الأَْصَحُّ لِلْجُمْهُورِ أَنَّهُ يَرْتَفِعُ، لأَِنَّ الطَّهَارَةَ وَالْوُضُوءَ إِنَّمَا يَنْصَرِفُ إِطْلاَقُهُمَا إِلَى الْمَشْرُوعِ، فَيَكُونُ نَاوِيًا لِوُضُوءٍ شَرْعِيٍّ. (1)
وَلاَ دَخْل لِمَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَالنِّيَّةُ سُنَّةٌ عِنْدَهُمْ وَلَيْسَتْ شَرْطًا فِي الْوُضُوءِ. (2)
ب - التَّيَمُّمُ
7 - جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الْمُتَيَمِّمَ لَوْ نَوَى اسْتِبَاحَةَ الصَّلاَةِ، وَأَطْلَقَ وَلَمْ يُقَيِّدْ تِلْكَ الصَّلاَةَ بِفَرْضٍ أَوْ نَفْلٍ، صَلَّى النَّافِلَةَ مَعَ هَذَا الإِْطْلاَقِ. وَلِلشَّافِعِيَّةِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ أَنَّهُ لاَ يَسْتَبِيحُ بِهِ النَّفَل. (3) وَلِلْفُقَهَاءِ فِي صَلاَةِ الْفَرْضِ بِهَذَا التَّيَمُّمِ رَأْيَانِ:
أَحَدُهُمَا: صِحَّةُ صَلاَةِ الْفَرْضِ، وَهُوَ قَوْل الْحَنَفِيَّةِ، وَقَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ اخْتَارَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ، لأَِنَّهَا طَهَارَةٌ يَصِحُّ بِهَا النَّفَل، فَصَحَّ بِهَا الْفَرْضُ كَطَهَارَةِ الْمَاءِ، (4) وَلأَِنَّ الصَّلاَةَ اسْمُ جِنْسٍ تَتَنَاوَل الْفَرْضَ وَالنَّفَل.
__________
(1) الحطاب 1 / 236 ط ليبيا، والخرشي 1 / 130 ط دار صادر، والشبراملسي على النهاية 1 / 145 ط الحلبي، والمغني 1 / 112 ط الرياض، والقليوبي 1 / 46، والزرقاني على خليل 1 / 63 ط دار الفكر، والمجموع 1 / 328.
(2) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 37 نشر دار مكتبة الهلال، والطحطاوي على مراقي الفلاح ص 56 ط دار الإيمان، والصاوي على الدردير 1 / 166 ط دار المعارف، والمجموع 1 / 328، كشاف القناع 1 / 89.
(3) الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 60، 61، والصاوي على الدردير 1 / 194، والدسوقي على الدردير 1 / 154، والمجموع 2 / 222، والمغني 1 / 252.
(4) الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 60، 61، والمغني 1 / 252، والمجموع 2 / 222(5/164)
الثَّانِي: أَنَّهُ لاَ يَسْتَبِيحُ بِهِ الْفَرْضَ، وَهُوَ قَوْل الْمَالِكِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيَّةِ. (1)
إِطْلاَقُ النِّيَّةِ فِي الصَّلاَةِ:
أ - صَلاَةُ الْفَرْضِ:
8 - جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ التَّعْيِينُ فِي نِيَّةِ الْفَرْضِ وَأَنَّ الإِْطْلاَقَ لاَ يَكْفِي. قَال الْحَنَفِيَّةُ: وَكَذَا الْوَاجِبُ مِنْ وِتْرٍ أَوْ نَذْرٍ أَوْ سُجُودِ تِلاَوَةٍ، وَكَذَا يُشْتَرَطُ التَّعْيِينُ فِي نِيَّةِ سَجْدَةِ الشُّكْرِ، بِخِلاَفِ سُجُودِ السَّهْوِ.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ التَّعْيِينُ فِي نِيَّةِ صَلاَةِ الْفَرْضِ. (2)
ب - النَّفَل الْمُطْلَقُ:
9 - يَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الإِْطْلاَقَ يَكْفِي فِي نِيَّةِ صَلاَةِ النَّفْل الْمُطْلَقِ، وَأَلْحَقَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ بِالنَّفْل الْمُطْلَقِ (3) تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ، وَرَكْعَتَيِ الْوُضُوءِ، وَرَكْعَتَيِ الإِْحْرَامِ، وَرَكْعَتَيِ الطَّوَافِ، وَصَلاَةَ الْحَاجَةِ، وَصَلاَةَ الْغَفْلَةِ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ،
__________
(1) المغني 1 / 252، والدسوقي 1 / 154، والقواعد والفوائد الأصولية ص 199 ط السنة المحمدية، وكشاف القناع 1 / 174، والمجموع 2 / 222.
(2) ابن عابدين 1 / 279 ط أولى، وتبيين الحقائق شرح كنز الدقائق مع حاشية الشلبي عليه 1 / 99 نشر دار المعرفة، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص 32 نشر دار مكتبة الهلال، والزرقاني على خليل مع حاشية البناني 1 / 195 ط دار الفكر، وحواشي الرملي على شرح الروض 1 / 143 ط الميمنية، والإنصاف 2 / 20 ط الأولى.
(3) تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق 1 / 99، والدسوقي 1 / 154، والزرقاني على خليل 1 / 195، والإنصاف 2 / 19، ومطالب أولي النهى 1 / 400.(5/165)
وَالصَّلاَةَ فِي بَيْتِهِ إِذَا أَرَادَ الْخُرُوجَ لِلسَّفَرِ، وَالْمُسَافِرُ إِذَا نَزَل مَنْزِلاً وَأَرَادَ مُفَارَقَتَهُ. (1)
ج - السُّنَنُ الرَّوَاتِبُ، وَالْمُؤَقَّتَةُ:
10 - لِلْفُقَهَاءِ فِي إِطْلاَقِ النِّيَّةِ فِي صَلاَةِ السُّنَّةِ الرَّاتِبَةِ، وَالْمُؤَقَّتَةِ رَأْيَانِ:
الأَْوَّل: أَنَّهُ لاَ يَكْفِي الإِْطْلاَقُ لِحُصُول تِلْكَ السُّنَّةِ الرَّاتِبَةِ. وَهُوَ قَوْل الْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ بِاسْتِثْنَاءِ النَّوَافِل الَّتِي أُلْحِقَتْ بِالنَّفْل الْمُطْلَقِ عِنْدَ الْبَعْضِ وَاَلَّتِي سَبَقَ ذِكْرُهَا. (2)
وَهُوَ قَوْل جَمَاعَةٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، قَالُوا: لأَِنَّ السُّنَّةَ وَصْفٌ زَائِدٌ عَلَى أَصْل الصَّلاَةِ، كَوَصْفِ الْفَرْضِيَّةِ، فَلاَ تَحْصُل بِمُطْلَقِ نِيَّةِ الصَّلاَةِ. (3)
الثَّانِي: صِحَّةُ النِّيَّةِ مَعَ الإِْطْلاَقِ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْنِ لِلْحَنَفِيَّةِ مُصَحَّحَيْنِ، وَاعْتَمَدَهُ بَعْضُهُمْ. وَفِي الْمُحِيطِ أَنَّهُ قَوْل عَامَّةِ الْمَشَايِخِ، وَرَجَّحَهُ فِي الْفَتْحِ، وَنَسَبَهُ إِلَى الْمُحَقِّقِينَ. (4)
إِطْلاَقُ النِّيَّةِ فِي الصَّوْمِ:
11 - لِلْفُقَهَاءِ فِي إِطْلاَقِ نِيَّةِ الصَّوْمِ رَأْيَانِ:
الأَْوَّل: عَدَمُ الصِّحَّةِ مَعَ الإِْطْلاَقِ، وَهُوَ قَوْل الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. وَاسْتَدَلُّوا لَهُ بِأَنَّهُ صَوْمٌ
__________
(1) الجمل على المنهج 1 / 332.
(2) الزرقاني على خليل مع حاشية البناني 1 / 195، وشرح منتهى الإرادات 1 / 167 ط دار الفكر، والمغني 1 / 466، ومطالب أولي النهى 1 / 400، وشرح الروض 1 / 142، والجمل على المنهج 1 / 332.
(3) تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق 1 / 99.
(4) ابن عابدين 1 / 279، 280، وتبيين الحقائق شرح كنز الدقائق 1 / 99.(5/165)
وَاجِبٌ فَوَجَبَ تَعْيِينُ النِّيَّةِ لَهُ.
وَالثَّانِي: صِحَّةُ الصَّوْمِ، وَهُوَ قَوْل الْحَنَفِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَوَجْهٌ شَاذٌّ لِلشَّافِعِيَّةِ حَكَاهُ صَاحِبُ التَّتِمَّةِ عَنِ الْحَلِيمِيِّ، وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِأَنَّهُ فَرْضٌ مُسْتَحَقٌّ فِي زَمَنٍ بِعَيْنِهِ، فَلاَ يَجِبُ تَعْيِينُ النِّيَّةِ لَهُ. (1)
إِطْلاَقُ نِيَّةِ الإِْحْرَامِ:
12 - إِذَا نَوَى مُرِيدُ النُّسُكِ نَفْسَ الإِْحْرَامِ، وَأَطْلَقَ بِأَنْ لَمْ يَقْصِدِ الْقِرَانَ، وَلاَ التَّمَتُّعَ وَلاَ الإِْفْرَادَ جَازَ بِلاَ خِلاَفٍ، لأَِنَّ الإِْحْرَامَ يَصِحُّ مَعَ الإِْبْهَامِ فَيَصِحُّ مَعَ الإِْطْلاَقِ. وَلَهُ صَرْفُهُ إِلَى أَيِّ نَوْعٍ شَاءَ مِنْ أَنْوَاعِ الإِْحْرَامِ الثَّلاَثَةِ، إِنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْل الشُّرُوعِ فِي أَعْمَال الإِْحْرَامِ، وَكَانَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، (2) غَيْرَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ قَالُوا: الأَْوْلَى الصَّرْفُ إِلَى الْعُمْرَةِ، لأَِنَّ التَّمَتُّعَ أَفْضَل.
وَمَا عَمِلَهُ قَبْل التَّعْيِينِ فَلَغْوٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، (3) وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، يُعْتَدُّ بِمَا أَتَى بِهِ مِنَ الشَّعَائِرِ، غَيْرَ أَنَّهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِيمَا تُصْرَفُ النِّيَّةُ لَهُ، فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: تُصْرَفُ إِلَى الْعُمْرَةِ إِنْ لَمْ يُعَيِّنْ، وَقَدْ طَافَ، لَكِنْ فِي اللُّبَابِ وَشَرْحِهِ لَوْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ قَبْل الطَّوَافِ تَعَيَّنَ إِحْرَامُهُ لِلْحَجِّ، وَلَوْ لَمْ يَقْصِدِ الْحَجَّ فِي وُقُوفِهِ. (4)
__________
(1) المغني 3 / 95، والروض 2 / 350، والاشباه والنظائر لابن نجيم ص 36، والحطاب 2 / 419.
(2) ابن عابدين 2 / 158، 161، والزرقاني على خليل 2 / 256، والحطاب 3 / 20، والخرشي 2 / 307، والروضة 3 / 60، والمغني 3 / 285، ومنتهى الإرادات 1 / 247.
(3) منتهى الإرادات 1 / 247، والروضة 3 / 60.
(4) ابن عابدين 2 / 161.(5/166)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَجِبُ صَرْفُهُ إِلَى الْحَجِّ إِنْ وَقَعَ الصَّرْفُ بَعْدَ طَوَافِ قُدُومٍ. (1)
13 - وَإِنْ كَانَ الإِْحْرَامُ بِنُسُكٍ وَلَمْ يُعَيِّنْ وَذَلِكَ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ - عَلَى كَرَاهَتِهِ أَوِ امْتِنَاعِهِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - فَالْحُكْمُ لاَ يَخْتَلِفُ عِنْدَهُمْ فِي أَنَّ الأَْوْلَى صَرْفُ النِّيَّةِ إِلَى الْعُمْرَةِ. (2)
وَكَذَا لاَ يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ عَنْ أَشْهُرِ الْحَجِّ إِنْ كَانَ طَافَ قَبْل التَّعْيِينِ - يَجِبُ صَرْفُ النِّيَّةِ لِلْحَجِّ - وَيُؤَخِّرُ سَعْيَهُ لإِِفَاضَتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ طَافَ كُرِهَ صَرْفُ النِّيَّةِ إِلَى الْحَجِّ، لأَِنَّهُ أَحْرَمَ بِهِ قَبْل وَقْتِهِ. (3)
وَفَصَّل الشَّافِعِيَّةُ فِي ذَلِكَ فَقَالُوا: إِنْ أَحْرَمَ قَبْل الأَْشْهُرِ، فَإِنْ صَرَفَهُ إِلَى الْعُمْرَةِ صَحَّ، وَإِنْ صَرَفَهُ إِلَى الْحَجِّ بَعْدَ دُخُول الأَْشْهُرِ فَوَجْهَانِ، الصَّحِيحُ: لاَ يَجُوزُ بَل انْعَقَدَ إِحْرَامُهُ، (أَيْ عَمْرَةً) .
وَالثَّانِي: يَنْعَقِدُ مُبْهَمًا، وَلَهُ صَرْفُهُ بَعْدَ دُخُول أَشْهُرِ الْحَجِّ إِلَى حَجٍّ أَوْ قِرَانٍ، فَإِنْ صَرَفَهُ إِلَى الْحَجِّ قَبْل الأَْشْهُرِ كَانَ كَمَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ قَبْل الأَْشْهُرِ. (4)
14 - وَهَل الإِْطْلاَقُ أَفْضَل أَمِ التَّعْيِينُ؟ رَأْيَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ التَّعْيِينَ أَفْضَل، وَهُوَ قَوْل الْحَنَابِلَةِ، فَقَدْ صَرَّحُوا بِاسْتِحْبَابِ التَّعْيِينِ، وَبِهِ قَال مَالِكٌ، وَهُوَ قَوْل بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ.
ثَانِيهِمَا: الإِْطْلاَقُ أَفْضَل، وَهُوَ الأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. (5)
__________
(1) الزرقاني على خليل 2 / 256.
(2) المغني 3 / 285.
(3) الزرقاني على خليل 2 / 256.
(4) الروضة 3 / 60.
(5) الروضة 3 / 60، والمغني 3 / 284.(5/166)
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
15 - بِالإِْضَافَةِ إِلَى مَا تَقَدَّمَ يَتَكَلَّمُ الْفُقَهَاءُ وَالأُْصُولِيُّونَ عَنِ الإِْطْلاَقِ فِي الْمَوَاطِنِ الآْتِيَةِ: - الْمِلْكُ الْمُطْلَقُ، وَالْمِلْكُ الْمُقَيَّدُ. (1)
- الْعُقُودُ إِذَا وَقَعَتْ عَلَى اسْمٍ مُطْلَقٍ، هَل تَصِحُّ أَمْ لاَ (2) ؟ - فِي الْمُضَارَبَةِ وَالْوَكَالَةِ - اخْتِلاَفُ الْعَامِل، وَالْمَالِكِ وَالْوَكِيل، وَالْمُوَكِّل، فِي الإِْطْلاَقِ، وَالتَّقْيِيدِ. (3)
- الإِْقْرَارُ الْمُطْلَقُ. (4)
- الْوَقْفُ الْمُطْلَقُ. (5)
- وَفِي الظِّهَارِ وَالطَّلاَقِ. (6)
- الإِْطْلاَقُ فِي الإِْجَارَةِ. (7)
- الإِْطْلاَقُ فِي الْوَصِيَّةِ وَالْوَقْفِ. (8)
- الْقَضَاءُ - فِي تَعْرِيفِ الْحُكْمِ، وَهَل هُوَ إِنْشَاءُ إِلْزَامٍ أَمْ إِطْلاَقٌ؟
- الإِْطْلاَقُ فِي التَّصَرُّفَاتِ عَنِ الْغَيْرِ. (9)
- تَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ بِالْعُرْفِ، وَقَدْ أَفْرَدَ السُّيُوطِيُّ الْمَبْحَثَ الْخَامِسَ مِنْ كِتَابِ الأَْشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ فِي كُل مَا جَاءَ بِهِ الشَّرْعُ مُطْلَقًا، وَلاَ ضَابِطَ لَهُ فِيهِ وَلاَ فِي اللُّغَةِ. (10)
__________
(1) ابن عابدين 4 / 381.
(2) قواعد ابن رجب ص 281.
(3) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 193.
(4) قواعد ابن رجب ص 183.
(5) ابن عابدين 3 / 381، 5 / 446.
(6) القواعد الفقهية الكبرى 4 / 143.
(7) الخرشي 2 / 290.
(8) ابن عابدين 5 / 446.
(9) قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام 1 / 179.
(10) تيسير التحرير 1 / 317، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 88 وما بعدها.(5/167)
- حَمْل الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ (1) .
- تَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ بِمَا يُخَصَّصُ بِهِ الْعَامُّ (2) .
- النَّذْرُ الْمُطْلَقُ وَالتَّحَلُّل مِنْهُ. (3) وَتَفْصِيل كُل مَسْأَلَةٍ مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِل فِي بَابِهَا.
اطْمِئْنَانٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِطْمِئْنَانُ فِي اللُّغَةِ: السُّكُونُ، يُقَال: اطْمَأَنَّ الْقَلْبُ: سَكَنَ وَلَمْ يَقْلَقْ، وَاطْمَأَنَّ فِي الْمَكَانِ: أَقَامَ بِهِ. وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ عَنْ هَذَيْنِ الإِْطْلاَقَيْنِ، فَإِنَّ الاِطْمِئْنَانَ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ بِمَعْنَى اسْتِقْرَارِ الأَْعْضَاءِ فِي أَمَاكِنِهَا عَنِ الْحَرَكَةِ (4) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْعِلْمُ:
2 - الْعِلْمُ هُوَ اعْتِقَادُ الشَّيْءِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ عَلَى سَبِيل الثِّقَةِ، أَمَّا الاِطْمِئْنَانُ فَهُوَ سُكُونُ النَّفْسِ إِلَى
__________
(1) مسلم الثبوت 1 / 361 - 366.
(2) حاشية السعد على العضد 2 / 155، والمدخل إلى مذهب الإمام أحمد ص 131.
(3) القواعد والفوائد الأصولية ص 212.
(4) لسان العرب، والقاموس المحيط، وأساس البلاغة، والمغرب في المواد " طمن، علم، يقن " ودستور العلماء 3 / 483 طبع مؤسسة الأعلمى ببيروت، والفرق في اللغة للعسكري ص 73، طبع دار الآفاق في بيروت.(5/167)
هَذَا الْعِلْمِ. وَعَلَى هَذَا فَقَدْ يُوجَدُ الْعِلْمُ وَلاَ يُوجَدُ الاِطْمِئْنَانُ.
ب - الْيَقِينُ:
3 - الْيَقِينُ: هُوَ سُكُونُ النَّفْسِ الْمُسْتَنِدِ إِلَى اعْتِقَادِ الشَّيْءِ بِأَنَّهُ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ إِلاَّ كَذَا. أَمَّا الاِطْمِئْنَانُ فَهُوَ سُكُونُ النَّفْسِ الْمُسْتَنِدِ إِلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ، وَعَلَى هَذَا فَإِنَّ الْيَقِينَ أَقْوَى مِنَ الاِطْمِئْنَانِ. (1)
اطْمِئْنَانُ النَّفْسِ:
4 - اطْمِئْنَانُ النَّفْسِ أَمْرٌ غَيْرُ مَقْدُورٍ لِلإِْنْسَانِ، لأَِنَّهُ مِنْ أَعْمَال الْقَلْبِ الَّتِي لاَ سُلْطَانَ لَهُ عَلَيْهَا، وَلَكِنْ يُطَالَبُ الإِْنْسَانُ بِتَحْصِيل أَسْبَابِهِ.
مَا يَحْصُل بِهِ الاِطْمِئْنَانُ:
5 - بِالاِسْتِقْرَاءِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الاِطْمِئْنَانَ يَحْصُل شَرْعًا بِمَا يَلِي:
أ - ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى، لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ {أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} . (2)
ب - الدَّلِيل: وَالدَّلِيل قَدْ يَكُونُ شَرْعِيًّا مِنْ قُرْآنٍ أَوْ سُنَّةٍ، وَقَدْ يَكُونُ عَقْلِيًّا مِنْ قِيَاسٍ عَلَى عِلَّةٍ مُسْتَنْبَطَةٍ، أَوْ قَرِينَةٍ قَوِيَّةٍ مِنْ قَرَائِنِ الأَْحْوَال، وَقَدْ يَكُونُ خَبَرًا مِنْ مُخْبِرٍ صَادِقٍ. (3)
ج - اسْتِصْحَابُ الْحَال: وَمِنْ هُنَا قُبِلَتْ شَهَادَةُ مَسْتُورِ الْحَال، لأَِنَّ الأَْصْل فِي الْمُسْلِمِينَ الْعَدَالَةُ. (4) كَمَا هُوَ مُفَصَّلٌ فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ مِنْ
__________
(1) نفس المراجع.
(2) سورة الرعد / 28.
(3) الفتاوى الهندية 5 / 310، 313.
(4) حاشية قليوبي 3 / 220.(5/168)
كُتُبِ الْفِقْهِ.
د - مُضِيُّ مُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ: إِذْ أَنَّ مُضِيَّ سَنَةٍ عَلَى الْعِنِّينِ دُونَ أَنْ يَسْتَطِيعَ أَنْ يَأْتِيَ أَهْلَهُ يُوجِدُ طُمَأْنِينَةً حُكْمِيَّةً بِعَجْزِهِ عَنِ الْمُعَاشَرَةِ عَجْزًا دَائِمًا. (1) وَمُضِيَّ مُدَّةِ الاِنْتِظَارِ فِي الْمَفْقُودِ - عِنْدَ مَنْ يَقُول بِهَا - يُوجِدُ طُمَأْنِينَةً حُكْمِيَّةً أَنَّهُ لَنْ يَعُودَ، (2) وَتَأْخِيرَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ فِي الْحُدُودِ يُوجِدُ طُمَأْنِينَةً حُكْمِيَّةً بِأَنَّ الشَّاهِدَ إِنَّمَا شَهِدَ عَنْ ضَغَنٍ (أَيْ حِقْدٍ) .
هـ - الْقُرْعَةُ: وَهِيَ عِنْدَ مَنْ يَقُول بِهَا تُوجِدُ طُمَأْنِينَةً حُكْمِيَّةً بِأَنَّهُ لَمْ يَحْدُثْ جَوْرٌ أَوْ هَوًى، لأَِنَّهَا لِتَطْيِيبِ الْقُلُوبِ، كَمَا فِي الْقِسْمَةِ وَنَحْوِهَا. (3)
الاِطْمِئْنَانُ الْحِسِّيُّ:
6 - يَكُونُ ذَلِكَ فِي الصَّلاَةِ: وَحْدَهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْقِيَامِ - فَهُوَ سُكُونُ الْجَوَارِحِ وَاسْتِقْرَارُ كُل عُضْوٍ فِي مَحَلِّهِ - بِقَدْرِ تَسْبِيحَةٍ.
وَحُكْمُهُ الْوُجُوبُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَعِنْدَ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ سُنَّةٌ. (4) وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي كِتَابِ الصَّلاَةِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ.
وَالذَّبِيحَةُ لاَ يَجُوزُ تَقْطِيعُ أَوْصَالِهَا بَعْدَ ذَبْحِهَا حَتَّى تَسْكُنَ حَرَكَتُهَا، لأَِنَّ ذَلِكَ دَلِيل إِزْهَاقِ رُوحِهَا، كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الْفُقَهَاءُ فِي كِتَابِ الذَّبَائِحِ.
آثَارُ الاِطْمِئْنَانِ:
7 - يَتَرَتَّبُ عَلَى الاِطْمِئْنَانِ أَثَرَانِ:
__________
(1) المغني 2 / 168.
(2) المغني 7 / 488 وما بعدها.
(3) المغني 9 / 359، وفتح القدير 8 / 15، وفتاوى قاضيخان 3 / 155.
(4) المغني 1 / 500، ومراقي الفلاح ص 135 طبع المطبعة العثمانية.(5/168)
أَوَّلُهُمَا: وُقُوعُ الْعَمَل الْمَبْنِيِّ عَلَى الاِطْمِئْنَانِ صَحِيحًا فِي الشَّرْعِ. (1) فَمَنْ تَحَرَّى الأَْوَانِيَ الَّتِي بَعْضُهَا طَاهِرٌ وَبَعْضُهَا نَجِسٌ، فَاطْمَأَنَّ قَلْبُهُ إِلَى هَذَا الإِْنَاءِ مِنْهَا طَاهِرٌ، فَتَوَضَّأَ مِنْهُ، وَقَعَ وُضُوءُهُ صَحِيحًا، كَمَا فَصَّل ذَلِكَ الْفُقَهَاءُ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ.
ثَانِيهِمَا: أَنَّ مَا خَالَفَ هَذَا الاِطْمِئْنَانَ هُوَ هَدَرٌ وَلاَ قِيمَةَ لَهُ، وَكُل مَا بُنِيَ عَلَيْهِ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ بَاطِلٌ، فَمَنْ تَحَرَّى جِهَةَ الْقِبْلَةِ حَتَّى اطْمَأَنَّ قَلْبُهُ إِلَى جِهَةٍ مَا أَنَّ الْقِبْلَةَ نَحْوَهَا، فَصَلَّى إِلَى غَيْرِ هَذِهِ الْجِهَةِ فَصَلاَتُهُ بَاطِلَةٌ، كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الْفُقَهَاءُ فِي كِتَابِ الصَّلاَةِ.
وَإِذَا اطْمَأَنَّ قَلْبُ إِنْسَانٍ بِالإِْيمَانِ، ثُمَّ أُكْرِهَ عَلَى إِتْيَانِ مَا يُخَالِفُ هَذَا الإِْيمَانَ لاَ يَضُرُّهُ ذَلِكَ شَيْئًا.
قَال تَعَالَى: {مَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِْيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} . (2)
قَال الْقُرْطُبِيُّ: أَجْمَعَ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ، حَتَّى خَشِيَ عَلَى نَفْسِهِ الْقَتْل، أَنَّهُ لاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنْ كَفَرَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِْيمَانِ، وَلاَ تَبِينُ مِنْهُ زَوْجَتُهُ، وَلاَ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الْكُفْرِ. (3)
__________
(1) الفتاوى الهندية 5 / 383.
(2) سورة النحل / 106.
(3) تفسير القرطبي 10 / 183 طبعة دار الكتب المصرية، والمغني 8 / 145 طبعة المنار الثالثة، وفتح القدير 7 / 299 طبعة بولاق.(5/169)
أَظْفَارٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الأَْظْفَارُ جَمْعُ ظُفْرٍ، وَيُجْمَعُ أَيْضًا عَلَى أَظْفُرٍ، وَأَظَافِيرَ. وَالظُّفْرُ مَعْرُوفٌ، يَكُونُ لِلإِْنْسَانِ وَغَيْرِهِ.
وَقِيل: الظُّفْرُ لِمَا لاَ يَصِيدُ، وَالْمِخْلَبُ لِمَا يَصِيدُ (1) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالأَْظْفَارِ
تَقْلِيمُ الأَْظْفَارِ:
2 - تَقْلِيمُ الأَْظْفَارِ سُنَّةٌ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ لِلرَّجُل وَالْمَرْأَةِ، لِلْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خَمْسٌ مِنَ الْفِطْرَةِ: الاِسْتِحْدَادُ، وَالْخِتَانُ، وَقَصُّ الشَّارِبِ، وَنَتْفُ الإِْبِطِ، وَتَقْلِيمُ الأَْظْفَارِ. (2) وَالْمُرَادُ بِالتَّقْلِيمِ إِزَالَةُ مَا زِيدَ عَلَى مَا يُلاَمِسُ رَأْسَ الإِْصْبَعِ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَبْدَأَ بِالْيَدِ الْيُمْنَى ثُمَّ الْيُسْرَى، ثُمَّ الرِّجْل الْيُمْنَى ثُمَّ الْيُسْرَى. (3) وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: رُوِيَ فِي حَدِيثِ: مَنْ قَصَّ أَظْفَارَهُ مُخَالِفًا لَمْ يَرَ فِي عَيْنَيْهِ رَمَدًا. (4)
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير في مادة " ظفر "
(2) حديث: " خمس من الفطرة. . . " أخرجه البخاري بلفظ: " الفطرة خمس: الاستحداد. . . . إلخ " (الفتح 10 / 334 ط السلفية) ومسلم (1 / 222 ط الحلبي) .
(3) المجموع للنووي 1 / 185 نشر المكتبة السلفية بالمدينة، وتحفة الأحوذي 8 / 40 ط السلفية، وابن عابدين 5 / 60، والمغني 1 / 87.
(4) حديث: " من قص أظفاره مخالفا لم ير في عينيه رمدا " قال السخاوي عنه في المقاصد الحسنة: لم أجده. (ص 424 - ط الخانجي) .(5/169)
وَفَسَّرَهُ ابْنُ بَطَّةَ، بِأَنْ يَبْدَأَ بِخِنْصَرِ الْيُمْنَى، ثُمَّ الْوُسْطَى ثُمَّ الإِْبْهَامُ، ثُمَّ الْبِنْصِرِ ثُمَّ السَّبَّابَةِ.
أَمَّا التَّوْقِيتُ فِي تَقْلِيمِ الأَْظْفَارِ فَهُوَ مُعْتَبَرٌ بِطُولِهَا: فَمَتَى طَالَتْ قَلَّمَهَا، وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلاَفِ الأَْشْخَاصِ وَالأَْحْوَال، وَقِيل: يُسْتَحَبُّ تَقْلِيمُ الأَْظْفَارِ كُل يَوْمِ جُمُعَةٍ (1) ، لِمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ وَقَّتَ لَهُمْ فِي كُل أَرْبَعِينَ لَيْلَةً تَقْلِيمَ الأَْظْفَارِ، وَأَخْذَ الشَّارِبِ، وَحَلْقَ الْعَانَةِ وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَنَسٍ أَيْضًا وَقَّتَ لَنَا فِي قَصِّ الشَّارِبِ وَتَقْلِيمِ الأَْظْفَارِ، وَحَلْقِ الْعَانَةِ، وَنَتْفِ الإِْبِطِ أَلاَّ نَتْرُكَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ يَوْمًا. (2)
قَال السَّخَاوِيُّ: لَمْ يَثْبُتْ فِي كَيْفِيَّةِ قَصِّ الأَْظْفَارِ وَلاَ فِي تَعْيِينِ يَوْمٍ لَهُ شَيْءٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
تَوْفِيرُ الأَْظْفَارِ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي بِلاَدِ الْعَدُوِّ:
3 - يَنْبَغِي لِلْمُجَاهِدِينَ أَنْ يُوَفِّرُوا أَظْفَارَهُمْ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ فَإِنَّهُ سِلاَحٌ، قَال أَحْمَدُ: يَحْتَاجُ إِلَيْهَا فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ، أَلاَ تَرَى أَنَّهُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَحِل الْحَبْل أَوِ الشَّيْءَ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَظْفَارٌ لَمْ يَسْتَطِعْ. وَقَال عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عَمْرٍو: أَمَرَنَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلاَّ نُحْفِيَ الأَْظْفَارَ فِي الْجِهَادِ، فَإِنَّ الْقُوَّةَ فِي الأَْظْفَارِ. (3)
__________
(1) المجموع للنووي 1 / 285، وفتح الباري 10 / 284، وتحفة الأحوذي 8 / 38، وكشاف القناع 1 / 285 ط السنة المحمدية.
(2) حديث: " وقت لهم. . . " وفي رواية: عن أنس أيضا " وقت لنا. . . " أخرجه مسلم (1 / 222 - ط الحلبي) .
(3) المغني 8 / 353 ط السعودية، وابن عابدين 5 / 260، وحديث: " أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا نحفي الأظفار في الجهاد، فإن القوة في الأظفار ". أورده ابن قدامة في المغني (8 / 353 ط الرياض) ولم نعثر عليه فيما لدينا من مراجع السنن والآثار.(5/170)
قَصُّ الأَْظْفَارِ فِي الْحَجِّ وَمَا يَجِبُ فِيهِ:
4 - مِمَّا يُنْدَبُ لِمَنْ يُرِيدُ الإِْحْرَامَ تَقْلِيمُ الأَْظْفَارِ، فَإِذَا دَخَل فِي الإِْحْرَامِ فَقَدْ أَجْمَعَ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ قَصِّ أَظْفَارِهِ إِلاَّ مِنْ عُذْرٍ، لأَِنَّ قَطْعَ الأَْظْفَارِ إِزَالَةُ جُزْءٍ يُتَرَفَّهُ بِهِ، فَحَرُمَ، كَإِزَالَةِ الشَّعْرِ، وَتَفْصِيل حُكْمِهِ إِذَا قَصَّهُ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ إِحْرَامٌ (1) .
إِمْسَاكُ الْمُضَحِّي عَنْ قَصِّ أَظْفَارِهِ:
5 - ذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: إِلَى أَنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ فَدَخَل الْعَشْرُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُمْسِكَ عَنْ قَصِّ الشَّعْرِ وَالأَْظْفَارِ، وَهُوَ قَوْل إِسْحَاقَ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ قَوْل بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: يُسَنُّ لَهُ أَنْ يُمْسِكَ عَنْ قَصِّ الشَّعْرِ وَالأَْظْفَارِ. لِمَا رَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: إِذَا دَخَل الْعَشْرُ وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ فَلاَ يَأْخُذُ مِنْ شَعْرِهِ، وَلاَ مِنْ أَظْفَارِهِ شَيْئًا حَتَّى يُضَحِّيَ. (2)
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ مَرْفُوعًا: مَنْ كَانَ لَهُ ذَبْحٌ يَذْبَحُهُ، فَإِذَا أَهَل هِلاَل ذِي الْحِجَّةِ، فَلاَ يَأْخُذَنَّ مِنْ شَعْرِهِ وَلاَ مِنْ أَظْفَارِهِ شَيْئًا حَتَّى
__________
(1) الحطاب 3 / 164 ط ليبيا، وفتح القدير 2 / 236، والمجموع 7 / 371، والمغني 3 / 330، وكشاف القناع 2 / 380 ط أنصار السنة.
(2) حديث أم سلمة: " إذا دخل العشر وأراد أحدكم أن يضحي. . . " أخرجه مسلم بلفظ: " إذا رأيتم هلال ذي الحجة، وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره " (3 / 1565 - ط الحلبي) .(5/170)
يُضَحِّيَ (1) وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ بَقَاؤُهُ كَامِل الأَْجْزَاءِ، لِتَشْمَلَهَا الْمَغْفِرَةُ وَالْعِتْقُ مِنَ النَّارِ (2) .
وَيُفْهَمُ مِنْ كَلاَمِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّهُمْ أَطْلَقُوا طَلَبَ تَرْكِ الأَْظْفَارِ وَالشَّعْرِ فِي عَشْرٍ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ لِمَنْ أَرَادَ التَّضْحِيَةَ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ أَكَانَ يَمْلِكُ الأُْضْحِيَّةَ أَمْ لاَ. (3)
دَفْنُ قُلاَمَةِ الظُّفْرِ:
6 - يُسْتَحَبُّ دَفْنُ الظُّفْرِ، إِكْرَامًا لِصَاحِبِهِ. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَدْفِنُ الأَْظْفَارَ (4) .
الذَّبْحُ بِالأَْظْفَارِ:
7 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ رَأْيٌ لِلْمَالِكِيَّةِ إِلَى تَحْرِيمِ الذَّبْحِ بِالظُّفْرِ وَالسِّنِّ مُطْلَقًا، وَقَالُوا: إِنَّ الْمَذْبُوحَ بِهَذِهِ الأَْشْيَاءِ مَيْتَةٌ لاَ يَحِل أَكْلُهَا، لأَِنَّهُ قَاتِلٌ وَلَيْسَ بِذَابِحٍ. وَلِقَوْل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ فَكُل، لَيْسَ الظُّفْرُ وَالسِّنُّ. . . . (5)
وَوَافَقَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ، وَكَذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ فِي أَحَدِ أَقْوَالٍ عِنْدَهُمْ إِذَا كَانَ الظُّفْرُ وَالسِّنُّ قَائِمَيْنِ غَيْرَ
__________
(1) حديثك: " من كان له ذبح يذبحه. . . . . ". أخرجه مسلم (3 / 1566 - ط الحلبي) .
(2) جواهر الإكليل 1 / 221، والمغني 8 / 618 ط السعودية، ونهاية المحتاج 8 / 124 ط المكتب الإسلامي، والمجموع 7 / 374، وابن عابدين 1 / 565، ونيل الأوطار 5 / 128.
(3) شرح البهجة 5 / 169، والمبدع 3 / 299.
(4) تحفة الأحوذي 8 / 40، وروض الطالب 1 / 313، وحاشية الدسوقي 1 / 422. والأثر عن ابن عمر في دفن الأظفار ذكره ابن حجر في الفتح (10 / 346 - ط السلفية) عن أحمد بن حنبل معضلا.
(5) حديث: " ما أنهر الدم وذكر اسم الله فكل، ليس الظفر والسن ". أخرجه البخاري (الفتح 9 / 931 - ط السلفية) .(5/171)
مَنْزُوعَيْنِ، لِقَوْل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنْهَرَ الدَّمَ، (1) وَمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيَّةُ مَحْمُولٌ عَلَى غَيْرِ الْمَنْزُوعِ، فَإِنَّ الْحَبَشَةَ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ إِظْهَارًا لِلْجَلَدِ. وَلأَِنَّهَا إِذَا انْفَصَلَتْ كَانَتْ آلَةً جَارِحَةً، فَيَحْصُل بِهَا الْمَقْصُودُ، وَهُوَ إِخْرَاجُ الدَّمِ، فَصَارَ كَالْحَجَرِ وَالْحَدِيدِ، بِخِلاَفِ غَيْرِ الْمَنْزُوعِ فَإِنَّهُ يَقْتُل بِالثِّقَل، فَيَكُونُ فِي مَعْنَى الْمَوْقُوذَةِ.
وَفِي رَأْيٍ لِلْمَالِكِيَّةِ يَجُوزُ الذَّبْحُ بِالظُّفْرِ وَالسِّنِّ مُطْلَقًا سَوَاءٌ أَكَانَا قَائِمَيْنِ أَمْ مُنْفَصِلَيْنِ. (2)
طِلاَءُ الأَْظْفَارِ:
8 - الطَّهَارَةُ مِنَ الْحَدَثِ تَقْتَضِي تَعْمِيمَ الْمَاءِ عَلَى أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ فِي الْحَدَثِ الأَْصْغَرِ، وَعَلَى الْجِسْمِ فِي الْحَدَثِ الأَْكْبَرِ، وَإِزَالَةَ كُل مَا يَمْنَعُ وُصُول الْمَاءِ إِلَى تِلْكَ الأَْعْضَاءِ، وَمِنْهَا الأَْظْفَارُ، فَإِذَا مَنَعَ مَانِعٌ مِنْ وُصُول الْمَاءِ إِلَيْهَا مِنْ طِلاَءٍ وَغَيْرِهِ - مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ - لَمْ يَصِحَّ الْوُضُوءُ، وَكَذَلِكَ الْغُسْل، لِمَا رَوَى عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ تَرَكَ مَوْضِعَ شَعْرَةٍ مِنْ جَنَابَةٍ لَمْ يُصِبْهَا الْمَاءُ، فُعِل بِهِ مِنَ النَّارِ
__________
(1) حديث: " أنهر الدم " أخرجه النسائي (7 / 194 - ط المكتبة التجارية) وأبو داود (3 / 250 - ط عزت عبيد دعاس) بهذا المعنى قال عبد القادر الأرناؤوط محقق جامع الأصول: مدار الحديث على سماك بن حرب عن مري بن قطري، ومري بن قطري لم يوثقه غير ابن حبان، وقال الذهبي: لا يعرف، تفرد عنه سماك (جامع الأصول بتحقيق عبد القادر الأرناؤوط 4 / 494 نشر مكتبة الحلواني) .
(2) تبيين الحقائق 5 / 291 ط دار المعرفة، وابن عابدين 5 / 187، والمغني 8 / 574 ط الرياض، وشرح المنهج بحاشية البجيرمى 4 / 290، والصاوي على الشرح الصغير 2 / 178 ط دار المعارف.(5/171)
كَذَا وَكَذَا. (1)
وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلاً تَوَضَّأَ فَتَرَكَ مَوْضِعَ ظُفْرٍ عَلَى قَدَمَيْهِ، فَأَبْصَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: ارْجِعْ فَأَحْسِنْ وُضُوءَكَ. (2) ر: (وُضُوءٌ - غُسْلٌ)
أَثَرُ الْوَسَخِ الْمُتَجَمِّعِ تَحْتَ الأَْظْفَارِ فِي الطَّهَارَةِ:
9 - إِذَا كَانَ تَحْتَ الأَْظْفَارِ وَسَخٌ يَمْنَعُ وُصُول الْمَاءِ إِلَى مَا تَحْتَهُ، فَقَدْ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالْحَنَفِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ، إِلَى أَنَّهُ لاَ يَمْنَعُ الطَّهَارَةَ، وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِالضَّرُورَةِ، وَبِأَنَّهُ لَوْ كَانَ غُسْلُهُ وَاجِبًا لَبَيَّنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " وَقَدْ عَابَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَوْنَهُمْ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِ قُلْحًا وَرَفْعَ أَحَدِهِمْ بَيْنَ أُنْمُلِهِ وَظُفْرِهِ. (3)
__________
(1) ابن عابدين 1 / 104 ط بولاق، والمغني 1 / 222 - 227، والمجموع 1 / 387، 426، وكشاف القناع 1 / 137 ط أنصار السنة، والجمل 1 / 149 ط إحياء التراث، وحاشية الدسوقي 1 / 90 ط دار الفكر. وحديث: " من ترك موضع شعرة من جنابة لم يصبها الماء فعل به من النار كذا وكذا " أخرجه ابن ماجه (1 / 196 ط الحلبي) وأبو داود (عون المعبود 1 / 103 ط الهند) قال المنذري: وفي إسناده عطاء ابن السائب، وثقه أبو داود وقال يحيى بن معين لا يحتج بحديثه وتكلم فيه غيره وقد كان تغير في آخر عمره، وقال الإمام أحمد بن حنبل: من سمع منه قديما فهو صحيح ومن سمع منه حديثا لم يكن بش
(2) حديث: " ارجع فأحسن وضوءك " أخرجه مسلم (1 / 215 ط الحلبي) .
(3) القلح: صفرة الأسنان (المصباح المنير) . وحديث: " وقد عاب النبي صلى الله عليه وسلم كونهم يدخلون عليه قلحا ورفغ أحدكم بين أنملته وظفره " قال الهيثمي: وفيه الضحاك بن زيد، قال ابن حبان: لا يحل الاحتجاج به (كشف الأستار 1 / 139 ط مؤسسة الرسالة، ومجمع الزوائد 1 / 238) .(5/172)
يَعْنِي أَنَّ وَسَخَ أَرْفَاغِهِمْ تَحْتَ أَظْفَارِهِمْ يَصِل إِلَيْهِ رَائِحَةُ نَتِنِهَا، فَعَابَ عَلَيْهِمْ نَتِنَ رِيحِهَا لاَ بُطْلاَنَ طَهَارَتِهِمْ، وَلَوْ كَانَ مُبْطِلاً لِلطَّهَارَةِ لَكَانَ ذَلِكَ أَهَمَّ فَكَانَ أَحَقَّ بِالْبَيَانِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ رَأْيٌ لِلْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَفْهُومُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ: لاَ تَصِحُّ الطَّهَارَةُ حَتَّى يُزِيل مَا تَحْتَ الأَْظْفَارِ مِنْ وَسَخٍ، لأَِنَّهُ مَحَلٌّ مِنَ الْيَدِ اسْتَتَرَ بِمَا لَيْسَ مِنْ خَلْقِهِ، وَقَدْ مَنَعَ إِيصَال الْمَاءِ إِلَيْهِ مَعَ إِمْكَانِ إِيصَالِهِ. (1)
الْجِنَايَةُ عَلَى الظُّفْرِ:
10 - لَوْ جُنِيَ عَلَى الظُّفْرِ فِي غَيْرِ الْعَمْدِ، فَقُلِعَ وَنَبَتَ غَيْرُهُ، قَال الْمَالِكِيَّةُ وَمُحَمَّدٌ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ رَأْيٌ لِلشَّافِعِيَّةِ: فِيهِ أَرْشُ الأَْلَمِ، وَهُوَ حُكُومَةُ عَدْلٍ، بِقَدْرِ مَا لَحِقَهُ إِلَى أَنْ يَبْرَأَ، مِنَ النَّفَقَةِ مِنْ أُجْرَةِ الطَّبِيبِ وَثَمَنِ الدَّوَاءِ.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَهُوَ رَأْيٌ آخَرُ لِلشَّافِعِيَّةِ: لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ. أَمَّا إِذَا لَمْ يَنْبُتْ غَيْرُهُ فَفِيهِ الأَْرْشُ، وَقُدِّرَ بِخَمْسٍ مِنَ الإِْبِل.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِذَا جُنِيَ عَلَى الظُّفْرِ وَلَمْ يَعُدْ، أَوْ عَادَ أَسْوَدَ فَفِيهِ خُمُسُ دِيَةِ الإِْصْبَعِ، وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَفِي ظُفْرٍ عَادَ قَصِيرًا أَوْ عَادَ مُتَغَيِّرًا أَوْ أَبْيَضَّ ثُمَّ أَسْوَدَّ لِعِلَّةٍ حُكُومَةُ عَدْلٍ.
وَهَذَا فِي غَيْرِ الْعَمْدِ، أَمَّا فِي الْعَمْدِ فَفِيهِ الْقِصَاصُ. (2) ر: (قِصَاصٌ - أَرْشٌ) .
__________
(1) المغني 1 / 124، وابن عابدين 1 / 104، والقواعد والفوائد الأصولية للبعلي ص 99، والدسوقي 1 / 88، والمجموع للنووي 1 / 418.
(2) ابن عابدين 5 / 354، 376، ومطالب أولي النهى 6 / 116 ط المكتب الإسلامي، والدسوقي 4 / 277 ط دار الفكر، وقليوبي وعميرة 4 / 136 ط عيسى الحلبي، وجواهر الإكليل 2 / 269.(5/172)
الْجِنَايَةُ بِالظُّفْرِ:
11 - لَمَّا كَانَ تَعَمُّدُ الْقَتْل أَمْرًا خَفِيًّا، نَظَرَ الْفُقَهَاءُ إِلَى الآْلَةِ الْمُسْتَعْمَلَةِ فِي الْقَتْل، فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ لاَ قِصَاصَ فِي الْقَتْل الْعَمْدِ إِلاَّ إِذَا كَانَ بِسِلاَحٍ أَوْ مَا جَرَى مَجْرَاهُ، مِنْ مُحَدَّدٍ مِنَ الْخَشَبِ أَوِ الْحَجَرِ الْعَظِيمِ أَوْ غَيْرِهِمَا، وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، وَمِنْهُمْ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى أَنَّ آلَةَ الْعَمْدِ هِيَ مَا تَقْتُل غَالِبًا، مِثْل الْحَجَرِ الْعَظِيمِ وَالْخَشَبَةِ الْكَبِيرَةِ وَكُل مَا يَقْتُل، عَلَى تَفْصِيلٍ وَخِلاَفٍ بَيْنَهُمْ فِي الضَّوَابِطِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي ذَلِكَ يُرْجَعُ إِلَيْهَا فِي: (مَسَائِل الْجِنَايَاتِ وَالْقِصَاصِ) وَعَلَى هَذَا فَإِذَا كَانَ الظُّفْرُ مُتَّصِلاً أَوْ مُنْفَصِلاً مُعَدًّا لِلْقَتْل وَالْجِنَايَةِ فَهُوَ مِمَّا يَقْتُل غَالِبًا وَيَثْبُتُ بِهِ الْعَمْدُ عِنْدَهُمْ، خِلاَفًا لأَِبِي حَنِيفَةَ، وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ مُعَدًّا لِذَلِكَ، وَتَعَمَّدَ الضَّرْبَ بِهِ فَهُوَ شِبْهُ عَمْدٍ، وَلاَ قِصَاصَ فِيهِ، بَل يَكُونُ فِيهِ الدِّيَةُ الْمُغَلَّظَةُ. (1)
طَهَارَةُ الظُّفْرِ وَنَجَاسَتُهُ:
12 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ ظُفْرَ الإِْنْسَانِ طَاهِرٌ، حَيًّا كَانَ الإِْنْسَانُ أَوْ مَيِّتًا، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الظُّفْرُ مُتَّصِلاً بِهِ، أَمْ مُنْفَصِلاً عَنْهُ، وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ فِي قَوْلٍ مَرْجُوحٍ إِلَى نَجَاسَةِ أَجْزَاءِ الآْدَمِيِّ، وَبَعْضُهُمْ إِلَى نَجَاسَةِ الْكَافِرِ بِالْمَوْتِ دُونَ الْمُسْلِمِ،
__________
(1) ابن عابدين 5 / 340 ط بولاق، والمغني 7 / 637 ط الرياض، وحاشية الدسوقي 2 / 244، 245، والمنهاج وحاشيته 7 / 236، وحاشية البجيرمي 4 / 102، وبداية المجتهد 3 / 431 ط مكتبة الكليات الأزهرية.(5/173)
وَهَذَا الْخِلاَفُ عِنْدَهُمْ فِي غَيْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحِيحُ عِنْدَهُمْ مَا وَافَقَ الْجُمْهُورَ.
أَمَّا الْحَيَوَانُ، فَإِنْ كَانَ نَجِسَ الْعَيْنِ (الذَّاتُ) ، كَالْخِنْزِيرِ، فَإِنَّ ظُفْرَهُ نَجِسٌ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْحَيَوَانُ طَاهِرَ الْعَيْنِ، فَظُفْرُهُ الْمُتَّصِل بِهِ حَال حَيَاتِهِ طَاهِرٌ. فَإِنْ ذُكِّيَ فَهُوَ طَاهِرٌ أَيْضًا، أَمَّا إِذَا مَاتَ فَظُفْرُهُ نَجِسٌ كَمَيْتَتِهِ، وَكَذَا إِذَا انْفَصَل الظُّفْرُ حَال حَيَاتِهِ فَإِنَّهُ نَجِسٌ أَيْضًا، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أُبِينَ مِنْ حَيٍّ فَهُوَ مَيْتٌ. (1)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الظُّفْرَ مِنْ غَيْرِ الْخِنْزِيرِ طَاهِرٌ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ مَأْكُولٍ أَوْ غَيْرِ مَأْكُولٍ، مِنْ حَيٍّ أَوْ مَيِّتٍ، لأَِنَّ الْحَيَاةَ لاَ تُحِلُّهُ، وَاَلَّذِي يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ إِنَّمَا هُوَ مَا حَلَّتْهُ الْحَيَاةُ دُونَ غَيْرِهِ. (2)
إِظْهَارٌ
التَّعْرِيفُ
1 - الإِْظْهَارُ فِي اللُّغَةِ: التَّبْيِينُ، وَالإِْبْرَازُ بَعْدَ الْخَفَاءِ، بِقَطْعِ النَّظَرِ عَمَّا إِذَا عُلِمَ بِالتَّصَرُّفِ الْمُظْهَرِ أَحَدٌ أَوْ لَمْ يُعْلَمْ. وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِهَذَا اللَّفْظِ عَمَّا
__________
(1) حديث: " ما أبين من حي فهو ميت ". سبق تخريجه بهذا المعنى في بحث: أطعمة (ف 77) .
(2) رد المحتار مع الدر المختار 1 / 204 ط مصطفى الحلبي، وحاشية الدسوقي مع الشرح الكبير 1 / 49، والمبدع 1 / 251، والمغني 1 / 74، والإنصاف 1 / 242 - 243، 337، والروضة 1 / 10، ومغني المحتاج 1 / 80 - 81.(5/173)
ذُكِرَ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الإِْفْشَاءُ.
2 - إِذَا كَانَ الإِْظْهَارُ: الإِْبْرَازُ بَعْدَ الْخَفَاءِ، فَإِنَّ الإِْفْشَاءَ هُوَ كَثْرَةُ الإِْظْهَارِ، (2) فِي أَمَاكِنَ وَمُنَاسِبَاتٍ كَثِيرَةٍ قَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: أَلاَ أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلاَمَ بَيْنَكُمْ (3) أَيْ أَكْثِرُوا مِنَ التَّسْلِيمِ عَلَى بَعْضِكُمْ. فَالإِْفْشَاءُ أَخَصُّ مِنَ الإِْظْهَارِ.
ب - الْجَهْرُ:
3 - الْجَهْرُ هُوَ الْمُبَالَغَةُ فِي الإِْظْهَارِ وَعُمُومِهِ، أَلاَ تَرَى أَنَّكَ إِذَا كَشَفْتَ الأَْمْرَ لِلرَّجُل وَالرَّجُلَيْنِ قُلْتَ: أَظْهَرْتُهُ لَهُمَا، وَلاَ تَقُول جَهَرْتُ بِهِ إِلاَّ إِذَا أَظْهَرْتَهُ لِلْجَمَاعَةِ الْكَثِيرَةِ، (4) وَمِنْ هُنَا يَقُول الْعُلَمَاءِ: الْجَهْرُ بِالدَّعْوَةِ، وَيَعْنُونَ إِعْلاَنَهَا لِلْمَلأَِ. فَالْجَهْرُ أَخَصُّ مِنَ الإِْظْهَارِ، فَإِنَّ الْجَهْرَ هُوَ الْمُبَالَغَةُ فِي الإِْظْهَارِ.
ج - الإِْعْلاَنُ:
4 - الإِْعْلاَنُ ضِدُّ الإِْسْرَارِ، وَهُوَ الْمُبَالَغَةُ فِي الإِْظْهَارِ، وَمِنْ هُنَا قَالُوا: يُسْتَحَبُّ إِعْلاَنُ النِّكَاحِ، وَلَمْ يَقُولُوا إِظْهَارُهُ، لأَِنَّ إِظْهَارَهُ يَكُونُ بِالإِْشْهَادِ عَلَيْهِ، أَمَّا إِعْلاَنُهُ فَإِعْلاَمُ الْمَلأَِ بِهِ.
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير، والمفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني مادة: " ظهر "
(2) الفروق في اللغة لأبي هلال العسكري ص 280.
(3) حديث " ألا أدلكم. . . " أخرجه مسلم (1 / 74 ط عيسى الحلبي) .
(4) الفروق في اللغة ص 280.(5/174)
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
يَخْتَلِفُ حُكْمُ الإِْظْهَارِ بِاخْتِلاَفِ مُتَعَلِّقِهِ عَلَى مَا سَيَأْتِي:
الإِْظْهَارُ عِنْدَ عُلَمَاءِ التَّجْوِيدِ:
5 - يُطْلِقُ عُلَمَاءُ التَّجْوِيدِ كَلِمَةَ إِظْهَارٍ، وَيُرِيدُونَ بِهَا: إِخْرَاجُ الْحَرْفِ مِنْ مَخْرَجِهِ بِغَيْرِ غُنَّةٍ وَلاَ إِدْغَامٍ.
وَهُمْ يُقَسِّمُونَ الإِْظْهَارَ إِلَى قِسْمَيْنِ:
الْقِسْمُ الأَْوَّل: إِظْهَارٌ حَلْقِيٌّ، وَيَكُونُ الإِْظْهَارُ الْحَلْقِيُّ عِنْدَمَا يَأْتِي بَعْدَ النُّونِ السَّاكِنَةِ أَوِ التَّنْوِينِ، أَحَدُ الْحُرُوفِ التَّالِيَةِ (أ - هـ - ع - غ - ح - خ)
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: إِظْهَارٌ شَفَوِيٌّ: وَيَكُونُ الإِْظْهَارُ شَفَوِيًّا إِذَا جَاءَ بَعْدَ الْمِيمِ السَّاكِنَةِ أَيُّ حَرْفٍ مِنْ حُرُوفِ الْهِجَاءِ عَدَا (م - ب) وَالأَْصْل فِي حُرُوفِ الْهِجَاءِ الإِْظْهَارُ، وَلَكِنَّ بَعْضَ الْحُرُوفِ - وَلاَ سِيَّمَا النُّونُ وَالْمِيمُ - قَدْ تُدْغَمُ أَحْيَانًا، وَلِهَذَا عُنِيَ بِبَيَانِ أَحْكَامِهَا مِنْ حَيْثُ الإِْظْهَارُ وَالإِْدْغَامُ. وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي عِلْمِ التَّجْوِيدِ.
إِظْهَارُ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى:
6 - إِذَا أَنْعَمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى امْرِئٍ نِعْمَةً فَيَنْبَغِي أَنْ يُظْهِرَ أَثَرَهَا عَلَيْهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الضُّحَى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} (1) وَلِمَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ مَالِكِ بْنِ نَضْلَةَ الْجُشَمِيِّ قَال: دَخَلْتُ عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَآنِي سَيِّئَ الْهَيْئَةِ، فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَل لَكَ مِنْ شَيْءٍ؟ قَال: نَعَمْ مِنْ كُل الْمَال قَدْ
__________
(1) سورة الضحى / 11.(5/174)
آتَانِي اللَّهُ، فَقَال: إِذَا كَانَ لَكَ مَالٌ فَلْيُرَ عَلَيْكَ (1) وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَال، وَيُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ. (2)
إِظْهَارُ الْمَرْءِ غَيْرَ مَا يُبْطِنُ فِي الْعَقَائِدِ:
7 - إِنَّ إِظْهَارَ الْمَرْءِ غَيْرَ مَا يُبْطِنُ مِنْ أُصُول الإِْيمَانِ، كَالإِْيمَانِ بِاَللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ وَالْقَدَرِ، لاَ يَخْرُجُ عَنْ حَالَيْنِ: فَهُوَ إِمَّا أَنْ يُظْهِرَ الإِْيمَانَ بِهَا وَيُبْطِنَ الْكُفْرَ، أَوْ يُظْهِرَ الْكُفْرَ بِهَا وَيُبْطِنَ الإِْيمَانَ.
أ - فَإِنْ أَظْهَرَ الإِْيمَانَ بِهَا وَأَبْطَنَ الْكُفْرَ فَهُوَ نِفَاقٌ مُخَلِّدٌ لِصَاحِبِهِ فِي النَّارِ، قَال تَعَالَى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُول اللَّهِ وَاَللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاَللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} . (3) وَسَيَأْتِي تَفْصِيل ذَلِكَ تَحْتَ مُصْطَلَحِ " نِفَاقٌ " إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
ب - أَمَّا إِنْ أَظْهَرَ الْكُفْرَ بِهَذِهِ الأُْصُول وَأَبْطَنَ
__________
(1) انظر تفسير القرطبي وتفسير ابن كثير لقوله تعالى: / 8 وأما بنعمة ربك فحدث / 8. وحديث مالك بن نضلة الجشمي أخرجه النسائي واللفظ له، والترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح (سنن النسائي 8 / 196، ط المطبعة المصرية بالأزهر، وتحفة الأحوذي 6 / 143 - 145 نشر المكتبة السلفية) .
(2) حديث " إن الله جميل. . . " انظر التيسير بشرح الجامع الصغير للمناوي ص 250 وقال: الحديث ضعيف لضعف السلمي الصوفي، لكن له شاهد عند أبي يعلى وغيره.
(3) سورة المنافقون / 1.(5/175)
الإِْيمَانَ فَإِنَّ ذَلِكَ لاَ يَخْلُو مِنْ حَالَيْنِ:
الْحَال الأَْوَّل: أَنْ يُظْهِرَ مَا أَظْهَرَهُ طَوَاعِيَةً، فَيُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالظَّاهِرِ مِنْ حَالِهِ، لأَِنَّ الأَْحْكَامَ الْفِقْهِيَّةَ تَجْرِي عَلَى الظَّاهِرِ.
الْحَال الثَّانِي: أَنْ يُظْهِرَ مَا أَظْهَرَهُ مُكْرَهًا وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِْيمَانِ، وَعِنْدَئِذٍ تَبْقَى أَحْكَامُ الإِْيمَانِ جَارِيَةً عَلَيْهِ. (1) كَمَا فَصَّل الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ فِي بَحْثِهِمْ فِي الرِّدَّةِ وَفِي الإِْكْرَاهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِْيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} . (2)
إِظْهَارُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ خِلاَفَ قَصْدِهِمَا:
8 - إِذَا أَظْهَرَ الْعَاقِدَانِ عَقْدًا فِي الأَْمْوَال، وَهُمَا لاَ يُرِيدَانِهِ، أَوْ ثَمَنًا لِمَبِيعٍ وَهُمَا يُرِيدَانِ غَيْرَهُ، أَوْ أَقَرَّ أَحَدٌ لآِخَرَ بِحَقٍّ وَقَدِ اتَّفَقَا سِرًّا عَلَى بُطْلاَنِ ذَلِكَ الإِْقْرَارِ الظَّاهِرِ، فَقَدْ قَال بَعْضُ الْفُقَهَاءِ، كَالْحَنَابِلَةِ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ: الظَّاهِرُ بَاطِلٌ. وَقَال بَعْضُهُمْ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ: الظَّاهِرُ صَحِيحُ، وَقَدْ فَصَّل ذَلِكَ الْفُقَهَاءُ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ عِنْدَ كَلاَمِهِمْ عَلَى بَيْعِ التَّلْجِئَةِ، (3) وَسَمَّى الْمُعَاصِرُونَ هَذَا الْعَقْدَ الظَّاهِرَ بِالْعَقْدِ الصُّورِيِّ.
إِظْهَارُ خِلاَفِ قَصْدِ الشَّارِعِ بِالْحِيلَةِ:
9 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ حِل كُل تَصَرُّفٍ مَهْمَا
__________
(1) تفسير القرطبي 10 / 183 طبع دار الكتب المصرية، والمغني 8 / 145 طبع المنار الثالثة، وفتح القدير 7 / 299 طبع بولاق.
(2) سورة النحل / 106.
(3) المغني لابن قدامة 4 / 214 وما بعدها، وحاشية ابن عابدين 4 / 244، 460، ومسلم الثبوت 1 / 123.(5/175)
كَانَ ظَاهِرَهُ، إِذَا كَانَ الْقَصْدُ مِنْهُ إِبْطَال حَقِّ الْغَيْرِ أَوْ إِدْخَال شُبْهَةٍ فِيهِ، أَوْ تَمْوِيهَ بَاطِلٍ. (1)
أَمَّا مَا عَدَا ذَلِكَ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي تَهْدُفُ إِلَى غَيْرِ مَا قَصَدَهُ الشَّارِعُ مِنْهَا، فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي جَوَازِهَا، فَرَأَى بَعْضُ الْفُقَهَاءِ حِلَّهَا، وَرَأَى آخَرُونَ حُرْمَتَهَا، (2) وَنَجِدُ ذَلِكَ مُفَصَّلاً فِي كِتَابِ الْحَظْرِ وَالإِْبَاحَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَفِي ثَنَايَا الأَْبْحَاثِ عِنْدَ غَيْرِهِمْ، وَسَيَأْتِي ذَلِكَ مُفَصَّلاً إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي مُصْطَلَحِ (حِيلَةٌ) .
مَا يُشْرَعُ فِيهِ الإِْظْهَارُ:
10 - مِنْ ذَلِكَ إِظْهَارُ سَبَبِ الْجَرْحِ لِلشَّاهِدِ، لأَِنَّ الْجَرْحَ لاَ يُقْبَل إِلاَّ مُفَسَّرًا، (3) وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ اجْتِهَادِيَّةٌ، (4) كَمَا فَصَّل الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْقَضَاءِ.
وَمِنْ ذَلِكَ إِظْهَارُ إِقَامَةِ الْحُدُودِ لِيَتَحَقَّقَ فِيهَا الرَّدْعُ وَالْمَنْعُ، وَعَمَلاً بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} . (5) وَمِنْ ذَلِكَ إِظْهَارُ الاِسْتِثْنَاءِ وَالْقُيُودِ وَالتَّعْلِيقَاتِ، كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الْفُقَهَاءُ فِي كِتَابِ الإِْقْرَارِ وَالأَْيْمَانِ. وَمِنْ ذَلِكَ إِظْهَارُ طَلَبِ الشُّفْعَةِ بِالإِْشْهَادِ عَلَيْهِ، وَنَحْوِهِ مِمَّا يَسْتَوْجِبُ الإِْشْهَادَ (ر: إِشْهَادٌ) .
وَمِنْ ذَلِكَ إِظْهَارُ الْحُكْمِ بِالْحَجْرِ عَلَى شَخْصٍ
__________
(1) الفتاوى الهندية 5 / 390.
(2) الفتاوى الهندية 5 / 390 وما بعدها، وكتاب المخارج في الحيل لمحمد بن الحسن، والمغني 4 / 53 وما بعدها، والقليوبي 4 / 338، 360، 364.
(3) أسنى المطالب 4 / 315، ومسلم الثبوت 2 / 151 وما بعدها.
(4) إذا أظهرت في الشاهد ما ترد به شهادته.
(5) سورة النور / 2.(5/176)
مُعَيَّنٍ لِيَتَحَاشَى النَّاسُ التَّعَامُل مَعَهُ، كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الْفُقَهَاءُ فِي كِتَابِ الْقَضَاءِ، وَفِي كِتَابِ الْحَجْرِ.
وَمِنْ ذَلِكَ إِظْهَارُ الْمُؤْمِنِ الْفَقِيرِ الاِسْتِغْنَاءَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي وَصْفِ الْمُؤْمِنِينَ: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِل أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} ، (1) وَإِظْهَارُ الْمُتَصَدِّقِ الصَّدَقَةَ إِنْ كَانَ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ، أَوْ كَانَ فِي إِظْهَارِهَا تَشْجِيعًا لِلْغَيْرِ عَلَى الصَّدَقَةِ وَنَحْوِهَا مِنْ عَمَل الْخَيْرِ. كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الْفُقَهَاءُ فِي كِتَابِ الصَّدَقَاتِ، وَكَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ الآْدَابِ الشَّرْعِيَّةِ.
وَمِنْ ذَلِكَ إِظْهَارُ الْبَهْجَةِ وَالسُّرُورِ فِي الْمَوَاسِمِ وَالأَْعْيَادِ، وَالْخِتَانِ، وَالأَْعْرَاسِ، وَوِلاَدَةِ مَوْلُودٍ، وَإِظْهَارِ الْبِشْرِ عِنْدَ لِقَاءِ الضَّيْفِ، وَلِقَاءِ الإِْخْوَانِ، وَإِظْهَارِ الأَْدَبِ عِنْدَ زِيَارَةِ قَبْرِ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا ذُكِرَ ذَلِكَ فِي كُتُبِ الآْدَابِ الشَّرْعِيَّةِ، وَإِظْهَارُ التَّذَلُّل عِنْدَ الْخُرُوجِ إِلَى الاِسْتِسْقَاءِ، كَمَا ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ فِي بَابِ صَلاَةِ الاِسْتِسْقَاءِ، وَإِظْهَارُ الْمُجَاهِدِ قُوَّتَهُ وَبَأْسَهُ لِلْعَدُوِّ، كَتَبَخْتُرِهِ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ. وَغَيْرِ ذَلِكَ.
مَا يَجُوزُ إِظْهَارُهُ:
11 - مِنْ ذَلِكَ إِظْهَارُ الْحُزْنِ عَلَى الْمَيِّتِ بِالْبُكَاءِ بِدُونِ صَوْتٍ، وَبِالإِْحْدَادِ مُدَّةَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ إِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَيِّتُ زَوْجًا، فَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ زَوْجًا فَالإِْحْدَادُ وَاجِبٌ عَلَى الزَّوْجَةِ كَمَا تَقَدَّمَ.
مَا لاَ يَجُوزُ إِظْهَارُهُ:
12 - مِنْ ذَلِكَ إِظْهَارُ الْمُنْكَرَاتِ كُلِّهَا (2) ، وَإِظْهَارُ
__________
(1) سورة البقرة / 273.
(2) إحياء علوم الدين 3 / 320.(5/176)
الْعَوْرَةِ، وَلاَ يَجُوزُ لأَِهْل الذِّمَّةِ إِظْهَارُ شَيْءٍ مِنْ صُلْبَانِهِمْ وَنَوَاقِيسِهِمْ وَخَمْرِهِمْ (1) كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الْفُقَهَاءُ فِي كِتَابِ الْجِزْيَةِ. وَلاَ يَجُوزُ إِظْهَارُ مَا يَجِبُ إِخْفَاؤُهُ مِمَّا يَكُونُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الْفُقَهَاءُ فِي بَابِ الْمُعَاشَرَةِ. وَلاَ يَجُوزُ إِظْهَارُ خِطْبَةِ الْمُعْتَدَّةِ مَا دَامَتْ فِي عِدَّتِهَا كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الْفُقَهَاءُ فِي بَابِ الْعِدَّةِ.
إِعَادَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْعَادَةُ تُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ عَلَى: إِرْجَاعِ الشَّيْءِ إِلَى حَالِهِ الأَْوَّل، كَمَا تُطْلَقُ عَلَى فِعْل الشَّيْءِ مَرَّةً ثَانِيَةً، فَمِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى " الْمُعِيدُ " - أَيِ الَّذِي يُعِيدُ الْخَلْقَ بَعْدَ الْفِنَاءِ، وقَوْله تَعَالَى {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّل خَلْقٍ نُعِيدُهُ} (2) بِهَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا. (3)
وَالْفُقَهَاءُ غَالِبًا مَا يُطْلِقُونَ عَلَى إِرْجَاعِ الشَّيْءِ إِلَى مَكَانِهِ الأَْوَّل لَفْظَ (الرَّدِّ) فَيَقُولُونَ: رَدُّ الشَّيْءِ الْمَسْرُوقِ، وَرَدُّ الْمَغْصُوبِ، وَقَدْ يَقُولُونَ أَيْضًا: إِعَادَةُ الْمَسْرُوقِ.
أَمَّا الإِْعَادَةُ بِالْمَعْنَى الثَّانِي - وَهُوَ فِعْل الشَّيْءِ ثَانِيَةً - فَقَدْ عَرَّفَهَا الْغَزَالِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: بِأَنَّهَا " مَا فُعِل فِي وَقْتِ الأَْدَاءِ ثَانِيًا لِخَلَلٍ فِي الأَْوَّل ". وَتَعْرِيفُ الْحَنَفِيَّةِ كَمَا ذَكَرَ ابْنُ عَابِدِينَ " الإِْعَادَةُ:
__________
(1) قليوبي 3 / 32، 4 / 236.
(2) سورة الأنبياء / 104.
(3) انظر: تاج العروس، ولسان العرب، والمغرب مادة: (عود) .(5/177)
فِعْل مِثْل الْوَاجِبِ فِي وَقْتِهِ لِخَلَلٍ غَيْرِ الْفَسَادِ ". أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَهِيَ عِنْدَهُمْ: فِعْل الشَّيْءِ مَرَّةً أُخْرَى.
وَقَدْ عَرَّفَهَا الْقَرَافِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ بِأَنَّهَا: إِيقَاعُ الْعِبَادَةِ فِي وَقْتِهَا بَعْدَ تَقَدُّمِ إِيقَاعِهَا عَلَى خَلَلٍ فِي الإِْجْزَاءِ، كَمَنْ صَلَّى بِدُونِ رُكْنٍ، أَوْ فِي الْكَمَال كَمَنْ صَلَّى مُنْفَرِدًا.
وَلَعَل الأَْحْسَنَ مِنْ هَذَا مَا عَرَّفَهَا بِهِ بَعْضُهُمْ حَيْثُ قَال: الإِْعَادَةُ فِعْل مِثْل الْوَاجِبِ فِي وَقْتِهِ لِعُذْرٍ (1) لِيَشْمَل نَحْوَ إِعَادَةِ مَنْ صَلَّى مُنْفَرِدًا صَلاَتَهُ مَعَ الْجَمَاعَةِ. وَالْكَلاَمُ فِي هَذَا الْبَحْثِ مَلْحُوظٌ فِيهِ التَّعْرِيفُ الأَْعَمُّ لِلإِْعَادَةِ وَهُوَ تَعْرِيفُ الْحَنَابِلَةِ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّكْرَارُ:
2 - الْفُقَهَاءُ يَسْتَعْمِلُونَ كَلِمَةَ " إِعَادَةٌ " فِي إِعَادَةِ التَّصَرُّفِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَيَسْتَعْمِلُونَ كَلِمَةَ " تَكْرَارٌ " عِنْدَمَا تَكُونُ الإِْعَادَةُ مِرَارًا. (2)
ب - الْقَضَاءُ:
3 - الْمَأْمُورُ بِهِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لأَِدَائِهِ وَقْتٌ مُحَدَّدٌ، كَالصَّلاَةِ وَالْحَجِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَإِمَّا أَلاَّ يَكُونَ لَهُ
__________
(1) التلويح على التوضيح 1 / 161، وجمع الجوامع 1 / 109 وما بعدها، والبدخشي 1 / 64، وحاشية ابن عابدين 1 / 486 طبعة بولاق الأولى، وروضة الناظر لابن قدامة 1 / 168 طبع المطبعة السلفية، والذخيرة ص 64، والمستصفى 1 / 95 ط بولاق.
(2) الفروق في اللغة لأبي هلال العسكري ص 30 طبع بيروت دار الآفاق.(5/177)
وَقْتٌ مُحَدَّدٌ، فَالْقَضَاءُ هُوَ فِعْل الْمَأْمُورِ بِهِ بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِهِ الْمُحَدَّدِ (1) ، أَمَّا الإِْعَادَةُ: فَهِيَ فِعْل الْمَأْمُورِ بِهِ ثَانِيَةً فِي وَقْتِهِ إِنْ كَانَ لَهُ وَقْتٌ مُحَدَّدٌ، أَوْ فِي أَيِّ وَقْتٍ كَانَ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَقْتٌ مُحَدَّدٌ.
ج - الاِسْتِئْنَافُ:
4 - الاِسْتِئْنَافُ لاَ يُسْتَعْمَل إِلاَّ فِي إِعَادَةِ الْعَمَل أَوِ التَّصَرُّفِ مِنْ أَوَّلِهِ، كَاسْتِئْنَافِ الْوُضُوءِ، (2) أَمَّا الإِْعَادَةُ فَإِنَّهَا تُسْتَعْمَل فِي إِعَادَةِ التَّصَرُّفِ مِنْ أَوَّلِهِ أَوْ إِعَادَةِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهِ، كَإِعَادَةِ غَسْل عُضْوٍ مِنْ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
5 - الإِْعَادَةُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ لِخَلَلٍ فِي الْفِعْل الأَْوَّل، أَوْ لِغَيْرِ خَلَلٍ فِيهِ:
أ - فَإِنْ كَانَتْ لِخَلَلٍ فِي الْفِعْل الأَْوَّل: فَإِنَّ حُكْمَهَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ هَذَا الْخَلَل. فَإِنْ كَانَ الْخَلَل مُفْسِدًا لِلتَّصَرُّفِ، وَكَانَ التَّصَرُّفُ وَاجِبًا وَجَبَتْ إِعَادَةُ هَذَا التَّصَرُّفِ. كَمَا إِذَا تَوَضَّأَ وَصَلَّى ثُمَّ عَلِمَ أَنَّ الْمَاءَ نَجِسٌ أَعَادَ الْوُضُوءَ وَالصَّلاَةَ. (3)
أَمَّا إِنْ كَانَ التَّصَرُّفُ غَيْرَ وَاجِبٍ، وَكَانَ الْخَلَل يَمْنَعُ انْعِقَادَهُ أَصْلاً، كَفَقْدِ شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ الاِنْعِقَادِ، فَلاَ يُسَمَّى فِعْلُهُ مَرَّةً أُخْرَى (إِعَادَةٌ) لأَِنَّهُ لَمْ يُوجَدْ فِي الاِعْتِبَارِ الشَّرْعِيِّ.
أَمَّا إِنْ كَانَ الْفِعْل غَيْرَ وَاجِبٍ، وَكَانَ الشُّرُوعُ
__________
(1) التلويح على التوضيح 1 / 166، وابن عابدين 1 / 485 و 487 طبعة بولاق الأولى.
(2) المجموع 1 / 448.
(3) المغني مع الشرح الكبير 1 / 28 طبع مطبعة السعادة.(5/178)
فِيهِ صَحِيحًا، ثُمَّ طَرَأَ عَلَيْهِ الْخَلَل فَأَفْسَدَهُ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ إِعَادَتِهِ، بِنَاءً عَلَى اخْتِلاَفِهِمْ فِي اعْتِبَارِ الشُّرُوعِ مُلْزِمًا أَوْ غَيْرَ مُلْزِمٍ. فَمَنْ قَال: إِنَّ الشُّرُوعَ مُلْزِمٌ - كَالْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ - فَقَدْ أَوْجَبَ الإِْعَادَةَ، وَمَنْ قَال: إِنَّ الشُّرُوعَ غَيْرُ مُلْزَمٍ - كَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ - لَمْ يُوجِبِ الإِْعَادَةَ، كَمَنْ شَرَعَ فِي الصَّلاَةِ ثُمَّ تَرَكَ إِحْدَى السَّجْدَتَيْنِ، أَوْ شَرَعَ فِي الصِّيَامِ ثُمَّ أَفْطَرَ لِعُذْرٍ أَوْ لِغَيْرِ عُذْرٍ، فَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ: يُعِيدُ، وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: لاَ إِعَادَةَ عَلَيْهِ.
وَمَنِ اسْتَحَبَّ الإِْعَادَةَ مِنْهُمُ اسْتَحَبَّهَا لِلْخُرُوجِ مِنْ خِلاَفِ الْعُلَمَاءِ. (1)
وَإِنْ كَانَ الْخَلَل غَيْرَ مُفْسِدٍ لِلْفِعْل، وَكَانَ هَذَا الْخَلَل يُوجِبُ الْكَرَاهَةَ التَّحْرِيمِيَّةَ، فَإِعَادَةُ التَّصَرُّفِ وَاجِبَةٌ، وَإِنْ كَانَ يُوجِبُ الْكَرَاهَةَ التَّنْزِيهِيَّةَ فَإِعَادَةُ التَّصَرُّفِ مُسْتَحَبَّةٌ. فَمَنْ تَرَكَ الْمُوَالاَةَ أَوِ التَّرْتِيبَ فِي الْوُضُوءِ، فَالسُّنَّةُ أَنْ يُعِيدَ عِنْدَ مَنْ يَقُول: إِنَّهُمَا سُنَّةٌ. (2)
ب - وَإِنْ كَانَتِ الإِْعَادَةُ لِغَيْرِ خَلَلٍ، فَهِيَ لاَ تَخْلُو مِنْ أَنْ تَكُونَ لِسَبَبٍ مَشْرُوعٍ أَوْ غَيْرِ مَشْرُوعٍ. فَإِنْ كَانَتْ لِسَبَبٍ مَشْرُوعٍ كَتَحْصِيل الثَّوَابِ كَانَتْ مُسْتَحَبَّةً، إِنْ كَانَتِ الإِْعَادَةُ فِي ذَلِكَ
__________
(1) تخريج الفروع على الأصول ص 138 طبعة ثانية، والاختيار لتعليل المختار 1 / 66، 135 نشر دار المعرفة في بيروت، وأسنى المطالب شرح روض الطالب 1 / 30 نشر المكتبة الإسلامية، والفواكه الدواني 1 / 256 نشر دار المعرفة.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 487 طبعة ثالثة - بولاق، ومراقي الفلاح بحاشية الطحطاوي ص 189 طبع بولاق سنة 1318 هـ، وبدائع الصنائع 1 / 149، والحطاب في مواهب الجليل على الخليل 1 / 225 نشر دار الفكر.(5/178)
مَشْرُوعَةً، كَإِعَادَةِ الْوُضُوءِ الَّذِي تَعَبَّدَ بِهِ لِصَلاَةٍ يُرِيدُ أَدَاءَهَا (1) وَإِعَادَةِ الصَّلاَةِ الَّتِي صَلاَّهَا مُنْفَرِدًا بِجَمَاعَةٍ. (2)
وَكَمَا لَوْ صَلَّى جَمَاعَةً فِي بَيْتِهِ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى أَحَدِ الْمَسَاجِدِ الثَّلاَثَةِ (الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمَسْجِدِ الأَْقْصَى) فَوَجَدَ النَّاسَ يُصَلُّونَهَا جَمَاعَةً فَأَعَادَهَا مَعَهُمْ.
أَمَّا إِنْ صَلاَّهَا بِجَمَاعَةٍ، ثُمَّ رَأَى جَمَاعَةً أُخْرَى يُصَلُّونَهَا فِي غَيْرِ الْمَسَاجِدِ الثَّلاَثَةِ، فَفِي إِعَادَتِهَا مَعَهُمْ خِلاَفٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ. (3) أَمَّا إِنْ كَانَتْ لِسَبَبٍ غَيْرِ مَشْرُوعٍ فَتُكْرَهُ الإِْعَادَةُ، كَالأَْذَانِ وَالإِْقَامَةِ فَإِنَّهُمَا لاَ يُعَادَانِ بِإِعَادَةِ الصَّلاَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ. (4)
أَسْبَابُ الإِْعَادَةِ:
مِنْ أَسْبَابِ الإِْعَادَةِ مَا يَلِي:
أ - وُقُوعُ الْفِعْل غَيْرَ صَحِيحٍ لِعَدَمِ تَوَفُّرِ شُرُوطِ صِحَّتِهِ:
6 - كَمَنْ تَوَضَّأَ وَتَرَكَ جُزْءًا يَجِبُ غَسْلُهُ مِنْ أَعْضَاءِ
__________
(1) المجموع 1 / 333، والمغني 1 / 143 الطبعة الثالثة، وحاشية ابن عابدين 1 / 111 الطبعة الثالثة - بولاق -، ومراقي الفلاح ص 46 طبع بولاق سنة 1318 هـ.
(2) الحطاب في مواهب الجليل 2 / 82، والمغني 2 / 111 طبعة ثالثة.
(3) مواهب الجليل 2 / 82.
(4) المجموع 1 / 333، ومراقي الفلاح ص 46، مواهب الجليل 1 / 460، وحاشية ابن عابدين 1 / 261 طبعة بولاق الأولى.(5/179)
الْوُضُوءِ (1) . وَمَنْ تَوَضَّأَ أَوِ اغْتَسَل بِغَيْرِ نِيَّةٍ (2) عِنْدَ مَنْ يَشْتَرِطُ النِّيَّةَ لَهُمَا. وَمَنْ رَأَوْا أَسْوِدَةً فَظَنُّوهَا عَدُوًّا، فَصَلَّوْا صَلاَةَ الْخَوْفِ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهَا غَيْرُ عَدُوٍّ (3) .
ب - الشَّكُّ فِي وُقُوعِ الْفِعْل:
7 - كَمَنْ نَسِيَ صَلاَةً مِنْ خَمْسِ صَلَوَاتٍ، وَلاَ يَدْرِي مَا هِيَ، فَإِنَّهُ يُعِيدُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ احْتِيَاطًا، لأَِنَّ الشَّكَّ قَدْ طَرَأَ عَلَى أَدَاءِ كُل وَاحِدَةٍ مِنْهَا. (4)
ج - الإِْبْطَال بَعْدَ الْوُقُوعِ:
8 - كَإِعَادَةِ مَا أَبْطَلَتْهُ الرِّدَّةُ مِنَ الْعِبَادَاتِ مَا دَامَ سَبَبُهَا - أَيْ سَبَبُ الْعِبَادَةِ - بَاقِيًا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ، وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: الرِّدَّةُ لاَ تُبْطِل الأَْعْمَال أَبَدًا إِلاَّ إِذَا اتَّصَلَتْ بِالْمَوْتِ.
وَعَلَى هَذَا فَإِنَّ مَنْ صَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ ارْتَدَّ، ثُمَّ أَسْلَمَ قَبْل الْعَصْرِ، وَجَبَ عَلَيْهِ إِعَادَةُ الظُّهْرِ لأَِنَّ سَبَبَهُ - وَهُوَ الْوَقْتُ - مَا زَال بَاقِيًا، وَمَنْ حَجَّ ثُمَّ ارْتَدَّ، ثُمَّ أَسْلَمَ فِي الْعَامِ نَفْسِهِ، أَوْ بَعْدَ أَعْوَامٍ وَجَبَ عَلَيْهِ إِعَادَةُ الْحَجِّ، لأَِنَّ سَبَبَهُ بَاقٍ وَهُوَ " الْبَيْتُ ". (5)
__________
(1) الحطاب 1 / 228 في مواهب الجليل، وكشاف القناع 1 / 61.
(2) المجموع 1 / 321.
(3) المجموع 4 / 431، وكشاف القناع 1 / 239.
(4) المجموع 1 / 231 الطبعة المنيرية سنة 1324 هـ.
(5) حاشية ابن عابدين 3 / 303 طبعة بولاق الأولى، وحاشية الدسوقي 4 / 307 نشر دار الفكر، والأشباه والنظائر لابن نجيم 74، ونهاية المحتاج 7 / 393 طبع المكتبة الإسلامية، وكشاف القناع 6 / 181 نشر مكتبة النصر الحديثة.(5/179)
د - زَوَال الْمَانِعِ:
9 - كَإِعَادَةِ الصَّلاَةِ بِالْوُضُوءِ لِمَنْ تَيَمَّمَ - لِوُجُودِ عَدُوٍّ يَحُول بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَاءِ - وُجُوبًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. وَكَإِعَادَةِ الْمُتَيَمِّمِ الصَّلاَةَ اسْتِحْبَابًا إِذَا وَجَدَ الْمَاءَ فِي الْوَقْتِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ. (1) وَانْظُرْ (التَّيَمُّمُ) .
وَإِذَا كَانَ الْمَانِعُ مِنْ أَمْرٍ لَيْسَ لَهُ بَدَلٌ، كَمَنْ كَانَ عَلَى بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ، وَلَيْسَ عِنْدَهُ مَا يُزِيلُهَا بِهِ، أَوْ كَانَ فِي ثَوْبِهِ نَجَاسَةٌ وَلَيْسَ عِنْدَهُ غَيْرُهُ، وَلاَ مَا يُزِيلُهَا بِهِ، فَإِنَّهُ يُصَلِّي فِيهِ وَلاَ إِعَادَةَ عَلَيْهِ فِي الْوَقْتِ وَلاَ فِي غَيْرِهِ (2) عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَال غَيْرُهُمْ يُعِيدُ مُطْلَقًا إِذَا زَال الْمَانِعُ (3) كَمَا فَصَّل ذَلِكَ الْفُقَهَاءُ فِي كِتَابِ الصَّلاَةِ عِنْدَ كَلاَمِهِمْ عَلَى شُرُوطِ الصَّلاَةِ.
هـ - الاِفْتِيَاتُ عَلَى صَاحِبِ الْحَقِّ:
10 - إِذَا كَانَ لِمَسْجِدٍ أَهْلٌ مَعْلُومُونَ، فَصَلَّى فِيهِ غُرَبَاءُ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ، فَلاَ يُكْرَهُ لأَِهْلِهِ إِعَادَةُ الأَْذَانِ، وَإِنْ صَلَّى فِيهِ أَهْلُهُ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ يُكْرَهُ لِغَيْرِ أَهْلِهِ إِعَادَةُ الأَْذَانِ فِيهِ، (4) وَإِذَا أَذَّنَ غَيْرُ الْمُؤَذِّنِ الرَّاتِبِ ثُمَّ حَضَرَ الْمُؤَذِّنُ الرَّاتِبُ فَلَهُ إِعَادَةُ الأَْذَانِ. (5)
سُقُوطُ الْوَاجِبِ:
11 - إِذَا أُعِيدَ عَمَلٌ لِخَلَلٍ غَيْرِ مُفْسِدٍ، فَهَل يَسْقُطُ ذَلِكَ الْوَاجِبُ بِالْفِعْل الأَْوَّل أَمْ بِالْفِعْل الثَّانِي؟ .
__________
(1) حاشية الطحطاوي على الدر المختار 1 / 126 وكشاف القناع 1 / 177.
(2) مراقي الفلاح ص 129 طبع بولاق سنة 1318 هـ.
(3) كشاف القناع 1 / 270، والمغني 1 / 273، 274، والمجموع 3 / 663.
(4) بدائع الصنائع 1 / 153.
(5) كشاف القناع 167 طبع المطبعة العامرة الشرقية.(5/180)
مِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ قَال: إِنَّ الْوَاجِبَ يَسْقُطُ بِالْفِعْل الثَّانِي، لأَِنَّهُ الْفِعْل الْكَامِل الْخَالِي مِنَ الْخَلَل. وَهَذَا قَوْل الشَّعْبِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَعَطَاءٍ وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، كَمَا قَال ابْنُ عَابِدِينَ. وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ الأَْسْوَدِ مَرْفُوعًا: إِذَا جِئْتَ إِلَى الصَّلاَةِ فَوَجَدْتَ النَّاسَ فَصَل مَعَهُمْ، وَإِنْ كُنْتَ قَدْ صَلَّيْتَ تَكُنْ لَكَ نَافِلَةً وَهَذِهِ مَكْتُوبَةٌ. (1)
وَمِنْهُمْ مَنْ قَال: إِنَّ الْوَاجِبَ يَسْقُطُ بِالْفِعْل الأَْوَّل لأَِنَّهُ وَقَعَ صَحِيحًا غَيْرَ بَاطِلٍ، وَلَكِنَّ فِيهِ شَيْئًا مِنَ الْخَلَل، وَالإِْعَادَةُ شُرِعَتْ لِجَبْرِ هَذَا الْخَلَل فِيهِ. وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ، وَقَوْل الثَّوْرِيِّ وَإِسْحَاقَ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِرِوَايَةٍ أُخْرَى لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ فِيهَا: إِذَا صَلَّيْتُمَا فِي رِحَالِكُمَا، ثُمَّ أَتَيْتُمَا مَسْجِدَ جَمَاعَةٍ، فَصَلِّيَا مَعَهُمْ، فَإِنَّهَا لَكُمْ نَافِلَةٌ. (2)
أَمَّا النِّيَّةُ فِي الإِْعَادَةِ: فَقَدْ قَال ابْنُ عَابِدِينَ: يَنْوِي بِالْفِعْل الثَّانِي الْفَرْضَ - إِنْ كَانَ الْمُعَادُ فَرْضًا
__________
(1) حديث يزيد بن الأسود " إذا جئت إلى الصلاة. . . . " أخرجه مالك والنسائي والحاكم من حديث محجن بلفظ: " إذا جئت فصل مع الناس وإن كنت قد صليت " قال عبد القادر الأرناؤوط محقق جامع الأصول: هذا حديث صحيح. (الموطأ 1 / 132 ط عيسى الحلبي، وسنن النسائي 2 / 112 ط المطبعة الأزهرية، والمستدرك 1 / 244، وجامع الأصول بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي 5 / 650 نشر مكتبة الحلواني) .
(2) حديث " إذا صليتها في رحالكما. . " أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي واللفظ له من حديث يزيد بن الأسود العامري مرفوعا، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. (سنن أبي داود 1 / 386 - 388 ط استنبول، وتحفة الأحوذي 4 / 3 - 5 نشر المكتبة السلفية، وسنن النسائي 2 / 112، 113 ط المطبعة الأزهرية.(5/180)
لأَِنَّ مَا فَعَلَهُ أَوَّلاً هُوَ الْفَرْضُ، فَإِعَادَتُهُ: فِعْلُهُ ثَانِيَةً عَلَى الْوَجْهِ نَفْسِهِ. (1)
أَمَّا عَلَى الْقَوْل بِأَنَّ الْفَرْضَ يَسْقُطُ بِالْفِعْل الثَّانِي فَظَاهِرٌ. وَأَمَّا عَلَى الْقَوْل بِأَنَّ الْفَرْضَ يَسْقُطُ بِالْفِعْل الأَْوَّل، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ تَكْرَارِ الْفِعْل ثَانِيَةً هُوَ جُبْرَانُ نُقْصَانِ الْفِعْل الأَْوَّل، فَالأَْوَّل فَرْضٌ نَاقِصٌ، وَالثَّانِي فَرْضٌ كَامِلٌ، مِثْل الْفِعْل الأَْوَّل ذَاتًا مَعَ وَصْفِ الْكَمَال، وَلَوْ كَانَ الْفِعْل الثَّانِي نَفْلاً لَلَزِمَ أَنْ تَجِبَ الْقِرَاءَةُ فِي الرَّكَعَاتِ الأَْرْبَعِ لِلصَّلاَةِ الْمُعَادَةِ، وَأَلاَّ تُشْرَعَ الْجَمَاعَةُ فِيهَا، وَلَمْ يَذْكُرِ الْفُقَهَاءُ شَيْئًا مِنْ هَذَا.
وَلاَ يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الصَّلاَةِ الثَّانِيَةِ فَرْضًا عَدَمُ سُقُوطِ الْفَرْضِ بِالأُْولَى، لأَِنَّ الْمُرَادَ أَنَّهَا تَكُونُ فَرْضًا بَعْدَ الْوُقُوعِ، أَمَّا قَبْلَهُ فَالْفَرْضُ هُوَ الأَْوْلَى، وَحَاصِلُهُ تَوَقُّفُ الْحُكْمِ بِفَرْضِيَّةِ الأُْولَى عَلَى عَدَمِ الإِْعَادَةِ، وَلَهُ نَظَائِرُ: كَسَلاَمِ مَنْ عَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ يُخْرِجُهُ خُرُوجًا مَوْقُوفًا، وَكَفَسَادِ الصَّلاَةِ الْوَقْتِيَّةِ مَعَ تَذَكُّرِ صَلاَةٍ فَائِتَةٍ. (2)
إِعَارَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْعَارَةُ فِي اللُّغَةِ: مِنَ التَّعَاوُرِ، وَهُوَ التَّدَاوُل وَالتَّنَاوُبُ مَعَ الرَّدِّ. وَالإِْعَارَةُ مَصْدَرُ أَعَارَ، وَالاِسْمُ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 487 طبعة بولاق الأولى، والمغني 2 / 113 ط الرياض.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 487.(5/181)
مِنْهُ الْعَارِيَّةُ، وَتُطْلَقُ عَلَى الْفِعْل، وَعَلَى الشَّيْءِ الْمُعَارِ، وَالاِسْتِعَارَةُ طَلَبُ الإِْعَارَةِ. (1)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ عَرَّفَهَا الْفُقَهَاءُ بِتَعَارِيفَ مُتَقَارِبَةٍ.
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّهَا تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ مَجَّانًا. (2)
وَعَرَّفَهَا الْمَالِكِيَّةُ: بِأَنَّهَا تَمْلِيكُ مَنْفَعَةٍ مُؤَقَّتَةٍ بِلاَ عِوَضٍ. (3)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّهَا شَرْعًا إِبَاحَةُ الاِنْتِفَاعِ بِالشَّيْءِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ. (4)
وَعَرَّفَهَا الْحَنَابِلَةُ: بِأَنَّهَا إِبَاحَةُ الاِنْتِفَاعِ بِعَيْنٍ مِنْ أَعْيَانِ الْمَال (5) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْعُمْرَى:
2 - الْعُمْرَى: تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ طُول حَيَاةِ الْمُسْتَعِيرِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، فَهِيَ أَخَصُّ.
ب - الإِْجَارَةُ:
3 - الإِْجَارَةُ: تَمْلِيكُ مَنْفَعَةٍ بِعِوَضٍ، فَتَجْتَمِعُ مَعَ الإِْعَارَةِ فِي تَمْلِيكِ الْمَنْفَعَةِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِالتَّمْلِيكِ، وَتَنْفَرِدُ الإِْجَارَةُ بِأَنَّهَا بِعِوَضٍ، وَالإِْعَارَةُ بِأَنَّهَا بِغَيْرِ عِوَضٍ (6) .
ج - الاِنْتِفَاعُ:
4 - الاِنْتِفَاعُ: هُوَ حَقُّ الْمُنْتَفِعِ فِي اسْتِعْمَال الْعَيْنِ وَاسْتِغْلاَلِهَا، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُؤَاجِرَهُ، وَلاَ أَنْ يُعِيرَهُ
__________
(1) تاج العروس مادة (عور) .
(2) ابن عابدين 4 / 502.
(3) الشرح الصغير 3 / 570، والزرقاني 6 / 126.
(4) شرح المنهاج وحواشيه 5 / 115.
(5) المغني 5 / 220 ط الرياض.
(6) الشرح الصغير 3 / 570.(5/181)
لِغَيْرِهِ وَالْمَنْفَعَةُ أَعَمُّ مِنَ الاِنْتِفَاعِ، لأَِنَّ لَهُ فِيهَا الاِنْتِفَاعَ بِنَفْسِهِ وَبِغَيْرِهِ، كَأَنْ يُعِيرَهُ أَوْ يُؤَاجِرَهُ (1) .
دَلِيل مَشْرُوعِيَّتِهَا:
5 - الأَْصْل فِي مَشْرُوعِيَّةِ الإِْعَارَةِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالإِْجْمَاعُ وَالْمَعْقُول: أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} (2) فَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُمَا قَالاَ: الْمَاعُونُ الْعَوَارِيُّ. وَفَسَّرَ ابْنُ مَسْعُودٍ الْعَوَارِيَّ بِأَنَّهَا الْقِدْرُ وَالْمِيزَانُ وَالدَّلْوُ.
وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال فِي خُطْبَةِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ: وَالْعَارِيَّةُ مُؤَدَّاةٌ. وَالدَّيْنُ مَقْضِيٌّ. وَالْمِنْحَةُ مَرْدُودَةٌ. وَالزَّعِيمُ غَارِمٌ. (3) وَرَوَى صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعَارَ مِنْهُ أَدْرُعًا يَوْمَ حُنَيْنٍ، فَقَال: أَغَصْبًا يَا مُحَمَّدُ؟ قَال بَل عَارِيَّةً مَضْمُونَةٌ. (4) وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَوَازِ الْعَارِيَّةِ.
وَمِنَ الْمَعْقُول: أَنَّهُ لَمَّا جَازَتْ هِبَةُ الأَْعْيَانِ جَازَتْ هِبَةُ الْمَنَافِعِ، وَلِذَلِكَ صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ بِالأَْعْيَانِ وَالْمَنَافِعِ جَمِيعًا. (5)
__________
(1) هامش الزرقاني 6 / 132، والشرح الصغير 3 / 570، والدسوقي 3 / 433.
(2) سورة الماعون / 7.
(3) حديث " العارية مؤداة " أخرجه أبو داود (3 / 825 - ط عزت عبيد دعاس) من حديث أبي أمامة، وأخرجه الترمذي مختصرا وقال: حديث أبي أمامة حديث حسن. (تحفة الأحوذي 4 / 481، 482 نشر السلفية) .
(4) حديث " بل عارية مضمونة " أخرجه أبو داود (3 / 823 - ط عزت عبيد دعاس) وأحمد (3 / 401 - ط الميمنية) والبيهقي (6 / 289 - ط دائرة المعارف العثمانية) وقواه البيهقي بشواهده.
(5) الاختيار 2 / 55، والشرح الصغير 3 / 570، والمغني 5 / 220.(5/182)
حُكْمُهَا التَّكْلِيفِيُّ:
6 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الإِْعَارَةِ بَعْدَ إِجْمَاعِهِمْ عَلَى جَوَازِهَا، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ حُكْمَهَا فِي الأَْصْل النَّدْبُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} (1) وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُل مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ (2) وَلَيْسَتْ وَاجِبَةً لأَِنَّهَا نَوْعٌ مِنَ الإِْحْسَانِ. لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا أَدَّيْتَ زَكَاةَ مَالِكَ فَقَدْ قَضَيْتَ مَا عَلَيْكَ، (3) وَقَوْلُهُ: لَيْسَ فِي الْمَال حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ (4) وَقِيل: هِيَ وَاجِبَةٌ.
وَاسْتَدَل الْقَائِلُونَ بِالْوُجُوبِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} (5) نُقِل عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّهَا عَارِيَّةَ الْقِدْرِ وَالدَّلْوِ وَنَحْوِهِمَا.
قَال صَاحِبُ الشَّرْحِ الصَّغِيرِ: وَقَدْ يَعْرِضُ لَهَا الْوُجُوبُ، كَغَنِيٍّ عَنْهَا، فَيَجِبُ إِعَارَةُ كُل مَا فِيهِ إِحْيَاءُ مُهْجَةٍ مُحْتَرَمَةٍ لاَ أُجْرَةَ لِمِثْلِهِ، وَكَذَا إِعَارَةُ سِكِّينٍ لِذَبْحِ مَأْكُولٍ يُخْشَى مَوْتُهُ، وَهَذَا الْمَنْقُول عَنِ
__________
(1) سورة الحج / 77.
(2) حديث " كل معروف صدقة " أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 447 - ط السلفية) .
(3) حديث " إذا أديت زكاة مالك. . . . " أخرجه الترمذي (تحفة الأحوذي 3 / 245، 246 نشر السلفية) وابن ماجه (1 / 570 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
(4) حديث " ليس في المال حق سوى الزكاة " أخرجه ابن ماجه (1 / 570 - ط الحلبي) وأعله ابن حجر في التلخيص (2 / 160 - ط دار المحاسن) .
(5) سورة الماعون / 4 - 7.(5/182)
الْمَالِكِيَّةِ لاَ تَأْبَاهُ قَوَاعِدُ الْمَذَاهِبِ الأُْخْرَى. وَقَدْ تَكُونُ حَرَامًا كَإِعْطَائِهَا لِمَنْ تُعِينُهُ عَلَى مَعْصِيَةٍ. وَقَدْ تَكُونُ مَكْرُوهَةً كَإِعْطَائِهَا لِمَنْ تُعِينُهُ عَلَى فِعْلٍ مَكْرُوهٍ. (1)
أَرْكَانُ الإِْعَارَةِ:
7 - قَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِنَّ أَرْكَانَ الْعَارِيَّةِ أَرْبَعَةٌ هِيَ: الْمُعِيرُ، وَالْمُسْتَعِيرُ، وَالْمُعَارُ، وَالصِّيغَةُ، وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ - كَمَا فِي سَائِرِ الْعُقُودِ - إِلَى أَنَّ رُكْنَهَا هُوَ الصِّيغَةُ فَقَطْ، وَمَا عَدَاهُ يُسَمَّى أَطْرَافَ الْعَقْدِ، كَمَا يُسَمَّى الْمُعَارَ مَحَلًّا.
أ - الْمُعِيرُ: وَيُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مَالِكًا لِلتَّصَرُّفِ فِي الشَّيْءِ الْمُعَارِ، مُخْتَارًا يَصِحُّ تَبَرُّعُهُ، فَلاَ تَصِحُّ إِعَارَةُ مُكْرَهٍ، وَلاَ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ، وَلاَ إِعَارَةُ مَنْ يَمْلِكُ الاِنْتِفَاعَ دُونَ الْمَنْفَعَةِ كَسُكَّانِ مَدْرَسَةٍ مَوْقُوفَةٍ.
وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ الصَّبِيَّ الْمَأْذُونَ إِذَا أَعَارَ مَالَهُ صَحَّتِ الإِْعَارَةُ. (2)
ب - الْمُسْتَعِيرُ: وَهُوَ طَالِبُ الإِْعَارَةِ، وَيُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ أَهْلاً لِلتَّبَرُّعِ عَلَيْهِ بِالشَّيْءِ الْمُعَارِ، وَأَنْ يَكُونَ مُعَيَّنًا، فَلَوْ فَرَشَ بِسَاطَهُ لِمَنْ يَجْلِسُ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ عَارِيَّةً، بَل مُجَرَّدُ إِبَاحَةٍ.
ج - الْمُسْتَعَارُ (الْمَحَل) : هُوَ الَّذِي يَمْنَحُهُ الْمُعِيرُ
__________
(1) فتح القدير 7 / 464، والشرح الصغير 3 / 570، ونهاية المحتاج 5 / 117.
(2) الفتاوى الهندية 4 / 372.(5/183)
لِلْمُسْتَعِيرِ لِلاِنْتِفَاعِ بِهِ. وَيُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مُنْتَفَعًا بِهِ انْتِفَاعًا مُبَاحًا مَقْصُودًا مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ. أَمَّا مَا تَذْهَبُ عَيْنُهُ بِالاِنْتِفَاعِ بِهِ كَالطَّعَامِ فَلَيْسَ إِعَارَةً، كَمَا لاَ تَحِل إِذَا كَانَتِ الإِْعَارَةُ لاِنْتِفَاعٍ مُحَرَّمٍ، كَإِعَارَةِ السِّلاَحِ لأَِهْل الْبَغْيِ أَوِ الْفَسَادِ، وَلاَ يُعَارُ مَا لاَ نَفْعَ فِيهِ. (1)
د - الصِّيغَةُ: وَهِيَ كُل مَا يَدُل عَلَى الإِْعَارَةِ مِنْ لَفْظٍ أَوْ إِشَارَةٍ أَوْ فِعْلٍ، وَهَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لاَ بُدَّ مِنَ اللَّفْظِ لِلْقَادِرِ عَلَيْهِ. أَوِ الْكِتَابَةِ مَعَ النِّيَّةِ، وَفِي غَيْرِ الصَّحِيحِ أَنَّهَا تَجُوزُ بِالْفِعْل.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ رُكْنَ الإِْعَارَةِ الإِْيجَابُ بِالْقَوْل مِنَ الْمُعِيرِ، وَلاَ يُشْتَرَطُ الْقَوْل فِي الْقَبُول، خِلاَفًا لِزُفَرَ فَإِنَّهُ رُكْنٌ عِنْدَهُ، وَهُوَ الْقِيَاسُ، وَتَنْعَقِدُ عِنْدَهُمْ بِكُل لَفْظٍ يَدُل عَلَيْهَا وَلَوْ مَجَازًا. (2)
مَا تَجُوزُ إِعَارَتُهُ:
8 - تَجُوزُ إِعَارَةُ كُل عَيْنٍ يُنْتَفَعُ بِهَا مَنْفَعَةً مُبَاحَةً مَعَ بَقَائِهَا، كَالدُّورِ وَالْعَقَارِ وَالدَّوَابِّ وَالثِّيَابِ وَالْحُلِيِّ لِلُّبْسِ، وَالْفَحْل لِلضِّرَابِ، وَالْكَلْبِ لِلصَّيْدِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعَارَ أَدْرُعًا مِنْ صَفْوَانَ. (3) وَذَكَرَ إِعَارَةَ الدَّلْوِ وَالْفَحْل. وَذَكَرَ ابْنُ مَسْعُودٍ عَارِيَّةً الْقِدْرِ وَالْمِيزَانِ، فَيَثْبُتُ الْحُكْمُ فِي هَذِهِ
__________
(1) الشرح الصغير 3 / 570، ومنح الجليل 3 / 487، وتكملة حاشية ابن عابدين 2 / 269.
(2) حاشية ابن عابدين 4 / 502 وما بعدها، والبدائع 8 / 3897 - 3898 ط الإمام، والشرح الصغير 3 / 571، والمغني 5 / 224، ونهاية المحتاج 5 / 116 - 123.
(3) حديث " استعار أدرعا من صفوان " سبق تخريجه (ف 5) .(5/183)
الأَْشْيَاءِ. وَمَا عَدَاهَا مَقِيسٌ عَلَيْهَا إِذَا كَانَ فِي مَعْنَاهَا. وَلأَِنَّ مَا جَازَ لِلْمَالِكِ اسْتِيفَاؤُهُ مِنَ الْمَنَافِعِ مَلَكَ إِعَارَتَهُ إِذَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ مَانِعٌ، وَلأَِنَّهَا أَعْيَانٌ تَجُوزُ إِجَارَتُهَا فَجَازَتْ إِعَارَتُهَا. وَيَجُوزُ اسْتِعَارَةُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ لِيَزِنَ بِهَا أَوْ لِلتَّزَيُّنِ، فَإِنِ اسْتَعَارَهَا لِيُنْفِقَهَا فَهَذَا قَرْضٌ، وَقِيل: لَيْسَ هَذَا جَائِزًا وَلاَ تَكُونُ الْعَارِيَّةُ فِي الدَّنَانِيرِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّهُ تَجُوزُ أَيْضًا إِعَارَةُ الْمُشَاعِ سَوَاءٌ أَكَانَ قَابِلاً لِلْقِسْمَةِ أَمْ لاَ. وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْجُزْءُ الْمُشَاعُ مَعَ شَرِيكٍ أَمْ مَعَ أَجْنَبِيٍّ، وَسَوَاءٌ أَكَانَتِ الْعَارِيَّةُ مِنْ وَاحِدٍ أَمْ مِنْ أَكْثَرَ، لأَِنَّ جَهَالَةَ الْمَنْفَعَةِ لاَ تُفْسِدُ الإِْعَارَةَ. وَلَمْ نَعْثُرْ عَلَى حُكْمِ ذَلِكَ عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ. (1)
طَبِيعَتُهَا مِنْ حَيْثُ اللُّزُومُ وَعَدَمُهُ:
9 - إِذَا تَمَّتِ الإِْعَارَةُ بِتَحَقُّقِ أَرْكَانِهَا وَشُرُوطِهَا، فَهَل تَلْزَمُ بِحَيْثُ لاَ يَصِحُّ الرُّجُوعُ فِيهَا مِنَ الْمُعِيرِ أَوْ لاَ تَلْزَمُ؟ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّ الأَْصْل أَنَّ لِلْمُعِيرِ أَنْ يَرْجِعَ فِي إِعَارَتِهِ مَتَى شَاءَ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الإِْعَارَةُ مُطْلَقَةً أَمْ مُقَيَّدَةً بِعَمَلٍ أَوْ وَقْتٍ، إِلاَّ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ قَالُوا: إِنْ أَعَارَهُ شَيْئًا لِيَنْتَفِعَ بِهِ انْتِفَاعًا يَلْزَمُ مِنَ الرُّجُوعِ فِي الْعَارِيَّةِ فِي أَثْنَائِهِ ضَرَرٌ بِالْمُسْتَعِيرِ لَمْ يَجُزْ لَهُ الرُّجُوعُ، لأَِنَّ الرُّجُوعَ يَضُرُّ بِالْمُسْتَعِيرِ، فَلَمْ يَجُزْ لَهُ الإِْضْرَارُ بِهِ، مِثْل أَنْ يُعِيرَهُ لَوْحًا يُرَقِّعُ بِهِ سَفِينَتَهُ، فَرَقَّعَهَا بِهِ وَلَجَّجَ بِهَا فِي الْبَحْرِ، لَمْ يَجُزْ لَهُ الرُّجُوعُ مَا دَامَتْ فِي
__________
(1) ابن عابدين 4 / 767، والمغني 5 / 224 - 225، والشرح الصغير 3 / 572، ونهاية المحتاج 5 / 120.(5/184)
الْبَحْرِ، وَلَهُ الرُّجُوعُ قَبْل دُخُولِهَا فِي الْبَحْرِ وَبَعْدَ الْخُرُوجِ مِنْهُ، لِعَدَمِ الضَّرَرِ فِيهِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِذَا رَجَعَ الْمُعِيرُ فِي إِعَارَتِهِ بَطَلَتْ، وَتَبْقَى الْعَيْنُ فِي يَدِ الْمُسْتَعِيرِ بِأَجْرِ الْمِثْل إِذَا حَصَل ضَرَرٌ، كَمَنِ اسْتَعَارَ جِدَارَ غَيْرِهِ لِوَضْعِ جُذُوعِهِ فَوَضَعَهَا، ثُمَّ بَاعَ الْمُعِيرُ الْجِدَارَ، لَيْسَ لِلْمُشْتَرِي رَفْعُهَا، وَقِيل: لَهُ رَفْعُهَا إِلاَّ إِذَا شَرَطَ الْبَائِعُ وَقْتَ الْبَيْعِ بَقَاءَ الْجُذُوعِ. وَقَدِ ارْتَضَى الْقَوْل بِالرَّفْعِ صَاحِبُ الْخُلاَصَةِ وَالْبَزَّازِيَّةِ وَغَيْرِهِمَا، وَاعْتَمَدَهُ فِي تَنْوِيرِ الْبَصَائِرِ، وَقَالُوا أَيْضًا: إِنَّ لِلْوَارِثِ أَنْ يَأْمُرَ الْجَارَ بِرَفْعِ الْجُذُوعِ عَلَى أَيِّ حَالٍ. (1)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ أَعَارَ الْمُعِيرُ أَرْضًا لِلْبِنَاءِ أَوِ الْغِرَاسِ إِعَارَةً مُطْلَقَةً، وَلَمْ يَحْصُل غَرْسٌ وَلاَ بِنَاءٌ فَلِلْمُعِيرِ الرُّجُوعُ فِي الإِْعَارَةِ وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ، وَعَلَى غَيْرِ الْمُعْتَمَدِ يَلْزَمُهُ بَقَاءُ الأَْرْضِ فِي يَدِ الْمُسْتَعِيرِ الْمُدَّةَ الْمُعْتَادَةَ، وَإِنْ رَجَعَ الْمُعِيرُ بَعْدَ حُصُول الْغِرَاسِ وَالْبِنَاءِ فَلَهُ ذَلِكَ أَيْضًا، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ إِخْرَاجُ الْمُسْتَعِيرِ مِنَ الأَْرْضِ وَلَوْ كَانَتِ الإِْعَارَةُ قَرِيبَةً، لِتَفْرِيطِ الْمُسْتَعِيرِ بِتَرْكِهِ اشْتِرَاطَ الأَْجَل، لَكِنْ مَاذَا يَلْزَمُ الْمُعِيرَ حِينَئِذٍ؟ فِي قَوْلٍ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ دَفْعُ مَا أَنْفَقَ الْمُسْتَعِيرُ مِنْ ثَمَنِ الأَْعْيَانِ الَّتِي بَنَى بِهَا أَوْ غَرَسَهَا مِنْ أُجْرَةِ النَّقْلَةِ. وَفِي قَوْلٍ إِنَّ عَلَيْهِ دَفْعَ الْقِيمَةِ إِنْ طَال زَمَنُ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ لِتَغَيُّرِ الْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ بِطُول الزَّمَانِ. وَفِي قَوْلٍ إِنَّ مَحَل دَفْعِ الْقِيمَةِ إِذَا كَانَتِ الأَْعْيَانُ الَّتِي بَنَى بِهَا الْمُسْتَعِيرُ هِيَ فِي مِلْكِهِ وَلَمْ يَشْتَرِهَا أَوْ كَانَتْ مِنَ الْمُبَاحَاتِ. وَمَحَل دَفْعِ
__________
(1) ابن عابدين 4 / 768، وتحفة المحتاج 5 / 428، ونهاية المحتاج 5 / 130، والمغني 5 / 232 ط الرياض.(5/184)
مَا أَنْفَقَ إِنِ اشْتَرَاهُ لِلْعِمَارَةِ. وَكُل ذَلِكَ فِي الإِْعَارَةِ الصَّحِيحَةِ، فَإِنْ وَقَعَتْ فَاسِدَةً فَعَلَى الْمُسْتَعِيرِ أُجْرَةُ الْمِثْل، وَيَدْفَعُ لَهُ الْمُعِيرُ فِي بِنَائِهِ وَغَرْسِهِ قِيمَتَهُ. (1)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الإِْعَارَةَ إِنْ قُيِّدَتْ بِعَمَلٍ أَوْ أَجَلٍ لَزِمَتْ، وَلاَ يَجُوزُ الرُّجُوعُ قَبْل انْتِهَاءِ الْعَمَل أَوِ الأَْجَل أَيًّا كَانَ الْمُسْتَعَارُ، أَرْضًا لِزِرَاعَةٍ أَوْ لِسُكْنَى أَوْ لِوَضْعِ شَيْءٍ بِهَا، أَوْ كَانَ حَيَوَانًا لِرُكُوبٍ أَوْ حَمْلٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، أَوْ عَرْضًا.
وَإِنْ لَمْ تُقَيَّدْ بِعَمَلٍ أَوْ أَجَلٍ بِأَنْ أُطْلِقَتْ فَلاَ تَلْزَمُ، وَلِرَبِّهَا أَخْذُهَا مَتَى شَاءَ، وَلاَ يَلْزَمُ قَدْرُ مَا تَقْصِدُ الإِْعَارَةَ لِمِثْلِهِ عَادَةً عَلَى الْمُعْتَمَدِ. وَفِي غَيْرِ الْمُعْتَمَدِ أَنَّهُ يَلْزَمُ بَقَاؤُهُ فِي يَدِ الْمُسْتَعِيرِ لِمَا يُعَارُ لِمِثْلِهِ عَادَةً. وَقِيل: إِنَّهُ تَلْزَمُ إِذَا أُعِيرَتِ الأَْرْضُ لِلْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ وَحَصَلاَ.
وَدَلِيل جَوَازِ الرُّجُوعِ إِلاَّ فِيمَا اسْتُثْنِيَ أَنَّ الإِْعَارَةَ مَبَرَّةٌ مِنَ الْمُعِيرِ، وَارْتِفَاقٌ مِنَ الْمُسْتَعِيرِ، فَالإِْلْزَامُ غَيْرُ لاَئِقٍ بِهَا. (2)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا أَذِنَ أَحَدٌ لِبَعْضِ وَرَثَتِهِ بِبِنَاءِ مَحَلٍّ فِي دَارِهِ، ثُمَّ مَاتَ، فَلِبَاقِي الْوَرَثَةِ مُطَالَبَتُهُ بِرَفْعِهِ إِنْ لَمْ تَقَعِ الْقِسْمَةُ، أَوْ لَمْ يَخْرُجْ فِي قَسْمِهِ. وَإِذَا اسْتَعَارَ أَحَدٌ دَارًا، فَبَنَى فِيهَا بِلاَ إِذْنِ الْمَالِكِ. أَوْ قَال لَهُ صَاحِبُ الدَّارِ: ابْنِ لِنَفْسِكَ، ثُمَّ بَاعَ الْمُعِيرُ الدَّارَ بِحُقُوقِهَا يُؤْمَرُ الْبَانِي بِهَدْمِ بِنَائِهِ.
وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ لَوْ أَعَارَ إِنْسَانٌ مَدْفِنًا لِدَفْنِ مَيِّتٍ، فَلاَ يَجُوزُ لَهُ الرُّجُوعُ حَتَّى يَنْدَرِسَ أَثَرُ الْمَدْفُونِ بِحَيْثُ لاَ يَبْقَى مِنْهُ شَيْءٌ، فَيَرْجِعُ حِينَئِذٍ وَتَنْتَهِي الْعَارِيَّةُ.
__________
(1) حاشية الدسوقي 3 / 439.
(2) نهاية المحتاج شرح المنهاج 5 / 129.(5/185)
وَحُكْمُ الْوَرَثَةِ حُكْمُ مُوَرِّثِهِمْ فِي عَدَمِ الرُّجُوعِ، وَلاَ أُجْرَةَ لِذَلِكَ، مُحَافَظَةً عَلَى كَرَامَةِ الْمَيِّتِ، وَلِقَضَاءِ الْعُرْفِ بِعَدَمِ الأُْجْرَةِ، وَالْمَيِّتُ لاَ مَال لَهُ. وَقَوَاعِدُ الْمَذَاهِبِ الأُْخْرَى لاَ تَأْبَى هَذَا الْحُكْمَ. (1)
آثَارُ الرُّجُوعِ:
10 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الْمُعِيرَ إِذَا رَجَعَ فِي إِعَارَتِهِ بَطَلَتِ الإِْعَارَةُ، وَيَبْقَى الْمُعَارُ فِي يَدِ الْمُسْتَعِيرِ بِأَجْرِ الْمِثْل كَمَا مَرَّ إِنْ حَصَل ضَرَرٌ لِلْمُسْتَعِيرِ بِأَخْذِ الْمُعَارِ مِنْهُ. وَأَوْرَدُوا الأَْحْكَامَ الْخَاصَّةَ بِكُل نَوْعٍ مِمَّا يُعَارُ. فَقَالُوا فِي إِعَارَةِ الأَْرْضِ لِلْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ: لَوْ أَعَارَ أَرْضًا إِعَارَةً مُطْلَقَةً لِلْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ صَحَّ لِلْعِلْمِ بِالْمَنْفَعَةِ، وَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ مَتَى شَاءَ، وَيُكَلِّفُ الْمُعِيرُ الْمُسْتَعِيرَ قَلْعَ الزَّرْعِ وَالْبِنَاءِ إِلاَّ إِذَا كَانَ فِيهِ مَضَرَّةٌ بِالأَْرْضِ، فَيُتْرَكَانِ بِالْقِيمَةِ مَقْلُوعَيْنِ، لِئَلاَّ تَتْلَفَ أَرْضُهُ، أَوْ يَأْخُذُ الْمُسْتَعِيرُ غِرَاسَهُ وَبِنَاءَهُ بِلاَ تَضْمِينِ الْمُعِيرِ. وَذَكَرَ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ أَنَّ لِلْمُسْتَعِيرِ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُعِيرَ قِيمَتَهُمَا قَائِمَيْنِ فِي الْحَال وَيَكُونَانِ لَهُ وَأَنْ يَرْفَعَهَا، إِلاَّ إِذَا كَانَ الرَّفْعُ مُضِرًّا بِالأَْرْضِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْخِيَارُ لِلْمُعِيرِ. وَفِيهِ رَمْزٌ إِلَى أَنَّهُ لاَ ضَمَانَ فِي الْعَارِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ. وَعَنْهُ أَنَّ عَلَيْهِ الْقِيمَةَ. وَأَشَارَ أَيْضًا إِلَى أَنَّهُ لاَ ضَمَانَ فِي الْمُؤَقَّتَةِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْوَقْتِ فَيُقْلِعُ الْمُعِيرُ الْبِنَاءَ وَالْغَرْسَ إِلاَّ أَنْ يَضُرَّ الْقَلْعُ بِالأَْرْضِ، فَحِينَئِذٍ يَضْمَنُ قِيمَتَهُمَا مَقْلُوعَيْنِ لاَ قَائِمَيْنِ.
وَإِنْ وَقَّتَ الْمُعِيرُ الإِْعَارَةَ فَرَجَعَ عَنْهَا قَبْل الْوَقْتِ
__________
(1) ابن عابدين 4 / 768، والشرح الكبير 3 / 439، والشرح الصغير 3 / 573، ونهاية المحتاج شرح المنهاج 5 / 129، والمغني 5 / 229 - 230.(5/185)
كُلِّفَ الْمُسْتَعِيرُ قَلْعَهَا، وَضَمِنَ الْمُعِيرُ لَهُ مَا نَقَصَ الْبِنَاءُ وَالْغَرْسُ، لَكِنْ هَل يَضْمَنُهُمَا قَائِمَيْنِ أَوْ مَقْلُوعَيْنِ؟ .
مَا مَشَى عَلَيْهِ الْكَنْزُ وَالْهِدَايَةُ أَنَّهُ يَضْمَنُهُمَا مَقْلُوعَيْنِ، وَذُكِرَ فِي الْبَحْرِ عَنِ الْمُحِيطِ ضَمَانُ الْقِيمَةِ قَائِمًا إِلاَّ أَنْ يُقْلِعَهُ الْمُسْتَعِيرُ وَلاَ ضَرَرَ، فَإِنْ ضَمِنَ فَضَمَانُ الْقِيمَةِ مَقْلُوعًا. وَعِبَارَةُ الْمَجْمَعِ: وَأَلْزَمْنَاهُ الضَّمَانَ فَقِيل: مَا نَقَصَهُمَا الْقَلْعُ، وَقِيل: قِيمَتُهُمَا وَيَمْلِكُهُمَا. وَقِيل: إِنْ ضَرَّ يُخَيَّرُ الْمَالِكُ بَيْنَ ضَمَانِ مَا نَقَصَ، وَضَمَانِ الْقِيمَةِ، وَمِثْلُهُ فِي دُرَرِ الْبِحَارِ وَالْمَوَاهِبُ وَالْمُلْتَقَى وَكُلُّهُمْ قَدَّمُوا الأَْوَّل، وَبَعْضُهُمْ جَزَمَ بِهِ وَعَبَّرَ عَنْ غَيْرِهِ بِقِيل فَلِذَا اخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُ ابْنُ عَابِدِينَ وَهُوَ رِوَايَةُ الْقُدُورِيِّ، وَالثَّانِي رِوَايَةُ الْحَاكِمِ الشَّهِيدِ (1) .
وَقَال الْقَاضِي زَكَرِيَّا الأَْنْصَارِيُّ فِي الْمَنْهَجِ: إِذَا أَعَارَ لِبِنَاءٍ أَوْ غَرْسٍ، وَلَوْ إِلَى مُدَّةٍ، ثُمَّ رَجَعَ بَعْدَ أَنْ بَنَى الْمُسْتَعِيرُ أَوْ غَرَسَ، فَإِنْ شَرَطَ عَلَيْهِ قَلْعَهُ لَزِمَهُ، وَإِنْ لَمْ يَشْرِطْ فَإِنِ اخْتَارَ الْمُسْتَعِيرُ الْقَلْعَ قَلَعَ مَجَّانًا وَلَزِمَهُ تَسْوِيَةُ الأَْرْضِ، لأَِنَّهُ قَلَعَ بِاخْتِيَارِهِ، وَإِنْ لَمْ يَخْتَرْ قَلْعَهُ خُيِّرَ الْمُعِيرُ بَيْنَ تَمَلُّكِهِ بِقِيمَتِهِ مُسْتَحَقَّ الْقَلْعِ حِينَ التَّمَلُّكِ، وَبَيْنَ قَلْعِهِ مَعَ ضَمَانِ نَقْصِهِ، وَهُوَ قَدْرُ التَّفَاوُتِ بَيْنَ قِيمَتِهِ قَائِمًا وَقِيمَتِهِ مَقْلُوعًا وَبَيْنَ تَبْقِيَتِهِ بِأُجْرَةٍ. (2)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ أَعَارَهُ أَرْضًا لِلْغِرَاسِ وَالْبِنَاءِ، وَشَرَطَ عَلَيْهِ الْقَلْعَ فِي وَقْتٍ أَوْ عِنْدَ رُجُوعِهِ، ثُمَّ رَجَعَ لَزِمَ الْمُسْتَعِيرَ الْقَلْعُ، وَإِنْ لَمْ يُشْتَرَطْ لَمْ يَلْزَمْهُ إِلاَّ أَنْ يَضْمَنَ لَهُ الْمُعِيرُ النَّقْصَ، فَإِنْ أَبَى الْقَلْعَ فِي
__________
(1) ابن عابدين 4 / 504 ط بولاق.
(2) الجمل على شرح المنهج 3 / 464.(5/186)
الْحَال الَّتِي لاَ يُجْبَرُ عَلَيْهِ فِيهَا، فَبَذَل لَهُ الْمُعِيرُ قِيمَةَ الْغِرَاسِ وَالْبِنَاءِ لِيَمْلِكَهُ أُجْبِرَ الْمُسْتَعِيرُ عَلَيْهِ، فَإِنِ امْتَنَعَ الْمُعِيرُ مِنْ دَفْعِ الْقِيمَةِ وَأَرْشِ النَّقْصِ، وَامْتَنَعَ الْمُسْتَعِيرُ مِنَ الْقَلْعِ وَدَفْعِ الأَْجْرِ لَمْ يُقْلَعْ، وَإِنْ أَبَيَا الْبَيْعَ تُرِكَ بِحَالِهِ وَلِلْمُعِيرِ التَّصَرُّفُ بِأَرْضِهِ عَلَى وَجْهٍ لاَ يَضُرُّ بِالشَّجَرِ. (1)
إِعَارَةُ الأَْرْضِ لِلزَّرْعِ:
11 - لِلْفُقَهَاءِ اخْتِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ فِي الْحُكْمِ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَى الرُّجُوعِ فِي إِعَارَةِ الأَْرْضِ لِلزِّرَاعَةِ قَبْل تَمَامِ الزَّرْعِ.
فَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ الْوَجْهُ الْمُقَدَّمُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَعَلَيْهِ الْمَذْهَبُ، وَهُوَ الْقَوْل غَيْرُ الْمُعْتَمَدِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ مُعِيرَ الأَْرْضِ لِلزِّرَاعَةِ إِذَا رَجَعَ قَبْل تَمَامِ الزَّرْعِ وَحَصَادِهِ فَلَيْسَ لَهُ أَخْذُهَا مِنَ الْمُسْتَعِيرِ، بَل تَبْقَى فِي يَدِهِ بِأَجْرِ الْمِثْل. وَهَذَا الْحُكْمُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ اسْتِحْسَانٌ سَوَاءٌ أَكَانَتِ الإِْعَارَةُ مُطْلَقَةً أَمْ مُقَيَّدَةً.
وَحُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ: أَنَّهُ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ مَصْلَحَةِ الْمُعِيرِ وَالْمُسْتَعِيرِ، بِأَنْ يَأْخُذَ الْمُعِيرُ أَجْرَ مِثْل الأَْرْضِ مِنْ تَارِيخِ رُجُوعِهِ حَتَّى حَصَادِ الزَّرْعِ، فَيَنْتَفِي ضَرَرُهُ بِذَلِكَ، وَيَبْقَى الزَّرْعُ فِي الأَْرْضِ حَتَّى يُحْصَدَ. وَفِي ذَلِكَ مَصْلَحَةُ الْمُسْتَعِيرِ، فَلاَ يُضَرُّ بِالْقَلْعِ قَبْل الْحَصَادِ، وَهَذَا هُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الإِْعَارَةِ الْمُطْلَقَةِ إِنْ نَقَصَ الزَّرْعُ بِالْقَلْعِ، لأَِنَّهُ مُحْتَرَمٌ، وَلَهُ أَمَدٌ يَنْتَهِي إِلَيْهِ، وَتَبْقَى بِأَجْرِ الْمِثْل.
__________
(1) الشرح الكبير على المقنع 5 / 360 - 361.(5/186)
وَلِلْمَالِكِيَّةِ ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ فِي الإِْعَارَةِ الْمُطْلَقَةِ:
أَحَدُهَا: هَذَا.
وَالثَّانِي: أَنَّ الأَْرْضَ تَبْقَى فِي يَدِ الْمُسْتَعِيرِ الْمُدَّةَ الَّتِي تُرَادُ الأَْرْضُ لِمِثْلِهَا عَادَةً.
وَالثَّالِثُ: لاَ تَبْقَى، وَهُوَ قَوْل أَشْهَبَ.
أَمَّا الْمُقَيَّدَةُ بِعَمَلٍ أَوْ أَجَلٍ فَلاَ يَرْجِعُ قَبْل انْقِضَاءِ الْعَمَل أَوِ الأَْجَل.
وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَلاَّ أُجْرَةَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ، بَل تَبْقَى الأَْرْضُ فِي يَدِهِ حَتَّى الْحَصَادِ بِلاَ أَجْرٍ، لأَِنَّ مَنْفَعَةَ الأَْرْضِ إِلَى الْحَصَادِ. وَالثَّالِثُ أَنَّ لِلْمُعِيرِ الْقَلْعَ لاِنْقِطَاعِ الإِْبَاحَةِ.
وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ كَمَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ فِي عَدَمِ جَوَازِ الرُّجُوعِ، لَكِنَّهُمْ قَالُوا: إِنْ كَانَ الزَّرْعُ مِمَّا يُحْصَدُ قَصِيلاً فَلَهُ الرُّجُوعُ فِي وَقْتِ إِمْكَانِ حَصَادِهِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضِ الْحَنَفِيَّةُ لِهَذَا النَّوْعِ مِنَ الزَّرْعِ، كَالْبِرْسِيمِ وَالشَّعِيرِ الأَْخْضَرِ. (1)
إِعَارَةُ الدَّوَابِّ وَمَا فِي مَعْنَاهَا:
12 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ إِعَارَةَ الدَّوَابِّ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُطْلَقَةً أَوْ مُقَيَّدَةً، فَإِنْ كَانَتْ مُطْلَقَةً، بِأَنْ أَعَارَ دَابَّتَهُ مَثَلاً وَلَمْ يُسَمِّ مَكَانًا وَلاَ زَمَانًا وَلاَ رُكُوبًا وَلاَ حَمْلاً مُعَيَّنًا فَلِلْمُسْتَعِيرِ أَنْ يَسْتَعْمِلَهَا فِي أَيِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ شَاءَ، وَلَهُ أَنْ يَحْمِل أَوْ يَرْكَبَ، لأَِنَّ الأَْصْل فِي الْمُطْلَقِ أَنْ يَجْرِيَ عَلَى إِطْلاَقِهِ، وَقَدْ مَلَّكَهُ مَنَافِعَ الْعَارِيَّةِ مُطْلَقًا فَكَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَهَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي مَلَكَهَا. إِلاَّ أَنَّهُ لاَ يَحْمِل عَلَيْهَا مَا يَضُرُّهَا،
__________
(1) البدائع 8 / 3904، وابن عابدين 4 / 372، 5 / 772، والشرح الصغير 3 / 577 ط دار المعارف، والقوانين الفقهية ص 245، 246، ونهاية المحتاج 5 / 139، والمغني 5 / 229، 230.(5/187)
وَلاَ يَسْتَعْمِلُهَا أَكْثَرَ مِمَّا جَرَى بِهِ الْعُرْفُ، حَتَّى لَوْ فَعَل فَعَطِبَتْ ضَمِنَ، لأَِنَّ الْعَقْدَ وَإِنْ خَرَجَ مَخْرَجَ الإِْطْلاَقِ لَكِنَّ الْمُطْلَقَ يَتَقَيَّدُ بِالْعُرْفِ وَالْعَادَةِ دَلاَلَةً، كَمَا يَتَقَيَّدُ نَصًّا.
وَلاَ يَمْلِكُ الْمُسْتَعِيرُ تَأْجِيرَ الْعَارِيَّةِ، فَإِنْ أَجَّرَهَا وَسَلَّمَهَا إِلَى الْمُسْتَأْجِرِ فَهَلَكَتْ عِنْدَهُ ضَمِنَ الْمُسْتَعِيرُ أَوِ الْمُسْتَأْجِرُ، لَكِنْ إِذَا ضَمِنَ الْمُسْتَأْجِرُ رَجَعَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ.
وَإِذَا قَيَّدَ الْمُعِيرُ الإِْعَارَةَ تَقَيَّدَتْ بِمَا قَيَّدَهَا بِهِ.
فَإِنْ خَالَفَ الْمُسْتَعِيرُ، وَعَطِبَتِ الدَّابَّةُ ضَمِنَ بِالاِتِّفَاقِ. وَإِنْ خَالَفَ وَسُلِّمَتْ فَهُنَاكَ اتِّجَاهَانِ: الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ يَرَوْنَ أَنَّ الْمُسْتَعِيرَ يَضْمَنُ أَجْرَ مَا زَادَ فِي الْمَسَافَةِ أَوِ الْحَمْل (1) وَتَقْدِيرُ ذَلِكَ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى أَهْل الْخِبْرَةِ.
وَلَمْ يَتَعَرَّضِ الْحَنَفِيَّةُ لِهَذَا الْفَرْعِ فِي كِتَابِ الإِْعَارَةِ وَلَكِنْ تَعَرَّضُوا لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ الإِْجَارَةِ فَقَالُوا: " إِذَا زَادَ عَلَى الدَّابَّةِ شَيْئًا غَيْرَ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ وَسُلِّمَتْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْمُسَمَّى فَقَطْ، وَإِنْ كَانَ لاَ يَحِل لَهُ الزِّيَادَةُ إِلاَّ بِرِضَى الْمُكَارِي ". (2)
وَلَمَّا كَانَ كُلٌّ مِنَ الإِْعَارَةِ وَالإِْجَارَةِ فِيهِ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ وَكَانَ أَخْذُ الأَْجْرِ فِي الإِْجَارَةِ مُسَلَّمًا وَفِي الإِْعَارَةِ غَيْرَ مُسَلَّمٍ، لأَِنَّهَا مِنْ بَابِ الإِْحْسَانِ وَالتَّبَرُّعِ، فَإِنَّ عَدَمَ وُجُوبِ أَجْرٍ فِي مُقَابَلَةِ الزِّيَادَةِ يَكُونُ فِي الإِْعَارَةِ مِنْ بَابٍ أَوْلَى.
فَإِذَا أَعَارَ إِنْسَانًا دَابَّةً عَلَى أَنْ يَرْكَبَهَا الْمُسْتَعِيرُ
__________
(1) الزرقاني والبناني 6 / 132، ونهاية المحتاج 5 / 127، 128، والمغني 5 / 232.
(2) ابن عابدين 4 / 770، والبدائع 8 / 3900 - 3901. واللجنة ترى أن هذه الأحكام بما فيها من تفصيلات يمكن أن تجري على السيارات وسائر وسائل النقل الحديثة.(5/187)
بِنَفْسِهِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُعِيرَهَا غَيْرَهُ. لأَِنَّ الأَْصْل فِي الْمُقَيَّدِ اعْتِبَارُ الْقَيْدِ فِيهِ إِلاَّ إِذَا تَعَذَّرَ اعْتِبَارُهُ. وَالاِعْتِبَارُ فِي هَذَا الْقَيْدِ مُمْكِنٌ، لأَِنَّهُ مُقَيَّدٌ لِتَفَاوُتِ النَّاسِ فِي اسْتِعْمَال الدَّوَابِّ، فَإِنْ خَالَفَ الْمُسْتَعِيرُ وَأَعَارَ الدَّابَّةَ فَهَلَكَتْ ضَمِنَ.
تَعْلِيقُهَا وَإِضَافَتُهَا:
13 - جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ - مَا عَدَا الزَّرْكَشِيُّ - وَفِي قَوْلٍ لِلْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ إِضَافَتُهَا، وَلاَ تَعْلِيقُهَا، لأَِنَّهَا عَقْدٌ غَيْرُ لاَزِمٍ فَلَهُ الرُّجُوعُ مَتَى شَاءَ. وَفِي قَوْلٍ آخَرَ لِلْحَنَفِيَّةِ جَوَازُ إِضَافَتِهَا دُونَ تَعْلِيقِهَا.
وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فُرُوعًا ظَاهِرُهَا أَنَّهَا تَعْلِيقٌ أَوْ إِضَافَةٌ كَقَوْلِهِمْ: أَعِرْنِي دَابَّتَكَ الْيَوْمَ أُعِيرُكَ دَابَّتِي غَدًا، وَالْوَاقِعُ أَنَّهَا إِجَارَةٌ لاَ إِعَارَةٌ. (1)
وَلَمْ نَطَّلِعْ عَلَى تَصْرِيحٍ لِلْحَنَابِلَةِ بِحُكْمِ إِضَافَةِ الإِْعَارَةِ أَوْ تَعْلِيقِهَا. وَإِنْ كَانُوا قَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ الأَْصْل فِي الإِْعَارَةِ عَدَمُ لُزُومِهَا.
حُكْمُ الإِْعَارَةِ وَأَثَرُهَا:
14 - مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ - عَدَا الْكَرْخِيَّ - وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ وَجْهٌ لِلْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنِ الْحَسَنِ وَالنَّخَعِيِّ وَالشَّعْبِيِّ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالثَّوْرِيِّ وَالأَْوْزَاعِيِّ وَابْنِ شُبْرُمَةَ أَنَّ الإِْعَارَةَ تُفِيدُ تَمْلِيكَ الْمَنْفَعَةِ، وَالدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْمُعِيرَ سَلَّطَ
__________
(1) البدائع 8 / 3898 ط الإمام، وابن عابدين 5 / 23، 4 / 233 والشرح الصغير 3 / 573، والرملي هامش الروض 2 / 329.(5/188)
الْمُسْتَعِيرَ عَلَى تَحْصِيل الْمَنَافِعِ، وَصَرَفَهَا إِلَى نَفْسِهِ عَلَى وَجْهٍ زَالَتْ يَدُهُ عَنْهَا، وَالتَّسْلِيطُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ تَمْلِيكًا لاَ إِبَاحَةً، كَمَا فِي الأَْعْيَانِ.
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالْكَرْخِيِّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَذَهَبَ إِلَيْهِ إِسْحَاقُ أَنَّهَا تُفِيدُ إِبَاحَةَ الْمَنْفَعَةِ، وَذَلِكَ لِجَوَازِ الْعَقْدِ مِنْ غَيْرِ أَجَلٍ، وَلَوْ كَانَ تَمْلِيكَ الْمَنْفَعَةِ لِمَا جَازَ مِنْ غَيْرِ أَجَلٍ كَالإِْجَارَةِ.
وَكَذَلِكَ الإِْعَارَةُ تَصِحُّ بِلَفْظِ الإِْبَاحَةِ، وَالتَّمْلِيكُ لاَ يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الإِْبَاحَةِ.
وَثَمَرَةُ الْخِلاَفِ تَظْهَرُ فِيمَا لَوْ أَعَارَ الْمُسْتَعِيرُ الشَّيْءَ الْمُسْتَعَارَ إِلَى مَنْ يَسْتَعْمِلُهُ كَاسْتِعْمَالِهِ، فَهَل تَصِحُّ إِعَارَتُهُ أَوْ لاَ تَصِحُّ؟ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْمُخْتَارُ مِنْ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ إِعَارَتَهُ صَحِيحَةٌ، حَتَّى وَلَوْ قَيَّدَ الْمُعِيرُ الإِْعَارَةَ بِاسْتِعْمَال الْمُسْتَعِيرِ بِنَفْسِهِ، لأَِنَّ التَّقْيِيدَ بِمَا لاَ يَخْتَلِفُ غَيْرُ مُفِيدٍ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لاَ يَجُوزُ.
وَفِي الْبَحْرِ: وَلِلْمُسْتَعِيرِ أَنْ يُودِعَ، عَلَى الْمُفْتَى بِهِ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ، وَصَحَّحَ بَعْضُهُمْ عَدَمَهُ، وَيَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ مَا لَوْ أَرْسَلَهَا عَلَى يَدِ أَجْنَبِيٍّ فَهَلَكَتْ ضَمِنَ عَلَى الْقَوْل الثَّانِي لاَ الأَْوَّل. فَلِلْمُعِيرِ أَجْرُ الْمِثْل.
وَيَتَرَتَّبُ عَلَى مَذْهَبِ الْقَائِلِينَ بِالإِْبَاحَةِ، وَهُمُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالْكَرْخِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، أَنَّهُ لَوْ أَعَارَ الْمُسْتَعِيرُ الشَّيْءَ فَلِمَالِكِ الْعَارِيَّةِ أَجْرُ الْمِثْل، وَيُطَالَبُ الْمُسْتَعِيرَ الأَْوَّل أَوِ الثَّانِيَ أَيُّهُمَا شَاءَ، لأَِنَّ الْمُسْتَعِيرَ الأَْوَّل سَلَّطَ غَيْرَهُ عَلَى أَخْذِ مَال الْمُعِيرِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ. وَلأَِنَّ الْمُسْتَعِيرَ الثَّانِي اسْتَوْفَى الْمَنْفَعَةَ بِغَيْرِ إِذْنِ مَالِكِهَا. فَإِنْ ضَمَّنَ الْمَالِكُ الْمُسْتَعِيرَ الأَْوَّل رَجَعَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ الثَّانِي، لأَِنَّ الاِسْتِيفَاءَ حَصَل مِنْهُ(5/188)
فَاسْتَقَرَّ الضَّمَانُ عَلَيْهِ. وَإِنْ ضَمَّنَ الثَّانِيَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الأَْوَّل. إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الثَّانِي لَمْ يَعْلَمْ بِحَقِيقَةِ الْحَال، فَيُحْتَمَل أَنْ يَسْتَقِرَّ الضَّمَانُ عَلَى الأَْوَّل، لأَِنَّهُ غَرَّ الثَّانِيَ وَدَفَعَ الْعَيْنَ إِلَيْهِ عَلَى أَنَّهُ يَسْتَوْفِي مَنَافِعَهَا بِدُونِ عِوَضٍ. وَإِنْ تَلِفَتِ الْعَيْنُ فِي يَدِ الثَّانِي، اسْتَقَرَّ الضَّمَانُ عَلَيْهِ بِكُل حَالٍ، لأَِنَّهُ قَبَضَهَا عَلَى أَنْ تَكُونَ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ. فَإِنْ رَجَعَ عَلَى الأَْوَّل رَجَعَ الأَْوَّل عَلَى الثَّانِي. وَإِنْ رَجَعَ عَلَى الثَّانِي لَمْ يَرْجِعْ عَلَى أَحَدٍ. (1)
ضَمَانُ الإِْعَارَةِ:
15 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْعَارِيَّةَ إِنْ تَلِفَتْ بِالتَّعَدِّي مِنَ الْمُسْتَعِيرِ فَإِنَّهُ يَضْمَنُهَا، لأَِنَّهَا إِنْ كَانَتْ أَمَانَةً كَمَا يَقُول الْحَنَفِيَّةُ: فَالأَْمَانَاتُ تُضْمَنُ بِالتَّعَدِّي. وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ كَذَلِكَ فِيمَا لاَ يُغَابُ عَلَيْهِ، أَيْ لاَ يُمْكِنُ إِخْفَاؤُهُ، كَالْعَقَارِ وَالْحَيَوَانِ، بِخِلاَفِ مَا يُمْكِنُ إِخْفَاؤُهُ، كَالثِّيَابِ وَالْحُلِيِّ فَإِنَّهُ يَضْمَنُهُ، إِلاَّ إِذَا أَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى أَنَّهُ تَلِفَ أَوْ ضَاعَ بِلاَ سَبَبٍ مِنْهُ، وَقَالُوا: إِنَّهُ لاَ ضَمَانَ فِي غَيْرِ مَا ذُكِرَ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ يَضْمَنُ الْمُسْتَعِيرُ بِهَلاَكِ الشَّيْءِ الْمُعَارِ، وَلَوْ كَانَ الْهَلاَكُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، أَوْ أَتْلَفَهَا هُوَ أَوْ غَيْرُهُ وَلَوْ بِلاَ تَقْصِيرٍ. وَقَالُوا: إِنْ تَلِفَتْ بِاسْتِعْمَالٍ مَأْذُونٍ فِيهِ، كَاللُّبْسِ وَالرُّكُوبِ الْمُعْتَادِ لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا، لِحُصُول التَّلَفِ بِسَبَبٍ مَأْذُونٍ فِيهِ.
وَحُجَّةُ الْحَنَفِيَّةِ حَدِيثُ: لَيْسَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ غَيْرِ
__________
(1) البدائع 8 / 3898، والاختيار 2 / 118، والشرح الصغير 3 / 570، وحاشية ابن عابدين 4 / 503، ونهاية المحتاج 5 / 119، وأسنى المطالب 2 / 328، والمغني 5 / 227، والإقناع 1 / 305 ط دار المعرفة.(5/189)
الْمُغِل ضَمَانٌ (1) وَالْمُغِل هُوَ الْخَائِنُ. وَلأَِنَّ الضَّمَانَ إِمَّا أَنْ يَجِبَ بِالْعَقْدِ أَوْ بِالْقَبْضِ أَوْ بِالإِْذْنِ، وَلَيْسَ هُنَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. أَمَّا الْعَقْدُ فَلأَِنَّ اللَّفْظَ الَّذِي تَنْعَقِدُ بِهِ الْعَارِيَّةُ لاَ يُنْبِئُ عَنِ الْتِزَامِ الضَّمَانِ، لأَِنَّهُ لِتَمْلِيكِ الْمَنَافِعِ بِغَيْرِ عِوَضٍ أَوْ لإِِبَاحَتِهَا عَلَى الاِخْتِلاَفِ. وَمَا وُضِعَ لِتَمْلِيكِ الْمَنَافِعِ لاَ يُتَعَرَّضُ فِيهِ لِلْعَيْنِ حَتَّى يُوجِبَ الضَّمَانَ عِنْدَ هَلاَكِهِ.
وَأَمَّا الْقَبْضُ فَإِنَّمَا يُوجِبُ الضَّمَانَ إِذَا وَقَعَ بِطَرِيقِ التَّعَدِّي، وَمَا هُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ، لِكَوْنِهِ مَأْذُونًا فِيهِ. وَأَمَّا الإِْذْنُ فَلأَِنَّ إِضَافَةَ الضَّمَانِ إِلَيْهِ فَسَادٌ فِي الْوَضْعِ، لأَِنَّ إِذْنَ الْمَالِكِ فِي قَبْضِ الشَّيْءِ يَنْفِي الضَّمَانَ فَكَيْفَ يُضَافُ إِلَيْهِ.
وَاسْتَدَل الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ صَفْوَانَ بَل عَارِيَّةً مَضْمُونَةٌ (2) وَبِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَ. (3) وَلأَِنَّهُ أَخَذَ مِلْكَ غَيْرِهِ لِنَفْعِ نَفْسِهِ مُنْفَرِدًا بِنَفْعِهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ، وَلاَ إِذْنٍ فِي الإِْتْلاَفِ، فَكَانَ مَضْمُونًا كَالْغَاصِبِ وَالْمَأْخُوذِ عَلَى وَجْهِ الْعُمُومِ.
وَاسْتَدَل الْمَالِكِيَّةُ فِي التَّفْرِقَةِ بَيْنَ مَا يُمْكِنُ إِخْفَاؤُهُ وَمَا لاَ يُمْكِنُ بِحَمْل أَحَادِيثِ الضَّمَانِ، عَلَى مَا يُمْكِنُ إِخْفَاؤُهُ، وَالأَْحَادِيثُ الأُْخْرَى عَلَى مَا لاَ يُمْكِنُ
__________
(1) حديث: " ليس على المستعير غير المغل ضمان " أخرجه الدارقطني (3 / 41 - ط دار المحاسن) وفي إسناده عمرو بن عبد الجبار وعبيدة بن حسان، قال عنهما الدارقطني: ضعيفان، وقال: إنما يروى عن شريح القاضي غير مرفوع.
(2) حديث: " بل عارية مضمونة " سبق تخريجه (ف 5) .
(3) حديث: " على اليد ما أخذت حتى تؤدي ". أخرجه الترمذي (تحفة الأحوذي 4 / 482، 483 نشر السلفية) وأبو داود (3 / 822 - ط عزت عبيد دعاس) من حديث سمرة رضي الله عنه، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، قال المباركفوري: وسماع الحسن من سمرة فيه خلاف مشهور.(5/189)
إِخْفَاؤُهُ. (1)
ثُمَّ قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الإِْتْلاَفَ يَكُونُ حَقِيقَةً، وَيَكُونُ مَعْنًى. فَالإِْتْلاَفُ حَقِيقَةً بِإِتْلاَفِ الْعَيْنِ، كَعَطَبِ الدَّابَّةِ بِتَحْمِيلِهَا مَا لاَ يَحْمِلُهُ مِثْلُهَا، أَوِ اسْتِعْمَالِهَا فِيمَا لاَ يُسْتَعْمَل مِثْلُهَا فِيهِ، وَالإِْتْلاَفُ مَعْنًى بِالْمَنْعِ بَعْدَ الطَّلَبِ، أَوْ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ، أَوْ بِجُحُودِ الإِْعَارَةِ أَوْ بِتَرْكِ الْحِفْظِ، أَوْ بِمُخَالَفَةِ الشُّرُوطِ فِي اسْتِعْمَالِهَا، فَلَوْ حَبَسَ الْعَارِيَّةَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ أَوْ بَعْدَ الطَّلَبِ قَبْل انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ يَضْمَنُ لأَِنَّهَا وَاجِبَةُ الرَّدِّ فِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: الْعَارِيَّةُ مُؤَدَّاةٌ (2) وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّهُ. (3) وَلأَِنَّ حُكْمَ الْعَقْدِ انْتَهَى بِانْقِضَاءِ الْمُدَّةِ أَوِ الطَّلَبِ، فَصَارَتِ الْعَيْنُ فِي يَدِهِ كَالْمَغْصُوبِ. وَالْمَغْصُوبُ مَضْمُونُ الرَّدِّ حَال قِيَامِهِ، وَمَضْمُونُ الْقِيمَةِ حَال هَلاَكِهِ.
وَلَمْ يَنُصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْمُرَادِ بِالْهَلاَكِ عِنْدَهُمْ، وَلَكِنْ يُفْهَمُ مِنْ كَلاَمِهِمُ السَّابِقِ فِي إِعَارَةِ الدَّوَابِّ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ تَلَفُ الْعَيْنِ. قَالُوا: وَإِنِ ادَّعَى الْمُسْتَعِيرُ أَنَّ الْهَلاَكَ أَوِ الضَّيَاعَ لَيْسَ بِسَبَبِ تَعَدِّيهِ أَوْ تَفْرِيطِهِ فِي الْحِفْظِ فَهُوَ مُصَدَّقٌ فِي ذَلِكَ بِيَمِينِهِ، إِلاَّ أَنْ تَقُومَ بَيِّنَةٌ أَوْ قَرِينَةٌ عَلَى كَذِبِهِ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ مَا يُغَابُ عَلَيْهِ وَمَا لاَ يُغَابُ. (4)
__________
(1) العناية شرح الهداية 7 / 469، وتبيين الحقائق للزيلعي 5 / 85، والشرح الكبير 3 / 436، وبداية المجتهد 2 / 342، وأسنى المطالب 2 / 328، والمغني 5 / 221.
(2) حديث " العارية مؤداة " سبق تخريجه (فقرة 5) .
(3) حديث " على اليد ما أخذت. . " سبق تخريجه بهذا المعنى آنفا.
(4) البدائع 8 / 3906 - 3907 ط الإمام، والشرح الصغير 3 / 574.(5/190)
شَرْطُ نَفْيِ الضَّمَانِ:
16 - قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ أَحَدُ وَجْهَيْنِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّ شَرْطَ نَفْيِ الضَّمَانِ فِيمَا يَجِبُ ضَمَانُهُ لاَ يُسْقِطُهُ، وَقَال أَبُو حَفْصٍ الْعُكْبَرِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: يَسْقُطُ، وَقَال أَبُو الْخَطَّابِ: أَوْمَأَ إِلَيْهِ أَحْمَدُ، وَهُوَ قَوْل قَتَادَةَ وَالْعَنْبَرِيِّ، لأَِنَّهُ لَوْ أَذِنَ فِي إِتْلاَفِ الْعَيْنِ الْمُعَارَةِ لَمْ يَجِبْ ضَمَانُهَا، فَكَذَلِكَ إِذَا أَسْقَطَ عَنْهُ ضَمَانَهَا. وَقِيل: بَل مَذْهَبُ قَتَادَةَ وَالْعَنْبَرِيِّ أَنَّهَا لاَ تُضْمَنُ إِلاَّ أَنْ يُشْتَرَطَ ضَمَانُهَا، فَيَجِبُ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِصَفْوَانَ بَل عَارِيَّةً مَضْمُونَةٌ (1) .
وَاسْتَدَل لِعَدَمِ سُقُوطِ الضَّمَانِ بِأَنَّ كُل عَقْدٍ اقْتَضَى الضَّمَانَ لَمْ يُغَيِّرْهُ الشَّرْطُ، كَالْمَقْبُوضِ بِبَيْعٍ صَحِيحٍ أَوْ فَاسِدٍ، وَمَا اقْتَضَى الأَْمَانَةَ فَكَذَلِكَ، كَالْوَدِيعَةِ وَالشَّرِكَةِ وَالْمُضَارَبَةِ.
وَالْوَجْهُ الآْخَرُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ لاَ يَضْمَنُ بِشَرْطِ السُّقُوطِ، لأَِنَّهُ مَعْرُوفٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْعَارِيَّةُ مَعْرُوفٌ، وَإِسْقَاطُ الضَّمَانِ مَعْرُوفٌ آخَرُ، وَلأَِنَّ الْمُؤْمِنَ عِنْدَ شَرْطِهِ. وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ شَرْطَ الضَّمَانِ بَاطِلٌ كَشَرْطِ عَدَمِهِ، خِلاَفًا لِلْجَوْهَرَةِ، حَيْثُ جَزَمَ فِيهَا بِصَيْرُورَتِهَا مَضْمُونَةً بِشَرْطِ الضَّمَانِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ - وَهُوَ قَوْل أَكْثَرِ الْحَنَفِيَّةِ - إِلَى أَنَّهُ لَوْ أَعَارَ عَيْنًا بِشَرْطِ ضَمَانِهَا عِنْدَ تَلَفِهَا بِقَدْرٍ مُعَيَّنٍ فَسَدَ الشَّرْطُ دُونَ الْعَارِيَّةِ. قَال الأَْذْرَعِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَفِيهِ وَقْفَةٌ. (2) وَلاَ يَرِدُ
__________
(1) حديث " بل عارية مضمونة " سبق تخريجه (فقرة 5) .
(2) الشرح الكبير 3 / 436، وأسنى المطالب 2 / 328، والمغني 5 / 221 - 222، وابن عابدين 4 / 769، والجوهرة 1 / 351، والزيلعي 5 / 85.(5/190)
هُنَا مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ لأَِنَّهُمْ يَقُولُونَ بِالضَّمَانِ مُطْلَقًا.
كَيْفِيَّةُ التَّضْمِينِ:
17 - مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ مُقَابِل الْمُعْتَمَدِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يَجِبُ ضَمَانُ الْعَيْنِ بِمِثْلِهَا إِنْ كَانَتْ مِثْلِيَّةً، وَإِلاَّ فَبِقِيمَتِهَا يَوْمَ التَّلَفِ.
وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ إِذَا وَجَبَ الضَّمَانُ فِي الْعَارِيَّةِ فَإِنَّهَا تُضْمَنُ بِقِيمَتِهَا يَوْمَ التَّلَفِ، مُتَقَوَّمَةً كَانَتْ أَوْ مِثْلِيَّةً، لأَِنَّ رَدَّ مِثْل الْعَيْنِ مَعَ اسْتِعْمَال جُزْءٍ مِنْهَا مُتَعَذِّرٌ، فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ فَقْدِ الْمِثْل، فَيُرْجَعُ لِلْقِيمَةِ، وَلاَ تُضْمَنُ الْعَارِيَّةُ بِأَقْصَى الْقِيمَةِ، وَلاَ بِيَوْمِ الْقَبْضِ. (1)
الاِخْتِلاَفُ بَيْنَ الْمُعِيرِ وَالْمُسْتَعِيرِ:
18 - تَقَدَّمَ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ يَقُولُونَ: إِنَّ الْعَارِيَّةَ مِنَ الأَْمَانَاتِ فَلاَ تُضْمَنُ. وَكَذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ فِيمَا لاَ يَخْفَى. وَفَرَّعُوا عَلَى ذَلِكَ أَنَّهَا لاَ تُضْمَنُ، إِلاَّ بِالتَّعَدِّي، وَأَنَّ الأَْمِينَ يُصَدَّقُ فِيمَا يَدَّعِيهِ بِيَمِينِهِ. وَاعْتِبَارُ الْمَقْبُوضِ عَارِيَّةً أَوْ غَيْرَ عَارِيَّةً، وَأَنَّ هُنَاكَ تَعَدِّيًا أَمْ لاَ، يُرْجَعُ فِيهِ لِلْعُرْفِ وَالْعَادَةِ.
فَقَدْ قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّهُ إِذَا اخْتَلَفَ رَبُّ الدَّابَّةِ وَالْمُسْتَعِيرُ فِيمَا أَعَارَهَا لَهُ، وَقَدْ عَقَرَهَا الرُّكُوبُ أَوِ الْحُمُولَةُ، فَالْقَوْل قَوْل رَبِّ الدَّابَّةِ. وَقَال ابْنُ أَبِي لَيْلَى: الْقَوْل قَوْل الْمُسْتَعِيرِ. وَحُجَّتُهُ أَنَّ رَبَّ الدَّابَّةِ يَدَّعِي عَلَى الْمُسْتَعِيرِ سَبَبَ الضَّمَانِ، وَهُوَ الْمُخَالَفَةُ فِي الاِسْتِعْمَال، وَهُوَ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ فَالْقَوْل قَوْلُهُ.
وَاحْتَجَّ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ الإِْذْنَ فِي الاِسْتِعْمَال يُسْتَفَادُ
__________
(1) البدائع 8 / 3907، ونهاية المحتاج 5 / 141، والمغني 5 / 223، ونيل المآرب 1 / 137 ط الأميرية، والخرشي 6 / 123، والشرح الصغير 3 / 574، والقوانين الفقهية / 218.(5/191)
مِنْ جِهَةِ صَاحِبِ الدَّابَّةِ، وَلَوْ أَنْكَرَ أَصْل الإِْذْنِ كَانَ الْقَوْل قَوْلَهُ، فَكَذَلِكَ إِذَا أَنْكَرَ الإِْذْنَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي انْتَفَعَ بِهِ الْمُسْتَعِيرُ.
وَفِي الولوالجية: إِذَا جَهَّزَ الأَْبُ ابْنَتَهُ ثُمَّ مَاتَ فَجَاءَ وَرَثَتُهُ يَطْلُبُونَ قِسْمَةَ الْجِهَازِ بَيْنَهُمْ، فَإِنْ كَانَ الأَْبُ اشْتَرَى لَهَا الْجِهَازَ فِي صِغَرِهَا أَوْ بَعْدَمَا كَبِرَتْ، وَسَلَّمَهُ إِلَيْهَا فِي حَال صِحَّتِهِ، فَلَيْسَ لِلْوَرَثَةِ حَقٌّ فِيهِ بَل هُوَ لِلْبِنْتِ خَاصَّةً.
فَهَذَا يَدُل عَلَى أَنَّ قَبُول قَوْل الْمَالِكِ أَنَّهَا عَارِيَّةً بِيَمِينِهِ لَيْسَ عَلَى إِطْلاَقِهِ، بَل ذَلِكَ إِذَا صَدَّقَهُ الْعُرْفُ.
وَقَالُوا: كُل أَمِينٍ ادَّعَى إِيصَال الأَْمَانَةِ إِلَى مُسْتَحِقِّهَا قُبِل قَوْلُهُ بِيَمِينِهِ، كَالْمُودَعِ إِذَا ادَّعَى الرَّدَّ وَالْوَكِيل وَالنَّاظِرِ، وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِي حَيَاةِ مُسْتَحِقِّهَا أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ، إِلاَّ فِي الْوَكِيل بِقَبْضِ الدَّيْنِ، إِذَا ادَّعَى بَعْدَ مَوْتِ الْمُوَكِّل أَنَّهُ قَبَضَهُ وَدَفَعَهُ لَهُ فِي حَيَاتِهِ لَمْ يُقْبَل قَوْلُهُ، إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ. (1)
وَلَوْ جَهَّزَ ابْنَتَهُ بِمَا يُجَهَّزُ بِهِ مِثْلُهَا، ثُمَّ قَال: كُنْتُ أَعَرْتُهَا الأَْمْتِعَةَ. إِنْ كَانَ الْعُرْفُ مُسْتَمِرًّا بَيْنَ النَّاسِ أَنَّ الأَْبَ يَدْفَعُ الْجِهَازَ مِلْكًا لاَ إِعَارَةً، لاَ يُقْبَل قَوْلُهُ إِنَّهُ إِعَارَةٌ، لأَِنَّ الظَّاهِرَ يُكَذِّبُهُ. وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْعُرْفُ كَذَلِكَ أَوْ تَارَةً وَتَارَةً فَالْقَوْل لَهُ فِي جَمِيعِ الْجِهَازِ، لاَ فِي الزَّائِدِ عَلَى جِهَازِ مِثْلِهَا، وَالْفَتْوَى عَلَى ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ الْجِهَازُ أَكْثَرَ مِمَّا يُجَهَّزُ بِهِ مِثْلُهَا فَالْقَوْل لَهُ اتِّفَاقًا.
وَالْمَالِكِيَّةُ كَالْحَنَفِيَّةِ فِي أَنَّ الْمُسْتَعِيرَ يُصَدَّقُ بِيَمِينِهِ، إِذْ قَالُوا: إِذَا هَلَكَتِ الْعَيْنُ الْمُعَارَةُ وَاخْتَلَفَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 506، 507، والمبسوط 11 / 143 ط دار المعرفة.(5/191)
الْمُعِيرُ وَالْمُسْتَعِيرُ فِي سَبَبِ هَلاَكِهَا أَوْ تَعَيُّبِهَا، فَقَال الْمُعِيرُ: هَلَكَتْ أَوْ تَعَيَّبَتْ بِسَبَبِ تَفْرِيطِكَ، وَقَال الْمُسْتَعِيرُ: مَا فَرَّطْتُ، فَإِنَّهُ يُصَدَّقُ بِيَمِينِهِ أَنَّهَا مَا هَلَكَتْ أَوْ تَعَيَّبَتْ بِسَبَبِ تَفْرِيطِهِ. فَإِنْ نَكَل غَرِمَ بِنُكُولِهِ. وَلاَ تُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي لأَِنَّهَا يَمِينُ تُهْمَةٍ.
وَإِذَا وَجَبَ الضَّمَانُ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ فَعَلَيْهِ جَمِيعُ قِيمَتِهِ فِي حَالَةِ الْهَلاَكِ، أَوْ عَلَيْهِ الْفَرْقُ بَيْنَ قِيمَتِهِ سَلِيمًا وَمُتَعَيَّبًا.
وَإِنْ كَانَ الْمُسْتَعَارُ غَيْرَ آلَةِ حَرْبٍ كَفَأْسٍ وَنَحْوِهِ، وَأَتَى بِهِ إِلَى الْمُعِيرِ مَكْسُورًا فَلاَ يُخْرِجُهُ مِنَ الضَّمَانِ، إِلاَّ أَنْ تَشْهَدَ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُ اسْتَعْمَلَهُ اسْتِعْمَالاً مَعْهُودًا فِي مِثْلِهِ، فَإِنْ شَهِدَتِ الْبَيِّنَةُ بِعَكْسِهِ فَكُسِرَ لَزِمَهُ الضَّمَانُ. (1)
وَإِذَا اخْتَلَفَ الْمَالِكُ وَالْمُنْتَفِعُ فِي كَوْنِ الْعَيْنِ عَارِيَّةً أَوْ مُسْتَأْجَرَةً يُنْظَرُ: فَإِنْ كَانَ الاِخْتِلاَفُ قَبْل مُضِيِّ مُدَّةٍ لِمِثْلِهَا أَجْرٌ، رُدَّتِ الْعَيْنُ إِلَى مَالِكِهَا، وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ هُنَا بِتَحْلِيفِ مُدَّعِي الإِْعَارَةِ.
وَإِنْ كَانَ الاِخْتِلاَفُ بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةٍ لِمِثْلِهَا أَجْرٌ، فَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ الْقَوْل قَوْل الْمَالِكِ مَعَ يَمِينِهِ، لأَِنَّ الْمُنْتَفِعَ يَسْتَفِيدُ مِنَ الْمَالِكِ مِلْكَ الاِنْتِفَاعِ، وَلأَِنَّ الظَّاهِرَ يَشْهَدُ لَهُ فَكَانَ الْقَوْل قَوْل الْمَالِكِ فِي التَّعْيِينِ، لَكِنْ مَعَ الْيَمِينِ، دَفْعًا لِلتُّهْمَةِ.
19 - وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي كَوْنِهَا عَارِيَّةً أَوْ مُسْتَأْجَرَةً بَعْدَ تَلَفِ الْعَيْنِ: فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ كَمَا قَال
__________
(1) الشرح الكبير 3 / 436 - 437.(5/192)
ابْنُ قُدَامَةَ: إِنِ اخْتَلَفَا فِي ذَلِكَ بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةٍ لِمِثْلِهَا أَجْرٌ وَتَلِفَتِ الْبَهِيمَةُ، وَكَانَ الأَْجْرُ بِقَدْرِ قِيمَتِهَا، أَوْ كَانَ مَا يَدَّعِيهِ الْمَالِكُ مِنْهُمَا أَقَل مِمَّا يَعْتَرِفُ بِهِ الرَّاكِبُ، فَالْقَوْل قَوْل الْمَالِكِ بِغَيْرِ يَمِينٍ. سَوَاءٌ ادَّعَى الإِْجَارَةَ أَوِ الإِْعَارَةَ، إِذْ لاَ فَائِدَةَ فِي الْيَمِينِ عَلَى شَيْءٍ يَعْتَرِفُ لَهُ بِهِ. وَيُحْتَمَل أَلاَّ يَأْخُذَهُ إِلاَّ بِيَمِينٍ، لأَِنَّهُ يَدَّعِي شَيْئًا لاَ يُصَدَّقُ فِيهِ، وَيَعْتَرِفُ لَهُ الرَّاكِبُ بِمَا يَدَّعِيهِ فَيَحْلِفُ عَلَى مَا يَدَّعِيهِ، وَإِنْ كَانَ مَا يَدَّعِيهِ الْمَالِكُ أَكْثَرَ، مِثْل إِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْبَهِيمَةِ أَكْثَرَ مِنْ أَجْرِهَا فَادَّعَى الْمَالِكُ أَنَّهَا عَارِيَّةً لِتَجِبَ لَهُ الْقِيمَةُ، وَأَنْكَرَ اسْتِحْقَاقَ الأُْجْرَةِ، وَادَّعَى الرَّاكِبُ أَنَّهَا مُكْتَرَاةٌ، أَوْ كَانَ الْكِرَاءُ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهَا، فَادَّعَى الْمَالِكُ أَنَّهُ أَجَّرَهَا لِيَجِبَ لَهُ الْكِرَاءُ، وَادَّعَى الرَّاكِبُ أَنَّهَا عَارِيَّةً، فَالْقَوْل قَوْل الْمَالِكِ فِي الصُّورَتَيْنِ، فَإِذَا حَلَفَ اسْتَحَقَّ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ.
وَقَوَاعِدُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ تَقْتَضِي أَنَّ الْقَوْل حِينَئِذٍ قَوْل مَنْ يَدَّعِي الإِْعَارَةَ، لأَِنَّهُ يَنْفِي الأُْجْرَةَ. وَأَمَّا الضَّمَانُ فَلاَ ضَمَانَ عَلَى كُل حَالٍ فِي الإِْجَارَةِ وَالإِْعَارَةِ.
فَإِنْ تَلِفَتِ الْعَيْنُ قَبْل رَدِّهَا تَلَفًا تُضْمَنُ بِهِ الْعَارِيَّةُ فَقَدِ اتَّفَقَا عَلَى الضَّمَانِ لَهَا، لِضَمَانِ كُلٍّ مِنَ الْعَارِيَّةِ وَالْمَغْصُوبِ. (1)
وَإِذَا اخْتَلَفَا، فَادَّعَى الْمَالِكُ الْغَصْبَ، وَادَّعَى الْمُنْتَفِعُ الإِْعَارَةَ، فَإِنْ كَانَ قَبْل الاِسْتِعْمَال وَالدَّابَّةُ تَالِفَةٌ فَالْقَوْل قَوْل الْمُنْتَفِعِ، لأَِنَّهُ يَنْفِي الضَّمَانَ، وَالأَْصْل بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الاِسْتِعْمَال فَالْقَوْل قَوْل الْمَالِكِ مَعَ يَمِينِهِ، لأَِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ
__________
(1) نهاية المحتاج 5 / 140، والمغني 5 / 236.(5/192)
الْهَلاَكَ جَاءَ مِنَ الاِسْتِعْمَال. (1)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنْ كَانَ الاِخْتِلاَفُ عَقِيبَ الْعَقْدِ، وَالدَّابَّةُ قَائِمَةٌ لَمْ يَتْلَفْ مِنْهَا شَيْءٌ، فَلاَ مَعْنَى لِلاِخْتِلاَفِ، وَيَأْخُذُ الْمَالِكُ بَهِيمَتَهُ.
وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَتِ الدَّابَّةُ تَالِفَةً، لأَِنَّ الْقِيمَةَ تَجِبُ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ كَوُجُوبِهَا عَلَى الْغَاصِبِ.
وَإِنْ كَانَ الاِخْتِلاَفُ بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةٍ لِمِثْلِهَا أَجْرٌ فَالاِخْتِلاَفُ فِي وُجُوبِهِ، وَالْقَوْل قَوْل الْمَالِكِ، لأَِنَّهُ يُنْكِرُ انْتِقَال الْمِلْكِ إِلَى الرَّاكِبِ، وَالرَّاكِبُ يَدَّعِيهِ وَالْقَوْل قَوْل الْمُنْكِرِ، لأَِنَّ الأَْصْل عَدَمُ الاِنْتِقَال، فَيَحْلِفُ وَيَسْتَحِقُّ الأُْجْرَةَ. (2)
نَفَقَةُ الْعَارِيَّةِ:
20 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ - مَا عَدَا الْقَاضِي حُسَيْنٍ - وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ نَفَقَةَ الْعَارِيَّةِ الَّتِي بِهَا بَقَاؤُهَا كَالطَّعَامِ مُدَّةَ الإِْعَارَةِ عَلَى مَالِكِهَا، لأَِنَّهَا لَوْ كَانَتْ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ لَكَانَ كِرَاءً، وَرُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ أَكْثَرَ مِنَ الْكِرَاءِ فَتَخْرُجُ الْعَارِيَّةُ عَنِ الْمَعْرُوفِ إِلَى الْكِرَاءِ، وَلأَِنَّ تِلْكَ النَّفَقَةَ مِنْ حُقُوقِ الْمِلْكِ.
وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَغَيْرُ الْمُعْتَمَدِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ مَا اخْتَارَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ، لأَِنَّ مَالِكَ الدَّابَّةِ فَعَل مَعْرُوفًا فَلاَ يَلِيقُ أَنْ يُشَدَّدَ عَلَيْهِ.
وَقَال بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا عَلَى الْمُسْتَعِيرِ فِي اللَّيْلَةِ وَاللَّيْلَتَيْنِ، وَعَلَى الْمُعِيرِ فِي الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ كَمَا فِي
__________
(1) الفتاوى الهندية 4 / 372، ومجمع الضمانات / 62.
(2) المغني 5 / 234 - 237 ط الرياض، وابن عابدين 4 / 768.(5/193)
الْمَوَّاقِ، وَقَدْ عَكَسَ عَبْدُ الْبَاقِي الزَّرْقَانِيُّ (1) .
مَئُونَةُ رَدِّ الْعَارِيَّةِ:
21 - فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ الثَّلاَثَةِ، وَهُوَ الأَْظْهَرُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى أَنَّ مَئُونَةَ رَدِّ الْعَارِيَّةِ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ، لِخَبَرِ عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَ (2) ، وَلأَِنَّ الإِْعَارَةَ مَكْرُمَةٌ فَلَوْ لَمْ تُجْعَل الْمَئُونَةُ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ لاَمْتَنَعَ النَّاسُ مِنْهَا. وَهَذَا تَطْبِيقٌ لِقَاعِدَةِ " كُل مَا كَانَ مَضْمُونَ الْعَيْنِ فَهُوَ مَضْمُونُ الرَّدِّ ".
وَعَلَى الْمُسْتَعِيرِ رَدُّهَا إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي أَخَذَهَا مِنْهُ، إِلاَّ أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى رَدِّهَا إِلَى مَكَانِ غَيْرِهِ، لأَِنَّ مَا لَزِمَ رَدُّهُ وَجَبَ رَدُّهُ إِلَى مَوْضِعِهِ كَالْمَغْصُوبِ (3) .
مَا يَبْرَأُ بِهِ الْمُسْتَعِيرُ:
22 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْمُسْتَعِيرَ لَوْ رَدَّ الدَّابَّةَ إِلَى مَالِكِهَا أَوْ وَكِيلِهِ فِي قَبْضِهَا فَإِنَّهُ يَبْرَأُ مِنْهَا. أَمَّا إِنْ رَدَّهَا بِوَاسِطَةِ آخَرِينَ وَإِلَى غَيْرِ الْمَالِكِ وَالْوَكِيل فَفِي ذَلِكَ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ: قَال الْحَنَفِيَّةُ فِي الاِسْتِحْسَانِ وَالْمَالِكِيَّةِ: إِنْ رَدَّ الْمُسْتَعِيرُ الدَّابَّةَ مَعَ خَادِمِهِ أَوْ بَعْضِ مَنْ هُوَ فِي عِيَالِهِ فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ إِنْ عَطِبَتْ، لأَِنَّ يَدَ مَنْ هُوَ فِي عِيَالِهِ
__________
(1) لا يخفى أن هذا الخلاف محله الحيوان الذي يهلك إن لم ينفق عليه. أما إعارة الأشياء التي لا تتلف بعدم الإنفاق عليها، وإنما يتوقف على الإنفاق التمكن من منافعها فذلك على المستعير إن شاء أن ينتفع بها، وإلا ردها (اللجنة) . وانظر أسنى المطالب 2 / 329، والشرح الكبير 3 / 441، ومنتهى الإرادات 1 / 506.
(2) حديث " على اليد ما أخذت. . . " سبق تخريجه (ف 15) .
(3) حاشية ابن عابدين 4 / 505، والشرح الكبير 4 / 441، والزرقاني 6 / 136، ومغني المحتاج 5 / 124، والمغني 5 / 224.(5/193)
فِي الرَّدِّ كَيَدِهِ، كَمَا أَنَّ يَدَ مَنْ فِي عِيَالِهِ فِي الْحِفْظِ كَيَدِهِ. وَالْعُرْفُ الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُسْتَعِيرَ يَرُدُّ الْمُسْتَعَارَ بِيَدِ مَنْ فِي عِيَالِهِ وَلِهَذَا يَعُولُهُمْ، فَكَانَ مَأْذُونًا فِيهِ مِنْ جِهَةِ صَاحِبِهَا دَلاَلَةً. وَكَذَلِكَ إِنْ رَدَّهَا إِلَى خَادِمِ صَاحِبِ الدَّابَّةِ، وَهُوَ الَّذِي يَقُومُ عَلَيْهَا، فَهُوَ بَرِيءٌ اسْتِحْسَانًا. وَالْقِيَاسُ أَلاَّ يَبْرَأَ مَا لَمْ تَصِل إِلَى صَاحِبِهَا، كَالْمُودَعِ إِذَا رَدَّ الْوَدِيعَةَ لاَ يَبْرَأُ عَنِ الضَّمَانِ مَا لَمْ تَصِل إِلَى يَدِ صَاحِبِهَا.
وَجْهُ الاِسْتِحْسَانِ أَنَّ صَاحِبَهَا إِنَّمَا يَحْفَظُ الدَّابَّةَ بِسَائِسِهَا. وَلَوْ دَفَعَ الْمُسْتَعِيرُ الدَّابَّةَ إِلَى مَالِكِهَا فَهَذَا يَدْفَعُهَا إِلَى السَّائِسِ، فَكَذَلِكَ إِذَا رَدَّهَا عَلَى السَّائِسِ. وَالْعُرْفُ الظَّاهِرُ أَنَّ صَاحِبَ الدَّابَّةِ يَأْمُرُ السَّائِسَ بِدَفْعِهَا إِلَى الْمُسْتَعِيرِ، وَبِاسْتِرْدَادِهَا مِنْهُ إِذَا فَرَغَتْ، فَيَصِيرُ مَأْذُونًا فِي دَفْعِهَا إِلَيْهِ دَلاَلَةً. وَهَذَا فِي غَيْرِ الْمُعَارِ النَّفِيسِ، إِذْ فِيهِ لاَ بُدَّ مِنَ التَّسْلِيمِ لِلْمَالِكِ، وَإِلاَّ لَمْ يَبْرَأْ (1) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يَجُوزُ الرَّدُّ إِلَى الْحَاكِمِ عِنْدَ غَيْبَةِ الْمُعِيرِ أَوِ الْحَجْرِ عَلَيْهِ بِسَفَهٍ أَوْ فَلَسٍ، فَلَوْ رَدَّ الدَّابَّةَ إِلَى الإِْسْطَبْل، وَالثَّوْبَ وَنَحْوَهُ لِلْبَيْتِ الَّذِي أَخَذَهُ مِنْهُ لَمْ يَبْرَأْ، إِلاَّ أَنْ يَعْلَمَ بِهِ الْمَالِكُ أَوْ يُخْبِرَهُ بِهِ ثِقَةٌ.
وَكَذَلِكَ لاَ يَبْرَأُ عِنْدَهُمْ بِالرَّدِّ إِلَى وَلَدِهِ أَوْ زَوْجَتِهِ، حَتَّى وَلَوْ لَمْ يَجِدِ الْمَالِكَ أَوْ وَكِيلَهُ، بَل يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَيْهِمَا بِالرَّدِّ إِلَيْهَا، فَإِنْ أَرْسَلاَهَا إِلَى الْمَرْعَى وَتَلِفَتْ فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا، لِحُصُول التَّلَفِ فِي يَدِهِمَا، حَتَّى لَوْ غَرِمَا لَمْ يَرْجِعَا عَلَى الْمُسْتَعِيرِ، وَلَوْ غَرِمَ الْمُسْتَعِيرُ رَجَعَ عَلَيْهِمَا (2) .
__________
(1) المبسوط 11 / 139 - 140، وابن عابدين 4 / 505، والبناني هامش الزرقاني 6 / 131.
(2) أسنى المطالب 2 / 329.(5/194)
وَالْحَنَابِلَةُ كَالشَّافِعِيَّةِ فِي أَنَّهُ إِذَا رَدَّهَا إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي أَخَذَهَا مِنْهُ، أَوْ إِلَى مِلْكِ صَاحِبِهَا لَمْ يَبْرَأْ، لأَِنَّهُ لَمْ يَرُدَّهَا إِلَى مَالِكِهَا وَلاَ نَائِبِهِ فِيهَا، كَمَا لَوْ دَفَعَهَا إِلَى أَجْنَبِيٍّ.
وَإِنْ رَدَّهَا إِلَى مَنْ جَرَتْ عَادَتُهُ بِحُصُول ذَلِكَ عَلَى يَدَيْهِ، كَزَوْجَتِهِ الْمُتَصَرِّفَةِ فِي مَالِهِ، أَوْ رَدِّ الدَّابَّةِ إِلَى سَائِسِهَا، فَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يَبْرَأُ، قَالَهُ الْقَاضِي. وَقَاسَ ذَلِكَ عَلَى الْوَدِيعَةِ، وَقَدْ قَال الإِْمَامُ أَحْمَدُ فِيهَا: إِذَا سَلَّمَهَا الْمُودَعُ إِلَى امْرَأَتِهِ لَمْ يَضْمَنْهَا، لأَِنَّهُ مَأْذُونٌ فِي ذَلِكَ عُرْفًا أَشْبَهَ مَا لَوْ أَذِنَ فِيهِ نُطْقًا (1) .
مَا تَنْتَهِي بِهِ الإِْعَارَةُ:
23 - تَنْتَهِي الإِْعَارَةُ بِأَحَدِ الأَْسْبَابِ الآْتِيَةِ:
(1) انْتِهَاءُ الْمُدَّةِ فِي الإِْعَارَةِ الْمُؤَقَّتَةِ.
(2) رُجُوعُ الْمُعِيرِ فِي الْحَالاَتِ الَّتِي يَجُوزُ فِيهَا الرُّجُوعُ.
(3) جُنُونُ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ.
(4) الْحَجْرُ عَلَيْهِ لِسَفَهٍ أَوْ فَلَسٍ.
(5) مَوْتُ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ.
(6) هَلاَكُ الْعَيْنِ الْمُعَارَةِ.
(7) اسْتِحْقَاقُهَا لِلْغَيْرِ (2) .
__________
(1) المغني 5 / 224 ط الرياض. واللجنة ترى أن الخلاف في هذه المسألة مبني على اختلاف العرف، فمن جرى العرف أن يده كيد المستعير في الحفظ والأمانة كالابن الذي في العيال والخدم الخاص يعتبر تسليمه كتسليم المستعير نفسه، ومن جرى العرف أن يده كيد المالك، كالزوجة وال
(2) ابن عابدين 4 / 506، والشرح الكبير 3 / 433، ونهاية المحتاج 5 / 130 - 131، والمغني 5 / 224.(5/194)
اسْتِحْقَاقُ الْعَارِيَّةِ، وَتَلَفُ الْمُسْتَعَارِ الْمُسْتَحَقِّ، وَنُقْصَانُهُ:
24 - يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي رُجُوعِ الْمُسْتَحِقِّ عَلَى الْمُعِيرِ أَوِ الْمُسْتَعِيرِ عِنْدَ تَلَفِ الْمُسْتَعَارِ الْمُسْتَحَقِّ أَوْ نُقْصَانِهِ، وَفِيمَنْ يَكُونُ عَلَيْهِ قَرَارُ الضَّمَانِ، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ رَأْيَانِ:
الأَْوَّل: يَرْجِعُ الْمُسْتَحِقُّ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُعِيرِ، وَهُوَ قَوْل الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ.
وَقَدْ عَلَّل الْحَنَفِيَّةُ لِذَلِكَ بِأَنَّ الْمُسْتَعِيرَ يَأْخُذُ لِنَفْسِهِ، وَلأَِنَّهَا عَقْدُ تَبَرُّعٍ، وَالْمُعِيرُ غَيْرُ عَامِلٍ لَهُ، فَلاَ يَسْتَحِقُّ السَّلاَمَةَ، وَلاَ يَثْبُتُ بِهِ الْغُرُورُ (1) .
الثَّانِي: الرُّجُوعُ عَلَى الْمُعِيرِ أَوِ الْمُسْتَعِيرِ، وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، فَالرُّجُوعُ عَلَى الْمُعِيرِ لِتَعَدِّيهِ بِالدَّفْعِ لِلْغَيْرِ، وَأَمَّا عَلَى الْمُسْتَعِيرِ فَلِقَبْضِهِ مَال غَيْرِهِ - وَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ - بِغَيْرِ إِذْنِهِ، غَيْرَ أَنَّهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِي الَّذِي يَكُونُ عَلَيْهِ قَرَارُ الضَّمَانِ، فَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ رَجَعَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ فَلاَ يَرْجِعُ عَلَى مَنْ أَعَارَهُ، لأَِنَّ التَّلَفَ أَوِ النَّقْصَ كَانَ مِنْ فِعْلِهِ، وَلَمْ يَغُرَّ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِهِ فَيَرْجِعُ بِهِ، وَإِنْ ضَمِنَهُ الْمُعِيرُ فَمَنِ اعْتَبَرَ الْعَارِيَّةَ مَضْمُونَةً قَال: لِلْمُعِيرِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ، لأَِنَّهُ كَانَ ضَامِنًا، وَمَنِ اعْتَبَرَ الْعَارِيَّةَ غَيْرَ مَضْمُونَةٍ لَمْ يَجْعَل لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ، لأَِنَّهُ سَلَّطَهُ عَلَى الاِسْتِعْمَال.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ ضَمِنَ الْمُسْتَعِيرُ رَجَعَ عَلَى الْمُعِيرِ بِمَا غَرِمَ، لأَِنَّهُ غَرَّهُ وَغَرِمَهُ، مَا لَمْ يَكُنِ الْمُسْتَعِيرُ عَالِمًا بِالْحَال فَيَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ الضَّمَانُ، لأَِنَّهُ دَخَل عَلَى بَصِيرَةٍ، وَإِنْ ضَمَّنَ الْمَالِكُ الْمُعِيرَ لَمْ يَرْجِعْ بِهَا عَلَى
__________
(1) البحر الرائق 7 / 324، والمدونة 5 / 361 نشر دار صادر.(5/195)
أَحَدٍ إِنْ لَمْ يَكُنِ الْمُسْتَعِيرُ عَالِمًا، وَإِلاَّ رَجَعَ عَلَيْهِ (1) .
أَثَرُ اسْتِحْقَاقِ الْعَارِيَّةِ عَلَى الاِنْتِفَاعِ:
25 - صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ إِذَا اسْتَعَارَ شَخْصٌ شَيْئًا فَانْتَفَعَ بِهِ ثُمَّ ظَهَرَ مُسْتَحَقًّا، فَلِمَالِكِهِ أَجْرُ مِثْلِهِ، يُطَالِبُ بِهِ الْمُعِيرَ أَوِ الْمُسْتَعِيرَ. فَإِنْ ضَمِنَ الْمُسْتَعِيرُ رَجَعَ عَلَى الْمُعِيرِ بِمَا غَرِمَ، لأَِنَّهُ غَرَّهُ وَغَرِمَهُ، لأَِنَّ الْمُسْتَعِيرَ اسْتَعَارَ عَلَى أَلاَّ أَجْرَ عَلَيْهِ. وَإِنْ رَجَعَ عَلَى الْمُعِيرِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى أَحَدٍ (2) . وَقَوَاعِدُ الْمَذَاهِبِ الأُْخْرَى لاَ تَأْبَى ذَلِكَ.
الْوَصِيَّةُ بِالإِْعَارَةِ:
26 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى صِحَّةِ الْوَصِيَّةِ بِالإِْعَارَةِ إِذَا خَرَجَ مُقَابِل الْمَنْفَعَةِ مِنَ الثُّلُثِ بِاعْتِبَارِهَا وَصِيَّةً بِالْمَنْفَعَةِ. وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَابْنُ شُبْرُمَةَ (3) .
إِعَانَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْعَانَةُ لُغَةً: مِنَ الْعَوْنِ، وَهُوَ اسْمٌ بِمَعْنَى الْمُسَاعَدَةِ عَلَى الأَْمْرِ.
يُقَال: أَعَنْتُهُ إِعَانَةً، وَاسْتَعَنْتُهُ، وَاسْتَعَنْتُ بِهِ
__________
(1) الأم 3 / 257، وكشاف القناع 4 / 61.
(2) كشاف القناع 4 / 373، والفروع 2 / 946، والمغني 5 / 233.
(3) كشاف القناع 4 / 373، والفروع 2 / 946، والمغني 6 / 63 ط الرياض، والدسوقي 4 / 423، 445.(5/195)
فَأَعَانَنِي. كَمَا يُقَال: رَجُلٌ مِعْوَانٌ، وَهُوَ الْحَسَنُ الْمَعُونَةِ، وَكَثِيرُ الْمَعُونَةِ لِلنَّاسِ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الإِْغَاثَةُ:
2 - الإِْغَاثَةُ: هِيَ الإِْعَانَةُ وَالنُّصْرَةُ فِي حَال شِدَّةٍ أَوْ ضِيقٍ (2) .
أَمَّا الإِْعَانَةُ فَلاَ يُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ فِي شِدَّةٍ أَوْ ضِيقٍ.
3 - الاِسْتِعَانَةُ: هِيَ طَلَبُ الْعَوْنِ. يُقَال: اسْتَعَنْتُ بِفُلاَنٍ فَأَعَانَنِي وَعَاوَنَنِي (3) ، وَفِي الْحَدِيثِ: اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْتَعِينُكَ وَنَسْتَغْفِرُكَ (4) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
4 - يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلإِْعَانَةِ بِحَسَبِ أَحْوَالِهَا، فَقَدْ تَكُونُ وَاجِبَةً، وَقَدْ تَكُونُ مَنْدُوبَةً، وَقَدْ تَكُونُ مُبَاحَةً أَوْ مَكْرُوهَةً أَوْ مُحَرَّمَةً.
الإِْعَانَةُ الْوَاجِبَةُ:
أ - إِعَانَةُ الْمُضْطَرِّ:
5 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ إِعَانَةِ الْمُضْطَرِّ إِلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ بِإِعْطَائِهِ مَا يَحْفَظُ عَلَيْهِ حَيَاتَهُ، وَكَذَلِكَ بِإِنْقَاذِهِ مِنْ كُل مَا يُعَرِّضُهُ لِلْهَلاَكِ مِنْ غَرَقٍ أَوْ حَرْقٍ، فَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى ذَلِكَ دُونَ غَيْرِهِ
__________
(1) لسان العرب والمصباح في مادة: (عون) .
(2) المصباح المنير واللسان في مادة: (غوث) .
(3) الجوهري ولسان العرب في مادة: (عون) .
(4) حديث " اللهم إنا نستعينك ونستغفرك " أورده الزيلعي في نصب الراية وعزاه إلى مراسيل أبي داود (نصب الراية 2 / 135، 136 ط دار المأمون) .(5/196)
وَجَبَتِ الإِْعَانَةُ عَلَيْهِ وُجُوبًا عَيْنِيًّا، وَإِنْ كَانَ ثَمَّ غَيْرُهُ كَانَ ذَلِكَ وَاجِبًا كِفَائِيًّا عَلَى الْقَادِرِينَ، فَإِنْ قَامَ بِهِ أَحَدُهُمْ سَقَطَ عَنِ الْبَاقِينَ، وَإِلاَّ أَثِمُوا جَمِيعًا، لِمَا رُوِيَ أَنَّ قَوْمًا وَرَدُوا مَاءً فَسَأَلُوا أَهْلَهُ أَنْ يَدُلُّوهُمْ عَلَى الْبِئْرِ فَأَبَوْا، فَسَأَلُوهُمْ أَنْ يُعْطُوهُمْ دَلْوًا، فَأَبَوْا أَنْ يُعْطُوهُمْ، فَقَالُوا لَهُمْ: إِنَّ أَعْنَاقَنَا وَأَعْنَاقَ مَطَايَانَا قَدْ كَادَتْ أَنْ تُقَطَّعَ، فَأَبَوْا أَنْ يُعْطُوهُمْ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَال لَهُمْ: فَهَلاَّ وَضَعْتُمْ فِيهِمُ السِّلاَحَ (1) .؟ ،
وَمِثْل ذَلِكَ إِعَانَةُ الأَْعْمَى إِذَا تَعَرَّضَ لِهَلاَكٍ، وَإِعَانَةُ الصَّغِيرِ لإِِنْقَاذِهِ مِنْ عَقْرَبٍ وَنَحْوِهِ (2) .
ب - الإِْعَانَةُ لإِِنْقَاذِ الْمَال:
6 - تَجِبُ الإِْعَانَةُ لِتَخْلِيصِ مَال الْغَيْرِ مِنَ الضَّيَاعِ قَلِيلاً كَانَ الْمَال أَوْ كَثِيرًا، حَتَّى أَنَّهُ تُقْطَعُ الصَّلاَةُ لِذَلِكَ (3) . وَفِي بِنَاءِ الْمُصَلِّي عَلَى صَلاَتِهِ أَوِ اسْتِئْنَافِهَا خِلاَفٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُبْطِلاَتِ الصَّلاَةِ.
ج - الإِْعَانَةُ فِي دَفْعِ الضَّرَرِ عَنِ الْمُسْلِمِينَ:
7 - يَجِبُ إِعَانَةُ الْمُسْلِمِينَ بِدَفْعِ الضَّرَرِ الْعَامِّ أَوِ الْخَاصِّ عَنْهُمْ، لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى
__________
(1) الأثر عن عمر رضي الله عنه " فهلا وضعتم فيهم السلاح " أورده أبو يوسف في الخراج، ولم يذكر له إسنادا، وأورده السرخسي في المبسوط أيضا. . (الرتاج بتحقيق الكبيسي 1 / 651 ط مطبعة الإرشاد، والمبسوط 23 / 166، وانظر المغني 8 / 602 ط الرياض، وحاشية الدسوقي 4 / 242، والجمل 5 / 7 ط إحياء التراث العربي) .
(2) حاشية الدسوقي 1 / 289 ط دار الفكر، والحطاب 2 / 36 ط ليبيا، وابن عابدين 1 / 440، 478.
(3) حاشية الدسوقي 1 / 289 ط دار الفكر، والحطاب 2 / 36 ط ليبيا، وابن عابدين 1 / 438، 440، والمغني 2 / 49 ط الرياض، والمجموع 4 / 81.(5/196)
الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِْثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (1) . وَلِقَوْل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لاَ يَظْلِمْهُ وَلاَ يُسْلِمْهُ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ (2) . وَكُلَّمَا كَانَ هُنَاكَ رَابِطَةُ قَرَابَةٍ أَوْ حِرْفَةٍ كَانَ التَّعَاوُنُ بَيْنَهُمْ أَوْجَبَ (3) . (ر: عَاقِلَةٌ) .
د - إِعَانَةُ الْبَهَائِمِ:
8 - صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِوُجُوبِ إِعَانَةِ الْبَهَائِمِ بِالإِْنْفَاقِ عَلَيْهَا فِيمَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ عَلَفٍ وَإِقَامَةٍ وَرِعَايَةٍ، لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: عُذِّبَتِ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ سَجَنَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ، فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ، لاَ هِيَ أَطْعَمَتْهَا وَسَقَتْهَا، إِذْ حَبَسَتْهَا، وَلاَ هِيَ تَرَكَتْهَا تَأْكُل مِنْ خَشَاشِ الأَْرْضِ (4) وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ وَجَدَ بِئْرًا، فَنَزَل فِيهَا فَشَرِبَ، ثُمَّ خَرَجَ فَإِذَا كَلْبٌ يَلْهَثُ يَأْكُل الثَّرَى مِنَ الْعَطَشِ، فَقَال الرَّجُل: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا الْكَلْبُ مِنَ الْعَطَشِ مِثْل الَّذِي بَلَغَ بِي، فَنَزَل الْبِئْرَ فَمَلأََ خُفَّهُ، ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ فَسَقَى الْكَلْبَ،
__________
(1) سورة المائدة / 2.
(2) حديث " المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه. . . " أخرجه البخاري من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما مرفوعا (فتح الباري 5 / 97 ط السلفية) ، وانظر جواهر الإكليل 1 / 251 وقليوبي وعميرة 4 / 214، وإعانة الطالبين 2 / 189.
(3) ابن عابدين 5 / 414، والدسوقي 4 / 282، وإعانة الطالبين 2 / 189.
(4) حديث: " عذبت امرأة في هرة سجنتها " أخرجه البخاري ومسلم واللفظ له من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما مرفوعا. (فتح الباري 5 / 41 ط السلفية، وصحيح مسلم 4 / 1760 ط عيسى الحلبي) .(5/197)
فَشَكَرَ اللَّهَ لَهُ، فَغَفَرَ لَهُ. قَالُوا: يَا رَسُول اللَّهِ وَإِنَّ لَنَا فِي الْبَهَائِمِ أَجْرًا؟ ، فَقَال: فِي كُل ذَاتِ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ (1) .
الإِْعَانَةُ الْمَنْدُوبَةُ:
9 - وَتَكُونُ الإِْعَانَةُ مَنْدُوبَةً إِذَا كَانَتْ فِي خَيْرٍ لَمْ يَجِبْ.
الإِْعَانَةُ الْمَكْرُوهَةُ:
10 - الإِْعَانَةُ عَلَى فِعْل الْمَكْرُوهِ تَأْخُذُ حُكْمَهُ فَتَكُونُ مَكْرُوهَةً، مِثْل الإِْعَانَةِ عَلَى الإِْسْرَافِ فِي الْمَاءِ، أَوِ الاِسْتِنْجَاءِ بِمَاءِ زَمْزَمٍ، أَوْ عَلَى الإِْسْرَافِ فِي الْمُبَاحِ بِأَنْ يَسْتَعْمِلَهُ فَوْقَ الْمُقَدَّرِ شَرْعًا. مِثْل إِعْطَاءِ السَّفِيهِ الْمَال الْكَثِيرَ، وَإِعْطَاءِ الصَّبِيِّ غَيْرِ الرَّاشِدِ مَا لاَ يُحْسِنُ التَّصَرُّفَ فِيهِ (2) .
الإِْعَانَةُ عَلَى الْحَرَامِ:
11 - تَأْخُذُ الإِْعَانَةُ عَلَى الْحَرَامِ حُكْمَهُ، مِثْل الإِْعَانَةِ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ، وَإِعَانَةِ الظَّالِمِ عَلَى ظُلْمِهِ، لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: أَتَانِي جِبْرِيل فَقَال: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَل لَعَنَ الْخَمْرَ وَعَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا وَشَارِبَهَا وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةَ إِلَيْهِ وَبَائِعَهَا
__________
(1) حديث: " بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش. . . ". أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا (فتح الباري 10 / 438 ط السلفية) . وانظر المغني 7 / 634، 635 ط الرياض، والاختيار 4 / 14، وحاشية الدسوقي 2 / 22 ط دار الفكر، ونهاية المحتاج 7 / 229 ط المكتب الإسلام
(2) ابن عابدين 1 / 89 ط بولاق.(5/197)
وَمُبْتَاعَهَا وَسَاقِيَهَا وَمُسْتَقِيَهَا (1) .
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - فِي إِعَانَةِ الظَّالِمِ - عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: مَنْ أَعَانَ عَلَى خُصُومَةٍ بِظُلْمٍ أَوْ يُعِينُ عَلَى ظُلْمٍ لَمْ يَزَل فِي سَخَطِ اللَّهِ حَتَّى يَنْزِعَ (2) .
وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَثَل الَّذِي يُعِينُ قَوْمَهُ عَلَى غَيْرِ الْحَقِّ كَمَثَل بَعِيرٍ تَرَدَّى فِي بِئْرٍ فَهُوَ يَنْزِعُ مِنْهَا بِذَنَبِهِ (3) . وَلِحَدِيثِ مَنْ أَعَانَ عَلَى قَتْل مُسْلِمٍ بِشَطْرِ كَلِمَةٍ لَقِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَل، مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ: آيِسٌ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ (4) .
__________
(1) حديث: " أتاني جبريل. . . " أخرجه أحمد والحاكم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وأقره الذهبي، كما قال أحمد شاكر محقق المسند: إسناده صحيح (مسند أحمد بن حنبل 4 / 322 ط دار المعارف بمصر، والمستدرك 4 / 45) .
(2) حديث: " من أعان على خصومة بظلم. . . ". أخرجه أبو داود وابن ماجه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعا، وفي إسناديهما مطر بن طهمان الوراق، قال عنه المنذري: قد ضعفه غير واحد، كما أن في إسناد أبي داود المثنى بن يزيد الثقفي وهو مجهول. (عون المعبود 3 / 334 ط الهند، وسنن ابن ماجه 2 / 778 ط عيسى الحلبي) .
(3) حديث: " مثل الذي يعين قومه على غير الحق كمثل بعير. . . " أخرجه ابن حبان في صحيحه من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مرفوعا، وعزاه المنذري إلى أبي داود، قال المناوي: فيه انقطاع، فإن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود لم يسمع من أبيه. (موارد الظمآن ص 290 - 291 ط دار الكتب العلمية، والترغيب والترهيب 4 / 246 ط السعادة، وفيض القدير 5 / 511 ط المكتبة التجارية) .
(4) حديث: " من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة. . . " أخرجه ابن ماجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا، وقال الحافظ البوصيري في الزوائد: في إسناده يزيد بن أبي زياد، بالغوا في تضعيفه، حتى قيل كأنه حديث موضوع. (سنن ابن ماجه 2 / 874 ط عيسى الحلبي، وفيض القدير 6 / 72 ط المكتبة التجارية) .(5/198)
وَحَدِيثُ انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا، قَالُوا: يَا رَسُول اللَّهِ، هَذَا نَنْصُرُهُ مَظْلُومًا فَكَيْفَ نَنْصُرُهُ ظَالِمًا؟ قَال: تَأْخُذُ فَوْقَ يَدَيْهِ (1) .
إِعَانَةُ الْكَافِرِ:
أ - الإِْعَانَةُ بِصَدَقَةِ التَّطَوُّعِ:
12 - يَجُوزُ دَفْعُ صَدَقَاتِ التَّطَوُّعِ لِلْكَافِرِ غَيْرِ الْحَرْبِيِّ (2) . انْظُرْ مُصْطَلَحَ (صَدَقَةٌ) .
ب - الإِْعَانَةُ بِالنَّفَقَةِ:
13 - صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِوُجُوبِ النَّفَقَةِ - مَعَ اخْتِلاَفِ الَّذِي - لِلزَّوْجَةِ وَقَرَابَةِ الْوِلاَدِ أَعْلَى وَأَسْفَل، لإِِطْلاَقِ النُّصُوصِ، وَلأَِنَّ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ جَزَاءُ الاِحْتِبَاسِ، وَذَلِكَ لاَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الدِّينِ.
وَأَمَّا قَرَابَةُ الْوِلاَدِ فَلِمَكَانِ الْجُزْئِيَّةِ، إِذِ الْجُزْئِيَّةُ فِي مَعْنَى النَّفْسِ، وَنَفَقَةُ النَّفْسِ تَجِبُ مَعَ الْكُفْرِ فَكَذَا الْجُزْءُ، وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (نَفَقَةٌ) (3) .
ج - الإِْعَانَةُ فِي حَالَةِ الاِضْطِرَارِ:
14 - يَجِبُ إِعَانَةُ الْمُضْطَرِّ بِبَذْل الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ إِلَيْهِ إِذَا كَانَ مَعْصُومًا، مُسْلِمًا كَانَ أَوْ ذِمِّيًّا أَوْ مُعَاهَدًا، فَإِنِ امْتَنَعَ مَنْ لَهُ فَضْل طَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ مِنْ دَفْعِهِ لِلْمُضْطَرِّ إِلَيْهِ - وَلَوْ كَافِرًا - جَازَ لَهُ قِتَالُهُ بِالسِّلاَحِ أَوْ
__________
(1) حديث: " انصر أخاك ظالما أو مظلوما. . " أخرجه البخاري من حديث أنس رضي الله عنه مرفوعا (فتح الباري 5 / 98 ط السلفية) .
(2) ابن عابدين 2 / 67، ومغني المحتاج 3 / 121.
(3) الاختيار 4 / 11، وبلغة السالك 2 / 328، ومغني المحتاج 3 / 426، 446، 447، والمغني 7 / 601 وما بعدها.(5/198)
بِغَيْرِ السِّلاَحِ (1) . عَلَى خِلاَفٍ وَتَفْصِيلٍ فِي الْمَذَاهِبِ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ (اضْطِرَارٌ) .
آثَارُ الإِْعَانَةِ:
يَتَرَتَّبُ عَلَى الإِْعَانَةِ آثَارٌ مِنْهَا:
أ - الأَْجْرُ عَلَى الإِْعَانَةِ:
15 - الأَْجْرُ عَلَى الإِْعَانَةِ إِمَّا أُخْرَوِيٌّ، وَهُوَ عَلَى الْوَاجِبِ وَالْمُسْتَحَبِّ مِنْهَا، وَإِمَّا دُنْيَوِيٌّ. فَإِنَّ الإِْعَانَةَ مِنَ التَّبَرُّعَاتِ، وَالأَْصْل أَنَّهُ لاَ يُسْتَحَقُّ عَلَيْهَا أَجْرٌ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ بِرًّا لِلْوَالِدَيْنِ مِثْل إِعَانَةِ الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ، أَمْ لِلنَّاسِ مِثْل إِعَانَةِ الْمُحْتَاجِ بِالْقَرْضِ وَالصَّدَقَةِ وَالْكَفَالَةِ (2) .
وَقَدْ يَأْخُذُ الْمُعِينُ أَجْرًا عَلَى بَعْضِ الأَْعْمَال الَّتِي يُؤَدِّي فِيهَا فِعْلاً مُعَيَّنًا مِثْل الْوَكَالَةِ، وَهِيَ مَشْرُوعَةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
وَلِتَفْصِيل ذَلِكَ يُرْجَعُ إِلَى تِلْكَ الأَْبْوَابِ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ وَفِي مُصْطَلَحَاتِهَا (3) .
