ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: صَلُّوا عَلَى مَنْ قَال لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ (1) وَاسْتَثْنَى قَتِيل الْكُفَّارِ فِي الْمَعْرَكَةِ، فَفِيمَا عَدَاهُ يَبْقَى عَلَى الأَْصْل (2) .
أَمَّا قَتْلَى الْبُغَاةِ، فَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُمْ يُغَسَّلُونَ وَيُكَفَّنُونَ وَيُصَلَّى عَلَيْهِمْ، لِعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَلُّوا عَلَى مَنْ قَال: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَلأَِنَّهُمْ مُسْلِمُونَ لَمْ يَثْبُتْ لَهُمْ حُكْمُ الشَّهَادَةِ، فَيُغَسَّلُونَ وَيُصَلَّى عَلَيْهِمْ. وَمِثْلُهُ الْحَنَفِيَّةُ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ لَهُمْ فِئَةٌ، أَمْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ فِئَةٌ عَلَى الرَّأْيِ الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ (3) . وَقَدْ رُوِيَ: أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمْ يُصَل عَلَى أَهْل حَرُورَاءَ، وَلَكِنَّهُمْ يُغَسَّلُونَ وَيُكَفَّنُونَ وَيُدْفَنُونَ (4) .
وَلَمْ يُفَرِّقِ الْجُمْهُورُ بَيْنَ الْخَوَارِجِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْبُغَاةِ فِي حُكْمِ التَّغْسِيل وَالتَّكْفِينِ وَالصَّلاَةِ (5) .
__________
(1) حديث: " صلوا على كل من قال لا إله إلا الله " أخرجه الدارقطني (2 / 56 ـ ط دار المحاسن) من حديث ابن عمر. وقال ابن حجر: عثمان بن عبد الرحمن - يعني الذي في إسناده - كذبه يحيي بن معين التلخيص (2 / 35 ط شركة الطباعة الفنية) .
(2) البدائع 7 / 142، وحاشية ابن عابدين 3 / 312، وحاشية الشلبي على تبيين الحقائق 3 / 296، والمغني 8 / 112.
(3) البدائع 7 / 142، وحاشية ابن عابدين 3 / 312، وحاشية الشلبي على تبيين الحقائق 3 / 296، والمغني 8 / 116ـ 117.
(4) البدائع 7 / 142.
(5) المغني 8 / 117.(8/151)
تَقَاتُل أَهْل الْبَغْيِ:
32 - إِنِ اقْتَتَل فَرِيقَانِ مِنْ أَهْل الْبَغْيِ، فَإِنْ قَدَرَ الإِْمَامُ عَلَى قَهْرِهِمَا، لَمْ يُعَاوِنْ وَاحِدًا مِنْهُمَا؛ لأَِنَّ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى خَطَأٍ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى قَهْرِهِمَا، وَلَمْ يَأْمَنْ أَنْ يَجْتَمِعَا عَلَى قِتَالِهِ، ضَمَّ إِلَى نَفْسِهِ أَقْرَبَهُمَا إِلَى الْحَقِّ. فَإِنِ اسْتَوَيَا فِي ذَلِكَ اجْتَهَدَ رَأْيَهُ فِي ضَمِّ أَحَدِهِمَا، وَلاَ يَقْصِدْ بِذَلِكَ مُعَاوَنَتَهُ عَلَى الآْخَرِ، بَل يَقْصِدُ الاِسْتِعَانَةَ بِهِ عَلَى الآْخَرِ، فَإِذَا انْهَزَمَ الآْخَرُ لَمْ يُقَاتِل الَّذِي ضَمَّهُ إِلَى نَفْسِهِ حَتَّى يَدْعُوَهُ إِلَى الطَّاعَةِ؛ لأَِنَّهُ بِالاِسْتِعَانَةِ بِهِ حَصَل عَلَى الأَْمَانِ، نَصَّ عَلَى هَذَا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (1) .
وَلَمْ يُوجَدْ فِيمَا رَجَعْنَا إِلَيْهِ مِنْ كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ حُكْمُ هَذِهِ الصُّورَةِ.
وَجَاءَ فِي كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ: لَوْ قَتَل بَاغٍ مِثْلَهُ عَمْدًا فِي عَسْكَرِهِمْ، ثُمَّ ظَهَرَ أَهْل الْعَدْل عَلَى الْبُغَاةِ، فَلاَ شَيْءَ عَلَى الْقَاتِل؛ لِكَوْنِ الْمَقْتُول مُبَاحَ الدَّمِ؛ إِذْ لَوْ قَتَلَهُ الْعَادِل لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ، فَلاَ يَجِبُ عَلَى الْبَاغِي الْقَاتِل دِيَةٌ وَلاَ قِصَاصٌ، وَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ أَيْضًا؛ وَلأَِنَّهُ لاَ وِلاَيَةَ لإِِمَامِ الْعَدْل حِينَ الْقَتْل، فَلَمْ يَنْعَقِدْ مُوجِبًا لِلْجَزَاءِ، كَالْقَتْل فِي دَارِ الْحَرْبِ (2) .
__________
(1) المهذب 2 / 220، والمغني 8 / 110ـ 111.
(2) الهداية والفتح والعناية 4 / 413، والدر المختار 3 / 312، وتبيين الحقائق وحاشية الشلبي 3 / 295.(8/152)
وَقَالُوا: لَوْ غَلَبَ أَهْل الْبَغْيِ عَلَى بَلَدٍ، فَقَاتَلَهُمْ آخَرُونَ مِنْ أَهْل الْبَغْيِ، فَأَرَادُوا أَنْ يَسْبُوا ذَرَارِيَّ أَهْل الْمَدِينَةِ، وَجَبَ عَلَى أَهْل الْبَلَدِ أَنْ يُقَاتِلُوا دِفَاعًا عَنْ ذَرَارِيِّهِمْ (1) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ أَيْضًا: لَوْ قَتَل تَاجِرٌ مِنْ أَهْل الْعَدْل تَاجِرًا آخَرَ مِنْ أَهْل الْعَدْل فِي عَسْكَرِ أَهْل الْبَغْيِ، أَوْ قَتَل الأَْسِيرُ مِنْ أَهْل الْعَدْل أَسِيرًا آخَرَ، ثُمَّ ظَهَرَ عَلَيْهِ فَلاَ قِصَاصَ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ الْفِعْل لَمْ يَقَعْ مُوجِبًا لِلْجَزَاءِ؛ لِتَعَذُّرِ الاِسْتِيفَاءِ وَانْعِدَامِ الْوِلاَيَةِ، كَمَا لَوْ فَعَل ذَلِكَ فِي دَارِ الْحَرْبِ؛ لأَِنَّ عَسْكَرَ أَهْل الْبَغْيِ فِي حَقِّ انْقِطَاعِ الْوِلاَيَةِ وَدَارِ الْحَرْبِ سَوَاءٌ (2) .
اسْتِعَانَةُ الْبُغَاةِ بِالْكُفَّارِ:
33 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا اسْتَعَانَ الْبُغَاةُ بِالْحَرْبِيِّينَ وَأَمَّنُوهُمْ، أَوْ عَقَدُوا لَهُمْ ذِمَّةً، لَمْ يُعْتَبَرِ الأَْمَانُ بِالنِّسْبَةِ لَنَا إِنْ ظَفِرْنَا بِهِمْ؛ لأَِنَّ الأَْمَانَ مِنْ شَرْطِ صِحَّتِهِ إِلْزَامُ كَفِّهِمْ عَنِ الْمُسْلِمِينَ، وَهَؤُلاَءِ يَشْتَرِطُونَ عَلَيْهِمْ قِتَال الْمُسْلِمِينَ، فَلاَ يَصِحُّ الأَْمَانُ لَهُمْ. وَلأَِهْل الْعَدْل قِتَالُهُمْ، وَحُكْمُ أَسِيرِهِمْ فِي يَدِ أَهْل الْعَدْل حُكْمُ الأَْسِيرِ الْحَرْبِيِّ (3) .
__________
(1) فتح القدير 4 / 416.
(2) بدائع الصنائع 7 / 141ـ 142.
(3) فتح القدير 4 / 416، ونهاية المحتاج 7 / 388، المغني 8 / 121.(8/152)
أَمَّا مَا إِذَا اسْتَعَانَ الْبُغَاةُ بِالْمُسْتَأْمَنِينَ، فَمَتَى أَعَانُوهُمْ كَانُوا نَاقِضِينَ لِلْعَهْدِ، وَصَارُوا كَأَهْل الْحَرْبِ؛ لأَِنَّهُمْ تَرَكُوا الشَّرْطَ، وَهُوَ كَفُّهُمْ عَنِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَهْدُهُمْ مُؤَقَّتٌ بِخِلاَفِ الذِّمِّيِّينَ، فَإِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ مُكْرَهِينَ، وَكَانَتْ لَهُمْ مَنَعَةٌ، لَمْ يُنْتَقَضْ عَهْدُهُمْ (1) .
وَإِنِ اسْتَعَانُوا بِأَهْل الذِّمَّةِ فَأَعَانُوهُمْ، وَقَاتَلُوا مَعَهُمْ، فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يُنْتَقَضُ عَهْدُهُمْ؛ لأَِنَّهُمْ قَاتَلُوا أَهْل الْحَقِّ فَيُنْتَقَضُ عَهْدُهُمْ، كَمَا لَوِ انْفَرَدُوا بِقِتَالِهِمْ؛ وَعَلَى هَذَا يَكُونُونَ كَأَهْل الْحَرْبِ، فَيُقْتَلُونَ مُقْبِلِينَ وَمُدْبِرِينَ، وَيُجْهَزُ عَلَى جَرِيحِهِمْ، وَيُسْتَرَقُّونَ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِ قِتَال الْحَرْبِيِّينَ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لاَ يُنْقَضُ عَهْدُهُمْ؛ لأَِنَّ أَهْل الذِّمَّةِ لاَ يَعْرِفُونَ الْمُحِقَّ مِنَ الْمُبْطِل، فَيَكُونُ ذَلِكَ شُبْهَةً لَهُمْ. وَعَلَى هَذَا يَكُونُونَ كَأَهْل الْبَغْيِ فِي الْكَفِّ عَنْ قَتْل أَسِيرِهِمْ وَمُدْبِرِهِمْ وَجَرِيحِهِمْ.
وَالْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ يَتَّفِقُونَ مَعَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي أَنَّ مَعُونَةَ الذِّمِّيِّينَ لِلْبُغَاةِ اسْتِجَابَةٌ لِطَلَبِهِمْ لاَ تَنْقُضُ عَهْدَ الذِّمَّةِ، كَمَا أَنَّ هَذَا الْفِعْل مِنْ أَهْل الْبَغْيِ لَيْسَ نَقْضًا لِلأَْمَانِ. فَالَّذِينَ
__________
(1) نهاية المحتاج 7 / 388، والمهذب 2 / 221، والمغني 8 / 121 - 122، وكشاف القناع 6 / 166.(8/153)
انْضَمُّوا إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْل الذِّمَّةِ لَمْ يَخْرُجُوا مِنْ أَنْ يَكُونُوا مُلْتَزِمِينَ حُكْمَ الإِْسْلاَمِ فِي الْمُعَامَلاَتِ، وَأَنْ يَكُونُوا مِنْ أَهْل الدَّارِ (1) .
وَإِنْ أَكْرَهَهُمُ الْبُغَاةُ عَلَى مَعُونَتِهِمْ لَمْ يُنْقَضْ عَهْدُهُمْ - قَوْلاً وَاحِدًا - وَيُقْبَل قَوْلُهُمْ؛ لأَِنَّهُمْ تَحْتَ أَيْدِيهِمْ وَقُدْرَتِهِمْ (2) .
وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ حُكْمَ الْبُغَاةِ، وَأَطْلَقُوا هَذِهِ الْعِبَارَةَ مِمَّا يُفِيدُ أَنَّهُمْ كَالْبُغَاةِ فِي عَدَمِ ضَمَانِ مَا أَتْلَفُوهُ لأَِهْل الْعَدْل أَثْنَاءَ الْقِتَال (3) ، وَهُوَ مَا صَرَّحَ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ؛ إِذْ قَالُوا بِالنِّسْبَةِ لِلذِّمِّيِّ الْخَارِجِ مَعَ الْبُغَاةِ الْمُتَأَوِّلِينَ اسْتِجَابَةً لِطَلَبِهِمْ: لاَ يَضْمَنُ نَفْسًا وَلاَ مَالاً (4) .
لَكِنَّ الشَّافِعِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُمْ يَضْمَنُونَ مَا أَتْلَفُوا عَلَى أَهْل الْعَدْل حَال الْقِتَال وَغَيْرِهِ؛ إِذْ لاَ تَأْوِيل لَهُمْ (5) .
__________
(1) الفتح 4 / 415، والتاج الإكليل 6 / 279، والشرح الصغير 4 / 430، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي 4 / 300، والمهذب 2 / 221، ونهاية المحتاج 7 / 188، والمغني 8 / 121، وكشاف القناع 6 / 166.
(2) المغني 8 / 122.
(3) فتح القدير 4 / 415.
(4) الشرح الصغير 4 / 430، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي 4 / 300، والتاج والإكليل 6 / 279.
(5) المهذب 2 / 221، ونهاية المحتاج 7 / 188، والمغني 8 / 121، وكشاف القناع 6 / 166.(8/153)
إِعْطَاءُ الأَْمَانِ لِلْبَاغِي مِنَ الْعَادِل:
34 - صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ إِذَا أَمَّنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْل الْعَدْل رَجُلاً مِنْ أَهْل الْبَغْيِ جَازَ أَمَانُهُ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ أَعْلَى شِقَاقًا مِنَ الْكَافِرِ الَّذِي يَجُوزُ إِعْطَاءُ الأَْمَانِ لَهُ. فَكَذَا هَذَا، بَل هُوَ أَوْلَى وَأَحَقُّ؛ لأَِنَّهُ مُسْلِمٌ، وَقَدْ يُحْتَاجُ إِلَى مُنَاظَرَتِهِ لِيَتُوبَ، وَلاَ يَتَأَتَّى ذَلِكَ مَا لَمْ يَأْمَنْ كُلٌّ الآْخَرَ. وَلَوْ دَخَل بَاغٍ بِأَمَانٍ، فَقَتَلَهُ عَادِلٌ عَمْدًا، لَزِمَتْهُ الدِّيَةُ (1) .
تَصَرُّفَاتُ إِمَامِ الْبُغَاةِ
إِذَا اسْتَوْلَى الْبُغَاةُ عَلَى بَلَدٍ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ، وَنَصَّبُوا لَهُمْ إِمَامًا، وَأَحْدَثَ الإِْمَامُ تَصَرُّفَاتٍ بِاعْتِبَارِهِ حَاكِمًا، كَالْجِبَايَةِ مِنْ جَمْعِ الزَّكَاةِ وَالْعُشُورِ وَالْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ، وَاسْتِيفَاءِ الْحُدُودِ وَالتَّعَازِيرِ وَإِقَامَةِ الْقُضَاةِ، فَهَل تَنْفُذُ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ، وَتَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا آثَارُهَا فِي حَقِّ أَهْل الْعَدْل؟ بَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي:
أ - جِبَايَةُ الزَّكَاةِ وَالْجِزْيَةِ وَالْعُشُورِ وَالْخَرَاجِ:
35 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ مَا جَبَاهُ أَهْل الْبَغْيِ مِنَ الْبِلاَدِ الَّتِي غَلَبُوا عَلَيْهَا، مِنَ الزَّكَاةِ وَالْجِزْيَةِ وَالْعُشُورِ وَالْخَرَاجِ، يُعْتَدُّ بِهِ؛ لأَِنَّ مَا فَعَلُوهُ أَوْ أَخَذُوهُ كَانَ بِتَأْوِيلٍ سَائِغٍ، فَوَجَبَ إِمْضَاؤُهُ، كَالْحَاكِمِ إِذَا حَكَمَ بِمَا يَسُوغُ الاِجْتِهَادُ فِيهِ، وَلاَ حَرَجَ عَلَى النَّاسِ فِي دَفْعِ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ، فَقَدْ كَانَ
__________
(1) الفتح 4 / 416، ورد المحتار وحاشية ابن عابدين 3 / 312.(8/154)
ابْنُ عُمَرَ إِذَا أَتَاهُ سَاعِي نَجْدَةَ الْحَرُورِيِّ دَفَعَ إِلَيْهِ زَكَاتَهُ، وَكَذَلِكَ سَلَمَةُ بْنُ الأَْكْوَعِ.
وَلَيْسَ لإِِمَامِ أَهْل الْعَدْل إِذَا ظَهَرَ عَلَى هَذِهِ الْبِلاَدِ أَنْ يُطَالِبَ بِشَيْءٍ مِمَّا جَبَوْهُ، وَلاَ يَرْجِعُ بِهِ عَلَى مَنْ أُخِذَ مِنْهُ، وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَسَلَمَةَ بْنِ الأَْكْوَعِ؛ وَلأَِنَّ وِلاَيَةَ الأَْخْذِ كَانَتْ لَهُ بِاعْتِبَارِ الْحِمَايَةِ، وَلَمْ يَحْمِهِمْ؛ وَلأَِنَّ فِي تَرْكِ الاِحْتِسَابِ بِهَا ضَرَرًا عَظِيمًا وَمَشَقَّةً كَبِيرَةً، فَإِنَّهُمْ قَدْ يَغْلِبُونَ عَلَى الْبِلاَدِ السِّنِينَ الْكَثِيرَةَ، فَلَوْ لَمْ يُحْتَسَبْ مَا أَخَذُوهُ، أَدَّى إِلَى أَخْذِ الصَّدَقَاتِ مِنْهُمْ عَنْ كُل تِلْكَ الْمُدَّةِ (1) .
وَقَال أَبُو عُبَيْدٍ: عَلَى مَنْ أَخَذُوا مِنْهُ الزَّكَاةَ الإِْعَادَةُ؛ لأَِنَّهُ أَخَذَهَا مَنْ لاَ وِلاَيَةَ لَهُ صَحِيحَةٌ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَخَذَهَا آحَادُ الرَّعِيَّةِ (2) .
وَذَهَبَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ إِمَامُ أَهْل الْبَغْيِ صَرَفَ مَا أَخَذَهُ فِي مَصْرِفِهِ أَجْزَأَ مَنْ أُخِذَ مِنْهُ، وَلاَ إِعَادَةَ عَلَيْهِ؛ لِوُصُول الْحَقِّ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَرَفَهُ فِي حَقِّهِ فَعَلَى مَنْ أُخِذَ مِنْهُمْ أَنْ يُعِيدُوا دَفْعَهُ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَصِل إِلَى مُسْتَحِقِّهِ. وَقَال الْكَمَال ابْنُ الْهُمَامِ: قَال الْمَشَايِخُ: لاَ إِعَادَةَ عَلَى
__________
(1) الفتح 4 / 413، والبدائع 7 / 142، والمهذب 2 / 221، ونهاية المحتاج 7 / 385، والمغني 8 / 118، وكشاف القناع 6 / 165، والكافي لابن عبد البر 1 / 486، ومنح الجليل 1 / 336.
(2) المغني 8 / 118.(8/154)
الأَْرْبَابِ فِي الْخَرَاجِ؛ لأَِنَّ الْبُغَاةَ مُقَاتِلَةٌ، وَهُمْ مَصْرِفُ الْخَرَاجِ وَإِنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ، وَكَذَلِكَ فِي الْعُشْرِ إِنْ كَانُوا فُقَرَاءَ، أَمَّا إِنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ فَقَدْ أَفْتَوْا بِالإِْعَادَةِ، وَذَلِكَ فِي زَكَاةِ الأَْمْوَال كُلِّهَا (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنْ عَادَ بَلَدُ الْبُغَاةِ إِلَى أَهْل الْعَدْل، فَادَّعَى مَنْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ أَنَّهُ دَفَعَهَا إِلَى أَهْل الْبَغْيِ قُبِل قَوْلُهُ. وَفِي اسْتِحْلاَفِهِ وَجْهَانِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَال أَحْمَدُ: لاَ يُسْتَحْلَفُ النَّاسُ عَلَى صَدَقَاتِهِمْ.
وَإِنِ ادَّعَى مَنْ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ أَنَّهُ دَفَعَهَا إِلَيْهِمْ لَمْ يُقْبَل قَوْلُهُ؛ لأَِنَّهَا عِوَضٌ، فَلَمْ يُقْبَل قَوْلُهُ فِي الدَّفْعِ، كَالْمُسْتَأْجِرِ إِذَا ادَّعَى دَفْعَ الأُْجْرَةِ. وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يُحْتَمَل قَبُول قَوْلِهِمْ إِذَا مَضَى الْحَوْل؛ لأَِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْبُغَاةَ لاَ يَدَّعُونَ الْجِزْيَةَ لَهُمْ، فَكَانَ الْقَوْل قَوْلَهُمْ؛ لأَِنَّ الظَّاهِرَ مَعَهُمْ؛ وَلأَِنَّهُ إِذَا مَضَى لِذَلِكَ سُنُونَ كَثِيرَةٌ شَقَّ عَلَيْهِمْ إِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى مُدَّعِيهِمْ، فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَى تَغْرِيمِهِمُ الْجِزْيَةَ مَرَّتَيْنِ.
وَإِنِ ادَّعَى مَنْ عَلَيْهِ الْخَرَاجُ أَنَّهُ دَفَعَهُ إِلَيْهِمْ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُقْبَل قَوْلُهُ؛ لأَِنَّهُ مُسْلِمٌ، فَقُبِل قَوْلُهُ فِي الدَّفْعِ لِمَنْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ. وَالثَّانِي: لاَ يُقْبَل؛ لأَِنَّ الْخَرَاجَ ثَمَنٌ أَوْ أُجْرَةٌ، فَلَمْ يُقْبَل قَوْلُهُ فِي الدَّفْعِ، كَالثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ وَالأُْجْرَةِ فِي الإِْجَارَةِ (2) .
__________
(1) فتح القدير 4 / 413.
(2) المهذب 2 / 221.(8/155)
وَيَصِحُّ تَفْرِيقُهُمْ سَهْمَ الْمُرْتَزِقَةِ عَلَى جُنُودِهِمْ؛ لاِعْتِقَادِهِمُ التَّأْوِيل الْمُحْتَمَل، فَأَشْبَهَ الْحَكَمَ بِالاِجْتِهَادِ؛ وَلِمَا فِي عَدَمِ الاِعْتِدَادِ بِهِ مِنَ الإِْضْرَارِ بِالرَّعِيَّةِ؛ وَلأَِنَّ جُنْدَهُمْ مِنْ جُنْدِ الإِْسْلاَمِ، وَرُعْبُ الْكُفَّارِ قَائِمٌ بِهِمْ، وَسَوَاءٌ أَكَانَتِ الزَّكَاةُ مُعَجَّلَةً أَمْ لاَ، وَاسْتَمَرَّتْ شَوْكَتُهُمْ عَلَى وُجُوبِهَا أَمْ لاَ، وَقِيل: لاَ يُعْتَدُّ بِتَفْرِقَتِهِمْ لِئَلاَّ يَتَقَوَّوْا بِهِ عَلَيْنَا (1) ، وَإِنْ كَانَ مَنْ عَلَيْهِ الْخَرَاجُ ذِمِّيًّا فَهُوَ كَالْجِزْيَةِ؛ لأَِنَّهُ عِوَضٌ عَلَى غَيْرِ الْمُسْلِمِ (2) .
ب - قَضَاءُ الْبُغَاةِ وَحُكْمُ نَفَاذِهِ:
36 - لَوْ ظَهَرَ أَهْل الْبَغْيِ عَلَى بَلَدٍ فَوَلَّوْا فِيهِ قَاضِيًا مِنْ أَهْلِهِ، وَلَيْسَ مِنْ أَهْل الْبَغْيِ صَحَّ اتِّفَاقًا، وَعَلَيْهِ أَنْ يُقِيمَ الْحُدُودَ. أَمَّا إِنْ كَانَ مِنْهُمْ، فَإِذَا ظَهَرَ أَهْل الْعَدْل عَلَى هَذَا الْبَلَدِ، فَرُفِعَتْ أَقْضِيَتُهُ إِلَى قَاضِي أَهْل الْعَدْل نَفَذَ مِنْهَا مَا هُوَ عَدْلٌ، وَكَذَا مَا قَضَاهُ بِرَأْيِ بَعْضِ الْمُجْتَهِدِينَ؛ لأَِنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي فِي الْمُجْتَهَدَاتِ نَافِذٌ، وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِرَأْيِ قَاضِي أَهْل الْعَدْل (3) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا كَانَ الْبَاغِي مُتَأَوِّلاً، وَأَقَامَ قَاضِيًا، فَحَكَمَ بِشَيْءٍ فَإِنَّهُ يَنْفُذُ، وَلاَ تُتَصَفَّحُ أَحْكَامُهُ، بَل تُحْمَل عَلَى الصِّحَّةِ، وَيَرْتَفِعُ بِهَا
__________
(1) نهاية المحتاج 7 / 385، والمغني8 / 119.
(2) المغني 8 / 119، وكشاف القناع 6 / 166.
(3) الفتح 4 / 416، والبدائع 7 / 142، والمغني 8 / 119.(8/155)
الْخِلاَفُ. قَال الْمَوَّاقُ: هَذَا فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ. أَمَّا غَيْرُ الْمُتَأَوِّل فَأَحْكَامُهُ تُتَعَقَّبُ. وَقَال ابْنُ الْقَاسِمِ: لاَ يَجُوزُ قَضَاؤُهُمْ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنْ كَانَ مِمَّنْ يَسْتَبِيحُ دِمَاءَ أَهْل الْعَدْل وَأَمْوَالَهُمْ لَمْ تَنْفُذْ أَحْكَامُهُ؛ لأَِنَّ مِنْ شَرْطِ الْقَضَاءِ الْعَدَالَةَ وَالاِجْتِهَادَ، وَهَذَا لَيْسَ بِعَدْلٍ وَلاَ مُجْتَهِدٍ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لاَ يَسْتَبِيحُ ذَلِكَ نَفَذَ مِنْ حُكْمِهِ مَا يَنْفُذُ مِنْ حُكْمِ أَهْل الْعَدْل؛ لأَِنَّ لَهُمْ تَأْوِيلاً يَسُوغُ فِيهِ الاِجْتِهَادُ، فَلَمْ يُنْقَضْ مِنْ حُكْمِهِ مَا يَسُوغُ الاِجْتِهَادُ فِيهِ؛ وَلأَِنَّهُ اخْتِلاَفٌ فِي الْفُرُوعِ بِتَأْوِيلٍ سَائِغٍ، فَلَمْ يَمْنَعْ صِحَّةَ الْقَضَاءِ وَلَمْ يَفْسُقْ كَاخْتِلاَفِ الْفُقَهَاءِ، وَإِذَا حَكَمَ بِمَا لاَ يُخَالِفُ إِجْمَاعًا نَفَذَ حُكْمُهُ، وَإِنْ خَالَفَ الإِْجْمَاعَ نُقِضَ، وَإِنْ حَكَمَ بِسُقُوطِ الضَّمَانِ عَنْ أَهْل الْبَغْيِ فِيمَا أَتْلَفُوهُ حَال الْحَرْبِ جَازَ حُكْمُهُ؛ لأَِنَّهُ مَوْضِعُ اجْتِهَادٍ، وَإِنْ كَانَ فِيمَا أَتْلَفُوهُ قَبْل الْحَرْبِ لَمْ يَنْفُذْ؛ لأَِنَّهُ مُخَالِفٌ لِلإِْجْمَاعِ، وَإِنْ حَكَمَ عَلَى أَهْل الْعَدْل بِالضَّمَانِ فِيمَا أَتْلَفُوهُ حَال الْحَرْبِ لَمْ يَنْفُذْ حُكْمُهُ لِمُخَالَفَتِهِ لِلإِْجْمَاعِ، وَإِنْ حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِوُجُوبِ الضَّمَانِ فِيمَا أَتْلَفُوهُ فِي غَيْرِ حَال الْحَرْبِ نَفَذَ حُكْمُهُ (2) .
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 4 / 300، التاج والإكليل 6 / 279، الشرح الصغير 4 / 430، ومنح الجليل 1 / 336.
(2) المهذب 2 / 221، ونهاية المحتاج 7 / 384، والمغني 8 / 119 - 220.(8/156)
ج - كِتَابُ قَاضِي الْبُغَاةِ إِلَى قَاضِي أَهْل الْعَدْل:
37 - لاَ يَقْبَل قَاضِي أَهْل الْعَدْل كِتَابَ قَاضِي الْبُغَاةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لأَِنَّهُمْ فَسَقَةٌ (1) . وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: يَجُوزُ الْحُكْمُ بِكِتَابِهِمْ إِلَيْنَا بِسَمَاعِ الْبَيِّنَةِ فِي الأَْصَحِّ، وَيُسْتَحَبُّ عَدَمُ تَنْفِيذِهِ وَالْحُكْمِ بِهِ، اسْتِخْفَافًا بِهِمْ حَيْثُ لاَ ضَرَرَ عَلَى الْمَحْكُومِ لَهُ. فَإِنْ قَبِلَهُ جَازَ؛ لأَِنَّهُ يَنْفُذُ حُكْمُهُ، فَجَازَ الْحُكْمُ بِكِتَابِهِ، كَقَاضِي أَهْل الْعَدْل؛ لأَِنَّهُ حُكْمٌ وَالْحَاكِمُ مِنْ أَهْلِهِ. بَل لَوْ كَانَ الْحُكْمُ لِوَاحِدٍ مِنَّا عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ، فَالْمُتَّجَهُ وُجُوبُ التَّنْفِيذِ. وَقِيل: لاَ يَجُوزُ اعْتِبَارُ كِتَابِهِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ إِعْلاَءٍ لِمَنْصِبِهِ (2) .
وَلَمْ نَقِفْ عَلَى نَصٍّ لِلْمَالِكِيَّةِ فِي هَذَا، لَكِنَّهُمُ اشْتَرَطُوا فِي الْقَاضِي الَّذِي يُقْبَل كِتَابُهُ: الْعَدَالَةَ، سَوَاءٌ أَكَانَ تَوَلَّى الْقَضَاءَ مِنْ قِبَل الْوَالِي الْمُتَغَلِّبِ أَوْ مِنْ قِبَل الْكَافِرِ، رِعَايَةً لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ، مِمَّا يُفِيدُ جَوَازَ قَبُول كِتَابِ قَاضِي أَهْل الْبَغْيِ (3) .
د - إِقَامَتُهُمْ لِلْحَدِّ، وَوُجُوبُهُ عَلَيْهِمْ:
38 - الْحَدُّ الَّذِي يُقِيمُهُ إِمَامُ أَهْل الْبَغْيِ يَقَعُ
__________
(1) الفتح 4 / 416، والبدائع 7 / 142.
(2) المهذب 2 / 221، ونهاية المحتاج 7 / 384، والمغني 8 / 120، وكشاف القناع 6 / 166.
(3) التاج والإكليل6 / 143.(8/156)
مَوْقِعَهُ، وَيَكُونُ مُجْزِئًا، وَلاَ يُعَادُ ثَانِيًا عَلَى الْمَحْدُودِ إِنْ كَانَ غَيْرَ قَتْلٍ، وَلاَ دِيَةَ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ قَتْلاً، لأَِنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَاتَل أَهْل الْبَصْرَةِ، وَلَمْ يُلْغِ مَا فَعَلُوهُ؛ لأَِنَّهُمْ فَعَلُوهُ بِتَأْوِيلٍ سَائِغٍ، فَوَجَبَ إِمْضَاؤُهُ، وَهَذَا مَا صَرَّحَ بِهِ كُلٌّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (1) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا كَانَ الْقَاضِي الَّذِي أَقَامَهُ إِمَامُ أَهْل الْبَغْيِ مِنْ أَهْل الْبَلَدِ الَّتِي تَغَلَّبُوا عَلَيْهَا، وَلَيْسَ مِنَ الْبُغَاةِ، وَجَبَ عَلَيْهِ إِقَامَةُ الْحَدِّ وَأَجْزَأَ. وَأَمَّا إِذَا كَانَ مِنْ أَهْل الْبَغْيِ، وَكَانُوا امْتَنَعُوا بِدَارِ الْحَرْبِ، فَإِنَّ الْحَدَّ لاَ يَجِبُ؛ إِذِ الْفِعْل لَمْ يَقَعْ مُوجِبًا أَصْلاً لِوُقُوعِهِ فِي غَيْرِ دَارِ الإِْسْلاَمِ؛ لِعَدَمِ الْوِلاَيَةِ عَلَى مَكَانِ وُقُوعِ الْجَرِيمَةِ وَقْتَ وُقُوعِهَا. وَلَوْ رَجَعَ إِلَى دَارِ الإِْسْلاَمِ لاَ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ أَيْضًا. وَعَلَى هَذَا لَوْ تَغَلَّبْنَا عَلَيْهِمْ لاَ يُقَامُ. وَلَوْ كَانُوا أَقَامُوهُ فَإِنَّهُ لاَ تَجِبْ إِعَادَتُهُ؛ لِعَدَمِ وُجُوبِهِ أَصْلاً (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِذَا ارْتَكَبُوا حَال امْتِنَاعِهِمْ مَا يُوجِبُ حَدًّا، ثُمَّ قُدِرَ عَلَيْهِمْ - وَلَمْ يَكُنْ أُقِيمَ الْحَدُّ - أُقِيمَتْ فِيهِمْ حُدُودُ اللَّهِ،
__________
(1) الشرح الصغير 4 / 430، والتاج والإكليل 6 / 279، وحاشية الدسوقي 4 / 300، والمهذب 2 / 221، والمغني 8 / 118.
(2) الفتح 4 / 115، 116، والبدائع 7 / 131.(8/157)
وَلاَ تَسْقُطُ الْحُدُودُ بِاخْتِلاَفِ الدَّارِ. وَهُوَ قَوْل ابْنِ الْمُنْذِرِ لِعُمُومِ الآْيَاتِ وَالأَْخْبَارِ؛ وَلأَِنَّ كُل مَوْضِعٍ تَجِبُ فِيهِ الْعِبَادَةُ فِي أَوْقَاتِهَا تَجِبُ الْحُدُودُ فِيهِ عِنْدَ وُجُودِ أَسْبَابِهَا كَدَارِ أَهْل الْعَدْل؛ وَلأَِنَّهُ زَانٍ أَوْ سَارِقٌ لاَ شُبْهَةَ فِي زِنَاهُ وَسَرِقَتِهِ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ كَالذِّمِّيِّ فِي دَارِ الْعَدْل (1) .
شَهَادَةُ الْبُغَاةِ:
39 - الأَْصْل قَبُول شَهَادَتِهِمْ. فَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى قَبُول شَهَادَةِ أَهْل الأَْهْوَاءِ إِنْ كَانُوا عُدُولاً فِي أَهْوَائِهِمْ، إِلاَّ بَعْضَ الرَّافِضَةِ كَالْخَطَّابِيَّةِ، وَمَنْ كَانَتْ بِدْعَتُهُ تُكَفِّرُ، أَوْ كَانَ صَاحِبَ عَصَبِيَّةٍ، أَوْ فِيهِ مَجَانَةٌ، فَإِنَّ شَهَادَتَهُ لاَ تُقْبَل لِكُفْرِهِ وَلِفِسْقِهِ (2) .
وَيَقُول الْمَالِكِيَّةُ: تُقْبَل شَهَادَةُ الْبُغَاةِ إِذَا لَمْ يَكُونُوا مُبْتَدِعِينَ، وَلاَ تُقْبَل إِذَا كَانُوا مُبْتَدِعِينَ وَالْعِبْرَةُ بِوَقْتِ الأَْدَاءِ (3) . وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: تُقْبَل شَهَادَةُ الْبُغَاةِ لِتَأْوِيلِهِمْ، إِلاَّ أَنْ يَكُونُوا مِمَّنْ يَشْهَدُونَ لِمُوَافِقِيهِمْ بِتَصْدِيقِهِمْ، فَلاَ تُقْبَل حِينَئِذٍ لِبَعْضِهِمْ (4) .
__________
(1) المغني 8 / 120.
(2) البدائع 6 / 269.
(3) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 4 / 165، والتبصرة 2 / 196.
(4) نهاية المحتاج 7 / 384.(8/157)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: الْبُغَاةُ إِذَا لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْل الْبِدَعِ لَيْسُوا بِفَاسِقِينَ، وَإِنَّمَا هُمْ يُخْطِئُونَ فِي تَأْوِيلِهِمْ، فَهُمْ كَالْمُجْتَهِدِينَ، فَمَنْ شَهِدَ مِنْهُمْ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ إِذَا كَانَ عَدْلاً. وَنُقِل عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُمْ يَفْسُقُونَ بِالْبَغْيِ وَخُرُوجِهِمْ عَلَى الإِْمَامِ، وَلَكِنْ تُقْبَل شَهَادَتُهُمْ؛ لأَِنَّ فِسْقَهُمْ مِنْ جِهَةِ الدِّينِ فَلاَ تُرَدُّ بِهِ الشَّهَادَةُ (1) .
بَغْيٌ
انْظُرْ: بُغَاة
__________
(1) المغني 8 / 117 - 118.(8/158)
بَقَرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْبَقَرُ: اسْمُ جِنْسٍ. قَال ابْنُ سِيدَهْ: وَيُطْلَقُ عَلَى الأَْهْلِيِّ وَالْوَحْشِيِّ، وَعَلَى الذَّكَرِ وَالأُْنْثَى، وَوَاحِدُهُ بَقَرَةٌ، وَقِيل: إِنَّمَا دَخَلَتْهُ الْهَاءُ لأَِنَّهُ وَاحِدٌ مِنَ الْجِنْسِ. وَالْجَمْعُ: بَقَرَاتٌ، وَقَدْ سَوَّى الْفُقَهَاءُ الْجَامُوسَ بِالْبَقَرِ فِي الأَْحْكَامِ، وَعَامَلُوهُمَا كَجِنْسٍ وَاحِدٍ (1) .
زَكَاةُ الْبَقَرِ:
2 - زَكَاةُ الْبَقَرِ وَاجِبَةٌ بِالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ.
أَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، أَوْ وَالَّذِي لاَ إِلَهَ غَيْرُهُ - أَوْ كَمَا حَلَفَ - مَا مِنْ رَجُلٍ تَكُونُ لَهُ إِبِلٌ أَوْ بَقَرٌ أَوْ غَنَمٌ لاَ يُؤَدِّي حَقَّهَا إِلاَّ أَتَى بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْظَمَ مَا تَكُونُ وَأَسْمَنَهُ، تَطَؤُهُ بِأَخْفَافِهَا، وَتَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا، كُلَّمَا جَازَتْ أُخْرَاهَا رُدَّتْ عَلَيْهِ أُولاَهَا
__________
(1) المصباح المنير ولسان العرب والقاموس المحيط في المادة.(8/158)
حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ. (1) وَمَا رَوَى النَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ مَسْرُوقٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُل حَالِمٍ دِينَارًا، وَمِنَ الْبَقَرِ مِنْ كُل ثَلاَثِينَ تَبِيعًا أَوْ تَبِيعَةً، وَمِنْ كُل أَرْبَعِينَ مُسِنَّةً. (2)
وَقَدْ أَجْمَعَ الصَّحَابَةُ وَمَنْ بَعْدَهُمْ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الأَْنْعَامِ، وَلَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ، وَالْبَقَرُ صِنْفٌ مِنَ الأَْنْعَامِ، فَوَجَبَتِ الزَّكَاةُ فِيهَا كَالإِْبِل وَالْغَنَمِ، وَإِنَّمَا كَانَ الْخِلاَفُ فِي بَعْضِ الشُّرُوطِ كَمَا سَيَأْتِي (3) .
شُرُوطُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْبَقَرِ:
3 - يُشْتَرَطُ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْبَقَرِ شُرُوطٌ عَامَّةٌ تَفْصِيلُهَا فِي الزَّكَاةِ، وَهُنَاكَ شُرُوطٌ خَاصَّةٌ بَيَانُهَا فِيمَا يَلِي:
اشْتِرَاطُ السَّوْمِ:
4 - الْمُرَادُ بِالسَّوْمِ فِي زَكَاةِ الْمَاشِيَةِ: أَنْ تَرْعَى الْمَاشِيَةُ أَكْثَرَ أَيَّامِ السَّنَةِ فِي كَلأٍَ مُبَاحٍ، سَوَاءٌ
__________
(1) حديث: " والذي نفسي بيده. . . " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 323 ـ ط السلفية) ومسلم (2 / 686ـ ط الحلبي) .
(2) حديث: " بعث معاذا إلى اليمن. . . " أخرجه النسائي (5 / 26ـ ط المكتبة التجارية) والحاكم (1 / 398 ـ ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه ووافقه الذهبي.
(3) المغني لابن قدامة2 / 591.(8/159)
أَكَانَتْ تَرْعَى بِنَفْسِهَا أَمْ بِرَاعٍ يَرْعَاهَا، هَذَا وَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَغَيْرِهِمْ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ السَّوْمُ فِي زَكَاةِ الْمَاشِيَةِ، وَمِنْ بَيْنِ تِلْكَ الْمَاشِيَةِ الْبَقَرُ، فَيُشْتَرَطُ فِيهَا السَّوْمُ أَيْضًا، وَأَمَّا الْبَقَرُ الْعَوَامِل وَالْمَعْلُوفَةُ فَلاَ زَكَاةَ فِيهَا؛ لاِنْتِفَاءِ السَّوْمِ.
وَقَال الإِْمَامُ مَالِكٌ: لاَ يُشْتَرَطُ السَّوْمُ فِي زَكَاةِ الْبَقَرِ، فَالْبَقَرُ الْعَوَامِل وَالْمَعْلُوفَةُ تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ عِنْدَهُ.
اسْتَدَل الإِْمَامُ مَالِكٌ لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بِالإِْطْلاَقِ فِي الأَْحَادِيثِ الْمُوجِبَةِ لِزَكَاةِ الْبَقَرِ، وَهُوَ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ عَمَل أَهْل الْمَدِينَةِ، وَعَمَل أَهْل الْمَدِينَةِ أَحَدُ أُصُول الْمَالِكِيَّةِ (1) .
وَاسْتَدَل الْقَائِلُونَ بِاشْتِرَاطِ السَّوْمِ فِي زَكَاةِ الْمَاشِيَةِ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَال الرَّاوِي أَحْسَبُهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَدَقَةِ الْبَقَرِ قَال: وَلَيْسَ فِي الْعَوَامِل شَيْءٌ (2) ، وَأَيْضًا بِمَا رُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لَيْسَ فِي الْبَقَرِ الْعَوَامِل شَيْءٌ (3) وَقَدْ حَمَل الْجُمْهُورُ النُّصُوصَ الْمُطْلَقَةَ فِي
__________
(1) الدسوقي 1 / 432، والمغني لابن قدامة 2 / 576.
(2) حديث: " ليس في العوامل شيء " أخرجه أبو داود (2 / 229 ـ ط عزت عبيد دعاس) من حديث علي بن أبي طالب وحسنه النووي كما في نصب الراية (2 / 328 ـ ط المجلس العلمي) .
(3) حديث: " ليس في البقر العوامل شيء. . . " أخرجه الدارقطني (2 / 103 ـ ط شركة الطباعة الفنية) وأعله الزيلعي بأن فيه غالب بن عبيد الله، قال ابن معين: لا يحتج به. (نصب الراية2 / 390 ـ ط المجلس العلمي) .(8/159)
الْبَقَرِ عَلَى النُّصُوصِ الْمُقَيَّدَةِ بِالسَّوْمِ الْوَارِدَةِ فِي الإِْبِل وَالْغَنَمِ، كَمَا اسْتَدَلُّوا بِقِيَاسِ الْبَقَرِ عَلَى الإِْبِل وَالْغَنَمِ فِي اشْتِرَاطِ السَّوْمِ (1) .
وَأَيْضًا فَإِنَّ صِفَةَ النَّمَاءِ مُعْتَبَرَةٌ فِي الزَّكَاةِ، فَلاَ تُوجَدُ إِلاَّ فِي السَّائِمَةِ، أَمَّا الْبَقَرُ الْعَوَامِل فَصِفَةُ النَّمَاءِ مَفْقُودَةٌ فِيهَا، وَمِثْلُهَا الْمَعْلُوفَةُ فَلاَ نَمَاءَ فِيهَا أَيْضًا؛ لأَِنَّ عَلْفَهَا يَسْتَغْرِقُ نَمَاءَهَا، إِلاَّ أَنْ يُعِدَّهَا لِلتِّجَارَةِ، فَيُزَكِّيَهَا زَكَاةَ عُرُوضِ التِّجَارَةِ (2) .
الزَّكَاةُ فِي بَقَرِ الْوَحْشِ:
5 - ذَهَبَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ إِلَى عَدَمِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي بَقَرِ الْوَحْشِ، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ رِوَايَتَانِ، فَالْمَذْهَبُ عِنْدَهُمْ وُجُوبُ الزَّكَاةِ فِيهَا؛ لأَِنَّ مُطْلَقَ الْخَبَرِ الَّذِي أَوْجَبَ الزَّكَاةَ فِي الْبَقَرِ - وَالَّذِي سَبَقَ ذِكْرُهُ - يَتَنَاوَلُهَا. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عِنْدَهُمْ عَدَمُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهَا. قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَهِيَ أَصَحُّ، وَهُوَ قَوْل أَكْثَرِ أَهْل الْعِلْمِ فِي عَدَمِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي بَقَرِ الْوَحْشِ (3) ؛ لأَِنَّ اسْمَ الْبَقَرِ عِنْدَ الإِْطْلاَقِ
__________
(1) المغني لابن قدامة 2 / 592، والمجموع 5 / 357 ط المنيرية.
(2) المغني 2 / 577.
(3) الإنصاف 3 / 4، ونقله عن الفروع، والمغني 2 / 595، والمقنع 1 / 118.(8/160)
لاَ يَنْصَرِفُ إِلَيْهَا وَلاَ يُفْهَمُ مِنْهُ إِذْ كَانَتْ لاَ تُسَمَّى بَقَرًا بِدُونِ الإِْضَافَةِ، فَيُقَال: بَقَرُ الْوَحْشِ؛ وَلأَِنَّ الْعَادَةَ تَنْفِي وُجُودَ نِصَابٍ مِنْهَا مَوْصُوفًا بِصِفَةِ السَّوْمِ حَوْلاً كَامِلاً، وَلأَِنَّهَا حَيَوَانٌ لاَ يُجْزِئُ نَوْعُهُ فِي الأُْضْحِيَّةِ وَالْهَدْيِ، فَلاَ تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ كَالظِّبَاءِ؛ وَلأَِنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَْنْعَامِ، فَلاَ تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ كَسَائِرِ الْوُحُوشِ، وَالسِّرُّ فِي ذَلِكَ أَنَّ الزَّكَاةَ إِنَّمَا وَجَبَتْ فِي بَهِيمَةِ الأَْنْعَامِ دُونَ غَيْرِهَا لِكَثْرَةِ النَّمَاءِ فِيهَا، مِنْ دَرِّهَا وَنَسْلِهَا وَكَثْرَةِ الاِنْتِفَاعِ بِهَا لِكَثْرَتِهَا وَخِفَّةِ مَئُونَتِهَا، وَهَذَا الْمَعْنَى يَخْتَصُّ بِهَا، فَاخْتَصَّتِ الزَّكَاةُ بِهَا دُونَ غَيْرِهَا (1) .
زَكَاةُ الْمُتَوَلِّدِ بَيْنَ الْوَحْشِيِّ وَالأَْهْلِيِّ:
6 - ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْمُتَوَلِّدِ بَيْنَ الْوَحْشِيِّ وَالأَْهْلِيِّ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْوَحْشِيُّ هُوَ الْفَحْل أَمِ الأُْمَّ، وَاحْتَجُّوا لِذَلِكَ بِأَنَّ الْمُتَوَلِّدَ بَيْنَ الْوَحْشِيِّ وَالأَْهْلِيِّ مُتَوَلِّدٌ بَيْنَ الَّذِي تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ وَبَيْنَ مَا لاَ تَجِبُ فِيهِ، فَيُرَجَّحُ جَانِبُ الْوُجُوبِ، قِيَاسًا عَلَى الْمُتَوَلِّدِ بَيْنَ السَّائِمَةِ وَالْمَعْلُوفَةِ، فَتَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، فَكَذَلِكَ الْمُتَوَلِّدُ بَيْنَ الْوَحْشِيِّ وَالأَْهْلِيِّ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْل تُضَمُّ إِلَى جِنْسِهَا مِنَ الأَْهْلِيِّ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ، وَيُكْمَل بِهَا نِصَابُهَا، وَتَكُونُ كَأَحَدِ أَنْوَاعِهِ (2) .
__________
(1) المغني 2 / 594، المقنع 1 / 118.
(2) المغني 2 / 595.(8/160)
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ: إِنْ كَانَتِ الأُْمَّهَاتُ أَهْلِيَّةً وَجَبَتِ الزَّكَاةُ فِيهَا، وَإِلاَّ فَلاَ. وَاسْتَدَل لِهَذَا الْقَوْل بِأَنَّ جَانِبَ الأُْمِّ فِي الْحَيَوَانِ هُوَ الْمُعْتَبَرُ؛ لأَِنَّ الأُْمَّ فِي الْحَيَوَانِ هِيَ الَّتِي تَقُومُ وَحْدَهَا بِرِعَايَةِ ابْنِهَا (1) . وَقَال الشَّافِعِيُّ: لاَ زَكَاةَ فِيهِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْوَحْشِيَّةُ مِنْ قِبَل الْفَحْل أَمْ مِنْ قِبَل الأُْمِّ (2) .
اشْتِرَاطُ الْحَوْل فِي زَكَاةِ الْبَقَرِ:
7 - اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْحَوْل لاَ بُدَّ مِنْهُ فِي زَكَاةِ الْبَقَرِ كَغَيْرِهَا مِنَ الْمَاشِيَةِ، وَمَعْنَى الْحَوْل: أَنْ تَمْضِيَ سَنَةٌ قَمَرِيَّةٌ كَامِلَةٌ عَلَى مِلْكِهِ لِلنِّصَابِ، لِتَجِبَ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ فِيهِ (3) .
اشْتِرَاطُ تَمَامِ النِّصَابِ:
أَمَّا النِّصَابُ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ عَلَى أَقْوَالٍ، مِنْ أَشْهَرِهَا اتِّجَاهَانِ:
8 - الاِتِّجَاهُ الأَْوَّل: وَهُوَ قَوْل عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَقَال بِهِ الشَّعْبِيُّ وَشَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 30، المغني 2 / 595.
(2) مغني المحتاج 1 / 369، الجمل على شرح المنهج 2 / 219.
(3) مغني المحتاج 1 / 378، المغني 2 / 635.(8/161)
وَطَاوُوسٌ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَنَقَلَهُ الزُّهْرِيُّ عَنْ أَهْل الشَّامِ، وَبِهِ قَال أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَالشَّافِعِيُّ، قَالُوا: لَيْسَ فِيمَا دُونَ الثَّلاَثِينَ مِنَ الْبَقَرِ شَيْءٌ، فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَفِيهَا تَبِيعٌ أَوْ تَبِيعَةٌ، (وَالتَّبِيعُ هُوَ الَّذِي لَهُ سَنَتَانِ، أَوِ الَّذِي لَهُ سَنَةٌ وَطَعَنَ فِي الثَّانِيَةِ، وَقِيل: سِتَّةُ أَشْهُرٍ، وَالتَّبِيعَةُ مِثْلُهُ (1)) ، ثُمَّ لاَ شَيْءَ فِيهَا حَتَّى تَبْلُغَ أَرْبَعِينَ، فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَفِيهَا بَقَرَةٌ مُسِنَّةٌ (2) .
ثُمَّ لاَ شَيْءَ فِيهَا حَتَّى تَبْلُغَ سِتِّينَ، فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَفِيهَا تَبِيعَانِ أَوْ تَبِيعَتَانِ. ثُمَّ لاَ شَيْءَ فِيهَا حَتَّى تَبْلُغَ عَشْرًا زَائِدَةً، فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَفِي كُل ثَلاَثِينَ مِنْ ذَلِكَ الْعَدَدِ تَبِيعٌ أَوْ تَبِيعَةٌ وَفِي كُل أَرْبَعِينَ مُسِنٌّ أَوْ مُسِنَّةٌ (3) ، فَفِي سَبْعِينَ تَبِيعٌ وَمُسِنَّةٌ، وَفِي ثَمَانِينَ مُسِنَّتَانِ، وَفِي تِسْعِينَ ثَلاَثَةُ أَتْبِعَةٍ، وَفِي مِائَةٍ مُسِنَّةٌ وَتَبِيعَانِ، وَفِي مِائَةٍ وَعَشْرٍ مُسِنَّتَانِ وَتَبِيعٌ، وَفِي مِائَةٍ وَعِشْرِينَ ثَلاَثُ مُسِنَّاتٍ أَوْ أَرْبَعَةُ أَتْبِعَةٍ، فَالْمَالِكُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ إِخْرَاجِ الأَْتْبِعَةِ أَوِ الْمُسِنَّاتِ، وَإِنْ كَانَ الأَْوْلَى النَّظَرَ إِلَى حَاجَةِ الْفُقَرَاءِ وَالأَْصْلَحِ لَهُمْ. ثُمَّ يَتَغَيَّرُ الْوَاجِبُ كُلَّمَا زَادَ
__________
(1) المجموع للنووي 5 / 416، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير1 / 435، المحلى 5 / 290.
(2) المجموع للنووي 5 / 416، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 435، والمحلى 5 / 290.
(3) حاشية الدسوقي 1 / 435، والأم 2 / 8، وفتح القدير 2 / 133، المغني 2 / 592، والمحلى 5 / 290.(8/161)
الْعَدَدُ عَشْرًا.
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْل بِمَا رُوِيَ عَنْ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ أَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُل حَالِمٍ دِينَارًا، وَمِنَ الْبَقَرِ مِنْ كُل ثَلاَثِينَ تَبِيعًا أَوْ تَبِيعَةً، وَمِنْ كُل أَرْبَعِينَ مُسِنَّةً. (1) وَرَوَى ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ عَنْ مُعَاذٍ أَنَّهُ سَأَل النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الأَْوْقَاصِ: مَا بَيْنَ الثَّلاَثِينَ إِلَى الأَْرْبَعِينَ، وَمَا بَيْنَ الأَْرْبَعِينَ إِلَى الْخَمْسِينَ؟ قَال: لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ. (2)
وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِمَا جَاءَ فِي كِتَابِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: فَرَائِضُ الْبَقَرِ لَيْسَ فِيمَا دُونَ الثَّلاَثِينَ مِنَ الْبَقَرِ صَدَقَةٌ، فَإِذَا بَلَغَتْ ثَلاَثِينَ فَفِيهَا عِجْلٌ رَائِعٌ جَذَعٌ، إِلَى أَنْ تَبْلُغَ أَرْبَعِينَ، فَإِذَا بَلَغَتْ أَرْبَعِينَ فَفِيهَا بَقَرَةٌ مُسِنَّةٌ. إِلَى أَنْ تَبْلُغَ سَبْعِينَ، فَإِنَّ فِيهَا بَقَرَةً وَعِجْلاً جَذَعًا، فَإِذَا بَلَغَتْ ثَمَانِينَ فَفِيهَا مُسِنَّتَانِ، ثُمَّ عَلَى هَذَا الْحِسَابِ. (3)
هَذَا
__________
(1) حديث معاذ حين بعثه إلى اليمن وسبق تخريجه ف / 2.
(2) حديث معاذ: " أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الأوقاص. . . . " أخرجه الدارقطني (2 / 99 ـ ط شركة الطباعة الفنية) وأعله الزيلعي بالإرسال. (نصب الراية 2 / 348 ـ ط المجلس العلمي) .
(3) حديث: " كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمرو بن حزم. . " أخرجه أبو داود في مراسيله، وقال النسائي: سليمان بن أرقم - يعني الذي في إسناده - متروك الحديث. (نصب الراية 2 / 340 ـ ط المجلس العلمي) .(8/162)
، وَلِتَفْصِيل أَحْكَامِ مَا بَيْنَ الْفَرِيضَتَيْنِ فِي الزَّكَاةِ - وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْوَقْصِ - يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (أَوْقَاص) .
9 - الاِتِّجَاهُ الثَّانِي: قَوْل سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَالزُّهْرِيِّ وَأَبِي قِلاَبَةَ وَغَيْرِهِمْ: إِنَّ نِصَابَ الْبَقَرِ هُوَ نِصَابُ الإِْبِل، وَإِنَّهُ يُؤْخَذُ فِي زَكَاةِ الْبَقَرِ مَا يُؤْخَذُ مِنَ الإِْبِل، دُونَ اعْتِبَارٍ لِلأَْسْنَانِ الَّتِي اشْتُرِطَتْ فِي الإِْبِل، مِنْ بِنْتِ مَخَاضٍ وَبِنْتِ لَبُونٍ وَحِقَّةٍ وَجَذَعَةٍ، وَرُوِيَ هَذَا عَنْ كِتَابِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي الزَّكَاةِ، وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَشُيُوخٍ أَدَّوُا الصَّدَقَاتِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَوَى أَبُو عُبَيْدٍ: أَنَّ فِي كِتَابِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ (فِي الزَّكَاةِ) أَنَّ الْبَقَرَ يُؤْخَذُ مِنْهَا مِثْل مَا يُؤْخَذُ مِنَ الإِْبِل، قَال: وَقَدْ سُئِل عَنْهَا غَيْرُهُمْ، فَقَالُوا: فِيهَا مَا فِي الإِْبِل. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ حَزْمٍ بِسَنَدِهِ عَنِ الزُّهْرِيِّ وَقَتَادَةَ كِلاَهُمَا عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الأَْنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: فِي كُل خَمْسٍ مِنَ الْبَقَرِ شَاةٌ، وَفِي عَشْرٍ شَاتَانِ، وَفِي خَمْسَ عَشْرَةَ ثَلاَثُ شِيَاهٍ، وَفِي عِشْرِينَ أَرْبَعُ شِيَاهٍ.
قَال الزُّهْرِيُّ: فَرَائِضُ الْبَقَرِ مِثْل فَرَائِضِ الإِْبِل غَيْرَ أَسْنَانٍ فِيهَا: فَإِذَا كَانَتِ الْبَقَرُ خَمْسًا وَعِشْرِينَ فَفِيهَا بَقَرَةٌ إِلَى خَمْسٍ وَسَبْعِينَ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى خَمْسٍ وَسَبْعِينَ فَفِيهَا بَقَرَتَانِ إِلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ فَفِي كُل أَرْبَعِينَ بَقَرَةٌ. قَال الزُّهْرِيُّ: وَبَلَغْنَا أَنَّ(8/162)
قَوْلَهُمْ: فِي كُل ثَلاَثِينَ تَبِيعٌ، وَفِي كُل أَرْبَعِينَ بَقَرَةٌ، أَنَّ ذَلِكَ كَانَ تَخْفِيفًا لأَِهْل الْيَمَنِ، ثُمَّ كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ لاَ يُرْوَى.
وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدٍ قَال: اسْتُعْمِلْتُ - أَيْ وُلِّيتُ - عَلَى صَدَقَاتِ (عَكَّ) فَلَقِيتُ أَشْيَاخًا مِمَّنْ صَدَّقَ (أُخِذَتْ مِنْهُمُ الصَّدَقَةُ) عَلَى عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاخْتَلَفُوا عَلَيَّ: فَمِنْهُمْ مَنْ قَال اجْعَلْهَا مِثْل صَدَقَةِ الإِْبِل، وَمِنْهُمْ مَنْ قَال: فِي ثَلاَثِينَ تَبِيعٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَال: فِي أَرْبَعِينَ بَقَرَةٌ مُسِنَّةٌ. وَذَكَرَ ابْنُ حَزْمٍ أَيْضًا بِسَنَدِهِ عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ وَأَبِي قِلاَبَةَ وَآخَرِينَ مِثْل مَا نُقِل عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَنُقِل عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَلْدَةَ الأَْنْصَارِيِّ: أَنَّ صَدَقَةَ الْبَقَرِ صَدَقَةُ الإِْبِل، غَيْرَ أَنَّهُ لاَ أَسْنَانَ فِيهَا (1) .
مَا يُجْزِئُ فِي الأُْضْحِيَّةِ:
10 - لاَ يُجْزِئُ فِي الأُْضْحِيَّةِ سِوَى النَّعَمِ، وَهِيَ الإِْبِل وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ، خِلاَفًا لِمَنْ قَال: يَجُوزُ التَّضْحِيَةُ بِأَيِّ شَيْءٍ مِنْ مَأْكُول اللَّحْمِ مِنَ النَّعَمِ أَوْ مِنْ غَيْرِهَا (2) .
وَتَفْصِيلُهُ فِي (الأُْضْحِيَّةِ) .
__________
(1) بداية المجتهد 1 / 261، والمغني 2 / 592، والمحلى 6 / 3.
(2) المحلى 7 / 434.(8/163)
وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الشَّخْصَ إِذَا ضَحَّى بِالْبَقَرَةِ الْوَاحِدَةِ عَنْ نَفْسِهِ فَقَطْ فَإِنَّ الأُْضْحِيَّةَ تَقَعُ لَهُ، وَسَوَاءٌ أَكَانَتْ وَاجِبَةً أَمْ مُتَطَوَّعًا بِهَا.
11 - وَأَمَّا الاِشْتِرَاكُ فِي التَّضْحِيَةِ بِالْبَقَرَةِ الْوَاحِدَةِ فَفِيهِ خِلاَفٌ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَأَكْثَرُ أَهْل الْعِلْمِ: إِلَى أَنَّ الْبَقَرَةَ الْوَاحِدَةَ تُجْزِئُ عَنْ سَبْعَةِ أَشْخَاصٍ، فَيَجُوزُ لَهُمُ الاِشْتِرَاكُ فِي الْبَقَرَةِ الْوَاحِدَةِ، وَسَوَاءٌ أَكَانُوا أَهْل بَيْتٍ وَاحِدٍ، أَمْ أَهْل بَيْتَيْنِ، أَمْ مُتَفَرِّقِينَ، وَسَوَاءٌ أَكَانَتْ أُضْحِيَّةً وَاجِبَةً أَمْ مُتَطَوَّعًا بِهَا، وَسَوَاءٌ أَرَادَ بَعْضُهُمُ الْقُرْبَةَ أَمْ أَرَادَ اللَّحْمَ، فَيَقَعُ لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا قَصَدَ. إِلاَّ أَنَّهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لاَ بُدَّ أَنْ يُرِيدَ كُلُّهُمُ الْقُرْبَةَ، فَلَوْ أَرَادَ أَحَدُهُمُ اللَّحْمَ لَمْ تُجْزِئْ عَنِ الْكُل عِنْدَهُمْ.
وَقَال مَالِكٌ: يُجْزِئُ الرَّأْسُ الْوَاحِدُ مِنَ الإِْبِل أَوِ الْبَقَرِ أَوِ الْغَنَمِ عَنْ وَاحِدٍ، وَعَنْ أَهْل الْبَيْتِ وَإِنْ كَثُرَ عَدَدُهُمْ وَكَانُوا أَكْثَرَ مِنْ سَبْعَةٍ، إِذَا أَشْرَكَهُمْ فِيهَا تَطَوُّعًا، وَلاَ تُجْزِئُ إِذَا اشْتَرَوْهَا بَيْنَهُمْ بِالشَّرِكَةِ، وَلاَ عَلَى أَجْنَبِيَّيْنِ فَصَاعِدًا (1) .
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُ الْقَوْل الأَْوَّل بِمَا رَوَاهُ جَابِرٌ قَال: نَحَرْنَا مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَدَنَةَ عَنْ
__________
(1) المجموع للنووي 8 / 398، والمغني لابن قدامة 8 / 619، وحاشية الدسوقي 2 / 119، وحاشية قليوبي وعميرة 4 / 250، وتكملة فتح القدير 8 / 429، والمحلى 7 / 448، ونيل الأوطار للشوكاني 5 / 193.(8/163)
سَبْعَةٍ، وَالْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ (1) وَعَنْهُ قَال: خَرَجْنَا مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُهِلِّينَ، فَأَمَرَنَا أَنْ نَشْتَرِكَ فِي الإِْبِل وَالْبَقَرِ، كُل سَبْعَةٍ مِنَّا فِي بَدَنَةٍ. (2)
وَأَمَّا مَالِكٌ فَقَدْ أَخَذَ بِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ كَانَ يَقُول: الْبَدَنَةُ عَنْ وَاحِدٍ وَالْبَقَرَةُ عَنْ وَاحِدٍ، وَالشَّاةُ عَنْ وَاحِدٍ لاَ أَعْلَمُ شِرْكًا. وَقَدْ رُوِيَ هَذَا أَيْضًا عَنْ غَيْرِ ابْنِ عُمَرَ كَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ فَإِنَّهُ يَرَى أَنَّ النَّفْسَ الْوَاحِدَةَ لاَ تُجْزِئُ إِلاَّ عَنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَقَطْ (3) .
الْبَقَرُ فِي الْهَدْيِ:
12 - حُكْمُ الْبَقَرَةِ فِي الْهَدْيِ كَحُكْمِهَا فِي الأُْضْحِيَّةِ، بِاسْتِثْنَاءِ مَا يَتَّصِل بِالتَّضْحِيَةِ عَنِ الرَّجُل وَأَهْل بَيْتِهِ، وَتَفْصِيلُهُ فِي (الْحَجّ، وَالْهَدْي) .
أَمَّا إِشْعَارُ الْبَقَرِ فِي الْهَدْيِ فَقَدِ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ (سِوَى أَبِي حَنِيفَةَ) عَلَى أَنَّ الإِْشْعَارَ سُنَّةٌ، وَأَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ، وَقَدْ فَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةُ مِنْ بَعْدِهِ، وَاتَّفَقُوا أَيْضًا عَلَى أَنَّ الإِْشْعَارَ سُنَّةٌ فِي
__________
(1) حديث جابر: " نحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم البقرة. . . " أخرجه مسلم (2 / 955 ـ ط الحلبي) .
(2) حديث جابر: " خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . " أخرجه مسلم 2 / 955 ـ ط الحلبي) .
(3) حاشية الدسوقي 2 / 119، والمغني 8 / 620، المحلى 7 / 448.(8/164)
الإِْبِل، سَوَاءٌ أَكَانَ لَهَا سَنَامٌ أَمْ لَمْ يَكُنْ لَهَا سَنَامٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا سَنَامٌ فَإِنَّهَا تُشْعَرُ فِي مَوْضِعِ السَّنَامِ.
وَأَمَّا الْبَقَرُ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ: الإِْشْعَارُ فِيهَا مُطْلَقًا، سَوَاءٌ أَكَانَ لَهَا سَنَامٌ أَمْ لَمْ يَكُنْ لَهَا سَنَامٌ، فَهِيَ عِنْدَهُمْ كَالإِْبِل. وَقَدْ ذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى أَنَّ الْبَقَرَ إِذَا كَانَ لَهَا سَنَامٌ فَإِنَّهَا تُشْعَرُ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا سَنَامٌ فَإِنَّهَا لاَ تُشْعَرُ (1) .
حُكْمُ التَّقْلِيدِ:
13 - التَّقْلِيدُ: جَعْل الْقِلاَدَةِ فِي الْعُنُقِ، وَتَقْلِيدُ الْهَدْيِ: أَنْ يُعَلَّقَ فِي عُنُقِهِ قِطْعَةٌ مِنْ جِلْدٍ، لِيُعْرَفَ أَنَّهُ هَدْيٌ فَلاَ يُتَعَرَّضُ لَهُ.
وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ التَّقْلِيدَ مُسْتَحَبٌّ فِي الإِْبِل وَالْبَقَرِ.
وَأَمَّا الْغَنَمُ فَقَدْ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى اسْتِحْبَابِ التَّقْلِيدِ فِيهَا كَالإِْبِل وَالْبَقَرِ. وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ إِلَى عَدَمِ اسْتِحْبَابِ التَّقْلِيدِ فِيهَا. وَتَقْلِيدُ الإِْبِل وَالْبَقَرِ يَكُونُ بِالنِّعَال وَنَحْوِهَا مِمَّا يُشْعِرُ أَنَّهَا هَدْيٌ (2) .
__________
(1) المجموع 8 / 360.
(2) المجموع 8 / 360.(8/164)
ذَكَاةُ الْبَقَرِ:
14 - ذَكَاةُ الْبَقَرِ كَذَكَاةِ الْغَنَمِ، فَإِذَا أُرِيدَ تَذْكِيَةُ الْبَقَرَةِ فَإِنَّهَا تُضْجَعُ عَلَى جَنْبِهَا الأَْيْسَرِ، وَتُشَدُّ قَوَائِمُهَا الثَّلاَثُ: الْيَدُ الْيُمْنَى وَالْيُسْرَى وَالرِّجْل الْيُسْرَى، وَتُتْرَكُ الرِّجْل الْيُمْنَى بِلاَ شَدٍّ لِتَحَرُّكِهَا عِنْدَ الذَّبْحِ، وَيُمْسِكُ الذَّابِحُ رَأْسَهَا بِيَدِهِ الْيُسْرَى، وَيُمْسِكُ السِّكِّينَ بِيَدِهِ الْيُمْنَى، ثُمَّ يَبْدَأُ الذَّبْحَ بَعْدَ أَنْ يَقُول: بِاسْمِ اللَّهِ وَاللَّهُ أَكْبَرُ وَبَعْدَ أَنْ يَتَّجِهَ هُوَ وَذَبِيحَتُهُ نَحْوَ الْقِبْلَةِ. وَأَمَّا الإِْبِل فَإِنَّهَا تُنْحَرُ بِطَعْنِهَا فِي اللَّبَّةِ، أَيْ أَسْفَل الْعُنُقِ، وَهِيَ قَائِمَةٌ مَعْقُولَةُ الرُّكْبَةِ الْيُسْرَى (1) .
اسْتِعْمَال الْبَقَرِ لِلرُّكُوبِ:
15 - اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَا يُرْكَبُ مِنَ الأَْنْعَامِ وَيُحْمَل عَلَيْهِ هُوَ الإِْبِل. وَأَمَّا الْبَقَرُ فَإِنَّهُ لَمْ يُخْلَقْ لِلرُّكُوبِ، وَإِنَّمَا خُلِقَ لِيُنْتَفَعَ بِهِ فِي حَرْثِ الأَْرْضِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَنَافِعِ سِوَى الرُّكُوبِ. وَأَمَّا الْغَنَمُ فَهِيَ لِلدَّرِّ وَالنَّسْل وَاللَّحْمِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَْنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} (2) ، وقَوْله تَعَالَى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَل لَكُمُ الأَْنْعَامَ لِتَرْكَبُوا
__________
(1) حاشية قليوبي وعميرة 4 / 243.
(2) سورة المؤمنون / 21، 22.(8/165)
مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} (1) ، وقَوْله تَعَالَى: {وَجَعَل لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأَْنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ} . (2)
وَأَمَّا الآْيَاتُ الَّتِي تَذْكُرُ أَنَّ الأَْنْعَامَ تُرْكَبُ فَهِيَ مَحْمُولَةٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ عَلَى بَعْضِ الأَْنْعَامِ، وَهِيَ الإِْبِل، وَهُوَ مِنَ الْعَامِّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخَاصُّ (3) .
وَمِمَّا يَدُل عَلَى أَنَّ اسْتِعْمَال الْبَقَرِ لِلرُّكُوبِ غَيْرُ لاَئِقٍ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَيْنَمَا رَجُلٌ يَسُوقُ بَقَرَةً لَهُ قَدْ حَمَل عَلَيْهَا، الْتَفَتَتْ إِلَيْهِ الْبَقَرَةُ فَقَالَتْ: إِنِّي لَمْ أُخْلَقْ لِهَذَا، وَلَكِنِّي إِنَّمَا خُلِقْتُ لِلْحَرْثِ، فَقَال النَّاسُ: سُبْحَانَ اللَّهِ - تَعَجُّبًا وَفَزَعًا - أَبَقَرَةٌ تَكَلَّمُ؟ فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَإِنِّي أُومِنُ بِهِ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ. (4)
بَوْل وَرَوْثُ الْبَقَرِ:
16 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى نَجَاسَةِ بَوْل وَرَوْثِ مَا لاَ يُؤْكَل لَحْمُهُ، سَوَاءٌ أَكَانَ إِنْسَانًا أَمْ غَيْرَهُ. وَأَمَّا بَوْل وَرَوْثُ مَا يُؤْكَل لَحْمُهُ كَالإِْبِل وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ فَفِيهِ الْخِلاَفُ
__________
(1) سورة غافر / 79.
(2) سورة الزخرف / 12.
(3) تفسير القرطبي10 / 72، وروح المعاني 18 / 24.
(4) حديث: " بينما رجل يسوق بقرة. . . " أخرجه مسلم (4 / 1857) .(8/165)
فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَالشَّافِعِيُّ إِلَى نَجَاسَةِ الأَْبْوَال وَالأَْرْوَاثِ كُلِّهَا، مِنْ مَأْكُول اللَّحْمِ وَغَيْرِهِ. وَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَطَائِفَةٌ مِنَ السَّلَفِ، وَوَافَقَهُمْ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ حِبَّانَ وَالإِْصْطَخْرِيُّ وَالرُّويَانِيُّ، وَمِنَ الْحَنَفِيَّةِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ إِلَى طَهَارَةِ بَوْل مَا يُؤْكَل لَحْمُهُ (1) . وَانْظُرْ لِلتَّفْصِيل وَالاِسْتِدْلاَل مُصْطَلَحَ (نَجَاسَة) .
حُكْمُ الْبَقَرِ فِي الدِّيَةِ:
17 - اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي اعْتِبَارِ الْبَقَرِ أَصْلاً فِي الدِّيَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ إِلَى أَنَّ الدِّيَةَ ثَلاَثَةُ أُصُولٍ: الإِْبِل، وَالذَّهَبُ، وَالْفِضَّةُ، وَلَيْسَ أَصْلاً (2) .
وَذَهَبَ صَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ (أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ) وَالثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ إِلَى أَنَّ الدِّيَةَ خَمْسَةُ أُصُولٍ: الإِْبِل، وَالذَّهَبُ، وَالْفِضَّةُ، وَالْبَقَرُ، وَالْغَنَمُ. وَزَادَ الصَّاحِبَانِ: الْحُلَل، وَهُوَ قَوْل عُمَرَ وَعَطَاءٍ وَطَاوُوسٍ وَفُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ السَّبْعَةِ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْل تُعْتَبَرُ الْبَقَرُ
__________
(1) نيل الأوطار 1 / 60، 61.
(2) المغني 7 / 759، والمجموع للنووي 19 / 51، وبدائع الصنائع 7 / 253.(8/166)
أَصْلاً مِنْ أُصُول الدِّيَةِ، وَيَجُوزُ لأَِصْحَابِهَا - كَمَا عِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ - دَفْعُهَا ابْتِدَاءً، وَلاَ يُكَلَّفُونَ غَيْرَهَا.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ إِلَى أَنَّ الدِّيَةَ لَيْسَ لَهَا إِلاَّ أَصْلٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ الإِْبِل، فَإِذَا فُقِدَتْ فَالْوَاجِبُ قِيمَتُهَا مِنْ نَقْدِ الْبَلَدِ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ. فَلَيْسَتِ الْبَقَرُ أَصْلاً عَلَى هَذَا الْقَوْل كَذَلِكَ (1) .
وَانْظُرْ لِلتَّفْصِيل مُصْطَلَحَ (دِيَة) .
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 254، والمجموع 19 / 50.(8/166)
بُكَاءٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْبُكَاءُ: مَصْدَرُ بَكَى يَبْكِي بُكًى، وَبُكَاءً (1) .
قَال فِي اللِّسَانِ: الْبُكَاءُ يُقْصَرُ وَيُمَدُّ. قَال الْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُ: إِذَا مَدَدْتَ أَرَدْتَ الصَّوْتَ الَّذِي يَكُونُ مَعَ الْبُكَاءِ، وَإِذَا قَصَرْتَ أَرَدْتَ الدُّمُوعَ وَخُرُوجَهَا. قَال كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي رِثَاءِ حَمْزَةَ
بَكَتْ عَيْنِي وَحُقَّ لَهَا بُكَاهَا
وَمَا يُغْنِي الْبُكَاءُ وَلاَ الْعَوِيل
قَال الْخَلِيل: مَنْ قَصَرَ ذَهَبَ بِهِ إِلَى مَعْنَى الْحُزْنِ، وَمَنْ مَدَّهُ ذَهَبَ بِهِ إِلَى مَعْنَى الصَّوْتِ. وَالتَّبَاكِي: تَكَلُّفُ الْبُكَاءِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ فَإِنْ لَمْ تَبْكُوا فَتَبَاكَوْا. (2)
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ عَنْ ذَلِكَ.
__________
(1) القاموس المحيط والمصباح المنير مادة: " بكى ".
(2) حديث: ". . . فإن لم تبكوا فتباكوا " أخرجه ابن ماجه (1 / 424 ـ ط الحلبي) وقال البوصيري: في إسناده أبو رافع، اسمه إسماعيل بن رافع، ضعيف متروك.(8/167)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الصِّيَاحُ وَالصُّرَاخُ:
2 - الصِّيَاحُ وَالصُّرَاخُ فِي اللُّغَةِ: هُوَ الصَّوْتُ بِأَقْصَى الطَّاقَةِ، وَقَدْ يَكُونُ مَعَهُمَا بُكَاءٌ، وَقَدْ لاَ يَكُونُ، وَيَرِدُ الصُّرَاخُ أَيْضًا لِرَفْعِ الصَّوْتِ عَلَى سَبِيل الاِسْتِغَاثَةِ (1) .
ب - النِّيَاحُ:
3 - النِّيَاحُ وَالنِّيَاحَةُ لُغَةً: الْبُكَاءُ بِصَوْتٍ عَلَى الْمَيِّتِ (2) .
وَقَال فِي الْمِصْبَاحِ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِمَّا جَاءَ فِي الْقَامُوسِ: نَاحَتِ الْمَرْأَةُ عَلَى الْمَيِّتِ نَوْحًا مِنْ بَابِ قَال، وَالاِسْمُ النُّوَاحُ وِزَانُ غُرَابٍ، وَرُبَّمَا قِيل: النِّيَاحُ بِالْكَسْرِ، فَهِيَ نَائِحَةٌ، وَالنِّيَاحَةُ بِالْكَسْرِ: الاِسْمُ مِنْهُ، وَالْمَنَاحَةُ بِفَتْحِ الْمِيمِ: مَوْضِعُ النَّوْحِ (3) .
ج النَّدْبُ:
4 - النَّدْبُ لُغَةً: الدُّعَاءُ إِلَى الأَْمْرِ وَالْحَثُّ عَلَيْهِ. وَالنَّدْبُ: الْبُكَاءُ عَلَى الْمَيِّتِ وَتَعْدَادُ مَحَاسِنُهُ. وَالاِسْمُ: النُّدْبَةُ (4) .
__________
(1) القاموس المحيط والمصباح المنير.
(2) القاموس المحيط.
(3) المصباح المنير.
(4) القاموس المحيط والمصباح المنير.(8/167)
د - النَّحْبُ، أَوِ النَّحِيبُ:
5 - النَّحْبُ لُغَةً: أَشَدُّ الْبُكَاءِ، كَالنَّحِيبِ (1) .
الْعَوِيل:
6 - الْعَوِيل: هُوَ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالْبُكَاءِ، يُقَال: أَعْوَلَتِ الْمَرْأَةُ إِعْوَالاً وَعَوِيلاً (2) . هَذَا وَيَتَّضِحُ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ النَّحِيبَ وَالْعَوِيل مَعْنَاهُمَا الْبُكَاءُ الشَّدِيدُ، وَأَنَّ الصُّرَاخَ وَالصِّيَاحَ مُتَقَارِبَانِ فِي الْمَعْنَى، وَأَنَّ النُّوَاحَ يَأْتِي بِمَعْنَى الْبُكَاءِ عَلَى الْمَيِّتِ، وَأَنَّ النَّدْبَ هُوَ تَعْدَادُ مَحَاسِنِ الْمَيِّتِ، وَأَنَّ الْبُكَاءَ مَا كَانَ مَصْحُوبًا بِصَوْتٍ، وَالْبُكَى مَا كَانَ بِلاَ صَوْتٍ، بِأَنْ كَانَ قَاصِرًا عَلَى خُرُوجِ الدَّمْعِ.
أَسْبَابُ الْبُكَاءِ:
7 - لِلْبُكَاءِ أَسْبَابٌ، مِنْهَا: خَشْيَةُ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْحُزْنُ، وَشِدَّةُ الْفَرَحِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلْبُكَاءِ فِي الْمُصِيبَةِ:
8 - الْبُكَاءُ قَدْ يَكُونُ قَاصِرًا عَلَى خُرُوجِ الدَّمْعِ فَقَطْ بِلاَ صَوْتٍ، أَوْ بِصَوْتٍ لاَ يُمْكِنُ الاِحْتِرَازُ عَنْهُ، وَقَدْ يَكُونُ مَصْحُوبًا بِصَوْتٍ كَصُرَاخٍ أَوْ نُوَاحٍ أَوْ نَدْبٍ وَغَيْرِهَا، وَهَذَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ
__________
(1) القاموس المحيط والمصباح المنير.
(2) المصباح المنير.(8/168)
مَنْ يَصْدُرُ مِنْهُ الْبُكَاءُ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى كِتْمَانِ الْحُزْنِ، وَيَمْلِكُ السَّيْطَرَةَ عَلَى مَشَاعِرِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لاَ يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ.
فَإِنْ كَانَ الْبُكَاءُ مُجَرَّدًا عَنْ فِعْل الْيَدِ، كَشَقِّ جَيْبٍ أَوْ لَطْمٍ، وَعَنْ فِعْل اللِّسَانِ، كَالصُّرَاخِ وَدَعْوَى الْوَيْل وَالثُّبُورِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ مُبَاحٌ (1) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّهُ مَهْمَا كَانَ مِنَ الْعَيْنِ وَالْقَلْبِ فَمِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَل وَمِنَ الرَّحْمَةِ، وَمَا كَانَ مِنَ الْيَدِ وَاللِّسَانِ فَمِنَ الشَّيْطَانِ (2) وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْضًا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُعَذِّبُ بِدَمْعِ الْعَيْنِ وَلاَ بِحُزْنِ الْقَلْبِ، وَلَكِنْ يُعَذِّبُ بِهَذَا - وَأَشَارَ إِلَى لِسَانِهِ - أَوْ يَرْحَمُ. (3)
أَمَّا حُكْمُ الْبُكَاءِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالَةِ فَسَيَأْتِي فِيمَا بَعْدُ.
الْبُكَاءُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى:
9 - الْمُؤْمِنُ يَعِيشُ فِي جِهَادٍ مَعَ نَفْسِهِ، وَيُرَاقِبُ اللَّهَ فِي جَمِيعِ أَفْعَالِهِ وَتَصَرُّفَاتِهِ، فَهُوَ يَخَافُ اللَّهَ، وَيَبْكِي عِنْدَ ذِكْرِهِ سُبْحَانَهُ تَعَالَى، فَهَذَا مِنَ الْمُخْبِتِينَ الَّذِينَ بَشَّرَهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
__________
(1) نيل الأوطار للشوكاني 4 / 149، 150 ط دار الجيل.
(2) حديث: " إنه مهما كان من العين. . . " أخرجه أحمد (1 / 247 ـ ط الميمنية) وفي إسناده علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف. تهذيب التهذيب لابن حجر (8 / 323 ـ ط دائرة المعارف العثمانية) .
(3) حديث: " إن الله لا يعذب بدمع. . . " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 175 ـ ط السلفية) .(8/168)
بِقَوْلِهِ: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاَةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} (1) وَهُمُ الَّذِينَ عَنَاهُمُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} . (2)
وَمِمَّا قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الآْيَةِ، مَعَ الإِْشَارَةِ إِلَى غَيْرِهَا مِنَ الآْيَاتِ الْقَرِيبَةِ مِنْهَا فِي الْمَعْنَى: وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ فِي هَذِهِ الآْيَةِ بِالْخَوْفِ وَالْوَجَل عِنْدَ ذِكْرِهِ، وَذَلِكَ لِقُوَّةِ إِيمَانِهِمْ وَمُرَاعَاتِهِمْ لِرَبِّهِمْ، وَكَأَنَّهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَنَظِيرُ هَذِهِ الآْيَةِ {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} وَقَال: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ} (3) ، فَهَذَا يَرْجِعُ إِلَى كَمَال الْمَعْرِفَةِ وَثِقَةِ الْقَلْبِ، وَالْوَجَل: الْفَزَعُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، فَلاَ تَنَاقُضَ، وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ فِي قَوْله تَعَالَى: {اللَّهُ نَزَّل أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (4) أَيْ تَسْكُنُ نُفُوسُهُمْ مَعَ اللَّهِ مِنْ حَيْثُ الْيَقِينُ، وَإِنْ كَانُوا يَخَافُونَ اللَّهَ.
__________
(1) سورة الحج 34 - 35.
(2) سورة الأنفال / 2.
(3) سورة الرعد / 28.
(4) سورة الزمر / 23.(8/169)
10 - فَهَذِهِ حَالَةُ الْعَارِفِينَ بِاللَّهِ، الْخَائِفِينَ مِنْ سَطْوَتِهِ وَعُقُوبَتِهِ. لاَ كَمَا يَفْعَلُهُ جُهَّال الْعَوَامِّ وَالْمُبْتَدِعَةُ الطَّغَامُ، مِنَ الزَّعِيقِ وَالزَّئِيرِ وَمِنَ النُّهَاقِ الَّذِي يُشْبِهُ نُهَاقَ الْحَمِيرِ، فَيُقَال لِمَنْ تَعَاطَى ذَلِكَ، وَزَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ وَجْدٌ وَخُشُوعٌ: لَمْ تَبْلُغْ أَنْ تُسَاوِيَ حَال الرَّسُول وَلاَ حَال أَصْحَابِهِ فِي الْمَعْرِفَةِ بِاللَّهِ، وَالْخَوْفِ مِنْهُ، وَالتَّعْظِيمِ لِجَلاَلِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَكَانَتْ حَالُهُمْ عِنْدَ الْمَوَاعِظِ الْفَهْمُ عَنِ اللَّهِ وَالْبُكَاءُ خَوْفًا مِنَ اللَّهِ، وَلِذَلِكَ وَصَفَ اللَّهُ أَحْوَال أَهْل الْمَعْرِفَةِ عِنْدَ سَمَاعِ ذِكْرِهِ وَتِلاَوَةِ كِتَابِهِ فَقَال: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِل إِلَى الرَّسُول تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} . (1) فَهَذَا وَصْفُ حَالِهِمْ وَحِكَايَةُ مَقَالِهِمْ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَلَيْسَ عَلَى هَدْيِهِمْ وَلاَ عَلَى طَرِيقَتِهِمْ، فَمَنْ كَانَ مُسْتَنًّا فَلْيَسْتَنَّ بِهِمْ، وَمَنْ تَعَاطَى أَحْوَال الْمَجَانِينِ وَالْجُنُونَ فَهُوَ مِنْ أَخَسِّهِمْ حَالاً، وَالْجُنُونُ فُنُونٌ. رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّاسَ سَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَحْفَوْهُ فِي الْمَسْأَلَةِ، فَخَرَجَ ذَاتَ يَوْمٍ، فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ، فَقَال: سَلُونِي، لاَ تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلاَّ بَيَّنْتُهُ لَكُمْ، مَا دُمْتُ فِي مَقَامِي هَذَا. فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ الْقَوْمُ أَرَمُّوا (2) وَرَهِبُوا أَنْ يَكُونَ بَيْنَ يَدَيْ أَمْرٍ قَدْ حَضَرَ، قَال أَنَسٌ: فَجَعَلْتُ أَلْتَفِتُ يَمِينًا وَشِمَالاً فَإِذَا كُل
__________
(1) سورة المائدة / 83.
(2) أرم الرجل إرماما: إذا سكت، فهو مرم.(8/169)
إِنْسَانٍ لاَفٌّ رَأْسَهُ فِي ثَوْبِهِ يَبْكِي. . . . وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. (1) وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ عَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: وَعَظَنَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ، وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ. الْحَدِيثَ. وَلَمْ يَقُل: زَعَقْنَا وَلاَ رَقَصْنَا وَلاَ زُفْنَا وَلاَ قُمْنَا (2) .
وَقَال صَاحِبُ رُوحِ الْمَعَانِي فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} (3) أَيْ خَافَتْ قُلُوبُهُمْ مِنْهُ عَزَّ وَجَل لإِِشْرَاقِ أَشِعَّةِ الْجَلاَل عَلَيْهَا (4) .
11 - وَالْبُكَاءُ خَشْيَةً مِنَ اللَّهِ لَهُ أَثَرُهُ فِي الْعَمَل، وَفِي غُفْرَانِ الذُّنُوبِ، وَيَدُل لِذَلِكَ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: عَيْنَانِ لاَ تَمَسُّهُمَا النَّارُ: عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيل اللَّهِ. (5)
__________
(1) حديث: " سلوني، لا تسألوني عن شيء. . . . " أخرجه مسلم (3 / 1834 ـ ط الحلبي) .
(2) القرطبي 7 / 365، 366، ط دار الكتب المصرية. وحديث العرباض: " وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . " أخرجه ابن ماجه (1 / 16 - ط الحلبي) وأبو داود (5 / 16ـ ط عزت عبيد دعاس) والحاكم (1 / 96ـ ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه ووافقه الذهبي.
(3) سورة الحج / 35.
(4) روح المعاني 17 / 154 ط المنيرية.
(5) حديث: " عينان لا تمسهما النار: عين. . . " أخرجه الترمذي (4 / 175 ـ ط الحلبي) وأبو يعلى كما في فتح الباري (6 / 83 ـ ط السلفية) وحسن إسناده ابن حجر(8/170)
قَال صَاحِبُ تُحْفَةِ الأَْحْوَذِيِّ: قَوْلُهُ: عَيْنَانِ لاَ تَمَسُّهُمَا النَّارُ أَيْ لاَ تَمَسُّ صَاحِبَهُمَا، فَعَبَّرَ بِالْجُزْءِ عَنِ الْجُمْلَةِ، وَعَبَّرَ بِالْمَسِّ إِشَارَةً إِلَى امْتِنَاعِ مَا فَوْقَهُ بِالأَْوْلَى، وَفِي رِوَايَةٍ: " أَبَدًا " وَفِي رِوَايَةٍ: لاَ يَقْرَبَانِ النَّارَ. (1)
وَقَدْ ذَكَرَ صَاحِبُ رُوحِ الْمَعَانِي أَخْبَارًا وَرَدَتْ فِي مَدْحِ الْبُكَاءِ خَشْيَةً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، مِنْ بَيْنِهَا هَذَا الْحَدِيثُ الْمُتَقَدِّمُ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَلِجُ النَّارَ رَجُلٌ بَكَى مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى يَعُودَ اللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ، وَلاَ يَجْتَمِعُ عَلَى عَبْدٍ غُبَارٌ فِي سَبِيل اللَّهِ تَعَالَى وَدُخَانُ جَهَنَّمَ. (2)
الْبُكَاءُ فِي الصَّلاَةِ:
12 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْبُكَاءَ فِي الصَّلاَةِ إِنْ كَانَ سَبَبُهُ أَلَمًا أَوْ مُصِيبَةً فَإِنَّهُ يُفْسِدُ الصَّلاَةَ؛ لأَِنَّهُ يُعْتَبَرُ مِنْ كَلاَمِ النَّاسِ، وَإِنْ كَانَ سَبَبُهُ ذِكْرَ الْجَنَّةِ أَوِ النَّارِ فَإِنَّهُ لاَ يُفْسِدُهَا؛ لأَِنَّهُ يَدُل عَلَى زِيَادَةِ الْخُشُوعِ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ فِي الصَّلاَةِ، فَكَانَ فِي مَعْنَى التَّسْبِيحِ أَوِ الدُّعَاءِ. وَيَدُل عَلَى هَذَا حَدِيثُ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي بِاللَّيْل وَلَهُ
__________
(1) تحفة الأحوذي 5 / 269 ط الفجالة.
(2) روح المعاني 15 / 190، 191 ط المنيرية. وحديث: " لا يلج النار رجل بكى من. . " أخرجه الترمذي (4 / 171ـ ط الحلبي) . وقال: حديث حسن صحيح.(8/170)
أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الْمِرْجَل مِنَ الْبُكَاءِ. (1)
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ هَذَا التَّفْصِيل فِيمَا إِذَا كَانَ عَلَى أَكْثَرِ مِنْ حَرْفَيْنِ، أَوْ عَلَى حَرْفَيْنِ أَصْلِيَّيْنِ، أَمَّا إِذَا كَانَ عَلَى حَرْفَيْنِ مِنْ حُرُوفِ الزِّيَادَةِ، أَوْ أَحَدُهَا مِنْ حُرُوفِ الزِّيَادَةِ وَالآْخَرُ أَصْلِيٌّ، لاَ تَفْسُدُ فِي الْوَجْهَيْنِ مَعًا، وَحُرُوفُ الزِّيَادَةِ عَشَرَةٌ يَجْمَعُهَا قَوْلُكَ: أَمَانٌ وَتَسْهِيلٌ (2) .
وَحَاصِل مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ فِي هَذَا: أَنَّ الْبُكَاءَ فِي الصَّلاَةِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِصَوْتٍ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِلاَ صَوْتٍ، فَإِنْ كَانَ الْبُكَاءُ بِلاَ صَوْتٍ فَإِنَّهُ لاَ يُبْطِل الصَّلاَةَ، سَوَاءٌ أَكَانَ بِغَيْرِ اخْتِيَارٍ، بِأَنْ غَلَبَهُ الْبُكَاءُ تَخَشُّعًا أَوْ لِمُصِيبَةٍ، أَمْ كَانَ اخْتِيَارِيًّا مَا لَمْ يَكْثُرْ ذَلِكَ فِي الاِخْتِيَارِيِّ.
وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْبُكَاءُ بِصَوْتٍ، فَإِنْ كَانَ اخْتِيَارِيًّا فَإِنَّهُ يُبْطِل الصَّلاَةَ، سَوَاءٌ كَانَ لِمُصِيبَةٍ أَمْ لِتَخَشُّعٍ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، بِأَنْ غَلَبَهُ الْبُكَاءُ تَخَشُّعًا لَمْ يُبْطِل، وَإِنْ كَثُرَ، وَإِنْ غَلَبَهُ الْبُكَاءُ بِغَيْرِ تَخَشُّعٍ أَبْطَل (3) .
__________
(1) حديث: " كان يصلي بالليل وله أزيز. . . " أخرجه أبو داود (1 / 557 ـ ط عزت عبيد دعاس) والنسائي (3 / 13 ـ ط المكتبة التجارية) .
(2) تبيين الحقائق 1 / 155، 156 ط دائرة المعرفة، وفتح القدير 1 / 281، 282 ـ ط دار صادر.
(3) حاشية الشيخ علي العدوي على مختصر خليل، وهي بهامش الخرشي 1 / 325، ط دار صادر، وجواهر الإكليل 1 / 63، ومواهب الجليل 2 / 33.(8/171)
هَذَا وَقَدْ ذَكَرَ الدُّسُوقِيُّ أَنَّ الْبُكَاءَ بِصَوْتٍ، إِنْ كَانَ لِمُصِيبَةٍ أَوْ لِوَجَعٍ مِنْ غَيْرِ غَلَبَةٍ أَوْ لِخُشُوعٍ فَهُوَ حِينَئِذٍ كَالْكَلاَمِ، يُفَرَّقُ بَيْنَ عَمْدِهِ وَسَهْوِهِ، أَيْ فَالْعَمْدُ مُبْطِلٌ مُطْلَقًا، قَل أَوْ كَثُرَ، وَالسَّهْوُ يُبْطِل إِنْ كَانَ كَثِيرًا، وَيُسْجَدُ لَهُ إِنْ قَل (1) .
وَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، فَإِنَّ الْبُكَاءَ فِي الصَّلاَةِ عَلَى الْوَجْهِ الأَْصَحِّ إِنْ ظَهَرَ بِهِ حَرْفَانِ فَإِنَّهُ يُبْطِل الصَّلاَةَ؛ لِوُجُودِ مَا يُنَافِيهَا، حَتَّى وَإِنْ كَانَ الْبُكَاءُ مِنْ خَوْفِ الآْخِرَةِ. وَعَلَى مُقَابِل الأَْصَحِّ:
لاَ يُبْطِل لأَِنَّهُ لاَ يُسَمَّى كَلاَمًا فِي اللُّغَةِ، وَلاَ يُفْهَمُ مِنْهُ شَيْءٌ، فَكَانَ أَشْبَهَ بِالصَّوْتِ الْمُجَرَّدِ (2) .
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَإِنَّهُمْ يَرَوْنَ أَنَّهُ إِنْ بَانَ حَرْفَانِ مِنْ بُكَاءٍ، أَوْ تَأَوُّهِ خَشْيَةٍ، أَوْ أَنِينٍ فِي الصَّلاَةِ لَمْ تَبْطُل؛ لأَِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الذِّكْرِ، وَقِيل: إِنْ غَلَبَهُ وَإِلاَّ بَطَلَتْ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ خَشْيَةً؛ لأَِنَّهُ يَقَعُ عَلَى الْهِجَاءِ، وَيَدُل بِنَفْسِهِ عَلَى الْمَعْنَى كَالْكَلاَمِ، قَال أَحْمَدُ فِي الأَْنِينِ: إِذَا كَانَ غَالِبًا أَكْرَهُهُ، أَيْ مِنْ وَجَعٍ، وَإِنِ اسْتَدْعَى الْبُكَاءَ فِيهَا كُرِهَ كَالضَّحِكِ وَإِلاَّ فَلاَ. (3)
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 284 ـ ط دار الفكر.
(2) نهاية المحتاج 2 / 34، وحاشية قليوبي وعميرة1 / 187، ومغني المحتاج 1 / 195.
(3) الفروع 1 / 370، 371.(8/171)
الْبُكَاءُ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ:
13 - الْبُكَاءُ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ مُسْتَحَبٌّ، وَيُفْهَمُ ذَلِكَ مِنْ قَوْله تَعَالَى فِي سُورَةِ الإِْسْرَاءِ {وَيَخِرُّونَ لِلأَْذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} . (1)
قَال الْقُرْطُبِيُّ: هَذَا مَدْحٌ لَهُمْ، وَحُقَّ لِكُل مَنْ تَوَسَّمَ بِالْعِلْمِ، وَحَصَّل مِنْهُ شَيْئًا أَنْ يَجْرِيَ إِلَى هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ، فَيَخْشَعُ عِنْدَ اسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ وَيَتَوَاضَعُ وَيَذِل (2) . وَقَال الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى: {وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} أَيْ يَزِيدُهُمْ لِينَ قَلْبٍ وَرُطُوبَةَ عَيْنٍ (3) .
وَقَال الطَّبَرِيُّ عِنْدَ الْكَلاَمِ عَلَى هَذِهِ الآْيَةِ: يَقُول تَعَالَى ذِكْرُهُ. وَيَخِرُّ هَؤُلاَءِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ مُؤْمِنِي أَهْل الْكِتَابَيْنِ، مِنْ قَبْل نُزُول الْفُرْقَانِ، إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِ الْقُرْآنُ لأَِذْقَانِهِمْ يَبْكُونَ، وَيَزِيدُهُمْ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْمَوَاعِظِ وَالْعِبَرِ خُشُوعًا، يَعْنِي خُضُوعًا لأَِمْرِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ اسْتِكَانَةً لَهُ. (4)
وَيُفْهَمُ اسْتِحْبَابُ الْبُكَاءِ أَيْضًا عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بِمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ
__________
(1) سورة الإسراء / 109.
(2) القرطبي 10 / 341.
(3) الكشاف 2 / 469، ط دار المعرفة.
(4) مراده بالآيتين: الآية 107، والآية 109 من سورة الإسراء، والطبري 15 / 181، 182ـ ط الحلبي، وروح المعاني 15 / 190 ـ ط المنيرية.(8/172)
وَالْبَزَّارُ فِي مُسْنَدَيْهِمَا مِنْ حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ نَزَل بِحُزْنٍ، فَإِذَا قَرَأْتُمُوهُ فَابْكُوا، فَإِنْ لَمْ تَبْكُوا فَتَبَاكَوْا. (1)
الْبُكَاءُ عِنْدَ الْمَوْتِ وَبَعْدَهُ:
14 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْبُكَاءَ إِنْ كَانَ قَاصِرًا عَلَى خُرُوجِ الدَّمْعِ فَقَطْ بِلاَ صَوْتٍ فَإِنَّهُ جَائِزٌ، قَبْل الْمَوْتِ وَبَعْدَهُ، وَمِثْلُهُ غَلَبَةُ الْبُكَاءِ بِصَوْتٍ إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى رَدِّهِ، وَمِثْلُهُ حُزْنُ الْقَلْبِ. وَاتَّفَقُوا أَيْضًا عَلَى تَحْرِيمِ النَّدْبِ بِتَعْدَادِ مَحَاسِنِ الْمَيِّتِ بِرَفْعِ صَوْتٍ، إِلاَّ مَا نُقِل فِي الْفُرُوعِ عَنْ بَعْضِ الْحَنَابِلَةِ.
وَاتَّفَقُوا عَلَى تَحْرِيمِ النُّوَاحِ وَشَقِّ الْجَيْبِ أَوِ الثَّوْبِ وَلَطْمِ الْخَدِّ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ عَبَّرُوا فِي ذَلِكَ بِالْكَرَاهَةِ، وَمُرَادُهُمُ الْكَرَاهَةُ التَّحْرِيمِيَّةُ، وَبِذَلِكَ لاَ يَكُونُ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ خِلاَفٌ.
وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْبُكَاءُ بِصَوْتٍ وَغَيْرَ مَصْحُوبٍ بِنِيَاحَةٍ وَنَدْبٍ أَوْ شَقِّ جَيْبٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ جَائِزٌ، وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ عَدَمَ الاِجْتِمَاعِ لِلْبُكَاءِ، وَإِلاَّ كُرِهَ. (2)
__________
(1) حديث: " إن هذا القرآن نزل بحزن فإذا. . . " سبق تخريجه (ف1) .
(2) فتاوى قاضيخان والبزازية مع الفتاوى الهندية 1 / 190، وحاشية الطحطاوي على الدر المختار 1 / 383، وحاشية ابن عابدين 1 / 607، وحاشية الدسوقي 1 / 422، جواهر الإكليل 1 / 112، مواهب الجليل مع التاج والإكليل 2 / 235، والخرشي مع حاشية العدوي 2 / 133.(8/172)
وَلِلشَّافِعِيَّةِ تَفْصِيلٌ أَتَى بِهِ الْقَلْيُوبِيُّ، فَقَال: إِنَّ الْبُكَاءَ عَلَى الْمَيِّتِ إِنْ كَانَ لِخَوْفٍ عَلَيْهِ مِنْ هَوْل يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَنَحْوِهِ فَلاَ بَأْسَ بِهِ، أَوْ لِمَحَبَّةٍ وَرِقَّةٍ كَطِفْلٍ فَكَذَلِكَ، وَلَكِنَّ الصَّبْرَ أَجْمَل، أَوْ لِصَلاَحٍ وَبَرَكَةٍ وَشَجَاعَةٍ وَفَقْدِ نَحْوِ عِلْمٍ فَمَنْدُوبٌ، أَوْ لِفَقْدِ صِلَةٍ وَبِرٍّ وَقِيَامٍ بِمَصْلَحَةٍ فَمَكْرُوهٌ، أَوْ لِعَدَمِ تَسْلِيمٍ لِلْقَضَاءِ وَعَدَمِ الرِّضَى بِهِ فَحَرَامٌ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيُّ: يَجُوزُ الْبُكَاءُ قَبْل الْمَوْتِ، فَإِذَا مَاتَ أَمْسَكْنَ. وَاسْتَدَل بِحَدِيثِ النَّسَائِيِّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَتِيكٍ كَمَا يَأْتِي قَرِيبًا (2) . وَالْفُقَهَاءُ فِيمَا قَالُوهُ فِي ذَلِكَ اسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ فِي السُّنَّةِ، فَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: أَخَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى ابْنِهِ إِبْرَاهِيمَ، فَوَجَدَهُ يَجُودُ بِنَفْسِهِ، فَأَخَذَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَضَعَهُ فِي حِجْرِهِ فَبَكَى، فَقَال لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: أَتَبْكِي؟ أَوَلَمْ تَكُنْ نَهَيْتَ عَنِ
__________
(1) القليوبي 1 / 343، ومغني المحتاج 1 / 355، 356، ونهاية المحتاج 3 / 14، 15، والمهذب للشيرازي 1 / 146.
(2) المجموع للنووي 5 / 307.(8/173)
الْبُكَاءِ؟ قَال: لاَ. وَلَكِنْ نَهَيْتُ عَنْ صَوْتَيْنِ أَحْمَقَيْنِ فَاجِرَيْنِ: صَوْتٍ عِنْدَ مُصِيبَةٍ، خَمْشِ وُجُوهٍ وَشَقِّ جُيُوبٍ وَرَنَّةِ شَيْطَانٍ. (1)
وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَطَمَ الْخُدُودَ وَشَقَّ الْجُيُوبَ وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ. (2) فَهَذَا يَدُل عَلَى عَدَمِ جَوَازِ مَا ذُكِرَ فِيهِ مِنَ اللَّطْمِ وَشَقِّ الْجَيْبِ وَدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ.
وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَتِيكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ يَعُودُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ ثَابِتٍ فَوَجَدَهُ قَدْ غُلِبَ، فَصَاحَ النِّسْوَةُ وَبَكَيْنَ، فَجَعَل ابْنُ عَتِيكٍ يُسْكِتُهُنَّ، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دَعْهُنَّ، فَإِذَا وَجَبَ فَلاَ تَبْكِيَنَّ بَاكِيَةٌ. قَالُوا: وَمَا الْوُجُوبُ يَا رَسُول اللَّهِ؟ قَال: الْمَوْتُ. (3)
الْبُكَاءُ عِنْدَ زِيَارَةِ الْقَبْرِ:
15 - الْبُكَاءُ عِنْدَ زِيَارَةِ الْقَبْرِ جَائِزٌ، وَالدَّلِيل عَلَى
__________
(1) حديث: " نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين. . . " أخرجه الحاكم (4 / 40 ـ ط دائرة المعارف العثمانية) .
(2) حديث: " ليس منا من لطم الخدود. . . " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 163 ـ ط السلفية) .
(3) حديث: جابر بن عتيك " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء يعود. . . " أخرجه أبو داود (3 / 382 ـ ط عزت عبيد دعاس) ، وفي إسناده جهالة عيتك بن الحارث، والتهذيب لابن حجر (7 / 105 ـ ط دائرة المعارف النظامية) .(8/173)
ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: زَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْرَ أُمِّهِ فَبَكَى، وَأَبْكَى مَنْ حَوْلَهُ. . . إِلَخِ الْحَدِيثِ (1) .
اجْتِمَاعُ النِّسَاءِ لِلْبُكَاءِ:
16 - اجْتِمَاعُ النِّسَاءِ لِلْبُكَاءِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ مَكْرُوهٌ إِنْ كَانَ بِلاَ صَوْتٍ، وَحَرَامٌ إِنْ كَانَ مَعَهُ صَوْتٌ (2) . وَالشَّافِعِيَّةُ لاَ يُجِيزُونَ الاِجْتِمَاعَ لِلْبُكَاءِ (3) .
وَلَمْ يَتَعَرَّضِ الْحَنَفِيَّةُ وَلاَ الْحَنَابِلَةُ لاِجْتِمَاعِ النِّسَاءِ لِلْبُكَاءِ. عَلَى أَنَّ الْفُقَهَاءَ مُتَّفِقُونَ عَلَى جَوَازِ الْبُكَاءِ بِالدَّمْعِ فَقَطْ بِلاَ صَوْتٍ، وَإِنَّمَا تَأْتِي الْكَرَاهَةُ أَوِ التَّحْرِيمُ عَلَى مَا إِذَا قُصِدَ الاِجْتِمَاعُ لَهُ.
هَذَا، وَإِذَا كَانَ اجْتِمَاعُ النِّسَاءِ لِلْبُكَاءِ مَكْرُوهًا أَوْ مُحَرَّمًا فَكَرَاهَةُ أَوْ تَحْرِيمُ اجْتِمَاعِ الرِّجَال لَهُ أَوْلَى، وَإِنَّمَا خَصَّ الْفُقَهَاءُ النِّسَاءَ بِالذِّكْرِ لأَِنَّ هَذَا شَأْنُهُنَّ (4) .
أَثَرُ بُكَاءِ الْمَوْلُودِ عِنْدَ الْوِلاَدَةِ:
17 - إِذَا بَكَى الْمَوْلُودُ عِنْدَ وِلاَدَتِهِ، بِأَنِ اسْتَهَل
__________
(1) حديث: " زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى. . . " أخرجه مسلم (2 / 671 ـ ط الحلبي) .
(2) جواهر الإكليل 1 / 114، ومواهب الجليل 2 / 240، 241، وحاشية الدسوقي 1 / 424.
(3) مغني المحتاج 1 / 356.
(4) حاشية الدسوقي 1 / 424.(8/174)
صَارِخًا، فَإِنَّ ذَلِكَ يَدُل عَلَى تَحَقُّقِ حَيَاتِهِ، سَوَاءٌ انْفَصَل بِالْكُلِّيَّةِ كَمَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، أَمْ لَمْ يَنْفَصِل كَمَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. فَإِنْ لَمْ يَبْكِ، وَلَمْ تُوجَدْ مِنْهُ عَلاَمَةٌ تَدُل عَلَى الْحَيَاةِ فَلاَ يُحْكَمُ بِحَيَاتِهِ. فَإِنْ بَدَا مِنْهُ مَا يَدُل عَلَى حَيَاتِهِ، كَالْبُكَاءِ وَالصُّرَاخِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يُعْطَى حُكْمَ الأَْحْيَاءِ، فَيُسَمَّى وَيَرِثُ، وَيُقْتَصُّ مِنْ قَاتِلِهِ عَمْدًا، وَيَسْتَحِقُّ مَوَالِيهِ الدِّيَةَ فِي غَيْرِ الْعَمْدِ فَإِنْ مَاتَ بَعْدَ تَحَقُّقِ حَيَاتِهِ فَإِنَّهُ يُغَسَّل وَيُصَلَّى عَلَيْهِ وَيُورَثُ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ (اسْتِهْلاَل) .
أَثَرُ بُكَاءِ الْبِكْرِ عِنْدَ الاِسْتِئْذَانِ لِتَزْوِيجِهَا:
18 - إِذَا اسْتُؤْذِنَتِ الْبِكْرُ فِي النِّكَاحِ فَبَكَتْ، فَإِنَّ لِلْفُقَهَاءِ فِي دَلاَلَتِهِ عَلَى الرِّضَا وَعَدَمِهِ اتِّجَاهَاتٍ ثَلاَثَةً:
أ - فَالْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ يَقُولُونَ: إِنْ كَانَ الْبُكَاءُ بِلاَ صَوْتٍ فَيَدُل عَلَى الرِّضَا، وَإِنْ كَانَ بِصَوْتٍ فَلاَ يَدُل عَلَى الرِّضَا (1) .
ب - وَالْمَالِكِيَّةُ يَقُولُونَ: إِنَّ بُكَاءَ الْبِكْرِ غَيْرِ الْمُجْبَرَةِ، وَهِيَ الَّتِي يُزَوِّجُهَا غَيْرُ الأَْبِ مِنَ الأَْوْلِيَاءِ، يُعْتَبَرُ رِضًا؛ لاِحْتِمَال أَنَّ هَذَا الْبُكَاءَ إِنَّمَا هُوَ لِفَقْدِ الأَْبِ مَثَلاً، فَإِنْ عُلِمَ أَنَّهُ لِلْمَنْعِ مِنَ
__________
(1) الاختيار لتعليل المختار 3 / 92 ط دار المعرفة، وفتح الباري 9 / 193 ـ ط الرياض.(8/174)
الزَّوَاجِ لَمْ يَكُنْ رِضًا. (1)
ج - وَالْحَنَابِلَةُ يَقُولُونَ: إِنَّ الْبُكَاءَ إِذْنٌ فِي النِّكَاحِ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تُسْتَأْمَرُ الْيَتِيمَةُ فَإِذَا بَكَتْ أَوْ سَكَتَتْ فَهُوَ رِضَاهَا، وَإِنْ أَبَتْ فَلاَ جَوَازَ عَلَيْهَا (2) وَلأَِنَّهَا غَيْرُ نَاطِقَةٍ بِالاِمْتِنَاعِ مَعَ سَمَاعِ الاِسْتِئْذَانِ، فَكَانَ ذَلِكَ إِذْنًا مِنْهَا كَالصُّمَاتِ. وَالْبُكَاءُ يَدُل عَلَى فَرْطِ الْحَيَاءِ لاَ الْكَرَاهَةِ. وَلَوْ كَرِهَتْ لاَمْتَنَعَتْ، فَإِنَّهَا لاَ تَسْتَحِي مِنَ الاِمْتِنَاعِ (3) .
بُكَاءُ الْمَرْءِ هَل يَكُونُ دَلِيلاً عَلَى صِدْقِ مَقَالِهِ:
19 - بُكَاءُ الْمَرْءِ لاَ يَدُل عَلَى صِدْقِ مَقَالِهِ، وَيَدُل عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى فِي سُورَةِ يُوسُفَ {وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ} . (4) فَإِنَّ إِخْوَةَ يُوسُفَ تَصَنَّعُوا الْبُكَاءَ لِيُصَدِّقَهُمْ أَبُوهُمْ بِمَا أَخْبَرُوهُ بِهِ، مَعَ أَنَّ الَّذِي أَخْبَرُوهُ بِهِ كَذِبٌ، هُمُ الَّذِينَ دَبَّرُوهُ وَفَعَلُوهُ.
__________
(1) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي2 / 227 ط دار الفكر.
(2) حديث: " تستأمر اليتيمة، فإذا بكت أو سكتت. . . " أخرجه أبو داود (2 / 573 ـ 575 ـ ط عزت عبيد دعاس) وقال أبو داود: وليس " بكت " بمحفوظ، وهو وهم في الحديث، الوهم من إدريس أو محمد بن العلاء. وأما أصل الحديث دون قوله " بكت " فأخرجه البخاري (الفتح 9 / 191 ـ ط السلفية) .
(3) مطالب أولي النهى 5 / 56، 57 ط ـ المكتب الإسلامي.
(4) سورة يوسف / 16.(8/175)
قَال الْقُرْطُبِيُّ قَال عُلَمَاؤُنَا: هَذِهِ الآْيَةُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ بُكَاءَ الْمَرْءِ لاَ يَدُل عَلَى صِدْقِ مَقَالِهِ؛ لاِحْتِمَال أَنْ يَكُونَ تَصَنُّعًا، فَمِنَ الْخَلْقِ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ، وَفِيهِمْ مَنْ لاَ يَقْدِرُ، وَقَدْ قِيل: إِنَّ الدَّمْعَ الْمَصْنُوعَ لاَ يَخْفَى. كَمَا قَال حَكِيمٌ:
إِذَا اشْتَبَكَتْ دُمُوعٌ فِي خُدُودٍ
تَبَيَّنَ مَنْ بَكَى مِمَّنْ تَبَاكَى
(1) .
__________
(1) القرطبي 9 / 145.(8/175)
بَكَارَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْبَكَارَةُ (بِالْفَتْحِ) لُغَةً: عُذْرَةُ الْمَرْأَةِ، وَهِيَ الْجِلْدَةُ الَّتِي عَلَى الْقُبُل (1) .
وَالْبِكْرُ: الْمَرْأَةُ الَّتِي لَمْ تُفْتَضَّ، وَيُقَال لِلرَّجُل: بِكْرٌ، إِذَا لَمْ يَقْرَبِ النِّسَاءَ، وَمِنْهُ حَدِيثُ الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَنَفْيُ سَنَةٍ. (2)
وَالْبِكْرُ اصْطِلاَحًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: اسْمٌ لاِمْرَأَةٍ لَمْ تُجَامَعْ بِنِكَاحٍ وَلاَ غَيْرِهِ، فَمَنْ زَالَتْ بَكَارَتُهَا بِغَيْرِ جِمَاعٍ كَوَثْبَةٍ، أَوْ دُرُورِ حَيْضٍ، أَوْ حُصُول جِرَاحَةٍ، أَوْ تَعْنِيسٍ: بِأَنْ طَال مُكْثُهَا بَعْدَ إِدْرَاكِهَا فِي مَنْزِل أَهْلِهَا حَتَّى خَرَجَتْ عَنْ عِدَادِ الأَْبْكَارِ فَهِيَ بِكْرٌ حَقِيقَةً وَحُكْمًا (3) .
وَعَرَّفَهَا الْمَالِكِيَّةُ: بِأَنَّهَا الَّتِي لَمْ تُوطَأْ بِعَقْدٍ
__________
(1) المصباح المنير، ولسان العرب مادة: " بكر ".
(2) حديث: " البكر بالبكر جلد مائة. . . " أخرجه مسلم (3 / 1316ـ ط الحلبي) من حديث عبادة بن الصامت.
(3) رد المحتار على الدر المختار 2 / 302 دار إحياء التراث العربي.(8/176)
صَحِيحٍ، أَوْ فَاسِدٍ جَرَى مَجْرَى الصَّحِيحِ. وَقِيل: إِنَّهَا الَّتِي لَمْ تُزَل بَكَارَتُهَا أَصْلاً (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْعُذْرَةُ:
2 - الْعُذْرَةُ لُغَةً: الْجِلْدَةُ الَّتِي عَلَى الْمَحَل (2) . وَمِنْهُ الْعَذْرَاءُ، وَهِيَ: الْمَرْأَةُ الَّتِي لَمْ تُزَل بَكَارَتُهَا بِمُزِيلٍ (3) .
فَالْعَذْرَاءُ: تُرَادِفُ الْبِكْرَ لُغَةً وَعُرْفًا، وَقَدْ يُفَرِّقُونَ بَيْنَهُمَا، فَيُطْلِقُونَ الْعَذْرَاءَ عَلَى مَنْ لَمْ تُزَل بَكَارَتُهَا أَصْلاً، وَقَال الدَّرْدِيرُ: إِذَا جَرَى الْعُرْفُ بِالتَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا يُعْتَبَرُ (4) .
ب - الثُّيُوبَةُ:
3 - الثُّيُوبَةُ: زَوَال الْبَكَارَةِ بِالْوَطْءِ وَلَوْ حَرَامًا. وَالثَّيِّبُ لُغَةً: ضِدُّ الْبِكْرِ، فَهِيَ الَّتِي تَزَوَّجَتْ فَثَابَتْ، وَفَارَقَتْ زَوْجَهَا بِأَيِّ وَجْهٍ كَانَ بَعْدَ أَنْ مَسَّهَا، وَعَنِ الأَْصْمَعِيِّ أَنَّ الثَّيِّبَ: هُوَ الرَّجُل أَوِ الْمَرْأَةُ بَعْدَ الدُّخُول.
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 281 ط عيسى الحلبي بمصر.
(2) لسان العرب مادة: " عذر ".
(3) رد المحتار على الدر المختار 2 / 302 وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 281.
(4) نهاية المحتاج 6 / 223 ط المكتبة الإسلامية، والدسوقي 2 / 281.(8/176)
وَالثَّيِّبُ اصْطِلاَحًا: مَنْ زَالَتْ بَكَارَتُهَا بِالْوَطْءِ وَلَوْ حَرَامًا (1) .
وَالثَّيِّبُ وَالْبِكْرُ ضِدَّانِ.
مَا تَثْبُتُ بِهِ الْبَكَارَةُ عِنْدَ التَّنَازُعِ:
4 - أَجَازَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ قَبُول شَهَادَةِ النِّسَاءِ فِي الْبَكَارَةِ وَالثُّيُوبَةِ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْعَدَدِ الْمُشْتَرَطِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْبَكَارَةَ تَثْبُتُ بِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ ثِقَةٍ، وَالثِّنْتَانِ أَحْوَطُ وَأَوْثَقُ.
وَأَجَازَ أَبُو الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ شَهَادَةَ الرَّجُل فِي ذَلِكَ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ - عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ خَلِيلٌ وَالدَّرْدِيرُ فِي شَرْحَيْهِ - إِلَى أَنَّهَا تَثْبُتُ بِشَهَادَةِ امْرَأَتَيْنِ.
لَكِنْ قَال الدُّسُوقِيُّ فِي بَابِ النِّكَاحِ: إِنْ أَتَى الرَّجُل بِامْرَأَتَيْنِ، أَوِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ تَشْهَدُ لَهُ عَلَى مَا تُصَدَّقُ فِيهِ الزَّوْجَةُ قُبِلَتْ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: تَثْبُتُ الْبَكَارَةُ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ، أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، أَوْ شَهَادَةِ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ (2) .
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير مادة: " ثيب " وكشاف القناع 5 / 46 ط الرياض.
(2) حاشية ابن عابدين 2 / 596، 4 / 89، 371 ط دار إحياء التراث العربي، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 285، 4 / 188، وشرح المنهاج 4 / 325، والإقناع للخطيب الشربيني 2 / 69، وكشاف القناع5 / 13 ط الرياض، المغني لابن قدامة9 / 155، 157.(8/177)
وَمَنَاطُ قَوْل شَهَادَةِ الْمَرْأَةِ فِي إِثْبَاتِ الْبَكَارَةِ أَنَّ مَوْضِعَهَا عَوْرَةٌ لاَ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَال إِلاَّ لِلضَّرُورَةِ، وَرَوَى مَالِكٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ: مَضَتِ السُّنَّةُ أَنَّهُ تَجُوزُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِيمَا لاَ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ غَيْرُهُنَّ، مِنْ وِلاَدَةِ النِّسَاءِ وَعُيُوبِهِنَّ. (1) وَقِيسَ عَلَى ذَلِكَ الْبَكَارَةُ وَالثُّيُوبَةُ.
وَتَثْبُتُ الْبَكَارَةُ كَذَلِكَ بِالْيَمِينِ حَسَبَ التَّفْصِيل الَّذِي سَيَأْتِي.
أَثَرُ الْبَكَارَةِ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ:
مَا يَكُونُ بِهِ إِذْنُ الْبِكْرِ:
5 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ سُكُوتَ الْبِكْرِ الْبَالِغَةِ عِنْدَ اسْتِئْذَانِهَا فِي النِّكَاحِ إِذْنٌ مِنْهَا، لِحَدِيثِ: الْبِكْرُ تُسْتَأْذَنُ فِي نَفْسِهَا، وَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا. (2)
وَلِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الأَْيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا، وَالْبِكْرُ تُسْتَأْذَنُ فِي نَفْسِهَا، وَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا. (3)
__________
(1) الأثر عن الزهري أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه كما في نصب الراية (4 / 80 ط المجلس العلمي) وعبد الرزاق في مصنفه (8 / 333 ط المجلس العلمي) مطولا.
(2) حديث: " البكر تستأذن في نفسها. . . . " أخرجه مسلم (2 / 1037 ـ ط الحلبي) من حديث ابن عباس.
(3) حديث: " الأيم أحق بنفسها من وليها والبكر. . . " أخرجه مسلم (2 / 1037ـ ط الحلبي) من حديث ابن عباس.(8/177)
وَمِثْل السُّكُوتِ: الضَّحِكُ بِغَيْرِ اسْتِهْزَاءٍ؛ لأَِنَّهُ أَدَل عَلَى الرِّضَا مِنَ السُّكُوتِ، وَكَذَا التَّبَسُّمُ وَالْبُكَاءُ بِلاَ صَوْتٍ؛ لِدَلاَلَةِ بُكَاهَا عَلَى الرِّضَا ضِمْنًا. وَالْمُعَوَّل عَلَيْهِ اعْتِبَارُ قَرَائِنِ الأَْحْوَال فِي الْبُكَاءِ وَالضَّحِكِ، فَإِنْ تَعَارَضَتْ أَوْ أَشْكَل احْتِيطَ (1) .
وَاسْتِئْمَارُ الْبِكْرِ الْبَالِغَةِ الْعَاقِلَةِ مَنْدُوبٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ؛ لأَِنَّ لِوَلِيِّهَا الْحَقَّ فِي إِجْبَارِهَا عَلَى النِّكَاحِ. وَسُنَّةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ لِوَلِيِّهَا حَقُّ الإِْجْبَارِ (2) . وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (نِكَاح) .
6 - وَقَدْ ذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ أَبْكَارًا لاَ يُكْتَفَى بِصَمْتِهِنَّ، بَل لاَ بُدَّ مِنْ إِذْنِهِنَّ بِالْقَوْل عِنْدَ اسْتِئْذَانِهِنَّ فِي النِّكَاحِ:
أ - بِكْرٌ رَشَّدَهَا أَبُوهَا أَوْ وَصِيُّهُ بَعْدَ بُلُوغِهَا؛ لأَِنَّهُ لاَ جَبْرَ لأَِبِيهَا عَلَيْهَا؛ لِمَا قَامَ بِهَا مِنْ حُسْنِ التَّصَرُّفِ عَلَى الْمَعْرُوفِ فِي الْمَذْهَبِ.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 298، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 224، 227 ط دار الفكر، والقليوبي على الشرح المنهاج 3 / 223 ط عيسى الحلبي بمصر، والمغني لابن قدامة 6 / 493، 494 ط الرياض، وكشاف القناع 5 / 43، 46 ط الرياض.
(2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 224، 227، ونهاية المحتاج 6 / 224، وكشاف القناع 5 / 43، والمغني لابن قدامة 6 / 491ط الرياض، وحاشية ابن عابدين 2 / 298 وما بعدها، وفتح القدير 3 / 164.(8/178)
ب - بِكْرٌ مُجْبَرَةٌ عَضَلَهَا أَبُوهَا، أَيْ مَنَعَهَا مِنَ النِّكَاحِ لاَ لِمَصْلَحَتِهَا، بَل لِلإِْضْرَارِ بِهَا، فَرَفَعَتْ أَمْرَهَا لِلْحَاكِمِ، فَأَرَادَ تَزْوِيجَهَا لاِمْتِنَاعِ أَبِيهَا، وَزَوَّجَهَا.
ج - بِكْرٌ يَتِيمَةٌ مُهْمَلَةٌ لاَ أَبَ لَهَا وَلاَ وَصِيَّ، خِيفَ فَسَادُهَا بِفَقْرٍ أَوْ زِنًى أَوْ عَدَمِ حَاضِنٍ شَرْعِيٍّ فِي قَوْلٍ، وَالْمُعْتَمَدُ أَنَّهَا تُجْبَرُ.
د - بِكْرٌ غَيْرُ مُجْبَرَةٍ، افْتِيتَ عَلَيْهَا، زَوَّجَهَا وَلِيُّهَا غَيْرُ الْمُجْبِرِ - وَهُوَ غَيْرُ الأَْبِ وَوَصِيُّهُ - بِغَيْرِ إِذْنِهَا، ثُمَّ أَنْهَى إِلَيْهَا الْخَبَرَ فَرَضِيَتْ.
هـ - بِكْرٌ أُرِيدَ تَزْوِيجُهَا لِذِي عَيْبٍ مُوجِبٍ لِخِيَارِهَا، كَجُنُونٍ وَجُذَامٍ وَبَرَصٍ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (نِكَاح) .
اشْتِرَاطُ الْوَلِيِّ وَعَدَمُهُ:
7 - الْبِكْرُ إِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً فَالإِْجْمَاعُ عَلَى أَنَّهَا لاَ تُزَوِّجُ نَفْسَهَا، بَل يُزَوِّجُهَا وَلِيُّهَا. وَأَمَّا إِنْ كَانَتْ كَبِيرَةً، فَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ عَلَى أَنَّهَا لاَ تُزَوِّجُ نَفْسَهَا، وَإِنَّمَا يُزَوِّجُهَا وَلِيُّهَا، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: وَلَوْ كَانَتْ عَانِسًا
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 224، 227، 228، والشرح الصغير مع حاشية الصاوي2 / 367، 368 ط دار المعارف بمصر.(8/178)
بَلَغَتِ السِّتِّينَ فِي مَشْهُورِ الْمَذْهَبِ. (1)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِوَلِيِّهَا حَقُّ إِجْبَارِهَا، وَلَهَا أَنْ تُزَوِّجَ نَفْسَهَا، فَإِنْ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ كُفْءٍ، أَوْ بِدُونِ مَهْرِ الْمِثْل، فَلِوَلِيِّهَا حَقُّ طَلَبِ الْفَسْخِ مَا لَمْ تَحْمِل. (2)
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ نِكَاحَ الْحُرَّةِ الْبَالِغَةِ الْعَاقِلَةِ إِذَا كَانَتْ بِكْرًا لاَ يَنْعَقِدُ إِلاَّ بِوَلِيٍّ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (نِكَاح) .
مَتَى يَرْتَفِعُ الإِْجْبَارُ مَعَ وُجُودِ الْبَكَارَةِ:
8 - أ - يَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الأَْبَ لاَ يُجْبِرُ بِكْرًا رَشَّدَهَا - إِنْ بَلَغَتْ - بِأَنْ قَال لَهَا: رَشَّدْتُكِ، أَوْ أَطْلَقْتُ يَدَكِ، أَوْ رَفَعْتُ الْحَجْرَ عَنْكِ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ. وَثَبَتَ تَرْشِيدُهَا بِإِقْرَارِهِ، أَوْ بِبَيِّنَةٍ إِنْ أَنْكَرَ، وَحَيْثُ كَانَتْ لاَ تُجْبَرُ فَلاَ بُدَّ مِنْ نُطْقِهَا وَإِذْنِهَا، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ فِي الْمَذْهَبِ،
وَقَال ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَهُ جَبْرُهَا.
ب - إِذَا عَضَل وَالِدُ الْبِكْرِ الْمُجْبَرَةِ، وَمَنَعَهَا
__________
(1) ابن عابدين 2 / 269، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 222ـ 224، ونهاية المحتاج2 / 223 ط مصطفى الحلبي بمصر، والمغني لابن قدامة 6 / 449 ط الرياض.
(2) رد المحتار على الدر المختار2 / 296، 298 ط دار إحياء التراث العربي، وفتح القدير والعناية 1 / 157، 163.(8/179)
مِنْ نِكَاحِ مَنْ تَرْغَبُ فِيهِ، وَرَفَعَتْ أَمْرَهَا لِلْقَضَاءِ، وَثَبَتَ كَفَاءَةُ مَنْ تَرْغَبُ فِي زَوَاجِهِ يَأْمُرُهُ الْحَاكِمُ بِتَزْوِيجِهَا، فَإِنِ امْتَنَعَ ارْتَفَعَ إِجْبَارُهُ، وَزَوَّجَهَا الْحَاكِمُ، وَلاَ بُدَّ مِنْ نُطْقِهَا بِرِضَاهَا بِالزَّوْجِ وَبِالصَّدَاقِ. (1)
وَلاَ يَخْتَلِفُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَنْ هَذَا إِلاَّ فِي بَعْضِ التَّفْصِيلاَتِ، كَتَكْرَارِ امْتِنَاعِ الْوَلِيِّ الْعَاضِل مِرَارًا. (2)
ج - وَالْبِكْرُ الْيَتِيمَةُ الصَّغِيرَةُ إِذَا خِيفَ فَسَادُهَا، يُجْبِرُهَا وَلِيُّهَا عَلَى التَّزْوِيجِ، وَتَجِبُ مُشَاوَرَةُ الْقَاضِي عَلَى الْمُعْتَمَدِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ. (3)
وَلاَ خُصُوصِيَّةَ لِهَذِهِ الْحَالَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لأَِنَّ مُطْلَقَ الصَّغِيرَةِ - بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا - لِوَلِيِّهَا إِجْبَارُهَا عَلَى النِّكَاحِ، ثُمَّ إِذَا بَلَغَتْ وَكَانَ الْوَلِيُّ الْمُجْبِرُ غَيْرَ الأَْبِ أَوِ الْجَدِّ ثَبَتَ لَهَا خِيَارُ الْبُلُوغِ. وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ - فِي رِوَايَةٍ - إِلَى أَنَّ الْوَلِيَّ الْمُجْبِرَ هُوَ الأَْبُ فَقَطْ، وَلاَ يُزَوِّجُ الصَّغِيرَةَ غَيْرُهُ وَلَوْ كَانَ جَدًّا. وَفِي الْمَذْهَبِ رِوَايَةٌ أُخْرَى كَمَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ. وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ وِلاَيَةَ الإِْجْبَارِ فِي تَزْوِيجِ
__________
(1) حاشية الدسوقي 2 / 231، وشرح الزرقاني 2 / 178.
(2) منهاج الطالبين وحاشية قليوبي 3 / 225، وكشاف القناع 5 / 44، 54، 55 ط الرياض.
(3) شرح الدردير وحاشية الدسوقي عليه 2 / 224، وحاشية ابن عابدين 2 / 296، والمغني 6 / 489، والقليوبي 3 / 223 ط عيسى الحلبي.(8/179)
الْبِكْرِ هِيَ لِلأَْبِ وَالْجَدِّ وَحْدَهُمَا، دُونَ بَقِيَّةِ الأَْوْلِيَاءِ. فَالْبِكْرُ الْيَتِيمَةُ تَنْحَصِرُ وِلاَيَةُ إِجْبَارِهَا فِي الْجَدِّ.
اشْتِرَاطُ الزَّوْجِ بَكَارَةَ الزَّوْجَةِ:
9 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الرَّجُل لَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى أَنَّهَا بِكْرٌ، فَتَبَيَّنَ بَعْدَ الدُّخُول أَنَّهَا لَيْسَتْ كَذَلِكَ، لَزِمَهُ كُل الْمَهْرِ؛ لأَِنَّ الْمَهْرَ شُرِعَ لِمُجَرَّدِ الاِسْتِمْتَاعِ دُونَ الْبَكَارَةِ، وَحَمْلاً لأَِمْرِهَا عَلَى الصَّلاَحِ، بِأَنْ زَالَتْ بِوَثْبَةٍ. فَإِنْ كَانَ قَدْ تَزَوَّجَهَا بِأَزْيَدَ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا عَلَى أَنَّهَا بِكْرٌ، فَإِذَا هِيَ غَيْرُ بِكْرٍ، لاَ تَجِبُ الزِّيَادَةُ؛ لأَِنَّهُ قَابَل الزِّيَادَةَ بِمَا هُوَ مَرْغُوبٌ فِيهِ، وَقَدْ فَاتَ، فَلاَ يَجِبُ مَا قُوبِل بِهِ،
وَلاَ يَثْبُتُ بِتَخَلُّفِ شَرْطِ الْبَكَارَةِ فَسْخُ الْعَقْدِ. (1)
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: إِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُل امْرَأَةً ظَانًّا أَنَّهَا بِكْرٌ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهَا ثَيِّبٌ، وَلاَ عِلْمَ عِنْدَ أَبِيهَا، فَلاَ رَدَّ لِلزَّوْجِ بِذَلِكَ، إِلاَّ أَنْ يَقُول: أَتَزَوَّجُهَا بِشَرْطِ أَنَّهَا (عَذْرَاءُ) وَهِيَ الَّتِي لَمْ تَزُل بَكَارَتُهَا بِمُزِيلٍ، فَإِذَا وَجَدَهَا ثَيِّبًا فَلَهُ رَدُّهَا، وَسَوَاءٌ أَعَلِمَ الْوَلِيُّ أَمْ لاَ، وَسَوَاءٌ أَكَانَتِ الثُّيُوبَةُ بِنِكَاحٍ أَمْ لاَ.
وَأَمَّا إِذَا شَرَطَ أَنَّهَا (بِكْرٌ) فَوَجَدَهَا ثَيِّبًا بِغَيْرِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 346، و 4 / 48.(8/180)
وَطْءِ نِكَاحٍ، وَلَمْ يَعْلَمِ الأَْبُ بِذَلِكَ، فَفِيهِ تَرَدُّدٌ، قِيل: يُخَيَّرُ، وَقِيل: لاَ، وَهُوَ الأَْصْوَبُ لِوُقُوعِ اسْمِ الْبَكَارَةِ عَلَيْهَا؛ وَلأَِنَّ الْبَكَارَةَ قَدْ تَزُول بِوَثْبَةٍ وَنَحْوِهَا. وَإِنْ عَلِمَ الأَْبُ بِثُيُوبَتِهَا بِلاَ وَطْءٍ وَكَتَمَ، فَلِلزَّوْجِ الرَّدُّ عَلَى الأَْصَحِّ، وَأَحْرَى بِوَطْءٍ.
وَلَوْ شَرَطَ الْبَكَارَةَ وَوَجَدَهَا قَدْ ثِيبَتْ بِنِكَاحٍ، فَلَهُ الرَّدُّ مُطْلَقًا عَلِمَ الأَْبُ أَمْ لاَ. (1)
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لَوْ نَكَحَ امْرَأَةً بِشَرْطِ بَكَارَتِهَا، فَتَبَيَّنَ فَوَاتُ الشَّرْطِ صَحَّ النِّكَاحُ فِي الأَْظْهَرِ؛ لأَِنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مُعَيَّنٌ لاَ يَتَبَدَّل بِخُلْفِ الصِّفَةِ الْمَشْرُوطَةِ وَالْقَوْل الثَّانِي عِنْدَهُمْ: بُطْلاَنُهُ؛ لأَِنَّ النِّكَاحَ يَعْتَمِدُ الصِّفَاتَ وَالأَْسْمَاءَ دُونَ التَّعْيِينِ وَالْمُشَاهَدَةِ، فَيَكُونُ اخْتِلاَفُ الصِّفَةِ فِيهِ كَاخْتِلاَفِ الْعَيْنِ. (2)
وَوَرَدَ عَنِ الْحَنَابِلَةِ: إِنْ شَرَطَ فِي التَّزْوِيجِ أَنْ تَكُونَ بِكْرًا فَوَجَدَهَا ثَيِّبًا بِالزِّنَى مَلَكَ الْفَسْخَ. وَإِنْ شَرَطَ أَنْ تَكُونَ بِكْرًا فَبَانَتْ ثَيِّبًا، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: عَنْ أَحْمَدَ كَلاَمٌ يَحْتَمِل أَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لاَ خِيَارَ لَهُ؛ لأَِنَّ النِّكَاحَ لاَ يُرَدُّ فِيهِ بِعَيْبٍ سِوَى ثَمَانِيَةِ عُيُوبٍ، فَلاَ يُرَدُّ مِنْهُ بِمُخَالَفَةِ الشَّرْطِ.
__________
(1) الخرشي على مختصر خليل 3 / 239 ط دار صادر.
(2) شرح منهاج الطالبين 3 / 265 ط عيسى الحلبي بمصر.(8/180)
وَالأَْمْرُ الثَّانِي: لَهُ الْخِيَارُ نَصًّا؛ لأَِنَّهُ شَرَطَ وَصْفًا مَرْغُوبًا فِيهِ، فَبَانَتْ بِخِلاَفِهِ. (1)
الْبَكَارَةُ الْحُكْمِيَّةُ، وَأَثَرُهَا فِي الإِْجْبَارِ وَمَعْرِفَةِ إِذْنِهَا:
10 - مَنْ زَالَتْ بَكَارَتُهَا بِلاَ وَطْءٍ كَوَثْبَةٍ، أَوْ أُصْبُعٍ، أَوْ حِدَةِ حَيْضٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَهِيَ بِكْرٌ حَقِيقَةً وَحُكْمًا، وَلاَ أَثَرَ لِزَوَال بَكَارَتِهَا بِمَا ذُكِرَ وَنَحْوِهِ فِي الإِْجْبَارِ وَالاِسْتِئْذَانِ وَمَعْرِفَةِ إِذْنِهَا؛ لأَِنَّهَا لَمْ تُمَارِسِ الرِّجَال بِالْوَطْءِ فِي مَحَل الْبَكَارَةِ؛ وَلأَِنَّ الزَّائِل فِي هَذِهِ الْمَسَائِل الْعُذْرَةُ، أَيِ الْجِلْدَةُ الَّتِي عَلَى مَحَل الْبَكَارَةِ. وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. وَالأَْصَحُّ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَالثَّانِي لِهَؤُلاَءِ، وَلأَِبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ: أَنَّهَا كَالثَّيِّبِ مِنْ حَيْثُ عَدَمُ الاِكْتِفَاءِ بِسُكُوتِهَا، لِزَوَال الْعُذْرَةِ؛ لأَِنَّهَا ثَيِّبٌ حَقِيقَةً.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: مَنْ زَالَتْ بَكَارَتُهَا بِزِنًى - إِنْ لَمْ يَتَكَرَّرْ، وَلَمْ تُحَدَّ بِهِ - هِيَ بِكْرٌ حُكْمًا. (2)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (نِكَاح) .
__________
(1) المغني لابن قدامة 6 / 495، 526 ط الرياض، وكشاف القناع 5 / 99و 149 ط الرياض.
(2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 223، والمغني لابن قدامة 6 / 495، وكشاف القناع 5 / 47 ط الرياض، وشرح منهاج الطالبين 3 / 223، وحاشية ابن عابدين 2 / 302، وفتح القدير 3 / 169، وتبيين الحقائق وحاشية الاتقاني عليه 2 / 120.(8/181)
تَعَمُّدُ إِزَالَةِ الْعُذْرَةِ بِغَيْرِ جِمَاعٍ وَأَثَرُ ذَلِكَ:
11 - اتَّفَقَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ إِذَا تَعَمَّدَ إِزَالَةَ بَكَارَةِ زَوْجَتِهِ بِغَيْرِ جِمَاعٍ، كَأُصْبُعٍ، لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ. وَوَجْهُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّهُ لاَ فَرْقَ بَيْنَ آلَةٍ وَآلَةٍ فِي هَذِهِ الإِْزَالَةِ. وَوَرَدَ فِي أَحْكَامِ الصِّغَارِ فِي الْجِنَايَاتِ: أَنَّ الزَّوْجَ لَوْ أَزَال عُذْرَتَهَا بِالأُْصْبُعِ لاَ يَضْمَنُ، وَيُعَزَّرُ، وَمُقْتَضَاهُ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ فَقَطْ. (1)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنَّهُ أَتْلَفَ مَا يَسْتَحِقُّ إِتْلاَفَهُ بِالْعَقْدِ، فَلاَ يَضْمَنُ بِغَيْرِهِ. (2)
وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَالُوا: إِنَّ الإِْزَالَةَ مِنِ اسْتِحْقَاقِ الزَّوْجِ.
وَالْقَوْل الثَّانِي لَهُمْ: إِنْ أَزَال بِغَيْرِ ذَكَرٍ فَأَرْشٌ. (3)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا أَزَال الزَّوْجُ بَكَارَةَ زَوْجَتِهِ بِأُصْبُعِهِ تَعَمُّدًا، يَلْزَمُهُ حُكُومَةُ عَدْلٍ (أَرْشٌ) يُقَدِّرُهُ الْقَاضِي، وَإِزَالَةُ الْبَكَارَةِ بِالأُْصْبُعِ حَرَامٌ، وَيُؤَدَّبُ الزَّوْجُ عَلَيْهِ. (4)
وَالتَّفْصِيل يَكُونُ فِي مُصْطَلَحِ (نِكَاح وَدِيَة) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 331.
(2) كشاف القناع 5 / 163.
(3) شرح المنهاج 4 / 142و143.
(4) حاشية الدسوقي 4 / 277، 278ط دار الفكر، والشرح الصغير على حاشية العمادي 4 / 392.(8/181)
مِقْدَارُ الصَّدَاقِ بِإِزَالَةِ الْبَكَارَةِ بِالأُْصْبُعِ دُونَ الْجِمَاعِ:
12 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الزَّوْجَ إِذَا أَزَال بَكَارَةَ زَوْجَتِهِ بِغَيْرِ جِمَاعٍ، ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْل الْمَسِيسِ، وَجَبَ لَهَا جَمِيعُ مَهْرِهَا، إِنْ كَانَ مُسَمًّى وَلَمْ يُقْبَضْ، وَبَاقِيهِ إِنْ قُبِضَ بَعْضُهُ؛ لأَِنَّ إِزَالَةَ الْبَكَارَةِ بِأُصْبُعٍ وَنَحْوِهِ لاَ يَكُونُ إِلاَّ فِي خَلْوَةٍ. (1)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لَوْ فَعَل الزَّوْجُ مَا ذُكِرَ لَزِمَهُ أَرْشُ الْبَكَارَةِ الَّتِي أَزَالَهَا بِأُصْبُعِهِ، مَعَ نِصْفِ صَدَاقِهَا. (2)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يُحْكَمُ لَهَا بِنِصْفِ صَدَاقِهَا؛ لِمَفْهُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْل أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} (3) إِذِ الْمُرَادُ بِالْمَسِّ: الْجِمَاعُ، وَلاَ يَسْتَقِرُّ الْمَهْرُ بِاسْتِمْتَاعٍ وَإِزَالَةِ بَكَارَةٍ بِلاَ آلَةٍ، فَإِنْ طَلَّقَهَا وَجَبَ لَهَا الشَّطْرُ دُونَ أَرْشِ الْبَكَارَةِ؛
وَعَلَّل الْحَنَابِلَةُ زِيَادَةً عَلَى الآْيَةِ بِأَنَّ هَذِهِ مُطَلَّقَةٌ قَبْل الْمَسِيسِ وَالْخَلْوَةِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهَا سِوَى نِصْفِ الصَّدَاقِ الْمُسَمَّى؛ وَلأَِنَّهُ أَتْلَفَ مَا يَسْتَحِقُّ إِتْلاَفَهُ بِالْعَقْدِ، فَلاَ يَضْمَنُهُ بِغَيْرِهِ. (4)
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 330، 331.
(2) حاشية الدسوقي2 / 277، 278 ط دار الفكر.
(3) سورة البقرة / 237.
(4) نهاية المحتاج وحاشية أبي الضياء نور الدين عليه 6 / 335، وكشاف القناع 5 / 163.(8/182)
ادِّعَاءُ الْبَكَارَةِ، وَأَثَرُ ذَلِكَ فِي الاِسْتِحْلاَفِ:
13 - يَرَى الْمَالِكِيَّةُ: أَنَّ مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً ظَانًّا أَنَّهَا بِكْرٌ، وَقَال: إِنِّي وَجَدْتُهَا ثَيِّبًا، وَقَالَتْ: بَل وَجَدَنِي بِكْرًا، فَالْقَوْل قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا إِنْ كَانَتْ رَشِيدَةً، سَوَاءٌ ادَّعَتْ أَنَّهَا الآْنَ بِكْرٌ، أَمِ ادَّعَى أَنَّهَا كَانَتْ بِكْرًا، وَهُوَ أَزَال بَكَارَتَهَا عَلَى الْمَشْهُورِ فِي الْمَذْهَبِ، وَلاَ يَكْشِفُ عَنْ حَالِهَا. فَإِنْ لَمْ تَكُنْ رَشِيدَةً، وَكَانَتْ لاَ تُحْسِنُ التَّصَرُّفَ، أَوْ صَغِيرَةً، يَحْلِفُ أَبُوهَا، وَلاَ يَنْظُرُهَا النِّسَاءُ جَبْرًا عَلَيْهَا، أَوِ ابْتِدَاءً، وَأَمَّا بِرِضَاهَا فَيَنْظُرْنَهَا، فَإِنْ أَتَى الزَّوْجُ بِامْرَأَتَيْنِ تَشْهَدَانِ لَهُ عَلَى مَا هِيَ مُصَدَّقَةٌ فِيهِ فَإِنَّهُ يُعْمَل بِشَهَادَتِهِمَا، وَكَذَا الْمَرْأَةُ الْوَاحِدَةُ. وَحِينَئِذٍ لاَ تُصَدَّقُ الزَّوْجَةُ، وَظَاهِرُهُ وَلَوْ حَصَلَتِ الشَّهَادَةُ بَعْدَ حَلِفِهَا عَلَى مَا ادَّعَتْ، وَإِنْ كَانَ الأَْبُ أَوْ غَيْرُهُ مِنَ الأَْوْلِيَاءِ عَالِمًا بِثُيُوبَتِهَا بِلاَ وَطْءٍ مِنْ نِكَاحٍ، بَل بِوَثْبَةٍ وَنَحْوِهَا، أَوْ زِنًى وَكَتَمَ عَنِ الزَّوْجِ، فَلِلزَّوْجِ الرَّدُّ عَلَى الأَْصَحِّ إِنْ كَانَ قَدْ شَرَطَ بَكَارَتَهَا، وَيَكُونُ لَهُ الرُّجُوعُ بِالصَّدَاقِ عَلَى الأَْبِ، وَعَلَى غَيْرِهِ إِنْ تَوَلَّى الْعَقْدَ.
وَأَمَّا إِنْ كَانَتِ الثُّيُوبَةُ مِنْ نِكَاحٍ فَتُرَدُّ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمِ الأَْبُ. (1)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (نِكَاح، صَدَاق، عَيْب) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: تُصَدَّقُ الْمَرْأَةُ فِي دَعْوَى
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 284 ـ 286 ط دار الفكر.(8/182)
بَكَارَتِهَا بِلاَ يَمِينٍ، وَكَذَا فِي ثُيُوبَتِهَا، إِلاَّ إِذَا ادَّعَتْ بَعْدَ الْعَقْدِ أَنَّهَا كَانَتْ ثَيِّبًا قَبْلَهُ فَلاَ بُدَّ مِنْ يَمِينِهَا. وَقَال الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ: يُصَدَّقُ الْوَلِيُّ بِيَمِينِهِ هُنَا؛ لِئَلاَّ يَلْزَمَ بُطْلاَنُ الْعَقْدِ، وَلاَ تُسْأَل عَنْ سَبَبِ زَوَال بَكَارَتِهَا.
وَلَوْ أَقَامَ الْوَلِيُّ بَيِّنَةً بِبَكَارَتِهَا قَبْل الْعَقْدِ لإِِجْبَارِهَا قُبِلَتْ، وَلَوْ أَقَامَتْ هِيَ بَيِّنَةً بَعْدَ الْعَقْدِ بِزَوَال بَكَارَتِهَا قَبْل الْعَقْدِ لَمْ يَبْطُل الْعَقْدُ. (1)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِشَرْطِ أَنَّهَا عَذْرَاءُ، فَادَّعَى بَعْدَ دُخُولِهِ بِهَا أَنَّهُ وَجَدَهَا ثَيِّبًا، وَأَنْكَرَتْ ذَلِكَ، لاَ يُقْبَل قَوْلُهُ بَعْدَ وَطْئِهِ فِي عَدَمِ بَكَارَتِهَا؛ لأَِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَخْفَى، فَلاَ يُقْبَل فِي قَوْلِهِ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ.
فَإِنْ شَهِدَتِ امْرَأَةٌ عَدْلٌ: أَنَّهَا كَانَتْ ثَيِّبًا قَبْل الدُّخُول قُبِل قَوْلُهَا وَيَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ، وَإِلاَّ فَلاَ. (2) وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (نِكَاح، صَدَاق، شَرْط)
بَلاَغٌ
انْظُرْ: تَبْلِيغ.
__________
(1) حاشية قليوبي على منهاج الطالبين 3 / 223 ط عيسى الحلبي بمصر.
(2) مطالب أولي النهى 5 / 131 ط المكتب الإسلامي بدمشق.(8/183)
بُلْعُومٌ
1 - الْبُلْعُومُ لُغَةً وَاصْطِلاَحًا: هُوَ مَجْرَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَمَوْضِعُ الاِبْتِلاَعِ مِنَ الْحَلْقِ. (1)
أَحْكَامٌ تَتَعَلَّقُ بِالْبُلْعُومِ:
الْبُلْعُومُ - بِاعْتِبَارِهِ مَجْرَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ بَيْنَ آخِرِ الْفَمِ (أَيْ أَقْصَاهُ، وَهُوَ اللَّهَاةُ) وَالْمَعِدَةِ - تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامٌ، مِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِمَا يُفْطِرُ بِهِ الصَّائِمُ، وَمِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّذْكِيَةِ وَقَطْعِ الْبُلْعُومِ فِيهَا، وَمِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْجِنَايَةِ عَلَيْهِ وَالدِّيَةِ فِيهِ.
أ - مَا يَتَعَلَّقُ بِالصَّوْمِ وَمُفْطِرَاتِهِ:
2 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ كُل مَا أُدْخِل فِي الْبُلْعُومِ مِنْ طَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ أَوْ دَوَاءٍ فِي فَتْرَةِ الصَّوْمِ
__________
(1) المصباح المنير، ومختار الصحاح، ولسان العرب، والمغرب في ترتيب المعرب، والشرح الكبير 2 / 99، والنظم المستعذب 1 / 259، ورد المحتار على الدر المختار 5 / 187، ومنار السبيل في شرح الدليل 2 / 422 ط المكتب الإسلامي، ونيل المآرب بشرح دليل الطالب 2 / 159 ط الفلاح.(8/183)
فَإِنَّهُ يُفْطِرُ فِي الْجُمْلَةِ. وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلاَتٌ تُنْظَرُ فِي (الصَّوْمِ) .
وَإِنِ اسْتَقَاءَ وَجَاوَزَ الْقَيْءُ الْبُلْعُومَ أَفْطَرَ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ. (1) وَفِي ذَلِكَ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي (الصَّوْمُ) أَيْضًا.
ب - مَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّذْكِيَةِ:
3 - اتَّفَقَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى ضَرُورَةِ قَطْعِ الْبُلْعُومِ أَثْنَاءَ الذَّبْحِ، ضِمْنَ مَا يُقْطَعُ مِنْ عُرُوقٍ فِي الْمَذْبُوحِ مَعْلُومَةٍ. وَهِيَ الْحُلْقُومُ وَهُوَ: مَجْرَى النَّفَسِ، وَالْوَدَجَانِ وَهُمَا: عِرْقَانِ فِي جَانِبَيِ الْعُنُقِ بَيْنَهُمَا الْحُلْقُومُ وَالْمَرِيءُ، وَيَتَّصِل بِهِمَا أَكْثَرُ عُرُوقِ الْبَدَنِ، وَيَتَّصِلاَنِ بِالدِّمَاغِ. هَذَا بِالإِْضَافَةِ إِلَى الْمَرِيءِ (الْبُلْعُومِ) .
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَلَمْ يَشْتَرِطُوا قَطْعَهُ، بَل قَالُوا بِقَطْعِ جَمِيعِ الْحُلْقُومِ، وَقَطْعِ جَمِيعِ الْوَدَجَيْنِ. (2)
__________
(1) الاختيار شرح المختار 1 / 131 ـ 133 ط دار المعرفة، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 1 / 523 ـ 527، والمهذب 1 / 189، 190، ونيل المآب بشرح دليل الطالب 1 / 99 - 100 ط الفلاح.
(2) رد المحتار على الدر المختار 5 / 186ـ 187، والاختيار شرح المختار 3 / 142 - 144 ط مصطفى الحلبي 1936م، والمهذب 1 / 259، ونهاية المحتاج 8 / 110ـ 111، والشرح الكبير 2 / 99، ومنار السبيل في شرح الدليل 2 / 421ـ 423ط المكتب الإسلامي، ونيل المآب بشرح دليل الطالب 2 / 158ـ 159م الفلاح.(8/184)
وَفِيمَا يُجْزِئُ فِي الذَّبْحِ خِلاَفٌ، مُجْمَلُهُ فِيمَا يَلِي:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الذَّابِحَ إِنْ قَطَعَ جَمِيعَهَا حَل الأَْكْل؛ لِوُجُودِ الذَّكَاةِ. وَكَذَلِكَ إِنْ قَطَعَ ثَلاَثَةً مِنْهَا، أَيَّ ثَلاَثَةٍ كَانَتْ. وَقَال أَبُو يُوسُفَ: لاَ بُدَّ مِنْ قَطْعِ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ وَأَحَدِ الْوَدَجَيْنِ. وَقَال مُحَمَّدٌ: إِنَّهُ يُعْتَبَرُ الأَْكْثَرُ مِنْ كُل عِرْقٍ، وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ قَوْل مُحَمَّدٍ مَعَ أَبِي يُوسُفَ، وَحَمَل الْكَرْخِيُّ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ " وَإِنْ قُطِعَ أَكْثَرُهَا حَل " عَلَى مَا قَالَهُ مُحَمَّدٌ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ قَطْعَ أَيِّ ثَلاَثَةٍ مِنْهَا يَكْفِي.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: يُسْتَحَبُّ قَطْعُ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ وَالْوَدَجَيْنِ؛ لأَِنَّهُ أَسْرَعُ وَأَرْوَحُ لِلذَّبِيحَةِ، فَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى قَطْعِ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ أَجْزَأَهُ؛ لأَِنَّ الْحُلْقُومَ مَجْرَى النَّفَسِ، وَالْمَرِيءَ مَجْرَى الطَّعَامِ، وَالرُّوحَ لاَ تَبْقَى مَعَ قَطْعِهِمَا. (1)
وَشَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ قَطْعَ جَمِيعِ الْحُلْقُومِ، وَهُوَ الْقَصَبَةُ الَّتِي يَجْرِي فِيهَا النَّفَسُ، وَقَطْعَ جَمِيعِ الْوَدَجَيْنِ، وَلَمْ يَشْتَرِطُوا قَطْعَ الْمَرِيءِ. (2)
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَاشْتَرَطُوا قَطْعَ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ، وَاكْتَفَوْا بِقَطْعِ الْبَعْضِ مِنْهُمَا، وَلَمْ يَشْتَرِطُوا إِبَانَتَهُمَا؛ لأَِنَّهُ قَطْعٌ فِي مَحَل الذَّبْحِ مَا لاَ تَبْقَى الْحَيَاةُ مَعَهُ، وَاشْتَرَطُوا فَرْيَ الْوَدَجَيْنِ، وَذَكَرَ ابْنُ تَيْمِيَةَ
__________
(1) الاختيار شرح المختار 3 / 144، والمهذب 1 / 259.
(2) الشرح الكبير 2 / 99.(8/184)
وَجْهًا أَنَّهُ يَكْفِي قَطْعُ ثَلاَثَةٍ مِنَ الأَْرْبَعَةِ، وَقَال: إِنَّهُ الأَْقْوَى، وَسُئِل عَمَّنْ قَطَعَ الْحُلْقُومَ وَالْوَدَجَيْنِ لَكِنْ فَوْقَ الْجَوْزَةِ؟ فَقَال: هَذَا فِيهِ نِزَاعٌ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا تَحِل. (1) وَالتَّفْصِيل يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى: (تَذْكِيَة) .
ج - مَا يَتَعَلَّقُ بِالْجِنَايَةِ:
4 - الْفُقَهَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْجُرُوحَ - فِيمَا عَدَا الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ - تَنْقَسِمُ إِلَى جَائِفَةٍ وَغَيْرِ جَائِفَةٍ.
قَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنَّ الْجَائِفَةَ هِيَ الَّتِي تَصِل إِلَى الْجَوْفِ مِنَ الْبَطْنِ أَوِ الظَّهْرِ أَوِ الْوَرِكِ أَوِ الثَّغْرِ (ثُغْرَةِ النَّحْرِ) أَوِ الْحَلْقِ أَوِ الْمَثَانَةِ، وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ مَا وَصَل مِنَ الرَّقَبَةِ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي لَوْ وَصَل إِلَيْهِ مِنَ الشَّرَابِ قَطْرَةٌ لأََفْطَرَ يَكُونُ جَائِفَةً؛ لأَِنَّهُ لاَ يُفْطِرُ إِلاَّ إِذَا كَانَ وَصَل إِلَى الْجَوْفِ.
وَفِي الْجَائِفَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ، فَإِنْ نَفَذَتْ فَهِيَ جَائِفَتَانِ (2) قَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي
__________
(1) منار السبيل في شرح الدليل 2 / 422 - 423 المكتب الإسلامي، ونيل المآرب بشرح دليل الطالب 2 / 159 ط الفلاح.
(2) الاختيار شرح المختار 5 / 42 ط دار المعرفة، وبدائع الصنائع في ترتيب الشرائع 7 / 296، وتكملة فتح القدير 8 / 813، والمهذب في شرح فقه الإمام الشافعي 2 / 200 - 201، ومنار السبيل في شرح الدليل 2 / 352 - 353، ط المكتب الإسلامي، ونيل المآرب بشرح دليل الطالب 2 / 135 ط الفلاح.(8/185)
الْجَائِفَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ (1) وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ حَكَمَ فِي جَائِفَةٍ نَفَذَتْ بِثُلُثَيِ الدِّيَةِ (2) لأَِنَّهَا إِنْ نَفَذَتْ فَهِيَ جَائِفَتَانِ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ قَالُوا: إِنَّ الْجَائِفَةَ مُخْتَصَّةٌ بِالْبَطْنِ وَالظَّهْرِ، وَفِيهَا ثُلُثٌ مِنَ الدِّيَةِ الْمُخَمَّسَةِ، فَإِنْ نَفَذَتْ فَهِيَ جَائِفَتَانِ. (3) وَالتَّفْصِيل فِي (الْجِنَايَات، وَالدِّيَات) .
بَلْغَمٌ
انْظُرْ: نُخَامَة.
__________
(1) حديث: " في الجائفة ثلث الدية " أخرجه ابن أبي شيبة (9 / 210 - 211 - الدار السلفية - بمبي) مرسلا، وله طرق يتقوى بها: (نصب الراية للزيلعي 4 / 375 - ط المجلس العلمي) .
(2) الأثر عن أبي بكر رضي الله عنه: " أنه حكم في جائفة. . . " أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (9 / 369 - ط المجلس العلمي) .
(3) الشرح الكبير 4 / 270 - 271، وشرح الزرقاني على مختصر خليل 8 / 34 - 35.(8/185)
بُلُوغٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْبُلُوغُ لُغَةً: الْوُصُول، يُقَال بَلَغَ الشَّيْءُ يَبْلُغُ بُلُوغًا وَبَلاَغًا: وَصَل وَانْتَهَى،
وَبَلَغَ الصَّبِيُّ: احْتَلَمَ وَأَدْرَكَ وَقْتَ التَّكْلِيفِ، وَكَذَلِكَ بَلَغَتِ الْفَتَاةُ. (1)
وَاصْطِلاَحًا: انْتِهَاءُ حَدِّ الصِّغَرِ فِي الإِْنْسَانِ، لِيَكُونَ أَهْلاً لِلتَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ. أَوْ هُوَ: قُوَّةٌ تَحْدُثُ فِي الصَّبِيِّ، يَخْرُجُ بِهَا عَنْ حَالَةِ الطُّفُولِيَّةِ إِلَى غَيْرِهَا. (2)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْكِبَرُ:
2 - الْكِبَرُ وَالصِّغَرُ مَعْنَيَانِ إِضَافِيَّانِ، فَقَدْ يَكُونُ الشَّيْءُ كَبِيرًا بِالنِّسْبَةِ لآِخَرَ، صَغِيرًا لِغَيْرِهِ،
__________
(1) لسان العرب المحيط، والمصباح المنير مادة: " بلغ " ورد المحتار على الدر المختار 5 / 97.
(2) شرح الزرقاني 5 / 290، والشرح الصغير على أقرب المسالك 1 / 133 ط دار المعارف بمصر.(8/186)
وَلَكِنَّ الْفُقَهَاءَ يُطْلِقُونَ الْكِبَرَ فِي السِّنِّ عَلَى مَعْنَيَيْنِ.
الأَْوَّل: أَنْ يَبْلُغَ الإِْنْسَانُ مَبْلَغَ الشَّيْخُوخَةِ وَالضَّعْفِ بَعْدَ تَجَاوُزِهِ مَرْحَلَةَ الْكُهُولَةِ. (1)
الثَّانِي: أَنْ يُرَادَ بِهِ الْخُرُوجُ عَنْ حَدِّ الصِّغَرِ بِدُخُول مَرْحَلَةِ الشَّبَابِ، فَيَكُونُ بِمَعْنَى الْبُلُوغِ الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهِ.
ب - الإِْدْرَاكُ:
3 - الإِْدْرَاكُ: لُغَةً مَصْدَرُ أَدْرَكَ، وَأَدْرَكَ الصَّبِيُّ وَالْفَتَاةُ: إِذَا بَلَغَا. وَيُطْلَقُ الإِْدْرَاكُ فِي اللُّغَةِ وَيُرَادُ بِهِ: اللَّحَاقُ، يُقَال: مَشَيْتُ حَتَّى أَدْرَكْتُهُ. وَيُرَادُ بِهِ أَيْضًا: الْبُلُوغُ فِي الْحَيَوَانِ وَالثَّمَرِ. كَمَا يُسْتَعْمَل فِي الرُّؤْيَةِ فَيُقَال: أَدْرَكْتُهُ بِبَصَرِي: أَيْ رَأَيْتُهُ.
وَقَدِ اسْتَعْمَل الْفُقَهَاءُ الإِْدْرَاكَ بِمَعْنَى: بُلُوغِ الْحُلُمِ، فَيَكُونُ مُسَاوِيًا لِلَفْظِ الْبُلُوغِ بِهَذَا الإِْطْلاَقِ،
وَيُطْلِقُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ الإِْدْرَاكَ وَيُرِيدُونَ بِهِ أَوَانَ النُّضْجِ. (2)
__________
(1) القاموس المحيط، والمصباح المنير، والتعريفات للجرجاني ص 97، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص 122.
(2) لسان العرب المحيط، والمصباح المنير، وطلبة الطلبة والتعريفات للجرجاني، والكليات لأبي البقاء، والمغرب في ترتيب المعرب، والنظم المستعذب 1 / 349 ط الحلبي، وحاشية قليوبي 3 / 64 ط الحلبي.(8/186)
ج الْحُلْمُ وَالاِحْتِلاَمُ:
4 - الاِحْتِلاَمُ: مَصْدَرُ احْتَلَمَ، وَالْحُلْمُ: اسْمُ الْمَصْدَرِ. وَهُوَ لُغَةً: رُؤْيَا النَّائِمِ مُطْلَقًا، خَيْرًا كَانَ الْمَرْئِيُّ أَوْ شَرًّا. وَفَرَّقَ الشَّارِعُ بَيْنَهُمَا، فَخَصَّ الرُّؤْيَا بِالْخَيْرِ، وَخَصَّ الْحُلْمَ بِضِدِّهِ.
ثُمَّ اسْتَعْمَل الاِحْتِلاَمَ وَالْحُلْمَ بِمَعْنًى أَخَصَّ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ: أَنْ يَرَى النَّائِمُ أَنَّهُ يُجَامِعُ، سَوَاءٌ أَكَانَ مَعَ ذَلِكَ إِنْزَالٌ أَمْ لاَ ثُمَّ اسْتَعْمَل هَذَا اللَّفْظَ بِمَعْنَى الْبُلُوغِ،
وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْحُلْمُ وَالاِحْتِلاَمُ وَالْبُلُوغُ بِهَذَا الْمَعْنَى أَلْفَاظًا مُتَرَادِفَةً.
د - الْمُرَاهَقَةُ:
5 - الْمُرَاهَقَةُ: مُقَارَبَةُ الْبُلُوغِ، وَرَاهَقَ الْغُلاَمُ وَالْفَتَاةُ مُرَاهَقَةً: قَارَبَا الْبُلُوغَ، وَلَمْ يَبْلُغَا،
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَبِهَذَا تَكُونُ الْمُرَاهَقَةُ وَالْبُلُوغُ لَفْظَيْنِ مُتَبَايِنَيْنِ (1) . (2)
هـ - الأَْشُدُّ:
6 - الأَْشُدُّ لُغَةً: بُلُوغُ الرَّجُل الْحُنْكَةَ وَالْمَعْرِفَةَ. وَالأَْشُدُّ: طَوْرٌ يَبْتَدِئُ بَعْدَ انْتِهَاءِ حَدِّ الصِّغَرِ،
__________
(1) لسان العرب المحيط، والمصباح المنير، والتعريفات للجرجاني مادة " رهق "، وابن عابدين 5 / 421
(2) لسان العرب المحيط، والمصباح المنير، والتعريفات للجرجاني مادة " رهق " وابن عابدين 5 / 421.(8/187)
أَيْ مِنْ وَقْتِ بُلُوغِ الإِْنْسَانِ مَبْلَغَ الرِّجَال إِلَى سِنِّ الأَْرْبَعِينَ، وَقَدْ يُطْلَقُ الأَْشُدُّ عَلَى الإِْدْرَاكِ وَالْبُلُوغِ. وَقِيل: أَنْ يُؤْنَسَ مِنْهُ الرُّشْدُ مَعَ أَنْ يَكُونَ بَالِغًا. فَالأَْشُدُّ مُسَاوٍ لِلْبُلُوغِ فِي بَعْضِ إِطْلاَقَاتِهِ (1) .
الرُّشْدُ:
7 - الرُّشْدُ لُغَةً: خِلاَفُ الضَّلاَل. وَالرُّشْدُ، وَالرَّشَدُ، وَالرَّشَادُ: نَقِيضُ الضَّلاَل، وَهُوَ: إِصَابَةُ وَجْهِ الأَْمْرِ وَالاِهْتِدَاءُ إِلَى الطَّرِيقِ.
وَالرُّشْدُ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ: الصَّلاَحُ فِي الْمَال لاَ غَيْرُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، مِنْهُمْ: أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ. وَقَال الْحَسَنُ وَالشَّافِعِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ: الصَّلاَحُ فِي الدِّينِ وَالْمَال. (2)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (رُشْد) (وَالْوِلاَيَةُ عَلَى الْمَال) .
وَلَيْسَ لِلرُّشْدِ سِنٌّ مُعَيَّنَةٌ، وَقَدْ يَحْصُل قَبْل
__________
(1) لسان العرب المحيط، والمغرب في ترتيب المعرب، والكليات لأبي البقاء، تحفة المودود بأحكام المولود ص 235 ط مطبعة المدني، وتفسير القرطبي 16 / 194 ط مكتبة دار الكتب المصرية.
(2) لسان العرب والمغرب في ترتيب المعرب، والمصباح المنير، والكليات لأبي البقاء مادة: " رشد " والمغني والشرح الكبير 4 / 415، 416، ونهاية المحتاج 4 / 346، 353، وشرح منهاج الطالبين مع الحاشيتين عليه 2 / 301، 302.(8/187)
الْبُلُوغِ، وَهَذَا نَادِرٌ لاَ حُكْمَ لَهُ، وَقَدْ يَحْصُل مَعَ الْبُلُوغِ أَوْ بَعْدَهُ، وَفِي اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ: كُل رَشِيدٍ بَالِغٌ، وَلَيْسَ كُل بَالِغٍ رَشِيدًا.
عَلاَمَاتُ الْبُلُوغِ الطَّبِيعِيَّةِ فِي الذَّكَرِ، وَالأُْنْثَى، وَالْخُنْثَى:
8 - لِلْبُلُوغِ عَلاَمَاتٌ طَبِيعِيَّةٌ ظَاهِرَةٌ، مِنْهَا مَا هُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالأُْنْثَى، وَمِنْهَا مَا يَخْتَصُّ بِأَحَدِهِمَا. وَفِيمَا يَلِي بَيَانُ الْعَلاَمَاتِ الْمُشْتَرَكَةِ:
الاِحْتِلاَمُ:
9 - الاِحْتِلاَمُ: خُرُوجُ الْمَنِيِّ مِنَ الرَّجُل أَوِ الْمَرْأَةِ فِي يَقَظَةٍ أَوْ مَنَامٍ لِوَقْتِ إِمْكَانِهِ (1) . لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا بَلَغَ الأَْطْفَال مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا} (2) وَلِحَدِيثِ: خُذْ مِنْ كُل حَالِمٍ دِينَارًا. (3)
الإِْنْبَاتُ:
10 - الإِْنْبَاتُ: ظُهُورُ شَعْرِ الْعَانَةِ، وَهُوَ الَّذِي يَحْتَاجُ فِي إِزَالَتِهِ إِلَى نَحْوِ حَلْقٍ، دُونَ الزَّغَبِ الضَّعِيفِ الَّذِي يَنْبُتُ لِلصَّغِيرِ. وَنَجِدُ فِي كَلاَمِ
__________
(1) شرح منهج الطالبين وحاشية قليوبي 2 / 300.
(2) سورة النور / 59.
(3) حديث: " خذ من كل حالم دينارا. . . " أخرجه الترمذي (3 / 11 ط ـ الحلبي) والحاكم (1 / 398 ـ ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه ووافقه الذهبي.(8/188)
بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: أَنَّ الإِْنْبَاتَ إِذَا جُلِبَ وَاسْتُعْمِل بِوَسَائِل صِنَاعِيَّةٍ مِنَ الأَْدْوِيَةِ وَنَحْوِهَا فَإِنَّهُ لاَ يَكُونُ مُثْبِتًا لِلْبُلُوغِ، قَالُوا: لأَِنَّهُ قَدْ يُسْتَعْجَل الإِْنْبَاتُ بِالدَّوَاءِ وَنَحْوِهِ لِتَحْصِيل الْوِلاَيَاتِ وَالْحُقُوقِ الَّتِي لِلْبَالِغِينَ. (1)
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اعْتِبَارِ الإِْنْبَاتِ عَلاَمَةً عَلَى الْبُلُوغِ، عَلَى أَقْوَالٍ ثَلاَثَةٍ:
11 - الأَْوَّل: أَنَّ الإِْنْبَاتَ لَيْسَ بِعَلاَمَةٍ عَلَى الْبُلُوغِ مُطْلَقًا. أَيْ لاَ فِي حَقِّ اللَّهِ وَلاَ فِي حَقِّ الْعِبَادِ. وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ، وَرِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ عَلَى مَا فِي بَابِ الْقَذْفِ مِنَ الْمُدَوَّنَةِ، وَنَحْوُهُ لاِبْنِ الْقَاسِمِ فِي بَابِ الْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ، قَال الدُّسُوقِيُّ: وَظَاهِرُهُ لاَ فَرْقَ بَيْنَ حَقِّ اللَّهِ وَحَقِّ الآْدَمِيِّينَ. (2)
12 - الثَّانِي: أَنَّ الإِْنْبَاتَ عَلاَمَةُ الْبُلُوغِ مُطْلَقًا. وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ذَكَرَهَا ابْنُ عَابِدِينَ وَصَاحِبُ الْجَوْهَرَةِ، إِلاَّ أَنَّ ابْنَ حَجَرٍ نَقَل أَنَّ مَالِكًا لاَ يُقِيمُ الْحَدَّ عَلَى مَنْ لَمْ يَثْبُتْ بُلُوغُهُ بِغَيْرِ الإِْنْبَاتِ؛ لأَِنَّ الشُّبْهَةَ فِيهِ تَمْنَعُ مِنْ إِقَامَةِ الْحَدِّ،
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْل بِحَدِيثٍ نَبَوِيٍّ، وَآثَارٍ عَنِ الصَّحَابَةِ. فَأَمَّا الْحَدِيثُ: فَمَا وَرَدَ أَنَّ
__________
(1) الجمل على المنهج 3 / 338، وكشاف القناع 6 / 454.
(2) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي3 / 293.(8/188)
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا حَكَّمَ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ، فَحَكَمَ بِقَتْل مُقَاتِلَتِهِمْ وَسَبْيِ ذَرَارِيِّهِمْ، وَأَمَرَ أَنْ يُكْشَفَ عَنْ مُؤْتَزِرِهِمْ، فَمَنْ أَنْبَتَ فَهُوَ مِنَ الْمُقَاتِلَةِ، وَمَنْ لَمْ يُنْبِتْ فَهُوَ مِنَ الذُّرِّيَّةِ. بَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ اللَّهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعَةِ أَرْقِعَةٍ (1)
وَمِنْ هُنَا قَال عَطِيَّةُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: كُنْتُ مَعَهُمْ يَوْمَ قُرَيْظَةَ. فَأَمَرَ أَنْ يُنْظَرَ إِلَيَّ هَل أَنْبَتُّ، فَكَشَفُوا عَانَتِي، فَوَجَدُوهَا لَمْ تَنْبُتْ، فَجَعَلُونِي فِي السَّبْيِ (2) .
وَأَمَّا مَا وَرَدَ عَنِ الصَّحَابَةِ، فَمِنْهُ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَتَبَ إِلَى عَامِلِهِ أَنْ لاَ يَقْتُل إِلاَّ مَنْ جَرَتْ عَلَيْهِ الْمَوَاسِي، وَلاَ يَأْخُذَ الْجِزْيَةَ إِلاَّ مِمَّنْ جَرَتْ عَلَيْهِ الْمَوَاسِي وَأَنَّ غُلاَمًا مِنَ الأَْنْصَارِ شَبَّبَ بِامْرَأَةٍ فِي شِعْرِهِ، فَرُفِعَ إِلَى عُمَرَ فَلَمْ يَجِدْهُ أَنْبَتَ فَقَال: لَوْ أَنْبَتَّ الشَّعْرَ لَحَدَدْتُكَ (3) .
__________
(1) حديث: " لقد حكمت فيهم بحكم الله. . . " أخرجه النسائي في مختصر العلو للذهبي (ص 87ـ المكتب الإسلامي) وأصله في البخاري (الفتح 7 / 411 ـ ط السلفية) ومسلم (3 / 1389 ـ ط الحلبي) .
(2) قول عطية القرظي: كنت معهم يوم قريظة أخرجه أبو داود (4 / 561 - ط عزت عبيد دعاس) والترمذي (4 / 145 - ط الحلبي) وقال: حسن صحيح.
(3) أورد الخبرين صاحب المغني 4 / 509 و 8 / 476 وانظر الشرح الكبير والدسوقي 3 / 293، وفتح الباري 5 / 277.(8/189)
13 - الْقَوْل الثَّالِثُ: إِنَّ الإِْنْبَاتَ بُلُوغٌ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ دُونَ بَعْضٍ. وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيَّةِ، وَبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ.
فَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ الإِْنْبَاتَ يَقْتَضِي الْحُكْمَ بِبُلُوغِ وَلَدِ الْكَافِرِ، وَمَنْ جُهِل إِسْلاَمُهُ، دُونَ الْمُسْلِمِ وَالْمُسْلِمَةِ. وَهُوَ عِنْدَهُمْ أَمَارَةٌ عَلَى الْبُلُوغِ بِالسِّنِّ أَوْ بِالإِْنْزَال، وَلَيْسَ بُلُوغًا حَقِيقَةً. قَالُوا: وَلِهَذَا لَوْ لَمْ يَحْتَلِمْ، وَشَهِدَ عَدْلاَنِ بِأَنَّ عُمُرَهُ دُونَ خَمْسَةَ عَشْرَةَ سَنَةً، لَمْ يُحْكَمْ بِبُلُوغِهِ بِالإِْنْبَاتِ.
وَإِنَّمَا فَرَّقُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِ فِي ذَلِكَ لِسُهُولَةِ مُرَاجَعَةِ آبَاءِ الْمُسْلِمِ وَأَقَارِبِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ؛ وَلأَِنَّ الصَّبِيَّ الْمُسْلِمَ مُتَّهَمٌ فِي الإِْنْبَاتِ، فَرُبَّمَا تَعَجَّلَهُ بِدَوَاءٍ دَفْعًا لِلْحَجْرِ عَنْ نَفْسِهِ وَتَشَوُّفًا لِلْوِلاَيَاتِ، بِخِلاَفِ الْكَافِرِ فَإِنَّهُ لاَ يَسْتَعْجِلُهُ. (1)
14 - وَيَرَى بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الإِْنْبَاتَ يُقْبَل عَلاَمَةً فِي أَعَمِّ مِمَّا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ، فَقَدْ قَال ابْنُ رُشْدٍ: إِنَّ الإِْنْبَاتَ عَلاَمَةٌ فِيمَا بَيْنَ الشَّخْصِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِنَ الآْدَمِيِّينَ مِنْ قَذْفٍ وَقَطْعٍ وَقَتْلٍ.
وَأَمَّا فِيمَا بَيْنَ الشَّخْصِ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَلاَ خِلاَفَ - يَعْنِي عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ - أَنَّهُ لَيْسَ بِعَلاَمَةٍ.
