كَمَا يَحْرُمُ جَعْل الصَّلِيبِ فِي الثَّوْبِ وَنَحْوِهِ كَالطَّاقِيَّةِ وَغَيْرِهَا مِمَّا يُلْبَسُ، لِقَوْل عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لاَ يَتْرُكُ فِي بَيْتِهِ شَيْئًا فِيهِ تَصْلِيبٌ إِلاَّ قَضَبَهُ (1) أَيْ قَطَعَ مَوْضِعَ الصَّلِيبِ مِنْهُ دُونَ غَيْرِهِ، وَالْقَضْبُ الْقَطْعُ. وَهَذَا الشَّيْءُ يَشْمَل الْمَلْبُوسَ وَالسُّتُورَ وَالْبُسُطَ وَالآْلاَتِ وَغَيْرَ ذَلِكَ. كَمَا يَحْرُمُ تَصْوِيرُهَا فِي نَسْجِ الثِّيَابِ عَلَى الأَْصَحِّ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمُصَوِّرُونَ (2)
وَالصَّلاَةُ فِي الثَّوْبِ الَّذِي عَلَيْهِ تَصَاوِيرُ الْحَيَوَانَاتِ أَوِ الصُّلْبَانِ حَرَامٌ مَعَ صِحَّةِ الصَّلاَةِ، لِحَدِيثِ أَنَسٍ قَال: كَانَ قِرَامٌ لِعَائِشَةَ سَتَرَتْ بِهِ جَانِبَ بَيْتِهَا، فَقَال لَهَا: أَمِيطِي عَنَّا قِرَامَكِ هَذَا، فَإِنَّهُ لاَ تَزَال تَصَاوِيرُهُ تَعْرِضُ لِي فِي صَلاَتِي (3) وَالْقِرَامُ بِكَسْرِ الْقَافِ: سِتْرٌ رَقِيقٌ.
وَكَذَلِكَ لُبْسُ الثَّوْبِ الَّذِي نُقِشَتْ فِيهِ آيَاتٌ تُلْهِي الْمُصَلِّيَ عَنْ صَلاَتِهِ، أَوْ كَانَ مِنْ شَأْنِ لُبْسِهِ امْتِهَانُهَا.
وَلاَ بَأْسَ بِلُبْسِ الثِّيَابِ الْمُصَوَّرَةِ بِصُوَرِ غَيْرِ الْحَيَوَانَاتِ، كَشَجَرٍ وَقَمَرٍ وَجِبَالٍ وَكُل مَا لاَ رَوْحَ فِيهِ، لِمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَمَّا قَال لَهُ الْمُصَوِّرُ: لاَ أَعْرِفُ صَنْعَةً غَيْرَهَا. قَال: إِنْ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ فَصَوِّرْ
__________
(1) حديث: " كان لا يترك في بيته شيئا فيه. . " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 385 - ط السلفية) .
(2) حديث: " إن أشد الناس عذابا يوم القيامة. . . " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 382 - ط السلفية) .
(3) حديث أنس: " كان قرام لعائشة. . . " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 391 - ط السلفية) .(6/134)
مِنَ الأَْشْجَارِ مَا لاَ نَفْسَ لَهُ (1) . هَذَا مَا جَرَى عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (2) .
أَمَّا التَّصَاوِيرُ الْمَنْقُوشَةُ عَلَى السُّتُورِ وَالْبُسُطِ وَالْوَسَائِدِ وَالأَْبْوَابِ وَافْتِرَاشُهَا وَالْجُلُوسُ عَلَيْهَا وَتَعْلِيقُهَا وَاسْتِخْدَامَاتُهَا الْمُخْتَلِفَةُ فَالأَْحْكَامُ فِيهَا تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (تَصْوِير) .
ب - الأَْلْبِسَةُ الْمُزَعْفَرَةُ وَنَحْوُهَا:
14 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى تَحْرِيمِ لُبْسِ الثِّيَابِ الْمُزَعْفَرَةِ دُونَ الْمُعَصْفَرَةِ لِلرِّجَال وَإِبَاحَتِهَا لِلنِّسَاءِ، فَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتَزَعْفَرَ الرَّجُل (3)
وَلَوْ صَبَغَ بَعْضَ ثَوْبٍ بِزَعْفَرَانٍ، فَهَل هُوَ كَالتَّطْرِيفِ فَيَحْرُمُ مَا زَادَ عَلَى الأَْرْبَعِ الأَْصَابِعِ، أَوْ كَالْمَنْسُوجِ مِنَ الْحَرِيرِ وَغَيْرِهِ فَيُعْتَبَرُ الأَْكْثَرُ؟ الأَْوْجَهُ أَنَّ الْمَرْجِعَ فِي ذَلِكَ إِلَى الْعُرْفِ، فَإِنْ صَحَّ إِطْلاَقُ
__________
(1) الأثر عن ابن عباس " لما قال له المصور. . . " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 416 - ط السلفية) .
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 607، والفتاوى الخانية بهامش الفتاوى الهندية 6 / 369، وحاشية قليوبي 3 / 297، وشرح روض الطالب من أسنى المطالب 3 / 225 - 226، وروضة الطالبين 1 / 289، ونهاية المحتاج إلى شرح المنهاج 2 / 369، والمجموع شرح المهذب 3 / 186، والشرح الكبير 2 / 337 - 338، وكشاف القناع عن متن الإقناع 1 / 279 - 280 ط النصر الحديثة، والمغني لابن قدامة 1 / 590 ط الرياض الحديثة، والآداب الشرعية والمنح المرعية لابن مفلح الحنبلي 3 / 512 - 514، 523، 524 ط الرياض الحديثة، ونيل الأوطار للشوكاني 2 / 97 - 101 ط دار الجيل.
(3) حديث: " نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزعفر الرجل " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 304 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1662 - ط الحلبي) .(6/135)
الْمُزَعْفَرِ عَلَيْهِ عُرْفًا حَرُمَ وَإِلاَّ فَلاَ. وَلاَ يُكْرَهُ لِغَيْرِ الْمَرْأَةِ مَصْبُوغٌ بِغَيْرِ الزَّعْفَرَانِ وَالْعُصْفُرِ وَالأَْحْمَرِ وَالأَْصْفَرِ وَالأَْخْضَرِ وَغَيْرِهَا، سَوَاءٌ أَصُبِغَ قَبْل النَّسْجِ أَمْ بَعْدَهُ، لِعَدَمِ وُرُودِ نَهْيٍ فِي ذَلِكَ (1) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِكَرَاهَةِ لُبْسِ الثِّيَابِ الْمُزَعْفَرَةِ وَالْمُعَصْفَرَةِ لِلرِّجَال دُونَ النِّسَاءِ (2) ، لِحَدِيثِ أَنَسٍ السَّابِقِ، وَلِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: رَأَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيَّ ثَوْبَيْنِ مُعَصْفَرَيْنِ فَقَال: أَأُمُّكَ أَمَرَتْكَ بِهَذَا؟ قُلْتُ: أَغْسِلُهُمَا، قَال: بَل أَحْرِقْهُمَا (3)
وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: نَهَانِي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ التَّخَتُّمِ بِالذَّهَبِ، وَعَنْ لِبَاسِ الْقِسِيِّ، وَعَنِ الْقِرَاءَةِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَعَنْ لِبَاسِ الْمُعَصْفَرِ (4)
وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ لِغَيْرِ الْمُحْرِمِ لُبْسَ الْمُعَصْفَرِ وَنَحْوِهِ كَالْمُزَعْفَرِ، مَا لَمْ يَكُنْ مُفَدَّمًا (أَيْ شَدِيدَ الْحُمْرَةِ) وَالْمُفَدَّمُ: هُوَ الْقَوِيُّ الصَّبْغِ الَّذِي رُدَّ فِي الْعُصْفُرِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَإِلاَّ كُرِهَ لُبْسُهُ لِلرِّجَال فِي غَيْرِ الإِْحْرَامِ.
وَحَرُمَ عِنْدَ الْجَمِيعِ عَلَى الْمُحْرِمِ لُبْسُ مَا كَانَ مُزَعْفَرًا أَوْ مُعَصْفَرًا، سَوَاءٌ كَانَ رَجُلاً أَوِ امْرَأَةً، إِذَا
__________
(1) نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج 2 / 369، والمجموع شرح المهذب 4 / 339.
(2) حاشية ابن عابدين 5 / 228، 481، والفتاوى الهندية 5 / 332، والمغني لابن قدامة 1 / 585 ط الرياض الحديثة، وكشاف القناع عن متن الإقناع 1 / 284 ط النصر الحديثة.
(3) حديث: " أأمك أمرتك بهذا؟ " أخرجه مسلم (3 / 1647 - ط الحلبي) .
(4) حديث علي " نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التختم. . . . " أخرجه مسلم (3 / 1648 ط الحلبي) .(6/135)
كَانَ رِيحُ الطِّيبِ بَاقِيًا، لأَِنَّهُ طَيِّبٌ، وَلاَ بَأْسَ بِسَائِرِ الأَْلْوَانِ غَيْرِ ذَلِكَ (1) .
ج - لُبْسُ مَا يَشِفُّ أَوْ يَصِفُ:
15 - لاَ يَجُوزُ لُبْسُ الرَّقِيقِ مِنَ الثِّيَابِ إِذَا كَانَ يَشِفُّ عَنِ الْعَوْرَةِ، فَيُعْلَمُ لَوْنُ الْجِلْدِ مِنْ بَيَاضٍ أَوْ حُمْرَةٍ، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الرَّجُل وَالْمَرْأَةُ وَلَوْ فِي بَيْتِهَا، هَذَا إِنْ رَآهَا غَيْرُ زَوْجِهَا، لِمَا يَأْتِي مِنَ الأَْدِلَّةِ، وَهُوَ بِالإِْضَافَةِ إِلَى ذَلِكَ مُخِلٌّ بِالْمُرُوءَةِ، وَلِمُخَالَفَتِهِ لِزِيِّ السَّلَفِ، وَلاَ تَصِحُّ الصَّلاَةُ فِي مِثْل تِلْكَ الثِّيَابِ، وَيَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ لُبْسُهُ إِذَا كَانَ لاَ يَرَاهَا إِلاَّ زَوْجُهَا. أَمَّا مَا كَانَ رَقِيقًا يَسْتُرُ الْعَوْرَةَ، وَلَكِنَّهُ يَصِفُ حَجْمَهَا حَتَّى يُرِي شَكْل الْعُضْوِ فَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ. لِقَوْل جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: " إِنَّ الرَّجُل لَيَلْبَسُ وَهُوَ عَارٍ، يَعْنِي الثِّيَابَ الرِّقَاقَ (2) "
وَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَال: كَسَانِي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُبْطِيَّةً كَثِيفَةً مِمَّا أَهْدَاهَا لَهُ دِحْيَةُ الْكَلْبِيُّ، فَكَسَوْتُهَا امْرَأَتِي، فَقَال لِي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَكَ لَمْ تَلْبَسِ الْقُبْطِيَّةَ؟ قُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ كَسَوْتُهَا امْرَأَتِي. فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مُرْهَا فَلْتَجْعَل تَحْتَهَا غِلاَلَةً، فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ تَصِفَ حَجْمَ عِظَامِهَا (3)
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 2 / 59، جواهر الإكليل 1 / 188 ومواهب الجليل لشرح مختصر خليل 3 / 147 - 148 ط النجاح بليبيا.
(2) الأثر عن جرير " إن الرجل ليلبس وهو عار، يعني الثياب الرقاق " أخرجه الطبراني (2 / 329 - ط وزارة الأوقاف العراقية) وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح (مجمع الزوائد 5 / 136 - ط القدسي) .
(3) حديث: " أسامة: مرها فلتجعل تحتها غلالة. . . " أخرجه أحمد (5 / 205 - ط الميمنية) وحسنه الهيثمي في المجمع (5 / 137 - ط القدسي) . وانظر: حاشية ابن عابدين 1 / 274 - 275، 5 / 238 والمهذب 1 / 71، وجواهر الإكليل 1 / 42، وكشاف القناع عن متن الإقناع 1 / 278 ط النصر الحديثة، والمغني لابن قدامة 1 / 577 - 579 ط الرياض الحديثة، والآداب الشرعية لابن مفلح الحنبلي 3 / 523 - 524 ط الرياض الحديثة، ومجمع الزوائد ومنبع الفوائد للهيثمي 5 / 136 ط القدسي.(6/136)
فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى النَّهْيِ عَنْ لُبْسِ اللِّبَاسِ الَّذِي يَصِفُ مَا تَحْتَهُ مِنَ الْبَدَنِ، وَلِهَذَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ عَلْقَمَةَ عَنْ أُمِّهِ قَالَتْ: دَخَلَتْ حَفْصَةُ بِنْتُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَلَى عَائِشَةَ وَعَلَيْهَا خِمَارٌ رَقِيقٌ، فَشَقَّتْهُ عَائِشَةُ، وَكَسَتْهَا خِمَارًا كَثِيفًا (1) . وَالْخِمَارُ بِالْكَسْرِ هُوَ: مَا تُغَطِّي بِهِ الْمَرْأَةُ رَأْسَهَا (2) .
وَعَنْ دِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ قَال: أُتِيَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَبَاطِيَّ، فَأَعْطَانِي مِنْهَا قُبْطِيَّةً. فَقَال: اصْدَعْهَا صَدْعَيْنِ، فَاقْطَعْ أَحَدَهُمَا قَمِيصًا، وَأَعْطِ الآْخَرَ امْرَأَتَكَ تَخْتَمِرُ بِهِ، فَلَمَّا أَدْبَرَ قَال: وَأْمُرِ امْرَأَتَكَ أَنْ تَجْعَل تَحْتَهُ ثَوْبًا لاَ يَصِفُهَا، وَقَبَاطِيُّ جَمْعُ: قُبْطِيَّةٍ بِكَسْرٍ أَوْ ضَمٍّ وَسُكُونٍ، أَيْ ثَوْبٌ يَصْنَعُهُ قِبْطُ مِصْرَ رَقِيقٌ أَبْيَضُ (3) . .
د - الأَْلْبِسَةُ الْمُخَالِفَةُ لِعَادَاتِ النَّاسِ:
16 - لُبْسُ الأَْلْبِسَةِ الَّتِي تُخَالِفُ عَادَاتِ النَّاسِ
__________
(1) حديث أم علقمة: " دخلت حفصة. . . " أخرجه البيهقي (2 / 235 - ط دائرة المعارف العثمانية) وفي إسناده جهالة (ميزان الاعتدال 4 / 613 - ط الحلبي) .
(2) مجمع الزوائد ومنبع الفوائد 5 / 136.
(3) حديث دحية الكلبي " اصدعها صدعين. . . " أخرجه أبو داود (4 / 364 - ط عزت عبيد دعاس) وفي إسناده جهالة.(6/136)
مَكْرُوهٌ لِمَا فِيهِ مِنْ شُهْرَةٍ، أَيْ مَا يَشْتَهِرُ بِهِ عِنْدَ النَّاسِ وَيُشَارُ إِلَيْهِ بِالأَْصَابِعِ، لِئَلاَّ يَكُونَ ذَلِكَ سَبَبًا إِلَى حَمْلِهِمْ عَلَى غِيبَتِهِ، فَيُشَارِكَهُمْ فِي إِثْمِ الْغِيبَةِ.
فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الشُّهْرَتَيْنِ فَقِيل: يَا رَسُول اللَّهِ وَمَا الشُّهْرَتَانِ؟ قَال: رِقَّةُ الثِّيَابِ وَغِلَظُهَا، وَلِينُهَا وَخُشُونَتُهَا، وَطُولُهَا وَقِصَرُهَا، وَلَكِنْ سَدَادًا بَيْنَ ذَلِكَ وَاقْتِصَادًا (1)
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا مَنْ لَبِسَ ثَوْبَ شُهْرَةٍ أَلْبَسَهُ اللَّهُ ثَوْبَ مَذَلَّةٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (2) قَال فِي لِسَانِ الْعَرَبِ: الشُّهْرَةُ ظُهُورُ الشَّيْءِ فِي شُنْعَةٍ حَتَّى يَشْهَرَهُ النَّاسُ، وَيُكْرَهُ لُبْسُ زِيٍّ مُزْرٍ بِهِ لأَِنَّهُ مِنَ الشُّهْرَةِ، فَإِنْ قَصَدَ بِهِ الاِخْتِيَال أَوْ إِظْهَارَ التَّوَاضُعِ حَرُمَ لأَِنَّهُ رِيَاءٌ: مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ رَاءَى رَاءَى بِهِ (3) .
وَيُكْرَهُ زِيُّ أَهْل الشِّرْكِ، لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ (4) كَمَا كُرِهَ طُول الرِّدَاءِ مَخَافَةَ أَنْ يَغْفُل عَنْهُ فَيَجُرَّهُ مِنْ خَلْفِهِ، وَقَدْ جَاءَ
__________
(1) حديث: " نهى عن الشهرتين. . . . " أخرجه البيهقي (3 / 273 - ط دائرة المعارف العثمانية) وقال: هذا منقطع.
(2) حديث: " من لبس ثوب شهرة ألبسه الله ثوب مذلة. . . . " أخرجه أبو داود (4 / 314 - عزت عبيد دعاس) وحسنه المنذري في الترغيب (3 / 44 - ط دار إحياء الكتب العربية) .
(3) كشاف القناع عن متن الإقناع 1 / 278 - 279، 285، 286 - ط النصر الحديثة. وحديث: " من راءى راءى الله به. . . ". أخرجه مسلم (4 / 2289 - ط الحلبي) .
(4) الآداب الشرعية لابن مفلح الحنبلي 3 / 533. وحديث: " من تشبه بقوم فهو منهم. . . ". أخرجه أبو داود (4 / 314 - ط عزت عبيد دعاس) وحسنه ابن حجر في الفتح (10 / 222 - ط بولاق) .(6/137)
النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ لِمَنْ فَعَلَهُ بَطَرًا، وَالتَّوَقِّي مِنْ ذَلِكَ عَلَى كُل حَالٍ مِنَ الأَْمْرِ الَّذِي يَنْبَغِي، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ يَنْظُرُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى مَنْ جَرَّ إِزَارَهُ بَطَرًا (1) .
هـ - الأَْلْبِسَةُ النَّجِسَةُ:
17 - لُبْسُ الثَّوْبِ النَّجِسِ لِسَتْرِ الْعَوْرَةِ فِي غَيْرِ صَلاَةٍ جَائِزٌ.
أَمَّا فِي الصَّلاَةِ، فَلَوْ وَجَدَ سَاتِرًا نَجِسًا وَلَمْ يَجِدْ غَيْرَهُ فَإِنَّهُ يَسْتَتِرُ بِهِ وَلاَ يُصَلِّي عَارِيًّا، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ، وَأَحَدُ قَوْلَيْنِ لِكُلٍّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ.
أَمَّا الْقَوْل الآْخَرُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَإِنَّهُ يُصَلِّي عَارِيًّا وَلاَ يَسْتَتِرُ بِالنَّجِسِ. أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَإِذَا كَانَ الرُّبُعُ مِنَ الثَّوْبِ طَاهِرًا وَجَبَ الاِسْتِتَارُ بِهِ وَلاَ يُصَلِّي عَارِيًّا، وَإِنْ كَانَ الطَّاهِرُ أَقَل مِنْ رُبُعِهِ يُخَيَّرُ بَيْنَ الاِسْتِتَارِ بِهِ أَوِ الصَّلاَةِ عَارِيًّا، وَإِنْ كَانَ كُلُّهُ نَجِسًا فَذَهَبَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ إِلَى أَنَّهُ يُصَلِّي بِهِ وَلاَ يُصَلِّي عُرْيَانًا، لأَِنَّ فِي الصَّلاَةِ بِهِ تَرْكَ فَرْضٍ وَاحِدٍ، وَفِي الصَّلاَةِ عُرْيَانًا تَرْكَ الْفُرُوضِ مِنْ قِيَامٍ وَرُكُوعٍ وَسُجُودٍ، بَل يُصَلِّي قَاعِدًا بِالإِْيمَاءِ. وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ إِلَى التَّفْرِيقِ فِي ذَلِكَ بَيْنَ النَّجِسِ الأَْصْلِيِّ كَجِلْدِ مَيْتَةٍ لَمْ يُدْبَغْ وَبَيْنَ الْمُتَنَجِّسِ، فَلاَ يَسْتَتِرُ بِالأَْوَّل، وَيَسْتَتِرُ بِالثَّانِي (2) .
__________
(1) المدخل لابن الحاج 1 / 137، والدين الخالص 4 / 521، ومجمع الزوائد ومنبع الفوائد 5 / 135. وحديث: " لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر إزاره بطرا. . . " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 258 - ط السلفية) .
(2) رد المحتار على الدر المختار 1 / 276، وفتح القدير 1 / 184 ط بولاق، والطحطاوي على مراقي الفلاح ص 130، وروضة الطالبين 1 / 288، والمجموع شرح المهذب 3 / 143، وشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 1 / 212، والمغني لابن قدامة 1 / 587، 594 - 595 ط الرياض الحديثة.(6/137)
و - الأَْلْبِسَةُ الْمَغْصُوبَةُ:
18 - لَيْسَ لِلْعَارِي أَخْذُ الثَّوْبِ قَهْرًا (غَصْبًا) مِنْ مَالِكِهِ لِلصَّلاَةِ فِيهِ، وَتَصِحُّ بِدُونِهِ مَا لَمْ يَجِدْ غَيْرَهُ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ حَقِّ الآْدَمِيِّ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يَجِدْ مَاءً يَتَوَضَّأُ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَغْصِبَهُ، فَإِنَّهُ يَتَيَمَّمُ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (1) .
حُكْمُ اتِّخَاذِ الأَْلْبِسَةِ الْخَاصَّةِ
بِالْمُنَاسَبَاتِ وَالأَْشْخَاصِ
:
أ - مَلاَبِسُ الأَْعْيَادِ وَمَجَامِعِ النَّاسِ:
19 - جَعَل اللَّهُ تَعَالَى الأَْعْيَادَ أَيَّامَ فَرَحٍ وَسُرُورٍ وَزِينَةٍ لِلْمُسْلِمِينَ، وَلِذَا فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ التَّطَيُّبَ وَالتَّزَيُّنَ لَهَا مُسْتَحَبٌّ، وَالتَّزَيُّنُ بِلُبْسِ الثِّيَابِ الْجَمِيلَةِ وَالْجَدِيدَةِ، وَأَفْضَلُهَا الْبَيَاضُ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْبَسُوا مِنْ ثِيَابِكُمُ الْبَيَاضَ، فَإِنَّهَا مِنْ خَيْرِ ثِيَابِكُمْ (2) وَلِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ إِظْهَارِ نِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عَبْدِهِ الَّتِي يُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَهَا عَلَيْهِ، وَلِذَا لاَ يَنْبَغِي تَرْكُ إِظْهَارِ الزِّينَةِ وَالتَّطَيُّبِ فِي الأَْعْيَادِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا تَقَشُّفًا، فَقَدْ وَرَدَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ (3) .
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 59، وحاشية ابن عابدين 1 / 276، وروضة الطالبين 1 / 288، والشرح الكبير 1 / 211، والمغني لابن قدامة 1 / 595.
(2) حديث: " البسوا من ثيابكم البياض، فإنها من خير ثيابكم. . . " أخرجه أبو داود، (3 / 209 - ط عزت عبيد دعاس) وإسناده صحيح.
(3) حديث: " إن الله تعالى يحب أن يرى أثر. . . " سبق تخريجه (ف / 2) .(6/138)
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَلْبَسُ فِي الْعِيدَيْنِ بُرْدَةً حِبَرَةً (1) .
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا عَلَى أَحَدِكُمْ لَوِ اشْتَرَى ثَوْبَيْنِ لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ سِوَى ثَوْبِ مِهْنَتِهِ (2) .
وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَعْتَمُّ، وَيَلْبَسُ بُرْدَهُ الأَْحْمَرَ فِي الْعِيدَيْنِ وَالْجُمُعَةِ (3) .
وَعَنْ جَابِرٍ قَال: كَانَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جُبَّةٌ يَلْبَسُهَا فِي الْعِيدَيْنِ وَيَوْمِ الْجُمُعَةِ (4) .
وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلْبَسُ بُرْدَيْنِ أَخْضَرَيْنِ وَلَبِسَ مَرَّةً بُرْدًا أَحْمَرَ (5) . وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ كَانَ يَلْبَسُ كِسَاءَ خَزٍّ بِخَمْسِينَ
__________
(1) حديث: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس في العيدين بردة حبرة " أخرجه ابن الأحمر كما في المغني لابن قدامة (2 / 370 - ط الرياض) وضعفه النووي في المجموع (5 / 6 - ط المنيرية) .
(2) حديث: " ما على أحدكم لو اشترى ثوبين ليوم الجمعة سوى ثوب مهنته. . . " أخرجه ابن ماجه (1 / 348 - ط الحلبي) وقال البوصيري: إسناده صحيح.
(3) عن جابر " كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتم، ويلبس برده الأحمر في العيدين والجمعة. . . " أخرجه البيهقي (3 / 280 - ط دائرة المعارف العثمانية) وفي إسناده انقطاع.
(4) حديث: " كان للنبي صلى الله عليه وسلم جبة يلبسها في العيدين ويوم الجمعة. . . ". أخرجه ابن خزيمة (3 / 132 - ط المكتب الإسلامي) وإسناده ضعيف. (فيض القدير 5 / 174 ط المكتبة التجارية) . وانظر: رد المحتار على الدر المختار1 / 556، وفتح القدير 2 / 40 ط دار إحياء التراث العربي، وحاشية الجمل على شرح المنهج 2 / 98، والمهذب 1 / 126، جواهر الإكليل 1 / 103، والمغني لابن قدامة 2 / 370 ط الرياض الحديثة، وكشاف القناع عن متن الإقناع 2 / 51 - 52 ط النصر الحديثة.
(5) حديث البردين: أخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند (12 / 76 - ط دار المعارف) وإسناده صحيح.(6/138)
دِينَارًا، يَلْبَسُهُ فِي الشِّتَاءِ، فَإِذَا كَانَ الصَّيْفُ تَصَدَّقَ بِهِ، أَوْ بَاعَهُ فَتَصَدَّقَ بِثَمَنِهِ، وَكَانَ يَلْبَسُ فِي الصَّيْفِ ثَوْبَيْنِ مِنْ مَتَاعِ مِصْرَ مُمَشَّقَيْنِ (أَيْ مَصْبُوغَيْنِ بِالْمِشَقِ وَهُوَ صِبْغٌ أَحْمَرُ) وَيَقْرَأُ قَوْله تَعَالَى: {قُل مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} (1) فَقَدْ دَلَّتْ عَلَى اسْتِحْبَابِ لِبَاسِ الرَّفِيعِ مِنَ الثِّيَابِ وَالتَّجَمُّل بِهَا فِي الْجُمَعِ وَالأَْعْيَادِ وَعِنْدَ لِقَاءِ النَّاسِ وَزِيَارَةِ الإِْخْوَانِ.
قَال أَبُو الْعَالِيَةِ: كَانَ الْمُسْلِمُونَ إِذَا تَزَاوَرُوا تَجَمَّلُوا. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ رَأَى حُلَّةً سِيَرَاءَ تُبَاعُ عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ، فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ، لَوِ اشْتَرَيْتَهَا لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ وَلِلْوُفُودِ إِذَا قَدِمُوا عَلَيْكَ، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا يَلْبَسُ هَذَا مَنْ لاَ خَلاَقَ لَهُ فِي الآْخِرَةِ (2) فَمَا أَنْكَرَ ذِكْرَ التَّجَمُّل وَإِنَّمَا أَنْكَرَ عَلَيْهِ كَوْنَهَا سِيَرَاءَ، (وَالسِّيَرَاءُ نَوْعٌ مِنَ الْبُرُودِ، فِيهِ خُطُوطٌ صُفْرٌ، أَوْ يُخَالِطُهُ حَرِيرٌ) .
وَقَال أَبُو الْفَرَجِ: كَانَ السَّلَفُ يَلْبَسُونَ الثِّيَابَ الْمُتَوَسِّطَةَ لاَ الْمُتَرَفِّعَةَ وَلاَ الدُّونَ، وَيَتَخَيَّرُونَ أَجْوَدَهَا لِلْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَلِلِقَاءِ الإِْخْوَانِ، وَلَمْ يَكُنْ تَخَيُّرُ الأَْجْوَدِ عِنْدَهُمْ قَبِيحًا.
وَأَمَّا اللِّبَاسُ الَّذِي يُزْرِي بِصَاحِبِهِ - أَيْ وَهُوَ يَجِدُ غَيْرَهُ - فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ إِظْهَارَ الزُّهْدِ وَإِظْهَارَ الْفَقْرِ، وَكَأَنَّهُ لِسَانُ شَكْوَى مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَيُوجِبُ احْتِقَارَ اللاَّبِسِ، وَكُل ذَلِكَ مَكْرُوهٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ.
__________
(1) سورة الأعراف / 32.
(2) حديث عمر رضي الله عنه " رأى حلة سيراء. . . " أخرجه مسلم (3 / 1640 - ط الحلبي) .(6/139)
فَإِنْ قَال قَائِلٌ: تَجْوِيدُ اللِّبَاسِ - هَوَى النَّفْسِ وَقَدْ أُمِرْنَا بِمُجَاهَدَتِهَا، وَتَزَيُّنٌ لِلْخَلْقِ وَقَدْ أُمِرْنَا أَنْ تَكُونَ أَفْعَالُنَا لِلَّهِ لاَ لِلْخَلْقِ، فَالْجَوَابُ: أَنَّهُ لَيْسَ كُل مَا تَهْوَاهُ النَّفْسُ يُذَمُّ، وَلاَ كُل مَا يُتَزَيَّنُ بِهِ لِلنَّاسِ يُكْرَهُ. وَإِنَّمَا يُنْهَى عَنْ ذَلِكَ إِذَا كَانَ الشَّرْعُ قَدْ نَهَى عَنْهُ، أَوْ عَلَى وَجْهِ الرِّيَاءِ فِي بَابِ الدِّينِ، فَإِنَّ الإِْنْسَانَ يُحِبُّ أَنْ يُرَى جَمِيلاً، وَذَلِكَ حَظٌّ لِلنَّفْسِ لاَ يُلاَمُ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا يُسَرِّحُ شَعْرَهُ، وَيَنْظُرُ فِي الْمِرْآةِ، وَيُسَوِّي عِمَامَتَهُ، وَيَلْبَسُ بِطَانَةَ الثَّوْبِ الْخَشِنَةِ إِلَى دَاخِلٍ، وَظِهَارَتَهُ الْحَسَنَةَ إِلَى خَارِجٍ، وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا مَا يُكْرَهُ وَلاَ يُذَمُّ.
وَقَدْ رَوَى مَكْحُولٌ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْتَظِرُونَهُ عَلَى الْبَابِ، فَخَرَجَ يُرِيدُهُمْ، وَفِي الدَّارِ رَكْوَةٌ فِيهَا مَاءٌ، فَجَعَل يَنْظُرُ فِي الْمَاءِ، وَيُسَوِّي لِحْيَتَهُ وَشَعْرَهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ، وَأَنْتَ تَفْعَل هَذَا؟ قَال: نَعَمْ، إِذَا خَرَجَ الرَّجُل إِلَى إِخْوَانِهِ فَلْيُهَيِّئْ مِنْ نَفْسِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَال (1) .
ب - مَلاَبِسُ الإِْحْرَامِ بِالْحَجِّ:
20 - يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مَلاَبِسَ خَاصَّةً، وَبَيَانُ مَا يُرَاعَى فِي ذَلِكَ تَقَدَّمَ فِي مُصْطَلَحِ (إِحْرَام) ج 2 ص 128.
ج - مَلاَبِسُ الْمَرْأَةِ الْمُحِدَّةِ:
21 - الإِْحْدَادُ بِمَعْنَاهُ الْعَامِّ: تَرْكُ الزِّينَةِ وَمَا فِي
__________
(1) حديث: " إذا خرج الرجل إلى إخوانه فليهيئ. . . " أخرجه السمعاني في أدب الإملاء (ص 32 - ط ليدن) وإسناده ضعيف لإرساله. . وانظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 7 / 195 - 197، والمغني لابن قدامة 2 / 370 ط الرياض الحديثة.(6/139)
مَعْنَاهَا. وَاخْتُلِفَ فِي لُبْسِ الْمُحِدَّةِ لِبَعْضِ الثِّيَابِ الْمُلَوَّنَةِ عَلَى وَجْهِ الزِّينَةِ وَفِي لُبْسِ الْحُلِيِّ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (إِحْدَاد: ج 2 ص 103) .
د - لِبَاسُ الْعُلَمَاءِ:
22 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ لِلْعُلَمَاءِ أَنْ يَكُونَ لِبَاسُهُمْ فَاخِرًا، كَصُوفٍ وَجُوخٍ رَفِيعٍ وَأَبْرَادٍ رَقِيقَةٍ، وَأَنْ تَكُونَ ثِيَابُهُمْ وَاسِعَةً، وَيَحْسُنُ لَهُمْ لَفُّ عِمَامَةٍ طَوِيلَةٍ تَعَارَفُوهَا، فَإِنْ عُرِفَ عُرْفٌ فِي بِلاَدٍ أُخَرَ أَنَّهَا تُفْعَل بِغَيْرِ الطُّول يَفْعَل، لإِِظْهَارِ مَقَامِ الْعِلْمِ، وَلأَِجْل أَنْ يُعْرَفُوا فَيُسْأَلُوا عَنْ أُمُورِ الدِّينِ (1) . فَقَدْ كَانَ أَصْحَابُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْتَمُّونَ، وَيُرْخُونَ الذُّؤَابَةَ بَيْنَ أَكْتَافِهِمْ، لأَِنَّ إِرْخَاءَهَا مِنْ زِيِّ أَهْل الْعِلْمِ وَالْفَضْل وَالشَّرَفِ، وَلِذَا لاَ يَجُوزُ أَنْ يُمَكَّنَ الْكُفَّارُ مِنَ التَّشَبُّهِ بِهِمْ، وَأَنْ يَلْبَسُوا الْقَلاَنِسَ إِذَا انْتَهَوْا فِي عِلْمِهِمْ وَعِزِّهِمْ وعَظُمَتْ مَنْزِلَتُهُمْ وَاقْتَدَى النَّاسُ بِهِمْ، فَيَتَمَيَّزُونَ بِهَا لِلشَّرَفِ عَلَى مَنْ دُونَهُمْ، لِمَا رَفَعَهُمُ اللَّهُ بِعِلْمِهِمْ عَلَى جَهَلَةِ خَلْقِهِ، وَكَذَلِكَ الْخُطَبَاءُ عَلَى الْمَنَابِرِ لِعُلُوِّ مَقَامِهِمْ (2) .
وَعَلَى هَذَا فَمَا صَارَ شِعَارًا لِلْعُلَمَاءِ يُنْدَبُ لَهُمْ لُبْسُهُ لِيُعْرَفُوا بِذَلِكَ، فَيُسْأَلُوا، وَلِيُطَاوَعُوا فِيمَا عَنْهُ زَجَرُوا، وَعَلَّل ذَلِكَ ابْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ بِأَنَّهُ سَبَبٌ لاِمْتِثَال أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَالاِنْتِهَاءِ عَمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ (3) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 274، 5 / 226، وكشاف القناع 1 / 279.
(2) أحكام أهل الذمة لابن قيم الجوزية 2 / 738، 746 الطبعة الأولى مطبعة جامعة دمشق.
(3) نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج 2 / 370.(6/140)
وَكَرِهَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لَهُمْ سَعَةَ ثِيَابِهِمْ وَطُولَهَا، وَطُول أَكْمَامِهِمْ، وَالْكِبْرَ الْخَارِجَ عَنْ عَادَةِ النَّاسِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ إِضَاعَةٍ لِلْمَال الْمَنْهِيِّ عَنْهَا، وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ إِضَاعَتِهِ، فَقَدْ يُفَصَّل مِنْ ذَلِكَ الْكُمِّ ثَوْبٌ غَيْرُهُ (1) وَرَوَى مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي مُوَطَّئِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِزْرَةُ الْمُسْلِمِ إِلَى أَنْصَافِ سَاقَيْهِ. لاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَعْبَيْنِ. مَا أَسْفَل مِنْ ذَلِكَ فَفِي النَّارِ. مَا أَسْفَل مِنْ ذَلِكَ فَفِي النَّارِ. لاَ يَنْظُرُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى مَنْ جَرَّ إِزَارَهُ بَطَرًا (2) فَهَذَا نَصٌّ صَرِيحٌ مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلإِْنْسَانِ أَنْ يَجُرَّ ثَوْبَهُ بِقَصْدِ التَّكَبُّرِ. إِذْ أَنَّ مَا تَحْتَ الْكَعْبَيْنِ لَيْسَ لِلإِْنْسَانِ بِهِ حَاجَةٌ فَمَنَعَهُ مِنْهُ. وَأَبَاحَ ذَلِكَ لِلنِّسَاءِ، فَلِلْمَرْأَةِ أَنْ تَجُرَّ ثَوْبَهَا خَلْفَهَا شِبْرًا أَوْ ذِرَاعًا لِلْحَاجَةِ الدَّاعِيَةِ إِلَى ذَلِكَ، وَهِيَ التَّسَتُّرُ وَالإِْبْلاَغُ فِيهِ، إِذْ أَنَّ الْمَرْأَةَ كُلَّهَا عَوْرَةٌ إِلاَّ مَا اسْتُثْنِيَ، وَذَلِكَ فِيهَا بِخِلاَفِ الرِّجَال.
لِبَاسُ أَهْل الذِّمَّةِ:
23 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ أَخْذِ أَهْل الذِّمَّةِ بِمَا يُمَيِّزُهُمْ عَنِ الْمُسْلِمِينَ فِي لِبَاسِهِمْ، فَلاَ يَتَشَبَّهُونَ بِهِمْ، لأَِنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا مُخَالِطِينَ لأَِهْل الإِْسْلاَمِ كَانَ لاَ بُدَّ مِنْ تَمْيِيزِهِمْ عَنْهُمْ، كَيْ تَكُونَ مُعَامَلَتُهُمْ مُخْتَلِفَةً عَنْ مُعَامَلَةِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ التَّوْقِيرِ وَالإِْجْلاَل، وَذَلِكَ
__________
(1) المدخل لابن الحاج 1 / 124، 129، 135، والحطاب 6 / 152، وكشاف القناع 1 / 279، والآداب الشرعية 3 / 533 - 534، والإنصاف 11 / 202.
(2) حديث: " إزرة المسلم إلى أنصاف ساقيه. . . " أخرجه أبو داود (4 / 353 - ط عزت عبيد دعاس) وإسناده صحيح (فيض القدير 1 / 480 - ط المكتبة التجارية) .(6/140)
لاَ يَجُوزُ لَهُمْ. وَإِذَا وَجَبَ التَّمْيِيزُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ بِمَا فِيهِ صَغَارُهُمْ لاَ إِعْزَازُهُمْ، وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (أَهْل الذِّمَّةِ) .
الأَْلْبِسَةُ الَّتِي تُجْزِئُ فِي النَّفَقَةِ الْوَاجِبَةِ:
24 - يَجِبُ لِلزَّوْجَةِ وَالأَْوْلاَدِ وَالْوَالِدَيْنِ وَمَنْ تَجِبُ لَهُمُ النَّفَقَةُ كِسْوَةٌ مُقَدَّرَةٌ عَلَى حَسَبِ حَال مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ، عَلَى خِلاَفٍ فِي ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (نَفَقَة) .
مَا يُجْزِئُ مِنَ الأَْلْبِسَةِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ:
25 - فِي كَفَّارَةِ الأَْيْمَانِ إِنِ اخْتَارَ الْحَانِثُ أَنْ يُكَفِّرَ بِالْكِسْوَةِ كَسَا عَشَرَةَ مَسَاكِين بِمَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْكِسْوَةِ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (كَفَّارَة) .
شِرَاءُ الأَْلْبِسَةِ أَوِ اسْتِئْجَارُهَا لِلصَّلاَةِ فِيهَا:
26 - أَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ شِرَاءَ الأَْلْبِسَةِ أَوِ اسْتِئْجَارَهَا لِلصَّلاَةِ. وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ وَجَدَ مَنْ يَبِيعُهُ ثَوْبًا بِثَمَنِ مِثْلِهِ، أَوْ يُؤَجِّرُهُ بِأُجْرَةِ مِثْلِهِ، أَوْ زِيَادَةٍ يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهَا، وَقَدَرَ عَلَى ذَلِكَ الْعِوَضِ لَزِمَهُ قَبُولُهُ. وَإِنْ كَانَتْ كَثِيرَةً لاَ يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهَا لَمْ يَلْزَمْهُ، وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا كَانَ بِثَمَنٍ مُعْتَادٍ لَزِمَهُ وَإِلاَّ فَلاَ (1) .: (ر: صَلاَة، وَإِجَارَة) .
مَا يُتْرَكُ لِلْمُفْلِسِ مِنَ الأَْلْبِسَةِ:
27 - إِذَا حُجِرَ عَلَى الْمُفْلِسِ يُتْرَكُ لَهُ مِنَ اللِّبَاسِ
__________
(1) الفتاوى الهندية 4 / 465 - 466، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 1 / 211، وروضة الطالبين 5 / 225 ط المكتب الإسلامي، والمغني لابن قدامة 1 / 594 ط الرياض الحديثة.(6/141)
أَقَل مَا يَكْفِيهِ، وَمَا لاَ غِنَى لَهُ عَنْهُ: قَمِيصٌ وَسَرَاوِيل وَشَيْءٌ يَلْبَسُهُ عَلَى رَأْسِهِ، إِمَّا عِمَامَةٌ أَوْ قَلَنْسُوَةٌ أَوْ غَيْرُهُمَا مِمَّا جَرَتْ بِهِ عَادَتُهُ وَلِرِجْلِهِ حِذَاءٌ، وَإِنِ احْتَاجَ إِلَى جُبَّةٍ أَوْ فَرْوَةٍ أَوْ نَحْوِهِمَا تُرِكَ لَهُ ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ لَهُ ثِيَابٌ رَفِيعَةٌ لاَ يَلْبَسُ مِثْلُهُ مِثْلَهَا بِيعَتْ وَاشْتُرِيَ لَهُ كِسْوَةُ مِثْلِهِ، وَرُدَّ الْفَضْل عَلَى الْغُرَمَاءِ. فَإِنْ كَانَتْ إِذَا بِيعَتْ وَاشْتُرِيَ لَهُ كِسْوَةٌ لاَ يَفْضُل مِنْهَا شَيْءٌ تُرِكَتْ لَهُ، فَإِنَّهُ لاَ فَائِدَةَ فِي بَيْعِهَا. وَفِي قَوْلٍ لِلْحَنَفِيَّةِ: يُتْرَكُ لَهُ مِثْل مَا هُوَ لاَبِسُهُ، لأَِنَّهُ إِذَا غَسَل ثِيَابَهُ لاَ بُدَّ لَهُ مِنْ مَلْبَسٍ يَلْبَسُهُ.
وَتُزَادُ الْمَرْأَةُ مَا لاَ غِنَى لَهَا عَنْهُ، كَمِقْنَعَةٍ وَغَيْرِهَا مِمَّا يَلِيقُ بِهَا.
وَيُتْرَكُ لِعِيَالِهِ مِنَ الْمَلاَبِسِ وَالثِّيَابِ مِثْل مَا يُتْرَكُ لَهُ (1) . (ر: إِفْلاَس) .
سَلَبُ الْقَتِيل مِنَ الأَْلْبِسَةِ:
28 - إِذَا قَال الإِْمَامُ: مَنْ قَتَل قَتِيلاً فَلَهُ سَلَبُهُ، فَسَلَبُ الْقَتِيل مِنَ الأَْلْبِسَةِ مُبَاحٌ لِمَنْ حَارَبَ الْكُفَّارَ دِفَاعًا عَنِ الإِْسْلاَمِ وَالْمُسْلِمِينَ، وَقَتَل مِنْهُمْ مَنْ يَجُوزُ قَتْلُهُ، وَذَلِكَ اتِّفَاقًا، وَكَذَلِكَ إِذَا لَمْ يَقُل الإِْمَامُ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ. وَالأَْصْل فِيهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ قَتَل قَتِيلاً لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ (2) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 95، وشرح روض الطالب من أسنى المطالب 2 / 193 ط المكتبة الإسلامية، وجواهر الإكليل 2 / 89، ومواهب الجليل لشرح مختصر خليل 2 / 502، والمغني لابن قدامة 4 / 490 ط الرياض الحديثة.
(2) حديث: " من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه. . . " أخرجه البخاري (الفتح 8 / 35 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1371 - ط الحلبي) .(6/141)
وَسَلَبُ الْقَتِيل مَا كَانَ لاَبِسًا لَهُ مِنْ ثِيَابٍ وَعِمَامَةٍ وَقَلَنْسُوَةٍ وَمِنْطَقَةٍ وَدِرْعٍ وَمِغْفَرٍ وَبَيْضَةٍ وَتَاجٍ وَأَسْوِرَةٍ وَرَانٍ وَخُفٍّ بِمَا فِيهِ مِنْ حِلْيَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ (1) .
وَفِي إِعْطَائِهِ لِمَنْ قَتَلَهُ تَفْصِيلٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ (غَنِيمَة) .
سُنَنُ اللُّبْسِ وَآدَابُهُ وَأَدْعِيَتُهُ الْمَأْثُورَةُ:
29 - مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يَبْدَأَ الْمُسْلِمُ وَهُوَ يَلْبَسُ ثَوْبَهُ أَوْ نَعْلَهُ أَوْ سَرَاوِيلَهُ وَشِبْهَهَا بِالْيَمِينِ، بِإِدْخَال الْيَدِ الْيُمْنَى فِي كُمِّ الثَّوْبِ، وَالرِّجْل الْيُمْنَى فِي كُلٍّ مِنَ النَّعْل وَالسَّرَاوِيل، وَفِي الْخَلْعِ بِالأَْيْسَرِ ثُمَّ الأَْيْمَنِ.
فَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْجِبُهُ التَّيَمُّنُ فِي شَأْنِهِ كُلِّهِ، فِي طُهُورِهِ وَتَنَعُّلِهِ وَتَرَجُّلِهِ (2) وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ التَّيَامُنَ مَا اسْتَطَاعَ فِي طُهُورِهِ وَتَنَعُّلِهِ وَتَرَجُّلِهِ وَفِي شَأْنِهِ كُلِّهِ (3) . وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا لَبِسَ قَمِيصًا بَدَأَ بِمَيَامِنِهِ (4) وَعَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا لَبِسْتُمْ
__________
(1) رد المحتار على الدر المختار 3 / 238 - 241، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 2 / 190 - 191، جواهر الإكليل 1 / 260 - 261، والمهذب 2 / 238 - 239، والمغني لابن قدامة 8 / 387 - 394 ط الرياض الحديثة.
(2) حديث: " كان يعجبه التيمن. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 269 ط السلفية) ومسلم (1 / 226) واللفظ للبخاري.
(3) عن عائشة: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب التيمن في شأنه كله. . . " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 523 ط السلفية) ومسلم (1 / 226 ط الحلبي) .
(4) حديث: " كان إذا لبس قميصا بدأ بميامنه. . . " أخرجه الترمذي (4 / 239 ط الحلبي) وإسناده صحيح. (فيض القدير 5 / 159 - ط المكتبة التجارية) .(6/142)
وَإِذَا تَوَضَّأْتُمْ فَابْدَءُوا بِمَيَامِنِكُمْ (1) وَعَنْ حَفْصَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَجْعَل يَمِينَهُ لِطَعَامِهِ وَشَرَابِهِ وَثِيَابِهِ، وَيَجْعَل شِمَالَهُ لِمَا سِوَى ذَلِكَ (2) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَأَحْمَدُ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا انْتَعَل أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِالْيَمِينِ، وَإِذَا نَزَعَ فَلْيَبْدَأْ بِالشِّمَال (3) .
وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى اسْتِحْبَابِ التَّيَامُنِ فِي الأُْمُورِ الشَّرِيفَةِ، وَالتَّيَاسُرِ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ. فَالتَّيَامُنُ كَلُبْسِ الثَّوْبِ وَالْخُفِّ وَالْمَدَاسِ وَالسَّرَاوِيل وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَالتَّيَاسُرُ كَخَلْعِ الثَّوْبِ وَالسَّرَاوِيل وَالْخُفِّ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَيُسْتَحَبُّ التَّيَاسُرُ فِيهِ، وَذَلِكَ لِكَرَامَةِ الْيَمِينِ وَشَرَفِهَا.
وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ لَبِسَ ثَوْبَهُ سَوَاءٌ أَكَانَ قَمِيصًا أَمْ إِزَارًا أَمْ عِمَامَةً أَمْ رِدَاءً أَنْ يَقُول: بِسْمِ اللَّهِ، وَأَنْ يَدْعُوَ بِمَا وَرَدَ.
فَعَنْ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ لَبِسَ ثَوْبًا جَدِيدًا فَقَال: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي كَسَانِي هَذَا، وَرَزَقَنِيهِ مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ مِنِّي وَلاَ قُوَّةٍ،
__________
(1) حديث: " إذا لبستم وإذا توضأتم فابدءوا بميامنكم. . . " أخرجه أبو داود (4 / 379 - ط عزت عبيد دعاس) وصححه النووي في رياض الصالحين (ص 337 - ط الرسالة) .
(2) حديث: " كان يجعل يمينه. . . " أخرجه أحمد وأبو داود واللفظ له، وفي إسناده أبو أيوب الإفريقي، لينه أبو زرعة ووثقه ابن حبان، وقال النووي: إسناده جيد، وقال ابن سيد الناس: هو معلل. (عون المعبود 1 / 12، 13 ط الهند، وفيض القدير 5 / 204 ط المكتبة التجارية) .
(3) حديث: " إذا انتعل أحدكم فليبدأ باليمين، وإذا نزع فليبدأ بالشمال. . . " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 311 ط السلفية) ومسلم (3 / 1660 ط الحلبي) .(6/142)
غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ (1) .
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا اسْتَجَدَّ ثَوْبًا سَمَّاهُ بِاسْمِهِ عِمَامَةً أَوْ قَمِيصًا أَوْ رِدَاءً ثُمَّ يَقُول: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ كَسَوْتَنِيهِ، أَسْأَلُكَ خَيْرَهُ وَخَيْرَ مَا صُنِعَ لَهُ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهِ وَشَرِّ مَا صُنِعَ لَهُ (2) .
وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: مَنْ لَبِسَ ثَوْبًا جَدِيدًا فَقَال: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي كَسَانِي مَا أُدَارِي بِهِ عَوْرَتِي، وَأَتَجَمَّل بِهِ فِي حَيَاتِي، ثُمَّ عَمَدَ إِلَى الثَّوْبِ الَّذِي أَخْلَقَ فَتَصَدَّقَ بِهِ، كَانَ فِي حِفْظِ اللَّهِ وَفِي كَنَفِ اللَّهِ عَزَّ وَجَل وَفِي سَبِيل اللَّهِ حَيًّا وَمَيِّتًا (3) .
ذَلِكَ هُوَ سُنَنُ اللُّبْسِ وَآدَابُهُ، وَمَا فِي ذَلِكَ مِنْ أَدْعِيَةٍ مَأْثُورَةٍ (4) .
__________
(1) حديث معاذ بن أنس: " من لبس ثوبا جديدا. . . " أخرجه أبو داود (4 / 310 ط عزت عبيد دعاس) وحسنه ابن حجر كما في الفتوحات (1 / 300 ط. المنيرية) .
(2) حديث: أبي سعيد الخدري: " كان إذا استجد ثوبا سماه باسمه. . . . ". أخرجه أبو داود (4 / 309 ط عزت عبيد دعاس) وحسنه ابن حجر كما في الفتوحات 1 / 304 ط المنيرية) .
(3) حديث:: " من لبس ثوبا. . . " أخرجه الحاكم (4 / 139 ط دائرة المعارف العثمانية) وفي إسناده علي بن يزيد الألهاني وهو ضعيف.
(4) نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج 2 / 371، والمجموع شرح المهذب 4 / 460 - 461 ط المكتبة السلفية، والأذكار المنتخبة من كلام سيد الأبرار صلى الله عليه وسلم ص22 - 24، والشرح الكبير 1 / 103، وكشاف القناع عن متن الإقناع 1 / 288 ط النصر الحديثة، ومجمع الزوائد ومنبع الفوائد للهيثمي 118 - 119، وفتح الباري بشرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني 10 / 303.(6/143)
الْتِبَاسٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِلْتِبَاسُ فِي اللُّغَةِ مِنَ اللَّبْسِ، وَهُوَ الْخَلْطُ. وَيَأْتِي بِمَعْنَى الاِشْتِبَاهِ وَالإِْشْكَال. يُقَال: الْتَبَسَ عَلَيْهِ الأَْمْرُ، أَيِ: اشْتَبَهَ وَأَشْكَل (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِهَذَا اللَّفْظِ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، حَتَّى إِنَّ بَعْضَهُمْ سَوَّى بَيْنَ الاِشْتِبَاهِ وَالاِلْتِبَاسِ، وَعَرَّفَ أَحَدَهُمَا بِالآْخَرِ، كَمَا جَاءَ فِي كُتُبِ الْمَالِكِيَّةِ: قَال ابْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ: الاِشْتِبَاهُ الاِلْتِبَاسُ (2) .
2 - وَيَظْهَرُ مِنْ تَتَبُّعِ عِبَارَاتِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَدِ انْفَرَدُوا بِاسْتِعْمَال لَفْظِ (الاِلْتِبَاسِ) ، وَغَيْرَ الْمَالِكِيَّةِ أَكْثَرُوا مِنِ اسْتِعْمَال لَفْظَيِ (اشْتِبَاهٍ وَشَكٍّ) بَدَلاً مِنْ كَلِمَةِ الْتِبَاسٍ، كَمَا هُوَ الْمُلاَحَظُ فِي بَحْثِ خَفَاءِ الْقِبْلَةِ، وَنِكَاحِ الأَْجْنَبِيَّةِ الَّتِي اشْتَبَهَتْ بِأُخْتِهِ، وَطَهَارَةِ الْمَاءِ وَالثِّيَابِ وَالأَْوَانِي الْمُلْتَبِسَةِ وَغَيْرِهَا (3) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
3 - يَخْتَلِفُ حُكْمُ الاِلْتِبَاسِ تَبَعًا لاِخْتِلاَفِ مُتَعَلِّقِهِ، فَإِذَا الْتَبَسَ الْحَلاَل بِالْحَرَامِ يُرَجَّحُ جَانِبُ الْحُرْمَةِ احْتِيَاطًا، كَمَنِ الْتَبَسَتْ عَلَيْهِ الأَْجْنَبِيَّةُ بِأُخْتِهِ، بِأَنْ
__________
(1) المصباح المنير ولسان العرب مادة: (لبس) .
(2) مواهب الجليل 1 / 173.
(3) الاختيار 1 / 47، والفروق للقرافي 1 / 228، والشرح الكبير للدردير 1 / 7، ونهاية المحتاج 1 / 63، 77، والإقناع 1 / 12.(6/143)
شَكَّ فِي الأَْجْنَبِيَّةِ وَأُخْتِهِ مِنَ الرَّضَاعِ حَرُمَتَا مَعًا. وَكَذَا إِذَا اشْتَبَهَتِ الْمُذَكَّاةُ بِالْمَيْتَةِ (1) .
وَمَنِ الْتَبَسَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ سَأَل وَاجْتَهَدَ وَتَحَرَّى، فَإِذَا خَفِيَتْ تَخَيَّرَ وَصَلَّى مَعَ تَفْصِيلٍ فِي ذَلِكَ (2) .
كَذَلِكَ لَوِ اشْتَبَهَ عَلَى شَخْصٍ مَاءٌ طَاهِرٌ بِمَاءٍ نَجِسٍ، أَوِ الْتَبَسَتْ عَلَيْهِ الأَْوَانِي أَوِ الثِّيَابُ، يَجْتَهِدُ وَيَتَحَرَّى عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَإِنْ كَانَ الأَْرْجَحُ عِنْدَ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ الطَّهَارَةَ (3) .
وَلِمَعْرِفَةِ أَحْكَامِ الاِلْتِبَاسِ وَالأَْلْفَاظِ ذَاتِ الصِّلَةِ بِهِ يُرْجَعُ إِلَى مُصْطَلَحِ (اشْتِبَاه) .
الْتِزَامٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِلْتِزَامُ فِي اللُّغَةِ يُقَال: لَزِمَ الشَّيْءُ يَلْزَمُ لُزُومًا أَيْ: ثَبَتَ وَدَامَ، وَلَزِمَهُ الْمَال وَجَبَ عَلَيْهِ، وَلَزِمَهُ الطَّلاَقُ: وَجَبَ حُكْمُهُ، وَأَلْزَمْتُهُ الْمَال وَالْعَمَل فَالْتَزَمَهُ، وَالاِلْتِزَامُ: الاِعْتِنَاقُ (4) .
وَالاِلْتِزَامُ: إِلْزَامُ الشَّخْصِ نَفْسَهُ مَا لَمْ يَكُنْ لاَزِمًا لَهُ، أَيْ مَا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَيْهِ قَبْل، وَهُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى
__________
(1) لفروق للقرافي 11 / 227، ومسلم الثبوت 1 / 96، الأشباه والنظائر لابن نجيم ص61 - 65
(2) الزيلعي 1 / 101، والشرح الكبير للدردير 1 / 221، والمغني 1 / 493.
(3) البحر الرائق 1 / 143، والفروق للقرافي 1 / 228، ونهاية المحتاج 1 / 76، وكشاف القناع 1 / 30.
(4) لسان العرب والمصباح المنير.(6/144)
شَامِلٌ لِلْبَيْعِ وَالإِْجَارَةِ وَالنِّكَاحِ وَسَائِرِ الْعُقُودِ (1) .
وَهَذَا الْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ جَرَتْ عَلَيْهِ اسْتِعْمَالاَتُ الْفُقَهَاءِ، حَيْثُ تَدُل تَعْبِيرَاتُهُمْ عَلَى أَنَّ الاِلْتِزَامَ عَامٌّ فِي التَّصَرُّفَاتِ الاِخْتِيَارِيَّةِ، وَهِيَ تَشْمَل جَمِيعَ الْعُقُودِ، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْمُعَاوَضَاتُ وَالتَّبَرُّعَاتُ (2) . وَهُوَ مَا اعْتَبَرَهُ الْحَطَّابُ اسْتِعْمَالاً لُغَوِيًّا، فَقَدْ عَرَّفَهُ بِأَنَّهُ: إِلْزَامُ الشَّخْصِ نَفْسَهُ شَيْئًا مِنَ الْمَعْرُوفِ مُطْلَقًا، أَوْ مُعَلَّقًا عَلَى شَيْءٍ، فَهُوَ بِمَعْنَى الْعَطِيَّةِ، فَدَخَل فِي ذَلِكَ الصَّدَقَةُ وَالْهِبَةُ وَالْحَبْسُ (الْوَقْفُ) وَالْعَارِيَّةُ وَالْعُمْرَى وَالْعَرِيَّةُ وَالْمِنْحَةُ وَالإِْرْفَاقُ وَالإِْخْدَامُ وَالإِْسْكَانُ وَالنَّذْرُ.
قَال الْحَطَّابُ فِي كِتَابِهِ تَحْرِيرِ الْكَلاَمِ فِي مَسَائِل الاِلْتِزَامِ: وَقَدْ يُطْلَقُ فِي الْعُرْفِ عَلَى مَا هُوَ أَخَصُّ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ الْتِزَامُ الْمَعْرُوفِ بِلَفْظِ الاِلْتِزَامِ (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْعَقْدُ وَالْعَهْدُ:
2 - مِنْ مَعَانِي الْعَقْدِ لُغَةً: الْعَهْدُ، وَيُقَال: عَهِدْتُ إِلَى فُلاَنٍ فِي كَذَا وَكَذَا، وَتَأْوِيلُهُ: أَلْزَمْتُهُ ذَلِكَ، فَإِذَا قُلْتَ عَاقَدْتُهُ أَوْ عَقَدْتُ عَلَيْهِ، فَتَأْوِيلُهُ: أَنَّكَ أَلْزَمْتَهُ ذَلِكَ بِاسْتِيثَاقٍ، وَتَعَاقَدَ الْقَوْمُ: تَعَاهَدُوا (4) .
وَفِي الْمَجَلَّةِ الْعَدْلِيَّةِ: الْعَقْدُ: الْتِزَامُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ
__________
(1) فتح العلي المالك 1 / 217 نشر دار المعرفة.
(2) المنثور 3 / 392، وقواعد الأحكام 2 / 69، 73، والمجلة م / 103، ومرشد الحيران مواد 213، 214، والبدائع 5 / 168، وأحكام القرآن للجصاص 2 / 360، وإعلام الموقعين 1 / 349، 2 / 29.
(3) فتح العلي المالك 1 / 217، 218
(4) لسان العرب مادة: (عقد) .(6/144)
وَتَعَهُّدُهُمَا أَمْرًا، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ ارْتِبَاطِ الإِْيجَابِ بِالْقَبُول (1) .
وَبِذَلِكَ يَكُونُ الْعَقْدُ الْتِزَامًا.
3 - أَمَّا الْعَهْدُ فَهُوَ فِي اللُّغَةِ: الْوَصِيَّةُ، يُقَال عَهِدَ إِلَيْهِ يَعْهَدُ: إِذَا أَوْصَاهُ، وَالْعَهْدُ: الأَْمَانُ، وَالْمَوْثِقُ، وَالذِّمَّةُ.
وَالْعَهْدُ: كُل مَا عُوهِدَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَكُل مَا بَيْنَ الْعِبَادِ مِنَ الْمَوَاثِيقِ فَهُوَ عَهْدٌ، وَالْعَهْدُ: الْيَمِينُ يَحْلِفُ بِهَا الرَّجُل.
وَبِذَلِكَ يُعْتَبَرُ الْعَهْدُ نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ الاِلْتِزَامِ أَيْضًا (2) .
ب - التَّصَرُّفُ:
4 - يُقَال صَرَفَ الشَّيْءَ: إِذَا أَعْمَلَهُ فِي غَيْرِ وَجْهٍ كَأَنَّهُ يَصْرِفُهُ عَنْ وَجْهٍ إِلَى وَجْهٍ، وَمِنْهُ التَّصَرُّفُ فِي الأُْمُورِ (3) .
وَبِهَذَا الْمَعْنَى يَكُونُ التَّصَرُّفُ أَعَمَّ مِنَ الاِلْتِزَامِ، إِذْ مِنَ التَّصَرُّفِ مَا لَيْسَ فِيهِ الْتِزَامٌ.
ج - الإِْلْزَامُ:
5 - الإِْلْزَامُ: الإِْثْبَاتُ وَالإِْدَامَةُ، وَأَلْزَمْتُهُ الْمَال وَالْعَمَل وَغَيْرَهُ (4) .
فَالإِْلْزَامُ سَبَبُ الاِلْتِزَامِ، سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ بِإِلْزَامِ الشَّخْصِ نَفْسَهُ شَيْئًا، أَمْ بِإِلْزَامِ الشَّارِعِ لَهُ.
__________
(1) المجلة العدلية م / 103.
(2) المصباح المنير ولسان العرب مادة: (عهد) ، وأحكام القرآن للجصاص 2 / 361.
(3) لسان العرب مادة: (صرف) .
(4) المصباح المنير ولسان العرب مادة: (لزم) .(6/145)
يَقُول الرَّاغِبُ الأَْصْفَهَانِيُّ: الإِْلْزَامُ ضَرْبَانِ: إِلْزَامٌ بِالتَّسْخِيرِ مِنَ اللَّهِ، أَوْ مِنَ الإِْنْسَانِ. وَإِلْزَامٌ بِالْحُكْمِ وَالأَْمْرِ (1) ، وَالإِْلْزَامُ لاَ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَبُول (2) .
د - اللُّزُومُ:
6 - اللُّزُومُ: الثُّبُوتُ وَالدَّوَامُ، وَلَزِمَهُ الْمَال: وَجَبَ عَلَيْهِ، وَلَزِمَهُ الطَّلاَقُ: وَجَبَ حُكْمُهُ (3) . فَاللُّزُومُ يَصْدُقُ عَلَى مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الاِلْتِزَامِ مَتَى تَوَفَّرَتْ شُرُوطُهُ، وَعَلَى مَا يُقَرِّرُهُ الشَّرْعُ إِذَا تَوَافَرَتْ شُرُوطٌ مُعَيَّنَةٌ. أَمَّا الاِلْتِزَامُ فَهُوَ أَمْرٌ يُقَرِّرُهُ الإِْنْسَانُ بِاخْتِيَارِهِ ابْتِدَاءً.
هـ - الْحَقُّ:
7 - الْحَقُّ ضِدُّ الْبَاطِل، وَحَقَّ الأَْمْرُ أَيْ ثَبَتَ، قَال الأَْزْهَرِيُّ: مَعْنَاهُ وَجَبَ يَجِبُ وُجُوبًا، وَهُوَ مَصْدَرُ حَقَّ الشَّيْءُ إِذَا وَجَبَ وَثَبَتَ.
وَالْحَقُّ اصْطِلاَحًا: هُوَ مَوْضُوعُ الاِلْتِزَامِ، أَيْ مَا يَلْتَزِمُ بِهِ الإِْنْسَانُ تُجَاهَ اللَّهِ، أَوْ تُجَاهَ غَيْرِهِ مِنَ النَّاسِ (4) .
و الْوَعْدُ:
8 - الْوَعْدُ يَدُل عَلَى تَرْجِيَةٍ بِقَوْلٍ، وَالْوَعْدُ يُسْتَعْمَل فِي الْخَيْرِ حَقِيقَةً وَفِي الشَّرِّ مَجَازًا. وَالْوَعْدُ: الْعَهْدُ (5) .
__________
(1) المفردات للراغب الأصفهاني (لزم) .
(2) البدائع 7 / 332.
(3) لسان العرب مادة: (لزم) .
(4) المصباح المنير مادة (حقق) ، وابن عابدين 4 / 188، والمنثور في القواعد للزركشي 2 / 58 - 64، والفروق للقرافي 1 / 140، 195، والذخيرة ص 68.
(5) مقاييس اللغة لابن فارس والمصباح المنير ولسان العرب مادة: (وعد) .(6/145)
وَالْعِدَةُ لَيْسَ فِيهَا إِلْزَامُ الشَّخْصِ نَفْسَهُ شَيْئًا الآْنَ، وَإِنَّمَا هِيَ كَمَا قَال ابْنُ عَرَفَةَ: إِخْبَارٌ عَنْ إِنْشَاءِ الْمُخْبِرِ مَعْرُوفًا فِي الْمُسْتَقْبَل.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ مَا يَدُل عَلَى الاِلْتِزَامِ، وَمَا يَدُل عَلَى الْعِدَةِ: هُوَ مَا يُفْهَمُ مِنْ سِيَاقِ الْكَلاَمِ وَقَرَائِنِ الأَْحْوَال. وَالظَّاهِرُ مِنْ صِيغَةِ الْمُضَارِعِ: الْوَعْدُ، مِثْل: أَنَا أَفْعَل، إِلاَّ أَنْ تَدُل قَرِينَةٌ عَلَى الاِلْتِزَامِ كَمَا يُفْهَمُ مِنْ كَلاَمِ ابْنِ رُشْدٍ. وَذَلِكَ مِثْل مَا لَوْ سَأَلَك مَدِينٌ أَنْ تُؤَخِّرَهُ إِلَى أَجَل كَذَا، فَقُلْتَ: أَنَا أُؤَخِّرُكَ، فَهُوَ عِدَةٌ، وَلَوْ قُلْتَ: قَدْ أَخَّرْتُكَ، فَهُوَ الْتِزَامٌ (1) .
أَسْبَابُ الاِلْتِزَامِ:
9 - مِنْ تَعْرِيفِ الاِلْتِزَامِ اللُّغَوِيِّ وَالشَّرْعِيِّ، وَمِنِ اسْتِعْمَالاَتِ الْفُقَهَاءِ وَعِبَارَاتِهِمْ، يَتَبَيَّنُ أَنَّ سَبَبَ الاِلْتِزَامِ هُوَ تَصَرُّفَاتُ الإِْنْسَانِ الاِخْتِيَارِيَّةُ الَّتِي يُوجِبُ بِهَا حَقًّا عَلَى نَفْسِهِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ هَذَا الْحَقُّ تُجَاهَ شَخْصٍ، كَالاِلْتِزَامَاتِ الَّتِي يُبْرِمُهَا، وَمِنْهَا الْعُقُودُ وَالْعُهُودُ الَّتِي يَتَعَهَّدُ بِهَا، وَالأَْيْمَانُ الَّتِي يَعْقِدُهَا، وَالشُّرُوطُ الَّتِي يَشْتَرِطُهَا. أَمْ كَانَ لِحَقِّ اللَّهِ، كَنَذْرِ صَلاَةٍ أَوْ صَوْمٍ أَوِ اعْتِكَافٍ أَوْ صَدَقَةٍ مَثَلاً.
وَهُنَاكَ أَسْبَابٌ أُخْرَى سَيَأْتِي ذِكْرُهَا فِيمَا بَعْدُ. وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي.
التَّصَرُّفَاتُ الاِخْتِيَارِيَّةُ:
10 - التَّصَرُّفَاتُ الَّتِي يُبَاشِرُهَا الإِْنْسَانُ بِاخْتِيَارِهِ
__________
(1) فتح العلي المالك 1 / 254، 257.(6/146)
وَيُوجِبُ بِهَا حَقًّا عَلَى نَفْسِهِ تَتَنَاوَل الْعُقُودَ بِالْمَعْنَى الْعَامِّ الَّذِي أَطْلَقَهُ الْفُقَهَاءُ، وَهِيَ الَّتِي تَنْعَقِدُ بِإِرَادَتَيْنِ مُتَقَابِلَتَيْنِ (أَيْ بِالإِْيجَابِ وَالْقَبُول) أَوِ الَّتِي تَنْعَقِدُ بِإِرَادَةٍ وَاحِدَةٍ (أَيْ بِالإِْيجَابِ فَقَطْ) وَهَذِهِ قَدْ تُسَمَّى عُقُودًا عَلَى سَبِيل التَّوَسُّعِ.
وَالتَّصَرُّفُ يَتِمُّ بِإِيجَابٍ وَقَبُولٍ إِذَا كَانَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُرَتِّبَ الْتِزَامًا فِي جَانِبِ كُلٍّ مِنَ الطَّرَفَيْنِ، كَالْبَيْعِ وَالإِْجَارَةِ وَالْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ. أَمَّا التَّصَرُّفُ الَّذِي يُرَتِّبُ الْتِزَامًا فِي جَانِبِ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ دُونَ الآْخَرِ فَيَتِمُّ بِإِيجَابِ الطَّرَفِ الْمُلْتَزِمِ وَحْدَهُ، كَالْوَقْفِ وَالْوَصِيَّةِ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ وَالْجِعَالَةِ وَالإِْبْرَاءِ مِنَ الدَّيْنِ وَالضَّمَانِ وَالْهِبَةِ وَالْعَارِيَّةِ. وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ مَعَ مُرَاعَاةِ اخْتِلاَفِ الْفُقَهَاءِ فِي اشْتِرَاطِ الْقَبُول فِي بَعْضِهَا.
وَيَدْخُل فِيمَا يَتِمُّ بِإِرَادَةٍ مُنْفَرِدَةٍ: الأَْيْمَانُ وَالنُّذُورُ، وَمَا شَاكَل ذَلِكَ. فَهَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ كُلُّهَا الَّتِي تَتِمُّ بِإِرَادَتَيْنِ، أَوْ بِإِرَادَةٍ وَاحِدَةٍ مَتَى اسْتَوْفَتْ أَرْكَانَهَا وَشَرَائِطَهَا عَلَى النَّحْوِ الْمَشْرُوعِ، فَإِنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الاِلْتِزَامُ بِأَحْكَامِهَا.
11 - وَنُصُوصُ الْفُقَهَاءِ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ الاِلْتِزَامَ يَشْمَل كُل مَا ذُكِرَ، وَمِنْ هَذِهِ النُّصُوصِ:
أ - فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ مِنَ الْمَجَلَّةِ الْعَدْلِيَّةِ. الْعَقْدُ: الْتِزَامُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَتَعَهُّدُهُمَا أَمْرًا، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ ارْتِبَاطِ الإِْيجَابِ بِالْقَبُول (1) .
ب - جَاءَ فِي الْمَنْثُورِ فِي الْقَوَاعِدِ لِلزَّرْكَشِيِّ: الْعَقْدُ الشَّرْعِيُّ يَنْقَسِمُ بِاعْتِبَارِ الاِسْتِقْلاَل بِهِ وَعَدَمِهِ إِلَى ضَرْبَيْنِ:
الأَْوَّل: عَقْدٌ يَنْفَرِدُ بِهِ الْعَاقِدُ، مِثْل عَقْدِ النَّذْرِ
__________
(1) المادة 103 من المجلة العدلية.(6/146)
وَالْيَمِينِ وَالْوَقْفِ، إِذَا لَمْ يُشْتَرَطِ الْقَبُول فِيهِ، وَعَدَّ بَعْضُهُمْ مِنْهُ الطَّلاَقَ وَالْعَتَاقَ إِذَا كَانَا بِغَيْرِ عِوَضٍ، قَال الزَّرْكَشِيُّ: وَإِنَّمَا هُوَ رَفْعٌ لِلْعَقْدِ.
وَالثَّانِي: عَقْدٌ لاَ بُدَّ فِيهِ مِنْ مُتَعَاقِدَيْنِ، كَالْبَيْعِ وَالإِْجَارَةِ وَالسَّلَمِ وَالصُّلْحِ وَالْحَوَالَةِ وَالْمُسَاقَاةِ وَالْهِبَةِ وَالشَّرِكَةِ وَالْوَكَالَةِ وَالْمُضَارَبَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَالْعَارِيَّةِ وَالْوَدِيعَةِ وَالْقَرْضِ وَالْجِعَالَةِ وَالْمُكَاتَبَةِ وَالنِّكَاحِ وَالرَّهْنِ وَالضَّمَانِ وَالْكَفَالَةِ (1) .
ج - وَفِي الْمَنْثُورِ أَيْضًا: مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ يَنْقَسِمُ إِلَى مَا يَكُونُ سَبَبُهُ جِنَايَةً وَيُسَمَّى عُقُوبَةً، وَإِلَى مَا يَكُونُ سَبَبُهُ الْتِزَامًا وَيُسَمَّى ثَمَنًا أَوْ أُجْرَةً أَوْ مَهْرًا أَوْ غَيْرَهُ (2)
د - فِي الْقَوَاعِدِ لِلْعِزِّ بْنِ عَبْدِ السَّلاَمِ: الْمُسَاقَاةُ وَالْمُزَارَعَةُ التَّابِعَةُ لَهَا هِيَ الْتِزَامُ أَعْمَال الْفِلاَحَةِ بِجُزْءٍ شَائِعٍ مِنَ الْغَلَّةِ الْمَعْمُول عَلَى تَحْصِيلِهَا.
وَفِيهِ كَذَلِكَ: الْتِزَامُ الْحُقُوقِ مِنْ غَيْرِ قَبُولٍ. أَنْوَاعٌ:
أَحَدُهَا: بِنَذْرٍ فِي الذِّمَمِ وَالأَْعْيَانِ.
الثَّانِي: الْتِزَامُ الدُّيُونِ بِالضَّمَانِ.
الثَّالِثُ: ضَمَانُ الدَّرْكِ.
الرَّابِعُ: ضَمَانُ الْوَجْهِ.
الْخَامِسُ: ضَمَانُ مَا يَجِبُ إِحْضَارُهُ مِنَ الأَْعْيَانِ الْمَضْمُونَاتِ (3) .
هـ - مِنَ الأَْمْثِلَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْحَطَّابُ فِي الاِلْتِزَامَاتِ:
__________
(1) المنثور في القواعد 2 / 397، 398.
(2) المنثور في القواعد 3 / 392.
(3) وقواعد الأحكام في مصالح الأنام 2 / 69، 73 وأحكام القرآن للجصاص 2 / 360، وأحكام القران لابن العربي 2 / 524.(6/147)
(1) إِذَا قَال لَهُ: إِنْ بِعْتَنِي سِلْعَتَكَ بِكَذَا فَقَدِ الْتَزَمْتُ لَكَ كَذَا وَكَذَا، فَالشَّيْءُ الْمُلْتَزَمُ بِهِ دَاخِلٌ فِي جُمْلَةِ الثَّمَنِ، فَيُشْتَرَطُ فِيهِ مَا يُشْتَرَطُ فِي الثَّمَنِ.
(2) إِذَا قَال لَهُ: إِنْ أَسْكَنْتَنِي دَارَكَ سَنَةً، فَهَذَا مِنْ بَابِ الإِْجَارَةِ، فَيُشْتَرَطُ فِيهِ شُرُوطُ الإِْجَارَةِ، بِأَنْ تَكُونَ الْمُدَّةُ مَعْلُومَةً وَالْمَنْفَعَةُ مَعْلُومَةً، وَأَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ الْمُلْتَزَمُ بِهِ مِمَّا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ أُجْرَةً (1) .
وَأَمْثَال هَذِهِ النُّصُوصِ كَثِيرَةٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ.
وَمِنْهَا يُمْكِنُ الْقَوْل بِأَنَّ الأَْسْبَابَ الْحَقِيقِيَّةَ لِلاِلْتِزَامَاتِ: هِيَ تَصَرُّفَاتُ الإِْنْسَانِ الاِخْتِيَارِيَّةُ.
إِلاَّ أَنَّ الْمُشْتَغِلِينَ بِالْفِقْهِ فِي الْعَصْرِ الْحَدِيثِ زَادُوا عَلَى ذَلِكَ ثَلاَثَةَ مَصَادِرَ أُخْرَى (2) لَيْسَتْ فِي الْحَقِيقَةِ الْتِزَامًا، بَل هِيَ إِلْزَامٌ أَوْ لُزُومٌ، وَلَكِنْ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِثْل مَا يَتَرَتَّبُ بِالاِلْتِزَامِ بِاعْتِبَارِ التَّسَبُّبِ أَوِ الْمُبَاشَرَةِ. وَبَيَانُهَا كَمَا يَلِي:
(1) الْفِعْل الضَّارُّ أَوِ (الْفِعْل غَيْرُ الْمَشْرُوعِ) :
12 - الْفِعْل الضَّارُّ الَّذِي يُصِيبُ الْجِسْمَ أَوِ الْمَال يَسْتَوْجِبُ الْعُقُوبَةَ أَوِ الضَّمَانَ.
وَالأَْضْرَارُ مُتَعَدِّدَةٌ فَمِنْهَا إِتْلاَفُ مَال الْغَيْرِ، وَمِنْهَا الْجِنَايَةُ عَلَى النَّفْسِ أَوِ الأَْطْرَافِ، وَمِنْهَا التَّعَدِّي بِالْغَصْبِ، أَوْ بِالسَّرِقَةِ، أَوْ بِالتَّجَاوُزِ فِي الاِسْتِعْمَال الْمَأْذُونِ فِيهِ، كَتَجَاوُزِ الْمُسْتَأْجِرِ، وَالْمُسْتَعِيرِ، وَالْحَجَّامِ، وَالطَّبِيبِ، وَالْمُنْتَفِعِ بِالطَّرِيقِ، وَمِنْهَا
__________
(1) فتح العلي المالك 1 / 275، 276.
(2) انظر في ذلك: مذكرة مبتدأة في بيان الالتزامات للأستاذ أحمد إبراهيم 36، 37، والمدخل إلى نظرية الالتزام العامة للدكتور مصطفى الزرقا 2 / 96 وما بعدها، ومصادر الحق للدكتور السنهوري 1 / 39 وما بعدها.(6/147)
التَّفْرِيطُ فِي الأَْمَانَاتِ كَالْوَدَائِعِ وَالرُّهُونِ.
فَفِي كُل ذَلِكَ يَصِيرُ الْفَاعِل مُلْزَمًا بِضَمَانِ فِعْلِهِ، وَعَلَيْهِ الْعِوَضُ فِي الْمِثْلِيِّ بِمِثْلِهِ، وَفِي الْقِيَمِيِّ بِقِيمَتِهِ، وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ، إِذْ مِنَ الإِْتْلاَفَاتِ مَا لاَ ضَمَانَ فِيهِ، كَمَنْ صَال عَلَيْهِ إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ وَلَمْ يَنْدَفِعْ إِلاَّ بِالْقَتْل فَقَتَلَهُ، كَمَا أَنَّ مِنَ الأَْعْمَال الْمُبَاحَةِ مَا فِيهِ الضَّمَانُ، كَالْمُضْطَرِّ الَّذِي يَأْكُل مَال غَيْرِهِ، فَفِيهِ الضَّمَانُ عِنْدَ غَيْرِ الْمَالِكِيَّةِ.
وَالضَّابِطُ فِي ذَلِكَ مَا قَال الزَّرْكَشِيُّ: أَنَّ التَّعَدِّيَ مَضْمُونٌ أَبَدًا إِلاَّ مَا قَامَ دَلِيلُهُ، وَفِعْل الْمُبَاحِ سَاقِطٌ أَبَدًا إِلاَّ مَا قَامَ دَلِيلُهُ.
وَالأَْصْل فِي مَنْعِ الضَّرَرِ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ (1) وَفِي كُل مَا سَبَقَ تَفْصِيلاَتٌ كَثِيرَةٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَاتِهَا وَأَبْوَابِهَا.
(2) الْفِعْل النَّافِعُ أَوِ (الإِْثْرَاءُ بِلاَ سَبَبٍ) :
13 - قَدْ يَقُومُ الإِْنْسَانُ بِفِعْلٍ نَافِعٍ لِغَيْرِهِ، فَيَصِيرُ دَائِنًا لِذَلِكَ الْغَيْرِ بِمَا قَامَ بِهِ أَوْ بِمَا أَدَّى عَنْهُ. وَهَذَا مَا يُسَمِّيهِ الْمُشْتَغِلُونَ بِالْفِقْهِ فِي الْعَصْرِ الْحَدِيثِ (الإِْثْرَاءُ
__________
(1) انظر في ذلك أشباه ابن نجيم 289، 290، والمنثور في القواعد 2 / 60، 322 - 332، والتبصرة لابن فرحون بهامش فتح العلي 2 / 346 - 358 نشر دار المعارف بيروت، والفروق للقرافي 1 / 195، 196، والقواعد لابن رجب من 204 - 207 و285 - 291. وحديث: " لا ضرر ولا ضرار. . . . " أخرجه مالك من حديث يحيى المازني مرسلا، ووصله ابن ماجه عن عبادة بن الصامت: وفي إسناده انقطاع. والحديث حسنه النووي وقال: له طرق يقوي بعضها بعضا وقال العلائي: للحديث شواهد ينتهي مجموعها إلى درجة الصحة أو الحسن المحتج به. (الموطأ 2 / 745 ط عيسى الحلبي، وسنن ابن ماجه 2 / 784 ط عيسى الحلبي، وفيض القدير 6 / 431، 432 ط المكتبة التجارية)(6/148)
بِلاَ سَبَبٍ) وَهُمْ يَعْنُونَ بِذَلِكَ: أَنَّ مَنْ أَدَّى عَنْ غَيْرِهِ دَيْنًا أَوْ أَحْدَثَ لَهُ مَنْفَعَةً فَقَدِ افْتَقَرَ الْمُؤَدِّي وَأَثْرَى الْمُؤَدَّى عَنْهُ بِلاَ سَبَبٍ، وَبِذَلِكَ يُصْبِحُ الْمُثْرَى مُلْزَمًا بِأَدَاءِ أَوْ ضَمَانِ مَا أَدَّاهُ عَنْهُ غَيْرُهُ أَوْ قَامَ بِهِ.
وَلَيْسَتْ هُنَاكَ قَاعِدَةٌ يَنْدَرِجُ تَحْتَهَا ذَلِكَ، وَإِنَّمَا هِيَ مَسَائِل مُتَفَرِّقَةٌ فِي أَبْوَابِ الْفِقْهِ، كَإِنْفَاقِ الْمُرْتَهِنِ عَلَى الرَّهْنِ، وَالْمُلْتَقِطِ عَلَى اللَّقِيطِ أَوِ اللُّقَطَةِ، وَالنَّفَقَةِ عَلَى الرَّقِيقِ وَالزَّوْجَاتِ وَالأَْقَارِبِ وَالْبَهَائِمِ إِذَا امْتَنَعَ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الإِْنْفَاقُ، وَإِنْفَاقِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ عَلَى الْمَال الْمُشْتَرَكِ مَعَ غَيْبَةِ الآْخَرِ أَوِ امْتِنَاعِهِ. وَمِنْ ذَلِكَ: بِنَاءُ صَاحِبِ الْعُلُوِّ السُّفْل بِدُونِ إِذْنِ صَاحِبِهِ، أَوْ إِذْنِ الْحَاكِمِ لاِضْطِرَارِهِ لِذَلِكَ، وَبِنَاءُ الْحَائِطِ الْمُشْتَرَكِ، وَدَفْعُ الزَّكَاةِ لِغَيْرِ الْمُسْتَحِقِّ. . وَهَكَذَا.
فَفِي مِثْل هَذِهِ الْمَسَائِل يَكُونُ الْمُنْتَفِعُ مُلْزَمًا بِمَا أَدَّى عَنْهُ، وَيَكُونُ لِمَنْ أَنْفَقَ حَقُّ الرُّجُوعِ بِمَا أَنْفَقَ فِي بَعْضِ الأَْحْوَال (1) .
وَفِي ذَلِكَ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ فِي بَيَانِ مَتَى يَحِقُّ لَهُ الرُّجُوعُ، وَمَتَى لاَ يَحِقُّ، إِذِ الْقَاعِدَةُ الْفِقْهِيَّةُ: أَنَّ مَنْ دَفَعَ دَيْنًا عَنْ غَيْرِهِ بِلاَ أَمْرِهِ يُعْتَبَرُ مُتَبَرِّعًا، وَلاَ يَرْجِعُ بِمَا دَفَعَ.
وَالْقَاعِدَةُ الْخَامِسَةُ وَالسَّبْعُونَ فِي قَوَاعِدِ ابْنِ رَجَبٍ هِيَ فِيمَنْ يَرْجِعُ بِمَا أَنْفَقَ عَلَى مَال غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَفِيهَا كَثِيرٌ مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِل.
__________
(1) نظر في ذلك البزازية 6 6 ? / 65، 66، ومنح الجليل 3 / 98، وفتح العلي المالك 2 / 275، 288، ومنتهى الإرادات 2 / 243، 250، 255، 482، والقواعد لابن رجب ص137 وما بعدها. مرشد الحيران المواد 202، 765، ومجمع الضمانات 458، 459(6/148)
وَتُنْظَرُ هَذِهِ الْمَسَائِل فِي أَبْوَابِ الْفِقْهِ، كَالشَّرِكَةِ وَالرَّهْنِ وَاللُّقَطَةِ وَالزَّكَاةِ وَغَيْرِهَا، وَفِي مَجْمَعِ الضَّمَانَاتِ كَثِيرٌ مِنْ هَذِهِ الأَْمْثِلَةِ، وَفِي الْفُرُوقِ لِلْقَرَافِيِّ: كُل مَنْ عَمِل عَمَلاً أَوْ أَوْصَل نَفْعًا لِغَيْرِهِ مِنْ مَالٍ أَوْ غَيْرِهِ بِأَمْرِهِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ نَفَذَ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ مُتَبَرِّعًا لَمْ يَرْجِعْ بِهِ، أَوْ غَيْرَ مُتَبَرِّعٍ وَهُوَ مَنْفَعَةٌ فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ، أَوْ مَالٌ فَلَهُ أَخْذُهُ مِمَّنْ دَفَعَهُ عَنْهُ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْمُنْتَفِعُ لاَ بُدَّ لَهُ مِنْ عَمَل ذَلِكَ (1) .
(3) الشَّرْعُ:
14 - يُعْتَبَرُ الْمُسْلِمُ بِإِسْلاَمِهِ مُلْتَزِمًا بِأَحْكَامِ الإِْسْلاَمِ وَتَكَالِيفِهِ.
جَاءَ فِي مُسَلَّمِ الثُّبُوتِ: الإِْسْلاَمُ: الْتِزَامُ حَقِيقَةِ مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (2) .
وَمِمَّا يُعْتَبَرُ الْمُسْلِمُ مُلْتَزِمًا بِهِ مَا يُلْزِمُهُ بِهِ الشَّارِعُ نَتِيجَةَ ارْتِبَاطَاتٍ وَعَلاَقَاتٍ خَاصَّةٍ.
وَمِنْ ذَلِكَ: إِلْزَامُهُ بِالنَّفَقَةِ عَلَى أَقَارِبِهِ الْفُقَرَاءِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} ، وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْل ذَلِكَ} (3) وقَوْله تَعَالَى: {وَقَضَى رَبُّك أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} (4) .
وَمِنْ ذَلِكَ الْوِلاَيَةُ الشَّرْعِيَّةُ، كَوِلاَيَةِ الأَْبِ وَالْجَدِّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ
__________
(1) الفروق 3 / 189، وتهذيب الفروق 3 / 219 (الفرق171) ، والمنثور 1 / 157.
(2) فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت 1 / 180.
(3) سورة البقرة / 233.
(4) سورة الإسراء / 23.(6/149)
أَمْوَالَهُمْ} (1) . وَذَلِكَ لِوُفُورِ الشَّفَقَةِ فِي الْوَلِيِّ وَعَدَمِ حُسْنِ تَصَرُّفِ الْقَاصِرِ.
وَمِنْ ذَلِكَ الاِلْتِزَامُ بِقَبُول الْمِيرَاثِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُعْتَبَرُ الْمُسْلِمُ مُلْتَزِمًا بِهِ دُونَ تَوَقُّفٍ عَلَى قَبُولِهِ.
يَقُول الْكَاسَانِيُّ: اللُّزُومُ هُنَا بِإِلْزَامِ مَنْ لَهُ وِلاَيَةُ الإِْلْزَامِ، وَهُوَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فَلَمْ يَتَوَقَّفْ عَلَى الْقَبُول، كَسَائِرِ الأَْحْكَامِ الَّتِي تَلْزَمُ بِإِلْزَامِ الشَّرْعِ ابْتِدَاءً (2) .
عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُضَافَ إِلَى هَذِهِ الأَْسْبَابِ: الشُّرُوعُ، فَمَنْ شَرَعَ فِي عِبَادَةٍ غَيْرِ وَاجِبَةٍ أَصْبَحَ مُلْتَزِمًا بِإِتْمَامِهَا بِالشُّرُوعِ فِيهَا، وَوَجَبَ الْقَضَاءُ بِفَسَادِهَا، كَمَا يَقُول الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ (3) .
هَذِهِ هِيَ الْمَصَادِرُ الثَّلاَثَةُ (الْفِعْل الضَّارُّ - وَالْفِعْل النَّافِعُ - وَالشَّرْعُ) الَّتِي عَدَّهَا الْمُشْتَغِلُونَ بِالْفِقْهِ الإِْسْلاَمِيِّ فِي الْعَصْرِ الْحَدِيثِ مِنْ مَصَادِرِ الاِلْتِزَامِ، إِلاَّ أَنَّهَا فِي الْحَقِيقَةِ تُعْتَبَرُ مِنْ بَابِ الإِْلْزَامِ، وَلَيْسَتْ مِنْ بَابِ الاِلْتِزَامِ، كَمَا مَرَّ فِي كَلاَمِ الْكَاسَانِيِّ.
15 - وَالْفُقَهَاءُ عَبَّرُوا فِي التَّصَرُّفَاتِ النَّاشِئَةِ عَنْ إِرَادَةِ الإِْنْسَانِ بِأَنَّهَا الْتِزَامٌ، أَمَّا مَا كَانَ بِغَيْرِ إِرَادَتِهِ فَالتَّعْبِيرُ فِيهَا بِالإِْلْزَامِ أَوِ اللُّزُومِ. ذَلِكَ أَنَّ الاِلْتِزَامَ الْحَقِيقِيَّ. هُوَ مَا أَوْجَبَهُ الإِْنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ وَالْتَزَمَ بِهِ. وَلِذَلِكَ يَقُول الْقَرَافِيُّ: إِنَّ الْكَافِرَ إِذَا أَسْلَمَ يَلْزَمُهُ ثَمَنُ الْبِيَاعَاتِ وَأَجْرُ الإِْجَارَاتِ وَدَفْعُ الدُّيُونِ الَّتِي اقْتَرَضَهَا وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَلاَ يَلْزَمُهُ الْقِصَاصُ وَالْغَصْبُ
__________
(1) سورة النساء / 6.
(2) منح الجليل 2 / 447، والمهذب 2 / 166، ومنتهى الإرادات 3 / 254، والهداية 2 / 48، والأشباه للسيوطي 172، والبدائع 7 / 332.
(3) ابن عابدين 1 / 452 ط أولى، والحطاب 2 / 90 ط النجاح بليبيا.(6/149)
وَالنَّهْبُ، لأَِنَّ مَا رَضِيَ بِهِ حَال كُفْرِهِ وَاطْمَأَنَّتْ نَفْسُهُ بِدَفْعِهِ لِمُسْتَحِقِّهِ لاَ يَسْقُطُ بِالإِْسْلاَمِ، وَمَا لَمْ يَرْضَ بِدَفْعِهِ لِمُسْتَحِقِّهِ كَالْقَتْل وَالْغَصْبِ وَنَحْوِهِ فَإِنَّ هَذِهِ الأُْمُورَ إِنَّمَا دَخَل عَلَيْهَا مُعْتَمِدًا عَلَى أَنَّهُ لاَ يُوَفِّيهَا أَجَلَهَا، فَهَذَا كُلُّهُ يَسْقُطُ، لأَِنَّ فِي إِلْزَامِهِ مَا لَمْ يَعْتَقِدْ لُزُومَهُ تَنْفِيرًا لَهُ عَنِ الإِْسْلاَمِ (1) .
إِلاَّ إِذَا اعْتَبَرْنَا هَذِهِ الإِْلْزَامَاتِ تُنْشِئُ الْتِزَامَاتٍ حُكْمًا وَبِذَلِكَ يُمْكِنُ رَدُّ مَصَادِرِ كُل الاِلْتِزَامَاتِ إِلَى الشَّرْعِ، فَالشَّرْعُ هُوَ الَّذِي رَسَمَ حُدُودًا لِكُل التَّصَرُّفَاتِ، مَا يَصِحُّ مِنْهَا وَمَا لاَ يَصِحُّ، وَرَتَّبَ عَلَيْهَا أَحْكَامَهَا.
لَكِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَعَل لِمَا أَوْجَبَهُ عَلَى الإِْنْسَانِ أَسْبَابًا مُبَاشِرَةً، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ جَعَل تَصَرُّفَاتِ الإِْنْسَانِ الاِخْتِيَارِيَّةَ سَبَبَ الْتِزَامَاتِهِ.
وَيُوَضِّحُ ذَلِكَ الزَّرْكَشِيُّ إِذْ يَقُول: مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ يَنْقَسِمُ إِلَى مَا يَكُونُ سَبَبُهُ جِنَايَةً وَيُسَمَّى عُقُوبَةً، وَإِلَى مَا يَكُونُ سَبَبُهُ إِتْلاَفًا وَيُسَمَّى ضَمَانًا، وَإِلَى مَا يَكُونُ سَبَبُهُ الْتِزَامًا وَيُسَمَّى ثَمَنًا أَوْ أُجْرَةً أَوْ مَهْرًا أَوْ غَيْرَهُ، وَمِنْهُ أَدَاءُ الدُّيُونِ وَالْعَوَارِي وَالْوَدَائِعِ، وَاجِبَةٌ بِالاِلْتِزَامِ (2) .
وَيَقُول: حُقُوقُ الآْدَمِيِّينَ الْمَالِيَّةُ تَجِبُ بِسَبَبِ مُبَاشَرَتِهِ مِنِ الْتِزَامٍ أَوْ إِتْلاَفٍ (3) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلاِلْتِزَامِ:
16 - الاِلْتِزَامُ بِأَحْكَامِ الإِْسْلاَمِ أَمْرٌ وَاجِبٌ عَلَى كُل مُسْلِمٍ.
__________
(1) الفروق للقرافي 3 / 184 - 185 ط دار المعرفة.
(2) المنثور في القواعد للزركشي 3 / 392.
(3) المنثور 2 / 60.(6/150)
وَمِنْ ذَلِكَ مَا أَوْجَبَهُ عَلَيْهِ مِنْ عُقُوبَاتٍ وَضَمَانِ مُتْلَفَاتٍ وَالْقِيَامِ بِالنَّفَقَاتِ وَأَعْمَال الْوِلاَيَةِ. أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِتَصَرُّفَاتِ الإِْنْسَانِ الاِخْتِيَارِيَّةِ فَالأَْصْل فِيهَا الإِْبَاحَةُ. إِذْ لِكُل إِنْسَانٍ الْحُرِّيَّةُ فِي أَنْ يَتَصَرَّفَ التَّصَرُّفَ الْمَشْرُوعَ الَّذِي يَلْتَزِمُ بِهِ أَمْرًا، مَا دَامَ ذَلِكَ لَمْ يَمَسَّ حَقًّا لِغَيْرِهِ (1) . وَقَدْ تَعْرِضُ لَهُ الأَْحْكَامُ التَّكْلِيفِيَّةُ الأُْخْرَى.
فَيَكُونُ وَاجِبًا، كَبَذْل الْمَعُونَةِ بَيْعًا أَوْ قَرْضًا أَوْ إِعَارَةً لِلْمُضْطَرِّ لِذَلِكَ (2) . وَكَوُجُوبِ قَبُول الْوَدِيعَةِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَنْ يَصْلُحُ لِذَلِكَ غَيْرَهُ، وَخَافَ إِنْ لَمْ يَقْبَل أَنْ تَهْلِكَ (3) .
وَيَكُونُ مَنْدُوبًا، إِذَا كَانَ مِنْ بَابِ التَّبَرُّعَاتِ الَّتِي تُعِينُ النَّاسَ عَلَى مَصَالِحِهِمْ، لأَِنَّهُ إِرْفَاقٌ بِهِمْ، يَقُول اللَّهُ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (4) ، وَلِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُل مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ (5) .
وَيَكُونُ حَرَامًا إِذَا كَانَ فِيهِ إِعَانَةٌ عَلَى مَعْصِيَةٍ، وَلِذَلِكَ لاَ يَصِحُّ إِعَارَةُ الْجَارِيَةِ لِخِدْمَةِ رَجُلٍ غَيْرِ
__________
(1) المنثور 3 / 393، ومنتهى الإرادات 2 / 260، والاختيار 2 / 4، والمغني 5 / 432.
(2) الفروق 3 / 94، ومنح الجليل 2 / 462، 3 / 46.
(3) المهذب 1 / 365، 366، ومنح الجليل 4 / 119، في باب اللقطة.
(4) سورة المائدة / 2.
(5) الاختيار 3 / 48، 55، ومنح الجليل 3 / 46، والمهذب 1 / 447، 453، والمغني 5 / 149 وحديث: " كل معروف صدقة " أخرجه البخاري ومسلم مرفوعا. (فتح الباري 10 / 447 ط السلفية، وصحيح مسلم 2 / 697 ط مصطفى الحلبي) .(6/150)
مَحْرَمٍ، وَلاَ الْوَصِيَّةُ بِخَمْرٍ لِمُسْلِمٍ، وَلاَ نَذْرُ الْمَعْصِيَةِ (1) .
وَيَكُونُ مَكْرُوهًا، إِذَا أَعَانَ عَلَى مَكْرُوهٍ، كَمَنْ يُفَضِّل بَعْضَ أَوْلاَدِهِ فِي الْعَطِيَّةِ (2) .
أَرْكَانُ الاِلْتِزَامِ:
17 - رُكْنُ الاِلْتِزَامِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هُوَ: الصِّيغَةُ فَقَطْ وَيُزَادُ عَلَيْهَا عِنْدَ غَيْرِهِمُ: الْمُلْتَزِمُ (بِكَسْرِ الزَّايِ) وَالْمُلْتَزَمُ لَهُ، وَالْمُلْتَزَمُ بِهِ، أَيْ مَحَل الاِلْتِزَامِ.
أَوَّلاً: الصِّيغَةُ:
18 - تَتَكَوَّنُ الصِّيغَةُ مِنَ الإِْيجَابِ وَالْقَبُول مَعًا فِي الاِلْتِزَامَاتِ الَّتِي تَتَوَقَّفُ عَلَى إِرَادَةِ الْمُلْتَزِمِ وَالْمُلْتَزَمِ لَهُ، كَالنِّكَاحِ وَكَعُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ، مِثْل الْبَيْعِ وَالإِْجَارَةِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ.
أَمَّا الاِلْتِزَامَاتُ بِالتَّبَرُّعَاتِ كَالْوَقْفِ وَالْوَصِيَّةِ وَالْهِبَةِ فَفِيهَا اخْتِلاَفُ الْفُقَهَاءِ بِالنِّسْبَةِ لِلْقَبُول (3) .
وَمِنَ الاِلْتِزَامَاتِ مَا يَتِمُّ بِإِرَادَةِ الْمُلْتَزِمِ وَحْدَهُ بِاتِّفَاقٍ، كَالنَّذْرِ وَالْعِتْقِ وَالْيَمِينِ.
وَصِيغَةُ الاِلْتِزَامِ (الإِْيجَابُ) تَكُونُ بِاللَّفْظِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ مِنْ كِتَابَةٍ أَوْ إِشَارَةٍ مُفْهِمَةٍ وَنَحْوِهَا مِمَّا يَدُل عَلَى إِلْزَامِ الشَّخْصِ نَفْسَهُ مَا الْتَزَمَهُ (4) .
وَقَدْ يَكُونُ الاِلْتِزَامُ بِالْفِعْل كَالشُّرُوعِ فِي الْجِهَادِ
__________
(1) جواهر الإكليل 2 / 145، والمهذب 1 / 459.
(2) جواهر الإكليل 2 / 145، والشرح الصغير 4 / 35، والمغني 5 / 666.
(3) تكملة ابن عابدين 2 / 303، والبدائع 6 / 2، 115، وجواهر الإكليل 2 / 17، ونهاية المحتاج 4 / 424، وقواعد الأحكام 2 / 73، وأشباه السيوطي 303، 304، والمغني 5 / 600، 601، والمنثور 2 / 405.
(4) نهاية المحتاج 4 / 439، 5 / 76، وفتح العلي 1 / 218.(6/151)
وَالْحَجِّ، وَكَمَنْ قَامَ إِلَى الصَّلاَةِ فَنَوَى وَكَبَّرَ فَقَدْ عَقَدَهَا لِرَبِّهِ بِالْفِعْل (1) .
كَذَلِكَ يَكُونُ الاِلْتِزَامُ بِمُقْتَضَى الْعَادَةِ، وَمِنَ الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ (الْعَادَةُ مُحَكَّمَةٌ) وَمِنْ ذَلِكَ مَنْ تَزَوَّجَتْ وَهِيَ سَاكِنَةٌ فِي بَيْتٍ لَهَا، فَسَكَنَ الزَّوْجُ مَعَهَا، فَلاَ كِرَاءَ عَلَيْهِ، إِلاَّ إِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهَا سَاكِنَةٌ بِالْكِرَاءِ (2) .
وَيُلاَحَظُ أَنَّ أَغْلَبَ الاِلْتِزَامَاتِ قَدْ مُيِّزَتْ بِأَسْمَاءٍ خَاصَّةٍ، فَالاِلْتِزَامُ بِتَسْلِيمِ الْمِلْكِ بِعِوَضٍ بَيْعٌ، وَبِدُونِهِ هِبَةٌ أَوْ عَطِيَّةٌ أَوْ صَدَقَةٌ، وَالاِلْتِزَامُ بِالتَّمْكِينِ مِنَ الْمَنْفَعَةِ بِعِوَضٍ إِجَارَةٌ، وَبِدُونِهِ إِعَارَةٌ أَوْ وَقْفٌ أَوْ عُمْرَى، وَسُمِّيَ الْتِزَامُ الدَّيْنِ ضَمَانًا، وَنَقْلُهُ حَوَالَةً، وَالتَّنَازُل عَنْهُ إِبْرَاءً، وَالْتِزَامُ طَاعَةِ اللَّهِ بِنِيَّةِ الْقُرْبَةِ - نَذْرًا (3) وَهَكَذَا،
وَلِكُل نَوْعٍ مِنْ هَذِهِ الاِلْتِزَامَاتِ صِيَغٌ خَاصَّةٌ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ صَرِيحَةً أَمْ كِنَايَةً تَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ أَوْ قَرِينَةٍ، وَتُنْظَرُ فِي أَبْوَابِهَا.
وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَلْفَاظًا خَاصَّةً تُعْتَبَرُ صَرِيحَةً فِي الاِلْتِزَامِ وَهِيَ: الْتَزَمْتُ، أَوْ أَلْزَمْتُ نَفْسِي. وَمِنْهَا أَيْضًا لَفْظُ (عَلَيَّ) أَوْ (إِلَيَّ) ، جَاءَ فِي الْهِدَايَةِ (4) فِي بَابِ الْكَفَالَةِ لَوْ قَال: عَلَيَّ أَوْ إِلَيَّ تَصِحُّ الْكَفَالَةُ، لأَِنَّهَا صِيغَةُ الاِلْتِزَامِ، وَقَال مِثْل ذَلِكَ ابْنُ عَابِدِينَ. وَفِي نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ (5) : شَرْطُ الصِّيغَةِ فِي الإِْقْرَارِ لَفْظٌ
__________
(1) إعلام الموقعين 2 / 132، وأحكام القرآن لابن العربي 2 / 526، والقواعد لابن رجب / 233.
(2) فتح العلي المالك 1 / 248.
(3) فتح العلي المالك 1 / 218 ط دار المعرفة.
(4) الهداية 3 / 87، وابن عابدين 4 / 253.
(5) نهاية المحتاج 5 / 76، 8 / 209، وقليوبي 2 / 329.(6/151)
أَوْ كِتَابَةٌ مِنْ نَاطِقٍ أَوْ إِشَارَةٌ مِنْ أَخْرَسَ تُشْعِرُ بِالاِلْتِزَامِ بِحَقٍّ، مِثْل: لِزَيْدٍ هَذَا الثَّوْبُ وَ " عَلَيَّ " وَ " فِي ذِمَّتِي " لِلْمَدِينِ الْمُلْتَزِمِ وَ " مَعِي " وَ " عِنْدِي " لِلْعَيْنِ
ثَانِيًا: الْمُلْتَزِمُ:
19 - الْمُلْتَزِمُ هُوَ مَنِ الْتَزَمَ بِأَمْرٍ مِنَ الأُْمُورِ كَتَسْلِيمِ شَيْءٍ، أَوْ أَدَاءِ دَيْنٍ، أَوِ الْقِيَامِ بِعَمَلٍ. وَالاِلْتِزَامَاتُ مُتَنَوِّعَةٌ عَلَى مَا هُوَ مَعْرُوفٌ.
فَمَا كَانَ مِنْهَا مِنْ بَابِ الْمُعَاوَضَاتِ فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيهِ فِي الْجُمْلَةِ أَهْلِيَّةُ التَّصَرُّفِ.
وَمَا كَانَ مِنْ بَابِ التَّبَرُّعَاتِ فَيُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ أَهْلاً لِلتَّبَرُّعِ (1) .
وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ مِنْ حَيْثُ تَصَرُّفُ الْوَكِيل وَالْوَلِيِّ وَالْفُضُولِيِّ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ أَجَازَ وَصِيَّةَ السَّفِيهِ وَالصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ كَالْحَنَابِلَةِ. (2) وَيُنْظَرُ ذَلِكَ فِي أَبْوَابِهِ
ثَالِثًا: الْمُلْتَزَمُ لَهُ:
20 - الْمُلْتَزَمُ لَهُ الدَّائِنُ، أَوْ صَاحِبُ الْحَقِّ: فَإِنْ كَانَ الاِلْتِزَامُ تَعَاقُدِيًّا، وَكَانَ الْمُلْتَزَمُ لَهُ طَرَفًا فِي الْعَقْدِ، فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيهِ الأَْهْلِيَّةُ، أَيْ أَهْلِيَّةُ التَّعَاقُدِ عَلَى مَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي الْعُقُودِ، وَإِلاَّ تَمَّ ذَلِكَ بِوَاسِطَةِ مَنْ يَنُوبُ عَنْهُ.
وَإِذَا كَانَ الاِلْتِزَامُ بِالإِْرَادَةِ الْمُنْفَرِدَةِ فَلاَ يُشْتَرَطُ فِي الْمُلْتَزَمِ لَهُ ذَلِكَ.
وَاَلَّذِي يُشْتَرَطُ فِي الْمُلْتَزَمِ لَهُ فِي الْجُمْلَةِ أَنْ يَكُونَ
__________
(1) فتح العلي المالك 1 / 217، ونهاية المحتاج 5 / 464، 4 / 420، 6 / 34، والبدائع 6 / 118، 207، والمادة 168 من مرشد الحيران.
(2) منتهى الإرادات 2 / 539.(6/152)
مِمَّنْ يَصِحُّ أَنْ يَمْلِكَ، أَوْ يَمْلِكُ النَّاسُ الاِنْتِفَاعَ بِهِ كَالْمَسَاجِدِ وَالْقَنَاطِرِ. (1)
وَعَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَصِحُّ الاِلْتِزَامُ لِلْحَمْل، وَلِمَنْ سَيُوجَدُ، فَتَصِحُّ الصَّدَقَةُ عَلَيْهِ وَالْهِبَةُ لَهُ. (2) وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ لِمَيِّتٍ عَلِمَ الْمُوصِي بِمَوْتِهِ، وَيُصْرَفُ الْمُوصَى بِهِ فِي قَضَاءِ مَا عَلَيْهِ مِنَ الدُّيُونِ، وَإِلاَّ صُرِفَ لِوَرَثَتِهِ وَإِلاَّ بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ. (3)
كَمَا أَنَّ كَفَالَةَ دَيْنِ الْمَيِّتِ الْمُفْلِسِ جَائِزَةٌ، وَقَدْ أَقَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ، فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَْكْوَعِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِرَجُلٍ يُصَلِّي عَلَيْهِ، فَقَال: هَل عَلَيْهِ دَيْنٌ؟ قَالُوا: نَعَمْ دِينَارَانِ، قَال: هَل تَرَكَ لَهُمَا وَفَاءً؟ قَالُوا: لاَ، فَتَأَخَّرَ، فَقِيل: لِمَ لاَ تُصَلِّي عَلَيْهِ؟ فَقَال: مَا تَنْفَعُهُ صَلاَتِي وَذِمَّتُهُ مَرْهُونَةٌ إِلاَّ إِنْ قَامَ أَحَدُكُمْ فَضَمِنَهُ، فَقَامَ أَبُو قَتَادَةَ فَقَال: هُمَا عَلَيَّ يَا رَسُول اللَّهِ، فَصَلَّى عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (4) .
__________
(1) فتح العلي المالك 1 / 217.
(2) الاختيار 5 / 64، وفتح العلي 1 / 248، 249، والمغني 6 / 56، 58.
(3) جواهر الإكليل 2 / 317.
(4) جواهر الإكليل 2 / 109، ونهاية المحتاج 4 / 418، والمغني 4 / 591 وحديث: " سلمة بن الأكوع. . . . " أخرجه البخاري بلفظ " كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أتي بجنازة فقالوا: صل عليها، فقال: هل عليه دين؟ قالوا: لا. قال: فهل ترك شيئا؟ قالوا: لا. فصلى عليه. ثم أتي بجنازة أخرى فقالوا: يارسول الله صل عليها، قال: هل ع (فتح الباري 4 / 466، 467 ط السلفية) .(6/152)
كَمَا أَنَّهُ يَجُوزُ الاِلْتِزَامُ لِلْمَجْهُول، فَقَدْ نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى صِحَّةِ تَنْفِيل الإِْمَامِ فِي الْجِهَادِ بِقَوْلِهِ مُحَرِّضًا لِلْمُجَاهِدِينَ: " مَنْ قَتَل قَتِيلاً فَلَهُ سَلَبُهُ "، وَعِنْدَئِذٍ مَنْ يَقْتُل عَدُوًّا يَسْتَحِقُّ أَسْلاَبَهُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ سَمِعُوا مَقَالَةَ الإِْمَامِ (1) .
وَمِنْ ذَلِكَ مَا لَوْ قَال رَجُلٌ: مَنْ يَتَنَاوَل مِنْ مَالِي فَهُوَ مُبَاحٌ فَتَنَاوَل رَجُلٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْلَمَ (2) .
وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا بِنَاءُ سِقَايَةٍ لِلْمُسْلِمِينَ أَوْ خَانٍ لأَِبْنَاءِ السَّبِيل. (3)
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مَوَاضِعِهِ
رَابِعًا: مَحَل الاِلْتِزَامِ (الْمُلْتَزَمُ بِهِ) :
21 - الاِلْتِزَامُ هُوَ إِيجَابُ الْفِعْل الَّذِي يَقُومُ بِهِ الْمُلْتَزِمُ كَالاِلْتِزَامِ بِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ لِلْمُشْتَرِي، وَتَسْلِيمِ الثَّمَنِ لِلْبَائِعِ، وَكَالاِلْتِزَامِ بِأَدَاءِ الدَّيْنِ، وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى الْوَدِيعَةِ، وَتَمْكِينِ الْمُسْتَأْجِرِ وَالْمُسْتَعِيرِ مِنَ الاِنْتِفَاعِ بِالْعَيْنِ، وَالْمَوْهُوبِ لَهُ مِنَ الْهِبَةِ، وَالْمِسْكِينِ مِنَ الصَّدَقَةِ، وَالْقِيَامِ بِالْعَمَل فِي عَقْدِ الاِسْتِصْنَاعِ وَالْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ، وَفِعْل الْمَنْذُورِ، وَإِسْقَاطِ الْحَقِّ. . . وَكَذَا.
وَهَذِهِ الاِلْتِزَامَاتُ تَرِدُ عَلَى شَيْءٍ تَتَعَلَّقُ بِهِ، وَهُوَ قَدْ يَكُونُ عَيْنًا أَوْ دَيْنًا، أَوْ مَنْفَعَةً أَوْ عَمَلاً، أَوْ حَقًّا، وَهَذَا مَا يُسَمَّى بِمَحَل الاِلْتِزَامِ أَوْ مَوْضُوعِهِ.
وَلِكُل مَحَلٍّ شُرُوطٌ خَاصَّةٌ حَسَبَ طَبِيعَةِ التَّصَرُّفِ الْمُرْتَبِطِ بِهِ، وَالشُّرُوطُ قَدْ تَخْتَلِفُ مِنْ تَصَرُّفٍ إِلَى
__________
(1) ابن عابدين 3 / 238، والاختيار 4 / 132، وشرح منتهى الإرادات 2 / 107.
(2) تكملة ابن عابدين 2 / 299.
(3) الاختيار 3 / 45.(6/153)
آخَرَ، فَمَا يَجُوزُ الاِلْتِزَامُ بِهِ فِي تَصَرُّفٍ قَدْ لاَ يَجُوزُ الاِلْتِزَامُ بِهِ فِي تَصَرُّفٍ آخَرَ.
إِلاَّ أَنَّهُ يُمْكِنُ إِجْمَال الشُّرُوطِ بِصِفَةٍ عَامَّةٍ مَعَ مُرَاعَاةِ الاِخْتِلاَفِ فِي التَّفَاصِيل. وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
أ - انْتِفَاءُ الْغَرَرِ وَالْجَهَالَةِ:
22 - يُشْتَرَطُ بِصِفَةٍ عَامَّةٍ فِي الْمَحَل الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الاِلْتِزَامُ انْتِفَاءُ الْغَرَرِ، وَالْغَرَرُ يَنْتَفِي عَنِ الشَّيْءِ - كَمَا يَقُول ابْنُ رُشْدٍ - بِأَنْ يَكُونَ مَعْلُومَ الْوُجُودِ، مَعْلُومَ الصِّفَةِ، مَعْلُومَ الْقَدْرِ، وَمَقْدُورًا عَلَى تَسْلِيمِهِ.
وَانْتِفَاءُ الْغَرَرِ شَرْطٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ فِي الاِلْتِزَامَاتِ الَّتِي تَتَرَتَّبُ عَلَى الْمُعَاوَضَاتِ الْمَحْضَةِ كَالْبَيْعِ وَالإِْجَارَةِ، مَبِيعًا وَثَمَنًا وَمَنْفَعَةً وَعَمَلاً وَأُجْرَةً (1) .
هَذَا مَعَ اسْتِثْنَاءِ بَعْضِهَا بِالنِّسْبَةِ لِوُجُودِ مَحَل الاِلْتِزَامِ وَقْتَ التَّصَرُّفِ كَالسَّلَمِ وَالإِْجَارَةِ وَالاِسْتِصْنَاعِ، فَإِنَّهَا أُجِيزَتِ اسْتِحْسَانًا مَعَ عَدَمِ وُجُودِ الْمُسْلَمِ فِيهِ وَالْمَنْفَعَةِ وَالْعَمَل، وَذَلِكَ لِلْحَاجَةِ.
وَيُرَاعَى كَذَلِكَ الْخِلاَفُ فِي بَيْعِ الثَّمَرِ قَبْل بُدُوِّ صَلاَحِهِ.
وَإِذَا كَانَ شَرْطُ انْتِفَاءِ الْغَرَرِ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ فِي الْمُعَاوَضَاتِ الْمَحْضَةِ، فَإِنَّ الأَْمْرَ يَخْتَلِفُ بِالنِّسْبَةِ لِغَيْرِهَا مِنْ تَبَرُّعَاتٍ كَالْهِبَةِ بِلاَ عِوَضٍ وَالإِْعَارَةِ،
__________
(1) بداية المجتهد 2 / 148، 172، 220، 226، والبدائع 5 / 3، 147، 148، 156، 158، والمهذب 1 / 402 وما بعدها، ونهاية المحتاج 3 / 21، 22 وإعلام الموقعين 2 / 28، والمغني 5 / 434 - 437، وأشباه ابن نجيم 91، 92، والمنثور في القواعد 2 / 400، 401، 403.(6/153)
وَتَوْثِيقَاتٍ كَالرَّهْنِ وَالْكَفَالَةِ وَغَيْرِهَا.
فَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ يُجِيزُ الاِلْتِزَامَ بِالْمَجْهُول وَبِالْمَعْدُومِ وَبِغَيْرِ الْمَقْدُورِ عَلَى تَسْلِيمِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لاَ يُجِيزُ ذَلِكَ. وَأَكْثَرُهُمْ تَمَسُّكًا بِذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ.
23 - وَمِنَ الْعَسِيرِ فِي هَذَا الْمَقَامِ تَتَبُّعُ كُل التَّصَرُّفَاتِ لِمَعْرِفَةِ مَدَى انْطِبَاقِ شَرْطِ انْتِفَاءِ الْغَرَرِ عَلَى كُل تَصَرُّفٍ.
وَلِذَلِكَ سَنَكْتَفِي بِبَعْضِ نُصُوصِ الْمَذَاهِبِ الَّتِي تُلْقِي ضَوْءًا عَلَى ذَلِكَ، عَلَى أَنْ يُرْجَعَ فِي التَّفْصِيلاَتِ إِلَى مَوَاضِعِهَا:
(1) فِي الْفُرُوقِ لِلْقَرَافِيِّ: الْفَرْقُ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ: مَا تُؤَثِّرُ فِيهِ الْجَهَالاَتُ وَالْغَرَرُ، وَقَاعِدَةِ: مَا لاَ يُؤَثِّرُ فِيهِ ذَلِكَ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ.
وَرَدَتِ الأَْحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ فِي نَهْيِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ وَعَنْ بَيْعِ الْمَجْهُول. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَمِنْهُمْ مَنْ عَمَّمَهُ فِي التَّصَرُّفَاتِ، وَهُوَ الشَّافِعِيُّ، فَمَنَعَ مِنَ الْجَهَالَةِ فِي الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالإِْبْرَاءِ وَالْخُلْعِ وَالصُّلْحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَمِنْهُمْ مَنْ فَصَّل - وَهُوَ مَالِكٌ - بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يُجْتَنَبُ فِيهِ الْغَرَرُ وَالْجَهَالَةُ، وَهُوَ بَابُ الْمُمَاكَسَاتِ وَالتَّصَرُّفَاتِ الْمُوجِبَةِ لِتَنْمِيَةِ الأَْمْوَال وَمَا يُقْصَدُ بِهِ تَحْصِيلُهَا، وَقَاعِدَةِ مَا لاَ يُجْتَنَبُ فِيهِ الْغَرَرُ وَالْجَهَالَةُ، وَهُوَ مَا لاَ يُقْصَدُ لِذَلِكَ، وَانْقَسَمَتِ التَّصَرُّفَاتُ عِنْدَهُ ثَلاَثَةَ أَقْسَامٍ: طَرَفَانِ وَوَاسِطَةٌ.
24 - فَالطَّرَفَانِ: أَحَدُهُمَا مُعَاوَضَةٌ صِرْفَةٌ، فَيُجْتَنَبُ فِيهَا ذَلِكَ إِلاَّ مَا دَعَتِ الضَّرُورَةُ إِلَيْهِ عَادَةً.
وَثَانِيهِمَا مَا هُوَ إِحْسَانٌ صِرْفٌ لاَ يُقْصَدُ بِهِ تَنْمِيَةُ(6/154)
الْمَال، كَالصَّدَقَةِ وَالْهِبَةِ وَالإِْبْرَاءِ، فَإِنَّ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ لاَ يُقْصَدُ بِهَا تَنْمِيَةُ الْمَال، بَل إِنْ فَاتَتْ عَلَى مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهِ بِهَا لاَ ضَرَرَ عَلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَبْذُل شَيْئًا بِخِلاَفِ الْقِسْمِ الأَْوَّل إِذَا فَاتَ بِالْغَرَرِ وَالْجَهَالاَتِ ضَاعَ الْمَال الْمَبْذُول فِي مُقَابَلَتِهِ، فَاقْتَضَتْ حِكْمَةُ الشَّرْعِ مَنْعَ الْجَهَالاَتِ فِيهِ. أَمَّا الإِْحْسَانُ الصِّرْفُ فَلاَ ضَرَرَ فِيهِ، فَاقْتَضَتْ حِكْمَةُ الشَّرْعِ وَحَثُّهُ عَلَى الإِْحْسَانِ التَّوْسِعَةَ فِيهِ بِكُل طَرِيقٍ، بِالْمَعْلُومِ وَالْمَجْهُول، فَإِنَّ ذَلِكَ أَيْسَرُ لِكَثْرَةِ وُقُوعِهِ قَطْعًا، وَفِي الْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ وَسِيلَةٌ إِلَى تَقْلِيلِهِ، فَإِذَا وَهَبَ لَهُ عَبْدَهُ الآْبِقَ جَازَ أَنْ يَجِدَهُ، فَيَحْصُل لَهُ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ وَلاَ ضَرَرَ عَلَيْهِ إِنْ لَمْ يَجِدْهُ، لأَِنَّهُ لَمْ يَبْذُل شَيْئًا.
وَهَذَا فِقْهٌ جَمِيلٌ. ثُمَّ إِنَّ الأَْحَادِيثَ لَمْ يَرِدْ فِيهَا مَا يَعُمُّ هَذِهِ الأَْقْسَامَ حَتَّى نَقُول: يَلْزَمُ مِنْهُ مُخَالَفَةُ نُصُوصِ الشَّرْعِ، بَل إِنَّمَا وَرَدَتْ فِي الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ.
25 - وَأَمَّا الْوَاسِطَةُ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ فَهُوَ النِّكَاحُ، فَهُوَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمَال فِيهِ لَيْسَ مَقْصُودًا - وَإِنَّمَا مَقْصِدُهُ الْمَوَدَّةُ وَالأُْلْفَةُ وَالسُّكُونُ - يَقْتَضِي أَنْ يَجُوزَ فِيهِ الْجَهَالَةُ وَالْغَرَرُ (1) مُطْلَقًا، وَمِنْ جِهَةِ أَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ اشْتَرَطَ فِيهِ الْمَال بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} (2) يَقْتَضِي امْتِنَاعَ الْغَرَرِ وَالْجَهَالَةِ فِيهِ. فَلِوُجُودِ الشَّبَهَيْنِ تَوَسَّطَ مَالِكٌ فَجَوَّزَ فِيهِ الْغَرَرَ الْقَلِيل دُونَ الْكَثِيرِ، نَحْوَ عَبْدٍ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ وَشُورَةِ بَيْتٍ (وَهِيَ الْجِهَازُ) ، وَلاَ يَجُوزُ عَلَى الْعَبْدِ الآْبِقِ وَالْبَعِيرِ الشَّارِدِ، لأَِنَّ الأَْوَّل يَرْجِعُ فِيهِ إِلَى الْوَسَطِ
__________
(1) جواز الغرر والجهالة مقصود بهما الصداق بدليل ما بعده.
(2) سورة النساء / 24.(6/154)
الْمُتَعَارَفِ، وَالثَّانِي لَيْسَ لَهُ ضَابِطٌ فَامْتَنَعَ، وَأُلْحِقَ الْخُلْعُ بِأَحَدِ الطَّرَفَيْنِ الأَْوَّلَيْنِ الَّذِي يَجُوزُ فِيهِ الْغَرَرُ مُطْلَقًا، لأَِنَّ الْعِصْمَةَ وَإِطْلاَقَهَا لَيْسَ مِنْ بَابِ مَا يُقْصَدُ لِلْمُعَاوَضَةِ، بَل شَأْنُ الطَّلاَقِ أَنْ يَكُونَ بِغَيْرِ شَيْءٍ فَهُوَ كَالْهِبَةِ. فَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ، وَالْفِقْهُ مَعَ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ. (1)
وَفِي الْفُرُوقِ كَذَلِكَ: اتَّفَقَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ عَلَى جَوَازِ التَّعْلِيقِ فِي الطَّلاَقِ وَالْعَتَاقِ قَبْل النِّكَاحِ وَقَبْل الْمِلْكِ، فَيَقُول لِلأَْجْنَبِيَّةِ: إِنْ تَزَوَّجْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَلِلْعَبْدِ: إِنِ اشْتَرَيْتُكَ فَأَنْتَ حُرٌّ، فَيَلْزَمُهُ الطَّلاَقُ وَالْعَتَاقُ إِذَا تَزَوَّجَ وَاشْتَرَى خِلاَفًا لِلشَّافِعِيِّ، وَوَافَقْنَا الشَّافِعِيُّ عَلَى جَوَازِ التَّصَرُّفِ بِالنَّذْرِ قَبْل الْمِلْكِ، فَيَقُول: إِنْ مَلَكْتُ دِينَارًا فَهُوَ صَدَقَةٌ.
وَجَمِيعُ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ الْمُسْلِمُ فِي الذِّمَّةِ فِي بَابِ الْمُعَامَلاَتِ.
وَدَلِيل ذَلِكَ.
أَوَّلاً: الْقِيَاسُ عَلَى النَّذْرِ فِي غَيْرِ الْمَمْلُوكِ بِجَامِعِ الاِلْتِزَامِ بِالْمَعْدُومِ.
وَثَانِيًا: قَال اللَّهُ تَعَالَى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (2) وَالطَّلاَقُ وَالْعَتَاقُ عَقْدَانِ عَقَدَهُمَا عَلَى نَفْسِهِ فَيَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِمَا.
وَثَالِثًا: قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ (3) ، وَهَذَانِ شَرْطَانِ فَوَجَبَ الْوُقُوفُ
__________
(1) الفروق للقرافي 1 / 150، 151.
(2) سورة المائدة / 1.
(3) حديث: " المسلمون على شروطهم " أخرجه الترمذي (تحفة الأحوذي 4 / 584 نشر السلفية) من طريق كثير بن عبد الله وقال: هذا حديث حسن صحيح، وأبو داود (4 / 19، 20 ط عزت عبيد دعاس) والحاكم (المستدرك 2 / 49) من طريق كثير بن زيد. قال الذهبي: هذا الحديث لم يصححه الحاكم، وكثير ضعفه النسائي ومشاه غيره. وقد نوقش الترمذي في تصحيح حديثه، فإن في إسناده كثير بن عبد الله وهو ضعيف جدا، قال الشوكاني بعد أن ذكر طرق الحديث المختلفة: ولا يخفى أن الأحاديث المذكورة والطرق يشهد بعضها لبعض فأقل أحوالها أن يكون المتن الذي اجتمعت عليه حسنا (نيل الأوطار 5 / 378، 379 ط دار الجيل) .(6/155)
مَعَهُمَا (1) .
26 - (2) فِي الْمَنْثُورِ لِلزَّرْكَشِيِّ: مِنْ حُكْمِ الْعُقُودِ اللاَّزِمَةِ أَنْ يَكُونَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَعْلُومًا مَقْدُورًا عَلَى تَسْلِيمِهِ فِي الْحَال، وَالْجَائِزُ قَدْ لاَ يَكُونُ كَذَلِكَ، كَالْجِعَالَةِ تُعْقَدُ عَلَى رَدِّ الآْبِقِ.
ثُمَّ قَال: حَيْثُ اعْتُبِرَ الْعِوَضُ فِي عَقْدٍ مِنَ الطَّرَفَيْنِ أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا فَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا، كَثَمَنِ الْمَبِيعِ وَعِوَضِ الأُْجْرَةِ، إِلاَّ فِي الصَّدَاقِ وَعِوَضِ الْخُلْعِ، فَإِنَّ الْجَهَالَةَ فِيهِ لاَ تُبْطِلُهُ، لأَِنَّ لَهُ مُرَادًا (بَدَلاً) مَعْلُومًا وَهُوَ مَهْرُ الْمِثْل، وَقَدْ يَكُونُ الْعِوَضُ فِي حُكْمِ الْمَجْهُول، كَالْعِوَضِ فِي الْمُضَارَبَةِ وَالْمُسَاقَاةِ. (2)
(3) فِي إِعْلاَمِ الْمُوَقِّعِينَ بَعْدَ أَنْ قَرَّرَ ابْنُ الْقَيِّمِ أَنَّ الْعِلَّةَ فِي بُطْلاَنِ بَيْعِ الْمَعْدُومِ هِيَ الْغَرَرُ قَال: وَكَذَلِكَ سَائِرُ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ بِخِلاَفِ الْوَصِيَّةِ فَإِنَّهَا تَبَرُّعٌ مَحْضٌ، فَلاَ غَرَرَ فِي تَعَلُّقِهَا بِالْمَوْجُودِ وَالْمَعْدُومِ، وَمَا يُقْدَرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ وَمَا لاَ يُقْدَرُ، وَطَرْدُهُ (مِثَالُهُ) : الْهِبَةُ، إِذْ لاَ مَحْذُورَ فِي ذَلِكَ فِيهَا، وَقَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِبَةُ الْمُشَاعِ الْمَجْهُول فِي قَوْلِهِ لِصَاحِبِ كُبَّةِ الشَّعْرِ حِينَ أَخَذَهَا مِنَ الْمَغْنَمِ، وَسَأَلَهُ أَنْ يَهَبَهَا لَهُ
__________
(1) الفروق 3 / 169.
(2) المنثور في القواعد للزركشي 2 / 400 - 403، 3 / 138، 139.(6/155)
فَقَال: أَمَّا مَا كَانَ لِي وَلِبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَهُوَ لَكَ (1)
27 - (4) فِي الْقَوَاعِدِ لاِبْنِ رَجَبٍ (2) فِي إِضَافَةِ الإِْنْشَاءَاتِ وَالإِْخْبَارَاتِ إِلَى الْمُبْهَمَاتِ قَال: أَمَّا الإِْنْشَاءَاتُ فَمِنْهَا الْعُقُودُ، وَهِيَ أَنْوَاعٌ:
أَحَدُهَا: عُقُودُ التَّمْلِيكَاتِ الْمَحْضَةِ كَالْبَيْعِ وَالصُّلْحِ بِمَعْنَاهُ (أَيْ عَلَى بَدَلٍ) ، وَعُقُودِ التَّوْثِيقَاتِ كَالرَّهْنِ وَالْكَفَالَةِ، وَالتَّبَرُّعَاتِ اللاَّزِمَةِ بِالْعَقْدِ أَوْ بِالْقَبْضِ بِعِدَةٍ كَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ، فَلاَ يَصِحُّ فِي مُبْهَمٍ مِنْ أَعْيَانٍ مُتَفَاوِتَةٍ، كَعَبْدٍ مِنْ عَبِيدٍ، وَشَاةٍ مِنْ قَطِيعٍ، وَكَفَالَةِ أَحَدِ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ، وَضَمَانِ أَحَدِ هَذَيْنِ الدَّيْنَيْنِ. وَفِي الْكَفَالَةِ احْتِمَالٌ، لأَِنَّهُ تَبَرُّعٌ، فَهُوَ كَالإِْعَارَةِ وَالإِْبَاحَةِ، وَيَصِحُّ فِي مُبْهَمٍ مِنْ أَعْيَانٍ مُتَسَاوِيَةٍ مُخْتَلِطَةٍ، كَقَفِيزٍ مِنْ صُبْرَةٍ، فَإِنْ كَانَتْ مُتَمَيِّزَةً مُتَفَرِّقَةً فَفِيهِ احْتِمَالاَنِ ذَكَرَهُمَا فِي التَّلْخِيصِ، وَظَاهِرُ كَلاَمِ الْقَاضِي الصِّحَّةُ.
وَالثَّانِي: عُقُودُ مُعَاوَضَاتٍ غَيْرُ مُتَمَحِّضَةٍ، كَالصَّدَاقِ وَعِوَضِ الْخُلْعِ وَالصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ، فَفِي صِحَّتِهَا عَلَى مُبْهَمٍ مِنْ أَعْيَانٍ مُخْتَلِفَةٍ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا الصِّحَّةُ.
وَالثَّالِثُ: عَقْدُ تَبَرُّعٍ مُعَلَّقٌ بِالْمَوْتِ فَيَصِحُّ فِي الْمُبْهَمِ بِغَيْرِ خِلاَفٍ لِمَا دَخَلَهُ مِنَ التَّوَسُّعِ، وَمِثْلُهُ عُقُودُ التَّبَرُّعَاتِ، كَإِعَارَةِ أَحَدِ هَذَيْنِ الثَّوْبَيْنِ وَإِبَاحَةِ أَحَدِ
__________
(1) إعلام الموقعين 22 / 28. وحديث: " أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لك. . . " أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي والبيهقي مطولا، وقال أحمد شاكر محقق مسند أحمد بن حنبل: إسناده صحيح (مسند أحمد بن حنبل بتحقيق أحمد شاكر11 / 21 رقم 1 / 6729، وعون المعبود 3 / 15 ط الهند، وسنن النسائي 5 / 262 - 264) .
(2) القواعد لابن رجب / 3.(6/156)
هَذَيْنِ الرَّغِيفَيْنِ، وَكَذَلِكَ عُقُودُ الْمُشَارَكَاتِ وَالأَْمَانَاتِ الْمَحْضَةِ، مِثْل أَنْ يَقُول: ضَارِبْ بِإِحْدَى هَاتَيْنِ الْمِائَتَيْنِ - وَهُمَا فِي كِيسَيْنِ - وَدَعِ الأُْخْرَى عِنْدَكَ وَدِيعَةً. وَأَمَّا الْفُسُوخُ فَمَا وُضِعَ مِنْهَا عَلَى التَّغْلِيبِ وَالسِّرَايَةِ صَحَّ فِي الْمُبْهَمِ كَالطَّلاَقِ وَالْعَتَاقِ. . إِلَخْ.
ب - قَابِلِيَّةُ الْمَحَل لِحُكْمِ التَّصَرُّفِ:
28 - يُشْتَرَطُ كَذَلِكَ فِي الْمَحَل الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الاِلْتِزَامُ: أَنْ يَكُونَ قَابِلاً لِحُكْمِ التَّصَرُّفِ، بِمَعْنَى أَلاَّ يَكُونَ التَّصَرُّفُ فِيهِ مُخَالِفًا لِلشَّرْعِ.
وَهَذَا الشَّرْطُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بِصِفَةٍ عَامَّةٍ مَعَ الاِخْتِلاَفِ فِي التَّفَاصِيل.
يَقُول السُّيُوطِيُّ: كُل تَصَرُّفٍ تَقَاعَدَ عَنْ تَحْصِيل مَقْصُودِهِ فَهُوَ بَاطِلٌ. فَلِذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ بَيْعُ الْحُرِّ وَلاَ الإِْجَارَةُ عَلَى عَمَلٍ مُحَرَّمٍ. (1)
وَيَقُول ابْنُ رُشْدٍ فِي الإِْجَارَةِ (2) : مِمَّا اجْتَمَعُوا عَلَى إِبْطَال إِجَارَتِهِ: كُل مَنْفَعَةٍ كَانَتْ لِشَيْءٍ مُحَرَّمِ الْعَيْنِ، كَذَلِكَ كُل مَنْفَعَةٍ كَانَتْ مُحَرَّمَةً بِالشَّرْعِ، مِثْل أَجْرِ النَّوَائِحِ وَأَجْرِ الْمُغَنِّيَاتِ، وَكَذَلِكَ كُل مَنْفَعَةٍ كَانَتْ فَرْضَ عَيْنٍ عَلَى الإِْنْسَانِ بِالشَّرْعِ، مِثْل الصَّلاَةِ وَغَيْرِهَا.
وَفِي الْمُهَذَّبِ (3) : الْوَصِيَّةُ بِمَا لاَ قُرْبَةَ فِيهِ، كَالْوَصِيَّةِ لِلْكَنِيسَةِ وَالْوَصِيَّةِ بِالسِّلاَحِ لأَِهْل الْحَرْبِ بَاطِلَةٌ.
وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّهُ لاَ يَصِحُّ الاِلْتِزَامُ بِمَا هُوَ غَيْرُ
__________
(1) الأشباه للسيوطي / 167، 310.
(2) بداية المجتهد 2 / 220، والمغني 4 / 246، 247.
(3) المهذب 1 / 458.(6/156)
مَشْرُوعٍ، كَالاِلْتِزَامِ بِتَسْلِيمِ الْخَمْرِ أَوِ الْخِنْزِيرِ فِي بَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ وَصِيَّةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَلاَ الاِلْتِزَامُ بِالتَّعَامُل بِالرِّبَا، أَوِ الزَّوَاجُ بِمَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ شَرْعًا، وَهَكَذَا.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مَوَاضِعِهِ.
آثَارُ الاِلْتِزَامِ:
آثَارُ الاِلْتِزَامِ هِيَ: مَا تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ، وَهِيَ الْمَقْصِدُ الأَْصْلِيُّ لِلاِلْتِزَامِ. وَتَخْتَلِفُ آثَارُ الاِلْتِزَامِ تَبَعًا لاِخْتِلاَفِ التَّصَرُّفَاتِ الْمُلْزَمَةِ وَاخْتِلاَفِ الْمُلْتَزَمِ بِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ:
(1) ثُبُوتُ الْمِلْكِ:
29 - يَثْبُتُ مِلْكُ الْعَيْنِ أَوِ الْمَنْفَعَةِ أَوِ الاِنْتِفَاعِ أَوِ الْعِوَضِ وَانْتِقَالُهُ لِلْمُلْتَزَمِ لَهُ فِي التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي تَقْتَضِي ذَلِكَ مَتَى اسْتَوْفَتْ أَرْكَانَهَا وَشَرَائِطَهَا، مِثْل الْبَيْعِ وَالإِْجَارَةِ وَالصُّلْحِ وَالْقِسْمَةِ، وَمَعَ مُلاَحَظَةِ الْقَبْضِ فِيمَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقَبْضُ عِنْدَ مَنْ يَقُول بِهِ. (1) وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ.
(2) حَقُّ الْحَبْسِ:
30 - يُعْتَبَرُ الْحَبْسُ مِنْ آثَارِ الاِلْتِزَامِ. فَالْبَائِعُ لَهُ حَقُّ حَبْسِ الْمَبِيعِ، حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الثَّمَنَ الَّذِي الْتَزَمَ بِهِ الْمُشْتَرِي، (2) إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ مُؤَجَّلاً.
وَالْمُؤَجِّرُ لَهُ حَقُّ حَبْسِ الْمَنَافِعِ إِلَى أَنْ يَسْتَلِمَ الأُْجْرَةَ الْمُعَجَّلَةَ. وَلِلصَّانِعِ حَقُّ حَبْسِ الْعَيْنِ بَعْدَ
__________
(1) بدائع الصنائع 4 / 201، 5 / 243، الأشباه لابن نجيم / 346 - 353، والتكملة لابن عابدين 2 / 305، والذخيرة 151، ومنح الجليل 2 / 550، وجواهر الإكليل 2 / 212، 217، والأشباه للسيوطي 344 - 351، والمنثور في القواعد 2 / 406 - 408، والقواعد لابن رجب 69.
(2) البدائع 5 / 249، 250، والمنثور 1 / 106.(6/157)
الْفَرَاغِ مِنَ الْعَمَل إِذَا كَانَ لِعَمَلِهِ أَثَرٌ فِي الْعَيْنِ، كَالْقَصَّارِ وَالصَّبَّاغِ وَالنَّجَّارِ وَالْحَدَّادِ. (1)
وَالْمُرْتَهِنُ لَهُ حَقُّ حَبْسِ الْمَرْهُونِ حَتَّى يُؤَدِّيَ الرَّاهِنُ مَا عَلَيْهِ. يَقُول ابْنُ رُشْدٍ: حَقُّ الْمُرْتَهِنِ فِي الرَّهْنِ أَنْ يُمْسِكَهُ حَتَّى يُؤَدِّيَ الرَّاهِنُ مَا عَلَيْهِ، وَالرَّهْنُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ يَتَعَلَّقُ بِجُمْلَةِ الْحَقِّ الْمَرْهُونِ فِيهِ وَبِبَعْضِهِ، أَعْنِي أَنَّهُ إِذَا رَهَنَهُ فِي عَدَدٍ مَا، فَأَدَّى مِنْهُ بَعْضَهُ، فَإِنَّ الرَّهْنَ بِأَسْرِهِ يَبْقَى بَعْدُ بِيَدِ الْمُرْتَهِنِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ. وَقَال قَوْمٌ: بَل يَبْقَى مِنَ الرَّهْنِ بِيَدِ الْمُرْتَهِنِ بِقَدْرِ مَا يَبْقَى مِنَ الْحَقِّ، وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ مَحْبُوسٌ بِحَقٍّ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَحْبُوسًا بِكُل جُزْءٍ مِنْهُ، أَصْلُهُ (أَيِ الْمَقِيسِ عَلَيْهِ) حَبْسُ التَّرِكَةِ عَلَى الْوَرَثَةِ حَتَّى يُؤَدُّوا الدَّيْنَ الَّذِي عَلَى الْمَيِّتِ. وَحُجَّةُ الْفَرِيقِ الثَّانِي أَنَّ جَمِيعَهُ مَحْبُوسٌ بِجَمِيعِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَبْعَاضُهُ مَحْبُوسَةً بِأَبْعَاضِهِ، أَصْلُهُ الْكَفَالَةُ. (2)
وَمِنْ ذَلِكَ حَبْسُ الْمَدِينِ بِمَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ، إِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى أَدَاءِ دَيْنِهِ وَمَاطَل فِي الأَْدَاءِ، وَطَلَبَ صَاحِبُ الدَّيْنِ حَبْسَهُ مِنَ الْقَاضِي، وَلِلْغَرِيمِ كَذَلِكَ مَنْعُهُ مِنَ السَّفَرِ، لأَِنَّ لَهُ حَقَّ الْمُطَالَبَةِ بِحَبْسِهِ. (3)
(3) التَّسْلِيمُ وَالرَّدُّ:
31 - يُعْتَبَرُ التَّسْلِيمُ مِنْ آثَارِ الاِلْتِزَامِ فِيمَا يَلْتَزِمُ الإِْنْسَانُ بِتَسْلِيمِهِ.
__________
(1) البدائع 4 / 203، 204 والهداية 3 / 233، والحطاب 5 / 431.
(2) بداية المجتهد 2 / 275، والهداية 4 / 130.
(3) البدائع 7 / 173، والقواعد لابن رجب / 87، والتبصرة 2 / 319 ط دار المعرفة.(6/157)
فَالْبَائِعُ مُلْتَزِمٌ بِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ لِلْمُشْتَرِي، وَالْمُؤَجِّرُ مُلْتَزِمٌ بِتَسْلِيمِ الْعَيْنِ وَمَا يَتْبَعُهَا لِلْمُسْتَأْجِرِ بِحَيْثُ تَكُونُ مُهَيَّأَةً لِلاِنْتِفَاعِ بِهَا، وَالْمُشْتَرِي وَالْمُسْتَأْجِرِ مُلْتَزِمَانِ بِتَسْلِيمِ الْعِوَضِ، وَأَجِيرُ الْوَحْدِ (الأَْجِيرُ الْخَاصُّ) مُلْتَزِمٌ بِتَسْلِيمِ نَفْسِهِ، وَالْكَفِيل مُلْتَزِمٌ بِتَسْلِيمِ مَا الْتَزَمَ بِهِ، وَالزَّوْجُ مُلْتَزِمٌ بِتَسْلِيمِ الصَّدَاقِ، وَالزَّوْجَةُ مُلْتَزِمَةٌ بِتَسْلِيمِ الْبُضْعِ، وَالْوَاهِبُ مُلْتَزِمٌ بِتَسْلِيمِ الْمَوْهُوبِ عِنْدَ مَنْ يَرَى وُجُوبَ الْهِبَةِ، وَرَبُّ الْمَال فِي السَّلَمِ وَالْمُضَارَبَةِ مُطَالَبٌ بِتَسْلِيمِ رَأْسِ الْمَال.
وَهَكَذَا كُل مَنِ الْتَزَمَ بِتَسْلِيمِ شَيْءٍ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقِيَامُ بِالتَّسْلِيمِ.
وَمِثْل ذَلِكَ رَدُّ الأَْمَانَاتِ وَالْمَضْمُونَاتِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الرَّدُّ وَاجِبًا ابْتِدَاءً أَمْ بَعْدَ الطَّلَبِ، وَذَلِكَ كَالْمُودَعِ وَالْمُسْتَعَارِ وَالْمُسْتَأْجِرِ وَالْقَرْضِ وَالْمَغْصُوبِ وَالْمَسْرُوقِ وَاللُّقَطَةِ إِذَا جَاءَ صَاحِبُهَا، وَمَا عِنْدَ الْوَكِيل وَالشَّرِيكِ وَالْمُضَارِبِ إِذَا فَسَخَ الْمَالِكُ وَهَكَذَا.
مَعَ اعْتِبَارِ أَنَّ التَّسْلِيمَ فِي كُل شَيْءٍ بِحَسَبِهِ، قَدْ يَكُونُ بِالإِْقْبَاضِ، وَقَدْ يَكُونُ بِالتَّخْلِيَةِ وَالتَّمْكِينِ مِنَ الْمُلْتَزَمِ بِهِ. (1)
(4) ثُبُوتُ حَقِّ التَّصَرُّفِ:
يَثْبُتُ لِلْمُلْتَزَمِ لَهُ حَقُّ التَّصَرُّفِ فِي الْمُلْتَزَمِ بِهِ
__________
(1) البدائع 4 / 203، 5 / 235، 243 و 6 / 7، 12، 84، وابن عابدين 4 / 43، والتكملة 2 / 304، ومنح الجليل 2 / 550، والخرشي 7 / 105، وبداية المجتهد 2 / 145، ومغني المحتاج 2 / 74، والمنثور 3 / 92، والأشباه للسيوطي 351، 352، والقواعد لابن رجب ص 53، 69، 74، والمغني 4 / 218، 592.(6/158)
بِامْتِلاَكِهِ، لَكِنْ يَخْتَلِفُ نَوْعُ التَّصَرُّفِ بِاخْتِلاَفِ نَوْعِ الْمِلْكِيَّةِ فِي الْمُلْتَزَمِ بِهِ، وَذَلِكَ كَمَا يَأْتِي:
32 - أ - إِذَا كَانَ الْمُلْتَزَمُ بِهِ تَمْلِيكًا لِلْعَيْنِ أَوْ لِلدَّيْنِ، فَإِنَّهُ يَثْبُتُ لِلْمَالِكِ حَقُّ التَّصَرُّفِ فِيهِ بِكُل أَنْوَاعِ التَّصَرُّفِ مِنْ بَيْعٍ وَهِبَةٍ وَوَصِيَّةٍ وَعِتْقٍ وَأَكْلٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، لأَِنَّهُ أَصْبَحَ مِلْكَهُ، فَلَهُ وِلاَيَةُ التَّصَرُّفِ فِيهِ.
وَهَذَا إِذَا كَانَ بَعْدَ الْقَبْضِ بِلاَ خِلاَفٍ، أَمَّا قَبْل الْقَبْضِ فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ يَخْتَلِفُونَ فِيمَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْل الْقَبْضِ وَمَا لاَ يَجُوزُ.
وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّهُ لاَ يَصِحُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ التَّصَرُّفُ فِي الأَْعْيَانِ الْمَمْلُوكَةِ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ قَبْل قَبْضِهَا، إِلاَّ الْعَقَارَ فَيَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْل قَبْضِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ خِلاَفًا لِمُحَمَّدٍ. وَدَلِيل مَنْعِ التَّصَرُّفِ قَبْل الْقَبْضِ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ: لاَ تَبِعْ مَا لَمْ تَقْبِضْهُ (1) وَلأَِنَّ فِيهِ غَرَرَ انْفِسَاخِ الْعَقْدِ عَلَى اعْتِبَارِ الْهَلاَكِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ يَجُوزُ التَّصَرُّفُ قَبْل الْقَبْضِ إِلاَّ فِي الطَّعَامِ، فَلاَ يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْل قَبْضِهِ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنِ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلاَ يَبِعْهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ (2)
__________
(1) حديث: " لا تبع مالم تقبضه. . . " أخرجه الترمذي وأبو داود والنسائي بلفظ: " لا تبع ما ليس عندك "، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وأقر المنذري تحسين الترمذي. (سنن أبي داود 3 / 768، 769 ط عزت عبيد دعاس، وتحفة الأحوذي 4 / 430، 431 نشر السلفية، وسنن النسائي 7 / 289 ط المطبعة المصرية) .
(2) حديث: " من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه. . " أخرجه البخاري من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما مرفوعا. (فتح الباري 4 / 344 ط السلفية) .(6/158)
وَأَمَّا الدُّيُونُ:
فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهَا قَبْل الْقَبْضِ إِلاَّ فِي الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ:
أَمَّا الصَّرْفُ فَلأَِنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْ بَدَلَيِ الصَّرْفِ مَبِيعٌ مِنْ وَجْهٍ وَثَمَنٌ مِنْ وَجْهٍ. فَمِنْ حَيْثُ هُوَ ثَمَنٌ يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْل الْقَبْضِ، وَمِنْ حَيْثُ هُوَ مَبِيعٌ لاَ يَجُوزُ، فَغَلَبَ جَانِبُ الْحُرْمَةِ احْتِيَاطًا.
وَأَمَّا السَّلَمُ فَلأَِنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ مَبِيعٌ بِالنَّصِّ، وَالاِسْتِبْدَال بِالْمَبِيعِ الْمَنْقُول قَبْل الْقَبْضِ لاَ يَجُوزُ. وَكَذَلِكَ يَجُوزُ تَصَرُّفُ الْمُقْرِضِ فِي الْقَرْضِ قَبْل الْقَبْضِ عِنْدَهُمْ، وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ: أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِي الدُّيُونِ قَبْل الْقَبْضِ فِيمَا سِوَى الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ، فَإِنَّ الإِْمَامَ مَالِكًا مَنَعَ بَيْعَ الْمُسْلَمِ فِيهِ قَبْل قَبْضِهِ فِي مَوْضِعَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِذَا كَانَ الْمُسْلَمُ فِيهِ طَعَامًا، وَذَلِكَ بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِ فِي أَنَّ الَّذِي يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ بَيْعِهِ الْقَبْضُ هُوَ الطَّعَامُ، عَلَى مَا جَاءَ عَلَيْهِ النَّصُّ فِي الْحَدِيثِ.
وَالثَّانِي: إِذَا لَمْ يَكُنِ الْمُسْلَمُ فِيهِ طَعَامًا فَأَخَذَ عِوَضَهُ الْمُسْلِمُ (صَاحِبُ الثَّمَنِ) مَا لاَ يَجُوزُ أَنْ يُسْلِمَ فِيهِ رَأْسَ مَالِهِ، مِثْل أَنْ يَكُونَ الْمُسْلَمُ فِيهِ عَرَضًا وَالثَّمَنُ عَرَضًا مُخَالِفًا لَهُ، فَيَأْخُذَ الْمُسْلِمُ مِنَ الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ إِذَا حَانَ الأَْجَل شَيْئًا مِنْ جِنْسِ ذَلِكَ الْعَرَضِ الَّذِي هُوَ الثَّمَنُ، وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا يَدْخُلُهُ إِمَّا سَلَفٌ وَزِيَادَةٌ، إِنْ كَانَ الْعَرَضُ الْمَأْخُوذُ أَكْثَرَ مِنْ رَأْسِ مَال السَّلَمِ، وَإِمَّا ضَمَانٌ وَسَلَفٌ إِنْ كَانَ مِثْلَهُ أَوْ أَقَل (1) .
__________
(1) البدائع 5 / 234، وبداية المجتهد 2 / 224 نشر مكتبة الكليات الأزهرية.(6/159)
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِنْ كَانَ الْمِلْكُ عَلَى الدُّيُونِ مُسْتَقِرًّا، كَغَرَامَةِ الْمُتْلَفِ وَبَدَل الْقَرْضِ جَازَ بَيْعُهُ مِمَّنْ عَلَيْهِ قَبْل الْقَبْضِ، لأَِنَّ مِلْكَهُ مُسْتَقِرٌّ عَلَيْهِ، وَهُوَ الأَْظْهَرُ فِي بَيْعِهِ مِنْ غَيْرِهِ. وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ غَيْرَ مُسْتَقِرٍّ فَإِنْ كَانَ مُسْلَمًا فِيهِ لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ كَانَ ثَمَنًا فِي بَيْعٍ فَفِيهِ قَوْلاَنِ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: كُل عِوَضٍ مُلِكَ بِعَقْدٍ يَنْفَسِخُ بِهَلاَكِهِ قَبْل الْقَبْضِ لَمْ يَجُزِ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْل قَبْضِهِ، كَالأُْجْرَةِ وَبَدَل الصُّلْحِ إِذَا كَانَا مِنَ الْمَكِيل أَوِ الْمَوْزُونِ أَوِ الْمَعْدُودِ، وَمَا لاَ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِهَلاَكِهِ جَازَ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْل قَبْضِهِ، كَعِوَضِ الْخُلْعِ وَأَرْشِ الْجِنَايَةِ وَقِيمَةِ الْمُتْلَفِ.
أَمَّا مَا يَثْبُتُ فِيهِ الْمِلْكُ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ، كَالْوَصِيَّةِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ فِي الْجُمْلَةِ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْل قَبْضِهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. (1)
33 - ب - وَإِذَا كَانَ الْمُلْتَزَمُ بِهِ تَمْلِيكًا لِلْمَنْفَعَةِ، فَإِنَّهُ يَثْبُتُ لِمَالِكِ الْمَنْفَعَةِ حَقُّ التَّصَرُّفِ فِي الْحُدُودِ الْمَأْذُونِ فِيهَا، وَتَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ لِغَيْرِهِ كَمَا فِي الإِْجَارَةِ وَالْوَصِيَّةِ بِالْمَنْفَعَةِ وَالإِْعَارَةِ وَهَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَفِي الإِْجَارَةِ عِنْدَ جَمِيعِ الْمَذَاهِبِ، وَفِي غَيْرِهَا اخْتِلاَفُهُمْ، وَالْقَاعِدَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ الْمَنَافِعَ الَّتِي تُمْلَكُ بِبَدَلٍ يَجُوزُ تَمْلِيكُهَا بِبَدَلٍ كَالإِْجَارَةِ، وَاَلَّتِي تُمْلَكُ بِغَيْرِ عِوَضٍ لاَ
__________
(1) ابن عابدين 4 / 162 - 165، والبدائع 5 / 234، والهداية 3 / 56، 224، وحاشية الدسوقي 3 / 151، وبداية المجتهد 2 / 144 - 146، 205، ومغني المحتاج 2 / 68، 69، والمهذب 1 / 269، 270، والمغني 4 / 126، 127، 128، ومنتهى الإرادات 2 / 176، والقواعد لابن رجب من 78 إلى 83.(6/159)
يَجُوزُ تَمْلِيكُهَا بِعِوَضٍ. فَالْمُسْتَعِيرُ يَمْلِكُ الإِْعَارَةَ وَلاَ يَمْلِكُ الإِْجَارَةَ. (1)
34 - ج - وَإِذَا كَانَ الْمُلْتَزَمُ بِهِ حَقَّ الاِنْتِفَاعِ فَقَطْ، فَإِنَّ حَقَّ التَّصَرُّفِ يَقْتَصِرُ عَلَى انْتِفَاعِ الْمُلْتَزَمِ لَهُ بِنَفْسِهِ فَقَطْ، كَمَا فِي الْعَارِيَّةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَكَالإِْبَاحَةِ لِلطَّعَامِ فِي الضِّيَافَاتِ. (2)
35 - د - وَإِذَا كَانَ الْمُلْتَزَمُ بِهِ إِذْنًا فِي التَّصَرُّفِ، فَإِنَّهُ يَثْبُتُ لِلْمَأْذُونِ لَهُ حَقُّ التَّصَرُّفِ الْمُطْلَقِ إِذَا كَانَ الإِْذْنُ مُطْلَقًا، وَإِلاَّ اقْتَصَرَ التَّصَرُّفُ عَلَى مَا أَذِنَ بِهِ، وَذَلِكَ كَمَا فِي الْوَكَالَةِ وَالْمُضَارَبَةِ. (3)
وَفِي كُل ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مَوَاضِعِهِ.
(5) مَنْعُ حَقِّ التَّصَرُّفِ:
36 - قَدْ يَنْشَأُ مِنْ بَعْضِ الاِلْتِزَامَاتِ مَنْعُ حَقِّ التَّصَرُّفِ، وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ:
الرَّهْنُ، فَلاَ يَصِحُّ تَصَرُّفُ الرَّاهِنِ فِي الْمَرْهُونِ بِبَيْعٍ أَوْ غَيْرِهِ، لأَِنَّ الْمُرْتَهِنَ أَخَذَ الْعَيْنَ بِحَقِّهِ فِي الرَّهْنِ، وَهُوَ التَّوَثُّقُ بِاسْتِيفَاءِ دَيْنِهِ وَقَبَضَ الْمَرْهُونَ. فَالْمُرْتَهِنُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الرَّهْنِ كَغُرَمَاءِ الْمُفْلِسِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ. (4)
(6) صِيَانَةُ الأَْنْفُسِ وَالأَْمْوَال:
37 - الأَْصْل أَنَّ الْمُسْلِمَ مُلْتَزِمٌ بِحُكْمِ إِسْلاَمِهِ
__________
(1) الأشباه لابن نجيم ص 274، 353، ومنح الجليل 3 / 486. ومغني المحتاج 2 / 389، والمغني 5 / 226.
(2) المراجع السابقة.
(3) البدائع 6 / 24، و7 / 197، والهداية 4 / 3، والدسوقي 3 / 304، ومغني المحتاج 2 / 100، والمغني 5 / 84، 94.
(4) القواعد لابن رجب ص 87، والمنثور 3 / 238.(6/160)
بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خُطْبَتِهِ يَوْمَ النَّحْرِ: إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا. (1)
أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ مِمَّا يَصُونُ دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمُ - الْتِزَامَ الْمُسْلِمِينَ بِذَلِكَ بِسَبَبِ الْعُقُودِ الَّتِي تَتِمُّ مَعَهُمْ، كَعَقْدِ الأَْمَانِ الْمُؤَقَّتِ أَوِ الدَّائِمِ. إِذْ ثَمَرَةُ الأَْمَانِ حُرْمَةُ قَتْلِهِمْ وَاسْتِرْقَاقِهِمْ وَأَخْذِ أَمْوَالِهِمْ، مَا دَامُوا مُلْتَزِمِينَ بِمُوجِبِ عَقْدِ الأَْمَانِ أَوْ عَقْدِ الذِّمَّةِ. (2)
وَمِنْ صِيَانَةِ الأَْمْوَال: الاِلْتِزَامُ بِحِفْظِ الْوَدِيعَةِ بِجَعْلِهَا فِي مَكَانٍ أَمِينٍ. وَقَدْ يَجِبُ الاِلْتِزَامُ بِذَلِكَ حِرْصًا عَلَى الأَْمْوَال، وَلِذَلِكَ يَقُول الْفُقَهَاءُ: إِنْ لَمْ يَكُنْ مَنْ يَصْلُحُ لأَِخْذِ الْوَدِيعَةِ غَيْرُهُ وَخَافَ إِنْ لَمْ يَقْبَل أَنْ تَهْلِكَ - تَعَيَّنَ عَلَيْهِ قَبُولُهَا، لأَِنَّ حُرْمَةَ الْمَال كَحُرْمَةِ النَّفْسِ، لِمَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: حُرْمَةُ مَال الْمُؤْمِنِ كَحُرْمَةِ دَمِهِ (3) . وَلَوْ
__________
(1) حديث: " إن دماءكم وأموالكم حرام كحرمة يومكم هذا. . . " أخرجه البخاري ومسلم ضمن حديث طويل بلفظ: " فإن دماءكم وأموالكم " - قال محمد: وأحسبه قال - وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا في شهركم هذا. (فتح الباري 10 / 7، 8 ط السلفية، وصحيح مسلم 3 / 1305 ط عيسى الحلبي) .
(2) البدائع 7 / 105، والفواكه الدواني 1 / 468، والمغني 5 / 238، 7 / 462، 463.
(3) حديث: " حرمة مال المؤمن. . . " أخرجه أحمد في مسنده (1 / 446) ، من طريق الهجري من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مرفوعا بلفظ: " سباب المسلم أخاه فسوق، وقتاله كفر، وحرمة ماله كحرمة دمه ". قال أحمد شاكر: إسناده ضعيف لضعف الهجري (المسند بتحقيق أحمد شاكر وأخرجه أبو نعيم في الحلية من حديث الحسن بن صالح عن إبراهيم الهجري عن أبي الأحوص عن ابن مسعود، ثم قال: غريب من حديث الحسن والهجري. وأخرجه الدارقطني والبزار وقال: تفرد به أبوشهاب. قال الألباني في بعد سرد طرق الحديث المختلفة: والحديث بمجموع طرقه حسن (مجم وفيض القدير 3 / 381، وغاية المرام في تخريج أحاديث الحلال والحرام ص 103) .(6/160)
خَافَ عَلَى دَمِهِ لَوَجَبَ عَلَيْهِ حِفْظُهُ، فَكَذَلِكَ إِذَا خَافَ عَلَى مَالِهِ. (1)
وَمِنْ ذَلِكَ أَخْذُ اللُّقَطَةِ وَاللَّقِيطِ، إِذْ يَجِبُ الأَْخْذُ إِذَا خِيفَ الضَّيَاعُ، لأَِنَّ حِفْظَ مَال الْغَيْرِ وَاجِبٌ، قَال ابْنُ رُشْدٍ: يَلْزَمُ أَنْ يُؤْخَذَ اللَّقِيطُ وَلاَ يُتْرَكَ، لأَِنَّهُ إِنْ تُرِكَ ضَاعَ وَهَلَكَ، لاَ خِلاَفَ بَيْنَ أَهْل الْعِلْمِ فِي هَذَا، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي لُقَطَةِ الْمَال، وَهَذَا الاِخْتِلاَفُ إِنَّمَا هُوَ إِذَا كَانَتْ بَيْنَ قَوْمٍ مَأْمُونِينَ وَالإِْمَامُ عَدْلٌ. أَمَّا إِذَا كَانَتْ بَيْنَ قَوْمٍ غَيْرِ مَأْمُونِينَ فَأَخْذُهَا وَاجِبٌ قَوْلاً وَاحِدًا (2) .
وَمِنْ ذَلِكَ الاِلْتِزَامُ بِالْوِلاَيَةِ الشَّرْعِيَّةِ لِحِفْظِ مَال الصَّغِيرِ وَالْيَتِيمِ وَالسَّفِيهِ. (3)
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مَوَاضِعِهِ.
(7) الضَّمَانُ:
38 - الضَّمَانُ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ الاِلْتِزَامِ، وَهُوَ يَكُونُ بِإِتْلاَفِ مَال الْغَيْرِ أَوِ الاِعْتِدَاءِ عَلَيْهِ بِالْغَصْبِ أَوِ السَّرِقَةِ أَوْ بِالتَّعَدِّي فِي الاِسْتِعْمَال الْمَأْذُونِ فِيهِ فِي الْمُسْتَعَارِ وَالْمُسْتَأْجَرِ أَوْ بِالتَّفْرِيطِ وَتَرْكِ الْحِفْظِ كَمَا فِي الْوَدِيعَةِ.
يَقُول الْكَاسَانِيُّ: تَتَغَيَّرُ صِفَةُ الْمُسْتَأْجَرِ مِنَ الأَْمَانَةِ
__________
(1) البدائع 6 / 207، والمهذب 1 / 365، 366.
(2) منح الجليل 4 / 119.
(3) الأشباه للسيوطي 172، والمهذب 1 / 470.(6/161)
إِلَى الضَّمَانِ بِأَشْيَاءَ مِنْهَا: تَرْكُ الْحِفْظِ، لأَِنَّ الأَْجِيرَ لَمَّا قَبَضَ الْمُسْتَأْجَرَ فَقَدْ الْتَزَمَ حِفْظَهُ، وَتَرْكُ الْحِفْظِ الْمُلْتَزَمِ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ، كَالْمُودَعِ إِذَا تَرَكَ الْحِفْظَ حَتَّى ضَاعَتِ الْوَدِيعَةُ.
وَكَذَلِكَ يَضْمَنُ بِالإِْتْلاَفِ وَالإِْفْسَادِ إِذَا كَانَ الأَْجِيرُ مُتَعَدِّيًا فِيهِ، إِذِ الاِسْتِعْمَال الْمَأْذُونُ فِيهِ مُقَيَّدٌ بِشَرْطِ السَّلاَمَةِ. (1)
وَيَقُول السُّيُوطِيُّ: أَسْبَابُ الضَّمَانِ أَرْبَعَةٌ:
الأَْوَّل: الْعَقْدُ، وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ ضَمَانُ الْمَبِيعِ، وَالثَّمَنُ الْمُعَيَّنُ قَبْل الْقَبْضِ، وَالْمُسْلَمُ فِيهِ، وَالْمَأْجُورُ.
وَالثَّانِي: الْيَدُ، مُؤْتَمَنَةً كَانَتْ كَالْوَدِيعَةِ وَالشَّرِكَةِ وَالْوَكَالَةِ وَالْمُقَارَضَةِ إِذَا حَصَل التَّعَدِّي، أَوْ غَيْرَ مُؤْتَمَنَةٍ كَالْغَصْبِ وَالسَّوْمِ وَالْعَارِيَّةِ وَالشِّرَاءِ فَاسِدًا.
وَالثَّالِثُ: الإِْتْلاَفُ لِلنَّفْسِ أَوِ الْمَال.
وَالرَّابِعُ: الْحَيْلُولَةُ. (2)
وَيَقُول ابْنُ رُشْدٍ: الْمُوجِبُ لِلضَّمَانِ إِمَّا الْمُبَاشَرَةُ لأَِخْذِ الْمَال الْمَغْصُوبِ أَوْ لإِِتْلاَفِهِ، وَإِمَّا الْمُبَاشَرَةُ لِلسَّبَبِ الْمُتْلِفِ، وَإِمَّا إِثْبَاتُ الْيَدِ عَلَيْهِ. (3)
وَفِي الْقَوَاعِدِ لاِبْنِ رَجَبٍ: أَسْبَابُ الضَّمَانِ ثَلاَثَةٌ: عَقْدٌ، وَيَدٌ، وَإِتْلاَفٌ. (4) وَفِي كُل ذَلِكَ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلاَتٌ وَتَفْرِيعَاتٌ تُنْظَرُ فِي مَوَاضِعِهَا.
حُكْمُ الْوَفَاءِ بِالاِلْتِزَامِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ:
39 - الأَْصْل فِي الاِلْتِزَامِ أَنَّهُ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ امْتِثَالاً لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (5)
__________
(1) البدائع للكاساني 4 / 210، 211 و6 / 216، 218.
(2) أشباه السيوطي / 390.
(3) بداية المجتهد 2 / 316.
(4) القواعد لابن رجب ص 204.
(5) سورة المائدة / 1.(6/161)
وَالْمُرَادُ بِالْعُقُودِ كَمَا يَقُول الْفُقَهَاءُ: مَا عَقَدَهُ الْمَرْءُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ بَيْعٍ وَشِرَاءٍ وَإِجَارَةٍ وَكِرَاءٍ وَمُنَاكَحَةٍ وَطَلاَقٍ وَمُزَارَعَةٍ وَمُصَالَحَةٍ وَتَمْلِيكٍ وَتَخْيِيرٍ وَعِتْقٍ وَتَدْبِيرٍ، وَكَذَلِكَ الْعُهُودُ وَالذِّمَمُ الَّتِي نَعْقِدُهَا لأَِهْل الْحَرْبِ وَأَهْل الذِّمَّةِ وَالْخَوَارِجِ، وَمَا عَقَدَهُ الإِْنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ لِلَّهِ تَعَالَى مِنَ الطَّاعَاتِ كَالْحَجِّ وَالصِّيَامِ وَالاِعْتِكَافِ وَالنَّذْرِ وَالْيَمِينِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَيَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهَا.
وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ (1) عَامٌّ فِي إِيجَابِ الْوَفَاءِ بِجَمِيعِ مَا يَشْرِطُهُ الإِْنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ، مَا لَمْ تَقُمْ دَلاَلَةٌ تُخَصِّصُهُ (2)
لَكِنَّ هَذَا الْحُكْمَ لَيْسَ عَامًّا فِي كُل الاِلْتِزَامَاتِ، وَذَلِكَ لِتَنَوُّعِ الاِلْتِزَامَاتِ بِحَسَبِ اللُّزُومِ وَعَدَمِهِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي:
(1) الاِلْتِزَامَاتُ الَّتِي يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهَا:
40 - أ - الاِلْتِزَامَاتُ الَّتِي تَنْشَأُ بِسَبَبِ الْعُقُودِ اللاَّزِمَةِ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ، كَالْبَيْعِ وَالإِْجَارَةِ وَالصُّلْحِ وَعُقُودِ الذِّمَّةِ، فَهَذِهِ الاِلْتِزَامَاتُ مَتَى تَمَّتْ صَحِيحَةً لاَزِمَةً وَجَبَ الْوَفَاءُ بِهَا مَا لَمْ يَحْدُثْ مَا يَقْتَضِي الْفَسْخَ، كَالْهَلاَكِ وَالاِسْتِحْقَاقِ وَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ، وَهَذَا شَامِلٌ
__________
(1) حديث: " المسلمون على شروطهم. . . " تقدم تخريجه في هامش فقرة (24) .
(2) القرطبي 6 / 32، 33، وأحكام القرآن للجصاص 2 / 361، 362، وأحكام القرآن لابن العربي 2 / 527، والمنثور في القواعد 3 / 392، وبداية المجتهد 1 / 422، والبدائع 5 / 82، 90، والقواعد لابن رجب 53، 54، 136، 222، وابن عابدين 4 / 226.(6/162)
لِلأَْعْيَانِ الْوَاجِبِ تَسْلِيمُهَا، وَلِلدُّيُونِ الَّتِي تَكُونُ فِي الذِّمَمِ كَبَدَل الْقَرْضِ وَثَمَنِ الْمَبِيعِ وَالأُْجْرَةِ فِي الإِْجَارَةِ أَوِ الَّتِي تَنْشَأُ نَتِيجَةَ إِنْفَاذِ مَال الْغَيْرِ عَلَى خِلاَفٍ وَتَفْصِيلٍ.
ب - الاِلْتِزَامَاتُ الَّتِي تَنْشَأُ نَتِيجَةَ التَّعَدِّي بِالْغَصْبِ أَوِ السَّرِقَةِ أَوِ الإِْتْلاَفِ أَوِ التَّفْرِيطِ.
ج - الأَْمَانَاتُ الَّتِي تَكُونُ عِنْدَ الْمُلْتَزَمِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ بِمُوجِبِ عَقْدٍ كَالْوَدِيعَةِ، أَمْ لَمْ تَكُنْ كَاللُّقَطَةِ وَكَمَنْ أَطَارَتِ الرِّيحُ ثَوْبًا إِلَى دَارِهِ.
د - نَذْرُ الْقُرُبَاتِ، وَهُوَ مَا يَلْتَزِمُ بِهِ الإِْنْسَانُ مِنْ قُرُبَاتٍ بَدَنِيَّةٍ أَوْ مَالِيَّةٍ طَاعَةً وَتَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
هـ - الاِلْتِزَامَاتُ التَّكْلِيفِيَّةُ الشَّرْعِيَّةُ، وَمِنْهَا النَّفَقَاتُ الْوَاجِبَةُ.
فَهَذِهِ الاِلْتِزَامَاتُ لاَ خِلاَفَ فِي وُجُوبِ الْوَفَاءِ بِهَا، مُنْجَزَةً إِنْ كَانَتْ كَذَلِكَ، وَبَعْدَ تَحَقُّقِ الشَّرْطِ الْمَشْرُوعِ إِنْ كَانَتْ مُعَلَّقَةً، وَعِنْدَ دُخُول الْوَقْتِ إِنْ كَانَتْ مُضَافَةً، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْوَفَاءُ لاَ يَجِبُ إِلاَّ بَعْدَ الطَّلَبِ أَمْ يَجِبُ بِدُونِهِ.
وَيَتَحَقَّقُ الْوَفَاءُ بِالأَْدَاءِ وَالتَّسْلِيمِ أَوِ الْقِيَامِ بِالْعَمَل أَوِ الإِْبْرَاءِ أَوِ الْمُقَاصَّةِ وَهَكَذَا. وَدَلِيل الْوُجُوبِ الآْيَةُ السَّابِقَةُ، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} (1) وقَوْله تَعَالَى: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} (2) وقَوْله تَعَالَى: {فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} (3) .
وَالتَّخَلُّفُ عَنِ الْوَفَاءِ بِغَيْرِ عُذْرٍ يَسْتَوْجِبُ الْعُقُوبَةَ
__________
(1) سورة النحل / 91.
(2) سورة الحج / 29.
(3) سورة البقرة / 283.(6/162)
الدُّنْيَوِيَّةَ وَالأُْخْرَوِيَّةَ، إِذِ الْعُقُوبَةُ وَاجِبَةٌ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِل عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ (1) فَعُقُوبَتُهُ حَبْسُهُ، وَعِرْضُهُ أَنْ يَحِل الْقَوْل فِي عِرْضِهِ بِالإِْغْلاَظِ. وَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَطْل الْغَنِيِّ ظُلْمٌ. (2)
وَلِذَلِكَ يُجْبَرُ الْمُمْتَنِعُ عَنِ الْوَفَاءِ بِالضَّرْبِ أَوِ الْحَبْسِ أَوِ الْحَجْرِ وَمَنْعِ التَّصَرُّفِ فِي الْمَال، أَوْ بَيْعِ مَال الْمُلْتَزَمِ وَالْوَفَاءِ مِنْهُ. إِلاَّ إِذَا كَانَ الْمُلْتَزِمُ مُعْسِرًا فَيَجِبُ إِنْظَارُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} . (3)
41 - وَمَا سَبَقَ إِنَّمَا هُوَ فِي الْجُمْلَةِ، إِذْ لِلْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلاَتٌ وَتَفْرِيعَاتٌ، وَمِنْ ذَلِكَ مَثَلاً:
__________
(1) حديث: " لي الواجد يحل عرضه وعقوبته. . . " أخرجه أبو داود (سنن أبي داود 4 / 45 ط إستنبول) والنسائي (7 / 316 ط المطبعة المصرية) وابن ماجه (2 / 811 ط مصطفى الحلبي) . وقال الحافظ ابن حجر: إسناده حسن (فتح الباري 5 / 62 ط السلفية) .
(2) حديث: " مطل الغني ظلم. . . " أخرجه البخاري ومسلم مرفوعا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه (فتح الباري 5 / 61 ط السلفية، وصحيح مسلم 3 / 1197 ط مصطفى الحلبي) .
(3) سورة البقرة / 280. وانظر الهداية 3 / 104، 285، 286، والبدائع 5 / 90، 171 و 6 / 10 و 7 / 148، 164، 173، 217، وابن عابدين 1 / 458 و 2 / 635، والتكملة لابن عابدين 2 / 351، والفروق للقرافي الفرق 236، والتبصرة لابن فرحون 2 / 318 - 330، والقوانين الفقهية لابن جزي 208، 209، وبداية المجتهد 1 / 422 و 2 / 285، والقواعد لابن رجب ص 31، 33، 53، 54، 87، 145، 245، والمغني 4 / 219، 447 - 502 و 591 و 9 / 1، والمنثور في القواعد 1 / 101 و3 / 109، 110، 323، ومغني المحتاج 2 / 74، ونهاية المحتاج 4 / 100، 101، وقليوبي 2 / 286، وفتح العلي المالك 1 / 212، 251، 252 ط دار المعرفة.(6/163)
اخْتِلاَفُهُمْ فِي الإِْجْبَارِ عَلَى الْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ الْمَشْرُوعِ عِنْدَ الاِمْتِنَاعِ، فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُقْضَى بِالنَّذْرِ الْمُطْلَقِ إِذَا كَانَ لِمُعَيَّنٍ، وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ يُؤْمَرُ بِالْوَفَاءِ وَلاَ يُقْضَى بِهِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَقِيل يُقْضَى بِهِ، وَفِيهِ الْخِلاَفُ أَيْضًا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لاَ يُجِيزُ الْحَجْرَ فِي الدَّيْنِ، لأَِنَّ فِي الْحَجْرِ إِهْدَارَ آدَمِيَّةِ الْمَدِينِ، بَل لاَ يُجِيزُ لِلْحَاكِمِ التَّصَرُّفَ فِي مَالِهِ، وَإِنَّمَا يُجْبِرُهُ عَلَى بَيْعِهِ لِوَفَاءِ دَيْنِهِ (1) . وَهَكَذَا.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مَوَاضِعِهِ.
2 - الْتِزَامَاتٌ يُسْتَحَبُّ الْوَفَاءُ بِهَا وَلاَ يَجِبُ:
42 - أ - الاِلْتِزَامَاتُ الَّتِي تَنْشَأُ مِنْ عُقُودِ التَّبَرُّعَاتِ كَالْقَرْضِ وَالْهِبَةِ وَالْعَارِيَّةِ وَالْوَصِيَّةِ.
ب - الاِلْتِزَامُ النَّاشِئُ بِالْوَعْدِ، فَهَذِهِ الاِلْتِزَامَاتُ يُسْتَحَبُّ الْوَفَاءُ بِهَا، لأَِنَّهَا مِنَ الْمَعْرُوفِ الَّذِي نَدَبَ إِلَيْهِ الشَّارِعُ، يَقُول اللَّهُ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (2) وَيَقُول النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةٍ مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ (3) وَيَقُول: تَهَادَوا تَحَابُّوا (4) .
__________
(1) الهداية 3 / 285، وفتح العلي المالك 1 / 251، 252 نشر دار المعرفة، والمنثور في القواعد 3 / 109.
(2) سورة المائدة / 2.
(3) حديث: " من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة. . . ". أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا. (صحيح مسلم 4 / 2074 ط عيسى الحلبي) .
(4) حديث: " تهادوا تحابوا. . . " أخرجه مالك مرسلا من حديث عطاء بن أبي مسلم عبد الله الخراساني وإسناده معضل. قال ابن المبارك: حديث مالك جيد. وقال ابن عبد البر: هذا يتصل من وجوه شتى، حسان كلها. (الموطأ للإمام مالك 2 / 908 ط مصطفى الحلبي، وجامع الأصول في أحاديث الرسول 6 / 618، 619) .(6/163)
لَكِنْ لاَ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهَا، فَفِي الْوَصِيَّةِ يَجُوزُ بِالاِتِّفَاقِ الرُّجُوعُ فِيهَا مَا دَامَ الْمُوصِي حَيًّا.
وَفِي الْعَارِيَّةِ وَالْقَرْضِ يَجُوزُ الرُّجُوعُ بِطَلَبِ الْمُسْتَعَارِ وَبَدَل الْقَرْضِ فِي الْحَال بَعْدَ الْقَبْضِ، وَهَذَا عِنْدَ غَيْرِ الْمَالِكِيَّةِ، بَل قَال الْجُمْهُورُ: إِنَّ الْمُقْرِضَ إِذَا أَجَّل الْقَرْضَ لاَ يَلْزَمُهُ التَّأْجِيل، لأَِنَّهُ لَوْ لَزِمَ فِيهِ الأَْجَل لَمْ يَبْقَ تَبَرُّعًا.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَإِنَّ الْعَارِيَّةَ وَالْقَرْضَ إِذَا كَانَا مُؤَجَّلَيْنِ فَذَلِكَ لاَزِمٌ إِلَى أَنْ يَنْقَضِيَ الأَْجَل، وَإِنْ كَانَا مُطْلَقَيْنِ لَزِمَ الْبَقَاءُ فَتْرَةً يُنْتَفَعُ بِمِثْلِهِ فِيهَا، وَاسْتَنَدُوا إِلَى مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ ذَكَرَ رَجُلاً سَأَل بَعْضَ بَنِي إِسْرَائِيل أَنْ يُسْلِفَهُ أَلْفَ دِينَارٍ فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى (1) . وَقَال ابْنُ عُمَرَ وَعَطَاءٌ: إِذَا أَجَّلَهُ فِي الْقَرْضِ جَازَ.
وَيَجُوزُ الرُّجُوعُ فِي الْهِبَةِ قَبْل الْقَبْضِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، فَإِذَا تَمَّ الْقَبْضُ فَلاَ رُجُوعَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلاَّ فِيمَا وَهَبَ الْوَالِدُ لِوَلَدِهِ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَجُوزُ الرُّجُوعُ إِنْ كَانَتْ لأَِجْنَبِيٍّ.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَلاَ رُجُوعَ عِنْدَهُمْ فِي الْهِبَةِ قَبْل الْقَبْضِ وَبَعْدَهُ فِي الْجُمْلَةِ، إِلاَّ فِيمَا يَهَبُهُ الْوَالِدُ لِوَلَدِهِ. (2)
__________
(1) حديث: " أنه صلى الله عليه وسلم ذكر رجلا سأل بعض بني إسرائيل. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 352، 353 ط السلفية) .
(2) البدائع 5 / 234 و 6 / 216 و218 و 7 / 378، 396، والهداية 3 / 222، 227، 231 و 4 / 235، ومنح الجليل 3 / 50، 51، وجواهر الإكليل 2 / 212، 318، والمهذب 1 / 310، 370، 454، 468، ومنتهى الإرادات 2 / 227، 520، 525، 545، والمغني 4 / 349 و5 / 229، والقواعد لابن رجب ص 110، 111.(6/164)
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مَوَاضِعِهِ.
43 - وَالْوَعْدُ كَذَلِكَ يُسْتَحَبُّ الْوَفَاءُ بِهِ بِاتِّفَاقٍ.
يَقُول الْقَرَافِيُّ: مِنْ أَدَبِ الْعَبْدِ مَعَ رَبِّهِ إِذَا وَعَدَ رَبَّهُ بِشَيْءٍ لاَ يُخْلِفُهُ إِيَّاهُ، لاَ سِيَّمَا إِذَا الْتَزَمَهُ وَصَمَّمَ عَلَيْهِ، فَأَدَبُ الْعَبْدِ مَعَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِحُسْنِ الْوَفَاءِ وَتَلَقِّي هَذِهِ الاِلْتِزَامَاتِ بِالْقَبُول.
لَكِنَّ الْوَفَاءَ بِهِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ فِي الْجُمْلَةِ، فَفِي الْبَدَائِعِ: الْوَعْدُ لاَ شَيْءَ فِيهِ وَلَيْسَ بِلاَزِمٍ، وَفِي مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ: لاَ يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِالْوَعْدِ نَصًّا، وَفِي نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ: لَوْ قَال: أُؤَدِّي الْمَال أَوْ أُحْضِرُ الشَّخْصَ، فَهُوَ وَعْدٌ لاَ يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ، لأَِنَّ الصِّيغَةَ غَيْرُ مُشْعِرَةٍ بِالاِلْتِزَامِ. (1)
إِلاَّ أَنَّهُ إِذَا كَانَتْ هُنَاكَ حَاجَةٌ تَسْتَدْعِي الْوَفَاءَ بِالْوَعْدِ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ. فَقَدْ نَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنْ جَامِعِ الْفُصُولَيْنِ: لَوْ ذَكَرَ الْبَيْعَ بِلاَ شَرْطٍ، ثُمَّ ذَكَرَ الشَّرْطَ عَلَى وَجْهِ الْعِدَةِ، جَازَ الْبَيْعُ وَلَزِمَ الْوَفَاءُ بِالْوَعْدِ، إِذِ الْمَوَاعِيدُ قَدْ تَكُونُ لاَزِمَةً فَيُجْعَل لاَزِمًا لِحَاجَةِ النَّاسِ.
وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْوَعْدَ يَلْزَمُ وَيُقْضَى بِهِ إِذَا دَخَل الْمَوْعُودُ بِسَبَبِ الْوَعْدِ فِي شَيْءٍ، قَال سَحْنُونٌ: الَّذِي يَلْزَمُ مِنَ الْوَعْدِ إِذَا قَال: اهْدِمْ دَارَكَ وَأَنَا أُسْلِفُكَ مَا تَبْنِي بِهِ، أَوِ اخْرُجْ إِلَى الْحَجِّ أَوِ اشْتَرِ سِلْعَةً أَوْ تَزَوَّجْ وَأَنَا أُسْلِفُكَ، لأَِنَّكَ أَدْخَلْتَهُ بِوَعْدِكَ فِي ذَلِكَ، أَمَّا مُجَرَّدُ الْوَعْدِ فَلاَ يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ، بَل الْوَفَاءُ بِهِ مِنْ مَكَارِمِ الأَْخْلاَقِ.
__________
(1) الفروق للقرافي 3 / 95، والبدائع 7 / 84، 85، ومنتهى الإرادات 3 / 456، ونهاية المحتاج 4 / 441.(6/164)
وَقَال الْقَلْيُوبِيُّ: قَوْلُهُمُ الْوَعْدُ لاَ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ مُشْكِلٌ، لِمُخَالَفَتِهِ ظَاهِرَ الآْيَاتِ وَالسُّنَّةِ، وَلأَِنَّ خُلْفَهُ كَذِبٌ، وَهُوَ مِنْ خِصَال الْمُنَافِقِينَ. (1)
(3) الْتِزَامَاتٌ يَجُوزُ الْوَفَاءُ بِهَا وَلاَ يَجِبُ:
44 - أ - الاِلْتِزَامَاتُ الَّتِي تَنْشَأُ نَتِيجَةَ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ، كَالْوَكَالَةِ وَالشَّرِكَةِ وَالْقِرَاضِ، فَهَذِهِ يَجُوزُ لِكُلٍّ مِنَ الطَّرَفَيْنِ فَسْخُهَا وَعَدَمُ الاِلْتِزَامِ بِمُقْتَضَاهَا، هَذَا مَعَ مُرَاعَاةِ مَا يَشْتَرِطُهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ حِينَ الْفَسْخِ مِنْ نَضُوضِ رَأْسِ الْمَال فِي الْمُضَارَبَةِ، وَكَتَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ بِالْوَكَالَةِ. (2)
ب - نَذْرُ الْمُبَاحِ: يَقُول الْقُرْطُبِيُّ: نَذْرُ الْمُبَاحِ لاَ يَلْزَمُ بِإِجْمَاعٍ مِنَ الأُْمَّةِ، وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: نَذْرُ الْمُبَاحِ، كَلُبْسِ الثَّوْبِ وَرُكُوبِ الدَّابَّةِ وَطَلاَقِ الْمَرْأَةِ عَلَى وَجْهٍ مُبَاحٍ، فَهَذَا يَتَخَيَّرُ فِيهِ النَّاذِرُ بَيْنَ فِعْلِهِ فَيَبَرُّ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ وَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَيَتَخَرَّجُ أَنْ لاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهِ. (3) .
الْتِزَامَاتٌ يَحْرُمُ الْوَفَاءُ بِهَا:
45 - الاِلْتِزَامُ بِمَا لاَ يَلْزَمُ لاَ يَجِبُ فِيهِ الْوَفَاءُ، بَل قَدْ يَكُونُ الْوَفَاءُ حَرَامًا، وَذَلِكَ إِذَا كَانَ الْتِزَامًا بِمَعْصِيَةٍ. وَمِنْ ذَلِكَ:
أ - نَذْرُ الْمَعْصِيَةِ حَرَامٌ بِاتِّفَاقٍ، فَمَنْ قَال: لِلَّهِ عَلَيَّ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 120، 121، وفتح العلي المالك 1 / 254، 255، 256، وقليوبي 2 / 260، 330.
(2) الأشباه لابن نجيم 1 / 336، والهداية 3 / 153، ومنح الجليل 3 / 342، وجواهر الإكليل 2 / 177، والمهذب 1 / 313، 355، ومنتهى الإرادات 2 / 305.
(3) القرطبي 6 / 32، 33، والمغني 9 / 5، والبدائع 5 / 82.(6/165)
أَنْ أَشْرَبَ الْخَمْرَ، أَوْ أَقْتُل فُلاَنًا، فَإِنَّ هَذَا الاِلْتِزَامَ حَرَامٌ فِي ذَاتِهِ، وَأَيْضًا يَحْرُمُ الْوَفَاءُ بِهِ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلاَ يَعْصِهِ (1) وَفِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ خِلاَفٌ (ر: نَذْر - كَفَّارَة) .
ب - وَكَذَلِكَ الْيَمِينُ عَلَى فِعْلٍ مُحَرَّمٍ، فَمَنْ حَلَفَ عَلَى تَرْكِ وَاجِبٍ أَوْ فِعْل حَرَامٍ، فَقَدْ عَصَى بِيَمِينِهِ. وَلَزِمَهُ الْحِنْثُ وَالْكَفَّارَةُ. (2) (ر: كَفَّارَة - أَيْمَان) .
ج - الاِلْتِزَامُ الْمُعَلَّقُ عَلَى فِعْلٍ مُحَرَّمٍ عَلَى الْمُلْتَزَمِ لَهُ، كَقَوْلِهِ: إِنْ قَتَلْتُ فُلاَنًا أَوْ شَرِبْتُ الْخَمْرَ فَلَكَ كَذَا وَكَذَا، فَإِنَّهُ حَرَامٌ يَحْرُمُ الْوَفَاءُ بِهِ. (3)
د - مَا كَانَ الاِلْتِزَامُ فِيهِ بِإِسْقَاطِ حَقِّ اللَّهِ أَوْ حَقِّ غَيْرِ الْمُلْتَزَمِ، فَلاَ يَجُوزُ الصُّلْحُ عَنْ حَقِّ اللَّهِ كَدَعْوَى حَدٍّ، وَلاَ عَنْ حَقِّ الْغَيْرِ، فَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً طَلَّقَهَا زَوْجُهَا وَادَّعَتْ عَلَيْهِ صَبِيًّا فِي يَدِهِ أَنَّهُ ابْنُهُ مِنْهَا وَجَحَدَ الرَّجُل، فَصَالَحَتْ عَنِ النَّسَبِ عَلَى شَيْءٍ، فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ، لأَِنَّ النَّسَبَ حَقُّ الصَّبِيِّ. (4)
وَلَوْ بَاعَ ذَهَبًا بِفِضَّةٍ مُؤَجَّلاً لَمْ يَصِحَّ، لأَِنَّ الْقَبْضَ فِي الصَّرْفِ لِحَقِّ اللَّهِ.
هـ - الشُّرُوطُ الْبَاطِلَةُ لاَ يَجُوزُ الاِلْتِزَامُ بِهَا وَمِنْ ذَلِكَ:
__________
(1) حديث: " من نذر. . . . "، أخرجه البخاري بلفظ " من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه " (فتح الباري 11 / 585 ط السلفية) .
(2) البدائع 5 / 82، والاختيار 4 / 47، 77، وبداية المجتهد 1 / 423، ومنح الجليل 1 / 621، والمنثور في القواعد 3 / 107، والمغني 8 / 682 و 9 / 453.
(3) فتح العلي المالك 1 / 272.
(4) البدائع 6 / 42 - 49، وبداية المجتهد 2 / 293، والمهذب 9 / 340، 341، والمغني 4 / 527.(6/165)
46 - مَنْ خَالَعَ زَوْجَتَهُ عَلَى أَنْ تَتَحَمَّل بِالْوَلَدِ مُدَّةً مُعَيَّنَةً وَشَرَطَ عَلَيْهَا أَلاَّ تَتَزَوَّجَ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ (مُدَّةَ الرَّضَاعِ) أَيْ أَنَّهُ شَرَطَ عَلَيْهَا تَرْكَ النِّكَاحِ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ، فَلاَ اخْتِلاَفَ أَنَّ ذَلِكَ لاَ يَلْزَمُهَا الْوَفَاءُ بِهِ، لأَِنَّ هَذَا الشَّرْطَ فِيهِ تَحْرِيمُ مَا أَحَل اللَّهُ. (1) وَالْخُلْعُ صَحِيحٌ.
وَمِنْ ذَلِكَ مَا يَقُولُهُ الْمَالِكِيَّةُ فِيمَنْ بَاعَ حَائِطَهُ (حَدِيقَتَهُ) وَشَرَطَ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ أَنَّ الْجَائِحَةَ لاَ تُوضَعُ عَنِ الْمُشْتَرِي، فَالْبَيْعُ جَائِزٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ، وَلاَ يَلْتَزِمُ بِهِ الْمُشْتَرِي. (2)
وَفِي الْبَدَائِعِ لِلْكَاسَانِيِّ: لَوْ وَهَبَ دَارًا عَلَى أَنْ يَبِيعَهَا، أَوْ عَلَى أَنْ يَبِيعَهَا لِفُلاَنٍ، أَوْ عَلَى أَنْ يَرُدَّهَا عَلَيْهِ بَعْدَ شَهْرٍ جَازَتِ الْهِبَةُ وَبَطَل الشَّرْطُ. وَهِيَ شُرُوطٌ تُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ، فَتَبْطُل وَيَبْقَى الْعَقْدُ عَلَى الصِّحَّةِ، بِخِلاَفِ الْبَيْعِ. (3)
وَفِي الْمُهَذَّبِ: لَوْ شَرَطَ فِي الْقَرْضِ شَرْطًا فَاسِدًا بَطَل الشَّرْطُ، وَفِي الْقَرْضِ وَجْهَانِ. (4) وَالأَْمْثِلَةُ مِنْ هَذَا النَّوْعِ كَثِيرَةٌ. (ر: بَيْع - اشْتِرَاط) .
وَفِي حَالَةِ عَقْدِ الْهُدْنَةِ يُسْتَثْنَى حَالَةُ الضَّرُورَةِ أَوِ الْحَاجَةِ. جَاءَ فِي جَوَاهِرِ الإِْكْلِيل: يَجُوزُ لِلإِْمَامِ مُهَادَنَةُ الْحَرْبِيِّينَ لِمَصْلَحَةٍ، إِنْ خَلَتِ الْمُهَادَنَةُ عَنْ شَرْطٍ فَاسِدٍ، كَأَنْ كَانَتْ عَلَى مَالٍ يَدْفَعُهُ لَهُمْ فَلاَ يَجُوزُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَْعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (5) إِلاَّ لِضَرُورَةِ التَّخَلُّصِ
__________
(1) فتح العلي المالك 1 / 233.
(2) جواهر الإكليل 2 / 60.
(3) البدائع 6 / 117.
(4) المهذب 1 / 311.
(5) سورة آل عمران / 139.(6/166)
مِنْهُمْ خَوْفَ اسْتِيلاَئِهِمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَيَجُوزُ دَفْعُ الْمَال لَهُمْ، وَقَدْ شَاوَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ فِي مِثْل ذَلِكَ، فَلَوْ لَمْ يَكُنِ الإِْعْطَاءُ جَائِزًا عِنْدَ الضَّرُورَةِ مَا شَاوَرَ فِيهِ. (1)
وَفِي الأَْشْبَاهِ لاِبْنِ نُجَيْمٍ، وَمِثْلُهُ فِي الْمَنْثُورِ لِلزَّرْكَشِيِّ: مَا حَرُمَ أَخْذُهُ حَرُمَ إِعْطَاؤُهُ، كَالرِّبَا وَمَهْرِ الْبَغِيِّ وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ وَالرِّشْوَةِ لِلْحَاكِمِ إِذَا بَذَلَهَا لِيَحْكُمَ لَهُ بِغَيْرِ الْحَقِّ، إِلاَّ فِي مَسَائِل فِي الرِّشْوَةِ لِخَوْفٍ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ لِفَكِّ أَسِيرٍ أَوْ لِمَنْ يَخَافُ
__________
(1) جواهر الإكليل 1 / 269، ومنح الجليل 1 / 766. ومشاورة النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في مهادنة الحربيين لقاء مال يدفعه لهم، يدل عليها ما أخرجه ابن إسحاق بإسناده عن الزهري عند الكلام عن غزوة الخندق أنه " لما اشتد على الناس البلاء بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عيينة بن حصن والحارث بن عوف المر(6/166)
هَجْوَهُ. (1) وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مِثْلُهُ إِعْطَاءَ الرِّبَا لِلضَّرُورَةِ فَيَأْثَمَ الْمُقْرِضُ دُونَ الْمُقْتَرِضِ.
الأَْوْصَافُ الْمُغَيِّرَةُ لآِثَارِ الاِلْتِزَامِ:
إِذَا تَمَّتِ التَّصَرُّفَاتُ الْمُلْزِمَةُ بِأَيِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الاِلْتِزَامِ مُسْتَوْفِيَةً أَرْكَانَهَا وَشَرَائِطَهَا تَرَتَّبَتْ عَلَيْهَا آثَارُهَا وَوَجَبَ تَنْفِيذُ الاِلْتِزَامِ.
لَكِنْ قَدْ يَتَّصِل بِالتَّصَرُّفِ بَعْضُ الأَْوْصَافِ الَّتِي تُغَيِّرُ مِنْ آثَارِ الاِلْتِزَامِ، فَتُوقِفُهُ أَوْ تَزِيدُ عَلَيْهِ الْتِزَامًا آخَرَ أَوْ تُبْطِلُهُ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي:
أَوَّلاً: الْخِيَارَاتُ:
47 - مِنَ الْخِيَارَاتِ مَا يَتَّصِل بِالتَّصَرُّفِ، فَيَتَوَقَّفُ لُزُومُهُ وَيَتَأَخَّرُ تَنْفِيذُ الاِلْتِزَامِ إِلَى أَنْ يُبَتَّ فِيهَا، فَيَتَبَيَّنَ مَا يَنْفُذُ وَمَا لاَ يَنْفُذُ. وَالْخِيَارَاتُ كَثِيرَةٌ، وَلَكِنَّا نَكْتَفِي بِالْخِيَارَاتِ الْمَشْهُورَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. وَهِيَ خِيَارُ الشَّرْطِ وَالتَّعْيِينِ وَالرُّؤْيَةِ وَالْعَيْبِ.
يَقُول ابْنُ عَابِدِينَ: مِنَ الْخِيَارَاتِ مَا يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الْحُكْمِ، وَهُمَا خِيَارُ الشَّرْطِ وَالتَّعْيِينِ، وَمِنْهُ مَا يَمْنَعُ تَمَامَ الْحُكْمِ كَخِيَارِ الرُّؤْيَةِ، وَمِنْهُ مَا يَمْنَعُ لُزُومَهُ كَخِيَارِ الْعَيْبِ.
وَيَقُول الْكَاسَانِيُّ: شَرَائِطُ لُزُومِ الْبَيْعِ بَعْدَ انْعِقَادِهِ وَنَفَاذِهِ وَصِحَّتِهِ أَنْ يَكُونَ خَالِيًا مِنْ خِيَارَاتٍ أَرْبَعَةٍ: خِيَارِ الشَّرْطِ، وَالتَّعْيِينِ وَالرُّؤْيَةِ، وَالْعَيْبِ. فَلاَ يَلْزَمُ مَعَ هَذِهِ الْخِيَارَاتِ، إِذْ لاَ بُدَّ لِلُّزُومِ مِنَ الرِّضَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ
__________
(1) الأشباه لابن نجيم ص 158، والمنثور في القواعد 3 / 140.(6/167)
بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِل إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} . (1)
وَفِي الْمَوْضُوعُ تَفْصِيلاَتٌ كَثِيرَةٌ بِالنِّسْبَةِ لِلتَّصَرُّفَاتِ الَّتِي تَدْخُلُهَا الْخِيَارَاتُ وَالتَّصَرُّفَاتُ الَّتِي لاَ تَدْخُلُهَا، وَبِالنِّسْبَةِ لِمَا هُوَ عِنْدَ الْمَذَاهِبِ الأُْخْرَى، فَخِيَارُ التَّعْيِينِ مَثَلاً لاَ يَأْخُذُ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَزُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ لِمُخَالَفَتِهِ لِلْقِيَاسِ. وَكَذَلِكَ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَلِغَيْرِهِمْ تَفْصِيلٌ فِيهِ. (2) (ر: خِيَار)
ثَانِيًا: الشُّرُوطُ:
48 - الشَّرْطُ قَدْ يَكُونُ تَعْلِيقِيًّا، وَقَدْ يَكُونُ تَقْيِيدِيًّا: فَالشَّرْطُ التَّعْلِيقِيُّ: هُوَ رَبْطُ وُجُودِ الشَّيْءِ بِوُجُودِ غَيْرِهِ، أَيْ أَنَّ الْمُلْتَزِمَ يُعَلِّقُ تَنْفِيذَ الْتِزَامِهِ عَلَى وُجُودِ مَا شَرَطَهُ. وَبِذَلِكَ يَكُونُ أَثَرُ الشَّرْطِ التَّعْلِيقِيِّ فِي الاِلْتِزَامِ هُوَ تَوَقُّفَ تَنْفِيذِ الاِلْتِزَامِ حَتَّى يَحْصُل الشَّرْطُ، فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ مَثَلاً إِذَا قَال لِشَخْصٍ: إِنْ بَنَيْتَ بَيْتَكَ، أَوْ إِنْ تَزَوَّجْتَ فَلَكَ كَذَا فَهُوَ لاَزِمٌ، إِذَا وَقَعَ الْمُعَلَّقُ عَلَيْهِ. (3)
وَهَذَا طَبْعًا فِي التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي تَقْبَل التَّعْلِيقَ، كَالإِْسْقَاطَاتِ وَالإِْطْلاَقَاتِ وَالاِلْتِزَامِ بِالْقُرَبِ بِالنَّذْرِ. أَمَّا التَّصَرُّفَاتُ الَّتِي لاَ تَقْبَل التَّعْلِيقَ كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ، فَإِنَّ التَّعْلِيقَ يَمْنَعُ الاِنْعِقَادَ لِعَدَمِ صِحَّةِ
__________
(1) سورة النساء / 29.
(2) حاشية ابن عابدين 4 / 45، والبدائع 5 / 228، وبداية المجتهد 2 / 174، 209 والمهذب 1 / 265، 289، وشرح منتهى الإرادات 2 / 166 وما بعدها.
(3) فتح العلي المالك 1 / 297 نشر دار المعرفة، والمنثور في القواعد 1 / 370.(6/167)
التَّصَرُّفَاتِ حِينَئِذٍ. (ر: شَرْط - تَعْلِيق) .
وَأَمَّا الشَّرْطُ التَّقْيِيدِيُّ فَهُوَ مَا جَزَمَ فِيهِ بِالأَْصْل وَشَرَطَ فِيهِ أَمْرًا آخَرَ.
وَأَمَّا أَثَرُهُ فِي الاِلْتِزَامِ، فَإِنْ كَانَ صَحِيحًا، فَمَا كَانَ مِنْهُ مُلاَئِمًا لِلتَّصَرُّفِ، كَمَنْ يَبِيعُ وَيَشْتَرِطُ عَلَى الْمُشْتَرِي أَنْ يُعْطِيَهُ بِالثَّمَنِ رَهْنًا أَوْ كَفِيلاً. . . أَوْ كَانَ جَرَى بِهِ التَّعَامُل بَيْنَ النَّاسِ كَمَنْ يَشْتَرِي جِرَابًا عَلَى أَنْ يَخْرِزَهُ لَهُ الْبَائِعُ. . . فَإِنَّهُ يُنْشِئُ الْتِزَامًا زَائِدًا عَلَى الاِلْتِزَامِ الأَْصْلِيِّ، كَمَا هُوَ وَاضِحٌ مِنَ الأَْمْثِلَةِ وَيَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ.
أَمَّا إِنْ كَانَ مُؤَكِّدًا لِمُقْتَضَى التَّصَرُّفِ، كَاشْتِرَاطِ التَّسْلِيمِ فِي الْبَيْعِ مَثَلاً، فَلاَ أَثَرَ لَهُ فِي الاِلْتِزَامِ، إِذِ الشَّرْطُ هُنَا تَأْكِيدٌ وَبَيَانٌ لِمُقْتَضَى الاِلْتِزَامِ.
وَإِنْ كَانَ الشَّرْطُ فَاسِدًا، فَإِنْ كَانَ لاَ يَقْتَضِيهِ التَّصَرُّفُ وَلَيْسَ مُلاَئِمًا لَهُ وَلاَ جَرَى بِهِ التَّعَامُل بَيْنَ النَّاسِ وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لَهَا صَاحِبٌ يُطَالِبُ بِهَا، كَمَنْ يَبِيعُ الدَّارَ عَلَى أَنْ يَسْكُنَهَا الْبَائِعُ شَهْرًا، أَوِ الثَّوْبَ عَلَى أَنْ يَلْبَسَهُ أُسْبُوعًا، فَإِنَّ هَذَا الشَّرْطَ فَاسِدٌ وَيَفْسُدُ مَعَهُ التَّصَرُّفُ، وَبِالتَّالِي يَفْسُدُ الاِلْتِزَامُ الأَْصْلِيُّ لِلتَّصَرُّفِ حَيْثُ قَدْ فَسَدَ مَصْدَرُهُ.
وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ يَجْرِي فِي عُقُودِ الْمُبَادَلاَتِ الْمَالِيَّةِ فَقَطْ، خِلاَفًا لِلتَّبَرُّعَاتِ كَالْهِبَةِ حَيْثُ يَفْسُدُ الشَّرْطُ وَيَبْقَى التَّصَرُّفُ فِي الاِلْتِزَامِ بِهِ كَمَا هُوَ، وَيُصْبِحُ الشَّرْطُ لاَ أَثَرَ لَهُ فِي الاِلْتِزَامِ.
وَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَإِنَّ مِثْل هَذَا الشَّرْطِ يَفْسُدُ، وَيَفْسُدُ مَعَهُ التَّصَرُّفُ، وَيُجْرُونَ هَذَا فِي كُل التَّصَرُّفَاتِ.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ، فَإِنَّ الشَّرْطَ الَّذِي يُفْسِدُ التَّصَرُّفَ عِنْدَهُمْ، فَهُوَ مَا كَانَ مُنَافِيًا لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ، أَوْ كَانَ(6/168)
مُخِلًّا بِالثَّمَنِ. وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ. إِذْ هُوَ عِنْدَهُمْ: مَا كَانَ مُنَافِيًا لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ، أَوْ كَانَ الْعَقْدُ يَشْتَمِل عَلَى شَرْطِهِ.
أَمَّا مَا كَانَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ لأَِحَدٍ، فَإِنَّهُ غَيْرُ فَاسِدٍ عِنْدَهُمْ إِذَا كَانَتِ الْمَنْفَعَةُ مَعْلُومَةً. فَمَنْ يَبِيعُ الدَّارَ وَيَشْتَرِطُ سُكْنَاهَا شَهْرًا مَثَلاً فَشَرْطُهُ صَحِيحٌ وَيَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ. وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّهُ بَاعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَلاً، وَاشْتَرَطَ ظَهْرَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ أَيْ رُكُوبَهُ، وَفِي لَفْظٍ قَال: بِعْتُهُ وَاسْتَثْنَيْتُ حُمْلاَنَهُ إِلَى أَهْلِي. (1)
عَلَى أَنَّ الْجُمْهُورَ وَمَعَهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَاشْتَرَطَ أَنْ يُعْتِقَهُ الْمُشْتَرِي فَهُوَ شَرْطٌ صَحِيحٌ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ، لِتَشَوُّفِ الشَّارِعِ لِلْحُرِّيَّةِ، بَل إِنَّ مِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ قَال: يُجْبَرُ الْمُشْتَرِي عَلَى ذَلِكَ.
وَأَمَّا إِنْ كَانَ الشَّرْطُ بِغَيْرِ مَا ذُكِرَ، فَإِنَّهُ يَفْسُدُ هُوَ وَيَبْقَى التَّصَرُّفُ صَحِيحًا فَيَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ. (2)
وَفِي الْمَوْضُوعِ تَفْصِيلاَتٌ كَثِيرَةٌ (ر: اشْتِرَاط، شَرْط) .
ثَالِثًا: الأَْجَل:
49 - الأَْجَل هُوَ الْمُدَّةُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا الْمُسْتَقْبَلَةُ الْمُحَقَّقَةُ الْوُقُوعِ. وَالاِلْتِزَامُ قَدْ يَكُونُ مُؤَجَّلاً إِذَا كَانَ الأَْجَل أَجَل تَوْقِيتٍ، فَإِنَّهُ يَجْعَل تَنْفِيذَ الاِلْتِزَامِ مُسْتَمِرًّا
__________
(1) حديث: " جابر أنه باع. . . " أخرجه البخاري ومسلم (فتح الباري 5 / 314 ط السلفية، وصحيح مسلم 3 / 1221 ط عيسى الحلبي) .
(2) البدائع 5 / 169 - 173، والهداية 3 / 229، 230، والدسوقي 3 / 65، منح الجليل 2 / 568 - 572، والمهذب 1 / 275 ونهاية المحتاج 3 / 436، 438، وشرح منتهى الإرادات 2 / 160، 161، والمغني 4 / 249، 250 ط الرياض.(6/168)
طِوَال الْمُدَّةِ الْمُحَدَّدَةِ حَتَّى تَنْتَهِيَ، فَمَنْ أَجَّرَ دَارًا لِمُدَّةِ شَهْرٍ أَصْبَحَ مِنْ حَقِّ الْمُسْتَأْجِرِ الاِنْتِفَاعُ بِالدَّارِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ وَلاَ يَجُوزُ لِلْمُلْتَزِمِ - وَهُوَ الْمُؤَجِّرُ - أَنْ يُطَالِبَهُ بِتَسْلِيمِ الدَّارِ قَبْل انْتِهَاءِ الأَْجَل الْمَضْرُوبِ. (1)
وَإِذَا كَانَ أَجَل إِضَافَةٍ، فَإِنَّ تَنْفِيذَ الاِلْتِزَامِ لاَ يَبْدَأُ إِلاَّ عِنْدَ حُلُول الأَْجَل، فَالدَّيْنُ الْمُؤَجَّل إِلَى رَمَضَانَ يَمْنَعُ الدَّائِنَ مِنَ الْمُطَالَبَةِ قَبْل دُخُول رَمَضَانَ. فَإِذَا حَل الأَْجَل وَجَبَ عَلَى الْمُلْتَزِمِ بِالدَّيْنِ الْوَفَاءُ، وَصَارَ مِنْ حَقِّ الدَّائِنِ الْمُطَالَبَةُ بِدَيْنِهِ. (2)
وَالتَّصَرُّفَاتُ تَخْتَلِفُ بِالنِّسْبَةِ لِلأَْجَل تَوْقِيتًا أَوْ إِضَافَةً، فَمِنْهَا مَا هُوَ مُؤَقَّتٌ أَوْ مُضَافٌ بِطَبِيعَتِهِ، كَالإِْجَارَةِ وَالْمُسَاقَاةِ وَالْوَصِيَّةِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ مُنْجَزٌ وَلاَ يَقْبَل التَّأْقِيتَ بِحَالٍ كَالصَّرْفِ وَالنِّكَاحِ، وَإِذَا دَخَلَهُمَا التَّأْقِيتُ بَطَلاَ، وَيَكُونُ أَثَرُ التَّأْقِيتِ هُنَا بُطْلاَنَ الأَْجَل.
وَأَمَّا الْعَقْدُ فَيَبْطُل فِي الصَّرْفِ إِجْمَاعًا. وَفِي النِّكَاحِ عِنْدَ الأَْكْثَرِينَ. (3)
وَمِنْهَا مَا يَكُونُ الأَْصْل فِيهِ التَّنْجِيزَ كَالثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ لَكِنْ يَجُوزُ تَأْجِيلُهُ إِرْفَاقًا فَيَتَغَيَّرُ أَثَرُ الاِلْتِزَامِ مِنَ التَّسْلِيمِ الْفَوْرِيِّ إِلَى تَأْخِيرِهِ إِلَى الأَْجَل الْمُحَدَّدِ.
عَلَى أَنَّ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي تَقْبَل التَّأْجِيل يُشْتَرَطُ فِيهَا فِي الْجُمْلَةِ: أَنْ يَكُونَ الأَْجَل مَعْلُومًا، إِذْ فِي الْجَهَالَةِ غَرَرٌ يُؤَدِّي إِلَى النِّزَاعِ، وَأَلاَّ يُعْتَاضَ عَنِ الأَْجَل، إِذِ الاِعْتِيَاضُ عَنْهُ يُؤَدِّي إِلَى الرِّبَا.
__________
(1) الهداية 3 / 231 وما بعدها، وبداية المجتهد 2 / 229، والمغني 5 / 434.
(2) الأشباه لابن نجيم 265، 257، والمنثور 1 / 92.