ب - الْعِقَابُ عَلَى الإِْعَانَةِ:
16 - لَمْ يَذْكُرِ الْعُلَمَاءُ عُقُوبَاتٍ مُعَيَّنَةً لِلإِْعَانَةِ عَلَى الْمُحَرَّمِ، غَيْرَ أَنَّهُمْ قَالُوا بِالتَّعْزِيرِ عَلَى الذُّنُوبِ الَّتِي لَمْ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 283، والدسوقي 2 / 116، 117، وجواهر الإكليل 1 / 218، ومغني المحتاج 4 / 308، 309، ومطالب أولي النهى 6 / 319.
(2) الاختيار 1 / 118، 2 / 156، 166، 3 / 48 ط المعرفة، والمغني 4 / 534، 5 / 591 ط الرياض، وجواهر الإكليل 2 / 75، 125، 211 ط شقرون، ونهاية المحتاج 4 / 439، 5 / 401، 6 / 149 ط مصطفى الحلبي.
(3) الاختيار 2 / 50، 156، والمغني 5 / 79، 397، وجواهر الإكليل 2 / 125، 145، ونهاية المحتاج 5 / 14، 258.(5/199)
تُشْرَعْ فِيهَا الْحُدُودُ (1) ، لأَِنَّ دَرْءَ الْمُفْسِدِينَ مُسْتَحَبٌّ فِي الْعُقُول (2) ، فَيَجِبُ عَلَى الْحَاكِمِ دَرْءُ الْفَسَادِ بِرَدْعِ الْمُفْسِدِينَ وَمَنْ يُعِينُهُمْ عَلَى ذَلِكَ بِتَعْزِيرِهِمْ بِمَا يَتَنَاسَبُ مَعَ تِلْكَ الإِْعَانَةِ الْمُحَرَّمَةِ.
أَمَّا عَنِ الإِْثْمِ الأُْخْرَوِيِّ الْمُتَرَتِّبِ عَلَى الإِْعَانَةِ فِي الْحَرَامِ، فَقَدْ وَرَدَتْ فِي ذَلِكَ آثَارٌ كَثِيرَةٌ: مِنْهَا مَا رَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لِكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَعَاذَكَ اللَّهُ مِنْ إِمَارَةِ السُّفَهَاءِ. قَال: وَمَا إِمَارَةُ السُّفَهَاءِ؟ قَال: أُمَرَاءُ يَكُونُونَ بَعْدِي، لاَ يَهْتَدُونَ بِهَدْيِي، وَلاَ يَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِي، فَمَنْ صَدَّقَهُمْ بِكَذِبِهِمْ، وَأَعَانَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ، فَأُولَئِكَ لَيْسُوا مِنِّي وَلَسْتُ مِنْهُمْ، وَلاَ يَرِدُونَ عَلَيَّ حَوْضِي، وَمَنْ لَمْ يُصَدِّقْهُمْ بِكَذِبِهِمْ، وَلَمْ يُعِنْهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ، فَأُولَئِكَ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ، وَسَيَرِدُونَ عَلَيَّ حَوْضِي، يَا كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ: إِنَّهُ لاَ يَدْخُل الْجَنَّةَ لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ، النَّارُ أَوْلَى بِهِ. يَا كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ: النَّاسُ غَادِيَانِ، فَمُبْتَاعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا، وَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُوبِقُهَا (3) .
17 - نَصَّ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الْمُعِينَ عَلَى الْجَرِيمَةِ يَأْخُذُ حُكْمَ الأَْصِيل فِي بَعْضِ الأَْحْوَال، كَالرَّبِيئَةِ، وَمُقَدِّمِ السِّلاَحِ، وَالْمُمْسِكِ لِلْقَتْل، وَالرِّدْءِ وَنَحْوِهِمْ. وَيُرْجَعُ إِلَى ذَلِكَ فِي مَبَاحِثِ الْجِنَايَاتِ
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 236 ط مصطفى الحلبي.
(2) إعلام الموقعين 2 / 102 ط محيي الدين.
(3) حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لكعب بن عجرة: " أعاذك الله من إمارة السفهاء. . . ". أخرجه أحمد والبزار. قال الهيثمي: رجالهما رجال الصحيح (مسند أحمد بن حنبل 3 / 321 ط الميمنية، وكشف الأستار عن زوائد البزار 2 / 241 ط مؤسسة الرسالة، ومجمع الزوائد 5 / 247 نشر مكتبة القدسي) .(5/199)
وَالْمِيرَاثِ وَغَيْرِهَا.
ج - الضَّمَانُ:
18 - مَنْ تَرَكَ الإِْعَانَةَ الْوَاجِبَةَ قَدْ يَلْحَقُهُ الضَّمَانُ. قَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِذَا تَرَكَ إِنْسَانٌ إِعَانَةَ مُضْطَرٍّ فَمَنَعَ عَنْهُ الطَّعَامَ حَتَّى مَاتَ، فَإِذَا لَمْ يَقْصِدْ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ، وَإِنْ قَصَدَهُ فَعَمْدٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ.
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، بِجَوَازِ قِتَال الْمَانِعِينَ لِلطَّعَامِ وَالشَّرَابِ - غَيْرِ الْمَحُوزِ - عَنِ الْمُضْطَرِّينَ لَهُ وَالْمُشْرِفِينَ عَلَى الْهَلاَكِ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ قَوْمًا وَرَدُوا مَاءً فَسَأَلُوا أَهْلَهُ أَنْ يَدُلُّوهُمْ عَلَى الْبِئْرِ فَأَبَوْا، فَسَأَلُوهُمْ أَنْ يُعْطُوهُمْ دَلْوًا فَأَبَوْا أَنْ يُعْطُوهُمْ، فَقَالُوا لَهُمْ: إِنَّ أَعْنَاقَنَا وَأَعْنَاقَ مَطَايَانَا قَدْ كَادَتْ أَنْ تُقَطَّعَ فَأَبَوْا أَنْ يُعْطُوهُمْ. فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. فَقَال لَهُمْ عُمَرُ: فَهَلاَّ وَضَعْتُمْ فِيهِمُ السِّلاَحَ (1) . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُضْطَرَّ إِذَا مُنِعَ مِنَ الْمَاءِ، لَهُ أَنْ يُقَاتِل بِالسِّلاَحِ عَلَيْهِ. عَلَى أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ لَمْ يُصَرِّحُوا بِضَمَانِ الْمُتَسَبِّبِ فِي هَلاَكِ الْعَطْشَانِ وَالْجَائِعِ، وَإِنْ كَانَتْ قَوَاعِدُهُمْ تَدُل عَلَى ذَلِكَ (ر: صِيَالٌ) .
وَمَنْ رَأَى خَطَرًا مُحْدِقًا بِإِنْسَانٍ، أَوْ عَلِمَ بِذَلِكَ وَكَانَ قَادِرًا عَلَى إِنْقَاذِهِ فَلَمْ يَفْعَل، فَقَدْ ذَهَبَ أَبُو الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ يَضْمَنُ، خِلاَفًا لِلْجُمْهُورِ الَّذِينَ رَبَطُوا الضَّمَانَ بِالْمُبَاشَرَةِ أَوِ التَّسَبُّبِ.
كَمَا يَضْمَنُ، حَامِل الْحَطَبِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِذَا تَرَكَ تَنْبِيهَ الأَْعْمَى وَمَنْ فِي مَعْنَاهُ حَتَّى تَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ
__________
(1) سبق تخريجه في ف (5) .(5/200)
ضَرَرٌ لَهُ أَوْ لِثِيَابِهِ (1) .
هَذَا وَقَدْ يَجِبُ الضَّمَانُ فِي بَعْضِ عُقُودِ التَّبَرُّعَاتِ مِثْل الْكَفَالَةِ بِأَمْرِ الْمَكْفُول، فَيَضْمَنُ عِنْدَ عَجْزِ الْمَكْفُول الْمَدِينِ.
وَفِي الْوَكَالَةِ عِنْدَ التَّفْرِيطِ أَوِ التَّعَدِّي (2) ، وَهِيَ مِنَ الإِْعَانَاتِ. ر: (كَفَالَةٌ، وَكَالَةٌ) .
إِعْتَاقٌ
انْظُرْ: عِتْقٌ.
اعْتِبَارٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِعْتِبَارُ لُغَةً بِمَعْنَى الاِتِّعَاظِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَْبْصَارِ} (3) . قَال الْخَلِيل: الْعِبْرَةُ الاِعْتِبَارُ بِمَا مَضَى أَيِ الاِتِّعَاظُ وَالتَّذَكُّرُ.
وَيَكُونُ الاِعْتِبَارُ بِمَعْنَى الاِعْتِدَادِ بِالشَّيْءِ فِي تَرَتُّبِ الْحُكْمِ (4) ، وَكَثِيرًا مَا يَسْتَعْمِلُهُ الْفُقَهَاءُ بِهَذَا الْمَعْنَى.
__________
(1) الدسوقي 4 / 242 ط دار الفكر، والجمل 5 / 7 ط إحياء التراث، والمغني 9 / 421 ط مكتبة القاهرة، وقليوبي وعميرة 4 / 212، والمبسوط 23 / 166 ط المعرفة.
(2) الاختيار 2 / 156، 166، والحطاب 5 / 96، 181 ط دار الفكر، وحواشي التحفة 5 / 257، 294 ط دار صادر، والمغني 4 / 534، 535، 5 / 125.
(3) سورة الحشر / 2.
(4) المصباح المنير ولسان العرب.(5/200)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: عَرَّفَهُ الْجُرْجَانِيُّ فَقَال: هُوَ النَّظَرُ فِي الْحُكْمِ الثَّابِتِ أَنَّهُ لأَِيِّ مَعْنًى ثَبَتَ وَإِلْحَاقُ نَظِيرِهِ بِهِ. وَهَذَا عَيْنُ الْقِيَاسِ (1) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - الاِعْتِبَارُ بِمَعْنَى الْقِيَاسِ مَأْمُورٌ بِهِ شَرْعًا، فَقَدِ اسْتَدَل الْقَائِلُونَ بِثُبُوتِ التَّعَبُّدِ بِالْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَْبْصَارِ} فَقَدْ أَمَرَنَا اللَّهُ بِالاِعْتِبَارِ، وَالاِعْتِبَارُ رَدُّ الشَّيْءِ إِلَى نَظِيرِهِ وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ، فَكَانَ مَأْمُورًا بِهِ بِهَذَا النَّصِّ، وَهُنَاكَ أَدِلَّةٌ كَثِيرَةٌ عَلَى حُجِّيَّةِ الْقِيَاسِ يُرْجَعُ فِي بَيَانِهَا وَتَفْصِيلِهَا وَالاِعْتِرَاضَاتِ عَلَيْهَا (2) إِلَى الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
3 - اعْتِبَارَاتُ الشَّارِعِ فِي الأَْحْكَامِ لَهَا مَجَالاَتٌ يَذْكُرُهَا الأُْصُولِيُّونَ بِالتَّفْصِيل فِي: أَبْحَاثِ تَعْرِيفِ الْقِيَاسِ وَحُكْمِهِ، وَفِي مَسَالِكِ الْعِلَّةِ، وَفِي الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ وَفِي السَّبَبِيَّةِ فِي الْحُكْمِ الْوَضْعِيِّ، وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
__________
(1) التعريفات للجرجاني / 24 ط مصطفى الحلبي. وكشف الأسرار 3 / 275 ط دار الكتاب العربي، بيروت، والتلويح 2 / 54 ط صبيح، ومسلم الثبوت 2 / 312 ط بولاق.
(2) إرشاد الفحول للشوكاني / 200 ط مصطفى الحلبي، وشرح البدخشي مع الأسنوي 3 / 9 ط صبيح، والتلويح 2 / 54، ومسلم الثبوت 2 / 312، وكشف الأسرار 3 / 275.(5/201)
اعْتِجَارٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِعْتِجَارُ فِي اللُّغَةِ: لَفُّ الْعِمَامَةِ عَلَى الرَّأْسِ مِنْ غَيْرِ إِدَارَةٍ تَحْتَ الْحَنَكِ. سَوَاءٌ أَأَبْقَى طَرَفَهَا عَلَى وَجْهِهِ أَمْ لَمْ يُبْقِهِ (1) ؟ .
وَعَرَّفَهُ صَاحِبُ مَرَاقِي الْفَلاَحِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ بِقَوْلِهِ: هُوَ شَدُّ الرَّأْسِ بِالْمِنْدِيل، أَوْ تَكْوِيرُ عِمَامَتِهِ عَلَى رَأْسِهِ وَتَرْكُ وَسَطِهِ مَكْشُوفًا - أَيْ مَكْشُوفًا عَنِ الْعِمَامَةِ، لاَ مَكْشُوفَ الرَّأْسِ، وَقِيل: أَنْ يَنْتَقِبَ بِعِمَامَتِهِ فَيُغَطِّيَ أَنْفَهُ (2) .
حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ صَرَاحَةً عَلَى كَرَاهَةِ الاِعْتِجَارِ فِي الصَّلاَةِ كَرَاهَةً تَحْرِيمِيَّةً، وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّهُ فِعْلٌ مَا لَمْ يَرِدْ عَنِ الشَّرْعِ، وَقَالُوا: إِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الاِعْتِجَارِ فِي الصَّلاَةِ (3) . وَوَرَدَ عَنِ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يُكْرَهُ تَنْزِيهًا لُبْسُ مَا لَمْ يُعْتَدْ لُبْسُهُ فِي الصَّلاَةِ، أَوْ مَا فِيهِ خِلاَفُ زِيِّ الْبَلَدِ الَّذِي هُوَ فِيهِ. فَإِنْ كَانَ الاِعْتِجَارُ غَيْرَ مُعْتَادٍ فَيَكُونُ عِنْدَهُمْ مَكْرُوهًا فِي الصَّلاَةِ كَرَاهَةً تَنْزِيهِيَّةً (4) .
3 - أَمَّا الاِعْتِجَارُ خَارِجَ الصَّلاَةِ لِلْحَيِّ أَوْ لِلْمَيِّتِ،
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير مادة (عجر) .
(2) مراقي الفلاح بحاشية الطحطاوي / 192 طبع المطبعة العثمانية.
(3) مراقي الفلاح بحاشية الطحطاوي / 192.
(4) مطالب أولي النهى 1 / 350 طبع المكتب الإسلامي.(5/201)
فَلَمْ يَتَعَرَّضِ الْفُقَهَاءُ - فِيمَا نَعْلَمُهُ - لِذَلِكَ بِصَرَاحَةٍ وَلَكِنِ الَّذِينَ كَرِهُوا الْعِمَامَةَ لِلْمَيِّتِ - كَمَا هُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - فَإِنَّهُمْ يَكْرَهُونَ لَهُ الاِعْتِجَارَ بِالْعِمَامَةِ مِنْ بَابٍ أَوْلَى (1) ، وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ، عِنْدَ كَلاَمِهِمْ عَلَى كَفَنِ الْمَيِّتِ.
اعْتِدَاءٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِعْتِدَاءُ فِي اللُّغَةِ وَفِي الاِصْطِلاَحِ: الظُّلْمُ وَتَجَاوُزُ الْحَدِّ (2) . يُقَال: اعْتَدَى عَلَيْهِ إِذَا ظَلَمَهُ، وَاعْتَدَى عَلَى حَقِّهِ أَيْ جَاوَزَ إِلَيْهِ بِغَيْرِ حَقٍّ.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - الاِعْتِدَاءُ حَرَامٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (3) .
أَمَّا مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الاِعْتِدَاءِ مِنْ أَثَرٍ، فَيَخْتَلِفُ: فَإِذَا كَانَ الْمُعْتَدِي حَيَوَانًا لاَ يَثْبُتُ عَلَى صَاحِبِهِ عُقُوبَةٌ وَلاَ ضَمَانٌ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جُرْحُ الْعَجْمَاءِ جُبَارٌ (4) ، وَهَذَا - مَا لَمْ يَكُنْ صَاحِبُهُ مُتَهَاوِنًا أَوْ مُعْتَدِيًا بِتَحْرِيضِهِ وَإِغْرَائِهِ.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 578 والفتاوى الهندية 1 / 158، ومراقي الفلاح / 316، وحاشية العدوي على الخرشي 2 / 127.
(2) المصباح المنير، ولسان العرب، مادة: " عدا "
(3) سورة البقرة / 190.
(4) حديث: " جرح العجماء جبار " أخرجه البخاري ومسلم ومالك واللفظ له من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا (فتح الباري 5 / 33 ط السلفية، وصحيح مسلم 3 / 1334 ط عيسى الحلبي، والموطأ 2 / 868، 869 عيسى الحلبي) .(5/202)
أَمَّا الإِْنْسَانُ: فَإِنَّهُ يُفَرَّقُ فِيهِ بَيْنَ الْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ، إِذِ الْكَبِيرُ يَثْبُتُ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةُ وَالضَّمَانُ، أَمَّا الصَّغِيرُ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ دُونَ الْعُقُوبَةِ، وَكُل ذَلِكَ مُفَصَّلٌ فِي كِتَابِ الْجِنَايَاتِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ.
هَذَا، وَيَخْتَلِفُ الْحُكْمُ بِحَسَبِ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الاِعْتِدَاءُ.
فَإِنْ وَقَعَ عَلَى نَفْسِ الإِْنْسَانِ أَوْ مَا دُونَهَا مِنْ جَسَدِهِ، فَعِنْدَئِذٍ يَجِبُ فِي عَمْدِهِ الْقِصَاصُ إِذَا تَوَفَّرَتْ شُرُوطُهُ، وَفِي خَطَئِهِ الضَّمَانُ بِالْمَال كَمَا هُوَ مُفَصَّلٌ فِي كِتَابِ الْجِنَايَاتِ.
وَإِنْ وَقَعَ عَلَى الْمَال، فَعِنْدَئِذٍ لاَ يَخْلُو الأَْمْرُ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِطَرِيقِ السَّرِقَةِ، وَعِنْدَئِذٍ يَجِبُ قَطْعُ الْيَدِ (ر: سَرِقَةٌ) .
أَوْ يَكُونُ بِطَرِيقِ الْغَصْبِ، وَعِنْدَئِذٍ يَجِبُ الضَّمَانُ وَالتَّعْزِيرُ، كَمَا هُوَ مُفَصَّلٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ فِي مَبَاحِثِ: الْغَصْبِ، وَالضَّمَانِ، وَالتَّعْزِيرِ.
وَإِنْ وَقَعَ الاِعْتِدَاءُ عَلَى حَقٍّ مِنَ الْحُقُوقِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى كَحِفْظِ الْعَقِيدَةِ، وَالْعَقْل، وَالْعِرْضِ، وَأَرْضِ الإِْسْلاَمِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَعُقُوبَتُهُ الْحَدُّ أَوِ التَّعْزِيرُ مَا هُوَ مُفَصَّلٌ فِي أَبْوَابِهِ.
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ حَقًّا لِلْعَبْدِ كَعَدَمِ تَسْلِيمِ الأَْبِ ابْنَهُ الصَّغِيرَ إِلَى أُمِّهِ الْمُطَلَّقَةِ، لِتَقُومَ بِحَضَانَتِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ فَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ الإِْجْبَارُ عَلَى أَدَاءِ الْحَقِّ أَوْ ضَمَانُهُ مَعَ التَّعْزِيرِ إِنْ رَأَى الْحَاكِمُ ذَلِكَ.
دَفْعُ الاِعْتِدَاءِ:
3 - إِذَا وَقَعَ الاِعْتِدَاءُ فَلِلْمُعْتَدَى عَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَهُ مَا اسْتَطَاعَ إِلَى ذَلِكَ سَبِيلاً سَوَاءٌ أَكَانَ هَذَا الدَّفْعُ بِبَدَنِهِ كَمَا فَصَّل الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ: (الصِّيَال)(5/202)
وَالْجِهَادِ) مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ، أَوْ بِمَالِهِ كَمَا إِذَا صَالَحَ الْمُسْلِمُونَ الْكُفَّارَ بِدَفْعِ شَيْءٍ مِنْ أَمْوَالِهِمْ لِئَلاَّ يَحْتَلُّوا بِلاَدَ الإِْسْلاَمِ، كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ، وَكَمَا إِذَا أَعْطَى رَجُلٌ لآِخَرَ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ لِيَدْفَعَهُ عَنْ عِرْضِهِ (1) . كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الْفُقَهَاءُ أَثْنَاءَ كَلاَمِهِمْ عَنِ الرِّشْوَةِ.
وَدَفْعُ الاِعْتِدَاءِ عَنِ الْمُسْلِمِينَ وَاجِبٌ عَلَى كُل مُسْلِمٍ قَادِرٍ عَلَيْهِ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الْفُقَهَاءُ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ.
اعْتِدَادٌ
انْظُرْ: عِدَّةٌ.
(
اعْتِدَالٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِعْتِدَال فِي اللُّغَةِ كَوْنُ الشَّيْءِ مُتَنَاسِبًا، أَوْ صَيْرُورَتُهُ كَذَلِكَ، فَإِذَا مَال شَيْءٌ فَأَقَمْتَهُ تَقُول: عَدَلْتُهُ فَاعْتَدَل.
وَلاَ يُفَرِّقُ أَهْل اللُّغَةِ بَيْنَ الاِعْتِدَال وَالاِسْتِقَامَةِ، وَالاِسْتِوَاءِ، فَهُمْ يَقُولُونَ: اسْتَقَامَ الشَّيْءُ إِذَا اسْتَوَى وَاعْتَدَل، وَيَقُولُونَ أَيْضًا اسْتَوَى الشَّيْءُ إِذَا اسْتَقَامَ وَاعْتَدَل (2) .
__________
(1) مصنف عبد الرزاق 8 / 149، والمحلى 9 / 158، وأحكام القرآن للجصاص 2 / 433.
(2) المصباح المنير، ولسان العرب، وتاج العروس، والصحاح، المواد: عدل، قوم، سوى.(5/203)
وَيُطْلِقُ الْفُقَهَاءُ كَلِمَةَ الاِعْتِدَال عَلَى أَثَرِ الرَّفْعِ مِنَ الرُّكُوعِ أَوِ السُّجُودِ (1) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
2 - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الاِعْتِدَال مِنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَرْضٌ، وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ سُنَّةٌ (2) .
وَقَدْ تَكَلَّمَ الْفُقَهَاءُ عَنْ تَفْصِيلاَتٍ تَتَعَلَّقُ بِمَا يَتَحَقَّقُ بِهِ الاِعْتِدَال، وَوُجُوبِ الاِطْمِئْنَانِ فِي الاِعْتِدَال، وَسُنَّةِ رَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي الاِعْتِدَال، وَالدُّعَاءُ فِيهِ دُعَاءُ قُنُوتٍ أَوْ غَيْرِهِ، كَمَا تَحَدَّثُوا عَنِ الشَّكِّ فِي تَمَامِ الاِعْتِدَال، وَالاِعْتِدَال بِغَيْرِ نِيَّةِ الاِعْتِدَال، كَاعْتِدَال الْمُصَلِّي خَوْفًا مِنْ سَبُعٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَعَنِ الْعَجْزِ عَنِ الاِعْتِدَال، وَعَنْ تَعَمُّدِ تَرْكِ الاِعْتِدَال، وَتَجِدُ ذَلِكَ كُلَّهُ مَبْسُوطًا فِي كِتَابِ الصَّلاَةِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ.
اعْتِرَافٌ
انْظُرْ: إِقْرَارٌ.
اعْتِصَارٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِعْتِصَارُ افْتِعَالٌ مِنَ الْعَصْرِ، وَمِنْ مَعَانِيهِ الْمَنْعُ
__________
(1) أسنى المطالب 1 / 158، ومواهب الجليل 1 / 524، والمغني 1 / 513.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 312 ط (أ) بولاق، والطحطاوي على مراقي الفلاح 145 - 146 ط بولاق.(5/203)
وَالْحَبْسُ، وَمِنْهَا اسْتِخْرَاجُ عَصِيرِ الْعِنَبِ وَنَحْوِهِ.
وَاعْتَصَرَ الْعَطِيَّةَ: ارْتَجَعَهَا. وَمِنْهُ قَوْل عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) : " إِنَّ الْوَالِدَ يَعْتَصِرُ وَلَدَهُ فِيمَا أَعْطَاهُ، وَلَيْسَ لِلْوَلَدِ أَنْ يَعْتَصِرَ مِنْ وَالِدِهِ (1) ، فَشَبَّهَ أَخْذَ الْمَال مِنْهُ بِاسْتِخْرَاجِهِ مِنْ يَدِهِ بِالاِعْتِصَارِ (2) .
أَمَّا اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ، فَهُوَ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَرَفَةَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: ارْتِجَاعُ الْمُعْطِي عَطِيَّتَهُ دُونَ عِوَضٍ لاَ بِطَوْعِ الْمُعْطِي (3) ، أَيْ بِغَيْرِ رِضَى الْمَوْهُوبِ لَهُ. وَالاِعْتِصَارُ شَائِعٌ فِي عِبَارَاتِ الْمَالِكِيَّةِ، أَمَّا غَيْرُهُمْ فَيُعَبِّرُونَ عَنْهُ بِالرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
2 - جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الاِعْتِصَارَ (الرُّجُوعُ فِي الْهِبَةِ) لَيْسَ مِنْ حَقِّ الْوَاهِبِ بَعْدَ الْقَبْضِ إِلاَّ لِلْوَالِدَيْنِ فِي الْجُمْلَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَلَهُمَا وَلِلأُْصُول عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَاسْتَدَل مَنْ مَنَعَ الرُّجُوعَ بِالْحَدِيثِ الثَّابِتِ، وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ (4) وَاسْتَدَل لِلاِسْتِثْنَاءِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَحِل لِرَجُلٍ أَنْ
__________
(1) الأثر عن عمر رضي الله عنه " إن الوالد يعتصر ولده. . إلخ. " أخرجه البيهقي من طريق عبد الرزاق بلفظ: " كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يقبض الرجل من ولده ما أعطاه، ما لم يمت أو يستهلك، أو يقع فيه بين ". (السنن الكبرى للبيهقي 6 / 179) .
(2) لسان العرب المحيط، المصباح المنير، المغرب في ترتيب المعرب (مادة عصر) ، وأثر عمر: " إن الوالد. . . "
(3) الحطاب 6 / 63، والشرح الصغير 4 / 151.
(4) حديث: " العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه ". أخرجه البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا (فتح الباري 2 / 345 ط السلفية) .(5/204)
يُعْطِيَ عَطِيَّةً أَوْ يَهَبَ هِبَةً فَيَرْجِعَ فِيهَا إِلاَّ الْوَالِدُ فِيمَا يُعْطِي وَلَدَهُ، وَمَثَل الَّذِي يُعْطِي الْعَطِيَّةَ ثُمَّ يَرْجِعُ فِيهَا كَمَثَل الْكَلْبِ يَأْكُل، فَإِذَا شَبِعَ قَاءَ، ثُمَّ عَادَ فِي قَيْئِهِ (1) وَمَا عَدَا الْوَالِدَ مُلْحَقٌ بِهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَيَرَوْنَ الرُّجُوعَ لِلْوَاهِبِ - مَعَ الْكَرَاهَةِ التَّحْرِيمِيَّةِ - فِي الْهِبَةِ قَبْل الْقَبْضِ وَبَعْدَهُ إِلاَّ لِمَانِعٍ (2) . وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي (هِبَةٌ) .
اعْتِقَادٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِعْتِقَادُ لُغَةً: مَصْدَرُ اعْتَقَدَ. وَاعْتَقَدْتُ كَذَا: عَقَدْتُ عَلَيْهِ الْقَلْبَ وَالضَّمِيرَ، وَقِيل: الْعَقِيدَةُ، مَا يَدِينُ الإِْنْسَانُ بِهِ (3) .
وَاصْطِلاَحًا: يُطْلَقُ الاِعْتِقَادُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ:
الأَْوَّل: التَّصْدِيقُ مُطْلَقًا، أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ جَازِمًا أَوْ غَيْرَ جَازِمٍ، مُطَابِقًا أَوْ غَيْرَ مُطَابِقٍ، ثَابِتًا أَوْ غَيْرَ ثَابِتٍ.
الثَّانِي: أَحَدُ أَقْسَامِ الْعِلْمِ، وَهُوَ الْيَقِينُ،
__________
(1) الكافي لابن عبد البر 2 / 1004 ط أولى، والإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع 3 / 108 ط م الحلبي، ومغني المحتاج 2 / 402 ط دار إحياء التراث، وشرح منتهى الإرادات 2 / 525، والمغني 5 / 671 ط الرياض. وحديث: " لا يحل أن يعطي عطية أو يهب هبة فيرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده. . . " أخرجه أبو داود من حديث ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم مرفوعا، وقال الحافظ ابن حجر في الفتح: رجاله ثقات (سنن أبي داود 3 / 808 - 810 ط إستنبول، وفتح الباري 5 / 211 ط السلفية) .
(2) تحفة الفقهاء للسمرقندي 3 / 231 ط دار الفكر.
(3) المصباح المنير مادة (عقد) .(5/204)
وَسَيَأْتِي تَعْرِيفُهُ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الاِعْتِنَاقُ:
2 - مِنْ مَعَانِي الاِعْتِنَاقِ فِي اللُّغَةِ: جَعْل الرَّجُل يَدَيْهِ عَلَى عُنُقِ الآْخَرِ، وَمِنْهَا أَخْذُ الأَْمْرِ بِجِدٍّ، وَاسْتُعْمِل مُوَلَّدًا. فَقِيل اعْتَنَقَ دِينًا أَوْ نِحْلَةً (2) . فَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الاِعْتِقَادِ.
ب - الْعِلْمُ:
3 - يُطْلَقُ الْعِلْمُ عَلَى مَعَانٍ: مِنْهَا الإِْدْرَاكُ مُطْلَقًا، تَصَوُّرًا كَانَ أَوْ تَصْدِيقًا، يَقِينِيًّا أَوْ غَيْرَ يَقِينِيٍّ. وَبِهَذَا الْمَعْنَى يَكُونُ الْعِلْمُ أَعَمَّ مِنَ الاِعْتِقَادِ مُطْلَقًا.
وَمِنْ مَعَانِي الْعِلْمِ الْيَقِينُ، وَبِهَذَا الْمَعْنَى يَكُونُ الْعِلْمُ أَخَصَّ مِنَ الاِعْتِقَادِ بِالْمَعْنَى الأَْوَّل، وَمُسَاوِيًا لَهُ بِالْمَعْنَى الثَّانِي، أَيِ الْيَقِينِ (3) .
ج - الْيَقِينُ:
4 - الْيَقِينُ هُوَ الاِعْتِقَادُ الْجَازِمُ الْمُطَابِقُ لِلْوَاقِعِ الثَّابِتِ، أَيِ الَّذِي لاَ يَقْبَل التَّشْكِيكَ (4) . وَيُعَرِّفُهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ عِلْمٌ يُورِثُ سُكُونَ النَّفْسِ وَثَلْجَ الصَّدْرِ بِمَا عَلِمَ، بَعْدَ حَيْرَةٍ وَشَكٍّ (5) . وَالْيَقِينُ أَخَصُّ مِنَ الْعِلْمِ، وَمِنَ الاِعْتِقَادِ.
__________
(1) كشاف اصطلاحات الفنون 4 / 954.
(2) لسان العرب، والمصباح المنير، والمعجم الوسيط في المادة.
(3) المصباح المنير، والتعريفات للجرجاني / 135، والفروق في اللغة / 73، واصطلاحات الفنون للتهانوي ص 1055.
(4) اصطلاحات الفنون للتهانوي ص 1546.
(5) جمع الجوامع 1 / 153، والمصباح المنير، والتعريفات للجرجاني في المادة، والفروق في اللغة 91 - 93، واصطلاحات الفنون للتهانوي 4 / 954.(5/205)
د - الظَّنُّ:
5 - الظَّنُّ: هُوَ إِدْرَاكُ الطَّرَفِ الرَّاجِحِ مَعَ احْتِمَال النَّقِيضِ، وَقَدْ يُسْتَعْمَل فِي الْيَقِينِ وَالشَّكِّ، تَجَوُّزًا. فَالظَّنُّ مُبَايِنٌ لِلاِعْتِقَادِ بِمَعْنَى الْيَقِينِ (1) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
6 - يَعْرِضُ لِحُكْمِ الاِعْتِقَادِ وُجُوهٌ:
أ - بِالنِّسْبَةِ لِلصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ: يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ،
صَحِيحٌ وَفَاسِدٌ (2) . فَالاِعْتِقَادُ الصَّحِيحُ، هُوَ مَا طَابَقَ الْوَاقِعَ، كَاعْتِقَادِ أَنَّ صَلاَةَ الضُّحَى مَنْدُوبَةٌ. وَالاِعْتِقَادُ الْفَاسِدُ هُوَ غَيْرُ الْمُطَابِقِ لِلْوَاقِعِ، كَاعْتِقَادِ الْفَلاَسِفَةِ أَنَّ الْعَالَمَ قَدِيمٌ.
ب - بِالنِّسْبَةِ لِلْحِل وَالْحُرْمَةِ: لاَ يَجُوزُ اعْتِقَادُ حُكْمٍ مِنَ الأَْحْكَامِ الْخَمْسَةِ عَلَى غَيْرِ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ فَرْضِيَّةٍ أَوْ سُنِّيَّةٍ أَوْ إِبَاحَةٍ أَوْ كَرَاهَةٍ أَوْ تَحْرِيمٍ، فَاعْتِقَادُ إِبَاحَةِ الْمُبَاحِ وَاجِبٌ مَثَلاً، فَلَوِ اعْتَقَدَهُ عَلَى غَيْرِ مَا هُوَ عَلَيْهِ فَذَلِكَ خَطَأٌ. وَيَتَعَلَّقُ الإِْثْمُ بِذَلِكَ الْخَطَأِ فِي الأُْمُورِ الْمَعْلُومَةِ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، وَمَا عَدَاهَا فَيُعْذَرُ بِالْجَهْل وَالْخَطَأِ فِيهَا، إِذَا أَخْطَأَ فِي الاِجْتِهَادِ، أَوْ أَخْطَأَ مُقَلِّدُهُ تَبَعًا لَهُ.
أَثَرُ الاِعْتِقَادِ فِي التَّصَرُّفَاتِ:
7 - مَا يَعْتَقِدُهُ الْمُكَلَّفُ قُرْبَةً أَوْ مُبَاحًا فَإِذَا هُوَ بِخِلاَفِهِ، كَمَنْ فَعَل فِعْلاً يَظُنُّهُ قُرْبَةً أَوْ مُبَاحًا وَهُوَ مِنَ الْمَفَاسِدِ فِي نَفْسِ الأَْمْرِ، وَكَالْحَاكِمِ إِذَا حَكَمَ بِمَا اعْتَقَدَهُ حَقًّا بِنَاءً عَلَى الْحُجَجِ الشَّرْعِيَّةِ، أَوْ كَمَنْ
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) جمع الجوامع 1 / 152، أشرف المقاصد 12 ط الخيرية، وكشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي 4 / 954 ط خياط.(5/205)
يُصَلِّي عَلَى مُرْتَدٍّ يَعْتَقِدُهُ مُسْلِمًا، فَهَذَا خَطَأٌ مَعْفُوٌّ عَنْهُ، يُثَابُ فَاعِلُهُ عَلَى قَصْدِهِ، دُونَ فِعْلِهِ، وَكَذَلِكَ كُل مَا كَانَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى.
أَمَّا إِذَا قَصَدَ إِغَاثَةَ الْجَائِعِ، فَأَعْطَاهُ طَعَامًا فَاسِدًا، مُعْتَقِدًا أَنَّهُ صَحِيحٌ، فَمَاتَ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ إِذَا وَطِئَ أَجْنَبِيَّةً يَعْتَقِدُهَا زَوْجَتَهُ فَإِنَّهُ لاَ يَأْثَمُ، وَيَلْزَمُهُ ضَمَانُ مَا أَتْلَفَ، وَيَلْزَمُهُ مَهْرُ الْمِثْل فِي الْوَطْءِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ. وَتَخْتَلِفُ الأُْجُورُ بِاخْتِلاَفِ رُتَبِ الْمَصَالِحِ، فَإِذَا تَحَقَّقَتِ الأَْسْبَابُ وَالشَّرَائِطُ وَالأَْرْكَانُ فِي الْبَاطِنِ، فَإِنْ ثَبَتَ هَذَا فِي الظَّاهِرِ - يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ ثَوَابُ الآْخِرَةِ، وَإِنْ ثَبَتَ فِي الظَّاهِرِ مَا يُخَالِفُ الْبَاطِنَ أُثِيبَ الْمُكَلَّفُ عَلَى قَصْدِ الْعَمَل الْحَقِّ، وَلاَ يُثَابُ عَلَى عَمَلِهِ، لأَِنَّهُ خَطَأٌ، وَلاَ ثَوَابَ عَلَى الْخَطَأِ، وَلأَِنَّهُ مَفْسَدَةٌ وَلاَ ثَوَابَ عَلَى الْمَفَاسِدِ (1) . الْهَزْل وَالاِعْتِقَادُ:
8 - الْهَازِل لاَ يَدْخُل فِي اعْتِقَادٍ بِهَزْلِهِ، وَلاَ يَخْرُجُ مِنْهُ بِهَذَا الْهَزْل. إِلاَّ أَنَّ الْمُسْلِمَ يَكْفُرُ بِالْهَزْل بِالْكُفْرِ، لاَ لِتَبَدُّل الاِعْتِقَادَاتِ، بَل لأَِنَّ الْهَزْل اسْتِخْفَافٌ بِالدِّينِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُل أَبِاَللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} (2)
وَلِلتَّفْصِيل يُرْجَعُ إِلَى مُصْطَلَحِ (اسْتِخْفَافٌ) (وَرِدَّةٌ) .
__________
(1) قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام 1 / 23، 111 ط التجارية، والإيمان لابن تيمية 39.
(2) مسلم الثبوت 1 / 193، والإعلام بقواطع الإسلام 2 / 41، والمغني 8 / 150 ط السعودية، والحطاب 6 / 287، والصارم المسلول 546، والآية من سورة التوبة / 65، 66.(5/206)
اعْتِقَالٌ
انْظُرْ: احْتِبَاسٌ، أَمَانٌ.
اعْتِكَافٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِعْتِكَافُ لُغَةً: الاِفْتِعَال، مِنْ عَكَفَ عَلَى الشَّيْءِ عُكُوفًا وَعَكْفًا. مِنْ بَابَيْ: قَعَدَ، وَضَرَبَ. إِذَا لاَزَمَهُ وَوَاظَبَ عَلَيْهِ، وَعَكَفْتُ الشَّيْءَ: حَبَسْتُهُ.
وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} (1) . وَعَكَفْتُهُ عَنْ حَاجَتِهِ: مَنَعْتُهُ (2) .
وَالاِعْتِكَافُ: حَبْسُ النَّفْسِ عَنِ التَّصَرُّفَاتِ الْعَادِيَّةِ.
وَشَرْعًا: اللُّبْثُ فِي الْمَسْجِدِ عَلَى صِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ بِنِيَّةٍ (3) .
__________
(1) سورة الفتح / 25.
(2) المصباح المنير مادة: (عكف) .
(3) البجيرمي على المنهج 2 / 591 ط المكتبة الإسلامية، وفتح القدير 2 / 305 ط دار إحياء التراث، وانظر الفتاوى الهندية 1 / 211، والمغني 2 / 183، والشرح الصغير 1 / 725 ط دار المعارف، والإفصاح 1 / 170.(5/206)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْخَلْوَةُ:
2 - الْخَلْوَةُ مِنْ خَلاَ الْمَكَانُ، إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَحَدٌ، وَلاَ شَيْءَ فِيهِ، وَهُوَ خَالٍ، وَمِنْهُ خَلْوَةُ الرَّجُل بِنَفْسِهِ إِذَا انْفَرَدَ.
وَالاِعْتِكَافُ قَدْ يَكُونُ مَعَ الآْخَرِينَ بِنَفْسِ الْمَكَانِ الْمُعَدِّ لِذَلِكَ، فَالْمُعْتَكِفُ قَدْ يَنْفَرِدُ بِنَفْسِهِ، وَقَدْ لاَ يَنْفَرِدُ.
ب - الرِّبَاطُ وَالْمُرَابَطَةُ:
3 - الرِّبَاطُ هُوَ: الْحِرَاسَةُ بِمَحَلٍّ خِيفَ هُجُومُ الْعَدُوِّ مِنْهُ، أَوِ الْمَقَامُ فِي الثُّغُورِ لإِِعْزَازِ الدِّينِ وَدَفْعِ الشَّرِّ عَنِ الْمُسْلِمِينَ (1) .
وَالاِعْتِكَافُ يَكُونُ فِي الثُّغُورِ وَغَيْرِهَا، وَالرِّبَاطُ لاَ يَكُونُ إِلاَّ فِي الثُّغُورِ، وَيَكُونُ فِي الْمَسْجِدِ وَغَيْرِهِ.
ج - الْجِوَارُ:
4 - الْجِوَارُ هُوَ: الْمُلاَصَقَةُ فِي السُّكْنَى (2) ، وَيُسَمَّى الاِعْتِكَافُ جِوَارًا، لِقَوْل عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنِ اعْتِكَافِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَهُوَ مُجَاوِرٌ فِي الْمَسْجِدِ (3) .
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا: كُنْتُ أُجَاوِرُ هَذِهِ الْعَشْرَ - يَعْنِي الأَْوْسَطَ - ثُمَّ قَدْ بَدَا لِي أَنْ أُجَاوِرَ هَذِهِ الْعَشْرَ الأَْوَاخِرَ، فَمَنْ كَانَ اعْتَكَفَ مَعِي
__________
(1) جواهر الإكليل 1 / 158، 245 ط دار المعرفة، وابن عابدين 3 / 217 ط بولاق.
(2) المصباح المنير.
(3) كشاف القناع 2 / 347 ط الرياض. وحديث عائشة رضي الله عنها. أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 273 ط السلفية) .(5/207)
فَلْيَثْبُتْ فِي مُعْتَكَفِهِ (1) .
قَال مَالِكٌ (2) : الاِعْتِكَافُ وَالْجِوَارُ سَوَاءٌ إِلاَّ مَنْ نَذَرَ، مِثْل جِوَارِ مَكَّةَ، يُجَاوِرُ النَّهَارَ، وَيَنْقَلِبُ اللَّيْل إِلَى مَنْزِلِهِ، قَال: فَمَنْ جَاوَرَ مِثْل هَذَا الْجِوَارِ الَّذِي يَنْقَلِبُ فِيهِ اللَّيْل إِلَى مَنْزِلِهِ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي جِوَارِهِ صِيَامٌ.
فَالْجِوَارُ عَلَى هَذَا أَعَمُّ مِنَ الاِعْتِكَافِ، لأَِنَّهُ يَكُونُ فِي الْمَسْجِدِ وَغَيْرِهِ، وَيَكُونُ مَعَ الصِّيَامِ وَبِدُونِهِ.
حِكْمَةُ الاِعْتِكَافِ:
5 - الاِعْتِكَافُ فِيهِ تَسْلِيمُ الْمُعْتَكِفِ نَفْسَهُ بِالْكُلِّيَّةِ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى طَلَبَ الزُّلْفَى، وَإِبْعَادَ النَّفْسِ مِنْ شُغْل الدُّنْيَا الَّتِي هِيَ مَانِعَةٌ عَمَّا يَطْلُبُهُ الْعَبْدُ مِنَ الْقُرْبَى، وَفِيهِ اسْتِغْرَاقُ الْمُعْتَكِفِ أَوْقَاتَهُ فِي الصَّلاَةِ إِمَّا حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا، لأَِنَّ الْمَقْصِدَ الأَْصْلِيَّ مِنْ شَرْعِيَّةِ الاِعْتِكَافِ انْتِظَارُ الصَّلاَةِ فِي الْجَمَاعَاتِ، وَتَشْبِيهُ الْمُعْتَكِفِ نَفْسَهُ بِالْمَلاَئِكَةِ الَّذِينَ لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ، وَيُسَبِّحُونَ اللَّيْل وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ (3) .
حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ:
6 - الاِعْتِكَافُ سُنَّةٌ، وَلاَ يَلْزَمُ إِلاَّ بِالنَّذْرِ، لَكِنِ
__________
(1) حديث: " كنت أجاور هذه العشر. . . " أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعا (فتح الباري 4 / 59 ط السلفية، وصحيح مسلم 2 / 824 ط عيسى الحلبي) .
(2) المدونة 1 / 232 ط دار صادر.
(3) الفتاوى الهندية 1 / 212، الطحطاوي على مراقي الفلاح 387 ط الأميرية. والآية من سورة الأنبياء / 20.(5/207)
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَرْتَبَةِ هَذِهِ السُّنِّيَّةِ.
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّهُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ فِي الْعَشْرِ الأَْوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، وَمُسْتَحَبٌّ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ.
وَفِي الْمَشْهُورِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، أَنَّهُ مَنْدُوبٌ مُؤَكَّدٌ وَلَيْسَ بِسُنَّةٍ.
وَقَال ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: إِنَّهُ سُنَّةٌ فِي رَمَضَانَ وَمَنْدُوبٌ فِي غَيْرِهِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، فِي جَمِيعِ الأَْوْقَاتِ، وَفِي الْعَشْرِ الأَْوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ آكَدُ اقْتِدَاءً بِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطَلَبًا لِلَيْلَةِ الْقَدْرِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنَّهُ سُنَّةٌ فِي كُل وَقْتٍ، وَآكَدُهُ فِي رَمَضَانَ، وَآكَدُهُ فِي الْعَشْرِ الأَْخِيرِ مِنْهُ.
قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الاِعْتِكَافَ سُنَّةٌ، لاَ يَجِبُ عَلَى النَّاسِ فَرْضًا، إِلاَّ أَنْ يُوجِبَ الْمَرْءُ عَلَى نَفْسِهِ الاِعْتِكَافَ نَذْرًا، فَيَجِبُ عَلَيْهِ.
وَمِمَّا يَدُل عَلَى أَنَّهُ سُنَّةٌ فِعْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُدَاوَمَتُهُ عَلَيْهِ تَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَطَلَبًا لِثَوَابِهِ، وَاعْتِكَافُ أَزْوَاجِهِ مَعَهُ وَبَعْدَهُ.
أَمَّا أَنَّ الاِعْتِكَافَ غَيْرُ وَاجِبٍ فَلأَِنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَلْتَزِمُوا الاِعْتِكَافَ كُلُّهُمْ، وَإِنْ صَحَّ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ فِعْلُهُ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَأْمُرْ أَصْحَابَهُ بِالاِعْتِكَافِ إِلاَّ مَنْ أَرَادَهُ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ كَانَ اعْتَكَفَ مَعِي، فَلْيَعْتَكِفِ الْعَشْرَ الأَْوَاخِرَ (1) - أَيْ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ - وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَمَا عَلَّقَهُ بِالإِْرَادَةِ.
وَيَلْزَمُ الاِعْتِكَافُ بِالنَّذْرِ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
__________
(1) حديث: " من كان اعتكف معي. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 271 ط السلفية) .(5/208)
مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ (1)
وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: يَا رَسُول اللَّهِ: إِنِّي نَذَرْتُ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوْفِ بِنَذْرِكَ (2) .
أَقْسَامُ الاِعْتِكَافِ:
7 - يَنْقَسِمُ الاِعْتِكَافُ إِلَى وَاجِبٍ، وَمَنْدُوبٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَزَادَ الْحَنَفِيَّةُ الْمَسْنُونَ (3) .
أ - الاِعْتِكَافُ الْمَنْدُوبُ:
وَهُوَ أَنْ يَنْوِيَ الاِعْتِكَافَ تَطَوُّعًا لِلَّهِ تَعَالَى. وَأَقَلُّهُ لَحْظَةٌ، أَوْ سَاعَةٌ، أَوْ يَوْمٌ، أَوْ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ حَسَبَ اخْتِلاَفِ الْفُقَهَاءِ.
وَهُوَ سُنَّةٌ فِي كُل وَقْتٍ، وَيُسَنُّ أَلاَّ يَنْقُصَ عَنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ.
ب - الاِعْتِكَافُ الْوَاجِبُ:
8 - لاَ يَجِبُ الاِعْتِكَافُ إِلاَّ بِالنَّذْرِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ مُنَجَّزًا أَوْ مُعَلَّقًا، وَبِالشُّرُوعِ فِي الاِعْتِكَافِ الْمَسْنُونِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَمُقَابِل الظَّاهِرِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَسَيَأْتِي فِي (ف: 13)
وَهَل يُشْتَرَطُ التَّلَفُّظُ بِالنَّذْرِ أَمْ يَكْفِي النِّيَّةُ فِي الْقَلْبِ؟
صَرَّحَ الْجَمِيعُ بِوُجُوبِ التَّلَفُّظِ بِالنِّيَّةِ، وَلاَ يَكْفِي
__________
(1) حديث: " من نذر أن يطيع الله فليطعه. . . ". أخرجه البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعا (فتح الباري 11 / 581 ط السلفية) .
(2) المغني 3 / 1840 ط الرياض، والروضة 2 / 389، والجمل على شرح المنهج 2 / 355، وكشاف القناع 2 / 348، والفتاوى الهندية 1 / 211، والدسوقي 1 / 541. وحديث " أوف بنذرك. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 274 ط السلفية) .
(3) ابن عابدين 2 / 442 ط الحلبي.(5/208)
نِيَّةُ الْقَلْبِ (1) .
ج - الاِعْتِكَافُ الْمَسْنُونُ:
9 - زَادَ الْحَنَفِيَّةُ قِسْمًا ثَالِثًا لِلاِعْتِكَافِ، وَهُوَ مَا أَطْلَقُوا عَلَيْهِ " سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ " أَيْ سُنَّةُ كِفَايَةٍ فِي الْعَشْرِ الأَْخِيرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، فَإِذَا قَامَ بِهَا بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ سَقَطَ الطَّلَبُ عَنِ الْبَاقِينَ، فَلَمْ يَأْثَمُوا بِالْمُوَاظَبَةِ عَلَى التَّرْكِ بِلاَ عُذْرٍ، وَلَوْ كَانَ سُنَّةَ عَيْنٍ لأََثِمُوا بِتَرْكِ السُّنَّةِ الْمُؤَكَّدَةِ إِثْمًا دُونَ إِثْمِ تَرْكِ الْوَاجِبِ (2) .
أَرْكَانُ الاِعْتِكَافِ:
10 - أَرْكَانُ الاِعْتِكَافِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَرْبَعَةٌ: وَهِيَ الْمُعْتَكِفُ، وَالنِّيَّةُ، وَالْمُعْتَكَفُ فِيهِ، وَاللُّبْثُ فِي الْمَسْجِدِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ رُكْنَ الاِعْتِكَافِ هُوَ اللُّبْثُ فِي الْمَسْجِدِ فَقَطْ، وَالْبَاقِي شُرُوطٌ وَأَطْرَافٌ لاَ أَرْكَانٌ، وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ رُكْنًا آخَرَ وَهُوَ: الصَّوْمُ (3) .
الْمُعْتَكِفُ:
11 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَصِحُّ الاِعْتِكَافُ مِنَ الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ وَالصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ، وَاشْتَرَطُوا لِصِحَّةِ الاِعْتِكَافِ الْوَاجِبِ وَالْمَنْدُوبِ مَا يَلِي:
(1) الإِْسْلاَمُ: فَلاَ يَصِحُّ الاِعْتِكَافُ مِنَ الْكَافِرِ، لأَِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْل الْعِبَادَةِ.
__________
(1) ابن عابدين 2 / 441، وكشاف القناع 2 / 360، والروضة 2 / 395، والشرح الكبير 1 / 541، والفروع 3 / 162، والزرقاني 2 / 222، ومغني المحتاج 1 / 455.
(2) حاشية ابن عابدين 2 / 442 ط الحلبي.
(3) ابن عابدين 2 / 128 - 129 ط بولاق، والروضة 2 / 391، وكشاف القناع 2 / 347، وحاشية العدوي على شرح أبي الحسن 1 / 409.(5/209)
(2) الْعَقْل.
(3) التَّمْيِيزُ: فَلاَ يَصِحُّ الاِعْتِكَافُ مِنَ الْمَجْنُونِ وَالسَّكْرَانِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ وَمِنْ غَيْرِ الْمُمَيِّزِ، إِذْ لاَ نِيَّةَ لَهُمْ، وَالنِّيَّةُ فِي الاِعْتِكَافِ وَاجِبَةٌ.
أَمَّا الصَّبِيُّ الْعَاقِل الْمُمَيِّزُ فَيَصِحُّ مِنْهُ الاِعْتِكَافُ، لأَِنَّهُ مِنْ أَهْل الْعِبَادَةِ، كَمَا يَصِحُّ مِنْهُ صَوْمُ التَّطَوُّعِ.
(4) النَّقَاءُ مِنَ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ، فَلاَ يَصِحُّ الاِعْتِكَافُ مِنَ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ، لأَِنَّهُمَا مَمْنُوعَتَانِ عَنِ الْمَسْجِدِ، وَلاَ يَصِحُّ الاِعْتِكَافُ إِلاَّ فِي مَسْجِدٍ.
(5) الطَّهَارَةُ مِنَ الْجُنُبِ: فَلاَ يَصِحُّ الاِعْتِكَافُ مِنَ الْجُنُبِ، لأَِنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنَ اللُّبْثِ فِي الْمَسْجِدِ (1) .
اعْتِكَافُ الْمَرْأَةِ:
12 - يَصِحُّ اعْتِكَافُ الْمَرْأَةِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ بِالشُّرُوطِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَيُشْتَرَطُ لِلْمُتَزَوِّجَةِ أَنْ يَأْذَنَ لَهَا زَوْجُهَا، لأَِنَّهَا لاَ يَنْبَغِي لَهَا الاِعْتِكَافُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ - أَيْ يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ إِذْنِهِ مَعَ الإِْثْمِ فِي الاِفْتِيَاتِ عَلَيْهِ - فَإِنْ أَذِنَ لَهَا الزَّوْجُ بِالاِعْتِكَافِ وَاجِبًا أَوْ نَفْلاً، فَلاَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَطَأَهَا، فَإِنْ مَنَعَهَا زَوْجُهَا بَعْدَ إِذْنِهِ لَهَا لاَ يَصِحُّ مَنْعُهُ. هَذَا قَوْل الْحَنَفِيَّةِ (2) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَحِقُّ لِلزَّوْجِ أَنْ يَمْنَعَ زَوْجَتَهُ بَعْدَ إِذْنِهِ لَهَا بِالاِعْتِكَافِ الْمَنْذُورِ، سَوَاءٌ أَدَخَلَتْ فِي الْعِبَادَةِ أَمْ لَمْ تَدْخُل، إِلاَّ إِذَا كَانَ النَّذْرُ مُطْلَقًا غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِأَيَّامٍ مُعَيَّنَةٍ، فَإِنَّ لِلزَّوْجِ حِينَئِذٍ أَنْ يَمْنَعَ زَوْجَتَهُ مِنَ الاِعْتِكَافِ حَتَّى وَلَوْ دَخَلَتْ فِي
__________
(1) نيل المآرب 1 / 283 ط الفلاح، والشرح الصغير 1 / 725 ط دار المعارف، وبدائع الصنائع 2 / 108، وكشاف القناع 2 / 347 ط النصر الحديثة، ونهاية المحتاج 2 / 354.
(2) ابن عابدين 2 / 441.(5/209)
الْعِبَادَةِ، وَمِنْ بَابٍ أَوْلَى مَا إِذَا نَذَرَتْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ مُعَيَّنًا أَوْ غَيْرَ مُعَيَّنٍ.
أَمَّا إِذَا أَذِنَ لَهَا فِي الاِعْتِكَافِ بِدُونِ نَذْرٍ، فَلاَ يَقْطَعْهُ عَلَيْهَا إِنْ دَخَلَتْ فِي الاِعْتِكَافِ، فَإِنْ لَمْ تَدْخُل فِيهِ كَانَ لَهُ مَنْعُهَا (1) .
وَالاِعْتِكَافُ لِلْمَرْأَةِ مَكْرُوهٌ تَنْزِيهًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَجَعَلُوهُ نَظِيرَ حُضُورِهَا الْجَمَاعَاتِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يَجُوزُ اعْتِكَافُ الْمَرْأَةِ إِلاَّ بِإِذْنِ زَوْجِهَا، لأَِنَّ التَّمَتُّعَ بِالزَّوْجَةِ مِنْ حَقِّ الزَّوْجِ. وَحَقُّهُ عَلَى الْفَوْرِ بِخِلاَفِ الاِعْتِكَافِ. نَعَمْ إِنْ لَمْ تُفَوِّتِ الزَّوْجَةُ عَلَى زَوْجِهَا مَنْفَعَةً، كَأَنْ حَضَرَتِ الْمَسْجِدَ بِإِذْنِهِ، فَنَوَتِ الاِعْتِكَافَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ.
وَيُكْرَهُ عِنْدَهُمُ اعْتِكَافُ الْمَرْأَةِ الْجَمِيلَةِ ذَاتِ الْهَيْئَةِ قِيَاسًا عَلَى خُرُوجِهَا لِصَلاَةِ الْجَمَاعَةِ.
وَلِلزَّوْجِ إِخْرَاجُ زَوْجَتِهِ مِنَ الاِعْتِكَافِ الْمَسْنُونِ سَوَاءٌ أَكَانَ الاِعْتِكَافُ بِإِذْنِهِ أَمْ لاَ، وَاسْتَدَل الْبُهُوتِيُّ الْحَنْبَلِيُّ بِحَدِيثِ: لاَ تَصُومُ الْمَرْأَةُ وَزَوْجُهَا شَاهِدٌ يَوْمًا مِنْ غَيْرِ رَمَضَانَ إِلاَّ بِإِذْنِهِ، وَقَال: وَضَرَرُ الاِعْتِكَافِ أَعْظَمُ (3) .
وَكَذَا يَجُوزُ لِلزَّوْجِ إِخْرَاجُهَا مِنَ الاِعْتِكَافِ الْمَنْذُورِ إِلاَّ إِذَا أَذِنَ لَهَا بِالاِعْتِكَافِ وَشَرَعَتْ فِيهِ،
__________
(1) الدسوقي 1 / 545.
(2) الطحطاوي على مراقي الفلاح 382.
(3) كشاف القناع 2 / 349، 350 ط الرياض. وحديث: " لا تصوم المرأة وزوجها شاهد. . . ". أخرجه الترمذي بهذا اللفظ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا وقال: حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح، وأصله في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة بلفظ: " لا تصم المرأة وبعلها شاهد إلا بإذنه " تحفة الأحوذي 3 / 495 نشر السلفية، وصحيح مسلم 2 / 711 ط عيسى الحلبي.(5/210)
سَوَاءٌ أَكَانَ زَمَنُ الاِعْتِكَافِ مُعَيَّنًا أَمْ كَانَ مُتَتَابِعًا أَمْ لاَ. أَوْ إِذَا كَانَ الإِْذْنُ أَوِ الشُّرُوعُ فِي زَمَنِ الاِعْتِكَافِ الْمُعَيَّنِ أَوْ أَذِنَ فِي الشُّرُوعِ فِيهِ فَقَطْ وَكَانَ الاِعْتِكَافُ مُتَتَابِعًا، وَذَلِكَ لإِِذْنِ الزَّوْجِ بِالشُّرُوعِ مُبَاشَرَةً أَوْ بِوَاسِطَةٍ، لأَِنَّ الإِْذْنَ فِي النَّذْرِ الْمُعَيَّنِ إِذْنٌ فِي الشُّرُوعِ فِيهِ، وَالْمُعَيَّنُ لاَ يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ، وَالْمُتَتَابِعُ لاَ يَجُوزُ الْخُرُوجُ مِنْهُ، لِمَا فِيهِ مِنْ إِبْطَال الْعِبَادَةِ الْوَاجِبَةِ بِلاَ عُذْرٍ (1) .
وَالْحَنَابِلَةُ كَالشَّافِعِيَّةِ فِيمَا تَقَدَّمَ، إِلاَّ فِي مَسْأَلَةِ اعْتِكَافِ الْمَرْأَةِ الْجَمِيلَةِ، فَلَمْ يَذْكُرُوا أَنَّهُ مَكْرُوهٌ (2) .
وَإِذَا اعْتَكَفَتِ الْمَرْأَةُ اسْتُحِبَّ لَهَا أَنْ تَسْتَتِرَ بِخِبَاءٍ وَنَحْوِهِ، لِفِعْل عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ وَزَيْنَبَ فِي عَهْدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَجْعَل خِبَاءَهَا فِي مَكَانٍ لاَ يُصَلِّي فِيهِ الرِّجَال، لأَِنَّهُ أَبْعَدُ فِي التَّحَفُّظِ لَهَا. نَقَل أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَحْمَدَ قَوْلَهُ: يَعْتَكِفْنَ فِي الْمَسْجِدِ، وَيُضْرَبُ لَهُنَّ فِيهِ بِالْخِيَمِ (3) .
وَلاَ بَأْسَ أَنْ يَسْتَتِرَ الرِّجَال أَيْضًا، لِفِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلأَِنَّهُ أَخْفَى لِعَمَلِهِمْ. وَنَقَل إِبْرَاهِيمُ: لاَ. إِلاَّ لِبَرْدٍ شَدِيدٍ (4) .
النِّيَّةُ فِي الاِعْتِكَافِ:
13 - النِّيَّةُ رُكْنٌ لِلاِعْتِكَافِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَشَرْطٌ لَهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الاِعْتِكَافَ عِبَادَةٌ مَقْصُودَةٌ، فَالنِّيَّةُ وَاجِبَةٌ فِيهِ، فَلاَ
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 454، وأسنى المطالب 1 / 436.
(2) كشاف القناع 2 / 349 - 350.
(3) مسائل الإمام أحمد 1 / 96 ط دار المعرفة.
(4) كشاف القناع 2 / 351.(5/210)
يَصِحُّ اعْتِكَافٌ بِدُونِ نِيَّةٍ. سَوَاءٌ أَكَانَ الاِعْتِكَافُ مَسْنُونًا أَمْ وَاجِبًا، كَمَا يَجِبُ التَّمْيِيزُ بَيْنَ نِيَّةِ الْفَرْضِ وَالنَّفَل فِي الاِعْتِكَافِ، لِيَتَمَيَّزَ الْفَرْضُ مِنَ السُّنَّةِ (1) .
وَإِذَا نَوَى الاِعْتِكَافَ الْمَسْنُونَ، ثُمَّ خَرَجَ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَهَل يَحْتَاجُ إِلَى تَجْدِيدِ نِيَّتِهِ إِذَا رَجَعَ؟
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الظَّاهِرِ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا خَرَجَ مِنَ الاِعْتِكَافِ الْمَسْنُونِ فَقَدِ انْقَطَعَ اعْتِكَافُهُ، وَإِذَا رَجَعَ فَلاَ بُدَّ مِنْ تَجْدِيدِ نِيَّةِ اعْتِكَافٍ مَنْدُوبٍ آخَرَ، لأَِنَّ الْخُرُوجَ مِنَ الْمَسْجِدِ مِنْهُ لِلاِعْتِكَافِ الْمَنْدُوبِ، لاَ مُبْطِل لَهُ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ مُقَابِل الظَّاهِرِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْمَنْدُوبَ يَلْزَمُهُ إِذَا نَوَاهُ قَلِيلاً كَانَ أَوْ كَثِيرًا بِدُخُولِهِ مُعْتَكَفَهُ، لأَِنَّ النَّفَل يَلْزَمُ كَمَالُهُ بِالشُّرُوعِ فِيهِ، فَإِنْ لَمْ يَدْخُل مُعْتَكَفَهُ فَلاَ يَلْزَمُهُ مَا نَوَاهُ.
فَإِذَا دَخَل ثُمَّ قَطَعَ لَزِمَهُ الْقَضَاءُ وَإِنِ اشْتُرِطَ عَدَمُ الْقَضَاءِ.
وَالظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ الإِْتْمَامُ وَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ (2) .
مَكَانُ الاِعْتِكَافِ:
أ - مَكَانُ الاِعْتِكَافِ لِلرَّجُل:
14 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ اعْتِكَافُ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 441 ط مصطفى الحلبي، وبلغة السالك 1 / 539 ط عيسى الحلبي، والروضة 2 / 395، والجمل 2 / 357، وكشاف القناع 2 / 351.
(2) ابن عابدين 2 / 441، 445 ط الحلبي، الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 1 / 546، 552، والروضة 2 / 395، وكشاف القناع 2 / 350، وكفاية الطالب مع حاشية العدوي 1 / 358، وبلغة السالك 1 / 542 ط عيسى الحلبي.(5/211)
الرَّجُل وَالْخُنْثَى إِلاَّ فِي مَسْجِدٍ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} (1) وَلِلاِتِّبَاعِ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَعْتَكِفْ إِلاَّ فِي الْمَسْجِدِ.
وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمَسَاجِدَ الثَّلاَثَةَ أَفْضَل مِنْ غَيْرِهَا، وَالْمَسْجِدُ الْحَرَامُ أَفْضَل، ثُمَّ الْمَسْجِدُ النَّبَوِيُّ، ثُمَّ الْمَسْجِدُ الأَْقْصَى.
وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمَسْجِدَ الْجَامِعَ يَصِحُّ فِيهِ الاِعْتِكَافُ، وَهُوَ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ بَعْدَ الْمَسَاجِدِ الثَّلاَثَةِ، وَيَجِبُ الاِعْتِكَافُ فِيهِ إِذَا نَذَرَ الاِعْتِكَافَ مُدَّةً تُصَادِفُهُ فِيهَا صَلاَةُ الْجُمُعَةِ، لِئَلاَّ يَحْتَاجَ إِلَى الْخُرُوجِ وَقْتَ صَلاَةِ الْجُمُعَةِ، إِلاَّ إِذَا اشْتُرِطَ الْخُرُوجُ لَهَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (2) .
ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي الْمَسَاجِدِ الأُْخْرَى الَّتِي يَصِحُّ فِيهَا الاِعْتِكَافُ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ الاِعْتِكَافُ إِلاَّ فِي مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ.
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ الاِعْتِكَافُ إِلاَّ فِي مَسْجِدٍ تُقَامُ فِيهِ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، لأَِنَّ الاِعْتِكَافَ عِبَادَةُ انْتِظَارِ الصَّلاَةِ، فَيَخْتَصُّ بِمَكَانٍ يُصَلَّى فِيهِ، وَصَحَّحَهُ بَعْضُهُمْ.
وَقَال أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يَصِحُّ فِي كُل مَسْجِدٍ وَصَحَّحَهُ السُّرُوجِيُّ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الاِعْتِكَافِ الْوَاجِبِ وَالْمَسْنُونِ، فَاشْتُرِطَ لِلاِعْتِكَافِ الْوَاجِبِ مَسْجِدُ الْجَمَاعَةِ، وَأَمَّا النَّفَل فَيَجُوزُ فِي أَيِّ مَسْجِدٍ
__________
(1) سورة البقرة / 187.
(2) ابن عابدين 2 / 441 ط الحلبي، وحاشية العدوي مع شرح أبي الحسن 1 / 410، والمجموع 6 / 483، ومغني المحتاج 1 / 450، وكشاف القناع 2 / 351 - 352، والروضة 2 / 398.(5/211)
كَانَ.
وَيَعْنِي الْحَنَفِيَّةُ بِمَسْجِدِ الْجَمَاعَةِ مَا لَهُ إِمَامٌ وَمُؤَذِّنٌ، أُدِّيَتْ فِيهِ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ أَوْ لاَ.
وَاشْتَرَطَ الْحَنَابِلَةُ لِصِحَّةِ الاِعْتِكَافِ فِي الْمَسْجِدِ أَنْ تُقَامَ الْجَمَاعَةُ فِي زَمَنِ الاِعْتِكَافِ الَّذِي هُوَ فِيهِ، وَلاَ يَضُرُّ عَدَمُ إِقَامَتِهَا فِي الْوَقْتِ الَّذِي لاَ يَعْتَكِفُ فِيهِ، وَخَرَجَ مِنْ ذَلِكَ الْمَرْأَةُ وَالْمَعْذُورُ وَالصَّبِيُّ وَمَنْ هُوَ فِي قَرْيَةٍ لاَ يُصَلِّي فِيهَا غَيْرُهُ، لأَِنَّ الْمَمْنُوعَ تَرْكُ الْجَمَاعَةِ الْوَاجِبَةِ، وَهِيَ مُنْتَفِيَةٌ هُنَا (1) .
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يَصِحُّ الاِعْتِكَافُ فِي أَيِّ مَسْجِدٍ كَانَ (2) .
ب - مَكَانُ اعْتِكَافِ الْمَرْأَةِ:
15 - اخْتَلَفُوا فِي مَكَانِ اعْتِكَافِ الْمَرْأَةِ:
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْمَذْهَبِ الْجَدِيدِ إِلَى أَنَّهَا كَالرَّجُل لاَ يَصِحُّ اعْتِكَافُهَا إِلاَّ فِي الْمَسْجِدِ، وَعَلَى هَذَا فَلاَ يَصِحُّ اعْتِكَافُهَا فِي مَسْجِدِ بَيْتِهَا، لِمَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ سُئِل عَنِ امْرَأَةٍ جَعَلَتْ عَلَيْهَا (أَيْ نَذَرَتْ) أَنْ تَعْتَكِفَ فِي مَسْجِدِ بَيْتِهَا، فَقَال: " بِدْعَةٌ، وَأَبْغَضُ الأَْعْمَال إِلَى اللَّهِ الْبِدَعُ (3) . فَلاَ اعْتِكَافَ إِلاَّ فِي مَسْجِدٍ تُقَامُ فِيهِ الصَّلاَةُ. وَلأَِنَّ مَسْجِدَ الْبَيْتِ لَيْسَ بِمَسْجِدٍ حَقِيقَةً وَلاَ حُكْمًا، فَيَجُوزُ تَبْدِيلُهُ، وَنَوْمُ الْجُنُبِ فِيهِ، وَكَذَلِكَ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 129 ط بولاق، وكشاف القناع 2 / 351.
(2) حاشية العدوي مع شرح أبي الحسن 1 / 410، والمجموع 6 / 486، ومغني المحتاج 1 / 450.
(3) الأثر عن ابن عباس رضي الله عنهما أخرجه البيهقي بلفظ: " إن أبغض الأمور إلى الله البدع، وإن من البدع الاعتكاف في المساجد التي في الدور " (السنن الكبرى للبيهقي 4 / 316 ط الهند) .(5/212)
لَوْ جَازَ لَفَعَلَتْهُ أُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ - وَلَوْ مَرَّةً تَبْيِينًا لِلْجَوَازِ.
وَفِي الْمَذْهَبِ الْقَدِيمِ لِلشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ يَصِحُّ اعْتِكَافُ الْمَرْأَةِ فِي مَسْجِدِ بَيْتِهَا، لأَِنَّهُ مَكَانُ صَلاَتِهَا.
قَال النَّوَوِيُّ: قَدْ أَنْكَرَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَجَمَاعَةٌ هَذَا الْقَدِيمَ. وَقَالُوا: لاَ يَجُوزُ فِي مَسْجِدِ بَيْتِهَا قَوْلاً وَاحِدًا وَغَلَّطُوا مَنْ قَال: فِيهِ قَوْلاَنِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى جَوَازِ اعْتِكَافِ الْمَرْأَةِ فِي مَسْجِدِ بَيْتِهَا، لأَِنَّهُ هُوَ الْمَوْضِعُ لِصَلاَتِهَا، فَيَتَحَقَّقُ انْتِظَارُهَا فِيهِ، وَلَوِ اعْتَكَفَتْ فِي مَسْجِدِ الْجَمَاعَةِ جَازَ مَعَ الْكَرَاهَةِ التَّنْزِيهِيَّةِ، وَالْبَيْتُ أَفْضَل مِنْ مَسْجِدِ حَيِّهَا، وَمَسْجِدُ الْحَيِّ أَفْضَل لَهَا مِنَ الْمَسْجِدِ الأَْعْظَمِ.
وَلَيْسَ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَعْتَكِفَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ صَلاَتِهَا مِنْ بَيْتِهَا.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا فِي الْبَيْتِ مَكَانٌ مُتَّخَذٌ لِلصَّلاَةِ لاَ يَجُوزُ لَهَا الاِعْتِكَافُ فِي بَيْتِهَا، وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ مِنْ بَيْتِهَا الَّذِي اعْتَكَفَتْ فِيهِ اعْتِكَافًا وَاجِبًا عَلَيْهَا (1) .
اللُّبْثُ فِي الْمَسْجِدِ:
16 - اللُّبْثُ فِي الْمَسْجِدِ هُوَ رُكْنُ الاِعْتِكَافِ عِنْدَ الْجَمِيعِ (2) .
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مِقْدَارِ اللُّبْثِ الْمُجْزِئِ فِي الاِعْتِكَافِ الْمَسْنُونِ.
__________
(1) تبيين الحقائق 1 / 350، وابن عابدين 2 / 129 ط بولاق، وحاشية العدوي 1 / 410، والمجموع 6 / 484، ومغني المحتاج 1 / 451 والروضة 2 / 398، وكشاف القناع 2 / 352.
(2) ابن عابدين 2 / 441، والروضة 2 / 391، وبلغة السالك 1 / 538، وكشاف القناع 2 / 347.(5/212)
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ أَقَلَّهُ سَاعَةٌ (1) مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، لِبِنَاءِ النَّفْل عَلَى الْمُسَامَحَةِ، وَبِهِ يُفْتَى.
وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ. قَال فِي الإِْنْصَافِ: أَقَلُّهُ إِذَا كَانَ تَطَوُّعًا أَوْ نَذْرًا مُطْلَقًا مَا يُسَمَّى بِهِ مُعْتَكِفًا لاَبِثًا. قَال فِي الْفُرُوعِ: ظَاهِرُهُ وَلَوْ لَحْظَةً، وَالْمَذْهَبُ مَا تَقَدَّمَ.
وَالْمُسْتَحَبُّ عِنْدَهُمْ أَلاَّ يَنْقُصَ الاِعْتِكَافُ عَنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، خُرُوجًا مِنْ خِلاَفِ مَنْ يَقُول: أَقَلُّهُ ذَلِكَ.
وَاخْتَلَفَ الْمَالِكِيَّةُ فِي أَقَل الْمُكْثِ فِي الْمَسْجِدِ.
فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، سِوَى وَقْتِ خُرُوجِهِ لِمَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ لأَِجْلِهِ، مِنَ الْبَوْل وَالْغَائِطِ وَالْوُضُوءِ وَغُسْل الْجَنَابَةِ، وَالْمَقْصُودُ بِلَيْلَةِ الْيَوْمِ: اللَّيْلَةُ الَّتِي قَبْلَهُ.
وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّ أَقَلَّهُ يَوْمٌ فَمَا فَوْقَهُ إِذَا كَانَ دُخُولُهُ فِي الاِعْتِكَافِ مَعَ الْفَجْرِ، بِاعْتِبَارِ أَنَّ أَوَّل الْيَوْمِ الْفَجْرُ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لاَ يُقَدَّرُ اللُّبْثُ بِزَمَانٍ، بَل اشْتَرَطُوا فِي اللُّبْثِ أَنْ يَكُونَ قَدْرًا يُسَمَّى عُكُوفًا وَإِقَامَةً، وَلَوْ بِلاَ سُكُونٍ بِحَيْثُ يَكُونُ زَمَنُهُ فَوْقَ زَمَنِ الطُّمَأْنِينَةِ فِي الرُّكُوعِ وَنَحْوِهِ، فَيَكْفِي التَّرَدُّدُ فِيهِ لاَ الْمُرُورُ بِلاَ لُبْثٍ.
وَيُنْدَبُ عِنْدَهُمْ أَنْ يَكُونَ يَوْمًا، لأَِنَّهُ لَمْ يَرِدْ أَنَّ
__________
(1) الساعة في عرف الفقهاء جزء من الزمن لا جزء من أربع وعشرين. ابن عابدين مع الدر المختار 2 / 444(5/213)
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَكَفَ أَقَل مِنْ يَوْمٍ (1) ، وَلاَ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ.
الصَّوْمُ فِي الاِعْتِكَافِ:
17 - اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الصَّوْمِ فِي الاِعْتِكَافِ، فَمِنْهُمْ مَنْ رَآهُ وَاجِبًا، وَمِنْهُمْ مَنِ اسْتَحَبَّهُ، إِلاَّ إِنْ نَذَرَهُ مَعَ الاِعْتِكَافِ فَيَجِبُ، وَفِيمَا يَلِي تَفْصِيل حُكْمِ الصَّوْمِ فِي الاِعْتِكَافِ غَيْرِ الْمَنْذُورِ فِيهِ الصَّوْمُ:
أ - الْقَوْل الأَْوَّل بِوُجُوبِ الصَّوْمِ مَعَ الاِعْتِكَافِ:
لاَ يَصِحُّ الاِعْتِكَافُ إِلاَّ بِصَوْمٍ، وَبِهِ قَال أَبُو حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْهُ، وَمِنْ مَشَايِخِ الْحَنَفِيَّةِ مَنِ اعْتَمَدَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ، وَبِهِ قَال ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةُ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَالزُّهْرِيُّ وَالأَْوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ، وَهُوَ قَوْلٌ قَدِيمٌ مَحْكِيٌّ عَنِ الشَّافِعِيِّ، قَالُوا: لاَ يَصِحُّ الاِعْتِكَافُ إِلاَّ بِصَوْمٍ.
قَال الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَهُوَ قَوْل جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ.
وَالصَّوْمُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ رُكْنٌ لِلاِعْتِكَافِ كَالنِّيَّةِ وَغَيْرِهَا.
وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: لاَ اعْتِكَافَ إِلاَّ بِصِيَامٍ (2)
__________
(1) ابن عابدين 2 / 441 ط الحلبي، وبلغة السالك مع الحاشية 1 / 538 - 539، والدسوقي مع الشرح الكبير 2 / 541، وكفاية الطالب 1 / 354 - 355، والروضة 2 / 391، وحاشية الجمل 2 / 361 - 362، وكشاف القناع 2 / 347.
(2) حديث: " لا اعتكاف إلا بصيام. . . " أخرجه الدارقطني والحاكم والبيهقي من حديث عائشة رضي الله عنها، وفيه سويد بن عبد العزيز. قال عنه البيهقي: سويد ضعيف لا يقبل ما تفرد به. وروي عن عطاء عن عائشة رضي الله عنها موقوفا بلفظ: " من اعتكف فعليه الصيام ". ور (سنن الدارقطني 2 / 199 - 200 ط شركة الطباعة الفنية المتحدة، والسنن الكبرى للبيهقي 4 / 317 ط الهند، والمستدرك 1 / 440، وعون المعبود 2 / 310 - 311 ط الهند، ونيل الأوطار 4 / 267 ط المطبعة العثمانية) .(5/213)
وَبِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَكَفَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ صِيَامًا فِي رَمَضَانَ، وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ سَأَل النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ اعْتِكَافٍ عَلَيْهِ فَأَمَرَهُ أَنْ يَعْتَكِفَ وَيَصُومَ (1) وَاَلَّذِي ذُكِرَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْهُ فِي وُجُوبِ الصَّوْمِ مُطْلَقًا مَعَ الاِعْتِكَافِ لَمْ يَكُنْ هُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي الْمَذْهَبِ كَمَا فِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ وَحَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ وَالْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ وَغَيْرِهَا، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ الصَّوْمَ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الاِعْتِكَافِ الْمَنْدُوبِ، كَمَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ قَوْل أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ (2) .
ب - الْقَوْل الثَّانِي: أَفْضَلِيَّةُ الصَّوْمِ مَعَ الاِعْتِكَافِ.
ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ الصَّوْمُ لِلاِعْتِكَافِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ أَكَانَ وَاجِبًا أَمْ مَنْدُوبًا، فَالصَّوْمُ لَيْسَ شَرْطًا لِلاِعْتِكَافِ عِنْدَهُمْ وَلاَ
__________
(1) حديث عمر رضي الله عنه: " أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن اعتكاف عليه. . . " أخرجه أبو داود والدارقطني واللفظ له. وقال الدارقطني: تفرد به ابن بديل عن عمرو. وهو ضعيف الحديث، كما ضعفه ابن حجر في الفتح. (عون المعبود 2 / 311 ط الهند، وسنن الدارقطني 2 / 200 ط شركة الطباعة الفنية المتحدة، وفتح الباري 4 / 274 ط السلفية) .
(2) ابن عابدين 2 / 442 - 443، وبدائع الصنائع 3 / 1057، الفتاوى الهندية 1 / 211، والمجموع 6 / 485، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 1 / 542.(5/214)
رُكْنًا فِيهِ.
وَبِهِ قَال الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُدُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ. إِلاَّ أَنَّهُمْ صَرَّحُوا بِأَنَّ الاِعْتِكَافَ مَعَ الصَّوْمِ أَفْضَل مِنَ الاِعْتِكَافِ بِدُونِهِ، فَلَوِ اعْتَكَفَ صَائِمًا ثُمَّ أَفْطَرَ عَامِدًا بِغَيْرِ عُذْرٍ لاَ يَبْطُل اعْتِكَافُهُ، وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، لِصِحَّةِ اعْتِكَافِهِ بِغَيْرِ صَوْمٍ، وَاحْتَجُّوا لِمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الأُْوَل مِنْ شَوَّالٍ (1) رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَهَذَا يَتَنَاوَل اعْتِكَافَ يَوْمِ الْعِيدِ، وَيَلْزَمُ مِنْ صِحَّتِهِ أَنَّ الصَّوْمَ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِحَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ لَيْلَةً، فَقَال لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوْفِ بِنَذْرِكَ (2) .
نِيَّةُ الصَّوْمِ لِلاِعْتِكَافِ الْمَنْذُورِ:
18 - اخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الصَّوْمِ الْوَاجِبِ مَعَ الاِعْتِكَافِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الاِعْتِكَافَ الْوَاجِبَ لاَ يَصِحُّ إِلاَّ بِصَوْمٍ وَاجِبٍ، وَلاَ يَصِحُّ مَعَ صَوْمِ التَّطَوُّعِ، فَلَوْ نَذَرَ اعْتِكَافَ شَهْرِ رَمَضَانَ لَزِمَهُ وَأَجْزَأَهُ صَوْمُ رَمَضَانَ عَنْ صَوْمِ الاِعْتِكَافِ، فَإِنْ لَمْ يَعْتَكِفْهُ قَضَى شَهْرًا مُتَتَابِعًا غَيْرَهُ، لأَِنَّهُ الْتَزَمَ الاِعْتِكَافَ فِي شَهْرٍ بِعَيْنِهِ. وَقَدْ فَاتَهُ، فَيَقْضِيهِ مُتَتَابِعًا بِصَوْمٍ مَقْصُودٍ، فَلَمْ يَجُزْ فِي رَمَضَانَ آخَرَ، وَلاَ فِي وَاجِبٍ آخَرَ، سِوَى قَضَاءِ رَمَضَانَ الأَْوَّل، لأَِنَّهُ خُلْفٌ عَنْهُ.
وَعَلَى هَذَا فَلَوْ صَامَ تَطَوُّعًا، ثُمَّ نَذَرَ اعْتِكَافَ
__________
(1) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف العشر الأول. . . " أخرجه مسلم (صحيح مسلم 2 / 831 ط عيسى الحلبي) .
(2) حديث " أوف بنذرك ". سبق تخريجه (ف / 6) .(5/214)
ذَلِكَ الْيَوْمِ لَمْ يَصِحَّ الاِعْتِكَافُ، لِعَدَمِ اسْتِيعَابِ الاِعْتِكَافِ لِلنَّهَارِ.
مِثَالُهُ: لَوْ أَصْبَحَ صَائِمًا مُتَطَوِّعًا، أَوْ غَيْرَ نَاوٍ لِلصَّوْمِ، ثُمَّ قَال: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنِ اعْتَكَفَ هَذَا الْيَوْمَ، لاَ يَصِحُّ، وَإِنْ كَانَ فِي وَقْتٍ تَصِحُّ مِنْهُ نِيَّةُ الصَّوْمِ، لِعَدَمِ اسْتِيعَابِ النَّهَارِ بِالاِعْتِكَافِ، وَعَدَمِ اسْتِيعَابِهِ بِالصَّوْمِ الْوَاجِبِ.
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ أَقَلُّهُ أَكْثَرُ النَّهَارِ، فَإِنْ كَانَ قَالَهُ قَبْل نِصْفِ النَّهَارِ لَزِمَهُ، فَإِنْ لَمْ يَعْتَكِفْهُ قَضَاهُ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الاِعْتِكَافَ بِقِسْمَيْهِ الْوَاجِبِ وَالْمَسْنُونِ يَصِحُّ بِأَيِّ صَوْمٍ كَانَ سَوَاءٌ قُيِّدَ بِزَمَنٍ كَرَمَضَانَ، أَوْ سَبَبٍ كَكَفَّارَةٍ وَنَذْرٍ، أَوْ أُطْلِقَ كَتَطَوُّعٍ، فَلاَ يَصِحُّ الاِعْتِكَافُ مِنْ مُفْطِرٍ، وَلَوْ لِعُذْرٍ، فَمَنْ لاَ يَسْتَطِيعُ الصَّوْمَ لاَ يَصِحُّ اعْتِكَافُهُ (2) .
نَذْرُ الاِعْتِكَافِ:
19 - إِذَا نَذَرَ الاِعْتِكَافَ لَزِمَهُ أَدَاؤُهُ، سَوَاءٌ أَكَانَ مُنَجَّزًا أَمْ مُعَلَّقًا، وَيَنْقَسِمُ إِلَى مُتَتَابِعٍ وَغَيْرِ مُتَتَابِعٍ، أَوْ نَذَرَ مُدَّةً مُعَيَّنَةً.
أ - النَّذْرُ الْمُتَتَابِعُ:
20 - وَذَلِكَ كَأَنْ يَنْذِرَ عَشْرَةَ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَةً، أَوْ شَهْرًا مُتَتَابِعًا مَثَلاً، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ مُتَتَابِعًا فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا (3) ، فَلَوْ أَفْسَدَهُ وَجَبَ اسْتِثْنَاؤُهُ بِفَوَاتِ التَّتَابُعِ.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 120، 121 ط بولاق، والفتاوى الهندية 1 / 211.
(2) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 1 / 542.
(3) كشاف القناع 2 / 348، وبلغة السالك 1 / 542.(5/215)
ب - النَّذْرُ الْمُطْلَقُ وَالْمُدَّةُ الْمُعَيَّنَةُ:
21 - وَهُوَ أَنْ يُنْذِرَ اعْتِكَافَ يَوْمٍ أَوْ أَيَّامٍ غَيْرِ مُتَتَابِعَةٍ، فَإِنْ نَوَى أَيَّامًا غَيْرَ مُتَتَابِعَةٍ، فَإِنَّهَا تَلْزَمُهُ مُتَتَابِعَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَعَلَّلَهُ فِي الْمَبْسُوطِ بِأَنَّ إِيجَابَ الْعَبْدِ مُعْتَبَرٌ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى مُتَتَابِعًا إِذَا أَفْطَرَ فِيهِ يَوْمًا لَزِمَهُ الاِسْتِقْبَال، كَصَوْمِ الظِّهَارِ وَالْقَتْل. وَالإِْطْلاَقُ فِي الاِعْتِكَافِ كَالتَّصْرِيحِ بِالتَّتَابُعِ، بِخِلاَفِ الإِْطْلاَقِ فِي نَذْرِ الصَّوْمِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الاِعْتِكَافَ يَدُومُ بِاللَّيْل وَالنَّهَارِ، فَكَانَ مُتَّصِل الأَْجْزَاءِ، وَمَا كَانَ مُتَّصِل الأَْجْزَاءِ لاَ يَجُوزُ تَفْرِيقُهُ إِلاَّ بِالتَّنْصِيصِ عَلَيْهِ، بِخِلاَفِ الصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لاَ يُوجَدُ لَيْلاً، فَكَانَ مُتَفَرِّقًا، وَمَا كَانَ مُتَفَرِّقًا فِي نَفْسِهِ لاَ يَجِبُ الْوَصْل فِيهِ إِلاَّ بِالتَّنْصِيصِ. وَكَذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِلاَّ إِذَا نَذَرَهَا مُتَفَرِّقَةً فَتَجِبُ مُتَفَرِّقَةً، وَلاَ يَلْزَمُهُ التَّتَابُعُ.
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَإِنَّ النَّذْرَ الْمُطْلَقَ عِنْدَهُمْ لاَ يَلْزَمُ فِيهِ التَّتَابُعُ، فَيَجُوزُ أَدَاؤُهُ مُفَرَّقًا (1) .
وَعَلَى هَذَا لَوْ خَرَجَ مِنْ مُعْتَكَفِهِ خِلاَل أَيَّامِ النَّذْرِ الْمُطْلَقِ، إِنْ لَمْ يَعْزِمْ عَلَى الْعَوْدِ احْتَاجَ إِلَى اسْتِئْنَافِ نِيَّةِ الاِعْتِكَافِ، سَوَاءٌ أَخَرَجَ لِتَبَرُّزٍ أَمْ لِغَيْرِهِ، لأَِنَّ مَا مَضَى عِبَادَةٌ تَامَّةٌ، وَهُوَ يُرِيدُ اعْتِكَافًا جَدِيدًا، فَإِنْ عَزَمَ عَلَى الْعَوْدِ كَانَتْ هَذِهِ الْعَزِيمَةُ قَائِمَةً مَقَامَ النِّيَّةِ، وَهُوَ الصَّوَابُ كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ (2) .
__________
(1) كشاف القناع 2 / 349، وبلغة السالك 1 / 542، ومغني المحتاج 1 / 453، وابن عابدين 2 / 131، والفتاوى الهندية 1 / 214، ومغني المحتاج 1 / 454، وحاشية العدوي مع شرح أبي الحسن 1 / 409، وابن عابدين 2 / 133، ط بولاق، والبحر الرائق 2 / 329 ط العلمية.
(2) مغني المحتاج 1 / 453 - 454، والمقنع 1 / 282، وكشاف القناع 2 / 355.(5/215)
أَمَّا إِذَا نَوَى مُدَّةً مُعَيَّنَةً فَكَذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لاَ يَلْزَمُهُ التَّتَابُعُ، لَكِنْ إِنْ خَرَجَ لِغَيْرِ قَضَاءِ الْحَاجَةِ احْتَاجَ إِلَى اسْتِئْنَافِ النِّيَّةِ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ تَعْيِينَ مُدَّةٍ لِلاِعْتِكَافِ كَشَهْرٍ بِعَيْنِهِ يَلْزَمُهُ التَّتَابُعُ، وَإِنْ نَذَرَ شَهْرًا مُطْلَقًا لَزِمَهُ، وَلَهُمْ قَوْلاَنِ فِي التَّتَابُعِ وَعَدَمِهِ. أَحَدُهُمَا كَالْحَنَفِيَّةِ، وَالثَّانِي كَالشَّافِعِيَّةِ اخْتَارَهَا الآْجُرِّيُّ وَصَحَّحَهَا ابْنُ شِهَابٍ وَغَيْرُهُ.
وَنَصَّ صَاحِبُ كَشَّافِ الْقِنَاعِ عَلَى وُجُوبِ التَّتَابُعِ (1) .
وَالتَّتَابُعُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي النَّذْرِ الْمُطْلَقِ أَفْضَل مِنَ التَّفْرِيقِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: لَوْ نَذَرَ يَوْمًا لَمْ يَجُزْ فِيهِ التَّفْرِيقُ.
وَلَوْ نَذَرَ يَوْمًا مِنْ وَسَطِ النَّهَارِ لَزِمَهُ الاِعْتِكَافُ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ إِلَى مِثْلِهِ لِيَتَحَقَّقَ مُضِيُّ يَوْمٍ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ. وَأَمَّا اللَّيْل فَلاَ يَلْزَمُهُ بِنَذْرِ اعْتِكَافِ النَّهَارِ لأَِنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْيَوْمِ عِنْدَهُمَا.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يَدْخُل اللَّيْل مَعَ الْيَوْمِ بِالنِّيَّةِ (2) .
وَإِذَا نَذَرَ اعْتِكَافَ شَهْرٍ بِعَيْنِهِ وَأَطْلَقَ لَزِمَهُ لَيْلاً وَنَهَارًا، تَامًّا كَانَ الشَّهْرُ أَوْ نَاقِصًا وَيُجْزِئُهُ النَّاقِصُ بِلاَ خِلاَفٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (3) .
زَمَنُ دُخُول الاِعْتِكَافِ الْوَاجِبِ:
22 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَدْخُل مُعْتَكَفَهُ إِذَا نَوَى يَوْمًا قَبْل الْفَجْرِ، وَعِنْدَ
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 453، وكشاف القناع 2 / 355.
(2) حاشية الجمل 2 / 365 - 366، وكشاف القناع 2 / 354.
(3) المجموع 6 / 493، وكشاف القناع 2 / 354.(5/216)
الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِذَا نَوَى لَيْلاً قَبْل غُرُوبِ الشَّمْسِ، لأَِنَّ الْحَنَفِيَّةَ وَالْمَالِكِيَّةَ لاَ يَصِحُّ عِنْدَهُمْ نَذْرُ اللَّيْل وَحْدَهُ، لأَِنَّهُ لاَ صِيَامَ فِيهِ، لَكِنْ لَوْ نَذَرَ لَيْلَةَ أَيَّ لَيْلَةٍ كَانَتْ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لَزِمَتْهُ مَعَ نَهَارِهَا، لأَِنَّ أَقَلَّهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ (1) .
وَاللَّيْل تَابِعٌ لِلنَّهَارِ إِذَا نَذَرَ أَيَّامًا مُتَتَابِعَةً، كَمَنْ نَذَرَ اعْتِكَافَ الْعَشْرِ الأَْوَاخِرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ (2) .
نَذْرُ الصَّوْمِ مَعَ الاِعْتِكَافِ الْمَنْذُورِ:
23 - سَبَقَ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ وَالْمَالِكِيَّةَ لاَ يَصِحُّ عِنْدَهُمُ الاِعْتِكَافُ الْوَاجِبُ وَالْمَسْنُونُ إِلاَّ بِصَوْمٍ وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَنْدُوبِ. أَمَّا نَذْرُ الصَّوْمِ مَعَ الاِعْتِكَافِ فَفِيهِ أَوْجُهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ:
أ - اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا نَذَرَ صَوْمًا وَاعْتِكَافًا لاَ يَلْزَمُهُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا.
ب - اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ صَائِمًا لَزِمَاهُ.
ج - وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا نَذَرَ أَنْ يَصُومَ مُعْتَكِفًا.
فَالصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّهُمَا يَلْزَمَانِهِ.
وَفَرَّقُوا بَيْنَ الصُّورَةِ الثَّالِثَةِ وَالثَّانِيَةِ بِأَنَّ الصَّوْمَ يَصِحُّ وَصْفًا لِلاِعْتِكَافِ، وَالاِعْتِكَافُ لاَ يَصِحُّ وَصْفًا لِلصَّوْمِ (3) .
__________
(1) كشاف القناع 2 / 354، 355، وابن عابدين 2 / 443، وبدائع الصنائع 3 / 1060، والمجموع 6 / 494، وبلغة السالك 1 / 541 - 542.
(2) ابن عابدين 2 / 452، وبلغة السالك 1 / 539، وكشاف القناع 2 / 355، والمجموع 6 / 492.
(3) كشاف القناع 2 / 348 - 349، ومغني المحتاج 1 / 453، والفروع 3 / 162.(5/216)
نَذْرُ الصَّلاَةِ فِي الاِعْتِكَافِ:
24 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ مُصَلِّيًا فَالصَّلاَةُ لاَ تَلْزَمُهُ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَلْزَمُهُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيْسَ عَلَى الْمُعْتَكِفِ صِيَامٌ إِلاَّ أَنْ يَجْعَلَهُ عَلَى نَفْسِهِ (1) . وَالاِسْتِثْنَاءُ مِنَ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ، وَتُقَاسُ الصَّلاَةُ عَلَى الصَّوْمِ، وَلأَِنَّ كُلًّا مِنَ الصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ صِفَةٌ مَقْصُودَةٌ فِي الاِعْتِكَافِ فَلَزِمَتْ بِالنَّذْرِ، لَكِنْ لاَ يَلْزَمُهُ أَنْ يُصَلِّيَ جَمِيعَ الزَّمَانِ، وَيَكْفِيهِ رَكْعَةٌ أَوْ رَكْعَتَانِ بِنَاءً عَلَى مَا لَوْ نَذَرَ الصَّلاَةَ وَأَطْلَقَ (2) .
هَذَا وَلَمْ أَرَ لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ نَصًّا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَالظَّاهِرُ عَدَمُ الْوُجُوبِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
نَذْرُ الاِعْتِكَافِ فِي مَكَانٍ مُعَيَّنٍ:
25 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا نَذَرَ الاِعْتِكَافَ فِي أَحَدِ الْمَسَاجِدِ الثَّلاَثَةِ - الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمَسْجِدِ الأَْقْصَى - لَزِمَهُ النَّذْرُ وَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ، وَلاَ يُجْزِئُهُ الاِعْتِكَافُ فِي غَيْرِهَا مِنَ الْمَسَاجِدِ، لِفَضْل الْعِبَادَةِ فِيهَا عَلَى غَيْرِهَا، فَتَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ.
وَأَفْضَلُهَا الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ، ثُمَّ مَسْجِدُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) حديث: " ليس على المعتكف صيام. . . " أخرجه الحاكم من حديث ابن عباس رضي الله عنه مرفوعا وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقال الذهبي: على شرط مسلم وعارض هذا ما لم يصح. وأخرجه الدارقطني والبيهقي بنفس الإسناد ورجحا وقفه. (المستدرك 1 / 439 نشر د وسنن الدارقطني 2 / 199 ط شركة الطباعة الفنية المتحدة، والسنن الكبرى للبيهقي 4 / 319 ط الهند، ونيل الأوطار 4 / 268 ط المطبعة العثمانية المصرية) .
(2) كشاف القناع 2 / 349، ومغني المحتاج 1 / 453.(5/217)
، ثُمَّ الْمَسْجِدُ الأَْقْصَى.
وَإِلْحَاقُ غَيْرِ الثَّلاَثَةِ بِهَا مُمْتَنِعٌ لِثُبُوتِ فَضْلِهَا عَلَى غَيْرِهَا بِالنَّصِّ، قَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: صَلاَةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَل مِنْ أَلْفِ صَلاَةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلاَّ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ، وَصَلاَةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَل مِنْ مِائَةِ أَلْفِ صَلاَةٍ فِيمَا سِوَاهُ (1) .
وَوَرَدَ أَنَّ الصَّلاَةَ بِالْمَسْجِدِ الأَْقْصَى بِخَمْسِمِائَةِ صَلاَةٍ (2) .
فَإِذَا عَيَّنَ الأَْفْضَل فِي نَذْرِهِ لَمْ يُجْزِئْهُ الاِعْتِكَافُ فِيمَا دُونَهُ، لِعَدَمِ مُسَاوَاتِهِ لَهُ.
فَإِنْ عَيَّنَ بِنَذْرِهِ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ لاَ يُجْزِئُهُ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلاَ الْمَسْجِدِ الأَْقْصَى.
وَإِنْ عَيَّنَ مَسْجِدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ يُجْزِئُهُ الْمَسْجِدُ الأَْقْصَى، وَالْعَكْسُ صَحِيحٌ، فَإِنْ عَيَّنَ الْمَسْجِدَ الأَْقْصَى جَازَ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَإِنْ عَيَّنَ مَسْجِدَ النَّبِيِّ جَازَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ (3) .
__________
(1) حديث: " صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة. . . " أخرجه ابن ماجه من حديث جابر رضي الله عنه مرفوعا. وقال الحافظ البوصيري في الزوائد: إسناد حديث جابر صحيح ورجاله ثقات (سنن ابن ماجه 1 / 450 ط عيسى الحلبي) وأخرج البخاري الشطر الأول منه بلفظ " صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام " من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا (فتح الباري 3 / 63 ط السلفية) .
(2) حديث: " أن الصلاة بالمسجد الأقصى. . . " أورده المنذري في الترغيب والترهيب وعزاه إلى الطبراني وابن خزيمة والبزار من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه. ولفظ البزار " فضل الصلاة في المسجد الحرام على غيره بمائة ألف صلاة، وفي مسجدي ألف صلاة، وفي مسجد بيت المق
(3) كشاف القناع 2 / 353، ومغني المحتاج 1 / 451.(5/217)
وَأَمَّا إِذَا نَذَرَ الاِعْتِكَافَ فِي غَيْرِ الْمَسَاجِدِ الثَّلاَثَةِ فَهَل يَلْزَمُ؟
ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ، وَلَهُ فِعْلُهُ فِي غَيْرِهِ (1) .
وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْمَسْجِدُ يَحْتَاجُ إِلَى شَدِّ الرِّحَال إِلَيْهِ فَيُخَيَّرُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلْمَالِكِيَّةِ بَيْنَ الذَّهَابِ وَعَدَمِهِ عِنْدَ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَغَيْرِهِ، وَاخْتَارَ بَعْضُهُمُ الإِْبَاحَةَ فِي السَّفَرِ الْقَصِيرِ، وَلَمْ يُجَوِّزْهُ ابْنُ عَقِيلٍ وَالشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ، وَكَذَلِكَ يُخَيَّرُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ إِنْ كَانَ لاَ يَحْتَاجُ إِلَى شَدِّ رَحْلٍ بَيْنَ الذَّهَابِ وَغَيْرِهِ. لَكِنْ قَال فِي الْوَاضِحِ: الْوَفَاءُ أَفْضَل، قَال فِي الْفُرُوعِ: وَهَذَا أَظْهَرُ (2) .
الاِشْتِرَاطُ فِي الاِعْتِكَافِ:
26 - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى جَوَازِ الشَّرْطِ وَصِحَّتِهِ فِي الاِعْتِكَافِ الْوَاجِبِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ مُقَابِل الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِلَى إِلْغَاءِ الشَّرْطِ.
إِلاَّ أَنَّ الْجُمْهُورَ اخْتَلَفُوا فِيمَا يَصِحُّ أَنْ يَدْخُل تَحْتَ الشَّرْطِ أَوْ لاَ يَدْخُل (3) .
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوِ اشْتَرَطَ وَقْتَ النَّذْرِ أَنْ يَخْرُجَ لِعِيَادَةِ مَرِيضٍ وَصَلاَةِ جِنَازَةٍ وَحُضُورِ مَجْلِسِ عِلْمٍ
__________
(1) جواهر الإكليل 1 / 158، والإنصاف 3 / 366 - 367.
(2) الإنصاف 3 / 368، والدسوقي 1 / 547 ط دار الفكر.
(3) حاشية الطحطاوي على الدر 1 / 476، ومغني المحتاج 1 / 457، والمغني 3 / 194 - 195 ط الفجالة، والقوانين الفقهية 85 ط دار القلم، وكشاف القناع 2 / 359.(5/218)
جَازَ ذَلِكَ. وَهَذَا عَلَى قَوْل الإِْمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ، أَمَّا عَلَى قَوْل الصَّاحِبَيْنِ فَالأَْمْرُ أَوْسَعُ. أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ قَالُوا فِي الْمُعْتَمَدِ: لَوِ اشْتَرَطَ الْمُعْتَكِفُ لِنَفْسِهِ سُقُوطَ الْقَضَاءِ عَنْهُ - عَلَى فَرْضِ حُصُول عُذْرٍ أَوْ مُبْطِلٍ - لاَ يَنْفَعُهُ اشْتِرَاطُ سُقُوطِ الْقَضَاءِ، وَشَرْطُهُ لَغْوٌ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ إِنْ حَصَل مُوجِبُهُ، وَاعْتِكَافُهُ صَحِيحٌ. وَلَهُمْ قَوْلٌ آخَرُ بِأَنَّهُ لاَ يَنْعَقِدُ، وَقَوْلٌ ثَالِثٌ بِالتَّفْصِيل بَيْنَ الاِشْتِرَاطَاتِ قَبْل الدُّخُول فِي الاِعْتِكَافِ فَلاَ يَنْعَقِدُ الاِعْتِكَافُ، أَوْ بَعْدَ الدُّخُول فَيَلْغُو الشَّرْطُ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِنَّ الاِعْتِكَافَ لَزِمَ بِالْتِزَامِهِ فَيَجِبُ بِحَسَبِ مَا الْتَزَمَهُ.
فَإِذَا اشْتَرَطَ الْمُعْتَكِفُ الْخُرُوجَ لِعَارِضٍ مُبَاحٍ مَقْصُودٍ غَيْرِ مُنَافٍ لِلاِعْتِكَافِ صَحَّ الشَّرْطُ.
فَإِنِ اشْتَرَطَهُ لِخَاصٍّ مِنَ الأَْغْرَاضِ، كَعِيَادَةِ الْمَرْضَى خَرَجَ لَهُ دُونَ غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ أَهَمَّ مِنْهُ. وَإِنِ اشْتَرَطَهُ لأَِمْرٍ عَامٍّ كَشُغْلٍ يَعْرِضُ لَهُ خَرَجَ لِكُل مُهِمٍّ دِينِيٍّ كَالْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ، أَوْ دُنْيَوِيٍّ مُبَاحٍ، كَاقْتِضَاءِ الْغَرِيمِ، فَلَيْسَ لَهُ الْخُرُوجُ لأَِجْل الْحَرَامِ.
وَخَرَجَ بِقَوْلِهِ " مَقْصُودٍ " مَا لَوْ شَرَطَهُ، أَوْ لِغَيْرِ مَقْصُودٍ كَنُزْهَةٍ أَوْ فُرْجَةٍ، كَإِتْيَانِ أَهْلِهِ، فَإِذَا اشْتَرَطَ الْخُرُوجَ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لاَ يَنْعَقِدُ نَذْرُهُ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لَوِ اشْتَرَطَ الْخُرُوجَ لِلْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ أَوِ الإِْجَارَةِ، أَوِ التَّكَسُّبِ بِالصِّنَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ لَمْ يَصِحَّ الشَّرْطُ بِلاَ خِلاَفٍ.
وَلَوْ قَال: مَتَى مَرِضْتُ أَوْ عَرَضَ لِي عَارِضٌ خَرَجْتُ فَلَهُ شَرْطُهُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ.
__________
(1) الدسوقي 1 / 552، وبلغة السالك 1 / 549.(5/218)
وَمَحَل ذَلِكَ فِي الاِعْتِكَافِ الْمُتَتَابِعِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَلاَ يَلْزَمُهُ تَدَارُكُ مَا فَاتَهُ، فَكَأَنَّهُ قَال: نَذَرْتُ هَذَا الشَّهْرَ إِلاَّ كَذَا. فَيَكُونُ الْمَنْذُورُ شَهْرًا، وَالْمَشْرُوطُ مُسْتَثْنًى مِنْهُ.
أَمَّا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فَإِنَّ فَائِدَةَ الشَّرْطِ عِنْدَهُمْ سُقُوطُ الْقَضَاءِ فِي الْمُدَّةِ الْمُعَيَّنَةِ.
أَمَّا لَوْ نَذَرَ شَهْرًا مُتَتَابِعًا، فَلاَ يَجُوزُ الْخُرُوجُ مِنْهُ إِلاَّ لِمَرَضٍ، وَعَلَيْهِ قَضَاءُ زَمَنِ الْمَرَضِ، لإِِمْكَانِ حَمْل شَرْطِهِ هُنَا عَلَى نَفْيِ التَّتَابُعِ فَقَطْ، فَنُزِّل عَلَى الأَْقَل، وَيَكُونُ الشَّرْطُ قَدْ أَفَادَ هُنَا الْبِنَاءَ مَعَ سُقُوطِ الْقَضَاءِ (1) .
مَا يُفْسِدُ الاِعْتِكَافَ:
يُفْسِدُ الاِعْتِكَافَ مَا يَلِي:
الأَْوَّل - الْجِمَاعُ وَدَوَاعِيهِ:
27 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْجِمَاعَ فِي الاِعْتِكَافِ حَرَامٌ وَمُبْطِلٌ لَهُ، لَيْلاً كَانَ أَوْ نَهَارًا، إِنْ كَانَ عَامِدًا. وَكَذَا إِنْ فَعَلَهُ نَاسِيًا لاِعْتِكَافِهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} (2) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ حُرْمَةَ الْجِمَاعِ وَإِفْسَادَهُ. لِلاِعْتِكَافِ لاَ يَكُونُ إِلاَّ مِنْ عَالِمٍ بِتَحْرِيمِهِ ذَاكِرٍ لِلاِعْتِكَافِ، سَوَاءٌ أَجَامَعَ فِي الْمَسْجِدِ أَمْ خَارِجَهُ عِنْدَ خُرُوجِهِ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ أَوْ نَحْوِهَا، لِمُنَافَاتِهِ الْعِبَادَةَ الْبَدَنِيَّةَ. وَالْبُطْلاَنُ إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُسْتَقْبَل، أَمَّا مَا مَضَى فَإِنَّهُ لاَ يَبْطُل فِي الْجُمْلَةِ، عَلَى خِلاَفٍ
__________
(1) الإنصاف 3 / 376، ومغني المحتاج 1 / 457.
(2) سورة البقرة / 187.(5/219)
وَتَفْصِيلٍ يُعْرَفُ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ.
وَأَمَّا دَوَاعِي الْجِمَاعِ كَاللَّمْسِ وَالْقُبْلَةِ، فَإِنَّهَا تُفْسِدُ الاِعْتِكَافَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الأَْظْهَرُ لِلشَّافِعِيَّةِ إِذَا أَنْزَل، فَإِنْ لَمْ يُنْزِل لَمْ يَفْسُدِ اعْتِكَافُهُ، وَالْقَوْلاَنِ الآْخَرَانِ لِلشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يَبْطُل مُطْلَقًا، وَقِيل: لاَ يَبْطُل.
قَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّهُ إِذَا قَبَّل وَقَصَدَ اللَّذَّةَ، أَوْ لَمَسَ، أَوْ بَاشَرَ بِقَصْدِهَا، أَوْ وَجَدَهَا بَطَل اعْتِكَافُهُ، وَاسْتَأْنَفَهُ مِنْ أَوَّلِهِ، فَلَوْ قَبَّل صَغِيرَةً لاَ تُشْتَهَى، أَوْ قَبَّل زَوْجَتَهُ لِوَدَاعٍ أَوْ رَحْمَةٍ، وَلَمْ يَقْصِدْ لَذَّةً وَلاَ وَجَدَهَا لَمْ يَبْطُل. ثُمَّ إِنَّ اشْتِرَاطَ الشَّهْوَةِ فِي الْقُبْلَةِ إِذَا كَانَتْ فِي غَيْرِ الْفَمِ، وَأَمَّا إِذَا كَانَتْ فِيهِ فَلاَ تُشْتَرَطُ الشَّهْوَةُ عَلَى الظَّاهِرِ، لأَِنَّهُ يُبْطِلُهُ مِنْ مُقَدِّمَاتِ الْوَطْءِ مَا يُبْطِل الْوُضُوءَ.
وَقَدْ نَصُّوا عَلَى تَحْرِيمِ الْوَطْءِ فِي الْمَسْجِدِ مُطْلَقًا لِكَرَامَتِهِ، وَوَطْءُ الْمُعْتَكِفَةِ مُفْسِدٌ لاِعْتِكَافِهَا (1) .
وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْجِمَاعَ الْمُفْسِدَ لِلاِعْتِكَافِ الْمَنْذُورِ الْمُتَتَابِعِ مِنَ الْمُعْتَكِفِ الذَّاكِرِ لَهُ الْعَالِمِ بِتَحْرِيمِهِ لاَ تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ.
قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَكْثَرُ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهُ لاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْل أَهْل الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ وَالْعِرَاقِ.
قَال الْمَاوَرْدِيُّ هُوَ قَوْل جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ إِلاَّ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَالزُّهْرِيُّ، فَقَالاَ: عَلَيْهِ كَفَّارَةُ الْوَاطِئِ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ.
وَعَنِ الْحَسَنِ رِوَايَةٌ أُخْرَى هِيَ أَنَّهُ يُعْتِقُ رَقَبَةً، فَإِنْ عَجَزَ أَهْدَى بَدَنَةً، فَإِنْ عَجَزَ تَصَدَّقَ بِعِشْرِينَ
__________
(1) الدسوقي مع الشرح الكبير 1 / 544، ومغني المحتاج 1 / 452، وبدائع الصنائع 3 / 1071 - 1072، وكشاف القناع 2 / 361.(5/219)
صَاعًا مِنْ تَمْرٍ (1) . وَقَال الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: هِيَ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ، وَقَال أَبُو بَكْرٍ: هِيَ كَفَّارَةُ يَمِينٍ.
الثَّانِي - الْخُرُوجُ مِنَ الْمَسْجِدِ:
28 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْخُرُوجَ مِنَ الْمَسْجِدِ لِلرَّجُل وَالْمَرْأَةِ (وَكَذَلِكَ خُرُوجُ الْمَرْأَةِ مِنْ مَسْجِدِ بَيْتِهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ) إِذَا كَانَ لِغَيْرِ حَاجَةٍ فَإِنَّهُ يُفْسِدُ الاِعْتِكَافَ الْوَاجِبَ، وَأَلْحَقَ الْمَالِكِيَّةُ وَأَبُو حَنِيفَةَ - فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْهُ - بِالْوَاجِبِ الاِعْتِكَافَ الْمَنْدُوبَ أَيْضًا، سَوَاءٌ أَكَانَ الْخُرُوجُ يَسِيرًا أَمْ كَثِيرًا.
أَمَّا إِذَا كَانَ الْخُرُوجُ لِحَاجَةٍ فَلاَ يُبْطِل الاِعْتِكَافَ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا إِلاَّ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي الْحَاجَةِ الَّتِي لاَ تَقْطَعُ الاِعْتِكَافَ وَلاَ تُفْسِدُهُ (2) عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
أ - الْخُرُوجُ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ وَالْوُضُوءِ وَالْغُسْل الْوَاجِبِ:
29 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَضُرُّ الْخُرُوجُ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ وَالْغُسْل الَّذِي وَجَبَ مِمَّا لاَ يُفْسِدُ الاِعْتِكَافَ. لَكِنْ إِنْ طَال مُكْثُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَسَدَ اعْتِكَافُهُ.
قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ لِلْمُعْتَكِفِ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ مُعْتَكَفِهِ لِلْغَائِطِ وَالْبَوْل، لأَِنَّ هَذَا مِمَّا لاَ بُدَّ مِنْهُ، وَلاَ يُمْكِنُ فِعْلُهُ فِي الْمَسْجِدِ، فَلَوْ بَطَل الاِعْتِكَافُ بِخُرُوجِهِ لَهُ لَمْ يَصِحَّ لأَِحَدٍ
__________
(1) المجموع 6 / 527، والإنصاف 3 / 380 - 381، وتبيين الحقائق 1 / 52، وابن عابدين 2 / 135 ط بولاق، والدسوقي 1 / 545، والمغني 3 / 298 ط الرياض.
(2) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 1 / 543، وتبيين الحقائق 1 / 350، وابن عابدين 2 / 445، وكشاف القناع 2 / 356، والروضة 2 / 404، وبدائع الصنائع 3 / 1071(5/220)
الاِعْتِكَافُ، وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَعْتَكِفُ، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ كَانَ يَخْرُجُ لِحَاجَتِهِ.
وَرَوَتْ عَائِشَةُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لاَ يَدْخُل الْبَيْتَ إِلاَّ لِحَاجَةٍ إِذَا كَانَ مُعْتَكِفًا (1)
وَلَهُ الْغُسْل وَالْوُضُوءُ وَالاِغْتِسَال فِي الْمَسْجِدِ إِذَا لَمْ يُلَوِّثِ الْمَسْجِدَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِنْ أَمْكَنَهُ الْوُضُوءُ فِي الْمَسْجِدِ لاَ يَجُوزُ لَهُ الْخُرُوجُ فِي الأَْصَحِّ، وَالثَّانِي يَجُوزُ (2) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى كَرَاهَةِ دُخُول مَنْزِل أَهْلِهِ وَبِهِ أَهْلُهُ - أَيْ زَوْجَتُهُ - إِذَا خَرَجَ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ، لِئَلاَّ يَطْرَأَ عَلَيْهِ مِنْهُمَا مَا يُفْسِدُ اعْتِكَافَهُ (3) .
أَمَّا إِذَا كَانَ لَهُ مَنْزِلاَنِ فَيَلْزَمُهُ أَقْرَبُهُمَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَاخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي ذَلِكَ (4) .
وَإِذَا كَانَتْ هُنَاكَ مِيضَأَةٌ يَحْتَشِمُ مِنْهَا لاَ يُكَلَّفُ التَّطَهُّرَ مِنْهَا، وَلاَ يُكَلَّفُ الطَّهَارَةَ فِي بَيْتِ صَدِيقِهِ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ خَرْمِ الْمُرُوءَةِ، وَتَزِيدُ دَارُ الصِّدِّيقِ بِالْمِنَّةِ بِهَا.
أَمَّا إِذَا كَانَ لاَ يَحْتَشِمُ مِنَ الْمِيضَأَةِ فَيُكَلَّفُهَا (5) .
وَأَلْحَقُوا بِالْخُرُوجِ لِمَا تَقَدَّمَ الْخُرُوجَ لِلْقَيْءِ وَإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ، فَلاَ يَفْسُدُ الاِعْتِكَافُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِمْ
__________
(1) حديث عائشة رضي الله عنها: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يدخل البيت. . . ". أخرجه البخاري ومسلم (فتح الباري 4 / 273 ط السلفية وصحيح مسلم 1 / 244 ط عيسى الحلبي) .
(2) ابن عابدين 2 / 445، 446، وكشاف القناع 2 / 356، ومغني المحتاج 1 / 457، والمجموع 6 / 501، 503، وبلغة السالك 1 / 544.
(3) الشرح الصغير مع بلغة السالك 1 / 544.
(4) المجموع 6 / 501، وكشاف القناع 2 / 356.
(5) مغني المحتاج 1 / 457، وكشاف القناع 2 / 356، وابن عابدين 2 / 445.(5/220)
جَمِيعًا (1) .
وَلاَ يُكَلَّفُ الَّذِي خَرَجَ لِحَاجَةٍ الإِْسْرَاعُ، بَل لَهُ الْمَشْيُ عَلَى عَادَتِهِ (2) .
ب - الْخُرُوجُ لِلأَْكْل وَالشُّرْبِ:
30 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْخُرُوجَ لِلأَْكْل وَالشُّرْبِ يُفْسِدُ اعْتِكَافَهُ إِذَا كَانَ هُنَاكَ مَنْ يَأْتِيهِ بِهِ لِعَدَمِ الضَّرُورَةِ إِلَى الْخُرُوجِ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَجِدْ مَنْ يَأْتِيهِ بِهِ فَلَهُ الْخُرُوجُ، لأَِنَّهُ خُرُوجٌ لِمَا لاَ بُدَّ مِنْهُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ الْخُرُوجُ لِلأَْكْل، لأَِنَّ الأَْكْل فِي الْمَسْجِدِ يُسْتَحْيَا مِنْهُ. وَكَذَا لِلشُّرْبِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمَسْجِدِ مَاءٌ.
وَخَصَّ الشَّافِعِيَّةُ جَوَازَ الْخُرُوجِ لِلأَْكْل إِذَا كَانَ اعْتِكَافُهُ فِي مَسْجِدٍ مَطْرُوقٍ، أَمَّا إِذَا كَانَ الْمَسْجِدُ مَهْجُورًا فَلاَ يَحِقُّ لَهُ الْخُرُوجُ (3) .
ج - الْخُرُوجُ لِغُسْل الْجُمُعَةِ وَالْعِيدِ:
31 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ لِلْمُعْتَكِفِ الْخُرُوجَ لِغُسْل الْجُمُعَةِ وَالْعِيدِ وَلِحَرٍّ أَصَابَهُ فَلاَ يَفْسُدُ الاِعْتِكَافُ خِلاَفًا لِلْجُمْهُورِ (4) .
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الْخُرُوجُ لِغُسْل الْجُمُعَةِ وَالْعِيدِ، لأَِنَّهُ نَفْلٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 457، وكشاف القناع 2 / 356، وبلغة السالك 1 / 546، وحاشية ابن عابدين 2 / 445.
(2) المجموع 6 / 502.
(3) مغني المحتاج 1 / 457، وابن عابدين 2 / 448 - 449، والمغني 3 / 193 ط الرياض، وبلغة السالك 1 / 540.
(4) بلغة السالك 1 / 546.(5/221)
وَلَيْسَ مِنْ بَابِ الضَّرُورَةِ. فَإِنِ اشْتُرِطَ ذَلِكَ جَازَ (1) .
د - الْخُرُوجُ لِصَلاَةِ الْجُمُعَةِ:
32 - مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ، وَكَانَ اعْتِكَافُهُ مُتَتَابِعًا، وَاعْتَكَفَ فِي مَسْجِدٍ لاَ تُقَامُ فِيهِ الْجُمُعَةُ فَهُوَ آثِمٌ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ لِصَلاَةِ الْجُمُعَةِ، لأَِنَّهَا فَرْضٌ.
فَإِذَا خَرَجَ لِلْجُمُعَةِ فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ خُرُوجَهُ لِلْجُمُعَةِ لاَ يُفْسِدُ اعْتِكَافَهُ، لأَِنَّهُ خُرُوجٌ لِمَا لاَ بُدَّ مِنْهُ، كَالْخُرُوجِ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ.
وَبِهِ قَال سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَأَحْمَدُ وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الْمَاجِشُونِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ خُرُوجَ الْمُعْتَكِفِ لِصَلاَةِ الْجُمُعَةِ يُفْسِدُ اعْتِكَافَهُ وَعَلَيْهِ الاِسْتِئْنَافُ، لأَِنَّهُ يُمْكِنُهُ الاِحْتِرَازُ مِنَ الْخُرُوجِ، بِأَنْ يَعْتَكِفَ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ، فَإِذَا لَمْ يَفْعَل وَخَرَجَ بَطَل اعْتِكَافُهُ، وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ مَا لَوْ شَرَطَ الْخُرُوجَ فِي اعْتِكَافِهِ لِصَلاَةِ الْجُمُعَةِ، فَإِنَّ شَرْطَهُ يَصِحُّ، وَلاَ يَبْطُل اعْتِكَافُهُ بِخُرُوجِهِ (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْخُرُوجَ لِصَلاَةِ الْجُمُعَةِ يَكُونُ وَقْتَ الزَّوَال، وَمَنْ بَعُدَ مَسْجِدُ اعْتِكَافِهِ خَرَجَ
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 16، وابن عابدين 2 / 133، وبلغة السالك 1 / 138، والمقنع 1 / 62، ومغني المحتاج 1 / 257 - 258. أما الخروج لغسل التنظف إذا احتاج إليه فاللجنة ترى أنه لا ينبغي أن يعتبر مما ينافي الاعتكاف.
(2) ابن عابدين 2 / 445، وبلغة السالك 1 / 540، وكشاف القناع 2 / 357، والمجموع 6 / 514، ومغني المحتاج 1 / 457، والدسوقي 1 / 543.(5/221)
فِي وَقْتٍ يُدْرِكُهَا. أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَإِنَّهُمْ قَالُوا بِجَوَازِ التَّبْكِيرِ إِلَيْهَا.
وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ بَعْدَ صَلاَةِ الْجُمُعَةِ التَّعْجِيل بِالرُّجُوعِ إِلَى مَكَانِ الاِعْتِكَافِ. لَكِنْ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ التَّعْجِيل لأَِنَّهُ مَحَلٌّ لِلاِعْتِكَافِ، وَكُرِهَ تَنْزِيهًا الْمُكْثُ بَعْدَ صَلاَةِ الْجُمُعَةِ لِمُخَالَفَةِ مَا الْتَزَمَهُ بِلاَ ضَرُورَةٍ (1) .
هـ - الْخُرُوجُ لِعِيَادَةِ الْمَرْضَى وَصَلاَةِ الْجِنَازَةِ:
33 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الْخُرُوجِ لِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَصَلاَةِ الْجِنَازَةِ لِعَدَمِ الضَّرُورَةِ إِلَى الْخُرُوجِ، إِلاَّ إِذَا اشْتُرِطَ الْخُرُوجُ لَهُمَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَمَحَل ذَلِكَ مَا إِذَا خَرَجَ لِقَصْدِ الْعِيَادَةِ وَصَلاَةِ الْجِنَازَةِ. أَمَّا إِذَا خَرَجَ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ ثُمَّ عَرَجَ عَلَى مَرِيضٍ لِعِيَادَتِهِ، أَوْ لِصَلاَةِ الْجِنَازَةِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ بِشَرْطٍ أَلاَّ يَطُول مُكْثُهُ عِنْدَ الْمَرِيضِ، أَوْ بَعْدَ صَلاَةِ الْجِنَازَةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، بِأَنْ لاَ يَقِفَ عِنْدَ الْمَرِيضِ إِلاَّ بِقَدْرِ السَّلاَمِ، لِقَوْل عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: إِنْ كُنْتُ أَدْخُل الْبَيْتَ لِلْحَاجَةِ، وَالْمَرِيضُ فِيهِ فَمَا أَسْأَل عَنْهُ إِلاَّ وَأَنَا مَارَّةٌ (2) .
وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ مَرْفُوعًا عَنْهَا: أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَمُرُّ بِالْمَرِيضِ، وَهُوَ مُعْتَكِفٌ، فَيَمُرُّ كَمَا هُوَ وَلاَ يُعَرِّجُ يَسْأَل عَنْهُ (3) .
__________
(1) ابن عابدين 2 / 445 - 446، وكشاف القناع 2 / 357.
(2) الأثر عن عائشة رضي الله عنها " إن كنت أدخل البيت للحاجة. . . " أخرجه مسلم (صحيح مسلم 1 / 244 ط عيسى الحلبي) .
(3) حديث عائشة " أنه عليه الصلاة والسلام كان يمر بالمريض. . . " أخرجه أبو داود وضعفه ابن حجر في التلخيص (سنن أبي داود 2 / 836 ط استانبول، والتلخيص الحبير 2 / 219) .(5/222)
فَإِنْ طَال وُقُوفُهُ عُرْفًا، أَوْ عَدَل عَنْ طَرِيقِهِ وَإِنْ قَل لَمْ يَجُزْ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لاَ يُنْتَقَضُ الاِعْتِكَافُ إِذَا لَمْ يَكُنْ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ (1) .
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَإِنَّهُمْ مَعَ الْجُمْهُورِ فِي فَسَادِ الاِعْتِكَافِ لِخُرُوجِ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَصَلاَةِ الْجِنَازَةِ، إِلاَّ أَنَّهُمْ أَوْجَبُوا الْخُرُوجَ لِعِيَادَةِ أَحَدِ الأَْبَوَيْنِ الْمَرِيضَيْنِ أَوْ كِلَيْهِمَا، وَذَلِكَ لِبِرِّهِمَا فَإِنَّهُ آكَدُ مِنَ الاِعْتِكَافِ الْمَنْذُورِ، وَيَبْطُل اعْتِكَافُهُ بِهِ وَيَقْضِيهِ (2) .
و الْخُرُوجُ فِي حَالَةِ النِّسْيَانِ:
34 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْخُرُوجَ مِنَ الْمَسْجِدِ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا يُبْطِل الاِعْتِكَافَ. وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّ حَالَةَ الاِعْتِكَافِ مُذَكِّرَةٌ، وَوُقُوعُ ذَلِكَ نَادِرٌ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ الْعُذْرُ فِيمَا يَغْلِبُ وُقُوعُهُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ الْبُطْلاَنِ إِذَا خَرَجَ نَاسِيًا (3) ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عُفِيَ لأُِمَّتِي عَنِ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ (4) .
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 458، ونهاية المحتاج 3 / 223، والبحر الرائق 2 / 325 - 326، والمغني 3 / 195 - 196، والمجموع 6 / 510.
(2) الدسوقي مع الشرح الكبير 1 / 543، 548.
(3) الفتاوى الهندية 1 / 212، والحطاب 2 / 457، والدسوقي 1 / 545، وابن عابدين 2 / 447، والمجموع 6 / 520 - 521، وكشاف القناع 2 / 358، والطحطاوي على الدر 1 / 475، والطحطاوي على مراقي الفلاح ص 384.
(4) حديث: " عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه. . . ". أخرجه ابن ماجه من حديث أبي ذر الغفاري مرفوعا بلفظ " إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " قال الحافظ البوصيري: إسناده ضعيف، كما أخرجه ابن ماجه عن طريق الأوزاعي عن عطاء ع والمستدرك 2 / 198 نشر دار الكتاب العربي، ونصب الراية 2 / 65 - 66 ط دار المأمون) .(5/222)
ز - الْخُرُوجُ لأَِدَاءِ الشَّهَادَةِ:
35 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْخُرُوجَ لأَِجْل الشَّهَادَةِ مُفْسِدٌ لِلاِعْتِكَافِ.
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ شَهَادَةٌ، بِأَلاَّ يَكُونَ هُنَاكَ غَيْرُهُ، أَوْ لاَ يَتِمُّ النِّصَابُ إِلاَّ بِهِ، لاَ يَخْرُجُ مِنَ الْمَسْجِدِ لأَِدَائِهَا، بَل يَجِبُ أَنْ يُؤَدِّيَهَا فِي الْمَسْجِدِ إِمَّا بِحُضُورِ الْقَاضِي، أَوْ تُنْقَل عَنْهُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْخُرُوجُ لأَِدَاءِ الشَّهَادَةِ مَتَى تَعَيَّنَتْ عَلَيْهِ وَيَأْثَمُ بِعَدَمِ الْخُرُوجِ، وَكَذَلِكَ التَّحَمُّل لِلشَّهَادَةِ إِذَا تَعَيَّنَ، فَيَجُوزُ لَهُ الْخُرُوجُ وَلاَ يَبْطُل اعْتِكَافُهُ بِذَلِكَ الْخُرُوجِ، لأَِنَّهُ خُرُوجٌ وَاجِبٌ (1) عَلَى الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، أَمَّا إِذَا لَمْ تَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ، فَيَبْطُل اعْتِكَافُهُ بِالْخُرُوجِ.
__________
(1) المجموع 6 / 514 - 515، وابن عابدين 2 / 547، وكشاف القناع 2 / 357، والدسوقي مع الشرح الكبير 1 / 543.(5/223)
ح - الْخُرُوجُ لِلْمَرَضِ:
الْمَرَضُ عَلَى قِسْمَيْنِ:
36 - الْمَرَضُ الْيَسِيرُ الَّذِي لاَ تَشُقُّ مَعَهُ الإِْقَامَةُ فِي الْمَسْجِدِ كَصُدَاعٍ وَحُمَّى خَفِيفَةٍ وَغَيْرِهِمَا لاَ يَجُوزُ مَعَهُ الْخُرُوجُ مِنَ الْمَسْجِدِ إِذَا كَانَ اعْتِكَافُهُ مَنْذُورًا مُتَتَابِعًا، فَإِنْ خَرَجَ فَسَدَ اعْتِكَافُهُ لأَِنَّهُ غَيْرُ مُضْطَرٍّ إِلَيْهِ.
37 - أَمَّا الْمَرَضُ الشَّدِيدُ الَّذِي يَتَعَذَّرُ مَعَهُ الْبَقَاءُ فِي الْمَسْجِدِ، أَوْ لاَ يُمْكِنُ الْبَقَاءُ مَعَهُ فِي الْمَسْجِدِ، بِأَنْ يَحْتَاجَ إِلَى خِدْمَةٍ أَوْ فِرَاشٍ أَوْ مُرَاجَعَةِ طَبِيبٍ، فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ خُرُوجَهُ مُفْسِدٌ لاِعْتِكَافِهِ، فَفِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: إِذَا خَرَجَ سَاعَةً بِعُذْرِ الْمَرَضِ فَسَدَ اعْتِكَافُهُ. هَكَذَا فِي الظَّهِيرِيَّةِ. عِلْمًا بِأَنَّ مَذْهَبَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ اعْتِبَارُ نِصْفِ النَّهَارِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَبْطُل وَلاَ يَنْقَطِعُ بِهِ التَّتَابُعُ، وَيَبْنِي عَلَى مَا مَضَى إِذَا شُفِيَ، وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ الْمَرَضُ مِمَّا يَتَلَوَّثُ بِهِ الْمَسْجِدُ كَالْقَيْءِ وَنَحْوِهِ فَإِنَّهُ لاَ يَنْقَطِعُ بِهِ التَّتَابُعُ.
أَمَّا الْخُرُوجُ حَالَةَ الإِْغْمَاءِ فَإِنَّهُ لاَ يَقْطَعُ الاِعْتِكَافَ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا، لأَِنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ بِاخْتِيَارِهِ.
قَال الْكَاسَانِيُّ: وَإِنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ أَيَّامًا، أَوْ أَصَابَهُ لَمَمٌ (جُنُونٌ) فَسَدَ اعْتِكَافُهُ، وَعَلَيْهِ إِذَا بَرَأَ أَنْ يَسْتَقْبِل، لأَِنَّهُ لَزِمَهُ مُتَتَابِعًا.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْمَرَضَ وَالإِْغْمَاءَ يُحْسَبَانِ مِنَ الاِعْتِكَافِ (1)
__________
(1) المجموع 6 / 516 - 517، وكشاف القناع 2 / 351، 357 - 358، والفتاوى الهندية 1 / 212، والدسوقي مع الشرح الكبير 1 / 551 - 552.(5/223)
وَفِي مَعْنَى الْمَرَضِ هَذَا، الْخَوْفُ مِنْ لِصٍّ أَوْ حَرِيقٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (1) .
ط - الْخُرُوجُ لاِنْهِدَامِ الْمَسْجِدِ:
38 - إِذَا انْهَدَمَ الْمَسْجِدُ فَخَرَجَ مِنْهُ لِيُقِيمَ اعْتِكَافَهُ فِي مَسْجِدٍ آخَرَ صَحَّ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ اسْتِحْسَانًا، وَكَذَلِكَ عِنْدَ غَيْرِهِمْ (2) .
ي - الْخُرُوجُ حَالَةَ الإِْكْرَاهِ:
39 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْخُرُوجَ بِسَبَبِ الإِْكْرَاهِ لِحُكُومَةٍ لاَ يُفْسِدُ الاِعْتِكَافَ قَبْل تَمَامِ الاِعْتِكَافِ. إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ أَطْلَقُوا الْقَوْل بِأَنَّ الإِْكْرَاهَ لاَ يُفْسِدُ الاِعْتِكَافَ إِذَا دَخَل الْمُعْتَكِفُ مَسْجِدًا آخَرَ مِنْ سَاعَتِهِ. وَهَذَا اسْتِحْبَابٌ مِنْهُمْ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَدْخُل مَسْجِدًا آخَرَ، فَيَبْقَى الْحُكْمُ عَلَى أَصْل الْقِيَاسِ وَهُوَ الْبُطْلاَنُ (3) .
ك - خُرُوجُ الْمُعْتَكِفِ بِغَيْرِ عُذْرٍ:
40 - تَقَدَّمَ أَنَّ خُرُوجَ الْمُعْتَكِفِ إِنْ كَانَ بِعُذْرٍ طَبِيعِيٍّ أَوْ شَرْعِيٍّ جَازَ لَهُ الْخُرُوجُ عَلَى خِلاَفٍ فِي ذَلِكَ.
أَمَّا إِذَا خَرَجَ الْمُعْتَكِفُ بِدُونِ عُذْرٍ فَسَدَ اعْتِكَافُهُ - حَسَبَ اعْتِبَارِ الْفُقَهَاءِ لِلْعُذْرِ وَعَدَمِهِ - وَلَوْ كَانَ زَمَنُ الْخُرُوجِ يَسِيرًا، إِلاَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، فَإِنَّهُمَا قَيَّدَا زَمَنَ الْمُفْسِدِ بِأَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ (4) .
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 458.
(2) الإنصاف 3 / 377، والمجموع 6 / 522 - 523، والفتاوى الهندية 1 / 212، والقوانين الفقهية 85.
(3) الفتاوى الهندية 1 / 212، ومغني المحتاج 1 / 458، والدسوقي 1 / 549، وكشاف القناع 2 / 357.
(4) تبيين الحقائق 1 / 351، وابن عابدين 2 / 133 ط بولاق.(5/224)
ل - حَدُّ الْخُرُوجِ مِنَ الْمَسْجِدِ:
41 - حَدُّ الْخُرُوجِ مِنَ الْمَسْجِدِ أَنْ يَخْرُجَ بِجَمِيعِ جَسَدِهِ، فَإِنْ خَرَجَ بِبَعْضِهِ لَمْ يَضُرَّ، لِقَوْل عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُدْنِي إِلَيَّ رَأْسَهُ وَأَنَا فِي حُجْرَتِي، فَأُرَجِّل رَأْسَهُ وَأَنَا حَائِضٌ (1) .
م - مَا يُعْتَبَرُ مِنَ الْمَسْجِدِ وَمَا لاَ يُعْتَبَرُ:
42 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَسْجِدِ الَّذِي يَصِحُّ فِيهِ الاِعْتِكَافُ، مَا كَانَ بِنَاءً مُعَدًّا لِلصَّلاَةِ فِيهِ.
أَمَّا رَحْبَةُ الْمَسْجِدِ، وَهِيَ سَاحَتُهُ الَّتِي زِيدَتْ بِالْقُرْبِ مِنَ الْمَسْجِدِ لِتَوْسِعَتِهِ، وَكَانَتْ مُحَجَّرًا عَلَيْهَا، فَاَلَّذِي يُفْهَمُ مِنْ كَلاَمِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَمُقَابِل الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ أَنَّهَا مِنَ الْمَسْجِدِ، وَجَمَعَ أَبُو يَعْلَى بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ بِأَنَّ الرَّحْبَةَ الْمَحُوطَةَ وَعَلَيْهَا بَابٌ هِيَ مِنَ الْمَسْجِدِ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ رَحْبَةَ الْمَسْجِدِ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَلَوِ اعْتَكَفَ فِيهَا صَحَّ اعْتِكَافُهُ، وَأَمَّا سَطْحُ الْمَسْجِدِ فَقَدْ قَال ابْنُ قُدَامَةَ: يَجُوزُ لِلْمُعْتَكِفِ صُعُودُ سَطْحِ الْمَسْجِدِ، وَلاَ نَعْلَمُ فِيهِ خِلاَفًا.
أَمَّا الْمَنَارَةُ فَإِنْ كَانَتْ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ بَابِهَا فِيهِ فَهِيَ مِنَ الْمَسْجِدِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
__________
(1) حديث عائشة رضي الله عنها: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدني إلي رأسه. . . " أخرجه البخاري ومسلم واللفظ له (فتح الباري 4 / 272 ط السلفية، وصحيح مسلم 1 / 244 ط عيسى الحلبي) . وانظر كشاف القناع 2 / 360، ومغني المحتاج 1 / 457، وبلغة السالك 1 / 540، وابن عابدين 2 / 133 ط بولاق.(5/224)
وَإِنْ كَانَ بَابُهَا خَارِجَ الْمَسْجِدِ أَوْ فِي رَحْبَتِهِ فَهِيَ مِنْهُ، وَيَصِحُّ فِيهَا الاِعْتِكَافُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَإِنْ كَانَ بَابُهَا خَارِجَ الْمَسْجِدِ فَيَجُوزُ أَذَانُ الْمُعْتَكِفِ فِيهَا، سَوَاءٌ أَكَانَ مُؤَذِّنًا أَمْ غَيْرَهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَقَدْ فَرَّقُوا بَيْنَ الْمُؤَذِّنِ الرَّاتِبِ وَغَيْرِهِ، فَيَجُوزُ لِلرَّاتِبِ الأَْذَانُ فِيهَا وَهُوَ مُعْتَكِفٌ دُونَ غَيْرِهِ، قَال النَّوَوِيُّ: وَهُوَ الأَْصَحُّ (1) .
الثَّالِثُ مِنَ الْمُفْسِدَاتِ - الْجُنُونُ:
43 - إِذَا طَرَأَ عَلَى الْمُعْتَكِفِ الْجُنُونُ، وَكَانَ زَمَنُهُ قَلِيلاً فَإِنَّهُ لاَ يُفْسِدُ الاِعْتِكَافَ فِي قَوْل الْفُقَهَاءِ جَمِيعًا. أَمَّا إِذَا طَال الْجُنُونُ فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَقْطَعُ الاِعْتِكَافَ، وَمَتَى أَفَاقَ بَنَى. وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْقِيَاسَ سُقُوطُ الْقَضَاءِ قِيَاسًا عَلَى سُقُوطِ قَضَاءِ الصَّوْمِ إِذَا جُنَّ، إِلاَّ أَنَّ الاِسْتِحْسَانَ أَنَّهُ يَقْضِي إِذَا طَال جُنُونُهُ سَنَةً فَأَكْثَرَ، وَجْهُ الاِسْتِحْسَانِ أَنَّ سُقُوطَ الْقَضَاءِ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ إِنَّمَا كَانَ لِدَفْعِ الْحَرَجِ، لأَِنَّ الْجُنُونَ إِذَا طَال قَلَّمَا يَزُول، فَيَتَكَرَّرُ عَلَيْهِ صَوْمُ رَمَضَانَ فَيُحْرَجُ فِي قَضَائِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لاَ يَتَحَقَّقُ فِي الاِعْتِكَافِ (2) .
وَاخْتَلَفَ الْحَنَابِلَةُ فِيهِ، هَل يَبْنِي أَوْ يَبْتَدِئُ؟ بِنَاءً عَلَى خِلاَفِهِمْ فِي بُطْلاَنِ الصَّوْمِ (3) .
__________
(1) ابن عابدين 2 / 445، والمجموع 6 / 506 - 507، والإنصاف 3 / 364 - 365، والدسوقي 1 / 547، والزرقاني 2 / 224، وكشاف القناع 2 / 352، والمغني 3 / 197 ط الرياض.
(2) ابن عابدين 2 / 136.
(3) الفروع 3 / 148، والمجموع 6 / 518، والدسوقي 1 / 551، وبدائع الصنائع 3 / 1076.(5/225)
الرَّابِعُ - الرِّدَّةُ:
44 - يَبْطُل الاِعْتِكَافُ بِالرِّدَّةِ عَلَى قَوْلِهِمْ جَمِيعًا، لَكِنْ إِذَا تَابَ وَأَسْلَمَ هَل يَجِبُ اسْتِئْنَافُ الاِعْتِكَافِ؟
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ وُجُوبِ الاِسْتِئْنَافِ بَعْدَ تَوْبَتِهِ، فَيَسْقُطُ عَنْهُ الْقَضَاءُ لَمَّا بَطَل بِرِدَّتِهِ، وَلاَ يَبْنِي عَلَى مَا مَضَى. لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرُ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} (1) وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الإِْسْلاَمُ يَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهُ (2) .
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وُجُوبُ الاِسْتِئْنَافِ (3) .
الْخَامِسُ - السُّكْرُ:
45 - ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ السُّكْرَ بِالْحَرَامِ مُفْسِدٌ لِلاِعْتِكَافِ، وَعَلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِذَا كَانَ بِسَبَبٍ حَرَامٍ. وَلَمْ يَرَهُ الْحَنَفِيَّةُ مُفْسِدًا إِنْ وَقَعَ لَيْلاً، أَمَّا إِنْ كَانَ فِي النَّهَارِ فَإِنَّهُ يُبْطِل الصَّوْمَ فَيَبْطُل الاِعْتِكَافُ، لأَِنَّهُ كَالإِْغْمَاءِ لاَ يَقْطَعُ التَّتَابُعَ. وَأَلْحَقَ الْمَالِكِيَّةُ بِالسُّكْرِ الْحَرَامِ اسْتِعْمَال الْمُخَدِّرِ إِذَا خَدَّرَهُ (4) .
__________
(1) سورة الأنفال / 38.
(2) حديث " الإسلام يجب ما كان قبله. . . " أخرجه ابن سعد في الطبقات من حديث الزبير بن العوام وجبير بن مطعم، وعزاه المناوي إلى الطبراني وحكم عليه الألباني بالصحة. (فيض القدير 3 / 179 - 180 ط المكتبة التجارية، وصحيح الجامع الصغير بتحقيق الألباني 2 / 411 نشر المكتب الإسلامي) .
(3) مغني المحتاج 1 / 455، وكشاف القناع 2 / 362، وبدائع الصنائع 3 / 1076، والشرح الكبير مع الدسوقي 1 / 543.
(4) بدائع الصنائع 3 / 1074، والدسوقي مع الشرح الكبير 1 / 544، ومغني المحتاج 1 / 454 - 455، وكشاف القناع 2 / 362.(5/225)
السَّادِسُ: الْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ:
46 - يَجِبُ عَلَى الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ الْخُرُوجُ مِنَ الْمَسْجِدِ، إِذْ يَحْرُمُ عَلَيْهِمَا الْمُكْثُ فِيهِ، وَلأَِنَّ الْحَيْضَ وَالنِّفَاسَ يَقْطَعَانِ الصِّيَامَ.
وَالْحَائِضُ وَالنُّفَسَاءُ يَبْنِيَانِ وُجُوبًا وَفَوْرًا - فِي نَذْرِ الاِعْتِكَافِ الْمُتَتَابِعِ - بِمُجَرَّدِ زَوَال الْعُذْرِ، فَإِذَا تَأَخَّرَتَا بَطَل الاِعْتِكَافُ. وَلاَ يُحْسَبُ زَمَنُ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسُ مِنَ الاِعْتِكَافِ.
وَأَمَّا الْمُسْتَحَاضَةُ، فَإِنَّهَا إِنْ أَمِنَتِ التَّلْوِيثَ لَمْ تَخْرُجْ عَنِ اعْتِكَافِهَا، فَإِنْ خَرَجَتْ بَطَل اعْتِكَافُهَا (1) .
وَشَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ لِعَدَمِ انْقِطَاعِ الاِعْتِكَافِ بِالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ أَلاَّ تَكُونَ مُدَّةُ الاِعْتِكَافِ بِحَيْثُ تَخْلُو عَنِ الْحَيْضِ، فَإِنْ كَانَتْ مُدَّةُ الاِعْتِكَافِ بِحَيْثُ تَخْلُو عَنِ الْحَيْضِ انْقَطَعَ التَّتَابُعُ فِي الأَْظْهَرِ، لإِِمْكَانِ الْمُوَالاَةِ بِشُرُوعِهَا عَقِبَ الطُّهْرِ، وَالْقَوْل الثَّانِي: لاَ يَنْقَطِعُ، لأَِنَّ جِنْسَ الْحَيْضِ مِمَّا يَتَكَرَّرُ فِي الْجُمْلَةِ، فَلاَ يُؤَثِّرُ فِي التَّتَابُعِ كَقَضَاءِ الْحَاجَةِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: تَخْرُجُ الْمَرْأَةُ لِلْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ إِلَى بَيْتِهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ، لِلْمَسْجِدِ رَحْبَةٌ عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي كُتُبِهِمْ (2) .
مَا يُبَاحُ لِلْمُعْتَكِفِ وَمَا يُكْرَهُ لَهُ:
47 - كَرِهَ الْعُلَمَاءُ لِلْمُعْتَكِفِ فُضُول الْقَوْل وَالْعَمَل
__________
(1) بلغة السالك مع الشرح الصغير 1 / 548، ومغني المحتاج 1 / 455، 458، وابن عابدين 2 / 133 ط بولاق، والإنصاف 3 / 374، وكشاف القناع 2 / 358، وحاشية الطحطاوي على الدر المختار 1 / 473.
(2) مغني المحتاج 1 / 455، 458، والإنصاف 3 / 374.(5/226)
مَعَ اخْتِلاَفِهِمْ فِيمَا يُعْتَبَرُ مَكْرُوهًا أَوْ مُبَاحًا عَلَى التَّفْصِيل التَّالِي:
أ - الأَْكْل وَالشُّرْبُ وَالنَّوْمُ:
يُبَاحُ لِلْمُعْتَكِفِ الأَْكْل وَالشُّرْبُ وَالنَّوْمُ فِي الْمَسْجِدِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا.
وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ اعْتِكَافَ مَنْ لاَ يَجِدُ مَنْ يَأْتِيهِ بِحَاجَتِهِ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ مَكْرُوهٌ. أَمَّا النَّوْمُ لِلْمُعْتَكِفِ فَمَحَلُّهُ الْمَسْجِدُ، لأَِنَّ خُرُوجَهُ لِلنَّوْمِ لَيْسَ بِعُذْرٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ أَنَّ الْخُرُوجَ لِلنَّوْمِ جَائِزٌ (1) .
ب - الْعُقُودُ وَالصَّنَائِعُ فِي الْمَسْجِدِ:
48 - يُبَاحُ عَقْدُ الْبَيْعِ وَعَقْدُ النِّكَاحِ وَالرَّجْعَةِ، وَبِذَلِكَ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِذَا احْتَاجَ إِلَيْهِ لِنَفْسِهِ أَوْ عِيَالِهِ، فَلَوْ لِتِجَارَةٍ كُرِهَ، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لاَ يَجُوزُ لِلْمُعْتَكِفِ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ إِلاَّ لِمَا لاَ بُدَّ لَهُ مِنْهُ خَارِجَ الْمَسْجِدِ مِنْ غَيْرِ وُقُوفٍ لِذَلِكَ.
أَمَّا إِذَا خَرَجَ لأَِجْلِهَا فَسَدَ اعْتِكَافُهُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَجُوزُ أَنْ يَنْكِحَ لِنَفْسِهِ، وَأَنْ يُنْكِحَ مَنْ فِي وِلاَيَتِهِ فِي مَجْلِسِهِ دَاخِل الْمَسْجِدِ بِغَيْرِ انْتِقَالٍ وَلاَ طُول مُدَّةٍ، وَإِلاَّ كُرِهَ (2) .
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ إِحْضَارَ الْمَبِيعِ فِي الْمَسْجِدِ مَكْرُوهٌ تَحْرِيمًا، لأَِنَّ الْمَسْجِدَ مُحَرَّزٌ عَنْ مِثْل ذَلِكَ (3) .
49 - وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى كَرَاهَةِ الْكِتَابَةِ لِلْمُعْتَكِفِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 448، والدسوقي 1 / 547 - 548، وكشاف القناع 2 / 356، ومغني المحتاج 1 / 457 - 458.
(2) ابن عابدين 2 / 448 - 449، والدسوقي 1 / 548، ومغني المحتاج 1 / 452، وكشاف القناع 2 / 362، والمغني 3 / 209 ط الرياض.
(3) ابن عابدين 2 / 449.(5/226)
وَإِنْ كَانَ مُصْحَفًا أَوْ عِلْمًا إِنْ كَثُرَ، وَلاَ بَأْسَ بِالْيَسِيرِ وَإِنْ كَانَ تَرْكُهُ أَوْلَى.
وَعَنِ ابْنِ وَهْبٍ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ كِتَابَةُ الْمُصْحَفِ لِلثَّوَابِ لاَ لِلأُْجْرَةِ، بَل لِيَقْرَأَ فِيهِ وَيَنْتَفِعَ مَنْ كَانَ مُحْتَاجًا.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُكْرَهُ لِلْمُعْتَكِفِ الصَّنَائِعُ فِي الْمَسْجِدِ كَالْخِيَاطَةِ وَالْكِتَابَةِ مَا لَمْ يَكْثُرْ مِنْهَا، فَإِنْ أَكْثَرَ مِنْهَا كُرِهَتْ لِحُرْمَتِهِ، إِلاَّ كِتَابَةُ الْعِلْمِ، فَلاَ يُكْرَهُ الإِْكْثَارُ مِنْهَا، لأَِنَّهَا طَاعَةٌ لِتَعْلِيمِ الْعِلْمِ.
أَمَّا إِذَا احْتَرَفَ الْخِيَاطَةَ وَالْمُعَاوَضَاتِ مِنْ بَيْعٍ وَشِرَاءٍ بِلاَ حَاجَةٍ فَتُكْرَهُ وَإِنْ قَلَّتْ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَحْرُمُ التَّكَسُّبُ بِالصَّنْعَةِ فِي الْمَسْجِدِ، كَالْخِيَاطَةِ وَغَيْرِهَا وَالْكَثِيرُ وَالْقَلِيل وَالْمُحْتَاجُ وَغَيْرُهُ سَوَاءٌ (2) .
ج - الصَّمْتُ:
50 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الصَّمْتَ مَكْرُوهٌ تَحْرِيمًا حَالَةَ الاِعْتِكَافِ إِنِ اعْتَقَدَهُ قُرْبَةً، أَمَّا إِذَا لَمْ يَعْتَقِدْهُ قُرْبَةً فَلاَ، لِحَدِيثِ مَنْ صَمَتَ نَجَا (3) وَيَجِبُ الصَّمْتُ عَنِ الْغَيْبَةِ وَإِنْشَادِ الشِّعْرِ الْقَبِيحِ وَتَرْوِيجِ سِلْعَةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
__________
(1) الدسوقي 1 / 548، ومغني المحتاج 1 / 452.
(2) الإنصاف 3 / 386.
(3) حديث: " من صمت نجا. . . " أخرجه الترمذي من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعا وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة، وأبو عبد الرحمن الحبلي هو عبد الله بن يزيد. وأورده المنذري في الترغيب والترهيب وقال: رواه الترمذي وقال: حديث غريب. والطبران (سنن الترمذي 4 / 660 ط استانبول، والترغيب والترهيب 5 / 170 ط مطبعة السعادة) .(5/227)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ التَّقَرُّبَ بِالصَّمْتِ لَيْسَ مِنْ شَرِيعَةِ الإِْسْلاَمِ. قَال ابْنُ عَقِيلٍ: يُكْرَهُ الصَّمْتُ إِلَى اللَّيْل. وَقَال الْمُوَفَّقُ وَالْمَجْدُ: ظَاهِرُ الأَْخْبَارِ تَحْرِيمُهُ، وَجَزَمَ بِهِ فِي الْكَافِي، قَال فِي الاِخْتِيَارَاتِ: وَالتَّحْقِيقُ فِي الصَّمْتِ أَنَّهُ إِنْ طَال حَتَّى تَضَمَّنَ تَرْكَ الْكَلاَمِ الْوَاجِبِ صَارَ حَرَامًا، وَكَذَا إِنْ تَعَمَّدَ بِالصَّمْتِ عَنِ الْكَلاَمِ الْمُسْتَحَبِّ، وَالْكَلاَمُ الْمُحَرَّمُ يَجِبُ الصَّمْتُ عَنْهُ، وَفُضُول الْكَلاَمِ يَنْبَغِي الصَّمْتُ عَنْهَا، وَإِنْ نَذَرَ الصَّمْتَ لَمْ يَفِ بِهِ، لِحَدِيثِ عَلِيٍّ قَال: " حَفِظْتُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: لاَ صُمَاتَ يَوْمٍ إِلَى اللَّيْل (1) .
د - الْكَلاَمُ:
51 - يَنْبَغِي لِلْمُعْتَكِفِ أَلاَّ يَتَكَلَّمَ إِلاَّ بِخَيْرٍ، وَأَنْ يَشْتَغِل بِالْقُرْآنِ وَالْعِلْمِ وَالصَّلاَةِ عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالذِّكْرِ، لأَِنَّهُ طَاعَةٌ فِي طَاعَةٍ، وَكَتَدْرِيسِ سِيرَةِ الرَّسُول عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقَصَصِ الأَْنْبِيَاءِ وَحِكَايَاتِ الصَّالِحِينَ.
قَال الْحَنَفِيَّةُ: يُكْرَهُ لِلْمُعْتَكِفِ تَحْرِيمًا التَّكَلُّمُ إِلاَّ بِخَيْرٍ، وَهُوَ مَا لاَ إِثْمَ فِيهِ.
__________
(1) ابن عابدين 2 / 449، وكشاف القناع 2 / 362 - 363، وحديث: " لا صمات يوم إلى الليل. . . " أخرجه أبو داود من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال المنذري: في إسناده محمد بن المدني الجاري، قال البخاري: يتكلمون فيه، وقال ابن حبان: يجب التنكب على ما أخذه من الروايات. وذكر العقيلي هذا الحديث وذكر أن وفيض القدير 6 / 444 ط المكتبة التجارية) .(5/227)
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الاِشْتِغَال بِغَيْرِ الذِّكْرِ وَالتِّلاَوَةِ وَالصَّلاَةِ مَكْرُوهٌ، أَمَّا هَذِهِ الثَّلاَثَةُ فَفِعْلُهَا مُسْتَحَبٌّ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يُسْتَحَبُّ لَهُ اجْتِنَابُ مَا لاَ يَعْنِيهِ مِنْ جِدَالٍ وَمِرَاءٍ وَكَثْرَةِ كَلاَمٍ وَغَيْرِهِ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ حُسْنِ إِسْلاَمِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لاَ يَعْنِيهِ (1) ، لأَِنَّهُ مَكْرُوهٌ فِي غَيْرِ الاِعْتِكَافِ فَفِيهِ أَوْلَى.
رَوَى الْخَلاَّل عَنْ عَطَاءٍ قَال: " كَانُوا يَكْرَهُونَ فُضُول الْكَلاَمِ، وَكَانُوا يَعُدُّونَ فُضُول الْكَلاَمِ: مَا عَدَا كِتَابَ اللَّهِ أَنْ تَقْرَأَهُ، أَوْ أَمْرًا بِمَعْرُوفٍ، أَوْ نَهْيًا عَنْ مُنْكَرٍ، أَوْ تَنْطِقُ فِي مَعِيشَتِكَ بِمَا لاَ بُدَّ لَكَ مِنْهُ " (2) .
وَيُكْرَهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لِلْمُعْتَكِفِ الاِشْتِغَال بِتَدْرِيسِ الْعِلْمِ وَمُنَاظَرَةِ الْفُقَهَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ الْعِبَادَاتِ الَّتِي يَخْتَصُّ نَفْعُهَا بِهِ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَعْتَكِفُ، فَلَمْ يُنْقَل عَنْهُ الاِشْتِغَال بِغَيْرِ الْعِبَادَاتِ الْمُخْتَصَّةِ بِهِ.
وَعِنْدَ ابْنِ وَهْبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَأَبِي الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ اسْتِحْبَابُ ذَلِكَ لأَِنَّهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْبِرِّ إِذَا قَصَدَ الطَّاعَةَ لاَ الْمُبَاهَاةَ (3) .
__________
(1) حديث: " من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه. . . " أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من هذا الوجه. وأخرجه مالك والترمذي عن طريقه من حديث علي ب (تحفة الأحوذي 6 / 606 - 609 نشر المكتبة السلفية، والموطأ للإمام مالك 2 / 903 ط عيسى الحلبي) .
(2) ابن عابدين 2 / 449 - 450، والدسوقي 1 / 548، والجمل 2 / 364، وكشاف القناع 2 / 362.
(3) الدسوقي 1 / 548، وكشاف القناع 2 / 363 - 364.(5/228)
هـ - الطِّيبُ وَاللِّبَاسُ
52 - يَجُوزُ لِلْمُعْتَكِفِ أَنْ يَتَطَيَّبَ بِأَنْوَاعِ الطِّيبِ فِي لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، سَوَاءٌ أَكَانَ رَجُلاً أَمِ امْرَأَةً عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي مَذْهَبِهِمْ.
وَكَذَا يَجُوزُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ أَخْذُ الظُّفْرِ وَالشَّارِبِ، وَقَيَّدَ الْمَالِكِيَّةُ الْجَوَازَ بِكَوْنِهِ خَارِجَ الْمَسْجِدِ إِذَا خَرَجَ لِعُذْرٍ.
أَمَّا حَلْقُ الرَّأْسِ، فَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُكْرَهُ مُطْلَقًا إِلاَّ أَنْ يَتَضَرَّرَ.
وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ التَّصْرِيحَ بِجَوَازِ لُبْسِ الثِّيَابِ الْحَسَنَةِ، لأَِصْل الإِْبَاحَةِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يُسْتَحَبُّ لِلْمُعْتَكِفِ تَرْكُ لُبْسِ رَفِيعِ الثِّيَابِ، وَالتَّلَذُّذُ بِمَا يُبَاحُ لَهُ قَبْل الاِعْتِكَافِ، وَيُكْرَهُ لَهُ الطِّيبُ. قَال أَحْمَدُ: لاَ يُعْجِبُنِي أَنْ يَتَطَيَّبَ (1) .
اعْتِمَارٌ
انْظُرْ: عُمْرَةٌ.
اعْتِمَامٌ
انْظُرْ: عِمَامَةٌ.
__________
(1) الدسوقي 1 / 549، ومغني المحتاج 1 / 452، وكشاف القناع 2 / 364.(5/228)
اعْتِنَاقٌ
انْظُرْ: مُعَانَقَةٌ، اعْتِقَادٌ.
اعْتِيَادٌ
اُنْظُرْ: عَادَةٌ.
اعْتِيَاضٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِعْتِيَاضُ لُغَةً: أَخْذُ الْعِوَضِ، وَالاِسْتِعَاضَةُ: طَلَبُ الْعِوَضِ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الاِسْتِعْمَال الْفِقْهِيُّ عَنْ ذَلِكَ، وَقَدْ يُطْلِقُ الْفُقَهَاءُ الاِسْتِعَاضَةَ عَلَى أَخْذِ الْعِوَضِ.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - الاِعْتِيَاضُ نَوْعٌ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الْمَشْرُوعَةِ عَلَى سَبِيل الْجَوَازِ فِي الْجُمْلَةِ إِذَا كَانَ صَادِرًا مِمَّنْ هُوَ أَهْلٌ لِلتَّصَرُّفِ فِيمَا يَجُوزُ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ، إِلاَّ فِيمَا يُخَالِفُ الشَّرْعَ، أَوْ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ. وَدَلِيل ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ
__________
(1) المصباح المنير، ومختار الصحاح (عوض) .(5/229)
بِالْبَاطِل إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (1) وقَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} (2) ، وقَوْله تَعَالَى: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (3) وقَوْله تَعَالَى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} (4) ، وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إِلاَّ صُلْحًا حَرَّمَ حَلاَلاً أَوْ أَحَل حَرَامًا (5) .
وَالْحِكْمَةُ تَقْتَضِي ذَلِكَ لِلتَّعَاوُنِ، وَلِتَعَلُّقِ حَاجَةِ الإِْنْسَانِ بِمَا فِي يَدِ صَاحِبِهِ وَلاَ يَبْذُلُهُ لَهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَمُرَاعَاةُ حَاجَةِ النَّاسِ أَصْلٌ فِي شَرْعِ الْعُقُودِ (6) .
وَقَدْ تَعْرِضُ لَهُ الأَْحْكَامُ التَّكْلِيفِيَّةُ، فَيَكُونُ وَاجِبًا
__________
(1) سورة النساء / 29.
(2) سورة الطلاق / 6.
(3) سورة البقرة / 229.
(4) سورة النور / 33.
(5) حديث " الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا حرم حلالا أو أحل حراما ". أخرجه الترمذي وابن ماجه من حديث عمرو بن عوف المزني، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وأخرجه الحاكم وابن حبان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقد نوقش الترمذي في تصحيحه هذا الحديث، لأن وسنن ابن ماجه 2 / 788 ط عيسى الحلبي، والمستدرك 2 / 49، وموارد الظمآن ص 291، نشر دار الكتب العلمية، ونيل الأوطار 5 / 378، 379 ط دار الجيل) .
(6) منتهى الإرادات 2 / 140، 350، 3 / 107 ومنح الجليل 2 / 462، 3 / 736، وبداية المجتهد 2 / 66 ط الحلبي ثالثة، والبدائع 4 / 174، والمبسوط 15 / 75، والاختيار 4 / 35، والمغني 3 / 560، ونهاية المحتاج 3 / 364، وقليوبي 3 / 307، والفواكه الدواني 2 / 312.(5/229)
كَمَا إِذَا أَخْرَجَ الْوَلِيُّ أَوِ الْوَصِيُّ أَوِ النَّاظِرُ شَيْئًا مِمَّا بِيَدِهِمْ، فَيَجِبُ عَلَيْهِمُ الاِعْتِيَاضُ عَنْهُ، لِمَنْعِهِمْ مِنَ التَّبَرُّعِ (1) .
وَقَدْ يَكُونُ مَنْدُوبًا كَالاِسْتِجَابَةِ لِحَالِفٍ عَلَيْهِ فِيمَا لاَ ضَرَرَ فِيهِ، لأَِنَّ إِبْرَارَ الْقَسَمِ مَنْدُوبٌ (2) . وَقَدْ يَكُونُ حَرَامًا كَأَخْذِ ثَمَنِ الْخَمْرِ، وَالْخِنْزِيرِ، وَمَهْرِ الْبَغِيِّ، وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ، وَكَأَخَذِ الأُْجْرَةِ عَلَى الْمَعَاصِي (3) . وَهَكَذَا كُل مُعَاوَضَةٍ خَالَفَتْ أَمْرَ الشَّارِعِ.
وَكَأَخَذِ بَدَل الْخُلْعِ إِنْ عَضَلَهَا الزَّوْجُ، أَيْ ضَايَقَهَا بِدُونِ سَبَبٍ مِنْ جِهَتِهَا لِتَخْتَلِعَ مِنْهُ (4) .
مَا يَجْرِي فِيهِ الاِعْتِيَاضُ وَأَسْبَابُهُ:
3 - الاِعْتِيَاضُ يَجْرِي فِي كُل مَا يَمْلِكُهُ الإِْنْسَانُ مِنْ عَيْنٍ، أَوْ دَيْنٍ، أَوْ مَنْفَعَةٍ، أَوْ حَقٍّ إِذَا كَانَ ذَلِكَ مُوَافِقًا لِلْقَوَاعِدِ الْعَامَّةِ لِلشَّرْعِ.
وَالأَْصْل فِي الأَْعْوَاضِ وُجُوبُهَا بِالْعُقُودِ فَإِنَّهَا أَسْبَابُهَا، وَالأَْصْل تَرَتُّبُ الْمُسَبَّبَاتِ عَلَى أَسْبَابِهَا.
وَالاِعْتِيَاضُ يَتِمُّ بِوَاسِطَةِ عَقْدٍ بَيْنَ طَرَفَيْنِ وَهُوَ مَا يُسَمَّى بِعُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ الَّتِي يَتِمُّ الْعَقْدُ فِيهَا عَلَى الْمِلْكِ كَالْبَيْعِ، أَوْ عَلَى الْمَنْفَعَةِ كَالإِْجَارَةِ وَالْجِعَالَةِ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا يَتِمُّ ضِمْنَ عُقُودٍ أُخْرَى، كَالصُّلْحِ بِأَقْسَامِهِ الْمَعْرُوفَةِ، وَكَهِبَةِ الثَّوَابِ.
وَيُلْحَقُ بِذَلِكَ الإِْسْقَاطُ بِعِوَضٍ، كَالْخُلْعِ، وَكِتَابَةِ الْعَبْدِ، وَالاِعْتِيَاضِ عَنِ الْحُقُوقِ الَّتِي لَيْسَتْ بِعَيْنٍ وَلاَ دَيْنٍ وَلاَ مَنْفَعَةٍ كَحَقِّ الْقِصَاصِ.
__________
(1) حاشية الدسوقي 3 / 300، 301، والمهذب 1 / 335.
(2) منح الجليل 2 / 462.
(3) ابن عابدين 4 / 6، والشرح الصغير 4 / 11.
(4) الاختيار 3 / 157.(5/230)
يَقُول الْقَرَافِيُّ: تَصَرُّفَاتُ الْمُكَلَّفِينَ إِمَّا نَقْلٌ أَوْ إِسْقَاطٌ أَوْ. . . إِلَخْ.
وَالنَّقْل يَنْقَسِمُ إِلَى مَا هُوَ بِعِوَضٍ فِي الأَْعْيَانِ كَالْبَيْعِ وَالْقَرْضِ، أَوْ فِي الْمَنَافِعِ كَالإِْجَارَةِ، وَيَنْدَرِجُ فِيهَا الْمُسَاقَاةُ وَالْقِرَاضُ وَالْمُزَارَعَةُ وَالْجِعَالَةُ، وَإِلَى مَا هُوَ بِغَيْرِ عِوَضٍ كَالْهَدَايَا وَالْوَصَايَا. . . إِلَخْ. وَالإِْسْقَاطُ إِمَّا بِعِوَضٍ كَالْخُلْعِ وَالْعَفْوِ عَلَى مَالٍ وَالْكِتَابَةِ، أَوْ بِغَيْرِ عِوَضٍ كَالإِْبْرَاءِ مِنَ الدُّيُونِ. . . إِلَخْ (1) .
أَقْسَامُ الْمُعَاوَضَاتِ:
4 - الْمُعَاوَضَاتُ قِسْمَانِ:
أ - مُعَاوَضَاتٌ مَحْضَةٌ: وَهِيَ مَا يُقْصَدُ فِيهَا الْمَال مِنَ الْجَانِبَيْنِ، وَالْمُرَادُ بِالْمَال مَا يَشْمَل الْمَنْفَعَةَ، كَالْبَيْعِ وَالإِْجَارَةِ، وَهَذِهِ الْعُقُودُ يَفْسُدُ الْعَقْدُ فِيهَا بِفَسَادِ الْعِوَضِ. (2)
ب - مُعَاوَضَاتٌ غَيْرُ مَحْضَةٍ: وَهِيَ مَا يُقْصَدُ فِيهَا الْمَال مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ كَالْخُلْعِ. وَهَذِهِ لاَ يَفْسُدُ الْعَقْدُ فِيهَا بِفَسَادِ الْعِوَضِ.
وَلِكُل عَقْدٍ مِنْ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ - سَوَاءٌ أَكَانَتْ مَحْضَةً أَمْ غَيْرَ مَحْضَةٍ - أَرْكَانُهُ وَشَرَائِطُهُ الْخَاصَّةُ وَتُنْظَرُ فِي أَبْوَابِهَا.
شَرَائِطُ إِجْمَالِيَّةٌ لِلاِعْتِيَاضِ:
5 - فِي الْجُمْلَةِ يَجِبُ أَنْ يَتَوَافَرَ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ الْمَحْضَةِ مَا يَأْتِي:
__________
(1) الذخيرة ص 151، 152، نشر وزارة الأوقاف بالكويت، والمنثور في القواعد 3 / 227، 228، نشر وزارة الأوقاف بالكويت.
(2) المنثور في القواعد 2 / 403، 3 / 185، 186، وإعلام الموقعين 2 / 4.(5/230)
أ - أَنْ يَكُونَ مَحَل الْعَقْدِ مِمَّا يُمْكِنُ تَطْبِيقُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ عَلَيْهِ، وَيَصْلُحُ لاِسْتِيفَائِهِ مِنْهُ، فَلاَ يَجُوزُ الاِعْتِيَاضُ عَمَّا لاَ يَصْلُحُ مَحَلًّا لِلْعَقْدِ، كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ، وَلاَ عَنِ الْمَعْدُومِ كَنِتَاجِ النِّتَاجِ، وَلاَ عَنِ الْمُبَاحَاتِ كَالْكَلأَِ، وَلاَ الإِْجَارَةِ عَلَى الْمَعَاصِي وَهَكَذَا.
ب - أَنْ يَكُونَ مَحَل الْعَقْدِ خَالِيًا مِنَ الْغَرَرِ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى النِّزَاعِ وَالْخِلاَفِ، فَلاَ يَجُوزُ عَقْدُ اعْتِيَاضٍ عَلَى الْجَمَل الشَّارِدِ، وَالسَّمَكِ فِي الْمَاءِ، وَالطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ، وَهَكَذَا.
ج - أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ خَالِيًا مِنَ الرِّبَا.
وَالْعِوَضُ وَالْمُعَوَّضُ فِيمَا مَرَّ سَوَاءٌ. (1)
وَلاَ يَخْلُو الأَْمْرُ عِنْدَ تَفْصِيل ذَلِكَ وَتَطْبِيقِهِ عَلَى الْفُرُوعِ وَالْجُزْئِيَّاتِ مِنِ اخْتِلاَفِ الْفُقَهَاءِ وَتَشَعُّبِ آرَائِهِمْ فِيهِ، يَقُول الْكَاسَانِيُّ: الْعِوَضُ فِي الْمُعَاوَضَاتِ الْمُطْلَقَةِ قَدْ يَكُونُ عَيْنًا، وَقَدْ يَكُونُ دَيْنًا، وَقَدْ يَكُونُ مَنْفَعَةً، إِلاَّ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ فِي بَعْضِ الأَْعْوَاضِ فِي بَعْضِ الأَْحْوَال دُونَ بَعْضٍ. (2)
فَمَثَلاً صِفَةُ الْجَوْدَةِ فِي الأَْمْوَال يَجُوزُ الاِعْتِيَاضُ عَنْهَا، لَكِنَّ ذَلِكَ سَاقِطٌ فِي الأَْمْوَال الرِّبَوِيَّةِ تَعَبُّدًا (3) لِمَا وَرَدَ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: جَيِّدُهَا وَرَدِيئُهَا سَوَاءٌ (4)
__________
(1) البدائع 5 / 138 وما بعدها، وابن عابدين 4 / 5، 6 والهداية 3 / 61، 231، 240، وبداية المجتهد 2 / 125 ط الحلبي ثالثة، ومنح الجليل 2 / 478، 479، 3 / 778 وما بعدها، والمهذب 1 / 268 وما بعدها، 401، والمغني 4 / 221 - 283، ومنتهى الإرادات 2 / 351.
(2) البدائع 6 / 42.
(3) البدائع 6 / 46، والمغني 4 / 42.
(4) حديث: " جيدها ورديئها سواء ". أورده الزيلعي في نصب الراية واستغربه وقال: ومعناه يؤخذ من إطلاق حديث أبي سعيد. وحديث أبي سعيد الخدري أخرجه البخاري بلفظ " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلا على خيبر فجاءه بتمر جنيب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أكل تمر خيبر هكذا؟ قال: لا والله يا رسول الله إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة، فق (نصب الراية 4 / 37، وفتح الباري 4 / 399، 400 ط السلفية) .(5/231)
فَبَقِيَتْ مُتَقَوَّمَةً فِي غَيْرِهَا عَلَى الأَْصْل.
6 - أَمَّا فِي الْمُعَاوَضَاتِ غَيْرِ الْمَحْضَةِ، فَإِنَّهُ يُتَسَامَحُ فِيهَا مَا لاَ يُتَسَامَحُ فِي غَيْرِهَا، وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ:
أ - مَا جَاءَ فِي شَرْحِ مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ: يَصِحُّ الْخُلْعُ عَلَى مَا لاَ يَصِحُّ مَهْرًا لِجَهَالَةٍ أَوْ غَرَرٍ، لأَِنَّ الْخُلْعَ إِسْقَاطُ حَقِّهِ مِنَ الْبُضْعِ، وَالإِْسْقَاطُ يَدْخُلُهُ الْمُسَامَحَةُ. وَمِثْل ذَلِكَ فِي مِنَحِ الْجَلِيل. (1)
ب - مَا جَاءَ فِي الْعِنَايَةِ بِهَامِشِ تَكْمِلَةِ فَتْحِ الْقَدِيرِ: لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْعِوَضِ فِي الْهِبَةِ أَنْ يُسَاوِيَ الْمَوْهُوبَ، بَل الْقَلِيل وَالْكَثِيرُ، الْجِنْسُ وَخِلاَفُهُ سَوَاءٌ، لأَِنَّهَا لَيْسَتْ بِمُعَاوَضَةٍ مَحْضَةٍ فَلاَ يَتَحَقَّقُ فِيهَا الرِّبَا. (2)
وَفِي الدُّسُوقِيِّ عَلَى الشَّرْحِ الْكَبِيرِ: هِبَةُ الثَّوَابِ تَجُوزُ مَعَ جَهْل عِوَضِهَا وَجَهْل أَجَلِهِ. (3)
ج - مَا قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ: الْكِتَابَةُ بِالْغَرَرِ جَائِزَةٌ، كَآبِقٍ وَشَارِدٍ وَثَمَرٍ لَمْ يَبْدُ صَلاَحُهُ. (4)
7 - فِي الاِعْتِيَاضِ عَنِ الْحُقُوقِ يَجِبُ مُرَاعَاةُ الآْتِي:
أ - لاَ يَجُوزُ الاِعْتِيَاضُ عَنْ حَقِّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، كَحَدِّ الزِّنَى وَشُرْبِ الْخَمْرِ. (5)
ب - لاَ يَجُوزُ الاِعْتِيَاضُ عَنِ حَقِّ الْغَيْرِ كَنَسَبِ
__________
(1) منتهى الإرادات 3 / 112 ومنح الجليل 2 / 184.
(2) العناية بهامش فتح القدير 7 / 504.
(3) الدسوقي 4 / 116.
(4) منح الجليل 4 / 607.
(5) الهداية 3 / 194، وكشاف القناع 3 / 400، 401.(5/231)
الصَّغِيرِ. (1)
ج - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الاِعْتِيَاضُ عَنِ الْحُقُوقِ الَّتِي ثَبَتَتْ لإِِزَالَةِ الضَّرَرِ، وَهِيَ مَا تُسَمَّى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بِالْحُقُوقِ الْمُجَرَّدَةِ، كَحَقِّ الشُّفْعَةِ، وَهِبَةِ الزَّوْجَةِ لَيْلَتَهَا لإِِحْدَى ضَرَائِرِهَا. وَيَجُوزُ ذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ (2) . (ر: إِسْقَاطٌ) .
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
8 - الاِعْتِيَاضُ يَأْتِي فِي كَثِيرٍ مِنْ أَبْوَابِ الْفِقْهِ، كَالْبَيْعِ، وَالإِْجَارَةِ، وَالصُّلْحِ، وَالْهِبَةِ، وَالْخُلْعِ.
أَعْجَمِيٌّ
التَّعْرِيفُ:
1 - الأَْعْجَمِيُّ هُوَ مَنْ لاَ يُفْصِحُ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِنَ الْعَجَمِ أَمْ مِنَ الْعَرَبِ. أَمَّا الْعَجَمِيُّ فَهُوَ مَنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْعَرَبِ، سَوَاءٌ أَكَانَ فَصِيحَا أَمْ غَيْرَ فَصِيحٍ، وَأَصْل الْكَلِمَةِ: الأَْعْجَمُ، وَهُوَ مَنْ لاَ يُفْصِحُ وَإِنْ كَانَ عَرَبِيًّا فَيَاءُ النِّسْبَةِ فِي الأَْعْجَمِيِّ لِلتَّوْكِيدِ. وَجَمْعُهُ أَعْجَمِيُّونَ، وَغَالِبًا مَا يُطْلَقُ عَلَى غَيْرِ الْعَرَبِيِّ مِمَّنْ يَنْطِقُ بِلُغَاتٍ أُخْرَى مِنَ اللُّغَاتِ
__________
(1) الهداية 3 / 194، والبدائع 6 / 48، 49.
(2) ابن عابدين 4 / 14، 15، وأشباه ابن نجيم / 212، وكشاف القناع 3 / 401، ونهاية المحتاج 5 / 217، 6 / 382، ومنتهى الإرادات 3 / 102، وفتح العلي المالك 1 / 307، 313.(5/232)
الْمُخْتَلِفَةِ فِي الْعَالَمِ. (1) وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ عَنْ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ اللُّغَوِيَّيْنِ.
2 - الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الأَْعْجَمُ:
مِنْ مَعَانِي الأَْعْجَمِ أَيْضًا: مَنْ لاَ يَنْطِقُ مِنْ إِنْسَانٍ أَوْ حَيَوَانٍ. وَمُؤَنَّثُهُ عَجْمَاءُ.
ب - اللَّحَّانُ:
وَهُوَ الْعَرَبِيُّ الَّذِي يَمِيل عَنْ جِهَةِ الاِسْتِقَامَةِ فِي الْكَلاَمِ (2) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
3 - جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الأَْعْجَمِيَّ إِنْ كَانَ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ فَإِنَّهُ لاَ يُجْزِئُهُ التَّكْبِيرُ بِغَيْرِهَا مِنَ اللُّغَاتِ، وَالدَّلِيل أَنَّ النُّصُوصَ أَمَرَتْ بِذَلِكَ اللَّفْظِ، وَهُوَ عَرَبِيٌّ، وَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَعْدِل عَنْهَا.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ يُجْزِئُهُ وَلَوْ كَانَ يُحْسِنُهَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} (3) وَهَذَا قَدْ ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ، وَلَكِنْ يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ.
أَمَّا إِنْ كَانَ الأَْعْجَمِيُّ لاَ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ، وَلَمْ يَكُنْ قَادِرًا عَلَى النُّطْقِ بِهَا، فَإِنَّهُ يُجْزِئُهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ التَّكْبِيرُ بِلُغَتِهِ بَعْدَ تَرْجَمَةِ مَعَانِيهَا بِالْعَرَبِيَّةِ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، أَيًّا كَانَتْ تِلْكَ اللُّغَةُ، لأَِنَّ التَّكْبِيرَ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى، وَذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى يَحْصُل بِكُل لِسَانٍ، فَاللُّغَةُ غَيْرُ الْعَرَبِيَّةِ بَدِيلٌ لِذَلِكَ. وَيَلْزَمُهُ تَعَلُّمُ ذَلِكَ.
__________
(1) المصباح المنير، والمغرب مادة: (عجم) .
(2) الكليات لأبي البقاء، ولسان العرب المحيط مادة: (لحن) .
(3) سورة الأعلى / 15.(5/232)
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، أَنَّهُ إِذَا عَجَزَ عَنِ التَّكْبِيرِ بِالْعَرَبِيَّةِ سَقَطَ عَنْهُ، وَيَكْتَفِي مِنْهُ بِنِيَّةِ الدُّخُول فِي الصَّلاَةِ. (1) وَعَلَى هَذَا الْخِلاَفِ جَمِيعُ أَذْكَارِ الصَّلاَةِ مِنَ التَّشَهُّدِ وَالْقُنُوتِ وَالدُّعَاءِ وَتَسْبِيحَاتِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ.
4 - أَمَّا قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِهَا بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ خِلاَفًا لأَِبِي حَنِيفَةَ، وَالْمُعْتَمَدُ أَنَّهُ رَجَعَ إِلَى قَوْل صَاحِبَيْهِ. وَدَلِيل عَدَمِ الْجَوَازِ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} (2) ، وَلأَِنَّ الْقُرْآنَ مُعْجِزٌ لَفْظُهُ وَمَعْنَاهُ، فَإِذَا غُيِّرَ خَرَجَ عَنْ نَظْمِهِ، فَلَمْ يَكُنْ قُرْآنًا وَإِنَّمَا يَكُونُ تَفْسِيرًا لَهُ. هَذَا فِي الصَّلاَةِ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي غَيْرِهَا فَلاَ يُسَمَّى قُرْآنًا مَا يَقْرَأُ مِنْ تَرْجَمَةِ مَعَانِيهِ. (3)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحَيْ: (صَلاَةٌ) (وَقِرَاءَةٌ) .
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
5 - يُفَصِّل الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنْ تَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الصَّلاَةِ، وَيَتَكَلَّمُونَ عَنِ الطَّلاَقِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ فِي بَابِهِ، وَعَنِ الشَّهَادَةِ بِالأَْعْجَمِيَّةِ فِي الشَّهَادَةِ.
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 69 ط المكتبة الإسلامية، والحطاب 1 / 515 ط النجاح، والدسوقي 1 / 233، والقليوبي 1 / 163 - 168 ط الحلبي، والمغني 1 / 462 ط الرياض
(2) سورة يوسف / 2.
(3) الفتاوى الهندية 1 / 69، والحطاب 1 / 237، والقليوبي 1 / 151، والمغني 1 / 486.(5/233)
أَعْذَارٌ
اُنْظُرْ: عُذْرٌ.
إِعْذَارٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الإِْعْذَارِ لُغَةً: الْمُبَالَغَةُ، يُقَال: أَعْذَرَ فِي الأَْمْرِ، إِذَا بَالَغَ فِيهِ، وَفِي الْمَثَل: أَعْذَرَ مَنْ أَنْذَرَ، يُقَال ذَلِكَ لِمَنْ يَحْذَرُ أَمْرًا يُخَافُ، سَوَاءٌ حَذَّرَ أَمْ لَمْ يُحَذِّرْ، وَأَعْذَرَ أَيْضًا: صَارَ ذَا عُذْرٍ، قِيل: وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: أَعْذَرَ مَنْ أَنْذَرَ. وَعَذَرْتُ الْغُلاَمَ وَالْجَارِيَةَ عُذْرًا: خَتَنْتُهُ فَهُوَ مَعْذُورٌ، وَأَعْذَرْتُهُ لُغَةً فِيهِ، وَالإِْعْذَارُ أَيْضًا: طَعَامٌ يُتَّخَذُ لِسُرُورٍ حَادِثٍ، وَيُقَال: هُوَ طَعَامُ الْخِتَانِ خَاصَّةً، وَهُوَ مَصْدَرٌ مُسَمًّى بِهِ، يُقَال: أَعْذَرَ إِعْذَارًا: إِذَا صَنَعَ ذَلِكَ الطَّعَامَ.
وَلاَ يَخْرُجُ مَعْنَاهُ فِي الاِصْطِلاَحِ عَنِ الْمَعَانِي السَّابِقَةِ.
قَال ابْنُ سَهْلٍ: وَالإِْعْذَارُ: الْمُبَالَغَةُ فِي الْعُذْرِ، وَمِنْهُ أَعْذَرَ مَنْ أَنْذَرَ، أَيْ قَدْ بَالَغَ فِي الإِْعْذَارِ مَنْ تَقَدَّمَ إِلَيْكَ فَأَنْذَرَكَ، وَمِنْهُ إِعْذَارُ الْقَاضِي إِلَى مَنْ ثَبَتَ عَلَيْهِ حَقٌّ يُؤْخَذُ مِنْهُ، فَيُعْذِرُ إِلَيْهِ فِيمَنْ شَهِدَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ (1) .
__________
(1) المصباح المنير، وتبصرة الحكام هامش فتح العلي المالك 1 / 146، وتهذيب الفروق 4 / 129.(5/233)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الإِْنْذَارُ:
2 - الإِْنْذَارُ: الإِْبْلاَغُ، وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَل فِي التَّخْوِيفِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الآْزِفَةِ} (1) أَيْ خَوِّفْهُمْ عَذَابَ هَذَا الْيَوْمِ. (2) فَيَجْتَمِعُ مَعَ الإِْعْذَارِ فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا إِبْلاَغٌ مَعَ تَخْوِيفٍ إِلاَّ أَنَّ فِي الإِْعْذَارِ الْمُبَالَغَةَ.
ب - الإِْعْلاَمُ:
3 - الإِْعْلاَمُ: مَصْدَرُ أَعْلَمَ. يُقَال أَعْلَمْتُهُ الْخَبَرَ: أَيْ عَرَّفْتُهُ إِيَّاهُ، فَهُوَ يَجْتَمِعُ مَعَ الإِْعْذَارِ فِي أَنَّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا تَعْرِيفًا، إِلاَّ أَنَّ فِي الإِْعْذَارِ الْمُبَالَغَةَ.
ج - الإِْبْلاَغُ:
4 - الإِْبْلاَغُ: مَصْدَرُ أَبْلَغَ، وَالاِسْمُ مِنْهُ الْبَلاَغُ، وَهُوَ بِمَعْنَى الإِْيصَال. يُقَال: أَبْلَغْتُهُ السَّلاَمَ: أَيْ أَوْصَلْتُهُ إِيَّاهُ. فَهُوَ يَجْتَمِعُ مَعَ الإِْعْذَارِ فِي أَنَّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا إِيصَالاً لِمَا يُرَادُ، لَكِنَّ الإِْعْذَارَ يَنْفَرِدُ بِالْمُبَالَغَةِ.
د - التَّحْذِيرُ:
5 - التَّحْذِيرُ: التَّخْوِيفُ مِنْ فِعْل الشَّيْءِ. يُقَال: حَذَّرْتُهُ الشَّيْءَ فَحَذِرَهُ: إِذَا خَوَّفْتُهُ فَخَافَهُ، فَهُوَ يَجْتَمِعُ مَعَ الإِْعْذَارِ فِي التَّخْوِيفِ، وَيَنْفَرِدُ الإِْعْذَارُ بِأَنَّهُ لِقَطْعِ الْعُذْرِ (3) .
هـ - الإِْمْهَال:
6 - الإِْمْهَال لُغَةً: مَصْدَرُ أَمْهَل، وَهُوَ التَّأْخِيرُ. وَلاَ يَخْرُجُ مَعْنَاهُ فِي الاِصْطِلاَحِ عَنْ ذَلِكَ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الإِْعْذَارِ: أَنَّ الإِْعْذَارَ قَدْ يَكُونُ مَعَ ضَرْبِ مُدَّةٍ وَقَدْ لاَ يَكُونُ. وَالإِْمْهَال لاَ يَكُونُ إِلاَّ مَعَ ضَرْبِ
__________
(1) سورة غافر / 18.
(2) المصباح المنير مادة: (نذر) .
(3) المصباح المنير(5/234)
مُدَّةٍ (1) . كَمَا أَنَّ الإِْمْهَال لاَ تُلاَحَظُ فِيهِ الْمُبَالَغَةُ -
و التَّلَوُّمُ:
7 - التَّلَوُّمُ لُغَةً: الاِنْتِظَارُ وَالتَّمَكُّثُ، وَالْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ لاَ يَخْرُجُ عَنْ ذَلِكَ، إِذْ يُرَادُ بِهِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ عَدَمُ الْفَوْرِيَّةِ فِي الأَْمْرِ، بَل يُطْلَقُ الاِنْتِظَارُ فِي كُل أَمْرٍ بِمَا يُنَاسِبُهُ (2) .
وَالْكَلاَمُ فِي هَذَا الْبَحْثِ خَاصٌّ بِالإِْعْذَارِ بِمَعْنَى الْمُبَالَغَةِ فِي قَطْعِ الْعُذْرِ. أَمَّا بِمَعْنَى الْخِتَانِ أَوِ الطَّعَامِ الْمَصْنُوعِ لِسُرُورٍ حَادِثٍ فَيُنْظَرُ الْكَلاَمُ فِيهِمَا تَحْتَ عِنْوَانَيْ: (خِتَانٌ، وَوَلِيمَةٌ) .
حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ:
8 - مَوَاطِنُ الإِْعْذَارِ مُتَعَدِّدَةٌ، وَلَيْسَ لَهَا حُكْمٌ وَاحِدٌ يَجْمَعُهَا، لَكِنَّهُ فِي الْجُمْلَةِ مَطْلُوبٌ، وَيَخْتَلِفُ حُكْمُهُ بِحَسَبِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، فَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ يَرَاهُ وَاجِبًا فِي بَعْضِ الْمَوَاطِنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَاهُ مُسْتَحَبًّا، وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَهُ عَلَى نَحْوِ مَا يَأْتِي.
دَلِيل الْمَشْرُوعِيَّةِ:
9 - الأَْصْل فِي مَشْرُوعِيَّةِ الإِْعْذَارِ قَوْله تَعَالَى فِي سُورَةِ الإِْسْرَاءِ: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} (3) وقَوْله تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّمْل فِي قِصَّةِ الْهُدْهُدِ: {لأَُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأََذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} (4) وَجْهُ الاِسْتِدْلاَل بِالأُْولَى: أَنَّ اللَّهَ لاَ يُهْلِكُ أُمَّةً بِعَذَابٍ إِلاَّ بَعْدَ الرِّسَالَةِ إِلَيْهِمْ وَالإِْنْذَارِ، وَمَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ فَهُوَ غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ
__________
(1) المصباح المنير.
(2) المصباح المنير.
(3) سورة الإسراء / 15.
(4) سورة النمل / 21.(5/234)
لِلْعَذَابِ.
وَوَجْهُ الاِسْتِدْلاَل بِالثَّانِيَةِ: أَنَّ فِيهَا دَلِيلاً عَلَى أَنَّ الإِْمَامَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَقْبَل عُذْرَ رَعِيَّتِهِ، وَيَدْرَأَ الْعُقُوبَةَ عَنْهُمْ فِي ظَاهِرِ أَحْوَالِهِمْ بِبَاطِنِ أَعْذَارِهِمْ، لأَِنَّ سُلَيْمَانَ لَمْ يُعَاقِبِ الْهُدْهُدَ حِينَ اعْتَذَرَ إِلَيْهِ. (1)
الإِْعْذَارُ فِي الرِّدَّةِ (الاِسْتِتَابَةُ) :
10 - (الرِّدَّةُ) : الرُّجُوعُ عَنِ الإِْسْلاَمِ قَوْلاً أَوْ فِعْلاً عَلَى خِلاَفٍ وَتَفْصِيلٍ فِيمَا يَكُونُ رِدَّةً أَوْ لاَ يَكُونُ، يُنْظَرُ تَحْتَ عِنْوَانَيْ: (إِسْلاَمٌ، رِدَّةٌ) .
حُكْمُ الإِْعْذَارِ إِلَى الْمُرْتَدِّ:
11 - مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ أَنَّ اسْتِتَابَةَ الْمُرْتَدِّ مُسْتَحَبَّةٌ وَلَيْسَتْ وَاجِبَةً، فَقَدْ قَال الْحَنَفِيَّةُ: مَنِ ارْتَدَّ عُرِضَ عَلَيْهِ الإِْسْلاَمُ اسْتِحْبَابًا عَلَى الْمَذْهَبِ، وَتُكْشَفُ شُبْهَتُهُ وَيُحْبَسُ وُجُوبًا، وَقِيل: نَدْبًا ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ يُعْرَضُ عَلَيْهِ الإِْسْلاَمُ فِي كُل يَوْمٍ مِنْهَا إِنْ طَلَبَ الْمُهْلَةَ لِيَتَفَكَّرَ، فَإِنْ لَمْ يَطْلُبْ مُهْلَةً بَعْدَ عَرْضِ الإِْسْلاَمِ عَلَيْهِ وَكَشْفِ شُبْهَتِهِ قُتِل مِنْ سَاعَتِهِ، إِلاَّ إِذَا رُجِيَ إِسْلاَمُهُ فَإِنَّهُ يُمْهَل، قِيل: وُجُوبًا، وَقِيل: اسْتِحْبَابًا، وَهُوَ الظَّاهِرُ.
وَإِذَا ارْتَدَّ ثَانِيًا ثُمَّ تَابَ ضَرَبَهُ الإِْمَامُ وَخَلَّى سَبِيلَهُ، وَإِنِ ارْتَدَّ ثَالِثًا ضَرَبَهُ الإِْمَامُ ضَرْبًا وَجِيعًا وَحَبَسَهُ حَتَّى تَظْهَرَ عَلَيْهِ آثَارُ التَّوْبَةِ، وَيَرَى أَنَّهُ مُخْلِصٌ ثُمَّ يُخَلِّي سَبِيلَهُ، فَإِنْ عَادَ فُعِل بِهِ هَكَذَا.
لَكِنْ نَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنْ آخَرِ حُدُودِ الْخَانِيَّةِ
__________
(1) تفسير القرطبي 10 / 231 - 232، 13 / 189، وتهذيب الفروق 4 / 129.(5/235)
مَعْزِيًّا لِلْبَلْخِيِّ مَا يُفِيدُ قَتْلَهُ بِلاَ اسْتِتَابَةٍ، لِحَدِيثِ: مَنْ بَدَّل دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ (1) ، وَكُرِهَ تَنْزِيهًا قَتْلُهُ قَبْل الْعَرْضِ عَلَيْهِ، فَإِنْ قَتَلَهُ قَبْل الْعَرْضِ فَلاَ ضَمَانَ، لأَِنَّ الْكُفْرَ مُبِيحٌ لِلدَّمِ.
وَاسْتَدَل الْقَائِلُونَ بِعَدَمِ وُجُوبِ الاِسْتِتَابَةِ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ بَدَّل دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ وَلَمْ يَذْكُرِ اسْتِتَابَتَهُ.
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ. أَنَّ الْمُرْتَدَّ لاَ يُقْتَل حَتَّى يُسْتَتَابَ وُجُوبًا، وَمُدَّةُ الاِسْتِتَابَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ بِلَيَالِيِهَا، وَفِي قَوْل ابْنِ الْقَاسِمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، أَنَّهُ يُسْتَتَابُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، قَال الْمَالِكِيَّةُ: وَالأَْيَّامُ الثَّلاَثَةُ، هِيَ مِنْ يَوْمِ الثُّبُوتِ لاَ مِنْ يَوْمِ الْكُفْرِ، وَلاَ يُحْسَبُ يَوْمُ الرَّفْعِ إِلَى الْحَاكِمِ، وَلاَ يَوْمُ الثُّبُوتِ إِنْ كَانَ الثُّبُوتُ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَلاَ يُعَاقَبُ بِجُوعٍ وَلاَ عَطَشٍ وَلاَ بِأَيِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِقَابِ، وَإِنْ لَمْ يَعُدْ بِالتَّوْبَةِ فَإِنْ تَابَ تُرِكَ، وَإِنْ لَمْ يَتُبْ قُتِل، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ الْمُرْتَدَّ يُقْتَل فِي الْحَال بِلاَ اسْتِتَابَةٍ.
دَلِيل الْقَائِلِينَ بِالْوُجُوبِ:
12 - احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِوُجُوبِ الاِسْتِتَابَةِ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَنْ يُسْتَتَابَ (2) الْمُرْتَدُّ، وَبِمَا رَوَى الإِْمَامُ
__________
(1) حديث: " من بدل دينه فاقتلوه ". أخرجه البخاري (فتح الباري 6 / 149 ط السلفية) .
(2) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يستتاب المرتد ". أخرجه الدارقطني (3 / 119 - ط دار المحاسن) عن جابر بلفظ: " ارتدت امرأة عن الإسلام: فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعرضوا عليها الإسلام " وضعفه ابن حجر في التلخيص (4 / 49 - ط دار المحاسن) .(5/235)
مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْقَارِيَّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَدِمَ عَلَى عُمَرَ رَجُلٌ مِنْ قِبَل أَبِي مُوسَى فَقَال لَهُ عُمَرُ: هَل مِنْ مُغْرِبَةِ خَبَرٍ؟ قَال: نَعَمْ. رَجُلٌ كَفَرَ بَعْدَ إِسْلاَمِهِ، فَقَال: مَا فَعَلْتُمْ بِهِ؟ قَال: قَرَّبْنَاهُ فَضَرَبْنَا عُنُقَهُ. فَقَال عُمَرُ: فَهَلاَّ حَبَسْتُمُوهُ ثَلاَثًا، فَأَطْعَمْتُمُوهُ رَغِيفًا كُل يَوْمٍ وَاسْتَتَبْتُمُوهُ لَعَلَّهُ يَتُوبُ أَوْ يُرَاجِعُ أَمْرَ اللَّهِ، اللَّهُمَّ إِنِّي لَمْ أَحْضُرْ، وَلَمْ أَرْضَ إِذْ بَلَغَنِي.
وَلَوْ لَمْ تَجِبِ اسْتِتَابَتُهُ لَمَا بَرِئَ مِنْ فِعْلِهِمْ، وَلأَِنَّهُ أَمْكَنَ اسْتِصْلاَحُهُ فَلَمْ يَجُزْ إِتْلاَفُهُ قَبْل اسْتِصْلاَحِهِ كَالثَّوْبِ النَّجِسِ، وَأَمَّا الأَْمْرُ بِقَتْلِهِ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ بَدَّل دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ. فَالْمُرَادُ بِهِ قَتْلُهُ بَعْدَ الاِسْتِتَابَةِ. (1)
الإِْعْذَارُ إِلَى الْمُرْتَدَّةِ:
13 - مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ لاَ فَرْقَ بَيْنَ الرِّجَال وَالنِّسَاءِ فِي وُجُوبِ قَتْل الْمُرْتَدِّ أَوِ الْمُرْتَدَّةِ بَعْدَ الاِسْتِتَابَةِ إِنْ لَمْ يَرْجِعُوا إِلَى الإِْسْلاَمِ عَلَى التَّفْصِيل السَّابِقِ فِي وُجُوبِ الإِْعْذَارِ أَوِ اسْتِحْبَابِهِ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَبِهِ قَال الْحَسَنُ وَالزُّهْرِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَمَكْحُولٌ وَحَمَّادٌ وَاللَّيْثُ وَالأَْوْزَاعِيُّ مُسْتَدِلِّينَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ بَدَّل دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ أَنَّهَا تُسْتَرَقُّ وَلاَ تُقْتَل، لأَِنَّ أَبَا بَكْرٍ اسْتَرَقَّ نِسَاءَ بَنِي حَنِيفَةَ.
وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّهَا تُجْبَرُ عَلَى الإِْسْلاَمِ بِالْحَبْسِ وَالضَّرْبِ وَلاَ تُقْتَل، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار 3 / 286، والشرح الكبير والدسوقي 4 / 304، وقليوبي وعميرة 4 / 177، والمغني 8 / 124 - 125.(5/236)
تَقْتُلُوا امْرَأَةً (1) ، وَلأَِنَّهَا لاَ تُقْتَل بِالْكُفْرِ الأَْصْلِيِّ فَلاَ تُقْتَل بِالطَّارِئِ.
وَلِلْمَالِكِيَّةِ تَفْصِيلٌ إِذْ قَالُوا: إِنَّهَا تُقْتَل إِنْ لَمْ تَرْجِعْ إِلَى الإِْسْلاَمِ، لَكِنْ تُسْتَبْرَأُ قَبْل الْقَتْل بِحَيْضَةٍ، خَشْيَةَ أَنْ تَكُونَ حَامِلاً، فَإِنْ حَاضَتْ أَيَّامَ الاِسْتِتَابَةِ انْتُظِرَ تَمَامُهَا فَيُنْتَظَرُ أَقْصَرُ الأَْجَلَيْنِ، فَإِنْ ظَهَرَ بِهَا حَمْلٌ أُخِّرَتْ حَتَّى تَضَعَ. (2)
وَمُقْتَضَى مَا ذُكِرَ أَنَّ الْمُرْتَدَّةَ تُسْتَتَابُ عِنْدَ الأَْئِمَّةِ الثَّلاَثَةِ، فَإِنْ رَجَعَتْ إِلَى الإِْسْلاَمِ وَإِلاَّ قُتِلَتْ، وَأَنَّ مَذْهَبَ الْحَنَفِيَّةِ جَبْرُهَا عَلَى الْعَوْدَةِ إِلَى الإِْسْلاَمِ بِالْحَبْسِ وَالضَّرْبِ.
الإِْعْذَارُ فِي الْجِهَادِ:
14 - الْحَرْبِيُّونَ هُمُ الْكُفَّارُ الَّذِينَ يُقِيمُونَ بِبِلاَدِ الْكُفْرِ، وَلاَ صُلْحَ لَهُمْ مَعَ الْمُسْلِمِينَ (3) . فَهَؤُلاَءِ هُمُ الَّذِينَ يُحَارَبُونَ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} (4) . وَشَرْطُ مُحَارَبَتِهِمْ بُلُوغُ الدَّعْوَةِ إِلَيْهِمْ فَلاَ تَجُوزُ مُحَارَبَتُهُمْ قَبْل ذَلِكَ، وَهُوَ أَمْرٌ أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى
__________
(1) حديث: " لا تقتلوا امرأة ". أخرجه البخاري من حديث ابن عمر رضي الله عنهما بلفظ " وجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان ". (فتح الباري 6 / 148 - ط السلفية) .
(2) قليوبي وعميرة 4 / 177، والمغني 8 / 123 - ط الرياض، والشرح الكبير 4 / 304، ومعين الحكام / 228. وترى اللجنة أن قواعد المذاهب الأخرى لا تأبى مثل ذلك، وترى أنه ينبغي التحقق من خلو المرأة من الحمل قبل إقامة الحد عليها.
(3) المصباح المنير.
(4) الأنفال / 39.(5/236)
نَبْعَثَ رَسُولاً} (1)
وَلَكِنْ هَل يَجِبُ تَكْرَارُ دَعْوَتُهُمْ إِذَا تَكَرَّرَتْ مُحَارَبَتُهُمْ؟ فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجِبُ تَكْرَارُ دَعْوَتِهِمْ، بَل يُسْتَحَبُّ.
قَال الْكَاسَانِيُّ: وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَجِبُ عَلَى الْغُزَاةِ الاِفْتِتَاحُ بِهِ حَالَةَ الْوَقْعَةِ وَلِقَاءِ الْعَدُوِّ، فَإِنَّ الأَْمْرَ فِيهِ لاَ يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ الدَّعْوَةُ قَدْ بَلَغَتْهُمْ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ لَمْ تَبْلُغْهُمْ، فَإِنْ كَانَتِ الدَّعْوَةُ لَمْ تَبْلُغْهُمْ فَعَلَيْهِمُ الاِفْتِتَاحُ بِالدَّعْوَةِ إِلَى الإِْسْلاَمِ بِاللِّسَانِ، لِقَوْل اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {اُدْعُ إِلَى سَبِيل رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (2) وَلاَ يَجُوزُ لَهُمُ الْقِتَال قَبْل الدَّعْوَةِ، لأَِنَّ الإِْيمَانَ وَإِنْ وَجَبَ عَلَيْهِمْ قَبْل بُلُوغِ الدَّعْوَةِ بِمُجَرَّدِ الْعَقْل، فَاسْتَحَقُّوا الْقَتْل بِالاِمْتِنَاعِ، لَكِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى حَرَّمَ قِتَالَهُمْ قَبْل بَعْثِ الرَّسُول عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَبُلُوغِ الدَّعْوَةِ إِيَّاهُمْ فَضْلاً مِنْهُ وَمِنَّةً، قَطْعًا لِمَعْذِرَتِهِمْ بِالْكُلِّيَّةِ، وَإِنْ كَانَ لاَ عُذْرَ لَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ، لَمَّا أَقَامَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مِنَ الدَّلاَئِل الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي لَوْ تَأَمَّلُوهَا حَقَّ التَّأَمُّل وَنَظَرُوا فِيهَا لَعَرَفُوا حَقَّ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَيْهِمْ، لَكِنْ تَفَضَّل عَلَيْهِمْ بِإِرْسَال الرُّسُل صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ، لِئَلاَّ يَبْقَى لَهُمْ شُبْهَةُ عُذْرٍ فَيَقُولُونَ: {رَبَّنَا لَوْلاَ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ} (3) وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا ذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ لِمَا بَيَّنَّا، وَلأَِنَّ الْقِتَال مَا فُرِضَ لِعَيْنِهِ، بَل لِلدَّعْوَةِ إِلَى الإِْسْلاَمِ.
وَالدَّعْوَةُ دَعْوَتَانِ: دَعْوَةُ بِالْبَنَانِ وَهِيَ الْقِتَال،
__________
(1) سورة الإسراء / 15.
(2) سورة النحل / 125.