__________
(1) نهاية المحتاج 4 / 347، والمنهج وشرحه وحاشية الجمل 3 / 338، 339، وقد نقل صاحب المغني وابن حجر في الفتح قول الشافعي في الكافر وهو ما ذكرناه هنا، وأن قوله في المسلم اختلف، ولم نجد هذا الاختلاف في كتب الشافعية.(8/189)
وَبَنَى بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى هَذَا الْقَوْل أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى مَنْ أَنْبَتَ، وَلَمْ يَحْتَلِمْ إِثْمٌ فِي تَرْكِ الْوَاجِبَاتِ وَارْتِكَابِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَلاَ يَلْزَمُهُ فِي الْبَاطِنِ عِتْقٌ وَلاَ حَدٌّ، وَإِنْ كَانَ الْحَاكِمُ يُلْزِمُهُ ذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ يَنْظُرُ فِيهِ وَيَحْكُمُ بِمَا ظَهَرَ لَهُ (1)
وَالْحُجَّةُ لِلطَّرَفَيْنِ الْحَدِيثُ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهُ الْوَارِدُ فِي شَأْنِ بَنِي قُرَيْظَةَ. أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ قَصَرُوا حُكْمَهُ عَلَى مَخْرَجِهِ، فَإِنَّ بَنِي قُرَيْظَةَ كَانُوا كُفَّارًا، وَابْنُ رُشْدٍ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ جَعَلُوهُ فِيمَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، أَيْ فِي الأَْحْكَامِ الظَّاهِرَةِ، بِنَوْعٍ مِنَ الْقِيَاسِ (2) .
مَا تَخْتَصُّ بِهِ الأُْنْثَى مِنْ عَلاَمَاتِ الْبُلُوغِ:
15 - تَزِيدُ الأُْنْثَى وَتَخْتَصُّ بِعَلاَمَتَيْنِ: هُمَا الْحَيْضُ؛ إِذْ هُوَ عَلَمٌ عَلَى بُلُوغِهَا لِحَدِيثِ: لاَ يَقْبَل اللَّهُ صَلاَةَ حَائِضٍ إِلاَّ بِخِمَارٍ. (3)
وَخَصَّ الْمَالِكِيَّةُ الْحَيْضَ بِالَّذِي لَمْ يَتَسَبَّبْ فِي جَلْبِهِ، وَإِلاَّ فَلاَ يَكُونُ عَلاَمَةً.
وَالْحَمْل عَلاَمَةٌ عَلَى بُلُوغِ الأُْنْثَى؛ لأَِنَّ اللَّهَ
__________
(1) الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 293.
(2) المحلى 1 / 89، والمغني 4 / 509
(3) حديث: " لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار. . . . " أخرجه أبو داود (1 / 421 ـ ط عزت عبيد دعاس) والحاكم (1 / 251 ـ ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه، ووافقه الذهبي.(8/190)
تَعَالَى أَجْرَى الْعَادَةَ أَنَّ الْوَلَدَ يُخْلَقُ مِنْ مَاءِ الرِّجَال وَمَاءِ الْمَرْأَةِ. قَال تَعَالَى: {فَلْيَنْظُرِ الإِْنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} (1)
فَإِذَا وُجِدَ وَاحِدٌ مِنَ الْعَلاَمَاتِ السَّابِقَةِ حُكِمَ بِالْبُلُوغِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُتَقَدِّمِ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ كَانَ الْبُلُوغُ بِالسِّنِّ عَلَى النَّحْوِ الْمُبَيَّنِ فِي مَوَاطِنِهِ مِنَ الْبَحْثِ.
16 - وَاعْتَبَرَ الْمَالِكِيَّةُ مِنْ عَلاَمَاتِ الْبُلُوغِ فِي الذَّكَرِ وَالأُْنْثَى - زِيَادَةً عَلَى مَا تَقَدَّمَ - نَتْنَ الإِْبْطِ، وَفَرْقَ الأَْرْنَبَةِ، وَغِلَظَ الصَّوْتِ.
وَاعْتَبَرَ الشَّافِعِيَّةُ أَيْضًا مِنْ عَلاَمَاتِ الْبُلُوغِ فِي الذَّكَرِ - زِيَادَةً عَلَى مَا سَبَقَ - نَبَاتَ الشَّعْرِ الْخَشِنِ لِلشَّارِبِ، وَثِقَل الصَّوْتِ، وَنُتُوءَ طَرَفِ الْحُلْقُومِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَفِي الأُْنْثَى نُهُودُ الثَّدْيِ. (2)
عَلاَمَاتُ الْبُلُوغِ الطَّبِيعِيَّةِ لَدَى الْخُنْثَى:
17 - الْخُنْثَى إِنْ كَانَ غَيْرَ مُشْكِلٍ، وَأُلْحِقَ بِالذُّكُورِ أَوِ الإِْنَاثِ، فَعَلاَمَةُ بُلُوغِهِ بِحَسَبِ النَّوْعِ الَّذِي أُلْحِقَ بِهِ.
__________
(1) سورة الطارق 5 - 7.
(2) ابن عابدين 5 / 97، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 393، والشرح الصغير على أقرب المسالك 3 / 404، وشرح المنهاج مع الحاشية 4 / 346، ونهاية المحتاج 6 / 348، والمغني والشرح الكبير 4 / 512، 513.(8/190)
أَمَّا الْخُنْثَى الْمُشْكِل فَعَلاَمَاتُ الْبُلُوغِ الطَّبِيعِيَّةُ لَدَيْهِ كَعَلاَمَاتِ الْبُلُوغِ لَدَى الذُّكُورِ أَوِ الإِْنَاثِ، فَيُحْكَمُ بِبُلُوغِهِ بِالإِْنْزَال أَوِ الإِْنْبَاتِ أَوْ غَيْرِهِمَا مِنَ الْعَلاَمَاتِ الْمُشْتَرَكَةِ أَوِ الْخَاصَّةِ، عَلَى التَّفْصِيل الْمُتَقَدِّمِ، وَهَذَا قَوْل الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْل بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ.
أَمَّا الْقَوْل الثَّانِي، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ لاَ بُدَّ مِنْ وُجُودِ الْعَلاَمَةِ فِي الْفَرْجَيْنِ جَمِيعًا، فَلَوْ أَمْنَى الْخُنْثَى مِنْ ذَكَرِهِ، وَحَاضَتْ مِنْ فَرْجِهَا، أَوْ أَمْنَى مِنْهُمَا جَمِيعًا حُكِمَ بِبُلُوغِهِ، أَمَّا لَوْ أَمْنَى مِنْ ذَكَرِهِ فَقَطْ، أَوْ حَاضَتْ مِنْ فَرْجِهَا فَقَطْ فَلاَ يُحْكَمُ بِالْبُلُوغِ. (1)
18 - وَاسْتَدَل ابْنُ قُدَامَةَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ عَلَى الاِكْتِفَاءِ بِأَيِّ الْعَلاَمَتَيْنِ تَظْهَرُ أَوَّلاً، بِأَنَّ خُرُوجَ مَنِيِّ الرَّجُل مِنَ الْمَرْأَةِ مُسْتَحِيلٌ، وَخُرُوجَ الْحَيْضِ مِنَ الرَّجُل مُسْتَحِيلٌ، فَكَانَ خُرُوجُ أَيٍّ مِنْهُمَا دَلِيلاً عَلَى تَعْيِينِ كَوْنِ الْخُنْثَى أُنْثَى أَوْ ذَكَرًا، فَإِذَا ثَبَتَ التَّعْيِينُ لَزِمَ كَوْنُهُ دَلِيلاً عَلَى الْبُلُوغِ، كَمَا لَوْ تَعَيَّنَ قَبْل خُرُوجِهِ؛ وَلأَِنَّهُ مَنِيٌّ خَارِجٌ مِنْ ذَكَرٍ، أَوْ حَيْضٌ خَارِجٌ مِنْ فَرْجٍ، فَكَانَ عَلَمًا عَلَى الْبُلُوغِ، كَالْمَنِيِّ الْخَارِجِ مِنَ الْغُلاَمِ، وَالْحَيْضِ الْخَارِجِ مِنَ الْجَارِيَةِ. قَال: وَلأَِنَّهُمْ سَلَّمُوا أَنَّ خُرُوجَهُمَا مَعًا دَلِيل الْبُلُوغِ، فَخُرُوجُ أَحَدِهِمَا أَوْلَى؛ لأَِنَّ خُرُوجَهُمَا مَعًا يَقْتَضِي تَعَارُضَهُمَا
__________
(1) نهاية المحتاج 4 / 349.(8/191)
وَإِسْقَاطَ دَلاَلَتِهِمَا؛ إِذْ لاَ يُتَصَوَّرُ حَيْضٌ صَحِيحٌ وَمَنِيُّ رَجُلٍ. فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا فَضْلَةً خَارِجَةً مِنْ غَيْرِ مَحَلِّهَا، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى بِذَلِكَ مِنَ الآْخَرِ، فَتَبْطُل دَلاَلَتُهُمَا، كَالْبَيِّنَتَيْنِ إِذَا تَعَارَضَتَا، أَمَّا إِنْ وُجِدَ الْخُرُوجُ مِنْ أَحَدِهِمَا مِنْ غَيْرِ مُعَارِضٍ، وَجَبَ أَنْ يَثْبُتَ حُكْمُهُ، وَيُقْضَى بِثُبُوتِ دَلاَلَتِهِ. (1)
19 - وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَلَمْ نَجِدْ - فِي مَا اطَّلَعْنَا عَلَيْهِ - مِنْ كَلاَمِهِمْ تَعَرُّضًا صَرِيحًا لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَلَكِنْ يَبْدُو أَنَّ قَوْل الْحَنَفِيَّةِ كَقَوْل الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ لِظَاهِرِ مَا فِي شَرْحِ الأَْشْبَاهِ مِنْ قَوْلِهِ فِي بَابِ أَحْكَامِ الْخُنْثَى: إِذَا كَانَ الْخُنْثَى بَالِغًا، بِأَنْ بَلَغَ بِالسِّنِّ، وَلَمْ يَظْهَرْ شَيْءٌ مِنْ عَلاَمَاتِ الرِّجَال أَوِ النِّسَاءِ، لاَ تُجْزِيهِ الصَّلاَةُ بِغَيْرِ قِنَاعٍ؛ لأَِنَّ الرَّأْسَ مِنَ الْحُرَّةِ عَوْرَةٌ. (2)
الْبُلُوغُ بِالسِّنِّ:
20 - جَعَل الشَّارِعُ الْبُلُوغَ أَمَارَةً عَلَى أَوَّل كَمَال الْعَقْل؛ لأَِنَّ الاِطِّلاَعَ عَلَى أَوَّل كَمَال الْعَقْل مُتَعَذِّرٌ، فَأُقِيمَ الْبُلُوغُ مَقَامَهُ.
وَالْبُلُوغُ بِالسِّنِّ: يَكُونُ عِنْدَ عَدَمِ وُجُودِ عَلاَمَةٍ مِنْ عَلاَمَاتِ الْبُلُوغِ قَبْل ذَلِكَ، وَاخْتَلَفَ
__________
(1) المغني 4 / 511، وشرح المنتهى 2 / 290.
(2) شرح الأشباه والنظائر ص 502، الطبعة الهندية.(8/191)
الْفُقَهَاءُ فِي سِنِّ الْبُلُوغِ.
فَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: (1) أَنَّ الْبُلُوغَ بِالسِّنِّ يَكُونُ بِتَمَامِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً قَمَرِيَّةً لِلذَّكَرِ وَالأُْنْثَى، كَمَا صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهَا تَحْدِيدِيَّةٌ؛ لِخَبَرِ ابْنِ عُمَرَ عُرِضْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَأَنَا ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً فَلَمْ يُجِزْنِي، وَلَمْ يَرَنِي بَلَغْتُ، وَعُرِضْتُ عَلَيْهِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فَأَجَازَنِي، وَرَآنِي بَلَغْتُ. (2)
قَال الشَّافِعِيُّ: رَدَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْعَةَ عَشَرَ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَهُمْ أَبْنَاءُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، لأَِنَّهُ لَمْ يَرَهُمْ بَلَغُوا، ثُمَّ عُرِضُوا عَلَيْهِ وَهُمْ مِنْ أَبْنَاءِ خَمْسَ عَشْرَةَ فَأَجَازَهُمْ، مِنْهُمْ: زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَرَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ وَابْنُ عُمَرَ. (3)
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْبُلُوغَ يَكُونُ بِتَمَامِ ثَمَانِي
__________
(1) حاشية البرماوي ص 249، والمغني والشرح الكبير 4 / 512، 514، ورد المحتار على الدر المختار لابن عابدين 5 / 97، 113.
(2) خبر ابن عمر: " عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد. . . " أخرجه البخاري (الفتح 5 / 276 - ط السلفية) . وغزوة أحد كانت في شوال سنة ثلاث من الهجرة، والخندق كانت في جمادى سنة خمس من الهجرة، وقد فسر قوله رضي الله عنه: " وأنا ابن أربع عشر سنة " أي طعنت فيها، وقوله " وأنا ابن أربع عشر سنة " أي استكملتها. ويراجع سبل السلام 3 / 38 ط الاستقامة سنة 1357هـ.
(3) مغني المحتاج 2 / 166، وشرح المنهاج مع ح قليوبي 2 / 299، 300، ونهاية المحتاج 3 / 346.(8/192)
عَشْرَةَ سَنَةً، وَقِيل بِالدُّخُول فِيهَا، وَقَدْ أَوْرَدَ الْحَطَّابُ خَمْسَةَ أَقْوَالٍ فِي الْمَذْهَبِ، فَفِي رِوَايَةٍ: ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وَقِيل: سَبْعَةَ عَشَرَ، وَزَادَ بَعْضُ شُرَّاحِ الرِّسَالَةِ: سِتَّةَ عَشَرَ، وَتِسْعَةَ عَشَرَ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ خَمْسَةَ عَشَرَ، (1) لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ السَّابِقِ.
وَيَرَى أَبُو حَنِيفَةَ: أَنَّ الْبُلُوغَ بِالسِّنِّ لِلْغُلاَمِ هُوَ بُلُوغُهُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَالْجَارِيَةِ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَقْرَبُوا مَال الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} (2) قَال ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الأَْشُدُّ ثَمَانِي عَشْرَةَ سَنَةً. وَهِيَ أَقَل مَا قِيل فِيهِ، فَأَخَذَ بِهِ احْتِيَاطًا، هَذَا أَشُدُّ الصَّبِيِّ، وَالأُْنْثَى أَسْرَعُ بُلُوغًا فَنَقَصَتْ سَنَةً.
السِّنُّ الأَْدْنَى لِلْبُلُوغِ الَّذِي لاَ تَصِحُّ دَعْوَى الْبُلُوغِ قَبْلَهُ:
21 - السِّنُّ الأَْدْنَى لِلْبُلُوغِ فِي الذَّكَرِ: عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ بِاسْتِكْمَال تِسْعِ سِنِينَ قَمَرِيَّةٍ
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 293، وأسهل المدارك 3 / 5، مواهب الجليل 5 / 95.
(2) سورة الإسراء / 34.(8/192)
بِالتَّمَامِ، وَفِي وَجْهٍ آخَرَ لِلشَّافِعِيَّةِ: مُضِيُّ نِصْفِ التَّاسِعَةِ، ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ. (1)
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: اثْنَتَا عَشْرَةَ سَنَةً. (2) وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: عَشْرُ سِنِينَ. وَيُقْبَل إِقْرَارُ الْوَلِيِّ بِأَنَّ الصَّبِيَّ بَلَغَ بِالاِحْتِلاَمِ، إِذَا بَلَغَ عَشْرَ سِنِينَ. (3)
وَالسِّنُّ الأَْدْنَى لِلْبُلُوغِ فِي الأُْنْثَى: تِسْعُ سِنِينَ قَمَرِيَّةٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ عَلَى الأَْظْهَرِ عِنْدَهُمْ، وَكَذَا الْحَنَابِلَةُ (4) لأَِنَّهُ أَقَل سِنٍّ تَحِيضُ لَهُ الْمَرْأَةُ، وَلِحَدِيثِ: إِذَا بَلَغَتِ الْجَارِيَةُ تِسْعَ سِنِينَ فَهِيَ امْرَأَةٌ (5) وَالْمُرَادُ حُكْمُهَا حُكْمُ الْمَرْأَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلشَّافِعِيَّةِ: نِصْفُ التَّاسِعَةِ، وَقِيل: الدُّخُول فِي التَّاسِعَةِ؛ وَلأَِنَّ هَذَا أَقَل سِنٍّ لِحَيْضِ الْفَتَاةِ. (6)
وَالسِّنُّ الأَْدْنَى لِلْبُلُوغِ فِي الْخُنْثَى: تِسْعُ سِنِينَ
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير3 / 293، وشرح منهاج الطالبين 1 / 300، ونهاية المحتاج 1 / 306، والأشباه والنظائر للسيوطي ص244.
(2) رد المحتار على الدر المختار 5 / 97.
(3) كشاف القناع 6 / 454.
(4) رد المحتار على الدر المختار 5 / 97، وشرح منهاج الطالبين مع حاشية قليوبي1 / 99، وكشاف القناع 6 / 454.
(5) حديث: " إذا بلغت الجارية تسع سنين فهي امرأة " ذكره البيهقي في سننه (1 / 320 ـ ط دائرة المعارف العثمانية) معلقا بدون إسناد عن عائشة من قولها.
(6) شرح مناهج الطالبين 1 / 99، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 244.(8/193)
قَمَرِيَّةٍ بِالتَّمَامِ، وَقِيل نِصْفُ التَّاسِعَةِ، وَقِيل: الدُّخُول فِيهَا. (1)
إِثْبَاتُ الْبُلُوغِ:
يَثْبُتُ الْبُلُوغُ بِالطُّرُقِ الآْتِيَةِ:
الطَّرِيقُ الأُْولَى: الإِْقْرَارُ:
22 - تَتَّفِقُ كَلِمَةُ الْفُقَهَاءِ فِي الْمَذَاهِبِ الأَْرْبَعَةِ عَلَى أَنَّ الصَّغِيرَ إِذَا كَانَ مُرَاهِقًا، وَأَقَرَّ بِالْبُلُوغِ بِشَيْءٍ مِنَ الْعَلاَمَاتِ الطَّبِيعِيَّةِ الَّتِي تَخْفَى عَادَةً، كَالإِْنْزَال وَالاِحْتِلاَمِ وَالْحَيْضِ، يَصِحُّ إِقْرَارُهُ، وَتَثْبُتُ لَهُ أَحْكَامُ الْبَالِغِ فِيمَا لَهُ وَمَا عَلَيْهِ. قَال الْمَالِكِيَّةُ: يُقْبَل قَوْلُهُ فِي الْبُلُوغِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا، طَالِبًا أَوْ مَطْلُوبًا. فَالطَّالِبُ كَمَنِ ادَّعَى الْبُلُوغَ لِيَأْخُذَ سَهْمَهُ فِي الْغَنِيمَةِ، أَوْ لِيَؤُمَّ النَّاسَ، أَوْ لِيُكْمِل الْعَدَدَ فِي صَلاَةِ الْجُمُعَةِ. وَالْمَطْلُوبُ كَجَانٍ ادَّعَى عَدَمَ الْبُلُوغِ لِيَدْرَأَ عَنْ نَفْسِهِ الْحَدَّ أَوِ الْقِصَاصَ أَوِ الْغَرَامَةَ فِي إِتْلاَفِ الْوَدِيعَةِ، وَكَمُطَلِّقٍ ادَّعَى عَدَمَ الْبُلُوغِ عِنْدَ الطَّلاَقِ؛ لِئَلاَّ يَقَعَ عَلَيْهِ الطَّلاَقُ.
وَيُشْتَرَطُ لِقَبُول قَوْلِهِ أَنْ يَكُونَ قَدْ جَاوَزَ السِّنَّ الأَْدْنَى لِلْبُلُوغِ، بَل لاَ تُقْبَل الْبَيِّنَةُ بِبُلُوغِهِ قَبْل ذَلِكَ. فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: لاَ يُقْبَل إِقْرَارُ الصَّبِيِّ قَبْل تَمَامِ اثْنَيْ عَشَرَ عَامًا، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لاَ يُقْبَل إِقْرَارُهُ
__________
(1) المغني لابن قدامة 1 / 365، 7 / 461، وكشاف القناع 6 / 454.(8/193)
بِذَلِكَ قَبْل تَمَامِ الْعَاشِرَةِ، وَعِنْدَ كِلَيْهِمَا: لاَ يُقْبَل إِقْرَارُ الصَّبِيَّةِ بِهِ قَبْل تَمَامِ التَّاسِعَةِ؛ وَوَجْهُ صِحَّةِ الإِْقْرَارِ بِالْبُلُوغِ: أَنَّهُ مَعْنًى لاَ يُعْرَفُ إِلاَّ مِنْ قِبَل الشَّخْصِ نَفْسِهِ، وَفِي تَكْلِيفِ الاِطِّلاَعِ عَلَيْهِ عُسْرٌ شَدِيدٌ،
وَلاَ يُكَلَّفُ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ.
وَلاَ يَحْلِفُ أَيْضًا حَتَّى عِنْدَ الْخُصُومَةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْحَقِيقَةِ بَالِغًا فَلاَ قِيمَةَ لِيَمِينِهِ؛ لِعَدَمِ الاِعْتِدَادِ بِيَمِينِ الصَّغِيرِ، وَإِنْ كَانَ بَالِغًا فَيَمِينُهُ تَحْصِيل حَاصِلٍ،
وَقَدِ اسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ بَعْضَ الصُّوَرِ يَحْلِفُ فِيهَا احْتِيَاطًا، لَكِنَّهُ يُزَاحِمُ غَيْرَهُ فِي الْحُقُوقِ، كَمَا لَوْ طَلَبَ فِي الْغَنِيمَةِ سَهْمَ مُقَاتِلٍ
23 - وَاشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمَذَاهِبِ الأَْرْبَعَةِ لِصِحَّةِ إِقْرَارِهِ بِذَلِكَ: أَنْ لاَ يَكُونَ بِحَالٍ مُرِيبَةٍ، أَوْ كَمَا عَبَّرَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: يُقْبَل إِنْ أَشْبَهَ، فَإِنْ لَمْ يُشْبِهْ لَمْ يُقْبَل، وَلَوْ صَدَّقَهُ أَبُوهُ. وَعَبَّرَ الْحَنَفِيَّةُ بِقَوْلِهِمْ إِنْ لَمْ يُكَذِّبْهُ الظَّاهِرُ، بَل يَكُونُ بِحَالٍ يَحْتَلِمُ مِثْلُهُ. وَالْمُرَادُ أَنْ يَكُونَ حَال جِسْمِهِ عِنْدَ الإِْقْرَارِ حَال الْبَالِغِينَ، وَلاَيُشَكُّ فِي صِدْقِهِ.
هَكَذَا أَطْلَقَ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ - مَا عَدَا الْمَالِكِيَّةَ - قَبُول قَوْلِهِ، وَفَصَّل الْمَالِكِيَّةُ فَقَالُوا: إِنِ ارْتِيبَ فِيهِ يُصَدَّقُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْجِنَايَةِ وَالطَّلاَقِ، فَلاَ يُحَدُّ لِلشُّبْهَةِ، وَلاَ يَقَعُ عَلَيْهِ الطَّلاَقُ اسْتِصْحَابًا لأَِصْل الصِّغَرِ، وَلاَ يُصَدَّقُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ(8/194)
بِالْمَال، فَلَوْ أَقَرَّ بِإِتْلاَفِ الْوَدِيعَةِ، وَأَنَّهُ بَالِغٌ، فَقَال أَبُوهُ: إِنَّهُ غَيْرُ بَالِغٍ، فَلاَ ضَمَانَ. (1)
وَقَدْ تَعَرَّضَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ لِقَبُول قَوْل الْمُرَاهِقَيْنِ فِي الْبُلُوغِ إِنِ ادَّعَيَاهُ بِالإِْنْبَاتِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الإِْنْبَاتِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِنَ الْعَلاَمَاتِ الطَّبِيعِيَّةِ الَّتِي ذُكِرَتْ سَابِقًا: أَنَّهُ يَسْهُل الاِطِّلاَعُ عَلَيْهِ. وَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْكَشْفِ عَمَّنْ شُكَّ فِي بُلُوغِهِ مِنْ غِلْمَانِ بَنِي قُرَيْظَةَ. إِلاَّ أَنَّ كَوْنَ الْعَوْرَةِ فِي الأَْصْل يَحْرُمُ كَشْفُهَا، دَعَا إِلَى قَوْل الْفُقَهَاءِ إِنَّهُ يُقْبَل قَوْل الشَّخْصِ الْمَشْكُوكِ فِيهِ فِي نَبَاتِهَا وَعَدَمِهِ، إِلاَّ أَنَّ ابْنَ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيَّ خَالَفَ فِي ذَلِكَ وَقَال: إِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُنْظَرَ إِلَيْهَا، وَلَكِنْ لاَ يُنْظَرُ مُبَاشَرَةً بَل مِنْ خِلاَل الْمِرْآةِ. وَرَدَّ كَلاَمَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَقَال: لاَ يُنْظَرُ إِلَيْهَا مُبَاشَرَةً، وَلاَ مِنْ خِلاَل الْمِرْآةِ، وَيُقْبَل كَلاَمُهُ إِنِ ادَّعَى الْبُلُوغَ بِالإِْنْبَاتِ.
الْبُلُوغُ شَرْطٌ لِلُزُومِ الأَْحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ:
24 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الشَّارِعَ رَبَطَ التَّكْلِيفَ بِالْوَاجِبَاتِ وَالْمُحَرَّمَاتِ وَلُزُومِ آثَارِ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 97، والجوهرة 1 / 315، والدسوقي على الشرح الكبير 3 / 293، وشرح منح الجليل 3 / 168، ونهاية المحتاج 5 / 66، 67، وكشاف القناع 6 / 456.(8/194)
الأَْحْكَامِ فِي الْجُمْلَةِ بِشَرْطِ الْبُلُوغِ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِأَدِلَّةٍ مِنْهَا:
أ - قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِذَا بَلَغَ الأَْطْفَال مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} (1) جَعَل الْبُلُوغَ مُوجِبًا لِلاِسْتِئْذَانِ.
ب - وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} (2) جَعَل بُلُوغَ النِّكَاحِ مُوجِبًا لاِرْتِفَاعِ الْوِلاَيَةِ الْمَالِيَّةِ عَنِ الْيَتِيمِ، بِشَرْطِ كَوْنِهِ رَاشِدًا.
ج - وَمِنْهَا قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذٍ لَمَّا أَرْسَلَهُ إِلَى الْيَمَنِ: خُذْ مِنْ كُل حَالِمٍ دِينَارًا أَوْ عِدْلَهُ مَعَافِرِيًّا (3) جَعَل الاِحْتِلاَمَ مُوجِبًا لِلْجِزْيَةِ.
د - وَمِنْهَا مَا حَصَل يَوْمَ قُرَيْظَةَ، مِنْ أَنَّ مَنِ اشْتَبَهُوا فِي بُلُوغِهِ مِنَ الأَْسْرَى كَانَ إِذَا أَنْبَتَ قُتِل، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَنْبَتَ لَمْ يُقْتَل. فَجُعِل الإِْنْبَاتُ عَلاَمَةً لِجَوَازِ قَتْل الأَْسِيرِ.
هـ - وَمِنْهَا قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَقْبَل اللَّهُ صَلاَةَ حَائِضٍ إِلاَّ بِخِمَارٍ (4) فَجَعَل الْحَيْضَ مِنَ الْمَرْأَةِ مُوجِبًا لِفَسَادِ صَلاَتِهَا، إِنْ صَلَّتْ بِغَيْرِ خِمَارٍ.
__________
(1) سورة النور / 59.
(2) سورة النساء / 6.
(3) حديث معاذ: " خذ من كل حالم دينارا أو. . . " سبق تخريجه (ف / 9) .
(4) حديث: " لا يقبل الله. . . " سبق تخريجه (ف / 15) .(8/195)
و - وَمِنْهَا حَدِيثُ: غُسْل يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُل مُحْتَلِمٍ (1) بَوَّبَ عَلَيْهِ الْبُخَارِيُّ " بَابَ بُلُوغِ الصِّبْيَانِ وَشَهَادَتِهِمْ " قَال ابْنُ حَجَرٍ: وَيُسْتَفَادُ مَقْصُودُ التَّرْجَمَةِ - يَعْنِي شَهَادَةَ الصِّبْيَانِ - بِالْقِيَاسِ عَلَى بَقِيَّةِ الأَْحْكَامِ مِنْ حَيْثُ تَعَلُّقُ الْوُجُوبِ بِالاِحْتِلاَمِ. (2)
ز - وَمِنْهَا حَدِيثُ: رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثَةٍ: عَنِ الصَّغِيرِ حَتَّى يَكْبُرَ. . . (3) جَعَل الْخُرُوجَ عَنْ حَدِّ الصَّغِيرِ مُوجِبًا لِكِتَابَةِ الإِْثْمِ، عَلَى مَنْ فَعَل مَا يُوجِبُهُ.
فَهَذِهِ الأَْدِلَّةُ وَأَمْثَالُهَا - مِمَّا يَأْتِي فِي شَأْنِ عَلاَمَاتِ الْبُلُوغِ - تَدُل عَلَى أَنَّ الشَّارِعَ رَبَطَ التَّكْلِيفَ وَلُزُومَ الأَْحْكَامِ عَامَّةً بِشَرْطِ الْبُلُوغِ، فَمَنِ اعْتُبِرَ بَالِغًا بِأَيِّ عَلاَمَةٍ مِنْ عَلاَمَاتِ الْبُلُوغِ فَهُوَ رَجُلٌ تَامٌّ أَوِ امْرَأَةٌ تَامَّةٌ، مُكَلَّفٌ - إِنْ كَانَ عَاقِلاً - كَغَيْرِهِ مِنَ الرِّجَال وَالنِّسَاءِ، يَلْزَمُهُ مَا يَلْزَمُهُمْ، وَحُقَّ لَهُ مَا يَحِقُّ لَهُمْ. وَقَدْ نَقَل
__________
(1) حديث: " غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم. . . " أخرجه البخاري (الفتح 2 / 357 ـ ط السلفية) ومسلم (2 / 581 ـ ط الحلبي) .
(2) الفتح 5 / 276 ـ ط السلفية.
(3) حديث: " رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يكبر. . . " رواه أبو داود (4 / 558 ـ ط عزت عبيد دعاس) والحاكم (2 / 59 ـ ط دائرة المعارف العثمانية) وعنده: " الصبي حتى يحتلم " وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.(8/195)
بَعْضُهُمْ الإِْجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ، فَقَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْفَرَائِضَ وَالأَْحْكَامَ تَجِبُ عَلَى الْمُحْتَلِمِ الْعَاقِل. (1) وَقَال ابْنُ حَجَرٍ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الاِحْتِلاَمَ فِي الرِّجَال وَالنِّسَاءِ يَلْزَمُ بِهِ الْعِبَادَاتُ وَالْحُدُودُ وَسَائِرُ الأَْحْكَامِ. (2)
مَا يُشْتَرَطُ لَهُ الْبُلُوغُ مِنَ الأَْحْكَامِ:
أ - مَا يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِهِ الْبُلُوغُ:
25 - التَّكْلِيفُ بِالْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ وَتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ يُشْتَرَطُ لَهُ الْبُلُوغُ، وَلاَ تَجِبُ عَلَى غَيْرِ الْبَالِغِ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثَةٍ: عَنِ الصَّغِيرِ حَتَّى يَكْبُرَ. . . الْحَدِيثَ، وَذَلِكَ كَالصَّلاَةِ (3) وَالصَّوْمِ (4) وَالْحَجِّ (5) عَلَى أَنَّ فِي الزَّكَاةِ خِلاَفًا.
__________
(1) كشاف القناع 3 / 443.
(2) فتح الباري 5 / 277.
(3) رد المحتار على الدر المختار 1 / 234، 235، والبدائع 1 / 189، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 200، ونهاية المحتاج وحاشيته 1 / 373، 374، وشرح منهاج الطالبين 1 / 120، 121، وكشاف القناع 1 / 15.
(4) رد المحتار على الدر المختار1 / 235، وبدائع الصنائع 2 / 87، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير1 / 509، وشرح الزرقاني 2 / 208، ونهاية المحتاج 3 / 180، وشرح منهاج الطالبين 2 / 63، وكشاف القناع 2 / 308.
(5) رد المحتار على الدر المختار 2 / 141، وبدائع الصنائع 2 / 120، 160، منح الجليل 1 / 436، وحاشية الدسوقي 2 / 5، ونهاية المحتاج 3 / 233، 235، وشرح منهاج الطالبين 2 / 85، وكشاف القناع 2 / 375ـ 379.(8/196)
وَمَعَ هَذَا يَنْبَغِي لِوَلِيِّ الصَّغِيرِ أَنْ يُجَنِّبَهُ الْمُحَرَّمَاتِ، وَأَنْ يَأْمُرَهُ بِالصَّلاَةِ وَنَحْوِهَا لِيَعْتَادَهَا، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مُرُوا أَبْنَاءَكُمْ بِالصَّلاَةِ لِسَبْعٍ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا لِعَشْرٍ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ. (1)
وَمَعَ هَذَا إِذَا أَدَّاهَا الصَّغِيرُ، أَوْ فَعَل الْمُسْتَحَبَّاتِ تَصِحُّ مِنْهُ، وَيُؤْجَرُ عَلَيْهَا.
وَلاَ يَجِبُ الْقِصَاصُ وَالْحُدُودُ، كَحَدِّ السَّرِقَةِ (2) وَحَدِّ الْقَذْفِ (3) وَلَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يُؤَدَّبَ.
ب - مَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّتِهِ الْبُلُوغُ:
26 - الْبُلُوغُ شَرْطُ صِحَّةٍ فِي كُل مَا يُشْتَرَطُ لَهُ تَمَامُ الأَْهْلِيَّةِ، وَمِنْ ذَلِكَ: الْوِلاَيَاتُ كُلُّهَا، كَالإِْمَارَةِ وَالْقَضَاءِ (4) وَالْوِلاَيَةِ عَلَى النَّفْسِ (5) وَالشَّهَادَةِ فِي
__________
(1) حديث: " مروا أبناءكم بالصلاة لسبع. . . " أخرجه أبو داود (1 / 334 ـ ط عزت عبيد دعاس) وحسنه النووي في رياض الصالحين (ص 171) .
(2) بدائع الصنائع 7 / 67، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4 / 332، 344، ونهاية المحتاج 7 / 421، وشرح منهاج الطالبين 4 / 196، وكشاف القناع 6 / 129.
(3) رد المحتار على الدر المختار 3 / 168، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4 / 324، 325، ونهاية المحتاج 7 / 415، 416، وكشاف القناع 6 / 104.
(4) رد المحتار على الدر المختار 4 / 296، 299، وبدائع الصنائع 7 / 23، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4 / 129، والخرشي على مختصر خليل 7 / 138، والجمل على شرح المنهج 5 / 337، ونهاية المحتاج 2 / 226، وكشاف القناع 6 / 294.
(5) رد المحتار على الدر المختار 2 / 295، 296، 311، 312، ونهاية المحتاج 6 / 231، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 230.(8/196)
الْجُمْلَةِ. (1) وَمِنْ ذَلِكَ التَّصَرُّفَاتُ الْمُتَمَحِّضَةُ لِلضَّرَرِ كَالْهِبَةِ (2) وَالْعَارِيَّةِ (3) وَالْوَقْفِ (4) وَالْكَفَالَةِ (5) . وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا: الطَّلاَقُ، وَمَا فِي مَعْنَاهُ كَالظِّهَارِ وَالإِْيلاَءِ (6) وَالْخُلْعِ (7) وَالْعِتْقِ، وَكَذَلِكَ النَّذْرُ. (8) وَيُنْظَرُ تَفْصِيل كُل ذَلِكَ فِي مَوْطِنِهِ، وَفِي مُصْطَلَحِ (صِغَر) .
مَا يَثْبُتُ بِطُرُوءِ الْبُلُوغِ مِنَ الأَْحْكَامِ:
27 - مِنَ الصُّعُوبَةِ بِمَكَانٍ حَصْرُ جَمِيعِ الأَْحْكَامِ
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4 / 165، 183، 184، ورد المحتار على الدر المختار 4 / 369، 379، ونهاية المحتاج 8 / 277، وشرح منهاج الطالبين 4 / 318، وكشاف القناع 6 / 416.
(2) كشاف القناع 4 / 298، 299.
(3) المغني والشرح الكبير 5 / 355.
(4) نهاية المحتاج 5 / 356، وكشاف القناع 4 / 251، ورد المحتار على الدر المختار 3 / 357ـ 360.
(5) بدائع الصنائع 6 / 5، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 229، 230، وشرح منهاج الطالبين مع حاشية قليوبي 2 / 323، وكشاف القناع 3 / 362.
(6) رد المحتار على الدر المختار 2 / 444ـ 446.
(7) رد المحتار على الدر المختار 2 / 558، ونهاية المحتاج 6 / 388، وكشاف القناع 9 / 233.
(8) بدائع الصنائع 5 / 82، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 161، ونهاية المحتاج 8 / 164، وشرح منهاج الطالبين مع حاشية قليوبي 4 / 270، وكشاف القناع 6 / 273.(8/197)
الَّتِي تَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ طُرُوءِ الْبُلُوغِ، وَفِيمَا يَلِي بَعْضُ الأَْمْثِلَةِ لِلأَْحْكَامِ الَّتِي تَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ أَنْ يَحْتَلِمَ الصَّبِيُّ أَوِ الصَّبِيَّةُ، أَوْ يَرَيَا أَيَّةَ عَلاَمَةٍ مِنْ عَلاَمَاتِ الْبُلُوغِ:
أَوَّلاً فِي بَابِ الطَّهَارَةِ:
إِعَادَةُ التَّيَمُّمِ:
28 - عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِذَا تَيَمَّمَ، وَهُوَ غَيْرُ بَالِغٍ، ثُمَّ بَلَغَ بِمَا لاَ يَنْقُضُ الطَّهَارَةَ كَالسِّنِّ، لَزِمَهُ أَنْ يُعِيدَ التَّيَمُّمَ إِنْ أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ الْفَرْضَ؛ لأَِنَّ تَيَمُّمَهُ قَبْل بُلُوغِهِ كَانَ لِنَافِلَةٍ؛ إِذْ أَنَّهُ لَوْ تَيَمَّمَ لِلظُّهْرِ مَثَلاً فَقَدْ كَانَتْ فِي حَقِّهِ نَافِلَةً، فَلاَ يَسْتَبِيحُ بِهِ الْفَرْضَ، وَهَذَا بِخِلاَفِ مَنْ تَوَضَّأَ أَوِ اغْتَسَل ثُمَّ بَلَغَ، لاَ يَلْزَمُهُ إِعَادَتُهُمَا؛ لأَِنَّ الْوُضُوءَ وَالْغُسْل لِلنَّافِلَةِ يَرْفَعَانِ الْحَدَثَ مِنْ أَصْلِهِ. أَمَّا التَّيَمُّمُ فَهُوَ مُبِيحٌ وَلَيْسَ رَافِعًا، وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ كَذَلِكَ: أَنَّهُ مُبِيحٌ لاَ رَافِعٌ.
أَمَّا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَهُوَ أَنَّ التَّيَمُّمَ رَافِعٌ لِلْحَدَثِ إِلَى وَقْتِ وُجُودِ الْمَاءِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ لَيْسَ عَلَى الصَّبِيِّ إِذَا تَيَمَّمَ، ثُمَّ بَلَغَ إِعَادَةُ التَّيَمُّمِ. (1)
__________
(1) ابن عابدين 1 / 161، والزرقاني 1 / 120 مطبعة محمد مصطفى، وحاشية الدسوقي 1 / 155، والمغني 18 / 253، وكشاف القناع 1 / 266، والمجموع للنووي 1 / 221 ط المنيرية، والمنثور 2 / 297.(8/197)
ثَانِيًا - فِي بَابِ الصَّلاَةِ:
29 - تَجِبُ عَلَى الصَّبِيِّ أَوِ الصَّبِيَّةِ الصَّلاَةُ الَّتِي بَلَغَ فِي وَقْتِهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ صَلاَّهَا إِجْمَاعًا، حَتَّى الْمَالِكِيَّةُ - الَّذِينَ قَالُوا: يَحْرُمُ تَأْخِيرُ الصَّلاَةِ إِلَى الْوَقْتِ الضَّرُورِيِّ، أَيْ لِلْعَصْرِ فِي الْجُزْءِ الآْخِرِ مِنْ وَقْتِهَا، وَالصُّبْحُ كَذَلِكَ - قَالُوا: لَوْ بَلَغَ فِي الْوَقْتِ الضَّرُورِيِّ فَعَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَهَا، وَلاَ حُرْمَةَ عَلَيْهِ. (1)
30 - وَلَوْ أَنَّهُ صَلَّى صَلاَةَ الْوَقْتِ، ثُمَّ بَلَغَ قَبْل خُرُوجِ وَقْتِهَا، لَزِمَهُ إِعَادَتُهَا، وَذَلِكَ لأَِنَّ الصَّلاَةَ الَّتِي صَلاَّهَا قَبْل الْبُلُوغِ نَفْلٌ فِي حَقِّهِ؛ لِعَدَمِ وُجُوبِهَا عَلَيْهِ، فَلَمْ تُجْزِئْهُ عَنِ الْوَاجِبِ، هَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ لَوْ صَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ بَلَغَ قَبْل صَلاَةِ الْجُمُعَةِ، تَجِبُ عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ مَعَ النَّاسِ.
وَكَذَا إِنْ صَلَّى الْجُمُعَةَ، ثُمَّ بَلَغَ وَوَجَدَ جُمُعَةً أُخْرَى، وَجَبَ عَلَيْهِ الإِْعَادَةُ مَعَهُمْ، وَإِنْ فَاتَتْهُ الْجُمُعَةُ أَعَادَهَا ظُهْرًا؛ لأَِنَّ فِعْلَهُ الأَْوَّل - وَلَوْ جُمُعَةً - وَقَعَ نَفْلاً، فَلاَ يُجْزِئُ عَنِ الْفَرْضِ. (2)
أَمَّا مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ، فَهُوَ أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُ الصَّبِيَّ الإِْعَادَةُ إِذَا بَلَغَ فِي الْوَقْتِ وَقَدْ صَلَّى، قَالُوا: لأَِنَّهُ
__________
(1) جواهر الإكليل 1 / 34.
(2) شرح فتح القدير 2 / 332، وجواهر الإكليل 1 / 96، وكشاف القناع 1 / 226.(8/198)
أَدَّى وَظِيفَةَ الْوَقْتِ. وَلَوْ أَنَّهُ بَلَغَ فِي أَثْنَاءِ الصَّلاَةِ يَلْزَمُهُ إِتْمَامُ الصَّلاَةِ الَّتِي هُوَ فِيهَا، وَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ إِعَادَتُهَا، بَل تُسْتَحَبُّ. (1)
31 - تَجِبُ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ الَّتِي بَلَغَ فِي وَقْتِهَا، كَمَا تَقَدَّمَ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يُصَلِّيَ الصَّلاَةَ الَّتِي تُجْمَعُ إِلَى الْحَاضِرَةِ قَبْلَهَا، فَلَوْ بَلَغَ قَبْل أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ، وَلَوْ بَلَغَ قَبْل الْفَجْرِ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ. قَال ابْنُ قُدَامَةَ: رُوِيَ هَذَا الْقَوْل عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَطَاوُوسٍ وَمُجَاهِدٍ وَالنَّخَعِيِّ وَالزُّهْرِيِّ وَرَبِيعَةَ، وَهُوَ قَوْل مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَاللَّيْثِ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ وَعَامَّةِ التَّابِعِينَ، إِلاَّ أَنَّ مَالِكًا قَال: لاَ تَجِبُ الأُْولَى إِلاَّ بِإِدْرَاكِ مَا يَسَعُ خَمْسَ رَكَعَاتٍ أَيِ الصَّلاَةَ الأُْولَى مِنْهُمَا كَامِلَةً وَرَكْعَةً وَاحِدَةً عَلَى الأَْقَل مِنَ الثَّانِيَةِ. وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: لَوْ أَدْرَكَ مَا يَسَعُ تَكْبِيرَةَ إِحْرَامٍ فَقَدْ لَزِمَتْهُ الصَّلاَتَانِ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: بِإِدْرَاكِ رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ.
وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْل: أَنَّ وَقْتَ الثَّانِيَةِ هُوَ وَقْتٌ لِلأُْولَى حَال الْعُذْرِ، أَيْ لأَِنَّهُ يُمْكِنُ فِي حَال السَّفَرِ أَوْ نَحْوِهِ أَنْ يُؤَخِّرَ الظُّهْرَ إِلَى الْعَصْرِ، وَالْمَغْرِبَ إِلَى الْعِشَاءِ، فَوَقْتُ الْعَصْرِ وَقْتٌ لِلظُّهْرِ مِنْ وَجْهٍ، وَكَذَلِكَ الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ، فَكَأَنَّهُ بِإِدْرَاكِهِ وَقْتَ الثَّانِيَةِ مُدْرِكٌ لِلأُْولَى أَيْضًا.
__________
(1) المجموع 3 / 12.(8/198)
وَخَالَفَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْحَنَفِيَّةُ وَالثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، فَرَأَوْا أَنَّهُ يُصَلِّي الصَّلاَةَ الَّتِي بَلَغَ فِي وَقْتِهَا فَقَطْ.
ثَالِثًا - الصَّوْمُ:
32 - إِنْ بَيَّتَ الصَّبِيُّ الصَّوْمَ فِي رَمَضَانَ، ثُمَّ بَلَغَ أَثْنَاءَ النَّهَارِ وَهُوَ صَائِمٌ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ إِتْمَامُ صَوْمِهِ بِغَيْرِ خِلاَفٍ؛ لأَِنَّهُ - كَمَا قَال الرَّمْلِيُّ الشَّافِعِيُّ - صَارَ مِنْ أَهْل الْوُجُوبِ فِي أَثْنَاءِ الْعِبَادَةِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ دَخَل الْبَالِغُ فِي صَوْمِ تَطَوُّعٍ، ثُمَّ نَذَرَ إِتْمَامَهُ.
فَإِنْ صَامَ فِي تِلْكَ الْحَال فَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ إِلاَّ فِي وَجْهٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
أَمَّا إِنْ بَيَّتَ الإِْفْطَارَ، ثُمَّ بَلَغَ أَثْنَاءَ النَّهَارِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ فِي مَوْضِعَيْنِ: فِي حُكْمِ الإِْمْسَاكِ بَقِيَّةَ النَّهَارِ، وَفِي حُكْمِ قَضَاءِ ذَلِكَ الْيَوْمِ.
33 - فَأَمَّا الإِْمْسَاكُ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - وَهُوَ قَوْلٌ لَدَى الشَّافِعِيَّةِ - إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الإِْمْسَاكُ بَقِيَّةَ الْيَوْمِ؛ لإِِدْرَاكِهِ وَقْتَ الإِْمْسَاكِ، وَإِنْ لَمْ يُدْرِكْ وَقْتَ الصَّوْمِ.
وَاحْتَجُّوا بِمَا وَرَدَ فِي فَرْضِ عَاشُورَاءَ - قَبْل أَنْ يُنْسَخَ بِفَرْضِ رَمَضَانَ - فَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ(8/199)
كَانَ مِنْكُمْ أَصْبَحَ مُفْطِرًا فَلْيُمْسِكْ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ، وَمَنْ كَانَ أَصْبَحَ صَائِمًا فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ (1) قَالُوا: وَالأَْمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ، وَذَلِكَ لِحُرْمَةِ الشَّهْرِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ - فِي الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ - إِلَى أَنَّ الإِْمْسَاكَ فِي تِلْكَ الْحَال مُسْتَحَبٌّ، وَلَيْسَ وَاجِبًا. وَإِنَّمَا اسْتَحَبُّوهُ لِحُرْمَةِ الْوَقْتِ. وَلَمْ يَجِبِ الإِْمْسَاكُ فِي تِلْكَ الْحَال؛ لأَِنَّهُ أَفْطَرَ بِعُذْرٍ هُوَ الصِّغَرُ، فَأَشْبَهَ الْمُسَافِرَ إِذَا قَدِمَ، وَالْمَرِيضَ إِذَا بَرَأَ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الإِْمْسَاكَ حِينَئِذٍ لاَ يَجِبُ وَلاَ يُسْتَحَبُّ، كَكُل صَاحِبِ عُذْرٍ يُبَاحُ لأَِجْلِهِ الْفِطْرُ. (2)
34 - وَأَمَّا الْقَضَاءُ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ كَذَلِكَ:
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ - فِي قَوْلٍ - إِلَى أَنَّ الْقَضَاءَ وَاجِبٌ، وَفَصَّل الْحَنَابِلَةُ بَيْنَ مَنْ أَصْبَحَ مُفْطِرًا، ثُمَّ بَلَغَ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ، فَالْقَضَاءُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّهُ أَدْرَكَ جُزْءًا مِنْ وَقْتِ الْوُجُوبِ، وَلاَ يُمْكِنُ فِعْلُهُ إِلاَّ بِصَوْمٍ كَامِلٍ. وَبَيْنَ مَنْ بَيَّتَ الصَّوْمَ مِنَ اللَّيْل، وَأَصْبَحَ صَائِمًا ثُمَّ بَلَغَ، فَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ، خِلاَفًا لأَِبِي الْخَطَّابِ مِنْهُمْ.
__________
(1) حديث: " من كان أصبح منكم مفطرا فليمسك. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 200 ـ ط السلفية) ومسلم (2 / 798ـ ط الحلبي) .
(2) شرح فتح القدير لابن الهمام 2 / 282، وجواهر الإكليل 1 / 146، والدسوقي 1 / 514، ونهاية المحتاج 3 / 183، والمغني 3 / 154، وكشاف القناع 2 / 309.(8/199)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ: لاَ يَجِبُ الْقَضَاءُ لِعَدَمِ تَمَكُّنِهِ مِنْ زَمَنٍ يَسَعُ الْكُل. وَفَرَّقُوا بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ الصَّلاَةِ؛ إِذْ يَجِبُ فِعْلُهَا لِمَنْ بَلَغَ فِي الْوَقْتِ؛ لأَِنَّ السَّبَبَ فِيهَا الْجُزْءُ الْمُتَّصِل بِأَدَائِهَا، فَوُجِدَتِ الأَْهْلِيَّةُ عِنْدَهُ، وَأَمَّا الصَّوْمُ فَالسَّبَبُ فِيهِ الْجُزْءُ الأَْوَّل وَالأَْهْلِيَّةُ مُنْعَدِمَةٌ فِيهِ، وَبِهَذَا عَلَّلَهُ الْحَنَفِيَّةُ.
هَذَا وَقَدْ وَرَدَ فِي الْمُغْنِي أَنَّ الأَْوْزَاعِيَّ كَانَ يَرَى أَنَّ الصَّبِيَّ إِذَا بَلَغَ أَثْنَاءَ شَهْرِ رَمَضَانَ، يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الأَْيَّامِ الَّتِي سَبَقَتْ بُلُوغَهُ مِنَ الشَّهْرِ، إِنْ كَانَ قَدْ أَفْطَرَهَا، وَهُوَ خِلاَفُ مَا عَلَيْهِ عَامَّةُ أَهْل الْعِلْمِ. (1)
رَابِعًا: الزَّكَاةُ:
35 - اخْتُلِفَ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَى مَنْ لَمْ يَبْلُغْ. فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى وُجُوبِهَا؛ لِتَعَلُّقِ الْوُجُوبِ بِالْمَال.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهَا لاَ تَجِبُ؛ لأَِنَّهَا عِبَادَةٌ تَلْزَمُ الشَّخْصَ الْمُكَلَّفَ، وَالصَّبِيُّ لَيْسَ مِنْ أَهْل التَّكْلِيفِ. فَعَلَى هَذَا إِذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ: فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَبْدَأُ حَوْل زَكَاتِهِ مِنْ حِينِ بُلُوغِهِ، إِنْ كَانَ يَمْلِكُ نِصَابًا. أَمَّا عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ: فَالْحَوْل الَّذِي بَدَأَ قَبْل الْبُلُوغِ مُمْتَدٌّ بَعْدَهُ.
__________
(1) المراجع السابقة(8/200)
وَعِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ كَذَلِكَ يَلْزَمُ الصَّبِيَّ إِذَا بَلَغَ رَاشِدًا أَدَاءُ الزَّكَاةِ، لِمَا مَضَى مِنَ الأَْعْوَامِ، مُنْذُ دَخَل الْمَال فِي مِلْكِهِ، إِنْ لَمْ يَكُنْ وَلِيُّهُ يُخْرِجُ عَنْهُ الزَّكَاةَ. (1)
أَمَّا إِنْ بَلَغَ سَفِيهًا، فَاسْتَمَرَّ الْحَجْرُ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يُؤَدِّيهَا بِنَفْسِهِ لاِشْتِرَاطِ النِّيَّةِ، وَلاَ يَقُومُ عَنْهُ وَلِيُّهُ فِي ذَلِكَ. قَالُوا: غَيْرَ أَنَّهُ يَدْفَعُ الْقَاضِي إِلَيْهِ قَدْرَ الزَّكَاةِ لِيُفَرِّقَهَا، لَكِنْ يَبْعَثُ مَعَهُ أَمِينًا، كَيْ لاَ يَصْرِفَهَا فِي غَيْرِ وَجْهِهَا، بِخِلاَفِ النَّفَقَاتِ الْوَاجِبَةِ عَلَى السَّفِيهِ لأَِقَارِبِهِ مَثَلاً، فَإِنَّ وَلِيَّهُ يَتَوَلَّى دَفْعَهَا لِعَدَمِ اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فِيهَا. (2)
أَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، قَدْ قَال الرَّمْلِيُّ: لاَ يُفَرِّقُ السَّفِيهُ الزَّكَاةَ بِنَفْسِهِ، لَكِنْ إِنْ أَذِنَ لَهُ الْوَلِيُّ، وَعَيَّنَ الْمَدْفُوعَ لَهُ، صَحَّ صَرْفُهُ، كَمَا يَجُوزُ لِلأَْجْنَبِيِّ تَوْكِيلُهُ فِيهِ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ تَفْرِيقُهُ الزَّكَاةَ بِحَضْرَةِ الْوَلِيِّ أَوْ نَائِبِهِ؛ لاِحْتِمَال تَلَفِ الْمَال لَوْ خَلاَ بِهِ السَّفِيهُ، أَوْ دَعْوَاهُ صَرْفَهَا كَاذِبًا. وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِكَوْنِ الْوَلِيِّ يُخْرِجُهَا أَوْ يُؤَخِّرُهَا إِلَى الرُّشْدِ. (3)
وَلَمْ يَتَعَرَّضِ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا رَأَيْنَاهُ مِنْ كَلاَمِهِمْ.
__________
(1) ابن عابدين 2 / 4، والمغني 2 / 622، والزرقاني 2 / 141.
(2) ابن عابدين 5 / 94، وفتح القدير والعناية 8 / 198.
(3) نهاية المحتاج 4 / 361.(8/200)
خَامِسًا: الْحَجُّ:
36 - إِذَا حَجَّ الصَّغِيرُ ثُمَّ بَلَغَ فَعَلَيْهِ حَجَّةٌ أُخْرَى، هِيَ حَجَّةُ الإِْسْلاَمِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، وَلاَ تُجْزِئُهُ الْحَجَّةُ الَّتِي حَجَّهَا قَبْل الْبُلُوغِ. نَقَل الإِْجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُجَدِّدَ فِي صُدُورِ الْمُؤْمِنِينَ عَهْدًا: أَيُّمَا مَمْلُوكٍ حَجَّ بِهِ أَهْلُهُ فَمَاتَ قَبْل أَنْ يَعْتِقَ فَقَدْ قَضَى حَجَّهُ، وَإِنْ عَتَقَ قَبْل أَنْ يَمُوتَ فَلْيَحُجَّ، وَأَيُّمَا غُلاَمٍ حَجَّ بِهِ أَهْلُهُ قَبْل أَنْ يُدْرِكَ، فَقَدْ قَضَى حَجَّتَهُ، وَإِنْ بَلَغَ فَلْيَحْجُجْ (1) ، وَلأَِنَّهَا عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ فَعَلَهَا قَبْل وَقْتِ الْوُجُوبِ، فَلَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ وُجُوبَهَا عَلَيْهِ فِي وَقْتِهَا. قَال الرَّمْلِيُّ: وَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّ الْحَجَّ وَظِيفَةُ الْعُمُرِ، لاَ تَكْرَارَ فِيهِ، فَاعْتُبِرَ وُقُوعُهُ فِي حَالَةِ الْكَمَال. (2)
37 - إِذَا بَلَغَ الْمُرَاهِقُ (أَوِ الْمُرَاهِقَةُ) وَهُوَ مُحْرِمٌ بَعْدَ أَنْ تَجَاوَزَ الْمِيقَاتَ، فَإِنْ كَانَ بُلُوغُهُ وَهُوَ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ، أَوْ قَبْل الْوُقُوفِ، أَوْ كَانَ بُلُوغُهُ بَعْدَ
__________
(1) حديث: " أيما مملوك حج به أهله فمات. . . " أخرجه الشافعي (بدائع المنن 1 / 290 ـ ط دار الأنوار) والطحاوي (2 / 257 ـ ط مطبعة الأنوار المحمدية) ، موقوفا على ابن عباس، وصححه ابن حجر في الفتح (4 / 70 ـ ط السلفية) .
(2) المغني 3 / 248، ونهاية المحتاج 3 / 233، وشرح فتح القدير 2 / 332.(8/201)
الْوُقُوفِ، وَلَكِنْ رَجَعَ فَوَقَفَ بِعَرَفَاتٍ قَبْل الْفَجْرِ مِنْ لَيْلَةِ يَوْمِ النَّحْرِ، وَأَتَمَّ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا، فَهَل تُجْزِئُهُ ذَلِكَ عَنْ حَجَّةِ الإِْسْلاَمِ؟
مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ: أَنَّ ذَلِكَ يُجْزِئُهُ عَنْ حَجَّةِ الإِْسْلاَمِ، وَلاَ دَمَ عَلَيْهِ، وَلاَ يُجَدِّدُ لِحَجَّتِهِ تِلْكَ إِحْرَامًا، لِمَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَال: إِذَا عَتَقَ الْعَبْدُ بِعَرَفَةَ أَجْزَأَتْ عَنْهُ حَجَّتُهُ، فَإِنْ عَتَقَ بِجَمْعٍ - يَعْنِي الْمُزْدَلِفَةَ - لَمْ تُجْزِئْ عَنْهُ وَقِيَاسًا عَلَى مَا لَوْ أَحْرَمَ غَيْرُهُ مِنَ الْبَالِغِينَ الأَْحْرَارِ بِعَرَفَةَ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُجْزِئُهُ عَنْ حَجَّةِ الإِْسْلاَمِ إِذَا أَتَمَّ مَنَاسِكَهُ، فَكَذَلِكَ مَنْ بَلَغَ بِعَرَفَةَ.
وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ ذَلِكَ يُجْزِئُهُ بِشَرْطِ أَنْ يُجَدِّدَ إِحْرَامًا بَعْدَ بُلُوغِهِ قَبْل الْوُقُوفِ، فَإِنْ لَمْ يُجَدِّدْ إِحْرَامًا لَمْ يُجْزِئْهُ؛ لأَِنَّ إِحْرَامَهُ انْعَقَدَ نَفْلاً، فَلاَ يَنْقَلِبُ فَرْضًا. قَالُوا: وَالإِْحْرَامُ وَإِنْ كَانَ شَرْطًا لِلْحَجِّ إِلاَّ أَنَّهُ شَبِيهٌ بِالرُّكْنِ، فَاعْتَبَرْنَا شَبَهَ الرُّكْنِ احْتِيَاطًا لِلْعِبَادَةِ.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ الشَّافِعِيِّ - كَمَا فِي مُخْتَصَرِ الْمُزَنِيِّ - أَنَّ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ دَمًا، أَيْ لأَِنَّهُ كَمَنْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ غَيْرَ مُحْرِمٍ.
وَمَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّ ذَلِكَ لاَ يُجْزِئُهُ عَنْ حَجَّةِ الإِْسْلاَمِ أَصْلاً. وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُجَدِّدَ إِحْرَامَهُ بَعْدَ بُلُوغِهِ. وَلَكِنْ عَلَيْهِ أَنْ يَمْضِيَ عَلَى إِحْرَامِهِ(8/201)
الَّذِي احْتَلَمَ فِيهِ، وَلاَ يُجْزِئْهُ مِنْ حَجَّةِ الإِْسْلاَمِ. (1)
38 - إِذَا تَجَاوَزَ الصَّبِيُّ الْمِيقَاتَ غَيْرَ مُحْرِمٍ، ثُمَّ بَلَغَ، فَأَحْرَمَ مِنْ مَكَانٍ دُونَ الرُّجُوعِ إِلَى الْمِيقَاتِ: يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ ذَلِكَ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ دَمٌ؛ لأَِنَّهُ كَالْمَكِّيِّ وَمَنْ كَانَ مَنْزِلُهُ دُونَ الْمِيقَاتِ.
وَيَرَى الشَّافِعِيُّ، وَهُوَ الرِّوَايَةُ الأُْخْرَى عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّ عَلَيْهِ إِنْ لَمْ يَرْجِعْ إِلَى الْمِيقَاتِ دَمًا؛ لأَِنَّهُ تَجَاوَزَ الْمِيقَاتَ دُونَ إِحْرَامٍ. (2)
سَادِسًا: خِيَارُ الْبُلُوغِ:
تَخْيِيرُ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ فِي الصِّغَرِ:
39 - يَرَى أَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ الصَّغِيرَ أَوِ الصَّغِيرَةَ - وَلَوْ ثَيِّبًا - إِنْ زَوَّجَهُمَا غَيْرُ الأَْبِ وَالْجَدِّ، كَالأَْخِ أَوِ الْعَمِّ، مِنْ كُفْءٍ وَبِمَهْرِ الْمِثْل، صَحَّ النِّكَاحُ، وَلَكِنْ لَهُمَا خِيَارُ الْفَسْخِ بِالْبُلُوغِ، إِذَا عَلِمَا بِعَقْدِ النِّكَاحِ قَبْل الْبُلُوغِ أَوْ عِنْدَهُ، أَوْ عَلِمَا بِالنِّكَاحِ بَعْدَ الْبُلُوغِ، بِأَنْ بَلَغَا وَلَمْ يَعْلَمَا بِهِ ثُمَّ عَلِمَا بَعْدَهُ، فَإِنِ
__________
(1) المغني 3 / 248، ونهاية المحتاج 3 / 233، والأم 2 / 130، ومختصر المزني 1 / 70، وشرح فتح القدير وحواشيه 2 / 332، والمدونة 1 / 381.
(2) شرح فتح القدير 3 / 273، والفتاوى الهندية 1 / 217، والمدونة 1 / 380، 381، والأم للشافعي 2 / 130، والمغني 3 / 268.(8/202)
اخْتَارَ الْفَسْخَ لاَ يَتِمُّ الْفَسْخُ إِلاَّ بِالْقَضَاءِ؛ لأَِنَّ فِي أَصْلِهِ ضَعْفًا، فَيَتَوَقَّفُ عَلَى الرُّجُوعِ إِلَى الْقَضَاءِ.
وَقَال أَبُو يُوسُفَ: لاَ خِيَارَ لَهُمَا، اعْتِبَارًا بِمَا لَوْ زَوَّجَهُمَا الأَْبُ وَالْجَدُّ، وَيَبْطُل خِيَارُ الْبِكْرِ بِالسُّكُوتِ لَوْ مُخْتَارَةً عَالِمَةً بِأَصْل النِّكَاحِ، وَلاَ يَمْتَدُّ إِلَى آخِرِ مَجْلِسِ بُلُوغِهَا أَوْ عِلْمِهَا بِالنِّكَاحِ. أَيْ إِذَا بَلَغَتْ وَهِيَ عَالِمَةٌ بِالنِّكَاحِ، أَوْ عَلِمَتْ بِهِ بَعْدَ بُلُوغِهَا، فَلاَ بُدَّ مِنَ الْفَسْخِ فِي حَال الْبُلُوغِ أَوِ الْعِلْمِ، فَلَوْ سَكَتَتْ - وَلَوْ قَلِيلاً - بَطَل خِيَارُهَا، وَلَوْ قَبْل تَبَدُّل الْمَجْلِسِ. وَكَذَا لاَ يَمْتَدُّ إِلَى آخِرِ مَجْلِسِ بُلُوغِهَا أَوْ عِلْمِهَا بِالنِّكَاحِ، بِأَنْ جَهِلَتْ بِأَنَّ لَهَا خِيَارَ الْبُلُوغِ، أَوْ بِأَنَّهُ لاَ يَمْتَدُّ إِلَى آخِرِ مَجْلِسِ بُلُوغِهَا، فَلاَ تُعْذَرُ بِدَعْوَى جَهْلِهَا أَنَّ لَهَا الْخِيَارَ؛ لأَِنَّ الدَّارَ دَارُ إِسْلاَمٍ، فَلاَ تُعْذَرُ بِالْجَهْل، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ.
وَقَال مُحَمَّدٌ: إِنَّ خِيَارَهَا يَمْتَدُّ إِلَى أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ لَهَا خِيَارًا،
وَخِيَارُ الصَّغِيرِ إِذَا بَلَغَ وَالثَّيِّبُ - سَوَاءٌ أَكَانَتْ ثَيِّبًا فِي الأَْصْل، أَوْ كَانَتْ بِكْرًا، ثُمَّ دَخَل بِهَا، ثُمَّ بَلَغَتْ - لاَ يَبْطُل بِالسُّكُوتِ بِلاَ صَرِيحِ الرِّضَا، أَوْ دَلاَلَةٍ عَلَى الرِّضَا، كَقُبْلَةٍ وَلَمْسٍ وَدَفْعِ مَهْرٍ، وَلاَ يَبْطُل بِقِيَامِهَا عَنِ الْمَجْلِسِ؛ لأَِنَّ وَقْتَهُ الْعُمُرُ،(8/202)
فَيَبْقَى الْخِيَارُ حَتَّى يُوجَدَ الرِّضَا. (1)
وَإِذَا زَوَّجَ الْقَاضِي صَغِيرَةً مِنْ كُفْءٍ، وَكَانَ أَبُوهَا أَوْ جَدُّهَا فَاسِقًا، فَلَهَا الْخِيَارُ فِي أَظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ قَوْل مُحَمَّدٍ. (2)
40 - وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: إِذَا عَقَدَ لِلصَّغِيرِ وَلِيُّهُ - أَبًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ - عَلَى شُرُوطٍ شُرِطَتْ حِينَ الْعَقْدِ، وَكَانَتْ تَلْزَمُ إِنْ وَقَعَتْ مِنْ مُكَلَّفٍ - كَأَنِ اشْتَرَطَ لَهَا فِي الْعَقْدِ أَنَّهُ إِنْ تَزَوَّجَ عَلَيْهَا فَهِيَ، أَوِ الَّتِي تَزَوَّجَهَا طَالِقٌ - أَوْ زَوَّجَ الصَّغِيرُ نَفْسَهُ بِالشُّرُوطِ وَأَجَازَهَا وَلِيُّهُ، ثُمَّ بَلَغَ وَكَرِهَ بَعْدَ بُلُوغِهِ تِلْكَ الشُّرُوطَ - وَالْحَال أَنَّهُ لَمْ يَدْخُل بِهَا، لاَ قَبْل الْبُلُوغِ وَلاَ بَعْدَهُ - عَالِمًا بِهَا، فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْتِزَامِهَا وَثُبُوتِ النِّكَاحِ، وَبَيْنَ عَدَمِ الْتِزَامِهَا وَفَسْخِ النِّكَاحِ بِطَلاَقٍ، وَمَحَل ذَلِكَ مَا لَمْ تَرْضَ الْمَرْأَةُ بِإِسْقَاطِ الشُّرُوطِ.
وَالصَّغِيرَةُ فِي هَذَا حُكْمُهَا حُكْمُ الصَّغِيرِ. وَالتَّفْصِيل فِي بَابِ (الْوِلاَيَةِ) مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ. (3)
__________
(1) رد المحتار على الدر المختار مع الحاشية 2 / 305، 306، 309، 310، 311 ط دار إحياء التراث العربي ببيروت، وجامع الفصولين 1 / 28، 29، وأنفع الوسائل إلى تحرير المسائل للطرسوسي ص 14، 15 مطبعة الشرق.
(2) جمع الفصولين 1 / 29، طبعة أولى بالمطبعة الأزهرية.
(3) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 241، 242، والخرشي على مختصر خليل 3 / 199.(8/203)
وَإِنْ زَوَّجَ الصَّغِيرُ نَفْسَهُ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهِ، فَلِوَلِيِّهِ فَسْخُ عَقْدِهِ بِطَلاَقٍ، لأَِنَّهُ نِكَاحٌ صَحِيحٌ، غَايَةُ الأَْمْرِ أَنَّهُ غَيْرُ لاَزِمٍ. وَقَال ابْنُ الْمَوَّازِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: إِذَا لَمْ يُرِدِ الْوَلِيُّ نِكَاحَ الصَّبِيِّ - وَالْحَال أَنَّ الْمَصْلَحَةَ فِي رَدِّهِ - حَتَّى كَبِرَ وَخَرَجَ مِنَ الْوِلاَيَةِ جَازَ النِّكَاحُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَنْتَقِل النَّظَرُ إِلَيْهِ فَيُمْضِيَ أَوْ يَرُدَّ، وَمُفَادُهُ أَنَّ لِلصَّغِيرِ حَقَّ الاِخْتِيَارِ بَعْدَ بُلُوغِهِ. (1)
وَالتَّفْصِيل فِي بَابِ (الْوِلاَيَةِ) .
41 - وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ عِنْدَهُمْ: أَنَّ الصَّغِيرَ إِذَا زَوَّجَهُ أَبُوهُ امْرَأَةً مَعِيبَةً بِعَيْبٍ صَحَّ النِّكَاحُ، وَثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ - إِذَا بَلَغَ - وَلاَ يَصِحُّ عَلَى الْمَذْهَبِ لأَِنَّهُ خِلاَفُ الْغِبْطَةِ. (2)
وَالصَّغِيرُ إِنْ زَوَّجَهُ أَبُوهُ مَنْ لاَ تُكَافِئُهُ، فَفِي الأَْصَحِّ أَنَّ نِكَاحَهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ جَائِزٌ؛ لأَِنَّ الرَّجُل لاَ يَتَعَيَّرُ بِاسْتِفْرَاشِ مَنْ لاَ تُكَافِئُهُ، وَلَكِنْ لَهُ الْخِيَارُ. وَهُنَاكَ قَوْلٌ بِعَدَمِ صِحَّةِ الْعَقْدِ؛ لأَِنَّ الْوِلاَيَةَ وِلاَيَةُ مَصْلَحَةٍ، وَلَيْسَتِ الْمَصْلَحَةُ فِي تَزْوِيجِهِ مِمَّنْ لاَ تُكَافِئُهُ. (3)
وَإِنْ زَوَّجَ الأَْبُ أَوِ الْجَدُّ الصَّغِيرَةَ مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ يَثْبُتُ لَهَا الْخِيَارُ إِذَا بَلَغَتْ؛ لِوُقُوعِ النِّكَاحِ
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 241.
(2) نهاية المحتاج 6 / 255 ط المكتبة الإسلامية بالرياض.
(3) نهاية المحتاج 6 / 256.(8/203)
عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ صَحِيحًا عَلَى خِلاَفِ الأَْظْهَرِ، وَالنَّقْصُ لِعَدَمِ الْكَفَاءَةِ يَقْتَضِي الْخِيَارَ. وَعَلَى الأَْظْهَرِ: التَّزْوِيجُ بَاطِلٌ. (1)
42 - وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لاَ يَجُوزُ لِغَيْرِ الأَْبِ تَزْوِيجُ الصَّغِيرَةِ، فَإِنْ زَوَّجَهَا الأَْبُ فَلاَ خِيَارَ لَهَا، وَإِنْ زَوَّجَهَا غَيْرُ الأَْبِ فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ. وَفِي رِوَايَةٍ: يَصِحُّ تَزْوِيجُ غَيْرِ الأَْبِ، وَتُخَيَّرُ إِذَا بَلَغَتْ، كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقِيل: تُخَيَّرُ إِذَا بَلَغَتْ تِسْعًا. فَإِنْ طَلُقَتْ قَبْلَهُ وَقَعَ الطَّلاَقُ وَبَطَل خِيَارُهَا. وَكَذَا يَبْطُل خِيَارُهَا إِنْ وَطِئَهَا بَعْدَ أَنْ تَمَّ لَهَا تِسْعُ سِنِينَ وَلَمْ تُخَيَّرْ. (2)
وَلَيْسَ لِوَلِيِّ صَغِيرٍ تَزْوِيجُهُ بِمَعِيبَةٍ بِعَيْبٍ يُرَدُّ بِهِ فِي النِّكَاحِ، وَكَذَا لَيْسَ لِوَلِيِّ الصَّغِيرَةِ تَزْوِيجُهَا بِمَعِيبٍ بِعَيْبٍ يُرَدُّ بِهِ فِي النِّكَاحِ؛ لِوُجُوبِ نَظَرِهِ لَهُمَا بِمَا فِيهِ الْحَظُّ وَالْمَصْلَحَةُ، وَلاَ حَظَّ لَهُمَا فِي هَذَا الْعَقْدِ، فَإِنْ فَعَل وَلِيُّ غَيْرِ الْمُكَلَّفِ وَالْمُكَلَّفَةِ بِأَنْ زَوَّجَهُ بِمَعِيبٍ يُرَدُّ بِهِ - عَالِمًا بِالْعَيْبِ - لَمْ يَصِحَّ النِّكَاحُ؛ لأَِنَّهُ عَقَدَ لَهُمَا عَقْدًا لاَ يَجُوزُ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمِ الْوَلِيُّ أَنَّهُ مَعِيبٌ صَحَّ الْعَقْدُ، وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْفَسْخُ إِذَا عَلِمَ. وَهَذَا خِلاَفًا لِمَا وَرَدَ فِي الْمُنْتَهَى فِيمَا يُوهِمُ إِبَاحَةَ الْفَسْخِ، وَمِنَ الْحَنَابِلَةِ مَنْ قَال:
__________
(1) نهاية المحتاج 6 / 249.
(2) شرح منتهى الإرادات 2 / 185 ط مكتبة دار العروبة ومطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى 5 / 139.(8/204)
لاَ يُفْسَخُ، وَيُنْتَظَرُ الْبُلُوغُ لاِخْتِيَارِهِمَا. (1)
وَتَفْصِيل مَا ذُكِرَ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي بَابِ (النِّكَاحِ، وَالْوِلاَيَةِ) .
سَابِعًا - انْتِهَاءُ الْوِلاَيَةِ عَلَى النَّفْسِ بِالْبُلُوغِ:
43 - عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: تَنْتَهِي الْوِلاَيَةُ عَلَى النَّفْسِ بِالنِّسْبَةِ لِوِلاَيَةِ الإِْنْكَاحِ فِي الْحُرَّةِ بِالتَّكْلِيفِ (الْبُلُوغِ وَالْعَقْل) فَيَصِحُّ نِكَاحُ حُرَّةٍ مُكَلَّفَةٍ بِلاَ رِضَى وَلِيٍّ، وَتَتَرَتَّبُ الأَْحْكَامُ مِنْ طَلاَقٍ وَتَوَارُثٍ وَغَيْرِهِمَا.
وَتَنْتَهِي الْحَضَانَةُ لِلْجَارِيَةِ الْبِكْرِ بِبُلُوغِهَا بِمَا تَبْلُغُ بِهِ النِّسَاءُ مِنَ الْحَيْضِ وَنَحْوِهِ، وَيَضُمُّهَا الأَْبُ إِلَى نَفْسِهِ وَإِنْ لَمْ يَخَفْ عَلَيْهَا الْفَسَادَ، لَوْ كَانَتْ حَدِيثَةَ السِّنِّ، وَالأَْخُ وَالْعَمُّ كَذَلِكَ عِنْدَ فَقْدِ الأَْبِ مَا لَمْ يُخَفْ عَلَيْهَا مِنْهُمَا، فَيَنْظُرُ الْقَاضِي امْرَأَةً ثِقَةً فَتُسَلَّمُ إِلَيْهَا، وَتَنْتَهِي وِلاَيَةُ الأَْبِ عَلَى الأُْنْثَى إِذَا كَانَتْ مُسِنَّةً، وَاجْتَمَعَ لَهَا رَأْيٌ، فَتَسْكُنُ حَيْثُ أَحَبَّتْ حَيْثُ لاَ خَوْفَ عَلَيْهَا، وَإِنْ ثَيِّبًا لاَ يَضُمُّهَا إِلاَّ إِذَا لَمْ تَكُنْ مَأْمُونَةً عَلَى نَفْسِهَا، فَلِلأَْبِ وَالْجَدِّ الضَّمُّ، لاَ لِغَيْرِهِمَا كَمَا فِي الاِبْتِدَاءِ.
وَتَنْتَهِي وِلاَيَةُ الأَْبِ عَلَى الْغُلاَمِ إِذَا بَلَغَ وَعَقَل وَاسْتَغْنَى بِرَأْيِهِ، إِلاَّ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَأْمُونًا عَلَى
__________
(1) المغني 6 / 489، 490، 536، مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى 5 / 154.(8/204)
نَفْسِهِ، بِأَنْ يَكُونَ مُفْسِدًا مَخُوفًا عَلَيْهِ، فَلِلأَْبِ وِلاَيَةُ ضَمِّهِ إِلَيْهِ لِدَفْعِ فِتْنَةٍ أَوْ عَارٍ، وَتَأْدِيبُهُ إِذَا وَقَعَ مِنْهُ شَيْءٌ، وَالْجَدُّ بِمَنْزِلَةِ الأَْبِ فِيمَا ذُكِرَ مِنْ أَحْكَامِ الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ وَالْغُلاَمِ. (1)
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: تَنْتَهِي الْوِلاَيَةُ عَلَى النَّفْسِ بِالنِّسْبَةِ لِلصَّغِيرِ بِبُلُوغِهِ الطَّبِيعِيِّ، وَهُوَ بُلُوغُ النِّكَاحِ، فَيَذْهَبُ حَيْثُ شَاءَ، وَلَكِنْ إِذَا كَانَ يُخْشَى عَلَيْهِ الْفَسَادُ لِجَمَالِهِ مَثَلاً، أَوْ كَمَا إِذَا كَانَ يَصْطَحِبُ الأَْشْرَارَ وَتَعَوَّدَ مَعَهُمْ أَخْلاَقًا فَاسِدَةً، يَبْقَى حَتَّى تَسْتَقِيمَ أَخْلاَقُهُ. وَإِذَا بَلَغَ الذَّكَرُ رَشِيدًا ذَهَبَ حَيْثُ يَشَاءُ؛ لاِنْقِطَاعِ الْحَجْرِ عَنْهُ بِالنِّسْبَةِ لِذَاتِهِ، وَإِذَا بَلَغَ الذَّكَرُ - وَلَوْ زَمِنًا أَوْ مَجْنُونًا - سَقَطَتْ عَنْهُ حَضَانَةُ الأُْمِّ عَلَى الْمَشْهُورِ. وَبِالنِّسْبَةِ لِلأُْنْثَى، فَتَسْتَمِرُّ الْحَضَانَةُ عَلَيْهَا وَالْوِلاَيَةُ عَلَى النَّفْسِ حَتَّى تَتَزَوَّجَ، وَيَدْخُل بِهَا الزَّوْجُ. (2)
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: تَنْتَهِي الْوِلاَيَةُ عَلَى الصَّغِيرِ - ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى - بِمُجَرَّدِ بُلُوغِهِ. (3)
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: لاَ تَثْبُتُ الْحَضَانَةُ إِلاَّ عَلَى
__________
(1) رد المحتار على الدر المختار حاشية ابن عابدين 2 / 641، 642.
(2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 292، 293، والخرشي 4 / 207، 208، 5 / 291، وشرح الزرقاني، 4 / 263، 5 / 290.
(3) نهاية المحتاج 4 / 345، وما بعدها، وشرح منهاج الطالبين2 / 300.(8/205)
الطِّفْل أَوِ الْمَعْتُوهِ، فَأَمَّا الْبَالِغُ الرَّشِيدُ فَلاَ حَضَانَةَ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ رَجُلاً فَلَهُ الاِنْفِرَادُ بِنَفْسِهِ لاِسْتِغْنَائِهِ عَنْ أَبَوَيْهِ، وَإِنْ كَانَتْ أُنْثَى لَمْ يَكُنْ لَهَا الاِنْفِرَادُ، وَلأَِبِيهَا مَنْعُهَا مِنْهُ؛ لأَِنَّهُ لاَ يُؤْمَنُ أَنْ يَدْخُل عَلَيْهَا مَنْ يُفْسِدُهَا، وَيَلْحَقُ الْعَارُ بِهَا وَبِأَهْلِهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَبٌ فَلِوَلِيِّهَا وَأَهْلِهَا مَنْعُهَا مِنْ ذَلِكَ. (1)
ثَامِنًا: الْوِلاَيَةُ عَلَى الْمَال:
44 - تَنْقَضِي الْوِلاَيَةُ عَلَى الْمَال أَيْضًا بِبُلُوغِ الصَّغِيرِ عَاقِلاً، ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، وَيَنْفَكُّ الْحَجْرُ عَنْهُ، وَلَكِنْ يُشْتَرَطُ لِذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ أَنْ يَكُونَ رَشِيدًا؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} (2) وَفِي الْمَسْأَلَةِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُرْجَعُ لِمَعْرِفَتِهِ إِلَى أَبْوَابِ الْحَجْرِ. (3)
__________
(1) المغني 7 / 614.
(2) سورة النساء / 6.
(3) رد المحتار على الدر المختار 5 / 94، 95، والبحر الرائق شرح كنز الدقائق 8 / 190، 191 وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 296 وشرح الزرقاني 5 / 294ـ 297، والخرشي 5 / 294 - 297، ونهاية المحتاج 4 / 345، 346، 350، 352، 353، وشرح منهاج الطالبين 3 / 229، 230، 232، والمغني لابن قدامة مع الشرح الكبير 4 / 512، 516، 517، وتفسير القرطبي 2 / 32ـ 41، وكشاف القناع 3 / 411، 417.(8/205)
بِنَاءٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْبِنَاءُ لُغَةً: وَضْعُ شَيْءٍ عَلَى شَيْءٍ عَلَى وَجْهٍ يُرَادُ بِهِ الثُّبُوتُ. (1)
وَيُطْلَقُ عَلَى بِنَاءِ الدُّورِ وَنَحْوِهَا، وَضِدُّهُ الْهَدْمُ وَالنَّقْضُ، وَيُطْلَقُ الْبِنَاءُ أَيْضًا عَلَى الدُّخُول بِالزَّوْجَةِ يُقَال: بَنَى عَلَى أَهْلِهِ، وَبَنَى بِأَهْلِهِ.
وَالأَْوَّل أَفْصَحُ، وَيُكْنَى بِهَذَا عَنِ الْجِمَاعِ بَعْدَ عَقْدِ النِّكَاحِ.
وَأَصْلُهُ: أَنَّ الرَّجُل كَانَ إِذَا تَزَوَّجَ بَنَى لِلْعُرْسِ خِبَاءً جَدِيدًا، وَعَمَرَهُ بِمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ. (2)
وَيُطْلِقُهُ الْفُقَهَاءُ: عَلَى الدُّورِ وَنَحْوِهَا، وَعَلَى إِتْمَامِ الْعِبَادَةِ بِالنِّيَّةِ الأُْولَى إِذَا طَرَأَ فِيهَا خَلَلٌ لاَ يُوجِبُ التَّجْدِيدَ.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ:
إِذَا سَلَّمَ الْمَسْبُوقُ بِسَلاَمِ الإِْمَامِ سَهْوًا، بَنَى عَلَى صَلاَتِهِ وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ.
__________
(1) الكليات 1 / 417.
(2) أساس البلاغة مادة: " بنى ".(8/206)
وَإِذَا رَعَفَ الْمُصَلِّي فِي الصَّلاَةِ، وَلَمْ يُصِبِ الدَّمُ ثَوْبَهُ أَوْ بَدَنَهُ، بَنَى عَلَى صَلاَتِهِ.
وَإِذَا تَكَلَّمَ الْمُؤَذِّنُ أَثْنَاءَ الأَْذَانِ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا بَنَى، وَلَمْ يَسْتَأْنِفْ. وَإِذَا خَرَجَ الْمُجَمِّعُونَ أَثْنَاءَ الْخُطْبَةِ مِنَ الْمَسْجِدِ ثُمَّ رَجَعُوا قَبْل طُول الْفَصْل، بَنَى الْخَطِيبُ عَلَى مَا مَضَى مِنْ خُطْبَتِهِ فِي وُجُودِهِمْ، وَلَمْ يَسْتَأْنِفْ. كَمَا يُطْلَقُ الْبِنَاءُ عَلَى التَّفْرِيعِ عَلَى الْقَاعِدَةِ الْفِقْهِيَّةِ، أَيِ التَّخْرِيجِ عَلَيْهَا.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّرْمِيمُ:
2 - التَّرْمِيمُ: هُوَ إِصْلاَحُ الْبِنَاءِ. (1)
ب - الْعِمَارَةُ:
3 - الْعِمَارَةُ: مَا يُعْمَرُ بِهِ الْمَكَانُ، وَيُطْلَقُ عَلَى بِنَاءِ الدَّارِ، وَضِدُّ الْعِمَارَةِ الْخَرَابُ، وَيُطْلَقُ الْخَرَابُ عَلَى الْمَكَانِ الَّذِي خَلاَ بَعْدَ عِمَارَتِهِ. (2)
ج - الأَْصْل:
4 - الأَْصْل لُغَةً: أَسْفَل الشَّيْءِ. وَيُطْلَقُ اصْطِلاَحًا عَلَى: مَا يُبْنَى عَلَيْهِ
__________
(1) أساس البلاغة مادة " رمى ".
(2) الصحاح والمعجم الوسيط ومتن اللغة مادة " خرب ".(8/206)
غَيْرُهُ، وَيُقَابِلُهُ الْفَرْعُ، وَعَلَى الرَّاجِحِ، وَعَلَى الدَّلِيل، وَعَلَى الْقَاعِدَةِ الَّتِي تَجْمَعُ جُزْئِيَّاتٍ، وَعَلَى الْمُتَفَرِّعِ مِنْهُ كَالأَْبِ يَتَفَرَّعُ مِنْهُ أَوْلاَدُهُ (1) .
د - الْعَقَارُ:
5 - الْعَقَارُ هُوَ: مَا يُقَابِل الْمَنْقُول، وَهُوَ كُل مِلْكٍ ثَابِتٍ لَهُ أَصْلٌ فِي الأَْرْضِ (2)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
أَوَّلاً - الْبِنَاءُ (بِمَعْنَى إِقَامَةِ الْمَبَانِي)
6 - الأَْصْل فِي الْبِنَاءِ الإِْبَاحَةُ، وَإِنْ زَادَ عَلَى سَبْعَةِ أَذْرُعٍ، أَمَّا النَّهْيُ الْوَارِدُ عَنْهُ فِي الْحَدِيثِ وَهُوَ إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ شَرًّا أَخْضَرَ لَهُ اللَّبِنَ وَالطِّينَ، حَتَّى يَبْنِيَ. (3) فَقَدْ بَيَّنَ الْمُنَاوِيُّ أَنَّ ذَلِكَ يُحْمَل عَلَى مَا كَانَ لِلتَّفَاخُرِ، أَوْ زَادَ عَنِ الْحَاجَةِ. (4) وَتَعْتَرِيهِ بَاقِي الأَْحْكَامِ الْخَمْسَةِ: فَيَكُونُ وَاجِبًا: كَبِنَاءِ دَارِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ فِي الْبِنَاءِ غِبْطَةٌ (مَصْلَحَةٌ ظَاهِرَةٌ تُنْتَهَزُ قَدْ لاَ تُعَوَّضُ) .
__________
(1) الكليات مادة: " أصل ".
(2) الكليات 3 / 185.
(3) حديث: " إذا أراد الله بعبد شرا أخضر له اللبن. . . " عزاه العراقي في تخريج الأحياء (4 / 231ـ ط الحلبي) إلى أبي داود من حديث عائشة وجوده.
(4) حاشية القليوبي 4 / 95، وفيض القدير 1 / 264 ط تجارية و (خضر) كحسن لفظا ومعنى.(8/207)
وَحَرَامًا: كَالْبِنَاءِ فِي الأَْمَاكِنِ ذَاتِ الْمَنَافِعِ الْمُشْتَرَكَةِ؛ كَالشَّارِعِ الْعَامِّ، وَبِنَاءِ دُورِ اللَّهْوِ، وَالْبِنَاءِ بِقَصْدِ الإِْضْرَارِ؛ كَسَدِّ الْهَوَاءِ عَنِ الْجَارِ. وَمَنْدُوبًا: كَبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ وَالْمَدَارِسِ، وَالْمُسْتَشْفَيَاتِ، وَكُل مَا فِيهِ مَصْلَحَةٌ عَامَّةٌ لِلْمُسْلِمِينَ حَيْثُ لاَ يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ لِتَمَامِ الْوَاجِبَاتِ، وَإِلاَّ صَارَ وَاجِبًا؛ لأَِنَّ مَا لاَ يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلاَّ بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ.
وَمَكْرُوهًا: كَالتَّطَاوُل فِي الْبُنْيَانِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ.
الْوَلِيمَةُ لِلْبِنَاءِ:
7 - هِيَ مُسْتَحَبَّةٌ، كَبَقِيَّةِ الْوَلاَئِمِ الَّتِي تُقَامُ لِحُدُوثِ سُرُورٍ أَوِ انْدِفَاعِ شَرٍّ، وَتُسَمَّى الْوَلِيمَةُ لِلْبِنَاءِ (وَكِيرَةٌ) وَلاَ تَتَأَكَّدُ تَأَكُّدَ وَلِيمَةِ النِّكَاحِ. (1)
وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ قَوْلاً بِوُجُوبِهَا؛ لأَِنَّ الشَّافِعِيَّ قَال: بَعْدَ ذِكْرِ الْوَلاَئِمِ - وَمِنْهَا الْوَكِيرَةُ -: وَلاَ أُرَخِّصُ فِي تَرْكِهَا. وَذَهَبَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّهَا مَكْرُوهَةٌ، وَعَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهَا مُبَاحَةٌ. (2)
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (وَلِيمَة) .
__________
(1) روضة الطالبين 7 / 332، وحاشية ابن عابدين 5 / 221، والمغني 7 / 11.
(2) مواهب الجليل 4 / 3، وبلغة السالك 2 / 134.(8/207)
مِنْ أَحْكَامِ الْبِنَاءِ:
أ - هَل الْبِنَاءُ مِنَ الْمَنْقُولاَتِ؟
8 - صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ الْبِنَاءَ مِنَ الْمَنْقُولاَتِ. (1)
وَعِنْدَ بَقِيَّةِ الْمَذَاهِب هُوَ مِنْ غَيْرِ الْمَنْقُول. (2)
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (عَقَار) .
ب - قَبْضُ الْبِنَاءِ:
9 - يَكُونُ قَبْضُ الْبِنَاءِ فِي الْبَيْعِ بِتَخْلِيَتِهِ لِلْمُشْتَرِي، وَتَمْكِينِ الْمُشْتَرِي مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَقَالُوا: مِنْ تَمْكِينِهِ مِنَ التَّصَرُّفِ تَسْلِيمُهُ الْمِفْتَاحَ إِلَيْهِ، بِشَرْطِ فَرَاغِ الْبِنَاءِ مِنْ أَمْتِعَةِ الْبَائِعِ، وَأَنْ لاَ يَكُونَ مَانِعٌ شَرْعِيٌّ أَوْ حِسِّيٌّ. قَالُوا: لأَِنَّ الشَّارِعَ أَطْلَقَ الْقَبْضَ وَأَنَاطَ بِهِ أَحْكَامًا وَلَمْ يُبَيِّنْهُ، وَلَيْسَ لَهُ حَدٌّ فِي اللُّغَةِ، فَيَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَى الْعُرْفِ، وَهُوَ يَقْتَضِي مَا ذَكَرْنَاهُ. (3) وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (قَبْض) .
ج - جَرَيَانُ الشُّفْعَةِ فِي الْبِنَاءِ الْمَبِيعِ:
10 - تَجْرِي الشُّفْعَةُ فِي الْبِنَاءِ إِذَا بِيعَ مَعَ الأَْرْضِ
__________
(1) البحر الرائق 7 / 216، وحاشية ابن عابدين 4 / 138.
(2) مغني المحتاج 2 / 71، وبداية المجتهد 2 / 228ـ 229، وحاشية الدسوقي 3 / 476.
(3) مغني المحتاج 2 / 71، وحاشية ابن عابدين 4 / 43.(8/208)
تَبَعًا لَهَا، وَلاَ تَثْبُتُ فِيهِ إِذَا بِيعَ مُنْفَرِدًا، وَعَلَى هَذَا جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ.
وَعِنْدَ الإِْمَامِ مَالِكٍ وَعَطَاءٍ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ: تَثْبُتُ فِيهِ الشُّفْعَةُ، وَإِنْ بِيعَ مُنْفَرِدًا. (1)
وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (شُفْعَة) .
د - الْبِنَاءُ فِي الأَْرَاضِي الْمُبَاحَةِ:
11 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ جَوَازَ الْبِنَاءِ فِي الأَْرْضِ الْمُبَاحَةِ، وَلَوْ بِدُونِ إِذْنِ الإِْمَامِ اكْتِفَاءً بِإِذْنِ الشَّارِعِ؛ وَلأَِنَّهُ مُبَاحٌ، كَالاِحْتِطَابِ وَالاِصْطِيَادِ. وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ الاِسْتِئْذَانُ مِنَ الإِْمَامِ خُرُوجًا مِنْ خِلاَفِ مَنْ أَوْجَبَهُ. (2) وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: لاَ يَجُوزُ إِلاَّ بِإِذْنِ الإِْمَامِ، (3) وَاسْتَدَل بِحَدِيثِ: لَيْسَ لِلْمَرْءِ إِلاَّ مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُ إِمَامِهِ (4) وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (إِحْيَاء الْمَوَاتِ) .
__________
(1) روضة الطالبين 5 / 69، البحر الرائق 7 / 216، والمغني لابن قدامة 5 / 311، وبداية المجتهد 2 / 228ـ 229.
(2) مغني المحتاج 2 / 361، والكافي 1 / 435.
(3) فتح القدير 9 / 3.
(4) حديث: " ليس للمرء إلا ما طابت به نفس إمامه " أخرجه الطبراني كما في نصب الراية (4 / 290ـ ط المجلس العلمي) وقال الزيلعي: وفيه ضعف، من حديث معاذ.(8/208)
هـ - تَحْجِيرُ الأَْرْضِ لِلْبِنَاءِ:
12 - إِذَا احْتَجَرَ أَرْضًا لِلْبِنَاءِ، وَلَمْ يَبْنِ مُدَّةً يُمْكِنُ الْبِنَاءُ فِيهَا، وَلاَ أَحْيَاهَا بِغَيْرِ ذَلِكَ، بَطَل حَقُّهُ فِيهَا؛ لأَِنَّ التَّحَجُّرَ ذَرِيعَةٌ إِلَى الْعِمَارَةِ، وَهِيَ لاَ تُؤَخَّرُ عَنْهُ إِلاَّ بِقَدْرِ أَسْبَابِهَا. وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ يَرَى أَنَّهُ يُرْفَعُ إِلَى السُّلْطَانِ، وَلاَ يَبْطُل حَقُّهُ بِطُول الْمُدَّةِ. وَقَدْ قَدَّرَ الْبَعْضُ الْمُدَّةَ بِثَلاَثِ سَنَوَاتٍ؛ لِقَوْل عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَيْسَ لِمُتَحَجِّرٍ بَعْدَ ثَلاَثِ سَنَوَاتٍ حَقٌّ هَذَا مَا صَرَّحَ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ، وَفِي الْمَذَاهِبِ الأُْخْرَى خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ (1) يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ (إِحْيَاء الْمَوَاتِ) .
و الْبِنَاءُ فِي الأَْرَاضِي الْمَغْصُوبَةِ:
13 - إِذَا بَنَى فِي أَرْضٍ مَغْصُوبَةٍ، فَطَلَبَ صَاحِبُ الأَْرْضِ قَلْعَ بِنَائِهِ قُلِعَ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لاَ نَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلاَفًا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ لِحَدِيثِ: لَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ (2) وَلأَِنَّهُ شَغَل مِلْكَ غَيْرِهِ بِمِلْكِهِ الَّذِي لاَ حُرْمَةَ لَهُ فِي نَفْسِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَلَزِمَهُ تَفْرِيغُهُ، وَإِنْ أَرَادَ صَاحِبُ الأَْرْضِ
__________
(1) فتح القدير 9 / 5 - 6 ومغني المحتاج 2 / 367 وروضة الطالبين 5 / 287.
(2) حديث: " ليس لعرق ظالم حق ". أخرجه أبو داود (3 / 454 ـ ط عزت عبيد دعاس) من حديث سعيد بن زيد وقواه ابن حجر في الفتح (5 / 19 ـ ط السلفية) .(8/209)
أَخْذَ الْبِنَاءِ بِغَيْرِ عِوَضٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ. (1) وَلِلْحَنَفِيَّةِ تَفْصِيلٌ فِيمَا إِذَا كَانَ الْبِنَاءُ أَوِ الْغَرْسُ بِزَعْمِ سَبَبٍ شَرْعِيٍّ يُعْذَرُ بِهِ الْبَانِي، فَيُنْظَرُ: إِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الأَْرْضِ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ الْبِنَاءِ كُلِّفَ الْغَاصِبُ الْقَلْعَ. وَإِنْ كَانَتْ أَقَل مِنْهُ فَلاَ يُؤْمَرُ بِالْقَلْعِ، وَيَغْرَمُ صَاحِبُ الْبِنَاءِ لِصَاحِبِ الأَْرْضِ قِيمَةَ الأَْرْضِ، أَمَّا إِذَا كَانَ الْبِنَاءُ ظُلْمًا، فَالْخِيَارُ لِصَاحِبِ الأَْرْضِ بَيْنَ الأَْمْرِ بِالْقَلْعِ أَوْ تَمَلُّكِ الْبِنَاءِ مُسْتَحَقِّ الْقَلْعِ. (2)
أَمَّا ضَمَانُ مَنْفَعَةِ الأَْرْضِ فِي مُدَّةِ الْغَصْبِ وَآرَاءُ الْفُقَهَاءِ فِيهِ فَيُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ (غَصْب) .
ز - الْبِنَاءُ فِي الأَْرْضِ الْمُسْتَأْجَرَةِ:
14 - إِذَا بَنَى الْمُسْتَأْجِرُ فِي الأَْرْضِ الْمُسْتَأْجَرَةِ، فَإِنِ انْقَضَتْ مُدَّةُ الإِْجَارَةِ لَزِمَ الْمُسْتَأْجِرَ قَلْعُهَا، وَتَسْلِيمُ الأَْرْضِ فَارِغَةً لِلْمُؤَجِّرِ؛ لأَِنَّ الْبِنَاءَ لاَ نِهَايَةَ لَهُ، وَفِي إِبْقَائِهِ إِضْرَارٌ بِصَاحِبِ الأَْرْضِ، إِلاَّ أَنْ يَخْتَارَ صَاحِبُ الأَْرْضِ أَنْ يَغْرَمَ لِلْمُسْتَأْجِرِ قِيمَةَ الْبِنَاءِ مَقْلُوعًا وَيَتَمَلَّكُهُ، فَلَهُ ذَلِكَ بِرِضَا صَاحِبِ الْبِنَاءِ إِنْ لَمْ تَنْقُصِ الأَْرْضُ بِالْقَلْعِ، فَيَتَمَلَّكُهَا حِينَئِذٍ بِغَيْرِ رِضَاهُ.
__________
(1) المغني لابن قدامة 5 / 389، ومغني المحتاج 2 / 291.
(2) حاشية ابن عابدين 5 / 131.(8/209)
وَلاَ فَرْقَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بَيْنَ الإِْجَارَةِ الْمُطْلَقَةِ وَالإِْجَارَةِ الْمَشْرُوطِ فِيهَا الْقَلْعُ. (1)
أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَإِنِ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ كَتِسْعِينَ سَنَةً - عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَرَى ذَلِكَ مِنْهُمْ - لِيَبْنِيَ فِيهَا، وَفَعَل ثُمَّ مَضَتِ الْمُدَّةُ، وَأَرَادَ الْمُؤَجِّرُ إِخْرَاجَ الْمُسْتَأْجِرِ وَيَدْفَعُ لَهُ قِيمَةَ بِنَائِهِ مَنْقُوضًا، فَإِنَّهُ لاَ يُجَابُ لِذَلِكَ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ بَقَاءُ الْبِنَاءِ فِي أَرْضِهِ، وَلَهُ كِرَاءُ الْمِثْل فِي الْمُسْتَقْبَل، وَسَوَاءٌ كَانَتْ تِلْكَ الأَْرْضُ الْمُؤَجَّرَةُ مِلْكًا أَوْ وَقْفًا عَلَى جِهَةٍ. (2)
أَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فَإِنْ شَرَطَ الْقَلْعَ بَعْدَ انْتِهَاءِ مُدَّةِ الإِْجَارَةِ لَزِمَ الْمُسْتَأْجِرَ الْقَلْعُ وَفَاءً بِشَرْطِهِ، وَلَيْسَ عَلَى مَالِكِ الأَْرْضِ أَرْشُ نَقْصِ الْبِنَاءِ بِالْقَلْعِ، وَلاَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ تَسْوِيَةُ الأَْرْضِ وَإِصْلاَحُهَا لِتَرَاضِيهِمَا بِالْقَلْعِ، وَإِنْ أَطْلَقَا فَلِلْمُكْتَرِي قَلْعُهُ؛ لأَِنَّهُ مِلْكُهُ فَلَهُ أَخْذُهُ، وَعَلَيْهِ تَسْوِيَةُ الأَْرْضِ إِنْ قَلَعَهُ لأَِنَّهُ ضَرَرٌ أَدْخَلَهُ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَإِنْ أَبَى الْقَلْعَ لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ، إِلاَّ أَنْ يَضْمَنَ لَهُ الْمَالِكُ أَرْشَ النَّقْصِ بِالْقَلْعِ فَيُجْبَرُ عَلَيْهِ.
أَمَّا الْمَالِكُ فَلَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ ثَلاَثَةِ أَشْيَاءَ: أَنْ يَدْفَعَ لِلْمُسْتَأْجِرِ قِيمَةَ الْبِنَاءِ فَيَتَمَلَّكَهُ، أَوْ يَقْلَعَ
__________
(1) فتح القدير 8 / 25، وروض الطالب 2 / 420، المغني 5 / 490.
(2) حاشية الدسوقي3 / 439.(8/210)
الْبِنَاءَ وَيَضْمَنَ أَرْشَ النَّقْصِ، أَوْ يُقِرَّ الْبِنَاءَ فَيَأْخُذَ مِنَ الْمُسْتَأْجِرِ أُجْرَةَ الْمِثْل. وَالتَّفْصِيل فِي (الإِْجَارَة) . (1)
ح - الْبِنَاءُ فِي الأَْرْضِ الْمُسْتَعَارَةِ:
15 - إِذَا اسْتَعَارَ أَرْضًا لِلْبِنَاءِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَبْنِيَ بَعْدَ انْتِهَاءِ مُدَّةِ الْعَارِيَّةِ أَوِ الرُّجُوعِ عَنِ الْعَارِيَّةِ، فَإِنْ فَعَل ذَلِكَ قُلِعَ بِنَاؤُهُ، وَحُكْمُهُ حُكْمُ الْغَاصِبِ، وَعَلَيْهِ تَسْوِيَةُ الأَْرْضِ وَضَمَانُ نَقْصِ الأَْرْضِ؛ لأَِنَّهُ عُدْوَانٌ. (2)
أَمَّا إِذَا بَنَى قَبْل الرُّجُوعِ، فَإِنْ شَرَطَ عَلَيْهِ: الْقَلْعَ مَجَّانًا عِنْدَ الرُّجُوعِ لَزِمَهُ الْقَلْعُ عَمَلاً بِالشَّرْطِ.
وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطِ الْقَلْعَ فَلاَ يَقْلَعُ مَجَّانًا، سَوَاءٌ كَانَتِ الْعَارِيَّةُ مُطْلَقَةً أَوْ مُقَيَّدَةً بِوَقْتٍ؛ لأَِنَّ الْبِنَاءَ مَالٌ مُحْتَرَمٌ فَلاَ يُقْلَعُ مَجَّانًا، فَيُخَيَّرُ الْمُعِيرُ بَيْنَ الأُْمُورِ الثَّلاَثَةِ الَّتِي مَرَّتْ فِي الإِْجَارَةِ الْمُطْلَقَةِ، وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ. (3)
وَفَرَّقَ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ الْمُطْلَقَةِ وَالْمُؤَقَّتَةِ، فَإِنْ كَانَتِ الْعَارِيَّةُ مُؤَقَّتَةً فَرَجَعَ قَبْل الْوَقْتِ ضَمِنَ الْمُعِيرُ مَا نَقَصَ فِي قِيمَةِ الْبِنَاءِ بِالْقَلْعِ؛ لأَِنَّ الْمُسْتَعِيرَ
__________
(1) شرح روض الطالب 2 / 420، والمغني 5 / 490.
(2) روضة الطالبين 5 / 437، والمغني 5 / 229.
(3) روض الطالبين 2 / 332ـ 333، وروضة الطالبين 4 / 438 - 439، والمغني 5 / 236، والدسوقي 3 / 439.(8/210)
مَغْرُورٌ مِنْ قِبَل الْمُعِيرِ، أَمَّا الْمُطْلَقَةُ فَلاَ ضَمَانَ عَلَى الْمُعِيرِ؛ لأَِنَّ الْمُسْتَعِيرَ مُغْتَرٌّ غَيْرُ مَغْرُورٍ، حَيْثُ اعْتَمَدَ إِطْلاَقَ الْعَقْدِ، وَظَنَّ أَنَّهُ يَتْرُكُهُ مُدَّةً طَوِيلَةً. (1)
ط - الْبِنَاءُ فِي الأَْرْضِ الْمَوْقُوفَةِ
16 - إِذَا بَنَى فِي الأَْرْضِ الْمَوْقُوفَةِ الْمُسْتَأْجَرَةِ بِغَيْرِ إِذْنِ نَاظِرِ الْوَقْفِ قُلِعَ بِنَاؤُهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ ضَرَرٌ عَلَى الأَْرْضِ بِالْقَلْعِ، وَيَضْمَنُ مَنَافِعَهَا الَّتِي فَاتَتْ بِيَدِهِ، بِهَذَا صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَالضَّمَانُ هُوَ الأَْصْل عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ فِي مَنْفَعَةِ كُل مَغْصُوبٍ.
ي - بِنَاءُ الْمَسَاجِدِ:
17 - بِنَاءُ الْمَسَاجِدِ فِي الأَْمْصَارِ وَالْقُرَى وَالْمَحَال حَسَبَ الْحَاجَةِ فَرْضُ كِفَايَةٍ (2) وَهُوَ مِنْ أَجَل أَعْمَال الْبِرِّ الَّتِي حَثَّ الشَّارِعُ عَلَيْهَا. قَال تَعَالَى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} . (3)
وَجَاءَ فِي الْخَبَرِ الصَّحِيحِ مَنْ بَنَى مَسْجِدًا، يَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ، بَنَى اللَّهُ لَهُ مِثْلَهُ فِي الْجَنَّةِ. (4)
__________
(1) فتح القدير 7 / 476، وحاشية ابن عابدين 4 / 504 ـ 505.
(2) كشاف القناع 2 / 364، نشر عالم الكتب بيروت.
(3) سورة النور / 36.
(4) حديث: " من بنى لله مسجدا يبتغي به وجه الله، بنى. . " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 544 ـ ط السلفية) . ومسلم (4 / 2287 ـ ط الحلبي) .(8/211)
وَأَمَّا مَا يُرَاعَى فِي بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ فَيُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (مَسْجِد) .
ك - الْبِنَاءُ بِاللَّبِنِ الْمَخْلُوطِ بِالنَّجَاسَةِ:
18 - صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ يَجُوزُ بِنَاءُ الدُّورِ وَنَحْوِهَا بِمَوَادَّ مَخْلُوطَةٍ بِالنَّجَاسَةِ - كَتَسْمِيدِ الأَْرْضِ بِهَا - لِلضَّرُورَةِ. قَال الأَْذْرَعِيُّ: وَالإِْجْمَاعُ الْفِعْلِيُّ عَلَى صِحَّةِ بَيْعِ ذَلِكَ. (1)
وَالتَّفْصِيل فِي بَابِ (النَّجَاسَة) .
ل - الْبِنَاءُ عَلَى الْقُبُورِ:
19 - يُكْرَهُ تَجْصِيصُ الْقَبْرِ وَالْبِنَاءُ عَلَيْهِ، إِنْ كَانَ فِي أَرْضٍ كَانَ يَمْلِكُهَا الْمَيِّتُ، أَوْ أَرْضٍ مَوَاتٍ بِلاَ قَصْدِ مُبَاهَاةٍ، فَإِنْ كَانَ فِي مَقْبَرَةٍ مُسَبَّلَةٍ حَرُمَ الْبِنَاءُ، وَيُهْدَمُ إِنْ بُنِيَ؛ لأَِنَّهُ يُضَيِّقُ عَلَى النَّاسِ، وَلاَ فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ يَبْنِيَ قُبَّةً أَوْ بَيْتًا أَوْ مَسْجِدًا. (2)
وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْ بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ عَلَى الْقُبُورِ، فَفِي الْخَبَرِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ أَنَّ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ: لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ
__________
(1) قليوبي 2 / 155، ومغني المحتاج 2 / 11، وتحفة المحتاج 4 / 25.
(2) مغني المحتاج 1 / 364، وبلغة السالك 1 / 427.(8/211)
مَسَاجِدَ (1) . وَالتَّفْصِيل يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (قَبْر) .
م - الْبِنَاءُ فِي الأَْمَاكِنِ الْمُشْتَرَكَةِ:
20 - لاَ يَجُوزُ الْبِنَاءُ الْخَاصُّ فِي الأَْمَاكِنِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِهَا حُقُوقٌ عَامَّةٌ، كَالشَّوَارِعِ الْعَامَّةِ، وَمُصَلَّى الْعِيدِ فِي الصَّحْرَاءِ، وَأَمَاكِنِ النُّسُكِ، كَعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّضْيِيقِ عَلَى النَّاسِ وَلأَِنَّهَا لِلْمُسْلِمِينَ جَمِيعًا، فَلَيْسَ لِفَرْدٍ أَنْ يَسْتَأْثِرَ بِهَا. (2)
ن - بِنَاءُ الْحَمَّامِ:
21 - ذَهَبَ الإِْمَامُ أَحْمَدُ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ بِنَاءُ الْحَمَّامِ مُطْلَقًا، وَبِنَاؤُهُ لِلنِّسَاءِ أَشَدُّ كَرَاهَةً، وَنُقِل عَنْهُ قَوْلُهُ: الَّذِي يَبْنِي الْحَمَّامَ لِلنِّسَاءِ لَيْسَ بِعَدْلٍ (3) وَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ بَقِيَّةِ الأَْئِمَّةِ. (4)
ثَانِيًا: الْبِنَاءُ فِي الْعِبَادَاتِ
يُرَادُ بِالْبِنَاءِ هُنَا: إِتْمَامُ الْعِبَادَةِ بَعْدَ انْقِطَاعِهَا.
22 - إِذَا أَحْرَمَ مُتَطَهِّرًا، ثُمَّ أَحْدَثَ عَمْدًا،
__________
(1) حديث: " لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور. . . " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 200 ـ ط السلفية) ومسلم (1 / 376 ط الحلبي) .
(2) المغني 5 / 576، ومغني المحتاج 2 / 365، والبدائع 6 / 265.
(3) كشاف القناع 1 / 158.
(4) جواهر الإكليل 2 / 195، وابن عابدين 5 / 32.(8/212)
بَطَلَتْ صَلاَتُهُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ. (1) وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا سَبَقَهُ الْحَدَثُ بِلاَ عَمْدٍ مِنْهُ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ تَبْطُل صَلاَتُهُ، فَيَبْنِي عَلَيْهَا بَعْدَ التَّطَهُّرِ، وَهُوَ الْقَوْل الْقَدِيمُ لِلشَّافِعِيِّ. (2)
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: لاَ يَبْنِي الْمُحْدِثُ فِي الصَّلاَةِ إِلاَّ فِي الرُّعَافِ. (3)
وَتَبْطُل الصَّلاَةُ فِي الْجَدِيدِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَلاَ بِنَاءَ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ. (4)
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ (حَدَث، رُعَاف) .
بِنَاءُ السَّاهِي فِي الصَّلاَةِ عَلَى يَقِينِهِ:
23 - إِذَا شَكَّ فِي أَثْنَاءِ الصَّلاَةِ فِي عَدَدِ الرَّكَعَاتِ أَوْ فِعْل رُكْنٍ، فَالأَْصْل أَنَّهُ لَمْ يَفْعَل، فَيَجِبُ الْبِنَاءُ عَلَى الْيَقِينِ، وَهُوَ الأَْقَل. (5) وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (شَكّ) .
الْبِنَاءُ فِي خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ:
24 - إِذَا انْفَضَّ الْمُجَمِّعُونَ فِي أَثْنَاءِ الصَّلاَةِ، وَعَادُوا قَبْل طُول الْفَصْل، بَنَى الْخَطِيبُ عَلَى خُطْبَتِهِ. (6) وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (خُطْبَة) .
__________
(1) روضة الطالبين 1 / 275، والبدائع 1 / 220ـ 221ـ 223، وحاشية الدسوقي 1 / 207.
(2) البدائع 1 / 220ـ 221ـ 223.
(3) حاشية الدسوقي 1 / 207.
(4) روضة الطالبين 1 / 270، وكشاف القناع 1 / 321.
(5) روضة الطالبين 1 / 309، وحاشية الدسوقي 1 / 275، وكشاف القناع 1 / 401.
(6) روضة الطالبين 1 / 8، وكشاف القناع 2 / 33.(8/212)
الْبِنَاءُ فِي الطَّوَافِ:
25 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا ابْتَدَأَ بِالطَّوَافِ، ثُمَّ أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ الْمَكْتُوبَةُ، فَإِنَّهُ يَقْطَعُ الطَّوَافُ، وَيُصَلِّي مَعَ الْجَمَاعَةِ، ثُمَّ يَبْنِي عَلَى طَوَافِهِ؛ لأَِنَّهُ فِعْلٌ مَشْرُوعٌ فَلَمْ يَقْطَعْهُ، كَالْفِعْل الْيَسِيرِ. (1)
أَمَّا فِي غَيْرِ الْمَكْتُوبَةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ الْبِنَاءِ عَلَى مَا مَضَى.
ر: مُصْطَلَحَ (طَوَاف) .
بِنَاءٌ بِالزَّوْجَةِ
انْظُرْ: دُخُول.
بِنَاءٌ فِي الْعِبَادَاتِ
انْظُرِ: اسْتِئْنَاف.
__________
(1) المغني 3 / 395، وحاشية الطحاوي 1 / 498، وحاشية الدسوقي 2 / 32، وأسنى المطالب 1 / 479.(8/213)
بَنَانٌ
انْظُرْ: إِصْبَع.(8/213)
بِنْتٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - بِنْتٌ وَابْنَةٌ: مُؤَنَّثُ ابْنٍ. وَالْوَلَدُ يُطْلَقُ عَلَيْهِمَا. (1)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
وَرَدَتْ أَحْكَامٌ تَتَعَلَّقُ بِالْبِنْتِ أَهَمُّهَا مَا يَلِي:
أ - النِّكَاحُ:
2 - نِكَاحُ الْبِنْتِ: يَحْرُمُ نِكَاحُ الرَّجُل ابْنَتَهُ، وَالْعَقْدُ عَلَيْهَا بَاطِلٌ. (2) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} (3) وَعَلَيْهِ إِجْمَاعُ الأُْمَّةِ.
3 - نِكَاحُ ابْنَتِهِ مِنَ الزِّنَى: ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى تَحْرِيمِ زَوَاجِ الرَّجُل ابْنَتَهُ مِنَ الزِّنَى؛ لأَِنَّ الْوَطْءَ سَبَبُ الْجُزْئِيَّةِ، وَالاِسْتِمْتَاعُ بِالْجُزْءِ حَرَامٌ. (4)
__________
(1) المصباح المنير مادة: " ابن " ومادة: " ولد " والمغرب مادة: " ولد " ومختار الصحاح مادة: " بني ".
(2) فتح القدير 2 / 357، وكشاف القناع 5 / 69، ومراتب الإجماع لابن حزم ص 66.
(3) سورة النساء / 23.
(4) الهداية مع فتح القدير 2 / 265، والزرقاني شرح مختصر خليل 3 / 204، وكشاف القناع 5 / 72.(8/214)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمَخْلُوقَةَ مِنْ مَاءِ زِنَاهُ تَحِل لَهُ؛ لأَِنَّ مَاءَ الزِّنَى لاَ حُرْمَةَ لَهُ، لَكِنَّهُ مَكْرُوهٌ خُرُوجًا مِنَ الْخِلاَفِ. (1)
انْظُرْ مُصْطَلَحَ (نِكَاح) .
الْوِلاَيَةُ فِي النِّكَاحِ:
4 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ لِلأَْبِ إِنْكَاحَ ابْنَتِهِ الصَّغِيرَةِ وَالْكَبِيرَةِ الْمَجْنُونَةِ أَوِ الْمَعْتُوهَةِ (2) وَلَوْ جَبْرًا عَنْهَا، إِنْ كَانَتْ بِكْرًا. وَاخْتَلَفُوا فِي الثَّيِّبِ الصَّغِيرَةِ.
وَأَمَّا تَزْوِيجُ الرَّجُل ابْنَتَهُ الْبِكْرَ الْكَبِيرَةَ فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ لِلأَْبِ إِجْبَارَهَا خِلاَفًا لِلْحَنَفِيَّةِ. أَمَّا الْبِنْتُ الثَّيِّبُ الْكَبِيرَةُ فَالأَْبُ يَلِي إِنْكَاحَهَا دُونَ إِجْبَارٍ.
وَالتَّفْصِيل فِي (النِّكَاح وَالْوِلاَيَة) .
ب - إِرْثُ الْبِنْتِ:
5 - الْبِنْتُ إِذَا انْفَرَدَتْ لَهَا النِّصْفُ فِي الْمِيرَاثِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} (3) وَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَصَاعِدًا فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ
__________
(1) المحلي شرح المنهج 3 / 241.
(2) فتح القدير 2 / 391.
(3) سورة النساء / 11.(8/214)
اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} (1) هَذَا عِنْدَ عَامَّةِ الصَّحَابَةِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ حُكْمَهُمَا حُكْمُ الْوَاحِدَةِ. أَمَّا إِذَا كَانَ مَعَ الْبِنْتِ ابْنٌ، فَلِلذَّكَرِ مِثْل حَظِّ الأُْنْثَيَيْنِ وَهُوَ يَعْصِبُهُنَّ؛ (2) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْل حَظِّ الأُْنْثَيَيْنِ} . (3)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (إِرْث)
ج - النَّفَقَةُ:
6 - اتَّفَقُوا عَلَى وُجُوبِ نَفَقَةِ الْبِنْتِ الْفَقِيرَةِ غَيْرِ الْمُتَزَوِّجَةِ عَلَى وَالِدِهَا إِذَا كَانَ غَنِيًّا. أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْبِنْتُ غَنِيَّةً، فَلاَ تَجِبُ لَهَا النَّفَقَةُ، وَإِذَا كَانَتْ كَبِيرَةً وَفَقِيرَةً فَتَجِبُ لَهَا النَّفَقَةُ أَيْضًا مَعَ بَعْضِ الشُّرُوطِ. (4) وَلِتَفْصِيل ذَلِكَ انْظُرْ مُصْطَلَحَ (نَفَقَة)
__________
(1) سورة النساء / 11.
(2) كشاف القناع 4 / 421، وشرح السراجية ص34 ـ 35، 37 بتحقيق الأستاذ محمد محيي الدين عبد الحميد مطبعة مصطفى الحلبي.
(3) سورة النساء / 11.
(4) فتح القدير 3 / 343ـ 344، وكشاف القناع 5 / 481، والمحلي على المنهاج 4 / 84، والخرشي على مختصر خليل 4 / 204ـ 205.(8/215)
بِنْتُ الاِبْنِ
التَّعْرِيفُ:
1 - بِنْتُ الاِبْنِ: هِيَ كُل بِنْتٍ تَنْتَسِبُ إِلَى الْمُتَوَفَّى بِطَرِيقِ الاِبْنِ، مَهْمَا نَزَلَتْ دَرَجَةُ أَبِيهَا، فَتَشْمَل بِنْتَ الاِبْنِ وَبِنْتَ ابْنِ الاِبْنِ مَهْمَا نَزَل. (1)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
لِبِنْتِ الاِبْنِ أَحْكَامٌ خَاصَّةٌ فِي الْفِقْهِ الإِْسْلاَمِيِّ نُجْمِل أَهَمَّهَا فِيمَا يَلِي:
النِّكَاحُ:
2 - يَحْرُمُ عَلَى الرَّجُل نِكَاحُ بِنْتِ ابْنِهِ وَإِنْ نَزَلَتْ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} (2) وَالْمُرَادُ بِالْبِنْتِ: الْفَرْعُ الْمُؤَنَّثُ وَإِنْ بَعُدَ. فَيَشْمَل بِنْتَ الاِبْنِ وَبِنْتَ الْبِنْتِ، وَلإِِجْمَاعِ (3) الْمُجْتَهِدِينَ عَلَى ذَلِكَ.
وَلِلتَّفْصِيل يُرَاجَعُ مُصْطَلَحُ (نِكَاح) .
__________
(1) أحكام القرآن لابن العربي 1 / 372.
(2) سورة النساء / 23.
(3) الهداية مع العناية وفتح القدير 2 / 358، وكشاف القناع 5 / 69.(8/215)
الزَّكَاةُ:
3 - لاَ يَجُوزُ دَفْعُ الزَّكَاةِ إِلَى بِنْتِ الاِبْنِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ لأَِنَّ مَنَافِعَ الأَْمْلاَكِ بَيْنَهُمْ مُتَّصِلَةٌ. (1)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ دَفْعُ الزَّكَاةِ إِلَيْهَا فِي الْحَال الَّتِي تَجِبُ فِيهَا النَّفَقَةُ عَلَى الْجَدِّ (2) أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ جَوَّزُوا دَفْعَ الزَّكَاةِ إِلَى بِنْتِ الاِبْنِ؛ لأَِنَّهَا لاَ تَجِبُ نَفَقَتُهَا عَلَى جَدِّهَا. (3)
الْفَرَائِضُ:
4 - لِبِنْتِ الاِبْنِ أَحْوَالٌ فِي الْمِيرَاثِ نُجْمِلُهَا فِيمَا يَلِي:
أ - النِّصْفُ لِلْوَاحِدَةِ.
ب - الثُّلُثَانِ لِلاِثْنَتَيْنِ فَصَاعِدًا.
وَهَاتَانِ الْحَالَتَانِ يُشْتَرَطُ فِيهِمَا عَدَمُ الْبَنَاتِ الصُّلْبِيَّاتِ، فَإِذَا عُدِمْنَ قَامَتْ بِنْتُ الاِبْنِ مَقَامَهُنَّ.
ج - إِذَا كَانَ مَعَهُنَّ ذَكَرٌ فَإِنَّهُ يَعْصِبُهُنَّ، وَحِينَئِذٍ فَلِلذَّكَرِ مِثْل حَظِّ الأُْنْثَيَيْنِ.
د - لَهُنَّ السُّدُسُ مَعَ الْبِنْتِ الْوَاحِدَةِ الصُّلْبِيَّةِ، تَكْمِلَةً لِلثُّلُثَيْنِ.
__________
(1) الهداية مع فتح القدير 2 / 21ـ 22، والمغني 2 / 647.
(2) المجموع 6 / 229، والمحلي على المنهاج 4 / 84.
(3) المدونة الكبرى 1 / 297ـ 298.(8/216)
هـ - لاَ يَرِثْنَ مَعَ الصُّلْبِيَّتَيْنِ عِنْدَ عَامَّةِ الصَّحَابَةِ، إِلاَّ إِذَا كَانَ مَعَهُنَّ ذَكَرٌ بِدَرَجَتِهِنَّ أَوْ أَسْفَل مِنْهُنَّ، فَإِنَّهُ يَعْصِبُهُنَّ، وَحِينَئِذٍ فَلِلذَّكَرِ مِثْل حَظِّ الأُْنْثَيَيْنِ. (1)
وَلِتَفْصِيل ذَلِكَ رَاجِعْ مُصْطَلَحَ (فَرَائِض) .
بِنْتُ لَبُونٍ
انْظُرِ: ابْن لَبُونٍ
بِنْتُ مَخَاضٍ
انْظُرِ: ابْن مَخَاضٍ
__________
(1) شرح السراجية ص 36.(8/216)
بَنْجٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْبَنْجُ - بِفَتْحِ الْبَاءِ - فِي اللُّغَةِ وَالاِصْطِلاَحِ: نَبَاتٌ مُخَدِّرٌ، غَيْرُ الْحَشِيشِ، مُسَكِّنٌ لِلأَْوْجَاعِ. (1)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الأَْفْيُونُ:
2 - الأَْفْيُونُ: عُصَارَةٌ لَيِّنَةٌ يُسْتَخْرَجُ مِنَ الْخَشْخَاشِ، وَيَحْتَوِي عَلَى ثَلاَثِ مَوَادَّ مُنَوِّمَةٍ مِنْهَا الْمُورْفِينُ. (2)
ب - الْحَشِيشَةُ:
3 - الْحَشِيشَةُ: نَوْعٌ مِنْ وَرَقِ الْقُنَّبِ الْهِنْدِيِّ يُسْكِرُ جِدًّا إِذَا تَنَاوَل مِنْهُ قَدْرَ دِرْهَمٍ. (3) هَذَا مَا قَالَهُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ
__________
(1) القاموس المحيط في المادة، وابن عابدين 5 / 294 ط بولاق.
(2) الصحاح في اللغة والعلوم.
(3) ابن عابدين 5 / 295 ط بولاق، ومغني المحتاج 2 / 187، ومجموع فتاوى ابن تيمية 34 / 214.(8/217)
وَابْنُ عَابِدِينَ. لَكِنْ قَال الْقَرَافِيُّ - بَعْدَ بَيَانِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُسْكِرِ وَالْمُفْسِدِ (أَيِ الْمُخَدِّرِ) - وَبِهَذَا يَظْهَرُ لَك أَنَّ الْحَشِيشَةَ مُفْسِدَةٌ وَلَيْسَتْ مُسْكِرَةً، ثُمَّ اسْتَدَل لِذَلِكَ بِكَلاَمٍ نَفِيسٍ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي الْفُرُوقِ. (1)
الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ فِي تَنَاوُلِهِ:
4 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ يَحْرُمُ تَنَاوُل الْقَدْرِ الْمُسْكِرِ مِنْ هَذِهِ الْمَادَّةِ، وَيُعَزَّرُ بِالسُّكْرِ مِنْهُ بِغَيْرِ عُذْرٍ (2) وَيَجُوزُ عِنْدَهُمُ التَّدَاوِي بِهِ وَاسْتِعْمَالُهُ لإِِزَالَةِ الْعَقْل لِقَطْعِ عُضْوٍ مُتَآكِلٍ. (3)
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدِ اخْتَلَفَتْ آرَاؤُهُمْ فِي حُكْمِ تَنَاوُل الْبَنْجِ لِغَيْرِ التَّدَاوِي وَوُجُوبِ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى السَّكْرَانِ مِنْهُ. (4)
عُقُوبَةُ تَنَاوُلِهِ:
5 - يُعَرِّفُ الْفُقَهَاءُ مَا يَحْرُمُ تَنَاوُلُهُ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى تَعَاطِيهِ الْحَدُّ بِأَنَّهُ: كُل شَرَابٍ مُسْكِرٍ. وَبِنَاءً عَلَى هَذَا التَّعْرِيفِ ذَهَبَ مُعْظَمُ الْفُقَهَاءِ إِلَى عَدَمِ
__________
(1) الفروق للقرافي 1 / 217ـ 218 (الفرق 40) .
(2) الخرشي 1 / 84، ومغني المحتاج 4 / 187، تحفة المحتاج 9 / 169.
(3) الخرشي 1 / 84، وإعانة الطالبين 4 / 156، وابن عابدين 5 / 294ط بولاق، ومجموع فتاوى ابن تيمية 34 / 214.
(4) ابن عابدين 3 / 170، ومختصر الفتاوى المصرية ص 499، وفتح القدير 3 / 40، 4 / 184، 8 / 160.(8/217)
إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى السَّكْرَانِ مِنَ الْبَنْجِ وَنَظَائِرِهِ مِنَ الْجَامِدَاتِ، وَإِنْ كَانَ مُذَابًا وَقْتَ التَّعَاطِي، وَلَكِنَّهُ يُعَاقَبُ عُقُوبَةً تَعْزِيرِيَّةً. (1)
حُكْمُ طَهَارَتِهِ:
6 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْبَنْجَ طَاهِرٌ؛ لأَِنَّهُمْ يَشْتَرِطُونَ لِنَجَاسَةِ الْمُسْكِرِ أَنْ يَكُونَ مَائِعًا. (2)
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
7 - يَذْكُرُهُ الْفُقَهَاءُ فِي بَابِ الأَْشْرِبَةِ وَالنَّجَاسَاتِ وَالطَّلاَقِ.
بُنْدُقٌ
انْظُرْ: صَيْد
__________
(1) الخرشي 1 / 84، ومغني المحتاج 4 / 187، وتحفة المحتاج 9 / 169.
(2) تحفة المحتاج 1 / 289، ومغني المحتاج 1 / 77، والخرشي 1 / 84، وأسنى المطالب 1 / 9، وحاشية إعانة الطالبين 1 / 91.(8/218)
بُنُوَّةٌ
انْظُرِ: ابْن
بُهْتَانٌ
انْظُرِ: افْتِرَاء
بَهِيمَةٌ
انْظُرْ: حَيَوَان
بَوْلٌ
.
انْظُرْ: قَضَاء الْحَاجَةِ
بَيَاتٌ
.
انْظُرْ: بَيْتُوتَة(8/218)
بَيَانٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْبَيَانُ لُغَةً: الإِْظْهَارُ وَالتَّوْضِيحُ، وَالْكَشْفُ عَنِ الْخَفِيِّ أَوِ الْمُبْهَمِ. قَال اللَّهُ تَعَالَى: {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} (1) أَيِ الْكَلاَمَ الَّذِي يُبَيِّنُ بِهِ مَا فِي قَلْبِهِ، وَيَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ أُمُورِ دُنْيَاهُ، فَهُوَ مُنْفَصِلٌ بِهِ عَنْ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ. (2)
وَلَمْ يَبْعُدِ الأُْصُولِيُّونَ وَالْفُقَهَاءُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ فِي تَعْرِيفِهِمْ لِلْبَيَانِ. (3)
فَهُوَ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ: الدَّال عَلَى الْمُرَادِ بِخِطَابٍ لاَ يَسْتَقِل بِنَفْسِهِ فِي الدَّلاَلَةِ عَلَى الْمُرَادِ. وَيُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الْمَدْلُول، وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى فِعْل الْمُبَيِّنِ، وَلأَِجْل إِطْلاَقِهِ عَلَى الْمَعَانِي الثَّلاَثَةِ اخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِهِ بِالنَّظَرِ إِلَيْهَا. قَال الْعَبْدَرِيُّ
__________
(1) سورة الرحمن / 4
(2) المفردات للراغب ص 69، والمصباح المنير، وترتيب القاموس المحيط، والمغرب، وكشف الأسرار عن أصول البزدوي 3 / 104 ط دار الكتاب العربي، وإرشاد الفحول ص 167، 168 ط الحلبي.
(3) التعريفات للجرجاني.(8/219)
بَعْدَ حِكَايَةِ الْمَذَاهِبِ: الصَّوَابُ أَنَّ الْبَيَانَ هُوَ مَجْمُوعُ هَذِهِ الأُْمُورِ. (1)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّفْسِيرُ:
2 - التَّفْسِيرُ لُغَةً: هُوَ الْكَشْفُ وَالإِْظْهَارُ. وَفِي الشَّرْعِ: تَوْضِيحُ مَعْنَى الآْيَةِ وَشَأْنِهَا وَقِصَّتِهَا، وَالسَّبَبِ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ بِلَفْظٍ يَدُل عَلَيْهِ دَلاَلَةً ظَاهِرَةً.
وَالْبَيَانُ بِعُمُومِهِ يَخْتَلِفُ عَنِ التَّفْسِيرِ، إِذِ الْبَيَانُ قَدْ يَكُونُ بِدَلاَلَةِ حَال الْمُتَكَلِّمِ كَالسُّكُوتِ، فِي حِينِ أَنَّ التَّفْسِيرَ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بِلَفْظٍ يَدُل عَلَى الْمَعْنَى دَلاَلَةً ظَاهِرَةً. (2)
ب - التَّأْوِيل:
3 - التَّأْوِيل: صَرْفُ اللَّفْظِ عَنْ مَعْنَاهُ الظَّاهِرِ إِلَى مَعْنًى يَحْتَمِلُهُ، إِذَا كَانَ الْمُحْتَمَل مُوَافِقًا لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. (ر: تَأْوِيل) .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّأْوِيل وَالْبَيَانِ: أَنَّ التَّأْوِيل مَا يُذْكَرُ فِي كَلاَمٍ لاَ يُفْهَمُ مِنْهُ الْمَعْنَى الْمُرَادُ لأَِوَّل وَهْلَةٍ، وَالْبَيَانُ مَا يُذْكَرُ فِي كَلاَمٍ يُفْهِمُ الْمَعْنَى الْمُرَادَ
__________
(1) إرشاد الفحول ص 168.
(2) دستور العلماء 1 / 257، 259، 330 نشر مؤسسة الأعلمي للمطبوعات.(8/219)
مِنْهُ بِنَوْعِ خَفَاءٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْبَعْضِ، (1) فَالْبَيَانُ أَعَمُّ مِنَ التَّأْوِيل.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْبَيَانِ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ:
4 - الْبَيَانُ بِالْقَوْل وَالْفِعْل:
الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ وَأَكْثَرِ الْمُتَكَلِّمِينَ أَنَّ الْبَيَانَ يَحْصُل بِالْفِعْل مِنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا يَحْصُل بِالْقَوْل.
وَالدَّلِيل عَلَى أَنَّ الْبَيَانَ قَدْ يَحْصُل بِالْفِعْل: أَنَّ جِبْرِيل عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَيَّنَ مَوَاقِيتَ الصَّلاَةِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْفِعْل، حَيْثُ أَمَّهُ فِي الْبَيْتِ يَوْمَيْنِ، (2) وَلَمَّا سُئِل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ مَوَاقِيتِ الصَّلاَةِ قَال لِلسَّائِل: صَل مَعَنَا (3) وَكَمَا قَال: صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي (4) ثُمَّ صَلَّى فِي الْيَوْمَيْنِ فِي وَقْتَيْنِ، فَبَيَّنَ لَهُ الْمَوَاقِيتَ بِالْفِعْل. وَفِي الْحَجِّ قَال لأَِصْحَابِهِ: خُذُوا عَنِّي
__________
(1) دستور العلماء 1 / 257، والتعريفات للجرجاني مادة: " البيان ".
(2) حديث إمامة جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم عند البيت يومين، أخرجه الترمذي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما مطولا وقال: هذا حديث حسن صحيح. (سنن الترمذي 1 / 278، 280 ط الحلبي، ونصب الراية 1 / 221) .
(3) حديث: " صل معنا. . . " أخرجه مسلم مطولا (صحيح مسلم 1 / 428 ط الحلبي) .
(4) حديث: " صلوا كما رأيتموني أصلي " أخرجه البخاري (الفتح 2 / 111ـ ط السلفية) .(8/220)
مَنَاسِكَكُمْ، (1) وَلأَِنَّ الْبَيَانَ عِبَارَةٌ عَنْ إِظْهَارِ الْمُرَادِ. فَرُبَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ بِالْفِعْل أَبْلَغَ مِنْهُ بِالْقَوْل؛ لأَِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالْحَلْقِ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، فَلَمْ يَفْعَلُوا ثُمَّ لَمَّا رَأَوْهُ حَلَقَ بِنَفْسِهِ حَلَقُوا فِي الْحَال. (2) فَعَرَفْنَا أَنَّ إِظْهَارَ الْمُرَادِ يَحْصُل بِالْفِعْل كَمَا يَحْصُل بِالْقَوْل.
وَقَال الْكَرْخِيُّ وَأَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَبَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ: لاَ يَكُونُ الْبَيَانُ إِلاَّ بِالْقَوْل، بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمْ أَنَّ بَيَانَ الْمُجْمَل لاَ يَكُونُ إِلاَّ مُتَّصِلاً، وَالْفِعْل لاَ يَكُونُ مُتَّصِلاً بِالْقَوْل. (3) وَلِلتَّفْصِيل انْظُرِ الْمُلْحَقَ الأُْصُولِيَّ.
أَنْوَاعُ الْبَيَانِ
5 - قَال الْبَزْدَوِيُّ: الْبَيَانُ عَلَى أَوْجُهٍ: بَيَانُ تَقْرِيرٍ، وَبَيَانُ تَفْسِيرٍ، وَبَيَانُ تَغْيِيرٍ، وَبَيَانُ تَبْدِيلٍ، وَبَيَانُ ضَرُورَةٍ، فَهِيَ خَمْسَةُ أَقْسَامٍ. (4)
وَتَجْدُرُ الإِْشَارَةُ إِلَى أَنَّ إِضَافَةَ الْبَيَانِ إِلَى التَّقْرِيرِ وَالتَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيل مِنْ قَبِيل إِضَافَةِ الْجِنْسِ إِلَى نَوْعِهِ كَعِلْمِ الطِّبِّ، أَيْ بَيَانٌ هُوَ تَقْرِيرٌ، وَكَذَا الْبَاقِي، وَإِضَافَتُهُ إِلَى الضَّرُورَةِ مِنْ قَبِيل إِضَافَةِ الشَّيْءِ إِلَى سَبَبِهِ. (5)
__________
(1) حديث: " خذوا عني مناسككم " أخرجه مسلم (2 / 943 ـ ط الحلبي) وأحمد (3 / 318 ـ ط الميمنية) واللفظ لأحمد.
(2) حديث أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالحلق عام الحديبية أخرجه البخاري (الفتح 5 / 332 ط السلفية) .
(3) أصول السرخسي 2 / 27، وإرشاد الفحول ص 173.
(4) أصول البزدوي 3 / 105.
(5) كشف الأسرار 3 / 106.(8/220)
بَيَانُ التَّقْرِيرِ:
6 - بَيَانُ التَّقْرِيرِ هُوَ كُل حَقِيقَةٍ تَحْتَمِل الْمَجَازَ، أَوْ عَامٍّ يَحْتَمِل الْخُصُوصَ، إِذَا لَحِقَ بِهِ مَا يَقْطَعُ الاِحْتِمَال، وَذَلِكَ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {فَسَجَدَ الْمَلاَئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} ، (1) فَصِيغَةُ الْجَمْعِ تَعُمُّ الْمَلاَئِكَةَ عَلَى احْتِمَال أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بَعْضَهُمْ وقَوْله تَعَالَى: {كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} بَيَانٌ قَاطِعٌ لِهَذَا الاِحْتِمَال فَهُوَ بَيَانُ التَّقْرِيرِ. (2)
بَيَانُ التَّفْسِيرِ:
7 - بَيَانُ التَّفْسِيرِ هُوَ بَيَانُ مَا فِيهِ خَفَاءٌ، كَالْمُشْتَرَكِ وَالْمُجْمَل وَنَحْوِهِمَا، مِثْل قَوْله تَعَالَى: {أَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} (3) فَإِنَّهُ مُجْمَلٌ؛ إِذِ الْعَمَل بِظَاهِرِهِ غَيْرُ مُمْكِنٍ، وَإِنَّمَا يُوقَفُ عَلَى الْمُرَادِ لِلْعَمَل بِهِ بِالْبَيَانِ، ثُمَّ لَحِقَ هَذِهِ الآْيَةَ الْبَيَانُ بِالسُّنَّةِ، فَإِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَيَّنَ الصَّلاَةَ بِالْقَوْل وَالْفِعْل، وَالزَّكَاةَ بِقَوْلِهِ: هَاتُوا رُبُعَ الْعُشُورِ (4) فَإِنَّهُ يَكُونُ تَفْسِيرًا. (5)
__________
(1) سورة الحجر / 30.
(2) كشف الأسرار 3 / 105 ـ 107، وأصول السرخسي 2 / 28.
(3) سورة النور / 56.
(4) حديث: " هاتوا ربع العشور " أخرجه أبو داود (2 / 228 ـ ط عزت عبيد دعاس) من حديث علي، وصححه البخاري كما في التلخيص لابن حجر (2 / 173 ـ ط شركة الطباعة الفنية) .
(5) كشف الأسرار 3 / 107، وأصول السرخسي 2 / 28.(8/221)
بَيَانُ التَّغْيِيرِ:
8 - بَيَانُ التَّغْيِيرِ هُوَ الْبَيَانُ الَّذِي فِيهِ تَغْيِيرٌ لِمُوجِبِ الْكَلاَمِ وَهُوَ نَوْعَانِ:
الأَْوَّل - التَّعْلِيقُ بِالشَّرْطِ: كَمَا قَال اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} (1) فَإِنَّهُ يَتَبَيَّنُ بِهِ أَنَّهُ لاَ يَجِبُ إِيتَاءُ الأَْجْرِ بَعْدَ عَقْدِ إِجَارَةِ الْمُرْضِعِ إِذَا لَمْ يُوجَدِ الإِْرْضَاعُ، وَإِنَّمَا يَجِبُ ابْتِدَاءً عِنْدَ وُجُودِ الإِْرْضَاعِ فَيَكُونُ تَغْيِيرًا لِحُكْمِ وُجُوبِ أَدَاءِ الْبَدَل بِنَفْسِ الْعَقْدِ. (2)
الثَّانِي - الاِسْتِثْنَاءُ: كَمَا قَال اللَّهُ تَعَالَى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَامًا} (3) فَإِنَّ الأَْلْفَ اسْمٌ مَوْضُوعٌ لِعَدَدٍ مَعْلُومٍ، فَمَا يَكُونُ دُونَ ذَلِكَ الْعَدَدِ يَكُونُ غَيْرُهُ لاَ مَحَالَةَ، فَلَوْلاَ الاِسْتِثْنَاءُ لَكَانَ الْعِلْمُ يَقَعُ لَنَا بِأَنَّهُ لَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ، وَمَعَ الاِسْتِثْنَاءِ إِنَّمَا يَقَعُ الْعِلْمُ لَنَا بِأَنَّهُ لَبِثَ فِيهِمْ تِسْعَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ عَامًا، فَيَكُونُ الاِسْتِثْنَاءُ تَغْيِيرًا لِمَا يُفِيدُهُ لَفْظُ الأَْلْفِ. (4)
بَيَانُ التَّبْدِيل:
9 - بَيَانُ التَّبْدِيل هُوَ النَّسْخُ، وَهُوَ رَفْعُ حُكْمٍ
__________
(1) سورة الطلاق / 6.
(2) أصول السرخسي 2 / 35.
(3) سورة العنكبوت / 14.
(4) أصول السرخسي 2 / 35.(8/221)
شَرْعِيٍّ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ مُتَأَخِّرٍ. (1) وَالنَّسْخُ فِي حَقِّ صَاحِبِ الشَّرْعِ بَيَانٌ مَحْضٌ لاِنْتِهَاءِ الْحُكْمِ الأَْوَّل، لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى الرَّفْعِ؛ لأَِنَّهُ كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَ اللَّهِ أَنَّهُ يَنْتَهِي فِي وَقْتِ كَذَا بِالنَّاسِخِ، فَكَانَ النَّاسِخُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عِلْمِهِ تَعَالَى مُبَيِّنًا لاَ رَافِعًا. (2)
ثُمَّ الرَّاجِحُ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ أَنَّ النَّسْخَ جَائِزٌ فِي الأَْمْرِ وَالنَّهْيِ الَّذِي يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ثَابِتًا، وَيَجُوزُ أَنْ لاَ يَكُونَ. وَقَدْ قَال بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ لاَ يَجُوزُ النَّسْخُ، وَرُبَّمَا قَالُوا: لَمْ يَرِدِ النَّسْخُ فِي شَيْءٍ أَصْلاً. (3)
وَانْظُرِ التَّفَاصِيل فِي (نَسْخ) وَفِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
بَيَانُ الضَّرُورَةِ:
10 - بَيَانُ الضَّرُورَةِ نَوْعٌ مِنَ الْبَيَانِ يَحْصُل بِغَيْرِ اللَّفْظِ لِلضَّرُورَةِ، وَهُوَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَنْوَاعٍ:
النَّوْعُ الأَْوَّل: مَا يَكُونُ فِي حُكْمِ الْمَنْطُوقِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَدُل النُّطْقُ عَلَى حُكْمِ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ. وَقَدْ مَثَّلُوا لَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُِمِّهِ الثُّلُثُ} (4) فَإِنَّهُ لَمَّا أَضَافَ
__________
(1) التعريفات للجرجاني.
(2) كشف الأسرار 3 / 157.
(3) أصول السرخسي 2 / 54.
(4) سورة النساء / 11.(8/222)
الْمِيرَاثَ إِلَيْهَا فِي صَدْرِ الْكَلاَم، ثُمَّ بَيَّنَ نَصِيبَ الأُْمِّ، كَانَ ذَلِكَ بَيَانَ أَنَّ لِلأَْبِ مَا بَقِيَ، فَلَمْ يَحْصُل هَذَا الْبَيَانُ بِتَرْكِ التَّنْصِيصِ عَلَى نَصِيبِ الأَْبِ، بَل بِدَلاَلَةِ صَدْرِ الْكَلاَمِ يَصِيرُ نَصِيبُ الأَْبِ كَالْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ. (1)
النَّوْعُ الثَّانِي: هُوَ السُّكُوتُ الَّذِي يَكُونُ بَيَانًا بِدَلاَلَةِ حَال الْمُتَكَلِّمِ، نَحْوُ سُكُوتِ صَاحِبِ الشَّرْعِ عِنْدَ مُعَايَنَةِ شَيْءٍ عَنْ تَغْيِيرِهِ يَكُونُ بَيَانًا لِحِقِّيَتِهِ بِاعْتِبَارِ حَالِهِ، مِثْل مَا شَاهَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بِيَاعَاتٍ وَمُعَامَلاَتٍ كَانَ النَّاسُ يَتَعَامَلُونَهَا فِيمَا بَيْنَهُمْ، فَأَقَرَّهُمْ عَلَيْهَا، وَلَمْ يُنْكِرْهَا عَلَيْهِمْ، فَدَل أَنَّ جَمِيعَهَا مُبَاحٌ فِي الشَّرْعِ؛ إِذْ لاَ يَجُوزُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُقِرَّ النَّاسَ عَلَى مُنْكَرٍ مَحْظُورٍ. (2)
النَّوْعُ الثَّالِثُ: هُوَ السُّكُوتُ الَّذِي جُعِل بَيَانًا، ضَرُورَةَ دَفْعِ الْغُرُورِ، مِثْل الأَْبِ إِذَا رَأَى وَلَدَهُ الْمُمَيِّزَ يَبِيعُ وَيَشْتَرِي، فَسَكَتَ عَنِ النَّهْيِ، كَانَ سُكُوتُهُ إِذْنًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ؛ لِضَرُورَةِ دَفْعِ الْغُرُورِ عَمَّنْ يُعَامِلُهُ، فَإِنَّ فِي هَذَا الْغُرُورِ إِضْرَارًا بِهِمْ، وَالضَّرَرُ مَدْفُوعٌ. بِهَذَا قَال الْحَنَفِيَّةُ. وَقَال الشَّافِعِيُّ: لاَ يَكُونُ السُّكُوتُ إِذْنًا لأَِنَّ سُكُوتَ الأَْبِ عَنِ النَّهْيِ مُحْتَمَلٌ، قَدْ يَكُونُ لِلرِّضَا بِتَصَرُّفِهِ، وَقَدْ يَكُونُ لِفَرْطِ الْغَيْظِ، أَوْ قِلَّةِ الاِلْتِفَاتِ، وَالْمُحْتَمَل لاَ يَكُونُ حُجَّةً. (3)
__________
(1) كشف الأسرار 3 / 147، وأصول السرخسي 2 / 50.
(2) كشف الأسرار 1 / 148، وأصول السرخسي 2 / 50.
(3) كشف الأسرار 3 / 151، وأصول السرخسي 2 / 51.(8/222)
النَّوْعُ الرَّابِعُ: هُوَ السُّكُوتُ الَّذِي جُعِل بَيَانًا لِضَرُورَةِ الْكَلاَمِ كَمَا إِذَا قَال رَجُلٌ: لِفُلاَنٍ عَلَيَّ مِائَةٌ وَدِرْهَمٌ، أَوْ مِائَةٌ وَدِينَارٌ، فَإِنَّ الْعَطْفَ جُعِل بَيَانًا لِلأَْوَّل، وَجُعِل الأَْوَّل مِنْ جِنْسِ الْمَعْطُوفِ. بِهَذَا يَقُول الْحَنَفِيَّةُ.
وَقَال الشَّافِعِيُّ: يَلْزَمُهُ الْمَعْطُوفُ، وَالْقَوْل فِي بَيَانِ جِنْسِ الْمِائَةِ قَوْل الْمُقِرِّ؛ لأَِنَّهَا مُجْمَلَةٌ فَإِلَيْهِ بَيَانُهَا، وَالْعَطْفُ لاَ يَصْلُحُ بَيَانًا؛ لأَِنَّهُ لَمْ يُوضَعْ لَهُ. (1)
تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ:
كُل مَا يَحْتَاجُ إِلَى الْبَيَانِ مِنْ مُجْمَلٍ وَعَامٍّ، وَمَجَازٍ وَمُشْتَرَكٍ، وَفِعْلٍ مُتَرَدِّدٍ وَمُطْلَقٍ، إِذَا تَأَخَّرَ بَيَانُهُ فَذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ:
11 - الْوَجْهُ الأَْوَّل: أَنْ يَتَأَخَّرَ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ، وَهُوَ الْوَقْتُ الَّذِي إِذَا تَأَخَّرَ الْبَيَانُ عَنْهُ لَمْ يَتَمَكَّنِ الْمُكَلَّفُ مِنْ مَعْرِفَةِ مَا تَضَمَّنَهُ الْخِطَابُ، وَذَلِكَ فِي الْوَاجِبَاتِ الْفَوْرِيَّةِ. فَهَذَا النَّوْعُ مِنَ التَّأْخِيرِ لاَ يَجُوزُ؛ لأَِنَّ الإِْتْيَانَ بِالشَّيْءِ مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ بِهِ مُمْتَنِعٌ عِنْدَ جَمِيعِ الْقَائِلِينَ بِمَنْعِ التَّكْلِيفِ بِمَا لاَ يُطَاقُ.
وَأَمَّا مَنْ جَوَّزَ التَّكْلِيفَ بِمَا لاَ يُطَاقُ فَهُوَ يَقُول بِجَوَازِهِ عَقْلاً، لاَ بِوُقُوعِهِ، فَكَانَ عَدَمُ الْوُقُوعِ مُتَّفَقًا
__________
(1) كشف الأسرار 3 / 152، أصول السرخسي 2 / 52.(8/223)
عَلَيْهِ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ. وَلِهَذَا نَقَل أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلاَّنِيُّ إِجْمَاعَ أَرْبَابِ الشَّرَائِعِ عَلَى امْتِنَاعِهِ.
12 - الْوَجْهُ الثَّانِي: تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ وُرُودِ الْخِطَابِ إِلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ إِلَى الْفِعْل، وَذَلِكَ فِي الْوَاجِبَاتِ الَّتِي لَيْسَتْ بِفَوْرِيَّةٍ، حَيْثُ يَكُونُ الْخِطَابُ لاَ ظَاهِرَ لَهُ، كَالأَْسْمَاءِ الْمُتَوَاطِئَةِ وَالْمُشْتَرَكَةِ، أَوْ يَكُونُ لَهُ ظَاهِرٌ وَقَدِ اسْتُعْمِل فِي خِلاَفِ الظَّاهِرِ، كَتَأْخِيرِ الْبَيَانِ بِالتَّخْصِيصِ. وَمِثْلُهُ تَأْخِيرُ النَّسْخِ وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَفِي ذَلِكَ اتِّجَاهَاتٌ أَهَمُّهَا مَا يَلِي:
أ - الْجَوَازُ مُطْلَقًا، قَال ابْنُ بُرْهَانٍ: وَعَلَيْهِ عَامَّةُ عُلَمَائِنَا مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ. وَنَقَلَهُ الْقَاضِي عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَاخْتَارَهُ الرَّازِيُّ فِي الْمَحْصُول، وَابْنُ الْحَاجِبِ. وَقَال الْبَاجِيُّ: عَلَيْهِ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا، وَحَكَاهُ الْقَاضِي عَنْ مَالِكٍ.
ب - الْمَنْعُ مُطْلَقًا، نُقِل ذَلِكَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبِي بَكْرٍ الصَّيْرَفِيِّ وَأَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبِي بَكْرٍ الدَّقَّاقِ وَدَاوُدَ الظَّاهِرِيِّ وَالأَْبْهَرِيِّ، قَال الْقَاضِي: وَهُوَ قَوْل الْمُعْتَزِلَةِ وَكَثِيرٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ.
ج - أَنَّ بَيَانَ الْمُجْمَل إِنْ لَمْ يَكُنْ تَبْدِيلاً وَلاَ تَغْيِيرًا جَازَ مُقَارِنًا وَطَارِئًا، وَإِنْ كَانَ تَغْيِيرًا جَازَ مُقَارِنًا وَلاَ يَجُوزُ طَارِئًا بِحَالٍ. نَقَلَهُ السَّمْعَانِيُّ عَنْ(8/223)
أَبِي زَيْدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ (1) .
وَتُنْظَرُ مَرَاتِبُ الْبَيَانِ لِلأَْحْكَامِ وَسَائِرُ التَّفَاصِيل الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْمَوْضُوعِ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْبَيَانِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ
بَيَانُ الْمُقَرِّ بِهِ الْمَجْهُول:
13 - إِذَا أَقَرَّ شَخْصٌ بِمَجْهُولٍ وَأَطْلَقَ، بِأَنْ قَال: عَلَيَّ شَيْءٌ أَوْ حَقٌّ، يَلْزَمُهُ؛ لأَِنَّ الْحَقَّ قَدْ يَلْزَمُهُ مَجْهُولاً، كَأَنْ يُتْلِفَ مَالاً لاَ يَعْرِفُ قِيمَتَهُ، أَوْ يَجْرَحَ جِرَاحَةً لاَ يَعْرِفُ أَرْشَهَا، أَوْ يَبْقَى عَلَيْهِ بَاقِيَةُ حِسَابٍ لاَ يُعْرَفُ قَدْرُهُ وَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ لإِِبْرَاءِ ذِمَّتِهِ بِالإِْيفَاءِ أَوِ التَّرَاضِي، فَجَهَالَةُ الْمُقِرِّ بِهِ لاَ تَمْنَعُ صِحَّةَ الإِْقْرَارِ، وَيُقَال لِلْمُقِرِّ: بَيِّنِ الْمَجْهُول، فَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ أَجْبَرَهُ الْحَاكِمُ عَلَى الْبَيَانِ؛ لأَِنَّهُ لَزِمَهُ الْخُرُوجُ عَمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ بِصَحِيحِ إِقْرَارِهِ، وَذَلِكَ الْخُرُوجُ عَمَّا لَزِمَهُ يَكُونُ بِالْبَيَانِ، وَلَكِنْ يُبَيِّنُ شَيْئًا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ، قَل أَوْ كَثُرَ، أَمَّا إِذَا بَيَّنَ شَيْئًا لاَ يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ فَلاَ يُقْبَل مِنْهُ، نَحْوُ أَنْ يَقُول: عَنَيْتُ حَقَّ الإِْسْلاَمِ، أَوْ كَفًّا مِنْ تُرَابٍ أَوْ نَحْوَهُ، بِهَذَا قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيَّةِ.
__________
(1) إرشاد الفحول ص 173 - 175 ط الحلبي، والتبصرة في أصول الفقه للشيرازي بتحقيق حسن هيتو ص 207 ط دار الفكر، والمستصفى 1 / 368، وأصول السرخسي 2 / 28.(8/224)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْقَوْل الآْخَرِ إِلَى أَنَّهُ إِنْ وَقَعَ الإِْقْرَارُ الْمُبْهَمُ فِي جَوَابِ دَعْوَى، وَامْتَنَعَ عَنِ التَّفْسِيرِ، يُجْعَل ذَلِكَ إِنْكَارًا مِنْهُ وَتُعْرَضُ الْيَمِينُ عَلَيْهِ، فَإِنْ أَصَرَّ عَلَى الاِمْتِنَاعِ جُعِل نَاكِلاً عَنِ الْيَمِينِ وَيَحْلِفُ الْمُدَّعِي (1) .
أَمَّا إِذَا أَقَرَّ بِمَجْهُولٍ وَبَيَّنَ السَّبَبَ، فَيُنْظَرُ إِنْ كَانَ سَبَبًا لاَ تَضُرُّهُ الْجَهَالَةُ كَالْغَصْبِ وَالْوَدِيعَةِ، بِأَنْ قَال: غَصَبْتُ مَال فُلاَنٍ، أَوْ لِفُلاَنٍ عِنْدِي أَمَانَةٌ، فَيَصِحُّ إِقْرَارُهُ، وَيُجْبَرُ عَلَى بَيَانِ الْمَغْصُوبِ أَوِ الأَْمَانَةِ الْمَجْهُولَةِ وَتَعْيِينِهِمَا، وَإِنْ كَانَ سَبَبًا تَضُرُّهُ الْجَهَالَةُ كَالْبَيْعِ وَالإِْجَارَةِ لاَ يَصِحُّ الإِْقْرَارُ، وَلاَ يُجْبَرُ عَلَى بَيَانِ مَا بَاعَهُ أَوِ اسْتَأْجَرَهُ (2) .
الْبَيَانُ فِي الطَّلاَقِ الْمُبْهَمِ:
14 - إِذَا قَال الزَّوْجُ لِزَوْجَتَيْهِ: إِحْدَاكُمَا طَالِقٌ، وَقَصَدَ مُعَيَّنَةً مِنْهُمَا طَلُقَتْ، وَيَلْزَمُهُ الْبَيَانُ، وَيُصَدَّقُ؛ لأَِنَّهُ مَالِكٌ لِلإِْيقَاعِ عَلَيْهَا، فَيَصِحُّ بَيَانُهُ أَيْضًا، وَمَا فِي ضَمِيرِهِ لاَ يُوقَفُ عَلَيْهِ إِلاَّ مِنْ جِهَتِهِ، فَيُقْبَل قَوْلُهُ فِيهِ. وَتَعْتَزِلاَنِهِ إِلَى الْبَيَانِ؛ لاِخْتِلاَطِ الْمُحَرَّمَةِ بِالْمُبَاحَةِ.
__________
(1) فتح القدير 6 / 285، 286 ط الأميرية، والبناية شرح الهداية 7 / 539، 540، والزيلعي 5 / 4، والمغني لابن قدامة 5 / 187 ط الرياض، والمهذب 2 / 347 ط الحلبي، وجواهر الإكليل2 / 137، ومواهب الجليل 5 / 231.
(2) الزيلعي 5 / 4، ودرر الحكام 4 / 82.(8/224)
وَيَلْزَمُ الزَّوْجَ الْبَيَانُ فَوْرًا، فَإِنْ أَخَّرَ عَصَى، فَإِنِ امْتَنَعَ حُبِسَ وَعُزِّرَ (1) .
وَلِلْفُقَهَاءِ تَفَاصِيل فِي لُزُومِ نَفَقَةِ الزَّوْجَتَيْنِ إِلَى الْبَيَانِ، وَأَلْفَاظُ الْبَيَانِ وَمَا يَثْبُتُ بِهِ الْبَيَانُ مِنَ الأَْفْعَال كَالْوَطْءِ وَمُقَدِّمَاتِهِ تُنْظَرُ فِي (طَلاَق) .
بَيَانُ الْمُعْتَقِ الْمُبْهَمِ:
15 - إِذَا قَال شَخْصٌ لأَِرِقَّائِهِ: أَحَدُكُمْ حُرٌّ، أَوْ أَعْتَقْتُ أَحَدَكُمْ، وَنَوَى مُعَيَّنًا بَيَّنَهُ وُجُوبًا، وَإِذَا خَاصَمَ أَحَدُهُمْ إِلَى الْحَاكِمِ أُجْبِرَ الْمَوْلَى عَلَى الْبَيَانِ، وَإِنْ بَيَّنَ وَاحِدًا مِنَ الاِثْنَيْنِ لِلْعِتْقِ، فَلِلآْخَرِ تَحْلِيفُهُ أَنَّهُ مَا أَرَادَهُ. وَإِنْ قَال: أَرَدْتُ هَذَا، بَل هَذَا، عَتَقَا جَمِيعًا مُؤَاخَذَةً لَهُ بِإِقْرَارِهِ (2) . وَلِلتَّفْصِيل (ر: عِتْق)
.
__________
(1) نهاية المحتاج 6 / 464، وشرح المحلي على المنهاج 3 / 344، 345، وروضة الطالبين 8 / 103، والمبسوط للسرخسي 6 / 122، 123، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص 169ط المطبعة الحسينية، والاختيار 3 / 145، وابن عابدين 3 / 22، 24، وفتح القدير، 3 / 159 ط الأميرية، والزرقاني 4 / 126، والمغني لابن قدامة 7 / 251.
(2) أسنى المطالب 4 / 453، 454، والفتاوى الهندية 2 / 17، 18، والفتاوى الخانية بهامش الهندية 1 / 573، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص 169، والمغني لابن قدامة 9 / 367، ط الرياض.(8/225)
بَيْتٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الْبَيْتِ فِي اللُّغَةِ: الْمَسْكَنُ، وَهُوَ كُل مَا كَانَ لَهُ جِدَارٌ وَسَقْفٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ سَاكِنٌ. وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى الْبَيْتِ الشُّقَّةُ. وَيُجْمَعُ الْبَيْتُ عَلَى أَبْيَاتٍ، وَبُيُوتٍ.
وَيُطْلَقُ الْبَيْتُ عَلَى الْقَصْرِ، وَمِنْهُ قَوْل جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَامُ لِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَشِّرُوا خَدِيجَةَ بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ (1) قَال فِي اللِّسَانِ: يَعْنِي بَشِّرُوهَا بِقَصْرٍ مِنْ لُؤْلُؤَةٍ مُجَوَّفَةٍ. وَيُطْلَقُ عَلَى الْمَسْجِدِ. قَال اللَّهُ عَزَّ وَجَل: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} (2) قَال الزَّجَّاجُ: أَرَادَ الْمَسَاجِدَ (3) .
وَقَدْ يَكُونُ الْبَيْتُ مُسْتَقِلًّا بِذَاتِهِ، أَوْ جُزْءًا مِنَ الْمَسْكَنِ الْمُسْتَقِل كَحُجْرَةٍ مِنْ دَارٍ (4) .
__________
(1) حديث: " بشروا خديجة. . . " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 615 ط السلفية) واللفظ له. ومسلم (4 / 1884 ط عيسى البابي) .
(2) سورة النور / 36.
(3) لسان العرب، والمصباح المنير، والمغرب في ترتيب المعرب، والكليات لأبي البقاء 1 / 413، 414 بتصرف.
(4) المبسوط للسرخسي 8 / 160، 161 ط السعادة.(8/225)
وَيَصْدُقُ عَلَى الْمَبْنِيِّ مِنْ طِينٍ، أَوْ آجُرٍّ وَمَدَرٍ وَحَجَرٍ، وَعَلَى الْمُتَّخَذِ مِنْ خَشَبٍ، أَوْ صُوفٍ، أَوْ وَبَرٍ، أَوْ شَعْرٍ، أَوْ جِلْدٍ، وَأَنْوَاعِ الْخِيَامِ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ مَعْنَاهُ الاِصْطِلاَحِيُّ عَمَّا وَرَدَ فِي اللُّغَةِ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الدَّارُ:
2 - الدَّارُ لُغَةً: اسْمٌ لِمَا اشْتَمَل عَلَى بُيُوتٍ وَمَنَازِل وَصَحْنٍ غَيْرِ مُسَقَّفٍ. وَاسْمُ الدَّارِ يَتَنَاوَل الْعَرْصَةَ وَالْبِنَاءَ جَمِيعًا. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْبَيْتِ وَالدَّارِ: أَنَّ الدَّارَ تَشْتَمِل عَلَى بُيُوتٍ وَمَنَازِل (2) .
ب - الْمَنْزِل:
3 - الْمَنْزِل لُغَةً: اسْمُ مَكَانِ النُّزُول، وَفِي بَعْضِ الأَْعْرَافِ: هُوَ اسْمٌ لِمَا يَشْتَمِل عَلَى بُيُوتٍ، وَصَحْنٍ مُسَقَّفٍ وَمَطْبَخٍ يَسْكُنُهُ الرَّجُل بِعِيَالِهِ (3) . وَهُوَ دُونَ الدَّارِ وَفَوْقَ الْبَيْتِ، وَأَقَلُّهُ بَيْتَانِ أَوْ ثَلاَثَةٌ. وَتَخْتَلِفُ الأَْعْرَافُ فِي هَذِهِ الأَْلْفَاظِ بِاخْتِلاَفِ
__________
(1) روضة الطالبين 11 / 30 ط المكتب الإسلامي.
(2) الكليات لأبي البقاء 1 / 413، 414، ولسان العرب، والمبسوط للسرخسي 8 / 160، 161.
(3) الكليات لأبي البقاء 1 / 413، ولسان العرب، والمصباح المنير مادة: " نزل ".(8/226)
الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ (1) .
الْمَبِيتُ عَلَى ظَهْرِ الْبَيْتِ:
4 - جَاءَ التَّحْذِيرُ فِي السُّنَّةِ الشَّرِيفَةِ عَنِ الْمَبِيتِ عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ لَيْسَ لَهُ حَائِطٌ يَمْنَعُ مِنَ السُّقُوطِ. فَقَدْ رَوَى عَلِيُّ بْنُ شَيْبَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ بَاتَ عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ لَيْسَ لَهُ حِجَارٌ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّةُ (2)
وَجَاءَ فِي رِوَايَةٍ: حِجَابٌ، وَفِي أُخْرَى: حِجَازٌ. وَهِيَ بِمَعْنَى السُّتْرَةِ الَّتِي تَمْنَعُ وَتَحْجِزُ النَّائِمَ عَنِ السُّقُوطِ. وَمَعْنَى بَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّةُ: أَيْ أَزَال عِصْمَةَ نَفْسِهِ، وَصَارَ كَالْمُهْدَرِ الَّذِي لاَ ذِمَّةَ لَهُ، أَيْ لاَ يَجِبُ لَهُ عَلَى أَحَدٍ شَيْءٌ بِسَبَبِ مَوْتِهِ؛ إِذْ أَنَّ الَّذِي نَامَ كَذَلِكَ رُبَّمَا انْقَلَبَ مِنْ نَوْمِهِ فَسَقَطَ فَمَاتَ هَدَرًا. ثُمَّ إِنَّهُ إِنْ مَاتَ كَذَلِكَ مَاتَ مِنْ غَيْرِ تَأَهُّبٍ، وَلاَ اسْتِعْدَادٍ لِلْمَوْتِ (3) .
__________
(1) المغرب في ترتيب المعرب، والمبسوط للسرخسي 8 / 164، 168.
(2) حديث: " من بات على ظهر بيت ليس له حجار. . . " أخرجه أبو داود (5 / 295 ط عبيد الدعاس) . وأحمد (4 / 79 ط المكتب الإسلامي) وفي مجمع الزوائد (8 / 99 ط مكتبة القدسي) وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح.
(3) فيض القدير6 / 91.(8/226)
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْبَيْتِ:
أ - الْبَيْعُ:
5 - يَجُوزُ بَيْعُ الْبَيْتِ الْمَمْلُوكِ الْمُعَيَّنِ وَالْمَحْدُودِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (1) وَيَدْخُل تَبَعًا لِلأَْرْضِ.
وَقَال مَالِكٌ: إِنَّ بَيْعَ الْبَيْتِ يَتَنَاوَل الأَْرْضَ الَّتِي بِهَا الْبَيْتُ، وَكَذَا بَيْعُ الأَْرْضِ يَتَنَاوَل الْبِنَاءَ، وَمَحَل تَنَاوُل الْعَقْدِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلأَْرْضِ، وَتَنَاوُل الْعَقْدِ عَلَى الأَْرْضِ مَا فِيهَا مِنْ بِنَاءٍ - كَانَ الْعَقْدُ بَيْعًا أَوْ غَيْرَهُ - إِنْ لَمْ يَكُنْ شَرْطٌ، أَوْ عُرْفٌ بِخِلاَفِهِ، وَإِلاَّ عُمِل بِذَلِكَ الشَّرْطِ، أَوِ الْعُرْفِ.
فَإِذَا اشْتَرَطَ الْبَائِعُ إِفْرَادَ الْبِنَاءِ عَنِ الأَْرْضِ، أَوْ جَرَى الْعُرْفُ بِإِفْرَادِهِ عَنِ الأَْرْضِ فِي الْبَيْعِ وَغَيْرِهِ، فَلاَ تَدْخُل الأَْرْضُ فِي الْعَقْدِ عَلَى الْبِنَاءِ، وَكَذَلِكَ لَوِ اشْتَرَطَ الْبَائِعُ إِفْرَادَ الأَْرْضِ عَنِ الْبِنَاءِ، أَوْ جَرَى الْعُرْفُ بِذَلِكَ، فَإِنَّ الْبِنَاءَ لاَ يَدْخُل فِي الْعَقْدِ عَلَى الأَْرْضِ (2) .
وَالتَّفْصِيل مَوْطِنُهُ مُصْطَلَحُ (بَيْع) .
ب - خِيَارُ الرُّؤْيَةِ:
6 - يَثْبُتُ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ لِلْمُشْتَرِي فِي شِرَائِهِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 20، 47، 63، 104 ط بيروت لبنان، نهاية المحتاج3 / 389، 392، ومغني المحتاج 2 / 11، 15 ط مصطفى الحلبي بمصر. وكشاف القناع 3 / 170 وما بعدها، ونيل الأوطار 5 / 244 ط دار الجيل بيروت لبنان.
(2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 170، 171 ط مصطفى الحلبي بمصر.(8/227)
لِلْبَيْتِ إِنْ لَمْ يُعَايِنْ وَلَمْ تَحْصُل رُؤْيَتُهُ؛ لأَِنَّ الْبَيْتَ مِنَ الأَْعْيَانِ اللاَّزِمِ تَعْيِينُهَا، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَعَلَى قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (1) . قَالُوا: يَصِحُّ بَيْعُ الْغَائِبِ، وَهُوَ مَا لَمْ يَرَهُ الْمُتَعَاقِدَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا، وَيَثْبُتُ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي عِنْدَ الرُّؤْيَةِ، وَتُعْتَبَرُ فِي رُؤْيَةِ الْبَيْتِ رُؤْيَةُ السَّقْفِ وَالْجُدْرَانِ وَالسَّطْحِ وَالْحَمَّامِ وَالطَّرِيقِ.
وَفِي الأَْظْهَرِ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَالْمُقَدَّمِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِنِ اشْتَرَى إِنْسَانٌ مَا لَمْ يَرَهُ، وَمَا لَمْ يُوصَفْ لَهُ، لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ (2) . وَالتَّفْصِيل مَوْطِنُهُ مُصْطَلَحُ (بَيْع - خِيَارُ الرُّؤْيَةِ) .
ج - الشُّفْعَةُ:
7 - يَثْبُتُ حَقُّ طَلَبِ الشُّفْعَةِ فِي الْبَيْتِ الْمَبِيعِ لِلشَّرِيكِ فِيهِ الَّذِي لَمْ يُقَاسِمْ تَبَعًا لِلأَْرْضِ الْمَبِيعَةِ، وَأَمَّا الْجَارُ فَلاَ شُفْعَةَ لَهُ؛ لِحَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالشُّفْعَةِ فِي كُل مَا لَمْ يُقْسَمْ، فَإِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ وَصُرِفَتِ الطُّرُقُ فَلاَ شُفْعَةَ (3) وَلاَ شُفْعَةَ فِي بِنَاءٍ مُفْرَدٍ
__________
(1) رد المحتار على الدر المختار 4 / 63، ومغني المحتاج 2 / 18، والمغني لابن قدامة 3 / 580.
(2) مغني المحتاج 2 / 18، وكشاف القناع 3 / 163 ـ 165، والمغني لابن قدامة 3 / 580.
(3) حديث: " قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل. . . . " أخرجه البخاري في صحيحه (الفتح 4 / 436) ط السلفية.(8/227)
عَنْ أَرْضٍ؛ لأَِنَّ مِنْ شُرُوطِ الشُّفْعَةِ أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ أَرْضًا؛ لأَِنَّهَا هِيَ الَّتِي تَبْقَى عَلَى الدَّوَامِ، وَيَدُومُ ضَرَرُهَا، وَالْبِنَاءُ يُؤْخَذُ تَبَعًا لِلأَْرْضِ؛ لِحَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَضَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالشُّفْعَةِ فِي كُل شَرِكَةٍ لَمْ تُقْسَمْ رَبْعَةٍ، أَوْ حَائِطٍ. . . (1) وَيَدْخُل فِيهِ الْبِنَاءُ، وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (2) .
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: الشُّفْعَةُ تَكُونُ لِلشَّرِيكِ وَلِلْجَارِ تَبَعًا لِلْعَقَارِ الْمَمْلُوكِ، وَهَذَا إِنْ تَحَقَّقَتْ شُرُوطُ الشُّفْعَةِ (3) . وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (شُفْعَة) .
د - الإِْجَارَةُ:
8 - لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ عَقْدِ إِجَارَةِ الْبَيْتِ هُوَ بَيْعُ مَنْفَعَتِهِ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ، اشْتُرِطَ فِي الْمَنْفَعَةِ مَا يُشْتَرَطُ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ، وَهُوَ أَنْ لاَ يَمْنَعَ مِنَ الاِنْتِفَاعِ بِهَا مَانِعٌ شَرْعِيٌّ، بِأَنْ تَكُونَ مُحَرَّمَةً كَالْخَمْرِ وَآلاَتِ اللَّهْوِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ.
__________
(1) حديث: " قضاؤه صلى الله عليه وسلم في كل مشترك لم يقسم. . . " أخرجه مسلم في صحيحه (3 / 1229) ط عيسى البابي الحلبي.
(2) حاشية الدسوقي 3 / 473 وما بعدها، ومغني المحتاج 2 / 296، 297، وكشاف القناع 4 / 138، 140، والمغني لابن قدامة5 / 80 - 85، ونيل الأوطار شرح منتقى الأخبار 5 / 80 - 85.
(3) رد المحتار على الدر المختار 5 / 138، 139.(8/228)
فَلاَ يَجُوزُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ إِجَارَةُ الْبَيْتِ لِغَرَضٍ غَيْرِ مَشْرُوعٍ، كَأَنْ يَتَّخِذَهُ الْمُسْتَأْجِرُ مَكَانًا لِشُرْبِ الْخَمْرِ أَوْ لَعِبِ الْقِمَارِ، أَوْ أَنْ يَتَّخِذَهُ كَنِيسَةً أَوْ مَعْبَدًا وَثَنِيًّا. وَيَحْرُمُ حِينَئِذٍ أَخْذُ الأُْجْرَةِ كَمَا يَحْرُمُ إِعْطَاؤُهَا، وَذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنَ الإِْعَانَةِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ (1) .
مُرَاعَاةُ حَقِّ الْجَارِ فِي مَرَافِقِ الْبَيْتِ:
9 - جَاءَتِ السُّنَّةُ الشَّرِيفَةُ بِالتَّأْكِيدِ عَلَى حَقِّ الْجَارِ وَالأَْمْرِ بِمُرَاعَاتِهِ وَالْحِفَاظِ عَلَيْهِ، مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا زَال جِبْرِيل يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ. (2)
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَاللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ وَاللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ وَاللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ قِيل: مَنْ يَا رَسُول اللَّهِ؟ قَال: الَّذِي لاَ يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ. (3) وَالْبَوَائِقُ تَعْنِي: الْغَوَائِل وَالشُّرُورَ.
وَلِذَا لاَ يَجُوزُ أَنْ يُحْدِثَ مَالِكُ الْبَيْتِ فِيهِ مَا يَضُرُّ بِجَارِهِ. كَأَنْ يَحْفِرَ كَنِيفًا إِلَى جَنْبِ حَائِطِ
__________
(1) روضة الطالبين 5 / 194، والشرح الصغير 4 / 10، وكشاف القناع 3 / 559، والاختيار 2 / 60، وحاشية ابن عابدين 5 / 251.
(2) حديث: " مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت. . . " أخرجه البخاري في صحيحه (الفتح 10 / 441) ط السلفية. ومسلم (4 / 2025) ط عيسى البابي الحلبي.
(3) قوله صلى الله عليه وسلم: " والله لا يؤمن. . . " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 443 ـ ط السلفية) .(8/228)
جَارِهِ، أَوْ يَبْنِيَ حَمَّامًا، أَوْ تَنُّورًا، أَوْ أَنْ يَعْمَل دُكَّانَ حِدَادَةٍ أَوْ نَحْوِهَا مِنَ الْمِهَنِ الَّتِي يَتَأَذَّى مِنْهَا جَارُ الْبَيْتِ.
أَمَّا فِي الْمَرَافِقِ الَّتِي تَكُونُ بَيْنَ الْبَيْتَيْنِ، كَالْجِدَارِ الْفَاصِل بَيْنَهُمَا، فَلَهُ حَالَتَانِ: إِمَّا أَنْ يَخْتَصَّ بِمِلْكِهِ أَحَدُهُمَا، وَيَكُونُ سَاتِرًا لِلآْخِرِ فَقَطْ. فَلَيْسَ لِلآْخِرِ التَّصَرُّفُ فِيهِ بِمَا يَضُرُّ مُطْلَقًا. فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ وَضْعُ الأَْخْشَابِ، أَوْ مَدُّ الْجُسُورِ، أَوْ بِنَاءُ الْعُقُودِ، وَنَحْوُهَا مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي تَضُرُّ الْجِدَارَ وَتُؤَثِّرُ فِي تَحَمُّلِهِ، وَهَذَا لاَ خِلاَفَ فِيهِ بَيْنَ أَهْل الْعِلْمِ (1) ؛ وَذَلِكَ لِعُمُومِ الْقَاعِدَةِ الْفِقْهِيَّةِ: (لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ) ؛ وَلِعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَحِل مَال امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلاَّ بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ. (2)
أَمَّا إِذَا كَانَ التَّصَرُّفُ لاَ يَضُرُّ الْجِدَارَ وَلاَ يُضْعِفُهُ، فَيَجُوزُ، بَل يُنْدَبُ لِصَاحِبِهِ الإِْذْنُ لِجَارِهِ بِاسْتِعْمَالِهِ وَالتَّصَرُّفِ فِيهِ؛ لِمَا فِيهِ مِنَ الإِْرْفَاقِ بِالْجَارِ وَالتَّوْسِعَةِ عَلَيْهِ.
وَالتَّفْصِيل يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (ارْتِفَاقٌ. جِوَارٌ) .