(3) المنثور 1 / 92، وبداية المجتهد 2 / 197، وأشباه السيوطي ص 307، 308، والبدائع 5 / 174.(6/169)
وَيَكُونُ الأَْثَرُ حِينَئِذٍ بُطْلاَنَ الشَّرْطِ. (1)
وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ كَمَا ذَكَرْنَا، إِذْ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ مَا يَكُونُ الأَْجَل فِيهِ مَجْهُولاً بِطَبِيعَتِهِ، كَالْجِعَالَةِ وَالْوَصِيَّةِ، وَيَلْحَقُ بِهِمَا الْوَكَالَةُ وَالْقِرَاضُ وَالإِْذْنُ فِي التِّجَارَةِ إِذَا لَمْ يُحَدِّدْ لِلْعَمَل مُدَّةً. كَذَلِكَ التَّبَرُّعَاتُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تَجُوزُ إِلَى أَجَلٍ مَجْهُولٍ. (2)
وَفِي كُل ذَلِكَ تَفْصِيلاَتٌ مُطَوَّلَةٌ تُنْظَرُ فِي مَوَاضِعِهَا وَفِي (بَحْثِ: أَجَل) .
تَوْثِيقُ الاِلْتِزَامِ:
50 - تَوْثِيقُ الاِلْتِزَامِ - أَيْ إِحْكَامُهُ وَإِثْبَاتُهُ - أَمْرٌ مَشْرُوعٌ لاِحْتِيَاجِ النَّاسِ إِلَى مُعَامَلَةِ مَنْ لاَ يَعْرِفُونَهُ، خَشْيَةَ جَحْدِ الْحُقُوقِ أَوْ ضَيَاعِهَا.
وَقَدْ شَرَعَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِلنَّاسِ مَا يَضْمَنُ لَهُمْ حُقُوقَهُمْ بِتَوْثِيقِهَا، وَجَعَل لِذَلِكَ طُرُقًا مُتَعَدِّدَةً وَهِيَ:
(1) الْكِتَابَةُ وَالإِْشْهَادُ:
51 - شَرَعَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْكِتَابَةَ وَالإِْشْهَادَ صِيَانَةً لِلْحُقُوقِ، وَذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} . . {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} . . {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} (3) وَقَدْ
__________
(1) ابن عابدين 4 / 23، 119، والبدائع 5 / 178، والفواكه الدواني 2 / 120، والقرطبي 3 / 348، والفروق للقرافي 2 / 112، 113، وشرح منتهى الإرادات 2 / 219.
(2) بداية المجتهد 2 / 235، والدسوقي 3 / 304، وفتح العلي المالك 1 / 219، 302، ومغني المحتاج 2 / 99، والمغني 5 / 84، 93.
(3) سورة البقرة / 282.(6/169)
أَوْجَبَ الشَّرْعُ تَوْثِيقَ بَعْضِ الاِلْتِزَامَاتِ لِخَطَرِهِ كَالنِّكَاحِ، وَقَرِيبٌ مِنْهُ طَلَبُ الشُّفْعَةِ فَلاَ تَثْبُتُ عِنْدَ الإِْنْكَارِ إِلاَّ بِالْبَيِّنَةِ، وَمِثْلُهُ الإِْشْهَادُ عِنْدَ دَفْعِ مَال الْيَتِيمِ إِلَيْهِ عِنْدَ الْبُلُوغِ وَالرُّشْدِ.
وَمِنَ الاِلْتِزَامَاتِ مَا اخْتُلِفَ فِي وُجُوبِ الإِْشْهَادِ فِيهِ أَوِ اسْتِحْبَابِهِ، كَالْبَيْعِ وَالإِْجَارَةِ وَالسَّلَمِ وَالْقَرْضِ وَالرَّجْعَةِ. (1) وَالشَّهَادَةُ تُعْتَبَرُ مِنَ الْبَيِّنَاتِ الَّتِي يَثْبُتُ بِهَا الْحَقُّ. وَلِبَيَانِ مَا يَجِبُ فِيهِ الإِْشْهَادُ وَمَا لاَ يَجِبُ، وَبَيَانِ شُرُوطِ الشَّهَادَةِ فِي الْحُقُوقِ مِنْ حَيْثُ التَّحَمُّل وَالأَْدَاءُ وَالْعَدَدُ وَصِفَةُ الشَّاهِدِ وَالْمَشْهُودِ بِهِ يُنْظَرُ: (إِثْبَات، إِشْهَاد - شَهَادَة - أَدَاء - تَحَمُّل) .
(2) الرَّهْنُ:
52 - الرَّهْنُ شُرِعَ كَذَلِكَ لِتَوْثِيقِ الاِلْتِزَامَاتِ، لأَِنَّهُ احْتِبَاسُ الْعَيْنِ لِيَسْتَوْفِيَ الْحَقَّ مِنْ ثَمَنِهَا، أَوْ مِنْ ثَمَنِ مَنَافِعِهَا عِنْدَ تَعَذُّرِ أَخْذِهِ مِنَ الْغَرِيمِ.
وَالأَْصْل فِي مَشْرُوعِيَّتِهِ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} . (2) وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشْتَرَى طَعَامًا مِنْ يَهُودِيٍّ إِلَى أَجَلٍ وَرَهَنَهُ دِرْعًا مِنْ حَدِيدٍ. (3)
__________
(1) الهداية 4 / 26، وبداية المجتهد 2 / 17، والقرطبي 3 / 383 - 406، والتبصرة بهامش فتح العلي 1 / 209 ط دار المعرفة، والأشباه للسيوطي ص 97، 308، ونهاية المحتاج 4 / 229، والمغني 4 / 302، والقواعد لابن رجب 62.
(2) سورة البقرة 283.
(3) حديث: " روي أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى من يهودي طعاما ورهنه به درعه " يعدل حسب ما ورد في البخاري. " روى أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى طعاما من يهودي إلى أجل ورهنه درعا من حديد ". أخرجه البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها (فتح الباري 4 / 302 ط السلفية) .(6/170)
وَالرَّهْنُ مَشْرُوعٌ بِطَرِيقِ النَّدْبِ لاَ بِطَرِيقِ الْوُجُوبِ، بِدَلِيل قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} (1) ، وَلأَِنَّهُ أَمَرَ بِهِ عِنْدَ عَدَمِ تَيَسُّرِ الْكِتَابَةِ، وَالْكِتَابَةُ غَيْرُ وَاجِبَةٍ فَكَذَلِكَ بَدَلُهَا. (2)
هَذَا وَلِلرَّهْنِ شُرُوطٌ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ مَقْبُوضًا وَكَوْنُهُ بِدَيْنٍ لاَزِمٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ (ر: رَهْن) .
(3) الضَّمَانُ وَالْكَفَالَةُ:
53 - الضَّمَانُ وَالْكَفَالَةُ قَدْ يُسْتَعْمَلاَنِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَقَدْ يُسْتَعْمَل الضَّمَانُ لِلدَّيْنِ، وَالْكَفَالَةُ لِلنَّفْسِ. وَهُمَا مَشْرُوعَانِ أَيْضًا لِيَتَوَثَّقَ بِهِمَا الاِلْتِزَامُ. وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى فِي قِصَّةِ يُوسُفَ: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْل بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} . (3)
وَفِي كُل ذَلِكَ تَفْصِيلاَتٌ وَاخْتِلاَفَاتٌ لِلْفُقَهَاءِ تُنْظَرُ فِي مَوْضِعِهَا (ر: كَفَالَة) .
أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلتَّصَرُّفَاتِ الَّتِي يَدْخُلُهَا التَّوْثِيقُ وَاَلَّتِي
__________
(1) سورة البقرة / 283.
(2) الهداية 4 / 126، والبدائع 6 / 145، 152، والقرطبي 3 / 404 - 409، وبداية المجتهد 2 / 275، والكافي لابن عبد البر 2 / 822، والأشباه للسيوطي 308، والمهذب 1 / 314، والوجيز 1 / 163، والمغني 4 / 362، وكشاف القناع 3 / 316، 320.
(3) سورة يوسف / 72. وانظر حاشية ابن عابدين 4 / 249، 250، والبدائع 6 / 4 - 11، وبداية المجتهد 2 / 295، 297، والقرطبي 9 / 225، والأشباه للسيوطي 308، والوجيز للغزالي 1 / 185، والمغني 4 / 592، 614، وكشاف القناع 3 / 374 - 376.(6/170)
لاَ يَدْخُلُهَا، فَقَدْ قَال السُّيُوطِيُّ: الْوَثَائِقُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالأَْعْيَانِ ثَلاَثَةٌ: الرَّهْنُ وَالْكَفَالَةُ وَالشَّهَادَةُ، ثُمَّ قَال: مِنَ الْعُقُودِ مَا تَدْخُلُهُ الثَّلاَثَةُ كَالْبَيْعِ وَالسَّلَمِ وَالْقَرْضِ، وَمِنْهَا مَا تَدْخُلُهُ الشَّهَادَةُ دُونَهُمَا وَهُوَ الْمُسَاقَاةُ - جَزَمَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ - وَنُجُومُ الْكِتَابَةِ.
وَمِنْهَا مَا تَدْخُلُهُ الشَّهَادَةُ وَالْكَفَالَةُ دُونَ الرَّهْنِ وَهُوَ الْجِعَالَةُ.
وَمِنْهَا مَا تَدْخُلُهُ الْكَفَالَةُ دُونَهُمَا وَهُوَ ضَمَانُ الدَّرْكِ.
ثُمَّ قَال: لَيْسَ لَنَا عَقْدٌ يَجِبُ فِيهِ الإِْشْهَادُ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ إِلاَّ النِّكَاحَ قَطْعًا، وَالرَّجْعَةَ عَلَى قَوْلٍ، وَعَقْدَ الْخِلاَفَةِ عَلَى وَجْهٍ، وَمِمَّا قِيل بِوُجُوبِ الإِْشْهَادِ فِيهِ مِنْ غَيْرِ الْعُقُودِ: اللُّقَطَةُ عَلَى وَجْهٍ، وَاللَّقِيطُ عَلَى الأَْصَحِّ لِخَوْفِ إِرْقَاقِهِ. (1)
وَقَدْ زَادَ الزَّرْكَشِيُّ أُرُوشَ الْجِنَايَاتِ الْمُسْتَقِرَّةَ فِيمَا يَدْخُلُهُ الثَّلاَثَةُ.
وَقَدِ اعْتَبَرَ الزَّرْكَشِيُّ أَنَّ التَّوْثِيقَ لاَ يَنْحَصِرُ فِي هَذِهِ الثَّلاَثَةِ (الشَّهَادَةِ وَالرَّهْنِ وَالْكَفَالَةِ) وَإِنَّمَا اعْتَبَرَ مِنْهَا: الْحَبْسَ عَلَى الْحُقُوقِ إِلَى الْوَفَاءِ، وَمِنْهَا حَبْسُ الْمَبِيعِ حَتَّى يَقْبِضَ الثَّمَنَ، وَكَذَلِكَ مَنْعُ الْمَرْأَةِ تَسْلِيمَ نَفْسِهَا حَتَّى تَقْبِضَ مُعَجَّل الْمَهْرِ (2) . .
انْتِقَال الاِلْتِزَامِ:
54 - يَجُوزُ انْتِقَال الاِلْتِزَامِ بِالدَّيْنِ مِنْ ذِمَّةٍ إِلَى ذِمَّةٍ أُخْرَى، إِذْ هُوَ نَوْعٌ مِنَ التَّوْثِيقِ بِمَنْزِلَةِ الْكَفَالَةِ، وَهُوَ مَا يُسَمَّى بِالْحَوَالَةِ، وَهِيَ مُعَامَلَةٌ صَحِيحَةٌ مُسْتَثْنَاةٌ مِنْ بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ فَجَازَتْ لِلْحَاجَةِ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَطْل الْغَنِيِّ ظُلْمٌ، وَإِذَا أُحِيل أَحَدُكُمْ عَلَى
__________
(1) الأشباه للسيوطي 308.
(2) المنثور في القواعد 3 / 327، 328.(6/171)
مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ (1) . وَلِلتَّفْصِيل وَمَعْرِفَةِ الْخِلاَفِ (ر: حَوَالَة) .
إِثْبَاتُ الاِلْتِزَامِ:
55 - إِثْبَاتُ الاِلْتِزَامِ إِنَّمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ عِنْدَ إِنْكَارِ الْمُلْتَزِمِ. وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَكُونُ عَلَى الْمُلْتَزَمِ لَهُ (صَاحِبِ الْحَقِّ) إِثْبَاتُ حَقِّهِ، عَمَلاً بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْبَيِّنَةُ عَلَى مَنِ ادَّعَى، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ (2) . وَلِلْقَاضِي - إِنْ لَمْ يُظْهِرْ صَاحِبُ الْحَقِّ بَيِّنَتَهُ - أَنْ يَسْأَلَهُ: أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟ لِمَا رُوِيَ " أَنَّهُ جَاءَ رَجُلٌ مِنْ حَضْرَمَوْتَ، وَرَجُلٌ مِنْ كِنْدَةَ، إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال الْحَضْرَمِيُّ: يَا رَسُول اللَّهِ إِنَّ هَذَا قَدْ غَلَبَنِي عَلَى أَرْضٍ لِي كَانَتْ لأَِبِي، فَقَال الْكِنْدِيُّ: هِيَ أَرْضِي فِي يَدِي أَزْرَعُهَا لَيْسَ لَهُ فِيهَا حَقٌّ، فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْحَضْرَمِيِّ: أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟ قَال: لاَ، قَال: فَلَكَ يَمِينُهُ. (3)
وَلِلإِْثْبَاتِ طُرُقٌ مُتَعَدِّدَةٌ كَالإِْقْرَارِ وَالشَّهَادَةِ وَالْيَمِينِ وَالنُّكُول وَالْقَسَامَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ (ر: إِثْبَات) .
__________
(1) البدائع 6 / 16، 18، والهداية 3 / 99، وبداية المجتهد 2 / 299، وحاشية الدسوقي 3 / 326، والمهذب 1 / 344، 345، والمغني 4 / 576 - 580 وحديث: " مطل الغني ظلم وإذا أحيل أحدكم على مليء فليتبع ". أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا (صحيح مسلم 3 / 1197 مصطفى الحلبي) .
(2) حديث " البينة على من ادعى واليمين على من أنكر " أخرجه البيهقي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا، ونقل الشوكاني تصحيح ابن حجر لإسناده. (السنن الكبرى للبيهقي 10 / 252 ط دائرة المعارف العثمانية، ونيل الأوطار 8 / 305 ط المطبعة العثمانية المصرية) .
(3) الهداية 3 / 156، ومنتهى الإرادات 3 / 486، والتبصرة 1 / 122 - 125 وحديث: " أنه جاء رجل من حضرموت. . . " أخرجه مسلم من حديث وائل (صحيح مسلم 1 / 123 ط مصطفى الحلبي) .(6/171)
انْقِضَاءُ الاِلْتِزَامِ:
56 - الأَْصْل أَنَّ الاِلْتِزَامَ يَنْقَضِي بِوَفَاءِ الْمُلْتَزِمِ وَتَنْفِيذِهِ مَا الْتَزَمَ بِهِ مِنْ تَسْلِيمِ عَيْنٍ أَوْ دَيْنٍ، كَتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ لِلْمُشْتَرِي، وَالثَّمَنِ لِلْبَائِعِ، وَالْمَأْجُورِ لِلْمُسْتَأْجِرِ، وَالأُْجْرَةِ لِلْمُؤَجِّرِ وَالْمَوْهُوبِ لِلْمُتَّهِبِ وَبَدَل الْقَرْضِ لِلْمُقْرِضِ وَهَكَذَا.
وَيَنْقَضِي الاِلْتِزَامُ أَيْضًا بِالْقِيَامِ بِالْعَمَل الْمُلْتَزَمِ بِهِ فِي إِجَارَةٍ أَوِ اسْتِصْنَاعٍ أَوْ مُسَاقَاةٍ أَوْ وَكَالَةٍ أَوْ مُضَارَبَةٍ، وَبِانْقِضَاءِ الْمُدَّةِ فِي التَّصَرُّفِ الْمُقَيَّدِ بِالزَّمَنِ كَالإِْجَارَةِ الْمُحَدَّدَةِ.
57 - وَقَدْ يَنْقَضِي الاِلْتِزَامُ بِغَيْرِ هَذَا، وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ:
(1) إِبْرَاءُ الدَّائِنِ لِلْمَدِينِ (1) .
2 - الْفَسْخُ أَوِ الْعَزْل فِي الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ كَالْوَكَالَةِ وَالشَّرِكَةِ وَالْقِرَاضِ وَالْوَدِيعَةِ، إِلاَّ إِذَا اقْتَضَى فَسْخُهَا ضَرَرًا عَلَى الطَّرَفِ الآْخَرِ.
يَقُول السُّيُوطِيُّ: الشَّرِكَةُ وَالْوَكَالَةُ وَالْعَارِيَّةُ وَالْوَدِيعَةُ وَالْقِرَاضُ كُلُّهَا تَنْفَسِخُ بِالْعَزْل مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا. (2)
وَفِي الْمَنْثُورِ لِلزَّرْكَشِيِّ: الْعُقُودُ الْجَائِزَةُ إِذَا اقْتَضَى فَسْخُهَا ضَرَرًا عَلَى الطَّرَفِ الآْخَرِ امْتَنَعَ وَصَارَتْ لاَزِمَةً. وَلِهَذَا قَال النَّوَوِيُّ: لِلْوَصِيِّ عَزْل نَفْسِهِ إِلاَّ أَنْ يَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ أَوْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ تَلَفُ الْمَال بِاسْتِيلاَءِ ظَالِمٍ.
__________
(1) الأشباه لابن نجيم 263، 264، والقواعد لابن رجب 32.
(2) الأشباه للسيوطي 314، الأشباه لابن نجيم 336.(6/172)
وَيَجْرِي مِثْلُهُ فِي الشَّرِيكِ وَالْمُقَارِضِ، وَقَدْ قَالُوا فِي الْعَامِل إِذَا فَسَخَ الْقِرَاضَ: عَلَيْهِ التَّقَاضِي وَالاِسْتِيفَاءُ، لأَِنَّ الدَّيْنَ مِلْكٌ نَاقِصٌ، وَقَدْ أَخَذَهُ مِنْهُ كَامِلاً، فَلْيَرُدَّهُ كَمَا أَخَذَهُ، وَظَاهِرُ كَلاَمِهِمْ أَنَّهُ لاَ يَنْعَزِل حَتَّى يَنِضَّ الْمَال. (1)
(3) الرُّجُوعُ فِي التَّبَرُّعَاتِ قَبْل الْقَبْضِ كَالْوَصِيَّةِ وَالْهِبَةِ، وَبَعْدَ الْقَبْضِ فِي الْعَارِيَّةِ وَالْقَرْضِ عِنْدَ غَيْرِ الْمَالِكِيَّةِ (2) .
(4) الْمُقَاصَّةُ فِي الدُّيُونِ. (3)
(5) انْعِدَامُ الأَْهْلِيَّةِ فِي الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ كَالْجُنُونِ وَالْمَوْتِ. (4)
(6) الْفَلَسُ أَوْ مَرَضُ الْمَوْتِ فِي التَّبَرُّعَاتِ قَبْل الْقَبْضِ. (5)
(7) عَدَمُ إِمْكَانِ التَّنْفِيذِ، كَهَلاَكِ الْمَبِيعِ قَبْل الْقَبْضِ.
يَقُول الْكَاسَانِيُّ: هَلاَكُ الْمَبِيعِ قَبْل الْقَبْضِ، إِنْ هَلَكَ كُلُّهُ قَبْل الْقَبْضِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ انْفَسَخَ الْبَيْعُ، لأَِنَّهُ لَوْ بَقِيَ أَوْجَبَ مُطَالَبَةَ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ، وَإِذَا طَالَبَهُ بِالثَّمَنِ فَهُوَ يُطَالِبُهُ بِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ، وَأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنِ التَّسْلِيمِ فَتَمْتَنِعُ الْمُطَالَبَةُ أَصْلاً، فَلَمْ يَكُنْ فِي
__________
(1) المنثور في القواعد 2 / 401، 402، والقواعد لابن رجب 110.
(2) المهذب 1 / 370، 454، وجواهر الإكليل 2 / 76، ومنتهى الإرادات 2 / 393، 520، والبدائع 6 / 216 - 218، والاختيار 3 / 48، 227، والهداية 4 / 235.
(3) منح الجليل 3 / 52، والمنثور في القواعد 1 / 391، 392.
(4) الأشباه للسيوطي 314، ومنتهى الإرادات 2 / 305، والهداية 4 / 60، والبدائع 7 / 353.
(5) فتح العلي المالك 1 / 183، والتكملة لابن عابدين 2 / 351، وحاشية ابن عابدين 4 / 507.(6/172)
بَقَاءِ الْبَيْعِ فَائِدَةٌ فَيَنْفَسِخُ، وَكَذَلِكَ إِذَا هَلَكَ بِفِعْل الْمَبِيعِ بِأَنْ كَانَ حَيَوَانًا فَقَتَل نَفْسَهُ، وَكَذَا إِذَا هَلَكَ بِفِعْل الْبَائِعِ يَبْطُل الْبَيْعُ وَيَسْقُطُ الثَّمَنُ عَنِ الْمُشْتَرِي عِنْدَنَا.
وَإِنْ هَلَكَ بِفِعْل الْمُشْتَرِي لاَ يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ وَعَلَيْهِ الثَّمَنُ، لأَِنَّهُ بِالإِْتْلاَفِ صَارَ قَابِضًا. (1) .
الْتِصَاقٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْتَصَقَ وَالْتَزَقَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَالْتَصَقَ بِالشَّيْءِ: لَزِقَ وَعَلِقَ بِهِ، وَالاِلْتِصَاقُ: اتِّصَال الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ بِحَيْثُ لاَ يَكُونُ بَيْنَهُمَا فَجْوَةٌ بِتَلَزُّجٍ أَوْ تَمَاسُكٍ أَوْ تَمَاسٍّ. (2)
وَالْفُقَهَاءُ يَسْتَعْمِلُونَهُ بِالْمَعْنَى نَفْسِهِ.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - الاِلْتِصَاقُ مِنَ الأُْمُورِ الَّتِي قَدْ تَحْدُثُ تِلْقَائِيًّا، كَالْتِصَاقِ الدُّورِ، وَالْتِصَاقِ أَوْرَاقِ الشَّجَرِ بِالْمَاءِ، وَكَالْتِصَاقِ عُضْوٍ زَائِدٍ بِجِسْمٍ. وَقَدْ يَحْدُثُ بِقَصْدٍ كَلَصْقِ جَبِيرَةٍ عَلَى جُرْحٍ.
وَسَوَاءٌ حَدَثَ الاِلْتِصَاقُ بِقَصْدٍ أَوْ بِغَيْرِ قَصْدٍ فَإِنَّهُ قَدْ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ بَعْضُ الأَْحْكَامِ.
3 - فَالْتِصَاقُ الدَّارَيْنِ مَثَلاً فِي سِكَّةٍ نَافِذَةٍ يُعْطِي
__________
(1) البدائع 5 / 238.
(2) لسان العرب والمعجم الوسيط ومعجم مقاييس اللغة، والمرجع للعلايلي مادة: (لصق - لزج) .(6/173)
أَحَدَ الْجَارَيْنِ الْمُلاَصِقَيْنِ الأَْوْلَوِيَّةَ فِي الشُّفْعَةِ، إِذَا أَرَادَ الآْخَرُ بَيْعَ دَارِهِ، وَهَذَا كَمَا يَقُول الْحَنَفِيَّةُ. (1) إِذْ لاَ شُفْعَةَ بِالْجِوَارِ عِنْدَ غَيْرِهِمْ.
وَالْتِصَاقُ الْجَبِيرَةِ عَلَى الْجُرْحِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ جَوَازُ الْمَسْحِ عَلَى الْجَبِيرَةِ فِي الطَّهَارَةِ. (2)
4 - عَلَى أَنَّ الاِلْتِصَاقَ مِنْهُ مَا هُوَ وَاجِبٌ، كَالْتِصَاقِ الْجَبْهَةِ بِالأَْرْضِ فِي السُّجُودِ. (3) وَمِنْهُ مَا هُوَ حَرَامٌ كَالْتِصَاقِ رَجُلَيْنِ أَوِ امْرَأَتَيْنِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ بِدُونِ حَائِلٍ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يُفْضِي الرَّجُل إِلَى الرَّجُل وَلاَ تُفْضِي الْمَرْأَةُ إِلَى الْمَرْأَةِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ. (4)
وَيَكُونُ مَكْرُوهًا إِذَا كَانَ بِحَائِلٍ وَبِدُونِ قَصْدِ التَّلَذُّذِ. (5)
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
5 - يَأْتِي الاِلْتِصَاقُ فِي مَوَاطِنَ مُتَعَدِّدَةٍ، وَمِنْ ذَلِكَ: الْتِصَاقُ الثَّوْبِ بِالْجِسْمِ فِي الصَّلاَةِ، وَيُنْظَرُ فِي (سَتْرُ الْعَوْرَةِ (6)) .
وَفِي الْتِصَاقِ الدَّارَيْنِ، وَإِسَاءَةِ أَحَدِ صَاحِبِ الدَّارَيْنِ إِلَى الآْخَرِ (7) وَيُنْظَرُ فِي (جِنَايَة - إِتْلاَف
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 8 وما بعدها ط الجمالية، وابن عابدين 5 / 145 ط بولاق ثالثة.
(2) منح الجليل 1 / 69 ط النجاح ليبيا، ومنتهى الإرادات 1 / 57، 62.
(3) منح الجليل 1 / 150
(4) حديث: " لا يفضي الرجل إلى الرجل ولا تفضي المرأة. . . . " أخرجه مسلم (1 / 266 - ط الحلبي) .
(5) الفواكه الدواني 2 / 408 ط دار المعرفة.
(6) ابن عابدين 1 / 287 ط ثالثة.
(7) جامع الفصولين 2 / 194 ط بولاق أولي.(6/173)
ارْتِفَاق - شُفْعَة) وَفِي مَا انْحَسَرَ عَنْهُ الْبَحْرُ، وَيُنْظَرُ فِي (إِحْيَاءُ الْمَوَاتِ) . (1) وَفِي الْتِصَاقِ عُضْوَيْنِ فِي الْجِسْمِ وَيُنْظَرُ فِي (طَهَارَة) . (2) .
الْتِفَاتٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِلْتِفَاتُ: هُوَ لُغَةً: الاِنْصِرَافُ إِلَى جِهَةِ الْيَمِينِ أَوِ الشِّمَال. (3)
وَعِنْدَ الْفُقَهَاءِ لاَ يَخْتَلِفُ اسْتِعْمَال اللَّفْظِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (4) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
2 - انْحِرَافٌ:
الاِنْحِرَافُ هُوَ: الْمَيْل عَنِ الشَّيْءِ، وَهُوَ غَيْرُ الاِلْتِفَاتِ، فَقَدْ يَمِيل الإِْنْسَانُ وَهُوَ فِي نَفْسِ الاِتِّجَاهِ (5) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
الاِلْتِفَاتُ تَارَةً يُطْلَبُ شَرْعًا، وَأَحْيَانًا يُنْهَى عَنْهُ.
3 - وَمِمَّا يُطْلَبُ فِيهِ الاِلْتِفَاتُ: الأَْذَانُ، فَعِنْدَ الْحَيْعَلَتَيْنِ يُسْتَحَبُّ الاِلْتِفَاتُ عِنْدَ أَغْلِبِ الْفُقَهَاءِ،
__________
(1) ابن عابدين 5 / 288.
(2) ابن عابدين 1 / 72.
(3) المصباح المنير (لفت) .
(4) مسند أحمد 6 / 11 ط الميمنية، وفتح الباري 2 / 234 ط السلفية، وفتح القدير 1 / 357 ط دار إحياء التراث العربي.
(5) المصباح المنير.(6/174)
لِفِعْل بِلاَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَاسْتَثْنَى بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنْ ذَلِكَ مَا إِذَا كَانَ يُؤَذِّنُ لِنَفْسِهِ، أَوْ لِجَمَاعَةٍ صَغِيرَةٍ، أَوْ لِمَوْلُودٍ. وَلِلاِلْتِفَاتِ كَيْفِيَّاتٌ ثَلاَثٌ يَذْكُرُهَا الْفُقَهَاءُ فِي (الأَْذَانِ) . (1)
وَيُسَنُّ الاِلْتِفَاتُ كَذَلِكَ عِنْدَ تَسْلِيمِ الْمُصَلِّي، يَلْتَفِتُ يَمِينًا وَشِمَالاً، (2) رَوَى النَّسَائِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، حَتَّى يُرَى بَيَاضُ خَدِّهِ الأَْيْمَنِ، وَعَنْ يَسَارِهِ: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، حَتَّى يُرَى بَيَاضُ خَدِّهِ الأَْيْسَرِ (3) . وَتَفْصِيل ذَلِكَ يَذْكُرُهُ الْفُقَهَاءُ فِي (التَّسْلِيمِ) .
4 - أَمَّا الاِلْتِفَاتُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ، فَمِنْهُ: الاِلْتِفَاتُ فِي الصَّلاَةِ، وَهُوَ إِمَّا بِالْوَجْهِ أَوْ بِغَيْرِهِ، فَعِنْدَ الأَْئِمَّةِ الأَْرْبَعَةِ يُكْرَهُ الاِلْتِفَاتُ بِالْوَجْهِ فِي الصَّلاَةِ (4) ، عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال لِي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا بُنَيَّ إِيَّاكَ وَالاِلْتِفَاتَ فِي الصَّلاَةِ، فَإِنَّ الاِلْتِفَاتَ فِي الصَّلاَةِ هَلَكَةٌ، فَإِنْ كَانَ لاَ بُدَّ فَفِي التَّطَوُّعِ لاَ فِي الْفَرِيضَةِ (5) .
__________
(1) البحر الرائق 1 / 272، والدسوقي 1 / 196. والحطاب 1 / 441، والمجموع 3 / 106، والمغني 1 / 426
(2) كنز الدقائق مع شرحه تبيين الحقائق 1 / 125 ط دار المعرفة، والدسوقي 1 / 249، والروضة 1 / 268 ط المكتب الإسلامي، والمغني 1 / 556.
(3) حديث أبي مسعود: " كان يسلم عن يمينه. . " أخرجه النسائي (3 / 63 - ط المكتبة التجارية) وصححه العقيلي كما في التخليص لابن حجر (3 / 270 - ط دار المحاسن) .
(4) فتح القدير 1 / 357 ط دار إحياء التراث، وشرح الروض 1 / 183، والزرقاني على خليل 1 / 219 ط دار الفكر، وكشاف القناع 1 / 369، والمغني 2 / 9.
(5) فتح القدير 1 / 357 حديث: " إياك والالتفات في الصلاة. . . . " أخرجه الترمذي (2 / 484 ط الحلبي) وإسناده ضعيف كما في نيل الأوطار (2 / 371 - ط الحلبي) .(6/174)
أَمَّا الاِلْتِفَاتُ بِالصَّدْرِ أَوْ بِالْبَدَنِ كُلِّهِ فَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ كَرِهَ ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَال: تَبْطُل بِهِ الصَّلاَةُ إِنْ حَوَّل قَدَمَيْهِ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ كُلِّهِ يَذْكُرُهُ الْفُقَهَاءُ فِي (اسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ) . (1)
وَفِي الْخُطْبَةِ نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى كَرَاهَةِ الْتِفَاتِ الْخَطِيبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ ذَكَرَ كَرَاهِيَةَ الْتِفَاتِ الْمُسْتَمِعِ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ بَيَّنَهُ الْفُقَهَاءُ فِي (خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ) . (2)
الْتِقَاءُ الْخِتَانَيْنِ
انْظُرْ: وَطْء
الْتِقَاطٌ
انْظُرْ: لُقَطَة.
__________
(1) ابن عابدين 1 / 421 ط بولاق الأولى، وشرح الروض 1 / 183، والزرقاني على خليل 1 / 219، وكشاف القناع 1 / 369، 370.
(2) الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 282 نشر دار الإيمان، والقليوبي 1 / 282 ط الحلبي، والمغني 2 / 308.(6/175)
الْتِمَاسٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِلْتِمَاسُ لُغَةً: الطَّلَبُ، وَالتَّلَمُّسُ: التَّطَلُّبُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى. (1)
وَاصْطِلاَحًا: هُوَ الطَّلَبُ مَعَ التَّسَاوِي بَيْنَ الأَْمْرِ وَالْمَأْمُورِ (2) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - قَدْ يَكُونُ الاِلْتِمَاسُ مَطْلُوبًا أَوْ مَمْنُوعًا.
3 - فَالاِلْتِمَاسُ الْمَطْلُوبُ مِثْل: الْتِمَاسِ رُؤْيَةِ هِلاَل رَمَضَانَ، وَهُوَ وَاجِبٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَمَنْدُوبٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَالْتِمَاسِ الْمَاءِ قَبْل التَّيَمُّمِ فَإِنَّهُ وَاجِبٌ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ - ر - (صِيَام وَتَيَمُّم) . (3)
وَالْتِمَاسِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ فِي قِيَامِ اللَّيْل، فَإِنَّهُ مُسْتَحَبٌّ. (4) (ر - صِيَام - قِيَامُ اللَّيْل) .
4 - أَمَّا الاِلْتِمَاسُ الْمَمْنُوعُ، فَهُوَ إِذَا كَانَ الشَّيْءُ الْمُلْتَمَسُ قَدْ حَرَّمَهُ الشَّرْعُ، كَالْتِمَاسِ الْخَمْرِ وَبَقِيَّةِ الْمَحْظُورَاتِ الَّتِي حَرَّمَهَا الشَّارِعُ. (5) (ر - أَشْرِبَة) .
__________
(1) لسان العرب مادة: (لمس) .
(2) التعريفات للجرجاني في المادة، وجمع الجوامع 2 / 105، 106.
(3) بدائع الصنائع 1 / 186، والاختيار 1 / 128 ط المعرفة، وحاشية البجيرمي على المنهج 1 / 110 ط مصطفى الحلبي، والمغني 1 / 236 ط الرياض، وحاشية الدسوقي 1 / 149 ط دار الفكر.
(4) المغني 3 / 87 ط الرياض، والجمل 2 / 305 ط إحياء التراث، والدسوقي 1 / 509 ط دار الفكر.
(5) ابن عابدين 5 / 249، وشرح البهجة 5 / 104، وقليوبي 4 / 203، والبجيرمي 1 / 276، والمغني 1 / 417، والخرشي 5 / 351.(6/175)
أَلْثَغُ
التَّعْرِيفُ:
1 - الأَْلْثَغُ لُغَةً: مَنْ بِهِ لُثْغَةٌ، وَاللُّثْغَةُ: حَبْسَةٌ فِي اللِّسَانِ حَتَّى تَصِيرَ الرَّاءُ لاَمًا أَوْ غَيْنًا، أَوِ السِّينُ ثَاءً وَنَحْوُ ذَلِكَ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
2 - الأَْرَتُّ
، وَهُوَ مَنْ يُدْغِمُ الْحَرْفَ فِي الْحَرْفِ مِمَّا لاَ يُدْغَمُ فِي كَلاَمِ النَّاسِ.
وَالتَّأْتَاءُ
، وَهُوَ مَنْ يُكَرِّرُ التَّاءَ.
وَالْفَأْفَاءُ
، وَهُوَ مَنْ يُكَرِّرُ الْفَاءَ (2) . .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
3 - اللُّثْغَةُ صِفَةُ نَقْصٍ فِي إِمَامِ الصَّلاَةِ.
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ: الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ، وَالْحَنَابِلَةُ سِوَى الْقَاضِي مِنْهُمْ، إِلَى إِلْحَاقِ الأَْلْثَغِ بِالأُْمِّيِّ فِي الإِْمَامَةِ، فَيُمْنَعُ اقْتِدَاءُ السَّالِمِ بِهِ، وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَؤُمَّ مِثْلَهُ، وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ آخَرَ، وَالْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى صِحَّةِ إِمَامَتِهِ مَعَ الْكَرَاهَةِ، فَيَأْثَمُ الْمُقْتَدِي بِهِ إِنْ وَجَدَ غَيْرَهُ مِمَّنْ يُحْسِنُ الْقِرَاءَةَ، وَإِلاَّ فَلاَ.
__________
(1) المصباح (ألثغ) ، والطحطاوي على المراقي ص 157 ط دار الإيمان، والقليوبي 1 / 230 ط الحلبي، والمغني 2 / 186 ط الرياض.
(2) القليوبي 1 / 230، 231.(6/176)
غَيْرَ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ اشْتَرَطُوا لِصِحَّةِ إِمَامَةِ الأَْلْثَغِ بِمِثْلِهِ أَنْ تَكُونَ اللُّثْغَةُ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ. فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا يَلْثَغُ فِي كَلِمَةٍ، وَالآْخَرُ يَلْثَغُ فِي غَيْرِهَا لَمْ تَصِحَّ إِمَامَةُ أَحَدِهِمَا لِلآْخَرِ. (1)
قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: وَأَمَّا مَنْ لاَ يُقِيمُ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ، فَلاَ يُصَلِّي خَلْفَهُ إِلاَّ مَنْ هُوَ مِثْلُهُ، فَلاَ يُصَلِّي خَلْفَ الأَْلْثَغِ الَّذِي يُبَدِّل حَرْفًا بِحَرْفٍ، إِلاَّ حَرْفَ الضَّادِ إِذَا أَخْرَجَهُ مِنْ طَرَفِ الْفَمِ، كَمَا هُوَ عَادَةُ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، فَهَذَا فِيهِ وَجْهَانِ:
مِنْهُمْ مَنْ قَال: لاَ يُصَلِّي خَلْفَهُ، وَلاَ تَصِحُّ صَلاَتُهُ فِي نَفْسِهِ، لأَِنَّهُ أَبْدَل حَرْفًا بِحَرْفٍ، لأَِنَّ مَخْرَجَ الضَّادِ الشَّدْقُ، وَمَخْرَجَ الظَّاءِ طَرَفُ الأَْسْنَانِ. فَإِذَا قَال: (وَلاَ الظَّالِّينَ) كَانَ مَعْنَاهُ ظَل يَفْعَل كَذَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: تَصِحُّ، وَهَذَا أَقْرَبُ، لأَِنَّ الْحَرْفَيْنِ فِي السَّمْعِ شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَحِسُّ أَحَدِهِمَا مِنْ جِنْسِ حِسِّ الآْخِرِ لِتَشَابُهِ الْمَخْرَجَيْنِ. وَالْقَارِئُ إِنَّمَا يَقْصِدُ الضَّلاَل الْمُخَالِفَ لِلْهُدَى، وَهُوَ الَّذِي يَفْهَمُهُ الْمُسْتَمِعُ، فَأَمَّا الْمَعْنَى الْمَأْخُوذُ مِنْ ظَل فَلاَ يَخْطِرُ بِبَال وَاحِدٍ، وَهَذَا بِخِلاَفِ الْحَرْفَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ صَوْتًا وَمَخْرَجًا وَسَمْعًا، كَإِبْدَال الرَّاءِ بِالْغَيْنِ، فَإِنَّ هَذَا لاَ يَحْصُل بِهِ مَقْصُودُ الْقِرَاءَةِ. (2)
وَفِي الدِّمَاءِ، وَالدِّيَاتِ: لاَ فَرْقَ بَيْنَ الْجِنَايَةِ عَلَى لِسَانِ السَّلِيمِ، وَلِسَانِ الأَْلْثَغِ، صَرَّحَ بِذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ مَا يُفْهَمُ مِنْ فُرُوعِ غَيْرِهِمْ. (3)
__________
(1) الطحطاوي على المراقي ص 157، والشرح الصغير 1 / 437 ط دار المعارف، وميارة الصغير 2 / 57 ط الحلبي، والقليوبي 1 / 230، 231، والمغني 2 / 196، والشرح الصغير 1 / 437، والدسوقي 1 / 307
(2) مجموع الفتاوى لابن تيمية 3 / 350.
(3) الروضة 9 / 275، وابن عابدين 5 / 356، 369، والزرقاني على خليل 8 / 16، والمغني 7 / 8، 16، 723، وكشاف القناع 6 / 41.(6/176)
أَمَّا فِي إِذْهَابِ الْكَلاَمِ، فَيُرَاعَى قِسْطُ اللُّثْغَةِ، فَلَوْ جَنَى عَلَى سَلِيمٍ فَأَصَابَتْهُ لُثْغَةٌ فَإِنَّ أَغْلَبَ الْفُقَهَاءِ يُوجِبُ دِيَةَ الْحَرْفِ الْمُبْدَل، عَلَى خِلاَفٍ وَتَفْصِيلٍ بَيْنَهُمْ فِي عَدَدِ الْحُرُوفِ الَّتِي تُقَسَّمُ عَلَيْهَا الدِّيَةُ، وَكَذَا مَخَارِجُ الْحُرُوفِ. (1)
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُقَدَّرُ ذَلِكَ بِالاِجْتِهَادِ، وَلاَ يُحْسَبُ عَلَى عَدَدِ الْحُرُوفِ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلْحَنَفِيَّةِ. (2)
فَإِنْ مَنَعَتِ الْجِنَايَةُ نُطْقَ الأَْلْثَغِ، فَإِنَّ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ أَوْجَبَ الدِّيَةَ كَامِلَةً فِيهِ، وَقَال الْبَعْضُ: لاَ يَجِبُ إِلاَّ قِسْطُ الْحُرُوفِ الذَّاهِبَةِ. (3)
وَبِالإِْضَافَةِ إِلَى مَا تَقَدَّمَ يَتَكَلَّمُ الْفُقَهَاءُ عَنِ اللُّثْغَةِ فِي الطَّلاَقِ، كَمَا إِذَا قَال لِزَوْجَتِهِ: أَنْتَ تَالِقٌ بَدَل طَالِقٌ (4) .
إِلْجَاءٌ
انْظُرْ: إِكْرَاه.
__________
(1) ابن عابدين 5 / 365، والروضة 9 / 297، وكشاف القناع 6 / 41.
(2) ابن عابدين 5 / 369، والتاج والإكليل 6 / 262 ط ليبيا.
(3) الروضة 9 / 297، وابن عابدين 5 / 369، وكشاف القناع 6 / 41.
(4) البجيرمي على الخطيب 3 / 420 ط الحلبي.(6/177)
إِلْحَادٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْلْحَادُ فِي اللُّغَةِ، وَاللَّحْدُ: الْمَيْل وَالْعُدُول عَنِ الشَّيْءِ، وَمِنْهُ: لَحْدُ الْقَبْرِ وَإِلْحَادُهُ أَيْ جَعْل الشَّقِّ فِي جَانِبِهِ لاَ فِي وَسَطِهِ. وَأَلْحَدْتُ الْمَيِّتَ، وَلَحَدْتُهُ: جَعَلْتُهُ فِي اللَّحْدِ، أَوْ عَمِلْتُ لَهُ لَحْدًا. (1)
وَيُسْتَعْمَل الإِْلْحَادُ فِي الاِصْطِلاَحِ بِمَعَانٍ مِنْهَا: الإِْلْحَادُ فِي الدِّينِ، وَهُوَ: الطَّعْنُ فِيهِ أَوِ الْخُرُوجُ عَنْهُ.
وَمِنْهَا: الإِْخْلاَل بِمَا يَسْتَحِقُّهُ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ بِفِعْل الْمُحَرَّمَاتِ فِيهِ، أَوْ مَنْعِ عِمَارَتِهِ وَالصَّدِّ عَنْهُ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: الإِْلْحَادُ فِي الدِّينِ: هُوَ الْمَيْل عَنِ الشَّرْعِ الْقَوِيمِ إِلَى جِهَةٍ مِنْ جِهَاتِ الْكُفْرِ كَالْبَاطِنِيَّةِ الَّذِينَ يَدَّعُونَ أَنَّ لِلْقُرْآنِ ظَاهِرًا، وَأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ الْبَاطِنَ، فَأَحَالُوا بِذَلِكَ الشَّرِيعَةَ، لأَِنَّهُمْ تَأَوَّلُوا بِمَا يُخَالِفُ الْعَرَبِيَّةَ الَّتِي نَزَل بِهَا الْقُرْآنُ.
وَمِنَ الإِْلْحَادِ: الطَّعْنُ فِي الدِّينِ مَعَ ادِّعَاءِ الإِْسْلاَمِ، أَوِ التَّأْوِيل فِي ضَرُورَاتِ الدِّينِ لإِِجْرَاءِ الأَْهْوَاءِ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الرِّدَّةُ:
2 - الرِّدَّةُ لُغَةً: هِيَ الرَّجْعَةُ مُطْلَقًا.
__________
(1) المصباح المنير (لحد) ، وابن عابدين 1 / 599.
(2) المصباح المنير (لحد) ، وابن عابدين 3 / 296.(6/177)
وَشَرْعًا: هِيَ كُفْرُ الْمُسْلِمِ الْبَالِغِ الْعَاقِل الْمُخْتَارِ الَّذِي ثَبَتَ إِسْلاَمُهُ وَلَوْ بِبُنُوَّتِهِ لِمُسْلِمٍ، وَإِنْ لَمْ يَنْطِقْ بِالشَّهَادَتَيْنِ. أَوْ كُفْرُ مَنْ نَطَقَ بِهِمَا عَالِمًا بِأَرْكَانِ الإِْسْلاَمِ مُلْتَزِمًا بِهَا، وَيَكُونُ ذَلِكَ بِالإِْتْيَانِ بِصَرِيحِ الْكُفْرِ بِلَفْظٍ يَقْتَضِيهِ، أَوْ فِعْلٍ يَتَضَمَّنُهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ. (1) وَهَذَا التَّعْرِيفُ هُوَ أَجْمَعُ التَّعَارِيفِ فِي الرِّدَّةِ.
ب - النِّفَاقُ:
3 - النِّفَاقُ: إِظْهَارُ الإِْيمَانِ بِاللِّسَانِ، وَكِتْمَانُ الْكُفْرِ بِالْقَلْبِ. وَلاَ يُطْلَقُ هَذَا الاِسْمُ عَلَى مَنْ يُظْهِرُ شَيْئًا وَيُخْفِي غَيْرَهُ مِمَّا لاَ يَخْتَصُّ بِالْعَقِيدَةِ (2) .
ج - الزَّنْدَقَةُ:
4 - الزَّنْدَقَةُ: إِبْطَانُ الْكُفْرِ وَالاِعْتِرَافُ بِنُبُوَّةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُعْرَفُ ذَلِكَ مِنْ أَقْوَال الزِّنْدِيقِ وَأَفْعَالِهِ.
وَقِيل: هُوَ مَنْ لاَ دِينَ لَهُ (3) .
وَمِنَ الزَّنْدَقَةِ: الإِْبَاحِيَّةُ، وَهِيَ: الاِعْتِقَادُ بِإِبَاحَةِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَأَنَّ الأَْمْوَال وَالْحُرَمَ مُشْتَرَكَةٌ.
د - الدَّهْرِيَّةُ:
5 - الدَّهْرِيُّ: مَنْ يَقُول بِقِدَمِ الدَّهْرِ، وَلاَ يُؤْمِنُ بِالْبَعْثِ، وَيُنْكِرُ حَشْرَ الأَْجْسَادِ وَيَقُول: {إِنْ هِيَ إِلاَّ
__________
(1) المصباح (ردة) ، وجواهر الإكليل 2 / 277، والمغني 8 / 123، وابن عابدين 3 / 283.
(2) التعريفات للجرجاني، وفتح القدير 4 / 408، والمصباح المنير والفروق في اللغة ص 223، وروضة الطالبين 10 / 75، ومغني المحتاج 4 / 141.
(3) المصباح المنير مادة (زندق) ، وابن عابدين 3 / 296، وفتح القدير 4 / 408، وروضة الطالبين 10 / 75، ومغني المحتاج 4 / 141.(6/178)
حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ} (1) مَعَ إِنْكَارِ إِسْنَادِ الْحَوَادِثِ إِلَى الصَّانِعِ الْمُخْتَارِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى (2) .
الْفَرْقُ بَيْنَ كُلٍّ مِنَ الزَّنْدَقَةِ وَالنِّفَاقِ وَالدَّهْرِيَّةِ وَبَيْنَ الإِْلْحَادِ:
6 - نَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ ابْنِ كَمَالٍ بَاشَا قَوْلَهُ: الزِّنْدِيقُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ يُطْلَقُ عَلَى: مَنْ يَنْفِي الْبَارِيَ تَعَالَى، وَعَلَى مَنْ يُثْبِتُ الشَّرِيكَ، وَعَلَى مَنْ يُنْكِرُ حِكْمَتَهُ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُرْتَدِّ الْعُمُومُ الْوَجْهِيُّ، لأَِنَّهُ قَدْ لاَ يَكُونُ مُرْتَدًّا، كَمَا لَوْ كَانَ زِنْدِيقًا أَصْلِيًّا غَيْرَ مُنْتَقِلٍ عَنْ دَيْنِ الإِْسْلاَمِ. وَالْمُرْتَدُّ قَدْ لاَ يَكُونُ زِنْدِيقًا، كَمَا لَوْ تَنَصَّرَ أَوْ تَهَوَّدَ. وَقَدْ يَكُونُ مُسْلِمًا فَيَتَزَنْدَقُ. وَأَمَّا فِي اصْطِلاَحِ الشَّرْعِ فَالْفَرْقُ أَظْهَرُ، لاِعْتِبَارِهِمْ فِيهِ إِبْطَانَ الْكُفْرِ وَالاِعْتِرَافَ بِنُبُوَّةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الزِّنْدِيقِ وَالْمُنَافِقِ وَالدَّهْرِيِّ وَالْمُلْحِدِ - مَعَ الاِشْتِرَاكِ فِي إِبْطَانِ الْكُفْرِ - أَنَّ الْمُنَافِقَ غَيْرُ مُعْتَرِفٍ بِنُبُوَّةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالدَّهْرِيُّ كَذَلِكَ مَعَ إِنْكَارِ إِسْنَادِ الْحَوَادِثِ إِلَى الصَّانِعِ الْمُخْتَارِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَالْمُلْحِدُ لاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ الاِعْتِرَافُ بِنُبُوَّةِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلاَ بِوُجُودِ الصَّانِعِ تَعَالَى. وَبِهَذَا فَارَقَ الدَّهْرِيَّ أَيْضًا. وَلاَ يُعْتَبَرُ فِيهِ إِضْمَارُ الْكُفْرِ، وَبِهِ فَارَقَ الْمُنَافِقَ. كَمَا لاَ يُعْتَبَرُ فِيهِ سَبْقُ الإِْسْلاَمِ وَبِهِ فَارَقَ الْمُرْتَدَّ. فَالْمُلْحِدُ أَوْسَعُ فِرَقِ الْكُفْرِ حَدًّا، وَأَعَمُّ فِي الْجُمْلَةِ مِنَ الْكُل. (3) أَيْ هُوَ مَعْنَى الْكَافِرِ مُطْلَقًا، تَقَدَّمَهُ إِسْلاَمُهُ أَمْ لاَ، أَظْهَرَ كُفْرَهُ أَمْ أَبْطَنَهُ.
__________
(1) سورة الجاثية / 24.
(2) المصباح المنير، وابن عابدين 3 / 296.
(3) ابن عابدين 3 / 96.(6/178)
الإِْلْحَادُ فِي الْحَرَمِ:
7 - الإِْلْحَادُ فِي الْحَرَمِ هُوَ الْمَيْل بِالظُّلْمِ فِيهِ. قَال اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيل اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (1)
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي مَعْنَى الإِْلْحَادِ فِي الْحَرَمِ عَلَى أَقْوَالٍ مِنْهَا:
أ - قَال ابْنُ مَسْعُودٍ: الإِْلْحَادُ هُوَ الشِّرْكُ، وَقَال أَيْضًا هُوَ اسْتِحْلاَل الْحَرَامِ.
ب - قَال الْجَصَّاصُ: الْمُرَادُ بِهِ انْتِهَاكُ حُرْمَةِ الْحَرَمِ بِالظُّلْمِ فِيهِ.
ج - قَال مُجَاهِدٌ: هُوَ الْعَمَل السَّيِّئُ.
د - الإِْلْحَادُ فِي الْحَرَمِ هُوَ مَنْعُ النَّاسِ عَنْ عِمَارَتِهِ.
هـ - قَال سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ هُوَ الاِحْتِكَارُ.
قَال أبو حَيَّانَ: الأَْوْلَى حَمْل هَذِهِ الأَْقْوَال فِي الآْيَةِ عَلَى التَّمْثِيل لاَ عَلَى الْحَصْرِ، إِذِ الْكَلاَمُ يَدُل عَلَى الْعُمُومِ.
وَقَدْ عَظَّمَ اللَّهُ الذَّنْبَ فِي الْحَرَمِ، وَبَيَّنَ أَنَّ الْجِنَايَاتِ تَعْظُمُ عَلَى قَدْرِ عِظَمِ الزَّمَانِ كَالأَْشْهُرِ الْحُرُمِ، وَعَلَى قَدْرِ الْمَكَانِ كَالْبَلَدِ الْحَرَامِ، فَتَكُونُ الْمَعْصِيَةُ مَعْصِيَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا الْمُخَالَفَةُ، وَالثَّانِيَةُ إِسْقَاطُ حُرْمَةِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ أَوِ الْبَلَدِ الْحَرَامِ. (2)
إِلْحَادُ الْمَيِّتِ:
8 - إِلْحَادُ الْمَيِّتِ فِي الْقَبْرِ سُنَّةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ،
__________
(1) سورة الحج / 25.
(2) أحكام القرآن لابن العربي 3 / 1264، وأحكام القرآن للجصاص 3 / 283، والبحر المحيط 6 / 363، والقرطبي 12 / 34.(6/179)
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: اللَّحْدُ لَنَا وَالشَّقُّ لِغَيْرِنَا (1) وَلِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ: " الْحَدُوا لِي لَحْدًا، وَانْصِبُوا عَلَيَّ اللَّبِنَ، كَمَا صُنِعَ بِرَسُول اللَّهِ " صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (2) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لِلْحَافِرِ: أَوْسِعْ مِنْ قِبَل رَأْسِهِ، وَأَوْسِعْ مِنْ قِبَل رِجْلِهِ. (3) وَلِقَوْل الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ: احْفِرُوا، وَأَوْسِعُوا، وَعَمِّقُوا (4) وَلِمَا رَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَنَسٍ لَمَّا تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ بِالْمَدِينَةِ رَجُلٌ يُلْحِدُ وَآخَرُ يُضْرِحُ، فَقَالُوا: نَسْتَخِيرُ رَبَّنَا وَنَبْعَثُ إِلَيْهِمَا، فَأَيُّهُمَا سَبَقَ تَرَكْنَاهُ، فَأَرْسَل إِلَيْهِمَا، فَسَبَقَ صَاحِبُ اللَّحْدِ، فَلَحَدُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (5) وَهَذَا عِنْدَ الْجَمِيعِ إِذَا كَانَتِ الأَْرْضُ صُلْبَةً، أَمَّا إِذَا كَانَتْ رَخْوَةً فَإِنَّهُ يُصَارُ إِلَى الشِّقِّ بِدُونِ
__________
(1) حديث: " اللحد لنا والشق لغيرنا ". أخرجه ابن ماجه (1 / 496 - ط الحلبي) وأحمد (4 / 357 ط الميمنية) من طرق يقوي بعضها بعضا. (التلخيص الحبير لابن حجر 2 / 127 - ط دار المحاسن) .
(2) حديث سعد: " الحدوا لي لحدا وانصبوا علي اللبن. . . ". أخرجه مسلم (2 / 665 - ط الحلبي) .
(3) حديث: " أوسع من قبل رأسه وأوسع من قبل رجله. . . " رواه أحمد (5 / 408 - ط الميمنية) وصححه ابن حجر في التلخيص (2 / 127 - ط دار المحاسن) .
(4) قوله صلى الله عليه وسلم يوم أحد: " احفروا وأوسعوا وعمقوا " أخرجه النسائي (4 / 81 - ط المكتبة التجارية) وإسناده صحيح (التلخيص لابن حجر 2 / 127 - ط دار المحاسن) .
(5) " لما توفى الرسول وكان بالمدينة رجل يلحد وآخر يضرح. . . ". أخرجه ابن ماجه (1 / 496 ط الحلبي) وحسنه ابن حجر في التلخيص (2 / 128 - ط دار المحاسن) .(6/179)
خِلاَفٍ وَيَكُونُ أَفْضَل، وَيَكُونُ اللَّحْدُ إِلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ بِقَدْرِ الْمَيِّتِ. (1) .
الإِْلْحَادُ فِي الدِّينِ:
9 - الْمُلْحِدُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الأَْصْل عَلَى الشِّرْكِ، فَحُكْمُهُ يُنْظَرُ تَحْتَ عِنْوَانِ (إِشْرَاك) ، أَوْ يَكُونَ ذِمِّيًّا فَيُلْحِدُ أَيْ يَطْعَنُ فِي الدِّينِ جِهَارًا، فَيَنْتَقِضُ بِذَلِكَ عَهْدُهُ، وَيُنْظَرُ حُكْمُهُ تَحْتَ عِنْوَانِ (أَهْل الذِّمَّةِ) أَوْ يَكُونُ مُسْلِمًا فَيُلْحِدُ، فَيُنْظَرُ حُكْمُهُ تَحْتَ عِنْوَانِ (ارْتِدَاد - زَنْدَقَة (2)) .
الآْثَارُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَى الإِْلْحَادِ:
10 - مَنْ أَلْحَدَ بَعْدَ إِسْلاَمٍ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ، إِمَّا أَنْ يُسْتَتَابَ عَلَى رَأْيِ مَنْ قَال بِذَلِكَ، فَيَأْخُذَ حُكْمَ الْمُرْتَدِّ فِي الْعِبَادَاتِ فِي الْجُمْلَةِ فِي حَالَةِ رُجُوعِهِ عَنْ إِلْحَادِهِ، مِنْ نَقْضِ وُضُوئِهِ بِالإِْلْحَادِ وَعَدَمِهِ، وَمِنْ قَضَائِهِ لِلْعِبَادَاتِ، وَأَدَائِهِ مَا عَلَيْهِ مِنْ زَكَاةٍ، وَقَضَائِهِ لِلْحَجِّ قَبْل الإِْلْحَادِ وَبَعْدَهُ. كَمَا يَأْخُذُ حُكْمَهُ كَذَلِكَ فِي غَيْرِ الْعِبَادَاتِ، مِنْ سُقُوطِ شُفْعَتِهِ بِالرِّدَّةِ وَنَفَاذِ عُقُودِهِ وَعَدَمِهَا، وَبَيْنُونَةِ امْرَأَتِهِ، وَلُزُومِ الْمَهْرِ، وَالنَّفَقَةِ، وَانْفِسَاخِ النِّكَاحِ. كَمَا يَأْخُذُ حُكْمَهُ فِي الْجِنَايَاتِ وَالدُّيُونِ عَلَى الْخِلاَفِ الْمَذْكُورِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ. وَاَلَّذِي يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ (رِدَّة) .
وَأَمَّا إِذَا لَمْ يُسْتَتَبْ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ حُكْمَ الْمُرْتَدِّ الْمَقْتُول
__________
(1) روضة الطالبين 2 / 133، والمجموع للنووي 5 / 286، وفتح القدير 1 / 496، والمغني 2 / 498 ط الرياض، وجواهر الإكليل 1 / 111، والحطاب 2 / 233.
(2) بن عابدين 33 / 296، وجواهر الإكليل 2 / 278، وروضة الطالبين للنووي 10 / 76، والمغني 8 / 126.(6/180)
فِي الرِّدَّةِ، مِنْ حَيْثُ زَوَال مِلْكِهِ عَنْ أَمْوَالِهِ، وَحُكْمُ تِلْكَ الأَْمْوَال بَعْدَ الْمَوْتِ فِي الْمِيرَاثِ، وَمِنْ حَيْثُ سُقُوطُ وَصِيَّتِهِ أَوْ عَدَمُهُ، وَقَضَاءُ دُيُونِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَيُرَاجَعُ فِي ذَلِكَ مُصْطَلَحُ (رِدَّة (1)) .
إِلْحَاقٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - (الإِْلْحَاقُ) فِي اللُّغَةِ: الاِتِّبَاعُ. يُقَال: أَلْحَقْتُهُ بِهِ: إِذَا أَتْبَعْتُهُ إِيَّاهُ حَتَّى لَحِقَهُ. (2) وَاسْتَعْمَل الْفُقَهَاءُ وَالأُْصُولِيُّونَ إِلْحَاقَ الْفُرُوعِ بِالأُْصُول فِي الْقِيَاسِ.
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْل ابْنِ قُدَامَةَ فِي رَوْضَةِ النَّاظِرِ: إِنَّ الإِْلْحَاقَ يُسَمَّى قِيَاسًا، إِذَا بُيِّنَتِ الْعِلَّةُ الْجَامِعَةُ وَأُثْبِتَ وُجُودُهَا فِي الْفَرْعِ.
وَجَرَى عَلَى لِسَانُ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ فِي تَعْرِيفِ الْقِيَاسِ بِأَنَّهُ: إِلْحَاقُ الْمَسْكُوتِ بِالْمَنْطُوقِ. وَجَرَى أَيْضًا عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ: إِلْحَاقُ الْوَلَدِ بِمَنِ ادَّعَاهُ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ اللَّقِيطِ، حَتَّى إِنَّ إِطْلاَقَ لَفْظِ (الإِْلْحَاقِ) يَنْصَرِفُ إِلَى الإِْلْحَاقِ فِي النَّسَبِ (3) .
__________
(1) ابن عابدين 2 / 305، 394، 396، 3 / 285، 290، 298، وجواهر الإكليل 1 / 21، 2 / 255، 279، 280، 318، والمهذب 2 / 223، والقليوبي 3 / 44، 148، 157، 159، والمغني 6 / 171، 298، 8 / 122، 128، 129.
(2) المصباح المنير ولسان العرب مادة: (لحق) .
(3) الزيلعي 3 / 294، والخرشي7 / 132، والقليوبي 3 / 129، وروضة الناظر لابن قدامة ص 150، 155، وجمع الجوامع 1 / 245.(6/180)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْقِيَاسُ:
2 - يَظْهَرُ مِنْ تَتَبُّعِ أَقْوَال الْفُقَهَاءِ أَنَّ الإِْلْحَاقَ يَأْتِي بِمَعْنَيَيْنِ:
الأَْوَّل: الْقِيَاسُ، بِإِلْحَاقِ الْفَرْعِ بِالأَْصْل لِوُجُودِ عِلَّةٍ مُشْتَرَكَةٍ يَتَعَدَّى بِهَا الْحُكْمُ مِنَ الأَْصْل إِلَى الْفَرْعِ بِشُرُوطِهِ، فَهُوَ حَمْل الشَّيْءِ عَلَى غَيْرِهِ بِإِجْرَاءِ حُكْمِهِ عَلَيْهِ لِعِلَّةٍ مُشْتَرَكَةٍ. (1)
وَالثَّانِي: إِلْحَاقُ الإِْنْسَانِ الْمَجْهُول النَّسَبِ بِمَنِ ادَّعَاهُ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ بِشُرُوطِهِ، كَمَا يُعْرَفُ فِي بَابِ النَّسَبِ. 3 - وَالإِْلْحَاقُ لَهُ طَرِيقَانِ:
الطَّرِيقُ الأَْوَّل: إِلْغَاءُ الْفَارِقِ الْمُؤَثِّرِ فِي الْحُكْمِ لِكَيْ يَشْمَل الْمَسْكُوتَ عَنْهُ فَلاَ يَحْتَاجَ إِلَى التَّعَرُّضِ لِلْعِلَّةِ الْجَامِعَةِ لِكَثْرَةِ مَا فِيهِ مِنَ الاِجْتِمَاعِ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي تَسْمِيَةِ هَذَا قِيَاسًا. (2)
وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: أَنْ يَتَعَرَّضَ لِلْجَامِعِ وَيُبَيِّنَ وُجُودَهُ فِي الْفَرْعِ، وَهَذَا هُوَ الْمُتَّفَقُ عَلَى تَسْمِيَتِهِ قِيَاسًا.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
4 - نَظَرًا لأَِنَّ الإِْلْحَاقَ إِتْبَاعُ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ فَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِي الْمُلْحَقِ نَفْسَ الْحُكْمِ الَّذِي فِي الْمُلْحَقِ بِهِ. وَلِتَطْبِيقِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ أَمْثِلَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا:
أَوَّلاً: إِلْحَاقُ جَنِينِ الْمُذَكَّاةِ بِأُمِّهِ:
5 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالصَّاحِبَانِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ) إِلَى إِلْحَاقِ جَنِينِ
__________
(1) مسلم الثبوت 2 / 247.
(2) روضة الناظر لابن قدامة ص 155.(6/181)
الْمُذَكَّاةِ بِهَا، إِذَا كَانَ كَامِل الْخِلْقَةِ، وَمَاتَ بِذَبْحِ أُمِّهِ، فَهَذَا إِلْحَاقٌ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ. وَإِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ لِمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ. (1) وَلأَِنَّ جَنِينَ الدَّابَّةِ تَبَعٌ فَيُبَاعُ بِبَيْعِ الأُْمِّ، وَلِذَا يَأْخُذُ جَنِينُ الْمُذَكَّاةِ حُكْمَ الْمُذَكَّاةِ بِالتَّبَعِ، وَهَذَا إِنْ كَانَ قَدْ أَشْعَرَ عَلَى رَأْيٍ، وَقِيل: لاَ يُشْتَرَطُ ذَلِكَ.
وَخَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ فَذَهَبَا إِلَى أَنَّهُ لاَ يَحِل الْجَنِينُ إِلاَّ إِذَا أُدْرِكَ حَيًّا وَذُبِحَ. كَذَلِكَ لاَ يُمْكِنُ إِلْحَاقُ الْجَنِينِ الَّذِي ظَهَرَ مِنَ الأُْمِّ حَيًّا فَمَاتَ بَعْدَهَا بِدُونِ الذَّبْحِ. (2) وَيُرْجَعُ لِتَفْصِيلِهِ إِلَى مُصْطَلَحَيْ (ذَبِيحَة) (وَذَكَاة) .
ثَانِيًا: إِلْحَاقُ صِغَارِ السَّوَائِمِ بِالْكِبَارِ فِي الذَّكَاةِ:
6 - لاَ خِلاَفَ بَيْنِ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ فِي إِلْحَاقِ صِغَارِ السَّوَائِمِ بِالْكِبَارِ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهَا، إِذَا اجْتَمَعَتْ مَعَ الْكِبَارِ وَتَمَّ الْحَوْل عَلَيْهَا. أَمَّا إِذَا كَانَتْ كُلُّهَا صِغَارًا فُصْلاَنًا أَوْ حُمْلاَنًا أَوْ عَجَاجِيل، فَلاَ زَكَاةَ فِيهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ. وَقَال الْمَالِكِيَّةُ، وَهِيَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ زُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: يَجِبُ فِي الصِّغَارِ مَا يَجِبُ فِي الْكِبَارِ إِلْحَاقًا.
وَقَال أَبُو يُوسُفَ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ: يَجِبُ فِيهَا وَاحِدَةٌ مِنْهَا، وَصُورَتُهُ إِذَا كَانَ لَهُ نِصَابٌ مِنَ
__________
(1) حديث: " ذكاة الجنين ذكاة أمه " أخرجه أبو داود (3 / 253 - ط عزت عبيد دعاس) وغيره من حديث جابر مرفوعا، وفي أسانيده مقال لكنه يتقوى بها. فيض القدير للمناوي (3 / 563 - ط / المكتبة التجارية)
(2) البدائع 5 / 42، والقليوبي 4 / 262، والشرح الصغير 2 / 177، والمغني مع الشرح الكبير 11 / 51(6/181)
الْكِبَارِ ثُمَّ مَاتَتِ الأُْمَّهَاتُ، وَتَمَّ الْحَوْل عَلَى الأَْوْلاَدِ وَهِيَ صِغَارٌ. (1) وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (ذَكَاة) .
ثَالِثًا: إِلْحَاقُ تَوَابِعِ الْمَبِيعِ بِهِ فِي الْبَيْعِ:
7 - يَدْخُل الْجَنِينُ فِي بَيْعِ الأُْمِّ تَبَعًا، وَلاَ يُفْرَدُ بِالْبَيْعِ، لأَِنَّ التَّابِعَ تَابِعٌ. وَكَذَلِكَ حَقُّ الْمُرُورِ وَالشُّرْبِ يَدْخُلاَنِ فِي بَيْعِ الأَْرْضِ تَبَعًا. وَوَلَدُ الْبَقَرَةِ الْمُشْتَرَاةِ لِلَّبَنِ دَاخِلٌ فِي بَيْعِ الأُْمِّ. وَيَدْخُل الْغِرَاسُ فِي بَيْعِ الأَْرْضِ، وَتَدْخُل الأَْرْضُ وَمَا يَتَّصِل بِهَا فِي بَيْعِ الدَّارِ. وَكَذَلِكَ كُل مَا يُعْتَبَرُ مِنْ تَوَابِعِ الْمَبِيعِ يَدْخُل فِي الْبَيْعِ إِلْحَاقًا، وَيَأْخُذُ حُكْمَ الْمَبِيعِ عَلَى تَفْصِيلٍ وَخِلاَفٍ فِي ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي مَوْضِعِهِ. (2)
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
8 - تَكَلَّمَ الْفُقَهَاءُ عَنْ إِلْحَاقِ الْفُرُوعِ بِالأُْصُول فِي بَحْثِ (الْقِيَاسِ) ، وَفِي (الْبَيْعِ) فِي إِلْحَاقِ الثَّمَرِ بِالشَّجَرِ، وَإِلْحَاقِ الثِّمَارِ الَّتِي لَمْ يَبْدُ صَلاَحُهَا بِمَا بَدَا صَلاَحُهُ مِنْهَا، وَإِلْحَاقِ تَوَابِعِ الْمَبِيعِ بِالْمَبِيعِ، وَإِلْحَاقِ الْوَلَدِ بِخَيْرِ الأَْبَوَيْنِ فِي (الدِّيَانَةِ) إِنْ كَانَا مُخْتَلِفَيْنِ دِينًا، وَمَسَائِل أُخْرَى.
لَكِنَّ أَكْثَرَ مَا يَتَعَرَّضُونَ فِيهِ لِلإِْلْحَاقِ هُوَ فِي بَحْثِ (النَّسَبِ) فِي إِلْحَاقِ مَجْهُول النَّسَبِ بِمَنِ ادَّعَاهُ بِشُرُوطِهِ، فَلْيُرْجَعْ لِتَفْصِيلِهِ إِلَى تِلْكَ الْمَوَاضِعِ.
__________
(1) البدائع 2 / 31، والشرح الصغير 1 / 591، ونهاية المحتاج 3 / 57، والمغني مع الشرح الكبير 2 / 477
(2) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 120، ومجلة الأحكام العدلية م (231) ، والشرح الصغير 2 / 227 - 230، ونهاية المحتاج 4 / 125 - 130، والمغني 4 / 226(6/182)
إِلْزَامٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْلْزَامُ مَصْدَرُ أَلْزَمَ الْمُتَعَدِّي بِالْهَمْزَةِ، وَهُوَ مِنْ لَزِمَ، يُقَال: لَزِمَ يَلْزَمُ لُزُومًا: ثَبَتَ وَدَامَ، وَأَلْزَمْتُهُ: أَثْبَتُّهُ وَأَدَمْتُهُ، وَأَلْزَمْتُهُ الْمَال وَالْعَمَل وَغَيْرَهُ فَالْتَزَمَهُ، وَلَزِمَهُ الْمَال: وَجَبَ عَلَيْهِ، وَأَلْزَمَهُ إِيَّاهُ فَالْتَزَمَهُ. (1)
وَيَقُول الرَّاغِبُ: الإِْلْزَامُ ضَرْبَانِ: إِلْزَامٌ بِالتَّسْخِيرِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ مِنَ الإِْنْسَانِ، وَإِلْزَامٌ بِالْحُكْمِ وَالأَْمْرِ، نَحْوَ قَوْله تَعَالَى: {أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} (2) وَقَوْلِهِ {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} . (3)
فَيَكُونُ مَعْنَى الإِْلْزَامِ: الإِْيجَابَ عَلَى الْغَيْرِ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْفُقَهَاءُ فِي اسْتِعْمَالِهِمْ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (4) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الإِْيجَابُ:
2 - وَجَبَ الشَّيْءُ يَجِبُ وُجُوبًا أَيْ: لَزِمَ، وَأَوْجَبَهُ هُوَ وَأَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير مادة: (لزم)
(2) سورة هود / 28
(3) سورة الفتح / 26
(4) المفردات للراغب، وفتح القدير 6 / 356 ط دار إحياء التراث العربي، والتبصرة بهاش فتح العلي المالك 1 / 12، 116 ط دار المعرفة بيروت(6/182)
أَنَّهُ أَوْجَبَ نَجِيبًا، أَيْ أَهْدَاهُ فِي حَجٍّ أَوْ عَمْرَةٍ كَأَنَّهُ أَلْزَمَ نَفْسَهُ بِهِ، وَأَوْجَبَهُ إِيجَابًا أَيْ أَلْزَمَهُ.
وَقَدْ فَرَّقَ أَبُو هِلاَلٍ الْعَسْكَرِيُّ بَيْنَ الإِْيجَابِ وَالإِْلْزَامِ، فَقَال: الإِْلْزَامُ يَكُونُ فِي الْحَقِّ وَالْبَاطِل، يُقَال: أَلْزَمْتُهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِل. وَالإِْيجَابُ لاَ يَسْتَعْمِل إِلاَّ فِيمَا هُوَ حَقٌّ، فَإِنِ اسْتُعْمِل فِي غَيْرِهِ فَهُوَ مَجَازٌ، وَالْمُرَادُ بِهِ الإِْلْزَامُ (1) .
الإِْجْبَارُ وَالإِْكْرَاهُ:
3 - الإِْجْبَارُ وَالإِْكْرَاهُ هُمَا الْحَمْل عَلَى الشَّيْءِ قَهْرًا، وَالإِْلْزَامُ قَدْ يَكُونُ بِالْقَهْرِ وَهُوَ مَا يُسَمَّى بِالإِْلْزَامِ الْحِسِّيِّ، وَقَدْ يَكُونُ بِدُونِهِ (2) .
الاِلْتِزَامُ:
4 - الاِلْتِزَامُ هُوَ: إِلْزَامُ الشَّخْصِ نَفْسَهُ شَيْئًا مِنَ الْمَعْرُوفِ.
فَالاِلْتِزَامُ يَكُونُ مِنَ الإِْنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ كَالنَّذْرِ وَالْوَعْدِ، وَالإِْلْزَامُ يَكُونُ مِنْهُ عَلَى الْغَيْرِ كَإِنْشَاءِ الإِْلْزَامِ مِنَ الْقَاضِي.
وَالاِلْتِزَامُ يَكُونُ وَاقِعًا عَلَى الشَّيْءِ، يُقَال: الْتَزَمْتُ الْعَمَل، وَالإِْلْزَامُ يَقَعُ عَلَى الشَّخْصِ، يُقَال: أَلْزَمْتُ فُلاَنًا الْمَال (3) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
5 - الأَْصْل امْتِنَاعُ الإِْلْزَامِ مِنَ النَّاسِ بَعْضِهِمْ
__________
(1) لسان العرب والفروق في اللغة لأبي هلال العسكري ص 219 ط أولى دار الآفاق بيروت
(2) لسان العرب، والتبصرة بهامش فتح العلي 1 / 12، 116
(3) لسان العرب وفتح العلي المالك 1 / 217(6/183)
لِبَعْضٍ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّسَلُّطِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الإِْلْزَامُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ وَمَخْلُوقَاتِهِ، إِمَّا بِطَرِيقِ التَّسْخِيرِ، وَإِمَّا بِطَرِيقِ الْحُكْمِ وَالأَْمْرِ (1) .
وَقَدْ يَقَعُ الإِْلْزَامُ مِنَ النَّاسِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ بِتَسْلِيطِ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ بِطَرِيقِ الْوِلاَيَةِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ خَاصَّةً أَمْ عَامَّةً، وَحِينَئِذٍ قَدْ يَكُونُ الإِْلْزَامُ وَاجِبًا، فَإِنَّ الإِْمَامَ يَجِبُ عَلَيْهِ إِلْزَامُ النَّاسِ بِالأَْخْذِ بِشَرِيعَةِ الإِْسْلاَمِ، وَلَهُ سُلْطَةُ إِلْزَامِهِمْ بِالْقُوَّةِ وَحَمْلِهِمْ عَلَى فِعْل الْوَاجِبَاتِ وَتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ (2) . وَلَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِحَطَبٍ فَيُحْطَبَ، ثُمَّ آمُرَ بِالصَّلاَةِ فَتُقَامَ، ثُمَّ آمُرَ رَجُلاً فَيُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، ثُمَّ أَنْطَلِقَ مَعِي بِرِجَالٍ مَعَهُمْ حُزَمٌ مِنْ حَطَبٍ إِلَى قَوْمٍ لاَ يَشْهَدُونَ الصَّلاَةَ فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ بِالنَّارِ. (3) وَقَدْ قَاتَل أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ مَانِعِي الزَّكَاةِ (4) . وَمَنِ امْتَنَعَ مِنْ أَدَاءِ حُقُوقِ الآْدَمِيِّينَ مِنْ دُيُونِ وَغَيْرِهَا أُخِذَتْ مِنْهُ جَبْرًا إِذَا أَمْكَنَ، وَيُحْبَسُ بِهَا إِذَا تَعَذَّرَتْ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مُعْسِرًا فَيُنْظَرَ إِلَى مَيْسَرَتِهِ (5) .
بَل إِنَّ الشَّعَائِرَ الَّتِي لَيْسَتْ بِفَرْضٍ، فَإِنَّ لِلإِْمَامِ إِلْزَامَ النَّاسِ بِهَا كَمَا إِذَا اجْتَمَعَ أَهْل بَلَدٍ عَلَى تَرْكِ
__________
(1) المفردات للراغب، والموافقات للشاطبي 3 / 120 ط مصطفى محمد
(2) التبصرة بهامش فتح العلي المالك 2 / 132، 303، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 244 ط مصطفى الحلبي، والفواكه العديدة 2 / 9 ط المكتب الإسلامي
(3) حديث: " والذي نفسي بيده، لقد هممت. . . " أخرجه البخاري (الفتح 2 / 125 - ط السلفية) والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 246
(4) التبصرة 2 / 138
(5) المرجع السابق ص 247(6/183)
الأَْذَانِ، فَإِنَّ الإِْمَامَ أَوْ نَائِبَهُ يُقَاتِلُهُمْ، لأَِنَّهُ مِنْ شَعَائِرِ الإِْسْلاَمِ الظَّاهِرَةِ (1) . وَكَذَلِكَ الْقَاضِي وَالْمُحْتَسِبُ لَهُمْ هَذَا الْحَقُّ فِيمَا وُكِّل إِلَيْهِمْ (2) .
وَقَدْ يَكُونُ الإِْلْزَامُ حَرَامًا، وَذَلِكَ فِي الأَْمْرِ بِالظُّلْمِ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ (3) ، وَعَلَى ذَلِكَ فَمَنْ أَمَرَهُ الْوَالِي بِقَتْل رَجُلٍ ظُلْمًا أَوْ قَطْعِهِ أَوْ جَلْدِهِ أَوْ أَخْذِ مَالِهِ أَوْ بَيْعِ مَتَاعِهِ فَلاَ يَفْعَل شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ (4) .
وَقَدْ يَكُونُ الإِْلْزَامُ جَائِزًا كَإِلْزَامِ الْوَالِي بَعْضَ النَّاسِ بِالْمُبَاحَاتِ لِمَصْلَحَةٍ يَرَاهَا (5) ، وَإِلْزَامِ الرَّجُل زَوْجَتَهُ بِالاِمْتِنَاعِ عَنْ مُبَاحٍ (6) .
وَقَدْ يَكُونُ الإِْلْزَامُ مُسْتَحَبًّا، وَذَلِكَ عِنْدَمَا يَكُونُ مَوْضُوعُهُ مُسْتَحَبًّا، كَإِلْزَامِ الإِْمَامِ رَعِيَّتَهُ بِالاِجْتِمَاعِ عَلَى صَلاَةِ التَّرَاوِيحِ فِي الْمَسَاجِدِ (7) .
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ.
6 - تَتَعَدَّدُ مَوَاطِنُ الإِْلْزَامِ بِتَعَدُّدِ أَسْبَابِهِ، فَقَدْ يَكُونُ
__________
(1) منتهى الإرادات 1 / 124 ط دار الفكر، والمهذب 1 / 62 ط دار المعرفة
(2) التبصرة 1 / 12، 116، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 268
(3) حديث: " لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق " أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (5 / 226 - ط القدسي) بلفظ: " لا طاعة في معصية الله تبارك وتعالى "، وقال: رواه أحمد بألفاظ والطبراني وفي بعض طرقه: " لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ". ورجال أحمد رجال الصحيح "
(4) التبصرة 2 / 272
(5) التحفة 9 / 218 ط دار صادر، وخبايا الزوايا ص 121، 122
(6) المغني 7 / 19
(7) المهذب1 / 91(6/184)
بِسَبَبِ الإِْكْرَاهِ الْمُلْجِئِ عَلَى تَفْصِيلٍ فِيهِ. (ر: إِكْرَاه) .
وَمِنْ ذَلِكَ الْعُقُودُ الَّتِي يَكُونُ مِنْ آثَارِهَا الإِْلْزَامُ بِعَمَلٍ مُعَيَّنٍ كَالْبَيْعِ إِذَا تَمَّ، فَإِنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ إِلْزَامُ الْبَائِعِ بِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ وَإِلْزَامُ الْمُشْتَرِي بِتَسْلِيمِ الثَّمَنِ.
وَكَالإِْجَارَةِ إِذَا تَمَّتْ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا إِلْزَامُ الْمُسْتَأْجِرِ بِالْقِيَامِ بِالْعَمَل (ر: عَقْد - بَيْع - إِجَارَة) .
إِلْغَاءٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْلْغَاءُ مَصْدَرُ أَلْغَيْتُ الشَّيْءَ، أَيْ: أَبْطَلْتُهُ، وَمِنْهُ الأَْثَرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يُلْغِي طَلاَقَ الْمُكْرَهِ، أَيْ يُبْطِلُهُ (1) .
وَيُعَرِّفُهُ الأُْصُولِيُّونَ بِقَوْلِهِمْ: وُجُودُ الْحُكْمِ بِدُونِ الْوَصْفِ صُورَةً، وَحَاصِلُهُ عَدَمُ تَأْثِيرِ الْوَصْفِ أَيِ الْعِلَّةِ (2) .
وَيَأْتِي الإِْلْغَاءُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ بِمَعْنَى الإِْبْطَال وَالإِْسْقَاطِ وَالْفَسَادِ وَالْفَسْخِ، غَيْرَ أَنَّهُ لاَ بُدَّ فِي تَحَقُّقِ الإِْلْغَاءِ مِنْ قِيَامِ الْحَقِّ أَوِ الْمِلْكِ الَّذِي يُرَادُ إِلْغَاؤُهُ، إِذْ لاَ يَصِحُّ إِلْغَاءُ فِعْلٍ أَوْ شَيْءٍ لَمْ يُوجَدْ (3) .
وَيُطْلِقُهُ الأُْصُولِيُّونَ فِي تَقْسِيمِ الْمَصَالِحِ إِلَى مُعْتَبَرَةٍ، وَمُرْسَلَةٍ، وَمُلْغَاةٍ، وَيَقْصِدُونَ بِهَذِهِ الأَْخِيرَةِ مَا أَبْطَلَهُ الشَّرْعُ، كَإِلْغَاءِ مَا فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَالرِّبَا مِنْ مَصَالِحَ
__________
(1) المصباح المنير ولسان العرب في المادة
(2) التهانوي 5 / 1311
(3) الشرح الصغير 2 / 382(6/184)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الإِْبْطَال:
2 - الإِْبْطَال فِي اللُّغَةِ: إِفْسَادُ الشَّيْءِ وَإِزَالَتُهُ حَقًّا كَانَ ذَلِكَ الشَّيْءُ أَوْ بَاطِلاً (1) ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِل الْبَاطِل} . (2)
وَشَرْعًا: الْحُكْمُ عَلَى الشَّيْءِ بِالْبُطْلاَنِ (3) ، وَيَأْتِي عَلَى أَلْسِنَةِ الْفُقَهَاءِ بِمَعْنَى الْفَسْخِ وَالإِْسْقَاطِ وَالنَّقْصِ وَالإِْلْغَاءِ.
وَهُوَ بِهَذَا يَكُونُ بِمَعْنَى الإِْلْغَاءِ، إِلاَّ أَنَّ الإِْبْطَال قَدْ يَقَعُ قَبْل وُجُودِ الشَّيْءِ، وَلاَ يَكُونُ الإِْلْغَاءُ إِلاَّ بَعْدَ وُجُودِ الشَّيْءِ أَوْ فِعْلِهِ.
ب - الإِْسْقَاطُ:
3 - مِنْ مَعَانِي الإِْسْقَاطِ لُغَةً: الإِْزَالَةُ (4) ، وَهُوَ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ: إِزَالَةُ الْمِلْكِ أَوِ الْحَقِّ لاَ إِلَى مَالِكٍ أَوْ مُسْتَحِقٍّ، كَالطَّلاَقِ فَإِنَّهُ إِزَالَةُ مِلْكِ النِّكَاحِ، وَكَالْعِتْقِ فَإِنَّهُ إِزَالَةُ مِلْكِ الرَّقَبَةِ (5) .
وَعَلَى هَذَا يُوَافِقُ الإِْلْغَاءَ فِي كَوْنِهِ لاَ بُدَّ مِنْ قِيَامِ الْمِلْكِ وَالْحَقِّ الَّذِي يُرَادُ إِسْقَاطُهُ أَوْ إِلْغَاؤُهُ حَتَّى يَتَحَقَّقَ الإِْسْقَاطُ وَالإِْلْغَاءُ، فَيُقَال أَسْقَطَ عَنْهُ الرِّقَّ: أَلْغَاهُ، كَمَا أَنَّهُمَا يَكُونَانِ بِعِوَضٍ وَبِغَيْرِ عِوَضٍ.
__________
(1) تاج العروس ولسان العرب ومفردات الراغب الأصفهاني في المادة
(2) سورة الأنفال / 8
(3) القليوبي 2 / 191، 3 / 176 ط الحلبي
(4) مختار الصحاح وتاج العروس مادة: (سقط)
(5) تكملة رد المحتار على الدر المختار 2 / 347، والفروق للقرافي 2 / 110(6/185)
ج - الْفَسْخُ:
4 - الْفَسْخُ لُغَةً: النَّقْضُ، يُقَال فَسَخَ الشَّيْءَ يَفْسَخُهُ فَسْخًا فَانْفَسَخَ أَيْ: نَقَضَهُ فَانْتَقَضَ، وَتَفَاسَخَتِ الأَْقَاوِيل: تَنَاقَضَتْ، وَيُطْلَقُ اصْطِلاَحًا عَلَى حَل ارْتِبَاطِ الْعَقْدِ وَالتَّصَرُّفِ وَقَلْبِ كُل وَاحِدٍ مِنَ الْعِوَضَيْنِ لِصَاحِبِهِ، وَهُوَ بِهَذَا يَكُونُ فِيهِ مَعْنَى الإِْلْغَاءِ وَالإِْبْطَال (1) . وَقَدْ يُعَبِّرُ الْفُقَهَاءُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْوَاحِدَةِ تَارَةً بِالإِْلْغَاءِ وَالإِْبْطَال، وَتَارَةً بِالْفَسْخِ. غَيْرَ أَنَّ الْفَسْخَ غَالِبًا مَا يَكُونُ فِي الْعُقُودِ، وَيَقِل فِي الْعِبَادَاتِ، وَمِنْهُ: فَسْخُ الْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ، وَفَسْخُ نِيَّةِ الْفَرْضِ إِلَى النَّفْل، غَيْرَ أَنَّهُ يَكُونُ فِي الْعُقُودِ قَبْل تَمَامِهَا، وَعِنْدَ تَمَامِهَا بِشُرُوطٍ مِثْل خِيَارِ الشَّرْطِ وَخِيَارِ الرُّؤْيَةِ وَخِيَارِ الْعَيْبِ وَالإِْقَالَةِ (2) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
5 - أَجَازَ الْعُلَمَاءُ إِلْغَاءَ التَّصَرُّفَاتِ وَالْعُقُودِ غَيْرِ اللاَّزِمَةِ مِنْ جَانِبِ الْعَاقِدَيْنِ، أَمَّا فِي الْعُقُودِ اللاَّزِمَةِ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ فَإِنَّهُ يَصِحُّ الإِْلْغَاءُ مِنَ الْجَانِبِ الآْخَرِ غَيْرِ الْمُلْتَزَمِ بِهِ كَالْوَصِيَّةِ.
وَأَمَّا فِي الْعُقُودِ وَالتَّصَرُّفَاتِ الْمُلْزَمَةِ فَلاَ يَرِدُ عَلَيْهَا الإِْلْغَاءُ بَعْدَ نَفَاذِهَا إِلاَّ بِرَضِا الْعَاقِدَيْنِ، كَمَا فِي الإِْقَالَةِ، أَوْ بِوُجُودِ سَبَبٍ مَانِعٍ مِنِ اسْتِمْرَارِ الْعَقْدِ كَظُهُورِ الرَّضَاعِ بَيْنَ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ، وَقَدْ يَكُونُ هُنَا الإِْلْغَاءُ بِمَعْنَى الْفَسْخِ.
الإِْلْغَاءُ فِي الشُّرُوطِ:
6 - تَنْقَسِمُ الشُّرُوطُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الإِْلْغَاءِ إِلَى
__________
(1) لسان العرب في المادة، والفروق للقرافي 3 / 269، الأشباه والنظائر لابن نجيم 135، وقواعد ابن رجب ص 269 ط الخانجي، والقليوبي 2 / 275
(2) الأشباه والنظائر لابن نجيم ط الحلبي ص 135(6/185)
أَقْسَامٍ:
مِنْهَا شُرُوطٌ يُلْغَى بِهَا الْعَقْدُ مُطْلَقًا، لِمُخَالَفَتِهَا نَصًّا مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ، كَمَا لَوْ أَقْرَضَ وَاشْتَرَطَ رِبًا عَلَى الْقَرْضِ. وَمِنْهَا شُرُوطٌ لاَغِيَةٌ وَلاَ تُبْطِل الْعَقْدَ، كَمَا إِذَا بَاعَ ثَوْبًا عَلَى أَلاَّ يَبِيعَهُ الْمُشْتَرِي أَوْ لاَ يَهَبَهُ، جَازَ الْبَيْعُ وَيُلْغَى الشَّرْطُ كَمَا هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (1) .
وَشُرُوطٌ غَيْرُ لاَغِيَةٍ تَصِحُّ وَيَصِحُّ بِهَا الْعَقْدُ، لأَِنَّهَا تَوْثِيقٌ لِلْعَقْدِ، كَمَا إِذَا اشْتَرَطَ رَهْنًا أَوْ كَفِيلاً بِالْبَيْعِ (2) .
إِلْغَاءُ التَّصَرُّفَاتِ:
7 - تُلْغَى التَّصَرُّفَاتُ الَّتِي لاَ يُقِرُّهَا الشَّارِعُ، مِثْل رَهْنِ الْخَمْرِ وَبَيْعِ الْمَيْتَةِ وَنَذْرِ الْمَعْصِيَةِ، كَمَا تُلْغَى تَصَرُّفَاتُ عَدِيمِ الأَْهْلِيَّةِ كَالْمَجْنُونِ (3) وَالسَّفِيهِ، عَلَى تَفْصِيلٍ (ر: حَجْر) .
الإِْلْغَاءُ فِي الإِْقْرَارِ:
8 - وَذَلِكَ إِذَا كَذَّبَهُ الظَّاهِرُ، أَوْ كَذَّبَ الْمُقِرُّ نَفْسَهُ، أَوْ رَجَعَ فِيمَا يَحِقُّ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهِ وَهُوَ حُقُوقُ اللَّهِ. وَمِنْهَا الْحُدُودُ (4) ، وَتَفْصِيلُهُ فِي (الإِْقْرَار) .
إِلْغَاءُ الْفَارِقِ الْمُؤَثِّرِ بَيْنَ الأَْصْل وَالْفَرْعِ:
9 - وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ اتِّحَادَ الْحُكْمِ بَيْنَهُمَا (ر: إِلْغَاءُ الْفَارِقِ) . (5)
__________
(1) البدائع 5 / 170
(2) مغني المحتاج 2 / 52، 3 / 212، ومنتهى الإرادات 2 / 22، الخرشي 2 / 438
(3) الشرح الصغير 4 / 140
(4) قليوبي 3 / 4، 6
(5) جمع الجوامع 2 / 293(6/186)
إِلْغَاءُ الْفَارِقِ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْلْغَاءُ فِي اللُّغَةِ هُوَ: الإِْبْطَال. وَالْفَارِقُ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ فَرَّقَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ: إِذَا فَصَل بَيْنَهُمَا. (1)
وَإِلْغَاءُ الْفَارِقِ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ: بَيَانُ عَدَمِ تَأْثِيرِ الْفَارِقِ بَيْنَ الأَْصْل وَالْفَرْعِ فِي الْقِيَاسِ، فَيَثْبُتُ الْحُكْمُ لِمَا اشْتَرَكَا فِيهِ، وَذَلِكَ كَإِلْحَاقِ الأَْمَةِ بِالْعَبْدِ فِي سِرَايَةِ الْعِتْقِ مِنْ بَعْضِهِ إِلَى سَائِرِهِ. وَهَذِهِ السِّرَايَةُ فِي الْعَبْدِ ثَابِتَةٌ بِحَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ: مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ فَكَانَ لَهُ مَالٌ يَبْلُغُ ثَمَنَ الْعَبْدِ قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيمَةَ عَدْلٍ فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ وَعَتَقَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ، وَإِلاَّ فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ (2) فَالْفَارِقُ بَيْنَ الأَْمَةِ وَالْعَبْدِ هُوَ الأُْنُوثَةُ، وَلاَ تَأْثِيرَ لَهَا فِي السِّرَايَةِ وَمِنْهُ أَيْضًا أَنَّ الآْيَة: {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} (3) تَقْتَضِي حَدَّ قَاذِفِ الْمَرْأَةِ الْمُحْصَنَةِ، وَسَكَتَتْ عَنْ قَذْفِ الرِّجَال الْمُحْصَنِينَ، فَيَلْحَقُونَ بِهِنَّ، لأَِنَّ الْفَارِقَ الأُْنُوثَةُ وَهِيَ مُلْغَاةٌ، أَيْ لاَ أَثَرَ لَهَا فِي الْحُكْمِ. (4) وَبَعْضُهُمْ عَبَّرَ عَنْهُ بِنَفْيِ الْفَارِقِ. وَشَبِيهٌ بِهِ: " إِلْغَاءُ التَّفَاوُتِ " (5) وَمُقَابِلُهُ: إِبْدَاءُ الْفَارِقِ، أَوْ
__________
(1) المصباح المنير مادة: (لغو - فرق)
(2) حديث: " من أعتق شركا له. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 5 / 151 ط السلفية) ومسلم (3 / 1286 - ط الحلبي)
(3) سورة النور / 4
(4) جمع الجوامع بشرحه للمحلي 2 / 293 ط عيسى الحلبي
(5) البحر المحيط في الأصول للزركشي (مسالك العلة - مسلك السبر والتقسيم فما بعده) ، وشرح جمع الجوامع 2 / 341، 339(6/186)
إِبْدَاءُ الْخُصُوصِيَّةِ أَوِ الْفَرْقِ. وَهُوَ مِنْ قَوَادِحِ الْعِلَّةِ.
وَيُسَمَّى الْقِيَاسُ الْمُعْتَمِدُ عَلَى إِلْغَاءِ الْفَارِقِ " الْقِيَاسَ فِي مَعْنَى الأَْصْل " أَوِ " قِيَاسَ الْمَعْنَى " (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
2 - هُنَاكَ مُصْطَلَحَانِ أُصُولِيَّانِ مُلْتَبِسَانِ بِإِلْغَاءِ الْفَارِقِ أَشَدَّ الْتِبَاسٍ وَأَخْفَاهُ.
أَوَّلُهُمَا: تَنْقِيحُ الْمَنَاطِ. وَيُسَمِّيهِ الْحَنَفِيَّةُ الاِسْتِدْلاَل، وَهُوَ أَنْ يَدُل نَصٌّ ظَاهِرٌ عَلَى التَّعْلِيل بِوَصْفٍ، فَيُحْذَفَ خُصُوصُهُ عَنِ الاِعْتِبَارِ بِالاِجْتِهَادِ، وَيُنَاطَ الْحُكْمُ بِالأَْعَمِّ، أَوْ كَكَوْنِ أَوْصَافٍ فِي مَحَل الْحُكْمِ، فَيُحْذَفُ بَعْضُهَا عَنِ الاِعْتِبَارِ بِالاِجْتِهَادِ وَيُنَاطُ الْحُكْمُ بِالْبَاقِي.
وَثَانِيهِمَا: السَّبْرُ وَالتَّقْسِيمُ. وَهُوَ حَصْرُ الأَْوْصَافِ الْمَوْجُودَةِ فِي الأَْصْل الْمَقِيسِ عَلَيْهِ وَإِبْطَال مَا لاَ يَصْلُحُ مِنْهَا لِلْعِلِّيَّةِ، فَيَتَعَيَّنُ الْبَاقِي لَهَا. وَالْفَرْقُ بَيْنَ تَنْقِيحِ الْمَنَاطِ وَالسَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ أَنَّ الْوَصْفَ فِي تَنْقِيحِ الْمَنَاطِ فِي شِقِّهِ الأَْوَّل مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ، بِخِلاَفِهِ فِي السَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ، وَفِي الشِّقِّ الثَّانِي مِنْهُ: إِنَّمَا هُوَ فِي حَذْفِ مَا لاَ يَصْلُحُ لِلْعِلِّيَّةِ وَفِي تَعْيِينِ الْبَاقِي لَهَا، وَفِي السَّبْرِ الاِجْتِهَادُ فِي الْحَذْفِ فَقَطْ، فَيَتَعَيَّنُ الْبَاقِي لِلْعِلِّيَّةِ. وَإِلْغَاءُ الْفَارِقِ قَرِيبٌ مِنَ السَّبْرِ إِلاَّ أَنَّهُ فِي السَّبْرِ يُبْطِل الْجَمِيعَ إِلاَّ وَاحِدًا، وَفِي إِلْغَاءِ الْفَارِقِ يَبْطُل وَاحِدٌ فَتَتَعَيَّنُ الْعِلَّةُ بَيْنَ الْبَاقِي، وَالْبَاقِي مَوْجُودٌ فِي الْفَرْعِ فَيَلْزَمُ اشْتِمَالُهُ عَلَى الْعِلَّةِ. (2)
__________
(1) شرح جمع الجوامع 2 / 319، 341 وتسهيل الفصول ص 224 ط الأولى
(2) شرح جمع الجوامع 2 / 270، 292، والبحر المحيط للزركشي، تنقيح المناط، والتنبيه الذي عقبه، والمحصول للرازي، (القسم الثاني من الجزء الثاني ص 316 ط جامعة الإمام محمد بن سعود)(6/187)
وَيَبْدُو مِنْ تَعْرِيفَيْ إِلْغَاءِ الْفَارِقِ وَتَنْقِيحِ الْمَنَاطِ أَنَّ الْمُلْغَى فِي إِلْغَاءِ الْفَارِقِ وَصْفٌ مَوْجُودٌ فِي الْفَرْعِ، بِخِلاَفِ الْمُلْغَى فِي تَنْقِيحِ الْمَنَاطِ فَهُوَ وَصْفٌ فِي الأَْصْل الْمَقِيسِ عَلَيْهِ، كَمَا أَنَّ إِلْغَاءَ الْفَارِقِ لَيْسَ فِيهِ تَعْيِينٌ لِلْعِلَّةِ، وَإِنَّمَا يَحْصُل الإِْلْحَاقُ بِمُجَرَّدِ الإِْلْغَاءِ، بِخِلاَفِ تَنْقِيحِ الْمَنَاطِ فَفِيهِ اجْتِهَادٌ فِي تَعْيِينِ الْبَاقِي مِنَ الأَْوْصَافِ لِلْعِلِّيَّةِ.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
3 - اخْتَلَفَ الأُْصُولِيُّونَ فِي عَدِّ إِلْغَاءِ الْفَارِقِ مِنْ مَسَالِكِ الْعِلَّةِ، فَذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ كَصَاحِبِ كِتَابِ الْمُقْتَرَحِ، وَابْنِ السُّبْكِيِّ فِي جَمْعِ الْجَوَامِعِ، بَل ذَكَرَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي كِتَابِ " رَوْضَةِ النَّاظِرِ " الْخِلاَفَ فِي تَسْمِيَةِ إِلْحَاقِ الْمَسْكُوتِ بِالْمَنْطُوقِ قِيَاسًا إِذَا كَانَ طَرِيقُهُ نَفْيَ الْفَارِقِ الْمُؤَثِّرِ عَلَى سَبِيل الْقَطْعِ. (1) وَلَمْ يَعُدَّهُ أَحَدٌ مِنَ الْجَدَلِيِّينَ مِنْ مَسَالِكِ التَّعْلِيل. (2) وَتَمَامُ الْكَلاَمِ عَلَيْهِ مَحَلُّهُ الْمُلْحَقُ الأُْصُولِيُّ.
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
4 - ذَكَرَ بَعْضُ الأُْصُولِيِّينَ إِلْغَاءَ الْفَارِقِ فِي مَبْحَثِ الْعِلَّةِ مِنْ مَبَاحِثِ الْقِيَاسِ عِنْدَ كَلاَمِهِمْ عَلَى مَسَالِكِ الْعِلَّةِ، كَمَا ذَكَرُوهُ فِي تَقْسِيمِ الْقِيَاسِ إِلَى جَلِيٍّ وَخَفِيٍّ، حَيْثُ إِنَّ الْجَلِيَّ مَا قُطِعَ فِيهِ بِنَفْيِ الْفَارِقِ، أَوْ كَانَ تَأْثِيرُ الْفَارِقِ فِيهِ احْتِمَالاً ضَعِيفًا، وَالْخَفِيُّ بِخِلاَفِهِ. كَمَا ذَكَرُوهُ فِي تَقْسِيمِ الْقِيَاسِ بِاعْتِبَارِ عِلَّتِهِ إِلَى قِيَاسِ عِلَّةٍ وَقِيَاسِ دَلاَلَةٍ وَقِيَاسٍ فِي مَعْنَى الأَْصْل، وَأَنَّ الْقِيَاسَ فِي مَعْنَى الأَْصْل هُوَ مَا
__________
(1) روضة الناظر ص 154 - 155 ط السلفية بالقاهرة
(2) البحر المحيط للزركشي، وشرح جمع الجوامع 2 / 293(6/187)
يَكُونُ الْقِيَاسُ بِإِلْغَاءِ الْفَارِقِ فِيهِ. (1)
إِلْهَامٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْلْهَامُ لُغَةً: مَصْدَرُ أَلْهَمَ، يُقَال: أَلْهَمَهُ اللَّهُ خَيْرًا أَيْ لَقَّنَهُ إِيَّاهُ، وَالإِْلْهَامُ أَنْ يُلْقِيَ اللَّهُ فِي النَّفْسِ أَمْرًا يَبْعَثُ عَلَى الْفِعْل أَوِ التَّرْكِ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ الْوَحْيِ يَخُصُّ اللَّهُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ. (2)
وَعِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ: إِيقَاعُ شَيْءٍ فِي الْقَلْبِ يَطْمَئِنُّ لَهُ الصَّدْرُ يَخُصُّ بِهِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بَعْضَ أَصْفِيَائِهِ (3) .
وَقَدْ عَدَّ الأُْصُولِيِّينَ الإِْلْهَامَ نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ الْوَحْيِ إِلَى الأَْنْبِيَاءِ، وَفِي كِتَابِ التَّقْرِيرِ وَالتَّحْبِيرِ عَنِ الإِْلْهَامِ مِنَ اللَّهِ لِرَسُولِهِ: أَنَّهُ إِلْقَاءُ مَعْنًى فِي الْقَلْبِ بِلاَ وَاسِطَةِ عِبَارَةِ الْمَلَكِ وَإِشَارَتِهِ مَقْرُونٍ بِخَلْقِ عِلْمٍ ضَرُورِيٍّ أَنَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى مِنْهُ تَعَالَى (4) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْوَسْوَسَةُ:
2 - الْوَسْوَسَةُ: إِلْقَاءُ مَعْنًى فِي النَّفْسِ بِمُبَاشَرَةِ سَبَبٍ نَشَأَ مِنَ الشَّيْطَانِ لَهُ (5) .
__________
(1) شرح الكوكب المنير ص 325 ط السنة المحمدية، وشرح جمع الجوامع 2 / 339، 341
(2) لسان العرب، كشاف اصطلاحات الفنون: باب اللام فصل الميم
(3) جمع الجوامع 2 / 356 ط الحلبي
(4) التقرير والتحبير 3 / 295 ط بولاق الأولى
(5) كشاف اصطلاحات الفنون (لهم) ، والعقائد النسفية وحواشيها ص 41 ط الحلبي(6/188)
ب - التَّحَرِّي:
3 - التَّحَرِّي فِيهِ بَذْل جَهْدٍ وَإِعْمَال فِكْرٍ، أَمَّا الإِْلْهَامُ فَيَقَعُ بِلاَ كَسْبٍ. (1)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
4 - يَتَّفِقُ الأُْصُولِيُّونَ عَلَى أَنَّ الإِْلْهَامَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لأَِنْبِيَائِهِ حَقٌّ، وَهُوَ بِالنِّسْبَةِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُجَّةٌ فِي حَقِّهِ، كَذَلِكَ هُوَ فِي حَقِّ أُمَّتِهِ، وَيَكْفُرُ مُنْكِرُ حَقِيقَتِهِ، وَيَفْسُقُ تَارِكُ الْعَمَل بِهِ كَالْقُرْآنِ. (2)
أَمَّا إِلْهَامُ غَيْرِ الأَْنْبِيَاءِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، لأَِنَّ مَنْ لَيْسَ مَعْصُومًا لاَ ثِقَةَ بِخَوَاطِرِهِ لأَِنَّهُ لاَ يَأْمَنُ مِنْ دَسِيسَةِ الشَّيْطَانِ فِيهَا، وَهُوَ قَوْل جُمْهُورِ أَهْل الْعِلْمِ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَلاَ عِبْرَةَ بِمَا قَالَهُ قَوْمٌ مِنَ الصُّوفِيَّةِ بِأَنَّهُ حُجَّةٌ فِي الأَْحْكَامِ.
وَقِيل: هُوَ حُجَّةٌ عَلَى الْمُلْهَمِ لاَ عَلَى غَيْرِهِ، إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مُعَارِضٌ مِنْ نَصٍّ أَوِ اجْتِهَادٍ أَوْ خَاطِرٍ آخَرَ، وَهَذَا ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، فَيَجِبُ الْعَمَل بِهِ فِي حَقِّ الْمُلْهَمِ، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَدْعُوَ غَيْرَهُ إِلَيْهِ.
وَاعْتَمَدَهُ الإِْمَامُ الرَّازِيُّ فِي أَدِلَّةِ الْقِبْلَةِ، وَابْنُ الصَّبَّاغِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ. (3)
وَهَل هُوَ فِي حَقِّ الأَْنْبِيَاءِ مِنَ الْوَحْيِ الظَّاهِرِ أَمِ الْوَحْيِ الْبَاطِنِ؟ خِلاَفٌ بَيْنَ الأُْصُولِيِّينَ. (4)
__________
(1) ابن عابدين 1 / 290 ط بولاق الأولى، البحر الرائق 1 / 302 ط العلمية
(2) جمع الجوامع 2 / 356
(3) جمع الجوامع 2 / 356، والتقرير والتحبير 3 / 295،296
(4) التقرير والتحبير 3 / 396، مسلم الثبوت 2 / 370(6/188)
أُولُو الأَْرْحَامِ
انْظُرْ: أَرْحَام.
أُولُو الأَْمْرِ
التَّعْرِيفُ:
1 - " أُولُو " مِنَ الأَْلْفَاظِ الْمُلاَزِمَةِ لِلإِْضَافَةِ، نَحْوَ: أُولُو الرَّأْيِ، أَيْ أَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَهُوَ اسْمُ جَمْعٍ وَاحِدُهُ " ذُو " (1) وَلَيْسَ لَهُ مُفْرَدٌ مِنْ لَفْظِهِ.
وَالأَْمْرُ فِي اللُّغَةِ: يَكُونُ بِمَعْنَى: طَلَبِ الْفِعْل عَلَى طَرِيقِ الاِسْتِعْلاَءِ، وَجَمْعُهُ أَوَامِرُ، وَيَكُونُ بِمَعْنَى: الشَّأْنِ وَالْحَال، وَجَمْعُهُ أُمُورٌ. (2)
وَأُولُو الأَْمْرِ: الرُّؤَسَاءُ وَالْعُلَمَاءُ (3) .
وَقَدْ وَرَدَ فِي أُولِي الأَْمْرِ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُول وَأُولِي الأَْمْرِ مِنْكُمْ} . (4)
2 - وَأَصَحُّ الأَْقْوَال الْوَارِدَةِ فِي الْمُرَادِ بِأُولِي الأَْمْرِ قَوْلاَنِ:
(الأَْوَّل) أَهْل الْقُرْآنِ وَالْعِلْمِ وَهُوَ اخْتِيَارُ مَالِكٍ، وَنَحْوُهُ قَوْل ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالضَّحَّاكِ، وَمُجَاهِدٍ،
__________
(1) الكليات لأبي البقاء حرف الألف واللام 1 / 270، والقاموس المحيط باب الألف اللينة 4 / 410
(2) الكليات لأبي البقاء 1 / 292 - 293
(3) القاموس المحيط 1 / 379، ومحيط المحيط مادة: (أمر) ، والكليات لأبي البقاء 1 / 270، 1 / 301
(4) سورة النساء / 59(6/189)
وَعَطَاءٍ قَالُوا: هُمُ الْفُقَهَاءُ وَالْعُلَمَاءُ فِي الدِّينِ. ذَلِكَ لأَِنَّ أَصْل الأَْمْرِ مِنْهُمْ وَالْحُكْمُ إِلَيْهِمْ. (1)
(الثَّانِي) قَال الطَّبَرِيُّ عَنْهُ: هُوَ أَوْلَى الأَْقْوَال بِالصَّوَابِ: هُمُ الأُْمَرَاءُ وَالْوُلاَةُ، لِصِحَّةِ الأَْخْبَارِ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالأَْمْرِ بِطَاعَةِ الأَْئِمَّةِ وَالْوُلاَةِ، فِيمَا كَانَ لِلَّهِ طَاعَةً وَلِلْمُسْلِمِينَ مَصْلَحَةً. (2)
وَيَشْمَل أُمَرَاءَ الْمُسْلِمِينَ فِي عَهْدِ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَعْدَهُ، وَيَنْدَرِجُ فِيهِمُ الْخُلَفَاءُ وَالسَّلاَطِينُ وَالأُْمَرَاءُ وَالْقُضَاةُ وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ لَهُ وِلاَيَةٌ عَامَّةٌ.
كَمَا أَنَّ مِنْهُمْ أُمَرَاءَ السَّرَايَا، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَمَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ وَابْنِ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
هَذَا، وَقَدْ حَمَلَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى مَا يَعُمُّ الْجَمِيعَ، لِتَنَاوُل الاِسْمِ لَهُمْ، لأَِنَّ لِلأُْمَرَاءِ تَدْبِيرَ الْجَيْشِ وَالْقِتَال، وَلِلْعُلَمَاءِ حِفْظَ الشَّرِيعَةِ وَبَيَانَ مَا يَجُوزُ مِمَّا لاَ يَجُوزُ. (3)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أَوْلِيَاءُ الأُْمُورِ:
3 - يَشْمَل أَوْلِيَاءُ الأُْمُورِ كُل مَنْ لَهُ وِلاَيَةٌ عَلَى غَيْرِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ عَامَّةً أَمْ خَاصَّةً، وَمِنْ ذَلِكَ وَلِيُّ الْيَتِيمِ، وَالْقَيِّمُ عَلَى الْمَجْنُونِ، وَوَلِيُّ الْمَرْأَةِ فِي الزَّوَاجِ، فَضْلاً عَمَّنْ سَبَقَ ذِكْرُهُمْ مِنْ أَصْحَابِ
__________
(1) تفسير القرطبي 5 / 258 - 261 ط وزارة التربية بمصر
(2) تفسير الطبري 8 / 495، وما بعدها، وأحكام القرآن لعماد الدين بن محمد الطبري المعروف بالكيا الهراس 2 / 420 - 425 ط دار الكتب الحديثة بمصر
(3) تفسير روح المعاني (الألوسي) 5 / 65، 66 ط المطبعة المنيرية بدمشق(6/189)
الْوِلاَيَةِ الْعَامَّةِ مِنَ الْخَلِيفَةِ فَمَنْ دُونَهُ (1) .
الشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي أُولِي الأَْمْرِ إِجْمَالاً:
4 - يُشْتَرَطُ فِيمَنْ يُوَلَّى الْخِلاَفَةَ - وَهِيَ أَعْلَى دَرَجَاتِ أُولِي الأَْمْرِ: الإِْسْلاَمُ، وَالْحُرِّيَّةُ، وَالْبُلُوغُ، وَالْعَقْل، وَالذُّكُورَةُ، وَالْعِلْمُ، وَالْعَدَالَةُ بِشُرُوطِهَا الْجَامِعَةِ، وَالْكِفَايَةُ.
فَالْعِلْمُ يُقْصَدُ بِهِ: الْعِلْمُ الْمُؤَدِّي إِلَى التَّصَرُّفِ الْمَشْرُوعِ فِي الأُْمُورِ الْعَامَّةِ.
وَالْعَدَالَةُ يُقْصَدُ بِهَا هَاهُنَا: الاِسْتِقَامَةُ فِي السِّيرَةِ وَالتَّجَنُّبُ لِلْمَعَاصِي.
وَالْكِفَايَةُ يُقْصَدُ بِهَا: أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى إِقَامَةِ الْحُدُودِ، بَصِيرًا بِالْحُرُوبِ، كَفِيلاً بِحَمْل النَّاسِ عَلَيْهَا، مَعَ سَلاَمَةِ الْحَوَاسِّ كَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَاللِّسَانِ، لِيَصِحَّ مَعَهَا مُبَاشَرَةُ مَا يُدْرَكُ بِهَا، وَالْمَقْصُودُ سَلاَمَتُهَا مِمَّا يُؤَثِّرُ فِي الرَّأْيِ وَالْعَقْل، وَمِنْ سَلاَمَةِ الأَْعْضَاءِ مِنْ نَقْصٍ يَمْنَعُ عَنِ اسْتِيفَاءِ الْحَرَكَةِ وَسُرْعَةِ النُّهُوضِ، وَالْمَقْصُودُ سَلاَمَتُهَا مِمَّا يُؤَثِّرُ فِي الرَّأْيِ وَالْعَمَل، وَيَكُونُ مُتَّصِفًا بِالشَّجَاعَةِ وَالنَّجْدَةِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَى حِمَايَةِ الْبَيْضَةِ، وَجِهَادِ الْعَدُوِّ، وَأَنْ يَكُونَ ذَا رَأْيٍ يُؤَهِّلُهُ لِسِيَاسَةِ الرَّعِيَّةِ، وَتَدْبِيرِ الْمَصَالِحِ، قَيِّمًا بِأَمْرِ الْحَرْبِ وَالسِّيَاسَةِ وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ، لاَ تَلْحَقُهُ رَأْفَةٌ فِي ذَلِكَ. (2)
__________
(1) لسان العرب 3 / 985، مادة " ولي "، والتعريفات الفقهية ص 528، وحاشية ابن عابدين 3 / 54 - 56 ط مصطفى الحلبي بمصر، وحاشية الدسوقي 2 / 321 وما بعدها، ونهاية المحتاج 6 / 222 - 263
(2) الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 4، 6، 20 وما بعدها ط الحلبي بمصر، والأحكام السلطانية للماوردي ص 5، 6 ط بيروت / لبنان، ومقدمة ابن خلدون 522، 524، ومنتهى الإرادات 2 / 495، وشرح العقائد النسفية ص 185، والمغني في أبواب التوحيد ج 20 - القسم الأول ص 201، 207 - 215، ورد المحتار على الدر المختار 1 / 368، وحاشية الدسوقي 1 / 325 وما بعدها، وشرح المنهاج 4 / 172، 173، 217 ط مصطفى الحلبي بمصر(6/190)
أَمَّا مَنْ دُونَ الْخَلِيفَةِ مِنْ أُولِي الأَْمْرِ فَلَهُمْ شُرُوطٌ أَقَل مِمَّا ذُكِرَ، بِحَسَبِ مَا يَلُونَهُ مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ، وَتُعْرَفُ فِي أَبْوَابِ الْقَضَاءِ وَالْجِهَادِ وَنَحْوِهِمَا. (1) وَمَرْجِعُهَا إِلَى تَوَافُرِ الْقُوَّةِ وَالأَْمَانَةِ. قَال اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَْمِينُ} . (2)
5 - مَا يَجِبُ لأُِولِي الأَْمْرِ عَلَى الرَّعِيَّةِ:
(1) - (طَاعَةُ أُولِي الأَْمْرِ) :
دَلَّتِ النُّصُوصُ مِنَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ عَلَى وُجُوبِ طَاعَةِ أُولِي الأَْمْرِ، وَأَنَّ مَعْصِيَتَهُمْ حَرَامٌ، وَلَكِنَّ الطَّاعَةَ الْوَاجِبَ عَلَى الأُْمَّةِ التَّقَيُّدُ بِهَا لَيْسَتْ طَاعَةً مُطْلَقَةً. وَإِنَّمَا هِيَ طَاعَةٌ فِي حُدُودِ الشَّرْعِ.
وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالطَّاعَةِ لأُِولِي الأَْمْرِ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُول وَأُولِي الأَْمْرِ مِنْكُمْ} (3) وَتُسَمَّى هَذِهِ الآْيَةُ (آيَةَ الأُْمَرَاءِ) .
وَالطَّاعَةُ أَمْرٌ أَسَاسِيٌّ لِوُجُودِ الاِنْضِبَاطِ فِي الدَّوْلَةِ.
وَالطَّاعَةُ: امْتِثَال الأَْمْرِ. وَهِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ أَطَاعَ إِذَا انْقَادَ.
وَوُجُوبُ طَاعَةِ اللَّهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ مُسْتَفَادٌ مِنْ قَوْله تَعَالَى {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُول} لأَِنَّ
__________
(1) السياسة الشرعية لابن تيمية
(2) سورة القصص / 26
(3) سورة النساء / 59(6/190)
أَطِيعُوا) أَمْرٌ، وَالأَْمْرُ يَتَعَيَّنُ لِلْوُجُوبِ إِذَا حَفَّتْ بِهِ قَرِينَةٌ تَصْرِفُ إِلَيْهِ، وَقَدْ تَضَمَّنَ النَّصُّ قَرِينَةً جَازِمَةً تَصْرِفُ الأَْمْرَ إِلَى الْوُجُوبِ، وَذَلِكَ بِرَبْطِ الطَّاعَةِ بِالإِْيمَانِ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ أَيْ حَقِيقَةً (1) .
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَمَرَ بِالطَّاعَةِ طَاعَةً مُطْلَقَةً غَيْرَ مُقَيَّدَةٍ، ثُمَّ جَاءَتِ السُّنَّةُ تُقَيِّدُ الطَّاعَةَ بِمَا لاَ يَكُونُ مَعْصِيَةً، فَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ الطَّاعَةُ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ، إِلاَّ أَنْ يُؤْمَرَ بِمَعْصِيَةٍ، فَإِذَا أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلاَ سَمْعَ وَلاَ طَاعَةَ. (2)
وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: لاَ طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ (3) وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَمَنْ أَطَاعَ أَمِيرِي فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللَّهَ، وَمَنْ عَصَى أَمِيرِي فَقَدْ عَصَانِي (4)
__________
(1) تفسير الطبري 5 / 147، 148، وأحكام القرآن لابن العربي 1 / 251، 252، والقرطبي 5 / 259، 261، وروح المعاني للألوسي 5 / 65، 66، ورد المحتار 1 / 559، 3 / 311، 4 / 344، والأحكام السلطانية للماوردي ص 17، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 30
(2) حديث: " على المرء المسلم الطاعة فيما أحب وكره، إلا أن يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة. . . " أخرجه البخاري (الفتح 13 / 121 ط السلفية) ومسلم (3 / 1469 - ط الحلبي)
(3) حديث: " لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. . . " أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (5 / 226 - ط القدسي) بلفظ: " لا طاعة في معصية الله تبارك وتعالى " وقال: رواه أحمد بألفاظ والطبراني وفي بعض طرقه: ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ورجال أحمد رجال الصحيح
(4) حديث: " من أطاعني فقد أطاع الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصاني. . . " أخرجه البخاري (الفتح 13 / 111 ط السلفية) ومسلم (3 / 1466 - ط الحلبي)(6/191)
وَيَقُول الطَّبَرِيُّ: إِنَّ الَّذِينَ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِطَاعَتِهِمْ فِي الآْيَةِ (وَأُولِي الأَْمْرِ مِنْكُمْ) هُمُ الأَْئِمَّةُ وَمَنْ وَلاَّهُ الْمُسْلِمُونَ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنَ النَّاسِ. (1)
(2) أَنْ يُفَوِّضُوا الأَْمْرَ إِلَيْهِمْ وَإِلَى أَهْل الْعِلْمِ بِالدِّينِ وَأَهْل الْخِبْرَةِ وَيَكِلُوهُ إِلَى تَدْبِيرِهِمْ، حَتَّى لاَ تَخْتَلِفَ الآْرَاءُ. (2) قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُول وَإِلَى أُولِي الأَْمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} . (3)
(3) النُّصْرَةُ لأُِولِي الأَْمْرِ فِي غَيْرِ الْمَعْصِيَةِ.
(4) النُّصْحُ لَهُمْ: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الدِّينُ النَّصِيحَةُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِكِتَابِهِ وَلأَِئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ. (4)
وَاجِبَاتُ أُولِي الأَْمْرِ:
6 - يَجِبُ عَلَيْهِمُ التَّصَرُّفُ بِمَا فِيهِ الْمَصْلَحَةُ الْعَامَّةُ لِلْمُسْلِمِينَ، كُلٌّ فِي مَجَالِهِ وَبِحَسَبِ سُلْطَتِهِ. وَفِي ذَلِكَ الْقَاعِدَةُ الشَّرْعِيَّةُ " التَّصَرُّفُ عَلَى الرَّعِيَّةِ مَنُوطٌ بِالْمَصْلَحَةِ " وَبِالتَّفْصِيل مَا يَلِي:
(1) حِفْظُ الدِّينِ عَلَى أُصُولِهِ الْمُسْتَقِرَّةِ وَمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ سَلَفُ الأُْمَّةِ، فَإِنْ زَاغَ ذُو شُبْهَةٍ عَنْهُ أَوْضَحَ لَهُ الْحُجَّةَ، وَبَيَّنَ لَهُ الصَّوَابَ، وَأَخَذَهُ بِمَا يَلْزَمُهُ مِنَ
__________
(1) فتح الباري 13 / 111، 112، ورد المحتار على الدر المختار 1 / 559، 3 / 234، 3 / 310، وشرح المنهاج 4 / 217، وتفسير الطبري 8 / 495 وما بعدها
(2) الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 31
(3) سورة النساء / 83
(4) الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 12، 31، والأحكام السلطانية للماوردي ص17. وحديث: " الدين النصيحة " أخرجه مسلم (1 / 74 - ط الحلبي)(6/191)
الْحُقُوقِ وَالْحُدُودِ، لِيَكُونَ الدِّينُ مَحْرُوسًا مِنَ الْخَلَل، وَالأُْمَّةُ مَمْنُوعَةً مِنَ الزَّلَل.
(2) تَنْفِيذُ الأَْحْكَامِ بَيْنَ الْمُتَشَاجِرِينَ وَقَطْعُ الْخِصَامِ بَيْنَهُمْ، حَتَّى تَظْهَرَ النَّصَفَةُ، فَلاَ يَتَعَدَّى ظَالِمٌ وَلاَ يَضْعُفُ مَظْلُومٌ.
(3) حِمَايَةُ الدَّوْلَةِ وَالذَّبُّ عَنِ الْحَوْزَةِ، لِيَتَصَرَّفَ النَّاسُ فِي الْمَعَايِشِ، وَيَنْتَشِرُوا فِي الأَْسْفَارِ آمَنِينَ.
(4) إِقَامَةُ الْحُدُودِ، لِتُصَانَ مَحَارِمُ اللَّهِ تَعَالَى عَنِ الاِنْتِهَاكِ، وَتُحْفَظَ حُقُوقُ عِبَادِهِ مِنْ إِتْلاَفٍ وَاسْتِهْلاَكٍ.
(5) تَحْصِينُ الثُّغُورِ بِالْعُدَّةِ الْمَانِعَةِ وَالْقُوَّةِ الدَّافِعَةِ، حَتَّى لاَ يَظْفَرَ الأَْعْدَاءُ بِثُغْرَةٍ يَنْتَهِكُونَ بِهَا مَحْرَمًا، وَيَسْفِكُونَ فِيهَا دَمًا لِمُسْلِمٍ أَوْ مُعَاهَدٍ.
(6) جِهَادُ مَنْ عَانَدَ الإِْسْلاَمَ بَعْدَ الدَّعْوَةِ حَتَّى يُسْلِمَ، أَوْ يَدْخُل فِي الذِّمَّةِ.
(7) قِتَال أَهْل الْبَغْيِ وَالْمُحَارِبِينَ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ، وَتَوْقِيعُ الْمُعَاهَدَاتِ وَعُقُودِ الذِّمَّةِ وَالْهُدْنَةِ وَالْجِزْيَةِ. (1)
وَالتَّفْصِيل مَوْطِنُهُ مُصْطَلَحُ (الإِْمَامَةُ الْكُبْرَى) .
(8) تَعْيِينُ الْوُزَرَاءِ، وَوِلاَيَتُهُمْ عَامَّةٌ فِي الأَْعْمَال الْعَامَّةِ لأَِنَّهُمْ يُسْتَنَابُونَ فِي جَمِيعِ الأُْمُورِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ.
(9) تَعْيِينُ الأُْمَرَاءِ (الْمُحَافِظِينَ) لِلأَْقَالِيمِ، وَوِلاَيَتُهُمْ عَامَّةٌ فِي أَعْمَالٍ خَاصَّةٍ، لأَِنَّ النَّظَرَ فِيمَا خُصُّوا بِهِ مِنَ الأَْعْمَال عَامٌّ فِي جَمِيعِ الأُْمُورِ.
__________
(1) الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 11، 12، 13 وما بعدها، والأحكام السلطانية للماوردي ص 15، 16، 30، 35 وما بعدها، ورد المحتار على الدر المختار 3 / 158، 212، 218، 311 وما بعدها، جواهر الإكليل 1 / 269، 2 / 286، وشرح المنهاج 4 / 171، 217، والمغني لابن قدامة 2 / 252، 361، 347 و 8 / 287(6/192)
(10) تَعْيِينُ الْقُضَاةِ وَأُمَرَاءِ الْحَجِّ، وَرُؤَسَاءِ الْجَيْشِ، وَوِلاَيَتُهُمْ خَاصَّةٌ فِي الأَْعْمَال الْعَامَّةِ، لأَِنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَقْصُورٌ عَلَى نَظَرٍ خَاصٍّ فِي جَمِيعِ الأَْعْمَال. وَكَذَا تَعْيِينُ الأَْئِمَّةِ لِلصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالْجُمُعَةِ، وَلِكُل وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلاَءِ شُرُوطٌ تَنْعَقِدُ بِهَا وِلاَيَتُهُ.
(11) تَقْدِيرُ الْعَطَاءِ وَمَا يُسْتَحَقُّ مِنْ بَيْتِ الْمَال (الْمِيزَانِيَّةُ الْعَامَّةُ) مِنْ غَيْرِ سَرَفٍ وَلاَ تَقْصِيرٍ فِيهِ. (1) وَالتَّفْصِيل مَوْطِنُهُ مُصْطَلَحُ (الإِْمَامَةُ الْكُبْرَى) .
(12) اسْتِكْفَاءُ الأُْمَنَاءِ، وَتَقْلِيدُ النُّصَحَاءِ فِيمَا يُفَوَّضُ إِلَيْهِمْ مِنَ الأَْعْمَال، وَيَكِلُهُ إِلَيْهِمْ مِنَ الأَْمْوَال، لِتَكُونَ الأَْعْمَال مَضْبُوطَةً وَالأَْمْوَال مَحْفُوظَةً.
(13) أَنْ يُبَاشِرَ بِنَفْسِهِ أَوْ بِأَعْوَانِهِ الْمَوْثُوقِ بِهِمْ مُشَارَفَةَ الأُْمُورِ، وَتَصَفُّحَ الأَْحْوَال لِيَنْهَضَ بِسِيَاسَةِ الأُْمَّةِ. (2)
(14) مُشَاوَرَةُ ذَوِي الرَّأْيِ: وَتُعْتَبَرُ الْمُشَاوَرَةُ مَبْدَأً مِنْ أَهَمِّ الْمَبَادِئِ الإِْسْلاَمِيَّةِ، وَقَاعِدَةً مِنْ أَهَمِّ الْقَوَاعِدِ الأَْسَاسِيَّةِ فِي الْوِلاَيَاتِ الْعَامَّةِ. وَقَدْ جَاءَتِ الدَّعْوَةُ إِلَى الشُّورَى صَرِيحَةً فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فِي آيَتَيْنِ مِنْهُ الأُْولَى: قَوْله تَعَالَى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَْمْرِ} . (3)
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 65، 108، ورد المحتار على الدر المختار 4 / 297، 308، وشرح المنهاج 4 / 295، والمغني لابن قدامة 9 / 38، 106، والأحكام السلطانية لأبي يعلى 78، 92
(2) الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 12، والأحكام السلطانية للماوردي ص 16
(3) سورة آل عمران / 159(6/192)
وَالثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} . (1)
وَالتَّفْصِيل مَوْطِنُهُ (إِمَامَةٌ كُبْرَى) .
أَلْيَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الأَْلْيَةُ: هِيَ الْعَجِيزَةُ، أَوْ مَا رَكِبَ الْعَجُزَ مِنْ لَحْمٍ وَشَحْمٍ. (2)
وَلاَ يَخْتَلِفُ الْمَعْنَى عِنْدَ الْفُقَهَاءِ عَنْ ذَلِكَ، فَقَدْ قَالُوا: إِنَّهَا اللَّحْمُ النَّاتِئُ بَيْنَ الظَّهْرِ وَالْفَخِذِ. (3)
وَالْفَخِذُ يَلِي الرُّكْبَةَ، وَفَوْقَهُ الْوَرِكُ، وَفَوْقَهُ الأَْلْيَةُ (4) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
2 - يَتَعَلَّقُ بِالأَْلْيَةِ عِدَّةُ أَحْكَامٍ فِي مَوَاضِعَ مُتَفَرِّقَةٍ مِنْ أَبْوَابِ الْفِقْهِ مِنْهَا:
أ - فِي نَوَاقِضِ الْوُضُوءِ: يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَنَّ الْمُتَوَضِّئَ إِذَا نَامَ وَمَكَّنَ أَلْيَتَهُ مِنَ الأَْرْضِ فَلاَ يَنْتَقِضُ وُضُوءُهُ، لأَِمْنِ خُرُوجِ مَا يُنْتَقَضُ بِهِ وُضُوءُهُ.
__________
(1) سورة الشورى / 38 وانظر تفسير الطبري 4 / 152، 249، الأحكام السلطانية للماوردي ص 43، 44، والسياسة الشرعية لابن تيمية ص 135، 136
(2) ترتيب القاموس، ولسان العرب المحيط مادة: " ألى "
(3) الجمل على المنهج 5 / 33، والمغني 7 / 715 ط الرياض
(4) المخصص لابن سيده 2 / 41 و 44(6/193)
وَلَمْ يَعْتَبِرِ الْمَالِكِيَّةُ هَيْئَةَ النَّائِمِ، بَل الْمُعْتَبَرُ عِنْدَهُمْ صِفَةُ النَّوْمِ وَحْدَهَا ثِقَلاً أَوْ خِفَّةً، وَالْحَنَابِلَةُ يَنْظُرُونَ إِلَى صِفَةِ النَّوْمِ وَهَيْئَةِ النَّائِمِ مَعًا، فَمَتَى كَانَ النَّائِمُ مُمَكِّنًا مَقْعَدَتَهُ مِنَ الأَْرْضِ فَلاَ يَنْقُضُ إِلاَّ النَّوْمُ الْكَثِيرُ. (1)
ب - فِي الأُْضْحِيَّةِ: يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي إِجْزَاءِ الشَّاةِ إِنْ كَانَتْ دُونَ أَلْيَةٍ، وَتُسَمَّى الْبَتْرَاءَ أَوْ مَقْطُوعَةَ الذَّنَبِ، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ:
الأَْوَّل: عَدَمُ الإِْجْزَاءِ مُطْلَقًا، وَهُوَ قَوْل الْمَالِكِيَّةِ. (2)
الثَّانِي: الإِْجْزَاءُ إِنْ كَانَتْ مَخْلُوقَةً دُونَ أَلْيَةٍ، أَمَّا مَقْطُوعَةُ الأَْلْيَةِ فَإِنَّهَا لاَ تُجْزِئُ، وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. (3)
الثَّالِثُ: التَّفْرِيقُ بَيْنَ مَا إِذَا قُطِعَ الأَْكْثَرُ أَوِ الأَْقَل، فَإِنْ قُطِعَ الأَْكْثَرُ تُجْزِئُ، وَتُجْزِئُ إِنْ بَقِيَ الأَْكْثَرُ، لأَِنَّ لِلأَْكْثَرِ حُكْمَ الْكُل بَقَاءً وَذَهَابًا، وَهُوَ قَوْل الْحَنَفِيَّةِ. (4)
الرَّابِعُ: الإِْجْزَاءُ مُطْلَقًا. وَهُوَ قَوْل الْحَنَابِلَةِ.
وَمِمَّنْ كَانَ لاَ يَرَى بَأْسًا بِالْبَتْرَاءِ: ابْنُ عُمَرَ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالْحَكَمُ (5) .
ج - وَفِي الْجِنَايَةِ عَلَى الأَْلْيَةِ عَمْدًا الْقِصَاصُ عِنْدَ
__________
(1) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح 49، والدسوقي 1 / 118 و 119، والقليوبي 1 / 32 ط الحلبي، والمغني 1 / 175
(2) الخرشي 3 / 35، 36 نشر دار صادر
(3) الروضة 3 / 196 ط المكتب الإسلامي
(4) تبيين الحقائق 6 / 5
(5) المغني 8 / 625، 626(6/193)
جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، لأَِنَّ لَهَا حَدًّا تَنْتَهِي إِلَيْهِ. (1)
وَقَال الْمُزَنِيُّ: لاَ قِصَاصَ فِيهَا، لأَِنَّهَا لَحْمٌ مُتَّصِلٌ بِلَحْمٍ، فَأَشْبَهَ لَحْمَ الْفَخِذِ. (2)
فَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ خَطَأً فَفِي الأَْلْيَةِ نِصْفُ دِيَةٍ وَفِي الأَْلْيَتَيْنِ الدِّيَةُ الْكَامِلَةُ عِنْدَ أَغْلَبِ الْفُقَهَاءِ. (3)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: فِي الأَْلْيَةِ حُكُومَةُ عَدْلٍ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ أَلْيَةَ رَجُلٍ أَمْ أَلْيَةَ امْرَأَةٍ، هَذَا بِاسْتِثْنَاءِ أَشْهَبَ، فَإِنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ أَلْيَةِ الرَّجُل وَأَلْيَةِ الْمَرْأَةِ، فَأَوْجَبَ فِي الأُْولَى حُكُومَةً، وَفِي الثَّانِيَةِ الدِّيَةَ، لأَِنَّهَا أَعْظَمُ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ ثَدْيِهَا. (4)
وَبِالإِْضَافَةِ إِلَى الْمَوَاضِعِ السَّابِقَةِ يَتَكَلَّمُ الْفُقَهَاءُ عَنْهَا عِنْدَ الاِفْتِرَاشِ فِي قَعَدَاتِ الصَّلاَةِ، وَعِنْدَ التَّوَرُّكِ. (5)
وَفِي تَكْفِينِ الْمَيِّتِ يَتَكَلَّمُونَ عَنْ شَدِّ الأَْلْيَيْنِ غَرْفَةً بَعْدَ وَضْعِ قُطْنٍ بَيْنَهُمَا، لِيُؤْمَنَ مِنْ خُرُوجِ شَيْءٍ مِنَ الْمَيِّتِ. (6)
أَلِيَّةٌ
انْظُرْ: أَيْمَان.
__________
(1) الفتاوى البزازية بهامش الهندية 6 / 293 ط بولاق، والزرقاني على خليل 8 / 40 نشر دار الفكر، والجمل على المنهج 5 / 33، والمغني 7 / 715
(2) المغني 7 / 715
(3) الفتاوى البزازية 6 / 293 ط بولاق، والجمل على المنهج 5 / 70، المغني 8 / 31
(4) الزرقاني على خليل 8 / 40
(5) جواهر الإكليل 1 / 51، والجمل على المغني 1 / 383
(6) القليوبي 1 / 329، والمغني 2 / 466(6/194)
إِمَاءٌ
انْظُرْ: رِقّ.
(
أَمَارَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الأَْمَارَةُ لُغَةً: الْعَلاَمَةُ. (1)
وَهِيَ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ: الدَّلِيل الظَّنِّيُّ، وَهُوَ مَا يُمْكِنُ التَّوَصُّل بِصَحِيحِ النَّظَرِ فِيهِ إِلَى مَطْلُوبٍ خَبَرِيٍّ ظَنِّيٍّ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ
: أ - الدَّلِيل:
2 - الدَّلِيل: هُوَ مَا يُتَوَصَّل بِصَحِيحِ النَّظَرِ فِيهِ إِلَى مَطْلُوبٍ خَبَرِيٍّ قَطْعِيٍّ أَوْ ظَنِّيٍّ. وَقَدْ يُخَصُّ بِالْقَطْعِيِّ (3) .
__________
(1) لسان العرب المحيط (أمر) . كشاف اصطلاحات الفنون 1 / 72
(2) مسلم الثبوت 1 / 20، وتسهيل الوصول إلى علم الأصول ص 12، والتقرير والتحبير 3 / 184، وتيسير التحرير 4 / 29 ط صبيح
(3) مسلم الثبوت 1 / 20(6/194)
ب - الْعَلاَمَةُ:
3 - الدَّلِيل الظَّنِّيُّ يُسَمَّى أَمَارَةً وَعَلاَمَةً (1) ، إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ اصْطَلَحُوا عَلَى أَنَّ الأَْمَارَةَ لَيْسَتْ بِشُهْرَةِ الْعَلاَمَةِ، بَل الْعَلاَمَةُ أَشْهَرُ.
وَالْعَلاَمَةُ لاَ تَنْفَكُّ عَنِ الشَّيْءِ، بِخِلاَفِ الأَْمَارَةِ (2) .
ج - الْوَصْفُ الْمُخَيِّل:
4 - الْوَصْفُ الْمُخَيِّل يُفِيدُ الظَّنَّ الضَّعِيفَ، أَمَّا الأَْمَارَةُ فَإِنَّهَا تُفِيدُ الظَّنَّ الْقَوِيَّ. (3)
د - الْقَرِينَةُ:
5 - الْقَرِينَةُ كَثِيرًا مَا تُطْلَقُ عَلَى الأَْمَارَةِ، وَالْعَكْسُ كَذَلِكَ، غَيْرَ أَنَّ الْقَرِينَةَ قَدْ تَكُونُ قَاطِعَةً (4) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
6 - عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ مَا لَيْسَ عَلَيْهِ دَلاَلَةٌ قَاطِعَةٌ، بَل عَلَيْهِ أَمَارَةٌ فَقَطْ كَخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسِ، فَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُجْتَهِدِ أَنْ يَعْمَل بِمُوجِبِ هَذَا الظَّنِّ الَّذِي ثَبَتَ عِنْدَهُ بِهَذِهِ الأَْمَارَةِ، وَهَذَا بِخِلاَفِ الْمُقَلِّدِ، لأَِنَّ ظَنَّهُ لاَ يَصِيرُ وَسِيلَةً إِلَى الْعِلْمِ. (5)
__________
(1) تسهيل الوصول ص 16، والقليوبي 2 / 300 ط مصطفى الحلبي
(2) تيسير التحرير 4 / 55 ط صبيح، والتعريفات للجرجاني ط مصطفى الحلبي
(3) حاشية الشريف الجرجاني على العضد 1 / 4 ط ليبيا
(4) مجلة الأحكام 1741
(5) شرح العضد وحواشيه 1 / 30 ط ليبيا، والمعتمد 2 / 987(6/195)
وَيَأْخُذُ الْفُقَهَاءُ بِالأَْمَارَاتِ، فَفِي مَعْرِفَةِ الْقِبْلَةِ يَسْتَدِلُّونَ بِهُبُوبِ الرِّيَاحِ، وَمَطَالِعِ النُّجُومِ. (1)
وَفِي الْبُلُوغِ يَرَى أَغْلِبُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ نَبَاتَ شَعْرِ الْعَانَةِ الْخَشِنِ أَمَارَةٌ عَلَى الْبُلُوغِ (2) ، وَكَذَلِكَ يَرَى الْبَعْضُ أَنَّ فَرْقَ أَرْنَبَةِ الأَْنْفِ، وَغِلَظَ الصَّوْتِ وَشُهُودَ الثَّدْيِ، وَنَتْنَ الإِْبِطِ - أَمَارَاتٌ عَلَى الْبُلُوغِ. (3)
7 - وَفِي الْقَضَاءِ: الْحُكْمُ بِالأَْمَارَاتِ مَحَل خِلاَفٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، مِنْهُمْ مَنْ يَرَى الْحُكْمَ بِهَا قَوْلاً وَاحِدًا عَمَلاً بِقَوْل اللَّهِ سُبْحَانَهُ: {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} . (4) رُوِيَ أَنَّ إِخْوَةَ يُوسُفَ لَمَّا أَتَوْا بِقَمِيصِ يُوسُفَ إِلَى أَبِيهِمْ يَعْقُوبَ، تَأَمَّلْهُ فَلَمْ يَجِدْ فِيهِ خَرْقًا وَلاَ أَثَرَ نَابٍ، فَاسْتَدَل بِذَلِكَ عَلَى كَذِبِهِمْ. فَاسْتَدَل الْفُقَهَاءُ بِهَذِهِ الآْيَةِ عَلَى إِعْمَال الأَْمَارَاتِ فِي مَسَائِل كَثِيرَةٍ مِنَ الْفِقْهِ. (5)
وَقَدْ خَصَّصَ الْعَلاَمَةُ ابْنُ فَرْحُونَ الْبَابَ الْمُتَمِّمَ السَّبْعِينَ مِنْ تَبْصِرَتِهِ فِي الْقَضَاءِ بِمَا يَظْهَرُ مِنْ قَرَائِنِ الأَْحْوَال وَالأَْمَارَاتِ وَحُكْمِ الْفِرَاسَةِ، وَأَيَّدَ الْحُكْمَ بِهَا بِأَدِلَّةٍ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَذَكَرَ مَا يَرْبُو عَنْ سِتِّينَ مَسْأَلَةً مِنْهَا مَا هُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَمِنْهَا مَا تَفَرَّدَ بِهِ بَعْضُهُمْ.
وَالْبَعْضُ لاَ يَأْخُذُ بِالْقَرَائِنِ، مُسْتَدِلًّا بِمَا أَخْرَجَهُ
__________
(1) نهاية المحتاج1 / 423 ط مصطفى الحلبي
(2) الدسوقي 3 / 293 ط الحلبي، ونهاية المحتاج 4 / 347، والقليوبي 2 / 300، والمغني 4 / 509 ط الرياض
(3) الشرح الكبير 3 / 293، والجوهرة 1 / 315، والقليوبي 4 / 238
(4) سورة يوسف / 18
(5) تبصرة الحكام لابن فرحون 2 / 101، 102 ط التجارية(6/195)
ابْنُ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ كُنْتُ رَاجِمًا أَحَدًا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ لَرَجَمْتُ فُلاَنَةَ، فَقَدْ ظَهَرَ مِنْهَا الرِّيبَةُ فِي مَنْطِقِهَا وَهَيْئَتِهَا وَمَنْ يَدْخُل عَلَيْهَا. (1)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (قَرِينَة) وَفِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
إِمَارَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْمَارَةُ بِالْكَسْرِ، وَالإِْمْرَةُ: الْوِلاَيَةُ، يُقَال: أَمَرَ عَلَى الْقَوْمِ يَأْمُرُ، مِنْ بَابِ قَتَل فَهُوَ أَمِيرٌ. وَأَمَرَ يَأْمُرُ إِمَارَةً وَإِمْرَةً: صَارَ لَهُمْ أَمِيرًا. وَيُطْلَقُ عَلَى مَنْصِبِ الأَْمِيرِ، وَعَلَى جُزْءٍ مِنَ الأَْرْضِ يَحْكُمُهُ أَمِيرٌ.
وَالاِصْطِلاَحُ الْفِقْهِيُّ لاَ يَخْرُجُ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْجُمْلَةِ، إِلاَّ أَنَّ الإِْمَارَةَ تَكُونُ فِي الأُْمُورِ الْعَامَّةِ، وَلاَ تُسْتَفَادُ إِلاَّ مِنْ جِهَةِ الإِْمَامِ، أَمَّا الْوِلاَيَةُ فَقَدْ تَكُونُ فِي الأُْمُورِ الْعَامَّةِ، وَقَدْ تَكُونُ فِي الأُْمُورِ الْخَاصَّةِ، وَتُسْتَفَادُ مِنْ جِهَةِ الإِْمَامِ أَوْ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ أَوْ غَيْرِهِمَا، كَالْوَصِيَّةِ بِالاِخْتِيَارِ وَالْوَكَالَةِ (2) .
__________
(1) حديث: " لو كنت راجما. . . . . " أخرجه مسلم 2 / 1135، ط الحلبي، وابن ماجه 2 / 855 ط عيسى الحلبي. ويرجع إلى الطرق الحكمية 46 - 54
(2) متن اللغة، ومقاييس اللغة، ولسان العرب، وتاج العروس مادة (أمر)(6/196)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْخِلاَفَةُ:
2 - الْخِلاَفَةُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ خَلَفَهُ خِلاَفَةً: أَيْ بَقِيَ بَعْدَهُ، أَوْ قَامَ مَقَامَهُ.
وَهِيَ فِي الاِصْطِلاَحِ الشَّرْعِيِّ: مَنْصِبُ الْخَلِيفَةِ. وَهِيَ رِئَاسَةٌ عَامَّةٌ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا نِيَابَةً عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتُسَمَّى أَيْضًا الإِْمَامَةَ الْكُبْرَى (1) .
ب - السُّلْطَةُ:
3 - السُّلْطَةُ هِيَ: السَّيْطَرَةُ وَالتَّمَكُّنُ وَالْقَهْرُ وَالتَّحَكُّمُ، وَمِنْهُ السُّلْطَانُ وَهُوَ مَنْ لَهُ وِلاَيَةُ التَّحَكُّمِ وَالسَّيْطَرَةِ فِي الدَّوْلَةِ، فَإِنْ كَانَتْ سُلْطَتُهُ قَاصِرَةً عَلَى نَاحِيَةٍ خَاصَّةٍ فَلَيْسَ بِخَلِيفَةٍ، وَإِنْ كَانَتْ عَامَّةً فَهُوَ الْخَلِيفَةُ، وَقَدْ وُجِدَتْ فِي الْعُصُورِ الإِْسْلاَمِيَّةِ الْمُخْتَلِفَةِ خِلاَفَةٌ بِلاَ سُلْطَةٍ، كَمَا وَقَعَ فِي أَوَاخِرِ عَهْدِ الْعَبَّاسِيِّينَ، وَسُلْطَةٌ بِلاَ خِلاَفَةٍ كَمَا وَقَعَ فِي عَهْدِ الْمَمَالِيكِ (2) .
تَقْسِيمُ الإِْمَارَةِ، وَحُكْمُهَا التَّكْلِيفِيُّ:
4 - تَنْقَسِمُ الإِْمَارَةُ إِلَى عَامَّةٍ وَخَاصَّةٍ:
أَمَّا الْعَامَّةُ فَالْمُرَادُ بِهَا الْخِلاَفَةُ أَوِ الإِْمَامَةُ الْكُبْرَى، وَهِيَ فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَيُنْظَرُ تَفْصِيل أَحْكَامِهَا فِي مُصْطَلَحِ (إِمَامَةٌ كُبْرَى) .
وَأَمَّا الإِْمَارَةُ الْخَاصَّةُ: فَهِيَ لإِِقَامَةِ فَرْضٍ مُعَيَّنٍ
__________
(1) متن اللغة في مادة (خلف) ، ونهاية المحتاج 7 / 409، وحاشية ابن عابدين 1 / 368، والرائد 1 / 833، ومقدمة ابن خلدون ص 190، وعبارته: هي (الخلافة) في الحقيقة نيابة عن صاحب الشريعة في حفظ الدين والدنيا
(2) المراجع السابقة(6/196)
مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ دُونَ غَيْرِهِ، كَالْقَضَاءِ وَالصَّدَقَاتِ وَالْجُنْدِ إِذَا دَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى ذَلِكَ التَّخْصِيصِ.
وَقَدْ يَكُونُ التَّخْصِيصُ مَكَانِيًّا، كَالإِْمَارَةِ عَلَى بَلَدٍ أَوْ إِقْلِيمٍ خَاصٍّ. كَمَا يَكُونُ زَمَانِيًّا، كَأَمِيرِ الْحَاجِّ وَنَحْوِهِ. (1)
وَالإِْمَارَةُ الْخَاصَّةُ مِنَ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمَنُوطَةِ بِنَظَرِ الإِْمَامِ.
وَكَانَ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنِيبُ عَنْهُ عُمَّالاً عَلَى الْقَبَائِل وَالْمُدُنِ، وَفَعَل ذَلِكَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ. وَعَدَّهَا أَصْحَابُ كُتُبِ الأَْحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ مِنَ الأُْمُورِ اللاَّزِمَةِ عَلَى الإِْمَامِ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُقِيمَ الأُْمَرَاءَ عَلَى النَّوَاحِي وَالْجُيُوشِ وَالْمَصَالِحِ الْمُتَعَدِّدَةِ فِيمَا لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُبَاشِرَهُ بِنَفْسِهِ. (2)
إِمَارَةُ الاِسْتِكْفَاءِ:
5 - هِيَ: أَنْ يُفَوِّضَ الإِْمَامُ بِاخْتِيَارِهِ إِلَى شَخْصٍ إِمَارَةَ بَلَدٍ أَوْ إِقْلِيمٍ وِلاَيَةً عَلَى جَمِيعِ أَهْلِهِ وَنَظَرًا فِي الْمَعْهُودِ مِنْ سَائِرِ أَعْمَالِهِ.
وَيَشْتَمِل نَظَرُ الأَْمِيرِ فِي هَذِهِ الإِْمَارَةِ عَلَى أُمُورٍ:
(1) النَّظَرُ فِي تَدْبِيرِ الْجُيُوشِ.
(2) النَّظَرُ فِي الأَْحْكَامِ، وَتَقْلِيدِ الْقُضَاةِ.
(3) جِبَايَةُ الْخَرَاجِ، وَأَخْذُ الصَّدَقَاتِ.
(4) حِمَايَةُ الدِّينِ، وَالذَّبُّ عَنْ دِيَارِ الإِْسْلاَمِ.
(5) إِقَامَةُ الْحُدُودِ.
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 13، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 12
(2) حاشية ابن عابدين 2 / 172، 3 / 234، وفتح القدير 2 / 367 - 368، ومغني المحتاج 4 / 220 والمغني 8 / 252(6/197)
(6) الإِْمَامَةُ فِي الْجُمَعِ وَالْجَمَاعَاتِ.
(7) تَسْيِيرُ الْحَجِيجِ (إِمَارَةُ الْحَجِّ) .
(8) قَسْمُ الْغَنَائِمِ. (1)
وَحَاجَةُ الأُْمَّةِ قَدْ تَسْتَدْعِي إِضَافَةَ مَهَامَّ أُخْرَى بِحَسَبِ مَا يَجِدُّ مِنْ أَحْوَالٍ، كَرِعَايَةِ شُئُونِ التَّعْلِيمِ وَالصِّحَّةِ وَنَحْوِهَا.
شُرُوطُ إِمَارَةِ الاِسْتِكْفَاءِ:
6 - يُشْتَرَطُ فِيمَنْ يُوَلَّى إِمَارَةَ الاِسْتِكْفَاءِ مَا يُشْتَرَطُ لِوِزَارَةِ التَّفْوِيضِ:
فَمِنْهَا شُرُوطٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا وَهِيَ: الإِْسْلاَمُ، وَالتَّكْلِيفُ (الْعَقْل وَالْبُلُوغُ) ، وَالذُّكُورَةُ. وَمِنْهَا شُرُوطٌ مُخْتَلَفٌ فِيهَا وَهِيَ: الْعَدَالَةُ وَالاِجْتِهَادُ وَالْكِفَايَةُ.
وَلاَ يُشْتَرَطُ (النَّسَبُ) اتِّفَاقًا فِي الإِْمَارَةِ. (2)
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (إِمَامَةٌ كُبْرَى) .
صِيغَةُ عَقْدِ إِمَارَةِ الاِسْتِكْفَاءِ:
7 - لاَ بُدَّ لِتَقْلِيدِ الإِْمَارَةِ مِنْ صِيغَةٍ كَسَائِرِ الْعُقُودِ، فَيَتَحَدَّدُ نَوْعُهَا بِالصِّيغَةِ، فَتَعُمُّ الإِْمَارَةُ بِعُمُومِ الصِّيغَةِ، أَوْ تَخُصُّ بِخُصُوصِهَا،
كَأَنْ يَقُول فِي الإِْمَارَةِ الَّتِي تَعُمُّ التَّصَرُّفَاتِ مَثَلاً: قَلَّدْتُكَ نَاحِيَةَ كَذَا أَوْ إِقْلِيمَ كَذَا إِمَارَةً عَلَى أَهْلِهَا، وَنَظَرًا عَلَى جَمِيعِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا، إِلَخْ. (3)
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 24 والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 17
(2) المراجع السابقة
(3) الأحكام السلطانية للماوردي ص 25، 26(6/197)
نَفَاذُ تَصَرُّفَاتِ أَمِيرِ الاِسْتِكْفَاءِ:
8 - يَجُوزُ لأَِمِيرِ الاِسْتِكْفَاءِ أَنْ يُقَلِّدَ مَنْ يُعَيِّنُهُ فِي تَنْفِيذِ مَهَامِّهِ لأَِنَّهُ مُعِينٌ لَهُ، وَنَائِبٌ عَنْهُ فِي مُبَاشَرَةِ الأَْعْمَال الَّتِي لاَ تَتَيَسَّرُ مُبَاشَرَتُهَا لِلأَْمِيرِ نَفْسِهِ. وَلَكِنَّهُ لاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُفَوِّضَ لِشَخْصٍ آخَرَ مَا عُهِدَ إِلَيْهِ مِنْ أَصْل الْوِلاَيَةِ إِلاَّ بِإِذْنِ الإِْمَامِ، لأَِنَّهُ مُسْتَقِل النَّظَرِ. (1)
إِمَارَةُ الاِسْتِيلاَءِ:
9 - الأَْصْل فِي الْفِقْهِ الإِْسْلاَمِيِّ: أَلاَّ يَتَوَلَّى أَحَدٌ مَنْصِبًا إِلاَّ بِتَقْلِيدٍ صَحِيحٍ مِنَ الإِْمَامِ، أَوْ مَنْ يَنُوبُ عَنْهُ فِي ذَلِكَ كَوَزِيرِ التَّفْوِيضِ، عَلَى أَنَّهُ فِي بَعْضِ الظُّرُوفِ قَدْ يَحْدُثُ أَنْ يَسْتَبِدَّ أَمِيرٌ أَوْ وَالٍ بِالسُّلْطَةِ، بَعْدَ تُوَلِّيهِ بِتَقْلِيدٍ مِنَ الإِْمَامِ، وَيُخْشَى فِتْنَةٌ فِي عَزْلِهِ، فَلِلإِْمَامِ أَنْ يُقِرَّهُ عَلَى إِمَارَتِهِ. وَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى صِحَّةِ هَذَا التَّقْلِيدِ مِنَ الإِْمَامِ لِلضَّرُورَةِ، وَحَسْمًا لِلْفِتْنَةِ وَيُسَمُّونَهَا: إِمَارَةَ الاِسْتِيلاَءِ تَفْرِيقًا بَيْنَهَا وَبَيْنَ إِمَارَةِ الاِسْتِكْفَاءِ. (2)
وَهِيَ وَإِنْ خَرَجَتْ عَلَى عُرْفِ التَّقْلِيدِ (التَّوْلِيَةِ) ، وَشُرُوطِهِ وَأَحْكَامِهِ، فَالْحِكْمَةُ فِي إِقْرَارِهَا هِيَ حِفْظُ وَحْدَةِ كَلِمَةِ الْمُسْلِمِينَ بِالاِعْتِرَافِ بِوُجُودِ الْخِلاَفَةِ الْوَاحِدَةِ فِي الْجُمْلَةِ، وَإِضْفَاءِ صِفَةِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى الأَْحْكَامِ الَّتِي يُصْدِرُهَا الْمُسْتَوْلِي، وَصَوْنِهَا عَنِ الْفَسَادِ.
وَجَاءَ فِي الأَْحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ لِلْمَاوَرْدِيِّ: وَاَلَّذِي يَنْحَفِظُ بِتَقْلِيدِ الْمُسْتَوْلِي مِنْ قَوَانِينِ الشَّرْعِ سَبْعَةُ أَشْيَاءَ، فَيَشْتَرِكُ فِي الْتِزَامِهَا الْخَلِيفَةُ، وَالْمُسْتَوْلِي،
__________
(1) المصدر السابق ص 25
(2) الأحكام السلطانية للماوردي ص 27(6/198)
وَعَدَّدَ الأَْشْيَاءَ، وَلاَ تَخْرُجُ فِي عُمُومِهَا عَمَّا ذَكَرْنَاهُ، مِنْ حِفْظِ مَرْكَزِ الْخِلاَفَةِ، وَالاِعْتِرَافِ بِوُجُودِهَا، وَإِضْفَاءِ الصِّفَةِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى أَعْمَال الإِْمَارَةِ وَصَوْنِهَا عَنِ الْفَسَادِ. (1)
وَلاَ يَخْفَى أَنَّ صِحَّةَ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الإِْمَارَةِ هُوَ مِنْ بَابِ الضَّرُورَةِ، كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ الْحَصْكَفِيُّ وَغَيْرُهُ. (2)
الإِْمَارَةُ الْخَاصَّةُ (مِنْ حَيْثُ الْمَوْضُوعُ) :
10 - الإِْمَارَةُ الْخَاصَّةُ هِيَ مَا كَانَ الأَْمِيرُ مَقْصُورَ النَّظَرِ فِيهَا عَلَى أَمْرٍ خَاصٍّ، كَقِيَادَةِ الْجَيْشِ، فَيَقْتَصِرُ نَظَرُهُ فِيمَا حُدِّدَ لَهُ، فِي عَقْدِ التَّقْلِيدِ، فَلاَ يَتَعَرَّضُ لِغَيْرِهَا، كَالْقَضَاءِ، وَجِبَايَةِ الْخَرَاجِ، وَقَبْضِ الصَّدَقَاتِ، وَإِمَارَةِ الْجِهَادِ، وَإِمَارَةِ الْحَجِّ، وَإِمَارَةِ السَّفَرِ. (3)
إِمَارَةُ الْحَجِّ:
11 - جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلإِْمَامِ - إِنْ لَمْ يَخْرُجْ بِنَفْسِهِ - أَنْ يَنْصِبَ لِلْحَجِيجِ أَمِيرًا يَخْرُجُ بِهِمْ، وَيَرْعَى مَصَالِحَهُمْ فِي حِلِّهِمْ وَتَرْحَالِهِمْ، وَيَخْطُبُ فِيهِمْ فِي الأَْمَاكِنِ الَّتِي شُرِعَتْ فِيهَا الْخُطْبَةُ، يُعَلِّمُهُمْ فِيهَا مَنَاسِكَ الْحَجِّ وَأَعْمَالَهُ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ. (4)
وَذَهَبَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ تَنْصِيبَ أَمِيرٍ لإِِقَامَةِ الْحَجِّ وَاجِبٌ عَلَى الإِْمَامِ، إِنْ لَمْ يَخْرُجْ
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 34
(2) الدر المختار 1 / 369
(3) الأحكام السلطانية للماوردي ص 26
(4) حاشية ابن عابدين 2 / 172، وفتح القدير 2 / 367 - 368، وأسنى المطالب 1 / 585، ونهاية المحتاج 3 / 294 - 295(6/198)
بِنَفْسِهِ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَعَثَ فِي السَّنَةِ الثَّامِنَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ عَتَّابَ بْنَ أُسَيْدٍ، وَفِي التَّاسِعَةِ أَبَا بَكْرٍ. وَخَرَجَ بِنَفْسِهِ فِي الْعَاشِرَةِ. (1)
أَقْسَامُ إِمَارَةِ الْحَجِّ:
كُتُبُ الأَْحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ وَحْدَهَا دُونَ كُتُبِ الْفِقْهِ فِيمَا نَعْلَمُ قَسَّمَتْ هَذِهِ الإِْمَارَةَ إِلَى قِسْمَيْنِ: إِمَارَةِ إِقَامَةِ الْحَجِّ، وَإِمَارَةِ تَسْيِيرِ الْحَجِيجِ. (2)
أ - إِمَارَةُ تَسْيِيرِ الْحَجِيجِ:
12 - إِمَارَةُ تَسْيِيرِ الْحَجِيجِ هِيَ: وِلاَيَةٌ سِيَاسِيَّةٌ، وَزَعَامَةٌ وَتَدْبِيرٌ. فَيُشْتَرَطُ لأَِمِيرِهَا: أَنْ يَكُونَ مُطَاعًا، ذَا رَأْيٍ وَشَجَاعَةٍ، وَهَيْبَةٍ (3) .
وَقَدْ عَدَّ الْمَاوَرْدِيُّ عَشَرَةَ أَشْيَاءَ جَعَلَهَا مِنْ وَاجِبَاتِ أَمِيرِ الْحَجِيجِ وَهِيَ:
(1) جَمْعُ النَّاسِ فِي مَسِيرِهِمْ وَنُزُولِهِمْ حَتَّى لاَ يَتَفَرَّقُوا.
(2) تَرْتِيبُهُمْ فِي السَّيْرِ وَالنُّزُول، وَتَقْسِيمُهُمْ إِلَى مَجْمُوعَاتٍ لِكُلٍّ مِنْهَا رَئِيسٌ، حَتَّى يَعْرِفَ كُل فَرِيقٍ مِنْهُمْ جَمَاعَتَهُ إِذَا سَارَ، وَيَأْلَفَ مَكَانَهُ إِذَا نَزَل، فَلاَ يَتَنَازَعُونَ فِيهِ، وَلاَ يَضِلُّونَ عَنْهُ.
(3) يَرْفُقُ بِهِمْ فِي السَّيْرِ حَتَّى لاَ يَعْجِزَ عَنْهُ ضَعِيفُهُمْ، وَلاَ يَضِل عَنْهُ مُنْقَطِعُهُمْ.
(4) أَنْ يَسْلُكَ بِهِمْ أَوْضَحَ الطُّرُقِ وَأَخْصَبَهَا، وَيَتَجَنَّبَ أَجْدَبَهَا وَأَوْعَرَهَا.
__________
(1) حاشية عميرة على القليوبي 2 / 112، وأسنى المطالب 1 / 485
(2) الأحكام السلطانية للماوردي ص 93 - 94
(3) الأحكام السلطانية للماوردي 93 - 94(6/199)
(5) أَنْ يَرْتَادَ لَهُمُ الْمِيَاهَ إِذَا انْقَطَعَتْ، وَالْمُرَاعِيَ إِذَا قَلَّتْ.
(6) أَنْ يَحْرُسَهُمْ إِذَا نَزَلُوا، وَيَحُوطَهُمْ إِذَا رَحَلُوا.
(7) أَنْ يَمْنَعَ عَنْهُمْ مَنْ يَصُدُّهُمْ عَنِ الْمَسِيرِ.
(8) أَنْ يُصْلِحَ بَيْنَ الْمُتَشَاجِرِينَ، وَيَتَوَسَّطَ بَيْنَ الْمُتَنَازِعِينَ.
(9) أَنْ يُؤَدِّبَ خَائِنَهُمْ، وَلاَ يَتَجَاوَزَ التَّعْزِيرَ.
(10) أَنْ يُرَاعِيَ اتِّسَاعَ الْوَقْتِ حَتَّى يُؤْمَنَ فَوَاتُ الْحَجِّ عَلَيْهِمْ. (1)
الْحُكْمُ بَيْنَ الْحَجِيجِ:
13 - لَيْسَ لأَِمِيرِ الْحَجِّ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِلْحُكْمِ بَيْنَ الْحَجِيجِ إِجْبَارًا إِلاَّ أَنْ يُفَوَّضَ إِلَيْهِ الْحُكْمُ، وَهُوَ أَهْلٌ لِلْقَضَاءِ، فَيَجُوزُ لَهُ حِينَئِذٍ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ. فَإِنْ دَخَلُوا فِي بَلَدٍ فِيهِ حَاكِمٌ جَازَ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ. كَمَا يَجُوزُ لِحَاكِمِ الْبَلَدِ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ. هَذَا إِذَا كَانَ النِّزَاعُ بَيْنَ الْحُجَّاجِ. أَمَّا إِذَا كَانَ بَيْنَ الْحَجِيجِ وَبَيْنَ أَهْل الْبَلَدِ لَمْ يَحْكُمْ بَيْنَهُمْ إِلاَّ حَاكِمُ الْبَلَدِ. (2)
إِقَامَةُ الْحُدُودِ فِيهِمْ:
14 - لاَ يَجُوزُ لأَِمِيرِ الْحَجِّ إِقَامَةُ الْحُدُودِ فِي الْحَجِيجِ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ فِيهَا وَهُوَ مِنْ أَهْل الْقَضَاءِ. فَإِنْ أُذِنَ فَلَهُ إِقَامَتُهَا فِيهِمْ. فَإِنْ دَخَل فِي بَلَدٍ فِيهِ مَنْ يَتَوَلَّى إِقَامَةَ الْحُدُودِ، فَإِنْ كَانَ الْمَحْدُودُ قَدْ أَتَى بِمُوجِبِ الْحَدِّ قَبْل دُخُول الْبَلَدِ، فَأَمِيرُ الْحَجِيجِ أَوْلَى بِإِقَامَةِ
__________
(1) ترى اللجنة أن هذه أمور زمنية وتختلف باختلاف الأزمان والأعراف فيراعى في كل زمان ما يناسبه وتقتضيه المصلحة
(2) الأحكام السلطانية للماوردي ص 93، 94(6/199)
الْحَدِّ عَلَيْهِ. أَمَّا إِذَا أَتَى بِهِ بَعْدَ دُخُول الْبَلَدِ فَحَاكِمُ الْبَلَدِ أَوْلَى بِإِقَامَةِ الْحَدِّ مِنْ أَمِيرِ الْحَجِيجِ. (1)
انْتِهَاءُ وِلاَيَتِهِ:
15 - إِذَا وَصَل الْحَجِيجُ إِلَى مَكَّةَ زَالَتْ وِلاَيَتُهُ عَمَّنْ لاَ يَرْغَبُ الْعَوْدَةَ. أَمَّا مَنْ كَانَ عَازِمًا عَلَى الْعَوْدِ فَيَبْقَى تَحْتَ وِلاَيَتِهِ حَتَّى يَصِلُوا إِلَى بِلاَدِهِمْ.
ب - إِمَارَةُ إِقَامَةِ الْحَجِّ:
16 - هِيَ أَنْ يَنْصِبَ الإِْمَامُ أَمِيرًا لِلْحَجِيجِ يَخْرُجُ بِهِمْ نِيَابَةً عَنْهُ فِي الْمَشَاعِرِ.
وَيُشْتَرَطُ فِي أَمِيرِ إِقَامَةِ الْحَجِّ شُرُوطُ إِمَامَةِ الصَّلاَةِ، مُضَافًا إِلَيْهَا أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِمَنَاسِكِ الْحَجِّ وَأَحْكَامِهِ عَارِفًا بِمَوَاقِيتِهِ وَأَيَّامِهِ. (2)
انْتِهَاءُ إِمَارَتِهِ:
17 - تَنْتَهِي وِلاَيَةُ أَمِيرِ إِقَامَةِ الْحَجِّ بِانْتِهَاءِ أَعْمَال الْحَجِّ، وَلاَ تَتَجَاوَزُهَا، وَتَبْدَأُ بِابْتِدَائِهَا، فَتَبْدَأُ مِنْ وَقْتِ صَلاَةِ الظُّهْرِ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَتَنْتَهِي فِي يَوْمِ النَّفْرِ الثَّانِي، وَهُوَ الْيَوْمُ الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ. (3)
وَإِذَا كَانَ تَقْلِيدُهُ مُطْلَقًا عَلَى إِقَامَةِ الْحَجِّ فَلَهُ إِقَامَتُهُ فِي كُل عَامٍ حَتَّى يُصْرَفَ عَنْهُ. أَمَّا إِذَا كَانَ تَقْلِيدُهُ لِعَامٍ وَاحِدٍ فَلَيْسَ لَهُ إِقَامَتُهُ فِي غَيْرِهِ مِنَ الأَْعْوَامِ، إِلاَّ بِتَقْلِيدٍ جَدِيدٍ. (4)
__________
(1) المصدر السابق ص 95
(2) المصدر السابق ص 95
(3) فتح القدير 2 / 367 - 368، ونهاية المحتاج 3 / 294 - 295، أسنى المطالب 1 / 485
(4) الأحكام السلطانية 95 - 96(6/200)
اخْتِصَاصُهُ:
18 - يَخْتَصُّ نَظَرُهُ فِي كُل مَا يَتَعَلَّقُ بِأَعْمَال الْحَجِّ: مِنَ الإِْشْعَارِ بِوَقْتِ الإِْحْرَامِ، وَالْخُرُوجِ بِالنَّاسِ إِلَى مَشَاعِرِهِمْ، وَإِلْقَاءِ الْخُطَبِ فِي الأَْمَاكِنِ الَّتِي شُرِعَتْ فِيهَا، وَتَرْتِيبِهِ الْمَنَاسِكَ عَلَى مَا اسْتَقَرَّ الشَّرْعُ عَلَيْهِ لأَِنَّهُ مَتْبُوعٌ فِيهَا، فَلاَ يُقَدِّمُ مُؤَخَّرًا وَلاَ يُؤَخِّرُ مُقَدَّمًا، سَوَاءٌ كَانَ التَّرْتِيبُ وَاجِبًا أَوْ مُسْتَحَبًّا. (1)
إِقَامَةُ الْحُدُودِ:
19 - لَيْسَ لأَِمِيرِ إِقَامَةِ الْحَجِّ إِقَامَةُ الْحَدِّ، أَوِ التَّعْزِيرُ عَلَى مَنْ أَتَى مَا يُوجِبُ ذَلِكَ مِنْ أَفْرَادِ الْحَجِيجِ، إِنْ كَانَ الْمُوجِبُ مِمَّا لاَ يَتَعَلَّقُ بِالْحَجِّ. أَمَّا إِذَا كَانَ مُوجِبُ الْحَدِّ أَوِ التَّعْزِيرِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْحَجِّ فَلَهُ التَّعْزِيرُ.
وَفِي إِقَامَةِ الْحَدِّ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ. لأَِنَّهُ خَارِجٌ مِنْ أَحْكَامِ الْحَجِّ، وَوِلاَيَتُهُ خَاصَّةٌ بِالْحَجِّ. وَالثَّانِي لَهُ إِقَامَتُهُ عَلَيْهِ. (2)
الْحُكْمُ بَيْنَ الْحَجِيجِ:
20 - لاَ يَجُوزُ لأَِمِيرِ إِقَامَةِ الْحَجِّ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَ الْحَجِيجِ فِيمَا تَنَازَعُوا فِيهِ مِنْ غَيْرِ أَحْكَامِ الْحَجِّ.
إِمَارَةُ السَّفَرِ:
21 - يُسْتَحَبُّ لِكُل جَمَاعَةٍ (ثَلاَثَةٍ فَأَكْثَرَ) قَصَدُوا السَّفَرَ أَنْ يُؤَمِّرُوا أَحَدَهُمْ، وَيَجِبُ عَلَيْهِمْ طَاعَتُهُ فِيمَا
__________
(1) نهاية المحتاج 3 / 294 - 295، وفتح القدير 2 / 367 - 368
(2) الأحكام السلطانية للماوردي ص 98(6/200)
يَتَعَلَّقُ بِمَا هُمْ فِيهِ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِمْ مُخَالَفَتُهُ (1) ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا خَرَجَ ثَلاَثَةٌ فِي السَّفَرِ فَلْيُؤَمِّرُوا أَحَدَهُمْ. (2) وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (سَفَر) .
إِمَامٌ
انْظُرْ: إِمَامَة.
إِمَامَةُ الصَّلاَةِ
(الإِْمَامَةُ الصُّغْرَى)
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْمَامَةُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ أَمَّ يَؤُمُّ، وَأَصْل مَعْنَاهَا الْقَصْدُ، وَيَأْتِي بِمَعْنَى التَّقَدُّمِ، يُقَال: أَمَّهُمْ وَأَمَّ بِهِمْ: إِذَا تَقَدَّمَهُمْ. (3)
وَفِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ تُطْلَقُ الإِْمَامَةُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: الإِْمَامَةِ الصُّغْرَى، وَالإِْمَامَةِ الْكُبْرَى.
وَيُعَرِّفُونَ الإِْمَامَةَ الْكُبْرَى بِأَنَّهَا اسْتِحْقَاقُ تَصَرُّفٍ عَامٍّ عَلَى الأَْنَامِ (أَيِ النَّاسِ) ، وَهِيَ رِئَاسَةٌ
__________
(1) نهاية المحتاج 8 / 62، وقليوبي 4 / 217، وأسنى المطالب 4 / 188
(2) حديث: " إذا خرج ثلاثة في السفر فليؤمروا أحدهم " أخرجه أبو داود (3 / 81 - ط عزت عبيد دعاس) وحسنه النووي كما في فيض القدير (1 / 333 - ط المكتبة التجارية)
(3) متن اللغة وتاج العروس مادة: (أم)(6/201)
عَامَّةٌ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا خِلاَفَةً عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (1) (ر: إِمَامَةٌ كُبْرَى) .
أَمَّا الإِْمَامَةُ الصُّغْرَى (وَهِيَ إِمَامَةُ الصَّلاَةِ) فَهِيَ ارْتِبَاطُ صَلاَةِ الْمُصَلِّي بِمُصَلٍّ آخَرَ بِشُرُوطٍ بَيَّنَهَا الشَّرْعُ. فَالإِْمَامُ لَمْ يَصِرْ إِمَامًا إِلاَّ إِذَا رَبَطَ الْمُقْتَدِي صَلاَتَهُ بِصَلاَتِهِ، وَهَذَا الاِرْتِبَاطُ هُوَ حَقِيقَةُ الإِْمَامَةِ، وَهُوَ غَايَةُ الاِقْتِدَاءِ. (2)
وَعَرَّفَهَا بَعْضُهُمْ بِأَنَّهَا: كَوْنُ الإِْمَامِ مُتَّبِعًا فِي صَلاَتِهِ (3) كُلِّهَا أَوْ جُزْءٍ مِنْهَا.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْقُدْوَةُ:
2 - الْقُدْوَةُ اسْمٌ لِلاِقْتِدَاءِ، أَيِ الاِتِّبَاعِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الشَّخْصِ الْمَتْبُوعِ، يُقَال: فُلاَنٌ قُدْوَةٌ، أَيْ يُقْتَدَى بِهِ.
ب - الاِقْتِدَاءُ وَالتَّأَسِّي:
3 - الاِقْتِدَاءُ وَالتَّأَسِّي كُلٌّ مِنْهُمَا بِمَعْنَى الاِتِّبَاعِ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِي صَلاَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، فَالْمَأْمُومُ يَقْتَدِي بِالإِْمَامِ وَيَتَأَسَّى بِهِ، فَيَعْمَل مِثْل عَمَلِهِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْمُقْتَدَى بِهِ أَنَّهُ قُدْوَةٌ وَأُسْوَةٌ (4) .
مَشْرُوعِيَّةُ الإِْمَامَةِ وَفَضْلُهَا:
4 - إِمَامَةُ الصَّلاَةِ تُعْتَبَرُ مِنْ خَيْرِ الأَْعْمَال الَّتِي يَتَوَلاَّهَا خَيْرُ النَّاسِ ذَوُو الصِّفَاتِ الْفَاضِلَةِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْقِرَاءَةِ وَالْعَدَالَةِ وَغَيْرِهَا كَمَا سَيَأْتِي، وَلاَ تُتَصَوَّرُ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 368 - 369
(2) نفس المرجع
(3) الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 156
(4) المصباح المنير، والقرطبي 8 / 56، والألوسي 27 / 69(6/201)
صَلاَةُ الْجَمَاعَةِ إِلاَّ بِهَا. وَصَلاَةُ الْجَمَاعَةِ مِنْ شَعَائِرِ الإِْسْلاَمِ، وَمِنَ السُّنَنِ الْمُؤَكَّدَةِ الَّتِي تُشْبِهُ الْوَاجِبَ فِي الْقُوَّةِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ، وَصَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِوُجُوبِهَا، وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (صَلاَةُ الْجَمَاعَةِ) .
وَقَدْ صَرَّحَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، وَمِنْهُمُ الْحَنَفِيَّةُ، وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ: بِأَنَّ الإِْمَامَةَ أَفْضَل مِنَ الأَْذَانِ وَالإِْقَامَةِ، لِمُوَاظَبَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ عَلَيْهَا، وَلِهَذَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُومَ بِهَا أَعْلَمُ النَّاسِ وَأَقْرَؤُهُمْ، كَمَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ. قَال: قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا كَانُوا ثَلاَثَةً فَلْيَؤُمَّهُمْ أَحَدُهُمْ، وَأَحَقُّهُمْ أَقْرَؤُهُمْ. (1)
وَلَمَّا مَرِضَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ اخْتَارَ أَفْضَل الصَّحَابَةِ لِلإِْمَامَةِ حَيْثُ قَال: مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَل بِالنَّاسِ، (2) فَفَهِمَ الصَّحَابَةُ مِنْ تَقْدِيمِهِ فِي الإِْمَامَةِ الصُّغْرَى اسْتِحْقَاقَهُ الإِْمَامَةَ الْكُبْرَى. (3)
وَفِي قَوْلٍ آخَرَ: الأَْذَانُ أَفْضَل، وَهُوَ قَوْل بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَرِوَايَةٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الإِْمَامُ ضَامِنٌ وَالْمُؤَذِّنُ مُؤْتَمَنٌ، اللَّهُمَّ أَرْشِدِ الأَْئِمَّةَ وَاغْفِرْ لِلْمُؤَذِّنِينَ (4)
__________
(1) حديث أبي سعيد مرفوعا " إذا كانوا ثلاثة. . . " أخرجه مسلم (1 / 464 ط الحلبي)
(2) حديث: " مروا أبا بكر فليصل بالناس. . . " أخرجه البخاري (الفتح 2 / 164 - ط السلفية)
(3) الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 156، والجمل 1 / 317، والمغني 2 / 176، وكشاف القناع 1 / 471، والحطاب 1 / 422
(4) حديث: " الإمام ضامن. . . " أخرجه أبو داود (1 / 356 - ط عزت عبيد دعاس) وابن حبان (موارد الظمآن ص 118 - ط السلفية) . وصححه المناوي في الفيض (3 / 182 - ط المكتبة التجارية)(6/202)
وَالأَْمَانَةُ أَعْلَى مِنَ الضَّمَانِ، وَالْمَغْفِرَةُ أَعْلَى مِنَ الإِْرْشَادِ. وَقَال عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " لَوْلاَ الْخِلاَفَةُ لأََذَّنْتُ (1) .
شُرُوطُ الإِْمَامَةِ:
يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الإِْمَامَةِ الأُْمُورُ التَّالِيَةُ:
أ - الإِْسْلاَمُ:
5 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الإِْمَامِ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا. (2) وَعَلَى هَذَا لاَ تَصِحُّ الصَّلاَةُ خَلْفَ مَنْ هُوَ كَافِرٌ يُعْلِنُ كُفْرَهُ، أَمَّا إِذَا صَلَّى خَلْفَ مَنْ لاَ يَعْلَمُ كُفْرَهُ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَافِرٌ، فَإِنَّ الْحَنَفِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ قَالُوا: إِذَا أَمَّهُمْ زَمَانًا عَلَى أَنَّهُ مُسْلِمٌ، ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهُ كَانَ كَافِرًا، فَلَيْسَ عَلَيْهِمْ إِعَادَةُ الصَّلاَةِ، لأَِنَّهَا كَانَتْ مَحْكُومًا بِصِحَّتِهَا، وَخَبَرُهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ فِي الدِّيَانَاتِ لِفِسْقِهِ بِاعْتِرَافِهِ. (3)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ بَانَ إِمَامُهُ كَافِرًا مُعْلِنًا، وَقِيل: أَوْ مُخْفِيًا، وَجَبَتِ الإِْعَادَةُ، لأَِنَّ الْمَأْمُومَ مُقَصِّرٌ بِتَرْكِ الْبَحْثِ. وَقَال الشِّرْبِينِيُّ: إِنَّ الأَْصَحَّ عَدَمُ وُجُوبِ الإِْعَادَةِ إِذَا كَانَ الإِْمَامُ مُخْفِيًا كُفْرَهُ. (4)
وَمِثْلُهُ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ حَيْثُ قَالُوا: تَبْطُل الصَّلاَةُ بِالاِقْتِدَاءِ بِمَنْ كَانَ كَافِرًا، سَوَاءٌ أَكَانَتْ سِرِّيَّةً أَمْ جَهْرِيَّةً، وَسَوَاءٌ أَطَالَتْ مُدَّةُ صَلاَتِهِ إِمَامًا بِالنَّاسِ أَمْ لاَ.
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، بِعَدَمِ
__________
(1) المغني 1 / 403
(2) مراقي الفلاح ص 156، ونهاية المحتاج 2 / 157، والقوانين الفقهية لابن جزي ص 48، وكشاف القناع 1 / 475
(3) الطحطاوي ص 157، وكشاف القناع 1 / 475
(4) مغني المحتاج 1 / 241، وجواهر الإكليل 1 / 78(6/202)
جَوَازِ إِمَامَةِ الْفَاسِقِ، وَهُوَ الَّذِي أَتَى بِكَبِيرَةٍ كَشَارِبِ خَمْرٍ وَزَانٍ وَآكِل الرِّبَا، أَوْ دَاوَمَ عَلَى صَغِيرَةٍ (1) . لَكِنَّ الْحَنَفِيَّةَ وَالشَّافِعِيَّةَ ذَهَبُوا إِلَى جَوَازِ إِمَامَةِ الْفَاسِقِ مَعَ الْكَرَاهَةِ، وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِذَا لَمْ يَتَعَلَّقْ فِسْقُهُ بِالصَّلاَةِ، وَإِلاَّ بَطَلَتْ عِنْدَهُمْ كَقَصْدِهِ الْكِبْرَ بِالإِْمَامَةِ، وَإِخْلاَلِهِ بِرُكْنٍ أَوْ شَرْطٍ أَوْ سُنَّةٍ عَمْدًا. (2)
وَفِي صَلاَةِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ جَازَ إِمَامَةُ الْفَاسِقِ بِغَيْرِ كَرَاهَةٍ، مَعَ تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مَوَاضِعِهِ.
ب - الْعَقْل:
6 - يُشْتَرَطُ فِي الإِْمَامِ أَنْ يَكُونَ عَاقِلاً، وَهَذَا الشَّرْطُ أَيْضًا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، فَلاَ تَصِحُّ إِمَامَةُ السَّكْرَانِ، وَلاَ إِمَامَةُ الْمَجْنُونِ الْمُطْبِقِ، وَلاَ إِمَامَةُ الْمَجْنُونِ غَيْرِ الْمُطْبِقِ حَال جُنُونِهِ، وَذَلِكَ لِعَدَمِ صِحَّةِ صَلاَتِهِمْ لأَِنْفُسِهِمْ فَلاَ تُبْنَى عَلَيْهَا صَلاَةُ غَيْرِهِمْ.
أَمَّا الَّذِي يُجَنُّ وَيَفِيقُ، فَتَصِحُّ إِمَامَتُهُ حَال إِفَاقَتِهِ. (3)
ج - الْبُلُوغُ:
7 - جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الإِْمَامَةِ فِي صَلاَةِ الْفَرْضِ أَنْ يَكُونَ الإِْمَامُ بَالِغًا، فَلاَ تَصِحُّ إِمَامَةُ مُمَيِّزٍ لِبَالِغٍ فِي فَرْضٍ عِنْدَهُمْ، لِمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: {
__________
(1) كشاف القناع 1 / 475، والمغني لابن قدامة 2 / 185، 189، وجواهر الإكليل 1 / 78
(2) ابن عابدين 1 / 376، وقليوبي 3 / 227، وجواهر الإكليل 1 / 78
(3) الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 157، وجواهر الإكليل ص 78، وكشاف القناع 1 / 475، 476(6/203)
لاَ تُقَدِّمُوا صِبْيَانَكُمْ، (1) وَلأَِنَّهَا حَال كَمَالٍ وَالصَّبِيُّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا، وَلأَِنَّ الإِْمَامَ ضَامِنٌ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ أَهْل الضَّمَانِ، وَلأَِنَّهُ لاَ يُؤْمَنُ مَعَهُ الإِْخْلاَل بِالْقِرَاءَةِ حَال السِّرِّ.
وَاسْتَدَلُّوا كَذَلِكَ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ إِمَامَةِ الصَّبِيِّ لِلْبَالِغِ فِي الْفَرْضِ أَنَّ صَلاَةَ الصَّبِيِّ نَافِلَةٌ فَلاَ يَجُوزُ بِنَاءُ الْفَرْضِ عَلَيْهَا. (2)
أَمَّا فِي غَيْرِ الْفَرْضِ كَصَلاَةِ الْكُسُوفِ أَوِ التَّرَاوِيحِ فَتَصِحُّ إِمَامَةُ الْمُمَيِّزِ لِلْبَالِغِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ) لأَِنَّهُ لاَ يَلْزَمُ مِنْهَا بِنَاءُ الْقَوِيِّ عَلَى الضَّعِيفِ.
وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ عَدَمُ جَوَازِ إِمَامَةِ الْمُمَيِّزِ لِلْبَالِغِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ أَكَانَتْ فِي الْفَرَائِضِ أَمْ فِي النَّوَافِل، لأَِنَّ نَفْل الصَّبِيِّ ضَعِيفٌ لِعَدَمِ لُزُومِهِ بِالشُّرُوعِ، وَنَفْل الْمُقْتَدِي الْبَالِغِ قَوِيٌّ لاَزِمٌ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ بَعْدَ الشُّرُوعِ. (3)
وَلَمْ يَشْتَرِطِ الشَّافِعِيَّةُ فِي الإِْمَامِ أَنْ يَكُونَ بَالِغًا، فَتَصِحُّ إِمَامَةُ الْمُمَيِّزِ لِلْبَالِغِ عِنْدَهُمْ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ أَكَانَتْ فِي الْفَرَائِضِ أَمِ النَّوَافِل، لِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ سَلَمَةَ أَنَّهُ كَانَ يَؤُمُّ قَوْمَهُ عَلَى عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ ابْنُ سِتِّ أَوْ سَبْعِ سِنِينَ (4) لَكِنَّهُمْ قَالُوا: الْبَالِغُ أَوْلَى مِنَ الصَّبِيِّ، وَإِنْ كَانَ الصَّبِيُّ أَقْرَأَ أَوْ أَفْقَهَ، لِصِحَّةِ الاِقْتِدَاءِ بِالْبَالِغِ بِالإِْجْمَاعِ، وَلِهَذَا نَصَّ فِي
__________
(1) حديث: " لا تقدموا صبيانكم. . . " أخرجه الديلمي كما في كنز العمال (7 / 588 - ط مؤسسة الرسالة) وإسناده ضعيف جدا
(2) الزيلعي 1 / 140، والطحطاوي على مراقي الفلاح ص 157، وجواهر الإكليل 1 / 78، وكشاف القناع 1 / 480
(3) فتح القدير 1 / 310، 311، وجواهر الإكليل 1 / 78، وكشاف القناع 1 / 480، والزيلعي 1 / 140
(4) حديث عمرو بن سلمة " أنه كان يؤم قومه. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 8 / 22 - ط السلفية)(6/203)
الْبُوَيْطِيِّ عَلَى كَرَاهَةِ الاِقْتِدَاءِ بِالصَّبِيِّ.
أَمَّا إِمَامَةُ الْمُمَيِّزِ لِمِثْلِهِ فَجَائِزَةٌ فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَغَيْرِهَا عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ. (1)
د - الذُّكُورَةُ:
8 - يُشْتَرَطُ لإِِمَامَةِ الرِّجَال أَنْ يَكُونَ الإِْمَامُ ذَكَرًا، فَلاَ تَصِحُّ إِمَامَةُ الْمَرْأَةِ لِلرِّجَال، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: أَخِّرُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَخَّرَهُنَّ اللَّهُ (2) وَالأَْمْرُ بِتَأْخِيرِهِنَّ نَهْيٌ عَنِ الصَّلاَةِ خَلْفَهُنَّ. وَلِمَا رَوَى جَابِرٌ مَرْفُوعًا: لاَ تَؤُمَّنَّ امْرَأَةٌ رَجُلاً (3) وَلأَِنَّ فِي إِمَامَتِهَا لِلرِّجَال افْتِتَانًا بِهَا.
أَمَّا إِمَامَةُ الْمَرْأَةِ لِلنِّسَاءِ فَجَائِزَةٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (وَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) وَاسْتَدَل الْجُمْهُورُ لِجَوَازِ إِمَامَةِ الْمَرْأَةِ لِلنِّسَاءِ بِحَدِيثِ أُمِّ وَرَقَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذِنَ لَهَا أَنْ تَؤُمَّ نِسَاءَ أَهْل دَارِهَا. (4)
لَكِنْ كَرِهَ الْحَنَفِيَّةُ إِمَامَتَهَا لَهُنَّ، لأَِنَّهَا لاَ تَخْلُو عَنْ نَقْصٍ وَاجِبٍ أَوْ مَنْدُوبٍ، فَإِنَّهُ يُكْرَهُ لَهُنَّ الأَْذَانُ وَالإِْقَامَةُ، وَيُكْرَهُ تَقَدُّمُ الْمَرْأَةِ الإِْمَامِ عَلَيْهِنَّ. فَإِذَا صَلَّتِ النِّسَاءُ صَلاَةَ الْجَمَاعَةِ بِإِمَامَةِ امْرَأَةٍ وَقَفَتِ الْمَرْأَةُ
__________
(1) نهاية المحتاج 2 / 168، والمراجع السابقة
(2) حديث: " أخروهن من حيث أخرهن الله " أخرجه عبد الرزاق من حديث ابن مسعود موقوفا عليه (مصنف عبد الرزاق 3 / 149 - ط المكتب الإسلامي) وصححه ابن حجر في الفتح (1 / 400 - ط السلفية)
(3) حديث: " لا تؤمن امرأة رجلا " أخرجه ابن ماجه (1 / 343 - ط الحلبي) وقال البوصيري في الزوائد: إسناده ضعيف لضعف علي بن زيد بن جدعان وعبد الله بن محمد العدوي
(4) حديث أم ورقة " أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لها أن تؤم نساء أهل دارها. . . " أخرجه أبو داود (1 / 397 - ط عزت عبيد دعاس) وأحمد (6 / 405 - ط الميمنية) وهو حديث حسن. (التلخيص لابن حجر 2 / 27 - ط دار المحاسن)(6/204)
الإِْمَامُ وَسْطَهُنَّ. (1)
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَلاَ تَجُوزُ إِمَامَةُ الْمَرْأَةِ عِنْدَهُمْ مُطْلَقًا وَلَوْ لِمِثْلِهَا فِي فَرْضٍ أَوْ نَفْلٍ.
وَلاَ تَصِحُّ إِمَامَةُ الْخُنْثَى لِلرِّجَال وَلاَ لِمِثْلِهَا بِلاَ خِلاَفٍ، لاِحْتِمَال أَنْ تَكُونَ امْرَأَةً وَالْمُقْتَدِي رَجُلاً، وَتَصِحُّ إِمَامَتُهَا لِلنِّسَاءِ مَعَ الْكَرَاهَةِ أَوْ بِدُونِهَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، خِلاَفًا لِلْمَالِكِيَّةِ حَيْثُ صَرَّحُوا بِعَدَمِ جَوَازِهَا مُطْلَقًا. (2)
هـ - الْقُدْرَةُ عَلَى الْقِرَاءَةِ:
9 - يُشْتَرَطُ فِي الإِْمَامِ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى الْقِرَاءَةِ وَحَافِظًا مِقْدَارَ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ صِحَّةُ الصَّلاَةِ عَلَى تَفْصِيلٍ يُذْكَرُ فِي مُصْطَلَحِ (قِرَاءَة) . (3)
وَهَذَا الشَّرْطُ إِنَّمَا يُعْتَبَرُ إِذَا كَانَ بَيْنَ الْمُقْتَدِينَ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى الْقِرَاءَةِ، فَلاَ تَصِحُّ إِمَامَةُ الأُْمِّيِّ لِلْقَارِئِ، وَلاَ إِمَامَةُ الأَْخْرَسِ لِلْقَارِئِ أَوِ الأُْمِّيِّ، لأَِنَّ الْقِرَاءَةَ رُكْنٌ مَقْصُودٌ فِي الصَّلاَةِ، فَلَمْ يَصِحَّ اقْتِدَاءُ الْقَادِرِ عَلَيْهِ بِالْعَاجِزِ عَنْهُ، وَلأَِنَّ الإِْمَامَ ضَامِنٌ وَيَتَحَمَّل الْقِرَاءَةَ عَنِ الْمَأْمُومِ، وَلاَ يُمْكِنُ ذَلِكَ فِي الأُْمِّيِّ، وَلِتَفْصِيل الْمَسْأَلَةِ (ر: اقْتِدَاء) .
أَمَّا إِمَامَةُ الأُْمِّيِّ لِلأُْمِّيِّ وَالأَْخْرَسِ فَجَائِزَةٌ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ. (4)
هَذَا، وَتُكْرَهُ إِمَامَةُ الْفَأْفَاءِ (وَهُوَ مَنْ يُكَرِّرُ الْفَاءَ) وَالتَّمْتَامِ (وَهُوَ مَنْ يُكَرِّرُ التَّاءَ) وَاللاَّحِنِ لَحْنًا غَيْرَ
__________
(1) جواهر الإكليل 1 / 78، والاختيار 1 / 59، ومراقي الفلاح ص 157، والدسوقي 1 / 326، وابن عابدين 1 / 388، والخرشي 2 / 22، ونهاية المحتاج 2 / 167، 187، وكشاف القناع 1 / 479، 480
(2) الدسوقي 1 / 326، وجواهر الإكليل 1 / 78
(3) المراجع السابقة
(4) الدسوقي 1 / 328، ومراقي الفلاح ص157، وكشاف القناع 1 / 480، 481، ونهاية المحتاج 2 / 163، 164(6/204)
مُغَيِّرٍ لِلْمَعْنَى عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. (1) وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: الْفَأْفَأَةُ، وَالتَّمْتَمَةُ، وَاللُّثْغَةُ (وَهِيَ تَحَرُّكُ اللِّسَانِ مِنَ السِّينِ إِلَى الثَّاءِ، أَوْ مِنَ الرَّاءِ إِلَى الْغَيْنِ وَنَحْوِهِ) تَمْنَعُ مِنَ الإِْمَامَةِ. (2)
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي جَوَازِ إِمَامَةِ هَؤُلاَءِ وَأَمْثَالِهِمْ خِلاَفٌ. (3)
و السَّلاَمَةُ مِنَ الأَْعْذَارِ:
10 - يُشْتَرَطُ فِي الإِْمَامِ إِذَا كَانَ يَؤُمُّ الأَْصِحَّاءَ أَنْ يَكُونَ سَالِمًا مِنَ الأَْعْذَارِ، كَسَلَسِ الْبَوْل وَانْفِلاَتِ الرِّيحِ وَالْجُرْحِ السَّائِل وَالرُّعَافِ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، لأَِنَّ أَصْحَابَ الأَْعْذَارِ يُصَلُّونَ مَعَ الْحَدَثِ حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا تَجُوزُ صَلاَتُهُمْ لِعُذْرٍ، وَلاَ يَتَعَدَّى الْعُذْرُ لِغَيْرِهِمْ لِعَدَمِ الضَّرُورَةِ، وَلأَِنَّ الإِْمَامَ ضَامِنٌ، بِمَعْنَى أَنَّ صَلاَتَهُ تَضْمَنُ صَلاَةَ الْمُقْتَدِي، وَالشَّيْءُ لاَ يَضْمَنُ مَا هُوَ فَوْقَهُ. (4)
وَلاَ يُشْتَرَطُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ - وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - السَّلاَمَةُ مِنَ الْعُذْرِ لِصِحَّةِ الإِْمَامَةِ، لأَِنَّ الأَْحْدَاثَ إِذَا عُفِيَ عَنْهَا فِي حَقِّ صَاحِبِهَا عُفِيَ عَنْهَا فِي حَقِّ غَيْرِهِ. (5)
وَأَمَّا إِمَامَةُ صَاحِبِ الْعُذْرِ لِمِثْلِهِ فَجَائِزَةٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ مُطْلَقًا، أَوْ إِنِ اتَّحَدَ عُذْرُهُمَا (6) (ر: اقْتِدَاء) .
__________
(1) نهاية المحتاج 2 / 166، وكشاف القناع 1 / 483
(2) مراقي الفلاح ص 157
(3) الدسوقي 1 / 329
(4) الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 157، وفتح القدير 1 / 318، والهندية 1 / 84، ومغني المحتاج 1 / 241، وكشاف القناع 1 / 476
(5) الدسوقي 1 / 330، ومغني المحتاج 1 / 241
(6) المراجع السابقة(6/205)
ز - الْقُدْرَةُ عَلَى تَوْفِيَةِ أَرْكَانِ الصَّلاَةِ:
11 - يُشْتَرَطُ فِي الإِْمَامِ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى تَوْفِيَةِ الأَْرْكَانِ، وَهَذَا إِذَا كَانَ يُصَلِّي بِالأَْصِحَّاءِ، فَمَنْ يُصَلِّي بِالإِْيمَاءِ رُكُوعًا أَوْ سُجُودًا لاَ يَصِحُّ أَنْ يُصَلِّيَ بِمَنْ يَقْدِرُ عَلَيْهِمَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) خِلاَفًا لِلشَّافِعِيَّةِ فَإِنَّهُمْ أَجَازُوا ذَلِكَ قِيَاسًا عَلَى صِحَّةِ إِمَامَةِ الْمُسْتَلْقِي أَوِ الْمُضْطَجِعِ لِلْقَاعِدِ (1) .
وَاخْتَلَفُوا فِي صِحَّةِ إِمَامَةِ الْقَاعِدِ لِلْقَائِمِ، فَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لاَ يُجَوِّزُونَهَا، لأَِنَّ فِيهِ بِنَاءَ الْقَوِيِّ عَلَى الضَّعِيفِ، وَاسْتَثْنَى الْحَنَابِلَةُ إِمَامَ الْحَيِّ إِذَا كَانَ مَرَضُهُ مِمَّا يُرْجَى زَوَالُهُ، فَأَجَازُوا إِمَامَتَهُ، وَاسْتَحَبُّوا لَهُ إِذَا عَجَزَ عَنِ الْقِيَامِ أَنْ يَسْتَخْلِفَ، فَإِنْ صَلَّى بِهِمْ قَاعِدًا صَحَّ. وَالشَّافِعِيَّةُ يَقُولُونَ بِالْجَوَازِ، وَهُوَ قَوْل أَكْثَرِ الْحَنَفِيَّةِ، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى آخِرَ صَلاَةٍ صَلاَّهَا بِالنَّاسِ قَاعِدًا، وَالْقَوْمُ خَلْفَهُ قِيَامٌ. (2)
أَمَّا إِمَامَةُ الْعَاجِزِ عَنْ تَوْفِيَةِ الأَْرْكَانِ لِمِثْلِهِ فَجَائِزَةٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَلِلتَّفْصِيل (ر: اقْتِدَاء) .
__________
(1) فتح القدير 1 / 220 - 224، وابن عابدين 1 / 396، والدسوقي 1 / 328، ومغني المحتاج 1 / 240، والمغني لابن قدامة 2 / 223، 224، وكشاف القناع 1 / 476، وتحفة المحتاج 2 / 288، وقليوبي 1 / 231
(2) الدسوقي 1 / 328، والحطاب 2 / 197، وابن عابدين 1 / 396، وفتح القدير 1 / 321، ومغني المحتاج 1 / 240، وكشاف القناع 1 / 477، والمغني 2 / 223، وحديث: " إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى آخر صلاة. . . " أخرجه مسلم (1 / 312 - ط الحلبي)(6/205)
ح - السَّلاَمَةُ مِنْ فَقْدِ شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ الصَّلاَةِ:
12 - يُشْتَرَطُ فِي الإِْمَامِ السَّلاَمَةُ مِنْ فَقْدِ شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الصَّلاَةِ كَالطَّهَارَةِ مِنْ حَدَثٍ أَوْ خَبَثٍ، فَلاَ تَصِحُّ إِمَامَةُ مُحْدِثٍ وَلاَ مُتَنَجِّسٍ إِذَا كَانَ يَعْلَمُ ذَلِكَ، لأَِنَّهُ أَخَل بِشَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ الصَّلاَةِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الإِْتْيَانِ بِهِ، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ الْحَدَثِ الأَْكْبَرِ وَالأَْصْغَرِ، وَلاَ بَيْنَ نَجَاسَةِ الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ وَالْمَكَانِ.
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَنَّ عِلْمَ الْمُقْتَدِي بِحَدَثِ الإِْمَامِ بَعْدَ الصَّلاَةِ مُغْتَفَرٌ، وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: مَنِ اقْتَدَى بِإِمَامٍ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّ إِمَامَهُ مُحْدِثٌ أَعَادَ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَمَّ قَوْمًا ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهُ كَانَ مُحْدِثًا أَوْ جُنُبًا أَعَادَ صَلاَتَهُ. (1)
وَفَصَّل الْحَنَابِلَةُ فَقَالُوا: لَوْ جَهِلَهُ الْمَأْمُومُ وَحْدَهُ وَعَلِمَهُ الإِْمَامُ يُعِيدُونَ كُلُّهُمْ، أَمَّا إِذَا جَهِلَهُ الإِْمَامُ وَالْمَأْمُومُونَ كُلُّهُمْ حَتَّى قَضَوُا الصَّلاَةَ صَحَّتْ صَلاَةُ الْمَأْمُومِ وَحْدَهُ (2) ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا صَلَّى الْجُنُبُ
__________
(1) البناية على الهداية 2 / 360، وحديث: " من أم قوما ثم ظهر أنه. . . " أورده الزيلعي في نصب الراية (5812) واستغربه، وذكره العيني في البناية شرح الهداية (2 / 360 ط دار الفكر) وقال: لا يعرف، وجاءت فيه الآثار، منها: ما روى محمد بن الحسن في كتاب الآثار (1 / 359 ط المجلس العلمي بالهند) عن إبراهيم بن يزيد المكي عن عمرو بن دينار أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال في الرجل يصلي بالقوم جنبا: يعيد ويعيدون، وروى عبد الرزاق في مصنفه (2 / 351 ط المجلس العلمي) عن إبراهيم بن يزيد المكي عن عمرو بن دينار عن أبي جعفر أن عليا صلى بالناس وهو جنب أو على غير وضوء فأعاد وأمرهم أن يعيدوا خلفه
(2) البناية على الهداية 2 / 360، ومراقي الفلاح هي 157، 158، وجواهر الإكليل 1 / 78، ونهاية المحتاج 2 / 171، 172، وكشاف القناع 1 / 480(6/206)
بِالْقَوْمِ أَعَادَ صَلاَتَهُ وَتَمَّتْ لِلْقَوْمِ صَلاَتُهُمْ. (1) وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (طَهَارَة) .
ط - النِّيَّةُ:
13 - يُشْتَرَطُ فِي الإِْمَامِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ نِيَّةُ الإِْمَامَةِ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الْجَمَاعَةِ: أَنْ يَنْوِيَ الإِْمَامُ أَنَّهُ إِمَامٌ وَيَنْوِيَ الْمَأْمُومُ أَنَّهُ مَأْمُومٌ. وَلَوْ أَحْرَمَ مُنْفَرِدًا ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَصَلَّى مَعَهُ، فَنَوَى إِمَامَتَهُ صَحَّ فِي النَّفْل، لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَال: بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ، فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَطَوِّعًا مِنَ اللَّيْل، فَقَامَ إِلَى الْقِرْبَةِ فَتَوَضَّأَ، فَقَامَ فَصَلَّى، فَقُمْتُ لَمَّا رَأَيْتُهُ صَنَعَ ذَلِكَ، فَتَوَضَّأْتُ مِنَ الْقِرْبَةِ، ثُمَّ قُمْتُ إِلَى شِقِّهِ الأَْيْسَرِ، فَأَخَذَ بِيَدِي مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ يَعْدِلُنِي كَذَلِكَ إِلَى الشِّقِّ الأَْيْمَنِ. (2)
أَمَّا فِي الْفَرْضِ فَإِنْ كَانَ يَنْتَظِرُ أَحَدًا، كَإِمَامِ الْمَسْجِدِ يُحْرِمُ وَحْدَهُ، وَيَنْتَظِرُ مَنْ يَأْتِي فَيُصَلِّي مَعَهُ، فَيَجُوزُ ذَلِكَ أَيْضًا. (3)
وَاخْتَارَ ابْنُ قُدَامَةَ أَنَّ الْفَرْضَ كَالنَّفْل فِي صِحَّةِ صَلاَةِ مَنْ أَحْرَمَ مُنْفَرِدًا ثُمَّ نَوَى أَنْ يَكُونَ إِمَامًا.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: نِيَّةُ الرَّجُل الإِْمَامَةَ شَرْطٌ لِصِحَّةِ اقْتِدَاءِ النِّسَاءِ إِنْ كُنَّ وَحْدَهُنَّ، وَهَذَا فِي صَلاَةٍ ذَاتِ رُكُوعٍ وَسُجُودٍ، لاَ فِي صَلاَةِ الْجِنَازَةِ، لِمَا يَلْزَمُ مِنَ الْفَسَادِ بِمُحَاذَاةِ الْمَرْأَةِ لَهُ لَوْ حَاذَتْهُ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ إِمَامَةَ
__________
(1) حديث: " إذا صلى الجنب بالقوم أعاد صلاته وتمت للقوم صلاتهم " أورده ابن قدامة في المغني (2 / 74) وقال: أخرجه أبو سليمان محمد بن الحسن الحراني في جزء
(2) حديث ابن عباس: " بت عند خالتي ميمونة. . . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 190 - ط السلفية)
(3) المغني 2 / 231 - 232(6/206)
الْمَرْأَةِ وَنَوَتْ هِيَ الاِقْتِدَاءَ بِهِ لَمْ تَضُرَّهُ، فَتَصِحُّ صَلاَتُهُ وَلاَ تَصِحُّ صَلاَتُهَا، لأَِنَّ الاِشْتِرَاكَ لاَ يَثْبُتُ دُونَ النِّيَّةِ. (1)
وَلاَ يُشْتَرَطُ نِيَّةُ الإِْمَامِ الإِْمَامَةَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، إِلاَّ فِي الْجُمُعَةِ وَالصَّلاَةِ الْمُعَادَةِ وَالْمَنْذُورَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، لَكِنَّهُ يُسْتَحَبُّ عِنْدَهُمْ لِلإِْمَامِ أَنْ يَنْوِيَ الإِْمَامَةَ فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ لِلْخُرُوجِ مِنْ خِلاَفِ الْمُوجِبِ لَهَا، وَلِيَحُوزَ فَضِيلَةَ الإِْمَامَةِ وَصَلاَةِ الْجَمَاعَةِ. (2)
الأَْحَقُّ بِالإِْمَامَةِ:
14 - وَرَدَتْ فِي ذَلِكَ الأَْحَادِيثُ التَّالِيَةُ: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا كَانُوا ثَلاَثَةً فَلْيَؤُمَّهُمْ أَحَدُهُمْ، وَأَحَقُّهُمْ بِالإِْمَامَةِ أَقْرَؤُهُمْ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ. وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ عُقْبَةَ بْنِ عَمْرٍو قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ، فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ، فَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً، فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ سِنًّا، وَلاَ يَؤُمَّنَّ الرَّجُل الرَّجُل فِي سُلْطَانِهِ، وَلاَ يَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ عَلَى تَكْرِمَتِهِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ. (3)
15 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ وَكَانَ فِيهِمْ ذُو سُلْطَانٍ، كَأَمِيرٍ وَوَالٍ وَقَاضٍ فَهُوَ أَوْلَى بِالإِْمَامَةِ مِنَ الْجَمِيعِ حَتَّى مِنْ صَاحِبِ الْمَنْزِل وَإِمَامِ الْحَيِّ، وَهَذَا إِذَا كَانَ مُسْتَجْمِعًا لِشُرُوطِ صِحَّةِ
__________
(1) مراقي الفلاح ص 158، وفتح القدير 1 / 314
(2) بلغة السالك 1 / 451، ونهاية المحتاج 2 / 204، 205
(3) حديث: " يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله " أخرجه مسلم (1 / 465 - ط الحلبي)(6/207)
الصَّلاَةِ كَحِفْظِ مِقْدَارِ الْفَرْضِ مِنَ الْقِرَاءَةِ وَالْعِلْمِ بِأَرْكَانِ الصَّلاَةِ، حَتَّى وَلَوْ كَانَ بَيْنَ الْقَوْمِ مَنْ هُوَ أَفْقَهُ أَوْ أَقْرَأُ مِنْهُ، لأَِنَّ وِلاَيَتَهُ عَامَّةٌ، وَلأَِنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يُصَلِّي خَلْفَ الْحَجَّاجِ.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ ذُو سُلْطَانٍ يُقَدَّمُ صَاحِبُ الْمَنْزِل، وَيُقَدَّمُ إِمَامُ الْحَيِّ وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ أَفْقَهَ أَوْ أَقْرَأَ أَوْ أَوْرَعَ مِنْهُ، إِنْ شَاءَ تَقَدَّمَ وَإِنْ شَاءَ قَدَّمَ مَنْ يُرِيدُهُ. لَكِنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِصَاحِبِ الْمَنْزِل أَنْ يَأْذَنَ لِمَنْ هُوَ أَفْضَل مِنْهُ.
وَاتَّفَقُوا كَذَلِكَ عَلَى أَنَّ بِنَاءَ أَمْرِ الإِْمَامَةِ عَلَى الْفَضِيلَةِ وَالْكَمَال، وَمَنِ اسْتَجْمَعَ خِصَال الْعِلْمِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَالْوَرَعِ وَكِبَرِ السِّنِّ وَغَيْرِهَا مِنَ الْفَضَائِل كَانَ أَوْلَى بِالإِْمَامَةِ.