(3) سورة طه / 134.(5/237)
وَدَعْوَةُ بِالْبَيَانِ وَهِيَ اللِّسَانُ، وَذَلِكَ بِالتَّبْلِيغِ، وَالثَّانِيَةُ أَهْوَنُ مِنَ الأُْولَى، لأَِنَّ فِي الْقِتَال مُخَاطَرَةَ الرُّوحِ وَالنَّفْسِ وَالْمَال، وَلَيْسَ فِي دَعْوَةِ التَّبْلِيغِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، فَإِذَا احْتَمَل حُصُول الْمَقْصُودِ بِأَهْوَنِ الدَّعْوَتَيْنِ لَزِمَ الاِفْتِتَاحُ بِهَا، هَذَا إِذَا كَانَتِ الدَّعْوَةُ لَمْ تَبْلُغْهُمْ. فَإِنْ كَانَتْ قَدْ بَلَغَتْهُمْ جَازَ لَهُمْ أَنْ يَفْتَتِحُوا الْقِتَال مِنْ غَيْرِ تَجْدِيدِ الدَّعْوَةِ، لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْحُجَّةَ لاَزِمَةٌ، وَالْعُذْرُ فِي الْحَقِيقَةِ مُنْقَطِعٌ، وَشُبْهَةُ الْعُذْرِ انْقَطَعَتْ بِالتَّبْلِيغِ مَرَّةً، لَكِنْ مَعَ هَذَا الأَْفْضَل أَلاَّ يَفْتَتِحُوا الْقِتَال إِلاَّ بَعْدَ تَجْدِيدِ الدَّعْوَةِ لِرَجَاءِ الإِْجَابَةِ فِي الْجُمْلَةِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يُقَاتِل الْكَفَرَةَ حَتَّى يَدْعُوهُمْ إِلَى الإِْسْلاَمِ (1) . فِيمَا كَانَ دَعَاهُمْ غَيْرَ مَرَّةٍ. دَل أَنَّ الاِفْتِتَاحَ بِتَجْدِيدِ الدَّعْوَةِ أَفْضَل، ثُمَّ إِذَا دَعَوْهُمْ إِلَى الإِْسْلاَمِ فَإِنْ أَسْلَمُوا كَفُّوا عَنْهُمُ الْقِتَال، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِل النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بِحَقِّهَا (2) وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَنْ قَال:
__________
(1) حديث: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يقاتل الكفرة حتى يدعوهم إلى الإسلام " أخرجه أحمد والطبراني بلفظ " ما قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم قوما حتى يدعوهم " قال أحمد شاكر محقق المسند: إسناده صحيح. وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد وقال: رواه أوالمعجم الكبير للطبراني 11 / 95، 132، ط الوطن العربي، ومجمع الزوائد 5 / 304 نشر مكتبة القدس) .
(2) حديث: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 288 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1337 ط الحلبي) .(5/237)
لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي دَمَهُ وَمَالَهُ (1) فَإِنْ أَبَوِا الإِْجَابَةَ إِلَى الإِْسْلاَمِ دَعَوْهُمْ إِلَى الذِّمَّةِ إِلاَّ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَالْمُرْتَدِّينَ (لأَِنَّهُ لاَ يُقْبَل مِنْهُمْ إِلاَّ الإِْسْلاَمُ) فَإِنْ أَجَابُوا كَفُّوا عَنْهُمْ، وَإِنْ أَبَوْا اسْتَعَانُوا بِاَللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى قِتَالِهِمْ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ إِلَى أَنَّهُمْ يُدْعَوْنَ وُجُوبًا سَوَاءٌ بَلَغَتْهُمُ الدَّعْوَةُ أَمْ لاَ، مَا لَمْ يُعَاجِلُونَا بِالْقِتَال أَوْ يَكُونُ الْجَيْشُ قَلِيلاً، قَالُوا: وَمِنْ هَذَا الْقَبِيل كَانَتْ إِغَارَةُ سَرَايَاهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
وَلِلْحَنَابِلَةِ تَفْصِيلٌ بَيَّنَهُ ابْنُ قُدَامَةَ بِقَوْلِهِ: أَهْل الْكِتَابِ وَالْمَجُوسُ لاَ يُدْعَوْنَ قَبْل الْقِتَال، لأَِنَّ الدَّعْوَةَ قَدِ انْتَشَرَتْ وَعَمَّتْ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ إِلاَّ نَادِرًا بَعِيدًا. وَأَمَّا عَبَدَةُ الأَْوْثَانِ فَإِنَّ مَنْ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ مِنْهُمْ لاَ يُدْعَوْنَ، وَإِنْ وُجِدَ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ دُعِيَ قَبْل الْقِتَال، قَال أَحْمَدُ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو إِلَى الإِْسْلاَمِ قَبْل أَنْ يُحَارِبَ حَتَّى أَظْهَرَ اللَّهُ الدِّينَ وَعَلاَ الإِْسْلاَمُ، وَلاَ أَعْرِفُ الْيَوْمَ أَحَدًا يُدْعَى، قَدْ بَلَغَتِ الدَّعْوَةُ كُل أَحَدٍ، فَالرُّومُ قَدْ بَلَغَتْهُمُ الدَّعْوَةُ وَعَلِمُوا مَا يُرَادُ مِنْهُمْ، وَإِنَّمَا كَانَتِ الدَّعْوَةُ فِي أَوَّل الإِْسْلاَمِ، وَإِنْ دَعَا فَلاَ بَأْسَ. (2)
__________
(1) حديث: " من قال لا إله إلا الله فقد عصم مني دمه وماله " أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قال لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله " (فتح الباري / 12 / 275 ط السلفية) ، وصحيح مسلم (1 / 52 ط الحلبي) .
(2) بدائع الصنائع 7 / 100 نشر دار الكتاب العربي، والزرقاني 3 / 111، وقليوبي وعميرة 4 / 218، والدسوقي 2 / 176، والمغني 8 / 361 - 362.(5/238)
الإِْعْذَارُ إِلَى الْبُغَاةِ:
15 - الْبُغَاةُ: هُمُ الْخَارِجُونَ عَلَى الإِْمَامِ الْحَقِّ بِتَأْوِيلٍ، وَلَهُمْ مَنَعَةٌ (1) . وَقَدِ اتَّفَقَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ قِتَالُهُمْ حَتَّى يَبْعَثَ إِلَيْهِمُ الإِْمَامُ أَمِينًا فَطِنًا نَاصِحًا يَسْأَلُهُمْ مَا يَنْقِمُونَ، فَإِنْ ذَكَرُوا مَظْلَمَةً أَوْ شُبْهَةً أَزَالَهَا، فَإِنْ أَصَرُّوا بَعْدَ الإِْعْذَارِ نَصَحَهُمْ، بِأَنْ يَعِظَهُمْ وَيَأْمُرَهُمْ بِالْعَوْدَةِ إِلَى طَاعَتِهِ، فَإِنِ اسْتَمْهَلُوهُ اجْتَهَدَ فِي الإِْمْهَال، وَفَعَل مَا رَآهُ صَوَابًا.
وَهَذَا كُلُّهُ مَا لَمْ يُعَاجِلُوا بِالْقِتَال، فَإِنْ عَاجَلُوا قُوتِلُوا.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ دَعْوَتَهُمْ إِلَى طَاعَةِ الإِْمَامِ وَكَشْفَ شُبْهَتِهِمْ أَمْرٌ مُسْتَحَبٌّ وَلَيْسَ وَاجِبًا، وَلَوْ قَاتَلَهُمْ بِلاَ دَعْوَةٍ جَازَ. (2)
الإِْعْذَارُ فِي الدَّعْوَى:
16 - الْمُدَّعَى عَلَيْهِ هُوَ كُل مَنْ تَوَجَّهَ عَلَيْهِ حَقٌّ، إِمَّا بِإِقْرَارٍ، إِنْ كَانَ مِمَّنْ يَصِحُّ إِمْرَارُهُ، وَإِمَّا بِالشَّهَادَةِ عَلَيْهِ بَعْدَ عَجْزِهِ عَنْ دَفْعِ الدَّعْوَى وَبَعْدَ الإِْعْذَارِ إِلَيْهِ قَبْل الْحُكْمِ، وَإِمَّا بِالشَّهَادَةِ عَلَيْهِ مَعَ يَمِينِ الاِسْتِبْرَاءِ، إِنْ كَانَ الْحَقُّ عَلَى مَيِّتٍ أَوْ عَلَى غَائِبٍ، وَإِمَّا بِلَدَدِهِ وَتَغَيُّبِهِ عَنْ حُضُورِ مَجْلِسِ الْحُكْمِ وَقِيَامِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ، وَإِمَّا بِالشَّهَادَةِ عَلَيْهِ وَلَدَدِهِ عَنِ الْجَوَابِ عَنِ الدَّعْوَى.
وَالْمَقْضِيُّ عَلَيْهِمْ أَنْوَاعٌ: مِنْهُمُ الْحَاضِرُ الْمَالِكُ
__________
(1) ابن عابدين 3 / 427، والشرح الكبير 4 / 298، وقليوبي وعميرة 4 / 170، والمغني 8 / 107.
(2) حاشية الدردير 4 / 299، وقليوبي وعميرة 4 / 171، والمغني 8 / 107، وابن عابدين 3 / 429.(5/238)
أَمْرَهُ، وَمِنْهُمُ الْغَائِبُ الصَّغِيرُ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ، وَمِنْهُمُ السَّفِيهُ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ، وَمِنْهُمُ الْوَرَثَةُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ فِي مَال الْمَيِّتِ وَفِيهِمُ الصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ. (1)
فَإِذَا كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَاضِرًا بِمَجْلِسِ الْقَضَاءِ، وَادُّعِيَتِ الدَّعْوَى وَكَانَتْ مُسْتَوْفِيَةَ الشُّرُوطِ، طَلَبَ الْقَاضِي مِنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْجَوَابَ عَنْهَا، وَسَارَ الْقَاضِي فِيهَا حَسْبَمَا هُوَ مُدَوَّنٌ فِي كُتُبِ الْفُقَهَاءِ.
فَإِنْ أَقَرَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْحَقِّ الْمُدَّعَى، فَهَل يَحْكُمُ الْقَاضِي بِمُقْتَضَى الإِْقْرَارِ حَالاً، أَوْ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَّخِذَ إِجْرَاءً آخَرَ جَائِزًا أَوْ وَاجِبًا؟
قَال الْجُمْهُورُ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ: يُقْضَى عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ مِنْ غَيْرِ أَمْرٍ آخَرَ كَالإِْعْذَارِ وَنَحْوِهِ. (2)
وَقَال الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى مِنَ الْحَنَابِلَةِ: لاَ بُدَّ لِلْحُكْمِ بِمُقْتَضَى الإِْقْرَارِ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى الإِْقْرَارِ شَاهِدَانِ.
وَفِي الْمَذَاهِبِ تَفْصِيلاَتٌ فِي الإِْعْذَارِ إِلَى الْغَائِبِ عَنْ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ، فِي حُكْمِ الإِْعْذَارِ وَفِي وَقْتِهِ، وَفِي الْمَسَافَةِ الَّتِي يُعْذَرُ إِلَيْهِ فِيهَا، وَفِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الَّذِي يَمْتَنِعُ الإِْعْذَارُ إِلَيْهِ.
وَفُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى أَنَّهُ لاَ يُقْضَى عَلَى الْغَائِبِ عَنْ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ إِلاَّ بَعْدَ الإِْعْذَارِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يُقْضَى عَلَيْهِ. وَتَخْتَلِفُ الْمَذَاهِبُ
__________
(1) تبصرة الحكام 1 / 72.
(2) ابن عابدين 4 / 688، وقليوبي وعميرة 3 / 2.(5/239)
فِي زَمَنِ الإِْعْذَارِ وَكَيْفِيَّتِهِ (1) .
مَا يَسْقُطُ بِهِ الإِْعْذَارُ:
17 - قَال الْمَالِكِيَّةُ: كُل مَنْ قَامَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ بِحَقٍّ مِنْ مُعَامَلَةٍ أَوْ نَحْوِهَا، أَوْ دَعْوَى بِفَسَادٍ أَوْ تَعَدٍّ أَوْ غَصْبٍ، فَلاَ بُدَّ مِنَ الإِْعْذَارِ إِلَيْهِ قَبْل الْحُكْمِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْل الْفَسَادِ الظَّاهِرِ، أَوْ مِنَ الزَّنَادِقَةِ الْمَشْهُورِينَ بِمَا يُنْسَبُ إِلَيْهِمْ، فَلاَ يُعْذَرُ إِلَيْهِمْ فِيمَا شُهِدَ بِهِ عَلَيْهِمْ. كَمَا حَدَثَ بِالنِّسْبَةِ لأَِبِي الْخَيْرِ الزِّنْدِيقِ، لَمَّا شَهِدَ عَلَيْهِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ شَاهِدًا أَمَامَ قَاضِي الْجَمَاعَةِ مُنْذِرِ بْنِ سَعِيدٍ بِأَنَّهُ يُصَرِّحُ بِالْكُفْرِ وَالاِنْسِلاَخِ مِنَ الإِْيمَانِ، فَأَشَارَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِأَنْ يُعْذَرَ إِلَيْهِ فِيمَا شُهِدَ بِهِ عَلَيْهِ، وَأَشَارَ قَاضِي الْجَمَاعَةِ وَبَعْضٌ آخَرُ مِنَ الْعُلَمَاءِ بِأَنَّهُ يُقْتَل بِغَيْرِ إِعْذَارٍ، لأَِنَّهُ مُلْحِدٌ كَافِرٌ، وَقَدْ وَجَبَ قَتْلُهُ بِدُونِ مَا ثَبَتَ عَلَيْهِ فَقُتِل بِغَيْرِ إِعْذَارٍ، فَقِيل لأَِحَدِهِمْ أَنْ يَذْكُرَ لَهُمْ وَجْهَ الْحُكْمِ، فَذُكِرَ أَنَّ الَّذِي اعْتَمَدَ عَلَيْهِ فِي الْفُتْيَا بِالْقَتْل بِدُونِ إِعْذَارٍ أَنَّ مَذْهَبَ مَالِكٍ قَطْعُ الإِْعْذَارِ عَمَّنِ اسْتَفَاضَتْ عَلَيْهِ الشَّهَادَاتُ فِي الظُّلْمِ، وَعَلَى مَذْهَبِهِ فِي السَّلاَّبَةِ وَالْمُغَيِّرِينَ وَأَشْبَاهِهِمْ، إِذَا شَهِدَ عَلَيْهِمُ الْمَسْلُوبُونَ وَالْمُنْتَهَبُونَ أَنْ تُقْبَل شَهَادَتُهُمْ عَلَيْهِمْ - إِذَا كَانُوا مِنْ أَهْل الْقَبُول - بِدُونِ إِعْذَارٍ. وَكَذَلِكَ لاَ يُعْذَرُ فِي مِثْل رَجُلٍ يَتَعَلَّقُ بِرَجُلٍ، وَجُرْحُهُ يُدْمِي، فَيُصَدَّقُ بِقَوْلِهِ. وَفِي الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالرَّجُل فِي
__________
(1) ابن عابدين 4 / 520، والفتاوى الطرطوسية / 313، وتبصرة الحكام 1 / 73، 139، والمغني 9 / 55، 61، وقليوبي وعميرة 4 / 30. وترى اللجنة أن هذه التفصيلات هي من قبيل الأوضاع الزمنية التي تتغير بتغير الظروف والملابسات بما يحقق اطمئنان القاضي إلى أن كلا من الخصمين قد أخذ حقه في المرافعة.(5/239)
الْمَكَانِ الْخَالِي وَقَدْ فَضَحَتْ نَفْسَهَا بِإِصَابَتِهِ لَهَا، فَتُصَدَّقُ بِفَضِيحَةِ نَفْسِهَا. وَمِثْل هَذَا كَثِيرٌ.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، فَلَعَل بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَأَقْضِي لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ مِنْهُ (1) وَهَذَا الْحَدِيثُ هُوَ الأَْصْل فِي هَذَا الْبَابِ وَلاَ إِعْذَارَ فِيهِ. وَكَذَلِكَ كِتَابُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ، وَإِلَى أَبِي مُوسَى الأَْشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَهُمَا أَيْضًا مَلاَذُ الْحُكَّامِ فِي الأَْحْكَامِ، وَلاَ إِعْذَارَ مِنْهُمَا وَلاَ إِقَالَةَ مِنْ حُجَّةٍ وَلاَ كَلِمَةٍ، غَيْرَ أَنَّ الإِْعْذَارَ فِيمَا يَتَحَاكَمُ فِيهِ النَّاسُ مِنْ غَيْرِ أَسْبَابِ الدِّيَانَاتِ اسْتِحْسَانٌ مِنَ الأَْئِمَّةِ، فَأَمَّا فِي إِقَامَةِ الْحُدُودِ فِي الإِْلْحَادِ وَالزَّنْدَقَةِ وَتَكْذِيبِ الْقُرْآنِ وَالرَّسُول عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَلَمْ يَرِدْ فِيهِ شَيْءٌ عِنْدَهُمْ. قَالُوا: وَمَا يَمْتَنِعُ فِيهِ الإِْعْذَارُ كَثِيرٌ (2) وَلَمْ يُعْثَرْ عَلَى أَقْوَالٍ فِي الْمَذَاهِبِ الأُْخْرَى فِي مِثْل هَذَا.
التَّأْجِيل فِي الإِْعْذَارِ:
18 - الإِْعْذَارُ يَكُونُ إِلَى الْمُدَّعِي، فَيَقُول لَهُ الْقَاضِي: أَبَقِيَتْ لَكَ حَجَّةٌ؟ وَقَدْ يَكُونُ إِلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَيَسْأَلُهُ الْقَاضِي: أَلَكَ دَفْعٌ فِيمَا ادَّعَى بِهِ عَلَيْكَ؟ فَإِذَا أَعْذَرَ الْقَاضِي إِلَى مَنْ تَوَجَّهَ الإِْعْذَارُ إِلَيْهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مُدَّعِيًا أَمْ مُدَّعًى عَلَيْهِ. وَقَال: نَعَمْ، وَسَأَلَهُ التَّأْجِيل، ضَرَبَ لَهُ أَجَلاً بِحَسَبِ تِلْكَ الْوَاقِعَةِ حَسَبَ اجْتِهَادِهِ فِي بُلُوغِ مَنْ أُجِّل لَهُ
__________
(1) حديث: " إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 288 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1337 ط الحلبي) .
(2) تبصرة الحكام 1 / 150 - 152.(5/240)
الْوُصُول إِلَى قَصْدِهِ بِغَيْرِ إِضْرَارٍ بِخَصْمِهِ، فَإِنْ كَانَ التَّأْجِيل لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَأَتَى بِدَفْعٍ فِيمَا شَهِدَ بِهِ عَلَيْهِ، وَسَأَل الْمُدَّعِي التَّأْجِيل أَيْضًا، وَزَعَمَ أَنَّ لَهُ دَفْعًا فِيمَا جَاءَ بِهِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، ضَرَبَ لَهُ أَجَلاً أَيْضًا، وَتَلَوَّمَ عَلَيْهِ (انْتَظَرَ) حَتَّى يَتَبَيَّنَ الْحَقُّ، وَيَظْهَرَ عَجْزُ أَحَدِهِمَا، فَيُقْضَى عَلَى نَحْوِ مَا ثَبَتَ. (1) وَالْحُكْمُ كَذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْمَذَاهِبِ.
آجَالٌ مُقَدَّرَةٌ مِنَ الشَّارِعِ:
19 - هُنَاكَ آجَالٌ لاَ يَدْخُلُهَا اجْتِهَادُ الْحَاكِمِ، بَل هِيَ مُقَدَّرَةٌ بِالشَّرْعِ لأَِجْل الإِْعْذَارِ، مِنْهَا: تَأْجِيل الْعِنِّينِ، وَسَبَقَ تَفْصِيلُهُ فِي (أَجَلٌ) وَيَأْتِي فِي (عُنَّةٌ) .
إِعْذَارُ الْمُولِي:
20 - فُقَهَاءُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، عَرَّفُوا الإِْيلاَءَ بِأَنَّهُ: الْحَلِفُ عَلَى تَرْكِ الزَّوْجِ وَطْءَ زَوْجَتِهِ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ.
وَعَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ: الْحَلِفُ عَلَى تَرْكِ وَطْءِ الزَّوْجَةِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فَأَكْثَرَ، فَالْخِلاَفُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ غَيْرِهِمْ فِي أَقَل الْمُدَّةِ الَّتِي يَحْلِفُ عَلَى التَّرْكِ فِيهَا، فَعِنْدَ الْجُمْهُورِ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، وَالإِْعْذَارُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنَّ الْمُولِي يَقِفُهُ (يُحْضِرُهُ) الْقَاضِي بَعْدَ تَمَامِ الأَْشْهُرِ الأَْرْبَعَةِ، إِذَا رَافَعَتْهُ امْرَأَتُهُ فَيَأْمُرُهُ بِالْفَيْئَةِ، فَإِنْ أَبَى أَمَرَهُ بِالطَّلاَقِ، وَلاَ تَطْلُقُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ، وَهَذَا هُوَ رَأْيُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَعُرْوَةَ وَمُجَاهِدٍ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ (2) .
__________
(1) تبصرة الحكام 1 / 150 - 152.
(2) حاشية الدسوقي 2 / 426 - 436، وتبصرة الحكام 1 / 154، وقليوبي وعميرة 4 / 8 - 12، والمغني 7 / 298، 318 - 319 ط الرياض.(5/240)
وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ إِذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَلَمْ يَقْرَبْهَا، فَقَدْ بَانَتْ مِنْهُ بِطَلْقَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلاَ حَاجَةَ إِلَى إِنْشَاءِ تَطْلِيقٍ، أَوِ الْحُكْمِ بِالتَّفْرِيقِ.
وَالْمُرَادُ بِالأَْشْهُرِ الأَْشْهُرُ الْقَمَرِيَّةُ، وَتَبْدَأُ مِنْ تَارِيخِ الْحَلِفِ وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ. (1) وَيُنْظَرُ أَيْضًا مُصْطَلَحُ (أَجَلٌ) وَمُصْطَلَحُ (إِيلاَءٌ) .
إِعْذَارُ الْمُمْتَنِعِ مِنْ وَطْءِ زَوْجَتِهِ:
21 - الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي مَذْهَبَيِ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، أَنَّ الزَّوْجَةَ لاَ حَقَّ لَهَا فِي الْوَطْءِ إِلاَّ مَرَّةً وَاحِدَةً يَسْتَقِرُّ بِهَا الْمَهْرُ وَهَذَا فِي الْقَضَاءِ، وَأَمَّا دِيَانَةً فَلَهَا الْحَقُّ فِي كُل أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ مَرَّةً، لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَهَا أَجَلاً لِمَنْ آلَى مِنِ امْرَأَتِهِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنَّ الْوَطْءَ وَاجِبٌ عَلَى الزَّوْجِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عُذْرٌ. وَقَال الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: لاَ يَجِبُ إِلاَّ أَنْ يَتْرُكَ لِلإِْضْرَارِ، وَقَدْ بَيَّنَ الْمَوَّاقُ أَنَّ مَنْ وَاصَل الْعِبَادَةَ وَتَرَكَ الْوَطْءَ لَمْ يُنْهَ عَنْ تَبَتُّلِهِ، وَقِيل لَهُ: إِمَّا وَطِئْتَ أَوْ فَارَقْتَ. قَال مَالِكٌ: وَأَرَى أَنْ يُقْضَى بِذَلِكَ. قَال ابْنُ حَبِيبٍ: إِنْ كَانَ زَاهِدًا قَاضَتْهُ امْرَأَتُهُ، وَقِيل لَهُ: تَخْلُو مَعَهَا فِي كُل أَرْبَعِ لَيَالٍ لَيْلَةً، وَهُوَ قَسْمُ الْمَرْأَةِ مَعَ ضَرَائِرِهَا، قَال خَلِيلٌ: بِلاَ أَجَلٍ عَلَى الأَْصَحِّ. وَظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ أَنَّهُ يُضْرَبُ لَهُ أَجَلٌ بِمِقْدَارِ أَجَل الإِْيلاَءِ.
وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ (فِي حَادِثَةِ غَيْبَةِ أَحَدِ الْغُزَاةِ غَيْبَةً طَوِيلَةً عَنْ زَوْجَتِهِ) سَأَل حَفْصَةَ - زَوْجَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمْ تَصْبِرُ الْمَرْأَةُ عَنِ النِّكَاحِ؟ فَقَالَتْ: أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، وَبَعْدَهَا يَفْنَى صَبْرُهَا أَوْ يَقِل، فَنَادَى حِينَئِذٍ أَلاَّ تَزِيدَ غَزْوَةٌ عَنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ.
__________
(1) ابن عابدين 2 / 545 وما بعدها.(5/241)
وَفِي حَاشِيَةِ سَعْدِي جَلَبِي: وَالظَّاهِرُ أَنَّ لَهَا حَقًّا فِي الْجِمَاعِ فِي كُل أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ مَرَّةً لاَ أَقَل، يُؤَيِّدُهُ قِصَّةُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ سَمِعَ مِنْ تِلْكَ الْمَرْأَةِ مَا سَمِعَ. (1)
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: يَا عَبْدَ اللَّهِ: أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ النَّهَارَ وَتَقُومُ اللَّيْل؟ قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُول اللَّهِ. قَال: فَلاَ تَفْعَل. صُمْ وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ. فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا (2)
فَأَخْبَرَ أَنَّ لِلْمَرْأَةِ عَلَيْهِ حَقًّا. وَقَدِ اشْتَهَرَتْ قِصَّةُ كَعْبِ بْنِ سُورٍ، وَلأَِنَّ النِّكَاحَ شُرِعَ لِمَصْلَحَةِ الزَّوْجَيْنِ، وَدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُمَا، وَهُوَ مُفْضٍ إِلَى دَفْعِ ضَرَرِ الشَّهْوَةِ عَنِ الْمَرْأَةِ، كَإِفْضَائِهِ إِلَى دَفْعِ ذَلِكَ عَنِ الرَّجُل، فَيَجِبُ تَعْلِيلُهُ بِذَلِكَ، وَيَكُونُ النِّكَاحُ حَقًّا لَهُمَا جَمِيعًا. وَلأَِنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهَا فِيهِ حَقٌّ لَمَا وَجَبَ اسْتِئْذَانُهَا فِي الْعَزْل. (3)
الإِْعْذَارُ إِلَى الْمُمْتَنِعِ مِنَ الإِْنْفَاقِ عَلَى زَوْجَتِهِ:
22 - الْفُقَهَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ عَلَى الزَّوْجِ الإِْنْفَاقَ عَلَى زَوْجَتِهِ مَتَى تَحَقَّقَتِ الشُّرُوطُ الْمُوجِبَةُ لِذَلِكَ، فَإِذَا امْتَنَعَ مِنَ الإِْنْفَاقِ فَفِي كُل مَذْهَبٍ شُرُوطٌ وَتَفْصِيلاَتٌ.
__________
(1) فتح القدير وحواشيه 4 / 42 - 43، والمجموع 15 / 319 ط الإرشاد، وقليوبي وعميرة 4 / 10، وحاشية الدسوقي 2 / 431، والمواق 4 / 108، والخطاب 4 / 11.
(2) حديث: " ألم أخبر أنك تصوم النهار. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 218 ط السلفية) .
(3) المغني 7 / 28 - 31، وهذا الأجل الأقصى المضروب لترك التفريق يسوغ بعده للمرأة رفع أمر زوجها إلى القضاء، بطلب التفريق إن لم يطأ فيعذر القاضي إليه.(5/241)
قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا طَلَبَتِ الْمَرْأَةُ مِنَ الْقَاضِي أَنْ يَفْرِضَ لَهَا النَّفَقَةَ، فَفَرَضَ وَهُوَ مُعْسِرٌ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَأْمُرُهَا بِالاِسْتِدَانَةِ، ثُمَّ تَرْجِعُ عَلَى الزَّوْجِ إِذَا أَيْسَرَ، وَلاَ يَحْبِسُهُ فِي النَّفَقَةِ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ مُعْسِرٌ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمِ الْقَاضِي أَنَّهُ مُعْسِرٌ، وَسَأَلَتِ الْمَرْأَةُ حَبْسَهُ بِالنَّفَقَةِ، لاَ يَحْبِسُهُ الْقَاضِي فِي أَوَّل مَرَّةٍ، وَلَكِنْ يَأْمُرُهُ بِالإِْنْفَاقِ وَيُعْذَرُ إِلَيْهِ، بِأَنْ يُخْبِرَهُ أَنَّهُ يَحْبِسُهُ إِنْ لَمْ يُنْفِقْ. فَإِنْ عَادَتِ الْمَرْأَةُ بَعْدَ ذَلِكَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا حَبَسَهُ الْقَاضِي، وَكَذَا فِي دَيْنٍ آخَرَ غَيْرِ النَّفَقَةِ. وَإِذَا حَبَسَهُ الْقَاضِي شَهْرَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةً أَوْ أَرْبَعَةً يُسْأَل عَنْهُ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُقَدَّرٍ، بَل هُوَ مُفَوَّضٌ إِلَى رَأْيِ الْقَاضِي، إِنْ كَانَ فِي أَكْبَرِ رَأْيِهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ يَضْجَرُ وَيُؤَدِّي الدَّيْنَ يُخَلَّى سَبِيلُهُ، وَلاَ يُمْنَعُ الطَّالِبُ عَنْ مُلاَزَمَتِهِ، وَلاَ يَمْنَعُهُ عَنِ التَّصَرُّفِ. وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا لاَ يُخْرِجُهُ حَتَّى يُؤَدِّيَ الدَّيْنَ وَالنَّفَقَةَ إِلاَّ بِرِضَى الطَّالِبِ. فَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ حَاضِرٌ أَخَذَ الْقَاضِي الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ مِنْ مَالِهِ، وَيُؤَدِّي مِنْهَا النَّفَقَةَ وَالدَّيْنَ، لأَِنَّ صَاحِبَ الْحَقِّ لَوْ ظَفِرَ بِجِنْسِ حَقِّهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ، وَكَذَا إِذَا ظَفِرَ بِطَعَامٍ فِي النَّفَقَةِ. وَالْعَجْزُ عَنِ الإِْنْفَاقِ لاَ يُوجِبُ حَقَّ الْفِرَاقِ. (1)
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ لِلزَّوْجَةِ الْفَسْخَ بِطَلْقَةٍ رَجْعِيَّةٍ، إِنْ عَجَزَ زَوْجُهَا عَنْ نَفَقَةٍ حَاضِرَةٍ، وَلَهَا أَنْ تَبْقَى مَعَهُ، وَإِنْ عَلِمَتْ فَقْرَهُ عِنْدَ الْعَقْدِ فَلَيْسَ لَهَا ذَلِكَ. وَإِذَا أَرَادَتِ الْفَسْخَ رَفَعَتِ الأَْمْرَ لِلْحَاكِمِ فَيَأْمُرُهُ - إِنْ لَمْ يَثْبُتْ عُسْرُهُ بِبَيِّنَةٍ، أَوْ تَصْدِيقِهَا بِالنَّفَقَةِ أَوِ الْكِسْوَةِ إِنْ شَكَتْ عَدَمَهَا، أَوِ الطَّلاَقَ - وَيَقُول لَهُ: إِمَّا أَنْ تُنْفِقَ عَلَيْهَا أَوْ تُطَلِّقَهَا. وَإِنْ أَثْبَتَ عُسْرَهُ
__________
(1) هامش الهندية 1 / 432 - 438.(5/242)
ابْتِدَاءً، أَوْ بَعْدَ الأَْمْرِ بِالطَّلاَقِ، تَصْبِرُ لَهُ بِالاِجْتِهَادِ بِمَا يَرَاهُ الْحَاكِمُ مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ بِيَوْمٍ أَوْ أَكْثَرَ، وَزِيدَ فِي مُدَّةِ التَّلَوُّمِ إِنْ مَرِضَ أَوْ سُجِنَ بَعْدَ إِثْبَاتِ الْعُسْرِ، لاَ فِي زَمَنِ إِثْبَاتِهِ، فَيُزَادُ بِقَدْرِ مَا يُرْجَى لَهُ شَيْءٌ، وَهَذَا إِذَا رُجِيَ بُرْؤُهُ مِنَ الْمَرَضِ وَخَلاَصُهُ مِنَ السِّجْنِ عَنْ قُرْبٍ، وَإِلاَّ طَلَّقَ عَلَيْهِ وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ غِيَابُ الزَّوْجِ أَوْ حُضُورُهُ، وَالزَّوْجُ الْغَائِبُ الَّذِي يُتَلَوَّمُ لَهُ هُوَ الَّذِي لَمْ يُوجَدْ عِنْدَهُ مَا يُقَابِل النَّفَقَةَ، وَلَمْ يُعْلَمْ مَوْضِعُهُ، أَوْ زَادَتْ غَيْبَتُهُ عَلَى عَشَرَةِ أَيَّامٍ.
وَأَمَّا قَرِيبُ الْغَيْبَةِ كَثَلاَثَةِ أَيَّامٍ، فَإِنَّهُ يُرْسِل إِلَيْهِ الْحَاكِمُ، إِمَّا أَنْ تُنْفِقَ عَلَيْهَا أَوْ يُطَلِّقَ عَلَيْكَ. (1)
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْمُمْتَنِعَ مِنَ الإِْنْفَاقِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُوسِرًا أَوْ مُعْسِرًا.
فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا فَعِنْدَهُمْ قَوْلاَنِ، أَصَحُّهُمَا: أَنَّهُ لاَ يُفْسَخُ النِّكَاحُ حَاضِرًا كَانَ الزَّوْجُ أَوْ غَائِبًا، لاِنْتِفَاءِ الإِْعْسَارِ الْمُوجِبِ لِلْفَسْخِ، وَهِيَ مُتَمَكِّنَةٌ مِنْ تَحْصِيل حَقِّهَا بِالرَّفْعِ إِلَى الْحَاكِمِ. وَالثَّانِي: أَنَّ لَهَا الْفَسْخَ لِتَضَرُّرِهَا بِالْمَنْعِ.
وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا، فَإِنْ صَبَرَتْ، وَأَنْفَقَتْ مِنْ مَالِهَا أَوِ الْقَرْضِ صَارَتْ دَيْنًا عَلَيْهِ، وَإِلاَّ فَلَهَا الْفَسْخُ فِي الأَْظْهَرِ، كَمَا تَفْسَخُ بِالْجَبِّ وَالْعُنَّةِ، بَل هَذَا أَوْلَى، لأَِنَّ الصَّبْرَ عَلَى عَدَمِ الاِسْتِمْتَاعِ أَسْهَل مِنَ الصَّبْرِ عَلَى عَدَمِ النَّفَقَةِ، وَالثَّانِي: لاَ فَسْخَ لَهَا لأَِنَّ الْمُعْسِرَ مُنْظَرٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} (2) وَلاَ فَسْخَ حَتَّى يَثْبُتَ عِنْدَ قَاضٍ إِعْسَارُهُ بِالإِْقْرَارِ أَوِ الْبَيِّنَةِ.
ثُمَّ فِي قَوْلٍ يُنَجَّزُ الْفَسْخُ لِلإِْعْسَارِ بِالنَّفَقَةِ وَقْتَ
__________
(1) حاشية الدسوقي 2 / 518 - 519.
(2) سورة البقرة / 280.(5/242)
وُجُوبِ تَسْلِيمِهَا وَهُوَ طُلُوعُ الْفَجْرِ، وَلاَ يَلْزَمُ الإِْمْهَال، وَالأَْظْهَرُ إِمْهَالُهُ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ لِيَتَحَقَّقَ عَجْزُهُ، وَهِيَ مُدَّةٌ قَرِيبَةٌ يُتَوَقَّعُ فِيهَا الْقُدْرَةُ بِقَرْضٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَلَهَا الْفَسْخُ صَبِيحَةَ الرَّابِعِ بِنَفَقَتِهِ إِلاَّ أَنْ يُسَلِّمَ نَفَقَتَهُ.
وَلَوْ رَضِيَتْ بِإِعْسَارِهِ الْعَارِضِ، أَوْ نَكَحَتْهُ عَالِمَةً بِإِعْسَارِهِ فَلَهَا الْفَسْخُ بَعْدَهُ (1) . وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ كَمَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ فِي أَنَّ زَوْجَةَ الْمُعْسِرِ مُخَيَّرَةٌ بَيْنَ الصَّبْرِ عَلَيْهِ وَبَيْنَ فِرَاقِهِ. رُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَبِهِ قَال سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنُ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَرَبِيعَةُ وَحَمَّادٌ وَغَيْرُهُمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ.
وَلَمْ يُعْثَرْ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ عَلَى نَصٍّ فِي لُزُومِ الإِْعْذَارِ لِلإِْعْسَارِ عَنِ النَّفَقَةِ، وَالظَّاهِرُ مِنْ كَلاَمِهِمْ أَنَّهُ يُطَلِّقُ عَلَى الْفَوْرِ.
وَتَفْصِيل هَذِهِ الأَْحْكَامِ فِي مُصْطَلَحَيْ (إِعْسَارٌ، وَنَفَقَةٌ) (2) .
الإِْعْذَارُ إِلَى الْمُعْسِرِ بِمُعَجَّل الْمَهْرِ:
23 - إِذَا ثَبَتَ إِعْسَارُ الزَّوْجِ بِمُعَجَّل الصَّدَاقِ وَطَالَبَتْهُ الزَّوْجَةُ بِهِ فَهَل يُطَلَّقُ عَلَيْهِ فَوْرَ الثُّبُوتِ، أَوْ يُعْذَرُ إِلَيْهِ قَبْل الطَّلاَقِ، أَوْ لاَ إِعْذَارَ وَلاَ تَطْلِيقَ؟ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي التَّطْلِيقِ عَلَيْهِ وَفِي الإِْعْذَارِ إِلَيْهِ، فَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّهُ يُطَلَّقُ عَلَيْهِ لَكِنْ بَعْدَ الإِْعْذَارِ. وَلِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَقْوَالٌ وَتَفْصِيلاَتٌ فِي التَّطْلِيقِ عَلَيْهِ. أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَالُوا: لاَ يُطَلَّقُ عَلَيْهِ.
__________
(1) قليوبي وعميرة 4 / 81 - 83.
(2) المغني 77 / 573 - 577، واللجنة ترى أن تحديد الإعذار بمدة - كما تقدم هنا - ليس مبنيا على نص وإنما هو اجتهاد زمني تراعى فيه الظروف والملابسات التي تقنع القاضي بإعساره أو عدمه.(5/243)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ الزَّوْجَةَ إِنْ طَالَبَتِ الزَّوْجَ بِالصَّدَاقِ الْوَاجِبِ وَلَمْ يَجِدْهُ، فَإِنِ ادَّعَى الْعُدْمَ، وَلَمْ تُصَدِّقْهُ، وَلاَ أَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى صِدْقِهِ، وَلاَ مَال لَهُ ظَاهِرٌ، وَلَمْ يَغْلِبْ عَلَى الظَّنِّ عُسْرُهُ أَجَّلَهُ الْحَاكِمُ لإِِثْبَاتِ عُسْرِهِ، إِنْ أَعْطَى حَمِيلاً " كَفِيلاً " بِالْوَجْهِ، وَإِلاَّ حَبَسَهُ كَسَائِرِ الدُّيُونِ. وَمُدَّةُ التَّأْجِيل مَتْرُوكَةٌ لِلْقَاضِي. ثُمَّ إِذَا ثَبَتَ عُسْرُهُ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ صَدَّقَتْهُ تُلُوِّمَ لَهُ (تَمْكُثُ) بِالنَّظَرِ، وَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ عُسْرُهُ فِي مُدَّةِ التَّأْجِيل وَلَمْ تُصَدِّقْهُ، فَقَال الْحَطَّابُ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ يُحْبَسُ إِنْ جُهِل حَالُهُ لِيَسْتَبِينَ أَمْرُهُ، وَلَوْ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ عُسْرُهُ تُلُوِّمَ لَهُ ابْتِدَاءً. فَأَمَّا ظَاهِرُ الْمَلاَءَةِ (الْغِنَى) فَيُحْبَسُ إِلَى أَنْ يَأْتِيَ بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ بِعُسْرِهِ، إِلاَّ أَنْ يَحْصُل لَهَا ضَرَرٌ بِطُول الْمُدَّةِ فَلَهَا طَلَبُ التَّطْلِيقِ. (1)
وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى فَسْخِ النِّكَاحِ بِإِعْسَارِ الزَّوْجِ بِمُعَجَّل الْمَهْرِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ قَالُوا: يَثْبُتُ لَهَا الْفَسْخُ بِالإِْعْسَارِ، وَلَمْ يَذْكُرُوا إِعْذَارًا، لَكِنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ الْفَسْخَ لاَ يَكُونُ إِلاَّ مِنَ الْحَاكِمِ. (2)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَى عَدَمِ قَبْضِ الزَّوْجَةِ مُعَجَّل مَهْرِهَا أَنَّهَا تَمْلِكُ أَنْ تَمْتَنِعَ عَنِ الدُّخُول فِي طَاعَتِهِ، وَلاَ تَكُونُ بِذَلِكَ نَاشِزَةً، وَلَيْسَ لَهُ حَبْسُهَا وَمَنْعُهَا مِنَ السَّفَرِ وَغَيْرِهِ.
وَالْمَفْهُومُ مِنْ كَلاَمِهِمْ أَنَّهُ يَسْتَوِي فِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ سَبَبُ عَدَمِ الإِْقْبَاضِ الْعُسْرُ أَوْ غَيْرُهُ، لأَِنَّهُمْ ذَكَرُوا أَنَّ لَهَا الْمَنْعَ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ الْمُعَجَّل، فَيُفِيدُ الإِْطْلاَقَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنَّ لَهَا الاِمْتِنَاعَ مُطْلَقًا فِي
__________
(1) حاشية الدسوقي 2 / 299 - 300.
(2) المجموع 15 / 255 مكتبة الإرشاد، والمغني 7 / 579 ط الرياض.(5/243)
الْيَسَارِ وَالإِْعْسَارِ (1) وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (مَهْرٌ) .
إِعْذَارُ الْمَدِينِ:
24 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْمُوسِرَ إِذَا امْتَنَعَ مِنْ قَضَاءِ الدَّيْنِ فَإِنَّهُ يُحْبَسُ حَتَّى يُؤَدِّيَ الدَّيْنَ مُسْتَدِلِّينَ بِقَوْل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيُّ الْوَاجِدِ ظُلْمٌ. يُحِل عُقُوبَتَهُ وَعِرْضَهُ (2) فَعُقُوبَتُهُ حَبْسُهُ، وَعِرْضَهُ أَيْ يُحِل الْقَوْل بِالإِْغْلاَظِ لَهُ.
وَثُبُوتُ الْيَسَارِ يَكُونُ بِإِقْرَارِ الْمَدِينِ أَوْ بِالْبَيِّنَةِ، وَمُدَّةُ الْحَبْسِ مَحَل خِلاَفٍ كَمَا سَيَأْتِي.
وَإِذَا اخْتَلَفَ الدَّائِنُ وَالْمَدِينُ فِي الْيَسَارِ أَوِ الإِْعْسَارِ، فَفِي كُل مَذْهَبٍ تَفْصِيلاَتٌ وَأَحْكَامٌ.
وَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ يَسَارُهُ وَلاَ إِعْسَارُهُ فَإِنَّهُ يُمْهَل لِلتَّحَقُّقِ مِنْ أَمْرِهِ، فَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ، وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا عُوقِبَ بِالْحَبْسِ (3) وَتَفْصِيلُهُ فِي (دَيْنٌ) .
الإِْعْذَارُ عِنْدَ الأَْخْذِ لِلاِضْطِرَارِ:
25 - أَجْمَعَ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ عَلَى أَنَّ الأَْكْل لِلْغِذَاءِ وَالشُّرْبِ لِلْعَطَشِ - وَلَوْ مِنْ حَرَامٍ، أَوْ مَيْتَةٍ أَوْ مِنْ مَال غَيْرِهِ - فَرْضٌ يُثَابُ عَلَيْهِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ
__________
(1) فتح القدير 3 / 248 - 249.
(2) حديث: " لي الواجد يحل عقوبته وعرضه " أخرجه أحمد (4 / 222 - ط الميمنية) وأبو داود (سنن أبي داود 4 / 45، 46 ط استنبول) وابن ماجه (2 / 811 - ط الحلبي) وصححه الحاكم، وأقره الذهبي (المستدرك 4 / 102) ، قال عبد القادر الأرناؤوط محقق جامع الأصول: إسناده حسن (جامع الأصول 4 / 454، 455 نشر مكتبة الحلواني) .
(3) أنفع الوسائل 326 - 327، والشرح الكبير مع الدسوقي 3 / 369، 378، وأسنى المطالب 2 / 186 - 188، والمغني 4 / 498 - 500.(5/244)
لَيُؤْجِرُ فِي كُل شَيْءٍ، حَتَّى اللُّقْمَةُ يَرْفَعُهَا الْعَبْدُ إِلَى فِيهِ (1) فَإِنْ تَرَكَ الأَْكْل وَالشُّرْبَ حَتَّى هَلَكَ فَقَدْ عَصَى، لأَِنَّ فِيهِ إِلْقَاءَ النَّفْسِ إِلَى التَّهْلُكَةِ، وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيل بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (2) وَالْقَدْرُ الْوَاجِبُ هُوَ مَا يَدْفَعُ بِهِ الإِْنْسَانُ الْهَلاَكَ عَنْ نَفْسِهِ، وَالْمُبَاحُ إِلَى الشِّبَعِ، وَمَا فَوْقَ ذَلِكَ فَحَرَامٌ.
وَأَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ خَافَ الْمَوْتَ جُوعًا، وَمَعَ غَيْرِهِ طَعَامٌ زَائِدٌ عَنْ حَاجَتِهِ، أَخَذَ مِنْهُ قَدْرَ مَا يَسُدُّ جَوْعَتَهُ، وَكَذَا يَأْخُذُ مِنْهُ قَدْرَ مَا يَدْفَعُ الْعَطَشَ، فَإِنْ مَنَعَهُ أَخَذَهُ رَغْمًا عَنْهُ، فَإِنْ قَاتَلَهُ صَاحِبُ الطَّعَامِ فَلَهُ مُقَاتَلَتُهُ.
لَكِنْ عَلَى الْمُضْطَرِّ أَنْ يُعْذِرَ إِلَى صَاحِبِ الطَّعَامِ، فَيَقُول لَهُ: إِنْ لَمْ تُعْطِنِي قَاتَلْتُكَ عَلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يُعْطِهِ وَقَتَلَهُ، فَدَمُ صَاحِبِ الطَّعَامِ هَدَرٌ فِي صَرِيحِ مَذَاهِبِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. وَلَمْ يُصَرِّحِ الْحَنَفِيَّةُ بِحُكْمِ ذَلِكَ، وَلَكِنْ مُقْتَضَى قَوْلِهِمْ: أَنَّهُ يُبَاحُ لِلْمُضْطَرِّ قِتَال صَاحِبِ الطَّعَامِ أَنَّهُ إِنْ قَتَلَهُ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ. (3)
مَنْ لَهُ حَقُّ الإِْعْذَارِ؟ وَبِمَ يَكُونُ؟ وَجَزَاءُ الْمُمْتَنِعِ؟
26 - اتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ عَلَى أَنَّ الإِْعْذَارَ إِلَى
__________
(1) حديث: " إن الله ليؤجر في كل شيء حتى اللقمة. . . ". أخرجه البخاري من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه بلفظ " وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها، حتى ما تجعل في فِي امرأتك " ومسلم بلفظ مقارب (فتح الباري 3 / 164 ط السلفية، وصحيح مسلم 3 / 1250، 1251 ط عيسى الحلبي) .
(2) سورة البقرة / 195.
(3) ابن عابدين 5 / 296 وحاشية الدسوقي 2 / 115، وقليوبي وعميرة 4 / 263، والمغني 8 / 602، 603، ونهاية المحتاج 8 / 267.(5/244)
الْخَصْمِ هُوَ حَقُّ الْقَاضِي، فَلاَ يَمْلِكُ الْخَصْمُ إِجْبَارَ خَصْمِهِ عَلَى حُضُورِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ لِسَمَاعِ الْخُصُومَةِ مِنْ غَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي. لَكِنَّهُمْ قَالُوا: إِذَا طَلَبُ الْخَصْمُ مِنَ الْقَاضِي إِحْضَارَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ فِي حَالاَتٍ، وَفِي كُل مَذْهَبٍ تَفْصِيلٌ (1) يُنْظَرُ فِي مَوَاطِنِهِ مِنْ كِتَابِ الدَّعْوَى وَالْقَضَاءِ.
27 - وَيُلْحَظُ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ لَهُ حَقُّ الإِْعْذَارِ، وَفِي وَسِيلَتِهِ، وَجَزَاءُ الْمُمْتَنِعِ، الْقَصْدُ مِنْهُ إِعْلاَمُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِمَا ادُّعِيَ بِهِ عَلَيْهِ، وَقَطْعُ عُذْرِهِ لِئَلاَّ يَقُول بَعْدَ الْحُكْمِ عَلَيْهِ: إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ بِأَنَّ الأَْمْرَ سَيُؤَدِّي إِلَى مَا أَدَّى إِلَيْهِ مِنْ تَطْلِيقِ زَوْجَتِهِ، أَوْ إِلْزَامِهِ بِمَا ادُّعِيَ عَلَيْهِ مِنْ دَيْنٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ.
أَمَّا الْوَسَائِل الَّتِي ذَكَرَهَا الْفُقَهَاءُ لِلإِْعْذَارِ، وَكَيْفِيَّةُ ذَلِكَ فَإِنَّهَا تَتَّفِقُ وَمَا عُهِدَ فِي أَيَّامِهِمْ مِنْ إِجْرَاءَاتٍ، فَلَيْسَتْ مَبْنِيَّةً عَلَى نُصُوصٍ شَرْعِيَّةٍ وَاجِبَةِ الاِتِّبَاعِ، بَل هِيَ بِاجْتِهَادِهِمْ. وَقَدِ اسْتُحْدِثَتْ فِي هَذَا الْعَصْرِ وَسَائِل يُعْمَل بِهَا فِي الْمَحَاكِمِ، وَهِيَ تَتَّفِقُ وَمَا قَرَّرَهُ الْفُقَهَاءُ مِنْ قَصْدِ إِعْلاَمِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. فَتُنِيطُ بِمُوَظَّفِينَ طَلَبَ إِعْلاَنِ الْخُصُومِ بِأَوْرَاقٍ رَسْمِيَّةٍ يُوَقِّعُ عَلَيْهَا نَفْسُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، أَوْ مَنْ يُقِيمُ مَعَهُ مِنْ زَوْجٍ أَوْ وَلَدٍ أَوْ خَادِمٍ، وَهُنَاكَ حَالاَتٌ يُسْتَدْعَى فِيهَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِوَاسِطَةِ الشُّرْطَةِ إِذَا امْتَنَعَ مِنَ الْحُضُورِ، وَحَالاَتٌ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِغَرَامَةٍ مَالِيَّةٍ، وَالأَْصْل فِيهَا أَنَّهَا وَسَائِل مَشْرُوعَةٌ فَلاَ بَأْسَ مِنَ الْعَمَل بِهَا وَالسَّيْرِ عَلَيْهَا.
__________
(1) الفتاوى البزازية هامش الهندية 2 / 366، وحاشية البناني 7 / 155، والمغني 9 / 61 - 62.(5/245)
أَعْرَابٌ
اُنْظُرْ: بَدْوٌ.
أَعْرَجُ
التَّعْرِيفُ:
1 - الأَْعْرَجُ: مَنْ كَانَتْ بِهِ عِلَّةٌ لاَزِمَةٌ لَهُ فِي مِشْيَتِهِ. يُقَال: عَرَجَ فَهُوَ أَعْرَجُ (1) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - اعْتَبَرَ الْعُلَمَاءُ الْعَرَجَ عَيْبًا يُرَدُّ بِهِ الْعَبْدُ فِي الْبَيْعِ، وَيَمْنَعُ الإِْجْزَاءَ فِي الأُْضْحِيَّةِ إِذَا كَانَ عَرَجًا بَيِّنًا. (2)
كَمَا اعْتَبَرُوهُ فِي الأَْشْخَاصِ مِنَ الأَْعْذَارِ الَّتِي تُعْفِي مِنَ الْجِهَادِ. (3) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَى الأَْعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأَْعْرَجِ حَرَجٌ} (4)
وَتَفْصِيلُهُ فِي: (الأُْضْحِيَّةِ، وَالْبَيْعِ، وَالْجِهَادِ) .
__________
(1) المصباح المنير، ولسان العرب مادة (عرج) .
(2) الاختيار 1 / 173 ط دار المعرفة، والمغني 8 / 623 ط الرياض، ومواهب الجليل 3 / 241، وقليوبي وعميرة 4 / 251.
(3) ابن عابدين 3 / 221 ط بولاق، والمغني 8 / 347، والحطاب 3 / 349، وإعانة الطالبين 4 / 194 ط مصطفى الحلبي
(4) سورة النور / 61.(5/245)
إِعْسَارٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْعْسَارُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ أَعْسَرَ، وَهُوَ ضِدُّ الْيَسَارِ، وَالْعُسْرُ: اسْمُ مَصْدَرٍ وَهُوَ الضِّيقُ وَالشِّدَّةُ وَالصُّعُوبَةُ، قَال تَعَالَى: {سَيَجْعَل اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} (1)
وَفِي التَّنْزِيل: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} (2)
وَالْعُسْرَةُ: قِلَّةُ ذَاتِ الْيَدِ، وَكَذَلِكَ الإِْعْسَارُ. (3)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هُوَ عَدَمُ الْقُدْرَةِ عَلَى النَّفَقَةِ، أَوْ أَدَاءُ مَا عَلَيْهِ بِمَالٍ وَلاَ كَسْبَ. (4)
وَقِيل: هُوَ زِيَادَةُ خَرْجِهِ عَنْ دَخْلِهِ (5) ، وَهُمَا تَعْرِيفَانِ مُتَقَارِبَانِ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الإِْفْلاَسُ:
2 - الإِْفْلاَسُ مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ: الاِنْتِقَال مِنْ حَالَةِ الْيُسْرِ إِلَى حَالَةِ الْعُسْرِ. وَفِي الاِصْطِلاَحِ: أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ الَّذِي عَلَى الشَّخْصِ أَكْثَرَ مِنْ مَالِهِ، فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الإِْعْسَارِ أَنَّ الإِْفْلاَسَ لاَ يَنْفَكُّ عَنْ دَيْنٍ،
__________
(1) سورة الطلاق / 7.
(2) سورة البقرة / 280.
(3) لسان العرب، والصحاح مادة (عسر) .
(4) المهذب في فقه الإمام الشافعي 2 / 1662.
(5) قليوبي وعميرة 4 / 70.(5/246)
أَمَّا الإِْعْسَارُ فَقَدْ يَكُونُ عَنْ دَيْنٍ أَوْ عَنْ قِلَّةِ ذَاتِ الْيَدِ.
ب - الْفَقْرُ:
3 - الْفَقْرُ: لُغَةً الْحَاجَةُ، وَفِي الاِصْطِلاَحِ عَرَّفَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ الْفَقِيرَ: بِأَنَّهُ الَّذِي لاَ شَيْءَ لَهُ، وَالْمِسْكِينُ: الَّذِي لَهُ بَعْضُ مَا يَكْفِيهِ، وَعَرَّفَهُمَا بَعْضُهُمْ بِعَكْسِهِ. هَذَا إِذَا اجْتَمَعَا، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} (1) أَمَّا إِذَا افْتَرَقَا بِأَنْ ذُكِرَ أَحَدُهُمَا دُونَ الآْخَرِ، فَإِنَّ أَحَدَهُمَا يَدُل عَلَى مُطْلَقِ الْحَاجَةِ (2) .
مَا يَثْبُتُ بِهِ الإِْعْسَارُ:
4 - يَثْبُتُ الإِْعْسَارُ بِأُمُورٍ مِنْهَا:
أ - إِقْرَارُ الْمُسْتَحِقِّ (صَاحِبُ الدَّيْنِ) فَإِذَا أَقَرَّ أَنَّ مَدِينَهُ مُعْسِرٌ فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ بِإِقْرَارِهِ، وَيُخَلَّى سَبِيل الْمَدِينِ، لأَِنَّهُ اسْتَحَقَّ الإِْنْظَارَ بِالنَّصِّ. لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} (3) .
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مُلاَزَمَتُهُ خِلاَفًا لِلْحَنَفِيَّةِ حَيْثُ قَالُوا: لاَ يُمْنَعُ مِنْ مُلاَزَمَتِهِ (4) .
ب - وَيَثْبُتُ الإِْعْسَارُ بِأَدِلَّةٍ أُخْرَى كَالشَّهَادَةِ وَالْيَمِينِ وَالْقَرَائِنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. (5)
__________
(1) سورة التوبة / 60.
(2) الشرح الصغير 1 / 657 ط دار المعارف.
(3) سورة البقرة / 280.
(4) الاختيار شرح المختار للموصلي 1 / 260 ط مصطفى البابي الحلبي 1936، وحاشية الجمل على شرح المنهج 3 / 321، والشرح الكبير 3 / 280، والمغني 4 / 499 ط الرياض الحديثة.
(5) ابن عابدين 4 / 370، 651 - 653، وفتح القدير 6 / 446 - 447، والشرح الكبير 3 / 280، 4 / 185 - 189، 195 - 198 والتبصرة لابن فرحون المالكي 1 / 130 وما بعدها، والمهذب في فقه الإمام الشافعي 2 / 324، 330 وما بعدها، والمغني لابن قدامة 4 / 150 وما بعدها ط الرياض الحديثة.(5/246)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ (إِثْبَاتٌ) .
آثَارُ الإِْعْسَارِ
أَوَّلاً: آثَارُ الإِْعْسَارِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ الْمَالِيَّةِ:
أ - أَثَرُ الإِْعْسَارِ فِي سُقُوطِ الزَّكَاةِ بَعْدَ وُجُوبِهَا:
5 - قَدْ يَكُونُ سَبَبُ الإِْعْسَارِ تَلَفَ الْمَال الَّذِي فِيهِ الزَّكَاةُ عَلَى وَجْهٍ يَصِيرُ بِهِ الْمُزَكِّي مُعْسِرًا. وَعَلَى هَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ لَدَى الْمُزَكِّي غَيْرُ الْمَال التَّالِفِ فَهُوَ مُعْسِرٌ بِحَقِّ الزَّكَاةِ، فَيَثْبُتُ فِي ذِمَّتِهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، خِلاَفًا لِلْحَنَفِيَّةِ. (1)
وَتَفْصِيلُهُ فِي (الزَّكَاةِ) .
ب - أَثَرُ الإِْعْسَارِ فِي مَنْعِ وُجُوبِ الْحَجِّ ابْتِدَاءً:
6 - أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْحَجَّ لاَ يَجِبُ إِلاَّ عَلَى الْمُسْتَطِيعِ، وَمِنَ الاِسْتِطَاعَةِ الْقُدْرَةُ الْمَالِيَّةُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} (2) وَسُئِل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ السَّبِيل فَقَال: الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ (3) .
__________
(1) فتح القدير 2 / 152 - 154، والمهذب 1 / 147، 151، وكشاف القناع 2 / 163، 685 ط أنصار السنة، والمغني لابن قدامة 2 / 679 - 682 ط الرياض الحديثة.
(2) سورة آل عمران / 97.
(3) حديث: " سئل عن السبيل. . . " أخرجه الدارقطني من حديث جابر، ومن حديث علي بن أبي طالب، ومن حديث ابن مسعود، ومن حديث عائشة، ومن حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قال المباركفوري: طرقه كلها ضعيفة، وأخرجه الترمذي وحسنه، والبيهقي من حديث ابن عمر رضي الله عنهما وفي إسناديهما إبراهيم الخوزي، قال عنه المباركفوري: هو متروك الحديث، ورواه البيهقي عن الحسن البصري مرسلا قال أبو بكر بن المنذر: لا يثبت الحديث في ذلك مسندا، والصحيح من الروايات رواية الحسن المرسلة (سنن الدارقطني 2 / 215 - 218 ط شركة الطباعة الفنية، وتحفة الأحوذي 3 / 542، 543 نشر السلفية، وسنن البيهقي 4 / 327 ط الهند) .(5/247)
فَمَنْ لَمْ يَجِدِ الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ يَكُونُ مُعْسِرًا، فَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ ابْتِدَاءً.
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ الْمُعْسِرَ لَوْ تَكَلَّفَ الْحَجَّ بِدُونِ إِلْحَاقِ ضَرَرٍ بِغَيْرِهِ، مِثْل أَنْ يَمْشِيَ وَيَكْتَسِبَ بِصِنَاعَتِهِ، أَوْ مُعَاوَنَةِ مَنْ يُنْفِقُ عَلَيْهِ، وَلاَ يَسْأَل النَّاسَ، اسْتُحِبَّ لَهُ الْحَجُّ. وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُل ضَامِرٍ} (1)
فَقَدَّمَ ذِكْرَ الرِّجَال وَهُمُ الْمُشَاةُ.
أَمَّا مَنْ بَلَغَ وَاسْتَطَاعَ الْحَجَّ فَلَمْ يَحُجَّ ثُمَّ أَعْسَرَ، ثَبَتَ فِي ذِمَّتِهِ الْحَجُّ، وَعَلَيْهِ أَدَاؤُهُ إِذَا أَيْسَرَ، وَيَأْثَمُ إِذَا مَاتَ وَلَمْ يُؤَدِّهِ، فَإِنْ أَوْصَى وَلَهُ تَرِكَةٌ وَجَبَ الإِْحْجَاجُ عَنْهُ قَبْل تَقْسِيمِ التَّرِكَةِ. (2)
ج - أَثَرُ الإِْعْسَارِ فِي سُقُوطِ النَّذْرِ:
7 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ نَذَرَ التَّصَدُّقَ بِشَيْءٍ، وَلَيْسَ فِي مِلْكِهِ إِلاَّ أَقَل مِنْهُ، لاَ يَلْزَمُهُ غَيْرُهُ، لأَِنَّ النَّذْرَ بِمَا لاَ يَمْلِكُ لاَ يَصِحُّ. (3)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنْ نَذَرَ مَا لاَ يَمْلِكُ لَزِمَهُ إِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ لَزِمَهُ بَدَلُهُ أَوْ بَدَل بَدَلِهِ، فَلَوْ نَذَرَ بَدَنَةً لَزِمَتْهُ، فَإِنْ أَعْسَرَ عَنْهَا فَبَقَرَةٌ، فَإِنْ أَعْسَرَ عَنْهَا فَسَبْعُ شِيَاهٍ، فَلَوْ قَدَرَ عَلَى مَا دُونَ
__________
(1) سورة الحج / 27.
(2) المغني 3 / 219 ط الرياض، وكشاف القناع 2 / 393 ط الرياض، ونهاية المحتاج 3 / 245 ط المكتبة الإسلامية. والدر المختار وحاشية ابن عابدين 2 / 242، وجواهر الإكليل 1 / 166
(3) الاختيار شرح المختار 3 / 33، 34 ط مصطفى البابي الحلبي 1936، والمهذب 1 / 249، 253.(5/247)
السَّبْعَةِ مِنَ الْغَنَمِ فَإِنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ إِخْرَاجُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلاَمِ خَلِيلٍ وَالْمَوَّاقِ، وَفِي كَلاَمِ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ إِخْرَاجُ مَا دُونَ السَّبْعَةِ مِنَ الْغَنَمِ، ثُمَّ يُكَمِّل مَا بَقِيَ مَتَى أَيْسَرَ، لأَِنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِهَا كُلِّهَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ. (1)
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: مَنْ نَذَرَ طَاعَةً لاَ يُطِيقُهَا، أَوْ كَانَ قَادِرًا عَلَيْهَا فَعَجَزَ عَنْهَا فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، لِمَا رَوَى عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: نَذَرَتْ أُخْتِي أَنْ تَمْشِيَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ حَافِيَةً، فَأَمَرَتْنِي أَنْ أَسْتَفْتِيَ لَهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَفْتَيْتُهُ فَقَال: لِتَمْشِ وَلْتَرْكَبْ (2) .
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ.
قَال: وَمَنْ نَذَرَ نَذْرًا لاَ يُطِيقُهُ فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ (3)
د - أَثَرُ الإِْعْسَارِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ:
8 - إِذَا حَنِثَ الْحَالِفُ فِي الأَْيْمَانِ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَْيْمَانَ} (4) إِنْ شَاءَ أَعْتَقَ رَقَبَةً، وَإِنْ شَاءَ أَطْعَمَ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ أَوْ كَسَاهُمْ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ
__________
(1) جواهر الإكليل 1 / 244.
(2) حديث عقبة بن عامر قال: " نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله حافية. . . " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 79 ط السلفية) ومسلم 3 / 1264 ط الحلبي) .
(3) لمغني لابن قدامة 99 / 9، 30 - 31 ط الرياض الحديثة. وحديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا نذر في معصية الله. . . " أخرجه أحمد (6 / 247 - ط الميمنية) وإسناده صحيح.
(4) سورة البقرة / 225.(5/248)
كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} (1) عَلَى التَّخْيِيرِ بَيْنَهَا {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ} وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ) وَقِرَاءَتُهُ مَعَ شُذُوذِهَا عِنْدَ الْقُرَّاءِ هِيَ كَالْخَبَرِ الْمَشْهُورِ مِنْ حَيْثُ الرِّوَايَةُ.
فَمُقْتَضَى هَذَا أَنَّ الإِْعْسَارَ بِالْعِتْقِ أَوِ الإِْطْعَامِ أَوِ الْكِسْوَةِ يَنْتَقِل بِهِ الْمُعْسِرُ إِلَى الصِّيَامِ. ( x662 ;)
هـ - الإِْعْسَارُ بِقِيمَةِ الْمَاءِ لِلْوُضُوءِ وَالْغُسْل:
9 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ مُرِيدُ الْوُضُوءِ وَالْغُسْل إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِيَهُ بِثَمَنِ الْمِثْل وَقَدَرَ عَلَيْهِ فَإِنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَشْتَرِيَهُ، وَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَشْتَرِيَهُ بِأَكْثَرَ، وَالْكَثِيرُ مَا فِيهِ غَبْنٌ فَاحِشٌ، وَفِي مِقْدَارِ الْغَبْنِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ، وَأَوْلَى مَا قِيل فِيهِ: إِنَّهُ مَا لاَ يَدْخُل تَحْتَ تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ.
وَعَلَى هَذَا فَإِنْ أَعْسَرَ بِمَا لَزِمَهُ شِرَاءُ الْمَاءِ بِهِ، فَإِنَّهُ يَتَيَمَّمُ وَلَوْ كَانَ الْمَاءُ مَوْجُودًا. (3)
و أَثَرُ الإِْعْسَارِ فِي الْفِدْيَةِ:
10 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا
__________
(1) سورة المائدة / 89.
(2) الاختيار شرح المختار 3 / 4 - 5 ط مصطفى البابي الحلبي 1936، ونصب الراية 3 / 296، والمهذب في فقه الإمام الشافعي 2 / 130، 141 - 142، والشرح الكبير 2 / 131 - 133، وشرح الزرقاني على مختصر خليل 3 / 57 - 59، ونيل المآرب بشرح دليل الطالب 2 / 164 - 166، ومنار السبيل في شرح الدليل 2 / 435، 439.
(3) الاختيار 1 / 12، والمهذب 1 / 23، وقليوبي وعميرة 1 / 80 - 81، والذخيرة للقرافي ص 343 - 344، والشرح الصغير وحاشية الصاوي عليه 1 / 65 - 66، والشرح الكبير 1 / 152، 153، وجواهر الإكليل 1 / 27، 146، وابن عابدين 2 / 119، وتحفة المحتاج 3 / 440، والمغني 1 / 240، 3 / 141، ونيل المآرب 1 / 23، والإنصاف 3 / 291، وكشاف القناع 2 / 310 ط الرياض.(5/248)
أَعْسَرَ بِالْفِدْيَةِ فِي الصَّوْمِ سَقَطَتْ، وَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ تَعَالَى. وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا عَجَزَ عَنِ الْفِدْيَةِ تَبْقَى فِي ذِمَّتِهِ.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَالْفِدْيَةُ عِنْدَهُمْ مَنْدُوبَةٌ. (1)
ثَانِيًا: آثَارُ الإِْعْسَارِ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ:
أ - الإِْعْسَارُ بِمَئُونَةِ تَجْهِيزِ الْمَيِّتِ وَتَكْفِينِهِ:
11 - إِذَا مَاتَ الإِْنْسَانُ مُعْسِرًا فَكَفَنُهُ عَلَى مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ فِي حَال حَيَاتِهِ، وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَا نُقِل عَنْهُ - وَهُوَ الْمُفْتَى بِهِ - وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ، أَوْ كَانَ - وَهُوَ فَقِيرٌ - فَكَفَنُهُ عَلَى بَيْتِ الْمَال، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْتُ الْمَال مَعْمُورًا أَوْ مُنْتَظِمًا فَعَلَى الْمُسْلِمِينَ تَكْفِينُهُ (2) . وَتَفْصِيلُهُ فِي (تَكْفِينٌ) .
ب - الإِْعْسَارُ بِأُجْرَةِ الأَْجِيرِ وَأُجْرَةِ الْبَيْتِ وَنَحْوِهِ:
12 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الإِْجَارَةَ تُفْسَخُ بِالأَْعْذَارِ، كَمَا لَوْ آجَرَ دُكَّانًا أَوْ دَارًا ثُمَّ أَفْلَسَ - وَلَزِمَتْهُ دُيُونٌ لاَ يَقْدِرُ عَلَى قَضَائِهَا إِلاَّ بِثَمَنِ مَا آجَرَ - فَسَخَ الْقَاضِي الْعَقْدَ وَبَاعَهَا فِي الدُّيُونِ، لأَِنَّ فِي الْجَرْيِ عَلَى مُوجِبِ
__________
(1) المهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 185، 221، وجواهر الإكليل 1 / 146، ونيل المآرب بشرح دليل الطالب 1 / 97، 107، 108، ط مكتبة الفلاح، والاختيار شرح المختار 1 / 159 وما بعدها، والشرح الصغير 1 / 260 الطبعة الثانية بالمطبعة العامرة المليجية 1335 هـ، ومنار السبيل 1 / 251 - 253، المكتب الإسلامي.
(2) شرح السراجية للجرجاني 3 - 7، وابن عابدين 1 / 580 - 581 ط دار إحياء التراث العربي، وفتح القدير 2 / 76 - 77، والمهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 136 - 137، وحاشية الجمل على شرح المنهج 2 / 163، 164، والشرح الصغير وحاشية الصاوي عليه 1 / 180 - 181، والشرح الكبير 1 / 413 - 414، ونيل المآرب بشرح دليل الطالب 1 / 78، والمغني لابن قدامة 2 / 388 - 389 مكتبة القاهرة.(5/249)
الْعَقْدِ إِلْزَامَ ضَرَرٍ زَائِدٍ لَمْ يُسْتَحَقَّ بِالْعَقْدِ، وَهُوَ الْحَبْسُ، لأَِنَّهُ قَدْ لاَ يُصَدَّقُ عَلَى عَدَمِ مَالٍ آخَرَ. (1)
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَجْرُ الأَْجِيرِ دَيْنٌ، وَمَتَى كَانَ عَلَى رَجُلٍ، وَكَانَ مُؤَجَّلاً، لَمْ يَجُزْ مُطَالَبَتُهُ بِهِ حَتَّى يَحِينَ أَجَلُهُ، لأَِنَّهُ لَوْ جَازَ مُطَالَبَتُهُ بِهِ سَقَطَتْ فَائِدَةُ التَّأْجِيل. وَإِنْ كَانَ حَالًّا، فَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا لَمْ يَجُزْ مُطَالَبَتُهُ بِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} وَلاَ يَمْلِكُ مُلاَزَمَتَهُ، لأَِنَّ كُل دَيْنٍ لاَ يَمْلِكُ الْمُطَالَبَةَ بِهِ لَمْ يَمْلِكِ الْمُلاَزَمَةَ عَلَيْهِ كَالدَّيْنِ الْمُؤَجَّل. فَإِنْ كَانَ يُحْسِنُ صَنْعَةً فَطَلَبَ الْغَرِيمُ أَنْ يُؤَجِّرَ نَفْسَهُ لِيَكْسِبَ مَا يُعْطِيهِ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى ذَلِكَ، لأَِنَّهُ إِجْبَارٌ عَلَى التَّكَسُّبِ، فَلَمْ يَجُزْ كَالإِْجْبَارِ عَلَى التِّجَارَةِ، وَإِنْ أَكْرَى أَرْضًا فَأَفْلَسَ الْمُكْتَرِي بِالأُْجْرَةِ، فَإِنْ كَانَ قَبْل اسْتِيفَاءِ شَيْءٍ مِنَ الْمَنَافِعِ فَلَهُ أَنْ يَفْسَخَ، لأَِنَّ الْمَنَافِعَ فِي الإِْجَارَةِ كَالأَْعْيَانِ الْمَبِيعَةِ فِي الْبَيْعِ، ثُمَّ إِذَا أَفْلَسَ الْمُشْتَرِي وَالْعَيْنُ بَاقِيَةٌ ثَبَتَ لَهُ الْفَسْخُ، فَكَذَلِكَ إِذَا أَفْلَسَ الْمُكْتَرِي وَالْمَنَافِعُ بَاقِيَةٌ وَجَبَ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ الْفَسْخُ. (2)
ج - إِعْسَارُ الْمُحَال عَلَيْهِ:
13 - لاَ يَرْجِعُ الْمَدِينُ عَلَى الْمُحِيل إِلاَّ أَنْ يَمُوتَ الْمُحَال عَلَيْهِ مُفْلِسًا، أَوْ يَجْحَدُ وَلاَ بَيِّنَةَ عَلَيْهِ، لأَِنَّهُ عَجَزَ عَنِ الْوُصُول إِلَى حَقِّهِ، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْحَوَالَةِ سَلاَمَةُ حَقِّهِ، فَكَانَتْ مُقَيَّدَةً بِالسَّلاَمَةِ، فَإِذَا فَاتَتِ السَّلاَمَةُ انْفَسَخَتْ كَالْعَيْبِ فِي الْمَبِيعِ. هَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَزَادَ الصَّاحِبَانِ أَنَّهُ يَرْجِعُ بِوَجْهٍ آخَرَ أَيْضًا، وَهُوَ أَنْ يَحْكُمَ الْحَاكِمُ بِإِفْلاَسِهِ فِي حَيَاتِهِ، بِنَاءً
__________
(1) تكملة فتح القدير 8 / 76 - 87، والاختيار شرح المختار 1 / 233.
(2) المهذب 1 / 334، 335.(5/249)
عَلَى أَنَّ الإِْفْلاَسَ يَتَحَقَّقُ عِنْدَهُمَا بِقَضَاءِ الْقَاضِي، وَعِنْدَهُ لاَ. (1)
وَهِيَ كَذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، فَإِنْ أَحَالَهُ عَلَى مَلِيءٍ فَأَفْلَسَ أَوْ جَحَدَ الْحَقَّ وَحَلَفَ عَلَيْهِ لَمْ يَرْجِعْ إِلَى الْمُحِيل، لأَِنَّهُ انْتَقَل حَقُّهُ إِلَى مَالٍ يَمْلِكُ بَيْعَهُ فَسَقَطَ حَقُّهُ فِي الرُّجُوعِ، كَمَا لَوْ أَخَذَ بِالدَّيْنِ سِلْعَةً ثُمَّ تَلِفَتْ بَعْدَ الْقَبْضِ.
وَإِنْ أَحَالَهُ عَلَى رَجُلٍ بِشَرْطِ أَنَّهُ مَلِيءٌ فَبَانَ أَنَّهُ مُعْسِرٌ، فَقَدْ ذَكَرَ الْمُزَنِيُّ أَنَّهُ لاَ خِيَارَ لَهُ، وَأَنْكَرَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ هَذَا وَقَال: لَهُ الْخِيَارُ، لأَِنَّهُ غَرَّهُ بِالشَّرْطِ فَثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ، كَمَا لَوْ بَاعَهُ بَقَرَةً بِشَرْطِ أَنَّهَا حَلُوبٌ، ثُمَّ بَانَ أَنَّهَا لَيْسَتْ كَذَلِكَ.
وَقَال عَامَّةُ الأَْصْحَابِ: لاَ خِيَارَ لَهُ لأَِنَّ الإِْعْسَارَ نَقْصٌ، فَلَوْ ثَبَتَ بِهِ الْخِيَارُ لَثَبَتَ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ كَالْعَيْبِ فِي الْمَبِيعِ، وَيُخَالِفُ الصِّفَةَ الْمَرْغُوبَةَ، فَإِنَّ عَدَمَهَا لَيْسَ بِنَقْصٍ وَإِنَّمَا هُوَ عَدَمُ فَضِيلَةٍ، فَاخْتَلَفَ الأَْمْرُ فِيهِ بَيْنَ أَنْ يُشْرَطَ وَبَيْنَ أَلاَّ يُشْرَطَ. (2)
وَالْمَالِكِيَّةُ كَذَلِكَ يَرَوْنَ أَنَّهُ إِنْ شَرَطَ الْمُحَال عَلَى الْمُحِيل إِنْ أَفْلَسَ الْمُحَال عَلَيْهِ رَجَعَ عَلَى الْمُحِيل فَلَهُ شَرْطُهُ. وَنَقَلَهُ الْبَاجِيُّ كَأَنَّهُ الْمَذْهَبُ، وَقَال ابْنُ رُشْدٍ: هَذَا صَحِيحٌ لاَ أَعْلَمُ فِيهِ خِلاَفًا. (3)
__________
(1) الاختيار شرح المختار 2 / 67 - 68 ط مصطفى الحلبي 1936.
(2) المهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 344 - 345 ط مصطفى الحلبي.
(3) لشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 33 / 325، 328، والشرح الصغير وحاشية الصاوي عليه 2 / 139 - 141 الطبعة الثانية بالمطبعة العامرة المليجية 1335 هـ.(5/250)
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ قَالُوا: مَتَى تَوَفَّرَتِ الشُّرُوطُ بَرِئَ الْمُحِيل مِنَ الدَّيْنِ بِمُجَرَّدِ الْحَوَالَةِ، لأَِنَّهُ قَدْ تَحَوَّل مِنْ ذِمَّتِهِ، فَإِنْ أَفْلَسَ الْمُحَال عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ مَاتَ أَوْ جَحَدَ الدَّيْنَ فَلاَ يَرْجِعُ عَلَى الْمُحِيل، كَمَا لَوْ أَبْرَأَهُ، لأَِنَّ الْحَوَالَةَ بِمَنْزِلَةِ الإِْيفَاءِ.
وَمَتَى لَمْ تَتَوَفَّرِ الشُّرُوطُ لَمْ تَصِحَّ الْحَوَالَةُ، وَإِنَّمَا تَكُونُ وَكَالَةً.
قَال الشَّمْسُ ابْنُ أَبِي عُمَرَ: وَإِذَا لَمْ يَرْضَ الْمُحَال ثُمَّ بَانَ الْمُحَال عَلَيْهِ مُفَلِّسًا أَوْ مَيِّتًا رَجَعَ بِغَيْرِ خِلاَفٍ. وَإِنْ رَضِيَ مَعَ الْجَهْل بِحَالِهِ رَجَعَ، لأَِنَّ الْفَلَسَ عَيْبٌ فِي الْمُحَال عَلَيْهِ. وَإِنْ شَرَطَ مَلاَءَةَ الْمُحَال عَلَيْهِ فَبَانَ مُعْسِرًا رَجَعَ. لِحَدِيثِ: الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ (1) .
__________
(1) منار السبيل في شرح الدليل 11 / 364 - 366 ط المكتب الإسلامي، نيل المآرب بشرح دليل الطالب 1 / 141 - 142. وحديث: " المؤمنون. . . " أخرجه الترمذي من حديث عمرو بن عوف المزني مرفوعا بلفظ " المسلمون على شروطهم " وقال: هذا حديث حسن صحيح. ونوقش الترمذي في تصحيح هذا الحديث، فإن في إسناده كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف وهو ضعيف جدا. قال فيه الشافعي وأبو داود وأخرجه أبو داود والحاكم من طريق كثير بن زيد عن الوليد بن رباح عن أبي هريرة مرفوعا، قال الذهبي: لم يصححه (الحاكم) وكثير ضعفه النسائي ومشاه غيره، قال المنذري في إسناده كثير ابن زيد. قال عنه ابن معين: ثقة، وقال مرة: ليس بشيء، وقال مرة: ليس بذاك القوي، وتكلم فيه غير واحد. وأورد الشوكاني طرق الحديث المختلفة وقال: لا يخفى أن الأحاديث المذكورة والطرق يشهد بعضها لبعض، فأقل أحوالها أن يكون المتن الذي اجتمعت عليه حسنا (تحفة الأحوذي 4 / 584 - 585 نشر السلفية، وعون المعبود 3 / 332 - 333 ط الهند، والمستدرك 2 / 49 نشر دار الكتاب العربي، ونيل الأوطار 5 / 286 - 287 ط مصطفى الحلبي) .(5/250)
د - إِعْسَارُ الزَّوْجِ بِالْمَهْرِ الْمُسَمَّى:
14 - يُفَصِّل الشَّافِعِيَّةُ فِي إِعْسَارِ الزَّوْجِ بِالْمَهْرِ بَيْنَ حَالَتَيْنِ:
أَوَّلاَهُمَا: إِنْ كَانَ قَبْل الدُّخُول ثَبَتَ لَهَا الْخِيَارُ فِي فَسْخِ النِّكَاحِ، لأَِنَّهُ يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ بِالإِْفْلاَسِ بِالْمَهْرِ، وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: إِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُول لَمْ يَجُزِ الْفَسْخُ، لأَِنَّ الزَّوْجَ اسْتَوْفَى حَقَّهُ فَلَمْ يُفْسَخْ بِالإِْعْسَارِ، وَقَدْ وَافَقَهُمُ الْحَنَابِلَةُ فِي وَجْهٍ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ.
وَهُنَاكَ وَجْهٌ آخَرُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ لاَ يَثْبُتُ لَهَا خِيَارُ الْفَسْخِ مُطْلَقًا، لاَ قَبْل الدُّخُول وَلاَ بَعْدَهُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ حَامِدٍ، لأَِنَّ الْمَهْرَ دَيْنٌ فِي الذِّمَّةِ، فَلاَ يُفْسَخُ النِّكَاحُ لِلإِْعْسَارِ بِهِ، كَالنَّفَقَةِ الْمَاضِيَةِ، وَلأَِنَّ تَأْخِيرَهُ لَيْسَ فِيهِ ضَرَرٌ مُجْحِفٌ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ دَعَتْ زَوْجَهَا لِلدُّخُول بِهَا، وَطَلَبَتْ حَال الصَّدَاقِ فَلَمْ يَجِدْهُ، وَادَّعَى الْعُدْمَ وَلَمْ تُصَدِّقْهُ، وَلَمْ يَثْبُتْ عُدْمُهُ بِبَيِّنَةٍ، وَلَيْسَ لَهُ مَالٌ ظَاهِرٌ، أَمْهَلَهُ الْحَاكِمُ لإِِثْبَاتِ عُسْرِهِ (فَقْرِهِ) ، ثُمَّ إِذَا ثَبَتَ عُسْرُهُ، أَوْ صَدَّقَتْهُ فِيهِ زِيدَ لَهُ فِي الأَْجَل بِاجْتِهَادِ الْحَاكِمِ، فَإِنْ أَتَى بِشَيْءٍ وَإِلاَّ عَجَّزَهُ.
وَوُجُوبُ التَّلَوُّمِ لِمَنْ ثَبَتَ عُسْرُهُ وَلاَ يُرْجَى يَسَارُهُ - لأَِنَّ الْغَيْبَ قَدْ يَكْشِفُ عَنِ الْعَجَائِبِ - هُوَ تَأْوِيل الأَْكْثَرِ. وَصَحَّحَ - أَيْ صَوَّبَهُ - الْمُتَيْطِيُّ وَعِيَاضٌ، وَعَدَمُ التَّلَوُّمِ لِمَنْ لاَ يُرْجَى يَسَارُهُ، فَيُطْلَقُ عَلَيْهِ نَاجِزًا هُوَ تَأْوِيلٌ فَضَل عَلَى الْمُدَوَّنَةِ.
ثُمَّ بَعْدَ انْقِضَاءِ الأَْجَل طَلَّقَ عَلَيْهِ، بِأَنْ يُطَلِّقَ الْحَاكِمُ، أَوْ تُوقِعَهُ الزَّوْجَةُ ثُمَّ يَحْكُمَ الْحَاكِمُ، عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي ذَلِكَ. وَوَجَبَ عَلَى الزَّوْجِ الْمُطَلِّقِ لِعَجْزِهِ(5/251)
عَنِ الْمَهْرِ نِصْفُهُ يَدْفَعُهُ إِنْ أَيْسَرَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْل أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} (1)
وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ: فَلاَ يُجِيزُونَ الْفَسْخَ بِالإِْعْسَارِ بِالْمَهْرِ أَوْ غَيْرِهِ، وَلِلزَّوْجَةِ قَبْل الدُّخُول مَنْعُ تَسْلِيمِ نَفْسِهَا لِلزَّوْجِ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ مُعَجَّل صَدَاقِهَا. (2)
هـ - إِعْسَارُ الْمَدِينِ بِمَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ. وَهَل يُحْبَسُ بِذَلِكَ أَمْ لاَ؟
15 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا ثَبَتَ الْحَقُّ لِلْمُدَّعِي فَطَلَبَ مِنَ الْقَاضِي حَبْسَ الْمَدِينِ، أَمَرَهُ الْقَاضِي بِدَفْعِ مَا عَلَيْهِ، فَإِنِ امْتَنَعَ حَبَسَهُ، لأَِنَّهُ ظَهَرَ ظُلْمُهُ.
لِلْحَدِيثِ لَيُّ الْوَاجِدِ ظُلْمٌ يُحِل عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ (3) . وَالْعُقُوبَةُ الْحَبْسُ.
فَإِنْ أَقَرَّ الْمُدَّعِي أَنَّ غَرِيمَهُ مُعْسِرٌ خُلِّيَ سَبِيلُهُ، لأَِنَّهُ اسْتَحَقَّ الإِْنْظَارَ بِالنَّصِّ، وَلاَ يُمْنَعُ مِنَ الْمُلاَزَمَةِ. وَإِنْ قَال الْمُدَّعِي: هُوَ مُوسِرٌ، وَهُوَ يَقُول: أَنَا مُعْسِرٌ، فَإِنْ كَانَ الْقَاضِي يَعْرِفُ يَسَارَهُ، أَوْ كَانَ الدَّيْنُ بَدَل مَالٍ كَالثَّمَنِ وَالْقَرْضِ، أَوِ الْتَزَمَهُ كَالْمَهْرِ وَالْكَفَالَةِ وَبَدَل الْخُلْعِ وَنَحْوِهِ حَبَسَهُ، لأَِنَّ الظَّاهِرَ بَقَاءُ مَا حَصَل فِي يَدِهِ، وَالْتِزَامُهُ يَدُل عَلَى الْقُدْرَةِ،
__________
(1) سورة البقرة / 227.
(2) رد المحتار على الدر المختار 2 / 656، 4 / 315 - 317، وفتح القدير 4 / 258 - 260. والمهذب في فقه الإمام الشافعي 2 / 62، وجواهر الإكليل 1 / 307 - 308، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 2 / 299 - 300، والمغني لابن قدامة 7 / 579 ط الرياض الحديثة، والمقنع لابن قدامة 3 / 98 ط السلفية.
(3) حديث " لي الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته " أخرجه أبو داود (4 / 45 - ط عزت عبيد دعاس) وحسنه ابن حجر في الفتح (4 / 62 - السند) .(5/251)
وَلاَ يَحْبِسُهُ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ إِذَا ادَّعَى الْفَقْرَ، لأَِنَّهُ الأَْصْل، وَذَلِكَ مِثْل ضَمَانِ الْمُتْلَفَاتِ وَأُرُوشِ الْجِنَايَاتِ وَنَفَقَةِ الأَْقَارِبِ وَالزَّوْجَاتِ، إِلاَّ أَنْ تَقُومَ الْبَيِّنَةُ أَنَّ لَهُ مَالاً فَيَحْبِسُهُ، لأَِنَّهُ ظَالِمٌ. فَإِذَا حَبَسَهُ مُدَّةً يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَالٌ لَهُ أَظْهَرَهُ، وَسَأَل عَنْ حَالِهِ فَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ مَالٌ، خَلَّى سَبِيلَهُ، لأَِنَّ الظَّاهِرَ إِعْسَارُهُ فَيَسْتَحِقُّ الإِْنْظَارَ. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ لَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ بِإِعْسَارِهِ. وَتُقْبَل بَيِّنَةُ الإِْعْسَارِ بَعْدَ الْحَبْسِ بِالإِْجْمَاعِ وَقَبْلَهُ لاَ. وَالْفَرْقُ أَنَّهُ وَجَدَ بَعْدَ الْحَبْسِ قَرِينَةً، وَهُوَ تَحَمُّل شِدَّةِ الْحَبْسِ وَمَضَايِقِهِ، وَذَلِكَ دَلِيل إِعْسَارِهِ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ قَبْل الْحَبْسِ، وَقِيل تُقْبَل فِي الْحَالَتَيْنِ، وَإِنْ قَامَتِ الْبَيِّنَةُ عَلَى يَسَارِهِ أَبَدًا حَبَسَهُ لِظُلْمِهِ حَتَّى يُؤَدِّيَ مَا عَلَيْهِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي مُدَّةِ الْحَبْسِ، قِيل: شَهْرَانِ أَوْ ثَلاَثَةٌ، وَبَعْضُهُمْ قَدَّرَهُ بِشَهْرٍ، وَبَعْضُهُمْ بِأَرْبَعَةٍ، وَبَعْضُهُمْ بِسِتَّةٍ. وَلَمَّا كَانَ النَّاسُ يَخْتَلِفُونَ فِي احْتِمَال الْحَبْسِ، وَيَتَفَاوَتُونَ تَفَاوُتًا كَثِيرًا فَإِنَّهُ يُفَوَّضُ إِلَى رَأْيِ الْقَاضِي. (1)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُحْبَسُ الْمَدِينُ (2) الْمَجْهُول إِذَا ادَّعَى الْعُدْمَ لِيَسْتَبِينَ أَمْرُهُ بِإِثْبَاتٍ، وَمَحَل حَبْسِهِ مَا لَمْ يَسْأَل الصَّبْرَ وَالتَّأْخِيرَ إِلَى إِثْبَاتِ عُسْرِهِ، وَإِلاَّ أُخِّرَ مَعَ كَفَالَةِ كَفِيلٍ وَلَوْ بِالنَّفْسِ، وَيُحْبَسُ إِنْ جُهِل حَالُهُ إِلَى أَنْ يَثْبُتَ عُسْرُهُ، وَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِهِ الْحَمِيل (الْكَفِيل) غَرِمَ مَا عَلَيْهِ إِلاَّ أَنْ يَثْبُتَ عُسْرُهُ.
وَثُبُوتُ عُسْرِهِ يَكُونُ بِشَهَادَةِ عَدْلَيْنِ يَشْهَدَانِ أَنَّهُمَا
__________
(1) الاختيار شرح المختار 1 / 260 - 261 ط مصطفى الحلبي 1936
(2) المراد بالمدين الذي عليه الدين. أحاطت الديون بماله أم لا سواء كان ذكرا أو أنثى.(5/252)
لاَ يَعْرِفَانِ لَهُ مَالاً ظَاهِرًا وَلاَ بَاطِنًا، وَيَحْلِفُ عَلَى ذَلِكَ لَكِنْ عَلَى الْبَتِّ، وَيَزِيدُ فِي مِينِهِ: وَإِنْ وَجَدْتُ الْمَال لأََقْضِيَنَّهُ عَاجِلاً، وَإِنْ كُنْتُ مُسَافِرًا عَجَّلْتُ الأَْوْبَةَ (الإِْيَابَ) . وَبَعْدَ الْحَلِفِ يَجِبُ إِطْلاَقُهُ وَإِنْظَارُهُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} .
فَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ عُسْرُهُ وَطَال حَبْسُهُ فَإِنَّهُ يُطَلِّقُ، لَكِنْ بَعْدَ حَلِفِهِ أَنَّهُ لاَ مَال عِنْدَهُ.
وَلاَ حَبَسَ عَلَى مُعْدَمٍ ثَابِتِ الْعُدْمِ، لِلآْيَةِ الْمَذْكُورَةِ، لأَِنَّ حَبْسَهُ لاَ يَحْصُل بِهِ فَائِدَةٌ، وَيَجِبُ عَلَى الْمَدِينِ أَنْ يُوصِيَ بِمَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ، فَإِنْ مَاتَ وَلَمْ يُوجَدْ لَهُ مَالٌ وُفِّيَ عَنْهُ مِنْ بَيْتِ الْمَال، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَمَنْ تُوُفِّيَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فَعَلَيَّ قَضَاؤُهُ، وَمَنْ تَرَكَ مَالاً فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيُّ: إِذَا ثَبَتَ عَلَيْهِ الدَّيْنُ بِيعَ مَا ظَهَرَ لَهُ وَدُفِعَ وَلَمْ يُحْبَسْ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ حُبِسَ وَبِيعَ مَا قُدِرَ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ، فَإِنْ ذَكَرَ عُسْرَهُ قُبِلَتْ مِنْهُ الْبَيِّنَةُ، لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَل: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} (2) . وَأُحَلِّفُهُ مَعَ ذَلِكَ بِاَللَّهِ وَأُخَلِّيهِ، وَمَنَعْتُ غُرَمَاءَهُ مِنْ لُزُومِهِ، حَتَّى تَقُومَ بَيِّنَةٌ أَنَّهُ قَدْ أَفَادَ مَالاً، فَإِنْ شَهِدُوا أَنَّهُمْ رَأَوْا فِي يَدِهِ مَالاً سُئِل، فَإِنْ قَال مُضَارَبَةٌ قُبِلَتْ مَعَ يَمِينِهِ، وَلاَ غَايَةَ لِحَبْسِهِ أَكْثَرَ مِنَ الْكَشْفِ عَنْهُ، فَمَتَى اسْتَقَرَّ عِنْدَ الْحَاكِمِ مَا وَصَفْتُ
__________
(1) لفواكه الدواني 22 / 325، 326، والفروق للقرافي 2 / 10 - 11 (المسألة الرابعة) . وحديث: " من توفي من المؤمنين. . . " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 4767 ط السلفية) ، ومسلم 2 / 1237 ط الحلبي) .
(2) سورة البقرة / 280.(5/252)
لَمْ يَكُنْ لَهُ حَبْسُهُ، وَلاَ يَغْفُل الْمَسْأَلَةَ عَنْهُ. (1)
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ دَيْنٌ حَالٌّ فَطُولِبَ بِهِ وَلَمْ يُؤَدِّهِ، نَظَرَ الْحَاكِمُ، فَإِنْ كَانَ فِي يَدِهِ مَالٌ ظَاهِرٌ أَمَرَهُ بِالْقَضَاءِ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ لَهُ مَالاً ظَاهِرًا فَادَّعَى الإِْعْسَارَ وَصَدَّقَهُ غَرِيمُهُ لَمْ يُحْبَسْ وَوَجَبَ إِنْظَارُهُ، وَلَمْ تَجُزْ مُلاَزَمَتُهُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} وَلِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِغُرَمَاءِ الَّذِي كَثُرَ دَيْنُهُ: خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ، وَلَيْسَ لَكُمْ إِلاَّ ذَلِكَ (2)
وَلأَِنَّ الْحَبْسَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لإِِثْبَاتِ عُسْرَتِهِ أَوْ لِقَضَاءِ دَيْنِهِ، وَعُسْرَتُهُ ثَابِتَةٌ، وَالْقَضَاءُ مُتَعَذِّرٌ، فَلاَ فَائِدَةَ فِي الْحَبْسِ. وَإِنْ كَذَّبَهُ غَرِيمُهُ فَلاَ يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ عُرِفَ لَهُ مَالٌ أَوْ لَمْ يُعْرَفْ، فَإِنْ عُرِفَ لَهُ مَالٌ لِكَوْنِ الدَّيْنِ ثَبَتَ عَنْ مُعَاوَضَةٍ، كَالْقَرْضِ وَالْبَيْعِ، أَوْ عُرِفَ لَهُ أَصْل مَالٍ سِوَى هَذَا. فَالْقَوْل قَوْل غَرِيمِهِ مَعَ يَمِينِهِ، فَإِذَا حَلَفَ أَنَّهُ ذُو مَالٍ حُبِسَ حَتَّى تَشْهَدَ الْبَيِّنَةُ بِإِعْسَارِهِ. قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَكْثَرُ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ عُلَمَاءِ الأَْمْصَارِ وَقُضَاتِهِمْ يَرَوْنَ الْحَبْسَ فِي الدَّيْنِ. (3)
و الإِْعْسَارُ بِدَفْعِ الْجِزْيَةِ (الْجِزْيَةُ الْمَفْرُوضَةُ، وَالْجِزْيَةُ الْمُصَالَحُ عَلَيْهَا) :
16 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ جِزْيَةَ عَلَى فَقِيرٍ غَيْرِ مُتَكَسِّبٍ لأَِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ شَرَطَ كَوْنَهُ مُعْتَمِلاً (أَيْ
__________
(1) ختصر المزني 104 ط دار المعرفة. ولا يخرج عنه ما ورد في المهذب ذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 326 - 327.
(2) حديث: " خذوا ما وجدتم. . . " صحيح مسلم (3 / 1191 ط الحلبي) .
(3) المغني لابن قدامة 4 / 499 ط الرياض الحديثة.(5/253)
مُتَكَسِّبًا) وَهُوَ دَلِيل عَدَمِ وُجُوبِهَا عَلَى الْفَقِيرِ غَيْرِ الْمُعْتَمِل، وَلأَِنَّهُ غَيْرُ مُطِيقٍ لِلأَْدَاءِ حَيْثُ لاَ يَقْدِرُ عَلَى الْعَمَل.
لَكِنْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ إِذَا أَيْسَرَ الْفَقِيرُ بَعْدَ وَضْعِ الْجِزْيَةِ عَنْهُ وَجَبَتْ عَلَيْهِ، لأَِنَّهُ أَهْلٌ لِلْجِزْيَةِ، وَإِنَّمَا سَقَطَتْ عَنْهُ لِلْعَجْزِ وَقَدْ زَال (1) ، وَلاَ يُحَاسَبُ بِمَا مَضَى.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: الذِّمِّيُّ الْفَقِيرُ يُضْرَبُ عَلَيْهِ بِوُسْعِهِ (أَيْ بِقَدْرِ طَاقَتِهِ) وَلَوْ دِرْهَمًا إِنْ كَانَ لَهُ طَاقَةٌ، وَإِلاَّ سَقَطَتْ عَنْهُ. فَإِنْ أَيْسَرَ بَعْدُ لَمْ يُحَاسَبْ بِمَا مَضَى لِسُقُوطِهِ عَنْهُ. (2)
وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهَا تَجِبُ عَلَيْهِ وَلَوْ كَانَ فَقِيرًا، لأَِنَّهَا تَجِبُ عَلَى سَبِيل الْعِوَضِ، فَاسْتَوَى فِيهِ الْمُعْتَمِل وَغَيْرُ الْمُعْتَمِل، فَعَلَى هَذَا يُنْظَرُ إِلَى الْمَيْسَرَةِ، فَإِذَا أَيْسَرَ طُولِبَ بِجِزْيَةِ مَا مَضَى، وَقِيل: لاَ يُنْظَرُ. (3)
ز - إِعْسَارُ التَّرِكَةِ عَنِ الْوَفَاءِ بِمَا وَجَبَ فِيهَا مِنْ حُقُوقٍ:
17 - إِذَا كَانَتْ تَرِكَةُ الْمَيِّتِ لاَ تَفِي بِمَا عَلَيْهِ مِنَ الدُّيُونِ، فَفِي الأَْحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِذَلِكَ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحَيْ (إِرْثٌ، وَتَرِكَةٌ) .
ح - الإِْعْسَارُ بِالنَّفَقَةِ عَلَى النَّفْسِ:
18 - الأَْصْل أَنَّ نَفَقَةَ الإِْنْسَانِ الْحُرِّ فِي مَالِهِ صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا، إِلاَّ الزَّوْجَةُ فَإِنَّ نَفَقَتَهَا عَلَى زَوْجِهَا
__________
(1) الاختيار شرح المختار 3 / 91 - 93 ط مصطفى الحلبي 1936، وفتح القدير 5 / 288 - 294، والمغني لابن قدامة 8 / 509.
(2) الشرح الصغير 1 / 334 - 335 ط الثانية بالمطبعة العامرة المليجية 1335 هـ، والشرح الكبير 2 / 201 - 202.
(3) المهذب في فقه الإمام الشافعي 2 / 252 - 254.(5/253)
مَتَى اسْتَوْفَتْ شُرُوطَ وُجُوبِهَا عَلَيْهِ. وَلاَ يَنْتَقِل حَقُّهُ إِلَى مُطَالَبَةِ الْغَيْرِ بِهَا سَوَاءٌ كَانَ هَذَا الْغَيْرُ أَصْلاً أَوْ فَرْعًا، إِلاَّ إِذَا كَانَ مُعْسِرًا وَغَيْرَ قَادِرٍ عَلَى الْكَسْبِ أَوْ عَاجِزًا عَنْهُ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ. (1)
وَفِي مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ تَحْتَ مُصْطَلَحِ (نَفَقَةُ الأَْقَارِبِ) .
ط - الإِْعْسَارُ بِنَفَقَةِ الزَّوْجَةِ:
19 - فِيمَا تُقَدَّرُ بِهِ نَفَقَةُ الزَّوْجَةِ ثَلاَثَةُ اتِّجَاهَاتٍ:
الأَْوَّل: تُقَدَّرُ بِحَال الزَّوْجَيْنِ جَمِيعًا، فَإِنْ كَانَا مُوسِرَيْنِ فَلَهَا عَلَيْهِ نَفَقَةُ الْمُوسِرِينَ، وَإِنْ كَانَا مُعْسِرَيْنِ فَعَلَيْهِ لَهَا نَفَقَةُ الْمُعْسِرِينَ، وَإِنْ كَانَا مُتَوَسِّطَيْنِ فَعَلَيْهِ نَفَقَةُ الْمُتَوَسِّطِينَ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُوسِرًا وَالآْخَرُ مُعْسِرًا فَلَهَا نَفَقَةُ الْمُتَوَسِّطِينَ، سَوَاءٌ كَانَ هُوَ الْمُوسِرُ أَوْ هِيَ.
وَهَذَا هُوَ الْمُفْتَى بِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ جَمْعًا بَيْنَ النُّصُوصِ الْمُتَعَارِضَةِ وَرِعَايَةً لِكِلاَ الْجَانِبَيْنِ.
الثَّانِي: تُقَدَّرُ بِحَال الزَّوْجِ وَحْدَهُ. وَيُسْتَدَل لَهُ بِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَل اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} (2) .
وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَصَحَّحَهُ فِي الْبَدَائِعِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَقَوْلٌ عِنْدَ
__________
(1) فتح القدير 4 / 220، وحاشية الجمل على شرح المنهج 4 / 510، والشرح الكبير للدردير 2 / 522 - 523، ونيل المآرب بشرح دليل الطالب 2 / 117 م. الفلاح، ومنار السبيل في شرح الدليل 2 / 303 - 304 المكتب الإسلامي، والمقنع 3 / 319.
(2) سورة الطلاق / 7.(5/254)
الْمَالِكِيَّةِ.
الثَّالِثُ: تُقَدَّرُ بِحَال الزَّوْجَةِ. أَخْذًا بِدَلاَلَةِ قَوْله تَعَالَى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (1) . وَبِحَدِيثِ هِنْدٍ إِذْ قَال لَهَا: خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ (2) . وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (3) .
وَعَلَى هَذَا فَإِذَا كَانَ الزَّوْجُ مُعْسِرًا وَهِيَ مِثْلُهُ فَعَلَيْهِ نَفَقَةُ الْمُعْسِرِينَ اتِّفَاقًا، وَإِنْ كَانَتْ مُوسِرَةً وَهُوَ مُعْسِرٌ فَعَلَى الْقَوْل الأَْوَّل عَلَيْهِ نَفَقَةُ الْمُتَوَسِّطِينَ، وَعَلَى الثَّانِي عَلَيْهِ نَفَقَةُ الْمُعْسِرِينَ، وَعَلَى الثَّالِثِ نَفَقَةُ الْمُوسِرِينَ.
وَإِذَا عَجَزَ الزَّوْجُ عَمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنَ النَّفَقَةِ عَلَى التَّفْصِيل السَّابِقِ، وَطَلَبَتِ الزَّوْجَةُ التَّفْرِيقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا بِسَبَبِ ذَلِكَ، فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِذَلِكَ، بَل تَسْتَدِينُ عَلَيْهِ، وَيُؤْمَرُ بِالأَْدَاءِ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهَا لَوْلاَ الزَّوْجُ. (4)
وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلاَتٌ أَوْفَى مِنْ هَذَا يُرْجَعُ إِلَيْهَا فِي أَبْوَابِ النَّفَقَاتِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ (ر: نَفَقَةٌ) .
ي - الإِْعْسَارُ فِي النَّفَقَةِ عَلَى الأَْقَارِبِ:
20 - يَجِبُ عَلَى الْغَنِيِّ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى وَالِدَيْهِ وَأَوْلاَدِهِ
__________
(1) سورة البقرة / 233.
(2) حديث هند: " خذي ما يكفيك. . . " أخرجه البخاري (9 / 507 - الفتح ط السلفية) .
(3) ابن عابدين 2 / 645، والشرح الكبير بحاشية الدسوقي 2 / 509، والجمل على شرح المنهج 4 / 488، والمغني 7 / 564 ط نشر مكتبة الرياض.
(4) ابن عابدين 2 / 656، الشرح الكبير 2 / 518، والمغني 7 / 573، والجمل على شرح المنهج 4 / 506.(5/254)
الْمُعْسِرِينَ بِالإِْجْمَاعِ، وَلاَ تَجِبُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ النَّفَقَةُ عَلَى غَيْرِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَْوْلاَدِ الْمُبَاشِرِينَ، وَكَذَلِكَ تَجِبُ نَفَقَةُ سَائِرِ الأُْصُول وَالْفُرُوعِ مَهْمَا عَلَوْا أَوْ نَزَلُوا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَأَمَّا الْحَوَاشِي كَالأَْخِ وَالْعَمِّ وَأَوْلاَدِهِمَا فَإِنَّ الْحَنَفِيَّةَ يَشْتَرِطُونَ لِوُجُوبِ النَّفَقَةِ عَلَيْهِمُ الْمَحْرَمِيَّةَ، وَيَشْتَرِطُ الْحَنَابِلَةُ التَّوَارُثَ، وَيَكْتَفِي الشَّافِعِيَّةُ بِالْقَرَابَةِ.
وَيَتَحَقَّقُ الإِْعْسَارُ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُنْفِقِ عَلَيْهِ لِعَدَمِ وُجُودِ الْكِفَايَةِ كُلًّا أَوْ جُزْءًا مَعَ الْعَجْزِ عَنِ الْكَسْبِ.
فَمَنْ كَانَ يَجِدُ كِفَايَتَهُ أَوْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْكَسْبِ فَنَفَقَتُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَلاَ تَجِبُ نَفَقَتُهُ عَلَى أَحَدٍ.
إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ أَوْجَبُوا نَفَقَةَ الأُْصُول وَلَوْ كَانُوا قَادِرِينَ عَلَى الْكَسْبِ.
أَمَّا فِي النَّفَقَةِ عَلَى غَيْرِهِمْ فَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِي اشْتِرَاطِ عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْكَسْبِ رِوَايَتَانِ، وَلاَ يُشْتَرَطُ ذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. (1)
ك - أُجْرَةُ الْحَضَانَةِ وَالإِْرْضَاعِ:
21 - الْحُكْمُ فِيهِمَا عَلَى مَا سَبَقَ فِي النَّفَقَةِ، عَلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ لِلصَّغِيرِ مَالٌ فَذَلِكَ فِي مَالِهِ.
ل - النَّفَقَةُ عَلَى الْحَيَوَانِ الْمُحْتَبَسِ:
22 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ النَّفَقَةَ عَلَى الْحَيَوَانِ الْمُحْتَبَسِ وَاجِبَةٌ دِيَانَةً، وَبِأَنَّهُ يَأْثَمُ بِحَبْسِهِ عَنِ الْبَيْعِ، مَعَ عَدَمِ الإِْنْفَاقِ عَلَيْهِ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ تَعْذِيبِ الْحَيَوَانِ. وَفِي الْحَدِيثِ دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ حَبَسَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ جُوعًا فَلاَ هِيَ أَطْلَقَتْهَا تَأْكُل مِنْ خَشَاشِ الأَْرْضِ، وَلاَ هِيَ
__________
(1) الدسوقي 2 / 522، والاختيار 2 / 247، والمغني 7 / 584 - 586، والجمل 4 / 510.(5/255)
أَطْعَمَتْهَا وَسَقَتْهَا لِتَعِيشَ (1) . وَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ إِضَاعَةِ الْمَال. (2)
ثُمَّ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ وَأَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى الإِْنْفَاقِ عَلَيْهِ، إِذْ فِي عَدَمِ الإِْنْفَاقِ إِضَاعَةٌ لِلْمَال وَتَعْذِيبٌ لِلْحَيَوَانِ، وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهُمَا، وَلَيْسَ هَذَا الْحَيَوَانُ مِنْ أَهْل الاِسْتِحْقَاقِ لِيُقْضَى لَهُ بِإِجْبَارِ الْمَالِكِ عَلَى نَفَقَتِهِ أَوْ بَيْعِهِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُجْبَرُ مَالِكُهُ عَلَى الإِْنْفَاقِ. فَإِنْ عَجَزَ مُحْتَبِسُ الْحَيَوَانِ عَنِ الإِْنْفَاقِ، فَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى إِجْبَارِهِ عَلَى الْبَيْعِ أَوِ التَّذْكِيَةِ إِنْ كَانَ مِمَّا يُذَكَّى، وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ يُمْكِنُ إِجْبَارُهُ عَلَى التَّخْلِيَةِ لِلرَّعْيِ وَوُرُودِ الْمَاءِ إِنْ أَلِفَ ذَلِكَ. (3)
م - الإِْعْسَارُ بِفِكَاكِ الأَْسِيرِ:
23 - يَجِبُ فِكَاكُ الأَْسِيرِ الْمُسْلِمِ مِنْ أَيْدِي الْكُفَّارِ، وَيَجِبُ ذَلِكَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ بِأَيِّ وَسِيلَةٍ مَشْرُوعَةٍ، كَالْقِتَال وَالتَّفَاوُضِ وَالْمُفَادَاةِ بِأَسْرَاهُمْ أَوْ بِالْمَال.
فَإِذَا وَقَعَ الْفِدَاءُ عَلَى الْمَال فَإِنَّ فِدَاءَهُ يَكُونُ مِنْ بَيْتِ مَال الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَلَوْ كَانَ لِلأَْسِيرِ مَالٌ. فَإِنْ قَصَّرَ بَيْتُ الْمَال فِي ذَلِكَ فَعَلَى جَمَاعَةِ
__________
(1) حديث: " عذبت امرأة في هرة. . . " أخرجه البخاري (6 / 515 - الفتح ط السلفية) .
(2) حديث: " نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال. . . " أخرجه البخاري (11 / 306 - الفتح ط السلفية) .
(3) الاختيار شرح المختار 2 / 250 ط مصطفى الحلبي 1936، وفتح القدير 4 / 229 - 231، وحاشية الجمل على شرح المنهج 2 / 527 - 528، والمهذب في فقه الإمام الشافعي 2 / 169 - 170، والشرح الكبير 2 / 522، والشرح الصغير 1 / 479 ط الثانية بالمطبعة العامرة المليجية 1335 هـ، وجواهر الإكليل 1 / 407، وكشاف القناع 5 / 494.(5/255)
الْمُسْلِمِينَ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ لَهُ مَالٌ فَفِدَاؤُهُ مِنْ مَالِهِ، فَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَفِكَاكُهُ مِنْ بَيْتِ مَال الْمُسْلِمِينَ. (ر: أَسْرَى) (1) .
ن - إِعْسَارُ الضَّامِنِ:
24 - إِعْسَارُ الْكَفِيل حُكْمُهُ كَحُكْمِ إِعْسَارِ الأَْصِيل فِي وُجُوبِ الإِْنْظَارِ إِلَى مَيْسَرَةٍ، وَلاَ يَسْقُطُ بِهِ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ. (2)
س - إِعْسَارُ الدَّوْلَةِ بِالتَّكَالِيفِ الْوَاجِبَةِ:
25 - إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِ الْمَال مَالٌ يَكْفِي لِلْجِهَادِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ فَلاَ بَأْسَ أَنْ يَفْرِضَ الإِْمَامُ عَلَى أَرْبَابِ الأَْمْوَال مَا يَسُدُّ الْحَاجَةَ، وَتَفْصِيلُهُ فِي (بَيْتِ الْمَال) (3) .
__________
(1) حاشية الجمل على شرح المنهج 55 / 197 دار إحياء التراث العربي، والشرح الكبير 2 / 174، الشرح الصغير 1 / 324 الطبعة الثانية المطبعة العامرة المليجية 1335 هـ، وجواهر الإكليل 2 / 252، والمغني 10 / 498، والمهذب 2 / 260، والخراج لأبي يوسف ص 196، وحاشية الدسوقي مع الشرح الكبير 2 / 207.
(2) البدائع 6 / 2، وفتح القدير 6 / 285، والعناية 6 / 317، والاختيار 2 / 66، والمهذب 1 / 346، والدسوقي والشرح الكبير 3 / 330، والمغني 4 / 592.
(3) لفتاوى الهندية 22 / 191 من كتاب السير، وفتح القدير والكفاية تعليقا على ما في الفتح 5 / 194 - 195، والأحكام السلطانية لأبي يعلى الحنبلي 235 - 237، والأحكام السلطانية للماوردي 187 - 188، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 2 / 174 وينظر جواهر الإكليل 1 / 251.(5/256)
أَعْضَاءٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعُضْوُ فِي اللُّغَةِ: هُوَ كُل عَظْمٍ وَافِرٍ بِلَحْمَةٍ سَوَاءٌ أَكَانَ مِنْ إِنْسَانٍ أَمْ حَيَوَانٍ.
يُقَال: عَضَّى الذَّبِيحَةَ إِذَا قَطَعَهَا أَعْضَاءً. (1) وَالْفُقَهَاءُ يُطْلِقُونَ الْعُضْوَ عَلَى الْجُزْءِ الْمُتَمَيِّزِ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ بَدَنِ إِنْسَانٍ أَوْ حَيَوَانٍ، كَاللِّسَانِ وَالأَْنْفِ وَالأُْصْبُعِ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الأَْطْرَافُ:
2 - الأَْطْرَافُ: هِيَ النِّهَايَاتُ فِي الْبَدَنِ كَالْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ، وَعَلَى هَذَا فَكُل طَرَفٍ عُضْوٌ، وَلَيْسَ كُل عُضْوٍ طَرَفًا.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
3 - هُنَاكَ أَفْعَالٌ لاَ يُطْلَقُ عَلَيْهَا الاِسْمُ الشَّرْعِيُّ بِمَفْهُومِهِ الشَّرْعِيِّ إِلاَّ إِذَا وَقَعَتْ عَلَى أَعْضَاءٍ مَخْصُوصَةٍ، فَالْوُضُوءُ لاَ يُسَمَّى وُضُوءًا إِلاَّ إِذَا وَقَعَ الْغُسْل وَالْمَسْحُ فِيهِ عَلَى أَعْضَاءٍ مَخْصُوصَةٍ سَمَّاهَا الشَّارِعُ، وَالتَّيَمُّمُ لاَ يَكُونُ تَيَمُّمًا إِلاَّ إِذَا وَقَعَ عَلَى أَعْضَاءٍ مَخْصُوصَةٍ سَمَّاهَا الشَّارِعُ أَيْضًا، وَهَكَذَا كَمَا
__________
(1) القاموس المحيط، ولسان العرب، مادة (عضو) والمحكم 2 / 210 طبع مصطفى البابي الحلبي.
(2) حاشية قليوبي 1 / 337.(5/256)
هُوَ مُبَيَّنٌ فِي أَبْوَابِهِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ.
وَهُنَاكَ أَعْضَاءٌ يُعَبَّرُ بِهَا عَنِ الْكُل، كَالرَّأْسِ، وَالظَّهْرِ، وَالْوَجْهِ، وَالرَّقَبَةِ، وَهَذِهِ الأَْعْضَاءُ لَوْ أَطْلَقَ الطَّلاَقَ أَوِ الظِّهَارَ أَوِ الْعِتْقَ عَلَيْهَا، كَانَ إِطْلاَقًا عَلَى الْكُل، فَلَوْ قَال: وَجْهُكِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، كَانَ كَقَوْلِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَأُمِّي، كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي أَبْوَابِ الطَّلاَقِ وَالظِّهَارِ وَالْعِتْقِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ. (1)
وَتُوجَدُ عَاهَاتٌ تُصِيبُ بَعْضَ الأَْعْضَاءِ كَالْعَمَى وَالْعَرَجِ وَالْعُنَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا أَحْكَامٌ خَاصَّةٌ، كَعَدَمِ قَبُول شَهَادَةِ الأَْعْمَى فِيمَا يَحْتَاجُ إِلَى النَّظَرِ، وَسُقُوطِ وُجُوبِ الْجُمُعَةِ عَلَيْهِ عِنْدَ الْبَعْضِ، وَسُقُوطِ الْجِهَادِ عَنْهُ، وَعَدَمِ إِجْزَاءِ الأُْضْحِيَّةِ الْعَمْيَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَسَيَأْتِي كُل ذَلِكَ مُفَصَّلاً تَحْتَ تِلْكَ الْعَاهَاتِ فِي مُصْطَلَحَاتِهَا.
إِتْلاَفُ الأَْعْضَاءِ:
4 - الإِْتْلاَفُ قَدْ يَكُونُ بِبَتْرِ الْعُضْوِ، أَوْ بِإِذْهَابِ مَنَافِعِهِ الْمَقْصُودَةِ مِنْهُ شَرْعًا، كُلِّهَا أَوْ بَعْضِهَا، وَيُطْلِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى ذَلِكَ: الْجِنَايَةَ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ. (2) وَتَفْصِيل أَحْكَامِ هَذَا الإِْتْلاَفِ فِي مُصْطَلَحِ (قِصَاصٌ) (وَدِيَاتٌ) (وَتَعْزِيرٌ) .
هَذَا، وَإِنَّ خَوْفَ الْفَقْدِ لِعُضْوٍ مِنْ أَعْضَاءِ الْبَدَنِ أَوْ تَعَطُّلِهِ يُعْتَبَرُ عُذْرًا يُبَاحُ بِهِ بَعْضُ الْمَحْظُورَاتِ، فَيُبَاحُ التَّيَمُّمُ لِلْبَرْدِ الشَّدِيدِ الَّذِي يُخْشَى مِنْهُ ذَهَابُ بَعْضِ أَعْضَائِهِ، وَالتَّهْدِيدُ بِبَتْرِ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَاءِ الْبَدَنِ - مِمَّنْ يُعْتَقَدُ أَنَّهُ يَفْعَل ذَلِكَ - يُعْتَبَرُ إِكْرَاهًا
__________
(1) تبيين الحقائق 3 / 4، والمغني 7 / 346.
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 184، والسياسة الشرعية لابن تيمية ص 55 طبعة أولى 1322، وتبصرة الحكام لابن فرحون 2 / 206 طبعة أولى 1301.(5/257)
مُلْجِئًا (1) كَمَا فَصَّل ذَلِكَ الْفُقَهَاءُ فِي (الإِْكْرَاهِ) .
مَا أُبِينَ مِنْ أَعْضَاءِ الْحَيِّ:
5 - أ - مَا أُبِينَ مِنْ أَعْضَاءِ الْحَيَوَانِ الْحَيِّ الْمَأْكُول اللَّحْمِ، حُكْمُهُ حُكْمُ الْمَيْتَةِ، نَجِسٌ لاَ يَجُوزُ أَكْلُهُ مَا لَمْ تُعْتَبَرْ إِبَانَةُ الْعُضْوِ تَذْكِيَةً (2) عَلَى خِلاَفٍ وَتَفْصِيلٍ لِلْفُقَهَاءِ فِي (صَيْدٌ) (وَذَبَائِحُ) (وَأَطْعِمَةٌ) .
ب - وَمَا أُبِينَ مِنْ أَعْضَاءِ الإِْنْسَانِ حُكْمُهُ حُكْمُ الإِْنْسَانِ الْمَيِّتِ فِي الْجُمْلَةِ فِي النَّظَرِ إِلَيْهِ، وَوُجُوبِ تَغْسِيلِهِ وَتَكْفِينِهِ وَدَفْنِهِ، عَلَى تَفْصِيلٍ فِي ذَلِكَ مَكَانُهُ: كِتَابُ الْجَنَائِزِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ. (3)
أَعْطِيَاتٌ
اُنْظُرْ: إِعْطَاءٌ.
إِعْفَافٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْعْفَافُ: فِعْل مَا يُحَقِّقُ الْعَفَافَ لِلنَّفْسِ أَوْ لِلْغَيْرِ، وَالْعِفَّةُ وَالْعَفَافُ: الْكَفُّ عَنِ الْحَرَامِ، وَعَمَّا يُسْتَهْجَنُ كَسُؤَال النَّاسِ، وَقِيل: هُوَ الصَّبْرُ وَالنَّزَاهَةُ عَنِ الشَّيْءِ. (4)
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 80.
(2) المغني 8 / 556، 558، وقليوبي 4 / 242.
(3) قليوبي 1 / 338.
(4) تاج العروس، ولسان العرب، والمصباح مادة (عف) .(5/257)
وَاصْطِلاَحًا: يُطْلَقُ الْعَفَافُ فِي الْعُرْفِ الْعَامِّ عَلَى شَرَفِ النَّفْسِ، فَالْعَفِيفُ - كَمَا فِي تَعْرِيفِ الْجُرْجَانِيِّ - مَنْ يُبَاشِرُ الأُْمُورَ عَلَى وَفْقِ الشَّرْعِ وَالْمُرُوءَةِ.
وَيُطْلَقُ فِي الاِصْطِلاَحِ غَالِبًا عَلَى تَرْكِ الزِّنَى، بِاسْتِعْفَافِ الْمُسْلِمِ أَوِ الْمُسْلِمَةِ عَنِ الْوَطْءِ الْحَرَامِ، فَلاَ يُنَافِي الْعِفَّةَ - بِالْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيِّ - الْوَطْءُ الْمُحَرَّمُ لِعَارِضِ الْحَيْضِ أَوِ الصَّوْمِ أَوِ الإِْحْرَامِ مَثَلاً (1) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - إِعْفَافُ الْمَرْءِ نَفْسِهِ، أَوْ مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ، أَوْ مَنْ هُوَ تَحْتَ وِلاَيَتِهِ، مَطْلُوبٌ شَرْعًا عَلَى سَبِيل الْوُجُوبِ أَوِ النَّدْبِ، وَيُرْجَعُ فِي تَفْصِيل ذَلِكَ إِلَى (النِّكَاحِ) ، (وَالنَّفَقَاتِ) .
إِعْفَافُ الإِْنْسَانِ أُصُولَهُ:
3 - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ - وَهُوَ رَأْيٌ مَرْجُوحٌ لِلْحَنَفِيَّةِ - إِلَى وُجُوبِ إِعْفَافِ الْفَرْعِ أَبَاهُ بِتَزْوِيجِهِ أَوْ إِعْطَائِهِ مَا يَتَزَوَّجُ بِهِ، وَذَلِكَ إِذَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ.
وَالرَّاجِحُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - وَهُوَ قَوْلٌ مَرْجُوحٌ لِلشَّافِعِيَّةِ - أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ سَوَاءٌ وَجَبَتْ نَفَقَتُهُ أَوْ لَمْ تَجِبْ. أَمَّا غَيْرُ الأَْبِ كَالْجَدِّ فَفِيهِ خِلاَفٌ، يُفَصِّلُهُ الْفُقَهَاءُ فِي (النِّكَاحِ، وَالنَّفَقَاتِ) (2)
__________
(1) ابن عابدين 2 / 586، وقليوبي 3 / 269.
(2) ابن عابدين 2 / 383، 673 ط بولاق، وقليوبي 3 / 269، والجمل 4 / 225، والمغني 7 / 588 ط الرياض، والدسوقي 2 / 523 ط دار الفكر.(5/258)
إِعْلاَمٌ
اُنْظُرْ: إِشْهَارٌ
أَعْلاَمُ الْحَرَمِ
التَّعْرِيفُ:
1 - الأَْعْلاَمُ: فِي اللُّغَةِ جَمْعُ عَلَمٍ، وَالْعَلَمُ وَالْعَلاَمَةُ شَيْءٌ يُنْصَبُ فِي الأَْمَاكِنِ الَّتِي تَحْتَاجُ لِعَلاَمَةٍ يَهْتَدِي بِهِ الضَّال، وَيُقَال: أَعْلَمْتُ عَلَى كَذَا، جَعَلْتُ عَلَيْهِ عَلاَمَةً، وَيُطْلَقُ الْعَلَمُ وَيُرَادُ بِهِ، الْجَبَل وَالرَّايَةُ الَّتِي يَجْتَمِعُ إِلَيْهَا الْجُنْدُ (1) .
2 - وَأَعْلاَمُ الْحَرَمِ - وَتُسَمَّى أَيْضًا أَنْصَابُ الْحَرَمِ - هِيَ الأَْشْيَاءُ الَّتِي نُصِبَتْ فِي أَمَاكِنَ مُحَدَّدَةٍ. شَرْعًا لِبَيَانِ حُدُودِ الْحَرَمِ الْمَكِّيِّ.
فَلِلْحَرَمِ الْمَكِّيِّ أَعْلاَمٌ بَيِّنَةٌ، وَهِيَ حَالِيًّا أَنْصَابٌ مَبْنِيَّةٌ مَكْتُوبٌ عَلَيْهَا اسْمُ الْعَلَمِ بِاللُّغَاتِ الْعَرَبِيَّةِ وَالأَْعْجَمِيَّةِ. (2)
__________
(1) الفروق في اللغة، والمصباح المنير، والكليات لأبي البقاء ولسان العرب المحيط مادة (علم) .
(2) شفاء الغرام بإخبار البلد الحرام للفاسي / 54 ط ع الحلبي، وبداية المجتهد 1 / 276 ط المكتبة التجارية الكبرى، والبدائع 2 / 164 ط شركة المطبوعات، والشرح الصغير 2 / 20 ط دار المعارف، والإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع 2 / 157 ط محمد صبيح، والمغني 3 / 257 ط الرياض، وكتاب المناسك لإبراهيم الحربي تحقيق حمد الجاسر 471.(5/258)
3 - وَالأَْنْصَابُ مِنَ الْحَرَمِ عَلَى أَطْرَافِهِ مِثْل الْمَنَارِ، وَهِيَ مِمَّا يَلِي طَرِيقَ بُسْتَانِ بَنِي عَامِرٍ، فِي طَرَفِ بِرْكَةِ زُبَيْدَةَ، عِنْدَ عَيْنِهَا، عَنْ طُرُقِ الْعِرَاقِ ثَمَانِيَةَ أَمْيَالٍ. (1)
وَمِمَّا يَلِي عَرَفَاتٍ يَرَى الْوَاقِفُ بِعَرَفَةَ الأَْنْصَابَ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ مِيلاً أَوْ نَحْوَهَا، وَمِمَّا يَلِي طَرِيقَ الْمَدِينَةِ فَمِنَ التَّنْعِيمِ.
رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ الأَْسْوَدِ أَنَّ أَوَّل مَنْ نَصَبَ الأَْنْصَابَ إِبْرَاهِيمُ، أَرَاهُ جِبْرِيل، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا (2) .
وَقَال ابْنُ بَكَّارٍ: أَوَّل مَنْ سَمَّى أَنْصَابَ الْحَرَمِ وَبَنَاهَا وَعَمَّرَهَا قُصَيُّ بْنُ كِلاَبٍ، لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ الْعَبَّاسِ أَنَّ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَامُ أَرَى إِبْرَاهِيمَ مَوْضِعَ أَنْصَابِ الْحَرَمِ، فَنَصَبَهَا ثُمَّ جَدَّدَهَا إِسْمَاعِيل،
__________
(1) بستان بني عامر - هو بستان ابن معمر - عند ملتقى النخلتين اليمانية والشامية. وعين زبيدة هذه هي التي أجرتها من المشاش وعين الزعفران. وعين البرود وعين حنين (الشرايع) في شرقي مكة، فيما بين الطريقين: طريق السيل، فسبوحة، فالشرايع، وطريق: ذات عرق - الضر
(2) الأثر عن محمد الأسود " أن أول من نصب الأنصاب إبراهيم أراه جبريل صلى الله عليهما ". أخرجه عبد الرزاق وأبو إسحاق الحربي واللفظ له، وأوقفاه على محمد الأسود، وأخرجه أبو نعيم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما بلفظ " كان إبراهيم وضعها (أنصاب الحرام) يريه إياها جبريل ". وقال الحافظ ابن حجر: إسناده حسن (الإصابة في تمييز الصحابة 1 / 183، ومصنف عبد الرزاق 5 / 25، والمناسك لأبي إسحاق الحربي / 471)(5/259)
ثُمَّ جَدَّدَهَا قُصَيُّ بْنُ كِلاَبٍ، ثُمَّ جَدَّدَهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1)
قَال الزُّهْرِيُّ: قَال عَبْدُ اللَّهِ: فَلَمَّا وَلِيَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بَعَثَ بِأَرْبَعَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ فَنَصَبُوا أَنْصَابَ الْحَرَمِ: مَخْرَمَةَ بْنَ نَوْفَل بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ زُهْرَةَ، وَأَزْهَرَ بْنَ عَبْدِ عَوْفٍ، وَسَعِيدَ بْنَ يَرْبُوعَ، وَحُوَيْطِبَ بْنَ عَبْدِ الْعُزَّى.
تَجْدِيدُ أَعْلاَمِ الْحَرَمِ:
4 - رَوَى الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الأَْسْوَدِ بْنِ خَلَفٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ أَنْ يُجَدِّدَ أَعْلاَمَ الْحَرَمِ عَامَ الْفَتْحِ (2) . ثُمَّ جَدَّدَهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، ثُمَّ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، ثُمَّ مُعَاوِيَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَهَكَذَا إِلَى وَقْتِنَا الْحَاضِرِ (3) .
5 - وَالْحِكْمَةُ مِنْ تَنْصِيبِ أَعْلاَمِ الْحَرَمِ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَل جَعَل لِمَكَّةَ حَرَمًا، وَحَدَّهُ بِحُدُودٍ أَرَادَهَا اللَّهُ تَعَالَى، وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ تَبْيِينُ الْمَكَانِ الَّذِي ثَبَتَتْ لَهُ أَحْكَامٌ خَاصَّةٌ لِيُمْكِنَ مُرَاعَاتُهَا، وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (حَرَمٌ) .
__________
(1) حديث ابن العباس " أن جبريل عليه السلام أرى إبراهيم موضع أنصاب الحرام فنصبها ثم جددها إسماعيل، ثم جددها قصي بن كلاب، ثم جددها رسول الله صلى الله عليه وسلم ". أخرجه أبو إسحاق الحربي موقوفا على ابن عباس رضي الله عنهما (المناسك لأبي إسحاق الحربي / 472) .
(2) إعلام الساجد / 63 - 65، والبدائع 2 / 64 ط شركة المطبوعات العلمية. وحديث الأسود بن خلف أخرجه البزار والطبراني بلفظ " أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يجدد أنصاب الحرام. . . . . " وزيادة " عام الفتح " للطبراني فقط. قال الهيثمي: فيه محمد بن الأسود وفيه جهالة (كشف الأستار ع والمعجم الكبير للطبراني 1 / 256 ط الدار العربية للطباعة، ومجمع الزوائد 3 / 217 نشر مكتبة القدسي) .
(3) انظر الخريطة المرفقة مع البحث.(5/259)
إِعْلاَنٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْعْلاَنُ: الْمُجَاهَرَةُ، وَيُلاَحَظُ فِيهِ قَصْدُ الشُّيُوعِ وَالاِنْتِشَارِ (1) ، وَالْفُقَهَاءُ يَسْتَعْمِلُونَ كَلِمَةَ " إِعْلاَنٍ " فِيمَا اسْتَعْمَلَهَا فِيهِ أَهْل اللُّغَةِ بِمَعْنَى الْمُبَالَغَةِ فِي الإِْظْهَارِ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الإِْظْهَارُ:
2 - هُوَ مُجَرَّدُ الإِْبْرَازِ بَعْدَ الْخَفَاءِ، وَعَلَى هَذَا فَإِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الإِْظْهَارِ وَالإِْعْلاَنِ: أَنَّ الإِْعْلاَنَ هُوَ الْمُبَالَغَةُ فِي الإِْظْهَارِ. وَمِنْ هُنَا قَالُوا: يُسْتَحَبُّ إِعْلاَنُ النِّكَاحِ، وَلَمْ يَقُولُوا: إِظْهَارَهُ، لأَِنَّ إِظْهَارَهُ يَكُونُ بِالإِْشْهَادِ عَلَيْهِ فَحَسْبُ.
ب - الإِْفْشَاءُ:
3 - يَكُونُ الإِْفْشَاءُ بِنَشْرِ الْخَبَرِ مِنْ غَيْرِ مُجَاهَرَةٍ وَلاَ إِعْلاَنٍ، وَذَلِكَ بِبَثِّهِ بَيْنَ النَّاسِ.
ج - الإِْعْلاَمُ:
4 - الإِْعْلاَمُ: إِيصَال الْخَبَرِ مَثَلاً إِلَى شَخْصٍ أَوْ طَائِفَةٍ مِنَ النَّاسِ، سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ بِالإِْعْلاَنِ، أَمْ بِالتَّحْدِيثِ مِنْ غَيْرِ إِعْلاَنٍ، وَعَلَى هَذَا فَهُوَ يُخَالِفُ
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير، والمفردات للراغب الأصبهاني، والنهاية في غريب الحديث (علن - جهر - نشر) والفروق في اللغة لأبي هلال العسكري / 280.(5/261)
الإِْعْلاَنَ مِنْ هَذِهِ النَّاحِيَةِ، وَمِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى فَإِنَّهُ لاَ يَلْزَمُ مِنَ الإِْعْلاَنِ الإِْعْلاَمُ، فَقَدْ يَتِمُّ الإِْعْلاَنُ وَلاَ يَتِمُّ الإِْعْلاَمُ لِسَفَرٍ أَوْ حَبْسٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ.
د - الإِْشْهَادُ:
5 - هُوَ إِظْهَارُ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ لِلشَّاهِدَيْنِ مَعَ طَلَبِ الشَّهَادَةِ، وَقَدْ لاَ يَظْهَرُ لِغَيْرِهِمَا، وَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنِ الإِْشْهَادُ إِعْلاَنًا، لأَِنَّ الإِْعْلاَنَ إِظْهَارٌ لِلْمَلأَِ (1) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
يَخْتَلِفُ الإِْعْلاَنُ بِحَسَبِ الأَْمْرِ وَالشَّخْصِ، فَمِمَّا يُطْلَبُ فِيهِ الإِْعْلاَنُ:
أ - إِعْلاَنُ الإِْسْلاَمِ وَمَبَادِئِهِ:
6 - إِذَا دَخَل الإِْيمَانُ قَلْبَ إِنْسَانٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يُعْلِنَ إِيمَانَهُ بِالنُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ، وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ عَامَّةً، وَالْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ خَاصَّةً، أَنْ يُعْلِنُوا مَبَادِئَ الإِْسْلاَمِ وَأَهْدَافَهُ وَأَحْكَامَهُ، وَيَدْعُوا النَّاسَ لِلإِْيمَانِ بِهَا عَمَلاً بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (2) وَكَمَا فَعَل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَمَا أَعْلَنَ رِسَالَتَهُ لِلنَّاسِ جَمِيعًا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُول اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (3) .
وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُعْلِنُوا شَعَائِرَ الإِْسْلاَمِ كَالأَْذَانِ، وَصَلاَةِ الْجَمَاعَةِ، وَصَلاَةِ الْعِيدَيْنِ، وَالْحَجِّ، وَالْعُمْرَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ كَمَا هُوَ مُفَصَّلٌ فِي أَبْوَابِهِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ.
__________
(1) مختصر خليل بشرح جواهر الإكليل 2 / 213.
(2) سورة آل عمران / 104.
(3) سورة الأعراف / 158.(5/261)
ب - إِعْلاَنُ النِّكَاحِ:
7 - جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ إِعْلاَنَ النِّكَاحِ مُسْتَحَبٌّ (1) . وَذَهَبَ الزُّهْرِيُّ إِلَى أَنَّهُ فَرْضٌ، حَتَّى أَنَّهُ إِذَا نَكَحَ نِكَاحَ سِرٍّ، وَأَشْهَدَ رَجُلَيْنِ، وَأَمَرَهُمَا بِالْكِتْمَانِ وَجَبَ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَتَعْتَدُّ الزَّوْجَةُ، وَيَكُونُ لَهَا الْمَهْرُ حَتَّى إِذَا مَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا وَبَدَا لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا تَزَوَّجَهَا وَأَعْلَنَ النِّكَاحَ. (2) كَمَا هُوَ مُفَصَّلٌ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ.
ج - إِعْلاَنُ إِقَامَةِ الْحُدُودِ:
8 - إِعْلاَنُ إِقَامَةِ الْحُدُودِ وَاجِبٌ، لأَِنَّهَا شُرِعَتْ رَادِعَةً مَانِعَةً، وَلاَ يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إِلاَّ بِإِعْلاَنِهَا، وَعَمَلاً بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي حَدِّ الزِّنَى {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (3) . وَبَاقِي الْحُدُودِ مِثْلُهُ كَمَا هُوَ مُفَصَّلٌ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ.
د - الإِْعْلاَنُ عَنِ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ:
9 - كُل عَمَلٍ يُمْكِنُ أَنْ يَنَال الْمُسْلِمِينَ مِنْهُ خَيْرٌ وَيَتَزَاحَمُوا فِي طَلَبِهِ، يَجِبُ عَلَى وَلِيِّ الأَْمْرِ الإِْعْلاَنُ عَنْهُ لِتُتَاحَ الْفُرْصَةُ لِلْجَمِيعِ عَلَى قَدْرٍ مُتَسَاوٍ، كَالإِْعْلاَنِ عَنِ الْوَظَائِفِ، وَالإِْعْلاَنِ عَنِ الأَْعْمَال الَّتِي يَفْرِضُ وَلِيُّ الأَْمْرِ الْجَوَائِزَ لِمَنْ يَقُومُ بِهَا، كَقَوْل الإِْمَامِ: مَنْ قَتَل قَتِيلاً فَلَهُ سَلَبُهُ، كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 261 وحاشية قليوبي 3 / 295، والمغني 6 / 537.
(2) المدونة 2 / 194 ومواهب الجليل 3 / 407، والخرشي 3 / 167، والدسوقي 2 / 216.
(3) سورة النور / 2.(5/262)
هـ - الإِْعْلاَنُ عَنْ مَوْتِ فُلاَنٍ:
10 - يُسَمَّى الإِْعْلاَنُ عَنِ الْمَوْتِ نَعْيًا، وَهُوَ إِذَا كَانَ لِمُجَرَّدِ الإِْخْبَارِ جَائِزٌ، أَمَّا إِنْ كَانَ كَفِعْل الْجَاهِلِيَّةِ بِالطَّوَافِ فِي الْمَجَالِسِ قَائِلاً: أَنْعِي فُلاَنًا وَيُعَدِّدُ مَفَاخِرَهُ، فَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ بِالاِتِّفَاقِ، لأَِنَّهُ مِنْ نَعْيِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي الْجَنَائِزِ (1) .
و الإِْعْلاَنُ لِلتَّحْذِيرِ:
11 - كُل أَمْرٍ جَدِيدٍ يُمْكِنُ أَنْ يَنَال الْمُسْلِمِينَ مِنْهُ ضَرَرٌ لِجَهْلِهِمْ بِحَالِهِ، وَجَبَ عَلَى وَلِيِّ الأَْمْرِ إِعْلاَنُهُ، كَإِعْلاَنِ الْحَجْرِ عَلَى السَّفِيهِ وَالْمُفْلِسِ، لِيَحْذَرَ الْمُسْلِمُونَ التَّعَامُل مَعَهُمَا. (2) كَمَا فَصَّل ذَلِكَ الْفُقَهَاءُ فِي كِتَابِ الْحَجْرِ، وَفِي بَابِ التَّفْلِيسِ.
12 - وَكُل مَا لاَ يَصِحُّ إِظْهَارُهُ لاَ يَصِحُّ إِعْلاَنُهُ، لأَِنَّ الإِْعْلاَنَ أَشْهَرُ مِنَ الإِْظْهَارِ (ر: إِظْهَارٌ) .
مَا يَصِحُّ إِظْهَارُهُ وَلاَ يَصِحُّ إِعْلاَنُهُ:
13 - هُنَاكَ أُمُورٌ يَجُوزُ إِظْهَارُهَا، وَلَكِنْ لاَ يَجُوزُ إِعْلاَنُهَا.
مِنْهَا: إِظْهَارُ سَبَبِ الْجَرْحِ لِلشَّاهِدِ - لأَِنَّ الْجَرْحَ لاَ يُقْبَل إِلاَّ مُفَسَّرًا (3) - فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ إِعْلاَنُهُ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّشْهِيرِ.
وَإِظْهَارُ الْحُزْنِ عَلَى الْمَيِّتِ، لأَِنَّهُ لاَ يَمْلِكُ إِخْفَاءَهُ، وَلَكِنَّهُ لاَ يَجُوزُ لَهُ الْمُبَالَغَةُ فِي إِظْهَارِ هَذَا الْحُزْنِ، أَيْ لاَ يَجُوزُ لَهُ إِعْلاَنُهُ.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 602 وحاشية قليوبي 1 / 344، والمغني 2 / 571 ط الرياض.
(2) أسنى المطالب 2 / 184، وحاشية قليوبي 2 / 285.
(3) أسنى المطالب 4 / 315، والمستصفى 2 / 153.(5/262)
إِعْمَارٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - يَأْتِي الإِْعْمَارُ بِمَعْنَيَيْنِ:
الأَْوَّل: مَصْدَرُ أَعْمَرَ فُلاَنٌ فُلاَنًا: إِذَا جَعَلَهُ يَعْتَمِرُ، وَفِي الْحَدِيثِ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ أَنْ يُعْمِرَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مِنَ التَّنْعِيمِ (1) .
الثَّانِي: أَنَّهُ نَوْعٌ مِنَ الْهِبَةِ، فَيَقُولُونَ: أَعْمَرَ فُلاَنٌ فُلاَنًا دَارِهِ، أَيْ جَعَلَهَا لَهُ عُمْرَهُ، (2) وَقَدْ وَرَدَ فِي السُّنَّةِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ عُمْرَى وَلاَ رُقْبَى، فَمَنْ أَعْمَرَ شَيْئًا أَوْ أَرْقَبَهُ فَهُوَ لَهُ حَيَاتَهُ وَمَمَاتَهُ (3) .
2 - وَقَدْ فَصَّل الْفُقَهَاءُ أَحْكَامَ الْعُمْرَى وَالرُّقْبَى عَلَى خِلاَفٍ بَيْنَهُمْ فِي الأَْخْذِ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ بِجَعْلِهَا تَمْلِيكًا، أَوْ تَأْوِيلُهُ عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي: (الْهِبَةِ، وَالْعَارِيَّةِ) (4) .
__________
(1) حديث: " أمر النبي صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن أبي بكر. . . ". أخرجه البخاري من حديث عبد الرحمن بن أبي بكر بلفظ " أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يردف عائشة ويعمرها من التنعيم " (فتح الباري 3 / 66 ط السلفية) .
(2) لسان العرب، والقاموس المحيط، والنهاية في غريب الحديث، ومفردات الراغب الأصفهاني. مادة: (عمر) .
(3) حديث: " لا عمرى ولا رقبى. . . " أخرجه النسائي من حديث ابن عمر رضي الله عنه مرفوعا. قال الشوكاني: الحديث روي من طريق ابن جريج عن عطاء عن جيب بن أبي ثابت عن ابن عمر، وقد اختلف في سماع جيب عن ابن عمر فصرح به النسائي، ورجال إسناده ثقات (سنن النسائي 6 / 273، ونيل الأوطار 6 / 118، 119 ط دار الجيل) .
(4) الاختيار 2 / 112 ط حجازي، ومغني المحتاج 2 / 398، وبداية المجتهد 2 / 361 مكتبة الكليات الأزهرية، والفروع 4 / 641.(5/263)
أَعْمَى
اُنْظُرْ: عَمًى.
أَعْوَانٌ
اُنْظُرْ: إِعَانَةٌ.
أَعْوَرُ
انْظُرْ: عَوَرٌ.
أَعْيَانٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الأَْعْيَانُ فِي اللُّغَةِ: جَمْعُ عَيْنٍ، وَالْعَيْنُ لَهَا إِطْلاَقَاتٌ عَدِيدَةٌ مِنْهَا:
الْعَيْنُ بِمَعْنَى الْمَال الْحَاضِرِ النَّاضِّ. يُقَال: اشْتَرَيْتُ بِالدَّيْنِ (أَيْ فِي الذِّمَّةِ) أَوْ بِالْعَيْنِ أَيِ الْمَنْقُودِ الْحَاضِرِ.
وَعَيْنُ الشَّيْءِ نَفْسُهُ، يُقَال أَخَذْتُ مَالِي بِعَيْنِهِ، أَيْ نَفْسَ مَالِي.
وَالْعَيْنُ مَا ضُرِبَ مِنَ الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ (1)
__________
(1) لسان العرب المحيط مادة (عين) ، والمغرب، والزاهر، والمصباح المنير، والتعريفات للجرجاني.(5/263)
وَمِنْهَا الْعَيْنُ الْبَاصِرَةُ، وَالْعَيْنُ بِمَعْنَى الْجَاسُوسِ. وَالإِْخْوَةُ الأَْعْيَانُ هُمُ الإِْخْوَةُ الأَْشِقَّاءُ.
وَلاَ يَخْرُجُ الاِسْتِعْمَال الْفِقْهِيُّ عَنْ هَذِهِ الْمَعَانِي اللُّغَوِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ، إِلاَّ أَنَّ أَكْثَرَ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِلأَْعْيَانِ فِيمَا يُقَابِل الدُّيُونَ، وَهِيَ الأَْمْوَال الْحَاضِرَةُ نَقْدًا كَانَتْ أَوْ غَيْرَهُ، يُقَال: اشْتَرَيْتُ عَيْنًا بِعَيْنٍ أَيْ حَاضِرًا بِحَاضِرٍ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الدَّيْنُ:
2 - هُوَ مَالٌ حُكْمِيٌّ، يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ بِبَيْعٍ أَوِ اسْتِهْلاَكٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، كَمِقْدَارٍ مِنَ الْمَال فِي ذِمَّةِ آخَرَ، فِي حِينِ أَنَّ الْعَيْنَ هِيَ مَالٌ مَنْقُودٌ حَاضِرٌ مُشَخَّصٌ عِنْدَ التَّعَامُل.
ب - الْعَرْضُ:
الْعَرْضُ (بِسُكُونِ الرَّاءِ) مِنْ صُنُوفِ الأَْمْوَال: مَا كَانَ مِنْ غَيْرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ اللَّذَيْنِ هُمَا ثَمَنُ كُل عَرْضٍ، وَيُقَال: اشْتَرَيْتُ مِنْ فُلاَنٍ قَلَمًا بِعَشَرَةٍ، وَعَرَضْتُ لَهُ مِنْ حَقِّهِ ثَوْبًا أَيْ أَعْطَيْتُهُ إِيَّاهُ بَدَل ثَمَنِ الْقَلَمِ، فَالْعَرْضُ يُقَابِل الْعَيْنَ. (2)
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالأَْعْيَانِ:
3 - الأَْعْيَانُ بِمَعْنَى الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لَهَا أَحْكَامٌ خَاصَّةٌ يُرْجَعُ إِلَيْهَا تَحْتَ: (ذَهَبٌ، وَفِضَّةٌ، وَصَرْفٌ) وَالأَْعْيَانُ بِمَعْنَى الذَّوَاتِ تَخْتَلِفُ أَحْكَامُهَا بِاخْتِلاَفِ هَذِهِ الذَّوَاتِ وَهِيَ مُوَزَّعَةٌ تَحْتَ عَنَاوِينَ مُتَعَدِّدَةٍ فِي
__________
(1) المهذب 1 / 277 ط مصطفى الحلبي، ومجلة الأحكام العدلية م 159، والزاهر، والقليوبي 4 / 311 ط عيسى الحلبي، والشرح الصغير 1 / 633 ط دار المعارف.
(2) الزاهر.(5/264)
أَبْوَابٍ مُخْتَلِفَةٍ كَمَا فِي (الزَّكَاةِ، وَالْبَيْعِ، وَالإِْجَارَةِ، وَالرَّهْنِ، وَالإِْتْلاَفِ، وَالضَّمَانِ) وَغَيْرِهَا.
وَالإِْخْوَةُ الأَْعْيَانُ يُنْظَرُ حُكْمُهُمْ تَحْتَ عِنْوَانِ (أَخٌ) .
إِغَاثَةٌ
اُنْظُرْ: اسْتِغَاثَةٌ.
إِغَارَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْغَارَةُ لُغَةً: الْهُجُومُ عَلَى الْقَوْمِ بَغْتَةً وَالإِْيقَاعُ بِهِمْ.
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ عَنْ ذَلِكَ. وَيُرَادِفُهُ الْهُجُومُ (1) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ، وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
2 - الأَْصْل أَنَّهُ لاَ تَجُوزُ الإِْغَارَةُ عَلَى الْعَدُوِّ الْكَافِرِ ابْتِدَاءً قَبْل عَرْضِ الإِْسْلاَمِ عَلَيْهِمْ (2) . وَقَدْ فَصَّل ذَلِكَ الْفُقَهَاءُ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ، كَمَا لاَ تَجُوزُ الإِْغَارَةُ عَلَى الْبُغَاةِ حَتَّى يَبْعَثَ إِلَيْهِمْ مَنْ يَسْأَلُهُمْ وَيَكْشِفُ لَهُمُ الصَّوَابَ (3) . وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ بَسَطَهُ الْفُقَهَاءُ
__________
(1) القاموس المحيط، والمصباح (غور) .
(2) سنى المطالب 4 / 188، وتبيين الحقائق 3 / 243، والتاج والإكليل على خليل بهامش مواهب الجليل 3 / 350.
(3) المغني 8 / 108، ونهاية المحتاج 7 / 385، والخرشي على خليل 8 / 60.(5/264)
فِي كِتَابِ الْبُغَاةِ.
وَإِذَا أَمَرَ الْقَائِدُ سَرِيَّةً مِنَ الْجَيْشِ بِالإِْغَارَةِ عَلَى الْعَدُوِّ، فَمَا غَنِمَتْهُ هَذِهِ السَّرِيَّةُ شَارَكَهَا الْجَيْشُ فِي هَذِهِ الْغَنِيمَةِ (1) . وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ الْفُقَهَاءُ فِي كِتَابِ الْغَنِيمَةِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ.
اغْتِرَارٌ
اُنْظُرْ: تَغْرِيرٌ.
اغْتِسَالٌ
اُنْظُرْ: غُسْلٌ.
اغْتِيَالٌ
اُنْظُرْ: غِيلَةٌ.
إِغْرَاءٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْغْرَاءُ مَصْدَرُ أَغْرَى، وَأَغْرَى بِالشَّيْءِ: أُولِعَ
__________
(1) المغني 8 / 442.(5/265)
بِهِ، يُقَال: أَغْرَيْتُ الْكَلْبَ بِالصَّيْدِ، وَأَغْرَيْتُ بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ.
وَلاَ يَخْرُجُ الاِسْتِعْمَال الْفِقْهِيُّ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
2 - التَّحْرِيضُ هُوَ: الْحَثُّ عَلَى الشَّيْءِ وَالإِْحْمَاءُ عَلَيْهِ. قَال تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَال} (2) .
فَالتَّحْرِيضُ لاَ بُدَّ لَهُ مِنْ بَاعِثٍ خَارِجِيٍّ، أَمَّا الإِْغْرَاءُ فَقَدْ يَكُونُ الْبَاعِثُ ذَاتِيًّا.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
3 - يَخْتَلِفُ حُكْمُ الإِْغْرَاءِ بِاخْتِلاَفِ أَحْوَالِهِ: فَالإِْغْرَاءُ بِالْوَسِيلَةِ الْحَلاَل لِلْفِعْل الْحَلاَل جَائِزٌ، كَإِغْرَاءِ الْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ زَوْجَهَا بِالتَّزَيُّنِ لَهُ، وَتَفْصِيلُهُ فِي (الطَّلاَقِ وَالرَّجْعَةِ) وَإِغْرَاءُ الْكَلْبِ بِالصَّيْدِ، وَتَفْصِيلُهُ فِي (الصَّيْدِ) .
وَقَدْ يَكُونُ وَاجِبًا كَإِغْرَاءِ الأَْبِ ابْنَهُ بِحِفْظِ مَا يُقِيمُ بِهِ صَلاَتَهُ مِنَ الْقُرْآنِ، وَقَدْ يَكُونُ حَرَامًا مِثْل إِغْرَاءِ الْمَرْأَةِ الرَّجُل الأَْجْنَبِيَّ بِالتَّزَيُّنِ لَهُ، أَوِ الْخُضُوعِ بِالْقَوْل لِغَيْرِ الزَّوْجِ، وَكَذَلِكَ عَكْسُهُ. (3)
__________
(1) الصحاح، وتاج العروس، والمصباح مادة (غرى) .
(2) لسان العرب مادة (حرص) ، والآية من سورة الأنفال / 65.
(3) ابن عابدين 1 / 360، 402، 536، 652، وقليوبي 4 / 73، والمغني 7 / 18 والرياض، والدسوقي 2 / 104 ط دار الفكر، والحطاب 3 / 217، وكشاف القناع 6 / 222، والفتاوى الهندية 5 / 421، وفتح القدير 8 / 180، والقرطبي 14 / 177 ط دار الكتب، وروح المعاني 22 / 5 ط المنيرية، والفخر الرازي 25 / 208 ط عبد الرحمن محمد.(5/265)
إِغْلاَقٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْغْلاَقُ لُغَةً: مَصْدَرُ أَغْلَقَ. يُقَال: أَغْلَقَ الْبَابَ، وَأَغْلَقَهُ عَلَى شَيْءٍ: أَكْرَهَهُ عَلَيْهِ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الْغَضَبُ إِغْلاَقًا.
وَذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي أَسَاسِ الْبَلاَغَةِ: أَنَّ مِنَ الْمَجَازِ إِطْلاَقُ الإِْغْلاَقِ عَلَى الإِْكْرَاهِ. (1) وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ عَنْ ذَلِكَ.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - الْفُقَهَاءُ يَجْعَلُونَ إِغْلاَقَ الأَْبْوَابِ وَالنَّوَافِذِ مِمَّا تَتَحَقَّقُ بِهِ الْخَلْوَةُ كَإِرْخَاءِ السُّتُورِ. (2) لِمَا رَوَى زُرَارَةُ بْنُ أَوْفَى قَال: قَضَى الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ الْمَهْدِيُّونَ أَنَّ مَنْ أَغْلَقَ بَابًا أَوْ أَرْخَى سِتْرًا فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْمَهْرُ (3) . وَيَبْحَثُ الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ، عِنْدَ كَلاَمِهِمْ عَلَى الْمَهْرِ، وَهَل هُوَ مُسْتَحَقٌّ كُلُّهُ بِالْخَلْوَةِ الصَّحِيحَةِ؟
3 - وَوَرَدَ فِي السُّنَّةِ مَا يَمْنَعُ الأَْمِيرَ مِنْ إِغْلاَقِ بَابِهِ دُونَ حَاجَاتِ النَّاسِ. فَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا مِنْ إِمَامٍ يُغْلِقُ بَابَهُ دُونَ ذَوِي الْحَاجَةِ وَالْخَلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ إِلاَّ أَغْلَقَ اللَّهُ
__________
(1) المغرب، والمصباح مادة (غلق) ، ومقاييس اللغة، وأساس البلاغة.
(2) المغني 6 / 724، وحاشية ابن عابدين 2 / 338 وما بعدها.
(3) الأثر في قضاء الخلفاء الراشدين " بأن من أغلق باب أو أرخى سترا فقد وجب عليه المهر ". أخرجه عبد الرزاق بإسناده عن زرارة بن أوفى (مصنف عبد الرزاق 6 / 288) .(5/266)
أَبْوَابَ السَّمَاءِ دُونَ خَلَّتِهِ وَحَاجَتِهِ وَمَسْكَنَتِهِ (1) وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُرْسِل مَنْ يَخْلَعُ أَبْوَابَ الأُْمَرَاءِ وَيُحَرِّقُهَا، لِئَلاَّ يُمْنَعُ ذُو الْحَاجَةِ مِنَ الدُّخُول عَلَيْهِمْ. (2)
4 - وَوَرَدَ فِي السُّنَّةِ أَيْضًا مَا يُوجِبُ إِغْلاَقَ الأَْبْوَابِ لَيْلاً، فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ قَوْل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: غَطُّوا الإِْنَاءَ، وَأَوْكِئُوا السِّقَاءَ، وَأَغْلِقُوا الْبَابَ، وَأَطْفِئُوا السُّرُجَ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لاَ يُحِل سِقَاءً، وَلاَ يَفْتَحُ بَابًا، وَلاَ يَكْشِفُ إِنَاءً (3) .
5 - وَيُطْلِقُ الْفُقَهَاءُ الإِْغْلاَقَ عَلَى احْتِبَاسِ الْكَلاَمِ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِ، فَيَقُولُونَ: إِنْ أَغْلَقَ عَلَى الإِْمَامِ - أَيِ ارْتَجَّ عَلَيْهِ فَلَمْ يَتَكَلَّمْ - فِي الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلاَةِ، رَكَعَ إِنْ كَانَ قَدْ قَرَأَ الْقَدْرَ الْمُسْتَحَبَّ، وَهُوَ الظَّاهِرُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَقِيل قَدْرُ الْفَرْضِ (4) .، وَقَدْ فَصَّل الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الصَّلاَةِ عِنْدَ كَلاَمِهِمْ عَلَى الْفَتْحِ عَلَى الإِْمَامِ.
وَإِنْ أَغْلَقَ عَلَى الْخَطِيبِ فِي الْخُطْبَةِ، اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَنَزَل، وَقَدْ فَصَّل الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الصَّلاَةِ عِنْدَ كَلاَمِهِمْ عَلَى خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ.
6 - وَوَرَدَ فِي السُّنَّةِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ طَلاَقَ وَلاَ عَتَاقَ فِي إِغْلاَقٍ (5) وَبِنَاءً عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ اخْتَلَفَ
__________
(1) حديث: " ما من إمام. . . " أخرجه الترمذي في الأحكام " باب ما جاء في إمام الرعية "، وأخرج أحمد في المسند 3 / 441 نحوه.
(2) المحلى 9 / 370، وكنز العمال 5 / 143.
(3) وحديث: " غطوا الإناء. . . . " أخرجه مسلم في الأشربة " باب الأمر بتغطية الإناء وإغلاق الباب " وأخرج نحوه الإمام أحمد في المسند 5 / 425.
(4) الطحطاوي على مراقي الفلاح 183.
(5) الطحطاوي على مراقي الفلاح 28080 ?، وحديث: " لا طلاق. . . " أخرجه البخاري وأبو داود وابن ماجه كلهم في الطلاق، والإمام أحمد 2 / 276.(5/266)
الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ طَلاَقِ الْمُكْرَهِ وَالسَّكْرَانِ وَالْغَضْبَانِ (الَّذِي فَقَدْ سَيْطَرَتَهُ عَلَى نَفْسِهِ) وَنَحْوِهِمْ، فَأَوْقَعَ بَعْضُهُمْ طَلاَقَ هَؤُلاَءِ، وَلَمْ يُوقِعْهُ بَعْضُهُمُ الآْخَرُ، وَقَدْ فَصَّل الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الطَّلاَقِ، وَذَكَرَهُ شُرَّاحُ الْحَدِيثِ فِي شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ. (1)
إِغْمَاءٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْغْمَاءُ: مَصْدَرُ (أُغْمِيَ عَلَى الرَّجُل) مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُول، وَالإِْغْمَاءُ مَرَضٌ يُزِيل الْقُوَى وَيَسْتُرُ الْعَقْل، وَقِيل: فُتُورٌ عَارِضٌ لاَ بِمُخَدِّرٍ يُزِيل عَمَل الْقُوَى.
وَلاَ يَخْرُجُ التَّعْرِيفُ الاِصْطِلاَحِيُّ عَنْ هَذَا.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - النَّوْمُ:
2 - عَرَّفَ الْجُرْجَانِيُّ النَّوْمَ بِأَنَّهُ: حَالَةٌ طَبِيعِيَّةٌ تَتَعَطَّل مَعَهَا الْقُوَى مَعَ سَلاَمَتِهَا. (2)
فَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الإِْغْمَاءِ اشْتِرَاكٌ وَاخْتِلاَفٌ فِي تَعَطُّل الْقُوَى، وَيَخْتَلِفَانِ فِي أَنَّ الإِْغْمَاءَ مِنَ الْمَرَضِ، وَالنَّوْمَ مَعَ السَّلاَمَةِ.
ب - الْعَتَهُ:
3 - الْعَتَهُ: عِلَّةٌ نَاشِئَةٌ عَنِ الذَّاتِ، تُوجِبُ خَلَلاً فِي
__________
(1) عمدة القاري شرح صحيح البخاري 20 / 251.
(2) المصباح، وتعريفات الجرجاني، ومراقي الفلاح ص 50، وابن عابدين 1 / 95، 97، والمجموع 2 / 25.(5/267)
الْعَقْل، فَيَصِيرُ صَاحِبُهُ مُخْتَلِطَ الْعَقْل، فَيُشْبِهُ بَعْضُ كَلاَمِهِ كَلاَمَ الْعُقَلاَءِ، وَبَعْضُهُ كَلاَمَ الْمَجَانِينِ، فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الإِْغْمَاءِ: أَنَّ الإِْغْمَاءَ مُؤَقَّتٌ، وَالْعَتَهُ مُسْتَمِرٌّ غَالِبًا، وَالإِْغْمَاءُ يُزِيل الْقُوَى كُلَّهَا، وَالْعَتَهُ يُضْعِفُ الْقُوَى الْمُدْرِكَةَ.
ج - الْجُنُونُ:
4 - الْجُنُونُ: مَرَضٌ يُزِيل الْعَقْل، وَيَزِيدُ الْقُوَى غَالِبًا، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الإِْغْمَاءِ أَنَّ الْجُنُونَ يَسْلُبُ الْعَقْل بِخِلاَفِ الإِْغْمَاءِ فَإِنَّهُ يَجْعَل مَنْ وَقَعَ بِهِ مَغْلُوبًا لاَ مَسْلُوبَ الْعَقْل (1) .
وَهُنَاكَ أَلْفَاظٌ أُخْرَى ذَاتُ صِلَةٍ بِالإِْغْمَاءِ، كَالسُّكْرِ وَالصَّرْعِ وَالْغَشْيِ، تُنْظَرُ فِي مَوَاطِنِهَا مِنْ أُصُول الْفِقْهِ عِنْدَ الْكَلاَمِ عَلَى عَوَارِضِ الأَْهْلِيَّةِ، وَيَتَكَلَّمُ عَنْهَا الْفُقَهَاءُ فِي نَوَاقِضِ الْوُضُوءِ وَالْجِنَايَاتِ، وَالطَّلاَقِ وَالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ مِنَ الْعُقُودِ (2) .
أَثَرُ الإِْغْمَاءِ فِي الأَْهْلِيَّةِ.
5 - الإِْغْمَاءُ لاَ يُؤَثِّرُ فِي أَهْلِيَّةِ الْوُجُوبِ لأَِنَّ مَنَاطَهَا الإِْنْسَانِيَّةُ، أَمَّا أَهْلِيَّةُ الأَْدَاءِ فَإِنَّهُ يُنَافِيهَا، لأَِنَّ مَدَارَهَا الْعَقْل، وَهُوَ مَغْلُوبٌ عَلَى عَقْلِهِ، وَتَفْصِيلُهُ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
أَثَرُ الإِْغْمَاءِ فِي الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ:
أ - فِي الْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ:
6 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الإِْغْمَاءَ نَاقِضٌ لِلْوُضُوءِ قِيَاسًا عَلَى النَّوْمِ، بَل هُوَ أَوْلَى، لأَِنَّ النَّائِمَ إِذَا أُوقِظَ اسْتَيْقَظَ بِخِلاَفِ الْمُغْمَى عَلَيْهِ.
__________
(1) مراقي الفلاح ص 50، وابن عابدين 1 / 97.
(2) حاشية ابن عابدين 2 / 427.(5/267)
وَنَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ كُل مَا يُبْطِل الْوُضُوءَ يُبْطِل التَّيَمُّمَ. (1)
ب - أَثَرُ الإِْغْمَاءِ فِي سُقُوطِ الصَّلاَةِ:
7 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، إِلَى أَنَّ الْمُغْمَى عَلَيْهِ لاَ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الصَّلاَةِ إِلاَّ أَنْ يُفِيقَ فِي جُزْءٍ مِنْ وَقْتِهَا، مُسْتَدِلِّينَ بِأَنَّ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا سَأَلَتْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الرَّجُل يُغْمَى عَلَيْهِ فَيَتْرُكُ الصَّلاَةَ، فَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيْسَ مِنْ ذَلِكَ قَضَاءٌ، إِلاَّ أَنْ يُغْمَى عَلَيْهِ فَيُفِيقَ فِي وَقْتِهَا فَيُصَلِّيَهَا (2) .
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ: إِنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ خَمْسَ صَلَوَاتٍ قَضَاهَا، وَإِنْ زَادَتْ سَقَطَ فَرْضُ الْقَضَاءِ فِي الْكُل، لأَِنَّ ذَلِكَ يَدْخُل فِي التَّكْرَارِ فَأَسْقَطَ الْقَضَاءَ كَالْجُنُونِ، وَقَال مُحَمَّدٌ: يَسْقُطُ الْقَضَاءُ إِذَا صَارَتِ الصَّلَوَاتُ سِتًّا وَدَخَل فِي السَّابِعَةِ، لأَِنَّ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي يَحْصُل بِهِ التَّكْرَارُ.
لَكِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَأَبَا يُوسُفَ أَقَامَا الْوَقْتَ مَقَامَ الصَّلَوَاتِ تَيْسِيرًا فَتُعْتَبَرُ الزِّيَادَةُ بِالسَّاعَاتِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّ الْمُغْمَى عَلَيْهِ يَقْضِي جَمِيعَ الصَّلَوَاتِ الَّتِي كَانَتْ فِي حَال إِغْمَائِهِ، مُسْتَدِلِّينَ بِمَا رُوِيَ أَنَّ عَمَّارًا غُشِيَ عَلَيْهِ أَيَّامًا لاَ يُصَلِّي، ثُمَّ اسْتَفَاقَ بَعْدَ ثَلاَثٍ، فَقَال (أَيْ عَمَّارٌ) : هَل صَلَّيْتُ؟ فَقَالُوا: مَا صَلَّيْتَ مُنْذُ ثَلاَثٍ، فَقَال: أَعْطُونِي وُضُوءًا فَتَوَضَّأَ ثُمَّ صَلَّى
__________
(1) المغني 1 / 272، وابن عابدين 1 / 169، والدسوقي 1 / 158.
(2) حديث: سألت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يغمى عليه. . . " أخرجه الدارقطني 2 / 82 ط شركة الطباعة الفنية والبيهقي 1 / 388 ط دائرة المعارف العثمانية وأعله البيهقي بضعف أحد رواته.(5/268)
تِلْكَ اللَّيْلَةَ. وَرَوَى أَبُو مِجْلَزٍ أَنَّ سَمُرَةَ بْنَ جُنْدُبٍ قَال: الْمُغْمَى عَلَيْهِ يَتْرُكُ الصَّلاَةَ يُصَلِّي مَعَ كُل صَلاَةٍ صَلاَةً مِثْلَهَا قَال: قَال عِمْرَانُ: زَعَمَ، وَلَكِنْ لِيُصَلِّهِنَّ جَمِيعًا، وَرَوَى الأَْثْرَمُ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ فِي سُنَنِهِ وَهَذَا فِعْل الصَّحَابَةِ وَقَوْلُهُمْ، وَلاَ يُعْرَفُ لَهُمْ مُخَالِفٌ فَكَانَ إِجْمَاعًا. وَلأَِنَّ الإِْغْمَاءَ لاَ يُسْقِطُ فَرْضَ الصِّيَامِ، وَلاَ يُؤَثِّرُ فِي اسْتِحْقَاقِ الْوِلاَيَةِ عَلَى الْمُغْمَى عَلَيْهِ فَأَشْبَهَ النَّوْمَ. (1)
ج - أَثَرُ الإِْغْمَاءِ فِي الصِّيَامِ:
8 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الإِْغْمَاءَ لاَ يُسْقِطُ قَضَاءَ الصِّيَامِ، فَلَوْ أُغْمِيَ عَلَى شَخْصٍ جَمِيعَ الشَّهْرِ، ثُمَّ أَفَاقَ بَعْدَ مُضِيِّهِ يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ إِنْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ، وَهُوَ نَادِرٌ وَالنَّادِرُ لاَ حُكْمَ لَهُ، إِلاَّ عِنْدَ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ فَإِنَّهُ يَقُول: سَبَبُ وُجُوبِ الأَْدَاءِ لَمْ يَتَحَقَّقْ فِي حَقِّهِ لِزَوَال عَقْلِهِ بِالإِْغْمَاءِ، وَوُجُوبُ الْقَضَاءِ يَبْتَنِي عَلَى وُجُوبِ الأَْدَاءِ.
وَاسْتَدَل فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ بِأَنَّ الإِْغْمَاءَ عُذْرٌ فِي تَأْخِيرِ الصَّوْمِ إِلَى زَوَالِهِ لاَ فِي إِسْقَاطِهِ، لأَِنَّ سُقُوطَهُ يَكُونُ بِزَوَال الأَْهْلِيَّةِ أَوْ بِالْحَرَجِ، وَلاَ تَزُول الأَْهْلِيَّةُ بِهِ وَلاَ يَتَحَقَّقُ الْحَرَجُ بِهِ، لأَِنَّ الْحَرَجَ إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِيمَا يَكْثُرُ وُجُودُهُ، وَامْتِدَادُهُ فِي حَقِّ الصَّوْمِ نَادِرٌ، لأَِنَّهُ مَانِعٌ مِنَ الأَْكْل وَالشُّرْبِ. وَحَيَاةُ الإِْنْسَانِ شَهْرًا بِدُونِ الأَْكْل وَالشُّرْبِ لاَ يَتَحَقَّقُ إِلاَّ نَادِرًا فَلاَ يَصْلُحُ لِبِنَاءِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ.
9 - وَمَنْ نَوَى الصَّوْمَ مِنَ اللَّيْل فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ قَبْل
__________
(1) الدسوقي 1 / 182، 184، 185، والمجموع 3 / 7، وكشف الأسرار 4 / 289، والمغني 1 / 400، والإنصاف 1 / 390، والمنهج 2 / 322.(5/268)
طُلُوعِ الْفَجْرِ فَلَمْ يُفِقْ حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، فَقَدْ قَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: لاَ يَصِحُّ صَوْمُهُ لأَِنَّ الصَّوْمَ هُوَ الإِْمْسَاكُ مَعَ النِّيَّةِ. قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَقُول اللَّهُ تَعَالَى: كُل عَمَل ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلاَّ الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ مِنْ أَجْلِي (1) فَأَضَافَ تَرْكَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ إِلَيْهِ. فَإِذَا كَانَ مُغْمًى عَلَيْهِ فَلاَ يُضَافُ الإِْمْسَاكُ إِلَيْهِ فَلَمْ يُجْزِهِ. وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: يَصِحُّ صَوْمُهُ لأَِنَّ النِّيَّةَ قَدْ صَحَّتْ وَزَوَال الاِسْتِشْعَارِ بَعْدَ ذَلِكَ لاَ يَمْنَعُ صِحَّةَ الصَّوْمِ كَالنَّوْمِ. (2)
وَمَنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ بَعْدَ أَنْ نَوَى الصِّيَامَ وَأَفَاقَ لَحْظَةً فِي النَّهَارِ أَجْزَأَهُ الصَّوْمُ، أَيَّ لَحْظَةٍ كَانَتْ، اكْتِفَاءً بِالنِّيَّةِ مَعَ الإِْفَاقَةِ فِي جُزْءٍ، لأَِنَّ الإِْغْمَاءَ فِي الاِسْتِيلاَءِ عَلَى الْعَقْل فَوْقَ النَّوْمِ وَدُونَ الْجُنُونِ. فَلَوْ قِيل: إِنَّ الْمُسْتَغْرِقَ مِنْهُ لاَ يَضُرُّ لأَُلْحِقَ الأَْقْوَى بِالأَْضْعَفِ. وَلَوْ قِيل: إِنَّ اللَّحْظَةَ مِنْهُ تَضُرُّ كَالْجُنُونِ لأَُلْحِقَ الأَْضْعَفُ بِالأَْقْوَى فَتَوَسَّطَ بَيْنَ الأَْمْرَيْنِ. وَقِيل: إِنَّ الإِْفَاقَةَ فِي أَيِّ لَحْظَةٍ كَافِيَةٌ. وَفِي قَوْلٍ ثَانٍ لِلشَّافِعِيَّةِ: إِنَّ الإِْغْمَاءَ يَضُرُّ مُطْلَقًا قَل أَوْ كَثُرَ. (3)
د - أَثَرُهُ فِي الْحَجِّ:
10 - الإِْغْمَاءُ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ عَوَارِضِ الأَْهْلِيَّةِ. فَالْمُغْمَى عَلَيْهِ لاَ يَتَأَتَّى مِنْهُ أَدَاءُ أَفْعَال الْحَجِّ، وَلَكِنْ هَل يَصِحُّ إِحْرَامُ الْغَيْرِ عَنْهُ بِدُونِ إِذْنٍ مِنْهُ؟ وَهَل إِذَا أَنَابَ أَحَدًا تُقْبَل الإِْنَابَةُ؟
قَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنَّ الْمُغْمَى
__________
(1) حديث: " يقول الله كل عمل ابن آدم له إلا الصوم. . . " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 369 ط السلفية) .
(2) كشف الأسرار 4 / 281، والمغني 3 / 98.
(3) الجمل 2 / 333.(5/269)
عَلَيْهِ لاَ يُحْرِمُ عَنْهُ غَيْرُهُ، لأَِنَّهُ لَيْسَ بِزَائِل الْعَقْل وَبُرْؤُهُ مَرْجُوٌّ عَلَى الْقُرْبِ. وَلَوْ أَيِسَ مِنْ بُرْئِهِ بِأَنْ زَادَ إِغْمَاؤُهُ عَلَى ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يُحْرِمُ الْوَلِيُّ عَنْهُ فِي الْمُعْتَمَدِ، وَقَاسُوا ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لأَِحَدٍ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي مَالِهِ وَإِنْ لَمْ يَبْرَأْ.
وَمَنْ يُرْجَى بُرْؤُهُ لَيْسَ لأَِحَدٍ أَنْ يَنُوبَ عَنْهُ، وَإِنْ فَعَل لَمْ يُجْزِئْهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، لأَِنَّهُ يَرْجُو الْقُدْرَةَ عَلَى الْحَجِّ بِنَفْسِهِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ الاِسْتِنَابَةُ وَلاَ تُجْزِئُهُ إِنْ وَقَعَتْ، وَفَارَقَ الْمَيْئُوسَ مِنْ بُرْئِهِ، لأَِنَّهُ عَاجِزٌ عَلَى الإِْطْلاَقِ آيِسٌ مِنَ الْقُدْرَةِ عَلَى الأَْصْل فَأَشْبَهَ الْمَيِّتَ. (1)
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ مَنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ فَأَهَل عَنْهُ رُفَقَاؤُهُ جَازَ. وَقَال الصَّاحِبَانِ: لاَ يَجُوزُ. وَلَوْ أَمَرَ إِنْسَانًا بِأَنْ يُحْرِمَ عَنْهُ إِذَا أُغْمِيَ عَلَيْهِ، أَوْ نَامَ فَأَحْرَمَ الْمَأْمُورُ عَنْهُ صَحَّ بِإِجْمَاعِ الْحَنَفِيَّةِ، حَتَّى إِذَا أَفَاقَ أَوِ اسْتَيْقَظَ وَأَتَى بِأَفْعَال الْحَجِّ جَازَ. اسْتَدَل الصَّاحِبَانِ عَلَى الأَْوَّل بِأَنَّهُ لَمْ يُحْرِمْ بِنَفْسِهِ وَلاَ أَذِنَ لِغَيْرِهِ بِهِ وَهَذَا لأَِنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ بِالإِْذْنِ، وَالدَّلاَلَةُ تَقِفُ عَلَى الْعِلْمِ وَجَوَازُ الإِْذْنِ بِهِ لاَ يَعْرِفُهُ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ فَكَيْفَ يَعْرِفُهُ الْعَوَامُّ؟ بِخِلاَفِ مَا لَوْ أَمَرَ غَيْرَهُ بِذَلِكَ صَرِيحًا.
وَلأَِبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَمَّا عَاقَدَ رُفَقَاءَهُ عَقْدَ الرُّفْقَةِ فَقَدِ اسْتَعَانَ بِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِيمَا يَعْجِزُ عَنْ مُبَاشَرَتِهِ بِنَفْسِهِ، وَالإِْحْرَامُ هُوَ الْمَقْصُودُ بِهَذَا السَّفَرِ، فَكَانَ الإِْذْنُ بِهِ ثَابِتًا دَلاَلَةً، وَالْعِلْمُ ثَابِتٌ نَظَرًا إِلَى الدَّلِيل، وَالْحُكْمُ يُدَارُ عَلَيْهِ (2) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ الإِْحْرَامُ عَنِ الْمُغْمَى.
__________
(1) المغني 3 / 229، والجمل 2 / 377، والدسوقي 2 / 48.
(2) فتح القدير 2 / 402،403، والمغني 3 / 416، وكشاف القناع 2 / 494 ط النصر، والقليوبي 2 / 114 - 115.(5/269)
عَلَيْهِ وَلَوْ خِيفَ فَوَاتُ الْحَجِّ، لأَِنَّهُ مَظِنَّةُ عَدَمِ الطَّوْل ثُمَّ إِنْ أَفَاقَ فِي زَمَنٍ يُدْرِكُ الْوُقُوفَ فِيهِ أَحْرَمَ وَأَدْرَكَ وَلاَ دَمَ عَلَيْهِ فِي عَدَمِ إِحْرَامِهِ مِنَ الْمِيقَاتِ.
11 - أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، فَالْكُل مُجْمِعٌ عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَفَاقَ الْمُغْمَى عَلَيْهِ فِي زَمَنِ الْوُقُوفِ وَلَوْ لَحْظَةً أَجْزَأَهُ. وَإِنْ لَمْ يُفِقْ مِنْ إِغْمَائِهِ إِلاَّ بَعْدَ الْوُقُوفِ فَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ فَاتَهُ الْحَجُّ فِي ذَلِكَ الْعَامِ، وَلاَ عِبْرَةَ بِإِحْرَامِ أَصْحَابِهِ عَنْهُ وَوُقُوفِهِمْ فِي عَرَفَةَ. وَلِلشَّافِعِيَّةِ قَوْلاَنِ فِي إِجْزَاءِ وُقُوفِ الْمُغْمَى عَلَيْهِ أَوْ عَدَمِهِ.
وَالْحَنَفِيَّةُ يَكْتَفُونَ بِالْكَيْنُونَةِ فِي مَحَل الْوُقُوفِ وَزَمَنِهِ مَعَ سَبْقِ الإِْحْرَامِ، فَوُقُوفُ الْمُغْمَى عَلَيْهِ مُجْزِئٌ.
أَمَّا أَثَرُ الإِْغْمَاءِ عَلَى بَاقِي أَعْمَال الْحَجِّ فَيُنْظَرُ فِي الْحَجِّ.
أَثَرُ الإِْغْمَاءِ عَلَى الزَّكَاةِ:
12 - الْمُغْمَى عَلَيْهِ بَالِغٌ عَاقِلٌ فَتَجِبُ فِي مَالِهِ الزَّكَاةِ، فَإِذَا أُغْمِيَ عَلَيْهِ بَعْدَ وُجُوبِهَا فَلاَ يَتَأَتَّى مِنْهُ الأَْدَاءُ، وَعَلَيْهِ إِذَا أَفَاقَ قَضَاؤُهَا وَلَوِ امْتَدَّ بِهِ الإِْغْمَاءُ، إِذِ امْتِدَادُهُ نَادِرٌ وَالنَّادِرُ لاَ حُكْمَ لَهُ.
أَثَرُ الإِْغْمَاءِ فِي التَّصَرُّفَاتِ الْقَوْلِيَّةِ:
13 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الإِْغْمَاءَ كَالنَّوْمِ بَل أَشَدَّ مِنْهُ فِي فَوْتِ الاِخْتِيَارِ، لأَِنَّ النَّوْمَ يُمْكِنُ إِزَالَتُهُ بِالتَّنْبِيهِ بِخِلاَفِ الإِْغْمَاءِ. وَتَبْطُل عِبَادَاتُ النَّائِمِ فِي الطَّلاَقِ وَالإِْسْلاَمِ وَالرِّدَّةِ وَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ. فَبُطْلاَنُهَا بِالإِْغْمَاءِ أَوْلَى.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى عَدَمِ وُقُوعِ طَلاَقِ الْمُغْمَى عَلَيْهِ(5/270)
بِأَحَادِيثَ مِنْهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُل الطَّلاَقِ جَائِزٌ إِلاَّ طَلاَقَ الْمَعْتُوهِ وَالْمَغْلُوبِ عَلَى عَقْلِهِ (1) وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثَةٍ، عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَشِبَّ، وَعَنِ الْمَعْتُوهِ حَتَّى يَعْقِل (2) ، وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الرَّجُل إِذَا طَلَّقَ فِي حَال نَوْمِهِ لاَ طَلاَقَ لَهُ، وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ أَشَدُّ حَالاً مِنَ النَّائِمِ.
وَقَال الإِْمَامُ أَحْمَدُ فِي الْمُغْمَى عَلَيْهِ إِذَا طَلَّقَ فَلَمَّا أَفَاقَ عَلِمَ أَنَّهُ كَانَ مُغْمًى عَلَيْهِ وَهُوَ ذَاكِرٌ لِذَلِكَ قَال: إِذَا كَانَ ذَاكِرًا لِذَلِكَ فَلَيْسَ هُوَ مُغْمًى عَلَيْهِ، يَجُوزُ طَلاَقُهُ (3) ، وَمِثْل مَا ذُكِرَ كُل تَصَرُّفٍ قَوْلِيٍّ.
أَثَرُ الإِْغْمَاءِ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَةِ:
14 - كُل تَصَرُّفٍ قَوْلِيٍّ يَصْدُرُ فِي حَال الإِْغْمَاءِ فَهُوَ بَاطِلٌ، لَكِنْ إِذَا تَمَّ التَّصَرُّفُ فِي حَال الصِّحَّةِ ثُمَّ طَرَأَ الإِْغْمَاءُ لاَ يَنْفَسِخُ لِتَمَامِهِ فِي حَالٍ تَصِحُّ فِيهَا (4) .
وَلاَ تَصِحُّ وَصِيَّةُ الْمُغْمَى عَلَيْهِ فِي حَالَةِ الإِْغْمَاءِ الْمُؤَقَّتِ، وَلاَ الْمُغْمَى عَلَيْهِ الَّذِي يَئِسَ مِنْ إِفَاقَتِهِ (5) .
إِغْمَاءُ وَلِيِّ النِّكَاحِ:
15 - قَال الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا أُغْمِيَ عَلَى وَلِيِّ النِّكَاحِ
__________
(1) حديث " كل الطلاق جائز. . . " أخرجه الترمذي 3 / 496 ط الحلبي وقال: هذا حديث لا نعرفه مرفوعا إلا من حديث ابن عجلان، وعطاء بن عجلان ضعيف، ذاهب الحديث.
(2) حديث " رفع القلم عن ثلاثة. . . " أخرجه الترمذي من حديث علي رضي الله عنه مرفوعا، وقال: حديث علي حديث حسن غريب من هذا الوجه (تحفة الأحوذي 4 / 685 - 686) .
(3) المنار 952، 953، وابن عابدين 2 / 426، والشرح الكبير 2 / 365، وقليوبي وعميرة 3 / 332، والمغني 7 / 113، 114.
(4) المنار / 953.
(5) قليوبي وعميرة 3 / 157.(5/270)
الأَْقْرَبِ فَنُنْتَظَرُ إِفَاقَتُهُ إِنْ كَانَتْ قَرِيبَةً كَيَوْمٍ وَيَوْمَيْنِ وَأَكْثَرَ، لأَِنَّ مِنْ أُصُول مَذْهَبِهِمْ عَدَمَ جَوَازِ تَزْوِيجِ الْوَلِيِّ الأَْبْعَدِ مَعَ جَمْعِ وُجُودِ الْوَلِيِّ الأَْقْرَبِ، وَقِيل: تَنْتَقِل الْوِلاَيَةُ إِلَى الأَْبْعَدِ.
قَالُوا: الأَْحْسَنُ فِي هَذَا مَا قَال إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: إِنْ كَانَتْ مُدَّةُ الإِْغْمَاءِ بِحَيْثُ يُعْتَبَرُ فِيهَا إِذْنُ الْوَلِيِّ الْغَائِبِ ذَهَابًا وَإِيَابًا انْتُظِرَ وَإِلاَّ قَامَ الْحَاكِمُ بِالتَّزْوِيجِ. قَال الزَّرْكَشِيُّ: لأَِنَّهُ إِذَا زَوَّجَ الْحَاكِمُ مَعَ صِحَّةِ عِبَارَةِ الْغَائِبِ فَمَعَ تَعَذُّرِ ذَلِكَ بِإِغْمَائِهِ أَوْلَى (1) .
إِغْمَاءُ الْقَاضِي:
16 - صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ الْقَاضِيَ إِذَا أُغْمِيَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَنْعَزِل عَنْ وِلاَيَةِ الْقَضَاءِ، وَإِذَا أَفَاقَ لاَ تَعُودُ وِلاَيَتُهُ عَلَى الأَْصَحِّ، وَلاَ يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ فِيمَا حَكَمَ فِيهِ حَال إِغْمَائِهِ، وَفِي مُقَابِل الأَْصَحِّ تَعُودُ وِلاَيَتُهُ إِذَا أَفَاقَ.
أَمَّا غَيْرُ الشَّافِعِيَّةِ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَنُصُّوا عَلَى ذَلِكَ صَرَاحَةً، إِلاَّ أَنَّ مَفْهُومَ النُّصُوصِ عِنْدَهُمْ تَدُل عَلَى أَنَّ الْقَاضِيَ لاَ يَنْعَزِل بِالإِْغْمَاءِ، فَقَدْ جَاءَ فِي ابْنِ عَابِدِينَ: لَوْ فَسَقَ الْقَاضِي أَوِ ارْتَدَّ أَوْ عَمِيَ ثُمَّ صَلُحَ وَأَبْصَرَ فَهُوَ عَلَى قَضَائِهِ.
وَفِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ: لاَ يُعْزَل الْقَاضِي إِلاَّ بِالْكُفْرِ فَقَطْ.
وَفِي شَرْحِ مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ: يَتَعَيَّنُ عَزْل الْقَاضِي مَعَ مَرَضٍ يَمْنَعُهُ مِنَ الْقَضَاءِ لِدُعَاءِ الْحَاجَةِ إِلَى إِقَامَةِ غَيْرِهِ (2) .
__________
(1) قليوبي وعميرة 3 / 246.
(2) ابن عابدين 4 / 304، والشرح الصغير 2 / 331 ط الحلبي، ومنتهى الإرادات 3 / 465، وقليوبي وعميرة 4 / 299.(5/271)
أَثَرُ الإِْغْمَاءِ فِي التَّبَرُّعَاتِ:
17 - سَبَقَ بَيَانُ أَنَّ التَّصَرُّفَاتِ الْقَوْلِيَّةَ كُلَّهَا لاَ تَصِحُّ مِنَ الْمُغْمَى عَلَيْهِ، فَلاَ تَصِحُّ هِبَتُهُ وَلاَ صَدَقَتُهُ وَلاَ وَقْفُهُ وَمَا إِلَى ذَلِكَ، لأَِنَّ الْمُغْمَى عَلَيْهِ مَغْلُوبُ الْعَقْل فَلاَ يَتَوَفَّرُ فِيهِ شَرْطُ صِحَّةِ التَّصَرُّفِ. وَهَذَا بِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ، وَلأَِنَّ التَّصَرُّفَاتِ يُشْتَرَطُ فِيهَا كَمَال الْعَقْل وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ لَيْسَ كَذَلِكَ.
أَثَرُ الإِْغْمَاءِ فِي الْجِنَايَاتِ:
18 - تَقَدَّمَ أَنَّ الإِْغْمَاءَ عَارِضٌ وَقْتِيٌّ تَسْقُطُ فِيهِ الْمُؤَاخَذَةُ وَفَهْمُ الْخِطَابِ، فَإِنَّ حَالَةَ الْمُغْمَى عَلَيْهِ هِيَ سَتْرٌ لِلْعَقْل يَنْشَأُ عَنْهُ فَقْدٌ لِلْوَعْيِ وَفَقْدٌ لِلاِخْتِيَارِ، لِذَلِكَ كَانَ سَبَبًا مِنْ أَسْبَابِ عَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ بِالنِّسْبَةِ لِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى حَسَبَ الْبَيَانِ السَّابِقِ.
أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِحُقُوقِ الْعِبَادِ فَإِنَّهَا لاَ تَسْقُطُ. فَإِذَا وَقَعَتْ مِنْهُ جَرَائِمُ أُخِذَ بِهَا. فَإِذَا انْقَلَبَ النَّائِمُ عَلَى غَيْرِهِ فَمَاتَ فَإِنَّهُ يُعَامَل مُعَامَلَةَ الْمُخْطِئِ وَتَجِبُ الدِّيَةُ. وَإِذَا أَتْلَفَ مَال إِنْسَانٍ وَهُوَ مُغْمًى عَلَيْهِ وَجَبَ عَلَيْهِ ضَمَانُ مَا أَتْلَفَ.
هَل يُعْتَبَرُ إِغْمَاءُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ عَيْبًا؟
19 - نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ الإِْغْمَاءَ إِذَا تَبَيَّنَ فِي الزَّوْجِ أَوِ الزَّوْجَةِ عَقِيبَ عَقْدِ النِّكَاحِ يُبِيحُ لِكُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ فَسْخَ النِّكَاحِ إِذَا قَرَّرَ الأَْطِبَّاءُ الْيَأْسَ مِنَ الإِْفَاقَةِ، وَعِلَّتُهُ أَنَّ الإِْغْمَاءَ الْمُسْتَدِيمَ يَمْنَعُ مِنَ الاِسْتِمْتَاعِ الْمَقْصُودِ مِنَ النِّكَاحِ.
قَال الإِْمَامُ النَّوَوِيُّ: قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى ثُبُوتِ الْخِيَارِ فِي الْبَيْعِ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ (الْجُنُونُ مُطْبِقًا أَوْ مُتَقَطِّعًا. . .) وَمِثْلُهُ الإِْغْمَاءُ الْمَيْئُوسُ مِنْهُ بِقَوْل(5/271)
الأَْطِبَّاءِ.
وَإِذَا كَانَ الإِْغْمَاءُ الْمَيْئُوسُ مِنْهُ عَيْبًا يُفْسَخُ بِهِ النِّكَاحُ وَيُرَدُّ بِهِ الْمَبِيعُ فَهُوَ فِي الإِْجَارَةِ أَوْلَى. هَذَا مَا ذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ، وَقَوَاعِدُ غَيْرِهِمْ لاَ تَأْبَاهُ (1) .
إِفَاضَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الإِْفَاضَةِ فِي اللُّغَةِ: الْكَثْرَةُ وَالإِْسَالَةُ، يُقَال: أَفَاضَ الإِْنَاءَ: إِذَا مَلأََهُ حَتَّى فَاضَ، أَيْ كَثُرَ مَاؤُهُ وَسَال.
وَمِنْ مَعَانِيهَا: دَفْعُ النَّاسِ مِنَ الْمَكَانِ، يُقَال: أَفَاضَ النَّاسُ مِنْ عَرَفَاتٍ: إِذَا دُفِعُوا مِنْهَا، وَكُل دَفْعَةٍ إِفَاضَةٌ (2) .
وَتَأْتِي فِي الاِصْطِلاَحِ بِهَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ مُوَافَقَةً لِلْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
2 - تَأْتِي إِفَاضَةُ الْمَاءِ بِمَعْنَى كَثْرَتِهِ مَعَ الإِْسَالَةِ فِي رَفْعِ الْحَدَثِ الأَْصْغَرِ فِي الْوُضُوءِ، وَالْحَدَثِ الأَْكْبَرِ فِي الْغُسْل مِنَ الْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَالْمَوْتِ وَعِنْدَ الإِْسْلاَمِ، فَتَكُونُ الإِْسَالَةُ وَاجِبَةً وَالْكَثْرَةُ مَنْدُوبَةً مَا لَمْ يَخْرُجْ إِلَى حَدِّ السَّرَفِ، كَمَا تَجِبُ فِي تَطْهِيرِ النَّجَاسَاتِ. مِثْل إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ عَنِ الْمَكَانِ أَوِ الْجَسَدِ أَوِ الثَّوْبِ، (ر: غُسْلٌ، وُضُوءٌ، نَجَاسَةٌ) .
__________
(1) قليوبي وعميرة 3 / 261.
(2) المصباح المنير ولسان العرب في المادة.(5/272)
3 - وَتَأْتِي الإِْفَاضَةُ بِالْمَعْنَى الثَّانِي، كَالإِْفَاضَةِ مِنْ عَرَفَةَ وَمِنْ مُزْدَلِفَةَ، وَالإِْفَاضَةِ مِنْ مِنًى (ر: حَجٌّ) .
وَتَكُونُ هَذِهِ الإِْفَاضَةُ صَحِيحَةً شَرْعًا إِذَا وَافَقَتْ وَقْتَهَا، وَتَكُونُ سُنَّةً إِذَا وَافَقَتْ فِعْل الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْل الإِْفَاضَةِ مِنْ عَرَفَةَ بَعْدَ غُرُوبِ شَمْسِ عَرَفَةَ، وَالإِْفَاضَةِ مِنْ مُزْدَلِفَةَ بَعْدَ صَلاَةِ الْفَجْرِ.
وَتَكُونُ جَائِزَةً مِثْل الإِْفَاضَةِ مِنْ مِنًى فِي الْيَوْمِ الثَّانِي لِلرَّمْيِ لِلْمُتَعَجِّل (1) (ر: حَجٌّ) .
4 - كَمَا يُضَافُ طَوَافُ الرُّكْنِ إِلَى الإِْفَاضَةِ فَيُسَمَّى " طَوَافَ الإِْفَاضَةِ " وَحُكْمُهُ أَنَّهُ رُكْنٌ فِي الْحَجِّ (2) .
إِفَاقَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - يُقَال لُغَةً: أَفَاقَ السَّكْرَانُ إِذَا صَحَا، وَأَفَاقَ مِنْ مَرَضِهِ رَجَعَتْ إِلَيْهِ الصِّحَّةُ، وَأَفَاقَ عَنْهُ النُّعَاسُ أَقْلَعَ (3) .
وَعِنْدَ الْفُقَهَاءِ تُسْتَعْمَل الإِْفَاقَةُ بِمَعْنَى رُجُوعِ عَقْل الإِْنْسَانِ إِلَيْهِ بَعْدَ غِيَابِهِ عَنْهُ بِسَبَبِ الْجُنُونِ، أَوِ الإِْغْمَاءِ، أَوِ السُّكْرِ، أَوِ النَّوْمِ (4) .
__________
(1) الاختيار 1 / 7، 12، 34، 151 - 155، والوجيز 1 / 13، 18، 120، ومنتهى الإرادات 1 / 19، والمغني 1 / 99، 219 ط المنار، وحاشية الدسوقي 1 / 64، 85، 135، 2 / 44 - 48 ط الحلبي، والإنصاف 4 / 28 - 32، 49، وابن عابدين 2 / 176، 178، 185، والجمل 2 / 458، 470.
(2) الدسوقي 2 / 46، وابن عابدين 2 / 183، والاختيار 1 / 154.
(3) لسان العرب، وترتيب القاموس مادة (فوق) .
(4) ابن عابدين 3 / 164.(5/272)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
2 - يَتَنَاوَل الْفُقَهَاءُ الإِْفَاقَةَ أَثْنَاءَ الْكَلاَمِ عَنِ الْجُنُونِ، وَالإِْغْمَاءِ، وَالسُّكْرِ، وَالنَّوْمِ، وَيَبْنُونَ عَلَى الإِْفَاقَةِ مِنْ هَذِهِ الْعَوَارِضِ أَحْكَامًا مِنْهَا مَا يَلِي:
التَّطَهُّرُ عِنْدَ الإِْفَاقَةِ:
3 - لاَ خِلاَفَ فِي انْتِقَاضِ الْوُضُوءِ بِالْجُنُونِ أَوِ الإِْغْمَاءِ الأَْصْلِيِّ أَوِ الْعَارِضِ، فَإِذَا أَفَاقَ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ لِلصَّلاَةِ وَنَحْوِهَا، وَذَكَرَ أَغْلَبُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ اغْتِسَال الْمَجْنُونِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ إِذَا أَفَاقَا (1) ، قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: ثَبَتَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اغْتَسَل مِنَ الإِْغْمَاءِ (2) .
الصَّلاَةُ بَعْدَ الإِْفَاقَةِ:
4 - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا أَفَاقَ الْمَجْنُونُ لاَ يُكَلَّفُ قَضَاءَ مَا فَاتَهُ حَال جُنُونِهِ، وَوَافَقَ الْحَنَفِيَّةُ الْجُمْهُورَ فِي الْجُنُونِ الأَْصْلِيِّ (الْمُمْتَدِّ بَعْدَ الْبُلُوغِ) أَمَّا الْجُنُونُ الْعَارِضُ فَكَالإِْغْمَاءِ عِنْدَهُمْ.
وَقَدْ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُغْمَى عَلَيْهِ لاَ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الصَّلَوَاتِ الَّتِي لَمْ يَكُنْ مُفِيقًا فِي جُزْءٍ مِنْ وَقْتِهَا، وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا زَادَ الإِْغْمَاءُ عَلَى يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ تَسْقُطُ بِهِ الصَّلَوَاتُ، وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ تَسْقُطُ الصَّلاَةُ بِالإِْغْمَاءِ قِيَاسًا عَلَى النَّوْمِ، وَبِالإِْفَاقَةِ مِنَ النَّوْمِ يُطَالَبُ بِمَا فَاتَهُ مِنْ
__________
(1) الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 58 نشر دار الإيمان، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 184، والمغني 1 / 212 ط الرياض.
(2) المغني 1 / 212، وحديث اغتسال النبي صلى الله عليه وسلم من الإغماء، أخرجه البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها مطولا (فتح الباري 2 / 172، 173 ط السلفية) .(5/273)
صَلَوَاتٍ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ (1) .
وَلاَ يُخَالِفُ أَحَدٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ فِي وُجُوبِ الصَّلاَةِ الَّتِي حَدَثَتِ الإِْفَاقَةُ فِي وَقْتِهَا الْمُحَدَّدِ لَهَا شَرْعًا، وَقَدْ بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ مَا يَسَعُ تِلْكَ الصَّلاَةَ، وَسَوَاءٌ أَكَانَتِ الإِْفَاقَةُ عَنْ جُنُونٍ أَمْ غَيْرِهِ، وَذَلِكَ لِحَدِيثِ: رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثَةٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَشِبَّ، وَعَنِ الْمَعْتُوهِ حَتَّى يَعْقِل (2)
فَإِنْ ضَاقَ الْوَقْتُ عَنْهَا كُلِّهَا، فَإِنَّ مِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ يَقُول بِوُجُوبِهَا إِنْ بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ قَدْرُ تَكْبِيرَةٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُول بِأَنَّهَا تَجِبُ إِنْ بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ مَا يُدْرِكُ بِهِ رَكْعَةً.
وَهَل تَسْقُطُ تِلْكَ الصَّلاَةُ لَوْ صَلَّى صَلاَةً فَائِتَةً، وَخَرَجَ الْوَقْتُ أَمْ لاَ؟
تَفْصِيل ذَلِكَ يَذْكُرُهُ الْفُقَهَاءُ فِي (أَوْقَاتِ الصَّلاَةِ) . (3)
أَثَرُ الإِْفَاقَةِ فِي الصَّوْمِ:
5 - مِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ أَوْجَبَ صِيَامَ الشَّهْرِ كُلِّهِ إِنْ أَفَاقَ الْمَجْنُونُ فِي جُزْءٍ مِنْهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ لاَ يَجْعَل لِلإِْفَاقَةِ أَثَرًا إِلاَّ فِي الْيَوْمِ الَّذِي حَدَثَتْ فِيهِ، أَمَّا الْيَوْمُ الَّذِي لَمْ تَحْدُثْ فِيهِ إِفَاقَةٌ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ صَوْمُهُ عِنْدَ هَؤُلاَءِ.
__________
(1) المغني 1 / 400 ط الرياض، وتيسير التحرير 2 / 429.
(2) حديث: " رفع القلم عن ثلاثة. . . " أخرجه الترمذي واللفظ له، وأبو داود والحاكم مرفوعا من حديث علي رضي الله عنه وعلقه البخاري وقال الترمذي: حديث علي حديث حسن غريب من هذا الوجه. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين وأقره الذهبي (تحفة الأحوذي 4 / وعون المعبود 4 / 244 ط الهند، والمستدرك 1 / 258 نشر دار الكتاب العربي، وفتح الباري 9 / 388 ط السلفية.) .
(3) الخرشي 1 / 220، وجواهر الإكليل 1 / 34 نشر مكة المكرمة، والقليوبي 2 / 122 ط الحلبي، والمغني 1 / 400.(5/273)
وَذَهَبَ الْبَعْضُ إِلَى أَنَّ الشَّهْرَ يَسْقُطُ عَنْهُ إِنْ كَانَتْ إِفَاقَتُهُ فِي لَيْلَةٍ مِنْ أَوَّلِهِ أَوْ وَسَطِهِ أَوْ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ بَعْدَ الزَّوَال (1) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَقْضِي الْمُكَلَّفُ وَإِنْ جُنَّ سِنِينَ عَدِيدَةً بَعْدَ الإِْفَاقَةِ (2) .
يُرْجَعُ إِلَى تَفْصِيل أَحْكَامِ ذَلِكَ تَحْتَ عِنْوَانِ (صَوْمٌ) .
وَلَوْ نَوَى الصَّوْمَ ثُمَّ جُنَّ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ ثُمَّ أَفَاقَ فِي أَثْنَاءِ الْيَوْمِ فَهَل يَصِحُّ صَوْمُهُ أَوْ لاَ؟ خِلاَفٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، مِنْهُمْ مَنْ يَقُول بِالصِّحَّةِ إِنْ كَانَتِ الإِْفَاقَةُ فِي أَوَّل النَّهَارِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَشْتَرِطُ لِلصِّحَّةِ أَنْ تَكُونَ الإِْفَاقَةُ فِي طَرَفَيِ النَّهَارِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُول بِالصِّحَّةِ مَتَى وَقَعَتِ الإِْفَاقَةُ أَثْنَاءَ الْيَوْمِ (3) ، فَإِنْ لَمْ يَنْعَقِدْ صِيَامُهُ ثُمَّ أَفَاقَ أَثْنَاءَ النَّهَارِ هَل يُنْدَبُ لَهُ الإِْمْسَاكُ أَمْ لاَ؟ فِيهِ خِلاَفٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ يُذْكَرُ فِي (الصَّوْمِ) . (4)
تَأْخِيرُ حَدِّ الشُّرْبِ لِلإِْفَاقَةِ:
6 - أَجْمَعَ الأَْئِمَّةُ الأَْرْبَعَةُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى مَنْ ثَبَتَ عَلَيْهِ حَدُّ الشُّرْبِ إِلاَّ بَعْدَ الإِْفَاقَةِ تَحْصِيلاً لِمَقْصُودِ الزَّجْرِ، وَلأَِنَّ غَيْبُوبَةَ الْعَقْل تُخَفِّفُ الأَْلَمَ (5) . فَإِنْ أَقَامَهُ الإِْمَامُ حَال السُّكْرِ حَرُمَ وَيُجْزِئُهُ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي (حَدِّ الشُّرْبِ) . (6)
__________
(1) ابن عابدين 1 / 512، 2 / 82، والروضة 2 / 366، 373، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 184، والمغني 2 / 99.
(2) جواهر الإكليل 1 / 149.
(3) ابن عابدين 1 / 512، والروضة 2 / 366، 373، والمغني 2 / 98.
(4) جواهر الإكليل 1 / 146.
(5) ابن عابدين 3 / 163، 164، والقليوبي 4 / 204.
(6) القليوبي 4 / 20.(5/274)
إِفَاقَةُ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ:
7 - لَوْ أَفَاقَ الْمَجْنُونُ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ فَإِنَّ الْحَجْرَ يَنْفَكُّ بِالإِْفَاقَةِ، ثُمَّ اخْتُلِفَ هَل يَحْتَاجُ إِلَى فَكِّ قَاضٍ، وَتَفْصِيلُهُ فِي الْحَجْرِ (1) .
الإِْفَاقَةُ فِي الْحَجِّ:
8 - بِالإِْضَافَةِ إِلَى مَا تَقَدَّمَ، يَتَكَلَّمُ الْفُقَهَاءُ عَنِ الإِْفَاقَةِ فِي الْحَجِّ مِمَّنْ أَحْرَمَ ثُمَّ أُغْمِيَ عَلَيْهِ، وَأَدَّوْا بِهِ بَقِيَّةَ الْمَنَاسِكِ، ثُمَّ أَفَاقَ قَبْل تَمَامِ الْحَجِّ أَوْ بَعْدَهُ. وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي (إِحْرَامٌ) .
تَزْوِيجُ الْمَجْنُونِ إِذَا أَفَاقَ:
9 - هَل يُزَوِّجُ الْوَلِيُّ مُوَلِّيَهُ الْمَجْنُونَ إِنْ كَانَ جُنُونُهُ مُنْقَطِعًا فِي وَقْتِ الإِْفَاقَةِ أَمْ لاَ. انْظُرْ (نِكَاحٌ) . (2)
إِفْتَاءٌ
اُنْظُرْ: فَتْوَى.
افْتِدَاءٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِفْتِدَاءُ لُغَةً: الاِسْتِنْقَاذُ بِعِوَضٍ، كَالْفِدَاءِ،
__________
(1) القليوبي 2 / 299، والمغني 4 / 520، وجواهر الإكليل 2 / 97، والفتاوى الهندية 5 / 54.
(2) ابن عابدين 2 / 189، والقليوبي 4 / 230.(5/274)
وَاسْمُ ذَلِكَ الْعِوَضِ " الْفِدْيَةُ " أَوِ " الْفِدَاءُ " وَهُوَ عِوَضُ الأَْسِيرِ.
وَمُفَادَاةُ الأَْسْرَى: أَنْ تَدْفَعَ رَجُلاً وَتَأْخُذَ رَجُلاً، وَالْفِدَاءُ: فِكَاكُ الأَْسِيرِ.
وَيُطْلَقُ الاِفْتِدَاءُ فِي الاِصْطِلاَحِ عَلَى مَا يَشْمَل الْمَعْنَى اللُّغَوِيَّ وَهُوَ: الاِسْتِنْقَاذُ بِعِوَضٍ، وَعَلَى مَا يَكُونُ جَبْرًا لِخَطَأٍ، أَوْ مَحْوًا لإِِثْمٍ أَوْ تَقْصِيرٍ (1) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
يَخْتَلِفُ حُكْمُ الاِفْتِدَاءِ بِاخْتِلاَفِ مَوَاضِعِهِ وَمِنْ ذَلِكَ:
أ - افْتِدَاءُ الْيَمِينِ:
2 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ لِمَنِ ادُّعِيَ عَلَيْهِ بِحَقٍّ وَوُجِّهَتْ إِلَيْهِ الْيَمِينُ، أَنْ يَتَحَاشَى الْحَلِفَ وَيَفْتَدِيَ الْيَمِينَ بِأَدَاءِ الْمُدَّعَى أَوِ الصُّلْحِ مِنْهَا عَلَى شَيْءٍ مَعْلُومٍ، لِحَدِيثِ: ذُبُّوا عَنْ أَعْرَاضِكُمْ بِأَمْوَالِكُمْ (2) وَالتَّفْصِيل فِي بَحْثِ (الدَّعْوَى) وَفِي (الصُّلْحِ) .
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، والصحاح، مادة (فدى) ، وحاشية القليوبي 4 / 159 ط مصطفى البابي الحلبي بمصر، وحاشية الشبراملسي على نهاية المحتاج 7 / 358 نشر المكتبة الإسلامية بالرياض.
(2) حديث: " ذبوا عن أعراضكم بأموالكم " أخرجه الخطيب من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا، والحديث سكت عنه المناوي، وحكم الألباني بصحته (تاريخ بغداد 9 / 107 ط السعادة، وفيض القدير 3 / 560، وصحيح الجامع الصغير بتحقيق الألباني 3 / 155) . وانظر رد المحتار على الدر المختار 4 / 429 - دار إحياء التراث العربي. وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 311 ط عيسى البابي الحلبي.(5/275)
ب - فِدَاءُ الرِّجَال الأَْسْرَى الْمُقَاتِلَةِ مِنَ الْكُفَّارِ:
3 - أَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (1) قَبُول افْتِدَاءِ الْمُشْرِكِينَ أَسْرَاهُمُ الرِّجَال الْمُقَاتِلَةَ بِمَالٍ أَوْ بِأَسْرَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ، إِذَا رَأَى الإِْمَامُ أَوْ أَمِيرُ الْجَيْشِ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةً وَحَظًّا لِلْمُسْلِمِينَ.
وَأَجَازَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ (2) مُفَادَاةَ الأَْسِيرِ بِالأَْسِيرِ، وَالدَّلِيل قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} (3)
افْتِدَاءُ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ:
4 - افْتِدَاؤُهُمْ بِالْمَال مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَطْعِمُوا الْجَائِعَ، وَعُودُوا الْمَرِيضَ، وَفُكُّوا الْعَانِيَ (الأَْسِيرَ) (4) أَمَّا افْتِدَاؤُهُمْ بِأَسْرَى الْكُفَّارِ فَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (5) . وَتَفْصِيلُهُ فِي، مُصْطَلَحِ (أَسْرَى) .
ج - الاِفْتِدَاءُ عَنْ مَحْظُورَاتِ الإِْحْرَامِ:
5 - تَجِبُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ الْفِدْيَةُ عَنِ ارْتِكَابِ
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 184، ونهاية المحتاج 8 / 65، 66، 67، وكشاف القناع 3 / 53 نشر مكتبة النصر الحديثة بالرياض.
(2) بدائع الصنائع 7 / 119 - 121 مطبعة الجمالية.
(3) سورة محمد / 4.
(4) حديث: " أطعموا الجائع وعودوا المريض، وفكوا العاني " أخرجه البخاري من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه مرفوعا. (فتح الباري 9 / 517 ط السلفية) .
(5) المبسوط 10 / 138، ومواهب الجليل 3 / 358، والمهذب 2 / 237، ومطالب أولي النهى 2 / 521.(5/275)
مَحْظُورٍ مِنْ مَحْظُورَاتِ الإِْحْرَامِ (1) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} (2) وَلِحَدِيثِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: أَتَى عَلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ وَالْقَمْل يَتَنَاثَرُ عَلَى وَجْهِي، فَقَال: أَيُؤْذِيكَ هَوَامُّ رَأْسِكَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ: قَال: فَاحْلِقْ وَصُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ، أَوِ انْسُكْ نَسِيكَةً (3) .
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
6 - أَبَانَ الْفُقَهَاءُ أَحْكَامَ الاِفْتِدَاءِ فِي مَبَاحِثِ الدَّعْوَى، وَالأَْسْرَى، وَمَحْظُورَاتِ الإِْحْرَامِ (4) وَفِي الْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ لأَِهْل الأَْعْذَارِ (الْحَامِل وَالْمُرْضِعِ) أُمًّا كَانَتْ أَوْ ظِئْرًا، وَمَنْ أَفْطَرَ عَمْدًا فِي رَمَضَانَ وَمَاتَ قَبْل الْقَضَاءِ وَالْكَفَّارَةِ (5) .
وَذَكَرُوا الْفِدْيَةَ فِي صَوْمِ النَّذْرِ (6) .
وَالْفِدْيَةُ لِلشَّيْخِ الْفَانِي الْعَاجِزِ عَنِ الصَّوْمِ (7) .
__________
(1) رد المحتار على الدر المختار 2 / 161 - 164 نشر دار إحياء التراث العربي، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 - 54 - 61، شرح الزرقاني 2 / 290 - 297، وبداية المجتهد 1 / 310، ونهاية المحتاج 3 / 319 - 330، ومطالب أولي النهى 2 / 328، 329، 332، وكشاف القناع 2 / 450 - 467، والمغني 3 / 492، 493، 501.
(2) سورة البقرة / 196.
(3) حديث كعب بن عجرة " أتى علي النبي صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية " أخرجه البخاري (فتح الباري 7 / 457 ط السلفية) .
(4) المراجع السابقة.
(5) رد المحتار على الدر المختار 2 / 117، 118، والمغني لابن قدامة 3 / 141.
(6) رد المحتار على الدر المختار 3 / 71.
(7) رد المحتار على الدر المختار 2 / 119.(5/276)
وَفِي الْخُلْعِ (1) . وَتَفْصِيل كُلٍّ مِمَّا ذُكِرَ فِي مَوَاطِنِهِ.
افْتِرَاءٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِفْتِرَاءُ فِي اللُّغَةِ، وَفِي الشَّرِيعَةِ: الْكَذِبُ وَالاِخْتِلاَقُ (2) ، قَال تَعَالَى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} (3) أَيِ اخْتَلَقَهُ وَكَذَبَ بِهِ عَلَى اللَّهِ، قَال جَل شَأْنُهُ: {وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ} (4) وَقَال أَيْضًا: {إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ} (5) .
وَيُطْلِقُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ الْفِرْيَةَ وَالاِفْتِرَاءَ عَلَى الْقَذْفِ، وَهُوَ رَمْيُ الْمُحْصَنِ بِالزِّنَى مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ. وَقَدْ جَاءَ فِي كَلاَمِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ حِينَ اسْتَشَارَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي حَدِّ السُّكْرِ: أَنَّهُ إِذَا سَكِرَ هَذَى، وَإِذَا هَذَى افْتَرَى (أَيْ قَذَفَ كَاذِبًا) وَحَدُّ الْمُفْتَرِي - أَيِ الْقَاذِفِ - ثَمَانُونَ جَلْدَةً (6) .
__________
(1) شرح منهاج الطالبين، وحاشيتي قليوبي وعميرة 3 / 312، 4 / 47.
(2) المصباح المنير، ولسان العرب، والنهاية في غريب الحديث، وتحفة الأديب بما في القرآن من الغريب لأبي حيان ص 212 ط العاني بغداد.
(3) سورة يونس / 38.
(4) سورة الممتحنة / 12.
(5) سورة يونس / 69.
(6) المغني 8 / 307. والأثر في استشارة عمر رضي الله عنه علي بن أبي طالب رضي الله عنه في حد السكر. أخرجه مالك والشافعي عن ثور بن زيد الدبلي، ولفظ الموطأ: أن عمر بن الخطاب استشار في الخمر يشربها الرجل فقال له علي بن أبي طالب: نرى أن تجلده ثمانين، فإنه إذا شرب سكر وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى أو كما قال. فجلد عمر في الخمر ثمانين. قال الحافظ ابن حجر: إسناده منقطع لأن ثورا لم يلحق عمر بلا وتلخيص الحبير 4 / 75 ط شركة الطباعة الفنية، وسنن الدارقطني 3 / 166، 167 ط دار المحاسن، ونيل الأوطار 7 / 152، 153 ط مصطفى الحلبي) .(5/276)
الْفَرْقُ بَيْنَ الْكَذِبِ وَالاِفْتِرَاءِ:
الْكَذِبُ قَدْ يَقَعُ عَلَى سَبِيل الإِْفْسَادِ، وَقَدْ يَكُونُ عَلَى سَبِيل الإِْصْلاَحِ، كَالْكَذِبِ لِلإِْصْلاَحِ بَيْنَ الْمُتَخَاصِمَيْنِ، أَمَّا الاِفْتِرَاءُ: فَإِنَّ اسْتِعْمَالَهُ لاَ يَكُونُ إِلاَّ فِي الإِْفْسَادِ (1) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُفْطِرُ الصَّائِمُ بِشَيْءٍ مِنْ مَعَاصِي الْكَلاَمِ، وَمِنْهَا الاِفْتِرَاءُ، وَلَكِنَّهُ يَنْقُصُ أَجْرُهُ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ تَجِدُهُ فِي بَحْثِ الصِّيَامِ عِنْدَ كَلاَمِهِمْ عَلَى مَا يُفْطِرُ الصَّائِمَ وَمَا لاَ يُفْطِرُهُ (2) .
3 - الاِفْتِرَاءُ إِذَا اسْتُعْمِل وَأُرِيدَ بِهِ الْقَذْفُ، فَإِنَّ أَحْكَامَهُ هِيَ أَحْكَامُ الْقَذْفِ الْمُفَصَّلَةِ فِي بَابِ الْقَذْفِ، أَمَّا إِذَا أُرِيدَ بِهِ غَيْرُ الْقَذْفِ، فَفِيهِ التَّعْزِيرُ، لأَِنَّهُ لاَ حَدَّ فِيهِ، وَكُل إِسَاءَةٍ لاَ حَدَّ فِيهَا فَفِيهَا التَّعْزِيرُ (3) .
__________
(1) مفردات الراغب الأصبهاني.
(2) المحلى 6 / 177، وما بعدها.
(3) الفتاوى الهندية 2 / 167، والمغني 8 / 324، وقليوبي 4 / 205.(5/277)
افْتِرَاشٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - افْتِرَاشُ الشَّيْءِ لُغَةً: بَسْطُهُ.
يُقَال: افْتَرَشَ ذِرَاعَيْهِ إِذَا بَسَطَهُمَا عَلَى الأَْرْضِ، كَالْفِرَاشِ لَهُ.
وَالاِفْتِرَاشُ أَيْضًا: وَطْءُ مَا فَرَشَهُ، وَمِنْهُ افْتِرَاشُ الْبِسَاطِ وَطْؤُهُ وَالْجُلُوسُ عَلَيْهِ، وَافْتِرَاشُ الْمَرْأَةِ: اتِّخَاذُهَا زَوْجَةً، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ كُلٌّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ فِرَاشًا لِلآْخَرِ (1) . وَالْفُقَهَاءُ يُطْلِقُونَ " الاِفْتِرَاشَ " عَلَى هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
أ - افْتِرَاشُ الْيَدَيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ:
2 - كَرِهَ الْفُقَهَاءُ لِلرَّجُل - دُونَ الْمَرْأَةِ - أَنْ يَفْتَرِشَ ذِرَاعَيْهِ عَلَى الأَْرْضِ فِي السُّجُودِ، لِوُرُودِ النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ، لِحَدِيثِ لاَ يَفْتَرِشُ أَحَدُكُمْ ذِرَاعَيْهِ افْتِرَاشَ الْكَلْبِ (2) .
__________
(1) المغرب، والقاموس المحيط، والمصباح: مادة " فرش "
(2) الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 146، 192 ط بولاق 1371 هـ وكشاف القناع 1 / 352 ط مكتبة النصر الحديثة بالرياض، والمغني 1 / 519، والاختيار لتعليل المختار 1 / 52 ط دار المعرفة بيروت. والحديث: " لا يفترش أحدكم ذراعيه افتراش الكلب ". أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود - واللفظ له - من حديث أنس رضي الله عنه مرفوعا (فتح الباري 2 / 301 ط السلفية) وصحيح مسلم (1 / 355 ط عيسى الحلبي، وسنن أبي داود 1 / 554 ط استنبول.(5/277)
وَيُكْرَهُ لِلرَّجُل افْتِرَاشُ أَصَابِعِ قَدَمَيْهِ فِي السُّجُودِ (1) .
وَكَرِهَ الْبَعْضُ لِلرَّجُل فِي قُعُودِ الصَّلاَةِ افْتِرَاشَ قَدَمَيْهِ وَالْجُلُوسَ عَلَى عَقِبَيْهِ، وَلَكِنْ يُسَنُّ لَهُ أَنْ يَجْلِسَ مُفْتَرِشًا رِجْلَهُ الْيُسْرَى، وَيَجْلِسَ عَلَيْهَا، وَيَنْصِبَ الْيُمْنَى (2) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي كِتَابِ الصَّلاَةِ عِنْدَ الْكَلاَمِ عَلَى السُّجُودِ وَالْقُعُودِ فِيهَا.
ب - الصَّلاَةُ عَلَى الثَّوْبِ الْمَفْرُوشِ عَلَى النَّجَاسَةِ:
3 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ الصَّلاَةِ عَلَى الثَّوْبِ الْمَفْرُوشِ عَلَى النَّجَاسَةِ إِذَا كَانَ يَمْنَعُ نُفُوذَ النَّجَاسَةِ إِلَى الأَْعْلَى، وَظَاهِرُ كَلاَمِ أَحْمَدَ الْجَوَازُ مَعَ الْكَرَاهَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: لاَ تَجُوزُ الصَّلاَةُ عَلَيْهِ (3) . وَفَصَّل الْحَنَفِيَّةُ فَقَالُوا: إِنَّ النَّجَاسَةَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ طَرِيَّةً أَوْ يَابِسَةً، فَإِنْ كَانَتِ النَّجَاسَةُ طَرِيَّةً وَفُرِشَ عَلَيْهَا ثَوْبٌ، فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيهِ حَتَّى تَجُوزَ الصَّلاَةُ عَلَيْهِ، أَنْ يَكُونَ الثَّوْبُ غَلِيظًا يُمْكِنُ فَصْلُهُ إِلَى طَبَقَتَيْنِ، وَأَلاَّ تَكُونَ النَّجَاسَةُ قَدْ نَفَذَتْ مِنَ الطَّبَقَةِ السُّفْلَى إِلَى الطَّبَقَةِ الْعُلْيَا.
أَمَّا إِنْ كَانَتِ النَّجَاسَةُ يَابِسَةً، فَيُشْتَرَطُ فِي الثَّوْبِ الْمَفْرُوشِ عَلَيْهَا حَتَّى تَصِحَّ الصَّلاَةُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ غَلِيظًا بِحَيْثُ يَمْنَعُ لَوْنَ النَّجَاسَةِ وَرَائِحَتَهَا (4) .
__________
(1) كشاف القناع 1 / 351، والمغني 1 / 519، وجواهر الإكليل 1 / 48.
(2) حلية العلماء 2 / 104، وكشاف القناع 1 / 352، والمغني 3 / 524، ومراقي الفلاح ص 146، وجواهر الإكليل 1 / 51.
(3)) المغني 2 / 76، والمجموع 3 / 152، 153 مصور عن الطبعة الأولى.
(4) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 112.(5/278)
ج - افْتِرَاشُ الْحَرِيرِ:
4 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ افْتِرَاشِ النِّسَاءِ لِلْحَرِيرِ. أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلرِّجَال فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى تَحْرِيمِهِ، لِقَوْل حُذَيْفَةَ: نَهَانَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَشْرَبَ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَأَنْ نَأْكُل فِيهَا، وَأَنْ نَلْبَسَ الْحَرِيرَ وَالدِّيبَاجَ، وَأَنْ نَجْلِسَ عَلَيْهِ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ مَعَ الْكَرَاهَةِ. وَرَخَّصَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ لِلرَّجُل أَنْ يَجْلِسَ وَيَنَامَ عَلَى فِرَاشِ الْحَرِيرِ مَعَ زَوْجَتِهِ (2) .
افْتِرَاقٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِفْتِرَاقُ: مَصْدَرُ افْتَرَقَ. وَمِنْ مَعَانِيهِ فِي اللُّغَةِ: انْفِصَال الشَّيْءِ عَنِ الشَّيْءِ، أَوِ انْفِصَال أَجْزَاءِ الشَّيْءِ بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ. وَالاِسْمُ (الْفُرْقَةُ) . (3)
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِهَذَا اللَّفْظِ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى، لأَِنَّهُمُ اسْتَعْمَلُوهُ فِي الاِنْفِصَال بِالأَْبْدَانِ.
__________
(1) حديث: " نهانا النبي صلى الله عليه وسلم أن نشرب. . . " أخرجه البخاري من حديث حذيفة رضي الله عنه (فتح الباري 10 / 291 ط السلفية) .
(2) المغني 1 / 588، والفتاوى الهندية 5 / 331، والشرح الصغير 1 / 59 ط دار المعارف، وفتح الباري 10 / 240، وعمدة القاري 22 / 14 ط المنبرية.
(3) المصباح المنير. ولسان العرب: مادة (فرق) .(5/278)
وَعَمَّمَهُ بَعْضُهُمْ لِيَشْمَل الاِنْفِصَال بِالأَْقْوَال وَبِالأَْبْدَانِ، كَمَا سَيَأْتِي (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّفَرُّقُ:
2 - التَّفَرُّقُ وَالاِفْتِرَاقُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَل التَّفَرُّقَ لِلأَْبْدَانِ، وَالاِفْتِرَاقَ بِالْكَلاَمِ. لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ اسْتَعْمَلُوا الاِفْتِرَاقَ أَيْضًا فِي الأَْبْدَانِ كَمَا قُلْنَا.
ب - التَّفْرِيقُ:
3 - التَّفْرِيقُ: مَصْدَرُ فَرَّقَ. وَاسْتَعْمَلَهُ الْفُقَهَاءُ كَثِيرًا فِي الْفَصْل بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ بِحُكْمِ الْقَاضِي، وَالْفَصْل بَيْنَ أَجْزَاءِ الْمَبِيعِ بِقَبُول بَعْضِهَا وَرَدِّ بَعْضِهَا كَمَا فِي (تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
4 - افْتِرَاقُ الطَّرَفَيْنِ بَعْدَ الإِْيجَابِ وَقَبْل الْقَبُول فِي أَيِّ عَقْدٍ مِنَ الْعُقُودِ يُبْطِل الإِْيجَابَ، فَلاَ يَكْفِي بَعْدَهُ الْقَبُول لاِنْعِقَادِ الْعَقْدِ. أَمَّا افْتِرَاقُ الْمُتَبَايِعَيْنِ وَتَرْكُهُمَا الْمَجْلِسَ بَعْدَ الإِْيجَابِ وَالْقَبُول فَمُوجِبٌ لِلُزُومِ الْبَيْعِ، إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمَبِيعِ عَيْبٌ خَفِيٌّ، وَلَمْ يُشْتَرَطْ فِي الْعَقْدِ خِيَارٌ، فَلاَ يُمْكِنُ فَسْخُهُ إِلاَّ بِالإِْقَالَةِ، كَمَا هُوَ الْحُكْمُ فِي الْعُقُودِ اللاَّزِمَةِ. وَهَذَا الْقَدْرُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.
وَكَذَلِكَ يَلْزَمُهُمَا الْبَيْعُ قَبْل افْتِرَاقِهِمَا وَتَرْكِهِمَا الْمَجْلِسَ إِذَا وُجِدَ الإِْيجَابُ وَالْقَبُول عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَلاَ يَثْبُتُ خِيَارُ مَجْلِسٍ بَعْدَ ذَلِكَ، لأَِنَّ
__________
(1) فتح القدير 5 / 465، والمهذب 1 / 265، والشرح الصغير 3 / 143.(5/279)
الْعَقْدَ تَمَّ بِالإِْيجَابِ وَالْقَبُول لِوُجُودِ رُكْنِهِ وَشَرَائِطِهِ، فَخِيَارُ الْفَسْخِ لأَِحَدِهِمَا بَعْدَ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى عَدَمِ اسْتِقْرَارِ الْمُعَامَلاَتِ وَالإِْضْرَارِ بِالآْخَرِ، لِمَا فِيهِ مِنْ إِبْطَال حَقِّهِ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ الْبَيْعُ إِلاَّ بِافْتِرَاقِهِمَا عَنِ الْمَجْلِسِ، وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا الْخِيَارُ مَا لَمْ يَفْتَرِقَا، وَذَلِكَ اسْتِنَادًا إِلَى مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا (2) . وَفِي رِوَايَةٍ مَا لَمْ يَفْتَرِقَا. وَحَمَلُوا الاِفْتِرَاقَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى افْتِرَاقِ الأَْبْدَانِ. وَهَذَا مَا سَمَّوْهُ بِخِيَارِ الْمَجْلِسِ (3) . وَالْحَنَفِيَّةُ حَمَلُوا الْحَدِيثَ عَلَى افْتِرَاقِ الْكَلاَمِ وَالأَْقْوَال، فَلَمْ يَأْخُذُوا بِخِيَارِ الْمَجْلِسِ. عَلَى أَنَّ عَمَل أَهْل الْمَدِينَةِ مُقَدَّمٌ عَلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، لأَِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ التَّوَاتُرِ (4) .
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (خِيَارُ الْمَجْلِسِ) .
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
5 - يَرِدُ مُصْطَلَحُ (الاِفْتِرَاقِ) عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فِي مَبْحَثِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ مِنْ كِتَابِ الْبَيْعِ، وَفِي التَّفْرِيقِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ بِالطَّلاَقِ وَالْفَسْخِ، وَفِي اللِّعَانِ، وَكَذَلِكَ فِي زَكَاةِ الأَْنْعَامِ مِنْ عَدَمِ جَوَازِ التَّفْرِيقِ بَيْنَ مَا هُوَ مُجْتَمِعٌ، أَوْ جَمْعِ مَا هُوَ مُتَفَرِّقٌ.
__________
(1) الاختيار 2 / 5، وبلغة السالك 3 / 134.
(2) حديث: " البيعان بالخيار ما لم يتفرقا " أخرجه البخاري ومسلم من حديث حكيم بن حزام مرفوعا. (فتح الباري 4 / 309 ط السلفية، وصحيح مسلم 3 / 1164 ط عيسى الحلبي) .
(3) نهاية المحتاج 4 / 3، والمغني مع الشرح الكبير 4 / 7 - 10.
(4) الزيلعي 4 / 3، والشرح الصغير 3 / 134.(5/279)
افْتِضَاضٌ
انْظُرْ: بَكَارَةٌ.
افْتِيَاتٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِفْتِيَاتُ: الاِسْتِبْدَادُ بِالرَّأْيِ، وَالسَّبْقُ بِفِعْل شَيْءٍ دُونَ اسْتِئْذَانِ مَنْ يَجِبُ اسْتِئْذَانُهُ، أَوْ مَنْ هُوَ أَحَقُّ مِنْهُ بِالأَْمْرِ فِيهِ، وَالتَّعَدِّي عَلَى حَقِّ مَنْ هُوَ أَوْلَى مِنْهُ (1) .
وَاسْتَعْمَلَهُ الْفُقَهَاءُ بِهَذَا الْمَعْنَى (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّعَدِّي:
2 - التَّعَدِّي: الظُّلْمُ وَمُجَاوَزَةُ الْحَدِّ، فَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الاِفْتِيَاتِ، لأَِنَّهُ يَشْمَل التَّعَدِّي عَلَى شَيْءٍ لاَ حَقَّ لَهُ فِيهِ، أَوْ لَهُ فِيهِ حَقٌّ وَغَيْرُهُ أَوْلَى مِنْهُ بِهِ (3) .
ب - الْفُضَالَةُ:
3 - الْفُضُولِيُّ: مَنْ تَصَرَّفَ فِي أَمْرٍ لَمْ يَكُنْ فِيهِ وَلِيًّا وَلاَ
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، والمغرب والمفردات للراغب. مادة (فوت) .
(2) النظم المستعذب بهامش المهذب 2 / 38، والمهذب 2 / 194 ط دار المعرفة بيروت، والشرح الصغير 2 / 368 ط دار المعارف - مصر.
(3) لسان العرب والمصباح المنير.(5/280)
أَصِيلاً وَلاَ وَكِيلاً (1) فَهُوَ لاَ وِلاَيَةَ فِيمَا يُقْدِمُ عَلَيْهِ، أَمَّا الْمُفْتَاتُ فَقَدْ يَكُونُ صَاحِبَ حَقٍّ لَكِنَّ غَيْرَهُ أَوْلَى مِنْهُ بِهِ.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
4 - الاِفْتِيَاتُ غَيْرُ جَائِزٍ، لأَِنَّهُ تَعَدٍّ عَلَى حَقِّ مَنْ هُوَ الأَْوْلَى.
وَقَدْ يَكُونُ افْتِيَاتًا عَلَى حَقِّ الإِْمَامِ، وَقَدْ يَكُونُ عَلَى حَقِّ غَيْرِ الإِْمَامِ.
فَإِنْ كَانَ عَلَى حَقِّ الإِْمَامِ فَفِيهِ التَّعْزِيرُ، لأَِنَّهُ إِسَاءَةٌ إِلَى الإِْمَامِ، وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ مَا يَلِي:
أ - الاِفْتِيَاتُ فِي إِقَامَةِ الْحُدُودِ:
5 - يَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الَّذِي يُقِيمُ الْحَدَّ هُوَ الإِْمَامُ أَوْ نَائِبُهُ، سَوَاءٌ كَانَ الْحَدُّ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى كَحَدِّ الزِّنَى، أَوْ لآِدَمِيٍّ كَحَدِّ الْقَذْفِ، لأَِنَّهُ يَفْتَقِرُ إِلَى الاِجْتِهَادِ، وَلاَ يُؤْمَنُ فِيهِ الْحَيْفُ، فَوَجَبَ أَنْ يُفَوَّضَ إِلَى الإِْمَامِ، وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُقِيمُ الْحُدُودَ فِي حَيَاتِهِ، وَكَذَا خُلَفَاؤُهُ مِنْ بَعْدِهِ.
وَيَقُومُ نَائِبُ الإِْمَامِ فِيهِ مَقَامَهُ (2) .
لَكِنْ إِذَا افْتَاتَ الْمُسْتَحِقُّ أَوْ غَيْرُهُ فَأَقَامَ الْحَدَّ بِدُونِ إِذْنِ الإِْمَامِ، فَإِنَّ الأَْئِمَّةَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْمُرْتَدَّ لَوْ قَتَلَهُ أَحَدٌ بِدُونِ إِذْنِ الإِْمَامِ فَإِنَّهُ يُعْتَدُّ بِهَذَا الْقَتْل، وَلاَ ضَمَانَ عَلَى الْقَاتِل، لأَِنَّهُ مَحَلٌّ غَيْرُ مَعْصُومٍ، وَعَلَى مَنْ فَعَل ذَلِكَ التَّعْزِيرَ، لإِِسَاءَتِهِ
__________
(1) التعريفات للجرجاني.
(2) منتهى الإرادات 3 / 336 ط دار الفكر، والمهذب 2 / 270، وفتح القدير 5 / 113 ط المكتبة الإسلامية، ومنح الجليل 4 / 500.(5/280)
وَافْتِيَاتِهِ عَلَى الإِْمَامِ.
وَكَذَلِكَ غَيْرُ الرِّدَّةِ، فَلاَ ضَمَانَ عَلَى مَنْ أَقَامَ حَدًّا عَلَى مَنْ لَيْسَ لَهُ إِقَامَتُهُ عَلَيْهِ فِيمَا حَدُّهُ الإِْتْلاَفُ كَقَتْل زَانٍ مُحْصَنٍ، أَوْ قَطْعِ يَدِ سَارِقٍ تَوَجَّهَ عَلَيْهِ الْقَطْعُ، لأَِنَّ هَذِهِ حُدُودٌ لاَ بُدَّ أَنْ تُقَامَ، لَكِنَّهُ يُؤَدَّبُ لاِفْتِيَاتِهِ عَلَى الإِْمَامِ (1) .
وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْجَلْدِ فِي الْقَذْفِ، وَفِي زِنَا الْبِكْرِ فَفِيهِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ، ر: (حَدٌّ، قَذْفٌ، زِنًا) .
ب - الاِفْتِيَاتُ فِي اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ:
6 - الأَْصْل أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ إِلاَّ بِإِذْنِ السُّلْطَانِ وَحَضْرَتِهِ، لأَِنَّهُ أَمْرٌ يَفْتَقِرُ إِلَى الاِجْتِهَادِ، وَيَحْرُمُ الْحَيْفُ فِيهِ فَلاَ يُؤْمَنُ الْحَيْفُ مَعَ قَصْدِ التَّشَفِّي، وَمَعَ ذَلِكَ فَمَنِ اسْتَوْفَى حَقَّهُ مِنَ الْقِصَاصِ مِنْ غَيْرِ حَضْرَةِ السُّلْطَانِ وَإِذْنِهِ، وَقَعَ الْمَوْقِعَ وَيُعَزَّرُ، لاِفْتِيَاتِهِ عَلَى الإِْمَامِ، وَهَذَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لاَ يُشْتَرَطُ إِذْنُ الإِْمَامِ (2) : أَمَّا الاِفْتِيَاتُ عَلَى غَيْرِ الإِْمَامِ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِالْحُكْمِ فِيهِ بَيَانُ صِحَّةِ هَذَا الْعَمَل أَوْ فَسَادُهُ، وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ:
الاِفْتِيَاتُ فِي التَّزْوِيجِ:
7 - إِذَا زَوَّجَ الْمَرْأَةَ وَلِيُّهَا الأَْبْعَدُ مَعَ وُجُودِ الْوَلِيِّ الأَْقْرَبِ الَّذِي هُوَ الأَْحَقُّ بِوِلاَيَةِ الْعَقْدِ فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ
__________
(1) منتهى الإرادات 3 / 337، والمغني 8 / 128 ط مكتبة الرياض، والمواق بهامش الحطاب 6 / 231، 233، ومغني المحتاج 4 / 157، وقليوبي 4 / 123 ط الحلبي، والاختيار 4 / 146، والبدائع 7 / 88.
(2) منتهى الإرادات 3 / 286، ومغني المحتاج 4 / 42، ومنح الجليل 4 / 345، وابن عابدين 5 / 264.(5/281)
يَخْتَلِفُونَ فِي ذَلِكَ.
فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ يَصِحُّ الْعَقْدُ بِرِضَاهَا بِالْقَوْل دُونَ السُّكُوتِ، وَيَزِيدُ الْمَالِكِيَّةُ شَرْطًا آخَرَ، وَهُوَ أَلاَّ يَكُونَ الأَْقْرَبُ غَيْرَ مُجْبِرٍ، فَإِنْ كَانَ الأَْقْرَبُ مُجْبِرًا كَالأَْبِ فَلاَ يَصِحُّ الْعَقْدُ.
وَيَقُول الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِذَا زَوَّجَ الْمَرْأَةَ مَنْ غَيْرُهُ أَوْلَى مِنْهُ وَهُوَ حَاضِرٌ وَلَمْ يَعْضُلْهَا لَمْ يَصِحَّ النِّكَاحُ (1) .
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
8 - لِلاِفْتِيَاتِ مَوَاطِنُ مُتَعَدِّدَةٌ تَأْتِي فِي الْحُدُودِ: كَالسَّرِقَةِ، وَالزِّنَى، وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَالْقَذْفِ، وَتَأْتِي فِي الإِْتْلاَفِ، وَفِي الْعُقُودِ كَالنِّكَاحِ وَالْبَيْعِ، وَتُنْظَرُ فِي مَوَاضِعِهَا.
إِفْرَادٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْفْرَادُ لُغَةً: مَصْدَرُ أَفْرَدَ، وَالْفَرْدُ مَا كَانَ وَحْدَهُ، وَأَفْرَدْتُهُ: جَعَلْتُهُ وَاحِدًا، وَعَدَّدْتُ الدَّرَاهِمَ أَفْرَادًا أَيْ: وَاحِدًا وَاحِدًا، وَأَفْرَدْتُ الْحَجَّ عَنِ الْعُمْرَةِ، فَعَلْتُ كُل وَاحِدٍ عَلَى حِدَةٍ (2) .
وَقَدِ اسْتَعْمَلَهُ الْفُقَهَاءُ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ فِي مَوَاطِنَ مُتَعَدِّدَةٍ سَتَأْتِي:
__________
(1) الدسوقي 2 / 227، والهداية 1 / 197، والمغني 6 / 473، وحاشية البجيرمي على الخطيب 3 / 340 ط الحلبي.
(2) المصباح المنير ولسان العرب مادة (فرد) .(5/281)
أ - الإِْفْرَادُ فِي الْبَيْعِ:
2 - قَال الْحَطَّابُ: لاَ يَجُوزُ أَنْ يُفْرِدَ الْحِنْطَةَ فِي سُنْبُلِهَا بِالْبَيْعِ دُونَ السُّنْبُل (1) .
ب - الإِْفْرَادُ فِي الْوَصِيَّةِ:
3 - جَاءَ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ: يَجُوزُ إِفْرَادُ الأُْمِّ بِالْوَصِيَّةِ وَكَذَلِكَ يَجُوزُ إِفْرَادُ الْحَمْل (2) .
ج - الإِْفْرَادُ فِي الأَْكْل:
4 - جَاءَ فِي الآْدَابِ الشَّرْعِيَّةِ لاِبْنِ مُفْلِحٍ: يُكْرَهُ الْقِرَانُ فِي التَّمْرِ، وَعَلَى قِيَاسِهِ كُل مَا الْعَادَةُ جَارِيَةٌ بِتَنَاوُلِهِ أَفْرَادًا، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَال: نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْقِرَانِ إِلاَّ أَنْ يَسْتَأْذِنَ الرَّجُل أَخَاهُ (3) .
د - إِفْرَادُ الْحَجِّ:
5 - هُوَ أَنْ يُهِل بِالْحَجِّ مُفْرِدًا. وَسَيَكُونُ الْبَحْثُ هُنَا خَاصًّا بِإِفْرَادِ الْحَجِّ. أَمَّا الْمَوَاضِعُ الأُْخْرَى فَتُنْظَرُ فِي مَوَاطِنِهَا.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
6 - تَقَدَّمَ أَنَّ الإِْفْرَادَ: هُوَ أَنْ يُهِل بِالْحَجِّ مُفْرِدًا عَنِ الْعُمْرَةِ.
__________
(1) الحطاب على خليل 4 / 500 ط النجاح - ليبيا.
(2) فتح القدير 9 / 363 ط دار إحياء التراث العربي - بيروت.
(3) الآداب الشرعية لابن مفلح 3 / 173، 174 ط المنار الأولى. وحديث " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القران. . . " أخرجه البخاري ومسلم عن طريق شعبة من حديث ابن عمر رضي الله عنهما بلفظ: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الإقران إلا أن يستأذن الرجل أخاه ". قال شعبة: لا أرى هذه الكلمة إلا من كلمة ابن ع (فتح الباري 9 / 569 - 570 ط السلفية، وصحيح مسلم 3 / 1617 ط عيسى الحلبي) .(5/282)
أَمَّا الْقِرَانُ: فَهُوَ أَنْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ مَعًا فَيَجْمَعَ بَيْنَهُمَا فِي إِحْرَامِهِ، أَوْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ يُدْخِل عَلَيْهَا الْحَجَّ قَبْل الطَّوَافِ لَهَا.
وَأَمَّا التَّمَتُّعُ: فَهُوَ أَنْ يُهِل بِعُمْرَةٍ مُفْرَدَةٍ مِنَ الْمِيقَاتِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْهَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مِنْ عَامِهِ (1) .
وَسَيَأْتِي مَا يَفْتَرِقُ بِهِ الإِْفْرَادُ عَنْ كُلٍّ مِنَ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ.
الْمُفَاضَلَةُ بَيْنَ كُلٍّ مِنَ الإِْفْرَادِ وَالْقِرَانِ وَالتَّمَتُّعِ:
7 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الإِْفْرَادِ، وَالْقِرَانِ، وَالتَّمَتُّعِ أَيُّهَا أَفْضَل، وَالاِتِّجَاهَاتُ فِي ذَلِكَ كَالآْتِي:
أ - الإِْفْرَادُ أَفْضَل عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، لَكِنَّ أَفْضَلِيَّتَهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِنِ اعْتَمَرَ فِي نَفْسِ الْعَامِ بَعْدَ أَدَاءِ الْحَجِّ، وَلِذَلِكَ يَقُول الشَّافِعِيَّةُ إِنْ لَمْ يَعْتَمِرْ فِي نَفْسِ الْعَامِ كَانَ الإِْفْرَادُ مَكْرُوهًا.
وَاسْتَدَل الْقَائِلُونَ بِأَفْضَلِيَّةِ الإِْفْرَادِ بِمَا صَحَّ عَنْ جَابِرٍ وَعَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْرَدَ الْحَجَّ (2) ، ثُمَّ بِالإِْجْمَاعِ عَلَى أَنَّهُ لاَ
__________
(1) المغني 3 / 276 ط مكتبة الرياض، والدسوقي 2 / 28، 29، والهداية 1 / 154، 156 ط المكتبة الإسلامية، ونهاية المحتاج 3 / 313 ط المكتبة الإسلامية.
(2) حديث جابر أخرجه مسلم عن أبي الزبير عن جابر أنه قال: أقبلنا مهلين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بحج مفرد (صحيح مسلم 2 / 881 ط عيسى الحلبي) . وحديث عائشة رضي الله عنها أخرجه مسلم بلفظ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد الحج (صحيح مسلم 2 / 875 ط عيسى الحلبي) . وحديث ابن عمر رضي الله عنهما أخرجه مسلم (في رواية يحيى) بلفظ: أهللنا مع رسول الله بالحج مفردا. (وفي رواية ابن عون) بلفظ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل بالحج مفردا (صحيح مسلم 2 / 904 - 905 ط عيسى الحلبي) .(5/282)
كَرَاهَةَ فِيهِ، وَأَنَّ الْمُفْرِدَ لَمْ يَرْبَحْ إِحْرَامًا مِنَ الْمِيقَاتِ (بِالاِسْتِغْنَاءِ عَنِ الرُّجُوعِ ثَانِيَةً لِلإِْحْرَامِ) وَلاَ رَبِحَ اسْتِبَاحَةَ الْمَحْظُورَاتِ (1) .
ب - الْقَوْل الثَّانِي: أَنَّ الْقِرَانَ أَفْضَل: وَذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَفِي قَوْلٍ لِلإِْمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ إِنْ سَاقَ الْهَدْيَ فَالْقِرَانُ أَفْضَل، وَإِنْ لَمْ يَسُقِ الْهَدْيَ فَالتَّمَتُّعُ أَفْضَل.
وَاسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ الْقِرَانِ بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا آل مُحَمَّدٍ: أَهِّلُوا بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ مَعًا (2) وَلأَِنَّ فِي الْقِرَانِ جَمْعًا بَيْنَ الْعِبَادَتَيْنِ.
وَيَلِي الْقِرَانَ فِي الأَْفْضَلِيَّةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ التَّمَتُّعُ ثُمَّ الإِْفْرَادُ، وَهَذَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، لأَِنَّ فِي التَّمَتُّعِ جَمْعًا بَيْنَ الْعِبَادَتَيْنِ فَأَشْبَهَ الْقِرَانَ، ثُمَّ فِيهِ زِيَادَةُ نُسُكٍ وَهِيَ إِرَاقَةُ الدَّمِ.
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَلِي الْقِرَانَ الإِْفْرَادُ ثُمَّ التَّمَتُّعُ، لأَِنَّ الْمُتَمَتِّعَ سَفَرُهُ وَاقِعٌ لِعُمْرَتِهِ وَالْمُفْرِدُ سَفَرُهُ وَاقِعٌ لِحَجَّتِهِ (3) . وَوَافَقَهُ فِي ذَلِكَ أَشْهَبُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ.
ج - التَّمَتُّعُ أَفْضَل: وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَفِي قَوْلٍ
__________
(1) نهاية المحتاج 3 / 314، والدسوقي 2 / 28.
(2) حديث " يا آل محمد: أهلوا بحجة وعمرة معا. . . " أخرجه الطحاوي من حديث أم سلمة رضي الله عنها تقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " أهلوا يا آل محمد، بعمرة في حجة " وأورده الزيلعي في نصب الراية من غير أن يبين درجته إلا أنه ذكر أحاديث أخرى تؤيد هذا المعنى، منها ما أخرجه مسلم عن يحيى بن أبي إسحاق وعبد العزيز بن صهيب وحميد أنهم سمعوا أنسا رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل بهما جميعا " لبيك عمرة وحجا، لبيك عمرة وحجا " (شرح معاني الآثار 2 / 154 نشر مطبعة الأنوار، وصحيح مسلم 2 / 915 ط عيسى الحلبي، ونصب الراية 3 / 99 ط مطبعة دار المأمون) .
(3) الهداية 1 / 153.(5/283)
عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَيَلِي التَّمَتُّعَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ الإِْفْرَادُ ثُمَّ الْقِرَانُ.
وَاسْتَدَل الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ التَّمَتُّعِ بِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ وَجَابِرٌ وَأَبُو مُوسَى وَعَائِشَةُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَصْحَابَهُ لَمَّا طَافُوا بِالْبَيْتِ أَنْ يُحِلُّوا وَيَجْعَلُوهَا عُمْرَةً (1) فَنَقَلَهُمْ مِنَ الإِْفْرَادِ وَالْقِرَانِ إِلَى الْمُتْعَةِ، وَلاَ يَنْقُلُهُمْ إِلاَّ إِلَى الأَْفْضَل، وَلأَِنَّ الْمُتَمَتِّعَ يَجْتَمِعُ لَهُ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مَعَ كَمَالِهَا وَكَمَال أَفْعَالِهَا عَلَى وَجْهِ الْيُسْرِ وَالسُّهُولَةِ مَعَ زِيَادَةِ نُسُكٍ فَكَانَ ذَلِكَ أَوْلَى (2) .
__________
(1) حديث ابن عباس أخرجه البخاري بلفظ: " قدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه صبيحة رابعة مهلين بالحج، فأمرهم أن يجعلوها عمرة، فتعاظم ذلك عندهم فقالوا: يا رسول الله أي الحل؟ قال: حل كله ". (فتح الباري 3 / 422 ط السلفية) . وحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أخرجه البخاري بلفظ " أنه حج مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم ساق البدن معه بالحج مفردا فقال لهم: أحلوا من إحرامكم بطواف البيت وبين الصفا والمروة وقصروا، ثم أقيموا حلالا حتى إذا كان يوم التروية فأهلوا بالحج واجعلوا ا (فتح الباري 3 / 422 ط السلفية) . وحديث ابن عمر أخرجه البخاري بلفظ " لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم قال للناس: من كان منكم أهدى فإنه لا يحل لشيء حرم منه حتى يقضي حجه، ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة وليقصر وليحلل ثم ليهل بالحج. . . " (فتح الباري 3 / 539 ط السلفية) . وحديث عائشة رضي الله عنها أخرجه البخاري بلفظ " خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ولا نرى إلا أنه الحج، فلما قدمنا تطوفنا بالبيت، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم من لم يكن ساق الهدي أن يحل، فحل من لم يكن ساق الهدي، ونساؤه لم يسقن فأحللن. . . " (فتح الباري 3 / 521 ط السلفية) .
(2) المغني 3 / 276.(5/283)
8 - وَقَدْ ذَكَرَ الرَّمْلِيُّ فِي نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ أَنَّ مَنْشَأَ الْخِلاَفِ اخْتِلاَفُ الرُّوَاةِ فِي إِحْرَامِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَِنَّهُ صَحَّ عَنْ جَابِرٍ وَعَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْرَدَ الْحَجَّ (1) ، وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ قَرَنَ (2) ، وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ تَمَتَّعَ (3) ، ثُمَّ قَال: إِنَّ الصَّوَابَ الَّذِي نَعْتَقِدُهُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ ثُمَّ أَدْخَل عَلَيْهِ الْعُمْرَةَ، وَخُصَّ بِجَوَازِهِ فِي تِلْكَ السَّنَةِ لِلْحَاجَةِ.
وَبِهَذَا يَسْهُل الْجَمْعُ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ، فَعُمْدَةُ رُوَاةِ الإِْفْرَادِ أَوَّل الإِْحْرَامِ، وَرُوَاةُ الْقِرَانِ آخِرُهُ، وَمَنْ رَوَى التَّمَتُّعَ أَرَادَ التَّمَتُّعَ اللُّغَوِيَّ وَهُوَ الاِنْتِفَاعُ، وَقَدِ انْتَفَعَ بِالاِكْتِفَاءِ بِفِعْلٍ وَاحِدٍ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَعْتَمِرْ فِي تِلْكَ السَّنَةِ عُمْرَةً مُفْرَدَةً، وَلَوْ جُعِلَتْ حَجَّتُهُ مُفْرَدَةً لَكَانَ غَيْرَ مُعْتَمِرٍ فِي تِلْكَ السَّنَةِ، وَلَمْ يَقُل أَحَدٌ إِنَّ الْحَجَّ وَحْدَهُ أَفْضَل مِنَ الْقِرَانِ فَانْتَظَمَتِ الرِّوَايَاتُ فِي حَجَّتِهِ (4) .
حَالَةُ وُجُوبِ الإِْفْرَادِ (وُجُوبُهُ فِي حَقِّ الْمَكِّيِّ) :
9 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَكِّيِّ وَمَنْ فِي حُكْمِهِ هَل لَهُ تَمَتُّعٌ وَقِرَانٌ، أَمْ لَيْسَ لَهُ إِلاَّ الإِْفْرَادُ خَاصَّةً؟
فَيَرَى الْجُمْهُورُ أَنَّ لأَِهْل مَكَّةَ الْمُتْعَةَ وَالْقِرَانَ مِثْل الآْفَاقِيِّ، وَلأَِنَّ التَّمَتُّعَ الَّذِي وَرَدَ فِي الآْيَةِ أَحَدُ الأَْنْسَاكِ الثَّلاَثَةِ، فَصَحَّ مِنَ الْمَكِّيِّ كَالنُّسُكَيْنِ الآْخَرَيْنِ، وَلأَِنَّ حَقِيقَةَ التَّمَتُّعِ هُوَ أَنْ يَعْتَمِرَ فِي أَشْهُرِ
__________
(1) حديث جابر وعائشة وابن عمر رضي الله عنهم سبق تخريجه (ف / 7) .
(2) حديث أنس رضي الله عنه سبق تخريجه (ف / 7) .
(3) حديث ابن عمر رضي الله عنهما أخرجه البخاري بلفظ " تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج وأهدى فساق معه الهدي من ذي الحليفة ". (فتح الباري 3 / 539 ط السلفية) .
(4) نهاية المحتاج 3 / 314.(5/284)
الْحَجِّ ثُمَّ يَحُجَّ مِنْ عَامِهِ، وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي الْمَكِّيِّ (1) .
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ أَهْل مَكَّةَ لَيْسَ لَهُمْ تَمَتُّعٌ وَلاَ قِرَانٌ، وَإِنَّمَا لَهُمُ الإِْفْرَادُ خَاصَّةً، لأَِنَّ شَرْعَهُمَا لِلتَّرَفُّهِ بِإِسْقَاطِ إِحْدَى السَّفْرَتَيْنِ وَهَذَا فِي حَقِّ الآْفَاقِيِّ (2) .
10 - وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ أَيْضًا فِي حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُمْ أَهْل الْحَرَمِ وَمَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ.
فَإِنْ كَانُوا عَلَى مَسَافَةِ الْقَصْرِ فَلَيْسُوا مِنَ الْحَاضِرِينَ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُمْ أَهْل الْمَوَاقِيتِ فَمَنْ دُونَهَا إِلَى مَكَّةَ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُمْ أَهْل مَكَّةَ وَأَهْل ذِي طُوًى (3) .
وَفِي ذَلِكَ فُرُوعٌ كَثِيرَةٌ (ر: حَجٌّ - إِحْرَامٌ - مِيقَاتٌ - تَمَتُّعٌ) .
نِيَّةُ الإِْفْرَادِ:
11 - وَيَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَنْعَقِدُ بِهِ إِحْرَامُ الْمُفْرِدِ: فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الإِْحْرَامَ يَنْعَقِدُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ مَعَ اسْتِحْبَابِ التَّلَفُّظِ بِمَا أَحْرَمَ بِهِ فَيَقُول: اللَّهُمَّ إِنِّي أُرِيدَ الْحَجَّ فَيَسِّرْهُ لِي وَتَقَبَّلْهُ مِنِّي.
وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الإِْطْلاَقَ أَوْلَى، لأَِنَّهُ رُبَّمَا حَصَل عَارِضٌ مِنْ مَرَضٍ أَوْ غَيْرِهِ فَلاَ يَتَمَكَّنُ مِنْ
__________
(1) المغني 3 / 474، والدسوقي 2 / 29، ونهاية المحتاج 3 / 315، والنيسابوري 2 / 252 بهامش الطبري ط بولاق الأولى.
(2) المراجع السابقة.
(3) المراجع السابقة.(5/284)
صَرْفِهِ إِلَى مَا لاَ يَخَافُ فَوْتَهُ، فَإِنْ أَحْرَمَ إِحْرَامًا مُطْلَقًا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ صَرَفَهُ بِالنِّيَّةِ - لاَ بِاللَّفْظِ - إِلَى مَا شَاءَ مِنَ النُّسُكَيْنِ أَوْ إِلَيْهِمَا مَعًا إِنْ كَانَ الْوَقْتُ صَالِحًا لَهُمَا.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لاَ يَنْعَقِدُ الإِْحْرَامُ إِلاَّ بِأَمْرَيْنِ: النِّيَّةِ وَالتَّلْبِيَةِ، وَلاَ يَصِيرُ شَارِعًا فِي الإِْحْرَامِ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ مَا لَمْ يَأْتِ بِالتَّلْبِيَةِ، لأَِنَّ التَّلْبِيَةَ فِي الْحَجِّ كَتَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ فِي الصَّلاَةِ.
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: يَنْعَقِدُ بِالنِّيَّةِ مَعَ قَوْلٍ كَالتَّلْبِيَةِ وَالإِْهْلاَل، أَوْ فِعْلٍ كَالتَّوَجُّهِ فِي الطَّرِيقِ وَالتَّجَرُّدِ مِنَ الْمَخِيطِ.
عَلَى أَنَّ الَّذِي ذُكِرَ لاَ يَخْتَصُّ بِالإِْفْرَادِ وَحْدَهُ، وَإِنَّمَا يَنْطَبِقُ عَلَى الْقِرَانِ وَالتَّمَتُّعِ، إِذْ لاَ بُدَّ فِي أَيِّ نُسُكٍ مِنْ هَذِهِ الأَْنْسَاكِ الثَّلاَثَةِ عِنْدَ الإِْحْرَامِ بِأَيٍّ مِنْهَا مِنَ النِّيَّةِ عَلَى رَأْيِ الْجُمْهُورِ، أَوِ النِّيَّةِ وَالتَّلْبِيَةِ عَلَى رَأْيِ أَبِي حَنِيفَةَ. (ر: إِحْرَامٌ - قِرَانٌ - تَمَتُّعٌ) .
التَّلْبِيَةُ فِي الإِْفْرَادِ:
12 - التَّلْبِيَةُ فِي الْحَجِّ عَلَى اخْتِلاَفِ حُكْمِهَا مِنْ أَنَّهَا سُنَّةٌ أَوْ وَاجِبَةٌ تَسْتَوِي كَيْفِيَّتُهَا وَالْبَدْءُ بِهَا بِالنِّسْبَةِ لِلْمُحْرِمِ بِأَيِّ نُسُكٍ مِنَ الأَْنْسَاكِ الثَّلاَثَةِ.
أَمَّا قَطْعُ التَّلْبِيَةِ فَيَكُونُ الْمُتَمَتِّعُ وَالْمُفْرِدُ وَالْقَارِنُ بِالنِّسْبَةِ لِقَطْعِهَا سَوَاءً.
فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الرَّمْيِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَقْطَعُهَا إِذَا وَصَل لِمُصَلَّى عَرَفَةَ بَعْدَ الزَّوَال، وَإِنْ كَانَ قَدْ وَصَل قَبْل الزَّوَال لَبَّى إِلَى الزَّوَال، وَإِنْ زَالَتِ الشَّمْسُ قَبْل الْوُصُول لَبَّى إِلَى(5/285)
الْوُصُول. (1)
وَهُنَاكَ تَفْرِيعَاتٌ كَثِيرَةٌ بِالنِّسْبَةِ لِلتَّلْبِيَةِ. (ر: تَلْبِيَةٌ) .
مَا يَفْتَرِقُ بِهِ الْمُفْرِدُ عَنِ الْمُتَمَتِّعِ وَالْقَارِنِ:
أ - الطَّوَافُ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُفْرِدِ:
13 - الطَّوَافُ فِي الْحَجِّ ثَلاَثَةُ أَنْوَاعٍ:
طَوَافُ الْقُدُومِ إِلَى مَكَّةَ، وَطَوَافُ الإِْفَاضَةِ بَعْدَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ، وَطَوَافُ الْوَدَاعِ.
وَالْفَرْضُ مِنْ ذَلِكَ هُوَ طَوَافُ الإِْفَاضَةِ، وَيُسَمَّى طَوَافَ الزِّيَارَةِ أَوِ الْفَرْضِ أَوِ الرُّكْنِ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ فَهُوَ سُنَّةٌ أَوْ وَاجِبٌ يَنْجَبِرُ بِالدَّمِ عَلَى خِلاَفٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ (ر: طَوَافٌ) .
وَالْفَرْضُ عَلَى الْمُفْرِدِ مِنْ هَذِهِ الأَْنْوَاعِ هُوَ طَوَافُ الإِْفَاضَةِ فَقَطْ، لأَِنَّهُ الرُّكْنُ، فَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ طَوَافُ الْقُدُومِ، بَل يُطَالَبُ بِهِ عَلَى سَبِيل السُّنِّيَّةِ (2) .
ب - عَدَمُ وُجُوبِ الدَّمِ عَلَى الْمُفْرِدِ:
14 - لاَ يَجِبُ عَلَى الْمُفْرِدِ هَدْيٌ لإِِحْرَامِهِ بِالْحَجِّ مُفْرِدًا بِخِلاَفِ الْقَارِنِ وَالْمُتَمَتِّعِ فَإِنَّ عَلَيْهِمَا الْهَدْيَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (3) وَالْقَارِنُ كَالْمُتَمَتِّعِ، لإِِحْرَامِهِ بِالنُّسُكَيْنِ.
إِلاَّ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْمُفْرِدِ أَنْ يُهْدِيَ وَيَكُونُ تَطَوُّعًا.
ثُمَّ إِنَّ جَزَاءَ الصَّيْدِ وَفِدْيَةَ الأَْذَى بِالنِّسْبَةِ لِلْمُفْرِدِ
__________
(1) الهداية 1 / 147، ونهاية المحتاج 3 / 294، والمغني 3 / 430، والدسوقي 2 / 40.
(2) الهداية 1 / 154، والدسوقي 2 / 28، ونهاية المحتاج 3 / 313، والمغني 3 / 465.
(3) سورة البقرة / 196.(5/285)
وَالْقَارِنِ وَالْمُتَمَتِّعِ سَوَاءٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ (1) . (ر: دَمٌ - هَدْيٌ - كَفَّارَةٌ - قِرَانٌ - تَمَتُّعٌ) .
إِفْرَازٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْفْرَازُ فِي اللُّغَةِ: التَّنْحِيَةُ، وَهِيَ عَزْل شَيْءٍ عَنْ شَيْءٍ وَتَمْيِيزُهُ (2) ، وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ عَنْ ذَلِكَ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْعَزْل:
2 - الْعَزْل يَخْتَلِفُ عَنِ الإِْفْرَازِ. فِي أَنَّ الإِْفْرَازَ يَكُونُ لِجُزْءٍ مِنَ الأَْصْل، أَوْ كَالْجُزْءِ مِنْهُ فِي شِدَّةِ اخْتِلاَطِهِ بِهِ، أَمَّا الْعَزْل فَهُوَ التَّنْحِيَةُ، وَالشَّيْءُ الْمُنَحَّى قَدْ يَكُونُ جُزْءًا مِنَ الْمُنَحَّى عَنْهُ، وَقَدْ لاَ يَكُونُ، بَل قَدْ يَكُونُ خَارِجًا عَنْهُ. كَالْعَزْل عَنِ الزَّوْجَةِ (3) .
ب - الْقِسْمَةُ:
3 - الْقِسْمَةُ قَدْ تَكُونُ بِالإِْفْرَازِ (4) ، وَقَدْ يُقْصَدُ بِهَا بَيَانُ الْحِصَصِ دُونَ إِفْرَازٍ، كَمَا فِي الْمُهَايَأَةِ.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
4 - الإِْفْرَازُ يَرِدُ عَلَى الأَْعْيَانِ دُونَ الْمَنَافِعِ وَلِذَلِكَ لَمَّا
__________
(1) الدسوقي 2 / 29، ونهاية المحتاج 3 / 315، والمغني 3 / 465، 467، وابن عابدين 2 / 205، والمجموع 7 / 437.
(2) المصباح المنير، وتاج العروس.
(3) لسان العرب مادة: (فرز) ، ومادة: (عزل) .
(4) المصباح المنير مادة: (قسم) .(5/286)
بَيَّنَ الْفُقَهَاءُ أَنْوَاعَ الْقِسْمَةِ، قَالُوا: الْقِسْمَةُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ قِسْمَةَ أَعْيَانٍ، أَوْ قِسْمَةَ مَنَافِعَ، وَسَمَّوْا قِسْمَةَ الْمَنَافِعِ الْمُهَايَأَةَ.
أَمَّا قِسْمَةُ الأَْعْيَانِ: فَقَالُوا إِمَّا أَنْ تَكُونَ قِسْمَةَ إِفْرَازٍ، أَوْ قِسْمَةَ تَعْدِيلٍ، وَهُمْ يَعْنُونَ بِقِسْمَةِ الإِْفْرَازِ: الْقِسْمَةَ الَّتِي لاَ يُحْتَاجُ فِيهَا إِلَى رَدٍّ وَلاَ تَقْوِيمٍ (1) .
وَالْفُقَهَاءُ قَدِ اخْتَلَفُوا فِي حَقِيقَةِ الْقِسْمَةِ، فَقَال بَعْضُهُمْ: هِيَ بَيْعٌ، وَقَال بَعْضُهُمْ: هِيَ إِفْرَازٌ، وَقَال آخَرُونَ: هِيَ إِفْرَازُ بَعْضِ الأَْنْصِبَاءِ عَنْ بَعْضٍ وَمُبَادَلَةُ بَعْضٍ بِبَعْضٍ (2) . كَمَا بَيَّنَ الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ فِي أَوَّل كِتَابِ الْقِسْمَةِ. وَإِذَا كَانَتِ الْقِسْمَةُ فِي حَقِيقَتِهَا لاَ تَخْلُو مِنَ الإِْفْرَازِ، فَإِنَّ هَذَا الإِْفْرَازَ يُسْقِطُ حَقَّ الشُّفْعَةِ عِنْدَ مَنْ يَقُول: إِنَّ الشُّفْعَةَ لاَ تُسْتَحَقُّ بِالْجِوَارِ، كَمَا بَيَّنَ الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الشُّفْعَةِ.
5 - الإِْفْرَازُ وَاجِبٌ فِي الْعُقُودِ الَّتِي يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ لِلُزُومِهَا أَوْ تَمَامِهَا، وَهِيَ: الْوَقْفُ، وَالْهِبَةُ، وَالرَّهْنُ، وَالْقَرْضُ، إِذَا وَرَدَتْ عَلَى مُشَاعٍ، عَلَى خِلاَفٍ وَتَفْصِيلٍ فِي ذَلِكَ تَجِدُهُ فِي أَبْوَابِهَا مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ (3) .
__________
(1) أسنى المطالب 4 / 331.
(2) بدائع الصنائع 9 / 2112 طبع الإمام، والمغني 4 / 17، 9 / 114.
(3) الهداية بشرح فتح القدير 5 / 40 ط بولاق 1316، وحاشية ابن عابدين 3 / 361، 4 / 173 ط بولاق الأولى، وتكملة حاشية ابن عابدين 8 / 462، وبدائع الصنائع 3 / 123 طبعة أولى - الجمالية، وكفاية الطالب 2 / 203 ط مصطفى البابي الحلبي، وحاشية الدسوقي 4 / 101 ط مصطفى محمد 1373، وروضة الطالبين 5 / 432 ط المكتب الإسلامي، والأم 3 / 274 ط بولاق 1326، ومغني المحتاج 2 / 128، 401 ط مصطفى البابي الحلبي 1958، وكشاف القناع 4 / 253، 257، 3 / 272 ط مطبعة أنصار السنة المحمدية 1366، والمغني 5 / 586، 647 ط المنار الثالثة.(5/286)
6 - يَجِبُ رَدُّ الْعَيْنِ الْمُسْتَحَقَّةِ الْمَخْلُوطَةِ بِغَيْرِهَا إِنْ أَمْكَنَ إِفْرَازُهَا، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ وَجَبَ رَدُّ بَدَلِهَا، كَمَا إِذَا غَصَبَ شَيْئًا فَخَلَطَهُ بِمَا يُمْكِنُ تَمْيِيزُهُ عَنْهُ، وَجَبَ إِفْرَازُهُ وَرَدُّهُ إِلَى مَنْ غَصَبَهُ مِنْهُ (1) كَمَا فَصَّل ذَلِكَ الْفُقَهَاءُ فِي كِتَابِ الاِسْتِحْقَاقِ وَالْغَصْبِ.
7 - وَالإِْفْرَازُ يَقُومُ مَقَامَ الْقَبْضِ فِي التَّبَرُّعَاتِ الَّتِي يَكُونُ الْقَصْدُ مِنْهَا تَحْقِيقَ مَثُوبَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَاَلَّتِي يَكُونُ التَّمْلِيكُ فِيهَا لِلَّهِ تَعَالَى كَالزَّكَاةِ (2) . فَإِنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ فَعَزَلَهَا فَهَلَكَتْ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ مِنْهُ لاَ يَلْزَمُهُ إِخْرَاجُهَا مِنْ جَدِيدٍ (3) عَلَى خِلاَفٍ وَتَفْصِيلٍ مَوْطِنُهُ بَابُ الزَّكَاةِ.
إِفْسَادٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْفْسَادُ لُغَةً: ضِدُّ الإِْصْلاَحِ، وَهُوَ جَعْل الشَّيْءِ فَاسِدًا خَارِجًا عَمَّا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ.
وَشَرْعًا: جَعْل الشَّيْءِ فَاسِدًا، سَوَاءٌ وُجِدَ صَحِيحًا ثُمَّ طَرَأَ عَلَيْهِ الْفَسَادُ - كَمَا لَوِ انْعَقَدَ الْحَجُّ صَحِيحًا ثُمَّ طَرَأَ عَلَيْهِ مَا يُفْسِدُهُ - أَوْ وُجِدَ الْفَسَادُ مَعَ الْعَقْدِ، كَبَيْعِ الطَّعَامِ قَبْل قَبْضِهِ.
وَقَدْ فَرَّقَ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ الإِْفْسَادِ وَالإِْبْطَال تَبَعًا
__________
(1) المغني 5 / 265.
(2) مصنف عبد الرزاق 4 / 143، وآثار أبي يوسف ص 92، وآثار محمد بن الحسن ص 58، ومصنف ابن أبي شيبة 1 / 273، واختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى ص 50، والمحلى 9 / 126، والمغني 5 / 594.
(3) مواهب الجليل 2 / 363 ط النجاح - ليبيا.(5/287)
لِتَفْرِيقِهِمْ بَيْنَ الْفَاسِدِ وَالْبَاطِل، فَقَالُوا: الْفَاسِدُ مَا كَانَ مَشْرُوعًا بِأَصْلِهِ لاَ بِوَصْفِهِ، وَالْبَاطِل مَا لَيْسَ مَشْرُوعًا بِأَصْلِهِ وَلاَ بِوَصْفِهِ. أَمَّا غَيْرُ الْحَنَفِيَّةِ فَالإِْفْسَادُ وَالإِْبْطَال عِنْدَهُمْ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَقَدْ وَافَقَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْعِبَادَاتِ (1) . وَلِبَعْضِ الْمَذَاهِبِ تَفْرِقَةٌ بَيْنَ الْبَاطِل وَالْفَاسِدِ فِي بَعْضِ الأَْبْوَابِ: كَالْحَجِّ، وَالْخُلْعِ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الإِْتْلاَفُ:
2 - الإِْتْلاَفُ فِي اللُّغَةِ: بِمَعْنَى الإِْهْلاَكِ يُقَال: أَتْلَفَ الشَّيْءَ إِذَا أَفْنَاهُ وَأَهْلَكَهُ، وَهُوَ فِي الشَّرْعِ بِهَذَا الْمَعْنَى، يَقُول الْكَاسَانِيُّ: إِتْلاَفُ الشَّيْءِ إِخْرَاجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُنْتَفَعًا بِهِ مَنْفَعَةً مَطْلُوبَةً مِنْهُ عَادَةً (2) .
فَالإِْفْسَادُ أَعَمُّ مِنَ الإِْتْلاَفِ، فَإِنَّهُمَا يَجْتَمِعَانِ فِي الأُْمُورِ الْحِسِّيَّةِ، وَيَنْفَرِدُ الإِْفْسَادُ فِي التَّصَرُّفَاتِ الْقَوْلِيَّةِ.
ب - الإِْلْغَاءُ:
3 - الإِْلْغَاءُ مِنْ مَعَانِيهِ: إِبْطَال الْعَمَل بِالْحُكْمِ، وَإِسْقَاطُهُ، وَقَدْ أَلْغَى ابْنُ عَبَّاسٍ طَلاَقَ الْمُكْرَهِ، أَيْ أَبْطَلَهُ وَأَسْقَطَهُ. وَيَسْتَعْمِل الأُْصُولِيُّونَ الإِْلْغَاءَ فِي تَقْسِيمِ الْعِلَّةِ بِمَعْنَى عَدَمِ تَأْثِيرِ الْوَصْفِ فِي الْحُكْمِ، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ الْمُلْغَى عِنْدَهُمْ، كَمَا يَسْتَعْمِلُونَ الإِْلْغَاءَ فِي إِهْدَارِ أَثَرِ التَّصَرُّفِ مِنْ فَاقِدِ الأَْهْلِيَّةِ (3) .
__________
(1) لسان العرب مادة: (فسد) ، ومفردات الراغب الأصفهاني، والكليات لأبي البقاء في المادة، وابن عابدين 4 / 99، 100، والقواعد للزركشي 3 / 7 ط الأوقاف الكويتية.
(2) القاموس المحيط مادة - تلف - والبدائع 7 / 164 ط الأولى.
(3) المصباح المنير في المادة، وكشاف اصطلاحات الفنون 3 / 663، 5 / 311.(5/287)
ج - التَّوَقُّفُ:
4 - الْعَقْدُ الْمَوْقُوفُ ضِدُّ النَّافِذِ، وَهُوَ مَا تَوَقَّفَ نَفَاذُهُ عَلَى الإِْجَازَةِ مِنْ مَالِكِهَا، كَبَيْعِ الْفُضُولِيِّ. فَإِنَّهُ يَكُونُ بِهَذَا الْمَعْنَى جَائِزًا فِي الْجُمْلَةِ، بِخِلاَفِ الْفَاسِدِ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ (1) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
5 - الْمُقَرَّرُ شَرْعًا أَنَّ الْعِبَادَةَ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهَا صَحِيحَةٌ، لاَ يَلْحَقُهَا الإِْفْسَادُ ضَرُورَةَ أَنَّ الْوَاقِعَ يَسْتَحِيل رَفْعُهُ، إِلاَّ بِأَسْبَابٍ يُصَارُ إِلَيْهَا بِالدَّلِيل كَالرِّدَّةِ، فَإِنَّهَا تُفْسِدُ الأَْعْمَال الصَّالِحَةَ وَالْعِبَادَاتِ، كَمَا أَنَّ الإِْسْلاَمَ يَهْدِمُ مَا قَبْلَهُ وَالْهِجْرَةُ تَهْدِمُ مَا قَبْلَهَا، وَكَذَلِكَ التَّوْبَةُ وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ. أَمَّا بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الْعِبَادَةِ وَقَبْل الْفَرَاغِ مِنْهَا، فَيَحْرُمُ إِفْسَادُ الْفَرْضِ بَعْدَ التَّلَبُّسِ بِهِ دُونَ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ، وَكَذَلِكَ النَّفَل عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} (2) وَلِهَذَا يَجِبُ إِعَادَتُهُ. أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَيُكْرَهُ عِنْدَهُمْ إِفْسَادُ النَّافِلَةِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهَا وَلاَ إِعَادَةَ إِنْ أَفْسَدَ النَّافِلَةَ الْمُطْلَقَةَ، عَدَا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ فَيَحْرُمُ إِفْسَادُهُمَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُمَا كَسَائِرِ التَّطَوُّعَاتِ.
أَمَّا التَّصَرُّفَاتُ اللاَّزِمَةُ فَلاَ يَرِدُ عَلَيْهَا الإِْفْسَادُ بَعْدَ نَفَاذِهَا. إِلاَّ أَنَّهُ يَجُوزُ الْفَسْخُ بِرِضَا الْعَاقِدَيْنِ كَمَا فِي الإِْقَالَةِ، وَفِي الْعُقُودِ غَيْرِ اللاَّزِمَةِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ يَصِحُّ لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِفْسَادُهَا مَتَى شَاءَ، أَمَّا اللاَّزِمَةُ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ، فَلاَ يَجُوزُ إِفْسَادُهَا مِمَّنْ هِيَ لاَزِمَةٌ فِي
__________
(1) المصباح المنير في المادة، وبدائع الصنائع 5 / 305 ط دار الكتاب العربي.
(2) سورة محمد / 33.(5/288)
حَقِّهِ وَيَجُوزُ لِلآْخَرِ (1) .
وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي تِلْكَ الْعُقُودِ وَالتَّصَرُّفَاتِ.
أَثَرُ الإِْفْسَادِ فِي الْعِبَادَاتِ:
6 - مَنْ شَرَعَ فِي عِبَادَةٍ مَفْرُوضَةٍ فَرْضًا عَيْنِيًّا أَوْ كِفَائِيًّا، كَالصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِيَامُ بِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ بِاسْتِيفَاءِ أَرْكَانِهَا وَشَرَائِطِهَا حَتَّى تَبْرَأَ الذِّمَّةُ، فَإِذَا أَفْسَدَهَا فَعَلَيْهِ أَدَاؤُهَا فِي الْوَقْتِ، أَمَّا بَعْدَهُ فَعَلَيْهِ فِعْلُهَا تَامَّةٌ، كَمَا لَوْ صَلَّى مُسَافِرٌ خَلْفَ مُقِيمٍ ثُمَّ أَفْسَدَ صَلاَتَهُ لَزِمَهُ قَضَاؤُهَا تَامَّةً، لأَِنَّهَا لاَ تُبْرِئُ الذِّمَّةَ بَعْدَ الْفَسَادِ بِلاَ خِلاَفٍ.
كَمَا لاَ يَجِبُ الْمُضِيُّ فِي فَاسِدِهَا أَوْ بَاطِلِهَا فِي الْجُمْلَةِ، لأَِنَّ فَاسِدَ الْعِبَادَاتِ لاَ يُلْحَقُ بِصَحِيحِهَا إِلاَّ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَإِنَّهُ يَمْضِي فِي فَاسِدِهِمَا وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ. وَهَذَا مُخَالِفٌ لِسَائِرِ الْعِبَادَاتِ حَيْثُ إِنَّ الْعِبَادَةَ الْفَاسِدَةَ يَنْقَطِعُ حُكْمُهَا وَلاَ يَبْقَى شَيْءٌ مِنْ عَهْدِهَا (2) .
أَمَّا مَا شَرَعَ فِيهِ مِنَ التَّطَوُّعِ فَإِنَّهُ يَجِبُ إِتْمَامُهُ، وَإِذَا أَفْسَدَهُ يَقْضِيهِ وُجُوبًا، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ.
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَقَدْ قَالُوا: يُسْتَحَبُّ إِتْمَامُ النَّفْل الَّذِي شَرَعَ فِيهِ، كَمَا يُسْتَحَبُّ قَضَاءُ مَا أَفْسَدَهُ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ مِنَ النَّوَافِل، وَهَذَا فِي غَيْرِ التَّطَوُّعِ
__________
(1) الفروق للقرافي 2 / 27، 28، وتهذيب الفروق 2 / 32، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص 78 ط العامرية، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 380، وابن عابدين 1 / 462، 3 / 299، والإنصاف 10 / 338 ط أنصار السنة.
(2) الحطاب 2 / 90 ط النجاح، والمجموع 6 / 393 ط المنيرية. والمنثور في القواعد 3 / 18، 19، 20، وابن عابدين 2 / 106.(5/288)
بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، حَيْثُ يَجِبُ إِتْمَامُهُمَا إِذَا شَرَعَ فِيهِمَا.
وَلَوْ وَقَعَ مِنْهُ مُفْسِدٌ لَهُمَا، يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاؤُهُمَا حِينَئِذٍ مَعَ الْجَزَاءِ اللاَّزِمِ فِي ذِمَّتِهِ (1) عَلَى مَا سَبَقَ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (الإِْحْرَامِ، وَالْحَجِّ)
إِفْسَادُ الصَّوْمِ:
7 - أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ جَامَعَ أَوِ اسْتَمْنَى أَوْ طَعِمَ أَوْ شَرِبَ عَنْ قَصْدٍ، مَعَ ذِكْرِ الصَّوْمِ فِي نَهَارِهِ فَقَدْ أَفْسَدَ صَوْمَهُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَالآْنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَْبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَْسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} (2)
وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي مُفْسِدَاتٍ أُخْرَى لِلصَّوْمِ، مِنْهَا مَا يَرِدُ إِلَى الْجَوْفِ مِنْ غَيْرِ مَنْفَذِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ مِثْل الْحُقْنَةِ، وَمِنْهَا مَا يَرِدُ إِلَى بَاطِنِ الأَْعْضَاءِ وَلاَ يَرِدُ الْجَوْفَ، مِثْل أَنْ يَرِدَ الدِّمَاغَ وَلاَ يَرِدَ الْمَعِدَةَ. وَسَبَبُ اخْتِلاَفِهِمْ فِي هَذِهِ هُوَ قِيَاسُ الْمُغَذِّي عَلَى غَيْرِ الْمُغَذِّي. فَمَنْ رَأَى أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالصَّوْمِ مَعْنًى مَعْقُولٌ لَمْ يُلْحِقِ الْمُغَذِّيَ بِغَيْرِ الْمُغَذِّي، وَمَنْ رَأَى أَنَّهَا عِبَادَةٌ غَيْرُ مَعْقُولَةٍ، وَأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا إِنَّمَا هُوَ الإِْمْسَاكُ فَقَطْ عَمَّا يَرِدُ الْجَوْفَ، سَوَّى بَيْنَ الْمُغَذِّي وَغَيْرِهِ. ر: (احْتِقَانٌ) (وَصَوْمٌ) .
8 - وَاخْتَلَفُوا فِي الْحِجَامَةِ وَالْقَيْءِ. فَأَمَّا الْحِجَامَةُ فَقَدْ رَأَى أَحْمَدُ وَدَاوُدُ وَالأَْوْزَاعِيُّ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ أَنَّهَا تُفْسِدُ الصَّوْمَ، وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِالْكَرَاهَةِ، وَقَال الْحَنَفِيَّةُ بِعَدَمِ الإِْفْسَادِ.
وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ هُوَ تَعَارُضُ الآْثَارِ الْوَارِدَةِ فِي
__________
(1) البدائع 1 / 287، وابن عابدين 1 / 463، والشرح الصغير 1 / 408، ومنتهى الإردات 1 / 461، والمهذب 1 / 195.
(2) سورة البقرة / 187.(5/289)
ذَلِكَ. وَأَمَّا الْقَيْءُ فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ مَنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ فَلَيْسَ بِمُفْطِرٍ، وَأَنَّ مَنِ اسْتِقَاءَ فَقَاءَ فَإِنَّهُ يُفْسِدُ صَوْمَهُ (1) . وَفِي الْمَوْضُوعِ تَفْصِيلٌ وَخِلاَفٌ يُرْجَعُ إِلَى مُصْطَلَحِ: (صَوْمٌ) (وَقَيْءٌ) .
نِيَّةُ إِفْسَادِ الْعِبَادَةِ:
9 - نِيَّةُ الإِْفْسَادِ يَخْتَلِفُ أَثَرُهَا صِحَّةً وَبُطْلاَنًا عِنْدَ الْعُلَمَاءِ بِاخْتِلاَفِ الْعِبَادَاتِ وَالأَْفْعَال وَالأَْحْوَال.
فَإِذَا نَوَى إِفْسَادَ الإِْيمَانِ أَوْ قَطْعَهُ، صَارَ مُرْتَدًّا فِي الْحَال وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ، وَإِنْ نَوَى إِفْسَادَ الصَّلاَةِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهَا لَمْ تَبْطُل، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْعِبَادَاتِ، وَإِنْ نَوَى قَطْعَ الصَّلاَةِ فِي أَثْنَائِهَا بَطَلَتْ بِلاَ خِلاَفٍ، لأَِنَّهَا شَبِيهَةٌ بِالإِْيمَانِ، وَلَوْ نَوَى قَطْعَ السَّفَرِ بِالإِْقَامَةِ صَارَ مُقِيمًا. أَمَّا إِذَا نَوَى قَطْعَ الصِّيَامِ بِالأَْكْل أَوِ الْجِمَاعِ فِي نَهَارِهِ، فَإِنَّهُ لاَ يَفْسُدُ صَوْمُهُ حَتَّى يَأْكُل أَوْ يُجَامِعَ.
وَلَوْ نَوَى قَطْعَ الْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ لَمْ يَبْطُلاَ بِلاَ خِلاَفٍ، لأَِنَّهُ لاَ يَخْرُجُ مِنْهُمَا بِالإِْفْسَادِ، فَلاَ يَخْرُجُ بِالأَْوْلَى بِنِيَّةِ الإِْفْسَادِ أَوِ الإِْبْطَال. وَلِتَفْصِيل ذَلِكَ يُرْجَعُ إِلَى مُصْطَلَحِ: (نِيَّةٌ) وَإِلَى مَوَاطِنِ تِلْكَ الْعِبَادَاتِ (2) .
أَثَرُ الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ فِي إِفْسَادِ الْعَقْدِ:
10 - إِفْسَادُ الْعَقْدِ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ يَرْجِعُ إِلَى مَا يُسَبِّبُهُ مِنْ غَرَرٍ أَوْ رِبًا أَوْ نَقْصٍ فِي الْمِلْكِ، أَوْ
__________
(1) الوجيز 1 / 100، والاختيار 1 / 131، والكافي 1 / 341، وجواهر الإكليل 1 / 152، وكشاف القناع 2 / 317 ط النصر الحديثة، ومنتهى الإردات 1 / 461، والمهذب 1 / 195.
(2) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 20 ط الحسينية، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 34، والفروق للقرافي 1 / 203 ط المعرفة، وتهذيب الفروق بهامشه 1 / 201.(5/289)
اشْتِرَاطِ أَمْرٍ مَحْظُورٍ أَوْ لاَ يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ، وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لأَِحَدِ الْعَاقِدَيْنِ.
وَالْعُقُودُ عِنْدَ اقْتِرَانِهَا بِهَذِهِ الشُّرُوطِ: نَوْعَانِ:
(الأَْوَّل) : عُقُودٌ تَفْسُدُ عِنْدَ اقْتِرَانِهَا بِهَا،
(وَالثَّانِي) : عُقُودٌ تَصِحُّ، وَيَسْقُطُ الشَّرْطُ، وَعَلَى هَذَا اتَّفَقَتِ الْمَذَاهِبُ الأَْرْبَعَةُ.
وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الْمَذَاهِبُ فِي الأَْثَرِ النَّاشِئِ عَنِ الشُّرُوطِ:
فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، كُل تَصَرُّفٍ لاَ يَكُونُ الْغَرَضُ مِنْهُ مُبَادَلَةَ مَالٍ بِمَالٍ، لاَ يَفْسُدُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ يَعْتَرِيهِ الْفَسَادُ.
فَاَلَّذِي يَفْسُدُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ مِثْل: الْبَيْعِ، وَالْقِسْمَةِ، وَالإِْجَارَةِ، وَاَلَّذِي لاَ يَفْسُدُ مِثْل: النِّكَاحِ وَالْقَرْضِ، وَالْهِبَةِ، وَالْوَقْفِ، وَالْوَصِيَّةِ.
وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ، إِذْ يَفْسُدُ الْعَقْدُ عِنْدَهُمْ بِالشَّرْطِ فِي الْجُمْلَةِ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ اشْتِرَاطُ أَمْرٍ مَحْظُورٍ، أَوْ أَمْرٍ يُؤَدِّي إِلَى غَرَرٍ فَاحِشٍ، يُؤَدِّي إِلَى فَسَادِ الْعَمْدِ، فَالأَْمْرُ الْمَحْظُورُ مِثْل: مَا إِذَا اشْتَرَى دَارًا وَاشْتَرَطَ اتِّخَاذَهَا مَجْمَعًا لِلْفَسَادِ. فَالشَّرْطُ حَرَامٌ وَالْبَيْعُ فَاسِدٌ. وَالْغَرَرُ الْفَاحِشُ مِثْل: مَا إِذَا بَاعَ دَارًا وَاشْتَرَطَ أَنْ يَكُونَ ثَمَنُهَا يَكْفِيهِ لِلنَّفَقَةِ طُول حَيَاتِهِ، فَإِنَّهُ لاَ تُدْرَى نَفَقَتُهُ وَلاَ كَمْ يَعِيشُ.
وَخَالَفَ الْحَنَابِلَةُ فَقَالُوا: هَذِهِ الشُّرُوطُ الْمُحَرَّمَةُ أَوْ تِلْكَ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى غَرَرٍ فَاحِشٍ، لاَ تُؤَدِّي إِلَى إِفْسَادِ الْعَقْدِ، وَإِنَّمَا تُلْغَى، وَيَصِحُّ الْعَقْدُ. أَمَّا الشُّرُوطُ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى إِفْسَادِ الْعَقْدِ فَهِيَ، اشْتِرَاطُ عَقْدٍ فِي عَقْدٍ، أَوْ شَرْطَيْنِ فِي بَيْعٍ، أَوِ اشْتِرَاطُ مَا يُنَافِي مَقْصُودَ الْعَقْدِ. مِثْل: مَا إِذَا اشْتَرَطَ أَحَدُ الْمُتَبَايِعَيْنِ عَلَى الآْخَرِ عَقْدًا آخَرَ كَشَرْطٍ لِلْبَيْعِ،(5/290)
كَأَنْ يَقُول: بِعْتُكَ هَذِهِ الدَّارَ عَلَى أَنْ تَبِيعَنِي هَذِهِ الْفَرَسَ. فَهَذَا اشْتِرَاطُ عَقْدٍ فِي عَقْدٍ، وَمِثْل: مَا إِذَا اشْتَرَطَ الْبَائِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي أَلاَ يَبِيعَ الْمَبِيعَ، وَكَذَلِكَ إِنْ شَرَطَ أَنَّ الْجَارِيَةَ الْمَبِيعَةَ لاَ تَحْمِل، أَوْ تَضَعُ الْوَلَدَ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ. فَهَذَا اشْتِرَاطٌ يُنَافِي مَقْصُودَ الْعَقْدِ (1) .
إِفْسَادُ النِّكَاحِ:
11 - إِفْسَادُ النِّكَاحِ بَعْدَ وُجُودِهِ صَحِيحًا لاَ يُسْقِطُ حَقَّ الْمَرْأَةِ فِي الصَّدَاقِ إِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُول اتِّفَاقًا، أَمَّا قَبْل الدُّخُول فَإِنَّهُ لاَ يُسْقِطُ حَقَّهَا فِي نِصْفِ الْمَهْرِ، إِذَا وَقَعَ الإِْفْسَادُ مِنْ جِهَتِهِ، كَرِدَّتِهِ (2) .
أَمَّا لَوْ وَقَعَ إِفْسَادُ النِّكَاحِ مِنْ جِهَتِهَا، فَلاَ مَهْرَ لَهَا وَلاَ نَفَقَةَ، لِتَسَبُّبِهَا فِي إِفْسَادِ النِّكَاحِ الَّذِي هُوَ مُوجِبٌ لِلْمَهْرِ. وَلِتَفْصِيل ذَلِكَ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (نِكَاحٌ) (وَرَضَاعٌ) .
أَثَرُ الإِْفْسَادِ فِي التَّوَارُثِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ:
12 - إِذَا وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بِإِفْسَادِ النِّكَاحِ بِغَيْرِ طَلاَقٍ انْتَفَى التَّوَارُثُ عِنْدَ مَوْتِ أَحَدِهِمَا، أَمَّا مَا كَانَتِ الْفُرْقَةُ فِيهِ بِطَلاَقٍ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ فِيهِ التَّوَارُثُ فِي بَعْضِ الأَْحْوَال، كَمَا لَوْ طَلَّقَهَا فِي مَرَضِ الْمَوْتِ فَارًّا مِنْ
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 168، 169، 172، 174 ط دار الكتاب، وابن عابدين 4 / 107 ط بولاق، وبداية المجتهد 2 / 174، والدسوقي 3 / 57، 58، 65، ومغني المحتاج 2 / 33، 34، 115، 212، 369، 370، وكشاف القناع 3 / 155، 157.
(2) ابن عابدين 1 / 411، ومنهاج الطالبين بهامش قليوبي وعميرة 3 / 286، والمغني 6 / 639، 752.(5/290)
تَوْرِيثِهَا (1) .
إِفْسَادُ الزَّوْجَةِ عَلَى زَوْجِهَا:
13 - يَحْرُمُ إِفْسَادُ الْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ خَبَّبَ زَوْجَةَ امْرِئٍ أَوْ مَمْلُوكَهُ فَلَيْسَ مِنَّا (2)
فَمَنْ أَفْسَدَ زَوْجَةَ امْرِئٍ أَيْ: أَغْرَاهَا بِطَلَبِ الطَّلاَقِ أَوِ التَّسَبُّبِ فِيهِ فَقَدْ أَتَى بَابًا عَظِيمًا مِنْ أَبْوَابِ الْكَبَائِرِ. وَقَدْ صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِالتَّضْيِيقِ عَلَيْهِ وَزَجْرِهِ، حَتَّى قَال الْمَالِكِيَّةُ بِتَأْبِيدِ تَحْرِيمِ الْمَرْأَةِ الْمُخَبَّبَةِ عَلَى مَنْ أَفْسَدَهَا عَلَى زَوْجِهَا مُعَامَلَةً لَهُ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ، وَلِئَلاَّ يَتَّخِذَ النَّاسُ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إِلَى إِفْسَادِ الزَّوْجَاتِ (3) . ر - (تَخْبِيبٌ) .
الإِْفْسَادُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ:
14 - تَحْرُمُ الْوَقِيعَةُ وَإِفْسَادُ ذَاتِ الْبَيْنِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، لأَِمْرَيْنِ:
الأَْوَّل: الإِْبْقَاءُ عَلَى وَحْدَةِ الْمُسْلِمِينَ.
الثَّانِي: رِعَايَةُ حُرْمَتِهِمْ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْل اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا} (4) ، وَلِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ نَظَرَ يَوْمًا إِلَى الْكَعْبَةِ فَقَال: مَا أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتِكِ، وَالْمُؤْمِنُ أَعْظَمُ حُرْمَةً عِنْدَ اللَّهِ مِنْكِ (5) وَلِهَذَا كَانَ إِصْلاَحُ ذَاتِ الْبَيْنِ مِنْ أَفْضَل
__________
(1) القوانين الفقهية ص 140، والاختيار 3 / 104، والمغني 6 / 453، وابن عابدين 2 / 350، وقليوبي وعميرة 3 / 79، 84، 285.
(2) حديث: " من خبب. . . " أخرجه أبو داود وسكت عنه، ونسبه المنذري للنسائي أيضا. (عون المعبود 4 / 508 ط الهند) .
(3) فتح العلي المالك 1 / 339، وعون المعبود في شرح سنن أبو داود 6 / 123.
(4) سورة آل عمران / 103.
(5) الأثر عن ابن عمر أنه نظر يوما إلى الكعبة. أخرجه الترمذي وقال: هذا حديث حسن غريب. (تحفة الأحوذي 6 / 181 نشر السلفية) .(5/291)
الْقُرُبَاتِ، وَإِفْسَادُ ذَاتِ الْبَيْنِ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَل مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلاَةِ وَالصَّدَقَةِ قَالُوا: بَلَى، قَال: إِصْلاَحُ ذَاتِ بَيْنٍ، فَإِنَّ فَسَادَ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ (1) وَلِهَذَا نَهَى الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ تَتَبُّعِ عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَنِ الْغِيبَةِ، وَالنَّمِيمَةِ، وَسُوءِ الظَّنِّ، وَالتَّبَاغُضِ، وَالتَّحَاسُدِ، وَكُل مَا يُؤَدِّي إِلَى الْوَقِيعَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ: فَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تَبَاغَضُوا وَلاَ تَحَاسَدُوا وَلاَ تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا، وَلاَ يَحِل لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ (2)
أَمَّا الإِْفْسَادُ فِي الأَْرْضِ بِقَطْعِ الطَّرِيقِ وَسَلْبِ الأَْمْوَال وَالأَْعْرَاضِ وَإِتْلاَفِ النُّفُوسِ فَهُوَ مُحَرَّمٌ، وَعُقُوبَتُهُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهَا فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَْرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلاَفٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَْرْضِ} (3) . وَتَفْصِيلُهُ فِي حِرَابَةٌ.
كَمَا نَهَى الشَّارِعُ عَنْ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الإِْفْسَادِ، بِفِعْل الْمَعَاصِي، وَإِشَاعَةِ الْفَوَاحِشِ، وَفِعْل كُل مَا فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. قَال اللَّهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ
__________
(1) حديث: " ألا أخبركم. . . " أخرجه الترمذي وأبو داود وصححه ابن حبان، وقال الترمذي: هذا حديث صحيح (سنن الترمذي 4 / 663، 664 ط استنبول، وسنن أبي داود 5 / 218 ط استنبول، وموارد الظمآن ص 486، وشرح السنة للبغوي 13 / 116 نشر المكتب الإسلامي.
(2) حديث: " لا تباغضوا ولا تحاسدوا. . . " أخرجه البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه مرفوعا، (فتح الباري 10 / 481 ط السلفية، وصحيح مسلم 4 / 1983 ط عيسى الحلبي) .
(3) سورة المائدة / 33.(5/291)
اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَل وَيُفْسِدُونَ فِي الأَْرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (1) .
إِفْشَاءُ السِّرِّ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْفْشَاءُ لُغَةً: الإِْظْهَارُ، يُقَال: أَفَشَا السِّرَّ: إِذَا أَظْهَرَهُ، فَفَشَا فَشْوًا وَفُشُوًّا، وَالسِّرُّ هُوَ مَا يُكْتَمُ، وَالإِْسْرَارُ خِلاَفُ الإِْعْلاَنِ (2) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الإِْشَاعَةُ:
2 - إِشَاعَةُ الْخَبَرِ: إِظْهَارُهُ وَنَشْرُهُ، وَالشُّيُوعُ: الظُّهُورُ (3) .
ب - الْكِتْمَانُ:
3 - الْكِتْمَانُ. الإِْخْفَاءُ: يُقَال: كَتَمْتُ زَيْدًا الْحَدِيثَ: أَيْ أَخْفَيْتُهُ عَنْهُ، فَهُوَ ضِدُّ الإِْفْشَاءِ (4) .
ج - التَّجَسُّسُ:
4 - هُوَ تَتَبُّعُ الأَْخْبَارِ، وَمِنْهُ الْجَاسُوسُ، لأَِنَّهُ يَتَتَبَّعُ الأَْخْبَارَ، وَيَفْحَصُ عَنْ بَوَاطِنِ الأُْمُورِ، وَهُوَ يُسْتَعْمَل غَالِبًا فِي الشَّرِّ (5) فَالتَّجَسُّسُ: السَّعْيُ لِلْحُصُول عَلَى السِّرِّ.
__________
(1) سورة البقرة / 27.
(2) المصباح ولسان العرب وتاج العروس مادة (فشو) .
(3) المصباح ولسان العرب.
(4) المصباح ولسان العرب.
(5) المصباح ولسان العرب.(5/292)
د - التَّحَسُّسُ:
5 - هُوَ الاِسْتِمَاعُ إِلَى حَدِيثِ الْغَيْرِ، وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، لِقَوْل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ تَحَسَّسُوا وَلاَ تَحَاسَدُوا وَلاَ تَبَاغَضُوا وَلاَ تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا (1) وَالتَّحَسُّسُ إِنْ كَانَ لإِِذَاعَةِ أَخْبَارِ النَّاسِ السَّيِّئَةِ فَهُوَ كَإِفْشَاءِ السِّرِّ فِي الْحُرْمَةِ، وَقَدْ يَكُونُ التَّحَسُّسُ لإِِشَاعَةِ الْخَيْرِ، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ} (2) .
حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ:
أَنْوَاعُ السِّرِّ:
يَتَنَوَّعُ السِّرُّ إِلَى ثَلاَثَةِ أَنْوَاعٍ:
أ - مَا أَمَرَ الشَّرْعُ بِكِتْمَانِهِ.
ب - مَا طَلَبَ صَاحِبُهُ كِتْمَانَهُ.
ج - مَا مِنْ شَأْنِهِ الْكِتْمَانُ وَاطُّلِعَ عَلَيْهِ بِسَبَبِ الْخُلْطَةِ أَوِ الْمَهْنَةِ.
النَّوْعُ الأَْوَّل: مَا أَمَرَ الشَّرْعُ بِكِتْمَانِهِ:
6 - مِنَ الأُْمُورِ مَا يَحْظُرُ الشَّرْعُ إِفْشَاءَهُ لِمَصْلَحَةٍ دِينِيَّةٍ أَوْ دُنْيَوِيَّةٍ حَسَبَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى إِفْشَائِهِ مِنْ ضَرَرٍ. فَمِمَّا لاَ يَجُوزُ إِفْشَاؤُهُ:
مَا يَجْرِي بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ حَال الْوِقَاعِ، فَإِنَّ إِفْشَاءَ مَا يَقَعُ بَيْنَ الرَّجُل وَزَوْجَتِهِ حَال الْجِمَاعِ أَوْ مَا يَتَّصِل بِذَلِكَ حَرَامٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ مِنْ شَرِّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ الرَّجُل يُفْضِي إِلَى
__________
(1) حديث " ولا تجسسوا ولا تحسسوا ولا تحاسدوا. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 481 ط السلفية) ومسلم (4 / 1985 ط الحلبي) .
(2) المصباح ولسان العرب وتاج العروس، وتفسير ابن كثير 4 / 231، والآية من سورة يوسف / 87.(5/292)
امْرَأَتِهِ وَتُفْضِي إِلَيْهِ، ثُمَّ يَنْشُرُ سِرَّهَا (1) وَالْمُرَادُ مِنْ نَشْرِ السِّرِّ، ذِكْرُ مَا يَقَعُ بَيْنَ الرَّجُل وَامْرَأَتِهِ مِنْ أُمُورِ الْوَقَاعِ وَوَصْفِ تَفَاصِيل ذَلِكَ، وَمَا يَجْرِي مِنَ الْمَرْأَةِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
أَمَّا مُجَرَّدُ ذِكْرِ الْوِقَاعِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِحَاجَةٍ، فَذِكْرُهُ مَكْرُوهٌ، لأَِنَّهُ يُنَافِي الْمُرُوءَةَ، فَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ فَلْيَقُل خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ (2) .
فَإِنْ دَعَتْ إِلَى ذِكْرِهِ حَاجَةٌ، وَتَرَتَّبَتْ عَلَيْهِ فَائِدَةٌ فَهُوَ مُبَاحٌ. كَمَا لَوِ ادَّعَتِ الزَّوْجَةُ عَلَى زَوْجِهَا أَنَّهُ عِنِّينٌ، أَوْ مُعْرِضٌ عَنْهَا، أَوْ تَدَّعِي عَلَيْهِ الْعَجْزَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَا ادَّعَتْهُ صَحِيحًا فَلاَ كَرَاهَةَ فِي الذِّكْرِ، فَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي لأََفْعَل ذَلِكَ، أَنَا وَهَذِهِ، ثُمَّ نَغْتَسِل (3) وَقَال لأَِبِي طَلْحَةَ: أَعَرَّسْتُمُ اللَّيْلَةَ (4) ؟ وَالْمَرْأَةُ كَالرَّجُل فِي عَدَمِ جَوَازِ إِفْشَاءِ مَا يَجْرِي مِنَ الرِّجَال حَال الْوَقَاعِ (5) .
وَإِفْشَاءُ السِّرِّ مَنْهِيٌّ عَنْهُ لِمَا فِيهِ مِنَ الإِْيذَاءِ وَالتَّهَاوُنِ بِحَقِّ أَصْحَابِ السِّرِّ مِنَ الْجِيرَانِ وَالأَْصْدِقَاءِ وَنَحْوِهِمْ. فَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا حَدَّثَ الرَّجُل الْحَدِيثَ ثُمَّ الْتَفَتَ فَهِيَ أَمَانَةٌ (6)
__________
(1) حديث " إن من شر الناس عند الله. . . " أخرجه مسلم (2 / 1060 ط الحلبي) .
(2) حديث " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 445 ط السلفية) ومسلم (1 / 68 ط الحلبي) .
(3) حديث: " إني لأفعل ذلك. . . " أخرجه مسلم (1 / 272 ط الحلبي) .
(4) حديث: " أعرستم الليلة؟ ". . أخرجه البخاري (الفتح 9 / 587 ط السلفية) ومسلم (3 / 1690 ط الحلبي) .
(5) سبل السلام 3 / 140 - 141.
(6) حديث: " إذا حدث الرجل الحديث. . . " أخرجه أبو داود (4 / 189 ط عزت عبيد دعاس) وحسنه المنذري كما في فيض القدير (1 / 329 ط المكتبة التجارية) .(5/293)
وَقَال: الْحَدِيثُ بَيْنَكُمْ أَمَانَةٌ (1) . وَقَال الْحَسَنُ إِنَّ مِنَ الْخِيَانَةِ أَنْ تُحَدِّثَ بِسِرِّ أَخِيكَ " (2) .
النَّوْعُ الثَّانِي: مَا طَلَبَ صَاحِبُهُ كِتْمَانَهُ:
7 - مَا اسْتَكْتَمَكَ إِيَّاهُ الْغَيْرُ وَائْتَمَنَكَ عَلَيْهِ، فَلاَ يَجُوزُ بَثُّهُ وَإِفْشَاؤُهُ لِلْغَيْرِ، حَتَّى أَخَصَّ أَصْدِقَاءِ صَاحِبِ السِّرِّ، فَلاَ يَكْشِفُ شَيْئًا مِنْهُ وَلَوْ بَعْدَ الْقَطِيعَةِ بَيْنَ مَنْ أَسَرَّ وَمَنْ أَسَرَّ إِلَيْهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ لُؤْمِ الطَّبْعِ وَخُبْثِ الْبَاطِنِ (3) .
وَهَذَا إِذَا الْتَزَمْتَ بِالْكِتْمَانِ، أَمَّا إِذَا لَمْ تَلْتَزِمْ، فَلاَ يَجِبُ الْكِتْمَانُ، وَيَدُل لِذَلِكَ حَدِيثُ زَيْنَبَ امْرَأَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَنَصُّهُ: عَنْ زَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَتْ: كُنْتُ فِي الْمَسْجِدِ، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: تَصَدَّقْنَ وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ. وَكَانَتْ زَيْنَبُ تُنْفِقُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ وَأَيْتَامٍ فِي حِجْرِهَا. فَقَالَتْ لِعَبْدِ اللَّهِ: سَل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُجْزِي عَنِّي أَنْ أُنْفِقَ عَلَيْكَ وَعَلَى أَيْتَامِي فِي حِجْرِي مِنَ الصَّدَقَةِ؟ فَقَال: سَلِي أَنْتِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَانْطَلَقْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَجَدْتُ امْرَأَةً مِنَ الأَْنْصَارِ عَلَى الْبَابِ، حَاجَتُهَا مِثْل حَاجَتِي، فَمَرَّ عَلَيْنَا بِلاَلٌ فَقُلْنَا: سَل النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُجْزِي عَنِّي أَنْ أُنْفِقَ عَلَى زَوْجِي وَأَيْتَامٍ لِي فِي حِجْرِي. وَقُلْنَا: لاَ تُخْبِرْ بِنَا. فَدَخَل فَسَأَلَهُ، فَقَال: مَنْ هُمَا؟ قَال: زَيْنَبُ. قَال: أَيُّ الزَّيَانِبِ؟ قَال: امْرَأَةُ عَبْدِ اللَّهِ. قَال: نَعَمْ، وَلَهَا أَجْرَانِ: أَجْرُ الْقَرَابَةِ
__________
(1) حديث: " الحديث بينكم أمانة. . . " أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب الصمت، كما في إتخاف السادة (7 / 505 - ط الميمنية) وإسناده ضعيف لإرساله.
(2) قول الحسن: " إن من الخيانة. . . " أخرجه ابن أبي الدنيا كما في الإتحاف والإحياء 3 / 132.
(3) الإحياء 3 / 132، وسبل السلام 4 / 192 - 193.(5/293)
وَأَجْرُ الصَّدَقَةِ (1) . قَال الْقُرْطُبِيُّ - فِيمَا نَقَلَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي -: " لَيْسَ إِخْبَارُ بِلاَلٍ بِاسْمِ الْمَرْأَتَيْنِ بَعْدَ أَنِ اسْتَكْتَمَتَاهُ بِإِذَاعَةِ سِرٍّ وَلاَ كَشْفِ أَمَانَةٍ، لِوَجْهَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) أَنَّهُمَا لَمْ تُلْزِمَاهُ بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا عَلِمَ أَنَّهُمَا رَأَتَا أَنْ لاَ ضَرُورَةَ تُحْوِجُ إِلَى كِتْمَانِهِمَا. (ثَانِيهِمَا) أَنَّهُ أَخْبَرَ بِذَلِكَ جَوَابًا لِسُؤَال النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِكَوْنِ إِجَابَتِهِ أَوْجَبَ مِنَ التَّمَسُّكِ بِمَا أَمَرَتَاهُ بِهِ مِنَ الْكِتْمَانِ. وَهَذَا كُلُّهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ الْتَزَمَ لَهُمَا بِذَلِكَ. وَيُحْتَمَل أَنْ تَكُونَا سَأَلَتَاهُ (أَيْ وَلَمْ يَلْتَزِمْ لَهُمَا بِالْكِتْمَانِ) وَلاَ يَجِبُ إِسْعَافُ كُل سَائِلٍ (2) . وَقَدْ تَتَضَمَّنُ الْغِيبَةُ إِفْشَاءً لِلسِّرِّ فِيمَا إِذَا كَانَ الأَْمْرُ الْمَكْرُوهُ الَّذِي يَذْكُرُ بِهِ الْغَيْرَ فِي غِيَابِهِ مِنَ الأُْمُورِ الْخَفِيَّةِ، أَوْ مِمَّا يَطْلُبُ صَاحِبُهُ كِتْمَانَهُ، وَقَدْ نَهَى الشَّرْعُ عَنِ الْغِيبَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُل لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} (3) وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَال: ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ. قَال: أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُول. قَال: إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُول فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَقَدْ بَهَتَّهُ} (4) وَتَفْصِيلُهُ فِي
__________
(1) حديث: " لها أجران أجر القرابة وأجر الصدقة. . . " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 328 - ط السلفية) ، ومسلم 2 / 695 ط الحلبي.
(2) فتح الباري 3 / 328 - 330.
(3) سورة الحجرات / 12.
(4) حديث: " أتدرون ما الغيبة؟ . . . ". أخرجه مسلم 4 / 2001 ط الحلبي) .(5/294)
مُصْطَلَحِ (غِيبَةٌ) .
النَّوْعُ الثَّالِثُ. 8 - مَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ بِمُقْتَضَى الْمَهْنَةِ، كَالطَّبِيبِ وَالْمُفْتِي وَأَمِينِ السِّرِّ وَغَيْرِهِمْ. 9 - وَمِمَّا يَكُونُ أَحْيَانًا مِنَ الإِْفْشَاءِ الْمُحَرَّمِ لِلسِّرِّ النَّمِيمَةُ: وَهِيَ لُغَةً تَبْلِيغُ الْخَبَرِ عَلَى وَجْهِ الإِْفْسَادِ، وَهِيَ كَذَلِكَ فِي اصْطِلاَحِ الْعُلَمَاءِ، وَأَكْثَرُ إِطْلاَقِهَا عَلَى مَنْ يَنِمُّ قَوْل الْغَيْرِ إِلَى الْمَقُول فِيهِ، أَيْ يَنْقُلُهُ إِلَيْهِ إِذَا كَانَ سِرًّا قَدِ اسْتَكْتَمَهُ إِيَّاهُ، كَأَنْ يَقُول فُلاَنٌ يَقُول فِيكَ: كَذَا وَكَذَا. وَالنَّمِيمَةُ حَرَامٌ مَنْهِيٌّ عَنْهَا، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لاَ يَدْخُل الْجَنَّةَ قَتَّاتٌ} (1) أَيِ النَّمَّامُ، وَلِمَا فِيهَا مِنَ الإِْفْسَادِ بَيْنَ النَّاسِ. وَقَدْ تَجِبُ النَّمِيمَةُ كَمَا إِذَا سَمِعَ إِنْسَانٌ شَخْصًا يَتَحَدَّثُ بِإِرَادَةِ إِيذَاءِ إِنْسَانٍ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا، فَيَجِبُ عَلَى مَنْ سَمِعَ أَنْ يُحَذِّرَ الْمَقْصُودَ بِالإِْيذَاءِ، فَإِنْ أَمْكَنَ تَحْذِيرُهُ بِغَيْرِ ذِكْرِ مَنْ سَمِعَ مِنْهُ فَيَقْتَصِرُ عَلَى التَّحْذِيرِ، وَإِلاَّ ذَكَرَهُ بِاسْمِهِ (2) . وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (نَمِيمَةٌ) .
مَا يَجُوزُ فِيهِ السَّتْرُ وَالإِْفْشَاءُ، وَالسَّتْرُ أَفْضَل:
10 - نَصَّ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ فِي الْحُدُودِ الشَّهَادَةُ وَالسَّتْرُ، لَكِنَّ السَّتْرَ أَفْضَل فِيمَا كَانَ حَقًّا لِلَّهِ عَزَّ وَجَل، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {مَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (3) وَبِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ
__________
(1) حديث: " لا يدخل الجنة قتات. . . " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 472 - ط السلفية) ، ومسلم 1 / 101 ط الحلبي.
(2) سبل السلام 4 / 198 - 199، والإحياء 3 / 156.
(3) حديث: " من ستر مسلما. . " أخرجه مسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعا. (صحيح مسلم 4 / 1996 ط عيسى الحلبي) .(5/294)
{لَوْ سَتَرْتَهُ بِثَوْبِكَ كَانَ خَيْرًا لَكَ} (1) . وَاسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ الْمُتَهَتِّكَ الَّذِي لاَ يُبَالِي بِإِتْيَانِ الْمَحْظُورَاتِ وَلاَ يَتَأَلَّمُ لِذِكْرِهِ بِالْمَعَاصِي. وَقَال الْفُقَهَاءُ: يَقُول الشَّاهِدُ عَلَى السَّرِقَةِ: أَخَذَ، لاَ سَرَقَ، إِحْيَاءً لِلْحَقِّ وَرِعَايَةً لِلسَّتْرِ. وَإِذَا طَعَنَ فِي الشُّهُودِ يَجُوزُ أَنْ يَسْأَل عَنْهُمُ الْقَاضِيَ جَهْرًا أَوْ سِرًّا عَلَى الْمُفْتَى بِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ الشَّاهِدَ مُخَيَّرٌ فِي الرَّفْعِ إِلَى الْقَاضِي أَوِ التَّرْكِ، إِلاَّ فِي الْحُدُودِ فَالتَّرْكُ فِيهَا أَوْلَى، لِمَا فِيهِ مِنَ السَّتْرِ الْمَطْلُوبِ فِي غَيْرِ الْمُتَجَاهِرِ بِفِسْقِهِ، وَأَمَّا الْمُجَاهِرُ فَيُرْفَعُ أَمْرُهُ. وَكَوْنُ التَّرْكِ مَنْدُوبًا هُوَ قَوْلٌ لِبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ، وَفِي الْمَوَّاقِ: سَتْرُ الإِْنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى غَيْرِهِ وَاجِبٌ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ تَرْكُ الرَّفْعِ وَاجِبًا. وَقَال صَاحِبُ الطَّرِيقَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: مَا وَقَعَ فِي مَجْلِسٍ مِمَّا يُكْرَهُ إِفْشَاؤُهُ إِنْ لَمْ يُخَالِفِ الشَّرْعَ يَجِبُ كِتْمَانُهُ. وَإِنْ خَالَفَ الشَّرْعَ، فَإِنْ كَانَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، كَالْحَدِّ وَالتَّعْزِيرِ فَكَذَلِكَ، وَإِنْ تَعَلَّقَ بِهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ فَلَكَ الْخِيَارُ، وَالسَّتْرُ أَفْضَل كَالزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ. وَإِنْ كَانَ حَقُّ الْعَبْدِ، فَإِنْ تَعَلَّقَ بِهِ ضَرَرٌ لأَِحَدٍ مَالِيٌّ لاَ بَدَنِيٌّ، أَوْ
__________
(1) حديث: " لو سترته بثوبك. . . " أخرجه أبو داود من حديث نعيم رضي الله عنه بلفظ " أن ماعزا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأقر عنده أربع مرات فأمر برجمه، وقال لهزال: لو سترته بثوبك كان خيرا لك "، قال الزيلعي: نعيم ذكره ابن حبان في الثقات، وهو مختلف في صح (عون المعبود 4 / 233 ط الهند، والمستدرك 4 / 363 نشر دار الكتاب العربي، ونصب الراية 3 / 307 ط دار المأمون) .(5/295)
حُكْمٌ شَرْعِيٌّ كَالْقِصَاصِ وَالتَّضْمِينِ، فَعَلَيْكَ الإِْعْلاَمُ إِنْ جَهِل، وَالشَّهَادَةُ إِنْ طَلَبَ، وَإِلاَّ فَالْكَتْمُ (1) .
اسْتِعْمَال الْمَعَارِيضِ لِتَجَنُّبِ إِفْشَاءِ السِّرِّ:
11 - الْمَعَارِيضُ فِي الْكَلاَمِ هِيَ التَّوْرِيَةُ بِالشَّيْءِ عَنِ الشَّيْءِ. وَفِي الْحَدِيثِ: {إِنَّ فِي الْمَعَارِيضِ لَمَنْدُوحَةً عَنِ الْكَذِبِ} (2) . وَقَال عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: أَمَا فِي الْمَعَارِيضِ مَا يَكْفِي الرَّجُل عَنِ الْكَذِبِ؟ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ. وَهَذَا إِذَا اضْطُرَّ الإِْنْسَانُ إِلَى الْكَذِبِ لِتَجَنُّبِ إِفْشَاءِ السِّرِّ، وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (تَوْرِيَةٌ) (وَتَعْرِيضٌ) . وَقَال إِمَامُ زَادَهْ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: وَيُعَدُّ الْحَدِيثُ الَّذِي حَدَّثَهُ بِهِ أَخُوهُ أَمَانَةً، وَلاَ يُفْشِيهَا لِغَيْرِهِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ، وَإِذَا حَدَّثَ بِهِ أَحَدًا أَدَّاهُ عَلَى أَحْسَنِ وَجْهٍ، وَاخْتَارَ أَجْوَدَ مَا سَمِعَ (3) .
تَجَنُّبُ الإِْفْشَاءِ فِي الْحَرْبِ:
12 - كِتْمَانُ أَسْرَارِ جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْعَدُوِّ مَطْلُوبٌ، لأَِنَّ السِّرَّ قَدْ يَصِل إِلَى الْعَدُوِّ فَيَسْتَفِيدُ مِنْ ذَلِكَ (4) .
__________
(1) الطريقة المحمدية لمحمد بن بير علي المشهور ببركلي زين الدين. (نسخة مخطوطة بمكتبة الموسوعة برقم خ 43 الورقة 137 (باب إفشاء السر) . وابن عابدين 4 / 371، والشرح الكبير 4 / 174 - 175، والمنهج 4 / 379.
(2) حديث: " إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب. . . " رواه ابن عدي كما في فيض القدير (2 / 472) وقال المناوي: قال الذهبي: داود - يعني الذي في إسناده - تركه أبو داود.
(3) شرعة الإسلام، الإمام زادة مخطوطة بمكتبة الموسوعة الفقهية بالكويت، برقم (خ 66) الورقة 59 (باب إفشاء السر من آفات اللسان) .
(4) شرح السير الكبير 1 / 89 - 90.(5/295)
وَلِذَلِكَ جَازَ الْكَذِبُ فِي الْحَرْبِ تَجَنُّبًا لإِِفْشَاءِ أَسْرَارِ الْمُسْلِمِينَ لِلْعَدُوِّ. وَمِنَ الْكِتْمَانِ أَلاَّ يَذْكُرَ قَائِدُ الْجَيْشِ لِجُنُودِهِ الْوَجْهَ الَّذِي يُرِيدُونَ، فَقَدْ كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ غَزْوَةً وَرَى بِغَيْرِهَا (1) أَمَّا السَّعْيُ لِلْحُصُول عَلَى أَسْرَارِ الْعَدُوِّ فَهُوَ مَطْلُوبٌ، لاِتِّقَاءِ شَرِّهِ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَطْلِعُ أَخْبَارَ الْعَدُوِّ.
إِفْضَاءٌ
التَّعْرِيفُ
1 - الإِْفْضَاءُ: مَصْدَرُ أَفْضَى، وَفَضَا الْمَكَانُ فَضْوًا: إِذَا اتَّسَعَ، وَأَفْضَى الرَّجُل بِيَدِهِ إِلَى الأَْرْضِ: مَسَّهَا بِبَاطِنِ رَاحَتِهِ، وَأَفْضَى إِلَى امْرَأَتِهِ: بَاشَرَهَا وَجَامَعَهَا، وَأَفْضَاهَا: جَعَل مَسْلَكَيْهَا بِالاِفْتِضَاضِ وَاحِدًا، وَأَفْضَى إِلَى الشَّيْءِ: وَصَل إِلَيْهِ، وَأَفْضَى إِلَيْهِ بِالسِّرِّ: أَعْلَمَهُ (2) .
2 - وَيُطْلِقُ الْفُقَهَاءُ الإِْفْضَاءَ، وَيُرِيدُونَ بِهِ مَعَانِيَ: الأَْوَّل: الْمُلاَمَسَةُ. قَال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْمُلاَمَسَةُ أَنْ يُفْضِيَ الرَّجُل بِشَيْءٍ مِنْ جَسَدِهِ إِلَى جَسَدِ الْمَرْأَةِ، أَوْ تُفْضِي إِلَيْهِ بِشَيْءٍ مِنْهَا بِلاَ حَائِلٍ (ر: وُضُوءٌ، وَمَسٌّ) .
__________
(1) الآداب الشرعية 1 / 15 - 17، والأذكار 186. وحديث " كان إذا أراد غزوة ورى بغيرها ". أخرجه البخاري (الفتح 8 / 113 ط السلفية) ، ومسلم (4 / 2128 ط الحلبي) .
(2) المصباح المنير، ومختار الصحاح مادة (فضا) .(5/296)
الثَّانِي: الْجِمَاعُ. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} (1) فَالْمُرَادُ بِالإِْفْضَاءِ الْجِمَاعُ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ. الثَّالِثُ: خَلْطُ السَّبِيلَيْنِ. مِثْل أَنْ يُجَامِعَ الرَّجُل امْرَأَتَهُ الصَّغِيرَةَ الَّتِي لاَ تَحْتَمِل الْجِمَاعَ، فَيُصَيِّرُ مَسْلَكَيْهَا مَسْلَكًا وَاحِدًا (2) .
حُكْمُ الإِْفْضَاءِ:
3 - الإِْفْضَاءُ بِمَعْنَى إِفْشَاءِ السِّرِّ، يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (إِفْشَاءُ السِّرِّ) . أَمَّا الإِْفْضَاءُ بِمَعْنَى الْمُلاَمَسَةِ. هَل هُوَ نَاقِضٌ لِلْوُضُوءِ وَمُوجِبٌ لِلْمَهْرِ أَوْ لاَ؟ فَمَوْطِنُهُ مُصْطَلَحُ: (وُضُوءٌ، وَمَهْرٌ) . أَمَّا حُكْمُ الإِْفْضَاءِ بِمَعْنَى خَلْطِ السَّبِيلَيْنِ: فَالْمُفْضِي إِمَّا أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ أَوْ أَجْنَبِيًّا.
إِفْضَاءُ الزَّوْجِ:
4 - إِذَا وَطِئَ الرَّجُل زَوْجَتَهُ الْكَبِيرَةَ الْمُحْتَمِلَةَ لِلْوَطْءِ، فَأَفْضَاهَا، لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَهُوَ رَأْيُ الْحَنَابِلَةِ، لأَِنَّهُ وَطْءٌ مُسْتَحَقٌّ، فَلَمْ يَجِبْ مَا تَلِفَ بِهِ كَالْبَكَارَةِ، وَلأَِنَّهُ فِعْلٌ مَأْذُونٌ فِيهِ مِمَّنْ يَصِحُّ إِذْنُهُ، فَلَمْ يَضْمَنْ مَا تَلِفَ بِسِرَايَتِهِ، كَمَا لَوْ أَذِنَتْ فِي مُدَاوَاتِهَا بِمَا يُفْضِي إِلَى ذَلِكَ. وَقَال أَبُو يُوسُفَ: يَجِبُ الضَّمَانُ، كَمَا لَوْ كَانَ فِي أَجْنَبِيَّةٍ، وَهُوَ رَأْيُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، غَيْرَ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي تَقْدِيرِ الْوَاجِبِ، فَقَال أَبُو يُوسُفَ: إِذَا
__________
(1) سورة النساء / 21.
(2) الزاهر ص 489 ط وزارة الأوقاف في الكويت.(5/296)
أَفْضَاهَا فَاسْتَمْسَكَ الْبَوْل فَعَلَيْهِ ثُلُثُ دِيَةٍ، وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: عَلَيْهِ حُكُومَةٌ، وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: فِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ. وَإِذَا لَمْ يَسْتَمْسِكْ بَوْلُهَا، فَفِيهَا دِيَةٌ كَامِلَةٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَدِيَةٌ وَحُكُومَةٌ، أَوْ دِيَتَانِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ رَأْيَانِ: الأَْوَّل لِلْمُدَوَّنَةِ فِيهِ حُكُومَةٌ فَقَطْ. وَالثَّانِي لاِبْنِ الْقَاسِمِ، فِيهِ الدِّيَةُ (1) . وَإِذَا أَفْضَى زَوْجَتَهُ الصَّغِيرَةَ، أَوِ الَّتِي لاَ تَحْتَمِل الْوَطْءَ، فَفِيهَا الضَّمَانُ بِالإِْجْمَاعِ عَلَى مَا هُوَ مُبَيَّنٌ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، وَهَذَا كُلُّهُ إِذَا كَانَ الْجِمَاعُ فِي الْمَحَل الْمَشْرُوعِ. وَأَمَّا إِذَا كَانَ الإِْفْضَاءُ فِي غَيْرِهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ بِذَلِكَ مُتَعَدِّيًا، فَيَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ إِجْمَاعًا عَلَى مَا سَبَقَ، لأَِنَّهُ اسْتِعْمَالٌ فِي مَحَلٍّ غَيْرِ مَأْذُونٍ فِيهِ (2) .
إِفْضَاءُ الأَْجْنَبِيِّ:
5 - إِذَا أَفْضَى امْرَأَةً فِي زِنًى فَإِنْ كَانَتْ مُطَاوِعَةً حُدَّا، وَلاَ غُرْمَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، لأَِنَّهُ ضَرَرٌ حَصَل مِنْ فِعْلٍ مَأْذُونٍ فِيهِ مِنْهَا، فَلَمْ يَضْمَنْهُ، كَأَرْشِ بَكَارَتِهَا، وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: عَلَيْهِ دِيَةٌ مَعَ الْحَدِّ، لأَِنَّ الْمَأْذُونَ فِيهِ الْوَطْءُ لاَ الْفَتْقُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَطَعَ يَدَهَا. وَإِنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ مُغْتَصَبَةً (غَيْرَ مُطَاوِعَةٍ) ، فَعَلَى الْمُغْتَصِبِ الْحَدُّ وَالضَّمَانُ إِجْمَاعًا، غَيْرَ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِهِ، فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: عَلَيْهِ أَرْشُ الإِْفْضَاءِ لاَ الْعُقْرُ (3) ، وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ فِيهِ الصَّدَاقَ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 364، والمغني 8 / 50 ط السعودية - الرياض، والمدونة 6 / 253 ط دار صادر بيروت، وحاشية الدسوقي 4 / 277 ط دار الفكر، والجمل 5 / 76.
(2) ابن عابدين 5 / 364، والمغني 8 / 50، والمدونة 6 / 253.
(3) العقر (بضم العين) دية فرج المرأة إذا غصبت على نفسها، ثم استعمل ذلك في معنى المهر (المصباح) .(5/297)
وَحُكُومَةَ عَدْلٍ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ: إِلَى أَنَّ فِيهِ الدِّيَةَ، وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ: إِلَى أَنَّ فِيهِ ثُلُثَ دِيَتِهَا وَمَهْرَ مِثْلِهَا (1) .
الإِْفْضَاءُ فِي نِكَاحٍ فَاسِدٍ:
6 - إِذَا وَطِئَ امْرَأَةً بِشُبْهَةٍ، أَوْ فِي نِكَاحٍ فَاسِدٍ فَأَفْضَاهَا، فَقَدْ نَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ عَلَيْهِ أَرْشَ إِفْضَائِهَا مَعَ مَهْرِ مِثْلِهَا، لأَِنَّ الْفِعْل إِنَّمَا أُذِنَ فِيهِ اعْتِقَادًا أَنَّ الْمُسْتَوْفِيَ لَهُ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ، فَإِذَا كَانَ غَيْرَهُ ثَبَتَ فِي حَقِّهِ وُجُوبُ الضَّمَانِ لِمَا أَتْلَفَ، كَمَا لَوْ أَذِنَ فِي أَخْذِ الدَّيْنِ لِمَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ مُسْتَحِقُّهُ فَبَانَ أَنَّهُ غَيْرُهُ. وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: يَجِبُ لَهَا أَكْثَرُ الأَْمْرَيْنِ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا أَوْ أَرْشِ إِفْضَائِهَا، لأَِنَّ الأَْرْشَ لإِِتْلاَفِ الْعُضْوِ، فَلاَ يُجْمَعُ بَيْنَ ضَمَانِهِ وَضَمَانِ مَنْفَعَتِهِ، كَمَا لَوْ قَلَعَ عَيْنًا. وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: فِيهِ الدِّيَةُ، لأَِنَّهُ إِتْلاَفٌ، وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ النِّكَاحِ الصَّحِيحِ وَالْفَاسِدِ. وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَجِبُ حُكُومَةُ عَدْلٍ لِلإِْتْلاَفِ وَالإِْفْضَاءِ زِيَادَةً عَلَى الْمَهْرِ (2) .
__________
(1) ابن عابدين 5 / 364، وحواشي التحفة 8 / 481، وحاشية الدسوقي 4 / 278، والمدونة 6 / 254، والمغني 8 / 51 ط الرياض، والجمل 5 / 76 ط إحياء التراث.
(2) المغني 8 / 52 ط الرياض، وحواشي التحفة 8 / 481، وحاشية الدسوقي 4 / 278 ط دار الفكر، وابن عابدين 5 / 364.(5/297)
إِفْطَارٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْفْطَارُ لُغَةً: مَصْدَرُ أَفْطَرَ: يُقَال: أَفْطَرَ الصَّائِمُ: دَخَل فِي وَقْتِ الْفِطْرِ وَكَانَ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ، وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ: {إِذَا أَقْبَل اللَّيْل مِنْ هَاهُنَا، وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَاهُنَا، وَغَرَبَتِ الشَّمْسُ، فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ} (1) . وَالإِْفْطَارُ فِي الاِصْطِلاَحِ لاَ يَخْرُجُ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى (2) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - الأَْصْل فِي الإِْفْطَارِ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الصَّوْمُ الْحُرْمَةُ، إِذِ الصَّوْمُ مَعْنَاهُ الإِْمْسَاكُ عَنْ كُل مَا يُفْطِرُ. أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِصَوْمِ رَمَضَانَ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلصَّوْمِ الْوَاجِبِ بِالنَّذْرِ فَكَذَلِكَ، لأَِنَّهُ يُسْلَكُ بِالنَّذْرِ مَسْلَكَ الْوَاجِبِ بِالشَّرْعِ. وَقَدْ يَعْرِضُ لَهُ الْوُجُوبُ، لِوُجُودِ مَانِعٍ مِنَ الصَّوْمِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَانِعُ مِنْ نَاحِيَةِ الشَّخْصِ، كَالْمَرَضِ، الْمُؤَدِّي لِلْهَلاَكِ، وَكَالْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ، أَمْ كَانَ الْمَانِعُ مِنْ نَاحِيَةِ الأَْيَّامِ الَّتِي نُهِيَ عَنِ الصِّيَامِ فِيهَا
__________
(1) حديث: " إذا أقبل الليل من هاهنا، وأدبر النهار من هاهنا. . . ". أخرجه البخاري من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرفوعا. (فتح الباري 4 / 196 ط السلفية) .
(2) المصباح المنير ولسان العرب والمغرب مادة (فطر) .(5/298)
كَيَوْمَيِ الْعِيدِ.
3 - وَقَدْ يَكُونُ الْفِطْرُ مَكْرُوهًا، كَالْمُسَافِرِ الَّذِي تَحَقَّقَتْ لَهُ شَرَائِطُ السَّفَرِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ الْفِطْرُ مَعَ الْكَرَاهَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، إِذِ الصَّوْمُ أَفْضَل لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} (1) . وَكَإِفْطَارِ مَنْ شَرَعَ فِي صَوْمِ النَّفْل إِنْ كَانَ بِغَيْرِ عُذْرٍ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} (2) . وَلِلْخُرُوجِ مِنْ خِلاَفِ مَنْ أَوْجَبَ إِتْمَامَهُ.
4 - وَقَدْ يَكُونُ مَنْدُوبًا:
كَمَا لَوْ كَانَ هُنَاكَ عُذْرٌ، كَمُسَاعَدَةِ ضَيْفٍ فِي الأَْكْل إِذَا عَزَّ عَلَيْهِ امْتِنَاعُ مُضِيفِهِ مِنْهُ أَوْ عَكْسِهِ، فَلاَ يُكْرَهُ الإِْفْطَارُ بَل يُسْتَحَبُّ، لِحَدِيثِ {وَإِنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا} (3) وَحَدِيثِ: {مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ} (4) . أَمَّا إِذَا لَمْ يَعِزُّ عَلَى أَحَدِهِمَا امْتِنَاعُ الآْخَرِ عَنْ ذَلِكَ، فَالأَْفْضَل عَدَمُ خُرُوجِهِ مِنْهُ.
5 - وَقَدْ يَكُونُ مُبَاحًا:
كَالْمَرِيضِ الَّذِي لاَ يَخْشَى الْهَلاَكَ، وَلَكِنَّهُ يَخْشَى زِيَادَةَ الْمَرَضِ، وَكَالْحَامِل الَّتِي تَخَافُ ضَرَرًا يَسِيرًا عَلَى حَمْلِهَا أَوْ نَفْسِهَا.
__________
(1) سورة البقرة / 184.
(2) سورة محمد / 33.
(3) حديث: " وإن لزورك عليك حقا. . . " أخرجه البخاري من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما مرفوعا. (فتح الباري 4 / 217، 218 ط السلفية) .
(4) حديث: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه. . ". أخرجه مسلم من حديث أبي شريح الخزاعي رضي الله عنه مرفوعا. (صحيح مسلم 1 / 69 ط عيسى الحلبي) .(5/298)
وَمِنَ الْمُبَاحِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ عَلَى خِلاَفِ الأَْفْضَلِيَّةِ بِنَاءً عَلَى اعْتِبَارِهِ رُخْصَةً أَوْ عَزِيمَةً (1) .
أَثَرُ الإِْفْطَارِ:
أ - فِي قَطْعِ الصَّوْمِ الْمُتَتَابِعِ:
6 - مَنْ أَفْطَرَ بِغَيْرِ عُذْرٍ فِي نَهَارِ صَوْمٍ وَاجِبٍ يَجِبُ فِيهِ التَّتَابُعُ، كَصَوْمٍ عَنْ كَفَّارَةِ ظِهَارٍ أَوْ قَتْلٍ، انْقَطَعَ تَتَابُعُهُ وَوَجَبَ اسْتِئْنَافُهُ، فَإِنْ كَانَ لِعُذْرٍ فَلاَ يَنْقَطِعُ تَتَابُعُهُ وَيَبْنِي عَلَى مَا سَبَقَ (2) . وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ. وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ فِيمَا يُعْتَبَرُ عُذْرًا لاَ يَقْطَعُ التَّتَابُعَ وَمَا لاَ يُعْتَبَرُ (ر: صَوْمٌ - كَفَّارَةٌ) .
ب - فِي تَرَتُّبِ الْقَضَاءِ وَغَيْرِهِ:
7 - يَجِبُ الْقَضَاءُ عَلَى مَنْ أَفْطَرَ فِي صِيَامٍ وَاجِبٍ وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ. وَفِي صِيَامِ التَّطَوُّعِ خِلاَفٌ. وَقَدْ يَكُونُ مَعَ الْقَضَاءِ فِدْيَةٌ أَوْ كَفَّارَةٌ. وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مَوْضِعِهِ.
__________
(1) ابن عابدين 1 / 193، 2 / 120، 121، والاختيار 1 / 125، 134، والزيلعي 1 / 333، والشرح الصغير 1 / 691، 718، 719، 720، والمجموع 6 / 258، 263، 267، 268، ومغني المحتاج 1 / 420، 436، 440، 448، 449، 4 / 365، 368.
(2) المغني 7 / 365، 366.(5/299)
إِفْكٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْفْكُ: لُغَةً: الْكَذِبُ (1) .
وَيَسْتَعْمِلُهُ الْفُقَهَاءُ فِي بَابِ الْقَذْفِ بِمَعْنَى الْكَذِبِ، وَفِي الأَْلُوسِيِّ وَغَيْرِهِ، الإِْفْكُ: أَبْلَغُ مَا يَكُونُ مِنَ الْكَذِبِ وَالاِفْتِرَاءِ، وَكَثِيرًا مَا يُفَسَّرُ بِالْكَذِبِ مُطْلَقًا. وَقِيل هُوَ الْبُهْتَانُ لاَ تَشْعُرُ بِهِ حَتَّى يَفْجَأَكَ، وَأَصْلُهُ مِنِ الأَْفْكِ (بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ) وَهُوَ الْقَلْبُ وَالصَّرْفُ، لأَِنَّ الْكَذِبَ مَصْرُوفٌ عَنِ الْوَجْهِ الْحَقِّ (2) .
وَقَدْ قَال الْمُفَسِّرُونَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِْفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} (3)
إِنَّ الْمُرَادَ مَا افْتُرِيَ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَتَكُونُ (أَل) فِي " الإِْفْكِ " لِلْعَهْدِ، وَجَوَّزَ بَعْضُهُمْ حَمْل (أَل) عَلَى الْجِنْسِ، قِيل فَيُفِيدُ الْقَصْرَ: كَأَنَّهُ لاَ إِفْكَ إِلاَّ ذَلِكَ الإِْفْكَ، وَفِي لَفْظِ (الْمَجِيءِ) إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ أَظْهَرُوهُ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَصْلٌ (4) .
وَقَدْ وَرَدَ فِي سُورَةِ النُّورِ - الآْيَةَ 11 فَمَا بَعْدَهَا - ذِكْرُ حَادِثَةِ الإِْفْكِ، وَتَشْرِيفُ اللَّهِ تَعَالَى لِعَائِشَةَ، وَتَبْرِئَتُهَا بِالْوَحْيِ.
__________
(1) مفردات القرآن للراغب الأصفهاني (أفك) .
(2) النظم المستعذب 2 / 288 نشر دار المعرفة، وتفسير الألوسي 18 / 111 ط المنيرية، وتفسير الرازي 23 / 172 ط البهية، والقرطبي 2 / 198 ط دار الكتب.
(3) سورة النور / 11.
(4) تفسير الألوسي 18 / 111، 112، وتفسير الفخر الرازي 23 / 172، 173.(5/299)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
2 - الإِْفْكُ حَرَامٌ، فِيهِ يُصَوَّرُ الْحَقُّ بِصُورَةِ الْبَاطِل، وَلاَ يَخْرُجُ فِي عُقُوبَتِهِ عَنْ عُقُوبَةِ الْكَذِبِ، وَفِيهِ التَّعْزِيرُ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ قَذْفًا بِالْمَفْهُومِ الشَّرْعِيِّ، وَهُوَ مَا كَانَ مَوْضُوعُهُ الاِتِّهَامَ كَذِبًا بِالْفَاحِشَةِ، فَيَكُونُ فِيهِ الْحَدُّ. وَتَفْصِيلُهُ فِي (الْقَذْفِ) .
إِفْلاَسٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْفْلاَسُ مَصْدَرُ أَفْلَسَ، وَهُوَ لاَزِمٌ، يُقَال: أَفْلَسَ الرَّجُل إِذَا صَارَ ذَا فُلُوسٍ بَعْدَ أَنْ كَانَ ذَا ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ، أَوْ صَارَ إِلَى حَالٍ لَيْسَ لَهُ فُلُوسٌ. وَالْفَلَسُ اسْمُ الْمَصْدَرِ، بِمَعْنَى الإِْفْلاَسِ (1) .
وَالإِْفْلاَسُ فِي الاِصْطِلاَحِ: أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ الَّذِي عَلَى الرَّجُل أَكْثَرَ مِنْ مَالِهِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ غَيْرَ ذِي مَالٍ أَصْلاً، أَمْ كَانَ لَهُ مَالٌ إِلاَّ أَنَّهُ أَقَل مِنْ دَيْنِهِ (2) .
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَإِنَّمَا سُمِّيَ مَنْ غَلَبَ دَيْنُهُ مَالَهُ مُفْلِسًا وَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ، لأَِنَّ مَالَهُ مُسْتَحَقُّ الصَّرْفِ فِي جِهَةِ دَيْنِهِ، فَكَأَنَّهُ مَعْدُومٌ (3) .
__________
(1) لسان العرب، والمصباح، والمغني 4 / 408 ط 3، والزرقاني على خليل 5 / 261.
(2) كما يفهم من كلام ابن رشد في بداية المجتهد 2 / 284، 293 ط ثالثة عيسى الحلبي 1379 هـ.
(3) المغني 4 / 408.(5/300)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّفْلِيسُ:
2 - التَّفْلِيسُ هُوَ: مَصْدَرُ فَلَّسْتُ الرَّجُل، إِذَا نَسَبْتُهُ إِلَى الإِْفْلاَسِ. وَاصْطِلاَحًا: جَعْل الْحَاكِمِ الْمَدِينَ مُفْلِسًا بِمَنْعِهِ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ (1) .
وَهَذَا مَا صَرَّحَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عِنْدَمَا عَرَّفُوا التَّفْلِيسَ بِالْمَعْنَى الأَْخَصِّ. وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ التَّفْلِيسِ وَالإِْفْلاَسِ: أَنَّ الإِْفْلاَسَ أَثَرُ التَّفْلِيسِ فِي الْجُمْلَةِ. وَجَرَى الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ التَّفْلِيسَ يُطْلَقُ عَلَى مَا قَبْل الْحَجْرِ بَعْدَ قِيَامِ الْغُرَمَاءِ عَلَى الْمَدِينِ، قَالُوا: وَيُقَال حِينَئِذٍ: إِنَّهُ تَفْلِيسٌ بِالْمَعْنَى الأَْعَمِّ، وَيُطْلَقُ عَلَى مَا بَعْدَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ، وَيَكُونُ حِينَئِذٍ تَفْلِيسًا بِالْمَعْنَى الأَْخَصِّ (2) .
ب - الإِْعْسَارُ:
3 - الإِْعْسَارُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ أَعْسَرَ، وَهُوَ ضِدُّ الْيَسَارِ. وَالْعُسْرُ: اسْمُ مَصْدَرٍ، وَهُوَ الضِّيقُ وَالشِّدَّةُ وَالصُّعُوبَةُ. وَفِي الاِصْطِلاَحِ: عَدَمُ الْقُدْرَةِ عَلَى النَّفَقَةِ بِمَالٍ وَلاَ كَسْبٍ. فَبَيْنَ الإِْعْسَارِ وَالإِْفْلاَسِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مُطْلَقٌ، فَكُل مُفْلِسٍ مُعْسِرٌ، وَلاَ عَكْسَ.
__________
(1) الجمل على المنهج 3 / 309، ونهاية المحتاج 4 / 300، ورد المحتار 5 / 96.
(2) الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 263 ط عيسى الحلبي، والبناني على الزرقاني 5 / 262، 265، والمغني 4 / 453 ط الرياض.(5/300)
ج - الْحَجْرُ:
4 - الْحَجْرُ لُغَةً: الْمَنْعُ مُطْلَقًا، وَشَرْعًا: مَنْعُ نَفَاذِ تَصَرُّفٍ قَوْلِيٍّ. وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ التَّفْلِيسِ مِنْ حَيْثُ الأَْثَرُ، إِذْ يَشْمَل مَنْعَ الصَّبِيِّ وَالسَّفِيهِ وَالْمَجْنُونِ وَمَنْ فِي حُكْمِهِمْ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الْمَال.
حُكْمُ الإِْفْلاَسِ:
5 - لَمَّا كَانَ الإِْفْلاَسُ صِفَةً لِلشَّخْصِ لاَ فِعْلاً لَهُ لَمْ يُوصَفْ بِحِلٍّ وَلاَ حُرْمَةٍ، وَلَكِنْ لِلإِْفْلاَسِ مُقَدِّمَاتٌ هِيَ مِنْ فِعْل الْمُكَلَّفِ، كَالاِسْتِدَانَةِ، وَهَذِهِ قَدْ تَرِدُ عَلَيْهَا الأَْحْكَامُ التَّكْلِيفِيَّةُ، وَيُرْجَعُ فِي ذَلِكَ إِلَى مُصْطَلَحِ (اسْتِدَانَةٌ) . وَقَدْ يَكُونُ سَبَبُ الإِْفْلاَسِ الإِْعْسَارَ، وَلَهُ أَحْكَامٌ وَضْعِيَّةٌ (آثَارٌ) مُفَصَّلَةٌ فِي مُصْطَلَحِ (إِعْسَارٌ) ، وَأَمَّا الإِْفْلاَسُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ أَثَرٌ لِلتَّفْلِيسِ، فَإِنَّهُ يُنَاسِبُ هُنَا الْكَلاَمَ عَلَى أَحْكَامِ التَّفْلِيسِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلتَّفْلِيسِ:
6 - إِذَا أَحَاطَ الدَّيْنُ بِمَال الْمَدِينِ، وَطَلَبَ الْغُرَمَاءُ الْحَجْرَ عَلَيْهِ، وَجَبَ عَلَى الْحَاكِمِ تَفْلِيسُهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَصَاحِبَيْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ الْمُفْتَى بِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ لِوُجُوبِ ذَلِكَ أَلاَّ يُمْكِنَ لِلْغُرَمَاءِ الْوُصُول إِلَى حَقِّهِمْ إِلاَّ بِهِ. أَمَّا إِذَا أَمْكَنَ الْوُصُول إِلَى حَقِّهِمْ بِغَيْرِ ذَلِكَ كَبَيْعِ بَعْضِ مَالِهِ، فَإِنَّهُ لاَ يُصَارُ إِلَى التَّفْلِيسِ. وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُفَلَّسُ، لأَِنَّهُ كَامِل الأَْهْلِيَّةِ، وَفِي الْحَجْرِ عَلَيْهِ إِهْدَارٌ لآِدَمِيَّتِهِ. وَاسْتَدَل الْقَائِلُونَ بِتَفْلِيسِهِ: بِأَنَّ الْكُل مُجْمِعٌ(5/301)
عَلَى الْحَجْرِ عَلَى الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ، فَلأََنْ يُحْجَرَ عَلَيْهِ وَيُمْنَعَ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي أَمْوَالِهِ لِحَقِّ الْغُرَمَاءِ أَوْلَى. وَمِمَّا يَتَّصِل بِهَذَا الْمَوْضُوعِ: أَنَّهُ هَل يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَبِيعَ مَالَهُ جَبْرًا عَلَيْهِ أَوْ لاَ؟ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ مُسْتَدِلِّينَ بِحَدِيثِ مُعَاذٍ: {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَرَ عَلَيْهِ، وَبَاعَ مَالَهُ فِي دَيْنٍ كَانَ عَلَيْهِ، وَقَسَمَهُ بَيْنَ غُرَمَائِهِ. . .} (1)
وَكَذَلِكَ أَثَرُ أُسَيْفِعٍ: أَنَّهُ كَانَ يَشْتَرِي الرَّوَاحِل، فَيُغَالِي بِهَا، ثُمَّ يُسْرِعُ فِي السَّيْرِ فَيَسْبِقُ الْحَاجَّ، فَأَفْلَسَ، فَرُفِعَ أَمْرُهُ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَال: " أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا النَّاسُ فَإِنَّ الأُْسَيْفِعَ أَسَفْعَ جُهَيْنَةَ رَضِيَ مِنْ دِينِهِ وَأَمَانَتِهِ أَنْ يُقَال: سَبَقَ الْحَاجَّ، إِلاَّ أَنَّهُ قَدِ ادان مُغْرِضًا، فَأَصْبَحَ وَقَدْ رِينَ بِهِ، فَمَنْ كَانَ لَهُ دَيْنٌ فَلْيَأْتِنَا بِالْغَدَاةِ نَقْسِمُ مَالَهُ بَيْنَ غُرَمَائِهِ، وَإِيَّاكُمْ وَالدَّيْنَ. . . (2)
وَلأَِنَّهُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ مُحْتَاجٌ إِلَى قَضَاءِ دَيْنِهِ فَجَازَ بَيْعُ مَالِهِ بِغَيْرِ رِضَاهُ، كَالصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ. وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: لاَ يُبَاعُ مَالُهُ جَبْرًا عَنْهُ، لأَِنَّهُ لاَ وِلاَيَةَ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ، إِلاَّ أَنَّ الْحَاكِمَ يُجْبِرُهُ عَلَى الْبَيْعِ إِذَا لَمْ يُمْكِنِ الإِْيفَاءُ بِدُونِ إِجْبَارٍ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
__________
(1) حديث معاذ أخرجه البيهقي، وقد روي متصلا ومرسلا، ونقل ابن حجر عن عبد الحق قوله: المرسل أصح من المتصل (سنن البيهقي 6 / 48 ط الهند، والتلخيص الحبير 3 / 37 ط شركة الطباعة الفنية المتحدة) .
(2) الأثر عن عمر رضي الله عنه أخرجه مالك والبيهقي. وفيه جهالة كما في التاريخ الكبير للبخاري (السنن الكبرى للبيهقي 6 / 49 ط الهند، والموطأ للإمام مالك 2 / 770 ط عيسى الحلبي، والتاريخ الكبير للبخاري 5 / 328 ط دار المعارف العثمانية) .(5/301)
{لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِل إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (1) .
وَاسْتَثْنَى أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا كَانَ دَيْنُهُ دَرَاهِمَ، وَفِي الْمَال دَرَاهِمُ، دُفِعَتْ لِلْغَرِيمِ جَبْرًا. وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ دَيْنُهُ دَنَانِيرَ وَفِي الْمَال دَنَانِيرُ، دُفِعَتْ لِلدَّائِنِينَ جَبْرًا. وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ عَلَيْهِ أَحَدُ النَّقْدَيْنِ وَفِي مَالِهِ النَّقْدُ الآْخَرُ، لأَِنَّهُمَا كَجِنْسٍ وَاحِدٍ. وَاسْتَدَل لِذَلِكَ بِأَنَّ الْغَرِيمَ إِذَا ظَفِرَ بِمِثْل دَيْنِهِ أَخَذَهُ جَبْرًا، فَالْحَاكِمُ أَوْلَى، وَهَذَا الاِسْتِثْنَاءُ عِنْدَهُ مِنْ قَبِيل الاِسْتِحْسَانِ. وَمِمَّا يَتَّصِل بِهَذَا أَنَّ الْمَدِينَ الْمُسْتَغْرِقَ بِالدَّيْنِ، يَحْرُمُ عَلَيْهِ دِيَانَةً كُل تَصَرُّفٍ يَضُرُّ بِالدَّائِنِينَ، كَمَا يَحْرُمُ عَلَى الآْخَرِينَ أَنْ يَتَعَامَلُوا مَعَهُ بِمَا يَضُرُّ بِدَائِنِيهِ مَتَى عَلِمُوا. وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي (اسْتِدَانَةٌ) (2) .
شَرَائِطُ الْحَجْرِ عَلَى الْمُفْلِسِ:
الشَّرِيطَةُ الأُْولَى:
7 - يُشْتَرَطُ لِلْحَجْرِ عَلَى الْمُفْلِسِ عِنْدَ كُل مَنْ أَجَازَهُ أَنْ يَطْلُبَ الْغُرَمَاءُ أَوْ مَنْ يَنُوبُ عَنْهُمْ أَوْ يَخْلُفُهُمْ
__________
(1) سورة النساء / 29.
(2) شرح الزرقاني على خليل وحاشية البناني عليه 5 / 261 - 265، وبداية المجتهد 2 / 284، 285، وقواعد ابن رجب (قاعدة 12 ص 14، والقاعدة 53 ص 87، والمغني 4 / 438، وشرح المنتهى 2 / 278 ط مطبعة أنصار السنة، والزيلعي 5 / 199، والاختيار 1 / 269، وشرح المنهاج بحاشية القليوبي 2 / 285 ط عيسى الحلبي، وكشاف القناع 3 / 423، والهداية وشروحها 8 / 202 - 207، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 263، 264، ومجلة الأحكام الشرعية بشرح الأتاسي 3 / 553.(5/302)
الْحَجْرَ عَلَيْهِ. فَلَوْ طَالَبُوا بِدُيُونِهِمْ وَلَمْ يَطْلُبُوا الْحَجْرَ لَمْ يُحْجَرْ عَلَيْهِ. وَلاَ يُشْتَرَطُ أَنْ يَطْلُبَهُ جَمِيعُ الْغُرَمَاءِ، بَل لَوْ طَلَبَهُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ لَزِمَ، وَإِنْ أَبَى بَقِيَّةُ الْغُرَمَاءِ ذَلِكَ أَوْ سَكَتُوا، أَوْ طَلَبُوا تَرْكَهُ لِيَسْعَى. وَإِذَا فُلِّسَ لِطَلَبِ بَعْضِهِمْ كَانَ لِلْبَاقِينَ الْمُحَاصَّةُ. وَلَوْ طَلَبَ الْمَدِينُ تَفْلِيسَ نَفْسِهِ وَالْحَجْرَ عَلَيْهِ لَمْ يُجِبْهُ الْحَاكِمُ إِلَى ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ طَلَبِ الْغُرَمَاءِ. وَهَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (1) ، وَهُوَ مُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. وَالأَْصَحُّ عِنْدَهُمْ يُحْجَرُ عَلَى الْمَدِينِ بِسُؤَالِهِ أَوْ سُؤَال وَكِيلِهِ، قِيل: وُجُوبًا، وَقِيل: جَوَازًا. قَالُوا: لأَِنَّ لَهُ غَرَضًا ظَاهِرًا فِي ذَلِكَ، وَهُوَ صَرْفُ مَالِهِ إِلَى دُيُونِهِ. وَوَجْهُ الأَْوَّل أَنَّ الْحَجْرَ يُنَافِي الْحُرِّيَّةَ وَالرُّشْدَ، وَإِنَّمَا حُجِرَ بِطَلَبِ الْغُرَمَاءِ لِلضَّرُورَةِ، وَأَنَّهُمْ لاَ يَتَمَكَّنُونَ مِنْ تَحْصِيل مَقْصُودِهِمْ إِلاَّ بِالْحَجْرِ، خَشْيَةَ الضَّيَاعِ، بِخِلاَفِ الْمَدِينِ فَإِنَّ غَرَضَهُ الْوَفَاءُ، وَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْهُ بِبَيْعِ أَمْوَالِهِ وَقِسْمَتِهَا عَلَى غُرَمَائِهِ. وَجَعَل بَعْضُهُمْ مِنَ الْحَجْرِ بِطَلَبِ الْمَدِينِ حَجْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مُعَاذٍ. قَالُوا: الأَْصْوَبُ أَنَّهُ كَانَ بِسُؤَال مُعَاذٍ نَفْسِهِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: وَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ لِقَاصِرٍ، وَلَمْ يَسْأَل وَلِيُّهُ الْحَجْرَ، وَجَبَ عَلَى الْحَاكِمِ الْحَجْرُ مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ، لأَِنَّهُ نَاظِرٌ لِمَصْلَحَتِهِ.
__________
(1) الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 164، وشرح المنهاج بحاشية القليوبي 2 / 285، وشرح المنتهى 2 / 7.
(2) نهاية المحتاج وحواشيه 4 / 300، 301، 305.(5/302)
وَمِثْلُهُ عِنْدَهُمْ مَا لَوْ كَانَتِ الدُّيُونُ لِمَسْجِدٍ، أَوْ جِهَةٍ عَامَّةٍ كَالْفُقَرَاءِ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ أَيْضًا فِي حَالَةِ مَا إِذَا طَلَبَ بَعْضُ الدَّائِنِينَ الْحَجْرَ دُونَ بَعْضٍ: يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ دَيْنُ الطَّالِبِ أَكْثَرَ مِنْ مَال الْمَدِينِ، وَإِلاَّ فَلاَ حَجْرَ، لأَِنَّ دَيْنَهُ يُمْكِنُ وَفَاؤُهُ بِكَمَالِهِ. وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَهُمْ، وَفِي قَوْلٍ: يُعْتَبَرُ أَنْ يَزِيدَ دَيْنُ الْجَمِيعِ عَلَى مَالِهِ، لاَ دَيْنُ طَالِبِ الْحَجْرِ فَقَطْ (2) .
الشَّرِيطَةُ الثَّانِيَةُ:
8 - يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ الَّذِي طَلَبَ رَبُّهُ الْحَجْرَ عَلَى الْمَدِينِ بِسَبَبِهِ دَيْنًا حَالًّا، سَوَاءٌ أَكَانَ حَالًّا أَصَالَةً، أَمْ حَل بِانْتِهَاءِ أَجَلِهِ، فَلاَ حَجْرَ بِالدَّيْنِ الْمُؤَجَّل، لأَِنَّهُ لاَ يُطَالَبُ بِهِ فِي الْحَال، وَلَوْ طُولِبَ بِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ الأَْدَاءُ (3) .
الشَّرِيطَةُ الثَّالِثَةُ:
9 - يُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ الدُّيُونُ عَلَى الْمُفْلِسِ أَكْثَرَ مِنْ مَالِهِ (4) .
وَعَلَى هَذَا فَلاَ يُفَلَّسُ بِدَيْنٍ مُسَاوٍ لِمَالِهِ، وَهُوَ قَوْل الْمَالِكِيَّةِ، وَيُفْهَمُ أَيْضًا مِنْ كَلاَمِ الْحَنَابِلَةِ، وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: وَلَوْ لَمْ يَزِدْ دَيْنُهُ الْحَال عَلَى مَالِهِ لَكِنْ بَقِيَ مِنْ مَال الْمَدِينِ مَالاً يَفِي بِالْمُؤَجَّل يُفَلَّسُ أَيْضًا، كَمَنْ عَلَيْهِ مِائَتَانِ. مِائَةٌ حَالَّةٌ وَمِائَةٌ مُؤَجَّلَةٌ، وَمَعَهُ
__________
(1) المرجع السابق.
(2) نهاية المحتاج 4 / 303، 304.
(3) حاشية الدسوقي 3 / 264، ونهاية المحتاج 4 / 301، 304، 305، وكشاف القناع 3 / 417.
(4) نهاية المحتاج 4 / 301، والمغني 4 / 438.(5/303)
مِائَةٌ وَخَمْسُونَ فَقَطْ، فَيُفَلَّسُ، إِلاَّ إِنْ كَانَ يُرْجَى مِنْ تَنْمِيَتِهِ لِلْفَضْلَةِ - وَهِيَ خَمْسُونَ فِي مِثَالِنَا - وَفَاءُ الْمُؤَجَّل (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ كَانَتْ دُيُونُهُ بِقَدْرِ مَالِهِ، فَإِنْ كَانَ كَسُوبًا يُنْفِقُ مِنْ كَسْبِهِ فَلاَ حَجْرَ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَسُوبًا، وَكَانَتْ نَفَقَتُهُ مِنْ مَالِهِ، فَيُحْجَرُ عَلَيْهِ كَيْ لاَ يُضَيِّعَ مَالَهُ فِي نَفَقَتِهِ عَلَى قَوْلٍ عِنْدَهُمْ. وَالأَْصَحُّ عِنْدَهُمْ: أَنَّهُ لاَ حَجْرَ فِي هَذِهِ الْحَال أَيْضًا، لِتَمَكُّنِ الْغُرَمَاءِ مِنَ الْمُطَالَبَةِ فِي الْحَال (2) .
الشَّرِيطَةُ الرَّابِعَةُ:
10 - الدَّيْنُ الَّذِي يُحْجَرُ بِهِ هُوَ دَيْنُ الآْدَمِيِّينَ. أَمَّا دَيْنُ اللَّهِ تَعَالَى فَلاَ يُحْجَرُ بِهِ. نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ. قَالُوا: وَلَوْ فَوْرِيًّا، كَنَذْرٍ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَحِقُّوهُ مَحْصُورِينَ، وَكَالزَّكَاةِ إِذَا حَال الْحَوْل وَحَضَرَ الْمُسْتَحِقُّونَ (3) .
الشَّرِيطَةُ الْخَامِسَةُ:
11 - يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ الْمَحْجُورُ بِهِ لاَزِمًا، فَلاَ حَجْرَ بِالثَّمَنِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ (4) .
الْحَجْرُ عَلَى الْمَدِينِ الْغَائِبِ:
12 - يَصِحُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى قَوْل الصَّاحِبَيْنِ الْحَجْرُ عَلَى الْمَدِينِ الْغَائِبِ، وَلَكِنْ يُشْتَرَطُ عِلْمُ الْمَحْجُورِ
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 3 / 264.
(2) نهاية المحتاج 4 / 303.
(3) شرح المنهاج وحاشية القليوبي 2 / 285 ونهاية المحتاج وحواشيه 4 / 301.
(4) حاشية القليوبي على المنهاج 2 / 285، ونهاية المحتاج 4 / 301.(5/303)
عَلَيْهِ بَعْدَ الْحَجْرِ، حَتَّى إِنَّ كُل تَصَرُّفٍ بَاشَرَهُ بَعْدَ الْحَجْرِ قَبْل الْعِلْمِ بِهِ يَكُونُ صَحِيحًا عِنْدَهُمْ (1) .
وَإِنْ ثَبَتَ الدَّيْنُ بِإِقْرَارِهِ، أَوْ بِبَيِّنَةٍ قَامَتْ عَلَيْهِ عِنْدَ الْقَاضِي، فَغَابَ الْمَطْلُوبُ قَبْل الْحُكْمِ وَامْتَنَعَ مِنَ الْحُضُورِ، قَال أَبُو يُوسُفَ: يَنْصِبُ الْقَاضِي وَكِيلاً، وَيَحْكُمُ عَلَيْهِ بِالْمَال، إِنْ سَأَل الْخَصْمُ ذَلِكَ، وَإِنْ سَأَل الْخَصْمُ أَنْ يُحْجَرَ عَلَيْهِ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ لاَ يُحْكَمُ وَلاَ يُحْجَرُ حَتَّى يَحْضُرَ الْغَائِبُ، ثُمَّ يُحْكَمُ عَلَيْهِ، ثُمَّ يُحْجَرُ عَلَيْهِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، لأَِنَّهُ إِنَّمَا يُحْجَرُ بَعْدَ الْحُكْمِ لاَ قَبْلَهُ. كَذَا فِي الذَّخِيرَةِ.
وَفِي النَّوَادِرِ عَنْ مُحَمَّدٍ: إِنْ كَانُوا قَدْ أَثْبَتُوا دُيُونَهُمْ يُحْجَرُ عَلَيْهِ (2) .
وَيَصِحُّ الْحَجْرُ عَلَى الْغَائِبِ كَذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، إِنْ كَانَتْ غَيْبَتُهُ مُتَوَسِّطَةً كَعَشَرَةِ أَيَّامٍ، أَوْ طَوِيلَةً كَشَهْرٍ مَثَلاً، أَمَّا الْغَائِبُ الْغَيْبَةَ الْقَرِيبَةَ فَفِي حُكْمِ الْحَاضِرِ (3) .
وَاشْتَرَطُوا لِلْحَجْرِ عَلَى الْغَائِبِ أَلاَّ يَتَقَدَّمَ الْعِلْمُ بِمَلاَءَتِهِ قَبْل سَفَرِهِ. فَإِنْ عَلِمَ مَلاَءَتَهُ قَبْل سَفَرِهِ اسْتُصْحِبَ ذَلِكَ وَلَمْ يُفَلَّسْ. . وَعِنْدَ ابْنِ رُشْدٍ يُفَلَّسُ فِي الْغَيْبَةِ الطَّوِيلَةِ، وَإِنْ عَلِمَ مَلاَءَتَهُ حَال خُرُوجِهِ (4) .
وَلَمْ نَجِدْ لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ كَلاَمًا عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا اطَّلَعْنَا عَلَيْهِ.
__________
(1) الفتاوى الهندية 5 / 61، وشرح مجلة الأحكام للأتاسي 3 / 554.
(2) الفتاوى الهندية 5 / 62.
(3) واللجنة ترى أن التحديد بالأيام المذكورة أمر اجتهادي يرجع فيه إلى تقدير القاضي.
(4) الزرقاني على خليل 5 / 265، والدسوقي 3 / 264.(5/304)
مَنْ يَحْجُرُ عَلَى الْمُفْلِسِ:
13 - لاَ يَكُونُ الْمُفْلِسُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ إِلاَّ بِحَجْرِ الْقَاضِي عَلَيْهِ. وَالْحَجْرُ لِلْقَاضِي دُونَ غَيْرِهِ، لاِحْتِيَاجِهِ إِلَى نَظَرٍ وَاجْتِهَادٍ. هَذَا وَإِنَّ لِقِيَامِ الْغُرَمَاءِ عَلَى الْمَدِينِ الَّذِي أَحَاطَ الدَّيْنُ بِمَالِهِ بَعْضَ أَحْكَامِ التَّفْلِيسِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَيُسَمَّى هَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تَفْلِيسًا عَامًّا، وَهُوَ أَنْ يَقُومَ الْغُرَمَاءُ عَلَى مَنْ أَحَاطَ الدَّيْنُ بِمَالِهِ - وَقَبْل أَنْ يَحْجُرَ عَلَيْهِ الْحَاكِمُ - فَيَسْجُنُوهُ، أَوْ يَقُومُوا عَلَيْهِ فَيَسْتَتِرُ عَنْهُمْ فَلاَ يَجِدُونَهُ، وَيَحُولُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالأَْخْذِ وَالإِْعْطَاءِ، هَذَا بِالإِْضَافَةِ إِلَى مَنْعِ تَبَرُّعِهِ، وَمَنْعِهِمْ لِسَفَرِهِ، كَمَا فِي كُل مَدِينٍ بِدَيْنٍ حَالٍّ أَوْ يَحِل فِي الْغَيْبَةِ، وَلَيْسَ لَهُمْ فِي هَذِهِ الْحَال مَنْعُهُ مِنْ تَزَوُّجٍ وَاحِدَةٍ، وَتَرَدَّدُوا فِي حَجِّ الْفَرِيضَةِ، وَالْفَتْوَى عِنْدَهُمْ عَلَى أَنَّ لَهُمْ مَنْعَهُ مِنْهُ (1) .
وَنَقَل ابْنُ رَجَبٍ الْحَنْبَلِيُّ فِي قَوَاعِدِهِ أَنَّ ابْنَ تَيْمِيَّةَ كَانَ لاَ يَرَى نَفَاذَ تَبَرُّعِ الْمَدِينِ بِالدَّيْنِ الْمُسْتَغْرِقِ بَعْدَ الْمُطَالَبَةِ (2) .
وَنُقِل عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ أَنَّ تَصَرُّفَهُ بِالْعَيْنِ الَّتِي لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ فِيهَا عَلَى الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لاَ يَنْفُذُ إِنْ طَالَبَهُ بِهَا صَاحِبُهَا، وَلَوْ قَبْل الْحَجْرِ (3) .
وَأَمَّا عِنْدَ سَائِرِ الْفُقَهَاءِ فَإِنَّ الْمُفْلِسَ قَبْل الْحَجْرِ عَلَيْهِ كَغَيْرِ الْمُفْلِسِ، وَمَا يَفْعَلُهُ مِنْ بَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ إِقْرَارٍ أَوْ قَضَاءِ بَعْضِ الْغُرَمَاءِ دُونَ بَعْضٍ فَهُوَ جَائِزٌ نَافِذٌ، لأَِنَّهُ رَشِيدٌ غَيْرُ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ، فَنَفَذَ تَصَرُّفُهُ كَغَيْرِهِ.
__________
(1) الزرقاني والبناني 5 / 264.
(2) قواعد ابن رجب، قاعدة 12 ص 14.
(3) قواعد ابن رجب، قاعدة 53 ص 87.(5/304)
وَنَصَّ شَارِحُ الْمُنْتَهَى مِنَ الْحَنَابِلَةِ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ التَّصَرُّفُ فِي مَالِهِ بِمَا يَضُرُّ غَرِيمَهُ (1) .
وَصِيغَةُ الْحَجْرِ أَنْ يَقُول الْحَاكِمُ: مَنَعْتُكَ مِنَ التَّصَرُّفِ، أَوْ حَجَرْتُ عَلَيْكَ لِلْفَلَسِ. وَيَقْتَضِي كَلاَمُ الْجُمْهُورِ التَّخْيِيرَ بَيْنَ الصِّيغَتَيْنِ، وَنَحْوِهِمَا - كَفَلَّسْتُكَ - مِنْ كُل مَا يُفِيدُ مَعْنَى الْحَجْرِ (2) .
الإِْثْبَاتُ:
14 - لاَ حَجْرَ بِالدَّيْنِ إِلاَّ إِنْ ثَبَتَ لَدَى الْقَاضِي بِطَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ الإِْثْبَاتِ الشَّرْعِيَّةِ (ر: إِثْبَاتٌ) .
إِشْهَارُ الْحَجْرِ بِالإِْفْلاَسِ وَالإِْشْهَادُ عَلَيْهِ:
15 - الَّذِينَ قَالُوا بِمَشْرُوعِيَّةِ الْحَجْرِ عَلَى الْمُفْلِسِ قَالُوا: يُسْتَحَبُّ إِظْهَارُ الْحَجْرِ عَلَيْهِ وَإِشْهَارُهُ لِتُجْتَنَبَ مُعَامَلَتُهُ، كَيْ لاَ يَسْتَضِرَّ النَّاسُ بِضَيَاعِ أَمْوَالِهِمْ (3) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ - عَلَى رَأْيِ الصَّاحِبَيْنِ - وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: وَيُسَنُّ الإِْشْهَادُ عَلَيْهِ لِيَنْتَشِرَ ذَلِكَ عَنْهُ، وَلأَِنَّهُ رُبَّمَا عُزِل الْحَاكِمُ أَوْ مَاتَ، فَيَثْبُتُ الْحَجْرُ عِنْدَ الآْخَرِ فَيُمْضِيهِ، وَلاَ يَحْتَاجُ إِلَى ابْتِدَاءِ حَجْرٍ ثَانٍ. وَلأَِنَّ الْحَجْرَ تَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامٌ، وَرُبَّمَا يَقَعُ التَّجَاحُدُ
__________
(1) المغني 4 / 438، وشرح المنتهى 2 / 278 مطبعة أنصار السنة.
(2) نهاية المحتاج وحاشية الشبراملسي 4 / 302، والدسوقي 3 / 264.
(3) واللجنة ترى أن أي وسيلة من وسائل الإشهار أو الإعلان كالصحف وغيرها كافية. وفي تسجيل الحكم وضبط وقائعه بالطرق المعروفة ما يكفي لدفع الضرر عن الراغبين بالمعاملة مع هذا الشخص.(5/305)
فَيَحْتَاجُ إِلَى إِثْبَاتِهِ (1) . وَلَمْ يَتَعَرَّضِ الْمَالِكِيَّةُ لِذَلِكَ فِيمَا اطَّلَعْنَا عَلَيْهِ مِنْ كَلاَمِهِمْ.
آثَارُ الْحَجْرِ عَلَى الْمُفْلِسِ:
16 - إِذَا حَجَرَ الْقَاضِي عَلَى الْمُفْلِسِ، تَعَلَّقَ بِذَلِكَ مِنَ الآْثَارِ مَا يَلِي:
أ - تَتَعَلَّقُ حُقُوقُ الْغُرَمَاءِ بِمَالِهِ، وَيُمْنَعُ مِنَ الإِْقْرَارِ عَلَى ذَلِكَ الْمَال وَالتَّصَرُّفِ فِيهِ.
ب - انْقِطَاعُ الطَّلَبِ عَنْهُ بِدَيْنٍ جَدِيدٍ بَعْدَ الْحُكْمِ بِالإِْفْلاَسِ.
ج - حُلُول الدَّيْنِ الْمُؤَجَّل فِي ذِمَّةِ الْمَدِينِ.
د - اسْتِحْقَاقُ مَنْ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ عِنْدَ الْمَدِينِ اسْتِرْجَاعَهُ.
هـ - اسْتِحْقَاقُ بَيْعِ مَال الْمُفَلَّسِ وَقَسْمِهِ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ. وَفِيمَا يَلِي تَفْصِيل الْقَوْل فِي هَذِهِ الآْثَارِ.
الأَْوَّل: تَعَلُّقُ حَقِّ الْغُرَمَاءِ بِالْمَال:
17 - بِالْحَجْرِ يَتَعَلَّقُ حَقُّ الْغُرَمَاءِ بِالْمَال، نَظِيرُ تَعَلُّقِ حَقِّ الرَّاهِنِ بِالْمَال الْمَرْهُونِ، فَلاَ يَنْفُذُ تَصَرُّفُ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْمَال بِمَا يَضُرُّهُمْ، وَلاَ يَنْفُذُ إِقْرَارُهُ عَلَيْهِ. وَالْمَال الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْغُرَمَاءِ هُوَ مَال الْمَدِينِ الَّذِي يَمْلِكُهُ حَال الْحَجْرِ اتِّفَاقًا عِنْدَ مَنْ يَقُول بِجَوَازِ تَفْلِيسِ الْمَدِينِ. وَأَمَّا مَا يَحْدُثُ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَلاَ يَشْمَلُهُ الْحَجْرُ عِنْدَ صَاحِبَيْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَالْمَالِكِيَّةِ، وَعَلَى قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ -
__________
(1) المغني 4 / 440، والفتاوى الهندية 5 / 62، ونهاية المحتاج 4 / 305.(5/305)
هُوَ مُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ - قَالُوا: كَمَا لاَ يَتَعَدَّى حَجْرُ الرَّاهِنِ عَلَى نَفْسِهِ فِي الْعَيْنِ الْمَرْهُونَةِ إِلَى غَيْرِهَا. وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ: يَشْمَلُهُ الْحَجْرُ كَذَلِكَ مَا دَامَ الْحَجْرُ قَائِمًا، نَحْوُ مَا مَلَكَهُ بِإِرْثٍ، أَوْ هِبَةٍ أَوِ اصْطِيَادٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ دِيَةٍ أَوْ وَصِيَّةٍ، قَال الشَّافِعِيَّةُ: أَوْ شِرَاءٍ فِي الذِّمَّةِ. قَالُوا: لأَِنَّ مَقْصُودَ الْحَجْرِ وُصُول الْحُقُوقِ إِلَى أَهْلِهَا، وَذَلِكَ لاَ يَخْتَصُّ بِالْمَوْجُودِ (1) .
فَعَلَى قَوْل الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ يَتَصَرَّفُ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ لِفَلَسٍ فِيمَا تَجَدَّدَ لَهُ بَعْدَ الْحَجْرِ مِنَ الْمَال، سَوَاءٌ كَانَ عَنْ أَصْلٍ، كَرِبْحِ مَالٍ تَرَكَهُ بِيَدِهِ بَعْضُ مَنْ فَلَّسَهُ، أَوْ عَنْ مُعَامَلَةٍ جَدِيدَةٍ، أَوْ عَنْ غَيْرِ أَصْلٍ كَمِيرَاثٍ وَهِبَةٍ وَوَصِيَّةٍ. وَلاَ يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ التَّصَرُّفِ إِلاَّ بِحَجْرٍ جَدِيدٍ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ (2) .
الإِْقْرَارُ:
18 - عَلَى قَوْل الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ - وَهُوَ خِلاَفُ الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - لاَ يُقْبَل عَلَى الْغُرَمَاءِ إِقْرَارُ الْمُفَلَّسِ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِهِ الَّذِي حُجِرَ عَلَيْهِ فِيهِ، لاِحْتِمَال التَّوَاطُؤِ بَيْنَ الْمُفَلَّسِ وَمَنْ أَقَرَّ لَهُ، وَيَلْزَمُهُ مَا أَقَرَّ بِهِ بَعْدَ فَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُ. وَالأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ يُقْبَل فِي حَقِّ الْغُرَمَاءِ، إِنْ أُسْنِدَ وُجُوبُهُ إِلَى مَا قَبْل الْحَجْرِ عَلَيْهِ أَوْ
__________
(1) الفتاوى الهندية 5 / 62، والزرقاني 5 / 268، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 3 / 268، وشرح المنتهى 2 / 278، ونهاية المحتاج 4 / 309.
(2) الزرقاني والبناني على خليل 5 / 268، والشرح الكبير الدسوقي 3 / 268.(5/306)
أُطْلِقَ، لاَ إِنْ أَضَافَهُ إِلَى مَا بَعْدَ الْحَجْرِ. وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تَفْصِيلٌ، قَالُوا: يُقْبَل إِقْرَارُهُ عَلَى غُرَمَائِهِ إِنْ أَقَرَّ بِالْمَجْلِسِ الَّذِي حُجِرَ عَلَيْهِ فِيهِ، أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ، إِنْ كَانَ دَيْنُهُ الَّذِي حُجِرَ عَلَيْهِ بِهِ ثَبَتَ بِالإِْقْرَارِ، أَوْ عُلِمَ تَقَدُّمُ الْمُعَامَلَةِ بَيْنَهُمَا. أَمَّا فِي غَيْرِ ذَلِكَ إِنْ ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ، فَلاَ يُقْبَل إِمْرَارُهُ عَلَيْهِ لِغَيْرِهِمْ (1) .
تَصَرُّفَاتُ الْمُفَلِّسِ فِي الْمَال:
19 - تَصَرُّفَاتُ الْمُفَلِّسِ ثَلاَثَةُ أَنْوَاعٍ: الأَْوَّل: تَصَرُّفَاتٌ نَافِعَةٌ لِلْغُرَمَاءِ، كَقَبُولِهِ الْهِبَةَ وَالصَّدَقَةَ، فَهَذِهِ لاَ يُمْنَعُ مِنْهَا. الثَّانِي: تَصَرُّفَاتٌ ضَارَّةٌ، كَهِبَتِهِ لِمَالِهِ، وَوَقْفِهِ لَهُ، وَتَصَدُّقِهِ بِهِ، وَالإِْبْرَاءِ مِنْهُ، وَسَائِرِ التَّبَرُّعَاتِ، فَهَذِهِ يُؤَثِّرُ فِيهَا الْحَجْرُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَعَلَى الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. وَالْقَوْل الثَّانِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ التَّصَرُّفَ يَقَعُ مَوْقُوفًا، فَإِنْ فَضَل ذَلِكَ عَنِ الدَّيْنِ نَفَذَ وَإِلاَّ لَغَا. وَمِنْ أَجْل ذَلِكَ قَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ يُكَفِّرُ الْمُفَلِّسُ بِغَيْرِ الصَّوْمِ، لِئَلاَّ يَضُرَّ بِالْغُرَمَاءِ. وَيُسْتَثْنَى مِنْ هَذَا النَّوْعِ التَّصَرُّفُ بَعْدَ الْمَوْتِ، كَمَا لَوْ أَوْصَى بِمَالٍ. وَإِنَّمَا صَحَّ هَذَا لأَِنَّ الْوَصِيَّةَ تَخْرُجُ مِنَ الثُّلُثِ بَعْدَ حَقِّ الدَّائِنِينَ.
__________
(1) الفتاوى الهندية 5 / 62، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي 3 / 267، 268، وشرح المنهاج 2 / 287، والمغني 4 / 439، وشرح المنتهى 2 / 278.(5/306)
َاسْتَثْنَى الْحَنَابِلَةُ أَيْضًا تَصَرُّفَهُ بِالصَّدَقَةِ الْيَسِيرَةِ (1) .
الثَّالِثُ: تَصَرُّفَاتٌ دَائِرَةٌ بَيْنَ النَّفْعِ وَالضَّرِّ، كَالْبُيُوعِ وَالإِْجَارَةِ. وَالأَْصْل فِي هَذَا النَّوْعِ أَنَّهُ بَاطِلٌ عَلَى قَوْل بَعْضِ الْفُقَهَاءِ، مِنْهُمُ الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْظْهَرِ، وَابْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ. وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّهُ يُمْنَعُ مِنَ التَّصَرُّفِ الْمَذْكُورِ، فَإِنْ أَوْقَعَهُ وَقَعَ مَوْقُوفًا عَلَى نَظَرِ الْحَاكِمِ إِنِ اخْتَلَفَ الْغُرَمَاءُ، وَعَلَى نَظَرِهِمْ إِنِ اتَّفَقُوا، وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى قَوْل الصَّاحِبَيْنِ أَنَّ لِلْمُفَلِّسِ أَنْ يَبِيعَ مَالَهُ بِثَمَنٍ مِثْلِهِ، لأَِنَّهُ لاَ يُبْطِل حَقَّ الْغُرَمَاءِ، وَإِنْ بَاعَ بِالْغَبْنِ لاَ يَصِحُّ مِنْهُ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْغَبْنُ يَسِيرًا أَمْ فَاحِشًا، وَيُخَيَّرُ الْمُشْتَرِي بَيْنَ إِزَالَةِ الْغَبْنِ وَبَيْنَ الْفَسْخِ (2) .
وَلَوْ بَاعَ بَعْضَ مَالِهِ لِغَرِيمِهِ بِدَيْنِهِ، فَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ يَصِحُّ، لأَِنَّهُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ. وَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ: لاَ يَصِحُّ إِلاَّ بِإِذْنِ الْقَاضِي، لأَِنَّ الْحَجْرَ يَثْبُتُ عَلَى الْعُمُومِ، وَمِنَ الْجَائِزِ أَنْ يَظْهَرَ لَهُ غَرِيمٌ آخَرُ. وَمُقَابِلُهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: يَصِحُّ، وَلَوْ بِغَيْرِ إِذْنِ الْقَاضِي، لأَِنَّ الأَْصْل عَدَمُ الْغَرِيمِ الآْخَرِ. لَكِنْ لاَ يَصِحُّ إِلاَّ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ لِلْغُرَمَاءِ جَمِيعِهِمْ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، وَأَنْ يَكُونَ دَيْنُهُمْ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ.
__________
(1) الفتاوى الهندية 5 / 62، وشرح المنتهى 2 / 278، وشرح المنهاج وحاشية القليوبي 2 / 287، والزرقاني على خليل 5 / 262 - 266.
(2) الاختيار لتعليل المختار 1 / 269 ط صبيح، وتكملة شرح فتح القدير 8 / 206، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 265، والزرقاني والبناني 5 / 266، وشرح المنهاج 3 / 286، وشرح المنتهى 2 / 278.(5/307)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ بَاعَ مَالَهُ مِنَ الْغَرِيمِ، وَجَعَل الدَّيْنَ بِالثَّمَنِ عَلَى سَبِيل الْمُقَاصَّةِ صَحَّ إِنْ كَانَ الْغَرِيمُ وَاحِدًا. وَإِنْ كَانَ الْغَرِيمُ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ، فَبَاعَ مَالَهُ مِنْ أَحَدِهِمْ بِمِثْل قِيمَتِهِ يَصِحُّ، كَمَا لَوْ بَاعَ مِنْ أَجْنَبِيٍّ بِمِثْل قِيمَتِهِ، وَلَكِنَّ الْمُقَاصَّةَ لاَ تَصِحُّ، كَمَا لَوْ قَضَى دَيْنَ بَعْضِ الْغُرَمَاءِ دُونَ بَعْضٍ. وَلَمْ نَجِدِ الْمَالِكِيَّةَ تَعَرَّضُوا لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِخُصُوصِهَا، فَيَظْهَرُ أَنَّهَا عِنْدَهُمْ أَيْضًا مَوْقُوفَةٌ عَلَى نَظَرِ الْقَاضِي أَوِ الْغُرَمَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ (1) .
التَّصَرُّفُ فِي الذِّمَّةِ مِنَ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لِفَلَسٍ:
20 - لَوْ تَصَرَّفَ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ لِفَلَسٍ تَصَرُّفًا فِي ذِمَّتِهِ بِشِرَاءٍ أَوْ بَيْعٍ أَوْ كِرَاءٍ صَحَّ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ مُقْتَضَى مَذْهَبِ الصَّاحِبَيْنِ، لأَِهْلِيَّتِهِ لِلتَّصَرُّفِ، وَالْحَجْرُ يَتَعَلَّقُ بِمَالِهِ لاَ بِذِمَّتِهِ، وَلأَِنَّهُ لاَ ضَرَرَ فِيهِ عَلَى الْغُرَمَاءِ، وَيُتْبَعُ بِهِ بَعْدَ فَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُ (2) . إِمْضَاءُ التَّصَرُّفَاتِ السَّابِقَةِ عَلَى الْحَجْرِ أَوْ إِلْغَاؤُهَا:
21 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ لِلْمُفَلِّسِ بَعْدَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ إِمْضَاءُ خِيَارٍ، وَفَسْخٌ لِعَيْبٍ فِيمَا اشْتَرَاهُ قَبْل الْحَجْرِ، لأَِنَّهُ إِتْمَامٌ لِتَصَرُّفٍ سَابِقٍ عَلَى حَجْرِهِ فَلَمْ يُمْنَعْ مِنْهُ، كَاسْتِرْدَادِ وَدِيعَةٍ أَوْدَعَهَا قَبْل الْحَجْرِ
__________
(1) الفتاوى الهندية 5 / 62، وشرح المنهاج مع حاشية القليوبي 2 / 6286، وشرح المنتهى 2 / 278.
(2) الزرقاني والبناني على خليل 5 / 266، وشرح المنتهى 2 / 278، ونهاية المحتاج 4 / 306.(5/307)
عَلَيْهِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ فِي ذَلِكَ الإِْمْضَاءِ أَوِ الْفَسْخِ حَظٌّ لِلْمُفَلِّسِ أَوْ لَمْ يَكُنْ. وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَنْتَقِل الْخِيَارُ لِلْحَاكِمِ أَوْ لِلْغُرَمَاءِ، فَلَهُمُ الرَّدُّ أَوِ الإِْمْضَاءُ. وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ الْبَيْعَ، إِنْ كَانَ بِمِثْل الْقِيمَةِ جَازَ مِنَ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ، فَيُؤْخَذُ مِنْهُ مُرَاعَاةً لِحَظِّ الْغُرَمَاءِ فِي الْفَسْخِ أَوِ الإِْمْضَاءِ (1) .
حُكْمُ مَا يَلْزَمُ الْمُفَلِّسَ مِنَ الْحُقُوقِ فِي مُدَّةِ الْحَجْرِ:
22 - مَا لَزِمَ الْمُفَلِّسَ مِنْ دِيَةٍ أَوْ أَرْشِ جِنَايَةٍ زَاحَمَ مُسْتَحِقُّهَا الْغُرَمَاءَ، وَكَذَا كُل حَقٍّ لَزِمَهُ بِغَيْرِ رِضَى الْغَرِيمِ وَاخْتِيَارِهِ، كَضَمَانِ إِتْلاَفِ الْمَال، لاِنْتِفَاءِ تَقْصِيرِهِ. بِخِلاَفِ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْمَنْعِ مِنْهَا، فَإِنَّهَا تَكُونُ بِرِضَا الْغَرِيمِ وَاخْتِيَارِهِ. قَال الشَّافِعِيَّةُ عَلَى الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ: وَلَوْ أَقَرَّ الْمُفَلِّسُ بِجِنَايَةٍ قَبْل إِقْرَارِهِ عَلَى الْغُرَمَاءِ، سَوَاءٌ أَسْنَدَ الْمُفَلِّسُ سَبَبَ الْحَقِّ إِلَى مَا قَبْل الْحَجْرِ أَوْ إِلَى مَا بَعْدَهُ. (2)
وَجَعَل مِنْ ذَلِكَ صَاحِبُ الْمُغْنِي أَنَّهُ لَوْ أَفْلَسَ، وَلَهُ دَارٌ مُسْتَأْجَرَةٌ فَانْهَدَمَتْ، بَعْدَمَا قَبَضَ الْمُفَلِّسُ الأُْجْرَةَ، انْفَسَخَتِ الإِْجَارَةُ فِيمَا بَقِيَ مِنَ الْمُدَّةِ، وَسَقَطَ مِنَ الأُْجْرَةِ بِقَدْرِ ذَلِكَ. ثُمَّ إِنْ وَجَدَ عَيْنَ مَا لَهُ أَخَذَ بِقَدْرِ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ شَارَكَ الْغُرَمَاءَ بِقَدْرِهِ. (3)
__________
(1) مطالب أولي النهى 3 / 376، والقليوبي 2 / 286، والدسوقي 3 / 101، والهندية 4 / 62.
(2) الفتاوى الهندية 5 / 62، ونهاية المحتاج 4 / 308، والمغني 4 / 440، ومطالب أولي النهى 3 / 377.
(3) المغني 4 / 441.(5/308)
الأَْثَرُ الثَّانِي - انْقِطَاعُ الْمُطَالَبَةِ عَنْهُ:
23 - وَذَلِكَ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} (1) وَقَوْل النَّبِيِّ لِغُرَمَاءِ مُعَاذٍ: خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ، وَلَيْسَ لَكُمْ إِلاَّ ذَلِكَ وَفِي رِوَايَةٍ وَلاَ سَبِيل لَكُمْ عَلَيْهِ (2) فَمَنْ أَقْرَضَهُ شَيْئًا أَوْ بَاعَهُ شَيْئًا عَالِمًا بِحَجْرِهِ لَمْ يَمْلِكْ مُطَالَبَتَهُ بِبَدَلِهِ حَتَّى يَنْفَكَّ الْحَجْرَ عَنْهُ، لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ حَالَةَ الْحَجْرِ بِعَيْنِ مَال الْمُفَلِّسِ، وَلأَِنَّهُ هُوَ الْمُتْلِفُ لِمَالِهِ بِمُعَامَلَةِ مَنْ لاَ شَيْءَ مَعَهُ، لَكِنْ إِنْ وَجَدَ الْمُقْرِضُ أَوِ الْبَائِعُ أَعْيَانَ مَا لَهُمَا فَلَهُمَا أَخْذُهَا كَمَا سَبَقَ، إِنْ لَمْ يَعْلَمَا بِالْحَجْرِ (3) .
الأَْثَرُ الثَّالِثُ - حُلُول الدَّيْنِ الْمُؤَجَّل:
24 - فِي حُلُول الدُّيُونِ الَّتِي عَلَى الْمُفَلِّسِ بِالْحَجْرِ عَلَيْهِ قَوْلاَنِ لِلْفُقَهَاءِ:
الأَْوَّل وَهُوَ قَوْل الْمَالِكِيَّةِ الْمَشْهُورُ عِنْدَهُمْ، وَقَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ هُوَ خِلاَفُ الأَْظْهَرِ عِنْدَ أَصْحَابِهِ، وَرِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّ الدُّيُونَ الْمُؤَجَّلَةَ الَّتِي عَلَى الْمُفَلِّسِ تَحِل بِتَفْلِيسِهِ. قَال الْمَالِكِيَّةُ: مَا لَمْ يَكُنِ الْمَدِينُ قَدِ اشْتَرَطَ عَدَمَ حُلُولِهَا بِالتَّفْلِيسِ. وَاحْتَجَّ أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْل: بِأَنَّ التَّفْلِيسَ يَتَعَلَّقُ بِهِ الدَّيْنُ بِالْمَال، فَيَسْقُطُ الأَْجَل، كَالْمَوْتِ.
__________
(1) سورة البقرة / 280.
(2) حديث " خذوا ما وجدتم، وليس لكم إلا ذلك ". وفي رواية " ولا سبيل لكم عليه " أخرجه مسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعا بلفظ " أصيب رجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمار ابتاعها، فكثر دينه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تصدق
(3) كشاف القناع 3 / 442، ومطالب أولي النهى 3 / 400.(5/308)
قَال الْمَالِكِيَّةُ: وَلَوْ طَلَبَ الدَّائِنُ بَقَاءَ دَيْنِهِ مُؤَجَّلاً لَمْ يَجِبْ لِذَلِكَ.
وَالثَّانِي، وَهُوَ قَوْل الْحَنَفِيَّةِ، وَالشَّافِعِيِّ وَهُوَ الأَْظْهَرُ عِنْدَ أَصْحَابِهِ، وَرِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ هِيَ الَّتِي اقْتَصَرَ عَلَيْهَا فِي الإِْقْنَاعِ: لاَ يَحِل الأَْجَل بِالتَّفْلِيسِ.
قَالُوا: لأَِنَّ الأَْجَل حَقٌّ لِلْمُفَلِّسِ، فَلاَ يَسْقُطُ بِفَلَسِهِ، كَسَائِرِ حُقُوقِهِ، وَلأَِنَّهُ لاَ يُوجِبُ حُلُول مَا لَهُ، فَلاَ يُوجِبُ حُلُول مَا عَلَيْهِ، كَالْجُنُونِ وَالإِْغْمَاءِ، وَلَيْسَ هُوَ كَالْمَوْتِ، فَإِنَّ الْمَوْتَ تَخْرَبُ بِهِ الذِّمَّةُ، بِخِلاَفِ التَّفْلِيسِ.
فَعَلَى هَذَا الْقَوْل: لاَ يُشَارِكُ أَصْحَابُ الدُّيُونِ الْمُؤَجَّلَةِ أَصْحَابَ الدُّيُونِ الْحَالَّةِ، إِلاَّ إِنْ حَل الْمُؤَجَّل قَبْل قِسْمَةِ الْمَال فَيُحَاصَّهُمْ. أَوْ قَبْل قِسْمَةِ بَعْضِهِ فَيُشَارِكُهُمُ الدَّائِنُ فِي ذَلِكَ الْبَعْضِ. قَال الرَّمْلِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَصَاحِبُ الإِْقْنَاعِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: وَإِذَا بِيعَتْ أَمْوَال الْمُفَلِّسِ لَمْ يُدَّخَرْ مِنْهَا شَيْءٌ لِلْمُؤَجَّل.
وَلاَ يَرْجِعُ رَبُّ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّل عَلَى الْغُرَمَاءِ إِذَا حَل دَيْنُهُ بِشَيْءٍ، لأَِنَّهُ لَمْ يَسْتَحِقَّ مُشَارَكَتَهُمْ حَال الْقِسْمَةِ. وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يُرْجَعُ عَلَيْهِمْ فِيمَا قَبَضُوا بِالْحِصَصِ.
أَمَّا عَلَى الْقَوْل الأَْوَّل: فَيُشَارِكُ أَصْحَابُ الدُّيُونِ الْمُؤَجَّلَةِ أَصْحَابَ الدُّيُونِ الْحَالَّةِ فِي مَال الْمُفَلِّسِ (1) .
__________
(1) الزرقاني على خليل 5 / 267، والشرح الكبير مع الدسوقي 3 / 266، والمغني 4 / 435، وشرح الإقناع 3 / 438، ونهاية المحتاج 4 / 305، وشرح المنهاج، وحاشية القليوبي 2 / 285، والفتاوى الهندية 5 / 64.(5/309)
أَمَّا دُيُونُ الْمُفَلِّسِ عَلَى النَّاسِ فَلاَ تَحِل بِفَلَسِهِ إِذَا كَانَتْ مُؤَجَّلَةً، لاَ يُعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلاَفٌ (1) .
الأَْثَرُ الرَّابِعُ: مَدَى اسْتِحْقَاقِ الْغَرِيمِ أَخْذَ عَيْنِ مَالِهِ إِنْ وَجَدَهَا:
إِذَا أَوْقَعَ الْحَجْرَ عَلَى الْمُفَلِّسِ، فَوَجَدَ أَحَدُ أَصْحَابِ الدُّيُونِ عَيْنَ مَالِهِ الَّتِي بَاعَهَا لِلْمُفَلِّسِ وَأَقْبَضَهَا لَهُ (2) ، فَفِي أَحَقِّيَّتِهِ بِاسْتِرْجَاعِهَا قَوْلاَنِ لِلْعُلَمَاءِ:
25 - الْقَوْل الأَْوَّل: أَنَّ بَائِعَهَا أَحَقُّ بِهَا بِشُرُوطِهِ، وَهُوَ قَوْل مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَالأَْوْزَاعِيِّ وَالْعَنْبَرِيِّ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ، وَرُوِيَ هَذَا الْقَوْل عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ، مِنْهُمْ عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ مِنَ التَّابِعِينَ.
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْل بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْمَرْفُوعِ مَنْ أَدْرَكَ مَالَهُ بِعَيْنِهِ عِنْدَ رَجُلٍ أَوْ إِنْسَانٍ قَدْ أَفْلَسَ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ (3) .
وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِأَنَّ هَذَا عَقْدٌ يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ بِالإِْقَالَةِ، فَجَازَ فِيهِ الْفَسْخُ لِتَعَذُّرِ الْعِوَضِ، كَالْمُسْلَمِ فِيهِ إِذَا تَعَذَّرَ، وَبِأَنَّهُ لَوْ شَرَطَ فِي الْعَقْدِ رَهْنًا، فَعَجَزَ
__________
(1) كشاف القناع شرح الإقناع للبهوتي 3 / 437.
(2) أما إن لم يقبضها له فهو أحق بها اتفاقا، لأنها من ضمانه (بداية المجتهد) .
(3) الشرح الكبير مع حاشيته 3 / 282، شرح المنهاج 2 / 293، والمغني 4 / 453 ط الرياض. وحديث " من أدرك ماله بعينه عند رجل أو إنسان قد أفلس فهو أحق به من غيره ". أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا. (فتح الباري 5 / 62 ط السلفية، وصحيح مسلم 3 / 1193 ط عيسى الحلبي) .(5/309)
عَنْ تَسْلِيمِهِ، اسْتَحَقَّ الْفَسْخَ، وَهُوَ وَثِيقَةٌ بِالثَّمَنِ، فَالْعَجْزُ عَنْ تَسْلِيمِ الثَّمَنِ نَفْسِهِ أَوْلَى (1) .
26 - الْقَوْل الثَّانِي: قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَأَهْل الْكُوفَةِ وَقَوْل ابْنِ سِيرِينَ وَإِبْرَاهِيمَ مِنَ التَّابِعِينَ وَابْنِ شُبْرُمَةَ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّهُ لَيْسَ أَحَقَّ بِهَا، بَل هُوَ فِي ثَمَنِهَا أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ.
وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ هَذَا مُقْتَضَى الأُْصُول الْيَقِينِيَّةِ الْمَقْطُوعِ بِهَا، قَالُوا: وَخَبَرُ الْوَاحِدِ إِذَا خَالَفَ الأُْصُول يُرَدُّ، كَمَا قَال عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لاَ نَدَعُ كِتَابَ رَبِّنَا وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا لِحَدِيثِ امْرَأَةٍ.
قَالُوا: وَلِمَا رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا: أَيُّمَا رَجُلٍ مَاتَ أَوْ أَفْلَسَ فَوَجَدَ بَعْضُ، غُرَمَائِهِ مَالَهُ بِعَيْنِهِ فَهُوَ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ (2) .
__________
(1) المغني 4 / 410، ونيل المآرب 1 / 121، وشرح المنهاج مع حاشية القليوبي 2 / 293، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 282.
(2) حديث " أيما رجل مات أو أفلس فوجد بعض غرمائه ماله بعينه فهو أسوة الغرماء " أورده ابن رشد في بداية المجتهد بهذا اللفظ وقال: رواه الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبي هريرة مرفوعا، وذكره البابرتي في العناية بلفظ مقارب وقال: رواه الخصاف بإسناده، إلا أنن وتعقبه بقوله: " قلت: المرسل عندنا (الحنفية) حجة، وأسنده الخصاف والرازي (بداية المجتهد 2 / 287 نشر دار المعرفة، والعناية بهامش فتح القدير 8 / 210 ط دار إحياء التراث العربي، والعناية شرح الهداية 8 / 276 ط دار الفكر) .(5/310)
قَالُوا: وَهَذَا الْحَدِيثُ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ، لِمُوَافَقَتِهِ الأُْصُول الْعَامَّةَ، وَلأَِنَّ الذِّمَّةَ بَاقِيَةٌ وَحَقُّهُ فِيهَا (1) .
الرُّجُوعُ فِيمَا قَبَضَهُ الْمَدِينُ بِغَيْرِ الشِّرَاءِ:
27 - اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِالرُّجُوعِ فِيمَا قَبَضَهُ الْغَرِيمُ بِغَيْرِ الشِّرَاءِ
أ - فَقَدْ عَمَّمَ الشَّافِعِيَّةُ الْقَوْل بِأَنَّ لَهُ الرُّجُوعَ فِي عَيْنِ مَالِهِ بِالْفَسْخِ فِي سَائِرِ الْمُعَاوَضَاتِ الْمَالِيَّةِ الْمَحْضَةِ كَالْقَرْضِ وَالسَّلَمِ، بِخِلاَفِ غَيْرِهَا، كَالْهِبَةِ، وَالنِّكَاحِ وَالصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ وَالْخُلْعِ.
وَصَنِيعُ الْحَنَابِلَةِ يُوحِي بِأَنَّ قَوْلَهُمْ فِي ذَلِكَ كَقَوْل الشَّافِعِيَّةِ، وَإِنْ لَمْ نَرَهُمْ صَرَّحُوا بِذَلِكَ، لَكِنَّ تَمْثِيلَهُمْ لِمَا يُرْجَعُ فِيهِ بِعَيْنِ الْقَرْضِ وَرَأْسِ مَال السَّلَمِ وَالْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَةِ يَدُل عَلَى ذَلِكَ.
ب - وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ الرُّجُوعَ لِلْوَارِثِ، وَمَنْ ذَهَبَ لَهُ الثَّمَنُ، أَوْ تُصُدِّقَ عَلَيْهِ بِهِ، أَوْ أُحِيل بِهِ.
وَأَبَوْا الرُّجُوعَ فِيمَا لاَ يُمْكِنُ الرُّجُوعُ فِيهِ كَعِصْمَةٍ، فَلَوْ خَالَعَتْ زَوْجَهَا عَلَى مَالٍ، ثُمَّ فَلَّسَتْ قَبْل أَدَاءِ الْبَدَل، لَمْ يَكُنْ لِمُخَالِعِهَا الرُّجُوعُ بِالْعِصْمَةِ لأَِنَّهَا خَرَجَتْ مِنْهُ، وَيُحَاصُّ الْغُرَمَاءُ بِبَدَل الْخُلْعِ، وَكَمَا لَوْ فَلَّسَ الْجَانِي بَعْدَ الصُّلْحِ عَنِ الْقِصَاصِ لَمْ يَكُنْ لأَِوْلِيَاءِ الْقَتِيل الرُّجُوعُ إِلَى الْقِصَاصِ، لِتَعَذُّرِ ذَلِكَ شَرْعًا بَعْدَ الْعَفْوِ، بَل يُحَاصُّونَ الْغُرَمَاءَ بِعِوَضِ الصُّلْحِ (2) .
__________
(1) بداية المجتهد 2 / 288 وفتح القدير 8 / 210.
(2) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 3 / 283، والزرقاني 5 / 282، وكشاف القناع 3 / 425، ومطالب أولي النهى 3 / 378، ونهاية المحتاج 4 / 326، والقليوبي 2 / 293.(5/310)
شُرُوطُ الرُّجُوعِ فِي عَيْنِ الْمَال:
جُمْلَةُ الشُّرُوطِ الَّتِي اشْتَرَطَهَا الْقَائِلُونَ بِالرُّجُوعِ فِي عَيْنِ الْمَال الَّتِي عِنْدَ الْمُفَلِّسِ هِيَ كَمَا يَلِي:
الشَّرْطُ الأَْوَّل:
28 - أَنْ يَكُونَ الْمُفَلِّسُ قَدْ مَلَكَهَا قَبْل الْحَجْرِ لاَ بَعْدَهُ. فَإِنْ كَانَ مَلَكَهَا بَعْدَ الْحَجْرِ فَلَيْسَ الْبَائِعُ أَحَقَّ بِهَا، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِالْحَجْرِ، وَذَلِكَ لأَِنَّهُ لَيْسَ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِثَمَنِهَا فِي الْحَال، فَلَمْ يَمْلِكِ الْفَسْخَ.
وَقِيل: لَيْسَ هَذَا شَرْطًا، لِعُمُومِ الْخَبَرِ. وَقِيل بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَ الْعَالِمِ وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ (1) .
الشَّرْطُ الثَّانِي:
29 - قَال الْحَنَابِلَةُ: أَنْ تَكُونَ السِّلْعَةُ بَاقِيَةً بِعَيْنِهَا، وَلَمْ يَتْلَفْ بَعْضُهَا، فَإِنْ تَلِفَتْ كُلُّهَا أَوْ تَلِفَ جُزْءٌ مِنْهَا، كَمَا لَوِ انْهَدَمَ بَعْضُ الدَّارِ، أَوْ تَلِفَتْ ثَمَرَةُ الْبُسْتَانِ، لَمْ يَكُنْ لِلْبَائِعِ الرُّجُوعُ، وَكَانَ أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ.
وَاحْتَجُّوا بِقَوْل النَّبِيِّ: مَنْ أَدْرَكَ مَالَهُ بِعَيْنِهِ عِنْدَ رَجُلٍ أَوْ إِنْسَانٍ قَدْ أَفْلَسَ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ (2) قَالُوا: فَإِنَّ قَوْلَهُ: " بِعَيْنِهِ " يَقْتَضِي ذَلِكَ.
وَلأَِنَّهُ إِذَا أَدْرَكَهُ بِعَيْنِهِ فَأَخَذَهُ انْقَطَعَتِ الْخُصُومَةُ بَيْنَهُمَا.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ يَمْنَعُ تَلَفُ كُلِّهِ
__________
(1) المغني 4 / 410، وحاشية الدسوقي 3 / 282، والزرقاني 5 / 282.
(2) حديث " من أدرك ماله بعينه عند رجل أو إنسان قد أفلس فهو أحق به " سبق تخريجه. ف 25.(5/311)
الرُّجُوعَ، وَلاَ يَمْنَعُ تَلَفُ بَعْضِهِ الرُّجُوعَ، عَلَى تَفْصِيلٍ عِنْدَهُمْ فِي ذَلِكَ يُرْجَعُ. إِلَيْهِ فِي بَابِهِ (1) .
الشَّرْطُ الثَّالِثُ:
30 - أَنْ تَكُونَ السِّلْعَةُ عِنْدَ الْمُفَلِّسِ عَلَى حَالِهَا الَّتِي اشْتَرَاهَا عَلَيْهَا. فَإِنِ انْتَقَلَتْ عَيْنُ السِّلْعَةِ عَنِ الْحَال الَّتِي اشْتَرَاهَا عَلَيْهَا، بَعْدَ شِرَائِهِ لَهَا - قَال الْحَنَابِلَةُ: بِمَا يُزِيل اسْمَهَا - مَنَعَ ذَلِكَ الرُّجُوعَ، كَمَا لَوْ طَحَنَ الْحِنْطَةَ، أَوْ فَصَّل الثَّوْبَ، أَوْ ذَبَحَ الْكَبْشَ، أَوْ تَتَمَّرَ رُطَبُهُ، أَوْ نَجَّرَ الْخَشَبَةَ بَابًا، أَوْ نَسَجَ الْغَزْل، أَوْ فَصَّل الْقُمَاشَ قَمِيصًا. وَهَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. وَقَالُوا: لأَِنَّهُ لَمْ يَجِدْ عَيْنَ مَالِهِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ لَمْ تَزِدِ الْقِيمَةُ بِهَذَا الاِنْتِقَال رَجَعَ وَلاَ شَيْءَ لِلْمُفَلِّسِ. وَإِنْ نَقَصَتْ فَلاَ شَيْءَ لِلْبَائِعِ إِنْ رَجَعَ بِهِ. وَإِنْ زَادَتْ، فَالأَْظْهَرُ أَنَّهُ يُبَاعُ وَلِلْمُفَلِّسِ مِنْ ثَمَنِهِ بِنِسْبَةِ مَا زَادَ (2) .
الشَّرْطُ الرَّابِعُ:
31 - أَلاَّ يَكُونَ الْمَبِيعُ قَدْ زَادَ عِنْدَ الْمُفَلِّسِ زِيَادَةً. مُتَّصِلَةً، كَالسِّمَنِ وَالْكِبَرِ، وَتَجَدَّدَ الْحَمْل - مَا لَمْ تَلِدْ - وَهَذَا عَلَى قَوْلٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ.
وَقَوْل الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّ الزِّيَادَةَ الْمُتَّصِلَةَ الْمُتَوَلِّدَةَ لاَ تَمْنَعُ الرُّجُوعَ، وَيَفُوزُ بِهَا الْبَائِعُ، إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ يُخَيِّرُونَ الْغُرَمَاءَ بَيْنَ أَنْ يُعْطُوا السِّلْعَةَ، أَوْ ثَمَنَهَا الَّذِي بَاعَهَا بِهِ (3) .
__________
(1) المغني 4 / 413، وشرح المنهاج 2 / 294، وبلغة السالك 2 / 135.
(2) الزرقاني 5 / 283، والمغني 4 / 416، وشرح المنهاج بحاشية القليوبي 2 / 297.
(3) المغني 4 / 465.(5/311)
وَهَذَا بِخِلاَفِ نَقْصِ الصِّفَةِ فَلاَ يَمْنَعُ الرُّجُوعَ (1) .
أَمَّا الزِّيَادَةُ الْمُنْفَصِلَةُ فَإِنَّهَا لاَ تَمْنَعُ الرُّجُوعَ، وَذَلِكَ كَالثَّمَرَةِ وَالْوَلَدِ. وَهَذَا قَوْل مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، سَوَاءٌ أَنَقَصَ بِهَا الْمَبِيعُ أَمْ لَمْ يَنْقُصْ، إِذَا كَانَ نَقْصَ صِفَةٍ. وَالزِّيَادَةُ الْمُنْفَصِلَةُ لِلْمُشْتَرِي وَهُوَ الْمُفَلِّسُ (2) .
الشَّرْطُ الْخَامِسُ:
32 - أَلاَّ يَكُونَ قَدْ تَعَلَّقَ بِالسِّلْعَةِ حَقٌّ لِلْغَيْرِ، كَأَنْ وَهَبَهَا الْمُشْتَرِي أَوْ بَاعَهَا أَوْ وَقَفَهَا فَلاَ رُجُوعَ، لأَِنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ مَتَاعَهُ بِعَيْنِهِ عِنْدَ الْمُفَلِّسِ، فَلاَ يَدْخُل فِي النَّصِّ (3) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَرْهُونِ: إِنَّ لِلدَّائِنِ أَنْ يَفُكَّ الرَّهْنَ بِدَفْعِ مَا رُهِنَتْ بِهِ الْعَيْنُ، وَيَأْخُذُهَا، وَيُحَاصُّ الْغُرَمَاءَ بِمَا دَفَعَ (4) .