__________
(1) المغني 5 / 36، وروضة الطالبين 4 / 211.
(2) حديث: " لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه. . . " أخرجه أحمد (5 / 72) ط المكتب الإسلامي، والبيهقي (6 / 100) نشر دار المعرفة. وعزاه الزيلعي إلى الدارقطني، وقال: إسناده جيد (انظر نصب الراية) (4 / 169 ط دار المأمون) .(8/229)
دُخُول الْبُيُوتِ:
10 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ دُخُول بَيْتِ الْغَيْرِ إِلاَّ بِإِذْنٍ؛ لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ عَلَى الْخَلْقِ أَنْ يَطَّلِعُوا عَلَى مَا فِي بُيُوتِ الْغَيْرِ مِنْ خَارِجِهَا، أَوْ يَلِجُوهَا مِنْ غَيْرِ إِذْنِ أَرْبَابِهَا؛ لِئَلاَّ يَطَّلِعَ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى عَوْرَةٍ، وَذَلِكَ لِغَايَةٍ هِيَ: الاِسْتِئْنَاسُ، وَهُوَ: الاِسْتِئْذَانُ؛ لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّصَ الْبُيُوتَ لِسُكْنَى النَّاسِ، وَمَلَّكَهُمُ الاِسْتِمْتَاعَ بِهَا عَلَى الاِنْفِرَادِ، قَال تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} . (1) وَاسْتَثْنَى الْفُقَهَاءُ حَالَةَ الْغَزْوِ، فَيَجُوزُ دُخُول الْبَيْتِ إِذَا كَانَ ذَلِكَ الْبَيْتُ مُشْرِفًا عَلَى الْعَدُوِّ، فَلِلْغُزَاةِ دُخُولُهُ لِيُقَاتِلُوا الْعَدُوَّ فِيهِ وَكَذَا فِي حَالَةِ الْعِلْمِ، أَوِ الظَّنِّ الْغَالِبِ بِوُجُودِ فَسَادٍ فِيهِ (2) ، فَيَجُوزُ لِلإِْمَامِ أَوْ نَائِبِهِ الْهُجُومُ عَلَى بَيْتِ الْمُفْسِدِينَ، وَقَدْ هَجَمَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى نَائِحَةٍ فِي مَنْزِلِهَا، وَضَرَبَهَا بِالدِّرَّةِ حَتَّى سَقَطَ خِمَارُهَا، فَقِيل لَهُ فِيهِ، فَقَال: لاَ حُرْمَةَ لَهَا. أَيْ لاِشْتِغَالِهَا بِالْمُحَرَّمِ (3) وَالْتَحَقَتْ بِالإِْمَاءِ.
وَقَدْ نَفَّذَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ التَّعْزِيرَ لِهَتْكِ
__________
(1) سورة النور / 27، وتفسير القرطبي 12 / 212، 213.
(2) حاشية ابن عابدين 5 / 126، وأسهل المدارك 3 / 354، 355 ط عيسى الحلبي بمصر.
(3) حاشية ابن عابدين 3 / 180ـ 181.(8/229)
حُرُمَاتِ الْبَيْتِ، وَذَلِكَ فِي رَجُلٍ وُجِدَ فِي بَيْتِ رَجُلٍ بَعْدَ الْعَتَمَةِ مُلَفَّفًا، فَضَرَبَهُ عُمَرُ مِائَةَ جَلْدَةٍ (1) .
وَكَمَا يَحْرُمُ الدُّخُول بِلاَ اسْتِئْذَانٍ يَحْرُمُ النَّظَرُ إِلَى دَاخِل الْبُيُوتِ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ أَنَّ امْرَأً اطَّلَعَ عَلَيْكَ بِغَيْرِ إِذْنٍ، فَحَذَفْتَهُ بِحَصَاةٍ، فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ جُنَاحٌ (2)
إِبَاحَةُ دُخُول الْبَيْتِ:
11 - أَبَاحَ اللَّهُ عَدَمَ الاِسْتِئْذَانِ فِي كُل بَيْتٍ لاَ يَسْكُنُهُ أَحَدٌ، فَقَال تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} (3) ذَلِكَ لأَِنَّ الْعِلَّةَ فِي الاِسْتِئْذَانِ إِنَّمَا هِيَ لأَِجْل خَوْفِ الاِطِّلاَعِ عَلَى الْمُحَرَّمَاتِ، فَإِذَا زَالَتِ الْعِلَّةُ زَال الْحُكْمُ (4) . وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ (اسْتِئْذَان) .
__________
(1) مصنف عبد الرزاق 7 / 401.
(2) حديث: " لو أن امرأ اطلع عليك بغير إذن فحذفته بحصاة. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 2 / 243) ط السلفية. ومسلم (3 / 1699) ط عيسى البابي، واللفظ للبخاري.
(3) سورة النور / 29.
(4) والمراد بالمتاع جميع الانتفاع، لأن الداخل فيها إنما هو لما له من الانتفاع، ويكون المراد بالبيوت غير المسكونة المدارس لطلب العلم، والفنادق والدكان، والخلاء، وكل يؤتى على وجهه من بابه (تفسير القرطبي 12 / 221) .(8/230)
وَلاَ يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَأْذَنَ فِي بَيْتِهَا إِلاَّ بِإِذْنِ زَوْجِهَا، أَوْ بِغَلَبَةِ ظَنِّهَا بِأَنَّهُ يَرْضَى بِذَلِكَ لِحَاجَةٍ مَشْرُوعَةٍ (1) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَحِل لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَصُومَ وَزَوْجُهَا شَاهِدٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ، وَلاَ تَأْذَنَ فِي بَيْتِهِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ. (2)
دُعَاءُ دُخُول الْمَرْءِ بَيْتَهُ، وَدُعَاءُ الْخُرُوجِ مِنْهُ:
12 - مِنَ الآْدَابِ الَّتِي سَنَّهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدُّعَاءُ عِنْدَ دُخُول الْبَيْتِ وَعِنْدَ الْخُرُوجِ مِنْهُ. مِنْ ذَلِكَ مَا رَوَتْهُ أُمُّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ قَال: بِاسْمِ اللَّهِ، وَتَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَضِل، أَوْ أُضَل، أَوْ أَزِل أَوْ أُزَل، أَوْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ، أَوْ أَجْهَل أَوْ يُجْهَل عَلَيَّ. (3)
وَجَاءَ فِي دُعَاءِ دُخُول الْبَيْتِ مَا رَوَاهُ أَبُو مَالِكٍ الأَْشْعَرِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا وَلَجَ الرَّجُل بَيْتَهُ فَلْيَقُل: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَ الْمَوْلَجِ، وَخَيْرَ الْمَخْرَجِ، بِاسْمِ اللَّهِ وَلَجْنَا، وَبِاسْمِ اللَّهِ خَرَجْنَا، وَعَلَى اللَّهِ رَبِّنَا
__________
(1) مطالب أولي النهى 5 / 258، وشرح فتح القدير 4 / 407.
(2) حديث: " لا يحل للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا. . . . " أخرجه البخاري في صحيحه (الفتح 5 / 295) ط السلفية.
(3) حديث: " كان إذا خرج من بيته قال بسم الله وتوكلت على الله. . " أخرجه أبو داود (5 / 327) ط عبيد الدعاس. والترمذي (5 / 490) ط مصطفى البابي. وقال: حسن صحيح.(8/230)
تَوَكَّلْنَا، ثُمَّ لْيُسَلِّمْ عَلَى أَهْلِهِ. (1)
صَلاَةُ الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ الْفَرِيضَةَ فِي الْبَيْتِ:
13 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى صِحَّةِ أَدَاءِ صَلاَةِ الْفَرِيضَةِ فِي الْبَيْتِ لِلرَّجُل وَالْمَرْأَةِ. وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الرَّجُل يَأْثَمُ إِنْ صَلَّى الْفَرِيضَةَ مُنْفَرِدًا فِي الْبَيْتِ، مَعَ صِحَّةِ صَلاَتِهِ، بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِمْ بِوُجُوبِ صَلاَةِ الْجَمَاعَةِ عَلَى الرِّجَال الأَْحْرَارِ الْقَادِرِينَ عَلَيْهَا، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهَا فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهَا سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، مَعَ اتِّفَاقِ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ عَلَى أَنَّ الْجَمَاعَةَ لَيْسَتْ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الصَّلاَةِ، إِلاَّ عَلَى قَوْل ابْنِ عَقِيلٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ.
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ صَلاَةَ الرَّجُل فِي الْمَسْجِدِ جَمَاعَةً أَفْضَل مِنْ صَلاَتِهِ مُنْفَرِدًا فِي الْبَيْتِ، لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَلاَةُ الْجَمَاعَةِ أَفْضَل مِنْ صَلاَةِ أَحَدِكُمْ وَحْدَهُ بِخَمْسٍ
__________
(1) حديث: " إذا ولج الرجل بيته. . . " أخرجه أبو داود (5 / 328) ط عبيد الدعاس. وفي سنده انقطاع بين شرح ابن عبيد الحضرمي وبين أبي مالك راوي الحديث، فالحديث ضعيف انظر (تهذيب التهذيب 4 / 328ـ 329) ط دار صادر.(8/231)
وَعِشْرِينَ دَرَجَةً (1) وَفِي رِوَايَةٍ: بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً.
أَمَّا فِي حَقِّ النِّسَاءِ فَإِنَّ صَلاَتَهُنَّ فِي الْبَيْتِ أَفْضَل؛ لِحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ مَرْفُوعًا: خَيْرُ مَسَاجِدِ النِّسَاءِ قَعْرُ بُيُوتِهِنَّ (2) وَلِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَلاَةُ الْمَرْأَةِ فِي بَيْتِهَا أَفْضَل مِنْ صَلاَتِهَا فِي حُجْرَتِهَا، وَصَلاَتُهَا فِي مَخْدَعِهَا أَفْضَل مِنْ صَلاَتِهَا فِي بَيْتِهَا (3) وَعَنْ أُمِّ حُمَيْدٍ السَّاعِدِيَّةِ أَنَّهَا جَاءَتْ إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُول اللَّهِ إِنِّي أُحِبُّ الصَّلاَةَ مَعَكَ، فَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَدْ عَلِمْتُ. وَصَلاَتُكِ فِي بَيْتِكِ خَيْرٌ لَكِ مِنْ صَلاَتِكِ فِي حُجْرَتِكِ، وَصَلاَةٌ فِي حُجْرَتِكِ خَيْرٌ لَكِ مِنْ صَلاَتِكِ فِي دَارِكِ، وَصَلاَتُكِ فِي دَارِكِ خَيْرٌ لَكِ مِنْ صَلاَتِكِ فِي مَسْجِدِ قَوْمِكِ، وَصَلاَتُكِ فِي
__________
(1) حديث: " صلاة الجماعة أفضل من صلاة أحدكم وحده. . . " أخرجه البخاري (الفتح 2 / 131) ط السلفية. ومسلم (1 / 449) ط عيسى البابي الحلبي واللفظ له.
(2) حديث أم سلمة: " خير مساجد النساء. . " أخرجه أحمد (6 / 297ـ ط الميمنية) . نقل المناوي في الفيض عن الذهبي أنه قال: إسناده صويلح. فيض القدير (3 / 491 ـ ط المكتبة التجارية) .
(3) حديث: " صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها. . " أخرجه أبو داود (1 / 383) ط عبيد الدعاس. قال النووي في المجموع (4 / 198 ط إدارة الطباعة المنيرية) رواه أبو داود بإسناد صحيح على شرط مسلم.(8/231)
مَسْجِدِ قَوْمِكِ خَيْرٌ لَكِ مِنْ صَلاَتِكِ فِي مَسْجِدِ الْجَمَاعَةِ. (1)
قَال النَّوَوِيُّ: يُسْتَحَبُّ لِلزَّوْجِ أَنْ يَأْذَنَ لِزَوْجَتِهِ فِي شُهُودِ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ؛ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ، وَلَكِنْ لِيَخْرُجْنَ وَهُنَّ تَفِلاَتٌ. (2) أَيْ تَارِكَاتٌ لِلطِّيبِ. وَلِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا إِذَا اسْتَأْذَنَكُمْ نِسَاؤُكُمْ بِاللَّيْل إِلَى الْمَسْجِدِ فَأْذَنُوا لَهُنَّ. (3)
غَيْرَ أَنَّهُ يُكْرَهُ لِلْمَرْأَةِ حُضُورُ جَمَاعَةِ الْمَسْجِدِ إِذَا تَرَتَّبَ عَلَى خُرُوجِهَا مِنَ الْبَيْتِ وَحُضُورِهَا الْجَمَاعَةَ فِتْنَةٌ، وَلِلزَّوْجِ مَنْعُهَا مِنْ ذَلِكَ، وَلاَ يَأْثَمُ. وَحُمِل النَّهْيُ فِي الْحَدِيثِ عَلَى نَهْيِ التَّنْزِيهِ؛ لأَِنَّ حَقَّ الزَّوْجِ فِي مُلاَزَمَةِ الْبَيْتِ وَاجِبٌ، فَلاَ
__________
(1) حديث: " أم حميد. . . " أخرجه أحمد (6 / 371 ـ ط الميمنية) . وحسنه ابن حجر كما في نيل الأوطار (3 / 161 ـ ط دار الجيل) .
(2) حديث: " لا تمنعوا إماء الله مساجد الله ولكن. . . . " أخرجه أبو داود (1 / 381) ط عبيد الدعاس. وقال النووي في المجموع (4 / 199) ط إدارة الطباعة المنيرية: إسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم. والشطر الأول منه أخرجه مسلم (1 / 327) ط عيسى الحلبي.
(3) حديث: " إذا استأذنكم نساؤكم بالليل إلى المسجد. . . " أخرجه البخاري (الفتح 2 / 347) ط السلفية. ومسلم (1 / 327) ط عيسى البابي الحلبي.(8/232)
تَتْرُكُهُ لِلْفَضِيلَةِ (1) .
صَلاَةُ النَّافِلَةِ فِي الْبَيْتِ (2) :
14 - مِنَ السُّنَّةِ أَنْ تُصَلَّى النَّوَافِل فِي الْبَيْتِ. فَقَدْ رَوَى زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: صَلُّوا أَيُّهَا النَّاسُ فِي بُيُوتِكُمْ، فَإِنَّ أَفْضَل صَلاَةِ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ، إِلاَّ الْمَكْتُوبَةَ. (3) وَوَجْهُ أَفْضَلِيَّتِهَا: أَنَّ الصَّلاَةَ فِي الْبَيْتِ أَقْرَبُ إِلَى الإِْخْلاَصِ، وَأَبْعَدُ مِنَ الرِّيَاءِ؛ لِمَا فِيهِ مِنَ الإِْسْرَارِ بِالْعَمَل الصَّالِحِ، وَهُوَ أَفْضَل مِنَ الإِْعْلاَنِ بِهِ.
وَقَدْ جَاءَ تَعْلِيل أَدَاءِ النَّافِلَةِ فِي الْبَيْتِ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اجْعَلُوا فِي بُيُوتِكُمْ مِنْ صَلاَتِكُمْ، وَلاَ تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا (4) فَالْبَيْتُ الَّذِي لاَ يُذْكَرُ اللَّهُ فِيهِ، وَلاَ تُقَامُ فِيهِ الصَّلاَةُ، يَكُونُ كَالْقَبْرِ الْخَرِبِ. بَل مِنَ الْخَيْرِ أَنْ يَجْعَل الْمَرْءُ نَصِيبًا مِنْ صَلاَتِهِ فِي بَيْتِهِ، حَتَّى يُعَمِّرَهُ بِالذِّكْرِ
__________
(1) روضة الطالبين 1 / 341، والشرح الصغير 1 / 424، والاختيار 1 / 57، وكشاف القناع 1 / 455، والمجموع 4 / 189، 199.
(2) المجموع 3 / 491.
(3) حديث: " صلوا أيها الناس في بيوتكم، فإن أفضل صلاة. . " أخرجه البخاري (الفتح 2 / 214) ط السلفية. وانظر المغني لابن قدامة 2 / 141.
(4) حديث: " اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم ولا تتخذوها قبورا " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 62) ط السلفية. ومسلم (1 / 538) ط عيسى البابي الحلبي.(8/232)
وَالتَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وَجَاءَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا قَضَى أَحَدُكُمُ الصَّلاَةَ فِي مَسْجِدِهِ، فَلْيَجْعَل لِبَيْتِهِ نَصِيبًا مِنْ صَلاَتِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ فِي بَيْتِهِ مِنْ صَلاَتِهِ خَيْرًا (1) .
الاِعْتِكَافُ فِي الْبَيْتِ:
15 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلرَّجُل أَنْ يَعْتَكِفَ فِي مَسْجِدِ بَيْتِهِ، وَهُوَ الْمَكَانُ الْمَعْزُول الْمُهَيَّأُ الْمُتَّخَذُ لِلصَّلاَةِ فِي الْبَيْتِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ اعْتِكَافِ الْمَرْأَةِ فِي مَسْجِدِ بَيْتِهَا كَذَلِكَ. مُسْتَدِلِّينَ بِالأَْثَرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: سُئِل عَنِ امْرَأَةٍ جَعَلَتْ عَلَيْهَا - أَيْ نَذَرَتْ - أَنْ تَعْتَكِفَ فِي مَسْجِدِ بَيْتِهَا، فَقَال: بِدْعَةٌ، وَأَبْغَضُ الأَْعْمَال إِلَى اللَّهِ الْبِدَعُ، فَلاَ اعْتِكَافَ إِلاَّ فِي مَسْجِدٍ تُقَامُ فِيهِ الصَّلاَةُ وَلأَِنَّ مَسْجِدَ الْبَيْتِ لَيْسَ بِمَسْجِدٍ حَقِيقَةً وَلاَ حُكْمًا. وَلَوْ جَازَ لَفَعَلَتْهُ أُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ وَلَوْ مَرَّةً، تَبْيِينًا لِلْجَوَازِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى جَوَازِ اعْتِكَافِ الْمَرْأَةِ فِي مَسْجِدِ بَيْتِهَا؛ لأَِنَّ مَوْضِعَ الاِعْتِكَافِ فِي حَقِّهَا هُوَ
__________
(1) حديث: " إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده فليجعل لبيته. . . " أخرجه مسلم (1 / 539) ط عيسى البابي الحلبي.(8/233)
الْمَوْضِعُ الَّذِي تَكُونُ صَلاَتُهَا فِيهِ أَفْضَل، كَمَا فِي حَقِّ الرَّجُل، وَصَلاَتُهَا فِي مَسْجِدِ بَيْتِهَا أَفْضَل، فَكَانَ مَوْضِعُ الاِعْتِكَافِ مَسْجِدَ بَيْتِهَا. كَمَا ذَهَبُوا إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ مِنْ مُعْتَكَفِهَا فِي الْبَيْتِ إِلَى نَفْسِ الْبَيْتِ. كَمَا فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ (1) .
حُكْمُ الْحَلِفِ عَلَى سُكْنَى الْبَيْتِ:
16 - لَوْ حَلَفَ لاَ يَسْكُنُ بَيْتًا، وَلاَ نِيَّةَ لَهُ، فَسَكَنَ بَيْتًا مِنْ شَعْرٍ أَوْ فُسْطَاطًا أَوْ خَيْمَةً، لَمْ يَحْنَثْ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْل الأَْمْصَارِ، وَحَنِثَ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْل الْبَادِيَةِ؛ لأَِنَّ الْبَيْتَ اسْمٌ لِمَوْضِعٍ يُبَاتُ فِيهِ، وَالْيَمِينُ تَتَقَيَّدُ بِمَا عُرِفَ مِنْ مَقْصُودِ الْحَالِفِ، وَأَهْل الْبَادِيَةِ يَسْكُنُونَ الْبُيُوتَ الْمُتَّخَذَةَ مِنَ الشَّعْرِ، فَإِذَا كَانَ الْحَالِفُ بَدَوِيًّا يَحْنَثُ، بِخِلاَفِ مَا إِذَا كَانَ مِنْ أَهْل الأَْمْصَارِ (2) .
__________
(1) فتح القدير 2 / 309، والشرح الصغير 1 / 725، والمجموع 6 / 480، وكشاف القناع 2 / 352.
(2) المبسوط للسرخسي 8 / 167 (ر: المساكنة) .(8/233)
الْبَيْتُ الْحَرَامُ
1 - يُطْلَقُ الْبَيْتُ الْحَرَامُ عَلَى الْكَعْبَةِ، وَسَمَّى اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ، فِي مِثْل قَوْله تَعَالَى: {جَعَل اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ} (1)
وَيُقَال لِلْكَعْبَةِ أَيْضًا: بَيْتُ اللَّهِ، إِعْظَامًا لَهَا وَتَشْرِيفًا، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} (2) وَيُطْلَقُ عَلَى: الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَعَلَى حَرَمِ مَكَّةَ وَمَا حَوْلَهَا إِلَى الأَْعْلاَمِ الْمَعْرُوفَةِ (3) .
2 - وَالْبَيْتُ الْحَرَامُ أَوَّل مَسْجِدٍ وُضِعَ لِلْعِبَادَةِ فِي الأَْرْضِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ أَوَّل بَيْتٍ وُضِعَ
__________
(1) سورة المائدة / 97.
(2) سورة الحج / 26.
(3) القرطبي 8 / 104 في تفسير قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس} الآية من سورة التوبة / 28. ودستور العلماء 2 / 30، 31، وإعلام الساجد للزركشي ص 58، 59، وتفسير القرطبي 4 / 137 وما بعدها لقوله تعالى {إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة} سورة آل عمران / 97، والأحكام السلطانية للماوردي ص 157، 158.(8/234)
لِلنَّاسِ لِلَّذِي بِبَكَّةِ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} (1) وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: سَأَلْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَوَّل مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الأَْرْضِ قَال: الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ (2)
وَلِمَعْرِفَةِ أَحْكَامِ كُلٍّ مِنَ الْكَعْبَةِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ر: (الْكَعْبَة. الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ) .
بَيْتُ الْخَلاَءِ.
انْظُرْ: قَضَاءُ الْحَاجَةِ.
__________
(1) سورة آل عمران / 96.
(2) حديث أبي ذر قال: " سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أول مسجد. . " أخرجه البخاري (الفتح 6 / 417 ـ ط السلفية) ومسلم (1 / 370 ط الحلبي) .(8/234)
بَيْتُ الزَّوْجِيَّةِ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْبَيْتُ لُغَةً: الْمَسْكَنُ، وَبَيْتُ الرَّجُل دَارُهُ (1) .
وَبَيْتُ الزَّوْجِيَّةِ: مَحَلٌّ مُنْفَرِدٌ مُعَيَّنٌ مُخْتَصٌّ بِالزَّوْجَةِ، لاَ يُشَارِكُهَا أَحَدٌ فِي سُكْنَاهُ مِنْ أَهْل الزَّوْجِ الْمُمَيِّزِينَ، وَلَهُ غَلْقٌ يَخُصُّهُ وَمَرَافِقُ سَوَاءٌ كَانَتْ فِي الْبَيْتِ أَوْ فِي الدَّارِ، عَلَى أَلاَ يُشَارِكَهَا فِيهَا أَحَدٌ إِلاَّ بِرِضَاهَا (2) . وَهَذَا فِي غَيْرِ الْفُقَرَاءِ الَّذِينَ يَشْتَرِكُونَ فِي بَعْضِ الْمَرَافِقِ (3) .
مَا يُرَاعَى فِي بَيْتِ الزَّوْجِيَّةِ:
2 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ (4) - عَلَى الْمُفْتَى بِهِ - عِنْدَهُمْ،
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، والمغرب مادة " بيت ".
(2) وبيت الزوجية أطلق عليه في بعض القوانين (بيت الطاعة) .
(3) رد المحتار على الدر المختار 2 / 662، 663 ط دار إحياء التراث العربي، والشرح الصغير على أقرب المسالك 2 / 333، 507، 737.
(4) رد المحتار على الدر المختار 2 / 662، 663، نشر دار إحياء التراث العربي، وشرح فتح القدير 4 / 193، 207، نشر دار إحياء التراث العربي.(8/235)
وَالْحَنَابِلَةُ (1) ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (2) أَنَّ بَيْتَ الزَّوْجِيَّةِ يَكُونُ بِقَدْرِ حَال الزَّوْجَيْنِ فِي الْيَسَارِ وَالإِْعْسَارِ، فَلَيْسَ مَسْكَنُ الأَْغْنِيَاءِ كَمَسْكَنِ الْفُقَرَاءِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (3) فَقَوْلُهُ بِالْمَعْرُوفِ يَقْتَضِي مُرَاعَاةَ حَال الزَّوْجَيْنِ؛
وَلأَِنَّ بَيْتَ الزَّوْجِيَّةِ - فِي الأَْصْل - بَيْتُ دَوَامٍ وَاسْتِقْرَارٍ، فَجَرَى مَجْرَى النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ، وَيُرَاعِي الْحَاكِمُ حَالَهُمَا عِنْدَ التَّنَازُعِ.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ: أَنَّ " مَحَل الطَّاعَةِ " يَكُونُ حَسَبَ الْعَادَةِ الْجَارِيَةِ بَيْنَ أَهْل بَلَدِ الزَّوْجَيْنِ بِقَدْرِ وُسْعِ الرَّجُل وَحَال الْمَرْأَةِ. فَإِنْ تَسَاوَيَا فَقْرًا أَوْ غِنًى اعْتُبِرَ حَالُهُمَا، وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا لاَ قُدْرَةَ لَهُ إِلاَّ عَلَى أَدْنَى الْكِفَايَةِ، فَالْعِبْرَةُ بِوُسْعِهِ فَقَطْ. وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا ذَا قَدْرٍ، وَهِيَ فَقِيرَةٌ، أُجِيبَتْ لِحَالَةٍ أَعْلَى مِنْ حَالِهَا وَدُونَ حَالِهِ. وَإِنْ كَانَتْ غَنِيَّةً ذَاتَ قَدْرٍ، وَهُوَ فَقِيرٌ، إِلاَّ أَنَّ لَهُ قُدْرَةً عَلَى أَرْفَعَ مِنْ حَالِهِ، وَلاَ قُدْرَةَ لَهُ عَلَى حَالِهَا رَفَعَهَا
__________
(1) المغني لابن قدامة 7 / 569، نشر مكتبة الرياض الحديثة بالرياض، وكشاف القناع 5 / 460، نشر مكتبة النصر الحديثة بالرياض، ومطالب أولي النهى 5 / 616.
(2) روضة الطالبين للنووي 9 / 52 ط المكتب الإسلامي.
(3) سورة البقرة / 233.(8/235)
بِالْقَضَاءِ إِلَى الْحَالَةِ الَّتِي يَقْدِرُ عَلَيْهَا (1) .
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ عَلَى الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ: أَنَّ بَيْتَ الزَّوْجِيَّةِ يَكُونُ بِمَا يَلِيقُ بِحَال الْمَرْأَةِ عَادَةً؛ إِذْ هُوَ إِمْتَاعٌ، سَوَاءٌ كَانَ دَارًا أَوْ حُجْرَةً أَوْ غَيْرَهُمَا (2) . وَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: اعْتِبَارُ حَال الزَّوْجِ فَقَطْ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} (3) وَهُوَ خِطَابٌ لِلأَْزْوَاجِ، وَبِهِ قَال جَمْعٌ كَثِيرٌ مِنْهُمْ، وَنَصَّ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ (4) . وَكَذَا فِي قَوْلٍ ثَالِثٍ لِلشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ مَسْكَنَ الطَّاعَةِ يَكُونُ عَلَى قَدْرِ يَسَارِ الزَّوْجِ وَإِعْسَارِهِ وَتَوَسُّطِهِ كَالنَّفَقَةِ (5) .
شُرُوطُ بَيْتِ الزَّوْجِيَّةِ:
3 - يَرَى الْفُقَهَاءُ (6) أَنَّ بَيْتَ الزَّوْجِيَّةِ يُرَاعَى فِيهِ مَا يَأْتِي:
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 508، 509، 514 ط عيسى الحلبي بمصر، وشرح الزرقاني 4 / 245 ط دار الفكر، وأسهل المدارك شرح إرشاد السالك 2 / 33 ط عيسى الحلبي بمصر.
(2) شرح منهاج الطالبين وحاشية قليوبي 4 / 74 ط مصطفى الحلبي بمصر، ونهاية المحتاج 7 / 186، نشر المكتب الإسلامي بالرياض.
(3) سورة الطلاق / 6.
(4) ابن عابدين 2 / 662، 663، وفتح القدير 4 / 193، 207.
(5) المهذب 2 / 163 ـ دار المعرفة.
(6) رد المحتار على الدر المختار 2 / 402، 407، 662، 663، 664، وبدائع الصنائع 4 / 23، شرح فتح القدير 4 / 207، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 343، 344، 508، 509 ط عيسى الحلبي بمصر والخرشي على مختصر خليل 4 / 4، 5، وشرح الزرقاني 4 / 59، 60 ط دار الفكر، ونهاية المحتاج 6 / 375، 7 / 184، 186، 189، وشرح منهاج الطالبين 3 / 300، 301، 4 / 74، ط عيسى البابي الحلبي بمصر، والمغني لابن قدامة 7 / 26، 27، 567، 568، 616، وكشاف القناع 5 / 196، 197، 460، 461، ومطالب أولي النهى 5 / 270، 616، 619 ط المكتب الإسلامي / دمشق.(8/236)
أ - أَنْ يَكُونَ خَالِيًا عَنْ أَهْل الزَّوْجِ، سِوَى طِفْلِهِ غَيْرِ الْمُمَيِّزِ؛ لأَِنَّ الْمَرْأَةَ تَتَضَرَّرُ بِمُشَارَكَةِ غَيْرِهَا فِي بَيْتِ الزَّوْجِيَّةِ الْخَاصِّ بِهَا، وَلاَ تَأْمَنُ عَلَى مَتَاعِهَا، وَيَمْنَعُهَا ذَلِكَ مِنْ مُعَاشَرَةِ زَوْجِهَا، وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَيْتِ الزَّوْجِيَّةِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.
أَمَّا سُكْنَى أَقَارِبِ الزَّوْجِ أَوْ زَوْجَاتِهِ الأُْخْرَيَاتِ فِي الدَّارِ الَّتِي فِيهَا بَيْتُ الزَّوْجِيَّةِ، إِذَا لَمْ تَرْضَ بِسُكْنَاهُمْ مَعَهَا فِيهَا، فَقَدْ قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّهُ إِذَا كَانَ لَهَا بَيْتٌ مُنْفَرِدٌ فِي الدَّارِ لَهُ غَلْقٌ وَمَرَافِقُ خَاصَّةٌ كَفَاهَا، وَمُقْتَضَاهُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهَا الاِعْتِرَاضُ حِينَئِذٍ عَلَى سُكْنَى أَقَارِبِهِ فِي بَقِيَّةِ الدَّارِ، إِنْ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ يُؤْذِيهَا. وَقَالُوا أَيْضًا: لَهُ أَنْ يُسْكِنَ ضَرَّتَهَا حِينَئِذٍ فِي الدَّارِ مَا لَمْ تَكُنِ الْمَرَافِقُ مُشْتَرَكَةً؛ لأَِنَّ هَذَا سَبَبٌ لِلتَّخَاصُمِ (1) .
__________
(1) رد المحتار 2 / 663.(8/236)
وَمِثْلُهُ فِي الْجُمْلَةِ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ (1) .
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ ارْتَضَاهُ ابْنُ عَابِدِينَ: أَنَّهُ يُفَرَّقُ بَيْنَ الشَّرِيفَةِ وَالْوَضِيعَةِ، فَفِي الشَّرِيفَةِ ذَاتِ الْيَسَارِ لاَ بُدَّ مِنْ إِفْرَادِهَا فِي دَارٍ، وَمُتَوَسِّطَةِ الْحَال يَكْفِيهَا بَيْتٌ وَاحِدٌ مِنْ دَارٍ (2) .
وَبِنَحْوِ هَذَا قَال الْمَالِكِيَّةُ عَلَى تَفْصِيلٍ ذَكَرُوهُ، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ صَاحِبُ الشَّرْحِ الْكَبِيرِ، قَال: لِلزَّوْجَةِ الاِمْتِنَاعُ مِنْ أَنْ تَسْكُنَ مَعَ أَقَارِبِ الزَّوْجِ كَأَبَوَيْهِ فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ؛ لِمَا فِيهِ مِنَ الضَّرَرِ عَلَيْهَا بِاطِّلاَعِهِمْ عَلَى حَالِهَا، إِلاَّ الْوَضِيعَةَ فَلَيْسَ لَهَا الاِمْتِنَاعُ مِنَ السُّكْنَى مَعَهُمْ، وَكَذَا الشَّرِيفَةُ إِنِ اشْتَرَطُوا عَلَيْهَا سُكْنَاهَا مَعَهُمْ. وَمَحَل ذَلِكَ فِيمَا لَمْ يَطَّلِعُوا عَلَى عَوْرَاتِهَا. وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ أَيْضًا عَلَى أَنَّ لَهُ أَنْ يُسْكِنَ مَعَهَا وَلَدُهُ الصَّغِيرُ مِنْ غَيْرِهَا، إِنْ كَانَتْ عَالِمَةً بِهِ وَقْتَ الْبِنَاءِ، أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَاضِنٌ غَيْرُ أَبِيهِ، وَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ بِهِ وَقْتَ الْبِنَاءِ (3) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ أَسْكَنَ زَوْجَتَيْهِ فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ، كُل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فِي بَيْتٍ، جَازَ إِذَا كَانَ بَيْتُ كُل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا كَمَسْكَنِ مِثْلِهَا، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ إِذَا كَانَ مَسْكَنُ مِثْلِهَا دَارًا مُسْتَقِلَّةً
__________
(1) نهاية المحتاج 6 / 375.
(2) رد المحتار 2 / 663.
(3) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 2 / 512، 513.(8/237)
فَيَلْزَمُ الزَّوْجَ ذَلِكَ (1) .
أَمَّا خَادِمُ الزَّوْجِ أَوِ الزَّوْجَةِ: سَوَاءٌ مِنْ جِهَتِهَا أَوْ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ، فَيَجُوزُ سُكْنَاهُ فِي الدَّارِ؛ لأَِنَّ نَفَقَتَهُ وَاجِبَةٌ عَلَى الزَّوْجِ، وَلاَ يَكُونُ الْخَادِمُ إِلاَّ مِمَّنْ يَجُوزُ نَظَرُهُ إِلَى الزَّوْجَةِ كَالْمَرْأَةِ الْحُرَّةِ (2) .
ب - أَنْ يَكُونَ خَالِيًا مِنْ سُكْنَى ضَرَّتِهَا؛ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْغَيْرَةِ، وَاجْتِمَاعُهُمَا يُثِيرُ الْخُصُومَةَ وَالْمُشَاجَرَةَ، إِلاَّ إِنْ رَضِيَتَا بِسُكْنَاهُمَا مَعًا؛ لأَِنَّ الْحَقَّ لَهُمَا، وَلَهُمَا الرُّجُوعُ بَعْدَئِذٍ.
ج - أَنْ يَكُونَ بَيْنَ جِيرَانٍ صَالِحِينَ، وَهُمْ مَنْ تُقْبَل شَهَادَتُهُمْ، وَذَلِكَ لِتَأْمَنَ فِيهِ عَلَى نَفْسِهَا وَمَالِهَا، وَمُفَادُهُ أَنَّ الْبَيْتَ بِلاَ جِيرَانٍ لَيْسَ مَسْكَنًا شَرْعِيًّا، إِنْ كَانَتْ لاَ تَأْمَنُ فِيهِ عَلَى نَفْسِهَا وَمَالِهَا.
د - أَنْ يَكُونَ مُشْتَمِلاً عَلَى جَمِيعِ مَا يَلْزَمُ لِمَعِيشَةِ أَمْثَالِهِمَا عَادَةً عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَعَلَى جَمِيعِ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الْمَرَافِقِ اللاَّزِمَةِ.
__________
(1) المغني 7 / 26، 27، وكشاف القناع 5 / 197.
(2) حاشية ابن عابدين 2 / 654، 655، وشرح فتح القدير 4 / 199ـ 201، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 510ـ 513، وشرح الزرقاني 3 / 246، 247، والخرشي 4 / 186، 187، ونهاية المحتاج 7 / 186، وشرح منهاج الطالبين 4 / 74، 75، المهذب 2 / 163، وكشاف القناع 5 / 196، 463، 664، ومطالب أولي النهى 5 / 620، والمغني لابن قدامة 7 / 569، 570.(8/237)
سُكْنَى الطِّفْل الرَّضِيعِ فِي بَيْتِ الزَّوْجِيَّةِ:
4 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا تَعَيَّنَ عَلَيْهَا إِرْضَاعُ طِفْلِهَا، أَوْ كَانَتْ آجَرَتْ نَفْسَهَا لِلإِْرْضَاعِ، وَهِيَ غَيْرُ مُتَزَوِّجَةٍ، ثُمَّ تَزَوَّجَتْ، فَلَيْسَ لِلزَّوْجِ فَسْخُ عَقْدِ الإِْرْضَاعِ، وَكَذَلِكَ لَيْسَ لَهُ الْفَسْخُ إِذَا أَذِنَ لَهَا، وَفِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ لَهَا أَنْ تُسْكِنَ الرَّضِيعَ مَعَهَا فِي بَيْتِ الزَّوْجِيَّةِ (1) .
مَا يُجِيزُ لِلزَّوْجَةِ الْخُرُوجَ مِنْ بَيْتِ الزَّوْجِيَّةِ:
الأَْصْل أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمَرْأَةِ الْخُرُوجُ مِنْ بَيْتِ الزَّوْجِيَّةِ إِلاَّ بِإِذْنِ زَوْجِهَا، إِلاَّ فِي حَالاَتٍ خَاصَّةٍ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تِلْكَ الْحَالاَتِ، وَأَهَمُّهَا:
أ - زِيَارَةُ أَهْلِهَا:
5 - الرَّاجِحُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّهُ يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ بَيْتِ الزَّوْجِيَّةِ لِزِيَارَةِ أَبَوَيْهَا كُل أُسْبُوعٍ، أَوْ زِيَارَةِ الْمَحَارِمِ كُل سَنَةٍ، وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ زَوْجُهَا (2) .
__________
(1) ابن عابدين 2 / 647، وحاشية الدسوقي 4 / 13، 14، ونهاية المحتاج 5 / 272، وكشاف القناع 5 / 196.
(2) حاشية ابن عابدين 2 / 359.(8/238)
وَلَهَا الْخُرُوجُ لِعِيَادَةِ وَالِدَيْهَا وَحُضُورِ جِنَازَتِهِمَا أَوْ أَحَدِهِمَا (1) .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: تَقْيِيدُ خُرُوجِ الْمَرْأَةِ مِنْ بَيْتِ الزَّوْجِيَّةِ لِزِيَارَةِ أَبَوَيْهَا كُل جُمُعَةٍ بِأَنْ لاَ يَقْدِرَا عَلَى زِيَارَتِهَا، فَإِنْ قَدَرَا لاَ تَذْهَبُ (2) .
وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ: لِلْمَرْأَةِ الْخُرُوجَ مِنْ بَيْتِ الزَّوْجِيَّةِ لِزِيَارَةِ وَالِدَيْهَا، وَيُقْضَى لَهَا بِزِيَارَتِهِمَا مَرَّةً كُل أُسْبُوعٍ، إِنْ كَانَتْ مَأْمُونَةً وَلَوْ شَابَّةً، وَحَالُهَا مَحْمُولٌ عَلَى الأَْمَانَةِ حَتَّى يَظْهَرَ خِلاَفُهَا. وَإِنْ حَلَفَ: أَنْ لاَ تَزُورَ وَالِدَيْهَا يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ، بِأَنْ يَحْكُمَ لَهَا الْقَاضِي بِالْخُرُوجِ لِلزِّيَارَةِ، فَإِذَا خَرَجَتْ بِالْفِعْل حَنِثَ، وَهَذَا عَلَى فَرْضِ أَنَّ وَالِدَيْهَا بِالْبَلَدِ، لاَ إِنْ بَعُدَا عَنْهَا فَلاَ يُقْضَى لَهَا، وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ لِزِيَارَتِهِمَا إِنْ حَلَفَ بِاللَّهِ أَنَّهَا لاَ تَخْرُجُ، وَأَطْلَقَ - بِحَيْثُ لَمْ يَخُصَّ مَنْعَهَا مِنَ الزِّيَارَةِ بَل مَنَعَهَا مِنَ الْخُرُوجِ أَصْلاً - لَفْظًا وَنِيَّةً، وَلاَ يُقْضَى عَلَيْهِ بِخُرُوجِهَا وَلَوْ لِزِيَارَةِ وَالِدَيْهَا إِذَا طَلَبَتْهَا؛ لأَِنَّهُ فِي حَال التَّخْصِيصِ يَظْهَرُ مِنْهُ قَصْدُ ضَرَرِهَا، فَلِذَا حَنِثَ، بِخِلاَفِ حَال التَّعْمِيمِ فَإِنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ قَصْدُ الضَّرَرِ؛ فَلِذَا لاَ يُقْضَى عَلَيْهِ بِخُرُوجِهَا وَلاَ يَحْنَثُ. وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَأْمُونَةً، لَمْ تَخْرُجْ وَلَوْ مُتَجَالَّةً، أَوْ مَعَ أَمِينَةٍ،
__________
(1) البحر الرائق 4 / 212، 213 ط دار المعرفة.
(2) حاشية ابن عابدين 2 / 664.(8/238)
لِتَطَرُّقِ فَسَادِهَا بِالْخُرُوجِ (1) .
وَجَوَّزَ الشَّافِعِيَّةُ خُرُوجَ الْمَرْأَةِ لِزِيَارَةِ أَهْلِهَا وَلَوْ مَحَارِمَ - عَلَى الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ - حَيْثُ لاَ رِيبَةَ، وَكَذَا عِيَادَتُهُمْ، وَتَشْيِيعُ جِنَازَتِهِمْ، وَلَوْ فِي غَيْبَةِ الزَّوْجِ مِنْ غَيْرِ إِذْنٍ، أَوْ مَنْعٍ قَبْل غَيْبَتِهِ، فَلَوْ مَنَعَهَا قَبْل غَيْبَةٍ فَلَيْسَ لَهَا الْخُرُوجُ، وَالْمُرَادُ خُرُوجٌ لِغَيْرِ سَفَرٍ وَغَيْبَةٍ عَنِ الْبَلَدِ (2) .
وَأَجَازَ الْحَنَابِلَةُ لِلْمَرْأَةِ الْخُرُوجَ لِزِيَارَةِ وَالِدَيْهَا بِإِذْنِ زَوْجِهَا، وَلَيْسَ لَهَا الْخُرُوجُ بِلاَ إِذْنِهِ؛ لأَِنَّ حَقَّ الزَّوْجِ وَاجِبٌ فَلاَ يَجُوزُ تَرْكُهُ بِمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ مَهْمَا كَانَ سَبَبُ الزِّيَارَةِ، وَلاَ تَخْرُجُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ إِلاَّ لِضَرُورَةٍ، وَلاَ يَمْلِكُ الزَّوْجُ مَنْعَهَا مِنْ زِيَارَتِهِمَا إِلاَّ مَعَ ظَنِّ حُصُول ضَرَرٍ يُعْرَفُ بِقَرَائِنِ الأَْحْوَال بِسَبَبِ زِيَارَتِهِمَا لَهَا، فَلَهُ مَنْعُهُمَا حِينَئِذٍ مِنْ زِيَارَتِهَا دَفْعًا لِلضَّرَرِ (3) .
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 512، وشرح الزرقاني 4 / 247، 248.
(2) شرح منهاج الطالبين وحاشية عميرة 4 / 79، وروضة الطالبين للنووي 9 / 61، ونهاية المحتاج 7 / 197.
(3) شرح منهاج الطالبين وحاشية عميرة 4 / 79، وروضة الطالبين للنووي 9 / 61، ونهاية المحتاج 7 / 197.(8/239)
ب - سَفَرُ الْمَرْأَةِ وَالْمَبِيتُ خَارِجَ بَيْتِ الزَّوْجِيَّةِ:
6 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ جَوَازَ خُرُوجِ الْمَرْأَةِ مِنْ بَيْتِ الزَّوْجِيَّةِ لأَِدَاءِ الْحَجَّةِ الْمَفْرُوضَةِ، وَلاَ يَجُوزُ لِلزَّوْجِ مَنْعُهَا لأَِنَّ الْحَجَّ فَرْضٌ بِأَصْل الشَّرْعِ، وَلاَ يَمْلِكُ تَحْلِيلَهَا إِذَا أَحْرَمَتْ بِإِذْنِهِ بِحَجٍّ غَيْرِ مَفْرُوضٍ؛ لِوُجُوبِ إِتْمَامِهِ بِشُرُوعِهَا فِيهِ (1) .
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ جَوَازَ خُرُوجِ الْمَرْأَةِ لِلْحَجِّ بِإِذْنِ الزَّوْجِ؛ إِذْ لَيْسَ لِلْمَرْأَةِ الْحَجُّ إِلاَّ بِإِذْنِ الزَّوْجِ لِلْفَرْضِ وَغَيْرِهِ (2) .
ج - الاِعْتِكَافُ:
7 - يَرَى الْفُقَهَاءُ جَوَازَ خُرُوجِ الْمَرْأَةِ مِنْ بَيْتِ الزَّوْجِيَّةِ بِإِذْنِ زَوْجِهَا لِلاِعْتِكَافِ فِي الْمَسْجِدِ مُطْلَقًا، وَالْمُكْثِ فِيهِ مُدَّتَهُ (3) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 146، 664، وشرح فتح القدير 2 / 330 ـ 332، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 8، 517، وكشاف القناع 2 / 385، والمغني لابن قدامة3 / 531، والكافي 1 / 519.
(2) نهاية المحتاج 3 / 244، وروضة الطالبين للنووي 9 / 61.
(3) رد المحتار على الدر المختار 2 / 129، وشرح فتح القدير 2 / 309، وحاشية الدسوقي على شرح الكبير 1 / 541، 542، 545، ونهاية المحتاج 3 / 1218، وروضة الطالبين للنووي 9 / 64، وكشاف القناع 2 / 385، والمغني لابن قدامة 3 / 531، والكافي 1 / 519.(8/239)
د - رِعَايَةُ الْمَحَارِمِ:
8 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - خِلاَفًا لِلْحَنَابِلَةِ - إِلَى أَنَّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ بَيْتِ الزَّوْجِيَّةِ لِرِعَايَةِ مَحَارِمِهَا، كَأَبَوَيْهَا وَإِخْوَتِهَا، وَذَلِكَ لِتَمْرِيضِ الْمَرِيضِ أَوْ عِيَادَتِهِ، إِذَا لَمْ يُوجَدْ مَنْ يَقُومُ عَلَيْهِ وَاحْتَاجَهَا، وَعَلَيْهَا تَعَاهُدُهُ بِقَدْرِ احْتِيَاجِهِ، وَكَذَا إِذَا مَاتَ أَحَدٌ مِنْ أَقَارِبِهَا تَخْرُجُ لِشُهُودِ جِنَازَتِهِ، وَيُسْتَحَبُّ لِزَوْجِهَا إِذْنُهَا بِالْخُرُوجِ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ، وَفِي مَنْعِهَا مِنْ ذَلِكَ قَطِيعَةُ رَحِمٍ، وَرُبَّمَا حَمَلَهَا عَدَمُ إِذْنِهِ عَلَى مُخَالَفَتِهِ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِالْمُعَاشَرَةِ بِالْمَعْرُوفِ، فَلاَ يَنْبَغِي لِلزَّوْجِ مَنْعُهَا (1) .
وَلَمْ يُصَرِّحِ الْحَنَابِلَةُ بِحُكْمِ هَذِهِ الصُّوَرِ.
هـ - الْخُرُوجُ لِقَضَاءِ الْحَوَائِجِ:
9 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ بَيْتِ الزَّوْجِيَّةِ بِلاَ إِذْنِ الزَّوْجِ إِنْ كَانَتْ لَهَا نَازِلَةٌ، وَلَمْ يُغْنِهَا الزَّوْجُ الثِّقَةُ أَوْ نَحْوُ مَحْرَمِهَا، وَكَذَا لِقَضَاءِ بَعْضِ حَوَائِجِهَا الَّتِي لاَ بُدَّ لَهَا مِنْهَا،
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 359، 664، والفواكه الدواني 2 / 386، 387، وتحفة المحتاج بشرح المنهاج 8 / 330، وكشاف القناع 5 / 197، ومطالب أولي النهى 5 / 271، والمغني لابن قدامة 7 / 20(8/240)
كَإِتْيَانِهَا بِالْمَاءِ مِنَ الدَّارِ، أَوْ مِنْ خَارِجِهَا، وَكَذَا مَأْكَلٌ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا لاَ غَنَاءَ عَنْهُ لِلضَّرُورَةِ إِنْ لَمْ يَقُمِ الزَّوْجُ بِقَضَائِهِ لَهَا، وَكَذَا إِنْ ضَرَبَهَا ضَرْبًا مُبَرِّحًا، أَوْ كَانَتْ تَحْتَاجُ إِلَى الْخُرُوجِ لِقَاضٍ تَطْلُبُ عِنْدَهُ حَقَّهَا (1) .
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ بَيْتِ الزَّوْجِيَّةِ إِنْ كَانَ الْبَيْتُ مَغْصُوبًا؛ لأَِنَّ السُّكْنَى فِي الْمَغْصُوبِ حَرَامٌ، وَالاِمْتِنَاعُ عَنِ الْحَرَامِ وَاجِبٌ، وَلاَ تَسْقُطُ نَفَقَتُهَا. وَكَذَا لَوْ أَبَتِ الذَّهَابَ إِلَيْهِ (2) .
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ (3) وَالْحَنَابِلَةُ (4) بِأَنَّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ بَيْتِ الزَّوْجِيَّةِ لِلْعَمَل إِنْ أَجَازَ لَهَا زَوْجُهَا ذَلِكَ؛ لأَِنَّ الْحَقَّ لَهُمَا لاَ يَخْرُجُ عَنْهُمَا، وَلَهَا الْخُرُوجُ لِلإِْرْضَاعِ إِنْ كَانَتْ آجَرَتْ نَفْسَهَا لَهُ قَبْل عَقْدِ النِّكَاحِ ثُمَّ تَزَوَّجَتْ؛ لِصِحَّةِ الإِْجَارَةِ، وَلاَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 359، 664، والبحر الرائق 4 / 212، 263 ط دار المعرفة، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 511، والفواكه الدواني 2 / 409 ط دار المعرفة، ونهاية المحتاج 7 / 196، وروضة الطالبين للنووي 9 / 161، وكشاف القناع 5 / 197، ومطالب أولي النهى 5 / 271.
(2) رد المحتار على الدر المختار 2 / 647، وشرح فتح القدير 4 / 196.
(3) تحفة المحتاج بشرح المنهاج 8 / 331.
(4) كشاف القناع 5 / 196، ومطالب أولي النهى 5 / 272، 273.(8/240)
يَمْلِكُ الزَّوْجُ فَسْخَهَا، وَلاَ مَنْعَهَا مِنَ الرَّضَاعِ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْمُدَّةُ؛ لأَِنَّ مَنَافِعَهَا مُلِكَتْ بِعَقْدٍ سَابِقٍ عَلَى نِكَاحِ الزَّوْجِ مَعَ عِلْمِهِ بِذَلِكَ.
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ بَيْتِ الزَّوْجِيَّةِ إِنْ كَانَتْ تَخَافُ عَلَى نَفْسِهَا أَوْ مَالِهَا مِنْ فَاسِقٍ أَوْ سَارِقٍ، أَوْ أَخْرَجَهَا مُعِيرُ الْمَنْزِل، كَمَا صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ لَهَا الْخُرُوجَ وَالسَّفَرَ بِإِذْنِ الزَّوْجِ مُطْلَقًا مَعَ مَحْرَمٍ (1) .
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ (2) وَالشَّافِعِيَّةُ (3) أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ الْخُرُوجُ مِنْ بَيْتِ الزَّوْجِيَّةِ وَلَوْ بِغَيْرِ إِذْنِ الزَّوْجِ، إِنْ كَانَتْ فِي مَنْزِلٍ أَضْحَى كُلُّهُ أَوْ بَعْضُهُ يُشْرِفُ عَلَى الاِنْهِدَامِ، مَعَ وُجُودِ قَرِينَةٍ عَلَى ذَلِكَ. وَلَهَا الْخُرُوجُ إِلَى مَجْلِسِ الْعِلْمِ بِرِضَا الزَّوْجِ، وَلَيْسَ لَهَا ذَلِكَ بِغَيْرِ رِضَاهُ.
مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى رَفْضِ الزَّوْجَةِ الإِْقَامَةَ فِي بَيْتِ الزَّوْجِيَّةِ:
10 - يَرَى الْفُقَهَاءُ أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا امْتَنَعَتْ عَنِ الإِْقَامَةِ فِي بَيْتِ الزَّوْجِيَّةِ بِغَيْرِ حَقٍّ، سَوَاءٌ أَكَانَ بَعْدَ خُرُوجِهَا مِنْهُ، أَمِ امْتَنَعَتْ عَنْ أَنْ تَجِيءَ إِلَيْهِ
__________
(1) نهاية المحتاج 7 / 196.
(2) البحر الرائق شرح كنز الدقائق 4 / 212، 213.
(3) نهاية المحتاج 7 / 196.(8/241)
ابْتِدَاءً بَعْدَ إِيفَائِهَا مُعَجَّل مَهْرِهَا، وَطَلَبَ زَوْجُهَا الإِْقَامَةَ فِيهِ، فَلاَ نَفَقَةَ لَهَا وَلاَ سُكْنَى حَتَّى تَعُودَ إِلَيْهِ؛ لأَِنَّهَا بِالاِمْتِنَاعِ قَدْ فَوَّتَتْ حَقَّ الزَّوْجِ فِي الاِحْتِبَاسِ الْمُوجِبِ لِلنَّفَقَةِ، فَتَكُونُ نَاشِزًا (1) .
__________
(1) رد المحتار على الدر المختار 2 / 646، 647، والبحر الرائق 4 / 195، وشرح فتح القدير 196، وبدائع الصنائع 4 / 19، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 514، وشرح الزرقاني 4 / 251، ومواهب الجليل 4 / 118 ونهاية المحتاج 7 / 196، ومنهاج الطالبين مع حاشية قليوبي 4 / 78، وروضة الطالبين للنووي 9 / 58، 59، ومطالب أولي النهى 5 / 632، وكشاف القناع 5 / 467، 471، والمغني لابن قدامة 7 / 611، 612.(8/241)
بَيْتُ الْمَال
التَّعْرِيفُ:
1 - بَيْتُ الْمَال لُغَةً: هُوَ الْمَكَانُ الْمُعَدُّ لِحِفْظِ الْمَال، خَاصًّا كَانَ أَوْ عَامًّا.
وَأَمَّا فِي الاِصْطِلاَحِ: فَقَدِ اسْتُعْمِل لَفْظُ " بَيْتِ مَال الْمُسْلِمِينَ، أَوْ " بَيْتِ مَال اللَّهِ " فِي صَدْرِ الإِْسْلاَمِ لِلدَّلاَلَةِ عَلَى الْمَبْنَى وَالْمَكَانِ الَّذِي تُحْفَظُ فِيهِ الأَْمْوَال الْعَامَّةُ لِلدَّوْلَةِ الإِْسْلاَمِيَّةِ مِنَ الْمَنْقُولاَتِ، كَالْفَيْءِ وَخُمُسِ الْغَنَائِمِ وَنَحْوِهَا، إِلَى أَنْ تُصْرَفَ فِي وُجُوهِهَا (1) . ثُمَّ اكْتُفِيَ بِكَلِمَةِ " بَيْتِ الْمَال " لِلدَّلاَلَةِ عَلَى ذَلِكَ، حَتَّى أَصْبَحَ عِنْدَ الإِْطْلاَقِ يَنْصَرِفُ إِلَيْهِ.
وَتَطَوَّرَ لَفْظُ " بَيْتِ الْمَال " فِي الْعُصُورِ الإِْسْلاَمِيَّةِ اللاَّحِقَةِ إِلَى أَنْ أَصْبَحَ يُطْلَقُ عَلَى الْجِهَةِ الَّتِي تَمْلِكُ الْمَال الْعَامَّ لِلْمُسْلِمِينَ، مِنَ النُّقُودِ وَالْعُرُوضِ وَالأَْرَاضِي الإِْسْلاَمِيَّةِ وَغَيْرِهَا.
__________
(1) كلام القاضي أبي يوسف في الخراج (ص 144) يدل على أن الأراضي الأميرية لعهده لم تكن تعتبر من أموال بيت المال، وأما لعهد ابن عابدين فإن كلامه وكلام متأخري الحنفية صريح في أنها من أموال بيت المال. وانظر مصطلح (أرض الحوز) ومصطلح (إرصاد) .(8/242)
وَالْمَال الْعَامُّ هُنَا: هُوَ كُل مَالٍ ثَبَتَتْ عَلَيْهِ الْيَدُ فِي بِلاَدِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يَتَعَيَّنْ مَالِكُهُ، بَل هُوَ لَهُمْ جَمِيعًا. قَال الْقَاضِي الْمَاوَرْدِيُّ وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: كُل مَالٍ اسْتَحَقَّهُ الْمُسْلِمُونَ، وَلَمْ يَتَعَيَّنْ مَالِكُهُ مِنْهُمْ، فَهُوَ مِنْ حُقُوقِ بَيْتِ الْمَال. ثُمَّ قَال: وَبَيْتُ الْمَال عِبَارَةٌ عَنِ الْجِهَةِ لاَ عَنِ الْمَكَانِ (1) .
أَمَّا خَزَائِنُ الأَْمْوَال الْخَاصَّةِ لِلْخَلِيفَةِ أَوْ غَيْرِهِ فَكَانَتْ تُسَمَّى " بَيْتَ مَال الْخَاصَّةِ ".
2 - وَيَنْبَغِي عَدَمُ الْخَلْطِ بَيْنَ (دِيوَانِ بَيْتِ الْمَال) (وَبَيْتِ الْمَال) فَإِنَّ دِيوَانَ بَيْتِ الْمَال هُوَ الإِْدَارَةُ الْخَاصَّةُ بِتَسْجِيل الدَّخْل وَالْخَرْجِ وَالأَْمْوَال الْعَامَّةِ. وَهُوَ عِنْدَ الْمَاوَرْدِيِّ وَأَبِي يَعْلَى: أَحَدُ دَوَاوِينِ الدَّوْلَةِ، فَقَدْ كَانَتْ فِي عَهْدِهِمَا أَرْبَعَةُ دَوَاوِينَ: دِيوَانٌ يَخْتَصُّ بِالْجَيْشِ. وَدِيوَانٌ يَخْتَصُّ بِالأَْعْمَال، وَدِيوَانٌ يَخْتَصُّ بِالْعُمَّال، وَدِيوَانٌ يَخْتَصُّ بِبَيْتِ الْمَال (2) . وَلَيْسَ لِلدِّيوَانِ سُلْطَةُ التَّصَرُّفِ فِي
__________
(1) الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 235 مصطفى الحلبي، 1357 هـ، والأحكام السلطانية للقاضي أبي الحسن الماوردي ص 213 ط مصطفى الحلبي. وفي هذا إشارة إلى أن بيت المال له شخصية اعتبارية ويعامل معاملة الشخص الطبيعي من خلال ممثليه، فله ذمة مالية بحيث تثبت الحقوق له وعليه، وترفع الدعوى منه وعليه، وكان يمثله سابقا إمام المسلمين أو من يعهد إليه بذلك، وحاليا يمثله وزير المالية أو من يعهد إليه.
(2) الماوردي ص 203، وأبو يعلى ص 224.(8/242)
أَمْوَال بَيْتِ الْمَال، وَإِنَّمَا عَمَلُهُ قَاصِرٌ عَلَى التَّسْجِيل فَقَطْ.
وَالدِّيوَانُ فِي الأَْصْل بِمَعْنَى (السِّجِل) أَوِ (الدَّفْتَرِ) وَكَانَ فِي أَوَّل الإِْسْلاَمِ عِبَارَةً عَنِ الدَّفْتَرِ الَّذِي تُثْبَتُ فِيهِ أَسْمَاءُ الْمُرْتَزِقَةِ (1) (مَنْ لَهُمْ رِزْقٌ فِي بَيْتِ الْمَال) ثُمَّ تَنَوَّعَ بَعْدَ ذَلِكَ، كَمَا سَبَقَ.
وَمِنْ وَاجِبَاتِ كَاتِبِ الدِّيوَانِ أَنْ يَحْفَظَ قَوَانِينَ بَيْتِ الْمَال عَلَى الرُّسُومِ الْعَادِلَةِ، مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ تَتَحَيَّفُ بِهَا الرَّعِيَّةُ، أَوْ نُقْصَانٍ يَنْثَلِمُ بِهِ حَقُّ بَيْتِ الْمَال (2) .
وَعَلَيْهِ فِيمَا يَخْتَصُّ بِبَيْتِ الْمَال أَنْ يَحْفَظَ قَوَانِينَهُ وَرُسُومَهُ، وَقَدْ حَصَرَ الْقَاضِيَانِ الْمَاوَرْدِيُّ وَأَبُو يَعْلَى أَعْمَالَهُ فِي سِتَّةِ أُمُورٍ، نَذْكُرُهَا بِاخْتِصَارٍ:
أ - تَحْدِيدُ الْعَمَل بِمَا يَتَمَيَّزُ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ، وَتَفْصِيل نَوَاحِيهِ الَّتِي تَخْتَلِفُ أَحْكَامُهَا.
ب - أَنْ يَذْكُرَ حَال الْبَلَدِ، هَل فُتِحَتْ عَنْوَةً أَوْ صُلْحًا، وَمَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ حُكْمُ أَرْضِهَا مِنْ عُشْرٍ أَوْ خَرَاجٍ بِالتَّفْصِيل.
ج - أَنْ يَذْكُرَ أَحْكَامَ خَرَاجِ الْبَلَدِ وَمَا اسْتَقَرَّ عَلَى أَرَاضِيهِ، هَل هُوَ خَرَاجُ مُقَاسَمَةٍ، أَمْ خَرَاجُ وَظِيفَةٍ (دَرَاهِمُ مَعْلُومَةٌ مُوَظَّفَةٌ عَلَى الأَْرْضِ) .
__________
(1) حاشية القليوبي على شرح المحلي لمنهاج النووي 3 / 190 ط عيسى الحلبي.
(2) أبو يعلى ص 237.(8/243)
د - أَنْ يَذْكُرَ مَا فِي كُل نَاحِيَةٍ مِنْ أَهْل الذِّمَّةِ، وَمَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِمْ فِي عَقْدِ الْجِزْيَةِ.
هـ - إِنْ كَانَ الْبَلَدُ مِنْ بُلْدَانِ الْمَعَادِنِ، يَذْكُرُ أَجْنَاسَ مَعَادِنِهِ، وَعَدَدَ كُل جِنْسٍ؛ لِيُعْلَمَ مَا يُؤْخَذُ مِمَّا يُنَال مِنْهُ.
و إِنْ كَانَ الْبَلَدُ يُتَاخِمُ دَارَ الْحَرْبِ، وَكَانَتْ أَمْوَالُهُمْ إِذَا دَخَلَتْ دَارَ الإِْسْلاَمِ تُعَشَّرُ عَنْ صُلْحٍ اسْتَقَرَّ مَعَهُمْ، أَثْبَتَ فِي الدِّيوَانِ عَقْدَ صُلْحِهِمْ وَقَدْرَ الْمَأْخُوذِ مِنْهُمْ (1) .
نَشْأَةُ بَيْتِ الْمَال فِي الإِْسْلاَمِ:
3 - تُشِيرُ بَعْضُ الْمَصَادِرِ إِلَى أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ أَوَّل مَنِ اتَّخَذَ بَيْتَ الْمَال. نَقَل ذَلِكَ ابْنُ الأَْثِيرِ (2) .
غَيْرَ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمَصَادِرِ تَذْكُرُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ قَدِ اتَّخَذَ بَيْتَ مَالٍ لِلْمُسْلِمِينَ.
فَفِي الاِسْتِيعَابِ لاِبْنِ عَبْدِ الْبَرِّ وَتَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ لاِبْنِ حَجَرٍ فِي تَرْجَمَةِ مُعَيْقِيبِ بْنِ أَبِي فَاطِمَةَ: اسْتَعْمَلَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ عَلَى بَيْتِ
__________
(1) الماروردي ص 207، وأبو يعلى 228ـ229.
(2) الكامل لابن الأثير 2 / 290، دار الطباعة المنيرية، ومقدمة ابن خلدون باب ديوان الأعمال والجبايات ص 244 ط القاهرة.(8/243)
الْمَال (1) . بَل ذَكَرَ ابْنُ الأَْثِيرِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ لَهُ بَيْتُ مَالٍ بِالسُّنْحِ (مِنْ ضَوَاحِي الْمَدِينَةِ) وَكَانَ يَسْكُنُهُ إِلَى أَنِ انْتَقَل إِلَى الْمَدِينَةِ. فَقِيل لَهُ: أَلاَ نَجْعَل عَلَيْهِ مَنْ يَحْرُسُهُ؟ قَال: لاَ. فَكَانَ يُنْفِقُ مَا فِيهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَلاَ يَبْقَى فِيهِ شَيْءٌ، فَلَمَّا انْتَقَل إِلَى الْمَدِينَةِ جَعَل بَيْتَ الْمَال فِي دَارِهِ. وَلَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ جَمَعَ عُمَرُ الأُْمَنَاءَ، وَفَتَحَ بَيْتَ الْمَال، فَلَمْ يَجِدُوا فِيهِ غَيْرَ دِينَارٍ سَقَطَ مِنْ غِرَارَةٍ، فَتَرَحَّمُوا عَلَيْهِ (2) .
وَقَال: وَأَمَرَ أَبُو بَكْرٍ أَنْ يُرَدَّ جَمِيعُ مَا أَخَذَ مِنْ بَيْتِ الْمَال لِنَفَقَتِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ (3) .
وَفِي كِتَابِ الْخَرَاجِ لأَِبِي يُوسُفَ أَنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ - فِي عَهْدِهِ لأَِهْل الْحِيرَةِ زَمَنَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَتَبَ لَهُمْ: وَجَعَلْتُ لَهُمْ أَيُّمَا شَيْخٍ ضَعُفَ عَنِ الْعَمَل، أَوْ أَصَابَتْهُ آفَةٌ، أَوْ كَانَ غَنِيًّا فَافْتَقَرَ وَصَارَ أَهْل دِينِهِ يَتَصَدَّقُونَ عَلَيْهِ، طُرِحَتْ جِزْيَتُهُ، وَعِيل مِنْ بَيْتِ مَال الْمُسْلِمِينَ وَعِيَالُهُ مَا أَقَامَ بِدَارِ الْهِجْرَةِ وَدَارِ الإِْسْلاَمِ. . . وَشَرَطْتُ عَلَيْهِمْ جِبَايَةَ مَا صَالَحْتُهُمْ عَلَيْهِ، حَتَّى يُؤَدُّوهُ إِلَى بَيْتِ مَال الْمُسْلِمِينَ عَمَّا لَهُمْ مِنْهُمْ (4) .
__________
(1) الاستيعاب بهامش الإصابة: 3 / 455، المكتبة التجارية 1358 هـ.
(2) الكامل 2 / 290.
(3) الكامل 2 / 291.
(4) كتاب الخراج ص 144، 145، المطبعة السلفية ومكتبتها 1382هـ.(8/244)
4 - أَمَّا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلاَ تَذْكُرُ السُّنَّةُ وَغَيْرُهَا مِنَ الْمَرَاجِعِ - فِيمَا اطَّلَعْنَا عَلَيْهِ - اسْتِعْمَال هَذِهِ التَّسْمِيَةِ " بَيْتِ الْمَال " فِي عَهْدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلَكِنْ يَظْهَرُ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الأَْحَادِيثِ الْوَارِدَةِ أَنَّ بَعْضَ وَظَائِفِ بَيْتِ الْمَال كَانَتْ قَائِمَةً، فَإِنَّ الأَْمْوَال الْعَامَّةَ مِنَ الْفَيْءِ، وَأَخْمَاسِ الْغَنَائِمِ، وَأَمْوَال الصَّدَقَاتِ، وَمَا يُهَيَّأُ لِلْجَيْشِ مِنَ السِّلاَحِ وَالْعَتَادِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، كُل ذَلِكَ كَانَ يَضْبِطُهُ الْكُتَّابُ وَكَانَ يُخَزَّنُ إِلَى أَنْ يَحِينَ مَوْعِدُ إِخْرَاجِهِ (1) .
أَمَّا فِيمَا بَعْدَ عَهْدِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَدِ اسْتَمَرَّ بَيْتُ الْمَال يُؤَدِّي دَوْرَهُ طِيلَةَ الْعُهُودِ الإِْسْلاَمِيَّةِ إِلَى أَنْ جَاءَتِ النُّظُمُ الْمُعَاصِرَةُ، فَاقْتَصَرَ دَوْرُهُ فِي الْوَقْتِ الْحَاضِرِ - فِي بَعْضِ الْبِلاَدِ الإِْسْلاَمِيَّةِ - عَلَى حِفْظِ الأَْمْوَال الضَّائِعَةِ وَمَال مَنْ لاَ وَارِثَ لَهُ، وَقَامَ بِدَوْرِهِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ وَزَارَاتُ الْمَالِيَّةِ وَالْخِزَانَةِ.
سُلْطَةُ التَّصَرُّفِ فِي أَمْوَال بَيْتِ الْمَال:
5 - سُلْطَةُ التَّصَرُّفِ فِي بَيْتِ مَال الْمُسْلِمِينَ لِلْخَلِيفَةِ وَحْدَهُ أَوْ مَنْ يُنِيبُهُ (2) . وَذَلِكَ لأَِنَّ الإِْمَامَ نَائِبٌ عَنِ الْمُسْلِمِينَ فِيمَا لَمْ يَتَعَيَّنِ الْمُتَصَرِّفُ فِيهِ مِنْهُمْ. وَكُل مَنْ يَتَصَرَّفُ فِي شَيْءٍ مِنْ حُقُوقِ
__________
(1) مسند أحمد 1 / 459، والخراج لأبي يوسف ص 36، والتراتيب الإدارية 1 / 398، 411، 412.
(2) جواهر الإكليل 1 / 260.(8/244)
بَيْتِ الْمَال فَلاَ بُدَّ أَنْ يَسْتَمِدَّ سُلْطَتَهُ فِي ذَلِكَ مِنْ سُلْطَةِ الإِْمَامِ. وَيَجِبُ - وَهُوَ مَا جَرَتْ عَلَيْهِ الْعَادَةُ - أَنْ يُوَلِّيَ الْخَلِيفَةُ عَلَى بَيْتِ الْمَال رَجُلاً مِنْ أَهْل الأَْمَانَةِ وَالْقُدْرَةِ. وَكَانَ الْمُتَصَرِّفُ فِي بَيْتِ الْمَال بِإِنَابَةِ الْخَلِيفَةِ يُسَمَّى " صَاحِبُ بَيْتِ الْمَال " وَإِنَّمَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ طِبْقًا لِمَا يُحَدِّدُهُ الْخَلِيفَةُ مِنْ طُرُقِ الصَّرْفِ.
وَكَوْنُ الْحَقِّ فِي التَّصَرُّفِ فِي أَمْوَال بَيْتِ الْمَال لِلْخَلِيفَةِ لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهَا طِبْقًا لِمَا يَشْتَهِي، كَمَا يَتَصَرَّفُ فِي مَالِهِ الْخَاصِّ، فَإِنْ كَانَ يَفْعَل ذَلِكَ قِيل: إِنَّ بَيْتَ الْمَال قَدْ فَسَدَ، أَوْ أَصْبَحَ غَيْرَ مُنْتَظِمٍ، وَيَسْتَتْبِعُ ذَلِكَ أَحْكَامًا خَاصَّةً يَأْتِي بَيَانُهَا، بَل يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ تَصَرُّفُهُ فِي تِلْكَ الأَْمْوَال كَتَصَرُّفِ وَلِيِّ الْيَتِيمِ فِي مَال الْيَتِيمِ، كَمَا قَال عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنِّي أَنْزَلْتُ نَفْسِي مِنْ هَذَا الْمَال بِمَنْزِلَةِ وَلِيِّ الْيَتِيمِ، إِنِ اسْتَغْنَيْتُ اسْتَعْفَفْتُ، وَإِنِ افْتَقَرْتُ أَكَلْتُ بِالْمَعْرُوفِ، فَإِذَا أَيْسَرْتُ قَضَيْتُ (1) .
وَيَعْنِي ذَلِكَ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي الْمَال بِالَّذِي يَرَى أَنَّهُ خَيْرٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَأَصْلَحُ لأَِمْرِهِمْ، دُونَ التَّصَرُّفِ بِالتَّشَهِّي وَالْهَوَى وَالأَْثَرَةِ (2) .
وَبَيَّنَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى أَنَّ مَا يَلْزَمُ الإِْمَامَ مِنْ أُمُورِ الأُْمَّةِ عَشَرَةُ أَشْيَاءَ، مِنْهَا: جِبَايَةُ الْفَيْءِ
__________
(1) الخراج لأبي يوسف ص 117 ـ ط السلفية.
(2) الخراج لأبي يوسف ص60.(8/245)
وَالصَّدَقَاتِ عَلَى مَا أَوْجَبَهُ الشَّرْعُ. وَمِنْهَا تَقْدِيرُ الْعَطَاءِ وَمَا يُسْتَحَقُّ فِي بَيْتِ الْمَال مِنْ غَيْرِ سَرَفٍ وَلاَ تَقْصِيرٍ، وَدَفْعُهُ فِي وَقْتٍ لاَ تَقْدِيمَ فِيهِ وَلاَ تَأْخِيرَ (1) . وَلَهُ أَنْ يُعْطِيَ الْجَوَائِزَ مِنْ بَيْتِ الْمَال لِمَنْ كَانَ فِيهِ نَفْعٌ ظَاهِرٌ لِلْمُسْلِمِينَ، وَقُوَّةٌ عَلَى الْعَدُوِّ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ الْمَصْلَحَةُ.
وَقَدْ كَانَتِ الْعَادَةُ فِي صَدْرِ الدَّوْلَةِ الإِْسْلاَمِيَّةِ أَنَّ الْعَامِل (أَيِ الْوَالِي) عَلَى بَلَدٍ أَوْ إِقْلِيمٍ، يَنُوبُ عَنِ الإِْمَامِ بِتَفْوِيضٍ مِنْهُ فِي الْجِبَايَةِ لِبَيْتِ الْمَال وَالإِْنْفَاقِ مِنْهُ، وَكَانَ الْمُفْتَرَضُ فِيهِ أَنْ يَتَصَرَّفَ عَلَى الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ الْمُعْتَبَرِ. وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِلْقُضَاةِ (2) . وَرُبَّمَا كَانَ صَاحِبُ بَيْتِ الْمَال فِي بَعْضِ الأَْمْصَارِ يَتَّبِعُ الْخَلِيفَةَ مُبَاشَرَةً، مُسْتَقِلًّا عَنْ عَامِل الْمِصْرِ.
مَوَارِدُ بَيْتِ الْمَال:
6 - مَوَارِدُ بَيْتِ الْمَال الأَْصْنَافُ التَّالِيَةُ، وَأَمَّا صِفَةُ الْيَدِ عَلَى كُلٍّ مِنْهَا فَإِنَّهَا مُخْتَلِفَةٌ، كَمَا سَنُبَيِّنُهُ فِيمَا بَعْدُ.
أ - الزَّكَاةُ بِأَنْوَاعِهَا، الَّتِي يَأْخُذُهَا الإِْمَامُ سَوَاءٌ أَكَانَتْ زَكَاةَ أَمْوَالٍ ظَاهِرَةٍ أَمْ بَاطِنَةٍ، مِنَ السَّوَائِمِ وَالزُّرُوعِ وَالنُّقُودِ وَالْعُرُوضِ، وَمِنْهَا عُشُورُ تُجَّارِ الْمُسْلِمِينَ إِذَا مَرُّوا بِتِجَارَتِهِمْ عَلَى الْعَاشِرِ.
__________
(1) الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 11، 12.
(2) الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 52.(8/245)
ب - خُمُسُ الْغَنَائِمِ الْمَنْقُولَةِ. وَالْغَنِيمَةُ هِيَ كُل مَالٍ أُخِذَ مِنَ الْكُفَّارِ بِالْقِتَال، مَا عَدَا الأَْرَاضِيَ وَالْعَقَارَاتِ، فَيُورَدُ خُمُسُهَا لِبَيْتِ الْمَال، لِيُصْرَفَ فِي مَصَارِفِهِ. قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُول وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيل. . .} الآْيَةَ (1) .
ج - خُمُسُ الْخَارِجِ مِنَ الأَْرْضِ مِنَ الْمَعَادِنِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْحَدِيدِ وَغَيْرِهَا (2) ، وَقِيل: مِثْلُهَا الْمُسْتَخْرَجُ مِنَ الْبَحْرِ مِنْ لُؤْلُؤٍ وَعَنْبَرٍ وَسِوَاهُمَا (3) .
د - خُمُسُ الرِّكَازِ (الْكُنُوزِ) وَهُوَ كُل مَالٍ دُفِنَ فِي الأَْرْضِ بِفِعْل الإِْنْسَانِ، وَالْمُرَادُ هُنَا كُنُوزُ أَهْل الْجَاهِلِيَّةِ وَالْكُفْرِ إِذَا وَجَدَهُ مُسْلِمٌ، فَخُمُسُهُ لِبَيْتِ الْمَال، وَبَاقِيهِ بَعْدَ الْخُمُسِ لِوَاجِدِهِ.
هـ - الْفَيْءُ: وَهُوَ كُل مَالٍ مَنْقُولٍ أُخِذَ مِنَ الْكُفَّارِ بِغَيْرِ قِتَالٍ، وَبِلاَ إِيجَافِ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ (4) .
__________
(1) سورة الأنفال / 41.
(2) ابن عابدين 2 / 43.
(3) الخراج لأبي يوسف ص 70، المغني 3 / 27.
(4) الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 235، وابن عابدين 3 / 228، وجواهر الإكليل 1 / 259، والقليوبي 3 / 136، المغني 6 / 402.(8/246)
وَالْفَيْءُ أَنْوَاعٌ:
(1) مَا جَلاَ عَنْهُ الْكُفَّارُ خَوْفًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الأَْرَاضِي وَالْعَقَارَاتِ، وَهِيَ تُوقَفُ كَالأَْرَاضِيِ الْمَغْنُومَةِ بِالْقِتَال، وَتُقَسَّمُ غَلاَّتُهَا كُل سَنَةٍ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ (1) . وَفِي ذَلِكَ خِلاَفٌ (انْظُرْ: فَيْء) .
(2) مَا تَرَكُوهُ وَجَلَوْا عَنْهُ مِنَ الْمَنْقُولاَتِ. وَهُوَ يُقَسَّمُ فِي الْحَال وَلاَ يُوقَفُ (2) .
(3) مَا أُخِذَ مِنَ الْكُفَّارِ مِنْ خَرَاجٍ أَوْ أُجْرَةٍ عَنِ الأَْرَاضِي الَّتِي مَلَكَهَا الْمُسْلِمُونَ، وَدُفِعَتْ بِالإِْجَارَةِ لِمُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ، أَوْ عَنِ الأَْرَاضِي الَّتِي أُقِرَّتْ بِأَيْدِي أَصْحَابِهَا مِنْ أَهْل الذِّمَّةِ صُلْحًا أَوْ عَنْوَةً عَلَى أَنَّهَا لَهُمْ، وَلَنَا عَلَيْهَا الْخَرَاجُ.
(4) الْجِزْيَةُ وَهِيَ: مَا يُضْرَبُ عَلَى رِقَابِ الْكُفَّارِ لإِِقَامَتِهِمْ فِي بِلاَدِ الْمُسْلِمِينَ. فَيُفْرَضُ عَلَى كُل رَأْسٍ مِنَ الرِّجَال الْبَالِغِينَ الْقَادِرِينَ مَبْلَغٌ مِنَ الْمَال، أَوْ يُضْرَبُ عَلَى الْبَلَدِ كُلِّهَا أَنْ تُؤَدِّيَ مَبْلَغًا مَعْلُومًا. وَلَوْ أَدَّاهَا مَنْ لاَ تَجِبُ عَلَيْهِ كَانَتْ هِبَةً لاَ جِزْيَةً (3) .
(5) عُشُورُ أَهْل الذِّمَّةِ، وَهِيَ: ضَرِيبَةٌ تُؤْخَذُ مِنْهُمْ عَنْ أَمْوَالِهِمُ الَّتِي يَتَرَدَّدُونَ بِهَا مُتَاجِرِينَ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ، أَوْ يَدْخُلُونَ بِهَا مِنْ دَارِ الْحَرْبِ إِلَى
__________
(1) القليوبي على شرح المنهاج 3 / 191.
(2) القليوبي على شرح المنهاج 3 / 188.
(3) المغني 8 / 507.(8/246)
دَارِ الإِْسْلاَمِ، أَوْ يَنْتَقِلُونَ بِهَا مِنْ بَلَدٍ فِي دَارِ الإِْسْلاَم إِلَى بَلَدٍ آخَرَ، تُؤْخَذُ مِنْهُمْ فِي السَّنَةِ مَرَّةً، مَا لَمْ يَخْرُجُوا مِنْ دَارِ الإِْسْلاَمِ، ثُمَّ يَعُودُوا إِلَيْهَا.
وَمِثْلُهَا عُشُورُ أَهْل الْحَرْبِ مِنَ التُّجَّارِ كَذَلِكَ، إِذَا دَخَلُوا بِتِجَارَتِهِمْ إِلَيْنَا مُسْتَأْمَنِينَ (1) .
(6) مَا صُولِحَ عَلَيْهِ الْحَرْبِيُّونَ مِنْ مَالٍ يُؤَدُّونَهُ إِلَى الْمُسْلِمِينَ.
(7) مَال الْمُرْتَدِّ إِنْ قُتِل أَوْ مَاتَ، وَمَال الزِّنْدِيقِ إِنْ قُتِل أَوْ مَاتَ، فَلاَ يُورَثُ مَالُهُمَا بَل هُوَ فَيْءٌ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي مَال الْمُرْتَدِّ تَفْصِيلٌ (2) .
(8) مَال الذِّمِّيِّ إِنْ مَاتَ وَلاَ وَارِثَ لَهُ، وَمَا فَضَل مِنْ مَالِهِ عَنْ وَارِثِهِ فَهُوَ فَيْءٌ كَذَلِكَ (3) .
(9) الأَْرَاضِي الْمَغْنُومَةُ بِالْقِتَال، وَهِيَ الأَْرَاضِي الزِّرَاعِيَّةُ عِنْدَ مَنْ يَرَى عَدَمَ تَقْسِيمِهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ (4) .
و غَلاَّتُ أَرَاضِي بَيْتِ الْمَال وَأَمْلاَكِهِ وَنِتَاجُ الْمُتَاجَرَةِ وَالْمُعَامَلَةِ.
__________
(1) الدر وحاشية ابن عابدين 2 / 39 وما بعدها.
(2) انظر الدر المختار وحاشيته 3 / 300، وشرح المنهاج 3 / 188، وجواهر الإكليل 2 / 279، والمغني 6 / 298، 301.
(3) شرح المنهاج 3 / 137، 136، 188، والمغني 8 / 128، 6 / 296.
(4) جواهر الإكليل 1 / 260، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 190، وانظر مصطلح (أرض الحوز) .(8/247)
ز - الْهِبَاتُ وَالتَّبَرُّعَاتُ وَالْوَصَايَا الَّتِي تُقَدَّمُ لِبَيْتِ الْمَال لِلْجِهَادِ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ (1) .
ح - الْهَدَايَا الَّتِي تُقَدَّمُ إِلَى الْقُضَاةِ مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ يُهْدَى لَهُمْ قَبْل الْوِلاَيَةِ، أَوْ كَانَ يُهْدَى لَهُمْ لَكِنْ لَهُ عِنْدَ الْقَاضِي خُصُومَةٌ، فَإِنَّهَا إِنْ لَمْ تُرَدَّ إِلَى مُهْدِيهَا تُرَدُّ إِلَى بَيْتِ الْمَال (2) . لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ مِنَ ابْنِ اللُّتْبِيَّةِ مَا أُهْدِيَ إِلَيْهِ. (3)
وَكَذَلِكَ الْهَدَايَا الَّتِي تُقَدَّمُ إِلَى الإِْمَامِ مِنْ أَهْل الْحَرْبِ، وَالْهَدَايَا الَّتِي تُقَدَّمُ إِلَى عُمَّال الدَّوْلَةِ، وَهَذَا إِنْ لَمْ يُعْطِ الآْخِذُ مُقَابِلَهَا مِنْ مَالِهِ الْخَاصِّ (4) .
ط - الضَّرَائِبُ الْمُوَظَّفَةُ عَلَى الرَّعِيَّةِ لِمَصْلَحَتِهِمْ، سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ لِلْجِهَادِ أَمْ لِغَيْرِهِ، وَلاَ تُضْرَبُ عَلَيْهِمْ إِلاَّ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِ الْمَال مَا يَكْفِي لِذَلِكَ، وَكَانَ لِضَرُورَةٍ، وَإِلاَّ كَانَتْ مَوْرِدًا غَيْرَ شَرْعِيٍّ (5) .
__________
(1) المغني 8 / 507.
(2) روضة الطالبين للنووي 11 / 93، وشرح المنهاج وحاشية القليوبي 4 / 303، والمغني 9 / 78.
(3) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ من ابن اللتبية. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 5 / 220 ـ ط السلفية) ومسلم (3 / 1463 ـ ط الحلبي) .
(4) الدر المختار 3 / 280، والحطاب والمواق 3 / 358، وانظر فتاوى السبكي 1 / 215، نشر مكتبة القدسي 1356هـ.
(5) ابن عابدين 2 / 57، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 230.(8/247)
ي - الأَْمْوَال الضَّائِعَةُ، وَهِيَ مَالٌ وُجِدَ وَلَمْ يُمْكِنْ مَعْرِفَةُ صَاحِبِهِ، مِنْ لُقَطَةٍ أَوْ وَدِيعَةٍ أَوْ رَهْنٍ، وَمِنْهُ مَا يُوجَدُ مَعَ اللُّصُوصِ وَنَحْوِهِمْ مِمَّا لاَ طَالِبَ لَهُ، فَيُوَرَّدُ إِلَى بَيْتِ الْمَال (1) .
ك - مَوَارِيثُ مَنْ مَاتَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِلاَ وَارِثٍ، أَوْ لَهُ وَارِثٌ لاَ يَرِثُ كُل الْمَال - عِنْدَ مَنْ لاَ يَرَى الرَّدَّ - وَمَنْ قُتِل وَكَانَ بِلاَ وَارِثٍ فَإِنَّ دِيَتَهُ تُوَرَّدُ إِلَى بَيْتِ الْمَال، وَيُصْرَفُ هَذَا فِي مَصَارِفِ الْفَيْءِ.
وَحَقُّ بَيْتِ الْمَال فِي هَذَا النَّوْعِ هُوَ عَلَى سَبِيل الْمِيرَاثِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ أَيْ عَلَى سَبِيل الْعُصُوبَةِ. وَقَال الْحَنَابِلَةُ وَالْحَنَفِيَّةُ: يُرَدُّ إِلَى بَيْتِ الْمَال فَيْئًا لاَ إِرْثًا (2) (ر: إِرْث) .
ل - الْغَرَامَاتُ وَالْمُصَادَرَاتُ: وَقَدْ وَرَدَ فِي السُّنَّةِ تَغْرِيمُ مَانِعِ الزَّكَاةِ بِأَخْذِ شَطْرِ مَالِهِ، وَبِهَذَا يَقُول إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ وَأَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ، وَوَرَدَ تَغْرِيمُ مَنْ أَخَذَ مِنَ الثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ وَخَرَجَ بِهِ ضِعْفَ قِيمَتِهِ، وَبِهَذَا يَقُول الْحَنَابِلَةُ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ (3) : وَالظَّاهِرُ أَنَّ مِثْل هَذِهِ الْغَرَامَاتِ إِذَا
__________
(1) روضة الطالبين 5 / 279، ومتن خليل وجواهر الإكليل 2 / 59، وابن عابدين 3 / 282.
(2) ابن عابدين 5 / 488، وفتح القدير 5 / 277، شرح المنهاج 3 / 136، 137، والمغني 5 / 684، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 215، والعذب الفائض 1 / 19.
(3) المغني 2 / 573 و 8 / 258، وتبصرة الحكام 2 / 561.(8/248)
أُخِذَتْ تُنْفَقُ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، فَتَكُونُ بِذَلِكَ مِنْ حُقُوقِ بَيْتِ الْمَال.
وَوَرَدَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَادَرَ شَطْرَ أَمْوَال بَعْضِ الْوُلاَةِ، لَمَّا ظَهَرَ عَلَيْهِمُ الإِْثْرَاءُ بِسَبَبِ أَعْمَالِهِمْ، فَيَرْجِعُ مِثْل ذَلِكَ إِلَى بَيْتِ الْمَال أَيْضًا.
أَقْسَامُ بَيْتِ الْمَال وَمَصَارِفُ كُل قِسْمٍ:
7 - الأَْمْوَال الَّتِي تَدْخُل بَيْتَ الْمَال مُتَنَوِّعَةُ الْمَصَارِفِ، وَكَثِيرٌ مِنْ أَصْنَافِهَا لاَ يَجُوزُ صَرْفُهُ فِي الْوُجُوهِ الَّتِي تُصْرَفُ فِيهَا الأَْصْنَافُ الأُْخْرَى.
وَمِنْ أَجْل ذَلِكَ احْتِيجَ إِلَى فَصْل أَمْوَال بَيْتِ الْمَال بِحَسَبِ مَصَارِفِهَا؛ لأَِجْل سُهُولَةِ التَّصَرُّفِ فِيهَا، وَقَدْ نَصَّ أَبُو يُوسُفَ عَلَى فَصْل الزَّكَاةِ عَنِ الْخَرَاجِ فِي بَيْتِ الْمَال، فَقَال: مَال الصَّدَقَةِ وَالْعُشُورِ لاَ يَنْبَغِي أَنْ يُجْمَعَ إِلَى مَال الْخَرَاجِ؛ لأَِنَّ الْخَرَاجَ فَيْءٌ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، وَالصَّدَقَاتُ لِمَنْ سَمَّى اللَّهُ فِي كِتَابِهِ (1) .
وَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الإِْمَامِ تَوْزِيعُ مَوْجُودَاتِ بَيْتِ الْمَال عَلَى أَرْبَعَةِ بُيُوتٍ، وَلاَ تَأْبَى قَوَاعِدُ الْمَذَاهِبِ الأُْخْرَى التَّقْسِيمَ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ. وَقَدْ قَال الْحَنَفِيَّةُ: لِلإِْمَامِ أَنْ يَسْتَقْرِضَ مِنْ أَحَدِ الْبُيُوتِ الأَْرْبَعَةِ لِيَصْرِفَهُ فِي مَصَارِفِ الْبُيُوتِ الأُْخْرَى، وَيَجِبُ رَدُّهُ إِلَى الْبَيْتِ الْمُسْتَقْرَضِ مِنْهُ، مَا لَمْ يَكُنْ مَا صَرَفَهُ إِلَيْهِ يَجُوزُ
__________
(1) الخراج ص80.(8/248)
صَرْفُهُ مِنْ هَذَا الْبَيْتِ الآْخَرِ (1) .
وَالْبُيُوتُ الأَْرْبَعَةُ هِيَ:
الْبَيْتُ الأَْوَّل: بَيْتُ الزَّكَاةِ:
8 - مِنْ حُقُوقِهِ: زَكَاةُ السَّوَائِمِ، وَعُشُورِ الأَْرَاضِي الزَّكَوِيَّةِ، وَالْعُشُورِ الَّتِي تُؤْخَذُ مِنَ التُّجَّارِ الْمُسْلِمِينَ إِذَا مَرُّوا عَلَى الْعَاشِرِ، وَزَكَاةُ الأَْمْوَال الْبَاطِنَةِ إِنْ أَخَذَهَا الإِْمَامُ.
وَمَصْرِفُ هَذَا النَّوْعِ الْمَصَارِفُ الثَّمَانِيَةُ الَّتِي نَصَّ عَلَيْهَا الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ. وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ وَخِلاَفٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ (زَكَاة) .
وَقَدْ نَقَل الْمَاوَرْدِيُّ الْخِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي صِفَةِ الْيَدِ عَلَى هَذِهِ الأَْمْوَال، فَنَقَل أَنَّ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ: إِنَّهَا مِنْ حُقُوقِ بَيْتِ الْمَال، أَيْ أَمْلاَكِهِ الَّتِي يَرْجِعُ التَّصَرُّفُ فِيهَا إِلَى رَأْيِ الإِْمَامِ وَاجْتِهَادِهِ، كَمَال الْفَيْءِ. وَلِذَا يَجُوزُ صَرْفُهُ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ كَالْفَيْءِ، وَإِنْ رَأَى الشَّافِعِيُّ أَنَّ بَيْتَ الْمَال مُجَرَّدُ حِرْزٍ لِلزَّكَاةِ يُحَرِّزُهَا لأَِصْحَابِهَا، فَإِنْ وُجِدُوا وَجَبَ الدَّفْعُ إِلَيْهِمْ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدُوا أَحْرَزَهَا لِبَيْتِ الْمَال، وُجُوبًا عَلَى مَذْهَبِهِ الْقَدِيمِ، وَجَوَازًا عَلَى مَذْهَبِهِ الْجَدِيدِ، بِنَاءً عَلَى وُجُوبِ دَفْعِ الزَّكَاةِ إِلَى الإِْمَامِ، أَوْ جَوَازِ ذَلِكَ.
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 2 / 57 و 3 / 282.(8/249)
وَنَقَل أَبُو يَعْلَى الْحَنْبَلِيُّ أَنَّ قَوْل أَحْمَدَ كَقَوْل الشَّافِعِيِّ فِي ذَلِكَ وَخَرَّجَ وَجْهًا فِي زَكَاةِ الأَْمْوَال الظَّاهِرَةِ كَقَوْل أَبِي حَنِيفَةَ (1) .
الْبَيْتُ الثَّانِي: بَيْتُ الأَْخْمَاسِ:
9 - وَالْمُرَادُ بِالأَْخْمَاسِ:
أ - خُمُسُ الْغَنَائِمِ الْمَنْقُولَةِ، وَقِيل: وَخُمُسُ الْعَقَارَاتِ الَّتِي غُنِمَتْ أَيْضًا.
ب - خُمُسُ مَا يُوجَدُ مِنْ كُنُوزِ الْجَاهِلِيَّةِ وَقِيل هُوَ زَكَاةٌ.
ج - خُمُسُ أَمْوَال الْفَيْءِ عَلَى قَوْل الشَّافِعِيِّ، وَإِحْدَى رِوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ. وَعَلَى الرِّوَايَةِ الأُْخْرَى وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ: لاَ يُخَمَّسُ الْفَيْءُ.
وَمَصْرِفُ هَذَا النَّوْعِ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ: سَهْمٌ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَسَهْمٌ لِذَوِي الْقُرْبَى، وَسَهْمٌ لِلْيَتَامَى، وَسَهْمٌ لِلْمَسَاكِينِ، وَسَهْمٌ لاِبْنِ السَّبِيل، عَلَى مَا قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُول وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيل} (2) وَكَانَ السَّهْمُ الأَْوَّل يَأْخُذُهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَيَاتِهِ،
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 214 ط 1327 هـ، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 23، 24.
(2) سورة الأنفال / 41.(8/249)
وَبَعْدَهُ يُصْرَفُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى رَأْيِ الإِْمَامِ، فَيُنْقَل لِبَيْتِ مَال الْفَيْءِ الآْتِي ذِكْرُهُ.
وَسَائِرُ الأَْسْهُمِ الأَْرْبَعَةِ تُحَرَّزُ لأَِصْحَابِهَا فِي بَيْتِ الْمَال، حَتَّى تُقَسَّمَ عَلَيْهِمْ، وَلَيْسَ لِلإِْمَامِ أَنْ يَصْرِفَهَا فِي الْمَصَالِحِ (1) .
الْبَيْتُ الثَّالِثُ: بَيْتُ الضَّوَائِعِ:
10 - وَهِيَ الأَْمْوَال الضَّائِعَةُ وَنَحْوُهَا مِنْ لُقَطَةٍ لاَ يُعْرَفُ صَاحِبُهَا، أَوْ مَسْرُوقٍ لاَ يُعْلَمُ صَاحِبُهُ وَنَحْوِهِمَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ، فَتُحْفَظُ فِي هَذَا الْبَيْتِ مُحَرَّزَةً لأَِصْحَابِهَا، فَإِنْ حَصَل الْيَأْسُ مِنْ مَعْرِفَتِهِمْ صُرِفَ فِي وَجْهِهِ. وَمَصْرِفُ أَمْوَال هَذَا الْبَيْتِ - عَلَى مَا نَقَلَهُ ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الزَّيْلَعِيِّ، وَقَال: إِنَّهُ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - هُوَ اللَّقِيطُ الْفَقِيرُ، وَالْفُقَرَاءُ الَّذِينَ لاَ أَوْلِيَاءَ لَهُمْ، فَيُعْطَوْنَ مِنْهُ نَفَقَتَهُمْ وَأَدْوِيَتَهُمْ وَتَكَالِيفَ أَكْفَانِهِمْ وَدِيَةَ جِنَايَاتِهِمْ. وَقَال الْمَاوَرْدِيُّ: عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يُصْرَفُ لِهَؤُلاَءِ صَدَقَةٌ عَمَّنِ الْمَال لَهُ، أَوْ مَنْ خَلَّفَ الْمَال.
وَلَمْ نَعْثُرْ لِغَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى تَخْصِيصِ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الأَْمْوَال بِمَصْرِفٍ خَاصٍّ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا عِنْدَهُمْ تُصْرَفُ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ كَالْفَيْءِ، وَهُوَ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 57، والمغني 6 / 406، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 121، و235، 236 وللماوردي ص127.(8/250)
مَا صَرَّحَ بِهِ أَبُو يَعْلَى وَالْمَاوَرْدِيُّ فِي مَال مَنْ مَاتَ بِلاَ وَارِثٍ (1) ، وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ تَكُونُ الْبُيُوتُ عِنْدَهُمْ ثَلاَثَةً لاَ أَرْبَعَةً.
الْبَيْتُ الرَّابِعُ: وَهُوَ بَيْتُ مَال الْفَيْءِ:
11 - أَهَمُّ مَوَارِدِ هَذَا الْبَيْتِ مَا يَلِي:
أ - أَنْوَاعُ الْفَيْءِ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا.
ب - سَهْمُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنَ الأَْخْمَاسِ.
ج - الأَْرَاضِي الَّتِي غَنِمَهَا الْمُسْلِمُونَ عَلَى الْقَوْل بِأَنَّهَا لاَ تُقَسَّمُ، وَأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الْوَقْفِ الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهِ.
د - خَرَاجُ الأَْرْضِ الَّتِي غَنِمَهَا الْمُسْلِمُونَ، سَوَاءٌ اعْتُبِرَتْ وَقْفًا أَمْ غَيْرَ وَقْفٍ.
هـ - خُمُسُ الْكُنُوزِ الَّتِي لَمْ يُعْلَمْ صَاحِبُهَا، أَوْ تَطَاوَل عَلَيْهَا الزَّمَنُ.
و خُمُسُ الْخَارِجِ مِنَ الأَْرْضِ مِنْ مَعْدِنٍ أَوْ نِفْطٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ. وَقِيل: مَا يُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ هُوَ زَكَاةٌ مِقْدَارُهَا رُبُعُ الْعُشْرِ، وَيُصْرَفُ فِي مَصَارِفِ الزَّكَاةِ.
ز - مَال مَنْ مَاتَ بِلاَ وَارِثٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَمِنْ ذَلِكَ دِيَتُهُ.
ح - الضَّرَائِبُ الْمُوَظَّفَةُ عَلَى الرَّعِيَّةِ، الَّتِي لَمْ تُوَظَّفْ لِغَرَضٍ مُعَيَّنٍ.
__________
(1) الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 215، وللماوردي ص 193.(8/250)
ط - الْهَدَايَا إِلَى الْقُضَاةِ وَالْعُمَّال وَالإِْمَامِ.
ى - أَمْوَال الْبَيْتِ السَّابِقِ عَلَى قَوْل غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ.
مَصَارِفُ بَيْتِ مَال الْفَيْءِ:
12 - مَصْرِفُ أَمْوَال هَذَا الْبَيْتِ الْمَصَالِحُ الْعَامَّةُ لِلْمُسْلِمِينَ، فَيَكُونُ تَحْتَ يَدِ الإِْمَامِ، وَيَصْرِفُ مِنْهُ بِحَسَبِ نَظَرِهِ وَاجْتِهَادِهِ فِي الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ.
وَالْفُقَهَاءُ إِذَا أَطْلَقُوا الْقَوْل بِأَنَّ نَفَقَةَ كَذَا هِيَ فِي بَيْتِ الْمَال، يَقْصِدُونَ هَذَا الْبَيْتَ الرَّابِعَ؛ لأَِنَّهُ وَحْدَهُ الْمُخَصَّصُ لِلْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، بِخِلاَفِ مَا عَدَاهُ، فَالْحَقُّ فِيهِ لِجِهَاتٍ مُحَدَّدَةٍ، يُصْرَفُ لَهَا لاَ لِغَيْرِهَا. وَفِيمَا يَلِي بَيَانُ بَعْضِ الْمَصَالِحِ الَّتِي تُصْرَفُ فِيهَا أَمْوَال هَذَا الْبَيْتِ مِمَّا وَرَدَ فِي كَلاَمِ الْفُقَهَاءِ، لاَ عَلَى سَبِيل الْحَصْرِ وَالاِسْتِقْصَاءِ، فَإِنَّ أَبْوَابَ الْمَصَالِحِ لاَ تَنْحَصِرُ، وَهِيَ تَخْتَلِفُ مِنْ عَصْرٍ إِلَى عَصْرٍ، وَمِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ.
13 - وَمِنْ أَهَمِّ الْمَصَالِحِ الَّتِي تُصْرَفُ فِيهَا أَمْوَال هَذَا الْبَيْتِ مَا يَلِي:
أ - الْعَطَاءُ، وَهُوَ نَصِيبٌ مِنْ بَيْتِ مَال الْمُسْلِمِينَ يُعْطَى لِكُل مُسْلِمٍ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِنْ أَهْل الْقِتَال أَمْ لَمْ يَكُنْ. وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيْنِ لِلْحَنَابِلَةِ قَدَّمَهُ صَاحِبُ الْمُغْنِي، وَهُوَ كَذَلِكَ أَحَدُ قَوْلَيْنِ لِلشَّافِعِيَّةِ هُوَ خِلاَفُ الأَْظْهَرِ عِنْدَهُمْ. قَال الإِْمَامُ أَحْمَدُ: فِي الْفَيْءِ حَقٌّ لِكُل الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ بَيْنَ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ.(8/251)
وَمِنَ الْحُجَّةِ لِهَذَا الْقَوْل قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْل الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُول. . .} (1) الآْيَةَ. ثُمَّ قَال: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (2) ثُمَّ قَال: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِْيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ. . .} (3) ثُمَّ قَال: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ. . .} (4) فَاسْتَوْعَبَ كُل الْمُسْلِمِينَ. وَلِهَذَا قَال عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَعْدَ أَنْ قَرَأَ الآْيَاتِ مِنْ سُورَةِ الْحَشْرِ: هَذِهِ - يَعْنِي الآْيَةَ الأَْخِيرَةَ - اسْتَوْعَبَتِ الْمُسْلِمِينَ عَامَّةً، وَلإَِنْ عِشْتُ لَيَأْتِيَنَّ الرَّاعِي بِسَرْوِ حِمْيَرَ نَصِيبَهُ مِنْهَا، لَمْ يَعْرَقْ فِيهِ جَبِينُهُ.
وَالْقَوْل الثَّانِي لِلْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ أَهْل الْفَيْءِ هُمْ أَهْل الْجِهَادِ الْمُرَابِطُونَ فِي الثُّغُورِ، وَجُنْدُ الْمُسْلِمِينَ، وَمَنْ يَقُومُ بِمَصَالِحِهِمْ - أَيْ بِالإِْضَافَةِ إِلَى أَبْوَابِ الْمَصَالِحِ الآْتِي بَيَانُهَا.
وَأَمَّا الأَْعْرَابُ وَنَحْوُهُمْ مِمَّنْ لاَ يُعِدُّ نَفْسَهُ
__________
(1) سورة الحشر / 7.
(2) سورة الحشر / 8.
(3) سورة الحشر / 9.
(4) سورة الحشر / 10.(8/251)
لِلْقِتَال فِي سَبِيل اللَّهِ فَلاَ حَقَّ لَهُمْ فِيهِ، مَا لَمْ يُجَاهِدُوا فِعْلاً. وَمِنَ الْحُجَّةِ لِهَذَا الْقَوْل مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ. . . إِلَى أَنْ قَال: ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإِْسْلاَمِ، فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَل مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّل مِنْ دَارِهِمْ إِلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ، وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَلَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ، وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ. فَإِنْ أَبَوْا أَنْ يَتَحَوَّلُوا مِنْهَا، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ، يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللَّهِ الَّذِي يَجْرِي عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَلاَ يَكُونُ لَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ شَيْءٌ، إِلاَّ أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ.
وَقِيل عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِنَّ الْفَيْءَ كُلَّهُ يَجِبُ قَسْمُهُ بَيْنَ مَنْ لَهُ رِزْقٌ فِي بَيْتِ الْمَال فِي عَامِهِ، وَلاَ يَبْقَى مِنْهُ شَيْءٌ وَلاَ يُوَفَّرُ شَيْءٌ لِلْمَصَالِحِ مَا عَدَا خُمُسِ الْخُمُسِ (أَيِ الَّذِي لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) وَالتَّحْقِيقُ عِنْدَهُمْ: إِعْطَاءُ مَنْ لَهُمْ رِزْقٌ فِي بَيْتِ الْمَال كِفَايَتَهُمْ، وَصَرْفُ مَا يَتَبَقَّى مِنْ مَال الْفَيْءِ(8/252)
لِلْمَصَالِحِ (1) .
ب - الأَْسْلِحَةُ وَالْمُعِدَّاتُ وَالتَّحْصِينَاتُ وَتَكَالِيفُ الْجِهَادِ وَالدِّفَاعِ عَنْ أَوْطَانِ الْمُسْلِمِينَ.
ج - رَوَاتِبُ الْمُوَظَّفِينَ الَّذِينَ يَحْتَاجُ إِلَيْهِمُ الْمُسْلِمُونَ فِي أُمُورِهِمُ الْعَامَّةِ، مِنَ الْقُضَاةِ وَالْمُحْتَسِبِينَ، وَمَنْ يُنَفِّذُونَ الْحُدُودَ، وَالْمُفْتِينَ وَالأَْئِمَّةِ وَالْمُؤَذِّنِينَ وَالْمُدَرِّسِينَ، وَنَحْوِهِمْ مِنْ كُل مَنْ فَرَّغَ نَفْسَهُ لِمَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَيَسْتَحِقُّ الْكِفَايَةَ مِنْ بَيْتِ الْمَال لَهُ وَلِمَنْ يَعُولُهُ. وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلاَفِ الأَْعْصَارِ وَالْبُلْدَانِ لاِخْتِلاَفِ الأَْحْوَال وَالأَْسْعَارِ (2) .
وَلَيْسَتْ هَذِهِ الرَّوَاتِبُ أُجْرَةً لِلْمُوَظَّفِينَ مِنْ كُل وَجْهٍ، بَل هِيَ كَالأُْجْرَةِ؛ لأَِنَّ الْقَضَاءَ وَنَحْوَهُ مِنَ الطَّاعَاتِ لاَ يَجُوزُ أَخْذُ الأُْجْرَةِ عَلَيْهِ أَصْلاً (3) .
ثُمَّ إِنْ سُمِّيَ لِلْمُوَظَّفِ مِقْدَارٌ مَعْلُومٌ اسْتَحَقَّهُ، وَإِلاَّ اسْتَحَقَّ مَا يَجْرِي لأَِمْثَالِهِ إِنْ كَانَ مِمَّنْ لاَ يَعْمَل إِلاَّ بِمُرَتَّبٍ (4) .
وَأَرْزَاقُ هَؤُلاَءِ، وَأَرْزَاقُ الْجُنْدِ إِنْ لَمْ تُوجَدْ فِي بَيْتِ الْمَال، تَبْقَى دَيْنًا عَلَيْهِ، وَوَجَبَ إِنْظَارُهُ، كَالدُّيُونِ مَعَ الإِْعْسَارِ. بِخِلاَفِ سَائِرِ الْمَصَالِحِ
__________
(1) شرح المنهاج وحاشية القليوبي 2 / 213 و 3 / 191، 189، والمغني 6 / 414.
(2) ابن عابدين 3 / 280، 281، والمغني 6 / 417.
(3) ابن عابدين 3 / 282.
(4) المنهاج وحاشية القليوبي 3 / 128و 4 / 255، 256.(8/252)
فَلاَ يَجِبُ الْقِيَامُ بِهَا إِلاَّ مَعَ الْقُدْرَةِ، وَتَسْقُطُ بِعَدَمِهَا (1) .
وَالرَّاجِحُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ مَنْ مَاتَ مِنْ أَهْل الْعَطَاءِ، كَالْقَاضِي وَالْمُفْتِي وَالْمُدَرِّسِ وَنَحْوِهِمْ قَبْل انْتِهَاءِ الْعَامِ، يُعْطَى حِصَّتَهُ مِنَ الْعَامِ، أَمَّا مَنْ مَاتَ فِي آخِرِهِ أَوْ بَعْدَ تَمَامِهِ فَإِنَّهُ يَجِبُ الإِْعْطَاءُ إِلَى وَارِثِهِ (2) .
د - الْقِيَامُ بِشُئُونِ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْعَجَزَةِ وَاللُّقَطَاءِ وَالْمَسَاجِينِ الْفُقَرَاءِ، الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ مَا يُنْفَقُ عَلَيْهِمْ مِنْهُ، وَلاَ أَقَارِبَ تَلْزَمُهُمْ نَفَقَتُهُمْ، فَيَتَحَمَّل بَيْتُ الْمَال نَفَقَاتِهِمْ وَكِسْوَتَهُمْ وَمَا يُصْلِحُهُمْ مِنْ دَوَاءٍ وَأُجْرَةِ عِلاَجٍ وَتَجْهِيزِ مَيِّتٍ، وَكَذَا دِيَةُ جِنَايَةِ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَاقِلَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ كَانَ لَهُ عَاقِلَةٌ فَعَجَزُوا عَنِ الْكُل أَوِ الْبَعْضِ، فَإِنَّ بَيْتَ الْمَال يَتَحَمَّل بَاقِي الدِّيَةِ، وَلاَ تُعْقَل عَنْ كَافِرٍ. وَنَبَّهَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ إِقْرَارَ الْجَانِي لاَ يُقْبَل عَلَى بَيْتِ الْمَال، كَمَا لاَ يُقْبَل عَلَى الْعَاقِلَةِ (3) .
__________
(1) الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 236، وشرح المنهاج 3 / 294، 296، وجواهر الإكليل 2 / 271، والخراج لأبي يوسف ص 187، وروضة الطالبين للنووي 11 / 111، 137، 138. .
(2) الدر ورد المحتار 3 / 282.
(3) ابن عابدين 5 / 413، وجواهر الإكليل 2 / 271، والقليوبي 2 / 292، و 3 / 125، 294 - 296، و 4 / 211، 214، والمقنع 2 / 303، وكشاف القناع 1 / 234، وأسنى المطالب 4 / 83 - 86.(8/253)
هـ - الإِْنْفَاقُ عَلَى أَهْل الذِّمَّةِ مِنْ بَيْتِ الْمَال: لَيْسَ لِكَافِرٍ ذِمِّيٍّ أَوْ غَيْرِهِ حَقٌّ فِي بَيْتِ مَال الْمُسْلِمِينَ. لَكِنَّ الذِّمِّيَّ إِنِ احْتَاجَ لِضَعْفِهِ يُعْطَى مَا يَسُدُّ جَوْعَتَهُ (1) . وَفِي كِتَابِ الْخَرَاجِ لأَِبِي يُوسُفَ أَنَّ مِمَّا أَعْطَاهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي عَهْدِهِ لأَِهْل الْحِيرَةِ: أَيُّمَا شَيْخٍ ضَعُفَ عَنِ الْعَمَل، أَوْ أَصَابَتْهُ آفَةٌ مِنَ الآْفَاتِ، أَوْ كَانَ غَنِيًّا فَافْتَقَرَ، وَصَارَ أَهْل دِينِهِ يَتَصَدَّقُونَ عَلَيْهِ طُرِحَتْ جِزْيَتُهُ، وَعِيل مِنْ بَيْتِ مَال الْمُسْلِمِينَ وَعِيَالُهُ مَا أَقَامَ بِدَارِ الْهِجْرَةِ وَدَارِ الإِْسْلاَمِ. وَنَقَل مِثْل ذَلِكَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ الأَْمْوَال (2) .
و وَمِنْ مَصَارِفِ بَيْتِ مَال الْفَيْءِ أَيْضًا: فِكَاكُ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَيْدِي الْكُفَّارِ، وَنَقَل أَبُو يُوسُفَ فِي كِتَابِ الْخَرَاجِ قَوْل عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كُل أَسِيرٍ كَانَ فِي أَيْدِي الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَفِكَاكُهُ مِنْ بَيْتِ مَال الْمُسْلِمِينَ. وَهُنَاكَ وَجْهٌ لِلشَّافِعِيَّةِ بِأَنَّ فِكَاكَهُ فِي مَالِهِ هُوَ (ر: أَسْرَى) .
وَشَبِيهٌ بِهَذَا مَا قَالَهُ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ مَالِكَ الدَّوَابِّ - غَيْرِ الْمَأْكُولَةِ - لَوِ امْتَنَعَ مِنْ عَلْفِهَا، وَلَمْ يُمْكِنْ إِجْبَارُهُ لِفَقْرِهِ مَثَلاً يُنْفَقُ عَلَيْهَا مِنْ بَيْتِ الْمَال مَجَّانًا، وَكَذَلِكَ الدَّابَّةُ الْمَوْقُوفَةُ إِنْ لَمْ يُمْكِنْ
__________
(1) ابن عابدين 3 / 282.
(2) الخراج ص 144، والأموال ص 45.(8/253)
أَخْذُ النَّفَقَةِ مِنْ كَسْبِهَا (1) .
ز - الْمَصَالِحُ الْعَامَّةُ لِبُلْدَانِ الْمُسْلِمِينَ، مِنْ إِنْشَاءِ الْمَسَاجِدِ وَالطُّرُقِ وَالْجُسُورِ وَالْقَنَاطِرِ وَالأَْنْهَارِ وَالْمَدَارِسِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَإِصْلاَحِ مَا تَلِفَ مِنْهَا (2) .
ح - ضَمَانُ مَا يَتْلَفُ بِأَخْطَاءِ أَعْضَاءِ الإِْدَارَةِ الْحُكُومِيَّةِ:
مِنْ ذَلِكَ أَخْطَاءُ وَلِيِّ الأَْمْرِ وَالْقَاضِي وَنَحْوِهِمْ مِنْ سَائِرِ مَنْ يَقُومُ بِالأَْعْمَال الْعَامَّةِ، إِذَا أَخْطَئُوا فِي عَمَلِهِمُ الَّذِي كُلِّفُوا بِهِ، فَتَلِفَ بِذَلِكَ نَفْسٌ أَوْ عُضْوٌ أَوْ مَالٌ، كَدِيَةِ مَنْ مَاتَ بِالتَّجَاوُزِ فِي التَّعْزِيرِ، فَحَيْثُ وَجَبَ ضَمَانُ ذَلِكَ يَضْمَنُ بَيْتُ الْمَال.
فَإِنْ كَانَ الْعَمَل الْمُكَلَّفُ بِهِ لِشَأْنٍ خَاصٍّ لِلإِْمَامِ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الْمَسْئُولِينَ فَالضَّمَانُ عَلَى عَاقِلَتِهِ، أَوْ فِي مَالِهِ الْخَاصِّ بِحَسَبِ الأَْحْوَال. وَذَلِكَ لأَِنَّ أَخْطَاءَهُمْ قَدْ تَكْثُرُ، فَلَوْ حَمَلُوهَا هُمْ أَوْ عَاقِلَتُهُمْ لأََجْحَفَ بِهِمْ.
هَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَالْقَوْل غَيْرُ الأَْظْهَرِ لِلشَّافِعِيَّةِ. أَمَّا الأَْظْهَرُ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ
__________
(1) الخراج لأبي يوسف ص 196، والمواق 3 / 387، وجواهر الإكليل 1 / 260، 270 و 2 / 209، والقليوبي 3 / 86، و 4 / 93، 215، وكشاف القناع 3 / 55.
(2) المغني 6 / 417، وشرح المنهاج 3 / 95.(8/254)
فَهُوَ أَنَّ الضَّمَانَ عَلَى عَاقِلَتِهِ. أَمَّا ضَمَانُ الْعَمْدِ فَيَتَحَمَّلُهُ فَاعِلُهُ اتِّفَاقًا (1) .
ط - تَحَمُّل الْحُقُوقِ الَّتِي أَقَرَّهَا الشَّرْعُ لأَِصْحَابِهَا، وَاقْتَضَتْ قَوَاعِدُ الشَّرْعِ أَنْ لاَ يَحْمِلَهَا أَحَدٌ مُعَيَّنٌ:
وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ مَا لَوْ قُتِل شَخْصٌ فِي زِحَامِ طَوَافٍ أَوْ مَسْجِدٍ عَامٍّ أَوِ الطَّرِيقِ الأَْعْظَمِ، وَلَمْ يُعْرَفْ قَاتِلُهُ، فَتَكُونُ دِيَتُهُ فِي بَيْتِ الْمَال لِقَوْل عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لاَ يُطَل فِي الإِْسْلاَمِ دَمٌ (2) ، وَقَدْ تَحَمَّل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِيَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلٍ الأَْنْصَارِيِّ حِينَ قُتِل فِي خَيْبَرَ، لَمَّا لَمْ يُعْرَفْ قَاتِلُهُ، وَأَبَى الأَْنْصَارُ أَنْ يَحْلِفُوا الْقَسَامَةَ، وَلَمْ يَقْبَلُوا أَيْمَانَ الْيَهُودِ، فَوْدَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عِنْدِهِ كَرَاهِيَةَ أَنْ يُبْطِل دَمَهُ. (3)
__________
(1) ابن عابدين 3 / 190، والدسوقي 4 / 355، وروضة الطالبين 11 / 308، والمغني 8 / 312، 328.
(2) الأثر: " لا يطل في الإسلام دم ". ورد من قول علي بن أبي طالب، أورده صاحب المغني (7 / 791 ـ ط الرياض) دون عزوه لأحد. وفيه أن رجلا قتل في زحام في مكة. فسأل عمر عليا فيه فقال: لا يطل دم في الإسلام، فوداه عمر من بيت المال، وأورد القصة عبد الرزاق في المصنف (10 / 51 ـ ط المجلس العلمي ـ في الهند) دون مقالة علي.
(3) حديث: " تحمل دية عبد الله بن سهل الأنصاري " أخرجه البخاري (6 / 275 ـ الفتح ـ ط السلفية) ومسلم (3 / 1292ـ ط الحلبي) . وانظر المغني 8 / 78، والدر المختار وحاشيته 5 / 406.(8/254)
وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا أُجْرَةُ تَعْرِيفِ اللُّقَطَةِ، فَلِلْقَاضِي أَنْ يُرَتِّبَ أُجْرَةَ تَعْرِيفِهَا مِنْ بَيْتِ الْمَال، عَلَى أَنْ تَكُونَ قَرْضًا عَلَى صَاحِبِهَا (1) .
أَوْلَوِيَّاتُ الصَّرْفِ مِنْ بَيْتِ الْمَال:
14 - يَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ يُنْدَبُ الْبَدْءُ بِالصَّرْفِ لآِل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ تَحْرُمُ عَلَيْهِمُ الصَّدَقَةُ، اقْتِدَاءً بِفِعْل عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، إِذْ قَدَّمَ آل بَيْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دِيوَانِ الْعَطَاءِ. ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَجِبُ الْبَدْءُ بِمَصَالِحِ أَهْل الْبَلَدِ الَّذِينَ جُمِعَ مِنْهُمُ الْمَال، كَبِنَاءِ مَسَاجِدِهِمْ وَعِمَارَةِ ثُغُورِهِمْ وَأَرْزَاقِ قُضَاتِهِمْ وَمُؤَذِّنِيهِمْ وَقَضَاءِ دُيُونِهِمْ وَدِيَاتِ جِنَايَاتِهِمْ، وَيُعْطَوْنَ كِفَايَةَ سَنَتِهِمْ.
وَإِنْ كَانَ غَيْرُ فُقَرَاءِ الْبَلَدِ الَّتِي جُبِيَ فِيهَا الْمَال أَكْثَرَ احْتِيَاجًا مِنْهُمْ، فَإِنَّ الإِْمَامَ يَصْرِفُ الْقَلِيل لأَِهْل الْبَلَدِ الَّتِي جُبِيَ فِيهَا الْمَال، ثُمَّ يَنْقُل الأَْكْثَرَ لِغَيْرِهِمْ (2) .
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ عَلَى بَيْتِ الْمَال حَقَّانِ، ضَاقَ عَنْهُمَا وَاتَّسَعَ لأَِحَدِهِمَا، صُرِفَ فِيمَا يَصِيرُ مِنْهُمَا دَيْنًا عَلَى بَيْتِ الْمَال لَوْ لَمْ يُؤَدَّ فِي وَقْتِهِ، كَأَرْزَاقِ الْجُنْدِ وَأَثْمَانِ الْمُعِدَّاتِ وَالسِّلاَحِ وَنَحْوِهِمَا،
__________
(1) المنهاج وشرحه 3 / 121 ـ 128.
(2) جواهر الإكليل 1 / 260، والقليوبي 3 / 190، والشرح الكبير بحاشية الدسوقي 2 / 190.(8/255)
دُونَ مَا يَجِبُ عَلَى وَجْهِ الإِْرْفَاقِ وَالْمَصْلَحَةِ، كَالطُّرُقِ وَنَحْوِهَا (1) .
الْفَائِضُ فِي بَيْتِ الْمَال:
15 - لِعُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِيمَا يَفِيضُ فِي بَيْتِ الْمَال، بَعْدَ أَدَاءِ الْحُقُوقِ الَّتِي عَلَيْهِ، ثَلاَثَةُ اتِّجَاهَاتٍ:
الأَْوَّل - وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ يَجِبُ تَفْرِيقُ الْفَائِضِ وَتَوْزِيعُهُ عَلَى مَنْ يَعُمُّ بِهِ صَلاَحُ الْمُسْلِمِينَ، وَلاَ يُدَّخَرُ؛ لأَِنَّ مَا يَنُوبُ الْمُسْلِمِينَ يَتَعَيَّنُ فَرْضُهُ عَلَيْهِمْ إِذَا حَدَثَ. وَفِي الْمِنْهَاجِ وَشَرْحِهِ مِنْ كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ: يُوَزَّعُ الْفَائِضُ عَلَى الرِّجَال الْبَالِغِينَ مِمَّنْ لَهُمْ رِزْقٌ فِي بَيْتِ الْمَال، لاَ عَلَى غَيْرِهِمْ وَلاَ ذَرَارِيِّهِمْ. قَال الْقَلْيُوبِيُّ: وَالْغَرَضُ أَنْ لاَ يَبْقَى فِي بَيْتِ الْمَال شَيْءٌ.
وَالثَّانِي - وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّهَا تُدَّخَرُ فِي بَيْتِ الْمَال لِمَا يَنُوبُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ حَادِثٍ.
وَالثَّالِثُ - التَّفْوِيضُ لِرَأْيِ الإِْمَامِ، قَال الْقَلْيُوبِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: قَال الْمُحَقِّقُونَ: لِلإِْمَامِ الاِدِّخَارُ.
وَنَقَل صَاحِبُ جَوَاهِرِ الإِْكْلِيل عَنِ الْمُدَوَّنَةِ: يُبْدَأُ فِي الْفَيْءِ بِفُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ، فَمَا بَقِيَ يُقَسَّمُ بَيْنَ النَّاسِ بِالسَّوِيَّةِ، إِلاَّ أَنْ يَرَى الإِْمَامُ حَبْسَهُ لِنَوَائِبِ الْمُسْلِمِينَ (2) .
__________
(1) الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 237.
(2) الماوردي ص 215 ط مصطفى الحلبي، وأبو يعلى ص 237، وشرح المنهاج بحاشية القليوبي 3 / 191، وجواهر الإلكليل 1 / 260.(8/255)
إِذَا عَجَزَ بَيْتُ الْمَال عَنْ أَدَاءِ الْحُقُوقِ:
16 - بَيَّنَ الْمَاوَرْدِيُّ وَأَبُو يَعْلَى حَالَةَ عَجْزِ بَيْتِ الْمَال عَنْ أَدَاءِ الْحُقُوقِ فَقَالاَ مَا حَاصِلُهُ: إِنَّ الْمُسْتَحَقَّ عَلَى بَيْتِ الْمَال ضَرْبَانِ:
الأَْوَّل: مَا كَانَ بَيْتُ الْمَال لَهُ مُجَرَّدَ حِرْزٍ، كَالأَْخْمَاسِ وَالزَّكَاةِ، فَاسْتِحْقَاقُهُ مُعْتَبَرٌ بِالْوُجُودِ، فَإِنْ كَانَ الْمَال مَوْجُودًا فِيهِ كَانَ مَصْرِفُهُ مُسْتَحَقًّا، وَعَدَمُهُ مُسْقِطٌ لاِسْتِحْقَاقِهِ.
الثَّانِي: مَا كَانَ بَيْتُ الْمَال لَهُ مُسْتَحِقًّا، وَهُوَ مَال الْفَيْءِ وَنَحْوِهِ، وَمَصَارِفُهُ نَوْعَانِ:
أَوَّلُهُمَا: مَا كَانَ مَصْرِفُهُ مُسْتَحَقًّا عَلَى وَجْهِ الْبَدَل، كَرَوَاتِبِ الْجُنُودِ، وَأَثْمَانِ مَا اشْتُرِيَ مِنَ السِّلاَحِ وَالْمُعِدَّاتِ، فَاسْتِحْقَاقُهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ بِالْوُجُودِ، بَل هُوَ مِنَ الْحُقُوقِ اللاَّزِمَةِ لِبَيْتِ الْمَال مَعَ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ. فَإِنْ كَانَ مَوْجُودًا يُعَجَّل دَفْعُهُ، كَالدَّيْنِ عَلَى الْمُوسِرِ، وَإِنْ كَانَ مَعْدُومًا وَجَبَ فِيهِ، وَلَزِمَ إِنْظَارُهُ، كَالدَّيْنِ عَلَى الْمُعْسِرِ.
ثَانِيهِمَا: أَنْ يَكُونَ مَصْرِفُهُ مُسْتَحَقًّا عَلَى وَجْهِ الْمَصْلَحَةِ وَالإِْرْفَاقِ دُونَ الْبَدَل، فَاسْتِحْقَاقُهُ مُعْتَبَرٌ بِالْوُجُودِ دُونَ الْعَدَمِ. فَإِنْ كَانَ مَوْجُودًا وَجَبَ فِيهِ، إِنْ كَانَ مَعْدُومًا سَقَطَ وُجُوبُهُ عَنْ بَيْتِ الْمَال. ثُمَّ يَكُونُ - إِنْ عَمَّ ضَرَرُهُ - مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، حَتَّى يَقُومَ بِهِ مَنْ فِيهِ كِفَايَةٌ كَالْجِهَادِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لاَ يَعُمُّ ضَرَرُهُ كَوُعُورَةِ طَرِيقٍ قَرِيبٍ يَجِدُ النَّاسُ غَيْرَهُ(8/256)
طَرِيقًا بَعِيدًا، أَوِ انْقِطَاعِ شِرْبٍ يَجِدُ النَّاسُ غَيْرَهُ شِرْبًا. فَإِذَا سَقَطَ وُجُوبُهُ عَنْ بَيْتِ الْمَال بِالْعَدَمِ سَقَطَ وُجُوبُهُ عَنِ الْكَافَّةِ؛ لِوُجُودِ الْبَدَل (1) .
وَيُلاَحَظُ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ الْعَجْزُ فِي بَيْتِ الْمَال الْفَرْعِيِّ، أَيْ فِي أَحَدِ الأَْقَالِيمِ التَّابِعَةِ لِلإِْمَامِ. فَإِذَا قَلَّدَ الْخَلِيفَةُ أَمِيرًا عَلَى إِقْلِيمٍ، فَإِذَا نَقَصَ مَال الْخَرَاجِ عَنْ أَرْزَاقِ جَيْشِهِ، فَإِنَّهُ يُطَالِبُ الْخَلِيفَةَ بِتَمَامِهَا مِنْ بَيْتِ الْمَال. أَمَّا إِنْ نَقَصَ مَال الصَّدَقَاتِ عَنْ كِفَايَةِ مَصَارِفِهَا فِي عَمَلِهِ فَلاَ يَكُونُ لَهُ مُطَالَبَةُ الْخَلِيفَةِ بِتَمَامِهَا، وَذَلِكَ لأَِنَّ أَرْزَاقَ الْجَيْشِ مُقَدَّرَةٌ بِالْكِفَايَةِ، وَحُقُوقُ أَهْل الصَّدَقَاتِ مُعْتَبَرَةٌ بِالْوُجُودِ (2) .
تَصَرُّفَاتُ الإِْمَامِ فِي الدُّيُونِ عَلَى بَيْتِ الْمَال:
17 - إِذَا ثَبَتَتِ الدُّيُونُ عَلَى بَيْتِ الْمَال، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ وَفَاءٌ لَهَا، فَلِلإِْمَامِ أَنْ يَسْتَقْرِضَ مِنْ أَحَدِ بُيُوتِ الْمَال لِلْبَيْتِ الآْخَرِ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ. وَقَالُوا: وَإِذَا حَصَل لِلْخِزَانَةِ الَّتِي اسْتُقْرِضَ لَهَا مَالٌ يُرَدُّ إِلَى الْمُسْتَقْرَضِ مِنْهُ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْمَصْرُوفُ مِنَ الصَّدَقَاتِ أَوْ خُمُسِ الْغَنَائِمِ عَلَى أَهْل الْخَرَاجِ، وَهُمْ فُقَرَاءُ، فَإِنَّهُ لاَ يُرَدُّ مِنْ
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 215، ولأبي يعلى ص 237، انظر شرح المنهاج وحاشية القليوبي3 / 191، 4 / 215.
(2) الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 17، والماوردي ص31.(8/256)
ذَلِكَ شَيْئًا؛ لاِسْتِحْقَاقِهِمُ الصَّدَقَاتِ بِالْفَقْرِ. وَكَذَا غَيْرُهُ إِذَا صُرِفَ إِلَى الْمُسْتَحِقِّ (1) .
وَلِلإِْمَامِ أَيْضًا أَنْ يَسْتَعِيرَ أَوْ يَقْتَرِضَ لِبَيْتِ الْمَال مِنَ الرَّعِيَّةِ. وَقَدِ اسْتَعَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُرُوعًا لِلْجِهَادِ مِنْ صَفْوَانِ بْنِ أُمَيَّةَ (2) وَاسْتَسْلَفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَعِيرًا وَرَدَّ مِثْلَهُ مِنْ إِبِل الصَّدَقَةِ (3) ، وَذَلِكَ اقْتِرَاضٌ عَلَى خِزَانَةِ الصَّدَقَاتِ مِنْ بَيْتِ الْمَال (4) .
تَنْمِيَةُ أَمْوَال بَيْتِ الْمَال وَالتَّصَرُّفُ فِيهَا:
18 - بِالإِْضَافَةِ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ صَلاَحِيَاتِ الإِْنْفَاقِ فِي بَيْتِ الْمَال، فَإِنَّ لِلإِْمَامِ التَّصَرُّفَ فِي أَمْوَال بَيْتِ الْمَال. وَالْقَاعِدَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ مَنْزِلَةَ الإِْمَامِ مِنْ أَمْوَال بَيْتِ الْمَال مَنْزِلَةُ الْوَلِيِّ مِنْ مَال الْيَتِيمِ، كَمَا قَال عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنِّي أَنْزَلْتُ نَفْسِي مِنْ هَذَا الْمَال مَنْزِلَةَ وَلِيِّ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 57 و3 / 282.
(2) حديث: " استعار النبي صلى الله عليه وسلم دروعا للجهاد من صفوان بن أمية " أخرجه أبو داود (3 / 328 ـ ط عزت عبيد دعاس) والحاكم (3 / 48 ـ ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه ووافقه الذهبي.
(3) حديث: " استلف عليه الصلاة والسلام بعيرا ورد مثله من إبل الصدقة " أخرجه مسلم (3 / 1224 ـ ط الحلبي) من حديث أبي رافع.
(4) الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 237.(8/257)
الْيَتِيمِ (1) . فَلَهُ فِيهِ مِنَ التَّصَرُّفِ مَا لِوَلِيِّ الْيَتِيمِ فِي مَال الْيَتِيمِ.
وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ عَلَى إِطْلاَقِهَا، فَلاَ يَلْزَمُ التَّشْبِيهُ مِنْ كُل وَجْهٍ (2) ، بِدَلِيل أَنَّ لِلإِْمَامِ التَّمْلِيكَ مِنْ بَيْتِ الْمَال وَالإِْقْطَاعَ مِنْهُ.
وَمِنَ الأَْمْثِلَةِ الَّتِي تَعَرَّضَ لَهَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مَا يَلِي:
أ - الْبَيْعُ: يَجُوزُ لِلإِْمَامِ بَيْعُ شَيْءٍ مِنْ أَمْوَال بَيْتِ الْمَال، إِذَا رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي ذَلِكَ. أَمَّا شِرَاؤُهُ لِنَفْسِهِ شَيْئًا مِنْهَا فَقَدْ جَاءَ فِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ: لاَ يَصِحُّ بَيْعُ الإِْمَامِ وَلاَ شِرَاؤُهُ مِنْ وَكِيل بَيْتِ الْمَال لِشَيْءٍ مِنْ أَمْوَال بَيْتِ الْمَال؛ لأَِنَّهُ كَوَكِيل الْيَتِيمِ، فَلاَ يَجُوزُ ذَلِكَ مِنْهُ إِلاَّ لِضَرُورَةٍ. زَادَ فِي الْبَحْرِ: أَوْ رَغِبَ فِي الْعَقَارِ بِضِعْفِ قِيمَتِهِ، عَلَى قَوْل الْمُتَأَخِّرِينَ الْمُفْتَى بِهِ. (3)
ب - الإِْجَارَةُ: أَرْضُ بَيْتِ الْمَال تَجْرِي عَلَيْهَا أَحْكَامُ الْوُقُوفِ الْمُؤَبَّدَةِ. فَتُؤَجَّرُ كَمَا يُؤَجَّرُ الْوَقْفُ (4) .
__________
(1) طبقات ابن سعد 3 / 198، وأخبار عمر بن الخطاب لابن الجوزي ص 430، وأخبار عمر بن الخطاب للشيخ علي الطنطاوي وأخيه ص 413.
(2) نهاية المحتاج 5 / 118.
(3) ابن عابدين والدر المختار 3 / 255 و258.
(4) ابن عابدين 3 / 397.(8/257)
ج - الْمُسَاقَاةُ: تَصِحُّ الْمُسَاقَاةُ مِنَ الإِْمَامِ عَلَى بَسَاتِينِ بَيْتِ الْمَال، كَمَا تَصِحُّ مِنْ جَائِزِ التَّصَرُّفِ لِصَبِيٍّ تَحْتَ وِلاَيَتِهِ (1) .
د - الإِْعَارَةُ: اخْتَلَفَ قَوْل الشَّافِعِيَّةِ فِي إِعَارَةِ الإِْمَامِ لِشَيْءٍ مِنْ أَمْوَال بَيْتِ الْمَال، فَأَفْتَى الإِْسْنَوِيُّ بِجَوَازِهِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ إِذَا جَازَ لَهُ التَّمْلِيكُ مِنْ بَيْتِ الْمَال فَالإِْعَارَةُ أَوْلَى. وَقَال الرَّمْلِيُّ: لاَ يَجُوزُ لِلإِْمَامِ مُطْلَقًا إِعَارَةُ أَمْوَال بَيْتِ الْمَال، كَالْوَلِيِّ فِي مَال مُوَلِّيهِ (2) . وَقَال الْقَلْيُوبِيُّ: ثُمَّ إِنْ أَخَذَ أَحَدٌ شَيْئًا مِنْ بَيْتِ الْمَال عَارِيَّةً فَهَلَكَ فِي يَدِهِ فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ، إِنْ كَانَ لَهُ فِي بَيْتِ الْمَال حَقٌّ، وَتَسْمِيَتُهُ عَارِيَّةً مَجَازٌ (3) .
هـ - الإِْقْرَاضُ: ذَكَرَ ابْنُ الأَْثِيرِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَقْرَضَ هِنْدًا بِنْتَ عُتْبَةَ أَرْبَعَةَ آلاَفٍ تَتَّجِرُ فِيهَا وَتَضْمَنُهَا (4) .
وَمِمَّا يَجْرِي مَجْرَى الإِْقْرَاضِ الإِْنْفَاقُ بِقَصْدِ الرُّجُوعِ، وَمِنْ ذَلِكَ الإِْنْفَاقُ عَلَى الْبَهِيمَةِ الضَّائِعَةِ وَنَحْوِهَا، حِفْظًا لَهَا مِنَ التَّلَفِ. ثُمَّ يَرْجِعُ بَيْتُ الْمَال بِالنَّفَقَةِ عَلَى صَاحِبِ الْبَهِيمَةِ، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ بِيعَتْ، وَأُخِذَ مِنْ ثَمَنِهَا حَقُّ بَيْتِ
__________
(1) حاشية القليوبي على شرح منهاج النووي 3 / 61.
(2) نهاية المحتاج 5 / 118.
(3) حاشية شرح المنهاج 3 / 20.
(4) الكامل 3 / 29.(8/258)
الْمَال (1) .
إِقْطَاعُ التَّمْلِيكِ:
19 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ لِلإِْمَامِ أَنْ يُقْطِعَ مِنَ الأَْرَاضِي الَّتِي لَمْ تَكُنْ لأَِحَدٍ وَلاَ فِي يَدِ وَارِثٍ؛ لِمَنْ فِيهِ غَنَاءٌ وَنَفْعٌ لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى سَبِيل النَّظَرِ فِي الْمَصْلَحَةِ، لاَ عَلَى سَبِيل الْمُحَابَاةِ وَالأَْثَرَةِ، كَمَا أَنَّ لَهُ أَنْ يُعْطِيَ مِنْ أَمْوَال بَيْتِ الْمَال الأُْخْرَى؛ إِذِ الأَْرْضُ وَالْمَال شَيْءٌ وَاحِدٌ. كَذَا قَال الْقَاضِي أَبُو يُوسُفَ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَصْفَى أَمْوَال كِسْرَى وَأَهْلَهُ لِبَيْتِ الْمَال، وَمَال كُل رَجُلٍ قُتِل فِي الْحَرْبِ أَوْ لَحِقَ بِأَرْضِ الْحَرْبِ أَوْ مَغِيضِ مَاءٍ أَوْ أَجَمَةٍ. وَكَانَ خَرَاجُ ذَلِكَ سَبْعَةَ آلاَفِ أَلْفٍ، فَكَانَ يُقْطِعُ مِنْ هَذِهِ لِمَنْ أَقْطَعَ. قَال أَبُو يُوسُفَ: وَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْمَال الَّذِي لَمْ يَكُنْ لأَِحَدٍ، وَلاَ فِي يَدِ وَارِثٍ، فَلِلإِْمَامِ الْعَادِل أَنْ يُجِيزَ مِنْهُ وَيُعْطِيَ مَنْ كَانَ لَهُ غَنَاءٌ فِي الإِْسْلاَمِ (2) . وَنَقَل هَذَا ابْنُ عَابِدِينَ، وَقَال: هَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْقَطَائِعَ قَدْ تَكُونُ مِنَ الْمَوَاتِ، وَقَدْ تَكُونُ مِنْ بَيْتِ الْمَال لِمَنْ هُوَ مِنْ مَصَارِفِهِ، كَمَا يُعْطِي الْمَال حَيْثُ رَأَى الْمَصْلَحَةَ، وَأَنَّ الْمُقْطِعَ يَمْلِكُ رَقَبَةَ الأَْرْضِ؛ وَلِذَا يُؤْخَذُ مِنْهَا الْعُشْرُ، لأَِنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الصَّدَقَةِ (3) .
__________
(1) جواهر الإكليل 2 / 220.
(2) الخراج لأبي يوسف ص 57، 85.
(3) رد المحتار 3 / 265.(8/258)
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - عَلَى مَا فَصَّلَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَأَبُو يَعْلَى - أَنَّ أَرَاضِيَ بَيْتِ الْمَال ثَلاَثَةُ أَقْسَامٍ:
أ - مَا اصْطَفَاهُ الإِْمَامُ لِبَيْتِ الْمَال بِحَقِّ الْخُمُسِ أَوْ بِاسْتِطَابَةِ نُفُوسِ الْغَانِمِينَ، كَمَا اصْطَفَى عُمَرُ أَرَاضِيَ كِسْرَى وَأَهْلِهِ، وَلَمْ يُقْطِعْ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا. فَلَمَّا جَاءَ عُثْمَانُ أَقْطَعَ مِنْهُ وَأَخَذَ مِنْهُ حَقَّ الْفَيْءِ. قَال الْمَاوَرْدِيُّ: فَكَانَ ذَلِكَ إِقْطَاعَ إِجَارَةٍ لاَ إِقْطَاعَ تَمْلِيكٍ. وَلاَ يَجُوزُ إِقْطَاعُ رَقَبَتِهِ؛ لأَِنَّهُ صَارَ بِاصْطِفَائِهِ لِبَيْتِ الْمَال مِلْكًا لِكَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ، فَجَرَى عَلَى رَقَبَتِهِ حُكْمُ الْوَقْفِ الْمُؤَبَّدِ.
ب - أَرْضُ الْخَرَاجِ، فَلاَ يَجُوزُ تَمْلِيكُ رَقَبَتِهَا؛ لأَِنَّ أَرْضَ الْخَرَاجِ بَعْضُهَا مَوْقُوفٌ، وَخَرَاجُهَا أُجْرَةٌ، وَبَعْضُهَا مَمْلُوكٌ لأَِهْلِهَا، وَخَرَاجُهَا جِزْيَةٌ.
ج - مَا مَاتَ عَنْهُ أَرْبَابُهُ وَلَمْ يَسْتَحِقَّهُ وَارِثٌ بِفَرْضٍ أَوْ تَعْصِيبٍ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا النَّوْعِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا تَصِيرُ وَقْفًا، فَعَلَى هَذَا لاَ يَجُوزُ بَيْعُهَا وَلاَ إِقْطَاعُهَا.
وَثَانِيهِمَا: أَنَّهَا لاَ تَصِيرُ وَقْفًا حَتَّى يَقِفَهَا الإِْمَامُ. فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ لَهُ إِقْطَاعُهَا تَمْلِيكًا، كَمَا يَجُوزُ بَيْعُهَا.
وَنَقَل قَوْلاً آخَرَ: أَنَّ إِقْطَاعَهَا لاَ يَجُوزُ، وَإِنْ جَازَ بَيْعُهَا؛ لأَِنَّ الْبَيْعَ مُعَاوَضَةٌ، وَهَذَا الإِْقْطَاعُ(8/259)
صِلَةٌ، وَالأَْثْمَانُ إِذَا صَارَتْ نَاضَّةً لَهَا حُكْمٌ يُخَالِفُ فِي الْعَطَايَا حُكْمَ الأُْصُول الثَّابِتَةِ، فَافْتَرَقَا، وَإِنْ كَانَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ضَعِيفًا (1) .
وَالْحُكْمُ كَذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي أَرْضِ الْعَنْوَةِ الْعَامِرَةِ فَإِنَّهَا لاَ يَجُوزُ لِلإِْمَامِ إِقْطَاعُهَا تَمْلِيكًا، بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا تَكُونُ وَقْفًا بِنَفْسِ الاِسْتِيلاَءِ عَلَيْهَا (2) . وَلَمْ نَجِدْ لَهُمْ تَعَرُّضًا لِلأَْرْضِ الَّتِي تَئُول إِلَى بَيْتِ الْمَال بِهَلاَكِ أَرْبَابِهَا. هَل يَجُوزُ إِقْطَاعُ التَّمْلِيكِ مِنْهَا أَمْ لاَ؟ .
إِقْطَاعُ الاِنْتِفَاعِ وَالإِْرْفَاقِ وَالاِسْتِغْلاَل:
20 - يَجُوزُ لِلإِْمَامِ - إِذَا رَأَى الْمَصْلَحَةَ - أَنْ يُقْطِعَ مِنْ أَرَاضِي بَيْتِ الْمَال أَوْ عَقَارِهِ - بَعْضَ النَّاسِ إِرْفَاقًا أَوْ لِيَأْخُذَ الْغَلَّةَ. قَال الْمَالِكِيَّةُ: ثُمَّ مَا اقْتَطَعَهُ الإِْمَامُ مِنَ الْعَنْوَةِ، إِنْ كَانَ لِشَخْصٍ بِعَيْنِهِ انْحَل بِمَوْتِ الْمُنْتَفِعِ. وَإِنْ كَانَ لِشَخْصٍ وَذُرِّيَّتِهِ وَعَقِبِهِ اسْتَحَقَّتْهُ الذُّرِّيَّةُ بَعْدَهُ، لِلأُْنْثَى مِثْل الذَّكَرِ.
وَانْظُرْ (إِرْفَاق. إِرْصَاد. أَرْضُ الْحَوْزِ) وَبَعْضُهُمْ جَعَل مِثْل هَذَا وَقْفًا. (3)
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 195، 194، ولأبي يعلى ص 214.
(2) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 4 / 68.
(3) ابن عابدين 3 / 226، 259، والفتاوى المهدية 2 / 645ـ 650، ورسالة " بغية الآمال في حكم ما رتب وأرصد من بيت المال " للحموي، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي 4 / 68، وحاشية القليوبي على شرح المنهاج 3 / 92، والمغني 5 / 526، ونهاية المحتاج 5 / 337، 356، والأحكام السلطانية للماوردي ص 196، ولأبي يعلى ص 219.(8/259)
وَقْفُ عَقَارِ بَيْتِ الْمَال:
21 - ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ جَوَازَ وَقْفِ الإِْمَامِ مِنْ بَيْتِ الْمَال، ثُمَّ قَالُوا: إِنْ كَانَ السُّلْطَانُ اشْتَرَى الأَْرَاضِيَ وَالْمَزَارِعَ مِنْ وَكِيل بَيْتِ الْمَال يَجِبُ مُرَاعَاةُ شَرَائِطِهِ، وَإِنْ وَقَفَهَا مِنْ بَيْتِ الْمَال لاَ تَجِبُ مُرَاعَاتُهَا (1) .
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ، كَمَا نَقَل عَمِيرَةُ الْبُرُلُّسِيُّ:
وَقْفَ الإِْمَامِ مِنْ بَيْتِ الْمَال. قَالُوا: لأَِنَّ لَهُ التَّمْلِيكَ مِنْهُ، وَكَمَا فَعَل عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي أَرْضِ سَوَادِ الْعِرَاقِ، إِذْ وَقَفَهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ (2) . وَانْظُرْ (ر: إِرْصَاد) .
تَمْلِيكُ حُقُوقِ بَيْتِ الْمَال قَبْل تَوْرِيدِهَا إِلَيْهِ:
22 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ لِلإِْمَامِ أَنْ يَتْرُكَ الْخَرَاجَ لِلْمَالِكِ لاَ الْعُشْرَ، ثُمَّ يَحِل ذَلِكَ لِلْمَالِكِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، إِنْ كَانَ الْمَالِكُ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ شَيْئًا مِنْ بَيْتِ الْمَال، وَإِلاَّ تَصَدَّقَ بِهِ.
وَلَوْ تَرَكَ الإِْمَامُ الْعُشْرَ وَنَحْوَهُ مِنْ أَمْوَال الزَّكَاةِ
__________
(1) ابن عابدين 3 / 418.
(2) حاشية عميرة والقليوبي على شرح المنهاج 3 / 18، 97، 109، ونهاية المحتاج 5 / 118.(8/260)
فَلَمْ يَأْخُذْهُ لاَ يَجُوزُ إِجْمَاعًا، وَيُخْرِجُهُ الْمَالِكُ بِنَفْسِهِ لِلْفُقَرَاءِ وَنَحْوِهِمْ مِنْ مَصَارِفِ الزَّكَاةِ (1) .
الدُّيُونُ الَّتِي لِبَيْتِ الْمَال:
23 - تَثْبُتُ لِبَيْتِ الْمَال الدُّيُونُ فِي ذِمَمِ الأَْفْرَادِ. فَلَوْ ضَرَبَ الإِْمَامُ أَمْوَالاً عَلَى الرَّعِيَّةِ عَامَّةً، أَوْ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ أَوْ أَهْل بَلَدٍ، لِمَصْلَحَتِهِمْ، كَتَجْهِيزِ الْجُيُوشِ أَوْ فِدَاءِ الأَْسْرَى، وَكَأُجْرَةِ الْحِرَاسَةِ وَكَرْيِ الأَْنْهَارِ، فَمَنْ لَمْ يُؤَدِّ مِنْ ذَلِكَ مَا ضُرِبَ عَلَيْهِ بَقِيَ فِي ذِمَّتِهِ دَيْنًا وَاجِبًا لِبَيْتِ الْمَال، لاَ يَجُوزُ لَهُمُ الاِمْتِنَاعُ مِنْهُ (2) .
انْتِظَامُ بَيْتِ الْمَال وَفَسَادُهُ:
24 - يَكُونُ بَيْتُ الْمَال مُنْتَظِمًا إِذَا كَانَ الإِْمَامُ عَدْلاً يَأْخُذُ الْمَال مِنْ حَقِّهِ، وَيَضَعُهُ فِي مُسْتَحِقِّهِ. وَيَكُونُ فَاسِدًا إِذَا كَانَ الإِْمَامُ غَيْرَ عَدْلٍ، فَيَأْخُذُ الْمَال مِنْ أَصْحَابِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ. أَوْ يَأْخُذُهُ بِحَقٍّ، وَلَكِنْ يُنْفِقُ مِنْهُ فِي غَيْرِ مَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ، كَمَا لَوْ أَنْفَقَهُ فِي مَصَالِحِهِ الْخَاصَّةِ، أَوْ يَخُصُّ أَقَارِبَهُ أَوْ مَنْ يَهْوَى بِمَا لاَ يَسْتَحِقُّونَهُ، وَيَمْنَعُ أَهْل الاِسْتِحْقَاقِ.
وَمِنَ الْفَسَادِ أَيْضًا أَنْ يُفَوِّضَ الإِْمَامُ أَمْرَ بَيْتِ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 57.
(2) ابن عابدين 2 / 57.(8/260)
الْمَال إِلَى غَيْرِ عَدْلٍ، وَلاَ يَسْتَقْصِي عَلَيْهِ فِيمَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ مِنْ أَمْوَال بَيْتِ الْمَال فَيَظْهَرُ مِنْهُ التَّضْيِيعُ وَسُوءُ التَّصَرُّفِ.
وَمِنْ أَوْجُهِ فَسَادِ بَيْتِ الْمَال أَيْضًا مَا أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ عَابِدِينَ: أَنْ يَخْلِطَ الإِْمَامُ أَمْوَال بَيْتِ الْمَال الأَْرْبَعَةِ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ، فَلاَ تَكُونُ مُفْرَزَةً (1) .
25 - وَإِذَا فَسَدَ بَيْتُ الْمَال تَرَتَّبَتْ عَلَيْهِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:
أ - أَنَّ لِمَنْ عَلَيْهِ حَقًّا لِبَيْتِ الْمَال - إِذَا لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ - أَنْ يُمْنَعَ مِنْ ذَلِكَ الْحَقِّ بِقَدْرِ حَقِّهِ هُوَ فِي بَيْتِ الْمَال، إِنْ كَانَ لَهُ فِيهِ حَقٌّ لَمْ يُعْطَهْ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهِ حَقٌّ، فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَصْرِفَهُ مُبَاشَرَةً فِي مَصَارِفِ بَيْتِ الْمَال، كَبِنَاءِ مَسْجِدٍ أَوْ رِبَاطٍ. ذَكَرَ ذَلِكَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ بِخُصُوصِ لُقَطَةٍ حَصَل الْيَأْسُ مِنْ مَعْرِفَةِ صَاحِبِهَا، أَوْ نَحْوِ ثَوْبٍ أَلْقَتْهُ الرِّيحُ إِلَى دَارِهِ وَلَمْ يُعْلَمْ صَاحِبُهُ وَأَيِسَ مِنْ ذَلِكَ، وَقَالُوا أَيْضًا: مَا انْحَسَرَ عَنْهُ مَاءُ النَّهْرِ لَوْ زَرَعَهُ أَحَدٌ لَزِمَتْهُ أُجْرَتُهُ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَيَسْقُطُ عَنْهُ قَدْرُ حِصَّتِهِ، إِنْ كَانَ لَهُ حِصَّةٌ فِي مَال الْمَصَالِحِ (2) . وَاسْتُدِل لِذَلِكَ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَجُلاً قَال لَهَا: أَصَبْتُ كَنْزًا فَرَفَعْتُهُ إِلَى السُّلْطَانِ. فَقَالَتْ لَهُ: بِفِيكَ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 56.
(2) القليوبي 3 / 89، 187.(8/261)
الْكَثْكَثُ. وَالْكَثْكَثُ: التُّرَابُ (1) .
ب - وَمِنْهَا: لَوْ مَنَعَ السُّلْطَانُ حَقَّ الْمُسْتَحِقِّينَ، فَظَفِرَ أَحَدُهُمْ بِمَالٍ لِبَيْتِ الْمَال، فَقَدْ أَجَازَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنْ يَأْخُذَ الْمُسْتَحِقُّ قَدْرَ مَا كَانَ يُعْطِيهِ الإِْمَامُ. وَهَذَا أَحَدُ أَقْوَالٍ أَرْبَعَةٍ ذَكَرَهَا الْغَزَالِيُّ.
ثَانِيهَا: أَنَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ كُل يَوْمٍ قَدْرَ قُوتِهِ.
وَثَالِثُهَا: يَأْخُذُ كِفَايَةَ سَنَتِهِ.
وَرَابِعُهَا: لاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ شَيْئًا لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِيهِ. وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ لاَ يَجُوزُ السَّرِقَةُ مِنْ بَيْتِ الْمَال، سَوَاءٌ انْتَظَمَ أَمْ لَمْ يَنْتَظِمْ، وَيُفْهَمُ مِنْ هَذَا أَنَّهُمْ يُوَافِقُونَ الْقَوْل الرَّابِعَ مِنَ الأَْقْوَال الَّتِي نَقَلَهَا الْغَزَالِيُّ.
وَمُفَادٌ مَا يَذْكُرُهُ الْحَنَفِيَّةُ: أَنَّ لَهُ فِي تِلْكَ الْحَال أَنْ يَأْخُذَ قَدْرَ حَقِّهِ دِيَانَةً، إِلاَّ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ الأَْخْذُ مِنْ غَيْرِ بَيْتِهِ الَّذِي يَسْتَحِقُّ هُوَ مِنْهُ إِلاَّ لِلضَّرُورَةِ كَمَا فِي زَمَانِنَا؛ إِذْ لَوْ لَمْ يَجُزْ أَخْذُهُ إِلاَّ مِنْ بَيْتِهِ لَزِمَ أَنْ لاَ يَبْقَى حَقٌّ لأَِحَدٍ فِي زَمَانِنَا؛ لِعَدَمِ إِفْرَازِ كُل بَيْتٍ عَلَى حِدَةٍ، بَل يَخْلِطُونَ الْمَال كُلَّهُ. وَلَوْ لَمْ يَأْخُذْ مَا ظَفِرَ بِهِ لَمْ يُمْكِنْهُ الْوُصُول إِلَى شَيْءٍ، كَمَا أَفْتَى بِهِ ابْنُ عَابِدِينَ (2) .
__________
(1) ابن عابدين 2 / 56.
(2) العذب الفائض1 / 19.(8/261)
ج - وَمِنْهَا مَا أَفْتَى بِهِ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ - وَهُمْ مِنْ بَعْدِ سَنَةِ 400 هـ - مُوَافَقَةً لِبَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَقَال بِهِ مُتَأَخِّرُو الْمَالِكِيَّةِ أَيْضًا: أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَنْتَظِمْ بَيْتُ الْمَال يُرَدُّ عَلَى أَهْل الْفَرْضِ غَيْرِ الزَّوْجَيْنِ مَا فَضَل عَنْ إِرْثِهِمْ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذُو فَرْضٍ يُرَدُّ عَلَى ذَوِي الأَْرْحَامِ.
وَالْحُكْمُ الأَْصْلِيُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، فِي حَال انْتِظَامِ بَيْتِ الْمَال، عَدَمُ الرَّدِّ وَعَدَمُ تَوْرِيثِ ذَوِي الأَْرْحَامِ، بَل تَكُونُ التَّرِكَةُ كُلُّهَا أَوْ فَاضِلُهَا عَنْ ذَوِي الْفُرُوضِ لِبَيْتِ الْمَال، إِنْ لَمْ يَكُنْ عَصَبَةٌ (1) .
الاِعْتِدَاءُ عَلَى أَمْوَال بَيْتِ الْمَال:
26 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ مَنْ أَتْلَفَ شَيْئًا مِنْ أَمْوَال بَيْتِ الْمَال بِغَيْرِ حَقٍّ كَانَ ضَامِنًا لِمَا أَتْلَفَهُ، وَأَنَّ مَنْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ حَقٍّ لَزِمَهُ رَدُّهُ، أَوْ رَدُّ مِثْلِهِ إِنْ كَانَ مِثْلِيًّا، وَقِيمَتِهِ إِنْ كَانَ قِيَمِيًّا. وَإِنَّمَا الْخِلاَفُ بَيْنَهُمْ فِي قَطْعِ يَدِ السَّارِقِ مِنْ بَيْتِ الْمَال، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ اتِّجَاهَانِ:
أَحَدُهُمَا - وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: أَنَّ السَّارِقَ مِنْ بَيْتِ الْمَال لاَ تُقْطَعُ يَدُهُ. وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
__________
(1) العذب الفائض 1 / 19.(8/262)
أَنَّ عَبْدًا مِنْ رَقِيقِ الْخُمُسِ سَرَقَ مِنَ الْخُمُسِ، فَرُفِعَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَقْطَعْهُ، وَقَال: مَال اللَّهِ سَرَقَ بَعْضُهُ بَعْضًا. (1)
وَبِمَا رُوِيَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ سَأَل عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ عَنْ رَجُلٍ سَرَقَ مِنْ بَيْتِ الْمَال، فَقَال عُمَرُ: أَرْسِلْهُ، فَمَا مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ وَلَهُ فِي هَذَا الْمَال حَقٌّ (2) .
وَثَانِيهِمَا - وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ السَّارِقَ مِنْ بَيْتِ الْمَال تُقْطَعُ يَدُهُ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِعُمُومِ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (3) ، فَإِنَّهُ عَامٌّ يَشْمَل السَّارِقَ مِنْ بَيْتِ الْمَال وَالسَّارِقَ مِنْ غَيْرِهِ، وَبِأَنَّ السَّارِقَ قَدْ أَخَذَ مَالاً مُحَرَّزًا، وَلَيْسَتْ لَهُ فِيهِ شُبْهَةٌ قَوِيَّةٌ، فَتُقْطَعُ يَدُهُ كَمَا لَوْ أَخَذَ غَيْرُهُ مِنَ الأَْمْوَال الَّتِي لَيْسَتْ لَهُ فِيهَا شُبْهَةٌ قَوِيَّةٌ (4) .
__________
(1) حديث: " مال الله سرق بعضه بعضا " أخرجه ابن ماجه (2 / 864 ـ ط الحلبي) وقال البوصيري: في إسناده جبارة وهو ضعيف.
(2) قول عمر: أرسله فما من أحد. . أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (10 / 212 ـ ط المجلس العلمي) .
(3) سورة المائدة / 38.
(4) فتح القدير لابن الهمام 5 / 138، والشرح الكبير بحاشية الدسوقي 4 / 138، وشرح المنهاج للمحلي بحاشية القليوبي وعميرة 4 / 189، والمغني لابن قدامة 8 / 277.(8/262)
الْخُصُومَةُ فِي شَأْنِ أَمْوَال بَيْتِ الْمَال:
27 - إِذَا ادُّعِيَ عَلَى بَيْتِ الْمَال بِحَقٍّ، أَوْ كَانَ لِبَيْتِ الْمَال حَقٌّ قِبَل الْغَيْرِ، وَرُفِعَتِ الدَّعْوَى بِذَلِكَ أَمَامَ الْقَضَاءِ، كَانَ لِلْقَاضِي الَّذِي رُفِعَتِ الدَّعْوَى إِلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ فِيهَا، وَلَوْ أَنَّهُ أَحَدُ الْمُسْتَحِقِّينَ. وَإِذَا كَانَ الْقَاضِي نَفْسُهُ هُوَ الْمُدَّعِيَ أَوِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَلاَ تَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ دَعْوَى أَصْلاً، وَلاَ عَلَى نَائِبِهِ، بَل لاَ بُدَّ أَنْ يُنَصِّبَ مَنْ يَدَّعِي وَمَنْ يُدَّعَى عَلَيْهِ عِنْدَهُ، أَوْ عِنْدَ غَيْرِهِ (1) .
وَمِنْ جُمْلَةِ مَا يُمْكِنُ الاِدِّعَاءُ بِهِ: إِيرَادَاتُ بَيْتِ الْمَال إِذَا قَبَضَهَا الْعَامِل، وَأَنْكَرَ صَاحِبُ بَيْتِ الْمَال أَنَّهُ قَبَضَهَا مِنَ الْعَامِل. فَيُطَالَبُ الْعَامِل بِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى صَاحِبِ بَيْتِ الْمَال بِالْقَبْضِ، فَإِنْ عَدِمَهَا أُحْلِفَ صَاحِبُ بَيْتِ الْمَال، وَأُخِذَ الْعَامِل بِالْغُرْمِ (2) .
الاِسْتِقْصَاءُ عَلَى الْوُلاَةِ وَمُحَاسَبَةُ الْجُبَاةِ:
28 - عَلَى الإِْمَامِ وَوُلاَتِهِ أَنْ يُرَاقِبُوا مَنْ يُوَكَّل إِلَيْهِمْ جَمْعُ الزَّكَاةِ وَغَيْرِهَا مِمَّا يَجِبُ لِبَيْتِ الْمَال، وَأَنْ يَسْتَقْصُوا عَلَيْهِمْ فِيمَا يَتَصَرَّفُونَ فِيهِ مِنْ أَمْوَال بَيْتِ الْمَال، وَيُحَاسِبُوهُمْ فِي ذَلِكَ مُحَاسِبَةً دَقِيقَةً.
__________
(1) شرح المنهاج للمحلي 4 / 303، ونهاية المحتاج 8 / 324.
(2) الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 239.(8/263)
فَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ قَال: اسْتَعْمَل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلاً مِنَ الأَْزْدِ عَلَى صَدَقَاتِ بَنِي سُلَيْمٍ يُدْعَى ابْنَ اللُّتْبِيَّةِ، فَلَمَّا جَاءَ حَاسَبَهُ. (1)
وَقَال الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي إِيرَادِ الصَّدَقَاتِ وُجُوبُ رَفْعِ الْحِسَابِ عَنْهَا إِلَى كَاتِبِ الدِّيوَانِ، وَيَجِبُ عَلَى كَاتِبِ الدِّيوَانِ مُحَاسَبَتُهُمْ عَلَى صِحَّةِ مَا رَفَعُوهُ، وَذَلِكَ لأَِنَّ مَصْرِفَ الْعُشْرِ وَمَصْرِفَ الْخَرَاجِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَاحِدٌ.
وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فَلاَ يَجِبُ عَلَى الْعُمَّال رَفْعُ الْحِسَابِ عَنِ الْعُشُورِ؛ لأَِنَّهَا عِنْدَهُ صَدَقَةٌ، لاَ يَقِفُ مَصْرِفُهَا عَلَى اجْتِهَادِ الْوُلاَةِ.
وَأَمَّا عُمَّال الْخَرَاجِ فَيَلْزَمُهُمْ رَفْعُ الْحِسَابِ بِاتِّفَاقِ الْمَذْهَبَيْنِ. وَيَجِبُ عَلَى كَاتِبِ الدِّيوَانِ مُحَاسَبَتُهُمْ عَلَى صِحَّةِ مَا رَفَعُوهُ.
ثُمَّ مَنْ وَجَبَتْ مُحَاسَبَتُهُ مِنَ الْعُمَّال لاَ يَخْلُو مِنْ حَالَيْنِ:
الأُْولَى: إِنْ لَمْ يَقَعْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ كَاتِبِ الدِّيوَانِ اخْتِلاَفٌ فِي الْحِسَابِ كَانَ كَاتِبُ الدِّيوَانِ مُصَدَّقًا فِي الْحِسَابِ. وَإِنِ اسْتَرَابَ فِيهِ وَلِيُّ الأَْمْرِ كَلَّفَهُ إِحْضَارَ
__________
(1) نهاية الأرب للنويري 8 / 192 ط دار الكتب المصرية وحديث أبي حميد الساعدي في ابن اللتبية تقدم (ف / 6) .(8/263)
شَوَاهِدِهِ، فَإِنْ زَالَتِ الرِّيبَةُ عَنْهُ فَلاَ يَحْلِفُ، وَإِنْ لَمْ تَزُل الرِّيبَةُ - وَأَرَادَ وَلِيُّ الأَْمْرِ تَحْلِيفَهُ عَلَيْهِ - حَلَفَ الْعَامِل دُونَ كَاتِبِ الدِّيوَانِ؛ لأَِنَّ الْمُطَالَبَةَ مُتَوَجِّهَةٌ عَلَى الْعَامِل دُونَ كَاتِبِ الدِّيوَانِ.
الثَّانِيَةُ: إِنْ وَقَعَ بَيْنَ الْعَامِل وَكَاتِبِ الدِّيوَانِ اخْتِلاَفٌ فِي الْحِسَابِ:
فَإِنْ كَانَ اخْتِلاَفُهُمَا فِي الدَّخْل، فَالْقَوْل قَوْل الْعَامِل؛ لأَِنَّهُ مُنْكِرٌ. وَإِنْ كَانَ اخْتِلاَفُهُمَا فِي الْخَرْجِ، فَالْقَوْل قَوْل الْكَاتِبِ؛ لأَِنَّهُ مُنْكِرٌ.
وَإِنْ كَانَ اخْتِلاَفُهُمَا فِي تَقْدِيرِ الْخَرَاجِ، كَمَا لَوِ اخْتَلَفَا فِي مِسَاحَةٍ يُمْكِنُ إِعَادَتُهَا أُعِيدَتْ وَيُعْمَل فِيهَا بِمَا يَتَبَيَّنُ. وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ إِعَادَتُهَا يَحْلِفُ رَبُّ الْمَال دُونَ الْمَاسِحِ. (1)
29 - وَقَدْ فَصَّل الْمَاوَرْدِيُّ وَأَبُو يَعْلَى صِفَةَ الْمُحَاسَبَةِ فِي ذَلِكَ، وَاسْتَعْرَضَا مَا يُعْتَبَرُ حُجَّةً فِي قَبْضِ، الْوُلاَةِ مِنَ الْجُبَاةِ، وَأَنَّهُ يُعْمَل فِي ذَلِكَ بِالإِْقْرَارِ بِالْقَبْضِ، أَمَّا الْخَطُّ إِذَا أَنْكَرَهُ، أَوْ لَمْ يَعْتَرِفْ بِهِ فَعُرْفُ الدَّوَاوِينِ أَنْ يُكْتَفَى بِهِ، وَيَكُونُ حُجَّةً. وَالَّذِي عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَعْتَرِفِ الْوَالِي أَنَّهُ خَطُّهُ أَوْ أَنْكَرَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ، وَلَمْ يَكُنْ حُجَّةً فِي الْقَبْضِ. وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُقَاسَ بِخَطِّهِ فِي
__________
(1) الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 240، وانظر نهاية الأرب في أدب العرب للنويري 8 / 192 ـ 219.(8/264)
الإِْلْزَامِ إِجْبَارًا، وَإِنَّمَا يُقَاسُ بِخَطِّهِ إِرْهَابًا لِيَعْتَرِفَ بِهِ طَوْعًا.
وَقَدْ يَعْتَرِفُ الْوَالِي بِالْخَطِّ وَيُنْكِرُ الْقَبْضَ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ ذَلِكَ فِي الْحُقُوقِ السُّلْطَانِيَّةِ خَاصَّةً حُجَّةً لِلْعَامِلِينَ بِالدَّفْعِ، وَحُجَّةً عَلَى الْوُلاَةِ بِالْقَبْضِ اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ. وَأَوْرَدَ الْمَاوَرْدِيُّ ذَلِكَ ثُمَّ قَال: هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. أَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَالظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّهُ لاَ يَكُونُ حُجَّةً عَلَيْهِ. وَلاَ لِلْعَامِلِينَ، حَتَّى يُقِرَّ بِهِ لَفْظًا كَالدُّيُونِ الْخَاصَّةِ. قَال: وَفِيمَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا مُقْنِعٌ (1) .
وَيُلاَحَظُ أَنَّ كُل مَا وَرَدَ إِلَى عُمَّال الْمُسْلِمِينَ، أَوْ خَرَجَ مِنْ أَيْدِيهِمْ مِنَ الْمَال الْعَامِّ، فَحُكْمُ بَيْتِ الْمَال جَارٍ عَلَيْهِ فِي دَخْلِهِ إِلَيْهِ وَخَرْجِهِ عَنْهُ؛ وَلِذَلِكَ تُجْرَى الْمُحَاسَبَةُ عَلَيْهِ (2) .
__________
(1) نهاية الأرب 8 / 192 دار الكتب المصرية، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 238.
(2) الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 235.(8/264)
بَيْتُ الْمَقْدِسِ
1 - بَيْتُ الْمَقْدِسِ: اسْمٌ لِمَكَانِ الْعِبَادَةِ الْمَعْرُوفِ فِي أَرْضِ فِلَسْطِينَ. وَأَصْل التَّقْدِيسِ التَّطْهِيرُ، وَالأَْرْضُ الْمُقَدَّسَةُ أَيِ: الْمُطَهَّرَةُ.
قَال ابْنُ مَنْظُورٍ: وَالنِّسْبَةُ إِلَيْهِ مَقْدِسِيُّ وَمُقَدَّسِيُّ. وَفِي مُعْجَمِ الْبُلْدَانِ سَمَّاهُ فِي بَعْضِ مَوَاضِعَ مِنْ كَلاَمِهِ عَنْهُ " الْبَيْتُ الْمُقَدَّسُ ".
2 - وَهَذَا الاِسْمُ " بَيْتُ الْمَقْدِسِ " يُطْلَقُ الآْنَ عَلَى الْمَدِينَةِ الَّتِي فِيهَا الْمَسْجِدُ الأَْقْصَى، وَلاَ يُطْلَقُ عَلَى مَكَانِ الْعِبَادَةِ بِخُصُوصِهِ، أَمَّا فِي كَلاَمِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُؤَرِّخِينَ فَإِنَّ الاِسْمَ دَائِرٌ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ، كَمَا اسْتَعْمَلَهُ صَاحِبُ مُعْجَمِ الْبُلْدَانِ وَغَيْرُهُ.
وَتُسَمَّى الْمَدِينَةُ الآْنَ أَيْضًا (الْقُدْسُ) . وَوَرَدَتْ هَذِهِ التَّسْمِيَةُ أَيْضًا فِي كَلاَمِ الْعَرَبِ. فَفِي اللِّسَانِ: قَال الشَّاعِرُ:
لاَ نَوْمَ حَتَّى تَهْبِطِي أَرْضَ الْعُدُسِ
وَتَشْرَبِي مِنْ خَيْرِ مَاءٍ بِقُدُسِ
هَذَا وَإِنَّ لِلْمَسْجِدِ الأَْقْصَى بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ أَحْكَامًا يَخْتَصُّ بِهَا عَنْ سَائِرِ الْمَسَاجِدِ (ر: الْمَسْجِدُ الأَْقْصَى (1)) .
__________
(1) لسان العرب مادة (قدس) ومعجم البلدان.(8/265)
بَيْتُ النَّارِ
.
انْظُرْ: مَعَابِد.
بَيْتُوتَةٌ
.
انْظُرْ: تَبْيِيت.(8/265)
بَيْضٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْبَيْضُ مَعْرُوفٌ، يُقَال: بَاضَ الطَّائِرُ يَبِيضُ بَيْضًا، وَاحِدَتُهُ: بَيْضَةٌ، وَتُطْلَقُ الْبَيْضَةُ أَيْضًا عَلَى الْخُصْيَةِ (1) . وَتُنْظَرُ أَحْكَامُهَا فِي مُصْطَلَحِ: (خُصْيَة) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْبَيْضِ:
بَيْضُ الْحَيَوَانَاتِ الْمَأْكُولَةِ اللَّحْمِ وَغَيْرِ الْمَأْكُولَةِ:
2 - سَبَقَ فِي مُصْطَلَحِ (أَطْعِمَة) تَفْصِيل مَا يَتَّصِل بِحِل الأَْكْل وَحُرْمَتِهِ بِالنِّسْبَةِ لِلْبَيْضِ، وَهُوَ حِل أَكْل بَيْضِ مَا يُؤْكَل لَحْمُهُ مِنَ الْحَيَوَانِ، وَحُرْمَةُ أَكْل بَيْضِ مَا لاَ يَحِل أَكْل لَحْمِهِ فِي الْجُمْلَةِ (2) .
بِيضُ الْجَلاَّلَةِ:
3 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ أَكْل بَيْضِ الْجَلاَّلَةِ (وَهِيَ الَّتِي تَتَّبِعُ النَّجَاسَاتِ وَتَأْكُلُهَا إِذَا كَانَتْ مُخَلاَّةً تَجُول فِي الْقَاذُورَاتِ) .
__________
(1) المصباح المنير مادة: بيض، وحاشية الدسوقي 1 / 60، وروضة الطالبين 3 / 279، والمغني لابن قدامة 1 / 75.
(2) انظر الموسوعة 5 / 154 (ف 81) .(8/266)
فَبَنَى الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ الْحُكْمَ عَلَى تَغَيُّرِ لَحْمِهَا وَنَتْنِهِ، فَإِنْ تَغَيَّرَ وَوُجِدَتْ مِنْهَا رَائِحَةٌ مُنْتِنَةٌ كُرِهَ أَكْل بَيْضِهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَحَرُمَ الأَْكْل فِي الصَّحِيحِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ؛ لأَِنَّهَا صَارَتْ مِنَ الْخَبَائِثِ، وَلِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَكْل لَحْمِ الْجَلاَّلَةِ وَشُرْبِ لَبَنِهَا. (1)
وَقَيَّدَ الْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ حُرْمَةَ أَكْل بَيْضِ الْجَلاَّلَةِ بِمَا إِذَا كَانَ أَكْثَرُ عَلَفِهَا النَّجَاسَةَ لِلْحَدِيثِ الْوَارِدِ فِي ذَلِكَ.
وَقَال بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: يُكْرَهُ أَكْل بَيْضِ الْجَلاَّلَةِ كَرَاهَةً تَنْزِيهً؛ لأَِنَّ النَّهْيَ إِنَّمَا هُوَ لِتَغَيُّرِ اللَّحْمِ، وَهُوَ لاَ يُوجِبُ التَّحْرِيمَ. قَالُوا: وَهُوَ الأَْصَحُّ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ. وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، أَنَّهُ يَحِل أَكْل بَيْضِهَا لِتَوَلُّدِهِ مِنْ حَيٍّ، وَكُل حَيٍّ طَاهِرٌ. وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ لَحْمُ الْجَلاَّلَةِ وَلَمْ يُنْتِنْ، بِأَنْ كَانَتْ تَخْلِطُ وَلَمْ يَكُنْ أَكْثَرُ عَلَفِهَا النَّجَاسَةَ حَل أَكْل بَيْضِهَا بِاتِّفَاقٍ (2) .
__________
(1) حديث: " نهى عن أكل لحم الجلالة وشرب لبنها " أخرجه أبو داود (4 / 148 ـ ط عزت عبيد دعاس) وحسنه ابن حجر في الفتح (9 / 648 ط السلفية) .
(2) لبدائع 5 / 40 وابن عابدين 5 / 195، 216، ومراقي الفلاح ص 18، والحطاب 1 / 92، والدسوقي 1 / 50، ونهاية المحتاج 8 / 147، ومغني المحتاج 4 / 304، والروضة 3 / 278، وشرح منتهى الإرادات 3 / 399، والمغني 8 / 593، 594.(8/266)
سَلْقُ الْبَيْضِ فِي مَاءٍ نَجِسٍ:
4 - إِذَا سُلِقَ الْبَيْضُ فِي مَاءٍ نَجِسٍ حَل أَكْلُهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ الْقَوْل الْمَرْجُوحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ) وَفِي الرَّاجِحِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لاَ يَحِل أَكْلُهُ لِنَجَاسَتِهِ وَتَعَذُّرِ تَطْهِيرِهِ لِسَرَيَانِ الْمَاءِ النَّجِسِ فِي مَسَامِّهِ (1) .
5 - الْبَيْضُ الْمَذَرُ (وَهُوَ الْفَاسِدُ بِوَجْهٍ عَامٍّ) :
هـ - إِذَا اسْتَحَالَتِ الْبَيْضَةُ دَمًا صَارَتْ نَجِسَةً عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي الصَّحِيحِ مِنْ مَذْهَبِهِمْ، وَفِي الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَمُقَابِلُهُ أَنَّهَا طَاهِرَةٌ، وَإِذَا تَغَيَّرَتْ بِالتَّعَفُّنِ فَقَطْ فَهِيَ طَاهِرَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، كَاللَّحْمِ الْمُنْتِنِ، وَهِيَ نَجِسَةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.
وَإِنِ اخْتَلَطَ صَفَارُهَا بِبَيَاضِهَا مِنْ غَيْرِ عُفُونَةٍ فَهِيَ طَاهِرَةٌ (2) .
__________
(1) فتح القدير 1 / 186، ونشر دار إحياء التراث، والدسوقي 1 / 60، ومغني المحتاج 4 / 305، والمغني 1 / 75.
(2) ابن عابدين 4 / 505 والدسوقي 1 / 50، ومنح الجليل 1 / 27، ومغني المحتاج 1 / 80، 4 / 305، والمجموع 2 / 510، ونهاية المحتاج 8 / 147، وكشاف القناع 1 / 191، 192، والفروع 1 / 251، 252.(8/267)
الْبَيْضُ الْخَارِجُ بَعْدَ الْمَوْتِ:
6 - الْبَيْضُ الْخَارِجُ مِنْ مَأْكُول اللَّحْمِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَلاَ يَحْتَاجُ لِتَذْكِيَةٍ يَحِل أَكْلُهُ بِاتِّفَاقٍ، إِلاَّ إِذَا كَانَ فَاسِدًا.
أَمَّا مَا يَحْتَاجُ لِتَذْكِيَةٍ وَلَمْ يُذَكَّ فَالْبَيْضُ الْخَارِجُ بَعْدَ مَوْتِهِ يَحِل أَكْلُهُ إِنْ تَصَلَّبَتْ قِشْرَتُهُ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَأَصَحُّ الأَْوْجُهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ؛ لأَِنَّهُ صَارَ شَيْئًا آخَرَ مُنْفَصِلاً فَيَحِل أَكْلُهُ.