وَلاَ خِلاَفَ فِي تَقْدِيمِ الأَْعْلَمِ وَالأَْقْرَأِ عَلَى سَائِرِ النَّاسِ، وَلَوْ كَانَ فِي الْقَوْمِ مَنْ هُوَ أَفْضَل مِنْهُ فِي الْوَرَعِ وَالسِّنِّ وَسَائِرِ الأَْوْصَافِ. (1)
وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ) (2) عَلَى أَنَّ الأَْعْلَمَ بِأَحْكَامِ الْفِقْهِ أَوْلَى بِالإِْمَامَةِ مِنَ الأَْقْرَأِ، لِحَدِيثِ: مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَل بِالنَّاسِ وَكَانَ ثَمَّةَ مَنْ هُوَ أَقْرَأُ مِنْهُ، لاَ أَعْلَمُ مِنْهُ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَقْرَؤُكُمْ أُبَيٌّ (3) ، وَلِقَوْل أَبِي سَعِيدٍ:
__________
(1) مراقي الفلاح ص 163، وفتح القدير 1 / 301 - 304، ونهاية المحتاج 2 / 175 - 179، وجواهر الإكليل 1 / 83، وكشاف القناع 1 / 473، وبدائع الصنائع 1 / 157، والمغني لابن قدامة 2 / 206
(2) فتح القدير 1 / 303، ونهاية المحتاج 2 / 175، وجواهر الإكليل 1 / 83
(3) حديث: " أقرؤكم أبي "، أخرجه الترمذي (5 / 664 - ط الحلبي) وهو حديث صحيح. الإصابة لابن حجر (3 / 427 - ط مطبعة السعادة)(6/207)
كَانَ أَبُو بَكْرٍ أَعْلَمَنَا، وَهَذَا آخِرُ الأَْمْرَيْنِ مِنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَكُونُ الْمُعَوَّل عَلَيْهِ. (1) وَلأَِنَّ الْحَاجَةَ إِلَى الْفِقْهِ أَهَمُّ مِنْهَا إِلَى الْقِرَاءَةِ، لأَِنَّ الْقِرَاءَةَ إِنَّمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهَا لإِِقَامَةِ رُكْنٍ وَاحِدٍ، وَالْفِقْهُ يُحْتَاجُ إِلَيْهِ لِجَمِيعِ الأَْرْكَانِ وَالْوَاجِبَاتِ وَالسُّنَنِ. (2)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ قَوْل أَبِي يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّ أَقْرَأَ النَّاسِ أَوْلَى بِالإِْمَامَةِ مِمَّنْ هُوَ أَعْلَمُهُمْ، لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ قَال: قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا كَانُوا ثَلاَثَةٌ فَلْيَؤُمَّهُمْ أَحَدُهُمْ، وَأَحَقُّهُمْ بِالإِْمَامَةِ أَقْرَؤُهُمْ (3) وَلأَِنَّ الْقِرَاءَةَ رُكْنٌ لاَ بُدَّ مِنْهُ، وَالْحَاجَةُ إِلَى الْعِلْمِ إِذَا عَرَضَ عَارِضٌ مُفْسِدٌ لِيُمْكِنَهُ إِصْلاَحُ صَلاَتِهِ، وَقَدْ يَعْرِضُ وَقَدْ لاَ يَعْرِضُ. (4)
16 - أَمَّا إِذَا تَفَرَّقَتْ خِصَال الْفَضِيلَةِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْقِرَاءَةِ وَالْوَرَعِ وَكِبَرِ السِّنِّ وَغَيْرِهَا فِي أَشْخَاصٍ فَقَدِ اخْتَلَفَتْ أَقْوَال الْفُقَهَاءِ. فَمِنْهُمْ مَنْ قَدَّمَ الأَْعْلَمَ عَلَى الأَْقْرَأِ، وَقَالُوا: إِنَّمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَقْدِيمِ الْقَارِئِ، لأَِنَّ أَصْحَابَهُ كَانَ أَقْرَؤُهُمْ أَعْلَمَهُمْ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ تَعَلَّمُوا مَعَهُ أَحْكَامَهُ، وَهَذَا قَوْل جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ. وَالأَْصْل فِي أَوْلَوِيَّةِ الإِْمَامَةِ حَدِيثُ أَبِي مَسْعُودٍ الأَْنْصَارِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَال: يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ، فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ، فَإِنْ
__________
(1) فتح القدير 1 / 303
(2) الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 163، والبدائع 1 / 157، ونهاية المحتاج2 / 175
(3) كشاف القناع 1 / 471، وفتح القدير 1 / 301. والحديث رواه أحمد ومسلم والنسائي
(4) كشاف القناع 1 / 471، وفتح القدير 1 / 301(6/208)
كَانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً، فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ سِنًّا. (1)
17 - وَفِي تَرْتِيبِ الأَْوْلَوِيَّةِ فِي الإِْمَامَةِ بَعْدَ الاِسْتِوَاءِ فِي الْعِلْمِ وَالْقِرَاءَةِ، قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: يُقَدَّمُ أَوْرَعُهُمْ أَيِ الأَْكْثَرُ اتِّقَاءً لِلشُّبُهَاتِ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: مَنْ صَلَّى خَلْفَ عَالِمٍ تَقِيٍّ فَكَأَنَّمَا صَلَّى خَلْفَ نَبِيٍّ (2) وَلأَِنَّ الْهِجْرَةَ الْمَذْكُورَةَ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ وَالْعِلْمِ بِالسُّنَّةِ نُسِخَ وُجُوبُهَا بِحَدِيثِ: لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ (3) فَجَعَلُوا الْوَرَعَ - وَهُوَ هَجْرُ الْمَعَاصِي - مَكَانَ تِلْكَ الْهِجْرَةِ. (4)
وَمِثْلُهُ مَا صَرَّحَ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ حَيْثُ قَالُوا: الأَْوْلَوِيَّةُ بَعْدَ الأَْعْلَمِ وَالأَْقْرَأِ لِلأَْكْثَرِ عِبَادَةً. (5) ثُمَّ إِنِ اسْتَوَوْا فِي الْوَرَعِ يُقَدَّمُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ الأَْقْدَمُ إِسْلاَمًا، فَيُقَدَّمُ شَابٌّ نَشَأَ فِي الإِْسْلاَمِ عَلَى شَيْخٍ أَسْلَمَ حَدِيثًا. أَمَّا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ مِنَ الأَْصْل، أَوْ أَسْلَمُوا مَعًا فَإِنَّهُ يُقَدَّمُ الأَْكْبَرُ سِنًّا، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَلْيَؤُمَّكُمَا أَكْبَرُكُمَا سِنًّا (6) . وَلأَِنَّ الأَْكْبَرَ فِي السِّنِّ يَكُونُ أَخْشَعَ قَلْبًا عَادَةً، وَفِي تَقْدِيمِهِ كَثْرَةُ الْجَمَاعَةِ. (7)
__________
(1) حديث أبي مسعود تقدم ف / 14
(2) حديث: " من صلى خلف عالم. . . . " أورده الزيلعي في نصب الراية (2 / 26 - ط المجلس العلمي - الهند) وقال: غريب
(3) حديث: " لا هجرة بعد الفتح. . . " أخرجه البخاري (الفتح 6 / 3 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1488 - ط الحلبي)
(4) فتح القدير 1 / 303، وابن عابدين 1 / 374، ونهاية المحتاج 2 / 176
(5) جواهر الإكليل 1 / 83
(6) حديث: " وليؤمكما أكبركما سنا " أخرجه البخاري (الفتح 2 / 111 - ط السلفية)
(7) ابن عابدين 1 / 374، ونهاية المحتاج 1 / 178، وجواهر الإكليل 1 / 83(6/208)
18 - فَإِنِ اسْتَوَوْا فِي الصِّفَاتِ وَالْخِصَال الْمُتَقَدِّمَةِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْقِرَاءَةِ وَالْوَرَعِ وَالسِّنِّ، قَال الْحَنَفِيَّةُ: يُقَدَّمُ الأَْحْسَنُ خُلُقًا، لأَِنَّ حُسْنَ الْخُلُقِ مِنْ بَابِ الْفَضِيلَةِ، وَمَبْنَى الإِْمَامَةِ عَلَى الْفَضِيلَةِ، فَإِنْ كَانُوا فِيهِ سَوَاءً فَأَحْسَنُهُمْ وَجْهًا، لأَِنَّ رَغْبَةَ النَّاسِ فِي الصَّلاَةِ خَلْفَهُ أَكْثَرُ، ثُمَّ الأَْشْرَفُ نَسَبًا، ثُمَّ الأَْنْظَفُ ثَوْبًا. فَإِنِ اسْتَوَوْا يُقْرَعُ بَيْنَهُمْ. (1)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُقَدَّمُ بَعْدَ الأَْسَنِّ الأَْشْرَفُ نَسَبًا، ثُمَّ الأَْحْسَنُ صُورَةً، ثُمَّ الأَْحْسَنُ أَخْلاَقًا، ثُمَّ الأَْحْسَنُ ثَوْبًا. (2)
وَالشَّافِعِيَّةُ كَالْمَالِكِيَّةِ فِي تَقْدِيمِ الأَْشْرَفِ نَسَبًا، ثُمَّ الأَْنْظَفِ ثَوْبًا وَبَدَنًا، وَحَسَنِ صَوْتٍ، وَطَيِّبِ صِفَةٍ وَغَيْرِهَا، ثُمَّ يُقْرَعُ بَيْنَهُمْ. (3)
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ صَرَّحُوا أَنَّهُ إِنِ اسْتَوَوْا فِي الْقِرَاءَةِ وَالْفِقْهِ فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً، ثُمَّ أَسَنُّهُمْ، ثُمَّ أَشْرَفُهُمْ نَسَبًا، ثُمَّ أَتْقَاهُمْ وَأَوْرَعُهُمْ، فَإِنِ اسْتَوَوْا فِي هَذَا كُلِّهِ أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ. وَلاَ يُقَدَّمُ بِحُسْنِ الْوَجْهِ عِنْدَهُمْ، لأَِنَّهُ لاَ مَدْخَل لَهُ فِي الإِْمَامَةِ، وَلاَ أَثَرَ لَهُ فِيهَا. (4)
وَهَذَا التَّقْدِيمُ إِنَّمَا هُوَ عَلَى سَبِيل الاِسْتِحْبَابِ وَلَيْسَ عَلَى سَبِيل الاِشْتِرَاطِ وَلاَ الإِْيجَابِ، فَلَوْ قُدِّمَ الْمَفْضُول كَانَ جَائِزًا اتِّفَاقًا مَا دَامَ مُسْتَجْمِعًا شَرَائِطَ الصِّحَّةِ، لَكِنْ مَعَ الْكَرَاهَةِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ. وَالْمَقْصُودُ بِذِكْرِ هَذِهِ الأَْوْصَافِ وَرَبْطِ الأَْوْلَوِيَّةِ بِهَا هُوَ كَثْرَةُ
__________
(1) البدائع 1 / 158، وابن عابدين 1 / 375
(2) جواهر الإكليل 1 / 83
(3) نهاية المحتاج 2 / 176 - 178، والمهذب 1 / 102، 103
(4) المغني 2 / 182 - 185، وكشاف القناع 1 / 471، 472(6/209)
الْجَمَاعَةِ، فَكُل مَنْ كَانَ أَكْمَل فَهُوَ أَفْضَل، لأَِنَّ رَغْبَةَ النَّاسِ فِيهِ أَكْثَرُ. (1)
اخْتِلاَفُ صِفَةِ الإِْمَامِ وَالْمُقْتَدِي:
19 - الأَْصْل أَنَّ الإِْمَامَ إِذَا كَانَ أَقْوَى حَالاً مِنَ الْمُقْتَدِي أَوْ مُسَاوِيًا لَهُ صَحَّتْ إِمَامَتُهُ اتِّفَاقًا، أَمَّا إِذَا كَانَ أَضْعَفَ حَالاً، كَأَنْ كَانَ يُصَلِّي نَافِلَةً وَالْمُقْتَدِي يُصَلِّي فَرِيضَةً، أَوْ كَانَ الإِْمَامُ مَعْذُورًا وَالْمُقْتَدِي سَلِيمًا، أَوْ كَانَ الإِْمَامُ غَيْرَ قَادِرٍ عَلَى الْقِيَامِ مَثَلاً وَالْمُقْتَدِي قَادِرًا، فَقَدِ اخْتَلَفَتْ آرَاءُ الْفُقَهَاءِ، وَإِجْمَالُهَا فِيمَا يَأْتِي:
أَوَّلاً: تَجُوزُ إِمَامَةُ الْمَاسِحِ لِلْغَاسِل وَإِمَامَةُ الْمُسَافِرِ لِلْمُقِيمِ اتِّفَاقًا، وَتَجُوزُ إِمَامَةُ الْمُتَيَمِّمِ لِلْمُتَوَضِّئِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) ، وَقَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ هَذَا الْجَوَازَ بِمَا إِذَا لَمْ تَجِبْ عَلَى الإِْمَامِ الإِْعَادَةُ. (2)
ثَانِيًا: جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ إِمَامَةِ الْمُتَنَفِّل لِلْمُفْتَرِضِ، وَالْمُفْتَرِضِ لِلَّذِي يُؤَدِّي فَرْضًا آخَرَ، وَعَدَمِ إِمَامَةِ الصَّبِيِّ لِلْبَالِغِ فِي فَرْضٍ، وَإِمَامَةِ الْمَعْذُورِ لِلسَّلِيمِ، وَإِمَامَةِ الْعَارِي لِلْمُكْتَسِي، وَإِمَامَةِ الْعَاجِزِ عَنْ تَوْفِيَةِ رُكْنٍ لِلْقَادِرِ عَلَيْهِ، مَعَ خِلاَفٍ وَتَفْصِيلٍ فِي بَعْضِ الْفُرُوعِ، أَمَّا إِمَامَةُ هَؤُلاَءِ
__________
(1) المراجع السابقة. والفتاوى الهندية 1 / 83، والمغني 2 / 185
(2) فتح القدير 1 / 320 - 324، وابن عابدين 1 / 396، والهندية 1 / 85 والدسوقي 1 / 329، والحطاب 1 / 348، وجواهر الإكليل 1 / 24، 26، 87، ومغني المحتاج 1 / 238، 240، 269، وكشاف القناع 1 / 474 - 484(6/209)
لأَِمْثَالِهِمْ فَجَائِزَةٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ. (1)
وَلِلتَّفْصِيل يُرْجَعُ إِلَى بَحْثِ: (اقْتِدَاء) .
مَوْقِفُ الإِْمَامِ:
20 - إِذَا كَانَ يُصَلِّي مَعَ الإِْمَامِ اثْنَانِ أَوْ أَكْثَرُ فَإِنَّ الإِْمَامَ يَتَقَدَّمُهُمْ فِي الْمَوْقِفِ، لِفِعْل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَمَل الأُْمَّةِ بِذَلِكَ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ جَابِرًا وَجَبَّارًا وَقَفَ أَحَدُهُمَا عَنْ يَمِينِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالآْخَرُ عَنْ يَسَارِهِ، فَأَخَذَ بِأَيْدِيهِمَا حَتَّى أَقَامَهُمَا خَلْفَهُ. (2) وَلأَِنَّ الإِْمَامَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بِحَالٍ يَمْتَازُ بِهَا عَنْ غَيْرِهِ، وَلاَ يَشْتَبِهُ عَلَى الدَّاخِل لِيُمْكِنَهُ الاِقْتِدَاءُ بِهِ.
وَلَوْ قَامَ فِي وَسَطِ الصَّفِّ أَوْ فِي مَيْسَرَتِهِ جَازَ مَعَ الْكَرَاهَةِ لِتَرْكِهِ السُّنَّةَ. وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ بُطْلاَنَ صَلاَةِ مَنْ يَقِفُ عَلَى يَسَارِ الإِْمَامِ، إِذَا لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ عَنْ يَمِينِهِ. (3)
وَلَوْ كَانَ مَعَ الإِْمَامِ رَجُلٌ وَاحِدٌ أَوْ صَبِيٌّ يَعْقِل الصَّلاَةَ وَقَفَ الإِْمَامُ عَنْ يَسَارِهِ وَالْمَأْمُومُ عَنْ يَمِينِهِ، لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ وَقَفَ عَنْ يَسَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَدَارَهُ إِلَى يَمِينِهِ (4) . وَيُنْدَبُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ
__________
(1) فتح القدير 1 / 310، 318، 324، والزيلعي 1 / 140، وابن عابدين 1 / 370، والدسوقي 1 / 328، 333، والمواق 1 / 507، وجواهر الإكليل 1 / 78، 80، ومغني المحتاج 1 / 241، 253، وكشاف القناع 1 / 476، 484، والمغني لابن قدامة 2 / 225، 229
(2) حديث جابر وجبار. . . . أخرجه مسلم (4 / 2305 - 2306 - ط الحلبي)
(3) البدائع 1 / 158، وكشاف القناع 1 / 485، والمهذب 1 / 78، وجواهر الإكليل 1 / 83
(4) حديث ابن عباس " أنه وقف عن يسار النبي صلى الله عليه وسلم. . . . . " أخرجه البخاري ومسلم، ولفظ البخاري، " بت في بيت خالتي ميمونة، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء، ثم جاء فصلى أربع ركعات، ثم نام، ثم قام. فجئت فقمت عن يساره فجعلني عن يمينه. . . . . " (فتح الباري 2 / 190 ط السلفية، وصحيح مسلم 1 / 525، 526 - ط عيسى الحلبي)(6/210)
تَأَخُّرُ الْمَأْمُومِ قَلِيلاً خَوْفًا مِنَ التَّقَدُّمِ. وَلَوْ وَقَفَ الْمَأْمُومُ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ خَلْفَهُ جَازَ مَعَ الْكَرَاهَةِ (1) إِلاَّ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فَتَبْطُل عَلَى مَا سَبَقَ.
وَلَوْ كَانَ مَعَهُ امْرَأَةٌ أَقَامَهَا خَلْفَهُ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَخِّرُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَخَّرَهُنَّ اللَّهُ. (2)
وَلَوْ كَانَ مَعَهُ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ أَقَامَ الرَّجُل عَنْ يَمِينِهِ وَالْمَرْأَةَ خَلْفَهُ، وَإِنْ كَانَ رَجُلاَنِ وَامْرَأَةٌ أَقَامَ الرَّجُلَيْنِ خَلْفَهُ وَالْمَرْأَةَ وَرَاءَهُمَا. (3)
1 - وَالسُّنَّةُ أَنْ تَقِفَ الْمَرْأَةُ الَّتِي تَؤُمُّ النِّسَاءَ وَسْطَهُنَّ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ وَأُمَّ سَلَمَةَ أُمَّتَا نِسَاءً فَقَامَتَا وَسْطَهُنَّ (4) وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. (5)
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ صَرَّحُوا بِعَدَمِ جَوَازِ إِمَامَتِهَا وَلَوْ لِمِثْلِهَا، فِي فَرِيضَةٍ كَانَتْ أَوْ فِي نَافِلَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي شُرُوطِ الإِْمَامَةِ. (6)
__________
(1) كشاف القناع 1 / 486، والبدائع 1 / 159
(2) حديث: " أخروهن من حيث. . . " سبق تخريجه (ف / 8)
(3) الفتاوى الهندية 1 / 88، والقوانين لابن جزي ص 49، وقليوبي 1 / 296، والمهذب 1 / 106، 107، وكشاف القناع 1 / 488، والمغني 2 / 203
(4) حديث عائشة أخرجه عبد الرزاق (3 / 141 - ط المجلس العلمي) وصححه النووي، وحديث أم سلمة أخرجه عبد الرزاق (3 / 140) وصححه النووي كذلك كما في نصب الراية (2 / 31 - ط المجلس العلمي)
(5) الاختيار 1 / 59، والمهذب 1 / 107، وكشاف القناع 1 / 479، والمغني 2 / 199، 202
(6) جواهر الإكليل 1 / 78، والدسوقي 1 / 326(6/210)
22 - وَلاَ يَجُوزُ تَأَخُّرُ الإِْمَامِ عَنِ الْمَأْمُومِ فِي الْمَوْقِفِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) لِحَدِيثِ: إِنَّمَا جُعِل الإِْمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ (1) وَمَعْنَى الاِئْتِمَامِ الاِتِّبَاعُ، وَالْمُتَقَدِّمُ غَيْرُ تَابِعٍ. (2)
وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ تَأَخُّرَهُ فِي الْمَوْقِفِ إِذَا أَمْكَنَ لِلْمَأْمُومِينَ مُتَابَعَتُهُ فِي الأَْرْكَانِ، لَكِنَّهُمْ صَرَّحُوا بِكَرَاهَةِ تَقَدُّمِ الْمُقْتَدِي عَلَى الإِْمَامِ أَوْ مُحَاذَاتِهِ لَهُ إِلاَّ لِضَرُورَةٍ. (3)
وَالاِخْتِيَارُ فِي التَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ لِلْقَائِمِ بِالْعَقِبِ، وَلِلْقَاعِدِ بِالأَْلْيَةِ، وَلِلْمُضْطَجِعِ بِالْجَنْبِ. (4)
23 - هَذَا، وَيُكْرَهُ أَنْ يَكُونَ مَوْقِفُ الإِْمَامِ عَالِيًا عَنْ مَوْقِفِ الْمُقْتَدِينَ اتِّفَاقًا، إِلاَّ إِذَا أَرَادَ الإِْمَامُ تَعْلِيمَ الْمَأْمُومِينَ، فَالسُّنَّةُ أَنْ يَقِفَ الإِْمَامُ فِي مَوْضِعٍ عَالٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَل ذَلِكَ ثُمَّ قَال: أَيُّهَا النَّاسُ: إِنَّمَا فَعَلْتُ هَذَا لِتَأْتَمُّوا بِي، وَلِتَعْلَمُوا صَلاَتِي. (5) أَمَّا إِذَا أَرَادَ الإِْمَامُ بِذَلِكَ الْكِبْرَ فَمَمْنُوعٌ. وَلاَ بَأْسَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ بِالْعُلُوِّ الْيَسِيرِ، وَقَدَّرُوهُ بِمِثْل دَرَجَةِ الْمِنْبَرِ. وَقَدَّرَ الْحَنَفِيَّةُ الْعُلُوَّ الْمَكْرُوهَ بِمَا كَانَ قَدْرَ ذِرَاعٍ عَلَى الْمُعْتَمَدِ. (6)
__________
(1) حديث: " إنما جعل الإمام ليؤتم به. . . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 173 - ط السلفية)
(2) ابن عابدين 1 / 370، والبدائع 1 / 158، 159، والمهذب 1 / 107، ومغني المحتاج 1 / 245، والمغني 2 / 214، وكشاف القناع 1 / 486
(3) بلغة السالك 1 / 457، والفواكه الدواني 1 / 246
(4) المراجع السابقة
(5) حديث: " أيها الناس إني صنعت هذا لتأتموا بي. . . . " أخرجه مسلم (1 / 387 - ط الحلبي)
(6) ابن عابدين 1 / 394، والمهذب 1 / 107، والدسوقي 1 / 336، والمغني لابن قدامة 2 / 209، 210، والطحطاوي على مراقي الفلاح ص 198(6/211)
وَلِتَفْصِيل هَذِهِ الْمَسَائِل يُرَاجَعُ مُصْطَلَحُ: (صَلاَةُ الْجَمَاعَةِ) (وَاقْتِدَاء) .
مَنْ تُكْرَهُ إِمَامَتُهُمْ:
24 - إِنَّ بِنَاءَ أَمْرِ الإِْمَامَةِ عَلَى الْفَضِيلَةِ وَالْكَمَال، فَكُل مَنْ كَانَ أَكْمَل فَهُوَ أَفْضَل، وَإِنْ تَقَدَّمَ الْمَفْضُول عَلَى الْفَاضِل جَازَ وَكُرِهَ وَإِذَا أَذِنَ الْفَاضِل لِلْمَفْضُول لَمْ يُكْرَهْ، وَهَذَا الْقَدْرُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ. (1) وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ فِي بَحْثِ الأَْوْلَوِيَّةِ.
ثُمَّ قَال الْحَنَفِيَّةُ: يُكْرَهُ تَقْدِيمُ الْعَبْدِ لأَِنَّهُ لاَ يَتَفَرَّغُ لِلتَّعَلُّمِ، وَالأَْعْرَابِيِّ وَهُوَ مَنْ يَسْكُنُ الْبَادِيَةَ لِغَلَبَةِ الْجَهْل عَلَيْهِ، وَيُكْرَهُ تَقْدِيمُ الْفَاسِقِ لأَِنَّهُ لاَ يَهْتَمُّ بِأَمْرِ دِينِهِ، وَالأَْعْمَى لأَِنَّهُ لاَ يَتَوَقَّى النَّجَاسَةَ، كَمَا يُكْرَهُ إِمَامَةُ وَلَدِ الزِّنَا، وَالْمُبْتَدَعِ بِدْعَةً غَيْرِ مُكَفِّرَةٍ، كَذَلِكَ يُكْرَهُ إِمَامَةُ أَمْرَدَ وَسَفِيهٍ وَمَفْلُوجٍ وَأَبْرَصَ شَاعَ بَرَصُهُ (2) . وَلأَِنَّ فِي تَقْدِيمِ هَؤُلاَءِ تَنْفِيرَ الْجَمَاعَةِ، لَكِنَّهُ إِنْ تَقَدَّمُوا جَازَ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: صَلُّوا خَلْفَ كُل بَرٍّ وَفَاجِرٍ. (3)
وَالْكَرَاهَةُ فِي حَقِّهِمْ لِمَا ذُكِرَ مِنَ النَّقَائِصِ، فَلَوْ عُدِمَتْ بِأَنْ كَانَ الأَْعْرَابِيُّ أَفْضَل مِنَ الْحَضَرِيِّ، وَالْعَبْدُ مِنَ الْحُرِّ، وَوَلَدُ الزِّنَا مِنْ وَلَدِ الرِّشْدَةِ وَالأَْعْمَى مِنَ الْبَصِيرِ زَالَتِ الْكَرَاهَةُ. أَمَّا الْفَاسِقُ
__________
(1) كشاف القناع 1 / 473، والبدائع 1 / 157، 158، والفتاوى الهندية 1 / 183، والمغني لابن قدامة 2 / 185، ونهاية المحتاج 2 / 174، وجواهر الإكليل 1 / 83
(2) ابن عابدين 1 / 376، 378، والاختيار 1 / 58
(3) حديث: " صلوا خلف كل بر وفاجر. . . . " أخرجه أبو داود (1 / 398 - ط عزت عبيد دعاس) والدارقطني (2 / 56 - ط دار المحاسن) واللفظ له، وقال ابن حجر: منقطع (التلخيص 2 / 35 - ط دار المحاسن) .(6/211)
وَالْمُبْتَدِعُ فَلاَ تَخْلُو إِمَامَتُهُمَا عَنِ الْكَرَاهَةِ بِحَالٍ، حَتَّى صَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ كَرَاهَةَ تَقْدِيمِهِمَا كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ. (1)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: كُرِهَ إِمَامَةُ مَقْطُوعِ الْيَدِ أَوِ الرِّجْل وَالأَْشَل وَالأَْعْرَابِيِّ لِغَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ أَقْرَأَ، وَكُرِهَ إِمَامَةُ ذِي السَّلَسِ وَالْقُرُوحِ لِلصَّحِيحِ، وَإِمَامَةُ مَنْ يَكْرَهُهُ بَعْضُ الْجَمَاعَةِ، فَإِنْ كَرِهَهُ الْكُل أَوِ الأَْكْثَرُ، أَوْ ذُو الْفَضْل مِنْهُمْ - وَإِنْ قَلُّوا - فَإِمَامَتُهُ حَرَامٌ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَعَنَ رَسُول اللَّهِ ثَلاَثَةً: رَجُلٌ أَمَّ قَوْمًا وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ. . . (2) كَمَا كُرِهَ أَنْ يُجْعَل إِمَامًا رَاتِبًا كُلٌّ مِنَ الْخَصِيِّ أَوِ الْمَأْبُونِ أَوِ الأَْقْلَفِ (غَيْرِ الْمَخْتُونِ) أَوْ وَلَدِ الزِّنَا، أَوْ مَجْهُول الْحَال. (3)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يُكْرَهُ إِمَامَةُ الْفَاسِقِ وَالأَْقْلَفِ وَإِنْ كَانَ بَالِغًا، كَمَا يُكْرَهُ إِمَامَةُ الْمُبْتَدِعِ، وَمَنْ يَكْرَهُهُ أَكْثَرُ الْقَوْمِ لأَِمْرٍ مَذْمُومٍ فِيهِ شَرْعًا، وَالتَّمْتَامِ وَالْفَأْفَاءِ، وَاللاَّحِنِ لَحْنًا غَيْرَ مُغَيِّرٍ لِلْمَعْنَى، لَكِنَّ الأَْعْمَى وَالْبَصِيرَ سِيَّانِ فِي الإِْمَامَةِ، لِتَعَارُضِ فَضِيلَتِهِمَا، لأَِنَّ الأَْعْمَى لاَ يَنْظُرُ مَا يَشْغَلُهُ فَهُوَ أَخْشَعُ، وَالْبَصِيرُ يَنْظُرُ الْخَبَثَ فَهُوَ أَحْفَظُ لِتَجَنُّبِهِ. وَإِمَامَةُ الْحُرِّ أَوْلَى مِنَ الْعَبْدِ، وَالسَّمِيعِ أَوْلَى مِنَ الأَْصَمِّ، وَالْفَحْل أَوْلَى مِنَ الْخَصِيِّ وَالْمَجْبُوبِ، وَالْقَرَوِيِّ أَوْلَى مِنَ الْبَدَوِيِّ. (4)
__________
(1) الاختيار 1 / 85، وابن عابدين 1 / 376
(2) حديث: " لعن رسول الله ثلاثة. . . " أخرجه الترمذي (2 / 191 - ط الحلبي) وقال الترمذي: محمد بن القاسم - الذي في إسناده - تكلم فيه أحمد بن حنبل وضعفه وليس بالحافظ، وضعفه العراقي
(3) جواهر الإكليل 1 / 78، 79
(4) نهاية المحتاج2 / 168 - 174(6/212)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: تُكْرَهُ إِمَامَةُ الأَْعْمَى وَالأَْصَمِّ وَاللَّحَّانِ الَّذِي لاَ يُحِيل الْمَعْنَى، وَمَنْ يُصْرَعُ، وَمَنِ اخْتُلِفَ فِي صِحَّةِ إِمَامَتِهِ، وَكَذَا إِمَامَةُ الأَْقْلَفِ وَأَقْطَعِ الْيَدَيْنِ أَوْ إِحْدَاهُمَا، أَوِ الرِّجْلَيْنِ أَوْ إِحْدَاهُمَا، وَالْفَأْفَاءِ وَالتَّمْتَامِ، وَأَنْ يَؤُمَّ قَوْمًا أَكْثَرُهُمْ يَكْرَهُهُ لِخَلَلٍ فِي دِينِهِ أَوْ فَضْلِهِ. وَلاَ بَأْسَ بِإِمَامَةِ وَلَدِ الزِّنَا وَاللَّقِيطِ وَالْمَنْفِيِّ بِاللِّعَانِ وَالْخَصِيِّ وَالأَْعْرَابِيِّ، إِذَا سَلِمَ دِينُهُمْ وَصَلُحُوا لَهَا. (1)
هَذَا، وَالْكَرَاهَةُ إِنَّمَا تَكُونُ فِيمَا إِذَا وُجِدَ فِي الْقَوْمِ غَيْرُ هَؤُلاَءِ، وَإِلاَّ فَلاَ كَرَاهَةَ اتِّفَاقًا. (2)
مَا يَفْعَلُهُ الإِْمَامُ قَبْل بِدَايَةِ الصَّلاَةِ:
25 - إِذَا أَرَادَ الإِْمَامُ الصَّلاَةَ يَأْذَنُ لِلْمُؤَذِّنِ أَنْ يُقِيمَهَا، فَإِنَّ بِلاَلاً كَانَ يَسْتَأْذِنُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلإِْقَامَةِ، وَيُسَنُّ لِلإِْمَامِ أَنْ يَقُومَ لِلصَّلاَةِ حِينَ يُقَال (حَيَّ عَلَى الْفَلاَحِ) أَوْ حِينَ قَوْل الْمُؤَذِّنِ: (قَدْ قَامَتِ الصَّلاَةُ) أَوْ مَعَ الإِْقَامَةِ أَوْ بَعْدَهَا بِقَدْرِ الطَّاقَةِ عَلَى تَفْصِيلٍ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، وَإِذَا كَانَ مُسَافِرًا يُخْبِرُ الْمَأْمُومِينَ بِذَلِكَ لِيَكُونُوا عَلَى عِلْمٍ بِحَالِهِ، وَيَصِحُّ أَنْ يُخْبِرَهُمْ بِعَدَمِ تَمَامِ الصَّلاَةِ لِيُكْمِلُوا صَلاَتَهُمْ. كَمَا يُسَنُّ أَنْ يَأْمُرَ بِتَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ فَيَلْتَفِتَ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ قَائِلاً: اعْتَدِلُوا وَسَوُّوا صُفُوفَكُمْ، لِمَا رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ قَال: صَلَّيْتُ إِلَى جَانِبِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ يَوْمًا فَقَال: هَل تَدْرِي لِمَ صُنِعَ هَذَا
__________
(1) المغني 2 / 196 - 229، 230، وكشاف القناع 1 / 475 - 484
(2) المراجع السابقة(6/212)
الْعُودُ؟
فَقُلْتُ: لاَ وَاَللَّهِ. فَقَال: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلاَةِ أَخَذَهُ بِيَمِينِهِ فَقَال: اعْتَدِلُوا وَسَوُّوا صُفُوفَكُمْ، ثُمَّ أَخَذَهُ بِيَسَارِهِ وَقَال: اعْتَدِلُوا وَسَوُّوا صُفُوفَكُمْ، وَفِي رِوَايَةٍ: اعْتَدِلُوا فِي صُفُوفِكُمْ وَتَرَاصُّوا، فَإِنِّي أَرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي (1) .
مَا يَفْعَلُهُ الإِْمَامُ أَثْنَاءَ الصَّلاَةِ:
أ - الْجَهْرُ أَوِ الإِْسْرَارُ بِالْقِرَاءَةِ:
26 - يَجْهَرُ الإِْمَامُ بِالْقِرَاءَةِ فِي الْفَجْرِ وَالرَّكْعَتَيْنِ الأُْولَيَيْنِ مِنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ أَدَاءً وَقَضَاءً، وَكَذَلِكَ فِي الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَالتَّرَاوِيحِ وَالْوِتْرِ بَعْدَهَا. وَيُسِرُّ فِي غَيْرِهَا مِنَ الصَّلَوَاتِ.
وَالْجَهْرُ فِيمَا يَجْهَرُ فِيهِ وَالْمُخَافَتَةُ فِيمَا يُخَافِتُ فِيهِ وَاجِبٌ عَلَى الإِْمَامِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَسُنَّةٌ عِنْدَ غَيْرِهِمْ. (2) وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (قِرَاءَة) .
ب - تَخْفِيفُ الصَّلاَةِ:
27 - يُسَنُّ لِلإِْمَامِ أَنْ يُخَفِّفَ فِي الْقِرَاءَةِ وَالأَْذْكَارِ مَعَ فِعْل الأَْبْعَاضِ وَالْهَيْئَاتِ، وَيَأْتِي بِأَدْنَى الْكَمَال، لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ بِالنَّاسِ فَلْيُخَفِّفْ، فَإِنَّ فِيهِمُ السَّقِيمَ وَالضَّعِيفَ وَالْكَبِيرَ (3) ، وَلِحَدِيثِ مُعَاذٍ أَنَّهُ كَانَ
__________
(1) حديث: " اعتدلوا وسووا صفوفكم. . . " أخرجه أبو داود 1 / 434 - ط عزت عبيد دعاس) . وحديث " اعتدلوا في صفوفكم. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 208 - ط السلفية)
(2) فتح القدير وحاشية العناية عليه 1 / 242، 281، وابن عابدين 1 / 358، وجواهر الإكليل 1 / 49، 81، والمهذب 1 / 81، وكشاف القناع 1 / 340
(3) حديث: " إذا صلى أحدكم بالناس فليخفف، فإن منهم السقيم والضعيف والكبير. . . " أخرجه البخاري (الفتح 2 / 199 - ط السلفية) ومسلم (1 / 341 - ط الحلبي)(6/213)
يُطَوِّل بِهِمُ الْقِرَاءَةَ. فَقَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: أَفَتَّانٌ أَنْتَ يَا مُعَاذُ، صَل بِالْقَوْمِ صَلاَةَ أَضْعَفِهِمْ (1) ، لَكِنَّهُ إِنْ صَلَّى بِقَوْمٍ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ يُؤْثِرُونَ التَّطْوِيل لَمْ يُكْرَهْ، لأَِنَّ الْمَنْعَ لأَِجْلِهِمْ، وَقَدْ رَضُوا.
وَيُكْرَهُ لَهُ الإِْسْرَاعُ، بِحَيْثُ يُمْنَعُ الْمَأْمُومُ مِنْ فِعْل مَا يُسَنُّ لَهُ، كَتَثْلِيثِ التَّسْبِيحِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَإِتْمَامِ مَا يُسَنُّ فِي التَّشَهُّدِ الأَْخِيرِ. (2)
ج - الاِنْتِظَارُ لِلْمَسْبُوقِ:
28 - إِنْ أَحَسَّ الإِْمَامُ بِشَخْصٍ دَاخِلٍ وَهُوَ رَاكِعٌ، يَنْتَظِرُهُ يَسِيرًا مَا لَمْ يَشُقَّ عَلَى مَنْ خَلْفَهُ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، لأَِنَّهُ انْتِظَارٌ يَنْفَعُ وَلاَ يَشُقُّ، فَشُرِعَ كَتَطْوِيل الرَّكْعَةِ وَتَخْفِيفِ الصَّلاَةِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُطِيل الرَّكْعَةَ الأُْولَى حَتَّى لاَ يَسْمَعُ وَقْعَ قَدَمٍ. وَكَانَ يَنْتَظِرُ الْجَمَاعَةَ فَإِنْ رَآهُمْ قَدِ اجْتَمَعُوا عَجَّل، وَإِذَا رَآهُمْ قَدْ أَبْطَئُوا أَخَّرَ.
وَيُكْرَهُ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ مُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. (3)
__________
(1) حديث: " أفتان أنت يا معاذ، صل بالقوم صلاة أضعفهم. . . " أخرجه البخاري (الفتح 2 / 192 - ط السلفية) ومسلم (1 / 339 - ط الحلبي)
(2) الاختيار 1 / 57، 58، والمهذب 1 / 102، 103، والمغني لابن قدامة 1 / 236، 237، وجواهر الإكليل 1 / 50، والدسوقي 1 / 247، وكشاف القناع 1 / 468
(3) المهذب 1 / 102، 103، وجواهر الإكليل 1 / 77، والمغني لابن قدامة 2 / 236، وابن عابدين 1 / 332، 333(6/213)
د - الاِسْتِخْلاَفُ:
29 - إِذَا حَدَثَ لِلإِْمَامِ عُذْرٌ لاَ تَبْطُل بِهِ صَلاَةُ الْمَأْمُومِينَ يَجُوزُ لِلإِْمَامِ أَنْ يَسْتَخْلِفَ غَيْرَهُ مِنَ الْمَأْمُومِينَ لِتَكْمِيل الصَّلاَةِ بِهِمْ، وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ. (1)
وَفِي كَيْفِيَّةِ الاِسْتِخْلاَفِ وَشُرُوطِهِ وَأَسْبَابِهِ تَفْصِيلٌ وَخِلاَفٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (اسْتِخْلاَف) .
مَا يَفْعَلُهُ الإِْمَامُ عَقِبَ الْفَرَاغِ مِنَ الصَّلاَةِ:
30 - يُسْتَحَبُّ لِلإِْمَامِ وَالْمَأْمُومِينَ عَقِبَ الصَّلاَةِ ذِكْرُ اللَّهِ وَالدُّعَاءُ بِالأَْدْعِيَةِ الْمَأْثُورَةِ، مِنْهَا مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُول فِي دُبُرِ كُل صَلاَةٍ مَكْتُوبَةٍ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُل شَيْءٍ قَدِيرٌ. . . إِلَخْ (2) ، كَمَا يُسْتَحَبُّ لَهُ إِذَا فَرَغَ مِنَ الصَّلاَةِ أَنْ يُقْبِل عَلَى النَّاسِ بِوَجْهِهِ يَمِينًا أَوْ شِمَالاً إِذَا لَمْ يَكُنْ بِحِذَائِهِ أَحَدٌ، لِمَا رُوِيَ عَنْ سَمُرَةَ قَال: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا صَلَّى صَلاَةً أَقْبَل عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ. (3)
وَيُكْرَهُ لَهُ الْمُكْثُ عَلَى هَيْئَتِهِ مُسْتَقْبِل الْقِبْلَةِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا فَرَغَ مِنَ الصَّلاَةِ لاَ يَمْكُثُ فِي مَكَانِهِ إِلاَّ مِقْدَارَ أَنْ يَقُول: اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلاَمُ وَمِنْكَ السَّلاَمُ تَبَارَكْتَ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 422، 562، والدسوقي 1 / 350، وشرح الروض 1 / 252، ونهاية المحتاج 2 / 336، والمغني 2 / 102
(2) حديث: " كان يقول في دبر كل صلاة مكتوبة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 325 - ط السلفية)
(3) حديث: " كان إذا صلى صلاة أقبل علينا بوجهه. . . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 323 - ط السلفية)(6/214)
يَا ذَا الْجَلاَل وَالإِْكْرَامِ (1) ، وَلأَِنَّ الْمُكْثَ يُوهِمُ الدَّاخِل أَنَّهُ فِي الصَّلاَةِ فَيَقْتَدِي بِهِ. كَمَا يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَتَنَفَّل فِي الْمَكَانِ الَّذِي أَمَّ فِيهِ.
وَإِذَا أَرَادَ الاِنْصِرَافَ فَإِنْ كَانَ خَلْفَهُ نِسَاءٌ اسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ يَلْبَثَ يَسِيرًا، حَتَّى يَنْصَرِفَ النِّسَاءُ وَلاَ يَخْتَلِطْنَ بِالرِّجَال، لِمَا رَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا سَلَّمَ قَامَ النِّسَاءُ حِينَ يَقْضِي سَلاَمَهُ، فَيَمْكُثُ يَسِيرًا قَبْل أَنْ يَقُومَ (2) . ثُمَّ يَنْصَرِفُ الإِْمَامُ حَيْثُ شَاءَ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ. (3)
31 - وَيُسْتَحَبُّ كَذَلِكَ لِلإِْمَامِ الْمُسَافِرِ إِذَا صَلَّى بِمُقِيمِينَ أَنْ يَقُول لَهُمْ عَقِبَ تَسْلِيمِهِ: أَتِمُّوا صَلاَتَكُمْ فَإِنَّا سَفْرٌ (4) ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِأَهْل مَكَّةَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ قَال لَهُمْ: صَلُّوا أَرْبَعًا فَإِنَّا سَفْرٌ. (5)
هَذَا، وَقَدْ فَرَّقَ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ الصَّلَوَاتِ الَّتِي بَعْدَهَا سُنَّةٌ وَبَيْنَ الَّتِي لَيْسَتْ بَعْدَهَا سُنَّةٌ، فَقَالُوا: إِنْ كَانَتْ صَلاَةً لاَ تُصَلَّى بَعْدَهَا سُنَّةٌ، كَالْفَجْرِ وَالْعَصْرِ فَإِنْ شَاءَ الإِْمَامُ قَامَ، وَإِنْ شَاءَ قَعَدَ يَشْتَغِل
__________
(1) حديث: " كان إذا فرغ من الصلاة لا يمكث في مكانه إلا مقدار أن يقول: اللهم أنت السلام. . . " أخرجه مسلم (1 / 414 - ط الحلبي)
(2) حديث أم سلمة: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سلم قام النساء حين. . . . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 322 - ط السلفية)
(3) ابن عابدين 1 / 356، 357، 452، والبدائع 1 / 159، 160، والمهذب 1 / 87، 88، وجواهر الإكليل 1 / 79، والمغني لابن قدامة 1 / 559 - 562، 2 / 286
(4) المراجع السابقة
(5) حديث: " إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بأهل مكة ركعتين. . . " أخرجه الترمذي (2 / 430 - ط الحلبي وحسنه ابن حجر لشواهده في التلخيص (2 / 46 - ط دار المحاسن)(6/214)
بِالدُّعَاءِ، مُغَيِّرًا هَيْئَتَهُ أَوْ مُنْحَرِفًا عَنْ مَكَانِهِ. وَإِنْ كَانَتْ صَلاَةً بَعْدَهَا سُنَّةٌ يُكْرَهُ لَهُ الْمُكْثُ قَاعِدًا، وَلَكِنْ يَقُومُ وَيَتَنَحَّى عَنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ ثُمَّ يَتَنَفَّل.
وَوَجْهُ التَّفْرِقَةِ عِنْدَهُمْ أَنَّ السُّنَنَ بَعْدَ الْفَرَائِضِ شُرِعَتْ لِجَبْرِ النُّقْصَانِ، لِيَقُومَ فِي الآْخِرَةِ مَقَامَ مَا تَرَكَ فِيهَا لِعُذْرٍ، فَيُكْرَهُ الْفَصْل بَيْنَهُمَا بِمُكْثٍ طَوِيلٍ، وَلاَ كَذَلِكَ الصَّلَوَاتُ الَّتِي لَيْسَتْ بَعْدَهَا سُنَّةٌ. (1)
وَلَمْ يُعْثَرْ عَلَى هَذِهِ التَّفْرِقَةِ فِي كُتُبِ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ.
الأَْجْرُ عَلَى الإِْمَامَةِ:
32 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: (الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَالْمُتَقَدِّمُونَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ) إِلَى عَدَمِ جَوَازِ الاِسْتِئْجَارِ لإِِمَامَةِ الصَّلاَةِ، لأَِنَّهَا مِنَ الأَْعْمَال الَّتِي يَخْتَصُّ فَاعِلُهَا بِكَوْنِهِ مِنْ أَهْل الْقُرْبَةِ، فَلاَ يَجُوزُ الاِسْتِئْجَارُ عَلَيْهَا كَنَظَائِرِهَا مِنَ الأَْذَانِ وَتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: اقْرَءُوا الْقُرْآنَ وَلاَ تَأْكُلُوا بِهِ (2) . وَلأَِنَّ الإِْمَامَ يُصَلِّي لِنَفْسِهِ، فَمَنْ أَرَادَ اقْتَدَى بِهِ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ الإِْمَامَةَ، وَإِنْ تَوَقَّفَ عَلَى نِيَّتِهِ شَيْءٌ فَهُوَ إِحْرَازُ فَضِيلَةِ الْجَمَاعَةِ، وَهَذِهِ فَائِدَةٌ تَخْتَصُّ بِهِ، وَلأَِنَّ الْعَبْدَ فِيمَا يَعْمَلُهُ مِنَ الْقُرُبَاتِ وَالطَّاعَاتِ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ، قَال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {مَنْ عَمِل صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ} (3) ، وَمَنْ عَمِل لِنَفْسِهِ لاَ يَسْتَحِقُّ الأَْجْرَ عَلَى غَيْرِهِ. (4)
__________
(1) البدائع 1 / 159، 160، وابن عابدين 1 / 356، 452
(2) حديث: " اقرءوا القرآن ولا تأكلوا به. . . . " أخرجه أحمد (3 / 428 - ط الميمنية) وقواه ابن حجر في الفتح (9 / 101 - ط السلفية)
(3) سورة النحل / 97
(4) الروضة 5 / 88، ونهاية المحتاج 5 / 288، وابن عابدين 5 / 34، والمغني 5 / 555 - 558(6/215)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: جَازَ أَخْذُ الأُْجْرَةِ عَلَى الأَْذَانِ وَحْدَهُ أَوْ مَعَ صَلاَةٍ، وَكُرِهَ الأَْجْرُ عَلَى الصَّلاَةِ وَحْدَهَا، فَرْضًا كَانَتْ أَوْ نَفْلاً مِنَ الْمُصَلِّينَ. (1)
وَالْمُفْتَى بِهِ عِنْدَ مُتَأَخِّرِي الْحَنَفِيَّةِ جَوَازُ الاِسْتِئْجَارِ لِتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَالْفِقْهِ وَالإِْمَامَةِ وَالأَْذَانِ، وَيُجْبَرُ الْمُسْتَأْجِرُ عَلَى دَفْعِ الْمُسَمَّى بِالْعَقْدِ أَوْ أَجْرِ الْمِثْل إِذَا لَمْ تُذْكَرْ مُدَّةٌ.
وَاسْتَدَلُّوا لِلْجَوَازِ بِالضَّرُورَةِ، وَهِيَ خَشْيَةُ ضَيَاعِ الْقُرْآنِ لِظُهُورِ التَّوَانِي فِي الأُْمُورِ الدِّينِيَّةِ الْيَوْمَ. (2)
وَهَذَا كُلُّهُ فِي الأَْجْرِ. وَأَمَّا الرِّزْقُ مِنْ بَيْتِ الْمَال فَيَجُوزُ عَلَى مَا يَتَعَدَّى نَفْعُهُ مِنْ هَذِهِ الأُْمُورِ بِلاَ خِلاَفٍ، لأَِنَّهُ مِنْ بَابِ الإِْحْسَانِ وَالْمُسَامَحَةِ، بِخِلاَفِ الإِْجَارَةِ فَإِنَّهَا مِنْ بَابِ الْمُعَاوَضَةِ، وَلأَِنَّ بَيْتَ الْمَال لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِذَا كَانَ بَذْلُهُ لِمَنْ يَتَعَدَّى نَفْعُهُ إِلَى الْمُسْلِمِينَ مُحْتَاجًا إِلَيْهِ كَانَ مِنَ الْمَصَالِحِ، وَكَانَ لِلآْخِذِ أَخْذُهُ، لأَِنَّهُ مِنْ أَهْلِهِ وَجَرَى مَجْرَى الْوَقْفِ عَلَى مَنْ يَقُومُ بِهَذِهِ الْمَصَالِحِ (3) .
الإِْمَامَةُ الْكُبْرَى
التَّعْرِيفُ:
1 - (الإِْمَامَةُ) : مَصْدَرُ أَمَّ الْقَوْمَ وَأَمَّ بِهِمْ. إِذَا تَقَدَّمَهُمْ وَصَارَ لَهُمْ إِمَامًا (4) . وَالإِْمَامُ - وَجَمْعُهُ أَئِمَّةٌ -: كُل
__________
(1) جواهر الإكليل 1 / 37
(2) ابن عابدين 5 / 34
(3) المراجع السابقة
(4) متن اللغة، ولسان العرب المحيط، ومحيط المحيط مادة: (إمم) .(6/215)
مَنِ ائْتَمَّ بِهِ قَوْمٌ سَوَاءٌ أَكَانُوا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ: كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} (1) أَمْ كَانُوا ضَالِّينَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لاَ يُنْصَرُونَ} (2) .
ثُمَّ تَوَسَّعُوا فِي اسْتِعْمَالِهِ، حَتَّى شَمَل كُل مَنْ صَارَ قُدْوَةً فِي فَنٍّ مِنْ فُنُونِ الْعِلْمِ. فَالإِْمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ قُدْوَةٌ فِي الْفِقْهِ، وَالإِْمَامُ الْبُخَارِيُّ قُدْوَةٌ فِي الْحَدِيثِ. . . إِلَخْ، غَيْرَ أَنَّهُ إِذَا أُطْلِقَ لاَ يَنْصَرِفُ إِلاَّ إِلَى صَاحِبِ الإِْمَامَةِ الْعُظْمَى، وَلاَ يُطْلَقُ عَلَى الْبَاقِي إِلاَّ بِالإِْضَافَةِ، لِذَلِكَ عَرَّفَ الرَّازِيَّ الإِْمَامَ بِأَنَّهُ: كُل شَخْصٍ يُقْتَدَى بِهِ فِي الدِّينِ. (3)
وَالإِْمَامَةُ الْكُبْرَى فِي الاِصْطِلاَحِ: رِئَاسَةٌ عَامَّةٌ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا خِلاَفَةً عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُمِّيَتْ كُبْرَى تَمْيِيزًا لَهَا عَنِ الإِْمَامَةِ الصُّغْرَى، وَهِيَ إِمَامَةُ الصَّلاَةِ وَتُنْظَرُ فِي مَوْضِعِهَا (4) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْخِلاَفَةُ:
2 - الْخِلاَفَةُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ خَلَفَ يَخْلُفُ خِلاَفَةً: أَيْ: بَقِيَ بَعْدَهُ أَوْ قَامَ مَقَامَهُ، وَكُل مَنْ يَخْلُفُ شَخْصًا آخَرَ يُسَمَّى خَلِيفَةً، لِذَلِكَ سُمِّيَ مَنْ يَخْلُفُ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إِجْرَاءِ الأَْحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَرِئَاسَةِ الْمُسْلِمِينَ فِي أُمُورِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا خَلِيفَةً، وَيُسَمَّى الْمَنْصِبُ خِلاَفَةً وَإِمَامَةً. (5)
__________
(1) سورة الأنبياء / 73
(2) سورة القصص / 41
(3) الفصل في الملل 4 / 95
(4) حاشية ابن عابدين 1 / 368، ونهاية المحتاج 7 / 409، وروض الطالبين على تحفة المحتاج 7 / 540
(5) محيط المحيط ومتن اللغة مادة (خلف)(6/216)
أَمَّا فِي الاِصْطِلاَحِ الشَّرْعِيِّ: فَهِيَ تُرَادِفُ الإِْمَامَةَ، وَقَدْ عَرَّفَهَا ابْنُ خَلْدُونٍ بِقَوْلِهِ: هِيَ حَمْل الْكَافَّةِ عَلَى مُقْتَضَى النَّظَرِ الشَّرْعِيِّ، فِي مَصَالِحِهِمُ الأُْخْرَوِيَّةِ، وَالدُّنْيَوِيَّةِ الرَّاجِعَةِ إِلَيْهَا، ثُمَّ فَسَّرَ هَذَا التَّعْرِيفَ بِقَوْلِهِ: فَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ خِلاَفَةٌ عَنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ فِي حِرَاسَةِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا (1) .
ب - الإِْمَارَةُ:
3 - الإِْمَارَةُ لُغَةً: الْوِلاَيَةُ، وَالْوِلاَيَةُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ عَامَّةً، فَهِيَ الْخِلاَفَةُ أَوِ الإِْمَامَةُ الْعُظْمَى، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ خَاصَّةً عَلَى نَاحِيَةٍ كَأَنْ يَنَال أَمْرَ مِصْرٍ وَنَحْوِهِ، أَوْ عَلَى عَمَلٍ خَاصٍّ مِنْ شُئُونِ الدَّوْلَةِ كَإِمَارَةِ الْجَيْشِ وَإِمَارَةِ الصَّدَقَاتِ، وَتُطْلَقُ عَلَى مَنْصِبِ أَمِيرٍ (2) .
ج - السُّلْطَةُ:
4 - السُّلْطَةُ هِيَ: السَّيْطَرَةُ وَالتَّمَكُّنُ وَالْقَهْرُ وَالتَّحَكُّمُ وَمِنْهُ السُّلْطَانُ وَهُوَ مَنْ لَهُ وِلاَيَةُ التَّحَكُّمِ وَالسَّيْطَرَةِ فِي الدَّوْلَةِ، فَإِنْ كَانَتْ سُلْطَتُهُ قَاصِرَةً عَلَى نَاحِيَةٍ خَاصَّةٍ فَلَيْسَ بِخَلِيفَةٍ، وَإِنْ كَانَتْ عَامَّةً فَهُوَ الْخَلِيفَةُ، وَقَدْ وُجِدَتْ فِي الْعُصُورِ الإِْسْلاَمِيَّةِ الْمُخْتَلِفَةِ خِلاَفَةٌ بِلاَ سُلْطَةٍ، كَمَا وَقَعَ فِي أَوَاخِرِ الْعَبَّاسِيِّينَ، وَسُلْطَةٌ بِلاَ خِلاَفَةٍ كَمَا كَانَ الْحَال فِي عَهْدِ الْمَمَالِيكِ (3)
__________
(1) مقدمة ابن خلدون ص 191
(2) الفصل في الملل والنحل لابن حزم 4 / 90
(3) الصحاح في اللغة والعلوم ص 493، والرائد 1 / 833. ولم يرد هذا اللفظ بلسان الشرع مرادا به لقب إسلامي بل بمعناه اللغوي +، ولم يطلق قط على منصب إلا بعد استيلاء الأعاجم على السلطة في الدولة الإسلامية(6/216)
د - الْحُكْمُ:
5 - الْحُكْمُ هُوَ فِي اللُّغَةِ: الْقَضَاءُ، يُقَال: حَكَمَ لَهُ وَعَلَيْهِ وَحَكَمَ بَيْنَهُمَا، فَالْحَاكِمُ هُوَ الْقَاضِي فِي عُرْفِ اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ.
وَقَدْ تَعَارَفَ النَّاسُ فِي الْعَصْرِ الْحَاضِرِ عَلَى إِطْلاَقِهِ عَلَى مَنْ يَتَوَلَّى السُّلْطَةَ الْعَامَّةَ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
6 - أَجْمَعَتِ الأُْمَّةُ عَلَى وُجُوبِ عَقْدِ الإِْمَامَةِ، وَعَلَى أَنَّ الأُْمَّةَ يَجِبُ عَلَيْهَا الاِنْقِيَادُ لإِِمَامٍ عَادِلٍ، يُقِيمُ فِيهِمْ أَحْكَامَ اللَّهِ، وَيَسُوسُهُمْ بِأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ الَّتِي أَتَى بِهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَخْرُجْ عَنْ هَذَا الإِْجْمَاعِ مَنْ يُعْتَدُّ بِخِلاَفِهِ. (1)
وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ، بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، بِمُجَرَّدِ أَنْ بَلَغَهُمْ نَبَأُ وَفَاةِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَادَرُوا إِلَى عَقْدِ اجْتِمَاعٍ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ، وَاشْتَرَكَ فِي الاِجْتِمَاعِ كِبَارُ الصَّحَابَةِ، وَتَرَكُوا أَهَمَّ الأُْمُورِ لَدَيْهِمْ فِي تَجْهِيزِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَشْيِيعِ جُثْمَانِهِ الشَّرِيفِ، وَتَدَاوَلُوا فِي أَمْرِ خِلاَفَتِهِ.
وَهُمْ، وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي بَادِئِ الأَْمْرِ حَوْل الشَّخْصِ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُبَايَعَ، أَوْ عَلَى الصِّفَاتِ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ تَتَوَفَّرَ فِيمَنْ يَخْتَارُونَهُ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي وُجُوبِ نَصْبِ إِمَامٍ لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يَقُل أَحَدٌ مُطْلَقًا إِنَّهُ لاَ حَاجَةَ إِلَى ذَلِكَ، وَبَايَعُوا أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَوَافَقَ بَقِيَّةُ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ لَمْ
__________
(1) حاشية الطحطاوي على الدر 1 / 238، وجواهر الإكليل 1 / 251، ومغني المحتاج 4 / 229، والأحكام السلطانية للماوردي ص 3(6/217)
يَكُونُوا حَاضِرِينَ فِي السَّقِيفَةِ، وَبَقِيَتْ هَذِهِ السُّنَّةُ فِي كُل الْعُصُورِ، فَكَانَ ذَلِكَ إِجْمَاعًا عَلَى وُجُوبِ نَصْبِ الإِْمَامِ. (1)
وَهَذَا الْوُجُوبُ وُجُوبُ كِفَايَةٍ، كَالْجِهَادِ وَنَحْوِهِ، فَإِذَا قَامَ بِهَا مَنْ هُوَ أَهْلٌ لَهَا سَقَطَ الْحَرَجُ عَنِ الْكَافَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَقُمْ بِهَا أَحَدٌ، أَثِمَ مِنَ الأُْمَّةِ فَرِيقَانِ:
أ - أَهْل الاِخْتِيَارِ وَهُمْ: أَهْل الْحَل وَالْعَقْدِ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَوُجُوهِ النَّاسِ، حَتَّى يَخْتَارُوا إِمَامًا لِلأُْمَّةِ.
ب - أَهْل الإِْمَامَةِ وَهُمْ: مَنْ تَتَوَفَّرُ فِيهِمْ شُرُوطُ الإِْمَامَةِ، إِلَى أَنْ يُنْصَبَ أَحَدُهُمْ إِمَامًا (2) .
مَا يَجُوزُ تَسْمِيَةُ الإِْمَامِ بِهِ:
7 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ تَسْمِيَةِ الإِْمَامِ: خَلِيفَةً، وَإِمَامًا، وَأَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ.
فَأَمَّا تَسْمِيَتُهُ إِمَامًا فَتَشْبِيهًا بِإِمَامِ الصَّلاَةِ فِي وُجُوبِ الاِتِّبَاعِ وَالاِقْتِدَاءِ بِهِ فِيمَا وَافَقَ الشَّرْعَ، وَلِهَذَا سُمِّيَ مَنْصِبُهُ بِالإِْمَامَةِ الْكُبْرَى.
وَأَمَّا تَسْمِيَتُهُ خَلِيفَةً فَلِكَوْنِهِ يَخْلُفُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حِرَاسَةِ الدِّينِ وَسِيَاسَةِ الدُّنْيَا فِي الأُْمَّةِ، فَيُقَال خَلِيفَةٌ بِإِطْلاَقٍ، وَخَلِيفَةُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ تَسْمِيَتِهِ خَلِيفَةَ اللَّهِ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ تَسْمِيَتِهِ بِخَلِيفَةِ اللَّهِ، لأَِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَهَى عَنْ ذَلِكَ لَمَّا دُعِيَ بِهِ، وَقَال: لَسْتُ خَلِيفَةَ اللَّهِ، وَلَكِنِّي خَلِيفَةُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (3) . وَلأَِنَّ الاِسْتِخْلاَفَ إِنَّمَا هُوَ فِي حَقِّ الْغَائِبِ،
__________
(1) الفصل في الملل 4 / 87، ومقدمة ابن خلدون ص 11
(2) الأحكام السلطانية للماوردي ص3
(3) قول أبي بكر: لست خليفة الله، ولكن خليفة رسول الله عن ابن أبي مليكة قال: قيل لأبي بكر: يا خليفة الله، فقال: أنا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم. أخرجه أحمد (1 / 61 ط دار المعارف بتعليق أحمد شاكر) وإسناده منقطع(6/217)
وَاَللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ (1) . وَأَجَازَهُ بَعْضُهُمُ اقْتِبَاسًا مِنَ الْخِلاَفَةِ الْعَامَّةِ لِلآْدَمِيِّينَ فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَْرْضِ خَلِيفَةً} (2) وَقَوْلِهِ: {هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَْرْضِ} (3) .
مَعْرِفَةُ الإِْمَامِ بِاسْمِهِ وَعَيْنِهِ:
8 - لاَ تَجِبُ مَعْرِفَةُ الإِْمَامِ بِاسْمِهِ وَعَيْنِهِ عَلَى كَافَّةِ الأُْمَّةِ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُمْ أَنْ يَعْرِفُوا أَنَّ الْخِلاَفَةَ أَفْضَتْ إِلَى أَهْلِهَا، لِمَا فِي إِيجَابِ مَعْرِفَتِهِ عَلَيْهِمْ بِاسْمِهِ وَعَيْنِهِ مِنَ الْمَشَقَّةِ وَالْحَرَجِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ ذَلِكَ عَلَى أَهْل الاِخْتِيَارِ الَّذِينَ تَنْعَقِدُ بِبَيْعَتِهِمُ الْخِلاَفَةُ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ. . (4)
حُكْمُ طَلَبِ الإِْمَامَةِ:
9 - يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ بِاخْتِلاَفِ حَال الطَّالِبِ، فَإِنْ كَانَ لاَ يَصْلُحُ لَهَا إِلاَّ شَخْصٌ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَطْلُبَهَا، وَوَجَبَ عَلَى أَهْل الْحَل وَالْعَقْدِ أَنْ يُبَايِعُوهُ.
وَإِنْ كَانَ يَصْلُحُ لَهَا جَمَاعَةٌ صَحَّ أَنْ يَطْلُبَهَا وَاحِدٌ مِنْهُمْ، وَوَجَبَ اخْتِيَارُ أَحَدِهِمْ، وَإِلاَّ أُجْبِرَ أَحَدُهُمْ عَلَى قَبُولِهَا جَمْعًا لِكَلِمَةِ الأُْمَّةِ. وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ مَنْ
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 132، ومقدمة ابن خلدون ص 19، وأسنى المطالب 4 / 111
(2) سورة البقرة / 30
(3) سورة فاطر / 39
(4) الأحكام السلطانية للماوردي ص 14(6/218)
هُوَ أَوْلَى مِنْهُ كُرِهَ لَهُ طَلَبُهَا، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ صَالِحٍ لَهَا حَرُمَ عَلَيْهِ طَلَبُهَا. (1)
شُرُوطُ الإِْمَامَةِ:
10 - يَشْتَرِطُ الْفُقَهَاءُ لِلإِْمَامِ شُرُوطًا، مِنْهَا مَا هُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَمِنْهَا مَا هُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ.
فَالْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ مِنْ شُرُوطِ الإِْمَامَةِ:
أ - الإِْسْلاَمُ، لأَِنَّهُ شَرْطٌ فِي جَوَازِ الشَّهَادَةِ. وَصِحَّةُ الْوِلاَيَةِ عَلَى مَا هُوَ دُونَ الإِْمَامَةِ فِي الأَْهَمِّيَّةِ. قَال تَعَالَى: {وَلَنْ يَجْعَل اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} (2) وَالإِْمَامَةُ كَمَا قَال ابْنُ حَزْمٍ: أَعْظَمُ (السَّبِيل) ، وَلِيُرَاعَى مَصْلَحَةُ الْمُسْلِمِينَ.
ب - التَّكْلِيفُ: وَيَشْمَل الْعَقْل، وَالْبُلُوغَ، فَلاَ تَصِحُّ إِمَامَةُ صَبِيٍّ أَوْ مَجْنُونٍ، لأَِنَّهُمَا فِي وِلاَيَةِ غَيْرِهِمَا، فَلاَ يَلِيَانِ أَمْرَ الْمُسْلِمِينَ، وَجَاءَ فِي الأَْثَرِ تَعَوَّذُوا بِاَللَّهِ مِنْ رَأْسِ السَّبْعِينَ، وَإِمَارَةِ الصِّبْيَانِ (3)
ج - الذُّكُورَةُ: فَلاَ تَصِحُّ إِمَارَةُ النِّسَاءِ، لِخَبَرِ: لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً (4) وَلأَِنَّ هَذَا الْمَنْصِبَ تُنَاطُ بِهِ أَعْمَالٌ خَطِيرَةٌ وَأَعْبَاءٌ جَسِيمَةٌ تَتَنَافَى مَعَ طَبِيعَةِ الْمَرْأَةِ، وَفَوْقَ طَاقَتِهَا. فَيَتَوَلَّى الإِْمَامُ قِيَادَةَ الْجُيُوشِ وَيَشْتَرِكُ فِي الْقِتَال بِنَفْسِهِ أَحْيَانًا.
__________
(1) تحفة المحتاج 7 / 540 - 541، و8 / 308 - 309، وأسنى المطالب 4 / 108
(2) سورة النساء / 141
(3) حديث: " تعوذوا بالله. . . " أخرجه أحمد (2 / 326 ط الميمنية) وإسناده ضعيف، (الميزان للذهبي 3 / 402 ط الحلبي)
(4) حديث: " لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 8 / 126 ط السلفية)(6/218)
د - الْكِفَايَةُ وَلَوْ بِغَيْرِهِ، وَالْكِفَايَةُ هِيَ الْجُرْأَةُ وَالشَّجَاعَةُ وَالنَّجْدَةُ، بِحَيْثُ يَكُونُ قَيِّمًا بِأَمْرِ الْحَرْبِ وَالسِّيَاسَةِ وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ وَالذَّبِّ عَنِ الأُْمَّةِ.
هـ - الْحُرِّيَّةُ: فَلاَ يَصِحُّ عَقْدُ الإِْمَامَةِ لِمَنْ فِيهِ رِقٌّ، لأَِنَّهُ مَشْغُولٌ فِي خِدْمَةِ سَيِّدِهِ.
و سَلاَمَةُ الْحَوَاسِّ وَالأَْعْضَاءِ مِمَّا يَمْنَعُ اسْتِيفَاءَ الْحَرَكَةِ لِلنُّهُوضِ بِمَهَامِّ الإِْمَامَةِ. وَهَذَا الْقَدْرُ مِنَ الشُّرُوطِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. (1)
11 - أَمَّا الْمُخْتَلَفُ فِيهِ مِنَ الشُّرُوطِ فَهُوَ:
أ - الْعَدَالَةُ وَالاِجْتِهَادُ. ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْعَدَالَةَ وَالاِجْتِهَادَ شَرْطَا صِحَّةٍ، فَلاَ يَجُوزُ تَقْلِيدُ الْفَاسِقِ أَوِ الْمُقَلِّدِ إِلاَّ عِنْدَ فَقْدِ الْعَدْل وَالْمُجْتَهِدِ. (2)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُمَا شَرْطَا أَوْلَوِيَّةٍ، فَيَصِحُّ تَقْلِيدُ الْفَاسِقِ وَالْعَامِّيِّ، وَلَوْ عِنْدَ وُجُودِ الْعَدْل وَالْمُجْتَهِدِ.
ب - السَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَسَلاَمَةُ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ. ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهَا شُرُوطُ انْعِقَادٍ، فَلاَ تَصِحُّ إِمَامَةُ الأَْعْمَى وَالأَْصَمِّ وَمَقْطُوعِ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ ابْتِدَاءً، وَيَنْعَزِل إِذَا طَرَأَتْ عَلَيْهِ، لأَِنَّهُ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى الْقِيَامِ بِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَيَخْرُجُ بِهَا عَنْ أَهْلِيَّةِ الإِْمَامَةِ إِذَا طَرَأَتْ عَلَيْهِ.
__________
(1) حاشية الطحطاوي على الدر 1 / 238، وحاشية الدسوقي 4 / 298، وجواهر الإكليل 2 / 221، ومغني المحتاج 4 / 130، وشرح الروض 4 / 108، 109
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 38، و 4 / 305، والأحكام السلطانية للماوردي ص 6، وجواهر الإكليل 2 / 221، وشرح الروض 4 / 108، ومغني المحتاج 4 / 130، ومقدمة ابن خلدون ص 151 ط بيروت، والإنصاف 10 / 110(6/219)
وَذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ ذَلِكَ، فَلاَ يَضُرُّ الإِْمَامَ عِنْدَهُمْ أَنْ يَكُونَ فِي خَلْقِهِ عَيْبٌ جَسَدِيٌّ أَوْ مَرَضٌ مُنَفِّرٌ، كَالْعَمَى وَالصَّمَمِ وَقَطْعِ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ وَالْجَدْعِ وَالْجُذَامِ، إِذْ لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ قُرْآنٌ وَلاَ سُنَّةٌ وَلاَ إِجْمَاعٌ (1) .
ج - النَّسَبُ:
وَيُشْتَرَطُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ أَنْ يَكُونَ الإِْمَامُ قُرَشِيًّا لِحَدِيثِ: الأَْئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ (2) وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلاَّنِيُّ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْل عُمَرَ: لَوْ كَانَ سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ حَيًّا لَوَلَّيْتُهُ، وَلاَ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ هَاشِمِيًّا وَلاَ عَلَوِيًّا بِاتِّفَاقِ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ الأَْرْبَعَةِ، لأَِنَّ الثَّلاَثَةَ الأُْوَل مِنَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ لَمْ يَكُونُوا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ، وَلَمْ يَطْعَنْ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي خِلاَفَتِهِمْ، فَكَانَ ذَلِكَ إِجْمَاعًا فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ. (3)
دَوَامُ الإِْمَامَةِ:
12 - يُشْتَرَطُ لِدَوَامِ الإِْمَامَةِ دَوَامُ شُرُوطِهَا، وَتَزُول بِزَوَالِهَا إِلاَّ الْعَدَالَةَ، فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي أَثَرِ زَوَالِهَا عَلَى مَنْصِبِ الإِْمَامَةِ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
__________
(1) حاشية الطحطاوي 1 / 238، وابن عابدين 1 / 368، و3 / 310، والدسوقي 4 / 198، وشرح الروض 4 / 111، والقليوبي 4 / 4، والفصل في الملل والنحل 4 / 167
(2) حديث: " الأئمة من قريش. . . " أخرجه الطيالسي (ص 125 ط دائرة المعارف النظامية) وأصله في صحيح البخاري (الفتح 13 / 114 ط السلفية) بلفظ: " إن هذا الأمر في قريش "
(3) ابن عابدين 1 / 368، ومغني المحتاج 4 / 0 13، وروضة الطالبين 6 / 312، 10 / 48، ومطالب أولي النهى 6 / 265، وحاشية الدسوقي 4 / 298(6/219)
عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَيْسَتِ الْعَدَالَةُ شَرْطًا لِصِحَّةِ الْوِلاَيَةِ، فَيَصِحُّ تَقْلِيدُ الْفَاسِقِ الإِْمَامَةَ عِنْدَهُمْ مَعَ الْكَرَاهَةِ، وَإِذَا قُلِّدَ إِنْسَانٌ الإِْمَامَةَ حَال كَوْنِهِ عَدْلاً، ثُمَّ جَارَ فِي الْحُكْمِ، وَفَسَقَ بِذَلِكَ أَوْ غَيْرِهِ لاَ يَنْعَزِل، وَلَكِنْ يَسْتَحِقُّ الْعَزْل إِنْ لَمْ يَسْتَلْزِمْ عَزْلُهُ فِتْنَةً، وَيَجِبُ أَنْ يُدْعَى لَهُ بِالصَّلاَحِ وَنَحْوِهِ، وَلاَ يَجِبُ الْخُرُوجُ عَلَيْهِ، كَذَا نَقَل الْحَنَفِيَّةُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَكَلِمَتُهُمْ قَاطِبَةً مُتَّفِقَةٌ فِي تَوْجِيهِهِ عَلَى أَنَّ وَجْهَهُ: هُوَ أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ صَلَّوْا خَلْفَ أَئِمَّةِ الْجَوْرِ وَقَبِلُوا الْوِلاَيَةَ عَنْهُمْ. وَهَذَا عِنْدَهُمْ لِلضَّرُورَةِ وَخَشْيَةَ الْفِتْنَةِ. (1)
وَقَال الدُّسُوقِيُّ: يَحْرُمُ الْخُرُوجُ عَلَى الإِْمَامِ الْجَائِرِ لأَِنَّهُ لاَ يُعْزَل السُّلْطَانُ بِالظُّلْمِ وَالْفِسْقِ وَتَعْطِيل الْحُقُوقِ بَعْدَ انْعِقَادِ إِمَامَتِهِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ وَعْظُهُ وَعَدَمُ الْخُرُوجِ عَلَيْهِ، إِنَّمَا هُوَ لِتَقْدِيمِ أَخَفِّ الْمَفْسَدَتَيْنِ، إِلاَّ أَنْ يَقُومَ عَلَيْهِ إِمَامٌ عَدْلٌ، فَيَجُوزُ الْخُرُوجُ عَلَيْهِ وَإِعَانَةُ ذَلِكَ الْقَائِمِ. (2)
وَقَال الْخَرَشِيُّ: رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: إِنْ كَانَ الإِْمَامُ مِثْل عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَجَبَ عَلَى النَّاسِ الذَّبُّ عَنْهُ وَالْقِتَال مَعَهُ، وَأَمَّا غَيْرُهُ فَلاَ، دَعْهُ وَمَا يُرَادُ مِنْهُ، يَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنَ الظَّالِمِ بِظَالِمٍ، ثُمَّ يَنْتَقِمُ مِنْ كِلَيْهِمَا. (3)
وَقَال الْمَاوَرْدِيُّ: إِنَّ الْجَرْحَ فِي عَدَالَةِ الإِْمَامِ، وَهُوَ الْفِسْقُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا مَا تَبِعَ فِيهِ الشَّهْوَةَ،
__________
(1) المسامرة بشرح المسايرة ص 323، وابن عابدين 1 / 368
(2) الدسوقي 4 / 299
(3) الخرشي 8 / 60(6/220)
وَالثَّانِي مَا تَعَلَّقَ فِيهِ بِشُبْهَةٍ. فَأَمَّا الأَْوَّل مِنْهُمَا فَمُتَعَلِّقٌ بِأَفْعَال الْجَوَارِحِ، وَهُوَ ارْتِكَابُهُ لِلْمَحْظُورَاتِ وَإِقْدَامُهُ عَلَى الْمُنْكَرَاتِ تَحْكِيمًا لِلشَّهْوَةِ وَانْقِيَادًا لِلْهَوَى، فَهَذَا فِسْقٌ يَمْنَعُ مِنِ انْعِقَادِ الإِْمَامَةِ وَمِنِ اسْتِدَامَتِهَا، فَإِذَا طَرَأَ عَلَى مَنِ انْعَقَدَتْ إِمَامَتُهُ خَرَجَ مِنْهَا، فَلَوْ عَادَ إِلَى الْعَدَالَةِ لَمْ يَعُدْ إِلَى الإِْمَامَةِ إِلاَّ بِعَقْدٍ جَدِيدٍ. وَقَال بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ: يَعُودُ إِلَى الإِْمَامَةِ بِعَوْدَةِ الْعَدَالَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُسْتَأْنَفَ لَهُ عَقْدٌ وَلاَ بَيْعَةٌ، لِعُمُومِ وِلاَيَتِهِ وَلُحُوقِ الْمَشَقَّةِ فِي اسْتِئْنَافِ بَيْعَتِهِ.
وَأَمَّا الثَّانِي مِنْهُمَا فَمُتَعَلِّقٌ بِالاِعْتِقَادِ الْمُتَأَوَّل بِشُبْهَةٍ تَعْتَرِضُ، فَيُتَأَوَّل لَهَا خِلاَفُ الْحَقِّ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا: فَذَهَبَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ إِلَى أَنَّهَا تَمْنَعُ مِنِ انْعِقَادِ الإِْمَامَةِ وَمِنِ اسْتِدَامَتِهَا، وَيَخْرُجُ مِنْهَا بِحُدُوثِهِ لأَِنَّهُ لَمَّا اسْتَوَى حُكْمُ الْكُفْرِ بِتَأْوِيلٍ وَغَيْرِ تَأْوِيلٍ وَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ حَال الْفِسْقِ بِتَأْوِيلٍ وَغَيْرِ تَأْوِيلٍ. وَقَال كَثِيرٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْبَصْرَةِ: إِنَّهُ لاَ يَمْنَعُ مِنِ انْعِقَادِ الإِْمَامَةِ، وَلاَ يَخْرُجُ بِهِ مِنْهَا، كَمَا لاَ يَمْنَعُ مِنْ وِلاَيَةِ الْقَضَاءِ وَجَوَازِ الشَّهَادَةِ. (1)
وَقَال أَبُو يَعْلَى: إِذَا وُجِدَتْ هَذِهِ الصِّفَاتُ حَالَةَ الْعَقْدِ، ثُمَّ عُدِمَتْ بَعْدَ الْعَقْدِ نَظَرْتَ، فَإِنْ كَانَ جَرْحًا فِي عَدَالَتِهِ، وَهُوَ الْفِسْقُ، فَإِنَّهُ لاَ يَمْنَعُ مِنِ اسْتِدَامَةِ الإِْمَامَةِ. سَوَاءٌ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِأَفْعَال الْجَوَارِحِ. وَهُوَ ارْتِكَابُ الْمَحْظُورَاتِ، وَإِقْدَامُهُ عَلَى الْمُنْكَرَاتِ اتِّبَاعًا لِشَهْوَتِهِ، أَوْ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِالاِعْتِقَادِ، وَهُوَ الْمُتَأَوِّل لِشُبْهَةٍ تَعْرِضُ يَذْهَبُ فِيهَا إِلَى خِلاَفِ الْحَقِّ. وَهَذَا ظَاهِرُ كَلاَمِهِ (أَحْمَدَ) فِي رِوَايَةِ الْمَرْوَزِيِّ فِي الأَْمِيرِ يَشْرَبُ الْمُسْكِرَ وَيَغُل، يُغْزَى مَعَهُ، وَقَدْ
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 17(6/220)
كَانَ يَدْعُو الْمُعْتَصِمَ بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَدْ دَعَاهُ إِلَى الْقَوْل بِخَلْقِ الْقُرْآنِ.
وَقَال حَنْبَلٌ: فِي وِلاَيَةِ الْوَاثِقِ اجْتَمَعَ فُقَهَاءُ بَغْدَادَ إِلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ قَالُوا: هَذَا أَمْرٌ قَدْ تَفَاقَمَ وَفَشَا - يَعْنُونَ إِظْهَارَ الْقَوْل بِخَلْقِ الْقُرْآنِ - نُشَاوِرُكَ فِي أَنَّا لَسْنَا نَرْضَى بِإِمْرَتِهِ وَلاَ سُلْطَانِهِ. فَقَال: عَلَيْكُمْ بِالنَّكِيرِ بِقُلُوبِكُمْ، وَلاَ تَخْلَعُوا يَدًا مِنْ طَاعَةٍ، وَلاَ تَشُقُّوا عَصَا الْمُسْلِمِينَ. وَقَال أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْمَرْوَزِيِّ، وَذَكَرَ الْحَسَنَ بْنَ صَالِحِ بْنِ حَيٍّ الزَّيْدِيَّ فَقَال: كَانَ يَرَى السَّيْفَ، وَلاَ نَرْضَى بِمَذْهَبِهِ. (1)
مَا تَنْعَقِدُ بِهِ الإِْمَامَةُ:
تَنْعَقِدُ الإِْمَامَةُ بِطُرُقٍ ثَلاَثَةٍ، بِاتِّفَاقِ أَهْل السُّنَّةِ: (2)
أَوَّلاً - الْبَيْعَةُ:
13 - وَالْمُرَادُ بِالْبَيْعَةِ بَيْعَةُ أَهْل الْحَل وَالْعَقْدِ، وَهُمْ: عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ وَرُؤَسَاؤُهُمْ وَوُجُوهُ النَّاسِ، الَّذِينَ يَتَيَسَّرُ اجْتِمَاعُهُمْ حَالَةَ الْبَيْعَةِ بِلاَ كُلْفَةٍ عُرْفًا، وَلَكِنْ هَل يُشْتَرَطُ عَدَدٌ مُعَيَّنٌ؟
اخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ الْفُقَهَاءُ، فَنُقِل عَنْ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ جَمَاعَةٌ دُونَ تَحْدِيدِ عَدَدٍ مُعَيَّنٍ. (3) وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهَا لاَ تَنْعَقِدُ إِلاَّ بِجُمْهُورِ أَهْل الْحَل وَالْعَقْدِ، بِالْحُضُورِ وَالْمُبَاشَرَةِ بِصَفْقَةِ الْيَدِ، وَإِشْهَادِ الْغَائِبِ مِنْهُمْ مِنْ كُل بَلَدٍ،
__________
(1) الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 4
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 369، وحاشية الدسوقي 4 / 298، ومغني المحتاج 4 / 130، والمغني 8 / 107
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 369(6/221)
لِيَكُونَ الرِّضَا بِهِ عَامًّا، وَالتَّسْلِيمُ بِإِمَامَتِهِ إِجْمَاعًا (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ اتِّفَاقُ أَهْل الْحَل وَالْعَقْدِ مِنْ سَائِرِ الْبِلاَدِ، لِتَعَذُّرِ ذَلِكَ وَمَا فِيهِ مِنَ الْمَشَقَّةِ، وَذَكَرُوا أَقْوَالاً خَمْسَةً فِي ذَلِكَ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: أَقَل مَا تَنْعَقِدُ بِهِ الإِْمَامَةُ خَمْسَةٌ، يَجْتَمِعُونَ عَلَى عَقْدِهَا أَوْ يَعْقِدُ أَحَدُهُمْ بِرِضَا الْبَاقِينَ، وَاسْتَدَلُّوا بِخِلاَفَةِ أَبِي بَكْرٍ لأَِنَّهَا انْعَقَدَتْ بِخَمْسَةٍ اجْتَمَعُوا عَلَيْهَا، ثُمَّ تَابَعَهُمُ النَّاسُ فِيهَا. وَجَعَل عُمَرُ الشُّورَى فِي سِتَّةٍ لِيَعْقِدُوا لأَِحَدِهِمْ بِرِضَا الْخَمْسَةِ.
وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إِلَى أَنَّ الإِْمَامَةَ لاَ تَنْعَقِدُ بِأَقَل مِنْ أَرْبَعِينَ، لأَِنَّهَا أَشَدُّ خَطَرًا مِنَ الْجُمُعَةِ، وَهِيَ لاَ تَنْعَقِدُ بِأَقَل مِنْ أَرْبَعِينَ، وَالرَّاجِحُ عِنْدَهُمْ: أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ عَدَدٌ مُعَيَّنٌ، بَل لاَ يُشْتَرَطُ عَدَدٌ، حَتَّى لَوِ انْحَصَرَتْ أَهْلِيَّةُ الْحَل وَالْعَقْدِ بِوَاحِدٍ مُطَاعٍ كَفَتْ بَيْعَتُهُ لاِنْعِقَادِ الإِْمَامَةِ، وَلَزِمَ عَلَى النَّاسِ الْمُوَافَقَةُ وَالْمُتَابَعَةُ. (2)
__________
(1) حاشية الدسوقي 4 / 298، والمغني 8 / 107، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 7
(2) مغني المحتاج 4 / 130 - 131، وروضة الطالبين 10 / 43، وأسنى المطالب 4 / 109. والواقع أن الخلاف بين الفقهاء في هذا لفظي، فهم متفقون على أن الإمامة تنعقد ببيعة أهل الحل والعقد، وأن اجتماع جميعهم في صعيد واحد غير ممكن، فالذين ذهبوا إلى انعقادها بعدد قليل من أهل العقد والحل إنما يقصدون أنها تنعقد برضى أهل الحل والعقد، وبمباشرة من(6/221)
شُرُوطُ أَهْل الاِخْتِيَارِ
14 - يَشْتَرِطُ الْفُقَهَاءُ لأَِهْل الاِخْتِيَارِ أُمُورًا، هِيَ: الْعَدَالَةُ بِشُرُوطِهَا، وَالْعِلْمُ بِشُرُوطِ الإِْمَامَةِ، وَالرَّأْيُ وَالْحِكْمَةُ وَالتَّدْبِيرُ. (1)
وَيَزِيدُ الشَّافِعِيَّةُ شَرْطًا آخَرَ وَهُوَ: أَنْ يَكُونَ مُجْتَهِدًا فِي أَحْكَامِ الإِْمَامَةِ إِنْ كَانَ الاِخْتِيَارُ مِنْ وَاحِدٍ، وَأَنْ يَكُونَ فِيهِمْ مُجْتَهِدٌ إِنْ كَانَ أَهْل الاِخْتِيَارِ جَمَاعَةً. (2)
15 - ثَانِيًا: وِلاَيَةُ الْعَهْدِ (الاِسْتِخْلاَفُ) :
وَهِيَ: عَهْدُ الإِْمَامِ بِالْخِلاَفَةِ إِلَى مَنْ يَصِحُّ إِلَيْهِ الْعَهْدُ لِيَكُونَ إِمَامًا بَعْدَهُ (3) . قَال الْمَاوَرْدِيُّ: انْعِقَادُ الإِْمَامَةِ بِعَهْدِ مَنْ قَبْلَهُ مِمَّا انْعَقَدَ الإِْجْمَاعُ عَلَى جَوَازِهِ، وَوَقَعَ الاِتِّفَاقُ عَلَى صِحَّتِهِ، لأَِمْرَيْنِ عَمِل الْمُسْلِمُونَ بِهِمَا وَلَمْ يَتَنَاكَرُوهُمَا.
أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَهِدَ بِهَا إِلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَأَثْبَتَ الْمُسْلِمُونَ إِمَامَتَهُ بِعَهْدِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَهِدَ بِهَا إِلَى أَهْل الشُّورَى، فَقَبِلَتِ الْجَمَاعَةُ دُخُولَهُمْ فِيهَا، وَهُمْ أَعْيَانُ الْعَصْرِ اعْتِقَادًا لِصِحَّةِ الْعَهْدِ بِهَا وَخَرَجَ بَاقِي الصَّحَابَةِ مِنْهَا، وَقَال عَلِيٌّ لِلْعَبَّاسِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا حِينَ عَاتَبَهُ عَلَى الدُّخُول فِي الشُّورَى: كَانَ
__________
(1) حاشية الدسوقي 4 / 298، والأحكام للماوردي ص 3 - 4، وأسنى المطالب 4 / 108
(2) مغني المحتاج 4 / 131، وأسنى المطالب 4 / 109
(3) نهاية المحتاج 7 / 411(6/222)
أَمْرًا عَظِيمًا فِي أُمُورِ الإِْسْلاَمِ لَمْ أَرَ لِنَفْسِي الْخُرُوجَ مِنْهُ فَصَارَ الْعَهْدُ بِهَا إِجْمَاعًا فِي انْعِقَادِ الإِْمَامَةِ، فَإِذَا أَرَادَ الإِْمَامُ أَنْ يَعْهَدَ بِهَا فَعَلَيْهِ أَنْ يَجْتَهِدَ رَأْيَهُ فِي الأَْحَقِّ بِهَا وَالأَْقْوَمِ بِشُرُوطِهَا، فَإِذَا تَعَيَّنَ لَهُ الاِجْتِهَادُ فِي وَاحِدٍ نَظَرَ فِيهِ:
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَلَدًا وَلاَ وَالِدًا جَازَ أَنْ يَنْفَرِدَ بِعَقْدِ الْبَيْعَةِ لَهُ وَبِتَفْوِيضِ الْعَهْدِ إِلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَشِرْ فِيهِ أَحَدًا مِنْ أَهْل الاِخْتِيَارِ، لَكِنِ اخْتَلَفُوا هَل يَكُونُ ظُهُورُ الرِّضَا مِنْهُمْ شَرْطًا فِي انْعِقَادِ بَيْعَتِهِ أَوْ لاَ؟ فَذَهَبَ بَعْضُ عُلَمَاءِ أَهْل الْبَصْرَةِ إِلَى أَنَّ رِضَا أَهْل الاِخْتِيَارِ لِبَيْعَتِهِ شَرْطٌ فِي لُزُومِهَا لِلأُْمَّةِ، لأَِنَّهَا حَقٌّ يَتَعَلَّقُ بِهِمْ، فَلَمْ تَلْزَمْهُمْ إِلاَّ بِرِضَا أَهْل الاِخْتِيَارِ مِنْهُمْ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ بَيْعَتَهُ مُنْعَقِدَةٌ وَأَنَّ الرِّضَا بِهَا غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، لأَِنَّ بَيْعَةَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمْ تَتَوَقَّفْ عَلَى رِضَا الصَّحَابَةِ، وَلأَِنَّ الإِْمَامَ أَحَقُّ بِهَا فَكَانَ اخْتِيَارُهُ فِيهَا أَمْضَى، وَقَوْلُهُ فِيهَا أَنْفَذَ.
وَإِنْ كَانَ وَلِيُّ الْعَهْدِ وَلَدًا أَوْ وَالِدًا فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي جَوَازِ انْفِرَادِهِ بِعَقْدِ الْبَيْعَةِ لَهُ عَلَى ثَلاَثَةِ مَذَاهِبَ.
أَحَدُهُمَا: لاَ يَجُوزُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِعَقْدِ الْبَيْعَةِ لِوَلَدٍ وَلاَ لِوَالِدٍ، حَتَّى يُشَاوِرَ فِيهِ أَهْل الاِخْتِيَارِ فَيَرَوْنَهُ أَهْلاً لَهَا، فَيَصِحُّ مِنْهُ حِينَئِذٍ عَقْدُ الْبَيْعَةِ لَهُ، لأَِنَّ ذَلِكَ مِنْهُ تَزْكِيَةٌ لَهُ تَجْرِي مَجْرَى الشَّهَادَةِ، وَتَقْلِيدُهُ عَلَى الأُْمَّةِ يَجْرِي مَجْرَى الْحُكْمِ، وَهُوَ لاَ يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ لِوَالِدٍ وَلاَ لِوَلَدٍ، وَلاَ يَحْكُمَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلتُّهْمَةِ الْعَائِدَةِ إِلَيْهِ بِمَا جُبِل مِنَ الْمَيْل إِلَيْهِ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يُفْرَدَ بِعَقْدِهَا لِوَلَدٍ، وَوَالِدٍ، لأَِنَّهُ أَمِيرُ الأُْمَّةِ نَافِذُ الأَْمْرِ لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ. فَغَلَبَ حُكْمُ الْمَنْصِبِ عَلَى حُكْمِ النَّسَبِ، وَلَمْ يُجْعَل لِلتُّهْمَةِ طَرِيقًا عَلَى أَمَانَتِهِ وَلاَ سَبِيلاً إِلَى مُعَارَضَتِهِ،(6/222)
وَصَارَ فِيهَا كَعَهْدِهِ بِهَا إِلَى غَيْرِ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ، وَهَل يَكُونُ رِضَا أَهْل الاِخْتِيَارِ بَعْدَ صِحَّةِ الْعَهْدِ مُعْتَبَرًا فِي لُزُومِهِ لِلأُْمَّةِ أَوْ لاَ؟ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِعَقْدِ الْبَيْعَةِ لِوَالِدِهِ، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِهَا لِوَلَدِهِ، لأَِنَّ الطَّبْعَ يَبْعَثُ عَلَى مُمَايَلَةِ الْوَلَدِ أَكْثَرَ مِمَّا يَبْعَثُ عَلَى مُمَايَلَةِ الْوَالِدِ، وَلِذَلِكَ كَانَ كُل مَا يَقْتَنِيهِ فِي الأَْغْلَبِ مَذْخُورًا لِوَلَدِهِ دُونَ وَالِدِهِ.
فَأَمَّا عَقْدُهَا لأَِخِيهِ وَمَنْ قَارَبَهُ مِنْ عَصَبَتِهِ وَمُنَاسِبِيهِ فَكَعَقْدِهَا لِلْبُعَدَاءِ الأَْجَانِبِ فِي جَوَازِ تَفَرُّدِهِ بِهَا. (1)
وَقَال ابْنُ خَلْدُونٍ، بَعْدَ أَنْ قَدَّمَ الْكَلاَمَ فِي الإِْمَامَةِ وَمَشْرُوعِيَّتِهَا لِمَا فِيهَا مِنَ الْمَصْلَحَةِ، وَأَنَّ حَقِيقَتَهَا لِلنَّظَرِ فِي مَصَالِحِ الأُْمَّةِ لِدِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ.
قَال: فَالإِْمَامُ هُوَ وَلِيُّهُمْ وَالأَْمِينُ عَلَيْهِمْ، يَنْظُرُ لَهُمْ ذَلِكَ فِي حَيَاتِهِ، وَيَتْبَعُ ذَلِكَ أَنْ يَنْظُرَ لَهُمْ بَعْدَ مَمَاتِهِ، وَيُقِيمَ لَهُمْ مَنْ يَتَوَلَّى أُمُورَهُمْ كَمَا كَانَ هُوَ يَتَوَلاَّهَا، وَيَثِقُونَ بِنَظَرِهِ لَهُمْ فِي ذَلِكَ، كَمَا وَثِقُوا بِهِ فِيمَا قَبْل، وَقَدْ عُرِفَ ذَلِكَ مِنَ الشَّرْعِ بِإِجْمَاعِ الأُْمَّةِ عَلَى جَوَازِهِ وَانْعِقَادِهِ، إِذْ وَقَعَ بِعَهْدِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِعُمَرِ بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَأَجَازُوهُ، وَأَوْجَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِهِ طَاعَةَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَنْهُمْ، وَكَذَلِكَ عَهِدَ عُمَرُ فِي الشُّورَى إِلَى السِّتَّةِ بَقِيَّةِ الْعَشَرَةِ، وَجَعَل لَهُمْ أَنْ يَخْتَارُوا لِلْمُسْلِمِينَ، فَفَوَّضَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، حَتَّى أَفْضَى ذَلِكَ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، فَاجْتَهَدَ وَنَاظَرَ الْمُسْلِمِينَ فَوَجَدَهُمْ مُتَّفِقِينَ عَلَى عُثْمَانَ وَعَلَى عَلِيٍّ، فَآثَرَ عُثْمَانَ بِالْبَيْعَةِ عَلَى ذَلِكَ لِمُوَافَقَتِهِ إِيَّاهُ عَلَى لُزُومِ الاِقْتِدَاءِ
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 10(6/223)
بِالشَّيْخَيْنِ فِي كُل مَا يَعْرِضُ لَهُ دُونَ اجْتِهَادِهِ، فَانْعَقَدَ أَمْرُ عُثْمَانَ لِذَلِكَ، وَأَوْجَبُوا طَاعَتَهُ، وَالْمَلأَُ مِنَ الصَّحَابَةِ حَاضِرُونَ لِلأُْولَى وَالثَّانِيَةِ، وَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ، فَدَل عَلَى أَنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْعَهْدِ، عَارِفُونَ بِمَشْرُوعِيَّتِهِ، وَالإِْجْمَاعُ حُجَّةٌ كَمَا عُرِفَ، وَلاَ يُتَّهَمُ الإِْمَامُ فِي هَذَا الأَْمْرِ وَإِنْ عَهِدَ إِلَى أَبِيهِ أَوِ ابْنِهِ، لأَِنَّهُ مَأْمُونٌ عَلَى النَّظَرِ لَهُمْ فِي حَيَاتِهِ، فَأَوْلَى أَنْ لاَ يَحْتَمِل فِيهَا تَبِعَةً بَعْدَ مَمَاتِهِ، خِلاَفًا لِمَنْ قَال بِاتِّهَامِهِ فِي الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ، أَوْ لِمَنْ خَصَّصَ التُّهْمَةَ بِالْوَلَدِ دُونَ الْوَالِدِ، فَإِنَّهُ بَعِيدٌ عَنِ الظِّنَّةِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، لاَ سِيَّمَا إِذَا كَانَتْ هُنَاكَ دَاعِيَةٌ تَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ إِيثَارِ مَصْلَحَةٍ أَوْ تَوَقُّعِ مَفْسَدَةٍ فَتَنْتَفِي الظِّنَّةُ فِي ذَلِكَ رَأْسًا (1) .
هَذَا، وَلِلإِْمَامِ أَنْ يَجْعَلَهَا شُورَى بَيْنَ اثْنَيْنِ فَأَكْثَرَ مِنْ أَهْل الإِْمَامَةِ، فَيَتَعَيَّنُ مَنْ عَيَّنُوهُ بَعْدَ مَوْتِ الإِْمَامِ، لأَِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَعَل الأَْمْرَ شُورَى بَيْنَ سِتَّةٍ، فَاتَّفَقُوا عَلَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَلَمْ يُخَالِفْ مِنَ الصَّحَابَةِ أَحَدٌ، فَكَانَ ذَلِكَ إِجْمَاعًا (2) .
اسْتِخْلاَفُ الْغَائِبِ:
16 - صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّهُ يَصِحُّ اسْتِخْلاَفُ غَائِبٍ عَنِ الْبَلَدِ، إِنْ عُلِمَ حَيَاتُهُ، وَيُسْتَقْدَمُ بَعْدَ مَوْتِ الإِْمَامِ، فَإِنْ طَال غِيَابُهُ وَتَضَرَّرَ الْمُسْلِمُونَ بِغِيَابِهِ يَجُوزُ لأَِهْل الاِخْتِيَارِ نَصْبُ نَائِبٍ عَنْهُ، وَيَنْعَزِل النَّائِبُ بِقُدُومِهِ. (3)
__________
(1) مقدمة ابن خلدون ص 210
(2) مغني المحتاج 4 / 131، ونهاية المحتاج 7 / 411، وأسنى المطالب 4 / 109، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 10
(3) أسنى المطالب 4 / 110، والأحكام السلطانية للماوردي ص 8، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 10(6/223)
شُرُوطُ صِحَّةِ وِلاَيَةِ الْعَهْدِ:
17 - يَشْتَرِطُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ لِصِحَّةِ وِلاَيَةِ الْعَهْدِ شُرُوطًا مِنْهَا:
أ - أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَخْلِفُ جَامِعًا لِشُرُوطِ الإِْمَامَةِ، فَلاَ يَصِحُّ الاِسْتِخْلاَفُ مِنَ الإِْمَامِ الْفَاسِقِ أَوِ الْجَاهِل.
ب - أَنْ يَقْبَل وَلِيُّ الْعَهْدِ فِي حَيَاةِ الإِْمَامِ، فَإِنْ تَأَخَّرَ قَبُولُهُ عَنْ حَيَاةِ الإِْمَامِ تَكُونُ وَصِيَّةً بِالْخِلاَفَةِ، فَيَجْرِي فِيهَا أَحْكَامُ الْوَصِيَّةِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَوْلٌ بِبُطْلاَنِ الْوَصِيَّةِ فِي الاِسْتِخْلاَفِ، لأَِنَّ الإِْمَامَ يَخْرُجُ عَنِ الْوِلاَيَةِ بِالْمَوْتِ (1) .
ج - أَنْ يَكُونَ وَلِيُّ الْعَهْدِ مُسْتَجْمِعًا لِشُرُوطِ الإِْمَامَةِ، وَقْتَ عَهْدِ الْوِلاَيَةِ إِلَيْهِ، مَعَ اسْتِدَامَتِهَا إِلَى مَا بَعْدَ مَوْتِ الإِْمَامِ، فَلاَ يَصِحُّ - عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ - عَهْدُ الْوِلاَيَةِ إِلَى صَبِيٍّ أَوْ مَجْنُونٍ أَوْ فَاسِقٍ وَإِنْ كَمُلُوا بَعْدَ وَفَاةِ الإِْمَامِ، وَتَبْطُل بِزَوَال أَحَدِ الشُّرُوطِ مِنْ وَلِيِّ الْعَهْدِ فِي حَيَاةِ الإِْمَامِ (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى جَوَازِ الْعَهْدِ إِلَى صَبِيٍّ وَقْتَ الْعَهْدِ، وَيُفَوَّضُ الأَْمْرُ إِلَى وَالٍ يَقُومُ بِهِ، حَتَّى يَبْلُغَ وَلِيُّ الْعَهْدِ. وَصَرَّحُوا أَيْضًا بِأَنَّهُ إِذَا بَلَغَ جُدِّدَتْ بَيْعَتُهُ وَانْعَزَل الْوَالِي الْمُفَوَّضُ عَنْهُ بِبُلُوغِهِ (3) .
ثَالِثًا: الاِسْتِيلاَءُ بِالْقُوَّةِ:
18 - قَال الْمَاوَرْدِيُّ: اخْتَلَفَ أَهْل الْعِلْمِ فِي ثُبُوتِ إِمَامَةِ الْمُتَغَلِّبِ وَانْعِقَادِ وِلاَيَتِهِ بِغَيْرِ عَقْدٍ وَلاَ اخْتِيَارٍ،
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 131
(2) مغني المحتاج 4 / 131، وأسنى المطالب 4 / 109 - 110، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 9 - 10
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 369(6/224)
فَذَهَبَ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْعِرَاقِ إِلَى ثُبُوتِ وِلاَيَتِهِ، وَانْعِقَادِ إِمَامَتِهِ، وَحَمْل الأُْمَّةِ عَلَى طَاعَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَعْقِدْهَا أَهْل الاِخْتِيَارِ، لأَِنَّ مَقْصُودَ الاِخْتِيَارِ تَمْيِيزُ الْمُوَلَّى، وَقَدْ تَمَيَّزَ هَذَا بِصِفَتِهِ. وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ إِلَى أَنَّ إِمَامَتَهُ لاَ تَنْعَقِدُ إِلاَّ بِالرِّضَا وَالاِخْتِيَارِ، لَكِنْ يَلْزَمُ أَهْل الاِخْتِيَارِ عَقْدُ الإِْمَامَةِ لَهُ، فَإِنْ تَوَقَّفُوا أَثِمُوا لأَِنَّ الإِْمَامَةَ عَقْدٌ لاَ يَتِمُّ إِلاَّ بِعَاقِدٍ. (1)
وَقَال أَبُو يَعْلَى: الإِْمَامَةُ تَنْعَقِدُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: بِاخْتِيَارِ أَهْل الْحَل وَالْعَقْدِ.
وَالثَّانِي: بِعَهْدِ الإِْمَامِ مِنْ قَبْل.
فَأَمَّا انْعِقَادُهَا بِاخْتِيَارِ أَهْل الْحَل وَالْعَقْدِ، فَلاَ تَنْعَقِدُ إِلاَّ بِجُمْهُورِ أَهْل الْحَل وَالْعَقْدِ. قَال أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ: الإِْمَامُ: الَّذِي يَجْتَمِعُ عَلَيْهِ، كُلُّهُمْ يَقُول: هَذَا إِمَامٌ.
وَظَاهِرُ هَذَا: أَنَّهَا تَنْعَقِدُ بِجَمَاعَتِهِمْ.
وَرُوِيَ عَنْهُ مَا دَل عَلَى أَنَّهَا تَثْبُتُ بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ، وَلاَ تَفْتَقِرُ إِلَى الْعَقْدِ. فَقَال فِي رِوَايَةِ عَبْدُوسِ بْنِ مَالِكٍ الْعَطَّارِ: وَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِمْ بِالسَّيْفِ حَتَّى صَارَ خَلِيفَةً وَسُمِّيَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَلاَ يَحِل لأَِحَدٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ أَنْ يَبِيتَ وَلاَ يَرَاهُ إِمَامًا، بَرًّا كَانَ أَوْ فَاجِرًا. وَقَال أَيْضًا فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ - فِي الإِْمَامِ يَخْرُجُ عَلَيْهِ مَنْ يَطْلُبُ الْمُلْكَ، فَيَكُونُ مَعَ هَذَا قَوْمٌ وَمَعَ هَذَا قَوْمٌ -: تَكُونُ الْجُمُعَةُ مَعَ مَنْ غَلَبَ وَاحْتَجَّ بِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ صَلَّى بِأَهْل الْمَدِينَةِ فِي زَمَنِ الْحَرَّةِ. وَقَال: نَحْنُ مَعَ مَنْ غَلَبَ.
وَجْهُ الرِّوَايَةِ الأُْولَى: أَنَّهُ لَمَّا اخْتَلَفَ الْمُهَاجِرُونَ وَالأَْنْصَارُ، فَقَالَتِ الأَْنْصَارُ: مِنَّا أَمِيرٌ وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ "
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 8(6/224)
حَاجَّهُمْ عُمَرُ، وَقَال لأَِبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. مُدَّ يَدَكَ أُبَايِعْكَ فَلَمْ يَعْتَبِرِ الْغَلَبَةَ وَاعْتَبَرَ الْعَقْدَ مَعَ وُجُودِ الاِخْتِلاَفِ.
وَوَجْهُ الثَّانِيَةِ: مَا ذَكَرَهُ أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَقَوْلُهُ: نَحْنُ مَعَ مَنْ غَلَبَ وَلأَِنَّهَا لَوْ كَانَتْ تَقِفُ عَلَى عَقْدٍ لَصَحَّ رَفْعُهُ وَفَسْخُهُ بِقَوْلِهِمْ وَقَوْلِهِ، كَالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْعُقُودِ، وَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُ (أَيِ الْمُتَغَلِّبَ) لَوْ عَزَل نَفْسَهُ أَوْ عَزَلُوهُ لَمْ يَنْعَزِل، دَل عَلَى أَنَّهُ لاَ يَفْتَقِرُ إِلَى عَقْدِهِ. (1)
وَلأَِنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ خَرَجَ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ وَاسْتَوْلَى عَلَى الْبِلاَدِ وَأَهْلِهَا، حَتَّى بَايَعُوهُ طَوْعًا وَكَرْهًا، فَصَارَ إِمَامًا يَحْرُمُ الْخُرُوجُ عَلَيْهِ، وَلِمَا فِي الْخُرُوجِ عَلَيْهِ مِنْ شَقِّ عَصَا الْمُسْلِمِينَ، وَإِرَاقَةِ دِمَائِهِمْ، وَذَهَابِ أَمْوَالِهِمْ. (2) وَلِخَبَرِ: اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَإِنْ أُمِّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ أَجْدَعُ. (3)
وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ.
وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ قَوْلاً: يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ إِمَامَةِ الْمُتَغَلِّبِ اسْتِجْمَاعُ شُرُوطِ الإِْمَامَةِ (4) . كَمَا يَشْتَرِطُ الشَّافِعِيَّةُ أَيْضًا: أَنْ يَسْتَوْلِيَ عَلَى الأَْمْرِ بَعْدَ مَوْتِ الإِْمَامِ الْمُبَايَعِ لَهُ، وَقَبْل نَصْبِ إِمَامٍ جَدِيدٍ بِالْبَيْعَةِ،
__________
(1) الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 7، 8
(2) المغني 8 / 107، وحاشية ابن عابدين 1 / 369، والدسوقي 4 / 298، ومغني المحتاج 4 / 130، وأسنى المطالب 4 / 110 - 111
(3) حديث: " اسمعوا وأطيعوا. . . ". أخرجه مسلم من حديث أم الحصين رضي الله عنها مرفوعا بلفظ: " إن أمر عليكم عبد مجدع (حسبتها قالت) أسويقودكم بكتاب الله تعالى فاسمعوا له وأطيعوا ". (صحيح مسلم 3 / 944 ط عيسى الحلبي)
(4) المصادر السابقة(6/225)
أَوْ أَنْ يَسْتَوْلِيَ عَلَى حَيٍّ مُتَغَلِّبٍ مِثْلِهِ. أَمَّا إِذَا اسْتَوْلَى عَلَى الأَْمْرِ وَقَهَرَ إِمَامًا مُوَلًّى بِالْبَيْعَةِ أَوْ بِالْعَهْدِ فَلاَ تَثْبُتُ إِمَامَتُهُ، وَيَبْقَى الإِْمَامُ الْمَقْهُورُ عَلَى إِمَامَتِهِ شَرْعًا (1) .
اخْتِيَارُ الْمَفْضُول مَعَ وُجُودِ الأَْفْضَل:
19 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا تَعَيَّنَ لأَِهْل الاِخْتِيَارِ وَاحِدٌ هُوَ أَفْضَل الْجَمَاعَةِ، فَبَايَعُوهُ عَلَى الإِْمَامَةِ، فَظَهَرَ بَعْدَ الْبَيْعَةِ مَنْ هُوَ أَفْضَل مِنْهُ، انْعَقَدَتْ بِبَيْعَتِهِمْ إِمَامَةُ الأَْوَّل وَلَمْ يَجُزِ الْعُدُول عَنْهُ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْضَل مِنْهُ. كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَوِ ابْتَدَءُوا بَيْعَةَ الْمَفْضُول مَعَ وُجُودِ الأَْفْضَل لِعُذْرٍ، كَكَوْنِ الأَْفْضَل غَائِبًا أَوْ مَرِيضًا، أَوْ كَوْنِ الْمَفْضُول أَطْوَعَ فِي النَّاسِ، وَأَقْرَبَ إِلَى قُلُوبِهِمُ، انْعَقَدَتْ بَيْعَةُ الْمَفْضُول وَصَحَّتْ إِمَامَتُهُ، وَلَوْ عَدَلُوا عَنِ الأَْفْضَل فِي الاِبْتِدَاءِ لِغَيْرِ عُذْرٍ لَمْ يَجُزْ. (2)
أَمَّا الاِنْعِقَادُ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي انْعِقَادِ بَيْعَةِ الْمَفْضُول مَعَ وُجُودِ الأَْفْضَل بِغَيْرِ عُذْرٍ، فَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إِلَى أَنَّ بَيْعَتَهُ لاَ تَنْعَقِدُ، لأَِنَّ الاِخْتِيَارَ إِذَا دَعَا إِلَى أَوْلَى الأَْمْرَيْنِ لَمْ يَجُزِ الْعُدُول عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ. (3)
وَذَهَبَ الأَْكْثَرُ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ إِلَى أَنَّ الإِْمَامَةَ جَائِزَةٌ لِلْمَفْضُول مَعَ وُجُودِ الأَْفْضَل، وَصَحَّتْ إِمَامَتُهُ إِذَا تَوَفَّرَتْ فِيهِ شُرُوطُ الإِْمَامَةِ. كَمَا يَجُوزُ فِي وِلاَيَةِ الْقَضَاءِ تَقْلِيدُ الْمَفْضُول مَعَ وُجُودِ الأَْفْضَل لأَِنَّ زِيَادَةَ الْفَضْل مُبَالَغَةٌ فِي الاِخْتِيَارِ،
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 132، وأسنى المطالب 4 / 110
(2) الأحكام السلطانية للماوردي ص 50
(3) المصدر السابق، والفصل في المال والأهواء والنحل 4 / 163(6/225)
وَلَيْسَتْ شَرْطًا فِيهِ. وَقَال أَبُو بَكْرٍ يَوْمَ السَّقِيفَةِ: قَدْ رَضِيتُ لَكُمْ أَحَدَ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ: أَبِي عُبَيْدَة بْنِ الْجَرَّاحِ، وَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. وَهُمَا عَلَى فَضْلِهِمَا دُونَ أَبِي بَكْرٍ فِي الْفَضْل، وَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ.
وَدَعَتِ الأَْنْصَارُ إِلَى بَيْعَةِ سَعْدٍ، وَلَمْ يَكُنْ أَفْضَل الصَّحَابَةِ بِالاِتِّفَاقِ، ثُمَّ عَهِدَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى سِتَّةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ أَفْضَل مِنْ بَعْضٍ.
وَقَدْ أَجْمَعَ أَهْل الإِْسْلاَمِ حِينَئِذٍ عَلَى أَنَّهُ لَوْ بُويِعَ أَحَدُهُمْ فَهُوَ الإِْمَامُ الْوَاجِبُ طَاعَتُهُ. فَصَحَّ بِذَلِكَ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى جَوَازِ إِمَامَةِ الْمَفْضُول (1) .
عَقْدُ الْبَيْعَةِ لإِِمَامَيْنِ:
20 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ كَوْنُ إِمَامَيْنِ فِي الْعَالَمِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَلاَ يَجُوزُ إِلاَّ إِمَامٌ وَاحِدٌ. (2) وَاسْتَدَلُّوا بِخَبَرِ: إِذَا بُويِعَ لِخَلِيفَتَيْنِ فَاقْتُلُوا الآْخِرَ مِنْهُمَا. (3) وقَوْله تَعَالَى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا} (4)
وَوَجْهُ الاِسْتِدْلاَل: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حَرَّمَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ التَّفَرُّقَ وَالتَّنَازُعَ، وَإِذَا كَانَ
__________
(1) المصادر السابقة
(2) مغني المحتاج 4 / 132، وأسنى المطالب 4 / 110، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 9، والماوردي ص 6، والفصل في الملل والأهواء والنحل 4 / 88
(3) حديث: " إذا بويع لخليفتين. . . ". أخرجه مسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعا (صحيح مسلم 3 / 1480 ط عيسى الحلبي)
(4) سورة الأنفال / 46(6/226)
إِمَامَانِ فَقَدْ حَصَل التَّفَرُّقُ الْمُحَرَّمُ، فَوُجِدَ التَّنَازُعُ وَوَقَعَتِ الْمَعْصِيَةُ لِلَّهِ تَعَالَى. (1)
فَإِنْ عُقِدَتْ لاِثْنَيْنِ مَعًا بَطَلَتْ فِيهِمَا، أَوْ مُرَتَّبًا فَهِيَ لِلسَّابِقِ مِنْهُمَا. وَيُعَزَّرُ الثَّانِي وَمُبَايِعُوهُ؛ لِخَبَرِ: إِذَا بُويِعَ لِخَلِيفَتَيْنِ فَاقْتُلُوا الآْخِرَ مِنْهُمَا. وَإِنْ جُهِل السَّابِقُ مِنْهُمَا بَطَل الْعَقْدُ فِيهِمَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، لاِمْتِنَاعِ تَعَدُّدِ الأَْئِمَّةِ، وَعَدَمِ الْمُرَجِّحِ لأَِحَدِهِمَا.
وَعِنْدَ الإِْمَامِ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: بُطْلاَنُ الْعَقْدِ، وَالثَّانِيَةُ: اسْتِعْمَال الْقُرْعَةِ. وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَبَاعَدَتِ الْبِلاَدُ، وَتَعَذَّرَتِ الاِسْتِنَابَةُ، جَازَ تَعَدُّدُ الأَْئِمَّةِ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. . (2)
طَاعَةُ الإِْمَامِ:
21 - اتَّفَقَتِ الأُْمَّةُ جَمْعَاءُ عَلَى وُجُوبِ طَاعَةِ الإِْمَامِ الْعَادِل وَحُرْمَةِ الْخُرُوجِ عَلَيْهِ لِلأَْدِلَّةِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ كَخَبَرِ: مَنْ بَايَعَ إِمَامًا فَأَعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ فَلْيُطِعْهُ إِنِ اسْتَطَاعَ، فَإِنْ جَاءَ آخَرُ يُنَازِعُهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَ الآْخَرِ (3) . وقَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُول وَأُولِي الأَْمْرِ مِنْكُمْ} (4) وَحَدِيثِ: مَنْ خَرَجَ مِنَ الطَّاعَةِ، وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ
__________
(1) الفصل في النحل والأهواء والملل 4 / 163
(2) جواهر الإكليل 1 / 251، وروضة الطالبين 10 / 47، ومغني المحتاج 4 / 132
(3) حديث: " من بايع إماما. . . ". أخرجه مسلم (3 / 1473 ط الحلبي)
(4) سورة النساء / 59(6/226)
فَمَاتَ، مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً (1)
أَمَّا حُكْمُ الْخُرُوجِ عَلَى الْجَائِرِ مِنَ الأَْئِمَّةِ فَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنْ دَوَامِ الإِْمَامَةِ.
وَيَدْعُو لِلإِْمَامِ بِالصَّلاَحِ وَالنُّصْرَةِ وَإِنْ كَانَ فَاسِقًا. وَيُكْرَهُ تَحْرِيمًا وَصْفُهُ بِمَا لَيْسَ فِيهِ مِنَ الصِّفَاتِ كَالصَّالِحِ وَالْعَادِل، كَمَا يَحْرُمُ أَنْ يُوصَفَ بِمَا لاَ يَجُوزُ وَصْفُ الْعِبَادِ بِهِ، مِثْل شَاهِنْشَاهْ الأَْعْظَمِ، وَمَالِكِ رِقَابِ النَّاسِ، لأَِنَّ الأَْوَّل مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ فَلاَ يَجُوزُ وَصْفُ الْعِبَادِ بِهِ، وَالثَّانِي كَذِبٌ. (2)
مَنْ يَنْعَزِل بِمَوْتِ الإِْمَامِ:
22 - لاَ يَنْعَزِل بِمَوْتِ الإِْمَامِ مَنْ عَيَّنَهُ الإِْمَامُ فِي وَظِيفَةٍ عَامَّةٍ كَالْقُضَاةِ، وَأُمَرَاءِ الأَْقَالِيمِ، وَنُظَّارِ الْوَقْفِ، وَأَمِينِ بَيْتِ الْمَال، وَأَمِيرِ الْجَيْشِ. (3) وَهَذَا مَحَل اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، لأَِنَّ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَلَّوْا حُكَّامًا فِي زَمَنِهِمْ، فَلَمْ يَنْعَزِل أَحَدٌ بِمَوْتِ الإِْمَامِ، وَلأَِنَّ الْخَلِيفَةَ أَسْنَدَ إِلَيْهِمُ الْوَظَائِفَ نِيَابَةً عَنِ الْمُسْلِمِينَ، لاَ نُوَّابًا عَنْ نَفْسِهِ، فَلاَ يَنْعَزِلُونَ بِمَوْتِهِ، وَفِي انْعِزَالِهِمْ ضَرَرٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَتَعْطِيلٌ لِلْمَصَالِحِ.
أَمَّا الْوُزَرَاءُ فَيَنْعَزِلُونَ بِمَوْتِ الإِْمَامِ وَانْعِزَالِهِ، لأَِنَّ الْوَزَارَةَ نِيَابَةٌ عَنِ الإِْمَامِ فَيَنْعَزِل النَّائِبُ بِمَوْتِ
__________
(1) حديث: " من خرج من الطاعة. . . ". أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا (صحيح مسلم 3 / 1476 ط عيسى الحلبي)
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 544 - 545
(3) المغني 9 / 103 - 104، ومغني المحتاج 4 / 383، وحاشية ابن عابدين 4 / 324، وجواهر الإكليل 2 / 324(6/227)
الْمُسْتَنِيبِ. لأَِنَّ الإِْمَامَ اسْتَنَابَ الْوَزِيرَ لِيُعِينَهُ فِي أُمُورِ الْخِلاَفَةِ. (1)
عَزْل الإِْمَامِ وَانْعِزَالُهُ:
23 - سَبَقَ نَقْل كَلاَمِ الْمَاوَرْدِيِّ فِي مَسْأَلَةِ عَزْل الإِْمَامِ لِطُرُوءِ الْفِسْقِ وَالْجَوْرِ عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنْ دَوَامِ الإِْمَامِ.
ثُمَّ قَال الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا مَا طَرَأَ عَلَى بَدَنِهِ مِنْ نَقْصٍ فَيَنْقَسِمُ ثَلاَثَةَ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: نَقْصُ الْحَوَاسِّ، وَالثَّانِي: نَقْصُ الأَْعْضَاءِ، وَالثَّالِثُ: نَقْصُ التَّصَرُّفِ.
فَأَمَّا نَقْصُ الْحَوَاسِّ فَيَنْقَسِمُ ثَلاَثَةَ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ يَمْنَعُ مِنَ الإِْمَامَةِ، وَقِسْمٌ لاَ يَمْنَعُ مِنْهَا، وَقِسْمٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ
فَأَمَّا الْقِسْمُ الْمَانِعُ مِنْهَا فَشَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: زَوَال الْعَقْل. وَالثَّانِي: ذَهَابُ الْبَصَرِ.
فَأَمَّا زَوَال الْعَقْل فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا كَانَ عَارِضًا مَرْجُوَّ الزَّوَال كَالإِْغْمَاءِ، فَهَذَا لاَ يَمْنَعُ مِنِ انْعِقَادِ الإِْمَامَةِ وَلاَ يَخْرُجُ مِنْهَا، لأَِنَّهُ مَرَضٌ قَلِيل اللُّبْثِ سَرِيعُ الزَّوَال، وَقَدْ أُغْمِيَ عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا كَانَ لاَزِمًا لاَ يُرْجَى زَوَالُهُ كَالْجُنُونِ وَالْخَبَل، فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُطْبِقًا دَائِمًا لاَ يَتَخَلَّلُهُ إِفَاقَةٌ، فَهَذَا يَمْنَعُ مِنْ عَقْدِ الإِْمَامَةِ وَاسْتِدَامَتِهَا، فَإِذَا طَرَأَ هَذَا بَطَلَتْ بِهِ الإِْمَامَةُ بَعْدَ تَحَقُّقِهِ وَالْقَطْعِ بِهِ، وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ
__________
(1) الأحكام للماوردي ص 26 - 63. وترى اللجنة أن انعزال المولين من الإمام أو عدم انعزالهم أمر يرجع إلى سياسة الدولة وأنظمتها المتبعة، وتراعى فيه المصلحة العامة، وتختلف الأعراف فيه زمنا ومكانا(6/227)
يَتَخَلَّلَهُ إِفَاقَةٌ يَعُودُ بِهَا إِلَى حَال السَّلاَمَةِ فَيُنْظَرَ فِيهِ: فَإِنْ كَانَ زَمَانُ الْخَبَل أَكْثَرَ مِنْ زَمَانِ الإِْفَاقَةِ فَهُوَ كَالْمُسْتَدِيمِ يَمْنَعُ مِنْ عَقْدِ الإِْمَامَةِ وَاسْتِدَامَتِهَا، وَيَخْرُجُ بِحُدُوثِهِ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَ زَمَانُ الإِْفَاقَةِ أَكْثَرَ مِنْ زَمَانِ الْخَبَل مَنَعَ مِنْ عَقْدِ الإِْمَامَةِ.
وَاخْتُلِفَ فِي مَنْعِهِ مِنِ اسْتِدَامَتِهَا، فَقِيل: يَمْنَعُ مِنِ اسْتِدَامَتِهَا كَمَا يَمْنَعُ مِنِ ابْتِدَائِهَا، فَإِذَا طَرَأَ بَطَلَتْ بِهِ الإِْمَامَةُ، لأَِنَّ فِي اسْتِدَامَتِهِ إِخْلاَلاً بِالنَّظَرِ الْمُسْتَحَقِّ فِيهِ، وَقِيل: لاَ يَمْنَعُ مِنِ اسْتِدَامَةِ الإِْمَامَةِ، وَإِنْ مَنَعَ مِنْ عَقْدِهَا فِي الاِبْتِدَاءِ، لأَِنَّهُ يُرَاعَى فِي ابْتِدَاءِ عَقْدِهَا سَلاَمَةٌ كَامِلَةٌ، وَفِي الْخُرُوجِ مِنْهَا نَقْصٌ كَامِلٌ.
وَأَمَّا ذَهَابُ الْبَصَرِ فَيَمْنَعُ مِنْ عَقْدِ الإِْمَامَةِ وَاسْتِدَامَتِهَا، فَإِذَا طَرَأَ بَطَلَتْ بِهِ الإِْمَامَةُ، لأَِنَّهُ لَمَّا أَبْطَل وِلاَيَةَ الْقَضَاءِ، وَمَنَعَ مِنْ جَوَازِ الشَّهَادَةِ، فَأَوْلَى أَنْ يَمْنَعَ مِنْ صِحَّةِ الإِْمَامَةِ.
وَأَمَّا غِشَاءُ الْعَيْنِ، وَهُوَ: أَلاَّ يُبْصِرَ عِنْدَ دُخُول اللَّيْل، فَلاَ يَمْنَعُ مِنَ الإِْمَامَةِ فِي عَقْدٍ وَلاَ اسْتِدَامَةٍ، لأَِنَّهُ مَرَضٌ فِي زَمَانِ الدَّعَةِ يُرْجَى زَوَالُهُ.
وَأَمَّا ضَعْفُ الْبَصَرِ، فَإِنْ كَانَ يَعْرِفُ بِهِ الأَْشْخَاصَ إِذَا رَآهَا لَمْ يَمْنَعْ مِنَ الإِْمَامَةِ، وَإِنْ كَانَ يُدْرِكُ الأَْشْخَاصَ وَلاَ يَعْرِفُهَا مَنَعَ مِنَ الإِْمَامَةِ عَقْدًا وَاسْتِدَامَةً.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي مِنَ الْحَوَاسِّ، الَّتِي لاَ يُؤَثِّرُ فَقْدُهَا فِي الإِْمَامَةِ فَشَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: الْخَشْمُ فِي الأَْنْفِ الَّذِي يُدْرِكُ بِهِ شَمَّ الرَّوَائِحِ. وَالثَّانِي: فَقْدُ الذَّوْقِ الَّذِي يُفَرِّقُ بِهِ بَيْنَ الطُّعُومِ. فَلاَ يُؤَثِّرُ هَذَا فِي عَقْدِ الإِْمَامَةِ، لأَِنَّهُمَا يُؤَثِّرَانِ فِي اللَّذَّةِ، وَلاَ يُؤَثِّرَانِ فِي الرَّأْيِ وَالْعَمَل.(6/228)
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ مِنَ الْحَوَاسِّ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا فَشَيْئَانِ: الصَّمَمُ، وَالْخَرَسُ، فَيَمْنَعَانِ مِنِ ابْتِدَاءِ عَقْدِ الإِْمَامَةِ، لأَِنَّ كَمَال الأَْوْصَافِ بِوُجُودِهِمَا مَفْقُودٌ.
وَاخْتُلِفَ فِي الْخُرُوجِ بِهِمَا مِنَ الإِْمَامَةِ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يَخْرُجُ بِهِمَا مِنْهَا كَمَا يَخْرُجُ بِذَهَابِ الْبَصَرِ لِتَأْثِيرِهِمَا فِي التَّدْبِيرِ وَالْعَمَل، وَقَال آخَرُونَ: لاَ يَخْرُجُ بِهِمَا مِنَ الإِْمَامَةِ، لِقِيَامِ الإِْشَارَةِ مَقَامَهُمَا، فَلَمْ يَخْرُجْ مِنْهَا إِلاَّ بِنَقْصٍ كَامِلٍ. وَقَال آخَرُونَ: إِنْ كَانَ يُحْسِنُ الْكِتَابَةَ لَمْ يَخْرُجْ بِهِمَا مِنَ الإِْمَامَةِ، وَإِنْ كَانَ لاَ يُحْسِنُهَا خَرَجَ مِنَ الإِْمَامَةِ بِهِمَا، لأَِنَّ الْكِتَابَةَ مَفْهُومَةٌ وَالإِْشَارَةَ مَوْهُومَةٌ، وَالأَْوَّل مِنَ الْمَذَاهِبِ أَصَحُّ.
وَأَمَّا تَمْتَمَةُ اللِّسَانِ، وَثِقَل السَّمْعِ، مَعَ إِدْرَاكِ الصَّوْتِ إِذَا كَانَ عَالِيًا، فَلاَ يَخْرُجُ بِهِمَا مِنَ الإِْمَامَةِ إِذَا حَدَثَا. وَاخْتُلِفَ فِي ابْتِدَاءِ عَقْدِهَا مَعَهُمَا، فَقِيل: يَمْنَعُ ذَلِكَ ابْتِدَاءَ عَقْدِهَا، لأَِنَّهُمَا نَقْصٌ يَخْرُجُ بِهِمَا عَنْ حَال الْكَمَال، وَقِيل: لاَ يَمْنَعُ، لأَِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ تَمْنَعْهُ عُقْدَةُ لِسَانِهِ عَنِ النُّبُوَّةِ فَأَوْلَى أَلاَّ يَمْنَعَ مِنَ الإِْمَامَةِ. وَأَمَّا فَقْدُ الأَْعْضَاءِ فَيَنْقَسِمُ إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: مَا لاَ يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الإِْمَامَةِ فِي عَقْدٍ وَلاَ اسْتِدَامَةٍ، وَهُوَ مَا لاَ يُؤَثِّرُ فَقْدُهُ فِي رَأْيٍ وَلاَ عَمَلٍ وَلاَ نُهُوضٍ وَلاَ يَشِينُ فِي الْمَنْظَرِ، فَلاَ يَمْنَعُ مِنْ عَقْدِ الإِْمَامَةِ وَلاَ مِنِ اسْتِدَامَتِهَا بَعْدَ الْعَقْدِ، لأَِنَّ فَقْدَهُ لاَ يُؤَثِّرُ فِي الرَّأْيِ وَالْحُنْكَةِ. مِثْل قَطْعِ الأُْذُنَيْنِ لأَِنَّهُمَا لاَ يُؤَثِّرَانِ فِي رَأْيٍ وَلاَ عَمَلٍ، وَلَهُمَا شَيْنٌ يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَتِرَ فَلاَ يَظْهَرَ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا يَمْنَعُ مِنْ عَقْدِ الإِْمَامَةِ وَمِنِ اسْتِدَامَتِهَا: وَهُوَ مَا يَمْنَعُ مِنَ الْعَمَل، كَذَهَابِ الْيَدَيْنِ، أَوْ مِنَ النُّهُوضِ كَذَهَابِ الرِّجْلَيْنِ، فَلاَ(6/228)
تَصِحُّ مَعَهُ الإِْمَامَةُ فِي عَقْدٍ وَلاَ اسْتِدَامَةٍ، لِعَجْزِهِ عَمَّا يَلْزَمُهُ مِنْ حُقُوقِ الأُْمَّةِ فِي عَمَلٍ أَوْ نَهْضَةٍ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا يَمْنَعُ مِنْ عَقْدِ الإِْمَامَةِ: وَاخْتُلِفَ فِي مَنْعِهِ مِنِ اسْتِدَامَتِهَا، وَهُوَ مَا ذَهَبَ بِهِ بَعْضُ الْعَمَل، أَوْ فَقَدَ بِهِ بَعْضَ النُّهُوضِ كَذَهَابِ إِحْدَى الْيَدَيْنِ أَوْ إِحْدَى الرِّجْلَيْنِ، فَلاَ يَصِحُّ مَعَهُ عَقْدُ الإِْمَامَةِ لِعَجْزِهِ عَنْ كَمَال التَّصَرُّفِ، فَإِنْ طَرَأَ بَعْدَ عَقْدِ الإِْمَامَةِ فَفِي خُرُوجِهِ مِنْهَا مَذْهَبَانِ لِلْفُقَهَاءِ:
أَحَدُهُمَا: يَخْرُجُ بِهِ مِنَ الإِْمَامَةِ، لأَِنَّهُ عَجْزٌ يَمْنَعُ مِنِ ابْتِدَائِهَا فَمَنَعَ مِنِ اسْتِدَامَتِهَا.
وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: أَنَّهُ لاَ يَخْرُجُ بِهِ مِنَ الإِْمَامَةِ وَإِنْ مَنَعَ مِنْ عَقْدِهَا، لأَِنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي عَقْدِهَا كَمَال السَّلاَمَةِ، وَفِي الْخُرُوجِ مِنْهَا كَمَال النَّقْصِ.
وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: مَا لاَ يَمْنَعُ مِنِ اسْتِدَامَةِ الإِْمَامَةِ. وَاخْتُلِفَ فِي مَنْعِهِ مِنِ ابْتِدَاءِ عَقْدِهَا، وَهُوَ مَا يَشِينُ وَيُقَبِّحُ، وَلاَ يُؤَثِّرُ فِي عَمَلٍ وَلاَ فِي نَهْضَةٍ، كَجَدْعِ الأَْنْفِ وَسَمْل إِحْدَى الْعَيْنَيْنِ، فَلاَ يَخْرُجُ بِهِ مِنَ الإِْمَامَةِ بَعْدَ عَقْدِهَا، لِعَدَمِ تَأْثِيرِهِ فِي شَيْءٍ مِنْ حُقُوقِهَا، وَفِي مَنْعِهِ مِنِ ابْتِدَاءِ عَقْدِهَا مَذْهَبَانِ لِلْفُقَهَاءِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لاَ يَمْنَعُ مِنْ عَقْدِهَا، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنَ الشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ فِيهَا لِعَدَمِ تَأْثِيرِهِ فِي حُقُوقِهَا.
وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَمْنَعُ مِنْ عَقْدِ الإِْمَامَةِ، وَتَكُونُ السَّلاَمَةُ مِنْهُ شَرْطًا مُعْتَبَرًا فِي عَقْدِهَا لِيَسْلَمَ وُلاَةُ الْمِلَّةِ مِنْ شَيْنٍ يُعَابُ وَنَقْصٍ يُزْدَرَى، فَتَقِل بِهِ الْهَيْبَةُ، وَفِي قِلَّتِهَا نُفُورٌ عَنِ الطَّاعَةِ، وَمَا أَدَّى إِلَى هَذَا فَهُوَ نَقْصٌ فِي حُقُوقِ الأُْمَّةِ.
وَأَمَّا نَقْصُ التَّصَرُّفِ فَضَرْبَانِ: حَجْرٌ، وَقَهْرٌ.(6/229)
فَأَمَّا الْحَجْرُ: فَهُوَ أَنْ يَسْتَوْلِيَ عَلَيْهِ مِنْ أَعْوَانِهِ مَنْ يَسْتَبِدُّ بِتَنْفِيذِ الأُْمُورِ مِنْ غَيْرِ تَظَاهُرٍ بِمَعْصِيَةٍ وَلاَ مُجَاهَرَةٍ بِمَشَاقَّةٍ، فَلاَ يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ إِمَامَتِهِ، وَلاَ يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ وِلاَيَتِهِ.
وَأَمَّا الْقَهْرُ فَهُوَ أَنْ يَصِيرَ مَأْسُورًا فِي يَدِ عَدُوٍّ قَاهِرٍ لاَ يَقْدِرُ عَلَى الْخَلاَصِ مِنْهُ، فَيَمْنَعُ ذَلِكَ عَنْ عَقْدِ الإِْمَامَةِ لَهُ، لِعَجْزِهِ عَنِ النَّظَرِ فِي أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْعَدُوُّ مُشْرِكًا أَوْ مُسْلِمًا بَاغِيًا، وَلِلأُْمَّةِ اخْتِيَارُ مَنْ عَدَاهُ مِنْ ذَوِي الْقُدْرَةِ. وَإِنْ أُسِرَ بَعْدَ أَنْ عُقِدَتْ لَهُ الإِْمَامَةُ فَعَلَى كَافَّةِ الأُْمَّةِ اسْتِنْقَاذُهُ، لِمَا أَوْجَبْتُهُ الإِْمَامَةُ مِنْ نُصْرَتِهِ، وَهُوَ عَلَى إِمَامَتِهِ مَا كَانَ مَرْجُوَّ الْخَلاَصِ مَأْمُول الْفِكَاكِ إِمَّا بقِتَالٍ أَوْ فِدَاءٍ، فَإِنْ وَقَعَ الْيَأْسُ مِنْهُ، لَمْ يَخْل حَال مَنْ أَسَرَهُ مِنْ أَنْ يَكُونُوا مُشْرِكِينَ أَوْ بُغَاةَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ كَانَ فِي أَسْرِ الْمُشْرِكِينَ خَرَجَ مِنَ الإِْمَامَةِ لِلْيَأْسِ مِنْ خَلاَصِهِ، وَاسْتَأْنَفَ أَهْل الاِخْتِيَارِ بَيْعَةَ غَيْرِهِ عَلَى الإِْمَامَةِ، وَإِنْ خَلَصَ قَبْل الإِْيَاسِ فَهُوَ عَلَى إِمَامَتِهِ. وَإِنْ كَانَ مَأْسُورًا مَعَ بُغَاةِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ كَانَ مَرْجُوَّ الْخَلاَصِ فَهُوَ عَلَى إِمَامَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يُرْجَ خَلاَصُهُ، فَالإِْمَامُ الْمَأْسُورُ فِي أَيْدِيهِمْ خَارِجٌ مِنَ الإِْمَامَةِ بِالإِْيَاسِ مِنْ خَلاَصِهِ، وَعَلَى أَهْل الاِخْتِيَارِ فِي دَارِ الْعَدْل أَنْ يَعْقِدُوا الإِْمَامَةَ لِمَنِ ارْتَضَوْا لَهَا، فَإِنْ خَلَصَ الْمَأْسُورُ لَمْ يَعُدْ إِلَى الإِْمَامَةِ لِخُرُوجِهِ مِنْهَا. (1)
وَاجِبَاتُ الإِْمَامِ:
24 - مِنْ تَعْرِيفِ الْفُقَهَاءِ لِلإِْمَامَةِ الْكُبْرَى بِأَنَّهَا
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 17 - 20، وحاشية ابن عابدين 3 / 310، ومغني المحتاج 4 / 132، وحاشية الدسوقي 4 / 299، ومطالب أولي النهى 6 / 265، والإنصاف 10 / 310(6/229)
رِئَاسَةٌ عَامَّةٌ فِي سِيَاسَةِ الدُّنْيَا وَإِقَامَةِ الدِّينِ نِيَابَةً عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) يَتَبَيَّنُ أَنَّ وَاجِبَاتِ الإِْمَامِ إِجْمَالاً هِيَ كَمَا يَلِي:
أ - حِفْظُ الدِّينِ عَلَى أُصُولِهِ الثَّابِتَةِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ سَلَفِ الأُْمَّةِ، وَإِقَامَةُ شَعَائِرِ الدِّينِ.
ب - رِعَايَةُ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ بِأَنْوَاعِهَا.
كَمَا أَنَّهُمْ - فِي مَعْرِضِ الاِسْتِدْلاَل لِفَرْضِيَّةِ نَصْبِ الإِْمَامِ بِالْحَاجَةِ إِلَيْهِ - يَذْكُرُونَ أُمُورًا لاَ بُدَّ لِلأُْمَّةِ مِمَّنْ يَقُومُ بِهَا، وَهِيَ: تَنْفِيذُ الأَْحْكَامِ، وَإِقَامَةُ الْحُدُودِ، وَسَدُّ الثُّغُورِ، وَتَجْهِيزُ الْجُيُوشِ، وَأَخْذُ الصَّدَقَاتِ، وَقَبُول الشَّهَادَاتِ، وَتَزْوِيجُ الصِّغَارِ وَالصَّغَائِرِ الَّذِينَ لاَ أَوْلِيَاءَ لَهُمْ، وَقِسْمَةُ الْغَنَائِمِ. (2) وَعَدَّهَا أَصْحَابُ كُتُبِ الأَْحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ عَشَرَةً. وَلاَ تَخْرُجُ فِي عُمُومِهَا عَمَّا ذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ فِيمَا مَرَّ، عَلَى أَنَّ ذَلِكَ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ بِحَسَبِ تَجَدُّدِ الْحَاجَاتِ الزَّمَنِيَّةِ وَمَا تَقْضِي الْمَصَالِحُ بِأَنْ لاَ يَتَوَلاَّهُ الأَْفْرَادُ وَالْهَيْئَاتُ، بَل يَتَوَلاَّهُ الإِْمَامُ.
وِلاَيَاتُ الإِْمَامِ:
25 - الْوُلاَةُ مِنْ قِبَل الإِْمَامِ تَنْقَسِمُ وِلاَيَتُهُمْ إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
أ - وِلاَيَةٌ عَامَّةٌ فِي الأَْعْمَال الْعَامَّةِ، وَهِيَ: الْوَزَارَةُ، فَهِيَ نِيَابَةٌ عَنِ الإِْمَامِ فِي الأُْمُورِ كُلِّهَا مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ.
__________
(1) نهاية المحتاج 7 / 409، وحاشية ابن عابدين 1 / 368، وحاشية الجمل 5 / 119
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 368، 3 / 310، ومغني المحتاج 4 / 129، وشرح روض الطالب 4 / 108(6/230)
ب - وِلاَيَةٌ عَامَّةٌ فِي أَعْمَالٍ خَاصَّةٍ، وَهِيَ الإِْمَارَةُ فِي الأَْقَالِيمِ، لأَِنَّ النَّظَرَ فِيمَا خُصَّ بِهَا عَامٌّ فِي جَمِيعِ الأُْمُورِ.
ج - وِلاَيَةٌ خَاصَّةٌ فِي الأَْعْمَال الْعَامَّةِ: كَرِئَاسَةِ الْقَضَاءِ وَنِقَابَةِ الْجَيْشِ، لأَِنَّ كِلَيْهِمَا مَقْصُورٌ عَلَى نَظَرٍ خَاصٍّ فِي جَمِيعِ الأَْعْمَال.
د - وِلاَيَةٌ خَاصَّةٌ فِي أَعْمَالٍ خَاصَّةٍ كَقَاضِي بَلَدٍ، أَوْ مُسْتَوْفِي خَرَاجِهِ، وَجَابِي صَدَقَاتِهِ، لأَِنَّ كُلًّا مِنْ وِلاَيَةِ هَؤُلاَءِ خَاصٌّ بِعَمَلٍ مَخْصُوصٍ لاَ يَتَجَاوَزُهُ، وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحَيْ: (وَزَارَة، إِمَارَة (1))
مُؤَاخَذَةُ الإِْمَامِ بِتَصَرُّفَاتِهِ:
26 - يَضْمَنُ الإِْمَامُ مَا أَتْلَفَهُ بِيَدِهِ مِنْ مَالٍ أَوْ نَفْسٍ بِغَيْرِ خَطَأٍ فِي الْحُكْمِ أَوْ تَقْصِيرٍ فِي تَنْفِيذِ الْحَدِّ وَالتَّعْزِيرِ كَآحَادِ النَّاسِ فَيُقْتَصُّ مِنْهُ إِنْ قَتَل عَمْدًا، وَتَجِبُ الدِّيَةُ عَلَيْهِ أَوْ عَلَى عَاقِلَتِهِ أَوْ بَيْتِ الْمَال فِي الْخَطَأِ وَشَبَهِ الْعَمْدِ، وَيَضْمَنُ مَا أَتْلَفَهُ بِيَدِهِ مِنْ مَالٍ، كَمَا يَضْمَنُ مَا هَلَكَ بِتَقْصِيرِهِ فِي الْحُكْمِ، وَإِقَامَةِ الْحَدِّ، وَالتَّعْزِيرِ، بِالْقِصَاصِ أَوِ الدِّيَةِ مِنْ مَالِهِ أَوْ عَاقِلَتِهِ أَوْ بَيْتِ الْمَال حَسَبِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ، وَحَسَبِ ظُرُوفِ التَّقْصِيرِ وَجَسَامَةِ الْخَطَأِ. (2) وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحَاتِ: (حَدّ، وَتَعْزِير، وَقِصَاص، وَضَمَان) .
وَهَذَا الْقَدْرُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، لِعُمُومِ الأَْدِلَّةِ، وَلأَِنَّ الْمُؤْمِنِينَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ، وَأَمْوَالُهُمْ مَعْصُومَةٌ إِلاَّ بِحَقِّهَا، وَثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَقَادَ مِنْ
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 17، وأبي يعلى ص 13
(2) مغني المحتاج 4 / 199، والمغني 8 / 312، 7 / 663، وحاشية الدسوقي 4 / 355(6/230)
نَفْسِهِ " (1) وَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُقِيدُ مِنْ نَفْسِهِ. وَالإِْمَامُ وَالْمُعْتَدَى عَلَيْهِ نَفْسَانِ مَعْصُومَتَانِ كَسَائِرِ الرَّعِيَّةِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ كَمَا يُقَامُ عَلَى سَائِرِ النَّاس لِعُمُومِ الأَْدِلَّةِ، وَيَتَوَلَّى التَّنْفِيذَ عَلَيْهِ مَنْ يَتَوَلَّى الْحُكْمَ عَنْهُ. (2) وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، لأَِنَّ الْحَدَّ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَالإِْمَامُ نَفْسُهُ هُوَ الْمُكَلَّفُ بِإِقَامَتِهِ، وَلاَ يُمْكِنُ أَنْ يُقِيمَهُ عَلَى نَفْسِهِ، لأَِنَّ إِقَامَتَهُ تَسْتَلْزِمُ الْخِزْيَ وَالنَّكَال وَلاَ يَفْعَل أَحَدٌ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ، بِخِلاَفِ حَقِّ الْعِبَادِ. أَمَّا حَدُّ الْقَذْفِ فَقَالُوا: الْمُغَلَّبُ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ سَائِرِ الْحُدُودِ، فَإِقَامَتُهُ إِلَيْهِ كَسَائِرِ الْحُدُودِ. (3) وَلاَ وِلاَيَةَ لأَِحَدٍ عَلَيْهِ لِيَسْتَوْفِيَهُ، وَفَائِدَةُ الإِْيجَابِ الاِسْتِيفَاءُ، فَإِذَا تَعَذَّرَ لَمْ يَجِبْ. وَفَرَّقُوا بَيْنَ الْحَدِّ، وَبَيْنَ الْقِصَاصِ وَضَمَانِ الْمُتْلَفَاتِ بِأَنَّهُمَا مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ فَيَسْتَوْفِيهِمَا صَاحِبُ الْحَقِّ، وَلاَ يُشْتَرَطُ الْقَضَاءُ، بَل الإِْمْكَانُ وَالتَّمَكُّنُ، وَيَحْصُل ذَلِكَ بِتَمْكِينِهِ مِنْ نَفْسِهِ، إِنِ احْتَاجَ إِلَى مَنَعَةٍ. (4) فَالْمُسْلِمُونَ مَنَعَتُهُ، فَبِهِمْ يَقْدِرُ عَلَى
__________
(1) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم أقاد من نفسه. . . . . "،. أخرجه أبو داود والنسائي من حديث عمر رضي الله عنه بلفظ " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم. أقص - وفي النسائي: يقص - من نفسه " وفي إسناده أبو فراس: وهو مجهول. قال الذهبي في ميزان الاعتدال: لا يعر وسنن النسائي 8 / 34 ط إستانبول، وميزان الاعتدال 4 / 561، وجامع الأصول 4 / 82، 83، 10 / 274)
(2) مغني المحتاج 4 / 152
(3) فتح القدير 4 / 160، وحاشية ابن عابدين 3 / 158
(4) حاشية ابن عابدين 3 / 158، وفتح القدير 4 / 160 - 161(6/231)
الاِسْتِيفَاءِ فَكَانَ الْوُجُوبُ مُفِيدًا. . (1)
هَدَايَا الإِْمَامِ لِغَيْرِهِ:
27 - هَدَايَا الإِْمَامِ لِغَيْرِهِ إِنْ كَانَتْ مِنْ مَالِهِ الْخَاصِّ فَلاَ يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الأَْفْرَادِ، وَيُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (هَدِيَّة) .
أَمَّا إِنْ كَانَتْ مِنْ بَيْتِ الْمَال، فَإِذَا كَانَ مُقَابِلاً لِعَمَلٍ عَامٍّ فَهُوَ رِزْقٌ، وَإِنْ كَانَ عَطَاءً شَامِلاً لِلنَّاسِ مِنْ بَيْتِ الْمَال فَهُوَ عَطَاءٌ، وَإِنْ كَانَتِ الْهَدِيَّةُ بِمُبَادَرَةٍ مِنَ الإِْمَامِ مَيَّزَ بِهَا فَرْدًا عَنْ غَيْرِهِ فَهِيَ الَّتِي تُسَمَّى (جَائِزَةَ السُّلْطَانِ) وَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهَا، فَكَرِهَهَا أَحْمَدُ تَوَرُّعًا لِمَا فِي بَعْضِ مَوَارِدِ بَيْتِ الْمَال مِنَ الشُّبْهَةِ، لَكِنَّهُ نَصَّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِحَرَامٍ عَلَى آخِذِهَا، لِغَلَبَةِ الْحَلاَل عَلَى مَوَارِدِ بَيْتِ الْمَال، وَكَرِهَهَا ابْنُ سِيرِينَ لِعَدَمِ شُمُولِهَا لِلرَّعِيَّةِ، وَمِمَّنْ تَنَزَّهَ عَنِ الأَْخْذِ مِنْهَا حُذَيْفَةُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ وَمُعَاذٌ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَابْنُ عُمَرَ. هَذَا مِنْ حَيْثُ أَخْذُ الْجَوَائِزِ. (2)
أَمَّا مِنْ حَيْثُ تَصَرُّفُ الإِْمَامِ بِالإِْعْطَاءِ فَيَجِبُ أَنْ يُرَاعَى فِيهِ الْمَصْلَحَةُ الْعَامَّةُ لِلْمُسْلِمِينَ دُونَ اتِّبَاعِ الْهَوَى وَالتَّشَهِّي، لأَِنَّ تَصَرُّفَ الإِْمَامِ فِي الأَْمْوَال الْعَامَّةِ وَغَيْرِهَا مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ مَنُوطٌ بِالْمَصْلَحَةِ.
قَبُول الإِْمَامِ الْهَدَايَا:
28 - لَمْ يَخْتَلِفِ الْعُلَمَاءُ فِي كَرَاهِيَةِ الْهَدِيَّةِ إِلَى الأُْمَرَاءِ.
ذَكَرَ ابْنُ عَابِدِينَ فِي حَاشِيَتِهِ. أَنَّ الإِْمَامَ (بِمَعْنَى الْوَالِي) لاَ تَحِل لَهُ الْهَدِيَّةُ، لِلأَْدِلَّةِ - الْوَارِدَةِ فِي هَدَايَا
__________
(1) المغني 6 / 443 - 444 ط الرياض، وإحياء علوم الدين 2 / 135 وما بعدها
(2) ابن عابدين 4 / 310، والفتاوى الهندية 3 / 331، ومعين الحكام ص17(6/231)
الْعُمَّال وَلأَِنَّهُ رَأْسُ الْعُمَّال.
وَقَال ابْنُ حَبِيبٍ: لَمْ يَخْتَلِفِ الْعُلَمَاءُ فِي كَرَاهِيَةِ الْهَدِيَّةِ إِلَى السُّلْطَانِ الأَْكْبَرِ وَإِلَى الْقُضَاةِ وَالْعُمَّال وَجُبَاةِ الأَْمْوَال. وَهَذَا قَوْل مَالِكٍ وَمَنْ قَبْلَهُ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ وَالسُّنَّةِ. وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْبَل الْهَدِيَّةَ، وَهَذَا مِنْ خَوَاصِّهِ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْصُومٌ مِمَّا يُتَّقَى عَلَى غَيْرِهِ مِنْهَا، وَلَمَّا رَدَّ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْهَدِيَّةَ، قِيل لَهُ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْبَلُهَا، فَقَال: كَانَتْ لَهُ هَدِيَّةً وَهِيَ لَنَا رِشْوَةٌ، لأَِنَّهُ كَانَ يُتَقَرَّبُ إِلَيْهِ لِنُبُوَّتِهِ لاَ لِوِلاَيَتِهِ، وَنَحْنُ يُتَقَرَّبُ بِهَا إِلَيْنَا لِوِلاَيَتِنَا (1) .
هَدَايَا الْكُفَّارِ لِلإِْمَامِ.
29 - لاَ يَجُوزُ لِلإِْمَامِ قَبُول هَدِيَّةٍ مِنْ كُفَّارٍ أَشْرَفَتْ حُصُونُهُمْ عَلَى السُّقُوطِ بِيَدِ الْمُسْلِمِينَ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَوْهِينِ الْمُسْلِمِينَ وَتَثْبِيطِ هِمَّتِهِمْ. أَمَّا إِذَا كَانُوا بِقُوَّةٍ وَمَنَعَةٍ جَازَ لَهُ قَبُول هَدِيَّتِهِمْ. وَهِيَ لِلإِْمَامِ إِنْ كَانَتْ مِنْ قَرِيبٍ لَهُ، أَوْ كَانَتْ مُكَافَأَةً، أَوْ رَجَاءَ ثَوَابٍ (أَيْ مُقَابِلٍ) . وَإِنْ كَانَتْ مِنْ غَيْرِ قَرِيبٍ، وَأَهْدَى بَعْدَ دُخُول الإِْمَامِ بَلَدَهُمْ فَهِيَ غَنِيمَةٌ. وَهُمْ فَيْءٌ قَبْل الدُّخُول فِي بَلَدِهِمْ. (2)
هَذَا إِذَا كَانَتْ مِنَ الأَْفْرَادِ، أَمَّا إِذَا كَانَتْ مِنَ الطَّاغِيَةِ أَيْ رَئِيسِهِمْ، فَإِنَّهَا فَيْءٌ إِنْ أُهْدِيَ قَبْل دُخُول الْمُسْلِمِينَ فِي بَلَدِهِمْ، وَغَنِيمَةٌ بَعْدَ الدُّخُول فِيهِ، وَهَذَا التَّفْصِيل لِلْمَالِكِيَّةِ. وَعِنْدَ أَحْمَدَ: يَجُوزُ لِلإِْمَامِ قَبُول الْهَدِيَّةِ مِنْ أَهْل الْحَرْبِ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبِل هَدِيَّةَ الْمُقَوْقِسِ صَاحِبِ مِصْرَ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي حَال الْغَزْوِ فَمَا أَهْدَاهُ الْكُفَّارُ لأَِمِيرِ الْجَيْشِ أَوْ
__________
(1) تبصرة الحكام على هامش فتح العلي 1 / 30، والبجيرمي على الخطيب 4 / 330، والمغني 9 / 78
(2) جواهر الإكليل 1 / 256(6/232)
لِبَعْضِ قُوَّادِهِ فَهُوَ غَنِيمَةٌ، لأَِنَّهُ لاَ يَفْعَل ذَلِكَ إِلاَّ خَوْفًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَخَذَهُ قَهْرًا.
وَأَمَّا إِنْ أَهْدَى مِنْ دَارِ الْحَرْبِ، فَهُوَ لِمَنْ أَهْدَى إِلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَ الإِْمَامَ أَوْ غَيْرَهُ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبِل الْهَدِيَّةَ مِنْهُمْ، فَكَانَتْ لَهُ دُونَ غَيْرِهِ. (1) وَعَزَا ابْنُ قُدَامَةَ هَذَا إِلَى الشَّافِعِيِّ أَيْضًا، وَنَقَل عَنِ الإِْمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهَا لِلْمُهْدَى لَهُ بِكُل حَالٍ، لأَِنَّهُ خَصَّهُ بِهَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أُهْدِيَ لَهُ مِنْ دَارِ الإِْسْلاَمِ، وَحَكَى فِي ذَلِكَ رِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ (2) وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ أَهْدَى مُشْرِكٌ إِلَى الأَْمِيرِ أَوْ إِلَى الإِْمَامِ هَدِيَّةً، وَالْحَرْبُ قَائِمَةٌ فَهِيَ غَنِيمَةٌ، بِخِلاَفِ مَا لَوْ أَهْدَى قَبْل أَنْ يَرْتَحِلُوا عَنْ دَارِ الإِْسْلاَمِ، فَإِنَّهُ لِلْمُهْدَى إِلَيْهِ. (3)
وَقَال عَبْدُ الْغَنِيِّ النَّابْلُسِيُّ: قَال الْمَاوَرْدِيُّ: فَنَزَاهَتُهُ عَنْهَا أَوْلَى مِنْ قَبُولِهَا، فَإِنْ قَبِلَهَا جَازَ وَلَمْ يُمْنَعْ، وَهَذَا حُكْمُ الْهَدَايَا لِلْقُضَاةِ، أَمَّا الْهَدَايَا لِلأَْئِمَّةِ فَقَدْ قَال فِي الْحَاوِي: إِنَّهَا إِنْ كَانَتْ مِنْ هَدَايَا دَارِ الإِْسْلاَمِ فَهِيَ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يُهْدِيَ إِلَيْهِ مَنْ يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى حَقٍّ يَسْتَوْفِيهِ، أَوْ عَلَى ظُلْمٍ يَدْفَعُهُ عَنْهُ، أَوْ عَلَى بَاطِلٍ يُعِينُهُ عَلَيْهِ، فَهَذِهِ الرِّشْوَةُ الْمُحَرَّمَةُ.
الثَّانِي: أَنْ يُهْدِيَ إِلَيْهِ مَنْ كَانَ يُهَادِيهِ قَبْل الْوِلاَيَةِ، فَإِنْ كَانَ بِقَدْرِ مَا كَانَ قَبْل الْوِلاَيَةِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ عَرَضَتْ فَيَجُوزُ لَهُ قَبُولُهَا، وَإِنِ اقْتَرَنَ بِهَا حَاجَةٌ عَرَضَتْ إِلَيْهِ فَيُمْنَعُ مِنَ الْقَبُول عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَقْبَلَهَا بَعْدَ الْحَاجَةِ. وَإِنْ زَادَ فِي هَدِيَّتِهِ
__________
(1) المغني 8 / 495
(2) المصدر السابق
(3) روضة الطالبين 10 / 294، وحاشية قليوبي 3 / 188(6/232)
عَلَى قَدْرِ الْعَادَةِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ، فَإِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ مِنْ جِنْسِ الْهَدِيَّةِ جَازَ قَبُولُهَا لِدُخُولِهَا فِي الْمَأْلُوفِ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْهَدِيَّةِ مُنِعَ مِنَ الْقَبُول.
الثَّالِثُ: أَنْ يُهْدِيَ إِلَيْهِ مَنْ لَمْ يَكُنْ يُهَادِيهِ قَبْل الْوِلاَيَةِ، فَإِنْ (كَانَ) لأَِجْل وِلاَيَتِهِ فَهِيَ رِشْوَةٌ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ أَخْذُهَا، وَإِنْ كَانَ لأَِجْل جَمِيلٍ صَدَرَ (لَهُ) مِنْهُ إِمَّا وَاجِبًا أَوْ تَبَرُّعًا فَلاَ يَجُوزُ قَبُولُهَا أَيْضًا.
وَإِنْ كَانَ لاَ لأَِجْل وِلاَيَةٍ، بَل لِمُكَافَأَةٍ عَلَى جَمِيلٍ، فَهَذِهِ هَدِيَّةٌ بَعَثَ عَلَيْهَا جَاهٌ، فَإِنْ كَافَأَهُ عَلَيْهَا جَازَ لَهُ قَبُولُهَا، وَإِنْ لَمْ يُكَافِئْ عَلَيْهَا فَلاَ يَقْبَلُهَا لِنَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ هَدَايَا دَارِ الْحَرْبِ جَازَ لَهُ قَبُول هَدَايَاهُمْ، وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي الأَْحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ قَال: وَالْفَرْقُ بَيْنَ الرِّشْوَةِ وَالْهَدِيَّةِ أَنَّ الرِّشْوَةَ مَا أُخِذَتْ طَلَبًا، وَالْهَدِيَّةُ مَا بُذِلَتْ عَفْوًا. (1)
أَثَرُ فِسْقِ الإِْمَامِ عَلَى وِلاَيَتِهِ الْخَاصَّةِ:
30 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي سَلْبِ الْوِلاَيَةِ الْخَاصَّةِ عَنِ الإِْمَامِ بِفِسْقِهِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ - عِنْدَهُمُ - الْعَدَالَةُ فِي وِلاَيَةِ النِّكَاحِ أَصْلاً، حَتَّى يَسْلُبَهَا الْفِسْقُ، فَيُزَوِّجُ بَنَاتِهِ الْقَاصِرَاتِ بِالْوِلاَيَةِ الْخَاصَّةِ، يَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الإِْمَامُ، وَغَيْرُهُ مِنَ الأَْوْلِيَاءِ. (2)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْوِلاَيَةَ الْخَاصَّةَ تُسْلَبُ بِالْفِسْقِ، فَلاَ يَصِحُّ لَهُ تَزْوِيجُ بَنَاتِهِ بِالْوِلاَيَةِ الْخَاصَّةِ
__________
(1) تحقيق القضية في الفرق بين الرشوة والهدية للنابلسي ص 197 - 198 تحقيق محمد عمر بيوند نشر وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بالكويت
(2) فتح القدير 3 / 181 ط بيروت، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 2 / 230، والإنصاف 8 / 74(6/233)
كَغَيْرِهِ مِنَ الْفَسَقَةِ، لِخُرُوجِهِ بِالْفِسْقِ عَنِ الْوِلاَيَةِ الْخَاصَّةِ كَأَفْرَادِ النَّاسِ، وَإِنْ لَمْ يَسْلُبْهُ عَنِ الْوِلاَيَةِ الْعَامَّةِ تَعْظِيمًا لِشَأْنِ الإِْمَامَةِ، عَلَى أَنَّ فِي ذَلِكَ خِلاَفًا سَبَقَ بَيَانُهُ.
وَتَنْتَقِل وِلاَيَةُ النِّكَاحِ إِلَى الْبَعِيدِ مِنَ الْعَصَبَةِ، فَإِنْ لَمْ تُوجَدْ عَصَبَةٌ زَوَّجَهُنَّ بِالْوِلاَيَةِ الْعَامَّةِ كَغَيْرِهِنَّ مِمَّنْ لاَ وَلِيَّ لَهُنَّ. (1) لِحَدِيثِ: السُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لاَ وَلِيَّ لَهُ. (2)
أَمَانٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الأَْمَانُ فِي اللُّغَةِ: عَدَمُ تَوَقُّعِ مَكْرُوهٍ فِي الزَّمَنِ الآْتِي، وَأَصْل الأَْمْنِ طُمَأْنِينَةُ النَّفْسِ وَزَوَال الْخَوْفِ، وَالأَْمْنُ وَالأَْمَانَةُ وَالأَْمَانُ مَصَادِرُ لِلْفِعْل (أَمِنَ) ، وَيَرِدُ الأَْمَانُ تَارَةً اسْمًا لِلْحَالَةِ الَّتِي يَكُونُ عَلَيْهَا الإِْنْسَانُ مِنَ الطُّمَأْنِينَةِ، وَتَارَةً لِعَقْدِ الأَْمَانِ أَوْ صَكِّهِ. (3)
وَعَرَّفَهُ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّهُ: رَفْعُ اسْتِبَاحَةِ دَمِ الْحَرْبِيِّ
__________
(1) شروح روض الطالب 3 / 132، وقليوبي 3 / 227
(2) حديث: " السلطان ولي من لا ولي له. . . ". أخرجه أبو داود والترمذي وقال: هذا حديث حسن. (سنن أبي داود 2 / 567، 568 ط عزت عبيد الدعاس، وسنن الترمذي 3 / 407، 408 ط إستانبول)
(3) المفردات للراغب الأصفهاني، وقواعد الفقه، وتاج العروس مادة (أمن)(6/233)
وَرِقِّهِ وَمَالِهِ حِينَ قِتَالِهِ أَوِ الْغُرْمِ عَلَيْهِ، مَعَ اسْتِقْرَارِهِ تَحْتَ حُكْمِ الإِْسْلاَمِ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْهُدْنَةُ:
2 - الْهُدْنَةُ هِيَ: أَنْ يُعْقَدَ لأَِهْل الْحَرْبِ عَقْدٌ عَلَى تَرْكِ الْقِتَال مُدَّةً بِعِوَضٍ وَبِغَيْرِ عِوَضٍ، وَتُسَمَّى: مُهَادَنَةً وَمُوَادَعَةً وَمُعَاهَدَةً. وَيَخْتَلِفُ عَقْدُ الْهُدْنَةِ عَنِ الأَْمَانِ بِأَنَّ عَقْدَ الْهُدْنَةِ لاَ يَعْقِدُهُ إِلاَّ الإِْمَامُ أَوْ نَائِبُهُ، أَمَّا الأَْمَانُ فَيَصِحُّ مِنْ أَفْرَادِ الْمُسْلِمِينَ (2) .
ب - الْجِزْيَةُ:
3 - عَقْدُ الْجِزْيَةِ مُوجِبٌ لِعِصْمَةِ الدِّمَاءِ وَصِيَانَةِ الأَْمْوَال وَالأَْعْرَاضِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ.
وَيَخْتَلِفُ عَنِ الأَْمَانِ فِي أَنَّ عَقْدَ الْجِزْيَةِ مِثْل الْهُدْنَةِ لاَ يَعْقِدُهُ إِلاَّ الإِْمَامُ.
كَمَا أَنَّ عَقْدَ الْجِزْيَةِ مُؤَبَّدٌ لاَ يُنْقَضُ، بِخِلاَفِ الأَْمَانِ فَهُوَ عَقْدٌ غَيْرُ لاَزِمٍ، أَيْ قَابِلٌ لِلنَّقْضِ بِشُرُوطِهِ (3) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
4 - الأَْصْل أَنَّ إِعْطَاءَ الأَْمَانِ أَوْ طَلَبَهُ مُبَاحٌ، وَقَدْ
__________
(1) الحطاب 3 / 360 شرح السير الكبير 1 / 283 ط شركة الإعلانات الشرقية، ومغني المحتاج 4 / 236 نشر دار إحياء التراث العربي
(2) المغني مع الشرح الكبير 10 / 432، 520، وتهذيب الفروق 3 / 38 ط دار إحياء الكتب العربية 1346 هـ
(3) الفروق للقرافي 3 / 11، وتهذيب الفروق بهامش الفروق 3 / 38، ومجمع الأنهر 1 / 607، وبدائع الصنائع 7 / 107، 111 ط الجمالية(6/234)
يَكُونُ حَرَامًا أَوْ مَكْرُوهًا إِذَا كَانَ يُؤَدِّي إِلَى ضَرَرٍ أَوْ إِخْلاَلٍ بِوَاجِبٍ أَوْ مَنْدُوبٍ.
وَحُكْمُ الأَْمَانِ هُوَ ثُبُوتُ الأَْمْنِ لِلْكَفَرَةِ عَنِ الْقَتْل وَالسَّبْيِ وَغُنْمِ أَمْوَالِهِمْ، فَيَحْرُمُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ قَتْل رِجَالِهِمْ وَسَبْيُ نِسَائِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ وَاغْتِنَامُ أَمْوَالِهِمْ. (1)
مَا يَكُونُ بِهِ الأَْمَانُ:
5 - يَنْعَقِدُ الأَْمَانُ بِكُل لَفْظٍ صَرِيحٍ أَوْ كِنَايَةٍ يُفِيدُ الْغَرَضَ، بِأَيِّ لُغَةٍ كَانَ، وَيَنْعَقِدُ بِالْكِتَابَةِ وَالرِّسَالَةِ وَالإِْشَارَةِ الْمُفْهِمَةِ؛ لأَِنَّ التَّأْمِينَ إِنَّمَا هُوَ مَعْنًى فِي النَّفْسِ، فَيُظْهِرُهُ الْمُؤَمِّنُ تَارَةً بِالنُّطْقِ، وَتَارَةً بِالْكِتَابَةِ، وَتَارَةً بِالإِْشَارَةِ، فَكُل مَا بُيِّنَ بِهِ التَّأْمِينُ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ. (2)
شُرُوطُ الأَْمَانِ:
6 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ شَرْطَ الأَْمَانِ انْتِفَاءُ الضَّرَرِ، وَلَوْ لَمْ تَظْهَرِ الْمَصْلَحَةُ. (3)
وَقَيَّدَ الْبُلْقِينِيُّ جَوَازَ الأَْمَانِ بِمُجَرَّدِ انْتِفَاءِ الضَّرَرِ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 107، والشرح الصغير 2 / 288 ط دار المعارف، والمغني مع الشرح الكبير 10 / 432، وروضة الطالبين 10 / 281 نشر المكتب الإسلامي
(2) روضة الطالبين 10 / 279، ومغني المحتاج 4 / 237، 238، والمنتقى 3 / 172، 174 ط السعادة 1332 هـ، وحاشية العدوي على شرح الرسالة 2 / 8 نشر دار المعرفة، وشرح السير الكبير 1 / 283، 296 نشر شركة الإعلانات الشرقية، وحاشية ابن عابدين 3 / 227 ط بولاق، والمبدع 3 / 391، والفروع 6 / 248 نشر عالم الكتب
(3) شرح الزرقاني 3 / 123، وحاشية الدسوقي 2 / 186 ط عيسى الحلبي، والفروع 6 / 249، ومغني المحتاج 4 / 238، ونهاية المحتاج 8 / 77(6/234)
بِغَيْرِ الأَْمَانِ الْمُعْطَى مِنَ الإِْمَامِ، فَلاَ بُدَّ فِيهِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ وَالنَّظَرِ لِلْمُسْلِمِينَ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يُشْتَرَطُ فِي الأَْمَانِ أَنْ تَكُونَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ ظَاهِرَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَذَلِكَ بِأَنْ يُعْطَى فِي حَال ضَعْفِ الْمُسْلِمِينَ وَقُوَّةِ أَعْدَائِهِمْ، لأَِنَّ الْجِهَادَ فَرْضٌ وَالأَْمَانَ يَتَضَمَّنُ تَحْرِيمَ الْقِتَال، فَيَتَنَاقَضُ، إِلاَّ إِذَا كَانَ فِي حَال ضَعْفِ الْمُسْلِمِينَ وَقُوَّةِ الْكَفَرَةِ، لأَِنَّهُ إِذْ ذَاكَ يَكُونُ قِتَالاً مَعْنًى، لِوُقُوعِهِ وَسِيلَةً إِلَى الاِسْتِعْدَادِ لِلْقِتَال، فَلاَ يُؤَدِّي إِلَى التَّنَاقُضِ. (1)
مَنْ لَهُ حَقُّ إِعْطَاءِ الأَْمَانِ:
7 - الأَْمَانُ إِمَّا أَنْ يُعْطَى مِنَ الإِْمَامِ أَوْ مِنْ آحَادِ الْمُسْلِمِينَ:
أ - أَمَانُ الإِْمَامِ: يَصِحُّ أَمَانُ الإِْمَامِ لِجَمِيعِ الْكُفَّارِ وَآحَادِهِمْ، لأَِنَّهُ مُقَدَّمٌ لِلنَّظَرِ وَالْمَصْلَحَةِ، نَائِبٌ عَنِ الْجَمِيعِ فِي جَلْبِ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ. وَهَذَا مَا لاَ خِلاَفَ فِيهِ. (2)
ب - أَمَانُ آحَادِ الْمُسْلِمِينَ: يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ أَمَانَ آحَادِ الْمُسْلِمِينَ يَصِحُّ لِعَدَدٍ مَحْصُورٍ كَأَهْل قَرْيَةٍ صَغِيرَةٍ وَحِصْنٍ صَغِيرٍ، أَمَّا تَأْمِينُ الْعَدَدِ الَّذِي لاَ يَنْحَصِرُ فَهُوَ مِنْ خَصَائِصِ الإِْمَامِ. (3)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الأَْمَانَ يَصِحُّ مِنَ الْوَاحِدِ، سَوَاءٌ أَمَّنَ جَمَاعَةً كَثِيرَةً أَوْ قَلِيلَةً أَوْ أَهْل مِصْرٍ أَوْ قَرْيَةٍ، فَلَيْسَ حِينَئِذٍ لأَِحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قِتَالُهُمْ. (4)
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 106، 107
(2) المغني مع الشرح الكبير 10 / 434، وتفسير القرطبي 8 / 76، والخرشي3 / 123 ط دار صادر
(3) المغني مع الشرح الكبير 10 / 434، ومغني المحتاج 4 / 237، وشرح الزرقاني 3 / 122، والخرشي 3 / 123
(4) بدائع الصنائع 7 / 107، وفتح القدير 4 / 298 ط بولاق، والفتاوى الهندية 2 / 198(6/235)
شُرُوطُ الْمُؤَمِّنِ:
8 - أ - الإِْسْلاَمُ: فَلاَ يَصِحُّ أَمَانُ الْكَافِرِ، وَإِنْ كَانَ يُقَاتِل مَعَ الْمُسْلِمِينَ.
ب - الْعَقْل: فَلاَ يَصِحُّ أَمَانُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي لاَ يَعْقِل.
ج - الْبُلُوغُ: بُلُوغُ الْمُؤَمِّنِ شَرْطٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ. وَقَال مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيُّ: لَيْسَ بِشَرْطٍ.
د - عَدَمُ الْخَوْفِ مِنَ الْحَرْبِيِّينَ: فَلاَ يَصِحُّ أَمَانُ الْمَقْهُورِينَ فِي أَيْدِي الْكَفَرَةِ.
أَمَّا الذُّكُورَةُ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الأَْمَانِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، فَيَصِحُّ أَمَانُ الْمَرْأَةِ لأَِنَّهَا لاَ تَعْجِزُ عَنِ الْوُقُوفِ عَلَى حَال الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ. (1)
وَقَال ابْنُ الْمَاجِشُونِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّ أَمَانَ الْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ وَالصَّبِيِّ لاَ يَجُوزُ ابْتِدَاءً، وَلَكِنْ إِنْ وَقَعَ يَمْضِي إِنْ أَمْضَاهُ الإِْمَامُ وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ. (2)
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
فَصَّل الْفُقَهَاءُ أَحْكَامَ الأَْمَانِ فِي أَبْوَابِ السِّيَرِ وَالْجِهَادِ فَتُنْظَرُ فِيهَا، وَيُرْجَعُ إِلَى مُصْطَلَحِ (مُسْتَأْمَن) .
__________
(1) انظر في جميع الشروط: حاشية الدسوقي 2 / 185، وحاشية البناني 3 / 122، وحاشية العدوي على شرح الرسالة 2 / 8 نشر دار المعرفة، وبدائع الصنائع 7 / 106، 107، وشرح السير الكبير 1 / 252 - 257، والمغني مع الشرح الكبير 10 / 432، ومغني المحتاج 4 / 237
(2) حاشية العدوي على شرح الرسالة 2 / 8(6/235)
أَمَانَةٌ
التَّعْرِيفُ
1 - الأَْمَانَةُ: ضِدُّ الْخِيَانَةِ، وَالأَْمَانَةُ تُطْلَقُ عَلَى: كُل مَا عُهِدَ بِهِ إِلَى الإِْنْسَانِ مِنَ التَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ وَغَيْرِهَا كَالْعِبَادَةِ وَالْوَدِيعَةِ، وَمِنَ الأَْمَانَةِ: الأَْهْل وَالْمَال. (1)
وَبِالتَّتَبُّعِ تَبَيَّنَ أَنَّ الأَْمَانَةَ قَدِ اسْتَعْمَلَهَا الْفُقَهَاءُ بِمَعْنَيَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: بِمَعْنَى الشَّيْءِ الَّذِي يُوجَدُ عِنْدَ الأَْمِينِ، وَذَلِكَ يَكُونُ فِي:
أ - الْعَقْدِ الَّذِي تَكُونُ الأَْمَانَةُ فِيهِ هِيَ الْمَقْصِدَ الأَْصْلِيَّ، وَهُوَ الْوَدِيعَةُ، وَهِيَ الْعَيْنُ الَّتِي تُوضَعُ عِنْدَ شَخْصٍ لِيَحْفَظَهَا، فَهِيَ أَخَصُّ مِنَ الأَْمَانَةِ، فَكُل وَدِيعَةٍ أَمَانَةٌ وَلاَ عَكْسَ. (2)
ب - الْعَقْدُ الَّذِي تَكُونُ الأَْمَانَةُ فِيهِ ضِمْنًا، وَلَيْسَتْ أَصْلاً بَل تَبَعًا، كَالإِْجَارَةِ وَالْعَارِيَةِ وَالْمُضَارَبَةِ وَالْوَكَالَةِ وَالشَّرِكَةِ وَالرَّهْنِ.
ج - مَا كَانَتْ بِدُونِ عَقْدٍ كَاللُّقَطَةِ، وَكَمَا إِذَا أَلْقَتِ الرِّيحُ فِي دَارِ أَحَدٍ مَال جَارِهِ، وَذَلِكَ مَا يُسَمَّى بِالأَْمَانَاتِ الشَّرْعِيَّةِ. (3)
__________
(1) لسان العرب، وتاج العروس، والمصباح المنير، والمغرب. مادة: " أمن "
(2) القليوبي 3 / 180 ط مصطفى الحلبي
(3) مجمع الأنهر 2 / 338، ومجلة الأحكام العدلية ص 144، ومغني المحتاج 3 / 90 ط مصطفى الحلبي، والقواعد في الفقه لابن رجب ص 53، 54 ط دار المعرفة(6/236)
الثَّانِي: بِمَعْنَى الصِّفَةِ، وَذَلِكَ فِي:
أ - مَا يُسَمَّى بِبَيْعِ الأَْمَانَةِ، كَالْمُرَابَحَةِ وَالتَّوْلِيَةِ وَالاِسْتِرْسَال (الاِسْتِئْمَانِ) وَهِيَ الْعُقُودُ الَّتِي يَحْتَكِمُ فِيهَا الْمُبْتَاعُ إِلَى ضَمِيرِ الْبَائِعِ وَأَمَانَتِهِ. (1)
ب - فِي الْوِلاَيَاتِ سَوَاءٌ كَانَتْ عَامَّةً كَالْقَاضِي، أَمْ خَاصَّةً كَالْوَصِيِّ وَنَاظِرِ الْوَقْفِ. (2)
ج - فِيمَنْ يَتَرَتَّبُ عَلَى كَلاَمِهِ حُكْمٌ كَالشَّاهِدِ. (3)
د - تُسْتَعْمَل الأَْمَانَةُ فِي بَابِ الأَْيْمَانِ كَمُقْسَمٍ بِهَا بِاعْتِبَارِهَا صِفَةً مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى (4) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
أَوَّلاً: الأَْمَانَةُ بِمَعْنَى الشَّيْءِ الَّذِي يُوجَدُ عِنْدَ الأَْمِينِ:
2 - لِلأَْمَانَةِ بِهَذَا الْمَعْنَى عِدَّةُ أَحْكَامٍ إِجْمَالُهَا فِيمَا يَلِي:
أ - الأَْصْل إِبَاحَةُ أَخْذِ الْوَدِيعَةِ وَاللُّقَطَةِ، وَقِيل: يُسْتَحَبُّ الأَْخْذُ لِمَنْ قَدَرَ عَلَى الْحِفْظِ وَالأَْدَاءِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} . (5)
وَقَدْ يَعْرِضُ الْوُجُوبُ لِمَنْ يَثِقُ فِي أَمَانَةِ نَفْسِهِ وَخِيفَ عَلَى اللُّقَطَةِ أَخْذُ خَائِنٍ لَهَا، وَعَلَى الْوَدِيعَةِ مِنَ الْهَلاَكِ أَوِ الْفَقْدِ عِنْدَ عَدَمِ الإِْيدَاعِ، لأَِنَّ مَال
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 225 ط الجمالية، والمغني 3 / 584، 4 / 203، 208 ط الرياض، والدسوقي 3 / 164 ط دار الفكر
(2) الفتاوى الهندية 6 / 137، 146، 148، 150 ط المكتبة الإسلامية، والمهذب 2 / 471 ط دار المعرفة، ومنتهى الإرادات 2، 504، 574 ط دار الفكر، والمغني 9 / 40
(3) المغني 9 / 165، والمهذب 2 / 325
(4) منح الجليل 1 / 624 ط النجاح، والمهذب 1 / 131، والمغني 8 / 703
(5) سورة المائدة / 2(6/236)
الْغَيْرِ وَاجِبُ الْحِفْظِ، وَحُرْمَةُ الْمَال كَحُرْمَةِ النَّفْسِ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: حُرْمَةُ مَال الْمُؤْمِنِ كَحُرْمَةِ دَمِهِ. (1)
وَقَدْ يَحْرُمُ الأَْخْذُ لِمَنْ يَعْجِزُ عَنِ الْحِفْظِ، أَوْ لاَ يَثِقُ بِأَمَانَةِ نَفْسِهِ، وَفِي ذَلِكَ تَعْرِيضُ الْمَال لِلْهَلاَكِ. (2) وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ.
وَتَفْصِيلُهُ فِي الْوَدِيعَةِ وَاللُّقَطَةِ.
ب - وُجُوبُ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الأَْمَانَةِ عَامَّةً، وَدِيعَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَهَا، يَقُول الْعُلَمَاءُ: حِفْظُ الأَْمَانَةِ يُوجِبُ سَعَادَةَ الدَّارَيْنِ، وَالْخِيَانَةُ تُوجِبُ الشَّقَاءَ فِيهِمَا، وَالْحِفْظُ يَكُونُ بِحَسَبِ كُل أَمَانَةٍ، فَالْوَدِيعَةُ مَثَلاً يَكُونُ حِفْظُهَا بِوَضْعِهَا فِي حِرْزِ مِثْلِهَا. وَالْعَارِيَةُ وَالشَّيْءُ الْمُسْتَأْجَرُ يَكُونُ حِفْظُهُمَا بِعَدَمِ التَّعَدِّي فِي الاِسْتِعْمَال الْمَأْذُونِ فِيهِ، وَبِعَدَمِ التَّفْرِيطِ. وَفِي مَال الْمُضَارَبَةِ يَكُونُ بِعَدَمِ مُخَالَفَةِ مَا أُذِنَ فِيهِ لِلْمُضَارِبِ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ وَهَكَذَا. (3)
ج - وُجُوبُ الرَّدِّ عِنْدَ الطَّلَبِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَْمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (4) وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَدِّ الأَْمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ، وَلاَ تَخُنْ مَنْ خَانَكَ ". (5)
__________
(1) حديث: " حرمة مال المؤمن. . . ". سبق تخريجه (انظر مصطلح التزام ف / 36)
(2) الهداية 2 / 175 ط المكتبة الإسلامية، والمهذب 1 / 365، 436، ط دار المعرفة، ومنح الجليل 3 / 452، 4 / 120 ط النجاح، والمغني 5 / 694 ط الرياض
(3) تكملة رد المحتار 2 / 231، 232 ط مصطفى الحلبي، ومنتهى الإرادات 2 / 327، والمهذب 1 / 415
(4) سورة النساء / 58
(5) البدائع 6 / 210 وحديث " أد الأمانة إلى من ائتمنك. . . . ". أخرجه الترمذي وأبو داود من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. سكت عنه أبوداود. ونقل المنذري تحسين الترمذي وأقره. وذكر صاحب تحفة الأحوذي طرق الحديث المختلفة وتعقبهما بقول ابن الجوزي: لا يصح من جميع طرقه. كما نقل قول أحمد: هذا حديث وسنن أبي داود 3 / 805 ط عزت عبيد دعاس)(6/237)
د - وُجُوبُ الضَّمَانِ بِالْجُحُودِ أَوِ التَّعَدِّي أَوِ التَّفْرِيطِ (1) .
هـ - سُقُوطُ الضَّمَانِ إِذَا تَلِفَتِ الأَْمَانَةُ دُونَ تَعَدٍّ أَوْ تَفْرِيطٍ.
وَهَذَا فِي غَيْرِ الْعَارِيَّةِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، فَالْعَارِيَّةُ عِنْدَهُمْ مَضْمُونَةٌ. (2)
و التَّعْزِيرُ عَلَى تَرْكِ أَدَاءِ الأَْمَانَاتِ كَالْوَدَائِعِ وَأَمْوَال الأَْيْتَامِ وَغَلاَّتِ الْوُقُوفِ، وَمَا تَحْتَ أَيْدِي الْوُكَلاَءِ وَالْمُقَارَضِينَ وَشَبَهِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يُعَاقَبُ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ حَتَّى يُؤَدِّيَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ. (3)
وَلِلْفُقَهَاءِ فِي كُل ذَلِكَ تَفْصِيلاَتٌ وَفُرُوعٌ يُرْجَعُ إِلَيْهَا فِي مَوَاضِعِهَا مِنْ (وَدِيعَة، وَلُقَطَة، وَعَارِيَّة، وَإِجَارَة، وَرَهْن، وَضَمَان، وَوَكَالَة) .
ثَانِيًا: الأَْمَانَةُ بِمَعْنَى الصِّفَةِ:
3 - تَخْتَلِفُ أَحْكَامُ الأَْمَانَةِ بِهَذَا الْمَعْنَى لاِخْتِلاَفِ مَوَاضِعِهَا، وَبَيَانُ ذَلِكَ إِجْمَالاً فِيمَا يَأْتِي:
أ - بَيْعُ الأَْمَانَةِ كَالْمُرَابَحَةِ، وَالْمُرَابَحَةُ تُعْتَبَرُ بَيْعَ
__________
(1) البدائع 6 / 218، والمهذب 1 / 369، ومنتهى الإرادات 2 / 456
(2) البدائع 6 / 217، والمهذب 1 / 370، والأشباه لابن نجيم ص 275، ومنتهى الإرادات 2 / 397
(3) التبصرة بهامش فتح العلي المالك 2 / 259 ط التجارية، وابن عابدين 3 / 182(6/237)
أَمَانَةٍ، لأَِنَّ الْمُشْتَرِيَ ائْتَمَنَ الْبَائِعَ فِي إِخْبَارِهِ عَنِ الثَّمَنِ الأَْوَّل مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ وَلاَ اسْتِحْلاَفٍ، فَتَجِبُ صِيَانَتُهَا عَنِ الْخِيَانَةِ وَالتُّهْمَةِ، لأَِنَّ التَّحَرُّزَ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُول وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} . (1) وَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيْسَ مِنَّا مَنْ غَشَّنَا. (2)
وَعَلَى ذَلِكَ فَإِذَا ظَهَرَتِ الْخِيَانَةُ فِي بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ فَفِي الْجُمْلَةِ يَكُونُ الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ، إِنْ شَاءَ أَخَذَ الْمَبِيعَ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ، وَقِيل: بِحَطِّ الزِّيَادَةِ عَلَى أَصْل رَأْسِ الْمَال وَنِسْبَتِهَا مِنَ الرِّبْحِ مَعَ إِمْضَاءِ الْبَيْعِ. (3) هَذَا مَعَ تَفْصِيلٍ كَثِيرٍ يُنْظَرُ فِي (بَيْع - مُرَابَحَة - تَوْلِيَة - اسْتِرْسَال) .
ب - اعْتِبَارُ الأَْمَانَةِ شَرْطًا فِيمَنْ تَكُونُ لَهُ وِلاَيَةٌ وَنَظَرٌ فِي مَال غَيْرِهِ كَالْوَصِيِّ وَنَاظِرِ الْوَقْفِ، فَقَدِ اشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ صِفَةَ الأَْمَانَةِ فِي الْوَصِيِّ وَنَاظِرِ الْوَقْفِ، وَأَنَّهُ يُعْزَل لَوْ ظَهَرَتْ خِيَانَتُهُ، أَوْ يُضَمُّ إِلَيْهِ أَمِينٌ فِي بَعْضِ الأَْحْوَال، وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ. كَذَلِكَ مَنْ لَهُ وِلاَيَةٌ عَامَّةٌ كَالْقَاضِي، فَالأَْصْل اعْتِبَارُ الأَْمَانَةِ فِيهِ. (4) وَلِلْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ (ر: قَضَاء،
__________
(1) سورة الأنفال / 27
(2) حديث " ليس منا من غشنا. . . ". أخرجه مسلم بلفظ: " من غش فليس مني ". وأخرجه أبو داود وابن ماجه من حديث أبي هريرة مرفوعا بلفظ: " ليس منا من غش " (صحيح مسلم 1 / 99 ط عيسى الحلبي، وعون المعبود 3 / 287 ط الهند، وسنن ابن ماجه 2 / 749 ط عيسى الحلبي)
(3) البدائع 5 / 223، والمغني 4 / 203، 208، والدسوقي 3 / 164، والمهذب 1 / 295، 297
(4) منتهى الإرادات 2 / 504، 574، والمهذب 1 / 470، والهداية 4 / 258، 3 / 101 ط المكتبة الإسلامية، ومنح الجليل 4 / 138، 688(6/238)
وَصِيّ) .
ج - مَنْ يَتَرَتَّبُ عَلَى كَلاَمِهِ حُكْمٌ كَالشَّاهِدِ: فَقَدِ اشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ فِي الشَّاهِدِ الْعَدَالَةَ، لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} . (1) وقَوْله تَعَالَى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} (2) ، فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالتَّوَقُّفِ عَنْ نَبَأِ الْفَاسِقِ، وَالشَّهَادَةُ نَبَأٌ فَيَجِبُ عَدَمُ قَبُول شَهَادَةِ الْفَاسِقِ، وَاعْتَبَرَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ الْخِيَانَةَ مِنَ الْفِسْقِ، (3) وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تَجُوزُ شَهَادَةُ خَائِنٍ وَلاَ خَائِنَةٍ. (4)
د - الْحَلِفُ بِالأَْمَانَةِ: يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ مَنْ حَلَفَ بِالأَْمَانَةِ مَعَ إِضَافَتِهَا إِلَى اسْمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَقَال: وَأَمَانَةِ اللَّهِ لأََفْعَلَنَّ كَذَا، فَإِنَّ ذَلِكَ يُعْتَبَرُ يَمِينًا تُوجِبُ الْكَفَّارَةَ.
أَمَّا الْحَلِفُ بِالأَْمَانَةِ فَقَطْ دُونَ إِضَافَةٍ إِلَى لَفْظِ الْجَلاَلَةِ، فَإِنَّهُ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى نِيَّةِ الْحَالِفِ، فَإِنْ أَرَادَ بِالأَْمَانَةِ صِفَةَ اللَّهِ تَعَالَى فَالْحَلِفُ بِهَا يَمِينٌ، وَإِنْ أَرَادَ بِالأَْمَانَةِ مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَْمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَْرْضِ} (5) أَيِ التَّكَالِيفَ الَّتِي كَلَّفَ اللَّهُ بِهَا عِبَادَهُ فَلَيْسَ بِيَمِينٍ. وَيَكُونُ الْحَلِفُ
__________
(1) سورة البقرة / 282
(2) سورة الحجرات / 6
(3) المغني 9 / 165، والمهذب 2 / 325، ومنح الجليل 4 / 218
(4) حديث: " لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ". أخرجه أبو داود وابن ماجه. قال الحافظ البوصيري تعليقا على إسناد ابن ماجه: في إسناده حجاج بن أرطاة، وكان يدلس وقد رواه بالعنعنة. وقال الحافظ ابن حجر بعد أن أورد رواية أبي داود: سنده قوي. (عون المعبود 3 / 335 ط الهند، وسنن ابن ماجه 2 / 792 ط عيسى الحلبي، والتلخيص الحبير 4 / 198 ط شركة الطباعة الفنية المتحدة وجامع الأصول 10 / 190)
(5) سورة الأحزاب / 72(6/238)
بِهَا غَيْرَ مَشْرُوعٍ (1) لأَِنَّهُ حَلِفٌ بِغَيْرِ اللَّهِ، وَاسْتُدِل لِذَلِكَ بِحَدِيثِ: مَنْ حَلَفَ بِالأَْمَانَةِ فَلَيْسَ مِنَّا. (2)
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
4 - يَأْتِي ذِكْرُ الأَْمَانَةِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَْبْوَابِ الْفِقْهِيَّةِ: كَالْبَيْعِ، وَالْوَكَالَةِ، وَالشَّرِكَةِ، وَالْمُضَارَبَةِ، الْوَدِيعَةِ، وَالْعَارِيَّةِ، وَالإِْجَارَةِ، وَالرَّهْنِ، وَالْوَقْفِ، وَالْوَصِيَّةِ، وَالأَْيْمَانِ، وَالشَّهَادَةِ، وَالْقَضَاءِ. وَقَدْ سَبَقَتِ الإِْشَارَةُ إِلَى ذِكْرِ ذَلِكَ إِجْمَالاً.
كَذَلِكَ يَأْتِي ذِكْرُ الأَْمَانَةِ فِي بَابِ الْحَضَانَةِ بِاعْتِبَارِهَا شَرْطًا مِنْ شُرُوطِ الْحَاضِنِ وَالْحَاضِنَةِ، وَفِي بَابِ الْحَجِّ فِي الرُّفْقَةِ الْمَأْمُونَةِ بِالنِّسْبَةِ لِسَفَرِ الْمَرْأَةِ، وَفِي بَابِ الصِّيَامِ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ يُخْبِرُ بِرُؤْيَةِ الْهِلاَل.
امْتِثَالٌ
انْظُرْ: طَاعَة
__________
(1) ابن عابدين 3 / 57 ط أولى، والمهذب 2 / 131 ط دار المعرفة، والمغني 8 / 703، ومنح الجليل 1 / 624
(2) حديث: " من حلف بالأمانة فليس منا ". أخرجه أحمد وأبو داود واللفظ له من حديث بريدة مرفوعا. سكت عنه المنذري. وقال عبد القادر الأرناؤوط محقق جامع الأصول: إسناده صحيح. (مسند أحمد بن حنبل 5 / 352 ط الميمنية، وعون المعبود 3 / 218 ط الهند، وجامع الأصول في أحاديث الرسول 11 / 656)(6/239)
امْتِشَاطٌ
التَّعْرِيفُ
1 - الاِمْتِشَاطُ لُغَةً: هُوَ تَرْجِيل الشَّعْرِ، (1) وَالتَّرْجِيل: تَسْرِيحُ الشَّعْرِ، وَتَنْظِيفُهُ، وَتَحْسِينُهُ. (2)
وَعِنْدَ الْفُقَهَاءِ مَعْنَاهُ كَالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
2 - يُسْتَحَبُّ تَرْجِيل شَعْرِ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ مِنَ الرَّجُل، وَكَذَا الرَّأْسُ مِنَ الْمَرْأَةِ، (3) لِمَا وَرَدَ: أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ جَالِسًا فِي الْمَسْجِدِ فَدَخَل رَجُلٌ ثَائِرَ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ أَنِ اخْرُجْ. كَأَنَّهُ يَعْنِي إِصْلاَحَ شَعْرِ رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ، فَفَعَل الرَّجُل ثُمَّ رَجَعَ، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَيْسَ هَذَا خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدُكُمْ ثَائِرَ الرَّأْسِ، كَأَنَّهُ شَيْطَانٌ (4)
__________
(1) لسان العرب المحيط (مشط)
(2) المصباح " رجل، مشط ". والنهاية لابن كثير. مشط
(3) ابن عابدين 5 / 261 ط بولاق الأولى، والفواكه الدواني 2 / 402 نشر دار المعرفة، والمجموع 1 / 293 ط المنيرية، والمغني 1 / 89 ط الرياض
(4) حديث: " أليس هذا خير من أن يأتي أحدكم ثائر الرأس كأنه شيطان. . . . " أخرجه مالك في الموطأ من حديث عطاء بن يسار، قال أبو عمرو بن عبد البر: لا خلاف عن مالك في إرساله، وجاء موصولا بمعناه عن جابر وغيره (الموطأ 2 / 949 ط عيسى الحلبي، وجامع الأصول في أحاديث الرسول 4 / 751)(6/239)
وَلِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ كَانَ لَهُ شَعْرٌ فَلْيُكْرِمْهُ (1) وَيُفَصِّل الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ فِي خِصَال الْفِطْرَةِ، وَالْحَظْرِ وَالإِْبَاحَةِ.
3 - وَفِي الإِْحْرَامِ: يَحْرُمُ الاِمْتِشَاطُ إِنْ عَلِمَ أَنَّهُ يُزِيل شَعْرًا، وَكَذَا إِنْ كَانَ يَدْهُنُ وَلَمْ يُزِل شَعْرًا، فَإِنْ كَانَ لاَ يُزِيل شَعْرًا وَكَانَ بِغَيْرِ طِيبٍ فَإِنَّ مِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ أَبَاحَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَرِهَهُ عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (إِحْرَام) (2)
4 - وَلاَ يُمْنَعُ امْتِشَاطُ الْمُحَدَّةِ عِنْدَ أَغْلَبِ الْفُقَهَاءِ، إِنْ كَانَ التَّرْجِيل خَالِيًا عَنْ مَوَادِّ الزِّينَةِ، فَإِنْ كَانَ بِدُهْنٍ أَوْ طِيبٍ حَرُمَ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يَحْرُمُ امْتِشَاطُ الْمُحِدَّةِ بِمُشْطٍ ضَيِّقٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ طِيبٌ، وَتَفْصِيل هَذِهِ الأَْحْكَامِ يَذْكُرُهَا الْفُقَهَاءُ فِي (الإِْحْدَادِ) (3) (ج 2 ص 107 ف 14) .
__________
(1) حديث: " من كان له شعر فليكرمه. . . ". أخرجه أبو داود من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا. قال عبد القادر الأرناؤوط محقق جامع الأصول. " هو حديث حسن، وله شواهد بمعناه (عون المعبود 4 / 125 ط الهند، وجامع الأصول في أحاديث الرسول 4 / 751)
(2) القليوبي 2 / 134، جواهر الإكليل 1 / 189، وكشاف القناع 2 / 423، 424 نشر مكتبة النصر الحديثة
(3) ابن عابدين 2 / 617، 686، والدسوقي 2 / 479، ونهاية المحتاج7 / 143، والمغني 9 / 169 ط المنار الأولى(6/240)
امْتِنَاعٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِمْتِنَاعُ لُغَةً: مَصْدَرُ امْتَنَعَ. يُقَال: امْتَنَعَ مِنَ الأَْمْرِ: إِذَا كَفَّ عَنْهُ. وَيُقَال: امْتَنَعَ بِقَوْمِهِ أَيْ: تَقَوَّى بِهِمْ وَعَزَّ، فَلَمْ يُقْدَرْ عَلَيْهِ. (1)
وَالاِمْتِنَاعُ فِي الاِصْطِلاَحِ لاَ يَخْرُجُ عَنْ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - إِنَّ الاِمْتِنَاعَ عَنِ الْفِعْل الْمُحَرَّمِ وَاجِبٌ، كَالاِمْتِنَاعِ عَنِ الزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَامْتِنَاعِ الْحَائِضِ عَنِ الصَّلاَةِ، وَعَنْ مَسِّ الْمُصْحَفِ، وَالْجُلُوسِ فِي الْمَسْجِدِ.
وَالاِمْتِنَاعُ عَنِ الْوَاجِبِ حَرَامٌ، كَامْتِنَاعِ الْمُكَلَّفِ غَيْرِ الْمَعْذُورِ عَنِ الصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ، وَمِثْل امْتِنَاعِ الْمُحْتَكِرِ عَنْ بَيْعِ الأَْقْوَاتِ، وَالاِمْتِنَاعُ عَنْ إِنْقَاذِ الْمُشْرِفِ عَلَى الْهَلاَكِ مِمَّنْ هُوَ قَادِرٌ عَلَى إِنْقَاذِهِ.
وَالاِمْتِنَاعُ عَنِ الْمَنْدُوبِ يَكُونُ مَكْرُوهًا، كَامْتِنَاعِ الْمَرِيضِ عَنِ التَّدَاوِي مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ.
وَالاِمْتِنَاعُ عَنِ الْمَكْرُوهِ يَكُونُ مَنْدُوبًا إِلَيْهِ، كَالاِمْتِنَاعِ عَنِ التَّدْخِينِ عِنْدَ مَنْ يَقُول بِكَرَاهَتِهِ، وَالاِمْتِنَاعِ عَنْ تَوَلِّي الْقَضَاءِ لِمَنْ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ الزَّلَل.
__________
(1) ابن عابدين 1 / 195، 2 / 79، 358 ط بولاق، والشرح الصغير 1 / 698، 723 ط المعرفة، والقليوبي 2 / 48، 49، 74، 4 / 79، 91، 296، والمغني 1 / 144، 306، 308، 2 / 573، 575، 6 / 738(6/240)
وَالاِمْتِنَاعُ عَنِ الْمُبَاحِ مُبَاحٌ، كَالاِمْتِنَاعِ عَنْ طَعَامٍ مُعَيَّنٍ فِي الأَْحْوَال الْمُعْتَادَةِ، وَمِثْل امْتِنَاعِ الْمَرْأَةِ عَنِ الدُّخُول حَتَّى تَقْبِضَ مُقَدَّمَ الْمَهْرِ، وَامْتِنَاعِ الْبَائِعِ مِنْ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ حَتَّى يَقْبِضَ الثَّمَنَ. (1)
وَيُرْجَعُ لِمَعْرِفَةِ حُكْمِ كُل نَوْعٍ مِنْ هَذِهِ الأَْنْوَاعِ فِي بَابِهِ.
امْتِهَانٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِمْتِهَانُ افْتِعَالٌ مِنْ (مَهَنَ) أَيْ خَدَمَ غَيْرَهُ، وَامْتَهَنَهُ: اسْتَخْدَمَهُ، أَوِ ابْتَذَلَهُ. وَمِنْهُ يَتَبَيَّنُ أَنَّ أَهْل اللُّغَةِ يَسْتَعْمِلُونَ كَلِمَةَ (امْتِهَانٍ) فِي مَعْنَيَيْنِ:
الأَْوَّل: بِمَعْنَى (الاِحْتِرَافِ) ، وَالثَّانِي: بِمَعْنَى (الاِبْتِذَال) .
وَالاِبْتِذَال هُوَ: عَدَمُ صِيَانَةِ الشَّيْءِ بَل تَدَاوُلُهُ وَاسْتِخْدَامُهُ فِي الْعَمَل.
وَالْفُقَهَاءُ يَسْتَعْمِلُونَ الاِمْتِهَانَ بِهَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ أَيْضًا. (2)
أَمَّا الاِمْتِهَانُ بِمَعْنَى الاِحْتِرَافِ، فَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (احْتِرَاف ج 1 ص 69) وَفِيمَا يَلِي مَا يَتَّصِل بِالْمَعْنَى الثَّانِي وَهُوَ الاِبْتِذَال.
__________
(1) المصباح المنير ولسان العرب مادة " منع "
(2) المصباح المنير، ولسان العرب، وتاج العروس مادة (مهن) و (بذل) . وكشاف القناع 6 / 169 نشر الرياض مكتبة النصر الحديثة(6/241)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الاِسْتِخْفَافُ وَالاِسْتِهَانَةُ:
2 - سَبَقَ بَيَانُ مَعْنَى (الاِمْتِهَانِ) وَمِنْهُ يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ غَيْرُ الاِسْتِهَانَةِ بِالشَّيْءِ أَوِ الاِسْتِخْفَافِ بِهِ، فَالاِسْتِهَانَةُ بِالشَّيْءِ اسْتِحْقَارُهُ، أَمَّا الاِمْتِهَانُ فَلَيْسَ فِيهِ مَعْنَى الاِسْتِحْقَارِ (1) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
3 - هُنَاكَ كَثِيرٌ مِنَ الأَْحْوَال يُطْلَبُ فِيهَا مِنَ الْمُسْلِمِ أَنْ يَلْبَسَ غَيْرَ ثِيَابِ الْمِهْنَةِ، كَالْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَالْجَمَاعَاتِ، يَدُل عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ مَا عَلَى أَحَدِكُمْ لَوِ اشْتَرَى ثَوْبَيْنِ لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ سِوَى ثَوْبِ مِهْنَتِهِ. (2)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (احْتِرَاف) (وَأَلْبِسَة) . كَمَا أَنَّهُ يَخْتَلِفُ حُكْمُ مَا فِيهِ صُورَةٌ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مُمْتَهَنًا (مُبْتَذَلاً) أَوْ غَيْرَ مُمْتَهَنٍ وَيُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (تَصْوِير) .
__________
(1) كشاف القناع 6 / 169، وحاشية ابن عابدين 3 / 184 وحاشية الجمل 5 / 123 نشر دار إحياء التراث العربي
(2) حديث: " ما على أحدكم. . . . " أخرجه ابن ماجه 1 / 348 ط عيسى الحلبي. وقال الحافظ البوصيري: إسناده صحيح(6/241)
أَمْرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الأَْمْرُ فِي اللُّغَةِ يَأْتِي بِمَعْنَيَيْنِ:
الأَْوَّل: يَأْتِي بِمَعْنَى الْحَال أَوِ الشَّأْنِ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} (1) أَوِ الْحَادِثَةُ، وَمِنْهُ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {إِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} (2) وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَْمْرِ} (3)
قَال الْخَطِيبُ الْقَزْوِينِيُّ فِي الإِْيضَاحِ: أَيْ شَاوِرْهُمْ فِي الْفِعْل الَّذِي تَعْزِمُ عَلَيْهِ. وَيُجْمَعُ بِهَذَا الْمَعْنَى عَلَى (أُمُورٍ) .
الثَّانِي: طَلَبُ الْفِعْل، وَهُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى نَقِيضُ النَّهْيِ. وَجَمْعُهُ (أَوَامِرُ) فَرْقًا بَيْنَهُمَا، كَمَا قَالَهُ الْفَيُّومِيُّ (4) .
وَعِنْدَ الْفُقَهَاءِ يُسْتَعْمَل الأَْمْرُ بِالْمَعْنَيَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، وَلَكِنِ اخْتَلَفَ الأُْصُولِيُّونَ مِنْ ذَلِكَ فِي مَسَائِل:
الْمَسْأَلَةُ الأُْولَى:
قَال بَعْضُهُمْ: لَفْظُ (الأَْمْرِ) مُشْتَرَكٌ لَفْظِيٌّ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ. وَقَال آخَرُونَ: بَل هُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْقَوْل
__________
(1) سورة هود / 97
(2) سورة النور / 62
(3) سورة آل عمران / 159
(4) لسان العرب، والقاموس، والمرجع في اللغة، والمصباح، وشروح التلخيص مادة (أمر)(6/242)
الْمَخْصُوصِ، وَهُوَ قَوْل الطَّالِبِ لِلْفِعْل، مَجَازٌ فِي الْحَال وَالشَّأْنِ. وَقِيل: إِنَّهُ مَوْضُوعٌ لِلْمَعْنَى الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُمَا (1) .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ:
طَلَبُ الْفِعْل لاَ يُسَمَّى أَمْرًا حَقِيقَةً، إِلاَّ إِنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ الْحَتْمِ وَالإِْلْزَامِ.
وَاسْتَدَل مَنْ قَال بِذَلِكَ بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لأََمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ مَعَ كُل وُضُوءٍ (2) قَالُوا: لَوْ لَمْ يَكُنِ الأَْمْرُ عَلَى وَجْهِ الْحَتْمِ مَا كَانَ فِيهِ مَشَقَّةٌ. وَهَذَا قَوْل الْحَنَفِيَّةِ. وَقَال الْبَاقِلاَّنِيُّ وَجُمْهُورُ الشَّافِعِيَّةِ: لاَ يُشْتَرَطُ ذَلِكَ، بَل طَلَبُ الْفِعْل أَمْرٌ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَى وَجْهِ التَّحَتُّمِ، فَيَدْخُل الْمَنْدُوبُ فِي الْمَأْمُورِ بِهِ حَقِيقَةً. (3)
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ:
إِنَّ طَلَبَ الْفِعْل لاَ يُسَمَّى أَمْرًا حَقِيقَةً إِلاَّ إِذَا كَانَ عَلَى سَبِيل الاِسْتِعْلاَءِ، أَيِ اسْتِعْلاَءِ الآْمِرِ عَلَى الْمَأْمُورِ، احْتِرَازًا عَنِ الدُّعَاءِ وَالاِلْتِمَاسِ، فَهُوَ شَرْطُ أَكْثَرِ الْمَاتُرِيدِيَّةِ وَالآْمِدِيِّ مِنَ الأَْشْعَرِيَّةِ، وَصَحَّحَهُ الرَّازِيُّ، وَهُوَ رَأْيُ أَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ، لِذَمِّ الْعُقَلاَءِ الأَْدْنَى بِأَمْرِهِ مَنْ هُوَ أَعْلَى.
وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ يَجِبُ الْعُلُوُّ فِي الأَْمْرِ، وَإِلاَّ كَانَ دُعَاءً أَوِ الْتِمَاسًا.
__________
(1) شرح مسلم الثبوت 1 / 367 - 369، والعضد وحواشيه على مختصر ابن الحاجب 2 / 76 ط ليبيا
(2) حديث " لولا أن أشق على أمتي. . . " أخرجه أحمد (2 / 460 ط الميمنية) وإسناده صحيح
(3) مسلم الثبوت 1 / 111، والسعد على العضد 2 / 77(6/242)
وَعِنْدَ الأَْشْعَرِيِّ لاَ يُشْتَرَطُ الْعُلُوُّ وَلاَ الاِسْتِعْلاَءُ، وَبِهِ قَال أَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ. وَفِي شَرْحِ الْمُخْتَصَرِ: وَهُوَ الْحَقُّ، (1) لِقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ فِرْعَوْنَ: {إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يَخْرُجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} . (2)
صِيَغُ الأَْمْرِ:
2 - لِلأَْمْرِ صِيَغٌ صَرِيحَةٌ وَهِيَ ثَلاَثَةٌ: فِعْل الأَْمْرِ، مِثْل قَوْله تَعَالَى: {أَقِيمُوا الصَّلاَةَ} (3) وَقَوْلِهِ: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (4) ، وَاسْمُ فِعْل الأَْمْرِ نَحْوُ: نَزَال، وَالْمُضَارِعُ الْمُقْتَرِنُ بِلاَمِ الأَْمْرِ، نَحْوَ {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} (5) . وَصِيَغٌ غَيْرُ صَرِيحَةٍ، قَال الشَّاطِبِيُّ:
(أ) مِنْهَا: مَا جَاءَ مَجِيءَ الإِْخْبَارِ عَنْ تَقْرِيرِ الْحُكْمِ، نَحْوُ: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} . (6)
(ب) وَمِنْهَا: مَا جَاءَ مَجِيءَ مَدْحِهِ أَوْ مَدْحِ فَاعِلِهِ، نَحْوَ: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ} . (7)
(ج) وَمِنْهَا: مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْمَطْلُوبُ، كَالْمَفْرُوضِ فِي مَسْأَلَةِ مَا لاَ يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلاَّ بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ، كَغَسْل جُزْءٍ مِنَ الرَّأْسِ، لاِسْتِيفَاءِ غَسْل الْوَجْهِ. (8)
__________
(1) شرح مسلم الثبوت 1 / 369، 372، وشرح جمع الجوامع 1 / 369
(2) سورة الأعراف / 109، 110
(3) سورة البقرة / 43
(4) سورة الجمعة / 9
(5) سورة الطلاق / 7
(6) سورة البقرة / 233
(7) سورة الفتح / 17
(8) الموافقات 3 / 144 - 156(6/243)
دَلاَلَةُ صِيغَةِ الأَْمْرِ الصَّرِيحَةِ:
3 - اخْتَلَفَ الأُْصُولِيُّونَ فِي دَلاَلَةِ صِيغَةِ (افْعَل) غَيْرِ الْمُقْتَرِنَةِ بِمَا يُعَيِّنُ مَعْنَاهَا.
فَهِيَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ حَقِيقَةٌ فِي الْوُجُوبِ، وَعِنْدَ أَبِي هَاشِمٍ وَكَثِيرٍ مِنَ الأُْصُولِيِّينَ حَقِيقَةٌ فِي النَّدْبِ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ، وَقِيل: مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا اشْتِرَاكًا لَفْظِيًّا، وَرُوِيَ هَذَا عَنِ الشَّافِعِيِّ. وَقِيل: إِنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لِمُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمَا وَهُوَ الاِقْتِضَاءُ حَتْمًا كَانَ أَوْ نَدْبًا، وَرُوِيَ هَذَا عَنْ أَبِي مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيِّ، وَنُسِبَ إِلَى مَشَايِخِ سَمَرْقَنْدَ.
4 - الأَْمْرُ الْوَارِدُ بَعْدَ الْحَظْرِ هُوَ لِلإِْبَاحَةِ عِنْدَ الأَْكْثَرِ، وَمِنْهُمُ الشَّافِعِيُّ وَالآْمِدِيُّ كَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ أَلاَ فَزُورُوهَا. (1)
وَلِلْوُجُوبِ عِنْدَ عَامَّةِ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنِ الْقَاضِي وَالْمُعْتَزِلَةِ وَاخْتَارَهُ الرَّازِيُّ، وَتَوَقَّفَ فِيهِ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ. وَاخْتَارَ ابْنُ الْهُمَامِ وَالشَّيْخُ زَكَرِيَّا الأَْنْصَارِيُّ أَنَّهُ يَرْجِعُ الْحُكْمُ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْل الْحَظْرِ إِبَاحَةً أَوْ وُجُوبًا. (2)
وُرُودُ الأَْمْرِ لِغَيْرِ الْوُجُوبِ:
5 - تَرِدُ صِيغَةُ الأَْمْرِ لِغَيْرِ الْوُجُوبِ فِي أَكْثَرِ مِنْ عِشْرِينَ مَعْنًى، مِنْهَا: الاِلْتِمَاسُ وَالتَّهْدِيدُ.
اقْتِضَاءُ الأَْمْرِ لِلتَّكْرَارِ:
6 - الأَْمْرُ لِطَلَبِ الْفِعْل مُطْلَقًا لاَ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَيَبْرَأُ بِالْفِعْل مَرَّةً وَيَحْتَمِل التَّكْرَارَ،
__________
(1) حديث " كنت نهيتكم. . . " أخرجه مسلم 3 / 1564 ط الحلبي
(2) شرح مسلم الثبوت1 / 372 - 379(6/243)
وَاخْتَارَهُ الرَّازِيُّ وَالآْمِدِيُّ.
وَقَال الأُْسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الإِْسْفِرَايِينِيُّ: هُوَ لاَزِمٌ مُدَّةَ الْعُمُرِ إِنْ أَمْكَنَ، وَعَلَى هَذَا جَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ.
وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْل الأُْصُول إِلَى أَنَّهَا لِلْمَرَّةِ، وَلاَ يَحْتَمِل التَّكْرَارَ، وَهُوَ قَوْل أَكْثَرِ الشَّافِعِيَّةِ. أَمَّا إِنْ قُيِّدَ بِشَرْطٍ، نَحْوَ {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} (1) أَوْ بِالصِّفَةِ نَحْوَ {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (2) فَإِنَّهُ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ، بِتَكَرُّرِ الشَّرْطِ أَوِ الصِّفَةِ، وَقِيل بِالْوَقْفِ فِي ذَلِكَ. (3)
دَلاَلَةُ الأَْمْرِ عَلَى الْفَوْرِ أَوِ التَّرَاخِي:
7 - الصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الأَْمْرَ لِمُجَرَّدِ الطَّلَبِ، فَيَجُوزُ التَّأْخِيرُ كَمَا يَجُوزُ الْبِدَارُ، وَعُزِيَ إِلَى الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ. وَاخْتَارَهُ الرَّازِيُّ وَالآْمِدِيُّ.
وَقِيل: يُوجِبُ الْفَوْرَ، وَعُزِيَ إِلَى الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالْكَرْخِيِّ، وَاخْتَارَهُ السَّكَّاكِيُّ وَالْقَاضِي.