الشَّرْطُ السَّادِسُ:
33 - وَهُوَ لِلشَّافِعِيَّةِ. قَالُوا: أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ دَيْنًا، فَلَوْ كَانَ الثَّمَنُ عَيْنًا قُدِّمَ عَلَى الْغُرَمَاءِ بِقَبْضِ الْعَيْنِ الَّتِي هِيَ ثَمَنٌ، وَذَلِكَ كَمَا لَوْ بَاعَ بَقَرَةً بِبَعِيرٍ، ثُمَّ أَفْلَسَ الْمُشْتَرِي، فَالْبَائِعُ يَرْجِعُ بِالْبَعِيرِ وَلاَ يَرْجِعُ بِالْمَبِيعِ، أَيِ الْبَقَرَةِ (5) .
__________
(1) المغني 4 / 464.
(2) المغني 4 / 465.
(3) المغني 4 / 431، 432، ونهاية المحتاج 4 / 330، 332.
(4) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 2 / 285.
(5) نهاية المحتاج وحاشية الرشيدي 4 / 332.(5/312)
الشَّرْطُ السَّابِعُ:
34 - قَال الشَّافِعِيَّةُ: أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ حَالًّا عِنْدَ الرُّجُوعِ، فَلاَ رُجُوعَ فِيمَا كَانَ ثَمَنُهُ مُؤَجَّلاً وَلَمْ يَحِل، إِذْ لاَ مُطَالَبَةَ فِي الْحَال.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ كَانَ الثَّمَنُ مُؤَجَّلاً لَمْ يَحِل رُجُوعُ الْبَائِعِ فِي السِّلْعَةِ، فَتَوَقَّفَ إِلَى الأَْجَل، فَيَخْتَارُ الْبَائِعُ حِينَئِذٍ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالتَّرْكِ. وَلاَ تُبَاعُ فِيمَا يُبَاعُ مِنْ مَال الْمُفَلِّسِ. قَالُوا: لأَِنَّ حَقَّ الْبَائِعِ تَعَلَّقَ بِهَا، فَقُدِّمَ عَلَى غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ مُؤَجَّلاً، كَالْمُرْتَهِنِ (1) .
الشَّرْطُ الثَّامِنُ:
35 - وَهُوَ لِلْحَنَابِلَةِ، قَالُوا: يُشْتَرَطُ أَلاَّ يَكُونَ الْبَائِعُ قَدْ قَبَضَ مِنْ ثَمَنِهَا شَيْئًا. وَإِلاَّ سَقَطَ حَقُّهُ فِي الرُّجُوعِ. قَالُوا: وَالإِْبْرَاءُ مِنْ بَعْضِ الثَّمَنِ كَقَبْضِهِ.
وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: أَيُّمَا رَجُلٍ بَاعَ سِلْعَةً، فَأَدْرَكَ سِلْعَتَهُ بِعَيْنِهَا عِنْدَ رَجُلٍ قَدْ أَفْلَسَ، وَلَمْ يَكُنْ قَبَضَ مِنْ ثَمَنِهَا شَيْئًا، فَهِيَ لَهُ. وَإِنْ كَانَ قَبَضَ مِنْ ثَمَنِهَا شَيْئًا فَهُوَ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيُّ فِي مَذْهَبِهِ الْجَدِيدِ: لِلْبَائِعِ أَنْ يَرْجِعَ بِمَا يُقَابِل الْبَاقِيَ مِنْ دَيْنِهِ. وَقَال مَالِكٌ: هُوَ مُخَيَّرٌ إِنْ شَاءَ رَدَّ مَا أَخَذَهُ وَرَجَعَ فِي جَمِيعِ الْعَيْنِ، وَإِنْ شَاءَ حَاصَّ الْغُرَمَاءَ وَلَمْ يَرْجِعْ (3) .
__________
(1) نهاية المحتاج 4 / 328، وكشاف القناع 3 / 425.
(2) حديث " أيما رجل باع سلعة فأدرك سلعته بعينها عند رجل قد أفلس. . . " أخرجه الدارقطني وفي إسناده إسماعيل بن عياش، قال الدراقطني: إسماعيل بن عياش مضطرب الحديث ولا يثبت هذا عن الزهري مسندا وإنما هو مرسل (سنن الدارقطني 3 / 29 - 30 ط دار المحاسن) .
(3) المغني 4 / 430، وكشاف القناع 4 / 426، ونهاية المحتاج 4 / 332، 333، وبداية المجتهد 2 / 288، والدسوقي على الشرح الكبير 3 / 286.(5/312)
الشَّرْطُ التَّاسِعُ:
36 - وَهُوَ لِلْمَالِكِيَّةِ، قَالُوا: يُشْتَرَطُ أَلاَّ يَفْدِيَهُ الْغُرَمَاءُ بِثَمَنِهِ الَّذِي عَلَى الْمُفَلِّسِ، فَإِنْ فَدَوْهُ - وَلَوْ بِمَا لَهُمْ - لَمْ يَأْخُذْهُ، وَكَذَا لَوْ ضَمِنُوا لَهُ الثَّمَنَ، وَهُمْ ثِقَاتٌ، أَوْ أَعْطَوْا بِهِ كَفِيلاً ثِقَةً.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: لاَ يَسْقُطُ حَقُّهُ فِي الْفَسْخِ، وَلَوْ قَال الْغُرَمَاءُ لَهُ: لاَ تَفْسَخْ وَنَحْنُ نُقَدِّمُكَ بِالثَّمَنِ مِنَ التَّرِكَةِ. قَال الْحَنَابِلَةُ: لِعُمُومِ الأَْدِلَّةِ. وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْمِنَّةِ، وَلِخَوْفِ ظُهُورِ غَرِيمٍ آخَرَ. لَكِنْ لَوْ أَنَّ الْغُرَمَاءَ بَذَلُوا الثَّمَنَ لِلْمُفَلِّسِ، فَأَعْطَاهُ لِلْبَائِعِ سَقَطَ حَقُّهُ فِي الْفَسْخِ (1) .
الشَّرْطُ الْعَاشِرُ:
37 - أَنْ يَكُونَ الْمُفَلِّسُ حَيًّا إِلَى أَخْذِهَا، فَإِنْ مَاتَ بَعْدَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ، سَقَطَ حَقُّ الْبَائِعِ فِي الرُّجُوعِ.
وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ. لِحَدِيثِ:. . . فَإِنْ مَاتَ فَصَاحِبُ الْمَتَاعِ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ (2) . وَفِي رِوَايَةٍ:
__________
(1) الزرقاني 5 / 282، ونهاية المحتاج 4 / 329، وكشاف القناع 3 / 425.
(2) حديث: ". . . فإن مات فصاحب المتاع أسوة الغرماء ". أخرجه أبو داود من حديث أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، بلفظ: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أيما رجل باع متاعا، فأفلس الذي ابتاعه، ولم يقبض الذي باعه من ثمنه شيئا، فوجد متاعه بعين (عون المعبود 3 / 309 ط الهند.) .(5/313)
أَيُّمَا امْرِئٍ مَاتَ، وَعِنْدَهُ مَال امْرِئٍ بِعَيْنِهِ، اقْتَضَى مِنْهُ شَيْئًا أَوْ لَمْ يَقْتَضِ فَهُوَ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ (1) .
قَالُوا: وَلأَِنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ غَيْرِ الْمُفَلِّسِ، وَهُمُ الْوَرَثَةُ، كَالْمَرْهُونِ، وَكَمَا لَوْ بَاعَهُ.
وَقَال الشَّافِعِيُّ: لَهُ الْفَسْخُ وَاسْتِرْجَاعُ الْعَيْنِ، لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: أَيُّمَا رَجُلٍ مَاتَ أَوْ أَفْلَسَ فَصَاحِبُ الْمَتَاعِ أَحَقُّ بِمَتَاعِهِ، إِذَا وَجَدَهُ بِعَيْنِهِ (2) .
الشَّرْطُ الْحَادِيَ عَشَرَ:
38 - أَنْ يَكُونَ الْبَائِعُ أَيْضًا حَيًّا، فَلَوْ مَاتَ قَبْل الرُّجُوعِ فَلاَ رُجُوعَ عَلَى قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ. وَفِي الإِْنْصَافِ: لِلْوَرَثَةِ الرُّجُوعُ (3) .
__________
(1) حديث " أيما امرئ مات وعنده مال امرئ بعينه. . . ". أخرجه ابن ماجه والدارقطني من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا، وفي إسناديهما اليمان بن عدي، قال عنه الدراقطني: ضعيف الحديث (سنن ابن ماجه 2 / 791 ط عيسى الحلبي، وسنن الدراقطني 3 / 30 ط دار المحاسن) .
(2) المغني 4 / 453، 454، ومطالب أولي النهى 3 / 379، ونهاية المحتاج 4 / 325. وحديث " أيما رجل مات أو أفلس فصاحب المتاع أحق بمتاعه إذا وجده بعينه " أخرجه أبو داود وابن ماجه والحاكم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا، وفي إسناده أبو المعتمر، قال عنه أبو داود: لا يعرف، قال الحافظ ابن حجر هو حديث حسن يحتج بمثله، وصححه الحاكم وأقره الذهبي. (عون المعبود 3 / 309 ط الهند، ومختصر سنن أبي داود للمنذري 5 / 177 نشر دار المعرفة، وسنن ابن ماجه 2 / 790 ط عيسى الحلبي، وفتح الباري 4 / 64 ط السلفية، والمستدرك 2 / 50 - 51 نشر دار الكتاب العربي) .
(3) كشاف القناع 3 / 428، 429.(5/313)
الشَّرْطُ الثَّانِيَ عَشَرَ:
39 - قَال الشَّافِعِيَّةُ عَلَى الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ: لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فَوْرَ عِلْمِهِ بِالْحَجْرِ، فَإِنْ تَرَاخَى فِي الرُّجُوعِ، وَادَّعَى أَنَّهُ جَهِل أَنَّ الرُّجُوعَ عَلَى الْفَوْرِ، قُبِل مِنْهُ.
وَلَوْ صُولِحَ عَنِ الرُّجُوعِ عَلَى مَالٍ لَمْ يَصِحَّ الصُّلْحُ، وَبَطَل حَقُّهُ مِنَ الْفَسْخِ إِنْ عَلِمَ.
وَوَجْهُ اشْتِرَاطِهِ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ، بِجَامِعِ دَفْعِ الضَّرَرِ.
وَالْقَوْل الآْخَرُ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّ الرُّجُوعَ عَلَى التَّرَاخِي. قَالُوا: وَهُوَ كَرُجُوعِ الأَْبِ فِي هِبَتِهِ لاِبْنِهِ. (1)
الرُّجُوعُ بِعَيْنِ الثَّمَنِ:
40 - لَوْ كَانَ الْغَرِيمُ اشْتَرَى مِنَ الْمُفَلِّسِ شَيْئًا فِي الذِّمَّةِ، وَأَسْلَمَ الثَّمَنُ، وَلَمْ يَقْبِضِ السِّلْعَةَ، حَتَّى حُجِرَ عَلَى الْمُفَلِّسِ، فَهَل يَرْجِعُ الْغَرِيمُ بِمَا أَسْلَمَهُ مِنَ النُّقُودِ؟ قَال الْمَالِكِيَّةُ: نَعَمْ يَرْجِعُ إِنْ ثَبَتَ عَيْنُهَا بِبَيِّنَةٍ أَوْ طَبْعٍ، قِيَاسًا لِلثَّمَنِ عَلَى الْمُثَمَّنِ.
وَقَال أَشْهَبُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: لاَ يَرْجِعُ، لأَِنَّ الأَْحَادِيثَ إِنَّمَا فِيهَا مَنْ وَجَدَ سِلْعَتَهُ. . . (2)
__________
(1) نهاية المحتاج 4 / 325، 326، وكشاف القناع 3 / 429.
(2) حديث " من وجد سلعته. . . " أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: " إذا أفلس الرجل فوجد الرجل عنده سلعته بعينها فهو أحق به ". (صحيح مسلم 3 / 1194 ط عيسى الحلبي) .(5/314)
وَ: مَنْ وَجَدَ مَتَاعَهُ. . . (1) وَالنَّقْدَانِ لاَ يُطْلَقُ عَلَيْهِمَا ذَلِكَ عُرْفًا (2) .
ثُمَّ قَدْ قَال الْمَالِكِيَّةُ: وَلَوِ اشْتَرَى شِرَاءً فَاسِدًا فَفَسَخَهُ الْحَاكِمُ وَأَفْلَسَ الْبَائِعُ، فَالْمُشْتَرِي أَحَقُّ بِالثَّمَنِ إِنْ كَانَ مَوْجُودًا لَمْ يَفُتْ (3) .
وَلَمْ نَعْثُرْ عَلَى نَصٍّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِسَائِرِ الْمَذَاهِبِ.
اسْتِحْقَاقُ مُشْتَرِي الْعَيْنِ أَخْذَهَا إِنْ حُجِرَ عَلَى الْبَائِعِ لِلْفَلَسِ قَبْل تَقْبِيضِهَا:
41 - نَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ الرَّجُل لَوْ بَاعَ عَيْنًا، ثُمَّ أَفْلَسَ قَبْل تَقْبِيضِهَا، فَالْمُشْتَرِي أَحَقُّ بِهَا مِنَ الْغُرَمَاءِ، لأَِنَّهَا عَيْنُ مِلْكِهِ، وَذَلِكَ صَادِقٌ عِنْدَهُمْ سَوَاءٌ كَانَتِ السِّلْعَةُ مِمَّا لاَ يَحْتَاجُ لِحَقِّ تَوْفِيَةٍ، كَدَارٍ وَسَيَّارَةٍ، أَوْ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، كَالْمَكِيل وَالْمَوْزُونِ (4) .
وَلَمْ نَجِدْ تَعَرُّضًا لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْمَذَاهِبِ الأُْخْرَى.
هَل يَحْتَاجُ الرُّجُوعُ إِلَى حُكْمِ حَاكِمٍ:
42 - لاَ يَفْتَقِرُ الرُّجُوعُ فِي الْعَيْنِ إِلَى حُكْمِ حَاكِمٍ، عَلَى مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ، وَعَلَى الأَْصَحِّ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ. قَالُوا: لأَِنَّهُ ثَبَتَ بِالنَّصِّ (5) .
__________
(1) حديث " من وجد متاعه. . . . " أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة بلفظ: " إذا أفلس الرجل فوجد الرجل متاعه بعينه فهو أحق بها ". (صحيح مسلم 3 / 1194 ط عيسى الحلبي) .
(2) الزرقاني 5 / 282، والدسوقي 3 / 83.
(3) الشرح الكبير والدسوقي 3 / 290، وجواهر الإكليل 2 / 97.
(4) كشاف القناع 3 / 437.
(5) كشاف القناع 3 / 429، ونهاية المحتاج 4 / 326، وشرح المحلي على المنهاج 2 / 293.(5/314)
وَلَوْ حَكَمَ بِمَنْعِ الْفَسْخِ حَاكِمٌ فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لاَ يُنْقَضُ حُكْمُهُ قَالُوا: لأَِنَّ الْمَسْأَلَةَ اجْتِهَادِيَّةٌ، وَالْخِلاَفُ فِيهَا قَوِيٌّ، إِذِ النَّصُّ كَمَا يُحْتَمَل أَنَّهُ " أَحَقُّ بِعَيْنِ مَتَاعِهِ " يُحْتَمَل أَنَّهُ " أَحَقُّ بِثَمَنِهِ " وَإِنْ كَانَ الأَْوَّل أَظْهَرَ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: يَجُوزُ نَقْضُ حُكْمِهِ (1) ، نَقَل صَاحِبُ الْمُغْنِي عَنْ نَصِّ أَحْمَدَ: لَوْ حَكَمَ حَاكِمٌ بِأَنَّ صَاحِبَ الْمَتَاعِ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ، ثُمَّ رُفِعَ إِلَى رَجُلٍ يَرَى الْعَمَل بِالْحَدِيثِ، جَازَ لَهُ نَقْضُ حُكْمِهِ. أَيْ فَمَا كَانَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ لاَ يَحْتَاجُ إِلَى حُكْمِ حَاكِمٍ.
مَا يَحْصُل بِهِ الرُّجُوعُ:
43 - يَحْصُل الرُّجُوعُ بِالْقَوْل، بِأَنْ يَقُول: فَسَخْتُ الْبَيْعَ أَوْ رَفَعْتُهُ أَوْ نَقَضْتُهُ أَوْ أَبْطَلْتُهُ أَوْ رَدَدْتُ. نَصَّ عَلَى هَذَا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، قَال الْحَنَابِلَةُ: فَلَوْ قَال ذَلِكَ صَحَّ رُجُوعُهُ وَلَوْ لَمْ يَقْبِضِ الْعَيْنَ. فَلَوْ رَجَعَ كَذَلِكَ ثُمَّ تَلِفَتِ الْعَيْنُ تَلِفَتْ مِنْ مَال الْبَائِعِ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ أَنَّهَا تَلِفَتْ قَبْل رُجُوعِهِ، أَوْ كَانَتْ بِحَالَةٍ لاَ يَصِحُّ الرُّجُوعُ فِيهَا لِفَقْدِ شَرِيطَةٍ مِنْ شَرَائِطِ الرُّجُوعِ الْمُعْتَبَرَةِ، أَوْ لِمَانِعٍ يَمْنَعُ الرُّجُوعَ، كَمَا لَوْ كَانَ دَقِيقًا فَاِتَّخَذَهُ خُبْزًا، أَوْ حَدِيدًا فَاِتَّخَذَهُ سَيْفًا (2) .
أَمَّا الرُّجُوعُ بِالْفِعْل: فَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ - فِي الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ - وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ الرُّجُوعَ لاَ يَحْصُل بِالتَّصَرُّفِ النَّاقِل لِلْمِلْكِيَّةِ كَالْبَيْعِ، وَلَوْ نَوَى بِهِ الرُّجُوعَ. قَال صَاحِبُ مَطَالِبِ أُولِي النُّهَى: حَتَّى لَوْ أَخَذَ الْعَيْنَ بِنِيَّةِ الرُّجُوعِ لَمْ يَحْصُل الرُّجُوعُ.
__________
(1) نهاية المحتاج 4 / 326، وكشاف القناع 3 / 429.
(2) نهاية المحتاج 4 / 326، وكشاف القناع 3 / 429.(5/315)
وَالْقَوْل الآْخَرُ: أَنَّهُ يَحْصُل بِذَلِكَ، كَالْبَيْعِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ (1) .
وَلَمْ نَجِدْ لِلْمَالِكِيَّةِ نَصًّا فِي ذَلِكَ.
ظُهُورُ عَيْنٍ مُسْتَحَقَّةٍ فِي مَال الْمُفَلِّسِ:
44 - لَوْ ظَهَرَ شَيْءٌ مُسْتَحَقٌّ فِي مَال الْمُفَلِّسِ فَهُوَ لِصَاحِبِهِ.
وَلَوْ أَنَّ الْمُفَلِّسَ بَاعَهُ قَبْل الْحَجْرِ ثُمَّ اسْتَحَقَّ - وَالثَّمَنُ تَالِفٌ - فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ يُشَارِكُ الْغُرَمَاءَ كَوَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ تَلَفُ الثَّمَنِ قَبْل الْحِجْرِ أَوْ بَعْدَهُ، لأَِنَّ دَيْنَهُ مِنْ جُمْلَةِ الدُّيُونِ الثَّابِتَةِ فِي ذِمَّةِ الْمُفَلِّسِ قَبْل إِفْلاَسِهِ.
وَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ غَيْرَ تَالِفٍ، فَالْمُشْتَرِي أَوْلَى بِهِ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ، وَيُفْهَمُ مِنْ كَلاَمِ الْحَنَابِلَةِ، لأَِنَّهُ عَيْنُ مَالِهِ (2) .
الرُّجُوعُ فِي الأَْرْضِ بَعْدَ الْبِنَاءِ فِيهَا أَوْ غَرْسِهَا:
45 - عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: إِذَا أَفْلَسَ مُشْتَرِي الأَْرْضِ وَحُجِرَ عَلَيْهِ، وَكَانَ قَدْ غَرَسَ فِيهَا غِرَاسًا أَوْ بَنَى بِنَاءً، لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ مِنْ رُجُوعِ الْبَائِعِ فِيهَا.
وَالزَّرْعُ الَّذِي يُجَذُّ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى وَتَبْقَى أُصُولُهُ كَالْغِرَاسِ فِي هَذَا.
ثُمَّ إِنْ تَرَاضَى الطَّرَفَانِ - الْبَائِعُ مِنْ جِهَةٍ، وَالْغُرَمَاءُ مَعَ الْمُفَلِّسِ مِنَ الْجِهَةِ الأُْخْرَى - عَلَى الْقَلْعِ، أَوْ أَبَاهُ الْبَائِعُ وَطَلَبُوهُ هُمْ فَلَهُمْ ذَلِكَ، لأَِنَّهُ
__________
(1) مطالب أولي النهى 3 / 382، ونهاية المحتاج 4 / 326.
(2) نهاية المحتاج 4 / 317، والسراج الوهاج ص 225 ط مصطفى الحلبي، وكشاف القناع 3 / 436، وحاشية الدسوقي مع الشرح الكبير 3 / 275.(5/315)
مِلْكٌ لِلْمُفَلِّسِ لاَ حَقٌّ لِلْبَائِعِ فِيهِ، وَلاَ يُمْنَعُ الإِْنْسَانُ مِنْ أَخْذِ مِلْكِهِ. وَيَلْزَمُ حِينَئِذٍ تَسْوِيَةُ الأَْرْضِ مِنَ الْحُفَرِ، وَأَرْشُ نَقْصِ الأَْرْضِ بِسَبَبِ الْقَلْعِ يَجِبُ ذَلِكَ فِي مَال الْمُفَلِّسِ، لأَِنَّهُ نَقْصٌ حَصَل لِتَخْلِيصِ مِلْكِ الْمُفَلِّسِ، فَكَانَ عَلَيْهِ، وَيُقَدَّمُ بِهِ الآْخِذُ عَلَى حُقُوقِ الْغُرَمَاءِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، لأَِنَّهُ لِمَصْلَحَةِ تَحْصِيل الْمَال، وَيُحَاصُّهُمْ بِهِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
وَإِنْ أَبَى الْمُفَلِّسُ وَالْغُرَمَاءُ الْقَلْعَ، لَمْ يُجْبَرُوا عَلَيْهِ، لأَِنَّهُ وُضِعَ بِحَقٍّ. وَلِلآْخِذِ حِينَئِذٍ تَمَلُّكُ الْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ بِقِيمَتِهِ قَائِمًا، لأَِنَّهُ غَرَسَ أَوْ بَنَى وَهُوَ صَاحِبُ حَقٍّ، وَإِنْ شَاءَ فَلَهُ الْقَلْعُ وَإِعْطَاؤُهُ لِلْغُرَمَاءِ مَعَ أَرْشِ نَقْصِهِ، فَإِنْ أَبَى الآْخِذُ تَمَلَّكَ الْغَرْسَ وَالْبِنَاءَ، وَأَبَى أَدَاءَ أَرْشِ النَّقْصِ، فَلاَ رُجُوعَ لَهُ عَلَى الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمُقَدَّمُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، لأَِنَّ الرُّجُوعَ حِينَئِذٍ ضَرَرٌ عَلَى الْغُرَمَاءِ، وَلاَ يُزَال الضَّرَرُ بِالضَّرَرِ.
وَالْوَجْهُ الآْخَرُ عِنْدَ الطَّرَفَيْنِ: لَهُ الرُّجُوعُ، وَتَكُونُ الأَْرْضُ عَلَى مِلْكِهِ، وَالْغَرْسُ وَالْبِنَاءُ لِلْمُفَلِّسِ (1) .
وَلَمْ يَتَعَرَّضِ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا اطَّلَعْنَا عَلَيْهِ مِنْ كَلاَمِهِمْ.
إِفْلاَسُ الْمُسْتَأْجِرِ:
46 - عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: إِذَا آجَرَ عَيْنًا لَهُ بِأُجْرَةٍ حَالَّةٍ وَلَمْ يَقْبِضْهَا حَتَّى حُجِرَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ لِفَلَسٍ، فَالْمُؤَجِّرُ مُخَيَّرٌ، إِنْ شَاءَ رَجَعَ فِي الْعَيْنِ
__________
(1) شرح المنهاج 2 / 296، ونهاية المحتاج 4 / 335 وما بعدها، وشرح المنتهى 2 / 282، وكشاف القناع 3 / 431، المغني 4 / 426 - 428.(5/316)
بِالْفَسْخِ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ ذَلِكَ لِلْغُرَمَاءِ وَحَاصَّ بِجَمِيعِ الأُْجْرَةِ.
وَإِنِ اخْتَارَ الْفَسْخَ، وَكَانَ قَدْ مَضَى شَيْءٌ مِنَ الْمُدَّةِ، فَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: يُشَارِكُ الْمُؤَجِّرُ الْغُرَمَاءَ بِأُجْرَةِ مَا مَضَى، وَيَفْسَخُ فِي الْبَاقِي.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: فِي هَذِهِ الْحَال يَسْقُطُ حَقُّهُ فِي الْفَسْخِ بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِمْ: إِنَّ تَلَفَ بَعْضِ السِّلْعَةِ يَمْنَعُ الرُّجُوعَ (1) .
إِفْلاَسُ الْمُؤَجِّرِ:
47 - إِنْ آجَرَ دَارًا بِعَيْنِهَا ثُمَّ أَفْلَسَ الْمُؤَجِّرُ، فَالإِْجَارَةُ مَاضِيَةٌ وَلاَ تَنْفَسِخُ بِفَلَسِهِ لِلُزُومِهَا، وَسَوَاءٌ أَقَبَضَ الْعَيْنَ أَمْ لَمْ يَقْبِضْهَا. وَإِنْ طَلَبَ الْغُرَمَاءُ بَيْعَ الدَّارِ الْمُعَيَّنَةِ فِي الْحَال بِيعَتْ مُؤَجَّرَةً، وَإِنِ اتَّفَقُوا عَلَى تَأْخِيرِ بَيْعِهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ الإِْجَارَةُ جَازَ.
أَمَّا إِنِ اسْتَأْجَرَ دَارًا مَوْصُوفَةً فِي الذِّمَّةِ، ثُمَّ أَفْلَسَ الْمُؤَجِّرُ قَبْل الْقَبْضِ، فَالْمُسْتَأْجِرُ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ، لِعَدَمِ تَعَلُّقِ حَقِّهِ بِعَيْنٍ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: وَإِنْ أَفْلَسَ مُلْتَزِمُ عَمَلٍ فِي الذِّمَّةِ، وَقَدْ سَلَّمَ لِلْمُسْتَأْجِرِ عَيْنًا لِيَسْتَوْفِيَ مِنْهَا، قُدِّمَ بِهَا كَالْمُعَيَّنَةِ فِي الْعَقْدِ. ثُمَّ قَال الشَّافِعِيَّةُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَلَّمَ لَهُ عَيْنًا، وَكَانَتِ الأُْجْرَةُ بَاقِيَةً فِي يَدِ الْمُؤَجِّرِ، فَلِلْمُسْتَأْجِرِ الْفَسْخُ وَيَسْتَرِدُّ الأُْجْرَةَ. فَإِنْ كَانَتْ تَالِفَةً ضُرِبَ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِأُجْرَةِ الْمِثْل لِلْمَنْفَعَةِ،
__________
(1) شرح المنهاج وحاشية القليوبي 2 / 294، ونهاية المحتاج 4 / 327، وحاشية الدسوقي 3 / 266، 288، وكشاف القناع 3 / 426.
(2) كشاف القناع 3 / 436، 437، ومطالب أولي النهى 3 / 393، ونهاية المحتاج 4 / 328.(5/316)
وَلاَ تُسَلَّمُ إِلَيْهِ حِصَّتُهُ مِنْهَا بِالْمُحَاصَّةِ، لاِمْتِنَاعِ الاِعْتِيَاضِ عَنِ الْمُسْلَمِ فِيهِ، إِذْ إِجَارَةُ الذِّمَّةِ سَلَمٌ فِي الْمَنَافِعِ، فَيَحْصُل لَهُ بَعْضُ الْمَنْفَعَةِ الْمُلْتَزَمَةِ إِنْ تَبَعَّضَتْ بِلاَ ضَرَرٍ، كَحَمْل مِائَةِ رِطْلٍ مَثَلاً، وَإِلاَّ - كَخِيَاطَةِ ثَوْبٍ - فَسَخَ، وَيُحَاصُّ بِالأُْجْرَةِ الْمَبْذُولَةِ (1) .
وَلَمْ نَجِدْ لِلْحَنَفِيَّةِ كَلاَمًا فِي هَذِهِ الْمَسَائِل.
الأَْثَرُ الْخَامِسُ مِنْ آثَارِ الْحَجْرِ عَلَى الْمُفَلِّسِ: بَيْعُ الْحَاكِمِ مَالَهُ:
48 - يَبِيعُ الْحَاكِمُ مَال الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لِفَلَسٍ، عِنْدَ غَيْرِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَنْ وَافَقَهُ، لِيُؤَدِّيَ مَا عَلَيْهِ مِنَ الدُّيُونِ.
وَإِنَّمَا يَبِيعُهُ إِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الدَّيْنِ.
وَيُرَاعِي الْحَاكِمُ عِنْدَ الْبَيْعِ مَا فِيهِ الْمَصْلَحَةُ لِلْمُفَلِّسِ.
وَذَكَرَ ابْنُ قُدَامَةَ الأُْمُورَ التَّالِيَةَ، وَذَكَرَهَا غَيْرُهُ أَيْضًا:
أ - يَبِيعُ بِنَقْدِ الْبَلَدِ لأَِنَّهُ أَوْفَرُ، فَإِنْ كَانَ فِي الْبَلَدِ نُقُودٌ بَاعَ بِغَالِبِهَا، فَإِنْ تَسَاوَتْ بَاعَ بِجِنْسِ الدَّيْنِ.
ب - يُسْتَحَبُّ إِحْضَارُ الْمُفَلِّسِ الْبَيْعَ، قَال: لِيُحْصِيَ ثَمَنَهُ وَيَضْبِطَهُ لِيَكُونَ أَطْيَبَ لِقَلْبِهِ، وَلأَِنَّهُ أَعْرَفُ بِجَيِّدِ مَتَاعِهِ وَرَدِيئِهِ، فَإِذَا حَضَرَ تَكَلَّمَ عَلَيْهِ، فَتَكْثُرُ الرَّغْبَةُ فِيهِ.
ج - يُسْتَحَبُّ إِحْضَارُ الْغُرَمَاءِ أَيْضًا، لأَِنَّهُ يُبَاعُ لَهُمْ، وَرُبَّمَا رَغِبُوا فِي شِرَاءِ شَيْءٍ مِنْهُ، فَزَادُوا فِي ثَمَنِهِ، فَيَكُونُ أَصْلَحَ لَهُمْ وَلِلْمُفَلِّسِ، وَأَطْيَبَ لِنُفُوسِهِمْ وَأَبْعَدَ مِنَ التُّهْمَةِ، وَرُبَّمَا وَجَدَ أَحَدُهُمْ
__________
(1) نهاية المحتاج وحاشية الشبراملسي 4 / 338.(5/317)
عَيْنَ مَالِهِ فَيَأْخُذَهَا.
د - يُسْتَحَبُّ بَيْعُ كُل شَيْءٍ فِي سُوقِهِ، لأَِنَّهُ أَحْوَطُ وَأَكْثَرُ لِطُلاَّبِهِ وَعَارِفِي قِيمَتِهِ.
هـ - يُتْرَكُ لِلْمُفَلِّسِ مِنْ مَالِهِ شَيْءٌ، وَيَأْتِي تَفْصِيل الْكَلاَمِ فِيهِ.
و يُلاَحِظُ الْحَاكِمُ نَوْعًا مِنَ التَّرْتِيبِ تَتَحَقَّقُ بِهِ الْمَصْلَحَةُ، فِيمَا يُقَدِّمُ بَيْعَهُ وَمَا يُؤَخِّرُهُ، فَيُقَدِّمُ الأَْيْسَرَ فَالأَْيْسَرَ، حَسْبَمَا هُوَ أَنْظَرُ لِلْمُفَلِّسِ، إِذْ قَدْ يَكْتَفِي بِبَيْعِ الْبَعْضِ، فَيَبْدَأُ بِبَيْعِ الرَّهْنِ، وَيَدْفَعُ إِلَى الْمُرْتَهِنِ قَدْرَ دَيْنِهِ، وَيُرَدُّ مَا فَضَل مِنَ الثَّمَنِ عَلَى الْغُرَمَاءِ، وَإِنْ بَقِيَتْ مِنْ دَيْنِهِ بَقِيَّةٌ ضَرَبَ بِهَا مَعَ الْغُرَمَاءِ.
ثُمَّ يَبِيعُ مَا يَسْرُعُ إِلَيْهِ الْفَسَادُ مِنَ الطَّعَامِ الرَّطْبِ وَغَيْرِهِ، لأَِنَّ إِبْقَاءَهُ يُتْلِفُهُ. وَقَدَّمَهُ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى بَيْعِ الرَّهْنِ.
ثُمَّ يَبِيعُ الْحَيَوَانَ، لأَِنَّهُ مُعَرَّضٌ لِلتَّلَفِ، وَيَحْتَاجُ إِلَى مَئُونَةٍ فِي بَقَائِهِ.
ثُمَّ يَبِيعُ السِّلَعَ وَالأَْثَاثَ، لأَِنَّهُ يُخَافُ عَلَيْهِ الضَّيَاعُ وَتَنَالُهُ الأَْيْدِي. ثُمَّ يَبِيعُ الْعَقَارَ آخِرًا. قَال الْمَالِكِيَّةُ: يَسْتَأْنِي بِهِ الشَّهْرَ وَالشَّهْرَيْنِ.
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ هَذَا التَّرْتِيبَ مُسْتَحَبٌّ فِي غَيْرِ الْحَيَوَانِ، وَمَا يَسْرُعُ إِلَيْهِ الْفَسَادُ، وَمَا يُخَافُ عَلَيْهِ النَّهْبُ أَوِ اسْتِيلاَءُ نَحْوِ ظَالِمٍ عَلَيْهِ.
وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ الأُْمُورَ الآْتِيَةَ أَيْضًا:
ز - أَنَّهُ لاَ يَبِيعُ إِلاَّ بَعْدَ الإِْعْذَارِ فِي الْبَيِّنَةِ لِلْمُفَلِّسِ فِيمَا ثَبَتَ عِنْدَهُ مِنَ الدَّيْنِ، وَالإِْعْذَارُ لِكُلٍّ مِنَ الْقَائِمِينَ (الدَّائِنِينَ الْمُطَالِبِينَ) ، لأَِنَّ لِكُلٍّ الطَّعْنَ فِي بَيِّنَةِ صَاحِبِهِ، وَيَحْلِفُ كُلًّا مِنَ الدَّائِنِينَ أَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْ(5/317)
مِنْ دَيْنِهِ شَيْئًا، وَلاَ أَحَال بِهِ، وَلاَ أَسْقَطَهُ، وَأَنَّهُ بَاقٍ فِي ذِمَّتِهِ إِلَى الآْنَ.
ح - وَأَنَّهُ يَبِيعُ بِالْخِيَارِ ثَلاَثًا لِطَلَبِ الزِّيَادَةِ فِي كُل سِلْعَةٍ، إِلاَّ مَا يُفْسِدُهُ التَّأْخِيرُ.
ط - وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يَبِيعُ بِأَقَل مِنْ ثَمَنِ الْمِثْل، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ، كَمَا فِي مَطَالِبِ أُولِي النُّهَى، وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ قَال: يَبِيعُ بِمَا تَنْتَهِي إِلَيْهِ الرَّغَبَاتُ، قَالُوا جَمِيعًا: فَإِنْ ظَهَرَ رَاغِبٌ فِي السِّلْعَةِ بِأَكْثَرَ مِمَّا بِيعَتْ بِهِ - وَكَانَ ذَلِكَ فِي مُدَّةِ خِيَارٍ، وَمِنْهُ خِيَارُ الْمَجْلِسِ - وَجَبَ الْفَسْخُ، وَالْبَيْعُ لِلزَّائِدِ. وَبَعْدَ مُدَّةِ الْخِيَارِ لاَ يَلْزَمُ الْفَسْخُ، وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ لِلْمُشْتَرِي الإِْقَالَةُ.
ي - وَقَالُوا أَيْضًا: لاَ يَبِيعُ إِلاَّ بِنَقْدٍ، وَلاَ يَبِيعُ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ، وَلاَ يُسَلِّمُ الْمَبِيعَ حَتَّى يَقْبِضَ الثَّمَنَ (1) .
مَا يُتْرَكُ لِلْمُفَلِّسِ مِنْ مَالِهِ:
49 - يُتْرَكُ لِلْمُفَلِّسِ مِنْ مَالِهِ مَا يَأْتِي:
أ - الثِّيَابُ:
يُتْرَكُ لِلْمُفَلِّسِ بِالاِتِّفَاقِ دَسْتٌ (2) مِنْ ثِيَابِهِ، وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: أَوْ دَسْتَانِ. وَيُبَاعُ مَا عَدَاهُمَا مِنَ الثِّيَابِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يُبَاعُ مَا لاَ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي الْحَال، كَثِيَابِ الشِّتَاءِ فِي الصَّيْفِ. وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُبَاعُ ثَوْبَا
__________
(1) الزرقاني على خليل 5 / 270، والدسوقي 3 / 270، 271، ونهاية المحتاج 4 / 310 - 312، والمغني 4 / 443، 444، ومطالب أولي النهى 3 / 389، 390، وانظر فتح القدير 8 / 207، والفتاوى الهندية 5 / 62، والدر المختار وحاشيته 5 / 98 ط بولاق 1326 هـ.
(2) الدست - كما في المصباح - ما يلبسه الإنسان ويكفيه لتردده في حوائجه، وجمعه دسوت، كفلس وفلوس. وعبر عنه ابن عابدين بالبدلة.(5/318)
جُمُعَتِهِ إِنْ كَثُرَتْ قِيمَتُهُمَا، وَيَشْتَرِي لَهُ دُونَهُمَا، وَهُوَ بِمَعْنَى مَا صَرَّحَ بِهِ الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ مِنْ أَنَّ الثِّيَابَ إِنْ كَانَتْ رَفِيعَةً لاَ يَلْبَسُ مِثْلُهُ مِثْلَهَا تُبَاعُ، وَيُتْرَكُ لَهُ أَقَل مَا يَكْفِيهِ مِنَ الثِّيَابِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: يُتْرَكُ لِعِيَالِهِ كَمَا يُتْرَكُ لَهُ مِنَ الْمَلاَبِسِ (1) .
ب - الْكُتُبُ:
وَتُتْرَكُ لَهُ الْكُتُبُ الَّتِي يَحْتَاجُ إِلَيْهَا فِي الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ وَآلَتُهَا، إِنْ كَانَ عَالِمًا لاَ يَسْتَغْنِي عَنْهَا. عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَعَلَى قَوْلٍ فِي مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ. وَالْمُقَدَّمُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهَا تُبَاعُ أَيْضًا (2) .
ج - دَارُ السُّكْنَى:
قَال مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ - فِي الأَْصَحِّ عَنْهُ - وَشُرَيْحٌ: تُبَاعُ دَارُ الْمُفَلِّسِ وَيُكْتَرَى لَهُ بَدَلَهَا، وَاخْتَارَ هَذَا ابْنُ الْمُنْذِرِ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لِغُرَمَاءِ الَّذِي أُصِيبَ فِي ثِمَارٍ ابْتَاعَهَا: خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ، وَلَيْسَ لَكُمْ إِلاَّ ذَلِكَ (3) .
وَقَال أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ. لاَ تُبَاعُ دَارُهُ الَّتِي لاَ غِنًى لَهُ عَنْ سُكْنَاهَا. فَإِنْ كَانَتِ الدَّارُ نَفِيسَةً بِيعَتْ وَاشْتُرِيَ لَهُ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 95، والزرقاني على خليل 5 / 270، والدسوقي 3 / 277، ونهاية المحتاج 4 / 319، وشرح المحلي على المنهاج 2 / 291، والمغني لابن قدامة 4 / 441، 445.
(2) الزرقاني 5 / 270، ونهاية المحتاج وحاشية الشبراملسي 4 / 319.
(3) حديث: " خذوا ما وجدتم. . . " سبق تخريجه (ف 23) .(5/318)
بِبَعْضِ ثَمَنِهَا مَسْكَنٌ يَبِيتُ فِيهِ، وَيُصْرَفُ الْبَاقِي إِلَى الْغُرَمَاءِ (1) .
د - آلاَتُ الصَّانِعِ:
قَال الْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: تُتْرَكُ لِلْمُفَلِّسِ آلَةُ صَنْعَتِهِ، ثُمَّ قَال الْمَالِكِيَّةُ مِنْ هَؤُلاَءِ: إِنَّمَا تُتْرَكُ إِنْ كَانَتْ قَلِيلَةَ الْقِيمَةِ، كَمِطْرَقَةِ الْحَدَّادِ: وَقَال بَعْضُهُمْ: تُبَاعُ أَيْضًا. وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهَا تُبَاعُ (2) .
هـ - رَأْسُ مَال التِّجَارَةِ:
قَال الْحَنَابِلَةُ وَابْنُ سُرَيْجٍ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: يُتْرَكُ لِلْمُفَلِّسِ رَأْسُ مَالٍ يَتَّجِرُ فِيهِ، إِذَا لَمْ يُحْسِنِ الْكَسْبَ إِلاَّ بِهِ. قَال الرَّمْلِيُّ: وَأَظُنُّهُ يُرِيدُ الشَّيْءَ الْيَسِيرَ، أَمَّا الْكَثِيرُ فَلاَ.
وَلَمْ نَرَ نَصًّا فِي ذَلِكَ لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ (3) .
و الْقُوتُ الضَّرُورِيُّ:
عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: يُتْرَكُ لِلْمُفَلِّسِ أَيْضًا مِنْ مَالِهِ قَدْرُ مَا يَكْفِيهِ وَعِيَالَهُ مِنَ الْقُوتِ الضَّرُورِيِّ الَّذِي تَقُومُ بِهِ الْبُنْيَةُ، لاَ مَا يُتَرَفَّهُ. قَال الْمَالِكِيَّةُ: وَتُتْرَكُ لَهُ وَلِزَوْجَاتِهِ وَأَوْلاَدِهِ وَوَالِدَيْهِ النَّفَقَةُ الْوَاجِبَةُ عَلَيْهِ، بِالْقَدْرِ الَّذِي تَقُومُ بِهِ الْبُنْيَةُ. وَهَذَا إِنْ كَانَ مِمَّنْ لاَ يُمْكِنُهُ الْكَسْبُ، أَمَّا إِنْ كَانَ ذَا صَنْعَةٍ
__________
(1) الفتاوى الهندية 5 / 62، ونهاية المحتاج 4 / 318، 319، والمغني 4 / 444، 445.
(2) الزرقاني 5 / 270، ونهاية المحتاج 4 / 319، ومطالب أولي النهى 3 / 391.
(3) نهاية المحتاج 4 / 317.(5/319)
يَكْتَسِبُ مِنْهَا، أَوْ يُمْكِنُهُ أَنْ يُؤَجِّرَ نَفْسَهُ فَلاَ يُتْرَكُ لَهُ شَيْءٌ.
ثُمَّ قَدْ قَال الْمَالِكِيَّةُ: يُتْرَكُ ذَلِكَ لَهُ وَلِمَنْ ذُكِرَ قَدْرُ مَا يَكْفِيهِمْ إِلَى وَقْتٍ يُظَنُّ بِحَسَبِ الاِجْتِهَادِ أَنَّهُ يَحْصُل لَهُ فِيهِ مَا تَتَأَتَّى مَعَهُ الْمَعِيشَةُ.
أَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَلاَ يُتْرَكُ لَهُ مِنَ الْقُوتِ شَيْءٌ مَا عَدَا قُوتَ يَوْمِ الْقِسْمَةِ، وَلاَ نَفَقَةَ عَلَيْهِ أَيْضًا لِقَرِيبٍ، لأَِنَّهُ مُعْسِرٌ بِخِلاَفِ حَالِهِ قَبْل الْقِسْمَةِ.
وَتَسْقُطُ نَفَقَةُ الْقَرِيبِ لِمَا بَعْدَ الْقِسْمَةِ أَيْضًا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (1) .
الإِْنْفَاقُ عَلَى الْمُفَلِّسِ وَعَلَى عِيَالِهِ مُدَّةَ الْحَجْرِ وَقَبْل قِسْمَةِ مَالِهِ عَلَى الْغُرَمَاءِ:
50 - عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى قَوْل الصَّاحِبَيْنِ، وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ مُقْتَضَى مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ: يَجِبُ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يُنْفِقَ مِنْ مَال الْمُفَلِّسِ عَلَيْهِ - أَيْ عَلَى الْمُفَلِّسِ - بِالْمَعْرُوفِ، وَهُوَ أَدْنَى مَا يُنْفِقُ عَلَى مِثْلِهِ، إِلَى أَنْ يُقْسَمَ مَالُهُ. وَذَلِكَ لأَِنَّ مِلْكَهُ لَمْ يَزُل عَنْ مَالِهِ قَبْل الْقِسْمَةِ. وَكَذَلِكَ يُنْفِقُ عَلَى مَنْ تَلْزَمُ الْمُفَلِّسَ نَفَقَتُهُ، مِنْ زَوْجَةٍ وَقَرِيبٍ وَلَوْ حَدَثَ بَعْدَ الْحَجْرِ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْدَأْ بِنَفْسِكَ ثُمَّ بِمَنْ تَعُول (2) وَهَذَا مَا لَمْ يَسْتَغْنِ الْمُفَلِّسُ بِكَسْبٍ
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 3 / 277، ونهاية المحتاج 4 / 317، وشرح المنهاج مع حاشية القليوبي 2 / 290، 291، والمغني 4 / 446، ومطالب أولي النهى 3 / 391.
(2) حديث " ابدأ بنفسك ثم بمن تعول ". أخرجه مسلم من حديث جابر رضي الله عنه مرفوعا بلفظ " ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا " يقول: فبين يديك، وعن يمينك وعن شمالك. (صحيح مسل(5/319)
حَلاَلٍ لاَئِقٍ بِهِ (1) .
وَفِي الْخَانِيَّةِ مِنْ كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ: وَلاَ يُضَيَّقُ عَلَيْهِ فِي مَأْكُولِهِ وَمَشْرُوبِهِ وَمَلْبُوسِهِ، وَيُقَدَّرُ لَهُ الْمَعْرُوفُ وَالْكَفَافُ (2) .
أَمَّا بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ مَا يُتْرَكُ لَهُ مِنَ النَّفَقَةِ.
الْمُبَادَرَةُ بِقَسْمِ مَال الْمُفَلِّسِ بَيْنَ غُرَمَائِهِ:
51 - نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَنْبَغِي الاِسْتِينَاءُ (التَّمَهُّل وَالتَّأْخِيرُ) بِقَسْمِ مَال الْمُفَلِّسِ، وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يُنْدَبُ الْمُبَادَرَةُ بِالْقَسْمِ لِبَرَاءَةِ ذِمَّةِ الْمَدِينِ، وَلِئَلاَّ يَطُول زَمَنُ الْحَجْرِ عَلَيْهِ، وَلِئَلاَّ يَتَأَخَّرَ إِيصَال الْحَقِّ لِمُسْتَحِقِّهِ، وَتَأْخِيرُ قَسْمِهِ مَطْلٌ وَظُلْمٌ لِلْغُرَمَاءِ. قَال الشَّافِعِيَّةُ: وَلاَ يُفَرَّطُ فِي الاِسْتِعْجَال، كَيْ لاَ يُطْمَعَ فِيهِ بِثَمَنٍ بَخْسٍ. وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ كَانَ يُخْشَى أَنْ يَكُونَ عَلَى الْمُفَلِّسِ دَيْنٌ لِغَيْرِ الْغُرَمَاءِ الْحَاضِرِينَ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَسْتَأْنِي بِالْقَسْمِ بِاجْتِهَادٍ (3) .
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُ الْحَاكِمَ أَنْ يَنْتَظِرَ لِيَتِمَّ بَيْعُ الأَْمْوَال كُلِّهَا، بَل يُنْدَبُ لِلْحَاكِمِ عِنْدَهُمْ أَنْ يَقْسِمَ بِالتَّدْرِيجِ كُل مَا يَقْبِضُهُ. فَإِنْ طَلَبَ الْغُرَمَاءُ ذَلِكَ وَجَبَ. فَإِنْ تَعَسَّرَ ذَلِكَ لِقِلَّةِ الْحَاصِل يُؤَخِّرُ الْقِسْمَةَ حَتَّى يَجْتَمِعَ مَا تَسْهُل قِسْمَتُهُ، فَيَقْسِمَهُ، وَلَوْ طَلَبَهُ الْغُرَمَاءُ لَمْ يَلْزَمْهُ (4) .
__________
(1) نهاية المحتاج 4 / 317، وشرح المنهاج بحاشية القليوبي 2 / 290، وكشاف القناع 3 / 434، والفتاوى الهندية 5 / 63، والشرح الكبير، وحاشية الدسوقي عليه 3 / 277.
(2) شرح المجلة للأتاسي 3 / 556 م 1000.
(3) نهاية المحتاج 4 / 311، وحاشية الدسوقي 3 / 315، ومطالب أولي النهى 3 / 389.
(4) نهاية المحتاج 4 / 315.(5/320)
هَل يَلْزَمُ قَبْل الْقِسْمَةِ حَصْرُ الدَّائِنِينَ؟
52 - نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يُكَلِّفُ الْقَاضِي غُرَمَاءَ الْمُفَلِّسِ إِثْبَاتَ أَنَّهُ لاَ غَرِيمَ غَيْرُهُمْ، وَذَلِكَ لاِشْتِهَارِ الْحَجْرِ، فَلَوْ كَانَ ثَمَّةَ غَرِيمٌ لَظَهَرَ. وَهَذَا بِخِلاَفِ قِسْمَةِ التَّرِكَةِ عِنْدَ جَمِيعِهِمْ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ لاَ يَقْسِمُ حَتَّى يُكَلِّفَهُمْ بَيِّنَةً تَشْهَدُ بِحَصْرِهِمْ (1) .
ظُهُورُ غَرِيمٍ بَعْدَ الْقِسْمَةِ:
53 - لَوْ قَسَمَ الْحَاكِمُ مَال الْمُفَلِّسِ بَيْنَ غُرَمَائِهِ، فَظَهَرَ غَرِيمٌ بَعْدَ ذَلِكَ بِدَيْنٍ سَابِقٍ عَلَى الْحَجْرِ، شَارَكَ كُل وَاحِدٍ مَعَهُمْ بِالْحِصَّةِ، وَلَمْ تُنْقَضِ الْقِسْمَةُ. فَإِنْ أَتْلَفَ أَحَدُهُمْ مَا أَخَذَهُ رَجَعَ عَلَيْهِ كَذَلِكَ، عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ. ثُمَّ قَال الشَّافِعِيَّةُ: فَإِنْ كَانَ الآْخِذُ مُعْسِرًا جَعَل مَا أَخَذَهُ كَالْمَعْدُومِ، وَشَارَكَ مَنْ ظَهَرَ الآْخَرِينَ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنِ اقْتَسَمُوا، وَلَمْ يَعْلَمُوا بِالْغَرِيمِ الآْخَرِ، يَرْجِعُ عَلَى كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِمَا يَنُوبُهُ، وَلاَ يَأْخُذُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ. وَإِنْ كَانُوا عَالِمِينَ يَرْجِعُ عَلَيْهِمْ بِحِصَّتِهِ، وَلَكِنْ يَأْخُذُ الْمَلِيءُ عَنِ الْمُعْدَمِ، وَالْحَاضِرُ عَنِ الْغَائِبِ، وَالْحَيُّ عَنِ الْمَيِّتِ، أَيْ فِي حُدُودِ مَا قَبَضَهُ كُلٌّ مِنْهُمْ. وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: تُنْقَضُ الْقِسْمَةُ بِكُل حَالٍ، كَمَا لَوْ ظَهَرَ وَارِثٌ بَعْدَ قِسْمَةِ التَّرِكَةِ (2) .
__________
(1) حاشية الدسوقي 3 / 271، 272، ونهاية المحتاج 4 / 316، وكشاف القناع 3 / 437.
(2) الفتاوى الهندية 5 / 64، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي 3 / 274، 276، والزرقاني 5 / 275، ونهاية المحتاج 4 / 316، 317، وكشاف القناع 3 / 438.(5/320)
كَيْفِيَّةُ قِسْمَةِ مَال الْمُفَلِّسِ بَيْنَ غُرَمَائِهِ:
54 - أ - يُبْدَأُ مِنْ مَال الْمُفَلِّسِ بِإِعْطَاءِ أُجْرَةِ مَنْ يَصْنَعُ مَا فِيهِ مَصْلَحَةٌ لِلْمَال، مِنْ مُنَادٍ وَسِمْسَارٍ وَحَافِظٍ وَحَمَّالٍ وَكَيَّالٍ وَوَزَّانٍ وَنَحْوِهِمْ، تُقَدَّمُ عَلَى دُيُونِ الْغُرَمَاءِ. ذَكَرَ ذَلِكَ صَاحِبُ الإِْقْنَاعِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ. وَذَكَرَ الدَّرْدِيرُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ تَقْدِيمَ سَاقِيَ الزَّرْعِ الَّذِي أَفْلَسَ رَبُّهُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ، وَقَال: إِذْ لَوْلاَهُ لَمَا انْتُفِعَ بِالزَّرْعِ (1) .
ب - ثُمَّ بِمَنْ لَهُ رَهْنٌ لاَزِمٌ أَيْ مَقْبُوضٌ، فَيَخْتَصُّ بِثَمَنِهِ إِنْ كَانَ قَدْرَ دَيْنِهِ، لأَِنَّ حَقَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِعَيْنِ الرَّهْنِ وَذِمَّةِ الرَّاهِنِ. وَمَا زَادَ مِنْ ثَمَنِ الرَّهْنِ رُدَّ عَلَى الْمَال، وَمَا نَقَصَ ضَرَبَ بِهِ الْغَرِيمُ مَعَ الْغُرَمَاءِ (2) .
وَأَضَافَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ الصَّانِعَ أَحَقُّ مِنَ الْغُرَمَاءِ بِمَا فِي يَدِهِ إِذَا أَفْلَسَ رَبُّ الشَّيْءِ الْمَصْنُوعِ بَعْدَ تَمَامِ الْعَمَل حَتَّى يَسْتَوْفِيَ أُجْرَتَهُ مِنْهُ، لأَِنَّهُ وَهُوَ تَحْتَ يَدِهِ كَالرَّهْنِ، حَائِزُهُ أَحَقُّ بِهِ فِي الْفَلَسِ، وَإِلاَّ فَلَيْسَ أَحَقَّ بِهِ إِذَا سَلَّمَهُ لِرَبِّهِ قَبْل أَنْ يُفَلِّسَ، أَوْ أَفْلَسَ رَبُّهُ قَبْل تَمَامِ الْعَمَل (3) .
قَالُوا: وَمَنِ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً وَنَحْوَهَا كَسَفِينَةٍ، وَأَفْلَسَ، فَرَبُّهَا أَحَقُّ بِالْمَحْمُول عَلَيْهَا مِنْ أَمْتِعَةِ الْمُكْتَرِي، يَأْخُذُهُ فِي أُجْرَةِ دَابَّتِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّهَا مَعَهَا، مَا لَمْ يَقْبِضِ الْمَحْمُول رَبُّهُ - وَهُوَ الْمُكْتَرِي - قَبْضَ تَسَلُّمٍ. وَهَذَا بِخِلاَفِ مُكْتَرِي الْحَانُوتِ وَنَحْوِهِ فَلاَ يَخْتَصُّ بِمَا فِيهِ. وَالْفَرْقُ أَنَّ بِحِيَازَةِ الظَّهْرِ لِمَا
__________
(1) كشاف القناع 3 / 436، ومطالب أولي النهى 3 / 391، والشرح الكبير على خليل 3 / 288، ونهاية المحتاج 4 / 317.
(2) كشاف القناع 3 / 436.
(3) حاشية الدسوقي 3 / 288.(5/321)
فِيهَا مِنَ الْحَمْل وَالنَّقْل أَقْوَى مِنْ حِيَازَةِ الْحَانُوتِ وَالدَّارِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ أَيْضًا: وَكَذَلِكَ الْمُكْتَرِي لِدَابَّةٍ وَنَحْوِهَا أَحَقُّ بِهَا حَتَّى يَسْتَوْفِيَ مِنْ مَنَافِعِهَا مَا نَقَدَهُ مِنَ الْكِرَاءِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ مُعَيَّنَةً أَوْ غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ، إِلاَّ أَنَّهَا إِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ لَمْ يَكُنْ أَحَقَّ بِهَا مَا لَمْ يَقْبِضْهَا قَبْل فَلَسِ الْمُؤَجِّرِ (2) .
ج - ثُمَّ مَنْ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ أَخَذَهَا بِشُرُوطِهَا الْمُتَقَدِّمَةِ. وَكَذَا مَنْ لَهُ عَيْنٌ مُؤَجَّرَةٌ اسْتَأْجَرَهَا مِنْهُ الْمُفَلِّسُ، فَلَهُ أَخْذُهَا وَفَسْخُ الإِْجَارَةِ عَلَى الْخِلاَفِ وَالتَّفْصِيل الْمُتَقَدِّمِ (3) .
د - ثُمَّ تُقْسَمُ أَمْوَال الْمُفَلِّسِ الْمُتَحَصِّلَةُ بَيْنَ غُرَمَائِهِ.
وَهَذَا إِنْ كَانَتِ الدُّيُونُ كُلُّهَا مِنَ النَّقْدِ. وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَتْ كُلُّهَا عُرُوضًا مُوَافِقَةً لِمَال الْمُفَلِّسِ فِي الْجِنْسِ وَالصِّفَةِ، فَلاَ حَاجَةَ لِلتَّقْوِيمِ، بَل يَتَحَاصُّونَ بِنِسْبَةِ عَرْضِ كُلٍّ مِنْهُمْ إِلَى مَجْمُوعِ الدُّيُونِ (4) .
فَإِنْ كَانَتِ الدُّيُونُ كُلُّهَا أَوْ بَعْضُهَا عُرُوضًا وَكَانَ مَال الْمُفَلِّسِ نَقْدًا، قُوِّمَتِ الْعُرُوضُ بِقِيمَتِهَا يَوْمَ الْقِسْمَةِ، وَحَاصَّ كُل غَرِيمٍ بِقِيمَةِ عُرُوضِهِ، يُشْتَرَى لَهُ بِهَا مِنْ جِنْسِ عُرُوضِهِ وَصِفَتِهَا. وَيَجُوزُ مَعَ التَّرَاضِي أَخْذٌ الثَّمَنِ إِنْ خَلاَ مِنْ مَانِعٍ، كَمَا لَوْ كَانَ دَيْنُهُ ذَهَبًا، وَنَابَهُ فِي الْقَسْمِ فِضَّةٌ، فَلاَ يَجُوزُ لَهُ أَخْذُ مَا نَابَهُ، لأَِنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى الصَّرْفِ الْمُؤَخَّرِ. وَهَذَا التَّفْصِيل مَنْصُوصُ الْمَالِكِيَّةِ.
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 3 / 289.
(2) المرجع السابق.
(3) كشاف القناع 3 / 436.
(4) حاشية الدسوقي مع الشرح الكبير 3 / 271، وكشاف القناع 3 / 435.(5/321)
وَلَوْ أَنَّ الْمُفَلِّسَ أَوِ الْحَاكِمَ قَضَى دُيُونَ بَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ، أَوْ قَضَى بَعْضًا مِنْهُمْ أَكْثَرَ مِمَّا تَقْتَضِيهِ التَّسْوِيَةُ الْمَذْكُورَةُ شَارَكُوهُ فِيمَا أَخَذَ بِالنِّسْبَةِ (1) .
مَا يُطَالَبُ بِهِ الْمُفَلِّسُ بَعْدَ قِسْمَةِ مَالِهِ:
55 - لاَ تَسْقُطُ دُيُونُ الْفَلَسِ الَّتِي لَمْ يَفِ مَالُهُ بِهَا، بَل تَبْقَى فِي ذِمَّتِهِ.
ثُمَّ إِنْ كَانَ هُنَاكَ أَرْضٌ أَوْ عَقَارٌ مُوصًى لَهُ بِنَفْعِهِ أَوْ مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ، يَلْزَمُ بِإِجَارَتِهِ، وَيُصْرَفُ بَدَل الْمَنْفَعَةِ إِلَى الدُّيُونِ، وَيُؤَجِّرُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى إِلَى أَنْ تَتِمَّ الْبَرَاءَةُ، صَرَّحَ بِذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.
أَمَّا تَكْلِيفُ الْمُفَلِّسِ حِينَئِذٍ بِالتَّكَسُّبِ، بِإِيجَارِ نَفْسِهِ لِسَدَادِ الدُّيُونِ الْبَاقِيَةِ، فَقَدْ قَسَّمَ الشَّافِعِيَّةُ الدُّيُونَ إِلَى قِسْمَيْنِ:
الأَْوَّل: مَا كَانَ الْمُفَلِّسُ عَاصِيًا بِسَبَبِهِ، كَغَاصِبٍ، وَجَانٍ مُتَعَمِّدٍ، فَهَذَا يَلْزَمُ بِالتَّكَسُّبِ، وَلَوْ بِإِجَارَةِ نَفْسِهِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مُزْرِيًا بِهِ، بَل مَتَى أَطَاقَهُ لَزِمَهُ، قَالُوا: إِذْ لاَ نَظَرَ لِلْمُرُوآتِ فِي جَنْبِ الْخُرُوجِ مِنَ الْمَعْصِيَةِ، وَلأَِنَّ التَّوْبَةَ مِنَ الْمَعْصِيَةِ وَاجِبَةٌ، وَهِيَ مُتَوَقِّفَةٌ فِي حُقُوقِ الآْدَمِيِّينَ عَلَى الْوَفَاءِ.
الثَّانِي: مَا لَمْ يَعْصِ بِهِ مِنَ الدُّيُونِ، فَهَذَا لاَ يَلْزَمُهُ التَّكَسُّبُ وَلاَ إِيجَارُ نَفْسِهِ (2) .
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ أَطْلَقُوا الْقَوْل بِأَنَّ الْمُفَلِّسَ لاَ يَلْزَمُ بِالتَّكَسُّبِ وَلَوْ كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ قَدْ
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 272، والزرقاني على خليل 5 / 273، ونهاية المحتاج 4 / 314، ومطالب أولي النهى 3 / 393.
(2) نهاية المحتاج 4 / 319، 320.(5/322)
شَرَطَ عَلَى نَفْسِهِ ذَلِكَ فِي عَقْدِ الدَّيْنِ. قَالُوا: لأَِنَّ الدَّيْنَ إِنَّمَا تَعَلَّقَ بِذِمَّتِهِ (1) .
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ أَطْلَقُوا الْقَوْل بِإِجْبَارِ الْمُفَلِّسِ الْمُحْتَرِفِ عَلَى الْكَسْبِ، وَإِيجَارِ نَفْسِهِ فِيمَا يَلِيقُ بِهِ مِنَ الصَّنَائِعِ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ الْمَنَافِعَ تَجْرِي مَجْرَى الأَْعْيَانِ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ عَلَيْهَا، فَأُجْبِرَ عَلَى الْعَقْدِ عَلَيْهَا، كَمَا يُبَاعُ مَالُهُ رَغْمًا عَنْهُ (2) .
ثُمَّ قَال الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: لاَ يُجْبَرُ الْمُفَلِّسُ عَلَى قَبُول التَّبَرُّعَاتِ، مِنْ هِبَةٍ أَوْ وَصِيَّةٍ أَوْ عَطِيَّةٍ أَوْ صَدَقَةٍ، لِئَلاَّ يَلْزَمَ بِتَحَمُّل مِنَّةٍ لاَ يَرْضَاهَا، وَلاَ عَلَى اقْتِرَاضٍ. وَكَذَا لاَ يُجْبَرُ عَلَى خُلْعِ زَوْجَتِهِ وَإِنْ بَذَلَتْ، لأَِنَّ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ ضَرَرًا، وَلاَ عَلَى أَخْذِ دِيَةٍ عَنْ قَوَدٍ وَجَبَ لَهُ بِجِنَايَةٍ عَلَيْهِ أَوْ عَلَى مُوَرِّثِهِ، لأَِنَّ ذَلِكَ يُفَوِّتُ الْمَعْنَى الَّذِي لأَِجْلِهِ شُرِعَ الْقِصَاصُ.
ثُمَّ إِنْ عَفَا بِاخْتِيَارِهِ عَلَى مَالٍ ثَبَتَ وَتَعَلَّقَتْ بِهِ حُقُوقُ الْغُرَمَاءِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُجْبَرُ عَلَى التَّكَسُّبِ، وَلاَ يُؤَاجِرُهُ الْقَاضِي، لِسَدَادِ دُيُونِهِ مِنَ الأُْجْرَةِ (3) .
مَا يَنْفَكُّ بِهِ الْحَجْرُ عَنِ الْمُفَلِّسِ:
56 - عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - وَمِثْلُهُمُ الْحَنَابِلَةُ فِيمَا لَوْ بَقِيَ عَلَى الْمُفَلِّسِ شَيْءٌ مِنَ الدُّيُونِ - لاَ يَنْفَكُّ الْحَجْرُ عَنْهُ بِقِسْمَةِ مَالِهِ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ، قَال الشَّافِعِيَّةُ: وَلاَ يَنْفَكُّ الْحَجْرُ أَيْضًا بِاتِّفَاقِ الْغُرَمَاءِ عَلَى فَكِّهِ، وَلاَ بِإِبْرَائِهِمْ
__________
(1) حاشية الدسوقي 3 / 270.
(2) كشاف القناع 3 / 439.
(3) كشاف القناع 3 / 440، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي 3 / 270، والفتاوى الهندية 5 / 63، والفتاوى البزازية 5 / 224، والزيلعي 5 / 199.(5/322)
لِلْمُفَلِّسِ، بَل إِنَّمَا يَنْفَكُّ بِفَكِّ الْقَاضِي، لأَِنَّهُ لاَ يَثْبُتُ إِلاَّ بِإِثْبَاتِ الْقَاضِي، فَلاَ يَنْفَكُّ إِلاَّ بِفَكِّهِ، وَلأَِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى نَظَرٍ وَاجْتِهَادٍ، وَلاِحْتِمَال ظُهُورِ غَرِيمٍ آخَرَ. وَلاَ يَنْتَظِرُ الْبَرَاءَةَ مِنْ كُل الدُّيُونِ، بَل مَتَى ثَبَتَ إِعْسَارُهُ بِالْبَاقِي يُفَكُّ الْحَجْرُ عَلَيْهِ كَمَا لاَ يُحْجَرُ عَلَى الْمُعْسِرِ أَصَالَةً. وَقَال الْقَلْيُوبِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: الْمُعْتَمَدُ يَبْقَى مَحْجُورًا إِلَى تَمَامِ الأَْدَاءِ.
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ الْحَجْرَ يَنْفَكُّ عَنِ الْمُفَلِّسِ إِنْ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ لِلْغُرَمَاءِ شَيْءٌ، دُونَ حَاجَةٍ إِلَى فَكِّهِ مِنْ قِبَل الْحَاكِمِ. قَالُوا: لأَِنَّ الْمَعْنَى الَّذِي حُجِرَ عَلَيْهِ لأَِجْلِهِ قَدْ زَال.
أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ وَجْهٌ آخَرُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْمُغْنِي: فَإِنَّ حَجْرَ الْمُفَلِّسِ يَنْفَكُّ بِمُجَرِّدِ قِسْمَةِ الْمَوْجُودِ مِنْ مَالِهِ. قَال الْمَالِكِيَّةُ: وَيَحْلِفُ أَنَّهُ لَمْ يَكْتُمْ شَيْئًا، فَيَنْفَكُّ حِينَئِذٍ وَلَوْ بِلاَ حُكْمِ حَاكِمٍ.
ثُمَّ قَدْ قَال الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: وَإِذَا انْفَكَّ الْحَجْرُ عَنِ الْمُفَلِّسِ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ عِنْدَهُ مَالاً غَيْرُ مَا قُسِمَ، أَوِ اكْتَسَبَ بَعْدَ فَكِّ الْحَجْرِ مَالاً، يُعَادُ الْحَجْرُ عَلَيْهِ بِطَلَبِ الْغُرَمَاءِ، وَتَصَرُّفُهُ حِينَئِذٍ قَبْل الْحَجْرِ صَحِيحٌ. وَلاَ يُعَادُ الْحَجْرُ عَلَيْهِ بَعْدَ انْفِكَاكِهِ مَا لَمْ يَثْبُتْ أَوْ يَتَجَدَّدُ لَهُ مَالٌ (1) .
وَلَمْ نَجِدْ تَصْرِيحًا بِحُكْمِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَدَى الْحَنَفِيَّةِ، غَيْرَ أَنَّهُمْ قَالُوا فِي الْحَجْرِ عَلَى السَّفِيهِ (وَهُوَ
__________
(1) حاشية الدسوقي 3 / 268، 269، وكشاف القناع 3 / 441، والمغني 4 / 449، وشرح المنهاج مع حاشية القليوبي 2 / 291، وتحفة المحتاج لابن حجر 4 / 129، ونهاية المحتاج 4 / 320.(5/323)
الْمُبَذِّرُ لِمَالِهِ) : لاَ يَرْتَفِعُ الْحَجْرُ عَنْهُ إِلاَّ بِحُكْمِ الْقَاضِي عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ (1) .
مَا يَلْزَمُ الْمُفَلِّسَ مِنَ الدُّيُونِ بَعْدَ فَكِّ الْحَجْرِ:
57 - إِذَا انْفَكَّ الْحَجْرُ عَنِ الْمُفَلِّسِ بِقَسْمِ مَالِهِ أَوْ بِفَكِّ الْقَاضِي الْحَجْرَ عَنْهُ عَلَى التَّفْصِيل الْمُتَقَدِّمِ، وَبَقِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ الدَّيْنِ، فَلَزِمَتْهُ دُيُونٌ أُخْرَى بَعْدَ فَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُ، وَتَجَدَّدَ لَهُ مَالٌ، فَحُجِرَ عَلَيْهِ مَرَّةً أُخْرَى بِطَلَبِ الْغُرَمَاءِ، قَال الْحَنَابِلَةُ: يُشَارِكُ أَصْحَابُ الْحَجْرِ الأَْوَّل بِبَقِيَّةِ دُيُونِهِمْ أَصْحَابَ الْحَجْرِ الثَّانِي بِجَمِيعِ دُيُونِهِمْ، لأَِنَّهُمْ تَسَاوَوْا فِي ثُبُوتِ حُقُوقِهِمْ فِي ذِمَّتِهِ، فَتَسَاوَوْا فِي الاِسْتِحْقَاقِ (2) .
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ فَصَلُوا، فَقَالُوا: يُشَارِكُ الأَْوَّلُونَ الآْخَرِينَ فِيمَا تَجَدَّدَ بِسَبَبٍ مُسْتَقِلٍّ، كَإِرْثٍ وَصِلَةٍ وَأَرْشِ جِنَايَةٍ وَوَصِيَّةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلاَ يُشَارِكُونَهُمْ فِي أَثْمَانِ مَا أَخَذَهُ مِنَ الآْخَرِينَ، وَفِيمَا تَجَدَّدَ عَنْ ذَلِكَ إِلاَّ أَنْ يَفْضُل عَنْ دُيُونِهِمْ فَضْلَةٌ.
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لَوْ فُكَّ الْحَجْرُ عَنِ الْمُفَلِّسِ، وَحَدَثَ لَهُ مَالٌ بَعْدَهُ فَلاَ تَعَلُّقَ لأَِحَدٍ بِهِ، فَيَتَصَرَّفُ فِيهِ كَيْفَ شَاءَ، فَلَوْ ظَهَرَ لَهُ مَالٌ - كَانَ قَبْل الْفَكِّ - تَبَيَّنَ بَقَاءُ الْحَجْرِ فِيهِ، سَوَاءٌ حَدَثَ لَهُ بَعْدَ الْفَكِّ مَالٌ وَغُرَمَاءُ أَوْ لاَ، وَالْمَال الَّذِي ظَهَرَ أَنَّهُ كَانَ قَبْل فَكِّ الْحَجْرِ لِلْغُرَمَاءِ الأَْوَّلِينَ، وَيُشَارِكُونَ مَنْ حَدَثَ بَعْدَهُمْ فِيمَا حَدَثَ بَعْدَ الْفَكِّ، وَلاَ يُشَارِكُ غَرِيمٌ حَادِثٌ مَنْ قَبْلَهُ فِي مَالٍ حَدَثَ قَبْلَهُ أَوْ مَعَهُ.
__________
(1) البدائع 7 / 172 - 173.
(2) كشاف القناع 3 / 441، وحاشية الدسوقي 3 / 268، 269، والمغني 4 / 450، والقليوبي 2 / 289.(5/323)
أَحْكَامُ مَنْ مَاتَ مُفَلِّسًا:
58 - مَنْ مَاتَ مُفَلِّسًا تَجْرِي بَعْضُ أَحْكَامِ الإِْفْلاَسِ فِي حَقِّ دُيُونِهِ، وَيَمْتَنِعُ جَرَيَانُ بَعْضِ أَحْكَامِ الإِْفْلاَسِ الأُْخْرَى. وَيُرْجَعُ لِلتَّفْصِيل إِلَى مُصْطَلَحِ (تَرِكَةٌ) (1)
أَحْكَامٌ أُخْرَى يَسْتَتْبِعُهَا التَّفْلِيسُ:
59 - إِذَا فَلَّسَ الْمَدِينُ اسْتَتْبَعَ تَفْلِيسُهُ أَحْكَامًا فِي بَعْضِ مَا كَانَ صَدَرَ مِنْهُ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ، كَمَا فِي تَوْكِيلِهِ أَوْ ضَمَانِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. وَيُنْظَرُ حُكْمُ كُل شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِي بَابِهِ.
أَقَارِبُ
انْظُرْ: قَرَابَةٌ
إِقَالَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْقَالَةُ فِي اللُّغَةِ: الرَّفْعُ وَالإِْزَالَةُ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ: أَقَال اللَّهُ عَثْرَتَهُ إِذَا رَفَعَهُ مِنْ سُقُوطِهِ.
__________
(1) ابن عابدين 4 / 44، وبداية المجتهد 2 / 252، والوجيز 1 / 182، والقليوبي 3 / 135، وجواهر الإكليل 2 / 94، 111، والدسوقي 3 / 331.(5/324)
وَمِنْهُ الإِْقَالَةُ فِي الْبَيْعِ، لأَِنَّهَا رَفْعُ الْعَقْدِ (1) .
وَهِيَ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ: رَفْعُ الْعَقْدِ، وَإِلْغَاءُ حُكْمِهِ وَآثَارِهِ بِتَرَاضِي الطَّرَفَيْنِ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْبَيْعُ:
2 - تَخْتَلِفُ الإِْقَالَةُ عَنِ الْبَيْعِ فِي أُمُورٍ مِنْهَا: أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي الإِْقَالَةِ، فَقَال بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا فَسْخٌ، وَقَال آخَرُونَ: هِيَ بَيْعٌ، وَهُنَاكَ أَقْوَالٌ أُخْرَى سَيَأْتِي تَفْصِيلُهَا. وَمِنْهَا أَنَّ الإِْقَالَةَ يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ فِيهَا الإِْيجَابُ بِلَفْظِ الاِسْتِقْبَال كَقَوْل أَحَدِهِمَا: أَقِلْنِي، بِخِلاَفِ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ لاَ يَقَعُ إِلاَّ بِلَفْظِ الْمَاضِي، لأَِنَّ لَفْظَةَ الاِسْتِقْبَال لِلْمُسَاوَمَةِ حَقِيقَةً، وَالْمُسَاوَمَةُ فِي الْبَيْعِ مُعْتَادَةٌ، فَكَانَتِ اللَّفْظَةُ مَحْمُولَةً عَلَى حَقِيقَتِهَا، فَلَمْ تَقَعْ إِيجَابًا، بِخِلاَفِ الإِْقَالَةِ، لأَِنَّ الْمُسَاوَمَةَ فِيهَا لَيْسَتْ مُعْتَادَةً، فَيُحْمَل اللَّفْظُ فِيهَا عَلَى الإِْيجَابِ (3) .
ب - الْفَسْخُ:
3 - تَخْتَلِفُ الإِْقَالَةُ عَنِ الْفَسْخِ فِي أَنَّ الْفَسْخَ هُوَ رَفْعُ جَمِيعِ أَحْكَامِ الْعَقْدِ وَآثَارِهِ وَاعْتِبَارِهِ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ
__________
(1) المصباح المنير مادة: (قيل) .
(2) هناك تعريفات متعددة للإقالة في المذاهب المختلفة، واختارت اللجنة التعريف المشار إليه، لأنه أجمع لآراء الفقهاء في تكييفها، وانظر: البحر الرائق شرح كنز الدقائق 6 / 110، ومنح الله المعين على شرح الكنز. محمد منلا مسكين 2 / 585، ومجمع الأنهر شرح ملتقى الأبحر 2 / 254، والخرشي على مختصر خليل وبهامشه حاشية العدوي 5 / 169، والأم للشافعي 3 / 67، والمغني لابن قدامة 4 / 135.
(3) بدائع الصنائع 5 / 306.(5/324)
بِالنِّسْبَةِ لِلْمُسْتَقْبَل. وَأَمَّا الإِْقَالَةُ فَقَدِ اعْتَبَرَهَا بَعْضُهُمْ فَسْخًا، وَاعْتَبَرَهَا آخَرُونَ بَيْعًا (1)
. حُكْمُ الإِْقَالَةِ التَّكْلِيفِيِّ:
4 - الإِْقَالَةُ دَائِرَةٌ بَيْنَ النَّدْبِ وَالْوُجُوبِ بِحَسَبِ حَالَةِ الْعَقْدِ، فَإِنَّهَا تَكُونُ مَنْدُوبًا إِلَيْهَا إِذَا نَدِمَ أَحَدُ الطَّرَفَيْنِ، لِحَدِيثِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِيهِ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: {مَنْ أَقَال مُسْلِمًا بَيْعَتَهُ أَقَال اللَّهُ عَثْرَتَهُ} (2) . وَقَدْ دَل الْحَدِيثُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الإِْقَالَةِ، وَعَلَى أَنَّهَا مَنْدُوبٌ إِلَيْهَا، لِوَعْدِ الْمُقِيلِينَ بِالثَّوَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَأَمَّا كَوْنُ الْمُقَال مُسْلِمًا فَلَيْسَ بِشَرْطٍ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ لِكَوْنِهِ حُكْمًا أَغْلَبِيًّا، وَإِلاَّ فَثَوَابُ الإِْقَالَةِ ثَابِتٌ فِي إِقَالَةِ غَيْرِ الْمُسْلِمِ، وَقَدْ وَرَدَ بِلَفْظِ: {مَنْ أَقَال نَادِمًا. . .} . وَتَكُونُ الإِْقَالَةُ وَاجِبَةً إِذَا كَانَتْ بَعْدَ عَقْدٍ مَكْرُوهٍ أَوْ بَيْعٍ فَاسِدٍ، لأَِنَّهُ إِذَا وَقَعَ الْبَيْعُ فَاسِدًا أَوْ مَكْرُوهًا وَجَبَ عَلَى كُلٍّ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ الرُّجُوعُ إِلَى مَا كَانَ لَهُ مِنْ رَأْسِ الْمَال صَوْنًا لَهُمَا عَنِ الْمَحْظُورِ، لأَِنَّ رَفْعَ الْمَعْصِيَةِ وَاجِبٌ بِقَدْرِ الإِْمْكَانِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ بِالإِْقَالَةِ أَوْ بِالْفَسْخِ. كَمَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الإِْقَالَةُ وَاجِبَةً إِذَا كَانَ الْبَائِعُ غَارًّا لِلْمُشْتَرِي وَكَانَ الْغَبْنُ يَسِيرًا، وَإِنَّمَا قُيِّدَ الْغَبْنُ
__________
(1) فتح القدير 6 / 489 - 491.
(2) حديث: من أقال مسلما. . . . . . " أخرجه أبو داود 3 / 738 - ط عزت عبيد دعاس. وصححه ابن دقيق العيد كما في الفيض للمناوي 6 / 79 - ط المكتبة التجارية.(5/325)
بِالْيَسِيرِ هُنَا، لأَِنَّ الْغَبْنَ الْفَاحِشَ يُوجِبُ الرَّدَّ إِنْ غَرَّهُ الْبَائِعُ عَلَى الصَّحِيحِ (1) .
رُكْنُ الإِْقَالَةِ:
5 - رُكْنُ الإِْقَالَةِ الإِْيجَابُ وَالْقَبُول الدَّالاَّنِ عَلَيْهَا. فَإِذَا وُجِدَ الإِْيجَابُ مِنْ أَحَدِهِمَا وَالْقَبُول مِنَ الآْخَرِ بِلَفْظٍ يَدُل عَلَيْهِ فَقَدْ تَمَّ الرُّكْنُ، وَهِيَ تَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَبُول فِي الْمَجْلِسِ، نَصًّا بِالْقَوْل أَوْ دَلاَلَةً بِالْفِعْل. وَيَأْتِي الْقَبُول مِنَ الآْخَرِ بَعْدَ الإِْيجَابِ، أَوْ تَقَدَّمَ السُّؤَال، أَوْ قَبَضَ الآْخَرُ مَا هُوَ لَهُ فِي مَجْلِسِ الإِْقَالَةِ أَوْ مَجْلِسِ عِلْمِهَا، لأَِنَّ مَجْلِسَ الْعِلْمِ فِي حَقِّ الْغَائِبِ كَمَجْلِسِ اللَّفْظِ فِي الْحَاضِرِ، فَلاَ يَصِحُّ مِنَ الْحَاضِرِ فِي غَيْرِ مَجْلِسِهَا (2) .
الأَْلْفَاظُ الَّتِي تَنْعَقِدُ بِهَا الإِْقَالَةُ:
6 - لاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ الإِْقَالَةَ تَنْعَقِدُ صَحِيحَةً بِلَفْظِ الإِْقَالَةِ أَوْ مَا يَدُل عَلَيْهَا، كَمَا لاَ خِلاَفَ فِي أَنَّهَا تَنْعَقِدُ بِلَفْظَيْنِ يُعَبَّرُ بِهِمَا عَنِ الْمَاضِي. وَلَكِنَّ الْخِلاَفَ فِي صِيغَةِ اللَّفْظِ الَّذِي تَنْعَقِدُ بِهِ إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا مَاضِيًا وَالآْخَرُ مُسْتَقْبَلاً. فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّهَا تَصِحُّ بِلَفْظَيْنِ أَحَدُهُمَا مُسْتَقْبَلٌ وَالآْخَرُ مَاضٍ، كَمَا لَوْ قَال: أَقِلْنِي: فَقَال، أَقَلْتُكَ، أَوْ قَال لَهُ: جِئْتُكَ لِتُقِيلَنِي، فَقَال: أَقَلْتُكَ، فَهِيَ تَنْعَقِدُ عِنْدَهُمَا بِهَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ كَمَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ.
__________
(1) سبل السلام للصنعاني 3 / 42 - 43، 4 / 491، وشرح العناية على الهداية للبابرتي 6 / 486، والبحر الرائق 6 / 110 - 111.
(2) البدائع 7 / 3394، ومجمع الأنهر 2 / 54، والبحر الرائق 6 / 110.(5/325)
وَمَعَ أَنَّ الإِْقَالَةَ بَيْعٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، فَإِنَّهُ لَمْ يُعْطِ الإِْقَالَةَ حُكْمَهُ، لأَِنَّ الْمُسَاوَمَةَ لاَ تَجْرِي فِي الإِْقَالَةِ، فَحُمِل اللَّفْظُ عَلَى التَّحْقِيقِ بِخِلاَفِ الْبَيْعِ. وَأَمَّا مُحَمَّدٌ فَهُوَ يَقُول: إِنَّهَا لاَ تَنْعَقِدُ إِلاَّ بِلَفْظَيْنِ يُعَبَّرُ بِهِمَا عَنِ الْمَاضِي، لأَِنَّهَا كَالْبَيْعِ فَأُعْطِيَتْ بِسَبَبِ الشَّبَهِ حُكْمَ الْبَيْعِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَقُول أَحَدُهُمَا: أَقَلْتُ، وَالآْخَرُ: قَبِلْتُ، أَوْ رَضِيتُ، أَوْ هَوَيْتُ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ (1) . وَتَنْعَقِدُ بِفَاسَخْتُكَ وَتَارَكْتُ، كَمَا تَصِحُّ بِلَفْظِ " الْمُصَالَحَةِ " وَتَصِحُّ بِلَفْظِ " الْبَيْعِ " وَمَا يَدُل عَلَى الْمُعَاطَاةِ، لأَِنَّ الْمَقْصُودَ الْمَعْنَى، وَكُل مَا يُتَوَصَّل إِلَيْهِ أَجْزَأَ (2) . خِلاَفًا لِلْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ فِي أَنَّ مَا يَصْلُحُ لِلْعَقْدِ لاَ يَصْلُحُ لِلْحَل، وَمَا يَصْلُحُ لِلْحَل لاَ يَصْلُحُ لِلْعَقْدِ. وَتَنْعَقِدُ الإِْقَالَةُ بِالتَّعَاطِي كَالْبَيْعِ، كَمَا لَوْ قَال لَهُ: أَقَلْتُكَ فَرَدَّ إِلَيْهِ الثَّمَنَ، وَتَصِحُّ بِالْكِتَابَةِ وَالإِْشَارَةِ مِنَ الأَْخْرَسِ (3) .
شُرُوطُ الإِْقَالَةِ:
7 - يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الإِْقَالَةِ مَا يَلِي:
أ - رِضَى الْمُتَقَايِلَيْنِ: لأَِنَّهَا رَفْعُ عَقْدٍ لاَزِمٍ، فَلاَ بُدَّ مِنْ رِضَى الطَّرَفَيْنِ.
ب - اتِّحَادُ الْمَجْلِسِ: لأَِنَّ مَعْنَى الْبَيْعِ مَوْجُودٌ فِيهَا، فَيُشْتَرَطُ لَهَا الْمَجْلِسُ، كَمَا يُشْتَرَطُ لِلْبَيْعِ.
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 3394، والبحر الرائق 6 / 110، ومجمع الأنهر 2 / 54، وشرح العناية على الهداية بهامش فتح القدير 6 / 487.
(2) شرح العناية على الهداية 6 / 487، والبحر الرائق 6 / 110، وكشاف القناع 3 / 204.
(3) البحر الرائق 6 / 110، وشرح العناية على الهداية بهامش فتح القدير 6 / 487.(5/326)
ج - أَنْ يَكُونَ التَّصَرُّفُ قَابِلاً لِلنَّسْخِ كَالْبَيْعِ وَالإِْجَارَةِ، فَإِنْ كَانَ التَّصَرُّفُ لاَ يَقْبَل الْفَسْخَ كَالنِّكَاحِ وَالطَّلاَقِ فَلاَ تَصِحُّ الإِْقَالَةُ (1) .
د - بَقَاءُ الْمَحَل وَقْتَ الإِْقَالَةِ، فَإِنْ كَانَ هَالِكًا وَقْتَ الإِْقَالَةِ لَمْ تَصِحَّ، فَأَمَّا قِيَامُ الثَّمَنِ وَقْتَ الإِْقَالَةِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ (2) .
هـ - تَقَابُضُ بَدَلَيِ الصَّرْفِ فِي إِقَالَةِ الصَّرْفِ، وَهَذَا عَلَى قَوْل مَنْ يَقُول: إِنَّهَا بَيْعٌ، لأَِنَّ قَبْضَ الْبَدَلَيْنِ إِنَّمَا وَجَبَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا الْحَقُّ لاَ يَسْقُطُ بِإِسْقَاطِ الْعَبْدِ. و - أَلاَّ يَكُونَ الْبَيْعُ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ الْمِثْل فِي بَيْعِ الْوَصِيِّ، فَإِنْ كَانَ لَمْ تَصِحَّ إِقَالَتُهُ (3) .
حَقِيقَتُهَا الشَّرْعِيَّةُ:
8 - لِلْفُقَهَاءِ فِي تَكْيِيفِ الإِْقَالَةِ اتِّجَاهَاتٌ: الأَْوَّل: أَنَّهَا فَسْخٌ يَنْحَل بِهِ الْعَقْدُ فِي حَقِّ الْعَاقِدَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ (4) . وَجْهُ هَذَا الْقَوْل أَنَّ الإِْقَالَةَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنِ الرَّفْعِ، يُقَال فِي الدُّعَاءِ: اللَّهُمَّ أَقِلْنِي عَثَرَاتِي، أَيِ ارْفَعْهَا، وَالأَْصْل أَنَّ مَعْنَى التَّصَرُّفِ شَرْعًا مَا يُنْبِئُ عَنْهُ اللَّفْظُ لُغَةً، وَرَفْعُ الْعَقْدِ فَسْخُهُ، وَلأَِنَّ الْبَيْعَ وَالإِْقَالَةَ اخْتَلَفَا اسْمًا، فَتَخَالَفَا حُكْمًا، فَإِذَا كَانَتْ رَفْعًا لاَ تَكُونُ بَيْعًا، لأَِنَّ الْبَيْعَ إِثْبَاتٌ وَالرَّفْعُ نَفْيٌ، وَبَيْنَهُمَا تَنَافٍ، فَكَانَتِ الإِْقَالَةُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَسْخًا مَحْضًا، فَتَظْهَرُ فِي حَقِّ كَافَّةِ النَّاسِ.
__________
(1) ابن عابدين 5 / 123، 124.
(2) البدائع 7 / 3401.
(3) البدائع 7 / 3400 - 3401، والبحر الرائق 6 / 110.
(4) المغني 4 / 135، والاختيار 1 / 184.(5/326)
الثَّانِي: أَنَّهَا بَيْعٌ فِي حَقِّ الْعَاقِدَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، إِلاَّ إِذَا تَعَذَّرَ جَعْلُهَا بَيْعًا فَإِنَّهَا تَكُونُ فَسْخًا، وَهَذَا قَوْل أَبِي يُوسُفَ وَالإِْمَامِ مَالِكٍ. وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ أَنْ تَقَعَ الإِْقَالَةُ فِي الطَّعَامِ قَبْل قَبْضِهِ. وَجْهُ هَذَا الْقَوْل أَنَّ مَعْنَى الْبَيْعِ هُوَ مُبَادَلَةُ الْمَال بِالْمَال، وَهُوَ أَخْذُ بَدَلٍ وَإِعْطَاءُ بَدَلٍ، وَقَدْ وُجِدَ، فَكَانَتِ الإِْقَالَةُ بَيْعًا لِوُجُودِ مَعْنَى الْبَيْعِ فِيهَا، وَالْعِبْرَةُ فِي الْعُقُودِ لِلْمَعَانِي لاَ لِلأَْلْفَاظِ وَالْمَبَانِي (1) .
الثَّالِثُ: أَنَّهَا فَسْخٌ فِي حَقِّ الْعَاقِدَيْنِ بَيْعٌ فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا، وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ. وَجْهُ هَذَا الْقَوْل أَنَّ الإِْقَالَةَ تُنْبِئُ عَنِ الْفَسْخِ وَالإِْزَالَةِ، فَلاَ تَحْتَمِل مَعْنًى آخَرَ نَفْيًا لِلاِشْتِرَاكِ، وَالأَْصْل الْعَمَل بِحَقِيقَةِ اللَّفْظِ، وَإِنَّمَا جُعِل بَيْعًا فِي حَقِّ غَيْرِ الْعَاقِدَيْنِ، لأَِنَّ فِيهَا نَقْل مِلْكٍ بِإِيجَابٍ وَقَبُولٍ بِعِوَضٍ مَالِيٍّ، فَجُعِلَتْ بَيْعًا فِي حَقِّ غَيْرِ الْعَاقِدَيْنِ مُحَافَظَةً عَلَى حَقِّهِ مِنَ الإِْسْقَاطِ، إِذْ لاَ يَمْلِكُ الْعَاقِدَانِ إِسْقَاطَ حَقِّ غَيْرِهِمَا (2) .
آثَارُ اخْتِلاَفِ الْفُقَهَاءِ فِي حَقِيقَةِ الإِْقَالَةِ:
يَتَرَتَّبُ عَلَى اخْتِلاَفِ الْفُقَهَاءِ فِي حَقِيقَةِ الإِْقَالَةِ آثَارٌ فِي التَّطْبِيقِ فِي أَحْوَالٍ كَثِيرَةٍ مِنْهَا مَا يَلِي: أَوَّلاً - الإِْقَالَةُ بِأَقَل أَوْ أَكْثَرَ مِنَ الثَّمَنِ:
9 - إِذَا تَقَايَل الْمُتَبَايِعَانِ وَلَمْ يُسَمِّيَا الثَّمَنَ الأَْوَّل، أَوْ سَمَّيَا زِيَادَةً عَلَى الثَّمَنِ الأَْوَّل، أَوْ سَمَّيَا جِنْسًا آخَرَ سِوَى الْجِنْسِ الأَْوَّل، قَل أَوْ كَثُرَ، أَوْ أَجَّلاَ الثَّمَنَ الأَْوَّل، فَالإِْقَالَةُ عَلَى الثَّمَنِ الأَْوَّل، وَتَسْمِيَةُ الزِّيَادَةِ وَالأَْجَل وَالْجِنْسِ الآْخَرِ بَاطِلَةٌ عَلَى الْقَوْل بِأَنَّ
__________
(1) البدائع 7 / 3394، والخرشي 5 / 166، والمدونة 9 / 761.
(2) الاختيار 1 / 184.(5/327)
الإِْقَالَةَ فَسْخٌ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الإِْقَالَةُ قَبْل الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْمَبِيعُ مَنْقُولاً أَمْ غَيْرَ مَنْقُولٍ، لأَِنَّ الْفَسْخَ رَفْعُ الْعَقْدِ الأَْوَّل، وَالْعَقْدُ وَقَعَ بِالثَّمَنِ الأَْوَّل، فَيَكُونُ فَسْخُهُ بِالثَّمَنِ الأَْوَّل، وَحُكْمُ الْفَسْخِ لاَ يَخْتَلِفُ بَيْنَ مَا قَبْل الْقَبْضِ وَمَا بَعْدَهُ، وَبَيْنَ الْمَنْقُول وَغَيْرِ الْمَنْقُول، وَتَبْطُل تَسْمِيَةُ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ وَالْجِنْسِ الآْخَرِ وَالأَْجَل، وَتَبْقَى الإِْقَالَةُ صَحِيحَةً، لأَِنَّ تَسْمِيَةَ هَذِهِ الأَْشْيَاءِ لاَ تُؤَثِّرُ فِي الإِْقَالَةِ (1) ، وَلأَِنَّ الإِْقَالَةَ رَفْعُ مَا كَانَ لاَ رَفْعُ مَا لَمْ يَكُنْ، حَيْثُ إِنَّ رَفْعَ مَا لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا مُحَالٌ (2) . وَتَكُونُ الإِْقَالَةُ أَيْضًا بِمِثْل الثَّمَنِ الأَْوَّل الْمُسَمَّى، لاَ بِمَا يُدْفَعُ بَدَلاً عَنْهُ، حَتَّى لَوْ كَانَ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ فَدَفَعَ إِلَيْهِ دَرَاهِمَ عِوَضًا عَنْهَا، ثُمَّ تَقَايَلاَ - وَقَدْ رُخِّصَتِ الدَّنَانِيرُ - رَجَعَ بِالدَّنَانِيرِ لاَ بِمَا دَفَعَ، لأَِنَّهُ لَمَّا اعْتُبِرَتِ الإِْقَالَةُ فَسْخًا، وَالْفَسْخُ يُرَدُّ عَلَى عَيْنِ مَا يُرَدُّ عَلَيْهِ الْعَقْدُ، كَانَ اشْتِرَاطُ خِلاَفِ الثَّمَنِ الأَْوَّل بَاطِلاً (3) .
ثَانِيًا - الشُّفْعَةُ فِيمَا يُرَدُّ بِالإِْقَالَةِ:
10 - يَقْتَضِي الْقِيَاسُ أَلاَّ يَكُونَ لِلشَّفِيعِ حَقُّ الشُّفْعَةِ فِيمَا رُدَّ بِالإِْقَالَةِ إِذَا اعْتُبِرَتْ هَذِهِ الإِْقَالَةُ فَسْخًا مُطْلَقًا، وَهَذَا قِيَاسٌ عَلَى أَصْل مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، لأَِنَّ الإِْقَالَةَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَسْخٌ، إِلاَّ إِذَا لَمْ يُمْكِنْ جَعْلُهَا فَسْخًا فَتُجْعَل بَيْعًا. وَعَنْ زُفَرَ: هِيَ فَسْخٌ فِي حَقِّ النَّاسِ كَافَّةً. أَمَّا سَائِرُ الْحَنَفِيَّةِ، وَكَذَلِكَ بَقِيَّةُ الْمَذَاهِبِ
__________
(1) البدائع 7 / 3395 - 3396.
(2) شرح العناية على الهداية بهامش فتح القدير 6 / 487 - 491.
(3) البدائع 6 / 3397.(5/327)
الأُْخْرَى، فَإِنَّهَا تُعْطِي الشَّفِيعَ حَقَّ الشُّفْعَةِ فِيمَا رُدَّ بِالإِْقَالَةِ. فَعَلَى اعْتِبَارِ أَنَّهَا فَسْخٌ فِي حَقِّ الْعَاقِدَيْنِ بَيْعٌ فِي حَقٍّ ثَالِثٍ، كَمَا هُوَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، أَوْ عَلَى اعْتِبَارِ أَنَّهَا بَيْعٌ فِي حَقِّهِمَا، كَمَا هُوَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، فَإِنَّ الشَّفِيعَ يَأْخُذُ بِالشُّفْعَةِ بَعْدَ تَقَايُل الْبَيْعِ بَيْنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي، فَمَنِ اشْتَرَى دَارًا وَلَهَا شَفِيعٌ، فَسَلَّمَ الشُّفْعَةَ، ثُمَّ تَقَايَلاَ الْبَيْعَ، أَوِ اشْتَرَاهَا وَلَمْ يَكُنْ بِجَنْبِهَا دَارٌ، ثُمَّ بُنِيَتْ بِجَنْبِهَا دَارٌ، ثُمَّ تَقَايَلاَ الْبَيْعَ، فَإِنَّ الشَّفِيعَ يَأْخُذُهَا بِالشُّفْعَةِ. وَعَلَى أَصْل أَبِي حَنِيفَةَ تَكُونُ الإِْقَالَةُ بَيْعًا فِي حَقِّ غَيْرِ الْعَاقِدَيْنِ، وَالشَّفِيعُ غَيْرُهُمَا، فَتَكُونُ بَيْعًا فِي حَقِّهِ فَيَسْتَحِقُّ. وَعَلَى أَصْل أَبِي يُوسُفَ تُعَدُّ الإِْقَالَةُ بَيْعًا جَدِيدًا فِي حَقِّ الْكُل، وَلاَ مَانِعَ مِنْ جَعْلِهَا بَيْعًا فِي حَقِّ الشَّفِيعِ، وَلِهَذَا الشَّفِيعِ الأَْخْذُ بِالشُّفْعَةِ، إِنْ شَاءَ بِالْبَيْعِ الأَْوَّل، وَإِنْ شَاءَ بِالْبَيْعِ الْحَاصِل بِالإِْقَالَةِ، أَوْ بِمَعْنًى آخَرَ مِنْ أَيِّهِمَا شَاءَ: مِنَ الْمُشْتَرِي لأَِجْل الشِّرَاءِ، أَوْ مِنَ الْبَائِعِ لِشِرَائِهِ مِنَ الْمُشْتَرِي بِالإِْقَالَةِ، حَيْثُ تَكُونُ الإِْقَالَةُ بَيْعًا مِنَ الْمُشْتَرِي لِلْبَائِعِ، وَحَيْثُ تَكُونُ فَسْخَ بَيْعٍ فَتُؤْخَذُ مِنَ الْمُشْتَرِي فَقَطْ، وَلاَ يَتِمُّ فَسْخُهُ إِلاَّ إِنْ رَضِيَ الشَّفِيعُ لأَِنَّ الشِّرَاءَ لَهُ (1) .
إِقَالَةُ الْوَكِيل:
11 - مَنْ مَلَكَ الْبَيْعَ مَلَكَ الإِْقَالَةَ، فَصَحَّتْ إِقَالَةُ الْمُوَكِّل بَيْعَ وَكِيلِهِ، وَتَصِحُّ إِقَالَةُ الْوَكِيل بِالْبَيْعِ إِذَا
__________
(1) البدائع 6 / 2689، 7 / 3399، وابن عابدين على البحر 6 / 112 - 113، وحاشية سعدي جلبي بهامش فتح القدير 6 / 487.(5/328)
تَمَّتْ قَبْل قَبْضِ الثَّمَنِ. فَإِنْ أَقَال بَعْدَ قَبْضِهِ يَضْمَنُ الثَّمَنَ لِلْمُوَكِّل، إِذْ تُعْتَبَرُ الإِْقَالَةُ مِنَ الْوَكِيل حِينَئِذٍ شِرَاءً لِنَفْسِهِ. وَبِإِقَالَةِ الْوَكِيل بِالْبَيْعِ يَسْقُطُ الثَّمَنُ عَنِ الْمُشْتَرِي عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَيَلْزَمُ الْمَبِيعُ الْوَكِيل. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لاَ يَسْقُطُ الثَّمَنُ عَنِ الْمُشْتَرِي أَصْلاً. وَتَجُوزُ الإِْقَالَةُ مِنَ الْوَكِيل بِالسَّلَمِ فِي قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ كَالإِْبْرَاءِ، خِلاَفًا لأَِبِي يُوسُفَ. وَالْمُرَادُ بِإِقَالَةِ الْوَكِيل بِالسَّلَمِ: الْوَكِيل بِشِرَاءِ السَّلَمِ، بِخِلاَفِ الْوَكِيل بِشِرَاءِ الْعَيْنِ. وَإِقَالَةُ الْوَكِيل بِالشِّرَاءِ لاَ تَجُوزُ بِإِجْمَاعِ الْحَنَفِيَّةِ بِخِلاَفِ الْوَكِيل بِالْبَيْعِ، وَعِنْدَ مَالِكٍ لاَ تَجُوزُ إِقَالَةُ الْوَكِيل بِالْبَيْعِ مُطْلَقًا. وَاتَّفَقَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى صِحَّةِ التَّوْكِيل فِي حَقِّ كُل آدَمِيٍّ مِنَ الْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ. وَعَلَى هَذَا فَيَصِحُّ التَّوْكِيل بِالإِْقَالَةِ عِنْدَهُمُ ابْتِدَاءً، سَوَاءٌ أَقُلْنَا: إِنَّ الإِْقَالَةَ فَسْخٌ عَلَى الْمَذْهَبِ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا أَمْ بَيْعٌ. هَذَا، وَلَمْ يَذْكُرِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ مَنْ لَهُ حَقُّ الإِْقَالَةِ مِنْ غَيْرِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ سِوَى الْوَرَثَةِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبَيْنِ. أَمَّا حُكْمُ الإِْقَالَةِ الصَّادِرَةِ مِنَ الْوَكِيل بِالْبَيْعِ وَالْوَكِيل بِالشِّرَاءِ فَلَمْ يَتَطَرَّقُوا لَهُ. وَالْمُتَوَلِّي عَلَى الْوَقْفِ إِذَا اشْتَرَى شَيْئًا بِأَقَل مِنْ قِيمَتِهِ فَإِنَّ إِقَالَتَهُ لاَ تَصِحُّ (1) .
__________
(1) شرح العناية على الهداية 6 / 493، والبحر الرائق وحاشية ابن عابدين عليه 6 / 111، والمدونة 5 / 83، والروضة 3 / 494، والجمل 3 / 156، وشرح البهجة 3 / 173، وقليوبي على شرح المنهاج 2 / 210، والشرواني على التحفة 4 / 392، والمبدع 4 / 126، والإنصاف 4 / 480، 5 / 356.(5/328)
مَحَل الإِْقَالَةِ:
12 - مَحَل الإِْقَالَةِ الْعُقُودُ اللاَّزِمَةُ فِي حَقِّ الطَّرَفَيْنِ مِمَّا يَقْبَل الْفَسْخَ بِالْخِيَارِ، لأَِنَّ هَذِهِ الْعُقُودَ لاَ يُمْكِنُ فَسْخُهَا إِلاَّ بِاتِّفَاقِ الطَّرَفَيْنِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، وَعَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ الإِْقَالَةَ تَصِحُّ فِي الْعُقُودِ الآْتِيَةِ: الْبَيْعِ - الْمُضَارَبَةِ - الشَّرِكَةِ - الإِْجَارَةِ - الرَّهْنِ (بِالنِّسْبَةِ لِلرَّاهِنِ فَهِيَ مَوْقُوفَةٌ عَلَى إِجَازَةِ الْمُرْتَهِنِ أَوْ قَضَاءِ الرَّاهِنِ دَيْنَهُ) - السَّلَمِ - الصُّلْحِ. وَأَمَّا الْعُقُودُ الَّتِي لاَ تَصِحُّ فِيهَا الإِْقَالَةُ فَهِيَ الْعُقُودُ غَيْرُ اللاَّزِمَةِ، كَالإِْعَارَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَالْجِعَالَةِ، أَوِ الْعُقُودُ اللاَّزِمَةُ الَّتِي لاَ تَقْبَل الْفَسْخَ بِالْخِيَارِ، مِثْل الْوَقْفِ وَالنِّكَاحِ حَيْثُ لاَ يَجُوزُ فَسْخُ أَحَدِهِمَا بِالْخِيَارِ (1) .
أَثَرُ الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ فِي الإِْقَالَةِ:
13 - إِذَا اعْتَبَرْنَا الإِْقَالَةَ فَسْخًا، فَإِنَّهَا لاَ تَبْطُل بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ، بَل تَكُونُ هَذِهِ الشُّرُوطُ لَغْوًا، وَتَصِحُّ الإِْقَالَةُ. فَفِي الإِْقَالَةِ فِي الْبَيْعِ، إِذَا شَرَطَ أَكْثَرَ مِمَّا دَفَعَ، فَالإِْقَالَةُ عَلَى الثَّمَنِ الأَْوَّل، لِمُتَعَذِّرِ الْفَسْخِ عَلَى الزِّيَادَةِ، وَتُبْطِل الشَّرْطَ، لأَِنَّهُ يُشْبِهُ الرِّبَا، وَفِيهِ نَفْعٌ لأَِحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ مُسْتَحَقٌّ بِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ خَالٍ عَنِ الْعِوَضِ. وَكَذَا إِذَا شَرَطَ أَقَل مِنَ الثَّمَنِ الأَْوَّل، لِتَعَذُّرِ الْفَسْخِ عَلَى الأَْقَل، لأَِنَّ فَسْخَ الْعَقْدِ عِبَارَةٌ عَنْ رَفْعِهِ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي كَانَ قَبْلَهُ، وَالْفَسْخُ عَلَى الأَْقَل
__________
(1) المبسوط 29 / 55، والبدائع 7 / 3179، 3396، وشرح العناية على الهداية 6 / 492، وابن عابدين على البحر الرائق 6 / 111، والمدونة 5 / 83، ومختصر المزني على الأم 2 / 28، ومغني المحتاج 2 / 433، والمهذب للشيرازي 1 / 418، وكشاف القناع 3 / 252.(5/329)
لَيْسَ كَذَلِكَ، لأَِنَّ فِيهِ رَفْعَ مَا لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا وَهُوَ مُحَالٌ. وَالنُّقْصَانُ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا فَرَفْعُهُ يَكُونُ مُحَالاً، إِلاَّ أَنْ يَحْدُثَ فِي الْمَبِيعِ عَيْبٌ فَتَجُوزُ الإِْقَالَةُ بِالأَْقَل، لأَِنَّ الْحَطَّ يُجْعَل بِإِزَاءِ مَا فَاتَ مِنَ الْعَيْبِ. وَهَذَا عَلَى قِيَاسِ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَغَيْرِهِمَا مِمَّنْ يَرَوْنَ الإِْقَالَةَ فَسْخًا، وَأَمَّا عَلَى قِيَاسِ قَوْل مَنْ قَال: إِنَّ الإِْقَالَةَ بَيْعٌ، فَإِنَّهَا تَبْطُل بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ، لأَِنَّ الْبَيْعَ يَبْطُل بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ، فَإِذَا زَادَ كَانَ قَاصِدًا بِهَذَا ابْتِدَاءَ الْبَيْعِ، وَإِذَا شَرَطَ الأَْقَل فَكَذَلِكَ (1) .
الإِْقَالَةُ فِي الصَّرْفِ:
14 - الإِْقَالَةُ فِي الصَّرْفِ كَالإِْقَالَةِ فِي الْبَيْعِ، أَيْ يُشْتَرَطُ فِيهَا التَّقَابُضُ مِنَ الْجَانِبَيْنِ قَبْل الاِفْتِرَاقِ كَمَا فِي ابْتِدَاءِ عَقْدِ الصَّرْفِ. فَلَوْ تَقَايَلاَ الصَّرْفَ، وَتَقَابَضَا قَبْل الاِفْتِرَاقِ، مَضَتِ الإِْقَالَةُ عَلَى الصِّحَّةِ. وَإِنِ افْتَرَقَا قَبْل التَّقَابُضِ بَطَلَتِ الإِْقَالَةُ، سَوَاءٌ اعْتُبِرَتْ بَيْعًا أَمْ فَسْخًا. فَعَلَى اعْتِبَارِهَا بَيْعًا كَانَتِ الْمُصَارَفَةُ مُبْتَدَأَةً، فَلاَ بُدَّ مِنَ التَّقَابُضِ يَدًا بِيَدٍ، مَا دَامَتِ الإِْقَالَةُ بَيْعًا مُسْتَقِلًّا يُحِلُّهَا مَا يُحِل الْبُيُوعَ، وَيُحَرِّمُهَا مَا يُحَرِّمُ الْبُيُوعَ، فَلاَ تَصْلُحُ الإِْقَالَةُ إِذْ حَصَل الاِفْتِرَاقُ قَبْل الْقَبْضِ. عَلَى اعْتِبَارِهَا فَسْخًا فِي حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، فَهِيَ بَيْعٌ جَدِيدٌ فِي حَقٍّ ثَالِثٍ، وَاسْتِحْقَاقُ الْقَبْضِ حَقٌّ
__________
(1) البدائع 7 / 3180، 3395 - 3396، والعناية وحاشية سعدي جلبي بهامش فتح القدير 6 / 489، 491، والبحر الرائق 6 / 111 - 113، وكشاف القناع 3 / 204.(5/329)
لِلشَّرْعِ، وَهُوَ هُنَا ثَالِثٌ، فَيُعْتَبَرُ بَيْعًا جَدِيدًا فِي حَقِّ هَذَا الْحُكْمِ فَيُشْتَرَطُ فِيهِ التَّقَابُضُ. وَهَلاَكُ الْبَدَلَيْنِ فِي الصَّرْفِ لاَ يُعَدُّ مَانِعًا مِنَ الإِْقَالَةِ، لأَِنَّهُ فِي الصَّرْفِ لاَ يَلْزَمُهُ رَدُّ الْمَقْبُوضِ بَعْدَ الإِْقَالَةِ، بَل رَدُّهُ أَوْ رَدُّ مِثْلِهِ، فَلَمْ تَتَعَلَّقِ الإِْقَالَةُ بِعَيْنِهِمَا، فَلاَ تَبْطُل بِهَلاَكِهِمَا (1) .
إِقَالَةُ الإِْقَالَةِ:
15 - إِقَالَةُ الإِْقَالَةِ إِلْغَاءٌ لَهَا وَالْعَوْدَةُ إِلَى أَصْل الْعَقْدِ، وَهِيَ تَصِحُّ فِي أَحْوَالٍ مُعَيَّنَةٍ، فَلَوْ تَقَايَلاَ الْبَيْعَ، ثُمَّ تَقَايَلاَ الإِْقَالَةَ، ارْتَفَعَتِ الإِْقَالَةُ وَعَادَ الْبَيْعُ (2) . وَقَدِ اسْتَثْنَى الْعُلَمَاءُ مِنْ إِقَالَةِ الإِْقَالَةِ إِقَالَةَ الْمُسْلِمِ قَبْل قَبْضِ الْمُسْلَمِ فِيهِ، فَإِنَّهَا لاَ تَصِحُّ، لأَِنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ دَيْنٌ وَقَدْ سَقَطَ بِالإِْقَالَةِ الأُْولَى، فَلَوِ انْفَسَخَتْ لَعَادَ الْمُسْلَمُ فِيهِ الَّذِي سَقَطَ، وَالسَّاقِطُ لاَ يَعُودُ (3) .
مَا يُبْطِل الإِْقَالَةَ:
16 - مِنَ الأَْحْوَال الَّتِي تَبْطُل فِيهَا الإِْقَالَةُ بَعْدَ وُجُودِهَا مَا يَأْتِي: أ - هَلاَكُ الْمَبِيعِ: فَلَوْ هَلَكَ الْمَبِيعُ بَعْدَ الإِْقَالَةِ وَقَبْل التَّسْلِيمِ بَطَلَتْ، لأَِنَّ مِنْ شَرْطِهَا بَقَاءَ الْمَبِيعِ، لأَِنَّهَا رَفْعُ الْعَقْدِ وَهُوَ مَحَلُّهُ، بِخِلاَفِ هَلاَكِ الثَّمَنِ فَإِنَّهُ لاَ يَمْنَعُ الإِْقَالَةَ لِكَوْنِهِ لَيْسَ بِمَحَل الْعَقْدِ، وَلِذَا
__________
(1) المبسوط 14 / 10، والبدائع 7 / 3102، 3103، 9 / 318، وشرح العناية على الهداية بهامش فتح القدير 6 / 493، والمدونة 5 / 69.
(2) البحر الرائق 6 / 111.
(3) البدائع 7 / 3397، والمهذب للشيرازي 1 / 386، وكشاف القناع 4 / 130، والمدونة 9 / 75.(5/330)
بَطَل الْبَيْعُ بِهَلاَكِ الْبَيْعِ قَبْل الْقَبْضِ دُونَ الثَّمَنِ. وَهَذَا إِذَا لَمْ يَكُنِ الثَّمَنُ قِيَمِيًّا، فَإِنْ كَانَ قِيَمِيًّا فَهَلَكَ بَطَلَتِ الإِْقَالَةُ. وَلَكِنْ لاَ يُرَدُّ عَلَى اشْتَرَطَ قِيَامَ الْمَبِيعِ لِصِحَّةِ الإِْقَالَةِ إِقَالَةَ السَّلَمِ قَبْل قَبْضِ الْمُسْلَمِ فِيهِ، لأَِنَّهَا صَحِيحَةٌ سَوَاءٌ أَكَانَ رَأْسُ الْمَال عَيْنًا أَمْ دَيْنًا، وَسَوَاءٌ أَكَانَ قَائِمًا فِي يَدِ الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ أَمْ هَالِكًا. لأَِنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ وَإِنْ كَانَ دَيْنًا حَقِيقَةً فَلَهُ حُكْمُ الْعَيْنِ حَتَّى لاَ يَجُوزُ الاِسْتِبْدَال بِهِ قَبْل قَبْضِهِ (1) .
ب - تَغَيُّرُ الْمَبِيعِ: كَأَنْ زَادَ الْمَبِيعُ زِيَادَةً مُنْفَصِلَةً مُتَوَلِّدَةً، كَمَا لَوْ وَلَدَتِ الدَّابَّةُ بَعْدَ الإِْقَالَةِ، فَإِنَّهَا تَبْطُل بِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الزِّيَادَةُ الْمُتَّصِلَةُ غَيْرُ الْمُتَوَلِّدَةِ كَصَبْغِ الثَّوْبِ. وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تَبْطُل الإِْقَالَةُ بِتَغَيُّرِ ذَاتِ الْمَبِيعِ مَهْمَا كَانَ. كَتَغَيُّرِ الدَّابَّةِ بِالسِّمَنِ وَالْهُزَال، بِخِلاَفِ الْحَنَابِلَةِ (2) .
اخْتِلاَفُ الْمُتَقَايِلَيْنِ:
17 - قَدْ يَقَعُ الاِخْتِلاَفُ بَيْنَ الْمُتَقَايِلَيْنِ عَلَى صِحَّةِ الْبَيْعِ، أَوْ عَلَى كَيْفِيَّتِهِ، أَوْ عَلَى الثَّمَنِ، أَوْ عَلَى الإِْقَالَةِ مِنْ أَسَاسِهَا. فَإِنَّهُمَا إِذَا اتَّفَقَا عَلَى صِحَّةِ الْبَيْعِ، ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي كَيْفِيَّتِهِ تَحَالَفَا، فَيَحْلِفُ كُلٌّ عَلَى نَفْيِ قَوْل صَاحِبِهِ وَإِثْبَاتِ قَوْلِهِ. وَيُسْتَثْنَى مِنَ التَّحَالُفِ مَا لَوْ تَقَايَلاَ الْعَقْدَ ثُمَّ
__________
(1) البحر الرائق 6 / 114 - 115، وشرح العناية على الهداية 6 / 489 - 491، وكشاف القناع 3 / 204.
(2) مجمع الأنهر 2 / 55، والخرشي على مختصر خليل 5 / 88، وكشاف القناع 3 / 204، 250، وبداية المجتهد 2 / 263.(5/330)
اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الثَّمَنِ فَلاَ تَحَالُفَ، بَل الْقَوْل قَوْل الْبَائِعِ لأَِنَّهُ غَارِمٌ. وَلَوِ اخْتَلَفَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي، فَقَال الْمُشْتَرِي: بِعْتُهُ مِنَ الْبَائِعِ بِأَقَل مِنَ الثَّمَنِ الأَْوَّل قَبْل نَقْدِهِ(5/331)
وَفَسَدَ الْبَيْعُ بِذَلِكَ، وَقَال الْبَائِعُ: بَل تَقَايَلْنَاهُ، فَالْقَوْل لِلْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ فِي إِنْكَارِهِ الإِْقَالَةَ. فَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ هُوَ الَّذِي يَدَّعِي أَنَّهُ اشْتَرَاهُ مِنَ الْمُشْتَرِي بِأَقَل مِمَّا بَاعَهُ، وَالْمُشْتَرِي يَدَّعِي الإِْقَالَةَ يَحْلِفُ كُلٌّ عَلَى دَعْوَى صَاحِبِهِ (1) .
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 95، والبحر الرائق 6 / 114، وشرح العناية على الهداية بهامش فتح القدير 6 / 494.(5/331)
إقَامَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْقَامَةُ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ: أَقَامَ، وَأَقَامَ بِالْمَكَانِ: ثَبَتَ بِهِ، وَأَقَامَ الشَّيْءَ: ثَبَّتَهُ أَوْ عَدَّلَهُ، وَأَقَامَ الرَّجُل الشَّرْعَ: أَظْهَرَهُ، وَأَقَامَ الصَّلاَةَ: أَدَامَ فِعْلَهَا، وَأَقَامَ لِلصَّلاَةِ إقَامَةً: نَادَى لَهَا. (1)
وَتُطْلَقُ الإِْقَامَةُ فِي الشَّرْعِ بِمَعْنَيَيْنِ:
الأَْوَّل: الثُّبُوتُ فِي الْمَكَانِ، فَيَكُونُ ضِدَّ السَّفَرِ.
الثَّانِي: إعْلاَمُ الْحَاضِرِينَ الْمُتَأَهِّبِينَ لِلصَّلاَةِ بِالْقِيَامِ إلَيْهَا، بِأَلْفَاظٍ مَخْصُوصَةٍ وَصِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ (2) .
أَوَّلاً: أَحْكَامُ الإِْقَامَةِ الَّتِي بِمَعْنَى الثُّبُوتِ فِي الْمَكَانِ
أ - إقَامَةُ الْمُسَافِرِ:
2 - يُصْبِحُ الْمُسَافِرُ مُقِيمًا إذَا دَخَل وَطَنَهُ، أَوْ نَوَى الإِْقَامَةَ فِي مَكَانٍ مَا بِالشُّرُوطِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْفُقَهَاءُ، وَيَنْقَطِعُ بِذَلِكَ عَنْهُ حُكْمُ السَّفَرِ، وَتَنْطَبِقُ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُقِيمِ، كَامْتِنَاعِ الْقَصْرِ فِي الصَّلاَةِ، وَعَدَمِ جَوَازِ الْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ. (3) وَإِقَامَةُ الآْفَاقِيِّ دَاخِل الْمَوَاقِيتِ الْمَكَانِيَّةِ، أَوْ فِي الْحَرَمِ - تُعْطِيهِ حُكْمَ الْمُقِيمِ دَاخِل الْمَوَاقِيتِ أَوْ دَاخِل الْحَرَمِ مِنْ حَيْثُ الإِْحْرَامُ،
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير مادة: (قوم) ، تفسير الطبري 15 / 290 طبع مصطفى الحلبي
(2) كشاف القناع 1 / 209، وفتح القدير 1 / 178 ط دار صادر.
(3) البدائع 1 / 97.(6/5)
وَطَوَافُ الْوَدَاعِ، وَالْقُدُومُ، وَالْقِرَانُ، وَالتَّمَتُّعُ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلاَتُ ذَلِكَ فِي (قِرَان - تَمَتُّع - حَجّ - إحْرَام) .
إقَامَةُ الْمُسْلِمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ:
3 - إقَامَةُ الْمُسْلِمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ لاَ تَقْدَحُ فِي إسْلاَمِهِ، إلاَّ أَنَّهُ إذَا كَانَ يَخْشَى عَلَى دِينِهِ، بِحَيْثُ لاَ يُمْكِنُهُ إظْهَارَهُ، تَجِبُ عَلَيْهِ الْهِجْرَةُ إلَى دَارِ الإِْسْلاَمِ، لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَْرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} (1) وَهَذَا إذَا كَانَ يُمْكِنُهُ الْهِجْرَةُ وَلَمْ يَكُنْ بِهِ عَجْزٌ، لِمَرَضٍ أَوْ إِكْرَاهٍ عَلَى الإِْقَامَةِ.
أَمَّا إذَا كَانَ لاَ يَخْشَى الْفِتْنَةَ وَيَتَمَكَّنُ مِنْ إِظْهَارِ دِينِهِ مَعَ إِقَامَتِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ الْهِجْرَةُ إلَى دَارِ الإِْسْلاَمِ، لِتَكْثِيرِ الْمُسْلِمِينَ وَمَعُونَتِهِمْ، وَلاَ تَجِبُ عَلَيْهِ الْهِجْرَةُ. وَقَدْ كَانَ الْعَبَّاسُ عَمُّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُقِيمًا بِمَكَّةَ مَعَ إسْلاَمِهِ (2) .
وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلاَتٌ كَثِيرَةٌ فِي ذَلِكَ: (ر: جِهَاد - دَارُ الْحَرْبِ - دَارُ الإِْسْلاَمِ - هِجْرَة) .
ثَانِيًا: الإِْقَامَةُ لِلصَّلاَةِ
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ بِإِقَامَةِ الصَّلاَةِ:
4 - هُنَاكَ أَلْفَاظٌ لَهَا صِلَةٌ بِالإِْقَامَةِ لِلصَّلاَةِ، مِنْهَا:
أ - الأَْذَانُ: يُعَرَّفُ الأَْذَانُ بِأَنَّهُ: إعْلاَمٌ بِدُخُول
__________
(1) سورة النساء / 97.
(2) المغني 8 / 457 ط الرياض الحديثة، وكفاية الطالب الرباني 2 / 4 ط مصطفى الحلبي، وقليوبي 4 / 226 ط عيسى الحلبي، وابن عابدين 3 / 254 ط بولاق ثالثة.(6/5)
وَقْتِ الصَّلاَةِ بِأَلْفَاظٍ مَعْلُومَةٍ مَأْثُورَةٍ عَلَى صِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ يَحْصُل بِهَا الإِْعْلاَمُ، (1) .
فَالأَْذَانُ وَالإِْقَامَةُ يَشْتَرِكَانِ فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا إِعْلاَمٌ، وَيَفْتَرِقَانِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الإِْعْلاَمَ فِي الإِْقَامَةِ هُوَ لِلْحَاضِرِينَ الْمُتَأَهِّبِينَ لاِفْتِتَاحِ الصَّلاَةِ، وَالأَْذَانُ لِلْغَائِبِينَ لِيَتَأَهَّبُوا لِلصَّلاَةِ، كَمَا أَنَّ صِيغَةَ الأَْذَانِ قَدْ تَنْقُصُ أَوْ تَزِيدُ عَنِ الإِْقَامَةِ عَلَى خِلاَفٍ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ.
ب - التَّثْوِيبُ:
التَّثْوِيبُ عَوْدٌ إِلَى الإِْعْلاَمِ بَعْدَ الإِْعْلاَمِ. وَهُوَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، زِيَادَةُ " الصَّلاَةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ " (2) .
حُكْمُ الإِْقَامَةِ التَّكْلِيفِيُّ:
5 - فِي حُكْمِ الإِْقَامَةِ التَّكْلِيفِيِّ رَأْيَانِ:
الأَْوَّل: أَنَّ الإِْقَامَةَ فَرْضُ كِفَايَةٍ إِذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ عَنِ الآْخَرِينَ، وَإِذَا تُرِكَ أَثِمُوا جَمِيعًا.
قَال بِهَذَا الْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ رَأْيٌ لِبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَلِبَعْضٍ آخَرَ لِلْجُمُعَةِ فَقَطْ. وَهُوَ رَأْيُ عَطَاءٍ وَالأَْوْزَاعِيِّ، حَتَّى رُوِيَ عَنْهُمَا أَنَّهُ إِنْ نَسِيَ الإِْقَامَةَ أَعَادَ الصَّلاَةَ، وَقَال مُجَاهِدٌ: إِنْ نَسِيَ الإِْقَامَةَ فِي السَّفَرِ أَعَادَ، (3) وَلَعَلَّهُ لِمَا فِي السَّفَرِ مِنَ الْحَاجَةِ إِلَى إِظْهَارِ الشَّعَائِرِ.
وَاسْتُدِل لِلْقَوْل بِأَنَّهَا فَرْضُ كِفَايَةٍ بِكَوْنِهَا مِنْ شَعَائِرِ الإِْسْلاَمِ الظَّاهِرَةِ، وَفِي تَرْكِهَا تَهَاوُنٌ، فَكَانَتْ فَرْضَ كِفَايَةٍ مِثْل الْجِهَادِ. (4)
__________
(1) الاختيار 1 / 42، وابن عابدين 1 / 256 ط بولاق، والمغني 1 / 413، ط المنار، وفتح القدير 1 / 178.
(2) المبسوط 1 / 120.
(3) كشاف القناع 1 / 210، والمجموع للنووي 3 / 81 - 82.
(4) مغني المحتاج 1 / 134 ط دار إحياء التراث العربي، والمغني لابن قدامة 1 / 417 ط الرياض.(6/6)
الثَّانِي: أَنَّ الإِْقَامَةَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ، وَالرَّاجِحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَال مُحَمَّدٌ بِالْوُجُوبِ، وَلَكِنَّ الْمُرَادَ بِالسُّنَّةِ هُنَا السُّنَنُ الَّتِي هِيَ مِنْ شَعَائِرِ الإِْسْلاَمِ الظَّاهِرَةِ، فَلاَ يَسَعُ الْمُسْلِمِينَ تَرْكُهَا، وَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ أَسَاءَ، لأَِنَّ تَرْكَ السُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ يُوجِبُ الإِْسَاءَةَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ شَعَائِرِ الإِْسْلاَمِ، فَهَذَا أَوْلَى، وَفَسَّرَ أَبُو حَنِيفَةَ السُّنِّيَّةَ بِالْوُجُوبِ، حَيْثُ قَال فِي التَّارِكِينَ: أَخْطَئُوا السُّنَّةَ وَخَالَفُوا وَأَثِمُوا، وَالإِْثْمُ إِنَّمَا يَلْزَمُ بِتَرْكِ الْوَاجِبِ. (1) وَاحْتَجُّوا لِلسُّنِّيَّةِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلأَْعْرَابِيِّ الْمُسِيءِ صَلاَتَهُ: افْعَل كَذَا وَكَذَا. (2) وَلَمْ يَذْكُرِ الأَْذَانَ وَلاَ الإِْقَامَةَ مَعَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ الْوُضُوءَ وَاسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ وَأَرْكَانَ الصَّلاَةِ، وَلَوْ كَانَتِ الإِْقَامَةُ وَاجِبَةً لَذَكَرَهَا.
تَارِيخُ تَشْرِيعِ الإِْقَامَةِ، وَحِكْمَتُهَا:
6 - تَارِيخُ تَشْرِيعِ الإِْقَامَةِ هُوَ تَارِيخُ تَشْرِيعِ الأَْذَانِ (ر: أَذَان) .
أَمَّا حِكْمَتُهَا: فَهِيَ إِعْلاَءُ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَاسْمِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِقْرَارٌ لِلْفَلاَحِ وَالْفَوْزِ عِنْدَ كُل صَلاَةٍ فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ، لِتَرْكِيزِ ذَلِكَ فِي نَفْسِ الْمُسْلِمِ، وَإِظْهَارٌ لِشَعِيرَةٍ مِنْ أَفْضَل الشَّعَائِرِ (3) .
كَيْفِيَّةُ الإِْقَامَةِ:
7 - اتَّفَقَتِ الْمَذَاهِبُ عَلَى أَنَّ أَلْفَاظَ الإِْقَامَةِ هِيَ
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 403 ط العاصمة، ومواهب الجليل 1 / 461 ط ليبيا، والمجموع للنووي 3 / 81.
(2) حديث: " المسيء صلاته ". أخرجه البخاري (2 / 237 - الفتح ط السلفية) ومسلم (1 / 298 - ط الحلبي) .
(3) فتح القدير 1 / 167، ومواهب الجليل 1 / 423، والمجموع للنووي 3 / 81، ونهاية المحتاج 1 / 384(6/6)
نَفْسُ أَلْفَاظِ الأَْذَانِ فِي الْجُمْلَةِ بِزِيَادَةِ: " قَدْ قَامَتِ الصَّلاَةُ " بَعْدَ " حَيَّ عَلَى الْفَلاَحِ ".
وَكَذَلِكَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ التَّرْتِيبَ بَيْنَ أَلْفَاظِهَا هُوَ نَفْسُ تَرْتِيبِ أَلْفَاظِ الأَْذَانِ، إِلاَّ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي تَكْرَارِ وَإِفْرَادِ أَلْفَاظِهَا عَلَى الْوَجْهِ الآْتِي:
اللَّهُ أَكْبَرُ.
تُقَال فِي بَدْءِ الإِْقَامَةِ " مَرَّتَيْنِ " عِنْدَ الْمَذَاهِبِ الثَّلاَثَةِ، وَأَرْبَعَ مَرَّاتٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ.
تُقَال " مَرَّةً وَاحِدَةً " عِنْدَ الْمَذَاهِبِ الثَّلاَثَةِ " وَمَرَّتَيْنِ " عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّهِ.
تُقَال " مَرَّةً وَاحِدَةً " عِنْدَ الْمَذَاهِبِ الثَّلاَثَةِ " وَمَرَّتَيْنِ " عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
حَيَّ عَلَى الصَّلاَةِ.
تُقَال: " مَرَّةً وَاحِدَةً " عِنْدَ الْمَذَاهِبِ الثَّلاَثَةِ " وَمَرَّتَيْنِ " عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
حَيَّ عَلَى الْفَلاَحِ.
تُقَال: " مَرَّةً وَاحِدَةً " عِنْدَ الْمَذَاهِبِ الثَّلاَثَةِ " وَمَرَّتَيْنِ " عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
قَدْ قَامَتِ الصَّلاَةُ.
تُقَال " مَرَّتَيْنِ " عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ " وَمَرَّةً وَاحِدَةً " عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى الْمَشْهُورِ.
اللَّهُ أَكْبَرُ.
تُقَال " مَرَّتَيْنِ " عَلَى الْمَذَاهِبِ الأَْرْبَعَةِ.
لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ.
تُقَال " مَرَّةً وَاحِدَةً " عَلَى الْمَذَاهِبِ الأَْرْبَعَةِ.
وَيُسْتَخْلَصُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْمَذَاهِبَ الثَّلاَثَةَ تَخْتَلِفُ عَنِ الْحَنَفِيَّةِ بِإِفْرَادِ أَكْثَرِ أَلْفَاظِ الإِْقَامَةِ كَمَا تَقَدَّمَ.(6/7)
وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ قَال: أُمِرَ بِلاَلٌ أَنْ يَشْفَعَ الأَْذَانَ وَيُوتِرَ الإِْقَامَةَ. (1) وَبِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَال: إِنَّمَا كَانَ الأَْذَانُ عَلَى عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ، وَالإِْقَامَةُ مَرَّةً مَرَّةً. (2)
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَيَجْعَلُونَ الإِْقَامَةَ مِثْل الأَْذَانِ بِزِيَادَةِ " قَدْ قَامَتِ الصَّلاَةُ " مَرَّتَيْنِ بَعْدَ " حَيَّ عَلَى الْفَلاَحِ (3) ".
وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ الأَْنْصَارِيِّ، أَنَّهُ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ، رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ كَأَنَّ رَجُلاً قَامَ وَعَلَيْهِ بُرْدَانِ أَخْضَرَانِ، فَقَامَ عَلَى حَائِطٍ فَأَذَّنَ مَثْنَى مَثْنَى، وَأَقَامَ مَثْنَى مَثْنَى وَلِمَا رُوِيَ كَذَلِكَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ فَاسْتَقْبَل الْقِبْلَةَ، يَعْنِي الْمَلَكَ، وَقَال: اللَّهُ أَكْبَرُ. اللَّهُ أَكْبَرُ. . إِلَى آخِرِ الأَْذَانِ. قَال: ثُمَّ أَمْهَل هُنَيْهَةً، ثُمَّ قَامَ فَقَال مِثْلَهَا، إِلاَ أَنَّهُ قَال: زَادَ بَعْدَمَا قَال " حَيَّ عَلَى الْفَلاَحِ ": قَدْ قَامَتِ الصَّلاَةُ، قَدْ قَامَتِ الصَّلاَةُ (4) .
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَيَخْتَلِفُونَ عَنْ غَيْرِهِمْ فِي تَثْنِيَةِ " قَدْ قَامَتِ الصَّلاَةُ "، فَالْمَشْهُورُ عِنْدَهُمْ أَنَّهَا تُقَال مَرَّةً
__________
(1) حديث أنس: " أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة "، أخرجه البخاري (2 / 77 - الفتح ط السلفية) ومسلم (1 / 286 ط الحلبي) وزاد البخاري فيه (2 / 82) قوله: " إلا الإقامة ".
(2) حديث ابن عمر: " إنما كان الأذان على عهد رسول صلى الله عليه وسلم مرتين مرتين والإقامة مرة مرة ". أخرجه أبو داود (1 / 350 - ط عزت عبيد دعاس) والنسائي (2 / 21 ط المكتبة التجارية) . وهو ثابت لطرقه. التلخيص الحبير (1 / 196 - ط دار المحاسن) .
(3) فتح القدير 1 / 169، والجمل على شرح المنهج 1 / 301 ط إحياء التراث، ومواهب الجليل 1 / 461 ط ليبيا، والمغني 1 / 406 ط الرياض
(4) حديث عبد الله بن زيد. . أخرجه أبو داود (1 / 337 - ط عزت عبيد دعاس) وحسنه ابن عبد البر. كما في فتح الباري (2 / 81 - ط السلفية) .(6/7)
وَاحِدَةً. لِمَا رَوَى أَنَسٌ قَال: أُمِرَ بِلاَلٌ أَنْ يَشْفَعَ الأَْذَانَ وَيُوتِرَ الإِْقَامَةَ. (1)
حَدْرُ الإِْقَامَةِ:
8 - الْحَدْرُ هُوَ الإِْسْرَاعُ وَقَطْعُ التَّطْوِيل.
وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى الْحَدْرِ فِي الإِْقَامَةِ وَالتَّرَسُّل فِي الأَْذَانِ، لِحَدِيثِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا أَذَّنْتَ فَتَرَسَّل، وَإِذَا أَقَمْتَ فَاحْدُرْ، وَلِمَا رَوَى أَبُو عُبَيْدٍ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال لِمُؤَذِّنِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ: " إِذَا أَذَّنْتَ فَتَرَسَّل، وَإِذَا أَقَمْتَ فَاحْذِمْ قَال الأَْصْمَعِيُّ: وَأَصْل الْحَذْمِ - بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ - فِي الْمَشْيِ إِنَّمَا هُوَ الإِْسْرَاعُ (2) .
وَقْتُ الإِْقَامَةِ:
9 - شُرِعَتِ الإِْقَامَةُ أُهْبَةً لِلصَّلاَةِ بَيْنَ يَدَيْهَا، تَفْخِيمًا لَهَا كَغُسْل الإِْحْرَامِ، وَغُسْل الْجُمُعَةِ، ثُمَّ لإِِعْلاَمِ النَّفْسِ بِالتَّأَهُّبِ وَالْقِيَامِ لِلصَّلاَةِ، وَإِعْلاَمِ
__________
(1) شرح الزرقاني 1 / 162 ط دار الفكر، وجواهر الإكليل 1 / 37، والدسوقي 1 / 184 ط دار الفكر. وحديث أنس سبق تخريجه في هذه الفقرة نفسها.
(2) المغني 1 / 407، والاختيار 1 / 43 ط دار المعرفة، ومواهب الجليل 1 / 437، والمجموع 3 / 108، وفتح القدير 1 / 170 ط دار صادر، والأشباه والنظائر بحاشية الحموي 2 ر 244 ط العامرة. وحديث: " وإذا أذنت فترسل، وإذا أقمت فاحدر ". رواه الترمذي (1 / 373 - ط الحلبي) وأعله الزيلعي في نصب الراية (1 / 275 - ط المجلس العلمي) بضعف راويين في إسناده. ورواية أبي عبيد بإسناده عن عمر رضي الله عنه " إذا أذنت فترسل وإذا أقمت فاحذم " أخرجه الدارقطني (1 / 238 - ط شركة الطباعة الفنية) وفي إسناده جهالة. كذا في التعليق على الدارقطني.(6/8)
الاِفْتِتَاحِ (1) . وَلاَ يَصِحُّ تَقْدِيمُهَا عَلَى وَقْتِ الصَّلاَةِ، بَل يَدْخُل وَقْتُهَا بِدُخُول وَقْتِ الصَّلاَةِ، وَيُشْتَرَطُ لَهَا شَرْطَانِ، الأَْوَّل: دُخُول الْوَقْتِ، وَالثَّانِي: إِرَادَةُ الدُّخُول فِي الصَّلاَةِ.
فَإِنْ أَقَامَ قُبَيْل الْوَقْتِ بِجُزْءٍ يَسِيرٍ بِحَيْثُ دَخَل الْوَقْتُ عَقِبَ الإِْقَامَةِ، ثُمَّ شَرَعَ فِي الصَّلاَةِ عَقِبَ ذَلِكَ لَمْ تَحْصُل الإِْقَامَةُ، وَإِنْ أَقَامَ فِي الْوَقْتِ وَأَخَّرَ الدُّخُول فِي الصَّلاَةِ بَطَلَتْ إِقَامَتُهُ إِنْ طَال الْفَصْل، لأَِنَّهَا تُرَادُ لِلدُّخُول فِي الصَّلاَةِ، فَلاَ يَجُوزُ إِطَالَةُ الْفَصْل. (2) .
مَا يُشْتَرَطُ لإِِجْزَاءِ الإِْقَامَةِ:
10 - يُشْتَرَطُ فِي الإِْقَامَةِ مَا يَأْتِي:
دُخُول الْوَقْتِ، وَنِيَّةُ الإِْقَامَةِ، وَالأَْدَاءُ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَالْخُلُوُّ مِنَ اللَّحْنِ الْمُغَيِّرِ لِلْمَعْنَى، وَرَفْعُ الصَّوْتِ. وَلَكِنْ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالإِْقَامَةِ يَكُونُ أَخَفَّ مِنْ رَفْعِهِ بِالأَْذَانِ، لاِخْتِلاَفِ الْمَقْصُودِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا. فَالْمَقْصُودُ مِنَ الأَْذَانِ: إِعْلاَمُ الْغَائِبِينَ بِالصَّلاَةِ، أَمَّا الإِْقَامَةُ فَالْمَقْصُودُ مِنْهَا طَلَبُ قِيَامِ الْحَاضِرِينَ فِعْلاً لِلصَّلاَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي وَقْتِ الإِْقَامَةِ. وَكَذَلِكَ يُشْتَرَطُ التَّرْتِيبُ بَيْنَ الْكَلِمَاتِ، وَالْمُوَالاَةُ بَيْنَ أَلْفَاظِ الإِْقَامَةِ.
وَفِي هَذِهِ الشُّرُوطِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ " أَذَان (3) ".
__________
(1) الحطاب 1 / 464 ط ليبيا، والهداية مع فتح القدير 1 / 178.
(2) المجموع للنووي 3 / 89، والمغني 1 / 2 1 4، 6 1 4، وشرح العناية على فتح القدير 171، 172
(3) ابن عابدين 1 / 256، وبدائع الصنائع 1 / 149، 409، والطحطاوي 1 / 105، وحاشية السوقي 1 / 181، 196، والحطاب 1 / 428، 437، 477، والمجموع 3 / 113، وأسنى المطالب 1 / 33 1، والرهوني 1 / 314، والمغني 1 / 439، 449، وكشاف القناع 1 / 211 - 222(6/8)
شَرَائِطُ الْمُقِيمِ:
11 - تَشْتَرِكُ الإِْقَامَةُ مَعَ الأَْذَانِ فِي هَذِهِ الشَّرَائِطِ وَنَذْكُرُهَا إِجْمَالاً، وَمَنْ أَرَادَ زِيَادَةَ تَفْصِيلٍ فَلْيَرْجِعْ إِلَى مُصْطَلَحِ (أَذَان) ، وَأَوَّل هَذِهِ الشُّرُوطِ.
أ - الإِْسْلاَمُ:
اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اشْتِرَاطِ الإِْسْلاَمِ فِي الْمُقِيمِ، فَلاَ تَصِحُّ الإِْقَامَةُ مِنَ الْكَافِرِ وَلاَ الْمُرْتَدِّ لأَِنَّهَا عِبَادَةٌ، وَهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِهَا. (1)
ب - الذُّكُورَةُ:
اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ أَذَانِ الْمَرْأَةِ وَإِقَامَتِهَا لِجَمَاعَةِ الرِّجَال، لأَِنَّ الأَْذَانَ فِي الأَْصْل لِلإِْعْلاَمِ، وَلاَ يُشْرَعُ لَهَا ذَلِكَ، وَالأَْذَانُ يُشْرَعُ لَهُ رَفْعُ الصَّوْتِ، وَلاَ يُشْرَعُ لَهَا رَفْعُ الصَّوْتِ، وَمَنْ لاَ يُشْرَعُ فِي حَقِّهِ الأَْذَانُ لاَ يُشْرَعُ فِي حَقِّهِ الإِْقَامَةُ.
وَأَمَّا إِذَا كَانَتْ مُنْفَرِدَةً أَوْ فِي جَمَاعَةِ النِّسَاءِ فَفِيهِ اتِّجَاهَاتٌ.
الأَْوَّل: الاِسْتِحْبَابُ. وَهُوَ قَوْل الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
الثَّانِي: الإِْبَاحَةُ. وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ.
الثَّالِثُ: الْكَرَاهَةُ. وَهُوَ قَوْل الْحَنَفِيَّةِ. (2)
ج - الْعَقْل:
نَصَّ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ عَلَى بُطْلاَنِ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 263، والبحر الرائق 1 / 279، والجمل 1 / 304، ونهاية المحتاج 1 / 394، والمجموع 3 / 99، والحطاب 1 / 434، وحاشية الدسوقي 1 / 195، والمغني 1 / 429.
(2) تبيين الحقائق 1 / 94، والفتاوى الهندية 1 / 54 ط بولاق، والمغني 1 / 422 ط الرياض، والمهذب 1 / 64، وحاشية الدسوقي 1 / 200 ط دار الفكر، ومواهب الجليل 1 / 463، 464.(6/9)
أَذَانِ وَإِقَامَةِ الْمَجْنُونِ وَالْمَعْتُوهِ وَالسَّكْرَانِ، وَقَالُوا: يَجِبُ إِعَادَةُ أَذَانِهِمْ، وَلَمْ يُخَالِفْ فِي هَذَا إِلاَّ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ فِي السَّكْرَانِ، حَيْثُ قَالُوا بِكَرَاهَةِ أَذَانِهِ وَإِقَامَتِهِ وَاسْتِحْبَابِ إِعَادَتِهِمَا. (1)
د - الْبُلُوغُ: لِلْعُلَمَاءِ فِي إِقَامَةِ الصَّبِيِّ ثَلاَثَةُ آرَاءَ:
الأَْوَّل: لاَ تَصِحُّ إِقَامَةُ الصَّبِيِّ سَوَاءٌ أَكَانَ مُمَيِّزًا أَمْ غَيْرَ مُمَيِّزٍ، وَهُوَ رَأْيٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
الثَّانِي: تَصِحُّ إِقَامَتُهُ إِنْ كَانَ مُمَيِّزًا عَاقِلاً، وَهُوَ رَأْيٌ آخَرُ فِي تِلْكَ الْمَذَاهِبِ.
الثَّالِثُ: الْكَرَاهَةُ إِذَا كَانَ مُمَيِّزًا، وَهُوَ رَأْيٌ لِلْحَنَفِيَّةِ. (2)
هـ - الْعَدَالَةُ: فِي إِقَامَةِ الْفَاسِقِ ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ (3) :
الأَْوَّل: لاَ يُعْتَدُّ بِهَا، وَهُوَ رَأْيٌ لِلْحَنَفِيَّةِ، وَرَأْيٌ لِلْحَنَابِلَةِ.
الثَّانِي: الْكَرَاهَةُ: وَهُوَ رَأْيٌ لِلْحَنَفِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةِ.
الثَّالِثُ: يَصِحُّ وَيُسْتَحَبُّ إِعَادَتُهُ. وَهُوَ رَأْيٌ لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل وَتَوْجِيهُ ذَلِكَ فِي (الأَْذَان) .
و الطَّهَارَةُ:
اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى كَرَاهَةِ الإِْقَامَةِ مَعَ الْحَدَثِ الأَْصْغَرِ، لأَِنَّ السُّنَّةَ وَصْل الإِْقَامَةِ بِالشُّرُوعِ بِالصَّلاَةِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى سُنِّيَّةِ الإِْعَادَةِ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 263 ط بولاق، والفتاوى الهندية 1 / 54، والحطاب 1 / 434 ط ليبيا، وحاشية الدسوقي 1 / 195، والمجموع 3 / 100، والمغني 1 / 429
(2) ابن عابدين 1 / 263، والحطاب 1 / 435، والمجموع 3 / 100، والمغني 1 / 429
(3) منحة الخالق على البحر الرائق 1 / 278، والمغني 1 / 413 ط الرياض، والخرشي 1 / 232، والنووي 3 / 101.(6/9)
مَا عَدَا الْحَنَفِيَّةَ. وَفِي رَأْيٍ لِلْحَنَفِيَّةِ أَنَّ إِقَامَةَ الْمُحْدِثِ حَدَثًا أَصْغَرَ جَائِزَةٌ بِغَيْرِ كَرَاهَةٍ.
أَمَّا مِنَ الْحَدَثِ الأَْكْبَرِ فَفِيهِ رَأْيَانِ:
الأَْوَّل: ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، إِلَى كَرَاهَةِ إِقَامَةِ الْمُحْدِثِ حَدَثًا أَكْبَرَ.
الثَّانِي: الرِّوَايَةُ الأُْخْرَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: بُطْلاَنُ الأَْذَانِ مَعَ الْحَدَثِ الأَْكْبَرِ، وَهُوَ قَوْل عَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ وَالأَْوْزَاعِيِّ وَإِسْحَاقَ (1) .
مَا يُسْتَحَبُّ فِي الإِْقَامَةِ:
12 - اتَّفَقَتِ الْمَذَاهِبُ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْحَدْرِ فِي الإِْقَامَةِ وَالتَّرَسُّل فِي الأَْذَانِ كَمَا مَرَّ (ف) . وَفِي الْوَقْفِ عَلَى آخِرِ كُل جُمْلَةٍ فِي الإِْقَامَةِ رَأْيَانِ:
الأَْوَّل: قَال الْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ رَأْيٌ لِلْحَنَفِيَّةِ، الإِْقَامَةُ مُعْرَبَةٌ إِنْ وَصَل كَلِمَةً بِكَلِمَةٍ. فَإِنْ وَقَفَ الْمُقِيمُ وَقَفَ عَلَيْهَا بِالسُّكُونِ.
الثَّانِي: قَال الْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ رَأْيٌ آخَرُ لِلْحَنَفِيَّةِ، وَرَأْيٌ لِلْمَالِكِيَّةِ: الإِْقَامَةُ عَلَى الْجَزْمِ مِثْل الأَْذَانِ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّخَعِيِّ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ وَمَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أَنَّهُ قَال: الأَْذَانُ جَزْمٌ، وَالإِْقَامَةُ جَزْمٌ، وَالتَّكْبِيرُ جَزْمٌ (2) .
وَفِي التَّكْبِيرَتَيْنِ الأُْولَيَيْنِ أَقْوَالٌ، فَالتَّكْبِيرَةُ الأُْولَى فِيهَا قَوْلاَنِ:
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 413 ط العاصمة، والبحر الرائق 1 / 277 وحاشية الدسوقي 1 / 195، والمجموع للنووي 3 / 104، 105، والمغني 1 / 413 ط الرياض. ويلاحظ أنه لا يحل للمحدث حدثا أكبر دخول المسجد.
(2) ابن عابدين 1 / 259، والحطاب 1 / 426، وكشاف القناع 1 / 216، والمغني 1 / 407 وحديث: " الأذان جزم، والإقامة جزم، والتكبير جزم ". قال السخاوي: لا أصل له، إنما هو من قول إبراهيم النخعي. المقاصد الحسنة (ص 160 - ط الخانجي) .(6/10)
الأَْوَّل، لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ: فِيهَا الْوَقْفُ بِالسُّكُونِ، وَالْفَتْحُ، وَالضَّمُّ.
الثَّانِي، رَأْيٌ لِلْمَالِكِيَّةِ: فِيهَا السُّكُونُ، أَوِ الضَّمُّ.
أَمَّا التَّكْبِيرَةُ الثَّانِيَةُ فَفِيهَا أَيْضًا قَوْلاَنِ:
الأَْوَّل، رَأْيٌ لِلْمَالِكِيَّةِ، وَرَأْيٌ لِلْحَنَفِيَّةِ: الْجَزْمُ لاَ غَيْرُ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ الإِْقَامَةَ جَزْمٌ.
الثَّانِي: الإِْعْرَابُ وَهُوَ: الضَّمُّ، وَهُوَ رَأْيٌ آخَرُ لِلْمَالِكِيَّةِ، وَرَأْيٌ لِلْحَنَفِيَّةِ، وَالْجَمِيعُ جَائِزٌ، وَلَكِنَّ الْخِلاَفَ فِي الأَْفْضَل وَالْمُسْتَحَبِّ. (1)
13 - وَمِنْ مُسْتَحَبَّاتِ الأَْذَانِ وَالإِْقَامَةِ عِنْدَ الْمَذَاهِبِ: اسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ، غَيْرَ أَنَّهُمُ اسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ الاِلْتِفَاتَ عِنْدَ الْحَيْعَلَتَيْنِ " حَيَّ عَلَى الصَّلاَةِ، حَيَّ عَلَى الْفَلاَحِ ". وَفِي الاِلْتِفَاتِ عِنْدَ الْحَيْعَلَتَيْنِ فِي الإِْقَامَةِ ثَلاَثَةُ آرَاءَ.
الأَْوَّل: يُسْتَحَبُّ الاِلْتِفَاتُ عِنْدَ الْحَيْعَلَتَيْنِ
الثَّانِي: يُسْتَحَبُّ إِذَا كَانَ الْمَكَانُ مُتَّسَعًا، وَلاَ يُسْتَحَبُّ إِذَا كَانَ الْمَكَانُ ضَيِّقًا، أَوِ الْجَمَاعَةُ قَلِيلَةً.
وَهَذَانِ الرَّأْيَانِ لِلْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ. (2)
الثَّالِثُ: لاَ يُسْتَحَبُّ أَصْلاً لأَِنَّ الاِسْتِحْبَابَ فِي الأَْذَانِ كَانَ لإِِعْلاَمِ الْغَائِبِينَ، وَالإِْقَامَةُ لإِِعْلاَمِ الْحَاضِرِينَ الْمُنْتَظِرِينَ لِلصَّلاَةِ، فَلاَ يُسْتَحَبُّ تَحْوِيل الْوَجْهِ، وَهَذَا الرَّأْيُ لِلْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ رَأْيٌ لِلْحَنَفِيَّةِ، وَرَأْيٌ لِلشَّافِعِيَّةِ. وَيُؤْخَذُ مِنْ كَلاَمِ الْمَالِكِيَّةِ جَوَازُ
__________
(1) نفس المراجع السابقة.
(2) البحر الرائق 1 / 272، والمجموع للنووي 3 / 07 1.(6/10)
الاِلْتِفَاتِ فِي الْحَيْعَلَتَيْنِ. وَفِي رَأْيٍ آخَرَ أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ هُوَ اسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ فِي الاِبْتِدَاءِ. (1)
14 - وَيُسْتَحَبُّ فِيمَنْ يُقِيمُ الصَّلاَةَ: أَنْ يَكُونَ تَقِيًّا، عَالِمًا بِالسُّنَّةِ، وَعَالِمًا بِأَوْقَاتِ الصَّلاَةِ، وَحَسَنَ الصَّوْتِ، مُرْتَفِعَهُ مِنْ غَيْرِ تَطْرِيبٍ وَلاَ غِنَاءٍ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي الأَْذَانِ.
15 - وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِمُقِيمِ الصَّلاَةِ أَنْ يُقِيمَ وَاقِفًا. وَتُكْرَهُ الإِْقَامَةُ قَاعِدًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ. فَإِنْ كَانَ بِعُذْرٍ فَلاَ بَأْسَ. قَال الْحَسَنُ الْعَبْدِيُّ: " رَأَيْتُ أَبَا زَيْدٍ صَاحِبَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَتْ رِجْلُهُ أُصِيبَتْ فِي سَبِيل اللَّهِ، يُؤَذِّنُ قَاعِدًا (2) وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَسِيرٍ فَانْتَهَوْا إِلَى مَضِيقٍ، وَحَضَرَتِ الصَّلاَةُ، فَمَطَرَتِ السَّمَاءُ مِنْ فَوْقِهِمْ، وَالْبِلَّةُ مِنْ أَسْفَل فِيهِمْ، فَأَذَّنَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ وَأَقَامَ، فَتَقَدَّمَ عَلَى رَاحِلَتِهِ، فَصَلَّى بِهِمْ يُومِئُ إِيمَاءً، يَجْعَل السُّجُودَ أَخْفَضَ مِنَ الرُّكُوعِ (3) . كَمَا تُكْرَهُ إِقَامَةُ الْمَاشِي وَالرَّاكِبِ فِي السَّفَرِ وَغَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ. لِمَا رُوِيَ أَنَّ بِلاَلاً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " أَذَّنَ وَهُوَ رَاكِبٌ، ثُمَّ
__________
(1) البحر الرائق 1 / 272، والحطاب والتاج والإكليل عليه 1 / 441 ط ليبيا، وحاشية الدسوقي 1 / 156 ط دار الفكر، والخرشي وحاشية العدوي عليه 1 / 232 ط دار صادر، والمجموع للنووي 3 / 107، والمغني 1 / 426 ط الرياض، وكشاف القناع 1 / 217 ط أنصار السنة
(2) قول الحسن العبدي: رأيت أبا زيد صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤذن قاعدا. رواه البيهقي (1 / 392) وإسناده حسن. التلخيص لابن حجر (1 / 303 - ط دار المحاسن) .
(3) حديث: " أن الصحابة كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسير. . أخرجه الترمذي (2 / 267 ط الحلبي) والبيهقي (2 / 7 - ط دائرة المعارف العثمانية) وقال: وفي إسناده ضعف.(6/11)
نَزَل وَأَقَامَ عَلَى الأَْرْضِ (1) .
وَلأَِنَّهُ لَوْ لَمْ يَنْزِل لَوَقَعَ الْفَصْل بَيْنَ الإِْقَامَةِ وَالشُّرُوعِ فِي الصَّلاَةِ بِالنُّزُول، وَأَنَّهُ مَكْرُوهٌ، وَلأَِنَّهُ يَدْعُو النَّاسَ إِلَى الْقِيَامِ لِلصَّلاَةِ وَهُوَ غَيْرُ مُتَهَيِّئٍ لَهَا. وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ أَنَّ إِقَامَةَ الرَّاكِبِ فِي السَّفَرِ بِدُونِ عُذْرٍ جَائِزَةٌ بِدُونِ كَرَاهَةٍ (2) .
مَا يُكْرَهُ فِي الإِْقَامَةِ
16 - يُكْرَهُ فِي الإِْقَامَةِ: تَرْكُ شَيْءٍ مِنْ مُسْتَحَبَّاتِهَا الَّتِي سَبَقَتِ الإِْشَارَةُ إِلَيْهَا، وَمِمَّا يُكْرَهُ أَيْضًا: الْكَلاَمُ فِي الإِْقَامَةِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ إِذَا كَانَ كَثِيرًا، أَمَّا إِنْ كَانَ الْكَلاَمُ فِي الإِْقَامَةِ لِضَرُورَةٍ مِثْل مَا لَوْ رَأَى أَعْمَى يَخَافُ وُقُوعَهُ فِي بِئْرٍ، أَوْ حَيَّةً تَدِبُّ إِلَى غَافِلٍ، أَوْ سَيَّارَةً تُوشِكُ أَنْ تَدْهَمَهُ وَجَبَ عَلَيْهِ إِنْذَارَهُ وَيَبْنِي عَلَى إِقَامَتِهِ.
أَمَّا الْكَلاَمُ الْقَلِيل لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ فَفِيهِ رَأْيَانِ:
الأَْوَّل: لاَ يُكْرَهُ بَل يُؤَدِّي إِلَى تَرْكِ الأَْفْضَل. قَال بِهَذَا الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَكَلَّمَ فِي الْخُطْبَةِ، (3) فَالأَْذَانُ أَوْلَى أَلاَّ يَبْطُل، وَكَذَلِكَ الإِْقَامَةُ، وَلأَِنَّهُمَا يَصِحَّانِ مَعَ الْحَدَثِ، وَقَاعِدًا، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ التَّخْفِيفِ.
__________
(1) الأثر عن بلال رضي الله عنه: أذن بلال وهو راكب ثم نزل أخرجه البيهقي في سننه (1 / 392 - ط دائرة المعارف العثمانية) وأعله بالإرسال.
(2) ابن عابدين 1 / 26، وبدائع الصنائع 1 / 413، 414، وكشاف القناع 1 / 216، 217، والمغني 1 / 424 ط الرياض، والمجموع للنووي 3 / 106، والحطاب 1 / 441.
(3) حديث: " تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخطبة ". أخرجه البخاري (2 / 407 - الفتح ط السلفية) ومسلم (2 / 596 - ط الحلبي) .(6/11)
الثَّانِي: يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ، وَيَبْنِي عَلَى إِقَامَتِهِ، وَبِهَذَا قَال الزُّهْرِيُّ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، لأَِنَّ الإِْقَامَةَ حَدْرٌ، وَهَذَا يُخَالِفُ الْوَارِدَ، وَيَقْطَعُ بَيْنَ كَلِمَاتِهَا. (1)
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ التَّمْطِيطَ وَالتَّغَنِّيَ وَالتَّطْرِيبَ بِزِيَادَةِ حَرَكَةٍ أَوْ حَرْفٍ أَوْ مَدٍّ أَوْ غَيْرِهَا فِي الأَْوَائِل وَالأَْوَاخِرِ مَكْرُوهٌ، لِمُنَافَاةِ الْخُشُوعِ وَالْوَقَارِ.
أَمَّا إِذَا تَفَاحَشَ التَّغَنِّي وَالتَّطْرِيبُ بِحَيْثُ يُخِل بِالْمَعْنَى فَإِنَّهُ يَحْرُمُ بِدُونِ خِلاَفٍ فِي ذَلِكَ (2) . لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلاً قَال لاِبْنِ عُمَرَ: إِنِّي لأَُحِبُّكَ فِي اللَّهِ. قَال: وَأَنَا أَبْغَضُكَ فِي اللَّهِ، إِنَّكَ تَتَغَنَّى فِي أَذَانِكَ (3) . قَال حَمَّادٌ: يَعْنِي التَّطْرِيبَ.
إِقَامَةُ غَيْرِ الْمُؤَذِّنِ:
17 - قَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يَنْبَغِي أَنْ يَتَوَلَّى الإِْقَامَةَ مَنْ تَوَلَّى الأَْذَانَ. وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنِ الْحَارِثِ الصُّدَائِيِّ أَنَّهُ قَال: بَعَثَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلاَلاً إِلَى حَاجَةٍ لَهُ فَأَمَرَنِي أَنْ أُؤَذِّنَ فَأَذَّنْتُ، فَجَاءَ بِلاَلٌ وَأَرَادَ أَنْ يُقِيمَ، فَنَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ وَقَال: إِنَّ أَخَا صِدَاءٍ هُوَ الَّذِي أَذَّنَ، وَمَنْ أَذَّنَ فَهُوَ الَّذِي يُقِيمُ (4)
__________
(1) ابن عابدين 1 / 260 ط بولاق، وحاشية الدسوقي 1 / 179ط دار الفكر، والمجموع للنووي 3 / 115، والمغني 1 / 425 ط الرياض.
(2) المجموع للنووي 3 / 108، وابن عابدين 1 / 259، وكشاف القناع 1 / 222، وحاشية الدسوقي 1 / 196.
(3) روي أن رجلا قال لابن عمر: " إني أحبك في الله ". أخرجه الطبراني في الكبير كما في مجمع الزوائد للهيثمي (2 / 3 - ط القدسي) وقال الهيثمي: فيه يحيى البكاء ضعفه أحمد وأبو حاتم وأبو داود.
(4) حديث: " إن أخا صداء هو الذي أذن ومن أذن فهو الذي يقيم " أخرجه ابن ماجه (1 / 237 - ط الحلبي) وإسناده ضعيف. التلخيص لابن حجر (1 / 209 - ط دار المحاسن) .(6/12)
وَلأَِنَّهُمَا فِعْلاَنِ مِنَ الذِّكْرِ يَتَقَدَّمَانِ الصَّلاَةَ، فَيُسَنُّ أَنْ يَتَوَلاَّهُمَا وَاحِدٌ كَالْخُطْبَتَيْنِ، وَوَافَقَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى هَذَا الرَّأْيِ إِذَا كَانَ الْمُؤَذِّنُ يَتَأَذَّى مِنْ إِقَامَةِ غَيْرِهِ، لأَِنَّ أَذَى الْمُسْلِمِ مَكْرُوهٌ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ بَأْسَ أَنْ يُؤَذِّنَ رَجُلٌ وَيُقِيمَ غَيْرُهُ، لِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ رَأَى الأَْذَانَ فِي الْمَنَامِ فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ فَقَال: أَلْقِهِ عَلَى بِلاَلٍ، فَأَلْقَاهُ عَلَيْهِ، فَأَذَّنَ بِلاَلٌ، فَقَال عَبْدُ اللَّهِ: أَنَا رَأَيْتُهُ وَأَنَا كُنْتُ أُرِيدُهُ قَال: أَقِمْ أَنْتَ.
وَلأَِنَّهُ يَحْصُل الْمَقْصُودُ مِنْهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ تَوَلاَّهُمَا مَعًا، وَوَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ إِذَا كَانَ الْمُؤَذِّنُ لاَ يَتَأَذَّى مِنْ إِقَامَةِ غَيْرِهِ. (2)
إِعَادَةُ الإِْقَامَةِ فِي الْمَسْجِدِ الْوَاحِدِ:
18 - لَوْ صُلِّيَ فِي مَسْجِدٍ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ، هَل يُكْرَهُ أَنْ يُؤَذَّنَ وَيُقَامَ فِيهِ ثَانِيًا؟ فِي الْمَسْأَلَةِ ثَلاَثَةُ آرَاءَ:
الأَْوَّل لِلْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ رَأْيٌ لِلْمَالِكِيَّةِ، وَرَأْيٌ ضَعِيفٌ لِلشَّافِعِيَّةِ: إِذَا صُلِّيَ فِي الْمَسْجِدِ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ كُرِهَ لِمَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ أَنْ يُؤَذِّنَ وَيُقِيمَ، وَشَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ أَنْ يَكُونَ مَنْ أَذَّنَ وَصَلَّى أَوَّلاً هُمْ أَهْل الْمَسْجِدِ " أَيْ أَهْل حَيِّهِ " فَمَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ فَأَذَانُ الْجَمَاعَةِ وَإِقَامَتُهُمْ لَهُمْ أَذَانٌ وَإِقَامَةٌ.
الثَّانِي فِي الرَّأْيِ الرَّاجِحِ لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ:
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 414 ط العاصمة، والمغني 1 / 415 ط الرياض، والمجموع 3 / 121.
(2) بدائع الصنائع 1 / 414 ط العاصمة، والحطاب 1 / 453 ط ليبيا، والمغني 1 / 416 ط الرياض.(6/12)
يُسْتَحَبُّ أَنْ يُؤَذِّنَ وَيُقِيمَ لِلْجَمَاعَةِ الثَّانِيَةِ، إِلاَّ أَنَّهُ لاَ يَرْفَعُ صَوْتَهُ فَوْقَ مَا يَسْمَعُونَ، وَوَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ إِذَا كَانَ الْمَسْجِدُ عَلَى الطَّرِيقِ، وَلَيْسَ لَهُ أَهْلٌ مَعْلُومُونَ، أَوْ صَلَّى فِيهِ غَيْرُ أَهْلِهِ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لأَِهْلِهِ أَنْ يُؤَذِّنُوا وَيُقِيمُوا.
الثَّالِثُ لِلْحَنَابِلَةِ: الْخِيَارُ، إِنْ شَاءَ أَذَّنَ وَأَقَامَ وَيُخْفِيَ أَذَانَهُ وَإِقَامَتَهُ، وَإِنْ شَاءَ صَلَّى مِنْ غَيْرِ أَذَانٍ وَلاَ إِقَامَةٍ. (1)
مَا يُقَامُ لَهُ مِنَ الصَّلَوَاتِ:
19 - يُقَامُ لِلصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ الْمَفْرُوضَةِ فِي حَال الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ وَالاِنْفِرَادِ وَالْجَمَاعَةِ وَالْجُمُعَةِ.
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى طَلَبِ الإِْقَامَةِ لِكُلٍّ مِنَ الصَّلاَتَيْنِ الْمَجْمُوعَتَيْنِ، لأَِنَّ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِمُزْدَلِفَةَ وَأَقَامَ لِكُل صَلاَةٍ (2) . وَلأَِنَّهُمَا صَلاَتَانِ جَمَعَهُمَا وَقْتٌ وَاحِدٌ، وَتُصَلَّى كُل صَلاَةٍ وَحْدَهَا، فَاقْتَضَى أَنْ تَكُونَ لِكُل صَلاَةٍ إِقَامَةٌ. (3)
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى طَلَبِ الإِْقَامَةِ لِلصَّلَوَاتِ الْفَوَائِتِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ حِينَ شَغَلَهُمُ الْكُفَّارُ يَوْمَ الأَْحْزَابِ عَنْ أَرْبَعِ صَلَوَاتٍ أَمَرَ بِلاَلاً أَنْ يُؤَذِّنَ وَيُقِيمَ لِكُل وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ، حَتَّى قَالُوا: أَذَّنَ وَأَقَامَ وَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ أَذَّنَ وَأَقَامَ وَصَلَّى الْعَصْرَ، ثُمَّ أَذَّنَ وَأَقَامَ وَصَلَّى
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 418، وحاشية الدسوقي 1 / 198، والمجموع 3 / 85، والمغني 1 / 421
(2) حديث: أن الرسول صلى الله عليه وسلم جمع المغرب. . . . "، أخرجه البخاري (3 / 523 - الفتح ط السلفية) .
(3) بدائع الصنائع 1 / 419 ط العاصمة، والمجموع 3 / 83 ط المنيرية، والمغني 1 / 420، وحاشية الدسوقي 1 / 200.(6/13)
الْمَغْرِبَ، ثُمَّ أَذَّنَ وَأَقَامَ وَصَلَّى الْعِشَاءَ. (1) وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اسْتِحْبَابِ الإِْقَامَةِ لِلْمُنْفَرِدِ، سَوَاءٌ صَلَّى فِي بَيْتِهِ أَوْ فِي مَكَانٍ آخَرَ غَيْرِ الْمَسْجِدِ، لِخَبَرِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، قَال: سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: يَعْجَبُ رَبُّكَ مِنْ رَاعِي غَنَمٍ فِي رَأْسِ الشَّظِيَّةِ لِلْجَبَل يُؤَذِّنُ وَيُقِيمُ لِلصَّلاَةِ وَيُصَلِّي، فَيَقُول اللَّهُ عَزَّ وَجَل: انْظُرُوا إِلَى عَبْدِي هَذَا يُؤَذِّنُ وَيُقِيمُ الصَّلاَةَ يَخَافُ مِنِّي، قَدْ غَفَرْتُ لِعَبْدِي وَأَدْخَلْتُهُ الْجَنَّةَ (2)
وَلَكِنَّهُ إِذَا اقْتَصَرَ عَلَى أَذَانِ الْحَيِّ وَإِقَامَتِهِ أَجْزَأَهُ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ " صَلَّى بِعَلْقَمَةَ وَالأَْسْوَدِ بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلاَ إِقَامَةٍ وَقَال: يَكْفِينَا أَذَانُ الْحَيِّ وَإِقَامَتُهُمْ (3) .
الإِْقَامَةُ لِصَلاَةِ الْمُسَافِرِ:
20 - الأَْذَانُ وَالإِْقَامَةُ لِلْفَرْدِ وَالْجَمَاعَةِ مَشْرُوعَانِ فِي السَّفَرِ كَمَا فِي الْحَضَرِ، سَوَاءٌ أَكَانَ السَّفَرُ سَفَرَ قَصْرٍ أَوْ دُونَهُ. (4)
__________
(1) المجموع للنووي 3 / 82، 83، والمغني 1 / 420 ط الأولى، وبدائع الصنائع 1 / 419 وحديث أبي سعيد حين شغلهم الكفار يوم الأحزاب عن أربع صلوات. أخرجه الشافعي (1 / 86 - ط مكتبة الكليات الأزهرية) وصححه أحمد شاكر في تعليقه على الترمذي (1 / 338 - ط الحلبي) .
(2) حديث: " يعجب ربك. . . " أخرجه النسائي (2 / 20 - ط المكتبة التجارية) وأبو داود (2 / 9 - ط عزت عبيد دعاس) وقال المنذري: رجاله ثقات.
(3) بدائع الصنائع 1 / 416، 417 ط العاصمة، وحاشية الدسوقي 1 / 197، ومواهب الجليل 1 / 451، وابن عابدين 1 / 264، 265، والمجموع للنووي 3 / 85، والمغني 1 / 420 وما بعدها ط الرياض، وكشاف القناع 1 / 211، والأثر عن عبد الله بن مسعود أنه صلى بعلقمة. أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (1 / 220 ط الدار السلفية) وإسناده صحيح.
(4) (4) بدائع الصنائع 1 / 417، وابن عابدين 1 / 264، ومواهب الجليل 1 / 449، وحاشية الدسوقي 1 / 197، والمجموع للنووي 3 / 82، وكشاف القناع 1 / 211، والمغني 1 / 421.(6/13)
الأَْذَانُ لِلصَّلاَةِ الْمُعَادَةِ:
21 - فِي الإِْقَامَةِ لِلصَّلاَةِ الْمُعَادَةِ فِي وَقْتِهَا لِلْفَسَادِ رَأْيَانِ:
الأَْوَّل: لِلْحَنَفِيَّةِ: تُعَادُ الصَّلاَةُ الْفَاسِدَةُ فِي الْوَقْتِ بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلاَ إِقَامَةٍ، وَأَمَّا إِنْ قَضَوْهَا بَعْدَ الْوَقْتِ قَضَوْهَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَسْجِدِ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ. (1)
الثَّانِي: لِلْمَالِكِيَّةِ: يُقَامُ لِلصَّلاَةِ الْمُعَادَةِ لِلْبُطْلاَنِ أَوِ الْفَسَادِ،
وَلَمْ يُعْثَرْ لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى تَصْرِيحٍ بِذَلِكَ، وَلَكِنَّ قَوَاعِدَهُمْ لاَ تَأْبَاهُ (2) .
مَا لاَ يُقَامُ لَهُ مِنَ الصَّلَوَاتِ:
22 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يُسَنُّ الإِْقَامَةُ لِغَيْرِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالْجُمُعَةِ. فَلاَ أَذَانَ وَلاَ إِقَامَةَ لِصَلاَةِ الْجِنَازَةِ وَلاَ لِلْوَتْرِ وَلاَ لِلنَّوَافِل وَلاَ لِصَلاَةِ الْعِيدَيْنِ وَصَلاَةِ الْكُسُوفِ وَالْخُسُوفِ وَالاِسْتِسْقَاءِ. (3) لِمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَال: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعِيدَ غَيْرَ مَرَّةٍ وَلاَ مَرَّتَيْنِ بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلاَ إِقَامَةٍ. (4)
__________
(1) ابن عابدين 1 / 261 - 262.
(2) الخرشي 1 / 236 ط دار صادر، والدسوقي 1 / 199 ط الحلبي، ونهاية المحتاج 1 / 387 ط المكتب الإسلامي، والمغني 1 / 420 ط الرياض.
(3) بدائع الصنائع 1 / 415، وابن عابدين 1 / 258، والحطاب 1 / 435، وحاشية العدوي على الخرشي 1 / 228، وكشاف القناع 1 / 211، والمجموع 3 / 77، والتحفة 1 / 462.
(4) حديث جابر بن سمرة: " صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم العيد غير مرة ولا مرتين بغير أذان ولا إقامة ". أخرجه مسلم (2 / 604 - ط الحلبي) . .(6/14)
وَمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: خَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَعَثَ مُنَادِيًا يُنَادِي: الصَّلاَةُ جَامِعَةٌ. (1)
إِجَابَةُ السَّامِعِ لِلْمُؤَذِّنِ وَالْمُقِيمِ:
23 - نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى صِيغَةِ الإِْجَابَةِ بِاللِّسَانِ فَقَالُوا: يَقُول السَّامِعُ مِثْل مَا يَقُول الْمُقِيمُ، إِلاَّ فِي الْحَيْعَلَتَيْنِ " حَيَّ عَلَى الصَّلاَةِ وَحَيَّ عَلَى الْفَلاَحِ " فَإِنَّهُ يُحَوْقِل " لاَ حَوْل وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاَللَّهِ ".
وَيَزِيدُ عِنْدَ إِقَامَةِ الصَّلاَةِ " أَقَامَهَا اللَّهُ وَأَدَامَهَا "، لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ بِلاَلاً أَخَذَ فِي الإِْقَامَةِ، فَلَمَّا أَنْ قَال: قَدْ قَامَتِ الصَّلاَةُ، قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَقَامَهَا اللَّهُ وَأَدَامَهَا. (2) وَقَال فِي سَائِرِ الإِْقَامَةِ كَنَحْوِ حَدِيثِ عُمَرَ فِي الأَْذَانِ الَّذِي رَوَاهُ جَعْفَرُ بْنُ عَاصِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا قَال الْمُؤَذِّنُ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، فَقَال أَحَدُكُمْ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ (3) وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ أَذَانٍ.
وَحُكْمُ الإِْجَابَةِ بِاللِّسَانِ أَنَّهَا سُنَّةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَإِنَّ الإِْجَابَةَ عِنْدَهُمْ تَكُونُ فِي الأَْذَانِ دُونَ الإِْقَامَةِ (4) .
__________
(1) حديث عائشة: " الصلاة جامعة " أخرجه البخاري (2 / 549 - الفتح - ط السلفية) ، ومسلم (2 / 620 ط الحلبي) .
(2) حديث: " أن بلالا. . . . " أخرجه أبو داود (1 / 362 - ط عزت عبيد دعاس) قال المنذري: في إسناده رجل مجهول. مختصر سنن أبي داود (1 / 285 - نشر دار المعرفة) .
(3) حديث عمر: " إذا قال المؤذن: الله أكبر الله أكبر " أخرجه مسلم (1 / 289 - ط الحلبي) .
(4) ابن عابدين 1 / 267 وبدائع الصنائع 1 / 422، والقرطبي 18 / 101 ط دار الكتب، والمغني 1 / 427، والمجموع 3 / 122.(6/14)
الْفَصْل بَيْنَ الأَْذَانِ وَالإِْقَامَةِ:
24 - صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِاسْتِحْبَابِ الْفَصْل بَيْنَ الأَْذَانِ وَالإِْقَامَةِ بِصَلاَةٍ أَوْ جُلُوسٍ أَوْ وَقْتٍ يَسَعُ حُضُورَ الْمُصَلِّينَ فِيمَا سِوَى الْمَغْرِبِ، مَعَ مُلاَحَظَةِ الْوَقْتِ الْمُسْتَحَبِّ لِلصَّلاَةِ.
وَتُكْرَهُ عِنْدَهُمُ الإِْقَامَةُ لِلصَّلاَةِ بَعْدَ الأَْذَانِ مُبَاشَرَةً بِدُونِ هَذَا الْفَصْل، وَذَلِكَ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال لِبِلاَلٍ: اجْعَل بَيْنَ أَذَانِكَ وَإِقَامَتِكَ نَفَسًا حَتَّى يَقْضِيَ الْمُتَوَضِّئُ حَاجَتَهُ فِي مَهْلٍ، وَحَتَّى يَفْرُغَ الآْكِل مِنْ أَكْل طَعَامِهِ فِي مَهْلٍ
وَفِي رِوَايَةٍ: لِيَكُنْ بَيْنَ أَذَانِكَ وَإِقَامَتِكَ مِقْدَارُ مَا يَفْرُغُ الآْكِل مِنْ أَكْلِهِ، وَالشَّارِبُ مِنْ شُرْبِهِ، وَالْمُعْتَصِرُ إِذَا دَخَل لِقَضَاءِ حَاجَتِهِ. (1)
وَلأَِنَّ الْمَقْصُودَ بِالأَْذَانِ إِعْلاَمُ النَّاسِ بِدُخُول الْوَقْتِ لِيَتَهَيَّئُوا لِلصَّلاَةِ بِالطَّهَارَةِ فَيَحْضُرُوا الْمَسْجِدَ، وَبِالْوَصْل يَنْتَفِي هَذَا الْمَقْصُودُ، وَتَفُوتُ صَلاَةُ الْجَمَاعَةِ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. (2)
وَقَدْ وَرَدَ عَنْ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ تَحْدِيدُ مِقْدَارِ الْفَصْل بَيْنَ الأَْذَانِ وَالإِْقَامَةِ، فَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ مِقْدَارَ الْفَصْل فِي الْفَجْرِ قَدْرُ مَا يَقْرَأُ عِشْرِينَ آيَةً،
__________
(1) حديث: " اجعل من أذانك. . . " أخرجه عبد الله بن أحمد في زياداته على المسند (5 / 143 - ط الميمنية) من حديث أبي بن كعب، وذكره الهيثمي في المجمع (2 / 4 - ط القدسي) وأعله بالانقطاع. وحديث: " ليكن بين أذانك وإقامتك مقدار ما يفرغ الأكل ". أخرجه الترمذي (1 / 373 - ط الحلبي) وضعفه ابن حجر في التلخيص (1 / 200 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(2) مراقي الفلاح 1 / 107 وابن عابدين 1 / 261، والخرشي 1 / 235ط بولاق، وبدائع الصنائع ا / 410 ط العاصمة، وأسنى المطالب 1 / 130 ط المكتب الإسلامي، وكشاف القناع 1 / 221.(6/15)
وَفِي الظُّهْرِ قَدْرُ مَا يُصَلِّي أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، يَقْرَأُ فِي كُل رَكْعَةٍ نَحْوًا مِنْ عَشْرِ آيَاتٍ، وَفِي الْعَصْرِ مِقْدَارُ مَا يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، يَقْرَأُ فِي كُل رَكْعَةٍ نَحْوًا مِنْ عَشْرِ آيَاتٍ. (1)
أَمَّا فِي الْمَغْرِبِ: فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى تَعْجِيل الإِْقَامَةِ فِيهَا لِحَدِيثِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَيْنَ كُل أَذَانَيْنِ صَلاَةٌ لِمَنْ شَاءَ إِلاَّ الْمَغْرِبَ (2) لأَِنَّ مَبْنَى الْمَغْرِبِ عَلَى التَّعْجِيل، وَلِمَا رَوَى أَبُو أَيُّوبَ الأَْنْصَارِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: لَنْ تَزَال أُمَّتِي بِخَيْرٍ مَا لَمْ يُؤَخِّرُوا الْمَغْرِبَ إِلَى اشْتِبَاكِ النُّجُومِ (3) وَعَلَى هَذَا يُسَنُّ أَنْ يَكُونَ الْفَصْل بَيْنَ الأَْذَانِ وَالإِْقَامَةِ فِيهَا يَسِيرًا.
وَلِلْعُلَمَاءِ فِي مِقْدَارِ هَذَا الْفَصْل الْيَسِيرِ أَقْوَالٌ:
أ - قَال أَبُو حَنِيفَةَ وَالْمَالِكِيَّةُ: يَفْصِل بَيْنَ الأَْذَانِ وَالإِْقَامَةِ فِي الْمَغْرِبِ قَائِمًا بِمِقْدَارِ ثَلاَثِ آيَاتٍ، وَلاَ يَفْصِل بِالصَّلاَةِ، لأَِنَّ الْفَصْل بِالصَّلاَةِ تَأْخِيرٌ، كَمَا لاَ يَفْصِل الْمُقِيمُ بِالْجُلُوسِ، لأَِنَّهُ تَأْخِيرٌ لِلْمَغْرِبِ، وَلأَِنَّهُ لَمْ يَفْصِل بِالصَّلاَةِ فَبِغَيْرِهَا أَوْلَى.
ب - وَقَال أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يَفْصِل بِجَلْسَةٍ خَفِيفَةٍ كَالْجَلْسَةِ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ، وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَوَجْهُ قَوْلِهِمْ أَنَّ الْفَصْل
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 410.
(2) حديث: " بين كل أذانين ركعتين ما خلا صلاة المغرب ". أخرجه الدارقطني (1 / 264 - شركة الطباعة الفنية) والبيهقي في المعرفة كما في نصب الراية (1 / 140 - ط المجلس العلمي) وأعلاه بتفرد أحد رواته ثم قال: " لمن شاء ".
(3) حديث: " لا تزال أمتي بخير " - أو قال: " على الفطرة ما لم يؤخروا المغرب إلى أن تشتبك النجوم. " أخرجه أبو داود (1 / 291 - ط عزت عبيد دعاس) والحاكم (1 / 190 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه، ووافقه الذهبي.(6/15)
مَسْنُونٌ وَلاَ يُمْكِنُ بِالصَّلاَةِ، فَيَفْصِل بِالْجَلْسَةِ لإِِقَامَةِ السُّنَّةِ.
ج - وَأَجَازَ الْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ الْفَصْل بِرَكْعَتَيْنِ بَيْنَ الأَْذَانِ وَالإِْقَامَةِ فِي الْمَغْرِبِ، أَيْ أَنَّهُمَا لاَ يُكْرَهَانِ وَلاَ يُسْتَحَبَّانِ. (1)
الأُْجْرَةُ عَلَى الإِْقَامَةِ مَعَ الأَْذَانِ:
25 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا وُجِدَ مَنْ يُؤَذِّنُ وَيُقِيمُ مُحْتَسِبًا - مِمَّنْ تَتَحَقَّقُ فِيهِ شَرَائِطُ الْمُؤَذِّنِ - فَلاَ يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ أَحَدٍ لِلأَْذَانِ وَالإِْقَامَةِ.
وَأَمَّا إِذَا لَمْ يُوجَدِ الْمُتَطَوِّعُ أَوْ وُجِدَ وَلَمْ تَتَحَقَّقْ فِيهِ الشُّرُوطُ فَهَل يُسْتَأْجَرُ عَلَى الأَْذَانِ وَالإِْقَامَةِ؟
فِي الْمَسْأَلَةِ ثَلاَثَةُ آرَاءَ:
الأَْوَّل: الْمَنْعُ لأَِنَّهُ طَاعَةٌ، وَلاَ يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ أَحَدٍ عَلَى الطَّاعَةِ لأَِنَّهُ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ، وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ آخِرَ مَا عَهِدَ بِهِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُثْمَانَ بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ صَلاَةَ أَضْعَفِهِمْ، وَأَنْ يَتَّخِذَ مُؤَذِّنًا لاَ يَأْخُذُ عَلَيْهِ أَجْرًا (2)
وَهَذَا الرَّأْيُ لِمُتَقَدِّمِي الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ رَأْيٌ لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
الثَّانِي: الْجَوَازُ لأَِنَّهُ كَسَائِرِ الأَْعْمَال، وَهُوَ قَوْلٌ لِمُتَأَخِّرِي الْحَنَفِيَّةِ، وَرَأْيٌ لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ: أَنَّ بِالْمُسْلِمِينَ حَاجَةً إِلَيْهِ، وَقَدْ لاَ يُوجَدُ مُتَطَوِّعٌ. وَلأَِنَّهُ إِذَا انْقَطَعَ لَهُ قَدْ لاَ يَجِدُ مَا يُقِيتُ بِهِ عِيَالَهُ.
__________
(1) المراجع السابقة مع بدائع الصنائع 1 / 411.
(2) حديث: " أن يصلي (عثمان بن العاص) بالناس صلاة. . . " أخرجه أبو داود (1 / 363 - ط عزت عبيد دعاس) والحاكم (1 / 201 ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه ووافقه الذهبي.(6/16)
الثَّالِثُ، وَهُوَ رَأْيٌ لِلشَّافِعِيَّةِ: يَجُوزُ لِلإِْمَامِ أَنْ يَسْتَأْجِرَ دُونَ آحَادِ النَّاسِ لأَِنَّهُ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى مَصَالِحَ الْمُسْلِمِينَ. وَيَجُوزُ لَهُ الإِْعْطَاءُ مِنْ بَيْتِ الْمَال.
هَذَا، وَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الاِسْتِئْجَارُ عَلَى الإِْقَامَةِ فَقَطْ بِدُونِ الأَْذَانِ لأَِنَّهُ عَمَلٌ قَلِيلٌ. (1)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (أَذَان، وَإِجَارَة) .
الإِْقَامَةُ لِغَيْرِ الصَّلاَةِ:
26 - يُسْتَحَبُّ الأَْذَانُ فِي أُذُنِ الْمَوْلُودِ الْيُمْنَى وَالإِْقَامَةُ فِي الْيُسْرَى، لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي رَافِعٍ قَال: رَأَيْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذَّنَ فِي أُذُنِ الْحَسَنِ حِينَ وَلَدَتْهُ فَاطِمَةُ بِالصَّلاَةِ. (2)
وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (أَذَان) فِقْرَةُ 51 (ج 2 ص 372) .
اقْتِبَاسٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِقْتِبَاسُ فِي اللُّغَةِ: هُوَ طَلَبُ الْقَبَسِ، وَهُوَ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 263، وبدائع الصنائع 1 / 415، والحطاب 1 / 455، والمجموع للنووي 2 / 127، والمغني 1 / 415 ط.
(2) ابن عابدين 1 / 258، والحطاب 1 / 433، وتحفة المحتاج 1 / 461 ط دار صادر. وحديث: " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن في أذن الحسن حين ولدته فاطمة بالصلاة " أخرجه الترمذي (4 / 97 - ط الحلبي) وقال ابن حجر في التلخيص (4 / 149 - ط شركة الطباعة الفنية) : مداره على عاصم بن عبيد الله وهو ضعيف.(6/16)
الشُّعْلَةُ مِنَ النَّارِ، وَيُسْتَعَارُ لِطَلَبِ الْعِلْمِ، قَال الْجَوْهَرِيُّ فِي الصِّحَاحِ: اقْتَبَسْتُ مِنْهُ عِلْمًا: أَيِ اسْتَفَدْتُهُ. (1)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: تَضْمِينُ الْمُتَكَلِّمِ كَلاَمَهُ - شِعْرًا كَانَ أَوْ نَثْرًا - شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ أَوِ الْحَدِيثِ، عَلَى وَجْهٍ لاَ يَكُونُ فِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّهُ مِنَ الْقُرْآنِ أَوِ الْحَدِيثِ (2) .
أَنْوَاعُهُ:
2 - الاِقْتِبَاسُ عَلَى نَوْعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا لَمْ يُنْقَل فِيهِ الْمُقْتَبَسُ (بِفَتْحِ الْبَاءِ) عَنْ مَعْنَاهُ الأَْصْلِيِّ، وَمِنْهُ قَوْل الشَّاعِرِ:
قَدْ كَانَ مَا خِفْتُ أَنْ يَكُونَا
إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاجِعُونَا
وَهَذَا مِنَ الاِقْتِبَاسِ الَّذِي فِيهِ تَغْيِيرٌ يَسِيرٌ، لأَِنَّ الآْيَةَ {إِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} . (3)
وَالثَّانِي: مَا نُقِل فِيهِ الْمُقْتَبَسُ عَنْ مَعْنَاهُ الأَْصْلِيِّ كَقَوْل ابْنِ الرُّومِيِّ:
لَئِنْ أَخْطَأْتُ فِي مَدْحِكَ مَا أَخْطَأْتَ فِي مَنْعِي
لَقَدْ أَنْزَلْتُ حَاجَاتِي (بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ)
فَقَوْلُهُ
{بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} (4) اقْتِبَاسٌ مِنَ الْقُرْآنِ
__________
(1) الصحاح للجوهري، والكليات لأبي البقاء، ومفردات الراغب، والمصباح المنير مادة: (قبس) .
(2) موسوعة اصطلاحات العلوم الإسلامية للتهانوي 5 / 1187 طبع خياط. بيروت، والكليات لأبي البقاء الكفوي 1 / 253 طبع وزارة الثقافة. دمشق، والإتقان في علوم القرآن للسيوطي 1 / 111 طبع مصطفى البابي الحلبي 1370 هـ، والآداب الشرعية لابن مفلح 2 / 300.
(3) سورة البقرة / 156.
(4) سورة إبراهيم / 37.(6/17)
الْكَرِيمِ، فَهِيَ وَرَدَتْ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ بِمَعْنَى " مَكَّةَ الْمُكَرَّمَةِ "، إِذْ لاَ مَاءَ فِيهَا وَلاَ نَبَاتَ، فَنَقَلَهُ الشَّاعِرُ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ إِلَى مَعْنًى مَجَازِيٍّ، هُوَ: " لاَ نَفْعَ فِيهِ وَلاَ خَيْرَ ".
حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ:
3 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (1) جَوَازَ الاِقْتِبَاسِ فِي الْجُمْلَةِ إِذَا كَانَ لِمَقَاصِدَ لاَ تَخْرُجُ عَنِ الْمَقَاصِدِ الشَّرْعِيَّةِ تَحْسِينًا لِلْكَلاَمِ، أَمَّا إِنْ كَانَ كَلاَمًا فَاسِدًا فَلاَ يَجُوزُ الاِقْتِبَاسُ فِيهِ مِنَ الْقُرْآنِ، وَذَلِكَ كَكَلاَمِ الْمُبْتَدِعَةِ وَأَهْل الْمُجُونِ وَالْفُحْشِ.
قَال السُّيُوطِيُّ (2) : لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ الْمُتَقَدِّمُونَ وَلاَ أَكْثَرُ الْمُتَأَخِّرِينَ، مِنَ الشَّافِعِيَّةِ مَعَ شُيُوعِ الاِقْتِبَاسِ فِي أَعْصَارِهِمْ وَاسْتِعْمَال الشُّعَرَاءِ لَهُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، وَقَدْ تَعَرَّضَ لَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ، فَسُئِل عَنْهُ الشَّيْخُ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ فَأَجَازَهُ، وَاسْتَدَل لَهُ بِمَا وَرَدَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَوْلِهِ فِي الصَّلاَةِ وَغَيْرِهَا: وَجَّهْتُ وَجْهِي. . . (3) إِلَخْ، وَقَوْلِهِ: اللَّهُمَّ فَالِقَ الإِْصْبَاحِ وَجَاعِل اللَّيْل سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا اقْضِ عَنِّي الدَّيْنَ وَأَغْنِنِي مِنَ الْفَقْرِ. (4)
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 238 ط بولاق، والآداب الشرعية لابن مفلح 2 / 300، والإتقان للسيوطي 1 / 111
(2) الإتقان للسيوطي 1 / 111 - 113.
(3) حديث " وجهت وجهي. . . " أخرجه مسلم (1 / 536 - ط الحلبي)
(4) حديث " اللهم فالق الإصباح وجاعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا، اقض عني الدين، وأغنني من الفقر ". أخرجه ابن أبي شيبة كما في الدر المنثور للسيوطي (3 / 328 - ط دار الفكر) من حديث مسلم بن يسار مرفوعا، وإسناده ضعيف لإرساله.(6/17)
وَفِي سِيَاقِ الْكَلاَمِ لأَِبِي بَكْرٍ. . . {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} .
وَفِي حَدِيثٍ لاِبْنِ عُمَرَ. . . {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُول اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} .
وَقَدِ اشْتُهِرَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تَحْرِيمُهُ وَتَشْدِيدُ النَّكِيرِ عَلَى فَاعِلِهِ (1) ، لَكِنَّ مِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الشِّعْرِ فَكَرِهَ الاِقْتِبَاسَ فِيهِ، وَبَيْنَ النَّثْرِ فَأَجَازَهُ. وَمِمَّنِ اسْتَعْمَلَهُ فِي النَّثْرِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ وَقَدِ اسْتَعْمَلَهُ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ فِي كُتُبِهِمُ الْفِقْهِيَّةِ. (2)
4 - وَنَقَل السُّيُوطِيُّ عَنْ شَرْحِ بَدِيعِيَّةِ ابْنِ حُجَّةَ أَنَّ الاِقْتِبَاسَ ثَلاَثَةُ أَقْسَامٍ:
الأَْوَّل: مَقْبُولٌ، وَهُوَ مَا كَانَ فِي الْخُطَبِ وَالْمَوَاعِظِ وَالْعُهُودِ.
وَالثَّانِي: مُبَاحٌ، وَهُوَ مَا كَانَ فِي الْغَزَل وَالرَّسَائِل وَالْقِصَصِ.
وَالثَّالِثُ: مَرْدُودٌ، وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ.
(أَحَدُهُمَا) اقْتِبَاسُ مَا نَسَبَهُ اللَّهُ إِلَى نَفْسِهِ، بِأَنْ يَنْسِبَهُ الْمُقْتَبِسُ إِلَى نَفْسِهِ، كَمَا قِيل عَمَّنْ وَقَعَ عَلَى شَكْوَى بِقَوْلِهِ: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} . (3)
وَ (الآْخَرُ) تَضْمِينُ آيَةٍ فِي مَعْنَى هَزْلٍ أَوْ مُجُونٍ.
قَال السُّيُوطِيّ: وَهَذَا التَّقْسِيمُ حَسَنٌ جِدًّا، وَبِهِ أَقُول (4) .
__________
(1) الإتقان للسيوطي 1 / 111 - 113.
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 238.
(3) سورة الغاشية 25 - 26.
(4) الإتقان 1 / 112.(6/18)
اقْتِدَاءٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِقْتِدَاءُ لُغَةً: مَصْدَرُ اقْتَدَى بِهِ، إِذَا فَعَل مِثْل فِعْلِهِ تَأَسِّيًا، وَيُقَال: فُلاَنٌ قُدْوَةٌ: أَيْ يُقْتَدَى بِهِ، وَيُتَأَسَّى بِأَفْعَالِهِ. (1)
وَيَسْتَعْمِلُهُ الْفُقَهَاءُ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، وَهُوَ إِذَا كَانَ فِي الصَّلاَةِ يُعَرِّفُونَهُ بِأَنَّهُ: اتِّبَاعُ الْمُؤْتَمِّ الإِْمَامَ فِي أَفْعَال الصَّلاَةِ. أَوْ هُوَ رَبْطُ صَلاَةِ الْمُؤْتَمِّ بِالإِْمَامِ بِشُرُوطٍ خَاصَّةٍ جَاءَ بِهَا الشَّرْعُ، وَبَيَّنَهَا الْفُقَهَاءُ فِي كِتَابِ الصَّلاَةِ عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنْ صَلاَةِ الْجَمَاعَةِ. (2)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الاِئْتِمَامُ:
2 - الاِئْتِمَامُ: بِمَعْنَى الاِقْتِدَاءِ. يَقُول ابْنُ عَابِدِينَ: إِذَا رَبَطَ صَلاَتَهُ بِصَلاَةِ إِمَامِهِ حَصَل لَهُ صِفَةُ الاِقْتِدَاءِ وَالاِئْتِمَامِ، وَحَصَل لإِِمَامِهِ صِفَةُ الإِْمَامَةِ. (3)
وَالاِقْتِدَاءُ فِي اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ أَعَمُّ مِنَ الاِئْتِمَامِ، لأَِنَّهُ يَكُونُ فِي الصَّلاَةِ وَغَيْرِهَا.
ب - الاِتِّبَاعُ:
3 - مِنْ مَعَانِي الاِتِّبَاعِ فِي اللُّغَةِ: الْمَشْيُ خَلْفَ الْغَيْرِ، وَمِنْهُ اتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ، وَالْمُطَالَبَةُ بِالْحَقِّ كَمَا فِي الآْيَةِ {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ
__________
(1) المصباح المنير ولسان العرب مادة: (قدو) .
(2) ابن عابدين 1 / 369، والطحطاوي على الدر 1 / 239.
(3) نفس المراجع.(6/18)
بِالْمَعْرُوفِ} (1) وَيَأْتِي بِمَعْنَى الاِئْتِمَامِ، يُقَال: اتَّبَعَ الْقُرْآنَ: ائْتَمَّ بِهِ وَعَمِل بِمَا فِيهِ. (2)
وَاسْتَعْمَلَهُ الْفُقَهَاءُ بِهَذِهِ الْمَعَانِي، كَمَا اسْتَعْمَلُوهُ بِمَعْنَى الرُّجُوعِ إِلَى قَوْلٍ ثَبَتَتْ عَلَيْهِ حُجَّةٌ، فَهُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى أَخَصُّ مِنَ الاِقْتِدَاءِ (3) .
ج - التَّأَسِّي:
4 - التَّأَسِّي فِي اللُّغَةِ: مِنَ الأُْسْوَةِ بِمَعْنَى الْقُدْوَةِ، يُقَال: تَأَسَّيْتُ بِهِ وَائْتَسَيْتُ: أَيِ اقْتَدَيْتُ. فَالتَّأَسِّي بِمَعْنَى الاِقْتِدَاءِ. (4)
وَمِنْ مَعَانِي التَّأَسِّي: التَّعَزِّي، أَيِ: التَّصَبُّرُ. وَأَكْثَرُ مَا يَكُونُ الاِقْتِدَاءُ فِي الصَّلاَةِ، أَمَّا التَّأَسِّي فَيُسْتَعْمَل فِي غَيْرِ ذَلِكَ.
د - التَّقْلِيدُ:
5 - التَّقْلِيدُ عِبَارَةٌ عَنْ: قَبُول قَوْل الْغَيْرِ بِلاَ حُجَّةٍ وَلاَ دَلِيلٍ (5) .
أَقْسَامُ الاِقْتِدَاءِ:
6 - الاِقْتِدَاءُ عَلَى أَقْسَامٍ، مِنْهَا: اقْتِدَاءُ الْمُؤْتَمِّ بِالإِْمَامِ فِي أَفْعَالِهِ مِنَ الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَغَيْرِهَا.
وَمِنْهَا: الاِقْتِدَاءُ فِي غَيْرِ الصَّلاَةِ، فَهُوَ بِمَعْنَى التَّأَسِّي، كَاقْتِدَاءِ الأُْمَّةِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَاتِّبَاعِ سُنَّتِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ كَمَا سَيَأْتِي.
__________
(1) سورة البقرة / 178.
(2) لسان العرب والمصباح المنير مادة: (تبع) .
(3) التقرير والتحبير لابن الهمام 3 / 300، وحاشية الطحطاوي على الدر 1 / 239.
(4) المصباح المنير ولسان العرب مادة: (أسى) ، وتفسير القرطبي 18 / 56.
(5) التعريفات للجرجاني، ومسلم الثبوت 2 / 400.(6/19)
الاِقْتِدَاءُ فِي الصَّلاَةِ
7 - الاِقْتِدَاءُ فِي الصَّلاَةِ هُوَ: رَبْطُ صَلاَةِ الْمُؤْتَمِّ بِصَلاَةِ الإِْمَامِ كَمَا سَبَقَ، فَلاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ إِمَامٌ وَمُقْتَدٍ، وَلَوْ وَاحِدًا. وَأَقَل مَنْ تَنْعَقِدُ بِهِ الْجَمَاعَةُ - فِي غَيْرِ الْعِيدَيْنِ وَالْجُمُعَةِ - اثْنَانِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَعَ الإِْمَامِ وَاحِدٌ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الاِثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ (1) وَلِفِعْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حِينَ صَلَّى بِابْنِ عَبَّاسٍ وَحْدَهُ. (2)
وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْوَاحِدُ رَجُلاً أَوِ امْرَأَةً أَوْ صَبِيًّا يَعْقِل، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمَّى الاِثْنَيْنِ مُطْلَقًا جَمَاعَةً.
وَأَمَّا الْمَجْنُونُ وَالصَّبِيُّ الَّذِي لاَ يَعْقِل فَلاَ عِبْرَةَ بِهِمَا، لأَِنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْل الصَّلاَةِ. (3)
هَذَا، وَهُنَاكَ شُرُوطٌ لاَ بُدَّ مِنْ تَوَفُّرِهَا فِي الاِقْتِدَاءِ وَالْمُقْتَدَى بِهِ (الإِْمَامِ) ، وَحَالاَتٌ تَخُصُّ الْمُقْتَدِيَ أَيْ (الْمَأْمُومَ) نَذْكُرُهَا فِيمَا يَلِي:
شُرُوطُ الْمُقْتَدَى بِهِ (الإِْمَامِ) :
8 - يُشْتَرَطُ فِي الإِْمَامِ فِي الْجُمْلَةِ: الإِْسْلاَمُ وَالْعَقْل اتِّفَاقًا، وَالْبُلُوغُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَكَذَلِكَ الذُّكُورَةُ إِذَا كَانَ الْمُقْتَدُونَ ذُكُورًا، وَالسَّلاَمَةُ مِنَ الأَْعْذَارِ - كَرُعَافٍ وَسَلَسِ الْبَوْل - إِذَا اقْتَدَى بِهِ أَصِحَّاءُ، وَالسَّلاَمَةُ مِنْ عَاهَاتِ اللِّسَانِ - كَفَأْفَأَةٍ وَتَمْتَمَةٍ - إِذَا اقْتَدَى بِهِ السَّلِيمُ مِنْهُمَا، وَكَذَا السَّلاَمَةُ مِنْ فَقْدِ شَرْطٍ
__________
(1) حديث: " الاثنان فما فوقهما جماعة. . . " أخرجه ابن ماجه (1 / 312 - ط الحلبي) وقال الحافظ البوصيري في الزوائد: الربيع وولده ضعيفان.
(2) حديث: " صلى النبي صلى الله عليه وسلم بابن عباس وحده. . . ". أخرجه البخاري (2 / 190 - الفتح - ط السلفية) .
(3) البدائع 1 / 156، والقليوبي 1 / 220، وكشاف القناع 1 / 453، وجواهر الإكليل 1 / 76.(6/19)
كَطَهَارَةٍ وَسَتْرِ عَوْرَةٍ. (1) عَلَى تَفْصِيلٍ وَخِلاَفٍ فِي بَعْضِهَا يُذْكَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (إِمَامَة) .
شُرُوطُ الاِقْتِدَاءِ:
أ - النِّيَّةُ:
9 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ نِيَّةَ الْمُؤْتَمِّ الاِقْتِدَاءَ بِالإِْمَامِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الاِقْتِدَاءِ، إِذِ الْمُتَابَعَةُ عَمَلٌ يَفْتَقِرُ إِلَى النِّيَّةِ. وَالْمُعْتَبَرُ فِي النِّيَّةِ عَمَل الْقَلْبِ اللاَّزِمُ لِلإِْرَادَةِ، وَيُسْتَحَبُّ التَّلَفُّظُ بِهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلْحَنَابِلَةِ قِيَاسًا عَلَى الْحَجِّ. وَذَكَرَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّ التَّلَفُّظَ بِهَا بِدْعَةٌ، لأَِنَّهُ لَمْ يَرِدْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلاَ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. (2)
وَيُشْتَرَطُ فِي النِّيَّةِ أَنْ تَكُونَ مُقَارِنَةً لِلتَّحْرِيمَةِ، أَوْ مُتَقَدِّمَةً عَلَيْهَا بِشَرْطِ أَلاَّ يَفْصِل بَيْنَهَا وَبَيْنَ التَّحْرِيمَةِ فَاصِلٌ أَجْنَبِيٌّ، وَعَلَى ذَلِكَ فَلاَ تَصِحُّ نِيَّةُ الاِقْتِدَاءِ فِي خِلاَل الصَّلاَةِ بَعْدَمَا أَحْرَمَ مُنْفَرِدًا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: (الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ) (3)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: يَجُوزُ لِلَّذِي أَحْرَمَ مُنْفَرِدًا أَنْ يَجْعَل نَفْسَهُ مَأْمُومًا، بِأَنْ
__________
(1) الطحطاوي على مراقي الفلاح 1 / 157، 158، والمهذب 1 / 104، 105، والمغني 2 / 35، 53، 54، وجواهر الإكليل 1 / 78.
(2) ابن عابدين 1 / 178، 279، 370، والطحطاوي على مراقي الفلاح 1 / 158، والمغني 2 / 231، 3 / 93، ونهاية المحتاج 1 / 143، 2 / 200، وجواهر الإكليل 1 / 81، وكشاف القناع 1 / 87، 314.