وَيَحِل أَكْلُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَلَوْ لَمْ تَتَصَلَّبْ قِشْرَتُهُ، وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ؛ لأَِنَّهُ شَيْءٌ طَاهِرٌ فِي نَفْسِهِ،
وَلاَ يَحِل عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَكْل بَيْضِ الْحَيَوَانِ الْبَرِّيِّ الَّذِي لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ إِذَا لَمْ يُذَكَّ، إِلاَّ مَا كَانَتْ مَيْتَتُهُ طَاهِرَةً دُونَ ذَكَاةٍ - كَالْجَرَادِ وَالتِّمْسَاحِ - فَيَحِل أَكْل بَيْضِهِ (1) .
بَيْعُ الْبَيْضِ:
7 - يُشْتَرَطُ فِي بَيْعِ الْبَيْضِ مَا يُشْتَرَطُ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْمَبِيعَاتِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا مُتَقَوِّمًا طَاهِرًا مُنْتَفَعًا بِهِ مَقْدُورًا عَلَى تَسْلِيمِهِ. . . (ر: بَيْع) .
وَلِذَلِكَ لاَ يَجُوزُ بَيْعُ الْبَيْضِ الْفَاسِدِ؛ لأَِنَّهُ لاَ
__________
(1) البدائع 5 / 43، ومختصر الطحاوي ص 440، والدسوقي 1 / 50، وأسنى المطالب 1 / 13، والمجموع 1 / 283 وقليوبي 1 / 72 وكشاف القناع 1 / 57، والمغني 1 / 75.(8/267)
يُنْتَفَعُ بِهِ، وَلاَ بَيْعُ بَيْضٍ فِي بَطْنِ دَجَاجَةٍ؛ لأَِنَّهُ فِي حُكْمِ الْمَعْدُومِ (1) . . .
هَذَا وَيَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي اعْتِبَارِ الْبَيْضِ مِنَ الرِّبَوِيَّاتِ وَعَدَمِ اعْتِبَارِهِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَابْنُ شَعْبَانَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الْقَدِيمُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِلَى أَنَّهُ لاَ يُعْتَبَرُ الْبَيْضُ مِنَ الرِّبَوِيَّاتِ؛ لأَِنَّ عِلَّةَ الرِّبَا عِنْدَهُمُ الْكَيْل مَعَ الْجِنْسِ، أَوِ الْوَزْنُ مَعَ الْجِنْسِ، وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ لِرِبَا الْفَضْل. وَلاَ يَتَحَقَّقُ الرِّبَا إِلاَّ بِإِجْمَاعِ الْوَصْفَيْنِ: الْجِنْسِ وَالْقَدْرِ (الْكَيْل أَوِ الْوَزْنِ) ، وَعَلَى ذَلِكَ يَجُوزُ بَيْعُ بَيْضَةٍ بِبَيْضَتَيْنِ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ؛ لأَِنَّهُ لاَ تَتَحَقَّقُ فِيهِ الْعِلَّةُ. إِلاَّ أَنَّهُ رُوِيَ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ كَرَاهَةُ بَيْعِ بَيْضَةٍ بِبَيْضَتَيْنِ لِعِلَّةِ الطَّعْمِ.
وَيَحْرُمُ بَيْعُ الْبَيْضِ بِالْبَيْضِ نَسَاءً؛ لأَِنَّ عِلَّةَ رِبَا النِّسَاءِ هِيَ أَحَدُ وَصْفَيْ عِلَّةِ رِبَا الْفَضْل، أَمَّا الْكَيْل أَوِ الْوَزْنُ الْمُتَّفِقُ، أَوِ الْجِنْسُ فَالْجِنْسُ بِانْفِرَادِهِ يُحَرِّمُ النَّسَاءَ. وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ لِلنَّسَاءِ. وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَاتِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَفِي أَصَحِّ الرِّوَايَاتِ: لاَ يَحْرُمُ النَّسَاءُ فِي بَيْعِ الْبَيْضِ بِالْبَيْضِ.
__________
(1) المجموع 9 / 214، وشرح منتهي الإرادات 2 / 142.(8/268)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ غَيْرَ ابْنِ شَعْبَانَ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْجَدِيدِ إِلَى اعْتِبَارِ الْبَيْضِ مِنَ الرِّبَوِيَّاتِ؛ لِعِلَّةِ الاِقْتِيَاتِ وَالاِدِّخَارِ فِي رِبَا الْفَضْل، وَعِلَّةِ الطَّعْمِ فِي رِبَا النَّسَاءِ، وَذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَعِلَّةِ الطَّعْمِ فِي رِبَا الْفَضْل وَالنَّسَاءِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَالْبَيْضُ يُقْتَاتُ وَيُدَّخَرُ وَيُطْعَمُ فَيَكُونُ رِبَوِيًّا.
وَعَلَى ذَلِكَ يَحْرُمُ الْفَضْل وَالنَّسَاءُ فِي بَيْعِ الْبَيْضِ بِالْبَيْضِ، فَإِذَا بِيعَ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ فَلاَ بُدَّ أَنْ تَكُونَ حَالًّا، مِثْلاً بِمِثْلٍ، يَدًا بِيَدٍ. وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ عُبَادَةَ قَال: سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَى عَنْ بَيْعِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرِّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرِ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرِ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحِ بِالْمِلْحِ، إِلاَّ سَوَاءً بِسَوَاءٍ، عَيْنًا بِعَيْنٍ، فَمَنْ زَادَ أَوِ ازْدَادَ فَقَدْ أَرْبَى (1) فَإِنِ اخْتَلَفَ الْجِنْسُ وَلَمْ تَخْتَلِفِ الْعِلَّةُ جَازَ التَّفَاضُل؛ لأَِنَّ اخْتِلاَفَ الْجِنْسِ لاَ يَحْرُمُ مَعَهُ التَّفَاضُل وَيَحْرُمُ النَّسَاءُ لِوُجُودِ عِلَّةِ الطَّعْمِ، وَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَتِمَّةِ الْحَدِيثِ السَّابِقِ: فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الأَْصْنَافُ، فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ، إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ.
__________
(1) حديث: " كان ينهي عن بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة. . . " أخرجه مسلم (3 / 1210 ـ ط الحلبي) .(8/268)
وَبَيْعُ الْبَيْضِ بِالْبَيْضِ لاَ يَجُوزُ إِلاَّ وَزْنًا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَبِالْوَزْنِ أَوِ التَّحَرِّي لِتَحَقُّقِ الْمُمَاثَلَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ (1) .
السَّلَمُ فِي الْبَيْضِ:
8 - إِسْلاَمُ الْبَيْضِ فِي الْبَيْضِ لاَ يَجُوزُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - لأَِنَّهُ يُعْتَبَرُ رِبًا لِعِلَّةِ الْجِنْسِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَعِلَّةِ الطَّعْمِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
وَيَجُوزُ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَاتِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِسْلاَمُ الْبَيْضِ فِي الْبَيْضِ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ مِنَ الرِّبَوِيَّاتِ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِحَدِيثِ ابْنِ عَمْرٍو، وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ عَلَى قَلاَئِصِ الصَّدَقَةِ فَكَانَ يَأْخُذُ الْبَعِيرَ بِالْبَعِيرَيْنِ إِلَى إِبِل الصَّدَقَةِ. (2)
__________
(1) البدائع 5 / 183، 185، 187، وابن عابدين 4 / 177، 181، والهداية 3 / 61، 62، والشرح الصغير 2 / 15، 24، 29، ط الحلبي، ومنح الجليل 2 / 537، 542، والدسوقي 3 / 20، 21، والحطاب 4 / 351، 353، ونهاية المحتاج 3 / 410، وما بعدها، والمجموع شرح المهذب 9 / 397 وما بعدها و 10 / 19، 58، 63، 79، وأسنى المطالب 2 / 26، وكشاف القناع 3 / 252، شرح منتهى الإرادات 2 / 194، 200، والمغني 4 / 14.
(2) حديث: " أمر ابن عمر وأن يأخذ على قلائص الصدقة فكان يأخذ البعير. . . " أخرجه أبو داود (3 / 652 ـ ط عزت عبيد دعاس) والبيهقي (5 / 288 ـ ط دائرة المعارف العثمانية) من طريق آخر وصححه.(8/269)
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْبَيْضُ مُسْلَمًا فِيهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَيُشْتَرَطُ فِيهِ مَا يُشْتَرَطُ فِي كُل مُسْلَمٍ فِيهِ مِنْ كَوْنِهِ مَعْلُومَ الْجِنْسِ وَالصِّفَةِ، وَأَنْ يَكُونَ مِمَّا يُمْكِنُ ضَبْطُ قَدْرِهِ وَصِفَتِهِ. . وَهَكَذَا.
وَالْبَيْضُ يُمْكِنُ ضَبْطُهُ قَدْرًا وَصِفَةً؛ لأَِنَّ الْجَهَالَةَ يَسِيرَةٌ لاَ تُفْضِي إِلَى الْمُنَازَعَةِ، وَصَغِيرُ الْبَيْضِ وَكَبِيرُهُ سَوَاءٌ (1) ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَجْرِي التَّنَازُعُ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ مِنَ التَّفَاوُتِ بَيْنَ النَّاسِ عَادَةً فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ، وَبِذَلِكَ يَجُوزُ السَّلَمُ فِي الْبَيْضِ عَدَدًا، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ خِلاَفًا لِزُفَرَ، وَكَذَلِكَ عِنْدَ مَنْ يَقُول بِجَوَازِهِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ عَدَدًا، وَيَذْهَبُ التَّفَاوُتُ بِاشْتِرَاطِ الْكِبَرِ أَوِ الصِّغَرِ أَوِ الْوَسَطِ.
وَيَجُوزُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَيْضًا أَنْ يُسْلَمَ فِيهِ عَدَدًا إِذَا أَمْكَنَ ضَبْطُهُ أَوْ قِيَاسُهُ بِنَحْوِ خَيْطٍ يُوضَعُ عِنْدَ أَمِينٍ لاِخْتِلاَفِ الأَْغْرَاضِ بِالْكِبَرِ وَالصِّغَرِ.
أَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَلاَ يَجُوزُ السَّلَمُ فِي الْبَيْضِ عَدَدًا وَلاَ كَيْلاً، وَإِنَّمَا يَجُوزُ بِالْوَزْنِ التَّقْرِيبِيِّ.
__________
(1) هذا بحسب العرف السائد قديما. وأما الآن فالعادة ضبط حجوم البيض بدرجات تبعا لوزنه أو حجمه، فيراعى هذا العرف عند السلم فيه عددا. (اللجنة) .(8/269)
وَعِنْدَ أَبِي الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَزُفَرَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لاَ يَجُوزُ السَّلَمُ فِي الْبَيْضِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ ضَبْطُهُ لاِخْتِلاَفِهِ فِي الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ (1) .
الاِعْتِدَاءُ عَلَى الْبَيْضِ فِي الْحَرَمِ وَحَال الإِْحْرَامِ:
9 - كُل مَا حَرُمَ صَيْدُهُ فِي الْحَرَمِ حَرُمَ التَّعَرُّضُ لِبَيْضِهِ، فَإِذَا كَسَرَهُ أَحَدٌ أَوْ شَوَاهُ لَزِمَهُ قِيمَتُهُ بِمَحَلِّهِ يَوْمَ التَّلَفِ؛ لأَِنَّهُ أَصْل الصَّيْدِ؛ إِذِ الصَّيْدُ يَتَوَلَّدُ مِنْهُ فَيُعْطَى لَهُ حُكْمُ الصَّيْدِ احْتِيَاطًا. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ حَكَمُوا فِي بَيْضِ النَّعَامَةِ بِالْقِيمَةِ. وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، عَدَا الْمُزَنِيِّ فَإِنَّهُ قَال: هُوَ حَلاَلٌ لاَ جَزَاءَ فِيهِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَجِبُ فِي كُل فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْبَيْضِ عُشْرُ قِيمَةِ أُمِّهِ طَعَامًا أَوْ عِدْلُهُ صِيَامًا - صَوْمُ يَوْمٍ عَنْ كُل مُدٍّ - وَاسْتَظْهَرَ ابْنُ عَرَفَةَ أَنَّ فِي الْعَشْرِ الْبَيْضَاتِ شَاةً. وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ بَيْضَ حَمَامِ حَرَمِ مَكَّةَ فَفِيهِ عُشْرُ قِيمَةِ شَاةٍ طَعَامًا؛ لِقَضَاءِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيهِ بِذَلِكَ.
__________
(1) البدائع 5 / 208، وابن عابدين 4 / 203، حاشية الدسوقي 3 / 207، والشرح الصغير 2 / 99 ط الحلبي، وشرح المحلي وحاشية قليوبي وعميرة 2 / 249ـ 250 وأسنى المطالب 2 / 129، والمهذب 1 / 306، ونهاية المحتاج 4 / 192، وشرح منتهى الإرادات 2 / 215، والمغني 4 / 308، 320.(8/270)
وَلاَ ضَمَانَ فِي الْبَيْضِ الْفَاسِدِ بِاتِّفَاقٍ إِذَا كَانَ غَيْرَ بَيْضِ نَعَامَةٍ؛ لأَِنَّ الضَّمَانَ لِعَرْضِيَّةِ أَنْ يَصِيرَ الْبَيْضُ صَيْدًا وَهُوَ مَفْقُودٌ فِي الْفَاسِدِ.
أَمَّا إِذَا كَانَ الْفَاسِدُ بَيْضَ نَعَامَةٍ فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَابْنِ قُدَامَةَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ لاَ شَيْءَ فِيهِ أَيْضًا؛ لأَِنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ حَيَوَانٌ وَلاَ مَآلُهُ إِلَى أَنْ يَصِيرَ مِنْهُ حَيَوَانٌ صَارَ كَالأَْحْجَارِ وَالْخَشَبِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ غَيْرَ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ، وَالْحَنَابِلَةُ غَيْرَ ابْنِ قُدَامَةَ يُضْمَنُ قِيمَةُ قِشْرِ بَيْضِ النَّعَامِ؛ لأَِنَّ لِقِشْرِهِ قِيمَةٌ لَكِنْ قَال ابْنُ قُدَامَةَ: الصَّحِيحُ لاَ شَيْءَ فِيهِ. وَإِنْ كُسِرَ الْبَيْضُ فَخَرَجَ مِنْهُ فَرْخٌ مَيِّتٌ، فَإِنْ كَانَ مَوْتُ الْفَرْخِ بِسَبَبِ الْكَسْرِ، فَعِنْدَ الْجُمْهُورِ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ حَيًّا، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ عَلَيْهِ عُشْرُ قِيمَةِ أُمِّهِ - فَإِنْ عَلِمَ مَوْتَ الْفَرْخِ قَبْل الْكَسْرِ فَلاَ شَيْءَ فِيهِ.
وَإِذَا كَسَرَ الْمُحْرِمُ بَيْضًا أَوْ شَوَاهُ وَضَمِنَهُ أَوْ أَخَذَهُ حَلاَلٌ مِنْ أَجْلِهِ حَرُمَ عَلَيْهِ أَكْلُهُ لأَِنَّهُ صَارَ كَالْمَيْتَةِ، وَهَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَيَحِل أَكْلُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَيَحِل أَكْلُهُ لِغَيْرِ الْمُحْرِمِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ كَمَا صَحَّحَهُ فِي الْمَجْمُوعِ وَجَزَمَ بِهِ ابْنُ الْمُقْرِي، وَكَذَلِكَ يَحِل عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - غَيْرَ الْقَاضِي - وَسَنَدٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ.(8/270)
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ غَيْرَ سَنَدٍ، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ يَحْرُمُ عَلَى الْحَلاَل (غَيْرِ الْمُحْرِمِ) أَكْلُهُ كَمَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ. وَمَا مَرَّ إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِبَيْضِ حَرَمِ مَكَّةَ، أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِحَرَمِ الْمَدِينَةِ فَلاَ جَزَاءَ فِيهِ وَإِنْ كَانَ يَحْرُمُ وَيَأْثَمُ بِذَلِكَ (1) . هَذَا كُلُّهُ فِي بَيْضِ الصَّيْدِ وَهُوَ غَيْرُ الْمُسْتَأْنَسِ مِنَ الطُّيُورِ. أَمَّا الْمُسْتَأْنَسُ (مَا يُرَبَّى فِي الْبُيُوتِ كَالدَّجَاجِ) فَلاَ شَيْءَ فِي بَيْضِهِ.
غَصْبُ الْبَيْضِ:
10 - غَصْبُ الْبَيْضِ - كَغَصْبِ غَيْرِهِ مِنَ الأَْمْوَال - حَرَامٌ، وَعَلَى الْغَاصِبِ الضَّمَانُ، فَإِنْ كَانَ الْبَيْضُ الْمَغْصُوبُ بَاقِيًا وَجَبَ رَدُّهُ؛ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَأْخُذَنَّ أَحَدُكُمْ مَال أَخِيهِ لاَعِبًا وَلاَ جَادًّا وَمَنْ أَخَذَ عَصَا أَخِيهِ فَلْيَرُدَّهَا (2) فَإِنْ تَلِفَ ضَمِنَ مِثْلَهُ؛ إِذِ الْبَيْضُ مِنَ الْمِثْلِيَّاتِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَإِنْ تَعَذَّرَ الْمِثْل فَالْقِيمَةُ.
__________
(1) البدائع 2 / 203، وابن عابدين 2 / 216، والدسوقي 2 / 72، 84، والشرح الصغير 1 / 297 ط الحلبي، ومنح الجليل 1 / 543، ومغني المحتاج 1 / 525، وأسنى المطالب 1 / 514، وشرح منتهى الإرادات 2 / 26، 48، وكشاف القناع 2 / 436، والمغني 3 / 516.
(2) حديث: " لا يأخذن أحدكم. . . " أخرجه أبو داود (5 / 273 ـ ط عزت عبيد دعاس) والترمذي (4 / 462 ط الحلبي) وحسنه.(8/271)
وَيَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ غَصَبَ بَيْضًا فَحَضَنَهُ تَحْتَ دَجَاجٍ حَتَّى أَفْرَخَ. فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ يَكُونُ عَلَى الْغَاصِبِ بَيْضٌ مِثْلُهُ لِرَبِّهِ وَالْفِرَاخُ لِلْغَاصِبِ؛ لأَِنَّ الْمَغْصُوبَ قَدْ تَبَدَّل وَصَارَ شَيْئًا آخَرَ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ تَكُونُ الْفِرَاخُ لِرَبِّ الْبَيْضِ لأَِنَّهُ عَيْنُ مَالِهِ نُمِّيَ، وَلاَ شَيْءَ لِلْغَاصِبِ (1) .
__________
(1) البدائع 7 / 148، وحاشية الدسوقي 3 / 447، وأسنى المطالب 2 / 355، والمغني 5 / 265، وشرح منتهى الإرادات 2 / 407.(8/271)
بَيْطَرَةٌ
1 - الْبَيْطَرَةُ فِي اللُّغَةِ: مُعَالَجَةُ الدَّوَابِّ. مَأْخُوذٌ مِنْ بَطَرَ الشَّيْءَ إِذَا شَقَّهُ. وَمِنْهُ الْبَيْطَارُ، وَهُوَ مُعَالِجُ الدَّوَابِّ (1) .
وَلاَ تَخْرُجُ الْبَيْطَرَةُ فِي مَعْنَاهَا الاِصْطِلاَحِيِّ عَنْ ذَلِكَ (2) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - مُدَاوَاةُ الْبَهَائِمِ وَعِلاَجُهَا بِمَا فِيهِ مَنْفَعَتُهَا وَلَوْ بِالْفَصْدِ وَالْكَيِّ جَائِزٌ شَرْعًا وَهُوَ مَطْلُوبٌ شَرْعًا (3) ؛ لأَِنَّهُ مِنَ الرَّحْمَةِ بِالْحَيَوَانِ وَمِنْ حِفْظِ الْمَال
وَهَل يَضْمَنُ مَنْ بَاشَرَ مُدَاوَاتَهَا وَعِلاَجَهَا إِذَا أَتْلَفَهَا أَوْ عَطِبَتْ بِفِعْلِهِ؟ قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ: لاَ ضَمَانَ
__________
(1) الفروق في اللغة لأبي هلال العسكري ص 225، والمغرب في ترتيب المعرب، ولسان العرب، والمصباح المنير، والقاموس المحيط مادة (بطر) .
(2) حاشية ابن عابدين 5 / 43، وحاشية قليوبي على منهاج الطالبين 3 / 169.
(3) رد المحتار على الدر المختار 5 / 479، والآداب الشرعية والمنح المرعية لابن مفلح المقدسي الحنبلي 3 / 144 م الرياض الحديثة.(8/272)
عَلَيْهِ إِنْ كَانَ قَدْ أُذِنَ بِذَلِكَ، وَكَانَتْ لَهُ بِصَنْعَتِهِ خِبْرَةٌ وَمَعْرِفَةٌ، وَلَمْ يَتَجَاوَزْ، فَإِنْ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ أَوْ كَانَ قَدْ جَاوَزَ مَا أُذِنَ فِيهِ، أَوْ قَطَعَ بِآلَةٍ كَآلَةٍ يَكْثُرُ أَلَمُهَا، أَوْ فِي وَقْتٍ لاَ يَصْلُحُ الْقَطْعُ فِيهِ وَأَشْبَاهُ هَذَا، ضَمِنَ فِي هَذَا كُلِّهِ، لأَِنَّهُ إِتْلاَفٌ لاَ يَخْتَلِفُ ضَمَانُهُ بِالْعَمْدِ وَالْخَطَأِ، فَأَشْبَهَ إِتْلاَفَ الْمَال؛ وَلأَِنَّ هَذَا فِعْلٌ مُحَرَّمٌ فَيَضْمَنُ سِرَايَتَهُ كَالْقَطْعِ ابْتِدَاءً، وَفِي الْحَدِيثِ: مَنْ تَطَبَّبَ وَلَمْ يُعْلَمْ مِنْهُ طِبٌّ فَهُوَ ضَامِنٌ. (1) أَيْ مَنْ تَعَاطَى الطِّبَّ وَلَمْ يَسْبِقْ لَهُ تَجْرِبَةٌ فِيهِ (2) . فَالْحَدِيثُ يَدُل بِمَنْطُوقِهِ عَلَى أَنَّ مَنْ طَبَّبَ وَلَيْسَتْ لَهُ خِبْرَةٌ بِالطِّبِّ يَكُونُ ضَامِنًا. وَكَذَلِكَ مَنْ لَهُ خِبْرَةٌ بِالطِّبِّ وَلَكِنَّهُ أَهْمَل أَوْ تَعَدَّى.
وَالتَّفْصِيل فِي ذَلِكَ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مَوَاطِنِهِ (إِجَارَة - جِنَايَات، حَيَوَان، ضَمَان) .
__________
(1) حديث: " من تطبب ولم يعلم منه طب فهو. . . " أخرجه أبو داود (4 / 710 ط عزت عبيد دعاس) والحاكم (4 / 212 ـ ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه ووافقه الذهبي.
(2) رد المحتار على الدر المختار وحاشية ابن عابدين 5 / 43، وجواهر الإكليل 2 / 191، ومنح الجليل 4 / 557، والمغني لابن قدامة 5 / 538 م الرياض الحديثة، ونهاية المحتاج إلى شرح المنهاج 8 / 30، 32، وفيض القدير 6 / 106 ط مصطفى محمد.(8/272)
البَيْعٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْبَيْعُ لُغَةً مَصْدَرُ بَاعَ، وَهُوَ: مُبَادَلَةُ مَالٍ بِمَالٍ، أَوْ بِعِبَارَةٍ أُخْرَى فِي بَعْضِ الْكُتُبِ: مُقَابَلَةُ شَيْءٍ بِشَيْءٍ، أَوْ دَفْعُ عِوَضٍ وَأَخْذُ مَا عُوِّضَ عَنْهُ.
وَالْبَيْعُ مِنَ الأَْضْدَادِ - كَالشِّرَاءِ - قَدْ يُطْلَقُ أَحَدُهُمَا وَيُرَادُ بِهِ الآْخَرُ، وَيُسَمَّى كُل وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ: بَائِعًا، أَوْ بَيِّعًا. لَكِنْ إِذَا أُطْلِقَ الْبَائِعُ فَالْمُتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ فِي الْعُرْفِ أَنْ يُرَادَ بِهِ بَاذِل السِّلْعَةِ، وَذَكَرَ الْحَطَّابُ أَنَّ لُغَةَ قُرَيْشٍ اسْتِعْمَال (بَاعَ) إِذَا أَخْرَجَ الشَّيْءَ مِنْ مِلْكِهِ (وَاشْتَرَى) إِذَا أَدْخَلَهُ فِي مِلْكِهِ، وَهُوَ أَفْصَحُ، وَعَلَى ذَلِكَ اصْطَلَحَ الْعُلَمَاءُ تَقْرِيبًا لِلْفَهْمِ.
وَيَتَعَدَّى الْفِعْل (بَاعَ) بِنَفْسِهِ إِلَى مَفْعُولَيْنِ فَيُقَال: بِعْتُ فُلاَنًا السِّلْعَةَ، وَيَكْثُرُ الاِقْتِصَارُ عَلَى أَحَدِهِمَا، فَتَقُول: بِعْتُ الدَّارَ، وَقَدْ يُزَادُ مَعَ الْفِعْل لِلتَّوْكِيدِ حَرْفٌ، مِثْل: (مِنْ) أَوِ (اللاَّمِ) فَيُقَال: بِعْتُ مِنْ فُلاَنٍ، أَوْ لِفُلاَنٍ.
أَمَّا قَوْلُهُمْ: بَاعَ عَلَى فُلاَنٍ كَذَا، فَهُوَ فِيمَا بِيعَ مِنْ مَالِهِ بِدُونِ رِضَاهُ (1) .
أَمَّا فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ، فَلِلْبَيْعِ تَعْرِيفَانِ:
__________
(1) المصباح، والمغرب، واللسان مادة " بيع "، والحطاب 4 / 222.(9/5)
أَحَدُهُمَا: لِلْبَيْعِ بِالْمَعْنَى الأَْعَمِّ (وَهُوَ مُطْلَقُ الْبَيْعِ) وَالآْخَرُ: لِلْبَيْعِ بِالْمَعْنَى الأَْخَصِّ (وَهُوَ الْبَيْعُ الْمُطْلَقُ) .
فَالْحَنَفِيَّةُ عَرَّفُوا الْبَيْعَ بِالْمَعْنَى الأَْعَمِّ بِمِثْل تَعْرِيفِهِ لُغَةً بِقَيْدِ (التَّرَاضِي) . لَكِنْ قَال ابْنُ الْهُمَامِ: إِنَّ التَّرَاضِيَ لاَ بُدَّ مِنْهُ لُغَةً أَيْضًا، فَإِنَّهُ لاَ يُفْهَمُ مِنْ (بَاعَ زَيْدٌ ثَوْبَهُ) إِلاَّ أَنَّهُ اسْتَبْدَل بِهِ بِالتَّرَاضِي، وَأَنَّ الأَْخْذَ غَصْبًا وَإِعْطَاءَ شَيْءٍ آخَرَ مِنْ غَيْرِ تَرَاضٍ لاَ يَقُول فِيهِ أَهْل اللُّغَةِ بَاعَهُ (1) وَاخْتَارَ صَاحِبُ الدُّرَرِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ التَّقْيِيدَ بِ (الاِكْتِسَابِ) بَدَل (التَّرَاضِي) احْتِرَازًا مِنْ مُقَابَلَةِ الْهِبَةِ بِالْهِبَةِ؛ لأَِنَّهَا مُبَادَلَةُ مَالٍ بِمَالٍ، لَكِنْ عَلَى طَرِيقِ التَّبَرُّعِ لاَ بِقَصْدِ الاِكْتِسَابِ (2) .
وَعَرَّفَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ: عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ عَلَى غَيْرِ مَنَافِعَ وَلاَ مُتْعَةِ لَذَّةٍ، وَذَلِكَ لِلاِحْتِزَازِ عَنْ مِثْل الإِْجَارَةِ وَالنِّكَاحِ، وَلِيَشْمَل هِبَةَ الثَّوَابِ (3) وَالصَّرْفَ وَالسَّلَمَ (4) .
وَعَرَّفَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ: مُقَابَلَةُ مَالٍ بِمَالٍ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ.
وَأَوْرَدَ الْقَلْيُوبِيُّ تَعْرِيفًا قَال إِنَّهُ أَوْلَى، وَنَصُّهُ: عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ مَالِيَّةٍ تُفِيدُ مِلْكَ عَيْنٍ أَوْ مَنْفَعَةٍ عَلَى التَّأْبِيدِ لاَ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ. ثُمَّ قَال: وَخَرَجَ بِالْمُعَاوَضَةِ نَحْوُ الْهَدِيَّةِ، وَبِالْمَالِيَّةِ نَحْوُ النِّكَاحِ، وَبِإِفَادَةِ مِلْكِ الْعَيْنِ الإِْجَارَةُ، وَبِالتَّأْبِيدِ الإِْجَارَةُ أَيْضًا، وَبِغَيْرِ وَجْهِ الْقُرْبَةِ الْقَرْضُ.
__________
(1) فتح القدير 5 / 455.
(2) الدرر شرح الغرر 2 / 142.
(3) المراد بهبة الثواب هنا أن يهب ليعطيه الموهوب له مقابل هبته.
(4) الحطاب 4 / 255.(9/5)
وَالْمُرَادُ بِالْمَنْفَعَةِ بَيْعُ نَحْوِ حَقِّ الْمَمَرِّ (1) .
وَعَرَّفَهُ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ: مُبَادَلَةُ مَالٍ - وَلَوْ فِي الذِّمَّةِ - أَوْ مَنْفَعَةٍ مُبَاحَةٍ (كَمَمَرِّ الدَّارِ مَثَلاً) بِمِثْل أَحَدِهِمَا عَلَى التَّأْبِيدِ غَيْرِ رِبًا وَقَرْضٍ، وَعَرَّفَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ: مُبَادَلَةُ الْمَال بِالْمَال تَمْلِيكًا وَتَمَلُّكًا (2) .
أَمَّا الْبَيْعُ بِالْمَعْنَى الأَْخَصِّ، وَهُوَ الْبَيْعُ الْمُطْلَقُ، فَقَدْ ذَكَرَهُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَعَرَّفَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ: عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ عَلَى غَيْرِ مَنَافِعَ وَلاَ مُتْعَةِ لَذَّةٍ ذُو مُكَايَسَةٍ، أَحَدُ عِوَضَيْهِ غَيْرُ ذَهَبٍ وَلاَ فِضَّةٍ، مُعَيَّنٌ غَيْرُ الْعَيْنِ فِيهِ (3) .
فَتَخْرُجُ هِبَةُ الثَّوَابِ بِقَوْلِهِمْ: ذُو مُكَايَسَةٍ، وَالْمُكَايَسَةُ: الْمُغَالَبَةُ، وَيَخْرُجُ الصَّرْفُ وَالْمُرَاطَلَةُ بِقَوْلِهِمْ: أَحَدُ عِوَضَيْهِ غَيْرُ ذَهَبٍ وَلاَ فِضَّةٍ، وَيَخْرُجُ السَّلَمُ بِقَوْلِهِمْ: مُعَيَّنٌ (4) .
ثُمَّ لاَحَظَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ التَّعْرِيفَ لِلْبَيْعِ قَدْ يُرَادُ بِهِ الْبَيْعُ وَحْدَهُ، بِاعْتِبَارِهِ أَحَدَ شِقَّيِ الْعَقْدِ، فَقَالُوا عَنْهُ إِنَّهُ: تَمْلِيكٌ بِعِوَضٍ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ، وَمِنْ ثَمَّ عَرَّفُوا الشِّرَاءَ بِأَنَّهُ: تَمَلُّكٌ بِعِوَضٍ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ.
كَمَا أَوْرَدَ الْحَطَّابُ تَعْرِيفًا شَامِلاً لِلْبَيْعِ الصَّحِيحِ وَالْفَاسِدِ بِقَوْلِهِ: دَفْعُ عِوَضٍ فِي مُعَوَّضٍ (5) ، لِمَا يَعْتَقِدُهُ صَاحِبُ هَذَا التَّعْرِيفِ مِنْ
__________
(1) شرح الروض 2 / 2، والقليوبي 2 / 152.
(2) المغني والشرح الكبير 4 / 2، وكشاف القناع 3 / 146.
(3) غير العين فيه، لأن غير العين في السلم لا يكون معينا بل يكون في الذمة، والمراد بالعين هنا: الذهب أو الفضة الذي هو رأس مال السلم.
(4) الحطاب 4 / 225، والبهجة شرح التحفة 2 / 3.
(5) الحطاب 4 / 223.(9/6)
أَنَّ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ لاَ يَنْقُل الْمِلْكَ وَإِنَّمَا يَنْقُل شُبْهَةَ الْمِلْكِ، ثُمَّ أَشَارَ الْحَطَّابُ إِلَى أَنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي الشَّيْءَ صَحِيحًا لِمُجَرَّدِ الاِعْتِقَادِ بِصِحَّتِهِ، فَالْمِلْكُ يَنْتَقِل عَلَى حُكْمِهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَإِنْ لَمْ يَنْتَقِل عَلَى حُكْمِ الإِْسْلاَمِ، عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْحَقَائِقِ الشَّرْعِيَّةِ إِنَّمَا هُوَ مَعْرِفَةُ الصَّحِيحِ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْهِبَةُ، وَالْوَصِيَّةُ.
2 - الْهِبَةُ: تَمْلِيكٌ بِلاَ عِوَضٍ حَال الْحَيَاةِ. وَالْوَصِيَّةُ: تَمْلِيكٌ بِلاَ عِوَضٍ بَعْدَ الْمَوْتِ (1) .
فَهُمَا يَفْتَرِقَانِ عَنِ الْبَيْعِ فِي أَنَّ الْبَيْعَ تَمْلِيكٌ بِعِوَضٍ.
ب - الإِْجَارَةُ.
3 - الإِْجَارَةُ: عَقْدٌ عَلَى مَنْفَعَةٍ مَعْلُومَةٍ بِعِوَضٍ مَعْلُومٍ.
فَالإِْجَارَةُ مُحَدَّدَةٌ بِالْمُدَّةِ أَوْ بِالْعَمَل، خِلاَفًا لِلْبَيْعِ.
وَالإِْجَارَةُ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ، أَمَّا الْبَيْعُ فَهُوَ تَمْلِيكٌ لِلذَّاتِ فِي الْجُمْلَةِ (2) .
ج - الصُّلْحُ.
4 - الصُّلْحُ: عَقْدٌ يَقْتَضِي قَطْعَ النِّزَاعِ وَالْخُصُومَةِ.
وَعَرَّفَهُ ابْنُ عَرَفَةَ بِأَنَّهُ: انْتِقَالٌ عَنْ حَقٍّ أَوْ دَعْوَى بِعِوَضٍ لِرَفْعِ نِزَاعٍ، أَوْ خَوْفِ وُقُوعِهِ.
__________
(1) البدائع 6 / 333، وجواهر الإكليل 2 / 211، وقليوبي 3 / 156، ومغني المحتاج 2 / 6.
(2) الزيلعي 2 / 151، والشرح الصغير 4 / 5 ط دار المعارف، وجواهر الإكليل 2 / 184، ومغني المحتاج 2 / 332، والمغني 5 / 433، ومنتهى الإرادات 2 / 351.(9/6)
وَإِذَا كَانَتِ الْمُصَالَحَةُ عَلَى أَخْذِ الْبَدَل فَالصُّلْحُ مُعَاوَضَةٌ، وَيَعْتَبِرُهُ الْفُقَهَاءُ بَيْعًا يُشْتَرَطُ فِيهِ شُرُوطُ الْبَيْعِ.
يَقُول الْفُقَهَاءُ: الصُّلْحُ عَلَى أَخْذِ شَيْءٍ غَيْرِ الْمُدَّعَى بِهِ بَيْعٌ لِذَاتِ الْمُدَّعَى بِهِ بِالْمَأْخُوذِ إِنْ كَانَ ذَاتًا، فَيُشْتَرَطُ فِيهِ شُرُوطُ الْبَيْعِ. وَإِنْ كَانَ الْمَأْخُوذُ مَنَافِعَ فَهُوَ إِجَارَةٌ.
أَمَّا الصُّلْحُ عَلَى أَخْذِ بَعْضِ الْمُدَّعَى بِهِ وَتَرْكِ بَاقِيهِ فَهُوَ هِبَةٌ.
فَالصُّلْحُ فِي بَعْضِ صُوَرِهِ يُعْتَبَرُ بَيْعًا (1) .
د - الْقِسْمَةُ.
5 - عَرَّفَ الْحَنَفِيَّةُ الْقِسْمَةَ بِأَنَّهَا: جَمْعُ نَصِيبٍ شَائِعٍ فِي مُعَيَّنٍ، وَعَرَّفَهَا ابْنُ عَرَفَةَ بِأَنَّهَا: تَصْيِيرُ مُشَاعٍ مِنْ مَمْلُوكِ مَالِكِينَ مُعَيَّنًا وَلَوْ بِاخْتِصَاصِ تَصَرُّفٍ فِيهِ بِقُرْعَةٍ أَوْ تَرَاضٍ.
وَهِيَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: تَمْيِيزُ بَعْضِ الْحِصَصِ وَإِفْرَازُهَا (2) .
وَاعْتَبَرَهَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بَيْعًا. يَقُول ابْنُ قُدَامَةَ:
الْقِسْمَةُ إِفْرَازُ حَقٍّ وَتَمْيِيزُ أَحَدِ النَّصِيبَيْنِ مِنَ الآْخَرِ، وَلَيْسَتْ بَيْعًا، وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ. وَقَال فِي الآْخَرِ: هِيَ بَيْعٌ، وَحُكِيَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَطَّةَ: لأَِنَّهُ يُبْدِل نَصِيبَهُ مِنْ أَحَدِ السَّهْمَيْنِ بِنَصِيبِ صَاحِبِهِ مِنَ السَّهْمِ الآْخَرِ، وَهَذَا حَقِيقَةُ الْبَيْعِ.
__________
(1) الاختيار 3 / 5، وجواهر الإكليل 2 / 102، 103، ومغني المحتاج 2 / 177، وشرح منتهى الإرادات 2 / 260.
(2) البحر الرائق 8 / 167، ومنح الجليل 3 / 619، ونهاية المحتاج 8 / 269، ومنتهى الإرادات 3 / 508.(9/7)
وَعَلَى ذَلِكَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ. قَال ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: الْقِسْمَةُ بَيْعٌ مِنَ الْبُيُوعِ. وَهُوَ قَوْل مَالِكٍ فِي الْمُدَوَّنَةِ.
وَإِنْ كَانَ فِي الْقِسْمَةِ رَدٌّ (وَقِسْمَةُ الرَّدِّ هِيَ الَّتِي يُسْتَعَانُ فِي تَعْدِيل أَنْصِبَائِهَا بِمَالٍ أَجْنَبِيٍّ) فَهِيَ بَيْعٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
جَاءَ فِي الْمُهَذَّبِ: إِنْ كَانَ فِي الْقِسْمَةِ رَدٌّ فَهِيَ بَيْعٌ؛ لأَِنَّ صَاحِبَ الرَّدِّ بِذَلِكَ الْمَال فِي مُقَابَلَةِ مَا حَصَل لَهُ مِنْ حَقِّ شَرِيكِهِ عِوَضًا.
وَيَقُول ابْنُ قُدَامَةَ: إِنْ كَانَ فِي الْقِسْمَةِ رَدُّ عِوَضٍ فَهِيَ بَيْعٌ؛ لأَِنَّ صَاحِبَ الرَّدِّ يَبْذُل الْمَال عِوَضًا عَمَّا حَصَل لَهُ مِنْ مَال شَرِيكِهِ، وَهَذَا هُوَ الْبَيْعُ.
وَهِيَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَغْلِبُ فِيهَا مَعْنَى تَمْيِيزِ الْحُقُوقِ فِي قِسْمَةِ الْمِثْلِيِّ. وَفِي قِسْمَةِ الْقِيَمِيِّ يَغْلِبُ فِيهَا مَعْنَى الْبَيْعِ (1) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
6 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْبَيْعَ مَشْرُوعٌ عَلَى سَبِيل الْجَوَازِ، دَل عَلَى جَوَازِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالإِْجْمَاعُ وَالْمَعْقُول.
فَمِنَ الْكِتَابِ قَوْله تَعَالَى: {وَأَحَل اللَّهُ الْبَيْعَ} (2) وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَل: {لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِل إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (3)
__________
(1) المغني 9 / 114 - 115، والمهذب 2 / 307، والكافي لابن عبد البر 2 / 876، ومنح الجليل 3 / 624، والفواكه الدواني 2 / 327، والبدائع 7 / 17.
(2) سورة البقرة / 275.
(3) سورة النساء / 29.(9/7)
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمِنْهَا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِل: أَيُّ الْكَسْبِ أَطْيَبُ؟ فَقَال: عَمَل الرَّجُل بِيَدِهِ، وَكُل بَيْعٍ مَبْرُورٍ (1) وَكَذَلِكَ فِعْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِقْرَارُهُ أَصْحَابَهُ عَلَيْهِ.
وَالإِْجْمَاعُ قَدِ اسْتَقَرَّ عَلَى جَوَازِ الْبَيْعِ.
أَمَّا الْمَعْقُول: فَلأَِنَّ الْحِكْمَةَ تَقْتَضِيهِ، لِتَعَلُّقِ حَاجَةِ الإِْنْسَانِ بِمَا فِي يَدِ صَاحِبِهِ، وَلاَ سَبِيل إِلَى الْمُبَادَلَةِ إِلاَّ بِعِوَضٍ غَالِبًا، فَفِي تَجْوِيزِ الْبَيْعِ وُصُولٌ إِلَى الْغَرَضِ وَدَفْعٌ لِلْحَاجَةِ (2) .
هَذَا هُوَ الْحُكْمُ الأَْصْلِيُّ لِلْبَيْعِ، وَلَكِنْ قَدْ تَعْتَرِيهِ أَحْكَامٌ أُخْرَى، فَيَكُونُ مَحْظُورًا إِذَا اشْتَمَل عَلَى مَا هُوَ مَمْنُوعٌ بِالنَّصِّ، لأَِمْرٍ فِي الصِّيغَةِ، أَوِ الْعَاقِدَيْنِ، أَوِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ. وَكَمَا يَحْرُمُ الإِْقْدَامُ عَلَى مِثْل هَذَا الْبَيْعِ فَإِنَّهُ لاَ يَقَعُ صَحِيحًا، بَل يَكُونُ بَاطِلاً أَوْ فَاسِدًا عَلَى الْخِلاَفِ الْمَعْرُوفِ بَيْنَ الْجُمْهُورِ وَالْحَنَفِيَّةِ، وَيَجِبُ فِيهِ التَّرَادُّ. عَلَى تَفْصِيلٍ يُعْرَفُ فِي مُصْطَلَحِ (بَيْعٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ) وَفِي أَفْرَادِ الْبُيُوعِ الْمُسَمَّاةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا، وَفِي مُصْطَلَحَيْ (الْبَيْعُ الْبَاطِل، وَالْبَيْعُ الْفَاسِدُ) .
وَقَدْ يَكُونُ الْحُكْمُ الْكَرَاهَةَ، وَهُوَ مَا فِيهِ نَهْيٌ غَيْرُ جَازِمٍ وَلاَ يَجِبُ فَسْخُهُ، وَمَثَّل لَهُ الْحَطَّابُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ بِبَيْعِ السِّبَاعِ لاَ لأَِخْذِ جُلُودِهَا (3) .
__________
(1) حديث: ". . . عمل الرجل بيده وكل بيع مبرور. . . " أخرجه أحمد 4 / 141 ط الميمنية، وأورده الهيثمي في المجمع 4 / 60 ط القدسي، وقال: رواه أحمد والبزار والطبراني في الكبير والأوسط، وفيه المسعودي وهو ثقة، ولكنه اختلط، وبقية رجال أحمد رجال الصحيح.
(2) المغني والشرح الكبير 4 / 3، وكشاف القناع 3 / 145، والمقدمات لابن رشد الجد 3 / 213، وفتح القدير 5 / 73.
(3) المراجع السابقة.(9/8)
وَقَدْ يَعْرِضُ لِلْبَيْعِ الْوُجُوبُ، كَمَنْ اضْطُرَّ إِلَى شِرَاءِ طَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ لِحِفْظِ الْمُهْجَةِ.
كَمَا قَدْ يَعْرِضُ لَهُ النَّدْبُ، كَمَنْ أَقْسَمَ عَلَى إِنْسَانٍ أَنْ يَبِيعَ سِلْعَةً لاَ ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي بَيْعِهَا فَتُنْدَبُ إِجَابَتُهُ؛ لأَِنَّ إِبْرَارَ الْمُقْسَمِ فِيمَا لَيْسَ فِيهِ ضَرَرٌ مَنْدُوبٌ.
7 - وَحِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّةِ الْبَيْعِ ظَاهِرَةٌ، فَهِيَ الرِّفْقُ بِالْعِبَادِ وَالتَّعَاوُنُ عَلَى حُصُول مَعَاشِهِمْ (1) .
تَقْسِيمُ الْبَيْعِ:
8 - لِلْبَيْعِ تَقْسِيمَاتٌ عَدِيدَةٌ بِاعْتِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، أَهَمُّهَا تَقْسِيمُهُ بِاعْتِبَارِ (الْمَبِيعِ) وَبِاعْتِبَارِ (الثَّمَنِ) مِنْ حَيْثُ طَرِيقَةُ تَحْدِيدِهِ، وَمِنْ حَيْثُ كَيْفِيَّةُ أَدَائِهِ. وَبِاعْتِبَارِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ التَّكْلِيفِيِّ أَوِ الْوَضْعِيِّ (الأَْثَرُ) .
أَوَّلاً - تَقْسِيمُ الْبَيْعِ بِاعْتِبَارِ الْمَبِيعِ:
يَنْقَسِمُ الْبَيْعُ بِاعْتِبَارِ مَوْضُوعِ الْمُبَادَلَةِ فِيهِ إِلَى أَرْبَعَةِ أَنْوَاعٍ:
الْبَيْعُ الْمُطْلَقُ:
9 - وَهُوَ مُبَادَلَةُ الْعَيْنِ بِالدَّيْنِ وَهُوَ أَشْهَرُ الأَْنْوَاعِ، وَيُتِيحُ لِلإِْنْسَانِ الْمُبَادَلَةَ بِنُقُودِهِ عَلَى كُل مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الأَْعْيَانِ، وَإِلَيْهِ يَنْصَرِفُ الْبَيْعُ عِنْدَ الإِْطْلاَقِ فَلاَ يَحْتَاجُ كَغَيْرِهِ إِلَى تَقْيِيدٍ.
بَيْعُ السَّلَمِ:
10 - وَهُوَ مُبَادَلَةُ الدَّيْنِ بِالْعَيْنِ، أَوْ بَيْعُ شَيْءٍ مُؤَجَّلٍ بِثَمَنٍ مُعَجَّلٍ (2) . وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (سَلَم) .
__________
(1) حاشية العدوي 2 / 125، ومحاسن الإسلام للبخاري الحنفي ص 79.
(2) المجلة مادة (123) .(9/8)
بَيْعُ الصَّرْفِ:
11 - وَهُوَ مُبَادَلَةُ الأَْثْمَانِ. وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (صَرْف) .
وَيَخُصُّ الْمَالِكِيَّةُ الصَّرْفَ بِمَا كَانَ نَقْدًا بِنَقْدٍ مُغَايِرٍ وَهُوَ بِالْعَدِّ، فَإِنْ كَانَ بِنَقْدٍ مِنْ نَوْعِهِ فَهُوَ (مُرَاطَلَةً) وَهُوَ بِالْوَزْنِ (1)
بَيْعُ الْمُقَايَضَةِ:
12 - وَهُوَ مُبَادَلَةُ الْعَيْنِ بِالْعَيْنِ. وَتَفْصِيلُهُ فِي (مُقَايَضَة) .
ثَانِيًا - تَقْسِيمُ الْبَيْعِ بِاعْتِبَارِ طَرِيقَةِ تَحْدِيدِ الثَّمَنِ:
يَنْقَسِمُ الْبَيْعُ بِاعْتِبَارِ طَرِيقَةِ تَحْدِيدِ الثَّمَنِ إِلَى أَرْبَعَةِ أَنْوَاعٍ هِيَ:
بَيْعُ الْمُسَاوَمَةِ:
13 - وَهُوَ الْبَيْعُ الَّذِي لاَ يُظْهِرُ فِيهِ الْبَائِعُ رَأْسَ مَالِهِ.
بَيْعُ الْمُزَايَدَةِ:
14 - بِأَنْ يَعْرِضَ الْبَائِعُ سِلْعَتَهُ فِي السُّوقِ وَيَتَزَايَدَ الْمُشْتَرُونَ فِيهَا، فَتُبَاعُ لِمَنْ يَدْفَعُ الثَّمَنَ الأَْكْثَرَ (2) .
بُيُوعُ الأَْمَانَةِ:
15 - وَهِيَ الَّتِي يُحَدَّدُ فِيهَا الثَّمَنُ بِمِثْل رَأْسِ الْمَال، أَوْ أَزْيَدَ، أَوْ أَنْقَصَ. وَسُمِّيَتْ بُيُوعُ
__________
(1) الحطاب 4 / 226، والدسوقي 3 / 2.
(2) ويقابله الشراء بالمناقصة، وهي أن يعرض المشتري شراء سلعة موصوفة بأوصاف معينة، فيتنافس الباعة في عرض البيع بثمن أقل، ويرسو البيع على من رضي بأقل سعر، ولم نطلع على ذكر له في كتب الفقه بعد التتبع، ولكنه يسري عليه ما يسري على المزايدة مع مراعاة التقابل.(9/9)
الأَْمَانَةِ؛ لأَِنَّهُ يُؤْتَمَنُ فِيهَا الْبَائِعُ فِي إِخْبَارِهِ بِرَأْسِ الْمَال، وَهِيَ ثَلاَثَةُ أَنْوَاعٍ:
أ - بَيْعُ الْمُرَابَحَةِ، وَهُوَ الْبَيْعُ الَّذِي يُحَدَّدُ فِيهِ الثَّمَنُ بِزِيَادَةٍ عَلَى رَأْسِ الْمَال. وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (مُرَابَحَة) .
ب - بَيْعُ التَّوْلِيَةِ، وَهُوَ الْبَيْعُ الَّذِي يُحَدَّدُ فِيهِ رَأْسُ الْمَال نَفْسُهُ ثَمَنًا بِلاَ رِبْحٍ وَلاَ خَسَارَةٍ. انْظُرْ مُصْطَلَحَ (تَوْلِيَة)
ج - بَيْعُ الْوَضِيعَةِ، أَوِ الْحَطِيطَةِ، أَوِ النَّقِيصَةِ: وَهُوَ بَيْعٌ يُحَدَّدُ فِيهِ الثَّمَنُ بِنَقْصٍ عَنْ رَأْسِ الْمَال، أَيْ بِخَسَارَةٍ، وَتَفْصِيلُهُ فِي (وَضِيعَة) .
وَإِذَا كَانَ الْبَيْعُ لِجُزْءٍ مِنَ الْمَبِيعِ فَيُسَمَّى بَيْعَ (الإِْشْرَاكِ) وَلاَ يَخْرُجُ عَنِ الأَْنْوَاعِ الْمُتَقَدِّمَةِ (1) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (إِشْرَاك - تَوْلِيَة) .
ثَالِثًا - تَقْسِيمُ الْبَيْعِ بِاعْتِبَارِ كَيْفِيَّةِ الثَّمَنِ:
16 - يَنْقَسِمُ الْبَيْعُ بِهَذَا الاِعْتِبَارِ إِلَى:
أ - مُنْجَزِ الثَّمَنِ، وَهُوَ مَا لاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ تَأْجِيل الثَّمَنِ، وَيُسَمَّى بَيْعَ النَّقْدِ، أَوِ الْبَيْعَ بِالثَّمَنِ الْحَال.
ب - مُؤَجَّل الثَّمَنِ، وَهُوَ مَا يُشْتَرَطُ فِيهِ تَأْجِيل الثَّمَنِ، وَسَيَأْتِي تَفْصِيل الْكَلاَمِ عَنْ هَذَا النَّوْعِ فِي مَبَاحِثِ الثَّمَنِ.
ج - مُؤَجَّل الْمُثَمَّنِ، وَهُوَ بَيْعُ السَّلَمِ، وَقَدْ سَبَقَتِ الإِْشَارَةُ إِلَيْهِ.
د - مُؤَجَّل الْعِوَضَيْنِ، وَهُوَ بَيْعُ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ وَهُوَ مَمْنُوعٌ فِي الْجُمْلَةِ. وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (دَيْنٌ، وَبَيْعٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ) (2) .
__________
(1) رد المحتار 4 / 3، وفتح القدير 5 / 455.
(2) فتح القدير 5 / 455.(9/9)
وَقَدْ أَوْرَدَ ابْنُ رُشْدٍ الْحَفِيدُ تَقْسِيمَاتٍ لِلْبَيْعِ بَلَغَتْ تِسْعَةً، تَبَعًا لِمَا تَمَّ عَلَيْهِ التَّبَادُل وَكَيْفِيَّةُ تَحْدِيدِ الثَّمَنِ وَوُجُوبِ الْخِيَارِ، وَالْحُلُول وَالنَّسِيئَةِ فِي كُلٍّ مِنَ الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ، بِمَا لاَ يَخْرُجُ عَمَّا سَبَقَ (1) .
وَهُنَاكَ تَقْسِيمَاتٌ أُخْرَى فَرْعِيَّةٌ بِحَسَبِ حُضُورِ الْمَبِيعِ وَغَيْبَتِهِ، وَبِحَسَبِ رُؤْيَتِهِ وَعَدَمِهَا، وَبِحَسَبِ بَتِّ الْعَقْدِ أَوِ التَّخْيِيرِ فِيهِ (2) .
17 - أَمَّا التَّقْسِيمُ بِاعْتِبَارِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ فَأَنْوَاعُهُ كَثِيرَةٌ، فَمِنْ ذَلِكَ الْبَيْعُ الْمُنْعَقِدُ، وَيُقَابِلُهُ الْبَيْعُ الْبَاطِل. وَالْبَيْعُ الصَّحِيحُ وَيُقَابِلُهُ الْبَيْعُ الْفَاسِدُ. وَالْبَيْعُ النَّافِذُ، وَيُقَابِلُهُ الْبَيْعُ الْمَوْقُوفُ. وَالْبَيْعُ اللاَّزِمُ، وَيُقَابِلُهُ الْبَيْعُ غَيْرُ اللاَّزِمِ (وَيُسَمَّى الْجَائِزَ أَوِ الْمُخَيَّرَ) وَتَفْصِيل مَا يَتَّصِل بِهَذِهِ الأَْنْوَاعِ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَاتِهَا. وَتُنْظَرُ الْبُيُوعُ الْمَنْهِيُّ عَنْهَا فِي مُصْطَلَحِ (بَيْعٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ) .
وَهُنَاكَ بُيُوعٌ مُسَمَّاةٌ بِأَسْمَاءٍ خَاصَّةٍ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهَا كَبَيْعِ النَّجْشِ، وَبَيْعِ الْمُنَابَذَةِ، وَنَحْوِهِمَا. وَتُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَاتِهَا.
وَهُنَاكَ أَنْوَاعٌ أُخْرَى رُوعِيَ فِي تَسْمِيَتِهَا أَحْوَالٌ تَقْتَرِنُ بِالْعَقْدِ، وَتُؤَثِّرُ فِي الْحُكْمِ، كَبَيْعِ الْمُكْرَهِ، أَوِ الْهَازِل، وَبَيْعِ التَّلْجِئَةِ، وَبَيْعِ الْفُضُولِيِّ، وَبَيْعِ الْوَفَاءِ. وَلَهَا مُصْطَلَحَاتُهَا أَيْضًا.
كَمَا أَنَّ (الاِسْتِصْنَاعَ) يُدْرَجُ فِي عِدَادِ الْبُيُوعِ، مَعَ الْخِلاَفِ فِي أَنَّهُ بَيْعٌ أَوْ إِجَارَةٌ، وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِهِ.
وَهَذِهِ الْبُيُوعُ الْمُسَمَّاةُ حَظِيَتْ مِنَ الْفُقَهَاءِ.
__________
(1) بداية المجتهد 2 / 108
(2) الحطاب 4 / 226.(9/10)
بِبَحْثٍ مُسْتَقِلٍّ عَنِ الْبَيْعِ الْمُطْلَقِ، لَكِنَّهَا تَأْتِي تَالِيَةً لَهُ.
وَمِنْ هُنَا جَاءَتْ تَسْمِيَةُ (الْبُيُوعِ) ؛ لأَِنَّهَا يَشْمَلُهَا مُطْلَقُ الْبَيْعِ، لَكِنَّهَا لاَ تَدْخُل فِي (الْبَيْعِ الْمُطْلَقِ) كَمَا سَبَقَ
أَرْكَانُ الْبَيْعِ وَشُرُوطُهُ:
18 - لِلْفُقَهَاءِ خِلاَفٌ مَشْهُورٌ فِي تَحْدِيدِ الأَْرْكَانِ فِي الْبَيْعِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْعُقُودِ، هَل هِيَ الصِّيغَةُ (الإِْيجَابُ أَوِ الْقَبُول) أَوْ مَجْمُوعُ الصِّيغَةِ وَالْعَاقِدَيْنِ (الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي) وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ أَوْ مَحَل الْعَقْدِ (الْمَبِيعُ وَالثَّمَنُ) .
فَالْجُمْهُورُ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) يَرَوْنَ أَنَّ هَذِهِ كُلَّهَا أَرْكَانُ الْبَيْعِ؛ لأَِنَّ الرُّكْنَ عِنْدَهُمْ: مَا تَوَقَّفَ عَلَيْهِ وُجُودُ الشَّيْءِ وَتَصَوُّرُهُ عَقْلاً، سَوَاءٌ أَكَانَ جُزْءًا مِنْ حَقِيقَتِهِ أَمْ لَمْ يَكُنْ، وَوُجُودُ الْبَيْعِ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْعَاقِدَيْنِ وَالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَؤُلاَءِ جُزْءًا مِنْ حَقِيقَتِهِ (1) .
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الرُّكْنَ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ وَغَيْرِهِ: هُوَ الصِّيغَةُ فَقَطْ. أَمَّا الْعَاقِدَانِ وَالْمَحَل فَمِمَّا يَسْتَلْزِمُهُ وُجُودُ الصِّيغَةِ لاَ مِنَ الأَْرْكَانِ؛ لأَِنَّ مَا عَدَا الصِّيغَةَ لَيْسَ جُزْءًا مِنْ حَقِيقَةِ الْبَيْعِ، وَإِنْ كَانَ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وُجُودُهُ (2) .
وَاسْتَحْسَنَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ الْمُعَاصِرِينَ تَسْمِيَةَ مَجْمُوعِ الصِّيغَةِ وَالْعَاقِدَيْنِ وَالْمَحَل (مُقَوِّمَاتِ الْعَقْدِ) : لِلاِتِّفَاقِ عَلَى عَدَمِ قِيَامِ الْعَقْدِ بِدُونِهَا (3) .
__________
(1) الشرح الصغير 2 / 3 ط الحلبي، ومغني المحتاج 2 / 5 - 7، وشرح منتهى الإرادات 2 / 140.
(2) الاختيار 2 / 4.
(3) المدخل الفقهي العام 1 / 299 - 300.(9/10)
هَذَا، وَلِكُلٍّ مِنَ الصِّيغَةِ وَالْعَاقِدَيْنِ وَالْمَحَل شُرُوطٌ لاَ يَتَحَقَّقُ الْوُجُودُ الشَّرْعِيُّ لأَِيٍّ مِنْهَا إِلاَّ بِتَوَافُرِهَا، وَتَخْتَلِفُ تِلْكَ الشُّرُوطُ مِنْ حَيْثُ أَثَرُ وُجُودِهَا أَوْ فِقْدَانِهَا.
فَمِنْهَا شُرُوطُ الاِنْعِقَادِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى تَخَلُّفِ أَحَدِهَا بُطْلاَنُ الْعَقْدِ.
وَمِنْهَا شُرُوطُ الصِّحَّةِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى تَخَلُّفِ شَيْءٍ مِنْهَا بُطْلاَنُ الْعَقْدِ، أَوْ فَسَادُهُ عَلَى الْخِلاَفِ بَيْنَ الْجُمْهُورِ وَالْحَنَفِيَّةِ.
وَمِنْهَا شُرُوطُ النَّفَاذِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى فَقْدِ أَحَدِهَا اعْتِبَارُ الْعَقْدِ مَوْقُوفًا.
وَمِنْهَا شُرُوطُ اللُّزُومِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى تَخَلُّفِهَا أَوْ تَخَلُّفِ بَعْضِهَا عَدَمُ لُزُومِ الْعَقْدِ.
وَهَذَا التَّنْوِيعُ لِلشُّرُوطِ هُوَ مَا عَلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ. وَفِي بَعْضِهِ خِلاَفٌ لِغَيْرِهِمْ سَيَأْتِي بَيَانُهُ.
الصِّيغَةُ وَشُرُوطُهَا:
20 - الصِّيغَةُ - كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ الْحَطَّابُ (1) - هِيَ الإِْيجَابُ وَالْقَبُول.
وَيَصْلُحُ لَهُمَا كُل قَوْلٍ يَدُل عَلَى الرِّضَا، مِثْل قَوْل الْبَائِعِ: بِعْتُكَ أَوْ أَعْطَيْتُكَ، أَوْ مَلَّكْتُكَ بِكَذَا. وَقَوْل الْمُشْتَرِي: اشْتَرَيْتُ أَوْ تَمَلَّكْتُ أَوِ ابْتَعْتُ أَوْ قَبِلْتُ، وَشِبْهِ ذَلِكَ.
وَالإِْيجَابُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ: مَا يَصْدُرُ مِنَ الْبَائِعِ دَالًّا عَلَى الرِّضَا، وَالْقَبُول: مَا يُصْدَرُ مِنَ الْمُشْتَرِي كَذَلِكَ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الإِْيجَابَ يُطْلَقُ عَلَى مَا يَصْدُرُ أَوَّلاً مِنْ كَلاَمِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ، سَوَاءٌ
__________
(1) الحطاب 4 / 228.(9/11)
أَكَانَ هُوَ الْبَائِعَ أَمِ الْمُشْتَرِيَ، وَالْقَبُول مَا يَصْدُرُ بَعْدَهُ (1) . وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ (إِيجَابٌ، وَقَبُولٌ) .
وَقَدْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ تَقَدُّمَ لَفْظِ الْمُشْتَرِي عَلَى لَفْظِ الْبَائِعِ جَائِزٌ لِحُصُول الْمَقْصُودِ (2) .
وَلاَ تَخْتَلِفُ شُرُوطُ الصِّيغَةِ فِي الْبَيْعِ عَنِ الصِّيغَةِ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْعُقُودِ الْمَالِيَّةِ مِمَّا خُلاَصَتُهُ كَوْنُ الصِّيغَةِ بِالْمَاضِي، أَوْ بِمَا يُفِيدُ إِنْشَاءَ الْعَقْدِ فِي الْحَال كَمَا يَأْتِي، وَتَوَافُقُ الإِْيجَابِ وَالْقَبُول، فَلَوْ خَالَفَ الْقَبُول الإِْيجَابَ لَمْ يَنْعَقِدِ الْبَيْعُ.
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْقَبُول الْمُخَالِفَ لِلإِْيجَابِ يَكُونُ إِيجَابًا جَدِيدًا.
وَيُشْتَرَطُ لِلصِّيغَةِ كَذَلِكَ: اتِّحَادُ الْمَجْلِسِ، وَهُوَ يَجْمَعُ الْمُتَفَرِّقَاتِ فِيهِ، فَلَوْ تَرَاخَى الْقَبُول عَنِ الإِْيجَابِ أَوْ عَكْسُهُ صَحَّ الْمُتَقَدِّمُ مِنْهُمَا، وَلَمْ يُلْغَ مَا دَامَا فِي الْمَجْلِسِ وَلَمْ يَتَشَاغَلاَ بِمَا يَقْطَعُهُ عُرْفًا. وَيُشْتَرَطُ: عَدَمُ الْهَزْل فِي الإِْيجَابِ أَوِ الْقَبُول.
وَيُشْتَرَطُ لِبَقَاءِ الإِْيجَابِ صَالِحًا: عَدَمُ رُجُوعِ الْمُوجِبِ، وَعَدَمُ وَفَاتِهِ قَبْل الْقَبُول، وَعَدَمُ هَلاَكِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ.
وَيُشْتَرَطُ أَلاَّ يَطْرَأَ قَبْل الْقَبُول تَغْيِيرٌ عَلَى الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بِحَيْثُ يَصِيرُ مُسَمًّى آخَرَ غَيْرَ الْمُتَعَاقَدِ عَلَيْهِ، كَتَحَوُّل الْعَصِيرِ خَلًّا. وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحَيْ: (عَقْدٌ) (وَصِيغَةٌ) .
وَفِيمَا يَلِي بَعْضُ التَّطْبِيقَاتِ الْهَامَةِ الْخَاصَّةِ
__________
(1) المجلة مادة (101) ، (102) ، والاختيار 2 / 4.
(2) منح الجليل 2 / 462، وجواهر الإكليل 2 / 2، وقليوبي 2 / 153، وشرح منتهى الإرادات 2 / 140.(9/11)
بِصِيغَةِ الْبَيْعِ. فَضْلاً عَمَّا سَبَقَتِ الإِْشَارَةُ إِلَيْهِ مِنْ شُرُوطِ الصِّيغَةِ فِي الْعُقُودِ عَامَّةً.
21 - لاَ خِلاَفَ فِيمَا إِذَا كَانَ الإِْيجَابُ وَالْقَبُول بِصِيغَةِ الْمَاضِي مِثْل: بِعْتُ، أَوِ اشْتَرَيْتُ. أَوِ الْمُضَارِعِ الْمُرَادِ بِهِ الْحَال بِقَرِينَةٍ لَفْظِيَّةٍ مِثْل: أَبِيعُكَ الآْنَ أَوْ قَرِينَةٍ حَالِيَّةٍ. كَمَا إِذَا جَرَى الْعُرْفُ عَلَى اسْتِعْمَال الْمُضَارِعِ بِمَعْنَى الْحَال.
وَلاَ يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ إِذَا كَانَ الإِْيجَابُ أَوِ الْقَبُول بِصِيغَةِ الاِسْتِفْهَامِ، مِثْل: أَتْبِيعُنِي؟ أَوِ الْمُضَارِعِ الْمُرَادِ بِهِ الاِسْتِقْبَال، مِثْل: سَأَبِيعُكَ، أَوْ أَبِيعُكَ غَدًا.
أَمَّا الأَْمْرُ مِثْل: بِعْنِي، فَإِذَا أَجَابَهُ الآْخَرُ بِقَوْلِهِ: بِعْتُكَ. كَانَ هَذَا اللَّفْظُ الثَّانِي إِيجَابًا، وَاحْتَاجَ إِلَى قَبُولٍ مِنَ الأَْوَّل (الآْمِرِ بِالْبَيْعِ) .
وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَمُقَابِل الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (1) .
أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ بِقَوْل الْمُشْتَرِي: بِعْنِي، وَبِقَوْل الْبَائِعِ: بِعْتُكَ، لِلدَّلاَلَةِ عَلَى الرِّضَا، وَلاَ يَحْتَاجُ إِلَى قَبُولٍ مِنَ الأَْوَّل (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ قَال الْمُشْتَرِي بِلَفْظِ الْمَاضِي أَوِ الْمُضَارِعِ: بِعْتَنِي، أَوْ تَبِيعُنِي، فَقَال الْبَائِعُ: بِعْتُكَ، لَمْ يَنْعَقِدِ الْبَيْعُ حَتَّى يَقْبَل بَعْدَ ذَلِكَ (3) .
__________
(1) شرح المجلة للأتاسي 2 / 32، والاختيار 2 / 4، ومغني المحتاج 2 / 5، والمغني 3 / 561.
(2) منح الجليل 2 / 462، ومغني المحتاج 2 / 5، وشرح منتهى الإرادات 2 / 140، والمغني 3 / 561.
(3) مغني المحتاج 2 / 5.(9/12)
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِصِحَّةِ الإِْيجَابِ بِلَفْظِ الأَْمْرِ أَوِ الْمُضَارِعِ، إِذَا كَانَ فِي الْعِبَارَةِ إِيجَابٌ أَوْ قَبُولٌ ضِمْنِيٌّ، مِثْل: خُذْ هَذِهِ السِّلْعَةَ بِكَذَا، فَقَال: أَخَذْتُهَا؛ لأَِنَّ (خُذْ) تَتَضَمَّنُ بِعْتُكَ فَخُذْ، وَكَذَلِكَ قَوْل الْبَائِعِ بَعْدَ إِيجَابِ الْمُشْتَرِي: يُبَارِكُ اللَّهُ لَكَ فِي السِّلْعَةِ، لأَِنَّهُ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى قَبِلْتُ الْبَيْعَ. وَمِثْل ذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. وَنَحْوُ هَذَا لِلشَّافِعِيَّةِ فِي مِثْل: أَعْتِقْ عَبْدَكَ عَنِّي بِكَذَا، لأَِنَّهُ تَضَمَّنَ: بِعْنِيهِ وَأَعْتِقْهُ عَنِّي (1)
22 - وَتَدُل عِبَارَاتُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الْعِبْرَةَ بِالدَّلاَلَةِ عَلَى الْمَقْصُودِ، سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ بِوَضْعِ اللُّغَةِ أَمْ بِجَرَيَانِ الْعُرْفِ، قَال الدُّسُوقِيُّ: يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ بِمَا يَدُل عَلَى الرِّضَا عُرْفًا، سَوَاءٌ دَل لُغَةً أَوْ لاَ، مِنْ قَوْلٍ أَوْ كِتَابَةٍ أَوْ إِشَارَةٍ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا.
وَفِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ: الصِّيغَةُ الْقَوْلِيَّةُ غَيْرُ مُنْحَصِرَةٍ فِي لَفْظٍ بِعَيْنِهِ كَبِعْتُ وَاشْتَرَيْتُ، بَل هِيَ كُل مَا أَدَّى مَعْنَى الْبَيْعِ؛ لأَِنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَخُصَّهُ بِصِيغَةٍ مُعَيَّنَةٍ، فَيَتَنَاوَل كُل مَا أَدَّى مَعْنَاهُ (2) .
23 - وَيَحْصُل التَّوَافُقُ بَيْنَ الإِْيجَابِ وَالْقَبُول بِأَنْ يَقْبَل الْمُشْتَرِي كُل الْمَبِيعِ بِكُل الثَّمَنِ. فَلاَ تَوَافُقَ إِنْ قَبِل بَعْضَ الْعَيْنِ الَّتِي وَقَعَ عَلَيْهَا الإِْيجَابُ أَوْ قَبِل عَيْنًا غَيْرَهَا، وَكَذَلِكَ لاَ تَوَافُقَ إِنْ قَبِل بِبَعْضِ الثَّمَنِ الَّذِي وَقَعَ بِهِ الإِْيجَابُ أَوْ بِغَيْرِهِ، إِلاَّ إِنْ كَانَ الْقَبُول إِلَى خَيْرٍ مِمَّا فِي الإِْيجَابِ، كَمَا
__________
(1) شرح المجلة 2 / 34، والدسوقي 3 / 3، وقليوبي 2 / 153، وشرح منتهى الإرادات 2 / 140.
(2) الدسوقي 3 / 3، وكشاف القناع 3 / 146.(9/12)
لَوْ بَاعَ شَخْصٌ السِّلْعَةَ بِأَلْفٍ فَقَبِلَهَا الْمُشْتَرِي بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، أَوِ اشْتَرَى شَخْصٌ سِلْعَةً بِأَلْفٍ فَقَبِل الْبَائِعُ بَيْعَهَا بِثَمَانِمِائَةٍ، وَهَذِهِ مُوَافَقَةٌ ضِمْنِيَّةٌ وَلَكِنْ لاَ تَلْزَمُ الزِّيَادَةُ، إِلاَّ إِنْ قَبِلَهَا الطَّرَفُ الآْخَرُ.
أَمَّا الْحَطُّ مِنَ الثَّمَنِ فَجَائِزٌ وَلَوْ بَعْدَ الْبَيْعِ (1) .
وَكَذَلِكَ لاَ تَوَافُقَ إِنْ بَاعَهُ سِلْعَةً بِأَلْفٍ فَقَبِل نِصْفَهَا بِخَمْسِمِائَةٍ مَثَلاً، إِلاَّ إِنْ رَضِيَ الْبَائِعُ بَعْدَ هَذَا، فَيَصِيرُ الْقَبُول إِيجَابًا، وَرِضَا الْبَائِعِ بَعْدَهُ قَبُولٌ.
وَصَرَّحَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ بِأَنَّهُ لَوْ قَال الْبَائِعُ: بِعْتُكَ هَذَا بِأَلْفٍ وَنِصْفَهُ بِخَمْسِمِائَةٍ، فَقَبِل نِصْفَهُ جَازَ، وَمِنْهُ يُعْرَفُ حُكْمُ مَا لَوْ وُجِدَتْ قَرِينَةٌ بِرِضَا الْبَائِعِ بِتَجْزِئَةِ الْمَبِيعِ بِالنِّسْبَةِ لِلثَّمَنِ (2) .
انْعِقَادُ الْبَيْعِ بِالْمُعَاطَاةِ (أَوِ التَّعَاطِي)
24 - الْمُعَاطَاةُ هِيَ: إِعْطَاءُ كُلٍّ مِنَ الْعَاقِدَيْنِ لِصَاحِبِهِ مَا يَقَعُ التَّبَادُل عَلَيْهِ دُونَ إِيجَابٍ وَلاَ قَبُولٍ، أَوْ بِإِيجَابٍ دُونَ قَبُولٍ، أَوْ عَكْسِهِ، وَهِيَ مِنْ قَبِيل الدَّلاَلَةِ الْحَالِيَّةِ، وَيَصِحُّ بِهَا الْبَيْعُ فِي الْقَلِيل وَالْكَثِيرِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ كَالْمُتَوَلِّي وَالْبَغَوِيِّ، خِلاَفًا لِغَيْرِهِمْ (3) .
__________
(1) شرح المجلة للأتاسي 2 / 44، والشرح الصغير 2 / 9 ط الحلبي، وهامش الفروق 3 / 290، والبهجة شرح التحفة 2 / 24، وقليوبي 2 / 154، وشرح منتهى الإرادات 2 / 140.
(2) المراجع السابقة.
(3) شرح المجلة 2 / 36، والدسوقي 3 / 3، ومغني المحتاج 2 / 3، وشرح منتهى الإرادات 2 / 141.(9/13)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ وَالْخِلاَفُ فِيهِ يُذْكَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (تَعَاطِي) .
انْعِقَادُ الْبَيْعِ بِالْكِتَابَةِ وَالْمُرَاسَلَةِ:
25 - يَصِحُّ التَّعَاقُدُ بِالْكِتَابَةِ بَيْنَ حَاضِرَيْنِ أَوْ بِاللَّفْظِ مِنْ حَاضِرٍ وَالْكِتَابَةِ مِنَ الآْخَرِ. وَكَذَلِكَ يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ إِذَا أَوْجَبَ الْعَاقِدُ الْبَيْعَ بِالْكِتَابَةِ إِلَى غَائِبٍ بِمِثْل عِبَارَةِ: بِعْتُكَ دَارِي بِكَذَا، أَوْ أَرْسَل بِذَلِكَ رَسُولاً فَقَبِل الْمُشْتَرِي بَعْدَ اطِّلاَعِهِ عَلَى الإِْيجَابِ مِنَ الْكِتَابِ أَوِ الرَّسُول.
وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ الْفَوْرَ فِي الْقَبُول، وَقَالُوا: يَمْتَدُّ خِيَارُ الْمَجْلِسِ لِلْمَكْتُوبِ إِلَيْهِ أَوِ الْمُرْسَل إِلَيْهِ مَا دَامَ فِي مَجْلِسِ قَبُولِهِ، وَلاَ يُعْتَبَرُ لِلْكَاتِبِ مَجْلِسٌ، وَلَوْ بَعْدَ قَبُول الْمَكْتُوبِ إِلَيْهِ، بَل يَمْتَدُّ خِيَارُهُ مَا دَامَ خِيَارُ الْمَكْتُوبُ إِلَيْهِ. كَمَا قَالُوا: لاَ يُشْتَرَطُ إِرْسَال الْكِتَابِ أَوِ الرَّسُول فَوْرًا عَقِبَ الإِْجَابَةِ.
وَلَمْ يَشْتَرِطْ غَيْرُ الشَّافِعِيَّةِ الْفَوْرَ فِي الْقَبُول، بَل صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ لاَ يَضُرُّ التَّرَاخِي هُنَا بَيْنَ الإِْيجَابِ وَالْقَبُول؛ لأَِنَّ التَّرَاخِيَ مَعَ غَيْبَةِ الْمُشْتَرِي لاَ يَدُل عَلَى إِعْرَاضِهِ عَنِ الإِْيجَابِ (1) .
انْعِقَادُ الْبَيْعِ بِالإِْشَارَةِ مِنَ الأَْخْرَسِ وَغَيْرِهِ:
26 - يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ بِالإِْشَارَةِ مِنَ الأَْخْرَسِ إِذَا كَانَتْ مَعْرُوفَةً، وَلَوْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْكِتَابَةِ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لأَِنَّ كُلًّا مِنَ الإِْشَارَةِ وَالْكِتَابَةِ حُجَّةٌ.
__________
(1) شرح المجلة 2 / 34، والخرشي 5 / 5، والحطاب 4 / 241، والقليوبي 2 / 154، وكشاف القناع 3 / 148.(9/13)
أَمَّا الإِْشَارَةُ غَيْرُ الْمَفْهُومَةِ فَلاَ عِبْرَةَ بِهَا.
وَلاَ تُقْبَل الإِْشَارَةُ مِنَ النَّاطِقِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَعِنْدَهُمْ يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ بِالإِْشَارَةِ الْمُفْهِمَةِ وَلَوْ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى النُّطْقِ.
وَأَمَّا مَنِ اعْتُقِل لِسَانُهُ، وَهُوَ: مَنْ طَرَأَ عَلَيْهِ الْخَرَسُ فَفِيهِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ (1) يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (اعْتِقَال اللِّسَانِ) .
شُرُوطُ الْبَيْعِ:
27 - اخْتَلَفَتْ طَرِيقَةُ الْفُقَهَاءِ فِي حَصْرِ شُرُوطِ الْبَيْعِ، فَقَدْ جَعَلَهَا بَعْضُهُمْ شُرُوطًا لِصِحَّةِ الْبَيْعِ مِنْ حَيْثُ هُوَ، فِي حِينِ اهْتَمَّ آخَرُونَ بِذِكْرِ شُرُوطِ الْمَبِيعِ، ثُمَّ إِلْحَاقِ الثَّمَنِ فِي جَمِيعِ شُرُوطِ الْمَبِيعِ أَوْ فِي بَعْضِهَا، حَسَبَ إِمْكَانِ تَصَوُّرِهَا فِيهِ.
وَلاَ تَبَايُنَ بَيْنَ مُعْظَمِ تِلْكَ الشُّرُوطِ، لِتَقَارُبِ الْمَقْصُودِ بِمَا عَبَّرُوا بِهِ عَنْهَا.
وَهُنَاكَ شُرُوطٌ انْفَرَدَ بِذِكْرِهَا بَعْضُ الْمَذَاهِبِ دُونَ بَعْضٍ. وَمَعَ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ شُرُوطِ الاِنْعِقَادِ وَشُرُوطِ الصِّحَّةِ، فَإِنَّهُمْ يَعْتَبِرُونَ شُرُوطَ الاِنْعِقَادِ شُرُوطًا لِلصِّحَّةِ؛ لأَِنَّ مَا لَمْ يَنْعَقِدْ فَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَلاَ عَكْسَ.
وَفِيمَا يَلِي بَيَانُ تِلْكَ الشُّرُوطِ عَلَى طَرِيقَةِ الْجُمْهُورِ، مَعَ الإِْشَارَةِ إِلَى مَا اعْتَبَرَهُ الْحَنَفِيَّةُ مِنْهَا شَرْطَ انْعِقَادٍ (2) .
__________
(1) شرح المجلة 2 / 35، والفواكه الدواني 2 / 157، والقليوبي 2 / 155.
(2) الفتاوى الهندية 3 / 3، وشرح المجلة مادة: 205، 208.(9/14)
شُرُوطُ الْمَبِيعِ:
لِلْمَبِيعِ شُرُوطٌ هِيَ:
أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ مَوْجُودًا حِينَ الْعَقْدِ.
28 - فَلاَ يَصِحُّ بَيْعُ الْمَعْدُومِ، وَذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.
وَهَذَا شَرْطُ انْعِقَادٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ بَيْعِ الْمَعْدُومِ بَيْعُ الثَّمَرَةِ قَبْل أَنْ تُخْلَقَ، وَبَيْعُ الْمَضَامِينِ (وَهِيَ مَا سَيُوجَدُ مِنْ مَاءِ الْفَحْل) ، وَبَيْعُ الْمَلاَقِيحِ (وَهِيَ مَا فِي الْبُطُونِ مِنَ الأَْجِنَّةِ) وَذَلِكَ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الْمَضَامِينِ وَالْمَلاَقِيحِ وَحَبَل الْحَبَلَةِ (1) . وَلِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْغَرَرِ وَالْجَهَالَةِ. وَلِلْحَدِيثِ: نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ (2) .
وَلاَ خِلاَفَ فِي اسْتِثْنَاءِ بَيْعِ السَّلَمِ، فَهُوَ صَحِيحٌ مَعَ أَنَّهُ بَيْعُ الْمَعْدُومِ، وَذَلِكَ لِلنُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِيهِ، وَمِنْهَا: نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الإِْنْسَانِ، وَرَخَّصَ فِي السَّلَمِ (3) .
أَنْ يَكُونَ مَالاً:
29 - وَعَبَّرَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَنْ هَذَا الشَّرْطِ بِلَفْظِ: النَّفْعِ أَوِ الاِنْتِفَاعِ، ثُمَّ قَالُوا: مَا لاَ نَفْعَ
__________
(1) حديث: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع المضامين. . . " أخرجه عبد الرزاق في مصنفه من حديث ابن عمر (8 / 21 ط المجلس العلمي) وقوى ابن حجر إسناده في التلخيص (3 / 12 ط شركة الطباعة الفنية) .
(2) حديث: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر " أخرجه مسلم (3 / 1153 ط الحلبي) .
(3) فتح القدير 1 / 50، والدسوقي 3 / 157 - 158، والمغني والشرح الكبير 4 / 276، والقليوبي 2 / 175 - 176.(9/14)
فِيهِ لَيْسَ بِمَالٍ فَلاَ يُقَابَل بِهِ، أَيْ لاَ تَجُوزُ الْمُبَادَلَةُ بِهِ. وَهُوَ شَرْطُ انْعِقَادٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَالْمَال مَا يَمِيل إِلَيْهِ الطَّبْعُ، وَيَجْرِي فِيهِ الْبَذْل وَالْمَنْعُ، فَمَا لَيْسَ بِمَالٍ لَيْسَ مَحَلًّا لِلْمُبَادَلَةِ بِعِوَضٍ، وَالْعِبْرَةُ بِالْمَالِيَّةِ فِي نَظَرِ الشَّرْعِ، فَالْمَيْتَةُ وَالدَّمُ الْمَسْفُوحُ لَيْسَا بِمَالٍ (1) .
أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا لِمَنْ يَلِي الْعَقْدَ:
30 - وَذَلِكَ إِذَا كَانَ يَبِيعُ بِالأَْصَالَةِ. وَاعْتَبَرَ الْحَنَفِيَّةُ هَذَا الشَّرْطَ مِنْ شُرُوطِ الاِنْعِقَادِ، وَقَسَمُوهُ إِلَى شِقَّيْنِ:
الأَْوَّل: أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ مَمْلُوكًا فِي نَفْسِهِ، فَلاَ يَنْعَقِدُ بَيْعُ الْكَلأَِ مَثَلاً، لأَِنَّهُ مِنَ الْمُبَاحَاتِ غَيْرِ الْمَمْلُوكَةِ، وَلَوْ كَانَتِ الأَْرْضُ مَمْلُوكَةً لَهُ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ مِلْكَ الْبَائِعِ فِيمَا يَبِيعُهُ لِنَفْسِهِ، فَلاَ يَنْعَقِدُ بَيْعُ مَا لَيْسَ مَمْلُوكًا، وَإِنْ مَلَكَهُ بَعْدُ، إِلاَّ السَّلَمَ، وَالْمَغْصُوبَ بَعْدَ ضَمَانِهِ، وَالْمَبِيعَ بِالْوَكَالَةِ، أَوِ النِّيَابَةِ الشَّرْعِيَّةِ، كَالْوَلِيِّ وَالْوَصِيِّ وَالْقَيِّمِ (2) .
وَقَدِ اسْتَدَل لِعَدَمِ مَشْرُوعِيَّةِ بَيْعِ مَا لاَ يَمْلِكُهُ الإِْنْسَانُ بِحَدِيثِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لاَ تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ (3) وَفِي بَيْعِ
__________
(1) ابن عابدين 4 / 100، والبدائع 5 / 149، والدسوقي 3 / 10، والقليوبي 2 / 57، وشرح منتهى الإرادات 2 / 142.
(2) ابن عابدين 4 / 6، 106، والبدائع 5 / 146، والفروق للقرافي 3 / 240، والقليوبي 2 / 160، وكشاف القناع 3 / 160.
(3) حديث " لا تبع ما ليس عندك " أخرجه الترمذي (4 / 430 تحفة الأحوذي) وحسنه.(9/15)
الْفُضُولِيِّ خِلاَفٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (بَيْعُ الْفُضُولِيِّ) .
أَنْ يَكُونَ مَقْدُورَ التَّسْلِيمِ:
31 - وَهُوَ شَرْطُ انْعِقَادٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَلاَ يَصِحُّ بَيْعُ الْجَمَل الشَّارِدِ، وَلاَ بَيْعُ الطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ، وَلاَ السَّمَكِ (1) فِي الْمَاءِ، لِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ (2) .
أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا لِكُلٍّ مِنَ الْعَاقِدَيْنِ:
32 - وَهَذَا الشَّرْطُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ شَرْطُ صِحَّةٍ، لاَ شَرْطُ انْعِقَادٍ، فَإِذَا تَخَلَّفَ لَمْ يَبْطُل الْعَقْدُ، بَل يَصِيرُ فَاسِدًا.
وَيَحْصُل الْعِلْمُ بِكُل مَا يُمَيِّزُ الْمَبِيعَ عَنْ غَيْرِهِ، وَيَمْنَعُ الْمُنَازَعَةَ، فَبَيْعُ الْمَجْهُول جَهَالَةً تُفْضِي إِلَى الْمُنَازَعَةِ غَيْرُ صَحِيحٍ كَبَيْعِ شَاةٍ مِنَ الْقَطِيعِ (3) .
هَذَا وَقَدْ زَادَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي شُرُوطِ الْمَبِيعِ: اشْتِرَاطَ طَهَارَةِ عَيْنِهِ.
كَمَا ذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ شَرْطَيْنِ آخَرِينَ هُمَا:
أَنْ لاَ يَكُونَ الْبَيْعُ مِنَ الْبُيُوعِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا، وَأَنْ لاَ يَكُونَ الْبَيْعُ مُحَرَّمًا (4) .
__________
(1) ابن عابدين 4 / 6، والدسوقي 3 / 11 - 12، والفروق 3 / 240، وهامش الفروق 3 / 238، 271، والقليوبي 2 / 158، وشرح منتهى الإرادات 2 / 145.
(2) حديث " نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر " سبق تخريجه (ف 28) .
(3) ابن عابدين 4 / 6، والدسوقي 3 / 15، وشرح منتهى الإرادات 2 / 146، والقليوبي 2 / 161.
(4) منح الجليل 2 / 475 - 485، وجواهر الإكليل 2 / 4 - 6، ومغني المحتاج 2 / 11، والقليوبي 2 / 157.(9/15)
وَهَذِهِ الشُّرُوطُ تَنْدَرِجُ فِيمَا سَبَقَ مِنْ شُرُوطٍ. وَيُنْظَرُ تَفْصِيل مُحْتَرَزَاتِ هَذِهِ الشُّرُوطِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى تَخَلُّفِ كُلٍّ مِنْهَا فِي مُصْطَلَحِ: (بَيْعٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ) وَانْظُرْ أَيْضًا الْبُيُوعُ الْمُلَقَّبَةُ، كُلًّا فِي مَوْضِعِهِ.
الْمَبِيعُ وَأَحْكَامُهُ وَأَحْوَالُهُ
أَوَّلاً: تَعْيِينُ الْمَبِيعِ
33 - لاَ بُدَّ لِمَعْرِفَةِ الْمَبِيعِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا بِالنِّسْبَةِ لِلْمُشْتَرِي بِالْجِنْسِ وَالنَّوْعِ وَالْمِقْدَارِ، فَالْجِنْسُ كَالْقَمْحِ مَثَلاً، وَالنَّوْعُ كَأَنْ يَكُونَ مِنْ إِنْتَاجِ بَلَدٍ مَعْرُوفٍ، وَالْمِقْدَارُ بِالْكَيْل أَوِ الْوَزْنِ أَوْ نَحْوِهِمَا (1) .
وَتَعْيِينُ الْمَبِيعِ أَمْرٌ زَائِدٌ عَنِ الْمَعْرِفَةِ بِهِ، لأَِنَّهُ يَكُونُ بِتَمْيِيزِهِ عَنْ سِوَاهُ بَعْدَ مَعْرِفَةِ ذَاتِهِ وَمِقْدَارِهِ، وَهَذَا التَّمْيِيزُ إِمَّا أَنْ يَحْصُل فِي الْعَقْدِ نَفْسِهِ بِالإِْشَارَةِ إِلَيْهِ، وَهُوَ حَاضِرٌ فِي الْمَجْلِسِ، فَيَتَعَيَّنُ حِينَئِذٍ، وَلَيْسَ لِلْبَائِعِ أَنْ يُعْطِيَ الْمُشْتَرِيَ سِوَاهُ مِنْ جِنْسِهِ إِلاَّ بِرِضَاهُ. وَالإِْشَارَةُ أَبْلَغُ طُرُقِ التَّعْرِيفِ (2) .
وَإِمَّا أَنْ لاَ يُعَيِّنَ الْمَبِيعَ فِي الْعَقْدِ، بِأَنْ كَانَ غَائِبًا مَوْصُوفًا، أَوْ قَدْرًا مِنْ صُبْرَةٍ حَاضِرَةٍ فِي الْمَجْلِسِ، وَحِينَئِذٍ لاَ يَتَعَيَّنُ إِلاَّ بِالتَّسْلِيمِ.
وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَمُقَابِل
__________
(1) شرح المجلة المادة (204) ، ومنح الجليل 2 / 486، والشرح الصغير 2 / 6 ط الحلبي، والقليوبي 2 / 161، وكشاف القناع 3 / 163، والمجموع شرح المهذب 9 / 275 - 276.
(2) شرح المجلة مادة (202) ، والفواكه الدواني 2 / 121، والبهجة شرح التحفة 2 / 24، والقليوبي 2 / 163، وشرح منتهى الإرادات 2 / 146.(9/16)
الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. وَفِي الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ بَيْعُ الْغَائِبِ (1) .
وَمِنَ الْمَبِيعِ غَيْرِ الْمُتَعَيَّنِ بَيْعُ حِصَّةٍ عَلَى الشُّيُوعِ. سَوَاءٌ أَكَانَتْ مِنْ عَقَارٍ أَوْ مَنْقُولٍ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْمُشَاعُ قَابِلاً لِلْقِسْمَةِ أَوْ غَيْرَ قَابِلٍ لَهَا، فَإِنَّ الْمَبِيعَ عَلَى الشُّيُوعِ لاَ يَتَعَيَّنُ إِلاَّ بِالْقِسْمَةِ وَالتَّسْلِيمِ (2) .
وَمِمَّا يَتَّصِل بِالتَّعْيِينِ لِلْمَبِيعِ: بَيْعُ شَيْءٍ وَاحِدٍ مِنْ عِدَّةِ أَشْيَاءَ، عَلَى أَنْ يَكُونَ لِلْمُشْتَرِي خِيَارُ التَّعْيِينِ، أَيْ تَعْيِينِ مَا يَشْتَرِيهِ مِنْهَا، وَيُمْكِنُهُ بِذَلِكَ أَنْ يَخْتَارَ مَا هُوَ أَنْسَبُ لَهُ مِنْهَا. وَهَذَا عِنْدَ مَنْ يَقُول بِخِيَارِ التَّعْيِينِ.
وَفِي جَوَازِ هَذَا الْبَيْعِ وَشُرُوطِهِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى هَذَا الْخِيَارِ تَفْصِيلاَتٌ (3) تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (خِيَارُ التَّعْيِينِ) .
ثَانِيًا: وَسِيلَةُ مَعْرِفَةِ الْمَبِيعِ وَتَعْيِينِهِ
34 - إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ غَائِبًا عَنِ الْمَجْلِسِ وَلَمْ تَتِمَّ مَعْرِفَةُ الْمَبِيعِ بِرُؤْيَتِهِ أَوِ الإِْشَارَةِ إِلَيْهِ عَلَى مَا سَبَقَ، فَإِنَّهَا تَتِمُّ بِالْوَصْفِ الَّذِي يُمَيِّزُهُ عَنْ غَيْرِهِ، مَعَ بَيَانِ مِقْدَارِهِ. وَإِذَا كَانَ عَقَارًا كَانَ لاَ بُدَّ مِنْ بَيَانِ حُدُودِهِ، لاِخْتِلاَفِ قِيمَةِ الْعَقَارِ
__________
(1) شرح المجلة مادة (201) ، وجواهر الإكليل 2 / 7 - 9، وكشاف القناع 3 / 163 - 168، والمغني 4 / 143، ومغني المحتاج 2 / 16 - 18.
(2) شرح المجلة مادة (220) ، وأسهل المدارك 2 / 281، وخبايا الزوايا مسألة 180 ص 199، ومغني المحتاج 2 / 16، والقليوبي 2 / 161، وكشاف القناع 3 / 170.
(3) الهداية 3 / 30 - 31، وجواهر الإكليل 2 / 39، وكشاف القناع 3 / 205.(9/16)
بِاخْتِلاَفِ جِهَتِهِ وَمَوْقِعِهِ. وَإِذَا كَانَ مِنَ الْمَكِيلاَتِ أَوِ الْمَوْزُونَاتِ أَوِ الْمَذْرُوعَاتِ أَوِ الْمَعْدُودَاتِ فَإِنَّهُ تَحْصُل مَعْرِفَتُهَا بِالْمِقْدَارِ الَّذِي تُبَاعُ بِهِ (1) . وَفِي ذَلِكَ بَعْضُ التَّفْصِيلاَتِ سَيَأْتِي بَيَانُهَا قَرِيبًا.
وَيَصِحُّ بَيْعُ الْجُزَافِ، وَهُوَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِإِجْمَال الثَّمَنِ عَلَى الصُّبْرَةِ كُلِّهَا، فَيَصِحُّ بِاتِّفَاقٍ مَعَ مُرَاعَاةِ مَا ذَكَرَهُ الْمَالِكِيَّةُ مِنْ شُرُوطٍ فِي بَيْعِ الْجُزَافِ.
وَإِمَّا بِتَفْصِيلِهِ بِنَحْوِ: كُل صَاعٍ بِكَذَا، فَيَصِحُّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ. وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: يَصِحُّ فِي قَفِيزٍ وَاحِدٍ، وَيَبْطُل فِيمَا سِوَاهُ، لِجَهَالَةِ الْمَجْمُوعِ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ قَدَّرَ الصُّبْرَةَ كَأَنْ قَال: بِعْتُكَ الصُّبْرَةَ كُل صَاعٍ بِدِرْهَمٍ، عَلَى أَنَّهَا مِائَةٌ، صَحَّ الْبَيْعُ إِنْ خَرَجَتْ مِائَةٌ لِتَوَافُقِ الْجُمْلَةِ وَالتَّفْصِيل، وَإِنْ لَمْ تَخْرُجْ مِائَةً، بِأَنْ خَرَجَتْ أَقَل أَوْ أَكْثَرَ، فَفِي الصَّحِيحِ لاَ يَصِحُّ الْبَيْعُ، لِتَعَذُّرِ الْجَمْعِ بَيْنَ جُمْلَةِ الثَّمَنِ وَتَفْصِيلِهِ، وَالْقَوْل الثَّانِي يَصِحُّ (2) .
وَيَجُوزُ بَيْعُ الْمَكِيل بِالْوَزْنِ، وَعَكْسُهُ، وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ فِي غَيْرِ الرِّبَوِيَّاتِ، أَيْ فِيمَا لاَ يَحْرُمُ
__________
(1) شرح المجلة مادة (220) ، وحاشية ابن عابدين 4 / 28، والحطاب 4 / 296، والبهجة 2 / 19، وكشاف القناع 3 / 163، ومغني المحتاج 2 / 18.
(2) شرح المجلة مادة (220) ، وحاشية ابن عابدين 4 / 28، ومنح الجليل 2 / 505، والشرح الصغير 2 / 10 - 11 ط الحلبي، ومغني المحتاج 2 / 17 - 18، ونهاية المحتاج 3 / 399 - 400، والمغني 4 / 142، وكشاف القناع 3 / 168.(9/17)
التَّفَاضُل فِيهِ، لِلنَّصِّ عَلَى ذَلِكَ فِي الرِّبَوِيَّاتِ.
وَيَجُوزُ الْبَيْعُ بِمِكْيَالٍ أَوْ مِيزَانٍ خَاصٍّ، كَحَجَرٍ مُعَيَّنٍ لِلْمُتَبَايِعَيْنِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُتَعَارَفًا عَلَيْهِ عِنْدَ غَيْرِهِمَا.
أَمَّا الْبَيْعُ بِمِكْيَالٍ غَيْرِ مُنْضَبِطٍ، بِأَنْ كَانَ يَتَّسِعُ وَيَضِيقُ فَلاَ يَجُوزُ. مَعَ اسْتِثْنَاءِ بَيْعِ الْمَاءِ بِالْقِرَبِ، فَيَجُوزُ اسْتِحْسَانًا لِجَرَيَانِ الْعُرْفِ بِهِ كَمَا يَقُول الْحَنَفِيَّةُ (1) .
ثَالِثًا - شُمُول الْمَبِيعِ:
تَوَابِعُ الْمَبِيعِ:
35 - يَقَعُ الْبَيْعُ عَلَى الْعَيْنِ وَمَنَافِعِهَا، وَلِذَا كَانَ مِنْ مُقْتَضَاهُ أَحْيَانًا أَنْ يَدْخُل فِي الْمَبِيعِ مَالُهُ صِلَةً بِهِ، لِتَحْقِيقِ الْمَنْفَعَةِ الْمُرَادَةِ مِنْهُ، أَوْ أَنْ يَقْضِيَ الْعُرْفُ بِشُمُول الْمَبِيعِ لأَِشْيَاءَ تَدْخُل فِيهِ وَلَوْ لَمْ يُصَرِّحْ بِذَلِكَ فِي الْعَقْدِ. كَمَا أَنَّهَا لاَ تَنْفَصِل عَنْهُ لاَ بِالاِسْتِثْنَاءِ.
فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَدْخُل فِي الْمَبِيعِ مَا يَلِي:
أ - مَا يَتَنَاوَلُهُ مَدْلُول اسْمِ الْمَبِيعِ، بِحَيْثُ يُعْتَبَرُ جُزْءًا مِنْ أَجْزَائِهِ. فَبَيْعُ الدَّارِ مَثَلاً يَدْخُل فِيهِ غُرَفُهَا، وَبَيْعُ الْخِزَانَةِ يَدْخُل فِيهِ الأَْدْرَاجُ.
ب - مَا لاَ يَقْبَل الاِنْفِكَاكَ عَنِ الْمَبِيعِ بِالنَّظَرِ إِلَى الْغَرَضِ مِنَ الْعَقْدِ عَلَيْهِ. فَبَيْعُ الْقُفْل يَدْخُل مَعَهُ الْمِفْتَاحُ.
ج - مَا كَانَ مُتَّصِلاً بِالْمَبِيعِ اتِّصَال قَرَارٍ، بِأَنْ كَانَ
__________
(1) شرح المجلة مادة (218) ، وحاشية ابن عابدين 4 / 27، والشرح الصغير 2 / 12، ومنح الجليل 2 / 497، والحطاب 4 / 280، وشرح الروض 2 / 129، وخبايا الزوايا ص 207، والمغني 4 / 318، وكشاف القناع 3 / 173.(9/17)
مَوْضُوعًا عَلَى وَجْهِ الدَّوَامِ، كَبَيْعِ الدَّارِ تَدْخُل فِيهِ الأَْبْوَابُ وَالأَْحْوَاضُ.
د - مَا جَرَى الْعُرْفُ بِبَيْعِهِ مَعَ الْمَبِيعِ تَابِعًا لَهُ. كَالْخِطَامِ بِالنِّسْبَةِ لِلْبَعِيرِ (1) .
فَالأَْصْل أَنَّ هَذِهِ الأُْمُورَ كُلُّهَا تَرْجِعُ إِلَى الْعُرْفِ، وَهُوَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الْبِلاَدِ، فَمَا جَرَى الْعُرْفُ فِي بَلَدٍ بِدُخُولِهِ فِي الْبَيْعِ تَبَعًا دَخَل فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَجْرِ هَذَا الْعُرْفُ فِي بَلَدٍ آخَرَ (2) .
وَلِذَلِكَ يَقُول ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلاً عَنِ الذَّخِيرَةِ فِي بَيْعِ الدَّارِ: الأَْصْل أَنَّ مَا لاَ يَكُونُ مِنْ بِنَاءِ الدَّارِ وَلاَ مُتَّصِلاً بِهَا، لاَ يَدْخُل إِلاَّ إِذَا جَرَى الْعُرْفُ أَنَّ الْبَائِعَ لاَ يَمْنَعُهُ عَنِ الْمُشْتَرِي، فَالْمِفْتَاحُ يَدْخُل اسْتِحْسَانًا لاَ قِيَاسًا لِعَدَمِ اتِّصَالِهِ، وَقُلْنَا بِدُخُولِهِ بِحُكْمِ الْعُرْفِ. ثُمَّ قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَمُقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّ شِرْبَ الدَّارِ يَدْخُل فِي دِيَارِنَا (دِمَشْقَ) لِلتَّعَارُفِ، بَل هُوَ أَوْلَى مِنْ دُخُول السَّلَمِ الْمُنْفَصِل فِي عُرْفِ مِصْرَ الْقَاهِرَةِ؛ لأَِنَّ الدَّارَ فِي دِمَشْقَ إِذَا كَانَ لَهَا مَاءٌ جَارٍ وَانْقَطَعَ عَنْهَا أَصْلاً لَمْ يُنْتَفَعْ بِهَا، وَأَيْضًا إِذَا عَلِمَ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ لاَ يَسْتَحِقُّ شِرْبَهَا بِعَقْدِ الْبَيْعِ لاَ يَرْضَى بِشِرَائِهَا إِلاَّ بِثَمَنٍ قَلِيلٍ جِدًّا بِالنِّسْبَةِ لِلدَّارِ الَّتِي يَدْخُل فِيهَا شِرْبُهَا (3) .
وَيَقُول الْقَرَافِيُّ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ قَاعِدَةِ: مَا يَتْبَعُ الْعَقْدَ عُرْفًا، وَقَاعِدَةِ: مَا لاَ يَتْبَعُهُ - بَعْدَ أَنْ سَرَدَ
__________
(1) شرح المجلة المواد 219 - 230 و 236، وحاشية ابن عابدين 4 / 33 - 34، ورسالته نشر العرف في بناء بعض الأحكام على العرف (مجموعة رسائل ابن عابدين) .
(2) الفروق 3 / 283، ومغني المحتاج 2 / 80 - 86، والمهذب 1 / 285، وشرح منتهى الإرادات 2 / 206 - 209.
(3) ابن عابدين 4 / 34.(9/18)
الأَْبْوَابَ فِي ذَلِكَ - قَال: وَهَذِهِ الأَْبْوَابُ الَّتِي سَرَدْتُهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْعَوَائِدِ، غَيْرُ مَسْأَلَةِ الثِّمَارِ الْمُؤَبَّرَةِ بِسَبَبِ أَنَّ مُدْرَكَهَا النَّصُّ وَالْقِيَاسُ، وَمَا عَدَاهَا مُدْرَكُهُ الْعُرْفُ وَالْعَادَةُ، فَإِذَا تَغَيَّرَتِ الْعَادَةُ أَوْ بَطَلَتْ بَطَلَتْ هَذِهِ الْفَتَاوَى، وَحَرُمَتِ الْفَتْوَى بِهَا لِعَدَمِ مُدْرَكِهَا فَتَأَمَّل ذَلِكَ، بَل تَتْبَعُ الْفَتْوَى هَذِهِ الْعَوَائِدَ كَيْفَمَا تَقَلَّبَتْ، كَمَا تَتْبَعُ النُّقُودُ فِي كُل عَصْرٍ وَحِينٍ، وَكُل مَا صَرَّحَ بِهِ فِي النُّقُودِ وَاقْتَضَتْهُ اللُّغَةُ فَهَذَا هُوَ الَّذِي لاَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الْعَوَائِدِ، وَلاَ يُقَال: إِنَّ الْعُرْفَ اقْتَضَاهُ (1) .
وَمَعْنَى شُمُول الْمَبِيعِ لِتِلْكَ الأَْشْيَاءِ أَنَّهَا تَدْخُل مَعَهُ بِالثَّمَنِ نَفْسِهِ دُونَ أَنْ يَكُونَ لَهَا حِصَّةٌ مِنَ الثَّمَنِ؛ لأَِنَّ الْقَاعِدَةَ أَنَّ كُل مَا يَدْخُل فِي الْمَبِيعِ تَبَعًا لاَ حِصَّةَ لَهُ مِنَ الثَّمَنِ (2) .
وَيُعْتَبَرُ مِثْل ذَلِكَ - عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - مَا كَانَ وَصْفًا بِالنِّسْبَةِ لِلْمَبِيعِ، فَإِذَا تَلِفَ بَعْدَ الْعَقْدِ وَقَبْل الْقَبْضِ، لَمْ يَكُنْ لِلْمُشْتَرِي إِسْقَاطُ شَيْءٍ فِي مُقَابِلِهِ مِنَ الثَّمَنِ، بَل يَتَخَيَّرُ بَيْنَ التَّمَسُّكِ بِالْعَقْدِ وَبَيْنَ الْفَسْخِ، وَهُوَ مِنْ قَبِيل خِيَارِ فَوَاتِ الْوَصْفِ، وَذَلِكَ بِخِلاَفِ مَا لَوْ هَلَكَ شَيْءٌ مِنْ ذَاتِ الْمَبِيعِ (لاَ مِنْ تَوَابِعِهِ) فَإِنَّهُ يَتَمَكَّنُ بِهِ الْمُشْتَرِي مِنْ إِسْقَاطِ مَا يَخُصُّهُ مِنَ الثَّمَنِ.
وَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: إِنْ قَال بِعْتُكَ هَذِهِ الدَّارَ دَخَل فِيهَا مَا اتَّصَل بِهَا مِنَ الرُّفُوفِ الْمُسَمَّرَةِ وَالْخَوَابِي وَالأَْجَاجِينِ الْمَدْفُونَةِ فِيهَا، وَكُل مَا اتَّصَل بِهَا اتِّصَال اسْتِقْرَارٍ لِمَصْلَحَتِهَا.
__________
(1) الفروق للقرافي 3 / 288، الفرق (199) .
(2) شرح المجلة مادة: (234)(9/18)
وَلاَ يَدْخُل الْمُنْفَصِل عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَأَحَدُ وَجْهَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، فَيَدْخُل حَجَرُ الرَّحَى السُّفْلاَنِيُّ إِنْ كَانَ مُتَّصِلاً، وَلاَ يَدْخُل الْحَجَرُ الْفَوْقَانِيُّ، وَلاَ مِثْل دَلْوٍ وَحَبْلٍ وَبَكْرَةٍ وَمِفْتَاحٍ (1) .
الاِسْتِثْنَاءُ مِنَ الْمَبِيعِ:
36 - يَنْبَنِي حُكْمُ الاِسْتِثْنَاءِ مِنَ الْمَبِيعِ عَلَى نَصٍّ وَضَابِطٍ مَبْنِيٍّ عَلَيْهِ، مَعَ اتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ فِي بَعْضِ مَا يَنْبَنِي عَلَى ذَلِكَ مِنْ مَسَائِل، وَاخْتِلاَفُهُمْ فِي بَعْضِهَا الآْخَرِ بِسَبَبِ اخْتِلاَفِهِمْ فِي التَّوْجِيهِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
أَمَّا النَّصُّ فَهُوَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الثُّنْيَا إِلاَّ أَنْ تُعْلَمَ (2) .
وَأَمَّا الضَّابِطُ فَهُوَ أَنَّ كُل مَا يَجُوزُ بَيْعُهُ مُنْفَرِدًا يَجُوزُ اسْتِثْنَاؤُهُ، وَمَا لاَ يَجُوزُ إِيقَاعُ الْبَيْعِ عَلَيْهِ بِانْفِرَادِهِ لاَ يَجُوزُ اسْتِثْنَاؤُهُ.
وَلاَ بُدَّ مِنْ كَوْنِ الْمُسْتَثْنَى مَعْلُومًا، لأَِنَّهُ إِنْ كَانَ مَجْهُولاً عَادَ عَلَى الْبَاقِي بِالْجَهَالَةِ، فَلَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ.
وَعَلَى ذَلِكَ لاَ يَجُوزُ اسْتِثْنَاءُ الْحَمْل مِنْ بَيْعِ الدَّابَّةِ، لأَِنَّهُ لاَ يَجُوزُ إِفْرَادُهُ بِالْبَيْعِ، فَكَذَا اسْتِثْنَاؤُهُ، وَهُوَ قَوْل الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلاَّ فِيمَا نُقِل عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ بِصِحَّةِ اسْتِثْنَائِهِ، وَبِهِ قَال الْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ، لِمَا رَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ بَاعَ جَارِيَةً وَاسْتَثْنَى مَا فِي بَطْنِهَا، وَلأَِنَّهُ
__________
(1) المهذب 1 / 285، والمجموع 11 / 268، وكشاف القناع 3 / 275.
(2) حديث " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الثنيا إلا أن تعلم ". أخرجه مسلم (3 / 1175 ط الحلبي) .(9/19)
يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ فِي الْعِتْقِ، فَصَحَّ فِي الْبَيْعِ قِيَاسًا عَلَيْهِ.
وَهَكَذَا كُل مَجْهُولٍ لاَ يَجُوزُ اسْتِثْنَاؤُهُ، كَاسْتِثْنَاءِ شَاةٍ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ مِنْ قَطِيعٍ.
وَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ الْحَائِطِ وَاسْتِثْنَاءُ شَجَرَةٍ أَوْ نَخْلَةٍ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ لأَِنَّ اسْتِثْنَاءَ الْمَجْهُول مِنَ الْمَعْلُومِ يُصَيِّرُهُ مَجْهُولاً، فَإِنْ عَيَّنَ الْمُسْتَثْنَى صَحَّ الْبَيْعُ وَالاِسْتِثْنَاءُ. وَهَذَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ.
وَيَجُوزُ عِنْدَ الإِْمَامِ مَالِكٍ اسْتِثْنَاءُ نَخَلاَتٍ أَوْ شَجَرَاتٍ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ بِأَعْيَانِهَا، عَلَى أَنْ يَخْتَارَهَا، إِذَا كَانَ ثَمَرُهَا قَدْرَ الثُّلُثِ أَوْ أَقَل، وَكَانَتْ ثِمَارُ الْحَائِطِ لَوْنًا وَاحِدًا، لِخِفَّةِ الْغَرَرِ فِي ذَلِكَ.
وَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ ثَمَرَةٍ وَاسْتِثْنَاءُ أَرْطَالٍ مَعْلُومَةٍ مِنْهَا، لِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الثُّنْيَا، وَلأَِنَّ الْبَاقِيَ بَعْدَ الاِسْتِثْنَاءِ مَجْهُولٌ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَالشَّافِعِيِّ وَالأَْوْزَاعِيِّ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ، وَهُوَ قَوْل الْحَنَابِلَةِ غَيْرَ أَبِي الْخَطَّابِ، وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ وَقَوْل الطَّحَاوِيِّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَيَجُوزُ ذَلِكَ عِنْدَ الإِْمَامِ مَالِكٍ إِذَا كَانَ قَدْرَ ثُلُثٍ فَأَقَل، وَالْجَوَازُ هُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ قَوْل ابْنِ سِيرِينَ وَسَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبِي الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، لأَِنَّهُ اسْتَثْنَى مَعْلُومًا.
وَيَجُوزُ اسْتِثْنَاءُ جُزْءٍ مُشَاعٍ كَرُبُعٍ وَثُلُثٍ، لأَِنَّهُ لاَ يُؤَدِّي إِلَى جَهَالَةِ الْمُسْتَثْنَى وَلاَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، فَصَحَّ كَمَا لَوِ اشْتَرَى شَجَرَةً بِعَيْنِهَا.
وَقَال أَبُو بَكْرٍ وَابْنُ أَبِي مُوسَى مِنَ الْحَنَابِلَةِ: لاَ يَجُوزُ.
وَيَجُوزُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ بَيْعُ الْحَيَوَانِ الْمَأْكُول(9/19)
وَاسْتِثْنَاءُ رَأْسِهِ وَجِلْدِهِ وَأَطْرَافِهِ وَسَوَاقِطِهِ. وَجَوَّزَ مَالِكٌ ذَلِكَ فِي السَّفَرِ فَقَطْ، إِذْ لاَ ثَمَنَ لِلسَّوَاقِطِ هُنَاكَ، وَكَرِهَهُ فِي الْحَضَرِ، وَلأَِنَّ الْمُسَافِرَ لاَ يُمْكِنُهُ الاِنْتِفَاعُ بِالْجِلْدِ وَالسَّوَاقِطِ، وَالدَّلِيل عَلَى جَوَازِ اسْتِثْنَاءِ ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الثُّنْيَا إِلاَّ أَنْ تُعْلَمَ وَهَذِهِ مَعْلُومَةٌ وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ مَرُّوا بِرَاعِي غَنَمٍ فَذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ وَعَامِرٌ فَاشْتَرَيَا مِنْهُ شَاةً. وَشَرَطَا لَهُ سَلَبَهَا أَيْ جِلْدَهَا وَأَكَارِعَهَا وَبَطْنَهَا (1) وَلاَ يَجُوزُ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ.
وَمِمَّا اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ مِنَ الاِسْتِثْنَاءِ مَا اعْتَبَرَهُ بَعْضُهُمْ شَرْطًا صَحِيحًا، فَأَجَازَهُ وَأَجَازَ الْبَيْعَ، وَاعْتَبَرَهُ غَيْرُهُمْ شَرْطًا فَاسِدًا، فَأَبْطَلَهُ وَأَبْطَل الْبَيْعَ.
وَمِثَال ذَلِكَ: مَنْ يَبِيعُ الدَّارَ وَيُسْتَثْنَى سُكْنَاهَا شَهْرًا مَثَلاً، فَأَجَازَ ذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّهُ بَاعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَلاً، وَاشْتَرَطَ ظَهْرَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ أَيْ رُكُوبَهُ وَفِي لَفْظٍ: قَال: بِعْتُهُ وَاسْتَثْنَيْتُ حُمْلاَنَهُ إِلَى أَهْلِي (2) .
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ: لاَ يَجُوزُ ذَلِكَ، وَيَبْطُل الشَّرْطُ وَالْبَيْعُ، لأَِنَّهُ شَرْطٌ غَيْرُ مُلاَئِمٍ (3) .
__________
(1) حديث " أن النبي صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة ومعه أبو بكر وعامر بن فهيرة مروا براعي غنم. . . " عزاه صاحب كشاف القناع (3 / 171 ط الرياض) إلى أبي الخطاب.
(2) حديث جابر في اشتراط الحمل على الجمل. أخرجه البخاري (الفتح 5 / 314 ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1221 ط الحلبي) .
(3) ابن عابدين 4 / 40 - 41، والهداية 3 / 25 - 26، وجواهر الإكليل 2 / 7، والبهجة شرح التحفة 2 / 32، والفواكه الدواني 2 / 238، ونهاية المحتاج 3 / 445، وشرح روض الطالب 2 / 15 - 17، والمهذب 1 / 276، وحاشية الجمل 3 / 83، والمغني 4 / 113 وما بعدها، وشرح منتهى الإرادات 2 / 148.(9/20)
بَيْعُ الأُْصُول:
37 - الأُْصُول: جَمْعُ أَصْلٍ، وَهُوَ مَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ غَيْرُهُ، وَالْمُرَادُ بِالأُْصُول هُنَا مَا عَبَّرَ عَنْهُ النَّوَوِيُّ، بِقَوْلِهِ فِي " تَحْرِيرِهِ " الأُْصُول: الشَّجَرُ وَالأَْرْضُ (1) وَفِي شَرْحِ مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ: الْمُرَادُ بِالأُْصُول هُنَا: أَرْضٌ وَدُورٌ وَبَسَاتِينُ (2) .
وَقَدْ دَرَجَ الْفُقَهَاءُ عَلَى إِفْرَادِ فَصْلٍ بِعِنْوَانِ (بَيْعُ الأُْصُول) ذَاكِرِينَ فِيهِ مَا يَتْبَعُ هَذِهِ الأُْصُول فِي الْبَيْعِ وَمَا لاَ يَتْبَعُهَا. وَبَيَانُ ذَلِكَ كَمَا يَأْتِي.
38 - بَيْعُ الأَْرْضِ: مَنْ بَاعَ أَرْضًا دَخَل فِيهَا الْغِرَاسُ وَالْبِنَاءُ لاِتِّصَالِهَا بِهَا اتِّصَال قَرَارٍ، وَهِيَ مِنْ حُقُوقِهَا، وَهَذَا فِي جَمِيعِ الْمَذَاهِبِ إِلاَّ فِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ إِنْ أَطْلَقَ وَلَمْ يَقُل بِحُقُوقِهَا فَلاَ يَدْخُل الْبِنَاءُ وَالشَّجَرُ لَكِنَّ الْمَذْهَبَ دُخُولُهُ عِنْدَ الإِْطْلاَقِ. كَمَا أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ فَسَّرُوا الشَّجَرَ الَّذِي يَتْبَعُ الأَْرْضَ بِالشَّجَرِ الرَّطْبِ، أَمَّا الْيَابِسُ فَلاَ يَدْخُل، عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ الرِّفْعَةِ وَالسُّبْكِيُّ تَفَقُّهًا. وَقَال الإِْسْنَوِيُّ لاَ يَدْخُل جَزْمًا.
كَمَا يَدْخُل فِي بَيْعِ الأَْرْضِ الْحِجَارَةُ الْمَخْلُوقَةُ وَالْمُثْبَتَةُ فِيهَا، لأَِنَّهَا مِنْ أَجْزَائِهَا، دُونَ الْمَدْفُونَةِ كَالْكَنْزِ فَلاَ تَدْخُل فِي الْبَيْعِ، وَتَكُونُ لِلْبَائِعِ، لَكِنْ قَال الْقَرَافِيُّ: لاَ تَدْخُل الْمَدْفُونَةُ إِلاَّ عَلَى الْقَوْل بِأَنَّ مَنْ مَلَكَ ظَاهِرَ الأَْرْضِ مَلَكَ بَاطِنَهَا.
__________
(1) أسنى المطالب 2 / 95.
(2) شرح منتهى الإرادات 2 / 206.(9/20)
وَإِنْ كَانَ فِي الأَْرْضِ زَرْعٌ يُجَزُّ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى فَالأُْصُول لِلْمُشْتَرِي، وَالْجِزَّةُ الظَّاهِرَةُ عِنْدَ الْبَيْعِ لِلْبَائِعِ (1) .
39 - وَمَنْ بَاعَ دَارًا دَخَل فِي الْبَيْعِ بِنَاؤُهَا، وَفِنَاؤُهَا وَمَا فِيهَا مِنْ شَجَرٍ مَغْرُوسٍ، وَمَا كَانَ مُتَّصِلاً بِهَا لِمَصْلَحَتِهَا، كَسَلاَلِمَ، وَرُفُوفٍ مُسَمَّرَةٍ، وَأَبْوَابٍ وَرَحًى مَنْصُوبَةٍ، وَلاَ يَتَنَاوَل مَا فِيهَا مِنْ كَنْزٍ مَدْفُونٍ وَلاَ مَا هُوَ مُنْفَصِلٌ عَنْهَا كَحَبْلٍ وَدَلْوٍ، وَلاَ مَا يُنْقَل كَحَجَرٍ وَخَشَبٍ. أَمَّا الْغَلْقُ الْمُثَبَّتُ فَيَدْخُل مِفْتَاحُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (2) .
40 - وَمَنْ بَاعَ شَجَرًا تَبِعَهُ الأَْغْصَانُ وَالْوَرَقُ وَسَائِرُ أَجْزَاءِ الشَّجَرِ، لأَِنَّهُ مِنْ أَجْزَائِهَا خُلِقَ لِمَصْلَحَتِهَا، أَمَّا الأَْرْضُ الَّتِي هِيَ مَكَانُ غَرْسِهَا فَتَدْخُل أَيْضًا فِي بَيْعِهَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِنِ اشْتَرَاهَا لِلْقَرَارِ اتِّفَاقًا. وَلاَ تَدْخُل عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَعَلَى الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ؛ لأَِنَّ الاِسْمَ لاَ يَتَنَاوَلُهَا وَلاَ هِيَ تَبَعٌ لِلْمَبِيعِ.
وَإِنْ كَانَ فِي الشَّجَرِ أَوِ النَّخْل ثَمَرٌ فَالْمُؤَبَّرُ لِلْبَائِعِ، إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَ ذَلِكَ الْمُشْتَرِي، لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ بَاعَ نَخْلاً قَدْ أُبِّرَتْ فَثَمَرَتُهَا
__________
(1) ابن عابدين 4 / 37، والدسوقي 3 / 170، والفروق 3 / 283، ونهاية المحتاج 4 / 116 - 123، وشرح روض الطالب 2 / 96 - 98، والمغني 4 / 85 - 88، وشرح منتهى الإرادات 2 / 207.
(2) ابن عابدين 4 / 33، ومنح الجليل 2 / 725، ونهاية المحتاج 4 / 127.(9/21)
لِلْبَائِعِ، إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ (1) .
أَمَّا إِذَا لَمْ تَكُنْ مُؤَبَّرَةً فَهِيَ لِلْمُشْتَرِي، لأَِنَّ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَل عَلَى أَنَّهَا إِذَا لَمْ تَكُنْ مُؤَبَّرَةً فَهِيَ لِلْمُبْتَاعِ، وَلأَِنَّ ثَمَرَةَ النَّخْل كَالْحَمْل، لأَِنَّهُ نَمَاءٌ كَامِنٌ لِظُهُورِهِ غَايَةٌ. وَهَذَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لاَ تَدْخُل الثَّمَرَةُ مُؤَبَّرَةً أَوْ غَيْرَ مُؤَبَّرَةٍ عَلَى الصَّحِيحِ إِلاَّ بِالشَّرْطِ (2) لِلْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ. لَكِنْ بِرِوَايَةٍ لَيْسَ فِيهَا التَّأْبِيرُ.
41 - وَمَنْ بَاعَ حَيَوَانًا تَبِعَهُ مَا جَرَى الْعُرْفُ بِتَبَعِيَّتِهِ لَهُ كَاللِّجَامِ وَالْمِقْوَدِ وَالسَّرْجِ، وَفَرَّقَ الشَّافِعِيَّةُ بَيْنَ مَا هُوَ مُتَّصِلٌ بِالْحَيَوَانِ كَالْبَرَّةِ (الْحَلْقَةُ الَّتِي فِي أَنْفِ الدَّابَّةِ) وَكَالنَّعْل الْمُسَمَّرِ، فَهَذَا يَدْخُل فِي بَيْعِ الْحَيَوَانِ تَبَعًا.
أَمَّا اللِّجَامُ وَالسَّرْجُ وَالْمِقْوَدُ، فَلاَ يَدْخُل فِي بَيْعِ الْحَيَوَانِ اقْتِصَارًا عَلَى مُقْتَضَى اللَّفْظِ (3) .
بَيْعُ الثِّمَارِ:
42 - يَجُوزُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ بَيْعُ الثِّمَارِ وَحْدَهَا مُنْفَرِدَةً عَنِ الشَّجَرِ، وَلاَ يَجُوزُ بَيْعُهَا إِلاَّ بَعْدَ بُدُوِّ صَلاَحِهَا - مَعَ اخْتِلاَفِهِمْ فِي تَفْسِيرِ بُدُوِّ الصَّلاَحِ - هَل هُوَ ظُهُورُ النُّضْجِ وَالْحَلاَوَةِ وَنَحْوُ ذَلِكَ كَمَا يَقُول الْجُمْهُورُ، أَوْ هُوَ أَمْنُ الْعَاهَةِ
__________
(1) حديث: " من باع نخلا قد أبرت. . . " أخرجه البخاري (الفتح 5 / 313 ط السلفية) .
(2) الهداية 3 / 25، وابن عابدين 4 / 38، والفروق 3 / 285، ومنح الجليل 2 / 723، ونهاية المحتاج 4 / 130، وشرح الروض 2 / 101، والمغني 4 / 87، 93، وشرح منتهى الإرادات 2 / 209.
(3) ابن عابدين 4 / 38، والهداية 3 / 25، ونهاية المحتاج 4 / 130، وشرح الروض 2 / 100، وشرح منتهى الإرادات 2 / 213.(9/21)
وَالْفَسَادِ كَمَا يَقُول الْحَنَفِيَّةُ.
وَدَلِيل الْجَوَازِ مَأْخُوذٌ مِنْ حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ: نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلاَحُهَا (1) . قَال ابْنُ قُدَامَةَ: فَمَفْهُومُهُ إِبَاحَةُ بَيْعِهَا بَعْدَ بُدُوِّ صَلاَحِهَا، وَهَذَا عِنْدَ مَنْ يَقُول بِالْمَفْهُومِ. كَمَا أَنَّ الأَْصْل جَوَازُ كُل بَيْعٍ اسْتَكْمَل شُرُوطَهُ (2) .
وَيَجُوزُ كَذَلِكَ بَيْعُ الثِّمَارِ بَعْدَ ظُهُورِهَا، وَقَبْل بُدُوِّ الصَّلاَحِ بِشَرْطِ الْقَطْعِ فِي الْحَال، وَذَلِكَ إِذَا كَانَ يُنْتَفَعُ بِهِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ، إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ زَادُوا عَلَى ذَلِكَ شَرْطَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَحْتَاجَ الْمُتَبَايِعَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا لِلْبَيْعِ. وَالثَّانِي: أَنْ لاَ يَتَمَالأََ أَكْثَرُ أَهْل الْبَلَدِ عَلَى الدُّخُول فِي هَذَا الْبَيْعِ (3) .
فَإِنْ بِيعَ الثَّمَرُ قَبْل بُدُوِّ الصَّلاَحِ بِشَرْطِ التَّبْقِيَةِ أَوْ عَلَى الإِْطْلاَقِ دُونَ بَيَانِ جَذٍّ وَلاَ تَبْقِيَةٍ فَعِنْدَ الْجُمْهُورِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) الْبَيْعُ بَاطِلٌ.
وَالْحُكْمُ كَذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِنْ شَرَطَ التَّرْكَ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ قَطْعًا وَلاَ تَبْقِيَةً فَإِنَّهُ يَجُوزُ بِاتِّفَاقِ أَهْل الْمَذْهَبِ، إِذَا كَانَ يُنْتَفَعُ بِهِ. وَعَلَى الصَّحِيحِ إِنْ كَانَ لاَ يُنْتَفَعُ بِهِ، لأَِنَّهُ مَالٌ مُنْتَفَعٌ بِهِ فِي ثَانِي الْحَال، إِنْ لَمْ يَكُنْ مُنْتَفِعًا بِهِ فِي الْحَال،
__________
(1) حديث: " النهي عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها. . . " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 397 ط السلفية) .
(2) ابن عابدين 4 / 38، والدسوقي 3 / 176، ونهاية المحتاج 4 / 142، والمغني 4 / 92.
(3) المراجع السابقة.(9/22)
فَإِنْ شَرَطَ التَّرْكَ فَسَدَ الْبَيْعُ (1) .
فَإِنْ بَاعَ الثَّمَرَةَ مَعَ الأَْصْل جَازَ بِالاِتِّفَاقِ، لأَِنَّهَا تَكُونُ تَبَعًا لأَِصْلٍ (2) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (ثِمَارٌ) .
رَابِعًا: حُضُورُ الْمَبِيعِ وَغِيَابُهُ
أ - حُضُورُ الْمَبِيعِ:
43 - مِنَ الْمُقَرَّرِ أَنَّ الإِْشَارَةَ إِلَى الْمَبِيعِ هِيَ أَقْوَى طُرُقِ التَّعْرِيفِ وَالتَّعْيِينِ، وَلِذَلِكَ إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ فِي حَضْرَةِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ (مَجْلِسِ الْعَقْدِ) وَتَمَّ تَعْيِينُهُ بِالإِْشَارَةِ بِحَيْثُ عَرَفَهُ الْمُشْتَرِي وَرَآهُ، فَإِنَّ الْبَيْعَ لاَزِمٌ إِذَا خَلاَ مِنْ سَبَبٍ خَاصٍّ (لاَ يَتَّصِل بِرُؤْيَةِ الْمَبِيعِ) مِنَ الأَْسْبَابِ الَّتِي يَنْشَأُ بِهَا الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي.
حَتَّى لَوِ اقْتَرَنَتِ الإِْشَارَةُ بِالْوَصْفِ، وَكَانَ الْوَصْفُ مُغَايِرًا لِمَا رَآهُ الْمُشْتَرِي وَرَضِيَ بِهِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بَعْدَئِذٍ بِالْوَصْفِ، مَا دَامَ الْعَقْدُ قَدْ تَمَّ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ وَالرِّضَا. وَيُعَبَّرُ عَنْ ذَلِكَ بِالْقَاعِدَةِ الْفِقْهِيَّةِ التَّالِيَةِ (الْوَصْفُ فِي الْحَاضِرِ لَغْوٌ، وَفِي الْغَائِبِ مُعْتَبَرٌ) . وَهَذَا بِخِلاَفِ التَّغَايُرِ بَيْنَ اسْمِ الْمَبِيعِ وَالإِْشَارَةِ إِلَيْهِ، كَقَوْلِهِ: بِعْتُكَ هَذِهِ الْفَرَسَ، وَأَشَارَ إِلَى نَاقَةٍ مَثَلاً، فَالتَّسْمِيَةُ هِيَ الْمُعْتَبَرَةُ؛ لأَِنَّ الاِسْمَ يُحَدَّدُ بِهِ جِنْسُ الْمَبِيعِ، فَهَذَا غَلَطٌ فِي الْجِنْسِ لاَ فِي الْوَصْفِ، وَالْغَلَطُ فِي الْجِنْسِ غَيْرُ مُغْتَفَرٍ، لأَِنَّهُ يَكُونُ بِهِ الْمَبِيعُ مَعْدُومًا.
__________
(1) الهداية 3 / 25، وجواهر الإكليل 2 / 60، ونهاية المحتاج 4 / 144، والمغني 4 / 93.
(2) المجلة مادة (65) ، والفواكه الدواني 2 / 121، والفروق 3 / 247، وتهذيب الفروق 3 / 249.(9/22)
وَقَدْ صَرَّحَ الْقَرَافِيُّ: بِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَذْكُرِ الْجِنْسَ فِي الْبَيْعِ، بِأَنْ قَال: بِعْتُكَ ثَوْبًا امْتَنَعَ إِجْمَاعًا (1) .
وَهَذَا إِذَا كَانَ الْوَصْفُ مِمَّا يُدْرِكُهُ الْمُشْتَرِي، أَمَّا لَوْ كَانَ مِمَّا يَخْفَى عَلَيْهِ، أَوْ يَحْتَاجُ إِلَى اخْتِبَارٍ، كَالْوَصْفِ لِلْبَقَرَةِ بِأَنَّهَا حَلُوبٌ، ثُمَّ تَبَيَّنَ لِلْمُشْتَرِي أَنَّهَا لَيْسَتْ كَذَلِكَ، فَإِنَّ فَوَاتَ الْوَصْفِ هُنَا مُؤَثِّرٌ، إِنْ كَانَ قَدِ اشْتُرِطَ فِي الْعَقْدِ، وَلَوْ كَانَ الْمَبِيعُ حَاضِرًا مُشَارًا إِلَيْهِ. لأَِنَّ الْوَصْفَ هُنَا مُعْتَبَرٌ مِنَ الْبَائِعِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى فَوَاتِهِ خِيَارٌ لِلْمُشْتَرِي يُسَمَّى: خِيَارَ فَوَاتِ الْوَصْفِ (2) .
وَيَسْتَوِي فِي اسْتِحْقَاقِ الْخِيَارِ بِفَوَاتِ الْوَصْفِ أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا. وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي (خِيَارِ الْوَصْفِ) .
ب - غِيَابُ الْمَبِيعِ:
44 - إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ غَائِبًا، فَإِمَّا أَنْ يَشْتَرِيَ بِالْوَصْفِ الْكَاشِفِ لَهُ، عَلَى النَّحْوِ الْمُبَيَّنِ فِي عَقْدِ السَّلَمِ، وَإِمَّا أَنْ يَشْتَرِيَ دُونَ وَصْفٍ، بَل يُحَدَّدُ بِالإِْشَارَةِ إِلَى مَكَانِهِ أَوْ إِضَافَتِهِ إِلَى مَا يَتَمَيَّزُ بِهِ.
فَإِنْ كَانَ الْبَيْعُ بِالْوَصْفِ، وَهُوَ هُنَا غَيْرُ الْوَصْفِ الْمَرْغُوبِ السَّابِقِ، فَإِذَا تَبَيَّنَتِ الْمُطَابَقَةُ بَيْنَ الْمَبِيعِ بَعْدَ مُشَاهَدَتِهِ وَبَيْنَ الْوَصْفِ لَزِمَ
__________
(1) المجلة مادة (208) ، ومنح الجليل 2 / 678 - 679، وجواهر الإكليل 2 / 49، وشرح منتهى الإرادات 2 / 146، وكشاف القناع 3 / 271، وخبايا الزوايا ص 210، ونهاية المحتاج 3 / 396 و 401، والمهذب 1 / 294.
(2) فتح القدير 5 / 136 ط بولاق.(9/23)
الْبَيْعُ، وَإِلاَّ كَانَ لِلْمُشْتَرِي خِيَارُ الْخُلْفِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَإِنَّهُمْ يُثْبِتُونَ لِلْمُشْتَرِي هُنَا خِيَارَ الرُّؤْيَةِ، بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ سَبْقِ وَصْفِهِ أَوْ عَدَمِهِ، وَتَفْصِيلُهُ فِي (خِيَارُ الْوَصْفِ، وَخِيَارُ الرُّؤْيَةِ) .
لَكِنْ إِنْ تَمَّ الشِّرَاءُ عَلَى أَسَاسِ النَّمُوذَجِ، وَلَمْ يَخْتَلِفِ الْمَبِيعُ عَنْهُ، فَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي خِيَارُ رُؤْيَةٍ (1) .
وَبَيْعُ الْغَائِبِ مَعَ الْوَصْفِ صَحِيحٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ فِي الْجُمْلَةِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ مُقَابِل الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ) فَقَدْ أَجَازَهُ الْحَنَفِيَّةُ وَلَوْ لَمْ يَسْبِقْ وَصْفُهُ. وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ لاَ بُدَّ مِنَ الْوَصْفِ لأَِنَّ لِلْمُشْتَرِي هُنَا خِيَارَ الرُّؤْيَةِ عَلَى كُل حَالٍ، سَوَاءٌ مَعَ الْوَصْفِ وَالْمُطَابَقَةِ، أَوِ الْمُخَالَفَةِ، وَمَعَ عَدَمِ الْوَصْفِ. وَهُوَ خِيَارٌ حُكْمِيٌّ لاَ يَحْتَاجُ إِلَى اشْتِرَاطٍ (2) . وَأَجَازَهُ الْحَنَابِلَةُ مَعَ الْوَصْفِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَطْلُوبِ لِصِحَّةِ السَّلَمِ، وَقَصَرُوا الْخِيَارَ عَلَى حَال عَدَمِ الْمُطَابَقَةِ (3) .
وَأَجَازَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِثَلاَثَةِ شُرُوطٍ:
أ - أَلاَّ يَكُونَ قَرِيبًا جِدًّا بِحَيْثُ تُمْكِنُ رُؤْيَتُهُ بِغَيْرِ مَشَقَّةٍ؛ لأَِنَّ بَيْعَهُ غَائِبًا فِي هَذِهِ الْحَال عُدُولٌ عَنِ الْيَقِينِ إِلَى تَوَقُّعِ الضَّرَرِ فَلاَ يَجُوزُ.
ب - أَلاَّ يَكُونَ بَعِيدًا جِدًّا، لِتَوَقُّعِ تَغَيُّرِهِ قَبْل التَّسْلِيمِ، أَوْ لاِحْتِمَال تَعَذُّرِ تَسْلِيمِهِ.
ج - أَنْ يَصِفَهُ الْبَائِعُ بِصِفَاتِهِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ
__________
(1) المجلة مادة (323 - 335) .
(2) المراجع السابقة للحنفية.
(3) المغني 3 / 580 - 583، وشرح منتهى الإرادات 2 / 146.(9/23)
الأَْغْرَاضُ بِهَا وَهِيَ صِفَاتُ السَّلَمِ. وَالأَْظْهَرُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ بَيْعُ الْغَائِبِ، وَهُوَ: مَا لَمْ يَرَهُ الْمُتَعَاقِدَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا، وَإِنْ كَانَ حَاضِرًا، لِلنَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ (1) .
أَمَّا الْبَيْعُ عَلَى الْبَرْنَامَجِ، وَهُوَ الدَّفْتَرُ الْمُبَيَّنَةُ فِيهِ الأَْوْصَافُ، أَوْ عَلَى الأُْنْمُوذَجِ بِأَنْ يُرِيَهُ صَاعًا وَيَبِيعَهُ الصُّبْرَةَ عَلَى أَنَّهَا مِثْلُهُ فَقَدْ أَجَازَهُ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلْحَنَابِلَةِ صَوَّبَهُ الْمِرْدَاوِيُّ - لِمَا سَبَقَ - وَالْمَالِكِيَّةِ، وَالأَْصَحُّ لِلْحَنَابِلَةِ مَنْعُهُ، وَأَجَازَهُ الشَّافِعِيَّةُ فِيمَا لَوْ قَال مَثَلاً: بِعْتُكَ الْحِنْطَةَ الَّتِي فِي هَذَا الْبَيْتِ، وَهَذَا أُنْمُوذَجُهَا، وَيَدْخُل الأُْنْمُوذَجُ فِي الْبَيْعِ (2) .
وَلِلْمَالِكِيَّةِ تَفْصِيلٌ فِيمَا إِذَا ظَهَرَ أَنَّ مَا فِي الْعَدْل الْمَبِيعِ عَلَى الْبَرْنَامَجِ أَقَل أَوْ أَكْثَرُ، وَتَفْصِيلُهُ فِي (ظُهُورُ الْمَبِيعِ زَائِدًا أَوْ نَاقِصًا) .
خَامِسًا: ظُهُورُ النُّقْصَانِ أَوِ الزِّيَادَةِ فِي الْمَبِيعِ:
45 - يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ فِي الْمَبِيعِ إِذَا ظَهَرَ فِيهِ نُقْصَانٌ أَوْ زِيَادَةٌ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ عَلَى أَسَاسِ الْمِقْدَارِ،
__________
(1) القليوبي 2 / 164، ومغني المحتاج 2 / 16، ونهاية المحتاج 3 / 401.
(2) شرح منتهى الإرادات 2 / 146، والقليوبي 2 / 163 - 165، ومغني المحتاج 2 / 19، والفروع 4 / 21، والإنصاف 4 / 295.(9/24)
وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَبِيل بَيْعِ الْجُزَافِ (أَوِ الْمُجَازَفَةِ) وَهُوَ مَا يُسَمَّى أَيْضًا (بَيْعَ الصُّبْرَةِ) وَمِنْهُ بَعْضُ صُوَرِ الْبَيْعِ عَلَى الْبَرْنَامَجِ أَوِ الأُْنْمُوذَجِ، حَيْثُ يَظْهَرُ الْقَدْرُ مُخَالِفًا لِمَا كُتِبَ فِي الْبَرْنَامَجِ.
أ - بَيْعُ الْجُزَافِ:
46 - إِذَا كَانَ الْبَيْعُ جُزَافًا فَلاَ أَثَرَ لِظُهُورِ النَّقْصِ أَوِ الزِّيَادَةِ عَمَّا تَوَقَّعَهُ الْمُشْتَرِي أَوِ الْبَائِعُ. وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي (بَيْعِ الْجُزَافِ) .
ب - بَيْعُ الْمُقَدَّرَاتِ:
47 - إِذَا ظَهَرَ نَقْصٌ أَوْ زِيَادَةٌ فِيمَا بِيعَ مُقَدَّرًا بِكَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ أَوْ ذَرْعٍ أَوْ عَدٍّ، فَيُنْظَرُ فِي الْمَبِيعِ، هَل هُوَ مِمَّا يَضُرُّهُ التَّبْعِيضُ أَوْ لاَ يَضُرُّهُ؟ كَمَا يُنْظَرُ فِي أَسَاسِ الثَّمَنِ الَّذِي تَمَّ عَلَيْهِ الْبَيْعُ هَل هُوَ مُجْمَلٌ أَوْ مُفَصَّلٌ عَلَى أَجْزَاءٍ؟ .
فَإِذَا كَانَ الْمَبِيعُ مِمَّا لاَ يَضُرُّهُ التَّبْعِيضُ كَالْمَكِيلاَتِ بِأَنْوَاعِهَا، وَكَذَلِكَ بَعْضُ الْمَوْزُونَاتِ كَالْقَمْحِ، وَالْمَذْرُوعَاتِ كَالْقُمَاشِ الَّذِي يُبَاعُ بِالذِّرَاعِ، دُونَ نَظَرٍ إِلَى مَا يَكْفِي لِلثَّوْبِ الْوَاحِدِ، وَكَذَلِكَ الْمَعْدُودَاتُ الْمُتَقَارِبَةُ. فَإِنَّ الزِّيَادَةَ فِي الْمَبِيعِ هِيَ لِلْبَائِعِ، وَالنَّقْصُ عَلَى حِسَابِهِ، وَلاَ حَاجَةَ فِي هَذِهِ الْحَال لِلنَّظَرِ إِلَى تَفْصِيل الثَّمَنِ أَوْ إِجْمَالِهِ.
وَإِذَا كَانَ الثَّمَنُ مُفَصَّلاً، كَمَا لَوْ قَال: كُل ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ، فَالزِّيَادَةُ لِلْبَائِعِ وَالنَّقْصُ عَلَيْهِ، وَلاَ حَاجَةَ لِلنَّظَرِ إِلَى كَوْنِهِ يَضُرُّهُ التَّبْعِيضُ أَوْ لاَ.(9/24)
أَمَّا إِذَا كَانَ الثَّمَنُ غَيْرَ مُفَصَّلٍ، وَالْمَبِيعُ مِمَّا يَضُرُّهُ التَّبْعِيضُ، فَإِنَّ الزِّيَادَةَ لِلْمُشْتَرِي وَالنَّقْصُ عَلَيْهِ، وَلاَ يُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنَ الثَّمَنِ، لَكِنْ يَثْبُتُ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ فِي حَال النَّقْصِ، وَهُوَ خِيَارُ تَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ.
وَذَلِكَ لأَِنَّ مَا لاَ يَضُرُّهُ التَّبْعِيضُ يُعْتَبَرُ التَّقْدِيرُ فِيهِ كَالْجُزْءِ، وَمَا يَضُرُّهُ التَّبْعِيضُ يُعْتَبَرُ التَّقْدِيرُ فِيهِ كَالْوَصْفِ. وَالْوَصْفُ لاَ يُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنَ الثَّمَنِ بَل يَثْبُتُ بِهِ الْخِيَارُ (1) .
هَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى: أَنَّهُ إِذَا ظَهَرَ فِي الْمَبِيعِ الْمُقَدَّرِ زِيَادَةٌ أَوْ نُقْصَانٌ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ، لأَِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ إِجْبَارُ الْبَائِعِ عَلَى تَسْلِيمِ الزِّيَادَةِ، وَلاَ الْمُشْتَرِي عَلَى أَخْذِ الْبَعْضِ، وَهُنَاكَ ضَرَرٌ فِي الشَّرِكَةِ بَيْنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي بِالنِّسْبَةِ لِمَا زَادَ (2) .
وَلِلْمَالِكِيَّةِ تَفْصِيلٌ بَيْنَ كَوْنِ النَّقْصِ قَلِيلاً أَوْ كَثِيرًا. . فَإِنْ كَانَ قَلِيلاً لَزِمَ الْمُشْتَرِيَ الْبَاقِي بِمَا يَنُوبُهُ مِنَ الثَّمَنِ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا كَانَ مُخَيَّرًا فِي الْبَاقِي بَيْنَ أَخْذِهِ بِمَا يَنُوبُهُ، أَوْ رَدِّهِ. وَقِيل: إِنَّ
__________
(1) المجلة مادة (223 - 229) ، وحاشية ابن عابدين 4 / 30، والدرر شرح الغرر 2 / 147، ومنح الجليل 2 / 505 و 669، وجواهر الإكليل 2 / 47 - 48، والحطاب 4 / 299، ومغني المحتاج 2 / 17 - 18، ونهاية المحتاج 3 / 400 و 4 / 61، وشرح منتهى الإرادات 2 / 166، والمغني 4 / 146 - 147.
(2) نهاية المحتاج 3 / 400، ومغني المحتاج 2 / 17 - 18، وشرح منتهى الإرادات 2 / 166، والمغني 4 / 146.(9/25)
ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الصِّفَةِ لِلْمَبِيعِ، فَإِنْ وَجَدَهُ أَكْثَرَ فَهُوَ لِلْمُشْتَرِي، وَإِنْ وَجَدَهُ أَقَل كَانَ الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَخْذِهِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ أَوْ رَدِّهِ (1) .
وَمُقَابِل الصَّحِيحِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي ظُهُورِ الزِّيَادَةِ أَوِ النُّقْصَانِ: صِحَّةُ الْبَيْعِ لِلإِْشَارَةِ تَغْلِيبًا. ثُمَّ لِلشَّافِعِيَّةِ تَفْصِيلٌ، وَهُوَ أَنَّهُ إِنْ قَابَل الْبَائِعُ الْجُمْلَةَ بِالْجُمْلَةِ، كَقَوْلِهِ: بِعْتُكَ الصُّبْرَةَ بِمِائَةٍ عَلَى أَنَّهَا مِائَةٌ، فَفِي حَال الزِّيَادَةِ أَوِ النُّقْصَانِ يَصِحُّ الْبَيْعُ، وَيَثْبُتُ الْخِيَارُ لِمَنْ عَلَيْهِ الضَّرَرُ.
أَمَّا إِنْ قَابَل الأَْجْزَاءَ بِالأَْجْزَاءِ كَقَوْلِهِ: بِعْتُكَ الصُّبْرَةَ كُل صَاعٍ بِدِرْهَمٍ عَلَى أَنَّهَا مِائَةُ صَاعٍ، فَإِذَا ظَهَرَتْ زِيَادَةٌ أَوْ نُقْصَانٌ فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ عِنْدَ الإِْسْنَوِيِّ، وَفَرَّقَ الْمَاوَرْدِيُّ بَيْنَ النُّقْصَانِ فَيَكُونُ الْبَيْعُ صَحِيحًا، وَبَيْنَ الزِّيَادَةِ فَفِيهِ الْخِلاَفُ السَّابِقُ، وَهُوَ بُطْلاَنُ الْبَيْعِ عَلَى الصَّحِيحِ، أَوْ صِحَّتُهُ عَلَى مَا يُقَابِلُهُ (2) .
وَذَكَرَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي أَنَّهُ إِذَا قَال: بِعْتُكَ هَذِهِ الأَْرْضَ أَوْ هَذَا الثَّوْبَ عَلَى أَنَّهُ عَشَرَةُ أَذْرُعٍ، فَبَانَ أَحَدَ عَشَرَ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: الْبَيْعُ بَاطِلٌ، لأَِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ إِجْبَارُ الْبَائِعِ عَلَى تَسْلِيمِ الزِّيَادَةِ وَإِنَّمَا بَاعَ عَشَرَةً، وَلاَ الْمُشْتَرِي عَلَى أَخْذِ الْبَعْضِ، وَإِنَّمَا اشْتَرَى الْكُل وَعَلَيْهِ ضَرَرٌ فِي الشَّرِكَةِ أَيْضًا.
__________
(1) منح الجليل 2 / 505، والحطاب 4 / 299، والشرح الصغير 2 / 13 ط الحلبي.
(2) مغني المحتاج 2 / 18، والمهذب 1 / 71.(9/25)
وَالثَّانِيَةُ: الْبَيْعُ صَحِيحٌ وَالزِّيَادَةُ لِلْبَائِعِ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ نَقْصٌ عَلَى الْمُشْتَرِي، فَلاَ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْبَيْعِ كَالْعَيْبِ، ثُمَّ يُخَيَّرُ الْبَائِعُ بَيْنَ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ زَائِدًا، وَبَيْنَ تَسْلِيمِ الْعَشَرَةِ، فَإِنْ رَضِيَ بِتَسْلِيمِ الْجَمِيعِ فَلاَ خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي، لأَِنَّهُ زَادَهُ خَيْرًا، وَإِنْ أَبِي تَسْلِيمَهُ زَائِدًا فَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ بَيْنَ الْفَسْخِ، وَالأَْخْذِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ الْمُسَمَّى وَقِسْطِ الزَّائِدِ، فَإِنْ رَضِيَ بِالأَْخْذِ أَخَذَ الْعَشَرَةَ، وَالْبَائِعُ شَرِيكٌ لَهُ بِالذِّرَاعِ. وَهَل لِلْبَائِعِ خِيَارُ الْفَسْخِ؟ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَهُ الْفَسْخُ لأَِنَّ عَلَيْهِ ضَرَرًا فِي الْمُشَارَكَةِ. وَالثَّانِي: لاَ خِيَارَ لَهُ، وَقَوَّاهُ ابْنُ قُدَامَةَ، وَإِنْ بَانَ الْمَبِيعُ تِسْعَةً فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: يَبْطُل الْبَيْعُ كَمَا تَقَدَّمَ. وَالثَّانِيَةُ: الْبَيْعُ صَحِيحٌ، وَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالإِْمْسَاكِ بِتِسْعَةِ أَعْشَارِ الثَّمَنِ.
وَإِنِ اشْتَرَى صُبْرَةً عَلَى أَنَّهَا عَشَرَةُ أَقْفِزَةٍ، فَبَانَتْ أَحَدَ عَشَرَ، رَدَّ الزَّائِدَ وَلاَ خِيَارَ لَهُ هَاهُنَا لأَِنَّهُ ضَرَرٌ فِي الزِّيَادَةِ. وَإِنْ بَانَتْ تِسْعَةً أَخَذَهَا بِقِسْطِهَا مِنَ الثَّمَنِ.
وَمَتَى سُمِّيَ الْكَيْل فِي الصُّبْرَةِ لاَ يَكُونُ قَبْضُهَا إِلاَّ بِالْكَيْل، فَإِنْ وَجَدَهَا زَائِدَةً رَدَّ الزِّيَادَةَ، وَإِنْ كَانَتْ نَاقِصَةً أَخَذَهَا بِقِسْطِهَا مِنَ الثَّمَنِ. وَهَل لَهُ الْفَسْخُ فِي حَالَةِ النُّقْصَانِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: لَهُ الْخِيَارُ. وَالثَّانِي: لاَ خِيَارَ لَهُ (1) .
__________
(1) المغني 4 / 146 - 147.(9/26)
الثَّمَنُ وَأَحْكَامُهُ وَأَحْوَالُهُ
أَوَّلاً: تَعْرِيفُ الثَّمَنِ:
48 - الثَّمَنُ هُوَ مَا يَبْذُلُهُ الْمُشْتَرِي مِنْ عِوَضٍ لِلْحُصُول عَلَى الْمَبِيعِ، وَالثَّمَنُ أَحَدُ جُزْأَيِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ - وَهُوَ الثَّمَنُ وَالْمُثَمَّنُ - وَهُمَا مِنْ مُقَوِّمَاتِ عَقْدِ الْبَيْعِ، وَلِذَا ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ هَلاَكَ الثَّمَنِ الْمُعَيَّنِ قَبْل الْقَبْضِ يَنْفَسِخُ بِهِ الْبَيْعُ فِي الْجُمْلَةِ (1) .
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْمَقْصُودَ الأَْصْلِيَّ مِنَ الْبَيْعِ هُوَ الْمَبِيعُ؛ لأَِنَّ الاِنْتِفَاعَ إِنَّمَا يَكُونُ بِالأَْعْيَانِ، وَالأَْثْمَانُ وَسِيلَةٌ لِلْمُبَادَلَةِ (2) ، وَلِذَا اعْتَبَرُوا التَّقَوُّمَ فِي الثَّمَنِ شَرْطَ صِحَّةٍ، وَهُوَ فِي الْمَبِيعِ شَرْطُ انْعِقَادٍ، وَهِيَ تَفْرِقَةٌ خَاصَّةٌ بِهِمْ دُونَ الْجُمْهُورِ، فَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ غَيْرَ مُتَقَوَّمٍ لَمْ يَبْطُل الْبَيْعُ عِنْدَهُمْ، بَل يَنْعَقِدُ فَاسِدًا، فَإِذَا أُزِيل سَبَبُ الْفَسَادِ صَحَّ الْبَيْعُ.
كَمَا أَنَّ هَلاَكَ الثَّمَنِ قَبْل الْقَبْضِ لاَ يَبْطُل بِهِ الْبَيْعُ، بَل يَسْتَحِقُّ الْبَائِعُ بَدَلَهُ. أَمَّا هَلاَكُ الْمَبِيعِ فَإِنَّهُ يَبْطُل بِهِ الْبَيْعُ (3) . وَالثَّمَنُ غَيْرُ الْقِيمَةِ؛ لأَِنَّ الْقِيمَةَ هِيَ: مَا يُسَاوِيهِ الشَّيْءُ فِي تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ (أَهْل
__________
(1) جواهر الإكليل 1 / 305، ومنح الجليل 2 / 100 و 3 / 616، وشرح الروض 2 / 64، والمجموع 9 / 269، والقليوبي 2 / 3، وشرح منتهى الإرادات 2 / 189، والإفصاح 1 / 337.
(2) المجلة مادة (151) .
(3) المجلة مادة (212) ، وحاشية ابن عابدين 4 / 104.(9/26)
الْخِبْرَةِ) ، أَمَّا الثَّمَنُ فَهُوَ كُل مَا يَتَرَاضَى عَلَيْهِ الْمُتَعَاقِدَانِ، سَوَاءٌ أَكَانَ أَكْثَرَ مِنَ الْقِيمَةِ، أَمْ أَقَل مِنْهَا، أَمْ مِثْلَهَا (1) .
فَالْقِيمَةُ هِيَ الثَّمَنُ الْحَقِيقِيُّ لِلشَّيْءِ. أَمَّا الثَّمَنُ الْمُتَرَاضَى عَلَيْهِ فَهُوَ الثَّمَنُ الْمُسَمَّى.
وَالسِّعْرُ هُوَ: الثَّمَنُ الْمُقَدَّرُ لِلسِّلْعَةِ.
وَالتَّسْعِيرُ: تَحْدِيدُ أَسْعَارِ بَيْعِ السِّلَعِ. وَقَدْ يَكُونُ التَّسْعِيرُ مِنَ السُّلْطَانِ، ثُمَّ يَمْنَعُ النَّاسَ مِنَ الْبَيْعِ بِزِيَادَةٍ عَلَيْهَا أَوْ أَقَل مِنْهَا (2) .
حُكْمُ التَّسْعِيرِ:
49 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي التَّسْعِيرِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ لِوَلِيِّ الأَْمْرِ ذَلِكَ، إِذَا كَانَ الْبَاعَةُ يَتَعَدَّوْنَ الْقِيمَةَ، وَعَجَزَ الْقَاضِي عَنْ صِيَانَةِ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ إِلاَّ بِالتَّسْعِيرِ بِمَشُورَةِ أَهْل الرَّأْيِ وَالْبَصَرِ، وَذَلِكَ لِفِعْل عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ مَرَّ بِحَاطِبٍ فِي السُّوقِ فَقَال لَهُ: إِمَّا أَنْ تَرْفَعَ السِّعْرَ وَإِمَّا أَنْ تَدْخُل بَيْتَكَ فَتَبِيعَ كَيْفَ شِئْتَ (3) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى تَحْرِيمِ التَّسْعِيرِ، وَكَرَاهَةِ الشِّرَاءِ بِهِ، وَحُرْمَةِ الْبَيْعِ
__________
(1) المجلة مادة (153) ، وحاشية ابن عابدين 4 / 51 و 166، وجواهر الإكليل 2 / 21.
(2) المجلة مادة (154) .
(3) " أثر عمر رضي الله تعالى عنه. . . " أخرجه مالك في الموطأ، وقال عنه الشيخ عبد القادر الأرناؤوط محقق جامع الأصول: إسناده صحيح (جامع الأصول 1 / 594 ط الملاح) .(9/27)
وَبُطْلاَنِهِ إِذَا كَانَ بِالإِْكْرَاهِ (1) . وَذَلِكَ لِحَدِيثِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّازِقُ، وَإِنِّي لأََرْجُو أَنْ أَلْقَى اللَّهَ وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يُطَالِبُنِي بِمَظْلِمَةٍ فِي دَمٍ وَلاَ مَالٍ (2) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (تَسْعِيرٌ)
ثَانِيًا: مَا يَصْلُحُ ثَمَنًا وَمَا لاَ يَصْلُحُ:
50 - كُل مَا صَلَحَ أَنْ يَكُونَ مَبِيعًا صَلَحَ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا، وَالْعَكْسُ صَحِيحٌ أَيْضًا، هَذَا مَا يُفْهَمُ مِنَ اتِّجَاهِ الْجُمْهُورِ. وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ عَكْسَ، فَمَا صَلَحَ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا قَدْ لاَ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَبِيعًا (3) .
وَالثَّمَنُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ، وَذَلِكَ كَالنُّقُودِ وَالْمِثْلِيَّاتِ مِنْ مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ أَوْ مَذْرُوعٍ أَوْ عَدَدِيٍّ مُتَقَارَبٍ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنَ الأَْعْيَانِ الْقِيَمِيَّةِ كَمَا فِي بَيْعِ السَّلَمِ، إِذَا كَانَ رَأْسُ الْمَال عَيْنًا مِنَ الْقِيَمِيَّاتِ، وَكَمَا فِي بَيْعِ الْمُقَايَضَةِ.
وَالذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ أَثْمَانٌ بِالْخِلْقَةِ، سَوَاءٌ كَانَا مَضْرُوبَيْنِ نُقُودًا أَوْ غَيْرَ مَضْرُوبَيْنِ. وَكَذَلِكَ
__________
(1) المغني 3 / 164 ط القاهرة، والفتاوى الهندية 3 / 314، وشرح منتهى الإرادات 2 / 159، والكافي لابن عبد البر 2 / 730.
(2) حديث: " إن الله هو المسعر. . " أخرجه الترمذي وأبو داود عن أنس رضي الله تعالى عنه. وقال عنه الشيخ عبد القادر الأرناؤوط: إسناده صحيح، وصححه الترمذي وابن حبان. (جامع الأصول 1 / 595 بتحقيق الأرناؤوط) .
(3) حاشية ابن عابدين 4 / 165، وشرح المجلة المواد (152، 211) للأتاسي (2 / 105) وللمحاسني (1 / 193) ، والفتاوى الهندية 3 / 122، والبهجة شرح التحفة 2 / 86، وشرح منتهى الإرادات 2 / 142، وجواهر الإكليل 1 / 305 و 2 / 5.(9/27)
الْفُلُوسُ أَثْمَانٌ، وَالأَْثْمَانُ لاَ تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ (وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ الصَّرْفَ وَالْكِرَاءَ) فَلَوْ قَال الْمُشْتَرِي: اشْتَرَيْتُ السِّلْعَةَ بِهَذَا الدِّينَارِ، وَأَشَارَ إِلَيْهِ، فَإِنَّ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَدْفَعَ سِوَاهُ؛ لأَِنَّ النُّقُودَ مِنَ الْمِثْلِيَّاتِ، وَهِيَ تَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ، وَالَّذِي يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ يَحْصُل الْوَفَاءُ بِهِ بِأَيِّ فَرْدٍ مُمَاثِلٍ وَلاَ يَقْبَل التَّعْيِينَ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ.
أَمَّا إِذَا كَانَ الثَّمَنُ قِيَمِيًّا فَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ؛ لأَِنَّ الْقِيَمِيَّاتِ لاَ تَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ، وَلاَ يَحُل فَرْدٌ مِنْهَا مَحَل آخَرَ إِلاَّ بِالتَّرَاضِي (1) .
ثَالِثًا: تَعْيِينُ الثَّمَنِ وَتَمْيِيزُهُ عَنِ الْمَبِيعِ
51 - لِتَمْيِيزِ الثَّمَنِ عَنِ الْمَبِيعِ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِالضَّابِطِ التَّالِي، وَهُوَ مُتَّفَقٌ مَعَ عِبَارَاتِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ:
أ - إِذَا كَانَ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ نُقُودًا اعْتُبِرَتْ هِيَ الثَّمَنَ، وَمَا عَدَاهَا هُوَ الْمَبِيعَ مَهْمَا كَانَ نَوْعُهُ. وَلاَ يُنْظَرُ إِلَى الصِّيغَةِ، حَتَّى لَوْ قَال: بِعْتُكَ دِينَارًا بِهَذِهِ السِّلْعَةِ، فَإِنَّ الدِّينَارَ هُوَ الثَّمَنُ رَغْمَ دُخُول الْبَاءِ عَلَى (السِّلْعَةِ) وَهِيَ تَدْخُل عَادَةً عَلَى الثَّمَنِ (2) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 272 ط الحلبي الثانية، والمجلة 2 / 243، والفروق للقرافي 3 / 255، والمجموع 9 / 269، وشرح منتهى الإرادات 2 / 205.
(2) ابن عابدين 4 / 195 ط بولاق و 5 / 272 ط الحلبي، والفتاوى الهندية 3 / 13 - 15، والبهجة شرح التحفة 2 / 2، ومغني المحتاج 2 / 70، وشرح منتهى الإرادات 2 / 205.(9/28)
ب - إِذَا كَانَ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ أَعْيَانًا قِيَمِيَّةً، وَالآْخَرُ أَمْوَالاً مِثْلِيَّةً مُعَيَّنَةً أَيْ مُشَارًا إِلَيْهَا، فَالْقِيَمِيُّ هُوَ الْمَبِيعُ، وَالْمِثْلِيُّ هُوَ الثَّمَنُ، وَلاَ عِبْرَةَ أَيْضًا بِمَا إِذَا كَانَتِ الصِّيغَةُ تَقْتَضِي غَيْرَ هَذَا.
أَمَّا إِذَا كَانَتِ الأَْمْوَال الْمِثْلِيَّةُ غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ (أَيْ مُلْتَزَمَةٍ فِي الذِّمَّةِ) فَالثَّمَنُ هُوَ الْعِوَضُ الْمُقْتَرِنُ بِالْبَاءِ، كَمَا لَوْ قَال: بِعْتُكَ هَذِهِ السِّلْعَةَ بِرِطْلٍ مِنَ الأُْرْزِ، فَالأُْرْزُ هُوَ الثَّمَنُ لِدُخُول الْبَاءِ عَلَيْهِ. وَلَوْ قَال: بِعْتُكَ رِطْلاً مِنَ الأُْرْزِ بِهَذِهِ السِّلْعَةِ، فَالسِّلْعَةُ هِيَ الثَّمَنُ، وَهُوَ مِنْ بَيْعِ السَّلَمِ لأَِنَّهُ بَيْعُ مَوْصُوفٍ فِي الذِّمَّةِ مُؤَجَّلٍ بِثَمَنٍ مُعَجَّلٍ.
ج - إِذَا كَانَ كُلٌّ مِنَ الْعِوَضَيْنِ مَالاً مِثْلِيًّا، فَالثَّمَنُ هُوَ مَا اقْتَرَنَ بِالْبَاءِ كَمَا لَوْ قَال: بِعْتُكَ أُرْزًا بِقَمْحٍ، فَالْقَمْحُ هُوَ الثَّمَنُ.
د - إِذَا كَانَ كُلٌّ مِنَ الْعِوَضَيْنِ مِنَ الأَْعْيَانِ الْقِيَمِيَّةِ فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا ثَمَنٌ مِنْ وَجْهٍ وَمَبِيعٌ مِنْ وَجْهٍ (1) .
وَهَذَا التَّفْصِيل لِلْحَنَفِيَّةِ.
أَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فَإِنَّ الثَّمَنَ: هُوَ، مَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ الْبَاءُ.
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ لاَ مَانِعَ مِنْ كَوْنِ النُّقُودِ مَبِيعَةً؛ لأَِنَّ كُلًّا مِنَ الْعِوَضَيْنِ مَبِيعٌ بِالآْخَرِ، وَفِي الْبَهْجَةِ: كُلٌّ مِنَ الْعِوَضَيْنِ ثَمَنٌ لِلآْخِرِ.
وَمِنْ أَحْكَامِ الثَّمَنِ عَدَا مَا سَبَقَتِ الإِْشَارَةُ إِلَيْهِ:
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 22، 243، ومنح الجليل 2 / 601، والبهجة 2 / 86، والمجموع 9 / 269، ومغني المحتاج 2 / 70، وشرح منتهى الإرادات 2 / 205.(9/28)
أ - إِذَا تَنَازَعَ الْمُتَعَاقِدَانِ فِيمَنْ يُسَلِّمُ أَوَّلاً، فَإِنَّهُ يَجِبُ تَسْلِيمُ الثَّمَنِ أَوَّلاً قَبْل تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ.
ب - كُلْفَةُ تَسْلِيمِ الثَّمَنِ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَكُلْفَةُ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ عَلَى الْبَائِعِ.
ج - اشْتِرَاطُ الْقَبْضِ لِجَوَازِ التَّصَرُّفِ فِي الْعِوَضِ خَاصٌّ بِالْمَبِيعِ لاَ بِالثَّمَنِ، عَلَى تَفْصِيلٍ يُعْرَفُ فِي (بَيْعٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، بَيْعُ الْمَبِيعِ قَبْل قَبْضِهِ)
د - تَأْجِيل الثَّمَنِ (رَأْسُ الْمَال) فِي بَيْعِ السَّلَمِ لاَ يَجُوزُ، بِخِلاَفِ الْمَبِيعِ فَهُوَ مُؤَجَّلٌ بِمُقْتَضَى الْعَقْدِ. وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ (1) . وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (ثَمَن) .
رَابِعًا: إِبْهَامُ الثَّمَنِ
52 - إِذَا بَيَّنَ ثَمَنًا وَأَطْلَقَ، فَلَمْ يُبَيِّنْ نَوْعَهُ، كَمَا لَوْ قَال: بِكَذَا دِينَارًا، وَفِي بَلَدِ الْعَقْدِ أَنْوَاعٌ مِنَ الدَّنَانِيرِ مُخْتَلِفَةٌ فِي الْقِيمَةِ مُتَسَاوِيَةٌ فِي الرَّوَاجِ، فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ لِجَهَالَةِ مِقْدَارِ الثَّمَنِ. أَمَّا إِذَا كَانَ بَعْضُهَا أَرْوَجُ، فَالْعَقْدُ صَحِيحٌ، وَيَنْصَرِفُ إِلَى الأَْرْوَجِ، كَمَا لَوْ قَال فِي الْكُوَيْتِ: بِعْتُكَ بِدِينَارٍ فَالْعَقْدُ صَحِيحٌ، وَالثَّمَنُ دَنَانِيرُ كُوَيْتِيَّةٌ، لأَِنَّهَا أَرْوَجُ مِنْ غَيْرِهَا مِنَ الدَّنَانِيرِ الْمَوْجُودَةِ فِي مَحَل الْعَقْدِ (2) .
هَذَا وَتَفْصِيل أَحْكَامِ الثَّمَنِ تُنْظَرُ فِي (ثَمَنٍ) .
__________
(1) الصاوي على الشرح الصغير 2 / 71 - 72 ط الحلبي، والمجموع 9 / 273، ومغني المحتاج 2 / 70 و 73 و 74، والمغني 4 / 126 و 218، و 220، وشرح منتهى الإرادات 2 / 191.
(2) المجلة مادة (241، 244) ، والكافي لابن عبد البر 2 / 726، والبهجة 2 / 11، والقليوبي 2 / 162، ومغني المحتاج 2 / 17، والإفصاح 1 / 325.(9/29)
خَامِسًا: تَحْدِيدُ الثَّمَنِ بِالنَّظَرِ إِلَى رَأْسِ الْمَال:
53 - تَحْدِيدُ الثَّمَنِ إِمَّا أَنْ يُعْلَمَ بِالْمُشَاهَدَةِ وَالإِْشَارَةِ، وَهِيَ أَبْلَغُ طُرُقِ التَّعْرِيفِ، سَوَاءٌ بَيَّنَ الْمِقْدَارَ أَمْ لَمْ يُبَيِّنْ. كَمَا لَوْ بَاعَ سِلْعَةً بِصُرَّةٍ مِنَ الدَّنَانِيرِ، وَأَشَارَ إِلَيْهَا.
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ غَائِبًا عَنْ مَجْلِسِ الْعَقْدِ، وَحِينَئِذٍ لاَ بُدَّ مِنْ بَيَانِ نَوْعِهِ وَوَصْفِهِ وَقَدْرِهِ.
ثُمَّ إِنَّ الثَّمَنَ إِمَّا أَنْ لاَ يُبْنَى عَلَى ثَمَنِ الشِّرَاءِ (رَأْسُ مَال الْبَائِعِ) أَوْ يُبْنَى عَلَى ذَلِكَ بِلاَ رِبْحٍ وَلاَ خَسَارَةٍ، أَوْ بِرِبْحٍ مَعْلُومٍ، أَوْ بِخَسَارَةٍ مَعْلُومَةٍ.
فَالأَْوَّل، وَهُوَ مَا لاَ يُنْظَرُ فِيهِ إِلَى ثَمَنِ الشِّرَاءِ، هُوَ: بَيْعُ الْمُسَاوَمَةِ، وَهُوَ الأَْغْلَبُ فِي الْبُيُوعِ.
أَمَّا النَّوْعُ الآْخَرُ فَهُوَ بَيْعُ الأَْمَانَةِ. وَيَنْقَسِمُ إِلَى: تَوْلِيَةٍ، وَهُوَ الْبَيْعُ بِمِثْل الثَّمَنِ الأَْوَّل. وَإِذَا كَانَ لِبَعْضِ الْمَبِيعِ بِنِسْبَتِهِ مِنَ الثَّمَنِ الأَْوَّل فَهُوَ إِشْرَاكٌ. وَإِنْ كَانَ بِرِبْحٍ فَهُوَ مُرَابَحَةٌ. أَوْ بِخَسَارَةٍ فَهُوَ وَضِيعَةٌ (1) . وَتَفْصِيل هَذِهِ الْبُيُوعِ فِي مُصْطَلَحَاتِهَا.
أَحْكَامٌ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ
أَوَّلاً: الزِّيَادَةُ فِي الْمَبَيْعِ أَوِ الثَّمَنِ.
54 - يَجُوزُ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَزِيدَ فِي الثَّمَنِ بَعْدَ الْعَقْدِ، وَكَذَلِكَ يَجُوزُ لِلْبَائِعِ أَنْ يَزِيدَ فِي الْمَبِيعِ. عَلَى أَنْ يَقْتَرِنَ ذَلِكَ بِقَبُول الطَّرَفِ الآْخَرِ فِي مَجْلِسِ الزِّيَادَةِ.
__________
(1) المجلة مادة (239) وما بعدها، والفواكه الدواني 2 / 109، والصاوي على الشرح الصغير 2 / 77 ط الحلبي.(9/29)
وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ قَائِمًا، إِذَا كَانَتِ الزِّيَادَةُ فِي الثَّمَنِ، لأَِنَّهُ إِذَا كَانَ هَالِكًا قُوبِلَتِ الزِّيَادَةُ بِمَعْدُومٍ، وَإِذَا كَانَ فِي حُكْمِ الْهَالِكِ - وَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ عَنْ مِلْكِهِ - قُوبِلَتِ الزِّيَادَةُ بِمَا هُوَ فِي حُكْمِ الْمَعْدُومِ.
وَلاَ فَرْقَ فِيمَا لَوْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ بَعْدَ التَّقَابُضِ أَوْ قَبْلَهُ، أَوْ كَانَتْ مِنْ جِنْسِ الْمَبِيعِ أَوِ الثَّمَنِ أَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ.
وَحُكْمُ الزِّيَادَةِ أَنَّهَا تَعْدِيلٌ لِلْعَقْدِ السَّابِقِ وَلَيْسَتْ هِبَةً، وَلِذَا لاَ تَحْتَاجُ إِلَى الْقَبْضِ الْمَشْرُوطِ لِتَمَامِ الْهِبَةِ، وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ. هَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ.
أَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فَإِنَّ الزِّيَادَةَ بَعْدَ لُزُومِ الْبَيْعِ بِانْقِضَاءِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ وَخِيَارِ الشَّرْطِ لاَ تُلْحَقُ، بَل هِيَ فِي حُكْمِ الْهِبَةِ. وَسَيَأْتِي تَفْصِيل ذَلِكَ (1) .
ثَانِيًا: الْحَطُّ مِنَ الْمَبِيعِ أَوِ الثَّمَنِ
55 - يَجُوزُ لِلْمُشْتَرِي الْحَطُّ مِنَ الْمَبِيعِ، وَيَجُوزُ لِلْبَائِعِ الْحَطُّ مِنَ الثَّمَنِ، إِذَا قَبِل الطَّرَفُ الآْخَرُ فِي مَجْلِسِ الْحَطِّ، وَيَسْتَوِي أَنْ يَكُونَ الْحَطُّ بَعْدَ التَّقَابُضِ أَوْ قَبْلَهُ، فَلَوْ حَطَّ الْمُشْتَرِي أَوِ الْبَائِعُ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 167، وتهذيب الفروق 3 / 290، والشرح الصغير 2 / 78، وحاشية الدسوقي 3 / 165، ومنح الجليل 3 / 615، والمجموع 9 / 370، والمهذب 1 / 296، وهامش شرح الروض 2 / 64، ونهاية المحتاج 4 / 44، والإفصاح 1 / 347، وشرح منتهى الإرادات 2 / 151 و 446.(9/30)
بَعْدَ الْقَبْضِ كَانَ لِلآْخَرِ حَقُّ الاِسْتِرْدَادِ لِلْمَحْطُوطِ.
وَلاَ يُشْتَرَطُ لِجَوَازِ حَطِّ الْبَائِعِ مِنَ الثَّمَنِ أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ قَائِمًا؛ لأَِنَّ الْحَطَّ إِسْقَاطٌ، وَلاَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ فِي مُقَابَلَةِ شَيْءٍ.
أَمَّا فِي حَطِّ الْمُشْتَرِي بَعْضَ الْمَبِيعِ عَنِ الْبَائِعِ، فَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ دَيْنًا ثَابِتًا فِي الذِّمَّةِ لِيَقْبَل الْحَطَّ. أَمَّا لَوْ كَانَ عَيْنًا مُعَيَّنَةً فَإِنَّهُ لاَ يَصِحُّ الْحَطُّ مِنَ الْمَبِيعِ حِينَئِذٍ؛ لأَِنَّ الأَْعْيَانَ لاَ تَقْبَل الإِْسْقَاطَ (1) (ر: إِبْرَاءٌ، وَإِسْقَاطٌ) .
ثَالِثًا: آثَارُ الزِّيَادَةِ أَوِ الْحَطِّ.
56 - مِنَ الْمُقَرَّرِ عِنْدَ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الزِّيَادَةَ وَالْحَطَّ يَلْتَحِقَانِ بِأَصْل الْعَقْدِ السَّابِقِ بِطَرِيقِ الاِسْتِنَادِ، مَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ مَانِعٌ. بِمَعْنَى أَنَّهُ تَثْبُتُ لِلزِّيَادَةِ فِي الْمَبِيعِ حِصَّةٌ مِنَ الثَّمَنِ، كَمَا لَوْ كَانَ الثَّمَنُ مُقَسَّمًا عَلَى الأَْصْل وَالزِّيَادَةِ، وَكَذَلِكَ عَكْسُهُ إِذَا كَانَتِ الزِّيَادَةُ فِي الثَّمَنِ.
وَمِنْ آثَارِ ذَلِكَ:
أ - إِذَا تَلِفَ الْمَبِيعُ قَبْل الْقَبْضِ وَبَقِيَتِ الزِّيَادَةُ، أَوْ هَلَكَتِ الزِّيَادَةُ وَبَقِيَ الْمَبِيعُ، سَقَطَتْ حِصَّةُ الْهَالِكِ مِنَ الثَّمَنِ. وَهَذَا بِخِلاَفِ الزِّيَادَةِ النَّاشِئَةِ مِنَ الْمَبِيعِ نَفْسِهِ.
__________
(1) شرح المجلة (المادة 256) ، والصاوي على الشرح الصغير 2 / 79، ومنح الجليل 3 / 425 - 426، وشرح منتهى الإرادات 2 / 183، والمغني 5 / 658 - 659 و 4 / 542 - 543، ومغني المحتاج 2 / 65 - 66.(9/30)
ب - لِلْبَائِعِ حَبْسُ جَمِيعِ الْمَبِيعِ حَتَّى يَقْبِضَ الثَّمَنَ الأَْصْلِيَّ وَالزِّيَادَةَ عَلَيْهِ.
ج - إِمْكَانُ الْبَيْعِ بِالأَْمَانَةِ مِنْ مُرَابَحَةٍ أَوْ تَوْلِيَةٍ أَوْ وَضِيعَةٍ، فَإِنَّ الْعِبْرَةَ بِالثَّمَنِ بَعْدَ الزِّيَادَةِ أَوِ الْحَطِّ.
د - إِذَا اسْتُحِقَّ الْمَبِيعُ، وَقُضِيَ بِهِ لِلْمُسْتَحِقِّ؟ ، رَجَعَ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ كُلِّهِ مِنْ أَصْلٍ وَزِيَادَةٍ. وَكَذَلِكَ فِي الرُّجُوعِ بِالْعَيْبِ.
هـ - فِي الأَْخْذِ بِالشُّفْعَةِ، يَأْخُذُ الشَّفِيعُ الْعَقَارَ بِمَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الثَّمَنُ بَعْدَ الْحَطِّ. وَلَوْ زَادَ الْبَائِعُ شَيْئًا فِي الْمَبِيعِ يَأْخُذُ الشَّفِيعُ أَصْل الْعَقَارِ بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ لاَ بِالثَّمَنِ كُلِّهِ. وَهَذَا بِالاِتِّفَاقِ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى مَا سَيَأْتِي.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: الزِّيَادَةُ وَالْحَطُّ يُلْحَقَانِ بِالْبَيْعِ، سَوَاءٌ أَحَدَثَ ذَلِكَ عِنْدَ التَّقَابُضِ أَمْ بَعْدَهُ.