وَتَوَقَّفَ الإِْمَامُ فِي أَنَّهُ لِلْفَوْرِ أَوْ لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْفَوْرِ وَالتَّرَاخِي. (4)
الأَْمْرُ بِالأَْمْرِ:
8 - مَنْ أَمَرَ غَيْرَهُ أَنْ يَأْمُرَ آخَرَ بِفِعْلٍ مَا فَلَيْسَ هَذَا أَمْرًا لِلْمَأْمُورِ الثَّانِي عَلَى الْمُخْتَارِ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ. فَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مُرُوا أَوْلاَدَكُمْ بِالصَّلاَةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ
__________
(1) سورة المائدة / 6
(2) سورة المائدة / 38
(3) مسلم الثبوت 2 / 380 - 386، والسعد على مختصر ابن الحاجب 2 / 83، وجمع الجوامع 1 / 379، 380
(4) شرح مسلم الثبوت 1 / 387، 388. والبرهان للجويني 231 - 247(6/244)
سَبْعِ سِنِينَ (1) لَيْسَ أَمْرًا مِنْهُ لِلصِّبْيَانِ بِالصَّلاَةِ. لَكِنْ إِنْ أَفْهَمَتِ الْقَرِينَةُ أَنَّ الْوَاسِطَةَ مُجَرَّدُ مُبَلِّغٍ كَانَ الأَْمْرُ بِالأَْمْرِ أَمْرًا لِلْمَأْمُورِ الثَّانِي، وَمِنْهُ أَنَّ عُمَرَ أَخْبَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ، فَقَال: مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا (2) . وَلَيْسَ مِنْ مَوْضُوعِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا لَوْ صَرَّحَ الأَْمْرُ بِالتَّبْلِيغِ، نَحْوَ قَوْلِهِ: (قُل لِفُلاَنٍ يَفْعَل كَذَا) فَإِنَّ هَذَا أَمْرٌ لِلثَّانِي بِلاَ خِلاَفٍ. (3)
تَكْرَارُ الأَْمْرِ:
9 - إِذَا كَرَّرَ الآْمِرُ الأَْمْرَ قَبْل أَنْ يُنَفِّذَ الْمَأْمُورُ الأَْمْرَ الأَْوَّل، فَقَدْ يَتَعَيَّنُ الثَّانِي لِلتَّأْكِيدِ، كَمَا فِي نَحْوِ: صُمْ هَذَا الْيَوْمَ، صُمْ هَذَا الْيَوْمَ، إِذْ لاَ يُصَامُ الْيَوْمُ مَرَّتَيْنِ. وَنَحْوُ: اسْقِنِي اسْقِنِي، فَإِنَّ الْحَاجَةَ الَّتِي دَعَتْ إِلَى طَلَبِ الْمَاءِ تَنْدَفِعُ بِالشُّرْبِ الأَْوَّل. فَإِنْ دَارَ الثَّانِي بَيْنَ التَّأْسِيسِ وَالتَّأْكِيدِ، فَقِيل: يُحْمَل عَلَى التَّأْسِيسِ احْتِيَاطًا، وَيَكُونُ الْمَطْلُوبُ الإِْتْيَانَ بِالْفِعْل مُكَرَّرًا. وَقِيل: يُحْمَل عَلَى التَّأْكِيدِ لِكَثْرَتِهِ فِي الْكَلاَمِ. (4)
امْتِثَال الآْمِرِ يَقْتَضِي الإِْجْزَاءَ:
10 - الْمَأْمُورُ إِذَا أَتَى بِالْمَأْمُورِ بِهِ عَلَى وَجْهِهِ كَمَا طُلِبَ
__________
(1) حديث " مروا أولادكم. . . " أخرجه أبو داود (1 / 334 ط عزت عبيد دعاس) . وحسنه النووي في رياض الصالحين (ص 148 ط المكتب الإسلامي)
(2) حديث " مره فليراجعها. . . " أخرجه البخاري (الفتح 9 / 351 ط السلفية) ، ومسلم (2 / 1095 ط الحلبي)
(3) شرح مسلم الثبوت 1 / 390، 391، والمستصفى 2 / 14، وحاشية القليوبي 3 / 348
(4) شرح مسلم الثبوت 1 / 391(6/244)
مَعَ الشَّرَائِطِ وَالأَْرْكَانِ، يَسْتَلْزِمُ الإِْجْزَاءَ اتِّفَاقًا، إِذَا فُسِّرَ الإِْجْزَاءُ بِالاِمْتِثَال. أَمَّا إِنْ فُسِّرَ الإِْجْزَاءُ بِسُقُوطِ الْقَضَاءِ، فَإِنَّ الإِْتْيَانَ بِالْمَأْمُورِ بِهِ عَلَى وَجْهِهِ يُسْقِطُهُ كَذَلِكَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، خِلاَفًا لِلْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ الْمُعْتَزِلِيِّ. (1)
تَعَارُضُ الأَْمْرِ وَالنَّهْيِ:
11 - النَّهْيُ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ يَتَرَجَّحُ عَلَى الأَْمْرِ، لأَِنَّ دَفْعَ الْمَفْسَدَةِ الْمُسْتَفَادَةِ مِنَ النَّهْيِ أَوْلَى مِنْ جَلْبِ الْمَنْفَعَةِ، وَلِذَا يَتَرَجَّحُ حَدِيثُ النَّهْيِ عَنِ الصَّلاَةِ فِي الأَْوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ عَلَى حَدِيثِ الأَْمْرِ بِصَلاَةِ رَكْعَتَيْنِ قَبْل الْجُلُوسِ فِي الْمَسْجِدِ، فِي حَقِّ مَنْ دَخَل الْمَسْجِدَ قُبَيْل غُرُوبِ الشَّمْسِ مَثَلاً. (2)
وَفِي هَذِهِ الْمَسَائِل الْمُتَقَدِّمَةِ خِلاَفَاتٌ وَتَفْصِيلاَتٌ أَوْسَعُ مِمَّا تَقَدَّمَ، فَلْيُرْجَعْ إِلَيْهَا ضِمْنَ مَبَاحِثِ الأَْمْرِ مِنْ كُتُبِ أُصُول الْفِقْهِ، وَالْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
الأَْحْكَامُ الْفِقْهِيَّةُ إِجْمَالاً:
طَاعَةُ الأَْوَامِرِ:
12 - تَجِبُ طَاعَةُ أَوَامِرِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي تَقْتَضِي الْوُجُوبَ، وَكَذَلِكَ أَوَامِرُ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَيُطَاعُ سِوَاهُمَا فِي غَيْرِ الْمَعْصِيَةِ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ، مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِمَعْصِيَةٍ (3) فَيُطَاعُ الأَْبَوَانِ وَوَلِيُّ الأَْمْرِ وَنُوَّابُهُ فِي غَيْرِ الْحَرَامِ. (ر: طَاعَة) .
__________
(1) شرح مسلم الثبوت 1 / 393
(2) شرح مسلم الثبوت 2 / 202
(3) حديث " السمع والطاعة. . . . . " أخرجه البخاري (الفتح 13 / 121 ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1469 ط الحلبي)(6/245)
الأَْمْرُ فِي الْجِنَايَاتِ:
13 - مَنْ أَمَرَ إِنْسَانًا بِقَتْل إِنْسَانٍ فَقَتَلَهُ، فَالْقِصَاصُ عَلَى الْقَاتِل دُونَ الآْمِرِ، إِنْ كَانَ الْقَاتِل مُكَلَّفًا، لَكِنْ إِنْ كَانَ لِلآْمِرِ وِلاَيَةٌ عَلَى الْمَأْمُورِ، أَوْ خَافَ الْمَأْمُورُ عَلَى نَفْسِهِ لَوْ لَمْ يَفْعَل، فَفِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَيْهِمَا أَوْ عَلَى أَحَدِهِمَا خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ. (1) يُنْظَرُ فِي (إِكْرَاه، وَقَتْل، وَقِصَاص)
ضَمَانُ الآْمِرِ:
14 - مَنْ أَمَرَ غَيْرَهُ بِعَمَلٍ، فَأَتْلَفَ شَيْئًا، فَالضَّمَانُ عَلَى الْمُتْلِفِ لاَ عَلَى الآْمِرِ، وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ صُوَرٌ، مِنْهَا: أَنْ يَكُونَ الآْمِرُ سُلْطَانًا أَوْ أَبًا، أَوْ يَكُونَ الْمَأْمُورُ صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا أَوْ أَجِيرًا لَدَى الآْمِرِ (2) . وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ (ضَمَان وَإِكْرَاه) .
الإِْيجَابُ أَوِ الْقَبُول بِصِيغَةِ الأَْمْرِ:
15 - إِذَا قَال: بِعْنِي هَذَا الثَّوْبَ بِعِشْرِينَ، فَقَال: بِعْتُكَ بِهَا، انْعَقَدَ الْبَيْعُ وَصَحَّ. وَكَذَا لَوْ قَال الْبَائِعُ: اشْتَرِ مِنِّي هَذَا الثَّوْبَ بِكَذَا، فَقَال: اشْتَرَيْتُهُ بِهِ، لِصِدْقِ حَدِّ الإِْيجَابِ وَالْقَبُول عَلَيْهِمَا. وَكَذَا فِي التَّزْوِيجِ، لَوْ قَال لِرَجُلٍ: زَوِّجْنِي ابْنَتَكَ، فَقَال: زَوَّجْتُكَهَا، يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ. وَهَذَا بِخِلاَفِ الاِسْتِفْهَامِ أَوِ التَّمَنِّي مَثَلاً، فَلاَ يَنْعَقِدُ بِهِمَا الْعَقْدُ. كَمَا لَوْ قَال: أَتَبِيعُنِي هَذَا الثَّوْبَ بِكَذَا فَقَال: بِعْتُكَهُ
__________
(1) المغني 7 / 757، 758، وابن عابدين 5 / 352، وجواهر الإكليل 2 / 257، والزرقاني على خليل 8 / 11
(2) ابن عابدين 5 / 137 ط بولاق1272 هـ، والمغني 8 / 328 ط الثالثة(6/245)
بِهَا (1) . وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ، وَفِي بَعْضِهِ خِلاَفٌ (ر: صِيغَة، عَقْد، زَوَاج) .
امْرَأَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمَرْءُ هُوَ الإِْنْسَانُ، وَالأُْنْثَى مِنْهُ (مَرْأَةٌ) بِإِضَافَةِ تَاءِ التَّأْنِيثِ، وَقَدْ تَلْحَقُ بِهَا هَمْزَةُ الْوَصْل فَتُصْبِحُ (امْرَأَة) وَهِيَ اسْمٌ لِلْبَالِغَةِ. (2)
وَهَذَا فِي اللُّغَةِ وَالاِصْطِلاَحِ، إِلاَّ أَنَّهَا فِي بَعْضِ الأَْبْوَابِ كَالْمَوَارِيثِ تَصْدُقُ عَلَى الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - يُمْكِنُ إِجْمَال مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَرْأَةِ مِنْ أَحْكَامٍ غَالِبًا فِيمَا يَأْتِي:
أ - الْمَرْأَةُ كَإِنْسَانٍ لَهَا حَقُّ الرِّعَايَةِ فِي طُفُولَتِهَا مِنْ تَرْبِيَةٍ وَتَعْلِيمٍ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ كَانَتْ لَهُ ابْنَةٌ فَأَدَّبَهَا فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهَا، وَعَلَّمَهَا فَأَحْسَنَ تَعْلِيمَهَا، وَأَوْسَعَ عَلَيْهَا مِنْ نِعَمِ اللَّهِ الَّتِي أَسْبَغَ عَلَيْهِ، كَانَتْ لَهُ مَنَعَةً وَسُتْرَةً مِنَ النَّارِ. (3)
__________
(1) ابن عابدين 2 / 263، و 4 / 10، والدسوقي على الشرح الكبير 3 / 3 ط عيسى الحلبي، والجمل على شرح المنهج 3 / 7، 8، وشرح المنهاج مع حاشية القليوبي 3 / 54، وشرح الإقناع 3 / 148 ط الرياض، والمغني 3 / 560، 561
(2) لسان العرب والقاموس المحيط والمغرب (مرأ)
(3) تفسير القرطبي 10 / 118، والمجموع للنووي 1 / 50، 3 / 11، والفواكه الدواني 2 / 164 وحديث: " من كانت له ابنة فأدبها فأحسن تأديبها وعلمها. . . . . " أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (10 / 243 / 10447 ط الوطن العربي) من حديث عبد الله بن مسعود، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (8 / 158) : وفيه طلحة بن زيد، وهو وضاع(6/246)
وَإِذَا رَشَدَتْ كَانَتْ لَهَا ذِمَّتُهَا الْمَالِيَّةُ الْمُسْتَقِلَّةُ، وَصَارَ لَهَا حُرِّيَّةُ التَّعْبِيرِ عَنْ إِرَادَتِهَا، وَلِذَلِكَ لاَ تُزَوَّجُ بِدُونِ إِذْنِهَا. (1)
ب - وَالْمَرْأَةُ كَأُنْثَى، مُطَالَبَةٌ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى مَظَاهِرِ أُنُوثَتِهَا، فَلَهَا أَنْ تَتَزَيَّنَ بِزِينَةِ النِّسَاءِ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهَا التَّشَبُّهُ بِالرِّجَال.
وَمُطَالَبَةٌ كَذَلِكَ بِالتَّسَتُّرِ وَعَدَمِ الاِخْتِلاَطِ بِالرِّجَال الأَْجَانِبِ أَوِ الْخَلْوَةِ بِهِمْ، وَلِذَلِكَ تَقِفُ فِي الصَّلاَةِ مُتَأَخِّرَةً عَنْ صُفُوفِ الرِّجَال. (2)
ج - وَالْمَرْأَةُ كَمُسْلِمَةٍ، مُطَالَبَةٌ بِكُل التَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي فَرَضَهَا اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ، مَعَ الاِخْتِلاَفِ عَنِ الذَّكَرِ فِي بَعْضِ هَيْئَاتِ الْعِبَادَةِ. (3)
د - وَالْمَرْأَةُ اخْتَصَّهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِالْحَيْضِ وَالْحَمْل وَالْوِلاَدَةِ، وَتَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ بَعْضُ الأَْحْكَامِ الْفِقْهِيَّةِ كَالتَّخْفِيفِ عَنْهَا فِي الْعِبَادَاتِ فِي هَذِهِ الْحَالاَتِ. (4)
هـ - وَلِضَعْفِ الْمَرْأَةِ فِي الْخِلْقَةِ وَالتَّكْوِينِ، فَإِنَّهَا لاَ تَتَوَلَّى مِنَ الأَْعْمَال مَا يَحْتَاجُ إِلَى بَذْل الْجُهْدِ الْجَسَدِيِّ وَالذِّهْنِيِّ كَالإِْمَارَةِ وَالْقَضَاءِ، وَلَمْ يُفْرَضْ عَلَيْهَا الْجِهَادُ فِي الْجُمْلَةِ، وَكَانَتْ شَهَادَتُهَا عَلَى النِّصْفِ مِنْ
__________
(1) الاختيار 3 / 90، 91، والهداية 1 / 196، والمغني 4 / 513
(2) ابن عابدين 5 / 271، تحفة المودود ص 125، والفواكه الدواني 2 / 401، 403، والمجموع 4 / 295، 296، والمغني 2 / 200 - 204
(3) المغني 1 / 562، وإعلام الموقعين 2 / 73
(4) المهذب 1 / 45(6/246)
شَهَادَةِ الرَّجُل. (1)
و وَلأَِنَّ الْمَرْأَةَ أَكْثَرُ حَنَانًا وَشَفَقَةً مِنَ الرَّجُل كَانَ حَقُّهَا فِي الْحَضَانَةِ مُقَدَّمًا عَلَى الرَّجُل. (2)
ز - وَالأَْصْل أَنْ يَكُونَ عَمَل الْمَرْأَةِ هُوَ رِعَايَةَ بَيْتِهَا وَزَوْجِهَا وَأَوْلاَدِهَا، لِذَلِكَ كَانَتْ نَفَقَتُهَا عَلَى زَوْجِهَا وَلَوْ كَانَتْ غَنِيَّةً. وَكَانَ الرَّجُل قَوَّامًا عَلَيْهَا، يَقُول اللَّهُ تَعَالَى: {الرِّجَال قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّل اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} . (3)
وَتَفْصِيل كُل هَذِهِ الأُْمُورِ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (أُنُوثَة) .
الأَْمْرُ بِالْمَعْرُوفِ
وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ
التَّعْرِيفُ:
1 - الأَْمْرُ فِي اللُّغَةِ: كَلاَمٌ دَالٌّ عَلَى طَلَبِ الْفِعْل، أَوْ قَوْل الْقَائِل لِمَنْ دُونَهُ: افْعَل.
وَأَمَرْتُ بِالْمَعْرُوفِ: أَيْ بِالْخَيْرِ وَالإِْحْسَانِ.
وَيَقُول ابْنُ الأَْثِيرِ: الْمَعْرُوفُ اسْمٌ جَامِعٌ لِكُل مَا عُرِفَ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ وَالإِْحْسَانِ إِلَى النَّاسِ، وَكُل مَا نَدَبَ إِلَيْهِ الشَّرْعُ مِنَ الْمُحَسَّنَاتِ، وَنَهَى عَنْهُ مِنَ الْمُقَبَّحَاتِ. وَهُوَ مِنَ
__________
(1) الفروق للقرافي 2 / 158، والأحكام السلطانية للماوردي ص 65
(2) الفروق للقرافي 2 / 113، 158
(3) سورة النساء / 34. وانظر القرطبي 5 / 32، 169، ومختصر تفسير ابن كثير 1 / 384، وابن عابدين 2 / 672(6/247)
الصِّفَاتِ الْغَالِبَةِ أَيْ مَعْرُوفٌ بَيْنَ النَّاسِ، إِذَا رَأَوْهُ لاَ يُنْكِرُونَهُ (1) .
وَالأَْمْرُ بِالْمَعْرُوفِ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ: هُوَ الأَْمْرُ بِاتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدِينِهِ الَّذِي جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَأَصْل الْمَعْرُوفِ: كُل مَا كَانَ مَعْرُوفًا فِعْلُهُ جَمِيلاً غَيْرَ مُسْتَقْبَحٍ عِنْدَ أَهْل الإِْيمَانِ، وَلاَ يَسْتَنْكِرُونَ فِعْلَهُ.
أَمَّا النَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَإِنَّ النَّهْيَ فِي اللُّغَةِ ضِدُّ الأَْمْرِ، وَهُوَ قَوْل الْقَائِل لِمَنْ دُونَهُ: لاَ تَفْعَل.
وَالْمُنْكَرُ لُغَةً: الأَْمْرُ الْقَبِيحُ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: الْمُنْكَرُ مَا لَيْسَ فِيهِ رِضَا اللَّهِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ.
فَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ فِي الاِصْطِلاَحِ: طَلَبُ الْكَفِّ عَنْ فِعْل مَا لَيْسَ فِيهِ رِضَا اللَّهِ تَعَالَى (2) .
هَذَا، وَقَدْ عَرَّفَ الزُّبَيْدِيُّ الأَْمْرَ بِالْمَعْرُوفِ بِقَوْلِهِ: هُوَ مَا قَبِلَهُ الْعَقْل، وَأَقَرَّهُ الشَّرْعُ، وَوَافَقَ كَرَمَ الطَّبْعِ. وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ: هُوَ مَا لَيْسَ فِيهِ رِضَا اللَّهِ تَعَالَى مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْحِسْبَةُ:
2 - الاِحْتِسَابُ فِي اللُّغَةِ: الْعَدُّ وَالْحِسَابُ وَنَحْوُهُ، وَمِنْهُ احْتِسَابُ الأَْجْرِ عِنْدَ اللَّهِ، أَيْ: طَلَبُهُ كَمَا فِي الْحَدِيثِ: مَنْ مَاتَ لَهُ وَلَدٌ فَاحْتَسَبَهُ (3) أَيِ: احْتَسَبَ الأَْجْرَ بِصَبْرِهِ عَلَى مُصِيبَتِهِ بِهِ، قَال
__________
(1) النهاية لابن الأثير مادة: " عرف "
(2) التعريفات للجرجاني، والمصباح المنير مادة (عرف) و (أمر) وشرح الإحياء 7 / 3
(3) حديث: " من مات له ولد فاحتسبه. . . " أخرجه مسلم (4 / 2028 ط الحلبي) بلفظ " لا يموت لإحداكن ثلاثة من الولد فتحتسبه إلا دخلت الجنة "(6/247)
صَاحِبُ اللِّسَانِ: مَعْنَاهُ عَدَّ مُصِيبَتَهُ بِهِ فِي جُمْلَةِ بَلاَيَا اللَّهِ الَّتِي يُثَابُ عَلَى الصَّبْرِ عَلَيْهَا.
وَفِي الشَّرِيعَةِ يَتَنَاوَل كُل مَشْرُوعٍ يُؤَدَّى لِلَّهِ تَعَالَى، كَالأَْذَانِ وَالإِْقَامَةِ وَأَدَاءِ الشَّهَادَةِ، إِلَخْ، وَلِهَذَا قِيل: الْقَضَاءُ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْحِسْبَةِ.
قَال التَّهَانُوِيُّ: وَاخْتَصَّ فِي الْعُرْفِ بِأُمُورٍ، مِنْهَا: إِرَاقَةُ الْخَمْرِ وَكَسْرُ الْمَعَازِفِ وَإِصْلاَحُ الشَّوَارِعِ، وَالأَْمْرُ بِالْمَعْرُوفِ إِذَا ظَهَرَ تَرْكُهُ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ إِذَا ظَهَرَ فِعْلُهُ. (1)
وَالْحِسْبَةُ مِنَ الْوِلاَيَاتِ الإِْسْلاَمِيَّةِ الَّتِي يُقْصَدُ بِهَا الأَْمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ مِمَّا لَيْسَ مِنِ اخْتِصَاصِ الْوُلاَةِ وَالْقُضَاةِ وَأَهْل الدِّيوَانِ وَنَحْوِهِمْ.
وَمِمَّا يُقَارِبُ الأَْمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ - النُّصْحُ وَالإِْرْشَادُ، وَقَدْ سَبَقَتِ الْمُقَارَنَةُ بَيْنَهُمَا فِي مُصْطَلَحِ (إِرْشَاد) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
3 - اتَّفَقَ الأَْئِمَّةُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الأَْمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَحَكَى الإِْمَامُ النَّوَوِيُّ وَابْنُ حَزْمٍ الإِْجْمَاعَ عَلَى وُجُوبِهِ، وَتَطَابَقَتْ آيَاتُ الْكِتَابِ وَأَحَادِيثُ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّهُ مِنَ النَّصِيحَةِ الَّتِي هِيَ الدِّينُ. (2)
قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} . (3)
وَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ
__________
(1) التهانوي من مادة احتساب 2 / 278 ط خياط بيروت. والحسبة في الإسلام لابن تيمية ص 8، 9
(2) شرح النووي على مسلم 2 / 22
(3) سورة آل عمران / 104(6/248)
بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِْيمَانِ. (1)
قَال الإِْمَامُ الْغَزَالِيُّ: الأَْمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ أَصْل الدِّينِ، وَأَسَاسُ رِسَالَةِ الْمُرْسَلِينَ، وَلَوْ طُوِيَ بِسَاطُهُ، وَأُهْمِل عِلْمُهُ وَعَمَلُهُ، لَتَعَطَّلَتِ النُّبُوَّةُ وَاضْمَحَلَّتِ الدِّيَانَةُ، وَعَمَّتِ الْفَوْضَى، وَهَلَكَ الْعِبَادُ. (2)
إِلاَّ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا بَعْدَ ذَلِكَ فِي حُكْمِهِ، هَل هُوَ فَرْضُ عَيْنٍ، أَوْ فَرْضُ كِفَايَةٍ، أَوْ نَافِلَةٌ؟ أَوْ يَأْخُذُ حُكْمَ الْمَأْمُورِ بِهِ وَالْمَنْهِيِّ عَنْهُ، أَوْ يَكُونُ تَابِعًا لِقَاعِدَةِ جَلْبِ الْمَصَالِحِ وَدَرْءِ الْمَفَاسِدِ. عَلَى أَرْبَعَةِ مَذَاهِبَ:
الْمَذْهَبُ الأَْوَّل: أَنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ. وَهُوَ مَذْهَبُ جُمْهُورِ أَهْل السُّنَّةِ، وَبِهِ قَال الضَّحَّاكُ مِنْ أَئِمَّةِ التَّابِعِينَ وَالطَّبَرِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ.
الْمَذْهَبُ الثَّانِي: أَنَّهُ فَرْضُ عَيْنٍ فِي مَوَاضِعَ:
أ - إِذَا كَانَ الْمُنْكَرُ فِي مَوْضِعٍ لاَ يَعْلَمُ بِهِ إِلاَّ هُوَ، وَكَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ إِزَالَتِهِ.
ب - مَنْ يَرَى الْمُنْكَرَ مِنْ زَوْجَتِهِ أَوْ وَلَدِهِ، أَوْ يَرَى الإِْخْلاَل بِشَيْءٍ مِنَ الْوَاجِبَاتِ.
ج - وَالِي الْحِسْبَةِ، فَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ، لاِخْتِصَاصِهِ بِهَذَا الْفَرْضِ. (3)
الْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: إِنَّ الأَْمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ نَافِلَةٌ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَابْنِ شُبْرُمَةَ.
الْمَذْهَبُ الرَّابِعُ: التَّفْصِيل، وَقَدِ اخْتَلَفُوا عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
__________
(1) حديث: " من رأى منكم منكرا. . . " أخرجه مسلم 1 / 69 ط الحلبي
(2) إحياء علوم الدين 2 / 391
(3) شرح النووي على مسلم 2 / 23(6/248)
الْقَوْل الأَْوَّل: إِنَّ الأَْمْرَ وَالنَّهْيَ يَكُونُ وَاجِبًا فِي الْوَاجِبِ فِعْلُهُ أَوْ فِي الْوَاجِبِ تَرْكُهُ، وَمَنْدُوبًا فِي الْمَنْدُوبِ فِعْلُهُ أَوْ فِي الْمَنْدُوبِ تَرْكُهُ هَكَذَا، وَهُوَ رَأْيُ جَلاَل الدِّينِ الْبُلْقِينِيِّ وَالأَْذْرَعِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ. (1)
الْقَوْل الثَّانِي: فَرَّقَ أَبُو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ بَيْنَ الأَْمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَقَال: إِنَّ الأَْمْرَ بِالْوَاجِبِ وَاجِبٌ، وَبِالنَّافِلَةِ نَافِلَةٌ، وَأَمَّا الْمُنْكَرُ فَكُلُّهُ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ، وَيَجِبُ النَّهْيُ عَنْ جَمِيعِهِ. (2)
الْقَوْل الثَّالِثُ: لاِبْنِ تَيْمِيَّةَ وَابْنِ الْقَيِّمِ وَعِزِّ الدِّينِ بْنِ عَبْدِ السَّلاَمِ، قَالُوا: إِنَّ مَقْصُودَ النَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ أَنْ يَزُول وَيَخْلُفَهُ ضِدُّهُ، أَوْ يَقِل وَإِنْ لَمْ يَزُل بِجُمْلَتِهِ، أَوْ يَخْلُفَهُ مَا هُوَ مِثْلُهُ، أَوْ يَخْلُفَهُ مَا هُوَ شَرٌّ مِنْهُ، وَالأَْوَّلاَنِ مَشْرُوعَانِ، وَالثَّالِثُ مَوْضِعُ اجْتِهَادٍ، وَالرَّابِعُ مُحَرَّمٌ. (3)
أَرْكَانُ الأَْمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ:
4 - عَقَدَ الْغَزَالِيُّ فِي إِحْيَاءِ عُلُومِ الدِّينِ مَبْحَثًا جَيِّدًا لأَِرْكَانِهِ، وَحَاصِلُهُ مَا يَلِي: الأَْرْكَانُ اللاَّزِمَةُ لِلأَْمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ أَرْبَعَةٌ، وَهِيَ:
(أ) الأَْمْرُ.
(ب) مَا فِيهِ الأَْمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ (الْمَأْمُورُ فِيهِ) .
(ج) نَفْسُ الأَْمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ (الصِّيغَةُ) .
(د) الْمَأْمُورُ. ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ لِكُل رُكْنٍ مِنَ الأَْرْكَانِ شُرُوطُهُ الْخَاصَّةُ بِهِ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
__________
(1) الزواجر لابن حجر الهيثمي 2 / 168
(2) شرح الأصول الخمسة ص 146
(3) الزواجر 2 / 168، 169، والحسبة ص 67 - 69(6/249)
أَوَّلاً: الآْمِرُ وَشُرُوطُهُ:
أ - التَّكْلِيفُ، وَلاَ يَخْفَى وَجْهُ اشْتِرَاطِهِ، فَإِنَّ غَيْرَ الْمُكَلَّفِ لاَ يَلْزَمُهُ أَمْرٌ، وَمَا ذُكِرَ يُرَادُ بِهِ شَرْطُ الْوُجُوبِ، فَأَمَّا إِمْكَانُ الْفِعْل وَجَوَازُهُ فَلاَ يَسْتَدْعِي إِلاَّ الْعَقْل.
ب - الإِْيمَانُ، وَلاَ يَخْفَى وَجْهُ اشْتِرَاطِهِ، لأَِنَّ هَذَا نُصْرَةٌ لِلدِّينِ، فَكَيْفَ يَكُونُ مِنْ أَهْلِهِ مَنْ هُوَ جَاحِدٌ لأَِصْلِهِ وَمِنْ أَعْدَائِهِ.
ج - الْعَدَالَةُ: وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي هَذَا الشَّرْطِ، فَاعْتَبَرَهَا قَوْمٌ، وَقَالُوا: لَيْسَ لِلْفَاسِقِ أَنْ يَأْمُرَ وَيَنْهَى، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} (1) . وقَوْله تَعَالَى: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ} (2) . وَقَال آخَرُونَ: لاَ تُشْتَرَطُ فِي الأَْمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ الْعِصْمَةُ مِنَ الْمَعَاصِي كُلِّهَا، وَإِلاَّ كَانَ خَرْقًا لِلإِْجْمَاعِ، وَلِهَذَا قَال سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: إِذَا لَمْ يَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ إِلاَّ مَنْ لاَ يَكُونُ فِيهِ شَيْءٌ لَمْ يَأْمُرْ أَحَدٌ بِشَيْءٍ. وَقَدْ ذُكِرَ ذَلِكَ عِنْدَ مَالِكٍ فَأَعْجَبَهُ.
وَاسْتَدَل أَصْحَابُ هَذَا الرَّأْيِ بِأَنَّ لِشَارِبِ الْخَمْرِ أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيل اللَّهِ، وَكَذَلِكَ ظَالِمُ الْيَتِيمِ، وَلَمْ يَمْنَعُوا مِنْ ذَلِكَ لاَ فِي عَهْدِ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلاَ بَعْدَهُ.
ثَانِيًا: مَحَل الأَْمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ وَشُرُوطُهُ:
أ - كَوْنُ الْمَأْمُورِ بِهِ مَعْرُوفًا فِي الشَّرْعِ، وَكَوْنُ
__________
(1) سورة البقرة / 44
(2) سورة الصف / 3. وانظر الكنز الأكبر في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لزين الدين عبد الرحمن بن أبي بكر الدمشقي الحنبلي المتوفى 865 هـ رقم 53 مخطوطة دار الكتب(6/249)
الْمَنْهِيِّ عَنْهُ مَحْظُورَ الْوُقُوعِ فِي الشَّرْعِ.
ب - أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا فِي الْحَال، وَهَذَا احْتِرَازٌ عَمَّا فُرِغَ مِنْهُ.
ج - أَنْ يَكُونَ الْمُنْكَرُ ظَاهِرًا بِغَيْرِ تَجَسُّسٍ، فَكُل مَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ لاَ يَجُوزُ التَّجَسُّسُ عَلَيْهِ، وَقَدْ نَهَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَال: {وَلاَ تَجَسَّسُوا} (1) وَقَال: {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} (2) وَقَال: {لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} . (3)
د - أَنْ يَكُونَ الْمُنْكَرُ مُتَّفَقًا عَلَى تَحْرِيمِهِ بِغَيْرِ خِلاَفٍ مُعْتَبَرٍ، فَكُل مَا هُوَ مَحَل اجْتِهَادٍ فَلَيْسَ مَحَلًّا لِلإِْنْكَارِ، بَل يَكُونُ مَحَلًّا لِلإِْرْشَادِ، يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (إِرْشَاد) . (4)
ثَالِثًا: الشَّخْصُ الْمَأْمُورُ أَوِ الْمَنْهِيُّ:
وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ بِصِفَةٍ يَصِيرُ الْفِعْل الْمَمْنُوعُ مِنْهُ فِي حَقِّهِ مُنْكَرًا، وَلاَ يُشْتَرَطُ كَوْنُهُ مُكَلَّفًا، إِذْ لَوْ شَرِبَ الصَّبِيُّ الْخَمْرَ مُنِعَ مِنْهُ وَأُنْكِرَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ قَبْل الْبُلُوغِ. وَلاَ يُشْتَرَطُ كَوْنُهُ مُمَيِّزًا، فَالْمَجْنُونُ أَوِ الصَّبِيُّ غَيْرُ الْمُمَيَّزِ لَوْ وُجِدَا يَرْتَكِبَانِ مُنْكَرًا لَوَجَبَ مَنْعُهُمَا مِنْهُ.
__________
(1) سورة الحجرات / 12
(2) سورة البقرة / 189
(3) سورة النور / 27(6/250)
رَابِعًا: نَفْسُ الأَْمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ:
وَلَهُ دَرَجَاتٌ وَآدَابٌ. أَمَّا الدَّرَجَاتُ فَأَوَّلُهَا التَّعْرِيفُ، ثُمَّ النَّهْيُ، ثُمَّ الْوَعْظُ وَالنُّصْحُ، ثُمَّ التَّعْنِيفُ، ثُمَّ التَّغْيِيرُ بِالْيَدِ، ثُمَّ التَّهْدِيدُ بِالضَّرْبِ، ثُمَّ إِيقَاعُ الضَّرْبِ، ثُمَّ شَهْرُ السِّلاَحِ، ثُمَّ الاِسْتِظْهَارُ فِيهِ بِالأَْعْوَانِ وَالْجُنُودِ. وَسَيَأْتِي تَفْصِيل ذَلِكَ. (1)
مَرَاتِبُ الأَْمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ:
5 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْمَرَاتِبَ الأَْسَاسِيَّةَ لِلأَْمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ ثَلاَثٌ، وَذَلِكَ لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَال: سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِْيمَانِ (2)
فَمِنْ وَسَائِل الإِْنْكَارِ التَّعْرِيفُ بِاللُّطْفِ وَالرِّفْقِ، لِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي الْمَوْعِظَةِ وَالنَّصِيحَةِ، وَخَاصَّةً لأَِصْحَابِ الْجَاهِ وَالْعِزَّةِ وَالسُّلْطَانِ وَلِلظَّالِمِ الْمَخُوفِ شَرُّهُ، فَهُوَ أَدْعَى إِلَى قَبُولِهِ الْمَوْعِظَةَ. وَأَعْلَى الْمَرَاتِبُ الْيَدُ، فَيَكْسِرُ آلاَتِ الْبَاطِل وَيُرِيقُ الْمُسْكِرَ بِنَفْسِهِ أَوْ يَأْمُرُ مَنْ يَفْعَلُهُ، وَيَنْزِعُ الْمَغْصُوبَ، وَيَرُدُّهُ إِلَى أَصْحَابِهِ بِنَفْسِهِ، فَإِذَا انْتَهَى الأَْمْرُ بِذَلِكَ إِلَى شَهْرِ السِّلاَحِ رَبَطَ الأَْمْرَ بِالسُّلْطَانِ.
وَقَدْ فَصَّل الْغَزَالِيُّ فِي الإِْحْيَاءِ مَرَاتِبَ الأَْمْرِ وَالنَّهْيِ
__________
(1) الأشباه والنظائر للسيوطي 141ط التجارية، واستثنى منه: أ - ما لو كان الخلاف شاذا. ب - أو جرى في الترافع لحاكم يعتقد الحرمة ومثله السلطان، واختلف في والي الحسبة. (الأحكام السلطانية للماوردي 241) ج - أن يكون للقائم بالإنكار حق فيه، ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادُ من بعض ما فيه خلاف/514 إحياء علوم الدين 2 / 312، والآداب الشرعة 1 / 183، 186، والزواجر 2 / 161، والفتاوى الهندية 5 / 353، وجواهر الإكليل 1 / 251، والحطاب 3 / 348، والأحكام السلطانية للماوردى ص 241
(2) حديث: " من رأى منكم منكرا. . . . " أخرجه مسلم 1 / 69 ط الحلبي(6/250)
وَقَسَّمَهَا إِلَى سَبْعِ مَرَاتِبَ، تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (حِسْبَة) .
هَذَا وَيَجِبُ قِتَال الْمُقِيمِينَ عَلَى الْمَعَاصِي الْمُوبِقَاتِ، الْمُصِرِّينَ عَلَيْهَا الْمُجَاهِرِينَ بِهَا عَلَى كُل أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ إِذَا لَمْ يَرْتَدِعُوا - وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلإِْمَامِ - لأَِنَّنَا مَأْمُورُونَ بِوُجُوبِ التَّغْيِيرِ عَلَيْهِمْ، وَالنَّكِيرِ بِمَا أَمْكَنَ بِالْيَدِ، فَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ فَلْيُنْكِرْ بِلِسَانِهِ، وَذَلِكَ إِذَا رَجَا أَنَّهُ إِنْ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ بِالْقَوْل أَنْ يَزُولُوا عَنْهُ وَيَتْرُكُوهُ، فَإِنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عَلَى عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ، أَنْكَرَ بِقَلْبِهِ. فَلَوْ قَدَرَ وَاحِدٌ بِالْيَدِ وَآخَرُونَ بِاللِّسَانِ تَعَيَّنَ عَلَى الأَْوَّل، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ التَّأْثِيرُ بِاللِّسَانِ أَقْرَب، أَوْ أَنَّهُ يَتَأَثَّرُ بِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، فِي حِينِ لاَ يَتَأَثَّرُ بِذِي الْيَدِ إِلاَّ ظَاهِرًا فَقَطْ، فَيَتَعَيَّنُ عَلَى ذِي اللِّسَانِ حِينَئِذٍ.
6 - وَلاَ يَسْقُطُ الإِْنْكَارُ بِالْقَلْبِ عَنِ الْمُكَلَّفِ بِالْيَدِ أَوِ اللِّسَانِ أَصْلاً، إِذْ هُوَ كَرَاهَةُ الْمَعْصِيَةِ، وَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى كُل مُكَلَّفٍ، فَإِنْ عَجَزَ الْمُكَلَّفُ عَنِ الإِْنْكَارِ بِاللِّسَانِ وَقَدَرَ عَلَى التَّعْبِيسِ وَالْهَجْرِ وَالنَّظَرِ شَزْرًا لَزِمَهُ، وَلاَ يَكْفِيهِ إِنْكَارُ الْقَلْبِ، فَإِنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْكَرَ بِالْقَلْبِ وَاجْتَنَبَ صَاحِبَ الْمَعْصِيَةِ. قَال ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: جَاهِدُوا الْكُفَّارَ بِأَيْدِيكُمْ فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِيعُوا إِلاَّ أَنْ تَكْفَهِرُّوا فِي وُجُوهِهِمْ فَافْعَلُوا (1) .
أَخْذُ الأَْجْرِ عَلَى الْقِيَامِ بِالأَْمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ:
7 - الأَْصْل أَنَّ كُل طَاعَةٍ لاَ يَجُوزُ الاِسْتِئْجَارُ عَلَيْهَا،
__________
(1) الزواجر 2 / 161، وإحياء علوم الدين 2 / 319، وأحكام القرآن للجصاص 2 / 32، والفتاوى الهندية 5 / 353، وجواهر الإكليل 1 / 251(6/251)
كَالأَْمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالأَْذَانِ وَالْحَجِّ وَتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَالْجِهَادِ. وَهُوَ رَأْيٌ لِلْحَنَفِيَّةِ وَمَذْهَبُ الإِْمَامِ أَحْمَدَ (1) ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ قَال: إِنَّ آخِرَ مَا عَهِدَ إِلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنِ اتَّخِذْ مُؤَذِّنًا لاَ يَأْخُذُ عَلَى أَذَانِهِ أَجْرًا (2) وَمَا رَوَاهُ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ قَال: عَلَّمْتُ نَاسًا مِنْ أَهْل الصُّفَّةِ الْقُرْآنَ وَالْكِتَابَةَ، فَأَهْدَى إِلَيَّ رَجُلٌ مِنْهُمْ قَوْسًا، قُلْتُ:
قَوْسٌ وَلَيْسَ بِمَالٍ، أَتَقَلَّدُهَا فِي سَبِيل اللَّهِ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: إِنْ كُنْت تُحِبُّ أَنْ تُطَوَّقَ طَوْقًا مِنْ نَارٍ فَاقْبَلْهَا (3)
وَأَجَازَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَمُتَأَخِّرُو الْحَنَفِيَّةِ ذَلِكَ (4) ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَقَال بِهِ أَبُو قِلاَبَةَ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، " لأَِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَوَّجَ رَجُلاً بِمَا مَعَهُ مِنَ الْقُرْآنِ (5) وَجَعَل ذَلِكَ يَقُومُ مَقَامَ الْمَهْرِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: أَحَقُّ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 34، والبدائع 4 / 184، 191، والمغني 6 / 134، 136، 138
(2) حديث: " عثمان بن أبي العاص. . . " أخرجه الترمذي (1 / 409 - 410 ط الحلبي) . وأخرجه أحمد (4 / 21 ط الميمنية) وإسناده صحيح
(3) حديث عبادة بن الصامت " إن كنت تحب أن تطوق طوقا من نار فاقبلها ". أخرجه أبو داود (3 / 702 ط عزت عبيد دعاس) وهو ثابت لكثرة طرقه. (التخليص لابن حجر 4 / 7، 8 ط شركة الطباعة الفنية المتحدة بمصر)
(4) الشرح الصغير، وحاشية الصاوي عليه 4 / 10، 34، ونهاية المحتاج 5 / 289، 290، والمغني 6 / 39، 140، وكشف الحقائق 2 / 157، والمهذب 1 / 405
(5) حديث " زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا بما معه من القرآن. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 9 / 205 ط السلفية) ، ومسلم (2 / 1041 ط الحلبي)(6/251)
مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ اللَّهِ (1)
عَلَى أَنَّ الْمُحْتَسِبَ الْمُعَيَّنَ يُفْرَضُ لَهُ كِفَايَتُهُ مِنْ بَيْتِ الْمَال، مَا يُفْرَضُ لِلْقُضَاةِ وَأَصْحَابِ الْوِلاَيَاتِ، بِخِلاَفِ الْمُتَطَوِّعِ لأَِنَّهُ غَيْرُ مُتَفَرِّغٍ لِذَلِكَ (2) . (ر: إِجَارَة) .
أَمْرَدُ
التَّعْرِيفُ:
1 - الأَْمْرَدُ فِي اللُّغَةِ مِنَ الْمَرَدِ، وَهُوَ نَقَاءُ الْخَدَّيْنِ مِنَ الشَّعْرِ، يُقَال: مَرَدَ الْغُلاَمُ مَرَدًا: إِذَا طَرَّ شَارِبُهُ وَلَمْ تَنْبُتْ لِحْيَتُهُ. (3)
وَفِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ: هُوَ مَنْ لَمْ تَنْبُتْ لِحْيَتُهُ، وَلَمْ يَصِل إِلَى أَوَانِ إِنْبَاتِهَا فِي غَالِبِ النَّاسِ (4)
وَالظَّاهِرُ أَنَّ طُرُورَ الشَّارِبِ وَبُلُوغَهُ مَبْلَغَ الرِّجَال لَيْسَ بِقَيْدٍ، بَل هُوَ بَيَانٌ لِغَايَتِهِ، وَأَنَّ ابْتِدَاءَهُ حِينَ بُلُوغِهِ سِنًّا تَشْتَهِيهِ النِّسَاءُ. (5)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الأَْجْرَدُ:
2 - الأَْجْرَدُ فِي اللُّغَةِ: هُوَ مَنْ لاَ شَعْرَ عَلَى جَسَدِهِ،
__________
(1) حديث: " أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله. . . " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 199 ط السلفية)
(2) نصاب الاحتساب لعمر بن محمد المعروف بابن عوض الورقة 5 مخطوطة المكتبة الأحمدية في حلب
(3) لسان العرب، والمصباح المنير وترتيب القاموس المحيط مادة " مرد "
(4) البجيرمي 3 / 324 ط دار المعرفة
(5) حاشية ابن عابدين 1 / 273(6/252)
وَالْمَرْأَةُ جَرْدَاءُ. وَفِي الاِصْطِلاَحِ: الَّذِي لَيْسَ عَلَى وَجْهِهِ شَعْرٌ، وَقَدْ مَضَى أَوَانُ طُلُوعِ لِحْيَتِهِ. وَيُقَال لَهُ فِي اللُّغَةِ أَيْضًا: ثَطٌّ وَأَثَطُّ. (1) (ر: أَجْرَد)
أَمَّا إِذَا كَانَ عَلَى جَمِيعِ بَدَنِهِ شَعْرٌ، فَهُوَ أَشْعَرُ (2) .
الْمُرَاهِقُ:
3 - إِذَا قَارَبَ الْغُلاَمُ الاِحْتِلاَمَ وَلَمْ يَحْتَلِمْ فَهُوَ مُرَاهِقٌ. فَيُقَال: جَارِيَةٌ مُرَاهِقَةٌ، وَغُلاَمٌ مُرَاهِقٌ، وَيُقَال أَيْضًا: جَارِيَةٌ رَاهِقَةٌ وَغُلاَمٌ رَاهِقٌ (3) .
الأَْحْكَامُ الإِْجْمَالِيَّةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالأَْمْرَدِ:
أَوَّلاً: النَّظَرُ وَالْخَلْوَةُ:
4 - إِنْ كَانَ الأَْمْرَدُ غَيْرَ صَبِيحٍ وَلاَ يَفْتِنُ، فَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يَأْخُذُ حُكْمَ غَيْرِهِ مِنَ الرِّجَال. (4)
أَمَّا إِنْ كَانَ صَبِيحًا حَسَنًا يَفْتِنُ، وَضَابِطُهُ أَنْ يَكُونَ جَمِيلاً بِحَسَبِ طَبْعِ النَّاظِرِ وَلَوْ كَانَ أَسْوَدَ، لأَِنَّ الْحُسْنَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الطِّبَاعِ (5) فَلَهُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ حَالَتَانِ:
الأُْولَى: أَنْ يَكُونَ النَّظَرُ وَالْخَلْوَةُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الأُْمُورِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالأَْمْرِ بِلاَ قَصْدِ الاِلْتِذَاذِ، وَالنَّاظِرُ مَعَ ذَلِكَ آمِنُ الْفِتْنَةِ، كَنَظَرِ الرَّجُل إِلَى وَلَدِهِ أَوْ أَخِيهِ الأَْمْرَدِ الصَّبِيحِ، فَهُوَ فِي غَالِبِ الأَْحْوَال لاَ يَكُونُ
__________
(1) الإقناع مع البجيرمي 3 / 324 ط دار المعرفة، ولسان العرب مادة " ثط "، والقليوبي 3 / 210
(2) لسان العرب
(3) لسان العرب مادة " رهق "
(4) ابن عابدين 1 / 273 ط بولاق، والشرواني مع تحفة المحتاج 2 / 253
(5) ابن عابدين 1 / 273(6/252)
بِتَلَذُّذٍ، فَهَذَا مُبَاحٌ وَلاَ إِثْمَ فِيهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِلَذَّةٍ وَشَهْوَةٍ، فَالنَّظَرُ إِلَيْهِ حَرَامٌ. (1)
وَقَدْ ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّة أَنَّ الأَْمْرَدَ يَلْحَقُ بِالْمَرْأَةِ فِي النَّظَرِ إِنْ كَانَ بِشَهْوَةٍ، وَلَوْ مَعَ الشَّكِّ فِي وُجُودِهَا، وَحُرْمَةُ النَّظَرِ إِلَيْهِ بِشَهْوَةٍ أَعْظَمُ إِثْمًا، قَالُوا: لأَِنَّ خَشْيَةَ الْفِتْنَةِ بِهِ عِنْدَ بَعْضِ النَّاسِ أَعْظَمُ مِنْهَا. (2)
أَمَّا الْخَلْوَةُ بِالأَْمْرَدِ فَهِيَ كَالنَّظَرِ، بَل أَقْرَبُ إِلَى الْمَفْسَدَةِ (3) حَتَّى رَأَى الشَّافِعِيَّةُ حُرْمَةَ خَلْوَةِ الأَْمْرَدِ بِالأَْمْرَدِ وَإِنْ تَعَدَّدَ، أَوْ خَلْوَةُ الرَّجُل بِالأَْمْرَدِ وَإِنْ تَعَدَّدَ. نَعَمْ إِنْ لَمْ تَكُنْ هُنَاكَ رِيبَةٌ فَلاَ تَحْرُمُ كَشَارِعٍ وَمَسْجِدٍ مَطْرُوقٍ. (4)
ثَانِيًا: مُصَافَحَةُ الأَْمْرَدِ:
5 - جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى حُرْمَةِ مَسِّ وَمُصَافَحَةِ الأَْمْرَدِ الصَّبِيحِ بِقَصْدِ التَّلَذُّذِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الْمَسَّ بِشَهْوَةٍ عِنْدَهُمْ كَالنَّظَرِ بَل أَقْوَى وَأَبْلَغُ مِنْهُ. (5)
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ كَرَاهَةَ مَسِّ الأَْمْرَدِ وَمُصَافَحَتِهِ (6) .
__________
(1) ابن عابدين 1 / 272 - 273، والزرقاني 1 / 167، والبجيرمي 3 / 323، وكشاف القناع 5 / 15 - 16 ط الرياض
(2) ابن عابدين 5 / 233، والبجيرمي 3 / 322، وتحفة المحتاج 7 / 190 ط دار صادر
(3) ابن عابدين 5 / 233، والبجيرمي 3 / 324، والمجموع 4 / 278 ط المنيرية، وكشاف القناع 5 / 12 - 15
(4) القليوبي 4 / 57
(5) الزرقاني 1 / 177، والبجيرمي 3 / 324 - 326، والقليوبي 3 / 213، وفتاوى ابن تيمية 21 / 243 ط الرياض، وكشاف القناع 5 / 15 - 16
(6) ابن عابدين 1 / 148(6/253)
ثَالِثًا: انْتِقَاضُ الْوُضُوءِ بِمَسِّ الأَْمْرَدِ:
6 - يَرَى الْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلإِْمَامِ أَحْمَدَ إِنَّهُ يَنْتَقِضُ الْوُضُوءُ بِلَمْسِ الأَْمْرَدِ الصَّبِيحِ لِشَهْوَةٍ. (1) وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ الْقَوْل الآْخَرُ لأَِحْمَدَ - عَدَمَ انْتِقَاضِهِ. (2)
رَابِعًا: إِمَامَةُ الأَْمْرَدِ:
7 - جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) عَلَى أَنَّهُ تُكْرَهُ الصَّلاَةُ خَلْفَ الأَْمْرَدِ الصَّبِيحِ، وَذَلِكَ لأَِنَّهُ مَحَل فِتْنَةٍ. (3) وَلَمْ نَجِدْ نَصًّا لِلْمَالِكِيَّةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
خَامِسًا: مَا يُرَاعَى فِي التَّعَامُل مَعَ الأَْمْرَدِ وَتَطْبِيبِهِ:
8 - التَّعَامُل مَعَ الأَْمْرَدِ الصَّبِيحِ مِنْ غَيْرِ الْمَحَارِمِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَعَ شَيْءٍ مِنَ الْحَذَرِ غَالِبًا (4) وَلَوْ فِي مَقَامِ تَعْلِيمِهِمْ وَتَأْدِيبِهِمْ لِمَا فِيهِ مِنَ الآْفَاتِ.
وَعِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَى مُعَامَلَةِ الأَْمْرَدِ لِلتَّعْلِيمِ أَوْ نَحْوِهِ يَنْبَغِي الاِقْتِصَارُ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ، وَبِشَرْطِ السَّلاَمَةِ وَحِفْظِ قَلْبِهِ وَجَوَارِحِهِ عِنْدَ التَّعَامُل مَعَهُمْ، وَحَمْلِهِمْ عَلَى الْجِدِّ وَالتَّأَدُّبِ وَمُجَانَبَةِ الاِنْبِسَاطِ مَعَهُمْ. (5)
__________
(1) جواهر الإكليل 1 / 20 ط دار المعرفة، وفتاوى ابن تيمية 21 / 243
(2) تحفة المحتاج 1 / 129ط دار صادر، وفتاوى ابن تيمية 21 / 243
(3) ابن عابدين 1 / 378 ط بولاق، وحاشية الشرواني 2 / 253، وتصحيح الفروع 1 / 478 ط المنار
(4) البجيرمي 3 / 323، 325، وكشاف القناع 5 / 116
(5) فتاوى ابن تيمية 21 / 250، والبجيرمي 3 / 323(6/253)
وَالأَْصْل: أَنَّ كُل مَا كَانَ سَبَبًا لِلْفِتْنَةِ فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ، حَيْثُ يَجِبُ سَدُّ الذَّرِيعَةِ إِلَى الْفَسَادِ إِذَا لَمْ يُعَارِضْهَا مَصْلَحَةٌ. (1)
إِمْسَاكٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الإِْمْسَاكِ فِي اللُّغَةِ الْقَبْضُ. يُقَال: أَمْسَكْتُهُ بِيَدِي إِمْسَاكًا: قَبَضْتُهُ، وَمِنْ مَعَانِيهِ أَيْضًا الْكَفُّ، يُقَال: أَمْسَكْتُ عَنِ الأَْمْرِ: كَفَفْتُ عَنْهُ. (2)
وَاسْتَعْمَلَهُ الْفُقَهَاءُ أَيْضًا فِي هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ فِي مَوَاضِعَ مُخْتَلِفَةٍ، لأَِنَّ مُرَادَهُمْ بِالإِْمْسَاكِ فِي الْجِنَايَاتِ الْقَبْضُ بِالْيَدِ. فَإِذَا أَمْسَكَ رَجُلٌ آخَرَ فَقَتَلَهُ الثَّالِثُ يُقْتَل الْمُمْسِكُ قِصَاصًا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِذَا كَانَ الإِْمْسَاكُ بِقَصْدِ الْقَتْل، وَعِنْدَ غَيْرِهِمْ لاَ يُقْتَل كَمَا سَيَأْتِي. وَمُرَادُهُمْ بِالإِْمْسَاكِ فِي الصِّيَامِ: الْكَفُّ عَنِ الْمُفْطِرَاتِ وَالاِمْتِنَاعُ عَنِ الأَْكْل وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ، كَمَا صَرَّحُوا بِذَلِكَ (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الاِحْتِبَاسُ:
2 - الاِحْتِبَاسُ لُغَةً: هُوَ الْمَنْعُ مِنْ حُرِّيَّةِ السَّعْيِ،
__________
(1) القليوبي 3 / 296، 4 / 183، وابن عابدين 5 / 250 - 251، والهندية 4 / 520
(2) المصباح المنير ولسان العرب مادة (مسك)
(3) ابن عابدين 2 / 80، والزيلعي 1 / 313 وحاشية الدسوقي 4 / 245، ونهاية المحتاج3 / 147(6/254)
وَيَخْتَصُّ بِمَا يَحْبِسُهُ الإِْنْسَانُ لِنَفْسِهِ. تَقُول: احْتَبَسْتُ الشَّيْءَ؛ إِذَا اخْتَصَصْتَهُ لِنَفْسِكَ خَاصَّةً. (1)
وَيُطْلَقُ الاِحْتِبَاسُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ عَلَى تَسْلِيمِ الْمَرْأَةِ نَفْسَهَا لِزَوْجِهَا، كَمَا قَالُوا: إِنَّ النَّفَقَةَ جَزَاءُ الاِحْتِبَاسِ (2) . كَمَا يُطْلِقُونَ الاِحْتِبَاسَ أَوِ الْحَبْسَ عَلَى الْوَقْفِ، لِمَا فِيهِ مِنْ مَنْعِ التَّصَرُّفِ فِيهِ، وَعَلَى هَذَا فَالاِحْتِبَاسُ أَخَصُّ مِنَ الإِْمْسَاكِ.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
يَخْتَلِفُ حُكْمُ الإِْمْسَاكِ بِاخْتِلاَفِ الْمَوْضُوعَاتِ الَّتِي ذُكِرَ فِيهَا: مِنَ الصِّيَامِ، وَالصَّيْدِ، وَالطَّلاَقِ، وَالْقِصَاصِ.
أَوَّلاً: إِمْسَاكُ الصَّيْدِ:
3 - يُطْلَقُ إِمْسَاكُ الصَّيْدِ عَلَى الاِصْطِيَادِ، وَعَلَى إِبْقَاءِ الصَّيْدِ فِي الْيَدِ بَدَلاً مِنْ إِرْسَالِهِ، وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ إِمْسَاكَ صَيْدِ الْبَرِّ حَرَامٌ إِذَا كَانَ فِي حَالَةِ الإِْحْرَامِ، أَوْ كَانَ فِي دَاخِل حُدُودِ الْحَرَمِ. وَكَذَلِكَ الدَّلاَلَةُ وَالإِْشَارَةُ إِلَى الصَّيْدِ، وَالإِْعَانَةُ فِي قَتْلِهِ، كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي مُصْطَلَحِ (إِحْرَام) عَلَى تَفْصِيلٍ فِي ذَلِكَ.
4 - وَيَجُوزُ الاِصْطِيَادُ بِجَوَارِحِ السِّبَاعِ وَالطَّيْرِ، كَالْكَلْبِ وَالْفَهْدِ وَالْبَازِي وَالشَّاهِينِ، وَيُشْتَرَطُ فِي الْجَارِحِ أَنْ يُمْسِكَ الصَّيْدَ عَلَى صَاحِبِهِ، بِشَرْطِ كَوْنِهِ مُعَلَّمًا.
وَالإِْمْسَاكُ عَلَى صَاحِبِهِ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ كَوْنِ الْكَلْبِ مُعَلَّمًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، فَإِنَّهُمْ صَرَّحُوا أَنَّ تَعْلِيمَ
__________
(1) لسان العرب مادة: (حبس)
(2) الهداية للمرغيناني وبهامشه العناية 3 / 321(6/254)
الْكَلْبِ هُوَ أَنَّهُ إِذَا أُرْسِل اتَّبَعَ الصَّيْدَ. وَإِذَا أَخَذَهُ أَمْسَكَهُ عَلَى صَاحِبِهِ، وَلاَ يَأْكُل مِنْهُ شَيْئًا، حَتَّى لَوْ أَخَذَ صَيْدًا فَأَكَل مِنْهُ لاَ يُؤْكَل عِنْدَ الْجُمْهُورِ، بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} (1) إِشَارَةً إِلَى أَنَّ حَدَّ تَعْلِيمِ الْكَلْبِ وَمَا هُوَ فِي مَعْنَاهُ هُوَ الإِْمْسَاكُ عَلَى صَاحِبِهِ وَتَرْكُ الأَْكْل مِنْهُ، وَالْكَلْبُ الَّذِي يَأْكُل إِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ لاَ عَلَى صَاحِبِهِ، فَكَانَ فِعْلُهُ مُضَافًا إِلَيْهِ لاَ إِلَى الْمُرْسِل فَلاَ يَجُوزُ أَكْلُهُ. وَاسْتُدِل لِذَلِكَ بِحَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لَهُ: فَإِنْ أَكَل فَلاَ تَأْكُل، فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ إِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ (2) وَقَال مَالِكٌ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ: إِنَّ الإِْمْسَاكَ لَيْسَ شَرْطًا فِي تَعْلِيمِ الْحَيَوَانِ الَّذِي يُرْسَل إِلَى الصَّيْدِ. فَالْحَيَوَانُ الْمُعَلَّمُ هُوَ الَّذِي إِذَا أُرْسِل أَطَاعَ وَإِذَا زُجِرَ انْزَجَرَ، لأَِنَّ التَّعْلِيمَ إِنَّمَا شُرِطَ حَالَةَ الاِصْطِيَادِ وَهِيَ حَالَةُ الاِتِّبَاعِ. أَمَّا الإِْمْسَاكُ عَلَى صَاحِبِهِ وَتَرْكُ الأَْكْل فَيَكُونَانِ بَعْدَ الْفَرَاغِ عَنِ الاِصْطِيَادِ فَلاَ يُشْتَرَطَانِ. (3)
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (صَيْد) .
__________
(1) سورة المائدة / 4
(2) البدائع 5 / 52، والقليوبي 4 / 244، ونهاية المحتاج 8 / 114، والمغني 11 / 806. وحديث: " فإن أكل فلا تأكل. . . . ". أخرجه البخاري ومسلم من حديث عدي بن حاتم مرفوعا بلفظ " إذا أرسلت كلابك المعلمة وذكرت اسم الله فكل مما أمسكن عليك وإن قتلن، إلا أن يأكل الكلب، فإني أخاف أن يكون إنما أمسكه على نفسه. . . . " (فتح الباري 9 / 609 ط السلفية، وصحيح مسلم 3 / 1529 ط عيسى الحلبي)
(3) ابن عابدين 5 / 300، والشرح الصغير 2 / 162، ونهاية المحتاج 8 / 114، والمغني 11 / 6 - 8(6/255)
ثَانِيًا: الإِْمْسَاكُ فِي الصِّيَامِ:
5 - الإِْمْسَاكُ عَنِ الأَْكْل وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ بِشَرَائِطَ مَخْصُوصَةٍ هُوَ مَعْنَى الصِّيَامِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ. وَهُنَاكَ إِمْسَاكٌ لاَ يُعَدُّ صَوْمًا، لَكِنَّهُ وَاجِبٌ فِي أَحْوَالٍ، مِنْهَا: مَا إِذَا أَفْطَرَ لاِعْتِقَادِهِ أَنَّ الْيَوْمَ مِنْ شَعْبَانَ، فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ، لَزِمَهُ الإِْمْسَاكُ عَنْ جَمِيعِ الْمُفْطِرَاتِ لِحُرْمَةِ الشَّهْرِ (1) ، وَإِنْ كَانَ لاَ يَحْتَسِبُ إِمْسَاكَهُ هَذَا صَوْمًا.
كَذَلِكَ يَلْزَمُ إِمْسَاكُ بَقِيَّةِ الْيَوْمِ لِكُل مَنْ أَفْطَرَ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ، وَالصَّوْمُ لاَزِمٌ لَهُ، كَالْمُفْطِرِ بِغَيْرِ عُذْرٍ، وَالْمُفْطِرُ يَظُنُّ أَنَّ الْفَجْرَ لَمْ يَطْلُعْ وَقَدْ كَانَ طَلَعَ، أَوْ ظَنَّ أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ غَابَتْ وَلَمْ تَغِبْ، مَعَ وُجُوبِ الْقَضَاءِ عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ.
6 - أَمَّا مَنْ يُبَاحُ لَهُ الْفِطْرُ وَزَال عُذْرُهُ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ كَمَا لَوْ بَلَغَ الصَّبِيُّ، أَوْ أَفَاقَ الْمَجْنُونُ، أَوْ أَسْلَمَ الْكَافِرُ، أَوْ صَحَّ الْمَرِيضُ أَوْ أَقَامَ الْمُسَافِرُ، أَوْ طَهُرَتِ الْحَائِضُ وَالنُّفَسَاءُ، فَالْمَالِكِيَّةُ وَكَذَا الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الإِْمْسَاكِ عَلَيْهِمْ بَقِيَّةَ يَوْمِهِمْ.
وَصَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِاسْتِحْبَابِ إِمْسَاكِهِمْ لِحُرْمَةِ الشَّهْرِ (2)
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلِهِمُ الثَّانِي وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ فَقَدْ صَرَّحُوا بِوُجُوبِ الإِْمْسَاكِ عَلَيْهِمْ بَقِيَّةَ يَوْمِهِمْ، كَمَا إِذَا قَامَتِ الْبَيِّنَةُ عَلَى رُؤْيَةِ هِلاَل رَمَضَانَ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ. (3)
__________
(1) ابن عابدين 2 / 106، وجواهر الإكليل 1 / 145، 146، والمغني 3 / 71، ونهاية المحتاج 3 / 83
(2) نفس المراجع
(3) ابن عابدين 2 / 106، والشرح الصغير 1 / 685، ونهاية المحتاج 3 / 184، والمغني 3 / 71(6/255)
وَلِلْفُقَهَاءِ فِي صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ، لَكِنَّ الْمَالِكِيَّةَ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ يُنْدَبُ الإِْمْسَاكُ عَنِ الْمُفْطِرِ فِي يَوْمِ الشَّكِّ بِقَدْرِ مَا جَرَتِ الْعَادَةُ بِالثُّبُوتِ فِيهِ لِيَتَحَقَّقَ الْحَال. (1)
وَلِلتَّفْصِيل فِي هَذِهِ الْمَسَائِل يُرْجَعُ إِلَى مُصْطَلَحِ (صِيَام) .
ثَالِثًا: الإِْمْسَاكُ فِي الْقِصَاصِ:
7 - إِنْ أَمْسَكَ شَخْصٌ إِنْسَانًا وَقَتَلَهُ آخَرُ فَلاَ خِلاَفَ أَنَّ الْقَاتِل يُقْتَل قِصَاصًا. أَمَّا الْمُمْسِكُ فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الْجَانِيَ كَانَ يُرِيدُ الْقَتْل فَلاَ قِصَاصَ عَلَيْهِ اتِّفَاقًا، لأَِنَّهُ مُتَسَبِّبٌ وَالْقَاتِل مُبَاشِرٌ، وَالْقَاعِدَةُ الْفِقْهِيَّةُ تَقُول: (إِذَا اجْتَمَعَ الْمُبَاشِرُ وَالْمُتَسَبِّبُ يُضَافُ الْحُكْمُ إِلَى الْمُبَاشِرِ) .
كَذَلِكَ إِذَا كَانَ الإِْمْسَاكُ بِقَصْدِ الْقَتْل بِحَيْثُ لَوْلاَ إِمْسَاكُهُ لَهُ لَمَا أَدْرَكَهُ الْقَاتِل مَعَ عِلْمِ الْمُمْسِكِ بِأَنَّ الْجَانِيَ قَاصِدٌ قَتْلَهُ فَقَتَلَهُ الثَّالِثُ، فَالْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يُقْتَصُّ مِنَ الْمُمْسِكِ، لِتَقْدِيمِ الْمُبَاشِرِ عَلَى الْمُتَسَبِّبِ (2) .
وَقَال مَالِكٌ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ: يُقْتَصُّ مِنَ الْمُمْسِكِ لِتَسَبُّبِهِ كَمَا يُقْتَصُّ مِنَ الْقَاتِل لِمُبَاشَرَتِهِ، لأَِنَّهُ لَوْ لَمْ يُمْسِكْهُ لَمَا قَدَرَ الْقَاتِل عَلَى قَتْلِهِ، وَبِإِمْسَاكِهِ تَمَكَّنَ مِنْ قَتْلِهِ، فَيَكُونَانِ شَرِيكَيْنِ (3) .
وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ مَنْ أَمْسَكَ شَخْصًا لِيَقْتُلَهُ الطَّالِبُ يُحْبَسُ الْمُمْسِكُ حَتَّى يَمُوتَ. لأَِنَّهُ أَمْسَكَ الْقَتِيل حَتَّى الْمَوْتِ (4) .
__________
(1) ابن عابدين 2 / 87، وجواهر الإكليل 1 / 146، ونهاية المحتاج 3 / 173
(2) البحر الرائق 8 / 345، ونهاية المحتاج 7 / 244
(3) الشرح الكبير للدردير 4 / 245، والمغني 9 / 477، 478
(4) المغني 9 / 478(6/256)
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (قِصَاص)
رَابِعًا: الإِْمْسَاكُ فِي الطَّلاَقِ:
8 - الإِْمْسَاكُ مِنْ صِيَغِ الرَّجْعَةِ فِي الطَّلاَقِ الرَّجْعِيِّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ) فَتَصِحُّ الرَّجْعَةُ بِقَوْلِهِ: مَسَكْتُكِ أَوْ أَمْسَكْتُكِ بِدُونِ حَاجَةٍ إِلَى النِّيَّةِ، لأَِنَّهُ وَرَدَ بِهِ الْكِتَابُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} (1) يَعْنِي الرَّجْعَةَ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ الْقَوْل الثَّانِي لِلشَّافِعِيَّةِ: إِنْ قَال: أَمْسَكْتُهَا، يَكُونُ مُرَاجِعًا بِشَرْطِ النِّيَّةِ (3) .
وَيَصِيرُ مُرَاجِعًا بِالإِْمْسَاكِ الْفِعْلِيِّ إِذَا كَانَ بِشَهْوَةٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَكَذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِذَا اقْتَرَنَ الإِْمْسَاكُ بِالنِّيَّةِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ تَحْصُل الرَّجْعَةُ بِفِعْلٍ كَوَطْءٍ وَمُقَدِّمَاتِهِ، لأَِنَّ ذَلِكَ حُرِّمَ بِالطَّلاَقِ، وَمَقْصُودُ الرَّجْعَةِ حِلُّهُ، فَلاَ تَحْصُل بِهِ.
أَمَّا الإِْمْسَاكُ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ فَلَيْسَ بِرَجْعَةٍ عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ (4) .
9 - وَذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ الطَّلاَقَ فِي الْحَيْضِ طَلاَقُ بِدْعَةٍ لَكِنَّهُ إِنْ حَصَل وَقَعَ، وَتُسْتَحَبُّ مُرَاجَعَتُهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَقَال مَالِكٌ: يُجْبَرُ عَلَى الرَّجْعَةِ، لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ. (5)
__________
(1) سورة البقرة / 231
(2) ابن عابدين 2 / 530، والقليوبي 4 / 2، والمغني 8 / 484
(3) القليوبي 4 / 2، والشرح الصغير 2 / 606
(4) البدائع 3 / 90، والشرح الصغير 2 / 606، والقليوبي 4 / 3، والمغني 8 / 3
(5) حديث: " مره فليراجعها. . . . " أخرجه البخاري واللفظ له ومسلم. (فتح الباري 9 / 345 ط السلفية، وصحيح مسلم 2 / 93 ط عيسى الحلبي)(6/256)
فَإِذَا رَاجَعَهَا وَجَبَ إِمْسَاكُهَا عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ حَتَّى تَطْهُرَ مِنَ الْحَيْضِ وَنُدِبَ إِمْسَاكُهَا حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً أُخْرَى (1) .
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (رَجْعَة) .
إِمْضَاءٌ
انْظُرْ: إِجَازَة.
إِمْلاَكٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْمْلاَكُ هُوَ: التَّزْوِيجُ وَعَقْدُ النِّكَاحِ (2)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
2 - الإِْمْلاَكُ بِمَعْنَى: عَقْدِ النِّكَاحِ، وَلَهُ مُصْطَلَحٌ خَاصٌّ بِهِ تُذْكَرُ فِيهِ أَحْكَامُهُ.
وَوَلِيمَةُ الإِْمْلاَكِ بِمَعْنَى وَلِيمَةِ الْعَقْدِ، فَهِيَ سُنَّةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (3) ، وَالإِْجَابَةُ إِلَيْهَا سُنَّةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ قَوْل ابْنِ قُدَامَةَ وَغَيْرِهِ مِنَ
__________
(1) البدائع 3 / 94. وجواهر الإكليل 1 / 338 والبجيرمي 3 / 431، والمغني 8 / 239
(2) لسان العرب المحيط (ملك) ، وحاشية الرملي على الروض 3 / 323 ط الميمنية، والقليوبي 3 / 294، 298 ط مصطفى الحلبي، والجمل على المنهج 4 / 270 ط دار إحياء التراث، ومطالب أولي النهى 5 / 231، وكشاف القناع 5 / 165 ط الرياض
(3) الجمل على المنهج 4 / 271، وفتح الشفا الشافيات شرح المفردات ص 247 ط المكتبة السلفية(6/257)
الْحَنَابِلَةِ (1) ، وَقَال بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ: إِنَّهَا مُبَاحَةٌ (2) .
وَهَل تَتَعَدَّدُ مَعَ وَلِيمَةِ الدُّخُول؟ قَال الشَّافِعِيَّةُ: الْمُعْتَمَدُ أَنَّهَا وَاحِدَةٌ (3) . وَلَمْ نَطَّلِعْ عَلَى حُكْمِ وَلِيمَةِ الإِْمْلاَكِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ.
وَيَتَكَلَّمُ الْفُقَهَاءُ عَنِ الإِْمْلاَكِ فِي بَابِ الْوَلِيمَةِ مِنْ كِتَابِ النِّكَاحِ، وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (وَلِيمَة) .
أُمٌّ
التَّعْرِيفُ:
1 - أُمُّ الشَّيْءِ فِي اللُّغَةِ: أَصْلُهُ، وَالأُْمُّ: الْوَالِدَةُ، وَالْجَمْعُ أُمَّهَاتٌ وَأُمَّاتٌ، وَلَكِنْ كَثُرَ (أُمَّهَاتٌ) فِي الآْدَمِيَّاتِ (وَأُمَّاتٌ) فِي الْحَيَوَانِ (4) .
وَيَقُول الْفُقَهَاءُ: إِنَّ مَنْ وَلَدَتِ الإِْنْسَانَ فَهِيَ أُمُّهُ حَقِيقَةً، أَمَّا مَنْ وَلَدَتْ مَنْ وَلَدَهُ فَهِيَ أُمُّهُ مَجَازًا، وَهُوَ الْجَدَّةُ، وَإِنْ عَلَتْ كَأُمِّ الأَْبِ وَأُمِّ الأُْمِّ (5) .
وَمَنْ أَرْضَعَتْ إِنْسَانًا وَلَمْ تَلِدْهُ فَهِيَ أُمُّهُ مِنَ الرَّضَاعِ (6) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
لِلأُْمِّ أَحْكَامٌ خَاصَّةٌ فِي الْفِقْهِ الإِْسْلاَمِيِّ تَفْصِيلُهَا فِيمَا يَلِي:
__________
(1) القليوبي 3 / 295، منح الشفا الشافيات ص 248
(2) منح الشفا الشافيات ص 248
(3) الجمل 4 / 270
(4) لسان العرب، والمصباح المنير مادة: (أم)
(5) مغني المحتاج 3 / 174 ط مصطفى الحلبي، والمغني 6 / 567 ط الرياض
(6) المغني 6 / 568(6/257)
بِرُّ الْوَالِدَيْنِ:
2 - وَمِنَ الْوَاجِبِ عَلَى الْمُسْلِمِ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ وَإِنْ كَانَا فَاسِقَيْنِ أَوْ كَافِرَيْنِ، وَيَجِبُ طَاعَتُهُمَا فِي غَيْرِ مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ كَانَا كَافِرَيْنِ فَلْيُصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا، وَلاَ يُطِعْهُمَا فِي كُفْرٍ وَلاَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى، قَال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} (1) وَقَال تَعَالَى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} (2)
وَهِيَ أَوْلَى مِنَ الأَْبِ بِالْبِرِّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَوَصَّيْنَا الإِْنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} (3) وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ مَنْ أَحَقُّ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَال: أُمُّكَ. قَال: ثُمَّ مَنْ؟ قَال: أُمُّكَ. قَال: ثُمَّ مَنْ؟ قَال: أُمُّكَ. قَال: ثُمَّ مَنْ؟ قَال: أَبُوكَ (4) وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: سَأَلْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الْعَمَل أَفْضَل؟ قَال: الصَّلاَةُ لأَِوَّل وَقْتِهَا، وَبِرُّ الْوَالِدَيْنِ (5)
تَحْرِيمُ الأُْمِّ:
3 - أَجْمَعُوا عَلَى تَحْرِيمِ نِكَاحِ الأُْمِّ النَّسَبِيَّةِ وَإِنْ عَلَتْ عَلَى ابْنِهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} (6)
__________
(1) سورة الإسراء / 23
(2) سورة لقمان / 15
(3) سورة لقمان / 14
(4) حديث: " أنه جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله من أحق بحسن صحابتي. . . ". أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه (فتح الباري 10 / 401 ط السلفية)
(5) حديث ابن مسعود أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 9 ط السلفية)
(6) سورة النساء / 23(6/258)
وَمِثْلُهَا الأُْمُّ مِنَ الرَّضَاعِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ} (1) .
النَّظَرُ إِلَى الأُْمِّ، وَالْمُسَافَرَةُ بِهَا:
4 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ النَّظَرِ إِلَى الأُْمِّ، وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فِي مَحَل جَوَازِ النَّظَرِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى جَوَازِ النَّظَرِ مِنَ الأُْمِّ إِلَى الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ وَالصَّدْرِ وَالسَّاقِ وَالْعَضُدَيْنِ، فَلاَ يَجُوزُ النَّظَرُ إِلَى الظَّهْرِ وَالْبَطْنِ وَالْفَخِذِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَى الْوَجْهِ وَالأَْطْرَافِ، فَلاَ يَجُوزُ النَّظَرُ إِلَى الصَّدْرِ وَالظَّهْرِ وَالثَّدْيِ وَالسَّاقِ، وَإِنْ لَمْ يَلْتَذَّ بِهِ.
وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ كَالْمَالِكِيَّةِ إِلاَّ أَنَّهُمْ أَجَازُوا النَّظَرَ إِلَى السَّاقِ مِنَ الْمَحْرَمِ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى تَحْرِيمِ النَّظَرِ مِنَ الْمَحْرَمِ إِلَى مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ وَيَحِل مَا عَدَاهُ.
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ أَيْضًا عَلَى أَنَّ هَذَا التَّحْدِيدَ فِي النَّظَرِ عَلَى اخْتِلاَفِ الْمَذَاهِبِ مَشْرُوطٌ بِعَدَمِ النَّظَرِ بِشَهْوَةٍ، فَإِنْ كَانَ بِشَهْوَةٍ حَرُمَ.
وَيَجُوزُ لِلأُْمِّ أَنْ تُسَافِرَ مَعَ وَلَدِهَا لأَِنَّهُ مِنْ أَقْوَى الْمَحَارِمِ لَهَا، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَحِل لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ أَنْ تُسَافِرَ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لَيْسَ مَعَهَا حُرْمَةٌ (2) .
__________
(1) سورة النساء / 23، وانظر المغني 6 / 567، وبداية المجتهد 2 / 32 ط مصطفى الحلبي، ومغني المحتاج 3 / 174
(2) ابن عابدين 5 / 235، والهداية 1 / 43 - 44، والدسوقي 1 / 214، ومغني المحتاج 3 / 129، ونهاية المحتاج 6 / 184، والمغني 6 / 554 - 556، والإنصاف 8 / 19 - 20 وحديث: " لا يحل لامرأة. . . . " أخرجه البخاري - واللفظ له - ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا (فتح الباري 2 / 566 ط السلفية، وصحيح مسلم 2 / 977 ط عيسى الحلبي)(6/258)
النَّفَقَةُ:
5 - قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى وُجُوبِ النَّفَقَةِ لِلْوَالِدَيْنِ اللَّذَيْنِ لاَ كَسْبَ لَهُمَا وَلاَ مَال، سَوَاءٌ أَكَانَ الْوَالِدَانِ مُسْلِمَيْنِ أَوْ كَافِرَيْنِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْفَرْعُ ذَكَرًا أَمْ أُنْثَى، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} (1) وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: إِنَّ أَطْيَبَ مَا يَأْكُل الرَّجُل مِنْ كَسْبِهِ، وَوَلَدُهُ مِنْ كَسْبِهِ (2) .
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ (نَفَقَة) .
الْحَضَانَةُ:
6 - تَثْبُتُ الْحَضَانَةُ لِلأُْمِّ الْمُسْلِمَةِ اتِّفَاقًا مَا لَمْ يَكُنْ مَانِعٌ، بَل هِيَ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهَا، وَكَذَا الأُْمُّ الْكِتَابِيَّةُ - عَلَى خِلاَفٍ وَتَفْصِيلٍ فِيهَا - وَتَجِبُ عَلَيْهَا الْحَضَانَةُ إِذَا تَعَيَّنَتْ بِأَلاَّ يَكُونَ غَيْرُهَا (3) .
وَلِلتَّفْصِيل: انْظُرْ مُصْطَلَحَ (حَضَانَة) .
__________
(1) سورة لقمان / 15
(2) مغني المحتاج 3 / 446 - 447، والفواكه الدواني 2 / 105، ومجمع الأنهر 1 / 495، ونيل المآرب 2 / 298 وحديث: " إن أطيب. . . ". أخرجه الترمذي والنسائي وأبو داود وابن ماجه واللفظ له من حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعا. وقال الترمذي: هذا حديث حسن، وقال عبد القادر الأرناؤوط محقق جامع الأصول: هو حديث حسن. (تحفة الأحوذي 4 / 591، 592 نشر المكتبة السلفية، وسنن النسائي 7 / 240 ط المطبعة المصرية بالأزهر، وسنن أبي داود 3 / 800، 801 ط عزت عبيد دعاس " وسنن ابن ماجه 2 / 723 ط عيسى الحلبي، وجامع الأصول 10 / 570)
(3) ابن عابدين 2 / 633 - 634، والفواكه الدواني 2 / 101 - 102، ومغني المحتاج 3 / 452 وما بعدها، ونيل المآرب 2 / 307 وما بعدما(6/259)
الْمِيرَاثُ:
7 - لِلأُْمِّ فِي الْمِيرَاثِ ثَلاَثَةُ أَحْوَالٍ:
الأَْوَّل: اسْتِحْقَاقُ السُّدُسِ فَرْضًا، وَذَلِكَ إِذَا كَانَ لِلْمَيِّتِ فَرْعٌ وَارِثٌ، أَوِ اثْنَانِ مِنَ الإِْخْوَةِ وَالأَْخَوَاتِ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ كَانُوا.
الثَّانِي: اسْتِحْقَاقُ ثُلُثِ التَّرِكَةِ كُلِّهَا فَرْضًا، وَذَلِكَ عِنْدَ عَدَمِ الْفَرْعِ الْوَارِثِ أَصْلاً، وَعَدَمِ اثْنَيْنِ فَأَكْثَرَ مِنَ الإِْخْوَةِ وَالأَْخَوَاتِ.
الثَّالِثُ: اسْتِحْقَاقُ ثُلُثِ الْبَاقِي مِنَ التَّرِكَةِ، وَذَلِكَ فِي مَسْأَلَتَيْنِ:
أ - أَنْ يَكُونَ الْوَرَثَةُ زَوْجًا وَأَمًّا وَأَبًا، فَلِلأُْمِّ ثُلُثُ الْبَاقِي بَعْدَ فَرْضِ الزَّوْجِ، وَهُوَ يُسَاوِي هُنَا السُّدُسَ.
ب - أَنْ يَكُونَ الْوَرَثَةُ زَوْجَةً وَأُمًّا وَأَبًا، فَلِلأُْمِّ ثُلُثُ الْبَاقِي بَعْدَ فَرْضِ الزَّوْجَةِ، وَهُوَ يُسَاوِي هُنَا الرُّبُعَ.
وَقَدْ سَمَّى الْفُقَهَاءُ هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ بِالْغَرَّاوَيْنِ أَوِ الْعُمَرِيَّتَيْنِ، لِقَضَاءِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيهِمَا بِذَلِكَ (1) .
الْوَصِيَّةُ:
8 - لاَ يَدْخُل الْوَالِدَانِ وَالْوَلَدُ فِي الْوَصِيَّةِ لِلأَْقْرِبَاءِ، لأَِنَّهُمْ يَرِثُونَ فِي كُل حَالٍ، وَلاَ يُحْجَبُونَ، وَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ (2)
__________
(1) السراجية ص127 ط الكردي، والرحبية ص 38، وما بعدها ط صبيح
(2) اللباب في شرح الكتاب 3 / 307، والشرح الصغير على أقرب المسالك 4 / 592، ومنهاج الطالبين ص 91 ط مصطفى الحلبي. وحديث: " لا وصية لوارث. . . ". أخرجه الترمذي وأبو داود ضمن حديث طويل، وقال الترمذي: هو حديث حسن صحيح، وذكر ابن حجر طرق الحديث المختلفة وقال: لا يخلو إسناد كل منها عن مقال، لكن مجموعها يقتضي أن للحديث أصلا، بل جنح الشافعي في الأم إلى أن هذا المتن متوات (سنن الترمذي 4 / 433 ط إستنبول، وسنن أبي داود 3 / 824 ط عزت عبيد دعاس، وفتح الباري 5 / 372 ط السلفية)(6/259)
الْوِلاَيَةُ:
9 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ لاَ وِلاَيَةَ لِلأُْمِّ عَلَى مَال الصَّغِيرِ؛ لأَِنَّ الْوِلاَيَةَ ثَبَتَتْ بِالشَّرْعِ فَلَمْ تَثْبُتْ لِلأُْمِّ كَوِلاَيَةِ النِّكَاحِ، لَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يُوصَى إِلَيْهَا فَتَصِيرَ وَصِيَّةً بِالإِْيصَاءِ.
وَفِي رَأْيٍ لِلشَّافِعِيَّةِ - خِلاَفُ الأَْصَحِّ - وَهُوَ قَوْلٌ ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَالشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ تَيْمِيَّةَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: تَكُونُ لَهَا الْوِلاَيَةُ بَعْدَ الأَْبِ وَالْجَدِّ، لأَِنَّهَا أَكْثَرُ شَفَقَةً عَلَى الاِبْنِ.
وَكَذَلِكَ لاَ وِلاَيَةَ لَهَا فِي النِّكَاحِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ لأَِنَّ الْمَرْأَةَ لاَ تَمْلِكُ تَزْوِيجَ نَفْسِهَا وَلاَ غَيْرِهَا، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تُزَوِّجُ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ وَلاَ تُزَوِّجُ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا (1) .
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ وَالْحَسَنِ وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ
__________
(1) حديث: " لا تزوج المرأة المرأة. . . " أخرجه ابن ماجه والدارقطني من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا وفي إسناده جميل بن الحسن العتكي تكلم فيه عبدان بالكذب ووثقه آخرون. قال الألباني: هذا إسناد حسن (سنن ابن ماجه 1 / 606 ط عيسى الحلبي، وسنن الدارقطني 3 / 127 ط دار المحاسن وإرواء الغليل 6 / 248)(6/260)
عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ تَجُوزُ وِلاَيَةُ الأُْمِّ فِي النِّكَاحِ عِنْدَ عَدَمِ الْعَصَبَةِ (1) .
إِقَامَةُ الْحَدِّ وَالتَّعْزِيرِ عَلَى الأُْمِّ:
10 - لاَ يُقَامُ حَدُّ السَّرِقَةِ عَلَى الأُْمِّ إِذَا سَرَقَتْ مِنْ مَال وَلَدِهَا (2) . وَلاَ تُحَدُّ حَدَّ الْقَذْفِ أَيْضًا إِذَا قَذَفَتْ وَلَدَهَا، وَخِلاَفُ الرَّاجِحِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تُحَدُّ (3) ، وَكَذَا لاَ يُعَزَّرُ الْوَالِدَانِ لِحُقُوقِ الأَْوْلاَدِ (4) .
الْقِصَاصُ:
11 - لاَ يُقْتَصُّ لِلْقَتِيل مِنْ قِبَل أُصُولِهِ، وَمِنْهُمُ الأُْمُّ لِحَدِيثِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يُقَادُ الْوَالِدُ بِوَلَدِهِ (5)
__________
(1) ابن عابدين 2 / 312 ط أولى، والاختيار 3 / 90 ط دار المعرفة، والمقنع 2 / 141 ط السلفية، ونهاية المحتاج 4 / 363
(2) القليوبي على المنهاج 3 / 189، واللباب 3 / 93، والشرح الصغير للدردير 4 / 469، وكشف المخدرات ص 473 ط السلفية
(3) الدسوقي 4 / 327، والشرح الصغير للدردير 4 / 467، ومغني المحتاج 4 / 156
(4) مغني المحتاج 4 / 191
(5) حديث: " لا يقاد الوالد بولده. . . . . "، أخرجه الترمذي واللفظ له وابن ماجه من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرفوعا وله طريق أخرى عند أحمد، وأخرى عند الدارقطني والبيهقي أصح منها وقال ابن حجر: صحح البيهقي سنده لأن رواته ثقات، ورواه أيضا الترمذي وابن ماجه (تحفة الأحوذي 4 / 656 نشر المكتبة السلفية، وسنن ابن ماجه 2 / 188 ط عيسى الحلبي، والسنن الكبرى للبيهقي 8 / 38، 39 ط دائرة المعارف العثمانية بحيدر أباد، والتلخيص الحبير 4 / 16، 17 ط شركة الطباعة الفنية المتحدة)(6/260)
وَمِثْلُهُ بَقِيَّةُ الأُْصُول، وَلأَِنَّ الأَْصْل سَبَبٌ لإِِحْيَاءِ الْفَرْعِ، فَمِنَ الْمُحَال أَنْ يَسْتَحِقَّ لَهُ إِفْنَاؤُهُ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، إِلاَّ إِذَا قَصَدَ الأَْصْل إِزْهَاقَ رُوحِ الْفَرْعِ، كَأَنْ يَرْمِيَ عُنُقَ الْفَرْعِ بِالسَّيْفِ، أَوْ يُضْجِعَهُ وَيَذْبَحَهُ (1) .
شَهَادَةُ الْفَرْعِ لِلأُْمِّ وَعَكْسُهُ:
12 - أ - لاَ تُقْبَل شَهَادَةُ أَحَدِهِمَا لِلآْخَرِ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ، وَبِهِ قَال شُرَيْحٌ وَالْحَسَنُ وَالشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ - وَهِيَ الْمَذْهَبُ - وَإِسْحَاقُ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ.
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ شَهَادَةَ الاِبْنِ لأَِصْلِهِ مَقْبُولَةٌ بِخِلاَفِ الْعَكْسِ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ شَهَادَةَ كُلٍّ مِنْهُمَا لِلآْخَرِ مَقْبُولَةٌ (2) وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ شُرَيْحٍ، وَبِهِ قَال عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَبُو ثَوْرٍ وَالْمُزَنِيُّ وَدَاوُدُ وَإِسْحَاقُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ.
__________
(1) تبيين الحقائق 6 / 105، والدسوقي 4 / 267، والشرح الصغير للدردير 4 / 374 والأشباه والنظائر للسيوطي ص 217، وقواعد ابن رجب ص 325
(2) الأثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أخرجه عبد الرزاق بإسناده بلفظ: تجدر شهادة الوالد لولده، والولد لوالده، والأخ لأخيه إذا كانوا عدولا، لم يقل الله حين قال: " ممن ترضون من الشهداء إلا أن يكون والدا أو ولدا أو أخا. (مصنف عبد الرزاق 8 / 343، 344 من منشورات المجلس العلمي)(6/261)
ب - أَمَّا شَهَادَةُ أَحَدِهِمَا - أَيِ الْفَرْعِ وَالأَْصْل - عَلَى صَاحِبِهِ فَتُقْبَل، وَهُوَ قَوْل عَامَّةِ أَهْل الْعِلْمِ، لاِنْتِفَاءِ التُّهْمَةِ، وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ مَحَل قَبُول الشَّهَادَةِ حَيْثُ لاَ عَدَاوَةَ وَإِلاَّ لَمْ تُقْبَل (1) .
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ (شَهَادَة) .
إِذْنُ الأُْمِّ لِوَلَدِهَا فِي الْجِهَادِ:
13 - اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الْجِهَادُ لِلْوَلَدِ فِي حَال كَوْنِهِ فَرْضَ كِفَايَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ وَالِدَيْهِ إِذَا كَانَا مُسْلِمَيْنِ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلرَّجُل الَّذِي اسْتَأْذَنَهُ فِي الْجِهَادِ: أَحَيٌّ وَالِدَاكَ؟ قَال: نَعَمْ. قَال: فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ (2) .
تَأْدِيبُ الأُْمِّ لِوَلَدِهَا:
14 - يَجُوزُ لِلأَْبِ وَالأُْمِّ ضَرْبُ الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ زَجْرًا لَهُمَا عَنْ سَيِّئِ الأَْخْلاَقِ وَإِصْلاَحًا لَهُمَا (3) .
وَلِلتَّفْصِيل: انْظُرْ مُصْطَلَحَ (تَعْزِير)
__________
(1) مجمع الأنهر 2 / 197، واللباب 3 / 187، والشرح الصغير للدردير 4 / 245، والأم 4 / 124، ونهاية المحتاج 8 / 287، وروضة الطالبين 11 / 236، والمغني 8 / 191 - 192
(2) در المنتقى في شرح الملتقى بهامش مجمع الأنهر 1 / 640، والشرح الصغير على، أقرب المسالك 2 / 274، ومغني المحتاج 4 / 217 - 218 وكشف المخدرات ص 201 وحديث: " أحي والدك. . . . " أخرجه البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه (فتح الباري 6 / 140 ط السلفية، وصحيح مسلم 4 / 1975 ط عيسى الحلبي)
(3) مغني المحتاج 4 / 193، وابن عابدين 3 / 189(6/261)
أُمُّ الأَْرَامِل
التَّعْرِيفُ:
1 - الأُْمُّ لُغَةً الْوَالِدَةُ، وَالأَْرَامِل جَمْعُ أَرْمَلَةٍ وَهِيَ الَّتِي مَاتَ زَوْجُهَا (1) . وَمَسْأَلَةُ أُمِّ الأَْرَامِل عِنْدَ الْفَرْضِيِّينَ إِحْدَى الْمَسَائِل الْمُلَقَّبَاتِ: وَهِيَ جَدَّتَانِ، وَثَلاَثَةُ زَوْجَاتٍ، وَأَرْبَعُ أَخَوَاتٍ لأُِمٍّ، وَثَمَانِي أَخَوَاتٍ لأَِبَوَيْنِ أَوْ لأَِبٍ (2) ، وَتُسَمَّى أَيْضًا بِأُمِّ الْفُرُوجِ لأُِنُوثَةِ الْجَمِيعِ، وَتُسَمَّى أَيْضًا السَّبْعَةَ عَشْرِيَّةَ، لِنِسْبَتِهَا إِلَى سَبْعَةَ عَشَرَ (3) ، وَهُوَ عَدَدُ أَسْهُمِهَا.
بَيَانُ الأَْنْصِبَةِ فِيهَا:
2 - أَصْل الْمَسْأَلَةِ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ (وَتَعُول إِلَى سَبْعَةَ عَشَرَ) فَيَكُونُ لِلْجَدَّتَيْنِ السُّدُسُ، وَهُوَ اثْنَانِ، لِكُل وَاحِدَةٍ سَهْمٌ، وَلِلزَّوْجَاتِ الرُّبْعُ، ثَلاَثَةٌ، لِكُل وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سَهْمٌ، وَلِلأَْخَوَاتِ لأُِمٍّ الثُّلُثُ، أَرْبَعَةٌ، لِكُل وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سَهْمٌ، وَالثُّلُثَانِ وَهُوَ ثَمَانِيَةُ أَسْهُمٍ لِلأَْخَوَاتِ الثَّمَانِي لِكُل وَاحِدَةٍ سَهْمٌ، وَيُفَصِّل الْفُقَهَاءُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي الْمَوَارِيثِ فِي بَابِ الْعَوْل (4) .
__________
(1) لسان العرب المحيط مادة: أم م، رمل
(2) شرح متن الرحبية ص 34، والعذب الفائض 1 / 167
(3) العذب الفائض 1 / 167
(4) العذب الفائض 1 / 167(6/262)
أُمُّ الدِّمَاغِ
التَّعْرِيفُ:
1 - أُمُّ الدِّمَاغِ لُغَةً: الْهَامَةُ، وَقِيل: الْجِلْدَةُ الرَّقِيقَةُ الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى الدِّمَاغِ (1) .
وَعِنْدَ الْفُقَهَاءِ: الْجِلْدَةُ الَّتِي تَحْتَ الْعَظْمِ فَوْقَ الدِّمَاغِ، وَتُسَمَّى بِأُمِّ الرَّأْسِ، وَخَرِيطَةِ الدِّمَاغِ (2) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - الشَّجَّةُ الَّتِي تَصِل إِلَى أُمِّ الدِّمَاغِ دُونَ أَنْ تَخْرِقَهَا تُسَمَّى آمَّةً وَمَأْمُومَةً، وَفِيهَا ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَلاَ قِصَاصَ فِيهَا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ (3) ، رَوَى ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: لاَ قَوَدَ فِي الْمَأْمُومَةِ وَلاَ الْجَائِفَةِ وَلاَ الْمُنَقِّلَةِ (4) ، وَفِي
__________
(1) لسان العرب المحيط (دمغ)
(2) القليوبي 4 / 113 ط مصطفى الحلبي، والمغني 7 / 709 ط الرياض، والطحطاوي على مراقي الفلاح ص 368 نشر دار الإيمان
(3) نهاية المحتاج 7 / 305، والمغني 8 / 47، والخرشي8 / 16 نشر دار صادر
(4) حديث: " لا قود في المأمومة. . . " أخرجه ابن ماجه من حديث العباس عبد المطلب مرفوعا، وقال الحافظ البوصيري في الزوائد: في إسناده رشدين بن سعيد المصري، أبو الحجاج، المهري، ضعفه جماعة، واختلف فيه كلام أحمد، فمرة ضعفه، ومرة قال: أرجو أنه صالح الحديث. كما (سنن ابن ماجه 2 / 881 ط عيسى الحلبي، وفيض القدير 6 / 436 ط المكتبة التجارية)(6/262)
الْمُغْنِي: " وَلَيْسَ فِيهَا قِصَاصٌ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ نَعْلَمُهُ إِلاَّ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ قَصَّ مِنَ الْمَأْمُومَةِ فَأَنْكَرَ النَّاسُ عَلَيْهِ، وَقَالُوا مَا سَمِعْنَا أَحَدًا قَصَّ مِنْهَا قَبْل ابْنِ الزُّبَيْرِ (1) .
3 - فَإِنْ خَرَقَتِ الشَّجَّةُ أُمَّ الدِّمَاغِ سُمِّيَتِ الدَّامِغَةَ (2) ، وَلِلْفُقَهَاءِ فِيهَا عِدَّةُ آرَاءٍ. مِنْهَا: أَنَّهُ يَجِبُ فِيهَا مَا يَجِبُ فِي الآْمَّةِ وَلاَ يُزَادُ لَهَا شَيْءٌ (3) ، وَمِنْهَا: أَنَّهُ يُزَادُ فِيهَا حُكُومَةٌ بِالإِْضَافَةِ إِلَى دِيَةِ الآْمَّةِ (4) . وَمِنْهَا: أَنَّهُ يَجِبُ فِيهَا مَا يَجِبُ فِي النَّفْسِ إِذْ لاَ يَعِيشُ الإِْنْسَانُ مَعَهَا غَالِبًا (5) .
وَيُفَصِّل الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْجِنَايَاتِ: (الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ، دِيَةِ الأَْطْرَافِ وَالْمَنَافِعِ) .
4 - وَبِالإِْضَافَةِ إِلَى مَا تَقَدَّمَ يَتَكَلَّمُ الْفُقَهَاءُ عَنْ إِفْطَارِ الصَّائِمِ بِوُصُول شَيْءٍ إِلَى أُمِّ الدِّمَاغِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى بُطْلاَنَ صَوْمِهِ بِوُصُول شَيْءٍ إِلَى أُمِّ الدِّمَاغِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لاَ يَرَى بُطْلاَنَ صَوْمِهِ إِلاَّ إِذَا وَصَل إِلَى الدِّمَاغِ نَفْسِهِ (6) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ يَذْكُرُهُ الْفُقَهَاءُ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ، بَابِ (مَا يُفْطِرُ الصَّائِمَ)
__________
(1) المغني 7 / 709،710
(2) البدائع 10 / 4759، ونهاية المحتاج 7 / 305، والمغني 8 / 47
(3) نهاية المحتاج 7 / 305، والمغني 8 / 47، وحاشية العدوي على الخرشي 8 / 16
(4) المراجع السابقة
(5) البدائع 10 / 4759
(6) الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 368، والروضة 2 / 357 ط المكتب الإسلامي، والمغني 3 / 105(6/263)
أُمُّ الْفُرُوخِ
التَّعْرِيفُ:
1 - الأُْمُّ لُغَةً: الْوَالِدَةُ، وَالْفُرُوخُ جَمْعُ فَرْخٍ، وَهُوَ وَلَدُ الطَّائِرِ، وَقَدِ اسْتُعْمِل فِي كُل صَغِيرٍ مِنَ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ وَالشَّجَرِ وَغَيْرِهَا (1) .
2 - وَأُمُّ الْفُرُوخِ عِنْدَ الْفَرْضِيِّينَ لَقَبٌ لِمَسْأَلَةٍ مِنْ مَسَائِل الْمِيرَاثِ هِيَ: زَوْجٌ، وَأُمٌّ، وَأُخْتَانِ شَقِيقَتَانِ أَوْ لأَِبٍ، وَاثْنَانِ فَأَكْثَرُ مِنْ أَوْلاَدِ الأُْمِّ، وَسُمِّيَتْ بِأُمِّ الْفُرُوخِ لِكَثْرَةِ السِّهَامِ الْعَائِلَةِ فِيهَا، شُبِّهَتْ بِطَائِرٍ حَوْلَهَا أَفْرَاخُهَا، وَقِيل: إِنَّهُ لَقَبٌ لِكُل مَسْأَلَةٍ عَائِلَةٍ إِلَى عَشَرَةٍ. وَيُقَال لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَيْضًا (الْبَلْجَاءُ) لِوُضُوحِهَا لأَِنَّهَا عَالَتْ بِثُلُثَيْهَا، وَهُوَ أَكْثَرُ مَا تَعُول إِلَيْهِ مَسْأَلَةٌ فِي الْفَرَائِضِ، وَتُلَقَّبُ أَيْضًا (الشُّرَيْحِيَّةَ) لِوُقُوعِهَا فِي زَمَنِ الْقَاضِي شُرَيْحٍ.
رُوِيَ أَنَّ رَجُلاً أَتَاهُ وَهُوَ قَاضٍ بِالْبَصْرَةِ فَسَأَلَهُ عَنْهَا، فَجَعَلَهَا مِنْ عَشَرَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ، فَكَانَ الزَّوْجُ يَلْقَى الْفَقِيهَ فَيَسْتَفْتِيهِ قَائِلاً: رَجُلٌ مَاتَتِ امْرَأَتُهُ، وَلَمْ تَتْرُكْ وَلَدًا وَلاَ وَلَدَ ابْنٍ، فَيُجِيبُهُ الْفَقِيهُ: لَهُ النِّصْفُ، فَيَقُول: وَاَللَّهِ مَا أُعْطِيتُ نِصْفًا وَلاَ ثُلُثًا، فَيَقُول لَهُ: مَنْ أَعْطَاكَ ذَلِكَ؟ فَيَقُول: شُرَيْحٌ، فَيَلْقَى الْفَقِيهُ شُرَيْحًا فَيَسْأَلُهُ عَنْ ذَلِكَ فَيُخْبِرُهُ الْخَبَرَ، فَكَانَ شُرَيْحٌ إِذَا لَقِيَ الزَّوْجَ يَقُول لَهُ: إِذَا رَأَيْتَنِي ذَكَرْتَ فِيَّ حُكْمًا جَائِرًا، وَإِذَا رَأَيْتُكَ ذَكَرْتُ رَجُلاً فَاجِرًا
__________
(1) لسان العرب المحيط مادة: (أمم) ، (فرخ)(6/263)
تَبَيَّنَ لِي فُجُورُهُ، إِنَّك تَذِيعُ الشَّكْوَى وَتَكْتُمُ الْفَتْوَى (1) .
كَيْفِيَّةُ التَّوْرِيثِ فِيهَا:
3 - لِلزَّوْجِ النِّصْفُ، وَلِلأُْخْتَيْنِ لِغَيْرِ أُمٍّ الثُّلُثَانِ، وَلِلأُْمِّ السُّدُسُ، وَلأَِوْلاَدِ الأُْمِّ الثُّلُثُ، وَمَجْمُوعُ ذَلِكَ عَشَرَةٌ، وَأَصْلُهَا مِنْ سِتَّةٍ، هَذَا عَلَى قَوْل الْجُمْهُورِ (2) .
وَيُفَصِّل الْفُقَهَاءُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي بَابِ الْعَوْل مِنْ كُتُبِ الْفَرَائِضِ.
أُمُّ الْكِتَابِ
التَّعْرِيفُ:
1 - أُمُّ الشَّيْءِ فِي اللُّغَةِ: أَصْلُهُ (3) ، وَأُمُّ الْكِتَابِ هِيَ أَصْلُهُ.
وَبِهَذَا الْمَعْنَى وَرَدَتْ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فِي قَوْله تَعَالَى: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} أَيْ أَصْلُهُ الَّذِي يُرْجَعُ إِلَيْهِ عِنْدَ الاِشْتِبَاهِ (4) ، وَأُطْلِقَ فِي قَوْلِهِ جَل شَأْنُهُ: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} عَلَى اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ الَّذِي فِيهِ عِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى (5)
__________
(1) العذب الفائض 1 / 166
(2) العذب الفائض 1 / 166، والبقري على الرحيبة ص33، 34
(3) المصباح المنير مادة: (أمم)
(4) تفسير ابن كثير وأبي السعود لهذه الآية من سورة آل عمران / 7
(5) تفسير ابن كثير والقرطبي لهذه الآية من سورة الرعد / 39(6/264)
وَقَدْ وَرَدَ فِي عَدَدٍ مِنَ الأَْحَادِيثِ وَالآْثَارِ إِطْلاَقُ (أُمِّ الْكِتَابِ) عَلَى سُورَةِ الْفَاتِحَةِ. مِنْ ذَلِكَ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ قَرَأَ بِأُمِّ الْكِتَابِ فَقَدْ أَجْزَأَتْ عَنْهُ (1)
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ صَلَّى صَلاَةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهِيَ خِدَاجٌ (2) وَيُنْظَرُ تَفْصِيل أَحْكَامِ (أُمِّ كِتَابِ) بِالإِْطْلاَقِ الأَْخِيرِ فِي مُصْطَلَحِ (الْفَاتِحَة، وَقِرَاءَة) .
أُمُّ الْوَلَدِ
انْظُرِ: اسْتِيلاَد.
أُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ
التَّعْرِيفُ:
1 - يُؤْخَذُ مِنِ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ بِـ " أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ " كُل امْرَأَةٍ عَقَدَ عَلَيْهَا رَسُول اللَّهِ
__________
(1) حديث: " ومن قرأ بأم الكتاب فقد أجزأت عنه " أخرجه مسلم (1 / 297 / 396 - ط الحلبي)
(2) حديث: " من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج " أخرجه مسلم (1 / 296 - 395 - ط الحلبي)(6/264)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَخَل بِهَا، وَإِنْ طَلَّقَهَا بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى الرَّاجِحِ (1) .
وَعَلَى هَذَا فَإِنَّ مَنْ عَقَدَ عَلَيْهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَدْخُل بِهَا فَإِنَّهَا لاَ يُطْلَقُ عَلَيْهَا لَفْظُ " أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ ".
وَمَنْ دَخَل بِهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى وَجْهِ التَّسَرِّي، لاَ عَلَى وَجْهِ النِّكَاحِ، لاَ يُطْلَقُ عَلَيْهَا " أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ " كَمَارِيَةَ الْقِبْطِيَّةِ.
وَيُؤْخَذُ ذَلِكَ مِنْ قَوْله تَعَالَى فِي سُورَةِ الأَْحْزَابِ {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} (2) .
عَدَدُ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ:
2 - النِّسَاءُ اللاَّتِي عَقَدَ عَلَيْهِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَخَل بِهِنَّ - وَهُنَّ أُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ - اثْنَتَا عَشْرَةَ امْرَأَةً، هُنَّ عَلَى تَرْتِيبِ دُخُولِهِ بِهِنَّ كَمَا يَلِي:
(1) خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ.
(2) سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ، وَقِيل: إِنَّهُ دَخَل بِهَا بَعْدَ عَائِشَةَ.
(3) عَائِشَةُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ التَّيْمِيَّةُ.
(4) حَفْصَةُ بِنْتُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ الْعَدَوِيَّةُ.
(5) زَيْنَبُ بِنْتُ خُزَيْمَةَ الْهِلاَلِيَّةُ.
(6) أُمُّ سَلَمَةَ، وَاسْمُهَا: هِنْدُ بِنْتُ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيَّةُ.
(7) زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ الأََسَدِيَّةُ.
(8) جُوَيْرِيَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ الْخُزَاعِيَّةُ.
(9) رَيْحَانَةُ بِنْتُ زَيْدِ بْنِ عَمْرٍو الْقُرَظِيَّةُ.
__________
(1) تفسير القرطبي 14 / 125، طبع دار الكتب المصرية، والبحر المحيط 7 / 212، وابن العربي 3 / 1496، طبع دار إحياء الكتب 1376 هـ، وكشاف القناع 5 / 23 - 24
(2) سورة الأحزاب / 6(6/265)
(10) أُمُّ حَبِيبَةَ، وَاسْمُهَا: رَمْلَةُ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ الأُْمَوِيَّةُ.
(11) صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ النَّضِيرِيَّةُ.
(12) مَيْمُونَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ حَزْنٍ الْهِلاَلِيَّةُ.
وَتُوُفِّيَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ تِسْعٍ مِنْهُنَّ، وَهُنَّ: سَوْدَةُ - وَعَائِشَةُ - وَحَفْصَةُ - وَأُمُّ سَلَمَةَ - وَزَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ - وَأُمُّ حَبِيبَةَ - وَجُوَيْرِيَةُ - وَصْفِيَّةُ - وَمَيْمُونَةُ.
وَقَدْ وَقَعَ الْخِلاَفُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي (رَيْحَانَةَ) فَقِيل: كَانَ دُخُول رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا دُخُول نِكَاحٍ، وَقِيل: كَانَ دُخُولُهُ بِهَا دُخُول تَسَرٍّ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، وَالصَّحِيحُ الأَْوَّل (1) .
مَا يَجِبُ أَنْ تَتَّصِفَ بِهِ أُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ:
يَجِبُ أَنْ تَتَّصِفَ أُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ بِالصِّفَاتِ التَّالِيَةِ:
أ - الإِْسْلاَمُ:
3 - لَمْ تَكُنْ وَاحِدَةٌ مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ كِتَابِيَّةً، بَل كُنَّ كُلُّهُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ، وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى رَسُول اللَّهِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِكِتَابِيَّةٍ، لأَِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَشْرَفُ مِنْ أَنْ يَضَعَ نُطْفَتَهُ فِي رَحِمٍ كَافِرَةٍ، بَل لَوْ نَكَحَ كِتَابِيَّةً لَهُدِيَتْ إِلَى الإِْسْلاَمِ كَرَامَةً لَهُ، لِخَبَرِ سَأَلْتُ رَبِّي أَلاَّ أُزَوَّجَ إِلاَّ مَنْ كَانَ مَعِي فِي الْجَنَّةِ فَأَعْطَانِي (2)
__________
(1) عون الأثر لابن سيد الناس 2 / 300 وما بعدها طبع القاهرة مطبعة القدسي 1356 هـ، وحاشية العدوي على الخرشي 3 / 163، تصوير بيروت - دار صادر، ونداء الجنس اللطيف ص 56 وما بعدها
(2) الخرشي على خليل 3 / 161، تصوير بيروت - دار صادر، والخصائص الكبرى للسيوطي 3 / 276 وحديث: " سألت ربي ألا أزوج إلا من كان معي في الجنة فأعطاني " أخرجه الشيرازي في الألقاب بهذا المعنى من حديث ابن عباس بإسناد ضعيف كما في فيض القدير للمناوي (4 / 77 - ط المكتبة التجارية)(6/265)
ب - الْحُرِّيَّةُ:
4 - وَلَمْ تَكُنْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ رَقِيقَةً، بَل كُنَّ كُلُّهُنَّ حَرَائِرَ، بَل ذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى رَسُول اللَّهِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأَمَةٍ وَلَوْ كَانَتْ مُسْلِمَةً؛ لأَِنَّ نِكَاحَهَا لِعَدَمِ الطَّوْل (الْقُدْرَةِ عَلَى زَوَاجِ الْحُرَّةِ) وَخَوْفِ الْعَنَتِ (الزِّنَا) ، وَهُوَ غَنِيٌّ عَنِ الأَْوَّل ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً؛ لأَِنَّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِغَيْرِ مَهْرٍ - كَمَا سَيَأْتِي - وَعَنِ الثَّانِي لِلْعِصْمَةِ الَّتِي عَصَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا (1) .
ج - عَدَمُ الاِمْتِنَاعِ عَنِ الْهِجْرَةِ:
5 - لَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتَزَوَّجَ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهَا الْهِجْرَةُ فَلَمْ تُهَاجِرْ، وَلَوْ كَانَتْ مُؤْمِنَةً مُسْلِمَةً (2) ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الأَْحْزَابِ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاَتِكَ اللاَّتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} (3) . وَلِمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: نُهِيَ رَسُول اللَّهِ عَنْ أَصْنَافِ النِّسَاءِ، إِلاَّ مَا كَانَ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ
__________
(1) شرح الخرشي 3 / 161، والخصائص الكبرى للسيوطي 3 / 278
(2) الخصائص 3 / 277 وما بعدها
(3) سورة الأحزاب / 50. وانظر تفسير الطبري 22 / 21، الطبعة الثانية لمصطفى البابي الحلبي(6/266)
الْمُهَاجِرَاتِ (1) وَلِحَدِيثِ أُمِّ هَانِئٍ قَالَتْ: خَطَبَنِي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاعْتَذَرْتُ إِلَيْهِ بِعُذْرٍ فَعَذَرَنِي، فَأَنْزَل اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ. . .} الآْيَةَ إِلَى قَوْله تَعَالَى {اللاَّتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} قَالَتْ: فَلَمْ أَكُنْ أُحِل لَهُ، لأَِنِّي لَمْ أُهَاجِرْ مَعَهُ، كُنْتُ مِنَ الطُّلَقَاءِ (2) .
وَقَال الإِْمَامُ أَبُو يُوسُفَ - مِنَ الْحَنَفِيَّةِ -: لاَ دَلاَلَةَ فِي الآْيَةِ الْكَرِيمَةِ عَلَى أَنَّ اللاَّتِي لَمْ يُهَاجِرْنَ كُنَّ مُحَرَّمَاتٍ عَلَى الرَّسُول عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ؛ لأَِنَّ تَخْصِيصَ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ لاَ يَنْفِي مَا عَدَاهُ (3) .
وَيَجُوزُ لِلرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتَزَوَّجَ مِنْ نِسَاءِ الأَْنْصَارِ، قَدْ تَزَوَّجَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ غَيْرِ الْمُهَاجِرَاتِ صَفِيَّةَ وَجُوَيْرِيَةَ، وَفِي مُسْنَدِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ عَنْ أَبِي بَرْزَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: كَانَتِ الأَْنْصَارُ إِذَا كَانَ لأَِحَدِهِمْ أَيِّمٌ - لَمْ يُزَوِّجْهَا حَتَّى يَعْلَمَ هَل لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا حَاجَةٌ أَمْ لاَ (4) فَلَوْلاَ عِلْمُهُمْ بِأَنَّهُ يَحِل لَهُ
__________
(1) الخصائص 3 / 277 و278. وحديث ابن عباس: نهى رسول الله عن أصناف النساء. . . " أخرجه الترمذي (5 / 355 - ط الحلبي) . وقال هذا حديث حسن. قال عبد القادر الأرناؤوط محقق جامع الأصول: وفي إسناده شهر بن حوشب وهو صدوق كثير الإرسال والأوهام، ومع ذلك فقد حسن حديثه بعضهم (جامع الأصول في أحاديث الرسول 2 / 320)
(2) حديث: " أم هانئ قالت: خطبني رسول الله فاعتذرت إليه. . . . " أخرجه الترمذي (5 / 355 - ط الحلبي) وابن جرير في تفسيره (22 / 21 - ط الحلبي) وإسناده ضعيف لضعف مولى أم هانئ (ميزان الاعتدال للذهبي 1 / 296 - ط الحلبي)
(3) أحكام القرآن للجصاص 3 / 449، طبع المطبعة البهية 1347 هـ
(4) حديث: " كانت الأنصار إذا كان لأحدهم أيم. . . " أخرجه أحمد (4 / 422 - ط الميمنية) من حديث أبي برزة الأسلمي مطولا، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9 / 367، 368) رجاله رجال الصحيح(6/266)
التَّزَوُّجُ مِنْ نِسَاءِ الأَْنْصَارِ لَمَا كَانَ هُنَاكَ دَاعٍ لِلتَّرَبُّصِ وَالاِنْتِظَارِ.
د - التَّنَزُّهُ عَنِ الزِّنَا:
6 - أُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ بِحُكْمِ كَوْنِهِنَّ زَوْجَاتِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُنَزَّهَاتٌ عَنِ الزِّنَا، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَنْفِيرِ النَّاسِ عَنِ الرَّسُول، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} (1) . قَال ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا بَغَتِ امْرَأَةُ نَبِيٍّ قَطُّ (2) ، وَمَا رُمِيَتْ بِهِ السَّيِّدَةُ عَائِشَةُ مِنَ الإِْفْكِ فِرْيَةٌ كَاذِبَةٌ خَاطِئَةٌ بَرَّأَهَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْهَا فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ بِقَوْلِهِ جَل شَأْنُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِْفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَل هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُل امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِْثْمِ وَاَلَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} . الآْيَاتِ إِلَى قَوْلِهِ {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (3) .
أَحْكَامُ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ مَعَ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
:
الْعَدْل بَيْنَ الزَّوْجَاتِ:
7 - لاَ حَقَّ لأُِمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْقَسْمِ فِي الْمَبِيتِ وَلاَ فِي الْعَدْل بَيْنَهُنَّ، وَلاَ يُطَالَبُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ، وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُفَضِّل مَنْ شَاءَ مِنْهُنَّ عَلَى غَيْرِهَا فِي الْمَبِيتِ وَالْكِسْوَةِ وَالنَّفَقَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ} (4) .
__________
(1) سورة النور / 26
(2) فتاوى ابن تيمية 32 / 117، طبع مطابع الرياض طبعة أولى وتفسير القرطبي 4 / 176
(3) سورة النور / 11 - 17
(4) سورة الأحزاب / 51(6/267)
وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قَال: كَانَ رَسُول اللَّهِ مُوَسَّعًا عَلَيْهِ فِي قَسْمِ أَزْوَاجِهِ يَقْسِمُ بَيْنَهُنَّ كَيْفَ شَاءَ (1) . وَعَلَّل ذَلِكَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ فِي وُجُوبِ الْقَسْمِ عَلَيْهِ شُغْلاً عَنْ لَوَازِمِ الرِّسَالَةِ (2)
وَقَدْ صَرَّحَ الْعُلَمَاءُ أَنَّ الْقَسْمَ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَيْهِ لَكِنَّهُ كَانَ يَقْسِمُ مِنْ نَفْسِهِ تَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِنَّ (3)
تَحْرِيمُ نِكَاحِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى التَّأْبِيدِ:
8 - ثَبَتَ ذَلِكَ بِنَصِّ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، فَقَال جَل شَأْنُهُ {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُول اللَّهِ وَلاَ أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا} (4) .
وَأَمَّا اللاَّتِي فَارَقَهُنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْل الدُّخُول كَالْمُسْتَعِيذَةِ - وَهِيَ أَسْمَاءُ بِنْتُ النُّعْمَانِ، وَكَالَتِي رَأَى فِي كَشْحِهَا بَيَاضًا - وَهِيَ عَمْرَةُ بِنْتُ يَزِيدَ (5) عِنْدَمَا دَخَل عَلَيْهَا، فَلِلْفُقَهَاءِ فِي تَأْبِيدِ التَّحْرِيمِ رَأْيَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُنَّ يَحْرُمْنَ، وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَصَحَّحَهُ فِي الرَّوْضَةِ لِعُمُومِ الآْيَةِ السَّابِقَةِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {وَلاَ أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ} أَيْ مِنْ بَعْدِ نِكَاحِهِ.
__________
(1) حديث محمد بن كعب القرظي. . . " كان رسول الله موسعا عليه في قسم أزواجه " أخرجه ابن سعد (8 / 172 - ط دار صادر) مرسلا، وأورد له طريقا آخر كذلك مرسلا من حديث قتادة، فبه يتقوى الطريقان
(2) تفسير الرازي 25 / 221، طبع المطبعة البهية 1357 هـ، وتفسير ابن كثير 5 / 484 وما بعدها طبع دار الأندلس، والخصائص 3 / 304 وما بعدها، وأحكام الجصاص 3 / 452 و453، والخرشي 3 / 163
(3) القرطبي 14 / 215
(4) سورة الأحزاب / 53
(5) سيرة ابن هشام 4 / 647 الطبعة الثانية لمصطفى البابي الحلبي سنة 1375 هـ، وتفسير القرطبي 14 / 229(6/267)
وَالثَّانِي: لاَ يَحْرُمْنَ. لِمَا رُوِيَ أَنَّ الأَْشْعَثَ بْنَ قَيْسٍ نَكَحَ الْمُسْتَعِيذَةَ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَقَامَ عُمَرُ بِرَجْمِهِ وَرَجْمِهَا، فَقَالَتْ لَهُ: كَيْفَ تَرْجُمُنِي وَلَمْ يُضْرَبْ عَلَيَّ حِجَابٌ، وَلَمْ أُسَمَّ لِلْمُؤْمِنِينَ أُمًّا؟ فَكَفَّ عُمَرُ عَنْ ذَلِكَ (1) .
وَفِي وُجُوبِ عِدَّةِ الْوَفَاةِ عَلَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ وَاسْتِمْرَارِ حَقِّهِنَّ فِي النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى خِلاَفٌ (2)
عُلُوُّ مَنْزِلَتِهِنَّ:
9 - إِذَا عَقَدَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى امْرَأَةٍ وَدَخَل بِهَا صَارَتْ أُمًّا لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ عِنْدَ الْبَعْضِ، وَرَجَّحَهُ الْقُرْطُبِيُّ بِدَلاَلَةِ صَدْرِ الآْيَةِ {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} (3) .
وَعِنْدَ الْبَعْضِ الآْخَرِ: تُصْبِحُ أُمًّا لِلْمُؤْمِنِينَ دُونَ الْمُؤْمِنَاتِ، وَرَجَّحَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ مُسْتَدِلًّا بِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ لَهَا امْرَأَةٌ: يَا أُمَّهُ، فَقَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ: لَسْتُ لَكِ بِأُمٍّ، إِنَّمَا أَنَا أُمُّ رِجَالِكُمْ (4) .
دُخُولُهُنَّ فِي آل بَيْتِ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
10 - اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي دُخُول أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ فِي
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص 3 / 437، والبحر المحيط لابن حيان 7 / 212، والدر المنثور 5 / 214، والخرشي 3 / 163، ومواهب الجليل 3 / 398، والخصائص الكبرى 3 / 144 وما بعدها
(2) مواهب الجليل 3 / 398، والقرطبي 14 / 189، 229، ومواهب الجليل 3 / 399، وحاشية قليوبي 3 / 198، والخصائص 3 / 317 وما بعدها
(3) سورة الأحزاب / 6
(4) تفسير القرطبي 14 / 123، وأحكام القرآن لابن العربي 3 / 1496(6/268)
أَهْل بَيْتِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَمِنْهُمْ مَنْ قَال: يَدْخُل نِسَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَهْل الْبَيْتِ، وَبِهِ قَالَتْ عَائِشَةُ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَعُرْوَةُ وَابْنُ عَطِيَّةَ، وَابْنُ تَيْمِيَّةَ وَغَيْرُهُمْ، وَيَسْتَدِل هَؤُلاَءِ بِمَا رَوَاهُ الْخَلاَّل بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ خَالِدَ بْنَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بَعَثَ إِلَى عَائِشَةَ سُفْرَةً مِنَ الصَّدَقَةِ فَرَدَّتْهَا وَقَالَتْ: إِنَّا آل مُحَمَّدٍ لاَ تَحِل لَنَا الصَّدَقَةُ، وَكَانَ عِكْرِمَةُ يُنَادِي فِي السُّوقِ {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْل الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} (1) نَزَلَتْ فِي نِسَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً (2) .
وَهَذَا الْقَوْل هُوَ الَّذِي يَدُل عَلَيْهِ سِيَاقُ الآْيَةِ؛ لأَِنَّ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا خِطَابٌ لأُِمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ. قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَقَرْن فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُْولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاَةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْل الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} (3)
وَمِنْهُمْ مَنْ قَال: لاَ يَدْخُل نِسَاءُ النَّبِيِّ فِي آل بَيْتِ رَسُول اللَّهِ، وَيَسْتَدِل هَؤُلاَءِ بِمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ رَبِيبِ رَسُول اللَّهِ قَال: نَزَلَتْ هَذِهِ الآْيَةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ
__________
(1) سورة الأحزاب / 33
(2) المغني 2 / 657 طبع مكتبة الرياض، وتفسير القرطبي 14 / 182، وتفسير الطبري 25 / 8، وشرح المواهب اللدنية 7 / 6 طبع المطبعة الأزهرية سنة 1328 هـ، ومطالب أولي النهى 2 / 157 طبع المكتب الإسلامي بدمشق
(3) سورة الأحزاب / 33 - 34(6/268)
عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْل الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} فِي بَيْتِ أُمِّ سَلَمَةَ، فَدَعَا النَّبِيُّ فَاطِمَةَ وَحَسَنًا وَحُسَيْنًا فَجَلَّلَهُمْ بِكِسَاءٍ وَعَلِيٌّ خَلْفَ ظَهْرِهِ، فَجَلَّلَهُمْ بِكِسَاءٍ ثُمَّ قَال: اللَّهُمَّ هَؤُلاَءِ أَهْل بَيْتِي، فَأَذْهِبْ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وَطَهِّرْهُمْ تَطْهِيرًا، قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: وَأَنَا مَعَهُمْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟ قَال: أَنْتِ عَلَى مَكَانِكِ، وَأَنْتِ إِلَى خَيْرٍ (1)
حُقُوقُ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ:
11 - مِنْ حَقِّ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُحْتَرَمْنَ وَيُعَظَّمْنَ، وَيُصَنَّ عَنِ الأَْعْيَنِ وَالأَْلْسُنِ، وَذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ نَحْوَهُنَّ.
فَإِنْ تَطَاوَل مَنْ لاَ خَلاَقَ لَهُ عَلَى تَنَاوُلِهِنَّ بِالْقَذْفِ أَوِ السَّبِّ، فَفِي الْقَذْفِ يُفَرِّقُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ بَيْنَ قَذْفِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَقَذْفِ غَيْرِهَا مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ.
فَمَنْ قَذَفَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بِمَا بَرَّأَهَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ - مِنَ الزِّنَا - فَقَدْ كَفَرَ، وَجَزَاؤُهُ الْقَتْل (2) ، وَقَدْ حَكَى الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَغَيْرُهُ الإِْجْمَاعَ عَلَى
__________
(1) حديث: " عمر بن أبي سلمة. . . " أخرجه الترمذي (5 / 351 - ط الحلبي) . وقال البغوي في شرح السنة (15 / 117) هذا حديث صحيح الإسناد. وله شاهد أخرجه مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها (صحيح مسلم 3 / 1883 ط عيسى الحلبي)
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 167، والصارم المسلول لابن تيمية ص 566، طبع مطبعة السعادة، ونسيم الرياض شرح شفاء القاضي عياض وبهامشه شرح علي القالي على الشفاء 4 / 568، طبع المطبعة الأزهرية 1327 هـ(6/269)
ذَلِكَ (1) ؛ لأَِنَّ مَنْ أَتَى شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ كَذَّبَ الْقُرْآنَ، وَمَنْ كَذَّبَ الْقُرْآنَ قُتِل، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (2) . أَمَّا مَنْ قَذَفَ وَاحِدَةً مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرَ عَائِشَةَ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي عُقُوبَتِهِ، فَقَال بَعْضُهُمْ وَمِنْهُمْ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: إِنَّ حُكْمَ قَذْفِ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ كَحُكْمِ قَذْفِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَيْ يُقْتَل - لأَِنَّ فِيهِ عَارًا وَغَضَاضَةً وَأَذًى لِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَل فِي ذَلِكَ قَدْحٌ بِدِينِ رَسُول اللَّهِ صَلَوَاتُ اللَّهُ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ.
وَقَال بَعْضُهُمْ: إِنَّ قَذْفَ وَاحِدَةٍ مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرِ عَائِشَة كَقَذْفِ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَوْ وَاحِدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، أَيْ يُحَدُّ الْقَاذِفُ حَدًّا وَاحِدًا لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} (3) لأَِنَّهُ لاَ يَقْتَضِي شَرَفُهُنَّ زِيَادَةً فِي حَدِّ مَنْ قَذَفَهُنَّ؛ لأَِنَّ شَرَفَ الْمَنْزِلَةِ لاَ يُؤَثِّرُ فِي الْحُدُودِ.
وَقَال بَعْضُهُمْ وَمِنْهُمْ مَسْرُوقُ بْنُ الأَْجْدَعِ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: مَنْ قَذَفَ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرَ عَائِشَةَ يُحَدُّ حَدَّيْنِ لِلْقَذْفِ - أَيْ يُجْلَدُ مِائَةً وَسِتِّينَ جَلْدَةً (4) -
__________
(1) الصارم المسلول ص 565، وتنبيه الولاة والحكام على أحكام شاتم خير الأنام أو أحد أصحابه الكرام من مجموعة رسائل ابن عابدين 1 / 358، 367، طبع سنة 1325 هـ
(2) سورة النور / 17، وانظر: تفسير القرطبي 12 / 206
(3) سورة النور / 4
(4) الخصائص الكبرى 3 / 179، والإعلام بقواطع الإسلام المطبوع بهامش الزواجر ص 172، وتفسير القرطبي 12 / 176، وفتاوى ابن تيمية 32 / 119، والصارم المسلول ص 567، وتنبيه الولاة والحكام لابن عابدين (ر: رسائل ابن عابدين 1 / 358 - 359)(6/269)
أَمَّا سَبُّ وَاحِدَةٍ مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ - بِغَيْرِ الزِّنَا - مِنْ غَيْرِ اسْتِحْلاَلٍ لِهَذَا السَّبِّ، فَهُوَ فِسْقٌ، وَحُكْمُهُ حُكْمُ سَبِّ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، يُعَزَّرُ فَاعِلُهُ (1) .
أُمِّيٌّ
التَّعْرِيفُ:
1 - الأُْمِّيُّ: الْمَنْسُوبُ إِلَى الأُْمِّ، وَيُطْلَقُ عَلَى مَنْ لاَ يَقْرَأُ وَلاَ يَكْتُبُ، نُسِبَ إِلَى الأُْمِّ لأَِنَّهُ بَقِيَ عَلَى مَا وَلَدَتْهُ عَلَيْهِ أُمُّهُ. لأَِنَّ الْكِتَابَةَ وَالْقِرَاءَةَ مُكْتَسَبَةٌ (2) .
صَلاَةُ الأُْمِّيِّ:
2 - الأُْمِّيُّ الَّذِي لاَ يُحْسِنُ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ، وَيُحْسِنُ قِرَاءَةَ آيَةٍ مِنْهَا وَيُرِيدُ الصَّلاَةَ، قَال الْبَعْضُ: إِنَّهُ يُكَرِّرُ هَذَا الَّذِي يُحْسِنُهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ، لِيَكُونَ بِمَنْزِلَةِ سَبْعِ آيَاتِ الْفَاتِحَةِ، وَقَال آخَرُونَ: لاَ يُكَرِّرُهُ.
وَإِنْ كَانَ لاَ يُحْسِنُ الْفَاتِحَةَ وَيُحْسِنُ غَيْرَهَا، قَرَأَ مَا يُحْسِنُهُ مِنَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ.
فَإِنْ كَانَ لاَ يُحْسِنُ شَيْئًا وَاجْتَهَدَ آنَاءَ اللَّيْل وَالنَّهَارِ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى التَّعَلُّمِ، قَال أَبُو حَنِيفَةَ وَبَعْضُ
__________
(1) الإعلام بقواطع الإسلام بهامش الزواجر ص 172 وانظر المحلى 11 / 409 المطبعة المنيرية
(2) لسان العرب، ومفردات غريب القرآن للراغب الأصبهاني، والكليات للكفوي مادة: (أمم)(6/270)
الْمَالِكِيَّةِ: يُصَلِّي دُونَ أَنْ يَقْرَأَ شَيْئًا لاَ مِنَ الْقُرْآنِ وَلاَ مِنَ الأَْذْكَارِ. وَقَال الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: يُصَلِّي وَيَحْمَدُ اللَّهَ تَعَالَى وَيُهَلِّلُهُ وَيُكَبِّرُهُ بَدَل الْقِرَاءَةِ (1) ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلاَةِ فَإِنْ كَانَ مَعَكَ قُرْآنٌ فَاقْرَأْ بِهِ، وَإِلاَّ فَاحْمَدْهُ وَهَلِّلْهُ وَكَبِّرْهُ (2) . وَقَدْ فَصَّل الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ (الصَّلاَةِ) عِنْدَ كَلاَمِهِمْ عَلَى الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلاَةِ.
أَمْنٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الأَْمْنُ ضِدُّ الْخَوْفِ، وَهُوَ: عَدَمُ تَوَقُّعِ مَكْرُوهٍ فِي الزَّمَانِ الآْتِي، وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لَهُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (3)
__________
(1) المجموع 3 / 377 وما بعدها نشر المكتبة السلفية بالمدينة المنورة، والمغني 1 / 487 و488، وحاشية الطحطاوي على الدر 1 / 203، والتاج والإكليل بهامش مواهب الجليل 1 / 518 الطبعة الثانية سنة 1398 هـ
(2) حديث: " إذا قمت إلى الصلاة فتوضأ. . . . " أخرجه الترمذي (2 / 100 - 102 و302 ط الحلبي) ، وأبو داود (1 / 537 - 538و 859) ط عزت عبيد دعاس) ، وقال الترمذي: حديث حسن. وقال الحاكم في المستدرك (1 / 242 ط الكتاب العربي) هذا حديث صحيح على شرط الشيخين
(3) لسان العرب، والمصباح المنير، ودستور العلماء في المادة، والمجموع 7 / 80 ط السلفية، والبدائع 1 / 47 ط أولى، والمغني 1 / 261 ط الرياض(6/270)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ
أ - أَمَانٌ:
2 - الأَْمَانُ: ضِدُّ الْخَوْفِ، يُقَال: أَمَّنْتُ الأَْسِيرَ: أَعْطَيْتُهُ الأَْمَانَ فَأَمِنَ، فَهُوَ كَالأَْمْنِ.
وَأَمَّا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، فَلَهُ مَعْنًى يَخْتَلِفُ عَنِ الأَْمْنِ، إِذْ هُوَ عِنْدَهُمْ، عَقْدٌ يُفِيدُ تَرْكَ الْقِتَال مَعَ الْكُفَّارِ فَرْدًا أَوْ جَمَاعَةً مُؤَقَّتًا أَوْ مُؤَبَّدًا (1) .
ب - خَوْفٌ:
3 - الْخَوْفُ: الْفَزَعُ، وَهُوَ ضِدُّ الأَْمْنِ (2)
ج - إِحْصَارٌ:
4 - الإِْحْصَارُ: الْمَنْعُ وَالْحَبْسُ.
وَيَسْتَعْمِلُهُ الْفُقَهَاءُ فِي مَنْعِ الْحَاجِّ بِعَدُوٍّ وَنَحْوِهِ مِنْ بَعْضِ أَعْمَالٍ مُعَيَّنَةٍ فِي الْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ (3) ، كَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَالطَّوَافِ.
حَاجَةُ النَّاسِ إِلَى الأَْمْنِ وَوَاجِبُ الإِْمَامِ تُجَاهَ ذَلِكَ:
5 - الأَْمْنُ لِلْفَرْدِ وَلِلْمُجْتَمَعِ وَلِلدَّوْلَةِ مِنْ أَهَمِّ مَا تَقُومُ عَلَيْهِ الْحَيَاةُ، إِذْ بِهِ يَطْمَئِنُّ النَّاسُ عَلَى دِينِهِمْ
__________
(1) لسان العرب، والبدائع 7 / 107، ومنتهى الإرادات 2 / 122 - 130 ط دار الفكر
(2) لسان العرب
(3) لسان العرب، والمصباح المنير، والزيلعي 2 / 77 ط أولى، والدسوقي 2 / 93(6/271)
وَأَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ، وَيَتَّجِهُ تَفْكِيرُهُمْ إِلَى مَا يَرْفَعُ شَأْنَ مُجْتَمَعِهِمْ وَيَنْهَضُ بِأُمَّتِهِمْ.
وَمِنْ طَبَائِعِ الْمُجْتَمَعَاتِ الْبَشَرِيَّةِ - كَمَا يَقُول ابْنُ خَلْدُونٍ - حُدُوثُ الاِخْتِلاَفِ بَيْنَهُمْ، وَوُقُوعُ التَّنَازُعِ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى الْمُشَاحَنَاتِ وَالْحُرُوبِ، وَإِلَى الْهَرَجِ وَسَفْكِ الدِّمَاءِ وَالْفَوْضَى، بَل إِلَى الْهَلاَكِ إِذَا خُلِّيَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَنْفُسِهِمْ بِدُونِ وَازِعٍ (1) .
وَبَيَّنَ الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّ وُجُودَ الإِْمَامِ هُوَ الَّذِي يَمْنَعُ الْفَوْضَى، فَيَقُول: الإِْمَامَةُ مَوْضُوعَةٌ لِخِلاَفَةِ النُّبُوَّةِ فِي حِرَاسَةِ الدِّينِ وَسِيَاسَةِ الدُّنْيَا، وَلَوْلاَ الْوُلاَةُ لَكَانَ النَّاسُ فَوْضَى مُهْمَلِينَ وَهَمَجًا مُضَيَّعِينَ (2) .
ثُمَّ يُوَضِّحُ الْمَاوَرْدِيُّ وَاجِبَاتِ الإِْمَامِ فِي ذَلِكَ فَيَقُول: الَّذِي يَلْزَمُ الإِْمَامَ مِنَ الأُْمُورِ الْعَامَّةِ عَشَرَةُ أَشْيَاءَ:
أَحَدُهَا: حِفْظُ الدِّينِ عَلَى أُصُولِهِ الْمُسْتَقِرَّةِ وَمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ سَلَفُ الأُْمَّةِ، فَإِنْ نَجَمَ مُبْتَدِعٌ أَوْ زَاغَ ذُو شُبْهَةٍ عَنْهُ أَوْضَحَ لَهُ الْحُجَّةَ، وَبَيَّنَ لَهُ الصَّوَابَ، وَأَخَذَهُ بِمَا يَلْزَمُهُ مِنَ الْحُقُوقِ وَالْحُدُودِ، لِيَكُونَ الدِّينُ مَحْرُوسًا مِنْ خَلَلٍ، وَالأُْمَّةُ مَمْنُوعَةً مِنْ زَلَلٍ.
الثَّانِي: تَنْفِيذُ الأَْحْكَامُ بَيْنَ الْمُتَشَاجِرِينَ، وَقَطْعُ الْخِصَامِ بَيْنَ الْمُتَنَازِعِينَ، حَتَّى تَعُمَّ النَّصَفَةُ، فَلاَ يَتَعَدَّى ظَالِمٌ، وَلاَ يَضْعُفُ مَظْلُومٌ.
الثَّالِثُ: حِمَايَةُ الْبَيْضَةِ وَالذَّبُّ عَنِ الْحَرِيمِ لِيَتَصَرَّفَ النَّاسُ فِي الْمَعَايِشِ وَيَنْتَشِرُوا فِي الأَْسْفَارِ، آمِنِينَ مِنْ تَغْرِيرٍ بِنَفْسٍ أَوْ مَالٍ.
__________
(1) مقدمة ابن خلدون ص 187
(2) الأحكام السلطانية للماوردي ص5(6/271)
الرَّابِعُ: إِقَامَةُ الْحُدُودِ لِتُصَانَ مَحَارِمُ اللَّهِ تَعَالَى عَنِ الاِنْتِهَاكِ وَتُحْفَظَ حُقُوقُ عِبَادِهِ مِنْ إِتْلاَفٍ وَاسْتِهْلاَكٍ.
الْخَامِسُ: تَحْصِينُ الثُّغُورِ بِالْعُدَّةِ الْمَانِعَةِ وَالْقُوَّةِ الدَّافِعَةِ، حَتَّى لاَ تَظْفَرَ الأَْعْدَاءُ بِغِرَّةٍ يَنْتَهِكُونَ فِيهَا مَحْرَمًا، أَوْ يَسْفِكُونَ فِيهَا لِمُسْلِمٍ أَوْ مُعَاهَدٍ دَمًا.
السَّادِسُ: جِهَادُ مَنْ عَانَدَ الإِْسْلاَمَ بَعْدَ الدَّعْوَةِ حَتَّى يُسْلِمَ، أَوْ يَدْخُل فِي الذِّمَّةِ، لِيُقَامَ بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فِي إِظْهَارِهِ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ.
السَّابِعُ: جِبَايَةُ الْفَيْءِ وَالصَّدَقَاتِ عَلَى مَا أَوْجَبَهُ الشَّرْعُ نَصًّا وَاجْتِهَادًا مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلاَ عَسْفٍ.
الثَّامِنُ: تَقْدِيرُ الْعَطَايَا وَمَا يُسْتَحَقُّ فِي بَيْتِ الْمَال مِنْ غَيْرِ سَرَفٍ وَلاَ تَقْتِيرٍ، وَدَفْعُهُ فِي وَقْتٍ لاَ تَقْدِيمَ فِيهِ وَلاَ تَأْخِيرَ.
التَّاسِعُ: اسْتِكْفَاءُ الأُْمَنَاءِ وَتَقْلِيدُ النُّصَحَاءِ فِيمَا يُفَوَّضُ إِلَيْهِمْ مِنَ الأَْعْمَال وَيُوَكَّل إِلَيْهِمْ مِنَ الأَْمْوَال، لِتَكُونَ الأَْعْمَال بِالْكَفَاءَةِ مَضْبُوطَةً، وَالأَْمْوَال بِالأُْمَنَاءِ مَحْفُوظَةً.
الْعَاشِرُ: أَنْ يُبَاشِرَ بِنَفْسِهِ مُشَارَفَةَ الأُْمُورِ وَتَصَفُّحَ الأَْحْوَال، لِيَنْهَضَ بِسِيَاسَةِ الأُْمَّةِ وَحِرَاسَةِ الْمِلَّةِ، وَلاَ يُعَوِّل عَلَى التَّفْوِيضِ تَشَاغُلاً بِلَذَّةٍ أَوْ عِبَادَةٍ، فَقَدْ يَخُونُ الأَْمِينُ، وَيَغِشُّ النَّاصِحُ (1) .
اشْتِرَاطُ الأَْمْنِ بِالنِّسْبَةِ لأَِدَاءِ الْعِبَادَاتِ:
6 - الأَْمْنُ مَقْصُودٌ بِهِ سَلاَمَةُ النَّفْسِ وَالْمَال وَالْعِرْضِ وَالدَّيْنِ وَالْعَقْل، وَهِيَ الضَّرُورِيَّاتُ الَّتِي لاَ بُدَّ مِنْهَا
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 15، 16(6/272)
لِقِيَامِ مَصَالِحِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ أَمْنَ الإِْنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ وَعِرْضِهِ شَرْطٌ فِي التَّكْلِيفِ بِالْعِبَادَاتِ (1) . لأَِنَّ الْمُحَافَظَةَ عَلَى النُّفُوسِ وَالأَْعْضَاءِ لِلْقِيَامِ بِمَصَالِحِ الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ أَوْلَى مِنْ تَعْرِيضِهَا لِلضَّرَرِ بِسَبَبِ الْعِبَادَةِ (2) .
وَيَتَّضِحُ ذَلِكَ مِنَ الأَْمْثِلَةِ الآْتِيَةِ:
أَوَّلاً: فِي الطَّهَارَةِ:
7 - الطَّهَارَةُ بِالْمَاءِ الطَّهُورِ مِنَ الْحَدَثِ الأَْصْغَرِ أَوِ الأَْكْبَرِ مِنْ شَرَائِطِ الصَّلاَةِ لَكِنْ مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَاءِ عَدُوٌّ أَوْ لِصٌّ أَوْ سَبُعٌ أَوْ حَيَّةٌ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ الْهَلاَكَ أَوِ الضَّرَرَ الشَّدِيدَ أُبِيحَ لَهُ التَّيَمُّمُ؛ لأَِنَّ إِلْقَاءَ النَّفْسِ إِلَى التَّهْلُكَةِ حَرَامٌ، وَكَذَا مَنْ كَانَ بِهِ جِرَاحَةٌ أَوْ مَرَضٌ وَيَخْشَى عَلَى نَفْسِهِ التَّلَفَ بِاسْتِعْمَال الْمَاءِ فَإِنَّهُ يَتَيَمَّمُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} (3) وقَوْله تَعَالَى: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} (4)
وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَجُلاً أَصَابَهُ جُرْحٌ فِي رَأْسِهِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ أَصَابَهُ احْتِلاَمٌ فَأُمِرَ بِالاِغْتِسَال، فَاغْتَسَل فَكُزَّ فَمَاتَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: قَتَلُوهُ
__________
(1) المستصفى 1 / 287، والموافقات 1 / 346 - 347
(2) الأشباه لابن نجيم ص 30، الأشباه للسيوطي ص 68
(3) سورة النساء / 43
(4) سورة النساء / 29(6/272)
قَتَلَهُمُ اللَّهُ (1) (ر: طَهَارَة - وُضُوء - غُسْل - تَيَمُّم) .
ثَانِيًا: فِي الصَّلاَةِ:
8 - أ - مِنْ شَرَائِطِ الصَّلاَةِ اسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ مَعَ الأَْمْنِ، فَإِذَا لَمْ يَتَحَقَّقِ الأَْمْنُ بِأَنْ خَافَ مِنْ نَحْوِ عَدُوٍّ أَوْ سَبُعٍ سَقَطَ الاِسْتِقْبَال وَصَلَّى عَلَى حَالِهِ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ (2) (ر: اسْتِقْبَال) .
ب - صَلاَةُ الْجُمُعَةِ فَرْضٌ إِلاَّ أَنَّهَا لاَ تَجِبُ عَلَى خَائِفٍ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ إِجْمَاعًا (3) .
ج - صَلاَةُ الْجَمَاعَةِ سُنَّةٌ أَوْ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ عَلَى
__________
(1) البدائع 1 / 47 ط أولى، والحطاب 1 / 333 - 434 ط النجاح، ونهاية المحتاج 1 / 252، 262، المغني 1 / 257 ط الرياض. وحديث: ابن عباس رضي الله عنهما " أن رجلا أصابه جرح في رأسه. . . ". أخرجه أبو داود وابن ماجه واللفظ له، وابن حبان والحاكم من حديث ابن عباس رضي الله عنه. قال محقق جامع الأصول: هو حديث حسن بشواهده. كما أخرجه أبو داود من حديث جابر بن عبد الله بهذا المعنى، و (سنن أبي داود 1 / 293 - 240 ط عزت عبيد دعاس، وسنن ابن ماجه 1 / 189 ط عيسى الحلبي، وموارد الظمآن ص 76 ط دار الكتب العلمية، والمستدرك 1 / 178، وجامع الأصول 7 / 262، 264)
(2) منتهى الإرادات 1 / 159 ط دار الفكر، وجواهر الإكليل 1 / 43 ط دار المعرفة، والمهذب1 / 76 ط دار المعرفة، والهداية 1 / 45 ط المكتبة الإسلامية. وحديث: " إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ". أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا (صحيح مسلم 2 / 975 ط عيسى الحلبي)
(3) المهذب 1 / 116، ومنتهى الإرادات 1 / 269، وجواهر الإكليل 1 / 99، والاختيار 1 / 82 ط دار المعرفة(6/273)
اخْتِلاَفٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، وَلَكِنَّ الْجَمَاعَةَ تَسْقُطُ لِخَوْفٍ عَلَى نَفْسٍ أَوْ مَالٍ أَوْ عِرْضٍ، لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ سَمِعَ الْمُنَادِيَ فَلَمْ يَمْنَعْهُ مِنِ اتِّبَاعِهِ عُذْرٌ - قَالُوا: وَمَا الْعُذْرُ؟ قَال: خَوْفٌ أَوْ مَرَضٌ - لَمْ تُقْبَل مِنْهُ الصَّلاَةُ الَّتِي صَلَّى (1) .
ثَالِثًا: فِي الْحَجِّ:
9 - يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الْحَجِّ أَمْنُ الطَّرِيقِ فِي النَّفْسِ وَالْمَال وَالْعِرْضِ، فَمَنْ خَافَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ عَدُوٍّ أَوْ سَبُعٍ أَوْ لِصٍّ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْهُ الْحَجُّ إِنْ لَمْ يَجِدْ طَرِيقًا آخَرَ آمِنًا. وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْحَجِّ مَثَلاً طَرِيقٌ إِلاَّ بِالْبَحْرِ، وَكَانَ الْغَالِبُ عَدَمَ سَلاَمَةِ الْوُصُول لَمْ يَجِبِ الْحَجُّ (2) . لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} (3) وَقَوْلُهُ: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} (4) (ر حَجّ) .
__________
(1) المهذب 1 / 100، ومنتهى الإرادات 1 / 269، وجواهر الإكليل 1 / 99. وحديث: " من سمع المنادي فلم يمنعه. . . " أخرجه أبو داود واللفظ له والدارقطني والحاكم، وفي إسناده أبو جناب يحيى بن حيه، ضعفوه لكثرة تدليسه، لكن للحديث طريق آخر عند ابن ماجه بلفظ " من سمع النداء فلم يأته فلا صلاة له إلا من عذر " وإسناده صحيح. (سنن أبي داود 1 / 374 ط عزت عبيد دعاس، وسنن الدارقطني 1 / 420، 421 ط شركة الطباعة الفنية المتحدة، والمستدرك 1 / 245، 246، وسنن ابن ماجه 1 / 260 ط عيسى الحلبي، وجامع الأصول 5 / 566)
(2) البدائع 2 / 123، وجواهر الإكليل 1 / 162، والمجموع 7 / 80 ط السلفية، والمغني 3 / 218
(3) سورة آل عمران / 97
(4) سورة البقرة / 286(6/273)
رَابِعًا: فِي الأَْمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ:
10 - الأَْمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاجِبٌ عَلَى سَبِيل الْكِفَايَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (1) وَشَرْطُ وُجُوبِهِ أَنْ يَأْمَنَ الإِْنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ وَإِنْ قَل أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ (2) . لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِْيمَانِ (3)
(ر: أَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ)
اشْتِرَاطُ الأَْمْنِ بِالنِّسْبَةِ لِلاِمْتِنَاعِ عَنِ الْمُحَرَّمَاتِ:
11 - الْحِفَاظُ عَلَى النَّفْسِ وَالْمَال وَالْعِرْضِ مِنْ مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ، وَقَدْ تَبَيَّنَ مِمَّا تَقَدَّمَ، أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي الْقِيَامِ بِعِبَادَةٍ مَا تَلَفٌ لِلإِْنْسَانِ فِي نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ فَإِنَّهُ يُرَخَّصُ وَيُخَفَّفُ عَنْهُ فِيهَا.
وَمِثْل ذَلِكَ يُقَال فِي الْمُحَرَّمَاتِ. فَلَوْ كَانَ فِيمَا حَرَّمَهُ الشَّارِعُ ضَرَرٌ يَلْحَقُ الإِْنْسَانَ فِي نَفْسِهِ لَوِ امْتَنَعَ عَنْهُ امْتِثَالاً لِلنَّهْيِ، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يُبَاحُ لَهُ مَا حَرُمَ فِي الأَْصْل وَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ.
وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ
__________
(1) سورة آل عمران / 104
(2) القرطبي 4 / 48، 165 و6 / 253 ط دار الكتب المصرية، والآداب الشرعية لابن مفلح 1 / 174 ط المنار، وابن عابدين 1 / 234 ط بولاق، والشرح الصغير 4 / 741 ط دار المعارف، ونهاية المحتاج 8 / 45 ط مصطفى الحلبي
(3) حديث: " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان " (سبق تخريجه في الأمر بالمعروف ف / 18(6/274)
بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} (1) وقَوْله تَعَالَى: {إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (2) وَمِنَ الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ فِي ذَلِكَ: الضَّرَرُ يُزَال، وَالضَّرُورَاتُ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ.
وَالأَْمْثِلَةُ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرَةٌ فِي الْفِقْهِ الإِْسْلاَمِيِّ، وَمِنْهَا:
أ - يَجُوزُ بَل يَجِبُ تَنَاوُل الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَالْخِنْزِيرِ عِنْدَ الْمَخْمَصَةِ إِذَا لَمْ يَجِدِ الإِْنْسَانُ غَيْرَهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِل لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} (3) . ب - يُبَاحُ تَنَاوُل الْخَمْرِ لإِِزَالَةِ الْغُصَّةِ.
ج - يَجُوزُ التَّلَفُّظُ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ عِنْدَ الإِْكْرَاهِ الْمُلْجِئِ إِلَى ذَلِكَ
د - يَجُوزُ إِلْقَاءُ الْمَتَاعِ مِنَ السَّفِينَةِ الْمُشْرِفَةِ عَلَى الْغَرَقِ.
هـ - يَجُوزُ دَفْعُ الصَّائِل وَلَوْ أَدَّى إِلَى قَتْلِهِ (4) . وَغَيْرُ ذَلِكَ كَثِيرٌ، وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ وَالْخِلاَفُ فِيهِ فِي بَحْثِ (ضَرُورَة) (وَإِكْرَاه) .
اشْتِرَاطُ الأَْمْنِ فِي سَكَنِ الزَّوْجَةِ:
12 - مِنْ حُقُوقِ الزَّوْجَةِ عَلَى زَوْجِهَا وُجُوبُ تَوْفِيرِ الْمَسْكَنِ الْمُلاَئِمِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي شَأْنِ الْمُعْتَدَّاتِ مِنَ
__________
(1) سورة البقرة / 173
(2) سورة الأنعام / 119
(3) سورة البقرة / 173
(4) الأشباه لابن نجيم ص 34، والأشباه للسيوطي ص 75، 76، والقواعد لابن رجب ص 36، 312، والمغني لابن قدامة 8 / 332(6/274)
الطَّلاَقِ: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} (1) . فَإِنَّهُ يَدُل عَلَى وُجُوبِ إِسْكَانِ الْمُطَلَّقَةِ أَثْنَاءَ الْعِدَّةِ، وَإِذَا كَانَ إِسْكَانُ الْمُطَلَّقَةِ أَثْنَاءَ الْعِدَّةِ وَاجِبًا، كَانَ إِسْكَانُ الزَّوْجَةِ حَال قِيَامِ الزَّوْجِيَّةِ وَاجِبًا بِالطَّرِيقِ الأَْوْلَى.
وَمِنْ شُرُوطِ الْمَسْكَنِ أَنْ تَأْمَنَ فِيهِ الزَّوْجَةُ عَلَى نَفْسِهَا وَمَالِهَا، وَلَوْ أَسْكَنَهَا فِي بَيْتٍ مِنَ الدَّارِ مُفْرَدًا وَلَهُ غَلَقٌ كَفَاهَا، وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تُطَالِبَهُ بِمَسْكَنٍ آخَرَ؛ لأَِنَّ الضَّرَرَ بِالْخَوْفِ عَلَى الْمَتَاعِ وَعَدَمِ التَّمَكُّنِ مِنَ الاِسْتِمْتَاعِ قَدْ زَال. وَإِنْ أَسَاءَ الزَّوْجُ عِشْرَتَهَا وَلَمْ تَسْتَطِعْ إِثْبَاتَ ذَلِكَ أَسْكَنَهَا الْقَاضِي إِلَى جَانِبِ ثِقَةٍ يَمْنَعُهُ مِنَ الإِْضْرَارِ بِهَا وَالتَّعَدِّي عَلَيْهَا (2) . وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ فِي الْجُمْلَةِ.
(ر: سُكْنَى - نَفَقَة - نِكَاح)
اشْتِرَاطُ الأَْمْنِ فِي الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ وَعِنْدَ إِقَامَةِ حَدِّ الْجَلْدِ:
13 - الْقِصَاصُ فِي الْجُرُوحِ وَالأَْطْرَافِ أَمْرٌ مُقَرَّرٌ فِي الشَّرِيعَةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} (3) إِلاَّ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِلْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ إِمْكَانُ اسْتِيفَاءِ الْمِثْل مِنْ غَيْرِ حَيْفٍ وَلاَ زِيَادَةٍ مَعَ الأَْمْنِ مِنَ السِّرَايَةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْل مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} (4) ، وَلأَِنَّ دَمَ الْجَانِي مَعْصُومٌ إِلاَّ فِي
__________
(1) سورة الطلاق / 6
(2) البحر الرائق 4 / 210 ط أولى، والهداية 2 / 43 نشر المكتبة الإسلامية، والدسوقي 2 / 513، ومغني المحتاج 3 / 243 ط مصطفى الحلبي، والمغني 7 / 569 نشر مكتبة الرياض
(3) سورة المائدة / 45
(4) سورة النحل / 126(6/275)
قَدْرِ جِنَايَتِهِ، فَمَا زَادَ عَلَيْهَا يَبْقَى عَلَى الْعِصْمَةِ، فَيَحْرُمُ اسْتِيفَاؤُهُ بَعْدَ الْجِنَايَةِ لِتَحْرِيمِهِ قَبْلَهَا، وَمِنْ ضَرُورَةِ الْمَنْعِ مِنَ الزِّيَادَةِ الْمَنْعُ مِنَ الْقِصَاصِ، لأَِنَّهَا مِنْ لَوَازِمِهِ. وَهَكَذَا كُل مَا كَانَ فِيهِ الْقَوَدُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ مُتْلَفًا، فَلاَ قَوَدَ فِيهِ. كَمَا أَنَّهُ لاَ يُسْتَوْفَى الْقِصَاصُ بِآلَةٍ يُخْشَى مِنْهَا الزِّيَادَةُ، كَأَنْ تَكُونَ سَامَّةً أَوْ كَالَّةً، لِمَا رَوَى شَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإِْحْسَانَ عَلَى كُل شَيْءٍ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ (1) .
وَلِخَوْفِ التَّلَفِ يُؤَخَّرُ الْقِصَاصُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ لِلْحَرِّ الْمُفْرِطِ وَالْبَرْدِ الْمُفْرِطِ، وَمَرَضِ الْجَانِي، وَحَتَّى تَضَعَ الْحَامِل (2) .
وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ فِي الْجُمْلَةِ، وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (قِصَاص) .
وَكَذَلِكَ الأَْمْرُ بِالنِّسْبَةِ لإِِقَامَةِ حَدِّ الْجَلْدِ، إِذْ يُشْتَرَطُ أَلاَّ يَكُونَ فِي إِقَامَةِ حَدِّ الْجَلْدِ خَوْفُ الْهَلاَكِ؛ لأَِنَّ هَذَا الْحَدَّ شُرِعَ زَاجِرًا لاَ مُهْلِكًا، وَعَلَى ذَلِكَ فَلاَ يُقَامُ حَدُّ الْجَلْدِ فِي الْحَرِّ الشَّدِيدِ وَالْبَرْدِ الشَّدِيدِ، وَلاَ عَلَى مَرِيضٍ حَتَّى يَبْرَأَ، وَلاَ عَلَى حَامِلٍ حَتَّى تَضَعَ (3) .
(ر: حَدّ وَجَلْد)
__________
(1) حديث: " إن الله كتب الإحسان على كل شيء. . . . " أخرجه مسلم من حديث شداد بن أوس مرفوعا. (صحيح مسلم 3 / 1548 ط عيسى الحلبي)
(2) المغني 7 / 690، 703، 727، والبدائع 7 / 297، والدسوقي 4 / 250 وما بعدها، والمواق بهامش الحطاب 6 / 253 نشر النجاح، والمهذب 2 / 179، 185
(3) البدائع 7 / 59، والمواق بهامش الحطاب 6 / 253، والمهذب 2 / 271، والمغني 8 / 171، 173(6/275)
اشْتِرَاطُ الأَْمْنِ لِمَرِيدِ السَّفَرِ بِمَال الشَّرِكَةِ أَوِ الْمُضَارَبَةِ أَوِ الْوَدِيعَةِ:
أ - فِي الشَّرِكَةِ وَالْمُضَارَبَةِ:
14 - لاَ يَجُوزُ لأَِيٍّ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ أَنْ يُسَافِرَ بِمَال الشَّرِكَةِ، إِذَا كَانَ الطَّرِيقُ مَخُوفًا إِلاَّ بِإِذْنِ شَرِيكِهِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ؛ لأَِنَّ السَّفَرَ بِمَال الشَّرِكَةِ فِي الطَّرِيقِ الْمَخُوفِ يُؤَدِّي إِلَى تَعْرِيضِهِ لِلأَْخْطَارِ، وَتَعْرِيضُ مَال الْغَيْرِ لِلْخَطَرِ لاَ يَجُوزُ دُونَ إِذْنِ صَاحِبِهِ.
وَمِثْل ذَلِكَ مَال الْمُضَارَبَةِ، فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِعَامِل الْمُضَارَبَةِ السَّفَرُ بِمَال الْمُضَارَبَةِ إِلاَّ عِنْدَ أَمْنِ الطَّرِيقِ (1) .
ب - فِي الْوَدِيعَةِ:
15 - عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: يَجُوزُ السَّفَرُ بِمَال الْوَدِيعَةِ إِنْ كَانَ الطَّرِيقُ آمِنًا وَلَمْ يَخَفْ عَلَيْهَا، فَإِنْ كَانَ الطَّرِيقُ مَخُوفًا فَلاَ يَجُوزُ لَهُ السَّفَرُ بِهَا، وَإِلاَّ ضَمِنَ (2) .
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ وَدِيعَةٌ، وَأَرَادَ السَّفَرَ، وَجَبَ عَلَيْهِ تَسْلِيمُهَا لِصَاحِبِهَا أَوْ وَكِيلِهِ أَوْ أَمِينٍ، فَإِنْ سَافَرَ بِهَا مَعَ وُجُودِ أَحَدٍ مِنْ هَؤُلاَءِ ضَمِنَ؛ لأَِنَّ الإِْيدَاعَ يَقْتَضِي الْحِفْظَ فِي الْحِرْزِ، وَلَيْسَ السَّفَرُ مِنْ مَوَاضِعِ الْحِفْظِ، لأَِنَّهُ إِمَّا أَنْ
__________
(1) البدائع 6 / 71، 88، وابن عابدين 3 / 355، 4 / 512، وتكملة فتح القدير 7 / 22، ومغني المحتاج 2 / 215، 317، والخرشي 4 / 226، 258، والفواكه الدواني 2 / 174، ومنتهى الإرادات 2 / 323، ومطالب أولي النهى 3 / 504، 518
(2) البدائع 6 / 71، والدسوقي 3 / 421، والمهذب 1 / 367، وشرح منتهى الإرادات 2 / 453(6/276)
يَكُونَ مَخُوفًا أَوْ آمِنًا لاَ يُوثَقُ بِأَمْنِهِ، وَلِذَلِكَ لاَ يَجُوزُ السَّفَرُ بِالْوَدِيعَةِ مَعَ عَدَمِ الضَّرُورَةِ. (ر: وَدِيعَة) .
اسْتِفَادَةُ أَمْنِ الطَّرِيقِ فِي الْقَرْضِ:
16 - الأَْصْل أَنَّ كُل قَرْضٍ جَرَّ مَنْفَعَةً فَهُوَ مَمْنُوعٌ، " لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ قَرْضٍ جَرَّ مَنْفَعَةً (1)
وَعَلَى هَذَا تُخَرَّجُ مَسْأَلَةُ السَّفَاتِجِ (2) . وَهِيَ: اشْتِرَاطُ الْقَضَاءِ بِبَلَدٍ آخَرَ، لاِنْتِفَاعِ الْمُقْرِضِ بِدَفْعِ خَطَرِ الطَّرِيقِ.
وَالْقَرْضُ بِهَذَا الشَّرْطِ مَمْنُوعٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ - لأَِنَّ الْقَرْضَ عَقْدُ إِرْفَاقٍ وَقُرْبَةٍ، فَإِذَا شُرِطَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ خَرَجَ عَنْ مَوْضُوعِهِ، إِلاَّ إِذَا عَمَّ الْخَوْفُ بَرًّا وَبَحْرًا فَإِنَّ الْمَالِكِيَّةَ يُجِيزُونَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لِلضَّرُورَةِ صِيَانَةً لِلأَْمْوَال.
__________
(1) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قرض جر منفعة. . . ". أخرجه البيهقي بهذا المعنى عن فضالة بن عبيد وابن مسعود وأبي بن كعب وعبد الله بن سلام وابن عباس موقوفا عليهم، وأخرجه الحارث بن أسامة في مسنده من حديث علي رضي الله عنه مرفوعا بلفظ " كل قرض جر منف (السنن الكبرى للبيهقي 5 / 350، 351 ط دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد، والمطالب العالية 1 / 411 نشر وزارة الأوقات والشئون الإسلامية بدولة الكويت، وكشف الخفاء 2 / 125 نشر مكتبة القدسي، والتلخيص الحبير 3 / 34 ط شركة الطباعة الفنية المتحدة.
(2) السفاتج جمع مفرده: سفتجة - بضم السين أو فتحها وفتح التاء - وهي ورقة يكتبها المقترض ببلد لوكيله ببلد آخر ليقضي عنه بها ما اقترضه (منح الجليل 3 / 50، والجواهر 2 / 76)(6/276)
وَإِنْ كَانَ بِدُونِ شَرْطٍ فَهُوَ جَائِزٌ بِاتِّفَاقٍ، لأَِنَّهُ مِنْ حُسْنِ الْقَضَاءِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَلَفَ مِنْ رَجُلٍ بَكْرًا، فَقَدِمَتْ عَلَيْهِ إِبِلٌ مِنْ إِبِل الصَّدَقَةِ، فَأَمَرَ أَبَا رَافِعٍ أَنْ يَقْضِيَ الرَّجُل بَكْرَهُ، فَرَجَعَ إِلَيْهِ أَبُو رَافِعٍ، فَقَال: لَمْ أَجِدْ فِيهَا إِلاَّ خِيَارًا رُبَاعِيًّا فَقَال: أَعْطِهِ إِيَّاهُ، إِنَّ خِيَارَ النَّاسِ أَحْسَنُهُمْ قَضَاءً (1) وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ " كَانَ يَسْتَقْرِضُ بِالْمَدِينَةِ وَيَرُدُّ بِالْكُوفَةِ " وَذَلِكَ بِدُونِ شَرْطٍ (2) .
وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ جَائِزٌ وَلَوْ بِشَرْطٍ، لأَِنَّهُ مَصْلَحَةٌ لِلْمُقْرِضِ وَالْمُقْتَرِضِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ بِوَاحِدٍ مِنْهَا، وَالشَّرْعُ لاَ يَرِدُ بِتَحْرِيمِ الْمَصَالِحِ الَّتِي لاَ مَضَرَّةَ فِيهَا بَل بِمَشْرُوعِيَّتِهَا، وَلأَِنَّ هَذَا لَيْسَ بِمَنْصُوصٍ عَلَى تَحْرِيمِهِ، وَلاَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ، فَوَجَبَ بَقَاؤُهُ عَلَى الإِْبَاحَةِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي: أَنَّ لِلْوَصِيِّ قَرْضَ مَال الْيَتِيمِ فِي بَلَدٍ أُخْرَى لِيَرْبَحَ خَطَرَ الطَّرِيقِ. وَقَال عَطَاءٌ: كَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَأْخُذُ مِنْ قَوْمٍ بِمَكَّةَ دَرَاهِمَ، ثُمَّ يَكْتُبُ لَهُمْ بِهَا إِلَى أَخِيهِ مُصْعَبٍ بِالْعِرَاقِ، فَيَأْخُذُونَهَا مِنْهُ، فَسُئِل عَنْ ذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَلَمْ يَرَ بِهِ
__________
(1) حديث: " إن خيار الناس أحسنهم قضاء ". أخرجه مسلم (3 / 1224 ط عيسى الحلبي) .
(2) الأثر عن ابن عباس رضي الله عنهما يدل عليه ما أخرجه ابن أبي شيبة وعبد الرزاق والبيهقي من أن ابن عباس وابن الزبير رضي الله عنهما كانا لا يريان بأسا أن يؤخذ المال بأرض الحجاز ويعطى بأرض العراق، أو يؤخذ بأرض العراق ويعطى بأرض الحجاز. (مصنف ابن أبي شيبة 6 / ومصنف عبد الرزاق 8 / 40 نشر المجلس العلمي، والسنن الكبرى للبيهقي 5 / 352 ط دائرة المعارف العثمانية)(6/277)
بَأْسًا، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سُئِل عَنْ مِثْل هَذَا فَلَمْ يَرَ بِهِ بَأْسًا (1) .
تَحَقُّقُ الأَْمْنِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُحْرِمِ
17 - كَانَ الْحَرَمُ مَوْضِعَ أَمْنٍ لأَِهْلِهِ وَمَنْ لَجَأَ إِلَيْهِ، وَكَانَ هَذَا مَعْرُوفًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَاسْتَمَرَّ فِي الإِْسْلاَمِ. قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذْ قَال إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَل هَذَا بَلَدًا آمِنًا} (2) ، وَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: {
إِنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَْرْضَ، فَهُوَ حَرَامٌ يُحَرِّمُهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّهُ لَمْ يَحِل الْقِتَال فِيهِ لأَِحَدٍ قَبْلِي، وَلَمْ يَحِل لِي إِلاَّ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ يُعْضَدُ شَوْكُهُ، وَلاَ يُنَفَّرُ صَيْدُهُ، وَلاَ يُلْتَقَطُ لُقَطَتُهُ إِلاَّ مَنْ عَرَّفَهَا، وَلاَ يُخْتَلَى خَلاَهُ، فَقَال الْعَبَّاسُ: يَا رَسُول اللَّهِ إِلاَّ الإِْذْخِرَ فَإِنَّهُ لِقِينِهِمْ وَبُيُوتِهِمْ، فَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِلاَّ الإِْذْخِرَ (3)
وَلاِسْتِيفَاءِ بَاقِي أَحْكَامِ الْحَرَمِ، وَتَفَاصِيلِهِ (ر: حَرَم) .
تَحَقُّقُ الأَْمْنِ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ:
18 - مِنَ الْمُقَرَّرِ أَنَّ حُكْمَ الإِْسْلاَمِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُسْلِمِينَ فِي الدُّنْيَا هُوَ عِصْمَةُ النَّفْسِ وَالْمَال، لِقَوْل
__________
(1) البدائع 7 / 395، ومنح الجليل 3 / 50، والمهذب 1 / 311، والمغني 4 / 354، 356
(2) سورة البقرة / 35
(3) حديث: " إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض، فهو حرام. . . " أخرجه البخاري ومسلم (فتح الباري 6 / 283 ط السلفية، وصحيح مسلم 2 / 986 - 987 ط عيسى الحلبي)(6/277)
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِل النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ فَإِذَا قَالُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ (1)
وَبِهَذَا يَتَقَرَّرُ الأَْمْنُ لِلْمُسْلِمِ فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ.
أَمَّا غَيْرُ الْمُسْلِمِ فَإِنَّهُ يَتَحَقَّقُ لَهُ الأَْمْنُ بِتَأْمِينِ الْمُسْلِمِينَ لَهُ وَإِعْطَائِهِ الأَْمَانَ؛ لأَِنَّ حُكْمَ الأَْمَانِ هُوَ ثُبُوتُ الأَْمْنِ لِلْكَفَرَةِ عَنِ الْقَتْل وَالسَّبْيِ وَالاِسْتِغْنَامِ، فَيَحْرُمُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ قَتْل رِجَالِهِمْ وَسَبْيُ نِسَائِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ وَاسْتِغْنَامُ أَمْوَالِهِمْ. وَالأَْصْل فِي إِعْطَاءِ الأَْمَانِ لِلْكُفَّارِ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} (2) .
19 - وَالأَْمَانُ قِسْمَانِ الأَْوَّل: أَمَانٌ يَعْقِدُهُ الإِْمَامُ أَوْ نَائِبُهُ، وَهُوَ نَوْعَانِ: مُؤَقَّتٌ، وَهُوَ مَا يُسَمَّى بِالْهُدْنَةِ وَبِالْمُعَاهَدَةِ وَبِالْمُوَادَعَةِ - وَهُوَ عَقْدُ الإِْمَامِ أَوْ نَائِبِهِ عَلَى تَرْكِ الْقِتَال مُدَّةً مَعْلُومَةً - مَعَ اخْتِلاَفِ الْفُقَهَاءِ فِي مِقْدَارِ مُدَّةِ الْمُوَادَعَةِ.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَادَعَ أَهْل مَكَّةَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى أَنْ تُوضَعَ الْحَرْبُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ عَشْرَ سِنِينَ.
وَالنَّوْعُ الثَّانِي: الأَْمَانُ الْمُؤَبَّدُ، وَهُوَ مَا يُسَمَّى عَقْدَ الذِّمَّةِ، وَهُوَ إِقْرَارُ بَعْضِ الْكُفَّارِ عَلَى كُفْرِهِمْ بِشَرْطِ بَذْل الْجِزْيَةِ وَالْتِزَامِ أَحْكَامِ الإِْسْلاَمِ
__________
(1) حديث: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله. . . . " أخرجه مسلم من حديث جابر رضي الله عنه مرفوعا (صحيح مسلم 1 / 53 ط عيسى الحلبي)
(2) سورة التوبة / 6(6/278)
وَالأَْصْل فِيهِ قَوْله تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآْخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (1) .
هَذَا مَعَ اخْتِلاَفِ الْفُقَهَاءِ فِي غَيْرِ أَهْل الْكِتَابِ، هَل تُقْبَل مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ وَيُقَرُّونَ عَلَى حَالِهِمْ أَمْ لاَ يُقْبَل مِنْهُمْ إِلاَّ الإِْسْلاَمُ، فَإِنْ لَمْ يُسْلِمُوا قُتِلُوا.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي مِنَ الأَْمَانِ:
هُوَ الأَْمَانُ الَّذِي يُصْدَرُ مِنْ أَحَدِ الْمُسْلِمِينَ لِعَدَدٍ مَحْصُورٍ مِنَ الْكُفَّارِ، وَيَدُل عَلَيْهِ حَدِيثُ: الْمُؤْمِنُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ، وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ. (2) وَأَخْبَارٌ أُخْرَى، وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (أَمَان، وَذِمَّة، وَمُعَاهَدَة) .
أَمَةٌ
انْظُرْ: رِقّ.
__________
(1) سورة التوبة / 29، وانظر: بدائع الصنائع 7 / 105، 107، 109 - 111، ومنح الجليل 1 / 756، 765، 766، والمهذب 2 / 254، 260، 262، ونهاية المحتاج 8 / 100، 102، والمغني 8 / 459، 463، 535، وشرح منتهى الإرادات 2 / 122 - 130
(2) حديث " المؤمنون تتكافأ دماؤهم. . . " أخرجه أبو داود، وحسنه الحافظ ابن حجر في الفتح (عون المعبود 4 / 303، 304 ط الهند، وفتح الباري 12 / 261 ط السلفية، وشرح للبغوي 10 / 172)(6/278)
إِمْهَالٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْمْهَال لُغَةً: الإِْنْظَارُ وَتَأْخِيرُ الطَّلَبِ (1) ، وَعِنْدَ الْفُقَهَاءِ يُسْتَعْمَل كَذَلِكَ بِمَعْنَى: الإِْنْظَارِ وَالتَّأْجِيل (2) .
وَالإِْمْهَال يُنَافِي التَّعْجِيل (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
2 - أ - الإِْعْذَارُ: وَهُوَ سُؤَال الْحَاكِمِ مَنْ تَوَجَّهَ عَلَيْهِ مُوجِبُ الْحُكْمِ: هَل لَهُ مَا يُسْقِطُهُ (4) ؟ وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (إِعْذَار)
ب - التَّنْجِيمُ: هُوَ تَأْجِيل الْعِوَضِ بِأَجَلَيْنِ فَصَاعِدًا (5) .
ج - التَّلَوُّمُ: وَهُوَ التَّمَكُّثُ وَالتَّمَهُّل وَالتَّصَبُّرُ، وَمِنْهُ أَنْ يَتَصَبَّرَ الْحَاكِمُ مَثَلاً لِلزَّوْجِ مُدَّةً قَبْل التَّطْلِيقِ عَلَيْهِ لِلإِْعْسَارِ (6)
__________
(1) المصباح المنير (مهل)
(2) طلبة الطلبة ص 50 نشر مكتبة المثنى ببغداد، ومغني المحتاج 3 / 248 ط مصطفى الحلبي
(3) الفروق لأبي هلال العسكرى ص 194
(4) الفروق لأبي هلال العسكري ص 196، وجواهر الإكليل 2 / 227
(5) كشاف القناع 4 / 539 نشر مكتبة النصر الحديثة
(6) البهجة شرح التحفة 1 / 59 ط مصطفى الحلبي، والدسوقي 2 / 519(6/279)
د - التَّرَبُّصُ: وَهُوَ بِمَعْنَى الاِنْتِظَارِ (1) .
وَمُدَّةُ الإِْمْهَال تَارَةً تَكُونُ مُقَدَّرَةً كَإِمْهَال الْمَوْلَى، وَتَارَةً تَكُونُ غَيْرَ مُقَدَّرَةٍ، وَقَدْ يَخْتَلِفُ ذَلِكَ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ عَنِ الْبَعْضِ الآْخَرِ (2)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
3 - يَجِبُ إِنْظَارُ مَنْ ثَبَتَ إِعْسَارُهُ عِنْدَ الأَْئِمَّةِ الأَْرْبَعَةِ إِلَى وَقْتِ الْيَسَارِ، وَلاَ يُحْبَسُ (3) ، لِقَوْل اللَّهِ سُبْحَانَهُ {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} (4)
وَالْعِنِّينُ يَضْرِبُ لَهُ الْقَاضِي سَنَةً عِنْدَ الْجُمْهُورِ، " كَمَا فَعَل عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ، فَقَدْ يَكُونُ تَعَذُّرُ الْجِمَاعِ لِعَارِضِ حَرَارَةٍ فَيَزُول فِي الشِّتَاءِ، أَوْ بُرُودَةٍ فَيَزُول فِي الصَّيْفِ، أَوْ يُبُوسَةٍ فَتَزُول فِي الرَّبِيعِ، أَوْ رُطُوبَةٍ فَتَزُول فِي الْخَرِيفِ، فَإِذَا مَضَتِ السَّنَةُ وَلَمْ يَطَأْ، عَلِمْنَا أَنَّهُ عَجْزٌ خِلْقِيٌّ (5) . (ر: عِنِّين) .
4 - وَأَجَل الْمُولِي أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ (6) ، لِقَوْل اللَّهِ سُبْحَانَهُ {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (7) (ر: إِيلاَء) .
__________
(1) المصباح المنير مادة (ربص)
(2) المحلى على المنهاج 3 / 278
(3) الفتاوى الهندية 5 / 63 ط بولاق، والفواكه الدواني 2 / 322، والفروق للقرافي 2 / 10، ونهاية المحتاج 4 / 323 ط مصطفى الحلبي، والمغني 4 / 497 ط الرياض
(4) سورة البقرة / 180
(5) فتح القدير 4 / 128، ومغني المحتاج 3 / 205، والروض المربع 2 / 276 ط السلفية، والخرشي 4 / 238 نشر دار صادر
(6) الخرشي 4 / 90، 91، ومغني المحتاج 3 / 348، والروض المربع ص 309، والكافي 2 / 565 نشر الرياض
(7) سورة البقرة / 226(6/279)
5 - وَفِي الْقَضَاءِ لَوِ اسْتُمْهِل الْمُدَّعِي لإِِحْضَارِ بَيِّنَتِهِ، فَإِنَّ أَغْلَبَ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ يُمْهَل، وَهَل هَذَا الإِْمْهَال وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ، خِلاَفٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ
وَقَدَّرَ بَعْضُهُمْ مُدَّةَ الإِْمْهَال ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ، وَبَعْضُهُمْ جَعَلَهَا إِلَى اجْتِهَادِ الْقَاضِي (1) . وَانْظُرْ لِلتَّفْصِيل مُصْطَلَحَ (قَضَاء) .
وَفِي الإِْمْهَال لِعُذْرٍ، وَفِي مَنْعِهِ عِنْدَ طَلَبِ الْخَصْمِ (2) ، يُرَاجَعُ (قَضَاء، وَدَعْوَى) .
وَالإِْمْهَال يَمْتَنِعُ فِيمَا تُشْتَرَطُ فِيهِ الْفَوْرِيَّةُ، كَاسْتِمْهَال مَنْ طَلَّقَ إِحْدَى زَوْجَتَيْهِ: لِتَعْيِينِ الْمُطَلَّقَةِ مِنْهُمَا (3) ، وَاسْتِمْهَال الْمُشْتَرِي رَدَّ الْمَبِيعِ بِالْعَيْبِ، وَالشَّفِيعِ فِي طَلَبِ الشُّفْعَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأُْمُورِ الَّتِي تُشْتَرَطُ فِيهَا الْفَوْرِيَّةُ.
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
6 - مِنَ الْمَوَاطِنِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا الإِْمْهَال: مَبَاحِثُ الْكَفَالَةِ، فَيُمْهَل الْكَفِيل لإِِحْضَارِ الْمَكْفُول عَنْهُ مِنْ مَسَافَةِ الْقَصْرِ فَمَا دُونَهَا (4) . وَمِنْهَا: النَّفَقَةُ، فَيُمْهَل الزَّوْجُ لإِِحْضَارِ مَالِهِ الَّذِي فِي مَسَافَةِ الْقَصْرِ (5) .
وَفِي الصَّدَاقِ تُمْهَل الزَّوْجَةُ لِلدُّخُول، وَكَذَا يُمْهَل الزَّوْجُ لِوُجُودِ بَعْضِ الأَْعْذَارِ كَالتَّنْظِيفِ وَنَحْوِهِ (6) .
__________
(1) تكملة فتح القدير 7 / 180، 181 نشر دار المعرفة، وتبصرة الحكام 1 / 151 ط التجارية، ومغني المحتاج 4 / 467، والبجيرمي على الخطيب 4 / 347 ط مصطفى الحلبي، والمغني 12 / 123، 124 ط المنار الأولى
(2) البجيرمي على الخطيب 4 / 347
(3) حاشية عميرة على شرح المحلي 3 / 345
(4) نهاية المحتاج 4 / 436، والقليوبي 2 / 328، 329
(5) القليوبي 4 / 82
(6) القليوبي 3 / 278(6/280)
أَمْوَالٌ
انْظُرْ: مَال
أَمْوَال الْحَرْبِيِّينَ
انْظُرْ: أَنْفَال
أَمِيرٌ
انْظُرْ: إِمَارَة
أَمِينٌ
انْظُرْ: أَمَانَة
إِنَاءٌ
انْظُرْ: آنِيَة(6/280)
إِنَابَةٌ
انْظُرْ: نِيَابَة - تَوْبَة
إِنْبَاتٌ
انْظُرْ: بُلُوغ
أَنْبِيَاءُ
انْظُرْ: نَبِيّ
انْتِبَاذٌ
انْظُرْ: أَشْرِبَة
انْتِحَارٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِنْتِحَارُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ انْتَحَرَ الرَّجُل،(6/281)
بِمَعْنَى نَحَرَ نَفْسَهُ، أَيْ قَتَلَهَا. وَلَمْ يَسْتَعْمِلْهُ الْفُقَهَاءُ بِهَذَا الْمَعْنَى. لَكِنَّهُمْ عَبَّرُوا عَنْهُ بِقَتْل الإِْنْسَانِ نَفْسَهُ (1)
وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَجُلاً قَاتَل فِي سَبِيل اللَّهِ أَشَدَّ الْقِتَال، فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّهُ مِنْ أَهْل النَّارِ، فَبَيْنَمَا هُوَ عَلَى ذَلِكَ إِذْ وَجَدَ الرَّجُل أَلَمَ الْجُرْحِ، فَأَهْوَى بِيَدِهِ إِلَى كِنَانَتِهِ، فَانْتَزَعَ مِنْهَا سَهْمًا فَانْتَحَرَ بِهَا.
وَفِي الْحَدِيثِ نَفْسِهِ: انْتَحَرَ فُلاَنٌ فَقَتَل نَفْسَهُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ (2)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - النَّحْرُ وَالذَّبْحُ:
2 - النَّحْرُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ هُوَ: فَرْيُ الأَْوْدَاجِ وَقَطْعُ كُل الْحُلْقُومِ، وَمَحَلُّهُ مِنْ أَسْفَل الْحُلْقُومِ. وَيُطْلَقُ الاِنْتِحَارُ عَلَى قَتْل الإِْنْسَانِ نَفْسَهُ بِأَيِّ وَسِيلَةٍ كَانَتْ. وَلِهَذَا ذَكَرُوا أَحْكَامَهُ بِاسْمِ (قَتْل الشَّخْصِ نَفْسَهُ) (3)
بِمَ يَتَحَقَّقُ الاِنْتِحَارُ:
3 - الاِنْتِحَارُ نَوْعٌ مِنَ الْقَتْل فَيَتَحَقَّقُ بِوَسَائِل مُخْتَلِفَةٍ. وَيَتَنَوَّعُ بِأَنْوَاعٍ مُتَعَدِّدَةٍ كَالْقَتْل.
فَإِذَا كَانَ إِزْهَاقُ الشَّخْصِ نَفْسَهُ بِإِتْيَانِ فِعْلٍ مَنْهِيٍّ عَنْهُ، كَاسْتِعْمَال السَّيْفِ أَوِ الرُّمْحِ أَوِ الْبُنْدُقِيَّةِ أَوْ
__________
(1) لسان العرب وتاج العروس مادة: (نحر)
(2) حديث أبي هريرة: " أن رجلا قاتل في سبيل الله. . . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 11 / 498 ط السلفية)
(3) البدائع 5 / 41، والمغني 11 / 42، والشرح الصغير 2 / 154، ونهاية المحتاج 8 / 105، 111(6/281)
أَكْل السُّمِّ أَوْ إِلْقَاءِ نَفْسِهِ مِنْ شَاهِقٍ أَوْ فِي النَّارِ " لِيَحْتَرِقَ أَوْ فِي الْمَاءِ لِيَغْرَقَ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْوَسَائِل، فَهُوَ انْتِحَارٌ بِطَرِيقِ الإِْيجَابِ.
وَإِذَا كَانَ الإِْزْهَاقُ بِالاِمْتِنَاعِ عَنِ الْوَاجِبِ، كَالاِمْتِنَاعِ مِنَ الأَْكْل وَالشُّرْبِ وَتَرْكِ عِلاَجِ الْجُرْحِ الْمَوْثُوقِ بِبُرْئِهِ بِمَا فِيهِ مِنْ خِلاَفٍ سَيَأْتِي، أَوْ عَدَمِ الْحَرَكَةِ فِي الْمَاءِ أَوْ فِي النَّارِ أَوْ عَدَمِ التَّخَلُّصِ مِنَ السَّبُعِ الَّذِي يُمْكِنُ النَّجَاةُ مِنْهُ، فَهُوَ انْتِحَارٌ بِطَرِيقِ السَّلْبِ (1)
4 - وَيُقَسَّمُ الاِنْتِحَارُ بِحَسَبِ إِرَادَةِ الْمُنْتَحِرِ إِلَى نَوْعَيْنِ: الاِنْتِحَارِ عَمْدًا وَالاِنْتِحَارِ خَطَأً.
فَإِذَا ارْتَكَبَ الشَّخْصُ عَمَلاً حَصَل مِنْهُ قَتْل نَفْسِهِ، وَأَرَادَ النَّتِيجَةَ الْحَاصِلَةَ مِنَ الْعَمَل، يُعْتَبَرُ الْقَتْل انْتِحَارًا عَمْدًا. كَرَمْيِ نَفْسِهِ بِقَصْدِ الْقَتْل مَثَلاً.
وَإِذَا أَرَادَ صَيْدًا أَوْ قَتْل الْعَدُوِّ فَأَصَابَ نَفْسَهُ، وَمَاتَ، يُعْتَبَرُ انْتِحَارًا خَطَأً. وَسَتَأْتِي أَحْكَامُهُمَا قَرِيبًا.
وَيُمْكِنُ أَنْ يَحْصُل الاِنْتِحَارُ بِطَرِيقٍ يُعْتَبَرُ شَبَهَ الْعَمْدِ عِنْدَ غَيْرِ الْمَالِكِيَّةِ، كَقَتْل الإِْنْسَانِ نَفْسَهُ بِمَا لاَ يَقْتُل غَالِبًا، كَالسَّوْطِ وَالْعَصَا. ر: (قَتْل) .
أَمْثِلَةٌ مِنَ الاِنْتِحَارِ بِطَرِيقِ السَّلْبِ:
أَوَّلاً: الاِمْتِنَاعُ مِنَ الْمُبَاحِ:
5 - مَنِ امْتَنَعَ مِنَ الْمُبَاحِ حَتَّى مَاتَ كَانَ قَاتِلاً نَفْسَهُ،
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص 1 / 149، ونهاية المحتاج 7 / 243، ومواهب الجليل 3 / 233، والمغني 9 / 326(6/282)
مُتْلِفًا لَهَا عِنْدَ جَمِيعِ أَهْل الْعِلْمِ (1) . لأَِنَّ الأَْكْل لِلْغِذَاءِ وَالشُّرْبَ لِدَفْعِ الْعَطَشِ فَرْضٌ بِمِقْدَارِ مَا يَدْفَعُ الْهَلاَكَ، فَإِنْ تَرَكَ الأَْكْل وَالشُّرْبَ حَتَّى هَلَكَ فَقَدِ انْتَحَرَ؛ لأَِنَّ فِيهِ إِلْقَاءَ النَّفْسِ إِلَى التَّهْلُكَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيل (2) .
وَإِذَا اضْطُرَّ الإِْنْسَانُ لِلأَْكْل أَوِ الشُّرْبِ مِنَ الْمُحَرَّمِ كَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْخَمْرِ حَتَّى ظَنَّ الْهَلاَكَ جُوعًا لَزِمَهُ الأَْكْل وَالشُّرْبُ، فَإِذَا امْتَنَعَ حَتَّى مَاتَ صَارَ قَاتِلاً نَفْسَهُ، بِمَنْزِلَةِ مَنْ تَرَكَ أَكْل الْخُبْزِ وَشُرْبَ الْمَاءِ فِي حَال الإِْمْكَانِ؛ لأَِنَّ تَارِكَهُ سَاعٍ فِي إِهْلاَكِ نَفْسِهِ، وَقَدْ قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} (3) . وَكَذَلِكَ حُكْمُ الإِْكْرَاهِ عَلَى أَكْل الْمُحَرَّمِ، فَلاَ يُبَاحُ لِلْمُكْرَهِ الاِمْتِنَاعُ مِنْ أَكْل الْمَيْتَةِ أَوِ الدَّمِ أَوْ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ فِي حَالَةِ الإِْكْرَاهِ؛ لأَِنَّ هَذِهِ الأَْشْيَاءَ مِمَّا يُبَاحُ عِنْدَ الاِضْطِرَارِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (4) وَالاِسْتِثْنَاءُ مِنَ التَّحْرِيمِ إِبَاحَةٌ، وَقَدْ تَحَقَّقَ الاِضْطِرَارُ بِالإِْكْرَاهِ، وَلَوِ امْتَنَعَ عَنْهُ حَتَّى قُتِل يُؤَاخَذُ بِهِ وَيُعَدُّ مُنْتَحِرًا، لأَِنَّهُ بِالاِمْتِنَاعِ عَنْهُ صَارَ مُلْقِيًا نَفْسَهُ إِلَى التَّهْلُكَةِ (5) .
ثَانِيًا: تَرْكُ الْحَرَكَةِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ:
6 - مَنْ أُلْقِيَ فِي مَاءٍ جَارٍ أَوْ رَاكِدٍ لاَ يُعَدُّ مُغْرَقًا، كَمُنْبَسِطٍ يُمْكِنُهُ الْخَلاَصُ مِنْهُ عَادَةً، فَمَكَثَ فِيهِ
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص 1 / 148
(2) ابن عابدين 5 / 215
(3) سورة النساء / 29
(4) سورة الأنعام / 119
(5) البدائع 7 / 176، وأحكام القرآن للجصاص 1 / 149، ومواهب الجليل 3 / 233، وأسنى المطالب 1 / 570، والمغني 11 / 74(6/282)
مُضْطَجِعًا مَثَلاً مُخْتَارًا لِذَلِكَ حَتَّى هَلَكَ، يُعْتَبَرُ مُنْتَحِرًا وَقَاتِلاً نَفْسَهُ، وَلِذَلِكَ لاَ قَوَدَ وَلاَ دِيَةَ عَلَى الَّذِي أَلْقَاهُ فِي الْمَاءِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ؛ لأَِنَّ هَذَا الْفِعْل لَمْ يَقْتُلْهُ، وَإِنَّمَا حَصَل الْمَوْتُ بِلُبْثِهِ فِيهِ، وَهُوَ فِعْل نَفْسِهِ، فَلَمْ يَضْمَنْهُ غَيْرُهُ. كَذَلِكَ إِنْ تَرَكَهُ فِي نَارٍ يُمْكِنُهُ الْخَلاَصُ مِنْهَا لِقِلَّتِهَا، أَوْ لِكَوْنِهِ فِي طَرَفٍ مِنْهَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ بِأَدْنَى حَرَكَةٍ، فَلَمْ يَخْرُجْ حَتَّى مَاتَ.
وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: لَوْ تَرَكَهُ فِي نَارٍ يُمْكِنُهُ التَّخَلُّصُ مِنْهَا فَلَمْ يَخْرُجْ يَضْمَنُ، لأَِنَّهُ جَانٍ بِالإِْلْقَاءِ الْمُفْضِي إِلَى الْمَوْتِ. وَفَارَقَ الْمَاءَ، لأَِنَّهُ غَيْرُ مُهْلِكٍ بِنَفْسِهِ، وَلِهَذَا يَدْخُلُهُ النَّاسُ لِلسِّبَاحَةِ، أَمَّا النَّارُ فَيَسِيرُهَا يُهْلِكُ، وَلأَِنَّ النَّارَ لَهَا حَرَارَةٌ شَدِيدَةٌ، فَرُبَّمَا أَزْعَجَتْهُ حَرَارَتُهَا عَنْ مَعْرِفَةِ مَا يَتَخَلَّصُ بِهِ، أَوْ أَذْهَبَتْ عَقْلَهُ بِأَلَمِهَا وَرَوْعَتِهَا (1) .
ثَالِثًا: تَرْكُ الْعِلاَجِ وَالتَّدَاوِي:
7 - الاِمْتِنَاعُ مِنَ التَّدَاوِي فِي حَالَةِ الْمَرَضِ لاَ يُعْتَبَرُ انْتِحَارًا عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ، فَمَنْ كَانَ مَرِيضًا وَامْتَنَعَ مِنَ الْعِلاَجِ حَتَّى مَاتَ، لاَ يُعْتَبَرُ عَاصِيًا، إِذْ لاَ يَتَحَقَّقُ بِأَنَّهُ يَشْفِيهِ.
كَذَلِكَ لَوْ تَرَكَ الْمَجْرُوحُ عِلاَجَ جُرْحٍ مُهْلِكٍ فَمَاتَ لاَ يُعْتَبَرُ مُنْتَحِرًا، بِحَيْثُ يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى جَارِحِهِ، إِذِ الْبُرْءُ غَيْرُ مَوْثُوقٍ بِهِ وَإِنْ عَالَجَ (2) . أَمَّا إِذَا كَانَ الْجُرْحُ بَسِيطًا وَالْعِلاَجُ مَوْثُوقًا بِهِ، كَمَا
__________
(1) الفتاوى الهندية 6 / 5، وشرح منتهى الإرادات 3 / 269، ونهاية المحتاج 7 / 243، والمغني 9 / 326، والوجيز للغزالي 2 / 122
(2) ابن عابدين 5 / 215، ونهاية المحتاج 7 / 243، والمغني 9 / 326(6/283)
لَوْ تَرَكَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ عَصْبَ الْعِرْقِ، فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ قَدْ قَتَل نَفْسَهُ، حَتَّى لاَ يُسْأَل جَارِحُهُ عَنِ الْقَتْل عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (1) . وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِخِلاَفِهِ، وَقَالُوا: إِنْ تَرَكَ شَدَّ الْفِصَادِ مَعَ إِمْكَانِهِ لاَ يَسْقُطُ الضَّمَانُ، كَمَا لَوْ جُرِحَ فَتَرَكَ مُدَاوَاةَ جُرْحِهِ (2) .
وَمَعَ تَصْرِيحِ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّ تَرْكَ الْعِلاَجِ لاَ يُعْتَبَرُ عِصْيَانًا؛ لأَِنَّ الْبُرْءَ غَيْرُ مَوْثُوقٍ بِهِ، قَالُوا: إِنْ ضَرَبَ رَجُلاً بِإِبْرَةٍ فِي غَيْرِ الْمَقْتَل عَمْدًا فَمَاتَ، لاَ قَوَدَ فِيهِ (3) فَقَدْ فَصَّلُوا بَيْنَ الْجُرْحِ الْمُهْلِكِ وَغَيْرِ الْمُهْلِكِ كَالشَّافِعِيَّةِ، فَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ تَرْكَ الْجُرْحِ الْيَسِيرِ لِنَزْفِ الدَّمِ حَتَّى الْمَوْتِ يُشْبِهُ الاِنْتِحَارَ.
وَلَمْ نَعْثُرْ عَلَى نَصٍّ لِلْمَالِكِيَّةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ:
8 - الاِنْتِحَارُ حَرَامٌ بِالاِتِّفَاقِ، وَيُعْتَبَرُ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ بَعْدَ الشِّرْكِ بِاَللَّهِ. قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ} (4) وَقَال: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} (5) وَقَدْ قَرَّرَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ الْمُنْتَحِرَ أَعْظَمُ وِزْرًا مِنْ قَاتِل غَيْرِهِ، وَهُوَ فَاسِقٌ وَبَاغٍ عَلَى نَفْسِهِ، حَتَّى قَال بَعْضُهُمْ: لاَ يُغَسَّل وَلاَ يُصَلَّى عَلَيْهِ كَالْبُغَاةِ، وَقِيل: لاَ تُقْبَل تَوْبَتُهُ تَغْلِيظًا عَلَيْهِ (6) .
كَمَا أَنَّ ظَاهِرَ بَعْضِ الأَْحَادِيثِ يَدُل عَلَى خُلُودِهِ
__________
(1) نهاية المحتاج7 / 243
(2) المغني 9 / 326
(3) ابن عابدين 5 / 215، والفتاوى الهندية 6 / 5
(4) سورة الأنعام / 151
(5) سورة النساء / 29
(6) ابن عابدين 1 / 584، والقليوبي مع حاشية عميرة 1 / 348، 349، والمغني 2 / 418، والزواجر لابن حجر الهيثمي 2 / 96(6/283)
فِي النَّارِ. مِنْهَا قَوْلُهُ مَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَل نَفْسَهُ فَهُوَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ يَتَرَدَّى فِيهَا خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا (1) .
وَهُنَاكَ حَالاَتٌ خَاصَّةٌ تُشْبِهُ الاِنْتِحَارَ، لَكِنَّهُ لاَ عِقَابَ عَلَى مُرْتَكِبِهَا، وَلاَ يَأْثَمُ فَاعِلُهَا، لأَِنَّهَا لَيْسَتِ انْتِحَارًا فِي الْوَاقِعِ كَالآْتِي:
أَوَّلاً: الاِنْتِقَال مِنْ سَبَبِ مَوْتٍ إِلَى آخَرَ:
9 - إِذَا وَقَعَ حَرِيقٌ فِي سَفِينَةٍ، وَعَلِمَ أَنَّهُ لَوْ ظَل فِيهَا احْتَرَقَ، وَلَوْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ غَرِقَ. فَالْجُمْهُورُ (الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ) عَلَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ أَيَّهُمَا شَاءَ. فَإِذَا رَمَى نَفْسَهُ فِي الْمَاءِ وَمَاتَ جَازَ، وَلاَ يُعْتَبَرُ ذَلِكَ انْتِحَارًا مُحَرَّمًا إِذَا اسْتَوَى الأَْمْرَانِ.
وَقَال الصَّاحِبَانِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْمَقَامُ وَالصَّبْرُ، لأَِنَّهُ إِذَا رَمَى نَفْسَهُ فِي الْمَاءِ كَانَ مَوْتُهُ بِفِعْلِهِ، وَإِنْ أَقَامَ فَمَوْتُهُ بِفِعْل غَيْرِهِ (2)
كَذَلِكَ جَازَ لَهُ الاِنْتِقَال مِنْ سَبَبِ مَوْتٍ إِلَى سَبَبِ مَوْتٍ آخَرَ، إِذَا كَانَ فِي السَّبَبِ الَّذِي يَنْتَقِل إِلَيْهِ نَوْعُ خِفَّةٍ مَعَ التَّأَكُّدِ مِنَ الْقَتْل فِيهِمَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، قَال الزَّيْلَعِيُّ: وَلَوْ قَال لَهُ: لَتُلْقِيَنَّ نَفْسَكَ فِي النَّارِ أَوْ مِنَ الْجَبَل، أَوْ لأََقْتُلَنَّكَ، وَكَانَ الإِْلْقَاءُ بِحَيْثُ لاَ يَنْجُو مِنْهُ، وَلَكِنْ فِيهِ نَوْعُ خِفَّةٍ، فَلَهُ الْخِيَارُ إِنْ شَاءَ فَعَل ذَلِكَ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَفْعَل
__________
(1) حديث: " من تردى من جبل فقتل نفسه. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 247 - ط السلفية) ومسلم (1 / 103 - 104 ط الحلبي)
(2) المغني 10 / 554، والشرح الكبير 2 / 184، والقليوبي 4 / 210، والزيلعي 5 / 190(6/284)
وَصَبَرَ حَتَّى يُقْتَل، لأَِنَّهُ ابْتُلِيَ بِبَلِيَّتَيْنِ فَيَخْتَارُ مَا هُوَ الأَْهْوَنُ فِي زَعْمِهِ، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ. وَعِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ يَصْبِرُ وَلاَ يَفْعَل ذَلِكَ؛ لأَِنَّ مُبَاشَرَةَ الْفِعْل سَعْيٌ فِي إِهْلاَكِ نَفْسِهِ فَيَصْبِرُ تَحَامِيًا عَنْهُ (1) .
أَمَّا إِذَا ظَنَّ السَّلاَمَةَ فِي الاِنْتِقَال مِنْ سَبَبٍ إِلَى سَبَبٍ آخَرَ لِلْمَوْتِ، أَوْ رَجَا طُول الْحَيَاةِ وَلَوْ مَعَ مَوْتٍ أَشَدَّ وَأَصْعَبَ مِنَ الْمَوْتِ الْمُعَجَّل، فَقَدْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِوُجُوبِهِ؛ لأَِنَّ حِفْظَ النُّفُوسِ وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ، وَعَبَّرَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ هُوَ الأَْوْلَى، مِمَّا يَدُل عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ (2) .
10 - وَمِنْ أَمْثِلَةِ الاِنْتِقَال مِنْ سَبَبِ مَوْتٍ إِلَى سَبَبِ مَوْتٍ آخَرَ مَا ذَكَرُوا مِنْ أَنَّهُ لَوْ تَبِعَ بِسَيْفٍ وَنَحْوِهِ مُمَيِّزًا هَارِبًا مِنْهُ فَرَمَى نَفْسَهُ بِمَاءٍ أَوْ نَارٍ مِنْ سَطْحٍ فَمَاتَ، فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ قِيَاسُ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ، لِمُبَاشَرَتِهِ إِهْلاَكَ نَفْسِهِ عَمْدًا، كَمَا لَوْ أَكْرَهَ إِنْسَانًا عَلَى أَنْ يَقْتُل نَفْسَهُ فَقَتَلَهَا. فَكَأَنَّهُ يُشْبِهُ الاِنْتِحَارَ عِنْدَهُمْ. وَالْقَوْل الآْخَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ عَلَيْهِ نِصْفَ الدِّيَةِ.
أَمَّا لَوْ وَقَعَ بِشَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ جَاهِلاً بِهِ، لِعَمًى أَوْ ظُلْمَةٍ مَثَلاً أَوْ تَغْطِيَةِ بِئْرٍ، أَوْ أَلْجَأَهُ إِلَى السَّبُعِ بِمَضِيقٍ ضَمِنَ مَنْ تَبِعَهُ، لأَِنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ إِهْلاَكَ نَفْسِهِ وَقَدْ أَلْجَأَهُ التَّابِعُ إِلَى الْهَرَبِ الْمُفْضِي لِلْهَلاَكِ. وَكَذَا لَوِ انْخَسَفَ بِهِ سَقْفٌ فِي هَرَبِهِ فِي الأَْصَحِّ (3) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِذَا طَلَبَ إِنْسَانًا بِسَيْفٍ مَشْهُورٍ فَهَرَبَ مِنْهُ، فَتَلِفَ فِي هَرَبِهِ ضَمِنَهُ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِنَ
__________
(1) تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق 5 / 190، والقليوبي 4 / 410
(2) الخرشي 3 / 121، والمغني 10 / 554
(3) نهاية المحتاج 7 / 333(6/284)
الشَّاهِقِ، أَمِ انْخَسَفَ بِهِ سَقْفٌ أَمْ خَرَّ فِي بِئْرٍ، أَمْ لَقِيَهُ سَبْعٌ، أَمْ غَرِقَ فِي مَاءٍ، أَمِ احْتَرَقَ بِنَارٍ. وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْمَطْلُوبُ صَغِيرًا أَمْ كَبِيرًا، أَعْمَى أَمْ بَصِيرًا، عَاقِلاً أَمْ مَجْنُونًا (1) .
وَفَصَّل الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَوْضُوعِ فَقَالُوا: مَنْ أَشَارَ إِلَى رَجُلٍ بِسَيْفٍ، وَكَانَتْ بَيْنَهُمَا عَدَاوَةٌ، فَتَمَادَى بِالإِْشَارَةِ إِلَيْهِ وَهُوَ يَهْرُبُ مِنْهُ، فَطَلَبَهُ حَتَّى مَاتَ فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ بِدُونِ الْقَسَامَةِ إِذَا كَانَ الْمَوْتُ بِدُونِ السُّقُوطِ، وَإِذَا سَقَطَ وَمَاتَ فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ مَعَ الْقَسَامَةِ.
أَمَّا إِذَا كَانَ بِدُونِ عَدَاوَةٍ فَلاَ قِصَاصَ، وَفِيهِ الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ (2)
ثَانِيًا: هُجُومُ الْوَاحِدِ عَلَى صَفِّ الْعَدُوِّ:
11 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ هُجُومِ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَحْدَهُ عَلَى جَيْشِ الْعَدُوِّ، مَعَ التَّيَقُّنِ بِأَنَّهُ سَيُقْتَل.
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى جَوَازِ إِقْدَامِ الرَّجُل الْمُسْلِمِ عَلَى الْكَثِيرِ مِنَ الْكُفَّارِ، إِنْ كَانَ قَصْدُهُ إِعْلاَءَ كَلِمَةِ اللَّهِ، وَكَانَ فِيهِ قُوَّةٌ وَظَنَّ تَأْثِيرَهُ فِيهِمْ، وَلَوْ عَلِمَ ذَهَابَ نَفْسِهِ، فَلاَ يُعْتَبَرُ ذَلِكَ انْتِحَارًا (3) .
وَقِيل: إِذَا طَلَبَ الشَّهَادَةَ، وَخَلَصَتِ النِّيَّةُ فَلْيَحْمِل؛ لأَِنَّ مَقْصُودَهُ وَاحِدٌ مِنَ الأَْعْدَاءِ، وَذَلِكَ بَيِّنٌ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ} (4)
__________
(1) المغني 9 / 577
(2) مواهب الجليل 6 / 241، جواهر الإكليل 2 / 257
(3) الشرح الكبير 2 / 183
(4) سورة البقرة / 207. وانظر أيضا تفسير القرطبي 2 / 363(6/285)
وَقَيَّدَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنْ يَكُونَ قَدْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنْ سَيَقْتُل مَنْ حَمَل عَلَيْهِ وَيَنْجُوَ، وَكَذَلِكَ لَوْ عَلِمَ وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ يُقْتَل، لَكِنْ سَيَنْكِي نِكَايَةً أَوْ سَيُبْلِي أَوْ يُؤَثِّرُ أَثَرًا يَنْتَفِعُ بِهِ الْمُسْلِمُونَ (1) .
وَلاَ يُعْتَبَرُ هَذَا إِلْقَاءَ النَّفْسِ إِلَى التَّهْلُكَةِ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (2) لأَِنَّ مَعْنَى التَّهْلُكَةِ - كَمَا فَسَّرَهَا أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ - هُوَ الإِْقَامَةُ فِي الأَْمْوَال وَإِصْلاَحُهَا وَتَرْكُ الْجِهَادِ. لِمَا رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَسْلَمَ أَبِي عِمْرَانَ حِكَايَةً عَنْ غَزْوِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ أَنَّهُ حَمَل رَجُلٌ مِنَ الْمُسْمَلِينَ عَلَى صَفِّ الرُّومِ حَتَّى دَخَل فِيهِمْ، فَصَاحَ النَّاسُ، وَقَالُوا: سُبْحَانَ اللَّهِ، يُلْقِي بِيَدَيْهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ، فَقَامَ أَبُو أَيُّوبَ الأَْنْصَارِيُّ فَقَال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّكُمْ تَتَأَوَّلُونَ هَذِهِ الآْيَةَ هَذَا التَّأْوِيل، وَإِنَّمَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآْيَةُ فِينَا مَعَاشِرَ الأَْنْصَارِ لَمَّا أَعَزَّ اللَّهُ الإِْسْلاَمَ وَكَثُرَ نَاصِرُوهُ، فَقَال بَعْضُنَا لِبَعْضٍ سِرًّا دُونَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ أَمْوَالَنَا قَدْ ضَاعَتْ، وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعَزَّ الإِْسْلاَمَ وَكَثُرَ نَاصِرُوهُ، فَلَوْ أَقَمْنَا فِي أَمْوَالِنَا فَأَصْلَحْنَا مَا ضَاعَ مِنْهَا، فَأَنْزَل عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرُدُّ عَلَى مَا قُلْنَا {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيل اللَّهِ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} فَكَانَتِ التَّهْلُكَةُ الإِْقَامَةَ عَلَى الأَْمْوَال وَإِصْلاَحَهَا وَتَرْكَنَا الْغَزْوَ (3)
__________
(1) تفسير القرطبي 2 / 363
(2) سورة البقرة / 195
(3) الأثر عن أسلم أبي عمران أخرجه الترمذي (تحفة الأحوذي 8 / 311 - 312 ط السلفية) والحاكم (المستدرك 2 / 275 ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه، ووافقه الذهبي(6/285)
وَنَقَل الرَّازِيُّ رِوَايَةً عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ الْجَنَّةَ، فَقَال لَهُ رَجُلٌ: أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيل اللَّهِ فَأَيْنَ أَنَا؟ قَال: فِي الْجَنَّةِ، فَأَلْقَى تَمَرَاتٍ فِي يَدَيْهِ ثُمَّ قَاتَل حَتَّى قُتِل (1) .
كَذَلِكَ قَال ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَالصَّحِيحُ عِنْدِي جَوَازُهُ؛ لأَِنَّ فِيهِ أَرْبَعَةَ أَوْجُهٍ:
الأَْوَّل: طَلَبُ الشَّهَادَةِ.
الثَّانِي: وُجُودُ النِّكَايَةِ.
الثَّالِثُ: تَجْرِئَةُ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ.
الرَّابِعُ: ضَعْفُ نُفُوسِ الأَْعْدَاءِ، لِيَرَوْا أَنَّ هَذَا صُنْعُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَمَا ظَنُّكَ بِالْجَمِيعِ (2) .
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ: إِنْ عَلِمَ أَنَّهُ إِذَا حَارَبَ قُتِل، وَإِذَا لَمْ يُحَارِبْ أُسِرَ لَمْ يَلْزَمْهُ الْقِتَال، لَكِنَّهُ إِذَا قَاتَل حَتَّى قُتِل جَازَ بِشَرْطِ أَنْ يَنْكِيَ فِيهِمْ. أَمَّا إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ لاَ يَنْكِي فِيهِمْ فَإِنَّهُ لاَ يَحِل لَهُ أَنْ يَحْمِل عَلَيْهِمْ، لأَِنَّهُ لاَ يَحْصُل بِحَمَلَتِهِ شَيْءٌ مِنْ إِعْزَازِ الدِّينِ (3)
كَمَا نُقِل عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَال: لَوْ حَمَل رَجُلٌ وَاحِدٌ عَلَى أَلْفِ رَجُلٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَهُوَ وَحْدَهُ، لَمْ يَكُنْ بِذَلِكَ بَأْسٌ، إِذَا كَانَ يَطْمَعُ فِي نَجَاةٍ أَوْ نِكَايَةٍ فِي الْعَدُوِّ (4) .
__________
(1) التفسير الكبير لفخر الدين الرازي 5 / 150، والقرطبي 2 / 363 وحديث: " أرأيت إن قتلت في سبيل الله. . . " أخرجه مسلم (3 / 1309 - ط الحلبي)
(2) أحكام القرآن لابن العربي 1 / 116
(3) ابن عابدين 3 / 222
(4) القرطبي 2 / 364، وربما يشبه هذه الحالة لبس الحزام الناسف وإلقاء نفسه أمام دبابات العدو للقضاء عليها مع علمه بأنه سيقتل(6/286)
ثَالِثًا: الاِنْتِحَارُ لِخَوْفِ إِفْشَاءِ الأَْسْرَارِ:
12 - إِذَا خَافَ الْمُسْلِمُ الأَْسْرَ، وَعِنْدَهُ أَسْرَارٌ هَامَّةٌ لِلْمُسْلِمِينَ، وَيَتَيَقَّنُ أَنَّ الْعَدُوَّ سَوْفَ يَطَّلِعُ عَلَى هَذِهِ الأَْسْرَارِ، وَيُحْدِثُ ضَرَرًا بَيِّنًا بِصُفُوفِ الْمُسْلِمِينَ وَبِالتَّالِي يُقْتَل، فَهَل لَهُ أَنْ يَقْتُل نَفْسَهُ وَيَنْتَحِرَ أَوْ يَسْتَسْلِمَ؟
لَمْ نَجِدْ فِي جَوَازِ الاِنْتِحَارِ خَوْفَ إِفْشَاءِ الأَْسْرَارِ، وَلاَ فِي عَدَمِ جَوَازِهِ نَصًّا صَرِيحًا فِي كُتُبِ الْفِقْهِ.