(3) ابن عابدين 1 / 370، والشرح الصغير 1 / 449، والدسوقي 1 / 338، والمغني 2 / 231، 232.(6/20)
تَحْضُرَ جَمَاعَةٌ فَيَنْوِيَ الدُّخُول مَعَهُمْ بِقَلْبِهِ فِي صَلاَتِهِمْ، سَوَاءٌ أَكَانَ فِي أَوَّل الصَّلاَةِ أَمْ قَدْ صَلَّى رَكْعَةً فَأَكْثَرَ. (1)
وَلاَ فَرْقَ فِي اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ لِلْمَأْمُومِ بَيْنَ الْجُمُعَةِ وَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ مُقَابِل الصَّحِيحِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لاَ يُشْتَرَطُ فِي الْجُمُعَةِ نِيَّةُ الاِقْتِدَاءِ وَكَذَلِكَ الْعِيدَانِ، لأَِنَّ الْجُمُعَةَ لاَ تَصِحُّ بِدُونِ الْجَمَاعَةِ، فَكَانَ التَّصْرِيحُ بِنِيَّةِ الْجُمُعَةِ أَوِ الْعِيدِ مُغْنِيًا عَنِ التَّصْرِيحِ بِنِيَّةِ الْجَمَاعَةِ. (2)
وَلاَ يَجِبُ تَعْيِينُ الإِْمَامِ بِاسْمِهِ كَزَيْدٍ، أَوْ صِفَتِهِ كَالْحَاضِرِ، أَوِ الإِْشَارَةُ إِلَيْهِ، بَل تَكْفِي نِيَّةُ الاِقْتِدَاءِ بِالإِْمَامِ، فَإِنْ عَيَّنَهُ وَأَخْطَأَ بَطَلَتْ صَلاَتُهُ، لِرَبْطِ صَلاَتِهِ بِمَنْ لَمْ يَنْوِ الاِقْتِدَاءَ بِهِ. (3)
هَذَا، وَلاَ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الاِقْتِدَاءِ أَنْ يَكُونَ الإِْمَامُ قَدْ نَوَى الإِْمَامَةَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ خِلاَفًا لِلْحَنَابِلَةِ. وَاشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ نِيَّةَ الرَّجُل الإِْمَامَةَ لِصِحَّةِ اقْتِدَاءِ النِّسَاءِ بِهِ. (4) وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (إِمَامَة)
__________
(1) نهاية المحتاج 2 / 200 - 203 والمغني 2 / 232.
(2) الطحطاوي على مراقي الفلاح 1 / 158، والشرح الصغير 1 / 449، ونهاية المحتاج 2 / 202، 203.
(3) ابن عابدين 1 / 282، والطحطاوي على مراقي الفلاح 1 / 158، ونهاية المحتاج 2 / 202، 203 والدسوقي 1 / 337.
(4) ابن عابدين 1 / 370، ومراقي الفلاح بحاشية الطحطاوي ص 158، وبلغة السالك 1 / 451، ونهاية المحتاج 2 / 204، والمغني 2 / 231.(6/20)
ب - عَدَمُ التَّقَدُّمِ عَلَى الإِْمَامِ:
10 - يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الاِقْتِدَاءِ أَلاَّ يَتَقَدَّمَ الْمُقْتَدِي إِمَامَهُ فِي الْمَوْقِفِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) لِحَدِيثِ: إِنَّمَا جُعِل الإِْمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ (1) وَالاِئْتِمَامُ الاِتِّبَاعُ، وَالْمُتَقَدِّمُ غَيْرُ تَابِعٍ، وَلأَِنَّهُ إِذَا تَقَدَّمَ الإِْمَامَ يَشْتَبِهُ عَلَيْهِ حَال الإِْمَامِ، وَمُحْتَاجٌ إِلَى النَّظَرِ وَرَاءَهُ فِي كُل وَقْتٍ لِيُتَابِعَهُ، فَلاَ يُمْكِنُهُ الْمُتَابَعَةُ.
وَقَال مَالِكٌ: هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَيُجْزِئُهُ التَّقَدُّمُ إِذَا أَمْكَنَهُ مُتَابَعَةُ الإِْمَامِ، لأَِنَّ الاِقْتِدَاءَ يُوجِبُ الْمُتَابَعَةَ فِي الصَّلاَةِ، وَالْمَكَانَ لَيْسَ مِنَ الصَّلاَةِ. لَكِنَّهُ يُنْدَبُ أَنْ يَكُونَ الإِْمَامُ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْمَأْمُومِ، وَيُكْرَهُ التَّقَدُّمُ عَلَى الإِْمَامِ وَمُحَاذَاتُهُ إِلاَّ لِضَرُورَةٍ. (2)
وَالاِعْتِبَارُ فِي التَّقَدُّمِ وَعَدَمِهِ لِلْقَائِمِ بِالْعَقِبِ، وَهُوَ مُؤَخَّرُ الْقَدَمِ لاَ الْكَعْبِ، فَلَوْ تَسَاوَيَا فِي الْعَقِبِ وَتَقَدَّمَتْ أَصَابِعُ الْمَأْمُومِ لِطُول قَدَمِهِ لَمْ يَضُرَّ. وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ الْمَأْمُومُ طَوِيلاً وَسَجَدَ قُدَّامَ الإِْمَامِ، إِذَا لَمْ تَكُنْ عَقِبُهُ مُقَدَّمَةً عَلَى الإِْمَامِ حَالَةَ الْقِيَامِ، صَحَّتِ الصَّلاَةُ، أَمَّا لَوْ تَقَدَّمَتْ عَقِبُهُ وَتَأَخَّرَتْ أَصَابِعُهُ فَيَضُرُّ، لأَِنَّهُ يَسْتَلْزِمُ تَقَدُّمَ الْمَنْكِبِ، وَالْعِبْرَةُ فِي التَّقَدُّمِ بِالأَْلْيَةِ لِلْقَاعِدِينَ، وَبِالْجَنْبِ لِلْمُضْطَجِعِينَ. (3)
__________
(1) حديث: " إنما جعل الإمام. . . " أخرجه البخاري (2 / 173 - الفتح - ط السلفية) ومسلم (1 / 308 - ط الحلبي) .
(2) البدائع 1 / 145، 158، 159، وابن عابدين 1 / 350، والشرح الصغير 1 / 457، والفواكه الدواني 1 / 246، ومغني المحتاج 1 / 245، وأسنى المطالب 1 / 221، 222، والمغني 2 / 214، وكشاف القناع 1 / 485 - 486.
(3) نفس المراجع السابقة.(6/21)
11 - فَإِذَا كَانَ الْمَأْمُومُ امْرَأَةً أَوْ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ يَقِفُ خَلْفَ الإِْمَامِ، وَإِذَا كَانَ وَاحِدًا ذَكَرًا - وَلَوْ صَبِيًّا - يَقِفُ عَلَى يَمِينِ الإِْمَامِ مُسَاوِيًا لَهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ تَأَخُّرُهُ عَنِ الإِْمَامِ قَلِيلاً. (1)
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ مُحَاذَاةَ الْمَرْأَةِ لِلرِّجَال تُفْسِدُ صَلاَتَهُمْ. يَقُول الزَّيْلَعِيُّ الْحَنَفِيُّ: فَإِنْ حَاذَتْهُ امْرَأَةٌ مُشْتَهَاةٌ فِي صَلاَةٍ مُطْلَقَةٍ - وَهِيَ الَّتِي لَهَا رُكُوعٌ وَسُجُودٌ - مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُمَا تَحْرِيمَةٌ وَأَدَاءٌ فِي مَكَان وَاحِدٍ بِلاَ حَائِلٍ، وَنَوَى الإِْمَامُ إِمَامَتَهَا وَقْتَ الشُّرُوعِ بَطَلَتْ صَلاَتُهُ دُونَ صَلاَتِهَا، لِحَدِيثِ: أَخِّرُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَخَّرَهُنَّ اللَّهُ (2) وَهُوَ الْمُخَاطَبُ بِهِ دُونَهَا، فَيَكُونُ هُوَ التَّارِكَ لِفَرْضِ الْقِيَامِ، فَتَفْسُدُ صَلاَتُهُ دُونَ صَلاَتِهَا. (3)
وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) يَقُولُونَ: إِنَّ مُحَاذَاةَ الْمَرْأَةِ لِلرِّجَال لاَ تُفْسِدُ الصَّلاَةَ، وَلَكِنَّهَا تُكْرَهُ، فَلَوْ وَقَفَتْ فِي صَفِّ الرِّجَال لَمْ تَبْطُل صَلاَةُ مَنْ يَلِيهَا وَلاَ مَنْ خَلْفَهَا وَلاَ مَنْ أَمَامَهَا، وَلاَ صَلاَتُهَا، كَمَا لَوْ وَقَفَتْ فِي غَيْرِ الصَّلاَةِ، وَالأَْمْرُ فِي الْحَدِيثِ بِالتَّأْخِيرِ لاَ يَقْتَضِي الْفَسَادَ مَعَ عَدَمِهِ. (4)
هَذَا، وَفِي الصَّلاَةِ حَوْل الْكَعْبَةِ فِي الْمَسْجِدِ
__________
(1) فتح القدير 1 / 307، ومغني المحتاج 1 / 246، والزيلعي 1 / 136.
(2) حديث: " أخروهن من حيث أخرهن الله. . . " من حديث ابن مسعود موقوفا عليه. أخرجه عبد الرزاق (3 / 149 - ط المكتب الإسلامي) وصححه ابن حجر في الفتح (1 / 400 - ط السلفية) .
(3) الزيلعي 1 / 138، وفتح القدير 1 / 312، 313.
(4) جواهر الإكليل 1 / 79، 331، ومغني المحتاج 1 / 245، 246، وكشاف القناع 1 / 488.(6/21)
الْحَرَامِ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الاِقْتِدَاءِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ عَدَمُ تَقَدُّمِ الْمَأْمُومِ عَلَى الإِْمَامِ فِي نَفْسِ الْجِهَةِ، حَتَّى إِذَا تَقَدَّمَهُ فِي غَيْرِ جِهَتِهِمَا لَمْ يَضُرَّ اتِّفَاقًا. (1) وَتَفْصِيل هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَكَيْفِيَّةُ الصَّلاَةِ دَاخِل الْكَعْبَةِ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى مُصْطَلَحَيْ: (صَلاَةُ الْجَمَاعَةِ، وَاسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ) .
ج - أَلاَّ يَكُونَ الْمُقْتَدِي أَقْوَى حَالاً مِنَ الإِْمَامِ:
12 - يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الاِقْتِدَاءِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) أَلاَّ يَكُونَ الْمُقْتَدِي أَقْوَى حَالاً مِنَ الإِْمَامِ، فَلاَ يَجُوزُ اقْتِدَاءُ قَارِئٍ بِأُمِّيٍّ، وَلاَ مُفْتَرِضٍ بِمُتَنَفِّلٍ، وَلاَ بَالِغٍ بِصَبِيٍّ فِي فَرْضٍ، وَلاَ قَادِرٍ عَلَى رُكُوعٍ وَسُجُودٍ بِعَاجِزٍ عَنْهُمَا، وَكَذَلِكَ لاَ يَصِحُّ اقْتِدَاءُ سَالِمٍ بِمَعْذُورٍ، كَمَنْ بِهِ سَلَسُ بَوْلٍ، وَلاَ مَسْتُورِ عَوْرَةٍ بِعَارٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَيُكْرَهُ ذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ. (2)
وَقَدْ ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ فِي ذَلِكَ قَاعِدَةً فَقَالُوا: الأَْصْل أَنَّ حَال الإِْمَامِ إِنْ كَانَ مِثْل حَال الْمُقْتَدِي أَوْ فَوْقَهُ جَازَتْ صَلاَةُ الْكُل، وَإِنْ كَانَ دُونَ حَال الْمُقْتَدِي صَحَّتْ صَلاَةُ الإِْمَامِ. وَلاَ تَصِحُّ صَلاَةُ الْمُقْتَدِي إِلاَّ إِذَا كَانَ الإِْمَامُ أُمِّيًّا وَالْمُقْتَدِي قَارِئًا، أَوْ كَانَ الإِْمَامُ أَخْرَسَ فَلاَ يَصِحُّ صَلاَةُ الإِْمَامِ أَيْضًا. (3) وَقَدْ تَوَسَّعَ الْحَنَفِيَّةُ فِي تَطْبِيقِ هَذَا الأَْصْل عَلَى كَثِيرٍ مِنَ
__________
(1) الزيلعي 1 / 136، ومغني المحتاج 1 / 246، وقليوبي 1 / 237، 238، وكشاف القناع 1 / 486، وبلغة السالك 1 / 457.
(2) ابن عابدين 1 / 389، والهندية 1 / 85، 86، والدسوقي 1 / 322، 329، 333، وكشاف القناع 1 / 476، 480 - 484.
(3) الفتاوى الهندية 1 / 89.(6/22)
الْمَسَائِل، وَوَافَقَهُمُ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي هَذِهِ الْقَاعِدَةِ مَعَ خِلاَفٍ وَتَفْصِيلٍ فِي بَعْضِ الْمَسَائِل. وَخَالَفَهُمُ الشَّافِعِيَّةُ فِي أَكْثَرِ الْمَسَائِل كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ عِنْدَ الْكَلاَمِ فِي: (اخْتِلاَفِ صِفَةِ الإِْمَامِ وَالْمُقْتَدِي) .
د - اتِّحَادُ صَلاَتَيِ الْمُقْتَدِي وَالإِْمَامِ:
13 - يُشْتَرَطُ فِي الاِقْتِدَاءِ اتِّحَادُ صَلاَتَيِ الإِْمَامِ وَالْمَأْمُومِ سَبَبًا وَفِعْلاً وَوَصْفًا، لأَِنَّ الاِقْتِدَاءَ بِنَاءُ التَّحْرِيمَةِ عَلَى التَّحْرِيمَةِ، فَالْمُقْتَدِي عَقَدَ تَحْرِيمَتَهُ لَمَّا انْعَقَدَتْ لَهُ تَحْرِيمَةُ الإِْمَامِ، فَكُل مَا تَنْعَقِدُ لَهُ تَحْرِيمَةُ الإِْمَامِ جَازَ الْبِنَاءُ عَلَيْهِ مِنَ الْمُقْتَدِي، وَعَلَى ذَلِكَ فَلاَ تَصِحُّ ظُهْرٌ خَلْفَ عَصْرٍ أَوْ غَيْرِهِ وَلاَ عَكْسُهُ، وَلاَ تَصِحُّ صَلاَةُ ظُهْرٍ قَضَاءً خَلْفَ ظُهْرٍ أَدَاءً، وَلاَ ظُهْرَيْنِ مِنْ يَوْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، كَظُهْرِ يَوْمِ السَّبْتِ خَلْفَ ظُهْرِ الأَْحَدِ الْمَاضِيَيْنِ، إِذْ لاَ بُدَّ مِنَ الاِتِّحَادِ فِي عَيْنِ الصَّلاَةِ وَصِفَتِهَا وَزَمَنِهَا، وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنَّمَا جُعِل الإِْمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَلاَ تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ. (1)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الْقُدْوَةِ تَوَافُقُ نَظْمِ صَلاَتَيْهِمَا فِي الأَْفْعَال الظَّاهِرَةِ، وَلاَ يُشْتَرَطُ اتِّحَادُ الصَّلاَتَيْنِ. وَعَلَى ذَلِكَ تَصِحُّ قُدْوَةُ مَنْ يُؤَدِّي الصَّلاَةَ بِمَنْ يَقْضِيهَا، وَالْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّل، وَمُؤَدِّي الظُّهْرِ بِالْعَصْرِ، وَبِالْمَعْكُوسِ. أَيْ الْقَاضِي بِالْمُؤَدِّي، وَالْمُتَنَفِّل بِالْمُفْتَرِضِ، وَفِي الْعَصْرِ بِالظُّهْرِ، نَظَرًا لاِتِّفَاقِ الْفِعْل فِي الصَّلاَةِ وَإِنِ اخْتَلَفَتِ النِّيَّةُ.
__________
(1) البدائع 1 / 138، وابن عابدين 1 / 370 - 396، والهندية 1 / 85، والدسوقي 1 / 339، وجواهر الإكليل 1 / 80، وكشاف القناع 1 / 484 - 485. والحديث سبق تخريجه ف / 11.(6/22)
وَكَذَا يَجُوزُ الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ بِالصُّبْحِ وَالْمَغْرِبِ، وَتَجُوزُ الصُّبْحُ خَلْفَ الظُّهْرِ فِي الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَلَهُ حِينَئِذٍ الْخُرُوجُ بِنِيَّةِ الْمُفَارَقَةِ أَوِ الاِنْتِظَارِ لِيُسَلِّمَ مَعَ الإِْمَامِ وَهُوَ الأَْفْضَل. (1) لَكِنَّ الأَْوْلَى فِيهَا الاِنْفِرَادُ.
فَإِنِ اخْتَلَفَ فِعْلُهُمَا كَمَكْتُوبَةٍ وَكُسُوفٍ أَوْ جَنَازَةٍ، لَمْ يَصِحَّ الاِقْتِدَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى الصَّحِيحِ، لِمُخَالَفَتِهِ النَّظْمَ، وَتَعَذُّرِ الْمُتَابَعَةِ مَعَهَا. (2)
أَمَّا اقْتِدَاءُ الْمُتَنَفِّل خَلْفَ الْمُفْتَرِضِ فَجَائِزٌ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ. (3)
هـ - عَدَمُ الْفَصْل بَيْنَ الْمُقْتَدِي وَالإِْمَامِ:
14 - يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الاِقْتِدَاءِ أَلاَّ يَكُونَ بَيْنَ الْمُقْتَدِي وَالإِْمَامِ فَاصِلٌ كَبِيرٌ.
وَهَذَا الشَّرْطُ مَحَل اتِّفَاقٍ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ فِي الْجُمْلَةِ، وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي بَعْضِ الْفُرُوعِ وَالتَّفَاصِيل عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
بُعْدُ الْمَسَافَةِ:
15 - فَرَّقَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ بَيْنَ الْمَسْجِدِ وَغَيْرِ الْمَسْجِدِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَسَافَةِ بَيْنَ الإِْمَامِ وَالْمُقْتَدِي، فَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِذَا كَانَ الْمَأْمُومُ يَرَى الإِْمَامَ أَوْ مَنْ وَرَاءَهُ، أَوْ يَسْمَعُ التَّكْبِيرَ وَهُمَا فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ صَحَّ الاِقْتِدَاءُ، وَإِنْ بَعُدَتِ
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 253، 254، ونهاية المحتاج 2 / 205 - 207، 211.
(2) المراجع السابقة.
(3) ابن عابدين 1 / 370، والدسوقي 1 / 339، وكشاف القناع 1 / 484، ومغني المحتاج 1 / 253.(6/23)
الْمَسَافَةُ (1) . أَمَّا فِي خَارِجِ الْمَسْجِدِ فَإِذَا كَانَتِ الْمَسَافَةُ قَدْرَ مَا يَسَعُ صَفَّيْنِ فَإِنَّهَا تَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الاِقْتِدَاءِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، إِلاَّ فِي صَلاَةِ الْعِيدَيْنِ، وَفِي صَلاَةِ الْجِنَازَةِ خِلاَفٌ عِنْدَهُمْ. (2) وَلاَ يَمْنَعُ الاِقْتِدَاءَ بُعْدُ الْمَسَافَةِ فِي خَارِجِ الْمَسْجِدِ إِذَا لَمْ يَزِدْ عَنْ ثَلاَثِمِائَةِ ذِرَاعٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. (3) وَاشْتَرَطَ الْحَنَابِلَةُ فِي صِحَّةِ الاِقْتِدَاءِ خَارِجَ الْمَسْجِدِ رُؤْيَةَ الْمَأْمُومِ لِلإِْمَامِ أَوْ بَعْضِ مَنْ وَرَاءَهُ. فَلاَ يَصِحُّ الاِقْتِدَاءُ إِنْ لَمْ يَرَ الْمَأْمُومُ أَحَدَهُمَا، وَإِنْ سَمِعَ التَّكْبِيرَ، وَمَهْمَا كَانَتِ الْمَسَافَةُ. (4)
وَلَمْ يُفَرِّقِ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ الْمَسْجِدِ وَغَيْرِهِ وَلاَ بَيْنَ قُرْبِ الْمَسَافَةِ وَبُعْدِهَا، فَقَالُوا بِصِحَّةِ الاِقْتِدَاءِ إِذَا أَمْكَنَ رُؤْيَةُ الإِْمَامِ أَوِ الْمَأْمُومِ أَوْ سَمَاعُ الإِْمَامِ وَلَوْ بِمُسَمِّعٍ. (5)
وُجُودُ الْحَائِل، وَلَهُ عِدَّةُ صُوَرٍ:
16 - الأُْولَى: إِنْ كَانَ بَيْنَ الْمُقْتَدِي وَالإِْمَامِ نَهْرٌ كَبِيرٌ تَجْرِي فِيهِ السُّفُنُ (وَلَوْ زَوْرَقًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ) لاَ يَصِحُّ الاِقْتِدَاءُ، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْمَذَاهِبِ، وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي تَحْدِيدِ النَّهْرِ الْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ. فَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: النَّهْرُ الصَّغِيرُ هُوَ مَا لاَ تَجْرِي فِيهِ السُّفُنُ، وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: هُوَ مَا لاَ يَمْنَعُ مِنْ سَمَاعِ الإِْمَامِ، أَوْ بَعْضِ الْمَأْمُومِينَ، أَوْ رُؤْيَةِ فِعْل أَحَدِهِمَا. وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: هُوَ النَّهْرُ الَّذِي يُمْكِنُ الْعُبُورُ مِنْ أَحَدِ
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 88، ومغني المحتاج 1 / 248، وكشاف القناع 1 / 491.
(2) الفتاوى الهندية 1 / 87.
(3) مغني المحتاج 1 / 249.
(4) كشاف القناع 1 / 491.
(5) الدسوقي 1 / 337. والمراد بالمسمع: من يبلغ عن الإمام الحاضر، فليس منه الائتمام بمجرد سماع صوت الإمام المنقول بالمذياع لعدم تحقق الاجتماع.(6/23)
طَرَفَيْهِ إِلَى الآْخَرِ مِنْ غَيْرِ سِبَاحَةٍ بِالْوُثُوبِ فَوْقَهُ، أَوِ الْمَشْيِ فِيهِ، وَفِي حُكْمِهِ النَّهْرُ الْمُحْوِجُ إِلَى سِبَاحَةٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى الصَّحِيحِ. (1)
17 - الثَّانِيَةُ: يَمْنَعُ مِنَ الاِقْتِدَاءِ طَرِيقٌ نَافِذٌ يُمْكِنُ أَنْ تَجْرِيَ فِيهِ عَجَلَةٌ، وَلَيْسَ فِيهِ صُفُوفٌ مُتَّصِلَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. (2) قَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ كَانَ عَلَى الطَّرِيقِ مَأْمُومٌ وَاحِدٌ - لاَ يَثْبُتُ بِهِ الاِتِّصَال، وَبِالثَّلاَثِ يَثْبُتُ، وَفِي الْمُثَنَّى خِلاَفٌ. (3)
وَلاَ يَضُرُّ الطَّرِيقُ إِذَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْ سَمَاعِ الإِْمَامِ أَوْ بَعْضِ الْمَأْمُومِينَ أَوْ رُؤْيَةِ فِعْل أَحَدِهِمَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَلِهَذَا صَرَّحُوا بِجَوَازِ صَلاَةِ الْجَمَاعَةِ لأَِهْل الأَْسْوَاقِ وَإِنْ فَرَّقَتِ الطُّرُقُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ إِمَامِهِمْ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يَضُرُّ، لأَِنَّهُ قَدْ تَكْثُرُ فِيهِ الزَّحْمَةُ فَيَعْسُرُ الاِطِّلاَعُ عَلَى أَحْوَال الإِْمَامِ. (4)
هَذَا، وَأَجَازَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ الْفَصْل بِطَرِيقٍ فِي صَلاَةِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَصَلاَةِ الْخَوْفِ وَنَحْوِهَا، وَالتَّفْصِيل فِي مَوَاضِعِهَا.
18 - الثَّالِثَةُ: صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الْحَنَابِلَةِ، بِأَنَّهُ إِذَا كَانَ بَيْنَ الإِْمَامِ وَالْمَأْمُومِ جِدَارٌ كَبِيرٌ أَوْ بَابٌ مُغْلَقٌ يَمْنَعُ الْمُقْتَدِيَ مِنَ الْوُصُول إِلَى إِمَامِهِ لَوْ قَصَدَ الْوُصُول إِلَيْهِ لاَ يَصِحُّ الاِقْتِدَاءُ، وَيَصِحُّ إِذَا كَانَ صَغِيرًا لاَ يَمْنَعُ، أَوْ كَبِيرًا وَلَهُ ثُقْبٌ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 393، وكشاف القناع 1 / 292، والدسوفي 1 / 336، ومغني المحتاج 1 / 249.
(2) ابن عابدين 1 / 393، ومراقي الفلاح ص159، 160، وكشاف القناع 1 / 492.
(3) الهندية 1 / 87.
(4) الدسوقي 1 / 336، ومغني المحتاج 1 / 249.(6/24)
لاَ يَشْتَبِهُ عَلَيْهِ حَال الإِْمَامِ سَمَاعًا أَوْ رُؤْيَةً، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي فِي حُجْرَةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَالنَّاسُ فِي الْمَسْجِدِ يُصَلُّونَ بِصَلاَتِهِ (1) .
قَال الشَّافِعِيَّةُ: فَإِنْ حَال مَا يَمْنَعُ الْمُرُورَ لاَ الرُّؤْيَةَ كَالشُّبَّاكِ أَوْ يَمْنَعُ الرُّؤْيَةَ لاَ الْمُرُورَ كَالْبَابِ الْمَرْدُودِ فَوَجْهَانِ.
وَعَلَى هَذَا الاِقْتِدَاءُ فِي الْمَسَاكِنِ الْمُتَّصِلَةِ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَأَبْوَابِهَا مِنْ خَارِجِهِ - صَحِيحٌ، إِذَا لَمْ يَشْتَبِهْ حَال الإِْمَامِ لِسَمَاعٍ أَوْ رُؤْيَةٍ، وَلَمْ يَتَخَلَّل إِلاَّ الْجِدَارُ، كَمَا ذَكَرَهُ شَمْسُ الأَْئِمَّةِ فِيمَنْ صَلَّى عَلَى سَطْحِ بَيْتِهِ الْمُتَّصِل بِالْمَسْجِدِ أَوْ فِي مَنْزِلِهِ بِجَنْبِ الْمَسْجِدِ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَسْجِدِ حَائِطٌ مُقْتَدِيًا بِإِمَامٍ فِي الْمَسْجِدِ وَهُوَ يَسْمَعُ التَّكْبِيرَ مِنَ الإِْمَامِ أَوْ مِنَ الْمُكَبِّرِ تَجُوزُ صَلاَتُهُ. وَيَصِحُّ اقْتِدَاءُ الْوَاقِفِ عَلَى السَّطْحِ بِمَنْ هُوَ فِي الْبَيْتِ، وَلاَ يَخْفَى عَلَيْهِ حَالُهُ. (2)
وَلَمْ يُفَرِّقِ الْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ الْجِدَارُ كَبِيرًا أَوْ صَغِيرًا، فَقَالُوا بِجَوَازِ الاِقْتِدَاءِ إِذَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْ سَمَاعِ الإِْمَامِ أَوْ بَعْضِ الْمَأْمُومِينَ أَوْ رُؤْيَةِ فِعْل أَحَدِهِمَا. (3)
و اتِّحَادُ الْمَكَانِ:
19 - يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الاِقْتِدَاءِ أَنْ يَجْمَعَ الْمُقْتَدِي وَالإِْمَامَ مَوْقِفٌ وَاحِدٌ، إِذْ مِنْ مَقَاصِدِ الاِقْتِدَاءِ
__________
(1) حديث: " كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في حجرة عائشة. . . " أخرجه البخاري (الفتح 2 / 213 - ط السلفية) .
(2) الفتاوى الهندية 1 / 87، ومراقي الفلاح ص 160، ومغني المحتاج 1 / 250، وحاشية القليوبي 1 / 242، 244.
(3) الإنصاف 2 / 295 - 297، والدسوقي 1 / 336.(6/24)
اجْتِمَاعُ جَمْعٍ فِي مَكَانٍ، كَمَا عُهِدَ عَلَيْهِ الْجَمَاعَاتُ فِي الأَْعْصُرِ الْخَالِيَةِ، وَمَبْنَى الْعِبَادَاتِ عَلَى رِعَايَةِ الاِتِّبَاعِ فَيُشْتَرَطُ لِيَظْهَرَ الشِّعَارُ. (1) وَلِلْفُقَهَاءِ فِي تَطْبِيقِ هَذَا الشَّرْطِ تَفْصِيلٌ، وَفِي بَعْضِ الْفُرُوعِ خِلاَفٌ كَالآْتِي:
أَوَّلاً - الأَْبْنِيَةُ الْمُخْتَلِفَةُ:
20 - تَقَدَّمَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالأَْبْنِيَةِ الْمُنْفَصِلَةِ.
ثَانِيًا - الاِقْتِدَاءُ فِي السُّفُنِ الْمُخْتَلِفَةِ:
21 - يُشْتَرَطُ فِي الاِقْتِدَاءِ أَلاَّ يَكُونَ الْمُقْتَدِي فِي سَفِينَةٍ وَالإِْمَامُ فِي سَفِينَةٍ أُخْرَى غَيْرِ مُقْتَرِنَةٍ بِهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، لاِخْتِلاَفِ الْمَكَانِ، وَلَوِ اقْتَرَنَتَا صَحَّ اتِّفَاقًا، لِلاِتِّحَادِ الْحُكْمِيِّ. وَالْمُرَادُ بِالاِقْتِرَانِ: مُمَاسَّةُ السَّفِينَتَيْنِ، وَقِيل رَبْطُهُمَا. (2)
وَتَوَسَّعَ الْمَالِكِيَّةُ فِي جَوَازِ اقْتِدَاءِ ذَوِي سُفُنٍ مُتَقَارِبَةٍ، وَلَمْ يَشْتَرِطُوا رَبْطَ السَّفِينَتَيْنِ، وَلاَ الْمُمَاسَّةَ، وَلَمْ يُحَدِّدُوا الْمَسَافَةَ حَيْثُ قَالُوا: جَازَ اقْتِدَاءُ ذَوِي سُفُنٍ مُتَقَارِبَةٍ فِي الْمَرْسَى بِإِمَامٍ وَاحِدٍ فِي بَعْضِهَا يَسْمَعُونَ أَقْوَالَهُ أَوْ أَقْوَال مَنْ مَعَهُ فِي سَفِينَتِهِ مِنْ مَأْمُومِينَ، أَوْ يَرَوْنَ أَفْعَالَهُ أَوْ أَفْعَال مَنْ مَعَهُ فِي سَفِينَتِهِ مِنْ مَأْمُومِينَ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتِ السُّفُنُ سَائِرَةً عَلَى الْمَشْهُورِ، لأَِنَّ الأَْصْل السَّلاَمَةُ مِنْ طُرُوءِ مَا يُفَرِّقُهَا مِنْ رِيحٍ أَوْ غَيْرِهِ.
لَكِنَّهُمْ نَصُّوا عَلَى اسْتِحْبَابِ أَنْ يَكُونَ الإِْمَامُ فِي
__________
(1) نهاية المحتاج 2 / 191، ومغني المحتاج 1 / 248.
(2) مراقي الفلاح ص 160، وشرح منتهى الإرادات 1 / 694.(6/25)
السَّفِينَةِ الَّتِي تَلِي الْقِبْلَةَ. (1)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ كَانَا فِي سَفِينَتَيْنِ صَحَّ اقْتِدَاءُ أَحَدِهِمَا بِالآْخَرِ وَإِنْ لَمْ تَكُونَا مَكْشُوفَتَيْنِ، وَلَمْ تُرْبَطْ إِحْدَاهُمَا بِالأُْخْرَى، بِشَرْطِ أَلاَّ تَزِيدَ الْمَسَافَةُ عَلَى ثَلاَثِمِائَةِ ذِرَاعٍ، وَعَدَمِ الْحَائِل. وَالْمَاءُ بَيْنَهُمَا كَالنَّهْرِ بَيْنَ الْمَكَانَيْنِ، (2) بِمَعْنَى أَنَّهُ يُمْكِنُ اجْتِيَازُهُ سِبَاحَةً وَلَمْ يَشْتَرِطُوا الاِلْتِصَاقَ وَلاَ الرَّبْطَ، خِلاَفًا لِلْحَنَفِيَّةِ، وَالْمُخْتَارِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
ثَالِثًا: عُلُوُّ مَوْقِفِ الْمُقْتَدِي عَلَى الإِْمَامِ أَوْ عَكْسُهُ:
22 - يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَوْقِفُ الْمَأْمُومِ عَالِيًا - وَلَوْ بِسَطْحٍ - عَنِ الإِْمَامِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ رَأْيُ الْمَالِكِيَّةِ فِي غَيْرِ صَلاَةِ الْجُمُعَةِ. فَصَحَّ اقْتِدَاءُ مَنْ بِسَطْحِ الْمَسْجِدِ بِالإِْمَامِ الَّذِي يُصَلِّي بِالْمَسْجِدِ، لإِِمْكَانِ الْمُتَابَعَةِ.
وَيُكْرَهُ أَنْ يَكُونَ مَوْقِفُ الإِْمَامِ عَالِيًا عَنْ مَوْقِفِ الْمَأْمُومِ. (3)
وَلَمْ يُفَرِّقِ الشَّافِعِيَّةُ بَيْنَ ارْتِفَاعِ مَوْقِفِ الإِْمَامِ وَالْمَأْمُومِ، فَشَرَطُوا فِي هَذِهِ الْحَال مُحَاذَاةَ بَعْضِ بَدَنِ الْمَأْمُومِ بَعْضَ بَدَنِ الإِْمَامِ، وَالْعِبْرَةُ فِي ذَلِكَ بِالطُّول الْعَادِيِّ، وَقَال النَّوَوِيُّ يُكْرَهُ ارْتِفَاعُ الْمَأْمُومِ عَلَى إِمَامِهِ حَيْثُ أَمْكَنَ وُقُوفُهُمَا بِمُسْتَوًى وَاحِدٍ، وَعَكْسُهُ كَذَلِكَ، إِلاَّ لِحَاجَةٍ تَتَعَلَّقُ بِالصَّلاَةِ، كَتَبْلِيغٍ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ إِسْمَاعُ الْمَأْمُومِينَ وَتَعْلِيمُهُمْ صِفَةَ الصَّلاَةِ،
__________
(1) جواهر الإكليل 1 / 81، والدسوقي 1 / 336.
(2) القليوبي 1 / 243.
(3) ابن عابدين 1 / 394 - 395، والدسوقي 1 / 336، والمغني 2 / 206، 209.(6/25)
فَيُسْتَحَبُّ ارْتِفَاعُهُمَا لِذَلِكَ، تَقْدِيمًا لِمَصْلَحَةِ الصَّلاَةِ. (1)
وَهَذَا الْكَلاَمُ فِي الْبِنَاءِ وَنَحْوِهِ.
أَمَّا الْجَبَل الَّذِي يُمْكِنُ صُعُودُهُ كَالصَّفَا أَوِ الْمَرْوَةِ أَوْ جَبَل أَبِي قُبَيْسٍ فَالْعِبْرَةُ فِيهِ بِالْمَسَافَةِ الَّتِي سَبَقَ الْقَوْل فِيهَا وَهِيَ ثَلاَثُمِائَةِ ذِرَاعٍ.
فَالاِقْتِدَاءُ فِيهِ صَحِيحٌ وَإِنْ كَانَ الْمَأْمُومُ أَعْلَى مِنَ الإِْمَامِ.
ز - عَدَمُ تَوَسُّطِ النِّسَاءِ بَيْنَ الإِْمَامِ وَالْمَأْمُومِ:
23 - يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الاِقْتِدَاءِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ عَدَمُ تَوَسُّطِ النِّسَاءِ، فَإِنْ وَقَفَتِ الْمَرْأَةُ فِي صَفِّ الرَّجُل كُرِهَ، وَلَمْ تَبْطُل صَلاَتُهَا، وَلاَ صَلاَةُ مَنْ يَلِيهَا، وَلاَ مَنْ خَلْفَهَا. لأَِنَّهَا لَوْ وَقَفَتْ فِي غَيْرِ صَلاَةٍ لَمْ تَبْطُل صَلاَتُهُ، فَكَذَلِكَ فِي الصَّلاَةِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَانَتْ تَعْتَرِضُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَائِمَةً وَهُوَ يُصَلِّي. وَالنَّهْيُ لِلْكَرَاهَةِ، وَلِهَذَا لاَ تَفْسُدُ صَلاَتُهَا فَصَلاَةُ مَنْ يَلِيهَا أَوْلَى. وَهَكَذَا إِنْ كَانَ هُنَاكَ صَفٌّ تَامٌّ مِنَ النِّسَاءِ، فَإِنَّهُ لاَ يَمْنَعُ اقْتِدَاءَ مَنْ خَلْفَهُنَّ مِنَ الرِّجَال. (2)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الاِقْتِدَاءِ أَلاَّ يَكُونَ بَيْنَ الْمُقْتَدِي وَالإِْمَامِ صَفٌّ مِنَ النِّسَاءِ بِلاَ حَائِلٍ قَدْرَ ذِرَاعٍ، وَبِهَذَا قَال أَبُو بَكْرٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ،
__________
(1) القليوبي 1 / 243، ونهاية المحتاج 2 / 198.
(2) جواهر الإكليل 1 / 79، والدسوقي 1 / 332، ومغني المحتاج 1 / 245، 246، والمغني لابن قدامة 2 / 204، وكشاف القناع 1 / 488 وحديث اعتراض عائشة. . . أخرجه البخاري (الفتح 1 / 588 - ط السلفية) .(6/26)
وَالْمُرَادُ بِالصَّفِّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مَا زَادَ عَلَى الثَّلاَثِ، وَفِي رِوَايَةٍ الْمُرَادُ بِالصَّفِّ الثَّلاَثُ، وَعَلَى هَذَا قَالُوا:
(1) الْمَرْأَةُ الْوَاحِدَةُ تُفْسِدُ صَلاَةَ ثَلاَثَةٍ، وَاحِدٍ عَنْ يَمِينِهَا وَآخَرَ عَنْ يَسَارِهَا وَآخَرَ خَلْفَهَا، وَلاَ تُفْسِدُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ. (2) وَالْمَرْأَتَانِ تُفْسِدَانِ صَلاَةَ أَرْبَعَةٍ مِنَ الرِّجَال، وَاحِدٍ عَنْ يَمِينِهِمَا، وَآخَرَ عَنْ يَسَارِهِمَا، وَصَلاَةَ اثْنَيْنِ خَلْفَهُمَا.
(3) وَإِنْ كُنَّ ثَلاَثًا أَفْسَدْنَ صَلاَةَ وَاحِدٍ عَنْ يَمِينِهِنَّ، وَآخَرَ عَنْ يَسَارِهِنَّ وَثَلاَثَةٍ ثَلاَثَةٍ إِلَى آخِرِ الصُّفُوفِ.
وَهَذَا جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.
وَفِي رِوَايَةٍ: الثَّلاَثُ كَالصَّفِّ، تُفْسِدُ صَلاَةَ كُل الصُّفُوفِ خَلْفَهُنَّ إِلَى آخِرِ الصُّفُوفِ، لأَِنَّ الثَّلاَثَةَ جَمْعٌ كَامِلٌ.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الثِّنْتَيْنِ كَالثَّلاَثِ. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى جَعَل الثَّلاَثَ كَالاِثْنَتَيْنِ (1) .
ح - الْعِلْمُ بِانْتِقَالاَتِ الإِْمَامِ:
24 - يُشْتَرَطُ فِي الاِقْتِدَاءِ عِلْمُ الْمَأْمُومِ بِانْتِقَالاَتِ الإِْمَامِ، بِسَمَاعٍ أَوْ رُؤْيَةٍ لِلإِْمَامِ أَوْ لِبَعْضِ الْمُقْتَدِينَ بِهِ، لِئَلاَّ يُشْتَبَهَ عَلَى الْمُقْتَدِي حَال الإِْمَامِ فَلاَ يَتَمَكَّنَ مِنْ مُتَابَعَتِهِ، فَلَوْ جَهِل الْمَأْمُومُ أَفْعَال إِمَامِهِ الظَّاهِرَةَ كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، أَوِ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ لَمْ تَصِحَّ صَلاَتُهُ، لأَِنَّ الاِقْتِدَاءَ مُتَابَعَةٌ، وَمَعَ الْجَهْل أَوِ الاِشْتِبَاهِ لاَ تُمْكِنُ الْمُتَابَعَةُ، وَهَذَا الشَّرْطُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 88، وابن عابدين 1 / 393، والزيلعي 1 / 138، 139.(6/26)
عِنْدَ الْفُقَهَاءِ. (1)
زَادَ الْحَنَفِيَّةُ: وَكَذَا عِلْمُهُ بِحَال إِمَامِهِ مِنْ إِقَامَةٍ أَوْ سَفَرٍ قَبْل الْفَرَاغِ أَوْ بَعْدَهُ، وَهَذَا فِيمَا لَوْ صَلَّى الرُّبَاعِيَّةَ رَكْعَتَيْنِ فِي مِصْرٍ أَوْ قَرْيَةٍ. (2)
هَذَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ لاَ يُجَوِّزُونَ الاِقْتِدَاءَ خَارِجَ الْمَسْجِدِ بِالسَّمَاعِ وَحْدَهُ. بَل يَشْتَرِطُونَ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ رُؤْيَةَ الْمَأْمُومِ لِلإِْمَامِ أَوْ بَعْضِ الْمُقْتَدِينَ بِهِ، لِقَوْل عَائِشَةَ لِنِسَاءٍ كُنَّ يُصَلِّينَ فِي حُجْرَتِهَا: لاَ تُصَلِّينَ بِصَلاَةِ الإِْمَامِ فَإِنَّكُنَّ دُونَهُ فِي حِجَابٍ وَلأَِنَّهُ لاَ يُمْكِنُهُ الْمُتَابَعَةُ فِي الْغَالِبِ.
وَأَمَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الأُْخْرَى فَالْحَنَابِلَةُ يَكْتَفُونَ بِالْعِلْمِ بِانْتِقَالاَتِ الإِْمَامِ بِالسَّمَاعِ أَوْ بِالرُّؤْيَةِ. (3)
ط - صِحَّةُ صَلاَةِ الإِْمَامِ:
25 - يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الاِقْتِدَاءِ صِحَّةُ صَلاَةِ الإِْمَامِ، فَلَوْ تَبَيَّنَ فَسَادُهَا لاَ يَصِحُّ الاِقْتِدَاءُ، قَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ تَبَيَّنَ فَسَادُ صَلاَةِ الإِْمَامِ، فِسْقًا مِنْهُ، أَوْ نِسْيَانًا لِمُضِيِّ مُدَّةِ الْمَسْحِ، أَوْ لِوُجُودِ الْحَدَثِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، لَمْ تَصِحَّ صَلاَةُ الْمُقْتَدِي لِعَدَمِ صِحَّةِ الْبِنَاءِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ صَحِيحَةً فِي زَعْمِ الإِْمَامِ فَاسِدَةً فِي زَعْمِ الْمُقْتَدِي لِبِنَائِهِ عَلَى الْفَاسِدِ فِي زَعْمِهِ. (4)
وَالْمُرَادُ بِالْفِسْقِ هُنَا: الْفِسْقُ الَّذِي يُخِل بِرَكْنٍ أَوْ شَرْطٍ فِي الصَّلاَةِ، كَأَنْ يُصَلِّيَ وَهُوَ سَكْرَانُ، أَوْ هُوَ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 370، والدسوقي 1 / 331، والحطاب 2 / 106، ومغني المحتاج 1 / 248، ونهاية المحتاج 2 / 191، وكشاف القناع 1 / 491.
(2) ابن عابدين 1 / 370.
(3) كشاف القناع 1 / 492.
(4) ابن عابدين 1 / 370.(6/27)
مُحْدِثٌ مُتَعَمِّدًا.
أَمَّا الْفِسْقُ فِي الْعَقِيدَةِ، أَوْ بِارْتِكَابِ الْمُحَرَّمَاتِ، فَهِيَ مَسْأَلَةٌ خِلاَفِيَّةٌ، وَقَدْ شَدَّدَ فِيهَا الإِْمَامُ أَحْمَدُ، وَقَال: إِنَّهُ إِذَا كَانَ دَاعِيًا إِلَى بِدْعَتِهِ، وَعَلِمَ بِذَلِكَ الْمُقْتَدِي، فَعَلَيْهِ إِعَادَةُ الصَّلاَةِ، حَتَّى لَوْ عَلِمَ بِذَلِكَ بَعْدَ الصَّلاَةِ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ الْمُعْتَمَدَةُ فِي الْمَذْهَبِ.
أَمَّا إِذَا كَانَ لاَ يَدْعُو إِلَى بِدْعَتِهِ، وَهُوَ مَسْتُورُ الْحَال، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لاَ إِعَادَةَ عَلَى مَنِ اقْتَدَى بِهِ، وَفِي رِوَايَةٍ: عَلَيْهِ الإِْعَادَةُ.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الصَّلاَةَ خَلْفَ الْفَاسِقِ مَكْرُوهَةٌ، وَلاَ إِعَادَةَ فِيهَا. لِحَدِيثِ: صَلُّوا خَلْفَ مَنْ قَال لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ. وَلأَِنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يُصَلِّي خَلْفَ الْحَجَّاجِ. وَأَنَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ كَانَا يُصَلِّيَانِ خَلْفَ مَرْوَانَ وَوَرَاءَ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ. (1)
وَمِثْلُهُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ حَيْثُ قَالُوا: لاَ يَصِحُّ الاِقْتِدَاءُ بِإِمَامٍ تَبَيَّنَ فِي الصَّلاَةِ أَوْ بَعْدَهَا أَنَّهُ كَافِرٌ، أَوِ امْرَأَةٌ، أَوْ مَجْنُونٌ، أَوْ فَاسِقٌ (عَلَى خِلاَفٍ فِيهِ) أَوْ ظَهَرَ أَنَّهُ مُحْدِثٌ، إِنْ تَعَمَّدَ الْحَدَثَ أَوْ عَلِمَ الْمُؤْتَمُّ بِحَدَثِهِ فِي الصَّلاَةِ أَوْ قَبْلَهَا، أَوِ اقْتَدَى بِهِ بَعْدَ الْعِلْمِ وَلَوْ نَاسِيًا. (2)
وَكَذَا قَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يَصِحُّ اقْتِدَاؤُهُ بِمَنْ يَعْلَمُ بُطْلاَنَ صَلاَتِهِ، كَمَنْ عَلِمَ بِكُفْرِهِ أَوْ حَدَثِهِ أَوْ نَجَاسَةِ ثَوْبِهِ، لأَِنَّهُ لَيْسَ فِي صَلاَةٍ فَكَيْفَ يَقْتَدِي بِهِ، وَكَذَا
__________
(1) شرح الدردير 1 / 326 و327 والمغني 2 / 185 - 188. وحديث: " صلوا خلف من قال لا إله إلا الله. . . " أخرجه الدارقطني (1 / 56 ط دار المحاسن) وضعفه ابن حجر في التلخيص (2 / 35 ط دار المحاسن) والأثر عن ابن عمر أنه كان يصلي خلف الحجاج. أخرجه ابن أبي شيبة (2 / 378 ط الدار السلفية) .
(2) جواهر الإكليل 1 / 78، والدسوقي 1 / 326، 327.(6/27)
لاَ يَصِحُّ الاِقْتِدَاءُ بِإِمَامٍ يَعْتَقِدُ الْمُقْتَدِي بُطْلاَنَ صَلاَتِهِ (1) .
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ لاَ يَصِحُّ الاِقْتِدَاءُ بِكَافِرٍ وَلَوْ بِبِدْعَةٍ مُكَفِّرَةٍ وَلَوْ أَسَرَّهُ وَجَهِل الْمَأْمُومُ كُفْرَهُ ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ. وَكَذَلِكَ مَنْ ظَنَّ كُفْرَهُ أَوْ حَدَثَهُ، وَلَوْ بَانَ خِلاَفُ ذَلِكَ فَيُعِيدُ الْمَأْمُومُ، لاِعْتِقَادِهِ بُطْلاَنَ صَلاَتِهِ. (2)
لَكِنَّ الْمَالِكِيَّةُ قَالُوا: لَوْ عَلِمَ الْمُقْتَدِي بِحَدَثِ إِمَامِهِ بَعْدَ الصَّلاَةِ فَلاَ بُطْلاَنَ. (3) كَمَا أَنَّ الْحَنَابِلَةَ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَوْ صَلَّى خَلْفَ مَنْ يَعْلَمُهُ مُسْلِمًا، فَقَال بَعْدَ الصَّلاَةِ: هُوَ كَافِرٌ، لَمْ يُؤَثِّرْ فِي صَلاَةِ الْمَأْمُومِ لأَِنَّهَا كَانَتْ مَحْكُومًا بِصِحَّتِهَا. (4)
وَأَمَّا الإِْمَامُ فَلَوْ أَخْطَأَ أَوْ نَسِيَ لَمْ يُؤَاخَذْ بِذَلِكَ الْمَأْمُومُ، كَمَا فِي الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: أَئِمَّتُكُمْ يُصَلُّونَ لَكُمْ وَلَهُمْ، فَإِنْ أَصَابُوا فَلَكُمْ وَلَهُمْ، وَإِنْ أَخْطَئُوا فَلَكُمْ وَعَلَيْهِمْ. فَجَعَل خَطَأَ الإِْمَامِ عَلَى نَفْسِهِ دُونَهُمْ، وَقَدْ صَلَّى عُمَرُ وَغَيْرُهُ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَهُوَ جُنُبٌ نَاسِيًا لِلْجَنَابَةِ، فَأَعَادَ وَلَمْ يَأْمُرِ الْمَأْمُومِينَ بِالإِْعَادَةِ، وَهَذَا مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، كَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ.
وَكَذَلِكَ لَوْ فَعَل الإِْمَامُ مَا يَسُوغُ عِنْدَهُ، وَهُوَ عِنْدَ الْمَأْمُومِ يُبْطِل الصَّلاَةَ، مِثْل أَنْ يَفْتَصِدَ وَيُصَلِّيَ وَلاَ يَتَوَضَّأَ، أَوْ يَمَسَّ ذَكَرَهُ، أَوْ يَتْرُكَ الْبَسْمَلَةَ، وَهُوَ يَعْتَقِدُ أَنَّ صَلاَتَهُ تَصِحُّ مَعَ ذَلِكَ، وَالْمَأْمُومُ يَعْتَقِدُ أَنَّهَا لاَ تَصِحُّ مَعَ ذَلِكَ، فَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى صِحَّةِ
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 237.
(2) كشاف القناع 1 / 475، 476.
(3) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 327.
(4) كشاف القناع 1 / 475.(6/28)
صَلاَةِ الْمَأْمُومِ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ فِي أَظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ، بَل فِي أَنَصِّهِمَا عَنْهُ. وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، اخْتَارَهُ الْقَفَّال وَغَيْرُهُ. (1)
وَاسْتَدَل الإِْمَامُ أَحْمَدُ لِهَذَا الاِتِّجَاهِ بِأَنَّ الصَّحَابَةَ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - كَانَ يُصَلِّي بَعْضُهُمْ خَلْفَ بَعْضٍ عَلَى اخْتِلاَفِهِمْ فِي الْفُرُوعِ. وَأَنَّ الْمَسَائِل الْخِلاَفِيَّةَ لاَ تَخْلُو إِمَّا أَنْ يُصِيبَ الْمُجْتَهِدُ فَيَكُونَ لَهُ أَجْرَانِ: أَجْرُ اجْتِهَادِهِ وَأَجْرُ إِصَابَتِهِ، أَوْ أَنْ يُخْطِئَ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ وَهُوَ أَجْرُ اجْتِهَادِهِ، وَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ فِي الْخَطَأِ. (2)
أَحْوَال الْمُقْتَدِي:
26 - الْمُقْتَدِي إِمَّا مُدْرِكٌ، أَوْ مَسْبُوقٌ، أَوْ لاَحِقٌ، فَالْمُدْرِكُ: مَنْ صَلَّى الرَّكَعَاتِ كَامِلَةً مَعَ الإِْمَامِ، أَيْ أَدْرَكَ جَمِيعَ رَكَعَاتِهَا مَعَهُ، سَوَاءٌ أَأَدْرَكَ مَعَهُ التَّحْرِيمَةَ أَوْ أَدْرَكَهُ فِي جُزْءٍ مِنْ رُكُوعِ الرَّكْعَةِ الأُْولَى إِلَى أَنْ قَعَدَ مَعَهُ الْقَعْدَةَ الأَْخِيرَةَ، وَسَوَاءٌ أَسَلَّمَ مَعَهُ أَمْ قَبْلَهُ (3) .
وَالْمُدْرِكُ يُتَابِعُ إِمَامَهُ فِي أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ، إِلاَّ فِي حَالاَتٍ خَاصَّةٍ تُذْكَرُ فِي كَيْفِيَّةِ الاِقْتِدَاءِ.
27 - وَالْمَسْبُوقُ: مَنْ سَبَقَهُ الإِْمَامُ بِكُل الرَّكَعَاتِ بِأَنِ اقْتَدَى بِالإِْمَامِ بَعْدَ رُكُوعِ الأَْخِيرَةِ، أَوْ بِبَعْضِ الرَّكَعَاتِ (4) . وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِهِ، فَقَال
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام 23 / 352، 372. وحديث: " أئمتكم يصلون لكم. . . " أخرجه البخاري (الفتح 2 / 187 - ط السلفية) .
(2) المغني 2 / 190و191.
(3) ابن عابدين 1 / 399.
(4) كشاف القناع 1 / 461، والفتاوى الهندية 1 / 91، وابن عابدين 1 / 400.(6/28)
أَبُو حَنِيفَةَ وَالْحَنَابِلَةُ: مَا أَدْرَكَهُ الْمَسْبُوقُ فَهُوَ آخِرُ صَلاَتِهِ قَوْلاً وَفِعْلاً، فَإِنْ أَدْرَكَهُ فِيمَا بَعْدَ الرَّكْعَةِ الأُْولَى كَالثَّانِيَةِ أَوِ الثَّالِثَةِ لَمْ يَسْتَفْتِحْ، وَلَمْ يَسْتَعِذْ، وَمَا يَقْضِيهِ فَهُوَ أَوَّل صَلاَتِهِ، يَسْتَفْتِحُ فِيهِ، وَيَتَعَوَّذُ، وَيَقْرَأُ الْفَاتِحَةَ وَالسُّورَةَ كَالْمُنْفَرِدِ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا (1) وَالْمَقْضِيُّ هُوَ الْفَائِتُ، فَيَكُونُ عَلَى صِفَتِهِ، لَكِنْ لَوْ أَدْرَكَ مِنْ رُبَاعِيَّةٍ أَوْ مَغْرِبٍ رَكْعَةً، تَشَهَّدَ عَقِبَ قَضَاءِ رَكْعَةٍ أُخْرَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ كَمَا قَال بِهِ سَائِرُ الْفُقَهَاءِ، غَيْرَ أَبِي حَنِيفَةَ، لِئَلاَّ يَلْزَمَ تَغْيِيرُ هَيْئَةِ الصَّلاَةِ، لأَِنَّهُ لَوْ تَشَهَّدَ عَقِبَ رَكْعَتَيْنِ لَزِمَ قَطْعُ الرُّبَاعِيَّةِ عَلَى وِتْرٍ، وَالثُّلاَثِيَّةِ شَفْعًا، وَمُرَاعَاةُ هَيْئَةِ الصَّلاَةِ مُمْكِنَةٌ، وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: لَوْ أَدْرَكَهُ فِي رَكْعَةِ الرُّبَاعِيِّ يَقْضِي رَكْعَتَيْنِ بِفَاتِحَةٍ وَسُورَةٍ ثُمَّ يَتَشَهَّدُ، ثُمَّ يَأْتِي بِفَاتِحَةٍ خَاصَّةٍ، لِيَكُونَ الْقَضَاءُ بِالْهَيْئَةِ الَّتِي فَاتَتْ. (2)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: مَا أَدْرَكَهُ الْمَسْبُوقُ مَعَ الإِْمَامِ فَهُوَ أَوَّل صَلاَتِهِ، وَمَا يَفْعَلُهُ بَعْدَ سَلاَمِ إِمَامِهِ آخِرُهَا، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا (3) وَإِتْمَامُ الشَّيْءِ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بَعْدَ أَوَّلِهِ، وَعَلَى ذَلِكَ إِذَا صَلَّى مَعَ الإِْمَامِ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ مِنَ الصُّبْحِ، وَقَنَتَ الإِْمَامُ فِيهَا يُعِيدُ فِي الْبَاقِي الْقُنُوتَ، وَلَوْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْمَغْرِبِ مَعَ الإِْمَامِ تَشَهَّدَ فِي الثَّانِيَةِ (4) .
__________
(1) حديث: " ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا. . . " أخرجه البخاري (الفتح 2 / 116 - ط السلفية) ومسلم (1 / 421 - ط الحلبي) .
(2) ابن عابدين 1 / 401، وكشاف القناع 1 / 461، 462.
(3) حديث: " فما أدركتم فصلوا. . . " أخرجه البخاري (2 / 116 - الفتح - ط السلفية) ومسلم (1 / 427 - ط الحلبي) .
(4) مغني المحتاج 1 / 260.(6/29)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي الْمَذْهَبِ، أَنَّ الْمَسْبُوقَ يَقْضِي أَوَّل صَلاَتِهِ فِي حَقِّ الْقِرَاءَةِ، وَآخِرَهَا فِي حَقِّ التَّشَهُّدِ، فَمُدْرِكُ رَكْعَةٍ مِنْ غَيْرِ فَجْرٍ يَأْتِي بِرَكْعَتَيْنِ بِفَاتِحَةٍ وَسُورَةٍ وَتَشَهُّدٍ بَيْنَهُمَا، وَبِرَابِعَةِ الرُّبَاعِيِّ بِفَاتِحَةٍ فَقَطْ، وَلاَ يَعْقِدُ قَبْلَهُمَا، فَهُوَ قَاضٍ فِي حَقِّ الْقَوْل عَمَلاً بِرِوَايَةِ: وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا لَكِنَّهُ بَانٍ عَلَى صَلاَتِهِ فِي حَقِّ الْفِعْل عَمَلاً بِرِوَايَةِ: وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا وَذَلِكَ تَطْبِيقًا لِقَاعِدَةِ الأُْصُولِيِّينَ: (إِذَا أَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ جُمِعَ) فَحَمَلْنَا رِوَايَةَ الإِْتْمَامِ عَلَى الأَْفْعَال، وَرِوَايَةَ الْقَضَاءِ عَلَى الأَْقْوَال. (1)
28 - وَاللاَّحِقُ: هُوَ مَنْ فَاتَتْهُ الرَّكَعَاتُ كُلُّهَا أَوْ بَعْضُهَا بَعْدَ اقْتِدَائِهِ بِعُذْرٍ، كَغَفْلَةٍ وَزَحْمَةٍ، وَسَبْقِ حَدَثٍ وَنَحْوِهَا، أَوْ بِغَيْرِ عُذْرٍ كَأَنْ سَبَقَ إِمَامَهُ فِي رُكُوعٍ أَوْ سُجُودٍ، كَمَا عَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ الْمُتَخَلِّفُ عَنِ الإِْمَامِ بِرُكْنٍ أَوْ أَكْثَرَ، كَمَا عَبَّرَ عَنْهُ غَيْرُ الْحَنَفِيَّةِ.
وَحُكْمُ اللاَّحِقِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ كَمُؤْتَمٍّ، لاَ يَأْتِي بِقِرَاءَةٍ وَلاَ سُجُودِ سَهْوٍ، وَلاَ يَتَغَيَّرُ فَرْضُهُ بِنِيَّةِ إِقَامَةٍ، وَيَبْدَأُ بِقَضَاءِ مَا فَاتَهُ بِعُذْرٍ، ثُمَّ يُتَابِعُ الإِْمَامَ إِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ فَرَغَ، عَكْسُ الْمَسْبُوقِ. (2)
وَقَال الْجُمْهُورُ: (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِنْ تَخَلَّفَ عَنِ الإِْمَامِ بِرَكْعَةٍ فَأَكْثَرَ بِعُذْرٍ، مِنْ نَوْمٍ أَوْ غَفْلَةٍ، تَابَعَ إِمَامَهُ فِيمَا بَقِيَ مِنْ صَلاَتِهِ، وَيَقْضِي مَا سَبَقَهُ الإِْمَامُ بِهِ بَعْدَ سَلاَمِ الإِْمَامِ كَالْمَسْبُوقِ، وَإِنْ تَخَلَّفَ بِرُكْنَيْنِ بِغَيْرِ عُذْرٍ بَطَلَتْ صَلاَتُهُ عِنْدَهُمْ. وَكَذَلِكَ لَوْ تَخَلَّفَ بِرُكْنٍ وَاحِدٍ عَمْدًا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ،
__________
(1) ابن عابدين 1 / 401، والدسوقي 1 / 346.
(2) الفتاوى الهندية 1 / 91، وابن عابدين 1 / 400.(6/29)
وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَلاَ تَبْطُل فِي الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ.
وَإِنْ تَخَلَّفَ بِرُكْنٍ أَوْ رُكْنَيْنِ لِعُذْرٍ فَإِنَّ الْمَأْمُومَ يَفْعَل مَا سَبَقَهُ بِهِ إِمَامُهُ وَيُدْرِكُهُ إِنْ أَمْكَنَ، فَإِنْ أَدْرَكَهُ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِلاَّ تَبْطُل هَذِهِ الرَّكْعَةُ فَيَتَدَارَكُهَا بَعْدَ سَلاَمِ الإِْمَامِ. (1) وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ، وَفِي بَعْضِ الْفُرُوعِ خِلاَفٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ (لاَحِق) .
كَيْفِيَّةُ الاِقْتِدَاءِ
أَوَّلاً - فِي أَفْعَال الصَّلاَةِ:
29 - الاِقْتِدَاءُ فِي الصَّلاَةِ هُوَ مُتَابَعَةُ الإِْمَامِ، وَالْمُتَابَعَةُ وَاجِبَةٌ فِي الْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ مِنْ غَيْرِ تَأْخِيرِ وَاجِبٍ، مَا لَمْ يُعَارِضْهَا وَاجِبٌ آخَرُ، فَإِنْ عَارَضَهَا وَاجِبٌ آخَرُ فَلاَ يَنْبَغِي أَنْ يَفُوتَهُ، بَل يَأْتِي بِهِ ثُمَّ يُتَابِعُهُ، لأَِنَّ الإِْتْيَانَ بِهِ لاَ يُفَوِّتُ الْمُتَابَعَةَ بِالْكُلِّيَّةِ، وَإِنَّمَا يُؤَخِّرُهَا، وَتَأْخِيرُ أَحَدِ الْوَاجِبَيْنِ مَعَ الإِْتْيَانِ بِهِمَا أَوْلَى مِنْ تَرْكِ أَحَدِهِمَا بِالْكُلِّيَّةِ، بِخِلاَفِ مَا إِذَا كَانَ مَا يُعَارِضُ الْمُتَابَعَةَ سُنَّةٌ، فَإِنَّهُ يَتْرُكُ السُّنَّةَ وَيُتَابِعُ الإِْمَامَ بِلاَ تَأْخِيرٍ، لأَِنَّ تَرْكَ السُّنَّةِ أَوْلَى مِنْ تَأْخِيرِ الْوَاجِبِ.
وَعَلَى ذَلِكَ فَلَوْ رَفَعَ الإِْمَامُ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ أَوِ السُّجُودِ قَبْل أَنْ يُتِمَّ الْمَأْمُومُ التَّسْبِيحَاتِ الثَّلاَثَ وَجَبَ مُتَابَعَتُهُ، وَكَذَا عَكْسُهُ. بِخِلاَفِ سَلاَمِ الإِْمَامِ أَوْ قِيَامِهِ لِثَالِثَةٍ قَبْل إِتْمَامِ الْمَأْمُومِ التَّشَهُّدَ، فَإِنَّهُ لاَ يُتَابِعُهُ، بَل يُتِمُّ التَّشَهُّدَ لِوُجُوبِهِ. (2)
__________
(1) جواهر الإكليل 1 / 69، 70، ومغني المحتاج 1 / 256، وكشاف القناع 1 / 466، 467، والمغني لابن قدامة 1 / 527.
(2) ابن عابدين 1 / 333.(6/30)
هَذَا، وَمُقْتَضَى الاِقْتِدَاءِ وَالْمُتَابَعَةِ أَلاَّ يَحْصُل فِعْلٌ مِنْ أَفْعَال الْمُقْتَدِي قَبْل فِعْل الإِْمَامِ، وَقَدْ فَصَّل الْفُقَهَاءُ بَيْنَ الأَْفْعَال الَّتِي يُسَبِّبُ فِيهَا سَبْقُ الْمَأْمُومِ فِعْل إِمَامِهِ أَوْ مُقَارَنَتُهُ لَهُ بُطْلاَنَ الاِقْتِدَاءِ، وَبَيْنَ غَيْرِهَا مِنَ الأَْفْعَال، فَقَالُوا: إِنْ تَقَدَّمَ الْمَأْمُومُ إِمَامَهُ فِي تَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ لَمْ يَصِحَّ الاِقْتِدَاءُ أَصْلاً، لِعَدَمِ صِحَّةِ الْبِنَاءِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْمَذَاهِبِ. (1)
وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ) عَلَى أَنَّ مُقَارَنَةَ الْمَأْمُومِ لِلإِْمَامِ فِي تَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ تَضُرُّ بِالاِقْتِدَاءِ وَتُبْطِل صَلاَةَ الْمُقْتَدِي، عَمْدًا كَانَ أَوْ سَهْوًا، لِحَدِيثِ: إِنَّمَا جُعِل الإِْمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَلاَ تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ، فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا، وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا (2)
لَكِنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَالُوا: إِنْ سَبَقَهُ الإِْمَامُ وَلَوْ بِحَرْفٍ صَحَّتْ، إِنْ خَتَمَ الْمُقْتَدِي مَعَهُ أَوْ بَعْدَهُ، لاَ قَبْلَهُ. (3)
وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ - وَهُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ كَلاَمِ الْحَنَابِلَةِ - تَأَخُّرَ جَمِيعِ تَكْبِيرَةِ الْمُقْتَدِي عَنْ تَكْبِيرَةِ الإِْمَامِ. (4)
وَلاَ تَضُرُّ مُقَارَنَةُ تَكْبِيرَةِ الْمُقْتَدِي لِتَكْبِيرِ الإِْمَامِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، حَتَّى نُقِل عَنْهُ الْقَوْل بِأَنَّ الْمُقَارَنَةَ هِيَ السُّنَّةُ، قَال فِي الْبَدَائِعِ: وَمِنْهَا (أَيْ مِنْ سُنَنِ الْجَمَاعَةِ) أَنْ يُكَبِّرَ الْمُقْتَدِي مُقَارِنًا لِتَكْبِيرِ الإِْمَامِ فَهُوَ أَفْضَل بِاتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. . لأَِنَّ
__________
(1) البدائع 1 / 200، ومغني المحتاج 1 / 258، والدسوقي 1 / 340، 341، وكشاف القناع 1 / 465، 466.
(2) الحديث: تقدم تخريجه ف / 10.
(3) الدسوقي 1 / 340، 341.
(4) مغني المحتاج 1 / 255 - 257، وكشاف القناع1 / 465.(6/30)
الاِقْتِدَاءَ مُشَارَكَةٌ، وَحَقِيقَةُ الْمُشَارَكَةِ الْمُقَارَنَةُ، إِذْ بِهَا تَتَحَقَّقُ الْمُشَارَكَةُ فِي جَمِيعِ أَجْزَاءِ الْعِبَادَةِ. (1)
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُقْتَدِيَ يُتَابِعُ الإِْمَامَ فِي السَّلاَمِ، بِأَنْ يُسَلِّمَ بَعْدَهُ، وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ: أَنَّهُ لَوْ سَلَّمَ الإِْمَامُ قَبْل أَنْ يَفْرُغَ الْمُقْتَدِي مِنَ الدُّعَاءِ الَّذِي يَكُونُ بَعْدَ التَّشَهُّدِ، أَوْ قَبْل أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُ يُتَابِعُ الإِْمَامَ فِي التَّسْلِيمِ. أَمَّا عِنْدَ الْجُمْهُورِ فَلَوْ سَلَّمَ الإِْمَامُ قَبْل أَنْ يُصَلِّيَ الْمَأْمُومُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ يُصَلِّي عَلَيْهِ، ثُمَّ يُسَلِّمُ مِنْ صَلاَتِهِ، لأَِنَّ الصَّلاَةَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلاَةِ. وَلَوْ سَلَّمَ قَبْل الإِْمَامِ سَهْوًا فَإِنَّهُ يُعِيدُ، وَيُسَلِّمُ بَعْدَهُ، وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، أَمَّا إِنْ سَلَّمَ قَبْل الإِْمَامِ عَمْدًا فَإِنَّهُ تَبْطُل صَلاَتُهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، إِلاَّ أَنْ يَنْوِيَ الْمُفَارَقَةَ عِنْدَ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ.
أَمَّا مُقَارَنَةُ الْمُقْتَدِي لِلإِْمَامِ فِي السَّلاَمِ فَلاَ تَضُرُّ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، إِلاَّ أَنَّهَا مَكْرُوهَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَالُوا: مُسَاوَاتُهُ لِلإِْمَامِ تُبْطِل الصَّلاَةَ. (2)
وَلاَ تَضُرُّ مُقَارَنَةُ الْمَأْمُومِ لِلإِْمَامِ فِي سَائِرِ الأَْفْعَال، كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ مَعَ الْكَرَاهَةِ أَوْ بِدُونِهَا عَلَى خِلاَفٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، فَإِنْ تَقَدَّمَهُ فِي رُكُوعٍ أَوْ سُجُودٍ يَنْبَغِي الْبَقَاءُ فِيهِمَا حَتَّى يُدْرِكَهُ الإِْمَامُ، وَلَوْ رَفَعَ الْمُقْتَدِي رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ أَوِ السُّجُودِ قَبْل الإِْمَامِ يَنْبَغِي أَنْ يَعُودَ وَلاَ يُعْتَبَرُ ذَلِكَ رُكُوعَيْنِ أَوْ سُجُودَيْنِ اتِّفَاقًا، وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي (صَلاَة) . (3)
__________
(1) البدائع 1 / 200.
(2) البدائع 1 / 200، وابن عابدين 1 / 333، ونهاية المحتاج 2 / 212 - 217، ومغني المحتاج 1 / 255، 257، والدسوقي 1 / 341 - 342، وكشاف القناع 1 / 465.
(3) نفس المراجع.(6/31)
ثَانِيًا - الاِقْتِدَاءُ فِي أَقْوَال الصَّلاَةِ:
30 - لاَ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الاِقْتِدَاءِ مُتَابَعَةُ الإِْمَامِ فِي سَائِرِ أَقْوَال الصَّلاَةِ غَيْرَ تَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ وَالسَّلاَمِ، كَالتَّشَهُّدِ وَالْقِرَاءَةِ وَالتَّسْبِيحِ، فَيَجُوزُ فِيهَا التَّقَدُّمُ وَالتَّأَخُّرُ وَالْمُوَافَقَةُ. (1)
اخْتِلاَفُ صِفَةِ الْمُقْتَدِي وَالإِْمَامِ
:
أ - اقْتِدَاءُ الْمُتَوَضِّئِ بِالْمُتَيَمِّمِ:
31 - يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْمُتَوَضِّئِ بِالْمُتَيَمِّمِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ. (الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ) ، لِمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ بَعَثَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمِيرًا عَلَى سَرِيَّةٍ، فَأَجْنَبَ، وَصَلَّى بِأَصْحَابِهِ بِالتَّيَمُّمِ لِخَوْفِ الْبَرْدِ، وَعَلِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالإِْعَادَةِ. (2)
وَاسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ لِلْجَوَازِ كَذَلِكَ عَلَى أَصْلِهِمْ بِأَنَّ التَّيَمُّمَ يَرْفَعُ الْحَدَثَ مُطْلَقًا مِنْ كُل وَجْهٍ، مَا بَقِيَ شَرْطُهُ، وَهُوَ الْعَجْزُ عَنِ اسْتِعْمَال الْمَاءِ، وَلِهَذَا تَجُوزُ الْفَرَائِضُ الْمُتَعَدِّدَةُ بِتَيَمُّمٍ وَاحِدٍ عِنْدَهُمْ. (3)
وَكَرِهَ الْمَالِكِيَّةُ اقْتِدَاءَ الْمُتَوَضِّئِ بِالْمُتَيَمِّمِ، كَمَا أَنَّ الْحَنَابِلَةَ صَرَّحُوا بِأَنَّ إِمَامَةَ الْمُتَوَضِّئِ أَوْلَى مِنْ إِمَامَةِ الْمُتَيَمِّمِ، لأَِنَّ التَّيَمُّمَ لاَ يَرْفَعُ الْحَدَثَ، بَل يُسْتَبَاحُ بِهِ
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 163، 255، والفتاوى الهندية 1 / 90، 91، والدسوقي 1 / 341، والاختيار 1 / 50، وجواهر الإكليل 1 / 50، وكشاف القناع 1 / 465.
(2) حديث عمرو بن العاص " أنه بعثه النبي صلى الله عليه وسلم. . . ". أخرجه أبو داود (1 / 334 ط عزت عبيد دعاس) والحاكم (1 / 177 ط دائرة المعارف العثمانية) وقواه ابن حجر في الفتح (1 / 454 - ط السلفية) .
(3) فتح القدير 1 / 320، وابن عابدين 1 / 395، وجواهر الإكليل 1 / 26، وكشاف القناع 1 / 474.(6/31)
الصَّلاَةُ لِلضَّرُورَةِ. (1)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يَجُوزُ الاِقْتِدَاءُ بِمَنْ تَلْزَمُهُ الإِْعَادَةُ كَمُتَيَمِّمٍ بِمُتَيَمِّمٍ، وَلَوْ كَانَ الْمُقْتَدِي مِثْلَهُ، أَمَّا الْمُتَيَمِّمُ الَّذِي لاَ إِعَادَةَ عَلَيْهِ فَيَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْمُتَوَضِّئِ بِهِ، لأَِنَّهُ قَدْ أَتَى عَنْ طَهَارَتِهِ بِبَدَلٍ مُغْنٍ عَنِ الإِْعَادَةِ. (2)
وَقَال مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: لاَ يَصِحُّ اقْتِدَاءُ الْمُتَوَضِّئِ بِالْمُتَيَمِّمِ مُطْلَقًا فِي غَيْرِ صَلاَةِ الْجِنَازَةِ، لِلُزُومِ بِنَاءِ الْقَوِيِّ عَلَى الضَّعِيفِ (3) .
اقْتِدَاءُ الْغَاسِل بِالْمَاسِحِ:
32 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ اقْتِدَاءِ غَاسِلٍ بِمَاسِحٍ عَلَى خُفٍّ أَوْ جَبِيرَةٍ، لأَِنَّ الْخُفَّ مَانِعٌ سِرَايَةَ الْحَدَثِ إِلَى الْقَدَمِ، وَمَا حَل بِالْخُفِّ يَرْفَعُهُ الْمَسْحُ، فَهُوَ بَاقٍ عَلَى كَوْنِهِ غَاسِلاً، كَمَا عَلَّلَهُ الْحَنَفِيَّةُ، وَلأَِنَّ صَلاَتَهُ مُغْنِيَةٌ عَنِ الإِْعَادَةِ لاِرْتِفَاعِ حَدَثِهِ، لأَِنَّ الْمَسْحَ يَرْفَعُ الْحَدَثَ كَمَا وَجَّهَهُ الآْخَرُونَ (4) .
اقْتِدَاءُ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّل:
33 - جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ) عَلَى عَدَمِ جَوَازِ اقْتِدَاءِ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّل، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا جُعِل الإِْمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَلاَ تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ (5) وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: الإِْمَامُ
__________
(1) الحطاب 1 / 348، وكشاف القناع 1 / 474.
(2) مغني المحتاج 1 / 238، 240.
(3) ابن عابدين 1 / 395.
(4) ابن عابدين 1 / 396، ومغني المحتاج 1 / 240، ونهاية المحتاج 2 / 168، والحطاب 1 / 368، جواهر الإكليل 1 / 24، وكشاف القناع 1 / 110، 484.
(5) حديث: " إنما جعل الإمام. . . " سبق تخريجه ف / 10.(6/32)
ضَامِنٌ (1) وَمُقْتَضَى الْحَدِيثَيْنِ أَلاَّ يَكُونَ الإِْمَامُ أَضْعَفَ حَالاً مِنَ الْمُقْتَدِي، وَلأَِنَّ صَلاَةَ الْمَأْمُومِ لاَ تُؤَدَّى بِنِيَّةِ الإِْمَامِ، فَأَشْبَهَتْ صَلاَةَ الْجُمُعَةِ خَلْفَ مَنْ يُصَلِّي الظُّهْرَ. (2)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: يَصِحُّ اقْتِدَاءُ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّل بِشَرْطِ تَوَافُقِ نَظْمِ صَلاَتَيْهِمَا، لِمَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: أَنَّ مُعَاذًا كَانَ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِشَاءَ الآْخِرَةِ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى قَوْمِهِ فَيُصَلِّي بِهِمْ تِلْكَ الصَّلاَةَ. (3)
فَإِنِ اخْتَلَفَ فِعْلُهُمَا كَمَكْتُوبَةٍ وَكُسُوفٍ أَوْ جَنَازَةٍ، لَمْ يَصِحَّ الاِقْتِدَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى الصَّحِيحِ لِمُخَالِفَتِهِ النَّظْمَ وَتَعَذُّرِ الْمُتَابَعَةِ. (4)
34 - وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ اقْتِدَاءُ الْبَالِغِ بِالصَّبِيِّ فِي الْفَرْضِ، فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) (5) لِقَوْل الشَّعْبِيِّ: لاَ يَؤُمُّ الْغُلاَمُ حَتَّى يَحْتَلِمَ. وَلأَِنَّهُ لاَ يُؤْمَنُ مِنَ الصَّبِيِّ الإِْخْلاَل بِشَرْطٍ مِنْ شَرَائِطِ الصَّلاَةِ. (6)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يَصِحُّ اقْتِدَاءُ الْبَالِغِ الْحُرِّ بِالصَّبِيِّ
__________
(1) حديث: " الإمام ضامن. . . " أخرجه أبو داود (1 / 356 ط عزت عبيد دعاس) وصححه المناوي في الفيض (3 / 182 ط المكتبة التجارية) .
(2) فتح القدير 1 / 324، 325، والدسوقي 1 / 329، وجواهر الإكليل 1 / 76، وكشاف القناع 1 / 484، والمغني لابن قدامة 2 / 226.
(3) حديث: " أن معاذا كان يصلي مع النبي الله صلى الله عليه وسلم عشاء الآخرة. . . " أخرجه البخاري (2 / 192 - الفتح - ط السلفية) .
(4) مغني المحتاج 1 / 253، 254، ونهاية المحتاج 2 / 168، والمغني لابن قدامة 2 / 226.
(5) الزيلعي 1 / 140، وفتح القدير 1 / 310، 311، والدسوقي 1 / 329، والمغني لابن قدامة 1 / 228، وكشاف القناع 1 / 480.
(6) قول الشعبي: " لا يؤم الغلام حتى يحتلم. . . " أخرجه ابن أبي شيبة (1 / 349 - ط السلفية) .(6/32)
الْمُمَيِّزِ، وَلَوْ كَانَتِ الصَّلاَةُ فَرْضًا، لِلاِعْتِدَادِ بِصَلاَتِهِ (1) ، لأَِنَّ عَمْرَو بْنَ سَلَمَةَ " كَانَ يَؤُمُّ قَوْمَهُ عَلَى عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ ابْنُ سِتِّ أَوْ سَبْعِ سِنِينَ (2) . لَكِنَّهُمْ صَرَّحُوا بِكَرَاهَةِ الاِقْتِدَاءِ بِالصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ.
هَذَا فِي صَلاَةِ الْفَرِيضَةِ، أَمَّا فِي النَّافِلَةِ فَجَازَ اقْتِدَاءُ الْبَالِغِ بِالصَّبِيِّ عِنْدَ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ. وَفِي الْمُخْتَارِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: لاَ يَجُوزُ لأَِنَّ نَفْل الصَّغِيرِ دُونَ نَفْل الْبَالِغِ، حَيْثُ لاَ يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ بِالإِْفْسَادِ، وَلاَ يُبْنَى الْقَوِيُّ عَلَى الضَّعِيفِ، كَمَا عَلَّلَهُ الْحَنَفِيَّةُ. (3) .
اقْتِدَاءُ الْمُفْتَرِضِ بِمَنْ يُصَلِّي فَرْضًا آخَرَ:
35 - جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ اقْتِدَاءُ مُفْتَرِضٍ بِمَنْ يُصَلِّي فَرْضًا آخَرَ غَيْرَ فَرْضِ الْمَأْمُومِ، فَلاَ يَصِحُّ اقْتِدَاءُ مَنْ يُصَلِّي ظُهْرًا خَلْفَ مَنْ يُصَلِّي عَصْرًا أَوْ غَيْرَهُ، وَلاَ عَكْسُهُ، وَلاَ اقْتِدَاءُ مَنْ يُصَلِّي أَدَاءً بِمَنْ يُصَلِّي قَضَاءً، لأَِنَّ الاِقْتِدَاءَ بِنَاءُ تَحْرِيمَةِ الْمُقْتَدِي عَلَى تَحْرِيمَةِ الإِْمَامِ، وَهَذَا يَقْتَضِي اتِّحَادَ صَلاَتَيْهِمَا، كَمَا سَبَقَ فِي شُرُوطِ الاِقْتِدَاءِ.
وَيَجُوزُ ذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِذَا تَوَافَقَ نَظْمُ صَلاَتَيْهِمَا فِي الأَْفْعَال الظَّاهِرَةِ، فَيَصِحُّ اقْتِدَاءُ مَنْ يُصَلِّي فَرْضًا مِنْ الأَْوْقَاتِ الْخَمْسَةِ بِمَنْ يُصَلِّي فَرْضًا
__________
(1) نهاية المحتاج 2 / 168.
(2) حديث: " كان عمرو بن سلمة يؤم قومه. . . . " أخرجه البخاري (8 / 22 الفتح - ط السلفية) .
(3) الزيلعي 1 / 140، والدسوقي 1 / 339، والمغني لابن قدامة 1 / 229.(6/33)
آخَرَ مِنْهُمَا أَدَاءً وَقَضَاءً، مَعَ تَفْصِيلٍ ذُكِرَ فِي مَوْضِعِهِ (1) .
اقْتِدَاءُ الْمُقِيمِ بِالْمُسَافِرِ وَعَكْسُهُ:
36 - يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْمُقِيمِ بِالْمُسَافِرِ فِي الْوَقْتِ وَخَارِجَ الْوَقْتِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، فَإِذَا أَتَمَّ الإِْمَامُ الْمُسَافِرُ صَلاَتَهُ يَقُول لِلْمُصَلِّينَ خَلْفَهُ: أَتِمُّوا صَلاَتَكُمْ فَإِنِّي مُسَافِرٌ. فَيَقُومُ الْمُقْتَدِي الْمُقِيمُ لِيُكْمِل صَلاَتَهُ. وَيُعْتَبَرُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كَالْمَسْبُوقِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ.
كَذَلِكَ يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْمُسَافِرِ بِالْمُقِيمِ فِي الْوَقْتِ بِلاَ خِلاَفٍ، وَحِينَئِذٍ يَجِبُ عَلَيْهِ إِتْمَامُ صَلاَتِهِ أَرْبَعًا مُتَابَعَةً لِلإِْمَامِ. (2) أَمَّا اقْتِدَاءُ الْمُسَافِرِ بِالْمُقِيمِ خَارِجَ الْوَقْتِ فَلاَ يَجُوزُ فِي صَلاَةٍ رُبَاعِيَّةٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، لأَِنَّ الْمُسَافِرَ بَعْدَ فَوَاتِ الْوَقْتِ تَقَرَّرَ أَنَّ فَرْضَهُ رَكْعَتَانِ فَيَكُونُ اقْتِدَاءُ مُفْتَرِضٍ بِمُتَنَفِّلٍ فِي حَقِّ قَعْدَةٍ أَوْ قِرَاءَةٍ بِاقْتِدَائِهِ فِي شَفْعٍ أَوَّلٍ أَوْ ثَانٍ. (3)
اقْتِدَاءُ السَّلِيمِ بِالْمَعْذُورِ:
37 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: (الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ) أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ اقْتِدَاءُ السَّلِيمِ بِالْمَعْذُورِ، كَمَنْ بِهِ سَلَسُ الْبَوْل، وَاسْتِطْلاَقُ الْبَطْنِ، وَانْفِلاَتُ الرِّيحِ، وَكَذَا الْجُرْحُ السَّائِل، وَالرُّعَافُ، وَالْمُسْتَحَاضَةُ، لأَِنَّ أَصْحَابَ الأَْعْذَارِ
__________
(1) فتح القدير 1 / 224، وابن عابدين 1 / 0 39، والدسوقي 1 / 333، 339، وجواهر الإكليل 1 / 80، وكشاف القناع 1 / 485، والمغني لابن قدامة 2 / 227، ومغني المحتاج 1 / 252، ونهاية المحتاج 2 / 205، 207.
(2) الفتاوى الهندية 1 / 85، وجواهر الإكليل 1 / 87 - 90، وكشاف القناع 1 / 474، ومغني المحتاج 1 / 269.
(3) ابن عابدين 1 / 391.(6/33)
يُصَلُّونَ مَعَ الْحَدَثِ حَقِيقَةً، لَكِنْ جُعِل الْحَدَثُ الْمَوْجُودُ فِي حَقِّهِمْ كَالْمَعْدُومِ، لِلْحَاجَةِ إِلَى الأَْدَاءِ فَلاَ يَتَعَدَّاهُمْ، لأَِنَّ الضَّرُورَةَ تُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا، وَلأَِنَّ الصَّحِيحَ أَقْوَى حَالاً مِنَ الْمَعْذُورِ، وَلاَ يَجُوزُ بِنَاءُ الْقَوِيِّ عَلَى الضَّعِيفِ، وَلأَِنَّ الإِْمَامَ ضَامِنٌ، بِمَعْنَى أَنَّهُ تَضْمَنُ صَلاَتُهُ صَلاَةَ الْمُقْتَدِي، وَالشَّيْءُ لاَ يَتَضَمَّنُ مَا هُوَ فَوْقَهُ. (1)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ: يَصِحُّ اقْتِدَاءُ السَّلِيمِ بِصَاحِبِ السَّلَسِ، وَالطَّاهِرَةِ بِالْمُسْتَحَاضَةِ غَيْرِ الْمُتَحَيِّرَةِ، لِصِحَّةِ صَلاَتِهِمْ مِنْ غَيْرِ إِعَادَةٍ. (2)
وَجَوَازُ اقْتِدَاءِ السَّلِيمِ بِالْمَعْذُورِ هُوَ قَوْل الْمَالِكِيَّةِ فِي الْمَشْهُورِ، لأَِنَّهُ إِذَا عُفِيَ عَنِ الأَْعْذَارِ فِي حَقِّ صَاحِبِهَا عُفِيَ عَنْهَا فِي حَقِّ غَيْرِهِ. لَكِنَّهُمْ صَرَّحُوا بِكَرَاهَةِ إِمَامَةِ أَصْحَابِ الأَْعْذَارِ لِلأَْصِحَّاءِ. (3)
وَقَدْ نَقَل فِي التَّاجِ وَالإِْكْلِيل عَنِ الْمَالِكِيَّةِ فِي جَوَازِ أَوْ عَدَمِ جَوَازِ اقْتِدَاءِ السَّلِيمِ بِالْمَعْذُورِ قَوْلَيْنِ. وَاسْتَدَل لِلْجَوَازِ بِأَنَّ عُمَرَ كَانَ إِمَامًا وَأَخْبَرَ أَنَّهُ يَجِدُ ذَلِكَ (أَيْ سَلَسَ الْمَذْيِ) وَلاَ يَنْصَرِفُ (4)
وَيَجُوزُ اقْتِدَاءُ صَاحِبِ الْعُذْرِ بِمِثْلِهِ مُطْلَقًا، أَيْ وَلَوْ اخْتَلَفَ الْعُذْرُ، أَوْ إِنْ اتَّحَدَ عُذْرُهُمَا عَلَى تَفْصِيلٍ يُذْكَرُ فِي مُصْطَلَحِ (عُذْر) . .
اقْتِدَاءُ الْمُكْتَسِي بِالْعَارِي:
38 - صَرَّحَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ
__________
(1) فتح القدير 1 / 318، والزيلعي 1 / 140، والفتاوى الهندية 1 / 84، ومغني المحتاج 1 / 241، وكشاف القناع 1 / 476، والمغني لابن قدامة 2 / 225.
(2) مغني المحتاج 1 / 241.
(3) جواهر الإكليل 1 / 78، والدسوقي 1 / 330.
(4) التاج والإكليل بهامش الحطاب 2 / 104.(6/34)
وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ مُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ) بِعَدَمِ صِحَّةِ اقْتِدَاءِ الْمُكْتَسِي (أَيْ مَسْتُورِ الْعَوْرَةِ) بِالْعَارِي، لأَِنَّ الْمُقْتَدِيَ أَقْوَى حَالاً مِنَ الإِْمَامِ، فَيَلْزَمُ اقْتِدَاءُ الْقَوِيِّ بِالضَّعِيفِ.
وَلأَِنَّهُ تَارِكٌ لِشَرْطٍ يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْمَأْمُومُ، فَأَشْبَهَ اقْتِدَاءَ الْمُعَافَى بِمَنْ بِهِ سَلَسُ الْبَوْل. (1)
حَتَّى إِنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَالُوا: إِنْ وَجَدُوا ثَوْبًا صَلَّوْا بِهِ أَفْذَاذًا لاَ يَؤُمُّهُمْ بِهِ أَحَدٌ. (2)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ إِلَى جَوَازِ اقْتِدَاءِ الْمَسْتُورِ بِالْعَارِي، بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمْ فِي جَوَازِ اقْتِدَاءِ السَّلِيمِ بِالْمَعْذُورِ. (3)
أَمَّا اقْتِدَاءُ الْعَارِي بِالْعَارِي فَيَجُوزُ عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ، إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَيَّدُوا الْجَوَازَ بِمَا إِنْ اجْتَمَعُوا بِظَلاَمٍ، وَإِلاَّ تَفَرَّقُوا وَصَلَّوْا أَفْذَاذًا مُتَبَاعِدِينَ. (4)
اقْتِدَاءُ الْقَارِئِ بِالأُْمِّيِّ:
39 - لاَ يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْقَارِئِ بِالأُْمِّيِّ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَالْجَدِيدُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ) لأَِنَّ الإِْمَامَ ضَامِنٌ وَيَتَحَمَّل الْقِرَاءَةَ عَنِ الْمَأْمُومِ، وَلاَ يُمْكِنُ ذَلِكَ فِي الأُْمِّيِّ، لِعَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَى الْقِرَاءَةِ، وَلأَِنَّهُمَا تَارِكَانِ لِشَرْطٍ يَقْدِرَانِ عَلَيْهِ بِتَقْدِيمِ الْقَارِئِ، وَالْمُرَادُ بِالأُْمِّيِّ هُنَا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: مَنْ لاَ يُحْسِنُ الْقِرَاءَةَ الَّتِي تَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا الصَّلاَةُ.
وَيَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْقَارِئِ بِالأُْمِّيِّ فِي الْقَدِيمِ مِنْ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 370. والمغني لابن قدامة 2 / 225.
(2) المواق على هامش الحطاب 1 / 507.
(3) مغني المحتاج 1 / 241.
(4) نفس المراجع.(6/34)
مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ، فِي الصَّلاَةِ السِّرِّيَّةِ دُونَ الْجَهْرِيَّةِ، وَذَهَبَ الْمُزَنِيُّ إِلَى صِحَّةِ الاِقْتِدَاءِ بِهِ مُطْلَقًا. (1)
وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى بُطْلاَنِ صَلاَةِ الْقَارِئِ إِذَا اقْتَدَى بِالأُْمِّيِّ، لِعَدَمِ صِحَّةِ بِنَاءِ صَلاَتِهِ عَلَى صَلاَةِ الأُْمِّيِّ، كَذَلِكَ تَبْطُل صَلاَةُ الأُْمِّيِّ الَّذِي أَمَّ الْقَارِئَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْجَدِيدِ لِفَقْدِ شَرْطٍ يَقْدِرَانِ عَلَيْهِ. (2)
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ فَصَّلُوا فِي الْمَوْضُوعِ فَقَالُوا: إِنْ أَمَّ أُمِّيٌّ أُمِّيًّا وَقَارِئًا، فَإِنْ كَانَا عَنْ يَمِينِهِ، أَوْ كَانَ الأُْمِّيُّ عَنْ يَمِينِهِ وَالْقَارِئُ عَنْ يَسَارِهِ صَحَّتْ صَلاَةُ الإِْمَامِ وَالأُْمِّيِّ الْمَأْمُومِ، وَبَطَلَتْ صَلاَةُ الْقَارِئِ لاِقْتِدَائِهِ بِأُمِّيٍّ. وَإِنْ كَانَا خَلْفَهُ، أَوِ الْقَارِئُ وَحْدَهُ عَنْ يَمِينِهِ، وَالأُْمِّيُّ عَنْ يَسَارِهِ فَسَدَتْ صَلاَةُ الْقَارِئِ لاِقْتِدَائِهِ بِالأُْمِّيِّ، وَتَبْطُل صَلاَةُ الأُْمِّيِّ الْمَأْمُومِ (3) لِكَوْنِهِ فَذًّا خَلْفَ الإِْمَامِ أَوْ عَنْ يَسَارِهِ، وَذَلِكَ مُبْطِلٌ لِلصَّلاَةِ عِنْدَهُمْ.
هَذَا، وَيَجُوزُ اقْتِدَاءُ الأُْمِّيِّ بِمِثْلِهِ بِلاَ خِلاَفٍ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ (4) .
اقْتِدَاءُ الْقَادِرِ بِالْعَاجِزِ عَنْ رُكْنٍ:
40 - لاَ يَجُوزُ اقْتِدَاءُ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى رُكْنٍ، كَالرُّكُوعِ أَوِ السُّجُودِ أَوِ الْقِيَامِ، بِمَنْ لاَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ
__________
(1) فتح القدير 1 / 319، والدسوقي 1 / 328، وجواهر الإكليل 1 / 78، وكشاف القناع 1 / 481، ومغني المحتاج 1 / 239، 242.
(2) المراجع السابقة.
(3) كشاف القناع 1 / 481.
(4) نفس المراجع.(6/35)
وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْل مُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، لأَِنَّ الإِْمَامَ عَجَزَ عَنْ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلاَةِ فَلَمْ يَصِحَّ الاِقْتِدَاءُ بِهِ كَالْعَاجِزِ عَنِ الْقِرَاءَةِ إِلاَّ بِمِثْلِهِ، وَلِعَدَمِ جَوَازِ اقْتِدَاءِ الْقَوِيِّ بِالضَّعِيفِ كَمَا مَرَّ، إِلاَّ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ اسْتَثْنَوْا إِمَامَ الْحَيِّ الْمَرْجُوَّ زَوَال عِلَّتِهِ، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَصِحُّ أَنْ يُصَلِّيَ الْمُقْتَدِرُونَ وَرَاءَهُ جُلُوسًا أَوْ قِيَامًا عِنْدَهُمْ. (1)
وَيَجُوزُ اقْتِدَاءُ قَائِمٍ بِقَاعِدٍ يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَجَازَ ذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْقَاعِدُ قَادِرًا عَلَى الرُّكُوعِ أَوِ السُّجُودِ، (2) لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى آخِرَ صَلاَتِهِ قَاعِدًا وَالْقَوْمُ خَلْفَهُ قِيَامٌ. (3)
وَاخْتَلَفُوا فِي اقْتِدَاءِ الْمُسْتَوِي خَلْفَ الأَْحْدَبِ، فَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِجَوَازِهِ، وَقَيَّدَهُ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ بِأَلاَّ تَبْلُغَ حَدَبَتُهُ حَدَّ الرُّكُوعِ، وَيُمَيَّزُ قِيَامُهُ عَنْ رُكُوعِهِ، وَقَال الْمَالِكِيَّةُ بِجَوَازِهِ مَعَ الْكَرَاهَةِ، وَمَنَعَهُ الْحَنَابِلَةُ مُطْلَقًا.
أَمَّا إِذَا كَانَ الإِْمَامُ يُصَلِّي بِالإِْيمَاءِ فَلاَ يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْقَائِمِ أَوِ الرَّاكِعِ أَوِ السَّاجِدِ خَلْفَهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ (الْحَنَفِيَّةِ عَدَا زُفَرَ، وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) خِلاَفًا لِلشَّافِعِيَّةِ الَّذِينَ قَاسُوا الْمُضْطَجِعَ وَالْمُسْتَلْقِيَ عَلَى الْقَاعِدِ.
__________
(1) الدسوقي 1 / 328، والحطاب 2 / 197، وجواهر الإكليل 1 / 78، وكشاف القناع 1 / 477، والمغني 2 / 223، وابن عابدين 1 / 396.
(2) الهداية مع الفتح 1 / 321، وابن عابدين 1 / 396، ومغني المحتاج 1 / 240.
(3) حديث عائشة: " أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى آخر صلاته. . . " أخرجه البخاري (2 / 166 - الفتح ط السلفية) .(6/35)
وَيَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْمُومِئِ بِمِثْلِهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ خِلاَفًا لِلْمَالِكِيَّةِ فِي الْمَشْهُورِ، لأَِنَّ الإِْيمَاءَ لاَ يَنْضَبِطُ، فَقَدْ يَكُونُ إِيمَاءُ الْمَأْمُومِ أَخْفَضَ مِنْ إِيمَاءِ الإِْمَامِ، وَقَدْ يَسْبِقُهُ الْمَأْمُومُ فِي الإِْيمَاءِ، وَهَذَا يَضُرُّ. (1)
الاِقْتِدَاءُ بِالْفَاسِقِ:
41 - الْفَاسِقُ: مَنْ فَعَل كَبِيرَةً، أَوْ دَاوَمَ عَلَى صَغِيرَةٍ (2) . وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِجَوَازِ الاِقْتِدَاءِ بِالْفَاسِقِ مَعَ الْكَرَاهَةِ، أَمَّا الْجَوَازُ فَلِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: صَلُّوا خَلْفَ كُل بَرٍّ وَفَاجِرٍ (3) ، وَلِمَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ " كَانَ يُصَلِّي خَلْفَ الْحَجَّاجِ عَلَى ظُلْمِهِ (4) . وَأَمَّا الْكَرَاهَةُ فَلِعَدَمِ الْوُثُوقِ بِهِ فِي الْمُحَافَظَةِ عَلَى الشُّرُوطِ (5) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ - وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ -: لاَ تَصِحُّ إِمَامَةُ فَاسِقٍ بِفِعْلٍ، كَزَانٍ وَسَارِقٍ وَشَارِبِ خَمْرٍ وَنَمَّامٍ وَنَحْوِهِ، أَوِ اعْتِقَادٍ، كَخَارِجِيٍّ أَوْ رَافِضِيٍّ وَلَوْ كَانَ مَسْتُورًا. لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا
__________
(1) فتح القدير 1 / 220، وابن عابدين 1 / 396، والدسوقي 1 / 328، ومغني المحتاج 1 / 340، والمغني لابن قدامة 2 / 223، 224، وكشاف القناع 1 / 476، 477.
(2) ابن عابدين 1 / 376، وقليوبي 3 / 227، وكشاف القناع 1 / 475.
(3) حديث: " صلوا خلف كل بر وفاجر " أخرجه أبو داود (1 / 398 - ط عزت عبيد دعاس) والدارقطني (2 / 56 - دار المحاسن) واللفظ له وأعله ابن حجر بالانقطاع (التلخيص 2 / 35 - دار المحاسن) .
(4) حديث أن ابن عمر كان يصلي خلف الحجاج. . . أخرجه ابن أبي شيبة (2 / 378 - ط السلفية) .
(5) الفتاوى الهندية 1 / 85، وابن عابدين 1 / 376، ونهاية المحتاج 2 / 174.(6/36)
كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لاَ يَسْتَوُونَ} (1) ، وَلِمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا: لاَ تَؤُمَّنَّ امْرَأَةٌ رَجُلاً، وَلاَ أَعْرَابِيٌّ مُهَاجِرًا، وَلاَ فَاجِرٌ مُؤْمِنًا إِلاَّ أَنْ يَقْهَرَهُ بِسُلْطَانٍ يَخَافُ سَوْطَهُ وَسَيْفَهُ (2) .
وَفَصَّل الْمَالِكِيَّةُ فِي الرِّوَايَةِ الأُْخْرَى الْمُعْتَمَدَةِ بَيْنَ الْفَاسِقِ بِجَارِحَةٍ كَزَانٍ وَشَارِبِ خَمْرٍ، وَبَيْنَ مَنْ يَتَعَلَّقُ فِسْقُهُ بِالصَّلاَةِ، كَأَنْ يَقْصِدَ بِتَقَدُّمِهِ الْكِبْرَ، أَوْ يُخِل بِرُكْنٍ أَوْ شَرْطٍ، أَوْ سُنَّةٍ عَمْدًا، فَقَالُوا بِجَوَازِ الاِقْتِدَاءِ بِالأَْوَّل دُونَ الثَّانِي. (3)
وَهَذَا كُلُّهُ فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، أَمَّا فِي الْجُمَعِ وَالأَْعْيَادِ فَيَجُوزُ الاِقْتِدَاءُ بِالْفَاسِقِ اتِّفَاقًا، لأَِنَّهُمَا يَخْتَصَّانِ بِإِمَامٍ وَاحِدٍ، فَالْمَنْعُ مِنْهُمَا خَلْفَهُ يُؤَدِّي إِلَى تَفْوِيتِهِمَا دُونَ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ (4) . .
الاِقْتِدَاءُ بِالأَْعْمَى وَالأَْصَمِّ وَالأَْخْرَسِ:
42 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي صِحَّةِ الاِقْتِدَاءِ بِالأَْعْمَى وَالأَْصَمِّ، لأَِنَّ الْعَمَى وَالصَّمَمَ لاَ يُخِلاَّنِ بِشَيْءٍ مِنْ أَفْعَال الصَّلاَةِ، وَلاَ بِشُرُوطِهَا. لَكِنَّ الْحَنَفِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ صَرَّحُوا بِكَرَاهَةِ إِمَامَةِ الأَْعْمَى، كَمَا صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَفْضَلِيَّةِ إِمَامَةِ الْبَصِيرِ الْمُسَاوِي لِلأَْعْمَى فِي الْفَضْل، لأَِنَّهُ أَشَدُّ تَحَفُّظًا مِنَ
__________
(1) سورة السجدة / 18.
(2) كشاف القناع 1 / 474. وحديث: " لا تؤمن امرأة رجلا. . " أخرجه ابن ماجه (1 / 343 - ط الحلبي) قال ابن حجر: فيه حميد بن محمد العدوي عن علي بن زيد بن جدعان، والعدوي اتهمه وكيع بوضع الحديث وشيخه ضعيف (التلخيص 2 / 32 ط دار المحاسن) .
(3) الدسوقي 1 / 326، وجواهر الإكليل 1 / 58
(4) المراجع السابقة.(6/36)
النَّجَاسَاتِ. (1)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: الأَْعْمَى وَالْبَصِيرُ سَوَاءٌ لِتَعَارُضِ فَضْلَيْهِمَا، لأَِنَّ الأَْعْمَى لاَ يَنْظُرُ مَا يَشْغَلُهُ فَهُوَ أَخْشَعُ، وَالْبَصِيرُ يَنْظُرُ الْخَبَثَ فَهُوَ أَقْدَرُ عَلَى تَجَنُّبِهِ، وَهَذَا إِذَا كَانَ الأَْعْمَى لاَ يَتَبَذَّل، أَمَّا إِذَا تَبَذَّل أَيْ تَرَكَ الصِّيَانَةَ عَنِ الْمُسْتَقْذَرَاتِ، كَأَنْ لَبِسَ ثِيَابَ الْبِذْلَةِ، كَانَ الْبَصِيرُ أَوْلَى مِنْهُ. (2)
أَمَّا الأَْخْرَسُ فَلاَ يَجُوزُ الاِقْتِدَاءُ بِهِ، لأَِنَّهُ يَتْرُكُ أَرْكَانَ الصَّلاَةِ مِنَ التَّحْرِيمَةِ وَالْقِرَاءَةِ. حَتَّى إِنَّ الشَّافِعِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ صَرَّحُوا بِعَدَمِ جَوَازِ الاِقْتِدَاءِ بِالأَْخْرَسِ، وَلَوْ كَانَ الْمُقْتَدِي مِثْلَهُ، (3) وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الأَْخْرَسَ أَسْوَأُ حَالاً مِنَ الأُْمِّيِّ، لِقُدْرَةِ الأُْمِّيِّ عَلَى التَّحْرِيمَةِ دُونَ الأَْخْرَسِ، فَلاَ يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الأُْمِّيِّ بِالأَْخْرَسِ، وَيَجُوزُ الْعَكْسُ (4) .
الاِقْتِدَاءُ بِمَنْ يُخَالِفُهُ فِي الْفُرُوعِ:
43 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي صِحَّةِ الاِقْتِدَاءِ بِإِمَامٍ يُخَالِفُ الْمُقْتَدِيَ فِي الْفُرُوعِ، إِذَا كَانَ الإِْمَامُ يَتَحَامَى مَوَاضِعَ الْخِلاَفِ، بِأَنْ يَتَوَضَّأَ مِنَ الْخَارِجِ النَّجَسِ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ كَالْفَصْدِ مَثَلاً، وَلاَ يَنْحَرِفُ عَنِ الْقِبْلَةِ انْحِرَافًا فَاحِشًا، وَيُرَاعِي الدَّلْكَ وَالْمُوَالاَةَ فِي الْوُضُوءِ، وَالطُّمَأْنِينَةَ فِي الصَّلاَةِ. (5)
وَكَذَلِكَ يَصِحُّ الاِقْتِدَاءُ بِإِمَامٍ مُخَالِفٍ فِي الْمَذْهَبِ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 399، والدسوقي 1 / 333، وكشاف القناع 1 / 476، والمغني لابن قدامة 2 / 195.
(2) مغني المحتاج 1 / 441.
(3) الشرواني على التحفة 2 / 285، وكشاف القناع 1 / 476، والمغني لابن قدامة 2 / 194.
(4) ابن عابدين 1 / 399.
(5) الفتاوى الهندية 1 / 84، وابن عابدين 1 / 378، 379، والدسوقي 1 / 333، وجواهر الإكليل 1 / 80، ومغني المحتاج 1 / 238، وكشاف القناع 1 / 478.(6/37)
إِذَا كَانَ لاَ يُعْلَمُ مِنْهُ الإِْتْيَانُ بِمَا يُفْسِدُ الصَّلاَةَ عِنْدَ الْمُقْتَدِي بِيَقِينٍ، لأَِنَّ الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَزَل بَعْضُهُمْ يَقْتَدِي بِبَعْضٍ مَعَ اخْتِلاَفِهِمْ فِي الْفُرُوعِ، وَلِمَا فِيهِ مِنْ وَحْدَةِ الصَّفِّ وَقُوَّةِ الْمُسْلِمِينَ.
أَمَّا إِذَا عَلِمَ الْمُقْتَدِي أَنَّ الإِْمَامَ أَتَى بِمَانِعٍ لِصِحَّةِ الصَّلاَةِ فِي مَذْهَبِ الْمَأْمُومِ، وَلَيْسَ مَانِعًا فِي مَذْهَبِهِ، كَتَرْكِ الدَّلْكِ وَالْمُوَالاَةِ فِي الْوُضُوءِ، أَوْ تَرَكَ شَرْطًا فِي الصَّلاَةِ عِنْدَ الْمَأْمُومِ، فَقَدْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - بِصِحَّةِ الاِقْتِدَاءِ، لأَِنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي شُرُوطِ الصَّلاَةِ مَذْهَبُ الإِْمَامِ لاَ الْمَأْمُومِ، مَا لَمْ يَكُنِ الْمَتْرُوكُ رُكْنًا دَاخِلاً فِي الصَّلاَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، كَتَرْكِ الرَّفْعِ مِنَ الرُّكُوعِ.
وَفِي الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لاَ يَصِحُّ الاِقْتِدَاءُ اعْتِبَارًا بِنِيَّةِ الْمُقْتَدِي، لأَِنَّهُ يَعْتَقِدُ فَسَادَ صَلاَةِ إِمَامِهِ، فَلاَ يُمْكِنُ الْبِنَاءُ عَلَيْهِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ تَيَقَّنَ الْمُقْتَدِي تَرْكَ الإِْمَامِ مُرَاعَاةَ الْفُرُوضِ عِنْدَ الْمُقْتَدِي لَمْ يَصِحَّ الاِقْتِدَاءُ، وَإِنْ عَلِمَ تَرْكَهُ لِلْوَاجِبَاتِ فَقَطْ يُكْرَهُ، أَمَّا إِنْ عَلِمَ مِنْهُ تَرْكَ السُّنَنِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِ، لأَِنَّ الْجَمَاعَةَ وَاجِبَةٌ، فَتُقَدَّمُ عَلَى تَرْكِ كَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ، وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ الْعِبْرَةَ لِرَأْيِ الْمُقْتَدِي - وَهُوَ الأَْصَحُّ - وَقِيل: لِرَأْيِ الإِْمَامِ، وَعَلَيْهِ جَمَاعَةٌ. قَال فِي النِّهَايَةِ: وَهُوَ الأَْقْيَسُ، وَعَلَيْهِ فَيَصِحُّ الاِقْتِدَاءُ، وَإِنْ كَانَ الإِْمَامُ لاَ يَحْتَاطُ (1) .
__________
(1) ابن عابدين 1 / 378.(6/37)
الاِقْتِدَاءُ فِي غَيْرِ الصَّلاَةِ
44 - الاِقْتِدَاءُ فِي غَيْرِ الصَّلاَةِ - بِمَعْنَى التَّأَسِّي وَالاِتِّبَاعِ - يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ بِاخْتِلاَفِ الْمُقْتَدَى بِهِ، فَالاِقْتِدَاءُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أُمُورِ الدِّينِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِالشَّرِيعَةِ وَاجِبٌ أَوْ مَنْدُوبٌ (بِحَسَبِ حُكْمِ ذَلِكَ الْفِعْل) ، وَالاِقْتِدَاءُ بِأَفْعَالِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجِبِلِّيَّةِ حُكْمُهُ الإِْبَاحَةُ، وَالاِقْتِدَاءُ بِالْمُجْتَهِدِ فِيمَا اجْتَهَدَ فِيهِ مِنَ الْمَسَائِل الْفِقْهِيَّةِ مَطْلُوبٌ لِمَنْ لَيْسَ لَهُ أَهْلِيَّةُ الاِجْتِهَادِ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ. (1)
وَتَفْصِيل هَذِهِ الْمَسَائِل فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ، وَانْظُرْ مُصْطَلَحَيِ (اتِّبَاع، وَتَأَسِّي) .
اقْتِرَاضٌ
انْظُرْ: اسْتِدَانَة.
اقْتِصَارٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِقْتِصَارُ عَلَى الشَّيْءِ لُغَةً: الاِكْتِفَاءُ بِهِ، وَعَدَمُ مُجَاوَزَتِهِ، وَقَدْ وَرَدَ اسْتِعْمَال الاِقْتِصَارِ بِهَذَا الْمَعْنَى فِي بَعْضِ فُرُوعِ الشَّافِعِيَّةِ، كَقَوْلِهِمْ فِي كِفَايَةِ الرَّقِيقِ: وَلاَ يَكْفِي الاِقْتِصَارُ عَلَى سَتْرِ الْعَوْرَةِ، قَال
__________
(1) المستصفى للغزالي 2 / 354، 389، والتقرير والتحبير 2 / 312، وفواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت 2 / 180، 181، 214، 215، والأحكام للآمدي 3 / 167، 170.(6/38)
الْغَزَالِيُّ: بِبِلاَدِنَا احْتِرَازًا عَنْ بِلاَدِ السُّودَانِ. وَفِي الاِسْتِنْجَاءِ قَال الْمَحَلِّيُّ: وَجَمْعُهُمَا (الْمَاءِ وَالْحَجَرِ) بِأَنْ يُقَدِّمَ الْحَجَرَ أَفْضَل مِنَ الاِقْتِصَارِ عَلَى أَحَدِهِمَا.
وَالاِقْتِصَارُ عَلَى الْمَاءِ أَفْضَل مِنَ الاِقْتِصَارِ عَلَى الْحَجَرِ، لأَِنَّهُ يُزِيل الْعَيْنَ وَالأَْثَرَ بِخِلاَفِ الْحَجَرِ. (1)
وَقَدْ جَاءَ اسْتِعْمَال " الاِقْتِصَارِ " فِي الْمِثَالَيْنِ السَّابِقَيْنِ بِمَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ " الاِكْتِفَاءِ ".
وَلِتَمَامِ الْفَائِدَةِ يُرَاجَعُ مُصْطَلَحُ: (اسْتِنَاد) .
وَالاِقْتِصَارُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ هُوَ أَنْ يَثْبُتَ الْحُكْمُ عِنْدَ حُدُوثِ الْعِلَّةِ لاَ قَبْل الْحُدُوثِ وَلاَ بَعْدَهُ، كَمَا فِي الطَّلاَقِ الْمُنَجَّزِ، وَعَرَّفَهُ صَاحِبُ الدُّرِّ الْمُخْتَارِ بِأَنَّهُ: ثُبُوتُ الْحُكْمِ فِي الْحَال، وَمَثَّل لَهُ ابْنُ عَابِدِينَ: بِإِنْشَاءِ الْبَيْعِ وَالطَّلاَقِ وَالْعِتَاقِ وَغَيْرِهَا، (2) وَالتَّعْرِيفَانِ مُتَقَارِبَانِ.
وَيَتَّضِحُ أَنَّ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيَّ لَمْ يَخْرُجْ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ لِلاِقْتِصَارِ، لأَِنَّ ثُبُوتَ الْحُكْمِ فِي الْحَال يَعْنِي الاِكْتِفَاءَ بِالْحَال وَعَدَمَ مُجَاوَزَتِهِ، لاَ إِلَى الْمَاضِي وَلاَ إِلَى الْمُسْتَقْبَل.
2 - وَيُلاَحَظُ فِي تَعْرِيفِ " الاِقْتِصَارِ " الأُْمُورُ التَّالِيَةُ:
أ - أَنَّهُ أَحَدُ الطُّرُقِ الَّتِي يَثْبُتُ بِهَا الْحُكْمُ.
ب - ثُبُوتُ الْحُكْمِ عَنْ طَرِيقِ الاِقْتِصَارِ يَكُونُ فِي الْحَال، أَيْ لاَ قَبْلَهُ وَلاَ بَعْدَهُ.
ج - أَنَّهُ إِنْشَاءٌ وَلَيْسَ بِخَبَرٍ.
د - أَنَّهُ إِنْشَاءٌ مُنَجَّزٌ لاَ مُعَلَّقٌ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
3 - يَتَّضِحُ مَعْنَى الاِقْتِصَارِ مِنْ ذِكْرِ بَقِيَّةِ الطُّرُقِ الَّتِي
__________
(1) لسان العرب مادة: (قصر) ، والمحلي بهامش القليوبي 1 / 42
(2) الدر المختار مع حاشية ابن عابدين 2 / 444، وحاشية الطحطاوي 2 / 21.(6/38)
يَثْبُتُ بِهَا الْحُكْمُ وَتَعْرِيفُهَا، وَهِيَ أَلْفَاظٌ ذَاتُ صِلَةٍ بِالاِقْتِصَارِ.
قَال الْحَصْكَفِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ طُرُقَ ثُبُوتِ الأَْحْكَامِ أَرْبَعَةٌ: الاِنْقِلاَبُ، وَالاِقْتِصَارُ، وَالاِسْتِنَادُ، وَالتَّبْيِينُ (1) .
الاِنْقِلاَبُ:
4 - الاِنْقِلاَبُ: صَيْرُورَةُ مَا لَيْسَ بِعِلَّةٍ عِلَّةً، كَمَا إِذَا عَلَّقَ الطَّلاَقَ بِالشَّرْطِ، كَأَنْ يَقُول الرَّجُل لاِمْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ، فَإِنَّ " أَنْتِ طَالِقٌ " عِلَّةٌ لِثُبُوتِ حُكْمِهِ، وَهُوَ الطَّلاَقُ، لَكِنَّهُ بِالتَّعْلِيقِ عَلَى الدُّخُول لَمْ يَنْعَقِدْ عِلَّةً إِلاَّ عِنْدَ وُجُودِ شَرْطِهِ، وَهُوَ الدُّخُول، فَعِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ يَنْقَلِبُ مَا لَيْسَ بِعِلَّةٍ عِلَّةً (2) . وَيَتَبَيَّنُ مِنْ تَعْرِيفِ الاِنْقِلاَبِ أَنَّهُ يَتَّفِقُ مَعَ الاِقْتِصَارِ فِي أَنَّهُمَا إِنْشَاءٌ لاَ خَبَرٌ، إِلاَّ أَنَّهُمَا يَخْتَلِفَانِ فِي أَنَّ الاِقْتِصَارَ مُنَجَّزٌ، وَالاِنْقِلاَبَ مُعَلَّقٌ.
الاِسْتِنَادُ:
5 - الاِسْتِنَادُ: ثُبُوتُ الْحُكْمِ فِي الْحَال، ثُمَّ يَسْتَنِدُ إِلَى مَا قَبْلَهُ بِشَرْطِ بَقَاءِ الْمَحَل كُل الْمُدَّةِ، كَلُزُومِ الزَّكَاةِ حِينَ الْحَوْل مُسْتَنِدًا لِوُجُودِ النِّصَابِ، وَكَالْمَضْمُونَاتِ تُمْلَكُ عِنْدَ أَدَاءِ الضَّمَانِ مُسْتَنِدًا إِلَى وَقْتِ وُجُودِ السَّبَبِ. (3)
__________
(1) الدر المختار بهامش ابن عابدين 2 / 443، والأشباه والنظائر لابن نجيم 314 - 315.
(2) الدر المختار 2 / 443، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص 314.
(3) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 314، والدر المختار مع حاشية ابن عابدين 2 / 24، وحاشية الطحطاوي 2 / 121، وحاشية الحموي على الأشباه والنظائر 2 / 156 - 157.(6/39)
فَالأَْثَرُ الرَّجْعِيُّ هُنَا وَاضِحٌ، بِخِلاَفِ الاِقْتِصَارِ فَلَيْسَ فِيهِ أَثَرٌ رَجْعِيٌّ.
الْفَرْقُ بَيْنَ الاِسْتِنَادِ وَالاِقْتِصَارِ (1) :
6 - الاِسْتِنَادُ أَحَدُ الطُّرُقِ الأَْرْبَعَةِ الَّتِي تَثْبُتُ بِهَا الأَْحْكَامُ، وَقَدْ تَبَيَّنَ مِنْ خِلاَل تَعْرِيفِهِ أَنَّ الاِسْتِنَادَ لَهُ أَثَرٌ رَجْعِيٌّ بِخِلاَفِ الاِقْتِصَارِ.
جَاءَ فِي الْمَدْخَل الْفِقْهِيِّ الْعَامِّ:
فِي الاِصْطِلاَحِ الْقَانُونِيِّ الشَّائِعِ الْيَوْمَ فِي عَصْرِنَا يُسَمَّى انْسِحَابُ الأَْحْكَامِ عَلَى الْمَاضِي أَثَرًا رَجْعِيًّا، وَيُسْتَعْمَل هَذَا التَّعْبِيرُ فِي رَجْعِيَّةِ أَحْكَامِ الْقَوَانِينِ نَفْسِهَا كَمَا فِي آثَارِ الْعُقُودِ عَلَى السَّوَاءِ. فَيُقَال: هَذَا الْقَانُونُ لَهُ أَثَرٌ رَجْعِيٌّ، وَذَاكَ لَيْسَ لَهُ، كَمَا يُقَال: إِنَّ بَيْعَ مِلْكِ الْغَيْرِ بِدُونِ إِذْنِهِ إِذَا أَجَازَهُ الْمَالِكُ يَكُونُ لإِِجَازَتِهِ أَثَرٌ رَجْعِيٌّ، فَيُعْتَبَرُ حُكْمُ الْعَقْدِ سَارِيًا مُنْذُ انْعِقَادِهِ لاَ مُنْذُ إِجَازَتِهِ، وَلَيْسَ فِي لُغَةِ الْقَانُونِ اسْمٌ لِعَدَمِ الأَْثَرِ الرَّجْعِيِّ.
أَمَّا الْفِقْهُ الإِْسْلاَمِيُّ فَيُسَمِّي عَدَمَ رَجْعِيَّةِ الآْثَارِ اقْتِصَارًا، بِمَعْنَى أَنَّ الْحُكْمَ يَثْبُتُ مُقْتَصِرًا عَلَى الْحَال لاَ مُنْسَحِبًا عَلَى الْمَاضِي.
وَيُسَمِّي رَجْعِيَّةَ الآْثَارِ اسْتِنَادًا، وَهُوَ اصْطِلاَحُ الْمَذْهَبِ الْحَنَفِيِّ، وَيُسَمِّيهِ الْمَالِكِيَّةُ " انْعِطَافًا " (2) . ثُمَّ أَضَافَ صَاحِبُ الْمَدْخَل:
وَتَارَةً يَكُونُ الاِنْحِلاَل مُقْتَصَرًا لَيْسَ لَهُ انْعِطَافٌ
__________
(1) هذه التفرقة بين الاستناد والاقتصار، والمقارنة بالقانون مستمدة من المدخل الفقهي العام للأستاذ الشيخ مصطفى الزرقا، واللجنة ترى أنه استقراء دقيق واستنتاج مقبول مرجعه كتب الفقه القديمة.
(2) المدخل الفقهي العام 1 / 533 - 534 بتصرف.(6/39)
وَأَثَرٌ رَجْعِيٌّ، وَإِنَّمَا يَسْرِي حُكْمُهُ عَلَى الْمُسْتَقْبَل فَقَطْ مِنْ تَارِيخِ وُقُوعِهِ، وَذَلِكَ فِي الْعُقُودِ الاِسْتِمْرَارِيَّةِ كَالشَّرِكَةِ وَكَالإِْجَارَةِ.
فَالْفَسْخُ أَوِ الاِنْفِسَاخُ يَقْطَعَانِ تَأْثِيرَ هَذِهِ الْعُقُودِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُسْتَقْبَل، أَمَّا مَا مَضَى فَيَكُونُ عَلَى حُكْمِ الْعَقْدِ، وَكَذَا انْحِلاَل الْوَكَالَةِ بِالْعَزْل لاَ يَنْقُضُ تَصَرُّفَاتِ الْوَكِيل السَّابِقَةَ. (1)
ثُمَّ يُسْتَحْسَنُ التَّمْيِيزُ فِي تَسْمِيَةِ انْحِلاَل الْعَقْدِ بَيْنَ حَالَتَيِ الاِسْتِنَادِ وَالاِقْتِصَارِ، فَيُقْتَرَحُ تَسْمِيَةُ الْحِل وَالاِنْحِلاَل فِي حَالَةِ الاِسْتِنَادِ: فَسْخًا وَانْفِسَاخًا، وَفِي حَالَةِ الاِقْتِصَارِ: إِنْهَاءً وَانْتِهَاءً. (2)
7 - هَذَا، وَلَمْ نَرَ التَّصْرِيحَ بِهَذَيْنِ الْمُصْطَلَحَيْنِ فِي مَذْهَبِ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ، إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ فَرَّقُوا بَيْنَ حَالَتَيْنِ فِي الْفَسْخِ.
قَال الإِْمَامُ السُّيُوطِيُّ فِي كِتَابِهِ الأَْشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ (3) : الْفَسْخُ هَل يَرْفَعُ الْعَقْدَ مِنْ أَصْلِهِ، أَوْ مِنْ حِينِهِ؟ يُمْكِنُ أَنْ نَفْهَمَ مِنْ قَوْل السُّيُوطِيِّ هَذَا أَنَّهُمْ فَرَّقُوا بَيْنَ مَا يَرْفَعُ الْعَقْدَ مِنْ أَصْلِهِ وَبَيْنَ مَا يَرْفَعُ الْعَقْدَ مِنْ حِينِهِ، فَيَصْدُقُ عَلَى الأَْوَّل الاِسْتِنَادُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَعَلَى الثَّانِي الاِقْتِصَارُ عِنْدَهُمْ أَيْضًا.
فَقَدْ فَرَّقَ السُّيُوطِيُّ هُنَا بَيْنَ مَا لَهُ أَثَرٌ رَجْعِيٌّ، وَبَيْنَ مَا لَيْسَ لَهُ أَثَرٌ رَجْعِيٌّ.
8 - وَقَدْ مَثَّلُوا لِمَا يَرْفَعُ الْعَقْدَ مِنْ حِينِهِ بِمَا يَلِي:
أ - الْفَسْخُ بِخِيَارِ الْعَيْبِ، وَالتَّصْرِيَةِ وَنَحْوِهِمَا، وَالأَْصَحُّ أَنَّهُ مِنْ حِينِهِ.
ب - فَسْخُ الْبَيْعِ بِخِيَارِ الْمَجْلِسِ أَوِ الشَّرْطِ فِيهِ
__________
(1) المرجع السابق: ص 534.
(2) المدخل الفقهي العام: 535.
(3) الأشباه والنظائر 317 - 318.(6/40)
وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ مِنْ حِينِهِ.
ج - الْفَسْخُ بِالْفَلَسِ مِنْ حِينِهِ قَطْعًا.
هـ - الرُّجُوعُ فِي الْهِبَةِ مِنْ حِينِهِ قَطْعًا.
- وَفَسْخُ النِّكَاحِ بِأَحَدِ الْعُيُوبِ، وَالأَْصَحُّ: أَنَّهُ مِنْ حِينِهِ
ز - فَسْخُ الْحَوَالَةِ: انْقِطَاعٌ مِنْ حِينِهِ.
9 - وَمَثَّل لِمَا يَرْفَعُ الْعَقْدَ مِنْ أَصْلِهِ أَيْضًا بِقَوْلِهِمْ: إِذَا كَانَ رَأْسُ مَال السَّلَمِ فِي الذِّمَّةِ، وَعَيَّنَ فِي الْمَجْلِسِ، ثُمَّ انْفَسَخَ السَّلَمُ بِسَبَبٍ يَقْتَضِيهِ وَرَأْسُ الْمَال بَاقٍ، فَهَل يَرْجِعُ إِلَى عَيْنِهِ أَوْ بَدَلِهِ؟ وَجْهَانِ: الأَْصَحُّ الأَْوَّل. قَال الْغَزَالِيُّ: وَالْخِلاَفُ يَلْتَفِتُ إِلَى أَنَّ الْمُسَلَّمَ فِيهِ إِذَا رُدَّ بِالْعَيْبِ هَل يَكُونُ نَقْضًا لِلْمِلْكِ فِي الْحَال، أَوْ هُوَ مُبَيِّنٌ لِعَدَمِ جَرَيَانِ الْمِلْكِ؟ .
وَمُقْتَضَى هَذَا التَّفْرِيعِ: أَنَّ الأَْصَحَّ هُنَا، أَنَّهُ رَفْعٌ لِلْعَقْدِ مِنْ أَصْلِهِ، وَيَجْرِي ذَلِكَ أَيْضًا فِي نُجُومِ الْكِتَابَةِ (أَقْسَاطِهَا) ، وَبَدَل الْخُلْعِ إِذَا وَجَدَ بِهِ عَيْبًا فَرَدَّهُ.
لَكِنْ فِي الْكِتَابَةِ يَرْتَدُّ الْعِتْقُ لِعَدَمِ الْقَبْضِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ.
وَفِي الْخُلْعِ: لاَ يَرْتَدُّ الطَّلاَقُ بَل يَرْجِعُ إِلَى بَدَل الْبُضْعِ. (1)
هَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الإِْمَامُ السُّيُوطِيُّ فِي الأَْشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ، فِي أَنَّ الْفَسْخَ يَرْفَعُ الْعَقْدَ مِنْ أَصْلِهِ حِينًا وَمِنْ حِينِهِ حِينًا آخَرَ.
إِلاَّ أَنَّنَا حِينَمَا نَرْجِعُ إِلَى الرَّوْضَةِ نَجِدُ الإِْمَامَ النَّوَوِيَّ يُرَجِّحُ أَنَّ الْفَسْخَ يَرْفَعُ الْعَقْدَ مِنْ حِينِهِ، وَأَنَّ الرَّفْعَ مِنَ الأَْصْل ضَعِيفٌ. (2)
__________
(1) الأشباه والنظائر للسيوطي 317 - 318.
(2) الروضة 3 / 489.(6/40)
وَقَدْ تَبِعَهُ فِي ذَلِكَ الْقَلْيُوبِيُّ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى شَرْحِ الْمِنْهَاجِ لِلْمَحَلِّيِّ (1) ، فَيَقُول: إِنَّ الْفَسْخَ يَرْفَعُ الْعَقْدَ مِنْ أَصْلِهِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ.
وَيَقُول الْمَحَلِّيُّ، بِنَاءً عَلَى الأَْصَحِّ: إِنَّ الْفَسْخَ يَرْفَعُ الْعَقْدَ مِنْ حِينِهِ. (2)
التَّبْيِينُ (3) :
10 - التَّبْيِينُ: أَنْ يَظْهَرَ فِي الْحَال أَنَّ الْحُكْمَ كَانَ ثَابِتًا مِنْ قَبْل، مِثْل أَنْ يَقُول فِي الْيَوْمِ: إِنْ كَانَ زَيْدٌ فِي الدَّارِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَتَبَيَّنَ فِي الْغَدِ وُجُودُهُ فِيهَا، يَقَعُ الطَّلاَقُ فِي الْيَوْمِ، وَيُعْتَبَرُ ابْتِدَاءُ الْمُدَّةِ مِنْهُ (4) .
وَيُخَالِفُ التَّبْيِينُ الاِقْتِصَارَ فِي أَنَّ الْحُكْمَ فِي التَّبْيِينِ يَظْهَرُ أَنَّهُ كَانَ ثَابِتًا مِنْ قَبْل، فِي حِينِ أَنَّ الْحُكْمَ فِي الاِقْتِصَارِ يَثْبُتُ فِي الْحَال فَقَطْ.
هَذَا، وَلَمَّا كَانَ الاِقْتِصَارُ إِنْشَاءً لِلْعُقُودِ، أَوِ الْفُسُوخِ الْمُنَجَّزَةِ، شَمَلَهَا جَمِيعًا، لأَِنَّ التَّنْجِيزَ هُوَ الأَْصْل فِيهَا.
مِثَال الْعُقُودِ: الْبَيْعُ وَالسَّلَمُ وَالإِْجَارَةُ وَالْقِرَاضُ وَغَيْرُ ذَلِكَ.
وَمِثَال الْفُسُوخِ: الطَّلاَقُ وَالْعِتَاقُ وَغَيْرُ ذَلِكَ.
أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْفُسُوخُ غَيْرَ مُنَجَّزَةٍ، بِأَنْ كَانَ لَهَا أَثَرٌ رَجْعِيٌّ، وَانْسَحَبَ حُكْمُهَا عَلَى الْمَاضِي، فَتَدْخُل حِينَئِذٍ فِي بَابِ الاِسْتِنَادِ. وَمِثَالُهُ مَا لَوْ قَال: أَنْتِ طَالِقٌ قَبْل مَوْتِ فُلاَنٍ بِشَهْرٍ، لَمْ تُطَلَّقْ حَتَّى
__________
(1) القليوبي على شرح المنهاج 2 / 326.
(2) شرح المحلي على المنهاج 2 / 208.
(3) قال ابن عابدين في حاشيته على الدر المختار: كذا عبارتهم فهو مصدر بمعنى التبين، أي الظهور " 2 / 443
(4) الأشباه والنظائر مع الحموي 2 / 157.(6/41)
يَمُوتَ فُلاَنٌ بَعْدَ الْيَمِينِ بِشَهْرٍ، فَإِنْ مَاتَ لِتَمَامِ الشَّهْرِ طُلِّقَتْ مُسْتَنِدًا إِلَى أَوَّل الشَّهْرِ، فَتُعْتَبَرُ الْعِدَّةُ أَوَّلَهُ.
اقْتِضَاءٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِقْتِضَاءُ: مَصْدَرُ اقْتَضَى، يُقَال: اقْتَضَيْتُ مِنْهُ حَقِّي، وَتَقَاضَيْتُهُ: إِذَا طَلَبْتُهُ وَقَبَضْتُهُ وَأَخَذْتُهُ مِنْهُ، وَأَصْلُهُ مِنْ قَضَاءِ الدَّيْنِ. (1)
وَالاِقْتِضَاءُ فِي اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ بِمَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ.
وَيَسْتَعْمِلُهُ الأُْصُولِيُّونَ بِمَعْنَى الدَّلاَلَةِ. يَقُولُونَ: الأَْمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ أَيْ يَدُل عَلَيْهِ، وَيَسْتَعْمِلُونَهُ أَيْضًا بِمَعْنَى الطَّلَبِ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْقَضَاءُ:
2 - الْقَضَاءُ: إِعْطَاءُ الْحَقِّ وَالْفَرَاغُ مِنْهُ، وَمِنْهُ أَدَاءُ مَا عَلَى الإِْنْسَانِ مِنْ حُقُوقٍ لِلَّهِ تَعَالَى، سَوَاءٌ كَانَ أَدَاؤُهَا فِي الْوَقْتِ الْمُحَدَّدِ لَهَا، وَمِنْهُ قَوْل اللَّهِ عَزَّ وَجَل: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} (2) أَيْ أَدَّيْتُمُوهَا وَفَرَغْتُمْ مِنْهَا، أَوْ كَانَ أَدَاؤُهَا بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِهَا كَقَضَاءِ الْفَائِتَةِ.
وَبَعْضُ الأُْصُولِيِّينَ يَقُول: إِنَّ لَفْظَ الْقَضَاءِ عَامٌّ
__________
(1) لسان العرب والمصباح مادة (قضى) ، وفيض القدير 4 / 26، وفتح الباري 4 / 245.
(2) سورة البقرة / 200.(6/41)
يَجُوزُ إِطْلاَقُهُ عَلَى تَسْلِيمِ عَيْنِ الْوَاجِبِ (وَهُوَ الأَْدَاءُ) ، أَوْ تَسْلِيمُ مِثْلِهِ (وَهُوَ الْقَضَاءُ) ، لأَِنَّ مَعْنَى الْقَضَاءِ: الإِْسْقَاطُ وَالإِْتْمَامُ وَالإِْحْكَامُ، وَهَذِهِ الْمَعَانِي مَوْجُودَةٌ فِي تَسْلِيمِ عَيْنِ الْوَاجِبِ، كَمَا هِيَ مَوْجُودَةٌ فِي تَسْلِيمِ مِثْلِهِ، فَيَجُوزُ إِطْلاَقُ الْقَضَاءِ عَلَى الأَْدَاءِ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ لِعُمُومِ مَعْنَاهُ، إِلاَّ أَنَّهُ لَمَّا اخْتَصَّ بِتَسْلِيمِ الْمِثْل عُرْفًا أَوْ شَرْعًا كَانَ فِي غَيْرِهِ مَجَازًا، وَكَانَ إِطْلاَقُهُ عَلَى الأَْدَاءِ حَقِيقَةً لُغَوِيَّةً، مَجَازًا عُرْفِيًّا أَوْ شَرْعِيًّا. (1)
وَيَشْمَل أَيْضًا أَدَاءَ مَا عَلَى الإِْنْسَانِ مِنْ حُقُوقٍ لِغَيْرِهِ كَقَوْلِهِمْ: لَوْ عَرَفَ الْوَصِيُّ دَيْنًا عَلَى الْمَيِّتِ فَقَضَاهُ لاَ يَأْثَمُ. (2) .
ب - الاِسْتِيفَاءُ:
3 - الاِسْتِيفَاءُ: طَلَبُ الْوَفَاءِ، يُقَال: اسْتَوْفَيْتُ مِنْ فُلاَنٍ مَا لِي عَلَيْهِ، أَيْ: أَخَذْتُهُ حَتَّى لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَاسْتَوْفَيْتُ الْمَال: إِذَا أَخَذْتُهُ كُلَّهُ. (3) وَهُوَ بِذَلِكَ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الاِقْتِضَاءِ.
دَلاَلَةُ الاِقْتِضَاءِ:
4 - دَلاَلَةُ الاِقْتِضَاءِ هِيَ تَقْدِيرُ مَحْذُوفٍ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ صِحَّةُ الْكَلاَمِ أَوْ صِدْقُهُ.
وَالْكَلاَمُ الَّذِي لاَ يَصِحُّ إِلاَّ بِالزِّيَادَةِ هُوَ الْمُقْتَضِي، وَالْمَزِيدُ هُوَ الْمُقْتَضَى، وَطَلَبُ الزِّيَادَةِ هُوَ الاِقْتِضَاءُ، وَالْحُكْمُ الَّذِي ثَبَتَ بِهِ هُوَ حُكْمُ الْمُقْتَضَى، وَمِثَالُهُ مَا يُتَوَقَّفُ عَلَيْهِ لِصِحَّةِ قَوْل الْقَائِل: أَعْتِقْ عَبْدَكَ عَنِّي بِأَلْفٍ، فَنَفْسُ هَذَا
__________
(1) كشف الأسرار 1 / 137.
(2) ابن عابدين 2 / 703.
(3) لسان العرب مادة (وفى) .(6/42)
الْكَلاَمِ هُوَ الْمُقْتَضِي، لِعَدَمِ صِحَّتِهِ فِي نَفْسِهِ شَرْعًا، لأَِنَّ الْعِتْقَ فَرْعُ الْمِلْكِيَّةِ، فَكَأَنَّهُ قَال: بِعْنِي عَبْدَكَ بِكَذَا أَوْ وَكَّلْتُكَ فِي إِعْتَاقِهِ، وَطَلَبُ الزِّيَادَةِ الَّتِي يَصِحُّ بِهَا الْكَلاَمُ هِيَ الاِقْتِضَاءُ، وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ (وَهِيَ الْبَيْعُ) هِيَ الْمُقْتَضَى، وَمَا ثَبَتَ بِالْبَيْعِ (وَهُوَ الْمِلْكُ) هُوَ حُكْمُ الْمُقْتَضِي، وَمِثَالُهُ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ صِدْقُ الْمُتَكَلِّمِ، كَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ (1) فَإِنَّ رَفْعَ الْخَطَأِ وَغَيْرِهِ مَعَ تَحَقُّقِهِ مُمْتَنِعٌ فَلاَ بُدَّ مِنْ إِضْمَارِ نَفْيِ حُكْمٍ يُمْكِنُ نَفْيُهُ، كَنَفْيِ الْمُؤَاخَذَةِ وَالْعِقَابِ.
وَمِنْهُ مَا أُضْمِرَ لِصِحَّةِ الْكَلاَمِ عَقْلاً، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاسْأَل الْقَرْيَةَ} (2) ، فَإِنَّهُ لاَ بُدَّ مِنْ إِضْمَارِ (أَهْل) لِصِحَّةِ الْمَلْفُوظِ بِهِ عَقْلاً. (3)
الاِقْتِضَاءُ بِمَعْنَى الطَّلَبِ:
5 - الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ هُوَ: خِطَابُ اللَّهِ تَعَالَى الْمُتَعَلِّقُ بِأَفْعَال الْمُكَلَّفِينَ بِالاِقْتِضَاءِ أَوِ التَّخْيِيرِ. وَالاِقْتِضَاءُ - وَهُوَ الطَّلَبُ - إِمَّا أَنْ يَكُونَ طَلَبَ الْفِعْل أَوْ طَلَبَ تَرْكِهِ (4) .
__________
(1) حديث: " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " قال العجلوني في كشف الخفاء (1 / 522 - ط الرسالة) : قال في اللآلئ: لا يوجد بهذا اللفظ، وأقرب ما وجد ما رواه ابن عدي عن أبي بكرة بلفظ: " رفع الله عن هذه الأمة ثلاثا: الخطأ، والنسيان والأمر يكرهون عليه " ثم نقل استنكار ابن عدي لهذه الرواية، وكذلك إعلال الإمام أحمد له. وذكر أنه ورد بلفظ: " وضع. . . الحديث ". أخرجه ابن ماجه (1 / 659 - ط الحلبي) وقال: " رجاله ثقات ".
(2) سورة يوسف / 82، وهل يقدر المقتضى عاما أو خاصا، هذه مسألة خلافية تنظر في الملحق الأصولي.
(3) كشف الأسرار 1 / 76، والأحكام للآمدي 2 / 141.
(4) الأحكام للآمدي 1 / 49.(6/42)
وَطَلَبُ الْفِعْل، إِنْ كَانَ عَلَى سَبِيل الْجَزْمِ فَهُوَ الإِْيجَابُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ جَازِمٍ فَهُوَ النَّدْبُ. وَأَمَّا طَلَبُ التَّرْكِ، فَإِنْ كَانَ جَازِمًا فَهُوَ التَّحْرِيمُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ جَازِمٍ فَهُوَ الْكَرَاهَةُ.
أَمَّا التَّخْيِيرُ فَهُوَ قَسِيمُ الاِقْتِضَاءِ، إِذْ هُوَ مَا كَانَ فِعْلُهُ وَتَرْكُهُ عَلَى السَّوَاءِ.
اقْتِضَاءُ الْحَقِّ:
6 - الشَّائِعُ فِي اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ هُوَ التَّعْبِيرُ بِلَفْظِ (الاِسْتِيفَاءِ) مَقْصُودًا بِهِ أَخْذَ الْحَقِّ، سَوَاءٌ أَكَانَ حَقًّا مَالِيًّا كَاسْتِيفَاءِ الأَْجِيرِ أُجْرَتَهُ، أَمْ كَانَ حَقًّا غَيْرَ مَالِيٍّ كَاسْتِيفَاءِ الْمَنَافِعِ وَالْقِصَاصِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. (1)
وَيَأْتِي الاِقْتِضَاءُ بِمَعْنَى طَلَبِ قَضَاءِ الْحَقِّ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: رَحِمَ اللَّهُ رَجُلاً سَمْحًا إِذَا بَاعَ، وَإِذَا اشْتَرَى، وَإِذَا اقْتَضَى (2) قَال ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِهِ: أَيْ طَلَبَ قَضَاءَ حَقِّهِ بِسُهُولَةٍ وَعَدَمِ إِلْحَافٍ. (3) (ر: اتِّبَاع. اسْتِيفَاء) .
اقْتِنَاءٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِقْتِنَاءُ: مَصْدَرُ اقْتَنَى الشَّيْءَ يَقْتَنِيهِ، إِذَا
__________
(1) نهاية المحتاج 5 / 305، وبدائع الصنائع 7 / 247.
(2) حديث: " رحم الله رجلا سمحا إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى " أخرجه البخاري (4 / 306 - الفتح - ط السلفية) .
(3) فتح الباري 4 / 245 ط - البهية.(6/43)
اتَّخَذَهُ لِنَفْسِهِ، لاَ لِلْبَيْعِ أَوْ لِلتِّجَارَةِ. يُقَال: هَذِهِ الْفَرَسُ قُنْيَةٌ، وَقِنْيَةٌ (بِكَسْرِ الْقَافِ وَضَمِّهَا) إِذَا اتَّخَذَهَا لِلنَّسْل أَوْ لِلرُّكُوبِ وَنَحْوِهِمَا، لاَ لِلتِّجَارَةِ. (1) وَقَنَوْتُ الْبَقَرَةَ، وَقَنَيْتُهَا: أَيِ اتَّخَذْتُهَا لِلْحَلْبِ أَوِ الْحَرْثِ. وَمَال قُنْيَانٍ: إِذَا اتَّخَذْتَهُ لِنَفْسِكَ.
وَالْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ لِهَذَا اللَّفْظِ لاَ يَفْتَرِقُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
حُكْمُ الاِقْتِنَاءِ:
2 - الاِقْتِنَاءُ لِلأَْشْيَاءِ قَدْ يَكُونُ مُبَاحًا، بَل قَدْ يَكُونُ مَنْدُوبًا، مِثْل اقْتِنَاءِ الْمَصَاحِفِ وَكُتُبِ الْحَدِيثِ وَالْعِلْمِ.
وَقَدْ يَكُونُ مُبَاحًا فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ، مِثْل اقْتِنَاءِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَاقْتِنَاءِ الْكَلْبِ الْمُعَلَّمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمُبَاحَاتِ بِشُرُوطِهَا، يُنْظَرُ تَفْصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحِ (إِبَاحَة) .
وَقَدْ يَكُونُ حَرَامًا مِثْل الْخِنْزِيرِ وَالْخَمْرِ وَآلاَتِ اللَّهْوِ الْمُحَرَّمِ. (2)
3 - وَقَدْ تَعَرَّضَ الْفُقَهَاءُ لِزَكَاةِ الْمُقْتَنَيَاتِ وَقَالُوا: لاَ يُزَكَّى الْمُقْتَنَى مِنَ النَّعَمِ فِي الْجُمْلَةِ إِلاَّ مَا أُسِيمَ لِحَمْلٍ أَوْ رُكُوبٍ أَوْ نَسْلٍ، إِذَا بَلَغَتْ نِصَابًا، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي خَمْسٍ مِنَ الإِْبِل السَّائِمَةِ صَدَقَةٌ (3)
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير والقاموس المحيط.
(2) قليوبي 2 / 157، 3 / 8، 157، 297، وابن عابدين 5 / 134، 147، 217، وجواهر الإكليل 2 / 4، 35، والشرح الصغير 3 / 22، 24، 4 / 141، 474، والمغني 1 / 77، 3 / 15، 4 / 251 - 255، 8 / 321.
(3) حديث: " في خمس من الإبل. . . " ورد بلفظ: " من لم يكن معه إلا أربع من الإبل فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها، فإذا بلغت خمسا من الإبل ففيها شاة ". أخرجه البخاري (الفتح 3 / 317 - ط السلفية) .(6/43)
كَمَا يُزَكَّى الْمُقْتَنَى مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ مَضْرُوبِهَا وَتِبْرِهَا وَحُلِيِّهَا وَآنِيَتِهَا، نَوَى التِّجَارَةَ أَوْ لَمْ يَنْوِ، إِذَا بَلَغَ ذَلِكَ نِصَابًا. وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَوَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْجُمْلَةِ، إِلاَّ فِي حُلِيِّ النِّسَاءِ. (1) (ر: زَكَاة) .
اقْتِيَاتٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِقْتِيَاتُ لُغَةً: مَصْدَرُ اقْتَاتَ، وَاقْتَاتَ: أَكَل الْقُوتَ، وَالْقُوتُ: مَا يُؤْكَل لِيَمْسِكَ الرَّمَقَ، (2) كَالْقَمْحِ وَالأُْرْزِ. وَالأَْشْيَاءُ الْمُقْتَاتَةُ: هِيَ الَّتِي تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ قُوتًا تُغَذَّى بِهِ الأَْجْسَامُ عَلَى الدَّوَامِ، بِخِلاَفِ مَا يَكُونُ قِوَامًا لِلأَْجْسَامِ لاَ عَلَى الدَّوَامِ. (3)
وَيُسْتَعْمَل الاِقْتِيَاتُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، إِذْ عَرَّفَهُ الدُّسُوقِيُّ بِأَنَّهُ: مَا تَقُومُ الْبِنْيَةُ بِاسْتِعْمَالِهِ بِحَيْثُ لاَ تَفْسُدُ عِنْدَ الاِقْتِصَارِ عَلَيْهِ (4) .
وَالأَْغْذِيَةُ أَعَمُّ مِنَ الْقُوتِ، فَإِنَّهَا قَدْ يَتَنَاوَلُهَا الإِْنْسَانُ تَقَوُّتًا أَوْ تَأَدُّمًا أَوْ تَفَكُّهًا أَوْ تَدَاوِيًا.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ: وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
2 - يَتَكَلَّمُ الْفُقَهَاءُ عَنِ الاِقْتِيَاتِ فِي الزَّكَاةِ، وَفِي بَيْعِ
__________
(1) الاختيار 1 / 107، 110، والوجيز 1 / 79، والمغني 2 / 575، 577. والكافي 1 / 284، 286، وجواهر الإكليل 1 / 118، 138.
(2) المصباح مادة: (قوت) .
(3) النظم المستعذب 1 / 160، 161 نشر دار المعرفة.
(4) الدسوقي 3 / 47 نشر دار الفكر.(6/44)
الرِّبَوِيَّاتِ، وَفِي الاِحْتِكَارِ.
فَفِي الزَّكَاةِ لاَ يُخَالِفُ أَحَدٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ إِنْ كَانَتْ مِمَّا يُقْتَاتُ اخْتِيَارًا وَيُدَّخَرُ، أَمَّا غَيْرُ الْقُوتِ فَفِي بَعْضِ أَنْوَاعِهِ زَكَاةٌ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ، وَلاَ زَكَاةَ فِيهِ عِنْدَ الْبَعْضِ الآْخَرِ. (1)
3 - وَفِي بَيْعِ الرِّبَوِيَّاتِ لاَ يُعْتَبَرُ الاِقْتِيَاتُ عِلَّةً فِي الرِّبَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: عِلَّةُ الرِّبَا الاِقْتِيَاتُ وَالاِدِّخَارُ، إِذْ حَرَّمُوا الرِّبَا فِي كُل مَا كَانَ قُوتًا مُدَّخَرًا، وَنَفَوْهُ عَمَّا لَيْسَ بِقُوتٍ كَالْفَوَاكِهِ، وَعَمَّا هُوَ قُوتٌ لاَ يُدَّخَرُ كَاللَّحْمِ، وَفِي مَعْنَى الاِقْتِيَاتِ عِنْدَهُمْ: مَا يُصْلِحُ الْقُوتَ كَالْمِلْحِ وَالتَّوَابِل. (2)
وَفِي الاِحْتِكَارِ يَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَنْعِ احْتِكَارِ الأَْقْوَاتِ عَلَى اخْتِلاَفٍ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ الْمَنْعِ، فَأَغْلَبُهُمْ عَلَى تَحْرِيمِهِ.
وَنَظَرًا لأَِهَمِّيَّةِ الأَْقْوَاتِ لِكُل النَّاسِ قَال أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ: الاِحْتِكَارُ لاَ يَجْرِي إِلاَّ فِي الأَْقْوَاتِ. (3) وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي بَحْثِ (احْتِكَار) . .
أَقْرَاءُ
انْظُرْ: قُرْء.
__________
(1) تببين الحقائق 1 / 0 29 نشر دار المعرفة، والخرشي 2 / 168، والمغني 2 / 0 69، 1 69، والمهذب 1 / 160 نشر دار المعرفة.
(2) جواهر الإكليل 2 / 17.
(3) حاشية الشرنبلالي على درر الحكام 1 / 400 ط الأستانة، ومواهب الجليل 4 / 380 ط ليبيا، والمغني 4 / 244،243 ط الرياض، ونهاية المحتاج 3 / 456.(6/44)
إِقْرَاءٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْقْرَاءُ لُغَةً: الْحَمْل عَلَى الْقِرَاءَةِ، يُقَال: أَقْرَأَ غَيْرَهُ يُقْرِئُهُ إِقْرَاءً. وَأَقْرَأَهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ مُقْرِئٌ، وَإِذَا قَرَأَ الرَّجُل الْقُرْآنَ أَوِ الْحَدِيثَ عَلَى الشَّيْخِ يَقُول: أَقْرَأَنِي فُلاَنٌ، أَيْ حَمَلَنِي عَلَى أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْهِ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لَهُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ. (الْحَمْل عَلَى الْقِرَاءَةِ) سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ بِقَصْدِ الاِسْتِمَاعِ وَالذِّكْرِ، أَمْ كَانَ بِقَصْدِ التَّعْلِيمِ وَالْحِفْظِ. (2)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْقِرَاءَةُ وَالتِّلاَوَةُ:
2 - الْقِرَاءَةُ وَالتِّلاَوَةُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، تَقُول: فُلاَنٌ يَتْلُو كِتَابَ اللَّهِ: أَيْ يَقْرَؤُهُ وَيَتَكَلَّمُ بِهِ، قَال اللَّيْثُ: تَلاَ يَتْلُو تِلاَوَةً يَعْنِي: قَرَأَ، وَالْغَالِبُ فِي التِّلاَوَةِ أَنَّهَا تَكُونُ لِلْقُرْآنِ، وَجَعَلَهُ بَعْضُهُمْ أَعَمَّ مِنْ تِلاَوَةِ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ. (3)
__________
(1) لسان العرب مادة: (قرأ) .
(2) المهذب 1 / 201، والمغني 3 / 204 ط الرياض، ومنح الجليل 1 / 427.
(3) لسان العرب مادة (قرأ) و (تلا) .(6/45)
ب - الْمُدَارَسَةُ:
3 - الْمُدَارَسَةُ هِيَ: أَنْ يَقْرَأَ الشَّخْصُ عَلَى غَيْرِهِ، وَيَقْرَأَ غَيْرُهُ عَلَيْهِ (1) .
ج - الإِْدَارَةُ:
4 - الإِْدَارَةُ هِيَ: أَنْ يَقْرَأَ بَعْضُ الْجَمَاعَةِ قِطْعَةً، ثُمَّ يَقْرَأَ غَيْرُهُمْ مَا بَعْدَهَا، وَهَكَذَا (2) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
5 - الإِْقْرَاءُ بِقَصْدِ الذِّكْرِ وَاسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ - وَخَاصَّةً مِمَّنْ كَانَ صَوْتُهُ حَسَنًا - أَمْرٌ مُسْتَحَبٌّ. فَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَال: قَال لِي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اقْرَأْ عَلَيَّ الْقُرْآنَ، فَقُلْت: يَا رَسُول اللَّهِ أَقْرَأُ عَلَيْكَ، وَعَلَيْكَ أُنْزِل؟ قَال: إِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي، قَال: فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ سُورَةَ النِّسَاءِ حَتَّى جِئْتُ إِلَى هَذِهِ الآْيَةِ: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُل أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيدًا} قَال: حَسْبُكَ الآْنَ، فَالْتَفَتُّ إِلَيْهِ فَإِذَا عَيَّنَاهُ تَذْرِفَانِ (3) . وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ: (ر: اسْتِمَاع - قُرْآن) .
6 - وَالإِْقْرَاءُ بِقَصْدِ التَّعْلِيمِ وَالْحِفْظِ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنْسَى} (4) . فَهُوَ يُعْتَبَرُ فِي الْجُمْلَةِ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ. جَاءَ فِي مِنَحِ الْجَلِيل: مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ الْقِيَامُ بِعُلُومِ الشَّرْعِ مِمَّنْ هُوَ أَهْلٌ لَهُ، غَيْرِ مَا يَجِبُ عَيْنًا، وَهُوَ مَا يَحْتَاجُهُ الشَّخْصُ فِي
__________
(1) حاشية ترشيح المستفيدين على فتح المعين ص 165.
(2) المرجع السابق.
(3) حديث ابن مسعود: أخرجه البخاري (9 / 98 الفتح ط السلفية) ، ومسلم (1 / 551 ط الحلبي) .
(4) سورة الأعلى / 6.(6/45)
نَفْسِهِ، ثُمَّ قَال: وَالْمُرَادُ بِالْقِيَامِ بِهَا حِفْظُهَا وَإِقْرَاؤُهَا وَقِرَاءَتُهَا وَتَحْقِيقُهَا. (1)
وَيَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ أَحْكَامٌ مُخْتَلِفَةٌ كَأَخْذِ الأُْجْرَةِ عَلَى ذَلِكَ. وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي - (تَعْلِيم - إِجَارَة - اعْتِكَاف) .
إِقْرَارٌ
التَّعْرِيفُ
1 - مِنْ مَعَانِي الإِْقْرَارِ فِي اللُّغَةِ: الاِعْتِرَافُ. يُقَال: أَقَرَّ بِالْحَقِّ إِذَا اعْتَرَفَ بِهِ. وَأَقَرَّ الشَّيْءَ أَوِ الشَّخْصَ فِي الْمَكَانِ: أَثْبَتَهُ وَجَعَلَهُ يَسْتَقِرُّ فِيهِ. (2)
وَفِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ، الإِْقْرَارُ: هُوَ الإِْخْبَارُ عَنْ ثُبُوتِ حَقٍّ لِلْغَيْرِ عَلَى الْمُخْبِرِ، وَهَذَا تَعْرِيفُ الْجُمْهُورِ (3) .
وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ إِنْشَاءٌ، وَذَهَبَ آخَرُونَ مِنْهُمْ إِلَى أَنَّهُ إِخْبَارٌ مِنْ وَجْهٍ، وَإِنْشَاءٌ مِنْ وَجْهٍ. (4)
__________
(1) منح الجليل 1 / 709.
(2) المصباح، والقاموس المحيط، واللسان.
(3) الفتاوى الهندية 4 / 156، وتبيين الحقائق 5 / 2، ومواهب الجليل 5 / 216، والشرح الصغير 3 / 525، والبناني على شرح الزرقاني 6 / 91، ونهاية المحتاج 5 / 64 - 65، وحاشية قليوبي 3 / 2، وكشاف القناع 6 / 452.
(4) الدر المختار مع حاشية ابن عابدين 4 / 448، 449، وحاشية الطحطاوي 3 / 327.(6/46)
وَالإِْقْرَارُ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ وَالأُْصُولِيِّينَ هُوَ: عَدَمُ الإِْنْكَارِ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ صَدَرَ أَمَامَهُ. وَتُنْظَرُ أَحْكَامُهُ فِي مُصْطَلَحِ (تَقْرِير) ، وَالْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الاِعْتِرَافُ:
2 - الاِعْتِرَافُ لُغَةً: مُرَادِفٌ لِلإِْقْرَارِ. يُقَال: اعْتَرَفَ بِالشَّيْءِ: إِذَا أَقَرَّ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ. وَهُوَ كَذَلِكَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ.
يَقُول قَاضِي زَادَهْ: رُوِيَ فِي السُّنَّةِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَمَ مَاعِزًا بِإِقْرَارِهِ بِالزِّنَا، وَالْغَامِدِيَّةَ بِاعْتِرَافِهَا، وَقَال فِي قِصَّةِ الْعَسِيفِ: وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ إِلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا (1) . فَأَثْبَتَ الْحَدَّ بِالاِعْتِرَافِ. فَالاِعْتِرَافُ إِقْرَارٌ، وَقَال الْقَلْيُوبِيُّ: إِنَّهُ تَفْسِيرٌ بِالْمُرَادِفِ. (2)
ب - الإِْنْكَارُ:
3 - الإِْنْكَارُ: ضِدُّ الإِْقْرَارِ. يُقَال فِي اللُّغَةِ: أَنْكَرْتُ حَقَّهُ: إِذَا جَحَدْتُهُ. (3)
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (ر: مُصْطَلَحَ: إِنْكَار) .
__________
(1) حديث: " رجم ماعز. . . " أخرجه البخاري (الفتح 12 / 135 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1320 ط عيسى الحلبي) ، وحديث رجم الغامدية أخرجه مسلم (3 / 1322 ط عيسى الحلبي) . وحديث: " اغديا يا أنيس. . . " أخرجه البخاري (الفتح 12 / 137 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1325 - ط الحلبي) .
(2) نتائج الأفكار " تكملة الفتح " 6 / 281، وحاشية قليوبي 3 / 2، وروض الطالب 2 / 287، والمغني 5 / 149.
(3) المصباح المنير.(6/46)
وَالْمُنْكِرُ فِي الاِصْطِلاَحِ: مَنْ يَتَمَسَّكُ بِبَقَاءِ الأَْصْل (1) .
ج - الدَّعْوَى:
4 - الدَّعْوَى فِي الاِصْطِلاَحِ: مُبَايِنَةٌ لِلإِْقْرَارِ، فَهِيَ قَوْلٌ مَقْبُولٌ عِنْدَ الْقَاضِي يُقْصَدُ بِهِ طَلَبُ حَقٍّ قِبَل الْغَيْرِ، أَوْ دَفْعُ الْخَصْمِ عَنْ حَقِّ نَفْسِهِ (2) .
د - الشَّهَادَةُ:
5 - الشَّهَادَةُ هِيَ: الإِْخْبَارُ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ لإِِثْبَاتِ حَقٍّ لِلْغَيْرِ عَلَى الْغَيْرِ (3) .
فَيَجْمَعُ كُلًّا مِنَ الإِْقْرَارِ وَالدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ أَنَّهَا إِخْبَارَاتٌ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا أَنَّ الإِْخْبَارَ إِنْ كَانَ عَنْ حَقٍّ سَابِقٍ عَلَى الْمُخْبِرِ وَيَقْتَصِرُ حُكْمُهُ عَلَيْهِ فَإِقْرَارٌ، وَإِنْ لَمْ يَقْتَصِرْ: فَإِمَّا أَلاَّ يَكُونَ لِلْمُخْبِرِ فِيهِ نَفْعٌ، وَإِنَّمَا هُوَ إِخْبَارٌ عَنْ حَقٍّ لِغَيْرِهِ عَلَى غَيْرِهِ فَهُوَ الشَّهَادَةُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِلْمُخْبِرِ نَفْعٌ فِيهِ، لأَِنَّهُ إِخْبَارٌ بِحَقٍّ لَهُ، فَهُوَ الدَّعْوَى. (4)
كَمَا تَفْتَرِقُ مِنْ نَاحِيَةِ أَنَّ الإِْقْرَارَ يَصِحُّ بِالْمُبْهَمِ وَيَلْزَمُ تَعْيِينُهُ.
أَمَّا الدَّعْوَى بِالْمُبْهَمِ فَإِنْ كَانَتْ بِمَا يَصِحُّ وُقُوعُ الْعَقْدِ عَلَيْهِ مُبْهَمًا كَالْوَصِيَّةِ فَإِنَّهَا تَصِحُّ.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 144.
(2) الدر المختار 4 / 419.
(3) الدر بحاشية الطحطاوي 3 / 227، وحاشية قليوبي 4 / 318.
(4) الدر المختار بحاشية ابن عابدين 4 / 448، وتبيين الحقائق 5 / 2، ومواهب الجليل 5 / 216، والشرح الصغير 3 / 525، والشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي عليه 3 / 397، وبلغة السالك 2 / 190، ونهاية المحتاج 5 / 65، وحاشية قليوبي 3 / 2.(6/47)
وَأَمَّا الدَّعْوَى عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْمُبْهَمِ فَلاَ تَصِحُّ، وَلاَ تُسْمَعُ.
وَأَمَّا الشَّهَادَةُ بِالْمُبْهَمِ فَإِنْ كَانَ الْمَشْهُودُ بِهِ يَصِحُّ مُبْهَمًا صَحَّتِ الشَّهَادَةُ بِهِ كَالْعِتْقِ وَالطَّلاَقِ، وَإِلاَّ لَمْ تَصِحَّ، لاَ سِيَّمَا الشَّهَادَةِ الَّتِي لاَ تَصِحُّ بِدُونِ دَعْوَى (1) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
6 - الأَْصْل فِي الإِْقْرَارِ بِحُقُوقِ الْعِبَادِ الْوُجُوبُ، وَمِنْ ذَلِكَ: الإِْقْرَارُ بِالنَّسَبِ الثَّابِتِ لِئَلاَّ تَضِيعَ الأَْنْسَابُ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال حِينَ نَزَلَتْ آيَةُ الْمُلاَعَنَةِ: أَيُّمَا رَجُلٍ جَحَدَ وَلَدَهُ وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ احْتَجَبَ اللَّهُ عَنْهُ وَفَضَحَهُ اللَّهُ عَلَى رُءُوسِ الأَْوَّلِينَ وَالآْخِرِينَ (2)
وَكَذَلِكَ الإِْقْرَارُ بِالْحَقِّ الَّذِي عَلَيْهِ لِلْغَيْرِ إِذَا كَانَ مُتَعَيِّنًا لإِِثْبَاتِهِ، لأَِنَّ مَا لاَ يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلاَّ بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ.
دَلِيل مَشْرُوعِيَّةِ الإِْقْرَارِ:
7 - ثَبَتَتْ حُجِّيَّةُ الإِْقْرَارِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ وَالْمَعْقُول.
أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلْيُمْلِل الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} (3) أَمَرَهُ بِالإِْمْلاَل، فَلَوْ لَمْ يَقْبَل إِقْرَارَهُ لَمَّا كَانَ لإِِمْلاَلِهِ مَعْنًى.
__________
(1) القواعد لابن رجب ص 234.
(2) حديث: " أيما رجل جحد ولده. . . . " أخرجه أبو داود (2 / 695 - ط عزت عبيد دعاس) وأعله ابن حجر في التلخيص (3 / 226 - ط دار المحاسن) .
(3) سورة البقرة / 282.(6/47)
وقَوْله تَعَالَى: {بَل الإِْنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} (1) أَيْ شَاهِدٌ كَمَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.
وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَمَا رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَجَمَ مَاعِزًا وَالْغَامِدِيَّةَ بِإِقْرَارِهِمَا، فَإِذَا وَجَبَ الْحَدُّ بِإِقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ فَالْمَال أَوْلَى أَنْ يَجِبَ.
وَأَمَّا الإِْجْمَاعُ: فَلأَِنَّ الأُْمَّةَ أَجْمَعَتْ عَلَى أَنَّ الإِْقْرَارَ حُجَّةٌ قَاصِرَةٌ عَلَى الْمُقِرِّ، حَتَّى أَوْجَبُوا عَلَيْهِ الْحُدُودَ وَالْقِصَاصَ بِإِقْرَارِهِ، وَالْمَال أَوْلَى.
وَأَمَّا الْمَعْقُول: فَلأَِنَّ الْعَاقِل لاَ يُقِرُّ عَلَى نَفْسِهِ كَاذِبًا بِمَا فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ، فَتَرَجَّحَتْ جِهَةُ الصِّدْقِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، لِعَدَمِ التُّهْمَةِ، وَكَمَال الْوِلاَيَةِ. (2)
أَثَرُ الإِْقْرَارِ:
8 - أَثَرُ الإِْقْرَارِ ظُهُورُ مَا أَقَرَّ بِهِ، أَيْ ثُبُوتُ الْحَقِّ فِي الْمَاضِي، لاَ إِنْشَاءُ الْحَقِّ ابْتِدَاءً، فَلَوْ أَقَرَّ لِغَيْرِهِ بِمَالٍ وَالْمُقَرُّ لَهُ يَعْلَمُ أَنَّ الْمُقِرَّ كَاذِبٌ فِي إِقْرَارِهِ، لاَ يَحِل لَهُ أَخْذُ الْمَال عَنْ كُرْهٍ مِنْهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، إِلاَّ أَنْ يُسَلِّمَهُ إِيَّاهُ بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ فَيَكُونَ تَمْلِيكًا مُبْتَدَأً عَلَى سَبِيل الْهِبَةِ.
وَقَال صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَمَنْ يَحْذُو حَذْوَهُ: حُكْمُهُ لُزُومُ مَا أَقَرَّ بِهِ عَلَى الْمُقِرِّ (3) .
__________
(1) سورة القيامة / 14.
(2) تبيين الحقائق 5 / 3 وحاشية الطحطاوي 3 / 326 والمغني 5 / 149، وكشاف القناع 6 / 453، وانظر تفسير القرطبي 3 / 385
(3) تكملة فتح القدير 6 / 280 - 282.(6/48)
حُجِّيَّةُ الإِْقْرَارِ:
9 - الإِْقْرَارُ خَبَرٌ، فَكَانَ مُحْتَمِلاً لِلصِّدْقِ وَالْكَذِبِ بِاعْتِبَارِ ظَاهِرِهِ، وَلَكِنَّهُ جُعِل حُجَّةً لِظُهُورِ رُجْحَانِ جَانِبِ الصِّدْقِ فِيهِ، إِذِ الْمُقِرُّ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِيمَا يُقِرُّ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ.
قَال ابْنُ الْقَيِّمِ: الْحُكْمُ بِالإِْقْرَارِ يَلْزَمُ قَبُولُهُ بِلاَ خِلاَفٍ. (1)
وَالأَْصْل أَنَّ الإِْقْرَارَ حُجَّةٌ بِنَفْسِهِ، وَلاَ يَحْتَاجُ لِثُبُوتِ الْحَقِّ بِهِ إِلَى الْقَضَاءِ، فَهُوَ أَقْوَى مَا يُحْكَمُ بِهِ، وَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْبَيِّنَةِ. (2) وَلِهَذَا يَبْدَأُ الْحَاكِمُ بِالسُّؤَال عَنْهُ قَبْل السُّؤَال عَنِ الشَّهَادَةِ. قَال الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: وَلِهَذَا لَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ لِلْمُدَّعِي ثُمَّ أَقَرَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حُكِمَ بِالإِْقْرَارِ وَبَطَلَتِ الشَّهَادَةُ. (3) وَلِذَا قِيل: إِنَّهُ سَيِّدُ الْحُجَجِ.
عَلَى أَنَّ حُجِّيَّتَهُ قَاصِرَةٌ عَلَى الْمُقِرِّ وَحْدَهُ لِقُصُورِ وِلاَيَةِ الْمُقِرِّ عَنْ غَيْرِهِ فَيَقْتَصِرُ عَلَيْهِ. (4) فَلاَ يَصِحُّ إِلْزَامُ أَحَدٍ بِعُقُوبَةٍ نَتِيجَةَ إِقْرَارِ آخَرَ بِأَنَّهُ شَارَكَهُ فِي جَرِيمَتِهِ. وَهَذَا مَا جَرَى عَلَيْهِ الْقَضَاءُ فِي عَهْدِ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَجُلاً جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: إِنَّهُ قَدْ زَنَى بِامْرَأَةٍ - سَمَّاهَا - فَأَرْسَل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَرْأَةِ فَدَعَاهَا فَسَأَلَهَا عَمَّا قَال، فَأَنْكَرَتْ فَحَدَّهُ وَتَرَكَهَا (5) .
__________
(1) الطرق الحكمية ص 194 وبداية المجتهد 2 / 393 ط الخانجي.
(2) الطرق الحكمية ص 196.
(3) حاشية الرملي الكبير على أسنى المطالب 2 / 288.
(4) الهداية وتكملة الفتح 1 / 282، وتبيين الحقائق 5 / 3
(5) سبل السلام 4 / 6 الطبعة الثانية سنة 1950، والهداية وتكملة الفتح 6 / 282. وحديث: " جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم: فقال: إنه قد زنا بامرأة. . . " أخرجه أبو داود (4 / 611 - ط عزت عبيد دعاس) وذكره الشوكاني في النيل (7 / 106 - ط العثمانية) وذكر أن النسائى استنكره، وذكر أن فيه من يتكلم فيه.(6/48)
غَيْرَ أَنَّ هُنَاكَ بَعْضَ حَالاَتٍ لاَ بُدَّ فِيهَا لِلْحُكْمِ بِمُقْتَضَى الإِْقْرَارِ مِنْ إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ أَيْضًا. وَهَذَا إِذَا مَا طَلَبَ تَعَدِّيَ الْحُكْمِ إِلَى الْغَيْرِ. فَلَوِ ادَّعَى شَخْصٌ عَلَى مَدِينِ الْمَيِّتِ أَنَّهُ وَصِيُّهُ فِي التَّرِكَةِ، وَصَدَّقَهُ الْمَدِينُ فِي دَعْوَى الْوِصَايَةِ وَالدَّيْنِ، فَإِنَّ الْوِصَايَةَ لاَ تَثْبُتُ بِهَذَا الإِْقْرَارِ بِالنِّسْبَةِ لِمَدِينٍ آخَرَ يُنْكِرُ الْوِصَايَةَ وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ إِلَى بَيِّنَةٍ.
وَفِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ: أَحَدُ الْوَرَثَةِ أَقَرَّ بِالدَّيْنِ الْمُدَّعَى بِهِ عَلَى مُورَثِهِ، وَجَحَدَهُ الْبَاقُونَ، يَلْزَمُهُ الدَّيْنُ كُلُّهُ إِنْ وَفَّتْ حِصَّتُهُ مِنَ الْمِيرَاثِ بِهِ، وَقِيل: لاَ يَلْزَمُهُ إِلاَّ حِصَّتُهُ مِنَ الدَّيْنِ رَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ، لأَِنَّهُ إِنَّمَا أَقَرَّ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِكُل التَّرِكَةِ.
وَهُوَ قَوْل الشَّعْبِيِّ وَالْبَصْرِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَمَالِكٍ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَاخْتَارَهُ ابْنُ عَابِدِينَ، وَلَوْ شَهِدَ هَذَا الْمُقِرُّ مَعَ آخَرَ أَنَّ الدَّيْنَ كَانَ عَلَى الْمَيِّتِ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ، وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهُ إِلاَّ مَا يَخُصُّهُ.
وَبِهَذَا عُلِمَ أَنَّهُ لاَ يَحِل الدَّيْنُ فِي نَصِيبِهِ بِمُجَرَّدِ إِقْرَارِهِ، بَل بِقَضَاءِ الْقَاضِي عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ. يَقُول ابْنُ عَابِدِينَ: وَلَوْ أَقَرَّ مَنْ عِنْدَهُ الْعَيْنُ أَنَّهُ وَكِيلٌ بِقَبْضِهَا لاَ يَكْفِي إِقْرَارُهُ، وَيُكَلَّفُ الْوَكِيل إِقَامَةَ الْبَيِّنَةِ عَلَى إِثْبَاتِ الْوَكَالَةِ حَتَّى يَكُونَ لَهُ قَبْضُ ذَلِكَ.
ثُمَّ الإِْقْرَارُ حُجَّةٌ فِي النَّسَبِ، وَيَثْبُتُ بِهِ النَّسَبُ إِلاَّ إِذَا كَذَّبَهُ الْوَاقِعُ، كَأَنْ يُقِرَّ بِنَسَبِ مَنْ لاَ يُولَدُ مِثْلُهُ لِمِثْلِهِ. (1)
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 456 - 457، والزرقاني على خليل 6 / 104، 105، ومغني المحتاج 2 / 259، وابن عابدين 4 / 465، والمغني 5 / 200.(6/49)
سَبَبُ الإِْقْرَارِ:
10 - سَبَبُ الإِْقْرَارِ كَمَا يَقُول الْكَمَال بْنُ الْهُمَامِ: إِرَادَةُ إِسْقَاطِ الْوَاجِبِ عَنْ ذِمَّتِهِ بِإِخْبَارِهِ وَإِعْلاَمِهِ، لِئَلاَّ يَبْقَى فِي تَبَعَةِ الْوَاجِبِ (1) .
رُكْنُ الإِْقْرَارِ:
11 - أَرْكَانُ الإِْقْرَارِ عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ أَرْبَعَةٌ: مُقِرٌّ، وَمُقَرٌّ لَهُ، وَمُقَرٌّ بِهِ، وَصِيغَةٌ (2) ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الرُّكْنَ عِنْدَهُمْ هُوَ مَا لاَ يَتِمُّ الشَّيْءُ إِلاَّ بِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ جُزْءًا مِنْهُ أَمْ لاَزِمًا لَهُ. وَزَادَ بَعْضُهُمْ كَمَا يَقُول الرَّمْلِيُّ: الْمُقَرُّ عِنْدَهُ مِنْ حَاكِمٍ أَوْ شَاهِدٍ، وَقَال: وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ مَحَل نَظَرٍ، إِذْ لَوْ تَوَقَّفَ تَحَقُّقُ الإِْقْرَارِ عَلَى ذَلِكَ لَزِمَ أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ خَالِيًا بِحَيْثُ لاَ يَسْمَعُهُ شَاهِدٌ، وَلَمْ يَكُنْ أَمَامَ قَاضٍ، ثُمَّ بَعْدَ مُدَّةٍ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَقَرَّ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فِي يَوْمِ كَذَا، لَمْ يُعْتَدَّ بِهَذَا الإِْقْرَارِ، لِعَدَمِ وُجُودِ هَذَا الرُّكْنِ الزَّائِدِ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ، وَلِذَا فَإِنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ (3) .
وَأَمَّا رُكْنُ الإِْقْرَارِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَهُوَ الصِّيغَةُ فَقَطْ، صَرَاحَةً كَانَتْ أَوْ دَلاَلَةً، وَذَلِكَ لأَِنَّ الرُّكْنَ عِنْدَهُمْ: مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وُجُودُ الشَّيْءِ، وَهُوَ جُزْءٌ مِنْ مَاهِيَّتِهِ.
الْمُقِرُّ وَمَا يُشْتَرَطُ فِيهِ:
الْمُقِرُّ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ الإِْخْبَارُ عَنْ ثُبُوتِ حَقٍّ لِلْغَيْرِ عَلَى نَفْسِهِ وَتُشْتَرَطُ فِيهِ أُمُورٌ:
الشَّرْطُ الأَْوَّل: الْمَعْلُومِيَّةُ.
12 - أَوَّل مَا يُشْتَرَطُ لاِعْتِبَارِ الإِْقْرَارِ وَالأَْخْذِ بِهِ أَنْ
__________
(1) فتح القدير على الهداية 4 / 280.
(2) التاج والإكليل 5 / 216، والشرح الصغير 3 / 529، وأسنى المطالب 2 / 287 - 288، ونهاية المحتاج 5 / 65.
(3) نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج 5 / 65.(6/49)
يَكُونَ الْمُقِرُّ مَعْلُومًا حَتَّى لَوْ قَال رَجُلاَنِ: لِفُلاَنٍ عَلَى وَاحِدٍ مِنَّا أَلْفُ دِرْهَمٍ لاَ يَصِحُّ، لأَِنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا لاَ يَتَمَكَّنُ الْمُقَرُّ لَهُ مِنَ الْمُطَالَبَةِ، وَكَذَلِكَ إِذَا قَال أَحَدُهُمَا: غَصَبَ وَاحِدٌ مِنَّا، أَوْ زَنَا، أَوْ سَرَقَ، أَوْ شَرِبَ، أَوْ قَذَفَ، لأَِنَّ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ غَيْرُ مَعْلُومٍ وَيُجْبَرَانِ عَلَى الْبَيَانِ.
الشَّرْطُ الثَّانِي: الْعَقْل:
13 - وَيُشْتَرَطُ فِي الْمُقِرِّ أَنْ يَكُونَ عَاقِلاً. فَلاَ يَصِحُّ إِقْرَارُ الصَّبِيِّ غَيْرِ الْمُمَيِّزِ وَالْمَجْنُونِ وَالْمَعْتُوهِ وَالنَّائِمِ وَالسَّكْرَانِ عَلَى تَفْصِيلٍ يَأْتِي بَيَانُهُ.
إِقْرَارُ الْمَعْتُوهِ:
14 - لاَ يَصِحُّ إِقْرَارُ الْمَعْتُوهِ وَلَوْ بَعْدَ الْبُلُوغِ، لأَِنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ، فَلاَ يَلْتَزِمُ بِشَيْءٍ فِيهِ ضَرَرٌ (1) إِلاَّ إِذَا كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فَيَصِحُّ إِقْرَارُهُ بِالْمَال، لِكَوْنِهِ مِنْ ضَرُورَاتِ التِّجَارَةِ: كَالدُّيُونِ، وَالْوَدَائِعِ، وَالْعَوَارِيِّ، وَالْمُضَارَبَاتِ، وَالْغُصُوبِ، فَيَصِحُّ إِقْرَارُهُ. لاِلْتِحَاقِهِ فِي حَقِّهَا بِالْبَالِغِ الْعَامِل. بِخِلاَفِ مَا لَيْسَ مِنْ بَابِ التِّجَارَةِ: كَالْمَهْرِ، وَالْجِنَايَةِ، وَالْكَفَالَةِ، حَيْثُ لاَ يَصِحُّ إِقْرَارُهُ بِهَا لأَِنَّهَا لاَ تَدْخُل تَحْتَ الإِْذْنِ (2) .
إِقْرَارُ النَّائِمِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ:
15 - النَّائِمُ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ إِقْرَارُهُمَا كَإِقْرَارِ الْمَجْنُونِ،
__________
(1) التلويح 3 / 166، وشرح المنار لابن ملك ص 950.
(2) تبيين الحقائق 5 / 3، والهداية ونتائج الأفكار 6 / 284، وحاشية ابن عابدين 4 / 449 - 450.(6/50)
لأَِنَّهُمَا حَال النَّوْمِ وَالإِْغْمَاءِ لَيْسَا مِنْ أَهْل الْمَعْرِفَةِ وَالتَّمْيِيزِ، وَهُمَا شَرْطَانِ لِصِحَّةِ الإِْقْرَارِ. (1)
إِقْرَارُ السَّكْرَانِ:
16 - السَّكْرَانُ مَنْ فَقَدَ عَقْلَهُ بِشُرْبِ مَا يُسْكِرُ، وَإِقْرَارُ السَّكْرَانِ جَائِزٌ بِالْحُقُوقِ كُلِّهَا إِلاَّ الْحُدُودَ الْخَالِصَةَ، وَالرِّدَّةُ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ. (2) وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمُزَنِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَأَبِي ثَوْرٍ إِذَا كَانَ سُكْرُهُ بِطَرِيقٍ مَحْظُورٍ، لأَِنَّهُ لاَ يُنَافِي الْخِطَابَ، إِلاَّ إِذَا أَقَرَّ بِمَا يَقْبَل الرُّجُوعَ كَالْحُدُودِ الْخَالِصَةِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، لأَِنَّ السَّكْرَانَ يَكَادُ لاَ يَثْبُتُ عَلَى شَيْءٍ فَأُقِيمَ السُّكْرُ مَقَامَهُ فِيمَا يَحْتَمِل الرُّجُوعَ فَلاَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ.
وَإِنْ سَكِرَ بِطَرِيقٍ غَيْرِ مُحَرَّمٍ، كَمَنْ شَرِبَ الْمُسْكِرَ مُكْرَهًا لاَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَكَذَا مَنْ شَرِبَ مَا لاَ يَعْلَمُ أَنَّهُ مُسْكِرٌ فَسَكِرَ بِذَلِكَ. (3)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ السَّكْرَانَ لاَ يُؤَاخَذُ بِإِقْرَارِهِ، لأَِنَّهُ وَإِنْ كَانَ مُكَلَّفًا إِلاَّ أَنَّهُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ فِي الْمَال. وَكَمَا لاَ يَلْزَمُهُ إِقْرَارُهُ - لاَ تَلْزَمُهُ الْعُقُودُ، بِخِلاَفِ جِنَايَاتِهِ فَإِنَّهَا تَلْزَمُهُ.
وَقَال جُمْهُورُ الشَّافِعِيَّةِ: إِقْرَارُ السَّكْرَانِ صَحِيحٌ، وَيُؤَاخَذُ بِهِ فِي كُل مَا أَقَرَّ بِهِ، سَوَاءٌ وَقَعَ الاِعْتِدَاءُ فِيهَا عَلَى حَقِّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَوْ عَلَى حَقِّ الْعَبْدِ، لأَِنَّ
__________
(1) المصادر السابقة.
(2) الهداية وتكملة الفتح 6 / 284.
(3) تبيين الحقائق 5 / 3 - 4، والمهذب 2 / 77، 344، وأسنى المطالب 3 / 283، والدر المختار وحاشية ابن عابدين 4 / 469، والبحر الرائق 5 / 7، والمغني 8 / 195.(6/50)
الْمُتَعَدِّيَ بِسُكْرِهِ يَجِبُ أَنْ يَتَحَمَّل نَتِيجَةَ عَمَلِهِ، تَغْلِيظًا عَلَيْهِ وَجَزَاءً لِمَا أَقْدَمَ عَلَيْهِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ سَيُذْهِبُ عَقْلَهُ. (1)
17 - أَمَّا مَنْ تَغَيَّبَ عَقْلُهُ بِسَبَبٍ يُعْذَرُ فِيهِ فَلاَ يُلْزَمُ بِإِقْرَارِهِ، سَوَاءٌ أَقَرَّ بِمَا يَجِبُ فِيهِ الْحَدُّ حَقًّا لِلَّهِ خَالِصًا أَوْ مَا فِيهِ حَقُّ الْعَبْدِ أَيْضًا.
وَكَذَا فَإِنَّهُ لاَ يَصِحُّ إِقْرَارُ السَّكْرَانِ فِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، قَال ابْنُ مُنَجَّا: إِنَّهَا الْمَذْهَبُ وَجَزَمَ بِهِ فِي الْوَجِيزِ وَغَيْرِهِ. وَجَاءَ فِي أَوَّل كِتَابِ الطَّلاَقِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ فِي أَقْوَال السَّكْرَانِ وَأَفْعَالِهِ خَمْسَ رِوَايَاتٍ أَوْ سِتَّةً، وَأَنَّ الصَّحِيحَ فِي الْمَذْهَبِ: أَنَّهُ مُؤَاخَذٌ بِعِبَارَتِهِ. (2)
(إِقْرَارُ السَّفِيهِ:
18 - السَّفِيهُ بَعْدَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ لاَ يَصِحُّ إِقْرَارُهُ بِالْمَال، لأَِنَّهُ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الضَّارَّةِ الْمَحْضَةِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ، وَإِنَّمَا قُبِل الإِْقْرَارُ مِنَ الْمَأْذُونِ لِلضَّرُورَةِ.
وَإِذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ سَفِيهًا أَوْ ذَا غَفْلَةٍ وَحُجِرَ عَلَيْهِ بِسَبَبِ ذَلِكَ أَوِ اعْتُبِرَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ فَإِنَّهُ فِي تَصَرُّفَاتِهِ الْمَالِيَّةِ الضَّارَّةِ يَأْخُذُ حُكْمَ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ، فَإِذَا تَزَوَّجَ وَأَقَرَّ بِأَنَّ الْمَهْرَ الَّذِي قَرَّرَهُ لَهَا أَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ الْمِثْل فَالزِّيَادَةُ بَاطِلَةٌ، وَهَكَذَا فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَرُدُّ كُل تَصَرُّفَاتِهِ الْمَالِيَّةِ الضَّارَّةِ. (3)
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 3 / 397، والمهذب 2 / 77، 344، وأسنى المطالب 3 / 283.
(2) الإنصاف 12 / 132، وكشاف القناع 6 / 454.
(3) البدائع 7 / 171، والهداية ونتائج الأفكار 6 / 283، وشرح المنار ص 989، والتوضيح والتلويح 3 / 318، وحاشية الدسوقي 3 / 397.(6/51)
وَعَلَى الْقَوْل بِأَنَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ لاَ بُدَّ مِنَ الْحُكْمِ بِهِ وَلاَ يَكُونُ تِلْقَائِيًّا بِسَبَبِ السَّفَهِ فَإِنَّ السَّفِيهَ الْمُهْمَل - أَيِ الَّذِي لَمْ يُحْجَرْ عَلَيْهِ - يَصِحُّ إِقْرَارُهُ.
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ إِقْرَارُهُ بِنِكَاحٍ، وَلاَ بِدَيْنٍ أَسْنَدَ وُجُوبَهُ إِلَى مَا قَبْل الْحَجْرِ، أَوْ إِلَى مَا بَعْدَهُ، وَلاَ يُقْبَل إِقْرَارُهُ بِعَيْنٍ فِي يَدِهِ فِي حَال الْحَجْرِ، وَكَذَا بِإِتْلاَفِ مَال الْغَيْرِ، أَوْ جِنَايَةٍ تُوجِبُ الْمَال فِي الأَْظْهَرِ. وَفِي قَوْلٍ عِنْدَهُمْ يُقْبَل، لأَِنَّهُ إِذَا بَاشَرَ الإِْتْلاَفَ يَضْمَنُ، فَإِذَا أَقَرَّ بِهِ قُبِل إِقْرَارُهُ، وَيَصِحُّ إِقْرَارُهُ بِالْحَدِّ وَالْقِصَاصِ لِعَدَمِ تَعَلُّقِهِمَا بِالْمَال، وَسَائِرُ الْعُقُوبَاتِ مِثْلُهُمَا لِبُعْدِ التُّهْمَةِ، وَلَوْ كَانَ الْحَدُّ سَرِقَةً قُطِعَ، وَلاَ يَلْزَمُهُ الْمَال. (1)
وَذَكَرَ الأَْدَمِيُّ الْبَغْدَادِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّ السَّفِيهَ إِنْ أَقَرَّ بِحَدٍّ أَوْ قَوَدٍ أَوْ نَسَبٍ أَوْ طَلاَقٍ لَزِمَ - وَيُتْبَعُ بِهِ فِي الْحَال - وَإِنْ أَقَرَّ بِمَالٍ أُخِذَ بِهِ بَعْدَ رَفْعِ الْحَجْرِ عَنْهُ.
وَالصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ: صِحَّةُ إِقْرَارِ السَّفِيهِ بِالْمَال سَوَاءٌ لَزِمَهُ بِاخْتِيَارِهِ أَوْ لاَ، وَيُتْبَعُ بِهِ بَعْدَ فَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُ، وَقِيل: لاَ يَصِحُّ مُطْلَقًا، وَهُوَ احْتِمَالٌ ذَكَرَهُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُقْنِعِ فِي بَابِ الْحَجْرِ، وَاخْتَارَهُ هُوَ وَالشَّارِحُ (2) .
الشَّرْطُ الثَّالِثُ الْبُلُوغُ.
19 - أَمَّا الْبُلُوغُ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الإِْقْرَارِ (3) فَيَصِحُّ إِقْرَارُ الصَّبِيِّ الْعَاقِل الْمَأْذُونِ لَهُ بِالدَّيْنِ وَالْعَيْنِ، لأَِنَّ ذَلِكَ مِنْ ضَرُورَاتِ التِّجَارَةِ، وَيَصِحُّ
__________
(1) نهاية المحتاج 4 / 358.
(2) الإنصاف 12 / 128 - 129.
(3) البدائع 5 / 222 - 223، وتبيين الحقائق 5 / 4، ونهاية المحتاج 4 / 307، ومواهب الجليل 5 / 216، والمغني 5 / 149 - 150.(6/51)
إِقْرَارُهُ فِي قَدْرِ مَا أُذِنَ لَهُ فِيهِ دُونَ مَا زَادَ، وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ الْمَذْهَبُ وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ الأَْصْحَابِ، وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَال الشَّافِعِيُّ: لاَ يَصِحُّ إِقْرَارُهُ بِحَالٍ لِعُمُومِ الْخَبَرِ: رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثَةٍ، عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ، وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ (1) وَلأَِنَّهُ لاَ تُقْبَل شَهَادَتُهُ، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِنَّهُ لاَ يَصِحُّ إِقْرَارُ الْمَأْذُونِ لَهُ إِلاَّ فِي الشَّيْءِ الْيَسِيرِ. إِلاَّ أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ إِقْرَارُ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ، لأَِنَّهُ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الضَّارَّةِ الْمَحْضَةِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ. (2) وَيُقْبَل إِقْرَارُ الصَّبِيِّ بِبُلُوغِهِ الاِحْتِلاَمَ فِي وَقْتِ إِمْكَانِهِ، إِذْ لاَ يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ ذَلِكَ إِلاَّ مِنْ جِهَتِهِ، وَكَذَا ادِّعَاءُ الصَّبِيَّةِ الْبُلُوغَ بِرُؤْيَةِ الْحَيْضِ. (3) وَلَوِ ادَّعَى الْبُلُوغَ بِالسِّنِّ قُبِل بِبَيِّنَةٍ، وَقِيل: يُصَدَّقُ فِي سِنٍّ يُبْلَغُ فِي مِثْلِهَا، وَهِيَ تِسْعُ سِنِينَ، وَقِيل: عَشْرُ سِنِينَ، وَقِيل: اثْنَتَا عَشْرَةَ سَنَةً، وَيَلْزَمُهُ بِهَذَا الْبُلُوغِ مَا أَقَرَّ بِهِ. (4)
وَأَفْتَى الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: فِيمَنْ أَسْلَمَ أَبُوهُ، فَادَّعَى أَنَّهُ بَالِغٌ، بِأَنَّهُ إِذَا كَانَ لَمْ يُقِرَّ بِالْبُلُوغِ إِلَى حِينِ الإِْسْلاَمِ فَقَدْ حُكِمَ بِإِسْلاَمِهِ قَبْل الإِْقْرَارِ بِالْبُلُوغِ. وَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَا إِذَا ادَّعَتِ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ بَعْدَ أَنِ ارْتَجَعَهَا، وَقَال: هَذَا يَجِيءُ فِي كُل مَنْ أَقَرَّ
__________
(1) حديث: " رفع القلم عن ثلاثة. . . " أخرجه أبو داود (4 / 560 ط عزت عبيد دعاس) وقواه ابن حجر كما في فيض القدير (4 / 36 ط المكتبة التجارية) .
(2) البدائع 7 / 222، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 3 / 397، ونهاية المحتاج 5 / 66، والإنصاف 12 / 128 - 129، والمغني 5 / 150.
(3) التاج والإكليل 5 / 216، ونهاية المحتاج 5 / 66.
(4) الإنصاف 12 / 131 - 132.(6/52)
بِالْبُلُوغِ بَعْدَ حَقٍّ ثَبَتَ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ، مِثْل الإِْسْلاَمِ، وَثُبُوتِ أَحْكَامِ الذِّمَّةِ تَبَعًا لأَِبِيهِ.
الشَّرْطُ الرَّابِعُ: فَهْمُ الْمُقِرِّ لِمَا يُقِرُّ بِهِ.
20 - لاَ بُدَّ لِلُزُومِ الإِْقْرَارِ وَاعْتِبَارِهِ - أَنْ تَكُونَ الصِّيغَةُ مَفْهُومَةً لِلْمُقِرِّ فَلَوْ لُقِّنَ الْعَامِّيُّ كَلِمَاتٍ عَرَبِيَّةً لاَ يَعْرِفُ مَعْنَاهَا لَمْ يُؤَاخَذْ بِهَا، لأَِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَعْرِفْ مَدْلُولَهَا يَسْتَحِيل عَلَيْهِ قَصْدُهَا، لأَِنَّ الْعَامِّيَّ - غَيْرَ الْمُخَالِطِ لِلْفُقَهَاءِ - يُقْبَل مِنْهُ دَعْوَى الْجَهْل بِمَدْلُول كَثِيرٍ مِنْ أَلْفَاظِ الْفُقَهَاءِ، بِخِلاَفِ الْمُخَالِطِ فَلاَ يُقْبَل مِنْهُ فِيمَا لاَ يَخْفَى عَلَى مِثْلِهِ مَعْنَاهُ. وَبِالأَْوْلَى لَوْ أَقَرَّ الْعَرَبِيُّ بِالْعَجَمِيَّةِ أَوِ الْعَكْسِ وَقَال: لَمْ أَدْرِ مَا قُلْتُ، صُدِّقَ بِيَمِينِهِ، لأَِنَّهُ أَدْرَى بِنَفْسِهِ، وَالظَّاهِرُ مَعَهُ (1) .
الشَّرْطُ الْخَامِسُ: الاِخْتِيَارُ.
21 - وَيُشْتَرَطُ فِي الْمُقِرِّ الاِخْتِيَارُ، مَدْعَاةً لِلصِّدْقِ، فَيُؤَاخَذُ بِهِ الْمُكَلَّفُ بِلاَ حَجْرٍ، أَيْ حَال كَوْنِهِ غَيْرَ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ. فَإِذَا أَقَرَّ الْحُرُّ الْبَالِغُ الْعَاقِل طَوَاعِيَةً بِحَقٍّ لَزِمَهُ. وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنَّهُ يَصِحُّ مِنْ مُكَلَّفٍ مُخْتَارٍ بِمَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الْتِزَامُهُ، بِشَرْطِ كَوْنِهِ بِيَدِهِ وَوِلاَيَتِهِ وَاخْتِصَاصِهِ، وَلَوْ عَلَى مُوَكِّلِهِ أَوْ مُورَثِهِ أَوْ مُوَلِّيهِ. (2) .
__________
(1) المنثور في القواعد للزركشي 2 / 13 - 14.
(2) البدائع 7 / 222، وتبيين الحقائق 5 / 3 - 4، والهداية ونتائج الأفكار 6 / 284، وحاشية ابن عابدين 4 / 449، والشرح الصغير بحاشية الصاوي 3 / 525، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي 3 / 397، ومواهب الجليل 5 / 216، ونهاية المحتاج 4 / 307 والإنصاف 12 / 125 - 126، والمغني 5 / 149 - 150.(6/52)
الشَّرْطُ السَّادِسُ: عَدَمُ التُّهْمَةِ.
22 - وَيُشْتَرَطُ فِي الْمُقِرِّ لِصِحَّةِ إِقْرَارِهِ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُتَّهَمٍ فِي إِقْرَارِهِ، لأَِنَّ التُّهْمَةَ تُخِل بِرُجْحَانِ الصِّدْقِ عَلَى جَانِبِ الْكَذِبِ فِي إِقْرَارِهِ، لأَِنَّ إِقْرَارَ الإِْنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ شَهَادَةٌ. قَال اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} (1) وَالشَّهَادَةُ عَلَى نَفْسِهِ إِقْرَارٌ. وَالشَّهَادَةُ تَرِدُ بِالتُّهْمَةِ (2) . وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ: مَا لَوْ أَقَرَّ لِمَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ صَدَاقَةٌ أَوْ مُخَالَطَةٌ. (3)
23 - وَمِمَّنْ يُتَّهَمُ فِي إِقْرَارِهِ الْمَدِينُ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ، لإِِحَاطَةِ الدَّيْنِ بِمَالِهِ الَّذِي حُجِرَ عَلَيْهِ فِيهِ، وَهُوَ مَا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْمُفْلِسِ.
بَل صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ هَذَا الْقَيْدَ - أَلاَّ يَكُونَ مُتَّهَمًا - إِنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي الْمَرِيضِ وَنَحْوِهِ وَالصَّحِيحِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ، لإِِحَاطَةِ الدَّيْنِ بِمَالِهِ الَّذِي حُجِرَ عَلَيْهِ فِيهِ. (4)
وَالصَّحِيحُ: أَنَّ الْمُفْلِسَ بِالنِّسْبَةِ لِمَا فَلَّسَ فِيهِ مُتَّهَمٌ فِي إِقْرَارِهِ، فَلاَ يُقْبَل إِقْرَارُهُ لأَِحَدٍ، حَيْثُ كَانَ الدَّيْنُ الَّذِي فَلَّسَ فِيهِ ثَابِتًا بِالْبَيِّنَةِ، لأَِنَّهُ مُتَّهَمٌ عَلَى ضَيَاعِ مَال الْغُرَمَاءِ، وَلاَ يَبْطُل الإِْقْرَارُ، بَل هُوَ لاَزِمٌ يُتْبَعُ بِهِ فِي ذِمَّتِهِ، وَيُؤَاخَذُ بِهِ الْمُقِرُّ فِيمَا يَجِدُّ لَهُ مِنْ مَالٍ فَقَطْ، وَلاَ يُحَاصُّ الْمُقَرُّ لَهُ الْغُرَمَاءَ بِالدَّيْنِ الَّذِي أَقَرَّ لَهُ بِهِ الْمُفْلِسُ. (5)
__________
(1) سورة النساء / 135.
(2) البدائع 7 / 223، وحاشية الدسوقي 3 / 397، والشرح الصغير 3 / 527، والتاج والإكليل 5 / 216، والمهذب 2 / 345، وكشاف القناع 6 / 455.
(3) الدسوقي 3 / 398.
(4) حاشية الدسوقي 3 / 387.
(5) بلغة السالك على الشرح الصغير 3 / 190، وحاشية الدسوقي 3 / 398، وانظر حاشية ابن عابدين عند الكلام عن إقرار المريض المدين 4 / 461 - 463.(6/53)
وَنَقَل الْقَاضِي عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ أَنَّ الْمُفْلِسَ إِذَا أَقَرَّ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ بِبَيِّنَةٍ، يَبْدَأُ بِالدَّيْنِ الَّذِي بِالْبَيِّنَةِ، لأَِنَّهُ أَقَرَّ بَعْدَ تَعَلُّقِ الْحَقِّ بِتَرِكَتِهِ، فَوَجَبَ أَلاَّ يُشَارِكَ الْمُقَرُّ لَهُ مَنْ ثَبَتَ دَيْنُهُ بِبَيِّنَةٍ، كَغَرِيمِ الْمُفْلِسِ الَّذِي أَقَرَّ لَهُ بَعْدَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ، وَبِهَذَا قَال النَّخَعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. (1)
وَفَصَّل الشَّافِعِيَّةُ، فَقَالُوا: لَوْ أَقَرَّ الْمُفْلِسُ بِعَيْنٍ أَوْ دَيْنٍ وَجَبَ قَبْل الْحَجْرِ، فَالأَْظْهَرُ قَبُولُهُ فِي حَقِّ الْغُرَمَاءِ لاِنْتِفَاءِ التُّهْمَةِ الظَّاهِرَةِ، وَقِيل: لاَ يُقْبَل إِقْرَارُهُ فِي حَقِّ الْغُرَمَاءِ، لِئَلاَّ يَضُرَّهُمْ بِالْمُزَاحَمَةِ، وَلأَِنَّهُ رُبَّمَا وَاطَأَ الْمُقَرَّ لَهُ.
وَإِنْ أَسْنَدَ وُجُوبَهُ إِلَى مَا بَعْدَ الْحَجْرِ لَمْ يُقْبَل فِي حَقِّهِمْ، بَل يُطَالَبُ بَعْدَ فَكِّ الْحَجْرِ. وَلَوْ لَمْ يُسْنِدْ وُجُوبَهُ إِلَى مَا قَبْل الْحَجْرِ وَلاَ لِمَا بَعْدَهُ، فَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ - عَلَى مَا قَالَهُ الرَّافِعِيُّ - تَنْزِيلُهُ عَلَى الأَْقَل، وَهُوَ جَعْلُهُ كَالْمُسْنَدِ إِلَى مَا بَعْدَ الْحَجْرِ. (2)
إِقْرَارُ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ:
24 - وَمِمَّنْ يُتَّهَمُ فِي إِقْرَارِهِ: الْمَرِيضُ مَرَضَ مَوْتٍ فِي بَعْضِ الْحَالاَتِ عَلَى مَا سَنُبَيِّنُهُ فِي مُصْطَلَحِ (مَرَضِ الْمَوْتِ) وَإِنْ كَانَ الأَْصْل أَنَّ الْمَرَضَ لَيْسَ بِمَانِعٍ مِنْ صِحَّةِ الإِْقْرَارِ فِي الْجُمْلَةِ. (3)
إِذِ الصِّحَّةُ لَيْسَتْ شَرْطًا فِي الْمُقِرِّ لِصِحَّةِ إِقْرَارِهِ، لأَِنَّ صِحَّةَ إِقْرَارِ الصَّحِيحِ بِرُجْحَانِ جَانِبِ الصِّدْقِ، وَحَال الْمَرِيضِ أَدَل عَلَى الصِّدْقِ، فَكَانَ إِقْرَارُهُ أَوْلَى
__________
(1) المغني 5 / 213 ط الرياض.
(2) نهاية المحتاج 4 / 307، والمهذب 2 / 345.
(3) البدائع 7 / 223.(6/53)
بِالْقَبُول. (1) غَيْرَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ نَصُّوا عَلَى أَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِشَيْءٍ فِي صِحَّتِهِ: بِشَيْءٍ مِنَ الْمَال، أَوِ الدَّيْنِ، أَوِ الْبَرَاءَاتِ، أَوْ قَبْضِ أَثْمَانِ الْمَبِيعَاتِ، فَإِقْرَارُهُ عَلَيْهِ جَائِزٌ، لاَ تَلْحَقُهُ فِيهِ تُهْمَةٌ، وَلاَ يُظَنُّ فِيهِ تَوْلِيجٌ، وَالأَْجْنَبِيُّ وَالْوَارِثُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَكَذَا الْقَرِيبُ وَالْبَعِيدُ وَالْعَدُوُّ وَالصَّدِيقُ. (2)
وَيَقُول الْحَطَّابُ: مَنْ أَقَرَّ بِشَيْءٍ فِي صِحَّتِهِ لِبَعْضِ وَرَثَتِهِ، قُدِّمَ الْمُقَرُّ لَهُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُقِرِّ، وَيُقِيمُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الإِْقْرَارِ. قَال ابْنُ رُشْدٍ: هَذَا هُوَ الْمَعْلُومُ مِنْ قَوْل ابْنِ الْقَاسِمِ وَرِوَايَتِهِ عَنْ مَالِكٍ، الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ. وَوَقَعَ فِي الْمَبْسُوطِ لاِبْنِ كِنَانَةَ وَالْمَخْزُومِيِّ وَابْنِ أَبِي حَازِمٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ أَنَّهُ لاَ شَيْءَ لَهُ، وَإِنْ أَقَرَّ لَهُ فِي صِحَّتِهِ إِذَا لَمْ يُقِمْ عَلَيْهِ بِذَلِكَ بَيِّنَةً حَتَّى هَلَكَ إِلاَّ أَنْ يُعْرَفَ سَبَبُ ذَلِكَ، فَإِنْ عُرِفَ ذَلِكَ فَبِهَا وَإِلاَّ فَإِذَا لَمْ يُعْرَفْ لَهُ سَبَبٌ فَلاَ شَيْءَ لَهُ، لأَِنَّ الرَّجُل يُتَّهَمُ أَنْ يُقِرَّ بِدَيْنٍ فِي صِحَّتِهِ لِمَنْ يَثِقُ بِهِ مِنْ وَرَثَتِهِ عَلَى أَلاَّ يَقُومَ بِهِ حَتَّى يَمُوتَ. وَقِيل: إِنَّهُ نَافِذٌ وَيُحَاصُّ بِهِ الْغُرَمَاءَ فِي الْفَلَسِ، وَهُوَ قَوْل ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَالْعُتْبِيَّةِ، وَقَال ابْنُ رُشْدٍ: لاَ يُحَاصُّ بِهِ عَلَى قَوْل ابْنِ الْقَاسِمِ إِنْ ثَبَتَ مَيْلُهُ إِلَيْهِ إِلاَّ بِالْيَمِينِ، وَاخْتَارَ ابْنُ رُشْدٍ إِبْطَال الإِْقْرَارِ بِالدَّيْنِ مُرَاعَاةً لِقَوْل الْمَدَنِيِّينَ. (3)
وَعَلَى هَذَا فَإِقْرَارُ الْمَرِيضِ مَرَضَ مَوْتٍ بِالْحَدِّ وَالْقِصَاصُ مَقْبُولٌ اتِّفَاقًا، وَكَذَا إِقْرَارُهُ بِدَيْنٍ لأَِجْنَبِيٍّ فَإِنَّهُ يَنْفُذُ مِنْ كُل مَالِهِ مَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دُيُونٌ أَقَرَّ بِهَا فِي حَال صِحَّتِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ،
__________
(1) البدائع 7 / 223، وحاشية الدسوقي 3 / 398.
(2) شرح الزرقاني 6 / 94.