وَالزِّيَادَةُ فِي الثَّمَنِ تَكُونُ فِي حُكْمِ الثَّمَنِ الأَْوَّل، فَتُرَدُّ عِنْدَ الاِسْتِحْقَاقِ، وَعِنْدَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ (1) .
وَيَجُوزُ حَطُّ كُل الثَّمَنِ عَنِ الْمُشْتَرِي، أَيْ هِبَتُهُ لَهُ، وَلِلْحَطِّ أَثَرُهُ فِي بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ وَفِي الشُّفْعَةِ.
فَفِي بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ، يَقُول الدَّرْدِيرُ وَالدُّسُوقِيُّ: يَجِبُ بَيَانُ هِبَةٍ لِبَعْضِ الثَّمَنِ إِنْ كَانَتْ مُعْتَادَةً بَيْنَ النَّاسِ، بِأَنْ تُشْبِهَ عَطِيَّةَ النَّاسِ، فَإِنْ لَمْ تُعْتَدْ
__________
(1) تهذيب الفروق 3 / 290، والدسوقي 3 / 35 - 36.(9/31)
(أَيْ لَمْ تَجْرِ بِهَا عَادَةٌ) أَوْ وَهَبَ لَهُ جَمِيعَ الثَّمَنِ قَبْل النَّقْدِ أَوْ بَعْدَهُ لَمْ يَجِبِ الْبَيَانُ (1) .
وَفِي الشُّفْعَةِ، يَقُول الشَّيْخُ عُلَيْشٌ: مَنِ اشْتَرَى شِقْصًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ وَضَعَ عَنْهُ الْبَائِعُ تِسْعَمِائَةِ دِرْهَمٍ بَعْدَ أَخْذِ الشَّفِيعِ أَوْ قَبْلَهُ، فَإِنْ أَشْبَهَ أَنْ يَكُونَ ثَمَنُ الشِّقْصِ بَيْنَ النَّاسِ مِائَةَ دِرْهَمٍ إِذَا تَغَابَنُوا بَيْنَهُمْ، أَوِ اشْتَرَوْا بِغَيْرِ تَغَابُنٍ، وُضِعَ ذَلِكَ عَنِ الشَّفِيعِ؛ لأَِنَّ مَا أَظْهَرَا مِنَ الثَّمَنِ الأَْوَّل إِنَّمَا كَانَ سَبَبًا لِقَلْعِ الشُّفْعَةِ.
وَإِنْ لَمْ يُشْبِهْ أَنْ يَكُونَ ثَمَنُهُ مِائَةً، قَال ابْنُ يُونُسَ: أَرَادَ مِثْل أَنْ يَكُونَ ثَمَنُهُ ثَلاَثَمِائَةٍ أَوْ أَرْبَعَمِائَةٍ، لَمْ يَحُطَّ لِلشَّفِيعِ شَيْئًا، وَكَانَتِ الْوَضِيعَةُ هِبَةً لِلْمُبْتَاعِ، وَقَال فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: إِنْ حَطَّ عَنِ الْمُبْتَاعِ مَا يُشْبِهُ أَنْ يُحَطَّ فِي الْبُيُوعِ وُضِعَ ذَلِكَ عَنِ الشَّفِيعِ وَإِنْ كَانَ لاَ يُحَطُّ مِثْلُهُ فَهِيَ هِبَةٌ، وَلاَ يَحُطُّ عَنِ الشَّفِيعِ شَيْئًا (2) .
وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ قَالُوا: إِنَّ الزِّيَادَةَ أَوِ الْحَطَّ فِي الثَّمَنِ أَوِ الْمُثَمَّنِ، إِنْ كَانَتْ بَعْدَ لُزُومِ الْعَقْدِ بِانْقِضَاءِ الْخِيَارِ فَلاَ تُلْحَقُ بِهِ؛ لأَِنَّ الْبَيْعَ اسْتَقَرَّ بِالثَّمَنِ الأَْوَّل، وَالزِّيَادَةَ أَوِ الْحَطَّ بَعْدَ ذَلِكَ تَبَرُّعٌ، وَلاَ تُلْحَقُ بِالْعَقْدِ. وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْل لُزُومِ الْعَقْدِ فِي مُدَّةِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ أَوْ خِيَارِ الشَّرْطِ، فَالصَّحِيحُ عِنْدَ جُمْهُورِ الشَّافِعِيَّةِ، وَبِهِ قَطَعَ أَكْثَرُ الْعِرَاقِيِّينَ: أَنَّهُ يُلْحَقُ بِالْعَقْدِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارَيْنِ جَمِيعًا، وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّ
__________
(1) الدسوقي 3 / 165، ومنح الجليل 2 / 718.
(2) منح الجليل 3 / 615، والدسوقي 3 / 495.(9/31)
الشَّافِعِيِّ؛ لأَِنَّ الزِّيَادَةَ أَوِ الْحَطَّ فِي مُدَّةِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ تُلْتَحَقُ بِالْعَقْدِ، وَقِيسَ بِخِيَارِ الْمَجْلِسِ خِيَارُ الشَّرْطِ بِجَامِعِ عَدَمِ الاِسْتِقْرَارِ. وَهَذَا أَحَدُ الأَْوْجُهِ الَّتِي ذَكَرَهَا النَّوَوِيُّ.
وَفِي وَجْهٍ آخَرَ: لاَ يُلْحَقُ ذَلِكَ، وَصَحَّحَهُ الْمُتَوَلِّي.
وَفِي وَجْهٍ ثَالِثٍ: يُلْحَقُ فِي خِيَارِ الْمَجْلِسِ دُونَ خِيَارِ الشَّرْطِ، قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو زَيْدٍ وَالْقَفَّال.
أَمَّا أَثَرُ ذَلِكَ فِي الْعُقُودِ. فَفِي الشُّفْعَةِ تَلْحَقُ الزِّيَادَةُ الشَّفِيعَ كَمَا تَلْزَمُ الْمُشْتَرِيَ، وَلَوْ حُطَّ مِنَ الثَّمَنِ شَيْءٌ فَحُكْمُهُ كَذَلِكَ (1) . وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي (شفعة) .
وَفِي التَّوْلِيَةِ وَالإِْشْرَاكِ وَالْمُرَابَحَةِ. جَاءَ فِي نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ: لَوْ حُطَّ عَنِ الْمُوَلِّي - بِكَسْرِ اللاَّمِ الْمُشَدَّدَةِ - مِنَ الْبَائِعِ بَعْضُ الثَّمَنِ بَعْدَ التَّوْلِيَةِ أَوْ قَبْلَهَا، وَلَوْ بَعْدَ اللُّزُومِ، انْحَطَّ عَنِ الْمَوْلَى - بِفَتْحِ اللاَّمِ - إِذْ خَاصَّةُ التَّوْلِيَةِ - وَإِنْ كَانَتْ بَيْعًا جَدِيدًا - التَّنْزِيل عَلَى الثَّمَنِ الأَْوَّل، فَإِنْ حُطَّ جَمِيعُهُ انْحَطَّ أَيْضًا مَا لَمْ يَكُنْ قَبْل لُزُومِ التَّوْلِيَةِ، وَإِلاَّ - بِأَنْ كَانَ قَبْل التَّوْلِيَةِ أَوْ بَعْدَهَا وَقَبْل لُزُومِهَا - بَطَلَتْ لأَِنَّهَا حَيْثُ بِيعَ مِنْ غَيْرِ ثَمَنٍ، وَمِنْ ثَمَّ لَوْ تَقَايَلاَ بَعْدَ حَطِّهِ بَعْدَ اللُّزُومِ، لَمْ يَرْجِعِ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِشَيْءٍ (2) .
__________
(1) المجموع 9 / 369 - 370، وحاشية الجمل 3 / 85، وأسنى المطالب 2 / 37.
(2) نهاية المحتاج 4 / 106 - 107، وحاشية الجمل 3 / 177، وأسنى المطالب 2 / 91 - 93، والمهذب 1 / 296.(9/32)
وَالإِْشْرَاكُ وَالْمُرَابَحَةُ كَالتَّوْلِيَةِ فِي ذَلِكَ. وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي (مرابحة، تولية، إِشراك) .
وَفِي الرَّدِّ بِالْعَيْبِ جَاءَ فِي نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ: لَوْ أَبْرَأَ الْبَائِعُ الْمُشْتَرِيَ مِنْ بَعْضِ الثَّمَنِ أَوْ كُلِّهِ، ثُمَّ رَدَّ الْمَبِيعَ بِعَيْبٍ، فَالأَْوْجَهُ أَنَّهُ لاَ يَرْجِعُ فِي الإِْبْرَاءِ مِنْ جَمِيعِ الثَّمَنِ بِشَيْءٍ، وَفِي الإِْبْرَاءِ مِنْ بَعْضِهِ إِلاَّ بِالْبَاقِي.
وَلَوْ وَهَبَ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي الثَّمَنَ، فَقِيل: يَمْتَنِعُ الرَّدُّ، وَقِيل: يَرُدُّ، وَيُطَالِبُ بِبَدَل الثَّمَنِ، وَهُوَ الأَْوْجَهُ (1) .
وَالْحَنَابِلَةُ كَالشَّافِعِيَّةِ فِي ذَلِكَ، فَقَدْ جَاءَ فِي شَرْحِ مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ: مَا يُزَادُ فِي ثَمَنٍ أَوْ مُثَمَّنٍ زَمَنَ الْخِيَارَيْنِ (خِيَارِ الْمَجْلِسِ وَخِيَارِ الشَّرْطِ) يُلْحَقُ بِالْعَقْدِ، فَيُخْبِرُ بِهِ فِي الْمُرَابَحَةِ وَالتَّوْلِيَةِ وَالإِْشْرَاكِ كَأَصْلِهِ.
وَمَا يُوضَعُ مِنْ ثَمَنٍ أَوْ مُثَمَّنٍ زَمَنَ الْخِيَارَيْنِ يُلْحَقُ بِالْعَقْدِ، فَيَجِبُ أَنْ يُخْبِرَ بِهِ كَأَصْلِهِ، تَنْزِيلاً لِحَال الْخِيَارِ مَنْزِلَةَ حَال الْعَقْدِ.
وَإِنْ حُطَّ الثَّمَنُ كُلُّهُ فَهِبَةٌ.
وَلاَ يُلْحَقُ بِالْعَقْدِ مَا زِيدَ أَوْ حُطَّ بَعْدَ لُزُومِهِ فَلاَ يَجِبُ أَنْ يُخْبِرَ بِهِ (2) .
وَفِي الرَّدِّ بِالْعَيْبِ جَاءَ فِي شَرْحِ مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ: يَأْخُذُ مُشْتَرٍ رَدَّ الْمَبِيعَ مَا دَفَعَهُ مِنْ
__________
(1) نهاية المحتاج 4 / 44.
(2) شرح منتهى الإرادات 2 / 183 - 184، والمغني 4 / 200 - 207 ط الرياض.(9/32)
ثَمَنٍ، أَوْ بَدَل مَا أَبْرَأَهُ الْبَائِعُ مِنْهُ، أَوْ بَدَل مَا وَهَبَ لَهُ الْبَائِعُ مِنْ ثَمَنِهِ، كُلًّا كَانَ أَوْ بَعْضًا، لاِسْتِحْقَاقِ الْمُشْتَرِي بِالْفَسْخِ اسْتِرْجَاعَ جَمِيعِ الثَّمَنِ (1) .
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ فِي الشُّفْعَةِ: يَسْتَحِقُّ الشَّفِيعُ الشِّقْصَ بِالثَّمَنِ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْعَقْدُ، فَلَوْ تَبَايَعَا بِقَدْرٍ، ثُمَّ غَيَّرَاهُ فِي زَمَنِ الْخِيَارِ بِزِيَادَةٍ أَوْ نَقْصٍ، ثَبَتَ ذَلِكَ التَّغْيِيرُ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ؛ لأَِنَّ حَقَّ الشَّفِيعِ إِنَّمَا يَثْبُتُ إِذَا تَمَّ الْعَقْدُ، وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ بِالثَّمَنِ الَّذِي هُوَ ثَابِتٌ حَال اسْتِحْقَاقِهِ، وَلأَِنَّ زَمَنَ الْخِيَارِ بِمَنْزِلَةِ حَالَةِ الْعَقْدِ، وَالتَّغْيِيرُ يُلْحَقُ بِالْعَقْدِ فِيهِ، لأَِنَّهُمَا عَلَى اخْتِيَارِهِمَا فِيهِ كَمَا لَوْ كَانَ التَّغْيِيرُ فِي حَال الْعَقْدِ. فَأَمَّا إِذَا انْقَضَى الْخِيَارُ وَانْبَرَمَ الْعَقْدُ، فَزَادَا أَوْ نَقَصَا لَمْ يُلْحَقْ بِالْعَقْدِ؛ لأَِنَّ الزِّيَادَةَ بَعْدَهُ هِبَةٌ (2) .
رَابِعًا: مَوَانِعُ الْتِحَاقِ الزِّيَادَةِ أَوِ الْحَطِّ فِي حَقِّ الْغَيْرِ
57 - يَمْتَنِعُ الْتِحَاقُ الزِّيَادَةِ بِالثَّمَنِ، أَوِ الْتِحَاقِ الْحَطِّ بِهِ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا - إِذَا تَرَتَّبَ عَلَى الْتِحَاقِ الزِّيَادَةِ أَوِ الْحَطِّ بِالثَّمَنِ انْتِقَاصٌ مِنْ حَقِّ الْغَيْرِ ثَابِتٌ بِالْعَقْدِ، فَيُقْتَصَرُ حُكْمُ الاِلْتِحَاقِ عَلَى الْمُتَعَاقِدَيْنِ دُونَ الْغَيْرِ سَدًّا لِذَرِيعَةِ الإِْضْرَارِ بِهِ.
وَمِنْ آثَارِ هَذَا الْمَانِعِ: أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إِذَا زَادَ فِي الثَّمَنِ، وَكَانَ الْمَبِيعُ عَقَارًا، فَإِنَّ الشَّفِيعَ يَأْخُذُهُ
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 2 / 176.
(2) المغني 5 / 349 ط الرياض.(9/33)
بِالثَّمَنِ الأَْصْلِيِّ دُونَ الزِّيَادَةِ، سَدًّا لِبَابِ التَّوَاطُؤِ لِتَضْيِيعِ حَقِّ الشُّفْعَةِ.
أَمَّا الْحَطُّ مِنَ الثَّمَنِ فَيُلْتَحَقُ لِعَدَمِ إِضْرَارِهِ بِالشَّفِيعِ، وَكَذَلِكَ الزِّيَادَةُ فِي الْمَبِيعِ.
الثَّانِي: إِذَا تَرَتَّبَ عَلَى الاِلْتِحَاقِ بُطْلاَنُ الْبَيْعِ، كَمَا لَوْ شَمِل الْحَطُّ جَمِيعَ الثَّمَنِ، لأَِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الإِْبْرَاءِ الْمُنْفَصِل عَنِ الْعَقْدِ، وَبِذَلِكَ يَخْلُو عَقْدُ الْبَيْعِ مِنَ الثَّمَنِ، فَيَبْطُل.
وَمِنْ آثَارِ هَذَا الْمَانِعِ: أَنَّهُ لَوْ حَطَّ الْبَائِعُ كُل الثَّمَنِ فِي الْعَقَارِ، فَإِنَّ الشَّفِيعَ يَأْخُذُهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ الأَْصْلِيِّ؛ لأَِنَّ الْحَطَّ إِذَا اعْتُبِرَ إِبْرَاءً مُنْفَصِلاً تَرَتَّبَ عَلَيْهِ خُلُوُّ الْبَيْعِ عَنِ الثَّمَنِ، ثُمَّ بُطْلاَنُهُ، وَبِذَلِكَ يَبْطُل حَقُّ الشَّفِيعِ، وَلِذَا يَبْقَى الْمَبِيعُ مُقَابَلاً بِجَمِيعِ الثَّمَنِ فِي حَقِّهِ، وَلَكِنْ يَسْقُطُ الثَّمَنُ عَنِ الْمُشْتَرِي بِالْحَطِّ، ضَرُورَةَ صِحَّةِ الإِْبْرَاءِ فِي ذَاتِهِ، وَهَذَا إِنْ حَطَّ الثَّمَنَ بَعْدَ الْقَبْضِ، أَمَّا إِنْ حَطَّ قَبْلَهُ فَيَأْخُذُهُ الشَّفِيعُ بِالْقِيمَةِ (1) .
خَامِسًا: مَئُونَةُ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ أَوِ الثَّمَنِ
58 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ أُجْرَةَ الْكَيَّال لِلْمَبِيعِ، أَوِ الْوَزَّانِ أَوِ الذَّرَاعِ أَوِ الْعَدَّادِ تَكُونُ عَلَى الْبَائِعِ وَكَذَلِكَ مَئُونَةُ إِحْضَارِهِ إِلَى مَحَل الْعَقْدِ إِذَا كَانَ غَائِبًا. إِذْ لاَ تَحْصُل التَّوْفِيَةُ إِلاَّ بِذَلِكَ.
__________
(1) شرح المجلة 2 / 190 (المادة 254 فما بعدها) وابن عابدين 4 / 167 - 168، والمغني 5 / 315، وشرح الروض 2 / 366.(9/33)
وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ أُجْرَةَ كَيْل الثَّمَنِ أَوْ وَزْنِهِ أَوْ عَدِّهِ، وَكَذَلِكَ مَئُونَةُ إِحْضَارِ الثَّمَنِ الْغَائِبِ تَكُونُ عَلَى الْمُشْتَرِي، إِلاَّ فِي الإِْقَالَةِ وَالتَّوْلِيَةِ وَالشَّرِكَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.
وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي أُجْرَةِ نَقَّادِ الثَّمَنِ (1)
فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ رِوَايَتَانِ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ.
فَفِي رِوَايَةِ رُسْتُمَ عَنْهُ: تَكُونُ عَلَى الْبَائِعِ؛ لأَِنَّ النَّقْدَ يَكُونُ بَعْدَ التَّسْلِيمِ، وَلأَِنَّ الْبَائِعَ هُوَ الْمُحْتَاجُ إِلَيْهِ، لِيُمَيِّزَ مَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّهُ مِنْ غَيْرِهِ، أَوْ لِيَعْرِفَ الْمَعِيبَ لِيَرُدَّهُ. وَبِهَذَا قَال الشَّافِعِيَّةُ.
وَفِي الرِّوَايَةِ الأُْخْرَى عَنْ مُحَمَّدٍ، وَهِيَ رِوَايَةُ ابْنِ سَمَاعَةَ عَنْهُ: أَنَّهَا تَكُونُ عَلَى الْمُشْتَرِي، لأَِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى تَسْلِيمِ الْجَيِّدِ الْمُقَدَّرِ، وَالْجُودَةُ تُعْرَفُ بِالنَّقْدِ، كَمَا يُعْرَفُ الْقَدْرُ بِالْوَزْنِ، فَيَكُونُ عَلَيْهِ.
وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ أُجْرَةَ النَّقَّادِ عَلَى الْبَاذِل، سَوَاءٌ أَكَانَ الْبَائِعَ أَمِ الْمُشْتَرِيَ.
قَال الشِّرْبِينِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: وَأُجْرَةُ نَقَّادِ الثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ، ثُمَّ قَال: وَقِيَاسُهُ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَبِيعِ عَلَى الْمُشْتَرِي، لأَِنَّ الْقَصْدَ مِنْهُ إِظْهَارُ عَيْبٍ إِنْ كَانَ لِيَرُدَّ بِهِ (2) .
__________
(1) وهو الذي يرجع إليه في معرفة صحيح النقد من زائفه.
(2) الهداية 3 / 27، والشرح الصغير 2 / 70 - 71 ط الحلبي، وجواهر الإكليل 2 / 50، ومغني المحتاج 2 / 73، وشرح منتهى الإرادات 2 / 191 - 192، والمغني 4 / 126.(9/34)
سَادِسًا: هَلاَكُ الْمَبِيعِ أَوِ الثَّمَنِ الْمُعَيَّنِ كُلِّيًّا أَوْ جُزْئِيًّا قَبْل التَّسْلِيمِ:
59 - مِنْ آثَارِ وُجُوبِ الْبَيْعِ: أَنَّ الْبَائِعَ يَلْزَمُهُ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ إِلَى الْمُشْتَرِي، وَلاَ يَسْقُطُ عَنْهُ هَذَا الْحَقُّ إِلاَّ بِالأَْدَاءِ، وَيَظَل الْبَائِعُ مَسْئُولاً فِي حَالَةِ هَلاَكِ الْمَبِيعِ، وَتَكُونُ تَبِعَةُ الْهَلاَكِ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ كَانَ الْهَلاَكُ بِفِعْل فَاعِلٍ أَوْ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ.
وَهَذَا يَنْطَبِقُ عَلَى الثَّمَنِ إِذَا كَانَ مُعَيَّنًا، وَهُوَ مَا لَمْ يَكُنْ مُلْتَزَمًا فِي الذِّمَّةِ، لأَِنَّ عَيْنَهُ فِي هَذِهِ الْحَال مَقْصُودَةٌ فِي الْعَقْدِ كَالْمَبِيعِ.
أَمَّا الثَّمَنُ الَّذِي فِي الذِّمَّةِ، فَإِنَّهُ يُمْكِنُ الْبَائِعَ أَخْذُ بَدَلِهِ (1) .
وَالْهَلاَكُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ كُلِّيًّا أَوْ جُزْئِيًّا:
فَإِذَا هَلَكَ الْمَبِيعُ كُلُّهُ قَبْل التَّسْلِيمِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، فَإِنَّهُ يَهْلِكُ عَلَى ضَمَانِ الْبَائِعِ، لِحَدِيثِ: نَهَى عَنْ رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ (2) .
وَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْبَيْعَ يَنْفَسِخُ وَيَسْقُطُ الثَّمَنُ، وَذَلِكَ لاِسْتِحَالَةِ تَنْفِيذِ الْعَقْدِ (3) . وَهَذَا
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 2 / 189 و 205، وجواهر الإكليل - 1 / 306، ومنح الجليل 2 / 100.
(2) حديث: " نهى عن ربح ما لم يضمن " أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي وأحمد في مسنده. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح وصححه الشيخ أحمد شاكر (سنن الترمذي 3 / 535 ط الحلبي، وجامع الأصول 1 / 457 ومسند أحمد 10 / 160 ط دار المعارف) .
(3) شرح المجلة (المادة 293) ، وشرح منتهى الإرادات 2 / 189، ومغني المحتاج 2 / 65، والقليوبي 2 / 210 - 211.(9/34)
عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِنْ تَلِفَ بِفِعْل الْبَائِعِ. وَلِلشَّافِعِيَّةِ قَوْلاَنِ: الْمَذْهَبُ أَنَّهُ: يَنْفَسِخُ كَالتَّلَفِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، وَالْقَوْل الآْخَرُ: يَتَخَيَّرُ الْمُشْتَرِي بَيْنَ الْفَسْخِ وَاسْتِرْدَادِ الثَّمَنِ، وَبَيْنَ إِمْضَاءِ الْبَيْعِ وَأَخْذِ قِيمَةِ الْمَبِيعِ.
وَفَائِدَةُ انْفِسَاخِ الْبَيْعِ هُنَا أَنَّهُ يَسْقُطُ الثَّمَنُ عَنِ الْمُشْتَرِي إِنْ لَمْ يَكُنْ دَفَعَهُ، وَلَهُ اسْتِرْدَادُهُ إِنْ كَانَ قَدْ دَفَعَهُ، وَلَوْ لَمْ يَنْفَسِخْ لاَلْتَزَمَ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ، وَالْتَزَمَ الْبَائِعُ بِقِيمَةِ الْمَبِيعِ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ.
وَاعْتَبَرَ الْحَنَابِلَةُ الْهَلاَكَ بِفِعْل الْبَائِعِ كَالْهَلاَكِ بِفِعْل الأَْجْنَبِيِّ، وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ.
وَإِذَا هَلَكَ الْمَبِيعُ بِفِعْل الْمُشْتَرِي، فَإِنَّ الْبَيْعَ يَسْتَقِرُّ، وَيَلْتَزِمُ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ، وَيُعْتَبَرُ إِتْلاَفُ الْمُشْتَرِي لِلْمَبِيعِ بِمَنْزِلَةِ قَبْضٍ لَهُ، وَهَذَا بِالاِتِّفَاقِ (1) .
وَإِذَا كَانَ الْهَلاَكُ بِفِعْل أَجْنَبِيٍّ (وَمِثْلُهُ هَلاَكُهُ بِفِعْل الْبَائِعِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ) فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ مُخَيَّرٌ، فَإِمَّا أَنْ يَفْسَخَ الْبَيْعَ لِتَعَذُّرِ التَّسْلِيمِ، وَيَسْقُطَ عَنْهُ الثَّمَنُ حِينَئِذٍ، (وَلِلْبَائِعِ الرُّجُوعُ عَلَى مِنْ أَتْلَفَ الْمَبِيعَ) وَإِمَّا أَنْ يَتَمَسَّكَ بِالْبَيْعِ، وَيَرْجِعَ عَلَى الأَْجْنَبِيِّ، وَعَلَيْهِ أَدَاءُ الثَّمَنِ لِلْبَائِعِ، وَرُجُوعُهُ عَلَى الأَْجْنَبِيِّ بِالْمِثْل إِنْ كَانَ الْهَالِكُ مِثْلِيًّا، وَبِالْقِيمَةِ إِنْ كَانَ قِيَمِيًّا، وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. وَمُقَابِل الأَْظْهَرِ: انْفِسَاخُ الْبَيْعِ كَالتَّلَفِ بِآفَةٍ.
وَإِذَا هَلَكَ بَعْضُ الْمَبِيعِ، فَيَخْتَلِفُ الْحُكْمُ أَيْضًا تَبَعًا لِمَنْ صَدَرَ مِنْهُ الإِْتْلاَفُ.
__________
(1) جواهر الإكليل 2 / 53، ومغني المحتاج 2 / 65 - 66، وشرح منتهى الإرادات 2 / 188.(9/35)
فَإِنْ هَلَكَ بَعْضُ الْمَبِيعِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، وَتَرَتَّبَ عَلَى الْهَلاَكِ نُقْصَانُ الْمِقْدَارِ، فَإِنَّهُ يَسْقُطُ مِنَ الثَّمَنِ بِحَسَبِ الْقَدْرِ التَّالِفِ، وَيُخَيَّرُ الْمُشْتَرِي بَيْنَ أَخْذِ الْبَاقِي بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ، أَوْ فَسْخِ الْبَيْعِ لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ (يُنْظَرُ خِيَارُ تَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ) هَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
ثُمَّ قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ كَانَ مَا نَشَأَ عَنِ الْهَلاَكِ الْجُزْئِيِّ لَيْسَ نَقْصًا فِي الْمِقْدَارِ، بَل فِي الْوَصْفِ - وَهُوَ مَا يَدْخُل فِي الْمَبِيعِ تَبَعًا بِلاَ ذِكْرٍ - لَمْ يَسْقُطْ مِنَ الثَّمَنِ شَيْءٌ، بَل لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ بَيْنَ فَسْخِ الْبَيْعِ أَوْ إِمْضَائِهِ؛ لأَِنَّ الأَْوْصَافَ لاَ يُقَابِلُهَا شَيْءٌ مِنَ الثَّمَنِ إِلاَّ بِالْعُدْوَانِ، أَوْ بِتَفْصِيل الثَّمَنِ، وَتَخْصِيصُ جُزْءٍ لِلْوَصْفِ أَوِ التَّابِعِ (1) .
- وَإِذَا هَلَكَ الْبَعْضُ بِفِعْل الْبَائِعِ سَقَطَ مَا يُقَابِلُهُ مِنَ الثَّمَنِ مُطْلَقًا، مَعَ تَخْيِيرِ الْمُشْتَرِي بَيْنَ الأَْخْذِ وَالْفَسْخِ، لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ.
وَإِذَا هَلَكَ الْبَعْضُ بِفِعْل أَجْنَبِيٍّ، كَانَ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ بَيْنَ الْفَسْخِ وَبَيْنَ التَّمَسُّكِ بِالْعَقْدِ وَالرُّجُوعُ عَلَى الأَْجْنَبِيِّ بِضَمَانِ الْجُزْءِ التَّالِفِ (2) .
أَمَّا إِنْ هَلَكَ بِفِعْل الْمُشْتَرِي نَفْسِهِ، فَإِنَّهُ عَلَى ضَمَانِهِ، وَيُعْتَبَرُ ذَلِكَ قَبْضًا (3) .
__________
(1) شرح المجلة المادة (234) ، وحاشية ابن عابدين 4 / 36، ومغني المحتاج 2 / 67، وشرح منتهى الإرادات 2 / 188.
(2) شرح المجلة المادة (293) ، وحاشية ابن عابدين 4 / 46.
(3) المراجع السابقة جواهر الإكليل 2 / 53.(9/35)
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدِ اعْتَبَرُوا هَلاَكَ الْمَبِيعِ بِفِعْل الْبَائِعِ أَوْ بِفِعْل الأَْجْنَبِيِّ يُوجِبُ عِوَضَ الْمُتْلَفِ عَلَى الْبَائِعِ أَوِ الأَْجْنَبِيِّ، وَلاَ خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي، سَوَاءٌ أَكَانَ الْهَلاَكُ كُلِّيًّا أَمْ جُزْئِيًّا.
أَمَّا هَلاَكُهُ أَوْ تَعَيُّبُهُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ فَهُوَ مِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي، كُلَّمَا كَانَ الْبَيْعُ صَحِيحًا لاَزِمًا؛ لأَِنَّ الضَّمَانَ يَنْتَقِل بِالْعَقْدِ وَلَوْ لَمْ يَقْبِضِ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ (1) . وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ سِتَّ صُوَرٍ هِيَ:
أ - مَا لَوْ كَانَ فِي الْمَبِيعِ حَقُّ تَوْفِيَةٍ لِمُشْتَرِيهِ، وَهُوَ الْمِثْلِيُّ مِنْ مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ أَوْ مَعْدُودٍ حَتَّى يُفْرَغَ فِي أَوَانِي الْمُشْتَرِي، فَإِذَا هَلَكَ بِيَدِ الْبَائِعِ عِنْدَ تَفْرِيغِهِ فَهُوَ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ.
ب - السِّلْعَةُ الْمَحْبُوسَةُ عِنْدَ بَائِعِهَا لأَِجْل قَبْضِ الثَّمَنِ.
ج - الْمَبِيعُ الْغَائِبُ عَلَى الصِّفَةِ أَوْ عَلَى رُؤْيَةٍ مُتَقَدِّمَةٍ، فَلاَ يَدْخُل ذَلِكَ كُلُّهُ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي إِلاَّ بِالْقَبْضِ.
د - الْمَبِيعُ بَيْعًا فَاسِدًا.
هـ - الثِّمَارُ الْمَبِيعَةُ بَعْدَ بُدُوِّ صَلاَحِهَا، فَلاَ تَدْخُل فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي إِلاَّ بَعْدَ أَمْنِ الْجَائِحَةِ.
و الرَّقِيقُ حَتَّى تَنْتَهِيَ عُهْدَةُ الثَّلاَثَةِ الأَْيَّامِ عَقِبَ الْبَيْعِ (2) .
__________
(1) الشرح الصغير 2 / 70 ط الحلبي، والفواكه الدواني 2 / 130.
(2) الشرح الصغير 2 / 71، والفواكه الدواني 2 / 130.(9/36)
لَكِنَّهُمْ فَصَّلُوا فِي الْهَلاَكِ الْجُزْئِيِّ، فِيمَا إِذَا كَانَ الْبَاقِي أَقَل مِنَ النِّصْفِ، أَوْ كَانَ الْمَبِيعُ مُتَّحِدًا، فَحِينَئِذٍ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ. أَمَّا إِذَا كَانَ الْفَائِتُ هُوَ النِّصْفَ فَأَكْثَرَ، وَتَعَدَّدَ الْمَبِيعُ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الْبَاقِي بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ (1) .
الآْثَارُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَى الْبَيْعِ
أَوَّلاً: انْتِقَال الْمِلْكِ.
60 - يَمْلِكُ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ، وَيَمْلِكُ الْبَائِعُ الثَّمَنَ، وَيَكُونُ مِلْكُ الْمُشْتَرِي لِلْمَبِيعِ بِمُجَرَّدِ عَقْدِ الْبَيْعِ الصَّحِيحِ، وَلاَ يَتَوَقَّفُ عَلَى التَّقَابُضِ، وَإِنْ كَانَ لِلتَّقَابُضِ أَثَرُهُ فِي الضَّمَانِ. أَمَّا فِي عَقْدِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَلاَ يَمْلِكُ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ إِلاَّ بِالْقَبْضِ (2) وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (الْبَيْعُ الْفَاسِدُ) .
وَيَتَرَتَّبُ عَلَى انْتِقَال الْمِلْكِ فِي الْبَدَلَيْنِ مَا يَلِي:
أ - أَنْ يَثْبُتَ لِلْمُشْتَرِي مِلْكُ مَا يَحْصُل فِي الْمَبِيعِ مِنْ زِيَادَةٍ مُتَوَلِّدَةٍ مِنْهُ، وَلَوْ لَمْ يَقْبِضِ الْمَبِيعَ. وَلاَ يَمْنَعُ مِنَ انْتِقَال مِلْكِيَّةِ الْمَبِيعِ إِلَى الْمُشْتَرِي كَوْنُ الثَّمَنِ مُؤَجَّلاً.
ب - أَنْ تَنْفُذَ تَصَرُّفَاتُ الْمُشْتَرِي فِي الْمَبِيعِ، وَتَصَرُّفَاتُ الْبَائِعِ فِي الثَّمَنِ، كَمَا لَوْ أَحَال شَخْصًا بِهِ عَلَى الْمُشْتَرِي. هَذَا بَعْدَ الْقَبْضِ، أَمَّا تَصَرُّفُ الْمُشْتَرِي قَبْل الْقَبْضِ فَإِنَّهُ فَاسِدٌ أَوْ بَاطِلٌ (3) عَلَى
__________
(1) الشرح الصغير 2 / 72، وحاشية الصاوي عليه. وقد نازع الصاوي في إثبات التخيير.
(2) شرح المجلة المادة (369) .
(3) شرح المجلة المادة (371) .(9/36)
خِلاَفٍ وَتَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (بَيْعُ مَا لَمْ يُقْبَضْ) .
ج - إِذَا قَبَضَ الْبَائِعُ الثَّمَنَ، وَلَمْ يَقْبِضِ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ، حَتَّى لَوْ مَاتَ الْبَائِعُ مُفْلِسًا، فَإِنَّ لِلْمُشْتَرِي حَقَّ التَّقَدُّمِ فِي الْمَبِيعِ عَلَى سَائِرِ الْغُرَمَاءِ. وَيَكُونُ الْمَبِيعُ فِي هَذِهِ الْحَال أَمَانَةً فِي يَدِ الْبَائِعِ، وَلاَ يَدْخُل فِي التَّرِكَةِ (1) .
د - لاَ يَجُوزُ اشْتِرَاطُ بَقَاءِ الْبَائِعِ مُحْتَفِظًا بِمِلْكِيَّةِ الْمَبِيعِ إِلَى حِينِ أَدَاءِ الثَّمَنِ الْمُؤَجَّل، أَوْ إِلَى أَجَلٍ آخَرَ مُعَيَّنٍ.
هَذَا، وَلاَ يَمْنَعُ مِنَ انْتِقَال الْمِلْكِ فِي الْمَبِيعِ أَوِ الثَّمَنِ كَوْنُهُمَا دُيُونًا ثَابِتَةً فِي الذِّمَّةِ إِذَا لَمْ يَكُونَا مِنَ الأَْعْيَانِ؛ لأَِنَّ الدُّيُونَ تُمْلَكُ فِي الذِّمَمِ وَلَوْ لَمْ تَتَعَيَّنْ، فَإِنَّ التَّعْيِينَ أَمْرٌ زَائِدٌ عَنْ أَصْل الْمِلْكِ، فَقَدْ يَحْصُل مُقَارِنًا لَهُ، وَقَدْ يَتَأَخَّرُ عَنْهُ إِلَى أَنْ يَتِمَّ التَّسْلِيمُ (2) كَمَا لَوِ اشْتَرَى مِقْدَارًا مَعْلُومًا مِنْ كَمِّيَّةٍ مُعِينَةٍ مِنَ الأُْرْزِ، فَإِنَّ حِصَّتَهُ مِنْ تِلْكَ الْكَمِّيَّةِ لاَ تَتَعَيَّنُ إِلاَّ بَعْدَ التَّسْلِيمِ، وَكَذَلِكَ الثَّمَنُ إِذَا كَانَ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ.
ثَانِيًا: أَدَاءُ الثَّمَنِ الْحَال:
61 - الأَْصْل فِي الثَّمَنِ الْحُلُول، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي الْجُمْلَةِ، قَال ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: الثَّمَنُ أَبَدًا حَالٌّ، إِلاَّ أَنْ يَذْكُرَ الْمُتَبَايِعَانِ لَهُ أَجَلاً فَيَكُونُ إِلَى أَجَلِهِ (3) .
__________
(1) شرح المجلة المادة (297) .
(2) شرح المجلة المادة (201) .
(3) الكافي لابن عبد البر 2 / 726، والبهجة شرح التحفة 2 / 88.(9/37)
وَنَقَل الأَْتَاسِيُّ فِي شَرْحِ الْمَجَلَّةِ عَنِ السِّرَاجِ فِي تَعْلِيل ذَلِكَ قَوْلَهُ: لأَِنَّ الْحُلُول مُقْتَضَى الْعَقْدِ وَمُوجِبُهُ.
وَفِي مَجَلَّةِ الأَْحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ: الْبَيْعُ الْمُطْلَقُ يَنْعَقِدُ مُعَجَّلاً. ثُمَّ اسْتَثْنَتِ الْمَجَلَّةُ مَا لَوْ جَرَى الْعُرْفُ فِي مَحَلٍّ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ الْمُطْلَقُ مُؤَجَّلاً أَوْ مُقَسَّطًا (1) . كَمَا صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ لاَ يَجُوزُ النَّقْدُ فِي بَيْعِ الْخِيَارِ، لاَ فِي زَمَنِ الْخِيَارِ، وَلاَ فِي زَمَنِ عُهْدَةِ الثَّلاَثِ فِي بَيْعِ الرَّقِيقِ، وَيَفْسُدُ الْبَيْعُ بِاشْتِرَاطِ التَّعْجِيل، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُشْتَرَطَ نَقْدُ الثَّمَنِ فِي بَيْعِ الْغَائِبِ عَلَى اللُّزُومِ، وَيَجُوزُ تَطَوُّعًا (2) .
وَقَدْ تَبَيَّنَ مِمَّا سَبَقَ أَنَّ الثَّمَنَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُعَجَّلاً، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُؤَجَّلاً. وَالثَّمَنُ الْمُؤَجَّل إِمَّا أَنْ يَكُونَ إِلَى مَوْعِدٍ مُعَيَّنٍ لِجَمِيعِ الثَّمَنِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُنَجَّمًا (مُقَسَّطًا) عَلَى مَوَاعِيدَ مَعْلُومَةٍ (3) .
وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى: فَإِنَّ الثَّمَنَ إِمَّا عَيْنٌ مُعَيَّنَةٌ، وَإِمَّا دَيْنٌ مُلْتَزَمٌ فِي الذِّمَّةِ.
فَفِي الثَّمَنِ: إِذَا كَانَ دَيْنًا يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ فِي أَدَائِهِ بِحَسَبِ كَوْنِهِ مُعَجَّلاً أَوْ مُؤَجَّلاً أَوْ مُنَجَّمًا، فَإِذَا كَانَ مُؤَجَّلاً أَوْ مُنَجَّمًا يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ الأَْجَل مَعْلُومًا لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي بَحْثِ (أَجَل) .
__________
(1) المادة (250) من المجلة وشرحها للأتاسي 2 / 170.
(2) جواهر الإكليل 2 / 10.
(3) شرح المجلة المادة (245) .(9/37)
وَلَوْ دَفَعَ الْمُشْتَرِي بَعْضَ الثَّمَنِ لَمْ يَحِقَّ لَهُ تَسَلُّمُ الْمَبِيعِ، وَلاَ تَسَلُّمُ مَا يُعَادِل الْجُزْءَ الْمَدْفُوعَ مِنَ الثَّمَنِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَبِيعُ شَيْئًا وَاحِدًا أَوْ أَشْيَاءَ مُتَعَدِّدَةً، وَسَوَاءٌ فَصَّل. الثَّمَنَ عَلَى تِلْكَ الأَْشْيَاءِ، أَمْ وَقَعَ عَلَيْهَا جُمْلَةً، مَا دَامَ الْبَيْعُ قَدْ تَمَّ بِصَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ (1) .
هَذَا مَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ شَرْطٌ عَلَى خِلاَفِ ذَلِكَ.
الْبَدْءُ بِتَسْلِيمِ أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ:
62 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ يُسَلِّمُ أَوَّلاً: الْبَائِعُ أَمِ الْمُشْتَرِي حَسَبَ نَوْعَيِ الْبَدَلَيْنِ، وَيَنْقَسِمُ ذَلِكَ إِلَى أَحْوَالٍ:
الْحَالَةُ الأُْولَى: أَنْ يَكُونَا مُعَيَّنَيْنِ (الْمُقَايَضَةُ) أَوْ ثَمَنَيْنِ (الصَّرْفُ) :
63 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ يُسَلِّمَانِ مَعًا تَسْوِيَةً بِدَيْنِهِمَا فِي الْعَيْنِيَّةِ وَالدَّيْنِيَّةِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُمَا يَتْرُكَانِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، فَإِنْ كَانَ بِحَضْرَةِ حَاكِمٍ وَكُل مَنْ يَتَوَلَّى ذَلِكَ لَهُمَا.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْظْهَرِ: يُجْبَرَانِ عَلَى التَّسْلِيمِ لاِسْتِوَاءِ الْجَانِبَيْنِ، لأَِنَّ الثَّمَنَ الْمُعَيَّنَ كَالْمَبِيعِ فِي تَعَلُّقِ الْحَقِّ بِالْعَيْنِ.
__________
(1) شرح المجلة المادة (278) .(9/38)
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: يَنْصِبُ الْحَاكِمُ عَدْلاً بَيْنَهُمَا، يَقْبِضُ مِنْهُمَا، ثُمَّ يُسَلِّمُهُ إِلَيْهِمَا قَطْعًا لِلنِّزَاعِ، لاِسْتِوَائِهِمَا فِي تَعَلُّقِ حَقِّهِمَا بِعَيْنِ الثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ، فَيُسَلِّمُ الْعَدْل الْمَبِيعَ أَوَّلاً، لِجَرَيَانِ الْعَادَةِ بِذَلِكَ.
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُعَيَّنًا وَالآْخَرُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ:
64 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ: إِلَى أَنَّهُ يُطَالَبُ الْمُشْتَرِي بِالتَّسْلِيمِ أَوَّلاً، قَال الصَّاوِيُّ: لأَِنَّ الْمَبِيعَ فِي يَدِ بَائِعِهِ كَالرَّهْنِ عَلَى الثَّمَنِ. وَتَوْجِيهُ ذَلِكَ أَنَّ حَقَّ الْمُشْتَرِي تَعَيَّنَ فِي الْمَبِيعِ، فَيَدْفَعُ الثَّمَنَ لِيَتَعَيَّنَ حَقُّ الْبَائِعِ بِالْقَبْضِ، تَحْقِيقًا لِلْمُسَاوَاةِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ، وَالْحَنَابِلَةُ: إِلَى أَنَّهُ يُجْبَرُ الْبَائِعُ عَلَى التَّسْلِيمِ أَوَّلاً؛ لأَِنَّ قَبْضَ الْمَبِيعِ مِنْ تَتِمَّاتِ الْبَيْعِ، وَاسْتِحْقَاقُ الثَّمَنِ مُرَتَّبٌ عَلَى تَمَامِ الْبَيْعِ، وَلِجَرَيَانِ الْعَادَةِ بِذَلِكَ (1) .
أَمَّا مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى إِخْلاَل الْمُشْتَرِي بِأَدَاءِ الثَّمَنِ الْحَال، وَكَذَلِكَ الثَّمَنُ الْمُؤَجَّل إِذَا حَل أَجَلُهُ، فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ: إِذَا كَانَ الْمُشْتَرِي مُوسِرًا، فَإِنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى أَدَاءِ الثَّمَنِ الْحَال، كَمَا ذَهَبَ الْجُمْهُورُ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى أَنَّ لِلْبَائِعِ حَقَّ الْفَسْخِ إِذَا كَانَ الْمُشْتَرِي مُفْلِسًا، أَوْ
__________
(1) الصاوي على الدردير 2 / 71 - 72، وشرح المجلة للأتاسي 2 / 191، وحاشية ابن عابدين - 4 / 49 والدرر شرح الغرر 2 / 152، وفتح القدير 5 / 496، ومغني المحتاج 2 / 74، والمغني 4 / 219 - 220.(9/38)
كَانَ الثَّمَنُ غَائِبًا عَنِ الْبَلَدِ مَسَافَةَ الْقَصْرِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْبَائِعِ حَقُّ الْفَسْخِ، لأَِنَّهُ يُمْكِنُهُ التَّقَاضِي لِلْحُصُول عَلَى حَقِّهِ، وَهُوَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ دَائِنٌ، كَغَيْرِهِ مِنَ الدَّائِنِينَ. وَهَذَا عِنْدَهُمْ مَا لَمْ يَشْتَرِطْ لِنَفْسِهِ خِيَارَ النَّقْدِ، بِأَنْ يَقُول مَثَلاً: إِنْ لَمْ تَدْفَعِ الثَّمَنَ فِي مَوْعِدِ كَذَا فَلاَ بَيْعَ بَيْنَنَا. وَاخْتُلِفَ فِي مُقْتَضَى هَذَا الشَّرْطِ، هَل هُوَ انْفِسَاخُ الْبَيْعِ، أَوِ اسْتِحْقَاقُهُ الْفَسْخَ بِاعْتِبَارِهِ فَاسِدًا؟ وَالْمُرَجَّحُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّهُ يَفْسُدُ وَلاَ يَنْفَسِخُ (1) ، وَتَفْصِيلُهُ فِي (خِيَارُ النَّقْدِ)
وَلِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ تَفْصِيلٌ - فِي حَال إِخْلاَل الْمُشْتَرِي بِأَدَاءِ الثَّمَنِ الْحَال، لاَ لِلْفَلْسِ، بَل لِغِيَابِ مَالِهِ غَيْبَةً قَرِيبَةً فِي بَلَدِهِ، أَوْ فِي أَقَل مِنْ مَسَافَةِ الْقَصْرِ - خُلاَصَتُهُ: الْحَجْرُ عَلَى الْمُشْتَرِي فِي الْمَبِيعِ وَسَائِرِ أَمْوَالِهِ حَتَّى يُسَلِّمَ الثَّمَنَ، خَوْفًا مِنْ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي مَالِهِ تَصَرُّفًا يَضُرُّ بِالْبَائِعِ. أَمَّا إِنْ كَانَ الْمَال غَائِبًا مَسَافَةَ الْقَصْرِ فَأَكْثَرَ، فَإِنَّهُ لاَ يُكَلَّفُ الْبَائِعُ الصَّبْرَ إِلَى إِحْضَارِهِ، بَل يُحْجَرُ عَلَى الْمَبِيعِ وَمَال الْمُشْتَرِي كَمَا سَبَقَ. وَيَمْلِكُ الْبَائِعُ الْفَسْخَ فِي الأَْصَحِّ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ وَجْهٌ لِلْحَنَابِلَةِ، وَهَذَا فَضْلاً عَنْ حَقِّهِ فِي حَبْسِ مَبِيعِهِ حَتَّى يَقْبِضَ ثَمَنَهُ. وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَجْهٌ بِأَنَّهُ: لاَ خِيَارَ لِلْبَائِعِ فِي الْفَسْخِ فِيمَا دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ،
__________
(1) المغني 4 / 219 - 220، ومغني المحتاج 2 / 75، والشرح الصغير للدردير 2 / 71، وشرح المجلة 2 / 191، وحاشية ابن عابدين 4 / 24.(9/39)
لأَِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْحَاضِرِ. وَالْقَوْل الآْخَرُ لِلشَّافِعِيَّةِ لَيْسَ لَهُ الْفَسْخُ، بَل يُبَاعُ الْمَبِيعُ، وَيُؤَدَّى حَقُّهُ مِنَ الثَّمَنِ كَسَائِرِ الدُّيُونِ (1) .
اشْتِرَاطُ التَّرَادِّ بِالتَّخَلُّفِ عَنِ الأَْدَاءِ:
65 - مِمَّا يَتَّصِل بِمَا سَبَقَ عَنِ الْحَنَفِيَّةِ - مِنْ إِثْبَاتِ حَقِّ الْفَسْخِ إِذَا اشْتَرَطَهُ لِعَدَمِ الأَْدَاءِ فِي الْمَوْعِدِ الْمُحَدَّدِ، وَهُوَ مَا يُسَمَّى (خِيَارَ النَّقْدِ) - تَصْرِيحُ الْمَالِكِيَّةِ بِمِثْلِهِ فِيمَا إِذَا قَال الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي: بِعْتُكَ لِوَقْتِ كَذَا، أَوْ عَلَى أَنْ تَأْتِيَنِي بِالثَّمَنِ فِي وَقْتِ كَذَا، فَإِنْ لَمْ تَأْتِ بِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَلاَ بَيْعَ بَيْنَنَا، فَقَدْ جَاءَ فِي الْمُدَوَّنَةِ تَصْحِيحُ الْبَيْعِ وَبُطْلاَنُ الشَّرْطِ.
وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ قَوْلاَنِ آخَرَانِ: صِحَّةُ الْبَيْعِ وَالشَّرْطِ. وَفَسْخُ الْبَيْعِ (2) . وَتَفْصِيلُهُ فِي (خِيَارُ النَّقْدِ) .
هَذَا وَإِذَا كَانَ الثَّمَنُ مُؤَجَّلاً، فَإِنَّ عَلَى الْبَائِعِ تَسْلِيمَ الْمَبِيعِ، وَلاَ يُطَالِبُ الْمُشْتَرِيَ بِتَسْلِيمِ الثَّمَنِ إِلاَّ عِنْدَ حُلُول الأَْجَل (3) . وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ الثَّمَنُ مُنَجَّمًا. وَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ فِي الثَّمَنِ الْمُؤَجَّل لَيْسَ لِلْبَائِعِ حَبْسُ الْمَبِيعِ بِهِ، وَإِنْ حَل قَبْل التَّسْلِيمِ لِرِضَاهُ بِتَأْخِيرِهِ (4) .
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) الشرح الصغير 2 / 84، والدسوقي 3 / 175، وفتح العلي المالك 1 / 353.
(3) شرح المجلة المادة (283) .
(4) مغني المحتاج 2 / 75.(9/39)
أَمَّا إِذَا كَانَ بَعْضُ الثَّمَنِ مُعَجَّلاً وَبَعْضُهُ مُؤَجَّلاً، فَإِنَّ لِلْبَعْضِ الْمُعَجَّل حُكْمَ تَعْجِيل الثَّمَنِ كُلِّهِ، فَلاَ يُطَالِبُ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ بِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ، إِلاَّ بَعْدَ تَسْلِيمِ الْجُزْءِ الْمُعَجَّل مِنَ الثَّمَنِ.
وَلاَ بُدَّ فِي جَمِيعِ الأَْحْوَال مِنْ أَنْ يَكُونَ الأَْجَل مَعْلُومًا، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ جَازَ الْبَيْعُ مَهْمَا طَال وَلَوْ إِلَى عِشْرِينَ سَنَةً. وَتَفْصِيلُهُ فِي (أَجَل) .
وَقَدْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِبَيْعِ أَهْل السُّوقِ عَلَى التَّقَاضِي، وَقَدْ عَرَفُوا قَدْرَ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ. وَالتَّقَاضِي: تَأْخِيرُ الْمُطَالَبَةِ بِالدَّيْنِ إِلَى مَدًى مُتَعَارَفٍ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ.
وَمِنْ حَقِّ الْمُشْتَرِي إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ مَعِيبًا، أَوْ ظَهَرَ أَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ أَدَاءِ الثَّمَنِ، إِلَى أَنْ يَسْتَخْدِمَ حَقَّهُ فِي الْعَيْبِ فَسْخًا أَوْ طَلَبًا لِلأَْرْشِ أَوْ إِلَى أَنْ يَتَبَيَّنَ أَمْرُ الاِسْتِحْقَاقِ.
وَيَجُوزُ تَأْخِيرُ الدَّيْنِ الْحَال، أَوِ الْمُؤَجَّل بِأَجَلٍ قَرِيبٍ إِلَى أَجَلٍ بَعِيدٍ، وَأَخْذُ مُسَاوِي الثَّمَنِ أَوْ أَقَل مِنْهُ مِنْ جِنْسِهِ لأَِنَّهُ تَسْلِيفٌ أَوْ تَسْلِيفٌ مَعَ إِسْقَاطِ الْبَعْضِ وَهُوَ مِنَ الْمَعْرُوفِ، وَلَكِنْ لاَ يَجُوزُ. تَأْخِيرُ رَأْسِ مَال السَّلَمِ (1) .
وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ تَأْخِيرَ رَأْسِ الْمَال فِي حُدُودِ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ وَلَوْ بِشَرْطٍ (2) .
__________
(1) البهجة شرح التحفة 2 / 10، والفواكه الدواني 2 / 120.
(2) جواهر الإكليل 2 / 24 و 57 و 66، والشرح الصغير 2 / 33.(9/40)
ثَالِثًا: تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ
66 - قَال ابْنُ رُشْدٍ الْحَفِيدُ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ بَيْعُ الأَْعْيَانِ إِلَى أَجَلٍ، وَمِنْ شَرْطِهَا تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ إِلَى الْمُبْتَاعِ بِإِثْرِ عَقْدِ الصَّفْقَةِ (1) .
وَقَال التَّسَوُّلِيُّ فِي الْبَهْجَةِ شَرْحِ التُّحْفَةِ: يَجِبُ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ الْمُعَيَّنِ؛ لأَِنَّ وُجُوبَ التَّسْلِيمِ حَقٌّ لِلَّهِ، وَالْعَقْدُ يَفْسُدُ بِالتَّأْخِيرِ (2) .
وَأُجْرَةُ الْكَيْل وَالْوَزْنِ أَوِ الْعَدِّ عَلَى الْبَائِعِ، إِذْ لاَ تَحْصُل التَّوْفِيَةُ إِلاَّ بِهِ. قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لأَِنَّ عَلَى الْبَائِعِ تَقْبِيضَ الْمَبِيعِ لِلْمُشْتَرِي، وَالْقَبْضُ لاَ يَحْصُل إِلاَّ بِذَلِكَ.
أَمَّا أُجْرَةُ عَدِّ الثَّمَنِ وَكَيْلِهِ وَوَزْنِهِ فَعَلَى الْمُشْتَرِي، وَأُجْرَةُ نَقْل الْمَبِيعِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ فِي تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ الْمَنْقُول عَلَى الْمُشْتَرِي (3)
وَتَسْلِيمُ الْمَبِيعِ أَهَمُّ الأُْثَّارِ الَّتِي يَلْتَزِمُ بِهَا الْبَائِعُ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ، وَهُوَ يَثْبُتُ عِنْدَ تَسْلِيمِ الثَّمَنِ الْحَال (أَمَّا فِي الثَّمَنِ الْمُؤَجَّل فَلاَ يَتَوَقَّفُ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ عَلَى أَدَائِهِ) وَلاَ يَتَحَقَّقُ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ إِلاَّ إِذَا سُلِّمَ لِلْمُشْتَرِي خَالِيًا مِنْ أَيِّ شَاغِلٍ، أَيْ كَانَتِ الْعَيْنُ قَابِلَةً لِكَمَال الاِنْتِفَاعِ بِهَا. فَإِذَا كَانَ مَشْغُولاً
__________
(1) بداية المجتهد 2 / 170.
(2) البهجة شرح التحفة 2 / 12، ومغني المحتاج 2 / 74.
(3) الشرح الصغير 2 / 71 ط الحلبي، ومغني المحتاج 2 / 73، والمغني 4 / 126 ط الرياض.(9/40)
لَمْ يَصِحَّ التَّسْلِيمُ، وَأُجْبِرَ الْبَائِعُ عَلَى تَفْرِيغِ الْمَبِيعِ (1) .
وَمِنْ صُوَرِ شَغْل الْمَبِيعِ: أَنْ يَكُونَ مَحَلًّا لِعَقْدِ إِجَارَةٍ أَبْرَمَهُ الْبَائِعُ، فَإِنْ رَضِيَ الْمُشْتَرِي بِالاِنْتِظَارِ إِلَى نِهَايَةِ مُدَّةِ الإِْجَارَةِ لَمْ تَكُنْ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِالتَّسْلِيمِ، وَلَكِنْ يَحِقُّ لَهُ حَبْسُ الثَّمَنِ إِلَى أَنْ تَنْتَهِيَ الإِْجَارَةُ، وَيُصْبِحَ الْمَبِيعُ قَابِلاً لِلتَّسْلِيمِ (2) .
وَكَمَا يَجِبُ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ يَجِبُ تَسْلِيمُ تَوَابِعِهِ (3) .
يَخْتَلِفُ حُكْمُ الْقَبْضِ بَيْنَ الْمِثْلِيِّ مِنْ مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ أَوْ مَعْدُودٍ، وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِنْ عَقَارٍ أَوْ حَيَوَانٍ وَنَحْوِهِ.
فَفِي قَبْضِ الْعَقَارِ تَكْفِي التَّخْلِيَةُ اتِّفَاقًا بِشَرْطِ فَرَاغِهِ مِنْ أَمْتِعَةِ الْبَائِعِ، فَلَوْ جُمِعَتْ أَمْتِعَةُ الْبَائِعِ فِي غَرْفَةٍ صَحَّ قَبْضُ مَا عَدَاهَا، وَتَوَقَّفَ قَبْضُهَا عَلَى تَفْرِيغِهَا (4) .
لَكِنْ لَوْ أَذِنَ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي بِقَبْضِ الدَّارِ وَالْمَتَاعِ صَحَّ التَّسْلِيمُ؛ لأَِنَّ الْمَتَاعَ صَارَ وَدِيعَةً عِنْدَ الْمُشْتَرِي (5) .
__________
(1) المجلة (المواد 262، 269، 276، وحاشية ابن عابدين 4 / 562.
(2) جامع الفصولين الفصل الثاني والثلاثين.
(3) المجلة المادة (48) .
(4) حاشية ابن عابدين 4 / 88 و 512، والقليوبي 2 / 216.
(5) الفتاوى الهندية 3 / 17.(9/41)
وَمِنْ عِبَارَاتِ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ الْعَقَارَ إِنْ كَانَ أَرْضًا فَقَبْضُهُ بِالتَّخْلِيَةِ، وَإِنْ كَانَ دَارًا لِلسُّكْنَى فَقَبْضُهَا بِالإِْخْلاَءِ (1) .
فَإِنْ لَمْ يَحْضُرِ الْعَاقِدَانِ الْعَقَارَ الْمَبِيعَ. فَقَدْ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ (وَنُقِل مِثْلُهُ عَنْ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ فِي الْعَقَارِ الْبَعِيدِ عَنِ الْعَاقِدَيْنِ) إِلَى أَنَّهُ يُعْتَبَرُ مُرُورُ زَمَنٍ يُمْكِنُ فِيهِ الْمُضِيُّ إِلَى الْعَقَارِ، لأَِنَّهُ إِذَا لَمْ يُعْتَبَرْ حُضُورُ الْعَاقِدَيْنِ إِلَى الْعَقَارِ لِلْمَشَقَّةِ، فَلاَ مَشَقَّةَ فِي اعْتِبَارِ مُضِيِّ الزَّمَانِ (2) ، وَيَبْدُو أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي ذَلِكَ الأَْمْنُ مِنْ تَدَاخُل الضَّمَانَيْنِ.
أَمَّا الْمَنْقُول، فَقَدْ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى: أَنَّ قَبْضَ الْمَكِيل وَالْمَوْزُونِ وَالْمَعْدُودِ بِاسْتِيفَاءِ الْكَيْل أَوِ الْوَزْنِ أَوِ الْعَدِّ. وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ بُدَّ مَعَ ذَلِكَ مِنَ النَّقْل. وَهَذَا مَا لَمْ يُبَعْ جُزَافًا، فَيَحْصُل قَبْضُهُ بِالنَّقْل، عَلَى خِلاَفٍ وَتَفْصِيلٍ (3) . ر: (بَيْعُ الْجُزَافِ) .
وَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْحَيَوَانِ وَالْعُرُوضِ، فَإِنَّ قَبْضَهَا بِحَسَبِ الْعُرْفِ، كَتَسْلِيمِ الثَّوْبِ وَزِمَامِ الدَّابَّةِ وَسَوْقِهَا أَوْ عَزْلِهَا عَنْ دَوَابِّ الْبَائِعِ أَوِ انْصِرَافِ الْبَائِعِ عَنْهَا.
__________
(1) الشرح الصغير 2 / 71 ط الحلبي.
(2) مغني المحتاج 2 / 72، وحاشية ابن عابدين 4 / 563.
(3) مغني المحتاج 2 / 73، والمغني 4 / 125 ط الرياض.(9/41)
وَلَمْ يُفَرِّقِ الْحَنَفِيَّةُ - وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ - بَيْنَ الْمَكِيلاَتِ وَالْمَوْزُونَاتِ وَالْمَعْدُودَاتِ وَبَيْنَ غَيْرِهَا. فَالتَّخْلِيَةُ قَبْضٌ فِي الْجَمِيعِ، حَتَّى لَوْ كَانَتِ التَّخْلِيَةُ فِي بَيْتِ الْبَائِعِ فَإِنَّهَا صَحِيحَةٌ. فَإِنْ هَلَكَ الْمَبِيعُ بَعْدَئِذٍ هَلَكَ مِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي، لأَِنَّهُ كَالْوَدِيعَةِ عِنْدَهُ (1) .
وَيَنُوبُ الْقَبْضُ السَّابِقُ لِلْمَبِيعِ عَنْ تَجْدِيدِ قَبْضِهِ، إِذَا كَانَ قَدْ قُبِضَ عَلَى سَبِيل الضَّمَانِ، بِأَنْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَدْ غَصَبَهُ مِنَ الْبَائِعِ قَبْل أَنْ يَشْتَرِيَهُ مِنْهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ الْقَبْضَ يُغْنِي، لأَِنَّهُ قَبْضٌ قَوِيٌّ بِمَنْزِلَةِ قَبْضِ الْمُشْتَرِي مَا اشْتَرَاهُ، إِذْ تَبِعَةُ هَلاَكِهِ فِي الْحَالَيْنِ عَلَى الْقَابِضِ.
أَمَّا إِذَا كَانَ الْقَبْضُ السَّابِقُ مِنْ قَبِيل قَبْضِ الأَْمَانَةِ، كَقَبْضِ الْمُسْتَعِيرِ وَالْوَدِيعِ - وَهُوَ مَا لاَ ضَمَانُهُ مِمَّنْ هُوَ بِيَدِهِ فِي حَال هَلاَكِهِ دُونَ تَعَدٍّ أَوْ تَقْصِيرٍ - فَيُعْتَبَرُ ذَلِكَ الْقَبْضُ ضَعِيفًا لاَ يَنُوبُ عَنْ قَبْضِ الضَّمَانِ (2) .
انْتِهَاءُ الْبَيْعِ:
67 - بِالإِْضَافَةِ إِلَى مَا سَبَقَ الْكَلاَمُ عَنْهُ مِنَ انْفِسَاخِ الْبَيْعِ بِسَبَبِ بَعْضِ حَالاَتِ الْهَلاَكِ
__________
(1) الفتاوى الهندية 3 / 16، والفروع 4 / 142، والمغني 4 / 124 - 125.
(2) حاشية ابن عابدين 4 / 512، وشرح المجلة للأتاسي (المادة 846) .(9/42)
الْكُلِّيِّ، فَإِنَّ الْبَيْعَ يَنْتَهِي بِتَمَامِ آثَارِهِ مِنْ تَسْلِيمٍ وَتَسَلُّمٍ.
وَيَنْتَهِي الْبَيْعُ أَيْضًا بِالإِْقَالَةِ (1) . وَتَفْصِيل الْكَلاَمِ عَنْهَا فِي مُصْطَلَحِ (إِقَالَة) .
__________
(1) بداية المجتهد 2 / 153.(9/42)
بَيْعُ الاِسْتِجْرَارِ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْبَيْعُ: مُبَادَلَةُ الْمَال بِالْمَال تَمْلِيكًا وَتَمَلُّكًا (1) .
وَالاِسْتِجْرَارُ لُغَةً: الْجَذْبُ وَالسَّحْبُ، وَأَجْرَرْتُهُ الدَّيْنَ: أَخَّرْتُهُ لَهُ (2) . وَبَيْعُ الاِسْتِجْرَارِ: أَخْذُ الْحَوَائِجِ مِنَ الْبَيَّاعِ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَدَفْعُ ثَمَنِهَا بَعْدَ ذَلِكَ (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْبَيْعُ بِالتَّعَاطِي:
2 - الْمُعَاطَاةُ وَالتَّعَاطِي: الْمُنَاوَلَةُ وَالْمُبَادَلَةُ. وَالْبَيْعُ بِالتَّعَاطِي: أَنْ يَتَقَابَضَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي مِنْ غَيْرِ صِيغَةٍ، أَيْ إِنَّ الْبَائِعَ يُعْطِي الْمَبِيعَ وَلاَ يَتَلَفَّظُ بِشَيْءٍ، وَالْمُشْتَرِيَ يُعْطِي الثَّمَنَ كَذَلِكَ (4) .
__________
(1) المغني 3 / 560، ومجلة الأحكام العدلية م (105) .
(2) لسان العرب والمصباح المنير.
(3) ابن عابدين 4 / 12، والمدونة 4 / 292، وأسنى المطالب 2 / 3، والمحرر 1 / 298.
(4) البناية شرح الهداية 6 / 197.(9/43)
وَالْفَرْقُ بَيْنَ بَيْعِ الاِسْتِجْرَارِ وَالتَّعَاطِي هُوَ: أَنَّ بَيْعَ الاِسْتِجْرَارِ أَعَمُّ، لأَِنَّهُ قَدْ يَكُونُ بِإِيجَابٍ وَقَبُولٍ، وَقَدْ يَكُونُ بِالتَّعَاطِي، كَمَا أَنَّ الْغَالِبَ فِي الاِسْتِجْرَارِ تَأْجِيل الثَّمَنِ، وَعَدَمُ تَحْدِيدِهِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِبَيْعِ الاِسْتِجْرَارِ:
تَتَعَدَّدُ صُوَرُ بَيْعِ الاِسْتِجْرَارِ، وَلِذَلِكَ تَخْتَلِفُ أَحْكَامُهُ مِنْ صُورَةٍ لأُِخْرَى، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ:
صُوَرُ بَيْعِ الاِسْتِجْرَارِ الَّتِي وَرَدَتْ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هِيَ:
3 - الصُّورَةُ الأُْولَى: أَنْ يَأْخُذَ الإِْنْسَانُ مِنَ الْبَيَّاعِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ شَيْئًا فَشَيْئًا مِمَّا يُسْتَهْلَكُ عَادَةً، كَالْخُبْزِ وَالْمِلْحِ وَالزَّيْتِ وَالْعَدَسِ وَنَحْوِهَا، مَعَ جَهَالَةِ الثَّمَنِ وَقْتَ الأَْخْذِ، ثُمَّ يَشْتَرِيهَا بَعْدَ اسْتِهْلاَكِهَا.
فَالأَْصْل عَدَمُ انْعِقَادِ هَذَا الْبَيْعِ؛ لأَِنَّ الْمَبِيعَ مَعْدُومٌ وَقْتَ الشِّرَاءِ، وَمِنْ شَرَائِطِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا، لَكِنَّهُمْ تَسَامَحُوا فِي هَذَا الْبَيْعِ وَأَخْرَجُوهُ عَنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ (اشْتِرَاطُ وُجُودِ الْمَبِيعِ) وَأَجَازُوا بَيْعَ الْمَعْدُومِ هُنَا اسْتِحْسَانًا، وَذَلِكَ كَمَا فِي الْبَحْرِ الرَّائِقِ وَالْقُنْيَةِ.
وَقَال بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: لَيْسَ هَذَا بَيْعَ مَعْدُومٍ،(9/43)
إِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ ضَمَانِ الْمُتْلَفَاتِ بِإِذْنِ مَالِكِهَا عُرْفًا، تَسْهِيلاً لِلأَْمْرِ وَدَفْعًا لِلْحَرَجِ، كَمَا هُوَ الْعَادَةُ. وَلَمْ يَرْتَضِ الْحَمَوِيُّ وَغَيْرُهُ هَذَا الْمَعْنَى.
وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ: إِنَّ الْمَسْأَلَةَ اسْتِحْسَانٌ، وَيُمْكِنُ تَخْرِيجُهَا عَلَى قَرْضِ الأَْعْيَانِ، وَيَكُونُ ضَمَانُهَا بِالثَّمَنِ اسْتِحْسَانًا، كَحِل الاِنْتِفَاعِ فِي الأَْشْيَاءِ الْقِيَمِيَّةِ؛ لأَِنَّ قَرْضَهَا فَاسِدٌ لاَ يَحِل الاِنْتِفَاعُ بِهِ وَإِنْ مُلِّكَتْ بِالْقَبْضِ.
4 - الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ نَفْسُ الصُّورَةِ الأُْولَى، لَكِنْ تَخْتَلِفُ عَنْهَا بِالنِّسْبَةِ لِمَعْرِفَةِ الثَّمَنِ، أَيْ إِنَّ الإِْنْسَانَ يَأْخُذُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ شَيْئًا فَشَيْئًا مَعَ الْعِلْمِ بِالثَّمَنِ وَقْتَ الأَْخْذِ، ثُمَّ يُحَاسِبُهُ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَهَذَا الْبَيْعُ جَائِزٌ وَلاَ خِلاَفَ فِي انْعِقَادِهِ، لأَِنَّهُ كُلَّمَا أَخَذَ شَيْئًا انْعَقَدَ بَيْعًا بِثَمَنِهِ الْمَعْلُومِ، وَيَكُونُ بَيْعًا بِالتَّعَاطِي، وَالْبَيْعُ بِالتَّعَاطِي يَنْعَقِدُ، سَوَاءٌ أَدَفَعَ الثَّمَنَ وَقْتَ الأَْخْذِ أَمْ تَأَجَّل.
وَمِثْلُهَا فِي الْحُكْمِ: أَنْ يَدْفَعَ الإِْنْسَانُ إِلَى الْبَيَّاعِ الدَّرَاهِمَ دُونَ أَنْ يَقُول لَهُ: اشْتَرَيْتُ، وَجَعَل يَأْخُذُ كُل يَوْمٍ خَمْسَةَ أَرْطَالٍ مَعَ الْعِلْمِ بِثَمَنِهَا.
هَذَا الْبَيْعُ جَائِزٌ، وَمَا أَكَلَهُ حَلاَلٌ، لأَِنَّهُ وَإِنْ كَانَتْ نِيَّتُهُ الشِّرَاءَ وَقْتَ الدَّفْعِ إِلاَّ أَنَّهُ لاَ يَنْعَقِدُ بَيْعًا بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ، وَإِنَّمَا انْعَقَدَ بَيْعًا الآْنَ بِالتَّعَاطِي، وَالآْنَ الْمَبِيعُ مَعْلُومٌ فَيَنْعَقِدُ الْبَيْعُ صَحِيحًا.(9/44)
5 - الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَدْفَعَ الإِْنْسَانُ إِلَى الْبَيَّاعِ دَرَاهِمَ، وَيَقُول لَهُ: اشْتَرَيْتُ مِنْكَ مِائَةَ رِطْلٍ مِنْ خُبْزٍ مَثَلاً، وَجَعَل يَأْخُذُ كُل يَوْمٍ خَمْسَةَ أَرْطَالٍ.
هَذَا الْبَيْعُ فَاسِدٌ، وَمَا أَكَل فَهُوَ مَكْرُوهٌ، وَذَلِكَ لِجَهَالَةِ الْمَبِيعِ، لأَِنَّهُ اشْتَرَى خُبْزًا غَيْرَ مُشَارٍ إِلَيْهِ فَكَانَ الْمَبِيعُ مَجْهُولاً، وَمِنْ شَرَائِطِ صِحَّةِ الْبَيْعِ: أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ مَعْلُومًا.
6 - الصُّورَةُ الرَّابِعَةُ: وَهِيَ أَنْ يَدْفَعَ الإِْنْسَانُ الدَّرَاهِمَ لِلْبَيَّاعِ دُونَ أَنْ يَقُول لَهُ: اشْتَرَيْتُ، وَجَعَل يَأْخُذُ كُل يَوْمٍ خَمْسَةَ أَرْطَالٍ وَلاَ يَعْلَمُ ثَمَنَهَا. فَهَذَا لاَ يَنْعَقِدُ بَيْعًا بِالتَّعَاطِي لِجَهَالَةِ الثَّمَنِ، فَإِذَا تَصَرَّفَ الآْخِذُ فِي الْمَبِيعِ، وَقَدْ دَفَعَهُ الْبَيَّاعُ بِرِضَاهُ بِالدَّفْعِ وَبِالتَّصَرُّفِ فِيهِ عَلَى وَجْهِ التَّعْوِيضِ عَنْهُ، لَمْ يَنْعَقِدْ بَيْعًا، وَإِنْ كَانَ عَلَى نِيَّةِ الْبَيْعِ، لأَِنَّ الْبَيْعَ لاَ يَنْعَقِدُ بِالنِّيَّةِ، فَيَكُونُ شَبِيهَ الْقَرْضِ الْمَضْمُونِ بِمِثْلِهِ أَوْ بِقِيمَتِهِ، فَإِذَا تَوَافَقَا عَلَى شَيْءٍ بَدَل الْمِثْل أَوِ الْقِيمَةِ بَرِئَتْ ذِمَّةُ الآْخِذِ (1) .
مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ:
الصُّوَرُ الَّتِي وَرَدَتْ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ هِيَ:
7 - أَنْ يَضَعَ الإِْنْسَانُ عِنْدَ الْبَيَّاعِ دَرَاهِمَ، ثُمَّ يَأْخُذَ بِجُزْءٍ مَعْلُومٍ مِنَ الدَّرَاهِمِ سِلْعَةً مَعْلُومَةً
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 4 / 12، 13، والبحر الرائق 5 / 279، وأشباه ابن نجيم ص 364.(9/44)
وَهَكَذَا. فَهَذَا الْبَيْعُ صَحِيحٌ؛ لأَِنَّ السِّلْعَةَ مَعْلُومَةٌ وَالثَّمَنَ مَعْلُومٌ.
8 - أَنْ يَضَعَ عِنْدَ الْبَيَّاعِ دِرْهَمًا، وَيَقُول لَهُ: آخُذُ بِهِ مِنْكُ كَذَا وَكَذَا مِنَ التَّمْرِ مَثَلاً، أَوْ كَذَا وَكَذَا مِنَ اللَّبَنِ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ. يُقَدِّرُ مَعَهُ فِيهِ سِلْعَةً مَا، وَيُقَدِّرُ ثَمَنَهَا قَدْرًا مَا، وَيَتْرُكُ السِّلْعَةَ يَأْخُذُهَا مَتَى شَاءَ، أَوْ يُؤَقِّتُ لَهَا وَقْتًا يَأْخُذُهَا فِيهِ، فَهَذَا الْبَيْعُ جَائِزٌ أَيْضًا.
9 - أَنْ يَتْرُكَ عِنْدَ الْبَيَّاعِ دِرْهَمًا فِي سِلْعَةٍ مُعَيَّنَةٍ أَوْ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ، عَلَى أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا فِي كُل يَوْمٍ بِسِعْرِهِ، وَعَقَدَا عَلَى ذَلِكَ الْبَيْعَ، فَهَذَا الْبَيْعُ غَيْرُ جَائِزٍ؛ لأَِنَّ مَا عَقَدَا عَلَيْهِ مِنَ الثَّمَنِ مَجْهُولٌ، وَذَلِكَ مِنَ الْغَرَرِ الَّذِي يَمْنَعُ صِحَّةَ الْبَيْعِ.
10 - أَنْ يَأْخُذَ الإِْنْسَانُ مِنَ الْبَيَّاعِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ بِسِعْرٍ مَعْلُومٍ، فَيَأْخُذَ كُل يَوْمٍ وَزْنًا مَعْلُومًا بِسِعْرٍ مَعْلُومٍ، وَالثَّمَنُ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ، أَوْ إِلَى الْعَطَاءِ إِذَا كَانَ الْعَطَاءُ مَعْلُومًا مَأْمُونًا، فَهَذَا الْبَيْعُ جَائِزٌ (1) .
مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ:
لِبَيْعِ الاِسْتِجْرَارِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ صُورَتَانِ:
11 - إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَأْخُذَ الإِْنْسَانُ مِنَ الْبَيَّاعِ مَا يَحْتَاجُهُ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَلاَ يُعْطِيهِ شَيْئًا، وَلاَ يَتَلَفَّظَانِ بِبَيْعٍ، بَل نَوَيَا أَخْذَهُ بِثَمَنِهِ الْمُعْتَادِ،
__________
(1) المنتقى شرح الموطأ للباجي 5 / 15 ط السعادة، والمدونة 4 / 292.(9/45)
وَيُحَاسِبُهُ بَعْدَ مُدَّةٍ وَيُعْطِيهِ، كَمَا يَفْعَل كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ.
قَال النَّوَوِيُّ: هَذَا الْبَيْعُ بَاطِلٌ بِلاَ خِلاَفٍ (أَيْ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ) لأَِنَّهُ لَيْسَ بِبَيْعٍ لَفْظِيٍّ وَلاَ مُعَاطَاةً.
قَال الأَْذْرَعِيُّ: وَهَذَا مَا أَفْتَى بِهِ الْبَغَوِيُّ، وَذَكَرَ ابْنُ الصَّلاَحِ نَحْوَهُ فِي فَتَاوِيهِ. وَتَسَامَحَ الْغَزَالِيُّ فَأَبَاحَ هَذَا الْبَيْعَ، لأَِنَّ الْعُرْفَ جَارٍ بِهِ، وَهُوَ عُمْدَتُهُ فِي إِبَاحَتِهِ.
وَقَال الأَْذْرَعِيُّ: قَوْل النَّوَوِيِّ - إِنَّ هَذَا لاَ يُعَدُّ مُعَاطَاةً وَلاَ بَيْعًا - فِيهِ نَظَرٌ، بَل يَعُدُّهُ النَّاسُ بَيْعًا، وَالْغَالِبُ أَنْ يَكُونَ قَدْرُ ثَمَنِ الْحَاجَةِ مَعْلُومًا لَهُمَا عِنْدَ الأَْخْذِ وَالْعَطَاءِ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَرَّضَا لَهُ لَفْظًا.
12 - الثَّانِيَةُ: أَنْ يَقُول الإِْنْسَانُ لِلْبَيَّاعِ: أَعْطِنِي بِكَذَا لَحْمًا أَوْ خُبْزًا مَثَلاً، فَيَدْفَعَ إِلَيْهِ مَطْلُوبَهُ فَيَقْبِضَهُ وَيَرْضَى بِهِ، ثُمَّ بَعْدَ مُدَّةٍ يُحَاسِبَهُ وَيُؤَدِّي مَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ، فَهَذَا الْبَيْعُ مَجْزُومٌ بِصِحَّتِهِ عِنْدَ مَنْ يُجَوِّزُ الْمُعَاطَاةَ (1) .
مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ:
13 - مَسَائِل بَيْعِ الاِسْتِجْرَارِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْبَيْعِ بِغَيْرِ ذِكْرِ الثَّمَنِ، وَقَدْ ذَكَرَ الْمِرْدَاوِيُّ فِي الإِْنْصَافِ هَذِهِ الْمَسَائِل فَقَال:
__________
(1) المجموع 9 / 150، 151، ومغني المحتاج 2 / 4، وأسنى المطالب 2 / 3، وحاشية الشرواني على تحفة المحتاج 4 / 216، 217.(9/45)
الْبَيْعُ بِمَا يَنْقَطِعُ بِهِ السِّعْرُ لاَ يَصِحُّ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ وَعَلَيْهِ الأَْصْحَابُ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ: يَصِحُّ، وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ تَيْمِيَّةَ، وَقَال: هُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ.
وَمِنْ شُرُوطِ الْبَيْعِ كَوْنُ الثَّمَنِ مَعْلُومًا حَال الْعَقْدِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَعَلَيْهِ الأَْصْحَابُ، وَاخْتَارَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ صِحَّةَ الْبَيْعِ وَإِنْ لَمْ يُسَمَّ الثَّمَنُ، وَلَهُ ثَمَنُ الْمِثْل، نَظِيرُهُ: صِحَّةُ النِّكَاحِ بِدُونِ تَسْمِيَةِ مَهْرٍ، وَلَهَا مَهْرُ الْمِثْل (1) .
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي فَوَائِدِهِ عَلَى مُشْكِل الْمُحَرَّرِ (2) اخْتِلاَفَ الرِّوَايَاتِ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ فِي مَسَائِل الْبَيْعِ بِغَيْرِ ذِكْرِ الثَّمَنِ، وَأَوْرَدَ صُورَتَيْنِ اخْتَلَفَ فِيهِمَا رَأْيُ الإِْمَامِ أَحْمَدَ، فَلَمْ يُجِزِ الْبَيْعَ فِي إِحْدَاهُمَا، وَأَجَازَهُ فِي الأُْخْرَى.
14 - قَال الْخَلاَّل فِي الْبَيْعِ بِغَيْرِ ثَمَنٍ مُسَمًّى، عَنْ حَرْبٍ: سَأَلْتُ الإِْمَامَ أَحْمَدَ قُلْتُ: الرَّجُل يَقُول لِرَجُلٍ: ابْعَثْ لِي جَرِيبًا مِنْ بُرٍّ، وَاحْسِبْهُ عَلَيَّ بِسِعْرِ مَا تَبِيعُ. قَال: لاَ يَجُوزُ هَذَا حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُ السِّعْرَ.
وَعَنْ إِسْحَاقَ بْنِ مَنْصُورٍ قُلْتُ لِلإِْمَامِ أَحْمَدَ: الرَّجُل يَأْخُذُ مِنَ الرَّجُل سِلْعَةً فَيَقُول: أَخَذْتُهَا مِنْكَ عَلَى مَا تَبِيعُ الْبَاقِيَ، قَال: لاَ يَجُوزُ، وَعَنْ
__________
(1) الإنصاف 4 / 310.
(2) النكت والفوائد السنية على مشكل المحرر 1 / 298، 299.(9/46)
حَنْبَلٍ قَال عَمِّي: أَنَا أَكْرَهُهُ، لأَِنَّهُ بَيْعُ مَجْهُولٍ، وَالسِّعْرُ يَخْتَلِفُ، يَزِيدُ وَيَنْقُصُ.
فِي هَاتَيْنِ الرِّوَايَتَيْنِ لاَ يُجِيزُ الإِْمَامُ أَحْمَدُ هَذَا الْبَيْعَ.
15 - أَمَّا رِوَايَتَا الْجَوَازِ فَهُمَا: قَال أَبُو دَاوُدَ فِي مَسَائِلِهِ: بَابٌ فِي الشِّرَاءِ وَلاَ يُسَمَّى الثَّمَنُ. سَمِعْتُ أَحْمَدَ سُئِل عَنِ الرَّجُل يَبْعَثُ إِلَى الْبَقَّال، فَيَأْخُذُ مِنْهُ الشَّيْءَ بَعْدَ الشَّيْءِ، ثُمَّ يُحَاسِبُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، قَال: أَرْجُو أَنْ لاَ يَكُونَ بِذَلِكَ بَأْسٌ، قِيل لأَِحْمَدَ: يَكُونُ الْبَيْعُ سَاعَتَئِذٍ؟ قَال: لاَ.
قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى الثَّمَنِ بَعْدَ قَبْضِ الْمَبِيعِ وَالتَّصَرُّفِ فِيهِ، وَأَنَّ الْبَيْعَ لَمْ يَكُنْ وَقْتَ الْقَبْضِ وَإِنَّمَا كَانَ وَقْتَ التَّحَاسُبِ، وَأَنَّ مَعْنَاهُ: صِحَّةُ الْبَيْعِ بِالسِّعْرِ، أَيِ السِّعْرِ الْمَعْهُودِ بَيْعُهُ بِهِ. وَعَنْ مُثَنَّى بْنِ جَامِعٍ عَنْ أَحْمَدَ فِي الرَّجُل يَبْعَثُ إِلَى مُعَامِلٍ لَهُ، لِيَبْعَثَ إِلَيْهِ بِثَوْبٍ، فَيَمُرُّ بِهِ فَيَسْأَلُهُ عَنْ ثَمَنِ الثَّوْبِ فَيُخْبِرُهُ، فَيَقُول لَهُ: اكْتُبْهُ. وَالرَّجُل يَأْخُذُ التَّمْرَ فَلاَ يَقْطَعُ ثَمَنَهُ، ثُمَّ يَمُرُّ بِصَاحِبِ التَّمْرِ فَيَقُول لَهُ: اكْتُبْ ثَمَنَهُ؟ فَأَجَازَهُ إِذَا ثَمَّنَهُ بِسِعْرِ يَوْمِ أَخْذِهِ. وَهَذَا صَرِيحٌ فِي جَوَازِ الشِّرَاءِ بِثَمَنِ الْمِثْل وَقْتَ الْقَبْضِ لاَ وَقْتَ الْمُحَاسَبَةِ، سَوَاءٌ أَذَكَرَ ذَلِكَ فِي الْعَقْدِ أَمْ أَطْلَقَ لَفْظَ الأَْخْذِ زَمَنَ الْبَيْعِ. وَرِوَايَةُ الْجَوَازِ هَذِهِ هِيَ مَا اخْتَارَهَا وَأَخَذَ بِهَا(9/46)
ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَابْنُ الْقَيِّمِ. يَقُول ابْنُ الْقَيِّمِ فِي إِعْلاَمِ الْمُوَقِّعِينَ: اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ الْبَيْعِ بِمَا يَنْقَطِعُ بِهِ السِّعْرُ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرِ الثَّمَنِ وَقْتَ الْعَقْدِ، وَصُورَتُهَا: الْبَيْعُ مِمَّنْ يُعَامِلُهُ مِنْ خَبَّازٍ أَوْ لَحَّامٍ أَوْ سَمَّانٍ أَوْ غَيْرِهِمْ، يَأْخُذُ مِنْهُ كُل يَوْمٍ شَيْئًا مَعْلُومًا، ثُمَّ يُحَاسِبُهُ عَنْ رَأْسِ الشَّهْرِ أَوِ السَّنَةِ عَلَى الْجَمِيعِ، وَيُعْطِيَهُ ثَمَنَهُ. فَمَنَعَهُ الأَْكْثَرُونَ، وَجَعَلُوا الْقَبْضَ فِيهِ غَيْرَ نَاقِلٍ لِلْمِلْكِ، وَهُوَ قَبْضٌ فَاسِدٌ يَجْرِي مَجْرَى الْمَقْبُوضِ بِالْغَصْبِ، لأَِنَّهُ مَقْبُوضٌ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ، هَذَا وَكُلُّهُمْ إِلاَّ مَنْ شَدَّدَ عَلَى نَفْسِهِ يَفْعَل ذَلِكَ، وَلاَ يَجِدُ مِنْهُ بُدًّا، وَهُوَ يُفْتِي بِبُطْلاَنِهِ، وَأَنَّهُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ، وَلاَ يُمْكِنُهُ التَّخَلُّصُ مِنْ ذَلِكَ إِلاَّ بِمُسَاوَمَتِهِ لَهُ عِنْدَ كُل حَاجَةٍ يَأْخُذُهَا قَل ثَمَنُهَا أَوْ كَثُرَ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ شَرَطَ الإِْيجَابَ وَالْقَبُول لَفْظًا، فَلاَ بُدَّ مَعَ الْمُسَاوِمَةِ أَنْ يَقْرِنَ بِهَا الإِْيجَابَ وَالْقَبُول لَفْظًا.
16 - قَال ابْنُ الْقَيِّمِ: الْقَوْل الثَّانِي وَهُوَ الصَّوَابُ الْمَقْطُوعُ بِهِ، وَهُوَ عَمَل النَّاسِ فِي كُل عَصْرٍ وَمِصْرٍ: جَوَازُ الْبَيْعِ بِمَا يَنْقَطِعُ بِهِ السِّعْرُ، وَهُوَ مَنْصُوصُ الإِْمَامِ أَحْمَدَ، وَاخْتَارَهُ شَيْخُنَا (يَعْنِي ابْنَ تَيْمِيَّةَ) وَسَمِعْتُهُ يَقُول: هُوَ أَطْيَبُ لِقَلْبِ الْمُشْتَرِي مِنَ الْمُسَاوَمَةِ، يَقُول لِي: أُسْوَةً بِالنَّاسِ، آخُذُ بِمَا يَأْخُذُ بِهِ غَيْرِي، قَال: وَالَّذِينَ يَمْنَعُونَ ذَلِكَ لاَ يُمْكِنُهُمْ تَرْكُهُ، بَل هُمْ وَاقِعُونَ فِيهِ، وَلَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَلاَ سُنَّةِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلاَ إِجْمَاعِ الأَْمَةِ وَلاَ قَوْل صَاحِبٍ وَلاَ قِيَاسٍ(9/47)
صَحِيحٍ مَا يُحَرِّمُهُ، وَقَدْ أَجْمَعَتِ الأُْمَّةُ عَلَى صِحَّةِ النِّكَاحِ بِمَهْرِ الْمِثْل، وَأَكْثَرُهُمْ يُجَوِّزُونَ عَقْدَ الإِْجَارَةِ بِأُجْرَةِ الْمِثْل، كَالْغَسَّال وَالْخَبَّازِ وَالْمَلاَّحِ وَقَيِّمِ الْحَمَّامِ وَالْمُكَارِي، فَغَايَةُ الْبَيْعِ بِالسِّعْرِ أَنْ يَكُونَ بَيْعُهُ بِثَمَنِ الْمِثْل، فَيَجُوزُ كَمَا تَجُوزُ الْمُعَاوَضَةُ بِثَمَنِ الْمِثْل فِي هَذِهِ الصُّوَرِ وَغَيْرِهَا، فَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ الصَّحِيحُ، وَلاَ تَقُومُ مَصَالِحُ النَّاسِ إِلاَّ بِهِ (1) .
بَيْعُ الاِسْتِنَامَةِ
انْظُرْ: اسْتِرْسَالٌ
__________
(1) إعلام الموقعين 4 / 5، 6.(9/47)
بَيْعُ الأَْمَانَةِ
التَّعْرِيفُ:
1 - الأَْمَانَةُ لُغَةً: الاِطْمِئْنَانُ، يُقَال: أَمِنَ أَمْنًا وَأَمَانًا وَأَمَنَةً: إِذَا اطْمَأَنَّ وَلَمْ يَخَفْ، فَهُوَ آمِنٌ وَأَمِنٌ وَأَمِينٌ. وَأُمِنَ الرَّجُل وَأَمِنَ أَيْضًا: صَارَ أَمِينًا، وَالْمَصْدَرُ: الأَْمَانَةُ. وَاسْتُعْمِل فِي الأَْعْيَانِ مَجَازًا فَقِيل: الْوَدِيعَةُ مَثَلاً أَمَانَةٌ.
وَأَمَّنَ فُلاَنًا عَلَى كَذَا: وَثِقَ بِهِ وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: يُطْلَقُ (بَيْعُ الأَْمَانَةِ) عَلَى مَا فِيهِ اطْمِئْنَانٌ مِنْ قِبَل الْبَائِعِ، لأَِنَّهُ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، فَبَيْعُ الأَْمَانَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى الثِّقَةِ وَالاِطْمِئْنَانِ فِي التَّعَامُل بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ.
أَنْوَاعُ بَيْعِ الأَْمَانَةِ:
2 - بَيْعُ الأَْمَانَةِ يُطْلَقُ عَلَى بَيْعِ الْوَفَاءِ، وَبَيْعِ التَّلْجِئَةِ، وَبَيْعِ الْمُرَابَحَةِ، وَالْوَضِيعَةِ، وَالإِْشْرَاكِ، وَبَيْعِ الْمُسْتَرْسِل أَوِ الْبَيْعِ بِسِعْرِ السُّوقِ.
__________
(1) المصباح والمعجم الوسيط مادة " أمن ".(9/48)
وَهَذِهِ الأَْمَانَةُ وَالثِّقَةُ تَارَةً تَكُونُ مَطْلُوبَةً مِنْ قِبَل الْمُشْتَرِي، وَتَارَةً تَكُونُ مَطْلُوبَةً مِنْ قِبَل الْبَائِعِ.
3 - فَإِنْ كَانَتْ مَطْلُوبَةً مِنْ جَانِبِ الْمُشْتَرِي، فَإِنَّهَا تَتَحَقَّقُ بِبَيْعِ الْوَفَاءِ؛ لأَِنَّ الْمُشْتَرِي أَمِينٌ عَلَى الْمَبِيعِ حَتَّى يَرُدَّ لَهُ الثَّمَنَ الَّذِي دَفَعَهُ، وَيَأْخُذَ الْبَائِعُ مَبِيعَهُ.
أَمَّا إِذَا كَانَتْ مَطْلُوبَةً مِنْ جَانِبِ الْبَائِعِ - وَهُوَ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ الصِّدْقُ بِثَمَنِ مَبِيعِهِ وَشِرَائِهِ لَهُ - فَإِذَا كَانَ الْبَيْعُ بِمِثْل الثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَاهُ بِهِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلاَ نُقْصَانٍ فَهُوَ بَيْعُ التَّوْلِيَةِ، وَإِنْ كَانَ بَيْعُ بَعْضِ الْمَبِيعِ بِبَعْضِ الثَّمَنِ فَهُوَ بَيْعُ إِشْرَاكٍ، وَإِنْ كَانَ بِالثَّمَنِ مَعَ زِيَادَةٍ فَبَيْعُ الْمُرَابَحَةِ، وَإِنْ كَانَ بِأَقَل مِنَ الثَّمَنِ فَهُوَ بَيْعُ الْوَضِيعَةِ أَوِ الْحَطِيطَةِ.
وَإِنْ كَانَ الْبَيْعُ بِغَضِّ النَّظَرِ عَنِ الثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَى بِهِ الْمَبِيعَ، مِنْ مُسَاوَاةٍ أَوْ زِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ، وَكَانَ بِسِعْرِ السُّوقِ، فَهُوَ بَيْعُ الْمُسْتَرْسِل أَوِ الْبَيْعُ بِسِعْرِ السُّوقِ.
4 - وَيُقَابِل بَيْعُ الأَْمَانَةِ بَيْعَ الْمُسَاوَمَةِ، وَهُوَ الْبَيْعُ بِالثَّمَنِ الَّذِي يَتَرَاضَى عَلَيْهِ الْعَاقِدَانِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَى الثَّمَنِ الأَْوَّل الَّذِي اشْتَرَى بِهِ الْبَائِعُ.
بَيْعُ الْوَفَاءِ:
5 - هُوَ الْبَيْعُ بِشَرْطِ أَنَّ الْبَائِعَ مَتَى رَدَّ الثَّمَنَ يَرُدُّ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ إِلَيْهِ؛ لأَِنَّ الْمُشْتَرِيَ يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ(9/48)
بِالشَّرْطِ. وَإِنَّمَا أُطْلِقَ عَلَيْهِ (بَيْعَ الأَْمَانَةِ) عِنْدَ مَنْ سَمَّاهُ كَذَلِكَ مِنَ الْقَائِلِينَ بِجَوَازِهِ لأَِنَّ الْمَبِيعَ بِمَنْزِلَةِ الأَْمَانَةِ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، لاَ يَحِقُّ لَهُ فِيهِ التَّصَرُّفُ النَّاقِل لِلْمِلْكِ إِلاَّ لِبَائِعِهِ، وَيُسَمِّيهِ الْمَالِكِيَّةُ " بَيْعَ الثُّنْيَا " وَالشَّافِعِيَّةُ " بَيْعَ الْعُهْدَةِ " وَالْحَنَابِلَةُ " بَيْعَ الأَْمَانَةِ ".
وَقَدْ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَالْمُتَقَدِّمُونَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ إِلَى: أَنَّ بَيْعَ الْوَفَاءِ فَاسِدٌ. وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ إِلَى جَوَازِهِ.
وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ أَيْضًا إِلَى أَنَّ بَيْعَ الْوَفَاءِ رَهْنٌ، وَيَثْبُتُ لَهُ جَمِيعُ أَحْكَامِهِ (1) . وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ (بَيْعُ الْوَفَاءِ) .
بَيْعُ الْمُرَابَحَةِ:
6 - الْمُرَابَحَةُ مَصْدَرُ رَابَحَ. تَقُول: بِعْتُهُ الْمَتَاعَ أَوِ اشْتَرَيْتُهُ مِنْهُ مُرَابَحَةً: إِذَا سَمَّيْتَ لِكُل قَدْرٍ مِنَ الثَّمَنِ رِبْحًا (2) .
وَاصْطِلاَحًا: بَيْعُ مَا مَلَكَهُ بِمَا قَامَ عَلَيْهِ وَبِفَضْلٍ. أَوْ هُوَ: بَيْعُ السِّلْعَةِ بِالثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَاهَا بِهِ وَزِيَادَةِ رِبْحٍ مَعْلُومٍ لَهُمَا.
__________
(1) ابن عابدين 4 / 246، والبحر الرائق 6 / 8، ومعين الحكام ص 184، والفتاوى الهندية 3 / 208، ومجلة الأحكام العدلية م (118) ، والحطاب 4 / 373، وبغية المسترشدين ص 133، وكشاف القناع 3 / 149 - 150.
(2) المصباح المنير.(9/49)
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ لَفْظَ الْمُرَابَحَةِ حَقِيقَةٌ عُرْفِيَّةٌ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَفِي الْمُسَاوَاةِ وَالْوَضِيعَةِ، إِلاَّ أَنَّ النَّوْعَ الْغَالِبَ فِي الْمُرَابَحَةِ الْكَثِيرَ الْوُقُوعِ هُوَ مَا تَقَدَّمَ.
وَبَيْعُ الْمُرَابَحَةِ مِنَ الْبُيُوعِ الْجَائِزَةِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ خِلاَفُ الأَْوْلَى، وَتَرْكُهُ أَحَبُّ، لِكَثْرَةِ مَا يَحْتَاجُ الْبَائِعُ فِيهِ إِلَى الْبَيَانِ (1) . فَالأَْوْلَى عِنْدَهُمُ الْبَيْعُ بِطَرِيقِ الْمُسَاوَمَةِ.
بَيْعُ التَّوْلِيَةِ:
7 - هُوَ نَقْل جَمِيعِ الْمَبِيعِ إِلَى الْمَوْلَى بِمَا قَامَ عَلَيْهِ، بِلَفْظِ: وَلَّيْتُكَ أَوْ نَحْوِهِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةِ رِبْحٍ وَلاَ نُقْصَانٍ. وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ (تَوْلِيَة) .
بَيْعُ الإِْشْرَاكِ:
8 - هُوَ كَبَيْعِ التَّوْلِيَةِ، إِلاَّ أَنَّهُ بَيْعُ بَعْضِ الْمَبِيعِ بِبَعْضِ الثَّمَنِ. وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ (إِشْرَاك، بَيْع) .
بَيْعُ الْوَضِيعَةِ:
9 - هُوَ بَيْعُ الشَّيْءِ بِنُقْصَانٍ مَعْلُومٍ مِنَ الثَّمَنِ الأَْوَّل، وَهُوَ ضِدُّ بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ. وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ (وَضِيعَة) .
__________
(1) ابن عابدين 4 / 152، 153، وتبيين الحقائق 4 / 73 - 76، والبدائع 5 / 220 - 222، والدسوقي 3 / 159، والحطاب 4 / 490، وقليوبي 2 / 221، وكشاف القناع 3 / 230، والمغني 4 / 199.(9/49)
بَيْعُ الْمُسْتَرْسِل:
10 - عَرَّفَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ: قَوْل الشَّخْصِ لِغَيْرِهِ بِعْنِي كَمَا تَبِيعُ النَّاسَ، أَوْ بِسِعْرِ السُّوقِ، أَوْ بِسِعْرِ الْيَوْمِ، أَوْ بِمَا يَقُولُهُ فُلاَنٌ، أَوْ أَهْل الْخِبْرَةِ وَنَحْوُ ذَلِكَ.
وَالْمُسْتَرْسِل - كَمَا عَرَّفَهُ الإِْمَامُ أَحْمَدُ - هُوَ الْجَاهِل بِقِيمَةِ السِّلْعَةِ وَلاَ يُحْسِنُ الْمُمَاكَسَةَ أَوْ لاَ يُمَاكِسُ.
وَبَيْعُ الْمُسْتَرْسِل بِهَذَا التَّعْرِيفِ يَنْعَقِدُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَاخْتَلَفُوا فِي ثُبُوتِ الْخِيَارِ لِلْمُسْتَرْسِل فِيهِ (1) .
حُكْمُ الْخِيَانَةِ فِي بُيُوعِ الأَْمَانَةِ:
سَبَقَ أَنَّ هَذِهِ الْبُيُوعَ إِنَّمَا سُمِّيَتْ بُيُوعَ الأَْمَانَةِ لأَِنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى الثِّقَةِ وَالاِطْمِئْنَانِ فِي التَّعَامُل بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ: الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي.
11 - فَأَمَّا فِي بَيْعِ الْوَفَاءِ - عِنْدَ مَنْ يُجَوِّزُهُ - فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُشْتَرِي رَدُّ الْمَبِيعِ إِلَى بَائِعِهِ بَعْدَ تَسَلُّمِ الثَّمَنِ، وَلاَ يَجُوزُ لَهُ إِمْسَاكُ الْمَبِيعِ؛ لأَِنَّ بَيْعَ الْوَفَاءِ لاَ يَسُوغُ لِلْمُشْتَرِي التَّصَرُّفُ النَّاقِل لِلْمِلْكِيَّةِ، وَمِنْ ثَمَّ فَلاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ لِغَيْرِ بَائِعِهِ وَلَيْسَ فِيهِ الشُّفْعَةُ، وَخَرَاجُهُ عَلَى بَائِعَةِ، وَلَوْ هَلَكَ
__________
(1) القواعد الفقهية ص 269، ومواهب الجليل 4 / 470، والدسوقي 3 / 55، والزرقاني 5 / 175، والمغني 3 / 584، وابن عابدين 4 / 159، وروضة الطالبين 3 / 419، والمجموع 12 / 118.(9/50)
الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ فَلاَ شَيْءَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الآْخَرِ؛ لأَِنَّ يَدَ الْمُشْتَرِي عَلَى الْمَبِيعِ يَدُ أَمَانَةٍ.
وَإِذَا مَاتَ الْبَائِعُ انْتَقَل الْمَبِيعُ بِالإِْرْثِ إِلَى وَرَثَتِهِ (1) . وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ (بَيْعُ الْوَفَاءِ) .
12 - وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِبُيُوعِ الأَْمَانَةِ الأُْخْرَى فَإِنَّهُ إِذَا ظَهَرَتِ الْخِيَانَةُ فِي الْمُرَابَحَةِ، فَلاَ يَخْلُو إِمَّا أَنْ تَكُونَ قَدْ ظَهَرَتْ فِي صِفَةِ الثَّمَنِ، أَوْ أَنَّهَا ظَهَرَتْ فِي قَدْرِهِ.
فَإِنْ ظَهَرَتِ الْخِيَانَةُ فِي صِفَةِ الثَّمَنِ، بِأَنِ اشْتَرَى شَيْئًا بِنَسِيئَةٍ ثُمَّ بَاعَهُ مُرَابَحَةً عَلَى الثَّمَنِ الأَْوَّل، وَلَمْ يُبَيِّنْ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِنَسِيئَةٍ، أَوْ بَاعَهُ تَوْلِيَةً وَلَمْ يُبَيِّنْ، ثُمَّ عَلِمَ الْمُشْتَرِي، فَلَهُ الْخِيَارُ بِالإِْجْمَاعِ، إِنْ شَاءَ أَخَذَهُ وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ؛ لأَِنَّ الْمُرَابَحَةَ عَقْدٌ بُنِيَ عَلَى الأَْمَانَةِ؛ لأَِنَّ الْمُشْتَرِيَ اعْتَمَدَ الْبَائِعَ وَائْتَمَنَهُ فِي الْخَبَرِ عَنِ الثَّمَنِ الأَْوَّل، فَكَانَتِ الأَْمَانَةُ مَطْلُوبَةً فِي هَذَا الْعَقْدِ، فَكَانَتْ صِيَانَتُهُ عَنِ الْخِيَانَةِ مَشْرُوطَةً دَلاَلَةً، وَفَوَاتُهَا يُوجِبُ الْخِيَارَ كَفَوَاتِ السَّلاَمَةِ عَنِ الْعَيْبِ.
وَإِنْ ظَهَرَتِ الْخِيَانَةُ فِي قَدْرِ الثَّمَنِ فِي الْمُرَابَحَةِ وَالتَّوْلِيَةِ، بِأَنْ قَال: اشْتَرَيْتُ بِعَشَرَةٍ وَبِعْتُكَ بِرِبْحِ دِينَارٍ عَلَى كُل عَشَرَةِ دَنَانِيرَ، أَوْ قَال: اشْتَرَيْتُ بِعَشَرَةٍ وَوَلَّيْتُكَ بِمَا تَوَلَّيْتَ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ
__________
(1) ابن عابدين 4 / 247، والفتاوى الهندية 3 / 209، ومعين الحكام ص 183، وبغية المسترشدين ص 133.(9/50)
كَانَ اشْتَرَاهُ بِتِسْعَةٍ، فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي حُكْمِهِ:
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ - فِي الأَْظْهَرِ - وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَقَال بِهِ أَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إِلَى أَنَّهُ لاَ خِيَارَ لَهُ، وَلَكِنْ يَحُطُّ قَدْرَ الْخِيَانَةِ فِيهِمَا جَمِيعًا، وَذَلِكَ دِرْهَمٌ فِي التَّوْلِيَةِ وَدِرْهَمٌ فِي الْمُرَابَحَةِ، وَحِصَّتُهُ مِنَ الرِّبْحِ، وَهُوَ جُزْءٌ مِنْ عَشَرَةِ أَجْزَاءٍ مِنْ دِرْهَمٍ وَيَلْزَمُ الْبَيْعُ.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ فِي الْمُرَابَحَةِ، إِنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ، وَفِي التَّوْلِيَةِ لاَ خِيَارَ لَهُ، لَكِنْ يَحُطُّ قَدْرَ الْخِيَانَةِ، وَيَلْزَمُ الْعَقْدُ بِالثَّمَنِ الْبَاقِي.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ حَطَّ الْبَائِعُ الزَّائِدَ الْمَكْذُوبَ وَرِبْحَهُ لَزِمَ الْبَيْعُ، وَإِنْ لَمْ يَحُطَّ لَمْ يَلْزَمِ الْمُشْتَرِيَ وَخُيِّرَ بَيْنَ الإِْمْسَاكِ وَالرَّدِّ.
وَفِي الْقَوْل الثَّانِي لِلشَّافِعِيَّةِ، وَبِهِ قَال مُحَمَّدٌ: لَهُ الْخِيَارُ فِي الْمُرَابَحَةِ وَالتَّوْلِيَةِ جَمِيعًا، إِنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ عَلَى الْبَائِعِ.
13 - وَأَمَّا الْمُوَاضَعَةُ، فَإِنَّهَا تُطَبَّقُ عَلَيْهَا شُرُوطُ الْمُرَابَحَةِ وَأَحْكَامُهَا، إِذْ هِيَ بَيْعٌ بِمِثْل الثَّمَنِ الأَْوَّل مَعَ نُقْصَانٍ مَعْلُومٍ مِنْهُ.
وَكَذَا الإِْشْرَاكُ حُكْمُهُ حُكْمُ التَّوْلِيَةِ، وَلَكِنَّهُ تَوْلِيَةُ بَعْضِ الْمَبِيعِ بِبَعْضِ الثَّمَنِ (1) .
14 - وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِبَيْعِ الْمُسْتَرْسِل فَمِنْ صُوَرِهِ:
__________
(1) البدائع 5 / 225 - 226، 228، وابن عابدين 4 / 163، والدسوقي 3 / 168، وقليوبي 2 / 223، وكشاف القناع 3 / 231.(9/51)
أَنْ يَقُول الرَّجُل لِلرَّجُل: بِعْنِي كَمَا تَبِيعُ النَّاسَ، فَهَذَا الْبَيْعُ صَحِيحٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَلَكِنْ إِنْ غَبَنَهُ بِمَا يَخْرُجُ عَنِ الْعَادَةِ فَلَهُ الْخِيَارُ.
15 - وَمِنْ صُوَرِهِ أَيْضًا: أَنْ يَبِيعَ شَخْصًا لاَ يُمَاكِسُ، أَوْ لاَ يُحْسِنُ الْمُمَاكَسَةَ، فَكَأَنَّ الْمُشْتَرِيَ اسْتَرْسَل إِلَى الْبَائِعِ وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ، فَأَخَذَ مَا أَعْطَاهُ مِنْ غَيْرِ مُمَاكَسَةٍ، وَلاَ مَعْرِفَةٍ بِغَبْنِهِ.
وَبَيْعُ الْمُسْتَرْسِل بِهَذَا التَّعْرِيفِ يَنْعَقِدُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي ثُبُوتِ الْخِيَارِ لِلْمُسْتَرْسِل فِيهِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ - فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ - وَالشَّافِعِيَّةُ: إِلَى أَنَّهُ لاَ يَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارِ؛ لأَِنَّ نُقْصَانَ قِيمَةِ السِّلْعَةِ مَعَ سَلاَمَتِهَا لاَ يَمْنَعُ لُزُومَ الْعَقْدِ، وَمُجَرَّدُ كَوْنِهِ مَغْبُونًا لاَ يُثْبِتُ لَهُ خِيَارًا، لَكِنَّهُ مَكْرُوهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْقَوْل الْمُفْتَى بِهِ عِنْدَهُمْ، وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِلَى ثُبُوتِ الْخِيَارِ لَهُ إِذَا كَانَ الْغَبْنُ فَاحِشًا. وَفَسَّرَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِمَا لاَ يَدْخُل تَحْتَ تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ؛ لأَِنَّ مَا لَمْ يَرِدِ الشَّرْعُ بِتَحْدِيدِهِ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى الْعُرْفِ، وَفَسَّرَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ الْغَبْنَ الْفَاحِشَ بِأَنَّهُ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْوَصِيَّةِ: الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ (1)
__________
(1) حديث: " الثلث، والثلث كثير ". أخرجه البخاري (الفتح 12 / 14 ط السلفية) .(9/51)
فَقَدْ وَصَفَ الثُّلُثَ بِأَنَّهُ كَثِيرٌ، وَقِيل: السُّدُسُ، وَقِيل: مَا لاَ يَتَغَابَنُ بِهِ النَّاسُ عَادَةً. وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: غَبْنُ الْمُسْتَرْسِل حَرَامٌ (1) وَلأَِنَّهُ غَبْنٌ حَصَل لِجَهْلِهِ بِالْمَبِيعِ، فَأَثْبَتَ الْخِيَارَ، كَالْغَبْنِ فِي تَلَقِّي الرُّكْبَانِ (2) .
__________
(1) حديث: " غبن المسترسل حرام ". أخرجه الطبراني (8 / 149 ط وزارة الأوقاف العراقية) وقال الهيثمي: فيه موسى بن عمير الأعمى، وهو ضعيف جدا. (مجمع الزوائد 4 / 76 ط القدسي) .
(2) ابن عابدين 4 / 159، ومقدمات ابن رشد 2 / 603، ومواهب الجليل 4 / 470، وروضة الطالبين 3 / 419، والمجموع 12 / 118، والمغني 3 / 584.(9/52)
الْبَيْعُ الْبَاطِل
التَّعْرِيفُ:
1 - الْبَيْعُ لُغَةً مِنَ الأَْضْدَادِ مِثْل الشِّرَاءِ، وَالأَْصْل فِي الْبَيْعِ مُبَادَلَةُ مَالٍ بِمَالٍ، وَذَلِكَ حَقِيقَةٌ فِي وَصْفِ الأَْعْيَانِ، لَكِنَّهُ أُطْلِقَ عَلَى الْعَقْدِ مَجَازًا، لأَِنَّهُ سَبَبُ التَّمْلِيكِ وَالتَّمَلُّكِ. وَالْبَاطِل مِنْ بَطَل الشَّيْءُ: فَسَدَ أَوْ سَقَطَ حُكْمُهُ فَهُوَ بَاطِلٌ (1) .
وَالْبَيْعُ اصْطِلاَحًا: مُبَادَلَةُ مَالٍ بِمَالٍ (2) .
وَالْبَيْعُ الْبَاطِل عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هُوَ: مَا لَمْ يُشْرَعْ لاَ بِأَصْلِهِ وَلاَ بِوَصْفِهِ (3) .
وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ - وَهُمْ لاَ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْفَاسِدِ وَالْبَاطِل فِي الْجُمْلَةِ - هُوَ مَا لَمْ يَتَرَتَّبْ أَثَرُهُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يُثْمِرْ وَلَمْ تَحْصُل بِهِ فَائِدَتُهُ مِنْ حُصُول الْمِلْكِ (4) وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَيْضًا.
__________
(1) المصباح المنير ولسان العرب مادة: " بيع - بطل ".
(2) مجلة الأحكام العدلية المادة / 105، ونهاية المحتاج 3 / 361، وابن عابدين 4 / 3، 4، والمغني 3 / 560، وحاشية الدسوقي 3 / 2.
(3) ابن عابدين 4 / 100، وفتح القدير 6 / 42 نشر دار إحياء التراث العربي، والزيلعي 4 / 43.
(4) منح الجليل 2 / 550، والموافقات للشاطبي 1 / 292، وروضة الناظر / 31، والقواعد والفوائد الأصولية / 110، وأشباه السيوطي / 310، 312 ط عيسى الحلبي.(9/52)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْبَيْعُ الصَّحِيحُ:
2 - هُوَ: مَا شُرِعَ بِأَصْلِهِ وَوَصْفِهِ، وَيُفِيدُ الْحُكْمَ بِنَفْسِهِ إِذَا خَلاَ مِنَ الْمَوَانِعِ. أَوْ هُوَ: مَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ أَثَرُهُ مِنْ حُصُول الْمِلْكِ وَالاِنْتِفَاعِ بِالْمَبِيعِ (1) . وَعَلَى ذَلِكَ فَهُوَ مُبَايِنٌ لِلْبَيْعِ الْبَاطِل.
ب - الْبَيْعُ الْفَاسِدُ:
3 - الْجُمْهُورُ عَلَى عَدَمِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْبَيْعِ الْبَاطِل وَالْبَيْعِ الْفَاسِدِ. أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَيَجْعَلُونَ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ مَرْتَبَةً بَيْنَ الْبَيْعِ الصَّحِيحِ وَالْبَيْعِ الْبَاطِل.
وَيُعَرِّفُهُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ: مَا شُرِعَ بِأَصْلِهِ دُونَ وَصْفِهِ.
أَوْ هُوَ: مَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ أَثَرُهُ، وَلَكِنَّهُ مَطْلُوبُ التَّفَاسُخِ شَرْعًا، وَهُوَ مُبَايِنٌ لِلْبَاطِل كَمَا يَقُول ابْنُ عَابِدِينَ؛ لأَِنَّ مَا كَانَ مَشْرُوعًا بِأَصْلِهِ فَقَطْ يُبَايِنُ مَا لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ أَصْلاً. وَأَيْضًا حُكْمُ الْفَاسِدِ أَنَّهُ يُفِيدُ الْمِلْكَ بِالْقَبْضِ، وَالْبَاطِل لاَ يُفِيدُهُ أَصْلاً، وَتَبَايُنُ الْحُكْمَيْنِ دَلِيل تَبَايُنِهِمَا (2) .
__________
(1) الزيلعي 4 / 43، والموافقات للشاطبي 1 / 292، ومنح الجليل 2 / 550، وجمع الجوامع 1 / 101، وروضة الناظر / 31.
(2) ابن عابدين 2 / 297، 4 / 100، والزيلعي 4 / 43، وأشباه ابن نجيم / 337.(9/53)
ج - الْبَيْعُ الْمَكْرُوهُ:
4 - هُوَ مَا كَانَ مَشْرُوعًا بِأَصْلِهِ وَوَصْفِهِ، لَكِنْ نُهِيَ عَنْهُ لِوَصْفٍ مُجَاوِرٍ غَيْرِ لاَزِمٍ، كَالْبَيْعِ عَقِبَ النِّدَاءِ لِلْجُمُعَةِ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ. خِلاَفًا لِلْحَنَابِلَةِ، إِذْ النَّهْيُ عِنْدَهُمْ يَقْتَضِي الْفَسَادَ مُطْلَقًا، وَهُوَ يَتَّفِقُ مَعَ الْبَيْعِ الصَّحِيحِ فِي تَرَتُّبِ أَثَرِهِ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ مُبَايِنٌ لَهُ بِاعْتِبَارِهِ مَنْهِيًّا عَنْهُ (1) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
5 - الإِْقْدَامُ عَلَى الْبَيْعِ الْبَاطِل مَعَ الْعِلْمِ بِالْبُطْلاَنِ حَرَامٌ، وَيَأْثَمُ فَاعِلُهُ، لاِرْتِكَابِهِ الْمَعْصِيَةَ بِمُخَالَفَتِهِ الْمَشْرُوعَ، وَعَدَمِ امْتِثَالِهِ لِمَا نَهَى الشَّارِعُ عَنْهُ؛ لأَِنَّ الْبَيْعَ الْبَاطِل لَمْ يُشْرَعْ لاَ بِأَصْلِهِ وَلاَ بِوَصْفِهِ (2) .
هَذَا مَعَ اسْتِثْنَاءِ حَالَةِ الضَّرُورَةِ، كَالْمُضْطَرِّ يَشْتَرِي الطَّعَامَ بِزِيَادَةٍ عَلَى ثَمَنِ الْمِثْل، وَكَالْعَقْدِ الَّذِي يُخْتَبَرُ بِهِ رُشْدُ الصَّبِيِّ (3) .
__________
(1) ابن عابدين 1 / 117، ونهاية المحتاج 3 / 430، ومنتهى الإرادات 2 / 154، 155.
(2) كشف الأسرار 1 / 257 - 261، وابن عابدين 4 / 5، 99، 100، وبدائع الصنائع 5 / 305، والموافقات للشاطبي 2 / 333 - 337، والدسوقي 3 / 54، ونهاية المحتاج 3 / 429، والمغني 4 / 229 - 252، والتبصرة بهامش فتح العلي 1 / 199 وما بعدها نشر دار المعرفة ببيروت.
(3) المنثور في القواعد 1 / 354، 355، وابن عابدين 4 / 5 ومنتهى الإرادات 2 / 155.(9/53)
فَقَدْ قِيل: يَشْتَرِي الْوَلِيُّ شَيْئًا ثُمَّ يَدْفَعُهُ إِلَى آخَرَ، ثُمَّ يَأْمُرُ الطِّفْل بِشِرَائِهِ مِنْهُ، وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلْبَيْعِ الْمُتَّفَقِ عَلَى بُطْلاَنِهِ، كَبَيْعِ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي لاَ يُمَيِّزُ، وَكَبَيْعِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَالْمَلاَقِيحِ وَالْمَضَامِينِ.
أَمَّا الْبَيْعُ الْمُخْتَلَفُ فِي بُطْلاَنِهِ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ بِأَنْ كَانَ بَاطِلاً فِي مَذْهَبٍ وَغَيْرَ بَاطِلٍ فِي مَذْهَبٍ آخَرَ، كَبَيْعِ الْفُضُولِيِّ، وَبَيْعِ الْمُعَاطَاةِ، وَبَيْعِ الْكَلْبِ الْمَأْذُونِ فِي اتِّخَاذِهِ، فَإِنَّ الْمُقْدِمَ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مُجْتَهِدًا قَدْ بَلَغَ رُتْبَةَ الاِجْتِهَادِ فَلاَ يُعْتَبَرُ الْبَيْعُ بَاطِلاً فِي حَقِّهِ، وَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ، لأَِنَّهُ تَحَرَّى قَصْدَ الشَّارِعِ بِبَذْل الْجُهْدِ، حَتَّى وَصَل إِلَى دَلِيلٍ يُرْشِدُهُ، بِحَيْثُ لَوْ ظَهَرَ لَهُ خِلاَفُ مَا رَآهُ بِدَلِيلٍ أَقْوَى لَرَجَعَ إِلَيْهِ، وَالْمُخْطِئُ فِي اجْتِهَادِهِ لاَ يُعَاقَبُ، بَل يَكُونُ مَعْذُورًا وَمَأْجُورًا (1) .
إِلاَّ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْخُرُوجُ مِنَ الْخِلاَفِ، بِمَعْنَى أَنَّ مَنْ يَعْتَقِدُ جَوَازَ الشَّيْءِ، فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ تَرْكُهُ إِنْ كَانَ غَيْرُهُ يَعْتَقِدُهُ حَرَامًا (2) .
وَالْمُقَلِّدُ كَذَلِكَ يَأْخُذُ حُكْمَ الْمُجْتَهِدِ فِي سُقُوطِ الإِْثْمِ عَنْهُ، مَا دَامَ مُقَلِّدًا لإِِمَامِهِ تَقْلِيدًا سَائِغًا. وَالْعَامِّيُّ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَسْتَفْتِيَ مَنْ غَلَبَ عَلَى
__________
(1) التلويح على التوضيح 2 / 118 - 121، وفتح العلي المالك 1 / 60، والموافقات للشاطبي 4 / 220، والمنثور في القواعد 2 / 140.
(2) المنثور في القواعد 2 / 127، 128.(9/54)
ظَنِّهِ أَنَّهُ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ وَالدِّينِ وَالْوَرَعِ، وَإِنِ اخْتَلَفَ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ أَخَذَ بِقَوْل أَعْلَمِهِمْ وَأَوْرَعِهِمْ وَأَغْلَبِهِمْ صَوَابًا فِي قَلْبِهِ، وَلاَ يَتَخَيَّرُ مَا يَمِيل إِلَيْهِ هَوَاهُ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى تَتَبُّعِ الْمَذَاهِبِ مِنْ غَيْرِ اسْتِنَادٍ إِلَى دَلِيلٍ، وَقَال قَوْمٌ: لاَ يَجِبُ ذَلِكَ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ الْكُل طُرُقٌ إِلَى اللَّهِ (1) .
أَسْبَابُ بُطْلاَنِ الْبَيْعِ:
6 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) أَنَّهُ لاَ فَرْقَ بَيْنَ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَالْبَيْعِ الْبَاطِل، فَهُمَا مُتَرَادِفَانِ؛ لأَِنَّ كُلًّا مِنَ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَالْبَاطِل وَقَعَ عَلَى خِلاَفِ مَا طَلَبَهُ الشَّارِعُ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَعْتَبِرْهُ، وَلَمْ يُرَتِّبْ عَلَيْهِ الأَْثَرَ الَّذِي رَتَّبَهُ عَلَى الْبَيْعِ الصَّحِيحِ مِنْ حُصُول الْمِلْكِ وَحِل الاِنْتِفَاعِ.
وَأَسْبَابُ فَسَادِ الْبَيْعِ هِيَ أَسْبَابُ بُطْلاَنِهِ، وَهِيَ تَرْجِعُ إِلَى الْخَلَل الْوَاقِعِ فِي رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الْعَقْدِ، أَوْ فِي شَرْطٍ مِنْ شَرَائِطِ الصِّحَّةِ، أَوْ لِوُرُودِ النَّهْيِ عَنِ الْوَصْفِ الْمُلاَزِمِ لِلْفِعْل، أَوْ عَنِ
__________
(1) الذخيرة / 139 - 141 نشر وزارة الأوقاف بالكويت، وفتح العلي المالك 1 / 60 - 65، والتقرير والتحبير في شرح التحرير 3 / 349 ط بولاق، وإرشاد الفحول / 271، والموافقات للشاطبي 4 / 133، 140، 147.(9/54)
الْوَصْفِ الْمُجَاوِرِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (1) .
وَاسْتَدَل الْجُمْهُورُ عَلَى ذَلِكَ بِمَا يَأْتِي:
أ - الْبَيْعُ الْبَاطِل أَوِ الْفَاسِدُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ شَرْعًا، وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ يَكُونُ حَرَامًا، وَالْحَرَامُ لاَ يَصْلُحُ سَبَبًا لِتَرَتُّبِ الأَْثَرِ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ النَّهْيَ عَنِ التَّصَرُّفِ إِنَّمَا هُوَ لِبَيَانِ أَنَّ ذَلِكَ التَّصَرُّفَ قَدْ خَرَجَ عَنِ اعْتِبَارِهِ وَشَرْعِيَّتِهِ.
ب - قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ (2) وَالْبَيْعُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ وَقَعَ عَلَى غَيْرِ مَا أَمَرَ بِهِ الشَّارِعُ، فَيَكُونُ مَرْدُودًا، فَكَأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ.
ج - أَجْمَعَ سَلَفُ الأُْمَّةِ عَلَى الاِسْتِدْلاَل بِالنَّهْيِ عَلَى الْفَسَادِ (3) ، فَفَهِمُوا فَسَادَ الرِّبَا مِنْ قَوْله تَعَالَى: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} (4) وَقَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {
__________
(1) حاشية الدسوقي 3 / 54، والقوانين الفقهية لابن جزي / 170، ونهاية المحتاج 3 / 429، وأشباه السيوطي / 312 ط عيسى الحلبي، وروضة الناظر / 113، والمغني 4 / 229 وما بعدها، وشرح منتهى الإرادات 2 / 154، 156، 157، والبدائع 5 / 299، 300، وبداية المجتهد 2 / 125 - 167 - 169.
(2) حديث: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " أخرجه البخاري (الفتح 5 / 31 ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1342 ط الحلبي) .
(3) ينظر كتاب تحقيق المراد في أن النهي يقتضي الفساد، لصلاح الدين بن كيكلدي العلائي، رسالة دكتوراه، تحقيق د. محمد إبراهيم السلقيني، من مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق.
(4) سورة البقرة / 278.(9/55)
لاَ تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إِلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ (1) وَنَهَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ (2) .
هَذَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ: أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَإِنَّ سَبَبَ بُطْلاَنِ الْبَيْعِ عِنْدَهُمْ يَرْجِعُ إِلَى اخْتِلاَل رُكْنِ الْبَيْعِ أَوْ شَرْطٍ مِنْ شَرَائِطِ الاِنْعِقَادِ، فَإِذَا تَخَلَّفَ الرُّكْنُ أَوْ شَرْطٌ مِنْ شَرَائِطِ الاِنْعِقَادِ كَانَ الْبَيْعُ بَاطِلاً وَلاَ وُجُودَ لَهُ، لأَِنَّهُ لاَ وُجُودَ لِلتَّصَرُّفِ إِلاَّ مِنَ الأَْهْل فِي الْمَحَل حَقِيقَةً، وَيَكُونُ الْعَقْدُ فَائِتَ الْمَعْنَى مِنْ كُل وَجْهٍ، إِمَّا لاِنْعِدَامِ مَعْنَى التَّصَرُّفِ كَبَيْعِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ، أَوْ لاِنْعِدَامِ أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفِ كَبَيْعِ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي لاَ يَعْقِل.
أَمَّا اخْتِلاَل شَرْطٍ مِنْ شَرَائِطِ الصِّحَّةِ فَلاَ يُجْعَل الْبَيْعُ بَاطِلاً، كَمَا هُوَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، بَل يَكُونُ فَاسِدًا.
__________
(1) حديث: " لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل. . . " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 379 ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1208 ط الحلبي) .
(2) جمع الجوامع 1 / 105، وروضة الناظر / 113، والمستصفى للغزالي 2 / 26، 27، وحاشية الدسوقي 3 / 54، وبداية المجتهد 2 / 167 - 169، والفروق للقرافي 2 / 82، 84، ونهاية المحتاج 3 / 429، والمنثور في القواعد 3 / 7، 313، والمغني 4 / 229 - 258، ومنتهى الإرادات 2 / 154 - 157. وحديث: " نهى عن بيع وشرط. . . ". أخرجه الطبراني في الأوسط كما في نصب الراية، ونقل الزيلعي عن ابن القطان أنه ضعيف (نصب الراية 4 / 18 - ط المجلس العلمي) .(9/55)
وَاسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ مَشْرُوعٌ فَيُفِيدُ الْمِلْكَ فِي الْجُمْلَةِ، وَالدَّلِيل عَلَى أَنَّهُ مَشْرُوعٌ بِأَصَلِهِ: النُّصُوصُ الْعَامَّةُ الْمُطْلَقَةُ فِي بَابِ الْبَيْعِ مِنْ نَحْوِ قَوْله تَعَالَى: {وَأَحَل اللَّهُ الْبَيْعَ} (1) وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا وَرَدَ مِنَ النُّصُوصِ الْعَامَّةِ فِي هَذَا الْبَابِ (2) .
وَيُلْحَظُ هُنَا أَنَّ بَعْضَ الشَّافِعِيَّةِ يُسَايِرُونَ الْمَذْهَبَ الْحَنَفِيَّ فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْبَيْعِ الْبَاطِل وَالْبَيْعِ الْفَاسِدِ، رَغْمَ أَنَّ الْقَوَاعِدَ الْعَامَّةَ عِنْدَهُمْ تُخَالِفُ ذَلِكَ.
جَاءَ فِي أَسْنَى الْمَطَالِبِ: فَرَّقَ الأَْصْحَابُ بَيْنَ الْبَاطِل وَالْفَاسِدِ، فَقَالُوا: إِنْ رَجَعَ الْخَلَل إِلَى رُكْنِ الْعَقْدِ كَبَيْعِ الصَّبِيِّ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ رَجَعَ إِلَى شَرْطِهِ أَوْ صِفَتِهِ فَهُوَ فَاسِدٌ (3) .
7 - بَعْدَ هَذَا التَّفْرِيقِ بَيْنَ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْجُمْهُورِ، هُنَاكَ مِنَ الْبُيُوعِ الْبَاطِلَةِ مَا هُوَ مُتَّفَقٌ عَلَى بُطْلاَنِهَا بَيْنَ الْمَذَاهِبِ الأَْرْبَعَةِ، كَالْبَيْعِ الَّذِي حَدَثَ خَلَلٌ فِي رُكْنِهِ، أَوْ فِي شَرْطٍ مِنْ شَرَائِطِ انْعِقَادِهِ، كَبَيْعِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَالْمَلاَقِيحِ وَالْمَضَامِينِ فَهَذِهِ مُتَّفَقٌ عَلَى بُطْلاَنِهَا.
وَهُنَاكَ مِنَ الْبُيُوعِ مَا هُوَ مُخْتَلَفٌ فِي بُطْلاَنِهِ بَيْنَ
__________
(1) سورة البقرة / 275.
(2) البدائع 5 / 299، 300، والزيلعي 4 / 63، والتلويح على التوضيح 2 / 123، وجمع الجوامع 1 / 105 - 107.
(3) أسنى المطالب شرح روض الطالب مع حاشية الرملي 2 / 171.(9/56)
الْمَذَاهِبِ، وَهُوَ مَا رَجَعَ الْخَلَل فِيهَا لِغَيْرِ مَا سَبَقَ.
فَبَيْعُ الْفُضُولِيِّ مَثَلاً صَحِيحٌ، وَلَكِنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى الإِْجَازَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ بَاطِلٌ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. وَالْبَيْعُ عِنْدَ النِّدَاءِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بَاطِلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ. وَمِثْل ذَلِكَ يُقَال فِي بَيْعِ الْمُعَاطَاةِ، وَبَيْعِ الْكَلْبِ الْمَأْذُونِ فِي اتِّخَاذِهِ، وَبَيْعِ النَّجْشِ، وَهَكَذَا.
وَيَرْجِعُ سَبَبُ الاِخْتِلاَفِ فِي الْحُكْمِ عَلَى مِثْل هَذِهِ الْبُيُوعِ بِالْبُطْلاَنِ أَوْ عَدَمِهِ إِلَى الاِخْتِلاَفِ فِي الدَّلِيل (1) .
مَا يَتَعَلَّقُ بِالْبَيْعِ الْبَاطِل مِنْ أَحْكَامٍ:
8 - الْبَيْعُ الْبَاطِل لاَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَثَرٌ، لأَِنَّهُ لاَ وُجُودَ لَهُ إِلاَّ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ، وَهُوَ مَنْقُوضٌ مِنْ أَسَاسِهِ، وَلاَ يَحْتَاجُ لِحُكْمِ حَاكِمٍ لِنَقْضِهِ (2) .
وَلاَ تَلْحَقُهُ الإِْجَازَةُ لأَِنَّهُ مَعْدُومٌ، وَالإِْجَازَةُ لاَ تَلْحَقُ الْمَعْدُومَ.
وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ فِي الْبَيْعِ الْمُجْمَعِ عَلَى بُطْلاَنِهِ، وَأَمَّا الْبَيْعُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ كَبَيْعِ الْفُضُولِيِّ،
فَإِنَّهُ إِذَا حَكَمَ حَاكِمٌ بِصِحَّتِهِ صَحَّ الْعَقْدُ قَضَاءً،
__________
(1) الفروق للقرافي 2 / 82، 83، والفرق: 70، ومنح الجليل 2 / 550، وبداية المجتهد 2 / 193 وينظر ص 167.
(2) البدائع 5 / 305، وابن عابدين 4 / 105، وحاشية الدسوقي 3 / 54، ومنتهى الإرادات 2 / 190(9/56)
حَتَّى عِنْدَ مَنْ يَقُول بِبُطْلاَنِهِ وَهُمُ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ؛ لأَِنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ يَرْفَعُ الْخِلاَفَ. وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ: أَنَّهُ تَلْحَقُهُ الإِْجَازَةُ (1) .
وَإِذَا وَقَعَ الْبَيْعُ الْبَاطِل، فَإِنَّ وُجُودَهُ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ يَتَعَلَّقُ بِهِ بَعْضُ الأَْحْكَامِ. وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
أ - التَّرَادُّ:
9 - إِذَا وَقَعَ الْبَيْعُ الْبَاطِل وَحَدَثَ فِيهِ تَسْلِيمُ شَيْءٍ مِنْ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ وَجَبَ رَدُّهُ؛ لأَِنَّ الْبَيْعَ الْبَاطِل لاَ يُفِيدُ الْمِلْكَ بِالْقَبْضِ، وَيَجِبُ عَلَى كُلٍّ مِنَ الطَّرَفَيْنِ رَدُّ مَا أَخَذَهُ إِنْ كَانَ بَاقِيًا، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ (2) .
يَقُول ابْنُ رُشْدٍ: اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْبُيُوعَ الْفَاسِدَةَ إِذَا وَقَعَتْ وَلَمْ تَفُتْ، حُكْمُهَا الرَّدُّ، أَيْ أَنْ يَرُدَّ الْبَائِعُ الثَّمَنَ، وَيَرُدَّ الْمُشْتَرِي الْمَثْمُونَ (3)
وَرَدُّ الْمَبِيعِ يَكُونُ مَعَ نَمَائِهِ الْمُتَّصِل وَالْمُنْفَصِل
__________
(1) ابن عابدين 4 / 7، ومنح الجليل 2 / 572، وكشاف القناع 3 / 157، ونهاية المحتاج 3 / 389، 390، وقليوبي وعميرة 2 / 160، وحاشية الدسوقي 3 / 71.
(2) البدائع 5 / 305، وابن عابدين 4 / 105 والدسوقي 3 / 71، والقوانين الفقهية ص 172، 173، ونهاية المحتاج 3 / 364، 435، وكشاف القناع 3 / 150، المغني 4 / 252، 253.
(3) بداية المجتهد 2 / 193 ط عيسى الحلبي.(9/57)
وَأُجْرَةُ مِثْلِهِ مُدَّةَ بَقَائِهِ فِي يَدِهِ، وَإِنْ نَقَصَ ضَمِنَ نَقْصَهُ، لأَِنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ، فَأَجْزَاؤُهَا تَكُونُ مَضْمُونَةً أَيْضًا.
صَرَّحَ بِهَذَا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ مَا تُفِيدُهُ قَوَاعِدُ الْمَذْهَبِ الْحَنَفِيِّ.
أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَإِنَّ تَغَيُّرَ الذَّاتِ بِزِيَادَةٍ أَوْ نَقْصٍ يُعْتَبَرُ فَوْتًا يَنْتَقِل الْحَقُّ فِيهِ إِلَى الضَّمَانِ (1)
ب - التَّصَرُّفُ فِي الْمَبِيعِ:
10 - إِذَا تَصَرَّفَ الْمُشْتَرِي فِي الْمَبِيعِ بَيْعًا بَاطِلاً بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَلاَ يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ، لأَِنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهُ، فَيَكُونُ قَدْ تَصَرَّفَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِدُونِ إِذْنِهِ، وَتَكُونُ تَصَرُّفَاتُهُ كَتَصَرُّفَاتِ الْغَاصِبِ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّ هَذَا التَّصَرُّفَ لاَ يَمْنَعُ الرَّدَّ لِعَدَمِ نُفُوذِهِ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَإِنَّ التَّصَرُّفَ فِي الْمَبِيعِ يُعْتَبَرُ مُفَوِّتًا، وَيَنْتَقِل الْحَقُّ فِيهِ إِلَى الضَّمَانِ (2) .
ج - الضَّمَانُ:
11 - إِذَا تَلِفَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، فَالصَّحِيحُ
__________
(1) روضة الطالبين 3 / 408، وحاشية الجمل على شرح المنهج 3 / 84، والمغني 4 / 253، والقوانين الفقهية / 172، وبداية المجتهد 2 / 193.
(2) الفتاوى الخانية بهامش الهندية 2 / 133، والدسوقي 3 / 71، 74، وحاشية الجمل على المنهج 3 / 84، 85، والمغني 4 / 255.(9/57)
عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ يَلْزَمُهُ ضَمَانُهُ بِالْمِثْل فِي الْمِثْلِيِّ وَالْقِيمَةِ فِي الْمُتَقَوَّمِ.
وَالْقِيمَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ تُقَدَّرُ بِأَقْصَى الْقِيَمِ فِي الْمُتَقَوَّمِ مِنْ وَقْتِ الْقَبْضِ إِلَى وَقْتِ التَّلَفِ، وَفِي وَجْهٍ تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ التَّلَفِ، وَفِي وَجْهٍ يَوْمَ الْقَبْضِ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ تُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ يَوْمَ تَلِفَ بِبَلَدِ قَبْضِهِ فِيهِ، قَالَهُ الْقَاضِي، وَنَصَّ أَحْمَدُ عَلَيْهِ فِي الْغَصْبِ، وَلأَِنَّهُ قَبَضَهُ بِإِذْنِ مَالِكِهِ فَأَشْبَهَ الْعَارِيَّةُ، وَذَكَرَ الْخِرَقِيُّ فِي الْغَصْبِ: أَنَّهُ يَلْزَمُهُ قِيمَتُهُ أَكْثَرُ مَا كَانَتْ، فَيَخْرُجُ هَاهُنَا كَذَلِكَ، وَهُوَ أَوْلَى، لأَِنَّ الْعَيْنَ كَانَتْ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِهَا فِي حَال زِيَادَتِهَا، وَعَلَيْهِ ضَمَانُ نَقْصِهَا مَعَ زِيَادَتِهَا، فَكَذَلِكَ فِي حَال تَلَفِهَا.
وَلِلْمَالِكِيَّةِ تَفْصِيلٌ فِي ذَلِكَ، يَقُولُونَ: إِنْ فَاتَ الْمَبِيعُ بِيَدِ الْمُشْتَرِي مَضَى الْمُخْتَلَفُ فِيهِ - وَلَوْ كَانَ الْخِلاَفُ خَارِجَ الْمَذْهَبِ الْمَالِكِيِّ - بِالثَّمَنِ الَّذِي وَقَعَ بِهِ الْبَيْعُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُخْتَلَفًا فِيهِ - بَل مُتَّفَقًا عَلَى فَسَادِهِ - ضَمِنَ الْمُشْتَرِي قِيمَتَهُ إِنْ كَانَ مُقَوَّمًا حِينَ الْقَبْضِ، وَضَمِنَ مِثْل الْمِثْلِيِّ إِذَا بِيعَ كَيْلاً أَوْ وَزْنًا، وَعُلِمَ كَيْلُهُ أَوْ وَزْنُهُ، وَلَمْ يَتَعَذَّرْ وُجُودُهُ، وَإِلاَّ ضَمِنَ قِيمَتَهُ يَوْمَ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ بِالرَّدِّ (1) .
__________
(1) ابن عابدين 4 / 105، والبدائع 5 / 305، والدسوقي 3 / 71، ومنح الجليل 2 / 577، 578، وروضة الطالبين 3 / 408، وحاشية الجمل على المنهج 3 / 84، وأشباه السيوطي ص 373، وكشاف القناع 3 / 197، 198، والمغني 4 / 253.(9/58)
وَلِلْحَنَفِيَّةِ رَأْيٌ آخَرُ، وَهُوَ: أَنَّ الْمَبِيعَ يَكُونُ أَمَانَةً عِنْدَ الْمُشْتَرِي، لاَ يَضْمَنُ إِلاَّ بِالتَّعَدِّي أَوِ التَّفْرِيطِ فِي الْحِفْظِ، لأَِنَّهُ مَالٌ قَبَضَهُ بِإِذْنِ صَاحِبِهِ فِي عَقْدٍ وُجِدَ صُورَةً لاَ مَعْنًى، فَالْتَحَقَ بِالْعَدَمِ وَبَقِيَ إِذْنُهُ بِالْقَبْضِ (1) .
د - تَجَزُّؤُ الْبَيْعِ الْبَاطِل:
12 - الْمُرَادُ بِتَجَزُّؤِ الْبَيْعِ الْبَاطِل: أَنْ يَشْتَمِل الْبَيْعُ عَلَى مَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَمَا لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ صَفْقَةً وَاحِدَةً، فَيَكُونُ فِي شِقٍّ مِنْهُ صَحِيحًا وَفِي الشِّقِّ الآْخَرِ بَاطِلاً، وَمِنَ الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ: إِذَا اجْتَمَعَ الْحَلاَل وَالْحَرَامُ غُلِّبَ الْحَرَامُ. وَأَدْخَل الْفُقَهَاءُ تَحْتَ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ مَا يُسَمَّى بِتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ،
وَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ مَا يَجُوزُ وَمَا لاَ يَجُوزُ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ.
وَعَقْدُ الْبَيْعِ إِذَا كَانَ فِي شِقٍّ مِنْهُ صَحِيحًا، وَفِي الشِّقِّ الآْخَرِ بَاطِلاً، كَالْجَمْعِ بَيْنَ الْعَصِيرِ وَالْخَمْرِ، أَوْ بَيْنَ الْمُذَكَّاةِ وَالْمَيْتَةِ، وَبِيعَ ذَلِكَ صَفْقَةً وَاحِدَةً، فَالصَّفْقَةُ كُلُّهَا بَاطِلَةٌ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ - عَدَا ابْنَ الْقَصَّارِ مِنْهُمْ - وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيَّةِ (وَادَّعَى الإِْسْنَوِيُّ فِي كِتَابِ الْمُهِمَّاتِ أَنَّهُ
__________
(1) البدائع 5 / 305، وابن عابدين 4 / 105، ودرر الحكام المادة (370) 1 / 334.(9/58)
الْمَذْهَبُ) وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ، وَذَلِكَ لأَِنَّهُ مَتَى بَطَل الْعَقْدُ فِي الْبَعْضِ بَطَل فِي الْكُل؛ لأَِنَّ الصَّفْقَةَ غَيْرُ مُتَجَزِّئَةٍ، أَوْ لِتَغْلِيبِ الْحَرَامِ عَلَى الْحَلاَل عِنْدَ اجْتِمَاعِهَا، أَوْ لِجَهَالَةِ الثَّمَنِ.
وَالْقَوْل الأَْظْهَرُ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ، وَهُوَ قَوْل ابْنِ الْقَصَّارِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّهُ يَجُوزُ تَجْزِئَةُ الصَّفْقَةِ، فَيَصِحُّ الْبَيْعُ فِيمَا يَجُوزُ، وَيَبْطُل فِيمَا لاَ يَجُوزُ؛ لأَِنَّ الإِْبْطَال فِي الْكُل لِبُطْلاَنِ أَحَدِهِمَا لَيْسَ بِأَوْلَى مِنْ تَصْحِيحِ الْكُل لِصِحَّةِ أَحَدِهِمَا، فَيَبْقَيَانِ عَلَى حُكْمِهِمَا، وَيَصِحُّ فِيمَا يَجُوزُ، وَيَبْطُل فِيمَا لاَ يَجُوزُ.
وَقَال أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: إِنْ عَيَّنَ ابْتِدَاءً لِكُل شِقٍّ حِصَّتَهُ مِنَ الثَّمَنِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ تُعْتَبَرُ الصَّفْقَةُ صَفْقَتَيْنِ مُسْتَقِلَّتَيْنِ تَجُوزُ فِيهِمَا التَّجْزِئَةُ، فَتَصِحُّ وَاحِدَةٌ وَتَبْطُل الأُْخْرَى.
وَهَذِهِ إِحْدَى صُوَرِ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ.
وَالصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ فِي شِقٍّ مِنْهُ صَحِيحًا، وَفِي الشِّقِّ الآْخَرِ مَوْقُوفًا، كَالْجَمْعِ بَيْنَ دَارِهِ وَدَارِ غَيْرِهِ، وَبَيْعِهِمَا صَفْقَةً وَاحِدَةً، فَإِنَّ الْبَيْعَ يَصِحُّ فِيهِمَا، وَيَلْزَمُ فِي مِلْكِهِ، وَيُوقَفُ اللُّزُومُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ عَلَى إِجَازَتِهِ، وَهَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ عَدَا زُفَرَ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى قَاعِدَةِ عَدَمِ جَوَازِ الْبَيْعِ بِالْحِصَّةِ ابْتِدَاءً، وَجَوَازُ ذَلِكَ بَقَاءً.
وَعِنْدَ زُفَرَ: يَبْطُل الْجَمِيعُ؛ لأَِنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ عَلَى الْمَجْمُوعِ، وَالْمَجْمُوعُ لاَ يَتَجَزَّأُ.(9/59)
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: يَجْرِي الْخِلاَفُ السَّابِقُ فِي الصُّورَةِ الأُْولَى؛ لأَِنَّ الْعَقْدَ الْمَوْقُوفَ عِنْدَهُمْ بَاطِلٌ فِي الأَْصْل.
وَالصُّورَةُ الثَّالِثَةُ ذَكَرَهَا ابْنُ قُدَامَةَ، وَهِيَ: أَنْ يَبِيعَ مَعْلُومًا وَمَجْهُولاً، كَقَوْلِهِ: بِعْتُكَ هَذِهِ الْفَرَسَ وَمَا فِي بَطْنِ هَذِهِ الْفَرَسِ الأُْخْرَى بِأَلْفٍ، فَهَذَا الْبَيْعُ بَاطِلٌ بِكُل حَالٍ. قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَلاَ أَعْلَمُ فِي بُطْلاَنِهِ خِلاَفًا (1) .
هـ - تَصْحِيحُ الْبَيْعِ الْبَاطِل:
13 - تَصْحِيحُ الْبَيْعِ الْبَاطِل يُمْكِنُ تَصْوِيرُهُ بِصُورَتَيْنِ.
الأُْولَى: إِذَا ارْتَفَعَ مَا يَبْطُل الْعَقْدَ، فَهَل يَنْقَلِبُ الْبَيْعُ صَحِيحًا؟
الثَّانِيَةُ: إِذَا كَانَتْ صِيغَةُ الْبَيْعِ الْبَاطِل تُؤَدِّي إِلَى مَعْنَى عَقْدٍ آخَرَ صَحِيحٍ، فَهَل يَتَحَوَّل الْبَيْعُ الْبَاطِل إِلَى عَقْدٍ آخَرَ صَحِيحٍ؟ وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي: أَمَّا الصُّورَةُ الأُْولَى: فَإِنَّ الْحَنَفِيَّةَ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْبَيْعِ الْبَاطِل وَالْبَيْعِ الْفَاسِدِ، فَيَصِحُّ عِنْدَهُمْ فِي
__________
(1) الأشباه لابن نجيم 113، 114، والبدائع 5 / 145، وابن عابدين 4 / 104، والاختيار 2 / 23، وجواهر الإكليل 2 / 6، والقوانين الفقهية ص 172، والدسوقي 2 / 266، والأشباه للسيوطي ص 120 - 122، والمنثور في القواعد 1 / 382، ونهاية المحتاج 3 / 461، وروضة الطالبين 3 / 420، والمغني 4 / 261، 262.(9/59)
الْجُمْلَةِ تَصْحِيحُ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ بِارْتِفَاعِ الْمُفْسِدِ دُونَ الْبَاطِل، وَيُعَلِّلُونَ ذَلِكَ بِأَنَّ ارْتِفَاعَ الْمُفْسِدِ فِي الْفَاسِدِ يَرُدُّهُ صَحِيحًا؛ لأَِنَّ الْبَيْعَ قَائِمٌ مَعَ الْفَسَادِ، وَمَعَ الْبُطْلاَنِ لَمْ يَكُنْ قَائِمًا بِصِفَةِ الْبُطْلاَنِ، بَل مَعْدُومًا.
وَعَلَى ذَلِكَ لاَ يَجُوزُ بَيْعُ الدَّقِيقِ فِي الْحِنْطَةِ، وَالزَّيْتِ فِي الزَّيْتُونِ، وَاللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ، وَالْبِزْرِ فِي الْبِطِّيخِ، وَالنَّوَى فِي التَّمْرِ، لأَِنَّهُ مَعْدُومٌ حَتَّى لَوْ سَلَّمَ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي اللَّبَنَ، أَوِ الدَّقِيقَ، أَوِ الْعَصِيرَ، لاَ يَنْقَلِبُ صَحِيحًا؛ لأَِنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَعْدُومٌ حَالَةَ الْعَقْدِ، وَلاَ يُتَصَوَّرُ انْعِقَادُ الْعَقْدِ بِدُونِهِ، فَلَمْ يَنْعَقِدْ أَصْلاً، فَلاَ يَحْتَمِل النَّفَاذَ (1) .
14 - أَمَّا الْجُمْهُورُ (وَهُمْ لاَ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَالْبَاطِل) فَالْحُكْمُ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْبَيْعَ الْبَاطِل لاَ يَنْقَلِبُ صَحِيحًا بِرَفْعِ الْمُفْسِدِ.
فَفِي كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ: لَوْ حَذَفَ الْعَاقِدَانِ الْمُفْسِدَ لِلْعَقْدِ، وَلَوْ فِي مَجْلِسِ الْخِيَارِ، لَمْ يَنْقَلِبِ الْعَقْدُ صَحِيحًا، إِذْ لاَ عِبْرَةَ بِالْفَاسِدِ (2) .
وَفِي الْمُغْنِي لاِبْنِ قُدَامَةَ: لَوْ بَاعَهُ بِشَرْطِ أَنْ يُسَلِّفَهُ أَوْ يُقْرِضَهُ، أَوْ شَرَطَ الْمُشْتَرِي ذَلِكَ عَلَيْهِ،
__________
(1) ابن عابدين 4 / 108، 113، والزيلعي 4 / 47 - 50 وفتح القدير 6 / 52 نشر دار إحياء التراث، والبدائع 5 / 139.
(2) نهاية المحتاج 3 / 434، 435، وروضة الطالبين 3 / 410، ومغني المحتاج 2 / 40، وحاشية الجمل 3 / 84، 85.(9/60)
فَهُوَ مُحَرَّمٌ، وَالْبَيْعُ بَاطِلٌ، لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الَّلهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ يَحِل سَلَفٌ وَبَيْعٌ، وَلاَ شَرْطَانِ فِي بَيْعٍ، وَلاَ رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ، وَلاَ بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ (1) .
وَلأَِنَّهُ اشْتَرَطَ عَقْدًا فِي عَقْدٍ فَفَسَدَ، كَبَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ، وَلأَِنَّهُ إِذَا اشْتَرَطَ الْقَرْضَ زَادَ فِي الثَّمَنِ لأَِجَلِهِ، فَتَصِيرُ الزِّيَادَةُ فِي الثَّمَنِ عِوَضًا عَنِ الْقَرْضِ وَرِبْحًا لَهُ، وَذَلِكَ رِبًا مُحَرَّمٌ، فَفَسَدَ كَمَا لَوْ صَرَّحَ بِهِ، وَلأَِنَّهُ بَيْعٌ فَاسِدٌ فَلاَ يَعُودُ صَحِيحًا، كَمَا لَوْ بَاعَ دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ ثُمَّ تَرَكَ أَحَدَهُمَا (2) .
وَفِي شَرْحِ مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ: مَنْ بَاعَ بِشَرْطِ ضَمَانِ دَرْكِهِ إِلاَّ مِنْ زَيْدٍ لَمْ يَصِحَّ بَيْعُهُ لَهُ؛ لأَِنَّ اسْتِثْنَاءَ زَيْدٍ مِنْ ضَمَانِ دَرْكِهِ يَدُل عَلَى حَقٍّ لَهُ فِي الْمَبِيعِ، لأَِنَّهُ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي بَيْعِهِ فَيَكُونُ بَاطِلاً، ثُمَّ إِنْ ضَمِنَ دَرْكَهُ مِنْهُ أَيْضًا لَمْ يُعَدَّ الْبَيْعُ صَحِيحًا؛ لأَِنَّ الْفَاسِدَ لاَ يَنْقَلِبُ صَحِيحًا (3) .
وَالأَْصْل عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ كُل شَرْطٍ يُنَاقِضُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ كَبَيْعِ الثُّنْيَا (بَيْعُ الْوَفَاءِ) - وَهُوَ أَنْ
__________
(1) حديث: " لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك ". أخرجه أبو داود (3 / 769 ط عزت عبيد دعاس) ، والترمذي (3 / 535 ط الحلبي) ، والحاكم (2 / 17 ط المعارف العثمانية) وصححه.
(2) المغني 4 / 259، 260 ط الرياض.
(3) شرح منتهى الإرادات 2 / 250.(9/60)
يَبْتَاعَ السِّلْعَةَ عَلَى أَنَّ الْبَائِعَ مَتَى رَدَّ الثَّمَنَ فَالسِّلْعَةُ لَهُ - وَكَذَا كُل شَرْطٍ يُخِل بِقَدْرِ الثَّمَنِ كَبَيْعٍ وَشَرْطٍ سَلَفًا، فَإِنَّ الْعَقْدَ يَكُونُ فَاسِدًا.
لَكِنْ يَصِحُّ الْبَيْعُ إِنْ حُذِفَ شَرْطُ السَّلَفِ، وَكَذَا كُل شَرْطٍ يُنَاقِضُ الْمَقْصُودَ، إِلاَّ بَعْضَ الشُّرُوطِ فَلاَ يَصِحُّ الْبَيْعُ مَعَهَا، وَلَوْ حُذِفَ الشَّرْطُ وَهِيَ:
(1) مَنِ ابْتَاعَ سِلْعَةً بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ عَلَى أَنَّهُ إِنْ مَاتَ فَالثَّمَنُ صَدَقَةٌ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يُفْسَخُ الْبَيْعُ وَلَوْ أَسْقَطَ هَذَا الشَّرْطَ، لأَِنَّهُ غَرَرٌ، وَكَذَا لَوْ شَرَطَ: إِنْ مَاتَ فَلاَ يُطَالِبُ الْبَائِعُ وَرَثَتَهُ بِالثَّمَنِ.
(2) شَرْطُ الثُّنْيَا يُفْسِدُ الْبَيْعَ وَلَوْ أَسْقَطَ الشَّرْطَ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ (1) .
(3) شَرْطُ النَّقْدِ فِي بَيْعِ الْخِيَارِ: قَال ابْنُ الْحَاجِبِ: لَوْ أَسْقَطَ شَرْطَ النَّقْدِ فَلاَ يَصِحُّ.
أَمَّا الشَّرْطُ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى الإِْخْلاَل بِشَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ الصِّحَّةِ فَهَذَا يُوجِبُ الْفَسْخَ، وَلَيْسَ لِلْعَاقِدَيْنِ إِمْضَاؤُهُ (2) .
15 - وَمَنَاطُ الْمَسْأَلَةِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فِيمَا سَبَقَ كَمَا قَال ابْنُ رُشْدٍ هُوَ: هَل إِذَا لَحِقَ الْفَسَادُ بِالْبَيْعِ مِنْ قِبَل الشَّرْطِ يَرْتَفِعُ الْفَسَادُ إِذَا ارْتَفَعَ الشَّرْطُ أَمْ لاَ يَرْتَفِعُ الْفَسَادُ؟ كَمَا لاَ يَرْتَفِعُ الْفَسَادُ اللاَّحِقُ لِلْبَيْعِ الْحَلاَل مِنْ أَجْل اقْتِرَانِ الْمُحَرَّمِ الْعَيْنِ بِهِ؟
__________
(1) منح الجليل 2 / 570، 571، وينظر الموافقات للشاطبي 1 / 294، 295.
(2) منح الجليل 2 / 572.(9/61)
كَمَنْ بَاعَ فَرَسًا بِمِائَةِ دِينَارٍ وَزِقَّ خَمْرٍ، فَلَمَّا عَقَدَ الْبَيْعَ قَال: أَدَعُ الزِّقَّ، وَهَذَا الْبَيْعُ مَفْسُوخٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ بِإِجْمَاعٍ.
وَهَذَا أَيْضًا يَنْبَنِي عَلَى أَصْلٍ آخَرَ. وَهُوَ: هَل هَذَا الْفَسَادُ حُكْمِيٌّ (تَعَبُّدِيٌّ) أَوْ مَعْقُولٌ؟ فَإِنْ قُلْنَا: حُكْمِيٌّ، لَمْ يَرْتَفِعْ بِارْتِفَاعِ الشَّرْطِ. وَإِنْ قُلْنَا: مَعْقُولٌ، ارْتَفَعَ بِارْتِفَاعِ الشَّرْطِ.
فَمَالِكٌ رَآهُ مَعْقُولاً، وَالْجُمْهُورُ رَأَوْهُ غَيْرَ مَعْقُولٍ.
وَالْفَسَادُ الَّذِي يُوجَدُ فِي بُيُوعِ الرِّبَا وَالْغَرَرِ أَكْثَرُهُ حُكْمِيٌّ، وَلِذَلِكَ لاَ يَنْعَقِدُ عِنْدَهُمْ أَصْلاً، وَإِنْ تُرِكَ الرِّبَا بَعْدَ الْبَيْعِ أَوِ ارْتَفَعَ الْغَرَرُ (1) .
16 - أَمَّا الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ، وَهِيَ تَحَوُّل الْبَيْعِ الْبَاطِل إِلَى عَقْدٍ آخَرَ صَحِيحٍ، فَهَذَا يَرْجِعُ إِلَى اخْتِلاَفِ الْفُقَهَاءِ فِي قَاعِدَةِ (الْعِبْرَةُ بِصِيَغِ الْعُقُودِ أَوْ مَعَانِيهَا) .
يَقُول السُّيُوطِيُّ: هَل الْعِبْرَةُ بِصِيَغِ الْعُقُودِ أَوْ مَعَانِيهَا؟ خِلاَفٌ، وَالتَّرْجِيحُ مُخْتَلِفٌ فِي الْفُرُوعِ. وَمِنْ ذَلِكَ: لَوْ بَاعَ الْمَبِيعَ لِلْبَائِعِ قَبْل قَبْضِهِ بِمِثْل الثَّمَنِ الأَْوَّل، فَهُوَ إِقَالَةٌ بِلَفْظِ الْبَيْعِ، وَخَرَّجَهُ السُّبْكِيُّ عَلَى الْقَاعِدَةِ، وَالتَّخْرِيجُ لِلْقَاضِي حُسَيْنٍ.
قَال: إِنِ اعْتَبَرْنَا اللَّفْظَ لَمْ يَصِحَّ، وَإِنِ اعْتَبَرْنَا الْمَعْنَى فَإِقَالَةٌ (2) ، وَهُوَ بَيْعٌ فَاسِدٌ لأَِنَّهُ وَقَعَ عَلَى
__________
(1) بداية المجتهد 2 / 162 ط عيسى الحلبي.
(2) الأشباه للسيوطي / 183، 184، 185.(9/61)
الْمَبِيعِ قَبْل أَنْ يُقْبَضَ، وَلَكِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ يَتَحَوَّل إِلَى إِقَالَةٍ صَحِيحَةٍ، إِذْ يَشْتَمِل الْعَقْدُ عَلَى جَمِيعِ عَنَاصِرِ الإِْقَالَةِ.
وَفِي الأَْشْبَاهِ لاِبْنِ نُجَيْمٍ: الاِعْتِبَارُ لِلْمَعْنَى لاَ لِلأَْلْفَاظِ، صَرَّحُوا بِهِ فِي مَوَاضِعَ (1) .
وَفِي دُرَرِ الْحُكَّامِ: الْعِبْرَةُ فِي الْعُقُودِ لِلْمَقَاصِدِ وَالْمَعَانِي لاَ لِلأَْلْفَاظِ وَالْمَبَانِي، وَلِذَا يَجْرِي حُكْمُ الرَّهْنِ فِي بَيْعِ الْوَفَاءِ (2) .
وَفِي مَذْهَبِ مَالِكٍ: أَنَّ مَنْ بَاعَ عَقَارًا أَوْ غَيْرَهُ وَشَرَطَ عَلَى الْمُبْتَاعِ أَنْ لاَ يَبِيعَهُ وَلاَ يَهَبَهُ حَتَّى يُعْطِيَهُ الثَّمَنَ فَلاَ بَأْسَ بِهَذَا، لأَِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الرَّهْنِ إِذَا كَانَ إِعْطَاءُ الثَّمَنِ لأَِجَلٍ مُسَمًّى (3) .
وَهَكَذَا يَجْرِي حُكْمُ تَحَوُّل الْبَيْعِ الْبَاطِل إِلَى عَقْدٍ آخَرَ صَحِيحٍ ضِمْنَ الْقَاعِدَةِ الَّتِي سَبَقَ ذِكْرُهَا.
__________
(1) الأشباه لابن نجيم / 207.
(2) درر الحكام شرح مجلة الأحكام المادة (3) 1 / 18، 19.
(3) منح الجليل 2 / 568.(9/62)
بَيْعُ التَّلْجِئَةِ
التَّعْرِيفُ:
1 - يُعَرِّفُ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ بَيْعَ التَّلْجِئَةِ بِأَنَّهُ: عَقْدٌ يُنْشِئُهُ لِضَرُورَةِ أَمْرٍ فَيَصِيرُ كَالْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ (1) .
وَعَرَّفَهُ صَاحِبُ الإِْنْصَافِ بِقَوْلِهِ: هُوَ أَنْ يُظْهِرَا بَيْعًا لَمْ يُرِيدَاهُ بَاطِنًا بَل خَوْفًا مِنْ ظَالِمٍ (وَنَحْوِهِ) دَفْعًا لَهُ (2) .
وَسَمَّاهُ الشَّافِعِيَّةُ بَيْعَ الأَْمَانَةِ (3) ، وَصُورَتُهُ كَمَا ذَكَرَ النَّوَوِيُّ فِي الْمَجْمُوعِ أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى أَنْ يُظْهِرَا الْعَقْدَ، إِمَّا لِلْخَوْفِ مِنْ ظَالِمٍ وَنَحْوِهِ، وَإِمَّا لِغَيْرِ ذَلِكَ، وَيَتَّفِقَا عَلَى أَنَّهُمَا إِذَا أَظْهَرَاهُ لاَ يَكُونُ بَيْعًا، ثُمَّ يَعْقِدُ الْبَيْعَ (4) .
وَأَمَّا التَّلْجِئَةُ الَّتِي أُضِيفَ هَذَا الْبَيْعُ إِلَيْهَا فَتَرِدُ فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَى: الإِْكْرَاهِ وَالاِضْطِرَارِ (5) .
وَأَمَّا فِي الاِصْطِلاَحِ: فَيَرْجِعُ مَعْنَاهَا إِلَى
__________
(1) الفتاوى الهندية 3 / 209 ط المكتبة الإسلامية، وبدائع الصنائع 5 / 176 ط الجمالية.
(2) الإنصاف 4 / 265 ط التراث.
(3) أسنى المطالب 2 / 11 ط المكتبة الإسلامية.
(4) المجموع 9 / 334.
(5) القاموس المحيط، والصحاح، والمصباح المنير مادة " لجأ ".(9/62)
مَعْنَى الإِْلْجَاءِ، وَهُوَ الإِْكْرَاهُ التَّامُّ أَوِ الْمُلْجِئُ، وَمَعْنَاهُ كَمَا يُفْهَمُ مِنْ حَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ أَنْ يُهَدِّدَ شَخْصٌ غَيْرَهُ بِإِتْلاَفِ نَفْسٍ أَوْ عُضْوٍ أَوْ ضَرْبٍ مُبَرِّحٍ إِذَا لَمْ يَفْعَل مَا يَطْلُبُهُ مِنْهُ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - بَيْعُ الْوَفَاءِ:
2 - صُورَتُهُ أَنْ يَبِيعَهُ الْعَيْنَ بِأَلْفٍ عَلَى أَنَّهُ إِذَا رَدَّ عَلَيْهِ الثَّمَنَ رَدَّ عَلَيْهِ الْعَيْنَ (2) فَيَتَّفِقُ بَيْعُ التَّلْجِئَةِ وَبَيْعُ الْوَفَاءِ فِي عَدَمِ إِرَادَةِ حَقِيقَةِ الْبَيْعِ، وَيَخْتَلِفَانِ فِي أَنَّ بَيْعَ الْوَفَاءِ يَئُول إِلَى رَهْنٍ أَوْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ ظَاهِرٍ، أَمَّا بَيْعُ التَّلْجِئَةِ فَالاِتِّفَاقُ عَلَى عَدَمِ إِرَادَةِ الْبَيْعِ مُضْمِرٌ بَيْنَهُمَا وَلَيْسَ هُنَاكَ بَيْعٌ أَصْلاً.
هَذَا، وَالْفَرْقُ بَيْنَ بَيْعِ التَّلْجِئَةِ وَبَيْعِ الْوَفَاءِ: أَنَّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي بَيْعِ التَّلْجِئَةِ يَتَّفِقَانِ عَلَى أَنْ يُظْهِرَا الْعَقْدَ إِمَّا خَوْفًا مِنْ ظَالِمٍ وَنَحْوِهِ وَإِمَّا لِغَيْرِ ذَلِكَ، وَيَتَّفِقَانِ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُمَا إِذَا أَظْهَرَاهُ لاَ يَكُونُ بَيْعًا، وَأَمَّا فِي بَيْعِ الْوَفَاءِ فَإِنَّهُمَا يَتَّفِقَانِ عَلَى أَنْ يَبِيعَهُ الْعَيْنَ بِثَمَنٍ مُعَيَّنٍ، وَيَتَّفِقَانِ أَيْضًا عَلَى أَنَّ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 80 ط المصرية، وكشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام للبزدوي 4 / 357 ط دار الكتاب العربي.
(2) حاشية ابن عابدين على الدر المختار 4 / 246 ط المصرية، والفتاوى الهندية 3 / 209 ط المكتبة الإسلامية، وحاشية الطحطاوي على الدر المختار 3 / 143، 144 ط دار المعرفة.(9/63)
الْبَائِعَ إِذَا أَحْضَرَ الثَّمَنَ فَإِنَّهُ يَسْتَرِدُّ الْمَبِيعَ، فَبَيْعُ الْوَفَاءِ فِي حَقِيقَتِهِ رَهْنٌ بِلَفْظِ الْبَيْعِ أَوْ قَرْضٌ إِلَى أَجَلٍ بِلَفْظِ الْبَيْعِ، فَاشْتِرَاطُ التَّلْجِئَةِ فِيهِ تُفْسِدُهُ (1) .
ب - بَيْعُ الْمُكْرَهِ:
3 - الْمُرَادُ بِبَيْعِ الْمُكْرَهِ حَمْل الْبَائِعِ عَلَى الْبَيْعِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، إِذِ الإِْكْرَاهُ فِي اللُّغَةِ مَعْنَاهُ: حَمْل الإِْنْسَانِ عَلَى شَيْءٍ يَكْرَهُهُ. وَفِي الشَّرْعِ: فِعْلٌ يُوجَدُ مِنَ الْمُكْرَهِ فَيُحْدِثُ فِي الْمَحَل مَعْنًى يَصِيرُ بِهِ مَدْفُوعًا إِلَى الْفِعْل الَّذِي طُلِبَ مِنْهُ (2) .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ بَيْعِ التَّلْجِئَةِ وَبَيْعِ الْمُكْرَهِ: أَنَّ بَيْعَ التَّلْجِئَةِ بَيْعٌ فِي الظَّاهِرِ فَقَطْ لاَ فِي الْحَقِيقَةِ، وَأَمَّا بَيْعُ الْمُكْرَهِ فَإِنَّهُ بَيْعٌ حَقِيقِيٌّ، مَعَ الاِخْتِلاَفِ فِي حُكْمِهِ فَسَادًا وَوَقْفًا.
ج - بَيْعُ الْهَازِل:
4 - الْهَازِل فِي الْبَيْعِ: هُوَ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِكَلاَمِ الْبَيْعِ لاَ عَلَى إِرَادَةِ حَقِيقَتِهِ.
وَالْهَزْل: هُوَ أَنْ لاَ يُرَادَ بِاللَّفْظِ مَعْنَاهُ، لاَ الْحَقِيقِيُّ وَلاَ الْمَجَازِيُّ، وَهُوَ ضِدُّ الْجِدِّ، وَهُوَ
__________
(1) المجموع للنووي 9 / 334، وابن عابدين 4 / 246، وجامع الفصولين 1 / 234، 236، وكشاف القناع 3 / 149، 150.
(2) الدر المختار 5 / 80، والمصباح مادة " كره "(9/63)
أَنْ يُرَادَ بِالشَّيْءِ مَا وُضِعَ لَهُ (1) .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ بَيْعِ التَّلْجِئَةِ وَبَيْعِ الْهَازِل: أَنَّ بَيْعَ التَّلْجِئَةِ وَإِنْ كَانَ الدَّافِعُ إِلَيْهِ فِي الْغَالِبِ هُوَ الإِْكْرَاهَ إِلاَّ أَنَّهُ فِي حَقِيقَتِهِ هُوَ بَيْعُ الْهَازِل؛ لأَِنَّ الْبَائِعَ فِي بَيْعِ التَّلْجِئَةِ تَلَفَّظَ بِصِيغَةِ الْبَيْعِ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ لاَ يُرِيدُ الْبَيْعَ، وَلِهَذَا ذَكَرَ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ أَنَّهُ يُشْبِهُ بَيْعَ الْهَازِل (2) .
إِذِ الْهَزْل يُنَافِي اخْتِيَارَ الْحُكْمِ وَالرِّضَى بِهِ وَلاَ يُنَافِي الرِّضَى بِالْمُبَاشَرَةِ وَاخْتِيَارَهَا، فَصَارَ بِمَعْنَى خِيَارِ الشَّرْطِ فِي الْبَيْعِ (3) .
التَّلْجِئَةُ فِي غَيْرِ الْبَيْعِ:
5 - تَكُونُ التَّلْجِئَةُ فِي النِّكَاحِ، كَمَا إِذَا خَطَبَ مَنْ هُوَ قَاهِرٌ لِشَخْصٍ بَعْضَ بَنَاتِهِ، فَأَنْكَحَهُ الْمَخْطُوبُ إِلَيْهِ، وَأَشْهَدَ شُهُودَ الاِسْتِرْعَاءِ سِرًّا: أَنِّي إِنَّمَا أَفْعَلُهُ خَوْفًا مِنْهُ، وَهُوَ مِمَّنْ يُخَافُ عَدَاوَتُهُ، وَأَنَّهُ إِنْ شَاءَ اخْتَارَهَا لِنَفْسِهِ بِغَيْرِ نِكَاحٍ، فَأَنْكَحَهُ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ نِكَاحٌ مَفْسُوخٌ أَبَدًا.
وَتَجْرِي التَّلْجِئَةُ أَيْضًا فِي التَّحْبِيسِ (الْوَقْفُ) وَالطَّلاَقِ وَالْهِبَةِ وَغَيْرِهَا، مِنْ كُل تَطَوُّعٍ (4) .
__________
(1) كشف الأسرار عن أصول البزدوي 4 / 357، وتعريفات الجرجاني.
(2) بدائع الصنائع 5 / 176، 177.
(3) ابن عابدين 4 / 244، وأصول البزدوي 4 / 357.
(4) التبصرة 2 / 2 - 5.(9/64)
أَقْسَامُ بَيْعِ التَّلْجِئَةِ:
6 - بَيْعُ التَّلْجِئَةِ يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ تَكُونُ التَّلْجِئَةُ فِيهِ فِي نَفْسِ الْبَيْعِ، وَقِسْمٌ تَكُونُ التَّلْجِئَةُ فِيهِ فِي الثَّمَنِ. وَكُل قِسْمٍ مِنْ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ عَلَى ضَرْبَيْنِ؛ لأَِنَّ التَّلْجِئَةَ إِنْ كَانَتْ فِي نَفْسِ الْبَيْعِ فَإِنَّهَا إِمَّا أَنْ تَكُونَ فِي إِنْشَاءِ الْبَيْعِ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ فِي الإِْقْرَارِ بِهِ. وَإِنْ كَانَتْ فِي الثَّمَنِ فَإِنَّهَا إِمَّا أَنْ تَكُونَ فِي قَدْرِهِ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ فِي جِنْسِهِ.
الْقِسْمُ الأَْوَّل: أَنْ تَكُونَ التَّلْجِئَةُ فِي نَفْسِ الْبَيْعِ.
وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
الضَّرْبُ الأَْوَّل: بَيْعٌ تَكُونُ التَّلْجِئَةُ فِي إِنْشَائِهِ:
7 - وَذَلِكَ بِأَنْ يَتَوَاضَعَا فِي السِّرِّ لأَِمْرٍ أَلْجَأَهُمَا إِلَيْهِ: عَلَى أَنْ يُظْهِرَا الْبَيْعَ وَلاَ بَيْعَ بَيْنَهُمَا حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا هُوَ رِيَاءٌ وَسُمْعَةٌ. نَحْوُ أَنْ يَخَافَ رَجُلٌ السُّلْطَانَ، فَيَقُول لآِخَرَ: إِنِّي أُظْهِرُ أَنِّي بِعْتُ مِنْكَ دَارِي، وَلَيْسَ بِبَيْعٍ فِي الْحَقِيقَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ تَلْجِئَةٌ، فَتَبَايَعَا، فَفِيهِ ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ مِنْ حَيْثُ الْجَوَازُ وَالْبُطْلاَنُ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْبَيْعَ بَاطِلٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ قَوْل أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ (1) . وَهُوَ الْوَجْهُ الصَّحِيحُ وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ.
وَذَكَرَ الْبُهُوتِيُّ: أَنَّهُ بَاطِلٌ قَوْلاً وَاحِدًا، حَيْثُ تَوَاطَآ عَلَيْهِ (2) .
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 176.
(2) الفروع 4 / 49، وكشاف القناع 3 / 149 ط النصر، والإنصاف 4 / 265 ط التراث.(9/64)
وَوَجْهُ الْقَوْل بِالْبُطْلاَنِ: أَنَّ الْمُتَبَايِعَيْنِ تَكَلَّمَا بِصِيغَةِ الْبَيْعِ لاَ عَلَى قَصْدِ الْحَقِيقَةِ وَهُوَ تَفْسِيرُ الْهَزْل، وَالْهَزْل يَمْنَعُ جَوَازَ الْبَيْعِ، لأَِنَّهُ يُعْدَمُ الرِّضَا بِمُبَاشَرَةِ السَّبَبِ، فَلَمْ يَكُنْ هَذَا بَيْعًا مُنْعَقِدًا فِي حَقِّ الْحُكْمِ (1) . وَكَذَلِكَ دَلاَلَةُ الْحَال عَلَى أَنَّهُمَا فِي مِثْل هَذَا الْبَيْعِ لاَ يُرِيدَانِ الْبَيْعَ، وَإِنْ لَمْ يَقُولاَ فِي الْعَقْدِ تَبَايَعْنَا هَذَا تَلْجِئَةٌ (2) .
ثَانِيهُمَا: أَنَّ الْبَيْعَ جَائِزٌ، وَرَوَاهُ أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ أَيْضًا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ، وَكَذَا الْحَنَابِلَةُ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي عِنْدَهُمْ (3) .
وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْل هُوَ أَنَّهُ لاَ عِبْرَةَ بِمَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ فِي السِّرِّ، وَإِنَّمَا الْعِبْرَةُ بِالْعَقْدِ الَّذِي أَظْهَرَاهُ، وَلأَِنَّ مَا شَرَطَاهُ فِي السِّرِّ لَمْ يَذْكُرَاهُ فِي الْعَقْدِ، وَإِنَّمَا عَقَدَا عَقْدًا صَحِيحًا بِشَرَائِطِهِ، فَلاَ يُؤَثِّرُ فِيهِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الشَّرْطِ، كَمَا إِذَا اتَّفَقَا عَلَى أَنْ يَشْتَرِطَا شَرْطًا فَاسِدًا عِنْدَ الْبَيْعِ، ثُمَّ بَاعَا مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ (4) .
ثَالِثُهُمَا: وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْبَيْعَ جَائِزٌ (غَيْرُ لاَزِمٍ) وَيَلْزَمُ إِنْ أَجَازَاهُ مَعًا؛ لأَِنَّ الْحُكْمَ بِبُطْلاَنِ هَذَا الْبَيْعِ لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ، فَلَوِ اعْتَبَرْنَا
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 176.
(2) كشاف القناع 3 / 149.
(3) بدائع الصنائع 5 / 176، والمجموع 9 / 334، والفروع 4 / 49.
(4) بدائع الصنائع 5 / 176، والمجموع 9 / 334.(9/65)
وُجُودَ الشَّرْطِ عِنْدَ الْبَيْعِ لاَ تَنْدَفِعُ الضَّرُورَةُ، وَلَوْ أَجَازَ أَحَدُهُمَا دُونَ الآْخَرِ لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ أَجَازَاهُ جَازَ؛ لأَِنَّ الشَّرْطَ السَّابِقَ وَهُوَ الْمُوَاضَعَةُ (التَّوَاطُؤُ) مَنَعَتِ انْعِقَادَ الْعَقْدِ فِي حَقِّ الْحُكْمِ، فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ شَرْطِ خِيَارِ الْمُتَبَايِعَيْنِ، فَلاَ يَصِحُّ إِلاَّ بِتَرَاضِيهِمَا، وَلاَ يَمْلِكُهُ الْمُشْتَرِي بِالْقَبْضِ.
وَفِي بَيْعِ التَّلْجِئَةِ لَمْ يُوجَدِ الرِّضَا بِمُبَاشَرَةِ السَّبَبِ فِي الْجَانِبَيْنِ أَصْلاً، فَلَمْ يَنْعَقِدِ السَّبَبُ فِي حَقِّ الْحُكْمِ، فَتَوَقَّفَ عَلَى أَحَدِهِمَا، فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ بِشَرْطِ خِيَارِ الْمُتَبَايِعَيْنِ (1) .
8 - هَذَا وَيَتَفَرَّعُ عَلَى الْقَوْل بِبُطْلاَنِ هَذَا الْبَيْعِ: أَنَّ الْمُتَبَايِعَيْنِ إِذَا اخْتَلَفَا، فَادَّعَى أَحَدُهُمَا التَّلْجِئَةَ، وَأَنْكَرَ الآْخَرُ، وَزَعَمَ أَنَّ الْبَيْعَ بَيْعُ رَغْبَةٍ، فَالْقَوْل قَوْل مُنْكِرِ التَّلْجِئَةِ؛ لأَِنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ، فَكَانَ الْقَوْل قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ عَلَى مَا يَدَّعِيهِ صَاحِبُهُ مِنَ التَّلْجِئَةِ إِذَا طَلَبَ الثَّمَنَ.