إِلاَّ أَنَّ جُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ أَجَازُوا قِتَال الْكُفَّارِ إِذَا تَتَرَّسُوا بِالْمُسْلِمِينَ وَلَوْ تَأَكَّدُوا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ سَيُقْتَلُونَ مَعَهُمْ، بِشَرْطِ أَنْ يَقْصِدَ بِالرَّمْيِ الْكُفَّارَ، وَيَتَوَقَّى الْمُسْلِمِينَ بِقَدْرِ الإِْمْكَانِ، وَقَيَّدَهُ بَعْضُهُمْ بِمَا إِذَا كَانَتِ الْحَرْبُ قَائِمَةً، وَعَلِمْنَا أَنَّنَا لَوْ كَفَفْنَا عَنْهُمْ ظَفِرُوا بِنَا أَوْ عَظُمَتْ نِكَايَتُهُمْ فِينَا، وَجَعَلُوا هَذَا مِنْ تَطْبِيقَاتِ قَاعِدَةِ: (يُتَحَمَّل الضَّرَرُ الْخَاصُّ لِدَفْعِ الضَّرَرِ الْعَامِّ) .
وَالْمَعْرُوفُ أَنَّ الْفُقَهَاءَ لَمْ يُجَوِّزُوا إِلْقَاءَ شَخْصٍ فِي الْبَحْرِ لِخِفَّةِ ثِقَل السَّفِينَةِ الْمُشْرِفَةِ لِلْغَرَقِ، لأَِجَل نَجَاةِ رُكَّابِهَا مَهْمَا كَثُرَ عَدَدُهُمْ، إِلاَّ مَا نَقَل الدُّسُوقِيُّ الْمَالِكِيُّ عَنِ اللَّخْمِيِّ مِنْ جَوَازِ ذَلِكَ بِالْقُرْعَةِ (1) .
__________
(1) ابن عابدين 5 / 173، وفتح القدير 4 / 287، والدسوقي 2 / 178، 4 / 27، ونهاية المحتاج 7 / 79، 8 / 62، والمغني مع الشرح الكبير 10 / 363، 505 فالذي يقتل نفسه خوفا من إفشاء الأسرار، وهو متأكد من أن الكفار سيحصلون على الأسرار ويظفرون بالمسلمين، أو يعظمون نكايتهم فيهم قد يشبه هذه الحالة في موازنة الضررين، مع أن فيه قتل المسلم نفسه، وفي التترس قتله بواسطة(6/286)
أَمْرُ الشَّخْصِ لِغَيْرِهِ بِقَتْلِهِ:
إِذَا قَال الرَّجُل لآِخَرَ: اقْتُلْنِي، أَوْ قَال لِلْقَائِل إِنْ قَتَلْتَنِي أَبْرَأْتُكَ، أَوْ قَدْ وَهَبْتُ لَكَ دَمِي، فَقَتَلَهُ عَمْدًا، اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
الأَْوَّل:
13 - أَنَّ الْقَتْل فِي هَذِهِ الْحَال لاَ يُعْتَبَرُ انْتِحَارًا، لَكِنْ لاَ يَجِبُ بِهِ الْقِصَاصُ، وَتَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَال الْقَاتِل.
هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - مَا عَدَا زُفَرَ - وَإِلَيْهِ ذَهَبَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ، وَرَوَاهُ سَحْنُونٌ عَنْ مَالِكٍ، وَوَصَفَهُ بِأَنَّهُ أَظْهَرُ الأَْقْوَال؛ لأَِنَّ الإِْبَاحَةَ لاَ تَجْرِي فِي النُّفُوسِ، وَإِنَّمَا سَقَطَ الْقِصَاصُ لِلشُّبْهَةِ بِاعْتِبَارِ الإِْذْنِ، وَالشُّبْهَةُ لاَ تَمْنَعُ وُجُوبَ الْمَال، فَتَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَال الْقَاتِل لأَِنَّهُ عَمْدٌ، وَالْعَاقِلَةُ لاَ تَحْمِل دِيَةَ الْعَمْدِ (1) .
وَفَصَّل الْحَنَفِيَّةُ فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ فَقَالُوا: إِنْ قَتَلَهُ بِالسَّيْفِ فَلاَ قِصَاصَ؛ لأَِنَّ الإِْبَاحَةَ لاَ تَجْرِي فِي النَّفْسِ، وَسَقَطَ الْقِصَاصُ لِشُبْهَةِ الإِْذْنِ، وَتَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ، وَإِنْ قَتَلَهُ بِمُثْقَلٍ فَلاَ قِصَاصَ لَكِنَّهُ تَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ (2)
الثَّانِي:
14 - أَنَّ الْقَتْل فِي هَذِهِ الْحَال قَتْل عَمْدٍ، وَلاَ يَأْخُذُ شَيْئًا مِنْ أَحْكَامِ الاِنْتِحَارِ، وَلِهَذَا يَجِبُ الْقِصَاصُ.
وَهَذَا قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ حَسَّنَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ زُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لأَِنَّ الأَْمْرَ بِالْقَتْل لَمْ يَقْدَحْ فِي الْعِصْمَةِ؛ لأَِنَّ عِصْمَةَ
__________
(1) مواهب الجليل 6 / 235، 236، والزيلعي 5 / 190
(2) ابن عابدين 5 / 352(6/287)
النُّفُوسِ مِمَّا لاَ تَحْتَمِل الإِْبَاحَةَ بِحَالٍ، وَإِذْنُهُ لاَ يُعْتَبَرُ؛ لأَِنَّ الْقِصَاصَ لِوَارِثِهِ لاَ لَهُ، وَلأَِنَّهُ أَسْقَطَ حَقًّا قَبْل وُجُوبِهِ (1) .
الثَّالِثُ:
15 - أَنَّ الْقَتْل فِي هَذِهِ الْحَال لَهُ حُكْمُ الاِنْتِحَارِ، فَلاَ قِصَاصَ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ وَلاَ دِيَةَ. وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ، وَالأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَصَحَّحَهُ الْقُدُورِيُّ، وَهُوَ رِوَايَةٌ مَرْجُوحَةٌ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ.
أَمَّا سُقُوطُ الْقِصَاصِ فَلِلإِْذْنِ لَهُ فِي الْقَتْل وَالْجِنَايَةِ، وَلأَِنَّ صِيغَةَ الأَْمْرِ تُورِثُ شُبْهَةً، وَالْقِصَاصُ عُقُوبَةٌ مُقَدَّرَةٌ تَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ.
وَأَمَّا سُقُوطُ الدِّيَةِ فَلأَِنَّ ضَمَانَ نَفْسِهِ هُوَ حَقٌّ لَهُ فَصَارَ كَإِذْنِهِ بِإِتْلاَفِ مَالِهِ، كَمَا لَوْ قَال: اقْتُل دَابَّتِي فَفَعَل فَلاَ ضَمَانَ إِجْمَاعًا، فَصَحَّ الأَْمْرُ، وَلأَِنَّ الْمُورَثَ أَسْقَطَ الدِّيَةَ أَيْضًا فَلاَ تَجِبُ لِلْوَرَثَةِ.
وَإِذَا كَانَ الآْمِرُ أَوِ الآْذِنُ مَجْنُونًا أَوْ صَغِيرًا فَلاَ يُسْقِطُ إِذْنُهُ شَيْئًا مِنَ الْقِصَاصِ وَلاَ الدِّيَةِ، لأَِنَّهُ لاَ اعْتِبَارَ بِإِذْنِهِمَا (2) .
16 - لَوْ قَال: اقْطَعْ يَدِي، فَإِنْ كَانَ لِمَنْعِ السِّرَايَةِ كَمَا إِذَا وَقَعَتْ فِي يَدِهِ آكِلَةٌ فَلاَ بَأْسَ بِقَطْعِهِ اتِّفَاقًا.
وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ ذَلِكَ فَلاَ يَحِل، وَلَوْ قَطَعَ بِإِذْنِهِ فَلَمْ يَمُتْ مِنَ الْقَطْعِ فَلاَ قِصَاصَ وَلاَ دِيَةَ عَلَى الْقَاطِعِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ؛ لأَِنَّ الأَْطْرَافَ يُسْلَكُ بِهَا مَسْلَكُ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 352، والبدائع 7 / 236، والوجيز للغزالي 2 / 123، والشرح الصغير 4 / 336، والشرح الكبير للدردير 4 / 240
(2) شرح منتهى الإرادات 3 / 275، وكشاف القناع 5 / 518، والزيلعي 5 / 0 9 1، والبدائع 7 / 236، ونهاية المحتاج 7 / 248، 296، ومواهب الجليل 6 / 235، 236(6/287)
الأَْمْوَال، فَكَانَتْ قَابِلَةً لِلسُّقُوطِ بِالإِْبَاحَةِ وَالإِْذْنِ، كَمَا لَوْ قَال لَهُ: أَتْلِفْ مَالِي فَأَتْلَفَهُ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ قَال لَهُ: اقْطَعْ يَدِي وَلاَ شَيْءَ عَلَيْكَ، فَلَهُ الْقِصَاصُ إِنْ لَمْ يَسْتَمِرَّ عَلَى الإِْبْرَاءِ بَعْدَ الْقَطْعِ، مَا لَمْ يَتَرَامَ بِهِ الْقَطْعُ حَتَّى مَاتَ مِنْهُ، فَلِوَلِيِّهِ الْقَسَامَةُ وَالْقِصَاصُ أَوِ الدِّيَةُ (2) .
17 - وَلَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَشُجَّهُ فَشَجَّهُ عَمْدًا، وَمَاتَ مِنْهَا، فَلاَ قِصَاصَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) .
وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ عَلَى الْجَارِحِ: فَقَال الْحَنَابِلَةُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَهُوَ رِوَايَةٌ مَرْجُوحَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: يَجِبُ عَلَى الْقَاتِل الدِّيَةُ، لأَِنَّ الْعَفْوَ عَنِ الشَّجَّةِ لاَ يَكُونُ عَفْوًا عَنِ الْقَتْل، فَكَذَا الأَْمْرُ بِالشَّجَّةِ لاَ يَكُونُ أَمْرًا بِالْقَتْل، وَكَانَ الْقِيَاسُ وُجُوبَ الْقِصَاصِ، إِلاَّ أَنَّهُ سَقَطَ لِوُجُودِ الشُّبْهَةِ، فَتَجِبُ الدِّيَةُ. وَلأَِنَّهُ لَمَّا مَاتَ تَبَيَّنَ أَنَّ الْفِعْل وَقَعَ قَتْلاً، وَالْمَأْمُورُ بِهِ هُوَ الْقَطْعُ لاَ الْقَتْل.
أَمَّا لَوْ عَفَا عَنِ الْجِنَايَةِ أَوْ عَنِ الْقَطْعِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ عَنِ النَّفْسِ (3) .
وَقَال الشَّافِعِيُّ فِي الرَّاجِحِ، وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الصَّاحِبَانِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إِنْ سَرَى الْقَطْعُ الْمَأْذُونُ بِهِ إِلَى النَّفْسِ فَهَدَرٌ؛ لأَِنَّ الْقَتْل الْحَاصِل مِنَ الْقَطْعِ وَالشَّجَّةِ الْمَأْذُونِ فِيهِمَا يُشْبِهُ الاِنْتِحَارَ، فَلاَ يَجِبُ فِيهِ
__________
(1) البدائع 7 / 236، وابن عابدين 5 / 352، 361، ونهاية المحتاج 7 / 296، ومواهب الجليل 6 / 236، وشرح منتهى الإرادات 3 / 275
(2) ابن عابدين 5 / 352، والشرح الكبير للدردير 4 / 240، ونهاية المحتاج 7 / 296، والمغني 9 / 496
(3) ابن عابدين 5 / 361، والشرح الكبير للدردير 4 / 240، ونهاية المحتاج 7 / 296، والمغني 9 / 469 - 470(6/288)
قِصَاصٌ وَلاَ دِيَةٌ، وَلأَِنَّ الْعَفْوَ عَنِ الشَّجَّةِ يَكُونُ عَفْوًا عَنِ الْقَتْل، فَكَذَا الأَْمْرُ بِالشَّجَّةِ يَكُونُ أَمْرًا بِالْقَتْل. وَلأَِنَّ الأَْصَحَّ ثُبُوتُ الدِّيَةِ لِلْمُورِثِ ابْتِدَاءً، وَقَدْ أَسْقَطَهَا بِإِذْنِهِ (1) .
وَمَا تَقَدَّمَ عَنِ الْمَالِكِيَّةِ يُفِيدُ ثُبُوتَ الْقِصَاصِ فِي هَذِهِ الْحَال إِنْ لَمْ يَسْتَمِرَّ عَلَى الإِْبْرَاءِ.
أَمْرُ الإِْنْسَانِ غَيْرَهُ بِأَنْ يَقْتُل نَفْسَهُ:
18 - إِذَا أَمَرَ الإِْنْسَانُ غَيْرَهُ - أَمْرًا لَمْ يَصِل إِلَى دَرَجَةِ الإِْكْرَاهِ - بِقَتْل نَفْسِهِ فَقَتَل نَفْسَهُ، فَهُوَ مُنْتَحِرٌ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ، وَلاَ شَيْءَ عَلَى الآْمِرِ؛ لأَِنَّ الْمَأْمُورَ قَتَل نَفْسَهُ بِاخْتِيَارِهِ، وَقَدْ قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} (2) وَمُجَرَّدُ الأَْمْرِ لاَ يُؤَثِّرُ فِي الاِخْتِيَارِ وَلاَ فِي الرِّضَا، مَا لَمْ يَصِل إِلَى دَرَجَةِ الإِْكْرَاهِ التَّامِّ الَّذِي سَيَأْتِي بَيَانُهُ.
الإِْكْرَاهُ عَلَى الاِنْتِحَارِ:
19 - الإِْكْرَاهُ هُوَ: حَمْل الْمُكْرَهِ عَلَى أَمْرٍ يَكْرَهُهُ. وَهُوَ نَوْعَانِ: مُلْجِئٌ وَغَيْرُ مُلْجِئٍ.
فَالْمُلْجِئُ: هُوَ الإِْكْرَاهُ الْكَامِل، وَهُوَ أَنْ يُكْرَهَ بِمَا يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عَلَى تَلَفِ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ. وَهَذَا النَّوْعُ يُعْدِمُ الرِّضَا، وَيُوجِبُ الإِْلْجَاءَ، وَيُفْسِدُ الاِخْتِيَارَ (3) .
وَغَيْرُ الْمُلْجِئِ: هُوَ أَنْ يُكْرِهَهُ بِمَا لاَ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ، وَلاَ يُوجِبُ الإِْلْجَاءَ وَلاَ يُفْسِدُ الاِخْتِيَارَ. وَالْمُرَادُ هُنَا الإِْكْرَاهُ الْمُلْجِئُ الَّذِي يُعْدِمُ الرِّضَا
__________
(1) نهاية المحتاج 7 / 296، والبدائع 7 / 237
(2) سورة النساء / 29
(3) تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق 5 / 181، والبدائع 7 / 175، وأسنى المطالب 3 / 282، ومواهب الجليل 4 / 45، والمغني لابن قدامة 8 / 260(6/288)
وَيُفْسِدُ الاِخْتِيَارَ.
20 - إِذَا أَكْرَهَ إِنْسَانٌ غَيْرَهُ إِكْرَاهًا مُلْجِئًا لِيَقْتُل الْمُكْرَهَ، بِأَنْ قَال لَهُ: اقْتُلْنِي وَإِلاَّ قَتَلْتُكَ، فَقَتَلَهُ فَهُوَ فِي حُكْمِ الاِنْتِحَارِ، حَتَّى لاَ يَجِبَ عَلَى الْقَاتِل الْقِصَاصُ وَلاَ الدِّيَةُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ) لأَِنَّ الْمُكْرَهَ (بِفَتْحِ الرَّاءِ) كَالآْلَةِ بِيَدِ الْمُكْرِهِ فِي الإِْكْرَاهِ التَّامِّ (الْمُلْجِئِ) فَيُنْسَبُ الْفِعْل إِلَى الْمُكْرِهِ وَهُوَ الْمَقْتُول، فَصَارَ كَأَنَّهُ قَتَل نَفْسَهُ، كَمَا اسْتَدَل بِهِ الْحَنَفِيَّةُ، وَلأَِنَّ إِذْنَ الْمُكَلَّفِ يُسْقِطُ الدِّيَةَ وَالْقِصَاصَ مَعًا كَمَا قَال الشَّافِعِيَّةُ، فَكَيْفَ إِذَا اشْتَدَّ الأَْمْرُ إِلَى دَرَجَةِ الإِْكْرَاهِ الْمُلْجِئِ؟
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: تَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى الْمُكْرَهِ؛ لأَِنَّ الْقَتْل لاَ يُبَاحُ بِالإِْذْنِ، إِلاَّ أَنَّهُ شُبْهَةٌ تُسْقِطُ الْقِصَاصَ (1) . وَلَمْ نَعْثُرْ لِلْمَالِكِيَّةِ عَلَى نَصٍّ فِي الْمَوْضُوعِ، وَقَدْ سَبَقَ رَأْيُهُمْ بِوُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَى الْقَاتِل إِذَا أَمَرَهُ الْمَقْتُول بِالْقَتْل.
21 - إِذَا أَكْرَهَ شَخْصٌ غَيْرَهُ إِكْرَاهًا مُلْجِئًا لِيَقْتُل الْغَيْرُ نَفْسَهُ، بِأَنْ قَال لَهُ: اقْتُل نَفْسَكَ وَإِلاَّ قَتَلْتُكَ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْتُل نَفْسَهُ، وَإِلاَّ يُعَدُّ مُنْتَحِرًا وَآثِمًا؛ لأَِنَّ الْمُكْرَهَ عَلَيْهِ لاَ يَخْتَلِفُ عَنِ الْمُكْرَهِ بِهِ، فَكِلاَهُمَا قَتْلٌ، فَلأََنْ يَقْتُلَهُ الْمُكْرِهُ أَوْلَى مِنْ أَنْ يَقْتُل هُوَ نَفْسَهُ. وَلأَِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَنْجُوَ مِنَ الْقَتْل بِتَرَاجُعِ الْمُكْرِهِ، أَوْ بِتَغَيُّرِ الْحَالَةِ بِأَسْبَابٍ أُخْرَى، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْتَحِرَ
__________
(1) الوجيز للغزالي 2 / 143، ونهاية المحتاج 7 / 248، 296، وشرح منتهى الإرادات 3 / 275، والبدائع 7 / 179(6/289)
وَيَقْتُل نَفْسَهُ.
وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا أَنَّهُ إِذَا قَتَل نَفْسَهُ فَلاَ قِصَاصَ عَلَى الْمُكْرِهِ فِي الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، لاِنْتِفَاءِ كَوْنِهِ إِكْرَاهًا حَقِيقَةً، لاِتِّحَادِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَالْمُخَوَّفِ بِهِ، فَكَأَنَّهُ اخْتَارَ الْقَتْل كَمَا عَلَّلَهُ الشَّافِعِيَّةُ، لَكِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الآْمِرِ نِصْفُ الدِّيَةِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُكْرَهَ شَرِيكٌ، وَسَقَطَ عَنْهُ الْقِصَاصُ لِلشُّبْهَةِ بِسَبَبِ مُبَاشَرَةِ الْمُكْرَهِ قَتْل نَفْسِهِ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْمُكْرِهِ، إِذَا قَتَل الْمُكْرَهُ نَفْسَهُ، كَمَا لَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى قَتْل غَيْرِهِ (2) .
وَلَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى قَتْل نَفْسِهِ بِمَا يَتَضَمَّنُ تَعْذِيبًا شَدِيدًا كَإِحْرَاقٍ أَوْ تَمْثِيلٍ إِنْ لَمْ يَقْتُل نَفْسَهُ، كَانَ إِكْرَاهًا كَمَا جَرَى عَلَيْهِ الْبَزَّارُ، وَمَال إِلَيْهِ الرَّافِعِيُّ مِنْ عُلَمَاءِ الشَّافِعِيَّةِ، وَإِنْ نَازَعَ فِيهِ الْبُلْقِينِيُّ (3) .
وَفَصَّل الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمَوْضُوعِ فَقَالُوا: لَوْ قَال لَتُلْقِيَنَّ نَفْسَكَ فِي النَّارِ أَوْ مِنْ رَأْسِ الْجَبَل أَوْ لأََقْتُلَنَّكَ بِالسَّيْفِ، فَأَلْقَى نَفْسَهُ مِنَ الْجَبَل، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ تَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الْمُكْرِهِ، لأَِنَّهُ لَوْ بَاشَرَ بِنَفْسِهِ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ عِنْدَهُ، لأَِنَّهُ قُتِل بِالْمُثَقَّل، فَكَذَا إِذَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ تَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى الْمُكْرِهِ فِي مَالِهِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَجِبُ الْقِصَاصُ، لأَِنَّهُ كَالْقَتْل بِالسَّيْفِ عِنْدَهُ. أَمَّا إِذَا أَلْقَى نَفْسَهُ فِي النَّارِ فَاحْتَرَقَ، فَيَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْمُكْرِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا (4) .
__________
(1) نهاية المحتاج7 / 247
(2) كشاف القناع 5 / 518، ونهاية المحتاج 7 / 247
(3) نهاية المحتاج7 / 247
(4) تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق للزيلعي 5 / 190(6/289)
هَذَا، وَلَمْ نَجِدْ فِي الْمَسْأَلَةِ نَصًّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَانْظُرْ (إِكْرَاه) .
اشْتِرَاكُ الْمُنْتَحِرِ مَعَ غَيْرِهِ:
22 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ جَرَحَ نَفْسَهُ، ثُمَّ جَرَحَهُ غَيْرُهُ فَمَاتَ مِنْهُمَا، فَهَل يُعْتَبَرُ انْتِحَارًا؟ وَهَل يَجِبُ عَلَى الْمُشَارِكِ لَهُ قِصَاصٌ أَوْ دِيَةٌ؟ يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ عِنْدَهُمْ بِحَسَبِ الصُّوَرِ:
أ - فَلَوْ جَرَحَ نَفْسَهُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً، كَأَنْ أَرَادَ ضَرْبَ مَنِ اعْتَدَى عَلَيْهِ بِجُرْحٍ فَأَصَابَ نَفْسَهُ، أَوْ خَاطَ جُرْحَهُ فَصَادَفَ اللَّحْمَ الْحَيَّ، ثُمَّ جَرَحَهُ شَخْصٌ آخَرُ خَطَأً، فَمَاتَ مِنْهُمَا، فَلاَ قِصَاصَ عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ، لأَِنَّهُ لاَ قِصَاصَ عَلَى الْمُخْطِئِ بِالإِْجْمَاعِ، وَيَلْزَمُ عَاقِلَةَ الشَّرِيكِ نِصْفُ الدِّيَةِ، كَمَا لَوْ قَتَلَهُ اثْنَانِ خَطَأً.
ب - أَمَّا لَوْ جَرَحَ نَفْسَهُ خَطَأً، وَجَرَحَهُ شَخْصٌ آخَرُ عَمْدًا، فَلاَ قِصَاصَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ أَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ) بِنَاءً عَلَى الْقَاعِدَةِ الَّتِي تَقُول: لاَ يُقْتَل شَرِيكُ مَنْ لاَ قِصَاصَ عَلَيْهِ كَالْمُخْطِئِ وَالصَّغِيرِ، وَعَلَى الْمُتَعَمِّدِ نِصْفُ دِيَةِ الْعَمْدِ فِي مَالِهِ، إِذْ لاَ يَدْرِي مِنْ أَيِّ الأَْمْرَيْنِ مَاتَ (1)
وَفِي وَجْهٍ آخَرَ لِلْحَنَابِلَةِ: يُقْتَصُّ مِنَ الشَّرِيكِ الْعَامِدِ، لأَِنَّهُ قَصَدَ الْقَتْل، وَخَطَأُ شَرِيكِهِ لاَ يُؤَثِّرُ فِي قَصْدِهِ (2) .
ج - وَإِذَا جَرَحَ نَفْسَهُ عَمْدًا، وَجَرَحَهُ آخَرُ
__________
(1) الفتاوى الهندية 6 / 4، وجواهر الإكليل 2 / 258، والشرح الصغير 4 / 347، ونهاية المحتاج 7 / 262، والمغني 9 / 380
(2) المغني 9 / 381(6/290)
عَمْدًا، وَمَاتَ مِنْهُمَا، يُقْتَصُّ مِنَ الشَّرِيكِ الْعَامِدِ فِي وَجْهٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ بِشَرْطِ الْقَسَامَةِ، لأَِنَّهُ قَتْلٌ عَمْدٌ مُتَمَحِّضٌ، فَوَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَى الشَّرِيكِ فِيهِ كَشَرِيكِ الأَْبِ (1) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَمُقَابِل الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَوَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: لاَ قِصَاصَ عَلَى شَرِيكِ قَاتِل نَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ جُرْحَاهُمَا عَمْدًا، لأَِنَّهُ أَخَفُّ مِنْ شَرِيكِ الْمُخْطِئِ، كَمَا يَقُول الشَّافِعِيَّةُ، وَلأَِنَّهُ شَارَكَ مَنْ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ الْقِصَاصُ، كَشَرِيكِ الْمُخْطِئِ، وَلأَِنَّهُ قَتْلٌ تَرَكَّبَ مِنْ مُوجِبٍ وَغَيْرِ مُوجِبٍ، كَمَا اسْتَدَل بِهِ الْحَنَفِيَّةُ.
وَإِذَا لَمْ يَجِبِ الْقِصَاصُ فَعَلَى الْجَارِحِ نِصْفُ الدِّيَةِ فِي مَالِهِ، وَلاَ يُشْتَرَطُ الْقَسَامَةُ فِي وُجُوبِ نِصْفِ الدِّيَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، لَكِنَّهُمْ أَضَافُوا: أَنَّ الْجَارِحَ يُضْرَبُ مِائَةً وَيُحْبَسُ عَامًا كَذَلِكَ (2)
23 - وَالْمَعْلُومُ أَنَّ الدِّيَةَ تُقْسَمُ عَلَى مَنِ اشْتَرَكَ فِي الْقَتْل، وَعَلَى الأَْفْعَال الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى الْقَتْل، فَإِذَا حَصَل الْقَتْل بِفِعْل نَفْسِهِ وَبِفِعْل الشَّرِيكِ وَلَمْ نَقُل بِوُجُوبِ الْقِصَاصِ، يَجِبُ عَلَى الشَّرِيكِ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَبِهَذَا صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ إِنْ مَاتَ شَخْصٌ بِفِعْل نَفْسِهِ وَفِعْل زَيْدٍ وَأَسَدٍ وَحَيَّةٍ ضَمِنَ زَيْدٌ ثُلُثَ الدِّيَةِ؛ لأَِنَّ فِعْل الأَْسَدِ وَالْحَيَّةِ جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ
__________
(1) المغني 9 / 380، ونهاية المحتاج 7 / 262، والشرح الكبير للدردير 4 / 245
(2) المغني 9 / 380، والفتاوى الهندية 6 / 4، ونهاية المحتاج 7 / 262، والشرح الكبير للدردير 4 / 247، والخرشي 8 / 11(6/290)
هَدَرٌ فِي الدَّارَيْنِ، وَفِعْل زَيْدٍ مُعْتَبَرٌ فِي الدَّارَيْنِ (1) ، وَفِعْل نَفْسِهِ هَدَرٌ فِي الدُّنْيَا لاَ الْعُقْبَى، حَتَّى يَأْثَمَ بِالإِْجْمَاعِ (2) .
24 - وَتَعَرَّضَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى مَسْأَلَةٍ أُخْرَى لَهَا أَهَمِّيَّتُهَا فِي اشْتِرَاكِ الشَّخْصِ فِي قَتْل نَفْسِهِ، وَهِيَ مُدَاوَاةُ الْجُرْحِ بِالسُّمِّ الْمُهْلِكِ. فَإِنْ جَرَحَهُ إِنْسَانٌ فَتَدَاوَى بِسُمٍّ مُذَفَّفٍ يَقْتُل فِي الْحَال، فَقَدْ قَتَل نَفْسَهُ وَقَطَعَ سِرَايَةَ الْجُرْحِ، وَجَرَى مَجْرَى مَنْ ذَبَحَ نَفْسَهُ بَعْدَ أَنْ جُرِحَ، فَلاَ قِصَاصَ وَلاَ دِيَةَ عَلَى جَارِحِهِ فِي النَّفْسِ، وَيُنْظَرُ فِي الْجُرْحِ، فَإِنْ كَانَ مُوجِبًا لِلْقِصَاصِ فَلِوَلِيِّهِ اسْتِيفَاؤُهُ، وَإِلاَّ فَلِوَلِيِّهِ الأَْرْشُ وَإِنْ كَانَ السُّمُّ لاَ يَقْتُل فِي الْغَالِبِ، أَوْ لَمْ يُعْلَمْ حَالُهُ، أَوْ قَدْ يَقْتُل بِفِعْل الرَّجُل فِي نَفْسِهِ، فَالْقَتْل شَبَهُ عَمْدٍ، وَالْحُكْمُ فِي شَرِيكِهِ كَالْحُكْمِ فِي شَرِيكِ الْمُخْطِئِ. وَإِذَا لَمْ يَجِبِ الْقِصَاصُ عَلَى الْجَارِحِ فَعَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ.
وَإِنْ كَانَ السُّمُّ يَقْتُل غَالِبًا، وَعُلِمَ حَالُهُ، فَحُكْمُهُ كَشَرِيكِ جَارِحِ نَفْسِهِ، فَيَلْزَمُهُ الْقِصَاصُ، وَفِي الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - أَوْ هُوَ شَرِيكٌ مُخْطِئٌ فِي قَوْلٍ آخَرَ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ وَجْهٌ آخَرُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، فَلاَ قَوَدَ عَلَيْهِ، لأَِنَّهُ لَمْ يَقْصِدِ الْقَتْل، وَإِنَّمَا قَصَدَ التَّدَاوِيَ (3)
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَلاَ قِصَاصَ عِنْدَهُمْ عَلَى الْجَارِحِ بِحَالٍ، سَوَاءٌ أَكَانَ التَّدَاوِي بِالسُّمِّ عَمْدًا أَمْ كَانَ خَطَأً؛ لأَِنَّ الأَْصْل عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لاَ يُقْتَل شَرِيكُ مَنْ لاَ
__________
(1) أي الدار الدنيا والدار الآخرة
(2) ابن عابدين 5 / 350
(3) المغني لابن قدامة 9 / 381، ونهاية المحتاج 7 / 263(6/291)
قِصَاصَ عَلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ (1) .
كَذَلِكَ لاَ قِصَاصَ عَلَى الْجَارِحِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ قَوْلاً وَاحِدًا إِذَا تَدَاوَى الْمَقْتُول بِالسُّمِّ خَطَأً، بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمْ أَنَّهُ " لاَ يُقْتَل شَرِيكٌ مُخْطِئٌ " (2) وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ فِي شَرِيكِ جَارِحِ نَفْسِهِ عَمْدًا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ قَوْلَيْنِ (3)
الآْثَارُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَى الاِنْتِحَارِ:
أَوَّلاً: إِيمَانُ أَوْ كُفْرُ الْمُنْتَحِرِ:
25 - وَرَدَ فِي الأَْحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَدُل ظَاهِرُهُ عَلَى خُلُودِ قَاتِل نَفْسِهِ فِي النَّارِ وَحِرْمَانِهِ مِنَ الْجَنَّةِ. مِنْهَا مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَل نَفْسَهُ فَهُوَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ قَتَل نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَجَأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا (4) وَمِنْهَا حَدِيثُ جُنْدَبٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: كَانَ بِرَجُلٍ جِرَاحٌ فَقَتَل نَفْسَهُ، فَقَال اللَّهُ: بِدَرَنِي عَبْدِي نَفْسَهُ، حَرَّمْتُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ (5)
وَظَاهِرُ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الأَْحَادِيثِ يَدُل عَلَى كُفْرِ الْمُنْتَحِرِ؛ لأَِنَّ الْخُلُودَ فِي النَّارِ وَالْحِرْمَانَ مِنَ الْجَنَّةِ جَزَاءُ الْكُفَّارِ عِنْدَ أَهْل السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ.
لَكِنَّهُ لَمْ يَقُل بِكُفْرِ الْمُنْتَحِرِ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمَذَاهِبِ الأَْرْبَعَةِ؛ لأَِنَّ الْكُفْرَ هُوَ الإِْنْكَارُ وَالْخُرُوجُ عَنْ دِينِ
__________
(1) الفتاوى الهندية 6 / 4
(2) الشرح الصغير 4 / 347
(3) الخرشي 8 / 11
(4) حديث: " من تردى. . . . . " سبق تخريجه ف / 8.
(5) حديث: " كان برجل جراح. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 6 / 496 - ط السلفية) .(6/291)
الإِْسْلاَمِ، وَصَاحِبُ الْكَبِيرَةِ - غَيْرَ الشِّرْكِ - لاَ يَخْرُجُ عَنِ الإِْسْلاَمِ عِنْدَ أَهْل السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَقَدْ صَحَّتِ الرِّوَايَاتُ أَنَّ الْعُصَاةَ مِنْ أَهْل التَّوْحِيدِ يُعَذَّبُونَ ثُمَّ يَخْرُجُونَ. (1) بَل قَدْ صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ فِي أَكْثَرَ مِنْ مَوْضِعٍ بِأَنَّ الْمُنْتَحِرَ لاَ يَخْرُجُ عَنِ الإِْسْلاَمِ، وَلِهَذَا قَالُوا بِغُسْلِهِ وَالصَّلاَةِ عَلَيْهِ كَمَا سَيَأْتِي، وَالْكَافِرُ لاَ يُصَلَّى عَلَيْهِ إِجْمَاعًا. ذُكِرَ فِي الْفَتَاوَى الْخَانِيَّةِ: الْمُسْلِمُ إِذَا قَتَل نَفْسَهُ فِي قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ يُغَسَّل وَيُصَلَّى عَلَيْهِ.
وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ قَاتِل نَفْسِهِ لاَ يَخْرُجُ عَنِ الإِْسْلاَمِ، كَمَا وَصَفَهُ الزَّيْلَعِيُّ وَابْنُ عَابِدِينَ بِأَنَّهُ فَاسِقٌ كَسَائِرِ فُسَّاقِ الْمُسْلِمِينَ (2) كَذَلِكَ نُصُوصُ الشَّافِعِيَّةِ تَدُل عَلَى عَدَمِ كُفْرِ الْمُنْتَحِرِ. (3)
وَمَا جَاءَ فِي الأَْحَادِيثِ مِنْ خُلُودِ الْمُنْتَحِرِ فِي النَّارِ مَحْمُولٌ عَلَى مَنِ اسْتَعْجَل الْمَوْتَ بِالاِنْتِحَارِ، وَاسْتَحَلَّهُ، فَإِنَّهُ بِاسْتِحْلاَلِهِ يَصِيرُ كَافِرًا؛ لأَِنَّ مُسْتَحِل الْكَبِيرَةِ كَافِرٌ عِنْدَ أَهْل السُّنَّةِ، وَالْكَافِرُ مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ بِلاَ رَيْبٍ، وَقِيل: وَرَدَ مَوْرِدَ الزَّجْرِ وَالتَّغْلِيظِ، وَحَقِيقَتُهُ غَيْرُ مُرَادَةٍ.
وَيَقُول ابْنُ عَابِدِينَ فِي قَبُول تَوْبَتِهِ: الْقَوْل بِأَنَّهُ لاَ تَوْبَةَ لَهُ مُشْكِلٌ عَلَى قَوَاعِدِ أَهْل السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، لإِِطْلاَقِ النُّصُوصِ فِي قَبُول تَوْبَةِ الْعَاصِي، بَل التَّوْبَةُ مِنَ الْكَافِرِ مَقْبُولَةٌ قَطْعًا، وَهُوَ أَعْظَمُ وِزْرًا. وَلَعَل الْمُرَادَ مَا إِذَا تَابَ حَالَةَ الْيَأْسِ، كَمَا إِذَا فَعَل بِنَفْسِهِ مَا لاَ يَعِيشُ مَعَهُ عَادَةً، كَجُرْحٍ مُزْهِقٍ فِي سَاعَتِهِ،
__________
(1) ابن عابدين 1 / 184.
(2) الفتاوى الخانية بهامش الفتاوى الهندية 1 / 186، وتبيين الحقائق شرح كنز الدقائق للزيلعي 1 / 250، وابن عابدين 1 / 184.
(3) نهاية المحتاج 2 / 432.(6/292)
وَإِلْقَائِهِ نَفْسَهُ فِي بَحْرٍ أَوْ نَارٍ فَتَابَ. أَمَّا لَوْ جَرَحَ نَفْسَهُ فَبَقِيَ حَيًّا أَيَّامًا مَثَلاً ثُمَّ تَابَ وَمَاتَ، فَيَنْبَغِي الْجَزْمُ بِقَبُول تَوْبَتِهِ. (1)
وَمِمَّا يَدُل عَلَى أَنَّ الْمُنْتَحِرَ تَحْتَ الْمَشِيئَةِ، وَلَيْسَ مَقْطُوعًا بِخُلُودِهِ فِي النَّارِ - حَدِيثُ جَابِرٍ أَنَّهُ قَال لَمَّا هَاجَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ هَاجَرَ إِلَيْهِ الطُّفَيْل بْنُ عَمْرٍو، وَهَاجَرَ مَعَهُ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ فَاجْتَوَوُا الْمَدِينَةَ، فَمَرِضَ فَجَزِعَ، فَأَخَذَ مَشَاقِصَ، فَقَطَعَ بِهَا بَرَاجِمَهُ فَشَخَبَتْ يَدَاهُ حَتَّى مَاتَ، فَرَآهُ الطُّفَيْل بْنُ عَمْرٍو فِي مَنَامِهِ وَهَيْئَتُهُ حَسَنَةٌ، وَرَآهُ مُغَطِّيًا يَدَيْهِ، فَقَال لَهُ: مَا صَنَعَ بِكَ رَبُّكَ؟ قَال: غَفَرَ لِي بِهِجْرَتِي إِلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: مَا لِي أَرَاكَ مُغَطِّيًا يَدَيْكَ؟ قَال: قِيل لِي: لَنْ نُصْلِحَ مِنْكَ مَا أَفْسَدْتَ، فَقَصَّهَا الطُّفَيْل عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِيَدَيْهِ فَاغْفِرْ (2)
وَهَذَا كُلُّهُ يَدُل عَلَى أَنَّ الْمُنْتَحِرَ لاَ يَخْرُجُ بِذَلِكَ عَنْ كَوْنِهِ مُسْلِمًا، لَكِنَّهُ ارْتَكَبَ كَبِيرَةً فَيُسَمَّى فَاسِقًا.
ثَانِيًا: جَزَاءُ الْمُنْتَحِرِ:
26 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَمُتْ مَنْ حَاوَل الاِنْتِحَارَ عُوقِبَ عَلَى مُحَاوِلَتِهِ الاِنْتِحَارَ، لأَِنَّهُ أَقْدَمَ عَلَى قَتْل النَّفْسِ الَّذِي يُعْتَبَرُ مِنَ الْكَبَائِرِ.
__________
(1) ابن عابدين 1 / 184، وانظر أيضا القليوبي مع حاشية عميرة 1 / 348، 349، والشرح الصغير 1 / 574، والمغني مع الشرح الكبير 2 / 418.
(2) حديث جابر: " لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة هاجر إليه. . . " أخرجه مسلم (1 / 109 - ط الحلبي) .(6/292)
كَذَلِكَ لاَ دِيَةَ عَلَيْهِ سَوَاءٌ أَكَانَ الاِنْتِحَارُ عَمْدًا أَمْ خَطَأً عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عَنِ الْحَنَابِلَةِ) لأَِنَّ الْعُقُوبَةَ تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ، وَلأَِنَّ عَامِرَ بْنَ الأَْكْوَعِ بَارَزَ مَرْحَبًا يَوْمَ خَيْبَرَ، فَرَجَعَ سَيْفُهُ عَلَى نَفْسِهِ فَمَاتَ (1) وَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِيهِ بِدِيَةٍ وَلاَ غَيْرِهَا، وَلَوْ وَجَبَتْ لَبَيَّنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلأَِنَّهُ جَنَى عَلَى نَفْسِهِ فَلَمْ يَضْمَنْهُ غَيْرُهُ، وَلأَِنَّ وُجُوبَ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ فِي الْخَطَأِ إِنَّمَا كَانَ مُوَاسَاةً لِلْجَانِي وَتَخْفِيفًا عَنْهُ، وَلَيْسَ عَلَى الْجَانِي هَاهُنَا شَيْءٌ يَحْتَاجُ إِلَى الإِْعَانَةِ وَالْمُوَاسَاةِ، فَلاَ وَجْهَ لإِِيجَابِهِ (2)
وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ عَلَى عَاقِلَةِ الْمُنْتَحِرِ خَطَأً دِيَتَهُ لِوَرَثَتِهِ، وَبِهِ قَال الأَْوْزَاعِيُّ وَإِسْحَاقُ، لأَِنَّهَا جِنَايَةُ خَطَأٍ، فَكَانَ عَقْلُهَا (دِيَتُهَا) عَلَى عَاقِلَتِهِ كَمَا لَوْ قَتَل غَيْرَهُ.
فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ إِنْ كَانَتِ الْعَاقِلَةُ الْوَرَثَةَ لَمْ يَجِبْ شَيْءٌ، لأَِنَّهُ لاَ يَجِبُ لِلإِْنْسَانِ شَيْءٌ عَلَى نَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ وَارِثًا سَقَطَ عَنْهُ مَا يُقَابِل نَصِيبَهُ، وَعَلَيْهِ مَا زَادَ عَلَى نَصِيبِهِ، وَلَهُ مَا بَقِيَ إِنْ كَانَ نَصِيبُهُ مِنَ الدَّيْنِ أَكْثَرَ مِنَ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ (3)
27 - اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ، فَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ - وَهُوَ رَأْيُ الْحَنَابِلَةِ فِي قَتْل الْخَطَأِ - تَلْزَمُ الْكَفَّارَةُ مِنْ سِوَى الْحَرْبِيِّ مُمَيِّزًا كَانَ أَمْ لاَ، بِقَتْل كُل آدَمِيٍّ مِنْ مُسْلِمٍ - وَلَوْ فِي دَارِ الْحَرْبِ - وَذِمِّيٍّ وَجَنِينٍ وَعَبْدٍ
__________
(1) الأثر: (أن عامر بن الأكوع بارز. . . . " أخرجه مسلم (3 / 1440 - ط الحلبي) .
(2) ابن عابدين 5 / 350، وجواهر الإكليل 2 / 272، ونهاية المحتاج 7 / 366، والمغني 9 / 509، والخرشي 8 / 50.
(3) المغني مع الشرح الكبير 9 / 509.(6/293)
وَنَفْسِهِ عَمْدًا أَوْ خَطَأً. (1)
هَكَذَا عَمَّمُوا فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ، وَتَخْرُجُ مِنْ تَرِكَةِ الْمُنْتَحِرِ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَل مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} (2) وَلأَِنَّهُ آدَمِيٌّ مَقْتُولٌ خَطَأً، فَوَجَبَتِ الْكَفَّارَةُ عَلَى قَاتِلِهِ كَمَا لَوْ قَتَلَهُ غَيْرُهُ. (3)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لاَ كَفَّارَةَ عَلَى قَاتِل نَفْسِهِ خَطَأً أَوْ عَمْدًا. وَهَذَا هُوَ قَوْل الْحَنَابِلَةِ فِي الْعَمْدِ، لِسُقُوطِ صَلاَحِيَّتِهِ لِلْخِطَابِ بِمَوْتِهِ، كَمَا تَسْقُطُ دِيَتُهُ عَنِ الْعَاقِلَةِ لِوَرَثَتِهِ. قَال ابْنُ قُدَامَةَ: هَذَا أَقْرَبُ إِلَى الصَّوَابِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَإِنَّ عَامِرَ بْنَ الأَْكْوَعِ قَتَل نَفْسَهُ خَطَأً وَلَمْ يَأْمُرِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ بِكَفَّارَةٍ. وقَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَل مُؤْمِنًا خَطَأً} إِنَّمَا أُرِيدَ بِهِ إِذَا قَتَل غَيْرَهُ، بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى: {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} وَقَاتِل نَفْسِهِ لاَ تَجِبُ فِيهِ دِيَةٌ. كَذَلِكَ رَدَّ الْمَالِكِيَّةُ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ بِدَلِيل أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} (4) مُخْرِجٌ قَاتِل نَفْسِهِ، لاِمْتِنَاعِ تَصَوُّرِ هَذَا الْجُزْءِ مِنَ الْكَفَّارَةِ، وَإِذَا بَطَل الْجُزْءُ بَطَل الْكُل. (5)
ثَالِثًا: غُسْل الْمُنْتَحِرِ:
28 - مَنْ قَتَل نَفْسَهُ خَطَأً، كَأَنْ صَوَّبَ سَيْفَهُ إِلَى
__________
(1) أسنى المطالب 4 / 95، ونهاية المحتاج 7 / 366، والمغني 5 / 39.
(2) سورة النساء / 92.
(3) أسنى المطالب 4 / 95، ونهاية المحتاج 7 / 366، والمغني 5 / 39.
(4) سورة النساء / 92.
(5) المغني 10 / 39، وجواهر الإكليل 2 / 72، ومواهب الجليل 6 / 268، وأيضا البدائع 7 / 252.(6/293)
عَدُوِّهِ لِيَضْرِبَهُ بِهِ فَأَخْطَأَ وَأَصَابَ نَفْسَهُ وَمَاتَ، غُسِّل وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بِلاَ خِلاَفٍ، كَمَا عَدَّهُ بَعْضُهُمْ مِنَ الشُّهَدَاءِ. (1)
وَكَذَلِكَ الْمُنْتَحِرُ عَمْدًا، لأَِنَّهُ لاَ يَخْرُجُ عَنِ الإِْسْلاَمِ بِسَبَبِ قَتْلِهِ نَفْسَهُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ كَمَا سَبَقَ، وَلِهَذَا صَرَّحُوا بِوُجُوبِ غُسْلِهِ كَغَيْرِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (2) وَادَّعَى الرَّمْلِيُّ الإِْجْمَاعَ عَلَيْهِ حَيْثُ قَال: وَغُسْلُهُ وَتَكْفِينُهُ وَالصَّلاَةُ عَلَيْهِ وَحَمْلُهُ وَدَفْنُهُ فُرُوضُ كِفَايَةٍ إِجْمَاعًا، لِلأَْمْرِ بِهِ فِي الأَْخْبَارِ الصَّحِيحَةِ، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ قَاتِل نَفْسِهِ وَغَيْرُهُ. (3)
رَابِعًا: الصَّلاَةُ عَلَى الْمُنْتَحِرِ:
29 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ) أَنَّ الْمُنْتَحِرَ يُصَلَّى عَلَيْهِ، لأَِنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنِ الإِْسْلاَمِ بِسَبَبِ قَتْلِهِ نَفْسَهُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلِمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: صَلُّوا عَلَى مَنْ قَال لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ (4) وَلأَِنَّ الْغُسْل وَالصَّلاَةَ مُتَلاَزِمَانِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، فَكُل مَنْ وَجَبَ غُسْلُهُ وَجَبَتِ الصَّلاَةُ عَلَيْهِ، وَكُل مَنْ لَمْ يَجِبْ غُسْلُهُ لاَ تَجِبُ الصَّلاَةُ عَلَيْهِ. (5)
وَقَال عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالأَْوْزَاعِيُّ - وَهُوَ رَأْيُ
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 163، وابن عابدين 1 / 584
(2) ابن عابدين 1 / 584، والفتاوى البزازية على الهندية 1 / 186.
(3) نهاية المحتاج2 / 432.
(4) حديث: " صلوا على من قال لا إله إلا الله " أخرجه الطبراني من حديث ابن عمر، وفي إسناده من اتهم بالكذب. (فيض القدير للمناوي 4 / 203 - ط المكتبة التجارية) .
(5) القليوبي مع حاشية عميرة 1 / 348، 349، والفتاوى الهندية 1 / 163، وابن عابدين 1 / 584، وبلغة السالك على أقرب المسالك 1 / 543، وجواهر الإكليل 1 / 106.(6/294)
أَبِي يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَصَحَّحَهُ بَعْضُهُمْ - لاَ يُصَلَّى عَلَى قَاتِل نَفْسِهِ بِحَالٍ، لِمَا رَوَى جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ: أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ قَتَل نَفْسَهُ بِمَشَاقِصَ فَلَمْ يُصَل عَلَيْهِ (1) وَلِمَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ أَنَّ رَجُلاً انْطَلَقَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ عَنْ رَجُلٍ قَدْ مَاتَ قَال: وَمَا يُدْرِيكَ؟ قَال: رَأَيْتُهُ يَنْحَرُ نَفْسَهُ، قَال: أَنْتَ رَأَيْتَهُ؟ قَال: نَعَمْ. قَال. إِذَنْ لاَ أُصَلِّي عَلَيْهِ (2) .
وَعَلَّلَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الْمُنْتَحِرَ لاَ تَوْبَةَ لَهُ فَلاَ يُصَلَّى عَلَيْهِ (3)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ يُصَلِّي الإِْمَامُ عَلَى مَنْ قَتَل نَفْسَهُ عَمْدًا، وَيُصَلِّي عَلَيْهِ سَائِرُ النَّاسِ. أَمَّا عَدَمُ صَلاَةِ الإِْمَامِ عَلَى الْمُنْتَحِرِ فَلِحَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ السَّابِقِ ذِكْرُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُصَل عَلَى قَاتِل نَفْسِهِ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الإِْمَامَ، فَأُلْحِقَ بِهِ غَيْرُهُ مِنَ الأَْئِمَّةِ (4)
وَأَمَّا صَلاَةُ سَائِرِ النَّاسِ عَلَيْهِ، فَلِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ حِينَ امْتَنَعَ عَنِ الصَّلاَةِ عَلَى قَاتِل نَفْسِهِ لَمْ يَنْهَ عَنِ الصَّلاَةِ عَلَيْهِ. وَلاَ يَلْزَمُ مِنْ تَرْكِ صَلاَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرْكُ صَلاَةِ غَيْرِهِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي بَدْءِ الإِْسْلاَمِ لاَ يُصَلِّي عَلَى مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ لاَ
__________
(1) حديث جابر بن سمرة: " أتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل قتل نفسه. . . . " أخرجه مسلم (2 / 672 - ط الحلبي) .
(2) حديث: " إذن لا أصلي عليه " أخرجه أبو داود (3 / 526 - ط عزت عبيد دعاس) وإسناده صحيح، وأخرجه مسلم مختصرا كما تقدم.
(3) المغني 2 / 418، وابن عابدين 1 / 584.
(4) المغني 2 / 418.(6/294)
وَفَاءَ لَهُ، وَيَأْمُرُهُمْ بِالصَّلاَةِ عَلَيْهِ. (1)
كَمَا يَدُل عَلَى هَذَا التَّخْصِيصِ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: أَمَّا أَنَا فَلاَ أُصَلِّي عَلَيْهِ (2)
وَذُكِرَ فِي بَعْضِ كُتُبِ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ عَدَمَ صَلاَةِ الإِْمَامِ عَلَى الْمُنْتَحِرِ أَمْرٌ مُسْتَحْسَنٌ، لَكِنَّهُ لَوْ صَلَّى عَلَيْهِ فَلاَ بَأْسَ. فَقَدْ ذَكَرَ فِي الإِْقْنَاعِ: وَلاَ يُسَنُّ لِلإِْمَامِ الأَْعْظَمِ وَإِمَامِ كُل قَرْيَةٍ - وَهُوَ وَالِيهَا فِي الْقَضَاءِ - الصَّلاَةُ عَلَى قَاتِل نَفْسِهِ عَمْدًا، وَلَوْ صَلَّى عَلَيْهِ فَلاَ بَأْسَ. (3)
خَامِسًا: تَكْفِينُ الْمُنْتَحِرِ وَدَفْنُهُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ:
30 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ تَكْفِينِ الْمَيِّتِ الْمُسْلِمِ وَدَفْنِهِ، وَصَرَّحُوا بِأَنَّهُمَا مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ كَالصَّلاَةِ عَلَيْهِ وَغُسْلِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ الْمُنْتَحِرُ؛ لأَِنَّ الْمُنْتَحِرَ لاَ يَخْرُجُ عَنِ الإِْسْلاَمِ بِارْتِكَابِهِ قَتْل نَفْسِهِ كَمَا مَرَّ. (4)
__________
(1) المغني 2 / 418، 419، والإقناع 1 / 228. وحديث: " أمر بالصلاة على من عليه دين " أخرجه البخاري (4 / 467 - الفتح - ط السلفية) .
(2) حديث: " أما أنا فلا أصلي عليه " أخرجه النسائي (4 / 66 - ط المكتبة التجارية) وإسناده صحيح، وأخرج أصله مسلم في صحيحه كما تقدم.
(3) الإقناع 1 / 228.
(4) تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق للزيلعي 1 / 238، والشرح الصغير 1 / 543، وكشاف القناع 2 / 85، ونهاية المحتاج 2 / 432.(6/295)
انْتِسَابٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِنْتِسَابُ لُغَةً: مَصْدَرُ انْتَسَبَ، وَانْتَسَبَ فُلاَنٌ إِلَى فُلاَنٍ: عَزَا نَفْسَهُ إِلَيْهِ، وَالنِّسْبَةُ وَالنُّسْبَةُ وَالنَّسَبُ: الْقَرَابَةُ، وَيَكُونُ الاِنْتِسَابُ إِلَى الآْبَاءِ وَإِلَى الْقَبَائِل، (1) وَإِلَى الْبِلاَدِ، وَيَكُونُ إِلَى الصَّنَائِعِ.
وَالاِنْتِسَابُ فِي الاِصْطِلاَحِ لاَ يَخْرُجُ عَنْ هَذِهِ الْمَعَانِي
أَنْوَاعُ الاِنْتِسَابِ
:
أ - الاِنْتِسَابُ لِلأَْبَوَيْنِ:
2 - وَيَكُونُ بِالْبُنُوَّةِ أَوِ التَّبَنِّي.
فَإِذَا كَانَ بِالْبُنُوَّةِ فَحُكْمُهُ الْوُجُوبُ عِنْدَ الصِّدْقِ، وَالْحُرْمَةُ عِنْدَ الْكَذِبِ (2) ، لِقَوْل النَّبِيِّ أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَدْخَلَتْ عَلَى قَوْمٍ مَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ، فَلَيْسَتْ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ، وَلَنْ يُدْخِلَهَا اللَّهُ جَنَّتَهُ، وَأَيُّمَا رَجُلٍ جَحَدَ وَلَدَهُ، وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ احْتَجَبَ اللَّهُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَفَضَحَهُ عَلَى رُءُوسِ الأَْوَّلِينَ وَالآْخِرِينَ. (3)
وَإِذَا كَانَ بِالتَّبَنِّي - فَحُكْمُهُ الْحُرْمَةُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى
__________
(1) المصباح المنير، ومختار الصحاح مادة: (نسب) .
(2) فتح القدير 3 / 261، وابن عابدين 2 / 592.
(3) حديث: " أيما امرأة. . . . . . " أخرجه أبو داود (2 / 695 - 696 ط عزت عبيد دعاس) وفي إسناده جهالة. (التلخيص لابن حجر 3 / 226 - ط دار المحاسن) .(6/295)
{ادْعُوهُمْ لآِبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} (1) (ر: نَسَب، وَتَبَنِّي)
ب - الاِنْتِسَابُ إِلَى وَلاَءِ الْعَتَاقَةِ:
3 - مِنْ آثَارِهِ: الإِْرْثُ وَالْعَقْل (الْمُشَارَكَةُ فِي تَحَمُّل الدِّيَةِ) فِي الْجُمْلَةِ.
فَإِذَا مَاتَ الْعَتِيقُ وَلاَ وَارِثَ لَهُ بِنَسَبٍ وَلاَ نِكَاحٍ، وَلَمْ تَسْتَغْرِقْ فُرُوضُ الْوَارِثِينَ التَّرِكَةَ، وَلَيْسَ لَهُ عَصَبَةٌ بِالنَّسَبِ - يَكُونُ الْمَال كُلُّهُ، أَوِ الْبَاقِي بَعْدَ الْفَرْضِ لِمَنْ أَعْتَقَهُ. وَفِي تَقْدِيمِ ذَوِي الأَْرْحَامِ، وَالرَّدِّ عَلَيْهِ رَأْيَانِ (2) (ر: إِرْث، وَلاَء)
ج - الاِنْتِسَابُ إِلَى وَلاَءِ الْمُوَالاَةِ:
4 - قَال بِهِ الْحَنَفِيَّةُ، فَإِذَا أَسْلَمَ رَجُلٌ مُكَلَّفٌ عَلَى يَدِ آخَرَ وَوَالاَهُ أَوْ وَالَى غَيْرَهُ عَلَى أَنْ يَرِثَهُ إِذَا مَاتَ، وَيَعْقِل عَنْهُ إِذَا جَنَى، صَحَّ هَذَا الْعَقْدُ، وَعَقْلُهُ (دِيَتُهُ) عَلَيْهِ، وَإِرْثُهُ لَهُ، وَكَذَا لَوْ شُرِطَ الإِْرْثُ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، وَكَذَا لَوْ وَالَى صَبِيٌّ عَاقِلٌ بِإِذْنِ أَبِيهِ أَوْ وَصِيِّهِ صَحَّ لِعَدَمِ الْمَانِعِ (3)
د - الاِنْتِسَابُ إِلَى الصَّنْعَةِ أَوِ الْقَبِيلَةِ أَوِ الْقَرْيَةِ:
5 - الاِنْتِسَابُ إِلَى الصَّنْعَةِ أَوِ الْقَبِيلَةِ أَوِ الْقَرْيَةِ
__________
(1) سورة الاحزاب / 5 وانظر القرطبي 14 / 120 ط دار الكتب، والألوسي 21 / 148.
(2) ابن عابدين 5 / 74، والشرح الصغير 4 / 571 ط دار المعارف، والقليوبي 3 / 145، والمغني 6 / 356.
(3) ابن عابدين 5 / 78.(6/296)
كَالنَّجَّارِ وَالْخَزَفِيِّ - جَائِزٌ، وَكَفُلاَنٍ الْقُرَشِيِّ وَالتَّمِيمِيِّ؛ نِسْبَةً إِلَى قُرَيْشٍ وَإِلَى تَمِيمٍ، وَالْبُخَارِيِّ، وَالْقُرْطُبِيِّ نِسْبَةً إِلَى بُخَارَى، وَقُرْطُبَةَ، وَعَلَى ذَلِكَ إِجْمَاعُ الأُْمَّةِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ.
هـ - انْتِسَابُ وَلَدِ الْمُلاَعَنَةِ:
6 - إِذَا قَذَفَ الرَّجُل زَوْجَتَهُ، وَنَفَى نَسَبَ الْوَلَدِ مِنْهُ، وَتَمَّ اللِّعَانُ بَيْنَهُمَا بِشُرُوطِهِ، نَفَى الْحَاكِمُ نَسَبَهُ عَنْ أَبِيهِ وَأَلْحَقَهُ بِأُمِّهِ. (1) ر: (لِعَان)
و الاِنْتِسَابُ إِلَى الْقَرَابَةِ مِنْ جِهَةِ الأُْمِّ:
7 - لِلاِنْتِسَابِ إِلَى الأُْمِّ وَأُصُولِهَا وَفُرُوعِهَا أَحْكَامٌ مُتَعَدِّدَةٌ، مِثْل حُكْمِ النَّظَرِ، وَالإِْرْثِ، وَالْوِلاَيَةِ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ، وَالْوَصِيَّةِ، وَحُرْمَةِ النِّكَاحِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامٍ تَتَرَتَّبُ عَلَى هَذِهِ النِّسْبَةِ. وَيُرَاجَعُ فِي ذَلِكَ تِلْكَ الأَْبْوَابُ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ وَالْمُصْطَلَحَاتُ الْمُخْتَصَّةُ بِتِلْكَ الأَْبْوَابِ، نَحْوَ (إِرْث، وِلاَيَة، نِكَاح، نَظَر، سَفَر)
انْتِشَاءٌ
.
انْظُرْ: سُكْر، مُخَدِّر
__________
(1) ابن عابدين 2 / 589، والقليوبي وعميرة 4 / 34 ط الحلبي، والشرح الصغير 2 / 657 ط المعارف، والمغني 7 / 423.(6/296)
انْتِشَارٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِنْتِشَارُ مَصْدَرُ: انْتَشَرَ، يُقَال انْتَشَرَ الْخَبَرُ: إِذَا ذَاعَ. وَانْتَشَرَ النَّهَارُ: طَال وَامْتَدَّ. (1)
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
2 - أ - الاِسْتِفَاضَةُ. يُقَال اسْتَفَاضَ الْخَبَرُ: إِذَا ذَاعَ وَانْتَشَرَ. (3) وَلاَ تَكُونُ الاِسْتِفَاضَةُ إِلاَّ فِي الأَْخْبَارِ، بِخِلاَفِ الاِنْتِشَارِ
ب - الإِْشَاعَةُ. أَشَاعَ الْخَبَرَ بِمَعْنَى أَظْهَرَهُ فَانْتَشَرَ (4)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
يُطْلِقُ الْفُقَهَاءُ لَفْظَ الاِنْتِشَارِ عَلَى مَعْنَيَيْنِ:
الأَْوَّل: بِمَعْنَى إِنْعَاظِ الذَّكَرِ، أَيْ قِيَامُهُ.
الثَّانِي: بِمَعْنَى شُيُوعِ الشَّيْءِ.
3 - فَالاِنْتِشَارُ بِالْمَعْنَى الأَْوَّل لَهُ أَثَرٌ فِي تَرَتُّبِ الأَْحْكَامِ الْفِقْهِيَّةِ عَلَيْهِ، وَمِنْ ذَلِكَ:
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير والمفردات للراغب مادة (نشر) .
(2) ابن عابدين 1 / 113 ط ثالثة، والدسوقي 1 / 121 ط دار الفكر، والمهذب 2 / 156 ط دار المعرفة.
(3) لسان العرب، وابن عابدين 2 / 97، والحطاب 2 / 383 ط النجاح ليبيا.
(4) لسان العرب، والقليوبي 4 / 32 ط الحلبي.(6/297)
أ - حِل الْمُطَلَّقَةِ ثَلاَثًا لِمَنْ طَلَّقَهَا، فَمَنْ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ ثَلاَثًا لاَ تَحِل لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، وَيَطَأَهَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلاَ تَحِل لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (1) وَلاَ تَحِل إِلاَّ بِالْوَطْءِ فِي الْفَرْجِ، وَأَدْنَاهُ تَغْيِيبُ الْحَشَفَةِ، وَلاَ بُدَّ مِنَ الاِنْتِشَارِ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدِ الاِنْتِشَارُ فَلاَ تَحِل، لِمَا رُوِيَ أَنَّ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيَّ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَبَتَّ طَلاَقَهَا، فَتَزَوَّجَهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الزُّبَيْرِ، فَجَاءَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُول اللَّهِ إِنِّي كُنْتُ عِنْدَ رِفَاعَةَ وَطَلَّقَنِي ثَلاَثَ تَطْلِيقَاتٍ، فَتَزَوَّجَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَإِنَّهُ وَاَللَّهِ يَا رَسُول اللَّهِ مَا مَعَهُ إِلاَّ مِثْل هَذِهِ الْهُدْبَةِ، فَتَبَسَّمَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَال: لَعَلَّكِ تُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إِلَى رِفَاعَةَ، لاَ وَاَللَّهِ حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ (2) ، فَقَدْ عَلَّقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحُكْمَ بِذَوْقِ الْعُسَيْلَةِ وَذَلِكَ لاَ يَحْصُل مِنْ غَيْرِ انْتِشَارٍ، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ. (3)
ب - وَمِنْ ذَلِكَ أَثَرُ الاِنْتِشَارِ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى مَنْ أُكْرِهَ عَلَى الزِّنَا. وَفِي ذَلِكَ خِلاَفٌ. فَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ، وَمُقَابِل الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي إِكْرَاهِ غَيْرِ السُّلْطَانِ، إِذَا أُكْرِهَ الرَّجُل فَزَنَى، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لأَِنَّ الْوَطْءَ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بِالاِنْتِشَارِ، وَالإِْكْرَاهُ يُنَافِيهِ، فَإِذَا وُجِدَ
__________
(1) سورة البقرة / 230.
(2) حديث رفاعة: " أتريدين. . . " متفق عليه، واللفظ لمسلم، أخرجه البخاري في الطلاق (9 / 361 - 5260) ط السلفية، ومسلم في النكاح (2 / 1055 / 33) ط عبد الباقي.
(3) الاختيار 3 / 150 ط دار المعرفة، ومنح الجليل 2 / 57 ط النجاح، والمهذب 2 / 105، وشرح منتهى الإرادات 3 / 187 ط دار الفكر.(6/297)
الاِنْتِشَارُ انْتَفَى الإِْكْرَاهُ، فَيَلْزَمُهُ الْحَدُّ.
وَفِي الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ، وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، فِي إِكْرَاهِ ذِي السُّلْطَانِ، أَنَّهُ إِذَا أُكْرِهَ الرَّجُل عَلَى الزِّنَا فَلاَ حَدَّ عَلَيْهِ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ (1) وَلأَِنَّ الاِنْتِشَارَ مُتَرَدِّدٌ، لأَِنَّهُ قَدْ يَكُونُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، لأَِنَّ الاِنْتِشَارَ قَدْ يَكُونُ طَبْعًا لاَ طَوْعًا كَمَا فِي النَّائِمِ. (2) ر: (إِكْرَاه)
4 - أَمَّا الاِنْتِشَارُ بِالْمَعْنَى الثَّانِي: وَهُوَ الشُّيُوعُ، فَقَدْ ذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ فِي ثُبُوتِ الْهِلاَل بِالْخَبَرِ الْمُنْتَشِرِ، (3) وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (اسْتِفَاضَة - صَوْم) .
وَذَكَرُوهُ فِي انْتِشَارِ حُرْمَةِ النِّكَاحِ بِسَبَبِ الرَّضَاعِ إِلَى أُصُول الْمُرْضِعَةِ وَفُرُوعِهَا. (4)
وَانْتِشَارِ الْحُرْمَةِ أَيْضًا بِسَبَبِ الزِّنَا - وَيُنْظَرُ فِي (رَضَاع - وَنِكَاح) .
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
5 - تَتَعَدَّدُ الْمَسَائِل الْفِقْهِيَّةُ الَّتِي تُبْنَى الأَْحْكَامُ فِيهَا
__________
(1) حديث: " رفع عن أمتي. . . " عزاه السيوطي إلى الطبراني في الكبير عن ثوبان. انظر فيض القدير (4 / 34 / 4461) وضعفه المناوي فيه، والصواب رواية البيهقي عن ابن عمر بلفظ " وضع عن أمتي. . . " وأخرجه الحاكم عن ابن عباس (2 / 198) بلفظ " تجاوز الله عن أمتي الخطأ. . . " وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين. ووافقه الذهبي.
(2) الهداية 2 / 104 ط المكتبة الإسلامية، ومنح الجليل 4 / 393، ومغني المحتاج 4 / 145 ط الحلبي، والمهذب 2 / 268، والمغني 8 / 187 ط الرياض.
(3) الحطاب 2 / 383.
(4) المغني 7 / 545، والمهذب 2 / 156.(6/298)
عَلَى الاِنْتِشَارِ، وَذَلِكَ فِي بَابِ الْوُضُوءِ، وَبَابِ الْغُسْل، وَبَابِ الصَّوْمِ، وَفِي النَّظَرِ إِلَى الأَْجْنَبِيَّةِ، وَفِي الْمُحَرَّمَاتِ فِي بَابِ النِّكَاحِ، وَبَابِ الرَّضَاعِ. (1)
انْتِفَاعٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِنْتِفَاعُ مَصْدَرُ: انْتَفَعَ مِنَ النَّفْعِ، وَهُوَ ضِدُّ الضُّرِّ، وَهُوَ مَا يَتَوَصَّل بِهِ الإِْنْسَانُ إِلَى مَطْلُوبِهِ.
فَالاِنْتِفَاعُ: الْوُصُول إِلَى الْمَنْفَعَةِ، يُقَال انْتَفَعَ بِالشَّيْءِ: إِذَا وَصَل بِهِ إِلَى مَنْفَعَةٍ. (2)
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِهَذَا اللَّفْظِ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ. وَذَكَرَ الشَّيْخُ مُحَمَّدُ قَدْرِي بَاشَا فِي مُرْشِدِ الْحَيْرَانِ أَنَّ (الاِنْتِفَاعَ الْجَائِزَ هُوَ حَقُّ الْمُنْتَفِعِ فِي اسْتِعْمَال الْعَيْنِ وَاسْتِغْلاَلِهَا مَا دَامَتْ قَائِمَةً عَلَى حَالِهَا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ رَقَبَتُهَا مَمْلُوكَةً) (3)
2 - وَاسْتُعْمِل هَذَا اللَّفْظُ غَالِبًا مَعَ كَلِمَةِ (حَقٍّ) فَيُقَال: حَقُّ الاِنْتِفَاعِ، وَيُرَادُ بِهِ الْحَقُّ الْخَاصُّ بِشَخْصِ الْمُنْتَفِعِ غَيْرُ الْقَابِل لِلاِنْتِقَال لِلْغَيْرِ. وَقَدْ يُسْتَعْمَل مَعَ كَلِمَتَيْ (مِلْكٌ وَتَمْلِيكٌ) فَيُقَال: مِلْكُ الاِنْتِفَاعِ، وَتَمْلِيكُ الاِنْتِفَاعِ. وَلَعَل الْمُرَادَ بِالْمِلْكِ وَالتَّمْلِيكِ أَيْضًا - حَقُّ الصَّرْفِ الشَّخْصِيِّ الَّذِي يُبَاشِرُ الإِْنْسَانُ بِنَفْسِهِ فَقَطْ (4) . .
__________
(1) ابن عابدين 1 / 113، 115، و285 و5 / 241، والدسوقي 1 / 121، 523.
(2) المصباح المنير، ومعجم متن اللغة مادة (نفع) .
(3) مرشد الحيران مادة (13) .
(4) الفروق للقرافي 1 / 187.(6/298)
مُقَارَنَةٌ بَيْنَ حَقِّ الاِنْتِفَاعِ وَمِلْكِ الْمَنْفَعَةِ:
3 - يُفَرِّقُ الْفُقَهَاءُ بَيْنَ حَقِّ الاِنْتِفَاعِ وَمِلْكِ الْمَنْفَعَةِ مِنْ نَاحِيَةِ الْمَنْشَأِ وَالْمَفْهُومِ وَالآْثَارِ. وَخُلاَصَةُ مَا قِيل فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا وَجْهَانِ:
الأَْوَّل: سَبَبُ حَقِّ الاِنْتِفَاعِ أَعَمُّ مِنْ سَبَبِ مِلْكِ الْمَنْفَعَةِ، لأَِنَّهُ كَمَا يَثْبُتُ بِبَعْضِ الْعُقُودِ كَالإِْجَارَةِ وَالإِْعَارَةِ مَثَلاً، كَذَلِكَ يَثْبُتُ بِالإِْبَاحَةِ الأَْصْلِيَّةِ، كَالاِنْتِفَاعِ مِنَ الطُّرُقِ الْعَامَّةِ وَالْمَسَاجِدِ وَمَوَاقِعِ النُّسُكِ، وَيَثْبُتُ أَيْضًا بِالإِْذْنِ مِنْ مَالِكٍ خَاصٍّ. كَمَا لَوْ أَبَاحَ شَخْصٌ لآِخَرَ أَكْل طَعَامٍ مَمْلُوكٍ لَهُ، أَوِ اسْتِعْمَال بَعْضِ مَا يُمْلَكُ
أَمَّا الْمَنْفَعَةُ فَلاَ تُمْلَكُ إِلاَّ بِأَسْبَابٍ خَاصَّةٍ، وَهِيَ الإِْجَارَةُ وَالإِْعَارَةُ وَالْوَصِيَّةُ بِالْمَنْفَعَةِ وَالْوَقْفِ، عَلَى تَفْصِيلٍ وَخِلاَفٍ سَيَأْتِي.
وَعَلَى ذَلِكَ، فَكُل مَنْ يَمْلِكُ الْمَنْفَعَةَ يَسُوغُ لَهُ الاِنْتِفَاعُ، وَلاَ عَكْسَ، فَلَيْسَ كُل مَنْ لَهُ الاِنْتِفَاعُ يَمْلِكُ الْمَنْفَعَةَ، كَمَا فِي الإِْبَاحَةِ مَثَلاً.
الثَّانِي: أَنَّ الاِنْتِفَاعَ الْمَحْضَ حَقٌّ ضَعِيفٌ بِالنِّسْبَةِ لِمِلْكِ الْمَنْفَعَةِ؛ لأَِنَّ صَاحِبَ الْمَنْفَعَةِ يَمْلِكُهَا وَيَتَصَرَّفُ فِيهَا تَصَرُّفَ الْمُلاَّكِ فِي الْحُدُودِ الشَّرْعِيَّةِ، بِخِلاَفِ حَقِّ الاِنْتِفَاعِ الْمُجَرَّدِ، لأَِنَّهُ رُخْصَةٌ لاَ يَتَجَاوَزُ شَخْصَ الْمُنْتَفِعِ.
وَعَلَى هَذَا فَمَنْ مَلَكَ مَنْفَعَةَ شَيْءٍ يَمْلِكُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ بِنَفْسِهِ، أَوْ أَنْ يَنْقُلَهَا إِلَى غَيْرِهِ، وَمَنْ مَلَكَ الاِنْتِفَاعَ بِالشَّيْءِ لاَ يَمْلِكُ أَنْ يَنْقُلَهُ إِلَى غَيْرِهِ. فَالْمَنْفَعَةُ أَعَمُّ أَثَرًا مِنَ الاِنْتِفَاعِ، يَقُول الْقَرَافِيُّ: تَمْلِيكُ الاِنْتِفَاعِ نُرِيدُ بِهِ أَنْ يُبَاشِرَهُ هُوَ بِنَفْسِهِ فَقَطْ، وَتَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ هُوَ أَعَمُّ وَأَشْمَل، فَيُبَاشِرُ بِنَفْسِهِ، وَيُمَكِّنُ غَيْرَهُ مِنَ الاِنْتِفَاعِ بِعِوَضٍ(6/299)
كَالإِْجَارَةِ وَبِغَيْرِ عِوَضٍ كَالْعَارِيَّةِ.
مِثَال الأَْوَّل: سُكْنَى الْمَدَارِسِ، وَالرِّبَاطَاتِ وَالْمَجَالِسِ، فِي الْجَوَامِعِ، وَالْمَسَاجِدِ، وَالأَْسْوَاقِ، وَمَوَاضِعِ النُّسُكِ، كَالْمَطَافِ وَالْمَسْعَى وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَلَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِنَفْسِهِ فَقَطْ. وَلَوْ حَاوَل أَنْ يُؤَاجِرَ بَيْتَ الْمَدْرَسَةِ أَوْ يُسْكِنَ غَيْرَهُ أَوْ يُعَاوِضَ عَلَيْهِ بِطَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ الْمُعَاوَضَاتِ امْتَنَعَ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ بَقِيَّةُ النَّظَائِرِ الْمَذْكُورَةِ مَعَهُ.
وَأَمَّا مَالِكُ الْمَنْفَعَةِ، فَكَمَنِ اسْتَأْجَرَ دَارًا أَوِ اسْتَعَارَهَا، فَلَهُ أَنْ يُؤَاجِرَهَا مِنْ غَيْرِهِ أَوْ يَسْكُنَهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَيَتَصَرَّفَ فِي هَذِهِ الْمَنْفَعَةِ تَصَرُّفَ الْمُلاَّكِ فِي أَمْلاَكِهِمْ عَلَى جَرْيِ الْعَادَةِ، عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي مَلَكَهُ (1)
وَمِثْلُهُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ نُجَيْمٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ مِنْ أَنَّ الْمُوصَى لَهُ يَمْلِكُ الْمَنْفَعَةَ، وَلَهُ حَقُّ الإِْعَارَةِ، وَالْمُسْتَأْجِرُ يُمْكِنُهُ الإِْعَارَةُ وَالإِْجَارَةُ لِلْغَيْرِ فِيمَا لاَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الْمُسْتَعْمِلِينَ. وَيَمْلِكُ الْمُسْتَعِيرُ وَالْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ السُّكْنَى الْمَنْفَعَةَ، فَيُمْكِنُ لَهُمَا نَقْل الْمَنْفَعَةِ إِلَى الْغَيْرِ بِدُونِ عِوَضٍ، لَكِنَّ الْحَنَفِيَّةَ وَالشَّافِعِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ لاَ يُجِيزُونَ لِلْمُسْتَعِيرِ أَنْ يُؤَجِّرَ الْمُسْتَعَارَ لِلْغَيْرِ، خِلاَفًا لِلْمَالِكِيَّةِ (2)
4 - وَمِلْكُ الْمَنْفَعَةِ قَدْ يَكُونُ حَقًّا شَخْصِيًّا غَيْرَ تَابِعٍ لِلْعَيْنِ الْمَمْلُوكَةِ، كَمَا هُوَ ثَابِتٌ لِلْمُسْتَعِيرِ وَالْمُسْتَأْجِرِ فِي الإِْعَارَةِ وَالإِْجَارَةِ، وَقَدْ يَكُونُ حَقًّا عَيْنِيًّا تَابِعًا لِلْعَيْنِ الْمَمْلُوكَةِ مُنْتَقِلاً مِنْ مَالِكٍ إِلَى مَالِكٍ بِالتَّبَعِ ضِمْنَ انْتِقَال الْمِلْكِيَّةِ، وَلاَ يَكُونُ إِلاَّ فِي الْعَقَارِ، وَهَذَا
__________
(1) الفروق للقرافي 1 / 187.
(2) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص143، وكشاف القناع 4 / 57 ط ثالثة، ونهاية المحتاج 5 / 118، والدسوقي 3 / 433.(6/299)
مَا يُسَمَّى بِحَقِّ الاِرْتِفَاقِ. وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (ارْتِفَاق) .
حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ:
5 - الاِنْتِفَاعُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا أَوْ حَرَامًا أَوْ جَائِزًا، وَذَلِكَ بِاعْتِبَارِ مُتَعَلَّقِهِ وَهُوَ الْعَيْنُ الْمُنْتَفَعُ بِهَا، وَنَظَرًا لِلشُّرُوطِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْعَيْنِ وَبِالشَّخْصِ الْمُنْتَفِعِ بِهَا، وَفِيمَا يَلِي أَمْثِلَةٌ لِلاِنْتِفَاعِ الْوَاجِبِ وَالْحَرَامِ وَالْجَائِزِ بِاخْتِصَارٍ.
أ - الاِنْتِفَاعُ الْوَاجِبُ:
6 - لاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ الاِنْتِفَاعَ يَكُونُ وَاجِبًا بِأَكْل الْمُبَاحِ، إِذَا خَافَ الإِْنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ الْهَلاَكَ؛ لأَِنَّ الاِمْتِنَاعَ مِنْهُ إِلْقَاءٌ بِالنَّفْسِ إِلَى التَّهْلُكَةِ، وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (1) حَتَّى إِنَّ الْجُمْهُورَ أَوْجَبُوا الأَْكْل وَالشُّرْبَ فِي حَالَةِ الاِضْطِرَارِ، وَلَوْ كَانَتِ الْعَيْنُ الْمُنْتَفَعُ بِهَا مُحَرَّمَةً. (2)
ب - الاِنْتِفَاعُ الْمُحَرَّمُ:
7 - قَدْ يَكُونُ الاِنْتِفَاعُ بِالشَّيْءِ مُحَرَّمًا، إِذَا كَانَتِ الْعَيْنُ الْمُنْتَفَعُ بِهَا مُحَرَّمَةً شَرْعًا، كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَالْحَيَوَانَاتِ وَالطُّيُورِ الْمُحَرَّمَةِ وَأَمْثَال ذَلِكَ فِي غَيْرِ حَالَةِ الاِضْطِرَارِ.
وَقَدْ يَكُونُ الاِنْتِفَاعُ بِعَيْنٍ مِنَ الأَْعْيَانِ الْمُبَاحَةِ مُحَرَّمًا - سَبَبَ وَصْفٍ قَائِمٍ بِشَخْصِ الْمُنْتَفِعِ،
__________
(1) سورة البقرة / 195.
(2) ابن عابدين 5 / 215، وأسنى المطالب 1 / 570، والمغني 11 / 74.(6/300)
كَالاِنْتِفَاعِ بِلَحْمِ الصَّيْدِ لِلْمُحْرِمِ، وَكَانْتِفَاعِ بِاللُّقَطَةِ لِلْغَنِيِّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. فَإِذَا زَال هَذَا الْوَصْفُ حَل الاِنْتِفَاعُ عَمَلاً بِالْقَاعِدَةِ الْعَامَّةِ: (إِذَا زَال الْمَانِعُ عَادَ الْمَمْنُوعُ) .
وَقَدْ يَكُونُ الاِنْتِفَاعُ بِالشَّيْءِ مُحَرَّمًا، إِذَا كَانَ فِيهِ اعْتِدَاءٌ عَلَى مِلْكِ الْغَيْرِ وَعَدَمُ إِذْنِ الْمَالِكِ، فَيُوجِبُ الضَّمَانَ وَالْعِقَابَ، كَالاِنْتِفَاعِ بِالأَْمْوَال الْمَغْصُوبَةِ وَالْمَسْرُوقَةِ كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي مَوْضِعِهِ.
ج - الاِنْتِفَاعُ الْجَائِزُ:
8 - أَمَّا الاِنْتِفَاعُ الْجَائِزُ فَهُوَ إِذَا كَانَتِ الْعَيْنُ الْمُنْتَفَعُ بِهَا مُبَاحَةً، كَالاِنْتِفَاعِ بِالأَْطْعِمَةِ وَالأَْشْرِبَةِ الْمُبَاحَةِ إِلَى حَدِّ الشِّبَعِ، وَالاِنْتِفَاعِ بِالْمَنَافِعِ الْمُشْتَرَكَةِ كَالشَّوَارِعِ وَضَوْءِ الشَّمْسِ وَالْهَوَاءِ، وَالاِنْتِفَاعِ بِالأَْمْوَال الْمَمْلُوكَةِ بِإِذْنِ الْمَالِكِ، كَالإِْبَاحَةِ، أَوْ بِوَاسِطَةِ الْعَقْدِ كَالاِنْتِفَاعِ بِالْمُسْتَعَارِ وَالْمَأْجُورِ وَالْمَوْقُوفِ وَالْمُوصَى بِهِ حَسَبَ الإِْذْنِ وَالشُّرُوطِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا.
أَسْبَابُ الاِنْتِفَاعِ
9 - الْمُرَادُ بِأَسْبَابِ الاِنْتِفَاعِ مَا يَشْمَل الْمَنْفَعَةَ الَّتِي يُمْكِنُ نَقْلُهَا إِلَى الْغَيْرِ، وَمَا هُوَ خَاصٌّ بِشَخْصِ الْمُنْتَفِعِ وَلاَ يَقْبَل التَّحْوِيل لِلْغَيْرِ، وَسَوَاءٌ كَانَتِ الْعَيْنُ الْمُنْتَفَعُ بِهَا مِمَّا يَجُوزُ الاِنْتِفَاعُ بِهَا ابْتِدَاءً، أَمْ كَانَتْ مُحَرَّمَةً يُنْتَفَعُ بِهَا بِشُرُوطٍ خَاصَّةٍ، فَأَسْبَابُ الاِنْتِفَاعِ بِهَذَا الْمَعْنَى عِبَارَةٌ عَنِ الإِْبَاحَةِ، وَالضَّرُورَةِ، وَالْعَقْدِ.
أَوَّلاً: الإِْبَاحَةُ
10 - الإِْبَاحَةُ: هِيَ الإِْذْنُ بِإِتْيَانِ الْفِعْل كَيْفَ شَاءَ الْفَاعِل. (1)
__________
(1) التعريفات للجرجاني ص 2.(6/300)
وَيُعَرِّفُهَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّهَا: الإِْطْلاَقُ فِي مُقَابَلَةِ الْحَظْرِ الَّذِي هُوَ الْمَنْعُ (1) . وَهِيَ بِهَذَا الْمَعْنَى تَشْمَل:
أ - الإِْبَاحَةَ الأَْصْلِيَّةَ:
وَهِيَ الَّتِي لَمْ يَرِدْ فِيهَا نَصٌّ خَاصٌّ مِنَ الشَّرْعِ، لَكِنْ وَرَدَ بِصِفَةٍ عَامَّةٍ أَنَّهُ يُبَاحُ الاِنْتِفَاعُ بِنَاءً عَلَى الإِْبَاحَةِ الأَْصْلِيَّةِ، حِينَمَا تَكُونُ الأَْعْيَانُ وَالْحُقُوقُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِهَا مُخَصِّصَةً لِمَنْفَعَةِ الْكَافَّةِ، وَلاَ يَمْلِكُهَا وَاحِدٌ مِنَ النَّاسِ، كَالأَْنْهُرِ الْعَامَّةِ، وَالْهَوَاءِ، وَالطُّرُقِ غَيْرِ الْمَمْلُوكَةِ.
فَالاِنْتِفَاعُ مِنَ الأَْنْهُرِ الْعَامَّةِ مُبَاحٌ لاَ لِحَقِّ الشَّفَةِ (شُرْبُ الإِْنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ) فَحَسْبُ، بَل لِسَقْيِ الأَْرَاضِي أَيْضًا كَمَا يَقُول ابْنُ عَابِدِينَ: لِكُلٍّ أَنْ يَسْقِيَ أَرْضَهُ مِنْ بَحْرٍ أَوْ نَهْرٍ عَظِيمٍ كَدِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ إِنْ لَمْ يَضُرَّ بِالْعَامَّةِ (2) .
وَكَذَلِكَ الاِنْتِفَاعُ بِالْمُرُورِ فِي الشَّوَارِعِ وَالطُّرُقِ غَيْرِ الْمَمْلُوكَةِ ثَابِتٌ لِلنَّاسِ جَمِيعًا بِالإِْبَاحَةِ الأَْصْلِيَّةِ، وَيَجُوزُ الْجُلُوسُ فِيهَا لِلاِسْتِرَاحَةِ وَالتَّعَامُل وَنَحْوِهِمَا، إِذَا لَمْ يُضَيِّقْ عَلَى الْمَارَّةِ وَلَهُ تَظْلِيل مَجْلِسِهِ بِمَا لاَ يَضُرُّ الْمَارَّةَ عُرْفًا (3) .
وَمِثْلُهُ الاِنْتِفَاعُ بِشَمْسٍ وَقَمَرٍ وَهَوَاءٍ إِذَا لَمْ يَضُرَّ بِأَحَدٍ لأَِنَّ هَوَاءَ الطَّرِيقِ كَأَصْل الطَّرِيقِ حَقُّ الْمَارَّةِ جَمِيعًا. وَالنَّاسُ فِي الْمُرُورِ فِي الطَّرِيقِ شُرَكَاءُ. (4)
ب - الإِْبَاحَةُ الشَّرْعِيَّةُ.
11 - الإِْبَاحَةُ الشَّرْعِيَّةُ: هِيَ الَّتِي وَرَدَ فِيهَا نَصٌّ خَاصٌّ يَدُل عَلَى حِل الاِنْتِفَاعِ بِهَا، وَذَلِكَ إِمَّا أَنْ
__________
(1) فتح القدير 8 / 79.
(2) ابن عابدين 5 / 284.
(3) نهاية المحتاج 5 / 339.
(4) ابن عابدين 5 / 282، والمبسوط للسرخسي 27 / 9، ونهاية المحتاج 5 / 339، والوجيز للغزالي 1 / 175.(6/301)
يَكُونَ بِلَفْظِ الْحِل، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {أُحِل لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} (1) . أَوْ بِالأَْمْرِ بَعْدَ النَّهْيِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنِ ادِّخَارِ لُحُومِ الأَْضَاحِيِّ، فَكُلُوا وَادَّخِرُوا (2) . أَوْ بِالاِسْتِثْنَاءِ مِنَ التَّحْرِيمِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أَكَل السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} (3) . أَوْ بِنَفْيِ الْجُنَاحِ أَوِ الإِْثْمِ، أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ صِيَغِ الإِْبَاحَةِ كَمَا بَيَّنَهُ الأُْصُولِيُّونَ.
ج - الإِْبَاحَةُ بِإِذْنِ الْمَالِكِ:
12 - هَذِهِ الإِْبَاحَةُ تَثْبُتُ مِنْ مَالِكٍ خَاصٍّ لِغَيْرِهِ بِالاِنْتِفَاعِ بِعَيْنٍ مِنَ الأَْعْيَانِ الْمَمْلُوكَةِ: إِمَّا بِالاِسْتِهْلاَكِ، كَإِبَاحَةِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فِي الْوَلاَئِمِ وَالضِّيَافَاتِ، أَوْ بِالاِسْتِعْمَال كَمَا لَوْ أَبَاحَ إِنْسَانٌ لآِخَرَ اسْتِعْمَال مَا يَشَاءُ مِنْ أَمْلاَكِهِ الْخَاصَّةِ
فَالاِنْتِفَاعُ فِي هَذِهِ الْحَالاَتِ لاَ يَتَجَاوَزُ الشَّخْصَ الْمُبَاحَ لَهُ، وَهُوَ لاَ يَمْلِكُ الشَّيْءَ الْمُنْتَفَعَ بِهِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُبِيحَهُ لِغَيْرِهِ، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ. (4)
وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ مِثْل ذَلِكَ، فَقَال الْبُجَيْرِمِيُّ فِي شَرْحِهِ عَلَى الْخَطِيبِ: إِنَّ مَنْ أُبِيحَ لَهُ الطَّعَامُ بِالْوَلِيمَةِ أَوِ الضِّيَافَةِ يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْقُلَهُ إِلَى غَيْرِهِ، أَوْ بِإِطْعَامِ نَحْوِ هِرَّةٍ مِنْهُ، وَلاَ يُطْعِمُ مِنْهُ سَائِلاً إِلاَّ إِذَا عَلِمَ الرِّضَا.
وَكَذَلِكَ مَنْ أُبِيحَ لَهُ الاِنْتِفَاعُ بِعَيْنٍ مِنَ الأَْعْيَانِ
__________
(1) سورة البقرة / 187.
(2) حديث " كنت نهيتكم عن لحوم الأضاحي. . . " أخرجه مسلم في الأضاحي 3 / 1563 / 1977.
(3) سورة المائدة / 3.
(4) الفتاوى الهندية 3 / 344.(6/301)
الْمَمْلُوكَةِ بِإِذْنِ الْمَالِكِ، كَالإِْذْنِ بِسُكْنَى دَارِهِ، أَوْ رُكُوبِ سَيَّارَتِهِ، أَوِ اسْتِعْمَال كُتُبِهِ، أَوْ مَلاَبِسِهِ الْخَاصَّةِ، فَلَيْسَ لِلْمُبَاحِ لَهُ أَنْ يَأْذَنَ لِغَيْرِهِ بِالاِنْتِفَاعِ بِهَا، وَإِلاَّ كَانَ ضَامِنًا. (1)
ثَانِيًا: الاِضْطِرَارُ
13 - " الاِضْطِرَارُ هُوَ الْخَوْفُ عَلَى النَّفْسِ مِنَ الْهَلاَكِ عِلْمًا أَوْ ظَنًّا " أَوْ " بُلُوغُ الإِْنْسَانِ حَدًّا إِنْ لَمْ يَتَنَاوَل الْمَمْنُوعَ يَهْلِكُ (2) " وَهُوَ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ حِل الاِنْتِفَاعِ بِالْمُحَرَّمِ لإِِنْقَاذِ النَّفْسِ مِنَ الْهَلاَكِ. وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ نَوْعٌ مِنَ الإِْبَاحَةِ الشَّرْعِيَّةِ لِلنُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِي حَال الضَّرُورَةِ.
وَيُشْتَرَطُ لِحِل الاِنْتِفَاعِ بِهِ أَنْ يَكُونَ الاِضْطِرَارُ مُلْجِئًا، بِحَيْثُ يَجِدُ الإِْنْسَانُ نَفْسَهُ فِي حَالَةٍ يَخْشَى فِيهَا الْمَوْتَ، وَأَنْ يَكُونَ الْخَوْفُ قَائِمًا فِي الْحَال لاَ مُنْتَظِرًا، وَأَلاَّ يَكُونَ لِدَفْعِهِ وَسِيلَةٌ أُخْرَى.
فَلَيْسَ لِلْجَائِعِ أَنْ يَنْتَفِعَ مِنَ الْمَيْتَةِ قَبْل أَنْ يَجُوعَ جُوعًا يَخْشَى مِنْهُ الْهَلاَكَ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَنَاوَل مِنْ مَال الْغَيْرِ إِذَا اسْتَطَاعَ شِرَاءَ الطَّعَامِ أَوْ دَفْعَ الْجُوعِ بِفِعْلٍ مُبَاحٍ. وَكَذَلِكَ يُشْتَرَطُ لِلاِنْتِفَاعِ بِالْحَرَامِ حَال الاِضْطِرَارِ أَلاَّ يَتَجَاوَزَ الْقَدْرَ اللاَّزِمَ لِدَفْعِهِ.
وَالأَْصْل فِي حِل الاِنْتِفَاعِ مِنَ الْمُحَرَّمِ حَال الاِضْطِرَارِ قَوْله تَعَالَى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} (3) وقَوْله تَعَالَى: {وَقَدْ فَصَّل لَكُمْ
__________
(1) ابن عابدين 3 / 355، وبلغة السالك 2 / 529، والبجيرمي على الخطيب 3 / 391، والمغني 7 / 288.
(2) حاشية الحموي على الأشباه والنظائر ص 108، والشرح الكبير للدردير 2 / 115، 184.
(3) سورة البقرة / 173.(6/302)
مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} . (1)
وَالْبَحْثُ فِي الاِنْتِفَاعِ بِالْمُحَرَّمِ حَال الاِضْطِرَارِ يَتَنَاوَل الْمَوْضُوعَاتِ الآْتِيَةَ:
أ - الاِنْتِفَاعُ مِنَ الأَْطْعِمَةِ الْمُحَرَّمَةِ:
14 - إِذَا خَافَ الإِْنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ الْهَلاَكَ، وَلَمْ يَجِدْ مِنَ الْحَلاَل مَا يَتَغَذَّى بِهِ، جَازَ لَهُ الاِنْتِفَاعُ بِالْمُحَرَّمِ لِكَيْ يُنْقِذَ حَيَاتَهُ مِنَ الْهَلاَكِ، مَيْتَةً كَانَ أَوْ دَمًا أَوْ مَال الْغَيْرِ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ. وَهَذَا مِمَّا لاَ خِلاَفَ فِيهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.
لَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي صِفَةِ الاِنْتِفَاعِ مِنَ الْمُحَرَّمِ حَال الاِضْطِرَارِ، هَل هُوَ وَاجِبٌ يُثَابُ عَلَيْهِ فَاعِلُهُ وَيُعَاقَبُ تَارِكُهُ، أَمْ هُوَ جَائِزٌ لاَ ثَوَابَ وَلاَ عِقَابَ فِي فِعْلِهِ أَوْ تَرْكِهِ.؟
فَالْجُمْهُورُ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَوَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ) عَلَى الْوُجُوبِ؛ لأَِنَّ الاِمْتِنَاعَ مِنَ الأَْكْل وَالشُّرْبِ حَال الاِضْطِرَارِ إِلْقَاءٌ بِالنَّفْسِ إِلَى التَّهْلُكَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} . (2)
فَالأَْكْل لِلْغِذَاءِ وَلَوْ مِنْ حَرَامٍ أَوْ مَيْتَةٍ أَوْ مَال غَيْرِهِ حَال الاِضْطِرَارِ وَاجِبٌ يُثَابُ عَلَيْهِ إِذَا أَكَل مِقْدَارَ مَا يَدْفَعُ بِهِ الْهَلاَكَ عَنْ نَفْسِهِ " وَمَنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ مَوْتًا أَوْ مَرَضًا مَخُوفًا وَوَجَدَ مُحَرَّمًا لَزِمَهُ أَكْلُهُ (3) ".
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِل الأَْصَحِّ، وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّ
__________
(1) سورة الأنعام / 119.
(2) سورة البقرة / 195.
(3) ابن عابدين 5 / 215، والشرح الكبير للدردير 2 / 115، وأسنى المطالب 1 / 570، والمغني 11 / 74.(6/302)
الاِنْتِفَاعَ مِنَ الأَْطْعِمَةِ الْمُحَرَّمَةِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، بَل هُوَ مُبَاحٌ فَقَطْ؛ لأَِنَّ إِبَاحَةَ الأَْكْل فِي حَالَةِ الاِضْطِرَارِ رُخْصَةٌ، فَلاَ تَجِبُ عَلَيْهِ كَسَائِرِ الرُّخَصِ. (1)
15 - وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ صَاحِبُ الْمَال مُضْطَرًّا إِلَيْهِ لَزِمَهُ بَذْلُهُ لِلْمُضْطَرِّ، لأَِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ إِحْيَاءُ نَفْسِ آدَمِيٍّ مَعْصُومٍ فَلَزِمَهُ بَذْلُهُ لَهُ. فَإِنِ امْتَنَعَ وَاحْتِيجَ إِلَى الْقِتَال، فَلِلْمُضْطَرِّ الْمُقَاتَلَةُ. فَإِنْ قُتِل الْمُضْطَرُّ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَعَلَى قَاتِلِهِ ضَمَانُهُ. وَإِنْ قَتَل صَاحِبَهُ فَهُوَ هَدَرٌ، لأَِنَّهُ ظَالِمٌ بِقِتَالِهِ، إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ جَوَّزُوا الْقِتَال بِغَيْرِ سِلاَحٍ.
وَهَذَا كُلُّهُ إِذَا لَمْ يَسْتَطِعِ الْمُضْطَرُّ شِرَاءَ الطَّعَامِ. فَإِنِ اسْتَطَاعَ اشْتَرَاهُ وَلَوْ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ الْمِثْل. (2)
ب - الاِنْتِفَاعُ بِالْخَمْرِ:
16 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ الاِنْتِفَاعِ بِالْخَمْرِ لإِِسَاغَةِ الْغُصَّةِ وَدَفْعِ الْهَلاَكِ فِي حَالَةِ الاِضْطِرَارِ حَتَّى إِنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى وُجُوبِ شُرْبِهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ. فَمَنْ لَمْ يَجِدْ غَيْرَ الْخَمْرِ، فَأَسَاغَ اللُّقْمَةَ بِهَا، فَلاَ حَدَّ عَلَيْهِ، لِوُجُوبِ شُرْبِهَا عَلَيْهِ إِنْقَاذًا لِلنَّفْسِ. وَلأَِنَّ شُرْبَهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مُتَحَقِّقُ النَّفْعِ، وَلِذَا يَأْثَمُ بِتَرْكِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ حَتَّى يَمُوتَ. (3)
__________
(1) نهاية المحتاج 8 / 150، وتيسير التحرير 2 / 232، والمغني 11 / 74.
(2) الفتاوى الهندية 5 / 338، والشرح الصغير 2 / 183، ونهاية المحتاج 8 / 125، وابن عابدين 5 / 256، والقليوبي 4 / 263، والمغني 11 / 80.
(3) ابن عابدين 5 / 243، والدسوقي 4 / 353، والبجيرمي على الخطيب 4 / 159.(6/303)
وَأَمَّا شُرْبُ الْخَمْرِ لِلْجُوعِ وَالْعَطَشِ فَالْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى تَحْرِيمِهِ لِعُمُومِ النَّهْيِ، وَلأَِنَّ شُرْبَهَا لَنْ يَزِيدَهُ إِلاَّ عَطَشًا. (1)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ خَافَ الْهَلاَكَ عَطَشًا وَعِنْدَهُ خَمْرٌ فَلَهُ شُرْبُ قَدْرِ مَا يَدْفَعُ الْعَطَشَ إِنْ عَلِمَ أَنَّهُ يَدْفَعُهُ. كَذَلِكَ لَوْ شَرِبَ لِلْعَطَشِ الْمُهْلِكِ مِقْدَارَ مَا يَرْوِيهِ فَسَكِرَ لَمْ يُحَدَّ (2)
وَفَرَّقَ الْحَنَابِلَةُ بَيْنَ الْمَمْزُوجَةِ وَغَيْرِ الْمَمْزُوجَةِ فَقَالُوا: إِنْ شَرِبَهَا لِلْعَطَشِ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَتْ مَمْزُوجَةً بِمَا يَرْوِي مِنَ الْعَطَشِ أُبِيحَتْ لِدَفْعِهِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، كَمَا تُبَاحُ الْمَيْتَةُ عِنْدَ الْمَخْمَصَةِ، وَكَمَا يُبَاحُ شُرْبُ الْخَمْرِ لِدَفْعِ الْغُصَّةِ. وَإِنْ شَرِبَهَا صِرْفًا، أَوْ مَمْزُوجَةً بِشَيْءٍ يَسِيرٍ لاَ يَرْوِي مِنَ الْعَطَشِ لَمْ يُبَحْ، وَعَلَيْهِ الْحَدُّ (3)
17 - وَأَمَّا تَعَاطِي الْخَمْرِ لِلتَّدَاوِي فَالْجُمْهُورُ عَلَى تَحْرِيمِهِ، وَتَفْصِيلُهُ فِي (أَشْرِبَة) .
ح - الاِنْتِفَاعُ بِلَحْمِ الآْدَمِيِّ الْمَيِّتِ:
18 - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى جَوَازِ الاِنْتِفَاعِ بِلَحْمِ الآْدَمِيِّ الْمَيِّتِ حَالَةَ الاِضْطِرَارِ؛ لأَِنَّ حُرْمَةَ الإِْنْسَانِ الْحَيِّ أَعْلَى مِنْ حُرْمَةِ الْمَيِّتِ. وَاسْتَثْنَى مِنْهُ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - الاِنْتِفَاعَ بِلَحْمِ الْمَيِّتِ الْمَعْصُومِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ.
وَمِثْل الْمَيِّتِ كُل حَيٍّ مُهْدَرِ الدَّمِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ.
__________
(1) حاشية الدسوقي 4 / 353، ونهاية المحتاج 8 / 150.
(2) ابن عابدين 3 / 162، 5 / 351.
(3) المغني 10 / 330.(6/303)
وَيُبِيحُ الشَّافِعِيُّ لِلْمُضْطَرِّ أَنْ يَقْطَعَ مِنْ جِسْمِهِ فِلْذَةً لِيَأْكُلَهَا فِي حَالَةِ الضَّرُورَةِ إِنْ كَانَ الْخَوْفُ فِي قَطْعِهَا أَقَل مِنْهُ فِي تَرْكِهَا. (1) وَخَالَفَهُ فِي ذَلِكَ بَقِيَّةُ الْفُقَهَاءِ.
د - تَرْتِيبُ الاِنْتِفَاعِ بِالْمُحَرَّمِ:
19 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ) إِلَى أَنَّهُ إِذَا وُجِدَتْ مَيْتَةٌ، أَوْ مَا صَادَهُ مُحْرِمٌ، أَوْ مَا صِيدَ فِي الْحَرَمِ، وَطَعَامُ شَخْصٍ غَائِبٍ - فَلاَ يَجُوزُ الاِنْتِفَاعُ بِمَال الْغَيْرِ؛ لأَِنَّ أَكْل الْمَيْتَةِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ وَأَكْل مَال الآْدَمِيِّ مُجْتَهَدٌ فِيهِ، وَالْعُدُول إِلَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ أَوْلَى. وَلأَِنَّ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْمُسَامَحَةِ وَالْمُسَاهَلَةِ، وَحُقُوقُ الآْدَمِيِّ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الشُّحِّ وَالتَّضْيِيقِ.
وَقَال مَالِكٌ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ: يُقَدَّمُ مَال الْغَيْرِ عَلَى الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا مِمَّا سَبَقَ إِنْ أَمِنَ أَنْ يُعَدَّ سَارِقًا، لأَِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الطَّعَامِ الْحَلاَل، فَلَمْ يَجُزْ لَهُ أَكْل الْمَيْتَةِ، كَمَا لَوْ بَذَلَهُ لَهُ صَاحِبُهُ.
أَمَّا التَّرْتِيبُ فِي الاِنْتِفَاعِ بَيْنَ الْمَيْتَةِ وَصَيْدِ الْحَرَمِ أَوِ الْمُحْرِمِ، فَقَدْ قَال أَحْمَدُ وَالشَّافِعِيُّ وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: تُقَدَّمُ الْمَيْتَةُ؛ لأَِنَّ إِبَاحَتَهَا مَنْصُوصٌ عَلَيْهَا. وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: صَيْدُ الْمُحْرِمِ لِلْمُضْطَرِّ أَوْلَى مِنَ الْمَيْتَةِ. (2)
هَذَا بِالنِّسْبَةِ لأَِكْل لَحْمِ الْمَيْتَةِ حَال الاِضْطِرَارِ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 296، وأسنى المطالب 1 / 571، ومواهب الجليل 3 / 233، والمغني 11 / 79.
(2) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 36، والتاج والإكليل 3 / 234، وأسنى المطالب 1 / 573، والمغني 11 / 78، 3 / 293.(6/304)
20 - أَمَّا الاِنْتِفَاعُ بِالْمَيْتَةِ بِغَيْرِ الأَْكْل، وَفِي غَيْرِ حَالَةِ الاِضْطِرَارِ فَالْجُمْهُورُ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ) عَلَى أَنَّ كُل إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ، وَيَجُوزُ الاِنْتِفَاعُ بِهِ إِلاَّ جِلْدَ الْخِنْزِيرِ وَالآْدَمِيِّ.
أَمَّا الْخِنْزِيرُ فَلأَِنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ، وَأَمَّا الآْدَمِيُّ فَلِكَرَامَتِهِ، فَلاَ يَجُوزُ الاِنْتِفَاعُ بِهِ كَسَائِرِ أَجْزَائِهِ.
وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ جِلْدَ الْكَلْبِ أَيْضًا لأَِنَّهُ لاَ يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ عِنْدَهُمْ.
وَاسْتَثْنَى الْحَنَابِلَةُ جُلُودَ السِّبَاعِ، فَلاَ يَجُوزُ الاِنْتِفَاعُ بِهَا قَبْل الدَّبْغِ وَلاَ بَعْدَهُ.
وَنُقِل عَنْ مَالِكٍ التَّوَقُّفُ فِي جَوَازِ الاِنْتِفَاعِ بِجُلُودِ الْحِمَارِ وَالْبَغْل وَالْفَرَسِ وَلَوْ بَعْدَ الدَّبْغِ. (1)
وَفِي الاِنْتِفَاعِ بِعَظْمِ الْمَيْتَةِ وَشَعْرِهَا وَشَحْمِهَا - تَفْصِيلٌ وَخِلاَفٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ (مَيْتَة) .
ثَالِثًا: الْعَقْدُ
21 - الْعَقْدُ مِنْ أَهَمِّ أَسْبَابِ الاِنْتِفَاعِ، لأَِنَّهُ وَسِيلَةُ تَبَادُل الأَْمْوَال وَالْمَنَافِعِ بَيْنَ النَّاسِ عَلَى أَسَاسِ الرِّضَا. وَهُنَاكَ عُقُودٌ تَقَعُ عَلَى الْمَنْفَعَةِ مُبَاشَرَةً، فَتَنْقُل الْمَنْفَعَةَ مِنْ جِهَةٍ إِلَى جِهَةٍ أُخْرَى، كَالإِْجَارَةِ وَالإِْعَارَةِ، وَالْوَصِيَّةِ بِالْمَنْفَعَةِ وَالْوَقْفِ. وَهُنَاكَ عُقُودٌ أُخْرَى لاَ تَقَعُ عَلَى الْمَنَافِعِ بِالذَّاتِ، وَلَكِنَّهُ يَأْتِي الاِنْتِفَاعُ فِيهَا تَبَعًا، وَذَلِكَ بِشُرُوطٍ خَاصَّةٍ وَفِي حُدُودٍ ضَيِّقَةٍ، كَالرَّهْنِ وَالْوَدِيعَةِ. وَتَفْصِيل كُلٍّ مِنْ هَذِهِ الْعُقُودِ فِي بَابِهِ.
__________
(1) الزيلعي 1 / 25، 26، وجواهر الإكليل 1 / 9، والوجيز للغزالي 1 / 10، والمغني 1 / 57.(6/304)
وُجُوهُ الاِنْتِفَاعِ
الاِنْتِفَاعُ بِالشَّيْءِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِإِتْلاَفِ الْعَيْنِ أَوْ بِبَقَائِهَا، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ إِمَّا أَنْ يَنْتَفِعَ الشَّخْصُ مِنَ الْعَيْنِ بِالاِسْتِعْمَال أَوْ بِالاِسْتِغْلاَل. فَالْحَالاَتُ ثَلاَثٌ:
(الْحَالَةُ الأُْولَى) الاِسْتِعْمَال:
22 - يَحْصُل الاِنْتِفَاعُ غَالِبًا بِاسْتِعْمَال الشَّيْءِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ، وَذَلِكَ كَمَا فِي الْعَارِيَّةِ، فَإِنَّ الْمُسْتَعِيرَ يَنْتَفِعُ بِالْمُسْتَعَارِ بِاسْتِعْمَالِهِ وَالاِسْتِفَادَةِ مِنْهُ، وَلاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِاسْتِغْلاَلِهِ (تَحْصِيل غَلَّتِهِ) أَوِ اسْتِهْلاَكِهِ؛ لأَِنَّ مِنْ شُرُوطِ الْعَارِيَّةِ إِمْكَانَ الاِنْتِفَاعِ بِهَا مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهَا. وَالْمُسْتَعِيرُ يَمْلِكُ الْمَنَافِعَ بِغَيْرِ عِوَضٍ، فَلاَ يَصِحُّ أَنْ يَسْتَغِلَّهَا وَيَمْلِكَهَا غَيْرُهُ بِعِوَضٍ. (1)
هَذَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَالِكَ الْمَنْفَعَةِ بِالاِسْتِعَارَةِ لَهُ أَنْ يُؤَجِّرَهَا خِلاَل مُدَّةِ الإِْعَارَةِ. (2)
وَكَذَلِكَ الإِْجَارَةُ فِيمَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الْمُسْتَعْمِل أَوْ إِذَا اشْتَرَطَ الْمَالِكُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ الاِنْتِفَاعَ بِنَفْسِهِ. فَالاِنْتِفَاعُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ قَاصِرٌ عَلَى شَخْصِ الْمُسْتَأْجِرِ، وَلاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْتَهْلِكَ الْمَأْجُورَ أَوْ يَسْتَغِلَّهُ بِإِجَارَتِهِ لِلْغَيْرِ؛ لأَِنَّ عَقْدَ الإِْجَارَةِ يَقْتَضِي الاِنْتِفَاعَ بِالْمَأْجُورِ مَعَ بَقَاءِ الْعَيْنِ. وَلَيْسَ لَهُ إِيجَارُهَا فِيمَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الْمُسْتَعْمِل. (3)
(الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ) الاِسْتِغْلاَل:
23 - قَدْ يَحْصُل الاِنْتِفَاعُ بِاسْتِغْلاَل الشَّيْءِ وَأَخْذِ
__________
(1) الزيلعي 5 / 88، ونهاية المحتاج 5 / 118، والمغني 5 / 359.
(2) الدسوقي 3 / 433 - 434.
(3) البدائع 4 / 175، وابن عابدين 5 / 18، ونهاية المحتاج 5 / 284، والمغني 6 / 13.(6/305)
الْعِوَضِ عَنْهُ، كَمَا فِي الْوَقْفِ وَالْوَصِيَّةِ إِذَا نَصَّ عِنْدَ إِنْشَائِهِمَا عَلَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ كَيْفَ شَاءَ، فَإِنَّ الْمَوْقُوفَ عَلَيْهِ وَالْمُوصَى لَهُ يَسْتَطِيعَانِ أَنْ يُؤَجِّرَا الْعَيْنَ الْمَوْقُوفَةَ وَالْمُوصَى بِمَنْفَعَتِهَا لِلْغَيْرِ إِذَا أَجَازَهُمَا الْوَاقِفُ وَالْمُوصِي مِنْ غَيْرِ خِلاَفٍ. (1)
(الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ) الاِسْتِهْلاَكُ:
24 - قَدْ يَحْصُل الاِنْتِفَاعُ بِاسْتِهْلاَكِ الْعَيْنِ كَالاِنْتِفَاعِ بِأَكْل الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فِي الْوَلاَئِمِ وَالضِّيَافَاتِ، وَالاِنْتِفَاعُ بِاللُّقْطَةِ إِذَا كَانَتْ مِمَّا يَتَسَارَعُ إِلَيْهِ الْفَسَادُ. وَكَذَلِكَ عَارِيَّةُ الْمَكِيلاَتِ وَالْمَوْزُونَاتِ وَالأَْشْيَاءِ الْمِثْلِيَّةِ الَّتِي لاَ يُمْكِنُ الاِنْتِفَاعُ بِهَا إِلاَّ بِاسْتِهْلاَكِهَا، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: عَارِيَّةُ الثَّمَنَيْنِ (الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ) وَالْمَكِيل وَالْمَوْزُونِ وَالْمَعْدُودِ قَرْضٌ، لأَِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ الاِنْتِفَاعُ بِهَا إِلاَّ بِاسْتِهْلاَكِ عَيْنِهَا وَرَدِّ مِثْلِهَا. (2)
حُدُودُ الاِنْتِفَاعِ
الاِنْتِفَاعُ بِالشَّيْءِ لَهُ حُدُودٌ يَجِبُ عَلَى الْمُنْتَفِعِ مُرَاعَاتُهَا وَإِلاَّ كَانَ ضَامِنًا. وَمِنَ الْحُدُودِ الْمُقَرَّرَةِ الَّتِي بَحَثَهَا الْفُقَهَاءُ فِي الاِنْتِفَاعِ بِالشَّيْءِ مَا يَأْتِي:
25 - أَوَّلاً: يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الاِنْتِفَاعُ مُوَافِقًا لِلشُّرُوطِ الشَّرْعِيَّةِ وَلاَ يَكُونَ عَلَى وَجْهٍ يُبْطِل حَقَّ الْغَيْرِ.
وَلِهَذَا اشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ فِي جَمِيعِ عُقُودِ الاِنْتِفَاعِ (الإِْجَارَةِ وَالإِْعَارَةِ وَالْوَصِيَّةِ بِالْمَنْفَعَةِ) أَنْ تَكُونَ الْعَيْنُ مُنْتَفَعًا بِهَا انْتِفَاعًا مُبَاحًا. كَمَا اشْتَرَطُوا
__________
(1) فتح القدير 5 / 436، ونهاية المحتاج 5 / 385، والمغني 6 / 193، والفروق للقرافي فرق (30) .
(2) الزيلعي 5 / 87، والمغني 5 / 359.(6/305)
فِي الْوَقْفِ أَنْ يَكُونَ عَلَى مَصْرِفٍ مُبَاحٍ؛ لأَِنَّ الْمَنَافِعَ لاَ يُتَصَوَّرُ اسْتِحْقَاقُهَا بِالْمَعَاصِي. (1)
كَذَلِكَ قَالُوا: إِنَّ الاِنْتِفَاعَ بِالْمُبَاحِ إِنَّمَا يَجُوزُ إِذَا لَمْ يَضُرَّ بِأَحَدٍ. وَالاِنْتِفَاعُ بِالْمَنَافِعِ الْعَامَّةِ مُقَيَّدٌ بِعَدَمِ الإِْضْرَارِ بِالْغَيْرِ. وَالْجُلُوسُ عَلَى الطُّرُقِ الْعَامَّةِ لِلاِسْتِرَاحَةِ أَوِ الْمُعَامَلَةِ وَنَحْوِهِمَا، وَوَضْعُ الْمِظَلاَّتِ - إِنَّمَا يَجُوزُ إِذَا لَمْ يُضَيِّقْ عَلَى الْمَارَّةِ. (2)
وَكَذَلِكَ الاِنْتِفَاعُ بِالْمُحَرَّمِ حَال الاِضْطِرَارِ مُقَيَّدٌ بِقُيُودٍ. فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُضْطَرَّ يَجُوزُ لَهُ الاِنْتِفَاعُ بِالْمُحَرَّمَاتِ بِمِقْدَارِ مَا يَسُدُّ الرَّمَقَ وَيَأْمَنُ مَعَهُ الْمَوْتَ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّهُ يَأْكُل مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ إِلَى حَدِّ الشِّبَعِ إِذَا لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهَا؛ لأَِنَّ مَا جَازَ سَدُّ الرَّمَقِ مِنْهُ جَازَ الشِّبَعُ مِنْهُ كَالْمُبَاحِ. بَل الْمَالِكِيَّةُ جَوَّزُوا التَّزَوُّدَ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ احْتِيَاطًا خَشْيَةَ اسْتِمْرَارِ حَالَةِ الاِضْطِرَارِ، كَمَا تَدُل عَلَيْهِ نُصُوصُهُمْ. (3)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْنِ لِلشَّافِعِيِّ، وَالأَْظْهَرُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْمُضْطَرِّ الاِنْتِفَاعُ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ بِأَكْثَرَ مِمَّا يَدْفَعُ الْهَلاَكَ وَيَسُدُّ الرَّمَقَ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْكُل إِلَى حَدِّ الشِّبَعِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّدَ؛ لأَِنَّ الضَّرُورَةَ تُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا. (4)
__________
(1) الزيلعي 5 / 125، ونهاية المحتاج 5 / 119، 267، 354، وبلغة السالك 3 / 572، والمغني 5 / 359، 6 / 129.
(2) ابن عابدين 5 / 282، ونهاية المحتاج 5 / 339.
(3) ابن عابدين 5 / 215، والشرح الصغير للدردير 2 / 183، والقليوبي 4 / 263، والمغني 11 / 73، والتاج والإكليل 3 / 233.
(4) ابن عابدين 5 / 7215 ونهاية المحتاج 8 / 152، والمغني 11 / 73.(6/306)
26 - ثَانِيًا: يَلْزَمُ الْمُنْتَفِعَ أَنْ يُرَاعِيَ حُدُودَ إِذْنِ الْمَالِكِ، إِذَا ثَبَتَ الاِنْتِفَاعُ بِإِذْنٍ مِنْ مَالِكٍ خَاصٍّ، كَإِبَاحَةِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فِي الضِّيَافَةِ، فَإِنَّهُ إِذَا عَلِمَ أَنَّ صَاحِبَهُ لاَ يَرْضَى بِإِطْعَامِ الْغَيْرِ، فَلاَ يَحِل لَهُ أَنْ يُطْعِمَ غَيْرَهُ كَمَا تَقَدَّمَ. وَكَذَلِكَ الإِْذْنُ بِسُكْنَى الدَّارِ وَرُكُوبِ الدَّابَّةِ لِلشَّخْصِ، فَإِنَّ الاِنْتِفَاعَ بِهَا مَحْدُودٌ بِشُرُوطِ الْمُبِيحِ. (1)
27 - ثَالِثًا: يَلْزَمُ الْمُنْتَفِعَ التَّقَيُّدُ بِالْقُيُودِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا فِي الْعَقْدِ، إِذَا كَانَ مُسَبِّبُ الاِنْتِفَاعِ عَقْدًا. لأَِنَّ الأَْصْل مُرَاعَاةُ الشُّرُوطِ بِقَدْرِ الإِْمْكَانِ. فَإِذَا حُدِّدَ الاِنْتِفَاعُ فِي الإِْجَارَةِ أَوِ الْعَارِيَّةِ أَوِ الْوَصِيَّةِ بِوَقْتٍ أَوْ مَنْفَعَةٍ مُعَيَّنَةٍ فَلاَ يَتَجَاوَزُهَا مَا لَمْ تَكُنِ الشُّرُوطُ مُخَالِفَةً لِلشَّرْعِ. (2)
28 - رَابِعًا: يَلْزَمُ الْمُنْتَفِعَ أَنْ لاَ يَتَجَاوَزَ الْحَدَّ الْمُعْتَادَ إِذَا لَمْ يَكُنِ الاِنْتِفَاعُ مُقَيَّدًا بِقَيْدٍ أَوْ شَرْطٍ؛ لأَِنَّ الْمُطْلَقَ يُقَيَّدُ بِالْعُرْفِ وَالْعَادَةِ، وَالْمَعْرُوفُ عُرْفًا كَالْمَشْرُوطِ شَرْطًا كَمَا جَرَى عَلَى أَلْسِنَةِ الْفُقَهَاءِ. فَلَوْ أَعَارَهُ وَأَطْلَقَ فَلِلْمُسْتَعِيرِ الاِنْتِفَاعُ بِحَسَبِ الْعُرْفِ فِي كُل مَا هُوَ مُهَيَّأٌ لَهُ. وَمَا هُوَ غَيْرُ مُهَيَّأٍ لَهُ يُعَيِّنُهُ الْعُرْفُ وَلَوْ قَال: آجَرْتُكَهَا لِمَا شِئْتَ صَحَّ، وَيَفْعَل مَا يَشَاءُ لِرِضَاهُ بِهِ، لَكِنْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ كَالْعَارِيَّةِ. (3)
__________
(1) الفتاوى الهندية 3 / 344، والبجيرمي على الخطيب 3 / 391، والمغني 7 / 288.
(2) الزيلعي 5 / 86، ونهاية المحتاج 5 / 127، وبلغة السالك 3 / 575.
(3) البدائع 4 / 216، وانظر أيضا نهاية المحتاج 5 / 283، والمغني 5 / 359(6/306)
أَحْكَامُ الاِنْتِفَاعِ الْخَاصَّةُ
الاِنْتِفَاعُ الْمُجَرَّدُ مِلْكٌ نَاقِصٌ، وَلَهُ أَحْكَامٌ وَآثَارٌ خَاصَّةٌ تُمَيِّزُهُ عَنِ الْمِلْكِ التَّامِّ.
مِنْ هَذِهِ الأَْحْكَامِ مَا يَأْتِي:
أَوَّلاً: تَقْيِيدُ الاِنْتِفَاعِ بِالشُّرُوطِ:
29 - يَقْبَل حَقُّ الاِنْتِفَاعِ التَّقْيِيدَ وَالاِشْتِرَاطَ، لأَِنَّهُ حَقٌّ نَاقِصٌ لَيْسَ لِصَاحِبِهِ إِلاَّ التَّصَرُّفَاتُ الَّتِي يُجِيزُهَا الْمَالِكُ، وَعَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُعَيِّنُهُ صِفَةً وَزَمَنًا وَمَكَانًا، وَإِلاَّ فَإِنَّ الاِنْتِفَاعَ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ، فَإِذَا أَعَارَ إِنْسَانًا دَابَّةً عَلَى أَنْ يَرْكَبَهَا الْمُسْتَعِيرُ بِنَفْسِهِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُعِيرَهَا غَيْرَهُ، وَإِذَا أَعَارَ ثَوْبًا عَلَى أَنْ يَلْبَسَهُ بِنَفْسِهِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُلْبِسَهُ غَيْرَهُ. وَكَذَلِكَ إِنْ قَيَّدَهَا بِوَقْتٍ أَوْ مَنْفَعَةٍ أَوْ بِهِمَا فَلاَ يَتَجَاوَزُ إِلَى مَا سِوَى ذَلِكَ.
وَإِنْ أَطْلَقَ فَلَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِأَيِّ نَوْعٍ شَاءَ وَفِي أَيِّ وَقْتٍ أَرَادَ، لأَِنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ فَلاَ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ إِلاَّ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَذِنَ لَهُ مِنْ تَقْيِيدٍ أَوْ إِطْلاَقٍ.
وَمَنِ اسْتَأْجَرَ دَارًا لِلسُّكْنَى إِلَى مُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْكُنَهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ إِلاَّ بِأُجْرَةِ الْمِثْل؛ لأَِنَّ الاِنْتِفَاعَ مُقَيَّدٌ بِقَيْدِ الزَّمَانِ فَيَجِبُ اعْتِبَارُهُ. (1)
كَذَلِكَ لَوْ قَيَّدَ الْوَاقِفُ الاِنْتِفَاعَ بِالْوَقْفِ بِشُرُوطٍ مُحَدَّدَةٍ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى شَرْطِ الْوَاقِفِ لأَِنَّ الشُّرُوطَ الَّتِي يَذْكُرُهَا الْوَاقِفُونَ هِيَ الَّتِي تُنَظِّمُ طَرِيقَ الاِنْتِفَاعِ بِهِ، وَهَذِهِ الشُّرُوطُ مُعْتَبَرَةٌ مَا لَمْ
__________
(1) البدائع 6 / 216، والزيلعي 5 / 86، ونهاية المحتاج 5 / 127، 128، والشرح الصغير 3 / 575، والمغني 5 / 359.(6/307)
تُخَالِفِ الشَّرْعَ (1) .
هَذَا، وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الاِنْتِفَاعَ بِالْمَأْجُورِ وَالْمُسْتَعَارِ بِمِثْل الْمَشْرُوطِ أَوْ أَقَل مِنْهُ ضَرَرًا جَائِزٌ لِحُصُول الرِّضَا وَلَوْ حُكْمًا. وَقَال بَعْضُهُمْ: إِنْ نَهَاهُ عَنْ مِثْل الْمَشْرُوطِ أَوِ الأَْدْوَنِ مِنْهُ امْتَنَعَ (2) .
30 - وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ التَّقْيِيدَ فِي الاِنْتِفَاعِ لِشَخْصٍ دُونَ شَخْصٍ مُعْتَبَرٌ فِيمَا يَكُونُ التَّقْيِيدُ فِيهِ مُفِيدًا، وَذَلِكَ فِيمَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الْمُسْتَعْمِل كَرُكُوبِ الدَّابَّةِ وَلُبْسِ الثَّوْبِ. أَمَّا فِيمَا لاَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الْمُسْتَعْمِل كَسُكْنَى الدَّارِ مَثَلاً فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ الْقَيْدِ؛ لأَِنَّ النَّاسَ لاَ يَتَفَاوَتُونَ فِيهِ عَادَةً. فَلَمْ يَكُنِ التَّقْيِيدُ بِسُكْنَاهُ مُفِيدًا، إِلاَّ إِذَا كَانَ حَدَّادًا أَوْ قَصَّارًا أَوْ نَحْوَهُمَا مِمَّا يُوهِنُ عَلَيْهِ الْبِنَاءُ (3) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى اعْتِبَارِ الْقَيْدِ مُطْلَقًا مَا لَمْ يَكُنْ مُخَالِفًا لِلشَّرْعِ. وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ شَرَطَ الْمُؤَجِّرُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ اسْتِيفَاءَ الْمَنْفَعَةِ بِنَفْسِهِ فَسَدَ الْعَقْدُ، كَمَا لَوْ شَرَطَ عَلَى مُشْتَرٍ أَنْ لاَ يَبِيعَ الْعَيْنَ لِلْغَيْرِ (4) .
ثَانِيًا: تَوْرِيثُ الاِنْتِفَاعِ:
31 - إِذَا كَانَ سَبَبُ الاِنْتِفَاعِ الإِْجَارَةَ أَوِ الْوَصِيَّةَ، فَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
__________
(1) فتح القدير 4 / 436، ونهاية المحتاج 5 / 373، والفروق للقرافي الفرق (30) ، وكشاف القناع 4 / 265.
(2) البدائع 6 / 216، ونهاية المحتاج 5 / 128.
(3) ابن عابدين 5 / 22، والبدائع 6 / 216.
(4) المدونة 11 / 157، ونهاية المحتاج 5 / 303، والمغني 6 / 51.(6/307)
وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّهُ يَقْبَل التَّوْرِيثَ. فَالإِْجَارَةُ لاَ تَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الشَّخْصِ الْمُسْتَأْجِرِ، وَيَقُومُ وَارِثُهُ مَقَامَهُ فِي الاِنْتِفَاعِ بِهَا إِلَى أَنْ تَنْتَهِيَ الْمُدَّةُ، أَوْ تُفْسَخَ الإِْجَارَةُ بِأَسْبَابٍ أُخْرَى؛ لأَِنَّ الإِْجَارَةَ عَقْدٌ لاَزِمٌ، فَلاَ تَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الْعَاقِدِ مَعَ سَلاَمَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ. (1) إِلاَّ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ قَالُوا: إِنْ مَاتَ الْمُكْتَرِي، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ تَنْفَسِخُ الإِْجَارَةُ فِيمَا بَقِيَ مِنَ الْمُدَّةِ. (2)
وَكَذَلِكَ الْوَصِيَّةُ بِالْمَنْفَعَةِ لاَ تَنْتَهِي بِمَوْتِ الْمُوصَى لَهُ، لأَِنَّهَا تَمْلِيكٌ وَلَيْسَتْ إِبَاحَةً لِلُزُومِهَا بِالْقَبُول، فَيَجُوزُ لِوَرَثَتِهِ أَنْ يَنْتَفِعُوا بِهَا بِالْمُدَّةِ الْبَاقِيَةِ، لأَِنَّهُ مَاتَ عَنْ حَقٍّ، فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ. (3)
32 - أَمَّا إِذَا كَانَ سَبَبُ الاِنْتِفَاعِ الْعَارِيَّةَ، فَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِعَدَمِ تَوْرِيثِ الاِنْتِفَاعِ بِهَا، لأَِنَّهَا عَقْدٌ غَيْرُ لاَزِمٍ، تَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الْعَاقِدَيْنِ. وَلأَِنَّ الْعَارِيَّةَ إِبَاحَةُ الاِنْتِفَاعِ عِنْدَهُمْ، فَلاَ تَصْلُحُ أَنْ تَنْتَقِل إِلَى الْغَيْرِ حَتَّى فِي حَيَاةِ الْمُسْتَعِيرِ. (4)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الاِنْتِفَاعَ لاَ يَقْبَل التَّوْرِيثَ مُطْلَقًا. فَالْوَصِيَّةُ بِالْمَنْفَعَةِ تَبْطُل بِمَوْتِ الْمُوصَى لَهُ، وَلَيْسَ لِوَرَثَتِهِ الاِنْتِفَاعُ بِهَا، كَمَا تَبْطُل الْعَارِيَّةُ بِمَوْتِ الْمُسْتَعِيرِ، وَالإِْجَارَةُ بِمَوْتِ الْمُسْتَأْجِرِ؛ لأَِنَّ الْمَنَافِعَ لاَ تَحْتَمِل الإِْرْثَ، لأَِنَّهَا تَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَاَلَّتِي
__________
(1) بلغة السالك 4 / 50، ونهاية المحتاج 5 / 314، والمغني 6 / 42.
(2) المغني 6 / 42.
(3) نهاية المحتاج 5 / 130، 131، وشرح الزرقاني 8 / 197، والمغني 5 / 354.
(4) نهاية المحتاج 6 / 83، وكشاف القناع 4 / 376.(6/308)
تَحْدُثُ بَعْدَ الْمَوْتِ لَيْسَتْ مَوْجُودَةً حِينَ الْمَوْتِ، حَتَّى تَكُونَ تَرِكَةً عَلَى مِلْكِ الْمُتَوَفَّى فَتُورَثَ. (1)
وَعَلَى ذَلِكَ يَعُودُ مِلْكُ الْمَنْفَعَةِ بَعْدَ وَفَاةِ الْمُوصَى لَهُ بِالْمَنْفَعَةِ إِلَى الْمُوصَى لَهُ بِالرَّقَبَةِ، إِنْ كَانَ قَدْ أَوْصَى بِالرَّقَبَةِ إِلَى آخَرَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ أَوْصَى بِهَا عَادَ مِلْكُ الْمَنْفَعَةِ إِلَى وَرَثَةِ الْمُوصِي، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْكَاسَانِيُّ (2) .
ثَالِثًا: نَفَقَاتُ الْعَيْنِ الْمُنْتَفَعِ بِهَا:
33 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ فِي أَنَّ نَفَقَاتِ الْعَيْنِ الْمُنْتَفَعِ بِهَا تَكُونُ عَلَى صَاحِبِ الْعَيْنِ، إِذَا كَانَ الاِنْتِفَاعُ بِمُقَابِلٍ، لاَ عَلَى مَنْ لَهُ الاِنْتِفَاعُ.
وَعَلَى ذَلِكَ فَتَكْسِيَةُ الدَّارِ الْمُسْتَأْجَرَةِ وَإِصْلاَحُ مَرَافِقِهَا وَمَا وَهَنَ مِنْ بِنَائِهَا عَلَى رَبِّ الدَّارِ (الْمُؤَجِّرِ) . وَكَذَلِكَ عَلَفُ الدَّابَّةِ الْمُسْتَأْجَرَةِ وَمَئُونَةُ رَدِّ الْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ عَلَى الآْجِرِ. (3) حَتَّى إِنَّ الْحَنَابِلَةَ قَالُوا: إِنْ شَرَطَ الْمُكْرِي أَنَّ النَّفَقَةَ الْوَاجِبَةَ عَلَيْهِ تَكُونُ عَلَى الْمُكْتَرِي فَالشَّرْطُ فَاسِدٌ. وَإِذَا أَنْفَقَ الْمُكْتَرِي عَلَى ذَلِكَ احْتَسَبَ بِهِ عَلَى الْمُكْرِي. (4)
لَكِنَّ الْحَنَفِيَّةَ يَقُولُونَ: إِذَا أَصْلَحَ الْمُسْتَأْجِرُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَحْتَسِبْ لَهُ بِمَا أَنْفَقَ، لأَِنَّهُ أَصْلَحَ مِلْكَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَكَانَ مُتَبَرِّعًا. (5) كَمَا ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ
__________
(1) البدائع 7 / 353، وابن عابدين 5 / 52، والزيلعي 5 / 144.
(2) البدائع 7 / 386.
(3) البدائع 4 / 208، 209، والاختيار 3 / 58، ونهاية المحتاج 5 / 295، والشرح الكبير للدردير 4 / 54، وكشاف القناع 4 / 71.
(4) المغني 6 / 32.
(5) البدائع 4 / 208، 209.(6/308)
وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُجْبَرُ آجِرُ الدَّارِ عَلَى إِصْلاَحِهَا لِلْمُكْتَرِي، وَيُخَيَّرُ السَّاكِنُ بَيْنَ الاِنْتِفَاعِ بِالسُّكْنَى، فَيَلْزَمُهُ الْكِرَاءُ وَالْخُرُوجُ مِنْهَا. (1)
34 - أَمَّا إِذَا كَانَ الاِنْتِفَاعُ بِالْمَجَّانِ، كَمَا فِي الْعَارِيَّةِ وَالْوَصِيَّةِ، فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ - وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْعَارِيَّةِ، وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِي الْوَصِيَّةِ - إِلَى أَنَّ نَفَقَاتِ الْعَيْنِ الْمُنْتَفَعِ بِهَا تَكُونُ عَلَى مَنْ لَهُ الاِنْتِفَاعُ. وَعَلَى ذَلِكَ فَعَلَفُ الدَّابَّةِ وَنَفَقَاتُ الدَّارِ الْمُسْتَعَارَةِ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ، كَمَا أَنَّ نَفَقَةَ الدَّارِ الْمُوصَى بِمَنْفَعَتِهَا عَلَى الْمُوصَى لَهُ، لأَِنَّهُمَا يَمْلِكَانِ الاِنْتِفَاعَ بِالْمَجَّانِ، فَكَانَتِ النَّفَقَةُ عَلَيْهِمَا، إِذِ الْغُرْمُ بِالْغُنْمِ. وَلأَِنَّ صَاحِبَهَا فَعَل مَعْرُوفًا فَلاَ يَلِيقُ أَنْ يُشَدَّدَ عَلَيْهِ. (2)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ مَئُونَةَ الْمُسْتَعَارِ عَلَى الْمُعِيرِ دُونَ الْمُسْتَعِيرِ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْعَارِيَّةُ صَحِيحَةً أَمْ فَاسِدَةً. فَإِنْ أَنْفَقَ الْمُسْتَعِيرُ لَمْ يَرْجِعْ إِلاَّ بِإِذْنِ حَاكِمٍ أَوْ إِشْهَادِ بَيِّنَةٍ عَلَى الرُّجُوعِ عِنْدَ فَقْدِ الْحَاكِمِ. (3)
كَذَلِكَ فِي الْوَصِيَّةِ بِالاِنْتِفَاعِ، فَإِنَّ الْوَارِثَ أَوِ الْمُوصَى لَهُ بِالرَّقَبَةِ هُوَ الَّذِي يَتَحَمَّل نَفَقَاتِ الْعَيْنِ الْمُوصَى بِمَنْفَعَتِهَا، إِنْ أَوْصَى بِمَنْفَعَتِهَا مُدَّةً، لأَِنَّهُ هُوَ الْمَالِكُ لِلرَّقَبَةِ، وَكَذَلِكَ لِلْمَنْفَعَةِ فِيمَا عَدَا تِلْكَ الْمُدَّةَ كَمَا عَلَّلَهُ الرَّمْلِيُّ (4) . وَهَذَا هُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَ
__________
(1) الشرح الكبير للدردير 4 / 54، والوجيز للغزالي 1 / 234.
(2) فتح القدير 5 / 434، والبدائع 4 / 221، 386، وبلغة السالك 3 / 576، وكشاف القناع 4 / 375.
(3) نهاية المحتاج 5 / 124.
(4) نهاية المحتاج 6 / 86.(6/309)
الْمَالِكِيَّةِ فِي الْعَارِيَّةِ، وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِي الْوَصِيَّةِ. وَعَلَّلَهُ الْخَرَشِيُّ بِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ لَكَانَ كِرَاءً، وَرُبَّمَا كَانَ عَلَفُ الدَّابَّةِ أَكْثَرَ مِنَ الْكِرَاءِ. (1)
رَابِعًا: ضَمَانُ الاِنْتِفَاعِ:
35 - الأَْصْل أَنَّ الاِنْتِفَاعَ الْمُبَاحَ وَالْمَأْذُونَ بِعَيْنٍ مِنَ الأَْعْيَانِ لاَ يُوجِبُ الضَّمَانَ، وَعَلَى ذَلِكَ فَمَنِ انْتَفَعَ بِالْمَأْجُورِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ، وَبِالصِّفَةِ الَّتِي عُيِّنَتْ فِي الْعَقْدِ، أَوْ بِمِثْلِهَا، أَوْ دُونَهَا ضَرَرًا، أَوْ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ فَتَلِفَ لاَ يُضْمَنُ؛ لأَِنَّ يَدَ الْمُكْتَرِي يَدُ أَمَانَةٍ مُدَّةَ الإِْجَارَةِ، وَكَذَا بَعْدَهَا إِنْ لَمْ يَسْتَعْمِلْهَا اسْتِصْحَابًا لِمَا كَانَ. (2)
وَمَنِ اسْتَعَارَ عَيْنًا فَانْتَفَعَ بِهَا، وَهَلَكَتْ بِالاِسْتِعْمَال الْمَأْذُونِ فِيهِ بِلاَ تَعَدٍّ لاَ يَضْمَنُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ. وَكَذَلِكَ إِذَا هَلَكَتْ بِدُونِ اسْتِعْمَالٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لأَِنَّ ضَمَانَ الْعُدْوَانِ لاَ يَجِبُ إِلاَّ عَلَى الْمُتَعَدِّي، وَمَعَ الإِْذْنِ بِالْقَبْضِ لاَ يُوصَفُ بِالتَّعَدِّي.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يَضْمَنُ إِذَا هَلَكَتْ فِي غَيْرِ حَال الاِسْتِعْمَال، لأَِنَّهُ قَبْضُ مَال الْغَيْرِ لِنَفْسِهِ لاَ عَنِ اسْتِحْقَاقٍ، فَأَشْبَهَ الْغَصْبَ. (3)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: الْعَارِيَّةُ الْمَقْبُوضَةُ مَضْمُونَةٌ
__________
(1) الخرشي 6 / 129، والمغني 6 / 79.
(2) الزيلعي 5 / 85، ونهاية المحتاج 5 / 305، وبلغة السالك 4 / 41، والمغني 6 / 117.
(3) الزيلعي 5 / 85، ونهاية المحتاج 5 / 125.(6/309)
بِقِيمَتِهَا يَوْمَ التَّلَفِ بِكُل حَالٍ، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَتَعَدَّى فِيهَا أَوْ يُفَرِّطَ فِيهَا أَوْ لاَ. (1) أَمَّا إِذَا انْتَفَعَ بِهَا وَرَدَّهَا عَلَى صِفَتِهَا فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ.
وَفَرَّقَ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ مَا يُغَابُ عَلَيْهِ (يَحْتَمِل الإِْخْفَاءَ) وَبَيْنَ مَا لاَ يُغَابُ عَلَيْهِ، فَقَالُوا: يَضْمَنُ الْمُسْتَعِيرُ مَا يُغَابُ عَلَيْهِ، كَالْحُلِيِّ وَالثِّيَابِ، إِنِ ادَّعَى الضَّيَاعَ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ عَلَى ضَيَاعِهِ بِلاَ سَبَبٍ مِنْهُ، كَذَلِكَ يَضْمَنُ بِانْتِفَاعِهِ بِهَا بِلاَ إِذْنِ رَبِّهَا إِذَا تَلِفَتْ أَوْ تَعَيَّبَتْ بِسَبَبِ ذَلِكَ. أَمَّا فِيمَا لاَ يُغَابُ عَلَيْهِ وَفِيمَا قَامَتِ الْبَيِّنَةُ عَلَى تَلَفِهِ فَهُوَ غَيْرُ مَضْمُونٍ. (2)
وَالاِنْتِفَاعُ بِالرَّهْنِ بِإِذْنِ الرَّاهِنِ حُكْمُهُ حُكْمُ الْعَارِيَّةِ، فَلَوْ هَلَكَ فِي حَالَةِ الاِسْتِعْمَال وَالْعَمَل لاَ يَضْمَنُ عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ؛ لأَِنَّ الاِنْتِفَاعَ الْمَأْذُونَ لاَ يُوجِبُ الضَّمَانَ. وَإِذَا انْتَفَعَ بِهِ بِدُونِ إِذْنِ الرَّاهِنِ يَضْمَنُ (3) مَعَ تَفْصِيلٍ سَبَقَ ذِكْرُهُ.
36 - وَيُسْتَثْنَى مِنْ هَذَا الأَْصْل الاِنْتِفَاعُ بِمَال الْغَيْرِ حَال الاِضْطِرَارِ، فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ مَأْذُونًا شَرْعًا، لَكِنَّهُ يُوجِبُ الضَّمَانَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، عَمَلاً بِقَاعِدَةٍ فِقْهِيَّةٍ أُخْرَى، هِيَ: أَنَّ الاِضْطِرَارَ لاَ يُبْطِل حَقَّ الْغَيْرِ (4) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى عَدَمِ الضَّمَانِ عَمَلاً
__________
(1) كشاف القناع 4 / 70، والمغني 5 / 355 و 6 / 117.
(2) بلغة السالك 3 / 553، 574، وبداية المجتهد 2 / 284.
(3) ابن عابدين 5 / 336، ونهاية المحتاج 4 / 274، والمغني 4 / 289.
(4) ابن عابدين 5 / 215، ونهاية المحتاج 8 / 152، 153، والقليوبي 4 / 263، والمغني 11 / 80.(6/310)
بِالأَْصْل، وَهُوَ أَنَّ الاِنْتِفَاعَ الْمُبَاحَ لاَ يُوجِبُ الضَّمَانَ. وَهَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْمُضْطَرِّ ثَمَنُ الطَّعَامِ لِيَشْتَرِيَهُ، لأَِنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِذِمَّتِهِ كَمَا عَلَّل بِذَلِكَ الدَّرْدِيرُ (1) .
37 - أَمَّا الاِنْتِفَاعُ بِالْمَغْصُوبِ وَالْوَدِيعَةِ فَمُوجِبٌ لِلضَّمَانِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، لأَِنَّهُ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ، إِلاَّ مَا ذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْوَدِيعَةِ مِنْ عَدَمِ ضَمَانِ لُبْسِ الثَّوْبِ لِدَفْعِ الْعُفُونَةِ وَرُكُوبِ مَا لاَ يَنْقَادُ لِلسَّقْيِ. (2)
كَذَلِكَ تُضْمَنُ مَنْفَعَةُ الدَّارِ بِالتَّفْوِيتِ وَالْفَوَاتِ، بِأَنْ سَكَنَ الدَّارَ وَرَكِبَ الدَّابَّةَ، أَوْ لَمْ يَفْعَل ذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ مَا تَدُل عَلَيْهِ نُصُوصُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَلَكِنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَالُوا: لَوْ غَصَبَ الْعَيْنَ لاِسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ، لاَ لِتَمَلُّكِ الذَّاتِ، فَتَلِفَتِ الْعَيْنُ الْمُنْتَفَعُ بِهَا فَلاَ يَضْمَنُهَا الْمُتَعَدِّي. فَمَنْ سَكَنَ دَارًا غَاصِبًا لِلسُّكْنَى، فَانْهَدَمَتْ مِنْ غَيْرِ فِعْلِهِ فَلاَ يَضْمَنُ إِلاَّ قِيمَةَ السُّكْنَى. (3)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنَافِعَ الأَْعْيَانِ الْمَنْقُولَةِ الْمَغْصُوبَةِ لَيْسَتْ بِمَضْمُونَةٍ. فَإِذَا غَصَبَ دَابَّةً فَأَمْسَكَهَا أَيَّامًا وَلَمْ يَسْتَعْمِلْهَا، ثُمَّ رَدَّهَا إِلَى يَدِ مَالِكِهَا لاَ يَضْمَنُ، لأَِنَّهُ لَمْ يُوجَدْ تَفْوِيتُ يَدِ الْمَالِكِ عَنِ الْمَنَافِعِ، لأَِنَّهَا أَعْرَاضٌ تَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا. فَالْمَنْفَعَةُ الْحَادِثَةُ عَلَى يَدِ الْغَاصِبِ لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً فِي يَدِ الْمَالِكِ، فَلَمْ يُوجَدْ تَفْوِيتُ يَدِ الْمَالِكِ عَنْهَا. (4)
لَكِنْ إِنْ كَانَ الْمَغْصُوبُ مَال وَقْفٍ أَوْ مَال صَغِيرٍ أَوْ
__________
(1) بلغة السالك 2 / 185.
(2) القليوبي 3 / 32، 185، وجواهر الإكليل 2 / 140، 149، والمغني 5 / 376، و7 / 280، وابن عابدين 5 / 116.
(3) القليوبي 3 / 33، وجواهر الإكليل 2 / 151، والمغني 5 / 415.
(4) البدائع 7 / 145.(6/310)
كَانَ مُعَدًّا لِلاِسْتِغْلاَل يَلْزَمُهُ ضَمَانُ الْمَنْفَعَةِ. وَيُرْجَعُ لِتَفْصِيلِهِ إِلَى مُصْطَلَحِ (ضَمَان) .
خَامِسًا: تَسْلِيمُ الْعَيْنِ الْمُنْتَفَعِ بِهَا:
38 - لاَ خِلاَفَ فِي أَنَّهُ يَلْزَمُ تَسْلِيمُ الْعَيْنِ الْمُنْتَفَعِ بِهَا إِلَى مَنْ لَهُ الاِنْتِفَاعُ، إِذَا ثَبَتَ الاِنْتِفَاعُ بِالْعَقْدِ اللاَّزِمِ وَبِعِوَضٍ، كَالإِْجَارَةِ. فَالْمُؤَجِّرُ مُكَلَّفٌ بَعْدَ انْعِقَادِ الْعَقْدِ أَنْ يُسَلِّمَ الْمَأْجُورَ إِلَى الْمُسْتَأْجِرِ، وَيُمَكِّنَهُ مِنَ الاِنْتِفَاعِ بِهِ عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ. أَمَّا الاِنْتِفَاعُ بِالْعَقْدِ غَيْرِ اللاَّزِمِ فَلاَ يُوجِبُ تَسْلِيمَ الْعَيْنِ لِلْمُنْتَفِعِ، كَالإِْعَارَةِ، فَلاَ يَلْزَمُ الْمُعِيرُ أَنْ يُسَلِّمَ الْمُسْتَعَارَ إِلَى الْمُسْتَعِيرِ؛ لأَِنَّ التَّبَرُّعَ لاَ أَثَرَ لَهُ قَبْل الْقَبْضِ.
39 - أَمَّا رَدُّ الْعَيْنِ الْمُنْتَفَعِ بِهَا إِلَى مَالِكِهَا، فَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّ الاِنْتِفَاعَ إِذَا كَانَ بِدُونِ عِوَضٍ كَالْعَارِيَّةِ فَرَدُّ الْعَيْنِ وَاجِبٌ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ، مَتَى طَلَبَ الْمُعِيرُ ذَلِكَ؛ لأَِنَّ الْعَارِيَّةَ مِنَ الْعُقُودِ غَيْرِ اللاَّزِمَةِ، فَلِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَدُّهَا مَتَى شَاءَ، وَلَوْ مُؤَقَّتَةً بِوَقْتٍ لَمْ يُنْقَضْ أَمَدُهُ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: الْمِنْحَةُ مَرْدُودَةٌ، وَالْعَارِيَّةُ مُؤَدَّاةٌ. (1) وَلأَِنَّ الإِْذْنَ هُوَ السَّبَبُ لإِِبَاحَةِ الاِنْتِفَاعِ، وَقَدِ انْقَطَعَ بِالطَّلَبِ. وَلِهَذَا لَوْ كَانَتْ مُؤَقَّتَةً، فَأَمْسَكَهَا بَعْدَ مُضِيِّ الْوَقْتِ، وَلَمْ يَرُدَّهَا حَتَّى هَلَكَتْ ضَمِنَ. (2) وَلَكِنْ إِذَا أَعَارَ أَرْضًا لِزِرَاعَةٍ
__________
(1) حديث: " المنحة مردودة والعارية مؤداة ". أخرجه أبو داود في البيوع (3 / 824 / 3565) ط الدعاس. وأخرجه أحمد (5 / 293) قال الهيثمي (4 / 145) : ورجاله ثقات.
(2) الزيلعي 5 / 84، 89، ونهاية المحتاج 5 / 129، وكشاف القناع 4 / 73.(6/311)
وَرَجَعَ قَبْل إِدْرَاكِ الزَّرْعِ فَعَلَيْهِ الإِْبْقَاءُ إِلَى الْحَصَادِ، وَلَهُ الأُْجْرَةُ مِنْ وَقْتِ وُجُوبِ إِرْجَاعِهَا إِلَى حَصَادِ الزَّرْعِ. كَمَا لَوْ أَعَارَهُ دَابَّةً ثُمَّ رَجَعَ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ، فَإِنَّ عَلَيْهِ نَقْل مَتَاعِهِ إِلَى مَأْمَنٍ بِأَجْرِ الْمِثْل. (1)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لَزِمَتِ الْعَارِيَّةُ الْمُقَيَّدَةُ بِعَمَلٍ أَوْ أَجَلٍ لاِنْقِضَائِهِ، فَلَيْسَ لِرَبِّهَا أَخْذُهَا قَبْلَهُ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُسْتَعَارُ أَرْضًا لِزِرَاعَةٍ، أَوْ سُكْنَى، أَوْ كَانَ حَيَوَانًا أَوْ كَانَ عَرَضًا. (2)
40 - أَمَّا إِذَا كَانَ الاِنْتِفَاعُ بِعِوَضٍ كَالإِْجَارَةِ، فَلاَ يُكَلَّفُ الْمُسْتَأْجِرُ رَدَّ الْمَأْجُورِ بَعْدَ الاِنْقِضَاءِ، وَلَيْسَ لِلآْجِرِ أَنْ يَسْتَرِدَّ الْمَأْجُورَ قَبْل اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ الْمَعْقُودَةِ، وَلاَ قَبْل مُضِيِّ الْمُدَّةِ الْمُقَرَّرَةِ. وَحُكْمُ بَقَاءِ الزَّرْعِ إِلَى الْحَصَادِ بَعْدَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الإِْجَارَةِ كَحُكْمِ الْعَارِيَّةِ، فَلِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يُبْقِيَ الزَّرْعَ فِي الأَْرْضِ إِلَى إِدْرَاكِهِ بِأُجْرَةِ الْمِثْل. لَكِنَّ الشَّافِعِيَّةَ قَيَّدُوهُ بِمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ تَأْخِيرُ الزِّرَاعَةِ بِسَبَبِ تَقْصِيرِ الْمُسْتَأْجِرِ وَالْمُسْتَعِيرِ. (3)
أَمَّا مُؤْنَةُ رَدِّ الْعَيْنِ الْمُنْتَفَعِ بِهَا، فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا فِي الإِْجَارَةِ عَلَى الْمُؤَجِّرِ؛ لأَِنَّ الْعَيْنَ الْمُسْتَأْجَرَةَ مَقْبُوضَةٌ لِمَنْفَعَتِهِ بِأَخْذِ الأَْجْرِ، وَعَلَى الْمُسْتَعِيرِ فِي الْعَارِيَّةِ لأَِنَّ الاِنْتِفَاعَ لَهُ، عَمَلاً بِقَاعِدَةِ (الْغُرْمُ بِالْغُنْمِ) .
__________
(1) البدائع 6 / 217، ونهاية المحتاج 5 / 139، وكشاف القناع 4 / 73.
(2) البدائع 6 / 217، ونهاية المحتاج 5 / 139، وكشاف القناع 4 / 73.
(3) نهاية المحتاج 5 / 139.(6/311)
إِنْهَاءُ الاِنْتِفَاعِ وَانْتِهَاؤُهُ
41 - إِنْهَاءُ الاِنْتِفَاعِ مَعْنَاهُ وَقْفُ آثَارِ الاِنْتِفَاعِ فِي الْمُسْتَقْبَل بِإِرَادَةِ الْمُنْتَفِعِ أَوْ مَالِكِ الرَّقَبَةِ أَوِ الْقَاضِي، وَعَبَّرَ عَنْهُ الْفُقَهَاءُ بِلَفْظِ (فَسْخٍ) . وَانْتِهَاءُ الاِنْتِفَاعِ مَعْنَاهُ أَنْ تَتَوَقَّفَ آثَارُهُ بِدُونِ إِرَادَةِ الْمُنْتَفِعِ أَوْ مَالِكِ الْعَيْنِ، وَعَبَّرَ عَنْهُ الْفُقَهَاءُ بِلَفْظِ (انْفِسَاخٍ) .
أَوَّلاً: إِنْهَاءُ الاِنْتِفَاعِ:
يُنْهَى الاِنْتِفَاعُ فِي الْحَالاَتِ الآْتِيَةِ:
أ - الإِْرَادَةُ الْمُنْفَرِدَةُ:
42 - يُمْكِنُ إِنْهَاءُ الاِنْتِفَاعِ بِالإِْرَادَةِ الْمُنْفَرِدَةِ فِي عُقُودِ التَّبَرُّعِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِنْ قِبَل مَالِكِ الرَّقَبَةِ أَوِ الْمُنْتَفِعِ نَفْسِهِ. فَكَمَا أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالاِنْتِفَاعِ يُمْكِنُ إِنْهَاؤُهَا مِنْ قِبَل الْمُوصَى لَهُ فِي حَيَاتِهِ، يَصِحُّ إِنْهَاؤُهَا مِنْ قِبَل الْمُوصَى لَهُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي. وَكَمَا أَنَّ الإِْعَارَةَ يُمْكِنُ إِنْهَاؤُهَا مِنْ قِبَل الْمُعِيرِ، فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءَ عَلَى رَأْيِ الْجُمْهُورِ، خِلاَفًا لِلْمَالِكِيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ. كَذَلِكَ يَسُوغُ لِلْمُسْتَعِيرِ أَنْ يَرُدَّهَا أَيَّ وَقْتٍ شَاءَ. لأَِنَّ الإِْعَارَةَ وَالْوَصِيَّةَ مِنَ الْعُقُودِ غَيْرِ اللاَّزِمَةِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ كَالْوَكَالَةِ، فَلِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَسْخُهَا مَتَى شَاءَ، وَلَوْ مُؤَقَّتَةً بِوَقْتٍ لَمْ يَنْقَضِ أَمَدُهُ، إِلاَّ فِي صُوَرٍ مُسْتَثْنَاةٍ لِدَفْعِ الضَّرَرِ. (1)
ب - حَقُّ الْخِيَارِ:
43 - يَصِحُّ إِنْهَاءُ الاِنْتِفَاعِ بِاسْتِعْمَال الْخِيَارِ فِي بَعْضِ الْعُقُودِ كَالإِْجَارَةِ، فَإِنَّهَا تُفْسَخُ بِالْعَيْبِ، سَوَاءٌ أَكَانَ
__________
(1) البدائع 6 / 216، والزيلعي 5 / 84، ونهاية المحتاج 5 / 129، والمغني 5 / 364، 6 / 437.(6/312)
الْعَيْبُ مُقَارِنًا لِلْعَقْدِ أَوْ حَادِثًا بَعْدَهُ؛ لأَِنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فِي الإِْجَارَةِ - وَهِيَ الْمَنَافِعُ - يَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا، فَمَا وُجِدَ مِنَ الْعَيْبِ يَكُونُ حَادِثًا قَبْل الْقَبْضِ فِي حَقِّ مَا بَقِيَ مِنَ الْمَنَافِعِ، فَيُوجَدُ الْخِيَارُ. (1)
كَذَلِكَ يُمْكِنُ إِنْهَاءُ الاِنْتِفَاعِ فِي الإِْجَارَةِ بِفَسْخِهَا بِسَبَبِ خِيَارِ الشَّرْطِ، وَخِيَارِ الرُّؤْيَةِ عِنْدَ مَنْ يَقُول بِهِ، لأَِنَّ الإِْجَارَةَ بَيْعُ الْمَنَافِعِ. فَكَمَا يَجُوزُ فَسْخُ الْبَيْعِ بِخِيَارِ الشَّرْطِ وَالرُّؤْيَةِ - كَذَلِكَ يَصِحُّ إِنْهَاءُ الاِنْتِفَاعِ فِي الإِْجَارَةِ بِسَبَبِ هَذَيْنِ الْخِيَارَيْنِ. (2) وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ وَخِيَارِ الرُّؤْيَةِ.
44 - وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ إِنْهَاءُ الاِنْتِفَاعِ فِي حَالَةِ تَعَذُّرِهِ، وَذَلِكَ فِي الْعُقُودِ اللاَّزِمَةِ، كَالإِْجَارَةِ. أَمَّا الْعُقُودُ غَيْرُ اللاَّزِمَةِ كَالإِْعَارَةِ فَإِنَّهَا قَابِلَةٌ لِلْفَسْخِ بِدُونِ التَّعَذُّرِ كَمَا سَبَقَ.
وَالتَّعَذُّرُ أَعَمُّ مِنَ التَّلَفِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، فَيَشْمَل الضَّيَاعَ وَالْمَرَضَ وَالْغَصْبَ وَغَلْقَ الْحَوَانِيتِ قَهْرًا. (3) وَقَدْ تَوَسَّعَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي إِنْهَاءِ الاِنْتِفَاعِ بِسَبَبِ الْعُذْرِ. وَعَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ: عَجْزُ الْعَاقِدِ عَنِ الْمُضِيِّ بِمُوجِبِ الْعَقْدِ إِلاَّ بِتَحَمُّل ضَرَرٍ زَائِدٍ، كَمَنِ اسْتَأْجَرَ حَانُوتًا يَتَّجِرُ فِيهِ فَأَفْلَسَ (4) .
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ إِنْ تَعَذَّرَ الزَّرْعُ بِسَبَبِ غَرَقِ الأَْرْضِ أَوِ انْقِطَاعِ مَائِهَا فَلِلْمُسْتَأْجِرِ الْخِيَارُ. وَإِنْ قَل الْمَاءُ بِحَيْثُ لاَ يَكْفِي الزَّرْعَ فَلَهُ الْفَسْخُ. وَكَذَلِكَ إِذَا انْقَطَعَ الْمَاءُ بِالْكُلِّيَّةِ، أَوْ حَدَثَ بِهَا عَيْبٌ، أَوْ حَدَثَ
__________
(1) الزيلعي 5 / 143، ونهاية المحتاج 5 / 300، والمغني مع الشرح الكبير 6 / 27.
(2) الزيلعي 5 / 145، وابن عابدين 5 / 47.
(3) الشرح الصغير 4 / 49
(4) الزيلعي 5 / 145.(6/312)
خَوْفٌ عَامٌّ يَمْنَعُ مِنْ سُكْنَى الْمَكَانِ الَّذِي فِيهِ الْعَيْنُ الْمُسْتَأْجَرَةُ. (1)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ تَنْفَسِخُ الإِْجَارَةُ بِعُذْرٍ، كَتَعَذُّرِ وَقُودِ الْحَمَّامِ أَوْ خَرَابِ مَا حَوْل الدَّارِ وَالدُّكَّانِ. وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ وَافَقُوا الْجُمْهُورَ عَلَى جَوَازِ إِنْهَاءِ الاِنْتِفَاعِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ حَيْثُ قَالُوا: إِذَا انْقَطَعَ مَاءُ أَرْضٍ لِلزِّرَاعَةِ فَلِلْمُسْتَأْجِرِ الْخِيَارُ فِي الْفَسْخِ، وَمَا يَمْنَعُ اسْتِيفَاءَ الْمَنْفَعَةِ شَرْعًا يُوجِبُ الْفَسْخَ، كَمَا لَوْ سَكَنَ أَلَمُ السِّنِّ الْمُسْتَأْجَرِ عَلَى قَلْعِهِ. (2)
ج - الإِْقَالَةُ:
45 - لاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ الاِنْتِفَاعَ يُمْكِنُ إِنْهَاؤُهُ بِسَبَبِ الإِْقَالَةِ، وَهِيَ فَسْخُ الْعَقْدِ بِإِرَادَةِ الطَّرَفَيْنِ. وَهَذَا إِذَا كَانَ الاِنْتِفَاعُ حَاصِلاً بِسَبَبِ عَقْدٍ لاَزِمٍ كَالإِْجَارَةِ.
أَمَّا فِي غَيْرِ الْعَقْدِ، وَفِي الْعُقُودِ غَيْرِ اللاَّزِمَةِ، فَلاَ يَحْتَاجُ لِلإِْقَالَةِ، لأَِنَّهُ يُمْكِنُ بِالرُّجُوعِ عَنِ الإِْذْنِ أَوِ الإِْرَادَةِ الْمُنْفَرِدَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ.
ثَانِيًا: انْتِهَاءُ الاِنْتِفَاعِ:
يَنْتَهِي الاِنْتِفَاعُ فِي الْحَالاَتِ الآْتِيَةِ:
أ - انْتِهَاءُ الْمُدَّةِ:
46 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الاِنْتِفَاعَ يَنْتَهِي بِانْتِهَاءِ الْمُدَّةِ الْمُعَيَّنَةِ أَيًّا كَانَ سَبَبُهُ، فَإِذَا أَبَاحَ شَخْصٌ لآِخَرَ الاِنْتِفَاعَ مِنْ أَمْلاَكِهِ الْخَاصَّةِ لِمُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ يَنْتَهِي الاِنْتِفَاعُ بِانْتِهَاءِ تِلْكَ الْمُدَّةِ. وَإِذَا آجَرَهُ أَوْ أَعَارَهُ دَابَّةً لِشَهْرٍ فَإِنَّ الاِنْتِفَاعَ بِهَا يَنْتَهِي بِمُضِيِّ هَذِهِ الْمُدَّةِ،
__________
(1) المغني 6 / 28 - 30.
(2) نهاية المحتاج 5 / 318، والوجيز 1 / 239.(6/313)
وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا بَعْدَهَا، وَإِلاَّ يَكُونُ غَاصِبًا كَمَا تَقَدَّمَ. (1)
ب - هَلاَكُ الْمَحَل أَوْ غَصْبُهُ:
47 - يَنْتَهِي الاِنْتِفَاعُ بِهَلاَكِ الْعَيْنِ الْمُنْتَفَعِ بِهَا عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ. فَتَنْفَسِخُ الإِْجَارَةُ وَالإِْعَارَةُ وَالْوَصِيَّةُ بِهَلاَكِ الدَّابَّةِ الْمُسْتَأْجَرَةِ، وَبِتَلَفِ الْعَيْنِ الْمُسْتَعَارَةِ، وَبِانْهِدَامِ الدَّارِ الْمُوصَى بِمَنْفَعَتِهَا. (2)
أَمَّا غَصْبُ الْمَحَل فَمُوجِبٌ لِفَسْخِ الْعَقْدِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ) لاَ لِلاِنْفِسَاخِ. (3)
وَقَال بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّ الْغَصْبَ أَيْضًا مُوجِبٌ لِلاِنْفِسَاخِ، لِزَوَال التَّمَكُّنِ مِنَ الاِنْتِفَاعِ. (4)
ج - وَفَاةُ الْمُنْتَفِعِ:
سَبَقَ عِنْدَ الْكَلاَمِ عَلَى تَوْرِيثِ الاِنْتِفَاعِ مَا يَتَّصِل بِهَذَا السَّبَبِ. انْظُرْ فِقْرَةَ (30) .
د - زَوَال الْوَصْفِ الْمُبِيحِ:
48 - يَنْتَهِي الاِنْتِفَاعُ كَذَلِكَ بِزَوَال الْوَصْفِ الْمُبِيحِ كَمَا فِي حَالَةِ الاِضْطِرَارِ، حَيْثُ قَالُوا: إِذَا زَالَتْ حَالَةُ الاِضْطِرَارِ زَال حِل الاِنْتِفَاعِ. (5)
__________
(1) الزيلعي 5 / 114، والبدائع 6 / 217، ونهاية المحتاج 5 / 139، والخرشي 6 / 127، والمغني 5 / 365.
(2) نهاية المحتاج 5 / 300، وابن عابدين 5 / 8، والشرح الصغير 4 / 49، والمغني 6 / 25.
(3) ابن عابدين 5 / 8، ونهاية المحتاج 5 / 318، والشرح الصغير 4 / 51، والمغني 6 / 28 - 30.
(4) الزيلعي 5 / 108.
(5) الوجيز للغزالي 1 / 239، والزيلعي 5 / 145، والمغني 6 / 29، وانظر القاعدة (23) في مجلة الأحكام العدلية.(6/313)
انْتِقَالٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِنْتِقَال فِي اللُّغَةِ: التَّحَوُّل مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى آخَرَ. (1) وَيُسْتَعْمَل مَجَازًا فِي التَّحَوُّل الْمَعْنَوِيِّ، فَيُقَال: انْتَقَلَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ عِدَّةِ الطَّلاَقِ إِلَى عِدَّةِ الْوَفَاةِ.
وَيُطْلَقُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ عَلَى هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ كَمَا سَيَأْتِي.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
2 - الزَّوَال:
الزَّوَال فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَى: التَّنَحِّي، وَمَعْنَى الْعَدَمِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الاِنْتِقَال وَالزَّوَال: أَنَّ الزَّوَال يَعْنِي الْعَدَمَ فِي بَعْضِ الأَْحْيَانِ، وَالاِنْتِقَال لاَ يَعْنِي ذَلِكَ. وَأَيْضًا: أَنَّ الاِنْتِقَال يَكُونُ فِي الْجِهَاتِ كُلِّهَا، أَمَّا الزَّوَال فَإِنَّهُ يَكُونُ فِي بَعْضِ الْجِهَاتِ دُونَ بَعْضٍ، أَلاَ تَرَى أَنَّهُ لاَ يُقَال: زَال مِنْ سُفْلٍ إِلَى عُلْوٍ. وَيُقَال: انْتَقَل مِنْ سُفْلٍ إِلَى عُلْوٍ، وَثَمَّةَ فَرْقٌ ثَالِثٌ هُوَ أَنَّ الزَّوَال لاَ يَكُونُ إِلاَّ بَعْدَ اسْتِقْرَارٍ وَثَبَاتٍ صَحِيحٍ أَوْ مُقَدَّرٍ، تَقُول: زَال مِلْكُ فُلاَنٍ، وَلاَ تَقُول ذَلِكَ إِلاَّ بَعْدَ ثَبَاتِ الْمِلْكِ لَهُ، وَتَقُول: زَالَتِ الشَّمْسُ، وَهَذَا وَقْتُ الزَّوَال، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ
__________
(1) تاج العروس مادة: (نقل) .(6/314)
يُقَدِّرُونَ أَنَّ الشَّمْسَ تَسْتَقِرُّ فِي كَبِدِ السَّمَاءِ ثُمَّ تَزُول، وَذَلِكَ لِمَا يُظَنُّ مِنْ بُطْءِ حَرَكَتِهَا. وَلَيْسَ كَذَلِكَ الاِنْتِقَال. (1) فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الاِنْتِقَال أَتَمَّ مِنَ الزَّوَال.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
قَدْ يَكُونُ الاِنْتِقَال وَاجِبًا، وَقَدْ يَكُونُ جَائِزًا.
أ - الاِنْتِقَال الْوَاجِبُ:
3 - إِذَا تَعَذَّرَ الأَْصْل وَجَبَ الاِنْتِقَال إِلَى الْبَدَل، (2) وَالْمُتَتَبِّعُ لأَِحْكَامِ الْفِقْهِ يَجِدُ كَثِيرًا مِنَ التَّطْبِيقَاتِ لِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ، مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا هَلَكَ الْمَغْصُوبُ فِي يَدِ الْغَاصِبِ وَجَبَ مِثْلُهُ أَوْ قِيمَتُهُ. (3) وَأَنَّ مَنْ عَجَزَ عَنِ الْوُضُوءِ لِفَقْدِ الْمَاءِ وَجَبَ عَلَيْهِ الاِنْتِقَال إِلَى التَّيَمُّمِ، وَمَنْ عَجَزَ عَنِ الْقِيَامِ فِي الصَّلاَةِ انْتَقَل إِلَى الْقُعُودِ، وَمَنْ عَجَزَ عَنِ الصِّيَامِ لِشَيْخُوخَةٍ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، وَمَنْ عَجَزَ عَنْ أَدَاءِ صَلاَةِ الْجُمُعَةِ لِمَرَضٍ أَوْ غَيْرِهِ وَجَبَتْ عَلَيْهِ صَلاَةُ الظُّهْرِ، وَمَنْ أَتْلَفَ لآِخَرَ شَيْئًا لاَ مِثْل لَهُ وَجَبَتْ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ، وَإِذَا لَمْ يَجِدِ الْمُصَدِّقُ - جَابِي الصَّدَقَةِ - السِّنَّ الْمَطْلُوبَةَ مِنَ الإِْبِل أَخَذَ سِنًّا أَعْلَى مِنْهَا وَدَفَعَ الْفَرْقَ، أَوْ أَخَذَ سِنًّا أَدْنَى مِنْهَا وَأَخَذَ الْفَرْقَ، وَمَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى خَمْرٍ وَجَبَ الاِنْتِقَال إِلَى مَهْرِ الْمِثْل. (4) وَمَنْ عَجَزَ عَنْ خِصَال كَفَّارَةِ الْيَمِينِ انْتَقَل إِلَى الْبَدَل وَهُوَ الصِّيَامُ، (5)
__________
(1) الفروق في اللغة ص 139، 140.
(2) انظر مجلة الأحكام العدلية - المادة 53.
(3) حاشية قليوبي 2 / 8.
(4) الاختيار 3 / 104.
(5) حاشية قليوبي 2 / 290.(6/314)
وَهَكَذَا كُل كَفَّارَةٍ لَهَا بَدَلٌ، يُصَارُ إِلَى الْبَدَل عِنْدَ تَعَذُّرِ الأَْصْل (1) .
ب - الاِنْتِقَال الْجَائِزُ:
4 - الاِنْتِقَال الْجَائِزُ قَدْ يَكُونُ بِحُكْمِ الشَّرْعِ، وَقَدْ يَكُونُ بِاتِّفَاقِ الطَّرَفَيْنِ، وَيَجُوزُ الاِنْتِقَال مِنَ الأَْصْل إِلَى الْبَدَل إِذَا كَانَ فِي الْبَدَل مَصْلَحَةٌ ظَاهِرَةٌ شَرْعًا، فَيَجُوزُ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ دَفْعُ بَدَل الْوَاجِبِ فِي الزَّكَاةِ، وَالصَّدَقَةِ، وَزَكَاةِ الْفِطْرِ، وَالنَّذْرِ، وَالْكَفَّارَةِ، وَالْعُشْرِ، وَالْخَرَاجِ (2) .
كَمَا يَجُوزُ بِاتِّفَاقِ أَصْحَابِ الْعَلاَقَةِ الاِنْتِقَال مِنَ الْوَاجِبِ إِلَى الْبَدَل فِي دَيْنِ الْقَرْضِ، وَبَدَل الْمُتْلَفَاتِ مَثَلاً وَقِيمَتِهِ، وَثَمَنِ الْمَبِيعِ، وَالأُْجْرَةِ، وَالصَّدَاقِ، وَعِوَضِ الْخُلْعِ، وَبَدَل الدَّمِ، وَلاَ يَجُوزُ ذَلِكَ فِي دَيْنِ السَّلَمِ. (3)
أَنْوَاعُ الاِنْتِقَال:
يَتَنَوَّعُ الاِنْتِقَال إِلَى الأَْنْوَاعِ الآْتِيَةِ:
أ - الاِنْتِقَال الْحِسِّيُّ:
5 - إِذَا انْتَقَلَتِ الْحَاضِنَةُ مِنْ بَلَدِ الْوَلِيِّ إِلَى آخَرَ لِلاِسْتِيطَانِ سَقَطَ حَقُّهَا فِي الْحَضَانَةِ.
وَيَنْتَقِل الْقَاضِي أَوْ نَائِبُهُ أَوْ مَنْ يَنْدُبُهُ إِلَى الْمُخَدَّرَةِ (وَهِيَ مَنْ لاَ تَخْرُجُ فِي الْعَادَةِ لِقَضَاءِ حَاجَتِهَا) وَالْعَاجِزَةِ لِسَمَاعِ شَهَادَتِهَا، وَلاَ تُكَلَّفُ هِيَ بِالْحُضُورِ
__________
(1) انظر كثيرا في التطبيقات على ذلك في مجلة الأحكام العدلية - المواد: 298، 308، 309، 777، 891، 912 وغيرها.
(2) حاشية ابن عابدين 2 / 22.
(3) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 331 طبعة مصطفى الحلبي 1378 هـ 1959 م.(6/315)
إِلَى مَجْلِسِ الْقَاضِي لأَِدَاءِ الشَّهَادَةِ.
وَلاَ تَنْتَقِل الْمُعْتَدَّةُ رَجْعِيًّا مِنْ بَيْعِهَا إِلاَّ لِضَرُورَةٍ اقْتَضَتْ ذَلِكَ
ب - انْتِقَال الدَّيْنِ:
6 - يَنْتَقِل الدَّيْنُ الثَّابِتُ فِي الذِّمَّةِ إِلَى ذِمَّةِ شَخْصٍ آخَرَ بِالْحَوَالَةِ.
ج - انْتِقَال النِّيَّةِ:
7 - انْتِقَال النِّيَّةِ أَثْنَاءَ أَدَاءِ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ الْمَحْضَةِ يُفْسِدُ تِلْكَ الْعِبَادَةَ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ تَفْسُدُ إِلاَّ إِذَا رَافَقَهَا شُرُوعٌ فِي غَيْرِهَا، فَفِي الصَّلاَةِ مَثَلاً؛ إِذَا انْتَقَل وَهُوَ فِي الصَّلاَةِ مِنْ نِيَّةِ الْفَرْضِ الَّذِي نَوَاهُ إِلَى نِيَّةِ فَرْضٍ آخَرَ، أَوْ إِلَى نَفْلٍ، فَسَدَتْ صَلاَتُهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لاَ تَفْسُدُ إِلاَّ إِذَا كَبَّرَ لِلصَّلاَةِ الأُْخْرَى. وَإِذَا فَسَدَتْ صَلاَتُهُ، فَهَل تَصِحُّ الصَّلاَةُ الْجَدِيدَةُ الَّتِي انْتَقَل إِلَيْهَا؟
قَال الْجُمْهُورُ: لاَ تَصِحُّ، وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: تَصِحُّ مُسْتَأْنَفَةً مِنْ حِينِ التَّكْبِيرِ، وَقَال بَعْضُهُمْ: إِنْ نَقَل نِيَّةَ الْفَرْضِ إِلَى النَّفْل صَحَّ النَّفَل، وَقَال آخَرُونَ: لاَ تَصِحُّ. (1)
وَمِنْ صُوَرِ انْتِقَال النِّيَّةِ أَيْضًا نِيَّةُ الْمُقْتَدِي الاِنْفِصَال عَنِ الإِْمَامِ، وَقَدْ أَجَازَ ذَلِكَ بَعْضُ الأَْئِمَّةِ وَمَنَعَهُ آخَرُونَ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (اقْتِدَاء) .
__________
(1) انظر المغني 1 / 466، 468، وابن عابدين 1 / 419، وأسنى المطالب 1 / 143، ومواهب الجليل 1 / 515.(6/315)
د - انْتِقَال الْحُقُوقِ:
الْحُقُوقُ مِنْ حَيْثُ قَابِلِيَّتُهَا لِلاِنْتِقَال عَلَى نَوْعَيْنِ: حُقُوقٍ تَقْبَل الاِنْتِقَال، وَحُقُوقٍ لاَ تَقْبَل الاِنْتِقَال.
(1) الْحُقُوقُ الَّتِي لاَ تَقْبَل الاِنْتِقَال:
8 - أَوَّلاً: الْحُقُوقُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِشَخْصِ الإِْنْسَانِ، وَتَتَعَلَّقُ بِإِرَادَتِهِ، وَهِيَ حُقُوقٌ غَيْرُ مَالِيَّةٍ فِي الْغَالِبِ كَاللِّعَانِ، وَالْفَيْءِ بَعْدَ الإِْيلاَءِ، وَالْعَوْدِ فِي الظِّهَارِ، وَالاِخْتِيَارِ بَيْنَ النِّسْوَةِ اللاَّتِي أَسْلَمَ عَلَيْهِنَّ إِذَا كُنَّ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ، وَاخْتِيَارِ إِحْدَى زَوْجَتَيْهِ الأُْخْتَيْنِ اللَّتَيْنِ أَسْلَمَ عَلَيْهِنَّ، وَحَقِّ الزَّوْجَةِ فِي الطَّلاَقِ بِسَبَبِ الضَّرَرِ وَنَحْوِهِ، وَحَقِّ الْوَلِيِّ فِي فَسْخِ النِّكَاحِ لِعَدَمِ الْكَفَاءَةِ، وَمَا فُوِّضَ إِلَيْهِ مِنَ الْوِلاَيَاتِ وَالْمَنَاصِبِ كَالْقَضَاءِ وَالتَّدْرِيسِ وَالأَْمَانَاتِ وَالْوَكَالاَتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَقَدْ تَكُونُ حُقُوقًا مَالِيَّةً، كَحَقِّ الْفَسْخِ بِخِيَارِ الشَّرْطِ، وَحَقِّ الرُّجُوعِ بِالْهِبَةِ، وَحَقِّ الْخِيَارِ فِي قَبُول الْوَصِيَّةِ، إِذْ لاَ تَنْتَقِل هَذِهِ الْحُقُوقُ إِلَى الْوَرَثَةِ بِالْمَوْتِ. عَلَى خِلاَفٍ وَتَفْصِيلٍ يُعْرَفُ فِي أَبْوَابِهَا
9 - ثَانِيًا: حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى الْبَدَنِيَّةُ الْخَالِصَةُ الْمَفْرُوضَةُ فَرْضًا عَيْنِيًّا، كَالصَّلاَةِ، وَالصِّيَامِ، وَالْحُدُودِ إِلاَّ الْقَذْفَ لِمَا فِيهِ مِنْ حَقِّ الْعَبْدِ.
(2) الْحُقُوقُ الَّتِي تَقْبَل الاِنْتِقَال:
10 - قَال الْقَرَافِيُّ: مِنَ الْحُقُوقِ مَا يَنْتَقِل إِلَى الْوَارِثِ، وَمِنْهَا مَا لاَ يَنْتَقِل، فَمِنْ حَقِّ الإِْنْسَانِ أَنْ يُلاَعِنَ عِنْدَ سَبَبِ اللِّعَانِ، وَأَنْ يَفِيءَ بَعْدَ الإِْيلاَءِ، وَأَنْ يَعُودَ بَعْدَ الظِّهَارِ، وَأَنْ يَخْتَارَ مِنْ نِسْوَةٍ إِذَا أَسْلَمَ(6/316)
عَلَيْهِنَّ، وَهُنَّ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعٍ، وَأَنْ يَخْتَارَ إِحْدَى الأُْخْتَيْنِ إِذَا أَسْلَمَ عَلَيْهِنَّ، وَإِذَا حَمَل الْمُتَبَايِعَانِ لَهُ الْخِيَارَ فَمِنْ حَقِّهِ أَنْ يَمْلِكَ إِمْضَاءَ الْبَيْعِ عَلَيْهِمَا وَفَسْخَهُ، وَمِنْ حَقِّهِ مَا فُوِّضَ إِلَيْهِ مِنَ الْوِلاَيَاتِ وَالْمَنَاصِبِ، كَالْقِصَاصِ وَالإِْمَامَةِ وَالْخَطَابَةِ وَغَيْرِهِمَا، وَكَالأَْمَانَةِ وَالْوَكَالَةِ، فَجَمِيعُ هَذِهِ الْحُقُوقِ لاَ يَنْتَقِل لِلْوَارِثِ مِنْهَا شَيْءٌ، وَإِنْ كَانَتْ ثَابِتَةً لِلْمُورَثِ. بَل الضَّابِطُ لِمَا يَنْتَقِل إِلَيْهِ مَا كَانَ مُتَعَلِّقًا بِالْمَال، أَوْ يَدْفَعُ ضَرَرًا عَنِ الْوَارِثِ فِي عِرْضِهِ بِتَخْفِيفِ أَلَمِهِ. وَمَا كَانَ مُتَعَلِّقًا بِنَفْسِ الْمُورَثِ وَعَقْلِهِ وَشَهَوَاتِهِ لاَ يَنْتَقِل لِلْوَارِثِ. وَالسِّرُّ فِي الْفَرْقِ أَنَّ الْوَرَثَةَ يَرِثُونَ الْمَال فَيَرِثُونَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ تَبَعًا لَهُ، وَلاَ يَرِثُونَ عَقْلَهُ وَلاَ شَهْوَتَهُ وَلاَ نَفْسَهُ، فَلاَ يَرِثُونَ مَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ، وَمَا لاَ يُورَثُ لاَ يَرِثُونَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، فَاللِّعَانُ يَرْجِعُ إِلَى أَمْرٍ يَعْتَقِدُهُ لاَ يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ غَالِبًا، وَالاِعْتِقَادَاتُ لَيْسَتْ مِنْ بَابِ الْمَال، وَالْفَيْئَةُ شَهْوَتُهُ، وَالْعَوْدُ إِرَادَتُهُ، وَاخْتِيَارُ الأُْخْتَيْنِ وَالنِّسْوَةِ إِرْبُهُ وَمَيْلُهُ، وَقَضَاؤُهُ عَلَى الْمُتَبَايِعَيْنِ عَقْلُهُ وَفِكْرَتُهُ وَرَأْيُهُ وَمَنَاصِبُهُ وَوِلاَيَاتُهُ وَآرَاؤُهُ وَاجْتِهَادَاتُهُ وَأَفْعَالُهُ الدِّينِيَّةُ فَهُوَ دِينُهُ، وَلاَ يَنْتَقِل شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لِلْوَارِثِ، لأَِنَّهُ لَمْ يَرِثْ مُسْتَنَدَهُ وَأَصْلَهُ.
وَانْتَقَل لِلْوَارِثِ خِيَارُ الشَّرْطِ فِي الْبَيْعَاتِ، وَقَالَهُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: لاَ يَنْتَقِل إِلَيْهِ. وَيَنْتَقِل لِلْوَارِثِ خِيَارُ الشُّفْعَةِ عِنْدَنَا (عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ) وَخِيَارُ التَّعْيِينِ إِذَا اشْتَرَى مَوْرُوثُهُ عَبْدًا مِنْ عَبْدَيْنِ عَلَى أَنْ يَخْتَارَ، وَخِيَارُ الْوَصِيَّةِ إِذَا مَاتَ الْمُوصَى لَهُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي، وَخِيَارُ الإِْقَالَةِ وَالْقَبُول إِذَا أَوْجَبَ الْبَيْعَ لِزَيْدٍ فَلِوَارِثِهِ الْقَبُول وَالرَّدُّ. وَقَال ابْنُ الْمَوَّازِ: إِذَا قَال: مَنْ جَاءَنِي(6/316)
بِعَشَرَةٍ فَغُلاَمِي لَهُ، فَمَتَى جَاءَ أَحَدٌ بِذَلِكَ إِلَى شَهْرَيْنِ لَزِمَهُ، وَخِيَارُ الْهِبَةِ وَفِيهِ خِلاَفٌ، وَمَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ خِيَارَ الشُّفْعَةِ، وَسَلَّمَ خِيَارَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ، وَخِيَارَ تَعَدُّدِ الصَّفْقَةِ، وَحَقَّ الْقِصَاصِ، وَحَقَّ الرَّهْنِ، وَحَبْسِ الْمَبِيعِ، وَخِيَارَ مَا وُجِدَ مِنْ أَمْوَال الْمُسْلِمِينَ فِي الْغَنِيمَةِ فَمَاتَ رَبُّهُ قَبْل أَنْ يَخْتَارَهُ أَخَذَهُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ، وَوَافَقْنَاهُ نَحْنُ عَلَى خِيَارِ الْهِبَةِ فِي الأَْبِ لِلاِبْنِ بِالاِعْتِصَارِ، وَخِيَارُ الْعِتْقِ وَاللِّعَانِ وَالْكِتَابَةِ وَالطَّلاَقِ، بِأَنْ يَقُول: طَلَّقْتَ امْرَأَتِي مَتَى شِئْتَ، فَيَمُوتُ الْمَقُول لَهُ، وَسَلَّمَ الشَّافِعِيُّ جَمِيعَ مَا سَلَّمْنَاهُ، وَسَلَّمَ خِيَارَ الإِْقَالَةِ وَالْقَبُول. (1)
هـ - انْتِقَال الأَْحْكَامِ:
11 - أَوَّلاً: إِذَا طَلَّقَ الرَّجُل زَوْجَتَهُ غَيْرَ الْحَامِل، ثُمَّ مَاتَ عَنْهَا وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ فَإِنَّهَا تَنْتَقِل مِنْ عِدَّةِ الطَّلاَقِ إِلَى عِدَّةِ الْوَفَاةِ فِي الْجُمْلَةِ. (2)
وَإِذَا طَلَّقَهَا وَهِيَ صَغِيرَةٌ لاَ تَحِيضُ، فَابْتَدَأَتْ عِدَّتُهَا بِالأَْشْهُرِ ثُمَّ حَاضَتِ، انْتَقَلَتْ عِدَّتُهَا إِلَى الْحَيْضِ.
12 - ثَانِيًا: حَجْبُ النُّقْصَانِ يَنْتَقِل فِيهِ الْوَارِثُ مِنْ فَرْضٍ إِلَى فَرْضٍ أَقَل، فَالزَّوْجُ - مَثَلاً - يَنْتَقِل فَرْضُهُ مِنَ النِّصْفِ إِلَى الرُّبُعِ، عِنْدَ وُجُودِ الْفَرْعِ الْوَارِثِ.
__________
(1) الفروق للقرافي 3 / 276 - 278.
(2) حاشية قليوبي 4 / 49، والمغني مع الشرح الكبير 9 / 110.(6/317)
انْتِهَابٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِنْتِهَابُ فِي اللُّغَةِ: مِنْ نَهَبَ نَهْبًا؛ إِذَا أَخَذَ الشَّيْءَ بِالْغَارَةِ وَالسَّلْبِ. وَالنُّهْبَةُ، وَالنُّهْبَى: اسْمٌ لِلاِنْتِهَابِ، وَاسْمٌ لِلْمَنْهُوبِ. (1) وَيُعَرِّفُ الْفُقَهَاءُ الاِنْتِهَابَ بِقَوْلِهِمْ: أَخْذُ الشَّيْءِ قَهْرًا، (2) أَيْ مُغَالَبَةً.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الاِخْتِلاَسُ:
2 - يَفْتَرِقُ الاِنْتِهَابُ عَنِ الاِخْتِلاَسِ، إِذِ الاِعْتِمَادُ فِي الاِخْتِلاَسِ عَلَى سُرْعَةِ الأَْخْذِ، بِخِلاَفِ الاِنْتِهَابِ، فَإِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِيهِ. (3) وَأَيْضًا فَإِنَّ الاِخْتِلاَسَ يَسْتَخْفِي فِيهِ الْمُخْتَلِسُ فِي ابْتِدَاءِ اخْتِلاَسِهِ، وَالاِنْتِهَابُ لاَ يَكُونُ فِيهِ اسْتِخْفَاءٌ فِي أَوَّلِهِ وَلاَ آخِرِهِ (4) .
ب - الْغَصْبُ:
3 - يَفْتَرِقُ الاِنْتِهَابُ عَنِ الْغَصْبِ: فِي أَنَّ الْغَصْبَ
__________
(1) تاج العروس، ولسان العرب، والنهاية في غريب الحديث مادة: " نهب ".
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 199 طبعة بولاق الأولى.
(3) حاشية ابن عابدين 3 / 199.
(4) المغني لابن قدامة 8 / 240 طبعة المنار الثالثة.(6/317)
لاَ يَكُونُ إِلاَّ فِي أَخْذِ مَمْنُوعٍ أَخْذُهُ، وَالاِنْتِهَابُ قَدْ يَكُونُ فِي مَمْنُوعٍ أَخْذُهُ، وَفِيمَا أُبِيحَ أَخْذُهُ.
ج - الْغُلُول:
4 - الْغُلُول: الأَْخْذُ مِنَ الْغَنِيمَةِ قَبْل الْقِسْمَةِ، وَلَيْسَ مِنَ الْغُلُول أَخْذُ الْغُزَاةِ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنْ طَعَامٍ وَنَحْوِهِ، أَوِ الاِنْتِفَاعُ بِالسِّلاَحِ مَعَ إِعَادَتِهِ عِنْدَ الاِسْتِغْنَاءِ عَنْهُ، فَهَذَا مِنَ الاِنْتِهَابِ الْمَأْذُونِ بِهِ مِنَ الشَّرْعِ، وَكَذَلِكَ أَخْذُ السَّلْبِ بِشُرُوطِهِ، ر: (غُلُول، سَلْب، غَنَائِم) .
أَنْوَاعُ الاِنْتِهَابِ:
5 - الاِنْتِهَابُ عَلَى ثَلاَثَةِ أَنْوَاعٍ:
أ - نَوْعٌ لاَ تَسْبِقُهُ إِبَاحَةٌ مِنَ الْمَالِكِ.
ب - نَوْعٌ تَسْبِقُهُ إِبَاحَةٌ مِنَ الْمَالِكِ، كَانْتِهَابِ النِّثَارِ الَّذِي يُنْثَرُ عَلَى رَأْسِ الْعَرُوسِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّ نَاثِرَهُ - الْمَالِكَ - أَبَاحَ لِلنَّاسِ انْتِهَابَهُ.
ج - نَوْعٌ أَبَاحَهُ الْمَالِكُ لِيُؤْكَل عَلَى وَجْهِ مَا يُؤْكَل بِهِ، فَانْتَهَبَهُ النَّاسُ، كَانْتِهَابِ الْمَدْعُوِّينَ طَعَامَ الْوَلِيمَةِ.
حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ:
6 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى تَحْرِيمِ النَّوْعِ الأَْوَّل مِنَ الاِنْتِهَابِ - وَهُوَ انْتِهَابُ مَا لَمْ يُبِحْهُ مَالِكُهُ - لأَِنَّهُ نَوْعٌ مِنَ الْغَصْبِ الْمُحَرَّمِ بِالإِْجْمَاعِ. وَيَجِبُ فِيهِ التَّعْزِيرُ، وَقَدْ فَصَّل الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ السَّرِقَةِ وَكِتَابِ الْغَصْبِ.
7 - أَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي مِنَ الاِنْتِهَابِ، كَانْتِهَابِ النِّثَارِ،(6/318)
فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ، فَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَهُ تَحْرِيمًا لَهُ كَالشَّوْكَانِيِّ، وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَهُ كَرَاهَةً لَهُ كَأَبِي مَسْعُودٍ الأَْنْصَارِيِّ (1) ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَعِكْرِمَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَابْنِ شُبْرُمَةَ وَابْنِ سِيرِينَ وَالشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ. (2)
وَاسْتَدَل الْقَائِلُونَ بِالتَّحْرِيمِ بِمَا وَرَدَ مِنْ نَهْيِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ النُّهْبَى. (3)
وَاسْتَدَل الآْخَرُونَ: بِأَنَّ الاِنْتِهَابَ الْمُحَرَّمَ الَّذِي وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهُ هُوَ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ الْغَارَاتِ، وَعَلَى الاِمْتِنَاعِ مِنْهُ وَقَعَتِ الْبَيْعَةُ فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ بَايَعْنَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَلاَّ نَنْتَهِبَ. (4) أَمَّا انْتِهَابُ مَا أَبَاحَهُ مَالِكُهُ فَهُوَ مُبَاحٌ، وَلَكِنَّهُ يُكْرَهُ لِمَا فِي الاِلْتِقَاطِ مِنَ الدَّنَاءَةِ.
وَأَمَّا مَنْ أَبَاحَ الاِنْتِهَابَ، فَقَدْ قَال: إِنَّ تَرْكَهُ أَوْلَى، وَلَكِنْ لاَ كَرَاهَةَ فِيهِ، وَمِنْ هَؤُلاَءِ: الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَعَامِرُ الشَّعْبِيُّ وَأَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلاَّمٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْحَنَفِيَّةُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَبَعْضُ
__________
(1) في المطبوع من شرح معاني الآثار 3 / 50، وفي نيل الأوطار أيضا 6 / 209 (ابن مسعود) وهو خطأ، وصوابه (أبو مسعود) كما في سنن البيهقي 7 / 287، وعمدة القاري 13 / 25 فاقتضى التنبيه على ذلك.
(2) المغني 7 / 12، وعمدة القاري 13 / 25، ونيل الأوطار 6 / 209، ومواهب الجليل 4 / 6، وجواهر الإكليل 1 / 326، والقليوبي 3 / 299.
(3) حديث: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النهى. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 5 / 119 ط السلفية) .
(4) حديث عبادة: " بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ألا ننتهب ". أخرجه البخاري (الفتح 7 / 219 ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1334 ط الحلبي) .(6/318)
الْمَالِكِيَّةِ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي رِوَايَةٍ ثَانِيَةٍ عَنْهُ. (1) وَاسْتَدَل هَؤُلاَءِ بِمَا رَوَتْهُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَ بَعْضَ نِسَائِهِ، فَنُثِرَ عَلَيْهِ التَّمْرُ. (2) وَبِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ قُرْطٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: أَحَبُّ الأَْيَّامِ إِلَى اللَّهِ يَوْمُ النَّحْرِ ثُمَّ يَوْمُ عَرَفَةَ. فَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَدَنَاتٍ خَمْسًا أَوْ سِتًّا فَطَفِقْنَ يَزْدَلِفْنَ إِلَيْهِ بِأَيَّتِهِنَّ يَبْدَأُ، فَلَمَّا وَجَبَتْ - سَقَطَتْ - جُنُوبُهَا، قَال كَلِمَةً خَفِيفَةً لَمْ أَفْهَمْهَا - أَيْ لَمْ يَفْهَمْهَا الرَّاوِي، وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ قُرْطٍ - فَقُلْتُ لِلَّذِي كَانَ إِلَى جَنْبِي: مَا قَال رَسُول اللَّهِ؟ فَقَال - قَال: مَنْ شَاءَ اقْتَطَعَ. (3) {
وَشَهِدَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِمْلاَكَ شَابٍّ مِنَ الأَْنْصَارِ، فَلَمَّا زَوَّجُوهُ قَال: عَلَى الأُْلْفَةِ وَالطَّيْرِ الْمَيْمُونِ وَالسَّعَةِ وَالرِّزْقِ، بَارَكَ اللَّهُ لَكُمْ، دَفِّفُوا عَلَى رَأْسِ صَاحِبِكُمْ، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ جَاءَتِ الْجَوَارِي مَعَهُنَّ الأَْطْبَاقُ عَلَيْهَا اللَّوْزُ وَالسُّكَّرُ، فَأَمْسَكَ الْقَوْمُ أَيْدِيَهُمْ، فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلاَ تَنْتَهِبُونَ، فَقَالُوا: يَا رَسُول اللَّهِ إِنَّكَ نَهَيْتَ عَنِ النُّهْبَةِ، قَال: تِلْكَ نُهْبَةُ الْعَسَاكِرِ، فَأَمَّا الْعُرْسَاتُ فَلاَ، فَرَأَيْتُ رَسُول اللَّهِ يُجَاذِبُهُمْ وَيُجَاذِبُونَهُ (4)
__________
(1) نيل الأوطار 6 / 209، المغني 7 / 12، وكشاف القناع 5 / 183، وابن عابدين 3 / 324، ومواهب الجليل 4 / 6، ونهاية المحتاج6 / 371.
(2) حديث عائشة: " تزوج بعض نسائه فنثر عليه التمر. . . . " أخرجه البيهقي (7 / 287 ط دائرة المعارف العثمانية) وضعفه.
(3) حديث عبد الله بن قرط. أخرجه أبو داود (2 / 370 - ط عزت عبيد دعاس) والطحاوي في شرح معاني الآثار (3 / 50 - ط مطبعة الأنوار المحمدية) . واللفظ للطحاوي وإسناده حسن. (نيل الأوطار 5 / 148 ط الحلبي) .
(4) حديث: (تلك نهبة العساكر. . . . " أخرجه الطحاوي (3 / 50 - ط مطبعة الأنوار المحمدية. وفي إسناده ضعف وانقطاع (نيل الأوطار 6 / 209 ط الحلبي) .(6/319)
8 - أَمَّا النَّوْعُ الثَّالِثُ: وَهُوَ مَا أَبَاحَهُ مَالِكُهُ لِفِئَةٍ مِنَ النَّاسِ لِيَتَمَلَّكُوهُ دُونَ انْتِهَابٍ، بَل عَلَى وَجْهِ التَّسَاوِي، أَوْ عَلَى وَجْهٍ يَقْرَبُ مِنَ التَّسَاوِي - كَوَضْعِهِ الطَّعَامَ أَمَامَ الْمَدْعُوِّينَ إِلَى الْوَلِيمَةِ - فَإِنَّ انْتِهَابَهُ حَرَامٌ لاَ يَحِل وَلاَ يَجُوزُ؛ لأَِنَّ مُبِيحَهُ إِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يَتَسَاوَوْا فِي أَكْلِهِ - مَثَلاً - فَمَنْ أَخَذَ مِنْهُ أَكْثَرَ مِمَّا كَانَ يَأْكُل مِنْهُ مَعَ أَصْحَابِهِ عَلَى وَجْهِ الأَْكْل، فَقَدْ أَخَذَ حَرَامًا وَأَكَل سُحْتًا. (1)
وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ عِنْدَ حَدِيثِهِمْ عَنِ الْوَلِيمَةِ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ.
أَثَرُ الاِنْتِهَابِ:
9 - يَمْلِكُ الْمُنْتَهِبُ مَا انْتَهَبَهُ مِمَّا أَبَاحَهُ مَالِكُهُ بِالاِنْتِهَابِ بِأَخْذِهِ، لأَِنَّهُ مُبَاحٌ، وَتُمْلَكُ الْمُبَاحَاتُ بِالْحِيَازَةِ. أَوْ هُوَ هِبَةٌ، فَيُمْلَكُ بِمَا تُمْلَكُ بِهِ الْهِبَاتُ. (2)
أُنْثَيَانِ
التَّعْرِيفُ:
1 - الأُْنْثَيَانِ: الْخُصْيَتَانِ (3) ، وَهُمَا فِي الاِصْطِلاَحِ بِهَذَا الْمَعْنَى (4) .
__________
(1) مواهب الجليل 4 / 6.
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 324.
(3) لسان العرب والمصباح مادة: (أنث) .
(4) ابن عابدين 2 / 593 ط بولاق الأولى.(6/319)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - أ - الأُْنْثَيَانِ مِنَ الْعَوْرَةِ الْمُغَلَّظَةِ فَتَأْخُذُ حُكْمَهَا (ر: عَوْرَة) .
ب - الاِخْتِصَاءُ وَالإِْخْصَاءُ وَالْجَبُّ لِلإِْنْسَانِ حَرَامٌ لِنَهْيِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ عَنِ الاِخْتِصَاءِ، فَعَنْ إِسْمَاعِيل بْنِ قَيْسٍ قَال: قَال عَبْدُ اللَّهِ: كُنَّا نَغْزُو مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَ لَنَا شَيْءٌ، فَقُلْنَا: أَلاَ نَسْتَخْصِي؟ فَنَهَانَا عَنْ ذَلِكَ (1) .
وَقِيل: نَزَل فِي هَذَا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَل اللَّهُ لَكُمْ} (2) ، وَفِي الْبَابِ جُمْلَةٌ مِنَ الأَْحَادِيثِ الَّتِي تُحَرِّمُ ذَلِكَ.
ج - فِي الْجِنَايَةِ عَلَى الْخُصْيَتَيْنِ فِي غَيْرِ الْعَمْدِ الدِّيَةُ، وَفِي إِحْدَاهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ، فَإِنْ قَطَعَ أُنْثَيَيْهِ فَذَهَبَ نَسْلُهُ لَمْ يَجِبْ أَكْثَرُ مِنَ الدِّيَةِ، وَإِنْ ذَهَبَ نَسْلُهُ بِقَطْعِ إِحْدَاهُمَا لَمْ يَجِبْ أَكْثَرُ مِنْ نِصْفِ الدِّيَةِ. (3) (ر: دِيَة) .
أَمَّا فِي الْعَمْدِ فَفِيهِمَا الْقِصَاصُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَلاَ يُوجِبُونَ فِي الأُْنْثَيَيْنِ الْقِصَاصَ لأَِنَّ ذَلِكَ لاَ يُعْلَمُ لَهُ مَفْصِلٌ فَلاَ يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْمِثْل. (4) (ر: قِصَاص) .
__________
(1) حديث عبد الله بن مسعود. . . أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 117 - ط السلفية) .
(2) سورة المائدة / 87. وانظر جواهر الإكليل 2 / 30، 39، 40، 150، وقليوبي 2 / 197.
(3) الاختيار 5 / 38، والمغني 8 / 34، وقليوبي 4 / 113، والشرح الصغير 4 / 388 ط المعارف.
(4) شرح الروض 4 / 23، وابن عابدين 5 / 356، والبدائع 7 / 309، والمغني 9 / 426، نهاية المحتاج 7 / 30، وشرح الزرقاني 8 / 17.(6/320)
قَطْعُ أُنْثَيَيِ الْحَيَوَانِ:
3 - ذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى جَوَازِ قَطْعِ أُنْثَيَيِ الْحَيَوَانِ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى كَرَاهَتِهِ، (1) عَلَى خِلاَفٍ وَتَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (إِخْصَاء) .
انْحِصَارٌ
انْظُرْ: حَصَرَ.
انْحِلاَلٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِنْحِلاَل لُغَةً: الاِنْفِكَاكُ، وَفِي دُسْتُورِ الْعُلَمَاءِ: الاِنْحِلاَل: بُطْلاَنُ الصُّورَةِ. (2)
وَالاِنْحِلاَل عِنْدَ الْفُقَهَاءِ بِمَعْنَى الْبُطْلاَنِ، وَالاِنْفِكَاكِ، وَالاِنْفِسَاخِ، وَالْفَسْخِ (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْبُطْلاَنُ:
2 - يُطْلِقُ الْفُقَهَاءُ الاِنْحِلاَل بِمَعْنَى الْبُطْلاَنِ، إِلاَّ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 249، والدسوقي 3 / 108، وجواهر الإكليل 2 / 40، والآداب الشرعية 3 / 144، وقليوبي 3 / 203.
(2) تاج العروس، والمصباح مادة: " حلل "، ودستور العلماء، الألف مع النون 1 / 195.
(3) الدسوقي 3 / 535 ط دار الفكر، وابن عابدين 2 / 500 ط بولاق الأولى، الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 338 نشر لبنان.(6/320)
أَنَّ الْبُطْلاَنَ يَكُونُ فِي الْمُنْعَقِدِ وَغَيْرِهِ، أَمَّا الاِنْحِلاَل فَلاَ يُتَصَوَّرُ إِلاَّ فِي الشَّيْءِ الْمُنْعَقِدِ، أَمَّا غَيْرُ الْمُنْعَقِدِ فَلاَ حِل لَهُ. (1)
ب - الاِنْفِسَاخُ:
يُعَبِّرُ الْفُقَهَاءُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْوَاحِدَةِ تَارَةً بِالاِنْفِسَاخِ وَتَارَةً بِالاِنْحِلاَل. وَنَقَل الْحَطَّابُ عَنْ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الاِنْفِسَاخَ لاَ يُطْلَقُ فِي الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ إِلاَّ مَجَازًا (2) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ، وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
3 - يَرِدُ لَفْظُ الاِنْحِلاَل فِي كَلاَمِ الْفُقَهَاءِ أَكْثَرَ مَا يَرِدُ فِي الأَْيْمَانِ، وَالطَّلاَقِ، وَالْعُقُودِ.
فَفِي الأَْيْمَانِ: مَتَى كَانَتِ الْيَمِينُ عَلَى فِعْل وَاجِبٍ أَوْ تَرْكِ مُحَرَّمٍ كَانَ حَلُّهَا مُحَرَّمًا؛ لأَِنَّ حَلَّهَا بِفِعْل الْمُحَرَّمِ، وَهُوَ مُحَرَّمٌ. وَإِنْ كَانَتْ عَلَى فِعْل مَنْدُوبٍ أَوْ تَرْكِ مَكْرُوهٍ فَحَلُّهَا مَكْرُوهٌ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى فِعْل مُبَاحٍ فَحَلُّهَا مُبَاحٌ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى فِعْل مَكْرُوهٍ أَوْ تَرْكِ مَنْدُوبٍ فَحَلُّهَا مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ. فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ. (3)
وَإِنْ كَانَتِ الْيَمِينُ عَلَى فِعْل مُحَرَّمٍ أَوْ تَرْكِ وَاجِبٍ، فَحَلُّهَا وَاجِبٌ لأَِنَّ حَلَّهَا بِفِعْل الْوَاجِبِ،
__________
(1) المغني 8 / 686، 687 ط الرياض.
(2) الدسوقي 3 / 535، والحطاب 5 / 369 نشر ليبيا.
(3) حديث: " إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا. . . . . ". أخرجه البخاري (11 / 517 - الفتح ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1274 - ط الحلبي) .(6/321)
وَفِعْل الْوَاجِبِ وَاجِبٌ. (1)
هَذَا مِنْ حَيْثُ أَصْل الْحُكْمِ التَّكْلِيفِيِّ لِحَل الْيَمِينِ. أَمَّا أَثَرُهُ فَهُوَ الْكَفَّارَةُ فِي الْيَمِينِ الْمُنْعَقِدَةِ عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي (الأَْيْمَانُ) .
أَسْبَابُ انْحِلاَل الْيَمِينِ:
4 - لاِنْحِلاَل الْيَمِينِ أَسْبَابٌ، مِنْهَا:
أ - حُصُول مَا عَلَّقَ عَلَيْهِ الْحَالِفُ: فَتَنْحَل الْيَمِينُ بِوُقُوعِ مَا عُلِّقَ عَلَيْهِ، إِلاَّ إِنْ كَانَتْ أَدَاةُ التَّعْلِيقِ تَقْتَضِي التَّكْرَارَ فَالْيَمِينُ تَتَكَرَّرُ مَعَهَا، فَلَوْ قَال لِزَوْجَتِهِ: إِنْ خَرَجْتِ بِغَيْرِ إِذْنِي فَأَنْتِ طَالِقٌ، انْحَلَّتِ الْيَمِينُ بِالْخُرُوجِ مَرَّةً وَاحِدَةً. (2)
ب - زَوَال مَحَل الْبِرِّ: كَمَا لَوْ قَال إِنْ كَلَّمْتُ فُلاَنًا أَوْ دَخَلْتُ هَذِهِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَمَاتَ فُلاَنٌ أَوْ جُعِلَتِ الدَّارُ بُسْتَانًا بَطَل الْيَمِينُ. (3) وَانْظُرْ بَحْثَ (أَيْمَان)
ج - الْبِرُّ، وَالْحِنْثُ: فَلَوْ فَعَل مَا حَلَفَ عَلَى فِعْلِهِ انْحَلَّتْ يَمِينُهُ، وَكَذَا تَنْحَل لَوِ انْعَقَدَتْ ثُمَّ حَصَل الْحِنْثُ بِوُقُوعِ مَا حَلَفَ عَلَى نَفْيِهِ. (4)
د - الاِسْتِثْنَاءُ: تَنْحَل بِهِ الْيَمِينُ بِشُرُوطٍ وَتَفْصِيلاَتٍ تُذْكَرُ فِي بَابَيِ الطَّلاَقِ وَالأَْيْمَانِ، وَقَدْ
__________
(1) المغني 8 / 682، 683، والإقناع مع حاشية البجيرمي 4 / 303.
(2) ابن عابدين 2 / 500، جواهر الإكليل 1 / 230 نشر دار الباز، وشرح الروض 3 / 285، 4 / 266 ط الميمنية، والبجيرمي على الخطيب 3 / 437 ط مصطفى الحلبي، والمغني 7 / 186، 187.
(3) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 2 / 497، والمغني 8 / 497، وشرح الروض 4 / 266.
(4) شرح الروض 4 / 266، والروضة 11 / 36 ط المكتب الإسلامي، والإنصاف 11 / 105.(6/321)
يَخْتَلِفُ ذَلِكَ فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ عَنْ غَيْرِهَا فِي بَعْضِ الصُّوَرِ. (1)
هـ - زَوَال مِلْكِ النِّكَاحِ: تَنْحَل بِهِ الْيَمِينُ بِالطَّلاَقِ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ وَمَنَعَهُ الْبَعْضُ. وَمِنَ الأَْمْثِلَةِ عَلَى انْفِكَاكِ الْيَمِينِ إِذَا زَال مِلْكُ النِّكَاحِ: مَا إِذَا قَال لِزَوْجَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلاَثًا إِنْ فَعَلْتِ كَذَا، ثُمَّ خَالَعَهَا قَبْل وُقُوعِ مَا عَلَّقَ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْيَمِينَ تَنْفَكُّ، وَلَوْ عَقَدَ عَلَيْهَا مِنْ جَدِيدٍ فَإِنَّهَا لاَ تَطْلُقُ إِنْ فَعَلَتْ مَا عُلِّقَ قَبْل الْخُلْعِ، (2) وَالْبَعْضُ مَنَعَ ذَلِكَ إِنْ كَانَ بِقَصْدِ الاِحْتِيَال. (3)
و الرِّدَّةُ: تَنْحَل بِهَا الْيَمِينُ عِنْدَ الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ الآْخَرِ.
ز - وَيَتِمُّ الاِنْحِلاَل فِي الْعُقُودِ بِأَسْبَابٍ، مِنْهَا: حَل الْعَقْدِ غَيْرِ اللاَّزِمِ مِنْ كِلاَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، أَوْ مِمَّنْ هُوَ غَيْرُ لاَزِمٍ فِي حَقِّهِ، وَمِنْهَا الْفَسْخُ بِالتَّرَاضِي أَوْ بِحُكْمِ الْقَضَاءِ، وَمِنْهَا الإِْقَالَةُ. وَيُرْجَعُ إِلَى كُلٍّ مِنْ هَذِهِ الأَْسْبَابِ فِي مَوْضِعِهِ.
انْحِنَاءٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِنْحِنَاءُ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ: حَنَى، فَالاِنْحِنَاءُ: الاِنْعِطَافُ وَالاِعْوِجَاجُ عَنْ وَجْهِ الاِسْتِقَامَةِ. يُقَال
__________
(1) المغني 8 / 818، وجواهر الإكليل 1 / 226، والعدوي على الخرشي 2 / 57 نشر دار صادر.
(2) البجيرمي على الخطيب 3 / 412، وابن عابدين 2 / 501، وإعلام الموقعين 3 / 292.
(3) إعلام الموقعين 2 / 292.(6/322)
لِلرَّجُل إِذَا انْحَنَى مِنَ الْكِبَرِ حَنَاهُ الدَّهْرُ، فَهُوَ مَحْنِيٌّ وَمَحْنُوٌّ. (1)
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الرُّكُوعُ:
2 - الرُّكُوعُ نَوْعٌ مِنَ الاِنْحِنَاءِ، إِلاَّ أَنَّهُ فِي الصَّلاَةِ عَلَى هَيْئَةٍ مَخْصُوصَةٍ سَيَأْتِي بَيَانُهَا. (2)
ب - السُّجُودُ:
السُّجُودُ وَضْعُ الْجَبْهَةِ عَلَى الأَْرْضِ، وَهُوَ يَجْتَمِعُ مَعَ الاِنْحِنَاءِ بِجَامِعِ الْمَيْل، إِلاَّ أَنَّ الْمَيَلاَنَ فِي السُّجُودِ أَكْثَرُ بِوُصُول الْجَبْهَةِ إِلَى الأَْرْضِ (3) .
ج - الإِْيمَاءُ:
الإِْيمَاءُ هُوَ أَنْ تُشِيرَ بِرَأْسِكَ أَوْ بِيَدِكَ أَوْ بِعَيْنِكَ أَوْ بِحَاجِبِكَ أَوْ بِأَقَل مِنْ هَذَا، كَمَا يُومِئُ الْمَرِيضُ بِرَأْسِهِ لِلرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ. وَقَدْ يَكُونُ الإِْيمَاءُ بِدُونِ انْحِنَاءٍ (4) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
3 - يَخْتَلِفُ حُكْمُ الاِنْحِنَاءِ بِاخْتِلاَفِ السَّبَبِ الْبَاعِثِ عَلَيْهِ:
__________
(1) معجم مقاييس اللغة، والصحاح، والمصباح المنير، والمطلع، والزاهر في ألفاظ الشافعي مادة (حنا) .
(2) المغرب، والمصباح المنير.
(3) نفس المصادر السابقة.
(4) المغرب.(6/322)
فَقَدْ يَكُونُ الاِنْحِنَاءُ مُبَاحًا، كَالاِنْحِنَاءِ الَّذِي يَقُومُ بِهِ الْمُسْلِمُ فِي أَعْمَالِهِ الْيَوْمِيَّةِ.