(3) مواهب الجليل 5 / 221 - 222.(6/54)
وَأَصَحُّ الرِّوَايَاتِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَهُمْ، وَجَزَمَ بِهِ فِي الْوَجِيزِ، لأَِنَّهُ لَمْ يَتَضَمَّنْ إِبْطَال حَقِّ الْغَيْرِ وَكَانَ الْمُقَرُّ لَهُ أَوْلَى مِنَ الْوَرَثَةِ، لِقَوْل عُمَرَ: إِذَا أَقَرَّ الْمَرِيضُ بِدَيْنٍ جَازَ ذَلِكَ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ تَرِكَتِهِ، وَلأَِنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ مِنَ الْحَوَائِجِ الأَْصْلِيَّةِ، وَحَقُّ الْوَرَثَةِ يَتَعَلَّقُ بِالتَّرِكَةِ بِشَرْطِ الْفَرَاغِ. وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ لاَ يُقْبَل، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عِنْدَهُمْ لاَ يَصِحُّ بِزِيَادَةٍ عَلَى الثُّلُثِ. (1)
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: أَجْمَعَ كُل مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ إِقْرَارَ الْمَرِيضِ فِي مَرَضِهِ لِغَيْرِ وَارِثٍ جَائِزٌ، وَحَكَى أَصْحَابُنَا رِوَايَةً أُخْرَى أَنَّهُ لاَ يُقْبَل، لأَِنَّهُ إِقْرَارٌ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ أَشْبَهَ الإِْقْرَارَ لِوَارِثٍ. وَقَال أَبُو الْخَطَّابِ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: إِنَّهُ لاَ يُقْبَل إِقْرَارُهُ بِزِيَادَةٍ عَلَى الثُّلُثِ، لأَِنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ عَطِيَّةِ ذَلِكَ الأَْجْنَبِيِّ، كَمَا هُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ عَطِيَّةِ الْوَارِثِ، فَلاَ يَصِحُّ إِقْرَارُهُ بِمَا لاَ يُمْلَكُ عَطِيَّتُهُ بِخِلاَفِ الثُّلُثِ فَمَا دُونَ. (2) وَالْمَقْصُودُ بِالأَْجْنَبِيِّ هُنَا أَنْ يَكُونَ غَيْرَ وَارِثٍ فِي الْمُقِرِّ فَيَشْمَل الْقَرِيبَ غَيْرَ الْوَارِثِ. وَيُصَرِّحُ الْمَالِكِيَّةُ بِذَلِكَ فَيَقُولُونَ: إِنْ أَقَرَّ لِقَرِيبٍ غَيْرِ وَارِثٍ كَالْخَال أَوْ لِصِدِّيقٍ مُلاَطِفٍ أَوْ مَجْهُولٍ حَالُهُ - لاَ يُدْرَى هَل هُوَ قَرِيبٌ أَمْ لاَ - صَحَّ الإِْقْرَارُ إِنْ كَانَ لِذَلِكَ الْمُقِرِّ وَلَدٌ وَإِلاَّ فَلاَ، وَقِيل: يَصِحُّ.
وَأَمَّا لَوْ أَقَرَّ لأَِجْنَبِيٍّ غَيْرِ صَدِيقٍ كَانَ الإِْقْرَارُ لاَزِمًا
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 461 - 462، والبدائع 7 / 224، وفتح القدير 7 / 7، وحاشية الدسوقي 3 / 398 - 399، وشرح الزرقاني 6 / 92 - 94، وبلغة السالك 2 / 190، ونهاية المحتاج 5 / 69، والمهذب 2 / 345، والمغني 5 / 213، والإنصاف 12 / 134.
(2) المغني 5 / 214.(6/54)
كَانَ لَهُ وَلَدٌ أَمْ لاَ. (1) وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لِلْوَارِثِ تَحْلِيفُ الْمُقَرِّ لَهُ عَلَى الاِسْتِحْقَاقِ. (2)
وَأَمَّا إِقْرَارُ الْمَرِيضِ لِوَارِثٍ فَهُوَ بَاطِلٌ إِلاَّ أَنْ يُصَدِّقَهُ الْوَرَثَةُ أَوْ يَثْبُتَ بِبَيِّنَةٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ. وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ:
إِنْ كَانَ مُتَّهَمًا فِي إِقْرَارِهِ كَأَنْ يُقِرَّ لِوَارِثٍ قَرِيبٍ مَعَ وُجُودِ الأَْبْعَدِ أَوِ الْمُسَاوِي، (3) كَمَنْ لَهُ بِنْتٌ وَابْنُ عَمٍّ فَأَقَرَّ لاِبْنَتِهِ لَمْ يُقْبَل وَإِنْ أَقَرَّ لاِبْنِ عَمِّهِ قُبِل، لأَِنَّهُ لاَ يُتَّهَمُ فِي أَنَّهُ يُزْرِي ابْنَتَهُ وَيُوَصِّل الْمَال إِلَى ابْنِ عَمِّهِ. وَعِلَّةُ مَنْعِ الإِْقْرَارِ التُّهْمَةُ، فَاخْتَصَّ الْمَنْعُ بِمَوْضِعِهَا. (4)
وَأَطَال الْمَالِكِيَّةُ فِي تَصْوِيرِ ذَلِكَ وَالتَّفْرِيعِ عَلَيْهِ.
وَقَالُوا: مَنْ مَرِضَ بَعْدَ الإِْشْهَادِ فِي صِحَّتِهِ لِبَعْضِ وَلَدِهِ فَلاَ كَلاَمَ لِبَقِيَّةِ أَوْلاَدِهِ إِنْ كَتَبَ الْمُوَثِّقُ أَنَّ الصَّحِيحَ قَبَضَ مِنْ وَلَدِهِ ثَمَنَ مَا بَاعَهُ لَهُ، فَإِنْ لَمْ يَكْتُبْ فَقِيل: يَحْلِفُ مُطْلَقًا. وَقِيل: يَحْلِفُ إِنِ اتُّهِمَ الأَْبُ بِالْمَيْل إِلَيْهِ.
قَال الْمَوَّاقُ (5) : لاَ يُقْبَل إِقْرَارُ الْمَرِيضِ لِمَنْ يُتَّهَمُ عَلَيْهِ. وَسُئِل الْمَازِرِيُّ عَمَّنْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ، ثُمَّ
__________
(1) حاشية الدسوقي 3 / 399 - 400.
(2) نهاية المحتاج 5 / 69 - 70.
(3) حاشية ابن عابدين 4 / 461 - 462، والهداية وتكملة الفتح 7 / 8، والبدائع 7 / 224، وحاشية الدسوقي 3 / 398 - 399، وشرح الزرقاني 6 / 93 - 94، وبلغة السالك 2 / 190، ونهاية المحتاج 5 / 69 - 70، والمهذب 2 / 345، والمغني 5 / 214، والإنصاف 12 / 135 - 136.
(4) حاشية الدسوقي 3 / 398، والمغني 5 / 214، وشرح الزرقاني 6 / 92، وبلغة السالك 2 / 190.
(5) التاج والإكليل 5 / 218.(6/55)
اعْتَرَفَ بِدَنَانِيرَ لِمُعَيَّنٍ: فَأَجَابَ إِنِ اعْتَرَفَ فِي صِحَّتِهِ حَلَفَ الْمُقَرُّ لَهُ يَمِينُ الْقَضَاءِ.
وَاسْتَدَل الْقَائِلُونَ بِبُطْلاَنِ الإِْقْرَارِ بِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ، وَلاَ إِقْرَارَ لَهُ بِالدَّيْنِ (1) ، وَبِالأَْثَرِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَال: " إِذَا أَقَرَّ الرَّجُل فِي مَرَضِهِ بِدَيْنٍ لِرَجُلٍ غَيْرِ وَارِثٍ فَإِنَّهُ جَائِزٌ وَإِنْ أَحَاطَ بِمَالِهِ، وَإِنْ أَقَرَّ لِوَارِثٍ فَهُوَ بَاطِلٌ إِلاَّ أَنْ يُصَدِّقَهُ الْوَرَثَةُ. وَقَوْل الْوَاحِدِ مِنْ فُقَهَاءِ الصَّحَابَةِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْقِيَاسِ. وَلَمْ يُعْرَفْ لاِبْنِ عُمَرَ فِي ذَلِكَ مُخَالِفٌ مِنَ الصَّحَابَةِ فَكَانَ إِجْمَاعًا، وَلأَِنَّهُ تَعَلَّقَ حَقُّ الْوَرَثَةِ بِمَالِهِ فِي مَرَضِهِ، وَلِهَذَا يُمْنَعُ مِنَ التَّبَرُّعِ عَلَى الْوَارِثِ أَصْلاً، فَفِي تَخْصِيصِ الْبَعْضِ بِهِ إِبْطَال حَقِّ الْبَاقِينَ. (2)
وَفِي كُتُبِ الْحَنَابِلَةِ: لَوْ أَقَرَّتِ الْمَرْأَةُ بِأَنَّهَا لاَ مَهْرَ لَهَا عَلَى زَوْجِهَا لَمْ يَصِحَّ، إِلاَّ أَنْ يُقِيمَ بَيِّنَةً أَنَّهَا أَخَذَتْهُ (3) .
__________
(1) حديث: " لا وصية لوارث ولا إقرار له بالدين " بهذا اللفظ أخرجه الدارقطني (4 / 152 - ط دار المحاسن) وفي إسناده نوح بن دراج وهو متهم بالكذب. وميزان الاعتدال للذهبي (4 / 276 ط الحلبي) . وأما الجزء الأول من الحديث " لا وصية لوارث " فقد أخرجه الترمذي (4 / 433 ط إستانبول) ، والنسائي (6 / 247) وقال الترمذي: هو حديث حسن صحيح. وقال ابن حجر في الفتح: لقد جنح الشافعي في الأم إلى أن هذا المتن متواتر، فقال. وجدنا أهل الفتيا ومن حفظنا عنهم من أهل العلم بالمغازي من قريش وغيرهم لا يختلفون في أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عام الفتح: " لا وصية لوارث " (فتح الباري 5 / 372 ط السلفية) .
(2) شرح الزرقاني 6 / 94، وحاشية الدسوقي 3 / 399 - 401.
(3) الإنصاف 12 / 137.(6/55)
إِقْرَارُ الْمَرِيضِ بِالإِْبْرَاءِ:
25 - إِذَا أَقَرَّ الْمَرِيضُ أَنَّهُ أَبْرَأَ فُلاَنًا مِنَ الدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْهِ فِي صِحَّتِهِ لاَ يَجُوزُ، لأَِنَّهُ لاَ يَمْلِكُ إِنْشَاءَ الإِْبْرَاءِ لِلْحَال، فَلاَ يَمْلِكُ الإِْقْرَارَ بِهِ، بِخِلاَفِ الإِْقْرَارِ بِاسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ، لأَِنَّهُ إِقْرَارٌ بِقَبْضِ الدَّيْنِ، وَأَنَّهُ يَمْلِكُ إِنْشَاءَ الْقَبْضِ فَيَمْلِكُ الإِْخْبَارَ عَنْهُ بِالإِْقْرَارِ. (1) وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ. وَيَقْرُبُ مِنْهُمُ الشَّافِعِيَّةُ إِذْ يَقُولُونَ: إِذَا أَبْرَأ الْمَرِيضُ مَرَضَ الْمَوْتِ أَحَدَ مَدْيُونَيْهِ، وَالتَّرِكَةُ مُسْتَغْرَقَةٌ بِالدُّيُونِ، لَمْ يَنْفُذْ إِبْرَاؤُهُ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ. (2) بَيْنَمَا يَقُول الْمَالِكِيَّةُ فِي بَابِ الإِْقْرَارِ: وَإِنْ أَبْرَأَ إِنْسَانٌ شَخْصًا مِمَّا قَبْلَهُ أَوْ أَبْرَأَهُ مِنْ كُل حَقٍّ لَهُ عَلَيْهِ، أَوْ أَبْرَأَهُ وَأَطْلَقَ بَرِئَ مُطْلَقًا مِمَّا فِي الذِّمَّةِ وَغَيْرِهَا مَعْلُومًا أَوْ مَجْهُولاً (3) . وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ بِإِطْلاَقِهَا شَامِلَةٌ لِلْمَرِيضِ وَلِلصَّحِيحِ، وَشَامِلَةٌ لِلإِْبْرَاءِ مِنْ دَيْنِ الصِّحَّةِ وَغَيْرِهِ.
الرُّكْنُ الثَّانِي: الْمُقَرُّ لَهُ، وَمَا يُشْتَرَطُ فِيهِ:
الْمُقَرُّ لَهُ مَنْ يَثْبُتُ لَهُ الْحَقُّ الْمُقَرُّ بِهِ، وَيَحِقُّ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ أَوِ الْعَفْوُ عَنْهُ (4)
وَاشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ مَا يَأْتِي:
الشَّرْطُ الأَْوَّل: أَلاَّ يَكُونَ الْمُقَرُّ لَهُ مَجْهُولاً:
26 - فَلاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُعَيَّنًا، بِحَيْثُ يُمْكِنُ أَنْ
__________
(1) البدائع 7 / 228.
(2) الموسوعة الفقهية ج1 بحث (إبراء) ص 170.
(3) الشرح الصغير 3 / 538.
(4) المهذب 2 / 345، والمغني 5 / 153.(6/56)
يُطَالِبَ بِهِ، وَلَوْ كَانَ حَمْلاً. كَأَنْ يَقُول: عَلَيَّ أَلْفٌ لِفُلاَنٍ، أَوْ عَلَيَّ أَلْفٌ لِحَمْل فُلاَنَةَ، وَسَيَأْتِي تَفْصِيل الإِْقْرَارِ لِلْحَمْل. أَوْ يَكُونُ مَجْهُولاً جَهَالَةً غَيْرَ فَاحِشَةٍ، كَأَنْ يَقُول: عَلَيَّ مَالٌ لأَِحَدِ هَؤُلاَءِ الْعَشَرَةِ، أَوْ لأَِحَدِ أَهْل الْبَلَدِ، وَكَانُوا مَحْصُورِينَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالنَّاطِفِيِّ وَخُوَاهَرْ زَادَهْ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ. (1)
الإِْقْرَارُ مَعَ جَهَالَةِ الْمُقَرِّ لَهُ:
27 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْجَهَالَةَ الْفَاحِشَةَ بِالْمُقَرِّ لَهُ لاَ يَصِحُّ مَعَهَا الإِْقْرَارُ، لأَِنَّ الْمَجْهُول لاَ يَصْلُحُ مُسْتَحِقًّا، إِذْ لاَ يُجْبَرُ الْمُقِرُّ عَلَى الْبَيَانِ، مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ الْمُسْتَحِقِّ، فَلاَ يُفِيدُ الإِْقْرَارُ شَيْئًا.
وَأَمَّا إِذَا كَانَتِ الْجَهَالَةُ غَيْرَ فَاحِشَةٍ بِأَنْ قَال: عَلَيَّ أَلْفٌ لأَِحَدِ هَذَيْنِ أَوْ لأَِحَدِ هَؤُلاَءِ الْعَشْرِ: أَوْ لأَِحَدِ أَهْل الْبَلَدِ وَكَانُوا مَحْصُورِينَ، فَهُنَاكَ اتِّجَاهَانِ:
الأَْوَّل: مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ مَا اخْتَارَهُ النَّاطِفِيُّ وَخُوَاهَرْ زَادَهْ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ. أَنَّ هَذَا الإِْقْرَارَ صَحِيحٌ، لأَِنَّهُ قَدْ يُفِيدُ وُصُول الْحَقِّ إِلَى الْمُسْتَحِقِّ بِتَحْلِيفِ الْمُقِرِّ لِكُل مَنْ حَصَرَهُمْ، أَوْ بِتَذَكُّرِهِ، لأَِنَّ الْمُقِرَّ قَدْ يَنْسَى، وَهُوَ مَا يُفْهَمُ مِنْ مُغْنِي ابْنِ قُدَامَةَ، لأَِنَّهُ مَثَّل بِالْجَهَالَةِ الْيَسِيرَةِ.
وَالثَّانِي: مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ جُمْهُورُ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ مَا اخْتَارَهُ السَّرَخْسِيُّ: مِنْ أَنَّ أَيَّ جَهَالَةٍ تُبْطِل الإِْقْرَارَ، لأَِنَّ الْمَجْهُول لاَ يَصْلُحُ مُسْتَحَقًّا، وَلاَ يُجْبَرُ الْمُقِرُّ عَلَى الْبَيَانِ، مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ الْمُدَّعِي. (2)
__________
(1) نهاية المحتاج 5 / 72، وابن عابدين 4 / 450.
(2) المغني 5 / 165 وابن عابدين 4 / 450(6/56)
الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ لِلْمُقِرِّ لَهُ أَهْلِيَّةُ اسْتِحْقَاقِ الْمُقَرِّ بِهِ حِسًّا وَشَرْعًا:
28 - فَلَوْ أَقَرَّ لِبَهِيمَةٍ أَوْ دَارٍ، بِأَنَّ لَهَا عَلَيْهِ أَلْفًا وَأَطْلَقَ لَمْ يَصِحَّ الإِْقْرَارُ، لأَِنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْل الاِسْتِحْقَاقِ.
أَمَّا لَوْ ذَكَرَ سَبَبًا يُمْكِنُ أَنْ يُنْسَبَ إِلَيْهِ، كَمَا لَوْ قَال: عَلَيَّ كَذَا لِهَذِهِ الدَّابَّةِ بِسَبَبِ الْجِنَايَةِ عَلَيْهَا، أَوْ لِهَذِهِ الدَّارِ بِسَبَبِ غَصْبِهَا أَوْ إِجَارَتِهَا، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ هَذَا الإِْقْرَارَ صَحِيحٌ، وَيَكُونُ الإِْقْرَارُ فِي الْحَقِيقَةِ لِصَاحِبِ الدَّابَّةِ أَوِ الدَّارِ وَقْتَ الإِْقْرَارِ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمِرْدَاوِيِّ، كَمَا جَزَمَ بِهِ صَاحِبُ الرِّعَايَةِ، وَابْنُ مُفْلِحٍ فِي الْفُرُوعِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ. لَكِنَّ جُمْهُورَ الْحَنَابِلَةِ عَلَى أَنَّ هَذَا الإِْقْرَارَ لاَ يَصِحُّ، لأَِنَّ هَذَا الإِْقْرَارَ وَقَعَ لِلدَّارِ وَلِلدَّابَّةِ، وَهُمَا لَيْسَتَا مِنْ أَهْل الاِسْتِحْقَاقِ. (1)
الإِْقْرَارُ لِلْحَمْل:
29 - إِنْ أَقَرَّ لِحَمْل امْرَأَةٍ عَيَّنَهَا بِدَيْنٍ أَوْ عَيَّنَ فَقَال: عَلَيَّ كَذَا، أَوْ عِنْدِي كَذَا لِهَذَا الْحَمْل وَبَيَّنَ السَّبَبَ فَقَال: بِإِرْثٍ أَوْ وَصِيَّةٍ، كَانَ الإِْقْرَارُ مُعْتَبَرًا وَلَزِمَهُ مَا أَقَرَّ بِهِ لإِِمْكَانِهِ. وَكَانَ الْخَصْمُ فِي ذَلِكَ وَلِيَّ الْحَمْل عِنْدَ الْوَضْعِ، إِلاَّ إِذَا تَمَّ الْوَضْعُ لأَِكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ - مِنْ حِينِ الاِسْتِحْقَاقِ مُطْلَقًا - الَّتِي هِيَ أَقْصَى مُدَّةِ الْحَمْل - كَمَا يَرَى فَرِيقٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ - أَوْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَأَكْثَرَ - الَّتِي هِيَ أَقَل مُدَّةِ الْحَمْل - وَهِيَ فِرَاشٌ لَمْ يُسْتَحَقَّ، لاِحْتِمَال حُدُوثِ الْحَمْل بَعْدَ الإِْقْرَارِ. وَلاَ
__________
(1) نهاية المحتاج 7 / 73، وحاشية قليوبي على المنهاج 3 / 4، والمهذب 2 / 246، والشرح الصغير 3 / 526، وحاشية الدسوقي 3 / 498، والإنصاف 12 / 145، والمغني 5 / 153 - 154، وكشاف القناع 6 / 459، والدر المختار وحاشية ابن عابدين 4 / 455.(6/57)
يَصِحُّ الإِْقْرَارُ (1) إِلاَّ لِحَمْلٍ يُتَيَقَّنُ وُجُودُهُ عِنْدَ الإِْقْرَارِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ بِمَا إِذَا وَضَعَتْهُ لأَِقَل مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، أَوْ لأَِكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى سَنَتَيْنِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَإِلَى أَرْبَعَةٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. وَيَنُصُّ الْمَالِكِيَّةُ: وَلَزِمَ الإِْقْرَارُ لِلْحَمْل، وَإِنْ كَانَ الإِْقْرَارُ أَصْلُهُ وَصِيَّةٌ فَلَهُ الْكُل، وَإِنْ كَانَ بِالإِْرْثِ مِنَ الأَْبِ - وَهُوَ ذَكَرٌ - فَكَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ أُنْثَى فَلَهَا النِّصْفُ، وَإِنْ وَلَدَتْ ذَكَرًا وَأُنْثَى فَهُوَ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ إِنْ أَسْنَدَهُ إِلَى وَصِيَّةٍ، وَأَثْلاَثًا إِنْ أَسْنَدَهُ إِلَى إِرْثٍ، إِلاَّ إِذَا كَانَتْ جِهَةُ التَّوْرِيثِ يَسْتَوِي فِيهَا الذَّكَرُ وَالأُْنْثَى كَالإِْخْوَةِ لأُِمٍّ، وَإِنْ أَسْنَدَ السَّبَبَ إِلَى جِهَةٍ لاَ تُمْكِنُ فِي حَقِّهِ كَقَوْلِهِ: بَاعَنِي شَيْئًا فَلَغْوٌ لِلْقَطْعِ بِكَذِبِهِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَوْلٌ بِغَيْرِ ذَلِكَ.
وَإِنْ أَطْلَقَ الإِْقْرَارَ وَلَمْ يُسْنِدْهُ إِلَى شَيْءٍ صَحَّ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، لإِِطْلاَقِهِمُ الْقَوْل بِصِحَّةِ الإِْقْرَارِ بِحَال حَمْل امْرَأَةٍ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَجْهٌ. (2) وَقَال أَبُو الْحَسَنِ التَّمِيمِيُّ: لاَ يَصِحُّ إِلاَّ أَنْ يُسْنِدَهُ إِلَى سَبَبٍ مِنْ إِرْثٍ أَوْ وَصِيَّةٍ، وَقِيل: لاَ يَصِحُّ مُطْلَقًا. قَال فِي النُّكَتِ: وَلاَ أَحْسِبُ هَذَا قَوْلاً فِي الْمَذْهَبِ.
وَصَحَّ فِي الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَيُحْمَل عَلَى الْمُمْكِنِ فِي حَقِّهِ، صَوْنًا لِكَلاَمِ الْمُكَلَّفِ عَنِ الإِْلْغَاءِ مَا أَمْكَنَ. وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لاَ يَصِحُّ، إِذِ الْمَال لاَ يَجِبُ إِلاَّ بِمُعَامَلَةٍ أَوْ جِنَايَةٍ، وَهُمَا مُنْتَفِيَانِ فِي حَقِّهِ، فَحُمِل الإِْطْلاَقُ عَلَى الْوَعْدِ. (3) وَقَال
__________
(1) الهداية وتكملة الفتح 6 / 304، والبدائع 7 / 223، وحاشية الدسوقي 3 / 401.
(2) كشاف القناع 6 / 464.
(3) الإنصاف 5 / 223، 12 / 156، ونهاية المحتاج 5 / 73 - 74، والمهذب 2 / 345 - 346، وتكملة الفتح على الهداية 6 / 304.(6/57)
أَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إِنْ أَجْمَل الإِْقْرَارَ لاَ يَصِحُّ، لأَِنَّ الإِْقْرَارَ الْمُبْهَمَ يَحْتَمِل الصِّحَّةَ وَالْفَسَادَ، لأَِنَّهُ إِنْ كَانَ يَصِحُّ بِالْحَمْل عَلَى الْوَصِيَّةِ وَالإِْرْثِ فَإِنَّهُ يَفْسُدُ بِالْحَمْل عَلَى الْبَيْعِ وَالْغَصْبِ وَالْقَرْضِ، كَمَا أَنَّ الْحَمْل فِي نَفْسِهِ مُحْتَمِلٌ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ، وَالشَّكُّ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ يَمْنَعُ صِحَّةَ الإِْقْرَارِ، فَمِنْ وَجْهَيْنِ أَوْلَى. وَقَال مُحَمَّدٌ: يَصِحُّ حَمْلاً لإِِقْرَارِ الْعَاقِل عَلَى الصِّحَّةِ.
وَلَوِ انْفَصَل الْحَمْل مَيِّتًا فَلاَ شَيْءَ عَلَى الْمُقِرِّ لِلْحَمْل أَوْ وَرَثَتِهِ، لِلشَّكِّ فِي حَيَاتِهِ وَقْتَ الإِْقْرَارِ. فَيَسْأَل الْقَاضِي الْمُقِرَّ حِسْبَةً عَنْ جِهَةِ إِقْرَارِهِ مِنْ إِرْثٍ أَوْ وَصِيَّةٍ لِيَصِل الْحَقُّ لِمُسْتَحِقِّهِ. وَإِنْ مَاتَ الْمُقِرُّ قَبْل الْبَيَانِ بَطَل. وَإِنْ أَلْقَتْ حَيًّا وَمَيِّتًا جُعَل الْمَال لِلْحَيِّ. (1)
الإِْقْرَارُ لِلْمَيِّتِ:
30 - لَوْ قَال: لِهَذَا الْمَيِّتِ عَلَيَّ كَذَا فَذَلِكَ إِقْرَارٌ صَحِيحٌ، وَهُوَ إِقْرَارٌ فِي الْحَقِيقَةِ لِلْوَرَثَةِ يَتَقَاسَمُونَهُ قِسْمَةَ الْمِيرَاثِ، لَكِنْ إِنْ كَانَ الْمُقَرُّ لَهُ حَمْلاً ثُمَّ سَقَطَ مَيِّتًا بَطَل الإِْقْرَارُ، إِنْ كَانَ سَبَبُ الاِسْتِحْقَاقِ مِيرَاثًا أَوْ وَصِيَّةً، وَيَرْجِعُ الْمَال إِلَى وَرَثَةِ الْمُورَثِ، أَوْ وَرَثَةِ الْمُوصِي. (2)
الإِْقْرَارُ بِالْحَمْل:
31 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ: عَلَى أَنَّ مَنْ أَقَرَّ لِرَجُلٍ بِحَمْل
__________
(1) البدائع 7 / 223، والدر المختار وحاشية ابن عابدين 4 / 455، وحاشية الدسوقي والشرح الكبير 3 / 401، ومواهب الجليل 5 / 223، والمغني 5 / 154، والإنصاف 12 / 156 - 158، وكشاف القناع 6 / 464.
(2) نهاية المحتاج 5 / 75، وتكملة الفتح 6 / 305، والبدائع 7 / 223.(6/58)
فَرَسٍ أَوْ حَمْل شَاةٍ فَإِنَّ إِقْرَارَهُ صَحِيحٌ وَلَزِمَهُ مَا أَقَرَّ بِهِ، لأَِنَّ لَهُ وَجْهًا صَحِيحًا وَهُوَ الْوَصِيَّةُ بِالْحَمْل، بِأَنْ تَكُونَ الْفَرَسُ أَوِ الشَّاةُ لِوَاحِدٍ، وَأَوْصَى بِحَمْلِهَا لِرَجُلٍ، وَمَاتَ وَالْمُقِرُّ وَارِثُهُ، وَقَدْ عَلِمَ بِوَصِيَّةِ مُورَثِهِ. (1)
الإِْقْرَارُ لِلْجِهَةِ:
32 - الأَْصْل أَنَّهُ يَصِحُّ الإِْقْرَارُ لِمَنْ كَانَ لَدَيْهِ أَهْلِيَّةٌ مَالِيَّةٌ أَوِ اسْتِحْقَاقٌ كَالْوَقْفِ وَالْمَسْجِدِ، فَيَصِحُّ الإِْقْرَارُ لَهُمَا (2) عَلَى نَفْسِهِ بِمَالٍ لَهُ، وَيُصْرَفُ فِي إِصْلاَحِهِ وَبَقَاءِ عَيْنِهِ، كَأَنْ يَقُول نَاظِرٌ عَلَى مَسْجِدٍ أَوْ وَقْفٍ: تَرَتَّبَ فِي ذِمَّتِي مَثَلاً لِلْمَسْجِدِ أَوْ لِلْوَقْفِ كَذَا. (3) فَإِنَّ الإِْقْرَارَ لِهَذَا وَمِثْلِهِ كَالطَّرِيقِ وَالْقَنْطَرَةِ وَالسِّقَايَةِ، يَصِحُّ، وَلَوْ لَمْ يَذْكُرْ سَبَبًا، كَغَلَّةِ وَقْفٍ أَوْ وَصِيَّةٍ، لأَِنَّهُ إِقْرَارٌ مِنْ مُكَلَّفٍ مُخْتَارٍ فَلَزِمَهُ، كَمَا لَوْ عَيَّنَ السَّبَبَ، وَيَكُونُ لِمَصَالِحِهَا، فَإِذَا أَسْنَدَهُ لِمُمْكِنٍ بَعْدَ الإِْقْرَارِ صَحَّ. (4) وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ ذَكَرَهُ التَّمِيمِيُّ: أَنَّ الإِْقْرَارَ لِلْمَسْجِدِ وَنَحْوِهِ مِنِ الْجِهَاتِ لاَ يَصِحُّ إِلاَّ مَعَ ذِكْرِ السَّبَبِ. (5)
الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَلاَّ يُكَذَّبَ الْمُقِرُّ فِي إِقْرَارِهِ:
33 - يَشْتَرِطُ الْفُقَهَاءُ لِصِحَّةِ الإِْقْرَارِ أَلاَّ يُكَذِّبَ الْمُقَرُّ لَهُ الْمُقِرَّ فِيمَا أَقَرَّ بِهِ، فَإِنْ كَذَّبَهُ بَطَل إِقْرَارُهُ (6) لأَِنَّ
__________
(1) الهداية والعناية وتكملة الفتح 6 / 308، والبدائع 7 / 224.
(2) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 3 / 298.
(3) الشرح الصغير 3 / 256.
(4) نهاية المحتاج 5 / 75، وكشاف القناع 6 / 459.
(5) الإنصاف 12 / 146.
(6) حاشية ابن عابدين 4 / 469، وحاشية الدسوقي 3 / 398، ونهاية المحتاج 5 / 75، وكشاف القناع 6 / 476.(6/58)
الإِْقْرَارَ مِمَّا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ إِلاَّ فِي بَعْضِ مَسَائِل: مِنْهَا الإِْقْرَارُ بِالْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ وَالنَّسَبِ وَوَلاَءِ الْعَتَاقَةِ وَالْوَقْفِ وَالطَّلاَقِ وَالْمِيرَاثِ وَالنِّكَاحِ وَإِبْرَاءِ الْكَفِيل وَإِبْرَاءِ الْمَدِينِ بَعْدَ قَوْلِهِ: أَبْرِئْنِي (1) . فَلَوْ قَال الْمُقَرُّ لَهُ لِلْمُقِرِّ: لَيْسَ لِي عَلَيْكَ شَيْءٌ، أَوْ لاَ عِلْمَ لِي، وَاسْتَمَرَّ التَّكْذِيبُ فَلاَ يُؤَاخَذُ بِإِقْرَارِهِ.
وَالتَّكْذِيبُ يُعْتَبَرُ مِنْ بَالِغٍ رَشِيدٍ. (2)
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ كَذَّبَ الْمُقَرُّ لَهُ الْمُقِرَّ وَكَانَ قَدْ أَقَرَّ لَهُ بِعَيْنٍ - تُرِكَ الْمَال الْمُقَرُّ بِهِ فِي يَدِ الْمُقِرِّ فِي الأَْصَحِّ، لأَِنَّ يَدَهُ مُشْعِرَةٌ بِالْمِلْكِ ظَاهِرًا، وَالإِْقْرَارُ بِالطَّارِئِ عَارَضَهُ التَّكْذِيبُ فَسَقَطَ، فَتَبْقَى يَدُهُ عَلَى مَا مَعَهُ يَدَ مِلْكٍ لاَ مُجَرَّدَ اسْتِحْفَاظٍ. وَيُقَابِل الأَْصَحَّ أَنَّ الْحَاكِمَ يَنْزِعُهُ مِنْهُ وَيَحْفَظُهُ إِلَى ظُهُورِ مَالِكِهِ (3) . وَإِذَا ادَّعَى الْمُقَرُّ لَهُ جِنْسًا آخَرَ بَعْدَ أَنْ كَذَّبَ الْمُقِرَّ حَلَفَ الْمُقِرُّ. (4)
أَمَّا إِذَا أَقَرَّ الْمُقِرُّ بِشَيْءٍ ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهُ كَاذِبٌ فِي إِقْرَارِهِ حَلَفَ الْمُقَرُّ لَهُ أَوْ وَارِثُهُ عَلَى الْمُفْتَى بِهِ - عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - أَنَّ الْمُقِرَّ لَمْ يَكُنْ كَاذِبًا فِي إِقْرَارِهِ. وَقِيل: لاَ يَحْلِفُ، وَفِي جَامِعِ الْفُصُولَيْنِ: أَقَرَّ فَمَاتَ فَقَال وَرَثَتُهُ: إِنَّهُ أَقَرَّ كَاذِبًا فَلَمْ يَجُزْ إِقْرَارُهُ، وَالْمُقَرُّ لَهُ عَالِمٌ بِهِ لَيْسَ لَهُمْ تَحْلِيفُهُ، إِذْ وَقْتَ الإِْقْرَارِ لَمْ يَتَعَلَّقْ حَقُّهُمْ بِمَال الْمُقِرِّ فَصَحَّ الإِْقْرَارُ، وَحَيْثُ تَعَلَّقَ حَقُّهُمْ صَارَ حَقًّا لِلْمُقَرِّ لَهُ. (5)
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 4 / 469.
(2) الشرح الصغير 3 / 526 - 527، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي 3 / 398.
(3) نهاية المحتاج 5 / 75.
(4) كشاف القناع 6 / 480.
(5) حاشية ابن عابدين 4 / 457 - 458.(6/59)
الرُّكْنُ الثَّالِثُ: الْمُقَرُّ بِهِ:
34 - الْمُقَرُّ بِهِ فِي الأَْصْل نَوْعَانِ: حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَحَقُّ الْعَبْدِ. (1) وَحَقُّ اللَّهِ تَعَالَى نَوْعَانِ: حَقٌّ خَالِصٌ لِلَّهِ، وَحَقٌّ لِلَّهِ فِيهِ حَقٌّ وَلِلْعَبْدِ أَيْضًا.
وَلِصِحَّةِ الإِْقْرَارِ بِحَقِّ اللَّهِ شُرُوطٌ هِيَ: تَعَدُّدُ الإِْقْرَارِ، وَمَجْلِسُ الْقَضَاءِ، وَالْعِبَارَةُ. حَتَّى إِنَّ الأَْخْرَسَ إِذَا كَتَبَ الإِْقْرَارَ فِيمَا هُوَ حَقُّ اللَّهِ بِيَدِهِ، أَوْ بِمَا يُعْرَفُ أَنَّهُ إِقْرَارٌ بِهَذِهِ الأَْشْيَاءِ يَجُوزُ، بِخِلاَفِ الَّذِي اعْتُقِل لِسَانُهُ، لأَِنَّ لِلأَْخْرَسِ إِشَارَةً مَعْهُودَةً فَإِذَا أَتَى بِهَا يَحْصُل الْعِلْمُ بِالْمُشَارِ إِلَيْهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِمَنِ اعْتُقِل لِسَانُهُ، وَلأَِنَّ إِقَامَةَ الإِْشَارَةِ مَقَامَ الْعِبَارَةِ أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ، وَالْخَرَسُ ضَرُورَةٌ لأَِنَّهُ أَصْلِيٌّ، وَكَذَلِكَ فَإِنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الإِْقْرَارِ بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى الصَّحْوُ حَتَّى يَصِحَّ إِقْرَارُ السَّكْرَانِ، وَفِي ذَلِكَ كُلِّهِ تَفْصِيلٌ وَخِلاَفٌ مُبَيَّنٌ فِي الْحُدُودِ، وَعِنْدَ الْكَلاَمِ عَنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى.
وَأَمَّا حَقُّ الْعَبْدِ فَهُوَ الْمَال، مِنَ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ وَالنَّسَبِ وَالْقِصَاصِ وَالطَّلاَقِ وَالْعِتَاقِ وَنَحْوِهَا، وَلاَ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الإِْقْرَارِ بِهَا مَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الإِْقْرَارِ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى. فَهِيَ تَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ، بِخِلاَفِ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَالشَّرَائِطُ الْمُخْتَصَّةُ بِحُقُوقِ الْعِبَادِ نَوْعَانِ: نَوْعٌ يَرْجِعُ إِلَى الْمُقَرِّ لَهُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا عَلَى مَا سَبَقَ، وَنَوْعٌ يَرْجِعُ إِلَى الْمُقَرِّ بِهِ، فَيُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الإِْقْرَارِ بِالْعَيْنِ وَالدَّيْنِ الْفَرَاغُ عَنْ تَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ.
فَإِنْ كَانَ مَشْغُولاً بِحَقِّ الْغَيْرِ لَمْ يَصِحَّ، لأَِنَّ حَقَّ الْغَيْرِ مَعْصُومٌ مُحْتَرَمٌ، فَلاَ يَجُوزُ إِبْطَالُهُ مِنْ غَيْرِ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 223، والمهذب 2 / 343.(6/59)
رِضَاهُ، فَلاَ بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ وَقْتِ التَّعَلُّقِ. (1)
35 - وَلَمَّا كَانَ الإِْقْرَارُ إِخْبَارًا عَنْ كَائِنٍ، وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ مَعْلُومًا وَقَدْ يَكُونُ مَجْهُولاً، فَإِنَّ جَهَالَةَ الْمُقَرِّ بِهِ لاَ تَمْنَعُ صِحَّةَ الإِْقْرَارِ بِغَيْرِ خِلاَفٍ. (2) فَلَوْ أَتْلَفَ عَلَى آخَرَ شَيْئًا لَيْسَ مِنْ ذَوَاتِ الأَْمْثَال فَوَجَبَتْ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ، أَوْ جَرَحَ آخَرَ جِرَاحَةً لَيْسَ لَهَا فِي الشَّرْعِ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ فَأَقَرَّ بِالْقِيمَةِ وَالأَْرْشِ، فَكَانَ الإِْقْرَارُ بِالْمَجْهُول إِخْبَارًا عَنِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ عَلَى مَا هُوَ بِهِ. وَيُجْبَرُ عَلَى الْبَيَانِ لأَِنَّهُ هُوَ الْمُجْمَل، فَكَانَ الْبَيَانُ عَلَيْهِ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} (3) وَيَصِحُّ بَيَانُهُ مُتَّصِلاً وَمُنْفَصِلاً، لأَِنَّهُ بَيَانٌ مَحْضٌ فَلاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْوَصْل.
36 - لاَ بُدَّ أَنْ يُبَيِّنَ شَيْئًا لَهُ قِيمَةٌ، لأَِنَّهُ أَقَرَّ بِمَا فِي ذِمَّتِهِ، وَمَا لاَ قِيمَةَ لَهُ لاَ يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ، وَإِذَا بَيَّنَ شَيْئًا لَهُ قِيمَةٌ فَإِنْ صَدَّقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ وَادَّعَى عَلَيْهِ زِيَادَةً، أَخَذَ ذَلِكَ الْقَدْرَ الْمُعَيَّنَ، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الزِّيَادَةِ، وَإِلاَّ حَلَّفَهُ عَلَيْهَا إِنْ أَرَادَ، لأَِنَّهُ مُنْكِرٌ لِلزِّيَادَةِ، وَالْقَوْل قَوْل الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ، وَإِنْ كَذَّبَهُ وَادَّعَى عَلَيْهِ مَالاً آخَرَ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ، وَإِلاَّ حَلَّفَهُ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَا عَيَّنَهُ، لأَِنَّهُ أَبْطَل إِقْرَارَهُ بِالتَّكْذِيبِ.
وَعَلَى هَذَا فَإِذَا قَال: لِفُلاَنٍ عَلَيَّ مَالٌ، يُصَدَّقُ
__________
(1) البدائع 7 / 224.
(2) البدائع 7 / 214، ورد المحتار 4 / 450، وتبيين الحقائق وحاشية الشلبي عليه 5 / 4، وتكملة الفتح والهداية 6 / 285، وحاشية الدسوقي 3 / 410، والتاج والإكليل 5 / 230 - 231، ومواهب الجليل 5 / 231، ونهاية المحتاج 5 / 286، والمهذب 2 / 344، والمغني 5 / 187، وكشاف القناع 6 / 453، 465، والإنصاف 12 / 204.
(3) سورة القيامة / 18 - 19.(6/60)
فِي الْقَلِيل وَالْكَثِيرِ؛ لأَِنَّ الْمَال اسْمُ مَا يُتَمَوَّل، وَهَذَا يَقَعُ عَلَى الْقَلِيل وَالْكَثِيرِ، وَيَصِحُّ بَيَانُهُ مُتَّصِلاً وَمُنْفَصِلاً. (1) وَبِهَذَا قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ. وَنَقَل ابْنُ قُدَامَةَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لاَ يُقْبَل تَفْسِيرُهُ بِغَيْرِ الْمَال الزَّكَوِيِّ، وَأَنَّ بَعْضَ أَصْحَابِ مَالِكٍ حَكَوْا عَنْهُ ثَلاَثَةَ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا كَغَيْرِ الْمَالِكِيَّةِ، وَالثَّانِي: لاَ يُقْبَل إِلاَّ أَوَّل نِصَابٍ مِنْ نُصُبِ الزَّكَاةِ مِنْ نَوْعِ أَمْوَالِهِمْ، وَالثَّالِثُ: مَا يُقْطَعُ فِيهِ السَّارِقُ وَيَصِحُّ مَهْرًا. (2)
وَيَقُول الزَّيْلَعِيُّ: لَمْ يُصَدَّقْ فِي أَقَل مِنْ دِرْهَمٍ؛ لأَِنَّ مَا دُونَهُ لاَ يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمَال عَادَةً وَهُوَ الْمُعْتَبَرُ.
وَلَوْ قَال: لَهُ عَلَيَّ مَالٌ عَظِيمٌ فَالْوَاجِبُ نِصَابٌ، لأَِنَّهُ عَظِيمٌ فِي الشَّرْعِ حَتَّى اعْتُبِرَ صَاحِبُهُ غَنِيًّا. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لاَ يُصَدَّقُ فِي أَقَل مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ، لأَِنَّهُ نِصَابُ السَّرِقَةِ وَالْمَهْرِ، وَهُوَ عَظِيمٌ حَيْثُ تُقْطَعُ بِهِ الْيَدُ وَيَصْلُحُ مَهْرًا. (3)
وَيُجْبِرُهُ الْقَاضِي عَلَى الْبَيَانِ، وَلاَ بُدَّ أَنْ يُبَيِّنَ مَا لَهُ قِيمَةٌ، لأَِنَّ مَا لاَ قِيمَةَ لَهُ لاَ يَجِبُ فِي الذِّمَّةِ، فَإِذَا بَيَّنَ بِمَا لاَ قِيمَةَ لَهُ اعْتُبِرَ رُجُوعًا، وَالْقَوْل قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَإِنِ ادَّعَى الْمُقَرُّ لَهُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَالْقَوْل قَوْل الْمُقِرِّ مَعَ يَمِينِهِ. (4)
وَلَوْ أَقَرَّ لَهُ بِشَيْءٍ أَوْ حَقٍّ، وَقَال: أَرَدْتُ حَقَّ
__________
(1) البدائع 7 / 214، ورد المحتار 4 / 450، وتبيين الحقائق 5 / 4 - 5، ونهاية المحتاج 5 / 86، والمغني 5 / 187، وكشاف القناع 6 / 476.
(2) المغني 5 / 188 - 189.
(3) تبيين الحقائق 5 / 5.
(4) تكملة الفتح والهداية 6 / 285.(6/60)
الإِْسْلاَمِ، لاَ يَصِحُّ إِنْ قَالَهُ مَفْصُولاً، وَيَصِحُّ إِنْ قَالَهُ مَوْصُولاً. (1)
وَيَنُصُّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ قَال: لَكَ أَحَدُ ثَوْبَيْنِ، عَيَّنَ الْمُقِرُّ. فَإِنْ عَيَّنَ لَهُ الأَْدْنَى حَلَفَ إِنِ اتَّهَمَهُ الْمُقَرُّ لَهُ، وَإِذَا لَمْ يُعَيِّنْ بِأَنْ قَال: لاَ أَدْرِي. قِيل لِلْمُقَرِّ لَهُ: عَيِّنْ أَنْتَ. فَإِنْ عَيَّنَ أَدْنَاهُمَا أَخَذَهُ بِلاَ يَمِينٍ، وَإِنْ عَيَّنَ أَجْوَدَهُمَا حَلَفَ لِلتُّهْمَةِ وَأَخَذَهُ، وَإِنْ قَال: لاَ أَدْرِي، حَلَفَا مَعًا عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ، وَاشْتَرَكَا فِيهِمَا بِالنِّصْفِ. (2)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لَوْ قَال: لَهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ حَقٌّ، أَوْ فِي هَذَا الْحَائِطِ، أَوْ فِي هَذِهِ الأَْرْضِ، ثُمَّ فَسَّرَ ذَلِكَ بِجُزْءٍ مِنْهَا قُبِل تَفْسِيرُهُ، قَلِيلاً كَانَ أَوْ كَثِيرًا، شَائِعًا كَانَ أَوْ مُعَيَّنًا.
وَيَنُصُّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ إِنِ امْتَنَعَ عَنِ التَّفْسِيرِ حُبِسَ حَتَّى يُفَسِّرَ، لأَِنَّهُ مُمْتَنِعٌ مِنْ حَقٍّ عَلَيْهِ، فَيُحْبَسُ بِهِ، كَمَا لَوْ عَيَّنَهُ وَامْتَنَعَ مِنْ أَدَائِهِ. وَقَال الْقَاضِي: يُجْعَل نَاكِلاً وَيُؤْمَرُ الْمُقَرُّ لَهُ بِالْبَيَانِ. وَقَالُوا: إِنْ مَاتَ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ أُخِذَ وَرَثَتُهُ بِمِثْل ذَلِكَ، لأَِنَّ الْحَقَّ ثَبَتَ عَلَى مُورَثِهِمْ فَيَتَعَلَّقُ بِتَرِكَتِهِ، وَقَدْ صَارَتْ إِلَى الْوَرَثَةِ، فَيَلْزَمُهُمْ مَا لَزِمَ مُورَثَهُمْ، كَمَا لَوْ كَانَ الْحَقُّ مُبَيَّنًا، وَإِنْ لَمْ يُخَلِّفِ الْمَيِّتُ تَرِكَةً فَلاَ شَيْءَ عَلَى الْوَرَثَةِ. (3)
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ فَسَّرَهُ بِمَا لاَ يُتَمَوَّل - لَكِنْ مِنْ جِنْسِهِ - كَحَبَّةِ حِنْطَةٍ، أَوْ بِمَا يَحِل اقْتِنَاؤُهُ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 450، وحاشية الدسوقي 3 / 410، ومواهب الجليل 5 / 231، والتاج والإكليل 5 / 230 - 231.
(2) التاج والإكليل 5 / 228.
(3) المغني 5 / 187، وكشاف القناع 6 / 453، 480 - 481، والإنصاف 12 / 204.(6/61)
كَكَلْبٍ مُعَلَّمٍ، قُبِل فِي الأَْصَحِّ وَيَحْرُمُ أَخْذُهُ وَيَجِبُ رَدُّهُ. وَقِيل: لاَ يُقْبَل فِيهِمَا، لأَِنَّ الأَْوَّل لاَ قِيمَةَ لَهُ فَلاَ يَصِحُّ الْتِزَامُهُ بِكَلِمَةِ " عَلَيَّ "، وَالثَّانِي: لَيْسَ بِمَالٍ، وَظَاهِرُ الإِْقْرَارِ الْمَال. (1) وَقَالُوا: لاَ يُقْبَل تَفْسِيرُهُ بِنَحْوِ عِيَادَةِ مَرِيضٍ وَرَدِّ سَلاَمٍ، إِذْ لاَ مُطَالَبَةَ بِهِمَا، وَهُمْ يَشْتَرِطُونَ أَنْ يَكُونَ الْمُقَرُّ بِهِ مِمَّا يَجُوزُ بِهِ الْمُطَالَبَةُ (2) . أَمَّا لَوْ كَانَ قَال: لَهُ عَلَيَّ حَقٌّ، فَإِنَّهُ يُقْبَل لِشُيُوعِ الْحَقِّ فِي اسْتِعْمَال كُل ذَلِكَ. (3)
وَكَذَلِكَ يُصَرِّحُ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ مَتَى فَسَّرَ إِقْرَارَهُ بِمَا يُتَمَوَّل فِي الْعَادَةِ قُبِل تَفْسِيرُهُ وَثَبَتَ، إِلاَّ أَنْ يُكَذِّبَهُ الْمُقَرُّ لَهُ، وَيَدَّعِيَ جِنْسًا آخَرَ أَوْ لاَ يَدَّعِيَ شَيْئًا، فَبَطَل إِقْرَارُهُ، وَكَذَا إِنْ فَسَّرَهُ بِمَا لَيْسَ بِمَالٍ فِي الشَّرْعِ، وَإِنْ فَسَّرَهُ بِكَلْبٍ غَيْرِ جَائِزٍ اقْتِنَاؤُهُ فَكَذَلِكَ. وَإِنْ فَسَّرَهُ بِكَلْبٍ يَجُوزُ اقْتِنَاؤُهُ، أَوْ جِلْدِ مَيْتَةٍ غَيْرِ مَدْبُوغٍ فَفِيهِ وَجْهَانِ، الأَْوَّل: يُقْبَل لأَِنَّهُ شَيْءٌ يَجِبُ رَدُّهُ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لاَ يُقْبَل، لأَِنَّ الإِْقْرَارَ إِخْبَارٌ عَمَّا يَجِبُ ضَمَانُهُ وَهَذَا لاَ يَجِبُ ضَمَانُهُ، غَيْرَ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنْ فَسَّرَهُ بِحَبَّةِ حِنْطَةٍ أَوْ شَعِيرٍ لَمْ يُقْبَل، لأَِنَّ هَذَا لاَ يُتَمَوَّل عَادَةً عَلَى انْفِرَادِهِ. وَقَالُوا أَيْضًا: إِنْ فَسَّرَهُ بِحَقِّ شُفْعَةٍ قُبِل، لأَِنَّهُ حَقٌّ وَاجِبٌ وَيَئُول إِلَى مَالٍ، وَإِنْ فَسَّرَهُ بِحَدِّ قَذْفٍ قُبِل، لأَِنَّهُ حَقٌّ يَجِبُ عَلَيْهِ - وَهُمْ فِي ذَلِكَ كَالشَّافِعِيَّةِ - غَيْرَ أَنَّهُمْ قَالُوا بِالنِّسْبَةِ لِحَدِّ الْقَذْفِ: يَحْتَمِل أَلاَّ يُقْبَل لأَِنَّهُ لاَ يَئُول إِلَى مَالٍ، وَالأَْوَّل أَصَحُّ وَإِنْ فَسَّرَهُ بِرَدِّ سَلاَمٍ أَوْ تَشْمِيتِ عَاطِسٍ وَنَحْوِهِ لَمْ يُقْبَل - خِلاَفًا لِلشَّافِعِيَّةِ - لأَِنَّهُ يَسْقُطُ بِفَوَاتِهِ فَلاَ يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ، وَقَالُوا:
__________
(1) نهاية المحتاج5 / 86، 87.
(2) نهاية المحتاج 5 / 81.
(3) نهاية المحتاج 5 / 88.(6/61)
يَحْتَمِل أَنْ يُقْبَل تَفْسِيرُهُ، فَهُمْ فِي هَذَا كَالشَّافِعِيَّةِ. (1)
37 - وَلَوْ كَانَ الْمُقَرُّ بِهِ مَعْلُومَ الأَْصْل وَمَجْهُول الْوَصْفِ، نَحْوَ أَنْ يَقُول: إِنَّهُ غَصَبَ مِنْ فُلاَنٍ ثَوْبًا مِنَ الْعُرُوضِ، فَيُصَدَّقُ فِي الْبَيَانِ مِنْ جِنْسِ ذَلِكَ سَلِيمًا كَانَ أَوْ مَعِيبًا، لأَِنَّ الْغَصْبَ يُرَدُّ عَلَى السَّلِيمِ وَالْمَعِيبِ عَادَةً، وَقَدْ بَيَّنَ الأَْصْل وَأَجَّل الْوَصْفَ، فَيُرْجَعُ فِي بَيَانِ الْوَصْفِ إِلَيْهِ فَيَصِحُّ مُنْفَصِلاً، وَمَتَى صَحَّ بَيَانُهُ يَلْزَمُهُ الرَّدُّ إِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْهُ تَلْزَمُهُ الْقِيمَةُ (2) وَإِنْ قَال: غَصَبْتُ شَيْئًا فَطَلَبَ مِنْهُ الْبَيَانَ فَفَسَّرَهُ بِمَا لَيْسَ بِمَالٍ قُبِل، لأَِنَّ اسْمَ الْغَصْبِ يَقَعُ عَلَيْهِ. قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ.
وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لاَ يُقْبَل تَفْسِيرُهُ بِغَيْرِ الْمَكِيل وَالْمَوْزُونِ مِمَّا لاَ يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ بِنَفْسِهِ. (3)
وَلَوْ أَقَرَّ بِأَنَّ مَا عِنْدَهُ لِغَيْرِهِ كَانَ رَهْنًا، فَقَال الْمُقَرُّ لَهُ: بَل وَدِيعَةٌ، فَالْقَوْل قَوْل الْمُقَرِّ لَهُ (الْمَالِكِ) لأَِنَّ الْعَيْنَ تَثْبُتُ بِالإِْقْرَارِ، وَادَّعَى الْمُقِرُّ دَيْنًا لاَ يَعْتَرِفُ لَهُ بِهِ وَالْقَوْل قَوْل الْمُنْكِرِ، وَلأَِنَّهُ أَقَرَّ بِمَالٍ لِغَيْرِهِ وَادَّعَى أَنَّ لَهُ بِهِ تَعَلُّقًا (حَقًّا فِي الاِحْتِبَاسِ) فَلَمْ يُقْبَل، كَمَا لَوِ ادَّعَاهُ بِكَلاَمٍ مُنْفَصِلٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ لَهُ بِدَارٍ وَقَال: اسْتَأْجَرْتُهَا، أَوْ بِثَوْبٍ وَادَّعَى أَنَّهُ خَاطَهُ بِأَجْرٍ يَلْزَمُ الْمُقَرَّ لَهُ. لَمْ يُقْبَل لأَِنَّهُ مُدَّعٍ عَلَى غَيْرِهِ حَقًّا فَلاَ يُقْبَل قَوْلُهُ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ.
وَإِنْ قَال: لَكَ عَلَيَّ أَلْفٌ مِنْ ثَمَنِ مَبِيعٍ لَمْ
__________
(1) المغني 5 / 187، وكشاف القناع 6 / 480 - 481، والإنصاف 12 / 205.
(2) البدائع 7 / 215.
(3) المغني 5 / 188.(6/62)
أَقْبِضْهُ، فَقَال الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: بَل لِي عَلَيْكَ أَلْفٌ وَلاَ شَيْءَ لَكَ عِنْدِي. قَال أَبُو الْخَطَّابِ: فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا. الْقَوْل قَوْل الْمُقَرِّ لَهُ، لأَِنَّهُ اعْتَرَفَ لَهُ بِالأَْلْفِ وَادَّعَى عَلَيْهِ مَبِيعًا، فَأَشْبَهَ مَا إِذَا قَال: هَذَا رَهْنٌ، فَقَال الْمَالِكُ: وَدِيعَةٌ، أَوْ لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ لَمْ أَقْبِضْهَا.
الثَّانِي: الْقَوْل قَوْل الْمُقِرِّ وَهُوَ قِيَاسُ الْمَذْهَبِ، وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيِّ وَأَبِي يُوسُفَ، لأَِنَّهُ أَقَرَّ بِحَقٍّ فِي مُقَابَلَةِ حَقٍّ لَهُ وَلاَ يَنْفَكُّ أَحَدُهُمَا عَنِ الآْخَرِ. (1)
وَيُصَرِّحُ ابْنُ قُدَامَةَ بِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الإِْقْرَارِ بِالْمَجْهُول تُقْبَل، لأَِنَّ الإِْقْرَارَ بِهِ صَحِيحٌ، وَمَا كَانَ صَحِيحًا فِي نَفْسِهِ صَحَّتِ الشَّهَادَةُ بِهِ كَالْمَعْلُومِ (2) .
38 - وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْمُقَرِّ بِهِ لِصِحَّةِ الإِْقْرَارِ أَلاَّ يَكُونَ مِلْكًا لِلْمُقِرِّ حِينَ يُقِرُّ، لأَِنَّ الإِْقْرَارَ لَيْسَ إِزَالَةً عَنِ الْمِلْكِ، وَإِنَّمَا هُوَ إِخْبَارٌ عَنْ كَوْنِهِ مِلْكًا لِلْمُقَرِّ لَهُ، فَلاَ بُدَّ مِنْ تَقْدِيمِ الْمَخْبَرِ عَنْهُ عَلَى الْخَبَرِ، فَلَوْ قَال: دَارِي أَوْ ثَوْبِي أَوْ دَيْنِي الَّذِي عَلَى زَيْدٍ لِعَمْرٍو وَلَمْ يُرِدِ الإِْقْرَارَ فَهُوَ لَغْوٌ، لأَِنَّ الإِْضَافَةَ إِلَيْهِ تَقْتَضِي الْمِلْكَ لَهُ، فَيُنَافِي إِقْرَارَهُ لِغَيْرِهِ وَيُحْمَل عَلَى الْوَعْدِ بِالْهِبَةِ. وَلَوْ قَال: هَذَا لِفُلاَنٍ وَكَانَ مِلْكِي إِلَى أَنْ أَقْرَرْتُ بِهِ، فَأَوَّل كَلاَمِهِ إِقْرَارٌ، وَآخِرُهُ لَغْوٌ، فَلْيُطْرَحْ آخِرُهُ فَقَطْ، وَيُعْمَل بِأَوَّلِهِ، لاِشْتِمَالِهِ عَلَى جُمْلَتَيْنِ مُسْتَقِلَّتَيْنِ. (3)
39 - كَمَا اشْتَرَطُوا لإِِعْمَال الإِْقْرَارِ - أَيِ التَّسْلِيمِ
__________
(1) المغني 5 / 194.
(2) المغني 5 / 193.
(3) نهاية المحتاج 5 / 81 - 82.(6/62)
لاَ لِصِحَّتِهِ، أَنْ تَكُونَ الْعَيْنُ الْمُقَرُّ بِهَا فِي يَدِ الْمُقِرِّ حِسًّا أَوْ حُكْمًا، كَالْمُعَارِ أَوِ الْمُؤَجَّرِ تَحْتَ يَدِ الْغَيْرِ، لأَِنَّهُ عِنْدَ انْتِفَاءِ يَدِهِ عَنْهُ يَكُونُ مُدَّعِيًا أَوْ شَاهِدًا، وَمَتَى حَصَل بِيَدِهِ لَزِمَهُ تَسْلِيمُهُ، لأَِنَّ هَذَا الشَّرْطَ لَيْسَ شَرْطَ صِحَّةٍ. فَلَوْ أَقَرَّ وَلَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ ثُمَّ صَارَ فِي يَدِهِ عَمِل بِمُقْتَضَى إِقْرَارِهِ، وَاسْتَثْنَوْا مِنِ اشْتِرَاطِ أَنْ يَكُونَ فِي يَدِهِ مَا لَوْ بَاعَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لَهُ أَوْ لَهُمَا، ثُمَّ ادَّعَاهُ رَجُلٌ، فَأَقَرَّ الْبَائِعُ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ لَهُ بِهِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ. (1)
أَمَّا لَوْ كَانَتِ الْعَيْنُ فِي يَدِهِ بِاعْتِبَارِهِ نَائِبًا عَنْ غَيْرِهِ كَنَاظِرِ وَقْفٍ وَوَلِيِّ مَحْجُورٍ فَلاَ يَصِحُّ إِقْرَارُهُ. (2)
وَكَذَلِكَ صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِاشْتِرَاطِ أَنْ يَكُونَ الْمُقَرُّ بِهِ بِيَدِ الْمُقِرِّ وَوِلاَيَتِهِ وَاخْتِصَاصِهِ، فَلاَ يَصِحُّ إِقْرَارُهُ بِشَيْءٍ فِي يَدِ غَيْرِهِ، أَوْ فِي وِلاَيَةِ غَيْرِهِ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ أَجْنَبِيٌّ عَلَى صَغِيرٍ، أَوْ وَقْفٍ فِي وِلاَيَةِ غَيْرِهِ أَوِ اخْتِصَاصِهِ، لَكِنَّهُمْ قَالُوا بِصِحَّةِ إِقْرَارِهِ بِمَالٍ فِي وِلاَيَتِهِ وَاخْتِصَاصِهِ، كَأَنْ يُقِرَّ وَلِيُّ الْيَتِيمِ وَنَحْوُهُ أَوْ نَاظِرُ الْوَقْفِ، لأَِنَّهُ يَمْلِكُ إِنْشَاءَ ذَلِكَ.
وَاشْتَرَطُوا أَنْ يُتَصَوَّرَ الْتِزَامُ الْمُقِرِّ بِمَا أَقَرَّ بِهِ، أَيْ أَنْ يُمْكِنَ صِدْقُهُ، فَلَوْ أَقَرَّ بِارْتِكَابِهِ جِنَايَةً مُنْذُ عِشْرِينَ سَنَةً وَعُمُرُهُ لاَ يَتَجَاوَزُ الْعِشْرِينَ، فَإِنَّ إِقْرَارَهُ لاَ يَصِحُّ. (3)
الرُّكْنُ الرَّابِعُ: الصِّيغَةُ:
40 - الصِّيغَةُ هِيَ مَا يُظْهِرُ الإِْرَادَةَ مِنْ لَفْظٍ، أَوْ
__________
(1) نهاية المحتاج 5 / 82 - 83، واللجنة ترى أنه لا حاجة للاستثناء هنا لأنه في يده حكما لبقاء ملك البائع عليه.
(2) نهاية المحتاج5 / 83.
(3) كشاف القناع 6 / 453.(6/63)
مَا يَقُومُ مَقَامَهُ مِنْ كِتَابَةٍ أَوْ إِشَارَةٍ، وَإِظْهَارُ الإِْرَادَةِ لاَ بُدَّ مِنْهُ، فَلاَ عِبْرَةَ بِالإِْرَادَةِ الْبَاطِنَةِ (1)
يَقُول السَّرَخْسِيُّ: إِنَّ مَا يَكُونُ بِالْقَلْبِ فَهُوَ نِيَّةٌ، وَالنِّيَّةُ وَحْدَهَا لاَ تَكْفِي، وَيَقُول ابْنُ الْقَيِّمِ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَضَعَ الأَْلْفَاظَ بَيْنَ عِبَادِهِ تَعْرِيفًا وَدَلاَلَةً عَلَى مَا فِي نُفُوسِهِمْ، فَإِذَا أَرَادَ أَحَدُهُمْ مِنَ الآْخَرِ شَيْئًا عَرَّفَهُ بِمُرَادِهِ وَمَا فِي نَفْسِهِ بِلَفْظِهِ، وَرَتَّبَ عَلَى تِلْكَ الإِْرَادَاتِ وَالْمَقَاصِدِ أَحْكَامَهَا بِوَاسِطَةِ الأَْلْفَاظِ، وَلَمْ يُرَتِّبْ تِلْكَ الأَْحْكَامَ عَلَى مُجَرَّدِ مَا فِي النُّفُوسِ مِنْ غَيْرِ دَلاَلَةِ فِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ، وَلاَ عَلَى مُجَرَّدِ أَلْفَاظٍ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ بِهَا لَمْ يُرِدْ مَعَانِيَهَا. (2)
وَصِيغَةُ الإِْقْرَارِ نَوْعَانِ: صَرِيحٌ وَدَلاَلَةٌ. (3) فَالصَّرِيحُ نَحْوُ أَنْ يَقُول: لِفُلاَنٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ، لأَِنَّ كَلِمَةَ (عَلَيَّ) كَلِمَةُ إِيجَابٍ لُغَةً وَشَرْعًا. قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ. .} (4) وَكَذَا لَوْ قَال لِرَجُلٍ: هَل لِي عَلَيْكَ أَلْفُ دِرْهَمٍ؟ فَقَال الرَّجُل: نَعَمْ. لأَِنَّ كَلِمَةَ نَعَمْ بِمَثَابَةِ إِعَادَةٍ لِكَلاَمِهِ، وَكَذَا لَوْ قَال: لِفُلاَنٍ فِي ذِمَّتِي أَلْفُ دِرْهَمٍ، لأَِنَّ مَا فِي الذِّمَّةِ هُوَ الدَّيْنُ، فَيَكُونُ إِقْرَارًا بِالدَّيْنِ.
هَذَا مَا مَثَّل بِهِ الْحَنَفِيَّةُ، وَلاَ تَخْرُجُ أَمْثِلَةُ غَيْرِهِمْ عَنْ ذَلِكَ، وَالْعُرْفُ فِي هَذَا هُوَ الْمَرْجِعُ.
وَالأَْمْرُ بِكِتَابَةِ الإِْقْرَارِ إِقْرَارٌ حُكْمًا، إِذِ الإِْقْرَارُ كَمَا يَكُونُ بِاللِّسَانِ يَكُونُ بِالْبَنَانِ، فَلَوْ قَال لِلْكَاتِبِ: اكْتُبْ إِقْرَارًا بِأَلْفٍ عَلَيَّ لِفُلاَنٍ، صَحَّ الإِْقْرَارُ وَاعْتُبِرَ،
__________
(1) المبسوط 13 / 46.
(2) إعلام الموقعين 3 / 105 ط دار الجيل بيروت.
(3) البدائع 7 / 207، والتاج والإكليل 5 / 224، ونهاية المحتاج 5 / 76، وكشاف القناع 6 / 456.
(4) سورة آل عمران / 97.(6/63)
كُتِبَ أَوْ لَمْ يُكْتَبْ. (1)
وَيَقُول ابْنُ عَابِدِينَ: إِنَّ الْكِتَابَةَ الْمَرْسُومَةَ الْمُعَنْوَنَةَ كَالنُّطْقِ بِالإِْقْرَارِ، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الْكِتَابَةُ بِطَلَبٍ مِنَ الدَّائِنِ أَوْ بِلاَ طَلَبِهِ. وَنَقَل عَنِ الأَْشْبَاهِ لاِبْنِ نُجَيْمٍ أَنَّهُ إِذَا كَتَبَ وَلَمْ يَقُل شَيْئًا لاَ تَحِل الشَّهَادَةُ، لأَِنَّ الْكِتَابَةَ قَدْ تَكُونُ لِلتَّجْرِبَةِ. وَلَوْ كَتَبَ أَمَامَ الشُّهُودِ وَقَال: اشْهَدُوا عَلَيَّ بِمَا فِيهِ، كَانَ إِقْرَارًا إِنْ عَلِمُوا بِمَا فِيهِ وَإِلاَّ فَلاَ. (2)
وَالإِْيمَاءُ بِالرَّأْسِ مِنَ النَّاطِقِ لَيْسَ بِإِقْرَارٍ إِلاَّ فِي النَّسَبِ وَالإِْسْلاَمِ وَالْكُفْرِ وَالإِْفْتَاءِ. (3)
وَأَمَّا الصِّيغَةُ الَّتِي تُفِيدُ الإِْقْرَارَ دَلاَلَةً فَهِيَ أَنْ يَقُول لَهُ رَجُلٌ: لِي عَلَيْكَ أَلْفٌ، فَيَقُول: قَدْ قَبَضْتُهَا، لأَِنَّ الْقَضَاءَ اسْمٌ لِتَسْلِيمِ مِثْل الْوَاجِبِ فِي الذِّمَّةِ، فَيَقْتَضِي مَا يُعَيِّنُ الْوُجُوبَ، فَكَانَ الإِْقْرَارُ بِالْقَضَاءِ إِقْرَارًا بِالْوُجُوبِ، ثُمَّ يَدَّعِي الْخُرُوجَ عَنْهُ بِالْقَضَاءِ فَلاَ يَصِحُّ إِلاَّ بِالْبَيِّنَةِ، وَكَذَا إِذَا قَال: أَجِّلْنِي بِهَا. لأَِنَّ التَّأْجِيل تَأْخِيرُ الْمُطَالَبَةِ مَعَ قِيَامِ أَصْل الدَّيْنِ فِي الذِّمَّةِ. (4)
الصِّيغَةُ مِنْ حَيْثُ الإِْطْلاَقُ وَالتَّقْيِيدُ:
الصِّيغَةُ قَدْ تَكُونُ مُطْلَقَةً كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ تَكُونُ مُقْتَرِنَةً. وَالْقَرِينَةُ فِي الأَْصْل نَوْعَانِ:
41 - أ - قَرِينَةٌ مُبَيِّنَةٌ (عَلَى الإِْطْلاَقِ) ، وَهِيَ الْمُعَيِّنَةُ لِبَعْضِ مَا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ، فَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ يَحْتَمِل الْمَعْنَيَيْنِ عَلَى السَّوَاءِ صَحَّ بَيَانُهُ مُتَّصِلاً كَانَ الْبَيَانُ أَوْ
__________
(1) رد المحتار على الدر المختار 4 / 455.
(2) رد المحتار 4 / 456.
(3) رد المحتار 4 / 452.
(4) البدائع 7 / 208.(6/64)
مُنْفَصِلاً، وَإِنْ كَانَ لأَِحَدِ الاِحْتِمَالَيْنِ رُجْحَانٌ تَسْبِقُ إِلَيْهِ الأَْفْهَامُ مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ لاَ يَصِحُّ إِنْ كَانَ الْبَيَانُ مُنْفَصِلاً، وَيَصِحُّ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُتَّصِل إِذَا لَمْ يَتَضَمَّنِ الرُّجُوعَ. (1)
وَبِصِفَةٍ عَامَّةٍ إِذَا كَانَتِ الْقَرِينَةُ مُنْفَصِلَةً عَنِ الإِْقْرَارِ بِأَنْ قَال: لِفُلاَنٍ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ وَسَكَتَ، ثُمَّ قَال: إِلاَّ دِرْهَمًا، لاَ يَصِحُّ الاِسْتِثْنَاءُ عِنْدَ كَافَّةِ الْعُلَمَاءِ وَعَامَّةِ الصَّحَابَةِ، إِلاَّ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ يَصِحُّ، لأَِنَّ الاِسْتِثْنَاءَ بَيَانٌ فَيَصِحُّ مُتَّصِلاً وَمُنْفَصِلاً.
وَوَجْهُ قَوْل الْعَامَّةِ أَنَّ صِيغَةَ الاِسْتِثْنَاءِ إِذَا انْفَصَلَتْ عَنِ الْجُمْلَةِ الْمَلْفُوظَةِ لاَ تَكُونُ كَلاَمَ اسْتِثْنَاءٍ لُغَةً، وَقَالُوا: إِنَّ الرِّوَايَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لاَ تَكَادُ تَصِحُّ. (2) وَبَيَانُ ذَلِكَ تَفْصِيلاً سَبَقَ فِي مُصْطَلَحِ (اسْتِثْنَاء) .
42 - ب - قَرِينَةٌ مُغَيِّرَةٌ (مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ) مُبَيِّنَةٌ (حَقِيقَةً) ، وَهَذِهِ يَتَغَيَّرُ بِهَا الاِسْمُ لَكِنْ يَتَبَيَّنُ بِهَا الْمُرَادُ، فَكَانَ تَغْيِيرًا صُورَةً، تَبْيِينًا مَعْنًى، وَمِنْهُ مَا يَلِي:
أ - تَعْلِيقُ الإِْقْرَارِ عَلَى الْمَشِيئَةِ:
43 - الْقَرِينَةُ الْمُغَيِّرَةُ قَدْ تَدْخُل عَلَى أَصْل الإِْقْرَارِ، وَتَكُونُ مُتَّصِلَةً بِهِ، كَتَعْلِيقِ الإِْقْرَارِ عَلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ أَوْ مَشِيئَةِ فُلاَنٍ. وَهَذَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الإِْقْرَارِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، لأَِنَّ التَّعْلِيقَ عَلَى الْمَشِيئَةِ يَجْعَل الأَْمْرَ مُحْتَمَلاً. وَالإِْقْرَارُ إِخْبَارٌ عَنْ كَائِنٍ، وَالْكَائِنُ لاَ يَحْتَمِل التَّعْلِيقَ. وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ ابْنُ الْمَوَّازِ وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِذْ قَالاَ: لَوْ عَلَّقَ الإِْقْرَارَ عَلَى
__________
(1) البدائع 7 / 214.
(2) البدائع 7 / 212.(6/64)
الْمَشِيئَةِ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، وَكَأَنَّهُ أَدْخَل مَا يُوجِبُ الشَّكَّ، وَهُوَ مُفَادُ قَوْل الشَّافِعِيَّةِ فِيمَنْ قَرَنَ إِقْرَارَهُ بِقَوْلِهِ فِيمَا أَحْسَبُ أَوْ أَظُنُّ، إِذْ قَالُوا: إِنَّهُ لَغْوٌ، لِعَدَمِ إِشْعَارِهِمَا بِالإِْلْزَامِ. (1) بَل وُجِدَ لَهُمْ تَصْرِيحٌ بِعَدَمِ اللُّزُومِ عَلَى الْمَذْهَبِ، لأَِنَّهُ عَلَّقَ مَشِيئَةَ إِقْرَارِهِ عَلَى شَرْطٍ فَلَمْ يَصِحَّ، وَلأَِنَّ مَا عُلِّقَ عَلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ لاَ سَبِيل إِلَى مَعْرِفَتِهِ. قَال الشِّيرَازِيُّ: إِنْ قَال: لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، لأَِنَّ مَا عُلِّقَ عَلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى لاَ سَبِيل إِلَى مَعْرِفَتِهِ، وَإِنْ قَال: لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ إِنْ شَاءَ زَيْدٌ أَوْ قَدِمَ فُلاَنٌ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ. (2)
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ - عَدَا ابْنَ الْمَوَّازِ وَابْنَ عَبْدِ الْحَكَمِ - وَكَذَا الْحَنَابِلَةُ أَنَّ الإِْقْرَارَ يَلْزَمُهُ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، وَقَال سَحْنُونٌ: أَجْمَعَ أَصْحَابُنَا عَلَى ذَلِكَ. (3) غَيْرَ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ التَّعْلِيقِ عَلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ، وَبَيْنَ التَّعْلِيقِ عَلَى مَشِيئَةِ الأَْشْخَاصِ.
يَقُول ابْنُ قُدَامَةَ: لأَِنَّهُ أَقَرَّ ثُمَّ عَلَّقَ رَفْعَ الإِْقْرَارِ عَلَى أَمْرٍ لاَ يُعْلَمُ فَلَمْ يَرْتَفِعْ. وَإِنْ قَال: لَكَ عَلَيَّ أَلْفٌ إِنْ شِئْتَ، أَوْ إِنْ شَاءَ زَيْدٌ لَمْ يَصِحَّ الإِْقْرَارُ، وَلأَِنَّهُ عَلَّقَهُ عَلَى شَرْطٍ يُمْكِنُ عِلْمُهُ فَلَمْ يَصِحَّ.
وَيُفَارِقُ التَّعْلِيقَ عَلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، لأَِنَّهَا كَثِيرًا مَا تُذْكَرُ تَبَرُّكًا وَصِلَةً وَتَفْوِيضًا إِلَى اللَّهِ، لاَ لِلاِشْتِرَاطِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ
__________
(1) البدائع 7 / 209، والهداية وتكملة الفتح 6 / 314، والتاج والإكليل 5 / 224، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي 3 / 402، ونهاية المحتاج 5 / 16
(2) روضة الطالبين 4 / 397، ط المكتب الإسلامي، والمغني 5 / 417، والمهذب 2 / 347، ونهاية المحتاج 5 / 101.
(3) التاج والإكليل 5 / 224، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي 3 / 402.(6/65)
إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} (1) بِخِلاَفِ مَشِيئَةِ الآْدَمِيِّ، كَمَا أَنَّ مَشِيئَتَهُ تَعَالَى لاَ تُعْلَمُ إِلاَّ بِوُقُوعِ الأَْمْرِ، فَلاَ يُمْكِنُ وَقْفُ الأَْمْرِ عَلَى وُجُودِهَا، وَمَشِيئَةُ الآْدَمِيِّ يُمْكِنُ الْعِلْمُ بِهَا فَيُمْكِنُ جَعْلُهَا شَرْطًا يَتَوَقَّفُ الأَْمْرُ عَلَى وُجُودِهَا، وَيَتَعَيَّنُ حَمْل الأَْمْرِ هُنَا عَلَى الْمُسْتَقْبَل، فَيَكُونُ وَعْدًا لاَ إِقْرَارًا. وَقَال الْقَاضِي: لَوْ عَلَّقَ الإِْقْرَارَ عَلَى مَشِيئَةِ الْمُقَرِّ لَهُ أَوْ شَخْصٍ آخَرَ صَحَّ الإِْقْرَارُ، لأَِنَّهُ عَقَّبَهُ بِمَا يَرْفَعُهُ، فَصَحَّ الإِْقْرَارُ دُونَ مَا رَفَعَهُ. (2) أَيْ كَأَنَّهُ أَقَرَّ ثُمَّ رَجَعَ فَلاَ يَصِحُّ رُجُوعُهُ.
ب - تَعْلِيقُ الإِْقْرَارِ عَلَى شَرْطٍ:
44 - وَضَعَ الْحَنَابِلَةُ قَاعِدَةً عَامَّةً بِأَنَّ كُل إِقْرَارٍ مُعَلَّقٍ عَلَى شَرْطٍ لَيْسَ بِإِقْرَارٍ، لأَِنَّهُ لَيْسَ بِمُقِرٍّ فِي الْحَال، وَمَا لاَ يَلْزَمُهُ فِي الْحَال لاَ يَصِيرُ وَاجِبًا عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ، لأَِنَّ الشَّرْطَ لاَ يَقْتَضِي إِيجَابَ ذَلِكَ. (3)
وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِشَيْءٍ عَلَى أَنْ يَكُونَ لَهُ خِيَارُ الشَّرْطِ، فَإِنَّ الإِْقْرَارَ صَحِيحٌ وَيَبْطُل الشَّرْطُ، لأَِنَّ شَرْطَ الْخِيَارِ فِي مَعْنَى الرُّجُوعِ، وَالإِْقْرَارُ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ لاَ يَحْتَمِل الرُّجُوعَ، لأَِنَّ الإِْقْرَارَ إِخْبَارٌ فَلاَ يَقْبَل الْخِيَارَ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، لأَِنَّ مَا يَذْكُرُهُ الْمُقِرُّ بَعْدَ الإِْقْرَارِ يُعْتَبَرُ رَفْعًا لَهُ فَلاَ يُقْبَل كَالاِسْتِثْنَاءِ (4) .
__________
(1) سورة الفتح / 27.
(2) المغني 5 / 217 - 218.
(3) كشاف القناع 6 / 465، والمغني 5 / 217.
(4) البدائع 7 / 209، وتبيين الحقائق 5 / 12، والهداية والتكملة 6 / 308 - 309، وحاشية ابن عابدين 4 / 455، والتاج والإكليل 5 / 225، وكشاف القناع 6 / 467.(6/65)
ج - تَغْيِيرُ وَصْفِ الْمُقَرِّ بِهِ:
45 - إِنْ كَانَ التَّغْيِيرُ مُتَّصِلاً بِاللَّفْظِ كَأَنْ يَقُول: لِفُلاَنٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَدِيعَةٌ - كَانَ إِقْرَارًا بِالْوَدِيعَةِ، أَمَّا إِنْ كَانَ مُنْفَصِلاً، بِأَنْ سَكَتَ ثُمَّ قَال: هِيَ وَدِيعَةٌ فَلاَ يَصِحُّ، وَيَكُونُ إِقْرَارًا بِالدَّيْنِ، لأَِنَّ الْبَيَانَ هُنَا لاَ يَصِحُّ إِلاَّ بِشَرْطِ الْوَصْل، وَلَوْ قَال: عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَدِيعَةٌ قَرْضًا أَوْ دَيْنًا، فَهُوَ إِقْرَارٌ بِالدَّيْنِ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ أَمَانَةً فِي الاِبْتِدَاءِ ثُمَّ يَصِيرَ مَضْمُونًا فِي الاِنْتِهَاءِ، إِذِ الضَّمَانُ قَدْ يَطْرَأُ عَلَى الأَْمَانَةِ مُتَّصِلاً كَانَ أَوْ مُنْفَصِلاً، لأَِنَّ الإِْنْسَانَ فِي الإِْقْرَارِ بِالضَّمَانِ غَيْرُ مُتَّهَمٍ. (1) .
د - الاِسْتِثْنَاءُ فِي الإِْقْرَارِ:
46 - إِنْ كَانَ الاِسْتِثْنَاءُ مِنْ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ وَمُتَّصِلاً بِهِ، فَإِنْ كَانَ اسْتِثْنَاءَ الأَْقَل فَلاَ خِلاَفَ فِي جَوَازِهِ، كَأَنْ يَقُول: عَلَيَّ لِفُلاَنٍ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ إِلاَّ ثَلاَثَةً فَيَلْزَمُهُ سَبْعَةٌ. أَمَّا إِنْ كَانَ اسْتِثْنَاءَ الأَْكْثَرِ بِأَنْ قَال: عَلَيَّ لِفُلاَنٍ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ إِلاَّ تِسْعَةً فَجَائِزٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَيَلْزَمُهُ دِرْهَمٌ وَهُوَ الصَّحِيحُ، لأَِنَّ الاِسْتِثْنَاءَ تَكَلُّمٌ بِالْبَاقِي بَعْدَ الثُّنْيَا، وَهَذَا الْمَعْنَى كَمَا يُوجَدُ فِي اسْتِثْنَاءِ الأَْقَل يُوجَدُ فِي اسْتِثْنَاءِ الأَْكْثَرِ مِنَ الْقَلِيل، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُسْتَحْسَنٍ عِنْدَ أَهْل اللُّغَةِ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ وَعَلَيْهِ الْعَشَرَةُ. (2)
وَإِنْ كَانَ اسْتِثْنَاءَ الْكُل مِنَ الْكُل بِأَنْ يَقُول:
__________
(1) البدائع 7 / 209، ونهاية المحتاج 5 / 76، والإنصاف 12 / 185، وكشاف القناع 6 / 467.
(2) البدائع 7 / 209، 210.(6/66)
لِفُلاَنٍ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ إِلاَّ عَشَرَةً فَبَاطِلٌ، وَعَلَيْهِ الْعَشَرَةُ كَامِلَةً، لأَِنَّهُ لَيْسَ اسْتِثْنَاءً، وَإِنَّمَا هُوَ إِبْطَالٌ وَرُجُوعٌ، وَالرُّجُوعُ عَنِ الإِْقْرَارِ فِي حَقِّ الْعِبَادِ لاَ يَصِحُّ. (1) وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يَصِحُّ الاِسْتِثْنَاءُ وَهُوَ إِخْرَاجُ مَا لَوْلاَهُ لَدَخَل، بِنَحْوِ " إِلاَّ "، وَذَلِكَ إِنِ اتَّصَل إِجْمَاعًا، وَالسُّكُوتُ الْيَسِيرُ غَيْرُ مُضِرٍّ، وَيَضُرُّ كَلاَمٌ أَجْنَبِيٌّ يَسِيرٌ أَوْ سُكُوتٌ طَوِيلٌ، وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَقْصِدَهُ قَبْل فَرَاغِ الإِْقْرَارِ، وَلِكَوْنِهِ رَفْعًا لِبَعْضِ مَا شَمَلَهُ اللَّفْظُ احْتَاجَ إِلَى نِيَّةٍ وَلَوْ كَانَ إِخْبَارًا، وَلَمْ يَسْتَغْرِقِ الْمُسْتَثْنَى الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، فَإِنِ اسْتَغْرَقَهُ كَخَمْسَةٍ إِلاَّ خَمْسَةً كَانَ بَاطِلاً بِالإِْجْمَاعِ إِلاَّ مَنْ شَذَّ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْمُنَاقَضَةِ الصَّرِيحَةِ. (2)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لَوْ قَال: عَلَيَّ أَلْفٌ إِلاَّ سِتَّمِائَةٍ لَزِمَهُ الأَْلْفُ لأَِنَّهُ اسْتَثْنَى الأَْكْثَرَ، وَلَمْ يَرِدْ ذَلِكَ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ. (3)
هـ - الاِسْتِثْنَاءُ مِنْ خِلاَفِ الْجِنْسِ:
47 - إِنْ كَانَ الاِسْتِثْنَاءُ مِنْ خِلاَفِ الْجِنْسِ - مَا لاَ يَثْبُتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ - فَلاَ يَصِحُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَعَلَيْهِ جَمِيعُ مَا أَقَرَّ بِهِ، فَإِنْ قَال: لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ إِلاَّ ثَوْبًا بَطَل الاِسْتِثْنَاءُ، خِلاَفًا لِلشَّافِعِيَّةِ. (4)
وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَثْبُتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ بِأَنْ قَال: لِفُلاَنٍ عَلَيَّ مِائَةُ دِينَارٍ إِلاَّ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ أَوْ إِلاَّ قَفِيزَ حِنْطَةٍ، صَحَّ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ، وَيُطْرَحُ مِمَّا أَقَرَّ بِهِ قَدْرُ قِيمَةِ الْمُسْتَثْنَى، لأَِنَّهُ إِنْ لَمْ يُمْكِنْ تَحْقِيقُ مَعْنَى الْمُجَانَسَةِ فِي
__________
(1) البدائع 7 / 210.
(2) نهاية المحتاج 5 / 104.
(3) كشاف القناع 6 / 468 - 470.
(4) البدائع 7 / 210.(6/66)
الاِسْمِ أَمْكَنَ تَحْقِيقُهَا فِي الْوُجُوبِ فِي الذِّمَّةِ، فَالدَّرَاهِمُ وَالْحِنْطَةُ مِنْ حَيْثُ احْتِمَال الْوُجُوبِ فِي الذِّمَّةِ مِنْ جِنْسِ الدَّنَانِيرِ، وَقَال مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَزُفَرُ: إِنَّ الاِسْتِثْنَاءَ اسْتِخْرَاجُ بَعْضِ مَا لَوْلاَهُ لَدَخَل تَحْتَ نَصِّ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَذَلِكَ لاَ يَتَحَقَّقُ إِلاَّ إِذَا اتَّحَدَ الْجِنْسُ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ يَصِحُّ الاِسْتِثْنَاءُ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ وَلاَ مِنْ غَيْرِ النَّوْعِ عَلَى مَا هُوَ الْمَذْهَبُ وَعَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الأَْصْحَابِ (2) .
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ يَصِحُّ الاِسْتِثْنَاءُ مِنْ خِلاَفِ الْجِنْسِ لِوُرُودِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِ بِذَلِكَ، يَقُول اللَّهُ سُبْحَانَهُ: {لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلاَّ سَلاَمًا} (3) وَيَقُول: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ} (4) وَقَالُوا: وَيُلْزَمُ الْمُقِرُّ بِالْبَيَانِ، فَلَوْ كَانَ أَقَرَّ لآِخَرَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ إِلاَّ ثَوْبًا لَزِمَهُ الْبَيَانُ بِثَوْبٍ قِيمَتُهُ دُونَ الأَْلْفِ. وَقَالُوا: وَيَصِحُّ الاِسْتِثْنَاءُ مِنَ الْمُعَيَّنِ كَهَذِهِ الدَّارِ إِلاَّ هَذَا الْبَيْتَ (5) .
و تَعْقِيبُ الإِْقْرَارِ بِمَا يَرْفَعُهُ:
48 - قَال الْمَالِكِيَّةُ: لَوْ عَقَّبَ الإِْقْرَارَ بِمَا يَرْفَعُهُ بِأَنْ قَال: لَكَ عَلَيَّ أَلْفٌ مِنْ ثَمَنِ خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، إِلاَّ أَنْ يَقُول الطَّالِبُ (الْمُقَرُّ لَهُ) : هِيَ ثَمَنُ بُرٍّ
__________
(1) البدائع 7 / 211.
(2) الإنصاف12 / 182، وكشاف القناع 6 / 470.
(3) سورة مريم / 62.
(4) سورة النساء / 157.
(5) نهاية المحتاج 5 / 105.(6/67)
أَوْ مَا يُشْبِهُهُ فَيَلْزَمُهُ مَعَ يَمِينِ الطَّالِبِ. وَلَوْ قَال: عَلَيَّ أَلْفٌ مِنْ ثَمَنِ كَذَا ثُمَّ قَال: لَمْ أَقْبِضِ الْمَبِيعَ، قَال ابْنُ الْقَاسِمِ وَسَحْنُونٌ وَغَيْرُهُمَا: يَلْزَمُهُ الثَّمَنُ وَلاَ يُصَدَّقُ فِي عَدَمِ الْقَبْضِ. وَقِيل: الْقَوْل قَوْلُهُ. (1)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِذَا وَصَل بِإِقْرَارِهِ مَا يُغَيِّرُهُ أَوْ يُسْقِطُهُ، كَأَنْ يَقُول: عَلَيَّ أَلْفٌ مِنْ ثَمَنِ خَمْرٍ أَوِ اسْتَوْفَاهُ الدَّائِنُ أَوْ مِنْ ثَمَنِ مَبِيعٍ فَاسِدٍ لَمْ أَقْبِضْهُ لَزِمَهُ الأَْلْفُ، لأَِنَّ كُل مَا ذَكَرَهُ بَعْدَ الإِْقْرَارِ بِالأَْلْفِ يُعْتَبَرُ رَفْعًا لَهُ فَلاَ يُقْبَل، كَاسْتِثْنَاءِ الْكُل.
وَفِي قَوْلِهِ لَهُ: عَلَيَّ مِنْ ثَمَنِ خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ أَلْفٌ - لاَ يَجِبُ. (2) وَلَوْ قَال: كَانَ لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ وَقَضَيْتُهُ إِيَّاهُ، أَوْ أَبْرَأَنِي مِنْهُ، أَوْ قَضَيْتُ مِنْهَا خَمْسَمِائَةٍ، فَهُوَ مُنْكِرٌ، لأَِنَّهُ قَوْلٌ يُمْكِنُ صِدْقُهُ وَلاَ تَنَاقُضَ فِيهِ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ، فَوَجَبَ قَبُول قَوْلِهِ بِيَمِينِهِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ. وَلاَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ كَاسْتِثْنَاءِ الْبَعْضِ اسْتِثْنَاءً مُتَّصِلاً، بِخِلاَفِ اسْتِثْنَاءِ الْبَعْضِ الْمُنْفَصِل، لأَِنَّ الْحَقَّ قَدِ اسْتَقَرَّ بِسُكُوتِهِ فَلاَ يَرْفَعُهُ اسْتِثْنَاءٌ وَلاَ غَيْرُهُ. وَلاَ يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ مَا زَادَ عَلَى النِّصْفِ، وَيَصِحُّ فِي النِّصْفِ - عَلَى مَا هُوَ الْمَذْهَبُ - فَمَا دُونَهُ مِنْ غَيْرِ خِلاَفٍ لأَِنَّهُ لُغَةُ الْعَرَبِ. (3)
ز - تَقْيِيدُ الإِْقْرَارِ بِالأَْجَل:
49 - إِذَا أَقَرَّ شَخْصٌ بِدَيْنٍ عَلَيْهِ لآِخَرَ وَقَال: إِنَّهُ مُؤَجَّلٌ، وَادَّعَى الْمُقَرُّ لَهُ حُلُولَهُ وَلُزُومَهُ، أَيْ صِدْقَهُ فِي
__________
(1) التاج والإكليل 5 / 226.
(2) اللجنة ترى أن الفرق بين التعبيرين لا يدركه إلا الخواص، وغيرهم لا يفرق بين التعبيرين، فقولهم الثاني لا يلغي الإقرار ويؤاخذان به.
(3) كشاف القناع 6 / 468 - 470، والإنصاف 12 / 190 - 191.(6/67)
الدَّيْنِ وَكَذِبَهُ فِي التَّأْجِيل، فَإِنَّ الدَّيْنَ يَلْزَمُهُ حَالًّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلْمَالِكِيَّةِ، لأَِنَّهُ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِمَالٍ، وَادَّعَى حَقًّا لِنَفْسِهِ أَنْكَرَهُ الْمُقَرُّ لَهُ، فَالْقَوْل لِلْمُنْكِرِ بِيَمِينِهِ. (1)
وَالْقَوْل الآْخَرُ لِلْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْمُقِرَّ يَحْلِفُ، وَيُقْبَل قَوْلُهُ فِي التَّنْجِيمِ وَالتَّأْجِيل، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي يَمِينِ الْمُقِرِّ، وَهَذَا أَحْوَطُ، وَبِهِ كَانَ يَقْضِي مُتَقَدِّمُو قُضَاةِ مِصْرَ (2) وَهُوَ مَذْهَبُ كُلٍّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
ح - الاِسْتِدْرَاكُ فِي الإِْقْرَارِ:
50 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ كَانَ الاِسْتِدْرَاكُ فِي الْقَدْرِ، فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْجِنْسِ كَأَنْ يَقُول: لِفُلاَنٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ لاَ بَل أَلْفَانِ، فَعَلَيْهِ أَلْفَانِ وَهُوَ قَوْل الْجُمْهُورِ. وَقِيل: يَكُونُ عَلَيْهِ ثَلاَثَةُ آلاَفٍ، وَهُوَ قَوْل زُفَرَ وَهُوَ الْقِيَاسُ، وَالأَْوَّل اسْتِحْسَانٌ. وَجْهُ الاِسْتِحْسَانِ أَنَّ الإِْقْرَارَ إِخْبَارٌ، وَالْمُخْبَرُ عَنْهُ مَا يَجْرِي الْغَلَطُ فِي قَدْرِهِ أَوْ وَصْفِهِ عَادَةً، فَقُبِل الاِسْتِدْرَاكُ مَا لَمْ يَكُنْ مُتَّهَمًا فِيهِ. بِخِلاَفِ الاِسْتِدْرَاكِ فِي خِلاَفِ الْجِنْسِ لأَِنَّ الْغَلَطَ لاَ يَقَعُ فِيهِ عَادَةً. وَوَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ قَوْلَهُ: لِفُلاَنٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إِقْرَارٌ بِأَلْفٍ وَهَذَا لاَ رُجُوعَ فِيهِ، وَالاِسْتِدْرَاكُ صَحِيحٌ، فَأَشْبَهَ الاِسْتِدْرَاكَ فِي خِلاَفِ الْجِنْسِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَال لاِمْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً بَل ثِنْتَيْنِ، إِذْ يَقَعُ ثَلاَثَ تَطْلِيقَاتٍ.
وَإِنْ كَانَ الاِسْتِدْرَاكُ فِي صِفَةِ الْمُقَرِّ بِهِ، فَعَلَيْهِ
__________
(1) الدر المختار 4 / 453، والهداية مع التكملة 6 / 297، وتبيين الحقائق 5 / 8.
(2) التاج والإكليل 5 / 227، والشرح الصغير 3 / 533، وحاشية الدسوقي 3 / 404، وروضة الطالبين 4 / 398.(6/68)
أَرْفَعُ الصِّفَتَيْنِ، لأَِنَّهُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِي ذَلِكَ، أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لأَِنْقَصِهِمَا فَهُوَ مُتَّهَمٌ، فَكَانَ مُسْتَدْرِكًا فِي الزِّيَادَةِ رَاجِعًا فِي النُّقْصَانِ، فَيَصِحُّ اسْتِدْرَاكُهُ وَلاَ يَصِحُّ رُجُوعُهُ، وَإِنْ أَرْجَعَ الاِسْتِدْرَاكَ إِلَى الْمُقَرِّ لَهُ، بِأَنْ قَال: هَذِهِ الأَْلْفُ لِفُلاَنٍ بَل لِفُلاَنٍ، وَادَّعَاهَا كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَانَتْ لِمَنْ أَقَرَّ لَهُ أَوَّلاً، لأَِنَّهُ لَمَّا أَقَرَّ لَهُ بِهَا صَحَّ إِقْرَارُهُ لَهُ، فَصَارَ وَاجِبَ الدَّفْعِ إِلَيْهِ، فَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ رُجُوعٌ عَنِ الإِْقْرَارِ الأَْوَّل فَلاَ يَصِحُّ فِي حَقِّهِ، وَصَحَّ إِقْرَارُهُ بِهَا لِلثَّانِي فِي حَقِّهِ - أَيِ الثَّانِي - لَكِنْ إِنْ دَفَعَهُ لِلأَْوَّل بِغَيْرِ قَضَاءٍ ضَمِنَ لِلثَّانِي، لإِِتْلاَفِهَا عَلَيْهِ بِدَفْعِهَا لِلأَْوَّل.
هَذَا بِخِلاَفِ مَا لَوْ قَال: غَصَبْتُ هَذَا الشَّيْءَ مِنْ فُلاَنٍ لاَ بَل مِنْ فُلاَنٍ، فَإِنَّهُ يَدْفَعُهُ لِلأَْوَّل وَيَضْمَنُ لِلثَّانِي، سَوَاءٌ دَفَعَهُ لِلأَْوَّل بِقَضَاءٍ أَوْ بِغَيْرِ قَضَاءٍ، لأَِنَّ الْغَصْبَ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ، فَكَانَ الإِْقْرَارُ بِهِ إِقْرَارًا بِوُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ، وَهُوَ رَدُّ الْقِيمَةِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ، وَقِيمَتِهَا عِنْدَ الْعَجْزِ، وَقَدْ عَجَزَ عَنْ رَدِّهَا إِلَى الْمُقَرِّ لَهُ الثَّانِي، فَيَلْزَمُهُ رَدُّ قِيمَتِهَا. (1)
عَدَمُ اشْتِرَاطِ الْقَبُول فِي صِحَّةِ الإِْقْرَارِ:
51 - الإِْقْرَارُ لَيْسَ بِعَقْدٍ حَتَّى تَتَكَوَّنَ صِيغَتُهُ مِنْ إِيجَابٍ وَقَبُولٍ. وَإِنَّمَا هُوَ تَصَرُّفٌ قَوْلِيٌّ وَالْتِزَامٌ مِنْ جَانِبِ الْمُقِرِّ وَحْدَهُ، فَلَيْسَ الْقَبُول شَرْطًا لِصِحَّةِ الإِْقْرَارِ، لَكِنَّهُ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ، وَالْمِلْكُ يَثْبُتُ لِلْمُقَرِّ لَهُ بِلاَ تَصْدِيقٍ وَقَبُولٍ، وَلَكِنْ يَبْطُل بِرَدِّهِ، فَالإِْقْرَارُ لِلْحَاضِرِ يَلْزَمُ مِنْ جَانِبِ الْمُقِرِّ حَتَّى لاَ يَصِحَّ إِقْرَارُهُ
__________
(1) البدائع 7 / 212 - 213، والمغني 5 / 172 ط الرياض.(6/68)
لِغَيْرِهِ بِهِ قَبْل رَدِّهِ، وَلاَ يَلْزَمُ مِنْ جَانِبِ الْمُقَرِّ لَهُ فَيَصِحُّ رَدُّهُ. أَمَّا الإِْقْرَارُ لِلْغَائِبِ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا إِلاَّ أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُ، وَإِنَّمَا يَتَوَقَّفُ لُزُومُهُ عَلَى عَدَمِ الرَّدِّ، وَلِعَدَمِ لُزُومِهِ لِلْمُقِرِّ صَحَّ إِقْرَارُهُ لِغَيْرِهِ، كَمَا لاَ يَلْزَمُ الْمُقَرَّ لَهُ فَيَصِحُّ لَهُ رَدُّهُ. (1) وَكُل مَنْ أَقَرَّ لِرَجُلٍ بِمِلْكٍ فَكَذَّبَهُ بِهِ بَطَل إِقْرَارُهُ، لأَِنَّهُ لاَ يَثْبُتُ لِلإِْنْسَانِ مِلْكٌ لاَ يَعْتَرِفُ بِهِ، وَالإِْقْرَارُ بِمَا فِي الذِّمَّةِ لَيْسَ مِنَ التَّبَرُّعَاتِ، وَفِي الْمَال وَجْهَانِ: يُتْرَكُ فِي يَدِ الْمُقِرِّ لأَِنَّهُ كَانَ مَحْكُومًا لَهُ بِهِ فَإِذَا بَطَل إِقْرَارُهُ بَقِيَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ. وَقِيل: يُؤْخَذُ إِلَى بَيْتِ الْمَال لأَِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ مَالِكٌ. وَقِيل: يُؤْخَذُ فَيُحْفَظُ حَتَّى يَظْهَرَ مَالِكُهُ، لأَِنَّهُ لاَ يَدَّعِيهِ أَحَدٌ. فَإِنْ عَادَ أَحَدُهُمَا فَكَذَّبَ نَفْسَهُ دُفِعَ إِلَيْهِ، لأَِنَّهُ يَدَّعِيهِ وَلاَ مُنَازِعَ لَهُ فِيهِ. (2)
الصُّورِيَّةُ فِي الإِْقْرَارِ:
52 - لَمَّا كَانَ الإِْقْرَارُ إِخْبَارًا يَحْتَمِل الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ جَازَ تَخَلُّفُ مَدْلُولِهِ الْوَضْعِيِّ، (3) بِمَعْنَى أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي الْحَقِيقَةِ كَاذِبًا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَثَرُهُ لُزُومًا. فَإِذَا ادَّعَى أَنَّ مُورَثَهُ أَقَرَّ تَلْجِئَةً، قَال بَعْضُهُمْ: لَهُ تَحْلِيفُ الْمُقَرِّ لَهُ، وَلَوِ ادَّعَى أَنَّهُ أَقَرَّ كَاذِبًا لاَ يُقْبَل. وَوَجْهُ الْفَرْقِ: أَنَّ فِي التَّلْجِئَةِ يَدَّعِي الْوَارِثُ عَلَى الْمُقَرِّ لَهُ فِعْلاً لَهُ، وَهُوَ تَوَاطُؤُهُ مَعَ الْمُقِرِّ فِي السِّرِّ، فَلِذَا يَحْلِفُ بِخِلاَفِ دَعْوَى الإِْقْرَارِ كَاذِبًا كَمَا لاَ يَخْفَى. (4)
__________
(1) رد المحتار على الدر المختار 4 / 450، والهداية والتكملة 6 / 280.
(2) المغني 5 / 166 - 167، والمهذب 2 / 347، وحاشية الدسوقي 3 / 398.
(3) رد المحتار على الدر المختار 4 / 448.
(4) حاشية ابن عابدين 4 / 458.(6/69)
وَنَقَل الْمَوَّاقُ عَنْ سَمَاعِ أَشْهَبَ وَابْنِ نَافِعٍ لَوْ سَأَل شَخْصٌ ابْنَ عَمِّهِ أَنْ يُسْكِنَهُ مَنْزِلاً فَقَال: هُوَ لِزَوْجَتِي، ثُمَّ قَال لِثَانٍ وَلِثَالِثٍ كَذَلِكَ، ثُمَّ طَلَبَتْ امْرَأَتُهُ بِذَلِكَ فَقَال: إِنَّمَا قُلْتُهُ اعْتِذَارًا لِنَمْنَعَهُ، فَلاَ شَيْءَ لَهَا بِذَلِكَ الإِْقْرَارِ. (1) أَيْ لاَ يُعْتَبَرُ كَلاَمُهُ إِقْرَارًا.
وَيَقُول الشَّيْخُ مَنْصُورُ الْبُهُوتِيُّ الْحَنْبَلِيُّ: إِذَا خَافَ شَخْصٌ أَنْ يَأْخُذَ آخَرُ مَالَهُ ظُلْمًا جَازَ لَهُ الإِْقْرَارُ - صُورَةً - بِمَا يَدْفَعُ هَذَا الظُّلْمَ، وَيَحْفَظُ الْمَال لِصَاحِبِهِ، مِثْل أَنْ يُقِرَّ بِحَاضِرٍ أَنَّهُ ابْنُهُ أَوْ أَخُوهُ أَوْ أَنَّ لَهُ عَلَيْهِ كَذَا دَيْنًا، وَيَتَأَوَّل فِي إِقْرَارِهِ، بِأَنْ يَعْنِيَ بِكَوْنِهِ ابْنَهُ صِغَرَهُ، أَوْ بِقَوْلِهِ أَخِي أُخُوَّةَ الإِْسْلاَمِ. وَالاِحْتِيَاطُ أَنْ يُشْهِدَ عَلَى الْمُقَرِّ لَهُ أَنَّ هَذَا الإِْقْرَارَ تَلْجِئَةٌ، تَفْسِيرُهُ كَذَا وَكَذَا. وَعَلَى هَذَا فَالإِْقْرَارُ لاَ يُعْتَبَرُ مَا دَامَ قَدْ ثَبَتَتْ صُورِيَّتُهُ، وَقَوَاعِدُ الشَّافِعِيَّةِ لاَ تَأْبَى ذَلِكَ. (2)
التَّوْكِيل فِي الإِْقْرَارِ:
53 - الأَْصْل أَنَّ التَّوْكِيل يَجُوزُ فِي كُل مَا يَقْبَل النِّيَابَةَ، وَمِنْ ذَلِكَ الإِْقْرَارُ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، إِذِ الإِْخْبَارُ مِنَ الْمُوَكِّل حَقِيقَةً، وَمِنَ الْوَكِيل حُكْمًا، لأَِنَّ فِعْل الْوَكِيل كَفِعْل الْمُوَكِّل، فَكَأَنَّ الإِْقْرَارَ صَدَرَ مِمَّنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ. (3) وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ إِقْرَارَ الْوَكِيل
__________
(1) التاج والإكليل 5 / 227، وتبصرة الحكام 2 / 40 ط مصطفى محمد التجارية.
(2) كشاف القناع 6 / 455، وتحفة المحتاج 5 / 359 - 360، ومغني المحتاج 2 / 240، والأشباه للسيوطي ص 222 - 223.
(3) الدر المختار 4 / 453، والصاوي على الشرح الصغير 3 / 525، وكشاف القناع 6 / 453، ونهاية المحتاج 5 / 25، 65.(6/69)
بِالتَّصَرُّفِ إِذَا أَنْكَرَهُ الْمُوَكِّل لاَ يَنْفُذُ، (1) كَمَا صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ إِقْرَارَ الْوَكِيل يَلْزَمُ الْمُوَكِّل إِنْ كَانَ مُفَوَّضًا أَوْ جَعَل لَهُ الإِْقْرَارَ. (2) وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ التَّوْكِيل فِي الإِْقْرَارِ لاَ يَجُوزُ. نَعَمْ يَكُونُ بِالتَّوْكِيل بِالإِْقْرَارِ مُقِرًّا لِثُبُوتِ الْحَقِّ عَلَيْهِ. (3) وَبِالنِّسْبَةِ لإِِقْرَارِ الْوَكِيل بِالْخُصُومَةِ فَإِنَّهُ لاَ يُقْبَل إِقْرَارُهُ بِقَبْضِ الدَّيْنِ إِلاَّ إِذَا كَانَ قَدْ فَوَّضَ فِي ذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، لأَِنَّ الإِْقْرَارَ مَعْنًى يَقْطَعُ الْخُصُومَةَ وَيُنَافِيهَا فَلاَ يَمْلِكُهُ الْوَكِيل، وَلأَِنَّ الإِْذْنَ فِي الْخُصُومَةِ لاَ يَقْتَضِي الإِْقْرَارَ، فَإِنْ أَقَرَّ بِشَيْءٍ لَمْ يَلْزَمِ الْمُوَكِّل مَا أَقَرَّ بِهِ، وَيَكُونُ الْوَكِيل كَشَاهِدٍ. وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: يُقْبَل إِقْرَارُهُ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ فِيمَا عَدَا الْحُدُودَ وَالْقِصَاصَ، وَقَال أَبُو يُوسُفَ: يُقْبَل إِقْرَارُهُ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ وَغَيْرِهِ، لأَِنَّ الإِْقْرَارَ أَحَدُ جَوَابَيِ الدَّعْوَى، فَصَحَّ مِنَ الْوَكِيل بِالْخُصُومَةِ كَمَا يَصِحُّ مِنْهُ الإِْنْكَارُ، (4) لَكِنَّ الْحَنَفِيَّةَ يَتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْمُوَكِّل إِذَا نَصَّ فِي عَقْدِ الْوَكَالَةِ عَلَى أَنَّ الْوَكِيل لَيْسَ لَهُ الإِْقْرَارُ، لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقُّ الإِْقْرَارِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، فَلَوْ أَقَرَّ عِنْدَ الْقَاضِي لاَ يَصِحُّ، وَخَرَجَ بِهِ عَنِ الْوَكَالَةِ، كَمَا نَصُّوا عَلَى أَنَّ التَّوْكِيل بِالإِْقْرَارِ يَصِحُّ، وَلاَ يَصِيرُ الْمُوَكِّل بِمُجَرَّدِ التَّوْكِيل مُقِرًّا خِلاَفًا لِلشَّافِعِيَّةِ، وَنَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الطَّوَاوِيسِيِّ: مَعْنَاهُ أَنْ يُوَكَّل بِالْخُصُومَةِ وَيَقُول:
__________
(1) شرح روض الطالب من أسنى المطالب 2 / 288.
(2) الصاوي على الشرح الصغير 4 / 525.
(3) نهاية المحتاج5 / 25.
(4) ابن عابدين 4 / 413، وحاشية الدسوقي 3 / 379، والمغني 5 / 99 - 100، ونهاية المحتاج 5 / 24.(6/70)
خَاصِمْ، فَإِذَا رَأَيْتَ لُحُوقَ مَئُونَةٍ أَوْ خَوْفَ عَارٍ عَلَيَّ فَأَقِرَّ بِالْمُدَّعَى يَصِحُّ إِقْرَارُهُ عَلَى الْمُوَكِّل كَمَا فِي الْبَزَّازِيَّةِ. وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَيَظْهَرُ مِنْهُ وَجْهُ عَدَمِ كَوْنِهِ إِقْرَارًا أَيْ بِمُجَرَّدِ الْوَكِيل. (1)
أَثَرُ الشُّبْهَةِ فِي الإِْقْرَارِ:
54 - الشُّبْهَةُ لُغَةً: الاِلْتِبَاسُ، وَشَبَّهَ عَلَيْهِ الأَْمْرَ: خَلَّطَ حَتَّى اشْتَبَهَ لِغَيْرِهِ (2) وَعَرَّفَهَا الْفُقَهَاءُ بِأَنَّهَا: مَا يُشْبِهُ الثَّابِتَ وَلَيْسَ بِثَابِتٍ (3) فَهِيَ بِهَذَا تُؤَثِّرُ عَلَى الإِْثْبَاتِ وَمِنْهُ الإِْقْرَارُ. فَلَوِ احْتَمَل الإِْقْرَارُ اللَّبْسَ أَوِ التَّأْوِيل أَوْ شَابَهُ شَيْءٌ مِنَ الْغُمُوضِ وَالْخَفَاءِ اعْتُبِرَ ذَلِكَ شُبْهَةً، وَالشَّيْءُ الْمُقَرُّ بِهِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى أَوْ حَقًّا لِلْعِبَادِ. وَحُقُوقُ الْعِبَادِ تَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ، بِخِلاَفِ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ مِنْهَا مَا يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ، كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَمِنْهَا مَا لاَ يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ، كَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَةِ. عَلَى تَفْصِيلٍ يُبَيَّنُ فِي مَوْضِعِهِ، (4) وَيُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (حَقّ، وَشُبْهَة) .
55 - وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى عَدَمِ الاِعْتِدَادِ بِإِقْرَارِ الأَْخْرَسِ بِالإِْشَارَةِ غَيْرِ الْمُفْهِمَةِ، لِمَا فِيهَا مِنَ الشُّبْهَةِ.
يَقُول ابْنُ قُدَامَةَ: وَأَمَّا الأَْخْرَسُ فَإِنْ لَمْ تُفْهَمْ إِشَارَتُهُ فَلاَ يُتَصَوَّرُ مِنْهُ إِقْرَارٌ. وَإِنْ فُهِمَتْ إِشَارَتُهُ، فَقَال الْقَاضِي: عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيِّ وَابْنِ الْقَاسِمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَأَبِي ثَوْرٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ. لأَِنَّ مَنْ
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 4 / 413، المغني 5 / 99 - 100، ونهاية المحتاج وحاشيته 5 / 25.
(2) لسان العرب، والمصباح مادة (شبه) .
(3) البدائع 7 / 36.
(4) المهذب 2 / 344، وانظر مختلف كتب الفقه في باب الحدود.(6/70)
صَحَّ إِقْرَارُهُ بِغَيْرِ الزِّنَا صَحَّ إِقْرَارُهُ بِهِ كَالنَّاطِقِ. وَقَال أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ: لاَ يُحَدُّ، لأَِنَّ الإِْشَارَةَ تَحْتَمِل مَا فُهِمَ مِنْهَا وَغَيْرَهُ، فَيَكُونُ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْحَدِّ، وَهُوَ احْتِمَال كَلاَمِ الْخِرَقِيِّ (1) .
56 - وَقَدْ سَبَقَ الْكَلاَمُ عَنْ إِقْرَارِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالسَّكْرَانِ وَالْمُكْرَهِ وَأَثَرِ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي الإِْقْرَارِ. كَمَا أَنَّ تَكْذِيبَ الْمُقَرِّ لَهُ لِلْمُقِرِّ فِيمَا أَقَرَّ بِهِ، أَوْ ظُهُورَ كَذِبِ الْمُقِرِّ - كَمِنْ يُقِرُّ بِالزِّنَا فَظَهَرَ مَجْبُوبًا - مَانِعٌ مِنْ إِقَامَةِ الْحَدِّ، لِتَيَقُّنِ كَذِبِ الإِْقْرَارِ. (2)
وَلَوْ أَقَرَّ بِشَيْءٍ وَكَذَّبَهُ الْمُقَرُّ لَهُ، وَكَانَ أَهْلاً لِلتَّكْذِيبِ، فَلاَ يَصِحُّ، لأَِنَّهُ مُنْكِرٌ، وَالْقَوْل لَهُ، كَإِقْرَارِهِ بِدَيْنٍ بِسَبَبِ كَفَالَةٍ (3) . وَيَقُول الشِّيرَازِيُّ: لَوْ أَقَرَّ لِرَجُلٍ بِمَالٍ فِي يَدِهِ فَكَذَّبَهُ الْمُقَرُّ لَهُ بَطَل الإِْقْرَارُ، لأَِنَّهُ رَدَّهُ، وَفِي الْمَال وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ وَيُحْفَظُ لأَِنَّهُ لاَ يَدَّعِيهِ، وَالْمُقَرُّ لَهُ لاَ يَدَّعِيهِ، فَوَجَبَ عَلَى الإِْمَامِ حِفْظُهُ كَالْمَال الضَّائِعِ.
وَالثَّانِي: لاَ يُؤْخَذُ مِنْهُ، لأَِنَّهُ مَحْكُومٌ لَهُ بِمِلْكِهِ، فَإِذَا رَدَّهُ الْمُقَرُّ لَهُ بَقِيَ فِي مِلْكِهِ. (4)
وَفِي الْمُغْنِي: لَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ فَكَذَّبَتْهُ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ دُونَهَا، وَبِهِ قَال الشَّافِعِيُّ، لأَِنَّ اسْتِيفَاءَ ثُبُوتِهِ فِي حَقِّهَا لاَ يُبْطِل إِقْرَارَهُ، كَمَا لَوْ سَكَتَتْ، وَقَال
__________
(1) المغني 8 / 195 - 196، والهداية مع الفتح 4 / 117، والمبسوط 9 / 98.
(2) البحر الرائق 5 / 7، والمبسوط 9 / 98، والطرق الحكمية ص 83 - 85، والمهذب 2 / 347.
(3) الدر المختار مع حاشية ابن عابدين 4 / 455.
(4) المهذب 2 / 347، ونهاية المحتاج 5 / 75، وروض الطالب من أسنى المطالب 2 / 293.(6/71)
أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ: لاَ حَدَّ عَلَيْهِ لأَِنَّا صَدَّقْنَاهَا فِي إِنْكَارِهَا فَصَارَ مَحْكُومًا بِكَذِبِهِ. (1)
وَيَنُصُّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يَلْزَمُ لإِِبْطَال الإِْقْرَارِ بِتَكْذِيبِ الْمُقَرِّ لَهُ أَنْ يَسْتَمِرَّ التَّكْذِيبُ، بِحَيْثُ إِذَا رَجَعَ الْمُقَرُّ لَهُ إِلَى تَصْدِيقِهِ صَحَّ الإِْقْرَارُ وَلَزِمَ، مَا لَمْ يَرْجِعِ الْمُقِرُّ. (2)
كُل هَذَا مِمَّا يُوجِدُ شُبْهَةً فِي الإِْقْرَارِ. فَوُجُودُ الشُّبْهَةِ فِيهِ أَوْ وُجُودُ مَا يُعَارِضُهُ أَوْلَى بِالاِعْتِدَادِ بِهِ مِنَ الإِْقْرَارِ نَفْسِهِ، لأَِنَّ الأَْصْل بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ، وَلاَ يُعْدَل عَنْ هَذَا الأَْصْل إِلاَّ بِدَلِيلٍ ثَابِتٍ يَقِينِيٍّ لاَ يُوجَدُ مَا يُعَارِضُهُ أَوْ يُوهِنُ مِنْهُ (3) . .
الشُّبْهَةُ بِتَقَادُمِ الإِْقْرَارِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ:
57 - جَاءَ فِي الْهِدَايَةِ وَالْفَتْحِ: التَّقَادُمُ لاَ يُبْطِل الإِْقْرَارَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، كَمَا فِي حَدِّ الزِّنَا الَّذِي لاَ يُبْطِل التَّقَادُمُ الإِْقْرَارَ بِهِ اتِّفَاقًا. وَفِي نَوَادِرِ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ قَال: أَنَا أُقِيمُ عَلَيْهِ الْحَدَّ وَإِنْ جَاءَ بَعْدَ أَرْبَعِينَ عَامًا. وَعِنْدَهُمَا لاَ يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الشَّارِبِ إِلاَّ إِذَا أَقَرَّ بِهِ عِنْدَ قِيَامِ الرَّائِحَةِ (4) . فَالتَّقَادُمُ يُؤَثِّرُ عَلَى الإِْقْرَارِ بِالشُّرْبِ عِنْدَهُمَا فَيَسْقُطُ الْحَدُّ.
وَفِي الْهِدَايَةِ وَالْفَتْحِ وَالْبَحْرِ: التَّقَادُمُ يُؤَثِّرُ عَلَى الشَّهَادَةِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ عَدَا حَدَّ الْقَذْفِ، لِمَا فِيهِ مِنْ حَقِّ الْعَبْدِ، لِمَا فِيهِ مِنْ رَفْعِ الْعَارِ عَنْهُ، بِخِلاَفِ
__________
(1) المغني 8 / 243.
(2) الشرح الصغير وحاشية الصاوي 3 / 526، وحاشية الدسوقي 3 / 398.
(3) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 59، والطرق الحكمة ص 82 - 83.
(4) الهداية والفتح 4 / 179 - 181، والمغني 8 / 309.(6/71)
الإِْقْرَارِ، فَإِنَّ التَّقَادُمَ لاَ يُؤَثِّرُ عَلَيْهِ، وَيُحَدُّ بِإِقْرَارِهِ مَعَ التَّقَادُمِ إِلاَّ فِي حَدِّ الشُّرْبِ فَقَطْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، فَإِنَّ التَّقَادُمَ فِيهِ يُبْطِل الإِْقْرَارَ خِلاَفًا لِمُحَمَّدٍ.
58 - أَمَّا حُقُوقُ الْعِبَادِ فَإِنَّ التَّقَادُمَ لاَ يُؤَثِّرُ فِيهَا، لاَ فِي الإِْقْرَارِ بِهَا وَلاَ فِي الشَّهَادَةِ عَلَيْهَا. (1) وَيَقُول ابْنُ قُدَامَةَ: إِنْ أَقَرَّ بِزِنًا قَدِيمٍ وَجَبَ الْحَدُّ، وَبِهَذَا قَال الْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالأَْوْزَاعِيُّ وَالنَّوَوِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ؛ لِعُمُومِ الآْيَةِ (2) وَلأَِنَّهُ حَقٌّ يَثْبُتُ عَلَى الْفَوْرِ فَيَثْبُتُ بِالْبَيِّنَةِ بَعْدَ تَطَاوُل الزَّمَانِ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ. وَنُقِل عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَال: لاَ أَقْبَل بَيِّنَةً عَلَى زِنًا قَدِيمٍ وَأَحُدُّهُ بِالإِْقْرَارِ بِهِ، وَأَنَّهُ قَوْل ابْنِ حَامِدٍ، وَذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي مُوسَى مَذْهَبًا لأَِحْمَدَ (3) .
الرُّجُوعُ عَنِ الإِْقْرَارِ:
59 - الرُّجُوعُ قَدْ يَكُونُ صَرِيحًا كَأَنْ يَقُول: رَجَعْتُ عَنْ إِقْرَارِي، أَوْ كَذَبْتُ فِيهِ، أَوْ دَلاَلَةً كَأَنْ يَهْرُبَ عِنْدَ إِقَامَةِ الْحَدِّ، إِذِ الْهَرَبُ دَلِيل الرُّجُوعِ، فَإِنْ كَانَ بِحَقٍّ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ الَّتِي تَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ كَالزِّنَا، فَإِنَّ جُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةَ وَالْمَشْهُورَ عِنْدِ الْمَالِكِيَّةِ وَمَذْهَبَ كُلٍّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى أَنَّ الرُّجُوعَ يُعْتَبَرُ، وَيَسْقُطُ الْحَدُّ عَنْهُ، لأَِنَّهُ يَحْتَمِل أَنْ يَكُونَ صَادِقًا فِي الرُّجُوعِ وَهُوَ الإِْنْكَارُ، وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُونَ كَاذِبًا فِيهِ، فَإِنْ كَانَ صَادِقًا فِي الإِْنْكَارِ يَكُونُ كَاذِبًا فِي
__________
(1) الفتح 8 / 163، والبحر الرائق 5 / 21 - 22.
(2) وهي قوله تعالى: (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة. . .) سورة النور / 2.
(3) المغني 8 / 207.(6/72)
الإِْقْرَارِ، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فِي الإِْنْكَارِ يَكُونُ صَادِقًا فِي الإِْقْرَارِ، فَيُورِثُ شُبْهَةً فِي ظُهُورِ الْحَدِّ، وَالْحُدُودُ لاَ تُسْتَوْفَى مَعَ الشُّبُهَاتِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ مَاعِزًا لَمَّا أَقَرَّ بَيْنَ يَدَيْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالزِّنَا لَقَّنَهُ الرُّجُوعَ (1) . فَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُحْتَمِلاً لِلسُّقُوطِ بِالرُّجُوعِ مَا كَانَ لِلتَّلْقِينِ مَعْنًى، سَوَاءٌ أَرَجَعَ قَبْل الْقَضَاءِ أَمْ بَعْدَهُ، قَبْل الإِْمْضَاءِ أَمْ بَعْدَهُ. (2) وَيَسْتَوِي أَنْ يَكُونَ الرُّجُوعُ بِالْقَوْل أَوْ بِالْفِعْل بِأَنْ يَهْرُبَ عِنْدَ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ، وَإِنْكَارُ الإِْقْرَارِ رُجُوعٌ، فَلَوْ أَقَرَّ عِنْدَ الْقَاضِي بِالزِّنَا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، فَأَمَرَ الْقَاضِي بِرَجْمِهِ فَقَال: مَا أَقْرَرْتُ بِشَيْءٍ - يُدْرَأُ عَنْهُ الْحَدُّ. (3) وَلأَِنَّ مِنْ شَرْطِ إِقَامِةِ الْحَدِّ بِالإِْقْرَارِ الْبَقَاءَ عَلَيْهِ إِلَى تَمَامِ الْحَدِّ، فَإِنْ رَجَعَ عَنْ إِقْرَارِهِ أَوْ هَرَبَ كَفَّ عَنْهُ، وَبِهَذَا قَال عَطَاءٌ وَيَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ وَالزُّهْرِيُّ وَحَمَّادٌ وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ (4) . وَقَال الْحَسَنُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَلاَ يُتْرَكُ، لأَِنَّ مَاعِزًا هَرَبَ فَقَتَلُوهُ وَلَمْ يَتْرُكُوهُ، وَلَوْ قُبِل رُجُوعُهُ لَلَزِمَتْهُمُ الدِّيَةُ، وَلأَِنَّهُ حَقٌّ وَجَبَ بِإِقْرَارِهِ، فَلَمْ يُقْبَل رُجُوعُهُ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ. وَحُكِيَ عَنِ الأَْوْزَاعِيِّ أَنَّهُ إِنْ رَجَعَ حُدَّ لِلْفِرْيَةِ عَلَى نَفْسِهِ، وَإِنْ
__________
(1) حديث: " وقد روي أن ماعزا " أخرجه مسلم (3 / 1312 - ط الحلبي) .
(2) البدائع 7 / 61، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي 4 / 318 - 319، والمهذب 2 / 346، وشرح روض الطالب 2 / 293، وحاشية قليوبي على منهاج الطالبين 3 / 5، والمغني 5 / 164.
(3) البحر الرائق 5 / 8.
(4) المغني 8 / 197، والبدائع 7 / 61، والبحر الرائق 5 / 8 - 9، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي 4 / 318 - 319، ونهاية المحتاج 7 / 410، وقليوبي وعميرة 3 / 181 - 182.(6/72)
رَجَعَ عَنِ السَّرِقَةِ وَالشُّرْبِ ضُرِبَ دُونَ الْحَدِّ. (1)
وَنَقَل الشِّيرَازِيُّ عَنْ أَبِي ثَوْرٍ أَنَّهُ لاَ يُقْبَل رُجُوعُهُ، لأَِنَّهُ حَقٌّ ثَبَتَ بِالإِْقْرَارِ فَلَمْ يَسْقُطْ بِالرُّجُوعِ كَالْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ. (2)
وَاسْتَدَل ابْنُ قُدَامَةَ لِلْجُمْهُورِ الْقَائِلِينَ بِاعْتِبَارِ الرُّجُوعِ بِأَنَّ مَاعِزًا هَرَبَ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: هَلاَّ تَرَكْتُمُوهُ يَتُوبُ فَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْهِ؟ (3) فَفِي هَذَا أَوْضَحُ الدَّلاَئِل عَلَى أَنَّهُ يُقْبَل رُجُوعُهُ.
وَلأَِنَّ الإِْقْرَارَ إِحْدَى بَيِّنَتَيِ الْحَدِّ، فَيَسْقُطُ بِالرُّجُوعِ عَنْهُ كَالشُّهُودِ إِذَا رَجَعُوا قَبْل إِقَامَةِ الْحَدِّ. وَإِنَّمَا لَمْ يَجِبْ ضَمَانُ مَاعِزٍ عَلَى الَّذِينَ قَتَلُوهُ بَعْدَ هَرَبِهِ، لأَِنَّهُ لَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي الرُّجُوعِ. أَمَّا إِنْ رَجَعَ صَرَاحَةً بِأَنْ قَال: كَذَبْتُ فِي إِقْرَارِي أَوْ رَجَعْتُ عَنْهُ أَوْ لَمْ أَفْعَل مَا أَقْرَرْتُ بِهِ وَجَبَ تَرْكُهُ، فَإِنْ قَتَلَهُ قَاتِلٌ بَعْدَ ذَلِكَ وَجَبَ ضَمَانُهُ، لأَِنَّهُ قَدْ زَال إِقْرَارُهُ بِالرُّجُوعِ عَنْهُ فَصَارَ كَمَنْ لَمْ يُقِرَّ، وَلاَ قِصَاصَ عَلَى الْقَاتِل لِلاِخْتِلاَفِ فِي صِحَّةِ الرُّجُوعِ فَكَانَ شُبْهَةً. (4)
وَقَيَّدَ الإِْمَامُ مَالِكٌ فِي الرِّوَايَةِ غَيْرِ الْمَشْهُورَةِ عَنْهُ قَبُول رُجُوعِ الْمُقِرِّ فِي حُقُوقِ اللَّهِ الَّتِي تَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ بِأَنْ يَكُونَ الرُّجُوعُ لِوُجُودِ شُبْهَةٍ، أَمَّا لَوْ رَجَعَ عَنْ إِقْرَارِهِ بِغَيْرِ شُبْهَةٍ فَلاَ يُعْتَدُّ بِرُجُوعِهِ، فَقَدْ نَصَّ أَشْهَبُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يُعْذَرُ إِلاَّ إِذَا رَجَعَ بِشُبْهَةٍ، وَرُوِيَ
__________
(1) المغني 8 / 197.
(2) المهذب 2 / 246.
(3) حديث رجم ماعز: (هلا تركتموه يتوب. . .) أخرجه أبو داود (4 / 576 - ط عزت عبيد دعاس) وإسناده حسن.
(4) المغني 8 / 198، والبدائع 7 / 61، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي 4 / 318 - 319.(6/73)
ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ، وَبِهِ قَال ابْنُ الْمَاجِشُونِ (1) .
وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ لاَ يَعْتَبِرُونَ إِلاَّ الرُّجُوعَ الصَّرِيحَ. وَلاَ يَرَوْنَ مِثْل الْهُرُوبِ عِنْدَ تَنْفِيذِ الْحَدِّ رُجُوعًا، فَلَوْ قَال الْمُقِرُّ: اتْرُكُونِي أَوْ لاَ تَحُدُّونِي، أَوْ هَرَبَ قَبْل حَدِّهِ أَوْ فِي أَثْنَائِهِ لاَ يَكُونُ رُجُوعًا فِي الأَْصَحِّ، لأَِنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ، وَإِنْ كَانَ يَجِبُ تَخْلِيَتُهُ حَالاً، فَإِنْ صَرَّحَ فَذَاكَ وَإِلاَّ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَإِنْ لَمْ يُخَل لَمْ يُضْمَنْ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِمْ شَيْئًا فِي خَبَرِ مَاعِزٍ.
60 - أَمَّا مَنْ أَقَرَّ بِحَقٍّ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ أَوْ بِحَقٍّ لِلَّهِ تَعَالَى لاَ يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ - كَالْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ وَكَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ - ثُمَّ رَجَعَ فِي إِقْرَارِهِ فَإِنَّهُ لاَ يُقْبَل رُجُوعُهُ عَنْهَا مِنْ غَيْرِ خِلاَفٍ، لأَِنَّهُ حَقٌّ ثَبَتَ لِغَيْرِهِ فَلَمْ يَمْلِكْ إِسْقَاطَهُ بِغَيْرِ رِضَاهُ، لأَِنَّ حَقَّ الْعَبْدِ بَعْدَ مَا ثَبَتَ لاَ يَحْتَمِل السُّقُوطَ بِالرُّجُوعِ، وَلأَِنَّ حُقُوقَ الْعِبَادِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْمُشَاحَّةِ، وَمَا دَامَ قَدْ ثَبَتَ لَهُ فَلاَ يُمْكِنُ إِسْقَاطُهُ بِغَيْرِ رِضَاهُ. (2)
وَقَدْ وَضَّحَ الْقَرَافِيُّ الإِْقْرَارَ الَّذِي يُقْبَل الرُّجُوعُ عَنْهُ وَاَلَّذِي لاَ يُقْبَل الرُّجُوعُ عَنْهُ، فَقَال: الأَْصْل فِي الإِْقْرَارِ اللُّزُومُ مِنَ الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ، لأَِنَّهُ عَلَى خِلاَفِ الطَّبْعِ. وَضَابِطُ مَا لاَ يَجُوزُ الرُّجُوعُ عَنْهُ، هُوَ مَا لَيْسَ لَهُ فِيهِ عُذْرٌ عَادِيٌّ، (3) وَضَابِطُ مَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ عَنْهُ - أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي الرُّجُوعِ عَنْهُ عُذْرٌ عَادِيٌّ، فَإِذَا أَقَرَّ الْوَارِثُ لِلْوَرَثَةِ أَنَّ مَا تَرَكَهُ أَبُوهُ مِيرَاثٌ بَيْنَهُمْ عَلَى مَا
__________
(1) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 4 / 318 - 319.
(2) نهاية المحتاج 4 / 410 - 411، وقليوبي مع شرح المحلي 3 / 181 - 182.
(3) البدائع 7 / 61، 232، والبحر الرائق 5 / 8، والمهذب 2 / 346، والمغني 5 / 164، 8 / 197.(6/73)
عُهِدَ فِي الشَّرِيعَةِ، ثُمَّ جَاءَ شُهُودٌ أَخْبَرُوهُ أَنَّ أَبَاهُ أَشْهَدَهُمْ أَنَّهُ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ فِي صِغَرِهِ بِهَذِهِ الدَّارِ وَحَازَهَا لَهُ، فَإِنَّهُ إِذَا رَجَعَ عَنْ إِقْرَارِهِ مُعْتَذِرًا بِإِخْبَارِ الْبَيِّنَةِ لَهُ، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِذَلِكَ، فَإِنَّهُ تُسْمَعُ دَعْوَاهُ وَعُذْرُهُ، وَيُقِيمُ بَيِّنَتَهُ، وَلاَ يَكُونُ إِقْرَارُهُ السَّابِقُ مُكَذِّبًا لِلْبَيِّنَةِ وَقَادِحًا فِيهَا، فَيُقْبَل الرُّجُوعُ فِي الإِْقْرَارِ.
وَإِذَا قَال: لَهُ عَلَيَّ مِائَةُ دِرْهَمٍ إِنْ حَلَفَ - أَوْ مَعَ يَمِينِهِ - فَحَلَفَ الْمُقَرُّ لَهُ، فَرَجَعَ الْمُقِرُّ وَقَال: مَا ظَنَنْتُ أَنَّهُ يَحْلِفُ، لاَ يَلْزَمُ الْمُقِرَّ شَيْءٌ، لأَِنَّ الْعَادَةَ جَرَتْ بِأَنَّ هَذَا الاِشْتِرَاطَ يَقْضِي عَدَمَ اعْتِقَادِ لُزُومِ مَا أَقَرَّ بِهِ، وَالْعَادَةُ جَرَتْ عَلَى أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِإِقْرَارٍ. (1) وَيَقُول ابْنُ جُزَيٍّ: مَنْ أَقَرَّ بِحَقٍّ لِمَخْلُوقٍ لَمْ يَنْفَعْهُ الرُّجُوعُ، وَإِنْ أَقَرَّ بِحَقٍّ لِلَّهِ تَعَالَى كَالزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ فَإِنْ رَجَعَ إِلَى شُبْهَةٍ قُبِل مِنْهُ، وَإِنْ رَجَعَ إِلَى غَيْرِ شُبْهَةٍ فَفِيهِ قَوْلاَنِ: قَوْلٌ يُقْبَل مِنْهُ وِفَاقًا لأَِبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ. وَقِيل: لاَ يُقْبَل مِنْهُ وِفَاقًا لِلْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ (2) .
هَل الإِْقْرَارُ يَصْلُحُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ؟
61 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ: عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ لِغَيْرِهِ بِمَالٍ، وَالْمُقَرُّ لَهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ كَاذِبٌ فِي إِقْرَارِهِ، لاَ يَحِل لَهُ أَخْذُهُ عَنْ كَرْهٍ مِنْهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، إِلاَّ أَنْ يُسَلِّمَهُ بِطِيبٍ مِنْ نَفْسِهِ، فَيَكُونُ تَمْلِيكًا مُبْتَدَأً عَلَى سَبِيل الْهِبَةِ، وَنَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ ابْنِ الْفَضْل: أَنَّ الإِْقْرَارَ لاَ يَصْلُحُ سَبَبًا لِلتَّمْلِيكِ، وَفِي الْهِدَايَةِ وَشُرُوحِهَا: وَالْمُقَرُّ لَهُ إِذَا صَدَّقَهُ ثُمَّ رَدَّهُ لاَ يَصِحُّ رَدُّهُ.
__________
(1) الفروق 4 / 38، ومواهب الجليل للحطاب 5 / 223.
(2) القوانين الفقهية ص 208.(6/74)
وَحُكْمُهُ لُزُومُ مَا أَقَرَّ بِهِ عَلَى الْمُقِرِّ، وَعَمَلُهُ إِظْهَارُ الْمُخْبَرِ بِهِ لِغَيْرِهِ لاَ التَّمْلِيكُ بِهِ ابْتِدَاءً، وَيَدُل عَلَيْهِ مَسَائِل:
أ - أَنَّ الرَّجُل إِذَا أَقَرَّ بِعَيْنٍ لاَ يَمْلِكُهَا يَصِحُّ إِقْرَارُهُ، حَتَّى لَوْ مَلَكَهَا الْمُقِرُّ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ يُؤْمَرُ بِتَسْلِيمِهَا إِلَى الْمُقَرِّ لَهُ، وَلَوْ كَانَ الإِْقْرَارُ تَمْلِيكًا مُبْتَدَأً لَمَا صَحَّ ذَلِكَ، لأَِنَّهُ لاَ يَصِحُّ تَمْلِيكُ مَا لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ لَهُ، وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِمُوَافَقَةِ الْحَنَفِيَّةِ فِي صِحَّةِ الإِْقْرَارِ، لَكِنْ لَمْ نَجِدْ فِي كَلاَمِهِمْ أَنَّ الْمُقِرَّ إِذَا مَلَكَ الْعَيْنَ يُؤْمَرُ بِتَسْلِيمِهَا لِلْمُقَرِّ لَهُ، وَكَذَلِكَ لَمْ نَجِدْ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ ذِكْرًا لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
ب - الإِْقْرَارُ بِالْخَمْرِ لِلْمُسْلِمِ يَصِحُّ حَتَّى يُؤْمَرَ بِالتَّسْلِيمِ إِلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ تَمْلِيكًا مُبْتَدَأً لَمْ يَصِحَّ، لَكِنْ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ صِحَّةِ الإِْقْرَارِ بِالْخَمْرِ، وَفَرَّقَ الشَّافِعِيَّةُ بَيْنَ الْخَمْرِ إِذَا كَانَ مُحْتَرَمًا أَوْ غَيْرَ مُحْتَرَمٍ، وَصَحَّحُوا الإِْقْرَارَ بِالْخَمْرِ الْمُحْتَرَمِ.
ج - الْمَرِيضُ مَرَضَ الْمَوْتِ الَّذِي لاَ دَيْنَ عَلَيْهِ إِذَا أَقَرَّ بِجَمِيعِ مَالِهِ لأَِجْنَبِيٍّ صَحَّ إِقْرَارُهُ، وَلاَ يَتَوَقَّفُ عَلَى إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ، وَلَوْ كَانَ تَمْلِيكًا مُبْتَدَأً لَمْ يَنْفُذْ إِلاَّ بِقَدْرِ الثُّلُثِ عِنْدَ عَدَمِ إِجَازَتِهِمْ، وَبِقَوْلِهِمْ مَال جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ قَوْلاَنِ آخَرَانِ، قِيل: لاَ يَصِحُّ مُطْلَقًا، وَقِيل: لاَ يَصِحُّ إِلاَّ فِي الثُّلُثِ.
د - الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ إِذَا أَقَرَّ لِرَجُلٍ بِعَيْنٍ فِي يَدِهِ صَحَّ إِقْرَارُهُ، وَلَوْ كَانَ الإِْقْرَارُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ ابْتِدَاءً كَانَ تَبَرُّعًا مِنَ الْعَبْدِ، وَهُوَ لاَ يَجُوزُ فِي الْكَثِيرِ. (1) وَمِثْلُهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ إِلاَّ أَنَّهُمْ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْقَلِيل وَالْكَثِيرِ.
__________
(1) الهداية والفتح والعناية 6 / 280 - 281، والدسوقي على الشرح الكبير 3 / 397 - 403، ومغني المحتاج 2 / 239 - 246 ونهاية المحتاج 5 / 75، والمغني 5 / 187، 299، 342.(6/74)
الإِْقْرَارُ بِالنَّسَبِ:
62 - إِذَا أَقَرَّ أَحَدُ الْوَرَثَةِ بِوَارِثٍ ثَالِثٍ مُشَارِكٍ لَهُمَا فِي الْمِيرَاثِ لَمْ يَثْبُتِ النَّسَبُ بِالإِْجْمَاعِ، لأَِنَّ النَّسَبَ لاَ يَتَبَعَّضُ فَلاَ يُمْكِنُ إِثْبَاتُهُ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ دُونَ الْمُنْكِرِ، وَلاَ يُمْكِنُ إِثْبَاتُهُ فِي حَقِّهِمَا، لأَِنَّ أَحَدَهُمَا مُنْكِرٌ وَلَمْ تُوجَدْ شَهَادَةٌ يَثْبُتُ بِهَا النَّسَبُ. وَلَكِنَّهُ يُشَارِكُ الْمُقِرَّ فِي الْمِيرَاثِ فِي قَوْل أَكْثَرِ أَهْل الْعِلْمِ، لأَِنَّهُ أَقَرَّ بِسَبَبِ مَالٍ لَمْ يَحْكُمْ بِبُطْلاَنِهِ فَلَزِمَهُ الْمَال، كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِبَيْعٍ أَوْ بِدَيْنٍ فَأَنْكَرَ الآْخَرُ. وَيَجِبُ لَهُ فَضْل مَا فِي يَدِ الْمُقِرِّ مِنْ مِيرَاثِهِ، وَبِهَذَا قَال ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ، وَشَرِيكٌ، وَيَحْيَى بْنُ آدَمَ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو ثَوْرٍ. وَتُقْسَمُ حِصَّةُ الْمُقِرِّ أَثْلاَثًا فَلاَ يَسْتَحِقُّ الْمُقَرُّ لَهُ مِمَّا فِي يَدِ الْمُقِرِّ إِلاَّ الثُّلُثَ (وَهُوَ سُدُسُ جَمِيعِ الْمَال) كَمَا لَوْ ثَبَتَ نَسَبُهُ بِبَيِّنَةٍ، لأَِنَّهُ إِقْرَارٌ بِحَقٍّ يَتَعَلَّقُ بِحِصَّتِهِ وَحِصَّةِ أَخِيهِ، فَلاَ يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ مِمَّا يَخُصُّهُ، كَالإِْقْرَارِ بِالْوَصِيَّةِ، وَإِقْرَارِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ عَلَى مَال الشَّرِكَةِ، وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا كَانَ اثْنَانِ فَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِأَخٍ لَزِمَهُ دَفْعُ نِصْفِ مَا فِي يَدِهِ، وَإِنْ أَقَرَّ بِأُخْتٍ لَزِمَهُ ثُلُثُ مَا فِي يَدِهِ، لأَِنَّهُ أَخَذَ مَا لاَ يَسْتَحِقُّ مِنَ التَّرِكَةِ، فَصَارَ كَالْغَاصِبِ، فَيَكُونُ الْبَاقِي بَيْنَهُمَا، وَلأَِنَّ الْمِيرَاثَ يَتَعَلَّقُ بِبَعْضِ التَّرِكَةِ كَمَا يَتَعَلَّقُ بِجَمِيعِهَا، فَإِذَا مَلَكَ بَعْضَهَا أَوْ غَصَبَ تَعَلَّقَ الْحَقُّ بِبَاقِيهَا، وَاَلَّذِي فِي يَدِ الْمُنْكِرِ كَالْمَغْصُوبِ فَيَقْتَسِمَانِ الْبَاقِيَ بِالسَّوِيَّةِ، كَمَا لَوْ غَصَبَهُ أَجْنَبِيٌّ.
وَقَال الشَّافِعِيُّ: لاَ يُشَارِكُ الْمُقِرُّ فِي الْمِيرَاثِ (قَضَاءً) ، وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، وَقَال إِبْرَاهِيمُ: لَيْسَ بِشَيْءٍ حَتَّى يُقِرُّوا جَمِيعًا، لأَِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ فَلاَ يَرِثُ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِنَسَبِ مَعْرُوفِ(6/75)
النَّسَبِ (1) . وَلأَِصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِيمَا إِذَا كَانَ الْمُقِرُّ صَادِقًا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى. هَل يَلْزَمُهُ أَنْ يَدْفَعَ إِلَى الْمُقَرِّ لَهُ نَصِيبَهُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَلْزَمُهُ (دِيَانَةً) وَهُوَ الأَْصَحُّ، وَهَل يَلْزَمُهُ أَنْ يَدْفَعَ إِلَى الْمُقَرِّ لَهُ نِصْفَ مَا فِي يَدِهِ أَوْ ثُلُثَهُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. (2)
وَإِنْ أَقَرَّ جَمِيعُ الْوَرَثَةِ بِنَسَبِ مَنْ يُشَارِكُهُمْ فِي الْمِيرَاثِ ثَبَتَ نَسَبُهُ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْوَرَثَةُ وَاحِدًا أَمْ جَمَاعَةً، ذُكُورًا أَمْ إِنَاثًا، وَبِهَذَا قَال الشَّافِعِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ وَحَكَاهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، لأَِنَّ الْوَارِثَ يَقُومُ مُقَامَ الْمَيِّتِ فِي مِيرَاثِهِ وَدُيُونِهِ. . . وَكَذَلِكَ فِي النَّسَبِ، وَقَدْ رَوَتِ السَّيِّدَةُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اخْتَصَمَ هُوَ وَعَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ فِي ابْنِ أَمَةِ زَمْعَةَ، فَقَال سَعْدٌ:
أَوْصَانِي أَخِي عُتْبَةُ إِذَا قَدِمْتُ مَكَّةَ أَنْ أَنْظُرَ إِلَى ابْنِ أَمَةِ زَمْعَةَ وَأَقْبِضَهُ فَإِنَّهُ ابْنُهُ، فَقَال عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ:
هُوَ أَخِي وَابْنُ وَلِيدَةِ أَبِي، وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ (3) وَلأَِنَّهُ حَقٌّ يَثْبُتُ بِالإِْقْرَارِ فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ الْعَدَدُ، وَلأَِنَّهُ قَوْلٌ لاَ تُعْتَبَرُ فِيهِ الْعَدَالَةُ فَلَمْ يُعْتَبَرِ الْعَدَدُ فِيهِ، وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لاَ يَثْبُتُ إِلاَّ بِإِقْرَارِ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَقَال مَالِكٌ: لاَ يَثْبُتُ إِلاَّ بِإِقْرَارِ اثْنَيْنِ،
__________
(1) المغني 5 / 197 - 199، وحاشية ابن عابدين 4 / 466، والهداية والفتح والعناية 6 / 13 - 19، والدسوقي على الشرح الكبير 3 / 415، والشرح الصغير 3 / 540 - 542، والمهذب 3 / 352 - 353، ونهاية المحتاج 5 / 106 - 115، وكشاف القناع 6 / 460 - 464، والإنصاف 12 / 148 - 150.
(2) المغني 5 / 199، ونهاية المحتاج 5 / 114.
(3) حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " هو لك يا عبد زمعة " أخرجه البخاري (12 / 127 - الفتح) .(6/75)
لأَِنَّهُ يَحْمِل النَّسَبَ عَلَى غَيْرِهِ فَاعْتُبِرَ فِيهِ الْعَدَدُ كَالشَّهَادَةِ (1) .
شُرُوطُ الإِْقْرَارِ بِالنَّسَبِ:
63 - يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الإِْقْرَارِ بِالنَّسَبِ عَلَى الْمُقِرِّ نَفْسِهِ:
(1) أَنْ يَكُونَ الْمُقَرُّ بِهِ مَجْهُول النَّسَبِ.
(2) أَلاَّ يُنَازِعَهُ فِيهِ مُنَازِعٌ، لأَِنَّهُ إِنْ نَازَعَهُ فِيهِ غَيْرُهُ تَعَارَضَا، فَلَمْ يَكُنْ إِلْحَاقُهُ بِأَحَدِهِمَا أَوْلَى مِنَ الآْخَرِ.
(3) وَأَنْ يُمْكِنَ صِدْقُهُ بِأَنْ يُحْتَمَل أَنْ يُولَدَ مِثْلُهُ لِمِثْلِهِ.
(4) أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ لاَ قَوْل لَهُ كَالصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ، أَوْ يُصَدِّقَ الْمُقِرَّ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْل التَّصْدِيقِ. فَإِنْ كَبِرَ الصَّغِيرُ وَعَقَل الْمَجْنُونُ فَأَنْكَرَ لَمْ يُسْمَعْ إِنْكَارُهُ، لأَِنَّ نَسَبَهُ قَدْ ثَبَتَ فَلاَ يَسْقُطُ، وَلأَِنَّ الأَْبَ لَوْ عَادَ فَجَحَدَ النَّسَبَ لَمْ يُقْبَل مِنْهُ. (2)
64 - وَإِنْ كَانَ الإِْقْرَارُ عَلَيْهِ وَعَلَى غَيْرِهِ كَإِقْرَارٍ بِأَخٍ اعْتُبِرَ فِيهِ الشُّرُوطُ الأَْرْبَعَةُ السَّابِقَةُ، وَشَرْطٌ خَامِسٌ، وَهُوَ كَوْنُ الْمُقِرِّ جَمِيعَ الْوَرَثَةِ. فَإِنْ كَانَ الْوَارِثُ بِنْتًا أَوْ أُخْتًا أَوْ أُمًّا أَوْ ذَا فَرْضٍ يَرِثُ جَمِيعَ الْمَال بِالْفَرْضِ وَالرَّدِّ، ثَبَتَ النَّسَبُ بِقَوْلِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ الْقَائِلِينَ بِالرَّدِّ، (3) وَعِنْدَ مَنْ لاَ يَرَى الرَّدَّ
__________
(1) المغني 5 / 199 - 200.
(2) لمغني 5 5 ? / 199 - 200، وابن عابدين 4 / 465، والهداية والفتح والعناية 6 / 13، والشرح الصغير 3 / 540، ومواهب الجليل والتاج والإكليل 5 / 238، والمهذب 2 / 352، ونهاية المحتاج 5 / 106 - 109.
(3) الهداية والفتح والعناية 6 / 14 - 15، وحاشية ابن عابدين 4 / 465، والمغني 5 / 200.(6/76)
كَالشَّافِعِيِّ لاَ يَثْبُتُ بِقَوْلِهِ النَّسَبُ، لأَِنَّهُ لاَ يَرَى الرَّدَّ وَيُجْعَل الْبَاقِي لِبَيْتِ الْمَال، وَلَهُمْ فِيمَا إِذَا وَافَقَهُ الإِْمَامُ فِي الإِْقْرَارِ وَجْهَانِ، يَقُول الشِّيرَازِيُّ: وَإِنْ مَاتَ وَخَلَّفَ بِنْتًا فَأَقَرَّتْ بِنَسَبِ أَخٍ لَمْ يَثْبُتِ النَّسَبُ، لأَِنَّهَا لاَ تَرِثُ جَمِيعَ الْمَال. فَإِنْ أَقَرَّ مَعَهَا الإِْمَامُ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَثْبُتَ، لأَِنَّ الإِْمَامَ نَافِذُ الإِْقْرَارِ فِي مَال بَيْتِ الْمَال.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لاَ يَثْبُتُ لأَِنَّهُ لاَ يَمْلِكُ الْمَال بِالإِْرْثِ، وَإِنَّمَا يَمْلِكُهُ الْمُسْلِمُونَ وَهُمْ لاَ يَتَبَيَّنُونَ، فَلاَ يَثْبُتُ النَّسَبُ. (1) وَيَنُصُّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِأَخٍ وَعَمٍّ لَمْ يَرِثْهُ إِنْ وُجِدَ وَارِثٌ، وَإِلاَّ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ أَصْلاً أَوْ وَارِثٌ غَيْرُ حَائِزٍ فَخِلاَفٌ، وَالرَّاجِحُ: إِرْثُ الْمُقَرِّ بِهِ مِنَ الْمُقِرِّ جَمِيعُ الْمَال، سَوَاءٌ أَكَانَ الإِْقْرَارُ فِي حَال الصِّحَّةِ أَمْ فِي حَالَةِ الْمَرَضِ، وَفِي قَوْلٍ: يَحْلِفُ الْمُقِرُّ بِهِ أَنَّ الإِْقْرَارَ حَقٌّ. (2)
65 - وَإِنْ كَانَ أَحَدُ الْوَارِثِينَ غَيْرَ مُكَلَّفٍ كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ فَأَقَرَّ الْمُكَلَّفُ بِأَخٍ ثَالِثٍ لَمْ يَثْبُتِ النَّسَبُ بِإِقْرَارِهِ، لأَِنَّهُ لاَ يَحُوزُ الْمِيرَاثَ كُلَّهُ، فَإِنْ بَلَغَ الصَّبِيُّ أَوْ أَفَاقَ الْمَجْنُونُ فَأَقَرَّا بِهِ أَيْضًا ثَبَتَ نَسَبُهُ لاِتِّفَاقِ جَمِيعِ الْوَرَثَةِ عَلَيْهِ، وَإِنْ مَاتَا قَبْل أَنْ يَصِيرَا مُكَلَّفَيْنِ ثَبَتَ نَسَبُ الْمُقِرِّ بِهِ لأَِنَّهُ وُجِدَ الإِْقْرَارُ مِنْ جَمِيعِ الْوَرَثَةِ، فَإِنَّ الْمُقِرَّ صَارَ جَمِيعَ الْوَرَثَةِ، هَذَا فِيمَا إِذَا كَانَ الْمُقِرُّ يَحُوزُ جَمِيعَ الْمِيرَاثِ بَعْدَ مَنْ مَاتَ، فَإِنْ كَانَ لِلْمَيِّتِ وَارِثٌ سِوَاهُ أَوْ مَنْ يُشَارِكُهُ فِي الْمِيرَاثِ لَمْ يَثْبُتِ النَّسَبُ، وَيَقُومُ وَارِثُ الْمَيِّتِ مَقَامَهُ، فَإِذَا وَافَقَ الْمُقِرَّ
__________
(1) المهذب 2 / 352.
(2) حاشية الدسوقي 3 / 416، والشرح الصغير 3 / 540.(6/76)
فِي إِقْرَارِهِ ثَبَتَ النَّسَبُ، وَإِنْ خَالَفَهُ لَمْ يَثْبُتْ. (1) وَإِذَا أَقَرَّ الْوَارِثُ بِمَنْ يَحْجُبُهُ كَأَخٍ أَقَرَّ بِابْنٍ لِلْمَيِّتِ ثَبَتَ نَسَبُ الْمُقَرِّ بِهِ وَوَرِثَ وَسَقَطَ الْمُقِرُّ. . . وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ حَامِدٍ وَالْقَاضِي وَقَوْل أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ. لأَِنَّهُ ابْنٌ ثَابِتُ النَّسَبِ لَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّهِ أَحَدُ مَوَانِعِ الإِْرْثِ فَيَرِثُهُ، كَمَا لَوْ ثَبَتَ نَسَبُهُ بِبَيِّنَةٍ، وَلأَِنَّ ثُبُوتَ النَّسَبِ سَبَبٌ لِلْمِيرَاثِ فَلاَ يَجُوزُ قَطْعُ حُكْمِهِ عَنْهُ، وَلاَ يُورَثُ مَحْجُوبٌ بِهِ مَعَ وُجُودِهِ وَسَلاَمَتِهِ مِنَ الْمَوَانِعِ. (2)
وَقَال أَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ: يَثْبُتُ نَسَبُ الْمُقَرِّ بِهِ وَلاَ يَرِثُ، لأَِنَّ تَوْرِيثَهُ يُفْضِي إِلَى إِسْقَاطِ تَوْرِيثِ الْمُقِرِّ، فَيُبْطِل إِقْرَارُهُ، فَأَثْبَتْنَا النَّسَبَ دُونَ الإِْقْرَارِ. يَقُول الشِّيرَازِيُّ: إِنْ كَانَ الْمُقَرُّ بِهِ يَحْجُبُ الْمُقِرَّ، مِثْل أَنْ يَمُوتَ الرَّجُل وَيُخَلِّفَ أَخًا فَيُقِرَّ الأَْخُ بِابْنٍ لِلْمَيِّتِ يَثْبُتُ لَهُ النَّسَبُ وَلاَ يَرِثُ، لأَِنَّا لَوْ أَثْبَتْنَا لَهُ الإِْرْثَ أَدَّى ذَلِكَ إِلَى إِسْقَاطِ إِرْثِهِ، لأَِنَّ تَوْرِيثَهُ يُخْرِجُ الْمُقِرَّ عَنْ أَنْ يَكُونَ وَارِثًا فَيَبْطُل إِقْرَارُهُ، لأَِنَّهُ إِقْرَارٌ مِنْ غَيْرِ وَارِثٍ. (3)
66 - وَإِنْ أَقَرَّ رَجُلاَنِ عَدْلاَنِ ابْنَانِ أَوْ أَخَوَانِ أَوْ عَمَّانِ بِثَالِثٍ ثَبَتَ النَّسَبُ لِلْمُقَرِّ بِهِ، فَإِنْ كَانَا غَيْرَ عَدْلَيْنِ فَلِلْمُقَرِّ بِهِ مَا نَقَصَهُ إِقْرَارُهُمَا وَلاَ يَثْبُتُ النَّسَبُ. إِذِ الْمُرَادُ بِالإِْقْرَارِ هُنَا الشَّهَادَةُ، لأَِنَّ النَّسَبَ لاَ يَثْبُتُ بِالإِْقْرَارِ، لأَِنَّهُ قَدْ يَكُونُ بِالظَّنِّ وَلاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ عَدَالَةٌ. وَإِنْ أَقَرَّ عَدْلٌ بِآخَرَ يَحْلِفُ الْمُقِرُّ بِهِ مَعَ الإِْقْرَارِ وَيَرِثُ وَلاَ يَثْبُتُ النَّسَبُ بِذَلِكَ، وَإِلاَّ يَكُنِ الْمُقِرُّ عَدْلاً فَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ لِلْمُقَرِّ بِهِ مَا نَقَصَهُ الإِْقْرَارُ
__________
(1) المغني 5 / 206، ونهاية المحتاج 5 / 115.
(2) المغني 5 / 201 - 202.
(3) المهذب 2 / 353، ونهاية المحتاج 5 / 115.(6/77)
مِنْ حِصَّةِ الْمُقِرِّ، سَوَاءٌ كَانَ عَدْلاً أَوْ غَيْرَ عَدْلٍ وَلاَ يَمِينَ، وَالتَّفْرِقَةُ بَيْنَ الْعَدْل وَغَيْرِهِ قَوْلٌ ضَعِيفٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى تَفْصِيلٍ مُبَيَّنٍ عِنْدَهُمْ. (1) وَيَقُول ابْنُ قُدَامَةَ: وَإِنْ أَقَرَّ رَجُلاَنِ عَدْلاَنِ بِنَسَبٍ مُشَارِكٍ لَهُمَا فِي الْمِيرَاثِ وَثَمَّ وَارِثٌ غَيْرُهُمَا لَمْ يَثْبُتِ النَّسَبُ إِلاَّ أَنْ يَشْهَدَا بِهِ، وَبِهَذَا قَال الشَّافِعِيُّ، لأَِنَّهُ إِقْرَارٌ مِنْ بَعْضِ الْوَرَثَةِ فَلَمْ يَثْبُتْ فِيهَا النَّسَبُ كَالْوَاحِدِ، وَفَارَقَ الشَّهَادَةَ لأَِنَّهُ تُعْتَبَرُ فِيهَا الْعَدَالَةُ وَالذُّكُورِيَّةُ، وَالإِْقْرَارُ بِخِلاَفِهِ. (2)
الرُّجُوعُ عَنْ الإِْقْرَارِ بِالنَّسَبِ:
67 - يَنُصُّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يَصِحُّ رُجُوعُ الْمُقِرِّ عَمَّا أَقَرَّ فِيمَا سِوَى الإِْقْرَارِ بِالْبُنُوَّةِ وَالأُْبُوَّةِ وَالزَّوْجِيَّةِ وَوَلاَءِ الْعَتَاقَةِ، فَإِنَّ مَنْ أَقَرَّ فِي مَرَضِهِ بِأَخٍ وَصَدَّقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ ثُمَّ رَجَعَ عَمَّا أَقَرَّ بِهِ يَصِحُّ إِنْ صَدَّقَهُ الْمُقِرُّ عَلَيْهِ، لأَِنَّهُ وَصِيَّةٌ مِنْ وَجْهٍ. وَفِي شَرْحِ السِّرَاجِيَّةِ، أَنَّهُ بِالتَّصْدِيقِ يَثْبُتُ النَّسَبُ فَلاَ يَنْفَعُ الرُّجُوعُ. (3)
وَيَقُول الشِّيرَازِيُّ: وَإِنْ أَقَرَّ بَالِغٌ عَاقِلٌ ثُمَّ رَجَعَ عَنِ الإِْقْرَارِ وَصَدَّقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ فِي الرُّجُوعِ فَفِيهِ
وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَسْقُطُ النَّسَبُ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِمَالٍ ثُمَّ رَجَعَ فِي الإِْقْرَارِ وَصَدَّقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ فِي الرُّجُوعِ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْل أَبِي حَامِدٍ الإْسْفِرَايِينِيِّ أَنَّهُ لاَ يَسْقُطُ، لأَِنَّ النَّسَبَ إِذَا ثَبَتَ لاَ يَسْقُطُ بِالاِتِّفَاقِ عَلَى نَفْيِهِ كَالنَّسَبِ الثَّابِتِ بِالْفِرَاشِ. (4)
وَيَقْرَبُ مِنْ هَذَا الاِتِّجَاهِ الْحَنَابِلَةُ، يَقُول
__________
(1) الشرح الكبير 3 / 417، والشرح الصغير 3 / 540 - 546.
(2) المغني 5 / 204 - 205.
(3) حاشية ابن عابدين 4 / 466 - 467.
(4) المهذب 2 / 352 - 353.(6/77)
ابْنُ قُدَامَةَ: وَإِذَا ثَبَتَ النَّسَبُ بِالإِْقْرَارِ ثُمَّ أَنْكَرَ الْمُقِرُّ لَمْ يُقْبَل إِنْكَارُهُ، لأَِنَّهُ نَسَبٌ ثَبَتَ بِحُجَّةٍ شَرْعِيَّةٍ فَلَمْ يَزُل بِإِنْكَارِهِ، كَمَا لَوْ ثَبَتَ بِبَيِّنَةٍ أَوْ بِالْفِرَاشِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْمُقَرُّ بِهِ غَيْرَ مُكَلَّفٍ أَمْ مُكَلَّفًا فَصَدَّقَ الْمُقِرَّ. وَيَحْتَمِل أَنْ يَسْقُطَ نَسَبُ الْمُكَلَّفِ بِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى الرُّجُوعِ عَنْهُ، لأَِنَّهُ ثَبَتَ بِاتِّفَاقِهِمَا فَزَال بِرُجُوعِهِمَا كَالْمَال. وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَالأَْوَّل أَصَحُّ، لأَِنَّهُ نَسَبٌ ثَبَتَ بِالإِْقْرَارِ فَأَشْبَهَ نَسَبَ الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ، وَفَارَقَ الْمَال، لأَِنَّ النَّسَبَ يُحْتَاطُ لإِِثْبَاتِهِ. (1)
إِقْرَارُ الزَّوْجَةِ بِالْبُنُوَّةِ:
68 - عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لاَ يُقْبَل إِقْرَارُ الزَّوْجَةِ بِالْوَلَدِ وَإِنْ صَدَّقَهَا، لأَِنَّ فِيهِ تَحْمِيل النَّسَبِ عَلَى الْغَيْرِ، لأَِنَّهُ يُنْسَبُ إِلَى الأَْبِ، إِلاَّ أَنْ يُصَدِّقَهَا الزَّوْجُ أَوْ تُقَدِّمَ الْبَيِّنَةَ، وَيَصِحُّ إِقْرَارُ الْمَرْأَةِ بِالْوَلَدِ مُطْلَقًا إِنْ لَمْ تَكُنْ زَوْجَةً وَلاَ مُعْتَدَّةً، أَوْ كَانَتْ زَوْجَةً وَادَّعَتْ أَنَّهُ مِنْ غَيْرِ الزَّوْجِ، وَلاَ يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ وَيَتَوَارَثَانِ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَارِثٌ مَعْرُوفٌ، لأَِنَّ وَلَدَ الزِّنَا يَرِثُ بِجِهَةِ الأُْمِّ فَقَطْ. (2)
وَعَنِ ابْنِ رُشْدٍ عَنِ الْمُدَوَّنَةِ: وَإِنْ نَظَرَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَجُلٍ فَقَالَتْ: ابْنِي، وَمِثْلُهُ يُولَدُ لَهَا وَصَدَّقَهَا لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ مِنْهَا، إِذْ لَيْسَ هُنَا أَبٌ يُلْحَقُ بِهِ، وَإِنْ جَاءَتِ امْرَأَةٌ بِغُلاَمٍ مَفْصُولٍ فَادَّعَتْ أَنَّهُ وَلَدُهَا لَمْ يُلْحَقْ بِهَا فِي مِيرَاثٍ، وَلاَ يُحَدُّ مَنِ افْتَرَى عَلَيْهَا بِهِ. (3)
وَيَنُصُّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ أَقَرَّتِ الْمَرْأَةُ بِوَلَدٍ وَلَمْ
__________
(1) المغني 5 / 206.
(2) ابن عابدين 4 / 466.
(3) التاج والإكليل 5 / 238، والحطاب 5 / 239(6/78)
تَكُنْ ذَاتَ زَوْجٍ وَلاَ نَسَبٍ قُبِل إِقْرَارُهَا، وَإِنْ كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ لاَ يُقْبَل إِقْرَارُهَا فِي رِوَايَةٍ، لأَِنَّ فِيهِ حَمْلاً لِنَسَبِ الْوَلَدِ عَلَى زَوْجِهَا وَلَمْ يُقِرَّ بِهِ، أَوْ إِلْحَاقًا لِلْعَارِ بِهِ بِوِلاَدَةِ امْرَأَتِهِ مِنْ غَيْرِهِ. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: يُقْبَل، لأَِنَّهَا شَخْصٌ أَقَرَّ بِوَلَدٍ يَحْتَمِل أَنْ يَكُونَ مِنْهُ، فَقُبِل كَالرَّجُل.
وَقَال أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ فِي امْرَأَةٍ ادَّعَتْ وَلَدًا: فَإِنْ كَانَ لَهَا إِخْوَةٌ أَوْ نَسَبٌ مَعْرُوفٌ فَلاَ بُدَّ مِنْ أَنْ يَثْبُتَ أَنَّهُ ابْنُهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا دَافِعٌ فَمَنْ يَحُول بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ؟ وَهَذَا لأَِنَّهَا مَتَى كَانَتْ ذَاتَ أَهْلٍ فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا لاَ تَخْفَى عَلَيْهِمْ وِلاَدَتُهَا، فَمَتَى ادَّعَتْ وَلَدًا لاَ يَعْرِفُونَهُ فَالظَّاهِرُ كَذِبُهَا. وَيَحْتَمِل أَنْ تُقْبَل دَعْوَاهَا مُطْلَقًا، لأَِنَّ النَّسَبَ يُحْتَاطُ لَهُ، فَأَشْبَهَتِ الرَّجُل. (1)
الإِْقْرَارُ بِالزَّوْجِيَّةِ تَبَعًا:
69 - وَمَنْ أَقَرَّ بِنَسَبِ صَغِيرٍ لَمْ يَكُنْ مُقِرًّا بِزَوْجِيَّةِ أُمِّهِ، وَبِهَذَا قَال الشَّافِعِيَّةُ، لأَِنَّ الزَّوْجِيَّةَ لَيْسَتْ مُقْتَضَى لَفْظِهِ وَلاَ مَضْمُونِهِ، فَلَمْ يَكُنْ مُقِرًّا بِهَا.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا كَانَتْ مَشْهُورَةً بِالْحُرِّيَّةِ كَانَ مُقِرًّا بِزَوْجِيَّتِهَا، لأَِنَّ أَنْسَابَ الْمُسْلِمِينَ وَأُصُولَهُمْ يَجِبُ حَمْلُهَا عَلَى الصِّحَّةِ (2) . وَالإِْقْرَارُ بِالزَّوْجِيَّةِ صَحِيحٌ بِشَرْطِ الْخُلُوِّ مِنَ الْمَوَانِعِ. (3) .
إِقْرَارُ الْمَرْأَةِ بِالْوَالِدَيْنِ وَالزَّوْجِ:
70 - نَصُّ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ إِقْرَارِ الْمَرْأَةِ بِالْوَالِدَيْنِ
__________
(1) المغني 5 / 206، ونهاية المحتاج 5 / 112.
(2) المغني 5 / 207.
(3) الهداية وتكملة الفتح 6 / 13، والدر المختار وحاشية ابن عابدين 4 / 465.(6/78)
وَالزَّوْجِ، إِذِ الأُْنُوثَةُ لاَ تَمْنَعُ صِحَّةَ الإِْقْرَارِ عَلَى النَّفْسِ. وَقَدْ ذَكَرَ الإِْمَامُ الْعَتَّابِيُّ فِي فَرَائِضِهِ أَنَّ الإِْقْرَارَ بِالأُْمِّ لاَ يَصِحُّ، وَكَذَا فِي ضَوْءِ السِّرَاجِ، لأَِنَّ النَّسَبَ لِلآْبَاءِ لاَ لِلأُْمَّهَاتِ، وَفِيهِ حَمْل الزَّوْجِيَّةِ عَلَى الْغَيْرِ. قَال صَاحِبُ الدُّرِّ: لَكِنَّ الْحَقَّ صِحَّتُهُ بِجَامِعِ الأَْصَالَةِ فَكَانَتْ كَالأَْبِ (1) وَالأَْصْل: أَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِنَسَبٍ يَلْزَمُهُ فِي نَفْسِهِ وَلاَ يُحْمَل عَلَى غَيْرِهِ فَإِقْرَارُهُ مَقْبُولٌ، كَمَا يُقْبَل إِقْرَارُهُ عَلَى نَفْسِهِ بِسَائِرِ الْحُقُوقِ. (2)
التَّصْدِيقُ بِالنَّسَبِ بَعْدَ الْمَوْتِ:
71 - وَيَصِحُّ التَّصْدِيقُ فِي النَّسَبِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُقِرِّ، لأَِنَّ النَّسَبَ يَبْقَى بَعْدَ الْمَوْتِ، وَكَذَا تَصْدِيقُ الزَّوْجَةِ لأَِنَّ حُكْمَ النِّكَاحِ بَاقٍ، وَكَذَا تَصْدِيقُ الزَّوْجِ بَعْدَ مَوْتِهَا لأَِنَّ الإِْرْثَ مِنْ أَحْكَامِهِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لاَ يَصِحُّ لاِنْقِطَاعِ النِّكَاحِ بِالْمَوْتِ. (3)
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْمُقَرَّ بِهِ إِذَا كَانَ مَيِّتًا فَإِنْ كَانَ صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا ثَبَتَ نَسَبُهُ، لأَِنَّهُ يُقْبَل إِقْرَارُهُ بِهِ إِذَا كَانَ حَيًّا فَقُبِل إِذَا كَانَ مَيِّتًا. وَإِنْ كَانَ بَالِغًا عَاقِلاً فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لاَ يَثْبُتُ لأَِنَّ نَسَبَ الْبَالِغِ لاَ يَثْبُتُ إِلاَّ بِتَصْدِيقِهِ، وَذَلِكَ مَعْدُومٌ بَعْدَ الْمَوْتِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَثْبُتُ وَهُوَ الصَّحِيحُ، لأَِنَّهُ لَيْسَ لَهُ
__________
(1) المصادر السابقة.
(2) الهداية وتكملة الفتح 6 / 14، وحاشية الدسوقي 3 / 415، ومواهب الجليل 5 / 238، والمهذب 2 / 352، والمغني 5 / 199.
(3) الهداية وتكملة الفتح 6 / 19.(6/79)
قَوْلٌ، فَيَثْبُتُ نَسَبُهُ بِالإِْقْرَارِ كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ. (1)
وَقَالُوا: إِنَّ النَّسَبَ يَثْبُتُ لِمَنْ أَقَرَّ بِبُنُوَّةِ مَجْهُول النَّسَبِ مُسْتَوْفِيًا شُرُوطَهُ - ثَبَتَ نَسَبُهُ مُسْتَنِدًا لِوَقْتِ الْعُلُوقِ. (2)
كَمَا نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ الإِْقْرَارَ بِالْجَدِّ وَابْنِ الاِبْنِ لاَ يَصِحُّ، لأَِنَّ فِيهِ تَحْمِيل النَّسَبِ عَلَى الْغَيْرِ، غَيْرَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَالُوا: إِنْ قَال الْمُقِرُّ: أَبُو هَذَا ابْنِي صُدِّقَ، لأَِنَّ الرَّجُل إِنَّمَا يُصَدَّقُ فِي إِلْحَاقِ وَلَدِهِ بِفِرَاشِهِ، لاَ بِإِلْحَاقِهِ بِفِرَاشِ غَيْرِهِ. (3)
وَفِي كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ إِذَا كَانَ بَيْنَ الْمُقِرِّ وَالْمُقَرِّ بِهِ وَاحِدٌ، وَهُوَ حَيٌّ - لَمْ يَثْبُتِ النَّسَبُ إِلاَّ بِتَصْدِيقِهِ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا اثْنَانِ أَوْ أَكْثَرُ لَمْ يَثْبُتِ النَّسَبُ إِلاَّ بِتَصْدِيقِ مَنْ بَيْنَهُمَا، لأَِنَّ النَّسَبَ يَتَّصِل بِالْمُقِرِّ مِنْ جِهَتِهِمْ فَلاَ يَثْبُتُ إِلاَّ بِتَصْدِيقِهِمْ. (4)
إِقْرَاضٌ
انْظُرْ: قَرْض.
إِقْرَاعٌ
انْظُرْ: قُرْعَة.
__________
(1) المهذب 2 / 352 - 353.
(2) حاشية ابن عابدين 4 / 465.
(3) حاشية ابن عابدين 4 / 465، والتاج والإكليل 5 / 238.
(4) المهذب 2 / 353.(6/79)
أَقِطٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الأَْقِطُ، وَالإِْقْطُ، وَالأَْقْطُ، وَالأُْقْطُ: شَيْءٌ يُتَّخَذُ مِنَ اللَّبَنِ الْمَخِيضِ، يُطْبَخُ ثُمَّ يُتْرَكُ حَتَّى يَمْصُل (أَيْ يَنْفَصِل عَنْهُ الْمَاءُ) ، وَالْقِطْعَةُ مِنْهُ أَقِطَةٌ (1) .
وَيُعَرِّفُهُ الْفُقَهَاءُ بِذَلِكَ أَيْضًا (2) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
تَتَعَلَّقُ بِالأَْقِطِ أَحْكَامٌ مِنْهَا مَا يَلِي:
أ - زَكَاةُ الْفِطْرِ:
2 - يَجُوزُ إِخْرَاجُ زَكَاةِ الْفِطْرِ مِنَ الأَْقِطِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ بِاعْتِبَارِهِ مِنَ الأَْقْوَاتِ، وَلِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الْفِطْرِ - إِذْ كَانَ فِينَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ. (3)
__________
(1) لسان العرب.
(2) مغني المحتاج 1 / 406 ط مصطفى الحلبي، والشرح الصغير 1 / 676 ط دار المعارف.
(3) مغني المحتاج 1 / 406، وكشاف القناع 2 / 253 ط النصر بالرياض، والدسوقي 1 / 505 وحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 371 ط السلفية) .(6/80)
أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَتُعْتَبَرُ فِيهِ الْقِيمَةُ، وَلاَ يُجْزِئُ إِخْرَاجُ زَكَاةِ الْفِطْرِ مِنْهُ إِلاَّ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ، لأَِنَّهُ غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ مِنْ وَجْهٍ يُوثَقُ بِهِ، وَجَوَازُ مَا لَيْسَ بِمَنْصُوصٍ عَلَيْهِ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ، كَسَائِرِ الأَْعْيَانِ الَّتِي لَمْ يَقَعِ التَّنْصِيصُ عَلَيْهَا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1)
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (زَكَاةُ الْفِطْرِ) .
ب - الْبَيْعُ:
3 - يُعْتَبَرُ الأَْقِطُ مِنَ الرِّبَوِيَّاتِ الَّتِي يُشْتَرَطُ فِيهَا التَّمَاثُل وَالتَّقَابُضُ فِي الْمَجْلِسِ إِنْ بِيعَتْ بِمِثْلِهَا.
وَالْفُقَهَاءُ يَخْتَلِفُونَ فِي جَوَازِ بَيْعِ الأَْقِطِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ. فَأَجَازَهُ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لإِِمْكَانِ التَّمَاثُل وَالتَّسَاوِي، وَمَنَعَهُ الشَّافِعِيَّةُ لأَِنَّ أَجْزَاءَهُ مُنْعَقِدَةٌ، وَلأَِنَّهُ يُخَالِطُهُ الْمِلْحُ فَلاَ تَتَحَقَّقُ فِيهِ الْمُمَاثَلَةُ. (2)
وَفِيهِ تَفْصِيلٌ كَثِيرٌ يُنْظَرُ فِي (بَيْع، وَرِبًا) .
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
4 - تَتَعَدَّدُ مَوَاطِنُ أَحْكَامِ الأَْقِطِ، فَتَأْتِي فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ، وَالرِّبَا، وَالسَّلَمِ، وَتُنْظَرُ فِي مَوَاطِنِهَا.
إِقْطَاعٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الإِْقْطَاعِ فِي اللُّغَةِ: التَّمْلِيكُ
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 72، 73 ط شركة المطبوعات العلمية ط أولى.
(2) قليوبي 2 / 172 ط الحلبي، والمغني 4 / 36 ط الرياض، والشرح الصغير 3 / 84.(6/80)
وَالإِْرْفَاقُ، يُقَال اسْتَقْطَعَ الإِْمَامُ قَطِيعَةً فَأَقْطَعَهُ إِيَّاهَا: أَيْ سَأَلَهُ أَنْ يَجْعَلَهَا لَهُ إِقْطَاعًا يَتَمَلَّكُهُ وَيَسْتَبِدُّ بِهِ وَيَنْفَرِدُ، وَيُقَال: أَقْطَعَ الإِْمَامُ الْجُنْدَ الْبَلَدَ: إِذَا جَعَل لَهُمْ غَلَّتَهَا رِزْقًا. (1)
وَهُوَ كَذَلِكَ شَرْعًا يُطْلَقُ عَلَى مَا يُقْطِعُهُ الإِْمَامُ، أَيْ يُعْطِيهِ مِنَ الأَْرَاضِي رَقَبَةً أَوْ مَنْفَعَةً لِمَنْ يَنْتَفِعُ بِهِ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - إِحْيَاءُ الْمَوَاتِ:
2 - هُوَ كَمَا عَرَّفَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ: عِمَارَةُ الأَْرْضِ الْخَرِبَةِ الَّتِي لاَ مَالِكَ لَهَا وَلاَ يَنْتَفِعُ بِهَا أَحَدٌ (3) .
ب - أَعْطِيَاتُ السُّلْطَانِ:
3 - الْعَطَاءُ وَالْعَطِيَّةُ: اسْمٌ لِمَا يُعْطَى، وَالْجَمْعُ عَطَايَا وَأَعْطِيَةٌ، وَجَمْعُ الْجَمْعِ أَعْطِيَاتٌ. وَأَعْطِيَاتُ السُّلْطَانِ: مَا يُعْطِيهِ لأَِحَدٍ مِنَ الرَّعِيَّةِ مِنْ بَيْتِ الْمَال مَعَ مُرَاعَاةِ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ.
وَعَلَى هَذَا قَدْ يَكُونُ الإِْقْطَاعُ عَطَاءً، وَقَدْ يَنْفَصِل الْعَطَاءُ، فَيَكُونُ فِي الأَْمْوَال الْمَنْقُولَةِ غَالِبًا (4) .
ج - الْحِمَى:
4 - الْمَشْرُوعُ مِنْهُ: أَنْ يَحْمِيَ الإِْمَامُ أَرْضًا مِنَ
__________
(1) لسان العرب وتاج العروس والمصباح المنير مادة: " قطع ".
(2) ابن عابدين 3 / 392 ط بولاق.
(3) البجيرمي على الخطيب 3 / 192.
(4) لسان العرب في المادة، والفروق في اللغة 162، 165، وابن عابدين 5 / 411، والزاهر ص 263 فقرة - 569.(6/81)
الْمَوَاتِ، يَمْنَعُ النَّاسَ رَعْيَ مَا فِيهَا مِنَ الْكَلأَِ لِتَكُونَ خَاصَّةً لِبَعْضِ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ كَمَوَاشِي الصَّدَقَةِ.
د - الإِْرْصَادُ:
5 - الإِْرْصَادُ لُغَةً: الإِْعْدَادُ، وَاصْطِلاَحًا: تَخْصِيصُ الإِْمَامِ غَلَّةَ بَعْضِ أَرَاضِي بَيْتِ الْمَال لِبَعْضِ مَصَارِفِهِ. وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (إِرْصَاد) . فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الإِْقْطَاعِ أَنَّ الإِْرْصَادَ لاَ يَصِيرُ مِلْكًا لِلْمُرْصَدِ لَهُ، بِحَيْثُ يَتَوَارَثُهُ أَوْلاَدُهُ أَوْ يَتَصَرَّفُونَ فِيهِ كَمَا شَاءُوا. (1)
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
6 - الإِْقْطَاعُ جَائِزٌ بِشُرُوطِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ إِقْطَاعَ تَمْلِيكٍ أَمْ إِقْطَاعَ إِرْفَاقٍ، وَدَلِيل ذَلِكَ مِنَ السُّنَّةِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْطَعَ الزُّبَيْرَ رَكْضَ فَرَسِهِ مِنْ مَوَاتِ النَّقِيعِ، وَكَذَلِكَ فَعَل الْخُلَفَاءُ مِنْ بَعْدِهِ. (2)
أَنْوَاعُ الإِْقْطَاعِ:
الإِْقْطَاعُ نَوْعَانِ:
7 - النَّوْعُ الأَْوَّل: إِقْطَاعُ الإِْرْفَاقِ (أَوِ الإِْمْتَاعِ أَوِ الاِنْتِفَاعِ) .
__________
(1) ابن عابدين 3 / 266، 392 ط بولاق، ولسان العرب والمصباح في المادة.
(2) الأحكام السلطانية للماوردي 190، والأحكام السلطانية لأبي يعلى 211 وحديث " أقطع الرسول صلى الله عليه وسلم الزبير ركض فرسه من موات النقيع " أخرجه أبو داود (3 / 453 - ط عزت عبيد دعاس) وقال ابن حجر في التلخيص (3 / 64 - ط دار المحاسن) : فيه العمري الكبير وفيه ضعف.(6/81)
وَهُوَ: إِرْفَاقُ النَّاسِ بِمَقَاعِدِ الأَْسْوَاقِ، وَأَفْنِيَةِ الشَّوَارِعِ، وَحَرِيمِ الأَْمْصَارِ، وَمَنَازِل الْمُسَافِرِينَ، وَنَحْوِ ذَلِكَ (1) . وَهُوَ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ:
الْقِسْمُ الأَْوَّل:
8 - مَا يَخْتَصُّ الإِْرْفَاقُ فِيهِ بِالصَّحَارَى وَالْفَلَوَاتِ. حَيْثُ مَنَازِل الْمُسَافِرِينَ وَحُلُول الْمِيَاهِ، وَذَلِكَ ضَرْبَانِ:
(أَحَدُهُمَا) : أَنْ يَكُونَ لاِجْتِيَازِ السَّابِلَةِ وَاسْتِرَاحَةِ الْمُسَافِرِينَ فِيهِ. وَهَذَا لاَ نَظَرَ لِلسُّلْطَانِ فِيهِ لِبُعْدِهِ عَنْهُ، وَاَلَّذِي يَخُصُّ السُّلْطَانَ مِنْ ذَلِكَ إِصْلاَحُ عَوْرَتِهِ وَحِفْظُ مِيَاهِهِ، وَالتَّخْلِيَةُ بَيْنَ النَّاسِ وَبَيْنَ نُزُولِهِ، وَيَكُونُ السَّابِقُ إِلَى الْمَنْزِل أَحَقَّ بِحُلُولِهِ فِيهِ مِنَ الْمَسْبُوقِ حَتَّى يَرْتَحِل عَنْهُ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَى مُنَاخُ مَنْ سَبَقَ. (2) فَإِنْ نَزَلُوهُ سَوَاءً، عُدِل بَيْنَهُمْ نَفْيًا لِلتَّنَازُعِ.
(وَالثَّانِي) أَنْ يَكُونَ نُزُولُهُمْ لِلاِسْتِيطَانِ، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَلِلإِْمَامِ مَنْعُهُمْ أَوْ تَرْكُهُمْ حَسَبَ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ. (3)
الْقِسْمُ الثَّانِي:
9 - وَهُوَ مَا يَخْتَصُّ بِأَفْنِيَةِ الدُّورِ وَالأَْمْلاَكِ. يُنْظَرُ، فَإِنْ كَانَ الاِرْتِفَاقُ مُضِرًّا بِهِمْ مُنِعَ اتِّفَاقًا، إِلاَّ أَنْ يَأْذَنُوا بِدُخُول الضَّرَرِ عَلَيْهِمْ.
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 187 ط مصطفى الحلبي، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 208، والمغني لابن قدامة 5 / 577 ط الرياض، والدسوقي 4 / 67 ط دار الفكر.
(2) حديث: " منى مناخ من سبق ". أخرجه الترمذي (33 / 228 - ط الحلبي) وأعله المناوي في الفيض (6 / 244 - ط المكتبة التجارية) بجهالة أحد رواته.
(3) الأحكام السلطانية للماوردي ص 187، والمغني 5 / 577(6/82)
فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُضِرٍّ بِهِمْ فَفِي إِبَاحَةِ ارْتِفَاقِهِمْ بِهِ مِنْ غَيْرِ إِذْنِ أَرْبَابِهَا اتِّجَاهَانِ:
الأَْوَّل: أَنَّ لَهُمْ الاِرْتِفَاقَ بِهَا وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ أَرْبَابُهَا، لأَِنَّ الْحَرِيمَ (وَهُوَ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ أَهْل الدُّورِ مِنْ أَمَاكِنَ غَيْرِ مَمْلُوكَةٍ لأَِحَدٍ) يُعْتَبَرُ مِرْفَقًا إِذَا وَصَل أَهْلُهُ إِلَى حَقِّهِمْ مِنْهُ سَاوَاهُمُ النَّاسُ فِيمَا عَدَاهُ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَالزُّهْرِيِّ، وَهُوَ رَأْيُ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةِ.
الثَّانِي: لاَ يَجُوزُ الاِرْتِفَاقُ بِحَرِيمِهِمْ إِلاَّ عَنْ إِذْنِهِمْ، لأَِنَّهُ تَبَعٌ لأَِمْلاَكِهِمْ فَكَانُوا بِهِ أَحَقَّ، وَبِالتَّصَرُّفِ فِيهِ أَخَصَّ، وَهُوَ رَأْيٌ لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ:
10 - هُوَ مَا اخْتَصَّ بِأَفْنِيَةِ الشَّوَارِعِ وَالطُّرُقَاتِ، فَهُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى نَظَرِ السُّلْطَانِ، وَفِي حُكْمِ نَظَرِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ نَظَرَهُ فِيهِ مَقْصُورٌ عَلَى كَفِّهِمْ عَنِ التَّعَدِّي، وَمَنْعِهِمْ مِنَ الإِْضْرَارِ، وَالإِْصْلاَحِ بَيْنِهِمْ عِنْدَ التَّشَاجُرِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ نَظَرَهُ فِيهِ نَظَرُ مُجْتَهِدٍ فِيمَا يَرَاهُ صَالِحًا، فِي إِجْلاَسِ مَنْ يَجْلِسُ، وَمَنْعِ مَنْ يَمْنَعُهُ، وَتَقْدِيمِ مَنْ يُقَدِّمُهُ. (1)
__________
(1) ابن عابدين 5 / 475، والدسوقي 4 / 67، 68، والأحكام السلطانية للماوردي ص177، 188 والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 209، 210 واللجنة تنبه إلى أن محل هذه التقسيمات والتفصيلات حيث لم يكن هناك تنظيم من ولي الأمر مراعى فيه المصلحة، وإلا فالواجب شرعا الالتزام بأمره، لأن طاعته فيما لا إثم فيه واجبة في كل تصرف منوط بالمصلحة.(6/82)
النَّوْعُ الثَّانِي: إِقْطَاعُ التَّمْلِيكِ:
11 - هُوَ تَمْلِيكٌ مِنَ الإِْمَامِ مُجَرَّدٌ عَنْ شَائِبَةِ الْعِوَضِيَّةِ بِإِحْيَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ. (1)
أَقْسَامُهُ وَحُكْمُ تِلْكَ الأَْقْسَامِ:
12 - يَنْقَسِمُ إِقْطَاعُ التَّمْلِيكِ فِي الأَْرْضِ الْمُقْطَعَةِ إِلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ:
مَوَاتٍ، وَعَامِرٍ، وَمَعَادِنَ.
إِقْطَاعُ الْمَوَاتِ:
إِقْطَاعُ الْمَوَاتِ ضَرْبَانِ:
13 - الضَّرْبُ الأَْوَّل: مَا لَمْ يَزَل مَوَاتًا مِنْ قَدِيمِ الدَّهْرِ، فَلَمْ تَجْرِ فِيهِ عِمَارَةٌ وَلاَ يَثْبُتُ عَلَيْهِ مِلْكٌ، فَهَذَا يَجُوزُ لِلإِْمَامِ أَنْ يُقْطِعَهُ مَنْ يُحْيِيهِ وَمَنْ يُعَمِّرُهُ، وَقَدْ أَقْطَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ رَكْضَ فَرَسِهِ مِنْ مَوَاتِ النَّقِيعِ، فَأَجْرَاهُ، ثُمَّ رَمَى بِسَوْطِهِ رَغْبَةً فِي الزِّيَادَةِ، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَعْطُوهُ مُنْتَهَى سَوْطِهِ. (2)
وَيَمْتَنِعُ بِهِ إِقْدَامُ غَيْرِ الْمُقْطَعِ عَلَى إِحْيَائِهِ، لأَِنَّهُ مَلَكَ رَقَبَتَهُ بِالإِْقْطَاعِ نَفْسِهِ، خِلاَفًا لِلْحَنَابِلَةِ، فَإِنَّهُمْ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ إِقْطَاعَ الْمَوَاتِ مُطْلَقًا لاَ يُفِيدُ تَمْلِيكًا، لَكِنَّهُ يَصِيرُ أَحَقَّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ، فَإِنْ أَحْيَاهُ مَلَكَهُ بِالإِْحْيَاءِ لاَ بِالإِْقْطَاعِ، أَمَّا إِذَا كَانَ الإِْقْطَاعُ مُطْلَقًا، أَوْ مَشْكُوكًا فِيهِ، فَإِنَّهُ يُحْمَل عَلَى إِقْطَاعِ الإِْرْفَاقِ، لأَِنَّهُ الْمُحَقَّقُ. (3)
__________
(1) الدسوقي 4 / 68، والخراج ص 66، والأحكام السلطانية للماوردي ص 190.
(2) حديث: " أعطوه منتهى سوطه ". سبق تخريجه (ف / 6) .
(3) الأحكام السلطانية للماوردي ص 190، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 212، وابن عابدين 3 / 265، والخراج ص 65 ط السلفية القاهرة، وحاشية الدسوقي 4 / 68، والمغني 5 / 579، وحاشية قليوبي 3 / 79، وشرح العناية 9 / 4، ومنتهى الإيرادات 1 / 544، 545، والرهوني 7 / 105، والهندية 5 / 386، ونهاية المحتاج 5 / 328 ط البابي الحلبي.(6/83)
14 - الضَّرْبُ الثَّانِي مِنَ الْمَوَاتِ: مَا كَانَ عَامِرًا فَخَرِبَ، فَصَارَ مَوَاتًا عَاطِلاً، وَذَلِكَ نَوْعَانِ:
(أَحَدُهُمَا) مَا كَانَ عَادِيًّا (أَيْ قَدِيمًا، جَاهِلِيًّا) فَهُوَ كَالْمَوَاتِ الَّذِي لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ عِمَارَةٌ وَيَجُوزُ إِقْطَاعُهُ. قَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَادِيُّ الأَْرْضِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، ثُمَّ هِيَ لَكُمْ مِنِّي (1)
(ثَانِيهِمَا) مَا كَانَ إِسْلاَمِيًّا جَرَى عَلَيْهِ مِلْكُ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ خَرِبَ حَتَّى صَارَ مَوَاتًا عَاطِلاً، وَلاَ يُعْرَفُ لَهُ مَالِكٌ وَلاَ وَرَثَةُ مَالِكٍ. قَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّهُ مَالٌ ضَائِعٌ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى رَأْيِ الإِْمَامِ مُطْلَقًا.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُمْلَكُ بِالإِْحْيَاءِ مُطْلَقًا، إِذَا كَانَتِ الأَْرْضُ غَيْرَ مُقْطَعَةٍ، أَمَّا إِذَا كَانَتْ مُقْطَعَةً فَالرَّاجِحُ عِنْدَهُمْ أَنَّهَا لاَ تُمْلَكُ بِالإِْحْيَاءِ. وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ لَمْ يُعْرَفْ أَرْبَابُهُ مُلِكَ بِالإِْحْيَاءِ، بِشَرْطِ إِقْطَاعِ الإِْمَامِ لَهُ، وَهُوَ رَأْيٌ لِلْحَنَابِلَةِ. (2)
إِقْطَاعُ الْعَامِرِ
إِقْطَاعُ الْعَامِرِ ضَرْبَانِ:
15 - الضَّرْبُ الأَْوَّل: مَا تَعَيَّنَ مَالِكُهُ فَلاَ نَظَرَ
__________
(1) حديث: " عادي الأرض لله ولرسوله ثم هي لكم مني " أخرجه الشافعي في مسنده (2 / 133 - ط مكتب نشر الثقافة الإسلامية) وأعله ابن حجر بالإرسال (التلخيص (3 / 62 ط دار المحاسن) .
(2) الفتاوى الهندية 5 / 386، والرهوني 5 / 105 والأحكام السلطانية للماوردي ص 190، 191، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 213.(6/83)
لِلسُّلْطَانِ فِي إِقْطَاعِهِ اتِّفَاقًا، إِلاَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِتِلْكَ الأَْرْضِ مِنْ حُقُوقِ بَيْتِ الْمَال أَوِ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ. وَهَذَا إِذَا كَانَتْ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ لِمُسْلِمٍ أَمْ لِذِمِّيٍّ. فَإِنْ كَانَتْ فِي دَارِ الْحَرْبِ الَّتِي لاَ يَثْبُتُ لِلْمُسْلِمِينَ عَلَيْهَا يَدٌ، فَأَرَادَ الإِْمَامُ إِقْطَاعَهَا عِنْدَ الظَّفَرِ جَازَ. وَقَدْ: سَأَل تَمِيمٌ الدَّارِيُّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُقْطِعَهُ عُيُونَ الْبَلَدِ الَّذِي كَانَ مِنْهُ بِالشَّامِ قَبْل فَتْحِهِ فَفَعَل. (1)
16 - الضَّرْبُ الثَّانِي مِنَ الْعَامِرِ: مَا لَمْ يَتَعَيَّنْ مَالِكُوهُ وَلَمْ يَتَمَيَّزْ مُسْتَحِقُّوهُ: فَمَا اصْطَفَاهُ الإِْمَامُ لِبَيْتِ الْمَال، وَكَذَلِكَ كُل مَا دَخَل بَيْتَ الْمَال مِنْ أَرْضِ الْخَرَاجِ، أَوْ مَا مَاتَ عَنْهُ أَرْبَابُهُ، وَلَمْ يَسْتَحِقَّهُ وَارِثٌ بِفَرْضٍ وَلاَ تَعْصِيبٍ فَفِي إِقْطَاعِهِ رَأْيَانِ:
الأَْوَّل: عَدَمُ الْجَوَازِ. وَهُوَ رَأْيُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، لأَِنَّهُ لاَ يَجُوزُ إِقْطَاعُ رَقَبَتِهِ لاِصْطِفَائِهِ لِبَيْتِ الْمَال، فَكَانَ بِذَلِكَ مِلْكًا لِكَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ. فَجَرَى عَلَى رَقَبَتِهِ حُكْمُ الْوَقْفِ الْمُؤَبَّدِ.
الثَّانِي: الْجَوَازُ. وَهُوَ رَأْيُ الْحَنَفِيَّةِ، لأَِنَّ لِلإِْمَامِ أَنْ يُجِيزَ مِنْ بَيْتِ الْمَال مَنْ لَهُ غَنَاءٌ فِي الإِْسْلاَمِ، وَمَنْ يَقْوَى بِهِ عَلَى الْعَدُوِّ، وَيَعْمَل فِي ذَلِكَ بِاَلَّذِي يَرَى أَنَّهُ خَيْرٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَأَصْلَحُ لأَِمْرِهِمْ، وَالأَْرْضُ عِنْدَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْمَال يَصِحُّ تَمْلِيكُ رَقَبَتِهَا، كَمَا يُعْطَى الْمَال حَيْثُ ظَهَرَتِ الْمَصْلَحَةُ (2) .
__________
(1) حديث: " أقطع تميم الداري " أخرجه أبو عبيد القاسم بن سلام في الأموال (ص 274 - ط المكتبة التجارية الكبرى) وفي إسناده إرسال.
(2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير 4 / 68، والأحكام السلطانية للماوردي ص 292، 293، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص215، 216، والخراج لأبي يوسف ص 63، وابن عابدين 3 / 265.(6/84)
إِقْطَاعُ الْمَعَادِنِ
الْمَعَادِنُ هِيَ الْبِقَاعُ الَّتِي أَوْدَعَهَا اللَّهُ جَوَاهِرَ الأَْرْضِ. وَهِيَ ضَرْبَانِ: ظَاهِرَةٌ وَبَاطِنَةٌ.
17 - أَمَّا الظَّاهِرَةُ: فَمَا كَانَ جَوْهَرُهَا الْمُسْتَوْدَعُ فِيهَا بَارِزًا. كَمَعَادِنِ الْكُحْل، وَالْمِلْحِ، وَالنَّفْطِ، فَهُوَ كَالْمَاءِ الَّذِي لاَ يَجُوزُ إِقْطَاعُهُ، وَالنَّاسُ فِيهِ سَوَاءٌ، يَأْخُذُهُ مَنْ وَرَدَ إِلَيْهِ، لِمَا وَرَدَ أَنَّ أَبْيَضَ بْنَ حَمَّالٍ اسْتَقْطَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِلْحَ مَأْرَبٍ فَأَقْطَعَهُ، فَقَال الأَْقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِيُّ: يَا رَسُول اللَّهِ إِنِّي وَرَدْتُ هَذَا الْمِلْحَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَهُوَ بِأَرْضٍ لَيْسَ فِيهَا غَيْرُهُ، مَنْ وَرَدَهُ أَخَذَهُ وَهُوَ مِثْل الْمَاءِ الْعِدِّ بِالأَْرْضِ، فَاسْتَقَال أَبْيَضَ قَطِيعَةَ الْمِلْحِ. فَقَال: قَدْ أَقَلْتُكَ عَلَى أَنْ تَجْعَلَهُ مِنِّي صَدَقَةً. فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هُوَ مِنْكَ صَدَقَةٌ، وَهُوَ مِثْل الْمَاءِ الْعِدِّ، مَنْ وَرَدَهُ أَخَذَهُ (1)
وَهُوَ رَأْيُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ أَجَازُوا إِقْطَاعَ الإِْمَامِ لِلْمَعَادِنِ بِغَيْرِ تَمْيِيزٍ بَيْنَ الْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ.
18 - وَأَمَّا الْمَعَادِنُ الْبَاطِنَةُ: فَهِيَ مَا كَانَ جَوْهَرُهُ مُسْتَكِنًّا فِيهَا، لاَ يُوصَل إِلَيْهِ إِلاَّ بِالْعَمَل، كَمَعَادِنِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالصُّفْرِ وَالْحَدِيدِ. فَهَذِهِ وَمَا أَشْبَهَهَا مَعَادِنُ بَاطِنَةٌ، سَوَاءٌ احْتَاجَ الْمَأْخُوذُ مِنْهَا إِلَى سَبْكٍ وَتَصْفِيَةٍ وَتَخْلِيصٍ أَوْ لَمْ يَحْتَجْ. وَقَدْ أَجَازَ إِقْطَاعَهَا الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ رَأْيٌ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَمَنَعَ ذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ الرَّأْيُ الرَّاجِحُ لِلشَّافِعِيَّةِ. (2)
__________
(1) حديث: " استقطع أبيض بن حمال النبي صلى الله عليه وسلم " أخرجه الشافعي في الأم (4 / 42 - شركة الطباعة الفنية) ويحيى بن آدم في الخراج. (ص 110 - ط السلفيه) وصححه أحمد شاكر في التعليق عليه.
(2) الأحكام للماوردي ص 197، 198، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 219، 220، وقليوبي 3 / 94، 95، وابن عابدين 5 / 279، والخرشي 2 / 208.(6/84)
التَّصَرُّفُ فِي الأَْرَاضِيِ الأَْمِيرِيَّةِ:
19 - يَجُوزُ لِلإِْمَامِ أَنْ يَدْفَعَ الأَْرْضَ الأَْمِيرِيَّةَ لِلزِّرَاعَةِ، إِمَّا بِإِقَامَتِهِمْ مَقَامَ الْمُلاَّكِ فِي الزِّرَاعَةِ وَإِعْطَاءِ الْخَرَاجِ، أَوَإِجَارَتِهَا لِلزُّرَّاعِ بِقَدْرِ الْخَرَاجِ، وَعَلَى هَذَا اتَّفَقَ الأَْئِمَّةُ.
وَأَمَّا إِقْطَاعُهَا أَوْ تَمْلِيكُهَا: فَمَنَعَهُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، لأَِنَّهُ صَارَ مِلْكًا عَامًّا لِلْمُسْلِمِينَ، وَأَجَازَهُ الْحَنَفِيَّةُ اعْتِمَادًا عَلَى أَنَّ لِلإِْمَامِ أَنْ يُجِيزَ مِنْ بَيْتِ الْمَال مَنْ لَهُ غَنَاءٌ فِي الإِْسْلاَمِ، كَمَا أَنَّ لَهُ أَنْ يَعْمَل مَا يَرَاهُ خَيْرًا لِلْمُسْلِمِينَ وَأَصْلَحَ، وَالأَْرْضُ عِنْدَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْمَال. (1)
وَعَلَى هَذَا فَمَنْ يُلْغِي إِقْطَاعَهَا لاَ يُجِيزُ تَمْلِيكَهَا، أَوْ إِرْثَهَا أَوْ إِرْثَ اخْتِصَاصِهَا، وَإِنَّمَا مَنَافِعُهَا هِيَ الَّتِي تُمْلَكُ فَقَطْ. فَلَهُ إِيجَارُهَا، وَلِلإِْمَامِ إِخْرَاجُهَا عَنْهُ مَتَى شَاءَ، غَيْرَ أَنَّهُ جَرَى الرَّسْمُ فِي الدَّوْلَةِ الْعُثْمَانِيَّةِ أَنَّ مَنْ مَاتَ عَنِ ابْنٍ انْتَقَل الاِخْتِصَاصُ لِلاِبْنِ مَجَّانًا، وَإِلاَّ فَلِبَيْتِ الْمَال، وَلَوْ لَهُ بِنْتٌ أَوْ أَخٌ لأَِبٍ لَهُ أَخْذُهَا بِالإِْجَارَةِ الْفَاسِدَةِ. وَهَذَا إِذَا كَانَتِ الأَْرَاضِي الأَْمِيرِيَّةُ عَامِرَةً، وَأَمَّا إِذَا كَانَتْ مَوَاتًا فَإِنَّهَا تُمْلَكُ بِالإِْحْيَاءِ، وَتُؤْخَذُ بِالإِْقْطَاعِ كَمَا سَبَقَ، وَتُورَثُ عَنْهُ إِذَا مَاتَ، وَيَصِحُّ بَيْعُهَا، وَعَلَيْهِ وَظِيفَتُهَا مِنْ عُشْرٍ أَوْ خَرَاجٍ (2) وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ - (أَرْضُ الْحَوْزِ) .
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4 / 68، والأحكام السلطانية للماوردي ص 292، 293، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 215، 216، والخراج لأبي يوسف ص63، وابن عابدين 3 / 265.
(2) الدر المنتقى 1 / 671، 672، وابن عابدين 3 / 256، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص218.(6/85)
إِقْطَاعُ الْمَرَافِقِ:
20 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلإِْمَامِ إِقْطَاعُ الْمَرَافِقِ الْعَامَّةِ وَمَا لاَ غِنَى عَنْهُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَكَذَلِكَ أَرْضُ الْمِلْحِ وَالْقَارِ وَنَحْوِهَا. وَكَذَلِكَ مَا قَرُبَ مِنَ الْعَامِرِ، وَتَعَلَّقَتْ بِهِ مَصَالِحُ الْمُسْلِمِينَ، مِنْ طُرُقٍ وَسَيْل مَاءٍ وَمَطْرَحِ قُمَامَةٍ وَمَلْقَى تُرَابٍ وَآلاَتٍ، فَلاَ يَجُوزُ إِقْطَاعُهُ، بِغَيْرِ خِلاَفٍ، وَكَذَلِكَ مَا تَعَلَّقَتْ بِهِ مَصَالِحُ الْقَرْيَةِ، كَفِنَائِهَا وَمَرْعَى مَاشِيَتِهَا وَمُحْتَطَبِهَا وَطُرُقِهَا وَمَسِيل مَائِهَا، لاَ يَجُوزُ إِقْطَاعُهُ (1) .
إِجَارَةُ الإِْقْطَاعَاتِ وَإِعَارَتُهَا:
21 - مَا أَقْطَعَهُ الإِْمَامُ لِلنَّاسِ مِلْكًا، أَوِ اشْتُرِيَ مِنْ بَيْتِ الْمَال شِرَاءً مُسَوِّغًا، فَلاَ خَفَاءَ فِي جَوَازِ إِجَارَتِهِ وَإِعَارَتِهِ، حَيْثُ صَارَ مِلْكًا لِلأَْشْخَاصِ يَتَصَرَّفُونَ فِيهِ تَصَرُّفَ الْمُلاَّكِ، وَمَنْ أَقْطَعَهُ الإِْمَامُ أَرْضًا إِقْطَاعَ انْتِفَاعٍ فِي مُقَابَلَةِ خِدْمَةٍ عَامَّةٍ يُؤَدِّيهَا، وَبِعِبَارَةِ الْفُقَهَاءِ: فِي مُقَابَلَةِ اسْتِعْدَادِهِ لِمَا أُعِدَّ لَهُ، فَإِنَّ لِلْمُقْطَعِ إِجَارَتَهَا وَإِعَارَتَهَا، لأَِنَّهُ مَلَكَهَا مِلْكَ مَنْفَعَةٍ.