وَإِنْ أَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ عَلَى التَّلْجِئَةِ تُقْبَل بَيِّنَتُهُ، لأَِنَّهُ أَثْبَتَ الشَّرْطَ بِالْبَيِّنَةِ، فَتُقْبَل بَيِّنَتُهُ، كَمَا لَوْ أَثْبَتَ الْخِيَارَ بِالْبَيِّنَةِ.
وَأَمَّا عَلَى الْقَوْل بِجَوَازِهِ فَلاَ تُؤَثِّرُ هَذِهِ الدَّعْوَى، لأَِنَّهَا - وَإِنْ صَحَّتْ - لاَ تُؤَثِّرُ فِي الْبَيْعِ الظَّاهِرِ.
أَمَّا إِذَا اتَّفَقَا عَلَى التَّلْجِئَةِ، ثُمَّ قَالاَ عِنْدَ الْبَيْعِ: كُل شَرْطٍ كَانَ بَيْنَنَا فَهُوَ بَاطِلٌ
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 176، 177، وحاشية ابن عابدين 4 / 244، 245، وحاشية الطحطاوي على الدر المختار 3 / 143، والاختيار 2 / 21.(9/65)
تَبْطُل التَّلْجِئَةُ وَيَجُوزُ الْبَيْعُ، لأَِنَّهُ شَرْطٌ فَاسِدٌ زَائِدٌ، فَاحْتَمَل السُّقُوطَ بِالإِْسْقَاطِ، وَمَتَى سَقَطَ صَارَ الْعَقْدُ جَائِزًا (1) .
الضَّرْبُ الثَّانِي: بَيْعٌ تَكُونُ التَّلْجِئَةُ فِي الإِْقْرَارِ بِهِ.
9 - التَّلْجِئَةُ إِذَا كَانَتْ فِي الإِْقْرَارِ بِالْبَيْعِ، بِأَنِ اتَّفَقَا عَلَى أَنْ يُقِرَّا بِبَيْعٍ لَمْ يَكُنْ، فَأَقَرَّا بِذَلِكَ، ثُمَّ اتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ، فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ كَمَا ذَكَرَ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ، وَلاَ يَجُوزُ بِإِجَازَتِهِمَا؛ لأَِنَّ الإِْقْرَارَ إِخْبَارٌ، وَصِحَّةُ الإِْخْبَارِ هِيَ بِثُبُوتِ الْمُخْبَرِ بِهِ حَال وُجُودِ الإِْخْبَارِ، فَإِنْ كَانَ ثَابِتًا كَانَ الإِْخْبَارُ صِدْقًا وَإِلاَّ فَيَكُونُ كَذِبًا، وَالْمُخْبَرُ بِهِ هَاهُنَا - وَهُوَ الْبَيْعُ - لَيْسَ بِثَابِتٍ، فَلاَ يَحْتَمِل الإِْجَازَةَ، لأَِنَّهَا تَلْحَقُ الْمَوْجُودَ لاَ الْمَعْدُومَ (2) .
الْقِسْمُ الثَّانِي: بَيْعٌ تَكُونُ التَّلْجِئَةُ فِيهِ فِي الثَّمَنِ أَوِ الْبَدَل:
وَهُوَ أَيْضًا عَلَى ضَرْبَيْنِ.
10 - الضَّرْبُ الأَْوَّل: بَيْعٌ تَكُونُ التَّلْجِئَةُ فِيهِ فِي قَدْرِ الثَّمَنِ.
وَمِثَالُهُ أَنْ يَتَوَاضَعَا فِي السِّرِّ وَالْبَاطِنِ عَلَى أَنَّ
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 177، 178، والاختيار 2 / 22.
(2) بدائع الصنائع 5 / 177، وحاشية ابن عابدين 4 / 460، وحاشية الطحطاوي على الدر المختار 3 / 338.(9/66)
الثَّمَنَ أَلْفٌ، ثُمَّ يَتَبَايَعَا فِي الظَّاهِرِ بِأَلْفَيْنِ، فَهَل الْعِبْرَةُ فِي مِثْل هَذَا الْبَيْعِ بِالظَّاهِرِ أَوِ الْبَاطِنِ؟ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعِبْرَةَ بِالظَّاهِرِ، أَيْ بِمَا تَعَاقَدَا عَلَيْهِ، وَهُوَ الثَّمَنُ الْمُعْلَنُ.
ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ أَبُو يُوسُفَ (1) . وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ أَظْهَرُ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَقَطَعَ بِهِ الْقَاضِي (2) .
ثَانِيهِمَا: أَنَّ الْعِبْرَةَ بِالْبَاطِنِ، أَيْ بِمَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ سِرًّا، وَهَذَا الْقَوْل رَوَاهُ مُحَمَّدٌ فِي الإِْمْلاَءِ مِنْ غَيْرِ خِلاَفٍ، وَهُوَ قَوْل أَبِي يُوسُفَ أَيْضًا.
وَهُوَ أَيْضًا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَهُمْ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى مَا نَصُّوا عَلَيْهِ فِي مَهْرِ السِّرِّ وَمَهْرِ الْعَلاَنِيَةِ (3) .
وَوَجْهُ الْقَوْل بِأَنَّ الثَّمَنَ هُوَ الثَّمَنُ الْمُعْلَنُ: هُوَ أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْعَقْدِ هُوَ الَّذِي يَصِحُّ الْعَقْدُ بِهِ، وَمَا ذَكَرَاهُ سِرًّا لَمْ يَذْكُرَاهُ حَالَةَ الْعَقْدِ، فَسَقَطَ حُكْمُهُ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الاِتِّفَاقَ السَّابِقَ مُلْغًى،
__________
(1) الاختيار 2 / 21، 22.
(2) الاختيار 2 / 21، 22، والفتاوى الهندية 3 / 209، والمجموع 9 / 334، والفروع 4 / 51 و 5 / 267، والإنصاف 4 / 266.
(3) الاختيار 2 / 21، 22، والفتاوى الهندية 3 / 209، والفروع 4 / 50، والدسوقي 2 / 313، والخرشي 3 / 272.(9/66)
بِدَلِيل أَنَّهُمَا لَوِ اتَّفَقَا عَلَى شَرْطٍ فَاسِدٍ ثُمَّ عَقَدَا بِلاَ شَرْطٍ صَحَّ الْعَقْدُ (1) .
وَوَجْهُ الْقَوْل بِأَنَّ الثَّمَنَ هُوَ ثَمَنُ السِّرِّ: هُوَ أَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُمَا لَمْ يَقْصِدَا الأَْلْفَ الزَّائِدَةَ، فَكَأَنَّهُمَا هَزَلاَ بِهَا (2) . أَيْ فَلاَ تُضَمُّ إِلَى الثَّمَنِ، وَيَبْقَى الثَّمَنُ هُوَ الثَّمَنَ الَّذِي اتَّفَقَا عَلَيْهِ فِي السِّرِّ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ الْقَائِلِينَ بِفَسَادِ بَيْعِ الْهَازِل (3) .
وَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِصِحَّتِهِ - فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ - فَتُضَمُّ إِلَى الثَّمَنِ (4) .
هَذَا، وَيُفْهَمُ مِمَّا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ مِنْ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ هَل هُوَ ثَمَنُ السِّرِّ أَوِ الثَّمَنُ الْمُعْلَنُ، أَنَّ مَحَلَّهُ إِنْ قَالاَ عِنْدَ الْمُوَاضَعَةِ: إِنَّ أَحَدَ الأَْلْفَيْنِ الْمُعْلَنَيْنِ رِيَاءٌ وَسُمْعَةٌ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَقُولاَ ذَلِكَ عِنْدَ الْمُوَاضَعَةِ فَالثَّمَنُ مَا تَعَاقَدَا عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ الثَّمَنَ اسْمٌ لِلْمَذْكُورِ عِنْدَ الْعَقْدِ، وَالْمَذْكُورُ عِنْدَ الْعَقْدِ أَلْفَانِ (5) .
11 - الضَّرْبُ الثَّانِي: بَيْعٌ تَكُونُ فِيهِ التَّلْجِئَةُ فِي جِنْسِ الثَّمَنِ.
وَمِثَال ذَلِكَ: أَنْ يَتَّفِقَا فِي السِّرِّ عَلَى أَنَّ الثَّمَنَ
__________
(1) الاختيار 2 / 22، والمجموع 9 / 334.
(2) الاختيار 2 / 22.
(3) بدائع الصنائع 5 / 176، وكشاف القناع 3 / 150.
(4) المجموع 9 / 334.
(5) بدائع الصنائع 5 / 177.(9/67)
أَلْفُ دِرْهَمٍ، ثُمَّ يُظْهِرَا الْبَيْعَ بِمِائَةِ دِينَارٍ، فَهَل يَبْطُل هَذَا الْبَيْعُ أَوْ يَصِحُّ بِالثَّمَنِ الْمُعْلَنِ؟ ذَهَبَ مُحَمَّدٌ إِلَى أَنَّ هَذَا الْبَيْعَ يَبْطُل قِيَاسًا، وَيَصِحُّ اسْتِحْسَانًا، أَيْ بِالثَّمَنِ الْمُعْلَنِ (1) .
وَمَحَلُّهُ - كَمَا جَاءَ فِي الْبَدَائِعِ - إِنْ قَالاَ عِنْدَ الْمُوَاضَعَةِ: إِنَّ الثَّمَنَ الْمُعْلَنَ رِيَاءٌ وَسُمْعَةٌ، فَإِنْ لَمْ يَقُولاَ ذَلِكَ فَالثَّمَنُ مَا تَعَاقَدَا عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ الثَّمَنَ اسْمٌ لِلْمَذْكُورِ عِنْدَ الْعَقْدِ، وَالْمَذْكُورُ عِنْدَ الْعَقْدِ إِنَّمَا هُوَ مِائَةُ دِينَارٍ (2) .
وَوَجْهُ بُطْلاَنِ هَذَا الْبَيْعِ عَلَى الْقِيَاسِ: هُوَ أَنَّ ثَمَنَ السِّرِّ لَمْ يَذْكُرَاهُ فِي الْعَقْدِ، وَثَمَنَ الْعَلاَنِيَةِ لَمْ يَقْصِدَاهُ فَقَدْ هَزَلاَ بِهِ، فَسَقَطَ وَبَقِيَ بَيْعًا بِلاَ ثَمَنٍ فَلاَ يَصِحُّ (3) .
وَوَجْهُ صِحَّتِهِ اسْتِحْسَانًا: هُوَ أَنَّهُمَا لَمْ يَقْصِدَا بَيْعًا بَاطِلاً بَل بَيْعًا صَحِيحًا، فَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى الصِّحَّةِ مَا أَمْكَنَ، وَلاَ يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الصِّحَّةِ إِلاَّ بِثَمَنِ الْعَلاَنِيَةِ، فَكَأَنَّهُمَا انْصَرَفَا عَمَّا شَرَطَاهُ فِي الْبَاطِنِ، فَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِالظَّاهِرِ، كَمَا لَوِ اتَّفَقَا عَلَى أَنْ يَبِيعَاهُ بَيْعَ تَلْجِئَةٍ فَتَوَاهَبَا، بِخِلاَفِ الأَْلْفِ وَالأَْلْفَيْنِ؛ لأَِنَّ الثَّمَنَ الْمَذْكُورَ الْمَشْرُوطَ فِي السِّرِّ مَذْكُورٌ فِي الْعَقْدِ وَزِيَادَةٌ، فَتَعَلَّقَ الْعَقْدُ بِهِ (4) .
__________
(1) الاختيار 2 / 22.
(2) بدائع الصنائع 5 / 177.
(3) بدائع الصنائع 5 / 177، والاختيار 2 / 22.
(4) بدائع الصنائع 5 / 177، والاختيار 2 / 22.(9/67)
12 - هَذَا وَذَكَرَ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ أَيْضًا أَنَّ هَذَا كُلَّهُ إِذَا اتَّفَقَا فِي السِّرِّ وَلَمْ يَتَعَاقَدَا فِي السِّرِّ، أَمَّا إِذَا اتَّفَقَا فِي السِّرِّ وَتَعَاقَدَا أَيْضًا فِي السِّرِّ بِثَمَنٍ، ثُمَّ تَوَاضَعَا عَلَى أَنْ يُظْهِرَا الْعَقْدَ بِأَكْثَرَ مِنْهُ أَوْ بِجِنْسٍ آخَرَ، فَإِنْ لَمْ يَقُولاَ: إِنَّ الْعَقْدَ الثَّانِيَ رِيَاءٌ وَسُمْعَةٌ فَالْعَقْدُ الثَّانِي يَرْفَعُ الْعَقْدَ الأَْوَّل، وَالثَّمَنُ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْعَقْدِ الثَّانِي؛ لأَِنَّ الْبَيْعَ يَحْتَمِل الْفَسْخَ وَالإِْقَالَةَ، فَشُرُوعُهُمَا فِي الْعَقْدِ الثَّانِي إِبْطَالٌ لِلأَْوَّل، فَبَطَل الأَْوَّل وَانْعَقَدَ الثَّانِي بِمَا سُمِّيَ عِنْدَهُ. وَإِنْ قَالاَ: رِيَاءٌ وَسُمْعَةٌ، فَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ مِنْ جِنْسٍ آخَرَ فَالْعَقْدُ هُوَ الْعَقْدُ الأَْوَّل، لأَِنَّهُمَا لَمَّا ذَكَرَا (1) الرِّيَاءَ وَالسُّمْعَةَ فَقَدْ أَبْطَلاَ الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ الثَّانِي، فَلَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ الثَّانِي، فَبَقِيَ الْعَقْدُ الأَْوَّل. وَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ الأَْوَّل فَالْعَقْدُ هُوَ الْعَقْدُ الثَّانِي؛ لأَِنَّ الْبَيْعَ يَحْتَمِل الْفَسْخَ، فَكَانَ الْعَقْدُ هُوَ الْعَقْدَ الثَّانِيَ لَكِنْ بِالثَّمَنِ الأَْوَّل، وَالزِّيَادَةُ بَاطِلَةٌ لأَِنَّهُمَا أَبْطَلاَهَا حَيْثُ هَزَلاَ بِهَا (2) .
13 - وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَإِنَّ الْبَيْعَ يَصِحُّ عِنْدَهُمْ بِالثَّمَنِ الْمُعْلَنِ، وَلاَ أَثَرَ لِلاِتِّفَاقِ السَّابِقِ لأَِنَّهُ مُلْغًى، فَصَارَ كَمَا لَوِ اتَّفَقَا عَلَى شَرْطٍ فَاسِدٍ، ثُمَّ تَبَايَعَا بِلاَ شَرْطٍ (3) .
14 - وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ، فَقَدْ جَاءَ فِي الْفُرُوعِ فِي كِتَابِ
__________
(1) وفيه تحريف (لما ذكرا) إلى (لم يذكرا) .
(2) بدائع الصنائع 5 / 177.
(3) المجموع 9 / 334.(9/68)
الصَّدَاقِ: أَنَّهُمَا لَوِ اتَّفَقَا قَبْل الْبَيْعِ عَلَى ثَمَنٍ، ثُمَّ عَقَدَا الْبَيْعَ بِثَمَنٍ آخَرَ أَنَّ فِيهِ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الثَّمَنَ مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ.
وَالثَّانِي: مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ كَالنِّكَاحِ (1) .
15 - وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يُصَرِّحُوا فِي كُتُبِهِمْ بِبَيْعِ التَّلْجِئَةِ كَغَيْرِهِمْ، وَإِنَّمَا ذَكَرُوا بَيْعَ الْمُكْرَهِ وَالْمَضْغُوطِ وَبَيْعَ الْهَازِل، وَقَدْ سَبَقَتِ الإِْشَارَةُ إِلَى ذَلِكَ، لَكِنَّهُمْ تَكَلَّمُوا عَنْ عَقْدِ النِّكَاحِ وَتَسْمِيَةِ مَهْرٍ لِلسِّرِّ وَمَهْرٍ لِلْعَلاَنِيَةِ، وَبَيَّنُوا أَنَّ الْعَمَل بِمَهْرِ السِّرِّ إِذَا كَانَتْ هُنَاكَ بَيِّنَةٌ تَشْهَدُ عَلَى أَنَّ مَهْرَ الْعَلَنِ لاَ عِبْرَةَ بِهِ، وَإِنَّمَا ذُكِرَ لِلأُْبَّهَةِ وَالْفَخْرِ. فَإِذَا لَمْ تَكُنْ هُنَاكَ بَيِّنَةٌ وَاتَّفَقَ الزَّوْجَانِ عَلَى مَهْرِ السِّرِّ عُمِل بِهِ، فَإِنِ اخْتَلَفَا حَلَّفَتِ الزَّوْجَةُ الزَّوْجَ إِنِ ادَّعَتِ الرُّجُوعَ عَنْ صَدَاقِ السِّرِّ الْقَلِيل إِلَى صَدَاقِ الْعَلاَنِيَةِ الْكَثِيرِ، فَإِنْ حَلَفَ عُمِل بِصَدَاقِ السِّرِّ، وَإِنْ نَكَل حَلَفَتِ الزَّوْجَةُ عَلَى الرُّجُوعِ وَعُمِل بِصَدَاقِ الْعَلاَنِيَةِ، فَإِنْ نَكَلَتْ عُمِل بِصَدَاقِ السِّرِّ (2) .
16 - هَذَا، وَذَكَرَ صَاحِبُ التَّبْصِرَةِ فِي الْقَضَاءِ بِشَهَادَةِ الاِسْتِرْعَاءِ: أَنَّ الاِسْتِرْعَاءَ فِي الْبُيُوعِ لاَ يَجُوزُ، مِثْل أَنْ يُشْهِدَ قَبْل الْبَيْعِ أَنَّهُ رَاجِعٌ فِي الْبَيْعِ، وَأَنَّ بَيْعَهُ لأَِمْرٍ يَتَوَقَّعُهُ؛ لأَِنَّ الْمُبَايَعَةَ خِلاَفُ مَا يُتَطَوَّعُ بِهِ، وَقَدْ أَخَذَ الْبَائِعُ فِيهِ ثَمَنًا وَفِي ذَلِكَ
__________
(1) الفروع 5 / 267.
(2) الدسوقي 2 / 313، وجواهر الإكليل 2 / 314، والخرشي 3 / 272.(9/68)
حَقٌّ لِلْمُبْتَاعِ، إِلاَّ أَنْ يَعْرِفَ الشُّهُودُ الإِْكْرَاهَ عَلَى الْبَيْعِ وَالإِْخَافَةَ، فَيَجُوزُ الاِسْتِرْعَاءُ إِذَا انْعَقَدَ قَبْل الْبَيْعِ، وَتَضَمَّنَ الْعَقْدُ شَهَادَةَ مَنْ يَعْرِفُ الإِْخَافَةَ وَالتَّوَقُّعَ الَّذِي ذَكَرَهُ (1) .
وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّ الْمُكْرَهَ عَلَى الْبَيْعِ لأَِمْرٍ يَتَوَقَّعُهُ أَوْ يَخَافُهُ لاَ يَلْزَمُهُ الْبَيْعُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، بَل لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ حَتَّى بَعْدَ أَنْ يَقْبِضَ الثَّمَنَ، مَا دَامَ شُهُودُ الاِسْتِرْعَاءِ قَدْ عَرَفُوا الإِْكْرَاهَ عَلَى الْبَيْعِ وَسَبَبَ الإِْخَافَةِ.
أَثَرُ الاِخْتِلاَفِ بَيْنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي:
17 - لَوِ ادَّعَى أَحَدُهُمَا بَيْعَ التَّلْجِئَةِ، وَأَنْكَرَ الآْخَرُ، فَإِنْ جَاءَ مُدَّعِي التَّلْجِئَةِ بِبَيِّنَةٍ قُبِلَتْ، وَإِلاَّ فَالْقَوْل لِمُدَّعِي الأَْصْل وَهُوَ عَدَمُ التَّلْجِئَةِ بِبَيِّنَةٍ. وَلَوْ قَدَّمَ كُلٌّ مِنْهُمَا بَيِّنَةً قُدِّمَتْ بَيِّنَةُ مُدَّعِي التَّلْجِئَةِ، لأَِنَّهُ يُثْبِتُ خِلاَفَ الظَّاهِرِ.
وَلَوْ تَبَايَعَا فِي الْعَلاَنِيَةِ، فَإِنِ اعْتَرَفَا بِبِنَائِهِ عَلَى التَّلْجِئَةِ، فَالْبَيْعُ فِي الْعَلاَنِيَةِ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى أَنَّهُمَا هَزَلاَ بِهِ، وَإِلاَّ فَالْبَيْعُ لاَزِمٌ.
وَهَذَا بِنَاءً عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْقَائِلُونَ بِصِحَّةِ بَيْعِ السِّرِّ وَبُطْلاَنِ الْبَيْعِ الْمُعْلَنِ، وَهُمْ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَالْمَفْهُومُ مِنْ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ.
أَمَّا مَنْ ذَهَبَ إِلَى صِحَّةِ الْبَيْعِ الثَّانِي وَبُطْلاَنِ
__________
(1) التبصرة 2 / 5.(9/69)
الاِتِّفَاقِ الْمُسْبَقِ فِي السِّرِّ، فَلاَ تَرِدُ هَذِهِ التَّفْصِيلاَتُ عِنْدَهُمْ، وَهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ (1) .
هَذَا مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ، وَتُنْظَرُ تَفْصِيلاَتُ الْمَسْأَلَةِ وَالْخِلاَفُ فِيهَا فِي مَبَاحِثِ الْبَيْعِ وَالدَّعْوَى.
بَيْعُ التَّوْلِيَةِ
انْظُرْ: تَوْلِيَة
بَيْعُ الثَّنِيَّةِ
انْظُرْ: بَيْعَ الْوَفَاءِ
__________
(1) الدر المختار بحاشية ابن عابدين 4 / 245، وحاشية الطحطاوي على الدر المختار 3 / 143، والقوانين الفقهية لابن جزي ص 252، والروضة 3 / 575، 587، والمجموع 9 / 334، وكشاف القناع 3 / 236 - 241، والمغني 4 / 237 ط الرياض.(9/69)
الْبَيْعُ الْجَبْرِيُّ
تَعْرِيفُهُ:
1 - الْبَيْعُ الْجَبْرِيُّ مُرَكَّبٌ مِنْ لَفْظَيْنِ: " الْبَيْعُ " وَ " الْجَبْرِيُّ "
فَالْبَيْعُ مُبَادَلَةُ مَالٍ بِمَالٍ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ (1) . وَالْجَبْرِيُّ: مِنْ جَبَرَهُ عَلَى الأَْمْرِ جَبْرًا: حَمَلَهُ عَلَيْهِ قَهْرًا (2) .
فَالْبَيْعُ الْجَبْرِيُّ فِي اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ هُوَ: الْبَيْعُ الْحَاصِل مِنْ مُكْرَهٍ بِحَقٍّ، أَوِ الْبَيْعُ عَلَيْهِ نِيَابَةً عَنْهُ، لإِِيفَاءِ حَقٍّ وَجَبَ عَلَيْهِ، أَوْ لِدَفْعِ ضَرَرٍ، أَوْ تَحْقِيقِ مَصْلَحَةٍ عَامَّةٍ (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الإِْكْرَاهُ عَلَى الْبَيْعِ:
2 - الإِْكْرَاهُ فِي اللُّغَةِ: حَمْل الإِْنْسَانِ عَلَى أَمْرٍ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ (4) .
__________
(1) أسنى المطالب 2 / 2
(2) المصباح المنير مادة: " جبر "
(3) تعريف استخلصناه من أمثلة البيع الجبري، من كتب الفقه
(4) مختار الصحاح، والمصباح المنير مادة " كره "، وابن عابدين 5 / 80.(9/70)
وَفِي الشَّرْعِ: فِعْلٌ يُوجِدُهُ الْمُكْرِهُ فَيَدْفَعُ الْمُكْرَهَ إِلَى مَا طَلَبَ مِنْهُ (1) .
فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْعِ الْجَبْرِيِّ: أَنَّ الْبَيْعَ الْجَبْرِيَّ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بِحَقٍّ، أَمَّا الْبَيْعُ بِالإِْكْرَاهِ فَهُوَ فِي الأَْصْل أَعَمُّ، لَكِنَّ الْغَالِبَ إِطْلاَقُهُ عَلَى الإِْكْرَاهِ بِلاَ حَقٍّ.
ب - بَيْعُ التَّلْجِئَةِ:
3 - بَيْعُ التَّلْجِئَةِ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ: أَنْ يُظْهِرَا عَقْدًا وَهُمَا لاَ يُرِيدَانِهِ، يَلْجَأُ إِلَيْهِ صَاحِبُ الْمَال خَوْفًا مِنْ عَدُوٍّ أَوْ سُلْطَانٍ جَائِرٍ (2) .
فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْعِ الْجَبْرِيِّ أَنَّ بَيْعَ التَّلْجِئَةِ فِيهِ صُورَةُ الْبَيْعِ لاَ حَقِيقَتُهُ.
حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ:
4 - يَخْتَلِفُ حُكْمُ الْبَيْعِ الْجَبْرِيِّ بِاخْتِلاَفِ سَبَبِهِ، فَإِنْ كَانَ لإِِيفَاءِ حَقٍّ، كَبَيْعِ مَالِهِ لإِِيفَاءِ دَيْنٍ حَالٍّ، وَبِطَلَبِ صَاحِبِ الْحَقِّ فَهُوَ وَاجِبٌ، وَكَذَا إِذَا كَانَ لِمَصْلَحَةٍ عَامَّةٍ، كَتَوْسِعَةِ الْمَسْجِدِ الَّذِي ضَاقَ عَلَى الْمُصَلِّينَ، أَوِ الطَّرِيقِ الْعَامِّ (3) .
وَيَقُومُ الْبَيْعُ فِي الْفِقْهِ الإِْسْلاَمِيِّ - كَسَائِرِ الْعُقُودِ الْقَوْلِيَّةِ - عَلَى التَّرَاضِي الْحُرِّ عَلَى إِنْشَائِهِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 80
(2) حاشية ابن عابدين 4 / 244
(3) الدسوقي 3 / 6 - 7(9/70)
مِنَ الْجَانِبَيْنِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِل إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (1)
وَخَبَرِ: إِنَّمَا الْبَيْعُ عَنْ تَرَاضٍ (2) وَلاَ يُقِرُّ الْفُقَهَاءُ بَيْعًا لَمْ يَقُمْ عَلَى التَّرَاضِي مِنَ الْجَانِبَيْنِ: الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي، إِلاَّ مَا تُوجِبُهُ الْمَصْلَحَةُ الْعَامَّةُ لإِِحْقَاقِ حَقٍّ، أَوْ تَحْقِيقِ مَصْلَحَةٍ عَامَّةٍ، أَوْ دَفْعِ ضَرَرٍ خَاصٍّ أَوْ عَامٍّ، وَهُوَ مَا يُسَمَّى فِي عُرْفِهِمْ: الإِْكْرَاهُ الْمَشْرُوعُ، أَوِ الإِْكْرَاهُ بِحَقٍّ.
وَمِنْهَا: الْعُقُودُ الْجَبْرِيَّةُ الَّتِي يُجْرِيهَا الْحَاكِمُ، إِمَّا مُبَاشَرَةً نِيَابَةً عَمَّنْ يَجِبُ عَلَيْهِ إِجْرَاؤُهَا، إِذَا امْتَنَعَ عَنْهَا، أَوْ يُجْبَرُ هُوَ عَلَى إِجْرَائِهَا.
وَيَذْكُرُ الْفُقَهَاءُ أَمْثِلَةً لِلْجَبْرِ الْمَشْرُوعِ عَلَى الْبَيْعِ مِنْهَا:
إِجْبَارُ الْمَدِينِ عَلَى بَيْعِ مَالِهِ:
5 - يُجْبَرُ الْمَدِينُ عَلَى بَيْعِ مَالِهِ لإِِيفَاءِ دَيْنٍ حَالٍّ، إِذَا امْتَنَعَ عَنْ أَدَائِهِ وَلَهُ مَالٌ ظَاهِرٌ، فَيَجْبُرُهُ الْحَاكِمُ عَلَى وَفَاءِ الدَّيْنِ بِالتَّعْزِيرِ عَلَيْهِ بِالْحَبْسِ أَوِ الضَّرْبِ، فَإِنْ أَصَرَّ عَلَى الاِمْتِنَاعِ قَضَى الْحَاكِمُ الدَّيْنَ مِنْ مَالِهِ جَبْرًا عَلَيْهِ، إِذَا كَانَ لَهُ مَالٌ ظَاهِرٌ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ.
هَذَا مَحَل اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.
__________
(1) سورة النساء / 29
(2) حديث: " إنما البيع عن تراض " أخرجه ابن ماجه (2 / 737 - ط الحلبي) . وقال البوصيري: إسناده صحيح ورجاله موثقون.(9/71)
أَمَّا إِذَا كَانَ مَالُهُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الدَّيْنِ كَالْعَقَارِ وَالْعُرُوضِ، فَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الإِْمَامَ يَبِيعُ مَالَهُ عَلَيْهِ جَبْرًا نِيَابَةً عَنْهُ (1) .
وَعِنْدَ الإِْمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ، لاَ يَبِيعُ الْحَاكِمُ مَالَهُ عَلَيْهِ، بَل يَحْبِسُهُ حَتَّى يَقُومَ بِإِيفَاءِ الدَّيْنِ بِبَيْعِ مَالِهِ أَوْ غَيْرِهِ؛ لأَِنَّ وِلاَيَةَ الْحَاكِمِ - فِي نَظَرِ الإِْمَامِ - عَلَى مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ، لاَ عَلَى مَالِهِ، فَلَمْ يَنْفُذْ بَيْعُهُ فِي مَالِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَلأَِنَّ الْبَيْعَ تِجَارَةٌ وَلاَ يَصِحُّ إِلاَّ بِتَرَاضٍ، وَفِيهِ أَيْضًا نَوْعٌ مِنَ الْحَجْرِ الَّذِي لاَ يُجِيزُهُ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَدْ خَالَفَهُ صَاحِبَاهُ فِي ذَلِكَ، فَأَجَازَا بَيْعَ الْحَاكِمِ مَالَهُ لِوَفَاءِ دَيْنِهِ بَيْعًا جَبْرِيًّا، وَرَأْيُهُمَا هُوَ الْمُفْتَى بِهِ فِي الْمَذْهَبِ (2) .
بَيْعُ الْمَرْهُونِ:
6 - إِذَا رَهَنَ عَيْنًا بِدَيْنٍ حَالٍّ أَوْ مُؤَجَّلٍ، وَحَل الأَْجَل، وَامْتَنَعَ الْمَدِينُ عَنْ أَدَاءِ الدَّيْنِ أَجْبَرَهُ الْحَاكِمُ عَلَى بَيْعِ الْمَرْهُونِ، أَوْ بَاعَ عَلَيْهِ نِيَابَةً عَنْهُ، لأَِنَّهُ حَقٌّ وَجَبَ عَلَيْهِ، فَإِذَا امْتَنَعَ عَنْ أَدَائِهِ قَامَ الْحَاكِمُ مَقَامَهُ فِي أَدَائِهِ، كَالإِْيفَاءِ فِي جِنْسِ الدَّيْنِ. وَلِلتَّفْصِيل ر: (رَهْن) .
وَقَال الإِْمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ: لاَ يَبِيعُ عَرَضَهُ
__________
(1) روضة الطالبين 4 / 137، وبداية المجتهد 2 / 307 - 308، والدسوقي 3 / 269، والإنصاف 5 / 276، والمغني 4 / 484، والاختيار لتعليل المختار 2 / 98
(2) ابن عابدين 5 / 95، والاختيار 2 / 98(9/71)
وَلاَ عَقَارَهُ، بَل يَحْبِسُهُ حَتَّى يَرْضَى بِبَيْعِ مَالِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ (1) .
جَبْرُ الْمُحْتَكِرِ:
7 - إِذَا كَانَ عِنْدَ إِنْسَانٍ طَعَامٌ فَاضِلٌ عَنْ حَاجَتِهِ، يَحْتَاجُ إِلَيْهِ النَّاسُ وَامْتَنَعَ عَنْ بَيْعِهِ لَهُمْ، أَجْبَرَهُ الْحَاكِمُ عَلَى بَيْعِهِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ (2) . وَلِلتَّفْصِيل ر: (احْتِكَار)
الْجَبْرُ عَلَى الْبَيْعِ لِلنَّفَقَةِ الْوَاجِبَةِ:
8 - إِذَا امْتَنَعَ الْمُكَلَّفُ عَنِ الإِْنْفَاقِ عَلَى مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ كَالزَّوْجَةِ وَالأَْوْلاَدِ وَالأَْبَوَيْنِ، وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُ نَقْدٌ ظَاهِرٌ بَاعَ الْحَاكِمُ عُرُوضَهُ أَوْ عَقَارَهُ لِلإِْنْفَاقِ عَلَيْهِمْ.
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي (النَّفَقَة) .
الأَْخْذُ بِالشُّفْعَةِ جَبْرًا:
9 - الشُّفْعَةُ حَقٌّ مَنَحَهُ الشَّرْعُ لِلشَّرِيكِ الْقَدِيمِ، أَوِ الْجَارِ الْمُلاَصِقِ، فَيَتَمَلَّكُ الشِّقْصَ الْمَبِيعَ عَنْ مُشْتَرِيهِ بِمَا قَامَ عَلَيْهِ مِنَ الثَّمَنِ وَالتَّكَالِيفِ جَبْرًا عَلَيْهِ.
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ (شُفْعَة) .
__________
(1) روضة الطالبين 4 / 88، وحاشية الدسوقي 3 / 151، والمغني 4 / 447، وابن عابدين 5 / 325
(2) ابن عابدين 5 / 256، وقليوبي 2 / 156.(9/72)
بَيْعُ الْجُزَافِ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْجُزَافُ اسْمٌ مِنْ جَازَفَ مُجَازَفَةً مِنْ بَابِ قَاتَل، وَالْجُزَافُ بِالضَّمِّ خَارِجٌ عَنِ الْقِيَاسِ وَالْقِيَاسُ بِكَسْرِ الْجِيمِ.
وَهُوَ فِي اللُّغَةِ مِنَ الْجَزْفِ، أَيِ الأَْخْذُ بِكَثْرَةٍ، وَجَزَفَ فِي الْكَيْل جَزْفًا: أَكْثَرَ مِنْهُ. وَيُقَال لِمَنْ يُرْسِل كَلاَمَهُ إِرْسَالاً مِنْ غَيْرِ قَانُونٍ: جَازَفَ فِي كَلاَمِهِ، فَأُقِيمَ نَهْجُ الصَّوَابِ فِي الْكَلاَمِ مَقَامَ الْكَيْل وَالْوَزْنِ (1) .
وَبَيْعُ الْجُزَافِ اصْطِلاَحًا: هُوَ بَيْعُ مَا يُكَال، أَوْ يُوزَنُ، أَوْ يُعَدُّ، جُمْلَةً بِلاَ كَيْلٍ وَلاَ وَزْنٍ، وَلاَ عَدٍّ (2) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - الأَْصْل أَنَّ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ عَقْدِ الْبَيْعِ أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ مَعْلُومًا، وَلَكِنْ لاَ يُشْتَرَطُ الْعِلْمُ بِهِ مِنْ كُل وَجْهٍ، بَل يُشْتَرَطُ الْعِلْمُ بِعَيْنِ الْمَبِيعِ وَقَدْرِهِ وَصِفَتِهِ، وَفِي بَيْعِ الْجُزَافِ يَحْصُل الْعِلْمُ
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير مادة " جزف "
(2) الشرح الصغير 3 / 35(9/72)
بِالْقَدْرِ، كَبَيْعِ صُبْرَةِ طَعَامٍ، دُونَ مَعْرِفَةِ كَيْلِهَا أَوْ وَزْنِهَا، وَبَيْعِ قَطِيعِ الْمَاشِيَةِ دُونَ مَعْرِفَةِ عَدَدِهَا، وَبَيْعِ الأَْرْضِ دُونَ مَعْرِفَةِ مِسَاحَتِهَا، وَبَيْعِ الثَّوْبِ دُونَ مَعْرِفَةِ طُولِهِ.
وَبَيْعُ الْجُزَافِ اسْتُثْنِيَ مِنَ الأَْصْل لِحَاجَةِ النَّاسِ وَاضْطِرَارِهِمْ إِلَيْهِ، بِمَا يَقْتَضِي التَّسْهِيل فِي التَّعَامُل. قَال الدُّسُوقِيُّ: الأَْصْل فِي بَيْعِ الْجُزَافِ مَنْعُهُ، وَلَكِنَّهُ خُفِّفَ فِيمَا شَقَّ عِلْمُهُ مِنَ الْمَعْدُودِ، أَوْ قَل جَهْلُهُ فِي الْمَكِيل وَالْمَوْزُونِ (1) .
وَدَلِيلُهُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كُنَّا نَشْتَرِي الطَّعَامَ مِنَ الرُّكْبَانِ جُزَافًا، فَنَهَانَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَبِيعَهُ حَتَّى نَنْقُلَهُ مِنْ مَكَانِهِ. وَفِي رِوَايَةٍ: رَأَيْتُ النَّاسَ فِي عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا ابْتَاعُوا الطَّعَامَ جُزَافًا يَضْرِبُونَ فِي أَنْ يَبِيعُوهُ فِي مَكَانِهِ، وَذَلِكَ حَتَّى يُؤْوُوهُ إِلَى رِحَالِهِمْ.
وَفِي رِوَايَةٍ: يُحَوِّلُوهُ وَفِي أُخْرَى: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَ يَشْتَرِي الطَّعَامَ جُزَافًا فَيَحْمِلُهُ إِلَى أَهْلِهِ (2) فَدَل عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَعَامَلُونَ بِبَيْعِ الْجُزَافِ، فَيَكُونُ هَذَا دَالًّا عَلَى جَوَازِهِ، وَأَلْفَاظُ الرِّوَايَةِ
__________
(1) الدسوقي 3 / 20
(2) حديث: " كنا نشتري الطعام من الركبان جزافا، فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبيعه حتى ننقله من مكانه ". أخرجه مسلم (3 / 1161 ط الحلبي)(9/73)
تَدُل عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي عَهْدِ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِمَّا يُفِيدُ حُكْمَ الرَّفْعِ.
وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِهِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ، وَالأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ جَوَازُهُ مَعَ الْكَرَاهَةِ (1) .
شُرُوطُ بَيْعِ الْجُزَافِ:
3 - اشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ لِجَوَازِ بَيْعِ الْجُزَافِ سِتَّةَ شُرُوطٍ:
(أ) أَنْ يُرَى الْمَبِيعُ جُزَافًا حَال الْعَقْدِ، أَوْ قَبْلَهُ إِذَا اسْتَمَرَّ عَلَى حَالِهِ إِلَى وَقْتِ الْعَقْدِ دُونَ تَغْيِيرٍ، وَهَذَا مَا لَمْ يَلْزَمْ عَلَى الرُّؤْيَةِ فَسَادُ الْمَبِيعِ، كَقِلاَل الْخَل الْمُطَيَّنَةِ يُفْسِدُهَا فَتْحُهَا، فَيُكْتَفَى بِرُؤْيَتِهَا فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ.
(ب) أَنْ يَجْهَل الْمُتَبَايِعَانِ مَعًا قَدْرَ الْكَيْل أَوِ الْوَزْنِ أَوِ الْعَدَدِ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا يَعْلَمُ قَدْرَهَا فَلاَ يَصِحُّ.
(ج) أَنْ يَحْزِرَا وَيُقَدِّرَا قَدْرَهُ عِنْدَ إِرَادَةِ الْعَقْدِ عَلَيْهِ.
(د) أَنْ تَسْتَوِيَ الأَْرْضُ الَّتِي يُوضَعُ عَلَيْهَا الْمَبِيعُ.
(هـ) أَلاَ يَكُونَ مَا يُرَادُ بَيْعُهُ جُزَافًا كَثِيرًا جِدًّا،
__________
(1) نهاية المحتاج 3 / 392، وحاشية الدسوقي 3 / 20، وكشاف القناع 3 / 169، وتبيين الحقائق 4 / 5، وروضة الطالبين 3 / 358(9/73)
لِتَعَذُّرِ تَقْدِيرِهِ. سَوَاءٌ كَانَ مَكِيلاً أَوْ مَوْزُونًا أَوْ مَعْدُودًا.
كَمَا يُشْتَرَطُ أَلاَ يَقِل جِدًّا إِنْ كَانَ مَعْدُودًا، لأَِنَّهُ لاَ مَشَقَّةَ فِي مَعْرِفَةِ قَدْرِهِ بِالْعَدِّ.
أَمَّا إِنْ كَانَ مَكِيلاً أَوْ مَوْزُونًا فَيَجُوزُ وَإِنْ قَل جِدًّا.
وَأَنْ يَشُقَّ عَدُّهُ وَلاَ تُقْصَدُ أَفْرَادُهُ بِالْبَيْعِ، سَوَاءٌ قَل ثَمَنُهُ أَوْ لَمْ يَقِل كَالْبَيْضِ. وَإِذَا قُصِدَتْ أَفْرَادُهُ جَازَ بَيْعُهُ جُزَافًا إِنْ قَل ثَمَنُهُ بِالنِّسْبَةِ لِبَعْضِهَا مَعَ بَعْضٍ. وَمُنِعَ مِنْ بَيْعِهِ جُزَافًا إِنْ لَمْ يَقِل ثَمَنُهَا كَالثِّيَابِ.
أَمَّا إِذَا لَمْ يَشُقَّ عَدُّهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُبَاعَ جُزَافًا، سَوَاءٌ أَقُصِدَتْ أَفْرَادُهُ أَمْ لَمْ تُقْصَدْ، قَل ثَمَنُهَا أَوْ لَمْ يَقِل (1) .
وَانْفَرَدَ الْمَالِكِيَّةُ فِي تَفْصِيل الشُّرُوطِ عَلَى هَذَا النَّحْوِ، وَإِنْ كَانَ مِنْهَا مَا شَارَكَهُمْ غَيْرُهُمْ فِي اعْتِبَارِهَا، كَمَا فِي الشَّرْطِ الأَْوَّل وَالثَّانِي وَالرَّابِعِ. كَمَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ.
وَلِبَيْعِ الْجُزَافِ صُوَرٌ تَخْتَلِفُ أَحْكَامُهَا عَلَى التَّفْصِيل التَّالِي:
بَيْعُ الصُّبْرَةِ جُزَافًا:
4 - الصُّبْرَةُ هِيَ: الْكَوْمَةُ الْمُجْتَمِعَةُ مِنَ الطَّعَامِ وَنَحْوِهِ. وَالصُّبْرَةُ الْمَجْهُولَةُ الْقَدْرِ الْمَعْلُومَةُ بِالرُّؤْيَةِ، إِمَّا أَنْ تُبَاعَ بِثَمَنٍ إِجْمَالِيٍّ، وَإِمَّا أَنْ تُبَاعَ
__________
(1) الشرح الصغير 3 / 35 - 37(9/74)
عَلَى أَسَاسِ السِّعْرِ الإِْفْرَادِيِّ، كَمَا لَوْ قَال: كُل صَاعٍ مِنْهَا بِكَذَا.
فَأَمَّا النَّوْعُ الأَْوَّل، فَقَدْ قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لاَ نَعْلَمُ فِي جَوَازِهِ خِلاَفًا إِنْ كَانَ مِمَّا يَتَسَاوَى أَجْزَاؤُهُ. وَيُشْتَرَطُ عِنْدَ الْجَمِيعِ أَنْ لاَ يَكُونَ مِنَ الأَْمْوَال الرِّبَوِيَّةِ إِذَا بِيعَ شَيْءٌ مِنْهَا بِجِنْسِهِ كَمَا يَأْتِي (1) .
وَأَمَّا الثَّانِي: وَهُوَ بَيْعُ الصُّبْرَةِ الَّتِي يُجْهَل مِقْدَارُ كَيْلِهَا أَوْ وَزْنِهَا عَلَى أَسَاسِ سِعْرِ وَحْدَةِ الْكَيْل أَوِ الْوَزْنِ، فَقَدْ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إِلَى جَوَازِ بَيْعِ الصُّبْرَةِ الَّتِي يُجْهَل عَدَدُ صِيعَانِهَا مُجَازَفَةً، بِأَنْ يَقُول: بِعْتُكَ هَذِهِ الصُّبْرَةَ مِنَ الطَّعَامِ كُل صَاعٍ بِدِرْهَمٍ؛ لأَِنَّ رُؤْيَةَ الصُّبْرَةِ تَكْفِي فِي تَقْدِيرِهَا، وَلاَ يَضُرُّ الْجَهْل بِجُمْلَةِ الثَّمَنِ؛ لأَِنَّ بِالإِْمْكَانِ مَعْرِفَتُهُ بِالتَّفْصِيل بِكَيْل الصُّبْرَةِ، فَيَرْتَفِعُ الْغَرَرُ، وَتَزُول الْجَهَالَةُ.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِلَى أَنَّ الْبَيْعَ يَجُوزُ فِي قَفِيزٍ وَاحِدٍ، وَلاَ يَجُوزُ فِي الصُّبْرَةِ كُلِّهَا، إِلاَّ إِذَا عُرِفَ عَدَدُ الصِّيعَانِ، وَذَلِكَ لِتَعَذُّرِ صَرْفِ الْبَيْعِ إِلَى الْكُل لِلْجَهَالَةِ بِالْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ، فَيُصْرَفُ إِلَى الأَْقَل وَهُوَ مَعْلُومٌ.
فَإِذَا زَالَتِ الْجَهَالَةُ بِتَسْمِيَةِ جُمْلَةِ الْقُفْزَانِ، أَوْ بِأَنْ تُكَال الصُّبْرَةُ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ، جَازَ بَيْعُ
__________
(1) المغني 4 / 144(9/74)
الصُّبْرَةِ وَيَخْرُجُ بِذَلِكَ عَنْ أَنْ يَكُونَ جُزَافًا (1) .
تَسَاوِي مَوْضِعِ صُبْرَةِ الطَّعَامِ عِنْدَ بَيْعِهَا جُزَافًا:
5 - لاَ يَحِل لِلْبَائِعِ فِي بَيْعِ صُبْرَةِ الطَّعَامِ جُزَافًا أَنْ يَضَعَهَا عَلَى مَوْضِعٍ يَنْقُصُهَا، كَأَنْ تَكُونَ عَلَى دِكَّةٍ أَوْ حَجَرٍ وَنَحْوِهِ، وَكَذَلِكَ السَّمْنُ وَنَحْوُهُ مِنَ الْمَائِعَاتِ الَّتِي تُبَاعُ بِوَضْعِهَا فِي ظَرْفٍ أَوْ إِنَاءٍ، فَلاَ يَجُوزُ لِلْبَائِعِ - إِنْ بَاعَهَا جُزَافًا - أَنْ يَكُونَ الظَّرْفُ مِمَّا تَخْتَلِفُ أَجْزَاؤُهُ رِقَّةً وَغِلَظًا؛ لأَِنَّ هَذَا غِشٌّ يُؤَدِّي إِلَى الْغَرَرِ وَالْجَهَالَةِ وَالنِّزَاعِ، فَلاَ يُمْكِنُ مَعَهُ تَقْدِيرُهَا بِمُجَرَّدِ رُؤْيَتِهَا.
فَإِذَا كَانَتِ الصُّبْرَةُ عَلَى دِكَّةٍ أَوْ رَبْوَةٍ أَوْ حَجَرٍ لِيُنْقُصَهَا سَوَاءٌ أَقَصَدَ الْبَائِعُ أَمْ لَمْ يَقْصِدُ، فَاشْتَرَاهَا الْمُشْتَرِي وَهُوَ غَيْرُ عَالِمٍ بِذَلِكَ، فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ وَمُلْزِمٌ لِلْبَائِعِ، وَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْعَقْدِ، أَوِ الرُّجُوعِ بِالنَّقْصِ فِي الثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ، بِأَنْ تُقَوَّمَ الصُّبْرَةُ مَغْشُوشَةً مَعَ وَضْعِهَا عَلَى دِكَّةٍ أَوْ حَجَرٍ، وَتُقَوَّمَ بِدُونِ ذَلِكَ، فَمَا نَقَصَ مِنْ ثَمَنِهَا رَجَعَ بِهِ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ.
وَإِنْ بَاعَهُ صُبْرَةَ الطَّعَامِ، وَظَهَرَ أَنَّ تَحْتَهَا حُفْرَةً فَلاَ خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي؛ لأَِنَّ ذَلِكَ يَنْفَعُهُ وَلاَ يَضُرُّهُ، لأَِنَّهُ سَيَزِيدُ فِي قَدْرِهَا.
وَلِلْبَائِعِ الْخِيَارُ إِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِالْحُفْرَةِ (2) .
__________
(1) فتح القدير 5 / 72، والشرح الصغير 3 / 35، ونهاية المحتاج 3 / 392 - 396، وكشاف القناع 3 / 169
(2) الشرح الصغير 3 / 35، وكشاف القناع 3 / 169 - 170، وروضة الطالبين 3 / 358(9/75)
بَيْعُ الْمَذْرُوعَاتِ وَالْمَعْدُودَاتِ الْمُتَفَاوِتَةِ جُزَافًا:
6 - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى جَوَازِ أَنْ يُبَاعَ قَطِيعُ الْمَاشِيَةِ مَعَ الْجَهْل بِعَدَدِهِ، كُل رَأْسٍ بِكَذَا. وَأَنْ تُبَاعَ الأَْرْضُ وَالثَّوْبُ جُزَافًا، كُل ذِرَاعٍ بِكَذَا، مَعَ الْجَهْل بِجُمْلَةِ الذُّرْعَانِ (1) .
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى عَدَمِ الْجَوَازِ، وَهُوَ قَوْل ابْنِ الْقَطَّانِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَكِيلاَتِ وَالْمَوْزُونَاتِ، وَبَيْنَ الْمَعْدُودَاتِ وَالْمَذْرُوعَاتِ: أَنَّ الأُْولَى لاَ تَتَفَاوَتُ أَجْزَاؤُهَا فِي الْعَادَةِ تَفَاوُتًا فَاحِشًا إِذَا فُرِّقَتْ، فَتَكْفِي رُؤْيَتُهَا جُمْلَةً.
أَمَّا الْمَعْدُودَاتُ وَالْمَذْرُوعَاتُ كَالْمَاشِيَةِ وَالأَْرْضِ، فَتَتَفَاوَتُ أَجْزَاؤُهَا إِذَا فُرِّقَتْ، وَلاَ تَكْفِي رُؤْيَتُهَا جُمْلَةً (2) .
الْبَيْعُ جُزَافًا مَعَ عِلْمِ أَحَدِ الْمُتَبَايِعَيْنِ بِقَدْرِ الْمَبِيعِ:
7 - يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ بَيْعِ الْجُزَافِ أَنْ يَكُونَ الْمُتَبَايِعَانِ يَجْهَلاَنِ قَدْرَ الْمَبِيعِ جَمِيعًا، أَوْ يَعْلَمَانِهِ جَمِيعًا، وَلاَ يَجُوزُ الْبَيْعُ جُزَافًا مَعَ عِلْمِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بِقَدْرِ الْمَبِيعِ دُونَ الآْخَرِ، وَذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَفِي وَجْهٍ لِلشَّافِعِيَّةِ (3) .
__________
(1) الشرح الصغير 3 / 34، 35، وروضة الطالبين 3 / 366، والمغني 4 / 144
(2) فتح القدير 5 / 72
(3) حاشية الدسوقي 3 / 20، وروضة الطالبين 3 / 358، والمغني 4 / 137(9/75)
وَوَجْهُ عَدَمِ الْجَوَازِ عِنْدَهُمْ: مَا فِيهِ مِنَ الْغَرَرِ، فَإِنَّ بَيْعَ الْجُزَافِ جَازَ لِلضَّرُورَةِ وَالْحَاجَةِ فِيمَا يُبَاعُ تَخْمِينًا وَحَزْرًا، فَإِذَا عُرِفَ قَدْرُهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُبَاعَ جُزَافًا إِذْ لاَ ضَرُورَةَ فِيهِ.
وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ الْمُشْتَرِي السِّلْعَةَ الَّتِي اشْتَرَاهَا جُزَافًا، إِذَا عَلِمَ بِعِلْمِ الْبَائِعِ بِقَدْرِهَا، وَلِلْبَائِعِ فَسْخُ الْعَقْدِ إِذَا عَلِمَ بِعِلْمِ الْمُشْتَرِي بِقَدْرِهَا.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ يَصِحُّ مَعَ عِلْمِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بِمِقْدَارِ الْمَبِيعِ.
وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ بِكَرَاهَتِهِ وَعَدَمِ تَحْرِيمِهِ، مُرَاعَاةً لِخِلاَفِ الْعُلَمَاءِ فِيهِ (1) .
بَيْعُ الرِّبَوِيِّ بِجِنْسِهِ جُزَافًا:
8 - لاَ يَجُوزُ أَنْ يُبَاعَ الْمَال الرِّبَوِيُّ بِجِنْسِهِ مُجَازَفَةً. لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ، مِثْلاً بِمِثْلٍ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ. يَدًا بِيَدٍ (2)
فَدَل الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يُبَاعُ الرِّبَوِيُّ بِجِنْسِهِ إِلاَّ بِتَحَقُّقِ الْمُمَاثَلَةِ بَيْنَهُمَا، وَإِلاَّ بِالتَّقَابُضِ.
وَلاَ يُمْكِنُ أَنْ تَتَحَقَّقَ الْمُمَاثَلَةُ فِي الْبَيْعِ الْجُزَافِ، لأَِنَّهُ قَائِمٌ عَلَى التَّخْمِينِ وَالتَّقْدِيرِ،
__________
(1) المغني 4 / 173
(2) حديث: " الذهب بالذهب. . . " أخرجه مسلم (3 / 1211 ط الحلبي)(9/76)
فَيَبْقَى احْتِمَال الرِّبَا قَائِمًا، وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْمُزَابَنَةِ وَهِيَ بَيْعُ الثَّمَرِ الرُّطَبِ بِالثَّمَرِ الْجَافِّ، وَذَلِكَ فِيمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَبِيعَ الرَّجُل تَمْرَ حَائِطِهِ إِنْ كَانَ نَخْلاً بِتَمْرٍ كَيْلاً، وَإِنْ كَانَ كَرْمًا أَنْ يَبِيعَهُ بِزَبِيبٍ كَيْلاً، وَإِنْ كَانَ زَرْعًا أَنْ يَبِيعَهُ بِكَيْل طَعَامٍ، نَهَى عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ (1) .
وَذَلِكَ لأَِنَّهُ يَنْقُصُ إِذَا جَفَّ، فَيَكُونُ مَجْهُول الْمِقْدَارِ.
وَالْقَاعِدَةُ فِي الرِّبَوِيَّاتِ: أَنَّ الْجَهْل بِالتَّمَاثُل كَالْعِلْمِ بِالتَّفَاضُل (2) .
ضَمُّ مَعْلُومٍ فِي الْبَيْعِ أَوْ جُزَافٍ إِلَى جُزَافٍ:
9 - إِذَا ضُمَّ جُزَافٌ إِلَى جُزَافٍ فِي الْبَيْعِ بِثَمَنٍ وَاحِدٍ أَوْ بِثَمَنَيْنِ لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ صِحَّةَ الْبَيْعِ، لأَِنَّهُمَا فِي مَعْنَى الْجُزَافِ الْوَاحِدِ، مِنْ حَيْثُ تَنَاوُل الرُّخْصَةِ لَهُمَا. كَمَا لَوْ قَال: بِعْتُكَ صُبْرَتَيِ التَّمْرِ وَالْحَبِّ هَاتَيْنِ، أَوْ بِعْتُكَ ثَمَرَةَ حَائِطَيَّ هَذَيْنِ جُزَافًا بِثَلاَثِ دَنَانِيرَ، أَوْ قَال: أُولاَهُمَا بِدِينَارٍ، وَالثَّانِيَةُ بِدِينَارَيْنِ.
وَكَذَا لَوْ ضَمَّ إِلَى الْجُزَافِ سِلْعَةً مِمَّا لاَ يُبَاعُ
__________
(1) حديث: " نهى عن المزابنة. . . " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 384 ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1172 ط الحلبي) وانظر نيل الأوطار 5 / 198
(2) روضة الطالبين 3 / 383، وكشاف القناع 3 / 253، والمجموع 10 / 353، وفتح القدير 5 / 470، والدسوقي 3 / 23(9/76)
كَيْلاً أَوْ وَزْنًا، كَمَا لَوْ قَال: بِعْتُكَ هَذِهِ الصُّبْرَةَ وَهَذِهِ الدَّابَّةَ بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ.
أَمَّا إِنْ ضُمَّ فِي الْبَيْعِ إِلَى الْجُزَافِ مَعْلُومٌ بِكَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ أَوْ عَدَدٍ، فَقَدْ يُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَى فَسَادِ الْبَيْعِ؛ لأَِنَّ انْضِمَامَهُ إِلَيْهِ يُصَيِّرُ فِي الْمَعْلُومِ جَهْلاً لَمْ يَكُنْ.
وَقَدْ قَسَّمَ الْمَالِكِيَّةُ (1) انْضِمَامَ الْمَعْلُومِ الْقَدْرِ بِكَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ أَوْ عَدٍّ إِلَى أَرْبَعِ صُوَرٍ: لأَِنَّ الْجُزَافَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الأَْصْل فِيهِ - بِحَسَبِ الْعُرْفِ - أَنْ يُبَاعَ جُزَافًا كَالأَْرْضِ، أَوْ أَنْ يُبَاعَ بِالتَّقْدِيرِ كَالْكَيْل لِلْحُبُوبِ. وَكَذَلِكَ الْمَعْلُومُ الْقَدْرِ الْمُنْضَمُّ إِلَيْهِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ الأَْصْل فِيهِ أَنْ يُبَاعَ جُزَافًا، أَوْ أَنْ يُبَاعَ بِالتَّقْدِيرِ: فَإِنْ كَانَ الْجُزَافُ أَصْلُهُ أَنْ يُبَاعَ جُزَافًا، وَالْمَعْلُومُ الْقَدْرِ أَصْلُهُ أَنْ يُبَاعَ بِالْكَيْل أَوِ الْوَزْنِ أَوِ الْعَدِّ، كَجُزَافِ أَرْضٍ مَعَ مَكِيل حَبٍّ، صَحَّ الْبَيْعُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ؛ لأَِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا بِيعَ عَلَى أَصْلِهِ.
وَيَفْسُدُ الْبَيْعُ فِي الصُّوَرِ الثَّلاَثِ الأُْخْرَى، لِمُخَالَفَةِ الأَْصْل فِي كِلَيْهِمَا أَوْ فِي أَحَدِهِمَا، وَأَمْثِلَتُهَا:
أ - جُزَافُ حَبٍّ مَعَ مَكِيل أَرْضٍ (أَيْ أَرْضٍ مُقَدَّرَةٍ بِالْمِسَاحَةِ) .
ب - جُزَافُ حَبٍّ مَعَ مَكِيل حَبٍّ.
ج - جُزَافُ أَرْضٍ مَعَ مَكِيل أَرْضٍ.
__________
(1) حاشية العدوي على الخرشي 5 / 31(9/77)
هَذَا كُلُّهُ فِي الْجُزَافِ إِذَا بِيعَ عَلَى غَيْرِ كَيْلٍ أَوْ نَحْوِهِ.
أَمَّا إِنْ بِيعَ الْجُزَافُ عَلَى كَيْلٍ أَوْ نَحْوِهِ فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُضَمَّ إِلَيْهِ شَيْءٌ غَيْرُهُ مُطْلَقًا، كَأَنْ قَال: بِعْتُكَ هَذِهِ الصُّبْرَةَ كُل صَاعٍ بِدِرْهَمٍ، عَلَى أَنَّ مَعَ الْمَبِيعِ سِلْعَةَ كَذَا مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةِ ثَمَنٍ لَهَا، بَل ثَمَنُهَا مِنْ جُمْلَةِ مَا اشْتَرَى بِهِ الصُّبْرَةَ؛ لأَِنَّ مَا يَخُصُّ السِّلْعَةَ مِنَ الثَّمَنِ حِينَ الْبَيْعِ مَجْهُولٌ، وَمَعْنًى مُطْلَقًا: أَيْ سَوَاءٌ كَانَتِ السِّلْعَةُ مِنْ جِنْسِ الصُّبْرَةِ، أَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهَا، لأَِنَّهُ إِذَا سَمَّى الثَّمَنَ فَبَانَ أَنَّهُ يُسَاوِي أَكْثَرَ، وَسَامَحَ فِيهِ الْبَائِعُ مِنْ أَجْل إِتْمَامِ الصَّفْقَةِ جُزَافًا، كَانَتِ التَّسْمِيَةُ كَعَدَمِهَا، لأَِنَّهُ صَارَ بِمَثَابَةِ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ.
وَإِذَا لَمْ يُسَمِّ ثَمَنَهَا، كَانَ مَا يَخُصُّ السِّلْعَةَ مِنَ الثَّمَنِ مَجْهُولاً (1) .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: لَوْ قَال: بِعْتُكَ هَذِهِ الصُّبْرَةَ وَقَفِيزًا مِنْ هَذِهِ الصُّبْرَةِ الأُْخْرَى بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ صَحَّ.
أَمَّا لَوْ قَال: بِعْتُكَ هَذِهِ الصُّبْرَةَ، كُل قَفِيزٍ بِدِرْهَمٍ، عَلَى أَنْ أَزِيدَكَ قَفِيزًا مِنْ هَذِهِ الصُّبْرَةِ الأُْخْرَى لَمْ يَصِحَّ. قَالُوا: لإِِفْضَائِهِ إِلَى جَهَالَةِ الثَّمَنِ فِي التَّفْصِيل، لأَِنَّهُ يَصِيرُ قَفِيزًا وَشَيْئًا بِدِرْهَمٍ، وَالشَّيْءُ لاَ يَعْرِفَانِهِ، لِعَدَمِ مَعْرِفَتِهِمَا
__________
(1) نفس المراجع السابقة(9/77)
بِكَمِّيَّةِ مَا فِي الصُّبْرَةِ مِنَ الْقُفْزَانِ (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى بُطْلاَنِ الْبَيْعِ فِي صُورَةِ مَا إِذَا قَال الْبَائِعُ: بِعْتُكَ هَذِهِ الصُّبْرَةَ كُل صَاعٍ بِدِرْهَمٍ، عَلَى أَنْ أَزِيدَكَ صَاعًا مِنْ هَذِهِ الصُّبْرَةِ الأُْخْرَى. لأَِنَّهُ يُفْضِي إِلَى الْجَهَالَةِ فِي جُمْلَةِ الثَّمَنِ وَتَفْصِيلِهِ، فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ بَاعَهُ صَاعًا وَشَيْئًا بِدِرْهَمٍ، وَالشَّيْءُ لاَ يُعْرَفُ، لِلْجَهَالَةِ بِكَمِّيَّةِ مَا فِي الصُّبْرَةِ مِنَ الصِّيعَانِ (2) .
وَلَمْ نَطَّلِعْ عَلَى تَفْصِيلٍ لِلْحَنَفِيَّةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
10 - لَوْ بَاعَ هَذِهِ الصُّبْرَةَ أَوْ نَحْوَهَا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ، كُل صَاعٍ أَوْ رَأْسٍ أَوْ ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ صَحَّ الْبَيْعُ، إِنْ خَرَجَ مَا بَاعَهُ مِائَةً، لِتَوَافُقِ الْجُمْلَةِ وَالتَّفْصِيل فَلاَ غَرَرَ وَلاَ جَهَالَةَ. وَإِنْ لَمْ تَخْرُجْ مِائَةً، بِأَنْ خَرَجَتْ أَقَل أَوْ أَكْثَرَ، لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ عَلَى الصَّحِيحِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَذَلِكَ لِتَعَذُّرِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْجُمْلَةِ وَالثَّمَنِ وَتَفْصِيلِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي عِنْدَهُمْ أَنَّهُ يَصِحُّ تَغْلِيبًا لِلإِْشَارَةِ (3) .
ظُهُورُ الْمَبِيعِ أَقَل أَوْ أَكْثَرُ مِنَ الْمُسَمَّى:
11 - مَنِ ابْتَاعَ صُبْرَةَ طَعَامٍ عَلَى أَنَّهَا مِائَةُ قَفِيزٍ
__________
(1) المغني 4 / 143
(2) المجموع 9 / 314
(3) نهاية المحتاج 3 / 399(9/78)
بِمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَوَجَدَهَا أَقَل أَوْ أَكْثَرَ، وَمَنِ ابْتَاعَ ثَوْبًا عَلَى أَنَّهُ عَشَرَةُ أَذْرُعٍ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ، أَوْ أَرْضًا عَلَى أَنَّهَا مِائَةُ ذِرَاعٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَوَجَدَهَا أَقَل أَوْ أَكْثَرَ، ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى صِحَّةِ الْبَيْعِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، سَوَاءٌ ظَهَرَ الْمَبِيعُ زَائِدًا أَمْ نَاقِصًا عَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِ الاِتِّفَاقُ فِي الْعَقْدِ.
وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْمَبِيعُ ثَوْبًا أَمْ أَرْضًا مِنَ الْمَذْرُوعَاتِ، أَوْ صُبْرَةَ طَعَامٍ مِنَ الْمَكِيلاَتِ.
وَفِي رِوَايَةٍ لِلْحَنَابِلَةِ: أَنَّ الْبَيْعَ بَاطِلٌ، إِذَا كَانَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ أَرْضًا أَوْ ثَوْبًا، وَذَلِكَ لاِخْتِلاَل الْوَصْفِ فِيهِمَا، لأَِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ إِجْبَارُ الْبَائِعِ عَلَى تَسْلِيمِ الزِّيَادَةِ، وَلاَ يُمْكِنُ إِجْبَارُ الْمُشْتَرِي عَلَى أَخْذِ الْبَعْضِ، لأَِنَّهُ اشْتَرَى الْكُل. كَمَا لاَ يُجْبَرَانِ عَلَى الشَّرِكَةِ فِي الْقَدْرِ الزَّائِدِ لِلضَّرَرِ الْحَاصِل بِسَبَبِ الشَّرِكَةِ.
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ - مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ - عَلَى ثُبُوتِ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ فِي حَال الزِّيَادَةِ، وَلِلْمُشْتَرِي فِي حَال النُّقْصَانِ فِي الصُّورَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ.
وَفَرَّقَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بَيْنَ مَا يُبَاعُ ذَرْعًا كَالثَّوْبِ وَالأَْرْضِ، وَبَيْنَ مَا يُبَاعُ كَيْلاً كَصُبْرَةِ الطَّعَامِ، وَلَمْ يُفَرِّقِ الشَّافِعِيَّةُ بَيْنَهُمَا، بَل أَثْبَتُوا الْخِيَارَ لِمَنْ عَلَيْهِ الضَّرَرُ مُطْلَقًا.
فَفِي صُورَةِ مَا إِذَا ابْتَاعَ صُبْرَةً مِنْ طَعَامٍ عَلَى أَنَّهَا مِائَةُ قَفِيزٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَوَجَدَهَا أَقَل. ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِلَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ أَخْذَ الْمَوْجُودِ بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ، وَإِنْ شَاءَ(9/78)
فَسَخَ الْبَيْعَ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الثَّمَنَ يَنْقَسِمُ عَلَى أَجْزَاءِ الْمَبِيعِ الْمِثْلِيِّ مَكِيلاً أَوْ مَوْزُونًا، وَلَمْ يَتِمَّ رِضَا الْمُشْتَرِي بِهِ لأَِنَّهُ أَقَل مِمَّا تَمَّ الْعَقْدُ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا كَانَ لَهُ خِيَارُ أَخْذِ الْمَوْجُودِ بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ، وَكَانَ لَهُ خِيَارُ الْفَسْخِ لأَِنَّهُ وَجَدَ الْمَبِيعَ نَاقِصًا.
وَفِي قَوْلٍ لِلْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ خِيَارُ الْفَسْخِ؛ لأَِنَّ نُقْصَانَ الْقَدْرِ لَيْسَ بِعَيْبٍ فِي الْبَاقِي مِنَ الْكَيْل.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ الْمَوْجُودَ بِكُل الثَّمَنِ الْمُسَمَّى، وَبَيْنَ الْفَسْخِ.
وَإِذَا وَجَدَ الصُّبْرَةَ أَكْثَرَ مِمَّا تَمَّ عَلَيْهِ الاِتِّفَاقُ: رَدَّ الْمُشْتَرِي الزِّيَادَةَ لِلْبَائِعِ لأَِنَّهُ تَضَرَّرَ بِالزِّيَادَةِ، وَلأَِنَّ الْبَيْعَ وَقَعَ عَلَى مِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ، فَمَا زَادَ عَلَيْهِ لاَ يَدْخُل فِي الْبَيْعِ. وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: يَثْبُتُ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ، وَلاَ يَسْقُطُ خِيَارُهُ فِيمَا إِذَا قَال الْمُشْتَرِي لِلْبَائِعِ: لاَ تَفْسَخْ، وَأَنَا أَقْنَعُ بِالْقَدْرِ الْمَشْرُوطِ، أَوْ أَنَا أُعْطِيكَ ثَمَنَ الزَّائِدِ.
وَإِذَا كَانَ مَا يُبَاعُ جُزَافًا مَذْرُوعًا كَالثَّوْبِ وَالأَْرْضِ، وَظَهَرَ أَنَّهُ أَقَل مِمَّا اتُّفِقَ عَلَيْهِ فِي الْعَقْدِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: إِلَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ الْمَوْجُودَ بِجُمْلَةِ الثَّمَنِ وَبَيْنَ أَنْ يَتْرُكَ الْبَيْعَ، وَلاَ يَسْقُطُ خِيَارُ الْمُشْتَرِي فِيمَا إِذَا حَطَّ الْبَائِعُ مِنَ الثَّمَنِ قَدْرَ النَّقْصِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ(9/79)
أَنْ يَأْخُذَ الْمَوْجُودَ بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ، أَوْ أَنْ يَتْرُكَ الْبَيْعَ.
وَإِذَا ظَهَرَ أَنَّ الْمَبِيعَ أَكْثَرُ مِمَّا اتُّفِقَ عَلَيْهِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الزِّيَادَةَ لِلْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ نَفْسِهِ، لأَِنَّ الذَّرْعَ كَالْوَصْفِ، وَالأَْوْصَافُ لاَ يُقَابِلُهَا شَيْءٌ مِنَ الثَّمَنِ، وَلاَ خِيَارَ لِلْبَائِعِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: إِلَى أَنَّ الْبَائِعَ بِالْخِيَارِ.
وَلِلْحَنَابِلَةِ تَفْصِيلٌ فِي مَذْهَبِهِمْ:
فَذَهَبُوا إِلَى تَخْيِيرِ الْبَائِعِ بَيْنَ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ زَائِدًا، وَبَيْنَ تَسْلِيمِ الْقَدْرِ الْمَوْجُودِ. فَإِنْ رَضِيَ بِتَسْلِيمِ الْجَمِيعِ فَلاَ خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي، لأَِنَّهُ زَادَهُ خَيْرًا. وَإِنْ أَبَى تَسْلِيمَهُ زَائِدًا، فَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ بَيْنَ الْفَسْخِ أَوِ الأَْخْذِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ الْمُسَمَّى وَقِسْطِ الزَّائِدِ.
فَإِنْ رَضِيَ بِالأَْخْذِ أَخَذَ الْعَشَرَةَ، وَالْبَائِعُ شَرِيكٌ لَهُ فِي الذِّرَاعِ.
وَفِي تَخْيِيرِ الْبَائِعِ فِي الْفَسْخِ وَجْهَانِ.
الأَْوَّل: لَهُ الْفَسْخُ؛ لأَِنَّ عَلَيْهِ ضَرَرًا فِي الْمُشَارَكَةِ.
الثَّانِي: لاَ خِيَارَ لَهُ، لأَِنَّهُ رَضِيَ بِبَيْعِ الْجَمِيعِ بِهَذَا الثَّمَنِ.
فَإِذَا وَصَل إِلَيْهِ الثَّمَنُ مَعَ بَقَاءِ جُزْءٍ لَهُ فِيهِ كَانَ زِيَادَةً عَلَى مَا رَضِيَ بِهِ مِنَ الثَّمَنِ، فَلاَ يَسْتَحِقُّ بِهَا الْفَسْخَ. فَإِنْ بَذَلَهَا الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي بِثَمَنٍ، أَوْ طَلَبَهَا الْمُشْتَرِي بِثَمَنٍ، لَمْ يَلْزَمِ الآْخَرَ الْقَبُول،(9/79)
لأَِنَّهَا مُعَاوَضَةٌ يُعْتَبَرُ فِيهَا التَّرَاضِي مِنْهُمَا، فَلاَ يُجْبَرُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَيْهِ. وَإِنْ تَرَاضَيَا عَلَى ذَلِكَ جَازَ.
وَوَجْهُ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْمَذْرُوعَاتِ وَالْمَكِيلاَتِ: أَنَّ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ فِي الْعَقْدِ عَلَى الْمَكِيلاَتِ هُوَ الْقَدْرُ، أَمَّا فِي الْمَذْرُوعَاتِ فَهُوَ الْوَصْفُ.
وَالْقَدْرُ يُقَابِلُهُ الثَّمَنُ، أَمَّا الْوَصْفُ فَهُوَ تَابِعٌ لِلْمَبِيعِ، وَلاَ يُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنَ الثَّمَنِ. وَلِهَذَا يَأْخُذُ الْمَبِيعَ بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ، إِذَا فَاتَ الْقَدْرُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ. وَيَأْخُذُ الْمَبِيعَ بِالثَّمَنِ كَامِلاً، إِذَا فَاتَ الْوَصْفُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ. فَلَوْ قَال الْبَائِعُ: بِعْتُكَ الثَّوْبَ عَلَى أَنَّهُ مِائَةُ ذِرَاعٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ، كُل ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ، فَوَجَدَهَا نَاقِصَةً، فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ أَخَذَهَا بِحِصَّتِهَا مِنَ الثَّمَنِ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ.
لأَِنَّ الْوَصْفَ وَإِنْ كَانَ تَابِعًا لِلْمَبِيعِ، إِلاَّ أَنَّهُ صَارَ أَصْلاً، لأَِنَّهُ أُفْرِدَ بِذِكْرِ الثَّمَنِ، فَيُنَزَّل كُل ذِرَاعٍ مَنْزِلَهُ ثَوْبٍ مُسْتَقِلٍّ.
لأَِنَّهُ لَوْ أَخَذَ بِكُل الثَّمَنِ لَمْ يَكُنْ آخِذًا لِكُل ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ. فَإِنْ وَجَدَهَا زَائِدَةً، فَهُوَ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ أَخَذَ الْجَمِيعَ كُل ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ، وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ، لأَِنَّهُ إِنْ حَصَل لَهُ الزِّيَادَةُ فِي الذَّرْعِ تَلْزَمُهُ زِيَادَةُ الثَّمَنِ، فَكَانَ نَفْعًا يَشُوبُهُ ضَرَرٌ، فَيُخَيَّرُ بَيْنَ أَخْذِ الزِّيَادَةِ وَبَيْنَ فَسْخِ الْبَيْعِ (1) .
__________
(1) فتح القدير 5 / 476، 477، 478، ونهاية المحتاج 3 / 400، 401، والمغني 4 / 146 - 147(9/80)
بَيْعُ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي
التَّعْرِيفُ:
1 - الْحَاضِرُ: ضِدُّ الْبَادِي، وَالْحَاضِرَةُ ضِدُّ الْبَادِيَةِ (1) .
وَالْحَاضِرُ: مَنْ كَانَ مِنْ أَهْل الْحَضَرِ، وَهُوَ سَاكِنُ الْحَاضِرَةِ، وَهِيَ الْمُدُنُ وَالْقُرَى، وَالرِّيفُ وَهُوَ أَرْضٌ فِيهَا - عَادَةً - زَرْعٌ وَخَصْبٌ.
وَقَال الشَّلَبِيُّ: الْحَاضِرُ: الْمُقِيمُ فِي الْمَدَنِ وَالْقُرَى. وَالْبَادِي: سَاكِنُ الْبَادِيَةِ، وَهِيَ مَا عَدَا ذَلِكَ الْمَذْكُورَ مِنَ الْمَدَنِ وَالْقُرَى وَالرِّيفِ، قَال تَعَالَى: {وَإِنْ يَأْتِ الأَْحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأَْعْرَابِ} (2) أَيْ نَازِلُونَ، وَقَال الشَّلَبِيُّ: الْمُقِيمُ بِالْبَادِيَةِ. وَالنِّسْبَةُ إِلَى الْحَاضِرَةِ: حَضَرِيٌّ، وَإِلَى الْبَادِيَةِ بَدَوِيٌّ (3) .
وَعَبَّرَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: بِبَيْعِ حَاضِرٍ لِعَمُودِيٍّ،
__________
(1) مختار الصحاح، مادة: " حضر "
(2) سورة الأحزاب / 20
(3) شرح المحلي على المنهاج وحاشية القليوبي وعميرة عليه 2 / 182، 183، وتحفة المحتاج 4 / 309، ورد المحتار 4 / 132، وحاشية الشلبي على تبيين الحقائق 4 / 68(9/80)
وَالْعَمُودِيُّ هُوَ الْبَدَوِيُّ، نِسْبَةً إِلَى عَمُودٍ؛ لأَِنَّ الْبَدْوَ يَسْكُنُونَ الْخِيَامَ (1) .
غَيْرَ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ اعْتَبَرُوا الْبَدْوِيَّ شَامِلاً لِلْمُقِيمِ فِي الْبَادِيَةِ، وَلِكُل مَنْ يَدْخُل الْبَلْدَةَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا، سَوَاءٌ أَكَانَ بَدْوِيًّا، أَمْ كَانَ مِنْ قَرْيَةٍ أَوْ بَلْدَةٍ أُخْرَى (2) .
وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ (3) .
2 - وَالْمُرَادُ بِبَيْعِ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي عِنْدَ الْجُمْهُورِ: أَنْ يَتَوَلَّى الْحَضَرِيُّ بَيْعَ سِلْعَةِ الْبَدْوِيِّ، بِأَنْ يَصِيرَ الْحَاضِرُ سِمْسَارًا لِلْبَادِي الْبَائِعِ.
قَال الْحَلْوَانِيُّ: هُوَ أَنْ يَمْنَعَ السِّمْسَارُ الْحَاضِرُ الْقَرَوِيَّ مِنَ الْبَيْعِ، وَيَقُول لَهُ: لاَ تَبِعْ أَنْتَ، أَنَا أَعْلَمُ بِذَلِكَ، فَيَتَوَكَّل لَهُ، وَيَبِيعُ وَيُغَالِي، وَلَوْ تَرَكَهُ يَبِيعُ بِنَفْسِهِ لَرَخَّصَ عَلَى النَّاسِ (4) .
فَالْبَيْعُ - عَلَى هَذَا - هُوَ مِنَ الْحَاضِرِ لِلْحَاضِرِ نِيَابَةً عَنِ الْبَادِي، بِثَمَنٍ أَغْلَى.
وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ، تَكُونُ اللاَّمُ فِي وَلاَ يَبِيعُ حَاضِرٌ لِبَادٍ عَلَى حَقِيقَتِهَا كَمَا يَقُول ابْنُ عَابِدِينَ، وَهِيَ: التَّعْلِيل.
3 - وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ - كَصَاحِبِ الْهِدَايَةِ -
__________
(1) الشرح الكبير للدردير 3 / 69، والقوانين الفقهية ص 171
(2) المغني 4 / 279، وكشاف القناع 3 / 184
(3) أشار إليه ابن جزي في القوانين الفقهية ص 171 بصيغة التضعيف: قيل
(4) فتح القدير 6 / 107، ورد المحتار 4 / 133، والشرح الكبير للدردير 3 / 69، والقوانين الفقهية ص 171، وتحفة المحتاج 4 / 309، 310، والمغني 4 / 279(9/81)
إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَدِيثِ: أَنْ يَبِيعَ الْحَضَرِيُّ سِلْعَتَهُ مِنَ الْبَدْوِيِّ، وَذَلِكَ طَمَعًا فِي الثَّمَنِ الْغَالِي، فَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، لِمَا فِيهِ مِنَ الإِْضْرَارِ بِأَهْل الْبَلَدِ (1) . وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ تَكُونُ اللاَّمُ فِي وَلاَ يَبِيعُ حَاضِرٌ لِبَادٍ بِمَعْنَى مِنْ - كَمَا يَقُول الْبَابَرْتِيُّ (2) -: فَهَذَا تَفْسِيرُ مَنْ قَال: إِنَّ الْحَاضِرَ هُوَ الْمَالِكُ، وَالْبَادِي هُوَ الْمُشْتَرِي.
قَال الْخَيْرُ الرَّمْلِيُّ: وَيَشْهَدُ لِصِحَّةِ هَذَا التَّفْسِيرِ، مَا فِي الْفُصُول الْعِمَادِيَّةِ، عَنْ أَبِي يُوسُفَ: لَوْ أَنَّ أَعْرَابًا قَدِمُوا الْكُوفَةَ، وَأَرَادُوا أَنْ يَمْتَارُوا (يَتَزَوَّدُوا مِنَ الطَّعَامِ) مِنْهَا، أَلاَ تَرَى أَنَّ أَهْل الْبَلْدَةِ يُمْنَعُونَ عَنِ الشِّرَاءِ لِلْحُكْرَةِ، فَهَذَا أَوْلَى (3) .
وَصَرَّحَ الْحَصْكَفِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ (4) ، بِأَنَّ الأَْصَحَّ - كَمَا فِي الْمُجْتَبَى - أَنَّهُمَا: السِّمْسَارُ وَالْبَائِعُ (وَهُوَ التَّفْسِيرُ الأَْوَّل الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ) وَذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ:
أَوَّلُهُمَا: مُوَافَقَتُهُ لآِخِرِ الْحَدِيثِ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ: دَعُوا النَّاسَ، يَرْزُقُ اللَّهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ (5)
__________
(1) الهداية بشروحها 6 / 107، والدر المختار 4 / 132
(2) شرح العناية على الهداية 6 / 108
(3) رد المحتار 4 / 132، وانظر في هذا التفسير أيضا: تبيين الحقائق، وحاشية الشلبي عليه 4 / 68
(4) المصباح المنير، مادة: " بيع "، ورد المحتار 4 / 133
(5) الحديث يأتي تخريجه (ف 4)(9/81)
الآْخَرُ: أَنَّهُ عُدِّيَ بِاللاَّمِ، لاَ بِمِنْ.
فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، كَالْجُمْهُورِ فِي تَفْسِيرِ الْحَدِيثِ (1) .
النَّهْيُ عَنْ هَذَا الْبَيْعِ:
4 - لاَ يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي مَنْعِ هَذَا الْبَيْعِ. فَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهُ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ مِنْهَا:
حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ قَال: لاَ تَلَقُّوا الرُّكْبَانَ، وَلاَ يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَلاَ تَنَاجَشُوا، وَلاَ يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ، وَلاَ تَصُرُّوا الْغَنَمَ (2)
وَمِنْهَا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ، دَعُوا النَّاسَ، يَرْزُقُ اللَّهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ (3)
وَمِنْهَا حَدِيثُ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: نُهِينَا أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ، وَإِنْ كَانَ أَخَاهُ وَأَبَاهُ
وَفِي لَفْظٍ وَإِنْ كَانَ أَخَاهُ لأَِبِيهِ وَأُمِّهِ (4) .
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار 4 / 132 و 133
(2) حديث أبي هريرة " لا تلقوا الركبان، ولا يبع بعضكم على بيع بعض. . . ". أخرجه البخاري (4 / 361 الفتح ط السلفية) ومسلم (2 / 1155 ط الحلبي) واللفظ له
(3) حديث ابن عباس: " لا تلقوا الركبان. . " أخرجه البخاري (4 / 370 الفتح ط السلفية) ، ومسلم (2 / 1157 ط الحلبي)
(4) حديث أنس: " نهينا أن يبيع حاضر لباد، وإن كان أخاه وأباه ". أخرجه البخاري (الفتح 4 / 373 ط السلفية) ، ومسلم (2 / 1158 ط الحلبي) والشطر الثاني تفرد به مسلم(9/82)
عِلَّةُ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي:
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي عِلَّةِ هَذَا النَّهْيِ:
5 - (أ) فَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، بِنَاءً عَلَى التَّفْسِيرِ الأَْوَّل، أَنَّ الْمَعْنَى فِي النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ، هُوَ مَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ هَذَا الْبَيْعُ مِنَ الإِْضْرَارِ بِأَهْل الْبَلَدِ (1) ، وَالتَّضْيِيقُ عَلَى النَّاسِ (2) . وَالْقَصْدُ أَنْ يَبِيعُوا لِلنَّاسِ بِرُخْصٍ (3) .
قَال ابْنُ الْقَاسِمِ: لَمْ يَخْتَلِفْ أَهْل الْعِلْمِ فِي أَنَّ النَّهْيَ عَنْ بَيْعِ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي إِنَّمَا هُوَ لِنَفْعِ الْحَاضِرَةِ (4) ، لأَِنَّهُ مَتَى تَرَكَ الْبَدْوِيُّ يَبِيعُ سِلْعَتَهُ، اشْتَرَاهَا النَّاسُ بِرُخْصٍ، وَيُوَسِّعُ عَلَيْهِمُ السِّعْرَ، فَإِذَا تَوَلَّى الْحَاضِرُ بَيْعَهَا، وَامْتَنَعَ مِنْ بَيْعِهَا إِلاَّ بِسِعْرِ الْبَلَدِ، ضَاقَ عَلَى أَهْل الْبَلَدِ، وَقَدْ أَشَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَعْلِيلِهِ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى (5) .
6 - (ب) وَمَذْهَبُ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ، كَالْمَرْغِينَانِيِّ - عَلَى مَا بَيَّنَّا - وَالْكَاسَانِيِّ، وَكَذَلِكَ التُّمُرْتَاشِيُّ - فِيمَا يَبْدُو بِنَاءً عَلَى التَّفْسِيرِ الثَّانِي - أَنَّ الْمَعْنَى فِي النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ، وَهُوَ الإِْضْرَارُ بِأَهْل الْمِصْرِ، مِنْ
__________
(1) تبيين الحقائق 4 / 68
(2) شرح المحلي على المنهاج 2 / 182، وشرح المنهج بحاشية الجمل 3 / 87
(3) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير 3 / 69
(4) حاشية العدوي على شرح الخرشي 5 / 84
(5) المغني 4 / 280، وكشاف القناع 3 / 184(9/82)
جِهَةٍ أُخْرَى غَيْرِ الرُّخْصِ، وَهِيَ: أَنْ يَكُونَ أَهْل الْبَلَدِ فِي حَال قَحْطٍ وَعَوَزٍ إِلَى الطَّعَامِ وَالْعَلَفِ، فَلاَ يَبِيعُهُمَا الْحَضَرِيُّ - مَعَ ذَلِكَ - إِلاَّ لأَِهْل الْبَدْوِ، بِثَمَنٍ غَالٍ (1) .
قُيُودُ النَّهْيِ:
قَيَّدَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ النَّهْيَ عَنْ بَيْعِ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي، بِقُيُودٍ وَشُرُوطٍ شَتَّى مِنْهَا:
7 - أَنْ يَكُونَ مَا يَقْدُمُ بِهِ الْبَادِي، مِمَّا تَعُمُّ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ
، سَوَاءٌ أَكَانَ مَطْعُومًا أَمْ غَيْرَ مَطْعُومٍ، فَمَا لاَ يُحْتَاجُ إِلَيْهِ إِلاَّ نَادِرًا، لاَ يَدْخُل تَحْتَ النَّهْيِ (2) .
8 - وَأَنْ يَكُونَ قَصْدُ الْبَادِي الْبَيْعَ حَالاً، وَهُوَ مَا عَبَّرُوا عَنْهُ بِالْبَيْعِ بِسِعْرِ يَوْمِهِ، فَلَوْ كَانَ قَصْدُهُ الْبَيْعَ عَلَى التَّدْرِيجِ، فَسَأَلَهُ الْبَلَدِيُّ تَفْوِيضَ ذَلِكَ إِلَيْهِ فَلاَ بَأْسَ بِهِ، لأَِنَّهُ لَمْ يَضُرَّ بِالنَّاسِ، وَلاَ سَبِيل إِلَى مَنْعِ الْمَالِكِ مِنْهُ (3) .
وَهَذَانِ الشَّرْطَانِ لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
9 - وَأَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ عَلَى التَّدْرِيجِ بِأَغْلَى مِنْ بَيْعِهِ حَالاً، كَمَا اسْتَظْهَرَهُ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ.
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 232، والهداية بشروحها 6 / 107، والدر المختار 4 / 132، وتبيين الحقائق 4 / 68
(2) تحفة المحتاج 4 / 309، وشرح المحلي على المنهاج 2 / 182، والمغني 4 / 280، وكشاف القناع 3 / 184
(3) شرح المحلي على المنهاج 2 / 182، والمغني 4 / 280، وكشاف القناع 3 / 184(9/83)
قَالُوا: لأَِنَّهُ إِذَا سَأَل الْحَضَرِيَّ أَنْ يُفَوِّضَ لَهُ بَيْعَهُ، بِسِعْرِ يَوْمِهِ عَلَى التَّدْرِيجِ، لَمْ يَحْمِلْهُ ذَلِكَ عَلَى مُوَافَقَتِهِ، فَلاَ يَكُونُ سَبَبًا لِلتَّضْيِيقِ، بِخِلاَفِ مَا إِذَا سَأَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُ بِأَغْلَى، فَالزِّيَادَةُ رُبَّمَا حَمَلَتْهُ عَلَى الْمُوَافَقَةِ، فَيُؤَدِّي إِلَى التَّضْيِيقِ (1) .
10 - وَأَنْ يَكُونَ الْبَادِي جَاهِلاً بِالسِّعْرِ (2) ، لأَِنَّهُ إِذَا عَلِمَهُ لَمْ يَزِدْهُ الْحَاضِرُ عَلَى مَا عِنْدَهُ (3) ، وَلأَِنَّ النَّهْيَ لأَِجْل أَنْ يَبِيعُوا لِلنَّاسِ بِرُخْصٍ، وَهَذِهِ الْعِلَّةُ إِنَّمَا تُوجَدُ إِذَا كَانُوا جَاهِلِينَ بِالأَْسْعَارِ، فَإِذَا عَلِمُوا بِالأَْسْعَارِ فَلاَ يَبِيعُونَ إِلاَّ بِقِيمَتِهَا كَمَا يَبِيعُ الْحَاضِرُ، فَبَيْعُ الْحَاضِرِ حِينَئِذٍ بِمَنْزِلَةِ بَيْعِهِمْ (4) . وَهَذَا الشَّرْطُ لِلْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ أَطْلَقَ الْخَرَشِيُّ النَّهْيَ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْبَدْوِيُّ جَاهِلاً بِالأَْسْعَارِ أَمْ لاَ (5) .
وَاخْتُلِفَ فِي الْمُعْتَمَدِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ:
فَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْعَدَوِيِّ: شَرْطُ الْجَهْل بِالأَْسْعَارِ (6) . وَهُوَ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ ابْنُ جُزَيٍّ (7) .
__________
(1) حاشية الجمل على شرح المنهج 3 / 86
(2) الشرح الكبير للدردير بحاشية الدسوقي 3 / 69، والمغني 4 / 280، وكشاف القناع 3 / 184
(3) كشاف القناع 3 / 184
(4) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير 3 / 69
(5) شرح الخرشي 5 / 83
(6) حاشية العدوي على شرح الخرشي 5 / 83
(7) القوانين الفقهية ص 171(9/83)
وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ آخَرِينَ - كَمَا نَقَلَهُ الدُّسُوقِيُّ - هُوَ الإِْطْلاَقُ (1) .
11 - وَاشْتَرَطَ الْحَنَابِلَةُ أَنْ يَكُونَ الْبَادِي قَدْ جَلَبَ السِّلَعَ، وَحَضَرَ لِبَيْعِهَا، لأَِنَّهُ إِذَا حَضَرَ لِخَزْنِهَا أَوْ أَكْلِهَا، فَقَصَدَهُ الْحَاضِرُ، وَحَضَّهُ عَلَى بَيْعِهَا، كَانَ تَوْسِعَةً لاَ تَضْيِيقًا (2) .
12 - وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ لِحَاضِرٍ، فَلَوْ بَاعَ الْحَاضِرُ لِبَدَوِيٍّ مِثْلِهِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ؛ لأَِنَّ الْبَدْوِيَّ لاَ يَجْهَل أَسْعَارَ هَذِهِ السِّلَعِ، فَلاَ يَأْخُذُهَا إِلاَّ بِأَسْعَارِهَا، سَوَاءٌ اشْتَرَاهَا مِنْ حَضَرِيٍّ أَمْ مِنْ بَدْوِيٍّ، فَبَيْعُ الْحَضَرِيِّ لَهُ بِمَنْزِلَةِ بَيْعِ بَدَوِيٍّ لِبَدَوِيٍّ (3) .
13 - وَاشْتَرَطَ الْحَنَابِلَةُ أَنْ يَقْصِدَ الْبَدْوِيَّ حَاضِرٌ عَارِفٌ بِالسِّعْرِ، فَإِنْ قَصَدَهُ الْبَادِي لَمْ يَكُنْ لِلْحَاضِرِ أَثَرٌ فِي عَدَمِ التَّوْسِعَةِ (4) .
فَإِنِ اخْتَل شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ الْمَنْعِ لَمْ يَحْرُمِ (5) الْبَيْعُ مِنَ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي عِنْدَ الْقَائِل بِذَلِكَ الشَّرْطِ.
14 - وَالْحَنَفِيَّةُ، الَّذِينَ صَوَّرَ بَعْضُهُمُ النَّهْيَ: بِأَنْ يَبِيعَ الْحَاضِرُ طَعَامًا أَوْ عَلَفًا لِلْبَادِي
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير 3 / 69
(2) كشاف القناع 3 / 184، والمغني 4 / 280
(3) الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي عليه 3 / 69
(4) كشاف القناع 3 / 184
(5) المرجع السابق(9/84)
طَمَعًا فِي الثَّمَنِ الْغَالِي، قَيَّدُوا التَّحْرِيمَ بِأَنْ يَضُرَّ الْبَيْعُ بِأَهْل الْبَلَدِ، بِأَنْ يَكُونُوا فِي قَحْطٍ مِنَ الطَّعَامِ وَالْعَلَفِ، فَإِنْ كَانُوا فِي خِصْبٍ وَسَعَةٍ فَلاَ بَأْسَ بِهِ لاِنْعِدَامِ الضَّرَرِ (1) ، وَعِبَارَةُ الْحَصْكَفِيِّ: وَهَذَا فِي حَال قَحْطٍ وَعَوَزٍ، وَإِلاَّ لاَ، لاِنْعِدَامِ الضَّرَرِ (2) .
15 - أَمَّا الَّذِينَ صَوَّرُوا مِنْهُمُ النَّهْيَ: بِأَنْ يَتَوَلَّى الْحَاضِرُ بَيْعَ سِلْعَةِ الْبَدَوِيِّ، وَيُغَالِيَ فِيهَا، وَهَذَا هُوَ الأَْصَحُّ (3) ، فَقَدْ قَيَّدُوهُ.
- بِأَنْ تَكُونَ السِّلْعَةُ مِمَّا تَعُمُّ الْحَاجَةُ إِلَيْهَا كَالأَْقْوَاتِ، فَإِنْ كَانَتْ لاَ تَعُمُّ، أَوْ كَثُرَ الْقُوتُ وَاسْتُغْنِيَ عَنْهُ، فَفِي التَّحْرِيمِ تَرَدُّدٌ (4) .
- وَبِمَا إِذَا كَانَ أَهْل الْحَضَرِ يَتَضَرَّرُونَ بِذَلِكَ (5) .
حُكْمُ بَيْعِ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي:
16 - (أ) ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ مُحَرَّمٌ مَعَ صِحَّتِهِ، وَصَرَّحَ بِهِ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ (6) وَعَبَّرَ عَنْهُ بَعْضُهُمْ بِالْكَرَاهَةِ، وَهِيَ لِلتَّحْرِيمِ عِنْدَ
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 232
(2) الدر المختار 4 / 132، والهداية وفتح القدير 6 / 107
(3) الدر المختار 4 / 132
(4) حاشية الشلبي على تبيين الحقائق 4 / 68
(5) تبيين الحقائق في الموضع السابق، وبدائع الصنائع 5 / 232
(6) حاشية الشلبي على تبيين الحقائق 4 / 68، والدر المختار 4 / 132، والهداية بشروحها 6 / 108(9/84)
الإِْطْلاَقِ. كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، لَكِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ صَحِيحٌ عِنْدَ جُمْهُورِهِمْ، كَمَا هُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ.
وَالنَّهْيُ عَنْهُ لاَ يَسْتَلْزِمُ الْفَسَادَ وَالْبُطْلاَنَ، لأَِنَّهُ لاَ يَرْجِعُ إِلَى ذَاتِ الْبَيْعِ، لأَِنَّهُ لَمْ يَفْقِدْ رُكْنًا، وَلاَ إِلَى لاَزِمِهِ، لأَِنَّهُ لَمْ يَفْقِدْ شَرْطًا، بَل هُوَ رَاجِعٌ لأَِمْرٍ خَارِجٍ غَيْرِ لاَزِمٍ، كَالتَّضْيِيقِ وَالإِْيذَاءِ (1) .
قَال الْمَحَلِّيُّ: وَالنَّهْيُ لِلتَّحْرِيمِ: فَيَأْثَمُ بِارْتِكَابِهِ الْعَالِمُ بِهِ، وَيَصِحُّ الْبَيْعُ (2) .
ب - وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ الْبَيْعَ صَحِيحٌ وَلاَ كَرَاهَةَ فِيهِ، وَأَنَّ النَّهْيَ اخْتُصَّ بِأَوَّل الإِْسْلاَمِ لِمَا كَانَ عَلَيْهِمْ مِنَ الضِّيقِ، قَال أَحْمَدُ: كَانَ ذَلِكَ مَرَّةً (3) .
ج - مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَالأَْظْهَرُ عِنْدَهُمْ، أَنَّ هَذَا الْبَيْعَ حَرَامٌ، وَهُوَ بَاطِلٌ أَيْضًا وَفَاسِدٌ، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْخِرَقِيُّ، لأَِنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ (4) .
وَكَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْبُهُوتِيُّ بِقَوْلِهِ: فَيَحْرُمُ، وَلاَ يَصِحُّ لِبَقَاءِ النَّهْيِ عَنْهُ (5)
__________
(1) شرح المحلي على المنهاج وحاشية القليوبي عليه 2 / 182 وقارن بالمغني 4 / 280
(2) المرجع السابق
(3) المغني 4 / 280، والإنصاف 4 / 333
(4) المغني 4 / 280
(5) كشاف القناع 3 / 18، والشرح الكبير للدردير مع حاشية الدسوقي عليه 3 / 69(9/85)
وَقَال أَحْمَدُ لَمَّا سُئِل عَنْ هَذَا الْبَيْعِ: أَكْرَهُ ذَلِكَ، وَأَرُدُّ الْبَيْعَ فِي ذَلِكَ (1) .
وَفَصَّل الْمَالِكِيَّةُ فِي هَذَا، وَقَرَّرُوا:
أَوَّلاً: أَنَّهُ يُفْسَخُ الْبَيْعُ مَا دَامَتِ السِّلْعَةُ قَائِمَةً لَمْ تَفُتْ بِبَيْعٍ، أَوْ عَيْبٍ، أَوْ مَوْتٍ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ.
ثَانِيًا: فَإِنْ فَاتَتْ مَضَى الْبَيْعُ بِالثَّمَنِ (الَّذِي وَقَعَ بِهِ الْبَيْعُ) وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ. وَقِيل: بِالْقِيمَةِ (2) .
وَفِيمَا يَلِي بَعْضُ الْفُرُوعِ التَّفْصِيلِيَّةِ عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ فِي هَذَا الْبَيْعِ:
17 - أَوَّلاً: نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ - مَعَ فَسْخِ هَذَا الْبَيْعِ بِشَرْطِ عَدَمِ فَوَاتِ الْمَبِيعِ - يُؤَدَّبُ كُلٌّ مِنَ الْمَالِكِ وَالْحَاضِرِ وَالْمُشْتَرِي، إِنْ لَمْ يُعْذَرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِجَهْلِهِ، بِأَنْ كَانَ عَالِمًا بِالْحُرْمَةِ، وَلاَ أَدَبَ عَلَى الْجَاهِل لِعُذْرِهِ بِالْجَهْل (3) .
لَكِنْ هَل يُؤَدَّبُ مُطْلَقًا، أَمْ يُؤَدَّبُ إِنِ اعْتَادَ هَذَا الْبَيْعَ؟ قَوْلاَنِ لِلْمَالِكِيَّةِ فِي هَذَا (4) .
وَالشَّافِعِيَّةُ قَرَّرُوا الإِْثْمَ عَلَى الْعَالِمِ بِالتَّحْرِيمِ، كَمَا قَال الْمَالِكِيَّةُ، وَكَذَا الْجَاهِل الْمُقَصِّرُ، وَلَوْ فِيمَا
__________
(1) المغني 4 / 280
(2) الشرح الكبير للدردير، وحاشية الدسوقي عليه 3 / 69
(3) المرجع السابق
(4) المرجع السابق، وانظر في الفسخ والتأديب شرح الخرشي وحاشية العدوي عليه 5 / 84(9/85)
يَخْفَى غَالِبًا. قَالُوا: وَلِلْحَاكِمِ أَنْ يُعَزِّرَ فِي ارْتِكَابِ مَا لاَ يَخْفَى غَالِبًا، وَإِنِ ادَّعَى جَهْلَهُ.
قَال الْقَلْيُوبِيُّ: إِنَّ الْحُرْمَةَ مُقَيَّدَةٌ بِالْعِلْمِ أَوِ التَّقْصِيرِ، وَإِنَّ التَّعْزِيرَ مُقَيَّدٌ بِعَدَمِ الْخَفَاءِ (1) . غَيْرَ أَنَّ الْقَفَّال مِنْ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ، جَعَل الإِْثْمَ هُنَا، عَلَى الْبَلَدِيِّ دُونَ الْبَدْوِيِّ، وَقَرَّرَ أَنَّهُ لاَ خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي (2) .
ثُمَّ عَمَّمَ الشَّافِعِيَّةُ اشْتِرَاطَ الْعِلْمِ بِالْحُرْمَةِ، فِي كُل مَنْهِيٍّ عَنْهُ.
قَال ابْنُ حَجَرٍ: وَلاَ بُدَّ هُنَا، وَفِي جَمِيعِ الْمَنَاهِي، أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالنَّهْيِ، أَوْ مُقَصِّرًا فِي تَعَلُّمِهِ، كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِمْ: يَجِبُ عَلَى مَنْ بَاشَرَ أَمْرًا أَنْ يَتَعَلَّمَ جَمِيعَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، مِمَّا يَغْلِبُ وُقُوعُهُ (3) .
18 - ثَانِيًا: بِمَا أَنَّ النَّصَّ وَرَدَ فِي النَّهْيِ عَنِ الْبَيْعِ لِلْبَادِي، فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي حُكْمِ الشِّرَاءِ لَهُ:
أ - مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ التَّفْصِيل بَيْنَ الشِّرَاءِ لَهُ بِالنَّقْدِ أَوْ بِالسِّلَعِ:
فَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى جَوَازَ الشِّرَاءِ لَهُ بِالنَّقْدِ وَبِالسِّلَعِ مُطْلَقًا، أَيْ سَوَاءٌ أَحَصَّل السِّلَعَ بِنَقْدٍ أَمْ بِغَيْرِ نَقْدٍ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلاَمِ الشَّيْخِ خَلِيلٍ.
وَخَصَّ الْخَرَشِيُّ جَوَازَ الشِّرَاءِ بِالسِّلَعِ الَّتِي
__________
(1) شرح المحلي وحاشية القليوبي عليه 2 / 182
(2) شرح المحلي في الموضع نفسه
(3) تحفة المحتاج 4 / 311(9/86)
حَصَّلَهَا بِثَمَنٍ يُنْقَدُ، وَأَمَّا الَّتِي حَصَّلَهَا بِغَيْرِ النَّقْدِ، فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ بِهَا سِلَعًا، قَال: لأَِنَّ الْعِلَّةَ الَّتِي فِي مَنْعِ الْبَيْعِ لَهُ، تَأْتِي حِينَئِذٍ (1) .
وَقَال آخَرُونَ مِنْهُمْ: ظَاهِرُ كَلاَمِ الأَْئِمَّةِ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الشِّرَاءُ لَهُ إِلاَّ بِالنَّقْدِ، لاَ بِالسِّلَعِ مُطْلَقًا، وَإِلاَّ كَانَ بَيْعًا لِسِلَعِهِ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ مُطْلَقًا عَلَى الْمُعْتَمَدِ - كَمَا تَقَدَّمَ - وَاسْتَوْجَهَ هَذَا الدُّسُوقِيُّ (2) .
19 - ب - وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ مُتَرَدِّدٌ فِي التَّأْثِيمِ بِهِ أَيْضًا، فَلَوْ قَدِمَ مِنَ الْبَدْوِ مَنْ يُرِيدُ الشِّرَاءَ، فَتَعَرَّضَ لَهُ مِنَ الْحَضَرِ مَنْ يَشْتَرِي لَهُ رَخِيصًا:
(1) فَابْنُ يُونُسَ قَال: هُوَ حَرَامٌ، وَبَحَثَ الأَْذْرَعِيُّ الْجَزْمَ بِالإِْثْمِ، وَلَهُ وَجْهٌ - كَمَا قَال ابْنُ حَجَرٍ - وَهُوَ: الْقِيَاسُ عَلَى الْبَيْعِ، قَال الشِّرْوَانِيُّ: وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، لَكِنْ قَيَّدَهُ بِأَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ مِمَّا تَعُمُّ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ. وَالْقَوْل بِالْمَنْعِ نَقَلَهُ أَيْضًا ابْنُ هَانِئٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ.
(2) وَجَمْعٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ اخْتَارُوا عَدَمَ الإِْثْمِ فِي الشِّرَاءِ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ الْبَيْعِ وَبَيْنَ الشِّرَاءِ لِلْبَدَوِيِّ، بِأَنَّ الشِّرَاءَ غَالِبًا بِالنَّقْدِ، وَهُوَ لاَ تَعُمُّ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ.
(3) أَمَّا ابْنُ حَجَرٍ، فَذَهَبَ مَذْهَبَ التَّوْفِيقِ
__________
(1) قارن بالقوانين الفقهية ص 171
(2) الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي عليه 3 / 69 - 70، وشرح الخرشي 5 / 84(9/86)
بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ، فَحَمَل الْقَوْل الأَْوَّل بِالإِْثْمِ عَلَى مَا إِذَا كَانَ الشِّرَاءُ بِمَتَاعٍ تَعُمُّ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ، وَحَمَل الْقَوْل بِعَدَمِ الإِْثْمِ عَلَى خِلاَفِهِ، وَهُوَ مَا إِذَا كَانَ الشِّرَاءُ بِمَتَاعٍ لاَ تَعُمُّ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ (1) .
20 - ج - وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ فِي الشِّرَاءِ لِلْبَادِي: أَنَّهُ صَحِيحٌ رِوَايَةً وَاحِدَةً (2) ، وَذَلِكَ لأَِنَّ النَّهْيَ غَيْرُ مُتَنَاوِلٍ لِلشِّرَاءِ بِلَفْظِهِ، وَلاَ هُوَ فِي مَعْنَاهُ، فَإِنَّ النَّهْيَ عَنِ الْبَيْعِ لِلرِّفْقِ بِأَهْل الْحَضَرِ، لِيَتَّسِعَ عَلَيْهِمُ السِّعْرُ وَيَزُول عَنْهُمُ الضَّرَرُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي الشِّرَاءِ لَهُمْ، إِذْ لاَ يَتَضَرَّرُونَ لِعَدَمِ الْغَبْنِ لِلْبَادِينَ، بَل هُوَ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنْهُ. وَالْخَلْقُ فِي نَظَرِ الشَّارِعِ عَلَى السَّوَاءِ، فَكَمَا شَرَعَ مَا يَدْفَعُ الضَّرَرَ عَنْ أَهْل الْحَضَرِ، لاَ يَلْزَمُ أَنْ يَلْزَمَ أَهْل الْبَدْوِ الضَّرَرُ (3) .
21 - ثَالِثًا: هُنَاكَ مَسْأَلَةٌ تَتَّصِل بِبَيْعِ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي وَالشِّرَاءِ لَهُ، وَهِيَ: مَا لَوْ أَشَارَ الْحَاضِرُ عَلَى الْبَادِي، مِنْ غَيْرِ أَنْ يُبَاشِرَ الْبَيْعَ لَهُ:
فَقَدْ نَقَل ابْنُ قُدَامَةَ أَنَّهُ كَرِهَهُ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ (4) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: فِي وُجُوبِ إِرْشَادِهِ إِلَى
__________
(1) تحفة المحتاج وحاشية الشرواني عليها 4 / 311، والإنصاف 4 / 335
(2) المغني 4 / 280، وكشاف القناع 3 / 184، والإنصاف 4 / 335
(3) المغني 4 / 280
(4) المرجع السابق(9/87)
الاِدِّخَارِ أَوِ الْبَيْعِ وَجْهَانِ: أَوْجَهُهُمَا أَنَّهُ يَجِبُ إِرْشَادُهُ (1) ، لِوُجُوبِ الإِْشَارَةِ بِالأَْصْلَحِ عَلَيْهِ.
وَنَقَل ابْنُ قُدَامَةَ أَيْضًا، أَنَّهُ رَخَّصَ فِيهِ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَالأَْوْزَاعِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ.
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَقَوْل الصَّحَابِيِّ حُجَّةٌ، مَا لَمْ يَثْبُتْ خِلاَفُهُ (2)
22 - رَابِعًا: نَصَّ ابْنُ جُزَيٍّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى أَنَّ تَعْرِيفَ الْبَادِي بِالسِّعْرِ، هُوَ كَالْبَيْعِ لَهُ، فَلاَ يَجُوزُ (3) .
__________
(1) حاشية الشرواني على تحفة المحتاج 4 / 310
(2) المغني 4 / 280
(3) القوانين الفقهية ص 171(9/87)
بَيْعُ الْحَصَاةِ
التَّعْرِيفُ:
1 - بَيْعُ الْحَصَاةِ: هُوَ الْبَيْعُ بِإِلْقَاءِ الْحَجَرِ، وَكَانَ مَعْرُوفًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ (1) ، وَوَرَدَ النَّهْيُ عَنْهُ، وَذَلِكَ فِي حَدِيثِ النَّهْيِ عَنِ الْغَرَرِ، فِيمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَصَاةِ، وَعَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ (2) وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَفْسِيرِهِ.
2 - فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: هُوَ: أَنْ يُلْقِيَ حَصَاةً، وَثَمَّةَ أَثْوَابٌ، فَأَيُّ ثَوْبٍ وَقَعَ عَلَيْهِ كَانَ هُوَ الْمَبِيعَ بِلاَ تَأَمُّلٍ وَلاَ رَوِيَّةٍ، وَلاَ خِيَارَ بَعْدَ ذَلِكَ (3) .
وَهَذَا التَّفْسِيرُ لِلْحَدِيثِ، ذَكَرَهُ جَمِيعُ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ:
أ - فَالْمَالِكِيَّةُ قَالُوا: هُوَ بَيْعٌ مُلْزِمٌ عَلَى مَا تَقَعُ عَلَيْهِ الْحَصَاةُ مِنَ الثِّيَابِ - مَثَلاً - بِلاَ قَصْدٍ مِنَ الرَّامِي
__________
(1) لسان العرب مادة " حصى "
(2) حديث: " نهى عن بيع الحصاة، وعن بيع الغرر. . . . " أخرجه مسلم (2 / 1153 ط الحلبي)
(3) رد المحتار 4 / 109، وتبيين الحقائق 4 / 48، وفتح القدير 6 / 55(9/88)
لِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ، وَقَيَّدَهُ الدَّرْدِيرُ بِاخْتِلاَفِ السِّلَعِ أَوِ الثِّيَابِ (1) .
ب - وَالشَّافِعِيَّةُ قَالُوا فِي التَّفْسِيرِ: بِعْتُكَ مِنْ هَذِهِ الأَْثْوَابِ مَا تَقَعُ عَلَيْهِ الْحَصَاةُ (2) .
ج - وَالْحَنَابِلَةُ قَالُوا فِي التَّفْسِيرِ: أَنْ يَقُول الْبَائِعُ: ارْمِ هَذِهِ الْحَصَاةَ، فَعَلَى أَيِّ ثَوْبٍ وَقَعَتْ فَهُوَ لَكَ بِكَذَا (3) .
وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ رَمْيِ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي، كَمَا يَقُول عَمِيرَةُ الْبُرُلُّسِيُّ (4) .
3 - وَهُنَاكَ تَفْسِيرٌ ثَانٍ لِهَذَا النَّوْعِ مِنَ الْبَيْعِ، وَهُوَ: أَنْ يَقُول الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي: بِعْتُكَ مِنْ هَذِهِ الأَْرْضِ مِنْ مَحَل وُقُوفِي أَوْ وُقُوفِ فُلاَنٍ إِلَى مَا تَنْتَهِي إِلَيْهِ رَمْيَةُ هَذِهِ الْحَصَاةِ بِكَذَا. نَصَّ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَقَيَّدَهُ الأَْوَّلُونَ، بِأَنْ يَقَعَ الْبَيْعُ عَلَى اللُّزُومِ (5) .
4 - وَفِي تَفْسِيرٍ آخَرَ لِلشَّافِعِيَّةِ، أَنْ يَقُول الْبَائِعُ: إِذَا رَمَيْتَ هَذِهِ الْحَصَاةَ، فَهَذَا الثَّوْبُ مَبِيعٌ مِنْكَ بِعَشَرَةٍ، أَيْ يَجْعَل الرَّمْيَ صِيغَةَ الْبَيْعِ (6) .
__________
(1) الشرح الكبير للدردير بحاشية الدسوقي عليه 3 / 57
(2) شرح المحلي على المنهاج 2 / 176
(3) كشاف القناع 3 / 167، والشرح الكبير في ذيل المغني 4 / 28 و 29
(4) حاشية عميرة على شرح المحلي 2 / 177
(5) الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي عليه 3 / 56، وكشاف القناع 3 / 197، والشرح الكبير في ذيل المغني 4 / 29
(6) شرح المحلي على المنهاج 2 / 176 و 177(9/88)
5 - وَفِي تَفْسِيرٍ رَابِعٍ لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنْ يَقُول الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي: بِعْتُكَ هَذَا بِكَذَا، عَلَى أَنِّي مَتَى رَمَيْتَ هَذِهِ الْحَصَاةَ وَجَبَ الْبَيْعُ وَلَزِمَ (1) .
6 - وَطَرَحَ الْمَالِكِيَّةُ تَفْسِيرًا خَامِسًا:
أ - أَنْ يَقُول الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي: ارْمِ بِالْحَصَاةِ فَمَا خَرَجَ وَوُجِدَ مِنْ أَجْزَاءِ تِلْكَ الْحَصَاةِ الَّتِي تَكَسَّرَتْ كَانَ لِي بِعَدَدِهِ دَنَانِيرُ أَوْ دَرَاهِمُ.
ب - أَوْ يَقُول الْمُشْتَرِي لِلْبَائِعِ: ارْمِ بِالْحَصَاةِ فَمَا خَرَجَ مِنْ أَجْزَائِهَا الْمُتَفَرِّقَةِ حَال رَمْيِهَا، كَانَ لَكَ بِعَدَدِهِ دَنَانِيرُ أَوْ دَرَاهِمُ.
ج - وَيُحْتَمَل أَيْضًا عِنْدَهُمْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْحَصَاةِ الْجِنْسَ، أَيْ يَقُول الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي: خُذْ جُمْلَةً مِنَ الْحَصَى، فِي كَفِّكَ أَوْ كَفَّيْكَ، وَحَرِّكْهُ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ - مَثَلاً - فَمَا وَقَعَ فَلِي بِعَدَدِهِ دَرَاهِمُ أَوْ دَنَانِيرُ (2) .
وَلاَ يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي فَسَادِ هَذَا الْبَيْعِ بِهَذِهِ الصُّوَرِ الْمُفَسِّرَةِ لِلْحَدِيثِ كُلِّهَا، وَقَدْ وَضَعُوا إِزَاءَ كُل صُورَةٍ مَا يُشِيرُ إِلَى وَجْهِ الْفَسَادِ فِيهَا.
7 - فَفِي الصُّورَةِ الأُْولَى: عَلَّل الْحَنَفِيَّةُ الْفَسَادَ فِيهَا بِمَا فِيهَا مِنَ الْجَهَالَةِ، وَتَعْلِيقِ التَّمْلِيكِ
__________
(1) الشرح الكبير بحاشية الدسوقي عليه 3 / 56، والقوانين الفقهية 170، وشرح المحلي على المنهاج 2 / 176 و 177، وكشاف القناع 3 / 167
(2) الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي عليه 3 / 57.(9/89)
بِالْخَطَرِ، لأَِنَّهَا فِي مَعْنَى: إِذَا وَقَعَ حَجَرِي عَلَى ثَوْبٍ فَقَدْ بِعْتُهُ مِنْكَ، أَوْ بِعْتَنِيهِ بِكَذَا، وَالتَّمْلِيكَاتُ لاَ تَحْتَمِلُهُ، لأَِدَائِهِ إِلَى مَعْنَى الْقِمَارِ (1) .
وَيُقَرِّرُ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْفَسَادَ لِهَذَا الْمَعْنَى مَشْرُوطٌ بِسَبْقِ ذِكْرِ الثَّمَنِ، فَإِنْ لَمْ يَذْكُرِ الثَّمَنَ فِي هَذَا الْبَيْعِ، كَانَ الْفَسَادُ لِعَدَمِ ذِكْرِ الثَّمَنِ، إِنْ سَكَتَ عَنْهُ. لأَِنَّ الْمُقَرَّرَ عِنْدَهُمْ: أَنَّ الْبَيْعَ مَعَ نَفْيِ الثَّمَنِ بَاطِلٌ، وَمَعَ السُّكُوتِ عَنْهُ فَاسِدٌ (2) .
وَكَذَلِكَ عَلَّل الْمَالِكِيَّةُ الْفَسَادَ فِيهَا، بِالْجَهْل بِعَيْنِ الْمَبِيعِ، لَكِنَّهُمْ شَرَطُوا كَمَا رَأَيْنَا - عِلاَوَةً عَلَى اخْتِلاَفِ السِّلَعِ، عَدَمَ قَصْدِ الرَّامِي لِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ مِنْهَا، أَمَّا لَوْ كَانَ الرَّمْيُ بِقَصْدٍ جَازَ، إِنْ كَانَ الرَّمْيُ مِنَ الْمُشْتَرِي، أَوْ كَانَ مِنَ الْبَائِعِ، وَجُعِل الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي.
كَمَا أَنَّهُ لَوِ اتَّفَقَتِ السِّلَعُ، جَازَ الْبَيْعُ، سَوَاءٌ أَكَانَ وُقُوعُ الْحَصَاةِ بِقَصْدٍ أَمْ بِغَيْرِهِ (3) .
8 - وَفِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ، وَهِيَ بَيْعُ قَدْرٍ مِنَ الأَْرْضِ، مِنْ حَيْثُ يَقِفُ الرَّامِي إِلَى مَا تَنْتَهِي إِلَيْهِ رَمْيَةُ الْحَصَاةِ، فَالْفَسَادُ لِلْجَهْل بِمِقْدَارِ الْمَبِيعِ، لاِخْتِلاَفِ الرَّمْيِ كَمَا عَلَّلَهُ الْمَالِكِيَّةُ،
__________
(1) فتح القدير والعناية على الهداية 6 / 55، وانظر رد المحتار 4 / 109
(2) انظر الدر المختار ومراجعه التي عزا إليها، ورد المحتار 4 / 109
(3) الشرح الكبير للدردير بحاشية الدسوقي عليه 3 / 57(9/89)
وَقَرَّرُوا أَنَّ مَحَل الْفَسَادِ بِشَرْطِ أَنْ يَقَعَ الْبَيْعُ عَلَى اللُّزُومِ (1) .
9 - وَفِي الصُّورَةِ الثَّالِثَةِ، الَّتِي ذَكَرَهَا الشَّافِعِيَّةُ: عَلَّلُوا فَسَادَهَا بِعَدَمِ وُجُودِ صِيغَةِ الْبَيْعِ، إِذْ جَعَل الرَّمْيَ لِلْحَصَاةِ بَيْعًا، اكْتِفَاءً بِهِ عَنِ الصِّيغَةِ (2) .
10 - وَفِي الصُّورَةِ الرَّابِعَةِ، وَهِيَ لُزُومُ الْبَيْعِ بِوُقُوعِ الْحَصَاةِ، مِنْ أَحَدِ الْمُتَبَايِعَيْنِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمَا: الْفَسَادُ لِتَعْلِيقِ لُزُومِ الْبَيْعِ عَلَى السُّقُوطِ فِي زَمَنٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ، فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ لِلْجَهْل بِزَمَنِ وُقُوعِهَا، فَفِيهِ تَأْجِيلٌ بِأَجَلٍ مَجْهُولٍ - كَمَا يَقُول الْمَالِكِيَّةُ (3) - أَوْ جَهْلٌ بِزَمَنِ الْخِيَارِ، كَمَا يَقُول الشَّافِعِيَّةُ (4) .
أَمَّا لَوْ عَيَّنَ لِوُقُوعِهَا بِاخْتِيَارِهِ أَجَلاً مَعْلُومًا، وَكَانَ الأَْجَل قَدْرَ زَمَنِ الْخِيَارِ، وَهُوَ فِي كُل شَيْءٍ بِحَسَبِهِ - كَمَا يَقُول الْعَدَوِيُّ - كَمَا لَوْ قَال: إِنْ وَقَعَتِ الْحَصَاةُ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَى الظُّهْرِ، أَوْ مِنَ الْيَوْمِ إِلَى غَدٍ، قَصْدًا، كَانَ الْبَيْعُ لاَزِمًا وَلاَ يَفْسُدُ (5) .
11 - وَفِي الصُّورَةِ الْخَامِسَةِ الَّتِي طَرَحَهَا الْمَالِكِيَّةُ، وَهِيَ الْبَيْعُ بِعَدَدِ مَا يَتَنَاثَرُ مِنَ الْحَصَى، دَرَاهِمَ أَوْ
__________
(1) الدسوقي 3 / 56
(2) شرح المحلي على المنهاج 2 / 167 و 177
(3) الشرح الكبير للدردير بحاشية الدسوقي عليه 3 / 56
(4) شرح المحلي على المنهاج 2 / 177
(5) شرح الخرشي وحاشية العدوي عليه 5 / 71(9/90)
دَنَانِيرَ: فَسَادُ الْبَيْعِ لِلْجَهْل بِمِقْدَارِ الثَّمَنِ، إِذْ لاَ يُعْلَمُ قَدْرُ الْمُتَنَاثَرِ مِنَ الْحَصَى.
فَلاَ خِلاَفَ إِذًا فِي فَسَادِ الْبَيْعِ بِالْحَصَاةِ، بِالْقُيُودِ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي الصُّوَرِ كُلِّهَا وَتَعْلِيلاَتِهَا.
وَفِي هَذَا يَقُول ابْنُ قُدَامَةَ: وَكُل هَذِهِ الْبُيُوعُ فَاسِدَةٌ، لِمَا فِيهَا مِنَ الْغَرَرِ وَالْجَهْل، وَلاَ نَعْلَمُ فِيهِ خِلاَفًا.
بَيْعُ السَّلَمِ
انْظُرْ: سَلَم
بَيْعُ الصَّرْفِ
انْظُرْ: صَرْف(9/90)
بَيْعُ الْعَرَايَا
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعَرَايَا: جَمْعُ عَرِيَّةٍ، وَهِيَ: النَّخْلَةُ يُعْرِيهَا صَاحِبُهَا رَجُلاً مُحْتَاجًا، فَيَجْعَل لَهُ ثَمَرَهَا عَامَهَا، فَيَعْرُوهَا، أَيْ يَأْتِيهَا، فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ، وَدَخَلَتِ الْهَاءُ عَلَيْهَا، لأَِنَّهُ ذُهِبَ بِهَا مَذْهَبَ الأَْسْمَاءِ، مِثْل النَّطِيحَةِ وَالأَْكِيلَةِ، فَإِذَا جِيءَ بِهَا مَعَ النَّخْلَةِ حُذِفَتِ الْهَاءُ، وَقِيل: نَخْلَةٌ عَرِيٌّ، كَمَا يُقَال: امْرَأَةٌ قَتِيلٌ، وَالْجَمْعُ: الْعَرَايَا (1)
قَال فِي الْفَتْحِ: هِيَ فِي الأَْصْل عَطِيَّةُ ثَمَرِ النَّخْل دُونَ الرَّقَبَةِ: كَانَتِ الْعَرَبُ فِي الْجَدْبِ تَتَطَوَّعُ بِذَلِكَ عَلَى مَنْ لاَ ثَمَرَ لَهُ (2) .
وَعَرَّفَهَا الشَّافِعِيَّةُ اصْطِلاَحًا: بِأَنَّهَا بَيْعُ الرُّطَبِ عَلَى النَّخْل بِتَمْرٍ فِي الأَْرْضِ، أَوِ الْعِنَبِ فِي الشَّجَرِ بِزَبِيبٍ، فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ (3) .
وَعَرَّفَهَا الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهَا: بَيْعُ الرُّطَبِ فِي رُءُوسِ
__________
(1) المصباح المنير مادة " عرو "
(2) نيل الأوطار 5 / 200
(3) شرح المحلي على المنهاج 2 / 238، وتحفة المحتاج 4 / 472(9/91)
النَّخْل خَرْصًا، بِمَالِهِ يَابِسًا، بِمِثْلِهِ مِنَ التَّمْرِ، كَيْلاً مَعْلُومًا لاَ جُزَافًا (1) .
حُكْمُهَا:
2 - بَيْعُ الْعَرَايَا جَائِزٌ فِي الْجُمْلَةِ، عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ (2) ، لَكِنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ مَالِكًا لَيْسَ مَعَهُمْ (3) .
وَاسْتَدَل الْجُمْهُورُ الْمُجِيزُونَ بِمَا يَلِي:
أ - بِحَدِيثِ سَهْل بْنِ أَبِي حَثْمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ التَّمْرِ بِالتَّمْرِ، وَرَخَّصَ فِي الْعَرِيَّةِ، أَنْ تُبَاعَ بِخَرْصِهَا، يَأْكُلُهَا أَهْلُهَا رُطَبًا (4)
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَالرُّخْصَةُ: اسْتِبَاحَةُ الْمَحْظُورِ مَعَ وُجُودِ السَّبَبِ الْحَاظِرِ، فَلَوْ مُنِعَ مَعَ وُجُودِ السَّبَبِ مِنَ الاِسْتِبَاحَةِ، لَمْ يُبْقِ لَنَا رُخْصَةً بِحَالٍ (5) .
ب - وَبِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ
__________
(1) كشاف القناع 3 / 258، 259، والشرح الكبير في ذيل المغني 4 / 152
(2) الشرح الكبير في ذيل المغني 4 / 152
(3) فتح القدير 6 / 54
(4) حديث سهل بن أبي حثْمة: " نهى عن بيع التمر بالتمر، ورخص في العرية. . . " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 387 ط السلفية) ، ومسلم (2 / 1170 ط الحلبي)
(5) المغني 4 / 182، وانظر الشرح الكبير في ذيله 4 / 152(9/91)
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ فِي بَيْعِ الْعَرَايَا، فِي خَمْسَةِ أَوْسُقٍ، أَوْ دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ (1) .
قَال الْمَحَلِّيُّ - مِنَ الشَّافِعِيَّةِ -: شَكَّ دَاوُدُ بْنُ الْحُصَيْنِ أَحَدُ رُوَاتِهِ، فَأَخَذَ الشَّافِعِيُّ بِالأَْقَل، فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْهِ (2) .
3 - وَالْحَنَفِيَّةُ - وَكَذَا مَالِكٌ فِي التَّحْقِيقِ - لَمْ يَسْتَجِيزُوا، بَيْعَ الْعَرَايَا، وَذَلِكَ: لِلنَّهْيِ عَنِ الْمُزَابَنَةِ، وَهِيَ: بَيْعُ التَّمْرِ عَلَى رَأْسِ النَّخْل بِتَمْرٍ مَجْدُودٍ مِثْل كَيْلِهِ خَرْصًا (3)
وَلِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْمَعْرُوفِ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ -. قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ، مِثْلاً بِمِثْلٍ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ، يَدًا بِيَدٍ، فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الأَْصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ، إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ (4) .
وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ: فَمَنْ زَادَ أَوِ اسْتَزَادَ، فَقَدْ أَرْبَى، الآْخِذُ وَالْمُعْطِي فِيهِ سَوَاءٌ (5) .
__________
(1) حديث أبي هريرة: " رخص في بيع العرايا " أخرجه البخاري (4 / 387 الفتح ط السلفية) ، ومسلم (2 / 1171 ط الحلبي)
(2) شرح المحلي على المنهاج 2 / 238
(3) ابن عابدين 4 / 109، والقليوبي 2 / 238
(4) حديث عبادة بن الصامت: " الذهب بالذهب والفضة بالفضة. . . ". أخرجه مسلم (2 / 1211 ط الحلبي)
(5) رواية: " فمن زاد أو استزاد، فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء ". المصدر السابق(9/92)
فَهَذِهِ النُّصُوصُ، وَأَمْثَالُهَا لاَ تُحْصَى، كُلُّهَا مَشْهُورَةٌ، وَتَلَقَّتْهَا الأُْمَّةُ بِالْقَبُول، فَلاَ يَجُوزُ تَرْكُهَا وَلاَ الْعَمَل بِمَا يُخَالِفُهَا، وَهَذَا لأَِنَّ الْمُسَاوَاةَ وَاجِبَةٌ بِالنَّصِّ، وَالتَّفَاضُل مُحَرَّمٌ بِهِ، وَكَذَا التَّفَرُّقُ قَبْل قَبْضِ الْبَدَلَيْنِ، فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُبَاعَ جُزَافًا، وَلاَ إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا مُتَأَخِّرًا، كَمَا لَوْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ.
وَهَذَا لأَِنَّ احْتِمَال التَّفَاضُل ثَابِتٌ، فَصَارَ كَمَا لَوْ تَفَاضَلاَ بِيَقِينٍ، أَوْ كَانَا مَوْضُوعَيْنِ فِي الأَْرْضِ (1) .
4 - وَمَعْنَى الْعَرَايَا، وَتَأْوِيلُهَا عِنْدَ الْمَانِعِينَ فِيمَا ذُكِرَ مِنَ الأَْحَادِيثِ:
أ - أَنْ يَكُونَ لِلرَّجُل النَّخْلَةُ أَوِ النَّخْلَتَانِ، فِي وَسَطِ النَّخْل الْكَثِيرِ لِرَجُلٍ، وَكَانَ أَهْل الْمَدِينَةِ إِذَا كَانَ وَقْتُ الثِّمَارِ، خَرَجُوا بِأَهْلِيهِمْ إِلَى حَوَائِطِهِمْ، فَيَجِيءُ صَاحِبُ النَّخْلَةِ أَوِ النَّخْلَتَيْنِ، فَيَضُرُّ ذَلِكَ بِصَاحِبِ النَّخْل الْكَثِيرِ، فَرَخَّصَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِصَاحِبِ الْكَثِيرِ أَنْ يُعْطِيَهُ خَرْصَ مَا لَهُ مِنْ ذَلِكَ تَمْرًا، لِيَنْصَرِفَ هُوَ وَأَهْلُهُ عَنْهُ، رُوِيَ هَذَا عَنْ مَالِكٍ (2) .
ب - وَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، أَنَّهُ قَال: مَعْنَى ذَلِكَ عِنْدَنَا: أَنْ يُعْرِي الرَّجُل الرَّجُل نَخْلَةً مِنْ نَخْلِهِ، فَلاَ يُسَلِّمُ ذَلِكَ إِلَيْهِ حَتَّى يَبْدُوَ لَهُ،
__________
(1) تبيين الحقائق 4 / 47، 48 بتصرف
(2) انظر فتح القدير 6 / 54، وانظر نيل الأوطار 5 / 200، 201(9/92)
فَرَخَّصَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَ ذَلِكَ، وَيُعْطِيَهُ مَكَانَهُ بِخَرْصِهِ تَمْرًا مَجْذُوذًا بِالْخَرْصِ بَدَلَهُ (1) .
وَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - كَمَا قَالُوا - لأَِنَّ الْمَوْهُوبَ لَهُ، لَمْ يَمْلِكِ الثَّمَرَةَ لِعَدَمِ الْقَبْضِ، فَصَارَ بَائِعًا مِلْكَهُ بِمِلْكِهِ، وَهُوَ جَائِزٌ لاَ بِطَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ هِبَةٌ مُبْتَدَأَةٌ، وَسُمِّيَ ذَلِكَ بَيْعًا مَجَازًا، لأَِنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهُ، فَيَكُونُ بِرًّا مُبْتَدَأً. كَمَا يَقُول الْمَرْغِينَانِيُّ (2) .
5 - وَقَدْ شَرَطَ الْحَنَابِلَةُ شُرُوطًا جَمَّةً لِجَوَازِ بَيْعِ الْعَرَايَا، وَوَافَقَهُمُ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى بَعْضِهَا (3) .
وَلاِسْتِكْمَال شُرُوطِ الْعَرَايَا، وَأَحْكَامِهَا، وَصُوَرِهَا. رَاجِعْ مُصْطَلَحِ (عرايا) .
__________
(1) فتح القدير 6 / 54. واستوجه هذا التأويل الطحاوي، واستدل بشعر العرب. وانظر ما ذكره الكمال في الموضع
(2) الهداية مع فتح القدير 6 / 54، وتبيين الحقائق 4 / 48 ونيل الأوطار 5 / 200، 201
(3) الشرح الكبير مع المغني 4 / 152 - 155، والمغني 4 / 182 - 185، وكشاف القناع 3 / 258 - 259، وشرح المحلي على المنهاج 2 / 238 - 239، وتحفة المحتاج 4 / 472 - 473(9/93)
بَيْعُ الْعَرَبُونِ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعَرَبُونُ بِفَتْحَتَيْنِ كَحَلَزُونٍ، وَالْعُرْبُونُ وِزَانُ عُصْفُورٍ، لُغَةٌ فِيهِ. وَالْعُرْبَانُ بِالضَّمِّ لُغَةٌ ثَالِثَةٌ (1) ، بِوَزْنِ الْقُرْبَانِ (2) . وَأَمَّا الْفَتْحُ مَعَ الإِْسْكَانِ فَلَحْنٌ لَمْ تَتَكَلَّمْ بِهِ الْعَرَبُ (3) .
وَهُوَ مُعَرَّبٌ (4) . وَفَسَّرُوهُ لُغَةً: بِمَا عُقِدَ بِهِ الْبَيْعُ (5) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ الْفِقْهِيِّ: أَنْ يَشْتَرِيَ السِّلْعَةَ، وَيَدْفَعَ إِلَى الْبَائِعِ دِرْهَمًا أَوْ أَكْثَرَ، عَلَى أَنَّهُ إِنْ أَخَذَ السِّلْعَةَ، احْتَسَبَ بِهِ مِنَ الثَّمَنِ، وَإِنْ لَمْ يَأْخُذْهَا فَهُوَ لِلْبَائِعِ (6) .
__________
(1) المصباح المنير مادة: " عرب "
(2) مختار الصحاح مادة: " عرب "
(3) حاشية القليوبي على شرح المحلي 2 / 186
(4) تحفة المحتاج 4 / 322
(5) القاموس المحيط مادة: " عربون " باب النون فصل العين. فنونه أصلية. كما نص عليه الفيومي
(6) الشرح الكبير في ذيل المغني 4 / 58، وانظر كشاف القناع 3 / 195، وقارن بالشرح الكبير للدردير 3 / 63، وشرح المحلي على المنهاج 2 / 186، وتحفة المحتاج 4 / 322 وبالتعريف الذي في المصباح المنير في المادة المذكورة نفسها(9/93)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - وَالْفُقَهَاءُ مُخْتَلِفُونَ فِي حُكْمِ هَذَا الْبَيْعِ:
(أ) فَجُمْهُورُهُمْ، مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَأَبُو الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، يَرَوْنَ أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ، وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَالْحَسَنِ كَمَا يَقُول ابْنُ قُدَامَةَ، وَذَلِكَ: لِلنَّهْيِ عَنْهُ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، قَال: نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الْعُرْبَانِ (1)
وَلأَِنَّهُ مِنْ أَكْل أَمْوَال النَّاسِ بِالْبَاطِل، وَفِيهِ غَرَرٌ (2) ، وَلأَِنَّ فِيهِ شَرْطَيْنِ مُفْسِدَيْنِ: شَرْطَ الْهِبَةِ لِلْعُرْبُونِ، وَشَرْطَ رَدِّ الْمَبِيعِ بِتَقْدِيرِ أَنْ لاَ يَرْضَى (3) .
وَلأَِنَّهُ شَرَطَ لِلْبَائِعِ شَيْئًا بِغَيْرِ عِوَضٍ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ شَرَطَهُ لأَِجْنَبِيٍّ (4) .
وَلأَِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْخِيَارِ الْمَجْهُول، فَإِنَّهُ اشْتَرَطَ أَنَّ لَهُ رَدَّ الْمَبِيعِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ مُدَّةٍ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ قَال: وَلِي الْخِيَارُ، مَتَى شِئْتُ رَدَدْتُ السِّلْعَةَ، وَمَعَهَا دِرْهَمٌ (5) .
__________
(1) حديث: " نهى عن بيع العربان. . . ". أخرجه أبو داود (3 / 768 ط عزت عبيد دعاس) . وضعفه ابن حجر في التلخيص (3 / 17 شركة الطباعة الفنية)
(2) شرح الخرشي بحاشية العدوي عليه 5 / 78
(3) شرح المنهج وحاشية الجمل عليه 3 / 72، وتحفة المحتاج 4 / 322، وشرح المحلي على المنهاج 2 / 186، وانظر نيل الأوطار 5 / 154
(4) الشرح الكبير في ذيل المغني 4 / 58
(5) المرجع السابق 4 / 58، 59(9/94)
3 - (ب) وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ جَوَازُ هَذِهِ الصُّورَةِ مِنَ الْبُيُوعِ.
وَصَرَّحُوا بِأَنَّ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الأَْئِمَّةُ مِنْ عَدَمِ الْجَوَازِ، هُوَ الْقِيَاسُ، لَكِنْ قَالُوا: وَإِنَّمَا صَارَ أَحْمَدُ فِيهِ إِلَى مَا رُوِيَ عَنْ نَافِعِ بْنِ الْحَارِثِ، أَنَّهُ اشْتَرَى لِعُمَرَ دَارَ السِّجْنِ مِنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ، فَإِنْ رَضِيَ عُمَرُ، وَإِلاَّ فَلَهُ كَذَا وَكَذَا، قَال الأَْثْرَمُ: قُلْتُ لأَِحْمَدَ: تَذْهَبُ إِلَيْهِ؟ قَال: أَيَّ شَيْءٍ أَقُول؟ هَذَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَضَعَّفَ الْحَدِيثَ الْمَرْوِيَّ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ فِي النَّهْيِ عَنْهُ (1) . لَكِنْ قَرَّرَ الشَّوْكَانِيُّ أَرْجَحِيَّةَ مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ؛ لأَِنَّ حَدِيثَ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ قَدْ وَرَدَ مِنْ طُرُقٍ يُقَوِّي بَعْضُهَا بَعْضًا، وَلأَِنَّهُ يَتَضَمَّنُ الْحَظْرَ، وَهُوَ أَرْجَحُ مِنَ الإِْبَاحَةِ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي الأُْصُول (2) .
مِنْ أَهَمِّ الأَْحْكَامِ فِي بَيْعِ الْعُرْبُونِ:
4 - أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إِنْ أَعْطَى الْعُرْبُونَ عَلَى أَنَّهُ: إِنْ كَرِهَ الْبَيْعَ، أَخَذَهُ وَاسْتَرَدَّهُ، وَإِلاَّ حَاسَبَ بِهِ، جَازَ كَمَا يَقُول الْمَالِكِيَّةُ (3) .
5 - وَأَنَّ هَذَا الْبَيْعَ يُفْسَخُ عِنْدَهُمْ، فَإِنْ فَاتَ (أَيْ تَعَذَّرَ الْفَسْخُ) أَمْضَى الْبَيْعَ بِالْقِيمَةِ (4) .
__________
(1) المرجع السابق 4 / 59
(2) نيل الأوطار 5 / 153 و 154
(3) الشرح الكبير للدردير 3 / 63، وانظر القوانين الفقهية ص 171
(4) الشرح الكبير للدردير 3 / 63(9/94)
6 - إِنْ دَفَعَ الْمُشْتَرِي إِلَى الْبَائِعِ دِرْهَمًا، وَقَال: لاَ تَبِعْ هَذِهِ السِّلْعَةَ لِغَيْرِي، وَإِنْ لَمْ أَشْتَرِهَا مِنْكَ فَهَذَا الدِّرْهَمُ لَكَ:
أفَإِنِ اشْتَرَاهَا بَعْدَ ذَلِكَ بِعَقْدٍ مُبْتَدَأٍ، وَاحْتَسَبَ الدِّرْهَمَ مِنَ الثَّمَنِ صَحَّ؛ لأَِنَّ الْبَيْعَ خَلاَ عَنِ الشَّرْطِ الْمُفْسِدِ.
وَيَحْتَمِل أَنَّ شِرَاءَ دَارِ السِّجْنِ مِنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ الَّذِي وَقَعَ لِعُمَرَ، كَانَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، فَيُحْمَل عَلَيْهِ، جَمْعًا بَيْنَ فِعْلِهِ وَبَيْنَ الْخَبَرِ وَمُوَافَقَةِ الْقِيَاسِ وَالأَْئِمَّةِ الْقَائِلِينَ بِفَسَادِ بَيْعِ الْعُرْبُونِ.
ب - وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِ السِّلْعَةَ، لَمْ يَسْتَحِقَّ الْبَائِعُ الدِّرْهَمَ، لأَِنَّهُ يَأْخُذُهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَلِصَاحِبِهِ الرُّجُوعُ فِيهِ.
وَلاَ يَصِحُّ جَعْلُهُ عِوَضًا عَنِ انْتِظَارِهِ، وَتَأَخُّرِ بَيْعِهِ مِنْ أَجْلِهِ، لأَِنَّهُ لَوْ كَانَ عِوَضًا عَنْ ذَلِكَ، لَمَا جَازَ جَعْلُهُ مِنَ الثَّمَنِ فِي حَال الشِّرَاءِ، وَلأَِنَّ الاِنْتِظَارَ بِالْبَيْعِ لاَ تَجُوزُ الْمُعَاوَضَةُ عَنْهُ، وَلَوْ جَازَتْ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومَ الْمِقْدَارِ، كَمَا فِي الإِْجَارَةِ (1) .
بَيْعُ الْعُهْدَةِ
انْظُرْ: بَيْعُ الْوَفَاءِ
__________
(1) الشرح الكبير في ذيل المغني 4 / 59(9/95)
بَيْعُ الْعِينَةِ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعِينَةُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ. مَعْنَاهَا فِي اللُّغَةِ: السَّلَفُ. يُقَال: اعْتَانَ الرَّجُل: إِذَا اشْتَرَى الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ نَسِيئَةً (1) أَوِ اشْتَرَى بِنَسِيئَةٍ - كَمَا يَقُول الرَّازِيُّ (2) .
وَقِيل: لِهَذَا الْبَيْعِ عِينَةٌ؛ لأَِنَّ مُشْتَرِيَ السِّلْعَةِ إِلَى أَجَلٍ يَأْخُذُ بَدَلَهَا (أَيْ مِنَ الْبَائِعِ) عَيْنًا، أَيْ نَقْدًا حَاضِرًا (3)
وَالْكَمَال بْنُ الْهُمَامِ يَرَى أَنَّهُ سُمِّيَ بَيْعَ الْعِينَةِ: لأَِنَّهُ مِنَ الْعَيْنِ الْمُسْتَرْجَعَةِ (4) .
وَاسْتَحْسَنَ الدُّسُوقِيُّ أَنْ يُقَال: إِنَّمَا سُمِّيَتْ عِينَةً، لإِِعَانَةِ أَهْلِهَا لِلْمُضْطَرِّ عَلَى تَحْصِيل مَطْلُوبِهِ، عَلَى وَجْهِ التَّحَيُّل، بِدَفْعِ قَلِيلٍ فِي كَثِيرٍ (5) .
__________
(1) المصباح المنير مادة: " عين "
(2) مختار الصحاح مادة " عين "
(3) المصباح المنير في المادة نفسها، وكشاف القناع 3 / 186
(4) رد المحتار 4 / 279
(5) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير 3 / 88(9/95)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ الْفِقْهِيِّ، عُرِّفَتْ بِتَعْرِيفَاتٍ:
أ - فَفِي رَدِّ الْمُحْتَارِ: هِيَ بَيْعُ الْعَيْنِ بِثَمَنٍ زَائِدٍ نَسِيئَةً، لِيَبِيعَهَا الْمُسْتَقْرِضُ بِثَمَنٍ حَاضِرٍ أَقَل، لِيَقْضِيَ دَيْنَهُ (1) .
ب - وَعَرَّفَهَا الرَّافِعِيُّ: بِأَنْ يَبِيعَ شَيْئًا مِنْ غَيْرِهِ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ، وَيُسَلِّمَهُ إِلَى الْمُشْتَرِي، ثُمَّ يَشْتَرِيَهُ بَائِعُهُ قَبْل قَبْضِ الثَّمَنِ بِثَمَنِ نَقْدٍ أَقَل مِنْ ذَلِكَ الْقَدْرِ (2) . وَقَرِيبٌ مِنْهُ تَعْرِيفُ الْحَنَابِلَةِ.
ج - وَعَرَّفَهَا الْمَالِكِيَّةُ كَمَا فِي الشَّرْحِ الْكَبِيرِ: بِأَنَّهَا بَيْعُ مَنْ طُلِبَتْ مِنْهُ سِلْعَةٌ قَبْل مِلْكِهِ إِيَّاهَا لِطَالِبِهَا بَعْدَ أَنْ يَشْتَرِيَهَا.
وَيُمْكِنُ تَعْرِيفُهَا - أَخْذًا مِمَّا يَأْتِي - بِأَنَّهَا: قَرْضٌ فِي صُورَةِ بَيْعٍ، لاِسْتِحْلاَل الْفَضْل.
صُورَتُهَا:
2 - لِلْعِينَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا تَفْسِيرَاتٌ أَشْهَرُهَا: أَنْ يَبِيعَ سِلْعَةً بِثَمَنٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ، ثُمَّ يَشْتَرِيَهَا نَفْسَهَا نَقْدًا بِثَمَنٍ أَقَل، وَفِي نِهَايَةِ الأَْجَل يَدْفَعُ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ الأَْوَّل، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الثَّمَنَيْنِ فَضْلٌ هُوَ رِبًا، لِلْبَائِعِ الأَْوَّل.
وَتَئُول الْعَمَلِيَّةُ إِلَى قَرْضِ عَشَرَةٍ، لِرَدِّ خَمْسَةَ عَشَرَ، وَالْبَيْعُ وَسِيلَةٌ صُورِيَّةٌ إِلَى الرِّبَا.
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار 4 / 279
(2) نيل الأوطار 5 / 207(9/96)
حُكْمُهَا:
3 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِهَا بِهَذِهِ الصُّورَةِ: فَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ: لاَ يَجُوزُ هَذَا الْبَيْعُ. وَقَال مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: هَذَا الْبَيْعُ فِي قَلْبِي كَأَمْثَال الْجِبَال، اخْتَرَعَهُ أَكَلَةُ الرِّبَا (1) .
وَنُقِل عَنِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - جَوَازُ الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ (كَأَنَّهُ نَظَرَ إِلَى ظَاهِرِ الْعَقْدِ، وَتَوَافُرِ الرُّكْنِيَّةِ، فَلَمْ يَعْتَبِرِ النِّيَّةَ) .
وَفِي هَذَا اسْتَدَل لَهُ ابْنُ قُدَامَةَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ بِأَنَّهُ ثَمَنٌ يَجُوزُ بَيْعُ السِّلْعَةِ بِهِ مِنْ غَيْرِ بَائِعِهَا، فَيَجُوزُ مِنْ بَائِعِهَا، كَمَا لَوْ بَاعَهَا بِثَمَنِ مِثْلِهَا (2) .
4 - وَعَلَّل الْمَالِكِيَّةُ عَدَمَ الْجَوَازِ بِأَنَّهُ سَلَفٌ جَرَّ نَفْعًا (3) .
وَوَجْهُ الرِّبَا فِيهِ - كَمَا يَقُول الزَّيْلَعِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ - أَنَّ الثَّمَنَ لَمْ يَدْخُل فِي ضَمَانِ الْبَائِعِ قَبْل قَبْضِهِ، فَإِذَا أَعَادَ إِلَيْهِ عَيْنَ مَالِهِ بِالصِّفَةِ الَّتِي خَرَجَ عَنْ مِلْكِهِ، وَصَارَ بَعْضُ الثَّمَنِ قِصَاصًا بِبَعْضٍ، بَقِيَ لَهُ عَلَيْهِ فَضْلٌ بِلاَ عِوَضٍ، فَكَانَ ذَلِكَ رِبْحَ مَا لَمْ يُضْمَنْ، وَهُوَ حَرَامٌ بِالنَّصِّ (4) .
5 - وَاسْتَدَل الْحَنَابِلَةُ عَلَى التَّحْرِيمِ بِالآْتِي:
أ - بِمَا رَوَى غُنْدَرُ عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، عَنِ امْرَأَتِهِ الْعَالِيَةِ،
__________
(1) القوانين الفقهية ص 171
(2) المغني 4 / 256
(3) الشرح الكبير للدردير 3 / 89
(4) رد المحتار 4 / 115(9/96)
قَالَتْ: " دَخَلْتُ أَنَا وَأُمُّ وَلَدِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَقَالَتْ أُمُّ وَلَدِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ: إِنِّي بِعْتُ غُلاَمًا مِنْ زَيْدٍ، بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ إِلَى الْعَطَاءِ، ثُمَّ اشْتَرَيْتُهُ مِنْهُ بِسِتِّمِائَةِ دِرْهَمٍ نَقْدًا. فَقَالَتْ لَهَا: بِئْسَ مَا اشْتَرَيْتِ، وَبِئْسَ مَا شَرَيْتِ، أَبْلِغِي زَيْدًا: أَنَّ جِهَادَهُ مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَطَل، إِلاَّ أَنْ يَتُوبَ (1) . قَالُوا: وَلاَ تَقُول مِثْل ذَلِكَ إِلاَّ تَوْقِيفًا.
ب - وَلأَِنَّهُ ذَرِيعَةٌ إِلَى الرِّبَا، لِيَسْتَبِيحَ بَيْعَ أَلْفٍ بِنَحْوِ خَمْسِمِائَةٍ إِلَى أَجَلٍ، وَالذَّرِيعَةُ مُعْتَبَرَةٌ فِي الشَّرْعِ، بِدَلِيل مَنْعِ الْقَاتِل مِنَ الإِْرْثِ (2) .
ج - وَبِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا ضَنَّ النَّاسُ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ، وَتَبَايَعُوا بِالْعِينَةِ، وَاتَّبَعُوا أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَتَرَكُوا الْجِهَادَ فِي سَبِيل اللَّهِ، أَنْزَل اللَّهُ بِهِمْ بَلاَءً، فَلاَ يَرْفَعُهُ حَتَّى يُرَاجِعُوا دِينَهُمْ (3)
وَفِي رِوَايَةٍ: إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ، وَأَخَذْتُمْ
__________
(1) حديث عائشة: " أبلغني زيدا. . . . " أخرجه الدارقطني 3 / 52 ط المحاسن، وقال: أم محبة والعالية مجهولتان لا يحتج بهما، يعني بهما: الموجودتين في إسناده
(2) كشاف القناع 3 / 185، والمغني 4 / 257
(3) حديث: " إذا ضن الناس بالدينار والدرهم. . . ". أخرجه أحمد في مسنده 2 / 28 ط الميمنية، وصححه ابن القطان كما نقله عنه الزيلعي في نصب الراية 3 / 17 ط المجلس العلمي(9/97)
أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ، سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا، لاَ يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ. (1)
بَيْعُ الْغَرَرِ
انْظُرْ: غَرَر
__________
(1) حديث: " إذا تبايعتم بالعينة. . . " أخرجه أبو داود 3 / 740 ط عزت عبيد دعاس. وقال ابن حجر في بلوغ المرام 192 ط عبد الحميد أحمد حنفي: في إسناده مقال ثم ذكر الطريق المتقدم والتي بلفظ: " إذا ضن الناس. . . " وقال: رجاله ثقات(9/97)
الْبَيْعُ الْفَاسِدُ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْبَيْعُ: مُبَادَلَةُ الْمَال بِالْمَال، وَالْفَسَادُ: ضِدُّ الصَّلاَحِ.
وَالْبَيْعُ الْفَاسِدُ فِي الاِصْطِلاَحِ: مَا يَكُونُ مَشْرُوعًا أَصْلاً لاَ وَصْفًا. وَالْمُرَادُ بِالأَْصْل: الصِّيغَةُ، وَالْعَاقِدَانِ، وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ. وَبِالْوَصْفِ: مَا عَدَا ذَلِكَ (1) .
وَهَذَا اصْطِلاَحُ الْحَنَفِيَّةِ الَّذِينَ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْفَاسِدِ وَالْبَاطِل. فَالْبَيْعُ الْفَاسِدُ عِنْدَهُمْ مَرْتَبَةٌ بَيْنَ الْبَيْعِ الصَّحِيحِ وَالْبَيْعِ الْبَاطِل. وَلِهَذَا يُفِيدُ الْحُكْمَ، إِذَا اتَّصَل بِهِ الْقَبْضُ، لَكِنَّهُ مَطْلُوبُ التَّفَاسُخِ شَرْعًا (2) .
أَمَّا جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ فَالْفَاسِدُ وَالْبَاطِل عِنْدَهُمْ سِيَّانِ، فَكَمَا أَنَّ الْبَيْعَ الْبَاطِل لاَ يُفِيدُ الْحُكْمَ
__________
(1) المصباح المنير ومجلة الأحكام العدلية م 105، 109، وتبيين الحقائق 4 / 44، وفتح القدير 6 / 43
(2) تبيين الحقائق للزيلعي 4 / 44، وابن عابدين 4 / 100، والبدائع 5 / 299، وفتح القدير مع الهداية 6 / 42(9/98)
فَكَذَلِكَ الْفَاسِدُ لاَ أَثَرَ لَهُ عِنْدَهُمْ (1) . وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ. إِلاَّ أَنَّ بَعْضَ الشَّافِعِيَّةِ وَافَقُوا الْحَنَفِيَّةَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْفَاسِدِ وَالْبَاطِل حَيْثُ قَالُوا: إِنْ رَجَعَ الْخَلَل إِلَى رُكْنِ الْعَقْدِ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ، وَإِنْ رَجَعَ إِلَى شَرْطِهِ فَفَاسِدٌ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْبَيْعُ الصَّحِيحُ:
2 - الْبَيْعُ الصَّحِيحُ هُوَ: الْبَيْعُ الْمَشْرُوعُ بِأَصْلِهِ وَوَصْفِهِ، وَيُفِيدُ الْحُكْمَ بِنَفْسِهِ إِذَا خَلاَ عَنِ الْمَوَانِعِ. فَالْبَيْعُ الصَّحِيحُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَثَرُهُ، مِنْ حُصُول الْمِلْكِ وَالاِنْتِفَاعِ بِالْمَبِيعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلاَ يَحْتَاجُ إِلَى الْقَبْضِ. وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ (3) .
ب - (الْبَيْعُ الْبَاطِل:
3 - الْبَيْعُ الْبَاطِل: مَا لاَ يَكُونُ مَشْرُوعًا بِأَصْلِهِ وَلاَ بِوَصْفِهِ، فَلاَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَثَرٌ، وَلاَ تَحْصُل بِهِ فَائِدَةٌ، وَلاَ يُعْتَبَرُ مُنْعَقِدًا، فَلاَ حُكْمَ لَهُ أَصْلاً؛ لأَِنَّ الْحُكْمَ لِلْمَوْجُودِ، وَلاَ وُجُودَ لِهَذَا الْبَيْعِ شَرْعًا، وَإِنْ وُجِدَ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ، كَالْبَيْعِ
__________
(1) الدسوقي 3 / 54، والأشباه للسيوطي ص 312، والمنثور للزركشي 3 / 7، والقواعد والفوائد الأصولية ص 110
(2) أسنى المطالب 2 / 171
(3) الزيلعي 4 / 44، وابن عابدين 4 / 100، ومنح الجليل 2 / 551، وروضة الناظر ص 31(9/98)
الْوَاقِعِ مِنَ الطِّفْل وَالْمَجْنُونِ، وَكَبَيْعِ الْمَيْتَةِ وَالْحُرِّ، وَكُل مَا لاَ يُعْتَبَرُ مَالاً (1) .
(ر: بُطْلاَنُ، الْبَيْعِ الْبَاطِل) .
ج - الْبَيْعُ الْمَكْرُوهُ:
4 - الْمَكْرُوهُ لُغَةً: خِلاَفُ الْمَحْبُوبِ. وَالْبَيْعُ الْمَكْرُوهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: مَا كَانَ مَشْرُوعًا بِأَصْلِهِ وَوَصْفِهِ، لَكِنْ نُهِيَ عَنْهُ لِوَصْفٍ مُجَاوِرٍ غَيْرِ لاَزِمٍ (2) . كَالْبَيْعِ عِنْدَ أَذَانِ الْجُمُعَةِ، وَبَيْعِ الْمُسْلِمِ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ وَنَحْوِهِمَا.
وَالْبَيْعُ الْمَكْرُوهُ بَيْعٌ مُنْعَقِدٌ صَحِيحٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ) فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَثَرُهُ، كَثُبُوتِ الْمِلْكِيَّةِ فِي الْبَدَلَيْنِ، لَكِنْ فِيهِ إِثْمٌ إِنْ كَانَ مَكْرُوهًا تَحْرِيمًا عَلَى اصْطِلاَحِ الْحَنَفِيَّةِ، لِوُرُودِ النَّهْيِ فِيهِ لِوَصْفٍ عَارِضٍ، وَهُوَ اقْتِرَانُهُ بِوَقْتِ النِّدَاءِ لِصَلاَةِ الْجُمُعَةِ مَثَلاً (3) . أَمَّا الْمَكْرُوهُ تَنْزِيهًا فَلاَ إِثْمَ فِيهِ كَبَيْعِ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي عَلَى إِحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْ أَحْمَدَ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ يَصِحُّ بَيْعٌ بَعْدَ أَذَانِ الْجُمُعَةِ
__________
(1) البدائع 5 / 305، وابن عابدين 4 / 100، وبداية المجتهد 2 / 193، والأشباه للسيوطي ص 310، وروضة الناظر ص 31، والدسوقي 3 / 54
(2) ابن عابدين 4 / 100، وبداية المجتهد لابن رشد 2 / 193، ونهاية المحتاج 3 / 430، ومنتهى الإرادات 3 / 154
(3) المراجع السابقة(9/99)
عَقِبَ جُلُوسِ الإِْمَامِ عَلَى الْمِنْبَرِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} (1) وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي الْفَسَادَ (2) .
(ر: بَيْعٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ) .
د - الْبَيْعُ الْمَوْقُوفُ:
5 - الْبَيْعُ الْمَوْقُوفُ هُوَ: مَا يَكُونُ مَشْرُوعًا بِأَصْلِهِ وَوَصْفِهِ، وَيُفِيدُ الْحُكْمَ عَلَى سَبِيل التَّوَقُّفِ وَامْتَنَعَ تَمَامُهُ لأَِجْل غَيْرِهِ، كَبَيْعِ مَال الْغَيْرِ. وَيُسَمَّى الْبَائِعُ حِينَئِذٍ فُضُولِيًّا، لِتَصَرُّفِهِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنٍ شَرْعِيٍّ. فَمَنْ بَاعَ مِلْكَ غَيْرِهِ يَكُونُ الْبَيْعُ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ الْمَالِكِ، إِنْ شَاءَ رَدَّهُ، وَإِنْ شَاءَ أَجَازَ، إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ وَالْمُتَبَايِعَانِ بِحَالِهِمْ (3) .
وَالْبَيْعُ الْمَوْقُوفُ بَيْعٌ صَحِيحٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (4) ، لِصُدُورِهِ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ. وَبَاطِلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ
__________
(1) سورة الجمعة / 9
(2) منتهى الإرادات 3 / 154، وكشاف القناع 3 / 180
(3) مجلة الأحكام العدلية م 111، وتبيين الحقائق للزيلعي 4 / 44، وابن عابدين 4 / 139 - 142، والاختيار 2 / 17، والقوانين لابن جزي ص 163، ومغني المحتاج 2 / 15، والمغني مع الشرح 4 / 274
(4) المراجع السابقة، وانظر المجموع 9 / 258(9/99)
فِي الصَّحِيحِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ أُخْرَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لِعَدَمِ الْمِلْكِ وَالْوِلاَيَةِ.
(ر: الْبَيْعُ الْمَوْقُوفُ) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
6 - يَحْرُمُ الإِْقْدَامُ عَلَى الْبَيْعِ الْفَاسِدِ إِذَا كَانَ الْمُتَصَرِّفُ عَالِمًا بِفَسَادِهِ؛ لأَِنَّ فِيهِ مُخَالَفَةً شَرْعِيَّةً وَلَوْ فِي وَصْفِ الْعَقْدِ، وَالْفَاسِدُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَالنَّهْيُ يَدُل عَلَى كَوْنِهِ غَيْرَ مُبَاحٍ (1) .
أَسْبَابُ الْفَسَادِ:
7 - مَا يَلِي مِنَ الأَْسْبَابِ تُفْسِدُ الْعَقْدَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَلاَ تُبْطِلُهُ، وَالْبَيْعُ فِي هَذِهِ الأَْحْوَال يُفِيدُ الْحُكْمَ بِشَرْطِ الْقَبْضِ، وَيُطَبَّقُ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْفَاسِدِ الآْتِي ذِكْرُهَا، وَهَذِهِ الأَْسْبَابُ تُعْتَبَرُ مِنْ أَسْبَابِ بُطْلاَنِ الْعَقْدِ وَعَدَمِ اعْتِبَارِهِ أَصْلاً عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَحَيْثُ إِنَّ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ هُوَ مُصْطَلَحُ الْحَنَفِيَّةِ فَقَطْ فَيُقْتَصَرُ عَلَى ذِكْرِ أَسْبَابِ الْفَسَادِ عِنْدَهُمْ:
أ - عَدَمُ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ إِلاَّ بِتَحَمُّل الضَّرَرِ:
8 - مِنْ شُرُوطِ الْبَيْعِ الصَّحِيحِ: أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ مَقْدُورَ التَّسْلِيمِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ يَلْحَقُ الْبَائِعَ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ تَسْلِيمُهُ إِلاَّ بِضَرَرٍ يَلْزَمُهُ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ؛ لأَِنَّ الضَّرَرَ لاَ يُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ، وَلاَ يَلْزَمُ بِالْتِزَامِ
__________
(1) التوضيح والتنقيح 1 / 217، وتبيين الحقائق 4 / 44(9/100)
الْعَاقِدِ إِلاَّ تَسْلِيمُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، فَأَمَّا مَا وَرَاءَهُ فَلاَ.
وَعَلَى ذَلِكَ إِذَا بَاعَ جِذْعًا فِي سَقْفٍ، أَوْ آجُرًّا فِي حَائِطٍ، أَوْ ذِرَاعًا فِي دِيبَاجٍ فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ، لأَِنَّهُ لاَ يُمْكِنُهُ تَسْلِيمُهُ إِلاَّ بِالنَّزْعِ وَالْقَطْعِ، وَفِيهِ ضَرَرٌ بِالْبَائِعِ، وَالضَّرَرُ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ بِالْعَقْدِ. فَكَانَ بَيْعُ مَا لاَ يَجِبُ تَسْلِيمُهُ شَرْعًا، فَيَكُونُ فَاسِدًا (1) .
فَإِنْ نَزَعَهُ الْبَائِعُ وَسَلَّمَهُ إِلَى الْمُشْتَرِي قَبْل أَنْ يَفْسَخَ الْعَقْدَ جَازَ الْبَيْعُ، حَتَّى يُجْبَرُ الْمُشْتَرِي عَلَى الأَْخْذِ؛ لأَِنَّ الْمَانِعَ مِنَ الْجَوَازِ ضَرَرُ الْبَائِعِ بِالتَّسْلِيمِ، فَإِذَا سَلَّمَ بِاخْتِيَارِهِ وَرِضَاهُ فَقَدْ زَال الْمَانِعُ (2) .
وَلَوْ بَاعَ حِلْيَةَ سَيْفِهِ، فَإِنْ كَانَ يَتَخَلَّصُ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ لاَ يَتَخَلَّصُ إِلاَّ بِضَرَرٍ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ، إِلاَّ إِذَا فَصَل وَسَلَّمَ (3) .
وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي بَيْعِ ذِرَاعٍ مِنْ ثَوْبٍ يَضُرُّهُ التَّبْعِيضُ، وَبَيْعُ فَصِّ خَاتَمٍ مُرَكَّبٍ فِيهِ، وَكَذَا بَيْعُ نَصِيبِهِ مِنْ ثَوْبٍ مُشْتَرَكٍ مِنْ غَيْرِ شَرِيكِهِ، لِلضَّرَرِ فِي تَسْلِيمِ ذَلِكَ كُلِّهِ (4) .
ب - جَهَالَةُ الْمَبِيعِ أَوِ الثَّمَنِ أَوِ الأَْجَل:
9 - مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الْبَيْعِ أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ وَالثَّمَنُ مَعْلُومَيْنِ عِلْمًا يَمْنَعُ مِنَ الْمُنَازَعَةِ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مَجْهُولاً جَهَالَةً مُفْضِيَةً إِلَى الْمُنَازَعَةِ فَسَدَ
__________
(1) البدائع للكاساني 5 / 168، وابن عابدين 4 / 108 - 109
(2) نفس المراجع
(3) البدائع 5 / 168
(4) البدائع 5 / 168، وابن عابدين 4 / 109(9/100)
الْبَيْعُ. فَإِذَا قَال: بِعْتُكَ شَاةً مِنْ هَذَا الْقَطِيعِ، أَوْ ثَوْبًا مِنْ هَذَا الْعِدْل فَسَدَ الْبَيْعُ؛ لأَِنَّ الشَّاةَ مِنَ الْقَطِيعِ أَوِ الثَّوْبَ مِنَ الْعِدْل مَجْهُولٌ جَهَالَةً مُفْضِيَةً إِلَى الْمُنَازَعَةِ، لِفُحْشِ التَّفَاوُتِ بَيْنَ شَاةٍ وَشَاةٍ، وَثَوْبٍ وَثَوْبٍ فَيُوجِبُ الْفَسَادَ. لَكِنْ إِذَا عَيَّنَ الْبَائِعُ شَاةً أَوْ ثَوْبًا وَسَلَّمَهُ إِلَيْهِ، وَرَضِيَ بِهِ جَازَ، وَيَكُونُ ذَلِكَ ابْتِدَاءً بَيْعًا بِالْمُرَاضَاةِ (1) .
وَلَوْ بَاعَ شَيْئًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَفِي الْبَلَدِ نُقُودٌ مُخْتَلِفَةٌ، انْصَرَفَ إِلَى النَّقْدِ الْغَالِبِ، فَيَصِحُّ الْعَقْدُ، لَكِنَّهُ إِذَا كَانَ فِي الْبَلَدِ عِدَّةُ نُقُودٍ غَالِبَةٍ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ؛ لأَِنَّ الثَّمَنَ مَجْهُولٌ إِذِ الْبَعْضُ لَيْسَ بِأَوْلَى مِنَ الْبَعْضِ (2) .
10 - وَإِذَا كَانَ الْبَيْعُ فِيهِ أَجَلٌ، يُشْتَرَطُ لِصِحَّتِهِ أَنْ يَكُونَ الأَْجَل مَعْلُومًا، فَإِنْ كَانَ مَجْهُولاً يَفْسُدُ الْبَيْعُ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ جَهَالَةُ الأَْجَل فَاحِشَةً، كَهُبُوبِ الرِّيحِ وَنُزُول الْمَطَرِ وَقُدُومِ فُلاَنٍ وَمَوْتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، أَمْ مُتَقَارِبَةً كَالْحَصَادِ وَالدِّيَاسِ وَالنَّيْرُوزِ وَالْمَهْرَجَانِ وَقُدُومِ الْحَاجِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ لأَِنَّ الأَْوَّل فِيهِ غَرَرُ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ، وَالنَّوْعُ الثَّانِي مِمَّا يَتَقَدَّمُ وَيَتَأَخَّرُ فَيُؤَدِّي إِلَى الْمُنَازَعَةِ، فَيُوجِبُ فَسَادَ الْبَيْعِ (3) .
ج - الْبَيْعُ بِالإِْكْرَاهِ:
11 - الإِْكْرَاهُ إِذَا كَانَ مُلْجِئًا، أَيْ بِالتَّهْدِيدِ
__________
(1) البدائع 5 / 156، 158، والفتاوى الهندية 3 / 3
(2) المراجع السابقة
(3) البدائع 5 / 178، والاختيار 2 / 26، وابن عابدين 4 / 106(9/101)
بِإِتْلاَفِ النَّفْسِ أَوِ الْعُضْوِ مَثَلاً، يُعْدِمُ الرِّضَا وَيُفْسِدُ الاِخْتِيَارَ، فَيَبْطُل عَقْدُ الْبَيْعِ وَسَائِرُ الْعُقُودِ بِغَيْرِ خِلاَفٍ.
أَمَّا الإِْكْرَاهُ غَيْرُ الْمُلْجِئِ، كَالتَّهْدِيدِ بِالْحَبْسِ وَالضَّرَرِ الْيَسِيرِ، فَيُفْسِدُ الْبَيْعَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَلاَ يُبْطِلُهُ، فَيَثْبُتُ بِهِ الْمِلْكُ عِنْدَ الْقَبْضِ، وَيَنْقَلِبُ صَحِيحًا لاَزِمًا بِإِجَازَةِ الْمُكْرَهِ؛ لأَِنَّ الإِْكْرَاهَ غَيْرَ الْمُلْجِئِ لاَ يُعْدِمُ الاِخْتِيَارَ (الَّذِي هُوَ: تَرْجِيحُ فِعْل الشَّيْءِ عَلَى تَرْكِهِ) ، وَإِنَّمَا يُعْدِمُ الرِّضَا (الاِرْتِيَاحُ إِلَى الشَّيْءِ) وَالرِّضَا لَيْسَ رُكْنًا مِنْ أَرْكَانِ الْبَيْعِ، بَل هُوَ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ صِحَّتِهِ (1) . كَمَا هُوَ مُفَصَّلٌ فِي بَحْثِ (إِكْرَاه) .
وَكَذَلِكَ بَيْعُ الْمُضْطَرِّ فَاسِدٌ، كَمَا إِذَا اضْطُرَّ شَخْصٌ إِلَى بَيْعِ شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ وَلَمْ يَرْضَ الْمُشْتَرِي إِلاَّ بِشِرَائِهِ بِأَقَل مِنْ ثَمَنِ الْمِثْل بِغَبْنٍ فَاحِشٍ (2) .
د - الشَّرْطُ الْمُفْسِدُ:
12 - مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الْبَيْعِ أَنْ يَكُونَ خَالِيًا عَنِ الشُّرُوطِ الْمُفْسِدَةِ، وَهِيَ أَنْوَاعٌ.
مِنْهَا مَا فِي وُجُودِهِ غَرَرٌ، نَحْوُ مَا إِذَا اشْتَرَى نَاقَةً عَلَى أَنَّهَا حَامِلٌ؛ لأَِنَّ الشَّرْطَ يَحْتَمِل الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ وَلاَ يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ لِلْحَال؛ لأَِنَّ عِظَمَ الْبَطْنِ وَالتَّحَرُّكَ يَحْتَمِل أَنْ يَكُونَ لِعَارِضٍ، فَكَانَ فِي الْبَيْعِ بِهَذَا الشَّرْطِ غَرَرٌ يُوجِبُ فَسَادَهُ، لِمَا
__________
(1) ابن عابدين 4 / 4، 5
(2) ابن عابدين 4 / 106(9/101)
رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ {نَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَصَاةِ وَعَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ} (1) .
وَيَرْوِي الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ الْبَيْعَ بِهَذَا الشَّرْطِ جَائِزٌ، لأَِنَّ كَوْنَهَا حَامِلاً بِمَنْزِلَةِ شَرْطِ كَوْنِ الْعَبْدِ كَاتِبًا أَوْ خَيَّاطًا وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَذَا جَائِزٌ، فَكَذَا هَذَا.
وَقَدْ أَلْحَقَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِهَذَا الْمِثَال شِرَاءَ بَقَرَةٍ عَلَى أَنَّهَا حَلُوبٌ، أَوْ قُمْرِيَّةً عَلَى أَنَّهَا تُصَوِّتُ، أَوْ كَبْشًا عَلَى أَنَّهُ نِطَاحٌ، أَوْ دِيكًا عَلَى أَنَّهُ مُقَاتِلٌ، فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مُحَمَّدٍ، لأَِنَّهُ شَرْطٌ فِيهِ غَرَرٌ (2) .
وَفِي الْمَوْضُوعِ أَمْثِلَةٌ خِلاَفِيَّةٌ يُرْجَعُ إِلَيْهَا فِي مَظَانِّهَا.
وَمِنَ الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ الَّتِي تُفْسِدُ الْعَقْدَ: كُل شَرْطٍ لاَ يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلْبَائِعِ أَوْ لِلْمُشْتَرِي، وَلَيْسَ بِمُلاَئِمٍ وَلاَ مِمَّا جَرَى بِهِ التَّعَامُل بَيْنَ النَّاسِ. نَحْوُ: إِذَا بَاعَ دَارًا عَلَى أَنْ يَسْكُنَهَا الْبَائِعُ شَهْرًا ثُمَّ يُسَلِّمَهَا إِلَيْهِ، أَوْ أَرْضًا عَلَى أَنْ يَزْرَعَهَا سَنَةً، أَوْ دَابَّةً عَلَى أَنْ يَرْكَبَهَا شَهْرًا، أَوْ ثَوْبًا عَلَى أَنْ يَلْبَسَهُ أُسْبُوعًا، فَالْبَيْعُ فِي كُل هَذِهِ الصُّوَرِ فَاسِدٌ؛ لأَِنَّ زِيَادَةَ الْمَنْفَعَةِ الْمَشْرُوطَةِ فِي الْبَيْعِ تَكُونُ رِبًا، لأَِنَّهَا زِيَادَةٌ
__________
(1) حديث: " نهى عن بيع الحصاة، وعن بيع الغرر ". أخرجه مسلم 3 / 1153 ط الحلبي
(2) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع لعلاء الدين الكاساني 5 / 169، 170(9/102)
لاَ يُقَابِلُهَا عِوَضٌ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ، وَالْبَيْعُ الَّذِي فِيهِ رِبًا فَاسِدٌ. وَكَذَا مَا فِيهِ شُبْهَةُ الرِّبَا، فَإِنَّهَا مُفْسِدَةٌ لِلْبَيْعِ. (ر: ربا) .
وَمِنَ الشُّرُوطِ الْمُفْسِدَةِ: شَرْطُ خِيَارٍ مُؤَبَّدٍ فِي الْبَيْعِ، وَكَذَلِكَ شَرْطُ خِيَارٍ مُؤَقَّتٍ بِأَجَلٍ مَجْهُولٍ جَهَالَةً فَاحِشَةً، كَهُبُوبِ الرِّيحِ وَمَجِيءِ الْمَطَرِ مَثَلاً، وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (شَرْط) (1) .
هـ - اشْتِمَال الْعَقْدِ عَلَى التَّوْقِيتِ:
13 - مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الْبَيْعِ: أَلاَ يَكُونَ الْعَقْدُ مُؤَقَّتًا، فَإِنْ أَقَّتَهُ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ؛ لأَِنَّ عَقْدَ الْبَيْعِ عَقْدُ تَمْلِيكِ الْعَيْنِ، وَعُقُودُ تَمْلِيكِ الأَْعْيَانِ لاَ تَصِحُّ مُؤَقَّتَةً، وَلِهَذَا عَرَّفَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ الْبَيْعَ بِأَنَّهُ: عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ مَالِيَّةٍ يُفِيدُ مِلْكَ عَيْنٍ عَلَى التَّأْبِيدِ (2) .
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (أَجَل، تَأْقِيت) .
و اشْتِمَال الْعَقْدِ عَلَى الرِّبَا:
14 - مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الْبَيْعِ: الْخُلُوُّ عَنِ الرِّبَا؛ لأَِنَّ الْبَيْعَ الَّذِي فِيهِ رِبًا فَاسِدٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لأَِنَّ الرِّبَا حَرَامٌ بِنَصِّ الْكِتَابِ الْكَرِيمِ. قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَحَل اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (3) .
__________
(1) البدائع 5 / 168، 169، 170، 174
(2) الفتاوى الهندية 3 / 3، والبدائع 6 / 118، ومغني المحتاج 2 / 3
(3) سورة البقرة / 275(9/102)
وَكَذَلِكَ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ خَالِيًا عَنْ شُبْهَةِ الرِّبَا، وَاحْتِمَال الرِّبَا. قَال الْكَاسَانِيُّ: حَقِيقَةُ الرِّبَا كَمَا هِيَ مُفْسِدَةٌ لِلْبَيْعِ، فَاحْتِمَال الرِّبَا مُفْسِدٌ لَهُ أَيْضًا، وَلأَِنَّ الشُّبْهَةَ مُلْحَقَةٌ بِالْحَقِيقَةِ فِي بَابِ الْحُرُمَاتِ احْتِيَاطًا، وَأَصْلُهُ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {الْحَلاَل بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، فَدَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لاَ يَرِيبُكَ} (1) .
ز - الْبَيْعُ بِغَرَرٍ:
15 - الْغَرَرُ هُوَ خَطَرُ حُصُول الشَّيْءِ أَوْ عَدَمُ حُصُولِهِ، فَإِذَا كَانَ الْغَرَرُ فِي أَصْل الْمَبِيعِ، بِأَنْ يَكُونَ مُحْتَمِلاً لِلْوُجُودِ وَالْعَدَمِ، كَبَيْعِ الثِّمَارِ قَبْل أَنْ تُخْلَقَ، وَبَيْعِ الطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ قَبْل أَنْ يُصْطَادَ، فَالْعَقْدُ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ فِي أَوْصَافِهِ كَبَيْعِ الرُّطَبِ عَلَى النَّخْل بِتَمْرٍ مَقْطُوعٍ فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لِجَهَالَةِ قَدْرِ الْمَبِيعِ (2) .
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (غَرَر)
ح - بَيْعُ الْمَنْقُول قَبْل قَبْضِهِ:
16 - مَنِ اشْتَرَى عَيْنًا مَنْقُولَةً لاَ يَصِحُّ بَيْعُهُ لَهَا قَبْل قَبْضِهَا مِنَ الْبَائِعِ الأَْوَّل، لِمَا رُوِيَ {أَنَّ
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 183، 193، 198. وحديث: " الحلال بين والحرام بين، فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك " أخرجه الطبراني في الأوسط وحسنه الهيثمي في المجمع 4 / 74 ط القدسي
(2) الاختيار 2 / 24، وابن عابدين 4 / 107(9/103)
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ حَتَّى يُقْبَضَ} (1) .