وَقَدْ يَكُونُ فَرْضًا فِي الصَّلاَةِ، لاَ تَصِحُّ إِلاَّ بِهِ، كَمَا هُوَ فِي الرُّكُوعِ فِي الصَّلاَةِ لِلْقَادِرِ عَلَيْهِ. وَقَدْ نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَكُونُ عَلَى صُورَةٍ مَخْصُوصَةٍ وَمِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ، وَهُوَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ بِقَدْرِ مَا يَمُدُّ يَدَيْهِ فَتَنَال رُكْبَتَيْهِ عِنْدَ الشَّخْصِ الْمُعْتَدِل الْقَامَةِ. (1) وَتَفْصِيل هَذَا فِي (رُكُوع) .
وَقَدْ يَكُونُ مُحَرَّمًا، كَالاِنْحِنَاءِ تَعْظِيمًا لإِِنْسَانٍ أَوْ حَيَوَانٍ أَوْ جَمَادٍ. وَهَذَا مِنَ الضَّلاَلاَتِ وَالْجَهَالاَتِ. (2)
وَقَدْ نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الاِنْحِنَاءَ عِنْدَ الاِلْتِقَاءِ بِالْعُظَمَاءِ كَكِبَارِ الْقَوْمِ وَالسَّلاَطِينِ تَعْظِيمًا لَهُمْ - حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. لأَِنَّ الاِنْحِنَاءَ لاَ يَكُونُ إِلاَّ لِلَّهِ تَعَالَى تَعْظِيمًا لَهُ، وَلِقَوْلِهِ لِرَجُلٍ قَال لَهُ: يَا رَسُول اللَّهِ، الرَّجُل مِنَّا يَلْقَى أَخَاهُ أَوْ صَدِيقَهُ أَيَنْحَنِي لَهُ؟ قَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ. (3)
أَمَّا إِنْ كَانَ ذَلِكَ الاِنْحِنَاءُ مُجَرَّدَ تَقْلِيدٍ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 300 ط بولاق، والفتاوى الهندية 1 / 70 ط المكتبة الإسلامية، والفواكه الدواني 1 / 207 - 208 ط دار المعرفة، والبجيرمي على الخطيب 2 / 26 ط دار المعرفة، والمحرر 1 / 61 ط السنة المحمدية.
(2) الفتاوى لابن تيمية 27 / 60 - 61 ط الرياض.
(3) مجمع الأنهر 2 / 542 ط العثمانية، والفواكه الدواني 2 / 424 - 425، والشرح الصغير 4 / 760 ط دار المعارف، والقليوبي 4 / 76 ط عيسى الحلبي، والفتاوى لابن تيمية 27 / 92 وحديث: " الرجل منا يلقي أخاه. . . . ". أخرجه الترمذي (7 / 514 - تحفة الأحوذي ط السلفية) وفي إسناده راو ضعيف. . وذكر الحديث من مناكيره الذهبي في الميزان (1 / 621 ط الحلبي) .(6/323)
لِلْمُشْرِكِينَ، دُونَ قَصْدِ التَّعْظِيمِ لِلْمُنْحَنَى لَهُ فَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ، لأَِنَّهُ يُشْبِهُ فِعْل الْمَجُوسِ.
قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: الاِنْحِنَاءُ لِلْمَخْلُوقِ لَيْسَ مِنَ السُّنَّةِ، وَإِنَّمَا هُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ عَادَاتِ بَعْضِ الْمُلُوكِ وَالْجَاهِلِينَ. (1)
أَمَّا لَوْ أُكْرِهَ عَلَى الاِنْحِنَاءِ لِلسُّلْطَانِ وَغَيْرِهِ فَتَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الإِْكْرَاهِ بِشُرُوطِهِ، لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْكُفْرِ. (2) وَتَفْصِيلُهُ فِي بَحْثِ (إِكْرَاه) .
انْحِنَاءُ الْمُصَلِّي أَثْنَاءَ الْقِيَامِ:
الْقِيَامُ الْمَطْلُوبُ فِي الصَّلاَةِ وَغَيْرِهَا قَدْ يَعْتَرِيهِ شَيْءٌ مِنَ الاِنْحِنَاءِ لِسَبَبٍ أَوْ آخَرَ، فَإِنْ كَانَ قَلِيلاً بِحَيْثُ يَبْقَى اسْمُ الْقِيَامِ مَوْجُودًا، وَلاَ يَصِل إِلَى حَدِّ الرُّكُوعِ الْمَطْلُوبِ فِي الصَّلاَةِ فَإِنَّهُ لاَ يُخِل بِصِفَةِ الْقِيَامِ الْمَطْلُوبِ فِي الصَّلاَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَقَدْ سَمَّاهُ الْحَنَفِيَّةُ قِيَامًا غَيْرَ تَامٍّ. (3)
وَاخْتَلَفُوا فِي اقْتِدَاءِ الْمُسْتَوِي خَلْفَ الأَْحْدَبِ، فَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِجَوَازِهِ، وَقَيَّدَهُ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنْ لاَ تَبْلُغَ حَدَبَتُهُ حَدَّ الرُّكُوعِ، وَتَمْيِيزِ قِيَامِهِ عَنْ رُكُوعِهِ، وَقَال الْمَالِكِيَّةُ بِجَوَازِهِ مَعَ الْكَرَاهَةِ، وَمَنَعَهُ الْحَنَابِلَةُ مُطْلَقًا. (4)
__________
(1) الفتاوى لابن تيمية 11 / 554 - 555.
(2) مجمع الأنهر 2 / 542.
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 298، والشرح الصغير 1 / 307، وأسنى المطالب 1 / 145 - 146 ط بولاق، ونيل المآرب 1 / 35 ط الكويت.
(4) فتح القدير 1 / 220، وابن عابدين 1 / 396، والدسوقي 1 / 328، ومغني المحتاج 1 / 340، والمغني لابن قدامة 2 / 223.(6/323)
انْدِرَاسٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِنْدِرَاسُ: مَصْدَرُ انْدَرَسَ، وَأَصْل الْفِعْل دَرَسَ، يُقَال: دَرَسَ الشَّيْءُ، وَانْدَرَسَ أَيْ: عَفَا وَخَفِيَتْ آثَارُهُ، وَمِثْلُهُ الاِنْمِحَاءُ بِمَعْنَى ذَهَابِ الأَْثَرِ. (1)
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنْ هَذَا، حَيْثُ يَسْتَعْمِلُهُ الْفُقَهَاءُ فِي ذَهَابِ مَعَالِمِ الشَّيْءِ وَبَقَاءِ أَثَرِهِ فَقَطْ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الإِْزَالَةُ - وَالزَّوَال:
2 - الإِْزَالَةُ لُغَةً: مَصْدَرُ أَزَلْتُهُ إِذَا نَحَّيْتُهُ فَزَال.
وَمِنْ مَعَانِي الزَّوَال الْهَلاَكُ وَالاِنْتِهَاءُ. تَقُول: زَال مِلْكُ فُلاَنٍ إِذَا انْتَهَى، وَلاَ يَكُونُ الزَّوَال إِلاَّ بَعْدَ الاِسْتِقْرَارِ وَالثُّبُوتِ، فَالزَّوَال عَلَى هَذَا يَشْتَرِكُ مَعَ الاِنْدِرَاسِ فِي الاِنْتِهَاءِ، (2) وَإِنْ كَانَ يَفْتَرِقُ عَنْهُ، فَيُطْلَقُ عَلَى تَنْحِيَةِ الشَّيْءِ مِنْ مَكَان إِلَى آخَرَ مَعَ بَقَاءِ ذَاتِهِ. وَلاَ يَخْرُجُ الاِسْتِعْمَال الْفِقْهِيُّ عَنْ هَذِهِ الْمَعَانِي (3) .
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير - مادة (درس) و (محو) .
(2) تاج العروس والمصباح المنير مادة: (زول) .
(3) قليوبي 4 / 138 ط عيسى الحلبي، والفروق للعسكري ص 140.(6/324)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
لِلاِنْدِرَاسِ أَحْكَامٌ تَخْتَلِفُ بِحَسَبِ مَوْضُوعِهِ:
أ - انْدِرَاسُ الْمَسَاجِدِ:
3 - الْكَلاَمُ عَنِ الاِنْدِرَاسِ فِي الْمَسْجِدِ يَتَنَاوَل مَا إِذَا اسْتَغْنَى النَّاسُ عَنِ الْمَسْجِدِ بِأَنْ يَخْلُوَ عَنِ الْمُصَلِّينَ فِي الْمَحَلَّةِ، أَوْ أَنْ يَخْرَبَ بِحَيْثُ لاَ يَنْتَفِعُ بِهِ بِالْكُلِّيَّةِ، فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ، وَهِيَ الرِّوَايَةُ الْمَرْجُوحَةُ عَنْ أَحْمَدَ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ إِلَى أَنَّهُ يَبْقَى مَسْجِدًا، وَلاَ يُبَاحُ وَلاَ يَرْجِعُ إِلَى الْوَاقِفِ، بَل يَبْقَى مَسْجِدًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ.
وَذَهَبَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ إِلَى أَنَّهُ يَعُودُ مِلْكًا لِلْوَاقِفِ أَوْ وَرَثَتِهِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الرِّوَايَةِ الرَّاجِحَةِ عَنْ أَحْمَدَ، وَهِيَ الرِّوَايَةُ الأُْخْرَى عَنْ أَبِي يُوسُفَ إِلَى جَوَازِ بَيْعِ بَعْضِهِ لإِِصْلاَحِ بَاقِيهِ، إِنْ أَمْكَنَ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنِ الاِنْتِفَاعُ بِشَيْءٍ مِنْهُ بِيعَ جَمِيعُهُ، وَوُضِعَ ثَمَنُهُ فِي مَسْجِدٍ آخَرَ.
وَهَذَا الْحُكْمُ فِي بُقْعَةِ الْمَسْجِدِ، أَمَّا أَنْقَاضُهُ فَتُنْقَل إِلَى أَقْرَبِ مَسْجِدٍ، فَإِنْ لَمْ يَحْتَجْ إِلَيْهَا تُوضَعُ فِي مَدْرَسَةٍ وَنَحْوِهَا مِنْ أَمَاكِنِ الْخَيْرَاتِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ قَوْل بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ: يَجُوزُ بَيْعُهَا وَوَضْعُ ثَمَنِهَا فِي مَسْجِدٍ آخَرَ. (1)
ب - انْدِرَاسُ الْوَقْفِ:
4 - مَعْنَى انْدِرَاسِ الْوَقْفِ أَنَّهُ أَصْبَحَ بِحَالَةٍ لاَ يُنْتَفَعُ
__________
(1) ابن عابدين 3 / 371، ونهاية المحتاج 5 / 392، والحطاب 6 / 42، والشرح الصغير 4 / 125، والمغني 5 / 575.(6/324)
بِهِ بِالْكُلِّيَّةِ، بِأَلاَّ يَحْصُل مِنْهُ شَيْءٌ أَصْلاً، أَوْ لاَ يَفِي بِمَئُونَتِهِ، كَأَوْقَافِ الْمَسْجِدِ إِذَا تَعَطَّلَتْ وَتَعَذَّرَ اسْتِغْلاَلُهَا. فِي هَذِهِ الصُّورَةِ جَوَّزَ جُمْهُورُ الْحَنَفِيَّةِ الاِسْتِبْدَال عَلَى الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ إِذَا كَانَ بِإِذْنِ الْقَاضِي وَرَأْيِهِ لِمَصْلَحَةٍ فِيهِ.
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ أَجَازَ جُمْهُورُهُمُ اسْتِبْدَال الْوَقْفِ الْمَنْقُول فَقَطْ إِذَا دَعَتْ إِلَى ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ، وَهِيَ الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ عَنْ مَالِكٍ. قَال الْخَرَشِيُّ: إِنَّ الْمَوْقُوفَ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَقَارًا - إِذَا صَارَ لاَ يُنْتَفَعُ بِهِ فِي الْوَجْهِ الَّذِي وُقِفَ فِيهِ كَالثَّوْبِ يَخْلَقُ، وَالْفَرَسِ يَمْرَضُ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ - فَإِنَّهُ يُبَاعُ وَيُشْتَرَى مِثْلُهُ مِمَّا يُنْتَفَعُ بِهِ.
وَأَمَّا الْعَقَارُ فَقَدْ مَنَعَ الْمَالِكِيَّةُ اسْتِبْدَالَهُ مَعَ شَيْءٍ مِنَ التَّفْصِيل.
فَفِي الْمَسَاجِدِ: أَجْمَعَ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ بَيْعِهَا.
وَفِي الدُّورِ وَالْحَوَانِيتِ إِذَا كَانَتْ قَائِمَةَ الْمَنْفَعَةِ لاَ يَجُوزُ بَيْعُهَا، وَاسْتَثْنَوْا تَوْسِيعَ الْمَسْجِدِ أَوِ الْمَقْبَرَةِ أَوِ الطَّرِيقِ الْعَامِّ فَأَجَازُوا بَيْعَهُ، لأَِنَّ هَذَا مِنَ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ لِلأُْمَّةِ، وَإذَا لَمْ تُبَعِ الأَْحْبَاسُ لأَِجْلِهَا تَعَطَّلَتْ، وَأَصَابَ النَّاسَ ضِيقٌ، وَمِنَ الْوَاجِبِ التَّيْسِيرُ عَلَى النَّاسِ فِي عِبَادَتِهِمْ وَسَيْرِهِمْ وَدَفْنِ مَوْتَاهُمْ.
وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ شَدَّدُوا كَثِيرًا فِي اسْتِبْدَال الْعَيْنِ الْمَوْقُوفَةِ، حَتَّى أَوْشَكُوا أَنْ يَمْنَعُوهُ مُطْلَقًا خَشْيَةَ ضَيَاعِ الْوَقْفِ أَوِ التَّفْرِيطِ فِيهِ.
قَال النَّوَوِيُّ: وَالأَْصَحُّ جَوَازُ بَيْعِ حُصُرِ الْمَسْجِدِ إِذَا بَلِيَتْ، وَجُذُوعِهِ إِذَا انْكَسَرَتْ، وَلَمْ تَصْلُحْ إِلاَّ لِلإِْحْرَاقِ. وَلَوِ انْهَدَمَ مَسْجِدٌ وَتَعَذَّرَ إِعَادَتُهُ لَمْ يُبَعْ بِحَالٍ، وَتُصْرَفُ غَلَّةُ وَقْفِهِ إِلَى أَقْرَبِ الْمَسَاجِدِ(6/325)
إِلَيْهِ. ثُمَّ إِنَّ الْمَسْجِدَ الْمُنْهَدِمَ لاَ يُنْقَضُ إِلاَّ إِذَا خِيفَ عَلَى نَقْضِهِ، فَيُنْقَضُ وَيُحْفَظُ أَوْ يُعَمَّرُ بِهِ مَسْجِدٌ آخَرُ إِنْ رَآهُ الْحَاكِمُ، وَالأَْقْرَبُ إِلَيْهِ أَوْلَى، وَلاَ يُصْرَفُ نَقْضُهُ لِنَحْوِ بِئْرٍ وَقَنْطَرَةٍ وَرِبَاطٍ.
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يُبَاعُ أَصْلُهَا وَلاَ تُبْتَاعُ وَلاَ تُوهَبُ وَلاَ تُورَثُ. (1)
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ: فَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ عَقَارٍ وَمَنْقُولٍ فِي جَوَازِ الاِسْتِبْدَال وَعَدَمِهِ، وَأَخَذُوا حُكْمَ الْعَقَارِ مِنْ حُكْمِ الْمَنْقُول، فَكَمَا أَنَّ الْفَرَسَ الْحَبِيسَةَ عَلَى الْغَزْوِ إِذَا كَبِرَتْ وَلَمْ تَصْلُحْ لِلْغَزْوِ، وَصَلُحَتْ لِشَيْءٍ آخَرَ يَجُوزُ بَيْعُهَا، فَكَذَلِكَ يُقَاسُ الْمَنْقُول الآْخَرُ وَغَيْرُ الْمَنْقُول عَلَيْهَا. فَبَيْعُ الْمَسْجِدِ لِلْحَنَابِلَةِ لَهُمْ فِيهِ رِوَايَتَانِ:
الرِّوَايَةُ الأُْولَى: يَجُوزُ بَيْعُ الْمَسْجِدِ إِذَا صَارَ الْمَسْجِدُ غَيْرَ صَالِحٍ لِلْغَايَةِ الْمَقْصُودَةِ مِنْهُ، كَأَنْ ضَاقَ الْمَسْجِدُ، أَوْ خَرِبَتِ النَّاحِيَةُ، وَحِينَئِذٍ يُصْرَفُ ثَمَنُهُ فِي إِنْشَاءِ مَسْجِدٍ آخَرَ يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي مَكَانٍ آخَرَ.
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: إِنَّ الْوَقْفَ إِذَا خَرِبَ وَتَعَطَّلَتْ مَنَافِعُهُ، كَدَارٍ انْهَدَمَتْ، أَوْ أَرْضٍ خَرِبَتْ وَعَادَتْ مَوَاتًا وَلَمْ تُمْكِنْ عِمَارَتُهَا، أَوْ مَسْجِدٍ انْتَقَل أَهْل الْقَرْيَةِ عَنْهُ وَصَارَ فِي مَوْضِعٍ لاَ يُصَلَّى فِيهِ، أَوْ ضَاقَ بِأَهْلِهِ وَلَمْ يُمْكِنْ تَوْسِيعُهُ فِي مَوْضِعِهِ، أَوْ تَشَعَّبَ جَمِيعُهُ، وَلَمْ تُمْكِنْ عِمَارَتُهُ، وَلاَ عِمَارَةُ بَعْضِهِ إِلاَّ بِبَيْعِ بَعْضِهِ، جَازَ بَيْعُ بَعْضِهِ لِتُعَمَّرَ بِهِ بَقِيَّتُهُ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنِ الاِنْتِفَاعُ بِشَيْءٍ مِنْهُ بِيعَ جَمِيعُهُ.
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: لاَ يَجُوزُ بَيْعُ الْمَسَاجِدِ. رَوَى عَلِيُّ بْنُ سَعِيدٍ أَنَّ الْمَسَاجِدَ لاَ تُبَاعُ وَإِنَّمَا تُنْقَل آلَتُهَا.
__________
(1) حديث " لا يباع أصلها. . . " أخرجه البخاري (5 / 392 - ط السلفية ومسلم (3 / 1255 - ط الحلبي) .(6/325)
وَقَدْ رَجَّحَ ابْنُ قُدَامَةَ الرِّوَايَةَ الأُْولَى. (1)
ج - انْدِرَاسُ قُبُورِ الْمَوْتَى:
5 - ذَهَبَ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ الْمَيِّتَ الْمُسْلِمَ إِذَا بَلِيَ وَصَارَ تُرَابًا جَازَ نَبْشُ قَبْرِهِ وَدَفْنُ غَيْرِهِ فِيهِ، أَمَّا إِذَا بَقِيَ شَيْءٌ مِنْ عِظَامِهِ - غَيْرَ عَجْبِ الذَّنَبِ - فَلاَ يَجُوزُ نَبْشُهُ وَلاَ الدَّفْنُ فِيهِ لِحُرْمَةِ الْمَيِّتِ، وَيَعْرِفُ ذَلِكَ أَهْل الْخِبْرَةِ.
إِلاَّ أَنَّ صَاحِبَ التَّتَارْخَانِيَّةِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ يَرَى أَنَّ الْمَيِّتَ إِذَا صَارَ تُرَابًا فِي الْقَبْرِ يُكْرَهُ دَفْنُ غَيْرِهِ فِي قَبْرِهِ؛ لأَِنَّ الْحُرْمَةَ بَاقِيَةٌ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ مُعَقِّبًا عَلَى هَذَا: لَكِنَّ فِي ذَلِكَ مَشَقَّةً عَظِيمَةً، فَالأَْوْلَى إِنَاطَةُ الْجَوَازِ بِالْبِلَى، إِذْ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يُعَدَّ لِكُل مَيِّتٍ قَبْرٌ لاَ يُدْفَنُ فِيهِ غَيْرُهُ وَإِنْ صَارَ الأَْوَّل تُرَابًا لاَ سِيَّمَا فِي الأَْمْصَارِ الْكَبِيرَةِ الْجَامِعَةِ، وَإِلاَّ لَزِمَ أَنْ تَعُمَّ الْقُبُورُ السَّهْل وَالْوَعِرَ.
عَلَى أَنَّ الْمَنْعَ مِنَ الْحَفْرِ إِلَى أَلاَّ يَبْقَى عَظْمٌ عَسِرٌ جِدًّا، وَإِنْ أَمْكَنَ ذَلِكَ لِبَعْضِ النَّاسِ، لَكِنَّ الْكَلاَمَ فِي جَعْلِهِ حُكْمًا عَامًّا لِكُل أَحَدٍ. وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ الْحَرْثِ وَالزِّرَاعَةِ وَالْبِنَاءِ فِي الْمَقْبَرَةِ الْمُنْدَرِسَةِ، فَأَجَازَهُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَمَنَعَهُ الْمَالِكِيَّةُ، وَلَمْ نَعْثُرْ عَلَى نَصٍّ لِلشَّافِعِيَّةِ فِي ذَلِكَ.
وَأَمَّا قُبُورُ الْمُشْرِكِينَ فَذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى جَوَازِ نَبْشِهَا، لِيُتَّخَذَ مَكَانُهَا مَسْجِدًا؛ لأَِنَّ مَوْضِعَ مَسْجِدِ النَّبِيِّ كَانَ قُبُورًا لِلْمُشْرِكِينَ. (2)
__________
(1) ابن عابدين 3 / 535، والبحر الرائق 5 / 239، 240، وأنفع الوسائل ص 109 - 110، الخرشي 7 / 94 - 95، والدسوقي 4 / 92، ومغني المحتاج 2 / 292، والجمل 3 / 590، والمغني مع الشرح 6 / 225، وما بعدها.
(2) ابن عابدين 1 / 199، والدسوقي 1 / 428، ومغني المحتاج 1 / 362، والجمل 2 / 201، وأسنى المطالب 1 / 331، وكشاف القناع 2 / 144.(6/326)
إِحْيَاءُ الْمُنْدَرِسِ
6 - سَبَقَ فِي إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ - مِنْ أَبْحَاثِ الْمَوْسُوعَةِ - أَنَّ مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً ثُمَّ تَرَكَهَا حَتَّى، انْدَرَسَتْ، فَهَل تَصِيرُ مَوَاتًا إِذَا أَحْيَاهَا غَيْرُهُ مَلَكَهَا، أَوْ تَبْقَى عَلَى مِلْكِ الأَْوَّل؟
ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَأَحَدُ أَقْوَالٍ ثَلاَثَةٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّهَا تَبْقَى عَلَى مِلْكِ الأَْوَّل، وَلاَ يَمْلِكُهَا الثَّانِي بِالإِْحْيَاءِ، مُسْتَدِلِّينَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً لَيْسَتْ لأَِحَدٍ فَهِيَ لَهُ. (1) وَلأَِنَّ هَذِهِ أَرْضٌ يُعْرَفُ مَالِكُهَا فَلَمْ تُمْلَكْ بِالإِْحْيَاءِ، كَاَلَّتِي مُلِكَتْ بِشِرَاءٍ أَوْ عَطِيَّةٍ. وَفِي قَوْلٍ ثَانٍ لِلْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّ الثَّانِيَ يَمْلِكُهَا، قِيَاسًا عَلَى الصَّيْدِ، إِذَا أَفْلَتَ وَلَحِقَ بِالْوَحْشِ وَطَال زَمَانُهُ، فَهُوَ لِلثَّانِي. وَفِي قَوْلٍ ثَالِثٍ لِلْمَالِكِيَّةِ: التَّفْرِيقُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الأَْوَّل أَحْيَاهُ أَوِ اخْتَطَّهُ أَوِ اشْتَرَاهُ، فَإِنْ كَانَ الأَْوَّل أَحْيَاهُ كَانَ الثَّانِي أَحَقَّ بِهِ، وَإِنْ كَانَ الأَْوَّل اخْتَطَّهُ أَوِ اشْتَرَاهُ كَانَ الأَْوَّل أَحَقَّ بِهِ. (2)
__________
(1) حديث: " من أحيا أرضا ميتة فهي له، وليس لعرق ظالم حق " أخرجه أبو داود (3 / 454 - ط عزت عبيد دعاس) . وقال ابن حجر بعد أن ذكر طرق الحديث: وفي أسانيدها مقال، لكن يقوي بعضها ببعض. (الفتح 5 / 19 - السلفية) .
(2) الفتاوى الهندية 5 / 386، وقليوبي وعميرة 3 / 88ط الحلبي، والمغني 5 / 564 ط الرياض، وهامش الحطاب 6 / 3، والرهوني 7 / 97 دار الفكر.(6/326)
إِنْذَارٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْنْذَارُ لُغَةً: مَصْدَرُ أَنْذَرَهُ الأَْمْرَ، إِذَا أَبْلَغَهُ وَأَعْلَمَهُ بِهِ، وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَل فِي التَّخْوِيفِ، يُقَال: أَنْذَرَهُ إِذَا خَوَّفَهُ وَحَذَّرَ بِالزَّجْرِ عَنِ الْقَبِيحِ (1) .
وَفِي تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ: لاَ يَكَادُ الإِْنْذَارُ يَكُونُ إِلاَّ فِي تَخْوِيفٍ يَتَّسِعُ مَعَ زَمَانِهِ لِلاِحْتِرَازِ، فَإِنْ لَمْ يَتَّسِعْ زَمَانُهُ لِلاِحْتِرَازِ كَانَ إِشْعَارًا، وَلَمْ يَكُنْ إِنْذَارًا (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الإِْعْذَارُ:
2 - الْعُذْرُ: الْحُجَّةُ الَّتِي يُعْتَذَرُ بِهَا، وَالْجَمْعُ أَعْذَارٌ، وَأَعْذَرَ إِعْذَارًا: أَبْدَى عُذْرًا، وَيَكُونُ أَعْذَرَ بِمَعْنَى اعْتَذَرَ، وَأَعْذَرَ ثَبَتَ لَهُ عُذْرٌ (3) .
وَفِي التَّبْصِرَةِ: الإِْعْذَارُ الْمُبَالَغَةُ فِي الْعُذْرِ، وَمِنْهُ: قَدْ أَعْذَرَ مَنْ أَنْذَرَ، أَيْ قَدْ بَالَغَ فِي الإِْعْذَارِ مَنْ تَقَدَّمَ إِلَيْكَ فَأَنْذَرَكَ (4) .
وَقَال ابْنُ عَرَفَةَ: الإِْعْذَارُ سُؤَال الْحَاكِمِ مَنْ تَوَجَّهَ عَلَيْهِ الْحُكْمُ: هَل لَهُ مَا يُسْقِطُهُ (5) ؟ وَإِذًا، فَالإِْنْذَارُ
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، والمفردات للراغب، والكليات للكفوي 1 / 338، وترتيب القاموس المحيط
(2) القرطبي 1 / 184 ط دار الكتب
(3) لسان العرب وترتيب القاموس المحيط والمفردات
(4) التبصرة بهامش فتع العلي المالك 1 / 166 ط دار المعرفة
(5) جواهر الإكليل 2 / 227 ط دار المعرفة(6/327)
يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ إِعْذَارًا إِنْ كَانَ فِيهِ إِثْبَاتُ الْحُجَّةِ لِلْمُنْذِرِ، وَدَحْضُ حُجَّةِ الْمُنْذَرِ إِذَا مَا وَقَعَ بِهِ الضَّرَرُ.
ب - النَّبْذُ:
3 - النَّبْذُ: طَرْحُ الشَّيْءِ، وَالنَّبْذُ: إِعْلاَمُ الْعَدُوِّ بِتَرْكِ الْمُوَادَعَةِ، وقَوْله تَعَالَى: {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ} (1) أَيْ قُل لَهُمْ: قَدْ نَبَذْتُ إِلَيْكُمْ عَهْدَكُمْ، وَأَنَا مُقَاتِلُكُمْ، لِيَعْلَمُوا ذَلِكَ (2) .
فَالنَّبْذُ مَقْصُودٌ بِهِ طَرْحُ الْعَهْدِ وَعَدَمُ الاِلْتِزَامِ بِهِ. وَالأَْمْرُ بِالنَّبْذِ فِي الآْيَةِ الْكَرِيمَةِ يَجْمَعُ بَيْنَ الأَْمْرَيْنِ: طَرْحِ الْعَهْدِ، وَإِعْلاَمِهِمْ بِذَلِكَ. فَهُوَ نَوْعٌ مِنَ الإِْنْذَارِ.
ج - الْمُنَاشَدَةُ:
4 - نَشَدَ الضَّالَّةَ: طَلَبَهَا وَعَرَّفَهَا، وَنَشَدْتُكَ اللَّهَ: أَيْ سَأَلْتُكَ بِاَللَّهِ، وَالْمُنَاشَدَةُ: الْمُطَالَبَةُ بِاسْتِعْطَافٍ، وَنَاشَدَهُ مُنَاشَدَةً: حَلَّفَهُ، وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي أُنْشِدُكَ عَهْدَكَ. . . (3) أَيْ أُذَكِّرُكَ مَا عَاهَدْتَنِي بِهِ وَوَعَدْتَنِي وَأَطْلُبُهُ مِنْكَ (4) . وَالْمُنَاشَدَةُ أَيْضًا تَكُونُ بِمَعْنَى الإِْنْذَارِ، لَكِنْ مَعَ الاِسْتِعْطَافِ، وَهُوَ طَلَبُ الْكَفِّ عَنِ الْفِعْل الْقَبِيحِ، يَقُول الْفُقَهَاءُ (5) : يُقَاتَل الْمُحَارِبُ (أَيْ قَاطِعُ
__________
(1) سورة الأنفال / 58
(2) لسان العرب، والمفردات، والقرطبي 8 / 32، والاختيار 4 / 121 ط دار المعرفة
(3) حديث: " إني أنشدك عهدك " أخرجه البخاري (الفتح 6 / 99 - ط السلفية)
(4) لسان العرب والمغرب وترتيب القاموس المحيط
(5) الشرح الصغير 4 / 493، دار المعارف(6/327)
الطَّرِيقِ) جَوَازًا، وَيُنْدَبُ أَنْ يَكُونَ قِتَالُهُ بَعْدَ الْمُنَاشَدَةِ، بِأَنْ يُقَال لَهُ (ثَلاَثَ مَرَّاتٍ) : نَاشَدْتُكَ اللَّهَ إِلاَّ مَا خَلَّيْتَ سَبِيلِي.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
5 - يَخْتَلِفُ حُكْمُ الإِْنْذَارِ بِاخْتِلاَفِ مَوَاضِعِهِ:
فَقَدْ يَكُونُ وَاجِبًا: وَذَلِكَ كَإِنْذَارِ الأَْعْمَى مَخَافَةَ أَنْ يَقَعَ فِي مَحْذُورٍ، كَخَوْفِ وُقُوعِهِ فِي بِئْرٍ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى مَنْ رَآهُ - وَلَوْ كَانَ فِي صَلاَةٍ - أَنْ يُحَذِّرَهُ خَشْيَةَ الضَّرَرِ (1) .
وَكَإِنْذَارِ الْكُفَّارِ الَّذِينَ لَمْ تَبْلُغْهُمُ الدَّعْوَةُ، فَيَحْرُمُ الإِْقْدَامُ عَلَى قِتَالِهِمْ قَبْل إِبْلاَغِهِمْ بِالدَّعْوَةِ الإِْسْلاَمِيَّةِ (2) .
وَكَإِنْذَارِ الْمُرْتَدِّ عِنْدَ مَنْ يَقُول بِالْوُجُوبِ كَالْحَنَابِلَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ (3) .
وَقَدْ يَكُونُ مُسْتَحَبًّا: كَإِنْذَارِ الْكُفَّارِ الَّذِينَ بَلَغَتْهُمُ الدَّعْوَةُ، فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ دَعْوَتُهُمْ إِلَى الإِْسْلاَمِ مُبَالَغَةً فِي الإِْنْذَارِ (4) .
وَكَإِنْذَارِ الْمُرْتَدِّ، فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُسْتَتَابَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ يُوعَظُ فِيهَا وَيُخَوَّفُ لَعَلَّهُ يَرْجِعُ وَيَتُوبُ (5) .
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 198 ط الحلبي، والمعراق بهامش الحطاب 2 / 36 ط النجاح، وابن عابدين 1 / 575 ط بولاق ثالثة
(2) الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 25، والأحكام السلطانية للماوردي ص 38، والاختيار 4 / 119، والدسوقي 2 / 176
(3) المغني 8 / 124 ط الرياض
(4) الاختيار 4 / 119، والمهذب 2 / 232 ط دار المعرفة
(5) ابن عابدين 3 / 294، والكافي 2 / 1089 ط الرياض، والمهذب 2 / 223(6/328)
وَكَتَنْبِيهِ الإِْمَامِ فِي الصَّلاَةِ إِذَا هَمَّ بِتَرْكِ مُسْتَحَبٍّ (1) .
وَقَدْ يَكُونُ مُبَاحًا: كَإِنْذَارِ الزَّوْجَةِ النَّاشِزِ بِالْوَعْظِ أَوْ بِغَيْرِهِ (2) كَمَا وَرَدَ فِي الآْيَةِ الْكَرِيمَةِ {وَاَللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ. . .} (3) الآْيَةَ.
وَكَإِنْذَارِ صَاحِبِ الْحَائِطِ الْمَائِل (4) .
وَقَدْ يَكُونُ حَرَامًا: كَمَا إِذَا كَانَ فِي الإِْنْذَارِ ضَرَرٌ أَشَدُّ مِنْ ضَرَرِ الْمُنْكَرِ الْوَاقِعِ (5) .
مَا يَكُونُ بِهِ الإِْنْذَارُ:
6 - الإِْنْذَارُ قَدْ يَكُونُ بِالْقَوْل، وَذَلِكَ كَوَعْظِ الْمُتَشَاجِرِينَ، وَاسْتِتَابَةِ الْمُرْتَدِّ، وَعَرْضِ الدَّعْوَةِ عَلَى الْكُفَّارِ، وَوَعْظِ الزَّوْجَةِ النَّاشِزِ.
وَقَدْ يَكُونُ الإِْنْذَارُ بِالْفِعْل فِي أَحْوَالٍ، مِنْهَا:
أ - أَنْ يَكُونَ الْكَلاَمُ غَيْرَ جَائِزٍ، كَمَنْ كَانَ فِي الصَّلاَةِ وَرَأَى رَجُلاً عِنْدَ بِئْرٍ، أَوْ رَأَى عَقْرَبًا تَدِبُّ إِلَى إِنْسَانٍ، وَأَمْكَنَ تَحْذِيرُهُ بِغَمْزِهِ أَوْ لَكْزِهِ، فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ الْكَلاَمُ حِينَئِذٍ (6) .
وَهُنَاكَ صُورَةٌ أُخْرَى لِلتَّحْذِيرِ بَيَّنَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ - لِمَنْ كَانَ فِي الصَّلاَةِ وَرَأَى مَا يَجِبُ التَّحْذِيرُ مِنْهُ - أَنْ يُسَبِّحَ الرَّجُل وَتُصَفِّقَ الْمَرْأَةُ، فَفِي
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 198
(2) المهذب 2 / 70، وشرح منتهى الإرادات 3 / 105 ط، دار الفكر
(3) سورة النساء / 34
(4) الاختيار 5 / 46، ومنح الجليل 4 / 559 ط النجاح ليبيا
(5) شرح إحياء علوم الدين 7 / 43، والآداب الشرعية 1 / 181، والأشباه للسيوطي ص 309 ط مصطفى محمد، ومنح الجليل 1 / 710
(6) ابن عابدين 1 / 575(6/328)
الْبُخَارِيِّ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، مَا لَكُمْ حِينَ نَابَكُمْ شَيْءٌ فِي الصَّلاَةِ أَخَذْتُمْ فِي التَّصْفِيقِ؟ إِنَّمَا التَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ (1) ، وَفِي هَذَا صُورَةُ التَّحْذِيرِ بِالْفِعْل بَدَل الْقَوْل بِالنِّسْبَةِ لِلْمَرْأَةِ الَّتِي فِي الصَّلاَةِ.
ب - أَنْ يَكُونَ الْكَلاَمُ غَيْرَ مُجْدٍ، وَذَلِكَ إِذَا لَمْ تُفْلِحْ طَرِيقَةُ الْوَعْظِ بِالنِّسْبَةِ لِلزَّوْجَةِ النَّاشِزِ، فَلِلزَّوْجِ بَعْدَ الْوَعْظِ أَنْ يَهْجُرَهَا، فَإِنْ لَمْ يُفْلِحِ الْهَجْرُ ضَرَبَهَا ضَرْبًا خَفِيفًا.
وَكَتَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ بِالْيَدِ لِمَنْ يَمْلِكُ ذَلِكَ، عَمَلاً بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِْيمَانِ (2) .
مَنْ لَهُ حَقُّ الإِْنْذَارِ:
7 - الإِْنْذَارُ فِي الْغَالِبِ يَكُونُ تَحْذِيرًا مِنْ شَيْءٍ ضَارٍّ أَوْ عَمَلٍ غَيْرِ مَشْرُوعٍ، وَكُل مَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مِنْ حَقِّ كُل مُسْلِمٍ، عَمَلاً بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (3) وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِْيمَانِ (4)
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 197. وحديث: " يا أيها الناس: مالكم حين نابكم. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 107 ط السلفية)
(2) حديث: " من رأى منكم منكرا فليغير بيده. . . . " أخرجه مسلم في الإيمان 1 / 49 / 69 ط البابي الحلبي)
(3) سورة آل عمران / 104
(4) حديث: " من رأى منكم منكرا فليغير بيده. . . " سبق تخريجه ف / 6(6/329)
وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ تَحْتَ عِنْوَانِ الأَْمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَهُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ بِشُرُوطِهِ الْخَاصَّةِ (1) . ر: (أَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيٌ عَنِ الْمُنْكَرِ) .
وَيَتَعَيَّنُ الإِْنْذَارُ بِالنِّسْبَةِ لِوَالِي الْحِسْبَةِ، لأَِنَّهُ خُصِّصَ مِنْ قِبَل الإِْمَامِ لِذَلِكَ (2) . ر: (حِسْبَة) . وَتَثْبُتُ وِلاَيَةُ الْحِسْبَةِ لِلزَّوْجِ وَالْمُعَلِّمِ وَالأَْبِ. ر: (حِسْبَة - وِلاَيَة) .
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
يَأْتِي الإِْنْذَارُ فِي كُل مَا هُوَ ضَارٌّ أَوْ غَيْرُ مَشْرُوعٍ، وَمَسَائِلُهُ مُتَعَدِّدَةٌ فِي أَبْوَابِ الْفِقْهِ، وَمِنْ ذَلِكَ: إِنْذَارُ تَارِكِ الصَّلاَةِ (3) ، فِي بَابِ الصَّلاَةِ وَهَكَذَا بَقِيَّةُ الْعِبَادَاتِ. وَفِي الْجِنَايَاتِ فِي الصِّيَال (4) ، وَالْحَائِطِ الْمَائِل (5) ، وَفِعْل مَا يَضُرُّ بِالْمُسْلِمِينَ. وَفِي بَابِ الأَْذَانِ، وَهَل يَجُوزُ قَطْعُهُ لإِِنْذَارِ غَيْرِهِ. فِي بَابِ الْجُمُعَةِ حُكْمُ قَطْعِ الْخُطْبَةِ لِلإِْنْذَارِ وَحُكْمُ إِنْذَارِ الْمُسْتَمِعِ لِغَيْرِهِ (6) .
وَفِي حُكْمِ الْجِوَارِ (7) ، وَفِي الْقَضَاءِ بِالنِّسْبَةِ
__________
(1) الآداب الشرعية لابن مفلح 1 / 181 ط الرياض، ومنح الجليل 1 / 710، والأحكام السلطانية للماوردي ص 240 - 247، والفروق للقرافي 4 / 255 ط دار المعرفة، وشرح الإحياء 7 / 3
(2) الأحكام السلطانية للماوردي ص 240، وشرح إحياء علوم الدين 7 / 17 - 18، والتبصرة بهامش فتح العلي المالك 2 / 187
(3) التبصرة 2 / 189
(4) جواهر الإكليل 2 / 297
(5) منح الجليل 4 / 559
(6) قليوبي 1 / 280
(7) التبصرة 2 / 187(6/329)
لِلشُّهُودِ (1) ، وَفِي إِنْذَارِ الزَّوْجِ الْغَائِبِ قَبْل التَّفْرِيقِ لِعَدَمِ الإِْنْفَاقِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
إِنْزَاءٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْنْزَاءُ لُغَةً: حَمْل الْحَيَوَانِ عَلَى النَّزْوِ، وَهُوَ الْوَثْبُ، وَلاَ يُقَال إِلاَّ لِلشَّاءِ، وَالدَّوَابِّ، وَالْبَقَرِ، فِي مَعْنَى السِّفَادِ (2) .
وَلاَ يَخْتَلِفُ مَعْنَاهُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - عَسَبُ الْفَحْل:
2 - قِيل: هُوَ الْكِرَاءُ الَّذِي يُؤْخَذُ عَلَى ضِرَابِ الْفَحْل، وَقِيل: هُوَ ضِرَابُهُ، وَقِيل: مَاؤُهُ (3) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
3 - الإِْنْزَاءُ الَّذِي لاَ يَضُرُّ - كَالإِْنْزَاءِ عَلَى مِثْلِهِ أَوْ نَحْوِهِ أَوْ مُقَارِبِهِ - جَائِزٌ، كَخَيْلٍ بِمِثْلِهَا أَوْ بِحَمِيرٍ، أَمَّا إِذَا كَانَ يَضُرُّ - كَإِنْزَاءِ الْحَمِيرِ عَلَى الْخَيْل - فَإِنَّ مِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ كَرِهَهُ، أَخْذًا بِحَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
__________
(1) التبصرة 2 / 221
(2) لسان العرب، والمحيط، تاج العروس مادة: (نزا) .
(3) النظم المستعذب 1 / 401 ط مصطفى الحلبي، طلبة الطلبة ص 126، والمغني 5 / 34.(6/330)
قَال: أُهْدِيَتْ لِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَغْلَةٌ فَرَكِبَهَا، فَقُلْتُ: لَوْ حَمَلْنَا الْحَمِيرَ عَلَى الْخَيْل فَكَانَتْ لَنَا مِثْل هَذِهِ، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا يَفْعَل ذَلِكَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ (1) . وَقَالُوا: وَسَبَبُ النَّهْيِ أَنَّهُ سَبَبٌ لِقِلَّةِ الْخَيْل وَضَعْفِهَا (2) .
قَال الْخَطَّابِيُّ: يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى فِي ذَلِكَ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ الْحُمُرَ إِذَا حَمَلَتْ عَلَى الْخَيْل تَعَطَّلَتْ مَنَافِعُ الْخَيْل، وَقَل عَدَدُهَا، وَانْقَطَعَ نَمَاؤُهَا. وَالْخَيْل يُحْتَاجُ إِلَيْهَا لِلرُّكُوبِ وَالطَّلَبِ، وَعَلَيْهَا يُجَاهَدُ الْعَدُوُّ، وَبِهَا تُحْرَزُ الْغَنَائِمُ، وَلَحْمُهَا مَأْكُولٌ، وَيُسْهَمُ لِلْفَرَسِ كَمَا يُسْهَمُ لِلْفَارِسِ، وَلَيْسَ لِلْبَغْل شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْفَضَائِل، فَأَحَبَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَنْمُوَ عَدَدُ الْخَيْل وَيَكْثُرَ نَسْلُهَا لِمَا فِيهَا مِنَ النَّفْعِ وَالصَّلاَحِ. وَلَكِنْ قَدْ يَحْتَمِل أَنْ يَكُونَ حَمْل الْخَيْل عَلَى الْحُمُرِ جَائِزًا؛ لأَِنَّ الْكَرَاهَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ إِنَّمَا جَاءَتْ فِي حَمْل الْحُمُرِ عَلَى الْخَيْل، لِئَلاَّ تُشْغَل أَرْحَامُهَا بِنَسْل الْحُمُرِ، فَيَقْطَعَهَا ذَلِكَ عَنْ نَسْل الْخَيْل، فَإِذَا كَانَتِ الْفُحُولَةُ خَيْلاً وَالأُْمَّهَاتُ حُمُرًا فَقَدْ يَحْتَمِل أَنْ لاَ يَكُونَ دَاخِلاً فِي النَّهْيِ، إِلاَّ أَنْ يَتَأَوَّل مُتَأَوِّلٌ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَدِيثِ صِيَانَةُ الْخَيْل عَنْ مُزَاوَجَةِ الْحُمُرِ، وَكَرَاهَةُ اخْتِلاَطِ مَائِهَا، لِئَلاَّ يَضِيعَ طُرُقُهَا، وَلِئَلاَّ يَكُونَ مِنْهُ الْحَيَوَانُ الْمُرَكَّبُ مِنْ نَوْعَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، فَإِنَّ أَكْثَرَ الْمُرَكَّبَاتِ الْمُتَوَلِّدَةِ بَيْنَ جِنْسَيْنِ مِنَ الْحَيَوَانِ أَخْبَثُ طَبْعًا مِنْ أُصُولِهَا الَّتِي تَتَوَلَّدُ مِنْهَا وَأَشَدُّ شَرَاسَةً كَالسِّمْعِ،
__________
(1) حديث: " إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون ". أخرجه أبو داود في الجهاد (3 / 58 / 2565) ط الدعاس، وأحمد (766، 785) بتحقيق أحمد شاكر. وقال: إسناده صحيح.
(2) المجموع 6 / 178 ط السلفية، القليوبي 3 / 203 ط عيسى الحلبي.(6/330)
وَالْعِسْبَارِ وَنَحْوِهِمَا، وَكَذَلِكَ الْبَغْل لِمَا يَعْتَرِيهِ مِنَ الشِّمَاسِ وَالْحِرَانِ وَالْعِضَاضِ، وَنَحْوِهَا مِنَ الْعُيُوبِ وَالآْفَاتِ، ثُمَّ هُوَ حَيَوَانٌ عَقِيمٌ لَيْسَ لَهُ نَسْلٌ وَلاَ نَمَاءٌ وَلاَ يُذَكَّى وَلاَ يُزَكَّى.
قُلْتُ: وَمَا أَرَى هَذَا الرَّأْيَ طَائِلاً، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَال: {وَالْخَيْل وَالْبِغَال وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} فَذَكَرَ الْبِغَال وَامْتَنَّ عَلَيْنَا بِهَا كَامْتِنَانِهِ بِالْخَيْل وَالْحَمِيرِ، وَأَفْرَدَ ذِكْرَهَا بِالاِسْمِ الْخَاصِّ الْمَوْضُوعِ لَهَا، وَنَبَّهَ عَلَى مَا فِيهَا مِنَ الإِْرَبِ وَالْمَنْفَعَةِ، وَالْمَكْرُوهُ مِنَ الأَْشْيَاءِ مَذْمُومٌ لاَ يَسْتَحِقُّ الْمَدْحَ وَلاَ يَقَعُ بِهَا الاِمْتِنَانُ، وَقَدِ اسْتَعْمَل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَغْل وَاقْتَنَاهُ، وَرَكِبَهُ حَضَرًا وَسَفَرًا، وَكَانَ يَوْمَ حُنَيْنٍ عَلَى بَغْلَتِهِ رَمَى الْمُشْرِكِينَ بِالْحَصْبَاءِ. وَقَال: شَاهَتِ الْوُجُوهُ فَانْهَزَمُوا، وَلَوْ كَانَ مَكْرُوهًا لَمْ يَقْتَنِهِ وَلَمْ يَسْتَعْمِلْهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ (1) .
وَالْحَنَفِيَّةُ أَجَازُوا إِنْزَاءَ الْحَمِيرِ عَلَى الْخَيْل وَعَكْسَهُ (2) .
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
4 - بِالإِْضَافَةِ إِلَى مَا تَقَدَّمَ تَكَلَّمَ الشَّافِعِيَّةُ فِي امْتِنَاعِ الإِْنْزَاءِ عَلَى الدَّابَّةِ الْمَرْهُونَةِ، إِلاَّ إِنْ ظَنَّ أَنَّهَا تَلِدُ قَبْل حُلُول الدَّيْنِ (3) . وَيُفَصِّل الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ فِي بَابِ (الرَّهْنِ) ، وَيُنْظَرُ حُكْمُ الإِْجَارَةِ عَلَى الإِْنْزَاءِ فِي مُصْطَلَحِ (عَسَبُ الْفَحْل) .
__________
(1) معالم السنن 2 / 251، 252 ط محمد راغب الطباخ سنة 1351 هـ.
(2) الدر وحاشية ابن عابدين 5 / 249 ط بولاق الأولى.
(3) القليوبي 2 / 271 ط عيسى الحلبي.(6/331)
إِنْزَالٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْنْزَال لُغَةً: مَصْدَرُ أَنْزَل، وَهُوَ مِنَ النُّزُول، وَمِنْ مَعْنَاهُ الاِنْحِدَارُ مِنْ عُلْوٍ إِلَى سُفْلٍ، وَمِنْهُ إِنْزَال الرَّجُل مَاءَهُ إِذَا أَمْنَى بِجِمَاعٍ أَوْ غَيْرِهِ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: يُطْلَقُ الإِْنْزَال عَلَى خُرُوجِ مَاءِ الرَّجُل أَوِ الْمَرْأَةِ بِجِمَاعٍ أَوِ احْتِلاَمٍ أَوْ نَظَرٍ أَوْ غَيْرِهِ (1) . .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الاِسْتِمْنَاءُ:
2 - الاِسْتِمْنَاءُ لُغَةً: طَلَبُ خُرُوجِ الْمَنِيِّ، وَاصْطِلاَحًا: إِخْرَاجُ الْمَنِيِّ بِغَيْرِ جِمَاعٍ، مُحَرَّمًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُحَرَّمٍ (2) .
فَالاِسْتِمْنَاءُ عَلَى هَذَا أَخَصُّ مِنَ الإِْنْزَال؛ لأَِنَّ الإِْنْزَال خُرُوجُ الْمَنِيِّ بِالْجِمَاعِ أَوْ غَيْرِهِ.
أَسْبَابُ الإِْنْزَال:
3 - يَكُونُ الإِْنْزَال بِالْجِمَاعِ، أَوْ بِالْيَدِ، أَوْ بِالْمُدَاعَبَةِ، أَوِ النَّظَرِ، أَوِ الْفِكْرِ، أَوِ الاِحْتِلاَمِ (3) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
4 - تَخْتَلِفُ أَحْكَامُ الإِْنْزَال بِاخْتِلاَفِ مَوَاطِنِهِ،
__________
(1) لسان العرب مادة: (نزل) .
(2) القاموس المحيط مادة: (مني) ، ابن عابدين 2 / 100، 3 / 156، والشرواني 3 / 410.
(3) مراقي الفلاح بحاشية الطحطاوي ص 52.(6/331)
فَيَكُونُ حَلاَلاً لِلرَّجُل وَالْمَرْأَةِ إِذَا كَانَ بِنِكَاحٍ صَحِيحٍ، أَوْ مِلْكِ يَمِينٍ. وَيَكُونُ حَرَامًا إِذَا كَانَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ.
وَكِلاَ الإِْنْزَالَيْنِ يَكُونُ حَرَامًا فِي الْجُمْلَةِ إِذَا كَانَ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ. وَيَكُونُ حَرَامًا بِالنِّسْبَةِ لِلْمُحْرِمِ بِحَجٍّ أَوْ عَمْرَةٍ (1) .
وَيَحْرُمُ فِي الاِعْتِكَافِ الْوَاجِبِ - الإِْنْزَال، أَوْ فِعْل مَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ كَلَمْسٍ وَقُبْلَةٍ (2) .
الإِْنْزَال بِالاِسْتِمْنَاءِ:
5 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الإِْنْزَال بِالاِسْتِمْنَاءِ عَلَى أَقْوَالٍ مَا بَيْنَ الْحُرْمَةِ وَالْكَرَاهَةِ، وَالْجَوَازِ وَالْوُجُوبِ فِي حَال الضَّرُورَةِ. وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (اسْتِمْنَاء ج 4 99)
وَالإِْنْزَال بِالاِسْتِمْنَاءِ يُبْطِل الصَّوْمَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الإِْسْكَافِ وَأَبُو الْقَاسِمِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، فَقَالاَ بِعَدَمِ إِبْطَال الصَّوْمِ (3) .
وَفِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ خِلاَفٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي (صَوْم) .
وَيُبْطِل الإِْنْزَال بِالْيَدِ الاِعْتِكَافَ، وَفِي هَذَا تَفْصِيلٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ: (اسْتِمْنَاء) .
وَالإِْنْزَال بِالاِسْتِمْنَاءِ لاَ يُفْسِدُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ عِنْدَ
__________
(1) قليوبي 2 / 120، 135، 136.
(2) قليوبي 2 / 77، المغني / 196، الثالثة، كشاف القناع 2 / 361، بدائع 2 / 115، الكافي 1 / 354.
(3) ابن عابدين 2 / 100، والزيلعي 2 / 323، والدسوقي 2 / 60، 68، والمهذب 2 / 270، والبيجوري 1 / 303، كشاف القناع 6 / 102، الإنصاف 4 / 251، 252، الجمل 1 / 241، والشبراملسي 1 / 312.(6/332)
الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، لَكِنْ يَجِبُ فِيهِ دَمٌ، لأَِنَّهُ كَالْمُبَاشَرَةِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ فِي التَّحْرِيمِ وَالتَّعْزِيرِ، فَكَانَ بِمَنْزِلَتِهَا فِي الْجَزَاءِ، أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَالُوا بِفَسَادِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ بِهِ، وَأَوْجَبُوا الْقَضَاءَ وَالْكَفَّارَةَ، وَلَوْ كَانَ نَاسِيًا، لأَِنَّهُ أَنْزَل بِفِعْلٍ مَحْظُورٍ، وَتَفْصِيلُهُ فِي (الاِسْتِمْنَاء) أَيْضًا.
وَفِي الإِْنْزَال بِالنَّظَرِ أَوِ الْفِكْرِ وَأَثَرِهِ عَلَى الصَّوْمِ أَوِ الاِعْتِكَافِ أَوِ الْحَجِّ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مَبْحَثِ (الاِسْتِمْنَاءِ) .
وَالإِْنْزَال بِالتَّفَكُّرِ حُكْمُهُ حُكْمُ الإِْنْزَال بِالنَّظَرِ عَلَى الْخِلاَفِ السَّابِقِ.
الإِْنْزَال بِالاِحْتِلاَمِ:
6 - الإِْنْزَال بِالاِحْتِلاَمِ لاَ يُبْطِل الصَّوْمَ، وَلاَ يُوجِبُ قَضَاءً أَوْ كَفَّارَةً (1) ، وَلاَ يُفْسِدُ الْحَجَّ وَلاَ يَلْزَمُ بِهِ فِدْيَةٌ، وَلاَ يُبْطِل الاِعْتِكَافَ (2) . وَيُعْرَفُ الإِْنْزَال فِي الاِحْتِلاَمِ بِعَلاَمَاتٍ مُعَيَّنَةٍ، بِوُجُودِ مَنِيٍّ فِي ثَوْبِ نَوْمِهِ أَوْ فِرَاشِهِ، أَوْ بَلَلٍ مِنْ أَثَرِهِ.
فَإِذَا احْتَلَمَ وَلَمْ يُنْزِل فَلاَ غُسْل عَلَيْهِ، أَجْمَعَ عَلَى ذَلِكَ الْفُقَهَاءُ، وَإِذَا أَنْزَل فَعَلَيْهِ الْغُسْل. وَإِنْ وَجَدَ مَنِيًّا وَلَمْ يَذْكُرِ احْتِلاَمًا فَعَلَيْهِ الْغُسْل (3) ، عَلَى خِلاَفٍ وَتَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (احْتِلاَمٌ) .
__________
(1) المغني مع الشرح الكبير 3 / 50، والدسوقي1 / 523، ومغني المحتاج 1 / 430 ط الحلبي.
(2) ابن عابدين 2 / 132، والهندية 1 / 244، والحطاب 2 / 423، والشرح الصغير 1 / 728، جواهر الإكليل 1 / 159، الجمل 2 / 517، 363، ونهاية المحتاج 3 / 219، والمغني مع الشرح الكبير 3 / 330.
(3) الفتاوى الخانية 1 / 244، وابن عابدين 1 / 111، والحطاب 1 / 306، 307، والمجموع 2 / 142، وشرح الروض وحاشية الرملي عليه 1 / 65، 66 ط الميمنية، والمغني لابن قدامة 1 / 202.(6/332)
حُكْمُ الاِغْتِسَال مِنَ الإِْنْزَال:
7 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَنِيَّ إِذَا نَزَل عَلَى وَجْهِ الدَّفْقِ وَالشَّهْوَةِ يَجِبُ مِنْهُ الْغُسْل، أَمَّا إِذَا نَزَل لاَ عَلَى وَجْهِ الدَّفْقِ وَالشَّهْوَةِ فَلاَ يَجِبُ مِنْهُ الْغُسْل عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَقَوْلٌ لِلْمَالِكِيَّةِ إِلَى وُجُوبِ الْغُسْل بِذَلِكَ، فَإِذَا سَكَنَتِ الشَّهْوَةُ قَبْل خُرُوجِ الْمَنِيِّ إِلَى الظَّاهِرِ ثُمَّ نَزَل فَفِيهِ خِلاَفٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ: (غُسْل) .
إِنْزَال الْمَرْأَةِ:
8 - الْمَرْأَةُ كَالرَّجُل فِي الأَْحْكَامِ الَّتِي تَتَرَتَّبُ عَلَى إِنْزَال الْمَنِيِّ، لِمَا رَوَى مُسْلِمٌ أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ حَدَّثَتْ أَنَّهَا سَأَلْتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْمَرْأَةُ تَرَى فِي مَنَامِهَا مَا يَرَى الرَّجُل؟ فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا رَأَتْ ذَلِكَ الْمَرْأَةُ فَلْتَغْتَسِل.
وَفِي لَفْظٍ أَنَّهَا قَالَتْ: هَل عَلَى الْمَرْأَةِ غُسْلٌ إِذَا هِيَ احْتَلَمَتْ؟ فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَعَمْ، إِذَا رَأَتِ الْمَاءَ (1) . فَخُرُوجُ الْمَنِيِّ بِشَهْوَةٍ فِي يَقَظَةٍ أَوْ نَوْمٍ يُوجِبُ الْغُسْل عَلَى الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ.
وَمِثْل ذَلِكَ سَائِرُ الأَْحْكَامِ فِي الصِّيَامِ وَالاِعْتِكَافِ وَالْحَجِّ عَلَى مَا سَبَقَ بَيَانُهُ. إِلاَّ أَنَّ الْفُقَهَاءَ يَخْتَلِفُونَ فِيمَا يَتَحَقَّقُ بِهِ نُزُول الْمَنِيِّ مِنَ الْمَرْأَةِ لِتَرَتُّبِ الأَْحْكَامِ عَلَيْهِ.
وَيَتَحَقَّقُ ذَلِكَ بِوُصُول الْمَنِيِّ إِلَى الْمَحَل الَّذِي تَغْسِلُهُ فِي الاِسْتِنْجَاءِ، وَهُوَ مَا يَظْهَرُ عِنْدَ جُلُوسِهَا وَقْتَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ، وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عِنْدَ
__________
(1) حديث: " إذا رأت ذلك المرأة فلتغسل، أخرجه مسلم (1 / 250 ط الحلبي) .(6/333)
الْحَنَفِيَّةِ، وَبِهَذَا قَال الْمَالِكِيَّةُ عَدَا سَنَدٍ، وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِالنِّسْبَةِ لِلثَّيِّبِ. وَقَال سَنَدٌ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّ بُرُوزَ الْمَنِيِّ مِنَ الْمَرْأَةِ لَيْسَ شَرْطًا، بَل مُجَرَّدُ الاِنْفِصَال عَنْ مَحَلِّهِ يُوجِبُ الْغُسْل؛ لأَِنَّ عَادَةَ مَنِيِّ الْمَرْأَةِ يَنْعَكِسُ إِلَى الرَّحِمِ لِيَتَخَلَّقَ مِنْهُ الْوَلَدُ، وَهَذَا مَا يُقَابِل ظَاهِرَ الرِّوَايَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي الْبِكْرِ: لاَ يَجِبُ عَلَيْهَا الْغُسْل حَتَّى يَخْرُجَ الْمَنِيُّ مِنْ فَرْجِهَا؛ لأَِنَّ دَاخِل فَرْجِهَا فِي حُكْمِ الْبَاطِنِ (1) ر: (انْظُرْ: احْتِلاَم) .
إِنْزَال الْمَنِيِّ لِمَرَضٍ أَوْ بَرْدٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ:
9 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) أَنَّ خُرُوجَ الْمَنِيِّ لِغَيْرِ لَذَّةٍ وَشَهْوَةٍ، بِأَنْ كَانَ بِسَبَبِ بَرْدٍ أَوْ مَرَضٍ، أَوْ ضَرْبَةٍ عَلَى الظَّهْرِ، أَوْ سُقُوطٍ مِنْ عُلْوٍ، أَوْ لَدْغَةِ عَقْرَبٍ، أَوْ مَا شَابَهُ ذَلِكَ، لاَ يُوجِبُ الْغُسْل، وَلَكِنْ يُوجِبُ الْوُضُوءَ.
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْغُسْل عِنْدَهُمْ بِخُرُوجِ الْمَنِيِّ، سَوَاءٌ أَكَانَ بِشَهْوَةٍ وَلَذَّةٍ، أَمْ كَانَ بِغَيْرِ ذَلِكَ، بِأَنْ كَانَ لِمَرَضٍ وَنَحْوِهِ مِمَّا سَبَقَ، وَهَذَا إِذَا خَرَجَ الْمَنِيُّ مِنَ الْمَخْرَجِ الْمُعْتَادِ، وَكَذَا الْحُكْمُ إِذَا خَرَجَ مِنْ غَيْرِ مَخْرَجِهِ الْمُعْتَادِ وَكَانَ مُسْتَحْكَمًا، أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ مُسْتَحْكَمًا مَعَ خُرُوجِهِ مِنْ غَيْرِ الْمَخْرَجِ الْمُعْتَادِ فَلاَ يَجِبُ الْغُسْل (2) .
__________
(1) ابن عابدين 1 / 108، والفتاوى الهندية 1 / 14، 15 والدسوقي 1 / 126، 127، والخرشي 1 / 162، والمجموع 2 / 140، ونهاية المحتاج 1 / 199، والمغني 1 / 199 وكشاف القناع 1 / 142.
(2) ابن عابدين 1 / 108، والاختيار 1 / 12، وحاشية الدسوقي 1 / 127، 128، والشرح الصغير 1 / 61 ط الحلبي، والخرشي 1 / 163، ومغني المحتاج 1 / 70، والقليوبي 1 / 63، والمجموع 2 / 140، 141، وكشاف القناع 1 / 139، 142.(6/333)
انْسِحَابٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِنْسِحَابُ لُغَةً: مَصْدَرُ انْسَحَبَ، مُطَاوِعُ سَحَبَ، أَيْ جَرَّ (1) .
وَيُرَادُ بِهِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ وَالأُْصُولِيِّينَ امْتِدَادُ الْفِعْل فِي أَوْقَاتٍ مُتَتَالِيَةٍ امْتِدَادًا اعْتِبَارِيًّا، كَحُكْمِنَا عَلَى نِيَّةِ الْمُتَوَضِّئِ بِالاِنْسِحَابِ فِي جَمِيعِ أَرْكَانِ الْوُضُوءِ، إِذَا نَوَى فِي أَوَّل الرُّكْنِ الأَْوَّل، ثُمَّ ذَهِل عَنْهَا بَعْدُ فِي بَقِيَّةِ الأَْرْكَانِ. وَكَذَا الْحُكْمُ فِي الْعَزْمِ عَلَى امْتِثَال الْمَأْمُورِ فِي الْوَاجِبِ الْمُوَسَّعِ فِي أَجْزَاءِ الْوَقْتِ بِمُجَرَّدِ الْعَزْمِ الأَْوَّل (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الاِسْتِصْحَابُ:
2 - الاِسْتِصْحَابُ فِي اللُّغَةِ: مُلاَزَمَةُ الشَّيْءِ شَيْئًا آخَرَ. تَقُول: اسْتَصْحَبْتُ الْكِتَابَ وَغَيْرَهُ؛ إِذَا حَمَلْتَهُ بِصُحْبَتِكَ. وَمِنْ هُنَا قِيل: اسْتَصْحَبْتُ الْحَال؛ إِذَا تَمَسَّكْتُ بِمَا كَانَ ثَابِتًا، كَأَنَّكَ جَعَلْتَ تِلْكَ الْحَالَةَ مُصَاحِبَةً غَيْرَ مُفَارِقَةٍ (3) .
وَاسْتِصْحَابُ الْحَال عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ مَعْنَاهُ: إِبْقَاءُ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ لاِنْعِدَامِ الْمُغَيِّرِ (4) .
__________
(1) المصباح (سحب) .
(2) فواتح الرحموت 1 / 73 ط بولاق.
(3) المصباح (صحب) .
(4) التعريفات للجرجاني ص 17، وحاشية الشربيني على شرح جمع الجوامع 348 ط الحلبي.(6/334)
وَقَدِ اسْتَعْمَل الْفُقَهَاءُ الاِسْتِصْحَابَ بِمَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ حَيْثُ قَالُوا: إِنَّ الذُّهُول عَنِ اسْتِمْرَارِ النِّيَّةِ فِي الْوُضُوءِ بَعْدَ اسْتِحْضَارِهَا مُغْتَفَرٌ لِمَشَقَّةِ اسْتِصْحَابِهَا (1) .
ب - الاِنْجِرَارُ:
3 - الاِنْجِرَارُ: مَصْدَرُ انْجَرَّ، مُطَاوِعُ جَرَّ. وَهُوَ بِمَعْنَى الاِنْسِحَابِ فِي اللُّغَةِ، وَالْفُقَهَاءُ جَرَتْ عَادَتُهُمْ بِالتَّعْبِيرِ بِالاِنْجِرَارِ فِي بَابِ الْوَلاَءِ، وَمُرَادُهُمْ بِهِ: انْتِقَال الْوَلاَءِ مِنْ مَوْلًى إِلَى آخَرَ بَعْدَ بُطْلاَنِ وَلاَءِ الأَْوَّل، وَعَبَّرُوا بِالاِنْسِحَابِ أَوِ الاِسْتِصْحَابِ فِي مَبَاحِثِ النِّيَّةِ وَالْعَزْمِ عَلَى الْعِبَادَةِ فِي الْوَقْتِ الْمُوَسَّعِ (2) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
أ - الاِنْسِحَابُ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ:
4 - إِذَا كَانَ الْوَاجِبُ مُوَسَّعًا فَجَمِيعُ الْوَقْتِ وَقْتٌ لأَِدَائِهِ، فَيَتَخَيَّرُ الْمُكَلَّفُ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءَ مِنْ وَقْتِهِ الْمُقَدَّرِ لَهُ شَرْعًا. وَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ فِي كُل وَقْتٍ إِمَّا الْفِعْل أَوِ الْعَزْمُ عَلَى الْفِعْل، وَلاَ يَجِبُ تَجْدِيدُ الْعَزْمِ فِي كُل جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْوَقْتِ، بَل يَكْفِي الْعَزْمُ فِي أَوَّل الْوَقْتِ، ثُمَّ يَنْسَحِبُ هَذَا الْعَزْمُ عَلَى بَقِيَّةِ الأَْجْزَاءِ إِلَى أَنْ يَتَضَيَّقَ الْوَقْتُ (3) ، عَلَى خِلاَفٍ وَتَفْصِيلٍ مَحَلُّهُمَا الْمُلْحَقُ الأُْصُولِيُّ.
__________
(1) الزرقاني 1 / 66 ط بولاق، وشرح المنهج بحاشية الجمل 1 / 335 ط الميمنية، وكشاف القناع 1 / 316 ط الرياض.
(2) شرح المنهاج بحاشية القليوبي 4 / 358، وشرح المنهج بحاشية الجمل 5 / 451 ط الميمنية، وفواتح الرحموت 1 / 73.
(3) فواتح الرحموت 1 / 73.(6/334)
ب - الاِنْسِحَابُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ:
5 - الأَْصْل فِي الْعِبَادَةِ الْوَاحِدَةِ ذَاتِ الأَْفْعَال الْمُتَعَدِّدَةِ أَنْ يَكْتَفِيَ بِالنِّيَّةِ فِي أَوَّلِهَا، وَلاَ يَحْتَاجُ إِلَى تَجْدِيدِهَا فِي كُل فِعْلٍ، اكْتِفَاءً بِانْسِحَابِهَا عَلَيْهَا. (1)
فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، قَال فِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ: الْمُعْتَمَدُ أَنَّ الْعِبَادَةَ ذَاتَ الأَْفْعَال تَنْسَحِبُ نِيَّتُهَا عَلَى كُلِّهَا.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَاحْتَرَزَ بِذَاتِ الأَْفْعَال عَمَّا هِيَ فِعْلٌ وَاحِدٌ كَالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لاَ خِلاَفَ فِي الاِكْتِفَاءِ بِالنِّيَّةِ فِي أَوَّلِهِ، وَيَرِدُ عَلَيْهِ الْحَجُّ، فَإِنَّهُ ذُو أَفْعَالٍ مِنْهَا طَوَافُ الإِْفَاضَةِ لاَ بُدَّ فِيهِ مِنْ أَصْل نِيَّةِ الطَّوَافِ، وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْهُ عَنِ الْفَرْضِ، حَتَّى لَوْ طَافَ نَفْلاً فِي أَيَّامِهِ وَقَعَ عَنْهُ، وَالْجَوَابُ أَنَّ الطَّوَافَ عِبَادَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ فِي ذَاتِهِ كَمَا هُوَ رُكْنٌ لِلْحَجِّ، فَبِاعْتِبَارِ رُكْنِيَّتِهِ يَنْدَرِجُ فِي نِيَّةِ الْحَجِّ،
__________
(1) ابن عابدين 1 / 294 ط الأولى، والأشباه لابن نجيم ص45 ط الهلال(6/335)
فَلاَ يُشْتَرَطُ تَعْيِينُهُ، وَبِاعْتِبَارِ اسْتِقْلاَلِهِ اشْتُرِطَ فِيهِ أَصْل نِيَّةِ الطَّوَافِ، حَتَّى لَوْ طَافَ هَارِبًا أَوْ طَالِبًا لِغَرِيمٍ لاَ يَصِحُّ، بِخِلاَفِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِعِبَادَةٍ إِلاَّ فِي ضِمْنِ الْحَجِّ، فَيَدْخُل فِي نِيَّتِهِ، وَعَلَى هَذَا الرَّمْيُ وَالْحَلْقُ وَالسَّعْيُ. وَأَيْضًا فَإِنَّ طَوَافَ الإِْفَاضَةِ يَقَعُ بَعْدَ التَّحَلُّل بِالْحَلْقِ، حَتَّى إِنَّهُ يَحِل لَهُ سِوَى النِّسَاءِ، وَبِذَلِكَ يَخْرُجُ مِنَ الْحَجِّ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، فَاعْتُبِرَ فِيهِ الشَّبَهَانِ. (1)
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
6 - ذَكَرَ الأُْصُولِيُّونَ الاِنْسِحَابَ فِي الْكَلاَمِ عَلَى الْوَاجِبِ الْمُوَسَّعِ مِنْ مَبَاحِثِ الأَْحْكَامِ، كَمَا ذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ فِي كَلاَمِهِمْ عَلَى النِّيَّةِ فِي الْعِبَادَاتِ فِي كُتُبِ الْفُرُوعِ، وَكُتُبِ الأَْشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ.
__________
(1) ابن عابدين 1 / 274، وانظر أيضا الأشباه والنظائر للسيوطي ص 27(6/335)
إِنْشَاءٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْنْشَاءُ: لُغَةً ابْتِدَاءُ الشَّيْءِ، وَرَفْعُهُ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ} (1) وَفِعْلُهُ الْمُجَرَّدُ: نَشَأَ يَنْشَأُ، وَمِنْهُ نَشَأَ السَّحَابُ نَشْئًا وَنُشُوءًا: إِذَا ارْتَفَعَ وَبَدَا. وقَوْله تَعَالَى: {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَئَاتُ فِي الْبَحْرِ كَالأَْعْلاَمِ} (2) قَال الزَّجَّاجُ وَالْفَرَّاءُ: الْمُنْشَئَاتُ: السُّفُنُ الْمَرْفُوعَةُ الشُّرُعِ. (3)
وَالإِْنْشَاءُ عِنْدَ أَهْل الأَْدَبِ، قَال الْقَلْقَشَنْدِيُّ: هُوَ كُل مَا رَجَعَ مِنْ صِنَاعَةِ الْكِتَابَةِ إِلَى تَأْلِيفِ الْكَلاَمِ وَتَرْتِيبِ الْمَعَانِي. (4) وَأَمَّا فِي اصْطِلاَحِ الْبَيَانِيِّينَ وَالأُْصُولِيِّينَ فَالإِْنْشَاءُ أَحَدُ قِسْمَيِ الْكَلاَمِ، إِذِ الْكَلاَمُ عِنْدَهُمْ إِمَّا: خَبَرٌ أَوْ إِنْشَاءٌ. فَالْخَبَرُ هُوَ: مَا احْتَمَل الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ لِذَاتِهِ، كَقَامَ زَيْدٌ، وَأَنْتَ أَخِي. وَالإِْنْشَاءُ: الْكَلاَمُ الَّذِي لاَ يَحْتَمِل الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ، إِذْ لَيْسَ لَهُ فِي الْخَارِجِ نِسْبَةٌ تُطَابِقُهُ أَوْ لاَ تُطَابِقُهُ. وَسُمِّيَ إِنْشَاءً لأَِنَّكَ أَنْشَأْتَهُ: أَيِ ابْتَكَرْتَهُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الْخَارِجِ وُجُودٌ.
2 - وَالإِْنْشَاءُ نَوْعَانِ:
الأَْوَّل: الإِْنْشَاءُ الطَّلَبِيُّ: وَيُسَمَّى طَلَبًا، وَهُوَ
__________
(1) سورة الأنعام / 141.
(2) سورة الرحمن / 24.
(3) لسان العرب.
(4) صبح الأعشى في صناعة الإنشاء 1 / 54 ط دار الكتب المصرية.(7/5)
مَا أَفَادَ طَلَبًا بِالْوَضْعِ، فَيُطْلَبُ بِهِ تَحْصِيل غَيْرِ حَاصِلٍ فِي الْخَارِجِ. فَإِنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ ذِكْرَ الْمَاهِيَّةِ فَهُوَ الاِسْتِفْهَامُ. وَإِنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ إِيجَادَ الْمَاهِيَّةِ فَهُوَ أَمْرٌ، أَوِ الْكَفُّ عَنْهَا فَهُوَ نَهْيٌ. وَهَكَذَا.
الثَّانِي: الإِْنْشَاءُ غَيْرُ الطَّلَبِيِّ وَيَذْهَبُ بَعْضُ الأُْصُولِيِّينَ إِلَى أَنَّ قِسْمَةَ الْكَلاَمِ ثُلاَثِيَّةٌ، فَهُوَ إِمَّا خَبَرٌ، أَوْ طَلَبٌ، أَوْ إِنْشَاءٌ. خَصَّ أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْل الطَّلَبَ بِمَا سَمَّاهُ غَيْرُهُمُ الإِْنْشَاءَ الطَّلَبِيَّ، وَالإِْنْشَاءُ لِمَا عَدَاهُ، كَأَلْفَاظِ الْعُقُودِ نَحْوَ: بِعْتُ وَاشْتَرَيْتُ.
قَال التَّهَانُوِيُّ: وَالْمُحَقِّقُونَ عَلَى دُخُول الطَّلَبِ فِي الإِْنْشَاءِ، وَأَنَّ مَعْنَى (اضْرِبْ) مَثَلاً وَهُوَ طَلَبُ الضَّرْبِ، مُقْتَرِنٌ بِلَفْظِهِ. وَأَمَّا الضَّرْبُ الَّذِي يُوجَدُ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ مُتَعَلِّقُ الطَّلَبِ، لاَ الطَّلَبُ نَفْسُهُ.
هَذَا، وَيَدْخُل فِي الإِْنْشَاءِ الطَّلَبِيِّ: الأَْمْرُ وَالنَّهْيُ وَالاِسْتِفْهَامُ وَالتَّمَنِّي وَالنِّدَاءُ. وَيَدْخُل فِي الإِْنْشَاءِ غَيْرِ الطَّلَبِيِّ أَفْعَال الْمَدْحِ وَالذَّمِّ، وَفِعْلاَ التَّعَجُّبِ، وَالْقَسَمُ.
3 - وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ وَالأُْصُولِيُّونَ فِي أَلْفَاظِ الْعُقُودِ كَبِعْتُ وَاشْتَرَيْتُ، وَأَلْفَاظُ الْفُسُوخِ كَطَلَّقْتُ وَأَعْتَقْتُ، وَنَحْوُهَا كَظَاهَرْتُ، وَصِيَغُ قَضَاءِ الْقَاضِي كَقَوْلِهِ: حَكَمْتُ بِكَذَا، أَهِيَ خَبَرٌ أَمْ إِنْشَاءٌ، 4 وَمَحَل الْخِلاَفِ 4 لَيْسَ مَا أُرِيدَ بِهِ الإِْخْبَارُ عَنْ عَقْدٍ سَابِقٍ أَوْ تَصَرُّفٍ سَابِقٍ، كَقَوْل الْقَائِل: أَعْتَقْتُ عَبْدِي أَمْسِ، وَوَقَفْتُ دَارِي الْيَوْمَ، بَل الْخِلاَفُ فِيمَا أُرِيدَ بِهِ إِنْشَاءُ الْعَقْدِ أَوِ التَّصَرُّفُ، أَيِ اللَّفْظُ الْمُوجِبُ لِذَلِكَ، وَهُوَ الإِْيجَابُ وَالْقَبُول فِي الْعَقْدِ، كَبِعْتُ وَاشْتَرَيْتُ مَثَلاً.(7/5)
فَقَال الشَّافِعِيَّةُ: هِيَ إِنْشَاءٌ؛ لأَِنَّ دَلاَلَةَ لَفْظِ (بِعْتُ) مَثَلاً عَلَى الْمَعْنَى الْمُوجِبِ لِلْبَيْعِ، وَهُوَ الْحَادِثُ فِي الذِّهْنِ عِنْدَ إِحْدَاثِ الْبَيْعِ، هِيَ دَلاَلَةٌ بِالْعِبَارَةِ، فَهُوَ مَنْقُولٌ عُرْفًا عَنِ الْمَعْنَى الْخَبَرِيِّ إِلَى الإِْنْشَاءِ، قَالُوا: وَلَوْ كَانَتْ خَبَرًا لَكَانَتْ مُحْتَمِلَةً لِلتَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ. وَلَكِنَّهَا لاَ تَحْتَمِلُهُمَا، وَلَكَانَ لَهَا خَارِجٌ تُطَابِقُهُ أَوْ لاَ تُطَابِقُهُ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: هِيَ إِخْبَارٌ؛ لأَِنَّ دَلاَلَتَهَا بِالاِقْتِضَاءِ لاَ بِالْعِبَارَةِ. وَوَجْهُ كَوْنِ دَلاَلَتِهَا بِالاِقْتِضَاءِ: أَنَّهَا حِكَايَةٌ عَنْ تَحْصِيل الْبَيْعِ، وَهُوَ مُتَوَقِّفٌ عَلَى حُصُول الْمَعْنَى الْمُوجِبِ لِلْبَيْعِ. فَالْمَعْنَى الْمُوجِبُ لاَزِمٌ مُتَقَدِّمٌ، أَمَّا الْعِبَارَةُ فَهِيَ: إِخْبَارٌ عَنْ ذَلِكَ الْمَعْنَى. وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ الصِّيغَةَ مَوْضُوعَةٌ لِلإِْخْبَارِ، وَالنَّقْل عَنْهُ إِلَى الإِْنْشَاءِ لَمْ يَثْبُتْ.
وَرَجَّحَ التَّهَانُوِيُّ - وَهُوَ حَنَفِيٌّ - قَوْل الشَّافِعِيَّةِ. وَهُوَ قَوْل الْبَيَانِيِّينَ أَيْضًا. (1) وَيُنْظَرُ تَفْصِيل الْقَوْل فِي هَذَا الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
انْشِغَال الذِّمَّةِ
انْظُرْ: ذِمَّةٌ.
__________
(1) كشاف اصطلاحات الفنون (مادة: خبر، نشأ) 2 / 412، 6 / 1360 ط الهند، وشرح مسلم الثبوت 2 / 103 - 106، والعضد على مختصر ابن الحاجب 1 / 222، وشروح تلخيص المفتاح وحواشيه 2 / 234 ط عيسى الحلبي، والتعريفات للجرجاني.(7/6)
أَنْصَابٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الأَْنْصَابُ: جَمْعٌ مُفْرَدُهُ نُصُبٌ، وَقِيل: النُّصُبُ جَمْعٌ مُفْرَدُهُ نِصَابٌ، وَالنُّصُبُ: كُل مَا نُصِبَ فَجُعِل عَلَمًا. وَقِيل: النُّصُبُ هِيَ الأَْصْنَامُ. وَقِيل: النُّصُبُ كُل مَا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، قَال الْفَرَّاءُ: كَأَنَّ النُّصُبَ الآْلِهَةُ الَّتِي كَانَتْ تُعْبَدُ مِنْ أَحْجَارٍ. وَالأَْنْصَابُ حِجَارَةٌ كَانَتْ حَوْل الْكَعْبَةِ تُنْصَبُ فَيُهَل وَيُذْبَحُ عَلَيْهَا لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَرُوِيَ مِثْل ذَلِكَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَابْنِ جُرَيْجٍ، قَالُوا: إِنَّ النُّصُبَ أَحْجَارٌ مَنْصُوبَةٌ كَانُوا يَعْبُدُونَهَا وَيُقَرِّبُونَ الذَّبَائِحَ لَهَا. (1)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الأَْصْنَامُ وَالأَْوْثَانُ:
2 - الأَْصْنَامُ: جَمْعُ صَنَمٍ، وَالصَّنَمُ: قِيل هُوَ الْوَثَنُ الْمُتَّخَذُ مِنَ الْحِجَارَةِ أَوِ الْخَشَبِ، وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقِيل الصَّنَمُ: جُثَّةٌ مِنْ فِضَّةٍ أَوْ نُحَاسٍ أَوْ خَشَبٍ كَانُوا يَعْبُدُونَهَا مُتَقَرِّبِينَ بِهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، والمفردات للراغب، وطلبة الطلبة ص 158 ط دار الطباعة العامة، وأحكام القرآن للجصاص 2 / 380 ط المطبعة البهية، وتفسير القرطبي 6 / 57 ط دار الكتب، وبدائع الصنائع 6 / 2776 ط الإمام، والمهذب 2 / 287.(7/6)
وَقِيل: الصَّنَمُ مَا كَانَ عَلَى صُورَةِ حَيَوَانٍ. وَقِيل: كُل مَا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ تَعَالَى يُقَال لَهُ صَنَمٌ. (1) وَالْفَرْقُ بَيْنَ الأَْنْصَابِ وَالأَْصْنَامِ، أَنَّ الأَْصْنَامَ مُصَوَّرَةٌ مَنْقُوشَةٌ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الأَْنْصَابُ لأَِنَّهَا حِجَارَةٌ مَنْصُوبَةٌ. (2)
وَفِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ لِلْجَصَّاصِ: الْوَثَنُ كَالنُّصُبِ سَوَاءٌ، وَيَدُل عَلَى أَنَّ الْوَثَنَ اسْمٌ يَقَعُ عَلَى مَا لَيْسَ بِمُصَوَّرٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ حِينَ جَاءَهُ وَفِي عُنُقِهِ صَلِيبٌ: " أَلْقِ هَذَا الْوَثَنَ مِنْ عُنُقِكَ " (3) فَسَمَّى الصَّلِيبَ وَثَنًا، فَدَل ذَلِكَ عَلَى أَنَّ النُّصُبَ وَالْوَثَنَ اسْمٌ لَمَا نُصِبَ لِلْعِبَادَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُصَوَّرًا وَلاَ مَنْقُوشًا، فَعَلَى هَذَا الرَّأْيِ تَكُونُ الأَْنْصَابُ كَالأَْوْثَانِ فِي أَنَّهَا غَيْرُ مُصَوَّرَةٍ. (4) وَعَلَى الرَّأْيِ الأَْوَّل يَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَ الأَْنْصَابِ وَالأَْوْثَانِ أَنَّ الأَْنْصَابَ غَيْرُ مُصَوَّرَةٍ (5) ، وَالأَْوْثَانَ مُصَوَّرَةٌ.
التَّمَاثِيل:
3 - التَّمَاثِيل: جَمْعُ تِمْثَالٍ، وَهُوَ الصُّورَةُ مِنْ حَجَرٍ أَوْ غَيْرِهِ سَوَاءٌ عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَمْ لَمْ يُعْبَدْ. (6)
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، والمفردات للراغب، والمهذب 2 / 82 ط دار المعرفة
(2) أحكام القرآن للجصاص 2 / 380، والطبري 9 / 508 ط دار المعارف.
(3) حديث " ألق هذا الوثن من عنقك. . . " أخرجه الترمذي (التحفة 8 / 492 - ط السلفية) وقال: هذا حديث غريب، وغطيف بن أعين - يعني الذي في إسناده - ليس بمعروف في الحديث.
(4) أحكام القرآن للجصاص 2 / 380، والمفردات للراغب
(5) أحكام القرآن للجصاص 2 / 380، والمفردات للراغب
(6) لسان العرب والمعجم الوسيط والمصباح المنير.(7/7)
أَنْصَابُ الْحَرَمِ:
4 - حَرَمُ مَكَّةَ هُوَ مَا أَحَاطَ بِهَا مِنْ جَوَانِبِهَا، جَعَل اللَّهُ حُكْمَهُ حُكْمَهَا فِي الْحُرْمَةِ. وَلِلْحَرَمِ عَلاَمَاتٌ مُبَيَّنَةٌ، وَهِيَ أَنْصَابٌ مَبْنِيَّةٌ فِي جَمِيعِ جَوَانِبِهِ، قِيل أَوَّل مَنْ نَصَبَهَا إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيل عَلَيْهِ السَّلَامُ بِدَلاَلَةِ جِبْرِيل لَهُ، فَقِيل نَصَبَهَا إِسْمَاعِيل عَلَيْهِ السَّلَامُ. ثُمَّ تَتَابَعَ ذَلِكَ حَتَّى نَصَبَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْفَتْحِ، ثُمَّ الْخُلَفَاءُ مِنْ بَعْدِهِ. (1) (ر: أَعْلاَمُ الْحَرَمِ) .
وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَنْصَابِ الْكُفَّارِ: أَنَّ أَعْلاَمَ الْحَرَمِ عَلاَمَاتٌ تُبَيِّنُ حُدُودَ الْحَرَمِ دُونَ تَقْدِيسٍ أَوْ عِبَادَةٍ، أَمَّا أَنْصَابُ الْكُفَّارِ فَكَانَتْ تُقَدَّسُ وَيُتَقَرَّبُ بِهَا لِغَيْرِ اللَّهِ وَيُذْبَحُ عَلَيْهَا.
حُكْمُ الذَّبْحِ عَلَى النُّصُبِ:
5 - الذَّبْحُ عَلَى النُّصُبِ كَانَ عَادَةً مِنْ عَادَاتِ أَهْل الْجَاهِلِيَّةِ، يَنْصِبُونَ الأَْحْجَارَ وَيُقَدِّسُونَهَا وَيَتَقَرَّبُونَ إِلَيْهَا بِالذَّبَائِحِ. وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ هَذِهِ الذَّبَائِحَ لاَ تَحِل. قَال اللَّهُ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِل لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَل السَّبْعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} . (2) قَال ابْنُ جُرَيْجٍ: الْمَعْنَى: وَالنِّيَّةُ فِيهَا تَعْظِيمُ النُّصُبِ.
وَقَال ابْنُ زَيْدٍ: مَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَمَا أُهِل بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ شَيْءٌ وَاحِدٌ.
__________
(1) شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام 1 / 54 ط عيسى الحلبي.
(2) سورة المائدة / 3.(7/7)
وَقَال ابْنُ عَطِيَّةَ: مَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ جُزْءٌ مِمَّا أُهِل بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَلَكِنْ خُصَّ بِالذِّكْرِ بَعْدَ جِنْسِهِ لِشُهْرَةِ الأَْمْرِ.
حُكْمُ صُنْعِهَا وَبَيْعِهَا وَاقْتِنَائِهَا:
6 - الأَْنْصَابُ بِالْمَعْنَى الْعَامِّ الشَّامِل لِكُل مَا صُنِعَ لِيُعْبَدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ تُعْتَبَرُ رِجْسًا مِنْ عَمَل الشَّيْطَانِ كَمَا وَرَدَ فِي الآْيَةِ الْكَرِيمَةِ: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَْنْصَابُ وَالأَْزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَل الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} . (1)
2 وَكُل مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَحْرُمُ صُنْعُهُ وَبَيْعُهُ وَاقْتِنَاؤُهُ 2.
وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ صَنْعَةَ التَّصَاوِيرِ الْمُجَسَّدَةِ لإِِنْسَانٍ أَوْ حَيَوَانٍ حَرَامٌ عَلَى فَاعِلِهَا، سَوَاءٌ أَكَانَتْ مِنْ حَجَرٍ أَمْ خَشَبٍ أَمْ طِينٍ أَمْ غَيْرِ ذَلِكَ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: الَّذِينَ يَصْنَعُونَ هَذِهِ الصُّوَرَ يُعَذَّبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يُقَال لَهُمْ: أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ (2) وَعَنْ مَسْرُوقٍ قَال: دَخَلْنَا مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بَيْتًا فِيهِ تَمَاثِيل، فَقَال لِتِمْثَالٍ مِنْهَا: تِمْثَال مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: تِمْثَال مَرْيَمَ، قَال عَبْدُ اللَّهِ: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمُصَوِّرُونَ (3) وَالأَْمْرُ بِعَمَلِهِ مُحَرَّمٌ كَعَمَلِهِ، (4) بَل إِنَّ
__________
(1) سورة المائدة / 90.
(2) حديث: " إن الذين يصنعون هذه الصور. . . " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 383 - ط السلفية) .
(3) حديث: " إن أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 382 - ط السلفية) .
(4) المغني 7 / 7، ومنح الجليل 2 / 166 - 167، والمهذب 2 / 66، وبدائع الصنائع 5 / 126 ط الجمالية، وقليوبي 3 / 297 ط عيسى الحلبي.(7/8)
الأُْجْرَةَ عَلَى صُنْعِ مِثْل هَذِهِ الأَْشْيَاءِ لاَ تَجُوزُ وَهَذَا فِي مُطْلَقِ التَّصَاوِيرِ الْمُجَسَّدَةِ، فَإِذَا كَانَتْ مِمَّا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَذَلِكَ أَشَدُّ تَحْرِيمًا.
فَفِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: لَوِ اسْتَأْجَرَ رَجُلاً يَنْحِتُ لَهُ أَصْنَامًا لاَ شَيْءَ لَهُ، (1) وَالإِْجَارَةُ عَلَى الْمَعَاصِي لاَ تَصِحُّ. (2)
وَيَقُول بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: إِنَّهُ لاَ قَطْعَ فِي سَرِقَةِ صَنَمٍ وَصَلِيبٍ؛ لأَِنَّ التَّوَصُّل إِلَى إِزَالَةِ الْمَعْصِيَةِ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ، فَصَارَ شُبْهَةً كَإِرَاقَةِ الْخَمْرِ (3) (ر: سَرِقَةٌ) .
7 - وَكَمَا يَحْرُمُ صُنْعُ هَذِهِ الأَْشْيَاءِ يَحْرُمُ بَيْعُهَا وَاقْتِنَاؤُهَا، فَقَدْ وَرَدَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالأَْصْنَامِ (4) ، يَقُول ابْنُ الْقَيِّمِ: يُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَحْرِيمُ بَيْعِ كُل آلَةٍ مُتَّخَذَةٍ لِلشِّرْكِ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَتْ، وَمِنْ أَيِّ نَوْعٍ كَانَتْ. صَنَمًا أَوْ وَثَنًا أَوْ صَلِيبًا، فَهَذِهِ كُلُّهَا يَجِبُ إِزَالَتُهَا وَإِعْدَامُهَا. وَبَيْعُهَا ذَرِيعَةٌ إِلَى اقْتِنَائِهَا وَاتِّخَاذِهَا، وَلِذَلِكَ يَحْرُمُ الْبَيْعُ (5)
__________
(1) الفتاوى الهندية 4 / 450 ط المكتبة الإسلامية - تركيا.
(2) ابن عابدين 5 / 35 ط ثالثة.
(3) بدائع الصنائع 5 / 126، ومنح الجليل 2 / 167، ومغني المحتاج 4 / 266، وقليوبي 3 / 297، والمغني 7 / 6.
(4) حديث: " إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 424 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1207 ط الحلبي) .
(5) زاد المعاد 4 / 245 ط مصطفى الحلبي.(7/8)
بَل إِنَّ الْمَادَّةَ الَّتِي تُصْنَعُ مِنْهَا هَذِهِ الأَْشْيَاءُ سَوَاءٌ كَانَتْ حَجَرًا أَمْ خَشَبًا أَمْ غَيْرَ ذَلِكَ - وَإِنْ كَانَتْ مَالاً وَيُنْتَفَعُ بِهَا - لاَ يَجُوزُ بَيْعُهَا لِمَنْ يَتَّخِذُهَا لِمِثْل ذَلِكَ، كَمَا لاَ يَصِحُّ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ بَيْعُ الْعِنَبِ لِمَنْ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا، وَلاَ بَيْعُ أَدَوَاتِ الْقِمَارِ وَلاَ بَيْعُ دَارٍ لِتُعْمَل كَنِيسَةً، وَلاَ بَيْعُ الْخَشَبَةِ لِمَنْ يَتَّخِذُهَا صَلِيبًا، وَلاَ بَيْعُ النُّحَاسِ لِمَنْ يَتَّخِذُهُ نَاقُوسًا، وَكَذَلِكَ كُل شَيْءٍ عُلِمَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ قَصَدَ بِهِ أَمْرًا لاَ يَجُوزُ. (1)
وَفِي الْمَبْسُوطِ فِي بَابِ الأَْشْرِبَةِ أَوْرَدَ السَّرَخْسِيُّ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَْنْصَابُ وَالأَْزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَل الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} (2) ثُمَّ قَال بَعْدَ ذَلِكَ: بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ كُل ذَلِكَ رِجْسٌ، وَالرِّجْسُ مَا هُوَ مُحَرَّمُ الْعَيْنِ وَأَنَّهُ مِنْ عَمَل الشَّيْطَانِ.
حُكْمُ ضَمَانِ إِتْلاَفِ الأَْنْصَابِ وَنَحْوِهَا:
8 - يَقُول بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: مَنْ كَسَرَ صَلِيبًا أَوْ صَنَمًا لَمْ يَضْمَنْهُ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَحِل بَيْعُهُ؛ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْمَيْتَةِ وَالأَْصْنَامِ. (3) (ر: ضَمَانٌ) .
__________
(1) الفتاوى الهندية 4 / 450، والحطاب 4 / 254، 258 ط النجاح ليبيا، والخرشي 5 / 11 ط دار صادر، ومنح الجليل 2 / 469، والمهذب 1 / 19، 268، 381، ومغني المحتاج 2 / 12، والمغني 4 / 283، 5 / 301، وشرح منتهى الإرادات 2 / 155 ط دار الفكر.
(2) سورة المائدة / 90.
(3) ابن عابدين 5 / 133، والمغني 5 / 301، ومغني المحتاج 2 / 285. وحديث: " إن الله ورسوله حرم بيع الخمر. . . " سبق تخريجه (ف / 7) .(7/9)
إِنْصَاتٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْنْصَاتُ لُغَةً وَاصْطِلاَحًا: السُّكُوتُ لِلاِسْتِمَاعِ. (1) وَعَرَّفَهُ الْبَعْضُ بِالسُّكُوتِ. (2)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الاِسْتِمَاعُ:
2 - الاِسْتِمَاعُ قَصْدُ السَّمَاعِ بُغْيَةَ فَهْمِ الْمَسْمُوعِ أَوِ الاِسْتِفَادَةِ مِنْهُ، فَالإِْنْصَاتُ سُكُوتٌ بِقَصْدِ الاِسْتِمَاعِ. (3) وَفِي الْفُرُوقِ فِي اللُّغَةِ: أَنَّ الاِسْتِمَاعَ اسْتِفَادَةُ الْمَسْمُوعِ بِالإِْصْغَاءِ إِلَيْهِ لِيَفْهَمَ، وَلِهَذَا لاَ يُقَال إِنَّ اللَّهَ يَسْتَمِعُ. (4)
__________
(1) المغرب، والمصباح المنير، ولسان العرب، مادة: (نصت) . وأحكام القرآن للجصاص 3 / 49 ط البهية، وتفسير الرازي 15 / 103 ط البهية، والنظم المستعذب هامش المهذب 1 / 81 نشر دار المعرفة، والقليوبي 1 / 280 ط الحلبي.
(2) روح المعاني 9 / 150 ط المنيرية، والمجموع 4 / 523، ط السلفية، والبدائع 1 / 264 ط أولى.
(3) مفردات الراغب (السين مع الميم) والمغني 9 / 173، ط الرياض، والمصباح المنير، والفروق في اللغة ص 81 ط دار الآفاق، والمجموع 4 / 523.
(4) الفروق في اللغة ص 81.(7/9)
ب - السَّمَاعُ:
3 - السَّمَاعُ مَصْدَرُ (سَمِعَ) وَلاَ يُشْتَرَطُ فِي السَّمَاعِ قَصْدُ الْمَسْمُوعِ، وَيُشْتَرَطُ فِي الإِْنْصَاتِ قَصْدُهُ. (1)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
4 - يَتَنَاوَل الْفُقَهَاءُ الإِْنْصَاتَ فِي عِدَّةِ مَوَاطِنَ مِنْهَا:
أ - الإِْنْصَاتُ لِخُطْبَةِ الْجُمُعَةِ، فَيَرَى الْجُمْهُورُ وُجُوبَ الإِْنْصَاتِ عَلَى مَنْ حَضَرَ الْجُمُعَةَ، وَفِيهِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ (2) وَيُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (اسْتِمَاعٌ) وَالإِْنْصَاتُ فِي خُطْبَةِ الْعِيدَيْنِ، حُكْمُهُ حُكْمُ الإِْنْصَاتِ فِي خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ، صَرَّحَ بِذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَيُنْدَبُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ. (3)
أَمَّا الإِْنْصَاتُ فِي الصَّلاَةِ عِنْدَ جَهْرِ الإِْمَامِ بِالْقِرَاءَةِ، وَكَذَلِكَ الإِْنْصَاتُ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ خَارِجَهَا فَهُوَ مَطْلُوبٌ شَرْعًا لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} (4)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ كُلِّهِ فِي مُصْطَلَحِ (اسْتِمَاعٍ) .
__________
(1) المرجع السابق.
(2) المجموع 4 / 523، 525 ط المنيرية، وابن عابدين 1 / 366، والمغني 2 / 320 - 325.
(3) ابن عابدين 1 / 366، وشرح الروض 1 / 280، وجواهر الإكليل 1 / 50، 103 نشر مكة المكرمة، والحطاب 2 / 196 ط ليبيا، والمغني 2 / 387، وكشاف القناع 1 / 343 ط النصر الحديثة، وأحكام القرآن للجصاص 3 / 51.
(4) سورة الأعراف / 204، وانظر عابدين 1 / 366، 367، والآداب الشرعية 2 / 328، والفخر الرازي 15 / 102.(7/10)
انْضِبَاطٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - لَمْ يَرِدِ الاِنْضِبَاطُ فِيمَا بَيْنَ أَيْدِينَا مِنْ مَعَاجِمِ اللُّغَةِ الْقَدِيمَةِ، وَإِنَّمَا وَرَدَ فِعْلُهُ فِي الْمُعْجَمِ الْوَسِيطِ حَيْثُ قَال: (انْضَبَطَ مُطَاوِعُ ضَبَطَ) . وَمَعْنَى الضَّبْطِ: الْحِفْظُ بِالْحَزْمِ. وَالضَّابِطَةُ: الْقَاعِدَةُ. وَالْجَمْعُ ضَوَابِطُ. (1)
وَالاِنْضِبَاطُ فِي الاِصْطِلاَحِ: الاِنْدِرَاجُ وَالاِنْتِظَامُ تَحْتَ ضَابِطٍ أَيْ حُكْمٍ كُلِّيٍّ (2) وَبِهِ يَكُونُ الشَّيْءُ مَعْلُومًا. (3)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - ذَهَبَ الأُْصُولِيُّونَ إِلَى أَنَّ مِنْ شَرَائِطِ الْعِلَّةِ أَنْ تَكُونَ وَصْفًا ضَابِطًا لِلْحِكْمَةِ، لاَ حِكْمَةً مُجَرَّدَةً لِعَدَمِ انْضِبَاطِهَا. وَذَلِكَ كَالْمَشَقَّةِ، فَإِنَّهُ مِنَ الْوَاضِحِ الْبَيِّنِ أَنَّهُ لَمْ يُعْتَبَرْ كُل قَدْرٍ مِنْهَا، بَل قَدْرٌ مُعَيَّنٌ، وَهُوَ غَيْرُ مَضْبُوطٍ فِي ذَاتِهِ، فَضُبِطَ بِمَظِنَّتِهِ وَهِيَ السَّفَرُ. وَلَوْ وُجِدَتِ الْحِكْمَةُ مُنْضَبِطَةً جَازَ رَبْطُ الْحُكْمِ بِهَا لِعَدَمِ الْمَانِعِ، بَل يَجِبُ؛ لأَِنَّهَا الْمُنَاسِبُ الْمُؤَثِّرُ فِي الْحَقِيقَةِ. وَقِيل لاَ يَجُوزُ رَبْطُ الْحُكْمِ بِهَا وَلَوْ مَعَ انْضِبَاطِهَا. (4) وَتَمَامُ الْكَلاَمِ فِيهِ مَحَلُّهُ الْمُلْحَقُ الأُْصُولِيُّ.
__________
(1) التاج (ضبط) .
(2) المرجع للعلايلي.
(3) نهاية المحتاج 4 / 196.
(4) فواتح الرحموت 2 / 274(7/10)
وَإِذْ قَدْ كَانَ الأَْمْرُ عَلَى مَا بَيَّنَّا فَقَدِ اعْتُرِضَ عَلَى الْقَائِلِينَ بِالْمُنَاسَبَةِ بِأَنَّ الْمُنَاسِبَ وَصْفٌ غَيْرُ مُنْضَبِطٍ مِثْل الْحَرَجِ وَالزَّجْرِ وَنَحْوِهِمَا، فَإِنَّهَا مُشَكِّكَاتٌ، وَلاَ يُعْتَبَرُ كُل قَدْرٍ مِنْ آحَادِهَا. وَالْجَوَابُ أَنَّ الْوَصْفَ الْمُنَاسِبَ مُنْضَبِطٌ، وَطُرُقُ انْضِبَاطِهِ ثَلاَثَةٌ:
الأُْولَى: أَنْ يَنْضَبِطَ بِنَفْسِهِ بِأَنْ يَعْتَبِرَ مُطْلَقَهُ كَالإِْيمَانِ لَوْ قِيل بِتَشْكِيكِ الْيَقِينِ، فَالْمُعْتَبَرُ مُطْلَقُ الْيَقِينِ فِي أَيِّ فَرْدٍ تَحَقَّقَ مِنْ أَفْرَادِهِ الْمُخْتَلِفَةِ.
الثَّانِيَةُ: أَنْ يَنْضَبِطَ فِي الْعُرْفِ كَالْمَنْفَعَةِ وَالْمَضَرَّةِ، فَإِنَّهُمَا وَصْفَانِ مَضْبُوطَانِ عُرْفًا.
الثَّالِثَةُ: أَنْ يَنْضَبِطَ فِي الشَّرْعِ بِالْمَظِنَّةِ كَالسَّفَرِ، فَإِنَّ مَرْتَبَةَ الْحَرَجِ إِنَّمَا تَتَعَيَّنُ بِهِ، وَكَالْحَدِّ فَإِنَّهُ بِهِ يَتَحَدَّدُ مِقْدَارُ الزَّجْرِ. (1)
وَمِنْ أَمْثِلَةِ الاِنْضِبَاطِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ:
أَوَّلاً: انْضِبَاطُ الْمُسْلَمِ فِيهِ:
3 - يَصِحُّ السَّلَمُ فِي الْمُخْتَلَطِ بِسَبَبِ الصَّنْعَةِ، إِذَا انْضَبَطَتْ عِنْدَ أَهْل تِلْكَ الصَّنْعَةِ الأَْجْزَاءُ الْمَقْصُودَةُ الَّتِي صُنِعَ مِنْهَا الْمُسْلَمُ فِيهِ، وَذَلِكَ كَالْعَتَّابِيِّ، وَهُوَ مَا رُكِّبَ مِنْ قُطْنٍ وَحَرِيرٍ، وَكَالْخَزِّ وَهُوَ مَا رُكِّبَ مِنْ حَرِيرٍ وَوَبَرٍ وَصُوفٍ، فَلاَ بُدَّ لِكُلٍّ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ مَعْرِفَةُ وَزْنِ كُلٍّ مِنْ هَذِهِ الأَْجْزَاءِ؛ لأَِنَّ الْقِيَمَ وَالأَْغْرَاضَ تَتَفَاوَتُ بِذَلِكَ تَفَاوُتًا ظَاهِرًا، (2) فَإِذَا لَمْ تُضْبَطْ هَذِهِ الأُْمُورُ أَدَّى ذَلِكَ إِلَى النِّزَاعِ، وَمِنْ بَابِ أَوْلَى إِذَا كَانَتْ بِحَيْثُ لاَ يُمْكِنُ ضَبْطُهَا.
__________
(1) فواتح الرحموت 2 / 274
(2) نهاية المحتاج 4 / 195، 196.(7/11)
ثَانِيًا: الاِنْضِبَاطُ فِي الْقِصَاصِ:
4 - يُشْتَرَطُ فِي قِصَاصِ مَا دُونَ النَّفْسِ أَنْ تَكُونَ الْجِنَايَةُ مُنْضَبِطَةً كَالْقَطْعِ مِنَ الْمِفْصَل، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنِ انْضِبَاطُهُمَا كَالْجَوَائِفِ فَلاَ يَجِبُ، بِخِلاَفِ قِصَاصِ النَّفْسِ فَلاَ يُشْتَرَطُ الاِنْضِبَاطُ فِي جِرَاحَتِهِ الَّتِي سَرَتْ إِلَيْهَا. (1)
ثَالِثًا: الاِنْضِبَاطُ فِي الْعَيْنِ الْمُدَّعَاةِ:
5 - عَلَى الْمُدَّعِي إِذَا ادَّعَى عَيْنًا تَنْضَبِطُ أَنْ يَصِفَهَا بِصِفَةِ السَّلَمِ، وَلاَ فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الْعَيْنُ مِثْلِيَّةً كَالْحُبُوبِ، أَوْ قِيَمِيَّةً كَالْحَيَوَانِ، عَلَى خِلاَفٍ وَتَفْصِيلٍ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي بَابِ السَّلَمِ. (2)
مِنْ مَوَاطِنِ الْبَحْثِ:
6 - ذَكَرَ الأُْصُولِيُّونَ الاِنْضِبَاطَ فِي كَلاَمِهِمْ عَلَى عِلَّةِ الْقِيَاسِ، وَفِي آدَابِ الْمُنَاظَرَةِ ضَمْنَ الأَْسْئِلَةِ الْوَارِدَةِ عَلَى الْقِيَاسِ. وَذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ فِي كَلاَمِهِمْ عَلَى شُرُوطِ الْمُسْلَمِ وَالْقِصَاصِ وَالدَّعْوَى. (3)
إِنْظَارٌ
انْظُرْ: إِمْهَالٌ
__________
(1) القليوبي 4 / 112.
(2) القليوبي 4 / 336
(3) المراجع السابقة.(7/11)
أَنْعَامٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الأَْنْعَامُ لُغَةً: جَمْعٌ مُفْرَدُهُ نَعَمٌ، وَهِيَ ذَوَاتُ الْخُفِّ وَالظِّلْفِ، وَهِيَ الإِْبِل، وَالْبَقَرُ، وَالْغَنَمُ، وَأَكْثَرُ مَا يَقَعُ عَلَى الإِْبِل. وَالنَّعَمُ مُذَكَّرٌ، فَيُقَال: هَذَا نَعَمٌ وَارِدٌ. وَالأَْنْعَامُ تُذَكَّرُ وَتُؤَنَّثُ، وَنَقَل النَّوَوِيُّ عَنِ الْوَاحِدِيِّ: اتِّفَاقَ أَهْل اللُّغَةِ عَلَى إِطْلاَقِهِ عَلَى الإِْبِل، وَالْبَقَرِ، وَالْغَنَمِ. وَقِيل: تُطْلَقُ الأَْنْعَامُ عَلَى هَذِهِ الثَّلاَثَةِ، فَإِذَا انْفَرَدَتِ الإِْبِل فَهِيَ نَعَمٌ، وَإِنِ انْفَرَدَتِ الْبَقَرُ وَالْغَنَمُ لَمْ تُسَمَّ نَعَمًا. (1)
وَعِنْدَ الْفُقَهَاءِ الأَْنْعَامُ هِيَ الإِْبِل، وَالْبَقَرُ، وَالْغَنَمُ (2) سُمِّيَتْ نَعَمًا لِكَثْرَةِ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهَا عَلَى خَلْقِهِ بِالنُّمُوِّ، وَالْوِلاَدَةِ، وَاللَّبَنِ، وَالصُّوفِ، وَالْوَبَرِ، وَالشَّعْرِ، وَعُمُومِ الاِنْتِفَاعِ. (3)
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالأَْنْعَامِ، وَمَوَاطِنِ الْبَحْثِ:
2 - تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الأَْنْعَامِ إِنْ بَلَغَتْ نِصَابًا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ. (4)
__________
(1) المصباح المنير، والصحاح، مادة: (نعم) ، والقليوبي وعميرة 2 / 3 ط عيسى الحلبي
(2) القليوبي 2 / 3، 3 / 203.
(3) جواهر الإكليل 1 / 118، نشر دار الباز.
(4) ابن عابدين 2 / 17، 19 ط بولاق الأولى، وجواهر الإكليل 1 / 18، والقليوبي وعميرة على المحلى 2 / 3، 8، 9، والمغني 2 / 577، 591، 597 ط الرياض(7/12)
رَوَى أَبُو ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: مَا مِنْ صَاحِبِ إِبِلٍ وَلاَ بَقَرٍ وَلاَ غَنَمٍ لاَ يُؤَدِّي زَكَاتَهَا إِلاَّ جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْظَمَ مَا كَانَتْ وَأَسْمَنَ تَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا وَتَطَؤُهُ بِأَخْفَافِهَا، كُلَّمَا نَفَذَتْ أُخْرَاهَا عَادَتْ عَلَيْهِ أُولاَهَا حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ. (1) وَتَفْصِيل النِّصَابِ فِي الأَْنْعَامِ بِأَنْوَاعِهَا الثَّلاَثَةِ وَالْوَاجِبِ فِيهَا يُنْظَرُ فِي (الزَّكَاةُ) .
وَلاَ يُشْرَعُ الْهَدْيُ وَالأُْضْحِيَّةُ وَنَحْوُهُمَا مِنَ الذَّبَائِحِ الْمُسَمَّاةِ الْمَطْلُوبَةِ شَرْعًا كَالْعَقِيقَةِ إِلاَّ مِنَ الأَْنْعَامِ؛ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَْنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} . (2)
وَالأَْفْضَل فِي الْهَدْيِ الإِْبِل ثُمَّ الْبَقَرُ ثُمَّ الْغَنَمُ؛ (3) لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنِ اغْتَسَل يَوْمَ الْجُمُعَةِ غُسْل الْجَنَابَةِ ثُمَّ رَاحَ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا أَقَرْنَ، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْخَامِسَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً (4)
__________
(1) حديث أبي ذر: " ما من صاحب إبل. . . " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 323 ط السلفية) وأحمد (5 / 158 - 159 ط الميمنية) واللفظ له. وانظر ابن عابدين 2 / 19، المحلى بحاشيتي القليوبي، وعميرة 2 / 8، وجواهر الإكليل 1 / 119، والمغني 2 / 591.
(2) سورة الحج / 28
(3) المغني مع الشرح الكبير 3 / 574 - 576 ط المنار الأولى.
(4) حديث: " من اغتسل يوم الجمعة. . . " أخرجه البخاري (الفتح 2 / 366 ط السلفية) ومسلم (2 / 582 ط الحلبي)(7/12)
وَلِلأَْنْعَامِ الَّتِي تُجْعَل هَدْيًا أَوْ عَقِيقَةً أَوْ أُضْحِيَّةً أَحْكَامٌ خَاصَّةٌ تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَاتِهَا.
وَيَحِل ذَبْحُ الأَْنْعَامِ وَأَكْلُهَا فِي الْحِل وَالْحَرَمِ، وَحَالَةِ الإِْحْرَامِ بِخِلاَفِ الصَّيْدِ مِنَ الْحَيَوَانِ الْوَحْشِيِّ، وَبِخِلاَفِ مَا حَرُمَ مِنْهَا مِنَ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا مِمَّا تَفْصِيلُهُ فِي (أَطْعِمَةٍ) ؛ لِقَوْل اللَّهِ سُبْحَانَهُ: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَْنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} (1)
وَالأَْفْضَل فِي تَذْكِيَةِ الأَْنْعَامِ: النَّحْرُ فِي الإِْبِل، وَالذَّبْحُ فِي الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ. وَبِالإِْضَافَةِ إِلَى مَا تَقَدَّمَ يَتَكَلَّمُ الْفُقَهَاءُ عَنْ وَسْمِ إِبِل الصَّدَقَةِ عِنْدَ كَلاَمِهِمْ فِي قَسْمِ الصَّدَقَاتِ. (2) وَفِي خِيَارِ الرَّدِّ بِالتَّصْرِيَةِ (3) عِنْدَ مَنْ يَقُول بِهِ، نَرَى أَنَّ الْبَعْضَ يَجْعَل الْخِيَارَ خَاصًّا بِالنَّعَمِ دُونَ غَيْرِهَا، وَالْبَعْضَ يُخَيِّرُ فِي رَدِّ الْمُصَرَّاةِ مِنْ نَعَمٍ وَغَيْرِهِ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ يَذْكُرُهُ الْفُقَهَاءُ فِي خِيَارِ الْعَيْبِ. (4)
انْعِزَالٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِنْعِزَال: انْفِعَالٌ مِنَ الْعَزْل. وَالْعَزْل: هُوَ
__________
(1) سورة المائدة / 1
(2) القرطبي أول سورة المائدة
(3) التصرية أن يترك الشاة فلا يحلبها أياما حتى يجتمع اللبن في ضرعها
(4) القليوبي 2 / 210(7/13)
فَصْل الشَّيْءِ عَنْ غَيْرِهِ: تَقُول: عَزَلْتُ الشَّيْءَ عَنِ الشَّيْءِ إِذَا نَحَّيْتُهُ عَنْهُ، وَمِنْهُ عَزَلْتُ النَّائِبَ أَوِ الْوَكِيل: إِذَا أَخْرَجْتُهُ عَمَّا كَانَ لَهُ مِنَ الْحُكْمِ. (1)
وَيُفْهَمُ مِنَ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ عِنْدَهُمْ: خُرُوجُ ذِي الْوِلاَيَةِ عَمَّا كَانَ لَهُ مِنْ حَقِّ التَّصَرُّفِ. وَالاِنْعِزَال قَدْ يَكُونُ بِالْعَزْل، أَوْ يَكُونُ حُكْمِيًّا، كَانْعِزَال الْمُرْتَدِّ وَالْمَجْنُونِ (2) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - الأَْصْل أَنَّ مَنْ تَوَلَّى عَمَلاً بِأَهْلِيَّةٍ مُعَيَّنَةٍ، أَوْ شُرُوطٍ خَاصَّةٍ، ثُمَّ فَقَدَ هَذِهِ الأَْهْلِيَّةَ، أَوْ شَرْطًا مِنَ الشُّرُوطِ الأَْسَاسِيَّةِ (لاَ شُرُوطِ الأَْوْلَوِيَّةِ) فَإِنَّهُ يَنْعَزِل حُكْمًا مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى عَزْلٍ، هَذَا فِي الْجُمْلَةِ.
وَفِي تَطْبِيقَاتِ هَذَا الأَْصْل تَفْصِيلٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي كُل مُصْطَلَحٍ ذِي صِلَةٍ، كَالإِْمَامَةِ، وَالْقَضَاءِ، وَالْوَقْفِ (النَّاظِرِ) وَالْوِلاَيَةِ عَلَى الْيَتِيمِ وَنَحْوِهِ.
هَذَا، وَهُنَاكَ فَرْقٌ بَيْنَ الاِنْعِزَال وَاسْتِحْقَاقِ الْعَزْل، فَإِنَّ الاِنْعِزَال قَدْ لاَ يَحْتَاجُ إِلَى الْعَزْل، وَلاَ يَنْفُذُ شَيْءٌ مِنْ تَصَرُّفَاتِ مَنِ انْعَزَل. أَمَّا اسْتِحْقَاقُ الْعَزْل فَيَكُونُ بِأَنْ يَرْتَكِبَ ذُو الْوِلاَيَةِ أَمْرًا يُوجِبُ عَلَى وَلِيِّ الأَْمْرِ، أَوْ عَلَى الأَْصِيل أَنْ يُعْزَل، كَفِسْقِ الْقَاضِي، أَوْ حُكْمِهِ بِالْهَوَى، أَوْ أَخْذِهِ الرِّشْوَةَ (3) .
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير (عزل)
(2) الوجيز للغزالي 238، 2 / 239
(3) ابن عابدين 4 / 304، 342، جامع الفصولين 1 / 17 وبدائع الصنائع 2 / 242، والشرح الصغير 4 / 191، وحاشية الدسوقي 3 / 396، وقليوبي مع عميرة 2 / 299، 310، 343 - 348، 3 / 178، والمغني 5 / 601، 6 / 141، 9 / 103، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 4 - 12(7/13)
انْعِقَادٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِنْعِقَادُ فِي اللُّغَةِ: ضِدُّ الاِنْحِلاَل، وَمِنْهُ انْعِقَادُ الْحَبْل، وَمِنْ مَعَانِيهِ أَيْضًا الْوُجُوبُ، وَالاِرْتِبَاطُ، وَالتَّأَكُّدُ. (1)
وَعِنْدَ الْفُقَهَاءِ يَخْتَلِفُ الْمُرَادُ مِنْهُ بِاخْتِلاَفِ الْمَوْضُوعِ، فَانْعِقَادُ الْعِبَادَةِ مِنْ صَلاَةٍ، وَصَوْمٍ: ابْتِدَاؤُهَا صَحِيحَةً (2) ، وَانْعِقَادُ الْوَلَدِ حَمْل الأُْمِّ بِهِ، (3) وَانْعِقَادُ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَى صِيغَةٍ مِنَ الْعُقُودِ: هُوَ ارْتِبَاطُ الإِْيجَابِ بِالْقَبُول عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَبَرِ شَرْعًا. (4)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الصِّحَّةُ:
2 - يُعَبِّرُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَنِ الصِّحَّةِ بِالاِنْعِقَادِ، فَقَوْلُهُمْ: تَنْعَقِدُ الصَّلاَةُ بِقِرَاءَةِ الآْيَةِ مَعْنَاهُ: تَصِحُّ بِهَا، إِلاَّ أَنَّ النَّاظِرَ فِي اللَّفْظَيْنِ يَجِدُ أَنَّ هُنَاكَ فَرْقًا بَيْنَ الصِّحَّةِ وَالاِنْعِقَادِ، فَالصِّحَّةُ لاَ تَحْصُل إِلاَّ بَعْدَ تَمَامِ
__________
(1) لسان العرب المحيط، والمصباح، وتهذيب الأسماء واللغات مادة (عقد)
(2) القليوبي 1 / 141، 2 / 59 ط مصطفى الحلبي
(3) القليوبي 4 / 177
(4) الكفاية على الهداية مع شرح فتح القدير 5 / 456 نشر دار إحياء التراث العربي.(7/14)
الأَْرْكَانِ وَالشُّرُوطِ، أَمَّا الاِنْعِقَادُ فَإِنَّهُ قَدْ يَحْصُل وَإِنْ لَمْ تَتِمَّ الشُّرُوطُ. (1)
مَا يَتَحَقَّقُ بِهِ الاِنْعِقَادُ:
3 - انْعِقَادُ الْعُقُودِ يَكُونُ تَارَةً بِالْقَوْل، وَتَارَةً بِالْفِعْل، فَالْقَوْل كَالاِرْتِبَاطِ الْحَاصِل بِسَبَبِ صِيَغِ الْعُقُودِ الْمُعْتَبَرَةِ شَرْعًا كَالنِّكَاحِ وَنَحْوِهِ. (2) وَالْفِعْل كَالْمُعَاطَاةِ عِنْدَ أَغْلَبِ الْفُقَهَاءِ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ يَذْكُرُهُ الْفُقَهَاءُ فِي صِيَغِ الْعُقُودِ. وَالاِنْعِقَادُ قَدْ يَقَعُ بِالْكِنَايَةِ مَعَ النِّيَّةِ، وَقَدْ يُشْتَرَطُ فِيهِ اللَّفْظُ الصَّرِيحُ.
فَالأَْوَّل نَحْوُ كُل تَصَرُّفٍ يَسْتَقِل بِهِ الشَّخْصُ كَالطَّلاَقِ، وَالْعَتَاقِ وَالإِْبْرَاءِ، (3) فَإِنَّ هَذِهِ الأَْشْيَاءَ تَنْعَقِدُ بِالْكِنَايَةِ مَعَ النِّيَّةِ، وَكَذَا مَا لاَ يَسْتَقِل بِهِ الشَّخْصُ مِنَ الْعُقُودِ، وَكَانَ مِمَّا يَقْبَل التَّعْلِيقَ كَالْمُكَاتَبَةِ وَالْخُلْعِ، فَإِنْ كَانَ الْعَقْدُ لاَ يَقْبَل التَّعْلِيقَ فَفِي انْعِقَادِهِ خِلاَفٌ، وَيُفَصِّل الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ فِي صِيَغِ الْعُقُودِ. (4)
__________
(1) المستصفى 1 / 123 ط بولاق الأولى، وفواتح الرحموت بهامشه 1 / 121
(2) ابن عابدين 4 / 5 وما بعدها ط بولاق، وجواهر الإكليل 2 / 2 ط مكة المكرمة، والمجموع 9 / 162، 163 نشر المكتبة السلفية، والمغني مع الشرح الكبير 7 / 431 ط المنار الأولى
(3) المراجع السابقة
(4) المجموع 9 / 166، 167، والروضة 3 / 338 ط المكتب الإسلامي، والأشباه والنظائر للسيوطي 239 ط التجارية، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص 11 / 207، والمغني 9 / 33، 331 ط الرياض، وجواهر الإكليل 2 / 298(7/14)
وَالْبَاطِل مِنْ عِبَادَةٍ وَعَقْدٍ وَغَيْرِهِمَا غَيْرُ مُنْعَقِدٍ اتِّفَاقًا، وَأَمَّا الْمُعَامَلاَتُ فَفِي انْعِقَادِ فَاسِدِهَا خِلاَفٌ، وَأَغْلَبُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الْعَقْدَ الْفَاسِدَ غَيْرُ مُنْعَقِدٍ كَذَلِكَ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ الْعَقْدُ الْفَاسِدُ يَنْعَقِدُ غَيْرَ صَحِيحٍ، وَالاِنْعِقَادُ حِينَئِذٍ بِمَشْرُوعِيَّةِ الأَْصْل دُونَ الْوَصْفِ. (1)
وَمِنَ التَّصَرُّفَاتِ مَا يَنْعَقِدُ مَعَ الْهَزْل كَالنِّكَاحِ، وَالطَّلاَقِ؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: ثَلاَثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ: النِّكَاحُ، وَالطَّلاَقُ، وَالرَّجْعَةُ، (2) وَمِنْهَا مَا لاَ يَنْعَقِدُ مَعَهُ كَالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ. (3)
وَأَغْلَبُ الْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ تَنْعَقِدُ بِإِشَارَةِ الأَْخْرَسِ، كَالْبَيْعِ، وَالنِّكَاحِ وَالطَّلاَقِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. (4)
أَمَّا إِشَارَةُ الْقَادِرِ عَلَى النُّطْقِ فَلاَ يَتِمُّ بِهَا الاِنْعِقَادُ فِي الْجُمْلَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ؛ إِذْ لاَ يَعْدِل عَنِ الْعِبَارَةِ إِلَى الإِْشَارَةِ إِلاَّ لِعُذْرٍ. (5)
__________
(1) ابن عابدين 4 / 7
(2) حديث: " ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: النكاح والطلاق والرجعة " أخرجه الترمذي التحفة (4 / 362 ط السلفية) وحسنه ابن حجر في التلخيص 3 / 210 ط شركة الطباعة الفنية المتحدة.
(3) المرجع السابق، والمغني مع الشرح الكبير 7 / 431 ط المنار الأولى
(4) نتائج الأفكار تكملة فتح القدير 8 / 511 ط بولاق الأولى، وابن عابدين 4 / 9، 5 / 470، وجواهر الإكليل 1 / 348، والحطاب 4 / 258 ط ليبيا، ونهاية المحتاج 6 / 426 ط مصطفى الحلبي، والكافي لابن قدامة 2 / 802 ط المكتب الإسلامي، والمغني مع الشرح 7 / 430.
(5) نهاية المحتاج 6 / 426، والكافي لابن قدامة 2 / 802، وابن عابدين 4 / 9، وأشباه ابن نجيم ص 343، 344 مكتبة الهند(7/15)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ إِشَارَةَ غَيْرِ الأَْخْرَسِ يُعْتَدُّ بِهَا فِي سَائِرِ الْعُقُودِ. (1)
وَانْعِقَادُ الإِْمَامَةِ الْكُبْرَى يَكُونُ بِاخْتِيَارِ أَهْل الْحَل وَالْعَقْدِ، غَيْرَ أَنَّ الْفُقَهَاءَ يَتَفَاوَتُونَ فِي تَحْدِيدِ أَقَل عَدَدٍ تَنْعَقِدُ بِهِ الْبَيْعَةُ مِنْ أَهْل الْحَل وَالْعَقْدِ، وَمَوْطِنُ ذَلِكَ مُصْطَلَحُ (الإِْمَامَةِ الْكُبْرَى) . (2)
أَوْ يَكُونُ بِعَهْدٍ مِنَ الإِْمَامِ لِمَنْ بَعْدَهُ مَعَ الْمُبَايَعَةِ مِنْ أَهْل الْحَل وَالْعَقْدِ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى صِحَّةِ الْعَهْدِ بِالإِْمَامَةِ لأَِمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَهِدَ بِهَا إِلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَالثَّانِي: أَنَّ عُمَرَ عَهِدَ بِهَا إِلَى أَهْل الشُّورَى، فَقَبِلَتِ الْجَمَاعَةُ دُخُولَهُمْ فِيهَا، وَهُمْ أَعْيَانُ الْعَصْرِ، اعْتِقَادًا لِصِحَّةِ الْعَهْدِ بِهَا، فَصَارَ الْعَهْدُ بِهَا إِجْمَاعًا فِي انْعِقَادِ الإِْمَامَةِ. (3)
أَمَّا انْعِقَادُ الإِْمَامَةِ بِغَيْرِ عَقْدٍ وَلاَ اخْتِيَارٍ فَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهَا لاَ تَنْعَقِدُ، وَيَلْزَمُ أَهْل الاِخْتِيَارِ عَقْدُ الإِْمَامَةِ لَهُ، لَكِنْ ذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى انْعِقَادِهَا بِالتَّغَلُّبِ، وَتَفْصِيلُهُ فِي (الإِْمَامَةِ الْكُبْرَى) . (4)
وَتَنْعَقِدُ الْوِلاَيَاتُ مَعَ الْحُضُورِ بِاللَّفْظِ مُشَافَهَةً، وَمَعَ الْغَيْبَةِ مُكَاتَبَةً، وَمُرَاسَلَةً، وَكَيْفِيَّةُ انْعِقَادِ كُل وِلاَيَةٍ تُذْكَرُ فِي مَوْطِنِهَا، وَيَتَكَلَّمُ الْفُقَهَاءُ عَنْ ذَلِكَ
__________
(1) الحطاب 4 / 229
(2) الأحكام السلطانية للماوردي ص 6 ط مصطفى الحلبي.
(3) الأحكام السلطانية للماوردي ص 10.
(4) المرجع السابق ص 8، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 7 ط مصطفى الحلبي.(7/15)
غَالِبًا فِي كُتُبِ السِّيَاسَةِ الشَّرْعِيَّةِ وَالأَْحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ. (1)
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
4 - يَتَكَلَّمُ الْفُقَهَاءُ فِي الأَْيْمَانِ عَنِ انْعِقَادِ الْيَمِينِ، وَمَوَاطِنُ الاِنْعِقَادِ يَصْعُبُ سَرْدُهَا لِذَا يَرْجِعُ إِلَى كُل عِبَادَةٍ أَوْ تَصَرُّفٍ فِي مَوْطِنِهِ لِبَيَانِ الاِنْعِقَادِ مِنْ عَدَمِهِ.
انْعِكَاسٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِنْعِكَاسُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ انْعَكَسَ مُطَاوِعُ عَكَسَ. (2) وَالْعَكْسُ: رَدُّ أَوَّل الشَّيْءِ عَلَى آخِرِهِ. يُقَال: عَكَسَهُ يَعْكِسُهُ عَكْسًا مِنْ بَابِ ضَرَبَ. (3) وَمِنْهُ قِيَاسُ الْعَكْسِ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ وَهُوَ: إِثْبَاتُ عَكْسِ حُكْمِ شَيْءٍ لِمِثْلِهِ لِتَعَاكُسِهِمَا فِي الْعِلَّةِ، كَمَا فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ: أَيَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟ قَال: أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ؟ (4)
وَالاِنْعِكَاسُ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ: انْتِفَاءُ الْحُكْمِ
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 69، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 48.
(2) تاج العروس (عكس)
(3) المصباح (عكس)
(4) حديث: " أيأتي أحدنا شهوته. . . " أخرجه مسلم 2 / 698 ط الحلبي(7/16)
بِانْتِفَاءِ الْعِلَّةِ كَانْتِفَاءِ حُرْمَةِ الْخَمْرِ بِزَوَال إِسْكَارِهَا. (1)
وَضِدُّ الاِنْعِكَاسِ الاِطِّرَادُ، كَمَا أَنَّ ضِدَّ الْعَكْسِ الطَّرْدُ. (ر: اطِّرَادٌ) .
2 - وَذَهَبَ جُمْهُورُ الأُْصُولِيِّينَ إِلَى أَنَّ الاِنْعِكَاسَ مَعَ الاِطِّرَادِ مَسْلَكٌ مِنَ الْمَسَالِكِ الَّتِي بِهَا تُعْرَفُ الْعِلَّةُ. وَلَمْ يَعْتَبِرْهُ الْحَنَفِيَّةُ وَكَثِيرٌ مِنَ الأَْشْعَرِيَّةِ كَالْغَزَالِيِّ وَالآْمِدِيِّ مِنْ مَسَالِكِ الْعِلَّةِ. (2)
كَمَا ذَهَبَ بَعْضُ الأُْصُولِيِّينَ إِلَى أَنَّ الاِنْعِكَاسَ مِنْ شَرَائِطِ الْعِلَّةِ، وَالآْخَرُونَ لَمْ يَشْتَرِطُوا فِيهَا هَذَا الشَّرْطَ. (3)
وَتَمَامُ الْكَلاَمِ عَلَى ذَلِكَ مَوْطِنُهُ الْمُلْحَقُ الأُْصُولِيُّ.
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
3 - ذَكَرَ الأُْصُولِيُّونَ الاِنْعِكَاسَ فِي مَبَاحِثِ الْعِلَّةِ مِنَ الْقِيَاسِ، فِي شُرُوطِهَا، وَفِي مَسَالِكِهَا، بِاعْتِبَارِهِ أَحَدَ شُرُوطِهَا وَمَسَالِكِهَا عَلَى الْخِلاَفِ الَّذِي تَقَدَّمَ كَمَا ذَكَرُوهُ فِي مَبْحَثِ التَّرْجِيحَاتِ الْقِيَاسِيَّةِ بِاعْتِبَارِهِ أَحَدَ طُرُقِ التَّرْجِيحِ بَيْنَ الأَْقْيِسَةِ، (4) وَفِي الْكَلاَمِ عَلَى الْحِكْمَةِ وَالْمَظِنَّةِ، وَأَنَّهُ لاَ يَجِبُ فِي مَظِنَّةِ الْحِكْمَةِ الطَّرْدُ وَالْعَكْسُ، (5) وَفِي الْكَلاَمِ عَلَى قَوَادِحِ الْعِلَّةِ. (6)
__________
(1) كشاف اصطلاحات الفنون (طرد) ، والمستصفى 2 / 307، 308، وفواتح الرحموت 2 / 282
(2) مسلم الثبوت 2 / 302، وإرشاد الفحول ص 220 ط م الحلبي.
(3) فواتح الرحموت 2 / 282، وشرح جمع الجوامع 2 / 343 ط م الحلبي.
(4) فواتح الرحموت 2 / 328
(5) فواتح الرحموت 2 / 274
(6) شرح جمع الجوامع 2 / 305 ط م الحلبي(7/16)
أَنْفٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الأَْنْفُ: الْمَنْخِرُ وَهُوَ مَعْرُوفٌ، وَالْجَمْعُ آنَافٌ وَأُنُوفٌ (1)
مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنَ الأَْحْكَامِ:
تَخْتَلِفُ الأَْحْكَامُ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالأَْنْفِ بِاخْتِلاَفِ مَوَاضِعِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ.
أ - فِي الْوُضُوءِ:
2 - غَسْل الأَْنْفِ مِنَ الدَّاخِل (الاِسْتِنْشَاقُ) سُنَّةٌ، وَغَسْلُهُ مِنَ الظَّاهِرِ فَرْضٌ بِاعْتِبَارِهِ جُزْءًا مِنَ الْوَجْهِ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (وُضُوءٍ) .
ب - فِي الْغُسْل:
3 - غَسْل ظَاهِرِ الأَْنْفِ فِي الْغُسْل فَرْضٌ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ. وَغَسْل بَاطِنِهِ (وَهُوَ الاِسْتِنْشَاقُ) فَرْضٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَسُنَّةٌ عِنْدَ غَيْرِهِمْ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (غُسْلٍ) .
ج - السُّجُودُ عَلَى الأَْنْفِ فِي الصَّلاَةِ:
4 - تَمْكِينُ الأَْنْفِ مَعَ الْجَبْهَةِ فِي السُّجُودِ سُنَّةٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ؛ لِمَا رَوَى أَبُو حُمَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير(7/17)
أَنَّ النَّبِيَّ سَجَدَ وَمَكَّنَ جَبْهَتَهُ وَأَنْفَهُ عَلَى الأَْرْضِ. (1)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّهُ وَاجِبٌ، وَهُوَ رِوَايَةٌ لِلْحَنَابِلَةِ وَالْقَوْل الْمَرْجُوحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ: الْجَبْهَةِ - وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى أَنْفِهِ - وَالْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ وَأَطْرَافِ الْقَدَمَيْنِ (2) وَإِشَارَتُهُ إِلَى أَنْفِهِ تَدُل عَلَى أَنَّهُ أَرَادَهُ. (3)
د - وُصُول شَيْءٍ إِلَى جَوْفِ الصَّائِمِ عَنْ طَرِيقِ الأَْنْفِ:
5 - إِذَا اسْتَعَطَ الصَّائِمُ فَوَصَل الدَّوَاءُ إِلَى جَوْفِهِ أَوْ حَلْقِهِ أَوْ دِمَاغِهِ فَسَدَ صَوْمُهُ وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لاَ يَفْسُدُ إِلاَّ بِالْوُصُول إِلَى الْجَوْفِ أَوِ الْحَلْقِ - كَذَلِكَ مَنِ اسْتَنْشَقَ فَوَصَل الْمَاءُ إِلَى جَوْفِهِ أَوْ حَلْقِهِ فَسَدَ صَوْمُهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ.
وَلِلْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ إِذَا بَالَغَ فِي الاِسْتِنْشَاقِ فَوَصَل الْمَاءُ إِلَى جَوْفِهِ أَوْ حَلْقِهِ رَأْيَانِ: الْفَسَادُ وَعَدَمُهُ (4) .
__________
(1) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد. . . " أخرجه أبو داود (1 / 471 - ط عزت عبيد دعاس) وصححه ابن خزيمة (1 / 323 - ط المكتب الإسلامي) .
(2) حديث: " أمرت أن أسجد على سبعة أعظم " أخرجه البخاري (2 / 297 - الفتح - ط السلفية) ، ومسلم (1 / 354 - ط الحلبي)
(3) المغني 1 / 516 ط الرياض، والمهذب 1 / 83 ط دار المعرفة، والبدائع 1 / 208 ط الجمالية، ومنح الجليل 1 / 151 ط النجاح ليبيا
(4) منتهى الإرادات 1 / 447 ط دار الفكر، والمغني 3 / 108، والمهذب 1 / 189 - 190، ومنح الجليل 1 / 399 - 400، والهداية 1 / 125 ط المكتبة الإسلامية(7/17)
هـ - الْجِنَايَةُ عَلَى الأَْنْفِ:
6 - الْجِنَايَةُ عَلَى الأَْنْفِ عَمْدًا تُوجِبُ الْقِصَاصَ مَتَى أَمْكَنَ اسْتِيفَاءُ الْمِثْل بِلاَ حَيْفٍ. وَالْقِصَاصُ وَاجِبٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالأَْنْفُ بِالأَْنْفِ} . (1)
فَإِذَا لَمْ يُمْكِنِ اسْتِيفَاءُ الْمِثْل أَوْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ خَطَأً فَالْوَاجِبُ هُوَ الدِّيَةُ، وَفِي ذَهَابِ الشَّمِّ وَحْدَهُ الدِّيَةُ.
وَفِي ذَهَابِ الشَّمِّ وَمَارِنِ الأَْنْفِ دِيَتَانِ.
وَإِنْ قَطَعَ جُزْءًا مِنَ الأَْنْفِ وَجَبَ فِيهِ الدِّيَةُ بِقَدْرِهِ. (2)
وَفِي الْمَوْضُوعِ تَفْصِيلٌ كَثِيرٌ (ر: جِنَايَةٌ، وَدِيَةٌ، وَأَطْرَافٌ، وَجِرَاحٌ) .
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
7 - لِلأَْنْفِ أَحْكَامٌ تَتَعَلَّقُ بِهِ وَتَرِدُ فِي مَسَائِل مُتَعَدِّدَةٍ مِنْ أَبْوَابِ الْفِقْهِ، وَذَلِكَ كَالاِسْتِنْشَاقِ فِي بَابِ الْوُضُوءِ، وَبَابِ الْغُسْل، وَغُسْل الْمَيِّتِ، وَفِي صَبِّ لَبَنِ الْمُرْضِعِ فِيهِ، وَهَل يُوجِبُ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ بِذَلِكَ أَمْ لاَ، وَذَلِكَ فِي بَابِ الرَّضَاعِ، وَاتِّخَاذِ أَنْفٍ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، وَذَلِكَ فِي بَابِ اللِّبَاسِ.
إِنْفَاقٌ
انْظُرْ: نَفَقَةٌ.
__________
(1) سورة المائدة / 45
(2) منتهى الإرادات 3 / 292 ط 317، والمهذب 2 / 180 - 203، ومنح الجليل 4 / 366، 406، 408، البدائع 7 / 297 - 311.(7/18)
أَنْفَالٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - النَّفَل بِالتَّحْرِيكِ: الْغَنِيمَةُ، وَفِي التَّنْزِيل الْعَزِيزِ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَْنْفَال} (1) سَأَلُوا عَنْهَا؛ لأَِنَّهَا كَانَتْ حَرَامًا عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ فَأَحَلَّهَا اللَّهُ لَهُمْ. وَأَصْل مَعْنَى الأَْنْفَال مِنَ النَّفْل - بِسُكُونِ الْفَاءِ - أَيِ الزِّيَادَةِ. (2)
وَاصْطِلاَحًا، اخْتُلِفَ فِي تَعْرِيفِهَا عَلَى خَمْسَةِ أَقْوَالٍ:
2 - الأَْوَّل: هِيَ الْغَنَائِمُ، وَهُوَ قَوْل ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةٍ، وَمُجَاهِدٍ فِي رِوَايَةٍ، وَالضِّحَاكِ وَقَتَادَةَ وَعِكْرِمَةَ وَعَطَاءٍ فِي رِوَايَةٍ.
3 - الثَّانِي: الْفَيْءُ، وَهِيَ الرِّوَايَةُ الأُْخْرَى عَنْ كُلٍّ مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٍ، وَهُوَ مَا يَصِل إِلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَمْوَال الْمُشْرِكِينَ بِغَيْرِ قِتَالٍ، فَذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَضَعُهُ حَيْثُ يَشَاءُ.
4 - الثَّالِثُ: الْخُمُسُ، وَهِيَ الرِّوَايَةُ الأُْخْرَى عَنْ مُجَاهِدٍ.
5 - الرَّابِعُ: التَّنْفِيل، وَهُوَ مَا أُخِذَ قَبْل إِحْرَازِ الْغَنِيمَةِ بِدَارِ الإِْسْلاَمِ وَقِسْمَتِهَا، فَأَمَّا بَعْدَ ذَلِكَ فَلاَ يَجُوزُ التَّنْفِيل إِلاَّ مِنَ الْخُمْسِ (3) . وَتَفْصِيلُهُ فِي
__________
(1) سورة الأنفال / 1
(2) لسان العرب والمصباح المنير في المادة، والمفردات في غريب القرآن للأصفهاني (نفل)
(3) أحكام القرآن للجصاص 3 / 55(7/18)
مُصْطَلَحِ (تَنْفِيلٍ) .
6 - خَامِسًا: السَّلَبُ، وَهُوَ الَّذِي يُدْفَعُ إِلَى الْفَارِسِ زَائِدًا عَنْ سَهْمِهِ مِنَ الْمَغْنَمِ، تَرْغِيبًا لَهُ فِي الْقِتَال، كَمَا إِذَا قَال الإِْمَامُ: وَمَنْ قَتَل قَتِيلاً فَلَهُ سَلَبُهُ " أَوْ قَال لِسَرِيَّةٍ: مَا أَصَبْتُمْ فَهُوَ لَكُمْ، أَوْ يَقُول: فَلَكُمْ نِصْفُهُ أَوْ ثُلُثُهُ أَوْ رُبُعُهُ (1) .
7 - فَالأَْنْفَال بِنَاءً عَلَى هَذِهِ الأَْقْوَال تُطْلَقُ عَلَى أَمْوَال الْحَرْبِيِّينَ الَّتِي آلَتْ إِلَى الْمُسْلِمِينَ بِقِتَالٍ أَوْ غَيْرِ قِتَالٍ، وَيَدْخُل فِيهَا الْغَنِيمَةُ وَالْفَيْءُ. قَال ابْنُ الْعَرَبِيِّ: قَال عُلَمَاؤُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ: هَا هُنَا ثَلاَثَةُ أَسْمَاءٍ: الأَْنْفَال، وَالْغَنَائِمُ، وَالْفَيْءُ.
فَالنَّفَل الزِّيَادَةُ، وَتَدْخُل فِيهِ الْغَنِيمَةُ، وَهِيَ مَا أُخِذَ مِنْ أَمْوَال الْكُفَّارِ بِقِتَالٍ.
وَالْفَيْءُ، وَهُوَ مَا أُخِذَ بِغَيْرِ قِتَالٍ، وَسُمِّيَ كَذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ رَجَعَ إِلَى مَوْضِعِهِ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ وَهُوَ انْتِفَاعُ الْمُؤْمِنِ بِهِ. (2)
وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى مَا بَذَلَهُ الْكُفَّارُ لِنَكُفَّ عَنْ قِتَالِهِمْ، وَكَذَلِكَ مَا أُخِذَ بِغَيْرِ تَخْوِيفٍ كَالْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ، وَالْعُشْرِ، وَمَال الْمُرْتَدِّ، وَمَال مَنْ مَاتَ مِنَ الْكُفَّارِ وَلاَ وَارِثَ لَهُ. (3)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الرَّضْخُ:
8 - الرَّضْخُ لُغَةً: الْعَطَاءُ غَيْرُ الْكَثِيرِ، وَاصْطِلاَحًا: مَالٌ مِنَ الْغَنِيمَةِ لاَ يَزِيدُ عَلَى سَهْمٍ وَاحِدٍ مِنَ
__________
(1) الفخر الرازي 15 / 115 الطبعة الأولى
(2) أحكام القرآن لابن العربي 2 / 825
(3) الوجيز 1 / 288، والمبسوط 10 / 7، والعدوي على الخرشي 3 / 128، والمصباح المنير في المادة(7/19)
الْغَانِمِينَ، تَقْدِيرُهُ إِلَى وَلِيِّ الأَْمْرِ، أَوْ مَنْ يَنُوبُ عَنْهُ كَقَائِدِ الْجَيْشِ يُعْطَى لِمَنْ حَضَرَ الْمَعْرَكَةَ، وَأَعَانَ عَلَى الْقِتَال، مِنَ النِّسَاءِ، وَالصِّبْيَانِ، وَنَحْوِهِمْ، وَكَذَلِكَ الذِّمِّيُّونَ وَالْعَبِيدُ بِقَدْرِ مَا يَبْذُلُونَ مِنْ جَهْدٍ، مِثْل مُدَاوَاةِ الْجَرْحَى وَالْمَرْضَى، وَالدَّلاَلَةُ عَلَى الطَّرِيقِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. (1)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
9 - يَخْتَلِفُ حُكْمُ الأَْنْفَال بِحَسَبِ مُفْرَدَاتِهَا السَّابِقَةِ مِنْ: غَنِيمَةٍ، وَفَيْءٍ، وَسَلَبٍ، وَرَضْخٍ، وَتَنْفِيلٍ، وَيُنْظَرُ حُكْمُ كُلٍّ مِنْ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِهِ (2)
انْفِرَادٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِنْفِرَادُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ انْفَرَدَ وَهُوَ بِمَعْنَى تَفَرَّدَ. (3) وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ عَنْ ذَلِكَ (4)
__________
(1) المبسوط 10 / 16، وفتح القدير 4 / 326، والوجيز 1 / 290، والمغني 8 / 415 ط الرياض، والقواعد لابن رجب ص 311 ط دار المعرفة، والمدونة 3 / 33 ط دار صادر
(2) ابن عابدين 3 / 238، وفتح القدير 4 / 333، وحاشية الدسوقي 2 / 190 ط دار الفكر، ومغني المحتاج 3 / 102 ط مصطفى الحلبي، والمغني 8 / 378 ط الرياض
(3) لسان العرب، المحيط، ومختار الصحاح، والمصباح المنير مادة: (فرد)
(4) شرح فتح القدير 6 / 89، وما بعدها، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 392، والمهذب 1 / 353، وكشاف القناع 5 / 500، وما بعدها(7/19)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الاِسْتِبْدَادُ:
2 - الاِسْتِبْدَادُ: مَصْدَرُ اسْتَبَدَّ، يُقَال: اسْتَبَدَّ بِالأَْمْرِ إِذَا انْفَرَدَ بِهِ مِنْ غَيْرِ مُشَارِكٍ لَهُ فِيهِ (1) .
ب: الاِسْتِقْلاَل:
3 - مِنْ مَعَانِي الاِسْتِقْلاَل: الاِعْتِمَادُ عَلَى النَّفْسِ، وَالاِسْتِبْدَادُ بِالأَْمْرِ، وَهُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى يُرَادِفُ الاِنْفِرَادَ، غَيْرَ أَنَّهُ يُخَالِفُهُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ إِطْلاَقَاتِهِ اللُّغَوِيَّةِ، فَيَكُونُ مِنَ الْقِلَّةِ وَمِنَ الاِرْتِفَاعِ. (2)
ج - الاِشْتِرَاكُ:
4 - الاِشْتِرَاكُ ضِدُّ الاِنْفِرَادِ.
أَحْكَامُ الاِنْفِرَادِ:
الاِنْفِرَادُ فِي الصَّلاَةِ:
5 - صَلاَةُ الْمُنْفَرِدِ جَائِزَةٌ وَلَوْ لِغَيْرِ عُذْرٍ، وَالْجَمَاعَةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ (إِلاَّ فِي الْجُمُعَةِ بِالاِتِّفَاقِ، وَالْعِيدَيْنِ عَلَى خِلاَفٍ) ، وَفِي صَلاَةِ الْمُنْفَرِدِ أَجْرٌ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قَال: قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ صَلاَةَ الْجَمَاعَةِ تَفْضُل صَلاَةَ الْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً (3)
__________
(1) لسان العرب مادة: (بدد) وكشاف القناع 5 / 500، وحاشية الدسوقي 3 / 352، والمهذب 1 / 353
(2) لسان العرب، والصحاح، وتاج العروس مادة: (قلل) بتصرف
(3) حديث: " صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 131 - ط السلفية) ، ومسلم (1 / 450 - ط الحلبي) من حديث ابن عمر(7/20)
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً (1) لأَِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ ثُبُوتِ النِّسْبَةِ بَيْنَهُمَا - بِجُزْءٍ مَعْلُومٍ - ثُبُوتُ الأَْجْرِ فِيهِمَا، وَإِلاَّ فَلاَ نِسْبَةَ وَلاَ تَقْدِيرَ، وَلاَ يَنْقُصُ أَجْرُ الْمُصَلِّي مُنْفَرِدًا مَعَ الْعُذْرِ، لِمَا وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ مَا كَانَ يَعْمَل صَحِيحًا مُقِيمًا (2) وَلاَ تَجِبُ الإِْعَادَةُ لِفَرْضٍ عَلَى مَنْ صَلاَّهُ وَحْدَهُ.
أَمَّا صَلاَةُ الْجَمَاعَةِ فَهِيَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ لِلرِّجَال عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَقِيل: هِيَ وَاجِبَةٌ إِلاَّ فِي جُمُعَةٍ فَشَرْطٌ، وَكَذَا الْعِيدُ عَلَى الْقَوْل بِوُجُوبِ الْعِيدِ عِنْدَ مَنْ يَرَاهُ وَاجِبًا. (3) (ر: صَلاَةُ الْجَمَاعَةِ) .
الاِنْفِرَادُ فِي التَّصَرُّفَاتِ:
أ - انْفِرَادُ أَحَدِ الأَْوْلِيَاءِ بِالتَّزْوِيجِ:
6 - إِنِ اجْتَمَعَ اثْنَانِ أَوْ أَكْثَرُ مِنَ الأَْوْلِيَاءِ الْمُتَسَاوِينَ فِي جِهَةِ الْقَرَابَةِ وَالدَّرَجَةِ وَالْقُوَّةِ كَالإِْخْوَةِ الأَْشِقَّاءِ، أَوِ الأَْبِ، وَالأَْعْمَامُ كَذَلِكَ، وَتَشَاحَّوْا فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَطَلَبَ كُلٌّ مِنْهُمْ أَنْ يَتَوَلَّى الْعَقْدَ. فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ يُقْرَعُ بَيْنَهُمْ قَطْعًا لِلنِّزَاعِ، وَلِتَسَاوِيهِمْ فِي الْحَقِّ،
__________
(1) الرواية الأخرى من حديث أبي هريرة. أخرجه البخاري (الفتح 2 / 131) ومسلم (1 / 450)
(2) حديث: " إذا مرض العبد أو سافر. . . . ". أخرجه البخاري (الفتح 6 / 136 - ط السلفية)
(3) رد المحتار 1 / 368، 371 - 373 وما بعدها، وشرح فتح القدير 1 / 222، 229، 300، وحاشية 1 / 200، 255، 319، 373، والشرح الصغير 1 / 424، 425، 490، 496، ونهاية المحتاج 2 / 2، 128 - 136، 145 وما بعدها، والمجموع شرح المهذب 4 / 182 - 185، 189، والمغني لابن قدامة 2 / 176، 177، وكشاف القناع 6 / 453 - 455(7/20)
وَتَعَذُّرِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمْ، فَمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ زَوَّجَ. فَإِنْ سَبَقَ غَيْرُ مَنْ خَرَجَتْ لَهُ الْقُرْعَةُ فَزَوَّجَ، وَقَالَتْ أَذِنْتُ لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ صَحَّ التَّزْوِيجُ؛ لأَِنَّهُ صَدَرَ مِنْ وَلِيٍّ كَامِل الْوِلاَيَةِ بِإِذْنِ مُوَلِّيَتِهِ فَصَحَّ مِنْهُ، كَمَا لَوِ انْفَرَدَ بِالْوِلاَيَةِ؛ وَلأَِنَّ الْقُرْعَةَ شُرِعَتْ لإِِزَالَةِ الْمُشَاحَّةِ لاَ لِسَلْبِ الْوِلاَيَةِ. (1)
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: عِنْدَ تَسَاوِيهِمْ دَرَجَةً وَقَرَابَةً يَنْظُرُ الْحَاكِمُ فِيمَنْ يَرَاهُ أَحْسَنَهُمْ رَأْيًا لِيَتَوَلَّى الْعَقْدَ. (2)
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: يَكُونُ لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَتَوَلَّى الْعَقْدَ وَيُزَوِّجَ، رَضِيَ الآْخَرُ أَوْ سَخِطَ، إِذَا كَانَ التَّزْوِيجُ مِنْ كُفْءٍ وَبِمَهْرٍ وَافِرٍ. (3) وَهَذَا إِذَا اتَّحَدَ الْخَاطِبُ.
7 - أَمَّا إِذَا تَعَدَّدَ الْخَاطِبُ، فَالتَّزْوِيجُ لِمَنْ تَرْضَاهُ الْمَرْأَةُ؛ لأَِنَّ لَهَا الْحَقَّ عِنْدَهُمْ أَنْ تُزَوِّجَ نَفْسَهَا مِنْ كُفْءٍ إِذَا كَانَتْ بَالِغَةً رَشِيدَةً، وَلاَ يُزَوِّجُهَا إِلاَّ الْوَلِيُّ الَّذِي تَرْضَاهُ بِوَكَالَةٍ، فَإِنْ لَمْ تُعَيِّنِ الْمَرْأَةُ وَاحِدًا مِنَ الْمُسْتَوِينَ دَرَجَةً وَقَرَابَةً، وَأَذِنَتْ لِكُلٍّ مِنْهُمْ بِانْفِرَادِهِ، أَوْ قَالَتْ: أَذِنْتُ فِي فُلاَنٍ، فَمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ فَلْيُزَوِّجْنِي مِنْهُ، صَحَّ التَّزْوِيجُ مِنْ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ؛ لِوُجُودِ سَبَبِ الْوِلاَيَةِ فِي كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَمَا يَقُول الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، فَإِنْ بَادَرَ أَحَدُهُمْ فَزَوَّجَهَا مِنْ كُفْءٍ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مَا يُمَيِّزُ
__________
(1) الولي: هو البالغ العاقل الوارث، انظر ابن عابدين 2 / 295، ونهاية المحتاج 6 / 342 - 344، وروضة الطالبين 7 / 87، 88، والمغني لابن قدامة 6 / 510، 511، ومطالب أولي النهى 5 / 72، 73
(2) حاشية الدسوقي 2 / 233، وجواهر الإكليل 1 / 283
(3) البدائع 2 / 251، وشرح فتح القدير 3 / 172، 183 - 185(7/21)
أَحَدَهُمْ عَنْ غَيْرِهِ.
وَلَوْ أَذِنَتْ لَهُمْ فِي التَّزْوِيجِ، فَزَوَّجَهَا أَحَدُ الأَْوْلِيَاءِ الْمُسْتَوِينَ فِي الدَّرَجَةِ، وَزَوَّجَهَا الآْخَرُ مِنْ غَيْرِهِ، فَإِنْ عُرِفَ السَّابِقُ فَهُوَ الصَّحِيحُ وَالآْخَرُ بَاطِلٌ، وَإِنْ وَقَعَ الْعَقْدَانِ فِي زَمَنٍ وَاحِدٍ، أَوْ جُهِل السَّابِقُ مِنْهُمَا، فَبَاطِلاَنِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ. (1)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحَيْ " نِكَاحٌ، وَوِلاَيَةٌ ".
ب - انْفِرَادُ أَحَدِ الأَْوْلِيَاءِ بِالتَّصَرُّفِ فِي مَال الصَّغِيرِ:
8 - قَال فُقَهَاءُ الْمَالِكِيَّةِ: إِنْ مَاتَ الرَّجُل عَنْ أَوْلاَدٍ صِغَارٍ، وَلَمْ يُوصِ إِلَى أَحَدٍ عَلَيْهِمْ، فَتَصَرَّفَ فِي أَمْوَالِهِمْ أَحَدُ أَعْمَامِهِمْ، أَوْ إِخْوَتُهُمُ الْكِبَارُ بِالْمَصْلَحَةِ، فَتَصَرُّفُهُ مَاضٍ، لِجَرَيَانِ الْعَادَةِ بِأَنَّ مَنْ ذُكِرَ يَقُومُ مَقَامَ الأَْبِ، (2)
وَلَمْ يَعْثُرْ عَلَى تَعَدُّدِ الأَْوْلِيَاءِ وَانْفِرَادِ أَحَدِهِمْ بِالتَّصَرُّفِ فِي الْمَال سِوَى مَا سَبَقَ ذِكْرُهُ فِي الْمَذْهَبِ الْمَالِكِيِّ.
وَإِذَا تَعَدَّدَ الأَْوْلِيَاءُ أَوِ الأَْوْصِيَاءُ فَإِنِ اتَّفَقُوا فِي التَّصَرُّفِ فَالأَْمْرُ ظَاهِرٌ، وَإِنِ اخْتَلَفُوا يُرْفَعُ لِلْحَاكِمِ. وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ وَخِلاَفٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحَيْ (إِيصَاءٍ) (وَوِلاَيَةٍ) .
ج - انْفِرَادُ أَحَدِ الْوَكِيلَيْنِ بِالتَّصَرُّفِ:
9 - لِكُلٍّ مِنَ الْوَكِيلَيْنِ الاِنْفِرَادُ بِالتَّصَرُّفِ، إِنْ جَعَل
__________
(1) المراجع السابقة
(2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 256، 4 / 452 ط عيسى الحلبي بمصر، وجواهر الإكليل 2 / 99(7/21)
الْمُوَكِّل الاِنْفِرَادَ بِالتَّصَرُّفِ لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَبِهَذَا قَال الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ؛ لأَِنَّهُ مَأْذُونٌ لَهُ فِيهِ، فَإِنْ لَمْ يَجْعَل لَهُ الاِنْفِرَادَ، فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ بِهِ. (1)
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: يَجُوزُ لأَِحَدِ الْوَكِيلَيْنِ أَنْ يَنْفَرِدَ بِالتَّصَرُّفِ فِيمَا لاَ يَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى اجْتِمَاعِ رَأْيِهِمَا كَتَوْكِيل الْمُوَكِّل لَهَا فِي الْخُصُومَةِ، فَلاَ يُشْتَرَطُ اجْتِمَاعُهُمَا؛ لأَِنَّ اجْتِمَاعَهُمَا فِيهَا مُتَعَذَّرٌ لِلإِْفْضَاءِ إِلَى الشَّغَبِ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ، وَلاَ بُدَّ مِنْ صِيَانَتِهِ عَنِ الشَّغَبِ؛ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ فِيهِ إِظْهَارُ الْحَقِّ، وَلِهَذَا لَوْ خَاصَمَ أَحَدُهُمَا بِدُونِ الآْخَرِ جَازَ وَلَوْ لَمْ يَحْضُرِ الآْخَرُ عِنْدَ عَامَّةِ مَشَايِخِ الْحَنَفِيَّةِ. وَقَال بَعْضُهُمْ: يُشْتَرَطُ حُضُورُهُ أَثْنَاءَ مُخَاصَمَةِ الأَْوَّل، وَكَتَوْكِيلِهِ لَهُمَا بِطَلاَقِ زَوْجَتِهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، أَوْ بِعِتْقِ عَبْدِهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، أَوْ بِرَدِّ وَدِيعَةٍ عِنْدَهُ، أَوْ بِقَضَاءِ دَيْنٍ عَلَى الْمُوَكِّل؛ لأَِنَّ هَذِهِ الأَْشْيَاءَ أَدَاءُ الْوَكَالَةِ فِيهَا تَعْبِيرٌ مَحْضٌ لِكَلاَمِ الْمُوَكِّل، وَعِبَارَةُ الْمُثَنَّى وَالْوَاحِدِ سَوَاءٌ؛ لِعَدَمِ اخْتِلاَفِ الْمَعْنَى.
أَمَّا مَا يَحْتَاجُ إِلَى رَأْيٍ كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالتَّزْوِيجِ فَلاَ بُدَّ مِنَ اجْتِمَاعِهِمَا (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَجُوزُ لأَِحَدِ الْوَكِيلَيْنِ عَلَى مَالٍ وَنَحْوِهِ الاِنْفِرَادُ بِمَا يَفْعَلُهُ عَنْ مُوَكِّلِهِ، دُونَ إِطْلاَعِ الْوَكِيل الآْخَرِ، إِلاَّ لِشَرْطٍ مِنَ الْمُوَكِّل أَلاَّ يَسْتَبِدَّ أَيُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، أَوْ أَلاَّ يَسْتَبِدَّ فُلاَنٌ، فَحِينَئِذٍ لَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا الاِسْتِبْدَادُ، وَسَوَاءٌ فِيمَا ذُكِرَ إِنْ كَانَتْ وَكَالَتُهُمَا عَلَى التَّعَاقُبِ، عَلِمَ أَحَدُهُمَا بِالآْخَرِ أَمْ لاَ،
__________
(1) المهذب 1 / 358، وحواشي الشرواني على تحفة المحتاج بشرح المنهاج 5 / 342، وكشاف القناع 5 / 473، والمغني 5 / 96
(2) شرح فتح القدير 6 / 89 - 91، والهداية 3 / 148(7/22)
أَوْ وَكَّلاَ جَمِيعًا.
وَالْوَكِيل عَلَى مَالٍ كَأَنْ يَكُونَ وَكَّلَهُمَا عَلَى بَيْعٍ، أَوْ شِرَاءٍ، أَوْ قَضَاءِ دَيْنٍ، وَنَحْوُ الْمَال: كَطَلاَقٍ وَهِبَةٍ وَوَقْفٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ. (1) وَالتَّفْصِيل يَكُونُ فِي مُصْطَلَحِ: (وَكَالَةٌ) .
د - انْفِرَادُ أَحَدِ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلشُّفْعَةِ بِطَلَبِهَا:
10 - إِنْ كَانَ أَحَدُ الشُّفَعَاءِ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلشُّفْعَةِ حَاضِرًا أَوْ قَدِمَ مِنَ السَّفَرِ، وَكَانَ بَعْضُهُمْ غَائِبًا وَطَلَبَ الْحَاضِرُ الشُّفْعَةَ، فَلَيْسَ لَهُ إِلاَّ أَخْذُ الْكُل أَوْ تَرْكُهُ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَعْلَمِ الآْنَ مُطَالِبَ سِوَاهُ؛ وَلأَِنَّ فِي أَخْذِهِ الْبَعْضَ تَبْعِيضًا لِصَفْقَةِ الْمُشْتَرِي، وَلاَ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ، وَلاَ يُمْكِنُ تَأْخِيرُ حَقِّهِ إِلَى أَنْ يَقْدُمَ شُرَكَاؤُهُ لأَِنَّ فِي التَّأْخِيرِ إِضْرَارًا بِالْمُشْتَرِي.
وَإِنْ كَانَ الشُّفَعَاءُ كُلُّهُمْ غَائِبِينَ لَمْ تَسْقُطِ الشُّفْعَةُ لِمَوْضِعِ الْعُذْرِ. فَإِذَا أَخَذَ مَنْ حَضَرَ جَمِيعَ الشِّقْصِ الْمَشْفُوعِ، ثُمَّ حَضَرَ شَرِيكٌ آخَرُ قَاسَمَهُ إِنْ شَاءَ؛ لأَِنَّ الْمُطَالَبَةَ إِنَّمَا وُجِدَتْ مِنْهُمَا، وَإِنْ عَفَا بَقِيَ الشِّقْصُ لِلأَْوَّل. فَإِنْ قَاسَمَهُ ثُمَّ حَضَرَ الثَّالِثُ قَاسَمَهُمَا إِنْ أَحَبَّ الأَْخْذَ بِالشُّفْعَةِ، وَبَطَلَتِ الْقِسْمَةُ الأُْولَى؛ لأَِنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ لَهُمَا شَرِيكًا لَمْ يُقَاسِمْ وَلَمْ يَأْذَنْ، وَإِنْ عَفَا الثَّالِثُ عَنْ شُفْعَتِهِ بَقِيَ الشِّقْصُ لِلأَْوَّلَيْنِ؛ لأَِنَّهُ لاَ مُشَارِكَ لَهُمَا وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ. (2)
وَالتَّفْصِيل يَكُونُ فِي مُصْطَلَحِ: (شُفْعَةٌ) .
__________
(1) حاشية الدسوقي 3 / 392، وجواهر الإكليل 2 / 130
(2) رد المحتار على الدر المختار 5 / 141 وما بعدها، وحاشية الدسوقي 3 / 490، والمهذب 1 / 388، ونهاية المحتاج 5 / 212 - 213، والمغني لابن قدامة 5 / 367، وكشاف القناع 4 / 148(7/22)
هـ - انْفِرَادُ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ بِالتَّصَرُّفِ:
11 - إِذَا كَانَتِ الشَّرِكَةُ شَرِكَةَ مِلْكٍ، كَمَنْ وَرِثُوا دَارًا وَلَمْ يَقْسِمُوهَا، فَلَيْسَ لأَِحَدِ الشَّرِيكَيْنِ الاِنْفِرَادُ بِالتَّصَرُّفِ فِي جَمِيعِ الدَّارِ إِلاَّ بِالتَّرَاضِي، أَوْ بِالْمُهَايَأَةِ أَيِ اسْتِقْلاَل كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِالاِنْتِفَاعِ بِجَمِيعِهَا زَمَنًا مُحَدَّدًا وَهَكَذَا.
أَمَّا فِي شَرِكَاتِ الْعَقْدِ، فَفِي شَرِكَةِ الْعِنَانِ (1) يَجُوزُ لأَِحَدِ الشُّرَكَاءِ عِنْدَ الإِْطْلاَقِ أَنْ يَنْفَرِدَ بِالتَّصَرُّفِ بِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ؛ لأَِنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْوَكَالَةِ وَالأَْمَانَةِ؛ لأَِنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِدَفْعِ الْمَال إِلَى صَاحِبِهِ أَمِنَهُ، وَبِإِذْنِهِ لَهُ فِي التَّصَرُّفِ وَكَّلَهُ، وَمِنْ شُرُوطِ صِحَّتِهَا أَنْ يَأْذَنَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ فِي التَّصَرُّفِ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُ مُطْلَقًا فِي جَمِيعِ التِّجَارَاتِ تَصَرَّفَ فِيهَا، وَيَجُوزُ لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَبِيعَ وَيَشْتَرِيَ مُسَاوَمَةً، وَمُرَابَحَةً، وَتَوْلِيَةً، وَمُوَاضَعَةً، وَكَيْفَمَا رَأَى الْمَصْلَحَةَ؛ لأَِنَّ هَذَا عَادَةُ التُّجَّارِ، وَأَنْ يَقْبِضَ الْمَبِيعَ، وَالثَّمَنَ، وَيَقْبِضَهُمَا، وَيُخَاصِمَ فِي الدَّيْنِ وَيُطَالِبَ بِهِ، وَيُحِيل وَيَقْبَل الْحَوَالَةَ، وَيَرُدَّ بِالْعَيْبِ فِيمَا وَلِيَهُ هُوَ، وَفِيمَا وَلِيَ صَاحِبُهُ، وَأَنْ يَسْتَأْجِرَ مِنْ مَال الشَّرِكَةِ وَيُؤَجِّرَ، وَأَنْ يَفْعَل كُل مَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ أَمْثَالِهِ مِنَ التُّجَّارِ، إِذَا رَأَى فِيهِ مَصْلَحَةً؛ لِتَنَاوُل الإِْذْنِ لِذَلِكَ دُونَ التَّبَرُّعِ، وَالْحَطِيطَةِ، وَالْقَرْضِ، وَتَزْوِيجِهِ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ بِتِجَارَةٍ، وَإِنَّمَا فَوَّضَ
__________
(1) هي أن يشترك اثنان فأكثر بماليهما ليعملا فيه بينهما وربحه بينهما على حسب ما اشترطاه، أو يشترك اثنان فأكثر بماليهما على أن يعمل فيه أحدهما بشرط أن يكون للعامل من الربح أكثر من ربح ماله، ليكون الجزء الزائد في نظير عمله غي مال الشركة. حاشية الدسوقي 3 / 359 ونهاية المحتاج 5 / 4، وكشاف القناع 5 / 497، ورد المحتار 3 / 344(7/23)
إِلَيْهِ الْعَمَل بِرَأْيِهِ فِي التِّجَارَةِ. وَإِنْ عَيَّنَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ لِلآْخَرِ جِنْسًا، أَوْ نَوْعًا، أَوْ بَلَدًا، تَصَرَّفَ فِيهِ دُونَ غَيْرِهِ؛ لأَِنَّهُ مُتَصَرِّفٌ بِالإِْذْنِ فَوَقَفَ عَلَيْهِ. (1)
وَإِنْ أَذِنَ أَحَدُهُمَا وَلَمْ يَأْذَنِ الآْخَرُ تَصَرَّفَ الْمَأْذُونُ لَهُ فِي الْجَمِيعِ، وَلاَ يَتَصَرَّفُ الآْخَرُ إِلاَّ فِي نَصِيبِهِ، وَهَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. (2) وَالتَّفْصِيل يَكُونُ فِي مُصْطَلَحِ (شَرِكَةٌ)
وَ - انْفِرَادُ أَحَدِ الْوَصِيِّينَ أَوِ النَّاظِرَيْنِ بِالتَّصَرُّفِ:
12 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْمُوصِيَ إِذَا أَوْصَى لاِثْنَيْنِ مَعًا أَوْ عَلَى التَّعَاقُبِ، وَأَطْلَقَ أَوْ نَصَّ عَلَى وُجُوبِ اجْتِمَاعِهِمَا، فَلاَ يَجُوزُ لأَِحَدِهِمَا الاِنْفِرَادُ. أَمَّا إِذَا نَصَّ عَلَى جَوَازِ الاِنْفِرَادِ، فَلِكُلٍّ مِنْهُمَا أَنْ يَنْفَرِدَ بِالتَّصَرُّفِ، عَمَلاً بِقَوْل الْمُوصِي. وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ الاِنْفِرَادُ، وَلَوْ نَصَّ عَلَى الاِجْتِمَاعِ؛ لأَِنَّهُ مِنْ قَبِيل الْخِلاَفَةِ، وَالْخَلِيفَةُ يَنُوبُ عَنِ الْمُسْتَخْلِفِ فِي كُل مَا يَمْلِكُهُ، وَفِي الْمَسَائِل الَّتِي لاَ تَحْتَاجُ إِلَى تَبَادُل الرَّأْيِ كَرَدِّ الْوَدِيعَةِ، وَشِرَاءِ حَاجَاتِ الطِّفْل، وَشِرَاءِ كَفَنِ الْمَيِّتِ، وَرَدِّ الْمَغْصُوبِ، وَقَضَاءِ الدَّيْنِ، فَقَدْ صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِجَوَازِ انْفِرَادِ أَحَدِ الْوَصِيَّيْنِ بِالتَّصَرُّفِ فِيهَا.
هَذَا، وَإِنَّ أَحْكَامَ الْوَقْفِ مُسْتَقَاةٌ غَالِبًا مِنْ
__________
(1) شرح فتح القدير 5 / 402 - 404، ورد المحتار، 3 / 344، وحاشية الدسوقي 3 / 352، ونهاية المحتاج 5 / 4، والمغني لابن قدامة 5 / 21، 22، وكشاف القناع 5 / 947، 500، وما بعدها
(2) نهاية المحتاج 5 / 4، والمهذب 1 / 353، واللجنة ترى أن قواعد المذاهب الأخرى لا تأبى هذا البيان، لأن التصرف مبني على الإذن وليس هناك إذن(7/23)
أَحْكَامِ الْوَصِيَّةِ، وَمَا يَجْرِي عَلَى الْوَصِيِّينَ هُنَا يَجْرِي كَذَلِكَ عَلَى نُظَّارِ الْوَقْفِ. (1)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي (وَصِيَّةٌ، وَوَكَالَةٌ، وَالْوَقْفُ) .
ز - انْفِرَادُ الزَّوْجَةِ بِمَسْكَنٍ:
13 - لِلزَّوْجَةِ حَقُّ الاِنْفِرَادِ بِمَسْكَنٍ خَاصٍّ بِهَا لَهُ غَلْقٌ وَمَرَافِقُ، (2) وَلَوْ كَانَ فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ، وَتَسْكُنُ ضَرَّتُهَا فِي جُزْءٍ مُسْتَقِلٍّ مِنْهُ. وَكَذَلِكَ أَهْل زَوْجِهَا، وَلَيْسَ لِلزَّوْجَةِ أَنْ تَمْنَعَ طِفْل زَوْجِهَا غَيْرَ الْمُمَيِّزِ مِنَ السُّكْنَى مَعَهُمَا. وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ. (3)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الزَّوْجَةَ إِذَا اشْتَرَطَ عَلَيْهَا سُكْنَاهَا مَعَ أَقَارِبِ الزَّوْجِ أَوْ مَعَ ضَرَّتِهَا فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تُطَالِبَ بِسَكَنٍ مُنْفَرِدٍ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ مُسْتَوَاهَا الاِجْتِمَاعِيُّ يَسْمَحُ بِذَلِكَ. (4)
وَالشُّرُوطُ الْوَاجِبُ تَوَافُرُهَا فِي مَسْكَنِ الزَّوْجَةِ وَتَقْدِيرِ مُسْتَوَاهُ يَكُونُ فِي مُصْطَلَحِ: (بَيْتُ الطَّاعَةِ) (وَنَفَقَةٌ) .
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار 5 / 449، 450، والاختيار شرح المختار 5 / 67، وشرح الدردير وحاشية الدسوقي 4 / 88، 453، وجواهر الإكليل 2 / 208، والحطاب 6 / 33، 37، ونهاية المحتاج 6 / 107، وروضة الطالبين 5 / 348، والمغني 6 / 136، 142، وكشاف القناع 4 / 273
(2) مسكن الزوجة في اصطلاح الفقهاء: محل منفرد معين مختص بالزوجة ليس فيه ما يشاركها به أحد من أهل الدار له غلق يخصه ومرافق. انظر: رد المحتار 2 / 662، 663، والشرح الصغير 2 / 507 وما بعدها
(3) رد المحتار 2 / 662، 663، وشرح فتح القدير 4 / 207، ونهاية المحتاج 1 / 375، وشرح المنهاج 3 / 300 وما بعدها، وكشاف القناع 5 / 196 وما بعدها، والمغني لابن قدامة 7 / 26، 27
(4) الشرح الكبير حاشية الدسوقي 2 / 512، 513 بشيء من التصرف(7/24)
انْفِسَاخٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِنْفِسَاخُ: مَصْدَرُ انْفَسَخَ، وَهُوَ مُطَاوِعُ فَسَخَ، وَمِنْ مَعْنَاهُ: النَّقْضُ وَالزَّوَال. يُقَال: فَسَخْتُ الشَّيْءَ فَانْفَسَخَ أَيْ: نَقَضْتُهُ فَانْتَقَضَ، وَفَسَخْتُ الْعَقْدَ أَيْ: رَفَعْتُهُ. (1)
وَالاِنْفِسَاخُ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ: هُوَ انْحِلاَل الْعَقْدِ إِمَّا بِنَفْسِهِ، وَإِمَّا بِإِرَادَةِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، أَوْ بِإِرَادَةِ أَحَدِهِمَا. (2)
وَقَدْ يَكُونُ الاِنْفِسَاخُ أَثَرًا لِلْفَسْخِ، فَهُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى مُطَاوِعٌ لِلْفَسْخِ وَنَتِيجَةٌ لَهُ، كَمَا سَيَأْتِي فِي أَسْبَابِ الاِنْفِسَاخِ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الإِْقَالَةُ:
2 - الإِْقَالَةُ فِي اللُّغَةِ، عِبَارَةٌ عَنِ الرَّفْعِ، (3) وَفِي الشَّرْعِ: رَفْعُ الْعَقْدِ وَإِزَالَتُهُ بِرِضَا الطَّرَفَيْنِ، وَهَذَا الْقَدْرُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، لَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي اعْتِبَارِهَا فَسْخًا أَوْ عَقْدًا جَدِيدًا. (4)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (إِقَالَةٌ) .
__________
(1) المصباح المنير ولسان العرب مادة: (فسخ) .
(2) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 338، والأشباه للسيوطي ص 224، والقواعد لابن رجب ص 107، والفروق للقرافي 3 / 269
(3) المصباح المنير مادة: (قيل)
(4) الشرح الصغير للدردير 3 / 209، وقواعد ابن رجب ص 109، 379، والقليوبي 2 / 190، والبدائع 5 / 306، ومجلة الأحكام العدلية م 163، 191، 194.(7/24)
ب - الاِنْتِهَاءُ:
3 - انْتِهَاءُ الشَّيْءِ: بُلُوغُهُ أَقْصَى مَدَاهُ، وَانْتَهَى الأَْمْرُ: بَلَغَ النِّهَايَةَ. (1) وَانْتِهَاءُ الْعَقْدِ: مَعْنَاهُ بُلُوغُهُ نِهَايَتَهُ، وَهَذَا يَكُونُ بِتَمَامِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ كَالاِسْتِئْجَارِ لأَِدَاءِ عَمَلٍ فَأَتَمَّهُ الأَْجِيرُ، أَوِ الْقَضَاءُ مُدَّةَ الْعَقْدِ كَاسْتِئْجَارِ مَسْكَنٍ أَوْ أَرْضٍ لِمُدَّةٍ مَحْدُودَةٍ. وَقَدْ يُسْتَعْمَل فِي الْعُقُودِ الْمُسْتَمِرَّةِ كَانْتِهَاءِ عَقْدِ الزَّوَاجِ بِالْمَوْتِ أَوِ الطَّلاَقِ (2) .
وَعَلَى ذَلِكَ فَالْفَرْقُ بَيْنَ الاِنْفِسَاخِ وَالاِنْتِهَاءِ، أَنَّ الاِنْفِسَاخَ يُسْتَعْمَل فِي جَمِيعِ الْعُقُودِ، وَيَكُونُ فِي عُقُودِ الْمُدَّةِ قَبْل نِهَايَتِهَا أَيْضًا، بِخِلاَفِ الاِنْتِهَاءِ، وَبَعْضُهُمْ يَسْتَعْمِل الاِنْفِسَاخَ مَكَانَ الاِنْتِهَاءِ وَبِالْعَكْسِ. (3)
ج - الْبُطْلاَنُ:
4 - الْبُطْلاَنُ لُغَةً: فَسَادُ الشَّيْءِ وَزَوَالُهُ، وَيَأْتِي بِمَعْنَى: النَّقْضِ وَالسُّقُوطِ. (4) وَالْبُطْلاَنُ يَطْرَأُ عَلَى الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلاَتِ إِذَا وُجِدَ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِهِ، وَيُرَادِفُ الْفَسَادَ إِذَا اسْتُعْمِل فِي الْعِبَادَاتِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ إِلاَّ فِي الْحَجِّ. (5)
أَمَّا فِي الْعُقُودِ فَالْبَاطِل عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، هُوَ مَا لَمْ يَكُنْ مَشْرُوعًا لاَ بِأَصْلِهِ وَلاَ بِوَصْفِهِ، بِأَنْ فَقَدَ رُكْنًا مِنْ أَرْكَانِهِ، أَوْ وَرَدَ الْعَقْدُ عَلَى غَيْرِ مَحَلِّهِ،
__________
(1) المصباح المنير مادة: (نهى)
(2) البدائع 4 / 223
(3) البدائع 4 / 222 - 224
(4) المصباح المنير مادة: (بطل)
(5) الأشباه لابن نجيم ص 337.(7/25)
وَلاَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُكْمٌ مِنْ نَقْل الْمِلْكِيَّةِ أَوِ الضَّمَانِ أَوْ غَيْرِهِمَا.
وَعَلَى هَذَا يَخْتَلِفُ الاِنْفِسَاخُ عَن الْبُطْلاَنِ، بِأَنَّ الاِنْفِسَاخَ يَرِدُ عَلَى الْمُعَامَلاَتِ دُونَ الْعِبَادَاتِ، وَيُعْتَبَرُ الْعَقْدُ قَبْل الاِنْفِسَاخِ عَقْدًا مَوْجُودًا ذَا أَثَرٍ شَرْعِيٍّ، بِخِلاَفِ الْبُطْلاَنِ؛ لأَِنَّ الْعَقْدَ الْبَاطِل فِي اصْطِلاَحِ الْحَنَفِيَّةِ لاَ وُجُودَ لَهُ أَصْلاً، وَكَذَلِكَ عِنْدَ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ لاَ يُفَرِّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْفَاسِدِ. (1)
د - الْفَسَادُ:
5 - الْفَسَادُ نَقِيضُ الصَّلاَحِ، وَفَسَادُ الْعِبَادَةِ بُطْلاَنُهَا إِلاَّ فِي بَعْضِ مَسَائِل الْحَجِّ كَمَا سَبَقَ، وَالْفَاسِدُ مِنَ الْعُقُودِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هُوَ: مَا كَانَ مَشْرُوعًا بِأَصْلِهِ دُونَ وَصْفِهِ، وَأَمَّا عِنْدَ غَيْرِهِمْ فَيُطْلَقُ الْفَاسِدُ وَالْبَاطِل عَلَى كُل تَصَرُّفٍ غَيْرِ مَشْرُوعٍ، وَالْفَاسِدُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ قَدْ تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ بَعْضُ الأَْحْكَامِ، فَالْبَيْعُ الْفَاسِدُ عِنْدَهُمْ إِذَا اتَّصَل بِهِ الْقَبْضُ أَفَادَ الْمِلْكَ، وَلَكِنَّهُ مِلْكٌ خَبِيثٌ، يَجِبُ فَسْخُ الْعَقْدِ مَا دَامَتِ الْعَيْنُ قَائِمَةً، لِحَقِّ الشَّارِعِ. (2)
وَيُعْتَبَرُ الْعَقْدُ الْفَاسِدُ عَقْدًا مَوْجُودًا ذَا أَثَرٍ، لَكِنَّهُ عَقْدٌ غَيْرُ لاَزِمٍ، يَجِبُ شَرْعًا فَسْخُهُ رَفْعًا لِلْفَسَادِ (3) .
__________
(1) التعريفات للجرجاني ص 145، والزيلعي 4 / 44، 103، 5 / 143، والأشباه للسيوطي ص 233، وبلغة السالك 3 / 86، ونهاية المحتاج 5 / 313، 314
(2) التعريفات للجرجاني ص 143، والأشباه لابن نجيم ص 337
(3) البدائع 5 / 300، والزيلعي 4 / 44، 45، والقليوبي 1 / 186، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 233، ومجلة الأحكام العدلية م 109، 171، وبلغة السالك 3 / 86(7/25)
هـ - الْفَسْخُ:
6 - الْفَسْخُ: هُوَ حَل ارْتِبَاطِ الْعَقْدِ، وَهَذَا يَكُونُ بِإِرَادَةِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ أَوْ كِلَيْهِمَا، أَوْ بِحُكْمِ الْقَاضِي، فَهُوَ عَمَل الْمُتَعَاقِدَيْنِ غَالِبًا، أَوْ فِعْل الْحَاكِمِ فِي بَعْضِ الأَْحْوَال كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي مَوْضِعِهِ.
أَمَّا الاِنْفِسَاخُ: فَهُوَ انْحِلاَل ارْتِبَاطِ الْعَقْدِ، سَوَاءٌ أَكَانَ أَثَرًا لِلْفَسْخِ، أَوْ نَتِيجَةً لِعَوَامِل غَيْرِ اخْتِيَارِيَّةٍ. فَإِذَا كَانَ الاِنْحِلاَل أَثَرًا لِلْفَسْخِ كَانَتِ الْعَلاَقَةُ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالاِنْفِسَاخِ عَلاَقَةَ السَّبَبِ بِالْمُسَبَّبِ، كَمَا إِذَا فَسَخَ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ عَقْدَ الْبَيْعِ بِسَبَبِ الْعَيْبِ فِي الْمَبِيعِ مَثَلاً، فَالاِنْفِسَاخُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ نَتِيجَةُ الْفَسْخِ الَّذِي مَارَسَهُ الْعَاقِدُ اخْتِيَارًا. يَقُول الْقَرَافِيُّ: الْفَسْخُ قَلْبُ كُل وَاحِدٍ مِنَ الْعِوَضَيْنِ لِصَاحِبِهِ، وَالاِنْفِسَاخُ انْقِلاَبُ كُل وَاحِدٍ مِنَ الْعِوَضَيْنِ لِصَاحِبِهِ، فَالأَْوَّل فِعْل الْمُتَعَاقِدَيْنِ إِذَا ظَفِرُوا بِالْعُقُودِ الْمُحَرَّمَةِ، وَالثَّانِي صِفَةُ الْعِوَضَيْنِ، فَالأَْوَّل سَبَبٌ شَرْعِيٌّ، وَالثَّانِي حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، فَهَذَانِ فَرْعَانِ: فَالأَْوَّل مِنْ جِهَةِ الْمَوْضُوعَاتِ، وَالثَّانِي مِنْ جِهَةِ الأَْسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ. (1)
وَمِثْلُهُ مَا جَاءَ فِي الْمَنْثُورِ لِلزَّرْكَشِيِّ، إِلاَّ أَنَّهُ أَطْلَقَ وَلَمْ يُقَيِّدِ الْفَسْخَ بِالْعُقُودِ الْمُحَرَّمَةِ؛ لأَِنَّ الْفَسْخَ يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ فِي الْعُقُودِ غَيْرِ الْمُحَرَّمَةِ، وَذَلِكَ بِإِرَادَةِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ أَوْ كِلَيْهِمَا كَمَا هُوَ الْحَال غَالِبًا. (2)
أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنِ الاِنْفِسَاخُ أَثَرًا لِلْفَسْخِ، بَل نَتِيجَةً لِعَوَامِل خَارِجَةٍ عَنْ إِرَادَةِ الْعَاقِدَيْنِ، كَمَوْتِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ فِي الْعُقُودِ غَيْرِ اللاَّزِمَةِ مَثَلاً، فَلاَ يُوجَدُ بَيْنَ
__________
(1) الفروق للقرافي 3 / 269.
(2) المنثور للزركشي 3 / 42.(7/26)
الْفَسْخِ وَالاِنْفِسَاخِ عَلاَقَةُ السَّبَبِيَّةِ الَّتِي قَرَّرَهَا الْقَرَافِيُّ.
7 - وَمِنَ الأَْمْثِلَةِ الَّتِي قَرَّرَ الْفُقَهَاءُ فِيهَا انْفِسَاخَ الْعَقْدِ مِنْ غَيْرِ فَسْخٍ مَا يَأْتِي:
أ - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ تَلِفَتِ الْعَيْنُ الْمُسْتَأْجَرَةُ انْفَسَخَتِ الإِْجَارَةُ، كَمَا إِذَا تَلِفَتِ الدَّابَّةُ الْمُعَيَّنَةُ، أَوِ انْهَدَمَتِ الدَّارُ الْمُسْتَأْجَرَةُ. (1)
ب - لَوْ غُصِبَتِ الْعَيْنُ الْمُسْتَأْجَرَةُ مِنْ يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ سَقَطَ الأَْجْرُ لِزَوَال التَّمَكُّنِ مِنَ الاِنْتِفَاعِ، وَتَنْفَسِخُ الإِْجَارَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، لَكِنَّ الشَّافِعِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ قَالُوا: لاَ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِنَفْسِهِ، بَل يَثْبُتُ خِيَارُ الْفَسْخِ لِلْمُسْتَأْجِرِ. (2)
ج - إِذَا مَاتَ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ أَوْ كِلاَهُمَا فِي الْعُقُودِ غَيْرِ اللاَّزِمَةِ، (3) كَالْعَارِيَّةِ وَالْوَكَالَةِ انْفَسَخَ الْعَقْدُ.
د - يَنْفَسِخُ عَقْدُ الإِْجَارَةِ بِمَوْتِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ أَوْ كِلَيْهِمَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، خِلاَفًا لِلْجُمْهُورِ، وَكَذَلِكَ تَنْفَسِخُ الإِْجَارَةُ بِالأَْعْذَارِ (4) ، عَلَى خِلاَفٍ وَتَفْصِيلٍ يُذْكَرُ فِي أَسْبَابِ الاِنْفِسَاخِ.
وَسَوْفَ يَقْتَصِرُ الْكَلاَمُ فِي هَذَا الْبَحْثِ عَلَى الاِنْفِسَاخِ الَّذِي لاَ يَكُونُ أَثَرًا لِلْفَسْخِ. أَمَّا الاِنْفِسَاخُ الَّذِي هُوَ أَثَرٌ لِلْفَسْخِ فَيُرْجَعُ إِلَيْهِ تَحْتَ عُنْوَانِ (فَسْخٌ) .
__________
(1) ابن عابدين 5 / 52، والشرح الصغير 4 / 49، ونهاية المحتاج 5 / 300، 318، والإقناع لحل ألفاظ أبي شجاع ص 72، والمغني 6 / 25
(2) الزيلعي 5 / 108، وابن عابدين 5 / 8، والشرح الصغير 4 / 49، ونهاية المحتاج 5 / 318، والمغني 6 / 28 - 30
(3) العقود غير اللازمة هي ما للعاقد نسخه ولو لم يكن العاقد الآخر راضيا (الأشباه لابن نجيم ص 193)
(4) ابن عابدين 5 / 52، والشرح الصغير 4 / 49، ونهاية المحتاج 5 / 314، والمغني 6 / 42(7/26)
مَا يَرِدُ عَلَيْهِ الاِنْفِسَاخُ:
8 - مَحَل الاِنْفِسَاخِ الْعَقْدُ لاَ غَيْرُهُ، سَوَاءٌ أَكَانَ سَبَبُهُ الْفَسْخَ أَمْ غَيْرَهُ؛ لأَِنَّهُمْ عَرَّفُوا الاِنْفِسَاخَ بِانْحِلاَل ارْتِبَاطِ الْعَقْدِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لاَ يُتَصَوَّرُ إِلاَّ إِذَا كَانَ هُنَاكَ ارْتِبَاطٌ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ بِوَاسِطَةِ الْعَقْدِ. (1)
أَمَّا إِذَا أُرِيدَ مِنَ الاِنْفِسَاخِ الْبُطْلاَنُ وَالنَّقْضُ، فَيُمْكِنُ أَنْ يَرِدَ عَلَى التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي تَنْشَأُ عَنْ إِرَادَةٍ وَاحِدَةٍ، وَكَذَلِكَ الْعُهُودُ وَالْوُعُودُ، كَمَا يُسْتَعْمَل أَحْيَانًا فِي الْعِبَادَاتِ وَيَرِدُ عَلَى النِّيَّاتِ، كَانْفِسَاخِ نِيَّةِ صَلاَةِ الْفَرْضِ إِلَى النَّفْل، وَكَذَلِكَ انْفِسَاخُ الْحَجِّ بِالْعُمْرَةِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: إِذَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ فَصَرَفَهُ إِلَى الْعُمْرَةِ يَنْفَسِخُ الْحَجُّ إِلَى الْعُمْرَةِ.
وَخَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْجَدِيدِ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَفْسَخَ نِيَّةَ الْحَجِّ بَعْدَمَا أَحْرَمَ، وَيَقْطَعَ أَفْعَالَهُ، وَيَجْعَل إِحْرَامَهُ وَأَفْعَالَهُ لِلْعُمْرَةِ. (2)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (إِحْرَامٌ) .
أَسْبَابُ الاِنْفِسَاخِ:
9 - الاِنْفِسَاخُ لَهُ أَسْبَابٌ مُخْتَلِفَةٌ: مِنْهَا مَا هُوَ اخْتِيَارِيٌّ، وَهُوَ مَا يَأْتِي بِإِرَادَةِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ أَوْ بِإِرَادَةِ كِلَيْهِمَا أَوْ بِحُكْمِ الْقَاضِي، وَمِنْهَا مَا هُوَ سَمَاوِيٌّ وَهُوَ مَا يَأْتِي بِدُونِ إِرَادَةِ الْعَاقِدَيْنِ أَوِ الْقَاضِي، بَل بِعَوَامِل خَارِجَةٍ عَنِ الإِْرَادَةِ لاَ يُمْكِنُ اسْتِمْرَارُ الْعَقْدِ مَعَهَا.
__________
(1) المنثور للزركشي 3 / 45، والأشباه لابن نجيم ص 338
(2) ابن عابدين 2 / 172، والمغني 3 / 289، ولتفصيل جواز وعدم جواز انفساخ الحج للعمرة، وما ورد فيه من الأحاديث وأدلة المجوزين والمانعين راجع فتح القدير 3 / 365، 366(7/27)
يَقُول الْكَاسَانِيُّ: مَا يَنْفَسِخُ بِهِ الْعَقْدُ نَوْعَانِ: اخْتِيَارِيٌّ وَضَرُورِيٌّ، فَالاِخْتِيَارِيُّ هُوَ أَنْ يَقُول: فَسَخْتُ الْعَقْدَ أَوْ نَقَضْتُهُ وَنَحْوُهُ، وَالضَّرُورِيُّ: أَنْ يَهْلِكَ الْمَبِيعُ قَبْل الْقَبْضِ مَثَلاً. (1)
الأَْسْبَابُ الاِخْتِيَارِيَّةُ:
أَوَّلاً: الْفَسْخُ:
10 - الْمُرَادُ بِالْفَسْخِ هُنَا مَا يَرْفَعُ بِهِ حُكْمَ الْعَقْدِ بِإِرَادَةِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ أَوْ كِلَيْهِمَا، وَهَذَا يَكُونُ فِي الْعُقُودِ غَيْرِ اللاَّزِمَةِ بِطَبِيعَتِهَا، كَعَقْدَيِ الْعَارِيَّةِ وَالْوَكَالَةِ مَثَلاً، أَوْ مَا يَكُونُ فِيهِ أَحَدُ الْخِيَارَاتِ، أَوْ بِسَبَبِ الأَْعْذَارِ الَّتِي يَتَعَذَّرُ بِهَا اسْتِمْرَارُ الْعَقْدِ، أَوْ بِسَبَبِ الْفَسَادِ.
وَيُنْظَرُ حُكْمُ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي مُصْطَلَحَيْ: (إِقَالَةٌ وَفَسْخٌ) .
ثَانِيًا: الإِْقَالَةُ:
11 - الإِْقَالَةُ رَفْعُ الْعَقْدِ وَإِزَالَتُهُ بِرِضَى الطَّرَفَيْنِ (2) ، وَهِيَ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ الاِنْفِسَاخِ الاِخْتِيَارِيَّةِ، وَتَرِدُ عَلَى الْعُقُودِ اللاَّزِمَةِ، كَالْبَيْعِ وَالإِْجَارَةِ. أَمَّا إِذَا كَانَ الْعَقْدُ غَيْرَ لاَزِمٍ كَالْعَارِيَّةِ، أَوْ لاَزِمًا بِطَبِيعَتِهِ وَلَكِنْ فِيهِ أَحَدُ الْخِيَارَاتِ فَلاَ حَاجَةَ فِيهِ لِلإِْقَالَةِ؛ لِجَوَازِ فَسْخِهِ بِطَرِيقٍ أُخْرَى، كَمَا تَقَدَّمَ. (3)
وَيُنْظَرُ الْكَلاَمُ فِيهِ تَحْتَ عُنْوَانِ: (إِقَالَةٌ) .
__________
(1) البدائع 5 / 298.
(2) ابن عابدين 4 / 164، ومجلة الأحكام م 163.
(3) البدائع 5 / 306، والمنثور للزركشي 3 / 47.(7/27)
أَسْبَابُ الاِنْفِسَاخِ غَيْرُ الاِخْتِيَارِيَّةِ:
أَوَّلاً: تَلَفُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ:
تَلَفُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لَهُ أَثَرٌ فِي انْفِسَاخِ بَعْضِ الْعُقُودِ، وَالْعُقُودُ نَوْعَانِ:
12 - الأَْوَّل: الْعُقُودُ الْفَوْرِيَّةُ: وَهِيَ الَّتِي لاَ يَحْتَاجُ تَنْفِيذُهَا إِلَى زَمَنٍ مُمْتَدٍّ يَشْغَلُهُ بِاسْتِمْرَارٍ، بَل يَتِمُّ تَنْفِيذُهَا فَوْرًا دَفْعَةً وَاحِدَةً فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَخْتَارُهُ الْعَاقِدَانِ، كَالْبَيْعِ الْمُطْلَقِ وَالصُّلْحِ وَالْهِبَةِ وَغَيْرِهَا.
وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْعُقُودِ لاَ يَنْفَسِخُ بِتَلَفِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ إِذَا تَمَّ قَبْضُهُ. فَعَقْدُ الْبَيْعِ مَثَلاً يَتِمُّ بِالإِْيجَابِ وَالْقَبُول، وَإِذَا قَبَضَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ وَهَلَكَ بِيَدِهِ لاَ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ؛ لأَِنَّ الْهَالِكَ مِلْكُ الْمُشْتَرِي، وَالْمَالِكُ هُوَ الَّذِي يَتَحَمَّل تَبِعَةَ الْهَالِكِ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ. (1)
أَمَّا إِذَا هَلَكَ الْمَبِيعُ بَعْدَ الإِْيجَابِ وَالْقَبُول وَقَبْل الْقَبْضِ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ وَبَيَانٌ: فَقَدْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ - وَهُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ كَلاَمِ الْحَنَابِلَةِ - أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ مِمَّا فِيهِ حَقُّ تَوْفِيَةٍ لِمُشْتَرِيهِ، وَهُوَ الْمَال الْمِثْلِيُّ مِنْ مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ أَوْ مَعْدُودٍ، يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِالتَّلَفِ وَالضَّمَانِ عَلَى الْبَائِعِ. أَمَّا إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ مُعَيَّنًا وَكَانَ عَقَارًا، أَوْ مِنَ الأَْمْوَال الْقِيَمِيَّةِ الَّتِي لَيْسَ لِمُشْتَرِيهَا حَقُّ تَوْفِيَةٍ فَلاَ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِالتَّلَفِ، وَيَنْتَقِل الضَّمَانُ إِلَى الْمُشْتَرِي بِالْعَقْدِ الصَّحِيحِ اللاَّزِمِ. (2)
__________
(1) الشرح الصغير للدردير 3 / 195، والمغني 3 / 569، وتحفة الفقهاء للسمرقندي 5 / 54، والقليوبي 2 / 201، والإقناع لحل ألفاظ أبي شجاع ص 72.
(2) الشرح الصغير للدردير 3 / 195، 196، والمغني 3 / 569.(7/28)
وَأَطْلَقَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ الْقَوْل بِانْفِسَاخِ الْبَيْعِ إِذَا هَلَكَ الْمَبِيعُ قَبْل قَبْضِهِ. قَال السَّمَرْقَنْدِيُّ: وَلَوْ هَلَكَ الْمَبِيعُ قَبْل التَّسْلِيمِ فَالْهَلاَكُ يَكُونُ عَلَى الْبَائِعِ، يَعْنِي يَسْقُطُ الثَّمَنُ وَيَنْفَسِخُ الْعَقْدُ. (1) وَمِثْلُهُ مَا جَاءَ فِي الْقَلْيُوبِيِّ: الْمَبِيعُ قَبْل قَبْضِهِ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ، فَإِنْ تَلِفَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ انْفَسَخَ الْبَيْعُ وَسَقَطَ الثَّمَنُ عَنِ الْمُشْتَرِي. (2)
13 - وَهَذَا كُلُّهُ إِذَا تَلِفَ الْمَبِيعُ، أَمَّا إِذَا تَلِفَ الثَّمَنُ، فَإِنْ كَانَ مُعَيَّنًا دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ أَوْ غَيْرَهُمَا فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمَبِيعِ، لَوْ تَلِفَ انْفَسَخَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا هَلَكَ الثَّمَنُ قَبْل الْقَبْضِ فَإِنْ كَانَ مِثْلِيًّا لاَ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ؛ لأَِنَّهُ يُمْكِنُ تَسْلِيمُ مِثْلِهِ، بِخِلاَفِ الْمَبِيعِ؛ لأَِنَّهُ عَيْنٌ وَلِلنَّاسِ أَغْرَاضٌ فِي الأَْعْيَانِ. أَمَّا إِنْ هَلَكَ الثَّمَنُ وَلَيْسَ لَهُ مِثْلٌ فِي الْحَال فَفِيهِ خِلاَفٌ. وَلاَ أَثَرَ لِتَلَفِ الثَّمَنِ فِي الاِنْفِسَاخِ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَيْنًا بِأَنْ كَانَ نَقْدًا دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ مَقْصُودًا بِالْعَقْدِ (3) ؛ وَلأَِنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ لاَ تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فِي الْعَقْدِ.
هَذَا، وَأَمَّا إِتْلاَفُ الْمَبِيعِ قَبْل الْقَبْضِ إِنْ كَانَ مِنْ قِبَل الْبَائِعِ يَنْفَسِخُ بِهِ الْعَقْدُ بِلاَ خِلاَفٍ. وَإِنْ كَانَ مِنْ قِبَل الْمُشْتَرِي يُعْتَبَرُ قَبْضًا يُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَيْهِ. (4)
__________
(1) تحفة الفقهاء للسمرقندي الحنفي 2 / 56، انظر ابن عابدين 4 / 46.
(2) القليوبي 2 / 210، 211.
(3) القليوبي 2 / 13، وتحفة الفقهاء 2 / 54 - 56.
(4) القليوبي 2 / 211، وابن عابدين 4 / 46، والمغني 3 / 569.(7/28)
14 - الثَّانِي: الْعُقُودُ الْمُسْتَمِرَّةُ: وَهِيَ الَّتِي يَسْتَغْرِقُ تَنْفِيذُهَا مُدَّةً مِنَ الزَّمَنِ وَتَمْتَدُّ بِامْتِدَادِ الزَّمَنِ حَسَبَ الشُّرُوطِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ وَالَّتِي تَقْتَضِيهَا طَبِيعَةُ هَذِهِ الْعُقُودِ، كَالإِْجَارَةِ وَالإِْعَارَةِ وَالْوَكَالَةِ وَأَمْثَالِهَا.
وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْعُقُودِ يَنْفَسِخُ بِتَلَفِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ قَبْل الْقَبْضِ أَمْ بَعْدَهُ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي الْجُمْلَةِ.
فَعَقْدُ الإِْجَارَةِ مَثَلاً يَنْفَسِخُ بِهَلاَكِ الْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ. فَإِنْ تَلِفَتْ قَبْل الْقَبْضِ أَوْ عَقِيبَ الْقَبْضِ قَبْل مُضِيِّ مُدَّةٍ يَتَمَكَّنُ الْمُسْتَأْجِرُ مِنَ الاِنْتِفَاعِ بِهَا يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ مِنْ أَصْلِهِ وَيَسْقُطُ الأَْجْرُ. وَإِنْ تَلِفَتِ الْعَيْنُ الْمُسْتَأْجَرَةُ بَعْدَ مُضِيِّ شَيْءٍ مِنَ الْمُدَّةِ فَإِنَّ الإِْجَارَةَ تَنْفَسِخُ فِيمَا بَقِيَ مِنَ الْمُدَّةِ، دُونَ مَا مَضَى، وَيَكُونُ لِلْمُؤَجِّرِ مِنَ الأَْجْرِ بِقَدْرِ مَا اسْتَوْفَى مِنَ الْمَنْفَعَةِ أَوْ بِقَدْرِ مَا مَضَى مِنَ الْمُدَّةِ. (1)
وَفِي إِجَارَةِ الدَّوَابِّ صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ: أَنَّهُ إِذَا وَقَعَتِ الإِْجَارَةُ عَلَى دَوَابَّ بِعَيْنِهَا لِحَمْل الْمَتَاعِ، فَمَاتَتِ انْفَسَخَتِ الإِْجَارَةُ، بِخِلاَفِ مَا إِذَا وَقَعَتْ عَلَى دَوَابَّ لاَ بِعَيْنِهَا وَسَلَّمَ الأَْجْرَ إِلَيْهِ فَمَاتَتْ لاَ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ، وَعَلَى الْمُؤَجِّرِ أَنْ يَأْتِيَ بِغَيْرِ ذَلِكَ لِلْمُسْتَأْجِرِ. (2)
وَكَذَلِكَ إِذَا وَقَعَ عَلَى الْعَيْنِ مَا يَمْنَعُ نَفْعَهَا بِالْكُلِّيَّةِ، كَمَا لَوْ أَصْبَحَتِ الدَّارُ الْمُسْتَأْجَرَةُ غَيْرَ صَالِحَةٍ لِلسُّكْنَى عِنْدَ الْجُمْهُورِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ
__________
(1) المغني 5 / 453، والحطاب 4 / 432، والفتاوى الهندية 4 / 461، والقليوبي 3 / 84، والوجيز للغزالي 1 / 236.
(2) الفتاوى الهندية 4 / 461، والوجيز 1 / 236، والشرح الصغير للدردير 4 / 49.(7/29)
ظَاهِرُ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ) وَذَلِكَ لِزَوَال الاِسْمِ بِفَوَاتِ السُّكْنَى؛ لأَِنَّ الْمَنْفَعَةَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهَا تَلِفَتْ فَانْفَسَخَتِ الإِْجَارَةُ، كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا فَزَمِنَتْ (أَيْ مَرِضَتْ مَرَضًا مُزْمِنًا) بِحَيْثُ لاَ تَصْلُحُ إِلاَّ لِتَدُورَ فِي الرَّحَى.
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ مُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لاَ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ لَكِنْ لَهُ الْفَسْخُ؛ لأَِنَّ أَصْل الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لاَ يَفُوتُ؛ لأَِنَّ الاِنْتِفَاعَ بِالْعَرْصَةِ (وَهِيَ أَرْضُ الْمَبْنَى) مُمْكِنٌ بِدُونِ الْبِنَاءِ، إِلاَّ أَنَّهُ نَاقِصٌ، فَصَارَ كَالْعَيْبِ (1)
وَمِنَ الْعُقُودِ الْمُسْتَمِرَّةِ الَّتِي تَنْفَسِخُ بِتَلَفِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ عَقْدُ الشَّرِكَةِ وَعَقْدُ الْمُضَارَبَةِ، كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي مَوْضِعِهِمَا. وَكَذَلِكَ عَقْدُ الْعَارِيَّةِ بِتَلَفِ الْمُعَارِ، وَتَنْتَهِي الْوَكَالَةُ الْخَاصَّةُ بِفَوَاتِ مَحَل الْوَكَالَةِ، كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي مُصْطَلَحَيْ (إِعَارَةٌ، وَوَكَالَةٌ) .
أَمَّا إِذَا غُصِبَ الْمَحَل وَحِيل بَيْنَ الشَّخْصِ الْمُنْتَفِعِ وَالْعَيْنِ الْمُنْتَفَعِ بِهَا فَلاَ يَنْفَسِخُ بِهِ الْعَقْدُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ) بَل لِلْمُسْتَأْجِرِ حَقُّ الْفَسْخِ. وَقَال بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّ الْغَصْبَ أَيْضًا مُوجِبٌ لِلاِنْفِسَاخِ؛ لِزَوَال التَّمَكُّنِ مِنَ الاِنْتِفَاعِ، كَمَا سَيَأْتِي. (2)
__________
(1) البدائع 4 / 196، والاختيار 2 / 61، والشرح الصغير 4 / 50، والقليوبي 3 / 84، والمغني 5 / 454، 499.
(2) نهاية المحتاج 5 / 318، وابن عابدين 5 / 8، والشرح الصغير 4 / 49، 51، والمغني 5 / 454، 455، 6 / 28 - 30، والزيلعي 5 / 108.(7/29)
ثَانِيًا: مَوْتُ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ أَوْ كِلَيْهِمَا:
15 - لاَ يُؤَثِّرُ الْمَوْتُ فِي انْفِسَاخِ جَمِيعِ الْعُقُودِ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ، فَبَعْضُ الْعُقُودِ يَتِمُّ الْغَرَضُ مِنْهَا بَعْدَ الإِْيجَابِ وَالْقَبُول فَوْرًا، فَلاَ يَحْتَاجُ إِلَى الْعَاقِدَيْنِ وَأَهْلِيَّتِهِمَا بَعْدَ انْعِقَادِهَا، كَالْبَيْعِ الَّذِي يُفِيدُ تَمَلُّكَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ، وَتَمَلُّكَ الْبَائِعَ الثَّمَنَ فَوْرَ إِنْشَائِهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ مَقْرُونًا بِالْخِيَارِ فَإِذَا مَاتَ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ أَوْ كِلاَهُمَا بَعْدَ إِتْمَامِ الْعَقْدِ وَانْتِقَال مِلْكِيَّةِ الْبَدَلَيْنِ لاَ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ وَعَلَى عَكْسِ ذَلِكَ يَنْتَهِي عَقْدُ النِّكَاحِ بِمَوْتِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ؛ لأَِنَّ الْغَرَضَ مِنْهُ دَوَامُ الْعِشْرَةِ وَقَدْ زَال بِالْمَوْتِ.
وَهَذَا مِمَّا اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَيْهِ، وَهُنَاكَ عُقُودٌ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي انْفِسَاخِهَا بِالْمَوْتِ، كَعَقْدِ الإِْجَارَةِ وَالْمُزَارَعَةِ وَالْمُسَاقَاةِ، وَعُقُودٌ أُخْرَى اتَّفَقُوا عَلَى انْفِسَاخِهَا بِالْمَوْتِ فِي الْجُمْلَةِ وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي تَكْيِيفِ انْفِسَاخِهَا وَتَعْلِيلِهِ، كَعُقُودِ الْعَارِيَّةِ الْوَدِيعَةِ وَالشَّرِكَةِ، (1) وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي:
أ - انْفِسَاخُ الْعُقُودِ اللاَّزِمَةِ:
16 - الْعُقُودُ اللاَّزِمَةُ هُوَ مَا لاَ يَسْتَبِدُّ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ بِفَسْخِهَا، كَالْبَيْعِ وَالإِْجَارَةِ وَالصُّلْحِ وَنَحْوِهَا.
وَبَعْضُ هَذِهِ الْعُقُودِ لاَ يَحْتَاجُ إِلَى امْتِدَادِ الزَّمَنِ، فَلاَ أَثَرَ لِلْمَوْتِ فِي انْفِسَاخِهَا بَعْدَ تَمَامِهَا، كَعَقْدِ الْبَيْعِ، فَإِنَّهُ لاَ يَنْفَسِخُ بِوَفَاةِ الْبَائِعِ أَوِ الْمُشْتَرِي بَعْدَ مَا تَمَّ الْعَقْدُ بَيْنَهُمَا، وَيَقُومُ الْوَرَثَةُ مَقَامَ الْمُوَرِّثِ فِيمَا نَشَأَ مِنْ آثَارِ الْعَقْدِ.
وَهُنَاكَ نَوْعٌ آخَرُ مِنَ الْعُقُودِ اللاَّزِمَةِ يَتَوَقَّفُ آثَارُهَا
__________
(1) مسلم الثبوت 1 / 175، والتوضيح مع التلويح 2 / 178.(7/30)
عَلَى مُرُورِ الزَّمَنِ، كَعَقْدِ الإِْجَارَةِ، وَفِي انْفِسَاخِ عَقْدِ الإِْجَارَةِ بِمَوْتِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ أَوْ كِلَيْهِمَا خِلاَفٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ:
فَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) عَلَى أَنَّ عَقْدَ الإِْجَارَةِ لاَ يَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الْعَاقِدَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا، بَل تَبْقَى إِلَى انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ؛ لأَِنَّهَا عَقْدٌ لاَزِمٌ، فَلاَ يَنْفَسِخُ بِالْمَوْتِ، كَعَقْدِ الْبَيْعِ. وَيَخْلُفُ الْمُسْتَأْجَرَ وَارِثُهُ فِي اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ. وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ مَعَ خِلاَفٍ بَيْنَهُمْ فِي بَعْضِ الْفُرُوعِ سَيَأْتِي ذِكْرُهُ. (1)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الإِْجَارَةَ تَنْفَسِخُ بِمَوْتِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ إِنْ عَقَدَهَا لِنَفْسِهِ؛ لأَِنَّهَا عَقْدٌ عَلَى الْمَنْفَعَةِ وَهِيَ تَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا، فَتَنْعَقِدُ الإِْجَارَةُ بِحُدُوثِهَا شَيْئًا فَشَيْئًا، فَلاَ تَبْقَى بِدُونِ الْعَاقِدِ. وَإِنْ عَقَدَهَا لِغَيْرِهِ لَمْ تَنْفَسِخْ كَالْوَصِيِّ وَالْوَلِيِّ وَقَيِّمِ الْوَقْفِ؛ وَلأَِنَّ مَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ الْمَوْتُ إِنْ كَانَ هُوَ الْمُؤَجِّرَ فَالْعَقْدُ يَقْتَضِي اسْتِيفَاءَ الْمَنَافِعِ مِنْ مِلْكِهِ، وَلَوْ بَقِيَ بَعْدَ مَوْتِهِ لاَسْتُوفِيَتِ الْمَنَافِعُ مِنْ مِلْكِ غَيْرِهِ، وَهَذَا خِلاَفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ، وَإِنْ كَانَ هُوَ الْمُسْتَأْجِرَ فَالْعَقْدُ يَقْتَضِي اسْتِحْقَاقَ الأُْجْرَةِ مِنْ مَالِهِ، وَلَوْ بَقِيَ الْعَقْدُ بَعْدَ مَوْتِهِ لاَسْتَحَقَّتِ الأُْجْرَةَ مِنْ مَال غَيْرِهِ، وَهَذَا خِلاَفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ. بِخِلاَفِ مَا إِذَا مَاتَ مَنْ لَمْ يَقَعْ لَهُ الْعَقْدُ كَالْوَكِيل وَنَحْوِهِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَقْتَضِي اسْتِحْقَاقَ الْمَنَافِعِ وَلاَ اسْتِحْقَاقَ الأُْجْرَةِ مِنْ مِلْكِهِ، فَإِبْقَاءُ الْعَقْدِ بَعْدَ مَوْتِهِ لاَ يُوجِبُ تَغْيِيرَ مُوجِبِ الْعَقْدِ. (2)
__________
(1) الإقناع لحل ألفاظ أبي شجاع 2 / 72، وبلغة السالك 4 / 50، والمغني 5 / 467 - 468.