وَلأَِنَّهُ بَيْعٌ فِيهِ غَرَرُ الاِنْفِسَاخِ بِهَلاَكِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، لأَِنَّهُ إِذَا هَلَكَ قَبْل الْقَبْضِ يَبْطُل الْبَيْعُ الأَْوَّل، فَيَنْفَسِخُ الثَّانِي، لأَِنَّهُ بِنَاءً عَلَى الأَْوَّل، وَسَوَاءٌ أَبَاعَهُ مِنْ بَائِعِهِ الأَْوَّل أَوْ مِنْ غَيْرِهِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ قَبَضَ نِصْفَ الْمَبِيعِ الْمَنْقُول الَّذِي اشْتَرَاهُ، فَأَشْرَكَ رَجُلاً فِيمَا اشْتَرَاهُ جَازَ فِيمَا قَبَضَ، وَلَمْ يَجُزْ فِيمَا لَمْ يَقْبِضْ؛ لأَِنَّ الإِْشْرَاكَ نَوْعُ بَيْعٍ وَالْمَبِيعُ مَنْقُولٌ، فَلَمْ يَكُنْ غَيْرَ الْمَقْبُوضِ مَحَلًّا لَهُ شَرْعًا، فَلَمْ يَصِحَّ فِي غَيْرِ الْمَقْبُوضِ، وَصَحَّ فِي قَدْرِ الْمَقْبُوضِ (2) . (ر: قَبْض) .
تَجَزُّؤُ الْفَسَادِ:
17 - الأَْصْل اقْتِصَارُ الْفَسَادِ عَلَى قَدْرِ الْمُفْسِدِ، فَالصَّفْقَةُ إِذَا اشْتَمَلَتْ عَلَى الصَّحِيحِ وَالْفَاسِدِ يَقْتَصِرُ الْفَسَادُ فِيهِ عَلَى قَدْرِ الْمُفْسِدِ، وَيَصِحُّ فِي الْبَاقِي، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ إِذَا كَانَ الْفَسَادُ طَارِئًا.
وَقَدْ وَرَدَ فِي صُوَرِ بَيْعِ الْعِينَةِ: مَا لَوْ بَاعَ شَيْئًا بِعَشَرَةٍ وَلَمْ يَقْبِضِ الثَّمَنَ، ثُمَّ اشْتَرَاهُ بِخَمْسَةٍ لَمْ يَجُزْ، أَمَّا إِذَا اشْتَرَى ذَلِكَ الشَّيْءَ مَضْمُومًا إِلَيْهِ غَيْرُهُ فَيَصِحُّ.
__________
(1) حديث: " نهى عن بيع الطعام حتى يقبض. . . " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 349 ط السلفية)
(2) البدائع 5 / 180، 181، والفتاوى الهندية 3 / 3(9/103)
جَاءَ فِي الْهِدَايَةِ: أَنَّ مَنِ اشْتَرَى سِلْعَةً بِخَمْسِمِائَةٍ، ثُمَّ بَاعَهَا وَأُخْرَى مَعَهَا بِخَمْسِمِائَةٍ مِنَ الْبَائِعِ قَبْل نَقْدِ الثَّمَنِ، فَالْبَيْعُ جَائِزٌ فِي الَّتِي لَمْ يَشْتَرِهَا مِنَ الْبَائِعِ، وَلاَ يَجُوزُ فِي الأُْخْرَى لأَِنَّهُ لاَ بُدَّ أَنْ يَجْعَل الثَّمَنَ بِمُقَابَلَةِ الَّتِي لَمْ يَشْتَرِهَا،
فَيَكُونَ مُشْتَرِيًا لِلأُْخْرَى بِأَقَل مِمَّا بَاعَ قَبْل نَقْدِ الثَّمَنِ، وَهُوَ فَاسِدٌ بِشُبْهَةِ الرِّبَا (1) .
أَمَّا إِذَا كَانَ الْفَسَادُ مُقَارِنًا لِلْعَقْدِ فَكَذَلِكَ الْحُكْمُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، لأَِنَّهُمَا لاَ يُفَرِّقَانِ بَيْنَ الْفَسَادِ الطَّارِئِ وَالْفَسَادِ الْمُقَارِنِ.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: مَتَى فَسَدَ الْعَقْدُ فِي الْبَعْضِ بِمُفْسِدٍ مُقَارِنٍ يَفْسُدُ فِي الْكُل (2) لأَِنَّهُ إِذَا كَانَ الْفَسَادُ مُقَارِنًا يَصِيرُ قَبُول الْعَقْدِ فِي الْفَاسِدِ شَرْطَ قَبُول الْعَقْدِ فِي الآْخَرِ، وَهَذَا شَرْطٌ فَاسِدٌ، فَيُؤَثِّرُ فِي الْكُل، وَلَمْ يُوجَدْ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْفَسَادِ الطَّارِئِ، فَاقْتَصَرَ الْفَسَادُ فِيهِ عَلَى قَدْرِ الْمُفْسِدِ.
وَعَلَى ذَلِكَ إِذَا اشْتَرَى دِينَارًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ نَسِيئَةً، ثُمَّ نَقَدَ بَعْضَ الْعَشَرَةِ دُونَ الْبَعْضِ فِي الْمَجْلِسِ فَسَدَ الْكُل عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لأَِنَّ الْفَسَادَ مُقَارِنٌ لِلْعَقْدِ، فَيُؤَثِّرُ فِي فَسَادِ الْكُل. وَعِنْدَهُمَا يَصِحُّ بِقَدْرِ مَا قَبَضَ وَيَفْسُدُ فِي الْبَاقِي، بِنَاءً عَلَى اقْتِصَارِ الْفَسَادِ عَلَى قَدْرِ الْمُفْسِدِ (3) .
__________
(1) الفتح مع الهداية / 71 - 73، وابن عابدين 4 / 116
(2) ابن عابدين 5 / 6
(3) البدائع 5 / 217، 250، 251، والفتح والعناية على الهداية 6 / 73(9/104)
أَمْثِلَةٌ لِلْبَيْعِ الْفَاسِدِ:
18 - ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ فِي كُتُبِهِمْ - بَعْدَ بَيَانِ الْبَيْعِ الْبَاطِل - أَمْثِلَةً عَنِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ، وَذَلِكَ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمْ مِنَ التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا، وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ: بَيْعُ مَا سُكِتَ فِيهِ عَنِ الثَّمَنِ، كَبَيْعِهِ بِقِيمَتِهِ، وَذِرَاعٍ مِنْ ثَوْبٍ يَضُرُّهُ التَّبْعِيضُ، وَبَيْعِ الْمُلاَمَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ (1) لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: {نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْمُلاَمَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ} (2) وَبَيْعِ اللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ، وَالصُّوفِ عَلَى الظَّهْرِ، وَاللَّحْمِ فِي الشَّاةِ، وَجِذْعٍ فِي سَقْفٍ، وَثَوْبٍ مِنْ ثَوْبَيْنِ إِذَا لَمْ يُشْتَرَطْ فِيهِ خِيَارُ التَّعْيِينِ.
أَمَّا اللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ فَلِلْجَهَالَةِ وَاخْتِلاَطِ الْمَبِيعِ بِغَيْرِهِ، وَكَذَا الصُّوفُ عَلَى الظَّهْرِ، وَلاِحْتِمَال وُقُوعِ التَّنَازُعِ، وَقَدْ {نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ لَبَنٍ فِي ضَرْعٍ، وَسَمْنٍ فِي لَبَنٍ} (3) .
__________
(1) الملامسة: أن يلمس كل منهما ثوب صاحبه بغير تأمل ليلزم الملامس البيع من غير خيار له عند الرؤية. والمنابذة: أن ينبذ كل واحد منهما ثوبه إلى الآخر ولا ينظر إلى ثوب صاحبه على أن يجعل النبذ بيعا، وهذه كانت بيوعا يتعارفونها في الجاهلية (ابن عابدين 4 / 109)
(2) حديث: " نهى عن الملامسة والمنابذة ". أخرجه مسلم (3 / 1151 ط الحلبي) ، والبخاري (الفتح 4 / 359 ط السلفية)
(3) حديث: " نهى عن بيع لبن في ضرع وسمن في لبن " أخرجه الدارقطني (3 / 14 ط دار المحاسن) ، والبيهقي (5 / 340 ط دائرة المعارف العثمانية) . وقال البيهقي: تفرد برفعه عمر بن فروخ وليس بالقوي، ورواه موقوفا. وكذا صوب الدارقطني وقفه على ابن عباس(9/104)
وَأَمَّا اللَّحْمُ فِي الشَّاةِ وَالْجِذْعُ فِي السَّقْفِ فَلاَ يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ إِلاَّ بِضَرَرٍ لاَ يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ ذِرَاعٌ مِنْ ثَوْبٍ وَحِلْيَةٌ فِي سَيْفٍ، وَإِنْ قَلَعَهُ وَسَلَّمَهُ قَبْل نَقْضِ الْبَيْعِ جَازَ (1) .
وَلَوْ بَاعَ عَيْنًا عَلَى أَنْ يُسَلِّمَهَا إِلَى رَأْسِ الشَّهْرِ فَهُوَ فَاسِدٌ؛ لأَِنَّ تَأْجِيل الأَْعْيَانِ بَاطِلٌ، إِذْ لاَ فَائِدَةَ فِيهِ؛ لأَِنَّ التَّأْجِيل شُرِعَ فِي الأَْثْمَانِ تَيْسِيرًا عَلَى الْمُشْتَرِي، لِيَتَمَكَّنَ مِنْ تَحْصِيل الثَّمَنِ، وَأَنَّهُ مَعْدُومٌ فِي الأَْعْيَانِ فَكَانَ شَرْطًا فَاسِدًا.
وَمِنَ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ: بَيْعُ الْمُزَابَنَةِ وَالْمُحَاقَلَةِ (2) ، لِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُمَا (3) ، وَلِشُبْهَةِ الرِّبَا فِيهِمَا. وَلَوْ بَاعَ عَلَى أَنْ يُقْرِضَ الْمُشْتَرِيَ دَرَاهِمَ أَوْ ثَوْبًا عَلَى أَنْ يَخِيطَهُ الْبَائِعُ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ، {لأَِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ} ، وَهَذَا شَرْطٌ لاَ يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَلاَ يُلاَئِمُهُ، وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لأَِحَدِ الْعَاقِدَيْنِ فَيَفْسُدُ الْعَقْدُ.
__________
(1) الاختيار 2 / 23، 24، وابن عابدين 4 / 106 - 110
(2) المزابنة: بيع الثمر على النخل بتمر على الأرض كيلا حزرا. والمحاقلة: بيع الحنطة في سنبلها بمثلها من الحنطة كيلا حزرا (ابن عابدين 4 / 119
(3) حديث: " نهى عن المزابنة والمحاقلة. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 384 ط السلفية)(9/105)
وَالْبَيْعُ إِلَى النَّيْرُوزِ وَالْمَهْرَجَانِ وَصَوْمِ النَّصَارَى وَفِطْرِ الْيَهُودِ إِذَا جَهِل الْمُتَبَايِعَانِ ذَلِكَ فَاسِدٌ، وَكَذَلِكَ الْبَيْعُ إِلَى الْحَصَادِ وَالْقِطَافِ وَالدِّيَاسِ وَقُدُومِ الْحَاجِّ لِجَهَالَةِ الأَْجَل، وَهِيَ تَقْضِي إِلَى الْمُنَازَعَةِ، وَإِنْ أَسْقَطَ الأَْجَل قَبْل حُلُولِهِ جَازَ الْبَيْعُ عِنْدَ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ، خِلاَفًا لِزُفَرَ حَيْثُ قَال: الْفَاسِدُ لاَ يَنْقَلِبُ صَحِيحًا (1) .
19 - هَذَا، وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْحَنَفِيَّةُ: الْبَيْعُ بِالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ، أَوْ بَيْعُهُمَا مُقَايَضَةً بِالْعَيْنِ، فَإِذَا قُوبِلاَ بِالْعَيْنِ كَمَا إِذَا اشْتَرَى الثَّوْبَ بِالْخَمْرِ، أَوْ بَاعَ الْخَمْرَ بِالثَّوْبِ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ، أَمَّا إِنْ قُوبِلاَ بِالدَّيْنِ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ.
وَوَجْهُ الْفَرْقِ كَمَا ذَكَرَهُ الْمَرْغِينَانِيُّ: أَنَّ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ مَالٌ عِنْدَ أَهْل الذِّمَّةِ، إِلاَّ أَنَّهُ غَيْرُ مُتَقَوَّمٍ؛ لأَِنَّ الشَّرْعَ أَمَرَ بِإِهَانَتِهِ وَتَرْكِ إِعْزَازِهِ، وَفِي تَمَلُّكِهِ بِالْعَقْدِ إِعْزَازٌ لَهُ، وَهَذَا لأَِنَّهُ مَتَى اشْتَرَاهَا بِالدَّرَاهِمِ فَالدَّرَاهِمُ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ، لِكَوْنِهَا وَسِيلَةً لِمَا أَنَّهَا تَجِبُ فِي الذِّمَّةِ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ الْخَمْرُ، فَسَقَطَ التَّقَوُّمُ أَصْلاً فَبَطَل الْعَقْدُ، بِخِلاَفِ مُشْتَرِي الثَّوْبِ بِالْخَمْرِ لأَِنَّ فِيهِ إِعْزَازًا لِلثَّوْبِ دُونَ الْخَمْرِ. وَكَذَا إِذَا بَاعَ الْخَمْرَ بِالثَّوْبِ فَيَكُونُ الْعَقْدُ
__________
(1) ابن عابدين 4 / 106، 109، 110، 119، 122(9/105)
فَاسِدًا، لأَِنَّهُ يُعْتَبَرُ شِرَاءَ الثَّوْبِ بِالْخَمْرِ، لِكَوْنِهِ مُقَايَضَةً (1) .
20 - وَهُنَاكَ صُوَرٌ أُخْرَى اخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ فِي اعْتِبَارِهَا بَيْعًا فَاسِدًا أَوْ بَيْعِهَا بَاطِلاً، كَبَيْعِ الْحَمْل، وَبَيْعِ الطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ، وَالسَّمَكِ فِي الْبَحْرِ قَبْل اصْطِيَادِهِمَا لَوْ قُوبِلاَ بِالْعَرْضِ، وَبَيْعِ ضَرْبَةِ الْقَانِصِ وَالْغَائِصِ (2) . وَبَيْعِ لُؤْلُؤٍ فِي صَدَفٍ، وَكَذَلِكَ بَيْعُ الآْبِقِ، وَاللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ (3) .
آثَارُ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ:
21 - تَقَدَّمَ أَنَّهُ لاَ فَرْقَ بَيْنَ بَيْعِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَالْبَيْعِ الْبَاطِل عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) فِي الْجُمْلَةِ، فَكِلاَهُمَا غَيْرُ مُنْعَقِدٍ، فَلاَ اعْتِبَارَ بِالْبَيْعِ الْفَاسِدِ شَرْعًا، كَمَا أَنَّهُ لاَ اعْتِبَارَ بِالْبَيْعِ الْبَاطِل عِنْدَهُمْ (4) .
وَلَمَّا قَال خَلِيلٌ فِي مُخْتَصَرِهِ: وَفَسَدَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، فَسَّرَهُ الدَّرْدِيرُ بِقَوْلِهِ: أَيْ بَطَل، أَيْ لَمْ يَنْعَقِدْ،
__________
(1) الهداية مع الفتح 6 / 45، 46، وابن عابدين 4 / 104، 106
(2) القانص أن يقول: بعتك ما يخرج من إلقاء هذه الشبكة مرة بكذا. والغائص أن يقول: أغوص غوصة فما أخرجته من اللآلي فلك بكذا. (ابن عابدين 4 / 109)
(3) ابن عابدين 4 / 107، 109، 112 والاختيار 2 / 24
(4) حاشية الدسوقي 3 / 54، وحاشية الجمل 3 / 85، والمنثور للزركشي 3 / 7(9/106)
سَوَاءٌ أَكَانَ عِبَادَةً، كَصَوْمِ يَوْمِ الْعِيدِ، أَمْ عَقْدًا، كَنِكَاحِ الْمَرِيضِ وَالْمُحْرِمِ، وَكَبَيْعِ مَا لاَ يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ، أَوْ مَجْهُولٍ؛ لأَِنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي الْفَسَادَ (1) .
وَكَتَبَ عَلَى نَصِّ خَلِيلٍ الدُّسُوقِيِّ قَوْلَهُ: أَيْ مَنْهِيٌّ عَنْ تَعَاطِيهِ. وَهَذِهِ قَضِيَّةٌ كُلِّيَّةٌ شَامِلَةٌ لِلْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلاَتِ، وَهِيَ الْعُقُودُ (2) .
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ لَوْ حَذَفَ الْمُتَعَاقِدَانِ الْمُفْسِدَ لِلْعَقْدِ، وَلَوْ فِي مَجْلِسِ الْخِيَارِ، لَمْ يَنْقَلِبْ صَحِيحًا، إِذْ لاَ عِبْرَةَ بِالْفَاسِدِ (3) . وَهَذَا يَعْنِي أَنَّ الْفَاسِدَ عِنْدَهُمْ لاَ تَلْحَقُهُ الإِْجَازَةُ، كَالْبَاطِل عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (4) . وَقَدْ أَخَذَ الْقَلْيُوبِيُّ وَالْجَمَل وَغَيْرُهُمَا عَلَى الإِْمَامِ النَّوَوِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ أَهْمَل هُنَا فَصْلاً فِي حُكْمِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَالْمَقْبُوضِ بِالشِّرَاءِ الْفَاسِدِ، وَذَكَرُوا أَحْكَامَهُ مُخْتَصَرَةً (5) .
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَيُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَالْبَيْعِ الْبَاطِل، وَيَعْتَبِرُونَ الْفَاسِدَ مُنْعَقِدًا خِلاَفًا لِلْبَاطِل فَإِنَّهُ غَيْرُ مُنْعَقِدٍ، وَلَهُ أَحْكَامٌ سَبَقَتْ فِي مُصْطَلَحِهِ.
__________
(1) الشرح الكبير للدردير بحاشية الدسوقي عليه 3 / 54
(2) حاشية الدسوقي في الموضع نفسه
(3) حاشية الجمل على شرح المنهج 3 / 85
(4) رد المحتار 4 / 124
(5) حاشية القليوبي 2 / 181، وحاشية الجمل على شرح المنهج 3 / 84(9/106)
أَمَّا الْبَيْعُ الْفَاسِدُ فَلَهُ أَحْكَامٌ نُجْمِلُهَا فِيمَا يَلِي:
أَوَّلاً - انْتِقَال الْمِلْكِ بِالْقَبْضِ:
22 - الْبَيْعُ الْفَاسِدُ يُفِيدُ الْمِلْكَ بِقَبْضِ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ بِإِذْنِ الْبَائِعِ صَرِيحًا أَوْ دَلاَلَةً عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، كَمَا إِذَا قَبَضَهُ فِي الْمَجْلِسِ وَسَكَتَ الْبَائِعُ، فَيَجُوزُ لِلْمُشْتَرِي التَّصَرُّفُ فِي الْمَبِيعِ، بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ إِجَارَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، إِلاَّ الاِنْتِفَاعَ (1) .
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: إِذَا مَلَكَهُ تَثْبُتُ لَهُ كُل أَحْكَامِ الْمِلْكِ إِلاَّ خَمْسَةً: لاَ يَحِل لَهُ أَكْلُهُ، وَلاَ لُبْسُهُ، وَلاَ وَطْؤُهَا - إِنْ كَانَ الْمَبِيعُ أَمَةً - وَلاَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا مِنْهُ الْبَائِعُ، وَلاَ شُفْعَةَ لِجَارِهِ لَوْ عَقَارًا (2) .
وَدَلِيل جَوَازِ التَّصَرُّفِ فِي الْمَبِيعِ فَاسِدًا حَدِيثُ {عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، حَيْثُ ذَكَرَتْ لِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا أَرَادَتْ أَنْ تَشْتَرِيَ بَرِيرَةَ، فَأَبَى مَوَالِيهَا أَنْ يَبِيعُوهَا إِلاَّ بِشَرْطِ: أَنْ يَكُونَ الْوَلاَءُ لَهُمْ، فَقَال لَهَا: خُذِيهَا وَاشْتَرِطِي لَهُمُ الْوَلاَءَ، فَإِنَّ - الْوَلاَءَ لِمَنْ أَعْتَقَ، فَاشْتَرَتْهَا مَعَ شَرْطِ الْوَلاَءِ لَهُمْ} (3) . فَأَجَازَ الْعِتْقَ مَعَ فَسَادِ الْبَيْعِ بِالشَّرْطِ.
__________
(1) البدائع 5 / 304، والزيلعي 4 / 64، 65، وابن عابدين 4 / 124
(2) ابن عابدين 4 / 124
(3) حديث عائشة " إنما الولاء. . . ". أخرجه البخاري. (الفتح 4 / 376 ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1145 ط الحلبي)(9/107)
وَلأَِنَّ رُكْنَ التَّمْلِيكِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: بِعْتُ وَاشْتَرَيْتُ، صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ، وَهُوَ الْمُكَلَّفُ الْمُخَاطَبُ مُضَافًا إِلَى مَحَلِّهِ وَهُوَ الْمَال عَنْ وِلاَيَةٍ، إِذِ الْكَلاَمُ فِيهِمَا، فَيَنْعَقِدُ لِكَوْنِهِ وَسِيلَةً إِلَى الْمَصَالِحِ، وَالْفَسَادُ لِمَعْنًى يُجَاوِرُهُ، كَالْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ، وَالنَّهْيُ لاَ يَنْفِي الاِنْعِقَادَ بَل يُقَرِّرُهُ، لأَِنَّهُ يَقْتَضِي تَصَوُّرَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ النَّهْيَ عَمَّا لاَ يُتَصَوَّرُ، وَعَنْ غَيْرِ الْمَقْدُورِ قَبِيحٌ، إِلاَّ أَنَّهُ يُفِيدُ مِلْكًا خَبِيثًا لِمَكَانِ النَّهْيِ (1) .
وَاشْتَرَطُوا لإِِفَادَةِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ الْمِلْكَ شَرْطَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: الْقَبْضُ، فَلاَ يَثْبُتُ الْمِلْكُ قَبْل الْقَبْضِ، لأَِنَّهُ وَاجِبُ الْفَسْخِ رَفْعًا لِلْفَسَادِ، وَفِي وُجُوبِ الْمِلْكِ قَبْل الْقَبْضِ تَقَرَّرَ الْفَسَادُ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْقَبْضُ بِإِذْنِ الْبَائِعِ، فَإِنْ قَبَضَ بِغَيْرِ إِذْنٍ لاَ يَثْبُتُ الْمِلْكُ (2) .
23 - هَذَا، وَاخْتَلَفَ عُلَمَاءُ الْحَنَفِيَّةِ فِي كَيْفِيَّةِ حُصُول الْمِلْكِ وَالتَّصَرُّفِ فِي الْمَبِيعِ بَيْعًا فَاسِدًا. قَال بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْمُشْتَرِيَ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهِ بِاعْتِبَارِ تَسْلِيطِ الْبَائِعِ لَهُ، لاَ بِاعْتِبَارِ تَمَلُّكِ الْعَيْنِ، وَلِهَذَا لاَ يَجُوزُ أَكْل طَعَامٍ اشْتَرَاهُ شِرَاءً فَاسِدًا. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ جَوَازَ التَّصَرُّفِ بِنَاءً عَلَى مِلْكِ الْعَيْنِ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا إِذَا اشْتَرَى دَارًا بِشِرَاءٍ
__________
(1) الاختيار لتعليل المختار للموصلي 2 / 22
( x662 ;) البدائع 5 / 304(9/107)
فَاسِدٍ وَقَبَضَهَا، فَبِيعَتْ بِجَنْبِهَا دَارٌ، لَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ لِنَفْسِهِ، وَلَمْ يَمْلِكْهَا لَمَّا اسْتَحَقَّ الشُّفْعَةَ. لَكِنْ لاَ تَجِبُ فِيهِ شُفْعَةٌ لِلشَّفِيعِ وَإِنْ كَانَ يُفِيدُ الْمِلْكَ؛ لأَِنَّ حَقَّ الْبَائِعِ لَمْ يَنْقَطِعْ (1) .
أَيْ لأَِنَّ لِكُلٍّ مِنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي الْفَسْخَ.
انْتِقَال الْمِلْكِ بِالْقِيمَةِ لاَ بِالْمُسَمَّى:
24 - اتَّفَقَ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ حُصُول الْمِلْكِ بِالْقَبْضِ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ فِي مُقَابِل قِيمَةِ الْمَبِيعِ، لاَ الثَّمَنِ الْمُسَمَّى الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ الطَّرَفَانِ. وَذَلِكَ لأَِنَّ الْعَقْدَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَالتَّسْمِيَةُ فَاسِدَةٌ فَلاَ يَجِبُ الْمُسَمَّى، وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْقِيمَةِ يَوْمُ الْقَبْضِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَيَوْمُ الإِْتْلاَفِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ (2) .
ثَانِيًا: اسْتِحْقَاقُ الْفَسْخِ:
25 - الْبَيْعُ الْفَاسِدُ، مَعَ كَوْنِهِ غَيْرَ مَشْرُوعٍ بِوَصْفِهِ، فَالْفَسَادُ مُقْتَرِنٌ بِهِ، وَدَفْعُ الْفَسَادِ
__________
(1) البناية على الهداية 6 / 377، والزيلعي 4 / 62، والبدائع 5 / 304، وابن عابدين 4 / 124
(2) الفرق بين الثمن والقيمة: أن الثمن ما تراضى عليه العاقدون، سواء زاد على القيمة أو نقص. والقيمة: ما قوم به الشيء بمنزلة المعيار من غير زيادة ولا نقصان. (ابن عابدين 4 / 51، 52، والاختيار 2 / 23، والزيلعي 4 / 62، وجواهر الإكليل 2 / 27، والجمل 3 / 85، والشرح الكبير مع المغني 4 / 56، وكشاف القناع 3 / 197)(9/108)
وَاجِبٌ فَيَسْتَحِقُّ فَسْخَهُ، وَلأَِنَّ الْفَاسِدَ يُفِيدُ مِلْكًا خَبِيثًا لِمَكَانِ النَّهْيِ، فَكَانَ لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقُّ الْفَسْخِ، إِزَالَةً لِلْخَبَثِ وَدَفْعًا لِلْفَسَادِ. وَلأَِنَّ مِنْ أَسْبَابِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ اشْتِرَاطَ الرِّبَا وَإِدْخَال الآْجَال الْمَجْهُولَةِ وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَهَذِهِ مَعْصِيَةٌ وَالزَّجْرُ عَنِ الْمَعْصِيَةِ وَاجِبٌ، وَاسْتِحْقَاقُ الْفَسْخِ يَصْلُحُ زَاجِرًا عَنِ الْمَعْصِيَةِ، لأَِنَّهُ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ يَفْسَخُ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَمْتَنِعُ عَنِ الْمُبَاشَرَةِ كَمَا عَلَّلَهُ الْفُقَهَاءُ (1) .
وَلاَ يُشْتَرَطُ فِي فَسْخِهِ قَضَاءُ قَاضٍ؛ لأَِنَّ الْوَاجِبَ شَرْعًا لاَ يَحْتَاجُ إِلَى الْقَضَاءِ (2) . وَلَكِنْ لَوْ أَصَرَّا عَلَى إِمْسَاكِ الْمَبِيعِ بَيْعًا فَاسِدًا وَعَلِمَ بِذَلِكَ الْقَاضِي فَلَهُ فَسْخُهُ جَبْرًا عَلَيْهِمَا، حَقًّا لِلشَّرْعِ (3) .
شُرُوطُ الْفَسْخِ:
26 - الْفَسْخُ مَشْرُوطٌ بِمَا يَلِي:
أ - أَنْ يَكُونَ بِعِلْمِ الْمُتَعَاقِدِ الآْخَرِ، وَلاَ يُشْتَرَطُ رِضَاهُ، وَنَقَل الْكَاسَانِيُّ عَنِ الْكَرْخِيِّ أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ مِنْ غَيْرِ خِلاَفٍ: ثُمَّ نَقَل عَنِ الأَْسْبِيجَابِيِّ أَنَّهُ شَرْطٌ عِنْدَهُمَا خِلاَفًا
__________
(1) الاختيار لتعليل المختار للموصلي 2 / 22، وابن عابدين 4 / 125، والبدائع للكاساني 5 / 300
(2) الدر المختار بهامش رد المحتار 4 / 125
(3) الدر المختار 4 / 125(9/108)
لأَِبِي يُوسُفَ، وَأَنَّ الْخِلاَفَ فِيهِ كَالْخِلاَفِ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ وَالرُّؤْيَةِ.
ب - أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ قَائِمًا فِي يَدِ أَحَدِهِمَا.
ج - أَنْ لاَ يَعْرِضَ لَهُ مَا يَتَعَذَّرُ بِهِ الرَّدُّ (1) .
مَنْ يَمْلِكُ الْفَسْخَ:
27 - الْفَسْخُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْل الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ:
أ - فَإِنْ كَانَ الْفَسْخُ قَبْل الْقَبْضِ، فَلِكُلٍّ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ الْفَسْخُ بِعِلْمِ صَاحِبِهِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ؛ لأَِنَّ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ قَبْل الْقَبْضِ لاَ يُفِيدُ الْمِلْكَ، فَكَانَ الْفَسْخُ قَبْل الْقَبْضِ بِمَنْزِلَةِ الاِمْتِنَاعِ مِنَ الْقَبُول وَالإِْيجَابِ، فَيَمْلِكُهُ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا، لَكِنَّهُ - كَمَا يَقُول الزَّيْلَعِيُّ - يَتَوَقَّفُ عَلَى عِلْمِهِ؛ لأَِنَّ فِيهِ إِلْزَامَ الْفَسْخِ لَهُ، فَلاَ يَلْزَمُهُ بِدُونِ عِلْمِهِ (2) .
ب - وَإِنْ كَانَ الْفَسْخُ بَعْدَ الْقَبْضِ: فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْفَسَادُ رَاجِعًا إِلَى الْبَدَلَيْنِ أَوْ إِلَى غَيْرِهِمَا:
(1) فَإِنْ كَانَ الْفَسَادُ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ، بِأَنْ كَانَ رَاجِعًا إِلَى الْبَدَلَيْنِ: الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ، كَبَيْعِ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ، وَكَالْبَيْعِ بِالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ، فَكَذَلِكَ الْحُكْمُ، يَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا بِالْفَسْخِ؛ لأَِنَّ الْفَسَادَ الرَّاجِعَ إِلَى الْبَدَل رَاجِعٌ إِلَى صُلْبِ الْعَقْدِ، فَلاَ يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ، لأَِنَّهُ لاَ قِوَامَ لِلْعَقْدِ إِلاَّ بِالْبَدَلَيْنِ، فَكَانَ الْفَسَادُ قَوِيًّا، فَيُؤَثِّرُ فِي صُلْبِ
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 300، وابن عابدين 4 / 152، وحاشية الجمل على شرح المنهج 3 / 84، وكشاف القناع 3 / 198
(2) تبيين الحقائق 4 / 64(9/109)
الْعَقْدِ، بِعَدَمِ لُزُومِهِ فِي حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ جَمِيعًا.
(2) وَإِنْ كَانَ الْفَسَادُ غَيْرَ رَاجِعٍ إِلَى الْبَدَلَيْنِ، كَالْبَيْعِ بِشَرْطٍ زَائِدٍ، كَالْبَيْعِ إِلَى أَجَلٍ مَجْهُولٍ، أَوْ بِشَرْطٍ فِيهِ نَفْعٌ لأَِحَدِهِمَا:
- فَالأَْسْبِيجَابِيُّ قَرَّرَ أَنَّ وِلاَيَةَ الْفَسْخِ لِصَاحِبِ الشَّرْطِ، بِلاَ خِلاَفٍ؛ لأَِنَّ الْفَسَادَ الَّذِي لاَ يَرْجِعُ إِلَى الْبَدَل، لاَ يَكُونُ قَوِيًّا فَيَحْتَمِل السُّقُوطَ، فَيَظْهَرُ فِي حَقِّ صَاحِبِ الشَّرْطِ، فَلاَ يَلْزَمُهُ - وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ خِلاَفًا فِي الْمَسْأَلَةِ:
فَفِي قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ: لِكُلٍّ مِنْهُمَا الْفَسْخُ، لِعَدَمِ اللُّزُومِ، بِسَبَبِ الْفَسَادِ.
وَفِي قَوْل مُحَمَّدٍ: الْفَسْخُ لِمَنْ لَهُ مَنْفَعَةُ الشَّرْطِ، لأَِنَّهُ الْقَادِرُ عَلَى تَصْحِيحِ الْعَقْدِ بِإِسْقَاطِ الْمُفْسِدِ، فَلَوْ فَسَخَهُ الآْخَرُ، لأََبْطَل حَقَّهُ عَلَيْهِ، هَذَا لاَ يَجُوزُ (1) .
طَرِيقُ فَسْخِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ:
28 - يُفْسَخُ الْعَقْدُ الْفَاسِدُ بِطَرِيقِينَ:
الأَْوَّل: بِالْقَوْل، وَذَلِكَ بِأَنْ يَقُول مَنْ يَمْلِكُ الْفَسْخَ: فَسَخْتُ الْعَقْدَ، أَوْ رَدَدْتُهُ، أَوْ نَقَضْتُهُ، فَيَنْفَسِخُ بِذَلِكَ، وَلاَ يَحْتَاجُ إِلَى قَضَاءٍ وَلاَ رِضَا الْبَائِعِ، سَوَاءٌ أَكَانَ قَبْل الْقَبْضِ أَمْ بَعْدَهُ؛ لأَِنَّ اسْتِحْقَاقَ الْفَسْخِ ثَبَتَ رَفْعًا لِلْفَسَادِ،
__________
(1) رد المحتار 4 / 125، والبدائع 5 / 300، وتبيين الحقائق 4 / 64(9/109)
وَرَفْعُ الْفَسَادِ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، فَيَظْهَرُ فِي حَقِّ الْكَافَّةِ، وَلاَ يَتَوَقَّفُ عَلَى قَضَاءٍ وَلاَ رِضَاءٍ (1) .
الثَّانِي: بِالْفِعْل، وَذَلِكَ بِأَنْ يُرَدَّ الْمَبِيعُ عَلَى بَائِعِهِ بِأَيِّ وَجْهٍ، بِهِبَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ، أَوْ إِعَارَةٍ، أَوْ بَيْعٍ أَوْ إِجَارَةٍ، فَإِذَا فَعَل ذَلِكَ، وَوَقَعَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ بَائِعِهِ - حَقِيقَةً، أَوْ حُكْمًا كَالتَّخْلِيَةِ - فَهُوَ مُتَارَكَةٌ لِلْبَيْعِ، وَبَرِئَ الْمُشْتَرِي مِنْ ضَمَانِهِ (2) .
مَا يَبْطُل بِهِ حَقُّ الْفَسْخِ:
29 - لاَ يَسْقُطُ حَقُّ الْفَسْخِ بِصَرِيحِ الإِْبْطَال وَالإِْسْقَاطِ، بِأَنْ يَقُول: أَسْقَطْتُ، أَوْ: أَبْطَلْتُ، أَوْ: أَوْجَبْتُ الْبَيْعَ، أَوْ أَلْزَمْتُهُ؛ لأَِنَّ وُجُوبَ الْفَسْخِ ثَبَتَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، دَفْعًا لِلْفَسَادِ، وَمَا ثَبَتَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصًا، لاَ يَقْدِرُ الْعَبْدُ عَلَى إِسْقَاطِهِ مَقْصُودًا، كَخِيَارِ الرُّؤْيَةِ.
لَكِنْ قَدْ يَسْقُطُ بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ، بِأَنْ يَتَصَرَّفَ الْعَبْدُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ مَقْصُودًا، فَيَتَضَمَّنُ ذَلِكَ سُقُوطَ حَقِّ اللَّهِ عَزَّ وَجَل، بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ.
وَإِذَا بَطَل حَقُّ الْفَسْخِ لَزِمَ الْبَيْعُ، وَتَقَرَّرَ الضَّمَانُ، وَإِذَا لَمْ يَبْطُل لاَ يَلْزَمُ الْبَيْعُ، وَلاَ يَتَقَرَّرُ الضَّمَانُ.
وَفِيمَا يَلِي أَهَمُّ صُوَرِ ذَلِكَ.
__________
(1) البدائع 5 / 300
(2) بدائع الصنائع 5 / 300، والدر المختار ورد المحتار 4 / 125.(9/110)
الصُّورَةُ الأُْولَى: التَّصَرُّفُ الْقَوْلِيُّ فِي الْمَبِيعِ بَيْعًا فَاسِدًا.
30 - أَطْلَقَ الْحَنَفِيَّةُ الْقَوْل بِأَنَّهُ يَبْطُل حَقُّ الْفَسْخِ بِكُل تَصَرُّفٍ يُخْرِجُ الْمَبِيعَ عَنْ مِلْكِ الْمُشْتَرِي (1) لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْعَبْدِ بِهِ (2) . وَهَذَا التَّعْلِيل هُوَ الَّذِي أَصَّلَهُ الْمَالِكِيَّةُ، وَذَلِكَ كَمَا لَوْ جَعَل الْمَبِيعَ مَهْرًا، أَوْ بَدَل صُلْحٍ، أَوْ بَدَل إِجَارَةٍ، وَعَلَّلُوهُ قَائِلِينَ: لِخُرُوجِهِ عَنْ مِلْكِهِ بِذَلِكَ (3) .
أَوْ وَهَبَهُ وَسَلَّمَهُ؛ لأَِنَّ الْهِبَةَ لاَ تُفِيدُ الْمِلْكَ إِلاَّ بِالتَّسْلِيمِ بِخِلاَفِ الْبَيْعِ.
أَوْ رَهَنَهُ وَسَلَّمَهُ؛ لأَِنَّ الرَّهْنَ لاَ يَلْزَمُ بِدُونِ التَّسْلِيمِ.
أَوْ وَقَفَهُ وَقْفًا صَحِيحًا، لأَِنَّهُ اسْتَهْلَكَهُ حِينَ وَقَفَهُ وَأَخْرَجَهُ عَنْ مِلْكِهِ (4) .
أَوْ أَوْصَى بِهِ ثُمَّ مَاتَ، لأَِنَّهُ يَنْتَقِل مِنْ مِلْكِهِ إِلَى مِلْكِ الْمُوصَى لَهُ، وَهُوَ مِلْكٌ مُبْتَدَأٌ، فَصَارَ كَمَا لَوْ بَاعَهُ.
أَوْ تَصَدَّقَ بِهِ وَسَلَّمَهُ أَيْضًا، لأَِنَّهُ لاَ يَخْرُجُ عَنْ مِلْكِ الْمُتَصَدِّقِ بِدُونِ تَسْلِيمٍ (5) .
وَكَذَا الْعِتْقُ، فَقَدِ اسْتَثْنَوْهُ لِقُوَّتِهِ وَسِرَايَتِهِ وَتَشَوُّفِ الشَّارِعِ إِلَيْهِ (6) .
__________
(1) رد المحتار 4 / 126 نقلا عن الوقاية.
(2) الدر المختار 4 / 127، والشرح الكبير 3 / 74.
(3) تبيين الحقائق 4 / 64، والدسوقي 3 / 74.
(4) الاختيار 2 / 22، 23، وابن عابدين 4 / 126.
(5) الدر المختار ورد المحتار عليه 4 / 126، 127.
(6) الاختيار 2 / 22، 23، وابن عابدين 4 / 126.(9/110)
31 - فَفِي هَذِهِ الصُّوَرِ كُلِّهَا، يَنْفُذُ الْبَيْعُ الْفَاسِدُ، وَيَمْتَنِعُ فَسْخُهُ وَذَلِكَ:
أ - لأَِنَّ الْمُشْتَرِيَ مَلَكَهُ، فَمَلَكَ التَّصَرُّفَ فِيهِ.
ب - وَلأَِنَّهُ تَعَلُّقُ حَقِّ الْعَبْدِ بِالْعَقْدِ الثَّانِي، وَنَقْضُ الْعَقْدِ الأَْوَّل مَا كَانَ إِلاَّ لِحَقِّ الشَّرْعِ، وَحَقُّ الْعَبْدِ عِنْدَ مُعَارَضَةِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى يُقَدَّمُ بِإِذْنِهِ تَعَالَى، لِغِنَاهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَسَعَةِ عَفْوِهِ، وَفَقْرِ الْعَبْدِ دَائِمًا إِلَى رَبِّهِ.
ج - وَلأَِنَّ الْعَقْدَ الأَْوَّل مَشْرُوعٌ بِأَصْلِهِ لاَ بِوَصْفِهِ، وَالثَّانِي مَشْرُوعٌ بِأَصْلِهِ وَوَصْفِهِ، فَلاَ يُعَارِضُهُ مُجَرَّدُ الْوَصْفِ.
د - وَلأَِنَّ الْبَيْعَ الثَّانِيَ حَصَل بِتَسْلِيطٍ مِنْ جِهَةِ الْبَائِعِ الأَْوَّل؛ لأَِنَّ التَّمْلِيكَ مِنْهُ - مَعَ الإِْذْنِ فِي الْقَبْضِ - تَسْلِيطٌ عَلَى التَّصَرُّفِ، فَلاَ يَتَمَكَّنُ مِنَ الاِسْتِرْدَادِ مِنَ الْمُشْتَرِي الثَّانِي، وَإِلاَّ كَانَ سَاعِيًا فِي نَقْضِ مَا تَمَّ مِنْ جِهَتِهِ، وَيُؤَدِّي إِلَى الْمُنَاقَضَةِ (1) .
32 - اسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ: الإِْجَارَةَ. فَقَرَّرُوا أَنَّهَا لاَ تَمْنَعُ مِنْ فَسْخِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ؛ لأَِنَّ الإِْجَارَةَ تُفْسَخُ بِالأَْعْذَارِ، وَرَفْعُ الْفَسَادِ مِنَ الأَْعْذَارِ، بَل لاَ عُذْرَ أَقْوَى مِنَ الْفَسَادِ، كَمَا يَقُول الْكَاسَانِيُّ (2) .
__________
(1) الهداية وفتح القدير 6 / 98، و 99، وانظر تبيين الحقائق 4 / 64، 65.
(2) بدائع الصنائع 5 / 301، وانظر: الدر المختار ورد المحتار عليه 4 / 127.(9/111)
وَلأَِنَّهَا - كَمَا يَقُول الْمَرْغِينَانِيُّ - تَنْعَقِدُ شَيْئًا فَشَيْئًا، فَيَكُونُ الرَّدُّ امْتِنَاعًا (1) .
وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا زَال الْمَانِعُ مِنْ مُمَارَسَةِ حَقِّ الْفَسْخِ - كَمَا لَوْ رَجَعَ الْوَاهِبُ بِهِبَتِهِ، أَوْ أَفْتَكَ الرَّاهِنُ رَهْنَهُ - عَادَ الْحَقُّ فِي الْفَسْخِ؛ لأَِنَّ هَذِهِ الْعُقُودَ لَمْ تُوجِبِ الْفَسْخَ مِنْ كُل وَجْهٍ فِي حَقِّ الْكُل.
لَكِنْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبْل الْقَضَاءِ بِالْقِيمَةِ أَوِ الْمِثْل، لاَ بَعْدَهُ؛ لأَِنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي بِذَلِكَ يُبْطِل حَقَّ الْبَائِعِ فِي الْعَيْنِ، وَيَنْقُلُهُ إِلَى الْقِيمَةِ أَوِ الْمِثْل بِإِذْنِ الشَّرْعِ، فَلاَ يَعُودُ حَقُّهُ إِلَى1 الْعَيْنِ وَإِنِ ارْتَفَعَ السَّبَبُ، كَمَا لَوْ قَضَى عَلَى الْغَائِبِ بِقِيمَةِ الْمَغْصُوبِ بِسَبَبِ فَقْدِهِ مَثَلاً، ثُمَّ وُجِدَ الْمَغْصُوبُ (2) .
الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: الأَْفْعَال الَّتِي تَرِدُ عَلَى الْمَبِيعِ بَيْعًا فَاسِدًا:
33 - وَمِنْهَا الْبِنَاءُ وَالْغَرْسُ، فَلَوْ بَنَى الْمُشْتَرِي فِي الأَْرْضِ الَّتِي اشْتَرَاهَا شِرَاءً فَاسِدًا بِنَاءً أَوْ غَرَسَ شَجَرًا:
فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ يَمْتَنِعُ الْفَسْخُ بِالْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ، وَذَلِكَ لأَِنَّهُمَا اسْتِهْلاَكٌ عِنْدَهُ، لأَِنَّهُ يُقْصَدُ بِهِمَا الدَّوَامُ، وَقَدْ حَصَلاَ بِتَسْلِيطٍ مِنَ الْبَائِعِ، فَيَنْقَطِعُ بِهِمَا حَقُّ الاِسْتِرْدَادِ، كَالْبَيْعِ.
__________
(1) الهداية وشروحها 5 / 100.
(2) الدر المختار ورد المحتار 4 / 127، 128.(9/111)
وَذَهَبَ الصَّاحِبَانِ إِلَى أَنَّ الْبِنَاءَ وَالْغَرْسَ لاَ يَمْنَعَانِ مِنَ الْفَسْخِ، وَلِلْبَائِعِ أَنْ يَنْقُضَهُمَا وَيَسْتَرِدَّ الْمَبِيعَ، وَذَلِكَ لأَِنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ - مَعَ ضَعْفِهِ - لاَ يَبْطُل بِالْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ، فَهَذَا أَوْلَى (1) .
34 - وَمِمَّا يَمْنَعُ الْفَسْخَ الزِّيَادَةُ فِي الْمَبِيعِ أَوِ النَّقْصُ مِنْهُ.
أ - أَمَّا الزِّيَادَةُ: فَقَدْ قَرَّرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ كُل زِيَادَةٍ مُتَّصِلَةٍ بِالْمَبِيعِ، غَيْرِ مُتَوَلِّدَةٍ مِنْهُ، كَمَا لَوْ كَانَ الْمَبِيعُ قُمَاشًا فَخَاطَهُ، أَوْ ثَوْبًا فَصَبَغَهُ، أَوْ قَمْحًا فَطَحَنَهُ، أَوْ قُطْنًا فَغَزَلَهُ، فَفِي هَذِهِ الصُّوَرِ كُلِّهَا وَأَمْثَالِهَا يَمْتَنِعُ الْفَسْخُ، وَتَلْزَمُ الْمُشْتَرِيَ قِيمَةُ الْمَبِيعِ.
وَأَمَّا الزِّيَادَةُ الْمُتَّصِلَةُ الْمُتَوَلِّدَةُ كَسَمْنِ الْمَبِيعِ، وَالزِّيَادَةُ الْمُنْفَصِلَةُ الْمُتَوَلِّدَةُ كَالْوَلَدِ، وَالزِّيَادَةُ الْمُنْفَصِلَةُ غَيْرُ الْمُتَوَلِّدَةِ كَالْكَسْبِ وَالْهِبَةِ، فَإِنَّهَا لاَ تَمْنَعُ الْفَسْخَ (2) .
ب - وَأَمَّا نَقْصُ الْمَبِيعِ، فَقَدْ قَرَّرُوا أَنَّهُ إِذَا نَقَصَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، لاَ يَبْطُل حَقُّهُ فِي الرَّدِّ، وَلاَ يَمْتَنِعُ الْفَسْخُ. لَكِنْ إِنْ نَقَصَ وَهُوَ فِي يَدِهِ بِفِعْلِهِ، أَوْ بِفِعْل الْمَبِيعِ نَفْسِهِ، أَوْ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ يَأْخُذُهُ الْبَائِعُ مِنْهُ، وَيُضَمِّنُهُ أَرْشَ النُّقْصَانِ. وَلَوْ
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار 4 / 131، وتبيين الحقائق مع حاشية الشلبي 4 / 65.
(2) الدر المختار ورد المحتار 4 / 131.(9/112)
نَقَصَ وَهُوَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي بِفِعْل الْبَائِعِ، اعْتُبِرَ الْبَائِعُ بِذَلِكَ مُسْتَرِدًّا لَهُ. وَلَوْ نَقَصَ بِفِعْل أَجْنَبِيٍّ، خُيِّرَ الْبَائِعُ بِأَخْذِهِ مِنَ الْمُشْتَرِي أَوْ مِنَ الْجَانِي (1) .
35 - وَقَدْ وَضَعَ الزَّيْلَعِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ ضَابِطًا لِمَا يَمْتَنِعُ بِهِ مِنَ الأَْفْعَال حَقُّ الاِسْتِرْدَادِ وَالْفَسْخِ، فَقَال: إِنَّ الْمُشْتَرِيَ مَتَى فَعَل بِالْمَبِيعِ فِعْلاً، يَنْقَطِعُ بِهِ حَقُّ الْمَالِكِ فِي الْغَصْبِ، يَنْقَطِعُ بِهِ حَقُّ الْمَالِكِ فِي الاِسْتِرْدَادِ، كَمَا إِذَا كَانَ حِنْطَةً فَطَحَنَهَا (2) .
ثَالِثًا (مِنْ أَحْكَامِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ) : حُكْمُ الرِّبْحِ فِي الْبَدَلَيْنِ بِالْبَيْعِ الْفَاسِدِ:
36 - صَرَّحَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّهُ يَطِيبُ لِلْبَائِعِ مَا رَبِحَ فِي الثَّمَنِ، وَلاَ يَطِيبُ لِلْمُشْتَرِي مَا رَبِحَ فِي الْمَبِيعِ، فَلَوِ اشْتَرَى مِنْ رَجُلٍ عَيْنًا بِالْبَيْعِ الْفَاسِدِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ مَثَلاً وَتَقَابَضَا، وَرَبِحَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيمَا قَبَضَ، يَتَصَدَّقُ الَّذِي قَبَضَ الْعَيْنَ بِالرِّبْحِ، لأَِنَّهَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ، فَتَمَكَّنَ الْخَبَثُ فِيهَا، وَيَطِيبُ الرِّبْحُ لِلَّذِي قَبَضَ الدَّرَاهِمَ؛ لأَِنَّ النَّقْدَ لاَ يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ (3) .
__________
(1) المرجع السابق.
(2) تبيين الحقائق 4 / 65.
(3) تنبيه: في تعيين النقد في البيع الفاسد عند الحنفية روايتان، لكن لو اتجر من قبض الدراهم في البيع الفاسد، وربح في العقد الثاني، يطيب له الربح رواية واحدة لعدم تعين النقد في العقد الثاني. (انظر ابن عابدين 4 / 129) .(9/112)
وَمُفَادُ هَذَا الْفَرْقِ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ بَيْعَ مُقَايَضَةٍ (أَيْ بَيْعَ عَيْنٍ بِعَيْنٍ) لاَ يَطِيبُ الرِّبْحُ لَهُمَا؛ لأَِنَّ كُلًّا مِنَ الْبَدَلَيْنِ مَبِيعٌ مِنْ وَجْهٍ، فَتَمَكَّنَ الْخَبَثُ فِيهِمَا مَعًا (1) .
رَابِعًا: قَبُول الْبَيْعِ الْفَاسِدِ لِلتَّصْحِيحِ:
37 - الْبَيْعُ الْفَاسِدُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْفَسَادُ فِيهِ ضَعِيفًا أَوْ قَوِيًّا:
أ - فَإِذَا كَانَ الْفَسَادُ ضَعِيفًا، وَهُوَ مَا لَمْ يَدْخُل فِي صُلْبِ الْعَقْدِ، فَإِنَّهُ يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ كَمَا فِي الْبَيْعِ بِشَرْطِ خِيَارٍ لَمْ يُوَقَّتْ، أَوْ وُقِّتَ إِلَى وَقْتٍ مَجْهُولٍ كَالْحَصَادِ وَالدِّيَاسِ، وَكَمَا فِي الْبَيْعِ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ إِلَى أَجَلٍ مَجْهُولٍ مَثَلاً، فَإِذَا أَسْقَطَ الأَْجَل مَنْ لَهُ الْحَقُّ فِيهِ قَبْل حُلُولِهِ، وَقَبْل فَسْخِهِ، جَازَ الْبَيْعُ لِزَوَال الْمُفْسِدِ، وَلَوْ كَانَ إِسْقَاطُ الأَْجَل بَعْدَ الاِفْتِرَاقِ عَلَى مَا حَرَّرَهُ ابْنُ عَابِدِينَ كَذَلِكَ سَائِرُ الْبِيَاعَاتِ الْفَاسِدَةِ تَنْقَلِبُ جَائِزَةً بِحَذْفِ الْمُفْسِدِ، فَبَيْعُ جِذْعٍ فِي سَقْفٍ فَاسِدٍ، وَكَذَلِكَ بَيْعُ ذِرَاعٍ مِنْ ثَوْبٍ وَحِلْيَةٍ فِي سَيْفٍ، لأَِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ إِلاَّ بِضَرَرٍ لاَ يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ، لَكِنَّهُ إِنْ قَلَعَهُ وَسَلَّمَهُ قَبْل نَقْضِ الْبَيْعِ جَازَ، وَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي الاِمْتِنَاعُ. وَبَيْعُ ثَوْبٍ مِنْ ثَوْبَيْنِ فَاسِدٌ لِجَهَالَةِ الْمَبِيعِ، لَكِنَّهُ لَوْ قَال: عَلَى أَنْ يَأْخُذَ أَيَّهُمَا شَاءَ جَازَ لِعَدَمِ الْمُنَازَعَةِ (2) . وَإِنْ بَاعَ بِشَرْطِ أَنْ يُعْطِيَهُ
__________
(1) ابن عابدين 4 / 129.
(2) البدائع 5 / 178، وابن عابدين 4 / 119، والاختيار 2 / 25، 26.(9/113)
الْمُشْتَرِي رَهْنًا، وَلَمْ يَكُنِ الرَّهْنُ مُعَيَّنًا وَلاَ مُسَمًّى، فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ، لَكِنْ إِذَا تَرَاضَيَا عَلَى تَعْيِينِ الرَّهْنِ فِي الْمَجْلِسِ، وَرَفَعَهُ الْمُشْتَرِي إِلَيْهِ قَبْل أَنْ يَتَفَرَّقَا، أَوْ عَجَّل الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ يَبْطُل الأَْجَل، فَيَجُوزُ الْبَيْعُ اسْتِحْسَانًا لِزَوَال الْفَسَادِ (1) .
هَذَا كُلُّهُ عِنْدَ أَكْثَرِ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ، خِلاَفًا لِزُفَرَ حَيْثُ قَال: الْبَيْعُ إِذَا انْعَقَدَ عَلَى الْفَسَادِ لاَ يَحْتَمِل الْجَوَازَ بَعْدَ ذَلِكَ بِرَفْعِ الْمُفْسِدِ، لِمَا فِيهِ مِنَ الاِسْتِحَالَةِ.
ب - أَمَّا إِذَا كَانَ الْفَسَادُ قَوِيًّا، بِأَنْ يَكُونَ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ، وَهُوَ الْبَدَل أَوِ الْمُبْدَل، فَلاَ يَحْتَمِل الْجَوَازَ بِرَفْعِ الْمُفْسِدِ اتِّفَاقًا، كَمَا إِذَا بَاعَ عَيْنًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَرِطْلٍ مِنْ خَمْرٍ، فَحَطَّ الْخَمْرَ عَنِ الْمُشْتَرِي، فَهَذَا الْبَيْعُ فَاسِدٌ وَلاَ يَنْقَلِبُ صَحِيحًا (2) .
خَامِسًا: الضَّمَانُ إِذَا هَلَكَ الْمَبِيعُ:
38 - لاَ يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي أَنَّ الْمَبِيعَ بَيْعًا فَاسِدًا، إِذَا هَلَكَ وَهُوَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، ثَبَتَ ضَمَانُهُ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ بِرَدِّ مِثْلِهِ إِنْ كَانَ مِثْلِيًّا - مَكِيلاً أَوْ مَوْزُونًا أَوْ مَعْدُودًا - وَرَدِّ قِيمَتِهِ إِنْ كَانَ قِيَمِيًّا، بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ أَكْثَرَ مِنَ الثَّمَنِ أَمْ أَقَل مِنْهُ أَمْ مِثْلَهُ.
__________
(1) الفتاوى الهندية 3 / 133.
(2) البدائع 5 / 178.(9/113)
وَتَجِبُ الْقِيمَةُ فِي الْقِيَمِيِّ، عِنْدَ جُمْهُورِ الْحَنَفِيَّةِ يَوْمَ الْقَبْضِ، لأَِنَّهُ بِهِ يَدْخُل فِي ضَمَانِهِ، فَهُوَ الْيَوْمُ الَّذِي انْعَقَدَ بِهِ سَبَبُ الضَّمَانِ (1) .
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الإِْتْلاَفِ (الْهَلاَكُ) ، لأَِنَّهُ بِالإِْتْلاَفِ يَتَقَرَّرُ الْمِثْل أَوِ الْقِيمَةُ (2)
39 - أَمَّا لَوْ نَقَصَ الْمَبِيعُ بَيْعًا فَاسِدًا فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، فَالنَّقْصُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
أ - لَوْ نَقَصَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي بِفِعْل الْمُشْتَرِي، أَوِ الْمَبِيعِ نَفْسِهِ، أَوْ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، أَخَذَهُ الْبَائِعُ مَعَ تَضْمِينِ الْمُشْتَرِي أَرْشَ النُّقْصَانِ.
ب - وَلَوْ نَقَصَ بِفِعْل الْبَائِعِ، صَارَ بِذَلِكَ مُسْتَرِدًّا لِلْمَبِيعِ، حَتَّى لَوْ هَلَكَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ حَبْسٌ عَنِ الْبَائِعِ، هَلَكَ عَلَى الْبَائِعِ.
ج - وَلَوْ نَقَصَ بِفِعْل أَجْنَبِيٍّ، خُيِّرَ الْبَائِعُ:
- فَإِنْ شَاءَ أَخَذَهُ مِنَ الْمُشْتَرِي، ثُمَّ يَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْجَانِي.
- وَإِنْ شَاءَ اتَّبَعَ الْجَانِيَ، وَهُوَ لاَ يَرْجِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي (3) .
سَادِسًا: ثُبُوتُ الْخِيَارِ فِيهِ:
40 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ يَثْبُتُ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ، كَمَا يَثْبُتُ فِي الْبَيْعِ الْجَائِزِ حَتَّى لَوْ
__________
(1) الدر المختار 4 / 125، وكفاية الطالب 2 / 148.
(2) رد المحتار 4 / 125.
(3) رد المحتار.(9/114)
بَاعَ عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَرِطْلٍ مِنْ خَمْرٍ، عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ، فَقَبَضَهُ الْمُشْتَرِي بِإِذْنِ الْبَائِعِ، وَأَعْتَقَهُ فِي الأَْيَّامِ الثَّلاَثَةِ لاَ يَنْفُذُ إِعْتَاقُهُ، وَلَوْلاَ خِيَارُ الشَّرْطِ لِلْبَائِعِ لَنَفَذَ إِعْتَاقُ الْمُشْتَرِي بَعْدَ الْقَبْضِ. قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَمُفَادُهُ صِحَّةُ إِعْتَاقِهِ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ، لِزَوَال الْخِيَارِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ.
وَكَمَا يَثْبُتُ خِيَارُ الشَّرْطِ فِي الْمَبِيعِ بَيْعًا فَاسِدًا، يَثْبُتُ فِيهِ خِيَارُ الْعَيْبِ، وَلِلْمُشْتَرِي بَعْدَ قَبْضِهِ أَنْ يَرُدَّهُ بِالْعَيْبِ بِقَضَاءٍ وَبِغَيْرِ قَضَاءٍ (1) .
__________
(1) الفتاوى الهندية 3 / 39، ورد المحتار 4 / 124، 126.(9/114)
بَيْعُ الْفُضُولِيِّ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْبَيْعُ فِي اللُّغَةِ: مُبَادَلَةُ شَيْءٍ بِشَيْءٍ. وَفِي الشَّرْعِ هُوَ: مُبَادَلَةُ الْمَال الْمُتَقَوَّمِ بِالْمَال الْمُتَقَوَّمِ تَمْلِيكًا وَتَمَلُّكًا (1) .
وَالْفُضُولِيُّ لُغَةً: مَنْ يَشْتَغِل بِمَا لاَ يَعْنِيهِ.
وَأَمَّا فِي الاِصْطِلاَحِ فَهُوَ: مَنْ لَمْ يَكُنْ وَلِيًّا وَلاَ أَصِيلاً وَلاَ وَكِيلاً فِي الْعَقْدِ (2) .
وَجَاءَ فِي الْعِنَايَةِ: أَنَّ الْفُضُولِيَّ بِضَمِّ الْفَاءِ لاَ غَيْرُ، وَالْفَضْل: الزِّيَادَةُ، وَغَلَبَ اسْتِعْمَال الْجَمْعِ (فُضُولٌ) بَدَلاً مِنَ الْمُفْرَدِ (فَضْلٌ) فِيمَا لاَ خَيْرَ فِيهِ. وَقِيل: لِمَنْ يَشْتَغِل بِمَا لاَ يَعْنِيهِ فُضُولِيٌّ، وَهُوَ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ: مَنْ لَيْسَ بِوَكِيلٍ (3) .
وَجَاءَ فِي حَاشِيَةِ الشَّلَبِيِّ عَلَى تَبْيِينِ الْحَقَائِقِ: وَفِي حَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ أَنَّ الْفُضُولِيَّ: هُوَ مَنْ
__________
(1) لسان العرب، والقاموس المحيط، والصحاح، والمصباح المنير مادة: " فضل "، والتعريفات للجرجاني.
(2) المصباح مادة: " فضل "، والتعريفات للجرجاني.
(3) العناية على الهداية صدر هامش فتح القدير 5 / 309 ط الأميرية، والمصباح مادة: " فضل "(9/115)
يَتَصَرَّفُ فِي حَقِّ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إِذْنٍ شَرْعِيٍّ، كَالأَْجْنَبِيِّ يُزَوِّجُ أَوْ يَبِيعُ. وَلَمْ تَرِدِ النِّسْبَةُ إِلَى الْوَاحِدِ وَهُوَ الْفَضْل، وَإِنْ كَانَ هُوَ الْقِيَاسَ، لأَِنَّهُ صَارَ بِالْغَلَبَةِ كَالْعَلَمِ لِهَذَا الْمَعْنَى، فَصَارَ كَالأَْنْصَارِيِّ وَالأَْعْرَابِيِّ (1) .
هَذَا، وَلَفْظُ الْفُضُولِيِّ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ يَتَنَاوَل كُل مَنْ يَتَصَرَّفُ بِلاَ مِلْكٍ وَلاَ وِلاَيَةٍ وَلاَ وَكَالَةٍ، كَالْغَاصِبِ إِذَا تَصَرَّفَ فِي الْمَغْصُوبِ بِالْبَيْعِ أَوْ غَيْرِهِ، وَالْوَكِيل إِذَا بَاعَ أَوِ اشْتَرَى أَوْ تَصَرَّفَ مُخَالِفًا لِمَا أَمَرَهُ بِهِ مُوَكِّلُهُ، فَهُوَ أَيْضًا يُعْتَبَرُ بِهَذِهِ الْمُخَالَفَةِ فُضُولِيًّا، لأَِنَّهُ تَجَاوَزَ الْحُدُودَ الَّتِي قَيَّدَهُ بِهَا مُوَكِّلُهُ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - الْفُقَهَاءُ الَّذِينَ يَرَوْنَ أَنَّ بَيْعَ الْفُضُولِيِّ بَاطِلٌ مُقْتَضَى مَذْهَبِهِمْ حُرْمَةُ الإِْقْدَامِ عَلَى بَيْعِ الْفُضُولِيِّ لأَِنَّهُ تَسَبُّبٌ لِلْمُعَامَلاَتِ الْبَاطِلَةِ. أَمَّا مَنْ رَأَى صِحَّتَهُ - وَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ - فَقَدْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ بَيْعَ الْفُضُولِيِّ بِلاَ مَصْلَحَةٍ لِلْمَالِكِ حَرَامٌ، أَمَّا إِنْ بَاعَ لِلْمَصْلَحَةِ كَخَوْفِ تَلَفٍ أَوْ ضَيَاعٍ فَغَيْرُ حَرَامٍ، بَل رُبَّمَا كَانَ مَنْدُوبًا.
وَلَمْ نَجِدْ لِلْحَنَفِيَّةِ تَصْرِيحًا بِالْحُكْمِ التَّكْلِيفِيِّ.
__________
(1) حاشية الشلبي على تبيين الحقائق 4 / 103 ط دار المعرفة، وحاشية ابن عابدين 4 / 135 ط المصرية.(9/115)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
3 - لِلْفُقَهَاءِ فِي بَيْعِ الْفُضُولِيِّ اتِّجَاهَانِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ.
أَحَدُهُمَا: يُجِيزُ الْبَيْعَ وَيُوقِفُ نَفَاذَهُ عَلَى إِجَازَةِ الْمَالِكِ.
وَالثَّانِي: يَمْنَعُ الْبَيْعَ وَيُبْطِلُهُ.
وَأَمَّا الشِّرَاءُ، فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ يُجِيزُهُ وَيَجْعَلُهُ مَوْقُوفًا عَلَى الإِْجَازَةِ كَالْبَيْعِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لاَ يَجْعَلُهُ كَذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَذْكُرُ فِيهِ تَفْصِيلاً.
الأَْدِلَّةُ:
4 - اسْتَدَل الْقَائِلُونَ بِجَوَازِ بَيْعِ الْفُضُولِيِّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (1) وَفِي هَذَا إِعَانَةٌ لأَِخِيهِ الْمُسْلِمِ (2) .
وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِحَدِيثِ {عُرْوَةَ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ الْبَارِقِيِّ، وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَاهُ دِينَارًا لِيَشْتَرِيَ لَهُ بِهِ شَاةً، فَاشْتَرَى لَهُ بِهِ شَاتَيْنِ، فَبَاعَ إِحْدَاهُمَا بِدِينَارٍ، فَجَاءَ بِدِينَارٍ وَشَاةٍ، فَدَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ فِي بَيْعِهِ، وَكَانَ لَوِ اشْتَرَى التُّرَابَ لَرَبِحَ فِيهِ} (3) .
وَبِحَدِيثِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ وَهُوَ {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) سورة المائدة / 2.
(2) المجموع 9 / 262 ط السلفية، والفروق للقرافي 3 / 244 ط دار المعرفة.
(3) حديث: " عروة بن أبي الجعد. . . " أخرجه البخاري. (فتح الباري 6 / 632 ط الرياض) .(9/116)
بَعَثَهُ لِيَشْتَرِيَ لَهُ أُضْحِيَّةً بِدِينَارٍ، فَاشْتَرَى أُضْحِيَّةً، فَأَرْبَحَ فِيهَا دِينَارًا، فَاشْتَرَى أُخْرَى مَكَانَهَا، فَجَاءَ بِالأُْضْحِيَّةِ وَالدِّينَارِ إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: ضَحِّ بِالشَّاةِ وَتَصَدَّقْ بِالدِّينَارِ} (1) .
فَهَذَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجَازَ هَذَا الْبَيْعَ، وَلَوْ كَانَ بَاطِلاً لَرَدَّهُ، وَأَنْكَرَ عَلَى مَنْ صَدَرَ مِنْهُ، وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذَا تَصَرُّفُ تَمْلِيكٍ، وَقَدْ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ فَوَجَبَ الْقَوْل بِانْعِقَادِهِ، إِذْ لاَ ضَرَرَ فِيهِ لِلْمَالِكِ مَعَ تَخْيِيرِهِ، بَل فِيهِ نَفْعُهُ، حَيْثُ يَكْفِي مُؤْنَةَ طَلَبِ الْمُشْتَرِي وَقَرَارِ الثَّمَنِ (أَيِ الْمُطَالَبَةَ) وَغَيْرِهِ، وَفِيهِ نَفْعُ الْعَاقِدِ لِصَوْنِ كَلاَمِهِ عَنِ الإِْلْغَاءِ، وَفِيهِ نَفْعُ الْمُشْتَرِي لأَِنَّهُ أَقْدَمَ عَلَيْهِ طَائِعًا، فَثَبَتَتِ الْقُدْرَةُ الشَّرْعِيَّةُ تَحْصِيلاً لِهَذِهِ الْوُجُوهِ (2) .
5 - وَاسْتَدَل الْقَائِلُونَ بِعَدَمِ الْجَوَازِ بِمَا رُوِيَ عَنْ {حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ قَال: سَأَلْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَقُلْتُ: يَأْتِينِي الرَّجُل فَيَسْأَلُنِي مِنَ الْبَيْعِ مَا لَيْسَ
__________
(1) تبيين الحقائق 4 / 103 ط دار المعرفة، والمجموع 9 / 262 ط السلفية، وسنن البيهقي 6 / 113 ط الأولى. وحديث حكيم بن حزام " ضح بالشاة. . . " أخرجه الترمذي (4 / 47 تحفة الأحوذي) وقال: لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وحبيب بن أبي ثابت لم يسمع عندي من حكيم بن حزام.
(2) فتح القدير 5 / 310 ط الأميرية، والبحر الرائق 6 / 160 ط العلمية، وتبيين الحقائق 4 / 103، 104 ط دار المعرفة.(9/116)
عِنْدِي، أَبْتَاعُ لَهُ مِنَ السُّوقِ ثُمَّ أَبِيعُهُ؟ قَال: لاَ تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ} (1) .
وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ قَال: حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ أَبِيهِ حَتَّى ذَكَرَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: {لاَ يَحِل سَلَفٌ وَبَيْعٌ، وَلاَ شَرْطَانِ فِي بَيْعٍ، وَلاَ رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ، وَلاَ بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ} (2) .
وَبِمَا رُوِيَ أَيْضًا عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: {لاَ طَلاَقَ إِلاَّ فِيمَا تَمْلِكُ، وَلاَ عِتْقَ إِلاَّ فِيمَا تَمْلِكُ، وَلاَ بَيْعَ إِلاَّ فِيمَا تَمْلِكُ} (3) .
فَهَذِهِ الأَْحَادِيثُ تَدُل عَلَى أَنَّ بَيْعَ الْفُضُولِيِّ بَاطِلٌ، لأَِنَّهُ تَصَرُّفٌ بِلاَ مِلْكٍ وَلاَ إِذْنٍ وَلاَ وِلاَيَةٍ وَلاَ وَكَالَةٍ.
__________
(1) تحفة الأحوذي 4 / 430 ط الثانية، والمجموع 9 / 262 ط السلفية، وكشاف القناع 3 / 157 ط النصر. وحديث حكيم بن حزام " لا تبع ما ليس عندك. . . . " أخرجه الترمذي (4 / 430 تحفة الأحوذي) وحسنه.
(2) تحفة الأحوذي 4 / 431 - 432 ط الثانية. وحديث عمرو بن شعيب " لا يحل سلف وبيع. . . . " أخرجه الترمذي 3 / 535 ط الحلبي. وقال: حسن صحيح.
(3) المجموع 9 / 262 - 263 ط السلفية. وحديث عمرو بن شعيب " لا طلاق إلا فيما تملك. . . " أخرجه أبو داود (3 / 640 ط عزت عبيد دعاس) ، والترمذي (3 / 868 ط الحلبي) . واللفظ لأبي داود، وقال الترمذي: حديث حسن، وهو أحسن شيء روي في هذا الباب.(9/117)
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ بَاعَ مَا لاَ يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ فَلَمْ يَصِحَّ، كَبَيْعِ الآْبِقِ وَالسَّمَكِ فِي الْمَاءِ وَالطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ (1) .
وَفِيمَا يَلِي تَفْصِيل الْمَذَاهِبِ فِي تَصَرُّفِ الْفُضُولِيِّ:
(أ) تَصَرُّفُ الْفُضُولِيِّ فِي الْبَيْعِ:
6 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مِنْ شُرُوطِ الْبَيْعِ: أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ مَمْلُوكًا لِلْبَائِعِ، أَوْ لَهُ عَلَيْهِ وِلاَيَةٌ أَوْ وَكَالَةٌ تُجِيزُ تَصَرُّفَهُ فِيهِ، وَاتَّفَقُوا أَيْضًا عَلَى صِحَّةِ بَيْعِ الْفُضُولِيِّ، إِذَا كَانَ الْمَالِكُ حَاضِرًا وَأَجَازَ الْبَيْعَ، لأَِنَّ الْفُضُولِيَّ حِينَئِذٍ يَكُونُ كَالْوَكِيل.
وَاتَّفَقُوا أَيْضًا عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ بَيْعِ الْفُضُولِيِّ إِذَا كَانَ الْمَالِكُ غَيْرَ أَهْلٍ لِلإِْجَازَةِ، كَمَا إِذَا كَانَ صَبِيًّا وَقْتَ الْبَيْعِ.
7 - وَمَحَل الْخِلاَفِ فِي بَيْعِ الْفُضُولِيِّ إِذَا كَانَ الْمَالِكُ أَهْلاً لِلتَّصَرُّفِ وَبِيعَ مَالُهُ وَهُوَ غَائِبٌ، أَوْ كَانَ حَاضِرًا وَبِيعَ مَالُهُ وَهُوَ سَاكِتٌ، فَهَل يَصِحُّ بَيْعُ الْفُضُولِيِّ أَوْ لاَ يَصِحُّ؟
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ، وَأَحْمَدُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ: إِلَى أَنَّ الْبَيْعَ صَحِيحٌ، إِلاَّ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى إِجَازَةِ الْمَالِكِ.
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 15 ط الحلبي، والمجموع 9 / 261 - 264 ط السلفية.(9/117)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَوْل الثَّانِي مِنَ الْجَدِيدِ، وَأَحْمَدُ فِي الرِّوَايَةِ الأُْخْرَى عَنْهُ: إِلَى أَنَّ الْبَيْعَ بَاطِلٌ (1) .
8 - وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ حَيْثُ الإِْجْمَال فَقَطْ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الْحَنَفِيَّةَ يَذْكُرُونَ شُرُوطًا لِنَفَاذِ بَيْعِ الْفُضُولِيِّ، وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ بَقَاءِ الْمِلْكِ، وَيَتَحَقَّقُ بِبَقَاءِ الْعَاقِدَيْنِ: الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي، وَبَقَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بِلاَ تَغْيِيرٍ؛ لأَِنَّ الإِْجَازَةَ تَصَرُّفٌ فِي الْعَقْدِ، فَلاَ بُدَّ مِنْ قِيَامِهِ، وَذَلِكَ بِقِيَامِ الْعَاقِدَيْنِ وَمَحَل الْعَقْدِ، كَمَا هُوَ الْحَال فِي إِنْشَاءِ الْعَقْدِ. وَاشْتَرَطُوا أَيْضًا أَنْ لاَ يَبِيعَ الْفُضُولِيُّ الشَّيْءَ عَلَى أَنَّهُ لِنَفْسِهِ. وَأَمَّا الثَّمَنُ فَإِنَّهُمُ اشْتَرَطُوا قِيَامَهُ إِنْ كَانَ عَرَضًا، لأَِنَّ الْعَرَضَ يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فَصَارَ كَالْمَبِيعِ، وَلَمْ يَشْتَرِطُوا قِيَامَ الثَّمَنِ إِنْ كَانَ دَيْنًا.
وَاشْتَرَطُوا أَيْضًا: بَقَاءَ الْمَالِكِ الأَْوَّل، وَهُوَ الْمَعْقُودُ لَهُ مَعَ عِلْمِهِ بِحَال الْمَبِيعِ وَقْتَ الإِْجَازَةِ مِنْ وُجُودِهِ أَوْ عَدَمِهِ؛ لأَِنَّ الْعَقْدَ مَوْقُوفٌ عَلَى
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 147 ط الجمالية، وتبيين الحقائق 4 / 102، 103 ط دار المعرفة، وابن عابدين 4 / 136، وفتح القدير 5 / 309 ط الأميرية، وحاشية الدسوقي 2 / 12 ط الفكر، ومواهب الجليل 4 / 269، 270 ط النجاح، والخرشي 5 / 18 ط دار صادر، وروضة الطالبين 3 / 353 ط المكتب الإسلامي، وتحفة المحتاج 4 / 246، 247 ط دار صادر، والمجموع 9 / 259 ط السلفية، وكشاف القناع 3 / 157 ط النصر، والإنصاف 4 / 283 ط التراث، والفروع 2 / 466 - 467 ط الأولى المنار.(9/118)
إِجَازَتِهِ، فَلاَ يَنْفُذُ بِإِجَازَةِ غَيْرِهِ، فَلَوْ مَاتَ الْمَالِكُ لَمْ يَنْفُذْ بِإِجَازَةِ الْوَارِثِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الثَّمَنُ دَيْنًا أَمْ عَرَضًا (1) .
وَلَوْ لَمْ يَعْلَمِ الْمَالِكُ حَال الْمَبِيعِ وَقْتَ الإِْجَازَةِ مِنْ بَقَائِهِ أَوْ عَدَمِهِ جَازَ الْبَيْعُ فِي قَوْل أَبِي يُوسُفَ أَوَّلاً، وَهُوَ قَوْل مُحَمَّدٍ، لأَِنَّ الأَْصْل بَقَاؤُهُ. ثُمَّ رَجَعَ أَبُو يُوسُفَ وَقَال: لاَ يَصِحُّ مَا لَمْ يَعْلَمِ الْمَالِكُ قِيَامَ الْمَبِيعِ عِنْدَ الإِْجَازَةِ؛ لأَِنَّ الشَّكَّ وَقَعَ فِي شَرْطِ الإِْجَازَةِ، فَلاَ يَثْبُتُ مَعَ الشَّكِّ (2) .
9 - وَإِذَا أَجَازَ الْمَالِكُ صَارَ الْمَبِيعُ مِلْكًا لِلْمُشْتَرِي وَالثَّمَنُ مَمْلُوكًا لَهُ أَمَانَةً فِي يَدِ الْفُضُولِيِّ، فَلَوْ هَلَكَ لاَ يَضْمَنُهُ كَالْوَكِيل، فَإِنَّ الإِْجَازَةَ اللاَّحِقَةَ بِمَنْزِلَةِ الْوَكَالَةِ السَّابِقَةِ، مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ بِهَا صَارَ تَصَرُّفُهُ نَافِذًا، وَلِذَا يُسَمَّى هَذَا النَّوْعُ مِنَ الإِْجَازَةِ (إِجَازَةُ عَقْدٍ)
هَذَا إِذَا كَانَ الثَّمَنُ دَيْنًا، فَإِنْ كَانَ عَيْنًا بِأَنْ بَاعَ الْفُضُولِيُّ مِلْكَ غَيْرِهِ بِعَرَضٍ مُعَيَّنٍ بَيْعَ مُقَايَضَةٍ، اشْتُرِطَ قِيَامُ الأَْرْبَعَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَهِيَ: الْعَاقِدَانِ وَالْمَبِيعُ وَمَالِكُهُ الأَْوَّل، وَخَامِسٌ وَهُوَ ذَلِكَ الثَّمَنُ الْعَرَضُ، وَإِذَا أَجَازَ مَالِكُ الْمَبِيعِ
__________
(1) مجمع الأنهر 2 / 94 - 95 ط العثمانية، والبحر الرائق 6 / 160 ط العلمية، وجامع الفصولين 1 / 230 ط بولاق.
(2) العناية مع فتح القدير 5 / 313 ط الأميرية، وتبيين الحقائق 4 / 106 ط دار المعرفة، والبحر الرائق 6 / 160 ط العلمية.(9/118)
وَالثَّمَنُ عَرَضٌ - فَالْفُضُولِيُّ يَكُونُ بِبَيْعِ مَال الْغَيْرِ مُشْتَرِيًا لِلْعَرَضِ مِنْ وَجْهٍ، وَالشِّرَاءُ لاَ يَتَوَقَّفُ إِذَا وُجِدَ نَفَاذًا، فَيَنْفُذُ عَلَى الْفُضُولِيِّ، فَيَصِيرُ مَالِكًا لِلْعَرَضِ، وَالَّذِي تُفِيدُهُ الإِْجَازَةُ أَنَّهُ أَجَازَ لِلْفُضُولِيِّ أَنْ يَنْقُدَ ثَمَنَ مَا اشْتَرَاهُ مِنْ ذَلِكَ الْعَرَضِ مِنْ مَالِهِ، وَلِذَا تُسَمَّى إِجَازَةَ الْعَقْدِ، كَأَنَّهُ قَال: اشْتَرِ هَذَا الْعَرَضَ لِنَفْسِكَ، وَانْقُدْهُ ثَمَنَهُ مِنْ مَالِي هَذَا قَرْضًا عَلَيْكَ، فَإِنْ كَانَ مِثْلِيًّا فَعَلَيْهِ مِثْلُهُ، وَإِنْ كَانَ قِيَمِيًّا كَثَوْبٍ فَقِيمَتُهُ. فَيَصِيرُ مُسْتَقْرِضًا لِلثَّوْبِ. وَالْقَرْضُ وَإِنْ لَمْ يَجُزْ فِي الْقِيَمِيَّاتِ لَكِنَّ ذَلِكَ إِذَا كَانَ قَصْدًا. وَهُنَا إِنَّمَا يَثْبُتُ ضِمْنًا مُقْتَضًى لِصِحَّةِ الشِّرَاءِ، فَيُرَاعَى فِيهِ شَرَائِطُ صِحَّةِ الْمُقْتَضِي، وَهُوَ الشِّرَاءُ لاَ غَيْرُ (1) .
10 - وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ لِلْفُضُولِيِّ أَنْ يَفْسَخَ قَبْل إِجَازَةِ الْمَالِكِ، دَفْعًا لِلُحُوقِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ؛ لأَِنَّ حُقُوقَ الْبَيْعِ تَرْجِعُ إِلَيْهِ، بِخِلاَفِ الْفُضُولِيِّ فِي النِّكَاحِ، لأَِنَّهُ مُعَبِّرٌ مَحْضٌ (2) .
11 - وَذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَيْضًا أَنَّ الْفُضُولِيَّ بَعْدَ الإِْجَازَةِ يَصِيرُ حُكْمُهُ حُكْمَ الْوَكِيل، حَتَّى لَوْ حَطَّ مِنَ الثَّمَنِ ثُمَّ أَجَازَ الْمَالِكُ الْبَيْعَ يَثْبُتُ الْبَيْعُ وَالْحَطُّ، سَوَاءٌ عَلِمَ الْمَالِكُ الْحَطَّ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ، إِلاَّ أَنَّهُ إِذَا عَلِمَ بِالْحَطِّ بَعْدَ الإِْجَازَةِ يَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ.
__________
(1) مجمع الأنهر 2 / 95، 312 ط العثمانية.
(2) مجمع الأنهر 2 / 95 ط العثمانية، وفتح القدير 5 / 312 ط الأميرية.(9/119)
وَوَجْهُهُ كَمَا فِي جَامِعِ الْفُصُولَيْنِ أَنَّهُ يَصِيرُ بِالإِْجَازَةِ كَوَكِيلٍ، وَلَوْ حَطَّهُ الْوَكِيل لاَ يَتَمَكَّنُ الْمُوَكِّل مِنْ مُطَالَبَةِ الْمُشْتَرِي بِهِ، كَذَا هَذَا (1) .
12 - وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ لِصِحَّةِ بَيْعِ الْفُضُولِيِّ ثَلاَثَةَ شُرُوطٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ لاَ يَكُونَ الْمَالِكُ حَاضِرًا مَجْلِسَ الْبَيْعِ، وَلَكِنَّهُ حَاضِرٌ فِي الْبَلَدِ، أَوْ غَائِبٌ عَنْهُ غَيْبَةً قَرِيبَةً، لاَ بَعِيدَةً بِحَيْثُ يَضُرُّ الصَّبْرُ إِلَى قُدُومِهِ أَوْ مَشُورَتِهِ. فَإِنْ كَانَ حَاضِرًا مَجْلِسَ الْعَقْدِ وَسَكَتَ لَزِمَهُ الْبَيْعُ، وَلِلْبَائِعِ الثَّمَنُ، فَإِنْ مَضَى نَحْوُ عَامٍ وَلَمْ يُطَالِبْ بِالثَّمَنِ فَلاَ شَيْءَ لَهُ عَلَى الْبَائِعِ (2) ، وَلاَ يُعْذَرُ بِجَهْلٍ فِي سُكُوتِهِ إِذَا ادَّعَاهُ. وَمَحَل مُطَالَبَةِ الْمَالِكِ لِلْفُضُولِيِّ بِالثَّمَنِ مَا لَمْ يَمْضِ عَامٌ، فَإِنْ مَضَى الْعَامُ وَهُوَ سَاكِتٌ سَقَطَ حَقُّهُ فِي الثَّمَنِ. هَذَا إِنْ بِيعَ بِحَضْرَتِهِ، أَمَّا إِنْ بِيعَ فِي غَيْبَتِهِ فَلَهُ نَقْضُ الْبَيْعِ إِلَى سَنَةٍ، فَإِنْ مَضَتْ سَقَطَ حَقُّهُ فِي النَّقْضِ.
وَلاَ يَسْقُطُ حَقُّهُ فِي الثَّمَنِ مَا لَمْ تَمْضِ مُدَّةُ الْحِيَازَةِ، وَهِيَ عَشَرَةُ أَعْوَامٍ (3) .
ثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ فِي غَيْرِ الصَّرْفِ، وَأَمَّا فِيهِ فَإِنَّهُ يُفْسَخُ.
__________
(1) جامع الفصولين 1 / 231 ط الأميرية.
(2) الزرقاني 5 / 19 ط الفكر.
(3) الشرح الكبير 3 / 12 ط الفكر، والشرح الصغير 3 / 26 ط دار المعارف.(9/119)
ثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ فِي غَيْرِ الْوَقْفِ، وَأَمَّا فِيهِ فَبَاطِلٌ لاَ يَتَوَقَّفُ عَلَى رِضَا وَاقِفِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمِلْكُ لَهُ (1) .
13 - وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ أَيْضًا أَنَّ لِلْمَالِكِ نَقْضَ بَيْعِ الْفُضُولِيِّ، غَاصِبًا أَوْ غَيْرَهُ إِنْ لَمْ يَفُتْ، فَإِنْ فَاتَ بِذَهَابِ عَيْنِهِ فَقَطْ، فَعَلَيْهِ الأَْكْثَرُ مِنْ ثَمَنِهِ وَقِيمَتِهِ (2) .
وَقَالُوا: إِنَّ لِلْمُشْتَرِي مِنَ الْفُضُولِيِّ الْغَلَّةَ قَبْل عِلْمِ الْمَالِكِ، إِذَا كَانَ الْمُشْتَرِي غَيْرَ عَالِمٍ بِالتَّعَدِّي، أَوْ كَانَتْ هُنَاكَ شُبْهَةٌ تَنْفِي عَنِ الْبَائِعِ التَّعَدِّي، لِكَوْنِهِ حَاضِنًا لِلأَْطْفَال مَثَلاً كَالأُْمِّ تَقُومُ بِهِمْ وَتَحْفَظُهُمْ، أَوْ لِكَوْنِهِ مِنْ سَبَبِ الْمَالِكِ أَيْ مِنْ نَاحِيَتِهِ مِمَّنْ يَتَعَاطَى أُمُورَهُ، وَيَزْعُمُ أَنَّهُ وَكِيلٌ، ثُمَّ يَقْدُمُ الْمَالِكُ وَيُنْكِرُ وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَيَدُل لَهُ مَسْأَلَةُ الْيَمِينِ: أَنْ لاَ يَبِيعَ لِفُلاَنٍ، فَبَاعَ لِمَنْ هُوَ مِنْ سَبَبِهِ (3) .
وَتَذْكُرُ كُتُبُ الْمَالِكِيَّةِ أَيْضًا حُكْمًا آخَرَ فَرَّعُوهُ عَلَى الْجَوَازِ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ غَيْرُهُمْ، وَهُوَ حُكْمُ قُدُومِ الْفُضُولِيِّ عَلَى الْبَيْعِ، فَقَدْ ذَكَرَ الدُّسُوقِيُّ فِي
__________
(1) الزرقاني 5 / 19 ط الفكر.
(2) الزرقاني 5 / 19 ط الفكر، والدسوقي 3 / 12 ط الفكر، وجواهر الإكليل 2 / 5 ط دار المعرفة.
(3) الخرشي مع حاشية العدوي 5 / 18 ط صادر، والزرقاني 5 / 19 ط الفكر، والدسوقي مع الشرح الكبير 3 / 12 ط الفكر.(9/120)
حَاشِيَتِهِ: أَنَّهُ قَدْ قِيل بِمَنْعِهِ، وَقِيل: بِجَوَازِهِ، وَقِيل بِمَنْعِهِ فِي الْعَقَارِ وَالْجَوَازِ فِي الْعُرُوضِ (1) .
14 - هَذَا وَالْقَوْل بِبُطْلاَنِ بَيْعِ الْفُضُولِيِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ هُوَ الصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ، وَبِهِ قَطَعَ صَاحِبُ الْمُهَذَّبِ وَجَمَاهِيرُ الْعِرَاقِيِّينَ، وَكَثِيرُونَ، أَوِ الأَْكْثَرُونَ مِنَ الْخُرَاسَانِيِّينَ كَمَا جَاءَ فِي الْمَجْمُوعِ.
وَأَمَّا الْقَوْل بِانْعِقَادِهِ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ الْمَالِكِ فَهُوَ الْقَوْل الْقَدِيمُ الَّذِي حَكَاهُ الْخُرَاسَانِيُّونَ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْعِرَاقِيِّينَ، مِنْهُمْ الْمَحَامِلِيُّ فِي اللُّبَابِ وَالشَّاشِيُّ وَصَاحِبُ الْبَيَانِ.
وَأَمَّا قَوْل إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ: إِنَّ الْعِرَاقِيِّينَ لَمْ يَعْرِفُوا هَذَا الْقَوْل، وَقَطَعُوا بِالْبُطْلاَنِ، فَمُرَادُهُ مُتَقَدِّمُوهُمْ كَمَا جَاءَ فِي الْمَجْمُوعِ. ثُمَّ إِنَّ كُل مَنْ حَكَاهُ إِنَّمَا حَكَاهُ عَنِ الْقَدِيمِ خَاصَّةً، وَهُوَ نَصٌّ لِلشَّافِعِيِّ فِي الْبُوَيْطِيِّ، وَهُوَ مِنَ الْجَدِيدِ، قَال الشَّافِعِيُّ فِي آخِرِ بَابِ الْغَصْبِ مِنَ الْبُوَيْطِيِّ: إِنْ صَحَّ حَدِيثُ عُرْوَةَ الْبَارِقِيِّ، فَكُل مَنْ بَاعَ أَوْ أَعْتَقَ مِلْكَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ ثُمَّ رَضِيَ، فَالْبَيْعُ وَالْعِتْقُ جَائِزَانِ. هَذَا نَصُّهُ، وَقَدْ صَحَّ حَدِيثُ عُرْوَةَ الْبَارِقِيِّ السَّابِقُ نَصُّهُ، فَصَارَ لِلشَّافِعِيِّ قَوْلاَنِ فِي الْجَدِيدِ أَحَدُهُمَا مُوَافِقٌ لِلْقَدِيمِ (2) .
__________
(1) الدسوقي 3 / 12 ط الفكر، والفروق للقرافي 2 / 244 ط دار المعرفة.
(2) المجموع 9 / 259 ط السلفية، ومغني المحتاج 2 / 15 ط الحلبي، وفتح الباري 6 / 632 ط الرياض. وسنن البيهقي 6 / 112 ط الأولى. وحديث عروة سبق تخريجه (ف 4) .(9/120)
وَظَاهِرُ كَلاَمِ الشَّيْخَيْنِ (أَيِ الرَّافِعِيِّ وَالنَّوَوِيِّ) عَلَى قَوْل الْوَقْفِ أَنَّ الْمَوْقُوفَ الصِّحَّةُ، وَقَال إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: الصِّحَّةُ نَاجِزَةٌ، وَإِنَّمَا الْمَوْقُوفُ الْمِلْكُ، وَجَرَى عَلَيْهِ فِي الأُْمِّ (1) .
وَالْمُعْتَبَرُ عِنْدَهُمْ فِي الإِْجَازَةِ إِجَازَةُ مَنْ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ عِنْدَ الْعَقْدِ، فَلَوْ بَاعَ الْفُضُولِيُّ مَال الطِّفْل، فَبَلَغَ وَأَجَازَ لَمْ يَنْفُذْ.
وَمَحَل الْخِلاَفِ فِي بَيْعِ الْفُضُولِيِّ عِنْدَهُمْ كَمَا جَاءَ فِي نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ مَا لَمْ يَحْضُرِ الْمَالِكُ، فَلَوْ بَاعَ مَال غَيْرِهِ بِحَضْرَتِهِ وَهُوَ سَاكِتٌ لَمْ يَصِحَّ قَطْعًا.
وَالْخِلاَفُ الْمَذْكُورُ عِنْدَهُمْ فِي بَيْعِ الْفُضُولِيِّ مِنْ حَيْثُ الْبُطْلاَنُ أَوِ الاِنْعِقَادُ يَجْرِي فِي كُل مَنْ زَوَّجَ ابْنَةَ غَيْرِهِ، أَوْ طَلَّقَ مَنْكُوحَتَهُ، أَوْ أَجَّرَ دَارِهِ، أَوْ وَهَبَهَا بِغَيْرِ إِذْنِهِ (2) .
15 - وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الأَْصْحَابِ: عَدَمُ صِحَّةِ بَيْعِ الْفُضُولِيِّ كَمَا جَاءَ فِي الإِْنْصَافِ. وَجَاءَ فِيهِ أَيْضًا: أَنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي جَزَمَ بِهِ فِي الْوَجِيزِ وَغَيْرِهِ، وَقَدَّمَهُ فِي الْفُرُوعِ، وَالْمُحَرَّرِ، وَالرِّعَايَتَيْنِ، وَالْحَاوِيَيْنِ، وَالنَّظْمِ وَغَيْرِهَا.
__________
(1) تحفة المحتاج 4 / 247 دار صادر.
(2) المجموع 9 / 260 ط السلفية. ونهاية المحتاج 3 / 391 ط المكتبة الإسلامية، وروضة الطالبين 3 / 353 ط المكتب الإسلامي.(9/121)
وَذَكَرَ صَاحِبُ كَشَّافِ الْقِنَاعِ أَنَّ الْبَيْعَ لاَ يَصِحُّ، حَتَّى لَوْ كَانَ الْمَالِكُ حَاضِرًا وَسَكَتَ، ثُمَّ أَجَازَهُ بَعْدَ ذَلِكَ لِفَوَاتِ شَرْطِهِ، أَيْ لِفَوَاتِ الْمِلْكِ وَالإِْذْنِ وَقْتَ الْبَيْعِ (1) .
وَأَمَّا الرِّوَايَةُ الَّتِي تُصَحِّحُ بَيْعَ الْفُضُولِيِّ وَتَجْعَلُهُ مَوْقُوفًا عَلَى الإِْجَازَةِ، فَقَدِ اخْتَارَهَا صَاحِبُ الْفَائِقِ كَمَا جَاءَ فِي الإِْنْصَافِ، وَقَال: قَبَضَ وَلاَ إِقْبَاضَ قَبْل الإِْجَازَةِ (2) .
ب - تَصَرُّفُ الْفُضُولِيِّ فِي الشِّرَاءِ:
16 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ شِرَاءَ الْفُضُولِيِّ لاَ يَتَوَقَّفُ عَلَى الإِْجَازَةِ، إِذَا وَجَدَ نَفَاذًا عَلَى الْعَاقِدِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ نَفَاذًا يَتَوَقَّفُ، كَشِرَاءِ الصَّغِيرِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ. وَإِنَّمَا يَنْفُذُ الشِّرَاءُ عَلَى الْمُشْتَرِي إِذَا لَمْ يُضِفْهُ إِلَى آخَرَ وَوَجَدَ الشِّرَاءُ النَّفَاذَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَسْبِقْ بِتَوْكِيلٍ لِلْمُشْتَرِي مِنْ آخَرَ. فَأَمَّا إِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَالشِّرَاءُ يَتَوَقَّفُ. وَفِي الْوَكَالَةِ يَنْفُذُ عَلَى الْمُوَكِّل، فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ: وَلَوِ اشْتَرَى رَجُلٌ لِرَجُلٍ شَيْئًا بِغَيْرِ أَمْرِهِ كَانَ مَا اشْتَرَاهُ
__________
(1) الإنصاف 4 / 283 ط التراث، والفروع 2 / 466، 467 ط المنار، والمحرر 1 / 310 ط المحمدية، وشرح منتهى الإرادات 2 / 143 ط الفكر، وكشاف القناع 3 / 157 ط النصر.
(2) الإنصاف 4 / 283 ط التراث، والفروع 2 / 467 ط المنار، والمحرر 1 / 310 ط المحمدية، والمقنع 2 / 7، 8 ط السلفية، والمغني 4 / 227 ط الرياض.(9/121)
لِنَفْسِهِ، أَجَازَ الَّذِي اشْتَرَاهُ لَهُ أَوْ لَمْ يُجِزْ. أَمَّا إِذْ أَضَافَهُ إِلَى آخَرَ، بِأَنْ قَال لِلْبَائِعِ: بِعْ عَبْدَكَ مِنْ فُلاَنٍ، فَقَال: بِعْتُ، وَقَبِل الْمُشْتَرِي هَذَا الْبَيْعَ لِفُلاَنٍ فَإِنَّهُ يَتَوَقَّفُ (1) .
17 - أَمَّا شِرَاءُ الْفُضُولِيِّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَهُوَ كَبَيْعِهِ، أَيْ يَتَوَقَّفُ عَلَى إِجَازَةِ الْمُشْتَرَى لَهُ، فَإِنْ لَمْ يُجِزِ الشِّرَاءَ لَزِمَتِ السِّلْعَةُ الْمُشْتَرِيَ الْفُضُولِيَّ، فَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ مَدْفُوعًا مِنْ مَال الْمُشْتَرِي لَهُ فَلاَ رُجُوعَ لَهُ عَلَى الْبَائِعِ فِي حَال عَدَمِ الإِْجَازَةِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْفُضُولِيُّ (الْمُشْتَرِي) أَشْهَدَ عِنْدَ الشِّرَاءِ: أَنَّهُ إِنَّمَا اشْتَرَى لِفُلاَنٍ بِمَالِهِ، وَأَنَّ الْبَائِعَ يَعْلَمُ ذَلِكَ، أَوْ صُدِّقَ الْمُشْتَرِي فِي قَوْلِهِ، أَوْ تَقُومُ بَيِّنَةٌ عَلَى أَنَّ الشَّيْءَ الَّذِي اشْتَرَى بِهِ هُوَ مِلْكُ الْمُشْتَرِي لَهُ. فَإِنْ أَخَذَ الْمُشْتَرِي لَهُ مَالَهُ، وَلَمْ يَجُزِ الشِّرَاءُ انْتُقِضَ الْبَيْعُ فِيمَا إِذَا صُدِّقَ الْبَائِعُ، وَلَمْ يُنْتَقَضْ فِي قِيَامِ الْبَيِّنَةِ أَنَّ الْمَال لَهُ، بَل يَرْجِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِمِثْل الثَّمَنِ، وَيَلْزَمُهُ الْبَيْعُ عَلَى قَوْل ابْنِ الْقَاسِمِ وَأَصْبَغَ.
وَقَال ابْنُ الْمَاجِشُونِ: الْقَوْل قَوْل الْمُشْتَرِي لَهُ، فَيَحْلِفُ أَنَّهُ مَا أَمَرَ الْمُشْتَرِيَ، وَيَأْخُذُ مَالَهُ إِنْ شَاءَ مِنَ الْمُشْتَرِي، وَإِنْ شَاءَ مِنَ الْبَائِعِ. فَإِنْ أَخَذَهُ مِنَ الْبَائِعِ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُشْتَرِي
__________
(1) تبيين الحقائق 4 / 103 ط دار المعرفة، ونتائج الأفكار 5 / 311 ط الأميرية، وحاشية ابن عابدين 4 / 6 ط المصرية.(9/122)
وَيُلْزِمُهُ الشِّرَاءَ، وَإِنْ أَخَذَهُ مِنَ الْمُشْتَرِي لَمْ يَكُنْ لَهُ رُجُوعٌ عَلَى الْبَائِعِ (1) .
18 - وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ: فَذَكَرُوا فِي شِرَاءِ الْفُضُولِيِّ تَفْصِيلاً؛ لأَِنَّ الْفُضُولِيَّ إِمَّا أَنْ يَشْتَرِيَ لِغَيْرِهِ بِعَيْنِ مَال الْغَيْرِ، وَإِمَّا أَنْ يَشْتَرِي لِغَيْرِهِ فِي الذِّمَّةِ، وَإِمَّا أَنْ يَشْتَرِيَ لِغَيْرِهِ بِمَال نَفْسِهِ. فَإِنِ اشْتَرَى لِغَيْرِهِ بِعَيْنِ مَال الْغَيْرِ فَفِيهِ قَوْلاَنِ: الْجَدِيدُ بُطْلاَنُهُ، وَالْقَدِيمُ وَقْفُهُ عَلَى الإِْجَازَةِ. وَإِنِ اشْتَرَى فِي الذِّمَّةِ نُظِرَ إِنْ أَطْلَقَ أَوْ نَوَى كَوْنَهُ لِلْغَيْرِ، فَعَلَى الْجَدِيدِ يَقَعُ لِلْمُبَاشِرِ، وَعَلَى الْقَدِيمِ يَقِفُ عَلَى الإِْجَازَةِ، فَإِنْ رَدَّ نَفَذَ فِي حَقِّ الْفُضُولِيِّ. وَلَوْ قَال: اشْتَرَيْتُ لِفُلاَنٍ بِأَلْفٍ فِي ذِمَّتِهِ، فَهُوَ كَاشْتِرَائِهِ بِعَيْنِ مَال الْغَيْرِ. وَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: اشْتَرَيْتُ لِفُلاَنٍ بِأَلْفٍ، وَلَمْ يُضِفِ الثَّمَنَ إِلَى ذِمَّتِهِ فَعَلَى الْجَدِيدِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: يَلْغُو الْعَقْدُ، وَالثَّانِي: يَقَعُ عَنِ الْمُبَاشِرِ. وَعَلَى الْقَدِيمِ يَقِفُ عَلَى إِجَازَةِ فُلاَنٍ، فَإِنْ رَدَّ فَفِيهِ الْوَجْهَانِ.
وَلَوِ اشْتَرَى شَيْئًا لِغَيْرِهِ بِمَال نَفْسِهِ نُظِرَ: إِنْ لَمْ يُسَمِّهِ وَقَعَ الْعَقْدُ عَنِ الْمُبَاشِرِ، سَوَاءٌ أَذِنَ ذَلِكَ الْغَيْرُ أَمْ لاَ، وَإِنْ سَمَّاهُ نُظِرَ: إِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ لَغَتِ التَّسْمِيَةُ، وَهَل يَقَعُ عَنْهُ أَمْ يَبْطُل؟ وَجْهَانِ. وَإِنْ أَذِنَ لَهُ، فَهَل تَلْغُو التَّسْمِيَةُ، وَجْهَانِ. فَإِنْ قُلْنَا:
__________
(1) مواهب الجليل 4 / 272 ط النجاح، وحاشية العدوي هامش الخرشي 5 / 18 ط دار صادر.(9/122)
نَعَمْ، فَهَل يَبْطُل مِنْ أَصْلِهِ، أَمْ يَقَعُ عَنِ الْمُبَاشِرِ؟ فِيهِ الْوَجْهَانِ، وَإِنْ قُلْنَا: لاَ، وَقَعَ عَنِ الآْذِنِ. وَهَل يَكُونُ الثَّمَنُ الْمَدْفُوعُ قَرْضًا أَمْ هِبَةً؟ وَجْهَانِ (1) .
19 - وَأَمَّا شِرَاءُ الْفُضُولِيِّ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فَإِنَّهُ لاَ يَصِحُّ، إِلاَّ إِنِ اشْتَرَى فِي ذِمَّتِهِ وَنَوَى الشِّرَاءَ لِشَخْصٍ لَمْ يُسَمِّهِ فَيَصِحُّ، سَوَاءٌ نَقَدَ الثَّمَنَ مِنْ مَال الْغَيْرِ أَمْ لاَ؛ لأَِنَّ ذِمَّتَهُ قَابِلَةٌ لِلتَّصَرُّفِ، فَإِنْ سَمَّاهُ أَوِ اشْتَرَى لِلْغَيْرِ بِعَيْنِ مَالِهِ لَمْ يَصِحَّ الشِّرَاءُ، ثُمَّ إِنْ أَجَازَهُ (أَيِ الشِّرَاءَ) مَنِ اشْتُرِيَ لَهُ مَلَكَهُ مِنْ حِينِ اشْتُرِيَ لَهُ، لأَِنَّهُ اشْتُرِيَ لأَِجْلِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَ بِإِذْنِهِ، فَتَكُونُ مَنَافِعُهُ وَنَمَاؤُهُ لَهُ. فَإِنْ لَمْ يُجِزْهُ وَقَعَ الشِّرَاءُ لِلْعَاقِدِ وَلَزِمَهُ حُكْمُهُ، كَمَا لَوْ لَمْ يَنْوِ غَيْرَهُ، وَلَيْسَ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْل عَرْضِهِ عَلَى مَنْ نَوَاهُ لَهُ (2) .
__________
(1) روضة الطالبين 3 / 353 - 354 ط المكتب الإسلامي، والمجموع 9 / 260 ط السلفية.
(2) شرح منتهى الإرادات 2 / 143 - 144 ط دار الفكر، وكشاف القناع 3 / 157 - 158 ط النصر.(9/123)
بَيْعُ مَا لَمْ يُقْبَضْ
1 - ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنِ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلاَ يَبِعْهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ. وَفِي لَفْظٍ حَتَّى يَكْتَالَهُ وَفِي لَفْظٍ آخَرَ: حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ قَال ابْنُ عَبَّاسٍ (رَاوِي الْحَدِيثِ) : وَلاَ أَحْسَبُ كُل شَيْءٍ إِلاَّ مِثْلَهُ. وَفِي رِوَايَةٍ: إِذَا اشْتَرَيْتَ بَيْعًا فَلاَ تَبِعْهُ حَتَّى تَقْبِضَهُ (1) .
وَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ مَذَاهِبَ فِي بَيْعِ الْمَبِيعِ قَبْل قَبْضِهِ.
2 - فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ قَوْل أَبِي يُوسُفَ الأَْوَّل، وَقَوْل مُحَمَّدٍ، وَهُوَ أَيْضًا رِوَايَةٌ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ (2) : أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ بَيْعُ الْمَبِيعِ قَبْل قَبْضِهِ،
__________
(1) حديث: " من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يقبضه. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 349 ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1160 ط عيسى الحلبي) . وفي لفظ: " حتى يكتاله " أخرجه مسلم (3 / 1160) . وفي لفظ آخر: " حتى يستوفيه " أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 349) ، ومسلم (3 / 1160) . وفي رواية: " إذا اشتريت بيعا فلا تبعه حتى تقبضه. . . " أخرجه أحمد (المسند 3 / 402 ط الميمنية) .
(2) انظر فتح القدير 6 / 137، وشرح المحلي على المنهاج 2 / 212، والمغني 4 / 221، والشرح الكبير 4 / 117. وهذه الرواية من الإمام أحمد اختارها ابن عقيل.(9/123)
سَوَاءٌ أَكَانَ مَنْقُولاً أَمْ عَقَارًا، وَإِنْ أَذِنَ الْبَائِعُ، وَقَبَضَ الثَّمَنَ. وَذَلِكَ لِحَدِيثِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَال: قُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ: إِنِّي أَشْتَرِي بُيُوعًا، فَمَا يَحِل لِي مِنْهَا، وَمَا يَحْرُمُ عَلَيَّ؟ قَال: إِذَا اشْتَرَيْتَ بَيْعًا فَلاَ تَبِعْهُ حَتَّى تَقْبِضَهُ (1) وَحَدِيثُ ابْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ يَحِل سَلَفٌ وَبَيْعٌ، وَلاَ شَرْطَانِ فِي بَيْعٍ، وَلاَ رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ، وَلاَ بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ (2) .
وَمَعْنَى رِبْحَ مَا لَمْ يُضْمَنْ رِبْحُ مَا بِيعَ قَبْل الْقَبْضِ (3) . مِثْل: أَنْ يَشْتَرِيَ مَتَاعًا، وَيَبِيعَهُ إِلَى آخَرَ قَبْل قَبْضِهِ مِنَ الْبَائِعِ، فَهَذَا الْبَيْعُ بَاطِلٌ، وَرِبْحُهُ لاَ يَجُوزُ؛ لأَِنَّ الْمَبِيعَ فِي ضَمَانِ الْبَائِعِ الأَْوَّل، وَلَيْسَ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي مِنْهُ، لِعَدَمِ الْقَبْضِ (4) .
وَلِحَدِيثِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ تُبَاعَ السِّلَعُ حَيْثُ تُبْتَاعُ، حَتَّى يَحُوزَهَا التُّجَّارُ إِلَى رِحَالِهِمْ (5) . وَالْمُرَادُ بِحَوْزِ
__________
(1) حديث حكيم بن حزام: " إذا اشتريت بيعا فلا تبعه حتى تقبضه ". تقدم تخريجه ف / 1.
(2) حديث: " لا يحل سلف وبيع. . . . " أخرجه الترمذي (3 / 535 ط الحلبي) . وقال: حديث حسن صحيح.
(3) كشاف القناع 3 / 242.
(4) نيل الأوطار 5 / 180.
(5) حديث زيد بن ثابت: " نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تباع السلع حيث تبتاع ". أخرجه أبو داود (3 / 765 ط عزت عبيد دعاس) . وصححه ابن حبان (موارد الظمآن ص 274 ط السلفية) .(9/124)
التُّجَّارِ: وُجُودُ الْقَبْضِ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ قَبْلَهُ (1) .
وَلِضَعْفِ الْمِلْكِ قَبْل الْقَبْضِ، لاِنْفِسَاخِ الْعَقْدِ بِتَلَفِهِ (2) . وَهَذَا هُوَ الْمَعْنَى الَّذِي عَلَّل بِهِ الشَّافِعِيَّةُ النَّهْيَ عَنِ الْبَيْعِ قَبْل الْقَبْضِ (3) .
وَعَلَّل الْحَنَابِلَةُ، عَدَمَ الْجَوَازِ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ الَّتِي اخْتَارَهَا ابْنُ عَقِيلٍ مِنْ أَئِمَّتِهِمْ، بِأَنَّهُ لَمْ يَتِمَّ الْمِلْكُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ، كَمَا لَوْ كَانَ غَيْرَ مُتَعَيَّنٍ، وَكَمَا لَوْ كَانَ مَكِيلاً أَوْ مَوْزُونًا (4) .
3 - وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ بَيْعُ الْمَنْقُول قَبْل قَبْضِهِ، وَلَوْ كَانَ مِنْ بَائِعِهِ (5) ، وَذَلِكَ لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ بِرِوَايَاتِهِ، فَإِنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْ بَيْعِ الْمَبِيعِ قَبْل قَبْضِهِ.
وَلأَِنَّ فِي الْبَيْعِ قَبْل الْقَبْضِ غَرَرَ انْفِسَاخِ الْعَقْدِ الأَْوَّل، عَلَى تَقْدِيرِ هَلاَكِ الْمَبِيعِ فِي يَدِ الْبَائِعِ، وَإِذَا هَلَكَ الْمَبِيعُ قَبْل الْقَبْضِ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ، فَيَتَبَيَّنُ أَنَّهُ بَاعَ مَا لاَ يَمْلِكُ، وَالْغَرَرُ حَرَامٌ غَيْرُ جَائِزٍ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَصَاةِ، وَعَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ (6) .
__________
(1) حاشية القليوبي على شرح المحلي 2 / 212.
(2) تحفة المحتاج 4 / 401، وانظر شرح المحلي 2 / 213، وشرح المنهاج 3 / 162.
(3) شرح المحلي على المنهاج 2 / 213.
(4) المغني 4 / 221.
(5) الدر المختار ورد المحتار 4 / 162.
(6) انظر الهداية وشرح العناية 6 / 135، 136، وتبيين الحقائق 4 / 80. وحديث " نهى عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر ". أخرجه مسلم (3 / 1153 ط الحلبي) .(9/124)
وَلاَ يُفَرِّقُ الْحَنَفِيَّةُ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الطَّعَامِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِنَ الْمَنْقُولاَتِ، وَذَلِكَ: لِقَوْل ابْنِ عَبَّاسٍ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا: وَلاَ أَحْسَبُ كُل شَيْءٍ إِلاَّ مِثْلَهُ، أَيْ مِثْل الطَّعَامِ.
وَعَضَّدَ قَوْل ابْنِ عَبَّاسٍ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَال: " ابْتَعْتُ زَيْتًا فِي السُّوقِ، فَلَمَّا اسْتَوْجَبْتُهُ، لَقِيَنِي رَجُلٌ، فَأَعْطَانِي فِيهِ رِبْحًا حَسَنًا، فَأَرَدْتُ أَنْ أَضْرِبَ عَلَى يَدِهِ (أَيْ أَنْ أَقْبَل إِيجَابَهُ، وَأَتَّفِقَ عَلَى الْعَقْدِ) فَأَخَذَ رَجُلٌ مِنْ خَلْفِي بِذِرَاعِي، فَالْتَفَتُّ، فَإِذَا زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَال: لاَ تَبِعْهُ حَيْثُ ابْتَعْتَهُ، حَتَّى تَحُوزَهُ إِلَى رَحْلِكَ، {فَإِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ تُبَاعَ السِّلَعُ حَيْثُ تُبْتَاعُ، حَتَّى يَحُوزَهَا التُّجَّارُ إِلَى رِحَالِهِمْ} (1) .
وَعَدَمُ الصِّحَّةِ هُنَا، يَعْنِي: الْفَسَادَ لاَ الْبُطْلاَنَ، وَإِنْ كَانَ نَفْيُ الصِّحَّةِ يَحْتَمِلُهُمَا، لَكِنَّ الظَّاهِرَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هُوَ الْفَسَادُ؛ لأَِنَّ عِلَّةَ الْفَسَادِ هِيَ الْغَرَرُ، مَعَ وُجُودِ رُكْنَيِ الْبَيْعِ، وَكَثِيرًا مَا يُطْلَقُ الْبَاطِل عَلَى الْفَاسِدِ (2) .
وَأَجَازَ الشَّيْخَانِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ - أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ - بَيْعَ الْعَقَارِ قَبْل قَبْضِهِ اسْتِحْسَانًا،
__________
(1) حديث: " نهى أن تباع السلع حيث تبتاع. . . ". تقدم تخريجه ف / 2.
(2) رد المحتار 4 / 163، وانظر الدر المختار في الموضوع نفسه.(9/125)
وَذَلِكَ اسْتِدْلاَلاً بِعُمُومَاتِ حِل الْبَيْعِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ، وَلاَ يَجُوزُ تَخْصِيصُ عُمُومِ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ. وَلأَِنَّهُ لاَ يُتَوَهَّمُ انْفِسَاخُ الْعَقْدِ فِي الْعَقَارِ بِالْهَلاَكِ، بِخِلاَفِ الْمَنْقُول. وَلأَِنَّ الْعَقَارَ مَقْدُورُ التَّسْلِيمِ، وَلاَ يَرِدُ عَلَيْهِ الْهَلاَكُ إِلاَّ نَادِرًا بِغَلَبَةِ الْمَاءِ وَالرَّمَل، وَالنَّادِرُ لاَ يُعْتَدُّ بِهِ.
وَقِيَاسًا عَلَى التَّصَرُّفِ فِي الثَّمَنِ قَبْل قَبْضِهِ، فَإِنَّهُ جَائِزٌ، لأَِنَّهُ لاَ غَرَرَ فِيهِ، كَالتَّصَرُّفِ فِي الْمَهْرِ وَبَدَل الْخُلْعِ وَالْعِتْقِ وَبَدَل الصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ، لأَِنَّ الْمُطْلَقَ لِلتَّصَرُّفِ، وَهُوَ الْمِلْكُ، قَدْ وُجِدَ، لَكِنَّ الاِحْتِرَازَ عَنِ الْغَرَرِ وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ، وَذَلِكَ فِيمَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ الْغَرَرُ، وَهُوَ الْمَبِيعُ الْمَنْقُول، لاَ الْعَقَارُ (1) .
وَخَالَفَ الإِْمَامُ مُحَمَّدٌ، فَلَمْ يُجِزْ بَيْعَ الْعَقَارِ أَيْضًا قَبْل قَبْضِهِ، وَهُوَ قَوْل أَبِي يُوسُفَ الأَْوَّل، وَقَوْل الشَّافِعِيِّ كَمَا قَدَّمْنَا (2) ، وَذَلِكَ لإِِطْلاَقِ الْحَدِيثِ، وَقِيَاسًا عَلَى الْمَنْقُول.
وَقِيَاسًا أَيْضًا عَلَى الإِْجَارَةِ، فَإِنَّهَا فِي الْعَقَارِ لاَ تَجُوزُ قَبْل الْقَبْضِ، وَالْجَامِعُ اشْتِمَالُهُمَا عَلَى رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ فِي الْبَيْعِ الرِّبْحُ، وَرِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ مَنْهِيٌّ عَنْهُ شَرْعًا. وَالنَّهْيُ
__________
(1) تبيين الحقائق 4 / 80 بتصرف، وانظر بدائع الصنائع 5 / 234 وما بعدها، والمبسوط 13 / 8 وما بعدها، والهداية 6 / 137، 138.
(2) انظر فتح القدير 6 / 137.(9/125)
يَقْتَضِي الْفَسَادَ، فَيَكُونُ الْبَيْعُ فَاسِدًا قَبْل الْقَبْضِ، لأَِنَّهُ لَمْ يَدْخُل فِي ضَمَانِهِ، كَمَا فِي الإِْجَارَةِ (1) .
4 - وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْمُحَرَّمَ الْمُفْسِدَ لِلْبَيْعِ، هُوَ بَيْعُ الطَّعَامِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ جَمِيعِ الأَْشْيَاءِ قَبْل قَبْضِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الطَّعَامُ رِبَوِيًّا كَالْقَمْحِ، أَمْ غَيْرَ رِبَوِيٍّ كَالتُّفَّاحِ عِنْدَهُمْ.
أَمَّا غَيْرُ الطَّعَامِ فَيَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْل قَبْضِهِ، وَذَلِكَ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُتَقَدِّمِ (2) مَنِ {ابْتَاعَ طَعَامًا فَلاَ يَبِعْهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ} . وَلِغَلَبَةِ تَغَيُّرِ الطَّعَامِ دُونَمَا سِوَاهُ (3) . لَكِنَّهُمْ شَرَطُوا لِفَسَادِ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْبَيْعِ، شَرْطَيْنِ:
أ - أَنْ يَكُونَ الطَّعَامُ مَأْخُوذًا بِطَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ، أَيْ فِي مُقَابَلَةِ شَيْءٍ، بِإِجَارَةٍ أَوْ شِرَاءٍ أَوْ صُلْحٍ أَوْ أَرْشِ جِنَايَةٍ، أَوْ آل لاِمْرَأَةٍ فِي صَدَاقِهَا، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمُعَاوَضَاتِ، فَهَذَا الَّذِي لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْل قَبْضِهِ (4) .
أَمَّا لَوْ صَارَ إِلَيْهِ الطَّعَامُ بِهِبَةٍ أَوْ مِيرَاثٍ، مِمَّا لَيْسَ أَخْذُهُ بِعِوَضٍ، فَيَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْل قَبْضِهِ.
ب - وَأَنْ تَكُونَ الْمُعَاوَضَةُ بِالْكَيْل أَوِ الْوَزْنِ أَوِ
__________
(1) الهداية وشرح العناية عليها 6 / 137.
(2) حديث: " من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يقبضه. . . " سبق تخريجه ف / 1.
(3) بداية المجتهد لابن رشد 2 / 143.
(4) الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي عليه 3 / 151، 152، والقوانين الفقهية 170 - 171.(9/126)
الْعَدَدِ، فَيَشْتَرِيهِ بِكَيْلٍ، وَيَبِيعُهُ قَبْل قَبْضِهِ، سَوَاءٌ أَبَاعَهُ جُزَافًا أَمْ عَلَى الْكَيْل. أَمَّا لَوِ اشْتَرَاهُ جُزَافًا، ثُمَّ بَاعَهُ قَبْل قَبْضِهِ، فَيَكُونُ بَيْعُهُ جَائِزًا، سَوَاءٌ أَبَاعَهُ جُزَافًا أَمْ عَلَى الْكَيْل (1) . وَعَلَى هَذَا:
فَلَوِ اشْتَرَى طَعَامًا كَيْلاً، لَمْ يَجُزْ لَهُ بَيْعُهُ قَبْل قَبْضِهِ، لاَ جُزَافًا وَلاَ كَيْلاً.
وَلَوِ اشْتَرَاهُ جُزَافًا، جَازَ لَهُ بَيْعُهُ قَبْل قَبْضِهِ، مُطْلَقًا، جُزَافًا أَوْ كَيْلاً (2) .
5 - وَفِي مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ رِوَايَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ فِي الْمَمْنُوعِ بَيْعُهُ قَبْل قَبْضِهِ مِنَ الأَْمْوَال، سَبَقَ بَعْضُهَا (3) :
فَرُوِيَ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ بَيْعُ الطَّعَامِ وَمَا أَشْبَهَهُ قَبْل قَبْضِهِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ أَكَانَ مَكِيلاً أَمْ مَوْزُونًا، أَمْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، خِلاَفًا لِمَالِكٍ الَّذِي اشْتَرَطَ فِيهِ الْكَيْل أَوِ الْوَزْنَ كَمَا قَدَّمْنَا (4) ، وَذَلِكَ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُتَقَدِّمِ {مَنِ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلاَ يَبِعْهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ} (5) .
وَلِقَوْل الأَْثْرَمِ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ قَوْلِهِ:
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير 3 / 152. وانظر أيضا القوانين الفقهية 171.
(2) حاشية الدسوقي 3 / 135.
(3) راجع فيما تقدم مذهب الشافعي ومن وافقه، ففيه رواية عن أحمد.
(4) راجع فيما تقدم الفقرة السابقة.
(5) حديث: " من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يقبضه ". سبق تخريجه ف / 1.(9/126)
{نَهَى عَنْ رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ} قَال: هَذَا فِي الطَّعَامِ وَمَا أَشْبَهَهُ، مِنْ مَأْكُولٍ أَوْ مَشْرُوبٍ، فَلاَ يَبِعْهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ (1) .
وَلِقَوْل ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ: الأَْصَحُّ أَنَّ الَّذِي يُمْنَعُ مِنْ بَيْعِهِ قَبْل قَبْضِهِ: هُوَ الطَّعَامُ، وَذَلِكَ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ قَبْل قَبْضِهِ} فَمَفْهُومُهُ إِبَاحَةُ مَا سِوَاهُ قَبْل قَبْضِهِ (2) .
وَلِقَوْل {ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: رَأَيْتُ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ الطَّعَامَ مُجَازَفَةً، يَضْرِبُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَبِيعُوهُ حَتَّى يُؤْوُوهُ إِلَى رِحَالِهِمْ (3) } .
وَلِلْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ: {مَنِ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلاَ يَبِعْهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ} (4) .
وَلِقَوْل ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {: كُنَّا نَشْتَرِي الطَّعَامَ مِنَ الرَّكْبَانِ جُزَافًا، فَنَهَانَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَبِيعَهُ حَتَّى نَنْقُلَهُ مِنْ مَكَانِهِ} (5) .
وَلِقَوْل ابْنِ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ مَنِ اشْتَرَى طَعَامًا، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ (6) .
__________
(1) الشرح الكبير في ذيل المغني 4 / 116.
(2) المرجع السابق.
(3) المرجع السابق.
(4) راجع فيما تقدم (ف 1) .
(5) حديث: " كنا نشتري الطعام من الركبان جزافا. . . " أخرجه مسلم (3 / 1161 ط الحلبي) .
(6) الشرح الكبير في ذيل المغني 4 / 116.(9/127)
قَالُوا: وَلَوْ دَخَل فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي جَازَ بَيْعُهُ، وَالتَّصَرُّفُ فِيهِ، كَمَا جَازَ ذَلِكَ بَعْدَ قَبْضِهِ.
وَعَلَّقَ الشَّرْحُ الْكَبِيرُ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَهَذَا أَيْ حَدِيثُ {مَنِ ابْتَاعَ طَعَامًا} يَدُل عَلَى تَعْمِيمِ الْمَنْعِ فِي كُل طَعَامٍ، مَعَ تَنْصِيصِهِ عَلَى الْبَيْعِ مُجَازَفَةً بِالْمَنْعِ. وَيَدُل بِمَفْهُومِهِ عَلَى أَنَّ مَا عَدَا الطَّعَامَ يُخَالِفُهُ فِي ذَلِكَ (1) .
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ: أَنَّ مَا كَانَ مُتَعَيَّنًا، كَالصُّبْرَةِ تُبَاعُ مِنْ غَيْرِ كَيْلٍ، يَجُوزُ بَيْعُهَا قَبْل قَبْضِهَا، وَمَا لَيْسَ بِمُتَعَيَّنٍ، كَقَفِيزٍ مِنْ صُبْرَةٍ، وَرِطْلٍ مِنْ زُبْرَةِ حَدِيدٍ (2) ، فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ بَيْعُهَا قَبْل قَبْضِهَا، بَل حَتَّى تُكَال أَوْ تُوزَنَ.
وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ قَوْل مَالِكٍ الْمُتَقَدِّمِ، فِي جَوَازِ بَيْعِ مَا شُرِيَ جُزَافًا، لَوْلاَ تَخْصِيصُ مَالِكٍ الْمَبِيعَ بِالطَّعَامِ. وَوَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَال: مَضَتِ السُّنَّةُ أَنَّ مَا أَدْرَكَتْهُ الصَّفْقَةُ حَيًّا مَجْمُوعًا، فَهُوَ مِنْ مَال الْمُبْتَاعِ (3) ، فَلَمَّا جَعَلَهُ مِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي مَعَ أَنَّهُ
__________
(1) الشرح الكبير 4 / 116.
(2) الزبرة من الحديد القطعة منه، وتجمع على: زُبَر، كغرفة وغرف. انظر المصباح المنير مادة: " زبر ".
(3) قول ابن عمر: مضت السنة أن ما أدركته الصفقة حيا مجموعا فهو من المبتاع. علقه البخاري في صحيحه. (فتح الباري 4 / 351 ط السلفية) وصححه ابن حجر في تغليق التعليق 3 / 243 المكتب الإسلامي.(9/127)
لَمْ يَقْبِضْهُ دَل عَلَى الْبَيْعِ قَبْل الْقَبْضِ فِي الْمُتَعَيَّنِ (1) .
وَلأَِنَّ الْمَبِيعَ الْمُعَيَّنَ لاَ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ تَوْفِيَةٍ، فَكَانَ مِنْ مَال الْمُشْتَرِي، كَغَيْرِ الْمَكِيل وَالْمَوْزُونِ.
وَفِي رِوَايَةٍ ثَالِثَةٍ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ: أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ بَيْعُ شَيْءٍ قَبْل قَبْضِهِ. وَهِيَ الَّتِي وَافَقَ فِيهَا الإِْمَامَ الشَّافِعِيَّ وَغَيْرَهُ، كَمَا تَقَدَّمَ.
وَرِوَايَةُ الْمَذْهَبِ (2) : أَنَّ الْمَكِيل وَالْمَوْزُونَ وَالْمَعْدُودَ وَالْمَذْرُوعَ، لاَ يَصِحُّ تَصَرُّفُ الْمُشْتَرِي فِيهِ قَبْل قَبْضِهِ مِنْ بَائِعِهِ (3) . وَهَذَا مَرْوِيٌّ أَيْضًا: عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَالْحَسَنِ، وَالْحَكَمِ، وَحَمَّادِ ابْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَالأَْوْزَاعِيِّ، وَإِسْحَاقَ (4) .
وَمُسْتَنَدُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ فِي التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْمَكِيل وَالْمَوْزُونِ وَنَحْوِهِمَا وَبَيْنَ غَيْرِهِمَا:
أَنَّ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ قَبْل قَبْضِهِ، وَكَانَ الطَّعَامُ يَوْمَئِذٍ مُسْتَعْمَلاً غَالِبًا فِيمَا يُكَال وَيُوزَنُ، وَقِيسَ عَلَيْهِمَا الْمَعْدُودُ وَالْمَذْرُوعُ، لاِحْتِيَاجِهِمَا إِلَى حَقِّ التَّوْفِيَةِ (5) . وَسَوَاءٌ أَكَانَ
__________
(1) الشرح الكبير 4 / 115.
(2) انظر الإنصاف 4 / 460 - 461 فهي المذهب، وعليها الأصحاب، والمشهور في المذهب.
(3) المغني 4 / 217 وما بعدها، والشرح الكبير في ذيله 4 / 115، وكشاف القناع 3 / 241.
(4) المغني 4 / 220.
(5) كشاف القناع 3 / 241.(9/128)
الْمَعْدُودُ مُتَعَيَّنًا كَالصُّبْرَةِ، أَمْ غَيْرَ مُتَعَيَّنٍ كَقَفِيزٍ مِنْهَا.
أَمَّا مَا عَدَا الْمَكِيل وَالْمَوْزُونَ وَنَحْوَهُمَا، فَيَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْل قَبْضِهِ، وَذَلِكَ: لِمَا رُوِيَ {عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: إِنِّي أَبِيعُ الإِْبِل بِالْبَقِيعِ، فَأَبِيعُ بِالدَّنَانِيرِ وَآخُذُ الدَّرَاهِمَ، وَأَبِيعُ بِالدَّرَاهِمِ وَآخُذُ الدَّنَانِيرَ. فَقَال: لاَ بَأْسَ أَنْ تَأْخُذَ بِسِعْرِ يَوْمِهَا، مَا لَمْ تَفْتَرِقَا وَبَيْنَكُمَا شَيْءٌ} (1) .
قَالُوا: فَهَذَا تَصَرُّفٌ فِي الثَّمَنِ قَبْل قَبْضِهِ، وَهُوَ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ (2) .
ضَابِطُ مَا يُمْنَعُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ قَبْل قَبْضِهِ:
6 - اخْتَلَفَتْ ضَوَابِطُ الْفُقَهَاءِ، فِي التَّصَرُّفَاتِ الْمَمْنُوعَةِ شَرْعًا قَبْل قَبْضِ الْمَبِيعِ:
أ - فَاتَّفَقَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، عَلَى هَذَا الضَّابِطِ وَهُوَ:
أَنَّ كُل عِوَضٍ مُلِكَ بِعَقْدٍ يَنْفَسِخُ بِهَلاَكِهِ قَبْل الْقَبْضِ، لَمْ يَجُزِ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْل قَبْضِهِ،
__________
(1) حديث ابن عمر: " لا بأس أن تأخذ بسعر يومها، ما لم تفترقا وبينكما شيء " أخرجه أبو داود (3 / 651 ط عزت عبيد دعاس) ، ونقل البيهقي عن شعبة أنه حكم عليه بالوقف على ابن عمر. (التلخيص لابن حجر 3 / 26 ط شركة الطباعة الفنية) .
(2) المغني 4 / 221، والشرح الكبير في ذيله 4 / 118.(9/128)
وَمَا لاَ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِهَلاَكِهِ، جَازَ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْل قَبْضِهِ (1) .
فَمِثَال الأَْوَّل: الْمَبِيعُ وَالأُْجْرَةُ وَبَدَل الصُّلْحِ عَنِ الدَّيْنِ، إِذَا كَانَ الثَّمَنُ وَالأَْجْرُ وَالْبَدَل عَيْنًا - عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - أَوْ كَانَ مِنَ الْمَكِيل أَوِ الْمَوْزُونِ أَوِ الْمَعْدُودِ عِنْدَ الْحَنْبَلِيَّةِ.
وَمِثَال الآْخَرِ: الْمَهْرُ إِذَا كَانَ عَيْنًا - عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - وَكَذَا بَدَل الْخُلْعِ، وَالْعِتْقِ عَلَى مَالٍ، وَبَدَل الصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ - وَكَذَا أَرْشُ الْجِنَايَةِ، وَقِيمَةُ الْمُتْلَفِ، عِنْدَ الْحَنْبَلِيَّةِ فِي هَذَيْنِ - كُل ذَلِكَ إِذَا كَانَ عَيْنًا، يَجُوزُ بَيْعُهُ وَإِجَارَتُهُ قَبْل قَبْضِهِ، وَسَائِرُ التَّصَرُّفَاتِ (2) .
وَعَلَّل الْحَنَابِلَةُ هَذَا الضَّابِطَ بِقَوْلِهِمْ: إِنَّ الْمُقْتَضِيَ لِلتَّصَرُّفِ هُوَ الْمِلْكُ، وَقَدْ وُجِدَ. لَكِنَّ مَا يُتَوَهَّمُ فِيهِ غَرَرُ الاِنْفِسَاخِ، بِاحْتِمَال هَلاَكِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لاَ يَجُوزُ بِنَاءُ عَقْدٍ آخَرَ عَلَيْهِ تَحَرُّزًا مِنَ الْغَرَرِ، وَمَا لاَ يُتَوَهَّمُ فِيهِ ذَلِكَ الْغَرَرُ، انْتَفَى عَنْهُ الْمَانِعُ، فَجَازَ بِنَاءُ الْعَقْدِ الآْخَرِ عَلَيْهِ (3) .
ب - وَوَضَعَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ هَذَا الضَّابِطَ، وَهُوَ:
(1) أَنَّ كُل تَصَرُّفٍ لاَ يَتِمُّ إِلاَّ بِالْقَبْضِ، كَالْهِبَةِ
__________
(1) المغني 4 / 221، والشرح الكبير في ذيله 4 / 118، وقارنه تماما بالذي في الدر المختار ورد المحتار 4 / 162.
(2) المراجع السابقة نفسها في المذهبين في مواضعها.
(3) المغني 4 / 221، والشرح الكبير في ذيله 4 / 118.(9/129)
وَالصَّدَقَةِ وَالرَّهْنِ وَالْقَرْضِ وَالإِْعَارَةِ وَنَحْوِهَا، يَجُوزُ قَبْل قَبْضِ الْمَبِيعِ.
(2) وَكُل تَصَرُّفٍ يَتِمُّ قَبْل الْقَبْضِ، كَالْمَبِيعِ وَالإِْجَارَةِ وَبَدَل الصُّلْحِ عَنِ الدَّيْنِ إِذَا كَانَ عَيْنًا، وَنَحْوِهَا لاَ يَجُوزُ قَبْل قَبْضِ الْمَبِيعِ.
وَتَعْلِيلُهُ عِنْدَهُ: أَنَّ الْهِبَةَ - مَثَلاً - لَمَّا كَانَتْ لاَ تَتِمُّ إِلاَّ بِالْقَبْضِ، صَارَ الْمَوْهُوبُ لَهُ نَائِبًا عَنِ الْوَاهِبِ، وَهُوَ الْمُشْتَرِي الَّذِي وَهَبَهُ الْمَبِيعَ قَبْل قَبْضِهِ، ثُمَّ يَصِيرُ قَابِضًا لِنَفْسِهِ، فَتَتِمُّ الْهِبَةُ بَعْدَ الْقَبْضِ.
بِخِلاَفِ الْبَيْعِ - مَثَلاً - وَنَحْوِهِ مِمَّا يَتِمُّ قَبْل الْقَبْضِ، فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ، لأَِنَّهُ إِذَا قَبَضَهُ الْمُشْتَرِي الثَّانِي لاَ يَكُونُ قَابِضًا عَنِ الأَْوَّل، لِعَدَمِ تَوَقُّفِ الْبَيْعِ عَلَى الْقَبْضِ، فَيَلْزَمُ مِنْهُ تَمْلِيكُ الْمَبِيعِ قَبْل قَبْضِهِ، وَهُوَ لاَ يَصِحُّ (1) .
وَأَشَارَ التُّمُرْتَاشِيُّ إِلَى أَنَّ الأَْصَحَّ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الإِْمَامُ مُحَمَّدٌ (2) .
ج - وَضَبَطَ الدَّرْدِيرُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ مَا يَمْنَعُ بَيْعَ الطَّعَامِ قَبْل قَبْضِهِ، بِأَنْ تَتَوَالَى عُقْدَتَا بَيْعٍ لَمْ يَتَخَلَّلْهُمَا قَبْضٌ (3) . وَهَذَا مُخْتَصٌّ بِالطَّعَامِ عَلَى رَأْيِهِمُ الْمُتَقَدِّمِ فِي حَصْرِ الْمَنْهِيِّ عَنْ بَيْعِهِ قَبْل قَبْضِهِ فِي مُطْلَقِ الأَْطْعِمَةِ الرِّبَوِيَّةِ.
__________
(1) رد المحتار 4 / 162، 163 بتصرف. وانظر بسط الموضوع في فتح القدير 6 / 136، 137.
(2) الدر المختار 4 / 162.
(3) الشرح الكبير للدردير 3 / 152.(9/129)
وَيُؤْخَذُ مِنْ كَلاَمِ ابْنِ جُزَيٍّ هَذَا الضَّابِطُ، وَهُوَ:
أَنَّ كُل طَعَامٍ أُخِذَ مُعَاوَضَةً - بِغَيْرِ جُزَافٍ - فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ. وَتَشْمَل الْمُعَاوَضَةُ: الشِّرَاءَ، وَالإِْجَارَةَ، وَالصُّلْحَ، وَأَرْشَ الْجِنَايَةِ، وَالْمَهْرَ، وَغَيْرَهَا - عَلَى مَا ذُكِرَ - فَلَيْسَ لَهُ بَيْعُهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ، لَكِنْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَهَبَهُ أَوْ يُسَلِّفَهُ قَبْل قَبْضِهِ (1) .
وَالتَّقْيِيدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ بِغَيْرِ الْجُزَافِ، لإِِخْرَاجِ مَا بِيعَ جُزَافًا بِغَيْرِ كَيْلٍ وَلاَ عَدٍّ وَلاَ وَزْنٍ مِنَ الطَّعَامِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْل قَبْضِهِ، لِدُخُولِهِ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ، فَهُوَ مَقْبُوضٌ حُكْمًا، فَلَيْسَ فِيهِ تَوَالِي عُقْدَتَيْ بَيْعٍ لَمْ يَتَخَلَّلْهُمَا قَبْضٌ (2) .
كَمَا شَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ فِي جَوَازِ بَيْعِ مُطْلَقِ طَعَامِ الْمُعَاوَضَةِ - بِالإِْضَافَةِ إِلَى شَرْطِ قَبْضِهِ - أَنْ لاَ يَكُونَ الْقَبْضُ مِنْ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ، فَإِنْ قَبَضَ مِنْ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ، مُنِعَ بَيْعُهُ؛ لأَِنَّ هَذَا الْقَبْضَ الْوَاقِعَ بَيْنَ الْعَقْدَيْنِ كَلاَ قَبْضٍ (3) .
وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الْقَبْضَ الْمُعْتَدَّ بِهِ فِي الْجَوَازِ، هُوَ الْقَبْضُ الْقَوِيُّ، فَيَجُوزُ بَيْعُ الطَّعَامِ عَقِبَهُ. أَمَّا الْقَبْضُ الضَّعِيفُ، فَهُوَ كَلاَ قَبْضٍ، فَلاَ
__________
(1) القوانين الفقهية 170 - 171.
(2) الشرح الكبير 3 / 152، والقوانين الفقهية 171.
(3) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 152.(9/130)
يُعْقِبُ الْجَوَازَ. مِثَال ذَلِكَ: - إِذَا وَكَّلَهُ بِبَيْعِ طَعَامٍ، فَبَاعَهُ مِنْ أَجْنَبِيٍّ، وَقَبْل قَبْضِ الأَْجْنَبِيِّ الطَّعَامَ، اشْتَرَاهُ الْوَكِيل مِنْهُ لِنَفْسِهِ، فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ بَيْعُهُ مِنْ نَفْسِهِ، لأَِنَّهُ يَقْبِضُ هَذِهِ الْحَال مِنْ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ.
- وَكَذَلِكَ لَوْ وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ طَعَامٍ، فَاشْتَرَاهُ وَقَبَضَهُ ثُمَّ بَاعَهُ لأَِجْنَبِيٍّ، وَاشْتَرَاهُ مِنْهُ قَبْل أَنْ يَقْبِضَهُ الأَْجْنَبِيُّ مِنْهُ، فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ شِرَاؤُهُ مِنْ نَفْسِهِ، لأَِنَّهُ فِي هَذِهِ الْحَال يَقْبِضُ مِنْ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ (1) .
وَيُسْتَثْنَى مِنْ عَدَمِ جَوَازِ بَيْعِ الطَّعَامِ إِذَا قَبَضَ مِنْ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ، مَا إِذَا كَانَ الْقَابِضُ مِنْ نَفْسِهِ مِمَّنْ يَتَوَلَّى طَرَفَيِ الْعَقْدِ، كَوَصِيٍّ لِيَتِيمَيْهِ، وَوَالِدٍ لِوَلَدَيْهِ الصَّغِيرَيْنِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ طَعَامِ أَحَدِهِمَا لِلآْخَرِ، ثُمَّ بَيْعُهُ لأَِجْنَبِيٍّ، قَبْل قَبْضِهِ لِمَنِ اشْتَرَاهُ لَهُ (2) .
د - لَمْ يَضَعِ الشَّافِعِيَّةُ ضَابِطًا فِي هَذَا الصَّدَدِ، لَكِنَّهُمْ أَلْحَقُوا - فِي الأَْصَحِّ مِنْ مَذْهَبِهِمْ - بِالْبَيْعِ عُقُودًا أُخْرَى، مِنْ حَيْثُ الْبُطْلاَنُ قَبْل الْقَبْضِ.
فَنَصُّوا عَلَى أَنَّ الإِْجَارَةَ وَالرَّهْنَ وَالْهِبَةَ - وَلَوْ مِنَ الْبَائِعِ - بَاطِلَةٌ، فَلاَ تَصِحُّ لِوُجُودِ الْمَعْنَى الْمُعَلَّل بِهِ النَّهْيُ فِيهَا، وَهُوَ ضَعْفُ الْمِلْكِ، وَكَذَلِكَ الصَّدَقَةُ وَالْهَدِيَّةُ وَعِوَضُ الْخُلْعِ وَالصُّلْحِ عَنْ نَحْوِ دَمٍ،
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 3 / 152.
(2) الشرح الكبير للدردير 3 / 153.(9/130)
وَالْقَرْضُ وَالْقِرَاضُ وَالشَّرِكَةُ وَغَيْرُهَا (1) .
وَجَاءَتْ عِبَارَةُ الْمَنْهَجِ عَامَّةً، فَنَصَّتْ عَلَى أَنَّهُ: لاَ يَصِحُّ تَصَرُّفٌ، وَلَوْ مَعَ بَائِعٍ، بِنَحْوِ بَيْعٍ وَرَهْنٍ فِيمَا لَمْ يُقْبَضْ، وَضُمِنَ بِعَقْدٍ (2) .
لَكِنَّهُمْ صَحَّحُوا تَصَرُّفَ الْمُشْتَرِي بِالْمَبِيعِ قَبْل قَبْضِهِ بِالإِْعْتَاقِ وَالْوَصِيَّةِ وَالتَّدْبِيرِ وَالتَّزْوِيجِ وَالْوَقْفِ وَقِسْمَةِ الإِْفْرَازِ وَالتَّعْدِيل لاَ الرَّدِّ، وَكَذَا إِبَاحَةُ طَعَامٍ اشْتَرَاهُ جُزَافًا، بِخِلاَفِ مَا لَوِ اشْتَرَاهُ مَكِيلاً، فَلاَ بُدَّ لِصِحَّةِ إِبَاحَتِهِ مِنْ كَيْلِهِ وَقَبْضِهِ.
وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِتَشَوُّفِ الشَّارِعِ إِلَى الْعِتْقِ - عَلَى حَدِّ تَعْبِيرِهِمْ - وَفِي مَعْنَاهُ بَقِيَّةُ التَّصَرُّفَاتِ.
7 - وَأَلْحَقُوا أَيْضًا الثَّمَنَ الْمُعَيَّنَ، سَوَاءٌ أَكَانَ دَرَاهِمَ أَمْ دَنَانِيرَ أَمْ غَيْرَهُمَا بِالْمَبِيعِ فِي فَسَادِ التَّصَرُّفِ قَبْل الْقَبْضِ، فَلاَ يَبِيعُهُ الْبَائِعُ، وَلاَ يَتَصَرَّفُ فِيهِ قَبْل قَبْضِهِ، وَذَلِكَ لِعُمُومِ النَّهْيِ، وَلِلتَّعْلِيل الْمُتَقَدِّمِ (3) .
بَل قَال ابْنُ حَجَرٍ: وَكُل عَيْنٍ مَضْمُونَةٍ فِي عَقْدِ مُعَاوَضَةٍ. كَذَلِكَ (4) ، أَيْ لاَ يُتَصَرَّفُ فِيهَا قَبْل قَبْضِهَا.
فَأَمَّا الأَْمْوَال الَّتِي تَكُونُ لِلشَّخْصِ فِي يَدِ غَيْرِهِ
__________
(1) شرح المحلي على المنهاج 2 / 213.
(2) انظر المنهج وشرحه بحاشية الجمل 3 / 161، 162، وانظر تحفة المحتاج 4 / 402، 403.
(3) راجع فيما تقدم. ف / 1.
(4) تحفة المحتاج 4 / 403.(9/131)
أَمَانَةً كَالْوَدِيعَةِ، وَالْمَال الْمُشْتَرَكِ فِي الشَّرِكَةِ وَالْقِرَاضِ، وَالْمَرْهُونِ بَعْدَ انْفِكَاكِهِ، وَالْمَوْرُوثِ، وَمَا يَمْلِكُهُ الْغَانِمُ مِنَ الْغَنِيمَةِ، وَالْمَال الْبَاقِي فِي يَدِ الْوَلِيِّ بَعْدَ بُلُوغِ الْمَوْلَى عَلَيْهِ رُشْدَهُ وَنَحْوِهَا، فَيَمْلِكُ بَيْعَهَا، لِتَمَامِ الْمِلْكِ فِي الْمَذْكُورَاتِ (1) .
8 - وَلَعَلَّهُ لاَ بَأْسَ مِنَ الإِْشَارَةِ هَاهُنَا إِلَى أَنَّ الإِْمَامَ الشَّوْكَانِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - طَرَحَ ضَابِطًا آخَرَ، شَطْرُهُ مِمَّا قَرَّرَهُ الشَّافِعِيَّةُ، وَقَال مَا نَظِيرُهُ:
إِنَّ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي تَكُونُ بِعِوَضٍ، تُلْتَحَقُ بِالْبَيْعِ، فَيَكُونُ فِعْلُهَا قَبْل الْقَبْضِ غَيْرَ جَائِزٍ. وَالتَّصَرُّفَاتِ الَّتِي لاَ عِوَضَ فِيهَا، تُلْتَحَقُ بِالْهِبَةِ، فَيَكُونُ فِعْلُهَا قَبْل الْقَبْضِ جَائِزًا. وَرَجَّحَ هَذَا الرَّأْيَ، وَاسْتَشْهَدَ لَهُ بِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى صِحَّةِ الْوَقْفِ وَالْعِتْقِ قَبْل الْقَبْضِ. وَبِمَا عُلِّل بِهِ النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ، وَهُوَ شُبْهَةُ الرِّبَا: فَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ طَاوُسًا سَأَلَهُ عَنْ سَبَبِ النَّهْيِ، فَأَجَابَهُ: بِأَنَّهُ إِذَا بَاعَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ قَبْل قَبْضِهِ، وَتَأَخَّرَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْبَائِعِ، صَارَ كَأَنَّهُ بَاعَهُ دَرَاهِمَ بِدَرَاهِمَ، فَإِذَا اشْتَرَى طَعَامًا بِمِائَةِ دِينَارٍ مَثَلاً، وَدَفَعَهَا إِلَى الْبَائِعِ، وَلَمْ يَقْبِضْ مِنْهُ الطَّعَامَ، ثُمَّ بَاعَ الطَّعَامَ مِنْ شَخْصٍ آخَرَ بِمِائَةٍ وَعِشْرِينَ - مَثَلاً - صَارَ كَأَنَّهُ
__________
(1) المرجع السابق 4 / 403، 404، وشرح المحلي على المنهاج 2 / 213.(9/131)
اشْتَرَى بِذَهَبِهِ ذَهَبًا أَكْثَرَ مِنْهُ أَيِ اشْتَرَى بِمِائَةٍ مِائَةً وَعِشْرِينَ.
قَال الشَّوْكَانِيُّ: وَلاَ يَخْفَى أَنَّ مِثْل هَذِهِ الْعِلَّةِ لاَ يَنْطَبِقُ عَلَى مَا كَانَ مِنَ التَّصَرُّفِ بِغَيْرِ عِوَضٍ.
وَهَذَا التَّعْلِيل أَجْوَدُ مَا عُلِّل بِهِ النَّهْيُ؛ لأَِنَّ الصَّحَابَةَ أَعْرَفُ بِمَقَاصِدِ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) .
9 - وَقَال بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّ هَذَا النَّهْيَ تَعَبُّدٌ. وَأَشَارَ الدُّسُوقِيُّ مِنْهُمْ إِلَى أَنَّ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ أَهْل الْمَذْهَبِ، وَنَقَلَهُ عَنِ التَّوْضِيحِ (2) .
وَقِيل: بَل هُوَ مَعْقُول الْمَعْنَى، وَمُعَلَّلٌ بِأَنَّ الشَّارِعَ لَهُ غَرَضٌ فِي ظُهُورِهِ، وَهُوَ سُهُولَةُ الْوُصُول إِلَى الطَّعَامِ، لِيَتَوَصَّل إِلَيْهِ الْقَوِيُّ وَالضَّعِيفُ.
وَلَوْ جَازَ بَيْعُهُ قَبْل قَبْضِهِ، لَبَاعَ أَهْل الأَْمْوَال بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، مِنْ غَيْرِ ظُهُورٍ، وَلَخَفِيَ بِإِمْكَانِ شِرَائِهِ مِنْ مَالِكِهِ وَبَيْعِهِ خُفْيَةً، فَلَمْ يَتَوَصَّل إِلَيْهِ الْفَقِيرُ، بِخِلاَفِ مَا إِذَا مُنِعَ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَنْتَفِعُ بِهِ الْكَيَّال، وَالْحَمَّال، وَيَظْهَرُ لِلْفُقَرَاءِ، فَتَقْوَى بِهِ قُلُوبُ النَّاسِ، لاَ سِيَّمَا فِي زَمَنِ الْمَسْغَبَةِ وَالشِّدَّةِ (3) .
__________
(1) نيل الأوطار 5 / 160.
(2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 151.
(3) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 151، 152، وحاشة العدوي على شرح كفاية الطالب 2 / 135.(9/132)
تَحْدِيدُ الْقَبْضِ وَتَحَقُّقُهُ:
10 - مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّ قَبْضَ كُل شَيْءٍ بِحَسَبِهِ (1)
(أ) فَإِنْ كَانَ مَكِيلاً أَوْ مَوْزُونًا أَوْ مَعْدُودًا أَوْ مَذْرُوعًا، فَقَبْضُهُ بِالْكَيْل أَوِ الْوَزْنِ أَوِ الْعَدِّ أَوِ الذَّرْعِ.
وَذَلِكَ: لِحَدِيثِ {عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَال: كُنْتُ أَبْتَاعُ التَّمْرَ مِنْ بَطْنٍ مِنَ الْيَهُودِ، يُقَال لَهُمْ: بَنُو قَيْنُقَاعَ، وَأَبِيعُهُ بِرِبْحٍ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: يَا عُثْمَانُ: إِذَا ابْتَعْتَ فَاكْتَل، وَإِذَا بِعْتَ فَكِل} (2) .
وَحَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَال: {نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ حَتَّى يَجْرِيَ فِيهِ الصَّاعَانِ: صَاعُ الْبَائِعِ، وَصَاعُ الْمُشْتَرِي} (3) .
__________
(1) نص ابن قدامة في المغني 4 / 220.
(2) حديث: " يا عثمان إذا ابتعت فاكتل ". علقه البخاري (فتح الباري 4 / 344 ط السلفية) ووصله أحمد (1 / 62 ط - الميمنية) وحسنه الهيثمي (4 / 98 ط القدسي) ونوه بقوته البيهقي في سننه (5 / 315 ط دائرة المعارف العثمانية) .
(3) المغني 4 / 220. وحديث: " نهى عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان، صاع البائع، وصاع المشتري ". أخرجه ابن ماجه (2 / 750 ط الحلبي) والدارقطني (3 / 8 ط دار المحاسن) . ونقل ابن حجر عن البيهقي أنه رواه مرسلا ثم قال: روي موصولا من أوجه إذا ضم بعضها إلى بعض قوي.(9/132)
وَالْمَالِكِيَّةُ شَرَطُوا فِي قَبْضِ الْمِثْلِيِّ تَسْلِيمَهُ لِلْمُشْتَرِي، وَتَفْرِيغَهُ فِي أَوْعِيَتِهِ (1) .
(ب) وَإِنْ كَانَ جُزَافًا فَقَبْضُهُ نَقْلُهُ، وَذَلِكَ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: {كَانُوا يَتَبَايَعُونَ الطَّعَامَ جُزَافًا بِأَعْلَى السُّوقِ، فَنَهَاهُمْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَبِيعُوهُ حَتَّى يَنْقُلُوهُ} وَفِي رِوَايَةٍ: {حَتَّى يُحَوِّلُوهُ} (2) .
(ج) وَإِنْ كَانَ مَنْقُولاً مِنْ عُرُوضٍ وَأَنْعَامٍ، فَقَبْضُهُ بِالْعُرْفِ الْجَارِي بَيْنَ النَّاسِ كَمَا يَقُول الْمَالِكِيَّةُ: كَاحْتِيَازِ الثَّوْبِ، وَتَسْلِيمِ مِقْوَدِ الدَّابَّةِ (3) .
أَوْ يَنْقُلَهُ إِلَى حَيِّزٍ لاَ يَخْتَصُّ بِهِ الْبَائِعُ، عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. وَيُرْوَى هَذَا عَنْ أَبِي يُوسُفَ، كَالشَّارِعِ وَدَارِ الْمُشْتَرِي (4) .
وَفَصَّل الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَنْقُول مِنَ الْعُرُوضِ وَالأَْنْعَامِ فَقَالُوا: إِنْ كَانَ الْمَبِيعُ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ، فَقَبْضُهَا بِالْيَدِ. وَإِنْ كَانَ ثِيَابًا فَقَبْضُهَا نَقْلُهَا.
وَإِنْ كَانَ حَيَوَانًا، فَقَبْضُهُ تَمْشِيَتُهُ مِنْ مَكَانِهِ (5) .
__________
(1) الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي عليه 3 / 144.
(2) انظر المغني 4 / 220. وحديث: " كانوا يتبايعون الطعام جزافا " أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 350 ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1161 ط الحلبي) .
(3) الشرح الكبير للدردير 3 / 145.
(4) تحفة المحتاج 4 / 412 وما بعدها، وشرح المنهج 3 / 166 - 172، والدر المختار ورد المحتار 5 / 309.
(5) المغني 4 / 220، وكشاف القناع 3 / 247.(9/133)
(د) وَإِنْ كَانَ عَقَارًا فَقَبْضُهُ بِالتَّخْلِيَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُشْتَرِي، بِلاَ حَائِلٍ دُونَهُ (1) ، وَتَمْكِينُهُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ، بِتَسْلِيمِهِ الْمِفْتَاحَ إِنْ وُجِدَ، بِشَرْطِ أَنْ يُفَرِّغَهُ مِنْ مَتَاعِ غَيْرِ الْمُشْتَرِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (2) .
وَلَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ إِلاَّ فِي دَارِ السُّكْنَى، فَإِنَّ قَبْضَهَا بِالإِْخْلاَءِ عِنْدَهُمْ، وَلاَ يُكْتَفَى بِالتَّخْلِيَةِ. أَمَّا غَيْرُهَا مِنَ الْعَقَارَاتِ، فَيَتَحَقَّقُ الْقَبْضُ بِالتَّخْلِيَةِ، وَإِنْ لَمْ يُخْل الْبَائِعُ مَتَاعَهُ مِنْهَا (3) .
وَيُشِيرُ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ هَذَا التَّفْصِيل إِنَّمَا هُوَ فِي الْقَبْضِ الْمُصَحِّحِ لِلتَّصَرُّفِ، أَمَّا الْقَبْضُ النَّاقِل لِلضَّمَانِ مِنَ الْبَائِعِ، فَمَدَارُهُ عَلَى اسْتِيلاَءِ الْمُشْتَرِي عَلَى الْمَبِيعِ، سَوَاءٌ أَنَقَلَهُ أَمْ لاَ، وَسَوَاءٌ أَخَلَّى الْبَائِعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ أَمْ لاَ، وَسَوَاءٌ أَأَذِنَ لَهُ فِي الْقَبْضِ أَمْ لاَ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ لَهُ الْحَقُّ فِي الْحَبْسِ أَمْ لاَ، فَمَتَى اسْتَوْلَى الْمُشْتَرِي عَلَى الْمَبِيعِ انْتَفَى الضَّمَانُ عَنِ الْبَائِعِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَوْ تَلِفَ حِينَئِذٍ لاَ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ، أَوْ تَعَيَّبَ لاَ يَثْبُتُ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي، وَلَوْ رَجَعَ إِلَى الْبَائِعِ لاَ يَرْجِعُ الضَّمَانُ إِلَيْهِ (4) .
__________
(1) المغني 4 / 220، وكشاف القناع 3 / 247، 248.
(2) شرح المحلي على المنهاج 2 / 215، وشرح المنهج 3 / 169 وفيه تفصيلات كثيرة في 3 / 167.
(3) الشرح الكبير للدردير 3 / 145.
(4) حاشية الجمل على شرح المنهج 3 / 168.(9/133)
11 - وَلَمْ يُفَصِّل الْحَنَفِيَّةُ - وَهِيَ رِوَايَةُ ابْنِ الْخَطَّابِ عَنْ أَحْمَدَ - هَذَا التَّفْصِيل فِي الْقَبْضِ، بَل اعْتَبَرُوا التَّخْلِيَةَ - وَهِيَ: رَفْعُ الْمَوَانِعِ وَالتَّمْكِينِ مِنَ الْقَبْضِ - قَبْضًا حُكْمًا عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَرَوَى أَبُو الْخَطَّابِ مِثْل ذَلِكَ عَنْ أَحْمَدَ وَشَرَطَ مَعَ التَّخْلِيَةِ التَّمْيِيزَ (1) .
نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى مَذْهَبِهِمْ هَذَا فِي الرَّهْنِ، فِي التَّخْلِيَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُرْتَهِنِ، وَقَالُوا: إِنَّ التَّخْلِيَةَ فِيهِ قَبْضٌ، كَمَا هِيَ فِي الْبَيْعِ، فَإِنَّهَا فِيهِ أَيْضًا قَبْضٌ (2) . قَالُوا: لأَِنَّهَا تَسْلِيمٌ، فَمِنْ ضَرُورَتِهِ الْحُكْمُ بِالْقَبْضِ، فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْقَبْضِ الْحَقِيقِيِّ، وَهَذَا هُوَ الأَْصَحُّ (3) .
وَمُقَابِل الأَْصَحِّ: الْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَهُوَ: أَنَّهُ لاَ يَثْبُتُ فِي الْمَنْقُول إِلاَّ بِالنَّقْل (4) .
12 - وَعَلَى هَذَا لَوْ بَاعَ مَا اشْتَرَاهُ قَبْل أَنْ يَقْبِضَهُ فَرَبِحَ، فَهَذَا هُوَ رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ، الَّذِي وَرَدَ فِيهِ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لاَ يَحِل سَلَفٌ وَبَيْعٌ، وَلاَ شَرْطَانِ فِي بَيْعٍ، وَلاَ رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ، وَلاَ بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ} (5) .
وَفَسَّرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي كِتَابِ الآْثَارِ لَمَّا
__________
(1) رد المحتار 5 / 309، والمغني مع الشرح الكبير 4 / 220.
(2) الدر المختار 5 / 309.
(3) رد المحتار 5 / 309.
(4) المرجع السابق.
(5) حديث: " لا يحل سلف وبيع. . . "، سبق تخريجه ف / 2.(9/134)
رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ بِرِوَايَةٍ أُخْرَى، فَقَال: وَأَمَّا رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ: فَالرَّجُل يَشْتَرِي الشَّيْءَ، فَيَبِيعُهُ قَبْل أَنْ يَقْبِضَهُ (1) .
وَكَذَلِكَ فَسَّرَهُ الشَّوْكَانِيُّ، حَيْثُ قَال: يَعْنِي لاَ يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ رِبْحَ سِلْعَةٍ لَمْ يَضْمَنْهَا، مِثْل: أَنْ يَشْتَرِيَ مَتَاعًا، وَيَبِيعَهُ إِلَى آخَرَ قَبْل قَبْضِهِ مِنَ الْبَائِعِ، فَهَذَا الْبَيْعُ بَاطِلٌ، وَرِبْحُهُ لاَ يَجُوزُ؛ لأَِنَّ الْمَبِيعَ فِي ضَمَانِ الْبَائِعِ الأَْوَّل، وَلَيْسَ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي مِنْهُ، لِعَدَمِ الْقَبْضِ (2) .
وَكَذَلِكَ فَعَل الْبُهُوتِيُّ، حَيْثُ قَال: وَالْمُرَادُ بِهِ رِبْحُ مَا بِيعَ قَبْل الْقَبْضِ (3) .
وَهَذَا الْحَدِيثُ وَإِنْ كَانَ عَامًّا، غَيْرَ أَنَّ الإِْمَامَ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - خَصَّهُ بِالطَّعَامِ، فِي رِوَايَةِ الأَْثْرَمِ عَنْهُ، قَال: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ قَوْلِهِ: {نَهَى عَنْ رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ} ، قَال: هَذَا فِي الطَّعَامِ، وَمَا أَشْبَهَهُ مِنْ مَأْكُولٍ أَوْ مَشْرُوبٍ، فَلاَ يَبِيعُهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ.
وَقَال ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: الأَْصَحُّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، أَنَّ الَّذِي يُمْنَعُ مِنْ بَيْعِهِ قَبْل قَبْضِهِ: هُوَ الطَّعَامُ (4) .
__________
(1) نصب الراية 4 / 19.
(2) نيل الأوطار 5 / 180.
(3) كشاف القناع 3 / 242.
(4) الشرح الكبير في ذيل المغني 4 / 116.(9/134)
بَيْعُ الصَّدَقَةِ وَالْهِبَةِ قَبْل الْقَبْضِ:
13 - الصَّدَقَةُ هِيَ: تَمْلِيكُ الْمَال فِي الْحَيَاةِ مَنْ يَحْتَاجُهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ، تَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وُجُوبًا أَوْ نَدْبًا (1) .
وَهَذَا التَّعْرِيفُ - كَمَا يُرَى - يَشْمَل الصَّدَقَةَ الْمَفْرُوضَةَ، الَّتِي تُؤْخَذُ مِنْ مَال الْغَنِيِّ فِي آخِرِ الْحَوْل وَهِيَ زَكَاةُ الْمَال، أَوْ فِي آخِرِ شَهْرِ الصَّوْمِ وَهِيَ زَكَاةُ الْفِطْرِ تَطْهِيرًا لِلْغَنِيِّ وَالصَّائِمِ، وَيَشْمَل الصَّدَقَةَ الْمُتَطَوَّعَ بِهَا، وَهِيَ الْمُسْتَحَبَّةُ فِي جَمِيعِ الأَْوْقَاتِ.
وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْمُتَقَدِّمِ آنِفًا، {نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شِرَاءِ الصَّدَقَاتِ حَتَّى تُقْبَضَ} (2) .
وَفِي حَدِيثِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ: {لاَ تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ} (3) .
14 - وَيَعْتَبِرُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ وَبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ الصَّدَقَةَ وَنَحْوَهَا، كَالْهِبَةِ وَالرَّهْنِ وَالْقَرْضِ وَالإِْعَارَةِ وَالإِْيدَاعِ، مِنْ عُقُودِ التَّبَرُّعَاتِ، الَّتِي لاَ تَتِمُّ
__________
(1) المغني والشرح الكبير في ذيله 6 / 246، والشرح الكبير للدردير 4 / 97.
(2) حديث: " نهى عن شراء الصدقات حتى تقبض ". أخرجه ابن ماجه (2 / 740 ط عيسى الحلبي) ونقل الزيلعي عن عبد الحق الأشبيلي أنه قال: إسناده لا يحتج به (نصب الراية 4 / 15 ط المجلس العلمي بالهند) .
(3) حديث " لا تبع ما ليس عندك " أخرجه الترمذي وحسنه (تحفة الأحوذي 4 / 430 ط المكتبة السلفية) .(9/135)
وَلاَ تُمَلَّكُ إِلاَّ بِالْقَبْضِ، وَالْعَقْدُ فِيهَا قَبْل الْقَبْضِ يُعْتَبَرُ عَدِيمَ الأَْثَرِ (1) .
وَعِبَارَةُ الْمَرْغِينَانِيِّ فِي فَصْل الصَّدَقَةِ: وَالصَّدَقَةُ كَالْهِبَةِ لاَ تَصِحُّ إِلاَّ بِالْقَبْضِ، لأَِنَّهُ (أَيِ التَّصَدُّقُ) تَبَرُّعٌ كَالْهِبَةِ (2) .
بَل قَال الْكَاسَانِيُّ: الْقَبْضُ شَرْطُ جَوَازِ الصَّدَقَةِ، لاَ تُمَلَّكُ قَبْل الْقَبْضِ، عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ (3) .
وَاسْتَدَل لِذَلِكَ: بِمَا رُوِيَ {عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال خَبَرًا عَنِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: يَقُول ابْنُ آدَمَ: مَالِي مَالِي، وَهَل لَكَ يَا بْنَ آدَمَ مِنْ مَالِكِ إِلاَّ مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ، أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ، أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ} (4) اعْتَبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الإِْمْضَاءَ فِي الصَّدَقَةِ، وَالإِْمْضَاءُ هُوَ التَّسْلِيمُ. فَدَل عَلَى أَنَّهُ شَرْطٌ.
وَبِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: لاَ تَتِمُّ الصَّدَقَةُ إِلاَّ بِالْقَبْضِ.
وَبِأَنَّ الصَّدَقَةَ عَقْدُ تَبْرِئَةٍ، فَلاَ يُفِيدُ الْحُكْمَ بِنَفْسِهِ كَالْهِبَةِ.
وَفِي الْهِبَةِ يَقُول: لَوْ صَحَّتْ بِدُونِ الْقَبْضِ
__________
(1) المادة (57) من مجلة الأحكام العدلية: لا يتم التبرع إلا بالقبض.
(2) الهداية وشرح العناية 7 / 515.
(3) بدائع الصنائع 6 / 123.
(4) حديث: " يقول ابن آدم: مالي مالي. . . . " أخرجه مسلم (4 / 2273 ط عيسى الحلبي) .(9/135)
لَثَبَتَ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ وِلاَيَةُ مُطَالَبَةِ الْوَاهِبِ بِالتَّسْلِيمِ، فَتَصِيرُ عَقْدَ ضَمَانٍ، وَهَذَا تَغْيِيرُ الْمَشْرُوعِ (1) .
وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْحَنَفِيَّةُ، هُوَ الَّذِي يُقَابِل الْمَشْهُورَ مِنْ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، عَبَّرُوا عَنْهُ بِقَوْلِهِمْ: وَقِيل: إِنَّمَا تُمْلَكُ بِالْقَبْضِ (2) وَهَذَا النَّصُّ وَإِنْ وَرَدَ فِي الْهِبَةِ، لَكِنَّ تَعْرِيفَهُمُ الصَّدَقَةَ، كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ قَبْلاً وَمَا يَأْتِي مِنَ الأَْحْكَامِ، يُفِيدُ التَّعْمِيمَ فِي الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ.
وَهُوَ أَيْضًا مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ، إِذْ قَالُوا: لاَ يَمْلِكُ مَوْهُوبٌ (بِالْمَعْنَى الأَْعَمِّ الشَّامِل لِلصَّدَقَةِ وَالْهَدِيَّةِ) إِلاَّ بِقَبْضٍ بِإِذْنِ الْوَاهِبِ (3) .
وَجَاءَ فِي نُصُوصِ الشَّافِعِيَّةِ: إِذَا حَلَفَ لاَ يَهَبُ لَهُ، فَوَهَبَ لَهُ وَلَمْ يَقْبَل، أَوْ قَبِل وَلَمْ يَقْبِضْ لاَ يَحْنَثُ فِي الأَْصَحِّ (4) .
وَذَلِكَ لأَِنَّهُ لاَ بُدَّ مِنَ الْقَبُول وَالْقَبْضِ حَتَّى تَصِحَّ الْهِبَةُ وَتَتِمَّ.
وَكَذَلِكَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ مُطْلَقًا كَمَا يَقُول الْمِرْدَاوِيُّ. فَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ أَنْوَاعَ الْهِبَةِ: صَدَقَةٌ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 123.
(2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير 4 / 101.
(3) شرح المحلي على المنهاج وحاشية القليوبي عليه 3 / 112، 160، وشرح المنهج وحاشية الجمل عليه 3 / 598. وقد صرح صاحب حاشية الجمل، بأن هذا الشرط وسائر أحكامه تجري في الهبة المطلقة الشاملة للصدقة والهدية.
(4) شرح المحلي على المنهاج 4 / 287.(9/136)
وَهَدِيَّةٌ وَنِحْلَةٌ، وَمَعَانِيهَا مُتَقَارِبَةٌ، وَكُلُّهَا تَمْلِيكٌ فِي الْحَيَاةِ بِلاَ عِوَضٍ، تَجْرِي فِيهَا أَحْكَامُهَا (1) أَيْ تَجْرِي أَحْكَامُ كُل وَاحِدَةٍ مِنَ الْمَذْكُورَاتِ فِي الْبَقِيَّةِ (2) .
وَقَالُوا: وَتَلْزَمُ الْهِبَةُ بِقَبْضِهَا بِإِذْنِ وَاهِبٍ، وَلاَ تَلْزَمُ قَبْلَهُ، أَيْ قَبْل الْقَبْضِ بِإِذْنِ الْوَاهِبِ، وَلَوْ كَانَتِ الْهِبَةُ فِي غَيْرِ مَكِيلٍ وَنَحْوِهِ، فَفِي جَمِيعِهَا لاَ تَلْزَمُ إِلاَّ بِالْقَبْضِ (3) .
وَقَدِ اسْتَدَل الْحَنَابِلَةُ لِمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ - مِنْ إِطْلاَقِ شَرْطِ الْقَبْضِ فِي الْهِبَةِ وَنَحْوِهَا، كَالصَّدَقَةِ الَّتِي نُوَاجِهُهَا - بِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَحَلَهَا جُذَاذَ عِشْرِينَ وَسْقًا مِنْ مَالِهِ بِالْعَالِيَةِ، فَلَمَّا مَرِضَ قَال: يَا بُنَيَّةُ: كُنْتُ نَحَلْتُكِ جُذَاذَ عِشْرِينَ وَسْقًا، وَلَوْ كُنْتُ جَذَذْتُهُ أَوْ قَبَضْتُهُ كَانَ ذَلِكَ، فَإِنَّمَا هُوَ الْيَوْمَ مَال وَارِثٍ، فَاقْتَسِمُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى (4) .
وَذَكَرَ الْبُهُوتِيُّ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ، وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، نَحْوُ هَذَا، وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُمْ مُخَالِفٌ مِنَ الصَّحَابَةِ.
__________
(1) كشاف القناع 4 / 299، وانظر في الإطلاق الإنصاف 7 / 9.
(2) المرجع السابق.
(3) الإنصاف 7 / 119، 120، والشرح الكبير 6 / 250، وفيه وفي المغني 6 / 251 رواية بالتفرقة بين المكيل والموزون وبين غيرهما.
(4) كشاف القناع 4 / 301.(9/136)
وَرَتَّبُوا عَلَى اشْتِرَاطِ الْقَبْضِ، جَوَازَ رُجُوعِ الْوَاهِبِ فِي هِبَتِهِ (وَكَذَا الصَّدَقَةُ) قَبْل الْقَبْضِ، لِعَدَمِ تَمَامِ الْعَقْدِ (1) .
وَخَالَفَ فِي اشْتِرَاطِ الْقَبْضِ الْمَالِكِيَّةُ فِي مَشْهُورِ مَذْهَبِهِمْ. فَقَرَّرُوا أَنَّ الْهِبَةَ (وَكَذَلِكَ الصَّدَقَةُ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ تَفْرِيعَاتِهِمْ) (2) تُمْلَكُ بِالْقَوْل عَلَى الْمَشْهُورِ، وَلِلْمَوْهُوبِ لَهُ طَلَبُهَا مِنَ الْوَاهِبِ، إِذَا امْتَنَعَ مِنْ تَسْلِيمِهَا، لِيَجْبُرَهُ عَلَى تَمْكِينِ الْمَوْهُوبِ لَهُ مِنْهَا (3) .
وَأَشَارَ الْحَنَابِلَةُ فِي كُتُبِهِمْ (4) إِلَى دَلِيل الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْعَائِدِ فِي قَيْئِهِ} وَيُرْوَى {فِي صَدَقَتِهِ} . وَيُرْوَى {كَالْكَلْبِ يَقِيءُ ثُمَّ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ} (5) .
وَجَاءَ فِي نُصُوصِ الْمَالِكِيَّةِ:
__________
(1) نفس المرجع.
(2) شرح الخرشي وحاشية العدوي عليه 7 / 120.
(3) الشرح الكبير للدردير 4 / 101، وقارن بالقوانين الفقهية ص 242.
(4) انظر الشرح الكبير في ذيل المغني 6 / 250، والمغني 6 / 246، 247.
(5) حديث: " العائد في هبته كالعائد في قيئه " أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 234 ط السلفية) ، ومسلم (2 / 1241 ط عيسى الحلبي) . ويروى " في صدقته ". أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 235 ط السلفية) ، ومسلم (2 / 124 ط عيسى الحلبي) ويروى " كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه ". أخرجه مسلم (3 / 1241 ط عيسى الحلبي) .(9/137)
أ - لَوْ قَال: دَارِي صَدَقَةٌ أَوْ هِبَةٌ أَوْ حَبْسٌ عَلَى الْفُقَرَاءِ، لاَ يُقْضَى عَلَيْهِ (لِعَدَمِ التَّعْيِينِ) .
ب - وَلَوْ قَال: دَارِي صَدَقَةٌ أَوْ هِبَةٌ أَوْ حَبْسٌ عَلَى زَيْدٍ، فَإِنَّهُ يُقْضَى عَلَيْهِ بِذَلِكَ، لأَِنَّهُ قَصَدَ الْبِرَّ وَالْقُرْبَةَ حِينَئِذٍ.
ج - وَلَوْ قَال: لِلَّهِ عَلَيَّ دَفْعُ دِرْهَمٍ لِزَيْدٍ أَوْ لِلْفُقَرَاءِ، لاَ يُقْضَى بِهِ مُطْلَقًا، وَقِيل يُقْضَى.
وَعَلَّلُوا هَذَا بِأَنَّ الْقَضَاءَ لاَ بُدَّ فِيهِ مِنْ تَعْيِينِ الْمُتَصَدَّقِ عَلَيْهِ أَوِ الْمَوْهُوبِ لَهُ، وَلاَ بُدَّ فِيهِ مِنْ قَصْدِ الْقُرْبَةِ (1) .
وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ فِي الْمَكِيل وَالْمَوْزُونِ لاَ تَصِحُّ الْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ، وَلاَ تَلْزَمُ فِيهِ الصَّدَقَةُ وَالْهِبَةُ إِلاَّ بِالْقَبْضِ.
وَفِي غَيْرِهِمَا يَصِحُّ بِغَيْرِ قَبْضٍ، وَيَلْزَمُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ. وَيَثْبُتُ فِيهِ الْمِلْكُ بِغَيْرِ قَبْضٍ.
وَحَاصِل الدَّلِيل فِي هَذِهِ التَّفْرِقَةِ الْقِيَاسُ عَلَى الْبَيْعِ، مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا تَمْلِيكٌ، فَفِي الْبَيْعِ مَا لاَ يَلْزَمُ قَبْل الْقَبْضِ، كَالصَّرْفِ وَالرِّبَوِيَّاتِ، وَفِيهِ مَا يَلْزَمُ قَبْل الْقَبْضِ، وَهُوَ مَا عَدَا ذَلِكَ (2) .
وَالْخُلاَصَةُ أَنَّ جُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ يَشْتَرِطُونَ الْقَبْضَ فِي التَّبَرُّعَاتِ.
__________
(1) شرح الخرشي وحاشية العدوي 7 / 120.
(2) المغني 6 / 246 - 251، والشرح الكبير 6 / 250 - 252، وانظر كشاف القناع 4 / 301.(9/137)
بَيْعُ الْمُحَاقَلَةِ
1 - الْمُحَاقَلَةُ فِي اللُّغَةِ: بَيْعُ الزَّرْعِ فِي سُنْبُلِهِ بِالْبُرِّ أَوْ بِحِنْطَةٍ - كَمَا يَقُول الْفَيُّومِيُّ (1) -
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: بَيْعُ الْحِنْطَةِ فِي سُنْبُلِهَا بِحِنْطَةٍ مِثْل كَيْلِهَا خَرْصًا (2) . وَالْخَرْصُ: الْحَزْرُ.
وَعَرَّفَهَا الْحَنْبَلِيَّةُ بِمَا هُوَ أَعَمُّ، وَقَالُوا: هِيَ بَيْعُ الْحَبِّ فِي سُنْبُلِهِ بِجِنْسِهِ (3) .
2 - وَلاَ يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ، فِي أَنَّ بَيْعَ الْمُحَاقَلَةِ غَيْرُ جَائِزٍ، وَهُوَ فَاسِدٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، بَاطِلٌ عِنْدَ غَيْرِهِمْ، وَذَلِكَ لِحَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: {نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْمُزَابَنَةِ وَالْمُحَاقَلَةِ} (4) .
__________
(1) المصباح المنير، ومختار الصحاح مادة: " حقل ".
(2) الهداية بشروحها 6 / 54، وتبيين الحقائق 4 / 47. وشرح المحلي على المنهاج 2 / 237، 238، وتحفة المحتاج 4 / 471.
(3) كشاف القناع 3 / 258، والشرح الكبير في ذيل المغني 4 / 151.
(4) حديث: " نهى عن المزابنة والمحاقلة ". أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 384 ط السلفية) .(9/138)
وَلأَِنَّهُ بَيْعُ مَكِيلٍ بِمَكِيلٍ مِنْ جِنْسِهِ، فَلاَ يَجُوزُ خَرْصًا؛ لأَِنَّ فِيهِ شُبْهَةَ الرِّبَا الْمُلْحَقَةَ بِالْحَقِيقَةِ فِي التَّحْرِيمِ (1) .
وَلِعَدَمِ الْعِلْمِ بِالْمُمَاثَلَةِ - بِتَعْبِيرِ الشَّافِعِيَّةِ عَنْ مَعْنَى الْبُطْلاَنِ (2) - وَيَقُول الْحَنَابِلَةُ فِي تَمَامِ التَّعْلِيل: وَالْجَهْل بِالتَّسَاوِي كَالْعِلْمِ بِالتَّفَاضُل (3) .
وَأَيْضًا تَزِيدُ الْمُحَاقَلَةُ - كَمَا قَال الشَّافِعِيَّةُ عَلَى الْمُزَابَنَةِ - بِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْمَبِيعِ فِيهَا مَسْتُورٌ بِمَا لَيْسَ مِنْ صَلاَحِهِ فَانْتَفَتِ الرُّؤْيَةُ أَيْضًا (4) .
وَيُؤْخَذُ مِنْ كُتُبِ الْمَالِكِيَّةِ، التَّعْلِيل الْعَامُّ لِفَسَادِ الْمُزَابَنَةِ وَنَحْوِهِمَا بِالْغَرَرِ وَالرِّبَوِيَّةِ فِي الرِّبَوِيَّاتِ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ (5) .
وَلِزِيَادَةِ التَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (مُحَاقَلَة) .
بَيْعُ الْمُرَابَحَةِ
انْظُرْ: مُرَابَحَة
__________
(1) العناية شرح الهداية 6 / 53، وتبيين الحقائق 4 / 47.
(2) شرح المحلي على المنهاج 2 / 238.
(3) كشاف القناع 3 / 258.
(4) شرح المحلي على المنهاج 2 / 238، وحاشية الجمل على شرح المنهج 3 / 208.
(5) الشرح الكبير للدردير، وحاشية الدسوقي عليه 3 / 60.(9/138)
بَيْعُ الْمُزَابَنَةِ
1 - الْمُزَابَنَةُ: مَأْخُوذَةٌ مِنَ الزَّبْنِ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ: الدَّفْعُ (1) لأَِنَّهَا تُؤَدِّي إِلَى النِّزَاعِ وَالْمُدَافَعَةِ. أَيْ بِسَبَبِ الْغَبْنِ (2) كَمَا يَقُول الشَّافِعِيَّةُ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ الْفِقْهِيِّ: عَرَّفَهَا الْجُمْهُورُ بِأَنَّهَا: بَيْعُ الرُّطَبِ عَلَى النَّخِيل بِتَمْرٍ مَجْذُوذٍ، مِثْل كَيْلِهِ خَرْصًا (3) . (أَيْ ظَنًّا وَتَقْدِيرًا) وَالْخَرْصُ: الْحَزْرُ (4) . وَذَلِكَ بِأَنْ يُقَدَّرَ الرُّطَبُ الَّذِي عَلَى النَّخْل بِمِقْدَارِ مِائَةِ صَاعٍ مَثَلاً، بِطَرِيقِ الظَّنِّ وَالْحَزْرِ، فَيَبِيعَ بِقَدْرِهِ مِنَ التَّمْرِ (5) . فَلَوْ لَمْ يَكُنِ الثَّمَنُ رُطَبًا فَهُوَ جَائِزٌ بِسَبَبِ اخْتِلاَفِ الْجِنْسِ (6) . وَعَرَّفَهَا الدَّرْدِيرُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ بِأَنَّهَا: بَيْعُ مَجْهُولٍ
__________
(1) المصباح المنير ومختار الصحاح مادة: " زبن ".
(2) رد المحتار 4 / 109 عن البحر الفائق، وحاشية القليوبي على شرح المحلي على المنهاج 2 / 238.
(3) هذا نص البداية. انظر الهداية بشروحها 6 / 53، والدر المختار 4 / 109، وكفاية الطالب 2 / 158، وانظر تحفة المحتاج 4 / 471، وشرح المحلي على المنهاج 2 / 238، والشرح الكبير في ذيل المغني 4 / 151.
(4) فتح القدير 6 / 54.
(5) رد المحتار 4 / 109.
(6) انظر رده في رد المحتار 4 / 109.(9/139)
بِمَعْلُومٍ، رِبَوِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ. أَوْ: بَيْعُ مَجْهُولٍ بِمَجْهُولٍ مِنْ جِنْسِهِ (1) .
وَعَرَّفَهَا ابْنُ جُزَيٍّ، مِنْهُمْ أَيْضًا، بِأَنَّهَا: بَيْعُ شَيْءٍ رُطَبٍ، بِيَابِسٍ مِنْ جِنْسِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ رِبَوِيًّا، أَمْ غَيْرَ رِبَوِيٍّ (2) .
حُكْمُ بَيْعِ الْمُزَابَنَةِ:
2 - لَمْ يَخْتَلِفِ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ هَذَا الْبَيْعِ. فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ بَيْعٌ فَاسِدٌ، وَلاَ يَصِحُّ، وَذَلِكَ لِمَا يَأْتِي:
(أ) حَدِيثُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: {نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْمُزَابَنَةِ وَالْمُحَاقَلَةِ} (3) .
(ب) وَلِشُبْهَةِ الرِّبَا، لأَِنَّهُ بَيْعُ مَكِيلٍ بِمَكِيلٍ مِنْ جِنْسِهِ، مَعَ احْتِمَال عَدَمِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا بِالْكَيْل (4) .
وَيُصَرِّحُ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ فِيهِمَا الرِّبَا، لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِالْمُمَاثَلَةِ فِيهِمَا (5) .
__________
(1) الشرح الكبير للدردير 3 / 60.
(2) القوانين الفقهية 168، 169.
(3) حديث: " نهى عن المزابنة ". أخرجه البخاري، (فتح الباري 4 / 384 ط السلفية) ومسلم (3 / 1171 ط عيسى الحلبي) .
(4) الدر المختار ورد المحتار 4 / 109، والهداية بشروحها 6 / 54.
(5) تحفة المحتاج وحاشية الشرواني عليها 4 / 471.(9/139)
(ج) وَلِلْغَرَرِ - كَمَا عَلَّلَهُ ابْنُ جُزَيٍّ (1) -.
وَمِثْل بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ، بَيْعُ الْعِنَبِ بِالزَّبِيبِ (2) ، كَمَا وَرَدَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ، زِيَادَةً عَلَى الْمَذْكُورِ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ: {وَعَنْ بَيْعِ الْعِنَبِ بِالزَّبِيبِ، وَعَنْ كُل تَمْرٍ بِخَرْصِهِ} (3)
وَأَطْلَقَ الْمَالِكِيَّةُ (لَعَلَّهُ لِذَلِكَ) عَدَمَ جَوَازِ بَيْعِ كُل رَطْبٍ بِيَابِسٍ مِنْ جِنْسِهِ، لاَ مُتَفَاضِلاً وَلاَ مِثْلاً بِمِثْلٍ، حَتَّى الْحُبُوبِ (4) .
بَيْعُ الْمُزَايَدَةِ
انْظُرْ: مُزَايَدَة
بَيْعُ الْمُسَاوَمَةِ
انْظُرْ: مُسَاوَمَة
بَيْعُ الْمُسْتَرْسِل
انْظُرْ: اسْتِرْسَال
__________
(1) القوانين الفقهية ص 169.
(2) البداية بشروحها 6 / 54، وتبيين الحقائق 4 / 47.
(3) أشار إلى هذه الرواية الزيلعي في الموضع السابق نفسه.
(4) كفاية الطالب / 158.(9/140)
بَيْعُ الْمُلاَمَسَةِ
1 - الْمُلاَمَسَةُ مِنْ بُيُوعِ الْجَاهِلِيَّةِ أَيْضًا. وَقَدْ ثَبَتَ النَّهْيُ عَنْهَا فِي الْحَدِيثِ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ {أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الْمُلاَمَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ} . وَفَسَّرَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ بِقَوْلِهِ: أَمَّا الْمُلاَمَسَةُ: فَأَنْ يَلْمِسَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَوْبَ صَاحِبِهِ بِغَيْرِ تَأَمُّلٍ. وَالْمُنَابَذَةُ: أَنْ يَنْبِذَ كُل وَاحِدٍ ثَوْبَهُ إِلَى الآْخَرِ، وَلاَ يَنْظُرُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا إِلَى ثَوْبِ صَاحِبِهِ (1) .
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ {أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعَتَيْنِ وَلُبْسَتَيْنِ: نَهَى عَنِ الْمُلاَمَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ فِي الْبَيْعِ. وَالْمُلاَمَسَةُ: لَمْسُ الرَّجُل ثَوْبَ الآْخَرِ بِيَدِهِ، بِاللَّيْل أَوْ بِالنَّهَارِ، وَلاَ يُقَلِّبُهُ إِلاَّ بِذَلِكَ. وَالْمُنَابَذَةُ: أَنْ يَنْبِذَ الرَّجُل إِلَى الرَّجُل ثَوْبَهُ، وَيَنْبِذَ الآْخَرُ إِلَيْهِ ثَوْبَهُ، وَيَكُونُ بِذَلِكَ بَيْعُهُمَا، مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ وَلاَ تَرَاضٍ} (2) .
__________
(1) حديث: " نهى عن الملامسة والمنابذة. . . " أخرجه البخاري. (فتح الباري 4 / 358 ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1151 ط عيسى الحلبي) .
(2) حديث: " نهى عن بيعتين ولبستين. . . " أخرجه البخاري. (فتح الباري 4 / 358 - 359 ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1152 ط عيسى الحلبي) .(9/140)
2 - وَفُسِّرَتِ الْمُلاَمَسَةُ مَعَ ذَلِكَ فِي الْفِقْهِ بِصُوَرٍ:
أ - أَنْ يَلْمِسَ ثَوْبًا مَطْوِيًّا، أَوْ فِي ظُلْمَةٍ، ثُمَّ يَشْتَرِيَهُ عَلَى أَنْ لاَ خِيَارَ لَهُ إِذَا رَآهُ، اكْتِفَاءً بِلَمْسِهِ عَنْ رُؤْيَتِهِ. أَوْ يَلْمِسَ كُلٌّ مِنْهُمَا ثَوْبَ صَاحِبِهِ بِغَيْرِ تَأَمُّلٍ - كَمَا يُعَبِّرُ الْحَنَفِيَّةُ - وَذَلِكَ عَلَى سَبِيل الْمُشَارَكَةِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ خِلاَفًا لِمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الشَّيْخُ الدَّرْدِيرُ، وَخَالَفَهُ فِيهِ الشَّيْخُ عُلَيْشٌ وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ (1) .
ب - أَوْ يَكُونُ الثَّوْبُ مَطْوِيًّا، فَيَقُول الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي: إِذَا لَمَسْتَهُ فَقَدْ بِعْتُكَهُ، اكْتِفَاءً بِلَمْسِهِ عَنِ الصِّيغَةِ (2) .
قَال فِي الْمُغْرِبِ: بَيْعُ الْمُلاَمَسَةِ وَاللِّمَاسِ، أَنْ يَقُول لِصَاحِبِهِ: إِذَا لَمَسْتُ ثَوْبَكَ أَوْ لَمَسْتَ ثَوْبِي، فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ (3) .
ج - أَوْ يَبِيعَهُ شَيْئًا عَلَى أَنَّهُ مَتَى لَمَسَهُ لَزِمَ الْبَيْعُ، وَانْقَطَعَ خِيَارُ الْمَجْلِسِ وَغَيْرِهِ (4) ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، أَوْ يَقُول الْمُشْتَرِي كَذَلِكَ.
3 - وَهَذَا الْبَيْعُ بِصُوَرِهِ الْمَذْكُورَةِ كُلِّهَا، فَاسِدٌ عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لاَ نَعْلَمُ فِيهِ خِلاَفًا (5) ، وَذَلِكَ لِعَدَمِ الرُّؤْيَةِ فِي الصُّورَةِ
__________
(1) رد المحتار 4 / 109، والشرح الكبير للدردير 3 / 56، وشرح المحلي على المنهاج 2 / 176، وهو أيضا الظاهر من الشرح الكبير في ذيل المغني 4 / 29.
(2) رد المحتار 4 / 109، وشرح المحلي على المنهاج 2 / 176.
(3) تبيين الحقائق 4 / 48.
(4) المرجع السابق وشرح المحلي على المنهاج 2 / 176.
(5) المغني 4 / 275، والشرح الكبير في ذيله 4 / 29.(9/141)
الأُْولَى، مَعَ لُزُومِ الْبَيْعِ، اكْتِفَاءً بِاللَّمْسِ عَنِ الرُّؤْيَةِ (1) . وَلِعَدَمِ الصِّيغَةِ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ. كَمَا قَال الشَّافِعِيَّةِ (2) . وَلِتَعْلِيقِ التَّمْلِيكِ عَلَى أَنَّهُ مَتَى لَمَسَهُ وَجَبَ الْبَيْعُ، وَسَقَطَ خِيَارُ الْمَجْلِسِ فِي الثَّالِثَةِ، فِي تَعْبِيرِ الْحَنَفِيَّةِ، وَالتَّمَلُّكِيَّاتُ لاَ تَحْتَمِلُهُ لأَِدَائِهِ إِلَى مَعْنَى الْقِمَارِ (3) .
وَعَلَّل الْحَنَابِلَةُ الْفَسَادَ بِعِلَّتَيْنِ: الأُْولَى: الْجَهَالَةُ. وَالأُْخْرَى: كَوْنُهُ مُعَلَّقًا عَلَى شَرْطٍ، وَهُوَ لَمْسُ الثَّوْبِ (4) . وَلَعَل هَذَا هُوَ الْغَرَرُ الْمَقْصُودُ فِي تَعْبِيرِ ابْنِ قُدَامَةَ. وَأَجْمَل الشَّوْكَانِيُّ التَّعْلِيل، بِالْغَرَرِ وَالْجَهَالَةِ وَإِبْطَال خِيَارِ الْمَجْلِسِ (5) .
4 - هَذَا، وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ فِي فُرُوعِهِمُ التَّفْصِيلِيَّةِ هُنَا، عَلَى أَنَّ الاِكْتِفَاءَ فِي لُزُومِ الْبَيْعِ، وَتَحَقُّقِهِ بِاللَّمْسِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنْشَرَ الثَّوْبُ وَيُعْلَمَ مَا فِيهِ، هُوَ الْمُفْسِدُ: قَالُوا: فَلَوْ بَاعَهُ قَبْل التَّأَمُّل فِيهِ، عَلَى شَرْطِ أَنْ يَنْظُرَ فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنْ أَعْجَبَهُ أَمْسَكَهُ وَإِلاَّ رَدَّهُ، كَانَ جَائِزًا (6) .
__________
(1) شرح المحلي على المنهاج 2 / 176. وانظر الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي عليه 3 / 56.
(2) شرح المحلي على المنهاج 2 / 176.
(3) شرح العناية على الهداية 6 / 55.
(4) الشرح الكبير في ذيل المغني 4 / 29.
(5) نيل الأوطار 5 / 151.
(6) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 56.(9/141)
بَيْعُ الْمُنَابَذَةِ
1 - بَيْعُ الْمُنَابَذَةِ أَيْضًا مِنْ بُيُوعِ الْجَاهِلِيَّةِ.
وَثَبَتَ النَّهْيُ عَنْهَا فِي صِحَاحِ الأَْحَادِيثِ، كَمَا ثَبَتَ عَنِ الْمُلاَمَسَةِ (1) ، وَفُسِّرَتْ فِي بَعْضِهَا. وَصَوَّرَهَا الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَأْتِي:
أ - أَنْ يَنْبِذَ كُل وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَبَايِعَيْنِ ثَوْبَهُ إِلَى الآْخَرِ، وَلاَ يَنْظُرَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى ثَوْبِ صَاحِبِهِ - أَوْ يَنْبِذَهُ إِلَيْهِ بِلاَ تَأَمُّلٍ كَمَا عَبَّرَ الْمَالِكِيَّةُ (2) - عَلَى جَعْل النَّبْذِ بَيْعًا (3) . وَهَذَا التَّفْسِيرُ الْمَأْثُورُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: {فَيَكُونُ ذَلِكَ بَيْعَهُمَا، مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ وَلاَ تَرَاضٍ} (4) وَهُوَ الْمَنْقُول عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى (5) .
ب - أَنْ يَجْعَلاَ النَّبْذَ بَيْعًا، اكْتِفَاءً بِهِ عَنِ
__________
(1) راجع نصوص الأحاديث التي تقدمت في النهي عنها في بيع (الملامسة ف 1) .
(2) الشرح الكبير بحاشية الدسوقي 3 / 56.
(3) رد المحتار 4 / 109، وانظر فتح القدير 6 / 55، والشرح الكبير للمقدسي في ذيل المغني 4 / 29.
(4) راجع نصه فيما تقدم (ف 1) بيع الملامسة.
(5) تبيين الحقائق 4 / 48 نقلا عن المنتقى.(9/142)
الصِّيغَةِ، فَيَقُول أَحَدُهُمَا: أَنْبِذُ إِلَيْكَ ثَوْبًا بِعَشَرَةٍ، فَيَأْخُذَهُ الآْخَرُ (1) (وَالصُّورَةُ الأُْولَى فِيهَا مُشَارَكَةٌ بِخِلاَفِ هَذِهِ) .
ج - أَنْ يَقُول: بِعْتُكَ هَذَا بِكَذَا، عَلَى أَنِّي إِذَا نَبَذْتُهُ إِلَيْكَ، لَزِمَ الْبَيْعُ وَانْقَطَعَ الْخِيَارُ (2) .
د - أَنْ يَقُول: أَيَّ ثَوْبٍ نَبَذْتَهُ إِلَيَّ فَقَدِ اشْتَرَيْتُهُ بِكَذَا، وَهَذَا ظَاهِرُ كَلاَمِ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى (3) .
هَذَا وَلاَ بُدَّ أَنْ يَسْبِقَ تَرَاوُضُهُمَا عَلَى الثَّمَنِ مَعَ ذَلِكَ، وَإِلاَّ كَانَ الْمَنْعُ لِعَدَمِ ذِكْرِ الثَّمَنِ. وَقَدْ سَبَقَ عَنِ الْحَنَفِيَّةِ، أَنَّ السُّكُوتَ عَنِ الثَّمَنِ مُفْسِدٌ لِلْبَيْعِ، وَنَفْيُهُ عَنْهُ مُبْطِلٌ لَهُ.
2 - وَكُل هَذِهِ الصُّوَرِ فَاسِدَةٌ، بِلاَ خِلاَفٍ بَيْنَ أَهْل الْعِلْمِ، صَرَّحَ بِذَلِكَ ابْنُ قُدَامَةَ وَغَيْرُهُ، مُعَلِّلِينَ الْفَسَادَ:
- بِالنَّهْيِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْمُتَقَدِّمِ.
- وَالْجَهَالَةِ، وَعَلَّل بِهَا الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (4) .
وَتَعْلِيقُ التَّمْلِيكِ بِالْخَطَرِ، لأَِنَّهُ - فِي الصُّورَةِ الأُْولَى الَّتِي ذَكَرَهَا الْحَنَفِيَّةُ - فِي مَعْنَى: إِذَا نَبَذْتُ
__________
(1) شرح المحلي 2 / 176، وانظر تحفة المحتاج 4 / 293.
(2) شرح المحلي على المنهاج 2 / 176.
(3) المغني 4 / 275، والشرح الكبير في ذيله 4 / 29، وانظر كشاف القناع 3 / 166.
(4) رد المحتار 4 / 109، وفتح القدير 6 / 55، والمغني 4 / 275.(9/142)
إِلَيْكَ الثَّوْبَ فَقَدِ اشْتَرَيْتَهُ، وَالتَّمْلِيكَاتُ لاَ تَحْتَمِلُهُ، لأَِدَائِهِ إِلَى مَعْنَى الْقِمَارِ (1) .
وَلِعَدَمِ الرُّؤْيَةِ، أَوْ عَدَمِ الصِّيغَةِ، أَوْ لِلشَّرْطِ الْفَاسِدِ، كَمَا عَلَّل الشَّافِعِيَّةُ (2) .
__________
(1) رد المحتار 4 / 109، والعناية شرح الهداية 6 / 55، وقارن أيضا بفتح القدير في الموطن نفسه، والمغني 4 / 275.
(2) شرح المحلي 2 / 176، وتحفة المحتاج 4 / 293، 294.(9/143)
بَيْعٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْبَيْعُ فِي اللُّغَةِ وَالاِصْطِلاَحِ، سَبَقَ الْكَلاَمُ عَنْهُ فِي مُصْطَلَحِ " بَيْع ". أَمَّا " الْمَنْهِيُّ عَنْهُ " فَهُوَ صِيغَةُ مَفْعُولٍ مِنَ النَّهْيِ.
وَالنَّهْيُ لُغَةً: الزَّجْرُ عَنِ الشَّيْءِ، وَهُوَ: ضِدُّ الأَْمْرِ. وَاصْطِلاَحًا: طَلَبُ الْكَفِّ عَنِ الْفِعْل عَلَى جِهَةِ الاِسْتِعْلاَءِ.
الأَْصْل فِي الْبَيْعِ الْحِل إِلاَّ لِطَارِئٍ:
2 - أَنَّ الأَْصْل فِي الْبَيْعِ هُوَ الإِْبَاحَةُ وَالصِّحَّةُ، حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيل عَلَى الْحَظْرِ أَوِ الْفَسَادِ.
وَالدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ هُوَ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ: {وَأَحَل اللَّهُ الْبَيْعَ} (1) فَإِنَّهُ عَامٌّ فِي إِبَاحَةِ جَمِيعِ الْبُيُوعِ. وَدَلِيل الْعُمُومِ هُوَ: أَنَّ لَفْظَ الْبَيْعِ مُفْرَدٌ مُحَلًّى بِالأَْلِفِ وَاللاَّمِ، وَالْمُفْرَدُ الْمُحَلَّى بِالأَْلِفِ وَاللاَّمِ يُفِيدُ الْعُمُومَ عِنْدَ أَهْل
__________
(1) سورة البقرة / 275.(9/143)
الأُْصُول، إِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ عَهْدٌ مُطْلَقًا، وَلاَ قَصْدٌ إِلَى إِرَادَةِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَاهِيَّةِ (1) .
فَصَارَ حَاصِل مَعْنَى الآْيَةِ: أَنَّ كُل بَيْعٍ حَلاَلٍ، أَخْذًا بِعُمُومِ اللَّفْظِ.
غَيْرَ أَنَّ أَهْل الْعِلْمِ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي أَنَّ هَذِهِ الآْيَةَ، وَإِنْ كَانَ مَخْرَجُهَا مَخْرَجَ الْعُمُومِ، فَقَدْ لَحِقَهَا التَّخْصِيصُ، لأَِنَّهُمْ - كَمَا يَقُول الرَّازِيُّ الْجَصَّاصُ، وَكَمَا سَيَأْتِي - مُتَّفِقُونَ عَلَى حَظْرِ كَثِيرٍ مِنَ الْبِيَاعَاتِ، نَحْوِ بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ، وَبَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الإِْنْسَانِ، وَبَيْعِ الْغَرَرِ، وَالْمَجَاهِيل وَعَقْدِ الْبَيْعِ عَلَى الْمُحَرَّمَاتِ مِنَ الأَْشْيَاءِ.
وَقَدْ كَانَ لَفْظُ الآْيَةِ يُوجِبُ جَوَازَ هَذِهِ الْبِيَاعَاتِ، وَإِنَّمَا خُصَّتْ مِنْهَا بِدَلاَئِل، إِلاَّ أَنَّ تَخْصِيصَهَا غَيْرُ مَانِعٍ مِنَ اعْتِبَارِ عُمُومِ لَفْظِ الآْيَةِ، فِيمَا لَمْ تَقُمِ الدَّلاَلَةُ عَلَى تَخْصِيصِهِ (2) .
مُوجِبُ النَّهْيِ:
3 - مُوجِبُ النَّهْيِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ التَّحْرِيمُ إِلاَّ بِقَرِينَةٍ تَصْرِفُهُ عَنِ التَّحْرِيمِ إِلَى غَيْرِهِ، كَالْكَرَاهَةِ
__________
(1) انظر التوضيح لصدر الشريعة، بهامش شرح التلويح عليه 1 / 54، ط محمد علي صبيح القاهرة 1377 هـ. 1957م.
(2) أحكام القرآن لأبي بكر الرازي الجصاص 1 / 469 ط الآستانة، سنة 1335 هـ، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 3 / 356 ط دار الكتاب العربي للطباعة والنشر، القاهرة 1387، 1967 م.(9/144)
أَوِ الإِْرْشَادِ أَوِ الدُّعَاءِ أَوْ نَحْوِهَا (1) . وَهُنَاكَ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ. وَفِي مُصْطَلَحِ: (نَهْي) .
فَإِذَا وُجِدَتْ قَرِينَةٌ أَوْ دَلِيلٌ يَصْرِفُ النَّهْيَ عَنِ التَّحْرِيمِ، كَانَ الْمُرَادُ بِالنَّهْيِ الْكَرَاهَةَ. وَهِيَ لُغَةً: ضِدُّ الْمَحَبَّةِ. وَاصْطِلاَحًا: تَشْمَل:
أ - الْمَكْرُوهَ تَحْرِيمًا، وَهُوَ مَا كَانَ إِلَى الْحُرْمَةِ أَقْرَبُ، بِمَعْنَى أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ مَحْذُورٌ دُونَ اسْتِحْقَاقِ الْعُقُوبَةِ بِالنَّارِ كَحِرْمَانِ الشَّفَاعَةِ، وَهُوَ الْمَحْمَل عِنْدَ إِطْلاَقِ الْكَرَاهَةِ - عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - لَكِنَّهُ عِنْدَ الإِْمَامِ مُحَمَّدٍ حَرَامٌ ثَبَتَتْ حُرْمَتُهُ بِدَلِيلٍ ظَنِّيٍّ.
ب - كَمَا تَشْمَل الْمَكْرُوهَ تَنْزِيهًا، وَهُوَ مَا كَانَ إِلَى الْحِل أَقْرَبُ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لاَ يُعَاقَبُ فَاعِلُهُ أَصْلاً، لَكِنْ يُثَابُ تَارِكُهُ أَدْنَى ثَوَابٍ (2) ، فَيَكُونُ تَرْكُهُ أَوْلَى مِنْ فِعْلِهِ. وَيُرَادِفُ الْمَكْرُوهَ تَنْزِيهًا (خِلاَفُ الأَْوْلَى) وَكَثِيرًا مَا يُطْلِقُونَهُ أَيْضًا.
فَإِذَا ذَكَرُوا مَكْرُوهًا: فَلاَ بُدَّ مِنَ النَّظَرِ فِي دَلِيلِهِ:
__________
(1) مسلم الثبوت في ذيل المستصفى 1 / 396 ط بولاق سنة 1322 هـ، وشرح العضد على مختصر المنتهى لابن الحاجب 2 / 95 ط بولاق 1316 - 1319 هـ، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي 2 / 215، 275، ط دار الكتب العلمية بيروت.
(2) التنقيح والتوضيح مع شرح التلويح للتفتازاني 2 / 126.(9/144)
أ - فَإِنْ كَانَ نَهْيًا ظَنِّيًّا، يُحْكَمُ بِكَرَاهَةِ التَّحْرِيمِ، إِلاَّ لِصَارِفٍ لِلنَّهْيِ عَنِ التَّحْرِيمِ إِلَى النَّدْبِ.
ب - وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الدَّلِيل نَهْيًا، بَل كَانَ مُفِيدًا لِلتَّرْكِ غَيْرِ الْجَازِمِ، فَهِيَ تَنْزِيهِيَّةٌ.
وَبَيْنَ الْمَكْرُوهَيْنِ: تَحْرِيمًا وَتَنْزِيهًا (الإِْسَاءَةُ) وَهِيَ دُونَ الْمَكْرُوهِ تَحْرِيمًا، وَفَوْقَ الْمَكْرُوهِ تَنْزِيهًا. وَتَتَمَثَّل بِتَرْكِ السُّنَّةِ عَامِدًا غَيْرَ مُسْتَخِفٍّ، فَإِنَّ السُّنَّةَ يُنْدَبُ إِلَى تَحْصِيلِهَا، وَيُلاَمُ عَلَى تَرْكِهَا، مَعَ لُحُوقِ إِثْمٍ يَسِيرٍ (1) .
وَإِذَا كَانَ الْحَنَفِيَّةُ قَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ لَفْظَ الْمَكْرُوهِ إِذَا أُطْلِقَ فِي كَلاَمِهِمْ فَالْمُرَادُ مِنْهُ التَّحْرِيمُ، مَا لَمْ يَنُصَّ عَلَى كَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ (2) . فَإِنَّ الْمَالِكِيَّةَ نَصُّوا عَلَى الْعَكْسِ، فَإِنَّ الْكَرَاهَةَ مَتَى أُطْلِقَتْ لاَ تَنْصَرِفُ إِلاَّ لِلتَّنْزِيهِ (3) .
وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَإِنَّهُمْ يُطْلِقُونَ (الْكَرَاهَةَ) عَلَى مَا يُرَادُ بِالْكَرَاهَةِ التَّنْزِيهِيَّةِ عِنْدَ غَيْرِهِمْ.
أَسْبَابُ النَّهْيِ عَنِ الْبَيْعِ
4 - أَسْبَابُ النَّهْيِ عَقْدِيَّةٌ أَوْ غَيْرُ عَقْدِيَّةٍ. وَالأَْسْبَابُ الْعَقْدِيَّةُ مِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِمَحَل الْعَقْدِ، وَمِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِلاَزِمِ الْعَقْدِ:
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار عليه 1 / 89، 318، 319 ط بولاق سنة 1272 هـ.
(2) رد المحتار 1 / 150.
(3) حاشية العدوي على شرح كفاية الطالب 1 / 148، 149 ط مطبعة عيسى البابي الحلبي. القاهرة.(9/145)
الأَْسْبَابُ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِمَحَل الْعَقْدِ:
مَحَل الْعَقْدِ: وَهُوَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ.
وَيَشْتَرِطُ فِيهِ الْفُقَهَاءُ جُمْلَةً مِنَ الشُّرُوطِ:
الشَّرْطُ الأَْوَّل مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ:
5 - أَنْ يَكُونَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَوْجُودًا حِينَ الْعَقْدِ (أَيْ غَيْرَ مَعْدُومٍ) فَلاَ يَقَعُ عِنْدَهُمْ بَيْعُ الْمَعْدُومِ، وَيُعْتَبَرُ بَاطِلاً.
وَيَتَمَثَّل هَذَا فِي الْبُيُوعِ الآْتِيَةِ: بَيْعِ الْمَضَامِينِ، وَالْمَلاَقِيحِ، وَحَبَل الْحَبَلَةِ، وَبَيْعِ الْجَنِينِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ.
وَالْمَضَامِينُ: جَمْعُ مَضْمُونٍ، كَمَجْنُونٍ.
وَهِيَ: مَا فِي أَصْلاَبِ الْفُحُول، عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ كَابْنِ جُزَيٍّ. (1) أَمَّا الْمَلاَقِيحُ: فَهِيَ جَمْعُ مَلْقُوحَةٍ وَمَلْقُوحٍ، وَهِيَ: مَا فِي أَرْحَامِ الأَْنْعَامِ وَالْخَيْل مِنَ الأَْجِنَّةِ (2) .
وَفَسَّرَ الإِْمَامُ مَالِكٌ الْمَضَامِينَ بِأَنَّهَا: بَيْعُ مَا فِي بُطُونِ إِنَاثِ الإِْبِل، وَأَنَّ الْمَلاَقِيحَ بَيْعُ مَا فِي ظُهُورِ الْفُحُول. (3)
__________
(1) الدر المختار 4 / 102، وفتح القدير 6 / 50، والقوانين الفقهية ص 169 ط بيروت سنة 1977، وشرح المحلي على المنهاج 2 / 176 ط الثالثة، مطبعة مصطفى البابي الحلبي. القاهرة سنة 1375 هـ 1956 م، والمغني 4 / 276، والشرح الكبير في ذيله 4 / 27 ط بيروت سنة 1392 هـ.
(2) الدر المختار 4 / 102، وفتح القدير 6 / 50، وشرح المحلي على المنهاج 2 / 176.
(3) الشرح الكبير للإمام الدردير بحاشية الدسوقي 3 / 57 ط عيسى البابي الحلبي، والمغني 4 / 276، والشرح الكبير في ذيله 4 / 27، وفتح القدير 6 / 50، ونصب الراية 4 / 10، 11.(9/145)
وَأَمَّا بَيْعُ حَبَل الْحَبَلَةِ فَهُوَ بَيْعُ نِتَاجِ النِّتَاجِ، بِأَنْ يَبِيعَ وَلَدَ مَا تَلِدُهُ هَذِهِ النَّاقَةُ أَوِ الدَّابَّةُ، فَوَلَدُ وَلَدِهَا هُوَ نِتَاجُ النِّتَاجِ (1) .
وَلاَ يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي بُطْلاَنِ بَيْعِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنَ الْبُيُوعِ.
قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ بَيْعَ الْمَلاَقِيحِ وَالْمَضَامِينِ غَيْرُ جَائِزٍ (2) ، وَذَلِكَ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْمَضَامِينِ وَالْمَلاَقِيحِ وَحَبَل الْحَبَلَةِ} (3) .
وَلِقَوْل سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: لاَ رِبَا فِي الْحَيَوَانِ، وَإِنَّمَا نُهِيَ مِنَ الْحَيَوَانِ عَنْ ثَلاَثَةٍ: عَنِ الْمَضَامِينِ وَالْمَلاَقِيحِ وَحَبَل الْحَبَلَةِ (4)
وَلأَِنَّ فِي هَذَا الْبَيْعِ غَرَرًا، فَعَسَى أَنْ لاَ تَلِدَ
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 138، وشرح المحلي وحاشية عميرة عليه 2 / 175، 176، والمغني 4 / 276، والشرح الكبير في ذيله 4 / 27، والدر المختار بهامش ردالمحتار عليه 4 / 102.
(2) المغني 4 / 276، والشرح الكبير في ذيله 4 / 27.
(3) حديث ابن عباس " نهى عن بيع المضامين والملاقيح. . . " أخرجه الطبراني، وقال الهيثمي: فيه إسماعيل بن أبي حبيبة وثقه أحمد، وضعفه جمهور الأئمة، (مجمع الزوائد 4 / 104 ط القدسي) .
(4) فتح القدير مع شرحي العناية والكفاية 6 / 50 ط بيروت.(9/146)
النَّاقَةُ، أَوْ تَمُوتَ قَبْل ذَلِكَ، فَهُوَ بَيْعُ مَعْدُومٍ وَمَالُهُ خَطَرُ الْمَعْدُومِ (1) .
وَعَلَّلَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ: بَيْعُ مَا لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ، وَلاَ مَعْلُومٍ وَلاَ مَقْدُورٍ عَلَى تَسْلِيمِهِ (2) .
وَعَلَّلَهُ الْحَنَابِلَةُ: بِالْجَهَالَةِ، فَإِنَّهُ لاَ تُعْلَمُ صِفَتُهُ وَلاَ حَيَاتُهُ، وَبِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْدُورِ التَّسْلِيمِ، وَإِذَا لَمْ يَجُزْ بَيْعُ الْحَمْل، فَأَوْلَى أَنْ لاَ يَجُوزَ بَيْعُ حَمْلِهِ (3) .
6 - وَمِنْ قَبِيل بَيْعِ الْمَعْدُومِ أَيْضًا:
بَيْعُ عَسْبِ الْفَحْل.
وَقَدْ رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال {: نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ثَمَنِ عَسْبِ الْفَحْل} (4) وَيُرْوَى: {عَنْ عَسْبِ الْفَحْل} . فَقَال الْكَاسَانِيُّ فِيهَا: وَلاَ يُمْكِنُ حَمْل النَّهْيِ عَلَى نَفْسِ الْعَسْبِ، وَهُوَ الضِّرَابُ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ بِالإِْعَارَةِ، فَيُحْمَل عَلَى الْبَيْعِ وَالإِْجَارَةِ، إِلاَّ أَنَّهُ حَذَفَ ذَلِكَ، وَأَضْمَرَهُ فِيهِ (5) ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاسْأَل الْقَرْيَةَ} (6) .
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 238، وفتح القدير 6 / 50.
(2) شرح المنهج بحاشية الجمل 3 / 70، وانظر شرح المحلي على المنهاج 2 / 175.
(3) المغني 4 / 276، والشرح الكبير 4 / 27، وكشاف القناع 3 / 166.
(4) حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: " نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن عسب الفحل " أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 461 ط السلفية) .
(5) بدائع الصنائع 5 / 139.
(6) سورة يوسف / 82.(9/146)
وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ نَحْوَ هَذَا فِي تَأْوِيل الْحَدِيثِ، وَطَرَقُوا لَهُ ثَلاَثَةَ أَوْجُهٍ مِنَ الاِحْتِمَالاَتِ، وَنَصُّوا - كَغَيْرِهِمْ - عَلَى بُطْلاَنِ بَيْعِهِ، وَقَالُوا: يَحْرُمُ ثَمَنُ مَائِهِ، وَيَبْطُل بَيْعُهُ، لأَِنَّهُ غَيْرُ مَعْلُومٍ وَلاَ مُتَقَوَّمٍ، وَلاَ مَقْدُورٍ عَلَى تَسْلِيمِهِ (1) .
الشَّرْطُ الثَّانِي مَا يَتَعَلَّقُ بِمَحَل الْعَقْدِ:
7 - أَنْ يَكُونَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَالاً، بِمَعْنَاهُ الْفِقْهِيِّ الاِصْطِلاَحِيِّ، وَهُوَ: مَا يَمِيل إِلَيْهِ الطَّبْعُ، وَيَجْرِي فِيهِ الْبَذْل وَالْمَنْعُ (2) . (ر: مُصْطَلَحُ: مَال) فَلاَ يَنْعَقِدُ بَيْعُ مَا لَيْسَ بِمَالٍ. وَذَلِكَ مِثْل بَيْعِ الْمُسْلِمِ الْمَيْتَةَ فَإِنَّهُ بَاطِلٌ، سَوَاءٌ أَمَاتَتْ حَتْفَ أَنْفِهَا، أَمْ مَاتَتْ بِخَنْقٍ وَنَحْوِهِ مِنْ غَيْرِ تَذْكِيَةٍ، وَهَذَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} (3) وَلاَ يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ إِلاَّ السَّمَكُ وَالْجَرَادُ، لِحَدِيثِ: {أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ: فَأَمَّا الْمَيْتَتَانِ فَالْحُوتُ وَالْجَرَادُ، وَأَمَّا الدَّمَانِ فَالْكَبِدُ وَالطِّحَال} (4) .
__________
(1) تحفة المحتاج بشرح المنهاج لابن حجر الهيثمي، بحاشيتي الشرواني والعبادي 4 / 292، وكشاف القناع 3 / 166، والمغني 4 / 277.
(2) الدر المختار نقلا عن درر الحكام 3 / 100.
(3) سورة المائدة / 3.
(4) حديث: " أحلت لنا ميتتان ودمان. . . " أخرجه ابن ماجه 2 / 1073 ط عيسى الحلبي من حديث ابن عمر مرفوعا، وصوب الدارقطني وقفه على ابن عمر، نقله ابن حجر ثم عقب عليه بقوله: الرواية الموقوفة التي صحهها أبو حاتم وغيره، هي في حكم المرفوع. (التلخيص الحبير 1 / 26 ط شركة الطباعة الفنية) .(9/147)
أَمَّا بَيْعُ الذِّمِّيِّ لِلْمَيِّتَةِ، فَإِنْ كَانَ مَوْتُهَا حَتْفَ أَنْفِهَا أَيْ بِغَيْرِ ضَرْبٍ وَلاَ قَتْلٍ - وَهِيَ: مَا تَنَفَّسَتْ حَتَّى انْقَضَى رَمَقُهَا - فَهِيَ لَيْسَتْ مَالاً بِالاِتِّفَاقِ.
وَأَمَّا مَا لَمْ يَمُتْ حَتْفَ أَنْفِهِ، بَل مَاتَ خَنْقًا، أَوْ بِمَا يَدِينُ بِهِ الذِّمِّيُّ، وَلَيْسَ تَذْكِيَةً فِي شَرْعِنَا فَالرِّوَايَاتُ مُخْتَلِفَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي جَوَازِ بَيْعِهِ وَفِي فَسَادِهِ: فَالرِّوَايَةُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ الْجَوَازُ، وَالرِّوَايَةُ عَنْ مُحَمَّدٍ الْفَسَادُ، وَلاَ رِوَايَةَ فِي الْبُطْلاَنِ (1) .
وَأَمَّا غَيْرُ الْحَنَفِيَّةِ، فَلاَ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ مَا مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ وَمَا لَيْسَ كَذَلِكَ فِي بُطْلاَنِ الْبَيْعِ.
قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ بَيْعِ الْمَيْتَةِ أَوْ شَيْءٍ مِنْهَا (2) .
وَدَلِيل التَّحْرِيمِ حَدِيثُ: {إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالأَْصْنَامِ} (3)
وَيَحْرُمُ وَلاَ يَنْعَقِدُ بَيْعُ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} (4) وَالتَّقْيِيدُ بِالْمَسْفُوحِيَّةِ مُخْرِجٌ مَا سِوَاهُ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ،
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار 4 / 101.
(2) الشرح الكبير في ذيل المغني 4 / 13، وانظر أيضا الشرح الكبير للدردير 3 / 10، وشرح المحلي على المنهاج 2 / 570.
(3) حديث " إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة. . . " أخرجه البخاري من حديث جابر بن عبد الله (فتح الباري 4 / 424 ط السلفية) .
(4) سورة الأنعام / 145.(9/147)
كَالْكَبِدِ وَالطِّحَال (1) ، وَقَدِ اسْتُثْنِيَا مِنْ تَحْرِيمِ الدَّمِ، بِحَدِيثِ {أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ} . . . " الآْنِفِ الذِّكْرِ، وَلاَ خِلاَفَ فِي ذَلِكَ، وَصَرَّحَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَالشَّوْكَانِيُّ بِإِجْمَاعِ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى تَحْرِيمِ بَيْعِهِ (2) .
وَعِلَّةُ تَحْرِيمِ بَيْعِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَنَحْوِهِمَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ انْتِفَاءُ الْمَالِيَّةِ، وَعِنْدَ الآْخَرِينَ نَجَاسَةُ الْعَيْنِ (3) .
وَمَنْ صَوَّرَ انْتِفَاءَ الْمَالِيَّةِ فِي مَحَل الْعَقْدِ: بَيْعَ الْحُرِّ. وَكَذَلِكَ الْبَيْعُ بِهِ، بِجَعْلِهِ ثَمَنًا، بِإِدْخَال الْبَاءِ عَلَيْهِ (كَأَنْ يَقُول: بِعْتُكَ هَذَا الْبَيْتَ بِهَذَا الْغُلاَمِ، وَهُوَ حُرٌّ) لأَِنَّ حَقِيقَةَ الْبَيْعِ: مُبَادَلَةُ مَالٍ بِمَالٍ. وَلَمْ يُوجَدْ هُنَا، لأَِنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ (4) .
وَفِي الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ عَلَى تَحْرِيمِ هَذَا الْبَيْعِ، وَرَدَ حَدِيثُ: {ثَلاَثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ كُنْتُ خَصْمَهُ خَصَمْتُهُ. رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَل ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا، فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِهِ أَجْرَهُ} (5) .
__________
(1) الدر المختار 4 / 101.
(2) الشرح الكبير في ذيل المغني 4 / 13، ونيل الأوطار 5 / 144.
(3) انظر القوانين الفقهية (163) والشرح الكبير للدردير 3 / 10، وشرح المحلي على المنهاج 3 / 157.
(4) الدر المختار 4 / 101، وبدائع الصنائع 5 / 140.
(5) حديث " ثلاثة أنا خصمهم. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 447 ط السلفية) .(9/148)
الشَّرْطُ الثَّالِثُ: التَّقَوُّمُ:
8 - وَمِمَّا يَتَعَلَّقُ بِمَحَل الْعَقْدِ - بَعْدَ كَوْنِهِ مَالاً - أَنْ يَكُونَ مُتَقَوَّمًا.
وَالتَّقَوُّمُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ ضَرْبَانِ:
عُرْفِيٌّ: وَيَكُونُ بِالإِْحْرَازِ، فَغَيْرُ الْمُحْرَزِ، كَالصَّيْدِ وَالْحَشِيشِ، لَيْسَ بِمُتَقَوَّمٍ.
وَشَرْعِيٌّ: وَيَكُونُ بِإِبَاحَةِ الاِنْتِفَاعِ بِهِ، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا.
فَمَا لَيْسَ بِمُتَقَوَّمٍ مِنَ الْمَال بِهَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ غَيْرُ مَا كَانَ الاِنْتِفَاعُ بِهِ غَيْرَ مُبَاحٍ، يَبْطُل بَيْعُهُ (1) .
وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَنِ اسْتَغْنَى عَنِ الْمَالِيَّةِ وَالتَّقَوُّمِ، بِشَرْطَيِ الطَّهَارَةِ وَالنَّفْعِ، كَمَا فَعَل الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ (2) .
وَمِنْهُمْ مَنِ اسْتَغْنَى عَنْ شَرْطِ التَّقَوُّمِ هَذَا بِشَرْطِ الْمَالِيَّةِ، بِتَعْرِيفِ الْمَال عِنْدَهُ بِأَنَّهُ: مَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ غَيْرُ مُحَرَّمَةٍ، وَيُبَاحُ لِغَيْرِ حَاجَةٍ أَوْ ضَرُورَةٍ. وَهَؤُلاَءِ هُمُ الْحَنَابِلَةُ.
فَخَرَجَ بِقَيْدِ الْمَنْفَعَةِ، مَا لاَ مَنْفَعَةَ فِيهِ أَصْلاً: كَالْحَشَرَاتِ، وَمَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ مُحَرَّمَةٌ كَالْخَمْرِ. وَمَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ مُبَاحَةٌ لِلْحَاجَةِ كَالْكَلْبِ. وَمَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ مُبَاحَةٌ لِلضَّرُورَةِ، كَالْمَيْتَةِ فِي حَال الْمَخْمَصَةِ (3) .
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار 4 / 103.
(2) انظر القوانين الفقهية ص 163، والشرح الكبير للدردير 3 / 10، وشرح المحلي على المنهاج 2 / 157.
(3) كشاف القناع 3 / 152.(9/148)
9 - فَمِنْ أَمْثِلَةِ غَيْرِ الْمُتَقَوَّمِ: بَيْعُ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ، فَإِنَّهُ فَاسِدٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
وَالْمَعْنَى فِيهِ هُوَ نَجَاسَةُ عَيْنِهِ، وَيُلْحَقُ بِهِمَا بَاقِي نَجِسِ الْعَيْنِ (1) ، وَكَذَا كُل مَا نَجَاسَتُهُ أَصْلِيَّةٌ أَوْ ذَاتِيَّةٌ وَلاَ يُمْكِنُ تَطْهِيرُهُ (2) . وَنَقَل ابْنُ قُدَامَةَ عَنِ ابْنِ الْمُنْذِرِ إِجْمَاعَ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى الْقَوْل بِهِ (3) وَدَلِيلُهُ حَدِيثُ جَابِرٍ الْمُتَقَدِّمُ: {إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالأَْصْنَامِ} (4) .
وَالْحَنَفِيَّةُ فَرَّقُوا بَيْنَ بَيْعِ الْمَذْكُورَاتِ بِثَمَنٍ أَوْ بِدَيْنٍ ثَابِتٍ فِي الذِّمَّةِ، فَهُوَ بَاطِلٌ. وَبَيْنَ بَيْعِهَا بِأَعْيَانٍ أَوْ عُرُوضٍ، فَإِنَّ الْبَيْعَ يَبْطُل فِي الْخَمْرِ، وَيَفْسُدُ فِيمَا يُقَابِلُهَا مِنَ الْعُرُوضِ وَالأَْعْيَانِ.
وَوَجْهُ الْفَرْقِ: أَنَّ الْمَبِيعَ هُوَ الأَْصْل فِي الْبَيْعِ، وَلَيْسَتِ الْخَمْرُ وَنَحْوُهَا مَحَلًّا لِلتَّمْلِيكِ، فَبَطَل الْبَيْعُ فِيهَا، فَكَذَا يَبْطُل فِي ثَمَنِهَا.
أَمَّا إِذَا كَانَ الثَّمَنُ عَيْنًا، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ مَبِيعٌ مِنْ وَجْهٍ، مَقْصُودٍ بِالتَّمَلُّكِ، وَلَكِنْ فَسَدَتِ التَّسْمِيَةُ، فَوَجَبَتْ قِيمَتُهُ دُونَ الْخَمْرِ الْمُسَمَّى (5) .
__________
(1) شرح المحلي على المنهاج 2 / 175.
(2) الشرح الكبير للدردير 3 / 10، وشرح الخرشي على مختصر خليل بحاشية العدوي عليه 5 / 15 ط بيروت.
(3) كشاف القناع 3 / 152، والشرح الكبير بذيل المغني 4 / 13.
(4) حديث " إن الله حرم بيع الخمر والميتة. . . " سبق تخريجه (ف 7) .
(5) الدر المختار ورد المحتار 4 / 103، 104، وتبيين الحقائق شرح كنز الدقائق 4 / 44، 45 ط دار المعرفة. بيروت.(9/149)
وَكَذَلِكَ فَرَّقَ الْحَنَفِيَّةُ فِي بَيْعِ الْمَذْكُورَاتِ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَبَيْنَ الذِّمِّيِّ. وَفِي هَذَا يَقُول الْكَاسَانِيُّ: وَلاَ يَنْعَقِدُ بَيْعُ الْخِنْزِيرِ مِنَ الْمُسْلِمِ، لأَِنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ. فَأَمَّا أَهْل الذِّمَّةِ، فَلاَ يُمْنَعُونَ مِنْ تَبَايُعِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ فِيمَا بَيْنَهُمْ لِمَا يَلِي:
أ - أَمَّا عَلَى قَوْل بَعْضِ مَشَايِخِنَا، فَلأَِنَّهُ مُبَاحٌ الاِنْتِفَاعُ بِهِ شَرْعًا لَهُمْ، كَالْخَل وَكَالشَّاةِ لَنَا، فَكَانَ مَالاً فِي حَقِّهِمْ، فَيَجُوزُ بَيْعُهُ. وَرُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى عُشَّارِهِ بِالشَّامِ: أَنْ وَلُّوهُمْ بَيْعَهَا، وَخُذُوا الْعُشْرَ مِنْ أَثْمَانِهَا. وَلَوْ لَمْ يَجُزْ بَيْعُ الْخَمْرِ مِنْهُمْ لَمَا أَمَرَهُمْ بِتَوْلِيَتِهِمُ الْبَيْعَ.
ب - وَعَنْ بَعْضِ مَشَايِخِنَا: حُرْمَةُ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ ثَابِتَةٌ عَلَى الْعُمُومِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ؛ لأَِنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِشَرَائِعَ هِيَ حُرُمَاتٌ، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا، فَكَانَتِ الْحُرْمَةُ ثَابِتَةً فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ، لَكِنَّهُمْ لاَ يُمْنَعُونَ مِنْ بَيْعِهَا، لأَِنَّهُمْ لاَ يَعْتَقِدُونَ حُرْمَتَهَا، وَيَتَمَوَّلُونَهَا، وَنَحْنُ أُمِرْنَا بِتَرْكِهِمْ وَمَا يَدِينُونَ (1) .
فَيَقُول ابْنُ عَابِدِينَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مُعَلِّقًا عَلَى عِبَارَةِ الْكَاسَانِيِّ: وَظَاهِرُهُ الْحُكْمُ بِصِحَّتِهَا فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَلَوْ بِيعَتْ بِالثَّمَنِ (2) .
10 - وَمِنْ أَمْثِلَةِ غَيْرِ الْمُتَقَوَّمِ أَيْضًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ،
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 143.
(2) رد المحتار 4 / 104.(9/149)
الْمَيْتَةُ الَّتِي لَمْ تَمُتْ حَتْفَ أَنْفِهَا، بَل مَاتَتْ بِالْخَنْقِ وَنَحْوِهِ، فَإِنَّهَا مَالٌ عِنْدَ الذِّمِّيِّ كَالْخَمْرِ (1) . وَسَبَقَ الْكَلاَمُ عَنْهَا فِي شَرْطِ الْمَالِيَّةِ.
11 - وَيَتَّصِل بِغَيْرِ الْمُتَقَوَّمِ: الْمُتَنَجِّسُ الَّذِي لاَ يَقْبَل التَّطْهِيرَ، كَالسَّمْنِ وَالزَّيْتِ وَالْعَسَل وَاللَّبَنِ وَالْخَل.
وَالْمَشْهُورُ وَالأَْصَحُّ مِنْ مَذْهَبِ الأَْكْثَرِينَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: عَدَمُ جَوَازِ بَيْعِهَا؛ لأَِنَّ أَكْلَهَا حَرَامٌ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {سُئِل عَنِ الْفَأْرَةِ تَمُوتُ فِي السَّمْنِ، فَقَال:. . . وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَلاَ تَقْرَبُوهُ} (2) وَإِذَا كَانَ حَرَامًا لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: {أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ، حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ، فَجَمَّلُوهَا أَيْ أَذَابُوهَا فَبَاعُوهَا} (3) . . .
وَلأَِنَّهَا نَجِسَةٌ، فَلاَ يَجُوزُ بَيْعُهَا، قِيَاسًا عَلَى شَحْمِ الْمَيْتَةِ، فَهِيَ فِي مَعْنَى نَجِسِ الْعَيْنِ (4) .
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار 4 / 103. وراجع فيما تقدم (ف 7) .
(2) حديث: " وإن كان مائعا فلا تقربوه. . . " أخرجه أبو داود 4 / 181 تحقيق عزت عبيد دعاس من حديث أبي هريرة وإسناده صحيح كما ذكر ابن حجر (فتح الباري 1 / 344 ط السلفية) .
(3) حديث: " لعن الله اليهود. . . " أخرجه مسلم (3 / 1207 ط عيسى الحلبي) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
(4) القوانين الفقهية ص 163، وشرح المحلي على المنهاج 2 / 157، وكشاف القناع 3 / 165، والشرح الكبير في ذيل المغني 4 / 15.(9/150)
وَقَدْ قَرَّرَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ مَشْهُورَ مَذْهَبِهِمْ هُوَ عَدَمُ جَوَازِ بَيْعِهَا اخْتِيَارًا، أَمَّا اضْطِرَارًا فَيَصِحُّ (1) .
وَمُقَابِل الْمَشْهُورِ رِوَايَةٌ وَقَعَتْ لِمَالِكٍ، هِيَ جَوَازُ بَيْعِهِ، وَكَانَ يُفْتِي بِهَا ابْنُ اللَّبَّادِ.
قَال ابْنُ رُشْدٍ: وَالْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ، الْمَعْلُومُ مِنْ مَذْهَبِهِ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَغَيْرِهَا، أَنَّ بَيْعَهُ لاَ يَجُوزُ، وَالأَْظْهَرُ أَنَّ بَيْعَهُ جَائِزٌ مِمَّنْ لاَ يَغُشُّ بِهِ إِذَا بَيَّنَ؛ لأَِنَّ تَنْجِيسَهُ بِسُقُوطِ النَّجَاسَةِ فِيهِ لاَ يُسْقِطُ مِلْكَ رَبِّهِ عَنْهُ، وَلاَ يُذْهِبُ جُمْلَةَ الْمَنَافِعِ مِنْهُ، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُتْلَفَ عَلَيْهِ، فَجَازَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ مِمَّنْ يَصْرِفُهُ فِيمَا كَانَ لَهُ هُوَ أَنْ يَصْرِفَهُ فِيهِ، وَهَذَا فِي الزَّيْتِ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ لاَ يُجِيزُ غَسْلَهُ. وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُجِيزُ غَسْلَهُ - وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ - فَسَبِيلُهُ فِي الْبَيْعِ سَبِيل الثَّوْبِ الْمُتَنَجِّسِ (2) .
وَجَعَل ابْنُ جُزَيٍّ قِيَاسَ ابْنِ رُشْدٍ مِمَّا أَجَازَهُ ابْنُ وَهْبٍ إِذَا بَيَّنَ. وَأَشَارَ إِلَى الاِخْتِلاَفِ فِي الاِسْتِصْبَاحِ بِهِ فِي غَيْرِ الْمَسَاجِدِ (3) .
وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ، هُوَ مُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ: أَنَّهُ إِذَا أَمْكَنَ تَطْهِيرُهُ، بِأَنْ يُصَبَّ عَلَيْهِ فِي إِنَاءٍ مَاءٌ يَغْلِبُهُ، وَيُحَرَّكُ بِخَشَبَةٍ حَتَّى يَصِل إِلَى جَمِيعِ أَجْزَائِهِ، جَازَ بَيْعُهُ قِيَاسًا عَلَى الثَّوْبِ
__________
(1) الشرح الكبير للدردير 3 / 10.
(2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير في الموضع نفسه.
(3) القوانين الفقهية ص 163.(9/150)
الْمُتَنَجِّسِ. وَالأَْصَحُّ عِنْدَهُمُ الْمَنْعُ مِنَ الْبَيْعِ، لِتَعَذُّرِ التَّطْهِيرِ، لِحَدِيثِ الْفَأْرَةِ الْمُتَقَدِّمِ، فَإِنَّهُ لَوْ أَمْكَنَ تَطْهِيرُهُ لَمْ يَقُل فِي الْحَدِيثِ: {أَلْقَوْهَا وَمَا حَوْلَهَا} وَفِي رِوَايَةٍ: {فَأَرِيقُوهُ} (1) وَكَذَلِكَ الْخِلاَفُ عِنْدَهُمْ فِي بَيْعِ الْمَاءِ النَّجِسِ.
فَيَجُوزُ عِنْدَ بَعْضِهِمْ، لإِِمْكَانِ تَطْهِيرِهِ بِالْمُكَاثَرَةِ.
وَجَزَمَ بَعْضُهُمْ بِمَنْعِ الْجَوَازِ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ - كَمَا يَقُول الْقَلْيُوبِيُّ نَقْلاً عَنْ شَيْخِهِ - إِنْ كَانَ دُونَ الْقُلَّتَيْنِ، وَذَلِكَ نَظَرًا إِلَى النَّجَاسَةِ الآْنَ، فَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ قُلَّتَيْنِ صَحَّ عِنْدَهُمْ (2) .
وَكَذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ الَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيزُوا بَيْعَ الدُّهْنِ النَّجِسِ، رَوَوْا عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ لِكَافِرٍ يَعْلَمُ نَجَاسَتَهُ، وَذَلِكَ لأَِنَّهُ يَعْتَقِدُ حِلَّهُ، وَيَسْتَبِيحُ أَكْلَهُ، وَلأَِنَّهُ رُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى: لُتُّوا بِهِ السَّوِيقَ وَبِيعُوهُ، وَلاَ تَبِيعُوهُ مِنْ مُسْلِمٍ، وَبَيِّنُوهُ. لَكِنَّ الصَّحِيحَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ عَدَمُ الْجَوَازِ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُتَقَدِّمِ: {لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ، حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ فَجَمَّلُوهَا} (3) .
__________
(1) شرح المحلي على المنهاج 2 / 157، وتحفة المحتاج 4 / 235، 236، وحاشية الشرواني عليها. وحديث " ألقوها وما حولها. . . " وفي رواية: " فأريقوه ". أخرجه البخاري. (فتح الباري 9 / 668 ط السلفية) من حديث عبد الله بن عباس.
(2) شرح المحلي على المنهاج وحاشية القليوبي عليه 2 / 157.
(3) حديث " لعن الله اليهود " سبق تخريجه. ف / 10.(9/151)
وَلأَِنَّهُ لاَ يَجُوزُ بَيْعُهَا مِنْ مُسْلِمٍ، فَلاَ يَجُوزُ بَيْعُهَا مِنْ كَافِرٍ، كَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ، فَإِنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ حِلَّهُ، وَلاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ لَهُمْ.
وَلأَِنَّهُ دُهْنٌ نَجِسٌ، فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ لِكَافِرٍ، كَشُحُومِ الْمَيْتَةِ (1) .
هَذَا، وَأَمَّا الثَّوْبُ الْمُتَنَجِّسُ أَوِ الإِْنَاءُ الْمُتَنَجِّسُ وَنَحْوُهُمَا مِنْ كُل مَا يَطْهُرُ بِالْغَسْل مِنَ الْمُتَنَجِّسَاتِ فَقَدْ نَصُّوا عَلَى صِحَّةِ بَيْعِهِ، لِمَا أَنَّهُ يُنْتَفَعُ بِهِ بَعْدَ التَّطْهِيرِ، وَطَهَارَتُهُ أَصْلِيَّةٌ، وَإِنَّمَا عَرَضَ لَهَا نَجَاسَةٌ يُمْكِنُ إِزَالَتُهَا.
وَقَدْ أَوْجَبَ الْمَالِكِيَّةُ تَبْيِينَ النَّجَاسَةِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ أَكَانَ الثَّوْبُ - مَثَلاً - جَدِيدًا أَمْ قَدِيمًا، وَسَوَاءٌ أَكَانَ مِمَّا يُفْسِدُهُ الْغَسْل أَمْ لاَ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْمُشْتَرِي يُصَلِّي أَمْ لاَ، قَالُوا: لأَِنَّ النُّفُوسَ تَكْرَهُهُ، فَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ وَجَبَ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ (2) .
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدْ نَصُّوا - خِلاَفًا لِلأَْصَحِّ الْمَشْهُورِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ - عَلَى جَوَازِ بَيْعِ الدُّهْنِ الْمُتَنَجِّسِ، وَهُوَ الَّذِي عَرَضَتْ لَهُ النَّجَاسَةُ، وَأَجَازُوا الاِنْتِفَاعَ بِهِ فِي غَيْرِ الأَْكْل، كَالاِسْتِصْبَاحِ بِهِ فِي غَيْرِ الْمَسَاجِدِ وَالدَّبَّاغَةِ وَغَيْرِهِمَا (3) .
وَفَرَّقُوا بَيْنَ الدُّهْنِ الْمُتَنَجِّسِ وَبَيْنَ دُهْنِ الْمَيْتَةِ،
__________
(1) الشرح الكبير في ذيل المغني 4 / 15، وكشاف القناع 3 / 156.
(2) الشرح الكبير للدردير 3 / 10، وانظر شرح المحلي على المنهاج 2 / 157، وكشاف القناع 3 / 6.
(3) الدر المختار 4 / 114.(9/151)
فَإِنَّ هَذَا نَجِسٌ، لأَِنَّهُ جُزْؤُهَا، فَلاَ يَكُونُ مَالاً، فَلاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ اتِّفَاقًا، كَمَا لاَ يَجُوزُ الاِنْتِفَاعُ بِهِ (1) وَاسْتَدَل لَهُ ابْنُ عَابِدِينَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِحَدِيثِ: {إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالأَْصْنَامِ. فَقِيل يَا رَسُول اللَّهِ أَرَأَيْتَ شُحُومَ الْمَيْتَةِ، فَإِنَّهَا يُطْلَى بِهَا السُّفُنُ، وَيُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ، وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ؟ فَقَال: لاَ، هُوَ حَرَامٌ} (2) .
12 - وَيَتَّصِل بِغَيْرِ الْمُتَقَوَّمِ وَالنَّجَاسَاتِ وَالْمُتَنَجِّسَاتِ، بَيْعُ عَظْمِ الْمَيْتَةِ وَجِلْدِهَا وَصُوفِهَا وَحَافِرِهَا وَرِيشِهَا وَنَحْوِهَا.
وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ: أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ بَيْعُهَا لِنَجَاسَتِهَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} (3) وَهَذِهِ أَجْزَاءُ الْمَيْتَةِ، فَتَكُونُ حَرَامًا، فَلاَ يَجُوزُ بَيْعُهَا. وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: {لاَ تَنْتَفِعُوا مِنَ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلاَ عَصَبٍ} (4) . بَل نَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ بَيْعِ شَيْءٍ مِنَ الْمَيْتَةِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ لِمُضْطَرٍّ، إِلاَّ السَّمَكَ وَالْجَرَادَ وَالْجُنْدُبَ، لِحِل أَكْلِهَا (5) .
__________
(1) رد المحتار 4 / 114، وانظر تبيين الحقائق 4 / 51.
(2) حديث " إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة. . . " سبق تخريجه (ف 7) .
(3) سورة المائدة / 3.
(4) حديث " لا تنتفعوا من الميتة. . . " أخرجه الترمذي (4 / 222 ط عيسى الحلبي) من حديث عبد الله بن عكيم وحسنه.
(5) انظر الشرح الكبير للدردير 3 / 10 وشرح المنهج بحاشية الجمل 3 / 22، وكشاف القناع 3 / 155، 156.(9/152)
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَفَصَّلُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَيْنَ غَيْرِ الآْدَمِيِّ وَبَيْنَ الآْدَمِيِّ، وَبَيْنَ جِلْدِ الْمَيْتَةِ قَبْل الدَّبْغِ وَبَيْنَ جِلْدِهَا بَعْدَ الدَّبْغِ. قَالُوا:
أ - إِنَّ جِلْدَ الْمَيْتَةِ قَبْل الدَّبْغِ لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ، لِمَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ آنِفًا: {لاَ تَنْتَفِعُوا مِنَ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلاَ عَصَبٍ} وَلأَِنَّ نَجَاسَتَهُ مِنَ الرُّطُوبَاتِ الْمُتَّصِلَةِ بِهِ بِأَصْل الْخِلْقَةِ، فَصَارَ كَلَحْمِ الْمَيْتَةِ. بِخِلاَفِ الثَّوْبِ النَّجِسِ حَيْثُ يَجُوزُ بَيْعُهُ؛ لأَِنَّ نَجَاسَتَهُ لَيْسَتْ بِأَصْل الْخِلْقَةِ، فَلاَ يُمْنَعُ مِنْ جَوَازِ الْبَيْعِ.
ب - أَمَّا بَعْدَ الدَّبْغِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ وَالاِنْتِفَاعُ بِهِ، لأَِنَّهُ طَهُرَ بِالدَّبَّاغِ.
ج - أَمَّا الْعَظْمُ وَنَحْوُهُ، فَإِنَّهُ طَاهِرٌ بِأَصْل الْخِلْقَةِ، وَالْقَاعِدَةُ عِنْدَهُمْ: أَنَّ كُل شَيْءٍ لاَ يَسْرِي فِيهِ الدَّمُ لاَ يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ، كَالشَّعْرِ وَالرِّيشِ وَالْوَبَرِ وَالْقَرْنِ وَالْحَافِرِ وَالْعَظْمِ - كَمَا نَصُّوا عَلَيْهِ فِي الطِّهَارَاتِ (1) - فَيَجُوزُ بَيْعُهُ وَالاِنْتِفَاعُ بِهِ، وَدَلِيلُهُمْ عَلَى ذَلِكَ، كَمَا ذَكَرَهُ الْكَاسَانِيُّ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَل لَنَا هَذِهِ الأَْشْيَاءَ، وَامْتَنَّ عَلَيْنَا بِهَا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الذَّكِيَّةِ وَالْمَيِّتَةِ، فَيَدُل عَلَى تَأَكُّدِ الإِْبَاحَةِ، قَال تَعَالَى: {وَاللَّهُ جَعَل لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَل لَكُمْ
__________
(1) انظر في طهارة هذه المذكورات - على سبيل المثال - مراقي الفلاح بحاشية الطحطاوي عليه ص 91 ط الثالثة، بولاق سنة 1318 هـ.(9/152)
مِنْ جُلُودِ الأَْنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} (1) .
وَلأَِنَّ حُرْمَةَ الْمَيْتَةِ لَيْسَتْ لِمَوْتِهَا، فَإِنَّ الْمَوْتَ مَوْجُودٌ فِي السَّمَكِ وَالْجَرَادِ، وَهُمَا حَلاَلاَنِ بِالنَّصِّ، بَل لِمَا فِيهَا مِنَ الرُّطُوبَاتِ السَّيَّالَةِ وَالدِّمَاءِ النَّجِسَةِ، لاِنْجِمَادِهَا بِالْمَوْتِ. وَلِهَذَا يَطْهُرُ جِلْدُ الْمَيْتَةِ بِالدَّبَّاغِ، حَتَّى يَجُوزُ بَيْعُهُ، لِزَوَال الرُّطُوبَةِ عَنْهُ، وَلاَ رُطُوبَةَ فِي هَذِهِ الأَْشْيَاءِ، فَلاَ تَكُونُ حَرَامًا (2) . بَل نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ، وَمِنْهُمُ الزَّيْلَعِيُّ، عَلَى أَنَّ لُحُومَ السِّبَاعِ وَشُحُومَهَا وَجُلُودَهَا بَعْدَ الذَّكَاةِ الشَّرْعِيَّةِ هِيَ كَجُلُودِ الْمَيْتَةِ بَعْدَ الدَّبَّاغِ، حَتَّى يَجُوزَ بَيْعُهَا وَالاِنْتِفَاعُ بِهَا فِي غَيْرِ الأَْكْل، وَذَلِكَ لِطَهَارَتِهَا بِالذَّكَاةِ. يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ جِلْدُ الْخِنْزِيرِ، فَإِنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ (وَكَذَا لَحْمُهُ وَعَظْمُهُ وَشَعْرُهُ) فَلاَ يَطْهُرُ بِالتَّذْكِيَةِ وَلاَ بِالدَّبَّاغِ. وَإِنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ - فِيمَا سِوَى الْخِنْزِيرِ - بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ، فَقَرَّرَ الشُّرُنْبُلاَلِيُّ أَنَّهُ تُطَهِّرُ الذَّكَاةُ الشَّرْعِيَّةُ جِلْدَ غَيْرِ الْمَأْكُول، دُونَ لَحْمِهِ، عَلَى أَصَحِّ مَا يُفْتَى بِهِ، وَيَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ بَيْعُ عَظْمِ الْفِيل وَالاِنْتِفَاعُ بِهِ كَسَائِرِ السِّبَاعِ.
__________
(1) سورة النحل / 80.
(2) بدائع الصنائع 5 / 142، وانظر الدر المختار ورد المحتار 4 / 114.(9/153)
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لاَ يَجُوزُ، وَهُوَ عِنْدَهُ كَالْخِنْزِيرِ (1) .
أَمَّا عَظْمُ الآْدَمِيِّ وَشَعْرُهُ، فَوَافَقَ الْحَنَفِيَّةُ. الْجُمْهُورَ فِي أَنَّهُ لاَ يُبَاعُ. قَال الْكَاسَانِيُّ: لاَ لِنَجَاسَتِهِ " لأَِنَّهُ طَاهِرٌ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الرِّوَايَةِ، لَكِنِ احْتِرَامًا لَهُ، وَالاِبْتِذَال بِالْبَيْعِ يُشْعِرُ بِالإِْهَانَةَ (2) .
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: {لَعَنَ اللَّهُ الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ} (3) فَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الاِنْتِفَاعُ بِهِ لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ. وَصَرَّحُوا بِأَنَّ الآْدَمِيَّ مُكَرَّمٌ شَرْعًا، وَإِنْ كَانَ كَافِرًا، فَإِيرَادُ الْعَقْدِ عَلَيْهِ وَابْتِذَالُهُ وَإِلْحَاقُهُ بِالْجَمَادَاتِ إِذْلاَلٌ لَهُ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ. وَبَعْضُ الآْدَمِيِّ فِي حُكْمِ كُلِّهِ. وَصَرَّحَ الْكَمَال مِنَ الْحَنَفِيَّةِ بِبُطْلاَنِ بَيْعِهِ (4) .
بَيْعُ الْكَلْبِ
13 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى عَدَمِ صِحَّةِ بَيْعِ الْكَلْبِ، أَيَّ كَلْبٍ
__________
(1) مراقي الفلاح (91) وهذه عبارة متن نور الإيضاح، وانظر تبيين الحقائق وحاشية الشلبي 1 / 51.
(2) بدائع الصنائع 5 / 142.
(3) حديث " لعن الله الواصلة والمستوصلة. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 378 ط السلفية) من حديث عبد الله بن مسعود.
(4) الدر المختار ورد المحتار 4 / 105.(9/153)
كَانَ وَلَوْ كَانَ مُعَلَّمًا، لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، {أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ ثَمَنِ الدَّمِ وَثَمَنِ الْكَلْبِ، وَكَسْبِ الْبَغِيِّ، وَلَعَنَ الْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَةَ، وَآكِل الرِّبَا وَمُوكِلَهُ، وَلَعَنَ الْمُصَوِّرِينَ} (1) .
وَلِحَدِيثِ أَبِي مَسْعُودٍ عُقْبَةَ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَال: {نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ، وَمَهْرِ الْبَغِيِّ، وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ} (2) .
وَفَرَّقَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ بَيْنَ الْكَلْبِ الْمَأْذُونِ بِاتِّخَاذِهِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ، فَأَجَازُوا بَيْعَ الأَْوَّل، وَاخْتَلَفُوا فِي الثَّانِي.
وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ، فَذَهَبُوا إِلَى صِحَّةِ بَيْعِ الْكَلْبِ أَيَّ كَلْبٍ كَانَ حَتَّى الْعَقُورِ. وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (كَلْب) .
أَمَّا الْهِرُّ فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى جَوَازِ بَيْعِهِ، لأَِنَّهُ حَيَوَانٌ مُنْتَفَعٌ بِهِ، وَحَمَلُوا حَدِيثَ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ {نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ثَمَنِ
__________
(1) حديث: " نهى عن ثمن الدم. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 426 ط السلفية) من حديث أبي جحيفة.
(2) حديث " نهى عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن. . . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 426 ط السلفية) ومسلم (3 / 1198 ط عيسى الحلبي) من حديث أبي مسعود الأنصاري.(9/154)
الْكَلْبِ وَالسِّنَّوْرِ} (1) عَلَى غَيْرِ الْمَمْلُوكِ، أَوْ عَلَى مَا لاَ نَفْعَ فِيهِ مِنَ الْهِرَرَةِ، وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (هِر) .
بَيْعُ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ وَجَوَارِحِ الطَّيْرِ وَالْهَوَامِّ:
14 - اتَّفَقَتِ الْمَذَاهِبُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ بَيْعِ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ وَالطَّيْرِ، إِذَا كَانَتْ مِمَّا لاَ يُنْتَفَعُ بِهِ بِحَالٍ. فَإِنْ كَانَتْ مِمَّا يُنْتَفَعُ بِهِ جَازَ بَيْعُهُ إِلاَّ الْخِنْزِيرَ، فَإِنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ، فَلاَ يَجُوزُ الاِنْتِفَاعُ بِهِ، فَكَذَلِكَ لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ (2) .
لَكِنَّهُمْ ذَهَبُوا مَذَاهِبَ فِي تَفْسِيرِ النَّفْعِ الَّذِي يُجِيزُ بَيْعَ السِّبَاعِ:
15 - فَالْحَنَفِيَّةُ - فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مِنْ مَذْهَبِهِمْ - وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الرَّاجِحِ مِنَ الْمَذْهَبِ، ذَهَبُوا إِلَى إِطْلاَقِ النَّفْعِ، وَلَوْ بِالْجِلْدِ، وَبِدُونِ تَفْرِقَةٍ بَيْنَ الْمُعَلَّمِ وَغَيْرِهِ.
وَمِنْ نُصُوصِ الْحَنَفِيَّةِ فِي هَذَا: صَحَّ بَيْعُ الْكَلْبِ وَلَوْ عَقُورًا، وَالْفَهْدِ وَالْفِيل وَالْقِرْدِ، وَالسِّبَاعِ بِسَائِرِ أَنْوَاعِهَا، حَتَّى الْهِرَّةِ، وَكَذَا الطُّيُورُ
__________
(1) حديث: " نهى عن ثمن الكلب. . . " أخرجه أبو داود (3 / 754 تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث جابر بن عبد الله وأصله في صحيح مسلم (3 / 1199 ط عيسى الحلبي) .
(2) انظر على سبيل المثال: الدر المختار 4 / 214، والشرح الكبير للدردير 3 / 11، وتحفة المحتاج 4 / 238، والشرح الكبير في ذيل المغني 4 / 13.(9/154)
أَيِ الْجَوَارِحِ مِنْهَا) عُلِّمَتْ أَوْ لاَ، سِوَى الْخِنْزِيرِ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ، لِلاِنْتِفَاعِ بِهَا وَبِجِلْدِهَا (1) .
وَعَلَّل الزَّيْلَعِيُّ أَيْضًا جَوَازَ بَيْعِهَا بِجَوَازِ الاِنْتِفَاعِ بِهَا شَرْعًا، وَبِقَبُولِهَا التَّعْلِيمَ عَادَةً، ثُمَّ طَرَحَ هَذَا الضَّابِطَ قَائِلاً فِيهِ:
وَكُل مُنْتَفَعٍ بِهِ شَرْعًا، فِي الْحَال أَوْ فِي الْمَآل، وَلَهُ قِيمَةٌ. . جَازَ بَيْعُهُ، وَإِلاَّ فَلاَ (2)
وَقَال الْحَصْكَفِيُّ: جَوَازُ الْبَيْعِ يَدُورُ مَعَ حِل الاِنْتِفَاعِ (3) .
وَقَال الْبَابَرْتِيُّ: وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ مَنَاطَ الْحُكْمِ الاِنْتِفَاعُ، ثَبَتَ فِي الْفَهْدِ وَالنَّمِرِ وَالذِّئْبِ. بِخِلاَفِ الْهَوَامِّ الْمُؤْذِيَةِ، كَالْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبِ وَالزَّنَابِيرِ، لأَِنَّهَا لاَ يُنْتَفَعُ بِهَا (4) . وَكَذَا غَيْرُ الْمُؤْذِيَةِ مِنْ هَوَامِّ الأَْرْضِ: كَالْخَنَافِسِ وَالْفَأْرَةِ وَالنَّمْل وَالْوَزَغِ وَالْقَنَافِذِ وَالضَّبِّ، أَوْ مِنَ الْبَحْرِ، كَالضُّفْدَعِ وَالسَّرَطَانِ (5) .
16 - أَمَّا مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ فَهُوَ أَنَّ بَيْعَ الْهِرِّ وَالسَّبْعِ لِلْجِلْدِ جَائِزٌ، وَأَمَّا لِلَّحْمِ فَقَطْ، أَوْ لَهُ وَلِلْجِلْدِ
__________
(1) الدر المختار 4 / 214، وانظر بدائع الصنائع 5 / 142، 143.
(2) تبيين الحقائق 4 / 126.
(3) الدر المختار 4 / 111 نقلا عن المجتبى.
(4) العناية شرح الهداية 6 / 247، وانظر فتح القدير في الموضع نفسه 6 / 245، 246.
(5) فتح القدير 6 / 246.(9/155)
فَمَكْرُوهٌ (1) . وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى حُكْمِ لَحْمِ السِّبَاعِ عِنْدَهُمْ.
وَأَمَّا سِبَاعُ الطَّيْرِ ذَوَاتُ الْمَخَالِبِ، فَلَحْمُهَا مُبَاحٌ عِنْدَهُمْ، كَالْبَازِ وَالْعِقَابِ وَالرَّخَمِ، وَكَرِهُوا الْوَطْوَاطَ.
وَأَمَّا سِبَاعُ الْبَهَائِمِ، فَلَهُمْ فِيهَا ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ: الْكَرَاهَةُ. وَالْمَنْعُ. وَالتَّفْرِقَةُ بَيْنَ الْعَادِي - الَّذِي يَعْدُو عَلَى الآْدَمِيِّ - كَالأَْسَدِ وَالْفَهْدِ وَالنَّمِرِ وَالذِّئْبِ، فَيَحْرُمُ. وَبَيْنَ غَيْرِ الْعَادِي، كَالدُّبِّ وَالثَّعْلَبِ وَالضَّبُعِ وَالْهِرِّ مُطْلَقًا، فَيُكْرَهُ.
لَكِنَّ الَّذِي فِي مُخْتَصَرِ خَلِيلٍ كَرَاهَتُهَا، حَتَّى الْفِيل عِنْدَهُ - وَفِي عُهْدَتِهِ، كَمَا قَالُوا (2) -
17 - أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ: فَقَدْ فَسَّرُوا النَّفْعَ بِنَحْوِ الصَّيْدِ وَالْحِرَاسَةِ، وَلَوْ مَآلاً، بِأَنْ يُرْجَى تَعَلُّمُ الْحَيَوَانِ. أَمَّا مَا لاَ نَفْعَ فِيهِ فَلاَ يَصِحُّ بَيْعُهُ، الْفَوَاسِقُ الْخَمْسُ، وَكَذَا مَا لاَ يُرْجَى تَعَلُّمُهُ لِلصَّيْدِ، لِكِبَرِهِ مَثَلاً. فَالْفَهْدُ يُنْتَفَعُ بِهِ لِلصَّيْدِ، وَالْفِيل لِلْقِتَال، وَالْقِرْدُ لِلْحِرَاسَةِ، وَالْهِرَّةُ الأَْهْلِيَّةُ لِدَفْعِ نَحْوِ فَأْرٍ، وَالْعَنْدَلِيبُ لِلأُْنْسِ بِصَوْتِهِ، وَالطَّاوُوسُ لِلأُْنْسِ بِلَوْنِهِ (3) .
وَكَتَبَ الشَّيْخُ عَمِيرَةُ عَلَى قَوْل النَّوَوِيِّ فِي مِنْهَاجِهِ: فَلاَ يَصِحُّ بَيْعُ الْحَشَرَاتِ وَكُل سَبُعٍ
__________
(1) الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي عليه 3 / 10، 11.
(2) حاشية الدسوقي 2 / 115، 117.
(3) تحفة المحتاج 4 / 238، وانظر شرح المنهج وحاشية الجمل عليه 3 / 25، 26.(9/155)
لاَ يَنْفَعُ.
مُبَيِّنًا خِصَال انْتِفَاءِ النَّفْعِ، بِقَوْلِهِ: مِثْل: أَنْ لاَ يُؤْكَل، وَلاَ يُصَال وَلاَ يُقَاتَل عَلَيْهِ، وَلاَ يَتَعَلَّمُ، وَلاَ يَصْلُحُ لِلْحَمْل.
كَمَا قَرَّرَ أَنَّ انْتِفَاءَ النَّفْعِ قَدْ يَكُونُ حِسًّا، وَقَدْ يَكُونُ شَرْعًا، وَأَنَّ انْتِفَاءَ النَّفْعِ يَنْفِي الْمَالِيَّةَ، فَأَخْذُ الْمَال فِي مُقَابَلَتِهِ قَرِيبٌ - كَمَا نَقَلَهُ عَنِ الرَّافِعِيِّ - مِنْ أَكْل الْمَال بِالْبَاطِل (1) .
18 - أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ ذَهَبُوا - كَمَا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ اعْتَمَدَهَا السَّرَخْسِيُّ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ بَيْعُ مَا لاَ يَصْلُحُ لِلاِصْطِيَادِ، وَلاَ يَقْبَل التَّعْلِيمَ بِحَالٍ:
(أ) وَمَثَّل الْحَنَابِلَةُ لِمَا لاَ يَصْلُحُ لِلاِصْطِيَادِ بِالأَْسَدِ وَالذِّئْبِ وَالنَّمِرِ وَالدُّبِّ، وَبِالرَّخَمِ وَالْحَدَأَةِ وَالْغُرَابِ الأَْبْقَعِ وَالنِّسْرِ وَالْعَقْعَقِ وَغُرَابِ الْبَيْنِ، وَبَيْضِهَا، لأَِنَّهُ لاَ نَفْعَ فِيهِ، فَأَخْذُ ثَمَنِهِ أَكْلٌ لِلْمَال بِالْبَاطِل، وَلأَِنَّهُ لَيْسَ فِيهَا نَفْعٌ مُبَاحٌ كَالْحَشَرَاتِ، فَأَشْبَهَتْ الْخِنْزِيرَ.
فَأَمَّا مَا يَصْلُحُ لِلاِصْطِيَادِ، كَالْفَهْدِ وَكَالصَّقْرِ وَالْبَازِ، بِأَنْ كَانَتْ مُعَلَّمَةً أَوْ قَابِلَةً لِلتَّعْلِيمِ، فَإِنَّ فِيهَا نَفْعًا مُبَاحًا، فَيَصِحُّ بَيْعُهَا، وَبَيْعُ أَوْلاَدِهَا وَفِرَاخِهَا، وَبَيْضِهَا لاِسْتِفْرَاخِهِ، فَيُنْتَفَعُ بِهِ مَآلاً.
وَمَعَ ذَلِكَ نَصُّوا عَلَى جَوَازِ بَيْعِ الْقِرْدِ، لِلْحِفْظِ لاَ لِلَّعِبِ؛ لأَِنَّ الْحِفْظَ - كَمَا قَالُوا - مِنَ
__________
(1) حاشية عميرة على شرح المحلي، في ذيل حاشية القليوبي عليه 2 / 158.(9/156)
الْمَنَافِعِ الْمُبَاحَةِ (1)
(ب) وَمَثَّل الْحَنَفِيَّةُ لِلْمَرْوِيِّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، بِالآْتِي: مَعَ التَّفْصِيل تَطْبِيقًا عَلَيْهِ:
- الأَْسَدُ، إِنْ كَانَ يَقْبَل التَّعْلِيمَ وَيُصْطَادُ بِهِ، يَجُوزُ بَيْعُهُ وَإِلاَّ فَلاَ.
- الْفَهْدُ وَالْبَازِي يَقْبَلاَنِ التَّعْلِيمَ، فَيَجُوزُ بَيْعُهُمَا عَلَى كُل حَالٍ.
- النَّمِرُ - كَمَا يَقُول الْكَمَال - لاَ يَقْبَل التَّعْلِيمَ لِشَرَاسَتِهِ، فَلاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ بِحَالٍ، وَكَذَا الْكَلْبُ الْعَقُورُ عَلَى التَّخْصِيصِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ.
- الْقِرْدُ، فِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ:
الأُْولَى: جَوَازُ بَيْعِهِ لإِِمْكَانِ الاِنْتِفَاعِ بِجِلْدِهِ، وَهِيَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْهُ، وَصَحَّحَهَا الزَّيْلَعِيُّ.
وَالأُْخْرَى: لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ، لأَِنَّهُ لِلتَّلَهِّي، وَهُوَ مَحْظُورٌ، فَكَانَ بَيْعُ الْحَرَامِ لِلْحَرَامِ، وَأَنَّهُ لاَ يَجُوزُ.
وَصَحَّحَ هَذَا الْكَاسَانِيُّ، وَبَنَى عَلَيْهِ ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّهُ لَوْلاَ قَصْدُ التَّلَهِّي لَجَازَ بَيْعُهُ.
لَكِنَّ قَصْدَ التَّلَهِّي يَقْتَضِي الْكَرَاهَةَ، لاَ عَدَمَ الصِّحَّةِ، كَمَا قَال الْحَصْكَفِيُّ (2) .
__________
(1) كشاف القناع 3 / 153، 156، والشرح الكبير في ذيل المغني 4 / 13.
(2) بدائع الصنائع 5 / 143، والهداية بشروحها، والفتح منها على التخصيص 6 / 245 - 247، وتبيين الحقائق 4 / 126، والدر المختار ورد المحتار 4 / 111، 214.(9/156)
بَيْعُ آلاَتِ اللَّهْوِ وَالْمَعَازِفِ:
19 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، وَمِنْهُمُ الصَّاحِبَانِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِلَى تَحْرِيمِ بَيْعِ آلاَتِ اللَّهْوِ الْمُحَرَّمَةِ، وَالْمَعَازِفِ إِلاَّ مَا جَازَ اسْتِعْمَالُهُ مِنْهَا، وَصَرَّحُوا بِعَدَمِ صِحَّةِ بَيْعِهَا (1) .
وَالتَّقْيِيدِ بِالْمُحَرَّمَةِ، لإِِخْرَاجِ بَيْعِ الشِّطْرَنْجِ، الَّذِي يَقُول الشَّافِعِيَّةُ بِحِلِّهِ، وَطَبْل الْغُزَاةِ وَنَحْوِهِ، فَمِنَ الْمُحَرَّمَاتِ: الطُّنْبُورُ، وَالْمِزْمَارُ، وَالشَّبَّابَةُ (وَهِيَ النَّايَةُ) وَالْعُودُ، وَالصَّنْجُ وَالرَّبَابُ.
فَالصَّاحِبَانِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ يَرَيَانِ أَنَّ هَذِهِ الآْلاَتِ أُعِدَّتْ لِلْمَعْصِيَةِ، فَبَطَل تَقَوُّمُهَا، وَلاَ يَنْعَقِدُ بَيْعُهَا، كَالْخَمْرِ (2) .
وَالْمَالِكِيَّةُ قَرَّرُوا أَنَّ مِنْ شُرُوطِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ: أَنْ يَكُونَ مِمَّا يُنْتَفَعُ بِهِ انْتِفَاعًا شَرْعِيًّا، وَإِنْ قَل كَالتُّرَابِ، وَإِنْ كَانَتِ الْمَنْفَعَةُ لاَ تَجُوزُ فَهِيَ كَآلاَتِ اللَّهْوِ (3) .
وَالشَّافِعِيَّةُ قَرَّرُوا أَنَّ آلَةَ اللَّهْوِ الْمُحَرَّمَةَ
__________
(1) انظر على سبيل المثال: بدائع الصنائع 5 / 144، والقوانين الفقهية (164) وشرح المحلي وحاشية القليوبي 2 / 158، وكشاف القناع 3 / 155.
(2) الهداية وشروحها، آخر باب الغصب 8 / 293.
(3) القوانين الفقهية (164) وانظر الشرح الكبير للدردير 3 / 10، وحاشية العدوي على الخرشي 5 / 15.(9/157)
لاَ يُقْصَدُ مِنْهَا غَيْرُ الْمَعْصِيَةِ، وَلاَ نَفْعَ بِهَا شَرْعًا (1) .
وَالْحَنَابِلَةُ قَرَّرُوا أَنَّ كَسْرَ هَذِهِ الآْلاَتِ لاَ يَسْتَوْجِبُ الضَّمَانَ، وَأَنَّهَا كَالْمَيْتَاتِ (2) .
وَتَحْرِيمُ بَيْعِ الْمَعَازِفِ مَبْنِيٌّ عَلَى قَوْل الْجُمْهُورِ بِتَحْرِيمِ الْمَعَازِفِ وَآلاَتِ اللَّهْوِ.
وَذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى إِبَاحَتِهَا إِذَا لَمْ يُلاَبِسْهَا مُحَرَّمٌ، فَيَكُونُ بَيْعُهَا عِنْدَ هَؤُلاَءِ مُبَاحًا (3) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (مَعَازِفُ) .
وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ - خِلاَفًا لِصَاحِبَيْهِ - أَنَّهُ يَصِحُّ بَيْعُ آلاَتِ اللَّهْوِ كُلِّهَا، وَهُوَ أَيْضًا قَوْلٌ ضَعِيفٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، مُقَيَّدٌ بِأَنْ يُمْكِنَ اعْتِبَارُ مُكَسَّرِهَا مَالاً، فَفِيهَا نَفْعٌ مُتَوَقَّعٌ عِنْدَئِذٍ (4) .
وَفِي الْوَقْتِ الَّذِي يَرَى الصَّاحِبَانِ أَنَّ آلاَتِ اللَّهْوِ مُعَدَّةٌ لِلْمَعْصِيَةِ، مَوْضُوعَةٌ لِلْفِسْقِ وَالْفَسَادِ
- كَمَا هُوَ تَعْبِيرُ الْكَاسَانِيِّ - فَلاَ تَكُونُ أَمْوَالاً فَيَبْطُل تَقَوُّمُهَا، كَالْخَمْرِ. يَرَى أَبُو حَنِيفَةَ أَنَّهَا أَمْوَالٌ لِصَلاَحِيَتِهَا لِمَا يَحِل مِنْ وُجُوهِ الاِنْتِفَاعِ، بِأَنْ تُجْعَل ظُرُوفًا لأَِشْيَاءَ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْمَصَالِحِ، وَإِنْ صَلَحَتْ لِمَا لاَ يَحِل فَصَارَتْ كَالأَْمَةِ الْمُغَنِّيَةِ،
__________
(1) شرح المحلي على المنهاج 2 / 158، وشرح المنهج بحاشية الجمل 3 / 27.
(2) المغني 5 / 445، 446، وانظر كشاف القناع 3 / 155.
(3) الدر المختار 5 / 135، وتحفة المحتاج 4 / 239.
(4) شرح المحلي على المنهاج 2 / 158.(9/157)
وَهَذَا لأَِنَّ الْفَسَادَ بِفِعْل فَاعِلٍ مُخْتَارٍ، فَلاَ يُوجِبُ سُقُوطَ التَّقَوُّمِ. وَجَوَازُ الْبَيْعِ مُرَتَّبٌ عَلَى الْمَالِيَّةِ وَالتَّقَوُّمِ (1) .
بَيْعُ الأَْصْنَامِ وَنَحْوِهَا:
20 - الْخِلاَفُ الْمَارُّ بَيْنَ الْجُمْهُورِ وَبَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ فِي بَيْعِ آلاَتِ اللَّهْوِ، جَارٍ هُنَا فِي بَيْعِ الأَْصْنَامِ.
وَدَلِيل الْجُمْهُورِ عَلَى التَّحْرِيمِ انْتِقَاءُ الْمَنْفَعَةِ الْمُبَاحَةِ شَرْعًا، وَنَصُّ حَدِيثِ جَابِرٍ مَرْفُوعًا {إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالأَْصْنَامِ} (2) .
وَدَلِيل أَبِي حَنِيفَةَ وَالْقِلَّةِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى الْجَوَازِ: الاِنْتِفَاعُ بِهَا بَعْدَ الْكَسْرِ، فَنَفْعُهَا مُتَوَقَّعٌ، فَوُجِدَتِ الْمَالِيَّةُ وَالتَّقَوُّمُ فِي الْمَال، وَجَوَازُ الْبَيْعِ مُرَتَّبٌ عَلَيْهِمَا.
وَقَدْ صَرَّحَ الرَّافِعِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ بِأَنَّ الْوَجْهَيْنِ يَجْرِيَانِ فِي الأَْصْنَامِ وَالصُّوَرِ (3) ، وَكَذَا الشَّوْكَانِيُّ (4)
وَفِيمَا يَلِي بَعْضُ مَا يُلْحَقُ بِالأَْصْنَامِ مَعَ بَعْضِ أَحْكَامِهَا:
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 144، والهداية بشروحها 8 / 293 بتصرف وإيجاز.
(2) حديث " إن الله حرم بيع الخمر والميتة. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 424 ط السلفية) من حديث جابر بن عبد الله.
(3) حاشية عميرة على شرح المحلي 2 / 158.
(4) نيل الأوطار 8 / 143 أول كتاب البيوع.(9/158)
نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ بَيْعُ الصُّوَرِ وَالصُّلْبَانِ، وَلِلْحَنَفِيَّةِ قَوْلاَنِ فِي الصُّوَرِ لِلصِّغَارِ صِحَّةً وَضَمَانًا (1) .
وَنَصُّوا عَلَى صِحَّةِ بَيْعِ النَّقْدِ الَّذِي عَلَيْهِ صُوَرٌ، وَعَلَّلُوهُ بِأَنَّهَا غَيْرُ مَقْصُودَةٍ مِنْهُ بِوَجْهٍ مَا (2) .
وَتَرَدَّدُوا فِي الصَّلِيبِ الْمُتَّخَذِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، هَل يُلْحَقُ بِالأَْصْنَامِ، أَوْ بِالنَّقْدِ الَّذِي عَلَيْهِ صُوَرٌ؟
(أ) فَرَجَّحُوا إِلْحَاقَهُ بِالصَّنَمِ إِذَا أُرِيدَ بِهِ مَا هُوَ مِنْ شِعَارِهِمُ الْمَخْصُوصِ بِتَعْظِيمِهِمْ.
(ب) وَرَجَّحُوا إِلْحَاقَهُ بِالنَّقْدِ الَّذِي عَلَيْهِ صُوَرٌ إِنْ أُرِيدَ بِهِ ابْتِذَالُهُ بِالاِسْتِعْمَال (3) .
الشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَنْ يَلِيَ الْبَيْعَ الْمَالِكُ أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ.
21 - نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مِنْ شُرُوطِ انْعِقَادِ الْبَيْعِ: أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ مَمْلُوكًا لِلْبَائِعِ أَوْ مُوَكِّلِهِ أَوْ مُوَلِّيهِ، وَهَذَا إِذَا كَانَ الْعَاقِدُ يَبِيعُ بِالأَْصَالَةِ أَوِ النِّيَابَةِ. أَمَّا إِذَا كَانَ فُضُولِيًّا بِأَنْ يُصَرِّحَ أَنَّهُ يَبِيعُ مِلْكَ غَيْرِهِ دُونَ إِذْنٍ، فَلاَ يَكُونُ شَرْطَ انْعِقَادٍ عِنْدَ مَنْ أَجَازَ بَيْعَ الْفُضُولِيِّ، وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (بَيْعُ الْفُضُولِيِّ) .
__________
(1) حاشية القليوبي 2 / 158، ورد المحتار 1 / 437.
(2) تحفة المحتاج 4 / 239.
(3) المرجع السابق، وقارن بحاشية القليوبي 2 / 158.(9/158)
وَدَلِيل هَذَا الشَّرْطِ مَا رُوِيَ {عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَال: قُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ: يَأْتِينِي الرَّجُل يَسْأَلُنِي الْبَيْعَ، لَيْسَ عِنْدِي مَا أَبِيعُهُ، ثُمَّ أَبْتَاعُهُ مِنَ السُّوقِ، فَقَال: لاَ تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ} (1) .
قَالُوا: الْمُرَادُ مَا لَيْسَ فِي مِلْكِكَ وَقُدْرَتِكَ.
وَقَال الْبَغَوِيُّ: النَّهْيُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ بُيُوعِ الأَْعْيَانِ الَّتِي لاَ يَمْلِكُهَا (2) .
وَمَا رُوِيَ أَيْضًا فِي الْحَدِيثِ: {نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الإِْنْسَانِ، وَرَخَّصَ فِي السَّلَمِ} (3) .
وَلأَِنَّ الْبَيْعَ تَمْلِيكٌ، فَلاَ يَنْعَقِدُ فِيمَا لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ (4) .
وَبِنَاءً عَلَيْهِ: لاَ يَنْعَقِدُ بَيْعُ الْكَلأَِ فِي مَنَابِتِهِ، وَلَوْ كَانَ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ، لأَِنَّهُ مُبَاحٌ بِالنَّصِّ،
__________
(1) حديث: " لا تبع ما ليس عندك " أخرجه الترمذي وحسنه من حديث حكيم بن حزام (تحفة الأحوذي 4 / 430 نشر المكتبة السلفية بالمدينة المنورة) .
(2) نيل الأوطار 5 / 155 ط العثمانية.
(3) حديث: " نهى عن بيع ما ليس عند الإنسان، ورخص في السلم "، هو مركب من حديثين: الأول " لا تبع ما ليس عندك " أخرجه الترمذي من حديث حكيم بن حزام وحسنه (تحفة الأحوذي 4 / 430 ط السلفية بالمدينة المنورة) . وأما ترخيصه في السلم فقد ورد في صحيح البخاري (فتح الباري 4 / 428 ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1227 ط عيسى الحلبي) من حديث: ابن عباس.
(4) بدائع الصنائع 5 / 146.(9/159)
وَكَذَلِكَ الْمَاءُ فِي مَنَابِعِهِ مَا لَمْ يُحْرَزْ، وَذَلِكَ لِحَدِيثِ: {الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ فِي ثَلاَثٍ: فِي الْمَاءِ وَالْكَلأَِ وَالنَّارِ} (1) وَكَذَا الطَّيْرُ فِي الْهَوَاءِ، وَالسَّمَكُ فِي الْمَاءِ، كُل ذَلِكَ لاَ يَنْعَقِدُ بَيْعُهُ، لاِنْعِدَامِ سَبَبِ الْمِلْكِ فِيهِ، وَهُوَ الإِْحْرَازُ (2) .
فَإِذَا جُمِعَ الْكَلأَُ، وَصِيدَ الطَّيْرُ وَالسَّمَكُ، وَحُمِل الْمَاءُ مِنَ الْيَنَابِيعِ وَالأَْنْهَارِ الْعَامَّةِ مُلِكَ، وَجَازَ بَيْعُهُ. وَفِي هَذَا يُرْوَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {نَهَى عَنْ بَيْعِ الْمَاءِ إِلاَّ مَا حُمِل مِنْهُ} (3) .
وَنَذْكُرُ هُنَا فُرُوعًا فِقْهِيَّةً تَطْبِيقِيَّةً لِهَذَا الشَّرْطِ:
أ - بَيْعُ الْفُضُولِيِّ:
22 - وَهُوَ مَنْ لَيْسَ بِوَكِيلٍ وَلاَ وَلِيٍّ عَنِ الْمَالِكِ، وَكَذَا سَائِرُ عُقُودِهِ:
__________
(1) حديث " المسلمون شركاء في ثلاث. . . " أخرجه أبو داود (3 / 751 تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث رجل من المهاجرين وإسناده صحيح (التلخيص لابن حجر 3 / 65 ط شركة الطباعة الفنية) .
(2) بدائع الصنائع 5 / 146، والدر المختار 4 / 106، 107، وكشاف القناع 3 / 160، 161.
(3) كشاف القناع 3 / 160، 161. وحديث " نهى عن بيع الماء إلا ما حمل منه. . . " أخرجه أبو عبيد القاسم بن سلام في الأحوال ص 302 ط مطبعة عبد اللطيف حجازي عن عبد الله بن أبي بكر بن أبي مريم عن مشيخته، وفي إسناده جهالة بعض الرواة (الميزان للذهبي 4 / 498 ط عيسى الحلبي) وروى مسلم عن جابر قال: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع فضل الماء. . . " (صحيح مسلم 3 / 1197 ط عيسى الحلبي) .(9/159)
- فَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ، وَالشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ: أَنَّهُ بَاطِلٌ، وَإِنْ أَجَازَهُ الْمَالِكُ بَعْدَ ذَلِكَ. لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ سَابِقًا {لاَ تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ} (1) وَلأَِنَّهُ تَمْلِيكُ مَا لاَ يَمْلِكُ، وَبَيْعُ مَا لاَ يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ، فَأَشْبَهَ بَيْعَ الطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ (2) .
- وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ، وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَيْضًا: أَنَّ هَذَا الْعَقْدَ صَحِيحٌ مَوْقُوفٌ عَلَى إِجَارَةِ الْمَالِكِ، فَإِنْ أَجَازَهُ نَفَذَ وَلَزِمَ الْبَيْعُ، وَإِنْ لَمْ يُجِزْهُ وَرَدَّهُ بَطَل. وَذَلِكَ لإِِطْلاَقَاتِ النُّصُوصِ فِي حِل الْبَيْعِ، مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ بَيْنَ الأَْصِيل وَالْوَكِيل، ابْتِدَاءً أَوْ بَقَاءً وَانْتِهَاءً. وَلِحَدِيثِ {عُرْوَةَ بْنِ الْجَعْدِ الْبَارِقِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَاهُ دِينَارًا لِيَشْتَرِيَ بِهِ شَاةً، فَاشْتَرَى بِهِ شَاتَيْنِ، فَبَاعَ إِحْدَاهُمَا بِدِينَارٍ، ثُمَّ عَادَ بِالدِّينَارِ وَالشَّاةِ، فَدَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ فِي بَيْعِهِ} ، وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قَال لَهُ: {بَارَكَ اللَّهُ فِي صَفْقَةِ يَمِينِكَ} (3) . وَتَفْصِيل الْكَلاَمِ عَنْ بَيْعِ الْفُضُولِيِّ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِهِ.
وَبِنَاءً عَلَى هَذَا الشَّرْطِ صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِبُطْلاَنِ
__________
(1) حديث " لا تبع ما ليس عندك " تقدم تخريجه (ف 21) .
(2) تحفة المحتاج 4 / 246، 247، والشرح الكبير في ذيل المغني 4 / 16.
(3) بدائع الصنائع 5 / 149، والشرح الكبير للدردير 3 / 12، وشرح المحلي على المنهاج 2 / 160، وكشاف القناع 3 / 157. وحديث عروة البارقي " بارك الله في صفقة يمينك. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 6 / 32 ط السلفية) .(9/160)
بَيْعِ مَا يَلِي:
(1) بَيْعُ الْوَقْفِ: وَقَدْ صَرَّحُوا بِبُطْلاَنِهِ، حَتَّى الْحَنَفِيَّةُ، وَقَالُوا: إِنَّهُ بَاطِلٌ لاَ فَاسِدٌ، فَلاَ يُمْلَكُ بِالْقَبْضِ (1) (ر مُصْطَلَحُ: وَقْف)
(2) - بَيْعُ أَرَاضِي بَيْتِ الْمَال: فَقَدْ قَرَّرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهَا تَجْرِي عَلَى رَقَبَتِهَا أَحْكَامُ الْوُقُوفِ الْمُؤَبَّدَةِ (ر مُصْطَلَحُ: أَرْض) وَأَرَاضِي الْجِزَى (ر مُصْطَلَحُ: جِزْيَة) .
(3) بَيْعُ الْمَسَاجِدِ، وَرِبَاعُ مَكَّةَ، وَالْحَرَمِ، وَبِقَاعِ الْمَنَاسِكِ (2) عَلَى خِلاَفٍ وَتَفْصِيلٍ فِي بَعْضِ ذَلِكَ. ر مُصْطَلَحَاتِ: (مَسْجِد، حَرَم، مَكَّة) .
(4) الْمَعَادِنُ الْجَارِيَةُ وَالْجَامِدَةُ، فِي الأَْرَاضِيِ الْمَمْلُوكَةِ وَالْمُحَيَّاةِ. وَخِلاَفُ الْفُقَهَاءِ مَعْرُوفٌ فِي جَوَازِ بَيْعِهَا. ر مُصْطَلَحُ: (أَرْض، مَعْدِن، إِحْيَاء) .
(5) ضَرْبَةُ الْغَائِصِ:
23 - الْغَائِصُ: مَنْ يَغُوصُ لاِسْتِخْرَاجِ اللآَّلِئِ مِنَ الْبَحْرِ، يَقُول: أَغُوصُ غَوْصَةً، فَمَا أَخْرَجْتُهُ مِنَ اللآَّلِئِ فَهُوَ لَكَ بِكَذَا. وَمِثْلُهُ الْقَانِصُ، وَهُوَ الصَّائِدُ، يَقُول: بِعْتُكَ مَا يَخْرُجُ مِنْ إِلْقَاءِ هَذِهِ الشَّبَكَةِ مَرَّةً، بِكَذَا (3) .
وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار 3 / 394.
(2) بدائع الصنائع 5 / 146، وكشاف القناع 3 / 160.
(3) الدر المختار ورد المحتار 6 / 109، وانظر الهداية وشروحها 6 / 53.(9/160)
قَال: {نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شِرَاءِ مَا فِي بُطُونِ الأَْنْعَامِ حَتَّى تَضَعَ، وَعَنْ بَيْعِ مَا فِي ضُرُوعِهَا إِلاَّ بِكَيْلٍ، وَعَنْ شِرَاءِ الْعَبْدِ وَهُوَ آبِقٌ، وَعَنْ شِرَاءِ الْمَغَانِمِ حَتَّى تُقْسَمَ، وَعَنْ شِرَاءِ الصَّدَقَاتِ حَتَّى تُقْبَضَ، وَعَنْ ضَرْبَةِ الْغَائِصِ} (1) .
وَلاَ يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي فَسَادِ هَذَا الْبَيْعِ، لأَِنَّهُ بَيْعُ مَعْدُومٍ، وَبَيْعُ مَا لَمْ يُمْلَكْ، وَبَيْعُ مَجْهُولٍ، وَبَيْعُ غَرَرٍ.
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِبُطْلاَنِهِ. وَنَصَّ ابْنُ الْهُمَامِ عَلَى أَنَّهُ بَيْعٌ بَاطِلٌ، لِعَدَمِ مِلْكِ الْبَائِعِ الْمَبِيعَ قَبْل الْعَقْدِ، فَكَانَ غَرَرًا، وَلِجَهَالَةِ مَا يَخْرُجُ (2) .
وَكَذَلِكَ الْحَصْكَفِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَعَلَّل الْبُطْلاَنَ بِأَنَّهُ بَيْعُ مَا لَيْسَ فِي مِلْكِهِ (3)
(6) بَيْعُ الصَّدَقَةِ وَالْهِبَةِ قَبْل الْقَبْضِ:
24 - جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ يَشْتَرِطُونَ الْقَبْضَ فِي التَّبَرُّعَاتِ، كَالصَّدَقَةِ وَنَحْوِهَا، فَمَا لَمْ تُقْبَضْ لاَ تَلْزَمُ وَلاَ تُفِيدُ الْمِلْكَ، فَلاَ يَجُوزُ بَيْعُهَا قَبْل " قَبْضِهَا، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ {النَّهْيُ عَنْ شِرَاءِ
__________
(1) حديث " نهى عن شراء ما في بطون الأنعام. . " جزء من حديث أخرجه ابن ماجه (3 / 740 ط عيسى الحلبي) من حديث أبي سعيد الخدري، ونقل الزيلعي عن عبد الحق الأشبيلي أنه قال: إسناده لا يحتج به. (نصب الراية 4 / 15 ط المجلس العلمي بالهند) .
(2) فتح القدير 6 / 53.
(3) الدر المختار 4 / 109، وانظر تبيين الحقائق 4 / 47.(9/161)
الصَّدَقَاتِ حَتَّى تُقْبَضَ} (1) وَذَلِكَ لِعَدَمِ الْمِلْكِ.
وَهَذَا خِلاَفًا لِلْمَشْهُورِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَآخَرِينَ، وَالْمَرْوِيُّ عَنْ أَحْمَدَ فِي غَيْرِ الْمَكِيلاَتِ وَالْمَوْزُونَاتِ، مِنَ اللُّزُومِ قَبْل الْقَبْضِ، وَإِنَّمَا الْقَبْضُ شَرْطُ تَمَامٍ - كَمَا يَقُول الْمَالِكِيَّةُ - لاَ شَرْطُ صِحَّةٍ، وَالاِنْعِقَادُ وَاللُّزُومُ بِالْقَوْل. وَلِذَلِكَ يَجُوزُ بَيْعُهَا قَبْل قَبْضِهَا لِثُبُوتِ الْمِلْكِ فِيهَا، خِلاَفًا لِمَا مُلِكَ بِالْمُعَاوَضَةِ وَلَمْ يُقْبَضْ فَلاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ، كَمَا سَيَأْتِي عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ.
(7) بَيْعُ الْغَنِيمَةِ قَبْل الْقَسْمِ:
25 - مِمَّا يَتَّصِل بِبَيْعِ مَا لَمْ يُمْلَكْ، مَسْأَلَةُ بَيْعِ الْمُجَاهِدِ نَصِيبَهُ مِنَ الْغَنِيمَةِ، قَبْل أَنْ يَقْسِمَهُ لَهُ الإِْمَامُ (2) .
وَقَدْ وَرَدَ النَّصُّ بِهَا فِي خُصُوصِهَا فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: {نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شِرَاءِ مَا فِي بُطُونِ الأَْنْعَامِ. . وَعَنْ شِرَاءِ الْمَغَانِمِ حَتَّى تُقْسَمَ} (3) الْحَدِيثَ وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
__________
(1) حديث: " النهي عن شراء الصدقات حتى تقبض. . . " سبق تخريجه (ف 27) .
(2) بدائع الصنائع 6 / 123، والجمل على شرح المنهج 3 / 598، والإنصاف 7 / 119 - 220. وانظر القوانين الفقهية 170، 171، 242، والشرح الكبير للدردير 4 / 101، والدسوقي 3 / 151، 152.
(3) حديث أبي سعيد " نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن شراء ما في بطون الأنعام " سبق تخريجه (ف 27) .(9/161)
قَال: {نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الْغَنَائِمِ حَتَّى تُقْسَمَ} (1) .
وَيَرَى الْفُقَهَاءُ إِبَاحَةَ أَخْذِ الأَْطْعِمَةِ وَنَحْوِهَا مِنَ الأَْقْوَاتِ مِنَ الْغَنَائِمِ قَبْل قِسْمَتِهَا لِلْحَاجَةِ بِوَجْهٍ عَامٍّ، وَلَمْ يُبِيحُوا تَمَلُّكَهَا، وَلاَ تَمَوُّلَهَا - كَمَا عَبَّرَ الْحَصْكَفِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ - فَدَل هَذَا عَلَى مَنْعِ الْبَيْعِ، وَلِذَلِكَ بَحَثُوا حُكْمَ بَيْعِهَا عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنِ الاِنْتِفَاعِ بِهَا.
26 - فَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ بَيْعُ شَيْءٍ مِنَ الْمَذْكُورَاتِ قَبْل الْقِسْمَةِ أَصْلاً، وَلَوْ كَانَ لِحَاجَةٍ، وَذَلِكَ لِعَدَمِ الْمِلْكِ؛ لأَِنَّ الْغَنَائِمَ لاَ تُمْلَكُ قَبْل الْقِسْمَةِ، وَإِنَّمَا أُبِيحَ الاِنْتِفَاعُ لِلْحَاجَةِ، وَالْمُبَاحُ لاَ يُمْلَكُ بِالْبَيْعِ، وَهَذَا نَصُّ الْمَرْغِينَانِيِّ فِي بِدَايَتِهِ: وَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ الْغَنَائِمِ قَبْل الْقِسْمَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ (2) .
فَلَوْ بَاعَ شَيْئًا مِنَ الْمَذْكُورَاتِ الْمُبَاحَةِ لَهُ، كَانَ بَيْعُهُ فُضُولِيًّا عِنْدَهُمْ، فَإِنْ أَجَازَهُ الإِْمَامُ رَدَّ ثَمَنَهُ إِلَى الْمَغَانِمِ، فَإِنْ كَانَتِ الْمَغَانِمُ قَدْ قُسِمَتْ تَصَدَّقَ بِالثَّمَنِ إِنْ كَانَ غَيْرَ فَقِيرٍ، لأَِنَّهُ لِقِلَّتِهِ لاَ يُمْكِنُ قِسْمَتُهُ، فَتَعَذَّرَ إِيصَالُهُ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ، فَيُتَصَدَّقُ بِهِ كَاللُّقَطَةِ. وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا أَكَلَهُ (3) .
__________
(1) حديث ابن عباس " نهى عن بيع الغنائم حتى تقسم. . . " جزء من الحديث المتقدم (ف 27) .
(2) انظر الهداية شرح البداية بشروحها 5 / 227، وانظر الدر المختار ورد المحتار 3 / 233.
(3) الدر المختار ورد المحتار 3 / 232، وانظر الهداية بشروحها 5 / 227.(9/162)
27 - وَالْمَالِكِيَّةُ قَالُوا: يَجُوزُ - مَعَ - الْكَرَاهَةِ - مُبَادَلَةُ الطَّعَامِ بِمِثْلِهِ أَوْ غَيْرِهِ، وَلَوْ بِتَفَاضُلٍ أَوْ تَأْخِيرٍ فِي الطَّعَامِ الرِّبَوِيِّ الْمُتَّحِدِ الْجِنْسِ (1) .
28 - وَالشَّافِعِيَّةُ خَالَفُوا فِي ذَلِكَ، وَقَرَّرُوا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ صَرْفُ الطَّعَامِ إِلَى حَاجَةٍ أُخْرَى، بَدَلاً عَنْ طَعَامِهِ، وَأَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لَهُ إِلاَّ أَكْلَهُ فَقَطْ، لأَِنَّهُ عَلَى سَبِيل الإِْبَاحَةِ لاَ التَّمْلِيكِ (2) .
وَهَذَا كَالنَّصِّ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الْبَيْعِ.
هَذَا مَا قَالَهُ الشَّافِعِيَّةُ فِي بَحْثِ الْغَنَائِمِ، لَكِنْ فِي بَحْثِ حُكْمِ بَيْعِ الْمَبِيعِ قَبْل قَبْضِهِ، قَرَّرُوا خِلاَفَهُ. وَلِمَا قَرَّرَ النَّوَوِيُّ فِي مِنْهَاجِهِ أَنَّ الشَّخْصَ لَهُ بَيْعُ مَا لَهُ فِي يَدِ غَيْرِهِ أَمَانَةً، كَوَدِيعَةٍ وَمُشْتَرَكٍ وَقِرَاضٍ، وَمَرْهُونٍ بَعْدَ انْفِكَاكِهِ، عَلَّقَ الْقَلْيُوبِيُّ عَلَى قَوْلَةِ: " كَوَدِيعَةٍ " بِمَا نَصُّهُ: وَمُثْلَةُ غَلَّةُ وَقْفٍ وَغَنِيمَةٍ، فَلأَِحَدِ الْمُسْتَحِقِّينَ أَوِ الْغَانِمِينَ، بَيْعُ حِصَّتِهِ قَبْل إِفْرَازِهَا. قَالَهُ شَيْخُنَا. بِخِلاَفِ حِصَّتِهِ مِنْ بَيْتِ الْمَال، فَلاَ يَصِحُّ بَيْعُهَا قَبْل إِفْرَازِهَا وَرُؤْيَتِهَا، وَاكْتَفَى بَعْضُ مَشَايِخِنَا بِالإِْفْرَازِ فَقَطْ، وَلَوْ مَعَ غَيْرِهِ (3) .
فَكَلاَمُ الْقَلْيُوبِيِّ هُنَا، نَقْلاً عَنْ شَيْخِهِ، يُخَالِفُ مَا تَقَدَّمَ، مِنْ أَنَّ لَهُ الأَْخْذَ عَلَى سَبِيل الإِْبَاحَةِ لاَ التَّمْلِيكِ.
__________
(1) شرح الخرشي 3 / 136، وانظر الشرح الكبير للدردير 2 / 194.
(2) شرح المحلي على المنهاج وحاشية القليوبي عليه 4 / 223.
(3) المرجع السابق نفسه 2 / 213.(9/162)
فَيَبْدُو أَنَّ هَذَا بِنَاءً عَلَى أَحَدِ أَقْوَالٍ ثَلاَثَةٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي مِلْكِ الْغَنِيمَةِ قَبْل الْقِسْمَةِ:
أَوَّلُهَا: أَنَّهَا لاَ تُمْلَكُ إِلاَّ بِالْقِسْمَةِ، لَكِنْ لاَ بِمُجَرَّدِهَا، بَل إِنْ قَبِل مَا أُحْرِزَ لَهُ أَوْ رَضِيَ بِهِ؛ لأَِنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ اخْتِيَارُ التَّمَلُّكِ، وَلاَ بُدَّ مِنَ اللَّفْظِ بِأَنْ يَقُول: اخْتَرْتُ مِلْكَ نَصِيبِي. وَهَذَا هُوَ الْقَوْل الْمُعْتَمَدُ عِنْدَهُمْ.
الثَّانِي: وَقِيل يَمْلِكُونَ قَبْل الْقِسْمَةِ بِالاِسْتِيلاَءِ مِلْكًا ضَعِيفًا يَسْقُطُ بِالإِْعْرَاضِ، وَوَجَّهَ هَذَا الشَّيْخُ عَمِيرَةُ الْبُرُلُّسِيُّ: بِأَنَّ مِلْكَ الْكُفَّارِ قَدْ زَال، وَبَعِيدٌ بَقَاؤُهُ بِلاَ مَالِكٍ.
الثَّالِثُ: إِنْ سَلِمَتِ الْغَنِيمَةُ إِلَى الْقِسْمَةِ، بَانَ (أَيْ ظَهَرَ مِلْكُهُمْ) بِالاِسْتِيلاَءِ، وَإِلاَّ بِأَنْ تَلِفَتْ أَوْ أَعْرَضُوا فَلاَ مِلْكَ لَهُمْ (1) .
فَيَبْدُو أَنَّ صِحَّةَ الْبَيْعِ عِنْدَ شَيْخِ الْقَلْيُوبِيِّ قَبْل الْقِسْمَةِ، بِنَاءً عَلَى غَيْرِ الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ.
29 - أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ نَصَّ الْخِرَقِيُّ مِنْهُمْ عَلَى أَنَّ مَنْ تُعْلَفُ فَضْلاً عَمَّا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ، رَدَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ بَاعَهُ رَدَّ ثَمَنَهُ فِي الْمُقْسَمِ (2) .
وَعَلَّلُوا وُجُوبَ رَدِّ مَنْ فَضَل مَعَهُ طَعَامٌ كَثِيرٌ مِنَ الْغَنَائِمِ وَأَدْخَلَهُ الْبَلَدَ، إِلَى مُقَسِّمِ تِلْكَ الْغَزْوَةِ بِأَنَّهُ: أَخَذَ مَا لاَ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، فَيَلْزَمُهُ رَدُّهُ،
__________
(1) شرح المحلي على المنهاج وحاشيتي القليوبي وعميرة عليه 4 / 224.
(2) المغني 10 / 487.(9/163)
لأَِنَّ الأَْصْل تَحْرِيمُهُ، لِكَوْنِهِ مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْغَانِمِينَ، كَسَائِرِ الْمَال، وَإِنَّمَا أُبِيحَ مِنْهُ مَا دَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ، فَمَا زَادَ يَبْقَى عَلَى أَصْل التَّحْرِيمِ، وَلِهَذَا لَمْ يُبَحْ بَيْعُهُ (1) .
وَرَوَوْا فِي ذَلِكَ هَذَا الأَْثَرَ، وَهُوَ: أَنَّ صَاحِبَ جَيْشِ الشَّامِ كَتَبَ إِلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّا أَصَبْنَا أَرْضًا كَثِيرَةَ الطَّعَامِ وَالْعَلَفِ، وَكَرِهْتُ أَنْ أَتَقَدَّمَ فِي شَيْءٍ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ: دَعِ النَّاسَ يَعْلِفُونَ وَيَأْكُلُونَ، فَمَنْ بَاعَ مِنْهُمْ شَيْئًا بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، فَفِيهِ خُمُسٌ لِلَّهِ وَسِهَامُ الْمُسْلِمِينَ (2)
وَفَصَّل الْقَاضِي مِنْ أَئِمَّتِهِمْ تَفْصِيلاً دَقِيقًا، فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَقَدِ ارْتَضَوْهُ، فَقَال: لاَ يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَبِيعَهُ مِنْ غَازٍ أَوْ غَيْرِهِ.
- فَإِنْ بَاعَهُ لِغَيْرِهِ، فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ، لأَِنَّهُ يَبِيعُ مَال الْغَنِيمَةِ بِغَيْرِ وِلاَيَةٍ وَلاَ نِيَابَةٍ، فَيَجِبُ رَدُّ الْمَبِيعِ، وَنَقْضُ الْبَيْعِ. فَإِنْ تَعَذَّرَ رَدُّهُ، رَدَّ قِيمَتَهُ أَوْ ثَمَنَهُ، إِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ إِلَى الْمَغْنَمِ.
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ حُمِل كَلاَمُ الْخِرَقِيِّ
- وَإِنْ بَاعَهُ لِغَازٍ لَمْ يَحِل، إِلاَّ أَنْ يُبَدِّلَهُ بِطَعَامٍ أَوْ عَلَفٍ، مِمَّا لَهُ الاِنْتِفَاعُ بِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
__________
(1) المرجع السابق نفسه 10 / 487، والشرح الكبير في ذيله 10 / 472.
(2) المغني 10 / 488 وقال: رواه سعيد.(9/163)
- فَإِنْ بَاعَهُ بِمِثْلِهِ، فَلَيْسَ هَذَا بَيْعًا فِي الْحَقِيقَةِ، إِنَّمَا سَلَّمَ إِلَيْهِ مُبَاحًا وَأَخَذَ مِثْلَهُ مُبَاحًا، وَلِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا الاِنْتِفَاعُ بِمَا أَخَذَ، وَصَارَ أَحَقَّ بِهِ، لِثُبُوتِ يَدِهِ عَلَيْهِ.
فَعَلَى هَذَا لَوْ بَاعَ صَاعًا بِصَاعَيْنِ، وَافْتَرَقَا قَبْل الْقَبْضِ جَازَ، لأَِنَّهُ لَيْسَ بِبَيْعٍ. وَإِنْ بَاعَهُ نَسِيئَةً، أَوْ أَقْرَضَهُ إِيَّاهُ فَأَخَذَهُ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، وَلاَ يَلْزَمُهُ إِيفَاؤُهُ، فَإِنْ وَفَّاهُ أَوْ رَدَّهُ إِلَيْهِ، عَادَتِ الْيَدُ إِلَيْهِ.
- وَإِنْ بَاعَهُ بِغَيْرِ الطَّعَامِ وَالْعَلَفِ، فَالْبَيْعُ أَيْضًا غَيْرُ صَحِيحٍ، وَيَصِيرُ الْمُشْتَرِي أَحَقَّ بِهِ، لِثُبُوتِ يَدِهِ عَلَيْهِ، وَلاَ ثَمَنَ عَلَيْهِ. وَإِنْ أَخَذَ مِنْهُ وَجَبَ رَدُّهُ إِلَيْهِ (1) .
30 - وَمِنْ هَذَا يَتَّضِحُ أَنَّ الاِتِّجَاهَ الْعَامَّ فِي الْفِقْهِ
- بِغَضِّ النَّظَرِ عَمَّا رُوِيَ مِنْ قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَعَنْ حَال مُبَادَلَةِ الطَّعَامِ بِالْمِثْل وَغَيْرِهِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ - هُوَ عَدَمُ جَوَازِ بَيْعِ الْمَغَانِمِ قَبْل الْقِسْمَةِ، كَمَا هُوَ نَصُّ الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ، الَّذِي نَهَى عَنْ شِرَاءِ الْمَغَانِمِ حَتَّى تُقْسَمَ.
وَفِي هَذَا يَقُول الشَّوْكَانِيُّ: مُقْتَضَى النَّهْيِ عَدَمُ صِحَّةِ بَيْعِهَا قَبْل الْقِسْمَةِ، لأَِنَّهُ لاَ مِلْكَ - عَلَى مَا هُوَ الأَْظْهَرُ مِنْ قَوْل الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ - لأَِحَدٍ مِنَ الْغَانِمِينَ قَبْلَهَا، فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ أَكْل أَمْوَال النَّاسِ بِالْبَاطِل (2) .
__________
(1) المغني 10 / 489، والشرح الكبير في ذيله 10 / 469.
(2) نيل الأوطار 5 / 149، 150.(9/164)
31 - هَذَا حُكْمُ بَيْعِ الْغُزَاةِ الْغَانِمِينَ أَنْصِبَتَهُمْ وَمَا يَأْخُذُونَهُ مِنَ الْغَنَائِمِ، قَبْل الْقِسْمَةِ.
أَمَّا حُكْمُ بَيْعِ الإِْمَامِ الْغَنَائِمَ قَبْل الْقِسْمَةِ، فَقَدْ عَرَضَ لَهُ الْحَنَفِيَّةُ فَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ يَصِحُّ.
لأَِنَّهُ مُجْتَهِدٌ فِيهِ، يَعْنِي أَنَّهُ لاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ الإِْمَامُ رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي ذَلِكَ، وَأَقَلُّهَا تَخْفِيفُ إِكْرَاهِ الْحَمْل عَلَى النَّاسِ، أَوْ عَنِ الْبَهَائِمِ وَنَحْوِهِ، وَتَخْفِيفُ مُؤْنَتِهِ عَنْهُمْ، فَيَقَعُ عَنِ اجْتِهَادٍ فِي الْمَصْلَحَةِ، فَلاَ يَقَعُ جُزَافًا، فَيَنْعَقِدُ بِلاَ كَرَاهَةٍ مُطْلَقًا (1) .
كَمَا عَرَضَ لَهُ الْمَالِكِيَّةُ أَيْضًا، وَلَهُمْ فِيهِ قَوْلاَنِ:
الأَْوَّل: وُجُوبُ بَيْعِ الإِْمَامِ الأَْرْبَعَةَ الأَْخْمَاسَ مِنَ الْغَنَائِمِ، لِيَقْسِمَهَا بَيْنَ الْمُجَاهِدِينَ؛ لأَِنَّ قِسْمَةَ الأَْثْمَانِ أَقْرَبُ إِلَى الْمُسَاوَاةِ، لِمَا يَدْخُل التَّقْوِيمَ مِنَ الْخَطَأِ.
الآْخَرُ: عَدَمُ الْوُجُوبِ، بَل الإِْمَامُ مُخَيَّرٌ، فَإِنْ شَاءَ بَاعَ وَقَسَمَ الثَّمَنَ، وَإِنْ شَاءَ قَسَمَ الأَْعْيَانَ بِحَسَبِ مَا يَرَاهُ مِنَ الْمَصْلَحَةِ (2) .
الشَّرْطُ الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ مَقْدُورَ التَّسْلِيمِ.
32 - نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مِنْ شُرُوطِ الْمَبِيعِ كَوْنَهُ مَقْدُورَ التَّسْلِيمِ
__________
(1) فتح القدير 5 / 227.
(2) شرح الخرشي 3 / 136، وانظر الشرح الكبير للدردير 2 / 194، والقوانين الفقهية 100.(9/164)
بَعْدَ اشْتِرَاطِ كَوْنِهِ مَمْلُوكًا. فَقَدْ يَمْلِكُ الإِْنْسَانُ مَالاً، وَلاَ يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ كَالْجَمَل الَّذِي شَرَدَ مِنْ صَاحِبِهِ، فَلاَ يَصِحُّ بَيْعُهُ فِي هَذِهِ الْحَال، لأَِنَّ مَا لاَ يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ شَبِيهٌ بِالْمَعْدُومِ، وَالْمَعْدُومُ لاَ يَصِحُّ بَيْعُهُ - كَمَا تَقَدَّمَ (1) - فَكَذَا مَا أَشْبَهَهُ.
وَمِمَّا يُمَثِّل بَيْعَ غَيْرِ مَقْدُورِ التَّسْلِيمِ: السَّمَكُ إِذَا وَقَعَ فِي الْبَحْرِ بَعْدَ امْتِلاَكِهِ، وَالطَّيْرُ الْمَمْلُوكُ إِذَا طَارَ فِي الْهَوَاءِ، وَالصَّيْدُ إِذَا انْفَلَتَ بَعْدَ صَيْدِهِ، وَمِنْهُ بَيْعُ الْعَبْدِ الآْبِقِ وَالشَّيْءِ الْمَغْصُوبِ.
وَالآْبِقُ: مَنْ تَرَكَ سَيِّدَهُ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلاَ كَدِّ عَمَلٍ.
وَلِهَذَا قِيل: إِنْ كَانَ هُرُوبُهُ مِنْ خَوْفٍ أَوْ تَعَبٍ، يُقَال لَهُ: هَارِبٌ (2) .
33 - وَالْفُقَهَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى فَسَادِ هَذَا الْعَقْدِ وَإِنْ تَرَدَّدَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْفَسَادِ وَالْبُطْلاَنِ مَعَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ: مِنْ أَنَّ ارْتِفَاعَ الْمُفْسِدِ يَرُدُّ الْعَقْدَ صَحِيحًا، لِقِيَامِ الْعَقْدِ مَعَ الْفَسَادِ، بِخِلاَفِ ارْتِفَاعِ الْمُبْطِل؛ لأَِنَّ الْعَقْدَ مَعْدُومٌ مَعَهُ وَإِنْ رَجَّحَ الْكَمَال مِنْهُمُ الْفَسَادَ، لاِنْعِدَامِ الْقُدْرَةِ فِيهِ عَلَى التَّسْلِيمِ (3) .
وَعَلَّلُوا فَسَادَ هَذَا الْعَقْدِ:
- بِالنَّهْيِ عَنْهُ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْمُتَقَدِّمِ (4)
__________
(1) راجع فيما تقدم (ف 5 وما بعدها) من هذا البحث.
(2) حاشية القليوبي على شرح المحلي 2 / 159، والمصباح.
(3) رد المحتار 4 / 113.
(4) حديث أبي سعيد: سبق تخريجه (ف 27) .(9/165)
{نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شِرَاءِ مَا فِي بُطُونِ الأَْنْعَامِ. . . وَعَنْ شِرَاءِ الْعَبْدِ وَهُوَ آبِقٌ} . - وَلأَِنَّهُ لاَ يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ، وَهُوَ شَرْطُ جَوَازِهِ (1) .
34 - وَمَعَ ذَلِكَ، لَوْ حَصَل بَيْعُ الْعَبْدِ وَهُوَ آبِقٌ، فَفِيهِ هَذِهِ الصُّوَرُ التَّفْصِيلِيَّةُ الْمَذْهَبِيَّةُ:
الأُْولَى: أَنْ يَبِيعَهُ الْمَالِكُ مِمَّنْ هُوَ فِي يَدِهِ.
وَهَذِهِ الصُّورَةُ جَائِزَةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ (2) ،، بَل قَطْعًا كَمَا يُعَبِّرُ الشَّافِعِيَّةُ (3) وَهُوَ مُقْتَضَى نَصِّ ابْنِ قُدَامَةَ وَغَيْرِهِ مِنْ أَنَّهُ: إِنْ حَصَل فِي يَدِ إِنْسَانٍ جَازَ بَيْعُهُ، لإِِمْكَانِ تَسْلِيمِهِ (4) ، لَكِنَّ الْمُصَرَّحَ بِهِ فِي الْمَذْهَبِ الْحَنْبَلِيِّ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ وَلَوْ لِقَادِرٍ عَلَى تَحْصِيلِهِ (5) .
غَيْرَ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ فَصَّلُوا فِي صَيْرُورَةِ الَّذِي هُوَ فِي يَدِهِ قَابِضًا بَعْدَ الْبَيْعِ:
أ - فَإِنْ كَانَ قَبَضَ الآْبِقَ حِينَ وَجَدَهُ لِنَفْسِهِ، لاَ لِيَرُدَّهُ عَلَى سَيِّدِهِ، وَلَمْ يُشْهِدْ عَلَى قَبْضِهِ لِسَيِّدِهِ، فَإِنَّهُ يَصِيرُ قَابِضًا، لأَِنَّ قَبْضَهُ هَذَا قَبْضُ غَصْبٍ، وَهُوَ قَبْضُ ضَمَانٍ، كَقَبْضِ الْمَبِيعِ.
ب - وَإِنْ أَشْهَدَ عَلَى قَبْضِهِ عِنْدَمَا وَجَدَهُ
__________
(1) تبيين الحقائق 4 / 49، وبدائع الصنائع 5 / 147.
(2) الدر المختار ورد المحتار 4 / 112، وهو الذي يبدو من شرح الخرشي 5 / 16.
(3) حاشية القليوبي على شرح المحلي 2 / 159.
(4) المغني 4 / 271، والشرح الكبير في ذيله 4 / 24.
(5) كشاف القناع 3 / 162، وانظر الإنصاف 4 / 293.(9/165)
لاَ يَصِيرُ قَابِضًا؛ لأَِنَّ قَبْضَهُ هُوَ قَبْضُ أَمَانَةٍ، حَتَّى لَوْ هَلَكَ قَبْل أَنْ يَصِل إِلَى سَيِّدِهِ لاَ يَضْمَنُهُ، فَلاَ يَنُوبُ عَنْ قَبْضِ الضَّمَانِ، وَهُوَ قَبْضُ الْمَبِيعِ، لأَِنَّهُ أَقْوَى، وَلأَِنَّهُ مَضْمُونٌ بِالثَّمَنِ، وَلِهَذَا لَوْ هَلَكَ قَبْل أَنْ يَرْجِعَ إِلَى مَالِكِهِ، انْفَسَخَ الْبَيْعُ وَرَجَعَ بِالثَّمَنِ (1) .
الثَّانِيَةُ: أَنْ يَبِيعَهُ الْمَالِكُ مِمَّنْ هُوَ فِي يَدِ غَيْرِهِ. وَهَذِهِ الصُّورَةُ جَائِزَةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، بِشَرْطِ الْقُدْرَةِ عَلَى الاِنْتِزَاعِ وَالتَّحْصِيل - لَكِنْ بِسُهُولَةٍ كَمَا هُوَ نَصُّ الْمَالِكِيَّةِ (2) - وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ (3) ، وَالْقَوْل الثَّانِي الْمُصَوَّبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَمُقْتَضَى نَصِّ ابْنِ قُدَامَةَ وَغَيْرِهِ (4) .
لَكِنَّ الْحَنَفِيَّةَ نَصُّوا عَلَى فَسَادِ هَذِهِ الصُّورَةِ (5) ، وَهَذَا هُوَ الْوَجْهُ الآْخَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (6) ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (7) .
وَعَلَّلَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِعَجْزِ الْبَائِعِ عَنِ التَّسْلِيمِ.
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار 4 / 112. وانظر الهداية وشروحها 6 / 59، والعناية على التخصيص.
(2) شرح الدردير 3 / 11.
(3) شرح المحلي على المنهاج 2 / 158، وانظر تحفة المحتاج 4 / 243.
(4) انظر الإنصاف 4 / 293، والمغني 4 / 271.
(5) الدر المختار ورد المحتار 4 / 112، وانظر تبيين الحقائق 4 / 50، وقارن بالبدائع 5 / 147.
(6) شرح المحلي على المنهاج 2 / 158.
(7) كشاف القناع 3 / 162 وانظر الإنصاف 4 / 293.(9/166)
الثَّالِثَةُ: أَنْ يَبِيعَهُ الْمَالِكُ مِمَّنْ يَقْدِرُ عَلَى رَدِّهِ، وَلَيْسَ هُوَ فِي يَدِ أَحَدٍ.
وَهَذِهِ الصُّورَةُ جَائِزَةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ (1) ، وَفِي الْقَوْل الثَّانِي عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (2) .
لَكِنَّ الْقَلْيُوبِيَّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، قَيَّدَهَا بِأَنْ يَكُونَ الْمُشْرِي قَادِرًا عَلَى رَدِّهِ بِلاَ مَشَقَّةٍ لاَ تُحْتَمَل عَادَةً، وَبِلاَ مُؤْنَةٍ لَهَا وَقْعٌ (3) .
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ عَدَمُ جَوَازِهَا (4) .
الرَّابِعَةُ: أَنْ يَبِيعَهُ مِمَّنْ لاَ يَقْدِرُ عَلَى تَحْصِيلِهِ.
وَالإِْجْمَاعُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِهَا، وَهِيَ مَحْمَل الْحَدِيثِ.
35 - وَيَتَّصِل بِبَيْعِ الآْبِقِ، بَيْعُ الْمَغْصُوبِ:
أ - فَإِنْ بَاعَهُ مِنْ غَاصِبِهِ، جَازَ بِالاِتِّفَاقِ، وَعَبَّرَ الشَّافِعِيَّةُ بِالْجَوَازِ هُنَا (5) لأَِنَّ الْمَبِيعَ مُسَلَّمٌ بِالْفِعْل إِلَى الْمُشْتَرِي (6) ، (وَقَبْضُهُ بَعْدَ الْبَيْعِ، كَقَبْضِهِ قَبْلَهُ، فِي الْمَضْمُونِيَّةِ) . . وَقَيَّدَهُ - مَعَ
__________
(1) رد المحتار 4 / 112، والشرح الكبير للدردير 2 / 11، وتحفة المحتاج 4 / 243.
(2) الإنصاف 4 / 293.
(3) حاشية القليوبي على شرح المنهاج 2 / 158.
(4) كشاف القناع 3 / 162، والإنصاف 4 / 293.
(5) شرح المحلي على المنهاج 2 / 158، وانظر الشرح الكبير في ذيل المغني 4 / 25، والإنصاف 4 / 294.
(6) الشرح الكبير للدردير 3 / 11.(9/166)
ذَلِكَ - الْمَالِكِيَّةُ بِشَرْطِ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْغَاصِبَ عَزَمَ عَلَى رَدِّهِ لِرَبِّهِ (1) .
ب - وَإِنْ بَاعَهُ مِنْ قَادِرٍ عَلَى انْتِزَاعِهِ أَوْ رَدِّهِ صَحَّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ (2) ، وَهُوَ الْقَوْل الصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. لَكِنَّهُمْ قَيَّدُوهُ بِتَيَسُّرِ وُصُولِهِ إِلَى الْمُشْتَرِي بِلاَ مُؤْنَةٍ وَلاَ مَشَقَّةٍ مَلْحُوظَةٍ عَلَيْهِ (3) ، فَإِنِ احْتَاجَ الرَّدُّ إِلَى مُؤْنَةٍ انْتَفَى الْمَنْعُ (4) . كَمَا قَيَّدَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِكَوْنِ الْغَاصِبِ مُقِرًّا مَقْدُورًا عَلَيْهِ، وَإِلاَّ لاَ. لأَِنَّ الْمَشْهُورَ عِنْدَهُمْ مَنْعُ شِرَاءِ مَا فِيهِ خُصُومَةٌ (5) . وَالْمُقَرَّرُ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ بَيْعُ الْمَغْصُوبِ عِنْدَهُمْ إِلاَّ مِنْ غَاصِبٍ (6) ، كَالْحَنَابِلَةِ.
وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ، لِعَجْزِ الْبَائِعِ بِنَفْسِهِ عَنِ التَّسْلِيمِ (7) . وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ (8) .
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ بَيْعَ الْمَغْصُوبِ مِنْ غَيْرِ الْغَاصِبِ يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا عَلَى التَّسْلِيمِ، فَلَوْ سَلَّمَ نَفَذَ، وَإِلاَّ لاَ.
__________
(1) شرح الخرشي 5 / 17.
(2) المرجع السابق نفسه، وشرح المحلي على المنهاج 2 / 158، والإنصاف 4 / 294.
(3) تحفة المحتاج وحاشية الشبراملسي عليها 4 / 243.
(4) شرح المنهج وحاشية الجمل عليه 3 / 28.
(5) شرح الخرشي 5 / 17.
(6) القوانين الفقهية (164) وقارن بالشرح الكبير للدردير 3 / 11. وقارن بكشاف القناع 3 / 162.
(7) شرح المحلي على المنهاج 2 / 158.
(8) الإنصاف 4 / 294.(9/167)
وَفَرَّقُوا بَيْنَ بَيْعِ الآْبِقِ - فَإِنَّهُ فَاسِدٌ بَل غَيْرُ مُنْعَقِدٍ - وَبَيْنَ بَيْعِ الْمَغْصُوبِ - فَإِنَّهُ صَحِيحٌ - بِأَنَّ الْمَالِكَ فِي بَيْعِ الْمَغْصُوبِ قَادِرٌ عَلَى التَّسْلِيمِ بِقُدْرَةِ الْحَاكِمِ، إِلاَّ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ لَمْ يَنْفُذْ لِلْحَال لِقِيَامِ يَدِ الْغَاصِبِ صُورَةً، فَإِذَا سَلَّمَ زَال الْمَانِعُ فَيَنْفُذُ.
وَهَذَا بِخِلاَفِ الآْبِقِ، لأَِنَّهُ - كَمَا قَال الْكَاسَانِيُّ -: مَعْجُوزُ التَّسْلِيمِ عَلَى الإِْطْلاَقِ إِذْ لاَ تَصِل إِلَيْهِ يَدُ أَحَدٍ، لِمَا أَنَّهُ لاَ يُعْرَفُ مَكَانُهُ، فَكَانَ الْعَجْزُ مُتَقَرِّرًا، وَالْقُدْرَةُ مُحْتَمَلَةً مَوْهُومَةً، فَلاَ يَنْعَقِدُ مَعَ الاِحْتِمَال، فَأَشْبَهَ بَيْعُ الآْبِقِ بَيْعَ الطَّيْرِ الَّذِي لَمْ يُوجَدْ وَبَيْعَ السَّمَكِ الَّذِي لَمْ يُوجَدْ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ، كَذَا هَذَا (1) .
الأَْسْبَابُ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِلاَزِمِ الْعَقْدِ
وَهِيَ:
الرِّبَا، وَمَا هُوَ ذَرِيعَةٌ إِلَيْهِ، وَالْغَرَرُ.
وَفِيمَا يَلِي أَسْبَابُ النَّهْيِ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالرِّبَا.
36 - الرِّبَا فِي اللُّغَةِ: الزِّيَادَةُ وَفِي الاِصْطِلاَحِ الْفِقْهِيِّ: عَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ: فَضْلٌ - وَلَوْ حُكْمًا - خَالٍ عَنْ عِوَضٍ بِمِعْيَارٍ شَرْعِيٍّ، مَشْرُوطٌ لأَِحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، فِي الْمُعَاوَضَةِ. (2) وَقَيْدُ الْحُكْمِيَّةِ، لإِِدْخَال رِبَا النَّسِيئَةِ وَأَكْثَرِ
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 147.
(2) انظر الدر المختار، ورد المحتار 4 / 176، 177. والتعريف المذكور للتمرتاشي في تنوير الأبصار(9/167)
الْبُيُوعِ الْفَاسِدَةِ؛ لأَِنَّ الرِّبَا نَوْعَانِ: رَبَا الْفَضْل، وَرِبَا النَّسِيئَةِ.
وَالرِّبَا مُحَرَّمٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الأُْمَّةِ.
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: أَجْمَعَتِ الأُْمَّةُ عَلَى أَنَّ الرِّبَا مُحَرَّمٌ (1) بِنَوْعَيْهِ: الْفَضْل وَالنَّسِيئَةِ، وَيَجْرِي رِبَا الْفَضْل وَرِبَا النَّسِيئَةِ فِي بَعْضِ مَسَائِل الصَّرْفِ وَتَفْصِيلُهُ فِي (الصَّرْفِ) .
وَالرِّبَا مِنَ الْكَبَائِرِ، وَلَمْ يَحِل فِي شَرِيعَةٍ قَطُّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ (2) } وَفِي الْحَدِيثِ لَعَنَ اللَّهُ آكِل الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَيْهِ. وَقَال: هُمْ سَوَاءٌ (3) وَلَيْسَ الْقَصْدُ هُنَا ذِكْرُ أَحْكَامِ الرِّبَا وَشُرُوطِهِ وَمَسَائِلِهِ، بَل يُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ تَحْتَ عِنْوَانِ (رِبا) .
وَالْقَصْدُ هُنَا التَّعَرُّفُ عَلَى أَحْكَامِ بَعْضِ الْبُيُوعِ الرِّبَوِيَّةِ، وَهِيَ الَّتِي وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهَا فِي السُّنَّةِ، وَمِنْ هَذِهِ الْبُيُوعِ مَا يَلِي:
__________
(1) المغني والشرح الكبير في ذيله 4 / 122
(2) سورة البقرة / 278 - 279
(3) حديث: " لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال: هم سواء. . . " أخرجه مسلم (3 / 1219 ط عيسى الحلبي) من حديث جابر بن عبد الله. وانظر حاشية القليوبي على شرح المحلي على المنهاج 2 / 166(9/168)
أ - بَيْعُ الْعِينَةِ:
37 - هُوَ: بَيْعُ الْعَيْنِ بِثَمَنٍ زَائِدٍ نَسِيئَةً لِيَبِيعَهَا الْمُسْتَقْرِضُ بِثَمَنٍ حَاضِرٍ أَقَل لِيَقْضِيَ دَيْنَهُ، كَمَا عَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ (1) وَهُنَاكَ تَعْرِيفَاتٌ وَصُوَرٌ أُخْرَى اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهَا وَفِي حُكْمِهَا.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (بَيْعُ الْعِينَةِ) .
ب - بَيْعُ الْمُزَابَنَةِ.
38 - الْمُزَابَنَةُ: بَيْعُ التَّمْرِ عَلَى النَّخِيل بِتَمْرٍ مَجْذُوذٍ مِثْل كَيْلِهِ خَرْصًا (أَيْ ظَنًّا وَتَقْدِيرًا) وَذَلِكَ بِأَنْ يُقَدَّرَ الرُّطَبُ الَّذِي عَلَى النَّخِيل بِمِقْدَارِ مِائَةِ صَاعٍ مَثَلاً بِطَرِيقِ الظَّنِّ وَالْحَزْرِ، فَيَبِيعَهُ بِقَدْرِهِ مِنَ التَّمْرِ (2) .
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى فَسَادِ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْبَيْعِ.
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (بَيْعُ الْمُزَابَنَةِ) .
ج - بَيْعُ الْمُحَاقَلَةِ:
39 - الْمُحَاقَلَةُ: بَيْعُ الْحِنْطَةِ فِي سُنْبُلِهَا بِحِنْطَةٍ مِثْل كَيْلِهَا خَرْصًا (3) .
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الْمُحَاقَلَةِ، لِحَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْمُزَابَنَةِ وَالْمُحَاقَلَةِ.
وَلِلتَّفْصِيل (ر: بَيْعُ الْمُحَاقَلَةِ)
__________
(1) ابن عابدين 4 / 279
(2) فتح القدير والهداية 6 / 53، وابن عابدين 4 / 109
(3) الهداية مع شروحها 6 / 54(9/168)
د - بَيْعُ الْعَرَايَا:
40 - هُوَ: بَيْعُ الرُّطَبِ عَلَى النَّخْل بِتَمْرٍ فِي الأَْرْضِ، أَوِ الْعِنَبِ فِي الشَّجَرِ بِزَبِيبٍ (1) .
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ الْعَرَايَا.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (بَيْعُ الْعَرَايَا)
هـ - بَيْعُ الْعُرْبُونِ:
41 - بَيْعُ الْعُرْبُونِ هُوَ: أَنْ يَشْتَرِيَ السِّلْعَةَ وَيَدْفَعَ إِلَى الْبَائِعِ دِرْهَمًا أَوْ أَكْثَرَ عَلَى أَنَّهُ إِنْ أَخَذَ السِّلْعَةَ احْتَسَبَ بِهِ مِنَ الثَّمَنِ، وَإِنْ لَمْ يَأْخُذْهَا فَهُوَ لِلْبَائِعِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِهِ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ، وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى جَوَازِهِ عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي (بَيْعُ الْعُرْبُونِ) .
و النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ حَتَّى يَجْرِيَ فِيهِ الصَّاعَانِ:
42 - وَرَدَ فِيهِ حَدِيثُ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. قَال: نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ، حَتَّى يَجْرِيَ فِيهِ الصَّاعَانِ: صَاعُ الْبَائِعِ، وَصَاعُ الْمُشْتَرِي (2)
__________
(1) شرح المحلي على المنهاج 2 / 238
(2) حديث: " نهى عن بيع الطعام. . . " أخرجه ابن ماجه (2 / 750 ط الحلبي) من حديث جابر وضعفه البوصيري، وأخرجه البزار من حديث أبي هريرة، وجود إسناده ابن حجر كما في الدراية (2 / 155 ط مطبعة الفجالة) .(9/169)
وَفِي مَعْنَاهُ وَرَدَ أَيْضًا حَدِيثُ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. قَال: كُنْتُ أَبْتَاعُ التَّمْرَ مِنْ بَطْنٍ مِنَ الْيَهُودِ يُقَال لَهُمْ: بَنُو قَيْنُقَاعَ، وَأَبِيعُهُ بِرِبْحٍ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: يَا عُثْمَانُ إِذَا اشْتَرَيْتَ فَاكْتَل، وَإِذَا بِعْتَ فَكِل (1) .
كَمَا وَرَدَ أَيْضًا حَدِيثُ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ، وَحَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. كَانَا يَبْتَاعَانِ التَّمْرَ، وَيَجْعَلاَنِهِ فِي غَرَائِرَ، ثُمَّ يَبِيعَانِهِ بِذَلِكَ الْكَيْل، فَنَهَاهُمَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَبِيعَاهُ حَتَّى يَكِيلاَ لِمَنِ ابْتَاعَهُ مِنْهُمَا (2) .
وَهَذِهِ الأَْحَادِيثُ تَدُل عَلَى أَنَّ مَنِ اشْتَرَى شَيْئًا مُكَايَلَةً، وَقَبَضَهُ ثُمَّ بَاعَهُ إِلَى غَيْرِهِ، لَمْ يَجُزْ تَسْلِيمُهُ بِالْكَيْل الأَْوَّل، حَتَّى يَكِيلَهُ عَلَى مَنِ اشْتَرَاهُ ثَانِيًا، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ، كَمَا حَكَاهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي (3) .
وَنَصَّ ابْنُ الْهُمَامِ عَلَى أَنَّ هَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ (4) .
__________
(1) حديث: " يا عثمان إذا اشتريت. . . . " أخرجه أحمد (1 / 62 ط الميمنية) من حديث عثمان بن عفان وأورده الهيثمي في المجمع (4 / 98 ط القدسي) وقال: إسناده حسن
(2) حديث يحيى بن أبي كثير أخرجه عبد الرزاق (8 / 39) وفي إسناده انقطاع بين يحيى بن أبي كثير وبين الصحابي راوي الحديث (التهذيب لابن حجر 11 / 270 ط دائرة المعارف العثمانية)
(3) نيل الأوطار 5 / 161
(4) فتح القدير 6 / 139(9/169)
وَقَدِ اشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ الْقَبْضَ قَبْل بَيْعِ الْمَبِيعِ فِي الْجُمْلَةِ. فَهَذَا مِنْ تَمَامِ الْقَبْضِ - كَمَا يُعَبِّرُ الْحَنَفِيَّةُ - أَوْ هُوَ شَرْطٌ فِي (صِحَّةِ) قَبْضِ الْمَنْقُول مَعَ نَقْلِهِ. كَمَا يَقُول الشَّافِعِيَّةُ (1) .
لَكِنْ قَامَ الإِْجْمَاعُ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ الْكَيْل فِيمَا بِيعَ جُزَافًا. وَاسْتِثْنَاءُ الْجُزَافِ مِنَ الشَّرْطِ كَانَ أَخْذًا مِنْ مَعْنَى النَّصِّ، أَوْ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ (2) .
43 - وَنَذْكُرُ هُنَا بَعْضَ الأَْمْثِلَةِ التَّطْبِيقِيَّةِ الْفِقْهِيَّةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، لِتَقَارُبِهِمَا فِيهَا.
الْمِثَال الأَْوَّل:
لَوْ كَانَ لِبَكْرٍ طَعَامٌ مُقَدَّرٌ عَلَى زَيْدٍ، كَعَشَرَةِ آصُعٍ، وَلِعَمْرٍو عَلَى بَكْرٍ مِثْلُهُ، فَلْيَطْلُبْ بَكْرٌ مِنْ زَيْدٍ أَنْ يَكِيلَهُ لَهُ، حَتَّى يَدْخُل فِي مِلْكِهِ، ثُمَّ يَكِيل بَكْرٌ لِعَمْرٍو، لِيَكُونَ الْقَبْضُ وَالإِْقْبَاضُ صَحِيحَيْنِ؛ لأَِنَّ الإِْقْبَاضَ هُنَا مُتَعَدِّدٌ، وَمِنْ شَرْطِ صِحَّتِهِ الْكَيْل، فَلَزِمَ تَعَدُّدُهُ؛ لأَِنَّ الْكَيْلَيْنِ، قَدْ يَقَعُ بَيْنَهُمَا تَفَاوُتٌ (3) .
فَلَوْ قَال بَكْرٌ لِعَمْرٍو: اقْبِضْ يَا عَمْرُو مِنْ زَيْدٍ عَنِّي مَالِي عَلَيْهِ لِنَفْسِكَ، فَفَعَل عَمْرٌو، فَالْقَبْضُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى زَيْدٍ صَحِيحٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَفِي إِحْدَى رِوَايَتَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَتَبْرَأُ ذِمَّتُهُ لِوُجُودِ
__________
(1) فتح القدير 6 / 139، وشرح المحلي على المنهاج 2 / 217، 218، وشرح المنهج 3 / 173
(2) شرح المحلي وحاشية القليوبي 2 / 217، وحاشية الجمل 3 / 173، وتحفة المحتاج 4 / 419
(3) تحفة المحتاج 4 / 419(9/170)
الإِْذْنِ، وَهُوَ إِذْنُ الدَّائِنِ، وَهُوَ بَكْرٌ فِي الْقَبْضِ مِنْهُ لَهُ بِطَرِيقِ الاِسْتِلْزَامِ، فَأَشْبَهَ قَبْضُهُ قَبْضَ وَكِيلِهِ.
لَكِنَّ هَذَا الْقَبْضَ فَاسِدٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَمْرٍو، لِكَوْنِهِ قَابِضًا مِنْ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ؛ لأَِنَّ قَبْضَهُ مَشْرُوطٌ بِتَقَدُّمِ قَبْضِ بَكْرٍ وَلَمْ يُوجَدْ، وَلاَ يُمْكِنُ حُصُولُهُمَا، لِمَا فِيهِ مِنَ اتِّحَادِ الْقَابِضِ وَالْمُقْبِضِ، وَمَا قَبَضَهُ عَمْرٌو مَضْمُونٌ عَلَيْهِ، لأَِنَّهُ قَبَضَهُ لِنَفْسِهِ، فَحِينَئِذٍ يَكِيلُهُ الْمَقْبُوضُ لَهُ، وَهُوَ بَكْرٌ، لِلْقَابِضِ، وَهُوَ عَمْرٌو، وَيَصِحُّ قَبْضُهُ لَهُ.
وَالرِّوَايَةُ الأُْخْرَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ هِيَ: أَنَّ هَذَا الْقَبْضَ غَيْرُ صَحِيحٍ، لأَِنَّهُ لَمْ يَجْعَلْهُ نَائِبًا لَهُ فِي الْقَبْضِ، فَلَمْ يَقَعْ لَهُ، بِخِلاَفِ الْوَكِيل.
وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ يَكُونُ الْمَقْبُوضُ بَاقِيًا عَلَى مِلْكِ الْمُسَلَّمِ إِلَيْهِ، وَهُوَ زَيْدٌ، لِعَدَمِ الْقَبْضِ الصَّحِيحِ.
بِخِلاَفِهِ عَلَى الرِّوَايَةِ السَّابِقَةِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ الْمَقْبُوضُ مِلْكًا لِبَكْرٍ.
وَيَبْدُو أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ الأَْخِيرَةَ هِيَ الرَّاجِحَةُ، فَعَلَيْهَا مَتْنُ الإِْقْنَاعِ.
وَلَوْ قَال: اقْبِضْهُ لِي، ثُمَّ اقْبِضْهُ لِنَفْسِكَ، صَحَّ الْقَبْضُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا، لأَِنَّهُ اسْتَنَابَهُ فِي قَبْضِهِ لَهُ، وَإِذَا قَبَضَهُ لِمُوَكِّلِهِ جَازَ أَنْ يَقْبِضَهُ لِنَفْسِهِ، كَمَا لَوْ كَانَ لَهُ وَدِيعَةٌ عِنْدَ مَنْ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ، وَأَذِنَهُ فِي قَبْضِهَا عَنْ دَيْنِهِ.
هَذَا، وَإِنْ يَكُنِ الْمِثَال الْمَذْكُورُ، وَهُوَ الْمِثَال الأَْوَّل، فِي السَّلَمِ، لَكِنَّ التَّقْيِيدَ بِهِ، لأَِنَّهُ الَّذِي(9/170)
فِي كَلاَمِ الأَْصْحَابِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَمِثْل السَّلَمِ - كَمَا قَالُوا - دَيْنُ الْقَرْضِ وَالإِْتْلاَفِ (1) .
الْمِثَال الثَّانِي:
44 - لَوْ قَال بَكْرٌ لِعَمْرٍو: احْضُرِ اكْتِيَالِي مِنْ زَيْدٍ لأَِقْبِضَهُ لَكَ، فَفَعَل، لَمْ يَصِحَّ قَبْضُهُ لِعَمْرٍو، لِعَدَمِ كَيْلِهِ، وَيَكُونُ بَكْرٌ قَابِضًا لِنَفْسِهِ لاِكْتِيَالِهِ إِيَّاهُ (2) .
الْمِثَال الثَّالِثُ:
45 - لَوْ قَال بَكْرٌ لِعَمْرٍو، خُذْهُ بِهَذَا الْكَيْل الَّذِي قَدْ شَاهَدْتَهُ، فَأَخَذَهُ بِهِ صَحَّ، لأَِنَّهُ شَاهَدَ كَيْلَهُ وَعَلِمَهُ، فَلاَ مَعْنَى لاِعْتِبَارِ كَيْلِهِ مَرَّةً ثَانِيَةً (3) .
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لاَ يُجْزِئُ، وَذَلِكَ لِلْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ، حَتَّى يَجْرِيَ فِيهِ الصَّاعَانِ (4) . . .
وَهَذَا دَاخِلٌ فِيهِ.
وَلأَِنَّهُ قَبَضَهُ مِنْ غَيْرِ كَيْلٍ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَبَضَهُ جُزَافًا.
__________
(1) تحفة المحتاج 4 / 419، 420، وشرح المحلي وحاشية قليوبي عليه 2 / 217، 218، وحاشية الجمل 3 / 174، 175، والمغني 4 / 222، وكشاف القناع 3 / 308
(2) كشاف القناع 3 / 308، 309، والمغني 4 / 222
(3) نفس المراجع
(4) حديث: " نهى عن بيع الطعام. . . " سبق تخريجه ف / 42(9/171)
الْمِثَال الرَّابِعُ:
46 - لَوْ قَال بَكْرٌ لِعَمْرٍو: احْضُرْنَا حَتَّى أَكْتَالَهُ لِنَفْسِي، ثُمَّ تَكْتَالَهُ أَنْتَ، وَفَعَلاَ، صَحَّ بِغَيْرِ إِشْكَالٍ.
وَلَوِ اكْتَال بَكْرٌ لِنَفْسِهِ، ثُمَّ أَخَذَهُ عَمْرٌو بِذَلِكَ الْكَيْل الَّذِي شَاهَدَهُ، فَعَلَى رِوَايَتَيْنِ.
وَلَوْ تَرَكَهُ فِي الْمِكْيَال، وَدَفَعَهُ إِلَى عَمْرٍو، لِيُفَرِّغَهُ لِنَفْسِهِ صَحَّ، وَكَانَ ذَلِكَ قَبْضًا صَحِيحًا؛ لأَِنَّ اسْتِدَامَةَ الْكَيْل بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَائِهِ، وَلاَ مَعْنَى لاِبْتِدَاءِ الْكَيْل هَاهُنَا، إِذْ لاَ يَحْصُل بِهِ زِيَادَةُ عِلْمٍ.
وَمَعَ أَنَّ ابْنَ قُدَامَةَ أَسْنَدَ إِلَى الشَّافِعِيَّةِ عَدَمَ صِحَّةِ الْقَبْضِ، لِلنَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ حَتَّى يَجْرِيَ فِيهِ الصَّاعَانِ، وَقَرَّرَ أَنَّهُ يُمْكِنُ الْقَوْل بِمُوجِبِ الْحَدِيثِ، وَأَنَّهُ يُعْتَبَرُ قَبْضُ الْمُشْتَرِي لَهُ فِي الْمِكْيَال إِجْرَاءً لِصَاعِهِ فِيهِ، إِلاَّ أَنَّ ابْنَ حَجَرٍ نَصَّ عَلَى أَنَّ الاِسْتِدَامَةَ فِي نَحْوِ الْمِكْيَال كَالتَّجْدِيدِ، فَتَكْفِي (1) .
الْمِثَال الْخَامِسُ:
47 - لَوْ دَفَعَ بَكْرٌ إِلَى عَمْرٍو دَرَاهِمَ، فَقَال: اشْتَرِ لَكِ بِهَا مِثْل الطَّعَامِ الَّذِي لَكِ عَلَيَّ، فَفَعَل، لَمْ يَصِحَّ، لأَِنَّهُ فُضُولِيٌّ إِذِ اشْتَرَى لِنَفْسِهِ بِمَال غَيْرِهِ؛ لأَِنَّ دَرَاهِمَ بَكْرٍ لاَ يَكُونُ عِوَضُهَا لِعَمْرٍو.
__________
(1) المغني 4 / 222، وحاشية الجمل 3 / 173، وتحفة المحتاج 4 / 410(9/171)
وَالشَّافِعِيَّةُ يُعَلِّلُونَ بِأَنَّهُ: لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِمَال غَيْرِهِ لِنَفْسِهِ، وَالدَّرَاهِمُ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ، فَإِنِ اشْتَرَى بِعَيْنِهَا بَطَل الشِّرَاءُ، وَإِنِ اشْتَرَى بِثَمَنٍ فِي ذِمَّتِهِ، صَحَّ الشِّرَاءُ لَهُ، وَالثَّمَنُ عَلَيْهِ. وَإِنْ قَال: اشْتَرِ لِي بِهَا طَعَامًا، ثُمَّ اقْبِضْهُ لِنَفْسِكَ فَفَعَل، صَحَّ الشِّرَاءُ، وَلَمْ يَصِحَّ الْقَبْضُ لِنَفْسِهِ (1) .
وَعَلَّلَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ حَقَّ الإِْنْسَانِ لاَ يَتَمَكَّنُ غَيْرُهُ مِنْ قَبْضِهِ لِنَفْسِهِ، وَضَمِنَهُ الْغَرِيمُ الْقَابِضُ لاِسْتِيلاَئِهِ عَلَيْهِ لِنَفْسِهِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ قَبْضَهُ لِنَفْسِهِ فَرْعٌ عَنْ قَبْضِ مُوَكِّلِهِ، وَلَمْ يُوجَدْ.
وَإِنْ قَال: اشْتَرِ لِي بِهَا طَعَامًا (وَاقْبِضْهُ لِي) ثُمَّ اقْبِضْهُ لِنَفْسِكَ، فَفَعَل، جَازَ، لأَِنَّهُ وَكَّلَهُ بِالشِّرَاءِ وَالْقَبْضِ، ثُمَّ الاِسْتِيفَاءِ مِنْ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ، وَذَلِكَ صَحِيحٌ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: صَحَّ الشِّرَاءُ وَالْقَبْضُ الأَْوَّل دُونَ الثَّانِي، لاِتِّحَادِ الْقَابِضِ وَالْمُقْبِضِ، دُونَ الأَْوَّل.
لَكِنَّ الْحَنَابِلَةَ قَاسُوهُ عَلَى مَسْأَلَةِ شِرَاءِ الْوَالِدِ لِنَفْسِهِ مِنْ مَال وَلَدِهِ الصَّغِيرِ، وَهِبَتِهِ لَهُ، وَقَبْضِهِ لِنَفْسِهِ مِنْ نَفْسِهِ.
وَالشَّافِعِيَّةُ يَمْنَعُونَ الْقِيَاسَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ،
__________
(1) الشرواني على تحفة المحتاج 4 / 420، والمغني 4 / 222، وكشاف القناع 3 / 309(9/172)
وَلَيْسَ لِوَاحِدٍ تَوَلِّي الطَّرَفَيْنِ عِنْدَهُمْ، وَلَوْ بِوَكَالَةٍ عَنْهُمَا.
كَمَا يَمْنَعُهُ الْمَالِكِيَّةُ أَيْضًا، لأَِنَّهُ يَصِيرُ قَابِضًا مِنْ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ، وَلَيْسَ هُوَ مِمَّنْ يَتَوَلَّى طَرَفَيِ الْعَقْدِ، فَقَبْضُهُ كَلاَ قَبْضٍ (1) .
الْمِثَال السَّادِسُ:
48 - اشْتَرَى اثْنَانِ طَعَامًا، فَقَبَضَاهُ، ثُمَّ بَاعَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ مِنَ الآْخَرِ قَبْل أَنْ يَقْتَسِمَاهُ:
أ - فَيُحْتَمَل أَنْ لاَ يَجُوزَ ذَلِكَ، لأَِنَّهُ لَمْ يَقْبِضْ نَصِيبَهُ مُنْفَرِدًا، فَأَشْبَهَ غَيْرَ الْمَقْبُوضِ.
ب - وَيَحْتَمِل الْجَوَازَ، لأَِنَّهُ مَقْبُوضٌ لَهُمَا، يَجُوزُ بَيْعُهُ لأَِجْنَبِيٍّ، فَجَازَ بَيْعُهُ لِشَرِيكِهِ، كَسَائِرِ الأَْمْوَال.
وَلَوْ تَقَاسَمَاهُ وَافْتَرَقَا، ثُمَّ بَاعَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ بِذَلِكَ الْكَيْل الَّذِي كَالَهُ، لَمْ يَجُزْ، كَمَا لَوِ اشْتَرَى مِنْ رَجُلٍ طَعَامًا، فَاكْتَالَهُ وَتَفَرَّقَا، ثُمَّ بَاعَهُ إِيَّاهُ بِذَلِكَ الْكَيْل.
أَمَّا لَوْ تَقَاسَمَاهُ وَلَمْ يَفْتَرِقَا، وَبَاعَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ بِذَلِكَ الْكَيْل، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ (2) . كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمِثَال الرَّابِعِ.
49 - وَقَدْ تَنَاوَل الْحَنَفِيَّةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ تَنَاوُلاً
__________
(1)) الشرواني على تحفة المحتاج 4 / 420، وكشاف القناع 3 / 309، وحاشية القليوبي 2 / 218، والمغني 4 / 223، والشرح الكبير للدردير 3 / 152، 153
(2) المغني 4 / 223(9/172)
خَاصًّا، بِالنَّصِّ وَالتَّفْصِيل وَالتَّعْلِيل. فَقَال الْمَرْغِينَانِيُّ مِنْهُمْ: مَنِ اشْتَرَى مَكِيلاً مُكَايَلَةً (أَيْ بِشَرْطِ الْكَيْل) أَوْ مَوْزُونًا مُوَازَنَةً (أَيْ بِشَرْطِ الْوَزْنِ) فَاكْتَالَهُ أَوِ اتَّزَنَهُ، ثُمَّ بَاعَهُ مُكَايَلَةً أَوْ مُوَازَنَةً، لَمْ يَجُزْ لِلْمُشْتَرِي مِنْهُ أَنْ يَبِيعَهُ، وَلاَ أَنْ يَأْكُلَهُ، حَتَّى يُعِيدَ الْكَيْل وَالْوَزْنَ (1) وَذَلِكَ لِحَدِيثَيْ جَابِرٍ وَعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا الْمَذْكُورَيْنِ سَابِقًا (2)
وَلأَِنَّهُ يُحْتَمَل أَنْ يَزِيدَ عَلَى الْمَشْرُوطِ، وَذَلِكَ لِلْبَائِعِ فِي الْمُقَدَّرَاتِ، وَالتَّصَرُّفِ فِي مَال الآْخَرِينَ حَرَامٌ، فَيَجِبُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ.
وَلأَِنَّ الْكَيْل وَالْوَزْنَ وَالْعَدَّ مِنْ تَمَامِ الْقَبْضِ، فَأَصْل الْقَبْضِ شَرْطٌ لِجَوَازِ التَّصَرُّفِ فِيهِ عَلَى مَا سَبَقَ، فَكَذَا تَمَامُهُ (3) .
وَقَدْ قَيَّدَ الْحُكْمَ الْمَذْكُورَ بِالشِّرَاءِ، لأَِنَّهُ لَوْ مَلَكَهُ بِهِبَةٍ أَوْ إِرْثٍ أَوْ وَصِيَّةٍ، جَازَ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْل الْكَيْل.
كَمَا أَنَّ الْبَيْعَ عِنْدَ الإِْطْلاَقِ يَنْصَرِفُ إِلَى الْكَامِل، وَهُوَ الْبَيْعُ الصَّحِيحُ، حَتَّى لَوْ بَاعَ مَا اشْتَرَاهُ فَاسِدًا، بَعْدَ قَبْضِهِ مُكَايَلَةً، لَمْ يَحْتَجِ الْمُشْتَرِي الثَّانِي إِلَى إِعَادَةِ الْكَيْل. قَال
__________
(1) تبيين الحقائق 4 / 81، والهداية بشروحها 6 / 81
(2) راجع فيما تقدم (ف 42)
(3)) تبيين الحقائق 4 / 82، والهداية بشروحها 6 / 139، 140، وراجع (ف 42)(9/173)
أَبُو يُوسُفَ: لأَِنَّ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ يُمْلَكُ بِالْقَبْضِ، كَالْقَرْضِ (1) .
كَمَا أَلْحَقُوا بِالْمَكِيل وَالْمَوْزُونِ الْمَعْدُودَ الَّذِي لاَ يَتَفَاوَتُ، كَالْجَوْزِ وَالْبَيْضِ، إِذَا اشْتَرَى مُعَادَّةً. وَبِهِ قَال أَبُو حَنِيفَةَ فِي أَظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، فَأَفْسَدَ الْبَيْعَ قَبْل الْعَدِّ ثَانِيًا لاِتِّحَادِ الْجَامِعِ، وَهُوَ: وُجُوبُ تَعَرُّفِ الْمِقْدَارِ، وَزَوَال احْتِمَال اخْتِلاَطِ الْمَالَيْنِ، فَإِنَّ الزِّيَادَةَ فِيهِ لِلْبَائِعِ، خِلاَفًا لِمَا رُوِيَ عَنْهُمَا مِنْ جَوَازِ الْبَيْعِ الثَّانِي قَبْل الْعَدِّ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْمَعْدُودَ مَعَ الْمَكِيل وَالْمَوْزُونِ فِي مَتْنِ الْكَنْزِ وَالتَّنْوِيرِ.
وَاسْتَثْنَوْا مِنَ الْمَوْزُونِ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ، لِجَوَازِ التَّصَرُّفِ فِيهِمَا بَعْدَ الْقَبْضِ قَبْل الْوَزْنِ فِي عَقْدِ الصَّرْفِ أَوِ السَّلَمِ، كَبَيْعِ التَّعَاطِي، فَإِنَّهُ لاَ يَحْتَاجُ فِي الْمَوْزُونَاتِ إِلَى وَزْنِ الْمُشْتَرِي ثَانِيًا، لأَِنَّهُ صَارَ بَيْعًا بِالْقَبْضِ بَعْدَ الْوَزْنِ.
وَيُلاَحَظُ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ اسْتَثْنَوْا مِنْ هَذَا الْحُكْمِ - كَغَيْرِهِمْ - الْمَبِيعَ مُجَازَفَةً، إِذَا لَمْ يَكُنِ الْبَائِعُ اشْتَرَى مُكَايَلَةً، لأَِنَّ كُل الْمُشَارِ إِلَيْهِ لِلْمُشْتَرِي، فَلاَ يُتَصَوَّرُ فِيهِ اخْتِلاَطُ الْمِلْكَيْنِ.
وَكَذَلِكَ مَا إِذَا بَاعَ الثَّوْبَ مُذَارَعَةً، لأَِنَّ الزِّيَادَةَ لِلْمُشْتَرِي، إِذِ الذَّرْعُ وَصْفٌ فِي الثَّوْبِ، لاَ يُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنَ الثَّمَنِ، بِخِلاَفِ الْقَدْرِ (2) .
__________
(1) رد المحتار 4 / 163
(2) فتح القدير 6 / 140، وقارن بحاشية الشلبي على تبيين الحقائق 4 / 81، 82، والدر المختار 4 / 164.(9/173)
وَيَبْدُو أَنَّ تَحْدِيدَ الأَْذْرُعِ لَيْسَ لَهُ مَا يُقَابِلُهُ مِنَ الثَّمَنِ فِي أَيَّامِهِمْ؛ لأَِنَّ الثَّوْبَ فِي زَمَانِهِمْ، يُطْلَقُ عَلَى مَا يَكْفِي كِسَاءً وَاحِدًا، فَلاَ تَضُرُّ الزِّيَادَةُ فِيهِ، وَلاَ تَخْتَلِطُ بِمِلْكِ الْبَائِعِ، بِخِلاَفِ الأَْثْوَابِ وَالأَْقْمِشَةِ فِي أَيَّامِنَا، حَيْثُ تُقْتَطَعُ مِنْهَا أَذْرُعٌ لِتُخَاطَ ثِيَابًا، فَإِنَّهَا مُقَابَلَةٌ بِالثَّمَنِ، وَتُعْتَبَرُ مِنَ الْقَدْرِ.
وَمَعَ أَنَّ بَعْضَ الْحَنَفِيَّةِ أَطْلَقَ تَحْرِيمَ الْبَيْعِ قَبْل إِعَادَةِ الْكَيْل، لَكِنَّ الشُّرَّاحَ فَسَّرُوهُ بِكَرَاهَةِ التَّحْرِيمِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ النَّهْيَ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ خَبَرُ آحَادٍ، لاَ تَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ الْقَطْعِيَّةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (1) .
وَمَعَ ذَلِكَ، فَلاَ يُقَال لآِكِلِهِ: إِنَّهُ أَكَل حَرَامًا، فَقَدْ نَصَّ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَلَى أَنَّهُ: لَوْ أَكَلَهُ، وَقَدْ قَبَضَهُ بِلاَ كَيْلٍ، لاَ يُقَال: إِنَّهُ أَكَل حَرَامًا، لأَِنَّهُ أَكَل مِلْكَ نَفْسِهِ، إِلاَّ أَنَّهُ آثِمٌ، لِتَرْكِهِ مَا أُمِرَ بِهِ مِنَ الْكَيْل.
50 - وَمَعَ أَنَّ الْبَيْعَ قَبْل إِعَادَةِ الْكَيْل مَكْرُوهٌ تَحْرِيمًا، لَكِنَّ الْحَنَفِيَّةَ صَرَّحُوا بِفَسَادِهِ.
وَهَذِهِ عِبَارَةُ الإِْمَامِ مُحَمَّدٍ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، قَال: إِذَا اشْتَرَيْتَ شَيْئًا مِمَّا يُكَال أَوْ يُوزَنُ أَوْ يُعَدُّ، فَاشْتَرَيْتَ مَا يُكَال كَيْلاً، وَمَا يُوزَنُ وَزْنًا، وَمَا يُعَدُّ عَدًّا، فَلاَ تَبِعْهُ حَتَّى تَكِيلَهُ وَتَزِنَهُ وَتَعُدَّهُ، فَإِنْ بِعْتَهُ قَبْل أَنْ تَفْعَل، وَقَدْ قَبَضَتْهُ، فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ فِي الْكَيْل وَالْوَزْنِ (2) .
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار 4 / 163
(2) ابن عابدين 4 / 163، وفتح القدير 6 / 140(9/174)
وَعَلَّقَ ابْنُ عَابِدِينَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى هَذَا بِأَنَّ الْفَاسِدَ هُوَ الْبَيْعُ الثَّانِي، وَهُوَ بَيْعُ الْمُشْتَرِي قَبْل كَيْلِهِ، وَأَنَّ الأَْوَّل وَقَعَ صَحِيحًا، لَكِنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ التَّصَرُّفُ فِيهِ مِنْ أَكْلٍ أَوْ بَيْعٍ حَتَّى يَكِيلَهُ، فَإِذَا بَاعَهُ قَبْل كَيْلِهِ، وَقَعَ الْبَيْعُ الثَّانِي فَاسِدًا؛ لأَِنَّ الْعِلَّةَ كَوْنُ الْكَيْل مِنْ تَمَامِ الْقَبْضِ، فَإِذَا بَاعَهُ قَبْل كَيْلِهِ، فَكَأَنَّهُ بَاعَ قَبْل الْقَبْضِ، وَبَيْعُ الْمَنْقُول قَبْل قَبْضِهِ لاَ يَصِحُّ (1) .
51 - وَيُمْكِنُ أَنْ يَتَّخِذَ التَّصَرُّفُ فِي الْمَكِيل وَالْمَوْزُونِ بَعْدَ شِرَائِهِ هَذِهِ الصُّوَرَ، عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ:
الأُْولَى: أَنْ يَشْتَرِيَ مُكَايَلَةً، وَيَبِيعَ مُكَايَلَةً، فَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ لاَ يَجُوزُ لِلْمُشْتَرِي مِنَ الْمُشْتَرِي الأَْوَّل أَنْ يَبِيعَهُ، حَتَّى يُعِيدَ الْكَيْل لِنَفْسِهِ، كَمَا كَانَ الْحُكْمُ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي الأَْوَّل، لِلنَّهْيِ عَنْهُ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ، وَلاِحْتِمَال الزِّيَادَةِ كَمَا تَقَدَّمَ (2) .
الثَّانِيَةُ: أَنْ يَشْتَرِيَ مُجَازَفَةً، وَيَبِيعَ كَذَلِكَ مُجَازَفَةً، فَلاَ يَحْتَاجُ إِلَى كَيْلٍ، لِعَدَمِ الاِفْتِقَارِ إِلَى تَعْيِينِ الْمِقْدَارِ.
الثَّالِثَةُ: أَنْ يَشْتَرِيَ مُكَايَلَةً، وَيَبِيعَ مُجَازَفَةً، فَلاَ يَحْتَاجُ الْمُشْتَرِي الثَّانِي إِلَى كَيْلٍ، لأَِنَّهُ لَمَّا اشْتَرَاهُ مُجَازَفَةً، مَلَكَ جَمِيعَ مَا كَانَ مُشَارًا إِلَيْهِ، فَكَانَ مُتَصَرِّفًا فِي مِلْكِ نَفْسِهِ.
الرَّابِعَةُ: أَنْ يَشْتَرِيَ مُجَازَفَةً، وَيَبِيعَ مُكَايَلَةً،
__________
(1) رد المحتار 4 / 163
(2) راجع فقرة (42)(9/174)