(2) الاختيار 2 / 61، والبدائع 4 / 222.(7/30)
4 وَأَصْل الْخِلاَفِ 4 يَرْجِعُ إِلَى تَكْيِيفِ الإِْجَارَةِ فِي نَقْل الْمَنَافِعِ. فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الإِْجَارَةَ إِذَا تَمَّتْ وَكَانَتْ عَلَى مُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ مَلَكَ الْمُسْتَأْجِرُ الْمَنَافِعَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهَا إِلَى الْمُدَّةِ، وَيَكُونُ حُدُوثُهَا عَلَى مِلْكِهِ. وَكَذَلِكَ الْمُؤَجِّرُ يَمْلِكُ الأُْجْرَةَ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِذَا لَمْ يُشْتَرَطْ فِيهَا التَّأْجِيل، كَمَا يَمْلِكُ الْبَائِعُ الثَّمَنَ بِالْبَيْعِ. فَإِذَا مَاتَ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ بَعْدَ تَمَامِ الْعَقْدِ وَقَبْل انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ يَقُومُ الْوَرَثَةُ مَقَامَ الْمُتَوَفَّى وَلاَ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ. (1)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فِي الإِْجَارَةِ الْمَنْفَعَةُ، وَالأُْجْرَةُ تُسْتَحَقُّ بِاسْتِيفَائِهَا أَوْ بِاشْتِرَاطِ التَّعْجِيل. وَلاَ يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْمَنْفَعَةِ لَدَى الْعَقْدِ؛ لأَِنَّهَا تَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَهِيَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، فَتَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ فَلاَ تَجِبُ الأُْجْرَةُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ، فَإِذَا اسْتَوْفَى الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ اسْتَحَقَّ الأُْجْرَةَ عَمَلاً بِالْمُسَاوَاةِ. (2)
وَقَوْل الْجُمْهُورِ بِعَدَمِ انْفِسَاخِ عَقْدِ الإِْجَارَةِ بِمَوْتِ الْعَاقِدَيْنِ لاَ يَعْنِي أَنَّهُمْ يُخَالِفُونَ فِي الاِنْفِسَاخِ فِي جَمِيعِ الْحَالاَتِ. فَقَدْ صَرَّحُوا: أَنَّ عَقْدَ الإِْجَارَةِ يَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الأَْجِيرِ الْمُعَيَّنِ، وَبِمَوْتِ الْمُرْضِعَةِ، وَمَوْتِ الصَّبِيِّ الْمُسْتَأْجِرِ لِتَعْلِيمِهِ وَعَلَى رَضَاعِهِ. وَقَدْ نُقِل عَنِ الشَّافِعِيَّةِ فِي مَوْتِ الصَّبِيِّ الْمُتَعَلِّمِ أَوِ الْمُرْتَضِعِ قَوْلٌ آخَرُ بِعَدَمِ الاِنْفِسَاخِ. (3)
__________
(1) المغني 5 / 442 - 443، والشرح الصغير 4 / 49، 50، والقليوبي 3 / 84.
(2) الاختيار 2 / 55.
(3) الحطاب 4 / 432، والمغني 5 / 499، والإقناع لحل ألفاظ أبي شجاع 2 / 72، والمهذب 1 / 412 - 413، والوجيز للغزالي 1 / 239.(7/31)
ب - الاِنْفِسَاخُ بِالْمَوْتِ فِي الْعُقُودِ غَيْرِ اللاَّزِمَةِ:
17 - الْعُقُودُ غَيْرُ اللاَّزِمَةِ (الْجَائِزَةُ) هِيَ مَا يَسْتَبِدُّ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ بِفَسْخِهَا كَالْعَارِيَّةِ وَالْوَكَالَةِ وَالشَّرِكَةِ الْوَدِيعَةِ وَنَحْوِهَا.
وَهَذِهِ الْعُقُودُ تَنْفَسِخُ بِوَفَاةِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ أَوْ كِلَيْهِمَا؛ لأَِنَّهَا عُقُودٌ جَائِزَةٌ يَجُوزُ لِكُل وَاحِدٍ مِنَ الطَّرَفَيْنِ فَسْخُهَا فِي حَيَاتِهِ، فَإِذَا مَا تُوُفِّيَ فَقَدْ ذَهَبَتْ إِرَادَتُهُ، وَانْتَهَتْ رَغْبَتُهُ، فَبَطَلَتْ آثَارُ هَذِهِ الْعُقُودِ الَّتِي كَانَتْ تَسْتَمِرُّ بِاسْتِمْرَارِ إِرَادَةِ الْعَاقِدَيْنِ، وَهَذَا الْحُكْمُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي الْجُمْلَةِ.
فَعَقْدُ الإِْعَارَةِ يَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الْمُعِيرِ أَوِ الْمُسْتَعِيرِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) ؛ لأَِنَّهَا عَقْدٌ عَلَى الْمَنَافِعِ، وَهِيَ تَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا، فَيَتَجَدَّدُ الْعَقْدُ حَسَبَ حُدُوثِ الْمَنَافِعِ، وَلاَ يُمْكِنُ ذَلِكَ بَعْدَ وَفَاةِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ، كَمَا عَلَّلَهُ الْحَنَفِيَّةُ؛ (1) وَلأَِنَّ الْعَارِيَّةَ إِبَاحَةُ الْمَنَافِعِ، وَهِيَ تَحْتَاجُ إِلَى الإِْذْنِ، وَقَدْ بَطَل بِالْمَوْتِ، فَانْفَسَخَتِ الإِْعَارَةُ، كَمَا عَلَّلَهُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ. (2)
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَالْعَارِيَّةُ عِنْدَهُمْ عَقْدٌ لاَزِمٌ، إِذَا كَانَتْ مُقَيَّدَةً بِأَجَلٍ أَوْ عَمَلٍ، فَلاَ تَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الْمُعِيرِ أَوِ الْمُسْتَعِيرِ، وَتَدُومُ إِلَى أَنْ تَتِمَّ الْمُدَّةُ، أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْعَارِيَّةُ مُطْلَقَةً فَفِي انْفِسَاخِهَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ رِوَايَتَانِ ظَاهِرُهُمَا عَدَمُ الاِنْفِسَاخِ إِلَى الْعَمَل أَوِ الزَّمَنِ الْمُعْتَادِ. (3)
وَكَذَلِكَ عَقْدُ الْوَكَالَةِ يَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الْوَكِيل أَوِ الْمُوَكِّل عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ؛ لأَِنَّهَا عَقْدٌ جَائِزٌ يَنْفَسِخُ
__________
(1) الزيلعي 5 / 84، وابن عابدين 4 / 507.
(2) نهاية المحتاج 5 / 130، والمغني 5 / 225.
(3) المدونة 15 / 167، وجواهر الإكليل 2 / 146.(7/31)
بِالْعَزْل، وَالْمَوْتُ فِي حُكْمِ عَزْل الْوَكِيل. وَإِذَا مَاتَ الْوَكِيل زَالَتْ أَهْلِيَّتُهُ لِلتَّصَرُّفِ، وَإِذَا مَاتَ الْمُوَكِّل زَالَتْ صَلاَحِيَّتُهُ بِتَفْوِيضِ الأَْمْرِ إِلَى الْوَكِيل فَتَبْطُل الْوَكَالَةُ.
هَذَا وَلاَ يَشْتَرِطُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ فِي انْفِسَاخِ الْوَكَالَةِ عِلْمَ الْوَكِيل بِمَوْتِ الْمُوَكِّل. وَاشْتَرَطَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ (وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ) عِلْمَ الْوَكِيل بِمَوْتِ الْمُوَكِّل فِي انْفِسَاخِ الْوَكَالَةِ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ رُشْدٍ. (1)
وَهَكَذَا الْحُكْمُ فِي سَائِرِ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ كَعَقْدِ الشَّرِكَةِ، الْوَدِيعَةِ وَغَيْرِهِمَا تَنْفَسِخُ بِمَوْتِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ عَلَى تَفْصِيلٍ فِي بَعْضِ الْفُرُوعِ يُرْجَعُ إِلَيْهَا فِي مَوَاضِعِهَا.
هَذَا، وَهُنَاكَ عُقُودٌ أُخْرَى تُعْتَبَرُ لاَزِمَةً مِنْ جَانِبِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ، جَائِزَةً مِنْ جَانِبِ الْعَاقِدِ الآْخَرِ، كَعَقْدِ الْكَفَالَةِ، فَهِيَ لاَزِمَةٌ مِنْ نَاحِيَةِ الْكَفِيل الَّذِي لاَ يَسْتَبِدُّ بِفَسْخِهَا، دُونَ إِذْنِ الْمَكْفُول لَهُ، لَكِنَّهَا جَائِزَةٌ مِنْ جَانِبِ الْمَكْفُول لَهُ يَسْتَبِدُّ بِفَسْخِهَا. وَكَعَقْدِ الرَّهْنِ، فَهُوَ لاَزِمٌ مِنْ قِبَل الرَّاهِنِ، جَائِزٌ مِنْ قِبَل الْمُرْتَهِنِ الَّذِي يَسْتَطِيعُ فَسْخَهُ بِدُونِ إِذْنِ الرَّاهِنِ.
وَفِيمَا يَلِي أَثَرُ الْمَوْتِ فِي انْفِسَاخِ هَذَيْنِ الْعَقْدَيْنِ:
أَثَرُ الْمَوْتِ فِي انْفِسَاخِ عَقْدِ الْكَفَالَةِ:
18 - مَوْتُ الْكَفِيل أَوِ الْمَكْفُول لاَ تَنْفَسِخُ بِهِ الْكَفَالَةُ، وَلاَ يَمْنَعُ مُطَالَبَةَ الْمَكْفُول لَهُ بِالدَّيْنِ، فَإِذَا مَاتَ الْكَفِيل أَوِ الْمَكْفُول يَحِل الدَّيْنُ الْمُؤَجَّل عَلَى
__________
(1) الوجيز للغزالي 1 / 187 - 225، والقليوبي 3 / 59، وابن عابدين 4 / 417، وبداية المجتهد 2 / 273، والمغني 5 / 123، ونهاية المحتاج 5 / 55، والقوانين الفقهية لابن جزي ص 216.(7/32)
الْمَيِّتِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ) وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، تُحَصِّل الدَّيْنَ مِنْ تَرِكَةِ الْمُتَوَفَّى، وَلَوْ مَاتَا خُيِّرَ الطَّالِبُ فِي أَخْذِهِ مِنْ أَيِّ التَّرِكَتَيْنِ. وَلَوْ مَاتَ الْمَكْفُول لَهُ يَحِل الْوَرَثَةُ مَحَلَّهُ فِي الْمُطَالَبَةِ.
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لاَ يَحِل الدَّيْنُ الْمُؤَجَّل بِمَوْتِ الْكَفِيل أَوِ الْمَكْفُول، وَيَبْقَى مُؤَجَّلاً كَمَا هُوَ.
أَثَرُ الْمَوْتِ فِي انْفِسَاخِ عَقْدِ الرَّهْنِ:
19 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ عَقْدَ الرَّهْنِ لاَ يَنْفَسِخُ بِمَوْتِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ بَعْدَ قَبْضِ الْمَرْهُونِ، فَإِذَا مَاتَ الرَّاهِنُ أَوِ الْمُرْهِنُ يَقُومُ الْوَرَثَةُ مَقَامَ الْمُتَوَفَّى، وَتَبْقَى الْعَيْنُ الْمَرْهُونَةُ تَحْتَ يَدِ الْمُرْتَهِنِ أَوْ وَرَثَتِهِ، وَلاَ سَبِيل إِلَى خَلاَصِ الرَّهْنِ إِلاَّ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ أَوْ إِبْرَاءِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ. وَالْمُرْتَهِنُ أَحَقُّ بِالرَّهْنِ وَبِثَمَنِهِ إِنْ بِيعَ فِي حَيَاةِ الرَّاهِنِ أَوْ بَعْدَ وَفَاتِهِ. (1)
وَعَقْدُ الرَّهْنِ قَبْل قَبْضِ الْمَرْهُونِ عَقْدٌ غَيْرُ لاَزِمٍ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) وَكَانَ الْمَفْرُوضُ أَنْ يَنْفَسِخَ بِمَوْتِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ كَسَائِرِ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ، إِلاَّ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي انْفِسَاخِهِ قَبْل الْقَبْضِ:
فَقَال الْحَنَابِلَةُ - وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - لاَ يَنْفَسِخُ بِمَوْتِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ. فَإِنْ مَاتَ الْمُرْتَهِنُ قَامَ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 234، والبدائع 6 / 145، ومختصر الطحاوي ص 95، والمدونة 5 / 309، والقليوبي 2 / 273، 275، والمغني 4 / 447، 448.(7/32)
وَارِثُهُ مَقَامَهُ فِي الْقَبْضِ، لَكِنْ إِنْ مَاتَ الرَّاهِنُ لَمْ يَلْزَمْ وَرَثَتَهُ الإِْقْبَاضُ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: وَهِيَ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - إِنَّ عَقْدَ الرَّهْنِ يَنْفَسِخُ بِمَوْتِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ قَبْل الْقَبْضِ؛ لأَِنَّهُ عَقْدٌ جَائِزٌ. (1) أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَصَرَّحُوا بِأَنَّ الرَّهْنَ يَلْزَمُ بِالْعَقْدِ، وَيُجْبَرُ الرَّاهِنُ عَلَى التَّسْلِيمِ، إِلاَّ أَنْ يَتَرَاخَى الْمُرْتَهِنُ عَنِ الْمُطَالَبَةِ، وَعَلَى ذَلِكَ فَلاَ يَنْفَسِخُ بِوَفَاةِ الْمُرْتَهِنِ، وَيَقُومُ وَرَثَتُهُ مَقَامَ مُوَرِّثِهِمْ فِي مُطَالَبَةِ الْمَدِينِ وَقَبْضِ الْمَرْهُونِ، لَكِنَّهُمْ نَصُّوا عَلَى أَنَّ الرَّهْنَ يَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الرَّاهِنِ وَفَلْسِهِ قَبْل حَوْزِهِ وَلَوْ جَدَّ فِيهِ. (2)
أَثَرُ تَغَيُّرِ الأَْهْلِيَّةِ فِي انْفِسَاخِ الْعُقُودِ:
20 - الأَْهْلِيَّةُ: صَلاَحِيَّةُ الإِْنْسَانِ لِوُجُوبِ الْحُقُوقِ لَهُ وَعَلَيْهِ، وَلِصُدُورِ الْفِعْل مِنْهُ عَلَى وَجْهٍ يُعْتَدُّ بِهِ شَرْعًا (3) . وَتَعْرِضُ لِلأَْهْلِيَّةِ أُمُورٌ تُغَيِّرُهَا وَتُحَدِّدُهَا فَتَتَغَيَّرُ بِهَا الأَْحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ، كَمَا سَيَأْتِي فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
وَتَغَيُّرُ الأَْهْلِيَّةِ بِمَا يَعْرِضُ مِنْ بَعْضِ الْعَوَارِضِ، كَالْجُنُونِ أَوِ الإِْغْمَاءِ أَوِ الاِرْتِدَادِ وَنَحْوِهَا، لَهُ أَثَرٌ فِي انْفِسَاخِ بَعْضِ الْعُقُودِ، فَقَدْ صَرَّحَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) أَنَّ الْعُقُودَ الْجَائِزَةَ: مِثْل الْمُضَارَبَةِ، وَالشَّرِكَةِ، وَالْوَكَالَةِ، الْوَدِيعَةِ، وَالْعَارِيَّةِ، تَنْفَسِخُ بِجُنُونِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ أَوْ كِلَيْهِمَا (4) .
__________
(1) ابن عابدين 5 / 308، والمغني 4 / 365، ونهاية المحتاج 4 / 251.
(2) بداية المجتهد 2 / 274، والشرح الصغير 3 / 316.
(3) التلويح والتوضيح 2 / 161، 162.
(4) ابن عابدين 3 / 351 و 4 / 417، والبدائع 6 / 38، والوجيز 1 / 187، 225، وقليوبي 3 / 59، 181، ونهاية المحتاج 5 / 55، والمغني 5 / 124، 133، ومطالب أولي النهى 3 / 453.(7/33)
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَعَقْدُ الْمُضَارَبَةِ عِنْدَهُمْ عَقْدٌ لاَزِمٌ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الْعَمَل وَلِهَذَا يُورَثُ، وَكَذَلِكَ عَقْدُ الْعَارِيَّةِ إِذَا كَانَتْ مُقَيَّدَةً بِأَجَلٍ أَوْ عَمَلٍ، فَلاَ يَنْفَسِخَانِ بِالْجُنُونِ.
أَمَّا فِي عَقْدِ الْوَكَالَةِ فَقَدْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ جُنُونَ الْوَكِيل لاَ يُوجِبُ عَزْلَهُ إِنْ بَرِأَ، وَكَذَا جُنُونُ الْمُوَكِّل وَإِنْ لَمْ يَبْرَأْ، فَإِنْ طَال نَظَرَ السُّلْطَانُ فِي أَمْرِهِ.
وَيُفْهَمُ مِنْ ذَلِكَ حُكْمُ الشَّرِكَةِ؛ لأَِنَّ الشَّرِيكَ يُعْتَبَرُ وَكِيلاً عَنْ صَاحِبِهِ فِي تَصَرُّفَاتِهِ الَّتِي يَقُومُ بِهَا عَنْهُ، وَكِلاَهُمَا مِنَ الْعُقُودِ غَيْرِ اللاَّزِمَةِ (الْجَائِزَةِ) . (1)
أَمَّا الْعُقُودُ اللاَّزِمَةُ كَالْبَيْعِ وَالإِْجَارَةِ، فَلاَ تَنْفَسِخُ بِالْجُنُونِ بَعْدَ تَمَامِهَا عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ. حَتَّى إِنَّ الْحَنَفِيَّةَ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِانْفِسَاخِ الإِْجَارَةِ بِالْمَوْتِ؛ لأَِنَّهَا عَقْدٌ عَلَى الْمَنَافِعِ - وَهِيَ تَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا - صَرَّحُوا بِعَدَمِ انْفِسَاخِهَا بِالْجُنُونِ، فَفِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: الإِْجَارَةُ لاَ تَنْفَسِخُ بِجُنُونِ الآْجِرِ أَوِ الْمُسْتَأْجِرِ وَلاَ بِارْتِدَادِهِمَا، وَإِذَا ارْتَدَّ الآْجِرُ أَوِ الْمُسْتَأْجِرُ فِي مُدَّةِ الإِْجَارَةِ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ وَقَضَى الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ بَطَلَتِ الإِْجَارَةُ، وَإِنْ عَادَ مُسْلِمًا إِلَى دَارِ الإِْسْلاَمِ فِي مُدَّةِ الإِْجَارَةِ عَادَتِ الإِْجَارَةُ. (2)
وَلَعَل دَلِيل التَّفْرِقَةِ بَيْنَ انْفِسَاخِ الإِْجَارَةِ بِالْمَوْتِ وَعَدَمِ انْفِسَاخِهَا بِالْجُنُونِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هُوَ أَنَّ الْمَوْتَ سَبَبُ نَقْل الْمِلْكِيَّةِ، فَلَوْ أَبْقَيْنَا الْعَقْدَ لاَسْتُوفِيَتِ
__________
(1) بداية المجتهد 2 / 237، 253، 297، ومنح الجليل 3 / 392.
(2) الفتاوى الهندية 4 / 463، وانظر ابن عابدين 5 / 52.(7/33)
الْمَنَافِعُ أَوِ الأُْجْرَةُ مِنْ مِلْكِ الْغَيْرِ (الْوَرَثَةُ) وَهَذَا خِلاَفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ، بِخِلاَفِ الْجُنُونِ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ سَبَبًا لاِنْتِقَال الْمِلْكِيَّةِ، فَبَقَاءُ الإِْجَارَةِ لأَِنَّ اسْتِيفَاءَ الْمَنَافِعِ وَالأُْجْرَةِ مِنْ مِلْكِ الْعَاقِدَيْنِ. (1)
21 - وَمِنَ الْعُقُودِ اللاَّزِمَةِ الَّتِي لاَ تَنْفَسِخُ تِلْقَائِيًّا بِالْجُنُونِ عَقْدُ النِّكَاحِ، لَكِنَّهُ يُعْتَبَرُ عَيْبًا يَثْبُتُ بِهِ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْعَقْدِ فِي الْجُمْلَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) ر (نِكَاحٌ. فَسْخٌ) .
22 - وَرِدَّةُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ مُوجِبَةٌ لاِنْفِسَاخِ عَقْدِ النِّكَاحِ عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ. بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى: {لاَ هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} (2) ، وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَلاَ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} . (3)
فَإِذَا ارْتَدَّ أَحَدُهُمَا وَكَانَ ذَلِكَ قَبْل الدُّخُول انْفَسَخَ النِّكَاحُ فِي الْحَال وَلَمْ يَرِثْ أَحَدُهُمَا الآْخَرَ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُول قَال الشَّافِعِيَّةُ - وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - حِيل بَيْنَهُمَا إِلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَإِنْ رَجَعَ إِلَى الإِْسْلاَمِ قَبْل أَنْ تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ فَالْعِصْمَةُ بَاقِيَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَرْجِعْ إِلَى الإِْسْلاَمِ انْفَسَخَ النِّكَاحُ بِلاَ طَلاَقٍ. (4) وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِنَّ ارْتِدَادَ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ فَسْخٌ عَاجِلٌ بِلاَ قَضَاءٍ فَلاَ يُنْقِصُ عَدَدَ الطَّلاَقِ، سَوَاءٌ أَكَانَ قَبْل الدُّخُول أَمْ بَعْدَهُ. (5) وَقَال الْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ قَوْل مُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إِذَا ارْتَدَّ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ انْفَسَخَ النِّكَاحُ
__________
(1) البدائع 4 / 222.
(2) سورة الممتحنة / 10.
(3) سورة الممتحنة / 10.
(4) الأم 2 / 48، والمغني 6 / 298، 639.
(5) ابن عابدين 2 / 393، 394، والمغني 6 / 298.(7/34)
بِطَلاَقٍ بَائِنٍ. (1)
أَمَّا إِذَا أَسْلَمَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ وَتَخَلَّفَ الآْخَرُ - مَا لَمْ يَكُنِ الْمُتَخَلِّفُ زَوْجَةً كِتَابِيَّةً - حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّةُ الْمَرْأَةِ انْفَسَخَ النِّكَاحُ فِي قَوْل الْجُمْهُورِ، سَوَاءٌ أَكَانَا بِدَارِ الإِْسْلاَمِ أَمْ بِدَارِ الْحَرْبِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْمُتَخَلِّفُ عَنِ الإِْسْلاَمِ بِدَارِ الْحَرْبِ فَالْحُكْمُ كَذَلِكَ، أَمَّا إِنْ كَانَ بِدَارِ الإِْسْلاَمِ فَلاَ بُدَّ مِنْ عَرْضِ الإِْسْلاَمِ عَلَيْهِ، فَإِنْ أَسْلَمَ وَإِلاَّ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا.
وَهَل يُعْتَبَرُ هَذَا الاِنْفِسَاخُ طَلاَقًا أَمْ لاَ؟ اخْتَلَفُوا فِيهِ: فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ - إِذَا امْتَنَعَ الزَّوْجُ عَنِ الإِْسْلاَمِ يُعْتَبَرُ هَذَا التَّفْرِيقُ طَلاَقًا يُنْقِصُ الْعَدَدَ، بِخِلاَفِ مَا إِذَا امْتَنَعَتِ الْمَرْأَةُ عَنِ الإِْسْلاَمِ حَيْثُ يُعْتَبَرُ التَّفْرِيقُ فَسْخًا؛ لأَِنَّهَا لاَ تَمْلِكُ الطَّلاَقَ.
وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ (الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ) إِلَى أَنَّهُ فَسْخٌ لاَ طَلاَقٌ فِي كِلْتَا الْحَالَتَيْنِ. (2)
أَثَرُ تَعَذُّرِ أَوْ تَعَسُّرِ تَنْفِيذِ الْعَقْدِ:
23 - الْمُرَادُ بِذَلِكَ صُعُوبَةُ دَوَامِ الْعَقْدِ (3) ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ التَّلَفِ، فَيَشْمَل الضَّيَاعَ وَالْمَرَضَ وَالْغَصْبَ وَغَيْرَ ذَلِكَ. (4)
وَهَذَا يَكُونُ بِأُمُورٍ، مِنْهَا هَلاَكُ مَحَل الْعَقْدِ، وَقَدْ
__________
(1) الدسوقي 2 / 270، وابن عابدين 2 / 392.
(2) ابن عابدين 2 / 389، والمغني 6 / 614، 617، والدسوقي 2 / 270، والأم 5 / 45، 48.
(3) لسان العرب مادة (عذر) .
(4) الشرح الصغير 4 / 49، والبدائع 4 / 200.(7/34)
تَقَدَّمَ الْكَلاَمُ عَلَيْهِ، وَمِنْهَا الاِسْتِحْقَاقُ وَبَيَانُهُ فِيمَا يَلِي:
أَثَرُ الاِسْتِحْقَاقِ فِي الاِنْفِسَاخِ:
24 - الاِسْتِحْقَاقُ: ظُهُورُ كَوْنِ الشَّيْءِ حَقًّا وَاجِبًا لِلْغَيْرِ، (1) فَإِذَا بِيعَ أَوِ اسْتُؤْجِرَ شَيْءٌ ثُمَّ ظَهَرَ بِالْبَيِّنَةِ أَنَّهُ حَقٌّ لِغَيْرِ الْبَائِعِ أَوِ الْمُؤَجِّرِ فَهَل يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ؟ .
صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْحُكْمَ بِالاِسْتِحْقَاقِ لاَ يُوجِبُ فَسْخَ الْعَقْدِ، بَل يُوجِبُ تَوَقُّفَهُ عَلَى إِجَازَةِ الْمُسْتَحِقِّ. فَإِذَا لَمْ يُجِزِ الْمُسْتَحِقُّ الْعَقْدَ، أَوْ رَجَعَ الْمُشْتَرِي عَلَى بَائِعِهِ بِالثَّمَنِ، أَوْ طَلَبَ الْمُشْتَرِي مِنَ الْقَاضِي أَنْ يَحْكُمَ عَلَى الْبَائِعِ بِدَفْعِ الثَّمَنِ، فَحَكَمَ لَهُ بِذَلِكَ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ فَيَأْخُذُ الْمُسْتَحِقُّ الْمَبِيعَ، وَيَسْتَرِدُّ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ مِنَ الْبَائِعِ. (2)
وَانْفِسَاخُ الْبَيْعِ بِاسْتِحْقَاقِ الْمَبِيعِ هُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ. (3)
هَذَا إِذَا كَانَ الاِسْتِحْقَاقُ قَدْ ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ اتِّفَاقًا، وَكَذَلِكَ إِذَا ثَبَتَ بِإِقْرَارِ الْمُشْتَرِي، أَوْ نُكُولِهِ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ.
وَهَذَا إِذَا اسْتَحَقَّ كُل الْمَبِيعِ. أَمَّا إِذَا اسْتَحَقَّ بَعْضَ الْمَبِيعِ، فَقِيل: يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ فِي الْكُل، وَقِيل: يَنْفَسِخُ فِي الْجُزْءِ الْمُسْتَحَقِّ فَقَطْ، وَقِيل: يُخَيَّرُ الْمُشْتَرِي بَيْنَ فَسْخِ الْعَقْدِ فِي الْجَمِيعِ وَبَيْنَ فَسْخِهِ فِي الْبَعْضِ الْمُسْتَحَقِّ. وَبَعْضُهُمْ فَصَلُوا بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ الْجُزْءُ الْمُسْتَحَقُّ مُعَيَّنًا أَوْ مُشَاعًا. (4)
__________
(1) القوانين الفقهية لابن جزي ص 219، وابن عابدين 4 / 342.
(2) ابن عابدين 4 / 191.
(3) القواعد لابن رجب ص 383، والمغني 4 / 598، وبداية المجتهد 2 / 325، والمهذب 1 / 295، وأسنى المطالب 2 / 350.
(4) ابن عابدين 4 / 200، 201، والمغني لابن قدامة 4 / 598، والأم للشافعي 3 / 222، والدسوقي على الشرح الكبير 3 / 135، 469.(7/35)
هَذَا، وَلِلاِسْتِحْقَاقِ أَثَرٌ فِي انْفِسَاخِ عَقْدِ الإِْجَارَةِ وَالرَّهْنِ وَالْهِبَةِ وَعَقْدِ الْمُسَاقَاةِ وَغَيْرِهَا مِمَّا فَصَّلَهُ الْفُقَهَاءُ فِي مَوَاضِعِهِ. وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (اسْتِحْقَاقٌ) .
ثَالِثًا - الْغَصْبُ:
25 - غَصْبُ مَحَل الْعَقْدِ يُوجِبُ الاِنْفِسَاخَ فِي بَعْضِ الْعُقُودِ، فَفِي عَقْدِ الإِْجَارَةِ مَثَلاً صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ: أَنْ لَوْ غُصِبَتِ الْعَيْنُ الْمُسْتَأْجَرَةُ مِنْ يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ سَقَطَ الأَْجْرُ كُلُّهُ فِيمَا إِذَا غُصِبَتْ فِي جَمِيعِ الْمُدَّةِ. وَإِنْ غُصِبَتْ فِي بَعْضِهَا سَقَطَ بِحِسَابِهَا لِزَوَال التَّمَكُّنِ مِنَ الاِنْتِفَاعِ. وَتَنْفَسِخُ الإِْجَارَةُ بِالْغَصْبِ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، خِلاَفًا لِقَاضِي خَانْ. فَلَوْ زَال الْغَصْبُ قَبْل نِهَايَةِ الْمُدَّةِ لاَ تَعُودُ الإِْجَارَةُ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَتَعُودُ عَلَى قَوْل قَاضِي خَانْ فَيَسْتَوْفِي بَاقِيَ الْمُدَّةِ. (1)
وَأَلْحَقَ الْمَالِكِيَّةُ الْغَصْبَ بِتَلَفِ الْمَحَل فَحَكَمُوا بِانْفِسَاخِ الْعَقْدِ بِهِ. فَقَدْ صَرَّحُوا أَنَّ الإِْجَارَةَ تَنْفَسِخُ بِتَعَذُّرِ مَا يَسْتَوْفِي مِنَ الْمَنْفَعَةِ، وَالتَّعَذُّرُ أَعَمُّ مِنَ التَّلَفِ، فَيَشْمَل الضَّيَاعَ وَالْمَرَضَ وَالْغَصْبَ وَغَلْقَ الْحَوَانِيتِ قَهْرًا وَغَيْرَ ذَلِكَ. (2)
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَقَالُوا: إِنْ غُصِبَتِ الْعَيْنُ الْمُسْتَأْجَرَةُ فَلِلْمُسْتَأْجِرِ الْفَسْخُ؛ لأَِنَّ فِيهِ تَأْخِيرَ حَقِّهِ، فَإِنْ فَسَخَ فَالْحُكْمُ فِيهِ كَمَا لَوِ انْفَسَخَ، وَإِنْ لَمْ يَفْسَخْ حَتَّى انْقَضَتْ مُدَّةُ الإِْجَارَةِ فَلَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالرُّجُوعِ بِالْمُسَمَّى، وَبَيْنَ الْبَقَاءِ عَلَى الْعَقْدِ وَمُطَالَبَةِ الْغَاصِبِ بِأَجْرِ الْمِثْل. (3)
__________
(1) الزيلعي 5 / 108، وابن عابدين 5 / 8، والفتاوى الهندية 4 / 437.
(2) الشرح الصغير للدردير 4 / 49.
(3) نهاية المحتاج 5 / 318، والمغني 5 / 417، 453، والقليوبي 3 / 85.(7/35)
وَلِمَعْرِفَةِ تَأْثِيرِ الْغَصْبِ فِي انْفِسَاخِ الْعُقُودِ الأُْخْرَى يَرْجِعُ إِلَى هَذِهِ الْعُقُودِ وَإِلَى مُصْطَلَحِ (غَصْبٌ) .
26 - هَذَا وَهُنَاكَ أَنْوَاعٌ أُخْرَى مِنَ التَّعَذُّرِ تُوجِبُ انْفِسَاخَ الْعَقْدِ، أَوْ تُعْطِي لِلْعَاقِدِ خِيَارَ الْفَسْخِ، مِنْهَا مَا يَلِي:
أَوَّلاً: عَجْزُ الْعَاقِدِ عَنِ الْمُضِيِّ فِي مُوجِبِ الْعَقْدِ شَرْعًا، بِأَنْ كَانَ الْمُضِيُّ فِيهِ حَرَامًا، كَمَا إِذَا اسْتَأْجَرَ شَخْصًا عَلَى قَلْعِ الضِّرْسِ إِذَا اشْتَكَتْ ثُمَّ سَكَنَتْ، أَوْ عَلَى قَطْعِ الْيَدِ الْمُتَآكِلَةِ إِذَا بَرَأَتْ، أَوِ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ إِذَا سَقَطَ بِالْعَفْوِ، فَفِي هَذِهِ الْحَالاَتِ تَنْفَسِخُ الإِْجَارَةُ بِنَفْسِهَا. (1)
ثَانِيًا: تَضَمُّنُ الضَّرَرِ بِأَنْ كَانَ الْمُضِيُّ فِي مُوجِبِ الْعَقْدِ غَيْرَ مُمْكِنٍ إِلاَّ بِتَحَمُّل ضَرَرٍ زَائِدٍ لَمْ يَسْتَحِقَّ بِالْعَقْدِ، كَمَا إِذَا اسْتَأْجَرَ الطَّبَّاخَ لِلْوَلِيمَةِ ثُمَّ خَالَعَ الْمَرْأَةَ، أَوِ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيُسَافِرَ عَلَيْهَا فَفَاتَهُ وَقْتُ الْحَجِّ أَوْ مَرِضَ، أَوِ اسْتَأْجَرَ ظِئْرًا فَحَبِلَتْ، فَفِي هَذِهِ الصُّوَرِ وَأَمْثَالِهَا اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ بَيْنَ قَائِلٍ بِانْفِسَاخِ الْعَقْدِ بِنَفْسِهِ، وَقَائِلٍ بِاسْتِحْقَاقِ الْمُسْتَأْجِرِ الْخِيَارَ فِي الْفَسْخِ. (2)
ثَالِثًا: زَوَال الْمَنْفَعَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهَا، كَدَارٍ انْهَدَمَتْ وَأَرْضٍ غَرِقَتْ وَانْقَطَعَ مَاؤُهَا. فَهَذِهِ الصُّوَرُ إِنْ لَمْ يَبْقَ فِيهَا نَفْعٌ أَصْلاً فَهِيَ كَالتَّالِفَةِ يَنْفَسِخُ بِهَا الْعَقْدُ، كَمَا سَبَقَ. وَإِنْ بَقِيَ فِيهَا نَفْعٌ غَيْرَ مَا اسْتَأْجَرَهَا لَهُ، مِثْل أَنْ يُمْكِنَهُ الاِنْتِفَاعُ بِعَرْصَةِ الدَّارِ، وَالأَْرْضِ بِوَضْعِ حَطَبٍ فِيهَا، أَوْ نَصْبِ خَيْمَةٍ
__________
(1) البدائع 4 / 200، والحطاب 4 / 433، ونهاية المحتاج 5 / 312، والوجيز 1 / 239، والمغني 5 / 469.
(2) الزيلعي 5 / 145، 146، والبدائع 4 / 200، والحطاب 4 / 433، والقليوبي 3 / 84، والمغني 5 / 448.(7/36)
فِي أَرْضٍ اسْتَأْجَرَهَا لِلزِّرَاعَةِ، انْفَسَخَ الْعَقْدُ فِيهِمَا عِنْدَ الْبَعْضِ لِزَوَال الاِسْمِ؛ وَلأَِنَّ الْمَنْفَعَةَ الَّتِي وَقَعَ عَلَيْهَا الْعَقْدُ تَلِفَتْ، وَلاَ تَنْفَسِخُ عِنْدَ الآْخَرِينَ؛ لأَِنَّ الْمَنْفَعَةَ لَمْ تَبْطُل جُمْلَةً، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ نَقَصَ نَفْعُهَا مَعَ بَقَائِهَا. فَعَلَى هَذَا يُخَيَّرُ الْمُسْتَأْجَرُ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالإِْمْضَاءِ. (1)
الاِنْفِسَاخُ فِي الْجُزْءِ وَأَثَرُهُ فِي الْكُل:
27 - انْفِسَاخُ الْعَقْدِ فِي جُزْءٍ مِنَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بِسَبَبٍ مِنَ الأَْسْبَابِ يُؤَدِّي فِي بَعْضِ الأَْحْوَال إِلَى الاِنْفِسَاخِ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ كُلِّهِ. وَهَذَا إِنْ لَمْ يَكُنِ الْجُزْءُ الَّذِي يَنْفَسِخُ فِيهِ الْعَقْدُ قَدْ قُدِّرَ نَصِيبُهُ مِنَ الْعِوَضِ، أَوْ كَانَ فِي تَجْزِئَةِ الْعَقْدِ ضَرَرٌ بَيِّنٌ لأَِحَدِ الْعَاقِدَيْنِ، أَوْ يَجْمَعُ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ بَيْنَ مَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَمَا لاَ يَجُوزُ، وَهَذَا مَا يُعَبِّرُ عَنْهُ الْفُقَهَاءُ بِتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ.
فَإِذَا جَمَعَ فِي الْعَقْدِ مَا يَجُوزُ عَلَيْهِ وَمَا لاَ يَجُوزُ يَبْطُل فِيمَا لاَ يَجُوزُ بِغَيْرِ خِلاَفٍ. وَهَل يَبْطُل فِي الْبَاقِي، يَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلاَفِ الْعُقُودِ، وَإِمْكَانِ التَّجْزِئَةِ وَالاِجْتِنَابِ عَنْ إِلْحَاقِ الضَّرَرِ بِأَحَدِ الطَّرَفَيْنِ. وَفِي ذَلِكَ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ: (تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ) .
28 - وَمِنْ هَذَا الْقَبِيل مَا ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ مِنَ الْمَسَائِل الآْتِيَةِ:
أ - إِنْ وَقَعَ الْعَقْدُ عَلَى مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ فَتَلِفَ بَعْضُهُ قَبْل قَبْضِهِ لَمْ يَنْفَسِخِ الْعَقْدُ فِي الْبَاقِي، وَيَأْخُذُ
__________
(1) البدائع 5 / 196، والزيلعي 5 / 145، 146، والمغني 5 / 454، والشرح الصغير 4 / 49، والحطاب 4 / 433.(7/36)
الْمُشْتَرِي الْبَاقِيَ بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ؛ لأَِنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ صَحِيحًا، فَذَهَابُ بَعْضِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لاَ يَفْسَخُهُ؛ لإِِمْكَانِ تَبْعِيضِهِ مَعَ عَدَمِ إِلْحَاقِ الضَّرَرِ بِأَحَدِ الْجَانِبَيْنِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ. (1)
ب - وَفِي الْقَوَاعِدِ لاِبْنِ رَجَبٍ الْحَنْبَلِيِّ أَنَّهُ: إِذَا طَرَأَ مَا يَقْتَضِي تَحْرِيمَ إِحْدَى الْمَرْأَتَيْنِ بِعَيْنِهَا، كَرِدَّةٍ وَرَضَاعٍ اخْتَصَّتْ بِانْفِسَاخِ النِّكَاحِ وَحْدَهَا بِغَيْرِ خِلاَفٍ. وَإِنْ طَرَأَ مَا يَقْتَضِي تَحْرِيمَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لإِِحْدَاهُمَا مَزِيَّةٌ، بِأَنْ صَارَتَا أُمًّا وَبِنْتًا بِالاِرْتِضَاعِ، فَفِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ: أَصَحُّهُمَا يَخْتَصُّ الاِنْفِسَاخُ بِالأُْمِّ وَحْدَهَا إِذَا لَمْ يَدْخُل بِهِمَا؛ لأَِنَّ الاِسْتِدَامَةَ أَقْوَى مِنَ الاِبْتِدَاءِ، فَهُوَ كَمَنْ أَسْلَمَ عَلَى أُمٍّ وَبِنْتٍ لَمْ يَدْخُل بِهِمَا، فَإِنَّهُ يَثْبُتُ نِكَاحُ الْبِنْتِ دُونَ الأُْمِّ. (2)
ج - سَبَقَ أَنَّ مَذْهَبَ الْحَنَفِيَّةِ انْفِسَاخُ عَقْدِ الإِْجَارَةِ بِمَوْتِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ أَوْ كِلَيْهِمَا. فَإِذَا أَجَّرَ رَجُلاَنِ دَارًا مِنْ رَجُلٍ ثُمَّ مَاتَ أَحَدُ الْمُؤَجَّرَيْنِ فَإِنَّ الإِْجَارَةَ تَبْطُل (تَنْفَسِخُ) فِي نَصِيبِهِ فَقَطْ، وَتَبْقَى بِالنِّسْبَةِ لِنَصِيبِ الْحَيِّ عَلَى حَالِهَا. وَكَذَا إِذَا مَاتَ أَحَدُ الْمُسْتَأْجَرِينَ. وَلَوِ اسْتَأْجَرَ دَارَيْنِ فَسَقَطَتْ إِحْدَاهُمَا فَلَهُ أَنْ يَتْرُكَهُمَا؛ لأَِنَّ الْعَقْدَ عَلَيْهِمَا صَفْقَةً وَاحِدَةً، وَقَدْ تَفَرَّقَتْ، فَيَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ. (3)
د - لَوْ بَاعَ دَابَّتَيْنِ فَتَلِفَتْ إِحْدَاهُمَا قَبْل قَبْضِهَا انْفَسَخَ الْبَيْعُ فِيمَا تَلِفَ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ. أَمَّا فِيمَا لَمْ يَتْلَفْ فَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ لاَ يَنْفَسِخُ وَإِنْ لَمْ يَقْبِضْ، بَل يَتَخَيَّرُ الْمُشْتَرِي بَيْنَ
__________
(1) ابن عابدين 4 / 201، والمغني 4 / 263.
(2) القواعد لابن رجب ص 424.
(3) البدائع 4 / 197، 222.(7/37)
الْفَسْخِ وَالإِْجَازَةِ، فَإِنْ أَجَازَهُ فَبِحِصَّتِهِ مِنَ الْمُسَمَّى، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، وَيَنْفَسِخُ فِي الْجَمِيعِ عِنْدَهُمْ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ. (1)
هـ - لَوِ اسْتَحَقَّ بَعْضَ الْمَبِيعِ انْفَسَخَ الْعَقْدُ كُلُّهُ فِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ إِذَا كَانَ الْجُزْءُ الْمُسْتَحَقُّ هُوَ الأَْكْثَرُ وَيَنْفَسِخُ الْعَقْدُ فِي الْجُزْءِ الْمُسْتَحَقِّ وَحْدَهُ فِي قَوْلٍ آخَرَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ إِذَا كَانَ الاِسْتِحْقَاقُ بَعْدَ الْقَبْضِ وَكَانَ الْمَبِيعُ مِمَّا لاَ يَضُرُّ تَبْعِيضُهُ، كَمَا إِذَا اشْتَرَى ثَوْبَيْنِ فَاسْتَحَقَّ أَحَدَهُمَا.
وَذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى ثُبُوتِ الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي بَيْنَ الْفَسْخِ فِي الْكُل وَبَيْنَ الإِْمْضَاءِ فِي الْبَاقِي (2) عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (اسْتِحْقَاقٌ) .
آثَارُ الاِنْفِسَاخِ:
29 - آثَارُ الاِنْفِسَاخِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الْعُقُودِ وَاخْتِلاَفِ أَسْبَابِ الاِنْفِسَاخِ، وَطَبِيعَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَهَل هُوَ بَاقٍ عَلَى حَالِهِ أَمْ طَرَأَ عَلَيْهِ التَّغْيِيرُ مِنَ الزِّيَادَةِ أَوِ النُّقْصَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَلاَ تَجْمَعُهَا قَوَاعِدُ كُلِّيَّةٌ وَأَحْكَامٌ شَامِلَةٌ؟ .
وَمَا أَجْمَلَهُ الْفُقَهَاءُ مِنْ بَعْضِ الآْثَارِ فِي أَنْوَاعٍ
__________
(1) القليوبي 1 / 188، والمنثور للزركشي 1 / 407، وكشف الأسرار للبزدوي 1 / 316.
(2) المغني 4 / 598، والأم للشافعي 3 / 224، وابن عابدين 4 / 201، وفتح القدير 5 / 513، والدسوقي 3 / 135، وتهذيب الفروق بهامش الفروق للقرافي 4 / 63.(7/37)
خَاصَّةٍ مِنَ الْعُقُودِ، لاَ يَخْلُو عَنِ اسْتِثْنَاءَاتٍ حَسَبَ طَبِيعَةِ هَذِهِ الْعُقُودِ وَمَا يُؤَثِّرُ عَلَى انْفِسَاخِهَا مِنْ عَوَامِل، وَفِيمَا يَلِي تَفْصِيل بَعْضِ هَذِهِ الآْثَارِ.
أَوَّلاً: إِعَادَةُ الطَّرَفَيْنِ إِلَى مَا قَبْل الْعَقْدِ:
أ - فِي الْعُقُودِ الْفَوْرِيَّةِ:
30 - ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ فِي أَكْثَرَ مِنْ مَوْضِعٍ أَنَّ الاِنْفِسَاخَ يَجْعَل الْعَقْدَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ. (1)
وَهَذَا صَحِيحٌ فِي الْجُمْلَةِ فِي الْعُقُودِ الْفَوْرِيَّةِ (الَّتِي لاَ تَتَعَلَّقُ بِمُدَّةٍ) فَعَقْدُ الْبَيْعِ مَثَلاً إِذَا انْفَسَخَ بِسَبَبِ هَلاَكِ الْمَبِيعِ قَبْل الْقَبْضِ يَرْفَعُ الْعَقْدَ مِنَ الأَْصْل وَيَكُونُ كَأَنْ لَمْ يَبِعْهُ أَصْلاً، فَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ إِذَا سَلَّمَهُ إِيَّاهُ؛ لأَِنَّ الضَّمَانَ قَبْل قَبْضِ الْمَبِيعِ يَكُونُ عَلَى الْبَائِعِ عَلَى تَفْصِيلٍ بَيْنَ الْمَنْقُول وَالْعَقَارِ كَمَا تَقَدَّمَ. (2)
ب - فِي الْعُقُودِ الْمُسْتَمِرَّةِ:
31 - أَمَّا الاِنْفِسَاخُ فِي الْعُقُودِ الْمُسْتَمِرَّةِ (الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالْمُدَّةِ) فَإِنَّهُ يَرْفَعُ الْعَقْدَ مِنْ حِينِهِ قَطْعًا، لاَ مِنْ أَصْلِهِ. فَفِي عَقْدِ الإِْجَارَةِ مَثَلاً، صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ - الأَْجِيرَ الْمُعَيَّنَ وَالدَّابَّةَ الْمُعَيَّنَةَ - إِذَا تَلِفَ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ فِي الزَّمَانِ الْمُسْتَقْبَل لاَ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي، فَيَلْزَمُهُ أُجْرَةُ مَا مَضَى بِحِسَابِهِ، وَمَا لَمْ يَحْصُل فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ فِيهِ. (3)
__________
(1) الزيلعي 4 / 37، والبدائع 4 / 196.
(2) الشرح الصغير 3 / 195، 196، والمغني 3 / 569، وابن عابدين 4 / 46، والقليوبي 2 / 210، 211.
(3) البدائع 4 / 179، والشرح الصغير 4 / 49، 50، ونهاية المحتاج 5 / 313، 314، والمغني 5 / 453، والفتاوى الهندية 4 / 461، والقواعد لابن رجب ص 47.(7/38)
وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي عُقُودِ الْعَارِيَّةِ وَالشَّرِكَةِ، وَالْمُضَارَبَةِ وَالْوَكَالَةِ وَنَحْوِهَا، إِذَا انْفَسَخَتْ فَالاِنْفِسَاخُ فِيهَا يَرْفَعُ الْعَقْدَ مِنْ حِينِهِ لاَ مِنْ أَصْلِهِ. وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحَاتِهَا.
ثَانِيًا: أَثَرُ تَغْيِيرِ الْمَحَل قَبْل الاِنْفِسَاخِ:
32 - انْفِسَاخُ الْعَقْدِ يُوجِبُ زَوَال أَثَرِ الْعَقْدِ وَرَدَّ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ إِلَى مَنْ كَانَ لَهُ قَبْل الْعَقْدِ.
فَإِذَا كَانَ قَائِمًا وَلَمْ يَتَغَيَّرْ يُرَدُّ بِعَيْنِهِ كَالْمَبِيعِ إِذَا انْفَسَخَ الْبَيْعُ بِسَبَبِ الْفَسَادِ أَوِ الإِْقَالَةِ أَوِ الْخِيَارِ أَوِ الاِسْتِحْقَاقِ وَنَحْوِهَا. فَفِي هَذِهِ الْحَالاَتِ وَأَمْثَالِهَا تُرَدُّ الْعَيْنُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهَا إِلَى صَاحِبِهَا الأَْصْلِيِّ، وَيَسْتَرِدُّ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ مِنَ الْبَائِعِ. وَكَذَلِكَ إِذَا انْفَسَخَتِ الإِْجَارَةُ بِمَوْتِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ أَوْ بِالاِسْتِحْقَاقِ أَوْ بِانْتِهَاءِ الْمُدَّةِ، فَتُرَدُّ الْعَيْنُ الْمَأْجُورَةُ إِلَى صَاحِبِهَا، إِذَا كَانَتْ قَائِمَةً وَلَمْ تَتَغَيَّرْ.
وَهَكَذَا الْحُكْمُ فِي عُقُودِ الإِْيدَاعِ وَالإِْعَارَةِ وَالرَّهْنِ إِذَا انْفَسَخَتْ تُرَدُّ الْوَدِيعَةُ وَالْمُعَارُ وَالْمَرْهُونُ إِلَى أَصْحَابِهَا بِعَيْنِهَا إِذَا كَانَتْ قَائِمَةً. 33 - أَمَّا لَوْ تَغَيَّرَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ بِأَنْ زَادَ الْمَبِيعُ مَثَلاً فَالْحُكْمُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ سَبَبِ الاِنْفِسَاخِ، فَفِي انْفِسَاخِ الْبَيْعِ بِسَبَبِ الْفَسَادِ، إِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ فِي الْمَبِيعِ مُنْفَصِلَةً عَنْهُ كَالثَّمَرَةِ وَاللَّبَنِ وَالْوَلَدِ، أَوْ مُتَّصِلَةً مُتَوَلِّدَةً مِنَ الأَْصْل، فَإِنَّ هَذَا لاَ يَمْنَعُ مِنْ رَدِّ أَصْل الْمَبِيعِ مَعَ الزِّيَادَةِ إِلَى الْبَائِعِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) . (1)
__________
(1) البدائع 5 / 302، والهداية مع شروحها 4 / 19، ومغني المحتاج 2 / 40، 286، والمهذب 1 / 255، والمغني لابن قدامة 4 / 253.(7/38)
وَلَوْ حَصَل التَّغَيُّرُ بِنُقْصَانِ الْمَبِيعِ بَيْعًا فَاسِدًا يُرَدُّ الْمَبِيعُ مَعَ أَرْشِ النُّقْصَانِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ خِلاَفًا لِلْمَالِكِيَّةِ، فَإِنَّ التَّغَيُّرَ بِالزِّيَادَةِ أَوِ النُّقْصَانِ يُعْتَبَرُ تَفْوِيتًا لِلْمَبِيعِ عِنْدَهُمْ. (1)
34 - وَفِي عَقْدِ الإِْجَارَةِ إِذَا تَغَيَّرَ الْمَأْجُورُ قَبْل الاِنْفِسَاخِ ثُمَّ انْفَسَخَتِ الإِْجَارَةُ، فَإِنْ كَانَ التَّغَيُّرُ بِالنُّقْصَانِ وَبِتَقْصِيرٍ مِنَ الْمُسْتَأْجِرِ يَلْزَمُهُ رَدُّ الْمَأْجُورِ مَعَ أَرْشِ النُّقْصَانِ. وَإِنْ كَانَ بِالزِّيَادَةِ كَالْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ فِي الأَْرْضِ وَقَدْ تَمَّتْ مُدَّةُ الإِْجَارَةِ، فَعَلَى الْمُسْتَأْجِرِ قَلْعُ الْغَرْسِ وَهَدْمُ الْبِنَاءِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، إِلاَّ إِذَا رَضِيَا بِدَفْعِ قِيمَةِ الْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَيُخَيَّرُ الْمَالِكُ بَيْنَ تَمَلُّكِ الْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ بِقِيمَتِهِ، أَوْ تَرْكِهِ بِأُجْرَتِهِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ. (2)
أَمَّا إٍذَا كَانَ التَّغَيُّرُ فِي الْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ بِالزِّرَاعَةِ وَانْفَسَخَتِ الإِْجَارَةُ بِانْقِضَاءِ الْمُدَّةِ قَبْل أَنْ يَحِينَ وَقْتُ حَصَادِهَا، فَلَيْسَ لِلْمُؤَجِّرِ إِجْبَارُ الْمُسْتَأْجِرِ عَلَى تَسْلِيمِ الأَْرْضِ الْمُسْتَأْجَرَةِ لَهُ، بَل تُتْرَكُ بِيَدِ الْمُسْتَأْجِرِ إِلَى وَقْتِ الْحَصَادِ بِأَجْرِ الْمِثْل. وَهَكَذَا الْحُكْمُ فِي الْعَارِيَّةِ؛ لأَِنَّهُمْ صَرَّحُوا أَنَّهُ (إِذَا اسْتَعَارَ أَرْضًا لِلزِّرَاعَةِ فَزَرَعَهَا ثُمَّ أَرَادَ صَاحِبُ الأَْرْضِ أَنْ يَأْخُذَهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ حَتَّى يَحْصُدَ الزَّرْعَ، بَل يُتْرَكُ إِلَى وَقْتِ الْحَصَادِ بِأَجْرِ الْمِثْل) . (3) وَلاَ خِلاَفَ فِي أَصْل هَذَا الْحُكْمِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ. إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ قَيَّدُوهُ بِأَنْ
__________
(1) المراجع السابقة، وانظر منح الجليل 2 / 580.
(2) الزيلعي 5 / 114، 115، ومنتهى الإرادات 2 / 382، والمهذب 1 / 410، 411، وجواهر الإكليل 2 / 197.
(3) البدائع 6 / 217.(7/39)
لاَ يَكُونَ تَأَخُّرُ الزَّرْعِ بِتَقْصِيرِ الْمُسْتَأْجِرِ أَوِ الْمُسْتَعِيرِ. وَالْحَنَابِلَةُ قَيَّدُوهُ بِأَنْ لاَ يَكُونَ ذَلِكَ بِتَفْرِيطِهِمَا. (1)
ثَالِثًا: ضَمَانُ الْخَسَارَةِ النَّاشِئَةِ عَنِ الاِنْفِسَاخِ:
35 - إِذَا انْفَسَخَ الْعَقْدُ بِالتَّلَفِ، كَأَنْ تَلِفَ الْمَبِيعُ قَبْل الْقَبْضِ، أَوْ تَلِفَتِ الْعَيْنُ الْمُسْتَأْجَرَةُ (2) بِيَدِ الْمُسْتَأْجِرِ فَضَمَانُهَا عَلَى الْبَائِعِ أَوِ الْمُؤَجِّرِ؛ لأَِنَّ الْهَالِكَ مِنْ تَبِعَةِ الْمَالِكِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ فِي الإِْجَارَةِ، أَمَّا فِي الْبَيْعِ فَهُنَاكَ تَفْصِيلٌ وَخِلاَفٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي (بَيْعٌ) .
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ بِالإِْتْلاَفِ وَالتَّعَدِّي فَضَمَانُهَا عَلَى مَنْ أَتْلَفَهَا. فَفِي عَقْدِ الْبَيْعِ مَثَلاً إِتْلاَفُ الْمُشْتَرِي لِلْمَبِيعِ يُعْتَبَرُ قَبْضًا، فَالْمِلْكُ لَهُ وَالضَّمَانُ عَلَيْهِ. وَفِي الإِْجَارَةِ يَضْمَنُ الْمُسْتَأْجِرُ كُل تَلَفٍ أَوْ نَقْصٍ يَطْرَأُ عَلَى الْمَأْجُورِ بِفِعْلٍ غَيْرِ مَأْذُونٍ بِهِ.
وَالأَْصْل أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ بَعْدَ انْفِسَاخِ الْعَقْدِ أَمَانَةٌ بِيَدِ الْعَاقِدِ غَيْرِ الْمَالِكِ. فَالْمَبِيعُ وَالْمَأْجُورُ الْوَدِيعَةُ وَالْعَارِيَّةُ وَالْمَرْهُونُ وَنَحْوُهَا عَلَى خِلاَفٍ فِيهَا، كُلُّهَا أَمَانَةٌ بَعْدَ الاِنْفِسَاخِ بِيَدِ الْعَاقِدِ غَيْرِ الْمَالِكِ إِلاَّ إِذَا امْتَنَعَ عَنْ تَسْلِيمِهَا لأَِصْحَابِهَا بِدُونِ عُذْرٍ. فَإِذَا تَلِفَتْ بِغَيْرِ تَعَدٍّ أَوْ تَقْصِيرٍ فَلاَ ضَمَانَ فِيهِ، وَإِلاَّ فَفِيهِ الضَّمَانُ. (3)
__________
(1) الزيلعي 5 / 114، والبدائع 4 / 223، ونهاية المحتاج 5 / 139، والمغني 5 / 365، 6 / 364، وجواهر الإكليل 2 / 197.
(2) تحفة الفقهاء 2 / 56، وابن عابدين 4 / 46، والقليوبي 2 / 210، والشرح الصغير 3 / 195، وقواعد ابن رجب ص 55.
(3) البدائع 5 / 300، 304، وابن عابدين 5 / 24 - 26، ونهاية المحتاج 5 / 309، والقليوبي 2 / 323، ومجلة الأحكام 600 - 606، وقواعد ابن رجب 55 - 61، والقوانين الفقهية لابن جزي 176 - 180.(7/39)
وَالْمُرَادُ بِالضَّمَانِ أَدَاءُ الْمِثْل فِي الْمِثْلِيَّاتِ وَأَدَاءُ الْقِيمَةِ فِي الْقِيَمِيَّاتِ. (1) وَهَذَا كُلُّهُ فِي الْجُمْلَةِ، وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (ضَمَانٌ) .
انْفِصَالٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِنْفِصَال لُغَةً: الاِنْقِطَاعُ، يُقَال: فَصَل الشَّيْءَ فَانْفَصَل أَيْ قَطَعَهُ فَانْقَطَعَ، فَهُوَ مُطَاوِعُ فَصَل، وَهُوَ ضِدُّ الاِتِّصَال. (2)
وَالاِنْفِصَال هُوَ الاِنْقِطَاعُ الظَّاهِرُ، وَالاِنْقِطَاعُ يَكُونُ ظَاهِرًا وَخَافِيًا، (3) وَهَذَا مِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ.
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْبَيْنُونَةُ:
2 - الْبَيْنُونَةُ تَأْتِي بِمَعْنَى الاِنْفِصَال، (4) وَكَثُرَتْ عَلَى أَلْسِنَةِ الْفُقَهَاءِ فِي الطَّلاَقِ غَيْرِ الرَّجْعِيِّ.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
3 - الأَْجْزَاءُ الَّتِي تَنْفَصِل مِنَ الْبَدَنِ تَارَةً تَبْقَى لَهَا الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِهَا قَبْل الاِنْفِصَال، وَتَارَةً تَتَغَيَّرُ،
__________
(1) مجلة الأحكام. م 416، والقليوبي 2 / 323.
(2) لسان العرب المحيط، وكشاف اصطلاحات الفنون (فصل) .
(3) الفروق في اللغة ص 144.
(4) لسان العرب المحيط مادة: (بين) .(7/40)
فَالأَْوَّل نَحْوُ 2 كُل عُضْوٍ يَحْرُمُ النَّظَرُ إِلَيْهِ قَبْل الاِنْفِصَال فَإِنَّهُ يَحْرُمُ النَّظَرُ إِلَيْهِ بَعْدَ الاِنْفِصَال 2. فَأَجْزَاءُ الْعَوْرَةِ لاَ فَرْقَ فِي حُرْمَةِ النَّظَرِ إِلَيْهَا قَبْل الاِنْفِصَال (1) وَبَعْدَهُ، عَلَى خِلاَفٍ وَتَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي أَحْكَامِ النَّظَرِ مِنْ بَابِ الْحَظْرِ وَالإِْبَاحَةِ.
4 - وَمِمَّا يَتَغَيَّرُ حُكْمُهُ بِالاِنْفِصَال اسْتِدْخَال الْمَرْأَةِ الذَّكَرَ الْمَقْطُوعَ، فَلاَ حَدَّ فِيهِ، وَإِنْ حَرُمَ ذَلِكَ الْفِعْل. (2)
5 - وَمَا انْفَصَل مِنْ أَجْزَاءِ الْمَيِّتِ أَخَذَ حُكْمَهُ عِنْدَ الْبَعْضِ، يُغَسَّل وَيُصَلَّى عَلَيْهِ، وَيُدْفَنُ؛ لإِِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، قَال أَحْمَدُ: صَلَّى أَبُو أَيُّوبَ عَلَى رِجْلٍ، وَصَلَّى عُمَرُ عَلَى عِظَامٍ بِالشَّامِ، وَصَلَّى أَبُو عُبَيْدَةَ عَلَى رُءُوسٍ بِالشَّامِ، رَوَى ذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بِإِسْنَادِهِ، وَقَال الشَّافِعِيُّ: أَلْقَى طَائِرٌ يَدًا بِمَكَّةَ مِنْ وَقْعَةِ الْجَمَل فَعُرِفَتْ بِالْخَاتَمِ، وَكَانَتْ يَدَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَتَّابِ بْنِ أُسَيْدٍ، فَصَلَّى عَلَيْهَا أَهْل مَكَّةَ، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ يُعْرَفْ مِنَ الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ فِي ذَلِكَ.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ: إِنْ وُجِدَ الأَْكْثَرُ صُلِّيَ عَلَيْهِ، وَإِلاَّ فَلاَ؛ لأَِنَّهُ بَعْضٌ لاَ يَزِيدُ عَلَى النِّصْفِ فَلَمْ يُصَل عَلَيْهِ، كَالَّذِي بَانَ فِي حَيَاةِ صَاحِبِهِ كَالشَّعْرِ وَالظُّفْرِ.
وَلَمْ يُفَرِّقِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ أَجْزَاءِ الْحَيِّ وَأَجْزَاءِ الْمَيِّتِ الْمُنْفَصِلَةِ عَنْهُ، وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يُسْتَحَبُّ لَفُّ وَدَفْنُ مَا انْفَصَل مِنْ حَيٍّ كَيَدِ سَارِقٍ،
__________
(1) الدر وحاشية ابن عابدين 5 / 238.
(2) بجيرمي على الخطيب 4 / 141 ط الحلبي، الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 53 ط دار الإيمان، وشرح الروض 1 / 65.(7/40)
وَظُفْرٍ، وَعَلَقَةٍ، وَشَعْرٍ، وَاسْتَظْهَرَ بَعْضُهُمْ وُجُوبَ لَفِّ الْيَدِ وَدَفْنِهَا. (1) وَتَنْتَهِي الْعِدَّةُ بِانْفِصَال الْوَلَدِ عَنْ رَحِمِ أُمِّهِ انْفِصَالاً كَامِلاً، وَفِي انْفِصَال الْمُضْغَةِ تَفْصِيلٌ يُذْكَرُ فِي (الْعِدَّةِ) . (2)
انْفِصَال السِّقْطِ:
6 - السِّقْطُ إِنِ انْفَصَل حَيًّا ثُمَّ مَاتَ فَإِنَّهُ كَالْكَبِيرِ فِي التَّسْمِيَةِ، وَالإِْرْثِ، وَالْجِنَايَةِ عَلَيْهِ، وَفِي غُسْلِهِ وَتَكْفِينِهِ، وَالصَّلاَةِ عَلَيْهِ، وَدَفْنِهِ، وَاسْتَثْنَى بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ مِنْ ذَلِكَ التَّسْمِيَةَ إِنْ مَاتَ قَبْل الْيَوْمِ السَّابِعِ مِنْ وِلاَدَتِهِ (3) .
وَإِنِ انْفَصَل مَيِّتًا، فَإِنَّهُ لاَ يُصَلَّى عَلَيْهِ، لَكِنَّهُ يُدْفَنُ، وَفِي غُسْلِهِ خِلاَفٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ: مِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَ الْغُسْل إِنْ نُفِخَ فِيهِ الرُّوحُ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَرِهَ تَغْسِيل السِّقْطِ مُطْلَقًا، وَبَعْضُ الْفُقَهَاءِ يُوجِبُ تَكْفِينَهُ، وَالْبَعْضُ يَكْتَفِي بِلَفِّهِ بِخِرْقَةٍ، وَيُفَصِّل الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ (الْجَنَائِزِ) (4) .
وَتَسْمِيَةُ مَنْ وُلِدَ مَيِّتًا فِيهَا خِلاَفٌ كَذَلِكَ،
__________
(1) شرح الروض 1 / 313، والمغني 2 / 539، والخرشي 2 / 141، والطحطاوي ص 319.
(2) نهاية المحتاج 7 / 127، 138.
(3) البحر الرائق 2 / 202 ط العلمية، والخرشي 2 / 138 ط دار صادر، وشرح الروض 1 / 313 ط الميمنية، والمغني 2 / 522 ط الرياض.
(4) البحر الرائق 2 / 198، 203، والخرشي 2 / 142، وشرح الروض 1 / 313، وابن عابدين 1 / 595 ط الرياض.(7/41)
فَالْبَعْضُ يَقُول بِالتَّسْمِيَةِ، وَالْبَعْضُ يَمْنَعُهَا، وَيَتَكَلَّمُونَ عَنْ ذَلِكَ فِي مَبْحَثِ (الْعَقِيقَةِ وَالْجَنَائِزِ) (1) .
وَلاَ يَرِثُ مَنِ انْفَصَل بِنَفْسِهِ مَيِّتًا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَكَذَا إِذَا انْفَصَل بِفِعْلٍ عِنْدَ أَغْلَبِ الْفُقَهَاءِ لاَ يَرِثُ، وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْوَرَثَةِ يَرِثُ وَيُورَثُ؛ لأَِنَّ الشَّرْعَ لَمَّا أَوْجَبَ عَلَى الْجَانِي الْغُرَّةَ فَقَدْ حَكَمَ بِحَيَاتِهِ (2) ، وَيَذْكُرُ الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ فِي (الإِْرْثِ) ، وَالْبَعْضُ يَذْكُرُهُ فِي (الْجَنَائِزِ) .
7 - وَانْفِصَال الزَّوْجَيْنِ يَكُونُ بِوَاحِدٍ مِنْ ثَلاَثَةِ أُمُورٍ، الْفَسْخِ أَوِ الاِنْفِسَاخِ، وَالطَّلاَقِ، وَالْمَوْتِ.
8 - وَانْفِصَال الْمُسْتَثْنَى عَنِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ زَمَنًا طَوِيلاً فِي صِيَغِ الإِْقْرَارِ وَالْيَمِينِ وَنَحْوِهِمَا يُبْطِل الاِسْتِثْنَاءَ، وَقِيل: يَصِحُّ التَّأْخِيرُ مَا دَامَ الْمَجْلِسُ (3) ، وَيَتَكَلَّمُ الأُْصُولِيُّونَ عَنْ ذَلِكَ فِي شَرَائِطِ الاِسْتِثْنَاءِ، وَالْفُقَهَاءُ فِي الإِْقْرَارِ، وَالطَّلاَقِ غَالِبًا.
وَبِالإِْضَافَةِ إِلَى مَا تَقَدَّمَ بِذِكْرِ الاِنْفِصَال فِي الْغُسْل (4) ، وَالْبَيْعِ - الزِّيَادَةُ الْمُنْفَصِلَةُ - وَفِي الرَّهْنِ - زِيَادَةُ الْمَرْهُونِ الْمُنْفَصِلَةُ، وَفِي الْوَصِيَّةِ.
__________
(1) البحر الرائق 2 / 203، والخرشي 2 / 138، ونهاية المحتاج 8 / 139 ط مصطفى الحلبي، والمغني 2 / 523 ط الرياض.
(2) الفتاوى الهندية 6 / 456 ط بولاق الأولى، والطحطاوي على مراقي الفلاح ص 327 ط دار الإيمان، والمغني مع الشرح 7 / 198 ط المنار الأولى. وشرح السراجية 321 ط الكردي.
(3) مسلم الثبوت 1 / 221 ط دار صادر.
(4) شرح الروض 1 / 65.(7/41)
أَنْقَاضٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - أَنْقَاضٌ: جَمْعٌ مُفْرَدُهُ نِقْضٌ. وَالنِّقْضُ - بِكَسْرِ النُّونِ وَضَمِّهَا - الْمَنْقُوضُ أَيِ الْمَهْدُومُ.
وَالنِّقْضُ: اسْمٌ لِبِنَاءِ الْمَنْقُوضِ إِذَا هُدِمَ، وَالنَّقْضُ - بِالْفَتْحِ - الْهَدْمُ (1) .
وَاسْتَعْمَلَهُ الْفُقَهَاءُ بِالْمَعْنَى نَفْسِهِ (2) .
الأَْحْكَامُ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِهِ.
أَوَّلاً: حُكْمُ التَّصَرُّفِ فِي أَنْقَاضِ الْوَقْفِ:
2 - مَا انْهَدَمَ مِنْ بِنَاءِ الْوَقْفِ فَإِنَّهُ يُنْتَفَعُ بِأَنْقَاضِهِ فِي عِمَارَتِهِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ إِعَادَةُ عَيْنِهِ بِيعَ وَصُرِفَ الثَّمَنُ فِي عِمَارَتِهِ.
وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْمَسْجِدِ إِذَا انْهَدَمَ، فَإِذَا لَمْ يُمْكِنِ الاِنْتِفَاعُ بِالْمَسْجِدِ وَلاَ إِعَادَةُ بِنَائِهِ انْتَفَعَ بِأَنْقَاضِهِ أَوْ بِثَمَنِهَا فِي مَسْجِدٍ آخَرَ.
وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَالْحَنَفِيَّةِ غَيْرِ مُحَمَّدٍ، وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ كَابْنِ زَرْبٍ وَابْنِ لُبَابَةَ، وَكَذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. إِلاَّ أَنَّهُ عِنْدَهُمْ إِذَا لَمْ يُنْتَفَعْ بِأَنْقَاضِ الْمَسْجِدِ فِي مَسْجِدٍ آخَرَ فَإِنَّهُ يُحْفَظُ وَلاَ يُبَاعُ. وَعِنْدَ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ يَعُودُ إِلَى الْبَانِي أَوْ إِلَى
__________
(1) لسان العرب، وتاج العروس، والنهاية لابن الأثير ص 107.
(2) الدسوقي 4 / 96 ط دار الفكر.(7/42)
الْوَرَثَةِ. وَقَال الشَّيْخُ خَلِيلٌ وَالشَّيْخُ عُلَيْشٌ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ بِعَدَمِ جَوَازِ بَيْعِ نَقْضِ الْعَقَارِ الْمَوْقُوفِ (1) .
ثَانِيًا: حُكْمُ نَقْضِ الأَْبْنِيَةِ الْمُقَامَةِ:
الأَْبْنِيَةُ إِمَّا أَنْ يُقِيمَهَا الإِْنْسَانُ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ أَوْ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ.
مَا يُقِيمُهُ الإِْنْسَانُ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ:
3 - مَا يُقِيمُهُ الإِْنْسَانُ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ وَكَانَ فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى الْغَيْرِ يَجِبُ نَقْضُهُ، وَذَلِكَ كَمَنْ أَخْرَجَ جَنَاحًا إِلَى الطَّرِيقِ وَكَانَ يَضُرُّ بِالْمَارَّةِ فَإِنَّهُ يَجِبُ نَقْضُهُ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ (2) . وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ. وَمَا تَوَلَّدَ مِنْ سُقُوطِهِ فَهُوَ مَضْمُونٌ عَلَى صَاحِبِهِ. وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ (3) وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ: (ر: جِنَايَةٌ - تَلَفٌ - ضَمَانٌ) .
مَا يُقِيمُهُ الإِْنْسَانُ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ:
4 - مَا يُقِيمُهُ الإِْنْسَانُ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِإِذْنِ صَاحِبِهِ أَوْ بِدُونِ إِذْنِهِ.
__________
(1) منتهى الإرادات 2 / 515 ط دار الفكر، والمغني 5 / 631 ط الرياض، والبدائع 6 / 221 ط الجمالية، وابن عابدين 3 / 382، 383 ط ثالثة، وفتح القدير 5 / 446 ط دار إحياء التراث العربي، ومغني المحتاج 2 / 392 ط الحلبي، ومنح الجليل 4 / 69 ط النجاح ليبيا، والمواق بهامش الحطاب 6 / 42 ط النجاح.
(2) حديث: " لا ضرر ولا ضرار " أخرجه ابن ماجه (2 / 784 - ط الحلبي) ، وقال النووي: (له طرق يقوي بعضها بعضا) . جامع العلوم والحكم لابن رجب (ص 286 - ط الحلبي) .
(3) جواهر الإكليل 2 / 122 ط دار المعرفة بيروت، والمهذب 1 / 341 ط دار المعرفة بيروت، والاختيار 5 / 45 ط دار المعرفة بيروت، ومنتهى الإرادات 2 / 269.(7/42)
أ - مَا يُقِيمُهُ الإِْنْسَانُ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِإِذْنِ صَاحِبِهِ وَذَلِكَ كَمَنْ يَسْتَعِيرُ أَرْضًا لِلْبِنَاءِ بِإِذْنِ صَاحِبِهَا. فَإِنْ كَانَتِ الْعَارِيَّةُ مُطْلَقَةً أَوْ مُؤَقَّتَةً بِوَقْتٍ، وَشَرَطَ الْمُعِيرُ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ نَقْضَ الْبِنَاءِ عِنْدَ انْتِهَاءِ الْوَقْتِ أَوْ عِنْدَ الرُّجُوعِ، فَإِنَّ الْمُسْتَعِيرَ يُلْزَمُ بِنَقْضِ الْبِنَاءِ لِحَدِيثِ: الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ (1) .
وَإِنْ كَانَ الْمُعِيرُ لَمْ يَشْتَرِطِ النَّقْضَ، فَإِنْ رَضِيَ الْمُسْتَعِيرُ بِالنَّقْضِ نَقَضَ، وَإِنْ أَبَى لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ لِمَفْهُومِ حَدِيثِ: لَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ (2) ؛ وَلأَِنَّهُ بُنِيَ بِإِذْنِ رَبِّ الأَْرْضِ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ عَلَيْهِ قَلْعَهُ، وَفِي الْقَلْعِ ضَرَرٌ بِنَقْصِ قِيمَتِهِ بِذَلِكَ. وَيَكُونُ - فِي هَذِهِ الْحَالَةِ - الْخِيَارُ لِلْمُعِيرِ بَيْنَ أَخْذِ الْبِنَاءِ بِقِيمَتِهِ، وَبَيْنَ قَلْعِهِ مَعَ ضَمَانِ نُقْصَانِهِ جَمْعًا بَيْنَ الْحَقَّيْنِ، أَوْ يُبْقِيهِ بِأَجْرِ مِثْلِهِ.
وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ (3) .
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِنْ كَانَتِ الْعَارِيَّةُ مُطْلَقَةً أَوْ مُؤَقَّتَةً وَانْتَهَى وَقْتُهَا فَلِلْمَالِكِ أَنْ يُجْبِرَ الْمُسْتَعِيرَ عَلَى نَقْضِ الْبِنَاءِ؛ لأَِنَّ فِي التَّرْكِ ضَرَرًا بِالْمُعِيرِ؛ لأَِنَّهُ لاَ نِهَايَةَ لَهُ وَلاَ غَرَرَ مِنْ جِهَتِهِ.
وَإِنْ كَانَتْ مُؤَقَّتَةً وَأَرَادَ إِخْرَاجَهُ قَبْل الْوَقْتِ فَلاَ يُجْبَرُ الْمُسْتَعِيرُ عَلَى النَّقْضِ بَل يَكُونُ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ ضَمَّنَ صَاحِبَ الأَْرْضِ قِيمَةَ الْبِنَاءِ قَائِمًا سَلِيمًا وَتَرَكَهُ لَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ بِنَاءَهُ وَلاَ شَيْءَ عَلَى
__________
(1) حديث: " المسلمون على شروطهم. . . " أخرجه الترمذي (التحفة 4 / 584 ط السلفية) وله طرق يشهد بعضها لبعض.
(2) حديث: " ليس لعرق ظالم حق " أخرجه أبو داود (3 / 454 - ط عزت عبيد دعاس) وقواه ابن حجر في الفتح (5 / 19 - ط السلفية) .
(3) منتهى الإرادات 2 / 394، ومغني المحتاج 2 / 271 - 273.(7/43)
صَاحِبِ الأَْرْضِ.
ثُمَّ إِنَّمَا يَثْبُتُ نَقْضُ الْبِنَاءِ إِذَا لَمْ يَكُنِ النَّقْضُ مُضِرًّا بِالأَْرْضِ، فَإِنْ كَانَ مُضِرًّا بِهَا فَالْخِيَارُ لِلْمَالِكِ؛ لأَِنَّ الأَْرْضَ أَصْلٌ وَالْبِنَاءَ تَابِعٌ، فَكَانَ الْمَالِكُ صَاحِبَ أَصْلٍ فَلَهُ الْخِيَارُ، إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ الْبِنَاءَ بِالْقِيمَةِ، وَإِنْ شَاءَ رَضِيَ بِالنَّقْضِ (1) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: إِذَا انْقَضَتْ مُدَّةُ الإِْعَارَةِ الْمُشْتَرَطَةِ أَوِ الْمُعْتَادَةِ وَفِي الأَْرْضِ بِنَاءٌ، فَالْمُعِيرُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ إِلْزَامِ الْمُسْتَعِيرِ بِالْهَدْمِ، وَبَيْنَ أَخْذِ الْبِنَاءِ وَدَفْعِ قِيمَتِهِ مَنْقُوضًا (2) .
ب - مَا يُقِيمُهُ الإِْنْسَانُ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِ صَاحِبِهِ، كَمَنْ غَصَبَ أَرْضًا وَبَنَى فِيهَا، فَإِنَّ الْغَاصِبَ يُجْبَرُ عَلَى نَقْضِ الْبِنَاءِ مَتَى طَالَبَهُ رَبُّ الأَْرْضِ بِذَلِكَ، وَيُلْزَمُ بِتَسْوِيَتِهَا وَأَرْشِ نَقْصِهَا، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (3) .
إِلاَّ أَنَّهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِذَا كَانَتِ الأَْرْضُ تَنْقُصُ بِالنَّقْضِ فَلِلْمَالِكِ أَخْذُ الْبِنَاءِ وَضَمَانُ قِيمَتِهِ مَنْقُوضًا، وَهُوَ أَيْضًا رَأْيُ الْمَجْدِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ.
وَقَال الْكَرْخِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْبِنَاءِ أَكْثَرَ فَإِنَّ الْغَاصِبَ يَضْمَنُ قِيمَةَ الأَْرْضِ وَلاَ يُؤْمَرُ بِالْقَلْعِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُخَيَّرُ الْمَالِكُ بَيْنَ أَخْذِ الْبِنَاءِ وَدَفْعِ قِيمَتِهِ مَنْقُوضًا، وَبَيْنَ أَمْرِ الْغَاصِبِ بِهَدْمِهِ وَتَسْوِيَةِ أَرْضِهِ (4) .
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 216.
(2) حاشية الدسوقي 3 / 439 ط دار الفكر.
(3) كشاف القناع 4 / 81 ط النصر بالرياض، ومغني المحتاج 2 / 291، وابن عابدين 5 / 126، والبدائع 7 / 149.
(4) الدسوقي 3 / 454.(7/43)
وَمَنْ غَصَبَ لَبِنًا أَوْ آجُرًّا أَوْ خَشَبَةً فَأَدْخَلَهَا فِي الْبِنَاءِ، فَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ يُلْزَمُ الْغَاصِبُ بِرَدِّهَا، وَإِنِ انْتَقَضَ الْبِنَاءُ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لاَ يَمْلِكُ الْمَالِكُ الاِسْتِرْدَادَ لأَِنَّ الْمَغْصُوبَ بِالإِْدْخَال فِي الْبِنَاءِ صَارَ شَيْئًا آخَرَ غَيْرَ الأَْوَّل، وَلِذَلِكَ لاَ يُنْقَضُ الْبِنَاءُ. وَقَال الْكَرْخِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ: لاَ يُنْقَضُ الْبِنَاءُ إِذَا كَانَ الْبِنَاءُ حَوْل الْخَشَبَةِ؛ لأَِنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِي الْبِنَاءِ، أَمَّا إِذَا بَنَى عَلَيْهَا يُنْقَضُ الْبِنَاءُ،
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُخَيَّرُ الْمَالِكُ بَيْنَ هَدْمِ الْبِنَاءِ وَأَخْذِ مَا غُصِبَ مِنْهُ، وَبَيْنَ إِبْقَائِهِ وَأَخْذِ قِيمَتِهِ يَوْمَ الْغَصْبِ (1) .
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
5 - نَقْضُ الْبِنَاءِ يَأْتِي فِي مَوَاطِنَ مُتَعَدِّدَةٍ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، فَهُوَ يَرِدُ فِي إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ أَوْ بِدُونِ إِذْنِ الإِْمَامِ (2) ، وَفِي الشُّفْعَةِ فِيمَنِ اشْتَرَى أَرْضًا وَبَنَى فِيهَا ثُمَّ حَضَرَ الشَّفِيعُ وَقَضَى لَهُ بِشُفْعَةِ الأَْرْضِ (3) ، وَفِي بَابِ الإِْجَارَةِ فِيمَا إِذَا بَنَى الْمُسْتَأْجِرُ وَانْتَهَتْ مُدَّةُ الإِْجَارَةِ (4) ، وَفِي الشَّرِكَةِ إِذَا طَلَبَ الشَّرِيكُ نَقْضَ حَائِطٍ مُشْتَرَكٍ (5) ، وَفِي الصُّلْحِ (6) .
__________
(1) المراجع السابقة في الغصب.
(2) مغني المحتاج 2 / 369.
(3) بدائع الصنائع 5 / 29.
(4) المهذب 1 / 411.
(5) المنتهى 2 / 281.
(6) المنتهى 2 / 268.(7/44)
انْقِرَاضٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِنْقِرَاضُ لُغَةً: الاِنْقِطَاعُ، وَالْمَوْتُ وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ عَنْ ذَلِكَ (1) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - أ - يَخْتَلِفُ الأُْصُولِيُّونَ فِي انْقِرَاضِ عَصْرِ أَهْل الإِْجْمَاعِ، أَهُوَ شَرْطٌ فِي حُجِّيَّةِ الإِْجْمَاعِ؟ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ، وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ، وَقِيل إِنْ كَانَ الإِْجْمَاعُ بِالْقَوْل وَالْفِعْل أَوْ بِأَحَدِهِمَا فَلاَ يُشْتَرَطُ، وَإِنْ كَانَ الإِْجْمَاعُ بِالسُّكُوتِ عَنْ مُخَالَفَةِ الْقَائِل فَيُشْتَرَطُ، رُوِيَ هَذَا عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ، وَقَال الْجُوَيْنِيُّ: إِنْ كَانَ عَنْ قِيَاسٍ كَانَ شَرْطًا (2) . وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ (إِجْمَاعٌ) .
- ب - وَفِي الْوَقْفِ، يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْوَقْفَ لاَ يَصِحُّ عَلَى مَنْ يَنْقَرِضُ كَالْوَقْفِ عَلَى الأَْوْلاَدِ؛ لأَِنَّهُمْ يَشْتَرِطُونَ التَّأْبِيدَ فِي الْوَقْفِ، وَيَصِحُّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَفِي هَذِهِ الْحَال، إِذَا انْقَرَضَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِمْ (3) ، لَهُمْ تَفْصِيلاَتٌ فِيمَنْ يَرْجِعُ إِلَيْهِ الْوَقْفُ، تَنْظُرُ فِي مُصْطَلَحِ (وَقْفٌ) .
__________
(1) لسان العرب، المحيط، ترتيب القاموس (قرض) ، النظم المستعذب هامش المهذب 1 / 448، نشر دار المعرفة.
(2) إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول ص 83، 84 ط مصطفى الحلبي.
(3) ابن عابدين 3 / 366، 367 ط بولاق الأولى، والخرشي 7 / 89 - 91، المهذب 1 / 448، نشر دار المعرفة، والروضة 5 / 326، وكشاف القناع 4 / 252.(7/44)
انْقِضَاءٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِنْقِضَاءُ: مُطَاوِعُ الْقَضَاءِ. وَمِنْ مَعَانِيهِ لُغَةً: ذَهَابُ الشَّيْءِ وَفَنَاؤُهُ، وَانْقَضَى الشَّيْءُ: إِذَا تَمَّ. وَيَأْتِي بِمَعْنَى الْخُرُوجِ مِنَ الشَّيْءِ وَالاِنْفِصَال مِنْهُ. قَال الزُّهْرِيُّ وَالْقَاضِي عِيَاضٌ: قَضَى فِي اللُّغَةِ عَلَى وُجُوهٍ، مَرْجِعُهَا إِلَى انْقِطَاعِ الشَّيْءِ وَتَمَامِهِ وَالاِنْفِصَال مِنْهُ (1) .
وَيَسْتَعْمِلُهُ الْفُقَهَاءُ بِهَذِهِ الْمَعَانِي (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - إِمْضَاءٌ:
2 - يُسْتَعْمَل لَفْظُ الإِْمْضَاءِ بِمَعْنَى الإِْنْهَاءِ، يُقَال: أَمْضَتِ الْمَرْأَةُ عِدَّتَهَا أَيْ أَنْهَتْهَا، وَيُسْتَعْمَل كَذَلِكَ فِي إِنْفَاذِ الشَّيْءِ، يُقَال: أَمْضَى الْقَاضِي حُكْمَهُ: بِمَعْنَى أَنْفَذَهُ (3) .
ب - انْتِهَاءٌ:
3 - يُسْتَعْمَل لَفْظُ الاِنْتِهَاءِ بِمَعْنَى الاِنْقِضَاءِ فَيُقَال: انْتَهَتِ الْمُدَّةُ بِمَعْنَى انْقَضَتْ، وَانْتَهَى الْعَقْدُ بِمَعْنَى
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، ومشارق الأنوار، مادة: (قضى) .
(2) البدائع 4 / 222، 223، 6 / 1984، والحطاب 2 / 468، والمهذب 1 / 29، والمغني 7 / 474، 475.
(3) لسان العرب المحيط (مضى) .(7/45)
انْقَضَى، وَيُسْتَعْمَل كَذَلِكَ بِمَعْنَى الْكَفِّ عَنِ الشَّيْءِ، وَبِمَعْنَى بُلُوغِ الشَّيْءِ وَالْوُصُول إِلَيْهِ. يُقَال: انْتَهَى عَنِ الشَّيْءِ وَانْتَهَى إِلَيْهِ (1) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
مَا يَتَعَلَّقُ بِالاِنْقِضَاءِ مِنْ أَحْكَامٍ يَكَادُ يَنْحَصِرُ فِي أَسْبَابِهِ وَآثَارِهِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
أَسْبَابُ الاِنْقِضَاءِ وَآثَارُهُ:
4 - تَخْتَلِفُ أَسْبَابُ الاِنْقِضَاءِ وَآثَارُهُ بِاخْتِلاَفِ الْمَوْضُوعَاتِ وَالْمَسَائِل الْفِقْهِيَّةِ، فَمَا قَدْ يَكُونُ سَبَبًا لاِنْقِضَاءِ شَيْءٍ لاَ يَكُونُ سَبَبًا لاِنْقِضَاءِ غَيْرِهِ، بَل قَدْ تَتَنَوَّعُ الأَْسْبَابُ وَالآْثَارُ فِي مَوْضُوعٍ وَاحِدٍ كَمَا فِي الْعُقُودِ، وَعِدَّةِ الْمَرْأَةِ، وَغَيْرِهِمَا. وَلَمَّا كَانَ الاِنْقِضَاءُ هُوَ بُلُوغَ النِّهَايَةِ فِي كُل شَيْءٍ بِحَسَبِهِ؛ لأَِنَّ كُل حَادِثٍ لاَ بُدَّ لَهُ مِنْ نِهَايَةٍ، فَإِنَّهُ مِنَ الْعَسِيرِ اسْتِقْصَاءُ ذَلِكَ فِي كُل الْمَوْضُوعَاتِ. لِذَلِكَ سَنَكْتَفِي بِذِكْرِ الأَْمْثِلَةِ الَّتِي تُوَضِّحُ ذَلِكَ.
أَوَّلاً: الْعُقُودُ:
تَنْقَضِي الْعُقُودُ لأَِسْبَابٍ مُتَنَوِّعَةٍ. وَمِنْهَا:
انْتِهَاءُ الْمَقْصُودِ مِنَ الْعَقْدِ:
5 - كُل عَقْدٍ لَهُ غَايَةٌ أَوْ غَرَضٌ مِنْ إِنْشَائِهِ، وَيُعْتَبَرُ الْعَقْدُ مُنْقَضِيًا بِتَحَقُّقِ الْغَايَةِ أَوِ الْغَرَضِ مِنْهُ، وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ:
أ - عَقْدُ الإِْجَارَةِ:
إِذَا كَانَ عَقْدُ الإِْجَارَةِ لِمُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ أَوْ لِمَنْفَعَةٍ مُعَيَّنَةٍ
__________
(1) لسان العرب المحيط، والبدائع 4 / 223، 6 / 113، 184.(7/45)
فَإِنَّ الْعَقْدَ يَنْقَضِي بِانْتِهَاءِ ذَلِكَ؛ لأَِنَّ الثَّابِتَ إِلَى غَايَةٍ يَنْتَهِي عِنْدَ وُجُودِ الْغَايَةِ.
وَهَكَذَا كُل عَقْدٍ مُقَيَّدٌ بِزَمَنٍ أَوْ مَنْفَعَةٍ يَنْقَضِي بِانْتِهَاءِ ذَلِكَ، مِثْل عَقْدِ الْهُدْنَةِ وَالْعَارِيَّةِ وَالْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ.
وَإِذَا انْقَضَى الْعَقْدُ تَرَتَّبَتْ عَلَيْهِ أَحْكَامُهُ مِنْ وُجُوبِ الرَّدِّ، وَثُبُوتِ حَقِّ الاِسْتِرْدَادِ، وَاسْتِقْرَارِ الأُْجْرَةِ، أَوِ الْقَدْرِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ. وَالضَّمَانُ بِالتَّعَدِّي، أَوِ التَّفْرِيطِ، وَإِنْذَارُ الأَْعْدَاءِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْهُدْنَةِ، وَهَكَذَا.
وَالاِنْقِضَاءُ فِي هَذِهِ الْعُقُودِ مُقَيَّدٌ بِمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ عُذْرٌ يَسْتَدْعِي امْتِدَادَهَا فَتْرَةً أُخْرَى دَفْعًا لِلضَّرَرِ (1) . (ر: إِجَارَةٌ. هُدْنَةٌ. مُسَاقَاةٌ) .
ب - عَقْدُ الْوَكَالَةِ:
يَنْقَضِي عَقْدُ الْوَكَالَةِ بِتَمَامِ الْمُوَكَّل فِيهِ. فَالْوَكَالَةُ بِالشِّرَاءِ مَثَلاً تَنْقَضِي بِشِرَاءِ الْوَكِيل مَا وُكِّل فِي شِرَائِهِ؛ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ قَدْ حَصَل فَيَنْقَضِي الْعَقْدُ بِذَلِكَ، وَتَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَحْكَامُهُ مِنَ انْعِزَال الْوَكِيل وَمَنْعِهِ مِنَ التَّصَرُّفِ، وَمِثْل ذَلِكَ يُقَال فِي الرَّهْنِ يَنْقَضِي بِسَدَادِ الدَّيْنِ، وَكَذَلِكَ الْكَفَالَةُ تَنْقَضِي بِالأَْدَاءِ أَوِ الإِْبْرَاءِ، وَتَتَرَتَّبُ أَحْكَامُ الْعُقُودِ مِنْ سُقُوطِ حَقِّ الْمُطَالَبَةِ، وَرَدِّ الْمَرْهُونِ، وَالضَّمَانُ بِالتَّفْرِيطِ أَوِ التَّعَدِّي وَهَكَذَا (2) . (ر: وَكَالَةٌ. رَهْنٌ. كَفَالَةٌ) .
__________
(1) البدائع 4 / 223، 6 / 184، 188، 7 / 110، ومنح الجليل 1 / 766، 3 / 496، 499، 713، 729، ومغني المحتاج 2 / 270، 273، والمهذب 1 / 399 - 408، 2 / 261، والمغني 5 / 227، 406، 436، 438، ومنتهى الإرادات 2 / 343، 371، 383، 395، 398.
(2) البدائع 6 / 11، 113، 153، ومنح الجليل 3 / 392، ونهاية المحتاج 4 / 431، وكشاف القناع 3 / 342، 364.(7/46)
فَسَادُ الْعَقْدِ:
6 - إِذَا كَانَ الْعَقْدُ مِنَ الْعُقُودِ اللاَّزِمَةِ كَالْبَيْعِ، وَلَكِنَّهُ وَقَعَ فَاسِدًا، كَانَ مِنَ الْوَاجِبِ عَلَى كُلٍّ مِنْ طَرَفَيْهِ فَسْخُهُ؛ لأَِنَّ الْعَقْدَ الْفَاسِدَ يَسْتَحِقُّ الْفَسْخَ حَقًّا لِلَّهِ عَزَّ وَجَل لِمَا فِي الْفَسْخِ مِنْ رَفْعِ الْفَسَادِ، وَرَفْعُ الْفَسَادِ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى الْخُلُوصِ، فَيَظْهَرُ فِي حَقِّ الْكُل فَكَانَ فَسْخًا فِي حَقِّ النَّاسِ كَافَّةً، فَلاَ تَقِفُ صِحَّتُهُ عَلَى الْقَضَاءِ وَلاَ عَلَى الرِّضَى. وَيَجُوزُ لِلْقَاضِي فَسْخُهُ جَبْرًا عَلَى الْعَاقِدَيْنِ.
وَيَنْقَضِي الْعَقْدُ بِالْفَسْخِ لِلْفَسَادِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ وُجُوبُ رَدِّ الْمَبِيعِ، وَالثَّمَنِ، وَالضَّمَانِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الرَّدِّ (1) .
وَلِلْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ (ر: بَيْعٌ - فَسَادٌ - عُقُودٌ) .
إِنْهَاءُ صَاحِبِ الْحَقِّ حَقَّهُ:
7 - يَنْقَضِي الْعَقْدُ بِإِنْهَاءِ مَنْ يَمْلِكُ ذَلِكَ، سَوَاءٌ أَكَانَ الإِْنْهَاءُ مِنْ طَرَفٍ وَاحِدٍ أَمْ مِنَ الطَّرَفَيْنِ، وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ:
أ - الْعُقُودُ الْجَائِزَةُ غَيْرُ اللاَّزِمَةِ كَالْوَكَالَةِ وَالشَّرِكَةِ وَالْمُضَارَبَةِ وَالْعَارِيَّةِ:
هَذِهِ الْعُقُودُ يَجُوزُ فِيهَا لِكُل وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَسْخُ الْعَقْدِ لأَِنَّهُ غَيْرُ لاَزِمٍ، وَيُعْتَبَرُ الْعَقْدُ مُنْقَضِيًا بِذَلِكَ، وَتَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْفَسْخِ مِنْ وُجُوبِ الرَّدِّ، وَثُبُوتِ حَقِّ الاِسْتِرْدَادِ، وَمِنَ الضَّمَانِ بِالتَّفْرِيطِ أَوِ التَّعَدِّي، وَمِنْ ثُبُوتِ الْحَقِّ فِي الرِّبْحِ. هَذَا مَعَ التَّفْصِيل فِيمَا إِذَا تَعَلَّقَ بِالْوَكَالَةِ حَقٌّ، أَوْ كَانَ
__________
(1) البدائع 5 / 305، وابن عابدين 4 / 110، والدسوقي 3 / 71، والمهذب 1 / 268، 273، 275.(7/46)
رَأْسُ الْمَال فِي الْمُضَارَبَةِ لَمْ يَنِضَّ وَغَيْرُ ذَلِكَ (1) وَيُنْظَرُ فِي (وَكَالَةٌ - مُضَارَبَةٌ - شَرِكَةٌ) .
ب - الإِْقَالَةُ:
قَدْ يَصْدُرُ الْعَقْدُ مُسْتَكْمِلاً أَرْكَانَهُ وَشُرُوطَهُ، وَمَعَ ذَلِكَ يَجُوزُ لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ فَسْخُهُ بِرِضَاهُمَا، وَذَلِكَ مَا يُسَمَّى بِالإِْقَالَةِ، فَإِذَا تَقَايَلاَ انْفَسَخَ الْعَقْدُ عِنْدَ مَنْ يَقُول بِأَنَّ الإِْقَالَةَ فَسْخٌ، وَانْقَضَى الْعَقْدُ بِذَلِكَ وَيَتَرَتَّبُ عَلَى الإِْقَالَةِ رَدُّ كُل حَقٍّ لِصَاحِبِهِ (2) . (ر: إِقَالَةٌ) .
ج - عَقْدُ النِّكَاحِ:
يَنْقَضِي عَقْدُ النِّكَاحِ بِالْفُرْقَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَذَلِكَ بِإِنْهَاءِ الزَّوْجِ لَهُ بِالطَّلاَقِ الْبَائِنِ، وَكَذَلِكَ يَمْلِكُ الزَّوْجَانِ إِنْهَاءَهُ بِالْخُلْعِ، وَبِذَلِكَ يَنْقَضِي عَقْدُ النِّكَاحِ وَتَتَرَتَّبُ أَحْكَامُ الْفُرْقَةِ مِنْ عِدَّةٍ وَغَيْرِهَا (3) . وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (نِكَاحٍ - طَلاَقٍ) .
د - الْعُقُودُ الْمَوْقُوفَةُ:
مِنَ الْعُقُودِ مَا هُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى إِجَازَةِ غَيْرِ الْعَاقِدِ، كَعَقْدِ الْفُضُولِيِّ الَّذِي يَتَوَقَّفُ عَلَى إِجَازَةِ صَاحِبِ الشَّأْنِ، عِنْدَ مَنْ يَرَى مَشْرُوعِيَّةَ هَذَا الْعَقْدِ، كَالْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَلِلْمَالِكِ أَيْضًا إِنْهَاءُ الْعَقْدِ بِعَدَمِ إِجَازَتِهِ، وَبِذَلِكَ يَنْقَضِي الْعَقْدُ (4) .
__________
(1) البدائع 6 / 37، 77، 112، 216، والدسوقي 3 / 396، ومنح الجليل 3 / 392، 496، ومغني المحتاج 2 / 215، 270، 319، ومنتهى الإرادات 2 / 305.
(2) البدائع 5 / 306، والدسوقي 3 / 156، وأسنى المطالب 2 / 74، ومنتهى الإرادات 2 / 193.
(3) البدائع 2 / 336، وجواهر الإكليل 1 / 330، 337.
(4) البدائع 5 / 151، ومنح الجليل 2 / 481.(7/47)
اسْتِحَالَةُ التَّنْفِيذِ:
8 - قَدْ يَتَعَذَّرُ تَنْفِيذُ الْعَقْدِ، وَذَلِكَ كَمَا إِذَا هَلَكَ الْمَبِيعُ الْقِيَمِيُّ فِي يَدِ الْبَائِعِ قَبْل أَنْ يَتَسَلَّمَهُ الْمُشْتَرِي، وَكَذَهَابِ مَحَل اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ فِي الإِْجَارَةِ، وَكَمَوْتِ الْمُوَكِّل أَوِ الْوَكِيل أَوِ الشَّرِيكِ، فَفِي هَذِهِ الْحَالاَتِ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ وَيَنْقَضِي لاِسْتِحَالَةِ تَنْفِيذِهِ، وَتَتَرَتَّبُ الأَْحْكَامُ الْمُقَرَّرَةُ فِي ذَلِكَ مِنْ سُقُوطِ الثَّمَنِ وَالأُْجْرَةِ، وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ (ر: هَلاَكٌ - انْفِسَاخٌ) .
هَذِهِ هِيَ أَسْبَابُ انْقِضَاءِ الْعُقُودِ غَالِبًا مَعَ وُجُودِ غَيْرِهَا كَالْجُنُونِ، وَتَعَدِّي الأَْمِينِ فِي عُقُودِ الأَْمَانَاتِ (1) .
ثَانِيًا: الْعِدَّةُ:
9 - تَنْقَضِي عِدَّةُ الْمُعْتَدَّةِ، إِمَّا بِوَضْعِ الْحَمْل، أَوْ بِانْتِهَاءِ الأَْشْهُرِ أَوْ بِالأَْقْرَاءِ. وَإِذَا انْقَضَتِ الْعِدَّةُ تَرَتَّبَ عَلَيْهَا أَحْكَامُهُ، مِنَ انْقِطَاعِ الرَّجْعَةِ لِلْمُطَلَّقَةِ رَجْعِيًّا، وَانْقِطَاعِ الإِْرْثِ، وَانْقِطَاعِ النَّفَقَةِ، وَالسُّكْنَى، وَانْتِهَاءِ الإِْحْدَادِ لِلْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، وَإِبَاحَةِ الْخُرُوجِ مِنَ الْمَنْزِل، وَحِلِّهَا لِلأَْزْوَاجِ (2) . وَغَيْرِ ذَلِكَ وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي (عِدَّةٍ) .
ثَالِثًا: الْحَضَانَةُ وَالْكَفَالَةُ:
10 - إِذَا كَانَ الطِّفْل بَيْنَ أَبَوَيْهِ فَإِنَّ حَضَانَتَهُ تَكُونُ لَهُمَا، وَتَنْقَضِي بِبُلُوغِ الطِّفْل ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى،
__________
(1) البدائع 5 / 238، 239، 6 / 78، والدسوقي 4 / 58، 59، وبداية المجتهد 2 / 229، والمهذب 1 / 355، 364، والقواعد لابن رجب ص 64.
(2) البدائع 3 / 187 وما بعدها، وجواهر الإكليل 1 / 384 وما بعدها، والمهذب 2 / 143، والمغني 7 / 456.(7/47)
وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) . وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تَكُونُ حَضَانَةُ الذَّكَرِ لِبُلُوغِهِ، وَالأُْنْثَى لِدُخُول الزَّوْجِ بِهَا.
أَمَّا إِذَا افْتَرَقَ الأَْبَوَانِ فَإِنَّ الْحَضَانَةَ تَكُونُ لِلأُْمِّ أَوَّلاً عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ، لَكِنَّهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِي وَقْتِ انْقِضَاءِ حَضَانَتِهَا. فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ تَنْقَضِي حَضَانَةُ الأُْمِّ عِنْدَ سِنِّ التَّمْيِيزِ، وَحَدَّدَهَا الْحَنَابِلَةُ بِسَبْعِ سِنِينَ. قَال الشَّافِعِيَّةُ: أَوْ ثَمَانِي سِنِينَ، ثُمَّ تَكُونُ الْحَضَانَةُ لِمَنْ يَخْتَارُهُ الطِّفْل مِنْ أَبَوَيْهِ إِلَى وَقْتِ الْبُلُوغِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الطِّفْل ذَكَرًا أَمْ أُنْثَى كَمَا يَقُول الشَّافِعِيَّةُ، أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَيَجْعَلُونَ التَّخْيِيرَ لِلذَّكَرِ، أَمَّا الأُْنْثَى فَتَنْتَقِل حَضَانَتُهَا إِلَى الأَْبِ دُونَ تَخْيِيرٍ وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تَظَل الْحَضَانَةُ لِلأُْمِّ قَائِمَةً بَعْدَ طَلاَقِهَا، وَلاَ تَنْقَضِي حَضَانَتُهَا إِلاَّ بِبُلُوغِ الذَّكَرِ وَدُخُول الأُْنْثَى. وَيَقُول الْحَنَفِيَّةُ. تَنْقَضِي حَضَانَةُ الأُْمِّ بِبَلُوعِ الأُْنْثَى وَبِاسْتِغْنَاءِ الذَّكَرِ، بِأَنْ يَأْكُل وَحْدَهُ، وَيَشْرَبَ وَحْدَهُ، وَيَسْتَنْجِيَ وَحْدَهُ، دُونَ تَقْدِيرِ سِنٍّ، وَذَكَرَ الْخَصَّافُ سَبْعَ سِنِينَ أَوْ ثَمَانِيَ سِنِينَ.
وَإِذَا اسْتَغْنَى الذَّكَرُ أَوْ بَلَغَ سَبْعَ سِنِينَ أَوْ ثَمَانِيًا كَمَا يَقُول الْخَصَّافُ انْعَقَلَتْ حَضَانَتُهُ لِلأَْبِ إِلَى بُلُوغِهِ (1) . (ر: حَضَانَةٌ) .
رَابِعًا: الإِْيلاَءُ:
11 - يَنْقَضِي الإِْيلاَءُ (وَهُوَ الْحَلِفُ عَلَى تَرْكِ وَطْءِ الزَّوْجَةِ) بِالآْتِي:
__________
(1) البدائع 4 / 42، 43، ومنح الجليل 2 / 452، والمهذب 2 / 170، 172، والمغني 7 / 614.(7/48)
أ - تَعْجِيل مُقْتَضِي الْحِنْثِ بِالْفَيْءِ قَبْل مُضِيِّ مُدَّةِ الإِْيلاَءِ (وَهِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ) بِأَنْ يَفْعَل مَا حَلَفَ عَلَى تَرْكِهِ وَهُوَ الْوَطْءُ، وَيَلْزَمُهُ التَّكْفِيرُ.
ب - تَكْفِيرُ الْيَمِينِ وَالْوَطْءُ بَعْدَ الْمُدَّةِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهَا.
ج - مُضِيُّ مُدَّةِ الإِْيلاَءِ وَهِيَ الأَْرْبَعَةُ الأَْشْهُرُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، إِذْ تَبِينُ الزَّوْجَةُ مِنْهُ بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى قَضَاءِ الْقَاضِي، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى انْقِضَاءِ أَجَل الإِْيلاَءِ إِمَّا وُجُوبُ الْفَيْءِ أَوِ الطَّلاَقُ الرَّجْعِيُّ كَمَا يَقُول الْجُمْهُورُ، أَوِ الْبَائِنُ كَمَا يَقُول الْحَنَفِيَّةُ، إِلاَّ إِذَا رَضِيَتِ الزَّوْجَةُ بِالْمُقَامِ مَعَهُ دُونَ فَيْءٍ كَمَا يَقُول الْجُمْهُورُ (1) . وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (إِيلاَءٍ) .
خَامِسًا: الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ:
12 - يَنْقَضِي حُكْمُ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ بِالْغُسْل الْوَاجِبِ، وَبِتَخَرُّقِ الْخُفِّ كَثِيرًا، وَبِنَزْعِهِ، وَبِمُضِيِّ الْمُدَّةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ (2) . وَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ بُطْلاَنُ الْمَسْحِ. (ر: الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ) .
سَادِسًا: صَلاَةُ الْمُسَافِرِ:
13 - مِمَّا يَنْقَضِي بِهِ حُكْمُ قَصْرِ الصَّلاَةِ لِلْمُسَافِرِ انْقِضَاءُ مُدَّةِ الإِْقَامَةِ الْمُبِيحَةِ لِلْقَصْرِ، عَلَى خِلاَفٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي كَوْنِهَا أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ أَوْ خَمْسَةَ عَشَرَ،
__________
(1) البدائع 3 / 175 - 179، والاختيار 3 / 152، وجواهر الإكليل 1 / 369، والمهذب 2 / 110، والمغني 7 / 304، 318، 322.
(2) البدائع 1 / 12، وجواهر الإكليل 1 / 25، والمهذب 1 / 29، والمغني 1 / 287.(7/48)
وَكَذَلِكَ يَنْقَضِي بِنِيَّةِ الإِْتْمَامِ، وَبِدُخُول الْوَطَنِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ (1) . (ر: صَلاَةُ الْمُسَافِرِ) .
سَابِعًا: انْقِضَاءُ الأَْجَل:
14 - يَنْقَضِي الأَْجَل إِمَّا بِالإِْسْقَاطِ أَوْ بِالسُّقُوطِ. وَمِثَالُهُ فِي الإِْسْقَاطِ: إِسْقَاطُ الْمَدِينِ حَقَّهُ مِنَ الأَْجَل. وَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ أَنْ يُصْبِحَ الدَّيْنُ حَالًّا. وَمِثَالُهُ فِي السُّقُوطِ: انْتِهَاءُ مُدَّتِهِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ إِمَّا بَدْءُ تَنْفِيذِ الاِلْتِزَامِ، كَوُجُوبِ الزَّكَاةِ بِانْقِضَاءِ الْحَوْل عَلَى مِلْكِ النِّصَابِ، وَإِمَّا إِنْهَاءُ الاِلْتِزَامِ كَالإِْجَارَةِ الْمُقَيَّدَةِ بِزَمَنٍ، فَإِنَّهَا تَنْقَضِي بِانْقِضَاءِ الأَْجَل. وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (أَجَلٍ) .
هَذِهِ بَعْضُ أَمْثِلَةٍ لِلاِنْقِضَاءِ، وَغَيْرُهَا كَثِيرٌ، كَانْقِضَاءِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ بِانْقِطَاعِ الدَّمِ، وَانْقِضَاءِ الْحَجْرِ بِالرُّشْدِ، وَانْقِضَاءِ خِيَارِ الشَّرْطِ بِانْتِهَاءِ مُدَّتِهِ أَوْ بِالتَّصَرُّفِ مِمَّنْ لَهُ الْحَقُّ. وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مَوَاضِعِهِ.
الاِخْتِلاَفُ فِي الاِنْقِضَاءِ:
15 - إِذَا تَنَازَعَ طَرَفَانِ فِي انْقِضَاءِ شَيْءٍ أَوْ بَقَائِهِ، فَإِنَّ الْحُكْمَ بِالاِنْقِضَاءِ وَعَدَمِهِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ التَّصَرُّفَاتِ.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ:
أ - فِي الْهِدَايَةِ: إِذَا قَالَتِ الْمُعْتَدَّةُ انْقَضَتْ عِدَّتِي وَكَذَّبَهَا الزَّوْجُ، كَانَ الْقَوْل قَوْلَهَا مَعَ الْيَمِينِ؛ لأَِنَّهَا
__________
(1) البدائع 1 / 97، والدسوقي 1 / 364، ومنتهى الإرادات 1 / 278.(7/49)
أَمِينَةٌ فِي ذَلِكَ، وَقَدِ اتُّهِمَتْ فِي ذَلِكَ فَتَحْلِفُ كَالْمُودَعِ (1) .
ب - فِي جَوَاهِرِ الإِْكْلِيل: إِنِ اخْتَلَفَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي فِي انْقِضَاءِ الأَْجَل (بِالنِّسْبَةِ لِلثَّمَنِ) لاِخْتِلاَفِهِمَا فِي مَبْدَئِهِ بِأَنْ قَال الْبَائِعُ: أَوَّل الشَّهْرِ وَقَال الْمُبْتَاعُ مُنْتَصَفُهُ، وَلاَ بَيِّنَةَ لأَِحَدِهِمَا، وَفَاتَتِ السِّلْعَةُ فَالْقَوْل لِمُنْكِرِ التَّقَضِّي، أَيِ انْقِضَاءِ الأَْجَل مُشْتَرِيًا كَانَ أَوْ بَائِعًا، بِيَمِينِهِ إِنْ أَشْبَهَ سَوَاءٌ أَشْبَهَ الآْخَرَ أَمْ لاَ؛ لأَِنَّ الأَْصْل عَدَمُ انْقِضَائِهِ، فَإِنْ لَمْ تَفُتِ السِّلْعَةُ حَلَفَا وَفُسِخَ الْبَيْعُ (2) . ج - فِي الْمُهَذَّبِ: إِنِ اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ فِي انْقِضَاءِ مُدَّةِ الإِْيلاَءِ فَادَّعَتِ الْمَرْأَةُ انْقِضَاءَهَا وَأَنْكَرَ الزَّوْجُ فَالْقَوْل قَوْل الزَّوْجِ؛ لأَِنَّ الأَْصْل أَنَّهَا لَمْ تَنْقَضِ؛ وَلأَِنَّ هَذَا اخْتِلاَفٌ فِي وَقْتِ الإِْيلاَءِ فَكَانَ الْقَوْل فِيهِ قَوْلَهُ (3) .
انْقِطَاعٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - يَأْتِي الاِنْقِطَاعُ فِي اللُّغَةِ بِمَعَانٍ عِدَّةٍ مِنْهَا: التَّوَقُّفُ وَالتَّفَرُّقُ (4) .
وَيَسْتَعْمِلُهُ الْفُقَهَاءُ بِهَذِهِ الْمَعَانِي، كَمَا يُطْلِقُونَ
__________
(1) الهداية 2 / 30.
(2) جواهر الإكليل 2 / 65.
(3) المهذب 2 / 112.
(4) تاج العروس، وترتيب القاموس مادة: (قطع) .(7/49)
لَفْظَ الْمُنْقَطِعِ عَلَى الصَّغِيرِ الَّذِي فَقَدَ أُمَّهُ مِنْ بَنِي آدَمَ (1) .
وَالاِنْقِطَاعُ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ: عَدَمُ اتِّصَال سَنَدِ الْحَدِيثِ، سَوَاءٌ سَقَطَ ذِكْرُ الرَّاوِي مِنْ أَوَّل الإِْسْنَادِ أَوْ وَسَطِهِ أَوْ آخِرِهِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الرَّاوِي وَاحِدًا أَمْ أَكْثَرَ، عَلَى التَّوَالِي أَوْ غَيْرِهِ، فَيَشْمَل الْمُرْسَل، وَالْمُعَلَّقَ، وَالْمُعْضَل، وَالْمُدَلَّسَ، إِلاَّ أَنَّ الْغَالِبَ اسْتِعْمَالُهُ فِي رِوَايَةِ مَنْ دُونَ التَّابِعِيِّ عَنِ الصَّحَابِيِّ كَمَالِكٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ (2) . وَهَذَا أَحَدُ مَعَانِيهِ، وَلَهُ بَعْضُ الْمَعَانِي يَتَكَلَّمُ عَنْهَا الأُْصُولِيُّونَ فِي مَبْحَثِ السُّنَّةِ (الْمُرْسَل) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الاِنْقِرَاضُ:
2 - يُعَبِّرُ الْفُقَهَاءُ بِالاِنْقِطَاعِ عَنِ الشَّيْءِ الَّذِي لَمْ يُوجَدْ أَصْلاً كَالْوَقْفِ عَلَى مُنْقَطِعِ الأَْوَّل، أَمَّا الاِنْقِرَاضُ فَيَكُونُ فِي الأَْشْيَاءِ الَّتِي وُجِدَتْ ثُمَّ انْعَدَمَتْ (3) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
3 - يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ فِي الاِنْقِطَاعِ بِاخْتِلاَفِ مَا يُضَافُ إِلَيْهِ، فَفِي انْقِطَاعِ دَمِ الْحَيْضِ أَوِ النِّفَاسِ يَكُونُ الْحُكْمُ كَالآْتِي:
اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى حُرْمَةِ وَطْءِ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ
__________
(1) القليوبي 3 / 189 ط مصطفى الحلبي، وجواهر الإكليل 1 / 3، نشر دار الباز، والطحطاوي على مراقي الفلاح ص 80 نشر دار الإيمان.
(2) كشاف اصطلاحات الفنون مادة: (قطع) .
(3) النظم المستعذب بهامش المهذب 1 / 448.(7/50)
قَبْل انْقِطَاعِ دَمِهِمَا، وَاخْتَلَفُوا هَل يَكُونُ الْغُسْل شَرْطًا لِحِل الاِسْتِمْتَاعِ بَعْدَ انْقِطَاعِ الدَّمِ، أَوْ يَكْفِي أَنْ تَكُونَ فِي حُكْمِ الطَّاهِرَاتِ؟ . فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى تَحْرِيمِ الْوَطْءِ حَتَّى تَغْتَسِل أَوْ تَتَيَمَّمَ إِنْ كَانَتْ أَهْلاً لَهُ، وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: إِنِ انْقَطَعَ دَمُهَا لأَِكْثَرِ الْحَيْضِ وَهُوَ عَشَرَةُ أَيَّامٍ عِنْدَهُ حَل الْوَطْءُ فِي الْحَال، وَإِنِ انْقَطَعَ لأَِقَلِّهِ لَمْ يَحِل حَتَّى تَغْتَسِل أَوْ تَتَيَمَّمَ، أَوْ تَصِيرَ الصَّلاَةُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهَا، بِأَنْ يَمْضِيَ وَقْتٌ بَعْدَ انْقِطَاعِ الدَّمِ يَتَّسِعُ لِلْغُسْل أَوِ التَّيَمُّمِ وَالصَّلاَةِ (1) ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي بَابِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ.
انْقِطَاعُ الاِقْتِدَاءِ بِنِيَّةِ الْمُفَارَقَةِ:
4 - يَنْقَطِعُ الاِقْتِدَاءُ فِي الصَّلاَةِ مِنْ جَانِبِ الْمَأْمُومِ إِنْ نَوَى مُفَارَقَةَ إِمَامِهِ، وَفِي كَوْنِ الصَّلاَةِ مَعَ الْمُفَارَقَةِ صَحِيحَةً أَوْ بَاطِلَةً خِلاَفٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، مِنْهُمْ مَنْ يَرَى أَنَّهَا صَحِيحَةٌ مُطْلَقًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى أَنَّهَا بَاطِلَةٌ مُطْلَقًا، وَيُفَرِّقُ الْبَعْضُ بَيْنَ نِيَّةِ الْمُفَارَقَةِ مَعَ الْعُذْرِ وَبِدُونِهِ، فَهِيَ مَعَ الْعُذْرِ صَحِيحَةٌ، وَبَاطِلَةٌ بِدُونِهِ (2) . وَيُفَصِّل الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ فِي صَلاَةِ الْجَمَاعَةِ وَالاِقْتِدَاءِ.
وَكَذَلِكَ تَنْقَطِعُ الْقُدْوَةُ بِخُرُوجِ الإِْمَامِ مِنْ صَلاَتِهِ وَمَعَ خُرُوجِهِ تَنْشَأُ بَعْضُ الأَْحْكَامِ، فَقَدْ تَبْطُل صَلاَتُهُ وَصَلاَةُ الْمَأْمُومِينَ، وَقَدْ يَسْتَخْلِفُ وَتَصِحُّ الصَّلاَةُ (3) وَيُفَصِّل الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ فِي (صَلاَةِ
__________
(1) المجموع 2 / 370 - 371، 380.
(2) المغني 2 / 233، والحطاب 2 / 122، والطحطاوي على مراقي الفلاح ص 184.
(3) مغني المحتاج 1 / 259 ط مصطفى الحلبي، والطحطاوي على مراقي الفلاح ص 169.(7/50)
الْجَمَاعَةِ، وَاسْتِخْلاَفٌ) .
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
5 - يَذْكُرُ الْفُقَهَاءُ الاِنْقِطَاعَ فِي الْمَوَاضِعِ الآْتِيَةِ: فِي انْقِطَاعِ التَّتَابُعِ فِي صَوْمِ الْكَفَّارَاتِ الَّتِي يَجِبُ فِيهَا التَّتَابُعُ، كَكَفَّارَةِ الْقَتْل وَالظِّهَارِ وَالإِْفْطَارِ فِي رَمَضَانَ.
وَفِي الْوَقْفِ فِي شَرْطِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ، وَهَل يَصِحُّ الْوَقْفُ إِنْ كَانَ عَلَى مُنْقَطِعِ الأَْوَّل أَوِ الآْخَرِ أَوِ الْوَسَطِ (1) ؟ .
وَفِي إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ، وَحُقُوقِ الاِرْتِفَاقِ أَوِ الْمَنَافِعِ الْمُشْتَرَكَةِ: أَثْنَاءَ الْكَلاَمِ عَنْ بَذْل مِيَاهِ الآْبَارِ إِذَا كَانَتْ تَنْقَطِعُ أَوْ تَسْتَخْلِفُ، وَعَمَّا إِذَا حَفَرَ بِئْرًا فَانْقَطَعَ بِهِ مَاءُ بِئْرِ جَارِهِ (2) .
وَفِي النِّكَاحِ: عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنِ الْغَيْبَةِ الْمُنْقَطِعَةِ، وَنَقَل الْوِلاَيَةُ بِسَبَبِهَا.
وَفِي الْقَضَاءِ: عِنْدَ الْكَلاَمِ عَلَى انْقِطَاعِ الإِْنْسَانِ لِلْقَضَاءِ وَالْفُتْيَا، وَرِزْقُ الْقَاضِي لِلْمُنْقَطِعِ لَهُمَا، وَعِنْدَ الْكَلاَمِ عَنِ انْقِطَاعِ الْخُصُومَةِ بِالْيَمِينِ (3) .
انْقِلاَبُ الْعَيْنِ
انْظُرْ: تَحَوُّلٌ.
__________
(1) المجموع 6 / 394، والقليوبي 3 / 102، 189.
(2) الكافي لابن عبد البر 2 / 944.
(3) الروضة 12 / 40 ط المكتب الإسلامي، وكشاف القناع 6 / 291 ط الرياض.(7/51)
إِنْكَارٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْنْكَارُ لُغَةً: مَصْدَرُ أَنْكَرَ وَيَأْتِي فِي اللُّغَةِ لِثَلاَثَةِ مَعَانٍ:
الأَْوَّل: الْجَهْل بِالشَّخْصِ أَوِ الشَّيْءِ أَوِ الأَْمْرِ. تَقُول: أَنْكَرْتُ زَيْدًا وَأَنْكَرْتُ الْخَبَرَ إِنْكَارًا، وَنَكَّرْتُهُ، إِذَا لَمْ تَعْرِفْهُ. قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} (1) .
وَقَدْ يَكُونُ فِي الإِْنْكَارِ مَعَ عَدَمِ الْمَعْرِفَةِ بِالشَّيْءِ النَّفْرَةُ مِنْهُ وَالتَّخَوُّفُ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا جَاءَ آل لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ قَال إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} (2) أَيْ تُنْكِرُكُمْ نَفْسِي وَتَنْفِرُ مِنْكُمْ، فَأَخَافُ أَنْ تَطْرُقُونِي بِشَرٍّ.
الثَّانِي: نَفْيُ الشَّيْءِ الْمُدَّعَى، أَوِ الْمَسْئُول عَنْهُ.
وَالثَّالِثُ: تَغْيِيرُ الأَْمْرِ الْمُنْكَرِ وَعَيْبُهُ وَالنَّهْيُ عَنْهُ. وَالْمُنْكَرُ هُوَ الأَْمْرُ الْقَبِيحُ، خِلاَفُ الْمَعْرُوفِ. وَاسْمُ الْمَصْدَرِ هُنَا (النَّكِيرُ) ، وَمَعْنَاهُ (الإِْنْكَارُ) (3) أَمَّا فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ فَيَرِدُ اسْتِعْمَال (الإِْنْكَارِ) بِمَعْنَى الْجَحْدِ، وَبِمَعْنَى تَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ، وَلَمْ يُسْتَدَل عَلَى وُرُودِهِ بِمَعْنَى الْجَهْل بِالشَّيْءِ فِي كَلاَمِهِمْ.
__________
(1) سورة يوسف / 58.
(2) سورة الحجر / 62.
(3) لسان العرب، والمصباح المنير مادة: (نكر) .(7/51)
أَوَّلاً: الإِْنْكَارُ بِمَعْنَى الْجَحْدِ
الْمُقَارَنَةُ بَيْنَ الإِْنْكَارِ بِهَذَا الْمَعْنَى وَالْجَحْدِ وَالْجُحُودِ:
2 - سَاوَى بَعْضُ عُلَمَاءِ اللُّغَةِ فِي الْمَعْنَى بَيْنَ الإِْنْكَارِ وَبَيْنَ الْجَحْدِ وَالْجُحُودِ. قَال فِي اللِّسَانِ: الْجَحْدُ وَالْجُحُودُ نَقِيضُ الإِْقْرَارِ، كَالإِْنْكَارِ وَالْمَعْرِفَةِ. وَقَال الْجَوْهَرِيُّ: الْجُحُودُ الإِْنْكَارُ مَعَ الْعِلْمِ. يُقَال: جَحَدَهُ حَقَّهُ وَبِحَقِّهِ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - النَّفْيُ:
3 - النَّفْيُ يَكُونُ بِمَعْنَى الإِْنْكَارِ أَوِ الْجَحْدِ، وَهُوَ مُقَابِل الإِْيجَابِ: وَقِيل الْفَرْقُ بَيْنَ النَّفْيِ وَبَيْنَ الْجَحْدِ أَنَّ النَّافِيَ إِنْ كَانَ صَادِقًا سُمِّيَ كَلاَمُهُ نَفْيًا وَلاَ يُسَمَّى جَحْدًا، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا سُمِّيَ جَحْدًا وَنَفْيًا أَيْضًا، فَكُل جَحْدٍ نَفْيٌ. وَلَيْسَ كُل نَفْيٍ جَحْدًا. ذَكَرَهُ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ. قَالُوا: وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} (2) .
ب - النُّكُول:
4 - النُّكُول أَنْ يَمْتَنِعَ مِنَ الْحَلِفِ مَنْ تَوَجَّهَتْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ فِي الدَّعْوَى، بِقَوْلِهِ: أَنَا نَاكِلٌ، أَوْ يَقُول لَهُ الْقَاضِي: احْلِفْ، فَيَقُول: لاَ أَحْلِفُ. أَوْ سَكَتَ سُكُوتًا يَدُل عَلَى الاِمْتِنَاعِ.
ج - الرُّجُوعُ:
5 - الرُّجُوعُ عَنِ الشَّيْءِ تَرْكُهُ بَعْدَ الإِْقْدَامِ عَلَيْهِ.
__________
(1) لسان العرب (جحد) .
(2) سورة النمل / 14، وانظر كشاف اصطلاحات الفنون 2 / 192، 6 / 1437 ط الهند.(7/52)
فَالرُّجُوعُ فِي الشَّهَادَةِ أَنْ يَقُول الشَّاهِدُ أَبْطَلْتُ شَهَادَتِي، أَوْ فَسَخْتُهَا، أَوْ رَدَدْتُهَا. وَقَدْ يَكُونُ الرُّجُوعُ عَنِ الإِْقْرَارِ بِادِّعَاءِ الْغَلَطِ وَنَحْوِهِ (1) .
د - الاِسْتِنْكَارُ:
6 - الاِسْتِنْكَارُ يَأْتِي بِمَعْنَى عَدِّ الشَّيْءِ مُنْكَرًا، وَبِمَعْنَى الاِسْتِفْهَامِ عَمَّا تُنْكِرُهُ، وَبِمَعْنَى جَهَالَةِ الشَّيْءِ مَعَ حُصُول الاِشْتِبَاهِ (2) .
وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الاِسْتِنْكَارَ يُوَافِقُ الإِْنْكَارَ فِي مَجِيئِهِمَا بِمَعْنَى الْجَهَالَةِ، وَيَنْفَرِدُ الإِْنْكَارُ بِمَجِيئِهِ بِمَعْنَى الْجَحْدِ، وَيَنْفَرِدُ الاِسْتِنْكَارُ بِمَجِيئِهِ بِمَعْنَى الاِسْتِفْهَامِ عَمَّا يُنْكَرُ.
الأَْحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالإِْنْكَارِ فِي الدَّعْوَى.
7 - يَجِبُ عَلَى الْمُدَّعِي لإِِثْبَاتِ حَقِّهِ أَنْ يَأْتِيَ بِبَيِّنَةٍ تُثْبِتُ دَعْوَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ فَإِنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَلْزَمُهُ الْجَوَابُ عَمَّا ادَّعَى عَلَيْهِ بِهِ، فَإِمَّا أَنْ يُقِرَّ، وَإِمَّا أَنْ يُنْكِرَ.
فَإِنْ أَقَرَّ لَزِمَهُ الْحَقُّ، وَإِنْ أَنْكَرَ فَعَلَى الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةُ، فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ قَضَى لَهُ، وَإِنْ لَمْ يُقِمْهَا وَطَلَبَ الْيَمِينَ مِنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَلَّفَهُ الْحَاكِمُ، فَإِنْ حَلَفَ بَرِئَ مِنَ الْمُدَّعِي، وَإِنْ نَكَل حَكَمَ عَلَيْهِ. وَقِيل: تُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي. هَذَا طَرِيقُ الْحُكْمِ إِجْمَالاً، لِقَوْل النَّبِيِّ: الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ (3)
__________
(1) القليوبي 4 / 332، 3 / 5.
(2) لسان العرب، ومعجم اللغة، والمرجع في اللغة.
(3) حديث: " البينة على المدعي، واليمين على من أنكر ". أخرجه البيهقي في سننه (10 / 252 - ط حيدر آباد) وحسنه ابن الصلاح كما في جامع العلوم والحكم (ص 294 - ط الحلبي) .(7/52)
وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلاَتٌ تُنْظَرُ فِي (إِثْبَاتٍ، وَدَعْوَى، حَلِفٍ، إِقْرَارٍ، نُكُولٍ) .
مَا بِهِ يَتَحَقَّقُ الإِْنْكَارُ:
أَوَّلاً: النُّطْقُ:
8 - يَتَحَقَّقُ الإِْنْكَارُ بِالنُّطْقِ. وَيُشْتَرَطُ فِي النُّطْقِ أَنْ يَكُونَ صَرِيحًا بِحَيْثُ لاَ يُحْتَمَل إِلاَّ الإِْنْكَارَ، كَأَنْ يَقُول لَمْ تُسَلِّفْنِي مَا تَدَّعِيهِ. وَهُنَاكَ أَلْفَاظٌ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي كَوْنِهَا صَرِيحَةً أَوْ غَيْرَ صَرِيحَةٍ، كَأَنْ يَقُول: لاَ حَقَّ لَهُ عِنْدِي. فَإِنَّهُ لاَ يَكُونُ إِنْكَارًا، وَهَذَا هُوَ الْقَوْل الْمُقَدَّمُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ قَوْل ابْنِ الْقَاسِمِ، وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ. وَالْقَوْل الآْخَرُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَقَوْل الْحَنَابِلَةِ أَنْ يَكُونَ إِنْكَارًا؛ لأَِنَّ نَفْيَ الْمُطْلَقِ يَشْمَل نَفْيَ الْمُقَيَّدِ، فَقَوْلُهُ لَيْسَ لَهُ عَلَيَّ حَقٌّ نَفْيٌ مُطْلَقٌ لِحَقِّ الْمُدَّعِي، أَيًّا كَانَ سَبَبُهُ، فَيُعْتَبَرُ جَوَابًا كَافِيًا وَإِنْكَارًا مُوجِبًا لِلْحَلِفِ بِشُرُوطِهِ (1) .
ثَانِيًا: الاِمْتِنَاعُ مِنَ الإِْقْرَارِ وَالإِْنْكَارِ:
9 - لَوْ قَال الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: لاَ أُقِرُّ وَلاَ أُنْكِرُ، فَقَدِ اخْتَلَفَتْ أَقْوَال الْفُقَهَاءِ فِي حُكْمِ امْتِنَاعِهِ هَذَا. فَقَال صَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ: هُوَ إِنْكَارٌ، فَيُسْتَحْلَفُ بَعْدَهُ. وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - وَهُوَ قَوْلٌ لِلْمَالِكِيَّةِ - إِنَّ قَوْلَهُ لاَ أُقِرُّ وَلاَ أُنْكِرُ بِمَنْزِلَةِ النُّكُول، فَيَقْضِي بِلاَ اسْتِحْلاَفٍ، كَمَا يَقْضِي عَلَى النَّاكِل عَنِ الْيَمِينِ، وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ
__________
(1) معين الحكام ص 74، وتبصرة الحكام 1 / 162. والقليوبي 4 / 338، وشرح منتهى الإرادات 3 / 485(7/53)
يُعْلِمَهُ الْقَاضِي أَنَّهُ إِنْ لَمْ يُقِرَّ وَلَمْ يُنْكِرْ حَكَمَ عَلَيْهِ.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ، وَهُوَ قَوْل الْمَالِكِيَّةِ الْمُقَدَّمُ عِنْدَهُمْ: إِنْ قَال لاَ أُقِرُّ وَلاَ أُنْكِرُ لاَ يُسْتَحْلَفُ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يُظْهِرِ الإِْنْكَارَ، وَيُحْبَسُ حَتَّى يُقِرَّ وَيُنْكِرَ. وَفِي مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ الْقَاضِيَ يُؤَدِّبُهُ حَتَّى يُقِرَّ أَوْ يُنْكِرَ، فَإِنِ اسْتَمَرَّ عَلَى امْتِنَاعِهِ حَكَمَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ يَمِينٍ.
وَنَقَل الْكَاسَانِيُّ عَنْ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ قَوْلَهُ لاَ أُقِرُّ وَلاَ أُنْكِرُ إِقْرَارٌ (1) . وَلَمْ نَرَ لِلشَّافِعِيَّةِ نَصًّا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
ثَالِثًا: السُّكُوتُ:
10 - مَنِ ادَّعَى عَلَيْهِ أَمَامَ الْقَضَاءِ فَسَكَتَ، فَفِي اعْتِبَارِ سُكُوتِهِ إِنْكَارًا أَقْوَالٌ:
الأَْوَّل: إِنَّ سُكُوتَهُ إِنْكَارٌ، وَهَذَا قَوْل أَبِي يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى عِنْدَهُمْ؛ لأَِنَّ الْفَتْوَى عَلَى قَوْلِهِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْقَضَاءِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ. قَال صَاحِبُ الْبَدَائِعِ: لأَِنَّ الدَّعْوَى أَوْجَبَتِ الْجَوَابَ عَلَيْهِ، وَالْجَوَابُ إِمَّا إِقْرَارٌ وَإِمَّا إِنْكَارٌ، فَلاَ بُدَّ مِنْ حَمْل السُّكُوتِ عَلَى أَحَدِهِمَا، وَالْحَمْل عَلَى الإِْنْكَارِ أَوْلَى؛ لأَِنَّ الْعَاقِل الْمُتَدَيِّنَ لاَ يَسْكُتُ عَنْ إِظْهَارِ الْحَقِّ الْمُسْتَحَقِّ لِغَيْرِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، فَكَانَ حَمْل السُّكُوتِ عَلَى الإِْنْكَارِ أَوْلَى، فَكَانَ السُّكُوتُ إِنْكَارًا دَلاَلَةً.
وَهَذَا إِنْ كَانَ سُكُوتُهُ لِغَيْرِ عُذْرٍ، فَإِنْ كَانَ لِعُذْرٍ كَمَا لَوْ كَانَ فِي لِسَانِهِ آفَةٌ تَمْنَعُهُ عَنِ التَّكَلُّمِ، أَوْ فِي
__________
(1) ابن عابدين 4 / 423، ومعين الحكام ص 75، ولسان الحكام 1 / 60، وتبصرة الحكام 1 / 163، 299، 301، وشرح المنتهى 3 / 95، والبدائع 8 / 3925.(7/53)
سَمْعِهِ مَا يَمْنَعُهُ مِنْ سَمَاعِ الْكَلاَمِ، فَلاَ يُعَدُّ سُكُوتُهُ إِنْكَارًا.
وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ مِنَ الأَْعْذَارِ أَيْضًا أَنْ يَسْكُتَ لِدَهْشَةٍ أَوْ غَبَاوَةٍ. أَمَّا الأَْخْرَسُ فَقَالُوا: إِنَّ تَرْكَهُ الإِْشَارَةَ بِمَنْزِلِهِ السُّكُوتِ (1) . فَعَلَى هَذَا الْقَوْل يَطْلُبُ الْقَاضِي مِنَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ، عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ فِي دُرَرِ الْحُكَّامِ (2) .
11 - الْقَوْل الثَّانِي مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ ثَانِي قَوْلَيْنِ لِلشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ سُكُوتَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ النُّكُول، فَيَحْكُمُ عَلَيْهِ الْقَاضِي بِالسُّكُوتِ كَمَا يَحْكُمُ عَلَى الْمُنْكِرِ النَّاكِل عَنِ الْيَمِينِ، بَعْدَ أَنْ يُعْلِمَهُ الْقَاضِي بِحُكْمِ سُكُوتِهِ، فَيَقُول لَهُ: إِنْ أَجَبْتَ عَنْ دَعْوَاهُ وَإِلاَّ جَعَلْتُك نَاكِلاً وَقَضَيْتُ عَلَيْكَ، وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ. عَلَى أَنَّهُ لاَ يَحْكُمُ عَلَيْهِ إِلاَّ بَعْدَ رَدِّ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
12 - الْقَوْل الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلٌ لِلْحَنَابِلَةِ أَيْضًا: يَحْبِسُهُ الْقَاضِي حَتَّى يُجِيبَ عَنِ الدَّعْوَى (3) .
غَيْبَةُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَعْدَ إِنْكَارِهِ:
13 - إِذَا حَضَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَيْنَ يَدَيِ الْقَاضِي، فَأَنْكَرَ مَا ادَّعَى عَلَيْهِ بِهِ، ثُمَّ غَابَ قَبْل إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ
__________
(1) شرح المجلة للأتاسي 6 / 118، والبدائع 8 / 3925، مطبعة الإمام، وابن عابدين والدر المختار 4 / 423، ومعين الحكام ص 75، وشرح المنهاج مع حاشية القليوبي وعميرة 4 / 338.
(2) درر الحكام 4 / 574.
(3) شرح المنهاج وحاشية القليوبي 4 / 338، والمقنع 3 / 619 ط السلفية، وشرح المقنع بهامش المغني 11 / 430، والتبصرة 1 / 301.(7/54)
عَلَيْهِ، لَمْ يَجُزِ الْحُكْمُ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَكَذَا إِذَا سُمِعَتِ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ ثُمَّ غَابَ قَبْل الْقَضَاءِ؛ لأَِنَّ الشَّرْطَ قِيَامُ الإِْنْكَارِ وَقْتَ الْقَضَاءِ.
وَخَالَفَهُ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ، فَقَال بِصِحَّةِ الْقَضَاءِ فِي هَذِهِ الْحَال؛ لأَِنَّ الشَّرْطَ عِنْدَهُ الإِْصْرَارُ عَلَى الإِْنْكَارِ إِلَى وَقْتِ الْقَضَاءِ، وَالإِْصْرَارُ ثَابِتٌ بَعْدَ غَيْبَتِهِ بِالاِسْتِصْحَابِ.
وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِجَوَازِ الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ أَصْلاً.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يُقْضَى عَلَى الْغَائِبِ فِي الْحُقُوقِ كُلِّهَا وَالْمُعَامَلاَتِ وَالْمُدَايَنَاتِ وَالْوَكَالاَتِ وَسَائِرِ الْحُقُوقِ إِلاَّ الْعَقَارَ وَحْدَهُ، فَإِنَّهُ لاَ يَحْكُمُ عَلَيْهِ فِيهِ إِلاَّ أَنْ تَطُول غَيْبَتُهُ وَيَضُرَّ ذَلِكَ بِخَصْمِهِ (1) .
حُكْمُ الْمُنْكِرِ:
14 - إِذَا ادُّعِيَ عَلَى إِنْسَانٍ بِشَيْءٍ فَأَنْكَرَ، فَإِنَّ الْبَيِّنَةَ تُطْلَبُ مِنْ خَصْمِهِ، فَإِنْ أَقَامَهَا حُكِمَ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ إِقَامَتِهَا فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَسْتَحْلِفُ الْمُنْكِرَ إِذَا طَلَبَ خَصْمُهُ تَحْلِيفَهُ، فَإِنْ حَلَفَ حَكَمَ بِبَرَاءَتِهِ مِنَ الْمُدَّعِي، وَإِنْ نَكَل قَضَى عَلَيْهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فَلاَ يَقْضِي عَلَيْهِ حَتَّى يَرُدَّ الْيَمِينَ عَلَى طَالِبِ الْحَقِّ، فَإِنْ حَلَفَ الطَّالِبُ حِينَئِذٍ قَضَى لَهُ (2) .
وَدَلِيل اسْتِحْلاَفِ الْمُنْكِرِ حَدِيثُ: الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ (3) السَّابِقُ،
__________
(1) فتح القدير 6 / 401، قليوبي 4 / 308، والكافي 2 / 931.
(2) الطرق الحكمية 116.
(3) حديث: " البينة على المدعي، واليمين على من أنكر " سبق تخريجه (ف 7) .(7/54)
وَحَدِيثُ وَائِل بْنِ حُجْرٍ، وَفِيهِ أَنَّ رَجُلاً مِنْ حَضْرَمَوْتَ، وَرَجُلاً مِنْ كِنْدَةَ أَتَيَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال الْحَضْرَمِيُّ: إِنَّ هَذَا غَلَبَنِي عَلَى أَرْضٍ لِي وَرِثْتُهَا عَنْ أَبِي. وَقَال الْكِنْدِيُّ: أَرْضِي وَفِي يَدَيَّ لاَ حَقَّ لَهُ فِيهَا. فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: شَاهِدَاك أَوْ يَمِينُهُ قَال: إِنَّهُ لاَ يَتَوَرَّعُ عَنْ شَيْءٍ. قَال: لَيْسَ لَكَ إِلاَّ ذَلِكَ (1) .
شَرْطُ اسْتِحْلاَفِ الْمُنْكِرِ:
15 - انْفَرَدَ الْمَالِكِيَّةُ عَنْ بَقِيَّةِ الْمَذَاهِبِ بِاشْتِرَاطِ شَرْطَيْنِ لاِسْتِحْلاَفِ الْمُنْكِرِ، وَعَلَيْهِ فُقَهَاءُ الْمَدِينَةِ السَّبْعَةُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ فِي شَرْحِ الأَْرْبَعِينَ:
أ - أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْمُتَخَاصِمَيْنِ مُخَالَطَةٌ بِدَيْنٍ أَوْ تَكَرُّرُ بَيْعٍ وَلَوْ مَرَّةً، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا مُخَالَطَةٌ، وَأَنْكَرَ، وَلَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ، لَمْ يَثْبُتْ عَلَى الْمُنْكِرِ شَيْءٌ، وَلَمْ يُطَالَبْ بِيَمِينٍ.
وَالْمُخَالَطَةُ عِنْدَهُمْ فِي كُل مُعَامَلَةٍ بِحَسْبِهَا.
وَاسْتَثْنَوْا مَوَاضِعَ تَجِبُ فِيهَا الْيَمِينُ بِدُونِ خُلْطَةٍ: مِنْهَا: أَهْل الظُّلْمِ، وَالضَّيْفُ، وَالْمُتَّهَمُ، وَالْمَرِيضُ، وَالصُّنَّاعُ فِيمَا ادُّعِيَ عَلَيْهِمُ اسْتِصْنَاعُهُ، وَأَرْبَابُ الأَْسْوَاقِ وَالْحَوَانِيتِ فِيمَا ادُّعِيَ عَلَيْهِمْ بَيْعُهُ، وَالرُّفَقَاءُ فِي السَّفَرِ يَدَّعِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، الْوَدِيعَةُ إِذَا ادُّعِيَتْ عَلَى أَهْلِهَا، وَالْمُزَايَدَةُ إِذَا ادُّعِيَ عَلَى مَنْ حَضَرَهَا أَنَّهُ اشْتَرَى الْمَعْرُوضَ لِلْبَيْعِ (2) .
__________
(1) حديث: " شاهداك أو يمينه " أخرجه البخاري (الفتح 5 / 280 - ط السلفية) ومسلم (1 / 123 - ط الحلبي) .
(2) تبصرة الحكام 1 / 196، 201، وجواهر الإكليل 2 / 226، والدسوقي 4 / 145، والفتح المبين لابن حجر الهيثمي ص 243، وجامع العلوم والحكم لابن رجب ص 299.(7/55)
ب - أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي دَعْوَى التَّعَدِّي وَالْغَصْبِ وَنَحْوِهِمَا مَعْرُوفًا بِمِثْل مَا ادُّعِيَ عَلَيْهِ بِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَّهَمًا بِمِثْلِهِ لَمْ يُسْتَحْلَفْ (1) . وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي: دَعْوَى، وَقَضَاءٍ، وَيَمِينٍ.
الْمَوَاضِعُ الَّتِي يُسْتَحْلَفُ فِيهَا الْمُنْكِرُ وَالَّتِي لاَ يُسْتَحْلَفُ فِيهَا:
16 - إِنَّهُ وَإِنْ كَانَتِ الْقَاعِدَةُ أَنَّ الْيَمِينَ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ إِلاَّ أَنَّ بَعْضَ الأُْمُورِ لاَ اسْتِحْلاَفَ فِيهَا؛ لأَِنَّ الْحُقُوقَ نَوْعَانِ:
الأَْوَّل: حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى، كَالْعِبَادَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالْحُدُودِ: فَيَرَى أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَاللَّيْثُ، أَنَّ الْمُنْكِرَ يُسْتَحْلَفُ فِيهَا إِذَا اتُّهِمَ. وَقَدْ حُكِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِيمَنْ تَزَوَّجَ مَنْ لاَ تَحِل لَهُ، ثُمَّ ادَّعَى الْجَهْل. أَنَّهُ يَحْلِفُ عَلَى دَعْوَاهُ. وَكَذَا قَال إِسْحَاقُ فِي طَلاَقِ السَّكْرَانِ: يَحْلِفُ أَنَّهُ مَا كَانَ يَعْقِل، وَفِي طَلاَقِ النَّاسِي: يَحْلِفُ عَلَى نِسْيَانِهِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ اسْتِحْلاَفَ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى أَصْلاً. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي الزَّكَاةِ، وَبِهِ قَال طَاوُوسٌ وَالثَّوْرِيُّ.
الثَّانِي: حُقُوقُ الْعِبَادِ. أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى الاِسْتِحْلاَفِ فِي الأَْمْوَال، وَاخْتَلَفُوا فِي غَيْرِهَا: فَقَال الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْهُ: يُسْتَحْلَفُ فِي جَمِيعِ حُقُوقِ الآْدَمِيِّينَ.
__________
(1) تبصرة الحكام 1 / 327، 328، وجامع العلوم والحكم ص 299.(7/55)
وَقَال مَالِكٌ: لاَ يُسْتَحْلَفُ إِلاَّ فِي كُل دَعْوَى لاَ تَحْتَاجُ إِلَى شَاهِدَيْنِ. وَعَنْ أَحْمَدَ: لاَ يُسْتَحْلَفُ إِلاَّ فِيمَا يَصِحُّ بَذْلُهُ. وَفِي رِوَايَةٍ ثَالِثَةٍ: لاَ يُسْتَحْلَفُ إِلاَّ فِيمَا يُقْضَى فِيهِ بِالنُّكُول.
وَمَثَّل لَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ بِمَنِ ادَّعَى دَيْنًا عَلَى مَيِّتٍ، وَلِلْمَيِّتِ وَصِيٌّ بِقَضَاءِ دَيْنِهِ وَتَنْفِيذِ وَصَايَاهُ، فَأَنْكَرَ. فَإِنْ كَانَ لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ حَكَمَ بِهَا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ، وَأَرَادَ تَحْلِيفَ الْوَصِيِّ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ؛ لأَِنَّ مَقْصُودَ التَّحْلِيفِ أَنْ يُقْضَى عَلَيْهِ بِالنُّكُول، وَالْوَصِيُّ لاَ يُقْبَل إِقْرَارُهُ بِالدَّيْنِ، وَلَوْ نَكَل لَمْ يَقْضِ عَلَيْهِ، فَلاَ فَائِدَةَ فِي تَحْلِيفِهِ.
وَهَذَا الْخِلاَفُ الْمُتَقَدِّمُ فِي حُقُوقِ الآْدَمِيِّينَ هُوَ فِي غَيْرِ الْمُؤْتَمَنِ، أَمَّا الْمُؤْتَمَنُ فَفِيهِ لِلْعُلَمَاءِ ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ:
الأَْوَّل: وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، وَالشَّافِعِيُّ وَأَكْثَرُ الْحَنَابِلَةِ، عَلَيْهِ الْيَمِينُ؛ لأَِنَّهُ مُنْكِرٌ فَيَدْخُل فِي عُمُومِ الْحَدِيثِ السَّابِقِ: الْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ.
الثَّانِي: لاَ يَمِينَ؛ لأَِنَّهُ صَدَّقَهُ، وَلاَ يَمِينَ مَعَ التَّصْدِيقِ، وَهُوَ قَوْل الْحَارِثِ الْعُكْلِيِّ.
الثَّالِثُ: وَهُوَ الرِّوَايَةُ الأُْخْرَى عَنْ مَالِكٍ، وَهُوَ نَصُّ أَحْمَدَ. لاَ يَمِينَ عَلَيْهِ إِلاَّ أَنْ يُتَّهَمَ؛ لأَِنَّهُ إِذَا قَامَتْ قَرِينَةٌ تُنَافِي مَعْنَى الاِئْتِمَانِ فَقَدِ اخْتَل الاِئْتِمَانُ (1) .
وَتَفْصِيل مَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، أَنَّ الاِسْتِحْلاَفَ لاَ يَكُونُ فِي الْحُدُودِ وَاللِّعَانِ، بِأَنْ
__________
(1) جامع العلوم والحكم ص 300، وانظر الفتح المبين بشرح الأربعين ص 243، والطرق الحكمية لابن القيم ص 108، والإنصاف 12 / 112، وما بعدها.(7/56)
ادَّعَتْ عَلَى زَوْجِهَا أَنَّهُ قَذَفَهَا بِمَا يُوجِبُ اللِّعَانَ وَأَنْكَرَ الزَّوْجُ ذَلِكَ؛ لأَِنَّ الْحُدُودَ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، وَاللِّعَانُ فِي مَعْنَاهَا، فَلاَ يُؤْخَذُ فِيهِمَا بِالنُّكُول.
وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُمْ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ. فَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: لاَ يُسْتَحْلَفُ الْمُنْكِرُ فِي النِّكَاحِ وَالرَّجْعَةِ وَالْفَيْءِ فِي الإِْيلاَءِ وَالرِّقِّ وَالاِسْتِيلاَدِ وَالْوَلاَءِ. وَقَال أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يُسْتَحْلَفُ فِيهَا. وَالْفَتْوَى عَلَى قَوْلِهِمَا. وَقِيل عِنْدَ الْمُتَأَخِّرِينَ: يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَنْظُرَ فِي حَال الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَإِنْ رَآهُ مُتَعَنِّتًا يُحَلِّفُهُ أَخْذًا بِقَوْلِهِمَا، وَإِنْ رَآهُ مَظْلُومًا لاَ يُحَلِّفُهُ أَخْذًا بِقَوْل أَبِي حَنِيفَةَ.
ثُمَّ قَدْ قَال صَاحِبُ الأَْشْبَاهِ: لاَ يُسْتَحْلَفُ فِي إِحْدَى وَثَلاَثِينَ صُورَةً. وَنَقَل هَذَا صَاحِبُ الدُّرِّ وَعَدَّدَهَا بِالتَّفْصِيل، وَأَضَافَ إِلَيْهَا هُوَ وَابْنُ عَابِدِينَ مِنَ الصُّوَرِ مَا تَمَّتْ بِهِ تِسْعًا وَسِتِّينَ صُورَةً (1) .
حُكْمُ الإِْنْكَارِ كَذِبًا:
17 - يَجُوزُ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ الإِْنْكَارُ إِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُدَّعِي عِنْدَهُ حَقٌّ وَكَانَ مُبْطِلاً فِي دَعْوَاهُ. أَمَّا إِنْ كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَالِمًا بِحَقِّ الْمُدَّعِي عِنْدَهُ فَلاَ يَحِل لَهُ الإِْنْكَارُ.
وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مَسْأَلَتَيْنِ يَجُوزُ فِيهِمَا الإِْنْكَارُ، مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ الْمُدَّعِيَ مُحِقٌّ:
الأُْولَى: دَعْوَى الْعَيْبِ الْقَدِيمِ، كَمَا إِذَا ادَّعَى الْمُشْتَرِي أَنَّ الْمَال الَّذِي اشْتَرَيْتُهُ مِنْكَ فِيهِ كَذَا، فَلِلْبَائِعِ - وَلَوْ كَانَ وَاقِفًا عَلَى الْعَيْبِ الْقَدِيمِ - أَنْ
__________
(1) تكملة فتح القدير 7 / 169، 171، ط الميمنية، وحاشية ابن عابدين 3 / 447، 449، 451.(7/56)
يُنْكِرَ وُجُودَهُ حَتَّى يَثْبُتَهُ الْمُشْتَرِي، وَيَرُدَّهُ إِلَيْهِ لِيَتَمَكَّنَ بِدَوْرِهِ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى مَنْ بَاعَهُ إِيَّاهُ.
الثَّانِيَةُ: لِوَصِيِّ الْمُتَوَفَّى أَنْ يُنْكِرَ دَيْنَ الْمَيِّتِ وَلَوْ كَانَ عَالِمًا بِذَلِكَ.
هَذَا مَا ذَكَرَهُ فِي دُرَرِ الْحُكَّامِ. وَفِي شَرْحِ الأَْتَاسِيِّ عَلَى الْمَجَلَّةِ مَا يُفِيدُ أَنَّ الْقَاعِدَةَ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ يَسُوغُ لَهُ الإِْنْكَارُ إِنْ تَحَقَّقَتْ حَاجَتُهُ إِلَى الْبَيِّنَةِ. قَال: وَهَذَا فِي مَسَائِل مِنْهَا: اسْتَحَقَّ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي يُعْذَرُ فِي الإِْنْكَارِ، وَإِنْ عَلِمَ صِدْقَ الْمُدَّعِي، إِذْ لَوْ أَقَرَّ هُوَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى بَائِعِهِ بِالْيَمِينِ (1) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِذَا نَصَبَ الْقَاضِي مُسَخَّرًا (أَيْ مُمَثِّلاً لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ) يُنْكِرُ عَنِ الْبَائِعِ جَازَ لِلْمُسَخِّرِ الإِْنْكَارُ وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا. وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِالْمَصْلَحَةِ (2) . وَلَعَلَّهُمْ يَقْصِدُونَ مَصْلَحَةَ تَمْكِينِ الْمُدَّعِي مِنْ إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ؛ لِتَكُونَ الْبَيِّنَةُ بِنَاءً عَلَى إِنْكَارِ مُنْكِرٍ.
وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ يَجُوزُ الإِْنْكَارُ فِي حَال الْخَوْفِ عَلَى النَّفْسِ أَوِ الْمَال، وَجَعَلُوا ذَلِكَ مِنْ بَابِ الإِْكْرَاهِ. قَالُوا: إِذَا اسْتَخْفَى الرَّجُل عِنْدَ الرَّجُل مِنَ السُّلْطَانِ الْجَائِرِ الَّذِي يُرِيدُ دَمَهُ أَوْ مَالَهُ، فَسَأَلَهُ السُّلْطَانُ عَنْهُ، فَسَتَرَ عَلَيْهِ، وَجَحَدَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ، فَقَال لَهُ: احْلِفْ أَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَك، فَحَلَفَ أَنَّهُ لَيْسَ عِنْدِي؛ لِيَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ وَدَمِهِ، أَوْ مَا دُونَ ذَلِكَ مِنْ مَالِهِ، فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ خَائِفًا عَلَى نَفْسِهِ. أَمَّا إِنْ كَانَ آمِنًا عَلَى نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يَقِيَهُ بِيَمِينِهِ فَقَدْ أُجِرَ فِيمَا فَعَل، وَلَزِمَهُ الْحِنْثُ فِيمَا حَلَفَ.
__________
(1) درر الحكام شرح المجلة 4 / 574 م 1817، وشرح المجلة للآتاسي 6 / 96.
(2) القليوبي 4 / 308.(7/57)
قَالُوا: وَكَذَلِكَ فَعَل مَالِكٌ فِي هَذَا بِعَيْنِهِ. أَمَّا التَّخَلُّصُ مِنْ مِثْل هَذَا الْمَأْزِقِ بِالتَّأْوِيل وَالتَّوْرِيَةِ فَيُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (تَوْرِيَةٌ) (1) .
جَحَدَ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ كَذِبًا، إِنْ كَانَ الآْخَرُ جَاحِدًا لِحَقِّهِ:
18 - ذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَجْحَدَهُ حَتَّى فِي حَالَةِ مَا لَوْ كَانَ لَهُ دَيْنٌ قِبَل الْمُدَّعِي، وَكَانَ الْمُدَّعِي قَدْ جَحَدَهُ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَدِّ الأَْمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ وَلاَ تَخُنْ مَنْ خَانَكَ (2) .
وَلأَِنَّ الدَّيْنَ الَّذِي عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ دَيْنِهِ، كَأَنْ يَكُونَ دَيْنُ أَحَدِهِمَا ذَهَبًا وَدَيْنُ الآْخَرِ فِضَّةً، فَإِنَّ الْجَحْدَ هُنَا يَكُونُ كَبَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ، وَهُوَ لاَ يَجُوزُ وَلَوْ تَرَاضَيَا. وَإِنْ كَانَ الدَّيْنَانِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ كَانَ ذَلِكَ مِنْ قَبِيل الْمُقَاصَّةِ، وَهِيَ لاَ تَجُوزُ إِلاَّ بِالتَّرَاضِي. إِذَنْ لَيْسَ لَهُ تَعْيِينُ حَقِّهِ بِغَيْرِ صَاحِبِهِ.
وَأَجَازَ الشَّافِعِيَّةُ لِلْمَدِينِ جَحْدُ دَيْنِ مَنْ جَحَدَ دَيْنَهُ، إِذَا كَانَ عَلَى الْجَاحِدِ مِثْل مَا لَهُ عَلَيْهِ، أَوْ أَكْثَرُ مِنْهُ، فَتَحْصُل الْمُقَاصَّةُ بَيْنَ الدَّيْنَيْنِ، وَإِنْ لَمْ تُوجَدْ شُرُوطُهَا لِلضَّرُورَةِ. فَإِنْ كَانَ لَهُ دُونَ مَا لِلآْخَرِ جَحَدَ مِنْ حَقَّةِ بِقَدْرِهِ (3) .
وَلَمْ نَجِدْ لِلْحَنَفِيَّةِ تَعَرُّضًا لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
__________
(1) تبصرة الحكام 1 / 300، 2 / 180، وانظر شرح المنتهى 3 / 491، والقليوبي 4 / 341.
(2) حديث: " أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك ". أخرجه أبو داود (3 / 805 - ط عزت عبيد دعاس) والحاكم (2 / 46 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه ووافقه الذهبي.
(3) شرح الإقناع 6 / 358، وشرح المنتهى 3 / 503 والوجيز للغزالي 2 / 260، وتحفة المحتاج بحاشية الشرواني 10 / 292 ط الميمنية، والمدونة 15 / 160.(7/57)
تَعْرِيضُ الْقَاضِي بِالإِْنْكَارِ فِي الْحُدُودِ:
19 - لِلْفُقَهَاءِ فِي حُكْمِ تَعْرِيضِ الْقَاضِي بِالإِْنْكَارِ لِلْمُقِرِّ بِحَدٍّ، ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ:
الأَْوَّل: وَهُوَ قَوْل الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ اخْتِيَارُ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْقَوْل الصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - كَمَا قَال النَّوَوِيُّ - أَنَّ مَنْ أَقَرَّ لَدَى الْحَاكِمِ ابْتِدَاءً، أَوْ بَعْدَ دَعْوَى بِمَا يَسْتَوْجِبُ عُقُوبَةً لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، كَالزِّنَى وَالسَّرِقَةِ، فَإِنَّ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَعْرِضَ لَهُ بِالرُّجُوعِ عَنِ الإِْقْرَارِ. وَهَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى سَبِيل الْجَوَازِ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى سَبِيل الاِسْتِحْبَابِ.
وَاحْتَجُّوا لِذَلِكَ بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَاعِزٍ لَمَّا أَقَرَّ بِالزِّنَى: لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ، أَوْ غَمَزْتَ، أَوْ نَظَرْتَ (1) .
وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّذِي أَقَرَّ بِالسَّرِقَةِ. مَا أَخَالُكَ سَرَقْتَ (2) .
الْقَوْل الثَّانِي: وَهُوَ لِلشَّافِعِيَّةِ، أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ التَّعْرِيضُ بِالإِْنْكَارِ فِي ذَلِكَ أَصْلاً.
وَالْقَوْل الثَّالِثُ: وَهُوَ لِلشَّافِعِيَّةِ أَيْضًا، أَنَّهُ يَعْرِضُ لَهُ بِالرُّجُوعِ إِنْ كَانَ الْمُقِرُّ لاَ يَعْلَمُ أَنَّ لَهُ الرُّجُوعَ. فَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ ذَلِكَ لاَ يَعْرِضُ لَهُ.
أَمَّا التَّصْرِيحُ بِالرُّجُوعِ عَنِ الإِْقْرَارِ بِالْحَدِّ، وَتَلْقِينُ الْمُقِرِّ ذَلِكَ، فَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِعَدَمِ جَوَازِهِ.
__________
(1) حديث: " لعلك قبلت، أو غمزت، أو نظرت " أخرجه البخاري (الفتح 12 / 135 - ط السلفية) .
(2) حديث: " ما أخالك سرقت " أخرجه أحمد (5 / 293 - ط الميمنية) وأبو داود (4 / 543 - ط عزت عبيد دعاس) وأعله الخطابي كما في التلخيص لابن حجر (4 / 66 - ط شركة الطباعة الفنية المتحدة) .(7/58)
قَالُوا: لاَ يَقُول لَهُ: " ارْجِعْ عَنْ إِقْرَارِكَ " وَأَجَازَهُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، فَقَالُوا: لاَ بَأْسَ بِتَلْقِينِهِ الرُّجُوعَ.
وَهَذَا يُفْهَمُ مِنْهُ جَوَازُ التَّصْرِيحِ. وَيُؤَيِّدُهُ احْتِجَاجُ صَاحِبِ الْمُغْنِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ بِمَا رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّهُ أُتِيَ بِجَارِيَةٍ سَوْدَاءَ قَدْ سَرَقَتْ، فَقَال لَهَا: (أَسَرَقْتِ؟ قُولِي: لاَ) فَقَالَتْ: لاَ. فَخَلَّى سَبِيلَهَا (1) .
الضَّمَانُ بَعْدَ إِنْكَارِ الْحَقِّ:
20 - إِذَا أَنْكَرَ الْمُودَعُ الْوَدِيعَةَ بَعْدَ طَلَبِ رَبِّهَا لَهَا، دَخَلَتْ فِي ضَمَانِهِ، فَإِنْ تَلِفَتْ بَعْدَ إِنْكَارِهِ، كَأَنْ كَانَتْ دَابَّةً فَمَاتَتْ، أَوْ دَارًا فَانْهَدَمَتْ، يَتَقَرَّرُ عَلَيْهِ ضَمَانُهَا، وَيَضْمَنُهَا بِقِيمَتِهَا؛ لأَِنَّهُ بِإِنْكَارِهِ لَهَا يَكُونُ غَاصِبًا؛ وَلأَِنَّ الْعَقْدَ يَنْفَسِخُ بِطَلَبِ الْمَالِكِ الْوَدِيعَةَ وَإِنْكَارِ الْمُودِعِ لَهَا؛ لأَِنَّهُ بِإِنْكَارِهِ عَزَل نَفْسَهُ عَنِ الْحِفْظِ الَّذِي هُوَ مُقْتَضَى الْعَقْدِ، فَيَبْقَى مَال الْغَيْرِ بِيَدِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَيَكُونُ مَضْمُونًا، فَإِذَا هَلَكَ ضَمِنَهُ.
وَلَوْ أَنَّ الْمُودِعَ عَادَ بَعْدَ إِنْكَارِهِ، فَأَقَرَّ الْوَدِيعَةَ، لَمْ يَزُل عَنْهُ الضَّمَانُ.
وَقَال بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: لاَ يَضْمَنُ الْمُودِعُ الْوَدِيعَةَ بِالإِْنْكَارِ، إِلاَّ إِنْ نَقَلَهَا مِنْ مَكَانِهَا الَّذِي كَانَتْ فِيهِ وَقْتَ الإِْنْكَارِ، إِنْ كَانَتْ مِمَّا يُنْقَل، وَإِنْ لَمْ يَنْقُلْهَا مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ بَعْدَ الْجُحُودِ، فَهَلَكَتْ، لاَ يَضْمَنُ.
أَمَّا إِنْ رَدَّ الْوَدِيعَةَ إِلَى صَاحِبِهَا بَعْدَ الإِْنْكَارِ وَقَبْل
__________
(1) حديث أبي الدرداء: " أتي بجارية سوداء قد سرقت. . . " أخرجه البيهقي في سننه (8 / 276 - ط دائرة المعارف العثمانية) وإسناده حسن وانظر حاشية الدسوقي القليوبي 4 / 196، وتبصرة الحكام 2 / 259، والمغني 8 / 212.(7/58)
تَلَفِهَا فَيَزُول الضَّمَانُ، فَلَوْ أَوْدَعَهُ إِيَّاهَا مَرَّةً ثَانِيَةً فَتَلِفَتْ فَإِنَّهُ لاَ يَضْمَنُ (1) .
قَطْعُ مُنْكِرِ الْعَارِيَّةِ:
مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّهُ لاَ قَطْعَ عَلَى مُنْكِرِ الْوَدِيعَةِ أَوِ الْعَارِيَّةِ أَوِ الأَْمَانَةِ، وَكَذَلِكَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ، كَمَا يُفْهَمُ مِنْ كَلاَمِهِمْ، وَذَلِكَ لِعَدَمِ الأَْخْذِ مِنْ حِرْزٍ. قَالُوا: وَلِحَدِيثِ: لَيْسَ عَلَى خَائِنٍ وَلاَ مُنْتَهِبٍ، وَلاَ مُخْتَلِسٍ، قَطْعٌ (2) .
وَالْخَائِنُ هُوَ جَاحِدُ الْوَدِيعَةِ وَنَحْوِهَا. وَالرِّوَايَةُ الأُْخْرَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهِيَ الْمَذْهَبُ، عَدَمُ وُجُوبِ الْقَطْعِ عَلَيْهِمْ، إِلاَّ جَاحِدَ الْعَارِيَّةِ خَاصَّةً يَجِبُ قَطْعُهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ سَارِقٌ؛ لِمَا وَرَدَ أَنَّ امْرَأَةً كَانَتْ تَسْتَعِيرُ الْمَتَاعَ وَتَجْحَدُهُ فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَطْعِ يَدِهَا (3) .
قَال أَحْمَدُ: لاَ أَعْلَمُ شَيْئًا يَدْفَعُهُ. وَقَال الْجُمْهُورُ: فِي حَدِيثِ الْمَخْزُومِيَّةِ هَذَا، إِنَّ أَكْثَر رِوَايَاتِهِ أَنَّهَا " سَرَقَتْ " فَيُؤْخَذُ بِهَا. وَيُحْتَمَل أَنَّهَا كَانَتْ تَسْتَعِيرُ وَتَجْحَدُ، وَكَانَتْ تَسْرِقُ فَقُطِعَتْ لَسَرِقَتِهَا لاَ لِجُحُودِهَا (4)
__________
(1) ابن عابدين 4 / 498، وتبصرة الحكام 2 / 53، ومنح الجليل 3 / 466، 510، ونهاية المحتاج 6 / 130، والمغني 6 / 394 ط ثالثة.
(2) حديث: " ليس على المنتهب ولا على المختلس ولا على الخائن قطع " أخرجه الترمذي (4 / 52 - ط الحلبي) وهو حديث صحيح لطرقه، وذكرها ابن حجر في التلخيص (4 / 65 - 66 ط شركة الطباعة الفنية) .
(3) حديث: " أن امرأة. . . . " أخرجه مسلم (3 / 1316 ط الحلبي) .
(4) تبيين الحقائق 3 / 216، نشر دار المعرفة بلبنان، ومنح الجليل 3 / 466، 510، وشرح المنهاج مع حاشية القليوبي 4 / 194، وكشاف القناع 6 / 129، والعدة على إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام 4 / 371 - ط السلفية.(7/59)
وَيَرْجِعُ فِي تَفْصِيل هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَالْخِلاَفُ فِيهَا إِلَى مُصْطَلَحِ: (سَرِقَةٌ) .
الإِْنْكَارُ بَعْدَ الإِْقْرَارِ:
21 - مَنْ أَقَرَّ بِحَقٍّ ثُمَّ رَجَعَ عَنْ إِقْرَارِهِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ إِقْرَارُهُ فِي الْحُدُودِ الَّتِي لِحَقِّ اللَّهِ، أَوْ فِي غَيْرِ ذَلِكَ:
أ - الإِْنْكَارُ بَعْدَ الإِْقْرَارِ بِمَا هُوَ حَقٌّ لِلَّهِ:
22 - لَوْ أَقَرَّ رَجُلٌ بِالزِّنَى أَوْ نَحْوِهِ مِمَّا فِيهِ حَقُّ اللَّهِ، ثُمَّ أَنْكَرَهُ أَوْ رَجَعَ عَنْهُ، فَلِلْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ اتِّجَاهَاتٌ ثَلاَثَةٌ:
الأَْوَّل: وَهُوَ قَوْل الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَالْقَوْل الْمُقَدَّمُ عِنْدَ كُلٍّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ: لاَ يَلْزَمُهُ حُكْمُ إِقْرَارِهِ، بَل إِذَا رَجَعَ وَأَنْكَرَ السَّبَبَ أَوْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ، أَوْ أَنْكَرَ إِقْرَارَهُ بِهِ، أَوْ أَكْذَب الشُّهُودَ - أَيْ شُهُودَ الإِْقْرَارِ - سَقَطَ الْحَدُّ، فَلَمْ يَقُمْ عَلَيْهِ. وَلَوْ كَانَ رُجُوعُهُ أَثْنَاءَ إِقَامَةِ الْحَدِّ سَقَطَ بَاقِيهِ.
قَال الْمَرْغِينَانِيُّ: لأَِنَّ الرُّجُوعَ خَبَرٌ مُحْتَمِلٌ لِلصِّدْقِ، كَالإِْقْرَارِ، وَلَيْسَ أَحَدٌ يُكَذِّبُهُ فِيهِ، فَتَتَحَقَّقُ الشُّبْهَةُ فِي الإِْقْرَارِ، بِخِلاَفِ مَا فِيهِ حَقُّ الْعَبْدِ وَهُوَ الْقِصَاصُ وَحَدُّ الْقَذْفِ؛ لِوُجُودِ مَنْ يُكَذِّبُهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَا هُوَ حَقٌّ خَالِصٌ لِلشَّرْعِ (1) . وَمِثْل حَدِّ الزِّنَى فِي ذَلِكَ حَدُّ السَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ. الثَّانِي: أَنَّ الْحَدَّ إِذَا ثَبَتَ بِالإِْقْرَارِ لَمْ يَسْقُطْ بِإِنْكَارِهِ أَوِ الرُّجُوعِ عَنْهُ.
__________
(1) الهداية وفتح القدير 5 / 12، وابن عابدين 3 / 144، والزرقاني على خليل 8 / 81، 107، وشرح المنهاج بحاشية القليوبي 4 / 181، 182، وشرح المنتهى 3 / 340، 348.(7/59)
وَهَذَا قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ فِي السَّرِقَةِ خَاصَّةً (1) . الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلٌ لِلْمَالِكِيَّةِ قَالَهُ أَشْهَبُ، وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ، أَنَّ الرُّجُوعَ لاَ يُقْبَل إِلاَّ بِأَمْرٍ يُعْذَرُ بِهِ الْمُقِرُّ - لاَ مُطْلَقًا - وَمِثَال مَا يُعْذَرُ بِهِ الْمُقِرُّ أَنْ يَقُول وَطِئْتُ زَوْجَتِي أَوْ أَمَتِي وَهِيَ حَائِضٌ، فَظَنَنْتُ أَنَّهُ زِنًى (2) .
ب - الإِْنْكَارُ بَعْدَ الإِْقْرَارِ فِيمَا هُوَ حَقٌّ لِلْعِبَادِ:
23 - قَال ابْنُ قُدَامَةَ: حُقُوقُ الآْدَمِيِّينَ وَحُقُوقُ اللَّهِ الَّتِي لاَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ كَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ لاَ يُقْبَل رُجُوعُهُ عَنْ إِقْرَارِهِ بِهَا. لاَ نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلاَفًا (3) .
حَتَّى أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِالسَّرِقَةِ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْهَا ثَبَتَ الْمَال؛ لأَِنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ، وَسَقَطَ الْقَطْعُ؛ لأَِنَّهُ حَقُّ اللَّهِ. غَيْرَ أَنَّ الشُّبْهَةَ الَّتِي عَرَضَتْ مِنَ احْتِمَال أَنْ يَكُونَ صَادِقًا فِي رُجُوعِهِ عَنْ إِقْرَارِهِ، دَعَتْ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ أَنْ يَقُولُوا إِنَّ الْقَاضِيَ، إِنْ رَجَعَ الْمُقِرُّ فِي إِقْرَارٍ، لاَ يَقْضِي عَلَيْهِ إِلاَّ بَعْدَ اسْتِحْلاَفِ خَصْمِهِ أَنَّ الإِْقْرَارَ لَمْ يَكُنْ بَاطِلاً.
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ وَهَبَ وَأَقْبَضَ الْهِبَةَ، أَوْ أَنَّهُ قَبَضَ الْمَبِيعَ، أَوْ آجَرَ الْمُسْتَأْجِرُ، ثُمَّ أَنْكَرَ ذَلِكَ وَسَأَل إِحْلاَفَ خَصْمِهِ، فَإِنَّهُ لاَ يُسْتَحْلَفُ عَلَى رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ، وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ؛ لأَِنَّ دَعْوَاهُ تَكْذِيبٌ لإِِقْرَارِهِ؛ وَلأَِنَّ الإِْقْرَارَ أَقْوَى مِنَ الْبَيِّنَةِ، وَلَوْ شَهِدَتِ الْبَيِّنَةُ فَقَال: حَلِّفُوهُ لِي مَعَ بَيِّنَتِهِ لَمْ يُسْتَحْلَفْ. فَكَذَلِكَ هُنَا.
قَال: وَفِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ يُسْتَحْلَفُ وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيِّ وَأَبِي يُوسُفَ، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛
__________
(1) حاشية شرح المنهاج 4 / 196، ونهاية المحتاج 7 / 441.
(2) الزرقاني 8 / 81.
(3) المغني لابن قدامة 5 / 151 ط ثالثة.(7/60)
لأَِنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِالإِْقْرَارِ قَبْل الْقَبْضِ، فَيُحْتَمَل صِحَّةُ مَا قَالَهُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُسْتَحْلَفَ خَصْمُهُ لِنَفْيِ الاِحْتِمَال (1) .
أَثَرُ جُحُودِ الْعُقُودِ فِي انْفِسَاخِهَا:
24 - إِذَا جَحَدَ أَحَدُ الْمُتَبَايِعَيْنِ الْبَيْعَ أَوْ غَيْرَهُ مِنَ الْعُقُودِ اللاَّزِمَةِ - غَيْرَ النِّكَاحِ - لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَى إِنْكَارِهِ لَهُ انْفِسَاخُ الْعَقْدِ، وَكَانَ لِلآْخَرِ التَّمَسُّكُ بِالْعَقْدِ، وَلَهُ بَعْدَ الإِْثْبَاتِ الْمُطَالَبَةُ بِتَنْفِيذِهِ. لَكِنْ إِنْ رَضِيَ هَذَا الآْخَرُ بِالْفَسْخِ قَوْلاً، أَوْ بِتَرْكِهِ الْخُصُومَةَ مَعَ فِعْلٍ يَدُل عَلَى الرِّضَى بِالْفَسْخِ، كَنَقْلِهِ الْمَبِيعَ إِلَى مَنْزِلِهِ، يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ. فَلَوْ قَال الْمَالِكُ: اشْتَرَيْتُ مِنِّي هَذِهِ الدَّابَّةَ، وَأَنْكَرَ الآْخَرُ الشِّرَاءَ، فَرَضِيَ الْبَائِعُ، انْفَسَخَ الْبَيْعُ، وَكَانَ لَهُ أَنْ يَرْكَبَ الدَّابَّةَ، وَلَوْ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ ادَّعَى الشِّرَاءَ بَعْدَ رِضَى الْبَائِعِ بِالْفَسْخِ لاَ يُقْبَل؛ لاِنْفِسَاخِ الْعَقْدِ.
أَمَّا النِّكَاحُ فَلَوْ جَحَدَ الرَّجُل أَنَّهُ تَزَوَّجَ الْمَرْأَةَ، ثُمَّ ادَّعَى الزَّوَاجَ وَبَرْهَنَ، يُقْبَل مِنْهُ بُرْهَانُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لأَِنَّ النِّكَاحَ لاَ يَحْتَمِل الْفَسْخَ بِسَائِرِ الأَْسْبَابِ فَكَذَا بِهَذَا السَّبَبِ (2) .
وَيُوَافِقُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ الْحَنَفِيَّةَ عَلَى أَنَّ إِنْكَارَ الزَّوْجِ النِّكَاحَ لاَ يَكُونُ فَسْخًا، وَلَيْسَ هُوَ أَيْضًا طَلاَقًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَلَوْ نَوَاهُ؛ لأَِنَّ الْجُحُودَ هُنَا لِعَقْدِ النِّكَاحِ، لاَ لِكَوْنِهَا امْرَأَتَهُ. بِخِلاَفِ مَا لَوْ قَال: لَيْسَتْ هِيَ
__________
(1) المغني 5 / 196 - ثالثة، ورد المحتار 4 / 458، وتبصرة الحكام 2 / 30.
(2) الدر المختار 4 / 363، وفتح القدير مع حواشيه 6 / 418.(7/60)
امْرَأَتِي، فَإِنَّهُ إِنْ نَوَى الطَّلاَقَ وَقَعَ طَلاَقًا. وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: لَوْ نَوَى الطَّلاَقَ بِجَحْدِ النِّكَاحِ يَكُونُ طَلاَقًا، كَأَنَّهُمْ جَعَلُوهُ مِنْ كِنَايَاتِ الطَّلاَقِ (1) .
أَثَرُ إِنْكَارِ الرِّدَّةِ فِي حُصُول التَّوْبَةِ مِنْهَا:
25 - إِذَا ثَبَتَتْ رِدَّةُ إِنْسَانٍ بِالْبَيِّنَةِ، فَأَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ ارْتَدَّ، فَلِلْفُقَهَاءِ فِي اعْتِبَارِ ذَلِكَ الإِْنْكَارِ مِنْهُ تَوْبَةً قَوْلاَنِ:
الأَْوَّل: وَهُوَ قَوْل الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ مَنْ شَهِدَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ بِالرِّدَّةِ، وَهُوَ يُنْكِرُهَا، وَهُوَ مُقِرٌّ بِالتَّوْحِيدِ وَبِمَعْرِفَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِدِينِ الإِْسْلاَمِ، فَلاَ يَتَعَرَّضُ لَهُ، لاَ لِتَكْذِيبِ الشُّهُودِ، بَل لأَِنَّ إِنْكَارَهُ تَوْبَةٌ وَرُجُوعٌ، فَيُمْتَنَعُ الْقَتْل فَقَطْ، وَتَثْبُتُ بَقِيَّةُ أَحْكَامِ الرِّدَّةِ، كَحُبُوطِ عَمَلٍ وَبُطْلاَنِ وَقْفٍ. . . إِلَخْ (2) .
الثَّانِي: وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: يُحْكَمُ بِرِدَّتِهِ، وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِمَا يَصِيرُ بِهِ الْكَافِرُ مُسْلِمًا، فَإِنْ لَمْ يَفْعَل اسْتُتِيبَ، فَإِنْ تَابَ وَإِلاَّ قُتِل (3) .
وَلَمْ يَتَعَرَّضِ الْمَالِكِيَّةُ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا اطَّلَعْنَا عَلَيْهِ مِنْ كَلاَمِهِمْ. هَذَا وَقَدْ نَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ ثُبُوتُ رِدَّتِهِ بِالإِْقْرَارِ. فَإِنَّ إِنْكَارَهُ يَكُونُ تَوْبَةً، وَلاَ يَتَعَرَّضُ لَهُ، كَمَا فِي سَائِرِ الْحُدُودِ (4) . وَلَمْ نَجِدْ لِغَيْرِ الْحَنَابِلَةِ نَصًّا فِي ذَلِكَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَوْضِعُ اتِّفَاقٍ.
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 375، نقلا عن البدائع، وجواهر الإكليل 1 / 323، ونهاية المحتاج 8 / 323، وشرح منتهى الإرادات 3 / 484.
(2) الدر المختار 3 / 299.
(3) القليوبي 4 / 176.
(4) شرح المنتهى 3 / 392.(7/61)
الصُّلْحُ مَعَ الإِْنْكَارِ:
26 - الصُّلْحُ عَقْدٌ يُتَوَصَّل بِهِ إِلَى الإِْصْلاَحِ بَيْنَ الْمُتَخَاصِمَيْنِ. وَالصُّلْحُ فِي الأَْمْوَال نَوْعَانِ: صُلْحٌ مَعَ الإِْنْكَارِ، وَصُلْحٌ مَعَ الإِْقْرَارِ. وَالصُّلْحُ مَعَ الإِْنْكَارِ عِنْدَمَا يَكُونُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَرَى أَنَّهُ لاَ حَقَّ عَلَيْهِ، فَيَدْفَعُ إِلَى الْمُدَّعِي شَيْئًا افْتِدَاءً لِيَمِينِهِ وَقَطْعًا لِلْخُصُومَةِ، وَصِيَانَةً لِنَفْسِهِ عَنِ التَّبَذُّل بِالْمُخَاصَمَةِ فِي مَجَالِسِ الْقَضَاءِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ مِثْل هَذَا الصُّلْحِ، فَأَجَازَهُ الْجُمْهُورُ، مِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ، وَمَنَعَهُ الشَّافِعِيُّ.
وَأَمَّا مَتَى كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مُقِرًّا بِالْحَقِّ فَصَالَحَ عَنْهُ بِبَعْضِهِ، فَهُوَ الْمُسَمَّى بِالصُّلْحِ مَعَ الإِْقْرَارِ (1) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل الْقَوْل فِي نَوْعَيِ الصُّلْحِ تَحْتَ عُنْوَانِ (صُلْحٌ) .
إِنْكَارُ شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ:
27 - لاَ يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُنْكِرَ شَيْئًا مِنْ دِينِ الإِْسْلاَمِ.
وَلَكِنْ مَنْ أَنْكَرَ شَيْئًا مِنْ أُمُورِ الدِّينِ لاَ يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ، إِلاَّ إِنْ كَانَ مَا أَنْكَرَهُ أَمْرًا مُجْمَعًا عَلَيْهِ قَدْ عُلِمَ قَطْعًا مَجِيءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ. كَوُجُوبِ الصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْمُنْكِرُ جَاهِلاً بِالْحُكْمِ وَلاَ مُكْرَهًا، وَهَذَا قَوْل جُمْهُورِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ.
وَاشْتَرَطَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ أَنْ يَكُونَ الْمَجْحُودُ قَدْ عَلِمَ مَجِيءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ بِالضَّرُورَةِ، أَيْ عِلْمًا ضَرُورِيًّا لاَ يَتَوَقَّفُ عَلَى
__________
(1) المغني 4 / 476.(7/61)
نَظَرٍ وَاسْتِدْلاَلٍ. أَوْ كَمَا عَبَّرَ الْبَعْضُ: يَعْرِفُهُ كُل الْمُسْلِمِينَ.
قَال ابْنُ الْهُمَامِ فِي مُسَايَرَةٍ: وَأَمَّا مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَبْلُغْ حَدَّ الضَّرُورَةِ، كَاسْتِحْقَاقِ بِنْتِ الاِبْنِ السُّدُسَ مَعَ الْبِنْتِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، فَظَاهِرُ كَلاَمِ جُمْهُورِ الْحَنَفِيَّةِ الإِْكْفَارُ بِجَحْدِهِ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَشْرِطُوا سِوَى الْقَطْعِ فِي الثُّبُوتِ. وَأَمَّا عِنْدَ مَنْ شَرَطَ كَوْنَهُ مَعْلُومًا بِالضَّرُورَةِ فَلاَ يَكْفُرُ عِنْدَهُ مَنْ جَحَدَ مِثْل هَذَا الْحُكْمِ.
وَنَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنْ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْمَسَائِل الإِْجْمَاعِيَّةَ تَارَةً يَصْحَبُهَا التَّوَاتُرُ عَنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ، وَتَارَةً لاَ يَصْحَبُهَا. فَالأَْوَّل يَكْفُرُ جَاحِدُهُ لِمُخَالَفَتِهِ التَّوَاتُرَ لاَ لِمُخَالَفَتِهِ الإِْجْمَاعَ. وَنَقَل ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ مِثْل ذَلِكَ عَنْ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ.
وَقَرِيبٌ مِنْ قَوْل مَنِ اشْتَرَطَ فِي الْمَجْحُودِ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ قَوْل الْحَنَابِلَةِ، فَإِنَّهُمُ اشْتَرَطُوا لِمَا يَكْفُرُ بِإِنْكَارِهِ أَنْ يَكُونَ ظَاهِرًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ لاَ شُبْهَةَ فِيهِ، وَعِبَارَةُ شَرْحِ الْمُنْتَهَى: مَنْ جَحَدَ حُكْمًا ظَاهِرًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ - بِخِلاَفِ (نَحْوِ) فَرْضِ السُّدُسِ لِبِنْتِ الاِبْنِ مَعَ بِنْتِ الصُّلْبِ، وَكَانَ ذَلِكَ الْحُكْمُ مُجْمَعًا عَلَيْهِ إِجْمَاعًا قَطْعِيًّا لاَ سُكُوتِيًّا؛ لأَِنَّ فِيهِ - أَيِ الإِْجْمَاعِ السُّكُوتِيِّ - شُبْهَةً، كَجَحْدِ تَحْرِيمِ الزِّنَى، أَوْ جَحْدِ تَحْرِيمِ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ، أَوْ مُذَكَّاةِ بَهِيمَةِ الأَْنْعَامِ وَالدَّجَاجِ، وَمِثْلُهُ لاَ يَجْهَلُهُ لِكَوْنِهِ نَشَأَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ كَانَ مِثْلُهُ يَجْهَلُهُ وَعَرَفَ حُكْمَهُ، وَأَصَرَّ عَلَى الْجَحْدِ، كَفَرَ (1) .
__________
(1) ابن عابدين 3 / 284، والإعلام بقواطع الإسلام لابن حجر الهيتمي، مطبوع مع الزواجر له 2 / 352 - 354، وشرح المنهاج مع حاشية القليوبي وعميرة 4 / 175، وشرح منتهى الإرادات 3 / 386.(7/62)
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ تَحْتَ عُنْوَانِ (رِدَّةٌ) .
ثَانِيًا الإِْنْكَارُ فِي الْمُنْكَرَاتِ
28 - إِنْكَارُ الْمُنْكَرِ هُوَ النَّهْيُ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ بِالْيَدِ أَوِ بِاللِّسَانِ، أَوْ بِالْقَلْبِ. فَمَنْ رَأَى حُدُودَ اللَّهِ تُنْتَهَكُ شُرِعَ لَهُ التَّغْيِيرُ، لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (1) وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِْيمَانِ (2) .
وَتَفْصِيل الْقَوْل فِي هَذَا الأَْمْرِ، وَبَيَانِ آدَابِ النَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ يُنْظَرُ تَحْتَ عُنْوَانِ. (الأَْمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ) .
هَذَا، وَإِنَّ تَرْكَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الإِْنْكَارَ عَلَى مَا يَرَاهُ مِنَ الأَْفْعَال، أَوْ مَا يَسْمَعُهُ مِنَ الأَْقْوَال، يَدُل عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ الْفِعْل أَوِ الْقَوْل، وَأَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِهِ شَرْعًا. وَهَذَا التَّرْكُ هُوَ أَحَدُ أُصُول الأَْدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ، وَيُسَمِّيهِ الأُْصُولِيُّونَ (الإِْقْرَارَ) أَوِ (التَّقْرِيرَ) وَيُنْظَرُ تَفْصِيل مَبَاحِثِهِ تَحْتَ عُنْوَانِ (تَقْرِيرٌ) وَفِي بَابِ (السُّنَّةِ) مِنَ الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
__________
(1) سورة آل عمران / 104.
(2) حديث: " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده. . . . . " أخرجه مسلم (1 / 69 - ط الحلبي) .(7/62)
إِنْمَاءٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْنْمَاءُ لُغَةً: مَصْدَرُ أَنْمَى، وَهُوَ مِنْ نَمَى يَنْمِي نَمْيًا، وَنَمَاءً، وَفِي لُغَةٍ: نَمَا يَنْمُو نُمُوًّا، أَيْ زَادَ وَكَثُرَ، وَنَمَّيْتُ الشَّيْءَ تَنْمِيَةً جَعَلْتُهُ يَنْمُو. فَالإِْنْمَاءُ وَالتَّنْمِيَةُ: فِعْل مَا بِهِ يَزِيدُ الشَّيْءُ وَيَكْثُرُ.
وَنَمَى الصَّيْدُ: غَابَ، وَالإِْنْمَاءُ أَنْ يَرْمِيَ الصَّيْدَ فَيَغِيبَ عَنْ عَيْنِهِ ثُمَّ يُدْرِكَهُ مَيِّتًا، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: كُل مَا أَصْمَيْتَ، وَدَعْ مَا أَنْمَيْتَ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لَهُ عَمَّا وَرَدَ فِي الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2) .
ثُمَّ النَّمَاءُ هُوَ الزِّيَادَةُ، أَيْ مَا يَكُونُ نَتِيجَةَ الإِْنْمَاءِ غَالِبًا، كَمَا يَقُول الْفُقَهَاءُ، وَقَدْ يَكُونُ النَّمَاءُ ذَاتِيًّا.
وَالنَّمَاءُ نَوْعَانِ: حَقِيقِيٌّ وَتَقْدِيرِيٌّ، فَالْحَقِيقِيُّ الزِّيَادَةُ بِالتَّوَالُدِ وَالتَّنَاسُل وَالتِّجَارَاتِ. وَالتَّقْدِيرِيُّ: التَّمَكُّنُ مِنَ الزِّيَادَةِ بِكَوْنِ الْمَال فِي يَدِهِ أَوْ يَدِ نَائِبِهِ (3) .
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، والزاهر في غريب ألفاظ الشافعي ص 400، 929 ط وزارة الأوقاف. وحديث ابن عباس: كل ما أصميت ودع ما أنميت. أخرجه الطبراني في الكبير (12 / 27 / 2370) ط العراقية. قال الهيثمي في المجمع (4 / 31) وفيه عثمان بن عبد الرحمن وأظنه القرشي وهو متروك.
(2) النظم المستعذب بهامش المهذب 1 / 148 ط دار المعرفة بيروت، والمغني 2 / 572، 8 / 554 ط الرياض الحديثة، والاختيار 1 / 98، 5 / 4 ط دار المعرفة بيروت، وجواهر الإكليل 1 / 118 ط دار المعرفة بيروت، ومنتهى الإرادات 2 / 505 ط دار الفكر، ومنح الجليل 3 / 664 ط النجاح ليبيا.
(3) الاختيار 1 / 101، والمهذب 1 / 391، وابن عابدين 2 / 7 ط بولاق ثالثة.(7/63)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّثْمِيرُ وَالاِسْتِثْمَارُ:
2 - التَّثْمِيرُ وَالاِسْتِثْمَارُ كَالإِْنْمَاءِ أَيْضًا، يُقَال: ثَمَّرَ مَالَهُ إِذَا نَمَّاهُ (1) .
ب - التِّجَارَةُ:
3 - التِّجَارَةُ تَقْلِيبُ الْمَال بِالْمُعَاوَضَةِ لِغَرَضِ الرِّبْحِ. فَهِيَ بِذَلِكَ مِنَ الأَْعْمَال الَّتِي يَطْلُبُ بِهَا زِيَادَةَ الْمَال وَتُعْتَبَرُ وَسِيلَةً مِنْ وَسَائِل تَنْمِيَتِهِ (2) .
ج - الاِكْتِسَابُ:
4 - الاِكْتِسَابُ هُوَ طَلَبُ الرِّزْقِ. وَأَصْل الْكَسْبِ السَّعْيُ فِي طَلَبِ الرِّزْقِ وَالْمَعِيشَةِ، وَفِي الْحَدِيثِ: أَطْيَبُ مَا أَكَل الرَّجُل مِنْ كَسْبِهِ، وَوَلَدُهُ مِنْ كَسْبِهِ (3) .
فَالاِكْتِسَابُ هُوَ طَلَبُ الْمَال، سَوَاءٌ أَكَانَ بِتَنْمِيَةِ مَالٍ مَوْجُودٍ، أَمْ بِالْعَمَل بِغَيْرِ مَالٍ، كَمَنْ يَعْمَل بِأُجْرَةٍ.
أَمَّا الإِْنْمَاءُ فَهُوَ الْعَمَل عَلَى زِيَادَةِ الْمَال، وَبِذَلِكَ يَكُونُ الاِكْتِسَابُ أَعَمَّ مِنَ الإِْنْمَاءِ (4) .
د - الزِّيَادَةُ:
5 - الإِْنْمَاءُ هُوَ فِعْل مَا يَزِيدُ بِهِ الشَّيْءُ، كَمَا سَبَقَ، أَمَّا
__________
(1) لسان العرب والمغني 2 / 275، وفتح القدير 7 / 89.
(2) لسان العرب وقليوبي 2 / 28 ط عيسى الحلبي، ومنتهى الإرادات 1 / 370.
(3) حديث: " أطيب ما أكل الرجل. . . . " أخرجه ابن ماجه (2 / 768 - 769) وصححه أبو حاتم وأبو زرعة كما في فيض القدير للمناوي (2 / 245 - ط المكتبة التجارية) .
(4) تاج العروس والمصباح المنير والاختيار 4 / 172.(7/63)
الزِّيَادَةُ فَهِيَ الشَّيْءُ الزَّائِدُ أَوِ الْمَزِيدُ عَلَى غَيْرِهِ، وَفِي الْفُرُوقِ فِي اللُّغَةِ: الْفِعْل نَمَا يُفِيدُ زِيَادَةً مِنْ نَفْسِهِ، وَزَادَ لاَ يُفِيدُ ذَلِكَ. يُقَال: زَادَ مَال فُلاَنٍ بِمَا وَرِثَهُ عَنْ وَالِدِهِ وَلاَ يُقَال ذَلِكَ فِي نَمَا. وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ الإِْنْمَاءَ هُوَ الْعَمَل عَلَى أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ نَابِعَةً مِنْ نَفْسِ الشَّيْءِ وَلَيْسَتْ مِنْ خَارِجٍ، أَمَّا الزِّيَادَةُ فَقَدْ تَكُونُ مِنْ خَارِجٍ فَهِيَ أَعَمُّ.
وَيُقَسِّمُ الْفُقَهَاءُ الزِّيَادَةَ إِلَى مُتَّصِلَةٍ وَمُنْفَصِلَةٍ، وَيُقَسِّمُونَ كُلًّا مِنْهُمَا إِلَى مُتَوَلِّدَةٍ وَغَيْرِ مُتَوَلِّدَةٍ، فَالزِّيَادَةُ الْمُتَّصِلَةُ الْمُتَوَلِّدَةُ كَالسِّمَنِ وَالْجَمَال، وَغَيْرُ الْمُتَوَلِّدَةِ كَالصَّبْغِ وَالْخِيَاطَةِ، وَالزِّيَادَةُ الْمُنْفَصِلَةُ الْمُتَوَلِّدَةُ كَالْوَلَدِ وَالثَّمَرِ، وَغَيْرُ الْمُتَوَلِّدَةِ كَالأُْجْرَةِ (1) .
هـ - الْكَنْزُ:
6 - الْكَنْزُ مَصْدَرُ كَنَزَ، وَهُوَ أَيْضًا اسْمٌ لِلْمَال إِذَا أُحْرِزَ فِي وِعَاءٍ. وَقِيل: الْكَنْزُ الْمَال الْمَدْفُونُ، وَتُسَمِّي الْعَرَبُ كُل كَثِيرٍ مَجْمُوعٍ يُتَنَافَسُ فِيهِ كَنْزًا، وَيُطْلَقُ عَلَى الْمَال الْمَخْزُونِ وَالْمَصُونِ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيل اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (2) وَفِي الْحَدِيثِ: كُل مَالٍ لاَ تُؤَدَّى زَكَاتُهُ فَهُوَ كَنْزٌ (3) . فَالْكَنْزُ ضِدُّ الإِْنْمَاءِ.
__________
(1) لسان العرب، والفروق في اللغة ص 173 ط دار الآفاق الحديثة، وابن عابدين 4 / 84، 137، ومنتهى الإرادات 2 / 405، 406، والمهذب 1 / 377، ومنح الجليل 3 / 526.
(2) سورة التوبة / 34.
(3) لسان العرب والمصباح المنير والنظم المستعذب بهامش المهذب 1 / 164، وحديث: " كل مال لا تؤدى زكاته فهو كنز " أخرجه البيهقي في الزكاة من سننه (4 / 82) موقوفا. وقال هذا هو الصحيح. ثم ذكر أنه روي مرفوعا وقال: ليس بالقوي، وكذا ضعف السيوطي فيض القدير (5 / 29) .(7/64)
و - تَعْطِيلٌ:
7 - التَّعْطِيل التَّفْرِيغُ، وَالْمُعَطَّل الْمَوَاتُ مِنَ الأَْرْضِ، وَإِبِلٌ مُعَطَّلَةٌ لاَ رَاعِيَ لَهَا، وَعَطَّل الدَّارَ أَخْلاَهَا، وَتَعَطَّل الرَّجُل إِذَا بَقِيَ لاَ عَمَل لَهُ، وَيَقُول الْفُقَهَاءُ: مَنْ تَحَجَّرَ أَرْضًا وَتَرَكَ عِمَارَتَهَا، قِيل لَهُ: إِمَّا أَنْ تُعَمِّرَ وَإِمَّا أَنْ تَرْفَعَ يَدَكَ، فَإِنِ اسْتَمَرَّ تَعْطِيلُهَا فَمَنْ عَمَّرَهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا (1) ، لِقَوْل عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَنْ تَحَجَّرَ أَرْضًا فَعَطَّلَهَا ثَلاَثَ سِنِينَ فَجَاءَ قَوْمٌ فَعَمَرُوهَا فَهُمْ أَحَقُّ بِهَا (2) .
فَالتَّعْطِيل أَيْضًا ضِدُّ الإِْنْمَاءِ.
ز - الْقِنْيَةُ:
8 - الْقِنْيَةُ (بِكَسْرِ الْقَافِ وَضَمِّهَا) الْكَسَبَةُ، وَاقْتَنَيْتُهُ: كَسَبْتُهُ، وَيُقَال: اقْتَنَيْتُهُ أَيِ اتَّخَذْتُهُ لِنَفْسِي قِنْيَةً لاَ لِلتِّجَارَةِ، وَالْقِنْيَةُ الإِْمْسَاكُ، وَفِي الزَّاهِرِ: الْقِنْيَةُ: الْمَال الَّذِي يُؤَثِّلُهُ الرَّجُل وَيَلْزَمُهُ، وَلاَ يَبِيعُهُ لِيَسْتَغِلَّهُ. وَالْفُقَهَاءُ يُفَرِّقُونَ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ بَيْنَ مَا يُتَّخَذُ لِلْقِنْيَةِ أَيْ لِلْمِلْكِ وَمَا يُتَّخَذُ لِلتِّجَارَةِ (3) . فَالْقِنْيَةُ أَيْضًا تَعْطِيلٌ لِلْمَال عَنِ الإِْنْمَاءِ.
ح - ادِّخَارٌ:
9 - الاِدِّخَارُ: إِعْدَادُ الشَّيْءِ وَإِمْسَاكُهُ لاِسْتِعْمَالِهِ
__________
(1) لسان العرب والمغني 5 / 570.
(2) الأثر عن عمر رضي الله عنه. ورد في الخراج لأبي يوسف (ص 61 ط السلفية) بلفظ: من كانت له أرض ثم تركها ثلاث سنين فلم يعمرها فعمرها قوم آخرون فهم أحق بها، وقال ابن حجر: رجاله ثقات (الدراية ص 245) .
(3) لسان العرب والزاهر ص 158، 303، والمهذب 1 / 166، والمغني 3 / 31، وجواهر الإكليل 1 / 131.(7/64)
لِوَقْتِ الْحَاجَةِ، وَفِي الْحَدِيثِ: كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنِ ادِّخَارِ لُحُومِ الأَْضَاحِيِّ فَوْقَ ثَلاَثٍ، فَأَمْسِكُوا مَا بَدَا لَكُمْ (1) . فَالْمَال فِي حَال الاِدِّخَارِ مُعَطَّلٌ عَنِ الإِْنْمَاءِ.
(أَوَّلاً)
الإِْنْمَاءُ (بِمَعْنَى زِيَادَةِ الْمَال)
حُكْمُ إِنْمَاءِ الْمَال:
تَمْهِيدٌ:
10 - الإِْنْسَانُ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَال: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَالِكًا لِلرَّقَبَةِ (الْعَيْنِ) وَلِلتَّصَرُّفِ فِيهَا، كَالشَّيْءِ الَّذِي يَتَمَلَّكُهُ الإِْنْسَانُ بِشِرَاءٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ إِرْثٍ وَيَكُونَ تَحْتَ يَدِهِ وَأَهْلاً لِلتَّصَرُّفِ فِيهِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَالِكًا لِلرَّقَبَةِ فَقَطْ دُونَ التَّصَرُّفِ كَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَالِكًا لِلتَّصَرُّفِ فَقَطْ دُونَ الرَّقَبَةِ كَالْوَلِيِّ وَالْوَصِيِّ وَالْوَكِيل وَنَاظِرِ الْوَقْفِ وَالْقَاضِي وَالسُّلْطَانِ فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى بَيْتِ الْمَال، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لاَ يَمْلِكُ الرَّقَبَةَ وَلاَ التَّصَرُّفَ كَالْغَاصِبِ وَالْفُضُولِيِّ وَالْمُرْتَهِنِ وَالْمُودَعِ وَالْمُلْتَقِطِ فِي مُدَّةِ التَّعْرِيفِ.
حُكْمُ الإِْنْمَاءِ بِالنِّسْبَةِ لِمَالِكِ الرَّقَبَةِ وَالتَّصَرُّفِ:
مَشْرُوعِيَّتُهُ:
11 - إِنْمَاءُ الْمَال الَّذِي يَمْلِكُهُ الإِْنْسَانُ وَيَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهِ جَائِزٌ مَشْرُوعٌ، وَالدَّلِيل عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهِ، أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحَل الْبَيْعَ وَالتِّجَارَةَ حَتَّى
__________
(1) المصباح المنير والمهذب 1 / 247، ومنتهى الإرادات 1 / 88، وحديث: " كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث فأمسكوا ما بدا لكم ". أخرجه مسلم في الأضاحي (3 / 1563 / 1977) ط الحلبي.(7/65)
فِي مَوَاسِمِ الْحَجِّ، وَذَلِكَ الْعَمَل وَسِيلَةٌ لِلإِْنْمَاءِ كَمَا يَقُول الْفُقَهَاءُ (1) .
يَقُول اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَحَل اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (2) ، وَيَقُول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِل إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (3) وَيَقُول: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَْرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْل اللَّهِ} (4) أَيْ يُسَافِرُونَ لِلتِّجَارَةِ، وَيَقُول: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} (5) يَعْنِي فِي مَوَاسِمِ الْحَجِّ (6) .
كَمَا وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَفَعَ إِلَى عُرْوَةَ الْبَارِقِيِّ. دِينَارًا لِيَشْتَرِيَ لَهُ شَاةً فَاشْتَرَى شَاتَيْنِ فَبَاعَ إِحْدَاهُمَا بِدِينَارٍ وَأَتَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَاةٍ وَدِينَارٍ فَدَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ (7) وَكَذَلِكَ يَقُول النَّبِيُّ التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الأَْمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ (8) . وَيَقُول: الْجَالِبُ مَرْزُوقٌ وَالْمُحْتَكِرُ
__________
(1) البدائع 6 / 58 ط الجمالية.
(2) سورة البقرة / 275.
(3) سورة النساء / 29.
(4) سورة المزمل / 20.
(5) سورة البقرة / 198.
(6) القرطبي 2 / 413 ط دار الكتب، وأحكام القرآن للجصاص 2 / 210، وما بعدها ط المطبعة البهية، والمهذب 1 / 264 ط دار المعرفة بيروت، والمغني 3 / 560 ط مكتبة الرياض، والاختيار 3 / 19 ط بيروت، والمغني 3 / 560، والاختيار 4 / 160، 172، ومنتهى الإرادات 3 / 410، 411 ط دار الفكر، والمهذب 1 / 362.
(7) حديث: عروة البارقي أخرجه البخاري في المناقب (6 / 622 / 3642) ط السلفية، وأخرجه أبو داود في البيوع (2 / 677 / 3384 ط الدعاس) واللفظ له.
(8) حديث: " التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء ". أخرجه الترمذي في البيوع (3 / 515 / 1209 ط الحلبي) وحسنه، والحاكم (2 / 6 ط دار الكتاب العربي من طريق الحسن البصري عن أبي سعيد، والحسن لم يسمع من أبي سعيد. كما ذكر ذلك العلائي في جامع التحصيل (ص 197) فالحديث منقطع. قال المناوي: وله شواهد عند الدارقطني. (فيض القدير 3 / 278) .(7/65)
مَحْرُومٌ أَوْ مَلْعُونٌ (1) ، وَيَقُول: لاَ يَغْرِسُ مُسْلِمٌ غَرْسًا وَلاَ يَزْرَعُ زَرْعًا فَيَأْكُل مِنْهُ إِنْسَانٌ وَلاَ دَابَّةٌ وَلاَ شَيْءٌ إِلاَّ كَانَتْ لَهُ صَدَقَةٌ (2) . وَيَقُول: نِعْمَ الْمَال الصَّالِحُ لِلرَّجُل الصَّالِحِ (3) .
وَلِتَحْصِيل هَذَا الْغَرَضِ (وَهُوَ الإِْنْمَاءُ) أَبَاحَتِ الشَّرِيعَةُ أَنْوَاعًا مِنَ الْعُقُودِ كَالشَّرِكَاتِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ دَفَعُوا مَال الْيَتِيمِ مُضَارَبَةً، كَذَلِكَ بُعِثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاسُ يَتَعَامَلُونَ بِالشَّرِكَةِ وَالْمُضَارَبَةِ فَأَقَرَّهُمْ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ (4) .
حِكْمَةُ الْمَشْرُوعِيَّةِ:
12 - شُرِعَ لِلإِْنْسَانِ تَنْمِيَةُ مَالِهِ حِفَاظًا عَلَى الْمَال
__________
(1) حديث: " الجالب مرزوق والمحتكر محروم، (أو ملعون) ". أخرجه ابن ماجه في التجارات من سننه (2 / 728 / 2153) وقال في الزوائد: في إسناده علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف. وضعفه الحافظ ابن حجر في تلخيص الحبير (3 / 13 ط المكتبة الأثرية) .
(2) حديث: " لا يغرس مسلم غرسا ولا يزرع زرعا فيأكل منه إنسان ولا دابة ولا دابة ولا شيء إلا كانت له صدقة " أخرجه مسلم في المساقاة (3 / 1188 / 1552) ط الحلبي وأخرجه البغوي في شرح السنة (10 / 91 / 2495) ط المكتب الإسلامي.
(3) المغني 3 / 560، والاختيار 4 / 160، 172، والمهذب 1 / 362 وحديث: " نعم المال الصالح للرجل الصالح. . . . " أخرجه أحمد في المسند (4 / 197، 202) عن عمرو بن العاص. ط المكتب الإسلامي.
(4) البدائع 6 / 58، 79، والمغني 5 / 26، والمهذب 1 / 391، ومنح الجليل 3 / 280 ط النجاح ليبيا، والاختيار 3 / 11، 19، ومنتهى الإرادات 2 / 319.(7/66)
لِمَصْلَحَتِهِ وَمَصْلَحَةِ الْجَمَاعَةِ، وَالْحِفَاظُ عَلَى الْمَال مَقْصِدٌ مِنْ مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ، وَلِذَلِكَ مَنَعَ مِنْهُ السُّفَهَاءَ حَتَّى لاَ يُضَيِّعُوهُ. وَمِنْ وَسَائِل حِفْظِهِ تَنْمِيَتُهُ بِتِجَارَةٍ أَوْ زِرَاعَةٍ أَوْ صِنَاعَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ يَقُول الْفُقَهَاءُ فِي الْحِكْمَةِ مِنْ مَشْرُوعِيَّةِ الشَّرِكَةِ: الشَّرِكَةُ وُضِعَتْ لاِسْتِنْمَاءِ الْمَال بِالتِّجَارَةِ لأَِنَّ غَالِبَ نَمَاءِ الْمَال بِالتِّجَارَةِ، وَالنَّاسُ فِي الاِهْتِدَاءِ إِلَى التِّجَارَةِ مُخْتَلِفُونَ بَعْضُهُمْ أَهْدَى مِنْ بَعْضٍ، فَشُرِعَتِ الشَّرِكَةُ لِتَحْصِيل غَرَضِ الاِسْتِنْمَاءِ، وَحَاجَةُ النَّاسِ إِلَى اسْتِنْمَاءِ الْمَال مُتَحَقِّقَةٌ، فَشُرِعَتْ هَذِهِ الْعُقُودُ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ.
وَفِي الْقِرَاضِ يَقُول الْفُقَهَاءُ: إِنَّ الضَّرُورَةَ تَدْعُو إِلَيْهِ لاِحْتِيَاجِ النَّاسِ إِلَى التَّصَرُّفِ فِي أَمْوَالِهِمْ وَتَنْمِيَتِهَا بِالتَّجْرِ فِيهَا، فَهُوَ مِنَ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، وَلَيْسَ كُل أَحَدٍ يَقْدِرُ عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ، فَيَضْطَرُّ إِلَى الاِسْتِنَابَةِ عَلَيْهِ (1) .
إِنْمَاءُ الْمَال بِحَسَبِ نِيَّةِ الشَّخْصِ:
13 - الإِْنْمَاءُ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الاِكْتِسَابِ، وَيَخْتَلِفُ حُكْمُهُ بِحَسَبِ الْغَرَضِ مِنْهُ.
فَيُفْرَضُ إِنْ كَانَ لِتَحْصِيل الْمَال بِقَدْرِ الْكِفَايَةِ لِنَفْسِهِ وَعِيَالِهِ وَقَضَاءِ دُيُونِهِ،
وَيُسْتَحَبُّ الزَّائِدُ عَلَى الْحَاجَةِ إِذَا كَانَ الْغَرَضُ مِنْهُ مُوَاسَاةَ الْفَقِيرِ وَنَفْعَ الْقَرِيبِ وَهُوَ حِينَئِذٍ أَفْضَل مِنَ التَّفَرُّغِ لِنَفْل الْعِبَادَةِ.
__________
(1) منح الجليل 3 / 664، والبدائع 6 / 58، 79، والهداية 3 / 202 ط المكتبة الإسلامية، والمغني 5 / 26، 27.(7/66)
وَيُبَاحُ الزَّائِدُ إِذَا كَانَ بِغَرَضِ التَّجَمُّل وَالتَّنَعُّمِ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. نِعْمَ الْمَال الصَّالِحُ لِلرَّجُل الصَّالِحِ (1) .
وَيُكْرَهُ (أَيْ كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ) الزَّائِدُ إِذَا كَانَ لِلتَّفَاخُرِ وَالتَّكَاثُرِ وَالْبَطَرِ وَالأَْشَرِ وَإِنْ كَانَ مِنْ حِلٍّ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ طَلَبَهَا حَلاَلاً مُكَاثِرًا لَهَا مُفَاخِرًا. لَقِيَ اللَّهَ تَعَالَى وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانٌ (2) .
حُكْمُ الإِْنْمَاءِ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ دُونَ الرَّقَبَةِ
14 - مَنْ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي الْمَال دُونَ الرَّقَبَةِ كَالْوَلِيِّ وَالْوَصِيِّ وَنَاظِرِ الْوَقْفِ وَالْوَكِيل وَالْقَاضِي وَالسُّلْطَانِ. هَؤُلاَءِ يَتَصَرَّفُونَ فِيمَا يَلُونَهُ مِنْ أَمْوَال الْيَتَامَى وَالْقُصَّرِ وَأَمْوَال الْوَقْفِ وَالْمُوَكِّل وَبَيْتِ الْمَال بِإِذْنٍ شَرْعِيٍّ، وَهُمْ أُمَنَاءُ عَلَى هَذِهِ الأَْمْوَال، وَنَظَرُهُمْ فِيهَا يَكُونُ بِمَا فِيهِ الْحَظُّ لأَِرْبَابِهَا، وَلِذَلِكَ يَجُوزُ لَهُمْ إِنْمَاءُ هَذِهِ الأَْمْوَال لأَِنَّهُ أَوْفَرُ حَظًّا.
يَقُول الْفُقَهَاءُ: الْوَكِيل وَالْوَصِيُّ وَالْوَلِيُّ وَالْقَاضِي وَالسُّلْطَانُ فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى بَيْتِ الْمَال يَتَصَرَّفُونَ بِإِذْنٍ شَرْعِيٍّ.
وَلِلْوَصِيِّ دَفْعُ الْمَال إِلَى مَنْ يَعْمَل فِيهِ مُضَارَبَةً نِيَابَةً عَنِ الْيَتِيمِ، وَلِلْقَاضِي - حَيْثُ لاَ وَصِيَّ -
__________
(1) حديث: " نعم المال الصالح. . . " سبق تخريجه (ف / 11) .
(2) الاختيار 4 / 172. وحديث: " من طلبها حلالا مكاثرا لها مفاخرا لقي الله تعالى وهو عليه غضبان ". أخرجه أبو نعيم في الحلية (8 / 215) وهو من طريق مكحول عن أبي هريرة. وقال العلائي في جامع التحصيل (ص 352) عن مكحول قال الدارقطني: لم يلق أبا هريرة. فهو منقطع.(7/67)
إِعْطَاءُ مَال الْوَقْفِ وَالْغَائِبِ وَاللُّقَطَةِ وَالْيَتِيمِ مُضَارَبَةً.
وَلِنَاظِرِ الْوَقْفِ تَنْمِيَتُهُ بِإِيجَارٍ أَوْ زَرْعٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.
وَلِلإِْمَامِ النَّظَرُ فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى بَيْتِ الْمَال بِالتَّثْمِيرِ وَالإِْصْلاَحِ، وَقَدِ اسْتَدَل الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ تَصَرُّفِ هَؤُلاَءِ الْمَذْكُورِينَ بِالإِْنْمَاءِ فِيمَا يَلُونَهُ مِنْ أَمْوَالٍ بِالآْتِي:
أ - مَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: مَنْ وَلِيَ يَتِيمًا لَهُ مَالٌ فَلْيَتَّجِرْ لَهُ بِمَالِهِ وَلاَ يَتْرُكُهُ حَتَّى تَأْكُلَهُ الصَّدَقَةُ (1) .
ب - مَا رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ دَفَعُوا مَال الْيَتِيمِ مُضَارَبَةً، مِنْهُمْ: عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
ج - مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دَفَعَ إِلَى عُرْوَةَ الْبَارِقِيِّ دِينَارًا لِيَشْتَرِيَ لَهُ شَاةً، فَاشْتَرَى شَاتَيْنِ، فَبَاعَ إِحْدَاهُمَا بِدِينَارٍ، وَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَاةٍ وَدِينَارٍ، فَدَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ (2) .
د - اسْتَدَلُّوا عَلَى أَنَّ الإِْمَامَ لَهُ النَّظَرُ فِي أَمْوَال بَيْتِ الْمَال بِالتَّثْمِيرِ وَالإِْصْلاَحِ، بِمَا رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ وَعُبَيْدَ اللَّهِ ابْنَيْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَخَذَا مِنْ أَبِي مُوسَى الأَْشْعَرِيِّ - وَهُوَ أَمِيرُ الْبَصْرَةِ - مَالاً مِنْ بَيْتِ الْمَال لِيَبْتَاعَا وَيَرْبَحَا، ثُمَّ يُؤَدِّيَا رَأْسَ الْمَال إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَأَبَى عُمَرُ، وَجَعَل الْمَال
__________
(1) حديث: " من ولي يتيما له مال فليتجر له بماله ولا يتركه حتى تأكله الصدقة ". أخرجه الترمذي في الزكاة من سننه (3 / 32 / 641) ط الحلبي، وقال الترمذي: وإنما روي هذا الحديث من هذا الوجه وفي إسناده مقال. لأن المثنى بن الصباح يضعف في الحديث.
(2) حديث عروة البارقي سبق تخريجه. (ف / 11) .(7/67)
قِرَاضًا، وَأَخَذَ نِصْفَ الرِّبْحِ لِبَيْتِ الْمَال وَتَرَكَ لَهُمَا النِّصْفَ (1) .
هـ - كَمَا وَرَدَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ كَانَ يُرْسِل إِبِل الصَّدَقَةِ إِذَا كَانَتْ عِجَافًا إِلَى الرَّبَذَةِ وَمَا وَالاَهَا تَرْعَى هُنَاكَ (2) .
حُكْمُ الإِْنْمَاءِ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ يَمْلِكُ الرَّقَبَةَ دُونَ التَّصَرُّفِ
مَنْ يَمْلِكُ الرَّقَبَةَ وَلاَ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ كَالسَّفِيهِ عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ، وَكَالصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ يُمْنَعُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الْمَال، وَالْحَجْرُ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا هُوَ لِلْحِفَاظِ عَلَى أَمْوَالِهِمْ، وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَل اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} (3) ، فَأَضَافَ الأَْمْوَال إِلَى الأَْوْلِيَاءِ؛ لأَِنَّهُمْ مُدَبِّرُوهَا، كَذَلِكَ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِاخْتِبَارِ الْيَتَامَى وَعَدَمِ دَفْعِ الأَْمْوَال إِلَيْهِمْ إِلاَّ عِنْدَ إِينَاسِ الرُّشْدِ مِنْهُمْ. يَقُول تَعَالَى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} (4) ، يَقُول ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} أَيْ صَلاَحًا فِي
__________
(1) الأثر عن عمر بن الخطاب. أخرجه مالك في الموطأ (5 / 149 بشرح المنتقى) ط دار الكتاب العربي.
(2) ابن عابدين 4 / 141، 354، 355، 505، ط بولاق ثالثة، ومنح الجليل 3 / 666، والحطاب 2 / 294، 5 / 357 ط دار الفكر، والهداية 4 / 136، والحطاب 6 / 38، والمهذب 1 / 335، 362، ومنتهى الإرادات 2 / 503، 505، 2 / 292، والبدائع 6 / 79، وكنز العمال 5 / 617، ومغني المحتاج 2 / 304 ط مصطفى الحلبي.
(3) سورة النساء / 5.
(4) سورة النساء / 6.(7/68)
أَمْوَالِهِمْ. فَالْمَنْعُ مِنَ التَّصَرُّفِ نَظَرٌ لَهُمْ لأَِنَّهُ يُمْكِنُ تَبْذِيرُ الْمَال بِمَا يَعْقِدُونَهُ مِنْ بِيَاعَاتٍ. لَكِنْ إِذَا أَذِنَ الْوَلِيُّ لِلصَّغِيرِ الْمُمَيِّزِ جَازَ تَصَرُّفُهُ بِالإِْذْنِ، أَمَّا الصَّغِيرُ غَيْرُ الْمُمَيِّزِ وَالْمَجْنُونُ فَلاَ يَصِحُّ تَصَرُّفُهُمَا وَلَوْ بِالإِْذْنِ (1) .
حُكْمُ الإِْنْمَاءِ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ لاَ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ:
15 - مَنْ لاَ يَمْلِكُ الرَّقَبَةَ وَلاَ التَّصَرُّفَ، وَلَهُ يَدٌ عَلَى الْمَال، سَوَاءٌ أَكَانَتْ يَدَ أَمَانَةٍ كَالْمُودَعِ، أَوْ كَانَتْ يَدًا مُعْتَدِيَةً كَيَدِ الْغَاصِبِ، فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ لَهُ الإِْنْمَاءُ، إِذِ الأَْصْل أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ تَصَرُّفُ أَحَدٍ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ بِغَيْرِ إِذْنِ مَالِكِهِ. وَانْظُرْ لِلتَّفْصِيل (غَصْبٌ. وَدِيعَةٌ) .
وَسَائِل الإِْنْمَاءِ - مَا يَجُوزُ مِنْهَا وَمَا لاَ يَجُوزُ:
16 - تَقَدَّمَ أَنَّ الأَْصْل فِي إِنْمَاءِ الْمَال أَنَّهُ مَشْرُوعٌ، إِلاَّ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُقْتَصَرَ فِيهِ عَلَى الْوَسَائِل الْمَشْرُوعَةِ، كَالتِّجَارَةِ وَالزِّرَاعَةِ وَالصِّنَاعَةِ، مَعَ مُرَاعَاةِ الْقَوَاعِدِ وَالشَّرَائِطِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي أَوْرَدَهَا الْفُقَهَاءُ لِلتَّصَرُّفَاتِ الَّتِي تَكُونُ سَبِيلاً إِلَى الإِْنْمَاءِ، كَالْبَيْعِ وَالشَّرِكَةِ وَالْمُضَارَبَةِ وَالْمُسَاقَاةِ وَالْوَكَالَةِ، وَذَلِكَ لِضَمَانِ صِحَّةِ هَذِهِ الْعُقُودِ، وَلِيَخْلُصَ الرِّبْحُ مِنْ شُبْهَةِ الْحَرَامِ (ر: بَيْعٌ - شَرِكَةٌ - مُضَارَبَةٌ. . . إِلَخْ) .
__________
(1) الحطاب 4 / 246، 247 ط النجاح - ليبيا، والمهذب 1 / 335، 338، 396، والاختيار 2 / 94، 100، ومنتهى الإرادات 2 / 289 - 296، ومغني المحتاج 2 / 99، 165، 171، وابن عابدين 2 / 304، 5 / 113، والدسوقي 3 / 294 ط دار الفكر.(7/68)
وَلِذَلِكَ يَحْرُمُ تَنْمِيَةُ الْمَال عَنْ طَرِيقٍ غَيْرِ مَشْرُوعٍ كَالرِّبَا وَالْقِمَارِ وَالتِّجَارَةِ بِالْخَمْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ (1) . لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَحَل اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (2) وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْخَمْرِ: لَعَنَ اللَّهُ شَارِبَهَا وَسَاقِيَهَا وَبَائِعَهَا وَمُبْتَاعَهَا. . . (3) الْحَدِيثَ. وَقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالأَْصْنَامِ (4) .
مَا يَتَعَلَّقُ بِالنَّمَاءِ مِنْ أَحْكَامٍ:
17 - الْمَال سَوَاءٌ أَكَانَ فِي يَدِ مَالِكِهِ أَوْ يَدِ الْمُتَصَرِّفِ فِيهِ. أَمْ كَانَ أَمَانَةً أَوْ غَصْبًا، إِذَا نَمَا، سَوَاءٌ أَكَانَ نَمَاؤُهُ طَبِيعِيًّا أَوْ نَاتِجًا بِعَمَلٍ، فَلِنَمَائِهِ أَحْكَامٌ، تَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ مَوَاضِعِهَا. وَلِمَعْرِفَةِ تَفَاصِيل ذَلِكَ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (زِيَادَةٌ) (5) .
__________
(1) كفاية الطالب الرباني 2 / 332 ط مصطفى الحلبي، والمهذب 1 / 374، وجامع الأصول 10، 565 ط الفلاح.
(2) سورة البقرة / 275.
(3) حديث: " لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها، وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة له ". أخرجه أبو داود في الأشربة من سننه (4 / 82 / 3674 ط الدعاس) . وابن ماجه في الأشربة (2 / 1121) قال الحافظ قي تلخيص الحبير (4 / 73) : رواه الترمذي وابن ماجه ورواته ثقات.
(4) حديث: " إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام ". أخرجه البخاري في البيوع (4 / 424 / 2236 ط السلفية) . ومسلم في المساقاة (3 / 1207 / 1581 ط الحلبي) .
(5) بدائع الصنائع 2 / 11 ط شركة المطبوعات العلمية ط أولى، والبحر الرائق 2 / 239، والهداية 4 / 155، والاختيار 3 / 64، والمغني 2 / 577، 625، 626، 5 / 260، ومنتهى الإرادات 2 / 478، ومغني المحتاج 1 / 380، 398، 2 / 139، وجواهر الإكليل 1 / 118، 128.(7/69)
(ثَانِيًا)
الإِْنْمَاءُ (بِمَعْنَى تَغَيُّبِ الصَّيْدِ بَعْدَ رَمْيِهِ)
18 - التَّعْبِيرُ بِالإِْنْمَاءِ بِمَعْنَى رَمْيِ الصَّيْدِ حَتَّى غَابَ عَنِ الْعَيْنِ بَعْدَ رَمْيِهِ، وَرَدَ مَنْسُوبًا لاِبْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا، وَالْغَالِبُ أَنَّ الْفُقَهَاءَ لاَ يَسْتَعْمِلُونَ هَذَا اللَّفْظَ، وَإِنَّمَا ذَكَرُوا الْمَسْأَلَةَ وَاسْتَدَلُّوا عَلَى رَأْيِهِمْ بِقَوْل ابْنِ عَبَّاسٍ، جَاءَ فِي بَدَائِعِ الصَّنَائِعِ: إِذَا رَمَى الصَّيْدَ وَتَوَارَى عَنْ عَيْنِهِ وَقَعَدَ عَنْ طَلَبِهِ ثُمَّ وَجَدَهُ لَمْ يُؤْكَل، فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَتَوَارَ أَوْ تَوَارَى لَكِنَّهُ لَمْ يَقْعُدْ عَنِ الطَّلَبِ حَتَّى وَجَدَهُ يُؤْكَل اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنَّهُ لاَ يُؤْكَل، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِل عَنْ ذَلِكَ فَقَال: كُل مَا أَصْمَيْتَ وَدَعْ مَا أَنْمَيْتَ (1) .
قَال أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ: الإِْصْمَاءُ مَا عَايَنَهُ، وَالإِْنْمَاءُ مَا تَوَارَى عَنْهُ. وَقَال هِشَامٌ: الإِْنْمَاءُ مَا تَوَارَى عَنْ بَصَرِك، إِلاَّ أَنَّهُ أُقِيمَ الطَّلَبُ مَقَامَ الْبَصَرِ لِلضَّرُورَةِ، وَلاَ ضَرُورَةَ عِنْدَ عَدَمِ الطَّلَبِ (2) .
وَفِي الْمُغْنِي لاِبْنِ قُدَامَةَ: إِذَا رَمَى الصَّيْدَ فَغَابَ عَنْ عَيْنِهِ فَوَجَدَهُ مَيِّتًا وَسَهْمُهُ فِيهِ وَلاَ أَثَرَ بِهِ غَيْرَهُ حَل أَكْلُهُ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَرْسَل كَلْبَهُ عَلَى صَيْدٍ فَغَابَ عَنْ عَيْنِهِ ثُمَّ وَجَدَهُ مَيِّتًا وَمَعَهُ كَلْبُهُ حَل، وَعَنْ أَحْمَدَ إِنْ غَابَ نَهَارًا فَلاَ بَأْسَ، وَإِنْ غَابَ لَيْلاً لَمْ يَأْكُلْهُ، وَعَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُل عَلَى أَنَّهُ إِنْ غَابَ مُدَّةً طَوِيلَةً لَمْ يُبَحْ، وَإِنْ كَانَتْ يَسِيرَةً أُبِيحَ؛ لأَِنَّهُ قِيل لَهُ: إِنْ غَابَ يَوْمًا؟ قَال: يَوْمٌ كَثِيرٌ.
وَوَجْهُ ذَلِكَ قَوْل ابْنِ عَبَّاسٍ إِذَا رَمَيْتَ فَأَقْعَصْتَ فَكُل،
__________
(1) الأثر عن ابن عباس رضي الله عنه. سبق تخريجه (ف / 1) .
(2) بدائع الصنائع 5 / 59.(7/69)
وَإِنْ رَمَيْتَ فَوَجَدْتَ فِيهِ سَهْمَكَ مِنْ يَوْمِكَ أَوْ لَيْلَتِكَ فَكُل، وَإِنْ بَاتَ عَنْكَ لَيْلَةً فَلاَ تَأْكُل، فَإِنَّكَ لاَ تَدْرِي مَا حَدَثَ فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ (1)
. وَلِلشَّافِعِيِّ فِيهِ قَوْلاَنِ لأَِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَال: كُل مَا أَصْمَيْتَ، وَمَا أَنْمَيْتَ فَلاَ تَأْكُل.
قَال الْحَكَمُ: الإِْصْمَاءُ الإِْقْعَاصُ، يَعْنِي أَنَّهُ يَمُوتُ فِي الْحَال، وَالإِْنْمَاءُ أَنْ يَغِيبَ عَنْكَ يَعْنِي أَنَّهُ لاَ يَمُوتُ فِي الْحَال (2) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل الْمَوْضُوعِ فِي (صَيْدٌ) .
أُنْمُوذَجٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - لِلأُْنْمُوذَجِ مَعَانٍ مِنْهَا: أَنَّهُ مَا يَدُل عَلَى صِفَةِ الشَّيْءِ، كَأَنْ يُرِيَ إِنْسَانٌ إِنْسَانًا صَاعًا مِنْ صُبْرَةِ قَمْحٍ مَثَلاً، وَيَبِيعَهُ الصُّبْرَةَ عَلَى أَنَّهَا مِنْ جِنْسِ ذَلِكَ الصَّاعِ. وَيُقَال لَهُ أَيْضًا نَمُوذَجٌ. قَال الصَّغَائِيُّ:
النَّمُوذَجُ: مِثَال الشَّيْءِ الَّذِي يُعْمَل عَلَيْهِ، وَهُوَ مُعَرَّبٌ (3) .
__________
(1) الأثر عن ابن عباس رضي الله عنه سبق تخريجه (ف / 1) .
(2) المغني 8 / 553، 554.
(3) المصباح المنير 2 / 297، وكشاف القناع عن متن الإقناع 3 / 163 - ط مطبعة النصر الحديثة، وحاشية ابن عابدين 4 / 66، ومنهاج الطالبين 2 / 165.(7/70)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْبَرْنَامَجُ:
2 - الْبَرْنَامَجُ: هُوَ الْوَرَقَةُ الْجَامِعَةُ لِلْحِسَابِ وَهُوَ مُعَرَّبُ " برنامه " (1) .
وَفِي الْمُغْرِبِ: هِيَ النُّسْخَةُ الْمَكْتُوبُ فِيهَا عَدَدُ الثِّيَابِ وَالأَْمْتِعَةِ وَأَنْوَاعِهَا الْمَبْعُوثِ بِهَا مِنْ إِنْسَانٍ لآِخَرَ. فَالْبَرْنَامَجُ هِيَ تِلْكَ النُّسْخَةُ الَّتِي فِيهَا مِقْدَارُ الْمَبْعُوثِ، وَمِنْهُ قَوْل السِّمْسَارِ: إِنَّ وَزْنَ الْحُمُولَةِ فِي الْبَرْنَامَجِ كَذَا (2) .
وَنَصَّ فُقَهَاءُ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى أَنَّ الْبَرْنَامَجَ: هُوَ الدَّفْتَرُ الْمَكْتُوبُ فِيهِ صِفَةُ مَا فِي الْوِعَاءِ مِنَ الثِّيَابِ الْمَبِيعَةِ (3) . وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (بَرْنَامَجٌ) .
ب - الرَّقْمُ:
3 - الرَّقْمُ: مِنْ رَقَّمْتُ الشَّيْءَ إِذَا أَعْلَمْتُهُ بِعَلاَمَةٍ تُمَيِّزُهُ عَنْ غَيْرِهِ كَالْكِتَابَةِ وَنَحْوِهَا (4) . وَفَسَّرَهُ الْحَنَفِيَّةُ فِي قَوْلِهِمُ الْبَيْعُ بِالرَّقْمِ بِأَنَّهُ عَلاَمَةٌ يُعْرَفُ بِهَا مِقْدَارُ مَا يَقَعُ بِهِ الْبَيْعُ (5) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: بِأَنَّهُ الثَّمَنُ الْمَكْتُوبُ عَلَى الثَّوْبِ (6) ، وَهُوَ أَوْضَحُ مِنْ غَيْرِهِ.
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ: (الْبَيْعُ بِالرَّقْمِ) .
__________
(1) تاج العروس مادة " برنامج "، وفيه أنها بفتح الباء والميم، وقيل بكسر الميم، وقيل بكسرهما.
(2) المغرب مادة " برنامج ".
(3) الشرح الصغير 3 / 41، وهو وإن كان قد أورد في التعريف بحسب نصه: أنه الدفتر المكتوب فيه صفة ما في العدل من الثياب المبينة إلا أن المراد بالعدل (الوعاء) .
(4) المصباح المنير مادة " رقم ".
(5) حاشية ابن عابدين 4 / 29.
(6) المغني لابن قدامة 4 / 207 - ط الرياض، مطالب أولي النهى 3 / 40.(7/70)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
4 - أَوْرَدَ الْحَنَفِيَّةُ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ أَنَّ الْبَيْعَ يَنْعَقِدُ بِالإِْيجَابِ وَالْقَبُول. وَأَنَّهُ لاَ بُدَّ لِلْعَاقِدَيْنِ مِنْ مَعْرِفَةِ الْمَبِيعِ مَعْرِفَةً نَافِيَةً لِلْجَهَالَةِ الْمُفْضِيَةِ لِلْمُنَازَعَةِ. فَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ حَاضِرًا اكْتُفِيَ بِالإِْشَارَةِ إِلَيْهِ؛ لأَِنَّهَا مُوجِبَةٌ لِلتَّعْرِيفِ قَاطِعَةٌ لِلْمُنَازَعَةِ. وَإِنْ كَانَ غَائِبًا فَإِنْ كَانَ مِمَّا يُعْرَفُ بِالأُْنْمُوذَجِ كَالْكَيْلِيِّ وَالْوَزْنِيِّ وَالْعَدَدِيِّ الْمُتَقَارِبِ فَرُؤْيَةُ الأُْنْمُوذَجِ كَرُؤْيَةِ الْجَمِيعِ إِلاَّ أَنْ يَخْتَلِفَ فَيَكُونَ لَهُ خِيَارُ الْعَيْبِ، أَوْ خِيَارُ فَوَاتِ الْوَصْفِ الْمَرْغُوبِ فِيهِ. وَإِنْ كَانَ مِمَّا لاَ يُعْرَفُ بِالأُْنْمُوذَجِ كَالثِّيَابِ وَالْحَيَوَانِ فَيَذْكُرُ لَهُ جَمِيعَ الأَْوْصَافِ قَطْعًا لِلْمُنَازَعَةِ وَيَكُونُ لَهُ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ.
كَمَا أَنَّهُ لاَ بُدَّ كَذَلِكَ مِنْ مَعْرِفَةِ مِقْدَارِ الثَّمَنِ وَصِفَتِهِ إِذَا كَانَ فِي الذِّمَّةِ قَطْعًا لِلْمُنَازَعَةِ، وَإِنْ أَطْلَقَ الثَّمَنَ فَهُوَ عَلَى غَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَامَلُوا بِهَا انْصَرَفَ إِلَى الْمُعْتَادِ عِنْدَهُمْ. وَيَكْفِي أَنْ يَرَى الْمُشْتَرِي مِنَ الْمَبِيعِ مَا يَدُل عَلَى الْعِلْمِ؛ لأَِنَّ رُؤْيَةَ جَمِيعِ الْمَبِيعِ غَيْرُ مَشْرُوطَةٍ لِتَعَذُّرِهَا كَوَجْهِ صُبْرَةٍ لاَ تَتَفَاوَتُ آحَادُهَا (1) . فَمَتَى كَانَ الأُْنْمُوذَجُ قَدْ دَل عَلَى مَا فِي الصُّبْرَةِ مِنْ مَبِيعٍ دَلاَلَةً نَافِيَةً لِلْجَهَالَةِ، وَكَانَ مِمَّا لاَ تَتَفَاوَتُ آحَادُهُ، وَكَانَ الثَّمَنُ مَعْلُومًا، كَانَ الْبَيْعُ بِهِ صَحِيحًا وَبِغَيْرِهِ لاَ.
هَذَا مَا عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ، فَقَدْ شَرَطُوا فِيمَا يَنْعَقِدُ بِهِ الْبَيْعُ: مَعْرِفَةُ الْعَاقِدَيْنِ بِالْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ مَعْرِفَةً نَافِيَةً لِلْجَهَالَةِ، وَأَنَّ رُؤْيَةَ بَعْضِ الْمَبِيعِ تَكْفِي إِنْ دَلَّتْ عَلَى الْبَاقِي فِيمَا لاَ يَخْتَلِفُ أَجْزَاؤُهُ اخْتِلاَفًا بَيِّنًا.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي الأُْنْمُوذَجِ الْمُتَمَاثِل الْمُتَسَاوِي
__________
(1) الاختيار شرح المختار 2 / 4، 5 ط دار المعرفة، وابن عابدين 4 / 5، 21، 65، 66.(7/71)
الأَْجْزَاءَ كَالْحُبُوبِ: إِنَّ رُؤْيَتَهُ تَكْفِي عَنْ رُؤْيَةِ بَاقِي الْمَبِيعِ، وَالْبَيْعُ بِهِ جَائِزٌ. وَإِذَا أَحْضَرَ الْبَائِعُ الأُْنْمُوذَجَ وَقَال: بِعْتُكَ مِنْ هَذَا النَّوْعِ كَذَا فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يُعَيِّنْ مَالاً لِيَكُونَ بَيْعًا، وَلَمْ يُرَاعِ شَرْطَ السَّلَمِ، وَلاَ يَقُومُ ذَلِكَ مَقَامَ الْوَصْفِ فِي السَّلَمِ؛ لأَِنَّ الْوَصْفَ بِاللَّفْظِ يُرْجَعُ إِلَيْهِ عِنْدَ النِّزَاعِ، فَإِنْ عَيَّنَ الثَّمَنَ وَبَيَّنَهُ جَازَ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ الْبَيْعَ بِالأُْنْمُوذَجِ لاَ يَصِحُّ إِذَا لَمْ يَرَ الْمَبِيعَ وَقْتَ الْعَقْدِ، أَمَّا إِذَا رُئِيَ فِي وَقْتِهِ وَكَانَ عَلَى مِثَالِهِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ (1) .
إِنْهَاءٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْنْهَاءُ فِي اللُّغَةِ: يَكُونُ بِمَعْنَى الإِْعْلاَمِ، وَالإِْبْلاَغِ، يُقَال أَنْهَيْتُ الأَْمْرَ إِلَى الْحَاكِمِ أَيْ أَعْلَمْتُهُ بِهِ. وَيَكُونُ بِمَعْنَى الإِْتْمَامِ وَالإِْنْجَازِ. يُقَال: أَنْهَى الْعَمَل إِذَا أَنْجَزَهُ (2) .
وَقَدِ اسْتَعْمَلَهُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِمَعْنَى إِبْلاَغِ الْقَاضِي قَاضِيًا آخَرَ بِحُكْمِهِ لِيُنَفِّذَهُ، أَوْ بِمَا حَصَل عِنْدَهُ مِمَّا هُوَ دُونَ الْحُكْمِ، كَسَمَاعِ الدَّعْوَى لِقَاضٍ آخَرَ لِيُتَمِّمَهُ. وَيَكُونَ إِمَّا مُشَافَهَةً أَوْ بِكِتَابٍ أَوْ
__________
(1) الشرح الكبير 3 / 24، وجواهر الإكليل 2 / 2، 6 - 7، وعميرة على شرح المحلى على منهاج الطالبين 2 / 152 - 153، 161 - 163، 165، وكشاف القناع 3 / 163 طبعة بيروت.
(2) الصحاح والمصباح المنير، وتهذيب الأسماء واللغات، والمرجع لعبد الله العلايلي، مادة (نهى) .(7/71)
بِشَاهِدَيْنِ (1) . وَيَرْجِعُ فِي تَفْصِيل ذَلِكَ إِلَى (دَعْوَى. قَضَاءٍ) .
وَأَمَّا بِالْمَعْنَى الثَّانِي فَقَدِ اسْتَعْمَلَهُ الْفُقَهَاءُ كَذَلِكَ، وَيُرْجَعُ إِلَى بَحْثِ (إِتْمَامٍ) .
أُنُوثَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الأُْنُوثَةُ خِلاَفُ الذُّكُورَةِ، وَالأُْنْثَى - كَمَا جَاءَ فِي الصِّحَاحِ وَغَيْرِهِ مِنْ كُتُبِ اللُّغَةِ - خِلاَفُ الذَّكَرِ، قَال تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} (2) ، وَتُجْمَعُ عَلَى إِنَاثٍ وَأَنَاثَى، وَامْرَأَةٌ أُنْثَى. أَيْ كَامِلَةٌ فِي أُنُوثَتِهَا.
وَالأُْنْثَيَانِ: الْخُصْيَتَانِ (3) . (ر: خِصَاءٌ) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى.
هَذَا، وَيَذْكُرُ الْفُقَهَاءُ لِلأُْنُوثَةِ عَلاَمَاتٍ وَأَمَارَاتٍ تُمَيِّزُهَا عَنِ الذُّكُورَةِ فَضْلاً عَنْ أَعْضَاءِ الأُْنُوثَةِ، وَتِلْكَ الأَْمَارَاتُ إِمَّا حِسِّيَّةٌ كَالْحَيْضِ، وَإِمَّا مَعْنَوِيَّةٌ كَالطِّبَاعِ.
وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (خُنْثَى) .
__________
(1) شرح الزرقاني 7 / 150، 151 ط دار الفكر، وتبصرة الحكام بهامش فتاوى عليش 2 / 19، 20، ونهاية المحتاج 8 / 259 ط مصطفى الحلبي، وقليوبي وعميرة 4 / 309.
(2) سورة الحجرات / 13.
(3) الصحاح 1 / 272، 273 باب الثاء فصل الألف، ط دار الكتاب العربي، والقاموس المحيط، والمصباح المنير، مادة " أنث ".(7/72)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْخُنُوثَةُ:
2 - الْخُنُوثَةُ حَالَةٌ بَيْنَ الذُّكُورَةِ وَالأُْنُوثَةِ. وَتَذْكُرُ كُتُبُ اللُّغَةِ أَنَّ الْخُنْثَى مَنْ لَهُ مَا لِلرِّجَال وَالنِّسَاءِ جَمِيعًا (1) .
وَأَمَّا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، فَقَدْ قَال النَّوَوِيُّ: الْخُنْثَى ضَرْبَانِ: ضَرْبٌ لَهُ فَرْجُ الْمَرْأَةِ وَذَكَرُ الرِّجَال، وَضَرْبٌ لَيْسَ لَهُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا (2) .
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (خُنْثَى) .
أَحْكَامُ الأُْنُوثَةِ
أُنْثَى الآْدَمِيِّ:
أَوَّلاً: تَكْرِيمُ الإِْسْلاَمِ لِلأُْنْثَى:
يَتَمَثَّل تَكْرِيمُ الإِْسْلاَمِ لِلأُْنْثَى فِيمَا يَأْتِي:
حُسْنُ اسْتِقْبَالِهَا عِنْدَ وِلاَدَتِهَا:
3 - كَانَ اسْتِقْبَال الأُْنْثَى فِي الْعَرَبِ قَبْل الإِْسْلاَمِ اسْتِقْبَالاً سَيِّئًا، يَتَبَرَّمُونَ بِهَا، وَتَسْوَدُّ وُجُوهُهُمْ، وَيَتَوَارَوْنَ عَنِ الأَْعْيُنِ، إِذْ هِيَ فِي نَظَرِهِمْ مَجْلَبَةٌ لِلْفَقْرِ أَوْ لِلْعَارِ، فَكَانُوا يَئِدُونَهَا حَيَّةً، وَيَسْتَكْثِرُ الرَّجُل عَلَيْهَا النَّفَقَةَ الَّتِي لاَ يَسْتَكْثِرُهَا عَلَى عَبْدِهِ أَوْ حَيَوَانِهِ (3) ، فَنَهَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمُسْلِمِينَ عَنْ ذَلِكَ، وَذَمَّ هَذَا الْفِعْل الشَّنِيعَ، وَبَيَّنَ أَنَّ مَنْ فَعَل ذَلِكَ فَقَدْ بَاءَ بِالْخُسْرَانِ الْمُبِينِ، {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلاَدَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} (4) .
__________
(1) المصباح مادة: " خنث "، والصحاح والقاموس.
(2) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 241 ط الحلبي، والمغني 6 / 253، والحموي على ابن نجيم 2 / 166 - 170 ط العامرة.
(3) تفسير الطبري 4 / 123 و 15 / 78 ط مصطفى الحلبي.
(4) سورة الأنعام / 140.(7/72)
وَنَبَّهَ الإِْسْلاَمُ إِلَى أَنَّ حَقَّ الْوُجُودِ وَحَقَّ الْحَيَاةِ هِبَةٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِكُل إِنْسَانٍ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} (1) .
قَال ابْنُ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ (2) : قَدَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَا كَانَتْ تُؤَخِّرُهُ الْجَاهِلِيَّةُ مِنْ أَمْرِ الْبَنَاتِ حَتَّى كَانُوا يَئِدُونَهُنَّ، أَيْ هَذَا النَّوْعَ الْمُؤَخَّرَ الْحَقِيرَ عِنْدَكُمْ مُقَدَّمٌ عِنْدِي فِي الذِّكْرِ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ التَّسَخُّطَ بِالإِْنَاثِ مِنْ أَخْلاَقِ أَهْل الْجَاهِلِيَّةِ الَّذِينَ ذَمَّهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي قَوْلِهِ: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُْنْثَى ظَل وَجْهُهُ مُسَوَّدًا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} (3) .
وَقَال قَتَادَةَ فِيمَا رَوَاهُ الطَّبَرِيُّ: أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِخُبْثِ صَنِيعِهِمْ، فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَهُوَ حَقِيقٌ أَنْ يَرْضَى بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَهُ، وَقَضَاءُ اللَّهِ لَهُ خَيْرٌ مِنْ قَضَاءِ الْمَرْءِ نَفْسِهِ، وَلَعَمْرِي مَا يَدْرِي أَنَّهُ خَيْرٌ؛ لَرُبَّ جَارِيَةٍ خَيْرٌ لأَِهْلِهَا مِنْ غُلاَمٍ، وَإِنَّمَا أَخْبَرَكُمُ اللَّهُ بِصَنِيعِهِمْ لِتَجْتَنِبُوهُ وَتَنْتَهُوا عَنْهُ، وَكَانَ أَحَدُهُمْ يَغْذُو كَلْبَهُ وَيَئِدُ ابْنَتَهُ (4) .
وَالإِْسْلاَمُ لاَ يَكْتَفِي مِنَ الْمُسْلِمِ بِأَنْ يَجْتَنِبَ وَأْدَ الْبَنَاتِ، بَل يَرْتَقِي بِالْمُسْلِمِ إِلَى دَرَجَةِ الإِْنْسَانِيَّةِ الْمُثْلَى، فَيَأْبَى عَلَيْهِ أَنْ يَتَبَرَّمَ بِذُرِّيَّةِ الْبَنَاتِ، وَيَتَلَقَّى وِلاَدَتَهُنَّ بِالْعَبُوسِ وَالاِنْقِبَاضِ، بَل يَتَقَبَّلُهَا بِالرِّضَى وَالْحَمْدِ، قَال صَالِحُ بْنُ الإِْمَامِ أَحْمَدَ: كَانَ أَحْمَدُ إِذَا
__________
(1) سورة الشورى / 49.
(2) تحفة المودود بأحكام المولود ص 11.
(3) سورة النحل / 59.
(4) تفسير الطبري 4 / 123 ط مصطفى الحلبي.(7/73)
وُلِدَ لَهُ ابْنَةٌ يَقُول: الأَْنْبِيَاءُ كَانُوا آبَاءَ بَنَاتٍ، وَيَقُول: قَدْ جَاءَ فِي الْبَنَاتِ مَا عَلِمْتَ (1) .
الْعَقُّ عَنْهَا:
4 - الْعَقِيقَةُ عَنِ الْمَوْلُودِ سُنَّةٌ، وَيَسْتَوِي فِي السُّنَّةِ الذَّكَرُ وَالأُْنْثَى، فَكَمَا يَعُقُّ الْوَلِيُّ عَنِ الذَّكَرِ يَوْمَ السَّابِعِ يَعُقُّ عَنِ الأُْنْثَى أَيْضًا (2) ، وَلَكِنْ يَعُقُّ عَنِ الأُْنْثَى شَاةٌ، وَعَنِ الذَّكَرِ شَاتَانِ. وَيُنْظَرُ تَفْصِيلٌ ذُكِرَ فِي (عَقِيقَةٍ) .
تَسْمِيَتُهَا بِاسْمٍ حَسَنٍ:
5 - مِنَ السُّنَّةِ تَسْمِيَةُ الْمَوْلُودِ بِاسْمٍ حَسَنٍ، وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الذَّكَرُ وَالأُْنْثَى، وَكَمَا كَانَ النَّبِيُّ يُغَيِّرُ أَسْمَاءَ الذُّكُورِ مِنَ الْقَبِيحِ إِلَى الْحَسَنِ، فَإِنَّهُ كَذَلِكَ كَانَ يُغَيِّرُ أَسْمَاءَ الإِْنَاثِ مِنَ الْقَبِيحِ إِلَى الْحَسَنِ (3) ، فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ ابْنَةً لِعُمَرِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ كَانَ يُقَال لَهَا عَاصِيَةٌ فَسَمَّاهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمِيلَةٌ (4) .
وَالْكُنْيَةُ مِنَ الأُْمُورِ الْمَحْمُودَةِ، يَقُول النَّوَوِيُّ: مِنَ الأَْدَبِ أَنْ يُخَاطَبَ أَهْل الْفَضْل وَمَنْ قَارَبَهُمْ بِالْكُنْيَةِ، وَقَدْ كُنِّيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَبِي الْقَاسِمِ، بِابْنِهِ الْقَاسِمِ. وَالْكُنْيَةُ كَمَا تَكُونُ لِلذَّكَرِ تَكُونُ لِلأُْنْثَى. قَال
__________
(1) تحفة المودود ص 13.
(2) جواهر الإكليل 1 / 224، والمغني 8 / 643.
(3) ابن عابدين 5 / 268، وتحفة المودود ص 76، وجامع الأصول لابن الأثير 1 / 376.
(4) حديث: " أن ابنة لعمر رضي الله عنه يقال لها عاصية. . . . " أخرجه مسلم (3 / 1687 - ط الحلبي) والبخاري في الأدب المفرد (ص 286 - ط السلفية) .(7/73)
النَّوَوِيُّ: رَوَيْنَا بِالأَْسَانِيدِ الصَّحِيحَةِ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُول اللَّهِ كُل صَوَاحِبِي لَهُنَّ كُنًى، قَال: فَاكْتَنِّي بِابْنِكِ عَبْدِ اللَّهِ قَال الرَّاوِي. يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ وَهُوَ ابْنُ أُخْتِهَا أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، وَكَانَتْ عَائِشَةُ تُكَنَّى أُمُّ عَبْدِ اللَّهِ (1) .
لَهَا نَصِيبٌ فِي الْمِيرَاثِ:
6 - جَعَل اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِلأُْنْثَى نَصِيبًا فِي الْمِيرَاثِ كَمَا لِلذَّكَرِ نَصِيبٌ، وَقَدْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ لاَ يُوَرِّثُونَ الإِْنَاثَ. قَال سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةَ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَجْعَلُونَ الْمَال لِلرِّجَال الْكِبَارِ وَلاَ يُوَرِّثُونَ النِّسَاءَ وَلاَ الأَْطْفَال شَيْئًا، فَأَنْزَل اللَّهُ تَعَالَى: {لِلرِّجَال نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَْقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَْقْرَبُونَ مِمَّا قَل مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} (2) أَيِ الْجَمِيعُ فِيهِ سَوَاءٌ فِي حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى يَسْتَوُونَ فِي أَصْل الْوِرَاثَةِ وَإِنْ تَفَاوَتُوا بِحَسَبِ مَا فَرَضَ اللَّهُ لِكُلٍّ مِنْهُمْ (3) .
وَقَال الْمَاوَرْدِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: سَبَبُ نُزُول هَذِهِ الآْيَةِ أَنَّ أَهْل الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يُوَرِّثُونَ الذُّكُورَ دُونَ الإِْنَاثِ، فَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قَال: نَزَل
__________
(1) ابن عابدين 5 / 268، والأذكار للنووي ص 249 - 253 ط دار الملاح للطباعة والنشر. وحديث: " اكتني بابنك عبد الله " أخرجه أبو داود (5 / 253 - ط عزت عبيد دعاس) وصححه النووي في الأذكار (ص 261 - ط المنيرية) .
(2) سورة النساء / 7.
(3) تفسير الطبري 3 / 262 ط مصطفى الحلبي، ومختصر تفسير ابن كثير 1 / 360.(7/74)
قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {لِلرِّجَال نَصِيبٌ} . الآْيَةَ فِي أُمِّ كَجَّةَ وَبَنَاتِهَا وَثَعْلَبَةَ وَأَوْسِ بْنِ سُوَيْدٌ (1) وَهُمْ مِنَ الأَْنْصَارِ، وَكَانَ أَحَدُهُمَا زَوْجَهَا وَالآْخَرُ عَمَّ وَلَدِهَا، فَقَالَتْ: يَا رَسُول اللَّهِ تُوُفِّيَ زَوْجِي وَتَرَكَنِي وَابْنَتَهُ وَلَمْ نُوَرَّثْ، فَقَال عَمُّ وَلَدِهَا: يَا رَسُول اللَّهِ، وَلَدُهَا لاَ يَرْكَبُ فَرَسًا وَلاَ يَحْمِل كَلًّا، وَلاَ يَنْكَأُ عَدُوًّا يَكْسِبُ عَلَيْهَا وَلاَ تَكْسِبُ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآْيَةُ (2) .
وَوَرَدَ كَذَلِكَ فِي سَبَبِ نُزُول قَوْله تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْل حَظِّ الأُْنْثَيَيْنِ} (3) مَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ قَال: جَاءَتِ امْرَأَةُ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ إِلَى رَسُول اللَّهِ فَقَالَتْ: يَا رَسُول اللَّهِ هَاتَانِ ابْنَتَا سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ، قُتِل أَبُوهُمَا مَعَكَ فِي يَوْمِ أُحُدٍ شَهِيدًا، وَإِنَّ عَمَّهُمَا أَخَذَ مَالَهُمَا فَلَمْ يَدَعْ لَهُمَا مَالاً، وَلاَ يُنْكَحَانِ إِلاَّ وَلَهُمَا مَالٌ فَقَال: يَقْضِي اللَّهُ فِي ذَلِكَ، فَنَزَلَتْ آيَةُ الْمِيرَاثِ، فَأَرْسَل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى عَمِّهِمَا فَقَال: أَعْطِ ابْنَتَيْ سَعْدٍ الثُّلُثَيْنِ، وَأُمَّهُمَا الثُّمُنَ، وَمَا بَقِيَ فَهُوَ لَكَ (4) .
__________
(1) يقول المحقق: الصحيح أن اسمه أوس بن ثابت الأنصاري.
(2) تفسير الماوردي 1 / 366، 383 ط مطابع مقهوي الكويت، والدر المنثور 2 / 439. وحديث سبب نزول آية (للرجال نصيب. . . .) أخرجه ابن جرير (4 / 262 ط الحلبي) من حديث عكرمة مرسلا وإسناده ضعيف لإرساله، وذكر له ابن كثير في تفسيره (2 / 207 - ط الأندلس) طريقا آخر يتقوى به.
(3) سورة النساء / 11.
(4) مختصر تفسير ابن كثير 1 / 362. وحديث: " يقضي الله في ذلك. . . فنزلت آية الميراث ". أخرجه الترمذي (تحفة الأحوذي 6 / 267 - المكتبة السلفية) والحاكم (4 / 334 ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه، ووافقه الذهبي.(7/74)
رِعَايَةُ طُفُولَتِهَا، وَعَدَمُ تَفْضِيل الذَّكَرِ عَلَيْهَا:
7 - يَعْتَنِي الإِْسْلاَمُ بِالأُْنْثَى فِي كُل أَطْوَارِ حَيَاتِهَا فَيَرْعَاهَا وَهِيَ طِفْلَةٌ، وَيَجْعَل رِعَايَتَهَا سِتْرًا مِنَ النَّارِ وَسَبِيلاً إِلَى الْجَنَّةِ. فَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ عَال جَارَتَيْنِ حَتَّى تَبْلُغَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَا وَهُوَ، وَضَمَّ أَصَابِعَهُ (1) .
وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُفَضِّل الذَّكَرَ عَلَيْهَا فِي التَّرْبِيَةِ وَالْعِنَايَةِ، فَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ كَانَتْ لَهُ أُنْثَى فَلَمْ يَئِدْهَا وَلَمْ يُهِنْهَا وَلَمْ يُؤْثِرْ وَلَدَهُ (يَعْنِي الذُّكُورَ) عَلَيْهَا أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ (2) . وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَجُلاً كَانَ جَالِسًا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَ ابْنٌ لَهُ فَقَبَّلَهُ وَأَجْلَسَهُ فِي حِجْرِهِ، ثُمَّ جَاءَتْ بِنْتُهُ فَأَخَذَهَا فَأَجْلَسَهَا إِلَى جَنْبِهِ فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَمَا عَدَلْتَ بَيْنَهُمَا (3) . وَفِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: لاَ يَجُوزُ تَفْضِيل الذَّكَرِ عَلَى الأُْنْثَى فِي الْعَطِيَّةِ (4) ، وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَبْطُل الْوَقْفُ إِذَا وَقَفَ عَلَى بَنِيهِ الذُّكُورِ دُونَ بَنَاتِهِ؛ لأَِنَّهُ مِنْ عَمَل الْجَاهِلِيَّةِ (5) .
وَتَشْمَل الْعِنَايَةُ بِهَا فِي طُفُولَتِهَا تَأْهِيلَهَا لِحَيَاتِهَا
__________
(1) حديث: " من عال جاريتين حتى تبلغا. . . . " رواه مسلم (4 / 2028 - ط الحلبي) .
(2) حديث: " من كانت له أنثى فلم يئدها. . . . " أخرجه أبو داود (5 / 354 - ط عزت عبيد دعاس) وفي إسناده جهالة.
(3) جامع الأصول 1 / 412، 413، وتحفة المودود ص 12، 136 وحديث: " فما عدلت بينهما ". أخرجه البيهقي من طريق ابن عدي كما في تحفة المودود لابن القيم (ص 179 - ط المكتبة القيمة) وحسنه ابن عدي في الكامل (4 / 1554 ط دار الفكر) .
(4) الفتاوى الهندية 4 / 391.
(5) جواهر الإكليل 2 / 206.(7/75)
الْمُسْتَقْبَلَةِ، فَيُسْتَثْنَى مِمَّا يَحْرُمُ مِنَ الصُّوَرِ صُوَرُ لَعِبِ الْبَنَاتِ فَإِنَّهَا لاَ تَحْرُمُ، وَيَجُوزُ اسْتِصْنَاعُهَا وَصُنْعُهَا وَبَيْعُهَا وَشِرَاؤُهَا لَهُنَّ؛ لأَِنَّهُنَّ يَتَدَرَّبْنَ بِذَلِكَ عَلَى رِعَايَةِ الأَْطْفَال، وَقَدْ كَانَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا جَوَارٍ يُلاَعِبْنَهَا بِصُوَرِ الْبَنَاتِ الْمَصْنُوعَةِ مِنْ نَحْوِ خَشَبٍ، فَإِذَا رَأَيْنَ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَحِينَ مِنْهُ وَيَتَقَمَّعْنَ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْتَرِيهَا لَهَا (1) . (ر: تَصْوِيرٌ) .
إِكْرَامُ الأُْنْثَى حِينَ تَكُونُ زَوْجَةً:
8 - أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِإِحْسَانِ مُعَاشَرَةِ الزَّوْجَةِ فَقَال: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (2) قَال ابْنُ كَثِيرٍ: أَيْ طَيِّبُوا أَقْوَالَكُمْ لَهُنَّ، وَحَسِّنُوا أَفْعَالَكُمْ وَهَيْئَاتِكُمْ بِحَسَبِ قُدْرَتِكُمْ، كَمَا تُحِبُّ ذَلِكَ مِنْهَا فَافْعَل أَنْتَ بِهَا مِثْلَهُ، قَال تَعَالَى: {وَلَهُنَّ مِثْل الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (3) . وَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَِهْلِهِ وَأَنَا خَيْرُكُمْ لأَِهْلِي (4) ، وَكَانَ مِنْ أَخْلاَقِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ جَمِيل الْعِشْرَةِ دَائِمُ الْبِشْرِ، يُدَاعِبُ أَهْلَهُ وَيَتَلَطَّفُ بِهِمْ وَيُوَسِّعُ عَلَيْهِمْ فِي النَّفَقَةِ وَيُضَاحِكُ نِسَاءَهُ، حَتَّى أَنَّهُ كَانَ يُسَابِقُ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا يَتَوَدَّدُ إِلَيْهَا بِذَلِكَ،
__________
(1) الفواكه الدواني 2 / 412، والمغني 7 / 10، والأحكام السلطانية للماوردي / 251. وحديث: " كان لعائشة جوار يلاعبنها ". أخرجه البخاري (الفتح 10 / 526 - ط السلفية) .
(2) سورة النساء / 19.
(3) سورة البقرة / 228.
(4) حديث: " خيركم خيركم لأهله. . . . " أخرجه ابن ماجه (1 / 636 - ط الحلبي) وصححه ابن حبان (ص 318 - ط السلفية) .(7/75)
قَالَتْ: سَابَقَنِي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَبَقْتُهُ وَذَلِكَ قَبْل أَنْ أَحْمِل اللَّحْمَ، ثُمَّ سَابَقْتُهُ بَعْدَمَا حَمَلْتُ اللَّحْمَ فَسَبَقَنِي فَقَال: " هَذِهِ بِتِلْكَ " (1) ، وَ " كَانَ إِذَا صَلَّى الْعِشَاءَ يَدْخُل مَنْزِلَهُ يَسْمُرُ مَعَ أَهْلِهِ قَلِيلاً قَبْل أَنْ يَنَامَ " (2) .
وَيَنْبَغِي الصَّبْرُ عَلَى الزَّوْجَةِ حَتَّى لَوْ كَرِهَهَا، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَل اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} (3) قَال ابْنُ كَثِيرٍ، أَيْ فَعَسَى أَنْ يَكُونَ صَبْرُكُمْ فِي إِمْسَاكِهِنَّ مَعَ الْكَرَاهَةِ فِيهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ لَكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ، كَمَا قَال ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ أَنْ يَعْطِفَ عَلَيْهَا فَيُرْزَقَ مِنْهَا وَلَدًا وَيَكُونُ فِي ذَلِكَ الْوَلَدِ خَيْرٌ كَثِيرٌ، وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: لاَ يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً، إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ (4) .
هَذَا، وَحُقُوقُ الزَّوْجَةِ عَلَى زَوْجِهَا مَبْسُوطَةٌ فِي بَابِ النِّكَاحِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ، وَنَذْكُرُ هُنَا مَثَلاً وَاحِدًا مِمَّا ذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ، يَتَّصِل بِإِكْرَامِ أُمُومَةِ الأُْنْثَى، فَقَدْ أَكْثَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْوِصَايَةِ بِالأُْمِّ وَقَدَّمَهَا فِي الرِّعَايَةِ عَلَى الأَْبِ، رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ مَنْ أَحَقُّ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَال: أُمُّكَ، قَال: ثُمَّ مَنْ؟ قَال: أُمُّكَ، قَال: ثُمَّ
__________
(1) حديث: " هذه بتلك ". أخرجه أبو داود (3 / 66 - ط عزت عبيد دعاس) وأحمد (6 / 39 - الميمنية) وإسناده صحيح.
(2) حديث: " كان إذا صلى العشاء يدخل منزله يسمر مع أهله ". أخرجه البخاري (الفتح 1 / 212 - ط السلفية) و (8 / 235) وفيها التصريح بالسمر.
(3) سورة النساء / 19.
(4) حديث: " لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها. . . . " أخرجه مسلم (2 / 1091 - ط الحلبي) .(7/76)
مَنْ؟ قَال: أُمُّكَ، قَال: ثُمَّ مَنْ؟ قَال: أَبُوكَ (1) . وَجَعَل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رِضَاهَا طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ، فَقَدْ قَال رَجُلٌ: يَا رَسُول اللَّهِ أَرَدْتُ الْغَزْوَ وَجِئْتُ أَسْتَشِيرُكَ، فَقَال: فَهَل لَكَ مِنْ أُمٍّ؟ قَال: نَعَمْ، قَال: فَالْزَمْهَا، فَإِنَّ الْجَنَّةَ عِنْدَ رِجْلَيْهَا (2) .
ثَانِيًا: الْحُقُوقُ الَّتِي تَتَسَاوَى فِيهَا مَعَ الرَّجُل:
تَتَسَاوَى الْمَرْأَةُ وَالرَّجُل فِي كَثِيرٍ مِنَ الْحُقُوقِ الْعَامَّةِ مَعَ التَّقْيِيدِ فِي بَعْضِ الْفُرُوعِ بِمَا يَتَلاَءَمُ مَعَ طَبِيعَتِهَا.
وَفِيمَا يَأْتِي بَعْضُ هَذِهِ الْحُقُوقِ:
أ - حَقُّ التَّعْلِيمِ:
9 - لِلْمَرْأَةِ حَقُّ التَّعْلِيمِ مِثْل الرَّجُل: فَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُل مُسْلِمٍ (3) . وَهُوَ يَصْدُقُ عَلَى الْمُسْلِمَةِ أَيْضًا، فَقَدْ قَال الْحَافِظُ السَّخَاوِيُّ: قَدْ أَلْحَقَ بَعْضُ الْمُصَنِّفِينَ بِآخِرِ هَذَا الْحَدِيثِ (وَمُسْلِمَةٍ) وَلَيْسَ لَهَا ذِكْرٌ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِهِ وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهَا صَحِيحًا. (4)
وَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ كَانَتْ لَهُ بِنْتٌ فَأَدَّبَهَا فَأَحْسَن أَدَبَهَا، وَعَلَّمَهَا فَأَحْسَنَ تَعْلِيمَهَا، وَأَسْبَغَ
__________
(1) حديث: " من أحق بحسن صحبتي. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 401 - ط السلفية) ومسلم (4 / 1974 - ط الحلبي) .
(2) مختصر تفسير ابن كثير 2 / 373، وجامع الأصول لابن الأثير 1 / 397، 403. وحديث: " الزمها فإن الجنة عند رجليها. . . . ". أخرجه النسائي (7 / 11 - ط المكتبة التجارية) والحاكم (4 / 151 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه ووافقه الذهبي.
(3) حديث طلب العلم فريضة على كل مسلم. . . . ". أخرجه ابن عبد البر في الجامع (1 / 7 - ط المنيرية) وحسنه المزي كما في المقاصد الحسنة للسخاوي (ص 276 - ط الخانجي) .
(4) المقاصد الحسنة / 277(7/76)
عَلَيْهَا مِنْ نِعَمِ اللَّهِ الَّتِي أَسْبَغَ عَلَيْهِ كَانَتْ لَهُ سِتْرًا أَوْ حِجَابًا مِنَ النَّارِ. (1)
وَقَدْ كَانَ النِّسَاءُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْعَيْنَ إِلَى الْعِلْمِ. رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَال: قَالَتِ النِّسَاءُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: غَلَبَنَا عَلَيْكَ الرِّجَال فَاجْعَل لَنَا يَوْمًا مِنْ نَفْسِكَ، فَوَاعَدَهُنَّ يَوْمًا لَقِيَهُنَّ فِيهِ فَوَعَظَهُنَّ وَأَمَرَهُنَّ (2) . وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا قَالَتْ: نِعْمَ النِّسَاءُ نِسَاءُ الأَْنْصَارِ لَمْ يَمْنَعْهُنَّ الْحَيَاءُ أَنْ يَتَفَقَّهْنَ فِي الدِّينِ (3) .
وَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مُرُوا أَوْلاَدَكُمْ بِالصَّلاَةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُنَّ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ. (4)
قَال النَّوَوِيُّ: وَالْحَدِيثُ يَتَنَاوَل بِمَنْطُوقِهِ الصَّبِيَّ وَالصَّبِيَّةَ، وَأَنَّهُ لاَ فَرْقَ بَيْنَهُمَا بِلاَ خِلاَفٍ، ثُمَّ قَال النَّوَوِيُّ: قَال الشَّافِعِيُّ وَالأَْصْحَابُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى: عَلَى الآْبَاءِ وَالأُْمَّهَاتِ تَعْلِيمُ أَوْلاَدِهِمُ الصِّغَارِ الطَّهَارَةَ وَالصَّلاَةَ وَالصَّوْمَ وَنَحْوَهَا، وَتَعْلِيمُهُمْ تَحْرِيمَ الزِّنَى وَاللِّوَاطِ وَالسَّرِقَةِ، وَشُرْبِ
__________
(1) تفسير القرطبي 10 / 118. وحديث: " من كانت له بنت فأدبها. . . " أخرجه أبو نعيم في الحلية (5 / 57 - ط الخانجي) .
(2) فتح الباري 1 / 158. وحديث: " قالت النساء للنبي صلى الله عليه وسلم. . . " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 195 - السلفية) .
(3) حديث عائشة: " نعم النساء نساء الأنصار. . . ". أخرجه مسلم (1 / 261 - ط الحلبي)
(4)) حديث: " مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع. . . " أخرجه أبو داود (1 / 334 - ط عزت عبيد دعاس) وحسنه النووي في الرياض (ص 148 - ط المكتب الإسلامي) .(7/77)
الْمُسْكِرِ وَالْكَذِبِ وَالْغِيبَةِ وَشِبْهِهَا، وَأَنَّهُمْ بِالْبُلُوغِ يَدْخُلُونَ فِي التَّكْلِيفِ، وَهَذَا التَّعْلِيمُ وَاجِبٌ عَلَى الصَّحِيحِ، وَأُجْرَةُ التَّعْلِيمِ تَكُونُ فِي مَال الصَّبِيِّ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ فَعَلَى مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ، وَقَدْ جَعَل الشَّافِعِيُّ وَالأَْصْحَابُ لِلأُْمِّ مَدْخَلاً فِي وُجُوبِ التَّعْلِيمِ؛ لِكَوْنِهِ مِنَ التَّرْبِيَةِ وَهِيَ وَاجِبَةٌ عَلَيْهَا كَالنَّفَقَةِ (1) .
وَمِنَ الْعُلُومِ غَيْرِ الشَّرْعِيَّةِ مَا يُعْتَبَرُ ضَرُورَةً بِالنِّسْبَةِ لِلأُْنْثَى كَطِبِّ النِّسَاءِ حَتَّى لاَ يَطَّلِعَ الرِّجَال عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ. جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: امْرَأَةٌ أَصَابَتْهَا قُرْحَةٌ فِي مَوْضِعٍ لاَ يَحِل لِلرَّجُل أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ، لاَ يَحِل أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهَا، لَكِنْ يُعَلِّمُ امْرَأَةً تُدَاوِيهَا، فَإِنْ لَمْ يَجِدُوا امْرَأَةً تُدَاوِيهَا وَلاَ امْرَأَةً تَتَعَلَّمُ ذَلِكَ إِذَا عُلِّمَتْ، وَخِيفَ عَلَيْهَا الْبَلاَءُ أَوِ الْوَجَعُ أَوِ الْهَلاَكُ فَإِنَّهُ يَسْتُرُ مِنْهَا كُل شَيْءٍ إِلاَّ مَوْضِعَ تِلْكَ الْقُرْحَةِ، ثُمَّ يُدَاوِيهَا الرَّجُل، وَيَغُضُّ بَصَرَهُ مَا اسْتَطَاعَ إِلاَّ عَنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ. (2)
10 - وَإِذَنْ، فَلاَ خِلاَفَ فِي مَشْرُوعِيَّةِ تَعْلِيمِ الأُْنْثَى. لَكِنْ فِي الْحُدُودِ الَّتِي لاَ مُخَالَفَةَ فِيهَا لِلشَّرْعِ وَذَلِكَ مِنَ النَّوَاحِي الآْتِيَةِ:
أ - أَنْ تَحْذَرَ الاِخْتِلاَطَ بِالشَّبَابِ فِي قَاعَاتِ الدَّرْسِ، فَلاَ تَجْلِسِ الْمَرْأَةُ بِجَانِبِ الرَّجُل، فَقَدْ جَعَل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلنِّسَاءِ يَوْمًا غَيْرَ يَوْمِ الرِّجَال يَعِظُهُنَّ فِيهِ. بَل حَتَّى فِي الْعِبَادَةِ لاَ يُخَالِطْنَ الرِّجَال، بَل
__________
(1) المجموع للنووي 1 / 50 و 3 / 11 توزيع المكتبة العالمية بالفجالة تحقيق محمد نجيب المطيعي، والفواكه الدواني 2 / 164.
(2) الفتاوى الهندية 5 / 330، والاختيار 4 / 154، وابن عابدين 5 / 237.(7/77)
يَكُنْ فِي نَاحِيَةٍ مِنْهُمْ يَسْتَمِعْنَ إِلَى الْوَعْظِ وَيُؤَدِّينَ الصَّلاَةَ، وَلاَ يَجِبُ اسْتِحْدَاثُ مَكَانٍ خَاصٍّ لِصَلاَتِهِنَّ، أَوْ إِقَامَةِ حَاجِزٍ بَيْنَ صُفُوفِهِنَّ وَصُفُوفِ الرِّجَال.
ب - أَنْ تَكُونَ مُحْتَشِمَةً غَيْرَ مُتَبَرِّجَةٍ بِزِينَتِهَا لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (1) وَفِي اتِّبَاعِ ذَلِكَ مَا يَمْنَعُ مِنَ الْفِتْنَةِ وَمِنْ إِشَاعَةِ الْفَسَادِ (2) .
ب - أَهْلِيَّتُهَا لِلتَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ:
11 - الْمَرْأَةُ أَهْلٌ لِلتَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ مِثْل الرَّجُل، وَوَلِيُّ أَمْرِهَا مُطَالَبٌ بِأَمْرِهَا بِأَدَاءِ الْعِبَادَاتِ، وَتَعْلِيمِهَا لَهَا مُنْذُ الصِّغَرِ؛ لِمَا جَاءَ فِي قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرُوا أَوْلاَدَكُمْ بِالصَّلاَةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُنَّ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ (3) وَالْحَدِيثُ يَتَنَاوَل الأُْنْثَى بِلاَ خِلاَفٍ كَمَا قَال النَّوَوِيُّ (4) .
وَهِيَ بَعْدَ الْبُلُوغِ مُكَلَّفَةٌ بِالْعِبَادَاتِ مِنْ صَلاَةٍ وَصَوْمٍ وَزَكَاةٍ وَحَجٍّ، وَلَيْسَ لأَِحَدٍ - زَوْجٍ أَوْ غَيْرِهِ - مَنْعُهَا مِنْ أَدَاءِ الْفَرَائِضِ. فَجُمْلَةُ الْعَقَائِدِ وَالْعِبَادَاتِ وَالأَْخْلاَقِ وَالأَْحْكَامِ الَّتِي شَرَعَهَا اللَّهُ لِلإِْنْسَانِ يَسْتَوِي فِي التَّكْلِيفِ بِهَا وَالْجَزَاءِ عَلَيْهَا الذَّكَرُ وَالأُْنْثَى. (5)
__________
(1) سورة النور / 31.
(2) المغني 2 / 375، 376، والفواكه الدواني 2 / 367.
(3) الحديث سبق تخريجه ف / 9.
(4) المجموع للنووي 1 / 250، 3 / 11.
(5) إعلام الموقعين 2 / 73.(7/78)
يَقُول اللَّهُ تَعَالَى: {مَنْ عَمِل صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (1) . وَيُؤَكِّدُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هَذَا الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} (2) وَيُرْوَى فِي سَبَبِ نُزُول هَذِهِ الآْيَةِ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: قَال النِّسَاءُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَهُ يَذْكُرُ الْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَذْكُرُ الْمُؤْمِنَاتِ، فَنَزَلَتْ. وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: قُلْتُ يَا رَسُول اللَّهِ: أَيُذْكَرُ الرِّجَال فِي كُل شَيْءٍ وَلاَ نُذْكَرُ؟ ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآْيَةُ. (3)
وَفِي اسْتِجَابَةِ اللَّهِ تَعَالَى لِسُؤَال الْمُؤْمِنِينَ قَال: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَل عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} . (4)
وَلَقَدْ رُوِيَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا مَا رُوِيَ فِي سَبَبِ نُزُول الآْيَةِ السَّابِقَةِ، وَيَقُول ابْنُ كَثِيرٍ: {بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} أَيْ جَمِيعُكُمْ فِي ثَوَابِي سَوَاءٌ. وَبَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّ الَّذِي يُؤْذِي الْمُؤْمِنَاتِ هُوَ فِي الإِْثْمِ كَمَنْ يُؤْذِي الْمُؤْمِنِينَ، يَقُول اللَّهُ تَعَالَى:
__________
(1) سورة النحل / 97.
(2) تفسير الطبري 27 / 10، ومختصر تفسير ابن كثير 3 / 95 عند الكلام على الآية / 35 من سورة الأحزاب.
(3) حديث أم سلمة: " يذكر الرجال في كل شيء. . . " أخرجه أحمد (6 / 301 - ط الميمنية) وإسناده صحيح.
(4) سورة آل عمران / 95.(7/78)
{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} (1) .
وَهِيَ مُطَالَبَةٌ بِالأَْمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ كَالرَّجُل، يَقُول اللَّهُ تَعَالَى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتَوْنَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} . (2)
وَالْجِهَادُ كَذَلِكَ يَتَعَيَّنُ عَلَى الْمَرْأَةِ إِذَا هَاجَمَ الْعَدُوُّ الْبِلاَدَ. يَقُول الْفُقَهَاءُ: إِذَا غَشِيَ الْعَدُوُّ مَحَلَّةَ قَوْمٍ كَانَ الْجِهَادُ فَرْضَ عَيْنٍ عَلَى الْجَمِيعِ ذُكُورًا وَإِنَاثًا وَتَخْرُجُ الْمَرْأَةُ بِغَيْرِ إِذْنِ الزَّوْجِ؛ لأَِنَّ حَقَّ الزَّوْجِ لاَ يَظْهَرُ فِي مُقَابَلَةِ فَرْضِ الْعَيْنِ. (3)
وَقَدْ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْهَا فِي الْعِبَادَاتِ فِي فَتَرَاتِ تَعَبِهَا مِنَ الْحَيْضِ وَالْحَمْل وَالنِّفَاسِ وَالرَّضَاعِ. وَتُنْظَرُ الأَْحْكَامُ الْخَاصَّةُ بِذَلِكَ فِي (حَيْضٌ، حَمْلٌ، نِفَاسٌ، رَضَاعٌ) .
ج - احْتِرَامُ إِرَادَتِهَا:
12 - لِلأُْنْثَى حُرِّيَّةُ الإِْرَادَةِ وَالتَّعْبِيرُ عَمَّا فِي نَفْسِهَا، وَقَدْ مَنَحَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هَذَا الْحَقَّ الَّذِي سَلَبَتْهُ مِنْهَا الْجَاهِلِيَّةُ وَحَرَمَتْهَا مِنْهُ، فَقَدْ كَانَتْ حِينَ يَمُوتُ زَوْجُهَا لاَ تَمْلِكُ مِنْ أَمْرِ نَفْسِهَا شَيْئًا، وَكَانَ يَرِثُهَا مَنْ يَرِثُ مَال زَوْجِهَا. رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَحِل لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} (4) قَال: كَانُوا إِذَا
__________
(1) سورة الأحزاب / 58.
(2) سورة التوبة / 71.
(3) الفواكه الدواني 1 / 463، 2 / 361، والاختيار 4 / 118.
(4) سورة النساء / 19.(7/79)
مَاتَ الرَّجُل كَانَ أَوْلِيَاؤُهُ أَحَقَّ بِامْرَأَتِهِ، إِنْ شَاءَ بَعْضُهُمْ تَزَوَّجَهَا وَإِنْ شَاءُوا زَوَّجُوهَا، وَإِنْ شَاءُوا لَمْ يُزَوِّجُوهَا فَهُمْ أَحَقُّ بِهَا مِنْ أَهْلِهَا. (1) فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآْيَةُ، وَقَال زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ كَانَ أَهْل يَثْرِب إِذَا مَاتَ الرَّجُل مِنْهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَرِثَ امْرَأَتَهُ مَنْ يَرِثُ مَالَهُ، وَكَانَ يَعْضُلُهَا حَتَّى يَرِثَهَا أَوْ يُزَوِّجَهَا مَنْ أَرَادَ، وَكَانَ أَهْل تِهَامَةَ يُسِيءُ الرَّجُل صُحْبَةَ الْمَرْأَةِ حَتَّى يُطَلِّقَهَا، وَيَشْتَرِطُ عَلَيْهَا أَلاَّ تَنْكِحَ إِلاَّ مَنْ أَرَادَ حَتَّى تَفْتَدِيَ مِنْهُ بِبَعْضِ مَا أَعْطَاهَا، فَنَهَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ ذَلِكَ.
وَقَال ابْنُ جُرَيْجٍ: نَزَلَتْ هَذِهِ الآْيَةُ فِي كَبِيشَةِ بِنْتِ مَعْنِ بْنِ عَاصِمِ بْنِ الأَْوْسِ، تُوُفِّيَ عَنْهَا أَبُو قَيْسِ بْنُ الأَْسْلَتِ، فَجَنَحَ عَلَيْهَا ابْنُهُ، فَجَاءَتْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُول اللَّهِ لاَ أَنَا وَرِثْتُ زَوْجِي، وَلاَ أَنَا تُرِكْتُ فَأُنْكَحَ، فَأَنْزَل اللَّهُ هَذِهِ الآْيَةَ. قَال ابْنُ كَثِيرٍ: فَالآْيَةُ تَعُمُّ مَا كَانَ يَفْعَلُهُ أَهْل الْجَاهِلِيَّةِ، وَكُل مَا كَانَ فِيهِ نَوْعٌ مِنْ ذَلِكَ. (2)
وَإِرَادَتُهَا كَذَلِكَ مُعْتَبَرَةٌ فِي نِكَاحِهَا، فَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِيهِ الْبُخَارِيُّ: لاَ تُنْكَحِ الأَْيِّمُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ، وَلاَ تُنْكَحِ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ (3) .
وَالاِسْتِئْمَارُ فِي حَقِّ الثَّيِّبِ الْكَبِيرَةِ الْعَاقِلَةِ وَاجِبٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَإِذَا زُوِّجَتْ بِغَيْرِ إِذْنِهَا فَنِكَاحُهَا مَوْقُوفٌ عَلَى إِجَازَتِهَا، عَلَى مَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي بَابِ النِّكَاحِ. وَهُوَ فِي حَقِّ الْبِكْرِ الْبَالِغَةِ الْعَاقِلَةِ مُسْتَحَبٌّ
__________
(1) أثر ابن عباس: " كانوا إذا مات الرجل. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 8 / 245 - ط السلفية) .
(2) مختصر تفسير ابن كثير 1 / 368، وتفسير الماوردي 1 / 373.
(3) حديث: " لا تنكح الأيم حتى تستأمر ولا تنكح. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 9 / 191 - ط السلفية) .(7/79)
عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ. رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ قَال: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَأْمِرُ بَنَاتِهِ إِذَا أَنْكَحَهُنَّ (1) . وَاسْتِئْذَانُهَا وَاجِبٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. بَل إِنَّهَا يَجُوزُ لَهَا تَزْوِيجُ نَفْسِهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. جَاءَ فِي الاِخْتِيَارِ: عِبَارَةُ النِّسَاءِ مُعْتَبَرَةٌ فِي النِّكَاحِ، حَتَّى لَوْ زَوَّجَتِ الْحُرَّةُ الْعَاقِلَةُ الْبَالِغَةُ نَفْسَهَا جَازَ، وَكَذَلِكَ لَوْ زَوَّجَتْ غَيْرَهَا بِالْوِلاَيَةِ أَوِ الْوَكَالَةِ، وَكَذَا إِذَا وَكَّلَتْ غَيْرَهَا فِي تَزْوِيجِهَا، أَوْ زَوَّجَهَا غَيْرُهَا فَأَجَازَتْ، وَهَذَا قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ وَالْحَسَنِ وَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَيَسْتَدِلُّونَ بِمَا فِي الْبُخَارِيِّ أَنَّ خَنْسَاءَ بِنْتَ حِزَامٍ أَنْكَحَهَا أَبُوهَا وَهِيَ كَارِهَةٌ، فَرَدَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (2) وَرُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً زَوَّجَتْ بِنْتَهَا بِرِضَاهَا فَجَاءَ الأَْوْلِيَاءُ وَخَاصَمُوهَا إِلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فَأَجَازَ النِّكَاحَ. هَذَا دَلِيل الاِنْعِقَادِ بِعِبَارَةِ النِّسَاءِ، وَأَنَّهُ أَجَازَ النِّكَاحَ بِغَيْرِ وَلِيٍّ؛ لأَِنَّهُمْ كَانُوا غَائِبِينَ؛ لأَِنَّهَا تَصَرَّفَتْ فِي خَالِصِ حَقِّهَا، وَلاَ ضَرَرَ فِيهِ لِغَيْرِهَا فَيَنْفُذُ، كَتَصَرُّفِهَا فِي مَالِهَا. (3)
هَذَا مَا انْفَرَدَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ، وَتَفْصِيل الْخِلاَفِ فِي هَذَا يَنْظُرُ فِي (نِكَاحٌ) .
وَلِلْمَرْأَةِ أَيْضًا مُشَارَكَةُ زَوْجِهَا الرَّأْيَ بَل وَمُعَارَضَتُهُ، قَال عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: وَاللَّهِ إِنْ كُنَّا فِي
__________
(1) حديث: " كان النبي صلى الله عليه وسلم يستأمر. . . " أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (4 / 136) وورد عند البيهقي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه متصلا ورجح البيهقي كونه مرسلا من حديث المهاجر بن عكرمة المخزومي (7 / 123 ط دائرة المعارف العثمانية) .
(2) حديث: " خنساء بنت حزام. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 9 / 194 - ط السلفية) .
(3) المغني لابن قدامة 6 / 488 - 491، والاختيار 3 / 90، 91، والهداية 1 / 196، وجواهر الإكليل 1 / 278، والمهذب 2 / 38.(7/80)
الْجَاهِلِيَّةِ مَا نَعُدُّ لِلنِّسَاءِ أَمْرًا، حَتَّى أَنْزَل اللَّهُ فِيهِنَّ مَا أَنْزَل، وَقَسَمَ لَهُنَّ مَا قَسَمَ، قَال: فَبَيْنَا أَنَا فِي أَمْرٍ أَتَأَمَّرُهُ إِذْ قَالَتِ امْرَأَتِي: لَوْ صَنَعْتُ كَذَا وَكَذَا، قَال: فَقُلْتُ لَهَا: مَا لَكِ وَلِمَا هَا هُنَا، فِيمَا تَكَلُّفُكِ فِي أَمْرٍ أُرِيدُهُ؟ فَقَالَتْ لِي: عَجَبًا لَكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، مَا تُرِيدُ أَنْ تُرَاجَعَ أَنْتَ، وَإِنَّ ابْنَتَك لَتُرَاجِعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى يَظَل يَوْمَهُ غَضْبَانَ. فَقَامَ عُمَرُ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ مَكَانَهُ حَتَّى دَخَل عَلَى حَفْصَةَ، فَقَال لَهَا: يَا بُنَيَّةُ إِنَّكِ لَتُرَاجِعِينَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى يَظَل يَوْمَهُ غَضْبَانَ؟ فَقَالَتْ حَفْصَةُ: وَاللَّهِ إِنَّا لَنُرَاجِعُهُ. فَقُلْتُ: تَعْلَمِينَ أَنِّي أُحَذِّرُكِ عُقُوبَةَ اللَّهِ، وَغَضَبَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. يَا بُنَيَّةُ لاَ يَغُرَّنَّكِ هَذِهِ الَّتِي أَعْجَبَهَا حُسْنُهَا حُبُّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهَا - يُرِيدُ عَائِشَةَ - قَال: خَرَجْتُ حَتَّى دَخَلْتُ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ لِقَرَابَتِي مِنْهَا فَكَلَّمْتُهَا، فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: عَجَبًا لَك يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، دَخَلْتَ فِي كُل شَيْءٍ، حَتَّى تَبْتَغِيَ أَنْ تَدْخُل بَيْنَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَزْوَاجِهِ. فَأَخَذَتْنِي وَاللَّهِ أَخْذًا كَسَرَتْنِي عَنْ بَعْضِ مَا كُنْتُ أَجِدُ، فَخَرَجْتُ مِنْ عِنْدَهَا، وَكَانَ لِي صَاحِبٌ مِنَ الأَْنْصَارِ إِذَا غِبْتُ أَتَانِي بِالْخَبَرِ، وَإِذَا غَابَ كُنْتُ أَنَا آتِيهِ بِالْخَبَرِ، وَنَحْنُ نَتَخَوَّفُ مَلِكًا مِنْ مُلُوكِ غَسَّانَ ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَسِيرَ إِلَيْنَا، فَقَدِ امْتَلأََتْ صُدُورُنَا مِنْهُ، فَإِذَا صَاحِبِي الأَْنْصَارِيُّ يَدُقُّ الْبَابَ، فَقَال: افْتَحِ افْتَحْ، فَقُلْتُ: جَاءَ الْغَسَّانِيُّ؟ فَقَال: بَل أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ، اعْتَزَل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَزْوَاجَهُ، فَقُلْتُ رَغِمَ أَنْفُ حَفْصَةَ وَعَائِشَةَ. فَأَخَذْتُ ثَوْبِي، فَأَخْرُجُ حَتَّى جِئْتُ، فَإِذَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَشْرُبَةٍ لَهُ يَرْقَى عَلَيْهَا بِعَجَلَةٍ، وَغُلاَمٌ لِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْوَدُ عَلَى رَأْسِ الدَّرَجَةِ، فَقُلْتُ لَهُ: قُل هَذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ.(7/80)
فَأَذِنَ لِي. قَال عُمَرُ: فَقَصَصْتُ عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الْحَدِيثَ، فَلَمَّا بَلَغْتُ حَدِيثَ أُمِّ سَلَمَةَ تَبَسَّمَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّهُ لَعَلَى حَصِيرٍ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ شَيْءٌ، وَتَحْتَ رَأْسِهِ وِسَادَةٌ مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ، وَإِنَّ عِنْدَ رِجْلَيْهِ قَرَظًا مَصْبُوبًا، وَعِنْدَ رَأْسِهِ أَهَبٌ مُعَلَّقَةٌ، فَرَأَيْتُ أَثَرَ الْحَصِيرِ فِي جَنْبِهِ فَبَكَيْتُ، فَقَال: مَا يُبْكِيكَ؟ فَقُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ، إِنَّ كِسْرَى وَقَيْصَرَ فِيمَا هُمَا فِيهِ، وَأَنْتَ رَسُول اللَّهِ، فَقَال: أَمَّا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَهُمُ الدُّنْيَا وَلَنَا الآْخِرَةُ؟ (1)
وَاسْتِشَارَةُ الْمَرْأَةِ فِيمَا يَتَّصِل بِشُئُونِ النِّسَاءِ أَوْ فِيمَا لَدَيْهَا خِبْرَةٌ بِهِ مَطْلُوبَةٌ، بِأَصْل نَدْبِ الْمَشُورَةِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (2) وَلِحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهُ: لَمَّا فَرَغَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ كِتَابِ الصُّلْحِ قَال لأَِصْحَابِهِ: قُومُوا فَانْحَرُوا ثُمَّ احْلِقُوا، فَمَا قَامَ مِنْهُمْ رَجُلٌ حَتَّى قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ دَخَل عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ فَذَكَرَ لَهَا مَا لَقِيَ مِنَ النَّاسِ، قَالَتْ لَهُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَتُحِبُّ ذَلِكَ؟ اخْرُجْ ثُمَّ لاَ تُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً، حَتَّى تَنْحَرَ بُدْنَكَ، وَتَدْعُوَ حَالِقَكَ فَيَحْلِقَكَ، فَخَرَجَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ حَتَّى فَعَل ذَلِكَ، نَحَرَ بُدْنَهُ، وَدَعَا حَالِقَهُ فَحَلَقَهُ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ قَامُوا فَنَحَرُوا وَجَعَل بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضًا (3) .
__________
(1) مختصر تفسير ابن كثير 3 / 521. وحديث: عمر بن الخطاب رواه عنه ابن عباس. . . أخرجه البخاري (الفتح 8 / 657 - 658 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1111 - 1112 - ط الحلبي) .
(2) سورة الشورى / 38.
(3) حديث أم سلمة ". . . . قوموا فانحروا ثم احلقوا. . . . " أخرجه البخاري (5 / 332 - الفتح - ط السلفية) .(7/81)
وَلِلْمَرْأَةِ أَنْ تَعْقِدَ الأَْمَانَ مَعَ الْكُفَّارِ، وَيَسْرِي ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَفِي الْمُغْنِي: إِذَا أَعْطَتِ الْمَرْأَةُ الأَْمَانَ لِلْكُفَّارِ جَازَ عَقْدُهَا، وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا: إِنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ لَتُجِيرُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَيَجُوزُ، وَعَنْ أُمِّ هَانِئٍ أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُول اللَّهِ إِنِّي أَجَرْتُ أَحْمَائِي وَأَغْلَقْتُ عَلَيْهِمْ، وَإِنَّ ابْنَ أُمِّي أَرَادَ قَتْلَهُمْ، فَقَال لَهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمَّ هَانِئٍ (1) ، وَأَجَارَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَوْجَهَا أَبَا الْعَاصِ بْنَ الرَّبِيعِ قَبْل أَنْ يُسْلِمَ فَأَمْضَاهُ رَسُول اللَّهِ. (2)
د - ذِمَّتُهَا الْمَالِيَّةُ:
13 - لِلأُْنْثَى ذِمَّةٌ مَالِيَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ كَالرَّجُل، وَحَقُّهَا فِي التَّصَرُّفِ فِي مَالِهَا أَمْرٌ مُقَرَّرٌ فِي الشَّرِيعَةِ مَا دَامَتْ رَشِيدَةً؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} (3) . وَلَهَا أَنْ تَتَصَرَّفَ فِي مَالِهَا كُلِّهِ عَنْ طَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ بِدُونِ إِذْنٍ مِنْ أَحَدٍ، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ. أَمَّا تَصَرُّفُهَا فِي مَالِهَا عَنْ طَرِيقِ التَّبَرُّعِ بِهِ، فَعِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: يَجُوزُ لَهَا التَّصَرُّفُ فِي كُل مَالِهَا بِالتَّبَرُّعِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَرِوَايَةٍ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ قَال: يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ
__________
(1) حديث: " قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 469) ومسلم (1 / 498 - ط الحلبي) .
(2) المغني 8 / 397. وحديث: " أجارت زينب زوجها أبا العاص. . . . " أخرجه البيهقي (9 / 95 - ط دائرة المعارف العثمانية) والطبراني في الكبير كما في مجمع الزوائد (9 / 213 - ط القدسي) بإسنادين يقوي أحدهما الآخر.
(3) سورة النساء / 6.(7/81)
وَأَنَّهُنَّ تَصَدَّقْنَ فَقَبِل صَدَقَتَهُنَّ، وَلَمْ يَسْأَل وَلَمْ يَسْتَفْصِل. (1) وَلِهَذَا جَازَ لَهَا التَّصَرُّفُ بِدُونِ إِذْنٍ لِزَوْجِهَا فِي مَالِهَا، فَلَمْ يَمْلِكِ الْحَجْرَ عَلَيْهَا فِي التَّصَرُّفِ بِجَمِيعِهِ.
وَعِنْدَ الإِْمَامِ مَالِكٍ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ: أَنَّهُ يَجُوزُ لَهَا التَّبَرُّعُ فِي حُدُودِ الثُّلُثِ، وَلاَ يَجُوزُ لَهَا التَّبَرُّعُ بِزِيَادَةٍ عَلَى الثُّلُثِ إِلاَّ بِإِذْنِ زَوْجِهَا. (2)
وَلأَِنَّ لِلْمَرْأَةِ ذِمَّةً مَالِيَّةً مُسْتَقِلَّةً فَقَدْ أَجَازَ الْفُقَهَاءُ لَهَا أَنْ تَضْمَنَ غَيْرَهَا، جَاءَ فِي الْمُغْنِي: يَصِحُّ ضَمَانُ كُل جَائِزِ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ، سَوَاءٌ كَانَ رَجُلاً أَوِ امْرَأَةً؛ لأَِنَّهُ عَمْدٌ يُقْصَدُ بِهِ الْمَال، فَصَحَّ مِنَ الْمَرْأَةِ كَالْبَيْعِ.
وَهَذَا عِنْدَ مَنْ يُجِيزُ لَهَا التَّبَرُّعَ بِكُل مَالِهَا، أَمَّا مَنْ لاَ يُجِيزُ لَهَا التَّبَرُّعَ بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ إِلاَّ بِإِذْنِ زَوْجِهَا، فَإِنَّهُمْ يُجِيزُونَ لَهَا الضَّمَانَ فِي حُدُودِ ثُلُثِ مَالِهَا أَوْ بِزَائِدٍ يَسِيرٍ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الضَّمَانَ مِنَ التَّبَرُّعَاتِ، وَأَمَّا مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ وَيَتَوَقَّفُ عَلَى إِجَازَةِ الزَّوْجِ. (3)
هـ - حَقُّ الْعَمَل:
14 - الأَْصْل أَنَّ وَظِيفَةَ الْمَرْأَةِ الأُْولَى هِيَ إِدَارَةُ بَيْتِهَا وَرِعَايَةُ أُسْرَتِهَا وَتَرْبِيَةُ أَبْنَائِهَا وَحُسْنُ تَبَعُّلِهَا، يَقُول
__________
(1) حديث: " يا معشر النساء تصدقن ولو من حليكن " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 405 - ط السلفية) ومسلم (1 / 86 - ط الحلبي) .
(2) الاختيار 3 / 91، 92، وجواهر الإكليل 2 / 102، والمجموع 12 / 378، والمغني 4 / 513، 514.
(3) منح الجليل 3 / 245، والمغني 4 / 598.(7/82)
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا (1) . وَهِيَ غَيْرُ مُطَالَبَةٍ بِالإِْنْفَاقِ عَلَى نَفْسِهَا، فَنَفَقَتُهَا وَاجِبَةٌ عَلَى أَبِيهَا أَوْ زَوْجِهَا؛ لِذَلِكَ كَانَ مَجَال عَمَلِهَا هُوَ الْبَيْتُ، وَعَمَلُهَا فِي الْبَيْتِ يُسَاوِي عَمَل الْمُجَاهِدِينَ. (2)
وَمَعَ ذَلِكَ فَالإِْسْلاَمُ لاَ يَمْنَعُ الْمَرْأَةَ مِنَ الْعَمَل فَلَهَا أَنْ تَبِيعَ وَتَشْتَرِيَ، وَأَنْ تُوَكِّل غَيْرَهَا، وَيُوَكِّلَهَا غَيْرُهَا، وَأَنْ تُتَاجِرَ بِمَالِهَا، وَلَيْسَ لأَِحَدٍ مَنْعُهَا مِنْ ذَلِكَ مَا دَامَتْ مُرَاعِيَةً أَحْكَامَ الشَّرْعِ وَآدَابَهُ، وَلِذَلِكَ أُبِيحَ لَهَا كَشْفُ وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا، قَال الْفُقَهَاءُ: لأَِنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إِلَى إِبْرَازِ الْوَجْهِ لِلْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَإِلَى إِبْرَازِ الْكَفِّ لِلأَْخْذِ وَالإِْعْطَاءِ.
وَفِي الاِخْتِيَارِ: لاَ يَنْظُرُ الرَّجُل إِلَى الْحُرَّةِ الأَْجْنَبِيَّةِ إِلاَّ إِلَى الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ. .؛ لأَِنَّ فِي ذَلِكَ ضَرُورَةً لِلأَْخْذِ وَالإِْعْطَاءِ وَمَعْرِفَةُ وَجْهِهَا عِنْدَ الْمُعَامَلَةِ مَعَ الأَْجَانِبِ؛ لإِِقَامَةِ مَعَاشِهَا وَمَعَادِهَا لِعَدَمِ مَنْ يَقُومُ بِأَسْبَابِ مَعَاشِهَا. (3)
وَالنُّصُوصُ الدَّالَّةُ عَلَى جَوَازِ عَمَل الْمَرْأَةِ كَثِيرَةٌ، وَالَّذِي يُمْكِنُ اسْتِخْلاَصُهُ مِنْهَا، أَنَّ لِلْمَرْأَةِ الْحَقَّ فِي الْعَمَل بِشَرْطِ إِذْنِ الزَّوْجِ لِلْخُرُوجِ، إِنِ اسْتَدْعَى عَمَلُهَا الْخُرُوجَ وَكَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ، وَيَسْقُطُ حَقُّهُ فِي الإِْذْنِ إِذَا امْتَنَعَ عَنِ الإِْنْفَاقِ عَلَيْهَا.
__________
(1) حديث: " المرأة راعية في بيت زوجها. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 2 / 380 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1459 - ط الحلبي) .
(2) مختصر تفسير ابن كثير 3 / 93، والقرطبي 5 / 32، وابن عابدين 2 / 672، 688.
(3) المهذب 1 / 71، والمغني 1 / 601، والاختيار 4 / 156.(7/82)
جَاءَ فِي نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ: إِذَا أَعْسَر الزَّوْجُ بِالنَّفَقَةِ وَتَحَقَّقَ الإِْعْسَارُ فَالأَْظْهَرُ إِمْهَالُهُ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ، وَلَهَا الْفَسْخُ صَبِيحَةَ الرَّابِعِ، وَلِلزَّوْجَةِ - وَإِنْ كَانَتْ غَنِيَّةً - الْخُرُوجُ زَمَنَ الْمُهْلَةِ نَهَارًا لِتَحْصِيل النَّفَقَةِ بِنَحْوِ كَسْبٍ، وَلَيْسَ لَهُ مَنْعُهَا لأَِنَّ الْمَنْعَ فِي مُقَابِل النَّفَقَةِ. (1)
وَفِي مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ: إِذَا أَعْسَرَ الزَّوْجُ بِالنَّفَقَةِ خُيِّرَتِ الزَّوْجَةُ بَيْنَ الْفَسْخِ وَبَيْنَ الْمُقَامِ مَعَهُ مَعَ مَنْعِ نَفْسِهَا، فَإِنْ لَمْ تَمْنَعْ نَفْسَهَا مِنْهُ وَمَكَّنَتْهُ مِنَ الاِسْتِمْتَاعِ بِهَا فَلاَ يَمْنَعُهَا تَكَسُّبًا، وَلاَ يَحْبِسُهَا مَعَ عُسْرَتِهِ إِذَا لَمْ تَفْسَخْ لأَِنَّهُ إِضْرَارٌ بِهَا وَسَوَاءٌ كَانَتْ غَنِيَّةً أَوْ فَقِيرَةً؛ لأَِنَّهُ إِنَّمَا يَمْلِكُ حَبْسَهَا إِذَا كَفَاهَا الْمَئُونَةَ وَأَغْنَاهَا عَمَّا لاَ بُدَّ لَهَا مِنْهُ. (2)
وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ الْعَمَل مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ. جَاءَ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ: إِنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ قَابِلَةً، أَوْ كَانَ لَهَا حَقٌّ عَلَى آخَرَ، أَوْ لآِخَرَ عَلَيْهَا حَقٌّ تَخْرُجُ بِالإِْذْنِ وَبِغَيْرِ الإِْذْنِ، وَمِثْل ذَلِكَ فِي حَاشِيَةِ سَعْدِي جَلَبِي عَنْ مَجْمُوعِ النَّوَازِل. (3) إِلاَّ أَنَّ ابْنَ عَابِدِينَ بَعْدَ أَنْ نَقَل مَا فِي الْفَتْحِ قَال: وَفِي الْبَحْرِ عَنِ الْخَانِيَّةِ تَقْيِيدُ خُرُوجِهَا بِالإِْذْنِ؛ لأَِنَّ حَقَّهُ مُقَدَّمٌ عَلَى فَرْضِ الْكِفَايَةِ. (4)
هَذَا، وَإِذَا كَانَ لَهَا مَالٌ فَلَهَا أَنْ تُتَاجِرَ بِهِ مَعَ غَيْرِهَا، كَأَنْ تُشَارِكَهُ أَوْ تَدْفَعَهُ مُضَارَبَةً دُونَ إِذْنٍ مِنْ أَحَدٍ. جَاءَ فِي جَوَاهِرِ الإِْكْلِيل: قِرَاضُ الزَّوْجَةِ أَيْ
__________
(1) نهاية المحتاج 7 / 147.
(2) شرح منتهى الإرادات 3 / 252.
(3) فتح القدير 4 / 208، وحاشية سعدي جلبي بهامش فتح القدير 4 / 207.
(4) ابن عابدين 2 / 665.(7/83)
دَفْعُهَا مَالاً لِمَنْ يَتَّجِرُ فِيهِ بِبَعْضِ رِبْحِهِ، فَلاَ يَحْجُرُ عَلَيْهَا فِيهِ اتِّفَاقًا؛ لأَِنَّهُ مِنَ التِّجَارَةِ. (1)
15 - ثُمَّ إِنَّهَا لَوْ عَمِلَتْ مَعَ الزَّوْجِ كَانَ كَسْبُهَا لَهَا. جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْبَزَّازِيَّةِ: أَفْتَى الْقَاضِي الإِْمَامُ فِي زَوْجَيْنِ سَعَيَا وَحَصَّلاَ أَمْوَالاً أَنَّهَا لَهُ؛ لأَِنَّهَا مُعِينَةٌ لَهُ، إِلاَّ إِذَا كَانَ لَهَا كَسْبٌ عَلَى حِدَةٍ فَلَهَا ذَلِكَ. وَفِي الْفَتَاوَى: امْرَأَةٌ مُعَلَّمَةٌ، يُعِينُهَا الزَّوْجُ أَحْيَانًا فَالْحَاصِل لَهَا، وَفِي الْتِقَاطِ السُّنْبُلَةِ إِذَا الْتَقَطَا فَهُوَ بَيْنَهُمَا أَنْصَافًا. (2)
كَمَا أَنَّ لِلأَْبِ أَنْ يُوَجِّهَ ابْنَتَهُ لِلْعَمَل: جَاءَ فِي حَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ: لِلأَْبِ أَنْ يَدْفَعَ ابْنَتَهُ لاِمْرَأَةٍ تُعَلِّمُهَا حِرْفَةً كَتَطْرِيزٍ وَخِيَاطَةٍ (3) .
وَإِذَا عَمِلَتِ الْمَرْأَةُ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي حُدُودٍ لاَ تَتَنَافَى مَعَ مَا يَجِبُ مِنْ صِيَانَةِ الْعِرْضِ وَالْعَفَافِ وَالشَّرَفِ. وَيُمْكِنُ تَحْدِيدُ ذَلِكَ بِمَا يَأْتِي:
(1) أَلاَّ يَكُونَ الْعَمَل مَعْصِيَةً كَالْغِنَاءِ وَاللَّهْوِ، وَأَلاَّ يَكُونَ مَعِيبًا مُزْرِيًا تُعَيَّرُ بِهِ أُسْرَتُهَا. جَاءَ فِي الْبَدَائِعِ وَالْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: إِذَا آجَرَتِ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا بِمَا يُعَابُ بِهِ كَانَ لأَِهْلِهَا أَنْ يُخْرِجُوهَا مِنْ تِلْكَ الإِْجَارَةِ، وَفِي الْمَثَل السَّائِرِ: تَجُوعُ الْحُرَّةُ وَلاَ تَأْكُل بِثَدْيَيْهَا، وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي امْرَأَةٍ نَائِحَةٍ أَوْ صَاحِبِ طَبْلٍ أَوْ مِزْمَارٍ اكْتَسَبَ مَالاً فَهُوَ مَعْصِيَةٌ. (4)
(2) أَلاَّ يَكُونَ عَمَلُهَا مِمَّا يَكُونُ فِيهِ خَلْوَةٌ
__________
(1) جواهر الإكليل 2 / 102، ومنح الجليل 3 / 281، وحاشية العدوي على الخرشي 6 / 39.
(2) الفتاوى البزازية بهامش الهندية 5 / 378.
(3) حاشية ابن عابدين 2 / 671.
(4) البدائع 4 / 199، والفتاوى الهندية 4 / 461 و 5 / 349، وابن عابدين 5 / 272.(7/83)
بِأَجْنَبِيٍّ. جَاءَ فِي الْبَدَائِعِ: كَرِهَ أَبُو حَنِيفَةَ اسْتِخْدَامَ الْمَرْأَةِ وَالاِخْتِلاَءَ بِهَا؛ لِمَا قَدْ يُؤَدِّي إِلَى الْفِتْنَةِ، وَهُوَ قَوْل أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، أَمَّا الْخَلْوَةُ؛ فَلأَِنَّ الْخَلْوَةَ بِالأَْجْنَبِيَّةِ مَعْصِيَةٌ، وَأَمَّا الاِسْتِخْدَامُ؛ فَلأَِنَّهُ لاَ يُؤْمَنُ مَعَهُ الاِطِّلاَعُ عَلَيْهَا وَالْوُقُوعُ فِي الْمَعْصِيَةِ. (1)
وَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلاَّ كَانَ الشَّيْطَانُ ثَالِثَهُمَا (2) وَلأَِنَّهُ لاَ يُؤْمَنُ مَعَ الْخَلْوَةِ مُوَاقَعَةُ الْمَحْظُورِ. (3)
(3) أَلاَّ تَخْرُجَ لِعَمَلِهَا مُتَبَرِّجَةً مُتَزَيِّنَةً بِمَا يُثِيرُ الْفِتْنَةَ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَحَيْثُ أَبَحْنَا لَهَا الْخُرُوجَ فَإِنَّمَا يُبَاحُ بِشَرْطِ عَدَمِ الزِّينَةِ وَتَغْيِيرِ الْهَيْئَةِ إِلَى مَا يَكُونُ دَاعِيَةً لِنَظَرِ الرِّجَال وَالاِسْتِمَالَةِ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُْولَى} (4) وَقَال تَعَالَى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (5) ، وَفِي الْحَدِيثِ: الرَّافِلَةُ فِي الزِّينَةِ فِي غَيْرِ أَهْلِهَا كَمَثَل ظُلْمَةِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ نُورَ لَهَا (6) .
ثَالِثًا: الأَْحْكَامُ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالأُْنْثَى:
لِلأُْنْثَى أَحْكَامٌ فِقْهِيَّةٌ مُتَنَوِّعَةٌ فَمِنْهَا مَا يَخْتَصُّ
__________
(1) بدائع الصنائع 4 / 189.
(2) حديث: " لا يخلون رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما "، أخرجه الترمذي (4 / 466 - ط الحلبي) وقال: حسن صحيح.
(3) الفواكه الدواني 2 / 438، والمغني 6 / 553.
(4) سورة الأحزاب / 33.
(5) سورة النور / 31.
(6) حديث: " الرافلة في الزينة في غير أهلها. . . . " أخرجه الترمذي (3 / 461 - ط الحلبي) وقال: هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث موسى بن عبيدة، وموسى بن عبيدة يضعف في الحديث من قبل حفظه، وهو صدوق. وانظر حاشية ابن عابدين 2 / 665، ومختصر تفسير ابن كثير 2 / 602 و 3 / 94.(7/84)
بِالْعَوْرَةِ وَمَا يَتَّصِل بِهَا، وَمِنْهَا الأَْحْكَامُ الَّتِي تَتَرَتَّبُ عَلَى ارْتِبَاطِهَا بِزَوْجٍ، وَمِنْهَا الأَْحْكَامُ الْخَاصَّةُ بِالْعِبَادَاتِ أَوِ الْوِلاَيَاتِ أَوِ الْجِنَايَاتِ. . وَهَكَذَا.
وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي:
بَوْل الأُْنْثَى الرَّضِيعَةِ الَّتِي لَمْ تَأْكُل الطَّعَامَ:
16 - يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ فِي إِزَالَةِ نَجَاسَةِ بَوْل الأُْنْثَى الرَّضِيعَةِ الَّتِي لَمْ تَأْكُل الطَّعَامَ عَنْ بَوْل الذَّكَرِ الرَّضِيعِ الَّذِي لَمْ يَأْكُل الطَّعَامَ، وَذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. فَيُجْزِئُ عِنْدَهُمْ فِي التَّطْهِيرِ مِنْ بَوْل الْغُلاَمِ نَضْحُهُ بِالْمَاءِ (أَيْ أَنْ يَرُشَّهُ بِالْمَاءِ) وَلاَ يَكْفِي ذَلِكَ فِي إِزَالَةِ بَوْل الأُْنْثَى، بَل لاَ بُدَّ مِنْ غَسْلِهِ كَغَيْرِهِ مِنَ النَّجَاسَاتِ، وَذَلِكَ لِحَدِيثِ أُمِّ قَيْسِ بْنِ مُحْصَنٍ أَنَّهَا أَتَتْ بِابْنٍ لَهَا صَغِيرٍ لَمْ يَأْكُل الطَّعَامَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَجْلَسَهُ فِي حِجْرِهِ، فَبَال عَلَى ثَوْبِهِ، فَدَعَا بِمَاءٍ فَنَضَحَهُ وَلَمْ يَغْسِلْهُ. (1) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا يُغْسَل مِنْ بَوْل الأُْنْثَى، وَيُنْضَحُ مِنْ بَوْل الذَّكَرِ. (2)
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فَلاَ يُفَرِّقُونَ بَيْنَهُمَا فَيُغْسَل مَا أَصَابَهُ بَوْل كُلٍّ مِنَ الصَّبِيِّ أَوِ الصَّيِّبَةِ لِنَجَاسَتِهِ؛ لإِِطْلاَقِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اسْتَنْزِهُوا مِنَ الْبَوْل. (3)
__________
(1) حديث أم قيس " فدعا بماء فنضحه ولم يغسله. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 326 - ط السلفية) .
(2) حديث: " إنما يغسل من بول الأنثى وينضح من بول الذكر " رواه أبو داود (1 / 262 - ط عزت عبيد دعاس) وابن ماجه (1 / 174 - ط الحلبي) وحسنه البخاري كما في التلخيص لابن حجر (1 / 38 - شركة الطباعة الفنية) .
(3)) ابن عابدين 1 / 212، والاختيار 1 / 32، والتاج والإكليل بهامش الحطاب 1 / 108، والمهذب 1 / 56، وشرح منتهى الإرادات 1 / 98، 99. وحديث: " استنزهوا من البول ". أخرجه الدارقطني (1 / 128 - ط شركة الطباعة الفنية) من حديث أبي هريرة وقال: الصواب مرسل.(7/84)
الأَْحْكَامُ الَّتِي تَتَّصِل بِمَا تَخْتَصُّ بِهِ مِنْ حَيْضٍ وَحَمْلٍ:
17 - مِنَ الْفِطْرَةِ الَّتِي خَلَقَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الإِْنْسَانَ عَلَيْهَا أَنَّ كُلًّا مِنَ الذُّكُورِ وَالإِْنَاثِ يَمِيل إِلَى الآْخَرِ، وَجَعَل الاِتِّصَال الشَّرْعِيَّ بَيْنَهُمَا وَسِيلَةً لاِمْتِدَادِ الْجِنْسِ الْبَشَرِيِّ بِالتَّنَاسُل وَالتَّوَالُدِ.
وَاخْتَصَّ الأُْنْثَى مِنْ ذَلِكَ بِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي تَحِيضُ وَتَحْمِل وَتَلِدُ وَتُرْضِعُ.
وَهَذِهِ الأُْمُورُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا بَعْضُ الأَْحْكَامِ الْفِقْهِيَّةِ نُوجِزُهَا فِيمَا يَلِي:
(1) يُعْتَبَرُ الْحَيْضُ وَالْحَمْل مِنْ عَلاَمَاتِ بُلُوغِ الأُْنْثَى.
(2) التَّخْفِيفُ عَنْهَا فِي الْعِبَادَةِ فِي هَذِهِ الأَْحْوَال، فَتَسْقُطُ عَنْهَا الصَّلاَةُ أَثْنَاءَ الْحَيْضِ دُونَ قَضَاءٍ، وَيَجِبُ عَلَيْهَا الإِْفْطَارُ مَعَ الْقَضَاءِ فِي أَيَّامٍ أُخَرَ، وَجَوَازُ الإِْفْطَارِ أَثْنَاءَ الْحَمْل أَوِ الرَّضَاعَةِ، إِنْ كَانَ الصِّيَامُ يَضُرُّ بِهَا أَوْ بِوَلَدِهَا.
(3) وَالاِعْتِبَارُ بِالْحَيْضِ وَبِالْحَمْل فِي احْتِسَابِ الْعِدَّةِ.
(4) وَالاِمْتِنَاعُ عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَعَنْ دُخُول الْمَسْجِدِ، وَعَنْ تَمْكِينِ زَوْجِهَا مِنْهَا أَثْنَاءَ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ.
(5) وَوُجُوبُ الْغُسْل عِنْدَ انْقِطَاعِ دَمِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ.
وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ، (1) وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (حَيْضٍ، حَمْلٍ، نِفَاسٍ، رَضَاعٍ) .
__________
(1) المغني 1 / 306، 307.(7/85)
لَبَنُ الأُْنْثَى:
18 - لاَ يَخْتَلِفُ لَبَنُ الأُْنْثَى بِالنِّسْبَةِ لِطَهَارَتِهِ عَنْ لَبَنِ الذَّكَرِ - لَوْ كَانَ لَهُ لَبَنٌ - فَلَبَنُ الأُْنْثَى طَاهِرٌ بِاتِّفَاقٍ. وَلَكِنَّهُ يَخْتَلِفُ عَنْهُ فِي أَنَّ لَبَنَ الأُْنْثَى يَتَعَلَّقُ بِهِ مَحْرَمِيَّةُ الرَّضَاعِ. (1)
أَمَّا الرَّجُل فَلَوْ كَانَ لَهُ لَبَنٌ فَلاَ يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّحْرِيمُ. وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ (الرَّضَاعُ، وَالنِّكَاحُ) .
خِصَال الْفِطْرَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلأُْنْثَى:
19 - تَخْتَصُّ الْمَرْأَةُ مِنْ خِصَال الْفِطْرَةِ بِأَنَّهُ يُسَنُّ لَهَا إِزَالَةُ لِحْيَتِهَا لَوْ نَبَتَتْ. وَالسُّنَّةُ فِي عَانَتِهَا النَّتْفُ. وَلاَ يَجِبُ خِتَانُهَا فِي وَجْهٍ وَإِنَّمَا هُوَ مَكْرُمَةٌ. وَتُمْنَعُ مِنْ حَلْقِ رَأْسِهَا (2) .
عَوْرَةُ الأُْنْثَى:
20 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَنَّ بَدَنَ الأُْنْثَى الْحُرَّةِ الْبَالِغَةِ كُلَّهُ عَوْرَةٌ بِالنِّسْبَةِ لِلصَّلاَةِ عَدَا الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْوَجْهِ، وَفِي رِوَايَةٍ بِالنِّسْبَةِ لِلْكَفَّيْنِ، وَفِي الرِّوَايَةِ الأُْخْرَى هُمَا عَوْرَةٌ.
وَاخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي ظَاهِرِ الْكَفَّيْنِ، فَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ هُمَا عَوْرَةٌ، وَفِي شَرْحِ الْمُنْيَةِ: الأَْصَحُّ أَنَّهُمَا لَيْسَا بِعَوْرَةٍ، وَاعْتَمَدَهُ الشُّرُنْبُلاَلِيُّ.
وَأَمَّا الْقَدَمَانِ فَهُمَا عَوْرَةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ غَيْرَ الْمُزَنِيِّ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ رَأْيُ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ.
وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُمَا لَيْسَتَا بِعَوْرَةٍ، وَهُوَ رَأْيُ الْمُزَنِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ
__________
(1) حاشية الدسوقي 2 / 502.
(2) الأشباه للسيوطي ص 237 ط الحلبي.(7/85)
مِنَ الْحَنَابِلَةِ. (1) وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (عَوْرَةٍ) .
وَالدَّلِيل عَلَى أَنَّ بَدَنَ الْمَرْأَةِ عَوْرَةٌ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْمَرْأَةُ عَوْرَةٌ (2) وَقَوْلُهُ: لاَ يَقْبَل اللَّهُ صَلاَةَ حَائِضٍ إِلاَّ بِخِمَارٍ (3) وَالْمُرَادُ بِالْحَائِضِ الْبَالِغَةُ.
انْتِقَاضُ الْوُضُوءِ بِلَمْسِ الأُْنْثَى:
21 - يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي انْتِقَاضِ الْوُضُوءِ بِلَمْسِ الرَّجُل لِلأُْنْثَى الْمُشْتَهَاةِ.
فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ أَنَّ الْوُضُوءَ لاَ يُنْتَقَضُ بِاللَّمْسِ؛ لِرِوَايَةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبَّل بَعْضَ نِسَائِهِ، ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ (4) وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٍ وَطَاوُسٍ وَالْحَسَنِ وَمَسْرُوقٍ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ بِاللَّمْسِ إِنْ قَصَدَ اللَّذَّةَ أَوْ وَجَدَهَا حِينَ اللَّمْسِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَهُوَ أَنَّ لَمْسَ النِّسَاءِ لِشَهْوَةٍ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ، وَلاَ يُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ إِنْ كَانَ اللَّمْسُ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ. وَهُوَ قَوْل عَلْقَمَةَ وَأَبِي عُبَيْدَةَ
__________
(1) الزيلعي 1 / 96، وابن عابدين 1 / 271، 272، والاختيار 1 / 46، والدسوقي 1 / 213، 214، ومغني المحتاج 1 / 185 ونهاية المحتاج 2 / 6، والمهذب 1 / 71، والمغني 1 / 601 - 603، والإنصاف 1 / 449، 452 - 453، ومنتهى الإرادات 1 / 142.
(2) حديث: " المرأة عورة ". أخرجه الترمذي (3 / 467 ط الحلبي) وإسناده صحيح.
(3) حديث: " لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار " أخرجه ابن ماجه (1 / 215 - ط الحلبي) والترمذي (2 / 215 ط الحلبي) وحسنه.
(4) حديث عائشة: " قبل بعض نسائه ثم صلى ولم يتوضأ " أخرجه الترمذي (1 / 133 - ط الحلبي) وصححه ابن عبد البر كما في نصب الراية للزيلعي (1 / 72 - ط المجلس العلمي) .(7/86)
وَالنَّخَعِيِّ وَالْحَكَمِ وَحَمَّادٍ وَالثَّوْرِيِّ وَإِسْحَاقَ وَالشَّعْبِيِّ.
وَالْقُبْلَةُ بِالْفَمِ تَنْقُضُ مُطْلَقًا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، أَيْ دُونَ تَقْيِيدٍ بِقَصْدِ اللَّذَّةِ أَوْ وُجْدَانِهَا، إِلاَّ إِذَا كَانَتْ لِوَدَاعٍ أَوْ رَحْمَةٍ فَلاَ تَنْقُضُ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَفِي رِوَايَةٍ ثَالِثَةٍ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ: أَنَّ اللَّمْسَ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ بِكُل حَالٍ؛ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ} . (1)
وَلاَ يُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ بِلَمْسِ الأُْنْثَى الصَّغِيرَةِ الَّتِي لاَ تُشْتَهَى، وَذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ. وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِيهِ الأَْقْوَال السَّابِقَةُ. وَلاَ يُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ كَذَلِكَ بِلَمْسِ الْمَحْرَمِ عَلَى الأَْصَحِّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَفِي الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ عَلَى الرِّوَايَاتِ السَّابِقَةِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ. (2) يُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (وُضُوءٍ) .
حُكْمُ دُخُول الْمَرْأَةِ الْحَمَّامَاتِ الْعَامَّةِ.
22 - يَنْبَنِي حُكْمُ دُخُول النِّسَاءِ الْحَمَّامَاتِ الْعَامَّةِ عَلَى كَشْفِ الْعَوْرَةِ وَسِتْرِهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، فَإِنْ كَانَتِ الْعَوْرَةُ مَسْتُورَةً، وَلاَ تَرَى وَاحِدَةٌ عَوْرَةَ الأُْخْرَى فَالدُّخُول جَائِزٌ، وَإِلاَّ كَانَ الدُّخُول مَكْرُوهًا تَحْرِيمًا، كَمَا يَقُول الْحَنَفِيَّةُ، وَغَيْرُ جَائِزٍ كَمَا يَقُول الْمَالِكِيَّةُ. وَلَمْ يَسْتَحْسِنْهُ الإِْمَامُ مَالِكٌ مُطْلَقًا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قِيل: يُكْرَهُ. وَقِيل: يَحْرُمُ وَلَمْ يُجَوِّزْهُ الْحَنَابِلَةُ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) سورة النساء / 43.
(2) ابن عابدين 1 / 99، والاختيار 1 / 10، وجواهر الإكليل 1 / 20، ونهاية المحتاج 1 / 103، وقليوبي 1 / 32، والمغني 1 / 192 - 194.(7/86)
قَال: سَتُفْتَحُ عَلَيْكُمْ أَرْضُ الْعَجَمِ، وَسَتَجِدُونَ فِيهَا حَمَّامَاتٍ، فَامْنَعُوا نِسَاءَكُمْ إِلاَّ حَائِضًا أَوْ نُفَسَاءَ (1) . وَعَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهَا دُخُول الْحَمَّامِ لِعُذْرٍ مِنْ حَيْضٍ أَوْ نِفَاسٍ أَوْ مَرَضٍ. (2)
الْمُحَافَظَةُ عَلَى مَظَاهِرِ الأُْنُوثَةِ:
23 - يَعْتَنِي الإِْسْلاَمُ بِجَعْل الأُْنْثَى تُحَافِظُ عَلَى مَظَاهِرِ أُنُوثَتِهَا، فَحَرَّمَ عَلَيْهَا التَّشَبُّهَ بِالرِّجَال فِي أَيِّ مَظْهَرٍ مِنْ لِبَاسٍ أَوْ حَدِيثٍ أَوْ أَيِّ تَصَرُّفٍ. وَقَدْ لَعَنَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُتَشَبِّهَاتِ مِنَ النِّسَاءِ بِالرِّجَال. وَفِي الطَّبَرَانِيِّ أَنَّ امْرَأَةً مَرَّتْ عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَقَلِّدَةً قَوْسًا، فَقَال: لَعَنَ اللَّهُ الْمُتَشَبِّهَاتِ مِنَ النِّسَاءِ بِالرِّجَال، وَالْمُتَشَبِّهِينَ مِنَ الرِّجَال بِالنِّسَاءِ. (3)
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ الْقَيِّمِ أَنَّ مِنَ الْكَبَائِرِ: تَرَجُّل الْمَرْأَةِ وَتَخَنُّثَ الرَّجُل (4) .
وَقَدْ أَبَاحَ لَهَا الإِْسْلاَمُ أَنْ تَتَّخِذَ مِنْ وَسَائِل الزِّينَةِ مَا يَكْفُل لَهَا الْمُحَافَظَةَ عَلَى أُنُوثَتِهَا، فَيَحِل ثَقْبُ
__________
(1) حديث: " ستفتح عليكم أرض العجم. . . . " أخرجه أبو داود (4 / 102 ط عزت عبيد دعاس) وابن ماجه (2 / 1233 ط الحلبي) وأعله المنذري بضعف أحد رواته (مختصر سنن أبي داود 6 / 15 نشر دار المعرفة بيروت) .
(2) فتح القدير 8 / 97 - 108 ط الأميرية، وحاشية الحموي 2 / 171 ط العامرة، وحاشية ابن عابدين 5 / 32، 33، وحاشية العدوي على الخرشي 7 / 43، وحاشية البناني على الزرقاني 7 / 45، والأشباه للسيوطي ص 237 ط الحلبي، والمغني 1 / 231 ط الرياض.
(3) حاشية ابن عابدين 5 / 271. وحديث: " لعن الله المتشبهات من النساء بالرجال. . . . " أخرجه الطبراني في الأوسط من حديث ابن عباس كما في مجمع الزوائد (8 / 103) وقال الهيثمي: رواه الطبراني في الأوسط عن شيخه علي بن الرازي وهو لين، وبقية رجاله ثقات.
(4) إعلام الموقعين 4 / 402.(7/87)
أُذُنِهَا لِتَعْلِيقِ الْقُرْطِ فِيهِ. يَقُول الْفُقَهَاءُ: لاَ بَأْسَ بِثَقْبِ آذَانِ النِّسْوَانِ، وَلاَ بَأْسَ بِثَقْبِ آذَانِ الأَْطْفَال مِنَ الْبَنَاتِ؛ لأَِنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِي زَمَانِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ إِنْكَارٍ، يَقُول ابْنُ الْقَيِّمِ: الأُْنْثَى مُحْتَاجَةٌ لِلْحِلْيَةِ فَثَقْبُ الأُْذُنِ مَصْلَحَةٌ فِي حَقِّهَا. (1)
وَيُبَاحُ لَهَا التَّزَيُّنُ بِلُبْسِ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ دُونَ الرِّجَال؛ لأَِنَّهُ مِنْ زِينَةِ النِّسَاءِ، فَقَدْ رَوَى أَبُو مُوسَى أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: حَرَامٌ لِبَاسُ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي، وَأُحِلّ لإِِنَاثِهِمْ (2) قَال ابْنُ قُدَامَةَ: أُبِيحَ التَّحَلِّي فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ لِحَاجَتِهَا إِلَى التَّزَيُّنِ لِلزَّوْجِ وَالتَّجَمُّل عِنْدَهُ. (3) كَذَلِكَ يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَخْضِبَ يَدَيْهَا، وَأَنْ تُعَلِّقَ الْخَرَزَ فِي شَعْرِهَا، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ ضُرُوبِ الزِّينَةِ. (4)
وُجُوبُ التَّسَتُّرِ وَعَدَمُ الاِخْتِلاَطِ بِالرِّجَال الأَْجَانِبِ:
24 - إِذَا خَرَجَتِ الْمَرْأَةُ لِحَاجَتِهَا لاَ تَخْرُجُ إِلاَّ مُتَسَتِّرَةً. قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَحَيْثُ أَبَحْنَا لَهَا الْخُرُوجَ فَإِنَّمَا يُبَاحُ بِشَرْطِ عَدَمِ الزِّينَةِ، وَعَدَمِ تَغْيِيرِ الْهَيْئَةِ إِلَى مَا يَكُونُ دَاعِيَةً لِنَظَرِ الرِّجَال
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 271، والفتاوى الهندية 5 / 357، وتحفة المودود ص 125.
(2) حديث: " حرام لباس الحرير والذهب على ذكور. . . . " أخرجه أحمد (4 / 392 - ط الميمنية) والنسائي (8 / 161 - ط المكتبة التجارية) من حديث أبي موسى الأشعري، وهو صحيح لطرقه.
(3) ابن عابدين 5 / 224، ومنح الجليل 1 / 33، والمغني 1 / 77، 588، 591.
(4) الفتاوى الهندية 5 / 359، والفواكه الدواني 2 / 403.(7/87)
وَالاِسْتِمَالَةِ، (1) قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُْولَى} (2) .
قَال مُجَاهِدٌ: كَانَتِ الْمَرْأَةُ تَخْرُجُ تَمْشِي بَيْنَ يَدَيِ الرِّجَال، فَذَلِكَ تَبَرُّجُ الْجَاهِلِيَّةِ. وَقَال قَتَادَةَ: كَانَتْ لَهُنَّ مِشْيَةُ تَكَسُّرٍ وَتَغَنُّجٍ، فَنَهَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ (3) .
وَلاَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الثِّيَابُ الَّتِي تَظْهَرُ بِهَا أَمَامَ النَّاسِ مِمَّا يَظْهَرُ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ جَسَدِهَا الْوَاجِبِ سِتْرُهُ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ يَشِفُّ عَمَّا تَحْتَهُ؛ لأَِنَّهُ إِذَا اسْتَبَانَ جَسَدُهَا كَانَتْ كَاسِيَةً عَارِيَّةً حَقِيقَةً. (4) وَقَدْ قَال النَّبِيُّ: سَيَكُونُ فِي آخِرِ أُمَّتِي نِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَّاتٌ، عَلَى رُءُوسِهِنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ، الْعَنُوهُنَّ فَإِنَّهُنَّ مَلْعُونَاتٌ. (5)
وَفِي الْفَوَاكِهِ الدَّوَانِي: لاَ يَلْبَسُ النِّسَاءُ مِنَ الرَّقِيقِ مَا يَصِفُهُنَّ إِذَا خَرَجْنَ مِنْ بُيُوتِهِنَّ، وَالْخُرُوجُ لَيْسَ بِقَيْدٍ، وَحَاصِل الْمَعْنَى: أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْمَرْأَةِ لُبْسُ مَا يُرَى مِنْهُ جَسَدُهَا بِحَضْرَةِ مَنْ لاَ يَحِل لَهُ النَّظَرُ. (6)
وَلاَ يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَأْتِيَ مِنَ الأَْعْمَال مَا يُلْفِتُ النَّظَرَ إِلَيْهَا وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الاِفْتِتَانُ بِهَا، قَال تَعَالَى: {وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} (7) قَال
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 665، والفواكه الدواني 2 / 409.
(2) سورة الأحزاب / 33.
(3) مختصر تفسير ابن كثير 2 / 92، 3 / 599، 600.
(4) بدائع الصنائع 5 / 123.
(5) حديث: " سيكون في آخر أمتي نساء كاسيات عاريات. . . " أخرجه أحمد (2 / 223 - ط الميمنية) وقال الهيثمي: رواه أحمد والطبراني في الثلاثة، ورجال أحمد رجال الصحيح. (مجمع الزوائد 5 / 1371 - ط القدسي) .
(6) الفواكه الدواني 2 / 406.
(7) سورة النور / 31.(7/88)
ابْنُ كَثِيرٍ: كَانَتِ الْمَرْأَةُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا كَانَتْ تَمْشِي فِي الطَّرِيقِ، وَفِي رِجْلِهَا خَلْخَالٌ صَامِتٌ لاَ يُعْلَمُ صَوْتُهُ، ضَرَبَتْ بِرِجْلِهَا الأَْرْضَ فَيَسْمَعُ الرِّجَال طَنِينَهُ، فَنَهَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمُؤْمِنَاتِ عَنْ مِثْل ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ شَيْءٌ مِنْ زِينَتِهَا مَسْتُورًا، فَتَحَرَّكَتْ بِحَرَكَةٍ لِتُظْهِرَ مَا هُوَ خَفِيٌّ دَخَل فِي هَذَا النَّهْيِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ} .
وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهَا تُنْهَى عَنِ التَّعَطُّرِ وَالتَّطَيُّبِ عِنْدَ خُرُوجِهَا مِنْ بَيْتِهَا فَيَشُمُّ الرِّجَال طِيبَهَا، فَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُل عَيْنٍ زَانِيَةٌ، وَالْمَرْأَةُ إِذَا اسْتَعْطَرَتْ فَمَرَّتْ بِالْمَجْلِسِ فَهِيَ كَذَا وَكَذَا (1) يَعْنِي زَانِيَةً.
وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا أَنَّهُنَّ يُنْهَيْنَ عَنِ الْمَشْيِ فِي وَسَطِ الطَّرِيقِ؛ لِمَا رَوَى حَمْزَةُ بْنُ أَبِي أُسَيْدٍ الأَْنْصَارِيُّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ خَارِجٌ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَقَدِ اخْتَلَطَ النِّسَاءُ مَعَ الرِّجَال فِي الطَّرِيقِ، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلنِّسَاءِ: اسْتَأْخِرْنَ، فَإِنَّهُ لَيْسَ لَكُنَّ أَنْ تَحْقُقْنَ الطَّرِيقَ، عَلَيْكُنَّ بِحَافَّاتِ الطَّرِيقِ. (2)
وَلاَ تَجُوزُ خَلْوَةُ الْمَرْأَةِ بِالأَْجْنَبِيِّ وَلَوْ فِي عَمَلٍ، وَالْمُرَادُ بِالْخَلْوَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ مَعَ الرَّجُل فِي مَكَان يَأْمَنَانِ فِيهِ مِنْ دُخُول ثَالِثٍ. (ر: خَلْوَةٌ) .
قَال أَبُو حَنِيفَةَ: أَكْرَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ الرَّجُل امْرَأَةً حُرَّةً يَسْتَخْدِمُهَا وَيَخْلُو بِهَا؛ لأَِنَّ الْخَلْوَةَ بِالْمَرْأَةِ الأَْجْنَبِيَّةِ مَعْصِيَةٌ. (3) وَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
__________
(1) حديث: " كل عين زانية، والمرأة إذا استعطرت. . . . " أخرجه أحمد (4 / 418 - ط الميمنية) والترمذي (5 / 106 - ط الحلبي) وقال: حسن صحيح.
(2) مختصر تفسير ابن كثير 2 / 602. وحديث: " استأخرن فإنه ليس لكن. . . . " أخرجه أبو داود (5 / 422 ط عزت عبيد دعاس) وفي إسناده جهالة (ميزان الاعتدال للذهبي 2 / 265 ط الحلبي) .
(3) بدائع الصنائع 4 / 189، والفواكه الدواني 2 / 438، ومنتهى الإرادات 3 / 7، والمغني 6 / 53، والأحكام السلطانية للماوردي 248، 257، والتبصرة بهامش فتح العلي 1 / 296.(7/88)
لاَ يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلاَّ كَانَ الشَّيْطَانُ ثَالِثَهُمَا (1) . وَيُمْنَعُ الاِخْتِلاَطُ الْمُرِيبُ بَيْنَ الرِّجَال وَالنِّسَاءِ عَلَى مَا سَبَقَ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (اخْتِلاَطٌ (2)) .
الأَْحْكَامُ الَّتِي تَخُصُّ النِّسَاءَ بِالنِّسْبَةِ لِلْعِبَادَةِ:
25 - الأَْصْل أَنَّهُ لاَ فَرْقَ بَيْنَ الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ فِي أَهْلِيَّةِ الْعِبَادَةِ.
إِلاَّ أَنَّهُ نَظَرًا لِكَوْنِهَا مَأْمُورَةً بِالتَّسَتُّرِ وَعَدَمِ الاِخْتِلاَطِ الْمُرِيبِ بِالرِّجَال الأَْجَانِبِ فَإِنَّهَا تَخْتَصُّ بِبَعْضِ الأَْحْكَامِ فِي عِبَادَاتِهَا. (3) وَمِنْ ذَلِكَ:
(1) الأَْذَانُ وَالإِْقَامَةُ: فَالأَْصْل أَنَّهَا لاَ تُؤَذِّنُ وَلاَ تُقِيمُ (ر: أَذَانٌ. إِقَامَةٌ) .
(2) وَلاَ تَؤُمُّ الرِّجَال، بَل يُكْرَهُ لَهَا عِنْدَ بَعْضِ الْمَذَاهِبِ أَنْ تَؤُمَّ النِّسَاءَ. (4) (ر: إِمَامَةٌ) .
(3) وَمِنْهَا صَلاَةُ الْجَمَاعَةِ بِإِمَامَةِ إِحْدَاهُنَّ، فَالأَْصْل عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْجَمَاعَةَ غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ لَهُنَّ فِي تِلْكَ الْحَال، خِلاَفًا لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ الْقَائِلِينَ بِنَدْبِهَا لَهُنَّ، وَلَوْ لَمْ يَؤُمَّهُنَّ رِجَالٌ. وَتَفْصِيل ذَلِكَ
__________
(1) حديث: " لا يخلون رجل بامرأة. . . . ". سبق تخريجه ف / 15.
(2) الموسوعة الفقهية في الكويت 2 / 290.
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 262 - 264، والعناية شرح الهداية 1 / 221 ط دار إحياء التراث، وحاشية الدسوقي 1 / 195، 200، ونهاية المحتاج 1 / 388، 389، والمغني 1 / 413، 422، وكشاف القناع 1 / 232، 236.
(4) الاختيار 1 / 58، وجواهر الإكليل 1 / 78، والأحكام السلطانية للماوردي ص 102، ولأبي يعلى ص 81، والمغني لابن قدامة 2 / 199 ط الرياض، ومنتهى الإرادات 1 / 260، 263، والمجموع شرح المهذب 4 / 135، 136 ط المكتبة العالمية بالفجالة تحقيق محمد نجيب المطيعي.(7/89)
يُنْظَرُ فِي (صَلاَةِ الْجَمَاعَةِ) .
(4) وَمِنْهَا حُضُورُ الْمَرْأَةِ الْجُمُعَةَ وَالْعِيدَيْنِ وَصَلاَةَ الْجَمَاعَةِ مَعَ الرِّجَال: فَيَجُوزُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ حُضُورُ الْمَرْأَةِ صَلاَةَ الْجَمَاعَةِ مَعَ الرِّجَال فِي الْمَسْجِدِ، وَكَذَا حُضُورُهَا الْجُمُعَةَ وَالْعِيدَيْنِ. (1) وَانْظُرْ لِلتَّفْصِيل (صَلاَةَ الْجَمَاعَةِ. صَلاَةَ الْجُمُعَةِ. صَلاَةَ الْعِيدَيْنِ) .
هـ - هَيْئَتُهَا فِي الصَّلاَةِ:
26 - الأَْصْل أَنَّهُ لاَ فَرْقَ بَيْنَ الرِّجَال وَالنِّسَاءِ فِي عَمَل الْعِبَادَاتِ، إِلاَّ أَنَّ الْمَرْأَةَ تَخْتَصُّ بِبَعْضِ الْهَيْئَاتِ فِي الصَّلاَةِ، وَذَلِكَ كَمَا يَأْتِي:
يُسْتَحَبُّ أَنْ تَجْمَعَ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا فِي الرُّكُوعِ، فَتَضُمَّ مِرْفَقَيْهَا إِلَى الْجَنْبَيْنِ وَلاَ تُجَافِيهِمَا، وَتَنْحَنِيَ قَلِيلاً فِي رُكُوعِهَا، وَلاَ تَعْتَمِدَ، وَلاَ تُفَرِّجَ بَيْنَ أَصَابِعِهَا، بَل تَضُمُّهَا، وَتَضَعُ يَدَيْهَا عَلَى رُكْبَتَيْهَا، وَتَحْنِي رُكْبَتَهَا، وَتُلْصِقُ مِرْفَقَيْهَا بِرُكْبَتَيْهَا.
وَفِي سُجُودِهَا تَفْتَرِشُ ذِرَاعَيْهَا، وَتَنْضَمُّ وَتَلْزَقُ بَطْنَهَا بِفَخِذَيْهَا؛ لأَِنَّ ذَلِكَ أَسْتُرُ لَهَا، فَلاَ يُسَنُّ لَهَا التَّجَافِي كَالرِّجَال؛ لِحَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ عَلَى امْرَأَتَيْنِ تُصَلِّيَانِ، فَقَال: إِذَا سَجَدْتُمَا فَضُمَّا بَعْضَ اللَّحْمِ إِلَى بَعْضٍ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ لَيْسَتْ فِي ذَلِكَ كَالرَّجُل (2) .
__________
(1) الشرح الصغير 1 / 447، والفواكه الدواني 1 / 246، والمجموع 4 / 82، 83، ومغني المحتاج 1 / 229، 230، ومنتهى الإرادات 1 / 245، والمغني 2 / 200، 202، 203.
(2) حديث: " إذا سجدتما فضما بعض اللحم. . . . " أخرجه أبو داود في مراسيله كما في تحفة الأشراف للمزي (13 / 419 - ط الدار القيمة) من حديث يزيد بن أبي حبيب مرسلا وإسناده ضعيف لإرساله.(7/89)
وَلأَِنَّهَا عَوْرَةٌ فَالأَْلْيَقُ بِهَا الاِنْضِمَامُ. كَذَلِكَ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُكَثِّفَ جِلْبَابَهَا وَتُجَافِيَهُ رَاكِعَةً وَسَاجِدَةً، لِئَلاَّ تَصِفَهَا ثِيَابُهَا، وَأَنْ تَخْفِضَ صَوْتَهَا، وَتَجْلِسَ مُتَرَبِّعَةً؛ لأَِنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَأْمُرُ النِّسَاءَ أَنْ يَتَرَبَّعْنَ فِي الصَّلاَةِ، أَوْ تَسْدُل رِجْلَيْهَا عَنْ يَمِينِهَا، وَهُوَ أَفْضَل مِنَ التَّرَبُّعِ؛ لأَِنَّهُ غَالِبُ فِعْل عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا وَأَشْبَهُ بِجِلْسَةِ الرَّجُل، وَهُوَ مَا قَالَهُ الإِْمَامُ الشَّافِعِيُّ وَالإِْمَامُ أَحْمَدُ.
كَمَا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَنْصَرِفَ النِّسَاءُ عَقِبَ الصَّلاَةِ قَبْل الرِّجَال، حَتَّى لاَ يَخْتَلِطْنَ بِالرِّجَال.
فَقَدْ رَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَلَّمَ قَامَ النِّسَاءُ حِينَ يَقْضِي تَسْلِيمَهُ، وَهُوَ يَمْكُثُ فِي مَكَانِهِ يَسِيرًا قَبْل أَنْ يَقُومَ. قَالَتْ: نَرَى - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ ذَلِكَ كَانَ لِكَيْ يَنْصَرِفَ النِّسَاءُ قَبْل أَنْ يُدْرِكَهُنَّ الرِّجَال (1) .
و الْحَجُّ:
27 - مَا يَتَّصِل بِفَرْضِ الْحَجِّ عَلَى الْمَرْأَةِ أَمْرَانِ:
الأَْوَّل: بِالنِّسْبَةِ لِلْوُجُوبِ. وَبَيَانُ ذَلِكَ كَمَا يَأْتِي:
مِنَ الْمُقَرَّرِ أَنَّ الاِسْتِطَاعَةَ - بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ وَغَيْرِهِمَا - مِنْ شَرَائِطِ وُجُوبِ الْحَجِّ مُطْلَقًا، وَيُزَادُ عَلَى ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَرْأَةِ: أَنْ يَكُونَ مَعَهَا زَوْجٌ أَوْ مَحْرَمٌ؛ لِلأَْحَادِيثِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي ذَلِكَ، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ.
__________
(1) ابن عابدين 1 / 339، والبدائع 1 / 210، وحاشية الدسوقي 1 / 243، 249، 250، والمهذب 1 / 82، 83، والمجموع 3 / 455، 456، ومنتهى الإرادات 1 / 193، وكشاف القناع 1 / 364، 394، والمغني 1 / 560، 562. والحديث: " كان إذا سلم النبي صلى الله عليه وسلم قام النساء. . . . . " أخرجه البخاري (الفتح 2 / 334 ط السلفية) .(7/90)
لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ يَخْتَلِفُونَ فِي وُجُوبِ الْحَجِّ عَلَى الْمَرْأَةِ دُونَ زَوْجٍ أَوْ مَحْرَمٍ. فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ لاَ يَجِبُ عَلَيْهَا الْحَجُّ؛ لأَِنَّهَا إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهَا زَوْجٌ وَلاَ مَحْرَمٌ لاَ يُؤْمَنُ عَلَيْهَا، إِذِ النِّسَاءُ لَحْمٌ عَلَى وَضَمٍ، إِلاَّ مَا ذُبَّ عَنْهُ. (1) وَفِي ذَلِكَ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي (حَجٌّ) .
وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ لِحَجِّ الْفَرِيضَةِ، أَمَّا النَّفَل فَلاَ يَجُوزُ لَهَا الْخُرُوجُ لَهُ دُونَ الزَّوْجِ أَوِ الْمَحْرَمِ. (2)
الثَّانِي: بِالنِّسْبَةِ لِبَعْضِ الأَْعْمَال فَالْمَرْأَةُ كَالرَّجُل فِي أَرْكَانِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، إِلاَّ أَنَّهَا تَخْتَلِفُ عَنْهُ فِي بَعْضِ الأَْعْمَال وَمِنْ ذَلِكَ:
- أَنَّهَا تَلْبَسُ الْمَخِيطَ كَالْقَمِيصِ وَالْقَبَاءِ وَالسَّرَاوِيل وَالْخُفَّيْنِ وَمَا هُوَ أَسْتَرُ لَهَا؛ لأَِنَّ بَدَنَهَا عَوْرَةٌ، وَلاَ تَنْتَقِبُ وَلاَ تَلْبَسُ الْقُفَّازَيْنِ (3) . وَفِي ذَلِكَ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ (ر: إِحْرَامٌ) .
- وَلَيْسَ عَلَى الْمَرْأَةِ رَمَلٌ فِي طَوَافِهَا، وَلاَ إِسْرَاعٌ بَيْنَ الْمِيلَيْنِ الأَْخْضَرَيْنِ فِي السَّعْيِ، وَلَيْسَ عَلَيْهَا اضْطِبَاعٌ أَيْضًا (4) .
وَالْمَشْرُوعُ لِلْمَرْأَةِ التَّقْصِيرُ دُونَ الْحَلْقِ (5) . (ر: حَجٌّ) .
__________
(1) ابن عابدين 2 / 146، والبدائع 2 / 123، والمغني 3 / 236، 237، وكشاف القناع 2 / 394، 395.
(2) منح الجليل 1 / 440، والدسوقي 2 / 9، ومغني المحتاج 1 / 467، والمجموع شرح المهذب 7 / 60، 61 نشر مكتبة الإرشاد، والمغني 3 / 237.
(3) البدائع 2 / 185، 186، وابن عابدين 2 / 190، ومنح الجليل 1 / 503، ومغني المحتاج 1 / 519، والمجموع 7 / 329، والمغني 3 / 328، 329.
(4) ابن عابدين 2 / 190، وحاشية الدسوقي 2 / 41، 54، 55، والمجموع 7 / 330، والمغني 3 / 394، 372.
(5) البدائع 2 / 141، والدسوقي 2 / 46، والمهذب 1 / 235، والمغني 3 / 439، ومنح الجليل 1 / 481، ونهاية المحتاج 3 / 264، والمغني 3 / 330.(7/90)
- وَلاَ تَرْفَعُ الْمَرْأَةُ صَوْتَهَا بِالتَّلْبِيَةِ إِلاَّ بِمِقْدَارِ مَا تُسْمِعُ رَفِيقَتَهَا. (ر: حَجٌّ. تَلْبِيَةٌ) .
ز - الْخُرُوجُ مِنَ الْمَنْزِل:
28 - إِذَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ مُتَزَوِّجَةً فَإِنَّهَا تَرْتَبِطُ فِي خُرُوجِهَا مِنَ الْمَنْزِل بِإِذْنِ زَوْجِهَا. وَقَدْ رَوَى ابْنُ عُمَرَ قَال: رَأَيْتُ امْرَأَةً أَتَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَتْ: يَا رَسُول اللَّهِ مَا حَقُّ الزَّوْجِ عَلَى زَوْجَتِهِ؟ قَال: حَقُّهُ عَلَيْهَا أَنْ لاَ تَخْرُجَ مِنْ بَيْتِهَا إِلاَّ بِإِذْنِهِ، فَإِنْ فَعَلَتْ لَعَنَهَا اللَّهُ وَمَلاَئِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلاَئِكَةُ الْغَضَبِ حَتَّى تَتُوبَ أَوْ تَرْجِعَ (1) ؛ وَلأَِنَّ حَقَّ الزَّوْجِ وَاجِبٌ، فَلاَ يَجُوزُ تَرْكُهُ بِمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ.
وَخُرُوجُ الزَّوْجَةِ مِنْ غَيْرِ إِذْنِ زَوْجِهَا يَجْعَلُهَا نَاشِزًا، وَيُسْقِطُ حَقَّهَا فِي النَّفَقَةِ فِي الْجُمْلَةِ، لَكِنْ لاَ يَنْبَغِي لِلزَّوْجِ أَنْ يَمْنَعَ زَوْجَتَهُ مِنْ زِيَارَةِ أَبَوَيْهَا وَعِيَادَتِهِمَا؛ لأَِنَّ عَدَمَ الزِّيَارَةِ نَوْعٌ مِنَ الْعُقُوقِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ.
كَذَلِكَ لاَ يَنْبَغِي أَنْ يَمْنَعَهَا مِنَ الصَّلاَةِ فِي الْمَسْجِدِ وَحُضُورِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَدُرُوسِ الْوَعْظِ؛ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ وَفِي رِوَايَةٍ: إِذَا اسْتَأْذَنَتْ أَحَدَكُمُ امْرَأَتُهُ إِلَى الْمَسْجِدِ فَلاَ يَمْنَعْهَا (2) .
__________
(1) حديث: " حق الزوج على زوجته أن لا تخرج. . . " أخرجه البزار وفي إسناده حسين بن قيس وهو ضعيف، كما في مجمع الزوائد (4 / 307 - ط القدسي) .
(2) حديث: " لا تمنعوا إماء الله مساجد الله ". . أخرجه أبو داود (1 / 382 ط عزت عبيد دعاس) والحاكم (1 / 209 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه ووافقه الذهبي.(7/91)
لَكِنْ هَذَا مُقَيَّدٌ بِمَا إِذَا أَمِنَ عَلَيْهَا، وَكَانَ لاَ يَخْشَى الْفِتْنَةَ مِنْ خُرُوجِهَا، فَإِنْ كَانَ يَخْشَى الْفِتْنَةَ فَلَهُ مَنْعُهَا. وَكَرِهَ مُتَأَخِّرُو الْحَنَفِيَّةِ خُرُوجَهَا وَلَوْ عَجُوزًا لِفَسَادِ الزَّمَانِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنِ السَّيِّدَةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا قَالَتْ: لَوْ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى مَا أَحْدَثَ النِّسَاءُ لَمَنَعَهُنَّ الْمَسْجِدَ كَمَا مُنِعَتْ نِسَاءُ بَنِي إِسْرَائِيل (1) .
ح - التَّطَوُّعُ بِالْعِبَادَاتِ:
29 - الزَّوْجَةُ مُرْتَبِطَةٌ كَذَلِكَ بِإِذْنِ الزَّوْجِ فِي التَّطَوُّعِ بِالْعِبَادَاتِ، فَلاَ يَجُوزُ لَهَا إِذَا كَانَ زَوْجُهَا حَاضِرًا أَنْ تَتَطَوَّعَ بِصَلاَةٍ أَوْ صَوْمٍ أَوْ حَجٍّ أَوِ اعْتِكَافٍ بِدُونِ إِذْنِهِ، إِذَا كَانَ ذَلِكَ يَشْغَلُهَا عَنْ حَقِّهِ؛ لأَِنَّ حَقَّ الزَّوْجِ فَرْضٌ، فَلاَ يَجُوزُ تَرْكُهُ بِنَفْلٍ؛ وَلأَِنَّ لَهُ حَقَّ الاِسْتِمْتَاعِ بِهَا، وَلاَ يُمْكِنُهُ ذَلِكَ أَثْنَاءَ الصَّوْمِ أَوِ الْحَجِّ أَوِ الاِعْتِكَافِ، وَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ يَحِل لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَصُومَ وَزَوْجُهَا شَاهِدٌ أَيْ حَاضِرٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ (2) . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
فَإِنْ تَطَوَّعَتْ بِصَوْمٍ أَوْ حَجٍّ أَوِ اعْتِكَافٍ دُونَ إِذْنِهِ فَلَهُ أَنْ يُفْطِرَهَا فِي الصَّوْمِ، وَيُحَلِّلَهَا مِنَ الْحَجِّ، وَيُخْرِجَهَا مِنَ الاِعْتِكَافِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَفْوِيتِ حَقِّ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 380، والبدائع 2 / 331، والهداية 2 / 40، والدسوقي 2 / 343، ومنح الجليل 1 / 224، والمهذب 2 / 67، والمجموع 4 / 83، والمغني 7 / 20، ومنتهى الإرادات 1 / 253. وحديث عائشة: " لو أن رسول الله رأى ما أحدث النساء. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 2 / 349 ط السلفية) .
(2) حديث: " لا يحل للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد. . . " أخرجه البخاري (الفتح 9 / 295 ط السلفية) .(7/91)
غَيْرِهَا بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَكَانَ لِرَبِّ الْحَقِّ الْمَنْعُ.
وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ، وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ الصَّوْمَ الرَّاتِبَ كَعَرَفَةَ وَعَاشُورَاءَ، فَلاَ يَمْنَعْهَا مِنْهُ لِتَأَكُّدِهِ، وَكَذَلِكَ صَلاَةُ النَّفْل الْمُطْلَقِ لِقِصَرِ زَمَنِهِ.
وَإِنْ أَذِنَ الزَّوْجُ لَهَا أَنْ تَتَطَوَّعَ بِصَوْمٍ أَوِ اعْتِكَافٍ أَوْ حَجٍّ، فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنَ الصَّوْمِ أَوِ الاِعْتِكَافِ وَلَوْ كَانَتْ شُرِعَتْ فِيهِ؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذِنَ لِعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ وَزَيْنَبَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُنَّ فِي الاِعْتِكَافِ، ثُمَّ مَنَعَهُنَّ مِنْهُ بَعْدَ أَنْ دَخَلْنَ فِيهِ، فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ الْعَشْرَ الأَْوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ، فَاسْتَأْذَنَتْهُ عَائِشَةُ فَأَذِنَ لَهَا، وَسَأَلَتْ حَفْصَةُ عَائِشَةَ أَنْ تَسْتَأْذِنَ لَهَا فَفَعَلَتْ، فَلَمَّا رَأَتْ ذَلِكَ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ أَمَرَتْ بِبِنَاءٍ فَبُنِيَ لَهَا. قَالَتْ: وَكَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا صَلَّى انْصَرَفَ إِلَى بِنَائِهِ، فَأَبْصَرَ الأَْبْنِيَةَ فَقَال: مَا هَذَا؟ قَالُوا: بِنَاءُ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ وَزَيْنَبَ. فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: آلْبِرَّ أَرَدْنَ بِهَذَا؟ مَا أَنَا بِمُعْتَكِفٍ. (1)
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا؛ لأَِنَّهُ لَمَّا أَذِنَ لَهَا فَقَدْ مَلَّكَهَا مَنَافِعَ الاِسْتِمْتَاعِ بِهَا، وَهِيَ مِنْ أَهْل الْمِلْكِ فَلاَ يَمْلِكُ الرُّجُوعَ عَنْ ذَلِكَ. وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مَا لَمْ تَشْرَعْ فِي الْعِبَادَةِ، فَإِنْ شَرَعَتْ فَلاَ يَمْنَعْهَا.
وَمَا أَوْجَبَتْهُ الْمَرْأَةُ عَلَى نَفْسِهَا بِنَذْرٍ، فَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْهُ، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ.
وَإِنْ كَانَ بِإِذْنِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي زَمَانٍ مُعَيَّنٍ فَلَيْسَ لَهُ
__________
(1) حديث: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر أن يعتكف العشر الأواخر. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 285 ط السلفية) ومسلم (2 / 831 ط الحلبي) .(7/92)
مَنْعُهَا مِنْهُ.
وَإِنْ كَانَ فِي زَمَانٍ مُبْهَمٍ، فَلَهُ الْمَنْعُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِلاَّ إِذَا دَخَلَتْ فِيهِ، وَهُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. (1)
مَا يَتَعَلَّقُ بِالأُْنْثَى مِنْ أَحْكَامِ الْوِلاَيَاتِ:
30 - الْوِلاَيَاتُ - كَالإِْمَامَةِ وَالْقَضَاءِ وَالْوِصَايَةِ وَالْحَضَانَةِ وَغَيْرِهَا - مَنَاصِبُ تَحْتَاجُ إِلَى اسْتِعْدَادَاتٍ خَاصَّةٍ، بَدَنِيَّةٍ وَنَفْسِيَّةٍ، كَالْقُوَّةِ وَالْكِفَايَةِ وَالْخِبْرَةِ وَالرِّعَايَةِ وَالْحَنَانِ وَحُسْنِ التَّصَرُّفِ. وَتَخْتَلِفُ الْوِلاَيَاتُ عَنْ بَعْضِهَا فِيمَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ صِفَاتٍ.
وَإِذَا كَانَ الرِّجَال مُقَدَّمِينَ فِي بَعْضِ الْمَنَاصِبِ عَلَى النِّسَاءِ، فَذَلِكَ لِفَارِقِ التَّكْوِينِ الطَّبِيعِيِّ لِكُلٍّ مِنْهُمَا، وَلِمَا مَنَحَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كُل جِنْسٍ مِنْ صِفَاتٍ خَاصَّةٍ.
وَكَذَلِكَ تُقَدَّمُ النِّسَاءُ فِي بَعْضِ الْوِلاَيَاتِ؛ لِتَنَاسُبِهَا مَعَ تَكْوِينِهِنَّ وَاسْتِعْدَادِهِنَّ الْفِطْرِيِّ.
قَال الْقَرَافِيُّ: اعْلَمْ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُقَدَّمَ فِي كُل وِلاَيَةٍ مَنْ هُوَ أَقْوَمُ بِمَصَالِحِهَا عَلَى مَنْ هُوَ دُونَهُ، فَيُقَدَّمُ فِي وِلاَيَةِ الْحُرُوبِ مَنْ هُوَ أَعْرَفُ بِمَكَائِدِ الْحُرُوبِ وَسِيَاسَةِ الْجُيُوشِ، وَيُقَدَّمُ فِي الْقَضَاءِ مَنْ هُوَ أَعْرَفُ بِالأَْحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَأَشَدُّ تَفَطُّنًا لِحِجَاجِ الْخُصُومِ وَخَدْعِهِمْ. وَيُقَدَّمُ فِي أَمَانَةِ الْيَتِيمِ مَنْ هُوَ
__________
(1) البدائع 2 / 107، 108، 109، 124، وابن عابدين 2 / 122، 129، والدسوقي 1 / 545، ومنح الجليل 1 / 417، 421، 422، ومغني المحتاج 1 / 449، 455 و 3 / 439، والمهذب 1 / 195، 197، 242، والمجموع 6 / 363، 409، والمغني 3 / 207، 208، 240، ومنتهى الإرادات 1 / 464، 476.(7/92)
أَعْلَمُ بِتَنْمِيَةِ أَمْوَال الْيَتَامَى وَتَقْدِيرِ أَمْوَال النَّفَقَاتِ.
وَالنِّسَاءُ مُقَدَّمَاتٌ فِي بَابِ الْحَضَانَةِ عَلَى الرِّجَال لأَِنَّهُنَّ أَصْبَرُ عَلَى الصِّبْيَانِ وَأَشَدُّ شَفَقَةً وَرَأْفَةً.
فَقُدِّمْنَ لِذَلِكَ وَأُخِّرَ الرِّجَال عَنْهُنَّ، وَأُخِّرْنَ فِي الإِْمَامَةِ وَالْحُرُوبِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْمَنَاصِبِ؛ لأَِنَّ الرِّجَال أَقْوَمُ بِمَصَالِحِ تِلْكَ الْوِلاَيَاتِ مِنْهُنَّ. (1)
وَالْقَضَاءُ مِنَ الْوِلاَيَاتِ الَّتِي يُقَدَّمُ فِيهَا الرِّجَال عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
وَيَجُوزُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنْ تَقْضِيَ فِي غَيْرِ حَدٍّ وَقَوَدٍ، إِلاَّ أَنَّهُ يُكْرَهُ تَوْلِيَتُهَا الْقَضَاءَ، وَيَأْثَمُ مَنْ يُوَلِّيهَا؛ لِمَا فِيهِ مِنْ مُحَادَثَةِ الرِّجَال، وَمَبْنَى أَمْرِهِنَّ عَلَى السِّتْرِ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَلَوْ قَضَتْ فِي حَدٍّ وَقَوَدٍ فَرُفِعَ إِلَى قَاضٍ آخَرَ يَرَى جَوَازَهُ، فَأَمْضَاهُ لَيْسَ لِغَيْرِهِ إِبْطَالُهُ. (2)
وَحُكِيَ عَنْ ابْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ أَنَّهُ لاَ تُشْتَرَطُ الذُّكُورِيَّةُ فِي الْقَاضِي؛ لأَِنَّ الْمَرْأَةَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُفْتِيَةً، فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ قَاضِيَةً.
وَمِنَ الْوِلاَيَاتِ الَّتِي يَصِحُّ أَنْ تُسْنَدَ إِلَى الأُْنْثَى: الشَّهَادَةُ وَالْوِصَايَةُ وَنِظَارَةُ الْوَقْفِ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: تَصْلُحُ الْمَرْأَةُ نَاظِرَةً لِوَقْفٍ وَوَصِيَّةً لِيَتِيمٍ وَشَاهِدَةً، فَصَحَّ تَقْرِيرُهَا فِي النَّظَرِ وَالشَّهَادَةِ فِي الأَْوْقَافِ. (3)
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ إِلَى الْمَرْأَةِ فِي قَوْل أَكْثَرِ أَهْل الْعِلْمِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ شُرَيْحٍ، وَبِهِ قَال مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالأَْوْزَاعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَالشَّافِعِيُّ
__________
(1) الفروق للقرافي 2 / 158 الفرق 96، وص 113، والأحكام السلطانية للماوردي ص 65.
(2) المغني 9 / 39، والتبصرة بهامش فتح العلي 1 / 24، والاختيار 2 / 84، وابن عابدين 4 / 356.
(3) ابن عابدين 4 / 356.(7/93)
وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَوْصَى إِلَى حَفْصَةَ، وَلأَِنَّهَا مِنْ أَهْل الشَّهَادَةِ فَأَشْبَهَتِ الرَّجُل. (1)
قَال الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ: أُمُّ الأَْطْفَال أَوْلَى مِنْ غَيْرِهَا مِنَ النِّسَاءِ عِنْدَ اجْتِمَاعِ الشُّرُوطِ؛ لِوُفُورِ شَفَقَتِهَا وَخُرُوجِهَا مِنْ خِلاَفِ الإِْصْطَخْرِيِّ، فَإِنَّهُ يَرَى أَنَّهَا تَلِي بَعْدَ الأَْبِ وَالْجَدِّ، وَكَذَا هِيَ أَوْلَى مِنَ الرِّجَال أَيْضًا لِمَا ذُكِرَ، إِذَا كَانَ فِيهَا مَا فِيهِمْ مِنَ الْكِفَايَةِ وَالاِسْتِرْبَاحِ وَنَحْوِهِمَا، وَإِلاَّ فَلاَ، قَال الأَْذْرَعِيُّ: وَكَمْ مِنْ مُحِبٍّ مُشْفِقٍ لاَ يَقْدِرُ عَلَى تَحْصِيل الأَْرْبَاحِ وَالْمَصَالِحِ التَّامَّةِ لِمَنْ يَلِي أَمْرَهُ. (2)
هَذَا، وَشَهَادَتُهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ تَكُونُ فِي الأَْمْوَال وَتَوَابِعِهَا فَقَطْ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ تَكُونُ فِيمَا عَدَا الْقَوَدَ وَالْحُدُودَ، وَشَهَادَتُهَا عَلَى النِّصْفِ مِنْ شَهَادَةِ الرَّجُل لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} (3) وَتُقْبَل شَهَادَتُهَا دُونَ الرِّجَال فِيمَا لاَ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَال. (4) وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (شَهَادَةٍ) .
وَالْوِلاَيَةُ عَلَى مَال الصَّغِيرِ تَكُونُ لِلذُّكُورِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ؛ لأَِنَّ الْوِلاَيَةَ ثَبَتَتْ بِالشَّرْعِ، فَلَمْ تَثْبُتْ لِلأُْنْثَى، لَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يُوصِيَ إِلَيْهَا، فَتَصِيرَ وَصِيَّةً بِالإِْيصَاءِ. وَفِي رَأْيِ الإِْصْطَخْرِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ خِلاَفُ الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ، وَقَوْل الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى، وَابْنِ تَيْمِيَّةَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّ
__________
(1) المغني 6 / 137.
(2) مغني المحتاج 3 / 75.
(3) سورة البقرة / 282.
(4) ابن عابدين 4 / 372، والمغني 9 / 151 - 156، والفواكه الداوني 2 / 304.(7/93)
الأُْمَّ تَكُونُ لَهَا الْوِلاَيَةُ بَعْدَ الأَْبِ وَالْجَدِّ؛ لأَِنَّهَا أَحَدُ الأَْبَوَيْنِ، وَأَكْثَرُ شَفَقَةً عَلَى الاِبْنِ.
وَلاَ وِلاَيَةَ لِلأُْنْثَى كَذَلِكَ فِي النِّكَاحِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ؛ لأَِنَّ الْمَرْأَةَ لاَ تَمْلِكُ تَزْوِيجَ نَفْسِهَا وَلاَ غَيْرِهَا؛ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تُنْكِحُ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ، وَلاَ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا (1) . وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ وَالْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ، وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّ الْمَرْأَةَ يَجُوزُ أَنْ تُزَوِّجَ نَفْسَهَا، وَأَنْ تُزَوِّجَ غَيْرَهَا بِالْوِلاَيَاتِ أَوِ الْوَكَالَةِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ} (2) فَأَضَافَ النِّكَاحَ وَالْفِعْل إِلَيْهِنَّ، وَذَلِكَ يَدُل عَلَى صِحَّةِ عِبَارَتِهِنَّ وَنَفَاذِهَا؛ لأَِنَّهُ أَضَافَهُ إِلَيْهِنَّ عَلَى سَبِيل الاِسْتِقْلاَل، إِذْ لَمْ يَذْكُرْ مَعَهَا غَيْرَهَا، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً زَوَّجَتْ بِنْتَهَا بِرِضَاهَا، فَجَاءَ الأَْوْلِيَاءُ وَخَاصَمُوهَا إِلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، فَأَجَازَ النِّكَاحَ. وَهَذَا دَلِيل الاِنْعِقَادِ بِعِبَارَةِ النِّسَاءِ، وَأَنَّهُ أَجَازَ النِّكَاحَ بِغَيْرِ وَلِيٍّ؛ لأَِنَّهُمْ كَانُوا غَائِبِينَ؛ لأَِنَّهَا تَصَرَّفَتْ فِي خَالِصِ حَقِّهَا، وَلاَ ضَرَرَ فِيهِ لِغَيْرِهَا، فَيَنْفُذُ، كَتَصَرُّفِهَا فِي مَالِهَا، وَالْوِلاَيَةُ فِي النِّكَاحِ أَسْرَعُ ثُبُوتًا مِنْهَا فِي الْمَال؛ وَلأَِنَّ النِّكَاحَ خَالِصُ حَقِّهَا، حَتَّى يُجْبَرَ الْوَلِيُّ عَلَيْهِ عِنْدَ طَلَبِهَا، وَهِيَ أَهْلٌ لاِسْتِيفَاءِ حُقُوقِهَا. (3) وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي (نِكَاحٍ) .
__________
(1) حديث: " لا تنكح المرأة المرأة ولا المرأة نفسها ". أخرجه الدارقطني (3 / 277 - ط دار المحاسن) وإسناده حسن.
(2) سورة البقرة / 240.
(3) ابن عابدين 1 / 311، 312، والاختيار 3 / 90، 91، ومنح الجليل 2 / 24، ومغني المحتاج 2 / 173، ونهاية المحتاج 4 / 363، والمهذب 1 / 335، و 2 / 36، والمقنع 2 / 141، ونيل المآرب 1 / 400، 401، والمغني 6 / 465.(7/94)
مَا يَتَّصِل بِالْمَرْأَةِ مِنْ أَحْكَامِ الْجِنَايَاتِ:
31 - يَرَى عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لاَ فَرْقَ بَيْنَ الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ فِي أَحْكَامِ الْقِصَاصِ فِي الْجُمْلَةِ، فَالأُْنْثَى تُقْتَل بِالذَّكَرِ، وَالذَّكَرُ يُقْتَل بِالأُْنْثَى. (1) وَأَمَّا الدِّيَاتُ، فَبَعْضُ الْفُقَهَاءِ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ دِيَةَ الْمَرْأَةِ نِصْفُ دِيَةِ الرَّجُل. (2)
وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي (دِيَةٌ) .
أُنْثَى الْحَيَوَانِ
32 - تَخْتَصُّ أُنْثَى الْحَيَوَانِ بِأَحْكَامٍ مُجْمَلُهَا فِيمَا يَلِي:
أ - زَكَاةُ الإِْبِل:
الأَْصْل فِيمَا يُؤْخَذُ فِي زَكَاةِ الإِْبِل الإِْنَاثُ، وَيَجُوزُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَخْذُ ابْنِ اللَّبُونِ بَدَلاً مِنْ بِنْتِ الْمَخَاضِ عِنْدَ فَقْدِهَا، أَوْ عِنْدَ وُجُودِهَا إِنْ كَانَتْ مَعِيبَةً، وَأَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَإِنَّ الذُّكُورَ لاَ تُجْزِئُ فِي زَكَاةِ الإِْبِل إِلاَّ بِقِيمَةِ الإِْنَاثِ. هَذَا بِخِلاَفِ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ، فَإِنَّ الْمَالِكَ يُخَيَّرُ. (3) هَذَا، وَالتَّفْصِيل مَحَلُّهُ مُصْطَلَحُ (زَكَاةٍ) .
ب - فِي الأُْضْحِيَّةِ:
ذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ كَمَا فِي الأَْشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ لِلسُّيُوطِيِّ
__________
(1) البدائع 7 / 237، 310، والاختيار 5 / 27، ومنح الجليل 4 / 350، والمهذب 2 / 174، والمغني 7 / 679 ط الرياض.
(2) البدائع 7 / 254، والكافي لابن عبد البر 2 / 1109، 1110، والمهذب 2 / 198، والمغني 7 / 797، 798.
(3) ابن عابدين 2 / 16 - 18 ط المصرية، وجواهر الإكليل 1 / 119 ط دار المعرفة، ونهاية المحتاج 3 / 48 ط المكتبة الإسلامية، وكشاف القناع 2 / 185.(7/94)
أَنَّ التَّضْحِيَةَ بِالذَّكَرِ أَوْلَى مِنَ التَّضْحِيَةِ بِالأُْنْثَى فِي الْمَشْهُورِ (1) .
وَالتَّفْصِيل مَحَلُّهُ مُصْطَلَحُ (أُضْحِيَّةٍ) .
ج - الدِّيَةُ:
الدِّيَةُ الْمُغَلَّظَةُ إِذَا كَانَتْ مِنَ الإِْبِل فَكُلُّهَا مِنَ الإِْنَاثِ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ، وَكَذَا الدِّيَةُ الْمُخَفَّفَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَيَجُوزُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ دُخُول الذُّكُورِ فِي الدِّيَةِ الْمُخَفَّفَةِ (2) .
وَالتَّفْصِيل مَحَلُّهُ مُصْطَلَحُ (دِيَةٌ) .
إِهَابٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْهَابُ فِي اللُّغَةِ: الْجِلْدُ مِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالْوَحْشِ مَا لَمْ يُدْبَغْ. (3)
وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ جِلْدَ الإِْنْسَانِ لاَ يُسَمَّى إِهَابًا.
وَيُطْلِقُ الْفُقَهَاءُ الإِْهَابَ عَلَى مَا يُطْلِقُهُ عَلَيْهِ أَهْل اللُّغَةِ. قَال فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ: الإِْهَابُ: اسْمٌ لِغَيْرِ الْمَدْبُوغِ مِنَ الْجِلْدِ. (4)
وَالْجِلْدُ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَدْبُوغًا أَوْ غَيْرَ
__________
(1) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 238 ط الحلبي.
(2) ابن عابدين 5 / 368 ط المصرية، وجواهر الإكليل 2 / 265 ط دار المعرفة، والروضة 9 / 255 ط المكتب الإسلامي، وكشاف القناع 6 / 19.
(3) لسان العرب والمصباح المنير.
(4) فتح القدير 1 / 65، طبع بولاق، والنهاية في غريب الحديث، وعمدة القارئ 21 / 133، الطبعة المنيرية.(7/95)
مَدْبُوغٍ. وَاسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ الْجِلْدَ لِمَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ جِلْدِ الْحَيَوَانِ، فَيَشْمَل جِلْدَ الإِْنْسَانِ (1) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالإِْهَابِ:
أ - جِلْدُ الْمُذَكَّى ذَكَاةً شَرْعِيَّةً:
2 - الْحَيَوَانَاتُ عَلَى نَوْعَيْنِ: حَيَوَانَاتٌ مَأْكُولَةُ اللَّحْمِ، وَحَيَوَانَاتٌ غَيْرُ مَأْكُولَةِ اللَّحْمِ. فَالْحَيَوَانَاتُ مَأْكُولَةُ اللَّحْمِ إِذَا ذُبِحَتِ الذَّبْحَ الشَّرْعِيَّ كَانَ جِلْدُهَا طَاهِرًا بِالاِتِّفَاقِ، وَإِنْ لَمْ يُدْبَغْ.
أَمَّا الْحَيَوَانَاتُ غَيْرُ الْمَأْكُولَةِ اللَّحْمِ فَهِيَ عَلَى نَوْعَيْنِ أَيْضًا: نَجِسَةٌ فِي حَال الْحَيَاةِ، وَطَاهِرَةٌ.
أَمَّا نَجِسَةُ الْعَيْنِ، وَهِيَ الْخِنْزِيرُ بِالاِتِّفَاقِ، وَالْكَلْبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، فَإِنَّ الذَّكَاةَ لاَ تُطَهِّرُ جِلْدَهَا.
وَأَمَّا غَيْرُ نَجِسَةِ الْعَيْنِ مِمَّا لاَ يُؤْكَل لَحْمُهُ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَطْهِيرِ إِهَابِهَا بِالذَّكَاةِ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَطْهُرُ بِالذَّبْحِ، وَحُجَّةُ هَؤُلاَءِ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ افْتِرَاشِ جُلُودِ السِّبَاعِ (2) وَرُكُوبِ النُّمُورِ (3) . وَهُوَ عَامٌّ فِي الْمُذَكَّى وَغَيْرِهِ؛ وَلأَِنَّهُ ذَبْحٌ لاَ يُطَهِّرُ اللَّحْمَ فَلَمْ يُطَهِّرِ الْجِلْدَ،
__________
(1) المصباح المنير، وانظر لسان العرب، ومفردات الراغب الأصفهاني مادة: (جلد) .
(2) حديث: " نهى عن جلود السباع. . . . " أخرجه أحمد (5 / 74، 75 ط المكتب الإسلامي) ، وأبو داود في اللباس (4 / 374 / 4132 ط الدعاس) ، والحاكم في الطهارة (1 / 144 ط الكتاب العربي) وصحح إسناده ووافقه الذهبي.
(3) حديث: " نهى عن ركوب النمار. . . . " أخرجه أبو داود في الخاتم (4 / 437 / 4239) ط عزت الدعاس، وابن ماجه في اللباس (2 / 1205 / 3656) وصححه الشوكاني في النيل (2 / 88) .(7/95)
كَذَبْحِ الْمَجُوسِيِّ أَوْ أَيِّ ذَبْحٍ غَيْرِ مَشْرُوعٍ، فَأَشْبَهَ الأَْصْل، ثُمَّ إِنَّ الدَّبْغَ إِنَّمَا يُؤَثِّرُ فِي مَأْكُول اللَّحْمِ فَكَذَلِكَ مَا شُبِّهَ بِهِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى طَهَارَةِ الإِْهَابِ بِالذَّكَاةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَاسْتَدَل هَؤُلاَءِ بِقَوْل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دِبَاغُ الأَْدِيمِ ذَكَاتُهُ (1) ؛ وَلأَِنَّ الذَّكَاةَ تَعْمَل عَمَل الدِّبَاغِ فِي إِزَالَةِ الرُّطُوبَاتِ النَّجِسَةِ، أَمَّا النَّهْيُ عَنِ افْتِرَاشِ جُلُودِ السِّبَاعِ وَرُكُوبِ النُّمُورِ فَلأَِنَّ ذَلِكَ مَرَاكِبُ أَهْل الْخُيَلاَءِ، أَوْ لأَِنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَعْمِلُونَهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ تُدْبَغَ. (2)
وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ إِهَابَ الْحَيَوَانِ الَّذِي لاَ يَحْتَمِل الدِّبَاغَةَ، كَإِهَابِ الْفَأْرَةِ، وَإِهَابِ الْحَيَّةِ الصَّغِيرَةِ - لاَ ثَوْبَهَا - فَإِنَّهُ لاَ تُطَهِّرُهُ الذَّكَاةُ. (3)
ب - إِهَابُ الْمَيْتَةِ:
3 - إِهَابُ الْمَيْتَةِ نَجَسٌ بِلاَ خِلاَفٍ، (4) وَلاَ يَجُوزُ الاِنْتِفَاعُ بِهِ قَبْل الدِّبَاغِ بِالاِتِّفَاقِ، إِلاَّ مَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ مِنْ جَوَازِ الاِنْتِفَاعِ بِجُلُودِ الْمَيْتَةِ قَبْل الدِّبَاغِ، (5) فَإِذَا دُبِغَ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ
__________
(1) حديث: " دباغ الأديم ذكاته " أخرجه أحمد (3 / 476) ط المكتب الإسلامي، والحاكم في الأشربة 1 / 141) ط دار الكتاب العربي. وقال: وهذا حديث صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي. وقال الحافظ ابن حجر في تلخيص الحبير (1 / 49) : إسناده صحيح.
(2) نيل الأوطار 1 / 75 طبع مصطفى البابي الحلبي.
(3) فتح القدير 1 / 66، وحاشية ابن عابدين 1 / 136 وما بعدها، طبعة بولاق الأولى، والمغني 1 / 71، وما بعدها، ومواهب الجليل 1 / 88، نشر دار الفكر في بيروت، والإفصاح لابن هبيرة 1 / 15، وأسنى المطالب 1 / 17.
(4) المغني 1 / 66.
(5) عمدة القارئ 21 / 133.(7/96)
فِي طَهَارَتِهِ بَعْدَ الدِّبَاغِ عَلَى اتِّجَاهَاتٍ.
4 - الاِتِّجَاهُ الأَْوَّل: أَنَّهُ لاَ يَطْهُرُ شَيْءٌ مِنَ الْجُلُودِ بِالدِّبَاغَةِ، وَهُوَ أَشْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنِ الإِْمَامِ مَالِكٍ، قَال النَّوَوِيُّ: وَرُوِيَ هَذَا الْقَوْل عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - وَلَيْسَ بِمُحَرَّرٍ عَنْهُ كَمَا حَقَّقْنَاهُ - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَعَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، وَاسْتَدَل هَؤُلاَءِ بِمَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُكَيْمٍ مِنْ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال قَبْل مَوْتِهِ بِشَهْرٍ: لاَ تَنْتَفِعُوا مِنَ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلاَ عَصَبٍ. (1)
5 - الاِتِّجَاهُ الثَّانِي: أَنَّ جُلُودَ الْمَيْتَةِ كُلِّهَا - وَمِنْهَا الْكَلْبُ وَالْخِنْزِيرُ - تَطْهُرُ بِالدِّبَاغَةِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَهَذَا الْمَذْهَبُ مَرْوِيٌّ عَنِ الإِْمَامِ أَبِي يُوسُفَ صَاحِبِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَنَصَرَهُ الشَّوْكَانِيُّ فِي نَيْل الأَْوْطَارِ، وَاسْتَدَل هَؤُلاَءِ بِعُمُومِ الأَْحَادِيثِ، إِذْ أَنَّ الأَْحَادِيثَ لَمْ تُفَرِّقْ بَيْنَ خِنْزِيرٍ وَغَيْرِهِ.
6 - الاِتِّجَاهُ الثَّالِثُ: يَطْهُرُ بِالدِّبَاغَةِ جُلُودُ جَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ الْمَيِّتَةِ إِلاَّ الْخِنْزِيرَ، وَيَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ ظَاهِرُ الْجِلْدِ وَبَاطِنُهُ، وَيَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي الأَْشْيَاءِ الْيَابِسَةِ وَالْمَائِعَةِ، وَلاَ فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ مَأْكُول اللَّحْمِ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَاحْتَجُّوا لِذَلِكَ بِقَوْل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا دُبِغَ الإِْهَابُ فَقَدْ طَهُرَ (2) ، وَأَمَّا اسْتِثْنَاءُ الْخِنْزِيرِ فَقَدْ كَانَ بِقَوْلِهِ
__________
(1) حديث: " أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب. . . . " أخرجه أبو داود في الفروع (7 / 175) ط الحلبي، وضعفه الحافظ ابن حجر في تلخيص الحبير (1 / 48) .
(2) حديث: " إذا دبغ الإهاب فقد طهر. . . " أخرجه مسلم في الحيض (1 / 277 / 366) ط البابي الحلبي.(7/96)
تَعَالَى: {أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} (1) حَيْثُ جَعَلُوا الضَّمِيرَ فِي (إِنَّهُ) عَائِدًا إِلَى الْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَهُوَ كَلِمَةُ (خِنْزِيرٍ) .
7 - الاِتِّجَاهُ الرَّابِعُ: كَالثَّالِثِ، إِلاَّ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ الدِّبَاغَةَ لاَ تُطَهِّرُ جِلْدَ الْخِنْزِيرِ وَالْكَلْبِ، حَيْثُ قَاسُوا الْكَلْبَ عَلَى الْخِنْزِيرِ لِلنَّجَاسَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، وَحَكَاهُ النَّوَوِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ.
8 - الاِتِّجَاهُ الْخَامِسُ: كَالثَّالِثِ إِلاَّ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ الدِّبَاغَةَ لاَ تُطَهِّرُ جِلْدَ الْخِنْزِيرِ وَالْكَلْبِ وَالْفِيل، وَهُوَ قَوْل الإِْمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ صَاحِبِ أَبِي حَنِيفَةَ.
9 - الاِتِّجَاهُ السَّادِسُ: يَطْهُرُ بِالدِّبَاغَةِ جِلْدُ مَأْكُول اللَّحْمِ وَلاَ يَطْهُرُ غَيْرُهُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الأَْوْزَاعِيِّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ وَأَبِي ثَوْرٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ، وَاسْتَدَل هَؤُلاَءِ بِقَوْل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الأُْهُبِ دِبَاغُهَا ذَكَاتُهَا (2) أَيْ كَذَكَاتِهَا (وَالذَّكَاةُ) الْمُشَبَّهُ بِهَا فِي الْحَدِيثِ لاَ يَحِل بِهَا غَيْرُ الْمَأْكُول، فَكَذَلِكَ (الدِّبَاغُ) الْمُشَبَّهُ لاَ يُطَهِّرُ جِلْدَ غَيْرِ الْمَأْكُول.
10 - الاِتِّجَاهُ السَّابِعُ: يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ ظَاهِرُ جِلْدِ الْمَيْتَةِ دُونَ بَاطِنِهِ، وَعَلَى هَذَا فَإِنَّهُ يَحِل الاِنْتِفَاعُ بِهِ فِي الأَْشْيَاءِ الْيَابِسَةِ دُونَ الْمَائِعَةِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الإِْمَامِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَشَبِيهٌ بِهَذَا الاِتِّجَاهِ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهِيَ جَوَازُ الاِنْتِفَاعِ بِجِلْدِ الْمَيْتَةِ الْمَدْبُوغِ فِي الْيَابِسَاتِ. (3)
__________
(1) سورة الأنعام / 145.
(2) حديث: " دباغها ذكاتها. . . . " أخرجه أحمد (3 / 476) ط المكتب الإسلامي، قال الحافظ ابن حجر في تلخيص الحبير (1 / 49) : إسناده صحيح.
(3) عمدة القارئ 21 / 133، وشرح النووي لصحيح مسلم 4 / 54 طبع المطبعة المصرية، ونيل الأوطار 1 / 77 طبع مصطفى البابي الحلبي، والإفصاح 1 / 51، ومشكل الآثار 1 / 71، ومصنف عبد الرزاق 1 / 77 طبع المكتب الإسلامي في بيروت، وحاشية ابن عابدين 1 / 136، وفتح القدير 1 / 63، وبدائع الصنائع 1 / 270، طبع مطبعة الإمام وما بعدها، وآثار أبي يوسف 231، والتاج والإكليل بهامش مواهب الجليل 1 / 101، والشرح الصغير 1 / 52، وأسنى المطالب 1 / 18، وحاشية قليوبي 1 / 18، والمغني 1 / 66، وما بعدها، والمجموع شرح المهذب 1 / 214 وما بعدها نشر المكتبة السلفية في المدينة المنورة.(7/97)
ذَبْحُ الْحَيَوَانِ غَيْرِ الْمَأْكُول مِنْ أَجْل إِهَابِهِ:
11 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حِل ذَبْحِ أَوْ صَيْدِ غَيْرِ مَأْكُول اللَّحْمِ مِنْ أَجْل الاِنْتِفَاعِ بِجِلْدِهِ أَوْ شَعْرِهِ أَوْ رِيشِهِ.
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى تَحْرِيمِ ذَبْحِ مَا لاَ يُؤْكَل، كَبَغْلٍ وَحِمَارٍ لِلاِنْتِفَاعِ بِجِلْدِهِ (1) ؛ لِلنَّهْيِ عَنْ ذَبْحِ الْحَيَوَانِ إِلاَّ لِمَأْكَلَةٍ. (2)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى حِل اصْطِيَادِ مَا لاَ يُؤْكَل لَحْمُهُ؛ لِمَنْفَعَةِ جِلْدِهِ أَوْ شَعْرِهِ أَوْ رِيشِهِ؛ لأَِنَّ الاِنْتِفَاعَ غَايَةٌ مَشْرُوعَةٌ. (3) وَهُوَ مَا يُفْهَمُ مِنْ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ فِي اعْتِبَارِ الْمَنْفَعَةِ مُسَوِّغًا لِذَكَاةِ مَا لاَ يُؤْكَل. (4) وَلَمْ نَعْثُرْ عَلَى مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ فِي ذَلِكَ.
بَيْعُ الْحَيَوَانِ مِنْ أَجْل إِهَابِهِ:
12 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ بَيْعِ الْحَيَوَانِ الَّذِي
__________
(1) أسنى المطالب 1 / 18.
(2) النهي عن ذبح الحيوان. . . . . أصله حديث: " ما من إنسان يقتل عصفورا فما فوقها بغير حقها، إلا سأله الله عز وجل عنها. قيل: يا رسول الله وما حقها؟ قال: يذبحها فيأكلها، ولا يقطع رأسها فيرمي بها ". أخرجه النسائي في الصيد (7 / 207) وضعفه الحافظ ابن حجر في تلخيص الحبير (4 / 154) لأن في سنده صهيب مولى ابن عامر ونقل عن ابن القطان تضعيفه.
(3) حاشية ابن عابدين 5 / 305.
(4) الدسوقي 2 / 108.(7/97)
لاَ يُنْتَفَعُ بِهِ حَيًّا مِنْ أَجْل إِهَابِهِ، فَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَفِي ذَلِكَ يَقُول الْقَاضِي زَكَرِيَّا الأَْنْصَارِيُّ: بَيْعُ غَيْرِ الْجَوَارِحِ الْمُعَلَّمَةِ كَالأَْسَدِ وَالذِّئْبِ بَاطِلٌ، وَلاَ نَظَرَ لِمَنْفَعَةِ الْجِلْدِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَلاَ لِمَنْفَعَةِ الرِّيشِ. (1)
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ لاَ يُبِيحُونَ ذَبْحَ الْحَيَوَانِ مِنْ أَجْل جِلْدِهِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ: يَجُوزُ بَيْعُ الْحَيَوَانِ الَّذِي لاَ يُنْتَفَعُ بِهِ حَيًّا، كَالسَّبُعِ غَيْرِ الْمُعَلَّمِ وَالْهِرِّ وَنَحْوِهِ لِلْجِلْدِ (2) ؛ لأَِنَّهُمُ اعْتَبَرُوا الاِنْتِفَاعَ بِالْجِلْدِ مَنْفَعَةً مَشْرُوعَةً مَقْصُودَةً، فَصَارَ الْحَيَوَانُ مُنْتَفَعًا بِهِ، فَيَجُوزُ بَيْعُهُ.
سَلْخُ إِهَابِ الذَّبِيحَةِ:
13 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى كَرَاهَةِ سَلْخِ إِهَابِ الذَّبِيحَةِ قَبْل زَهُوقِ رُوحِهَا؛ لِنَهْيِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ، فَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ بُدَيْل بْنُ وَرْقَاءَ الْخُزَاعِيُّ عَلَى جَمَلٍ أَوْرَقَ، يَصِيحُ فِي فِجَاجِ مِنًى: لاَ تُعَجِّلُوا الأَْنْفُسَ أَنْ تُزْهَقَ (3) . وَلِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ زِيَادَةِ أَلَمِ الْحَيَوَانِ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ إِحْسَانِ الذِّبْحَةِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ (4) . فَإِنْ سَلَخَ إِهَابَهَا
__________
(1) أسنى المطالب 2 / 10.
(2) الشرح الصغير 3 / 24، وطبع كشاف القناع 3 / 156، وابن عابدين 4 / 7 ط بولاق.
(3) حديث: " ألا ولا تعجلوا الأنفس أن تزهق. . . . " أخرجه الدارقطني في الصيد (4 / 283 / 45) ط دار المحاسن. وقد نوه بضعفه البيهقي في الضحايا (9 / 278) .
(4) حديث: " وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح. . . . ". أخرجه مسلم في الصيد (3 / 1548 / 1955) ط الحلبي، والترمذي في الديات (4 / 23 / 1409) ط أحمد شاكر.(7/98)
قَبْل أَنْ تُزْهَقَ رُوحُهَا فَقَدْ أَسَاءَ، وَجَازَ أَكْلُهَا؛ لأَِنَّ زِيَادَةَ أَلَمِهَا لاَ تَقْتَضِي تَحْرِيمَ أَكْلِهَا (1) .
بَيْعُ إِهَابِ الأُْضْحِيَّةِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ:
14 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَنْ يَدْفَعَ الإِْهَابَ وَلاَ شَيْءَ مِنَ الأُْضْحِيَّةِ إِلَى الْجَزَّارِ أُجْرَةً لَهُ عَلَى ذَبْحِهَا.
وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ بَيْعِ جِلْدِ الأُْضْحِيَّةِ.
فَذَهَبَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الأَْوْزَاعِيِّ إِلَى جَوَازِ بَيْعِهِ مُقَايَضَةً بِآلَةِ الْبَيْتِ كَالْغِرْبَال وَالْمُنْخُل وَنَحْوِ ذَلِكَ، مِمَّا تَبْقَى عَيْنُهُ دُونَ مَا يُسْتَهْلَكُ؛ لأَِنَّهُ يَنْتَفِعُ بِهِ هُوَ وَغَيْرُهُ، فَجَرَى مَجْرَى تَفْرِيقِ اللَّحْمِ، فَإِنْ بَاعَهُ بِدَرَاهِمَ كُرِهَ لَهُ ذَلِكَ وَجَازَ، إِلاَّ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِالثَّمَنِ فَلاَ يُكْرَهُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ خَاصَّةً، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ.
وَذَهَبَ الأَْئِمَّةُ الثَّلاَثَةُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ بَيْعُ إِهَابِ الأُْضْحِيَّةِ مُطْلَقًا لاَ بِآلَةِ الْبَيْتِ وَلاَ بِغَيْرِهَا. (2)
أَمَّا الْكَلاَمُ عَنْ دِبَاغِ الإِْهَابِ فَيُنْظَرُ فِي (دِبَاغَةٌ) .
__________
(1) شرح الزرقاني على خليل 3 / 17، وأسنى المطالب 1 / 554، وتبيين الحقائق شرح كنز الدقائق 5 / 292 نشر دار المعرفة في بيروت، كشاف القناع 6 / 211.
(2) الإفصاح 1 / 203، وما بعدها، والمغني 8 / 634 وما بعدها، وابن عابدين 5 / 208، وأسنى المطالب 1 / 546.(7/98)
إِهَانَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْهَانَةُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ أَهَانَ، وَأَصْل الْفِعْل هَانَ بِمَعْنَى ذَل وَحَقُرَ، وَفِيهِ مَهَانَةٌ أَيْ: ذُلٌّ وَضَعْفٌ، وَالإِْهَانَةُ مِنْ صُوَرِ الاِسْتِهْزَاءِ وَالاِسْتِخْفَافِ (1) .
وَقَدْ سَبَقَ الْكَلاَمُ عَنِ الاِسْتِخْفَافِ فِي مُصْطَلَحِهِ (ج 3 248) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - الإِْهَانَةُ تُعْتَبَرُ مَدْلُولاً لِبَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ الْقَوْلِيَّةِ كَالسَّبِّ وَالشَّتْمِ، أَوِ الْفِعْلِيَّةِ كَالضَّرْبِ وَمَا شَابَهَهُ مِمَّا يُعْتَبَرُ إِهَانَةً، وَهِيَ تَرِدُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ بِاعْتِبَارَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ:
الأَْوَّل: بِاعْتِبَارِ أَنَّ الإِْهَانَةَ مَدْلُولٌ لِتَصَرُّفَاتٍ تَسْتَوْجِبُ الْعُقُوبَةَ.
3 - وَبِذَلِكَ تَكُونُ الإِْهَانَةُ أَمْرًا غَيْرَ مَشْرُوعٍ، وَيَكُونُ الْحُكْمُ بِحَسَبِ قَدْرِ الْمُهَانِ، وَبِحَسَبِ عِظَمِ الإِْهَانَةِ وَصِغَرِهَا.
فَالإِْهَانَةُ الَّتِي تَلْحَقُ بِالْعَقِيدَةِ وَالشَّرِيعَةِ كَالسُّجُودِ لِصَنَمٍ، أَوْ إِلْقَاءِ مُصْحَفٍ فِي قَاذُورَةٍ، أَوْ كِتَابَتِهِ بِنَجَسٍ، أَوْ سَبِّ الأَْنْبِيَاءِ وَالْمَلاَئِكَةِ، أَوْ تَحْقِيرِ
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير.(7/99)
شَيْءٍ مِمَّا عُلِمَ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ تُعْتَبَرُ كُفْرًا. (1) (ر: رِدَّةٌ - اسْتِخْفَافٌ) .
وَالإِْهَانَةُ الَّتِي تَلْحَقُ بِالنَّاسِ بِغَيْرِ حَقٍّ مِنْ سَبٍّ وَشَتْمٍ وَضَرْبٍ، تُعْتَبَرُ مَعْصِيَةً. (2) (ر: قَذْفٌ، تَعْزِيرٌ، اسْتِخْفَافٌ) .
عَلَى أَنَّ مِنَ الأَْفْعَال مَا يَكُونُ فِي ظَاهِرِهِ إِهَانَةً، لَكِنِ الْقَصْدُ أَوِ الضَّرُورَةُ أَوِ الْقَرَائِنُ تُبْعِدُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَالْبُصَاقُ عَلَى اللَّوْحِ لاَ يُعْتَبَرُ إِهَانَةً، إِذَا قَصَدَ بِهِ الإِْعَانَةَ عَلَى مَحْوِ الْكِتَابَةِ. (3)
وَلَوْ أَشْرَفَتْ سَفِينَةٌ عَلَى الْغَرَقِ، وَاحْتِيجَ إِلَى إِلْقَاءِ حِمْلٍ مِنَ الْمَصَاحِفِ مَثَلاً جَازَ ذَلِكَ؛ لأَِنَّ حِفْظَ الرُّوحِ مُقَدَّمٌ، وَالضَّرُورَةُ تَمْنَعُ كَوْنَهُ امْتِهَانًا. (4)
الاِعْتِبَارُ الثَّانِي: بِمَعْنَى الْعُقُوبَةِ:
4 - فَتَكُونُ الإِْهَانَةُ عُقُوبَةً مُقَرَّرَةً، سَوَاءٌ أَكَانَتْ بِالْقَوْل أَمْ بِالْفِعْل.
فَأَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنَ الْكُفَّارِ تَكُونُ مَعَ الإِْهَانَةِ لَهُمْ. (5) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (6) .
وَكَإِهَانَةِ مَنْ يَعْتَدِي عَلَى غَيْرِهِ بِشَتْمٍ مَثَلاً، جَاءَ
__________
(1) الحطاب وبهامشه المواق 6 / 285 - 289 ط النجاح ليبيا، ونهاية المحتاج 7 / 396 ط المكتبة الإسلامية، وابن عابدين 3 / 292، 299 وما بعدها، والآداب الشرعية 2 / 297 ط الرياض، ومنتهى الإرادات 1 / 73.
(2) ابن عابدين 3 / 183، 187، 190، 191، والتبصرة بهامش فتح العلي المالك 2 / 307 ط دار المعرفة.
(3) قليوبي 1 / 67 ط الحلبي.
(4) ابن عابدين 1 / 125.
(5) منح الجليل 1 / 759، وقليوبي 4 / 232.
(6) سورة التوبة / 29.(7/99)
فِي مِنَحِ الْجَلِيل: مَنْ شَتَمَ رَجُلاً بِقَوْلِهِ لَهُ: يَا كَلْبُ فَإِنْ قِيل ذَلِكَ لِذِي الْفَضْل وَالْهَيْئَةِ وَالشَّرَفِ عُوقِبَ عُقُوبَةً خَفِيفَةً يُهَانُ بِهَا، وَلاَ يَبْلُغُ بِهِ السَّجْنَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ ذَوِي الْهَيْئَةِ عُوقِبَ بِالتَّوْبِيخِ، وَلاَ يَبْلُغُ بِهِ الإِْهَانَةَ وَلاَ السَّجْنَ.
وَكَإِهَانَةِ الاِبْنِ وَالتِّلْمِيذِ لِلتَّأْدِيبِ وَالتَّعْلِيمِ. (1)
وَتَخْتَلِفُ الإِْهَانَةُ كَعُقُوبَةٍ بِاخْتِلاَفِ مِقْدَارِ الإِْهَانَةِ كَعُدْوَانٍ، وَبِاخْتِلاَفِ قَدْرِ الْمُهَانِ. (2)
وَلِلإِْهَانَةِ كَعُقُوبَةٍ مُسَمَّيَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، فَقَدْ تُسَمَّى حَدًّا أَوْ تَعْزِيرًا أَوْ تَأْدِيبًا. (ر: حَدٌّ، تَعْزِيرٌ، تَأْدِيبٌ) .
(مَوَاطِنُ الْبَحْثِ) :
5 - الإِْهَانَةُ هِيَ عُدْوَانٌ مِنْ جَانِبٍ، وَتَأْتِي فِي أَبْوَابِ الرِّدَّةِ وَالْقَذْفِ غَالِبًا، وَهِيَ عُقُوبَةٌ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ، وَتَأْتِي فِي التَّعْزِيرِ، وَالرِّدَّةِ، وَالْقَذْفِ.
وَيُنْظَرُ مَعَ ذَلِكَ بَحْثُ (اسْتِخْفَافٍ، وَامْتِهَانٍ) .
إِهْدَاءٌ
انْظُرْ: هَدِيَّةً
أَهْلٌ
انْظُرْ: آل
__________
(1) منح الجليل 4 / 55، وابن عابدين 3 / 183، 184.
(2) ابن عابدين 3 / 183، 184، والتبصرة 2 / 307، ومنح الجليل 4 / 554.(7/100)
أَهْل الأَْهْوَاءِ
التَّعْرِيفُ:
1 - الأَْهْوَاءُ مُفْرَدُهَا: هَوًى: وَهُوَ مَحَبَّةُ الإِْنْسَانِ الشَّيْءَ وَغَلَبَتُهُ عَلَى قَلْبِهِ. (1)
وَهُوَ فِي الاِصْطِلاَحِ: مَيْل النَّفْسِ إِلَى خِلاَفِ مَا يَقْتَضِيهِ الشَّرْعُ. (2)
وَأَهْل الأَْهْوَاءِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ هُمْ: مَنْ زَاغَ عَنِ الطَّرِيقَةِ الْمُثْلَى مِنْ أَهْل الْقِبْلَةِ كَالْجَبْرِيَّةِ، وَهُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّ الإِْنْسَانَ لاَ كَسْبَ لَهُ وَلاَ اخْتِيَارَ، وَكَالْقَدَرِيَّةِ وَهُمُ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ الْقَدَرَ، وَيَقُولُونَ: إِنَّ الأَْمْرَ أُنُفٌ لَمْ يَسْبِقْ بِهِ عِلْمُ اللَّهِ، وَقَدْ تُسَمَّى الْجَبْرِيَّةُ (قَدَرِيَّةً) لأَِنَّهُمْ غَلَوْا فِي إِثْبَاتِ الْقَدَرِ، وَكَالْمُعَطِّلَةِ وَهُمُ الَّذِينَ يَنْفُونَ صِفَاتِ الْخَالِقِ عَزَّ وَجَل، وَكَالْمُشَبِّهَةِ وَهُمُ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ صِفَاتِهِ تَعَالَى مِنْ جِنْسِ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ، وَنَحْوِهِمْ (3) .
__________
(1) لسان العرب مادة " هوى "، وانظر دستور العلماء 1 / 212 طبع دائرة المعارف النظامية - حيدر آباد.
(2) دستور العلماء. والمغرب للمطرزي مادة " هوى ".
(3) حاشية ابن عابدين 5 / 446 طبع بولاق الأولى، وتعريفات الجرجاني، وتهذيب الأسماء واللغات. والكليات 1 / 357 طبع وزارة الثقافة السورية 1974، ولمعرفة تفصيل ذلك يرجع إلى كتاب الفرق بين الفرق لأبي منصور عبد القاهر بن طاهر البغدادي ص 22 وما بعدها طبع 1367، وشرح العقيدة الطحاوية ص 305، 592.(7/100)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْمُبْتَدِعَةُ:
2 - الْمُبْتَدِعَةُ مَنْ لَهُمْ طَرِيقَةٌ فِي الدِّينِ مُخْتَرَعَةٌ تُضَاهِي الشَّرْعِيَّةَ، يُقْصَدُ بِالسُّلُوكِ عَلَيْهَا مَا يُقْصَدُ بِالطَّرِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ (1) .
ب - الْمَلاَحِدَةُ:
3 - الْمَلاَحِدَةُ وَالزَّنَادِقَةُ وَالدَّهْرِيُّونَ - هُمُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ تَعَالَى وَلاَ بِمُحَمَّدٍ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (2) وَعَلَى هَذَا فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَهْل الأَْهْوَاءِ كَبِيرٌ، إِذْ أَنَّ أَهْل الأَْهْوَاءِ مِنْ جُمْلَةِ الْمُسْلِمِينَ، يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ تَعَالَى وَبِمُحَمَّدٍ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
مُنَاظَرَةُ أَهْل الأَْهْوَاءِ وَكَشْفُ شُبَهِهِمْ:
4 - يَنْبَغِي لِعُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَأْخُذُوا أَهْل الأَْهْوَاءِ بِالْحُجَّةِ، وَيَكْشِفُوا شُبَهَهُمْ، وَيُبَيِّنُوا لَهُمْ فَسَادَ مَذْهَبِهِمْ، وَصِحَّةَ مَذْهَبِ أَهْل السُّنَّةِ؛ لِيَدِينُوا بِالْحَقِّ الَّذِي رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى لِعِبَادِهِ، أَوْ لِيَجْتَنِبَهُمُ الْعَامَّةُ، وَلَيْسَ لِلْعَامَّةِ أَنْ يَنْظُرُوا فِي كُتُبِهِمْ، بَل عَلَيْهِمْ هَجْرُهُمْ، فَقَدْ كَانَ السَّلَفُ يَنْهَوْنَ عَنْ مُجَالَسَةِ أَهْل الْبِدَعِ وَالنَّظَرِ فِي كُتُبِهِمْ وَالاِسْتِمَاعِ لِكَلاَمِهِمْ (3) .
__________
(1) الآداب الشرعية لابن مفلح 1 / 235 طبع مكتبة الرياض الحديثة، والاعتصام للشاطبي 1 / 19 ط مصطفى محمد، وانظر ابن عابدين 1 / 377، ودستور العلماء 1 / 232، والكليات 1 / 422.
(2) ابن عابدين 3 / 296، ودستور العلماء 2 / 296.
(3) فواتح الرحموت 1 / 161، والفتاوى الهندية 5 / 277 طبعة بولاق الثانية سنة 1310، والآداب الشرعية 1 / 237، 263، 268 ط مكتبة الرياض الحديثة.(7/101)
هَجْرُ أَهْل الأَْهْوَاءِ:
5 - الأَْصْل أَنَّهُ يَحْرُمُ هِجْرَانُ الْمُسْلِمِ فَوْقَ ثَلاَثٍ إِلاَّ لِوَجْهٍ شَرْعِيٍّ؛ لِحَدِيثِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَحِل لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ صَاحِبَهُ بِالسَّلاَمِ (1) .
وَقَدِ اعْتَبَرَ السَّلَفُ وَجُمْهُورُ الأَْئِمَّةِ الاِبْتِدَاعَ فِي الْعَقَائِدِ مِنَ الأَْسْبَابِ الْمَشْرُوعَةِ لِلْهَجْرِ، وَأَوْجَبُوا هَجْرَ أَهْل الأَْهْوَاءِ مِنَ الْمُبْتَدِعَةِ، الَّذِينَ يُجَاهِرُونَ بِبِدَعِهِمْ أَوْ يَدْعُونَ إِلَيْهَا. (2)
تَوْبَةُ أَهْل الأَْهْوَاءِ:
أَهْل الأَْهْوَاءِ عَلَى نَوْعَيْنِ:
6 - بَاطِنِيَّةٌ وَغَيْرُ بَاطِنِيَّةٍ: أَمَّا الْبَاطِنِيَّةُ: فَهُمُ الَّذِينَ يُظْهِرُونَ غَيْرَ مَا يُبْطِنُونَ، فَهُمْ يُظْهِرُونَ الصَّوْمَ وَالصَّلاَةَ، وَيُبْطِنُونَ الْقَوْل بِالتَّنَاسُخِ وَحِل الْخَمْرِ وَالزِّنَى، وَالْقَوْل فِي مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا لاَ يَلِيقُ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي قَبُول تَوْبَةِ هَؤُلاَءِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الأَْوَّل: أَنَّهُمْ لاَ تُقْبَل تَوْبَتُهُمْ؛ لأَِنَّ نِحَلَهُمْ تُبِيحُ لَهُمْ أَنْ يُظْهِرُوا غَيْرَ مَا يُبْطِنُونَ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُول: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا} (3) وَهَؤُلاَءِ الْبَاطِنِيَّةُ لاَ تَظْهَرُ مِنْهُمْ عَلاَمَةٌ تُبَيِّنُ رُجُوعَهُمْ وَتَوْبَتَهُمْ؛ لأَِنَّهُمْ كَانُوا مُظْهِرِينَ لِلإِْسْلاَمِ مُسِرِّينَ لِلْكُفْرِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ
__________
(1) حديث: " لا يحل لمسلم. . . . " أخرجه البخاري (10 / 492 ط السلفية) ومسلم (4 / 1984 ط الحلبي) .
(2) الشرح الصغير 4 / 745، 746، والآداب الشرعية 1 / 237، 258، 296، وحاشية قليوبي 3 / 296، وفتاوى ابن تيمية 24 / 174، 175 طبع مطابع الرياض 1382.
(3) سورة البقرة / 160.(7/101)
وَابْنُ عُمَرَ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمُفْتَى بِهِ عِنْدَهُمْ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ وَغَيْرُهُمْ.
الثَّانِي: أَنَّهُمْ تُقْبَل تَوْبَتُهُمْ كَسَائِرِ أَهْل الأَْهْوَاءِ - كَمَا سَيَأْتِي - وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَلَكِنَّهَا لاَ تُقْبَل إِنْ كَانَتْ بَعْدَ أَخْذِهِمْ، كَمَا يَقُول الْحَنَفِيَّةُ. (1)
7 - وَأَمَّا غَيْرُ الْبَاطِنِيَّةِ فَهُمُ الَّذِينَ يَكُونُ سِرُّهُمْ كَعَلاَنِيَتِهِمْ وَنَحْوِهِمْ، وَهَؤُلاَءِ قَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي قَبُول تَوْبَتِهِمْ. فَالْجُمْهُورُ عَلَى قَبُول تَوْبَتِهِمْ، وَإِنِ اشْتَرَطَ الْبَعْضُ كَالْمَرُّوذِيِّ تَأْجِيلَهُمْ سَنَةً حَتَّى يُعْلَمَ إِخْلاَصُهُمْ فِي تَوْبَتِهِمْ، أَخْذًا مِنْ تَصَرُّفِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مَعَ صَبِيغِ بْنِ عَسَلٍ التَّمِيمِيِّ حِينَ انْتَظَرَ بِهِ سَنَةً، فَلَمَّا عَلِمَ صِدْقَ تَوْبَتِهِ عَفَا عَنْهُ.
وَذَهَبَ الْبَعْضُ وَمِنْهُمُ ابْنُ شَاقِلاَ الْحَنْبَلِيُّ إِلَى أَنَّهُ لاَ تُقْبَل تَوْبَتُهُمْ، وَاحْتَجَّ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِل بِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ (2) . وَمَا رَوَى أَبُو حَفْصٍ الْعُكْبَرِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا أَنَّ اللَّهَ احْتَجَزَ التَّوْبَةَ عَلَى صَاحِبِ بِدْعَةٍ (3) .
__________
(1) فتح القدير 4 / 387 طبعة بولاق الأولى سنة 1316، وحاشية ابن عابدين 3 / 297، والفتاوى الهندية 5 / 381، وحاشية قليوبي 4 / 177، وجواهر الإكليل 1 / 256، والمغني 8 / 126، والآداب الشرعية 1 / 125.
(2) حديث: " من سن سنة سيئة. . . " أخرجه مسلم (2 / 704، 705 ط الحلبي) .
(3) الآداب الشرعية 1 / 125. وحديث: " إن الله احتجر التوبة عن صاحب بدعة. . . . ". أخرجه الطبراني في الأوسط، والبيهقي في شعب الإيمان، والضياء في المختارة من حديث أنس رضي الله عنه، وسكت عنه المناوي (فيض القدير 2 / 200 ط المكتبة التجارية) وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح غير هارون بن موسى الفروي وهو ثقة (مجمع الزوائد 10 / 189) وقال المنذري: إسناده حسن (الترغيب والترهيب 1 / 65 ط مطبعة السعادة) .(7/102)
وَالْجَدِيرُ بِالذِّكْرِ أَنَّ هَذِهِ التَّوْبَةَ لاَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الآْثَارِ إِلاَّ الآْثَارَ الدُّنْيَوِيَّةَ فَحَسْبُ، مِنْ حَيْثُ اسْتِحْقَاقُهُ التَّعْزِيرَ وَعَدَمُ اسْتِحْقَاقِهِ، أَمَّا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ أَمْرَهُ مَوْكُولٌ إِلَيْهِ. فَإِنْ كَانَ صَادِقًا فِي تَوْبَتِهِ تَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهُ إِنْ شَاءَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَادِقًا فِي تَوْبَتِهِ، رُدَّتْ وَخَابَ وَخَسِرَ.
عُقُوبَةُ أَهْل الأَْهْوَاءِ:
8 - إِذَا كَانَتِ الْبِدْعَةُ الَّتِي يَنْتَحِلُهَا أَهْل الأَْهْوَاءِ مُكَفِّرَةً فَإِنَّهُمْ يُعَامَلُونَ مُعَامَلَةَ الْمُرْتَدِّينَ، وَيُطَبَّقُ عَلَيْهِمْ حَدُّ الرِّدَّةِ.
أَمَّا إِنْ لَمْ تَكُنْ مُكَفِّرَةً فَإِنَّ عُقُوبَتَهُمُ التَّعْزِيرُ بِالاِتِّفَاقِ، وَيُفَرَّقُ بَيْنَ الدُّعَاةِ مِنْهُمْ وَبَيْنَ غَيْرِ الدُّعَاةِ، فَغَيْرُ الدُّعَاةِ يُعَزَّرُونَ بِالضَّرْبِ أَوِ الْحَبْسِ، أَوْ بِمَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ نَافِعٌ بِهِمْ، وَكَرِهَ الإِْمَامُ أَحْمَدُ حَبْسَهُمْ، وَقَال: إِنَّ لَهُمْ وَالِدَاتٍ وَأَخَوَاتٍ.
أَمَّا الدُّعَاةُ مِنْهُمْ وَالرُّؤَسَاءُ فَيَجُوزُ أَنْ يَبْلُغَ بِهِمُ التَّعْزِيرُ إِلَى الْقَتْل سِيَاسَةً، قَطْعًا لِدَابِرِ الإِْفْسَادِ فِي الأَْرْضِ، وَعَلَى هَذَا الْحَنَفِيَّةُ، وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِ أَحْمَدَ، وَكَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِ الإِْمَامِ مَالِكٍ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى. (1)
شَهَادَةُ أَهْل الأَْهْوَاءِ:
9 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي قَبُول شَهَادَةِ أَهْل الأَْهْوَاءِ الَّذِينَ لاَ يُحْكَمُ بِكُفْرِهِمْ، فَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 147، 297، والآداب الشرعية 1 / 291، والسياسة الشرعية لابن تيمية ص 99 طبع بيروت دار الكتب العربية.(7/102)
وَشَرِيكٌ وَأَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلاَّمٍ - وَأَبُو ثَوْرٍ إِلَى رَدِّ شَهَادَتِهِمْ لأَِنَّهُمْ فَسَقَةٌ، وَلاَ يُعْذَرُونَ بِالتَّأْوِيل. (1)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي لَيْلَى وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ إِلَى قَبُول شَهَادَةِ أَهْل الأَْهْوَاءِ، إِلاَّ الْخَطَّابِيَّةَ، فَإِنَّهُمْ لاَ تُقْبَل شَهَادَتُهُمْ. (2)
وَقَدْ فَرَّقَ الشَّافِعِيَّةُ فِي قَبُول شَهَادَةِ أَهْل الأَْهْوَاءِ بَيْنَ الدُّعَاةِ وَغَيْرِهِمْ، فَقَبِلُوا شَهَادَةَ الْعَامَّةِ مِنْهُمْ، وَرَدُّوا شَهَادَةَ الدُّعَاةِ لأَِنَّهُمْ مُفْسِدُونَ فِي الأَْرْضِ، وَقَدِ احْتَجَّ هَؤُلاَءِ فِي قَبُول شَهَادَةِ أَهْل الأَْهْوَاءِ بِأَنَّ الْهَوَى نَاشِئٌ عَنِ التَّعَمُّقِ فِي الدِّينِ، وَذَلِكَ يَصُدُّهُ عَنِ الْكَذِبِ.
وَإِنَّمَا رَدُّوا شَهَادَةَ الْخَطَّابِيَّةِ مِنْهُمْ لأَِنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ أَصْحَابَهُمْ لاَ يَكْذِبُونَ - أَيْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ كُل مَنْ كَانَ عَلَى عَقِيدَتِهِمْ لاَ يَكْذِبُ - فَإِذَا رَأَوْهُ فِي قَضِيَّةٍ شَهِدُوا لَهُ بِمُجَرَّدِ التَّصْدِيقِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمُوا حَقِيقَةَ الْحَال. (3)
رِوَايَةُ أَهْل الأَْهْوَاءِ لِلْحَدِيثِ:
10 - اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي قَبُول رِوَايَةِ أَهْل الأَْهْوَاءِ لِلْحَدِيثِ.
__________
(1) الشرح الصغير 4 / 240، والمغني 9 / 165.
(2) في كتاب الفرق بين الفرق ص 255: أن الخطابية كلهم حلوليون، يدعون حلول روح الإله في جعفر الصادق، وبعده في أبي الخطاب الأسدي، قال: فهذه الطائفة كافرة من هذه الجهة. وفي الزيلعي على الكنز (4 / 223) : أنهم كانوا يستجيزون أن يشهدوا للمدعي إذا حلف عندهم أنه محق، ويقولون: المسلم لا يكذب، وقيل: إنهم كانوا يعتقدون أن من ادعى منهم شيئا على غيره يجب أن يشهد له بقية شيعته.
(3) انظر حاشية ابن عابدين 1 / 377، وفواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت 1 / 140، وحاشية قليوبي 4 / 322، وحاشية الجمل 5 / 386 طبع دار إحياء التراث.(7/103)
فَقَدْ مَنَعَ الرِّوَايَةَ عَنْهُمُ ابْنُ سِيرِينَ وَمَالِكٌ، وَابْنُ عُيَيْنَةَ وَالْحُمَيْدِيُّ وَيُونُسُ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَعَلِيُّ بْنُ حَرْبٍ وَغَيْرُهُمْ. وَحُجَّةُ هَؤُلاَءِ: أَنَّ أَهْل الأَْهْوَاءِ: إِمَّا كُفَّارٌ أَوْ فُسَّاقٌ، وَلاَ تَحِل الرِّوَايَةُ عَنْ هَؤُلاَءِ؛ وَلأَِنَّ فِي تَرْكِ الرِّوَايَةِ عَنْهُمْ إِهَانَةً لَهُمْ وَهَجْرًا، وَنَحْنُ مَأْمُورُونَ بِذَلِكَ رَدْعًا لَهُمْ عَنِ الْهَوَى؛ وَلأَِنَّ الْهَوَى لاَ يُؤْمَنُ مَعَهُ الْكَذِبُ، لاَ سِيَّمَا إِذَا كَانَتِ الرِّوَايَةُ مِمَّا يُعَضِّدُ هَوَى الرَّاوِي.
وَرَخَّصَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ وَعَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ وَغَيْرُهُمْ فِي الرِّوَايَةِ عَنْ أَهْل الأَْهْوَاءِ، إِذَا عُرِفُوا بِالصِّدْقِ وَلَمْ يُتَّهَمُوا بِالْكَذِبِ كَالْخَوَارِجِ، دُونَ مَنْ يُتَّهَمُ مِنْ أَهْل الأَْهْوَاءِ بِالْكَذِبِ.
وَفَرَّقَ جَمَاعَةٌ بَيْنَ الدَّاعِيَةِ مِنْ أَهْل الأَْهْوَاءِ وَغَيْرِهِ، فَمَنَعُوا الرِّوَايَةَ عَنِ الدَّاعِيَةِ مِنْهُمْ دُونَ غَيْرِهِ، وَمِنْ هَؤُلاَءِ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، حَتَّى قَال فِي فَوَاتِحِ الرَّحَمُوتِ: وَعَلَى هَذَا أَئِمَّةُ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ كُلُّهُمْ؛ وَلأَِنَّ الْمُحَاجَّةَ وَالدَّعْوَةَ إِلَى الْهَوَى سَبَبٌ دَاعٍ إِلَى التَّقَوُّل، فَلاَ يُؤْمَنُ عَلَى حَدِيثِهِ. (1)
وَفَرَّقَ جَمَاعَةٌ بَيْنَ مَنْ يَغْلُو فِي هَوَاهُ وَمَنْ لاَ يَغْلُو، وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا قَوْلٌ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْبِدَعِ الْمُغَلَّظَةِ، كَالتَّجَهُّمِ وَالْقَدَرِ، وَالْبِدَعِ الْمُخَفَّفَةِ ذَاتُ الشُّبْهَةِ كَالإِْرْجَاءِ. قَال الإِْمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد: احْتَمِلُوا مِنَ الْمُرْجِئَةِ الْحَدِيثَ، وَيُكْتَبُ عَنِ الْقَدَرِيِّ إِذَا لَمْ يَكُنْ دَاعِيَةً. (2)
__________
(1) فواتح الرحموت 2 / 140.
(2) انظر: شرح علل الحديث لابن رجب ص 83 وما بعدها طبع وزارة الأوقاف العراقية، ومقدمة ابن الصلاح ص 103 طبع مطبعة الأصيل بحلب، وفواتح الرحموت 2 / 140.(7/103)
إِمَامَةُ أَهْل الأَْهْوَاءِ فِي الصَّلاَةِ:
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الاِقْتِدَاءِ بِأَهْل الأَْهْوَاءِ فِي الصَّلاَةِ. فَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الاِقْتِدَاءُ بِأَهْل الأَْهْوَاءِ مُطْلَقًا، فَإِنِ اقْتَدَى بِهِمْ فَصَلاَتُهُ بَاطِلَةٌ.
وَفَرَّقُوا فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى بَيْنَ الاِقْتِدَاءِ بِالْمُجَاهِرِ بِهَوَاهُ وَبِدْعَتِهِ الدَّاعِي إِلَيْهَا، وَبَيْنَ مَنْ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَأَجَازُوا الاِقْتِدَاءَ بِالْمُسْتَسَرِّ بِهَا، وَأَبْطَلُوهُ بِالْمُجَاهِرِ وَالدَّاعِي. (1)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ: إِلَى أَنَّهُ إِنِ اقْتَدَى بِأَحَدٍ مِنْ أَهْل الأَْهْوَاءِ، وَجَبَتْ عَلَيْهِ الإِْعَادَةُ فِي الْوَقْتِ؛ لأَِنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِي كُفْرِهِمْ (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى جَوَازِ الاِقْتِدَاءِ بِأَهْل الأَْهْوَاءِ مَعَ الْكَرَاهَةِ التَّنْزِيهِيَّةِ. (3)
أَهْل الْبَيْتِ
انْظُرْ: آل
__________
(1) كشاف القناع 1 / 474، والمغني 2 / 186.
(2) شرح الزرقاني على خليل 2 / 12.
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 376، وأسنى المطالب 1 / 219.(7/104)
أَهْل الْحَرْبِ
التَّعْرِيفُ:
1 - أَهْل الْحَرْبِ أَوِ الْحَرْبِيُّونَ: هُمْ غَيْرُ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ لَمْ يَدْخُلُوا فِي عَقْدِ الذِّمَّةِ، وَلاَ يَتَمَتَّعُونَ بِأَمَانِ الْمُسْلِمِينَ وَلاَ عَهْدِهِمْ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - أَهْل الذِّمَّةِ:
2 - أَهْل الذِّمَّةِ هُمُ الْكُفَّارُ الَّذِينَ أُقِرُّوا فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ عَلَى كُفْرِهِمْ بِالْتِزَامِ الْجِزْيَةِ وَنُفُوذِ أَحْكَامِ الإِْسْلاَمِ فِيهِمْ (2) .
ب - أَهْل الْبَغْيِ:
3 - أَهْل الْبَغْيِ أَوِ الْبُغَاةُ: هُمْ فِرْقَةٌ خَرَجَتْ عَلَى إِمَامِ الْمُسْلِمِينَ لِمَنْعِ حَقٍّ، أَوْ لِخَلْعِهِ، وَهُمْ أَهْل مَنَعَةٍ. (3)
__________
(1) فتح القدير 4 / 278، 284، والفتاوى الهندية 2 / 174، ومواهب الجليل 3 / 346 - 350، والشرح الصغير 2 / 267، وما بعدها، ونهاية المحتاج 7 / 191، ومغني المحتاج 4 / 209، ومطالب أولي النهى 2 / 508، وكشاف القناع 3 / 28، والمغني 8 / 352، 361 وما بعدها.
(2) جواهر الإكليل 1 / 105، وكشاف القناع 1 / 704.
(3) مواهب الجليل 6 / 276، والشرح الكبير مع الدسوقي 4 / 300، والشرح الصغير 4 / 426، والقوانين الفقهية ص 393، والأم 4 / 214 وما بعدها ط الأزهرية، ومغني المحتاج 4 / 123 وما بعدها، والمغني 8 / 104 وما بعدها.(7/104)