وَإِذَا مَاتَ الْمُؤَجِّرُ، أَوْ أَخْرَجَ الإِْمَامُ الأَْرْضَ الْمُقْطَعَةَ مِنْهُ انْفَسَخَتِ الإِْجَارَةُ، لاِنْتِقَال الْمِلْكِ إِلَى غَيْرِ الْمُؤَجِّرِ. (2)
اسْتِرْجَاعُ الإِْقْطَاعَاتِ:
22 - إِذَا أَقْطَعَ الإِْمَامُ أَرْضًا مَوَاتًا، وَتَمَّ إِحْيَاؤُهَا، أَوْ لَمْ تَمْضِ الْمُدَّةُ الْمُقَرَّرَةُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ لِلإِْحْيَاءِ، فَلَيْسَ لَهُ
__________
(1) قليوبي وعميرة 3 / 89، 90، ومطالب أولي النهى 4 / 180، وابن عابدين 5 / 278، والمغني 5 / 566، 580 ط السعودية.
(2) ابن عابدين 3 / 266، وقليوبي وعميرة 3 / 92.(6/85)
اسْتِرْجَاعُ الإِْقْطَاعِ مِنْ مُقْطَعِهِ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ الإِْقْطَاعُ مِنْ بَيْتِ الْمَال بِشِرَاءٍ مَسُوغٍ أَوْ بِمُقَابِلٍ، لأَِنَّهُ فِي الأَْوَّل يَكُونُ تَمْلِيكًا بِالإِْحْيَاءِ، وَفِي الثَّانِي يَكُونُ تَمْلِيكًا بِالشِّرَاءِ فَلاَ يَجُوزُ إِخْرَاجُهُ مِنْهُ إِلاَّ بِحَقِّهِ. (1)
تَرْكُ عِمَارَةِ الأَْرْضِ الْمُقْطَعَةِ:
23 - لاَ يُعَارِضُ الْمُقْطَعُ إِذَا أَهْمَل أَرْضَهُ بِغَيْرِ عِمَارَةٍ قَبْل طُول انْدِرَاسِهَا. وَقَدَّرَ الْحَنَفِيَّةُ ذَلِكَ بِثَلاَثِ سِنِينَ، وَهُوَ رَأْيٌ لِلْمَالِكِيَّةِ. وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ أَحْيَاهَا غَيْرُهُ قَبْل ذَلِكَ كَانَتْ مِلْكًا لِلْمُقْطَعِ. وَقَال الْمَالِكِيَّةُ:
إِنْ أَحْيَاهَا عَالِمًا بِالإِْقْطَاعِ كَانَتْ مِلْكًا لِلْمُقْطَعِ، وَإِنْ أَحْيَاهَا غَيْرَ عَالِمٍ بِالإِْقْطَاعِ، خُيِّرَ الْمُقْطَعُ بَيْنَ أَخْذِهَا وَإِعْطَاءِ الْمُحْيِي نَفَقَةَ عِمَارَتِهِ، وَبَيْنَ تَرْكِهَا لِلْمُحْيِي وَالرُّجُوعِ عَلَيْهِ بِقِيمَةِ الأَْرْضِ الْمُحْيَاةِ. وَقَال سَحْنُونٌ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: لاَ تَخْرُجُ عَنْ مِلْكِ مُحْيِيهَا وَلَوْ طَال انْدِرَاسُهَا، وَإِنْ أَعْمَرَهَا غَيْرُهُ لَمْ تَخْرُجْ عَنْ مِلْكِ الأَْوَّل.
وَلَمْ يَشْتَرِطِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ مُدَّةً مُعَيَّنَةً، وَاعْتَبَرُوا الْقُدْرَةَ عَلَى الإِْحْيَاءِ بَدَلاً مِنْهَا. فَإِنْ مَضَى زَمَانٌ يَقْدِرُ عَلَى إِحْيَائِهَا فِيهِ قِيل لَهُ: إِمَّا أَنْ تُحْيِيَهَا فَتَقِرَّ فِي يَدِكَ، وَإِمَّا أَنْ تَرْفَعَ يَدَكَ عَنْهَا لِتَعُودَ إِلَى حَالِهَا قَبْل الإِْقْطَاعِ. وَقَدِ اعْتَبَرَ الْحَنَابِلَةُ الأَْعْذَارَ الْمَقْبُولَةَ مُسَوِّغًا لِبَقَائِهَا عَلَى مِلْكِهِ بِدُونِ إِحْيَاءٍ، إِلَى أَنْ يَزُول الْعُذْرُ. وَاسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَعَل أَجَل الإِْقْطَاعِ إِلَى ثَلاَثِ سِنِينَ.
__________
(1) المغني 5 / 569، وابن عابدين 5 / 278، والتاج والإكليل على الحطاب 6 / 12، والدسوقي 4 / 69، 70، وقليوبي وعميرة 3 / 90، 91.(6/86)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ التَّأْجِيل لاَ يَلْزَمُ، وَتَأْجِيل عُمَرَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِسَبَبٍ اقْتَضَاهُ. (1)
وَقْفُ الإِْقْطَاعَاتِ:
24 - إِنَّ وَقْفَ الإِْقْطَاعِ يَدُورُ صِحَّةً وَعَدَمًا عَلَى ثُبُوتِ الْمِلْكِيَّةِ وَعَدَمِهِ لِلْوَاقِفِ، فَمَنْ أَثْبَتَهَا لَهُ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ حَكَمَ بِصِحَّةِ وَقْفِ الإِْقْطَاعِ، وَمَنْ لَمْ يُثْبِتْهَا لَمْ يَحْكُمْ بِصِحَّتِهِ. عَلَى أَنَّ لِلإِْمَامِ أَنْ يَقِفَ شَيْئًا مِنْ بَيْتِ الْمَال عَلَى جِهَةٍ أَوْ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ، مَعَ أَنَّهُ لاَ يَمْلِكُ مَا يَقِفُهُ، إِذَا كَانَ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ. (2)
الإِْقْطَاعُ بِشَرْطِ الْعِوَضِ:
25 - الأَْصْل فِي إِقْطَاعِ التَّمْلِيكِ: أَنْ يَكُونَ مُجَرَّدًا عَنِ الْعِوَضِ، فَإِنْ أَقْطَعَهُ الإِْمَامُ عَلَى أَنَّ عَلَيْهِ كَذَا أَوْ كُل عَامٍ كَذَا - جَازَ وَعُمِل بِهِ، وَمَحَل الْعِوَضِ الْمَأْخُوذِ بَيْتُ مَال الْمُسْلِمِينَ، لاَ يَخْتَصُّ الإِْمَامُ بِهِ، لِعَدَمِ مِلْكِهِ لِمَا أَقْطَعَهُ، وَهُوَ رَأْيُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَرَأْيٌ لِلشَّافِعِيَّةِ، حَيْثُ إِنَّ لِلإِْمَامِ أَنْ يَفْعَل مَا يَرَاهُ مَصْلَحَةً لِلْمُسْلِمِينَ. وَهُنَاكَ رَأْيٌ لِلشَّافِعِيَّةِ بِخِلاَفِهِ، وَعَلَّلُوهُ بِأَنَّ الإِْقْطَاعَ عَطِيَّةٌ وَهِبَةٌ وَصِلَةٌ وَلَيْسَ بَيْعًا، وَالأَْثْمَانُ مِنْ صِفَةِ الْبَيْعِ. (3)
__________
(1) الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 213، والأحكام السلطانية للماوردي ص 217 ط التوفيقية، والدسوقي 4 / 66، وابن عابدين 5 / 278.
(2) ابن عابدين 266، و 392، وتحفة المحتاج 214 و 6 / 237 ط دار صادر، والدسوقي 4 / 68 ط عيسى الحلبي، والمغني 5 / 427 ط مكتبة القاهرة.
(3) الخراج لأبي يوسف ص 69، والدسوقي 4 / 68، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 216، والأحكام السلطانية للماوردي ص 220.(6/86)
أَقْطَعُ
التَّعْرِيفُ:
1 - الأَْقْطَعُ لُغَةً: مَقْطُوعُ الْيَدِ (1) .
وَعِنْدَ الْفُقَهَاءِ: يُسْتَعْمَل فِي مَقْطُوعِ الْيَدِ أَوِ الرِّجْل. (2) وَفِي الْعَمَل النَّاقِصِ أَوْ قَلِيل الْبَرَكَةِ (3) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
2 - كُل أَمْرٍ لاَ يُبْدَأُ فِيهِ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَهُوَ أَقْطَعُ (4) كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ.
3 - وَالْمُكَلَّفُ إِنْ كَانَ مَقْطُوعَ الْيَدِ أَوِ الرِّجْل يَسْقُطُ عَنْهُ الْجِهَادُ إِنْ كَانَ فَرْضَ كِفَايَةٍ، لأَِنَّهُ إِذَا سَقَطَ عَنِ الأَْعْرَجِ فَالأَْقْطَعُ أَوْلَى، وَلأَِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى الرِّجْلَيْنِ فِي الْمَشْيِ، وَالْيَدَيْنِ لِيَتَّقِيَ بِأَحَدِهِمَا وَيَضْرِبَ بِالأُْخْرَى. (5)
__________
(1) المصباح المنير مادة: " قطع ".
(2) حاشية أبي السعود على ملا مسكين 2 / 418 ط جمعية المعارف، والقليوبي 4 / 216 ط الخليج، والكافي لابن قدامة 3 / 252.
(3) الشرح الصغير 1 / 3 ط دار المعارف، وشرح الروض 1 / 3 ط الميمنية، ومنار السبيل شرح الدليل 1 / 5 ط مؤسسة دار السلام.
(4) المراجع السابقة. وحديث: " كل أمر لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أقطع ". أخرجه عبد القادر الرهاوي كما في فيض القدير (5 / 13 - ط المكتبة التجارية) ونقل المناوي عن ابن حجر أنه قال: فيه مقال.
(5) حاشية أبي السعود على ملا مسكين 2 / 418، والدسوقي 2 / 175 نشر دار الفكر، والقليوبي 4 / 216، والكافي لابن قدامة 3 / 252.(6/87)
وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ يَجْعَل بَعْضَ الأَْمْرَاضِ الَّتِي تُصِيبُ الْيَدَ أَوِ الرِّجْل عُذْرًا يَمْنَعُ الْخُرُوجَ لِلْقِتَال كَذَلِكَ.
4 - وَمَنْ قُطِعَتْ يَدُهُ أَوْ رِجْلُهُ يَسْقُطُ عَنْهُ فَرْضُ غَسْل الْعُضْوِ الْمَقْطُوعِ فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْل (ر: وُضُوء، غُسْل) .
5 - وَقَطْعُ الْيَدِ وَالرِّجْل صِفَةُ نَقْصٍ فِي إِمَامِ الصَّلاَةِ، وَلِذَلِكَ كَرِهَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِمَامَتَهُ لِغَيْرِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَهَا، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي شُرُوطِ الإِْمَامَةِ. (1)
6 - وَإِنْ قَطَعَ الأَْقْطَعَ مِنْ غَيْرِهِ عُضْوًا مُمَاثِلاً لِلْعُضْوِ الْمَقْطُوعِ أَوْ غَيْرَ مُمَاثِلٍ فَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي (قِصَاص) . وَكَذَلِكَ إِذَا سَرَقَ فَفِي إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ تَفْصِيلٌ: (ر: سَرِقَة) .
إِقْعَاءٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْقْعَاءُ عِنْدَ الْعَرَبِ: إِلْصَاقُ الأَْلْيَتَيْنِ بِالأَْرْضِ، وَنَصْبُ السَّاقَيْنِ وَوَضْعُ الْيَدَيْنِ عَلَى الأَْرْضِ، وَقَال ابْنُ الْقَطَّاعِ: أَقْعَى الْكَلْبُ: جَلَسَ عَلَى أَلْيَتَيْهِ وَنَصَبَ فَخِذَيْهِ، وَأَقْعَى الرَّجُل: جَلَسَ تِلْكَ الْجِلْسَةَ. (2)
وَلِلْفُقَهَاءِ فِي الإِْقْعَاءِ تَفْسِيرَانِ:
الأَْوَّل: نَحْوُ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، وَهُوَ اخْتِيَارُ
__________
(1) المغني 2 / 195، والخرشي 2 / 27، والزرقاني على خليل 8 / 18.
(2) المصباح ومختار الصحاح مادة: " قعي ".(6/87)
الطَّحَاوِيِّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ. (1)
وَالثَّانِي: أَنْ يَضَعَ أَلْيَتَيْهِ عَلَى عَقِبَيْهِ، وَيَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى الأَْرْضِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْكَرْخِيِّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ. (2)
وَجِلْسَةُ الإِْقْعَاءِ غَيْرُ التَّوَرُّكِ وَالاِفْتِرَاشِ، فَالاِفْتِرَاشُ أَنْ يَجْلِسَ عَلَى كَعْبِ يُسْرَاهُ بِحَيْثُ يَلِي ظَهْرُهَا الأَْرْضَ وَيَنْصِبَ يُمْنَاهُ، (3) وَيُخْرِجَهَا مِنْ تَحْتِهِ، وَيَجْعَل بُطُونَ أَصَابِعِهَا عَلَى الأَْرْضِ مُعْتَمِدًا عَلَيْهَا لِتَكُونَ أَطْرَافُ أَصَابِعِهِ إِلَى الْقِبْلَةِ. (4)
وَالتَّوَرُّكُ إِفْضَاءُ أَلْيَةِ وَوَرِكِ وَسَاقِ الرِّجْل الْيُسْرَى لِلأَْرْضِ، وَنَصْبُ الرِّجْل الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى، وَبَاطِنِ إِبْهَامِ الْيُمْنَى لِلأَْرْضِ، فَتَصِيرُ رِجْلاَهُ مَعًا مِنَ الْجَانِبِ الأَْيْمَنِ (5) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - الإِْقْعَاءُ بِالْمَعْنَى الأَْوَّل مَكْرُوهٌ فِي الصَّلاَةِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ، (6) لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الإِْقْعَاءِ فِي الصَّلاَةِ. (7) وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: الإِْقْعَاءُ بِهَذِهِ
__________
(1) شرح الروض 1 / 147، والجمل على المنهج 1 / 341، وابن عابدين 1 / 432 ط بولاق الأولى، وجواهر الإكليل 1 / 54 نشر مكة.
(2) جواهر الإكليل 1 / 54، والخرشي مع حاشية العدوي 1 / 293 نشر دار صادر، وابن عابدين 1 / 432. وشرح الروض 1 / 147، والمغني 1 / 524 ط الرياض.
(3) الجمل على المنهج 1 / 383.
(4) المغني 1 / 523.
(5) جواهر الإكليل 1 / 51.
(6) شرح الروض 1 / 147، وابن عابدين 1 / 350. والمغني 1 / 524.
(7) شرح الروض 1 / 147. وحديث " نهى عن الإقعاء في الصلاة " أخرجه الحاكم (1 / 272 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.(6/88)
الصُّورَةِ حَرَامٌ، وَلَكِنْ لاَ تَبْطُل بِهِ الصَّلاَةُ. (1)
وَأَمَّا الإِْقْعَاءُ بِالْمَعْنَى الثَّانِي فَمَكْرُوهٌ أَيْضًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، إِلاَّ أَنَّ الْكَرَاهَةَ تَنْزِيهِيَّةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. (2) اسْتَدَل الْحَنَابِلَةُ عَلَى هَذَا الرَّأْيِ بِمَا رَوَاهُ الْحَارِثُ عَنْ عَلِيٍّ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تُقْعِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ. (3)
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: الإِْقْعَاءُ بِهَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ سُنَّةٌ، فَفِي مُسْلِمٍ الإِْقْعَاءُ سُنَّةُ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (4) وَفَسَّرَهُ الْعُلَمَاءُ بِهَذَا، وَنَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْبُوَيْطِيِّ وَالإِْمْلاَءِ فِي الْجُلُوسِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، (5) وَنُقِل عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّهُ قَال: لاَ أَفْعَل وَلاَ أَعِيبُ مَنْ فَعَلَهُ، وَقَال: الْعَبَادِلَةُ كَانُوا يَفْعَلُونَهُ. (6)
أَمَّا الإِْقْعَاءُ فِي الأَْكْل فَلاَ يُكْرَهُ (7) ، رَوَى أَنَسٌ
__________
(1) جواهر الإكليل 1 / 54، وحاشية الدسوقي والشرح الكبير 1 / 234.
(2) ابن عابدين 1 / 432، وجواهر الإكليل 1 / 54، الخرشي 1 / 293 والمغني 1 / 524.
(3) المغني 1 / 524 وحديث " لا تقع بين السجدتين " أخرجه ابن ماجه (1 / 289 - ط الحلبي) والترمذي (2 / 72 - ط الحلبي) وقال الترمذي: هذا حديث لا نعرفه من حديث علي إلا من حديث أبي إسحاق عن الحارث عن علي، وقد ضعف أهل العلم الحارث الأعور.
(4) حديث: " الإقعاء سنة نبينا صلى الله عليه وسلم " أخرجه مسلم (1 / 380 - 381 - ط الحلبي)
(5) شرح الروض 1 / 147.
(6) المغني 1 / 524.
(7) دليل الفالحين 3 / 232 ط مصطفى الحلبي الثالثة.(6/88)
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: رَأَيْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسًا مُقْعِيًا يَأْكُل تَمْرًا. (1)
أَقْلَفُ
التَّعْرِيفُ:
1 - الأَْقْلَفُ: هُوَ الَّذِي لَمْ يُخْتَنْ، (2) وَالْمَرْأَةُ قَلْفَاءُ، وَالْفُقَهَاءُ يَخُصُّونَ أَحْكَامَ الأَْقْلَفِ بِالرَّجُل دُونَ الْمَرْأَةِ.
وَيُقَابِل الأَْقْلَفَ فِي الْمَعْنَى - الْمَخْتُونُ.
وَإِزَالَةُ الْقُلْفَةِ مِنَ الأَْقْلَفِ تُسَمَّى خِتَانًا فِي الرَّجُل، وَخَفْضًا فِي الْمَرْأَةِ.
حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ إِزَالَةَ الْقُلْفَةِ مِنَ الأَْقْلَفِ مِنْ سُنَنِ الْفِطْرَةِ، لِتَضَافُرِ الأَْحَادِيثِ عَلَى ذَلِكَ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْفِطْرَةُ خَمْسٌ: الْخِتَانُ، وَالاِسْتِحْدَادُ، وَقَصُّ الشَّارِبِ، وَتَقْلِيمُ الأَْظَافِرِ، وَنَتْفُ الإِْبْطِ. (3) كَمَا سَيَأْتِي تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (خِتَان) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ إِلَى أَنَّ الْخِتَانَ
__________
(1) عن أنس: " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا مقعيا يأكل تمرا. . . " أخرجه مسلم (3 / 1616 - ط الحلبي) .
(2) المصباح المنير، ومواهب الجليل 2 / 105 طبع دار الفكر - بيروت.
(3) تحفة الودود في أحكام المولود ص 114 طبع مطبعة الإمام. وحديث: " الفطرة خمس: الختان، والاستحداد، وقص الشارب. . . " أخرجه مسلم (1 / 221 - ط الحلبي) .(6/89)
فَرْضٌ. وَهُوَ قَوْل ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَالشَّعْبِيِّ وَرَبِيعَةَ الرَّأْيِ وَالأَْوْزَاعِيِّ وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ وَغَيْرِهِمْ، وَعَلَى هَذَا فَإِنَّ الأَْقْلَفَ تَارِكُ فَرْضٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ سُنَّةٌ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ قَوْل الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ (1)
3 - يَخْتَصُّ الأَْقْلَفُ بِبَعْضِ الأَْحْكَامِ:
أ - رَدُّ شَهَادَتِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِنْ كَانَ تَرْكُهُ الاِخْتِتَانَ لِغَيْرِ عُذْرٍ. وَهُوَ مَا يُفْهَمُ مِنْ مَذْهَبَيِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، لأَِنَّهُمْ يَقُولُونَ بِوُجُوبِ الاِخْتِتَانِ، وَتَرْكُ الْوَاجِبِ فِسْقٌ، وَشَهَادَةُ الْفَاسِقِ مَرْدُودَةٌ. وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى كَرَاهَةِ شَهَادَتِهِ. (2)
ب - جَوَازُ ذَبِيحَةِ الأَْقْلَفِ وَصَيْدِهِ، لأَِنَّهُ لاَ أَثَرَ لِلْفِسْقِ فِي الذَّبِيحَةِ وَالصَّيْدِ، وَلِذَلِكَ فَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ - وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - إِلَى أَنَّ ذَبِيحَةَ الأَْقْلَفِ وَصَيْدَهُ يُؤْكَلاَنِ، لأَِنَّ ذَبِيحَةَ النَّصْرَانِيِّ تُؤْكَل فَهَذَا أَوْلَى.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةَ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّ ذَبِيحَةَ الأَْقْلَفِ لاَ تُؤْكَل، وَقَدْ بَيَّنَ الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الذَّبَائِحِ وَالصَّيْدِ. (3)
__________
(1) انظر: تحفة الودود في أحكام المولود ص 116، وأسنى المطالب 4 / 164، والمغني 1 / 85، وأسهل المدارك شرح إرشاد السالك 3 / 364 ط الثانية عيسى البابي الحلبي، والثمر الداني للآبي ص 500 ط الثانية مصطفى البابي الحلبي، وحاشية ابن عابدين 5 / 478 طبعة بولاق الأولى.
(2) الدر المختار بحاشية ابن عابدين 4 / 377، وأسهل المدارك 3 / 364، وأسنى المطالب 4 / 339، والبجيرمي على الخطيب 4 / 292، والمغني 9 / 165، والإنصاف في مسائل الخلاف 2 / 256 - 257 و12 / 43، 44.
(3) ابن عابدين 5 / 189، والتاج والإكليل 3 / 207، والمجموع 9 / 78 نشر المكتبة السلفية، والمغني 8 / 567، وتحفة الودود ص143.(6/89)
ج - إِذَا كَانَ الاِخْتِتَانُ - إِزَالَةُ الْقُلْفَةِ - فَرْضًا، أَوْ سُنَّةً، فَلَوْ أَزَالَهَا إِنْسَانٌ بِغَيْرِ إِذْنِ صَاحِبِهَا فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ. (1)
د - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ هُنَاكَ حَرَجٌ فِي غَسْل مَا تَحْتَ الْقُلْفَةِ فَلاَ يُطْلَبُ تَطْهِيرُهَا دَفْعًا لِلْحَرَجِ.
أَمَّا إِذَا كَانَ تَطْهِيرُهَا مُمْكِنًا مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ فَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ يُوجِبُونَ تَطْهِيرَ مَا تَحْتَ الْقُلْفَةِ فِي الْغُسْل وَالاِسْتِنْجَاءِ، (2) لأَِنَّهَا وَاجِبَةُ الإِْزَالَةِ، وَمَا تَحْتَهَا لَهُ حُكْمُ الظَّاهِرِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى اسْتِحْبَابِ غَسْلِهَا فِي الْغُسْل وَالاِسْتِنْجَاءِ، وَيُفْهَمُ مِنْ عِبَارَةِ مَوَاهِبِ الْجَلِيل أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ لاَ يَرَوْنَ وُجُوبَ غَسْل مَا تَحْتَ الْقُلْفَةِ. (3)
هـ - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُمْ مَنْ يَقُولُونَ بِوُجُوبِ تَطْهِيرِ مَا تَحْتَ الْقُلْفَةِ، إِلَى أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَغْسِل مَا تَحْتَهَا لاَ تَصِحُّ طَهَارَتُهُ، وَبِالتَّالِي لاَ تَصِحُّ إِمَامَتُهُ.
وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَتَصِحُّ إِمَامَتُهُ عِنْدَهُمْ مَعَ الْكَرَاهَةِ التَّنْزِيهِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةُ يَرَوْنَ جَوَازَ إِمَامَةِ الأَْقْلَفِ، وَلَكِنَّهُمْ يَرَوْنَ كَرَاهَةَ تَعْيِينِهِ إِمَامًا رَاتِبًا، وَمَعَ هَذَا لَوْ صَلَّى النَّاسُ خَلْفَهُ لَمْ يُعِيدُوا صَلاَتَهُمْ. (4)
__________
(1) أسنى المطالب 1 / 69.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 103، وأسنى المطالب 1 / 69، وحاشية الجمل 1 / 161، والإنصاف 2 / 256.
(3) مواهب الجليل 2 / 105 - الطبعة الثانية.
(4) تحفة الودود ص 119، ومواهب الجليل 2 / 105، وجواهر الإكليل 1 / 79، والإنصاف في مسائل الخلاف 2 / 256 - 257.(6/90)
أَقَل الْجَمْعِ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْجَمْعُ فِي اللُّغَةِ: تَأْلِيفُ الْمُتَفَرِّقِ، وَضَمُّ الشَّيْءِ بِتَقْرِيبِ بَعْضِهِ مِنْ بَعْضٍ. (1)
وَفِي اصْطِلاَحِ النُّحَاةِ وَالصَّرْفِيِّينَ: اسْمٌ دَل عَلَى جُمْلَةِ آحَادٍ مَقْصُودَةٍ بِحُرُوفِ مُفْرَدِهِ بِتَغَيُّرٍ مَا (2) .
وَفِيمَا يُفِيدُهُ أَقَل الْجَمْعِ مِنْ حَيْثُ الْعَدَدُ آرَاءٌ:
أ - رَأْيُ النُّحَاةِ وَالصَّرْفِيِّينَ:
2 - أَفَادَ الرَّضِيُّ فِي الْكَافِيَةِ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ إِطْلاَقُ الْجَمْعِ عَلَى الْوَاحِدِ وَالاِثْنَيْنِ، فَلاَ يَقَعُ رِجَالٌ عَلَى رَجُلٍ وَلاَ رَجُلَيْنِ (3) .، وَصَرَّحَ ابْنُ يَعِيشَ بِأَنَّ الْقَلِيل الَّذِي جُعِل الْقِلَّةُ لَهُ هُوَ الثَّلاَثَةُ فَمَا فَوْقَهَا إِلَى الْعَشَرَةِ. (4)
ب - رَأْيُ الأُْصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ:
3 - ذَكَرَ الأُْصُولِيُّونَ الْخِلاَفَ فِي أَقَل عَدَدٍ تُطْلَقُ عَلَيْهِ صِيغَةُ الْجَمْعِ، فَجَاءَ فِي التَّلْوِيحِ، وَنَحْوِهِ فِي مُسَلَّمِ الثُّبُوتِ: أَنَّ أَكْثَرَ الصَّحَابَةِ وَالْفُقَهَاءِ وَأَئِمَّةِ اللُّغَةِ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ أَقَل الْجَمْعِ ثَلاَثَةٌ، فَلاَ يَصِحُّ الإِْطْلاَقُ
__________
(1) تاج العروس ولسان العرب.
(2) كشاف اصطلاحات الفنون.
(3) شرح الكافية 2 / 178 ط إستامبول.
(4) شرح المفصل 5 / 9.(6/90)
عَلَى أَقَل مِنْهُ إِلاَّ مَجَازًا، حَتَّى لَوْ حَلَفَ لاَ يَتَزَوَّجُ نِسَاءً لاَ يَحْنَثُ بِتَزَوُّجِ امْرَأَتَيْنِ.
وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ كَحُجَّةِ الإِْسْلاَمِ الْغَزَالِيِّ، وَسِيبَوَيْهِ مِنَ النُّحَاةِ، إِلَى أَنَّ أَقَل الْجَمْعِ اثْنَانِ حَقِيقَةً، حَتَّى يَحْنَثَ بِتَزَوُّجِ امْرَأَتَيْنِ.
وَقِيل: لاَ يَصِحُّ لِلاِثْنَيْنِ لاَ حَقِيقَةً وَلاَ مَجَازًا.
وَبَعْدَ عَرْضِ أَدِلَّةِ كُل فَرِيقٍ، وَالرَّدِّ عَلَيْهَا، يَذْكُرُ صَاحِبَا التَّلْوِيحِ وَمُسَلَّمِ الثُّبُوتِ أَنَّ النِّزَاعَ لَيْسَ فِي لَفْظِ الْجَمْعِ الْمُؤَلَّفِ مِنْ (ج م ع) وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي الْمُسَمَّى، أَيْ فِي الصِّيَغِ الْمُسَمَّاةِ بِهِ، كَرِجَالٍ وَمُسْلِمِينَ. (1)
وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُِمِّهِ السُّدُسُ} (2) أَنَّ أَقَل الْجَمْعِ اثْنَانِ، لأَِنَّ التَّثْنِيَةَ جَمْعُ شَيْءٍ إِلَى مِثْلِهِ، وَاسْتَدَل بِرَأْيِ سِيبَوَيْهِ فِيمَا يَرْوِيهِ عَنِ الْخَلِيل.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْقُرْطُبِيَّ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ أَقَل الْجَمْعِ اثْنَانِ - الْمِيرَاثَ؛ لأَِنَّهُ قَال بَعْدَ ذَلِكَ: وَمِمَّنْ قَال: إِنَّ أَقَل الْجَمْعِ ثَلاَثَةٌ - وَإِنْ لَمْ يَقُل بِهِ هُنَا - (يَقْصِدُ الْمِيرَاثَ) ابْنُ مَسْعُودٍ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُمْ. (3)
وَبِالنَّظَرِ فِي أَبْوَابِ الْفِقْهِ الْمُخْتَلِفَةِ نَجِدُ أَنَّ أَقَل الْجَمْعِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ ثَلاَثَةٌ فَصَاعِدًا عَدَا الْمِيرَاثَ، (4) وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ.
__________
(1) التلويح على التوضيح 1 / 50 ط صبيح، ومسلم الثبوت 1 / 269.
(2) سورة النساء / 11.
(3) تفسير القرطبي 5 / 72، 73 ط دار الكتب.
(4) منتهى الإرادات 2 / 514، 561 ط دار الفكر، والمهذب 1 / 452، 464 ط دار المعرفة، ومنح الجليل 1 / 677 و3 / 413 ط النجاح ليبيا، وابن عابدين3 / 112، و4 / 469 ط بولاق ثالثة.(6/91)
ج - رَأْيُ الْفَرْضِيِّينَ:
4 - الْفَرَضِيُّونَ - عَدَا ابْنَ عَبَّاسٍ - يَعْتَبِرُونَ أَنَّ أَقَل الْجَمْعِ اثْنَانِ، فَقَدْ جَاءَ فِي الْعَذْبِ الْفَائِضِ عِنْدَ الْكَلاَمِ عَلَى مِيرَاثِ الأُْمِّ مَعَ الإِْخْوَةِ أَنَّ أَقَل الْجَمْعِ اثْنَانِ، قَال ابْنُ سُرَاقَةَ وَقَدْ وَرَدَ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} (1) . يُرِيدُ اخْتَصَمَا، ثُمَّ قَال: وَمِنْ أَهْل اللُّغَةِ مَنْ يَجْعَل الاِثْنَيْنِ جَمْعًا حَقِيقَةً، وَقَدْ حُكِيَ عَنِ الْفَرَّاءِ أَنَّهُ قَال: أَوَّل الْجَمْعِ التَّثْنِيَةُ، وَهُوَ الأَْصْل فِي اللُّغَةِ، وَالاِثْنَانِ مِنْ جِنْسِ الإِْخْوَةِ يَرُدَّانِ الأُْمَّ إِلَى السُّدُسِ (2) وَجَاءَ فِي السِّرَاجِيَّةِ أَنَّ حُكْمَ الاِثْنَيْنِ فِي الْمِيرَاثِ حُكْمُ الْجَمَاعَةِ، فَحُكْمُ الْبِنْتَيْنِ وَالأُْخْتَيْنِ كَحُكْمِ الْبَنَاتِ وَالأَْخَوَاتِ فِي اسْتِحْقَاقِ الثُّلُثَيْنِ، فَكَذَا فِي الْحَجْبِ. (3)
وَهَذَا الْحُكْمُ لَمْ يُخَالِفْ فِيهِ سِوَى ابْنِ عَبَّاسٍ.
مَا يَتَفَرَّعُ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ:
أَوَّلاً - عِنْدَ الْفُقَهَاءِ:
5 - يَبْنِي الْفُقَهَاءُ أَحْكَامَهُمْ عَلَى اعْتِبَارِ أَنَّ أَقَل الْجَمْعِ ثَلاَثَةٌ، وَهَذَا فِيمَا يُسْتَعْمَل فِيهِ مِنَ الْمَسَائِل الْفِقْهِيَّةِ الْمُتَفَرِّقَةِ عَدَا مَسَائِل الْمِيرَاثِ، عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ، وَالْوَصِيَّةُ كَذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَتُبْنَى الأَْحْكَامُ فِيهَا بِاعْتِبَارِ أَنَّ أَقَل الْجَمْعِ اثْنَانِ، وَذَلِكَ كَمَا جَاءَ فِي عِبَارَاتِهِمْ.
وَيَجِبُ أَنْ يُلاَحَظَ أَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْجَمْعُ الْمُنَكَّرُ
__________
(1) سورة الحج / 19.
(2) العذب الفائض شرح عمدة الفارض 1 / 56 ط مصطفى الحلبي.
(3) شرح السراجية ص 129 ط الكردي.(6/91)
كَمَا سَنَرَى فِي الأَْمْثِلَةِ، إِذْ هُوَ الَّذِي يَتِمُّ الْحُكْمُ بِانْطِبَاقِهِ عَلَى ثَلاَثَةٍ مِنْ أَفْرَادِهِ بِاعْتِبَارِهَا أَقَل مَا يَنْطَبِقُ عَلَيْهِ.
الأَْمْثِلَةُ فِي غَيْرِ الْمِيرَاثِ:
6 - أ - فِي الْوَصِيَّةِ: مَنْ وَصَّى بِكَفَّارَةِ أَيْمَانٍ فَأَقَل مَا يَجِبُ لِتَنْفِيذِ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ أَنْ يُكَفَّرَ عَنْ ثَلاَثَةِ أَيْمَانٍ، لأَِنَّ الثَّلاَثَةَ أَقَل الْجَمْعِ، وَهَذَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ. (1) أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَيَجِبُ التَّكْفِيرُ عَنْ يَمِينَيْنِ فَصَاعِدًا، اعْتِبَارًا لِمَعْنَى الْجَمْعِ، وَأَقَلُّهُ اثْنَانِ فِي الْوَصِيَّةِ، وَالْوَصِيَّةُ أُخْتُ الْمِيرَاثِ، وَفِي الْمِيرَاثِ أَقَل الْجَمْعِ اثْنَانِ. (2)
ب - فِي الْوَقْفِ: مَنْ وَقَفَ لِجَمَاعَةٍ أَوْ لِجَمْعٍ مِنْ أَقْرَبِ النَّاسِ إِلَيْهِ صُرِفَ رِيعُ الْوَقْفِ إِلَى ثَلاَثَةٍ، لأَِنَّهَا أَقَل الْجَمْعِ، فَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ أَقْرَبُ النَّاسِ إِلَيْهِ ثَلاَثَةً يُتَمَّمُ الْعَدَدُ مِمَّا بَعْدَ الدَّرَجَةِ الأُْولَى. فَمَثَلاً: إِنْ كَانَ لِمَنْ وَقَفَ ابْنَانِ وَأَوْلاَدُ ابْنٍ، فَإِنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ أَوْلاَدِ ابْنِهِ وَاحِدٌ مِنْهُمْ بِالْقُرْعَةِ. وَيُضَمُّ لِلاِبْنَيْنِ وَيُعْطَوْنَ الْوَقْفَ. (3)
ج - فِي الإِْقْرَارِ: لَوْ قَال: لَهُ عِنْدِي دَرَاهِمُ، لَزِمَهُ ثَلاَثَةُ دَرَاهِمَ، لأَِنَّهُ جَمْعٌ، وَأَقَل الْجَمْعِ ثَلاَثَةٌ. (4)
د - فِي الْيَمِينِ: مَنْ حَلَفَ عَلَى تَرْكِ شَيْءٍ، أَوْ عَلَى أَلاَّ يُكَلِّمَ غَيْرَهُ أَيَّامًا أَوْ شُهُورًا أَوْ سِنِينَ، مُنَكِّرًا
__________
(1) منتهى الإرادات 2 / 561، والمهذب 1 / 464.
(2) الاختيار 5 / 78 ط دار المعرفة، والهداية 4 / 251.
(3) منتهى الإرادات 2 / 514، والمهذب 1 / 452.
(4) منح الجليل 33 / 413، والمهذب 2 / 349، والمنثور في القواعد للزركشي 2 / 12 ط الأوقاف بالكويت، وابن عابدين 4 / 469، 470، والمغني 5 / 174.(6/92)
لَفْظَ الأَْيَّامِ وَالشُّهُورِ وَالسِّنِينَ لَزِمَهُ ثَلاَثَةٌ، لأَِنَّهُ أَقَل الْجَمْعِ. (1)
7 - أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْمِيرَاثِ فَتُبْنَى الأَْحْكَامُ فِيهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ أَقَل الْجَمْعِ اثْنَانِ. وَيَتَّضِحُ ذَلِكَ فِي مِيرَاثِ الأُْمِّ مَعَ الإِْخْوَةِ، فَقَدْ أَجْمَعَ أَهْل الْعِلْمِ - إِلاَّ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - عَلَى أَنَّ الأَْخَوَيْنِ (فَصَاعِدًا) ذُكُورًا كَانُوا أَوْ إِنَاثًا يَحْجُبَانِ الأُْمَّ عَنِ الثُّلُثِ إِلَى السُّدُسِ، عَمَلاً بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُِمِّهِ السُّدُسُ} . لأَِنَّ أَقَل الْجَمْعِ هُنَا اثْنَانِ، وَقَدْ قَال الزَّمَخْشَرِيُّ: لَفْظُ الإِْخْوَةِ هُنَا يَتَنَاوَل الأَْخَوَيْنِ، لأَِنَّ الْجَمْعَ مِنَ الاِجْتِمَاعِ، وَأَنَّهُ يَتَحَقَّقُ بِاجْتِمَاعِ الاِثْنَيْنِ. وَلأَِنَّ الْجَمْعَ يُذْكَرُ بِمَعْنَى التَّثْنِيَةِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} (2) هَذَا رَأْيُ الْجُمْهُورِ.
وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَجَعَل الاِثْنَيْنِ مِنَ الإِْخْوَةِ فِي حُكْمِ الْوَاحِدِ وَلاَ يَحْجُبُ الأُْمَّ أَقَل مِنْ ثَلاَثٍ، لِظَاهِرِ الآْيَةِ، وَقَدْ وَقَعَ الْكَلاَمُ فِي ذَلِكَ بَيْنَ عُثْمَانَ وَابْنِ عَبَّاسٍ، فَقَال لَهُ عُثْمَانُ: إِنَّ قَوْمَكَ (يَعْنِي قُرَيْشًا) حَجَبُوهَا - يَعْنِي الأُْمَّ - وَهُمْ أَهْل الْفَصَاحَةِ وَالْبَلاَغَةِ (3) .
ثَانِيًا - عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ:
8 - ذَكَرَ الأُْصُولِيُّونَ الْخِلاَفَ فِي مُسَمَّى الْجَمْعِ، وَهَل يُطْلَقُ عَلَى الثَّلاَثَةِ فَأَكْثَرَ، أَوْ يَصِحُّ أَنْ يُطْلَقَ
__________
(1) منح الجليل 1 / 677 وابن عابدين 3 / 112.
(2) سورة التحريم / 4.
(3) شرح السراجية ص 129، وشرح الرحبية ج 40، والعذب الفائض 1 / 56، وحاشية البغوي ص 19، والقرطبي 5 / 72، 73 ومنح الجليل 3 / 704 والمهذب 2 / 27، والاختيار 5 / 90 ومنتهى الإرادات 2 / 585.(6/92)
عَلَى الاِثْنَيْنِ عَلَى نَحْوِ مَا سَبَقَ بَيَانُهُ.
وَهُمْ يَذْكُرُونَ ذَلِكَ فِي مَعْرِضِ الْكَلاَمِ عَنِ الْعَامِّ وَتَخْصِيصِهِ، بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْجَمْعَ مِنْ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ، وَأَنَّ الْعَامَّ إِذَا كَانَ جَمْعًا مِثْل الرِّجَال جَازَ تَخْصِيصُهُ إِلَى الثَّلاَثَةِ، تَفْرِيعًا عَلَى أَنَّ الثَّلاَثَةَ أَقَل الْجَمْعِ، لأَِنَّ التَّخْصِيصَ إِلَى مَا دُونَ الثَّلاَثَةِ يُخْرِجُ اللَّفْظَ عَنِ الدَّلاَلَةِ عَلَى الْجَمْعِ فَيَصِيرُ نَسْخًا، (1) وَتَفْصِيل هَذَا يُنْظَرُ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
9 - أَقَل الْجَمْعِ يُسْتَعْمَل فِي الْمَسَائِل الَّتِي يُسْتَعْمَل فِيهَا الْجَمْعُ الْمُنَكَّرُ، كَالنَّذْرِ وَالأَْيْمَانِ وَالْعِتْقِ وَالطَّلاَقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
أَقَل مَا قِيل
التَّعْرِيفُ:
1 - الأَْخْذُ بِأَقَل مَا قِيل عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ أَنْ يَخْتَلِفَ الصَّحَابَةُ فِي أَمْرٍ مُقَدَّرٍ عَلَى أَقَاوِيل، فَيُؤْخَذُ بِأَقَلِّهَا، إِذَا لَمْ يَدُل عَلَى الزِّيَادَةِ دَلِيلٌ. وَذَلِكَ مِثْل اخْتِلاَفِهِمْ فِي دِيَةِ الْيَهُودِيِّ هَل هِيَ مُسَاوِيَةٌ لِدِيَةِ الْمُسْلِمِ، أَوْ عَلَى النِّصْفِ، أَوْ عَلَى الثُّلُثِ؟ فَالْقَوْل بِأَقَلِّهَا وَهُوَ الثُّلُثُ - أَخْذٌ بِأَقَل مَا قِيل. (2)
وَيُقَارِبُهُ: الأَْخْذُ بِأَخَفِّ مَا قِيل. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا هُوَ
__________
(1) جمع الجوامع 2 / 3.
(2) إرشاد الفحول ص 244 ط م الحلبي.(6/93)
مِنْ حَيْثُ الْكَمُّ وَالْكَيْفُ.
وَيُقَابِلُهُ: الأَْخْذُ بِأَكْثَرِ مَا قِيل.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - اخْتَلَفَ الأُْصُولِيُّونَ فِي الأَْخْذِ بِأَقَل مَا قِيل، هَل يُعْتَبَرُ دَلِيلاً يُعْتَمَدُ فِي إِثْبَاتِ الْحُكْمِ؟ فَأَثْبَتَهُ الإِْمَامُ الشَّافِعِيُّ، وَالْبَاقِلاَّنِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَقَال الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ مِنْهُمْ: وَحَكَى بَعْضُ الأُْصُولِيِّينَ إِجْمَاعَ أَهْل النَّظَرِ عَلَيْهِ.
وَنَفَاهُ جَمَاعَةٌ، مِنْهُمُ ابْنُ حَزْمٍ، بَل حَكَى قَوْلاً بِأَنَّهُ يُؤْخَذُ بِأَكْثَرِ مَا قِيل، لِيَخْرُجَ عَنْ عُهْدَةِ التَّكْلِيفِ بِيَقِينٍ، وَكَمَا اخْتَلَفُوا فِي الأَْخْذِ بِالأَْقَل اخْتَلَفُوا فِي الأَْخْذِ بِالأَْخَفِّ. وَمَحَل تَفْصِيل ذَلِكَ - الْمُلْحَقُ الأُْصُولِيُّ. (1)
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
3 - ذَكَرَ الأُْصُولِيُّونَ الأَْخْذَ بِأَقَل مَا قِيل فِي مَبْحَثِ الاِسْتِدْلاَل. وَالاِسْتِدْلاَل هُنَا فِي اصْطِلاَحِهِمْ: مَا كَانَ مِنَ الأَْدِلَّةِ لَيْسَ بِنَصٍّ وَلاَ إِجْمَاعٍ وَلاَ قِيَاسٍ. كَمَا ذَكَرُوهُ فِي الْكَلاَمِ عَلَى الإِْجْمَاعِ لِبَيَانِ عَلاَقَتِهِ بِهِ. (2)
اكْتِحَالٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِكْتِحَال لُغَةً: مَصْدَرُ اكْتَحَل. يُقَال اكْتَحَل:
__________
(1) المرجع السابق، وفواتح الرحموت 2 / 242، 258.
(2) المرجعين السابقين.(6/93)
إِذَا وَضَعَ الْكُحْل فِي عَيْنِهِ. (1)
وَهُوَ فِي الاِصْطِلاَحِ مُسْتَعْمَلٌ بِهَذَا الْمَعْنَى.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - اسْتَحَبَّ الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ الاِكْتِحَال وِتْرًا، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: مَنِ اكْتَحَل فَلْيُوتِرْ (2) ، وَأَجَازَهُ مَالِكٌ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ لِلرِّجَال، وَكَرِهَهُ فِي قَوْلِهِ الآْخَرِ لِلتَّشَبُّهِ بِالنِّسَاءِ.
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ، فَقَالُوا بِالْجَوَازِ إِذَا لَمْ يَقْصِدْ بِهِ الرَّجُل الزِّينَةَ، وَأَوْضَحَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْمَمْنُوعَ هُوَ التَّزَيُّنُ لِلتَّكَبُّرِ، لاَ بِقَصْدِ الْجَمَال وَالْوَقَارِ.
وَلاَ خِلاَفَ فِي جَوَازِ الاِكْتِحَال لِلنِّسَاءِ وَلَوْ بِقَصْدِ الزِّينَةِ، وَكَذَلِكَ لِلرِّجَال بِقَصْدِ التَّدَاوِي (3)
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (تَزَيُّن) .
الاِكْتِحَال بِالْمُتَنَجَّسِ:
3 - يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَا يُكْتَحَل بِهِ طَاهِرًا حَلاَلاً، أَمَّا الاِكْتِحَال بِالنَّجِسِ أَوِ الْمُحَرَّمِ فَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ لِعُمُومِ النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ. أَمَّا إِذَا كَانَ الاِكْتِحَال لِضَرُورَةٍ فَقَدْ أَجَازَهُ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَمَنَعَهُ الْمَالِكِيَّةُ (4) .
__________
(1) المصباح المنير في مادة: " كحل ".
(2) حديث: " من اكتحل. . . " أخرجه أبو داود 1 / 33 ط عزت عبيد دعاس، وذكر ابن حجر: أن في إسناده جهالة. (التلخيص الحبير ط شركة الطباعة الفنية) .
(3) الحطاب 1 / 265، وابن عابدين 2 / 113، والبجيرمي على الخطيب 4 / 291 ط المعرفة، والمغني 1 / 93 ط الرياض، والفتاوى الهندية 5 / 359، والفواكه الدواني 2 / 441.
(4) ابن عابدين 1 / 140، 204، 290، 402، 5 / 249، وشرح البهجة 5 / 104، وقليوبي 2 / 134، 4 / 203، والبجيرمي على الخطيب1 / 276، وجواهر الإكليل 2 / 296، والشرح الصغير 1 / 58، والدسوقي 4 / 353 - 354.(6/94)
الاِكْتِحَال فِي الإِْحْرَامِ:
4 - أَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ الاِكْتِحَال بِالإِْثْمِدِ لِلْمُحْرِمِ بِغَيْرِ كَرَاهَةٍ مَا دَامَ بِغَيْرِ طِيبٍ، فَإِذَا كَانَ بِطِيبٍ وَفَعَلَهُ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ، فَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ فَعَلَيْهِ دَمٌ.
وَمَنَعَهُ الْمَالِكِيَّةُ وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ طِيبٍ، إِلاَّ إِذَا كَانَ لِضَرُورَةٍ، فَإِنِ اكْتَحَل فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ.
وَأَجَازَهُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ مَعَ الْكَرَاهَةِ، وَاشْتَرَطَ الْحَنَابِلَةُ عَدَمَ قَصْدِ الزِّينَةِ بِهِ. (1) (ر - إِحْرَام) .
الاِكْتِحَال فِي الصَّوْمِ:
5 - إِذَا اكْتَحَل الصَّائِمُ بِمَا يَصِل إِلَى جَوْفِهِ فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ - وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ تَيْمِيَّةَ - لاَ يَفْسُدُ صَوْمُهُ، وَإِنْ وَجَدَ طَعْمَهُ فِي حَلْقِهِ، وَلَوْنَهُ فِي نُخَامَتِهِ، لأَِنَّهُ لَمْ يَصِل إِلَى الْجَوْفِ مِنْ مَنْفَذٍ مُبَاشِرٍ، بَل بِطَرِيقِ الْمَسَامِّ. (2)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِنَّهُ يُفْسِدُ صَوْمَهُ إِذَا وَصَل إِلَى الْحَلْقِ. (3)
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ (صَوْم) .
الاِكْتِحَال لِلْمُعْتَدَّةِ مِنَ الْوَفَاةِ:
6 - إِذَا كَانَ الاِكْتِحَال بِمَا لاَ يُتَزَيَّنُ بِهِ عَادَةً فَلاَ بَأْسَ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 164، والدسوقي 2 / 61، وقليوبي 2 / 134، والمغني 3 / 327.
(2) فتح القدير 2 / 73، وحواشي الشرواني وابن قاسم العبادي على التحفة 3 / 402، 403، وكشاف القناع 2 / 286، والنووي 6 / 312
(3) الخرشي 2 / 162، والتحفة بشرح المنهاج 3 / 403، والمجموع 6 / 312، والفتاوى لابن تيمية 25 / 233، والإنصاف 3 / 299.(6/94)
بِهِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ لَيْلاً أَوْ نَهَارًا. أَمَّا إِذَا كَانَ مِمَّا يُتَزَيَّنُ بِهِ كَالإِْثْمِدِ، فَالأَْصْل عَدَمُ جَوَازِهِ إِلاَّ لِحَاجَةٍ، فَإِنْ دَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى ذَلِكَ جَازَ. وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْمُرَادَ - فِي هَذِهِ الْحَال - تَكْتَحِل لَيْلاً وَتَغْسِلُهُ نَهَارًا وُجُوبًا. (1)
الاِكْتِحَال لِلْمُعْتَدَّةِ مِنَ الطَّلاَقِ:
7 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى إِبَاحَةِ الاِكْتِحَال لِلْمُعْتَدَّةِ مِنْ طَلاَقٍ رَجْعِيٍّ. بَل صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ يُفْرَضُ عَلَى زَوْجِ الْمُعْتَدَّةِ ثَمَنُ الزِّينَةِ الَّتِي تَسْتَضِرُّ بِتَرْكِهَا.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُعْتَدَّةِ مِنْ طَلاَقٍ بَائِنٍ. قَال الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ رَأْيٌ لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: يَجِبُ عَلَيْهَا تَرْكُ الاِكْتِحَال وَالزِّينَةِ، وَفِي رَأْيٍ لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: يُسْتَحْسَنُ لَهَا ذَلِكَ. (2) أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَعِنْدَهُمُ الإِْبَاحَةُ مُطْلَقًا لِلْمُطَلَّقَةِ (ر - عِدَّة) .
الاِكْتِحَال فِي الاِعْتِكَافِ:
8 - تَكَلَّمَ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى الزِّينَةِ فِي الاِعْتِكَافِ وَالاِكْتِحَال فِيهِ، وَصَرَّحُوا بِأَنَّهُ لاَ يَضُرُّ فِيهِ الاِكْتِحَال وَلاَ الزِّينَةُ. (3) وَقَوَاعِدُ الْمَذَاهِبِ الأُْخْرَى لاَ تُنَافِيهِ. (ر - اعْتِكَاف) .
الاِكْتِحَال فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ:
9 - تَكَلَّمَ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى الاِكْتِحَال فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ وَعَلَى اسْتِحْبَابِهِ، وَأَبَانُوا بِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي ذَلِكَ نَصٌّ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 617، والشرح الصغير 2 / 686، وقليوبي 4 / 53، والمغني 7 / 517، 519.
(2) ابن عابدين 2 / 536، والشرح الصغير 2 / 685، والدسوقي 2 / 510، وقليوبي 4 / 52، 81، والمغني 7 / 527.
(3) قليوبي 2 / 77.(6/95)
صَحِيحٌ، وَقَال بَعْضُهُمْ: بِأَنَّهُ بِدْعَةٌ. (1) (ر - بِدْعَة) .
اكْتِسَابٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِكْتِسَابُ: طَلَبُ الرِّزْقِ وَتَحْصِيل الْمَال عَلَى الْعُمُومِ. (2) وَأَضَافَ الْفُقَهَاءُ إِلَى ذَلِكَ مَا يُفْصِحُ عَنِ الْحُكْمِ، فَقَالُوا: الاِكْتِسَابُ هُوَ تَحْصِيل الْمَال بِمَا حَل مِنَ الأَْسْبَابِ (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْكَسْبُ:
2 - يَفْتَرِقُ الْكَسْبُ عَنِ الاِكْتِسَابِ بِأَنَّ الاِكْتِسَابَ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بِبَذْل الْجُهْدِ، أَمَّا الْكَسْبُ فَإِنَّهُ لاَ يَعْنِي أَكْثَرَ مِنَ الإِْصَابَةِ (4) ، يُقَال: كَسَبَ مَالاً: إِذَا أَصَابَ مَالاً، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ بِبَذْل جُهْدٍ، بِأَنِ اكْتَسَبَهُ بِعَرَقِ جَبِينِهِ، أَوْ كَسَبَهُ مِنْ غَيْرِ جُهْدٍ، كَمَا إِذَا آل إِلَيْهِ بِمِيرَاثٍ مَثَلاً.
ب - الاِحْتِرَافُ، أَوِ الْعَمَل:
3 - يَفْتَرِقُ الاِكْتِسَابُ عَنِ الاِحْتِرَافِ أَوِ الْعَمَل بِأَنَّهُمَا مِنْ وَسَائِل الاِكْتِسَابِ، وَلَيْسَا بِاكْتِسَابٍ، إِذِ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 113.
(2) القاموس المحيط، والمصباح المنير، ولسان العرب مادة " كسب ".
(3) المبسوط للسرخسي 30 / 244 نشر دار المعرفة.
(4) لسان العرب، ومفردات الراغب الأصبهاني.(6/95)
الاِكْتِسَابُ قَدْ يَكُونُ بِاحْتِرَافِ حِرْفَةٍ، وَقَدْ يَكُونُ بِغَيْرِ احْتِرَافِ حِرْفَةٍ، كَمَنْ يَعْمَل يَوْمًا عِنْدَ نَجَّارٍ، وَيَوْمًا عِنْدَ حَدَّادٍ، وَيَوْمًا حَمَّالاً، دُونَ أَنْ يَبْرَعَ أَوْ يَسْتَقِرَّ فِي عَمَلٍ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
4 - أ - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الاِكْتِسَابَ فَرْضٌ عَلَى الْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ إِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ، لأَِنَّهُ بِهِ يَقُومُ الْمُكَلَّفُ بِمَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنَ التَّكَالِيفِ الْمَالِيَّةِ، مِنَ الإِْنْفَاقِ عَلَى النَّفْسِ وَالزَّوْجَةِ وَالأَْوْلاَدِ الصِّغَارِ، وَالأَْبَوَيْنِ الْمُعْسِرَيْنِ، وَالْجِهَادِ فِي سَبِيل اللَّهِ (1) وَغَيْرِ ذَلِكَ.
ب - وَيُفَصِّل ابْنُ مُفْلِحٍ الْحَنْبَلِيُّ حُكْمَ الاِكْتِسَابِ بِحَسَبِ أَحْوَال الْمُكْتَسِبِ، وَخُلاَصَةُ كَلاَمِهِ: يُسَنُّ التَّكَسُّبُ مَعَ تَوَفُّرِ الْكِفَايَةِ لِلْمُكْتَسِبِ، قَال الْمَرْوَزِيُّ: سَمِعْتُ رَجُلاً يَقُول لأَِبِي عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: إِنِّي فِي كِفَايَةٍ، قَال الإِْمَامُ أَحْمَدُ: الْزَمِ السُّوقَ تَصِل بِهِ رَحِمَكَ، وَتَعُدْ بِهِ عَلَى نَفْسِكَ.
وَيُبَاحُ التَّكَسُّبُ لِزِيَادَةِ الْمَال وَالْجَاهِ وَالتَّرَفُّهِ وَالتَّنَعُّمِ وَالتَّوْسِعَةِ عَلَى الْعِيَال، مَعَ سَلاَمَةِ الدِّينِ وَالْعِرْضِ وَالْمُرُوءَةِ وَبَرَاءَةِ الذِّمَّةِ.
وَيَجِبُ التَّكَسُّبُ عَلَى مَنْ لاَ قُوتَ لَهُ وَلَمِنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ، وَعَلَى مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ نَذْرُ طَاعَةٍ أَوْ كَفَّارَةٌ (2) . وَقَدْ فَصَّل الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ فِي أَبْوَابِ النَّفَقَةِ.
وَيَرَى الْمَاوَرْدِيُّ - الشَّافِعِيُّ - فِي كِتَابِهِ أَدَبِ الدُّنْيَا
__________
(1) انظر المبسوط 30 / 244 وما بعدها. .، ومغني المحتاج 3 / 448 وجمع الجوامع 2 / 436 طبع البابي الحلبي 1356.
(2) الآداب الشرعية 3 / 278 و 282 طبع المنار سنة 1349.(6/96)
وَالدِّينِ: أَنَّ طَلَبَ الْمَرْءِ مِنَ الْكَسْبِ قَدْرَ كِفَايَتِهِ، وَالْتِمَاسَهُ مِنْهُ وَفْقَ حَاجَتِهِ هُوَ أَحْمَدُ أَحْوَال الطَّالِبِينَ، وَأَعْدَل مَرَاتِبِ الْقَاصِدِينَ. (1)
مَنْ لاَ يُكَلَّفُ الاِكْتِسَابَ:
5 - أ - لاَ تُكَلَّفُ الْمَرْأَةُ الاِكْتِسَابَ لِلإِْنْفَاقِ عَلَى نَفْسِهَا أَوْ عَلَى غَيْرِهَا، وَتَكُونُ نَفَقَتُهَا إِنْ كَانَتْ فَقِيرَةً وَاجِبَةً عَلَى غَيْرِهَا، سَوَاءٌ كَانَتْ مُتَزَوِّجَةً أَمْ لَيْسَتْ بِذَاتِ زَوْجٍ.
ب - وَلاَ يُكَلَّفُ الصَّغِيرُ الَّذِي لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلْكَسْبِ الاِكْتِسَابَ، وَمِنْ جُمْلَةِ هَذِهِ الأَْهْلِيَّةِ الْقُدْرَةُ الْجَسَدِيَّةُ وَالْفِكْرِيَّةُ الَّتِي يُفَرَّقُ فِيهَا بَيْنَ الْحَلاَل وَالْحَرَامِ، لِمَا رَوَى الإِْمَامُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أَنَّهُ قَال: لاَ تُكَلِّفُوا الصَّغِيرَ الْكَسْبَ، فَإِنَّهُ إِذَا لَمْ يَجِدْ سَرَقَ (2) .
أَمَّا الْكَبِيرُ فَإِنَّهُ يُكَلَّفُ الاِكْتِسَابَ كَمَا تَقَدَّمَ. (3)
طُرُقُ الاِكْتِسَابِ:
6 - إِذَا كَانَ الاِكْتِسَابُ لاَ بُدَّ فِيهِ مِنْ بَذْل الْجَهْدِ - عَلَى خِلاَفِ الْكَسْبِ الَّذِي قَدْ يَكُونُ بِبَذْل الْجَهْدِ، وَقَدْ يَكُونُ بِغَيْرِ بَذْل جَهْدٍ - فَإِنَّهُ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بِالْعَمَل، وَعِنْدَئِذٍ يُشْتَرَطُ فِي الْعَمَل أَنْ يَكُونَ حَلاَلاً، فَلاَ يَجُوزُ الاِكْتِسَابُ بِتَقْدِيمِ الْخَمْرِ
__________
(1) منهاج اليقين بشرح أدب الدنيا والدين ص 370.
(2) الموطأ 2 / 980.
(3) الهداية بشرح فتح القدير 3 / 377 و 382، والحطاب 6 / 336 و 337 طبع ليبيا، وتحفة المحتاج مع الشرواني وابن القاسم 10 / 354 طبع دار صادر بيروت، والمغني مع الشرح الكبير 2 / 269 طبع المنار الأولى.(6/96)
لِشَارِبِيهِ، سَوَاءٌ احْتَرَفَ ذَلِكَ أَمْ لَمْ يَحْتَرِفْهُ، كَمَا يُكْرَهُ الاِكْتِسَابُ عَنْ طَرِيقِ حِرْفَةٍ وَضِيعَةٍ بِقُيُودٍ وَشُرُوطٍ ذُكِرَتْ فِي (احْتِرَاف) .
أَكْدَرِيَّةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الأَْكْدَرِيَّةُ هِيَ: إِحْدَى الْمَسَائِل الْمُلَقَّبَاتِ فِي الْفَرَائِضِ، وَهِيَ زَوْجٌ، وَأُمٌّ، وَجَدٌّ، وَأُخْتٌ لأَِبٍ وَأُمٍّ، أَوْ لأَِبٍ.
وَلُقِّبَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ بِالأَْكْدَرِيَّةِ، لأَِنَّهَا وَاقِعَةُ امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي أَكْدَرَ مَاتَتْ وَخَلَّفَتْ أُولَئِكَ الْوَرَثَةَ الْمَذْكُورِينَ، وَاشْتَبَهَ عَلَى زَيْدٍ مَذْهَبُهُ فِيهَا فَنُسِبَتْ إِلَيْهَا. وَقِيل: إِنَّ شَخْصًا مِنْ هَذِهِ الْقَبِيلَةِ كَانَ يُحْسِنُ مَذْهَبَ زَيْدٍ فِي الْفَرَائِضِ، فَسَأَلَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَأَخْطَأَ فِي جَوَابِهَا، فَنُسِبَتْ إِلَى قَبِيلَتِهِ. وَقِيل: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لأَِنَّهَا كَدَّرَتْ عَلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أُصُولَهُ فِي التَّوْرِيثِ، وَقِيل: لأَِنَّ الْجَدَّ كَدَّرَ عَلَى الأُْخْتِ نَصِيبَهَا، وَأَهْل الْعِرَاقِ يُسَمُّونَهَا الْغَرَّاءَ، لِشُهْرَتِهَا فِيمَا بَيْنَهُمْ (1) .
وَلِلْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ثَلاَثَةُ مَذَاهِبَ:
2 - (أَحَدُهَا) : مَذْهَبُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
__________
(1) المصباح، وترتيب القاموس مادة: " كدر "، وشرح السراجية ص 153 ط مصطفى الحلبي، والعذب الفائض 1 / 90، وشرح الرحبية ص 83 ط صبيح.(6/97)
، وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ أَنَّ لِلزَّوْجِ النِّصْفَ، وَلِلأُْمِّ الثُّلُثَ، وَلِلْجَدِّ السُّدُسَ وَلِلأُْخْتِ النِّصْفَ، ثُمَّ يُضَمُّ نَصِيبُ الْجَدِّ إِلَى نَصِيبِ الأُْخْتِ، وَيُقْسَمُ مَجْمُوعُ النَّصِيبَيْنِ بَيْنَهُمَا، لِلذَّكَرِ مِثْل حَظِّ الأُْنْثَيَيْنِ. (1)
أَصْل الْمَسْأَلَةِ مِنْ سِتَّةٍ، وَتَعُول إِلَى تِسْعَةٍ: لِلزَّوْجِ ثَلاَثَةٌ، وَلِلأُْمِّ اثْنَانِ، وَلِلْجَدِّ وَاحِدٌ، وَلِلأُْخْتِ ثَلاَثَةٌ، وَمَجْمُوعُ النَّصِيبَيْنِ أَرْبَعَةٌ، فَنَقْسِمُهَا عَلَى الْجَدِّ وَالأُْخْتِ لِلذَّكَرِ مِثْل حَظِّ الأُْنْثَيَيْنِ، وَتَصِحُّ مِنْ سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ: لِلزَّوْجِ تِسْعَةٌ، وَلِلأُْمِّ سِتَّةٌ، وَلِلْجَدِّ ثَمَانِيَةٌ، وَلِلأُْخْتِ أَرْبَعَةٌ.
فَقَدْ جَعَل زَيْدٌ هَاهُنَا الأُْخْتَ ابْتِدَاءً صَاحِبَةَ فَرْضٍ، كَيْ لاَ تُحْرَمَ الْمِيرَاثَ بِالْمَرَّةِ، وَجَعَلَهَا عَصَبَةً بِالآْخِرَةِ، كَيْ لاَ يَزِيدَ نَصِيبُهَا عَلَى نَصِيبِ الْجَدِّ الَّذِي هُوَ كَالأَْخِ. (2)
(الْمَذْهَبُ الثَّانِي) : وَهُوَ قَوْل أَبِي بَكْرٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، حَاصِلُهُ: لِلزَّوْجِ النِّصْفُ، وَلِلأُْمِّ الثُّلُثُ، وَالسُّدُسُ الْبَاقِي لِلْجَدِّ، وَتَسْقُطُ الأُْخْتُ، وَقَدْ أَخَذَ بِهَذَا أَبُو حَنِيفَةَ (3) .
(الْمَذْهَبُ الثَّالِثُ) : وَهُوَ قَوْل عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ، لِلزَّوْجِ النِّصْفُ، وَلِلأُْخْتِ النِّصْفُ، وَلِلأُْمِّ السُّدُسُ، وَلِلْجَدِّ السُّدُسُ، وَأَصْلُهَا مِنْ سِتَّةٍ وَتَعُول
__________
(1) شرح الرحبية ص 152، والعذب الفائض 1 / 90، 91، والمغني 6 / 222 ط الرياض.
(2) شرح السراجية ص 152.
(3) شرح الرحبية ص 83.(6/97)
إِلَى ثَمَانِيَةٍ، لِلزَّوْجِ ثَلاَثَةٌ، وَثَلاَثَةٌ لِلأُْخْتِ أَيْضًا وَالْجَدُّ يَأْخُذُ سُدُسًا عَائِلاً وَهُوَ وَاحِدٌ، وَكَذَا الأُْمُّ. (1) وَإِنَّمَا جَعَلُوا لِلأُْمِّ السُّدُسَ كَيْ لاَ يُفَضِّلُوهَا عَلَى الْجَدِّ.
صِلَةُ الأَْكْدَرِيَّةِ بِغَيْرِهَا مِنَ الْمَسَائِل الْمُلَقَّبَاتِ:
3 - الأَْكْدَرِيَّةُ إِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا زَوْجٌ فَهِيَ الْخَرْقَاءُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا جَدٌّ كَانَتِ الْمُبَاهَلَةَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا أُخْتٌ كَانَتْ إِحْدَى الْغَرَّاوَيْنِ، وَأَحْكَامُ هَذِهِ الْمَسَائِل تُذْكَرُ فِي (إِرْث) .
إِكْرَاهٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - قَال فِي لِسَانِ الْعَرَبِ: أَكْرَهْتُهُ، حَمَلْتُهُ عَلَى أَمْرٍ هُوَ لَهُ كَارِهٌ - وَفِي مُفْرَدَاتِ الرَّاغِبِ نَحْوُهُ - وَمَضَى صَاحِبُ اللِّسَانِ يَقُول: وَذَكَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَل الْكُرْهَ وَالْكَرْهَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ الْعَزِيزِ، وَاخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي فَتْحِ الْكَافِ وَضَمِّهَا. قَال أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى: وَلاَ أَعْلَمُ بَيْنَ الأَْحْرُفِ الَّتِي ضَمَّهَا هَؤُلاَءِ وَبَيْنَ الَّتِي فَتَحُوهَا فَرْقًا فِي الْعَرَبِيَّةِ، وَلاَ فِي سُنَّةٍ تُتَّبَعُ.
وَفِي الْمِصْبَاحِ الْمُنِيرِ: " الْكَرْهُ (بِالْفَتْحِ) : الْمَشَقَّةُ، وَبِالضَّمِّ: الْقَهْرُ، وَقِيل: (بِالْفَتْحِ) الإِْكْرَاهُ، " وَبِالضَّمِّ " الْمَشَقَّةُ. وَأَكْرَهْتُهُ عَلَى الأَْمْرِ إِكْرَاهًا: حَمَلْتُهُ عَلَيْهِ قَهْرًا. يُقَال: فَعَلْتُهُ كَرْهًا " بِالْفَتْحِ " أَيْ
__________
(1) المغني 6 / 224.(6/98)
إِكْرَاهًا - وَعَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} (1) فَجَمَعَ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ. (2)
وَلَخَصَّ ذَلِكَ كُلَّهُ فُقَهَاؤُنَا إِذْ قَالُوا: الإِْكْرَاهُ لُغَةً: حَمْل الإِْنْسَانِ عَلَى شَيْءٍ يَكْرَهُهُ، يُقَال: أَكْرَهْتُ فُلاَنًا إِكْرَاهًا: حَمَلْتُهُ عَلَى أَمْرٍ يَكْرَهُهُ. (3) وَالْكَرْهُ " بِالْفَتْحِ " اسْمٌ مِنْهُ (أَيِ اسْمُ مَصْدَرٍ) . (4)
أَمَّا الإِْكْرَاهُ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ فَهُوَ: فِعْلٌ يَفْعَلُهُ الْمَرْءُ بِغَيْرِهِ، فَيَنْتَفِي بِهِ رِضَاهُ، أَوْ يَفْسُدُ بِهِ اخْتِيَارُهُ.
وَعَرَّفَهُ الْبَزْدَوِيُّ بِأَنَّهُ: حَمْل الْغَيْرِ عَلَى أَمْرٍ يَمْتَنِعُ عَنْهُ بِتَخْوِيفٍ يَقْدِرُ الْحَامِل عَلَى إِيقَاعِهِ وَيَصِيرُ الْغَيْرُ خَائِفًا بِهِ. (5)
أَوْ هُوَ: فِعْلٌ يُوجَدُ مِنَ الْمُكْرِهِ (بِكَسْرِ الرَّاءِ) فَيُحْدِثُ فِي الْمَحَل (أَيِ الْمُكْرَهِ بِفَتْحِ الرَّاءِ) مَعْنًى يَصِيرُ بِهِ مَدْفُوعًا إِلَى الْفِعْل الَّذِي طُلِبَ مِنْهُ. (6)
وَالْمَعْنَى الْمَذْكُورُ فِي هَذَا التَّعْرِيفِ، فَسَّرُوهُ بِالْخَوْفِ، (7) وَلَوْ مِمَّا يَفْعَلُهُ الْحُكَّامُ الظَّلَمَةُ بِالْمُتَّهَمِينَ كَيْدًا. فَإِذَا كَانَ الدَّافِعُ هُوَ الْحَيَاءَ مَثَلاً، أَوِ التَّوَدُّدَ، فَلَيْسَ بِإِكْرَاهٍ. (8)
2 - وَالْفِعْل - فِي جَانِبِ الْمُكْرِهِ (بِكَسْرِ الرَّاءِ)
__________
(1) سورة فصلت / 41.
(2) لسان العرب والمصباح المنير مادة: " كره ".
(3) رد المحتار 5 / 80.
(4) مجمع الأنهر 2 / 412.
(5) كشف الأسرار 4 / 1503.
(6) الهداية وتكملة فتح القدير 7 / 292، 293، والبدائع 9 / 4479 ط الإمام، ورد المحتار 5 / 80. ولو عبروا عن المكره (بالكسر) بالحامل، وعن المكره (بالفتح) بالفاعل أو المحمول، لتجنبوا الدور.
(7) رد المحتار 5 / 80.
(8) رد المحتار 5 / 89، المنحة على تحفة ابن عاصم 2 / 41.(6/98)
لَيْسَ عَلَى مَا يَتَبَادَرُ مِنْهُ مِنْ خِلاَفِ الْقَوْل، وَلَوْ إِشَارَةَ الأَْخْرَسِ، أَوْ مُجَرَّدَ الْكِتَابَةِ، بَل هُوَ أَعَمُّ، فَيَشْمَل التَّهْدِيدَ - لأَِنَّهُ مِنْ عَمَل اللِّسَانِ - وَلَوْ مَفْهُومًا بِدَلاَلَةِ الْحَال مِنْ مُجَرَّدِ الأَْمْرِ: كَأَمْرِ السُّلْطَانِ أَوِ الأَْمِيرِ، وَأَمْرِ قَاطِعِ الطَّرِيقِ، وَأَمْرِ الْخَانِقِ الَّذِي يَبْدُو مِنْهُ الإِْصْرَارُ. (1)
وَالْحَنَفِيَّةُ يَقُولُونَ: أَمْرُ السُّلْطَانِ إِكْرَاهٌ - وَإِنْ لَمْ يَتَوَعَّدْ - وَأَمْرُ غَيْرِهِ لَيْسَ بِإِكْرَاهٍ، إِلاَّ أَنْ يَعْلَمَ تَضَمُّنَهُ التَّهْدِيدَ بِدَلاَلَةِ الْحَال. (2)
وَغَيْرُ الْحَنَفِيَّةِ يُسَوُّونَ بَيْنَ ذَوِي الْبَطْشِ وَالسَّطْوَةِ أَيًّا كَانُوا، (3) وَصَاحِبُ الْمَبْسُوطِ نَفْسُهُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ يَقُول: إِنَّ مِنْ عَادَةِ الْمُتَجَبِّرِينَ التَّرَفُّعَ عَنِ التَّهْدِيدِ بِالْقَتْل، وَلَكِنَّهُمْ لاَ يُعَاقِبُونَ مُخَالِفِيهِمْ إِلاَّ بِهِ. (4)
3 - ثُمَّ الْمُرَادُ بِالْفِعْل الْمَذْكُورِ - فِعْلٌ وَاقِعٌ عَلَى الْمُكْرَهِ (بِالْفَتْحِ) نَفْسِهِ - وَلَوْ كَانَ تَهْدِيدًا بِأَخْذِ أَوْ حَبْسِ مَالِهِ الَّذِي لَهُ وَقْعٌ، لاَ التَّافِهِ الَّذِي لاَ يُعْتَدُّ بِهِ، أَوْ تَهْدِيدًا بِالْفُجُورِ بِامْرَأَتِهِ إِنْ لَمْ يُطَلِّقْهَا. (5) وَيَسْتَوِي التَّهْدِيدُ الْمُقْتَرِنُ بِالْفِعْل الْمُهَدَّدِ بِهِ؛ كَمَا فِي حَدِيثِ (6) : أَخَذَ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ، وَغَطَّهُ فِي الْمَاءِ لِيَرْتَدَّ، وَالتَّهْدِيدُ الْمُجَرَّدُ، خِلاَفًا لِمَنْ لَمْ يَعْتَدَّ بِمُجَرَّدِ التَّهْدِيدِ، كَأَبِي
__________
(1) البحر الرائق 8 / 80، 84، ورد المحتار 5 / 80، وتحفة المحتاج 7 / 37، والمنحة على تحفة ابن عاصم 2 / 41.
(2) إتحاف الأبصار ص 440، والأتاسي على المجلة 3 / 561.
(3) قليوبي 4 / 101، وفروع ابن مفلح 3 / 176.
(4) المبسوط 24 / 76.
(5) رد المحتار 5 / 80، وتحفة المحتاج 7 / 37، والمنحة على تحفة ابن عاصم 2 / 41، فروع ابن مفلح 3 / 176.
(6) حديث " أخذ عمار بن ياسر وغطه في الماء ليرتد. . . " أخرجه ابن سعد في طبقاته (3 / 249 - ط دار صادر) وإسناده ضعيف لإرساله.(6/99)
إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، (1) وَاعْتَمَدَهُ. الْخِرَقِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، تَمَسُّكًا بِحَدِيثِ عَمَّارٍ هَذَا، وَاسْتَدَل الآْخَرُونَ بِالْقِيَاسِ حَيْثُ لاَ فَرْقَ، وَإِلاَّ تَوَصَّل الْمُعْتَدُونَ إِلَى أَغْرَاضِهِمْ - بِالتَّهْدِيدِ الْمُجَرَّدِ - دُونَ تَحَمُّل تَبَعَةٍ، أَوْ هَلَكَ الْوَاقِعُ عَلَيْهِمْ هَذَا التَّهْدِيدُ إِذَا رَفَضُوا الاِنْصِيَاعَ لَهُ، فَكَانَ إِلْقَاءً بِالأَْيْدِي فِي التَّهْلُكَةِ، وَكِلاَهُمَا مَحْذُورٌ لاَ يَأْتِي الشَّرْعُ بِمِثْلِهِ. بَل فِي الأَْثَرِ عَنْ عُمَرَ - وَفِيهِ انْقِطَاعٌ - مَا يُفِيدُ هَذَا التَّعْمِيمَ: ذَلِكَ أَنَّ رَجُلاً فِي عَهْدِهِ تَدَلَّى يَشْتَارُ (يَسْتَخْرِجُ) عَسَلاً، فَوَقَفَتِ امْرَأَتُهُ عَلَى الْحَبْل، وَقَالَتْ: طَلِّقْنِي ثَلاَثًا، وَإِلاَّ قَطَعْتُهُ، فَذَكَّرَهَا اللَّهَ وَالإِْسْلاَمَ، فَقَالَتْ: لَتَفْعَلَنَّ، أَوْ لأََفْعَلَنَّ، فَطَلَّقَهَا ثَلاَثًا. وَرُفِعَتِ الْقِصَّةُ إِلَى عُمَرَ، فَرَأَى طَلاَقَ الرَّجُل لَغْوًا، وَرَدَّ عَلَيْهِ الْمَرْأَةَ (2) ، وَلِذَا اعْتَمَدَ ابْنُ قُدَامَةَ عَدَمَ الْفَرْقِ. (3)
وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ أَنَّهُ لَوْ وَقَعَ التَّهْدِيدُ بِقَتْل رَجُلٍ لاَ يَمُتُّ إِلَى الْمُهَدَّدِ بِسَبَبٍ، إِنْ هُوَ لَمْ يَدُل عَلَى مَكَانِ شَخْصٍ بِعَيْنِهِ يُرَادُ لِلْقَتْل، فَإِنَّ هَذَا لاَ يَكُونُ إِكْرَاهًا، (4) حَتَّى لَوْ أَنَّهُ وَقَعَتِ الدَّلاَلَةُ مِمَّنْ طُلِبَتْ مِنْهُ، ثُمَّ قُتِل الشَّخْصُ الْمَذْكُورُ، لَكَانَ الدَّال مُعِينًا عَلَى هَذَا الْقَتْل عَنْ طَوَاعِيَةٍ إِنْ عَلِمَ أَنَّهُ الْمَقْصُودُ. وَالْمُعِينُ شَرِيكٌ لِلْقَاتِل عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْل
__________
(1) روضة الطالبين 8 / 58.
(2) أثر عمر رضي الله عنه " أن رجلا تدلى بحبل ليشتار عسلا " أخرجه البيهقي (7 - 357 - ط دائرة المعارف العثمانية) وقال ابن حجر: وهو منقطع، لأن قدامة لم يدرك عمر التلخيص (3 / 216 - ط دار المحاسن) .
(3) المغني 8 / 261، والشرح الكبير 8 / 243، والشوكاني 6 / 268.
(4) الخرشي 3 / 175، والدسوقي 2 / 328، وقواعد ابن رجب 37.(6/99)
الْعِلْمِ، بِشَرَائِطَ خَاصَّةٍ - وَذَهَبَ أَبُو الْخَطَّابِ الْحَنْبَلِيُّ إِلَى أَنَّ التَّهْدِيدَ فِي أَجْنَبِيٍّ إِكْرَاهٌ فِي الأَْيْمَانِ، وَاسْتَظْهَرَهُ ابْنُ رَجَبٍ (1) .
4 - وَالْفِعْل، فِي جَانِبِ الْمُكْرَهِ (بِفَتْحِ الرَّاءِ) ، هُوَ أَيْضًا أَعَمُّ مِنْ فِعْل اللِّسَانِ وَغَيْرِهِ، إِلاَّ أَنَّ أَفْعَال الْقُلُوبِ لاَ تَقْبَل الإِْكْرَاهَ، فَيَشْمَل الْقَوْل بِلاَ شَكٍّ. (2)
وَفِيمَا يُسَمِّيهِ فُقَهَاؤُنَا بِالْمُصَادَرَةِ فِي أَبْوَابِ الْبُيُوعِ وَمَا إِلَيْهَا، الْفِعْل الَّذِي يُطْلَبُ مِنَ الْمُكْرَهِ (بِالْفَتْحِ) دَفْعُ الْمَال وَغَرَامَتُهُ، لاَ سَبَبُ الْحُصُول عَلَيْهِ مِنْ بَيْعٍ أَوْ غَيْرِهِ - كَاسْتِقْرَاضٍ - فَيَصِحُّ السَّبَبُ وَيَلْزَمُ وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ لاَ مَخْلَصَ لَهُ إِلاَّ بِسَبَبٍ مُعَيَّنٍ، إِلاَّ أَنَّ الْمُكْرِهَ (بِالْكَسْرِ) لَمْ يُعَيِّنْهُ لَهُ فِي إِكْرَاهِهِ إِيَّاهُ. وَلِذَا قَالُوا: إِنَّ الْحِيلَةَ فِي جَعْل السَّبَبِ مُكْرَهًا عَلَيْهِ - أَنْ يَقُول الْمُكْرَهُ (بِالْفَتْحِ) مِنْ أَيْنَ أَتَى بِالْمَال، فَإِذَا عَيَّنَ لَهُ الْمُكْرِهُ (بِالْكَسْرِ) سَبَبًا، كَأَنْ قَال لَهُ: بِعْ كَذَا، أَوْ عِنْدَ ابْنِ نُجَيْمٍ اقْتَصَرَ عَلَى الأَْمْرِ بِالْبَيْعِ دُونَ تَعْيِينِ الْمَبِيعِ، وَقَعَ هَذَا السَّبَبُ الْمُعَيَّنُ تَحْتَ طَائِلَةِ الإِْكْرَاهِ.
وَلَمْ يُخَالِفْ فِي هَذَا إِلاَّ الْمَالِكِيَّةُ - بِاسْتِثْنَاءِ ابْنِ كِنَانَةَ وَمُتَابِعِيهِ - إِذْ جَعَلُوا السَّبَبَ أَيْضًا مُكْرَهًا عَلَيْهِ بِإِطْلاَقٍ. (3)
وَيَشْمَل التَّهْدِيدَ بِإِيذَاءِ الْغَيْرِ، مِمَّنْ يُحِبُّهُ مَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ التَّهْدِيدُ - عَلَى الشَّرْطِ الْمُعْتَبَرِ فِيمَا يَحْصُل بِهِ الإِْكْرَاهُ مِنْ أَسْبَابِهِ الْمُتَعَدِّدَةِ - بِشَرِيطَةِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ
__________
(1) قواعد ابن رجب 37.
(2) أشباه السيوطي 208، وتيسير التحرير 2 / 303.
(3) رد المحتار 5 / 88، والبحر الرائق 8 / 80، والمنحة على العاصمية 2 / 41، وقليوبي على المنهاج 2 / 156.(6/100)
الْمَحْبُوبُ رَحِمًا مَحْرَمًا، أَوْ - كَمَا زَادَ بَعْضُهُمْ - زَوْجَةً. (1)
وَالْمَالِكِيَّةُ، وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ يُقَيِّدُونَهُ بِأَنْ يَكُونَ وَلَدًا وَإِنْ نَزَل، أَوْ وَالِدًا وَإِنْ عَلاَ. وَالشَّافِعِيَّةُ - وَخَرَّجَهُ صَاحِبُ الْقَوَاعِدِ الأُْصُولِيَّةِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ - لاَ يُقَيِّدُونَهُ إِلاَّ بِكَوْنِهِ مِمَّنْ يَشُقُّ عَلَى الْمُكْرَهِ (بِالْفَتْحِ) إِيذَاؤُهُ مَشَقَّةً شَدِيدَةً كَالزَّوْجَةِ، وَالصَّدِيقِ، وَالْخَادِمِ. وَمَال إِلَيْهِ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ. حَتَّى لَقَدِ اعْتَمَدَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ مِنَ الإِْكْرَاهِ مَا لَوْ قَال الْوَالِدُ لِوَلَدِهِ، أَوِ الْوَلَدُ لِوَالِدِهِ (دُونَ غَيْرِهِمَا) : طَلِّقْ زَوْجَتَكَ، وَإِلاَّ قَتَلْتُ نَفْسِي، بِخِلاَفِ مَا لَوْ قَال: وَإِلاَّ كَفَرْتُ، لأَِنَّهُ يَكْفُرُ فِي الْحَال. (2)
وَفِي التَّقْيِيدِ بِالْوَلَدِ أَوِ الْوَالِدِ نَظَرٌ لاَ يَخْفَى.
كَمَا أَنَّهُ يَصْدُقُ عَلَى نَحْوِ الإِْلْقَاءِ مِنْ شَاهِقٍ، أَيِ: الإِْلْجَاءِ بِمَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ الْمُنَافِي لِلْقُدْرَةِ الْمُمْكِنَةِ مِنَ الْفِعْل وَالتَّرْكِ.
وَالْمَالِكِيَّةُ - وَجَارَاهُمُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ - اكْتَفُوا بِظَنِّ الضَّرَرِ مِنْ جَانِبِ الْمُكْرَهِ (بِالْفَتْحِ) إِنْ لَمْ يَفْعَل، وَعِبَارَتُهُمْ: يَكُونُ (أَيِ الإِْكْرَاهُ) بِخَوْفِ مُؤْلِمٍ. (3)
__________
(1) فتح القدير 7 / 293، ورد المحتار 5 / 81، ومجمع الأنهر 2 / 413، والفتاوى الهندية 5 / 41، والتقرير والتحبير 2 / 206.
(2) الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 328، 8 / 441، ونهاية المحتاج 6 / 437، وتحفة المحتاج 7 / 37، والقليوبي على المنهاج 3 / 332، والبجيرمي على المنهج 4 / 64، ومطالب أولي النهى 5 / 325، والإنصاف 8 / 441.
(3) الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 368، والفروع لابن مفلح 3 / 176.(6/100)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
5 - الرِّضَا وَالاِخْتِيَارُ:
الرِّضَا لُغَةً: الاِخْتِيَارُ. يُقَال: رَضِيتُ الشَّيْءَ وَرَضِيتُ بِهِ: اخْتَرْتُهُ.
وَالاِخْتِيَارُ لُغَةً: أَخْذُ مَا يَرَاهُ خَيْرًا. (1)
وَأَمَّا فِي الاِصْطِلاَحِ، فَإِنَّ جُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الرِّضَا وَالاِخْتِيَارِ، لَكِنْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا.
فَالرِّضَا عِنْدَهُمْ هُوَ: امْتِلاَءُ الاِخْتِيَارِ وَبُلُوغُهُ نِهَايَتَهُ، بِحَيْثُ يُفْضِي أَثَرُهُ إِلَى الظَّاهِرِ مِنْ ظُهُورِ الْبَشَاشَةِ فِي الْوَجْهِ وَنَحْوِهَا.
أَوْ هُوَ: إِيثَارُ الشَّيْءِ وَاسْتِحْسَانُهُ. (2)
وَالاِخْتِيَارُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هُوَ: الْقَصْدُ إِلَى مَقْدُورٍ مُتَرَدِّدٍ بَيْنَ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ بِتَرْجِيحِ أَحَدِ جَانِبَيْهِ عَلَى الآْخَرِ.
أَوْ هُوَ: الْقَصْدُ إِلَى الشَّيْءِ وَإِرَادَتُهُ. (3)
حُكْمُ الإِْكْرَاهِ:
6 - الإِْكْرَاهُ بِغَيْرِ حَقٍّ لَيْسَ مُحَرَّمًا فَحَسْبُ، بَل هُوَ إِحْدَى الْكَبَائِرِ، لأَِنَّهُ أَيْضًا يُنْبِئُ بِقِلَّةِ الاِكْتِرَاثِ بِالدَّيْنِ، وَلأَِنَّهُ مِنَ الظُّلْمِ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ: يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلاَ تَظَالَمُوا. . . (4) .
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير. والمفردات للراغب الأصفهاني.
(2) كشف الأسرار 4 / 383، وابن عابدين 4 / 7.
(3) التلويح 2 / 196، وابن عابدين 4 / 7.
(4) نيل الأوطار 8 / 308، والفتاوى الكبرى لابن حجر 4 / 173، وتيسير التحرير 2 / 310. وحديث " يا عبادي إني حرمت الظلم. . " أخرجه مسلم (4 / 1994 - ط الحلبي) .(6/101)
شَرَائِطُ الإِْكْرَاهِ
الشَّرِيطَةُ الأُْولَى:
7 - قُدْرَةُ الْمُكْرِهِ (بِالْكَسْرِ) عَلَى إِيقَاعِ مَا هَدَّدَ بِهِ، لِكَوْنِهِ مُتَغَلِّبًا ذَا سَطْوَةٍ وَبَطْشٍ - وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سُلْطَانًا وَلاَ أَمِيرًا - ذَلِكَ أَنَّ تَهْدِيدَ غَيْرِ الْقَادِرِ لاَ اعْتِبَارَ لَهُ. (1)
الشَّرِيطَةُ الثَّانِيَةُ:
8 - خَوْفُ الْمُكْرَهِ (بِفَتْحِ الرَّاءِ) مِنْ إِيقَاعِ مَا هُدِّدَ بِهِ، وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي تَحَقُّقِ الإِْكْرَاهِ إِذَا كَانَ الْمَخُوفُ عَاجِلاً. فَإِنْ كَانَ آجِلاً، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالأَْذْرَعِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى تَحَقُّقِ الإِْكْرَاهِ مَعَ التَّأْجِيل. وَذَهَبَ جَمَاهِيرُ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ الإِْكْرَاهَ لاَ يَتَحَقَّقُ مَعَ التَّأْجِيل، وَلَوْ إِلَى الْغَدِ.
وَالْمَقْصُودُ بِخَوْفِ الإِْيقَاعِ غَلَبَةُ الظَّنِّ، ذَلِكَ أَنَّ غَلَبَةَ الظَّنِّ مُعْتَبَرَةٌ عِنْدَ عَدَمِ الأَْدِلَّةِ، وَتَعَذُّرِ التَّوَصُّل إِلَى الْحَقِيقَةِ. (2) الشَّرِيطَةُ الثَّالِثَةُ:
9 - أَنْ يَكُونَ مَا هُدِّدَ بِهِ قَتْلاً أَوْ إِتْلاَفَ عُضْوٍ، وَلَوْ بِإِذْهَابِ قُوَّتِهِ مَعَ بَقَائِهِ كَإِذْهَابِ الْبَصَرِ، أَوِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْبَطْشِ أَوِ الْمَشْيِ مَعَ بَقَاءِ أَعْضَائِهَا، (3) أَوْ
__________
(1) المبسوط 24 / 39، ورد المحتار 5 / 80، والخرشي 3 / 175، ومغني المحتاج 3 / 290، والمغني لابن قدامة 8 / 261.
(2) رد المحتار 5 / 80، 88، والمبسوط 24 / 78، 49، 71، والبزازية بهامش الهندية 6 / 131، والخرشي 3 / 174، والشرقاوي على التحرير 2 / 391، تحفة المحتاج 7 / 36 وأسنى المطالب 3 / 283، ومغني المحتاج 3 / 289، 290، والمقنع 3 / 135، والمغني 8 / 261.
(3) وما يحسبه الأخرق مهلكا - وإن لم يكن كذلك - يحقق إكراهه، كما أشرنا سلفا (قليوبي على المنهاج 3 / 332) وقولهم: لا عبرة بالظن البين خطؤه، محله فيما يحتاج إلى النية، لا ما يناط فيه الأمر بالظاهر كما هنا، إذ هو ساقط الطواعية وإن كان بظن فاسد.(6/101)
غَيْرِهِمَا مِمَّا يُوجِبُ غَمًّا يُعْدِمُ الرِّضَا، وَمِنْهُ تَهْدِيدُ الْمَرْأَةِ بِالزِّنَا، وَالرَّجُل بِاللِّوَاطِ.
أَمَّا التَّهْدِيدُ بِالإِْجَاعَةِ، فَيَتَرَاوَحُ بَيْنَ هَذَا وَذَاكَ، فَلاَ يَصِيرُ مُلْجِئًا إِلاَّ إِذَا بَلَغَ الْجُوعُ بِالْمُكْرَهِ (بِالْفَتْحِ) حَدَّ خَوْفِ الْهَلاَكِ. (1)
ثُمَّ الَّذِي يُوجِبُ غَمًّا يُعْدِمُ الرِّضَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الأَْشْخَاصِ وَالأَْحْوَال: فَلَيْسَ الأَْشْرَافُ كَالأَْرَاذِل، وَلاَ الضِّعَافُ كَالأَْقْوِيَاءِ، وَلاَ تَفْوِيتُ الْمَال الْيَسِيرِ كَتَفْوِيتِ الْمَال الْكَثِيرِ، وَالنَّظَرُ فِي ذَلِكَ مُفَوَّضٌ إِلَى الْحَاكِمِ، يُقَدِّرُ لِكُل وَاقِعَةٍ قَدْرَهَا. (2)
الشَّرِيطَةُ الرَّابِعَةُ:
10 - أَنْ يَكُونَ الْمُكْرَهُ مُمْتَنِعًا عَنِ الْفِعْل الْمُكْرَهِ عَلَيْهِ لَوْلاَ الإِْكْرَاهُ، إِمَّا لِحَقِّ نَفْسِهِ - كَمَا فِي إِكْرَاهِهِ عَلَى بَيْعِ مَالِهِ - وَإِمَّا لِحَقِّ شَخْصٍ آخَرَ، وَإِمَّا لِحَقِّ الشَّرْعِ - كَمَا فِي إِكْرَاهِهِ ظُلْمًا عَلَى إِتْلاَفِ مَال شَخْصٍ آخَرَ، أَوْ نَفْسِ هَذَا الشَّخْصِ، أَوِ الدَّلاَلَةِ عَلَيْهِ لِذَلِكَ (3) أَوْ
__________
(1) البدائع 9 / 4481، وأشباه السيوطي ص 209.
(2) المبسوط 24 / 52، والتلويح 2 / 198، ورد المحتار 5 / 81، والخرشي 3 / 174، والمهذب 2 / 79، والفروع 3 / 176.
(3) وله - أو عليه - إذا حلفه الحامل، أن يحلف كاذبا، ويحنث، لأنه مخير بين اليمين والدلالة، كما هي القاعدة عند غير الحنفية والمالكية، فيما اعتمدوه. وقيل: لا تنعقد يمينه أصلا، واختاره ابن رجب من الحنابلة (قواعده 37) ومقتضى قواعد الحنفية والمالكية أن هذا التخيير لا ينافي الإكراه، ولكن يمين المكره منعقدة وصحيحة في رأي الحنفية، وباطلة أو قابلة للإجازة عند المالكية، كما سيجيء(6/102)
عَلَى ارْتِكَابِ مُوجِبِ حَدٍّ فِي خَالِصِ حَقِّ اللَّهِ، كَالزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ (1) .
الشَّرِيطَةُ الْخَامِسَةُ:
11 - أَنْ يَكُونَ مَحَل الْفِعْل الْمُكْرَهِ عَلَيْهِ مُتَعَيِّنًا. وَهَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَبَعْضِ الْحَنَابِلَةِ عَلَى إِطْلاَقِهِ. وَفِي حُكْمِ الْمُتَعَيِّنِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنَ الْحَنَابِلَةِ - مَا لَوْ خُيِّرَ بَيْنَ أُمُورٍ مُعَيَّنَةٍ. (2)
وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا حُكْمُ الْمُصَادَرَةِ الَّذِي سَلَفَ ذِكْرُهُ فِي فِقْرَةِ (4) .
وَمِنْهُ يُسْتَنْبَطُ أَنَّ مَوْقِفَ الْمَالِكِيَّةِ فِي حَالَةِ الإِْبْهَامِ أَدْنَى إِلَى مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ، بَل أَوْغَل فِي الاِعْتِدَادِ بِالإِْكْرَاهِ حِينَئِذٍ، لأَِنَّهُمْ لَمْ يَشْتَرِطُوا أَنْ يَكُونَ مَجَال الإِْبْهَامِ أُمُورًا مُعَيَّنَةً.
أَمَّا الإِْكْرَاهُ عَلَى طَلاَقِ إِحْدَى هَاتَيْنِ الْمَرْأَتَيْنِ، أَوْ قَتْل أَحَدِ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ، فَمِنْ مَسَائِل الْخِلاَفِ الَّذِي صَدَّرْنَا بِهِ هَذِهِ الشَّرِيطَةَ:
فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَمَعَهُمْ مُوَافِقُونَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، يَتَحَقَّقُ الإِْكْرَاهُ بِرَغْمِ هَذَا التَّخْيِيرِ.
وَعِنْدَ جَمَاهِيرِ الشَّافِعِيَّةِ، وَقِلَّةٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ - لاَ يَتَحَقَّقُ؛ لأَِنَّ لَهُ مَنْدُوحَةً عَنْ طَلاَقِ كُلٍّ بِطَلاَقِ الأُْخْرَى، وَكَذَا فِي الْقَتْل، نَتِيجَةَ عَدَمِ تَعْيِينِ الْمَحَل. (3) وَالتَّفْصِيل فِي الْفَصْل الثَّانِي.
__________
(1) رد المحتار 5 / 80، ومغني المحتاج 3 / 239، 290، ونيل المآرب 2 / 73.
(2) رد المحتار 5 / 88، والمبسوط 24 / 61.
(3) فتاوى ابن حجر 4 / 176، وأشباه السيوطي ص 210، ومطالب أولي النهى 5 / 326.(6/102)
الشَّرِيطَةُ السَّادِسَةُ:
12 - أَلاَّ يَكُونَ لِلْمُكْرَهِ مَنْدُوحَةٌ عَنِ الْفِعْل الْمُكْرَهِ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَتْ لَهُ مَنْدُوحَةٌ عَنْهُ، ثُمَّ فَعَلَهُ لاَ يَكُونُ مُكْرَهًا عَلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ خُيِّرَ الْمُكْرَهُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ فَإِنَّ الْحُكْمَ يَخْتَلِفُ تَبَعًا لِتَسَاوِي هَذَيْنِ الأَْمْرَيْنِ أَوْ تَفَاوُتِهِمَا مِنْ حَيْثُ الْحُرْمَةُ وَالْحِل، وَتَفْصِيل الْكَلاَمِ فِي ذَلِكَ كَمَا يَلِي:
إِنَّ الأَْمْرَيْنِ الْمُخَيَّرَ بَيْنَهُمَا إِمَّا أَنْ يَكُونَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُحَرَّمًا لاَ يُرَخَّصُ فِيهِ، وَلاَ يُبَاحُ أَصْلاً، كَمَا لَوْ وَقَعَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الزِّنَا وَالْقَتْل.
أَوْ يَكُونَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُحَرَّمًا يُرَخَّصُ فِيهِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، كَمَا لَوْ وَقَعَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْكُفْرِ وَإِتْلاَفِ مَال الْغَيْرِ.
أَوْ يَكُونَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُحَرَّمًا يُبَاحُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، كَمَا لَوْ وَقَعَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ أَكْل الْمَيْتَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ.
أَوْ يَكُونَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُبَاحًا أَصَالَةً أَوْ لِلْحَاجَةِ، كَمَا لَوْ وَقَعَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ طَلاَقِ امْرَأَتِهِ وَبَيْعِ شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ، أَوْ بَيْنَ جَمْعِ الْمُسَافِرِ الصَّلاَةَ فِي الْحَجِّ وَفِطْرِهِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ.
فَفِي هَذِهِ الصُّوَرِ الأَْرْبَعِ الَّتِي يَكُونُ الأَْمْرَانِ الْمُخَيَّرُ بَيْنَهُمَا مُتَسَاوِيَيْنِ فِي الْحُرْمَةِ أَوِ الْحِل، يَتَرَتَّبُ حُكْمُ الإِْكْرَاهِ عَلَى فِعْل أَيِّ وَاحِدٍ مِنَ الأَْمْرَيْنِ الْمُخَيَّرِ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ الْحُكْمُ الَّذِي سَيَجِيءُ تَقْرِيرُهُ بِخِلاَفَاتِهِ وَكُل مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، لأَِنَّ الإِْكْرَاهَ فِي الْوَاقِعِ لَيْسَ إِلاَّ عَلَى الأَْحَدِ الدَّائِرِ دُونَ تَفَاوُتٍ، وَهَذَا لاَ تَعَدُّدَ فِيهِ، وَلاَ يَتَحَقَّقُ إِلاَّ فِي مُعَيَّنٍ، وَقَدْ خَالَفَ فِي هَذَا أَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ، فَنَفَوْا حُصُول الإِْكْرَاهِ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ.(6/103)
وَإِنْ تَفَاوَتَ الأَْمْرَانِ الْمُخَيَّرُ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُحَرَّمًا لاَ يُرَخَّصُ فِيهِ وَلاَ يُبَاحُ بِحَالٍ كَالزِّنَا وَالْقَتْل، فَإِنَّهُ لاَ يَكُونُ مَنْدُوحَةً، وَيَكُونُ الإِْكْرَاهُ وَاقِعًا عَلَى الْمُقَابِل لَهُ، سَوَاءٌ أَكَانَ هَذَا الْمُقَابِل مُحَرَّمًا يُرَخَّصُ فِيهِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، كَالْكُفْرِ وَإِتْلاَفِ مَال الْغَيْرِ، أَمْ مُحَرَّمًا يُبَاحُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، كَأَكْل الْمَيْتَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ، أَمْ مُبَاحًا أَصَالَةً أَوْ لِلْحَاجَةِ، كَبَيْعِ شَيْءٍ مُعَيَّنٍ مِنْ مَال الْمُكْرَهِ، وَالإِْفْطَارِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى هَذَا الإِْكْرَاهِ حُكْمُهُ الَّذِي سَيَجِيءُ تَفْصِيلُهُ بِخِلاَفَاتِهِ.
وَتَكُونُ هَذِهِ الأَْفْعَال مَنْدُوحَةً مَعَ الْمُحَرَّمِ الَّذِي لاَ يُرَخَّصُ فِيهِ وَلاَ يُبَاحُ بِحَالٍ، أَمَّا هُوَ فَإِنَّهُ لاَ تَكُونُ مَنْدُوحَةً لِوَاحِدٍ مِنْهَا، فَفِي الصُّوَرِ الثَّلاَثَةِ الْمَذْكُورَةِ آنِفًا، وَهِيَ مَا لَوْ وَقَعَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الزِّنَا أَوِ الْقَتْل وَبَيْنَ الْكُفْرِ أَوْ إِتْلاَفِ مَال الْغَيْرِ، أَوْ وَقَعَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الزِّنَا أَوِ الْقَتْل وَبَيْنَ أَكْل الْمَيْتَةِ أَوْ شُرْبِ الْخَمْرِ، أَوْ وَقَعَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الزِّنَا أَوِ الْقَتْل وَبَيْنَ بَيْعِ شَيْءٍ مُعَيَّنٍ مِنَ الْمَال، فَإِنَّ الزِّنَى أَوِ الْقَتْل لاَ يَكُونُ مُكْرَهًا عَلَيْهِ، فَمَنْ فَعَل وَاحِدًا مِنْهُمَا كَانَ فِعْلُهُ صَادِرًا عَنْ طَوَاعِيَةٍ لاَ إِكْرَاهٍ، فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَثَرُهُ إِذَا كَانَ الإِْكْرَاهُ مُلْجِئًا حَتَّى يَتَحَقَّقَ الإِْذْنُ فِي فِعْل الْمَنْدُوحَةِ، وَكَانَ الْفَاعِل عَالِمًا بِالإِْذْنِ لَهُ فِي فِعْل الْمَنْدُوحَةِ عِنْدَ الإِْكْرَاهِ.
وَإِنْ كَانَ أَحَدُ الأَْمْرَيْنِ الْمُخَيَّرِ بَيْنَهُمَا مُحَرَّمًا يُرَخَّصُ فِيهِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَالْمُقَابِل لَهُ مُحَرَّمًا يُبَاحُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، كَمَا لَوْ وَقَعَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْكُفْرِ أَوْ إِتْلاَفِ مَال الْغَيْرِ، وَبَيْنَ أَكْل الْمَيْتَةِ أَوْ شُرْبِ الْخَمْرِ، فَإِنَّهُمَا يَكُونَانِ فِي حُكْمِ الأَْمْرَيْنِ الْمُتَسَاوِيَيْنِ فِي الإِْبَاحَةِ، فَلاَ يَكُونُ أَحَدُهُمَا مَنْدُوحَةً عَنْ فِعْل الآْخَرِ، وَيَكُونُ(6/103)
الإِْكْرَاهُ وَاقِعًا عَلَى فِعْل كُل وَاحِدٍ مِنَ الأَْمْرَيْنِ الْمُخَيَّرِ بَيْنَهُمَا، مَتَى كَانَ بِأَمْرٍ مُتْلِفٍ لِلنَّفْسِ أَوْ لأَِحَدِ الأَْعْضَاءِ.
وَإِنْ كَانَ أَحَدُ الأَْمْرَيْنِ مُحَرَّمًا يُرَخَّصُ فِيهِ أَوْ يُبَاحُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَالْمُقَابِل لَهُ مُبَاحًا أَصَالَةً أَوْ لِلْحَاجَةِ، كَمَا لَوْ وَقَعَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْكُفْرِ أَوْ شُرْبِ الْخَمْرِ، وَبَيْنَ بَيْعِ شَيْءٍ مِنْ مَال الْمُكْرَهِ أَوِ الْفِطْرِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ، فَإِنَّ الْمُبَاحَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَكُونُ مَنْدُوحَةً عَنِ الْفِعْل الْمُحَرَّمِ الَّذِي يُرَخَّصُ فِيهِ أَوْ يُبَاحُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَعَلَى هَذَا يَظَل عَلَى تَحْرِيمِهِ، سَوَاءٌ كَانَ الإِْكْرَاهُ بِمُتْلِفٍ لِلنَّفْسِ أَوِ الْعُضْوِ أَوْ بِغَيْرِ مُتْلِفٍ لأَِحَدِهِمَا، لأَِنَّ الإِْكْرَاهَ بِغَيْرِ الْمُتْلِفِ لاَ يُزِيل الْحَظْرَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مُطْلَقًا. وَالإِْكْرَاهُ بِمُتْلِفٍ - وَإِنْ كَانَ يُزِيل الْحَظْرَ - إِلاَّ أَنَّ إِزَالَتَهُ لَهُ بِطَرِيقِ الاِضْطِرَارِ، وَلاَ اضْطِرَارَ مَعَ وُجُودِ الْمُقَابِل الْمُبَاحِ. (1)
تَقْسِيمُ الإِْكْرَاهِ
يَنْقَسِمُ الإِْكْرَاهُ إِلَى: إِكْرَاهٍ بِحَقٍّ، وَإِكْرَاهٍ بِغَيْرِ حَقٍّ. وَالإِْكْرَاهُ بِغَيْرِ حَقٍّ يَنْقَسِمُ إِلَى إِكْرَاهٍ مُلْجِئٍ، وَإِكْرَاهٍ غَيْرِ مُلْجِئٍ.
أَوَّلاً: الإِْكْرَاهُ بِحَقٍّ:
تَعْرِيفُهُ:
13 - هُوَ الإِْكْرَاهُ الْمَشْرُوعُ، أَيِ الَّذِي لاَ ظُلْمَ فِيهِ
__________
(1) المبسوط 24 / 135، 138، 140، 141، 152، وابن عابدين 5 / 87، 88، والبحر الرائق 8 / 87، وبدائع الصنائع 9 / 4492 - 4493، 4498، والفتاوى الهندية 5 / 40، 41، والفواكه الدواني 2 / 243، والخرشي 2 / 327، 328، 3 / 384، 672، والحموي على الأشباه 1 / 124، وتحفة المحتاج 7 / 573، والغرر على البهجة 5 / 59، والمهذب 1 / 250. والقليوبي على المنهاج 4 / 264 والخرشي 2 / 327، 328.(6/104)
وَلاَ إِثْمَ (1) .
وَهُوَ مَا تَوَافَرَ فِيهِ أَمْرَانِ:
الأَْوَّل: أَنْ يَحِقَّ لِلْمُكْرِهِ التَّهْدِيدُ بِمَا هَدَّدَ بِهِ.
الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُكْرَهُ عَلَيْهِ مِمَّا يَحِقُّ لِلْمُكْرِهِ الإِْلْزَامُ بِهِ. وَعَلَى هَذَا فَإِكْرَاهُ الْمُرْتَدِّ عَلَى الإِْسْلاَمِ إِكْرَاهٌ بِحَقٍّ، حَيْثُ تَوَافَرَ فِيهِ الأَْمْرَانِ، وَكَذَلِكَ إِكْرَاهُ الْمَدِينِ الْقَادِرِ عَلَى وَفَاءِ الدَّيْنِ، وَإِكْرَاهُ الْمُولِي عَلَى الرُّجُوعِ إِلَى زَوْجَتِهِ أَوْ طَلاَقِهَا إِذَا مَضَتْ مُدَّةُ الإِْيلاَءِ (2) .
أَثَرُهُ:
14 - وَالْعُلَمَاءُ عَادَةً يَقُولُونَ: إِنَّ الإِْكْرَاهَ بِحَقٍّ، لاَ يُنَافِي الطَّوْعَ الشَّرْعِيَّ - وَإِلاَّ لَمْ تَكُنْ لَهُ فَائِدَةٌ، وَيَجْعَلُونَ مِنْ أَمْثِلَتِهِ إِكْرَاهَ الْعِنِّينِ عَلَى الْفُرْقَةِ، وَمَنْ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ عَلَى الإِْنْفَاقِ، وَالْمَدِينِ وَالْمُحْتَكِرِ عَلَى الْبَيْعِ، وَكَذَلِكَ مَنْ لَهُ أَرْضٌ بِجِوَارِ الْمَسْجِدِ أَوِ الْمَقْبَرَةِ أَوِ الطَّرِيقِ يُحْتَاجُ إِلَيْهَا مِنْ أَجْل التَّوْسِيعِ، وَمَنْ مَعَهُ طَعَامٌ يَحْتَاجُهُ مُضْطَرٌّ. (3)
ثَانِيًا: الإِْكْرَاهُ بِغَيْرِ حَقٍّ:
تَعْرِيفُهُ:
15 - الإِْكْرَاهُ بِغَيْرِ حَقٍّ هُوَ الإِْكْرَاهُ ظُلْمًا، أَوِ الإِْكْرَاهُ الْمُحَرَّمُ، لِتَحْرِيمِ وَسِيلَتِهِ، أَوْ لِتَحْرِيمِ الْمَطْلُوبِ بِهِ. وَمِنْهُ إِكْرَاهُ الْمُفْلِسِ عَلَى بَيْعِ مَا يُتْرَكُ لَهُ (4) . .
__________
(1) جواهر الإكليل 2 / 3.
(2) فتاوى ابن حجر 4 / 173.
(3) رد المحتار 5 / 80، والخرشي3 / 174، 365، وجواهر الإكليل 2 / 3، والمهذب 2 / 79، والقليوبي على المنهاج 3 / 359، والغرر على البهجة 4 / 248، أشباه السيوطي 206، 211، والقواعد الكبرى لابن حجر ص 31، 221.
(4) الخرشي 3 / 365.(6/104)
الإِْكْرَاهُ الْمُلْجِئُ وَالإِْكْرَاهُ غَيْرُ الْمُلْجِئِ:
16 - تَقْسِيمُ الإِْكْرَاهِ إِلَى مُلْجِئٍ وَغَيْرِ مُلْجِئٍ يَتَفَرَّدُ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ.
فَالإِْكْرَاهُ الْمُلْجِئُ عِنْدَهُمْ هُوَ الَّذِي يَكُونُ بِالتَّهْدِيدِ بِإِتْلاَفِ النَّفْسِ أَوْ عُضْوٍ مِنْهَا، أَوْ بِإِتْلاَفِ جَمِيعِ الْمَال، أَوْ بِقَتْل مَنْ يُهِمُّ الإِْنْسَانَ أَمْرُهُ.
وَحُكْمُ هَذَا النَّوْعِ أَنَّهُ يُعْدِمُ الرِّضَا وَيُفْسِدُ الاِخْتِيَارَ وَلاَ يُعْدِمُهُ. أَمَّا إِعْدَامُهُ لِلرِّضَا، فَلأَِنَّ الرِّضَا هُوَ الرَّغْبَةُ فِي الشَّيْءِ وَالاِرْتِيَاحُ إِلَيْهِ، وَهَذَا لاَ يَكُونُ مَعَ أَيِّ إِكْرَاهٍ.
وَأَمَّا إِفْسَادُهُ لِلاِخْتِيَارِ دُونَ إِعْدَامِهِ، فَلأَِنَّ الاِخْتِيَارَ هُوَ: الْقَصْدُ إِلَى فِعْل الشَّيْءِ أَوْ تَرْكِهِ بِتَرْجِيحٍ مِنَ الْفَاعِل، وَهَذَا الْمَعْنَى لاَ يَزُول بِالإِْكْرَاهِ، فَالْمُكْرَهُ يُوقِعُ الْفِعْل بِقَصْدِهِ إِلَيْهِ، إِلاَّ أَنَّ هَذَا الْقَصْدَ تَارَةً يَكُونُ صَحِيحًا سَلِيمًا، إِذَا كَانَ مُنْبَعِثًا عَنْ رَغْبَةٍ فِي الْعَمَل، وَتَارَةً يَكُونُ فَاسِدًا، إِذَا كَانَ ارْتِكَابًا لأَِخَفِّ الضَّرَرَيْنِ، وَذَلِكَ كَمَنْ أُكْرِهَ عَلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ كِلاَهُمَا شَرٌّ، فَفَعَل أَقَلَّهُمَا ضَرَرًا بِهِ، فَإِنَّ اخْتِيَارَهُ لِمَا فَعَلَهُ لاَ يَكُونُ اخْتِيَارًا صَحِيحًا، بَل اخْتِيَارًا فَاسِدًا.
وَالإِْكْرَاهُ غَيْرُ الْمُلْجِئِ هُوَ: الَّذِي يَكُونُ بِمَا لاَ يُفَوِّتُ النَّفْسَ أَوْ بَعْضَ الأَْعْضَاءِ، كَالْحَبْسِ لِمُدَّةٍ قَصِيرَةٍ، وَالضَّرْبِ الَّذِي لاَ يُخْشَى مِنْهُ الْقَتْل أَوْ تَلَفُ بَعْضِ الأَْعْضَاءِ.
وَحُكْمُ هَذَا النَّوْعِ أَنَّهُ يُعْدِمُ الرِّضَا وَلَكِنْ لاَ يُفْسِدُ الاِخْتِيَارَ، وَذَلِكَ لِعَدَمِ اضْطِرَارِ الْمُكْرَهِ إِلَى الإِْتْيَانِ بِمَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ، لِتَمَكُّنِهِ مِنَ الصَّبْرِ عَلَى تَحَمُّل مَا هُدِّدَ بِهِ بِخِلاَفِ النَّوْعِ الأَْوَّل. (1)
__________
(1) المبسوط 24 / 48، وابن عابدين 5 / 80 - 81، 89، وفتح القدير 7 / 298، والبدائع 9 / 4479.(6/105)
17 - أَمَّا غَيْرُ الْحَنَفِيَّةِ فَلَمْ يُقَسِّمُوا الإِْكْرَاهَ إِلَى مُلْجِئٍ وَغَيْرِ مُلْجِئٍ كَمَا فَعَل الْحَنَفِيَّةُ، وَلَكِنَّهُمْ تَكَلَّمُوا عَمَّا يَتَحَقَّقُ بِهِ الإِْكْرَاهُ وَمَا لاَ يَتَحَقَّقُ، وَمِمَّا قَرَّرُوهُ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ يُؤْخَذُ أَنَّهُمْ جَمِيعًا يَقُولُونَ بِمَا سَمَّاهُ الْحَنَفِيَّةُ إِكْرَاهًا مُلْجِئًا، أَمَّا مَا يُسَمَّى بِالإِْكْرَاهِ غَيْرِ الْمُلْجِئِ فَإِنَّهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِيهِ، فَعَلَى إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ يُعْتَبَرُ إِكْرَاهًا، وَعَلَى الرِّوَايَةِ الأُْخْرَى لاَ يُعْتَبَرُ إِكْرَاهًا.
أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَإِنَّهُ لاَ يُعْتَبَرُ إِكْرَاهًا بِالنِّسْبَةِ لِبَعْضِ الْمُكْرَهِ عَلَيْهِ، وَيُعْتَبَرُ إِكْرَاهًا بِالنِّسْبَةِ لِلْبَعْضِ الآْخَرِ، فَمِنَ الْمُكْرَهِ عَلَيْهِ الَّذِي لاَ يُعْتَبَرُ الإِْكْرَاهُ غَيْرُ الْمُلْجِئِ إِكْرَاهًا فِيهِ: الْكُفْرُ بِالْقَوْل أَوِ الْفِعْل، وَالْمَعْصِيَةُ الَّتِي تَعَلَّقَ بِهَا حَقٌّ لِمَخْلُوقٍ، كَالْقَتْل أَوِ الْقَطْعِ، وَالزِّنَا بِامْرَأَةٍ مُكْرَهَةٍ أَوْ لَهَا زَوْجٌ، وَسَبِّ نَبِيٍّ أَوْ مَلَكٍ أَوْ صَحَابِيٍّ، أَوْ قَذْفٍ لِمُسْلِمٍ.
وَمِنَ الْمُكْرَهِ عَلَيْهِ الَّذِي يُعْتَبَرُ الإِْكْرَاهُ غَيْرُ الْمُلْجِئِ إِكْرَاهًا فِيهِ: شُرْبُ الْخَمْرِ، وَأَكْل الْمَيْتَةِ، وَالطَّلاَقُ وَالأَْيْمَانُ وَالْبَيْعُ وَسَائِرُ الْعُقُودِ وَالْحُلُول وَالآْثَارِ (1) .
أَثَرُ الإِْكْرَاهِ:
18 - هَذَا الأَْثَرُ مَوْضِعُ خِلاَفٍ، بَيْنَ الْحَنَفِيَّةِ وَغَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ، عَلَى النَّحْوِ الآْتِي:
أَثَرُ الإِْكْرَاهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ:
19 - يَخْتَلِفُ أَثَرُ الإِْكْرَاهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بِاخْتِلاَفِ الْقَوْل أَوِ الْفِعْل الَّذِي يَقَعُ الإِْكْرَاهُ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ الْمُكْرَهُ عَلَيْهِ مِنَ الإِْقْرَارَاتِ، كَانَ أَثَرُ الإِْكْرَاهِ إِبْطَال الإِْقْرَارِ وَإِلْغَاءَهُ، سَوَاءٌ كَانَ الإِْكْرَاهُ مُلْجِئًا أَمْ غَيْرَ
__________
(1) جواهر الإكليل 2 / 281، وبلغة السالك 1 / 452، والخرشي 3 / 175، 176، وتحفة المحتاج 7 / 369، الأشباه للسيوطي ص209، ومغني المحتاج 3 / 290، والفروع 3 / 384، 476.(6/105)
مُلْجِئٍ. فَمَنْ أُكْرِهَ عَلَى الاِعْتِرَافِ بِمَالٍ أَوْ زَوَاجٍ أَوْ طَلاَقٍ كَانَ اعْتِرَافُهُ بَاطِلاً، وَلاَ يُعْتَدُّ بِهِ شَرْعًا، لأَِنَّ الإِْقْرَارَ إِنَّمَا جُعِل حُجَّةً فِي حَقِّ الْمُقِرِّ بِاعْتِبَارِ تَرَجُّحِ جَانِبِ الصِّدْقِ فِيهِ عَلَى جَانِبِ الْكَذِبِ، وَلاَ يَتَحَقَّقُ هَذَا التَّرْجِيحُ مَعَ الإِْكْرَاهِ، إِذْ هُوَ قَرِينَةٌ قَوِيَّةٌ عَلَى أَنَّ الْمُقِرَّ لاَ يَقْصِدُ بِإِقْرَارِهِ الصِّدْقَ فِيمَا أَقَرَّ بِهِ، وَإِنَّمَا يَقْصِدُ دَفْعَ الضَّرَرِ الَّذِي هُدِّدَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ.
وَإِنْ كَانَ الْمُكْرَهُ عَلَيْهِ مِنَ الْعُقُودِ وَالتَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ كَالْبَيْعِ وَالإِْجَارَةِ وَالرَّهْنِ وَنَحْوِهَا كَانَ أَثَرُ الإِْكْرَاهِ فِيهَا إِفْسَادَهَا لاَ إِبْطَالَهَا، فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْعَقْدِ الْفَاسِدِ، حَسَبَ مَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يَنْقَلِبُ صَحِيحًا لاَزِمًا بِإِجَازَةِ الْمُكْرَهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَبَضَ الْمُكْرَهُ الثَّمَنَ، أَوْ سَلَّمَ الْمَبِيعَ طَوْعًا، يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ صِحَّةُ الْبَيْعِ وَلُزُومُهُ. (1)
وَحُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ أَنَّ الإِْكْرَاهَ عِنْدَهُمْ لاَ يُعْدِمُ الاِخْتِيَارَ الَّذِي هُوَ تَرْجِيحُ فِعْل الشَّيْءِ عَلَى تَرْكِهِ أَوِ الْعَكْسُ، وَإِنَّمَا يُعْدِمُ الرِّضَا الَّذِي هُوَ الاِرْتِيَاحُ إِلَى الشَّيْءِ وَالرَّغْبَةُ فِيهِ، وَالرِّضَا لَيْسَ رُكْنًا مِنْ أَرْكَانِ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ وَلاَ شَرْطًا مِنْ شُرُوطِ انْعِقَادِهَا، وَإِنَّمَا هُوَ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ صِحَّتِهَا، فَإِذَنْ فَقَدْ تَرَتَّبَ عَلَى فِقْدَانِهِ فَسَادُ الْعَقْدِ لاَ بُطْلاَنُهُ. وَلَكِنَّهُمُ اسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ بَعْضَ التَّصَرُّفَاتِ، فَقَالُوا بِصِحَّتِهِمَا مَعَ الإِْكْرَاهِ، وَلَوْ كَانَ مُلْجِئًا، وَمِنْ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ: الزَّوَاجُ وَالطَّلاَقُ وَمُرَاجَعَةُ الزَّوْجَةِ وَالنَّذْرُ وَالْيَمِينُ.
وَعَلَّلُوا هَذَا بِأَنَّ الشَّارِعَ اعْتَبَرَ اللَّفْظَ فِي هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ - عِنْدَ الْقَصْدِ إِلَيْهِ - قَائِمًا مَقَامَ إِرَادَةِ مَعْنَاهُ، فَإِذَا وُجِدَ اللَّفْظُ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ أَثَرُهُ الشَّرْعِيُّ،
__________
(1) ابن عابدين 4 / 4، 5 / 83 وما بعدها.(6/106)
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِقَائِلِهِ قَصْدٌ إِلَى مَعْنَاهُ، كَمَا فِي الْهَازِل، فَإِنَّ الشَّارِعَ اعْتَبَرَ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ صَحِيحَةً إِذَا صَدَرَتْ مِنْهُ، مَعَ انْعِدَامِ قَصْدِهِ إِلَيْهَا، وَعَدَمُ رِضَاهُ بِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الآْثَارِ.
وَإِنْ كَانَ الْمُكْرَهُ عَلَيْهِ مِنَ الأَْفْعَال، كَالإِْكْرَاهِ عَلَى قَتْل مَنْ لاَ يَحِل قَتْلُهُ، أَوْ إِتْلاَفِ مَالٍ لِغَيْرِهِ أَوْ شُرْبِ الْخَمْرِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَالْحُكْمُ فِيهَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ نَوْعِ الإِْكْرَاهِ وَالْفِعْل الْمُكْرَهِ عَلَيْهِ.
20 - فَإِنْ كَانَ الإِْكْرَاهُ غَيْرَ مُلْجِئٍ - وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ بِمَا لاَ يُفَوِّتُ النَّفْسَ، أَوْ بَعْضَ الأَْعْضَاءِ كَالْحَبْسِ لِمُدَّةٍ قَصِيرَةٍ، أَوْ أَخْذِ الْمَال الْيَسِيرِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ - فَلاَ يَحِل الإِْقْدَامُ عَلَى الْفِعْل. وَإِذَا أَقْدَمَ الْمُكْرَهُ (بِالْفَتْحِ) عَلَى الْفِعْل بِنَاءً عَلَى هَذَا الإِْكْرَاهِ كَانَتِ الْمَسْئُولِيَّةُ عَلَيْهِ وَحْدَهُ، لاَ عَلَى مَنْ أَكْرَهَهُ
21 - وَإِنْ كَانَ الإِْكْرَاهُ مُلْجِئًا - وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ بِالْقَتْل أَوْ تَفْوِيتِ بَعْضِ الأَْعْضَاءِ أَوِ الْعَمَل الْمُهِينِ لِذِي الْجَاهِ - فَالأَْفْعَال بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ:
أ - أَفْعَالٌ أَبَاحَهَا الشَّارِعُ أَصَالَةً دُونَ إِكْرَاهٍ كَالأَْكْل وَالشُّرْبِ، فَإِنَّهُ إِذَا أُكْرِهَ عَلَى ارْتِكَابِهَا وَجَبَ عَلَى الْمُكْرَهِ (بِالْفَتْحِ) أَنْ يَرْتَكِبَ أَخَفَّ الضَّرَرَيْنِ. (1)
ب - أَفْعَالٌ أَبَاحَ الشَّارِعُ إِتْيَانَهَا عِنْدَ الضَّرُورَةِ، كَشُرْبِ الْخَمْرِ وَأَكْل لَحْمِ الْمَيْتَةِ أَوِ الْخِنْزِيرِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ كُل مَا حُرِّمَ لِحَقِّ اللَّهِ لاَ لِحَقِّ الآْدَمِيِّ، (2) فَالْعَقْل مَعَ الشَّرْعِ يُوجِبَانِ ارْتِكَابَ أَخَفِّ الضَّرَرَيْنِ.
__________
(1) الحموي على الأشباه 1 / 123.
(2) التقرير والتحبير 2 / 147، وفتح القدير 7 / 297، والمبسوط 24 / 139.(6/106)
فَهَذِهِ يُبَاحُ لِلْمُكْرَهِ فِعْلُهَا، بَل يَجِبُ عَلَيْهِ الإِْتْيَانُ بِهَا، إِذَا تَرَتَّبَ عَلَى امْتِنَاعِهِ قَتْل نَفْسِهِ أَوْ تَلَفُ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ، لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَهَا عِنْدَ الضَّرُورَةِ بِقَوْلِهِ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِل بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} . (1)
وَلاَ شَكَّ أَنَّ الإِْكْرَاهَ الْمُلْجِئَ مِنَ الضَّرُورَةِ الَّتِي رَفَعَ اللَّهُ الإِْثْمَ فِيهَا. فَيُبَاحُ الْفِعْل عِنْدَ تَحَقُّقِهَا. وَتَنَاوُل الْمُبَاحِ دَفْعًا لِلْهَلاَكِ عَنِ النَّفْسِ أَوْ بَعْضِ أَجْزَائِهَا - وَاجِبٌ، فَلاَ يَجُوزُ تَرْكُهُ، وَلَوْ شَرِبَ الْخَمْرَ مُكْرَهًا لَمْ يُحَدَّ، لأَِنَّهُ لاَ جِنَايَةَ حِينَئِذٍ، وَالْحَدُّ إِنَّمَا شُرِعَ زَجْرًا عَنِ الْجِنَايَاتِ.
ج - أَفْعَالٌ رَخَّصَ الشَّارِعُ فِي فِعْلِهَا عِنْدَ الضَّرُورَةِ، إِلاَّ أَنَّهُ لَوْ صَبَرَ الْمُكْرَهُ عَلَى تَحَمُّل الأَْذَى، وَلَمْ يَفْعَلْهَا حَتَّى مَاتَ، كَانَ مُثَابًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ كَالْكُفْرِ بِاَللَّهِ تَعَالَى أَوِ الاِسْتِخْفَافِ بِالدِّينِ، فَإِذَا أُكْرِهَ الإِْنْسَانُ عَلَى الإِْتْيَانِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ جَازَ لَهُ الْفِعْل مَتَى كَانَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنًّا بِالإِْيمَانِ، لِقَوْل اللَّهِ عَزَّ وَجَل {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِْيمَانِ} . (2)
وَمِنَ السُّنَّةِ مَا جَاءَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عِنْدَ الْحَاكِمِ وَالْبَيْهَقِيِّ وَغَيْرِهِمَا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمَّارٍ عَنْ أَبِيهِ أَخَذَ الْمُشْرِكُونَ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ، فَلَمْ يَتْرُكُوهُ حَتَّى سَبَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرَ آلِهَتَهُمْ بِخَيْرٍ، فَلَمَّا أَتَى النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَال: مَا وَرَاءَكَ؟ قَال: شَرٌّ،
__________
(1) سورة البقرة / 173.
(2) سورة النحل / 106.(6/107)
يَا رَسُول اللَّهِ، مَا تُرِكْتُ حَتَّى نِلْتُ مِنْكَ، وَذَكَرْتُ آلِهَتَهُمْ بِخَيْرٍ، قَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَكَيْفَ تَجِدُ قَلْبَكَ؟ قَال: مُطْمَئِنًّا بِالإِْيمَانِ، قَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَإِنْ عَادُوا فَعُدْ. (1)
وَقَدْ أَلْحَقَ عُلَمَاءُ الْمَذْهَبِ بِهَذَا النَّوْعِ الإِْكْرَاهَ عَلَى إِفْسَادِ صَوْمِ رَمَضَانَ، أَوْ تَرْكِ الصَّلاَةِ الْمَفْرُوضَةِ، أَوْ إِتْلاَفِ مَال الْغَيْرِ، فَإِنَّ الْمُكْرَهَ لَوْ صَبَرَ وَتَحَمَّل الأَْذَى، وَلَمْ يَفْعَل مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ كَانَ مُثَابًا، وَإِنْ فَعَل شَيْئًا مِنْهَا فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ، وَكَانَ الضَّمَانُ فِي صُورَةِ الإِْتْلاَفِ عَلَى الْحَامِل عَلَيْهِ لاَ عَلَى الْفَاعِل، لأَِنَّ فِعْل الإِْتْلاَفِ يُمْكِنُ أَنْ يُنْسَبَ إِلَى الْحَامِل بِجَعْل الْفَاعِل آلَةً لَهُ، فَيَثْبُتُ الضَّمَانُ عَلَيْهِ.
د - أَفْعَالٌ لاَ يَحِل لِلْمُكْرَهِ الإِْقْدَامُ عَلَيْهَا بِحَالٍ مِنَ الأَْحْوَال، كَقَتْل النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ، أَوْ قَطْعِ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهَا، أَوِ الضَّرْبِ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى الْهَلاَكِ، فَهَذِهِ الأَْفْعَال لاَ يَجُوزُ لِلْمُكْرَهِ الإِْقْدَامُ عَلَيْهَا، وَلَوْ كَانَ فِي امْتِنَاعِهِ عَنْهَا ضَيَاعُ نَفْسِهِ، لأَِنَّ نَفْسَ الْغَيْرِ مَعْصُومَةٌ كَنَفْسِ الْمُكْرَهِ، وَلاَ يَجُوزُ لِلإِْنْسَانِ أَنْ يَدْفَعَ الضَّرَرَ عَنْ نَفْسِهِ بِإِيقَاعِهِ عَلَى غَيْرِهِ، فَإِنْ فَعَل كَانَ آثِمًا، وَوَجَبَ عِقَابُ الْحَامِل لَهُ عَلَى هَذَا الْفِعْل بِاتِّفَاقِ عُلَمَاءِ الْمَذْهَبِ، وَالْخِلاَفُ بَيْنَهُمْ إِنَّمَا هُوَ فِي نَوْعِ هَذَا الْعِقَابِ.
فَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ يَقُولاَنِ: إِنَّهُ الْقِصَاصُ، لأَِنَّ الْقَتْل يُمْكِنُ أَنْ يُنْسَبَ إِلَى الْحَامِل بِجَعْل الْفَاعِل آلَةً لَهُ، وَالْقِصَاصُ إِنَّمَا يَكُونُ عَلَى الْقَاتِل لاَ عَلَى آلَةِ الْقَتْل.
وَأَبُو يُوسُفَ يَقُول: إِنَّهُ الدِّيَةُ، لأَِنَّ الْقِصَاصَ لاَ
__________
(1) حديث تعذيب عمار: " فإن عادوا فعد ". أخرجه ابن جرير (14 / 182 - ط الحلبي) والحاكم (2 / 357 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه ووافقه الذهبي.(6/107)
يَثْبُتُ إِلاَّ بِالْجِنَايَةِ الْكَامِلَةِ، وَلَمْ تُوجَدِ الْجِنَايَةُ الْكَامِلَةُ بِالنِّسْبَةِ لِكُلٍّ مِنَ الْحَامِل وَالْمُكْرَهِ.
وَهَذَا الْقَتْل يَقُومُ مَانِعًا مِنَ الإِْرْثِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُكْرِهِ (بِالْكَسْرِ) إِذَا كَانَ الْمُكْرَهُ (بِالْفَتْحِ) مُكَلَّفًا. أَمَّا إِذَا كَانَ غَيْرَ مُكَلَّفٍ كَالصَّبِيِّ أَوِ الْمَجْنُونِ فَلاَ يَكُونُ مَانِعًا. وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، أَمَّا أَبُو يُوسُفَ فَلاَ يَحْرُمُ وَلَوْ كَانَ الْمُكْرَهُ مُكَلَّفًا.
أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْمُكْرَهِ (بِالْفَتْحِ) فَلاَ يَحْرُمُ بِاتِّفَاقِ الْحَنَفِيَّةِ. (1)
وَإِنَّمَا يَجِبُ الْقِصَاصُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ عَلَى الْمُكْرَهِ إِذَا كَانَ الْمَطْلُوبُ قَتْلُهُ شَخْصًا ثَالِثًا غَيْرَ الْمُكْرَهِ وَلاَ الْمُكْرِهِ، فَإِنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ قَتْلُهُ هُوَ الْمُكْرَهَ كَأَنْ قَال لِلَّذِي قَتَلَهُ: اقْتُلْنِي وَإِلاَّ قَتَلْتُكَ، فَقَتَلَهُ، فَلاَ قِصَاصَ عَلَى الْقَاتِل، وَتَجِبُ الدِّيَةُ لِوُجُودِ الشُّبْهَةِ، وَلأَِنَّ الدِّيَةَ تَثْبُتُ لِلْوَارِثِ ابْتِدَاءً لاَ مِيرَاثًا عَنِ الْمَقْتُول.
وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ قَتْلُهُ هُوَ الْمُكْرَهَ، فَإِنَّهُ لاَ يَكُونُ ثَمَّ إِكْرَاهٌ، لأَِنَّ الْمُهَدَّدَ بِهِ لاَ يَزِيدُ عَلَى الْقَتْل، فَلاَ يَتَحَقَّقُ الإِْكْرَاهُ وَلاَ شَيْءَ مِنْ آثَارِهِ، فَلاَ قِصَاصَ وَلاَ دِيَةَ فِي هَذَا الْقَتْل، إِلاَّ إِذَا كَانَ التَّهْدِيدُ بِقَتْلٍ أَشْنَعَ كَمَا لَوْ قَال لَهُ: لَتُلْقِيَنَّ نَفْسَكَ فِي النَّارِ أَوْ لأََقْتُلَنَّكَ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَخْتَارُ مَا هُوَ الأَْهْوَنُ فِي ظَنِّهِ، وَعِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ: يَصْبِرُ وَلاَ يَقْتُل نَفْسَهُ، لأَِنَّ مُبَاشَرَةَ الْفِعْل سَعْيٌ فِي إِهْلاَكِ نَفْسِهِ فَيَصْبِرُ تَحَامِيًا عَنْهُ. ثُمَّ إِذَا أَلْقَى نَفْسَهُ فِي النَّارِ فَاحْتَرَقَ فَعَلَى الْمُكْرِهِ الْقِصَاصُ بِاتِّفَاقِهِمْ، كَمَا فِي الزَّيْلَعِيِّ.
وَنَقَل صَاحِبُ مَجْمَعِ الأَْنْهُرِ أَنَّ الْقِصَاصَ إِنَّمَا هُوَ
__________
(1) البدائع 9 / 4490، ورد المحتار 5 / 85.(6/108)
عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلاَفًا لِلصَّاحِبَيْنِ (1) .
وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ أَيْضًا: الزِّنَا، فَإِنَّهُ لاَ يُرَخَّصُ فِيهِ مَعَ الإِْكْرَاهِ، كَمَا لاَ يُرَخَّصُ فِيهِ حَالَةَ الاِخْتِيَارِ، لأَِنَّ حُرْمَةَ الزِّنَا لاَ تَرْتَفِعُ بِحَالٍ مِنَ الأَْحْوَال، فَإِذَا فَعَلَهُ إِنْسَانٌ تَحْتَ تَأْثِيرِ الإِْكْرَاهِ كَانَ آثِمًا، وَلَكِنْ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، لأَِنَّ الإِْكْرَاهَ يُعْتَبَرُ شُبْهَةً، وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ.
وَقَدْ أَوْرَدَ الْبَابَرْتِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ ضَابِطًا لأَِثَرِ الإِْكْرَاهِ، نَصُّهُ:
الإِْكْرَاهُ الْمُلْجِئُ مُعْتَبَرٌ شَرْعًا، سَوَاءٌ أَكَانَ عَلَى الْقَوْل أَمِ الْفِعْل. وَالإِْكْرَاهُ غَيْرُ الْمُلْجِئِ إِنْ كَانَ عَلَى فِعْلٍ فَلَيْسَ بِمُعْتَبَرٍ، وَيُجْعَل كَأَنَّ الْمُكْرَهَ فَعَل ذَلِكَ الْفِعْل بِغَيْرِ إِكْرَاهٍ. وَإِنْ كَانَ عَلَى قَوْلٍ، فَإِنْ كَانَ قَوْلاً يَسْتَوِي فِيهِ الْجِدُّ وَالْهَزْل فَكَذَلِكَ، وَإِلاَّ فَهُوَ مُعْتَبَرٌ. (2)
أَثَرُ الإِْكْرَاهِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ:
22 - يَخْتَلِفُ أَثَرُ الإِْكْرَاهِ عِنْدَهُمْ بِاخْتِلاَفِ الْمُكْرَهِ عَلَيْهِ:
أ - فَإِنْ كَانَ الْمُكْرَهُ عَلَيْهِ عَقْدًا أَوْ حِلًّا أَوْ إِقْرَارًا أَوْ يَمِينًا لَمْ يَلْزَمِ الْمُكْرَهَ شَيْءٌ، وَيَكُونُ الإِْكْرَاهُ فِي ذَلِكَ بِالتَّخْوِيفِ بِقَتْلٍ أَوْ ضَرْبٍ مُؤْلِمٍ أَوْ سَجْنٍ أَوْ قَيْدٍ أَوْ صَفْعٍ لِذِي مُرُوءَةٍ عَلَى مَلأٍَ مِنَ النَّاسِ. وَإِنْ أَجَازَ الْمُكْرَهُ (بِالْفَتْحِ) شَيْئًا مِمَّا أُكْرِهَ عَلَيْهِ - غَيْرَ النِّكَاحِ - طَائِعًا بَعْدَ زَوَال الإِْكْرَاهِ لَزِمَ عَلَى الأَْحْسَنِ، وَأَمَّا النِّكَاحُ فَلاَ تَصِحُّ إِجَازَتُهُ.
ب - وَإِنْ كَانَ الإِْكْرَاهُ عَلَى الْكُفْرِ بِأَيِّ صُورَةٍ مِنْ
__________
(1) تبيين الحقائق 5 / 190، ومجمع الأنهر 2 / 418.
(2) العناية شرح الهداية 7 / 297، وابن عابدين 5 / 85.(6/108)
صُوَرِهِ، أَوْ قَذْفِ الْمُسْلِمَ بِالزِّنَا، أَوِ الزِّنَا بِامْرَأَةٍ طَائِعَةٍ خَلِيَّةٍ (غَيْرِ مُتَزَوِّجَةٍ) ، فَلاَ يَحِل لَهُ الإِْقْدَامُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الأَْشْيَاءِ إِلاَّ فِي حَالَةِ التَّهْدِيدِ بِالْقَتْل، لاَ فِيمَا دُونَهُ مِنْ قَطْعٍ أَوْ سَجْنٍ وَنَحْوِهِ، فَإِنْ فَعَل ذَلِكَ اعْتُبِرَ مُرْتَدًّا، وَيُحَدُّ فِي قَذْفِ الْمُسْلِمِ، وَفِي الزِّنَا.
ج - وَإِنْ كَانَ الإِْكْرَاهُ عَلَى قَتْل مُسْلِمٍ، أَوْ قَطْعِ عُضْوٍ مِنْهُ، أَوْ عَلَى زِنًا بِمُكْرَهَةٍ، أَوْ بِامْرَأَةٍ لَهَا زَوْجٌ، فَلاَ يَجُوزُ الإِْقْدَامُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَلَوْ أُكْرِهَ بِالْقَتْل. فَإِنْ قَتَل يُقْتَصُّ مِنْهُ، وَيُعْتَبَرُ الْقَتْل هُنَا مَانِعًا لِلْقَاتِل مِنْ مِيرَاثِ الْمَقْتُول، لأَِنَّهُ شَرِيكٌ فِي الْفِعْل، وَكَذَلِكَ الْمُكْرِهُ (بِالْكَسْرِ) يُقْتَصُّ مِنْهُ أَيْضًا وَيُمْنَعُ مِنَ الْمِيرَاثِ. وَإِنَّمَا يَجِبُ الْقِصَاصُ عِنْدَهُمْ عَلَى الْمُكْرَهِ وَالْمُكْرِهِ، إِذَا كَانَ الْمَطْلُوبُ قَتْلُهُ شَخْصًا ثَالِثًا غَيْرَهُمَا.
فَإِنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ قَتْلُهُ هُوَ الْمُكْرِهَ (بِالْكَسْرِ) كَمَا لَوْ قَال لِلَّذِي قَتَلَهُ: اقْتُلْنِي وَإِلاَّ قَتَلْتُكَ فَقَتَلَهُ، فَلاَ قِصَاصَ عِنْدَهُمْ وَتَجِبُ الدِّيَةُ، لِمَكَانِ الشُّبْهَةِ مِنْ نَاحِيَةٍ، وَبِنَاءً عَلَى أَنَّ الدِّيَةَ تَثْبُتُ لِلْوَارِثِ ابْتِدَاءً لاَ مِيرَاثًا.
وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ قَتْلُهُ هُوَ الْمُكْرَهَ (بِالْفَتْحِ) ، فَالأَْصْل أَنَّهُ لاَ يَتَحَقَّقُ الإِْكْرَاهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَلاَ قِصَاصَ فِيهِ وَلاَ دِيَةَ، إِلاَّ إِذَا كَانَ التَّهْدِيدُ بِقَتْلٍ أَشْنَعَ، كَالإِْحْرَاقِ بِالنَّارِ وَبَتْرِ الأَْعْضَاءِ حَتَّى الْمَوْتِ، فَإِنَّ الْمُكْرَهَ (بِالْفَتْحِ) يَخْتَارُ أَهْوَنَ الْمِيتَتَيْنِ، جَزَمَ بِهِ اللَّقَانِيُّ (1) . وَإِنْ زَنَى يُحَدُّ. (2)
__________
(1) الشرح الصغير وحاشية الصاوي 2 / 548 - 550، والدسوقي على الشرح الكبير 2 / 239، الخرشي 3 / 175، 176.
(2) الشرح الصغير وحاشية الصاوي 2 / 549، والدسوقي على الشرح الكبير 2 / 2، والخرشي 3 / 175، 176 و5 / 464.(6/109)
د - وَأَمَّا لَوْ أُكْرِهَ عَلَى فِعْل مَعْصِيَةٍ - غَيْرِ الْكُفْرِ - لاَ حَقَّ فِيهَا لِمَخْلُوقٍ كَشُرْبِ خَمْرٍ وَأَكْلِهِ مَيْتَةً، أَوْ إِبْطَال عِبَادَةٍ كَصَلاَةٍ وَصَوْمٍ، أَوْ عَلَى تَرْكِهَا فَيَتَحَقَّقُ الإِْكْرَاهُ بِأَيَّةِ وَسِيلَةٍ مِنْ قَتْلٍ أَوْ غَيْرِهِ. وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ فِي الصَّوْمِ الْقَضَاءُ دُونَ الْكَفَّارَةِ. وَفِي الصَّلاَةِ يَكُونُ الإِْكْرَاهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَرَضِ الْمُسْقِطِ لِبَعْضِ أَرْكَانِهَا، وَلاَ يَسْقُطُ وُجُوبُهَا. وَفِي شُرْبِ الْخَمْرِ لاَ يُقَامُ الْحَدُّ.
وَأَلْحَقَ سَحْنُونٌ بِهَذَا النَّوْعِ الزِّنَا بِامْرَأَةٍ طَائِعَةٍ لاَ زَوْجَ لَهَا، خِلاَفًا لِلْمَذْهَبِ. (1)
وَيُضِيفُ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْقَطْعَ فِي السَّرِقَةِ يَسْقُطُ بِالإِْكْرَاهِ مُطْلَقًا، وَلَوْ كَانَ بِضَرْبٍ أَوْ سَجْنٍ لأَِنَّهُ شُبْهَةٌ تَدْرَأُ الْحَدَّ. (2)
أَثَرُ الإِْكْرَاهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ:
23 - يَخْتَلِفُ أَثَرُ الإِْكْرَاهِ عِنْدَهُمْ بِاخْتِلاَفِ الْمُكْرَهِ عَلَيْهِ.
أ - الإِْكْرَاهُ بِالْقَوْل:
إِذَا كَانَ الْمُكْرَهُ عَلَيْهِ عَقْدًا أَوْ حَلًّا أَوْ أَيَّ تَصَرُّفٍ قَوْلِيٍّ أَوْ فِعْلِيٍّ، فَإِنَّهُ لاَ يَصِحُّ عَمَلاً بِعُمُومِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ (3) إِذِ الْمَقْصُودُ لَيْسَ رَفْعَ مَا وَقَعَ
__________
(1) الشرح الصغير 1 / 259، 709.
(2) الشرح الصغير 4 / 186.
(3) حديث: " رفع عن أمتي الخطأ. . . " قال العجلوني: قال في اللآلي - لابن حجر - لا يوجد بهذا اللفظ، وورد بلفظ: " إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " أخرجه ابن ماجه (1 / 659 - ط الحلبي) وغيره، وله طرق أخرى، ولذا قال السخاوي في المقاصد: مجموع هذه الطرق يظهر أن للحديث أصلا (المقاصد ص 230 ط الخانجي) .(6/109)
لِمَكَانِ الاِسْتِحَالَةِ، وَإِنَّمَا رَفْعُ حُكْمِهِ، مَا لَمْ يَدُل دَلِيلٌ عَلَى خِلاَفِ ذَلِكَ، فَيُخَصَّصُ هَذَا الْعُمُومُ فِي مَوْضِعِ دَلاَلَتِهِ. وَبِمُقْتَضَى أَدِلَّةِ التَّخْصِيصِ يُقَرِّرُ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ لاَ أَثَرَ لِقَوْل الْمُكْرَهِ (بِالْفَتْحِ) إِلاَّ فِي الصَّلاَةِ فَتَبْطُل بِهِ (1) وَعَلَى هَذَا فَيُبَاحُ لِلْمُكْرَهِ (بِالْفَتْحِ) التَّلَفُّظُ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ، وَلاَ يَجِبُ، بَل الأَْفْضَل الاِمْتِنَاعُ مُصَابَرَةً عَلَى الدِّينِ وَاقْتِدَاءً بِالسَّلَفِ.
وَفِي طَلاَقِ زَوْجَةِ الْمُكْرِهِ (بِالْكَسْرِ) أَوْ بَيْعِ مَالِهِ وَنَحْوِهِمَا مِنْ كُل مَا يُعْتَبَرُ الإِْكْرَاهُ فِيهِ إِذْنًا - أَبْلَغُ.
وَالإِْكْرَاهُ فِي شَهَادَةِ الزُّورِ الَّتِي تُفْضِي إِلَى الْقَتْل أَوِ الزِّنَا، وَفِي الإِْكْرَاهِ بِالْحُكْمِ الْبَاطِل الَّذِي يُفْضِي إِلَى الْقَتْل أَوِ الزِّنَا، فَلاَ يَرْتَفِعُ الإِْثْمُ عَنْ شَاهِدِ الزُّورِ، وَلاَ عَنِ الْحَاكِمِ الْبَاطِل، وَحُكْمُهُمَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مِنْ حَيْثُ الضَّمَانُ حُكْمُ الْمُكْرِهِ (بِالْكَسْرِ) (2)
ب - الإِْكْرَاهُ بِالْفِعْل:
لاَ أَثَرَ لِلإِْكْرَاهِ بِالْفِعْل عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلاَّ فِيمَا يَأْتِي:
(1) الْفِعْل الْمُضَمِّنُ كَالْقَتْل أَوْ إِتْلاَفِ الْمَال أَوِ الْغَصْبِ، فَعَلَى الْمُكْرَهِ (بِالْفَتْحِ) الْقِصَاصُ أَوِ الضَّمَانُ، وَقَرَارُ الضَّمَانِ عَلَى الْمُكْرِهِ (بِالْكَسْرِ) ، وَإِنْ قِيل: لاَ رُجُوعَ لَهُ عَلَى الْمُكْرِهِ (بِالْكَسْرِ) بِمَا غَرِمَ فِي إِتْلاَفِ الْمَال، لأَِنَّهُ افْتَدَى بِالإِْتْلاَفِ نَفْسَهُ عَنِ الضَّرَرِ. قَال الْقَلْيُوبِيُّ فِي مَسْأَلَةِ الْقَتْل: فَيُقْتَل هُوَ - الْمُكْرَهُ - (بِالْفَتْحِ) وَمَنْ أَكْرَهَهُ.
(2) الزِّنَا وَمَا إِلَيْهِ: يَأْثَمُ الْمُكْرَهُ (بِالْفَتْحِ)
__________
(1) حاشية القليوبي 2 / 156.
(2) الأشباه والنظائر ص 180 - 181.(6/110)
بِالزِّنَا، وَيَسْقُطُ الْحَدُّ لِلشُّبْهَةِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى وَطْءِ الشُّبْهَةِ حُكْمُهُ.
(3) الرَّضَاعُ: فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ التَّحْرِيمُ الْمُؤَبَّدُ فِي الْمُنَاكَحَاتِ وَمَا أُلْحِقَ بِهَا.
(4) كُل فِعْلٍ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ بُطْلاَنُ الصَّلاَةِ، كَالتَّحَوُّل عَنِ الْقِبْلَةِ، وَالْعَمَل الْكَثِيرِ، وَتَرْكِ قِيَامِ الْقَادِرِ فِي الْفَرِيضَةِ، وَالْحَدَثِ، فَتَبْطُل الصَّلاَةُ بِمَا تَقَدَّمَ بِرَغْمِ الإِْكْرَاهِ عَلَيْهِ.
(5) ذَبْحُ الْحَيَوَانِ: تَحِل ذَبِيحَةُ الْمُكْرَهِ (بِالْفَتْحِ) الَّذِي تَحِل ذَبِيحَتُهُ، كَالْمُسْلِمِ وَالْكِتَابِيِّ وَلَوْ كَانَ الْمُكْرِهُ (بِالْكَسْرِ) مَجُوسِيًّا، أَوْ مُحْرِمًا وَالْمَذْبُوحُ صَيْدٌ. (1)
قَال السُّيُوطِيُّ: وَقَدْ رَأَيْتُ الإِْكْرَاهَ يُسَاوِي النِّسْيَانَ، فَإِنَّ الْمَوَاضِعَ الْمَذْكُورَةَ، إِمَّا مِنْ بَابِ تَرْكِ الْمَأْمُورِ، فَلاَ يَسْقُطُ تَدَارُكُهُ، وَلاَ يَحْصُل الثَّوَابُ الْمُرَتَّبُ عَلَيْهِ، وَإِمَّا مِنْ بَابِ الإِْتْلاَفِ، فَيَسْقُطُ الْحُكْمُ الْمُرَتَّبُ عَلَيْهِ، وَتَسْقُطُ الْعُقُوبَةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِهِ، إِلاَّ الْقَتْل عَلَى الأَْظْهَرِ. (2)
أَثَرُ الإِْكْرَاهِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ:
24 - يَخْتَلِفُ أَثَرُ الإِْكْرَاهِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ بِاخْتِلاَفِ الْمُكْرَهِ عَلَيْهِ:
أ - فَالتَّصَرُّفَاتُ الْقَوْلِيَّةُ تَقَعُ بَاطِلَةً مَعَ الإِْكْرَاهِ إِلاَّ النِّكَاحَ، فَإِنَّهُ يَكُونُ صَحِيحًا مَعَ الإِْكْرَاهِ، قِيَاسًا لِلْمُكْرَهِ عَلَى الْهَازِل. (3) وَإِنَّمَا لَمْ يَقَعِ الطَّلاَقُ مَعَ
__________
(1) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 187 - 182، والغرر على البهجة 4 / 249، وبجيرمي على المنهج 4 / 35، والشرقاوي على التحرير 2 / 390، 391.
(2) الأشباه والنظائر ص178، 179.
(3) الإنصاف 8 / 439، والمغني 6 / 535، والمقنع 3 / 434، 2 / 4.(6/110)
الإِْكْرَاهُ لِلْحَدِيثِ الشَّرِيفِ لاَ طَلاَقَ فِي إِغْلاَقٍ، (1) وَالإِْكْرَاهُ مِنَ الإِْغْلاَقِ.
ب - وَمَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ لاَ يُعْتَبَرُ مُرْتَدًّا، وَمَتَى زَال عَنْهُ الإِْكْرَاهُ أُمِرَ بِإِظْهَارِ إِسْلاَمِهِ، وَالأَْفْضَل لِمَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ أَنْ يَصْبِرَ (2) وَإِذَا أُكْرِهَ عَلَى الإِْسْلاَمِ مَنْ لاَ يَجُوزُ إِكْرَاهُهُ كَالذِّمِّيِّ وَالْمُسْتَأْمَنِ، فَأَسْلَمَ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ حُكْمُ الإِْسْلاَمِ، حَتَّى يُوجَدَ مِنْهُ مَا يَدُل عَلَى إِسْلاَمِهِ طَوْعًا.
أَمَّا مَنْ يَجُوزُ إِكْرَاهُهُ عَلَى الإِْسْلاَمِ كَالْمُرْتَدِّ، فَإِنَّهُ إِذَا أُكْرِهَ فَأَسْلَمَ حُكِمَ بِإِسْلاَمِهِ ظَاهِرًا. (3)
ج - وَالإِْكْرَاهُ يُسْقِطُ الْحُدُودَ عَنِ الْمُكْرَهِ، لأَِنَّهُ شُبْهَةٌ، وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ (4)
د - وَإِذَا أَكْرَهَ رَجُلٌ آخَرَ عَلَى قَتْل شَخْصٍ فَقَتَلَهُ، وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَى الْمُكْرَهِ وَالْمُكْرِهِ جَمِيعًا، وَإِنْ صَارَ الأَْمْرُ إِلَى الدِّيَةِ وَجَبَتْ عَلَيْهِمَا، وَإِنْ أَحَبَّ وَلِيُّ الْمَقْتُول قَتْل أَحَدِهِمَا، وَأَخْذَ نِصْفِ الدِّيَةِ مِنَ الآْخَرِ أَوِ الْعَفْوَ فَلَهُ ذَلِكَ. (5) وَيُعْتَبَرُ الْقَتْل هُنَا مَانِعًا مِنَ الْمِيرَاثِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُكْرَهِ وَالْمُكْرِهِ. (6)
وَالْقِصَاصُ عِنْدَهُمْ لاَ يَجِبُ عَلَى الْمُكْرَهِ وَالْمُكْرِهِ، إِلاَّ إِذَا كَانَ الْمَطْلُوبُ قَتْلُهُ شَخْصًا ثَالِثًا غَيْرَهُمَا.
فَإِنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ قَتْلُهُ هُوَ الْمُكْرِهَ (بِالْكَسْرِ) فَإِنَّهُ
__________
(1) حديث: " لا طلاق ولا عتاق في إغلاق " أخرجه أحمد (6 / 276 - ط اليمنية) من حديث عائشة، وله طرق يتقوى بها (فيض القدير 6 / 433 - ط المكتبة التجارية) .
(2) المغني 8 / 145، 146.
(3) المغني 8 / 144، 145.
(4) المغني 8 / 217.
(5) المغني 7 / 645.
(6) المقنع 2 / 460.(6/111)
يَكُونُ هَدَرًا، وَلاَ قِصَاصَ وَلاَ دِيَةَ فِي الْمُخْتَارِ عِنْدَهُمْ.
وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ قَتْلُهُ هُوَ الْمُكْرَهَ (بِالْفَتْحِ) ، فَلاَ يَتَحَقَّقُ الإِْكْرَاهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَلاَ دِيَةَ وَلاَ قِصَاصَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ. (1) إِلاَّ إِذَا كَانَ التَّهْدِيدُ بِقَتْلٍ أَشْنَعَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَخْتَارَ أَهْوَنَ الْمِيتَتَيْنِ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. (2)
أَثَرُ إِكْرَاهِ الصَّبِيِّ عَلَى قَتْل غَيْرِهِ:
25 - إِذَا كَانَ الْمُكْرَهُ عَلَى الْقَتْل صَبِيًّا، فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ آلَةً فِي يَدِ الْمُكْرِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَلاَ قِصَاصَ وَلاَ دِيَةَ، وَإِنَّمَا الْقِصَاصُ عَلَى الْمُكْرِهِ (بِالْكَسْرِ) . (3)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَى الْمُكْرِهِ (بِالْكَسْرِ) وَنِصْفِ الدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَةِ الصَّبِيِّ. (4)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ، وَغَيْرِ الْمُمَيِّزِ.
فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُمَيِّزٍ، اعْتُبِرَ آلَةً عِنْدَهُمْ، وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، وَيَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْمُكْرِهِ.
وَإِنْ كَانَ مُمَيِّزًا، فَيَجِبُ نِصْفُ الدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِ، وَالْقِصَاصُ عَلَى الْمُكْرِهِ (بِالْكَسْرِ) . (5)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الصَّبِيَّ غَيْرَ الْمُمَيِّزِ إِذَا أُكْرِهَ عَلَى قَتْل غَيْرِهِ فَلاَ قِصَاصَ عَلَيْهِ، وَالْقِصَاصُ عَلَى الْمُكْرِهِ (بِالْكَسْرِ) . وَفِي قَوْلٍ: لاَ يَجِبُ
__________
(1) الفروع 3 / 386.
(2) قواعد ابن رجب ص 112.
(3) المبسوط 24 / 39.
(4) الدسوقي 4 / 246.
(5) المهذب 2 / 178، ومغني المحتاج 4 / 10.(6/111)
الْقِصَاصُ، لاَ عَلَيْهِ وَعَلَى مَنْ أَكْرَهَهُ، لأَِنَّ عَمْدَ الصَّبِيِّ خَطَأٌ، وَالْمُكْرِهُ (بِالْكَسْرِ) شَرِيكُ الْمُخْطِئِ، وَلاَ قِصَاصَ عَلَى شَرِيكِ مُخْطِئٍ. أَمَّا إِذَا كَانَ الصَّبِيُّ مُمَيِّزًا فَلاَ يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْمُكْرِهِ (بِالْكَسْرِ) وَلاَ يَجِبُ عَلَى الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ. (1)
إِكْسَالٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْكْسَال لُغَةً: مَصْدَرُ أَكْسَل، وَأَكْسَل الْمُجَامِعُ: خَالَطَ الْمَرْأَةَ وَلَمْ يُنْزِل، أَوْ عَزَل وَلَمْ يُرِدْ وَلَدًا. (2)
وَعِنْدَ الْفُقَهَاءِ: أَنْ يُجَامِعَ الرَّجُل ثُمَّ يَفْتُرَ ذَكَرُهُ بَعْدَ الإِْيلاَجِ، فَلاَ يُنْزِل (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الاِعْتِرَاضُ:
2 - الاِعْتِرَاضُ هُوَ: عَدَمُ انْتِشَارِ الذَّكَرِ لِلْجِمَاعِ. وَقَدْ يَكُونُ الاِعْتِرَاضُ قَبْل الإِْيلاَجِ أَوْ بَعْدَهُ (4) . فَالاِعْتِرَاضُ لَيْسَ مِنَ الإِْكْسَال.
ب - الْعُنَّةُ:
3 - الْعُنَّةُ: عَجْزُ الرَّجُل عَنْ إِتْيَانِ النِّسَاءِ، وَقَدْ
__________
(1) المقنع 3 / 341، والمغني 7 / 757.
(2) ترتيب القاموس، والمصباح مادة: (كسل) .
(3) المغني 1 / 204 ط الرياض، والمغرب مادة: (كسل) .
(4) الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 278، 279.(6/112)
يَكُونُ عِنِّينًا عَنِ امْرَأَةٍ دُونَ أُخْرَى (1) . وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْعُنَّةِ وَالإِْكْسَال وَاضِحٌ.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
4 - لاَ يُغَيِّرُ الإِْكْسَال الأَْحْكَامَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالْجِمَاعِ، وَلاَ يَخْتَلِفُ الْجِمَاعُ مَعَ الإِْنْزَال عَنْهُ بِدُونِهِ، إِلاَّ مَا حُكِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، كَانُوا يَقُولُونَ: لاَ غُسْل عَلَى مَنْ جَامَعَ فَأَكْسَل (2) يَعْنِي لَمْ يُنْزِل. وَرَوَوْا فِي ذَلِكَ أَحَادِيثَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أَمَّا بَقِيَّةُ الْفُقَهَاءِ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْغُسْل عِنْدَهُمْ وَإِنْ أَكْسَل الْمُجَامِعُ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْل وَإِنْ لَمْ يُنْزِل (3) وَالْتِقَاءُ الْخِتَانَيْنِ كِنَايَةٌ عَنِ الإِْيلاَجِ.
قَال سَهْل بْنُ سَعْدٍ: حَدَّثَنِي أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ أَنَّ: الْمَاءَ مِنَ الْمَاءِ كَانَ رُخْصَةً، أَرْخَصَ فِيهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ نَهَى عَنْهَا. (4)
وَلَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّ الزِّنَا الَّذِي يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ يَكُونُ بِمُجَرَّدِ إِيلاَجِ الْحَشَفَةِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ إِنْزَالٍ.
كَذَلِكَ يَثْبُتُ الإِْحْصَانُ بِالْجِمَاعِ مَعَ الإِْكْسَال عِنْدَ
__________
(1) المصباح مادة: (عنن) .
(2) الأثر " لا غسل على من جامع فأكسل " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 396 - ط السلفية) .
(3) حديث: " إذا التقى الختانان. . . " أخرجه مسلم (1 / 271 - ط الحلبي) .
(4) المغني 1 / 204، والبدائع 1 / 162 ط العاصمة، والجمل على المنهج 1 / 152 ط إحياء التراث العربي، والخرشي 1 / 163، 164 ط دار صادر. وحديث " الماء من الماء. . . " أخرجه أبو داود (1 / 146 - ط عزت عبيد دعاس) وصححه البيهقي (1 / 165 - 166 ط دائرة المعارف العثمانية) بعد أن رواه من طريق أبي داود.(6/112)
مَنْ يَقُول: إِنَّ الإِْحْصَانَ لاَ يَحْصُل إِلاَّ بِتَغْيِيبِ الْحَشَفَةِ. (1)
وَتَحْصُل فَيْئَةُ الْمُولِي إِنْ غَيَّبَ حَشَفَتَهُ، وَإِنْ لَمْ يُنْزِل. (2)
وَتُرْفَعُ الْعُنَّةُ بِالْوَطْءِ دُونَ إِنْزَالٍ أَيْضًا. (3)
وَيَحْصُل التَّحْلِيل لِمُطَلِّقِ الْمَرْأَةِ ثَلاَثًا بِمُجَرَّدِ الإِْيلاَجِ مِنَ الزَّوْجِ الآْخَرِ، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيَّ تَزَوَّجَ امْرَأَةً ثُمَّ طَلَّقَهَا فَتَزَوَّجَتْ آخَرَ، فَأَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَتْ لَهُ: أَنَّهُ لاَ يَأْتِيهَا وَأَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ إِلاَّ مِثْل هُدْبَةٍ، فَقَال: لاَ، حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. (4)
وَهَذَا قَوْل الْجُمْهُورِ، وَقَالُوا: الْعُسَيْلَةُ هِيَ: الْجِمَاعُ، وَشَذَّ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ فَقَال: لاَ يُحِلُّهَا إِلاَّ إِذَا أَنْزَل، وَشَذَّ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ فَقَال: يَكْفِي فِي إِحْلاَلِهَا الْعَقْدُ.
وَتُنْظَرُ مَسَائِل أَحْكَامِ الْجِمَاعِ فِي مُصْطَلَحِ: (وَطْء) .
__________
(1) عون المعبود 1 / 87، نيل المآرب 2 / 113 ط الكويت. ومغني المحتاج 4 / 147 ط مصطفى الحلبي، والمغني 8 / 181.
(2) البجيرمي 4 / 6، نيل المآرب 2 / 82.
(3) نيل المآرب 2 / 56، وفتح القدير 4 / 131 ط دار إحياء التراث العربي.
(4) حديث عائشة: " أن رفاعة القرظي. . . " أخرجه البخاري (الفتح 9 / 466 - ط السلفية) .(6/113)
أَكْلٌ
حُكْمُ الطَّعَامِ الْمَأْكُول ذَاتُهُ:
1 - إِنَّ بَيَانَ مَا يَحِل وَيَحْرُمُ مِنَ الأَْطْعِمَةِ وَمَعْرِفَتَهُمَا مِنْ مُهِمَّاتِ الدِّينِ. فَقَدْ وَرَدَ الْوَعِيدُ الشَّدِيدُ عَلَى أَكْل الْحَرَامِ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُل لَحْمٍ نَبَتَ مِنْ حَرَامٍ فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ. (1)
وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ أَشْيَاءَ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِل لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَل السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَْزْلاَمِ} (2) . وَنَحْوِهَا مِنَ الآْيَاتِ.
وَحُرِّمَتْ أَشْيَاءُ بِالسُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ كَمَا فِي قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُل ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ فَأَكْلُهُ حَرَامٌ (3)
__________
(1) نهاية المحتاج شرح المنهاج 8 / 16، وأسنى المطالب شرح روض الطالب 1 / 563. وحديث " كل لحم. . " أخرجه الترمذي بلفظ " إنه لا يربو لحم نبت من سحت إلا كانت النار أولى به " قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه. (سنن الترمذي 2 / 512، 513 ط إستنابول) .
(2) سورة المائدة / 3.
(3) حديث " كل ذي ناب. . . " أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا. (صحيح مسلم 3 / 1534 ط عيسى الحلبي) .(6/113)
وَسَكَتَ الشَّرْعُ عَنْ أَشْيَاءَ. وَيُرْجَعُ إِلَى إِيضَاحِ ذَلِكَ كُلِّهِ تَحْتَ عِنْوَانِ (أَطْعِمَة) .
صِفَةُ الأَْكْل بِالنِّسْبَةِ لِلآْكِل:
2 - إِنَّ الأَْكْل قَدْ يَكُونُ فَرْضًا، يُثَابُ الإِْنْسَانُ عَلَى فِعْلِهِ وَيُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ، وَذَلِكَ إِذَا كَانَ لِلْغِذَاءِ بِقَدْرِ مَا يَدْفَعُ عَنْهُ الْهَلاَكَ، لأَِنَّ الإِْنْسَانَ مَأْمُورٌ بِإِحْيَاءِ نَفْسِهِ وَعَدَمِ إِلْقَائِهَا إِلَى التَّهْلُكَةِ.
وَقَدْ يَكُونُ وَاجِبًا، وَذَلِكَ بِقَدْرِ مَا يَسْتَطِيعُ مَعَهُ أَدَاءُ الصَّلاَةِ الْمَفْرُوضَةِ عَلَيْهِ قَائِمًا، وَأَدَاءُ الصَّوْمِ الْوَاجِبِ، لأَِنَّهُ مِنْ قَبِيل مَا لاَ يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلاَّ بِهِ.
وَمِنْهُ مَنْدُوبٌ، وَهُوَ مَا يُعِينُهُ عَلَى تَحْصِيل رِزْقِهِ وَتَحْصِيل الْعِلْمِ وَتَعَلُّمِهِ وَتَحْصِيل النَّوَافِل.
وَقَدْ يَكُونُ الأَْكْل مُبَاحًا يَجُوزُ لِلإِْنْسَانِ أَنْ يَتَنَاوَلَهُ، وَذَلِكَ إِلَى حَدِّ الشِّبَعِ الَّذِي لاَ يَضُرُّ مَعَهُ الاِمْتِلاَءُ.
وَقَدْ يَكُونُ حَرَامًا، وَهُوَ مَا فَوْقَ الشِّبَعِ، وَكُل طَعَامٍ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ يُفْسِدُ مَعِدَتَهُ، لأَِنَّهُ إِسْرَافٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُسْرِفُوا} (1) إِلاَّ إِذَا كَانَتِ الزِّيَادَةُ عَلَى الشِّبَعِ لاَ تَضُرُّهُ، وَقَصَدَ بِالأَْكْل الْقُوَّةَ عَلَى صَوْمِ الْغَدِ، أَوِ الزِّيَادَةَ فِي الطَّاعَاتِ، أَوْ لِئَلاَّ يَسْتَحْيِيَ الْحَاضِرُ مَعَهُ بَعْدَ إِتْمَامِ طَعَامِهِ. وَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا مَلأََ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ، بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أَكَلاَتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فَإِنْ كَانَ لاَ مَحَالَةَ فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ، وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ، وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ. (2)
__________
(1) سورة الأعراف / 31.
(2) حديث " ما ملاء آدمي. . . " أخرجه الترمذي واللفظ له وابن ماجه من حديث المقدام بن معد يكرب مرفوعا، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، كما حسنه الحافظ ابن حجر في الفتح (تحفة الأحوذي 7 / 52 نشر المكتبة السلفية، وسنن ابن ماجه 2 / 1111 ط عيسى الحلبي، وفتح الباري 9 / 528 ط السلفية) .(6/114)
وَمِنْ الأَْكْل مَا هُوَ مَكْرُوهٌ، وَهُوَ مَا زَادَ عَلَى الشِّبَعِ قَلِيلاً، فَإِنَّهُ يَتَضَرَّرُ بِهِ، (1) وَقَدْ قَال الْبَعْضُ: إِنَّ الآْكِل لاَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَقْصِدَ بِهِ التَّلَذُّذَ وَالتَّنَعُّمَ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَمَّ الْكَافِرِينَ بِأَكْلِهِمْ لِلتَّمَتُّعِ وَالتَّنَعُّمِ وَقَال: {وَاَلَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُل الأَْنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} . (2) وَقَال النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْمُسْلِمُ يَأْكُل فِي مِعًى وَاحِدٍ، وَالْكَافِرُ يَأْكُل فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ. (3)
هَذَا، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلإِْنْسَانِ الأَْكْل بِقَصْدِ التَّمَتُّعِ وَالتَّلَذُّذِ بِمَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْنَا بِهِ، لِقَصْدِ التَّقَوِّي عَلَى أَعْمَال الْخَيْرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُل مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُل هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (4) وَأَمَّا الآْيَةُ الَّتِي احْتَجَّ بِهَا هَذَا الْقَائِل فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَنْعِي عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ يَتَمَتَّعُونَ بِالأَْطْعِمَةِ الَّتِي رَزَقَهُمُ اللَّهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُفَكِّرُوا فِي الْمُنْعِمِ، وَأَنْ يَشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ.
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَلَيْسَ فِيهِ دَلاَلَةٌ عَلَى مَا احْتَجُّوا عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا فِيهِ النَّعْيُ عَلَى مَنْ أَكْثَرَ مِنَ الطَّعَامِ.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 215.
(2) سورة محمد / 12.
(3) حديث: " المسلم يأكل. . . " أخرجه البخاري ومسلم (فتح الباري 9 / 536 ط السلفية، وصحيح مسلم 3 / 1631ط عيسى الحلبي) .
(4) سورة الأعراف / 32.(6/114)
حُكْمُ الأَْكْل مِنَ الأُْضْحِيَّةِ وَالْعَقِيقَةِ:
3 - يَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْمُضَحِّي أَنْ يَأْكُل مِنْ أُضْحِيَّتِهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا. . .} (1) وَهَذَا وَإِنْ كَانَ وَارِدًا فِي الْهَدْيِ إِلاَّ أَنَّ الْهَدْيَ وَالأُْضْحِيَّةَ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ. وَلِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا ضَحَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَأْكُل مِنْ أُضْحِيَّتِهِ وَيُطْعِمْ مِنْهَا غَيْرَهُ (2) وَلأَِنَّهُ ضَيْفُ اللَّهِ عَزَّ شَأْنُهُ فِي هَذِهِ الأَْيَّامِ، فَلَهُ أَنْ يَأْكُل مِنْ ضِيَافَةِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَيَتَّفِقُونَ كَذَلِكَ عَلَى أَنَّ لَهُ أَنْ يُطْعِمَ غَيْرَهُ مِنْهَا. (3)
وَهَذَا الاِتِّفَاقُ فِي الأُْضْحِيَّةِ الَّتِي لَمْ تَجِبْ. أَمَّا إِذَا وَجَبَتِ الأُْضْحِيَّةُ فَفِي حُكْمِ الأَْكْل مِنْهَا اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءِ.
وَوُجُوبُهَا يَكُونُ بِالنَّذْرِ أَوْ بِالتَّعْيِينِ، وَهِيَ وَاجِبَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مِنْ حَيْثُ الأَْصْل بِشَرْطِ الْغِنَى، وَلَوِ اشْتَرَاهَا الْفَقِيرُ مِنْ أَجْل التَّضْحِيَةِ وَجَبَتْ عَلَيْهِ.
فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - أَنَّ لَهُ أَنْ يَأْكُل مِنْهَا وَيُطْعِمَ غَيْرَهُ، لأَِنَّ النَّذْرَ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْهُودِ، وَالْمَعْهُودُ مِنَ الأُْضْحِيَّةِ الشَّرْعِيَّةِ ذَبْحُهَا وَالأَْكْل مِنْهَا، وَالنَّذْرُ لاَ يُغَيِّرُ مِنْ صِفَةِ الْمَنْذُورِ إِلاَّ الإِْيجَابَ.
__________
(1) سورة الحج 36.
(2) حديث " إذا ضحى أحدكم. . . " أخرجه أحمد، وقال الهيثمي، رجاله رجال الصحيح. (مجمع الزوائد 4 / 25 نشر مكتبة القدسي) .
(3) البدائع 5 / 80، وابن عابدين 5 / 208، وفتح القدير 8 / 436، والدسوقي 2 / 122، والتاج والإكليل بهامش الحطاب 3 / 245، والفواكه الدواني 1 / 447، وشرح الروض 1 / 545، ونهاية المحتاج 8 / 133، والمهذب1 / 246، والمغني 8 / 632 - 634، وكشاف القناع 3 / 22.(6/115)
وَعِنْدَ بَعْضِ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلاَمِ أَحْمَدَ: أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الأَْكْل مِنَ الأُْضْحِيَّةِ الْمَنْذُورَةِ، بِنَاءً عَلَى الْهَدْيِ الْمَنْذُورِ، وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَفِي قَوْلٍ آخَرَ لِلشَّافِعِيَّةِ: إِنْ وَجَبَتِ الأُْضْحِيَّةُ بِنَذْرٍ مُطْلَقٍ جَازَ لَهُ الأَْكْل مِنْهَا. (1)
وَالْحُكْمُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - كَمَا فَصَّلَهُ ابْنُ عَابِدِينَ - أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْغَنِيِّ الأَْكْل مِنَ الأُْضْحِيَّةِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِ، كَمَا يَجُوزُ لَهُ الأَْكْل مِنَ الأُْضْحِيَّةِ الَّتِي نَذَرَهَا إِنْ قَصَدَ بِنَذْرِهِ الإِْخْبَارَ عَنِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ النَّذْرُ ابْتِدَاءً فَلاَ يَجُوزُ لَهُ الأَْكْل مِنْهَا. وَبِالنِّسْبَةِ لِلْفَقِيرِ إِذَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ بِالشِّرَاءِ، فَفِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ: لَهُ الأَْكْل مِنْهَا، وَفِي الْقَوْل الثَّانِي: لاَ يَجُوزُ لَهُ الأَْكْل مِنْهَا.
هَذَا مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَابِدِينَ تَوْضِيحًا لِمَا ذَكَرَهُ الزَّيْلَعِيُّ مِنْ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الأَْكْل مِنَ الأُْضْحِيَّةِ الْمَنْذُورَةِ دُونَ تَفْصِيلٍ.
غَيْرَ أَنَّ الْكَاسَانِيَّ ذَكَرَ فِي الْبَدَائِعِ أَنَّهُ يَجُوزُ بِالإِْجْمَاعِ - أَيْ عِنْدَ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ - الأَْكْل مِنَ الأُْضْحِيَّةِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ نَفْلاً أَمْ وَاجِبَةً، مَنْذُورَةً كَانَتْ أَوْ وَاجِبَةً ابْتِدَاءً. (2)
4 - وَمَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ أُضْحِيَّةٌ فَمَضَتْ أَيَّامُ النَّحْرِ قَبْل أَنْ يَذْبَحَهَا، فَعِنْدَ الْجُمْهُورِ يَذْبَحُهَا قَضَاءً، وَيَصْنَعُ بِهَا مَا يَصْنَعُ بِالْمَذْبُوحِ فِي وَقْتِهِ، لأَِنَّ الذَّبْحَ أَحَدُ مَقْصُودَيِ الأُْضْحِيَّةِ فَلاَ يَسْقُطُ بِفَوَاتِ وَقْتِهِ. وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا حَيَّةً، وَلاَ يَأْكُل مِنْ لَحْمِهَا، لأَِنَّهُ انْتَقَل الْوَاجِبُ مِنْ إِرَاقَةِ الدَّمِ
__________
(1) الدسوقي 2 / 122، الخرشي 3 / 39، والمغني 8 / 642، والفروع 3 / 555، 556، وشرح الروض 1 / 545، والمهذب 1 / 245.
(2) ابن عابدين 5 / 208، والزيلعي مع حاشية الشلبي 6 / 8، والبدائع 5 / 80.(6/115)
إِلَى التَّصَدُّقِ. (1)
وَإِذَا وَلَدَتِ الأُْضْحِيَّةُ قَبْل التَّضْحِيَةِ، فَحُكْمُ وَلَدِهَا فِي الأَْكْل مِنْهُ حُكْمُ الأُْمِّ، وَهَذَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: لاَ يَجُوزُ الأَْكْل مِنْهُ (2) .
وَمَنْ أَوْجَبَ أُضْحِيَّةً ثُمَّ مَاتَ قَامَ وَرَثَتُهُ مَقَامَهُ، فَيَجُوزُ لَهُمُ الأَْكْل مِنْهَا وَإِطْعَامُ غَيْرِهِمْ. وَهَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: لاَ يَجُوزُ لَهُمُ الأَْكْل مِنْهَا، بَل سَبِيلُهَا التَّصَدُّقُ. (3)
5 - وَالْعَقِيقَةُ (وَهِيَ مَا يُذْبَحُ عَنِ الْمَوْلُودِ) حُكْمُهَا فِي اسْتِحْبَابِ الأَْكْل مِنْهَا، وَإِطْعَامِ الْغَيْرِ مِنْهَا حُكْمُ الأُْضْحِيَّةِ، إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ لاَ يَرَوْنَهَا وَاجِبَةً. (4)
وَقَدْ وَرَدَ فِي مَرَاسِيل أَبِي دَاوُدَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال فِي الْعَقِيقَةِ الَّتِي عَقَّتْهَا، فَاطِمَةُ عَنِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ: أَنْ يَبْعَثُوا إِلَى الْقَابِلَةِ بِرِجْلٍ، وَكُلُوا وَأَطْعِمُوا وَلاَ تَكْسِرُوا مِنْهَا عَظْمًا. (5)
حُكْمُ الأَْكْل مِنَ الْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ:
6 - يَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ إِطْعَامٌ فِي كَفَّارَةِ يَمِينٍ أَوْ ظِهَارٍ أَوْ إِفْطَارٍ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ أَوْ فِدْيَةِ
__________
(1) (1) ابن عابدين 5 / 240، والمغني 8 / 639، والدسوقي 2 / 122، ومنح الجليل 1 / 618، والمهذب 1 / 245.
(2) ابن عابدين 5 / 208، وقليوبي 4 / 254، والمغني 8 / 628، والدسوقي 2 / 122.
(3) الدسوقي 2 / 125، 126، والمغني 8 / 631، ونهاية المحتاج 8 / 136، وابن عابدين 5 / 208.
(4) ابن عابدين 5 / 213، والفواكه الدواني 1 / 460، والمهذب 1 / 248، والمغني 8 / 648.
(5) كشاف القناع 3 / 30، 31. وحديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في العقيقة. . . " أخرجه أبو داود في مراسيله كما في تحفة الأشراف (13 / 362 نشر الدار القيمة بالهند) .(6/116)
الأَْذَى فِي الْحَجِّ فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْكُل مِنْهُ، لأَِنَّ الْكَفَّارَةَ تَكْفِيرٌ لِلذَّنْبِ. هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلْمُكَفِّرِ. (1)
أَمَّا الْمُعْطَى - وَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ - فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ لاَ يَكْفِي إِبَاحَةُ الإِْطْعَامِ، وَإِنَّهُ لاَ بُدَّ مِنْ تَمْلِيكِ الْمُسْتَحِقِّ، لأَِنَّ تَدَارُكَ الْجِنَايَةِ بِالإِْطْعَامِ أَشْبَهَ الْبَدَل، وَالْبَدَلِيَّةُ تَسْتَدْعِي تَمْلِيكَ الْبَدَل، وَلأَِنَّ الْمَنْقُول عَنِ الصَّحَابَةِ إِعْطَاؤُهُمْ، فَفِي قَوْل زَيْدٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ مُدًّا لِكُل مِسْكِينٍ (2) وَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِكَعْبٍ فِي فِدْيَةِ الأَْذَى: أَطْعِمْ ثَلاَثَةَ آصُعٍ مِنْ تَمْرٍ بَيْنَ سِتَّةِ مَسَاكِينَ (3) وَلأَِنَّهُ مَالٌ وَجَبَ لِلْفُقَرَاءِ شَرْعًا فَوَجَبَ تَمْلِيكُهُمْ إِيَّاهُ كَالزَّكَاةِ. وَعَلَى ذَلِكَ فَلاَ يُجْزِئُ أَنْ يُغَدِّيَهُمْ وَيُعَشِّيَهُمْ، لأَِنَّ ذَلِكَ يُعْتَبَرُ إِبَاحَةً لاَ تَمْلِيكًا. (4)
وَالأَْصْل عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ هُوَ التَّمْلِيكُ، وَخَاصَّةً فِي كَفَّارَتَيِ الظِّهَارِ وَفِدْيَةِ الأَْذَى، لِقَوْل الإِْمَامِ مَالِكٍ: لاَ أُحِبُّ الْغَدَاءَ وَالْعَشَاءَ لِلْمَسَاكِينِ، حَتَّى حَمَل أَبُو الْحَسَنِ كَلاَمَ الإِْمَامِ عَلَى الْكَرَاهَةِ، وَحَمَلَهُ
__________
(1) البدائع 2 / 226 و5 / 80، 103، وابن عابدين 2 / 250 و5 / 208، والدسوقي 2 / 89، 132، والحطاب 3 / 190، ونهاية المحتاج 3 / 199، والمغني 7 / 376.
(2) والأثر عن ابن عباس وابن عمر في إعطاء الكفارة للمساكين " مدا لكل مسكين " أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (مصنف عبد الرزاق 8 / 506، 507)
(3) حديث: " أطعم ثلاثة آصع. . . " أخرجه البخاري ومسلم ولفظ مسلم: " احلق رأسك، ثم اذبح شاة نسكا، أوصم ثلاثة أيام، أو أطعم ثلاثة آصع من تمر على ستة مساكين ". (فتح الباري 4 / 12 ط السلفية، وصحيح مسلم 2 / 861 ط عيسى الحلبي) .
(4) نهاية المحتاج 8 / 134، والمهذب 2 / 188، والمغني 7 / 371، 372، ومنتهى الإرادات 3 / 205، 206.(6/116)
ابْنُ نَاجِي عَلَى التَّحْرِيمِ.
وَالْعِلَّةُ فِي التَّمْلِيكِ هُوَ خَشْيَةُ أَلاَّ يَبْلُغَ مَا يَأْكُلُهُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ مِقْدَارَ الْوَاجِبِ إِخْرَاجُهُ، وَلِذَلِكَ قَال مَالِكٌ: لاَ أَظُنُّهُ (الْغَدَاءَ وَالْعَشَاءَ) يَبْلُغُ ذَلِكَ (الْمِقْدَارَ الْوَاجِبَ إِخْرَاجُهُ) وَمِنْ هُنَا قَال الدَّرْدِيرُ: فَلَوْ تَحَقَّقَ بُلُوغُهُ أَجْزَأَ.
وَفِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ يُجْزِئُ شِبَعُهُمْ مَرَّتَيْنِ.
وَإِجْزَاءُ الإِْطْعَامِ بِغَدَاءٍ وَعَشَاءٍ إِنْ بَلَغَ مِقْدَارَ الْوَاجِبِ لَهُمْ هُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ، لأَِنَّهُ أَطْعَمَ الْمَسَاكِينَ، فَأَجْزَأَهُ كَمَا لَوْ مَلَّكَهُمْ. (1)
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ التَّمْلِيكَ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِجَوَازِ الإِْطْعَامِ بَل الشَّرْطُ هُوَ التَّمْكِينُ. وَإِنَّمَا يَجُوزُ التَّمْلِيكُ مِنْ حَيْثُ هُوَ تَمْكِينٌ، لاَ مِنْ حَيْثُ هُوَ تَمْلِيكٌ، لأَِنَّ النَّصَّ وَرَدَ بِلَفْظِ الإِْطْعَامِ {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} (2) وَالإِْطْعَامُ فِي مُتَعَارَفِ اللُّغَةِ اسْمٌ لِلتَّمْكِينِ مِنَ الْمَطْعَمِ لاَ التَّمْلِيكِ، وَإِنَّمَا يُطْعِمُونَ عَلَى سَبِيل الإِْبَاحَةِ دُونَ التَّمْلِيكِ (3) .
وَفِي النَّذْرِ لاَ يَجُوزُ لِلنَّاذِرِ الأَْكْل مِنْ نَذْرِهِ، لأَِنَّهُ صَدَقَةٌ، وَلاَ يَجُوزُ الأَْكْل مِنَ الصَّدَقَةِ، وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ، لأَِنَّ الأُْضْحِيَّةَ الْمَنْذُورَةَ فِيهَا خِلاَفٌ عَلَى مَا سَبَقَ بَيَانُهُ. وَكَذَلِكَ النَّذْرُ الْمُطْلَقُ الَّذِي لَمْ يُعَيَّنْ لِلْمَسَاكِينِ - لاَ بِلَفْظٍ وَلاَ بِنِيَّةٍ - يَجُوزُ الأَْكْل مِنْهُ، عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ.
وَبِالنِّسْبَةِ لِلْمَنْذُورِ لَهُ فَذَلِكَ يَكُونُ بِحَسَبِ كَيْفِيَّةِ النَّذْرِ، فَمَنْ نَذَرَ إِطْعَامَ الْمَسَاكِينِ أَطْعَمَهُمْ، وَمَنْ
__________
(1) منح الجليل 1 / 403، 635 و 2 / 351، والدسوقي 2 / 132، 454، وجواهر الإكليل 1 / 150 و228، والمغني 7 / 371، 372.
(2) سورة المائدة / 89.
(3) البدائع 5 / 100 - 101.(6/117)
نَذَرَ عَلَى سَبِيل التَّمْلِيكِ مَلَّكَهُ لَهُمْ. (1) وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (كَفَّارَة) (وَنَذْر) .
الأَْكْل مِنَ الْوَلِيمَةِ وَالأَْكْل مَعَ الضَّيْفِ:
7 - مَنْ دُعِيَ إِلَى طَعَامِ الْوَلِيمَةِ - وَهِيَ طَعَامُ الْعُرْسِ - فَإِنْ كَانَ مُفْطِرًا فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ الأَْكْل، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ فِي الْجُمْلَةِ، لِخَبَرِ مُسْلِمٍ: إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إِلَى طَعَامٍ فَلْيُجِبْ، فَإِنْ كَانَ صَائِمًا فَلْيُصَل. وَإِنْ كَانَ مُفْطِرًا فَلْيَطْعَمْ (2) أَيْ فَلْيَدْعُ بِالْبَرَكَةِ.
وَوَقَعَ لِلنَّوَوِيِّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ تَصْحِيحُ وُجُوبِ الأَْكْل. وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ.
وَإِنْ كَانَ صَائِمًا تَطَوُّعًا، فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ يُسْتَحَبُّ لَهُ الأَْكْل، وَإِفْطَارُهُ لِجَبْرِ خَاطِرِ الدَّاعِي أَفْضَل مِنْ إِمْسَاكِهِ وَلَوْ آخِرَ النَّهَارِ، لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ صَنَعَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ طَعَامًا فَدَعَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ فَقَال رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: إِنِّي صَائِمٌ، فَقَال لَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَنَعَ لَكَ أَخُوكَ وَتَكَلَّفَ لَكَ أَخُوكَ أَفْطِرْ وَصُمْ يَوْمًا مَكَانَهُ (3) . وَلأَِنَّ فِي الأَْكْل إِجَابَةَ أَخِيهِ
__________
(1) البدائع 2 / 226، 5 / 80 - 86 - 87، وجواهر الإكليل 1 / 203، والدسوقي 2 / 122، وفتح العلي المالك 1 / 207، والحطاب 3 / 190، ونهاية المحتاج 8 / 129، 130، والمهذب 1 / 247، والفروع 3 / 555، ومنتهى الإرادات 3 / 205، 206.
(2) حديث: " إذا دعي. . . " أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا. (صحيح مسلم 2 / 1054 ط عيسى الحلبي) .
(3) حديث: " صنع لك أخوك. . . . " أخرجه أبو داود الطيالسي والدارقطني واللفظ له والبيهقي وحسنه ابن حجر في الفتح (سنن أبي داود الطيالسي ص 293 ط دائرة المعارف النظامية بحيدرآباد، والدارقطني 2 / 177، 178 ط شركة الطباعة الفنية المتحدة، وفتح الباري 4 / 209، 210 ط السلفية)(6/117)
الْمُسْلِمِ وَإِدْخَال السُّرُورِ عَلَى قَلْبِهِ. وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ يَكْتَفِي الصَّائِمُ بِالدُّعَاءِ لِصَاحِبِ الْوَلِيمَةِ (1) ، وَمَنْ أَضَافَ أَحَدًا وَقَدَّمَ لَهُ الطَّعَامَ فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَأْكُل صَاحِبُ الطَّعَامِ مَعَ ضَيْفِهِ، وَأَلاَّ يَقُومَ عَنِ الطَّعَامِ وَغَيْرُهُ يَأْكُل، مَا دَامَ يَظُنُّ بِهِ حَاجَةً إِلَى الأَْكْل، قَال الإِْمَامُ أَحْمَدُ (2) : يَأْكُل بِالسُّرُورِ مَعَ الإِْخْوَانِ، وَبِالإِْيثَارِ مَعَ الْفُقَرَاءِ، وَبِالْمُرُوءَةِ مَعَ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا.
آدَابُ الأَْكْل:
أ - آدَابُ مَا قَبْل الأَْكْل:
8 - أَوَّلاً: مِنْ آدَابِ الأَْكْل السُّؤَال عَنِ الطَّعَامِ إِذَا كَانَ ضَيْفًا عَلَى أَحَدٍ وَلاَ يَعْرِفُهُ، وَلاَ يَطْمَئِنُّ إِلَى مَا قَدْ يُقَدِّمُهُ إِلَيْهِ. فَقَدْ كَانَ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ يَأْكُل طَعَامًا حَتَّى يُحَدَّثَ أَوْ يُسَمَّى لَهُ فَيَعْرِفَ مَا هُوَ، فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ أَنَّهُ دَخَل مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَيْمُونَةَ، وَهِيَ خَالَتُهُ وَخَالَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَوَجَدَ عِنْدَهَا ضَبًّا مَحْنُوذًا قَدِمَتْ بِهِ أُخْتُهَا حَفِيدَةُ ابْنِ الْحَارِثِ مِنْ نَجْدٍ فَقَدَّمَتِ الضَّبَّ لِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ قَلَّمَا يُقَدِّمُ يَدَهُ لِطَعَامٍ حَتَّى يُحَدَّثَ بِهِ وَيُسَمَّى لَهُ، وَأَهْوَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ إِلَى الضَّبِّ فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنَ النِّسْوَةِ الْحُضُورِ: أَخْبِرْنَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ مَا قَدَّمْتُنَّ لَهُ هُوَ الضَّبُّ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 221، والفواكه الدواني 2 / 421، وشرح روض الطالب 3 / 226، والمغني 7 / 2.
(2) ابن عابدين 5 / 196، 216، والكافي لابن عبد البر 2 / 1139، 1140، والفواكه الدواني 2 / 419، وشرح روض الطالب 3 / 227، 228، والآداب الشرعية لابن مفلح 3 / 197، 212.(6/118)
يَا رَسُول اللَّهِ، فَرَفَعَ رَسُول اللَّهِ يَدَهُ عَنِ الضَّبِّ، قَال خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ: أَحَرَامٌ الضَّبُّ يَا رَسُول اللَّهِ؟ قَال: لاَ، وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ، قَال خَالِدٌ: فَاجْتَرَرْتُهُ فَأَكَلْتُهُ وَرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْظُرُ إِلَيَّ (1) . وَشَرَحَهُ الزَّرْكَشِيُّ فَقَال: قَال ابْنُ التِّينِ: إِنَّمَا كَانَ يَسْأَل، لأَِنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ لاَ تَعَافُ شَيْئًا مِنَ الْمَآكِل لِقِلَّتِهَا عِنْدَهُمْ، وَكَانَ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ يَعَافُ بَعْضَ الشَّيْءِ، فَلِذَلِكَ كَانَ يَسْأَل. وَيَحْتَمِل أَنَّهُ كَانَ يَسْأَل لأَِنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِتَحْرِيمِ بَعْضِ الْحَيَوَانَاتِ وَإِبَاحَةِ بَعْضِهَا، وَكَانُوا لاَ يُحَرِّمُونَ مِنْهَا شَيْئًا، وَرُبَّمَا أَتَوْا بِهِ مَشْوِيًّا أَوْ مَطْبُوخًا فَلاَ يَتَمَيَّزُ مِنْ غَيْرِهِ إِلاَّ بِالسُّؤَال عَنْهُ.
ثَانِيًا: الْمُبَادَرَةُ إِلَى الأَْكْل إِذَا قُدِّمَ إِلَيْهِ الطَّعَامُ مِنْ مُضِيفِهِ:
9 - فَإِنَّ مِنْ كَرَامَةِ الضَّيْفِ تَعْجِيل التَّقْدِيمِ لَهُ، وَمِنْ كَرَامَةِ صَاحِبِ الْمَنْزِل الْمُبَادَرَةُ إِلَى قَبُول طَعَامِهِ وَالأَْكْل مِنْهُ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا رَأَوُا الضَّيْفَ لاَ يَأْكُل ظَنُّوا بِهِ شَرًّا، فَعَلَى الضَّيْفِ أَنْ يُهَدِّئَ خَاطِرَ مُضِيفِهِ بِالْمُبَادَرَةِ إِلَى طَعَامِهِ، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ اطْمِئْنَانًا لِقَلْبِهِ (2) .
ثَالِثًا: غَسْل الْيَدَيْنِ قَبْل الطَّعَامِ:
10 - يُسْتَحَبُّ غَسْل الْيَدَيْنِ قَبْل الطَّعَامِ، لِيَأْكُل بِهَا وَهُمَا نَظِيفَتَانِ، لِئَلاَّ يَضُرَّ نَفْسَهُ بِمَا قَدْ يَكُونُ عَلَيْهِمَا مِنَ الْوَسَخِ. وَقِيل: إِنَّ ذَلِكَ لِنَفْيِ الْفَقْرِ، لِمَا فِي
__________
(1) حديث خالد بن الوليد " أنه دخل. . . " رواه البخاري (فتح الباري 9 / 534، 662) وبوب عليه. باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يأكل حتى يسمى له فيعلم ما هو.
(2) تفسير القرطبي 9 / 64.(6/118)
الْحَدِيثِ: الْوُضُوءُ قَبْل الطَّعَامِ يَنْفِي الْفَقْرَ (1) .
رَابِعًا: التَّسْمِيَةُ قَبْل الأَْكْل:
11 - يُسْتَحَبُّ التَّسْمِيَةُ قَبْل الأَْكْل، وَالْمُرَادُ بِالتَّسْمِيَةِ عَلَى الطَّعَامِ قَوْل " بِاسْمِ اللَّهِ " فِي ابْتِدَاءِ الأَْكْل، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا: إِذَا أَكَل أَحَدُكُمْ طَعَامًا فَلْيَقُل: بِاسْمِ اللَّهِ، فَإِنْ نَسِيَ فِي أَوَّلِهِ فَلْيَقُل: بِاسْمِ اللَّهِ فِي أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ (2) وَيَرَى النَّوَوِيُّ أَنَّ الأَْفْضَل أَنْ يَقُول الْمَرْءُ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فَإِنْ قَال:
بِاسْمِ اللَّهِ كَفَاهُ وَحَصَلَتِ السُّنَّةُ، لِمَا رَوَى عُمَرُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ قَال: كُنْتُ غُلاَمًا فِي حِجْرِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَتْ يَدَيَّ تَطِيشُ فِي الصَّحْفَةِ، فَقَال لِي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا غُلاَمُ، سَمِّ اللَّهَ، وَكُل بِيَمِينِكَ، وَكُل مِمَّا يَلِيكَ (3) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 55 / 216 وحديث: " الوضوء قبل الطعام ينفي الفقر. . . " أخرجه الطبراني في الأوسط من حديث ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا. ولفظه " الوضوء قبل الطعام وبعده مما ينفي الفقر، وهو من سنن المرسلين " قال الهيثمي فيه نهشل بن سعيد وهو متروك (مجمع الزوائد 5 / 23، 24 نشر مكتبة القدسي) .
(2) حديث: " إذا أكل أحدكم. . . " أخرجه الترمذي واللفظ له وأبو داود والحاكم. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. كما صححه الحاكم وأقره الذهبي (تحفة الأحوذي 5 / 594، 595 نشر المكتبة السلفية، وسنن أبي داود 4 / 139، 140 ط عزت عبيد دعاس، والمستدرك 4 / 108) .
(3) فتح الباري 9 / 418، 419، وأسنى المطالب 3 / 227، وحاشية ابن عابدين 5 / 215 وحديث عمر بن أبي سلمة قال: " كنت غلاما. . . " أخرجه البخاري ومسلم (فتح الباري 3 / 521 ط السلفية، وصحيح مسلم 3 / 1599 ط عيسى الحلبي) .(6/119)
خَامِسًا: آدَابُ الأَْكْل أَثْنَاءَ الطَّعَامِ وَبَعْدَهُ:
أ - الأَْكْل بِالْيَمِينِ:
12 - يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَأْكُل بِيَمِينِهِ وَلاَ يَأْكُل بِشِمَالِهِ، فَقَدْ رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُعْجِبُهُ التَّيَمُّنُ فِي تَنَعُّلِهِ وَتَرَجُّلِهِ وَطُهُورِهِ فِي شَأْنِهِ كُلِّهِ (1) .
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ يَأْكُلَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ بِشِمَالِهِ، وَلاَ يَشْرَبَنَّ بِهَا، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُل بِشِمَالِهِ وَيَشْرَبُ بِهَا (2) .
وَهَذَا إِنْ لَمْ يَكُنْ عُذْرٌ، فَإِنْ كَانَ عُذْرٌ يَمْنَعُ الأَْكْل أَوِ الشُّرْبَ بِالْيَمِينِ مِنْ مَرَضٍ أَوْ جِرَاحَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَلاَ كَرَاهَةَ فِي الشِّمَال.
وَالْحَدِيثُ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الإِْنْسَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَتَجَنَّبَ الأَْفْعَال الَّتِي تُشْبِهُ أَفْعَال الشَّيْطَانِ (3) .
ب - الأَْكْل مِمَّا يَلِيهِ:
13 - يُسَنُّ أَنْ يَأْكُل الإِْنْسَانُ مِمَّا يَلِيهِ فِي الطَّعَامِ مُبَاشَرَةً، وَلاَ تَمْتَدُّ يَدُهُ إِلَى مَا يَلِي الآْخَرِينَ، وَلاَ إِلَى وَسَطِ الطَّعَامِ، لأَِنَّ أَكْل الْمَرْءِ مِنْ مَوْضِعِ صَاحِبِهِ سُوءُ عِشْرَةٍ وَتَرْكُ مُرُوءَةٍ، وَقَدْ يَتَقَذَّرُهُ صَاحِبُهُ لاَ سِيَّمَا فِي الأَْمْرَاقِ وَمَا شَابَهَهَا، وَذَلِكَ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِنَّ الْبَرَكَةَ تَنْزِل وَسَطَ الطَّعَامِ، فَكُلُوا مِنْ حَافَّتَيْهِ وَلاَ تَأْكُلُوا مِنْ وَسَطِهِ (4) . وَكَذَلِكَ
__________
(1) حديث عائشة: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعجبه. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 269 ط السلفية) .
(2) حديث: " لا يأكلن أحد منكم بشماله. . . " أخرجه مسلم (صحيح مسلم 3 / 1599 ط عيسى الحلبي) .
(3) نيل الأوطار 9 / 41، 42.
(4) حديث: " إن البركة تنزل. . . " أخرجه الترمذي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا. وقال: هذا حديث حسن صحيح (تحفة الأحوذي 5 / 525 نشر المكتبة السلفية) .(6/119)
مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ قَال: كُنْتُ غُلاَمًا فِي حِجْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَتْ يَدَيَّ تَطِيشُ فِي الصَّحْفَةِ، فَقَال لِي: يَا غُلاَمُ سَمِّ اللَّهَ وَكُل بِيَمِينِكَ وَكُل مِمَّا يَلِيكَ، قَال: فَمَا زَالَتْ تِلْكَ طُعْمَتِي بَعْدُ (1) .
إِلاَّ أَنَّهُ إِنْ كَانَ الطَّعَامُ تَمْرًا أَوْ أَجْنَاسًا فَقَدْ نَقَلُوا إِبَاحَةَ اخْتِلاَفِ الأَْيْدِي فِي الطَّبَقِ وَنَحْوِهِ (2) .
ج - غَسْل الْيَدِ بَعْدَ الطَّعَامِ:
14 - تَحْصُل السُّنَّةُ بِمُجَرَّدِ الْغَسْل بِالْمَاءِ، قَال ابْنُ رَسْلاَنَ: وَالأَْوْلَى غَسْل الْيَدِ بِالأُْشْنَانِ أَوِ الصَّابُونِ أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُمَا. فَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسٍ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الشَّيْطَانَ حَسَّاسٌ لَحَّاسٌ، فَاحْذَرُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، مَنْ بَاتَ وَفِي يَدِهِ غُمَرٌ فَأَصَابَهُ شَيْءٌ فَلاَ يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ (3)
هَذَا وَالْغَسْل مُسْتَحَبٌّ قَبْل الأَْكْل وَبَعْدَهُ، وَلَوْ كَانَ الشَّخْصُ عَلَى وُضُوءٍ. وَرَوَى سَلْمَانُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: بَرَكَةُ الطَّعَامِ الْوُضُوءُ قَبْلَهُ، وَالْوُضُوءُ
__________
(1) حديث: " كنت غلاما. . . " سبق تخريجه (ف 11) .
(2) المغني لابن قدامة 11 / 91.
(3) نيل الأوطار 9 / 42 وما بعدها، وحاشية ابن عابدين 5 / 216، والمحلى 7 / 435. وحديث: " إن الشيطان حساس لحاس. . . " أخرجه الترمذي عن طريق يعقوب بن الوليد المدني من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا وقال: هذا حديث غريب من هذا الوجه، وحسنه المنذري بعد أن ذكر طرق الحديث المختلفة (تحفة الأحوذي 4 / 596 نشر المكتبة السلفية، والترغيب والترهيب 4 / 212، 213 ط المكتبة التجارية) .(6/120)
بَعْدَهُ (1) ، قَال الطِّيبِيُّ: الْمُرَادُ بِالْوُضُوءِ تَنْظِيفُ الْيَدِ بِغَسْلِهَا، وَلَيْسَ الْوُضُوءَ الشَّرْعِيَّ (2) .
د - الْمَضْمَضَةُ بَعْدَ الطَّعَامِ:
15 - الْمَضْمَضَةُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الطَّعَامِ مُسْتَحَبَّةٌ (3) ، لِمَا رَوَى بَشِيرُ بْنُ يَسَارٍ عَنْ سُوَيْدِ بْنِ النُّعْمَانِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُمْ كَانُوا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصَّهْبَاءِ - وَهِيَ عَلَى رَوْحَةٍ مِنْ خَيْبَرَ - فَحَضَرَتِ الصَّلاَةُ، فَدَعَا بِطَعَامٍ فَلَمْ يَجِدْهُ إِلاَّ سَوِيقًا فَلاَكَ مِنْهُ، فَلُكْنَا مَعَهُ ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ فَمَضْمَضَ، ثُمَّ صَلَّى وَصَلَّيْنَا وَلَمْ يَتَوَضَّأْ (4) .
هـ - الدُّعَاءُ لِلْمُضِيفِ:
16 - فَقَدْ رَوَى أَنَسٌ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ إِلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ فَجَاءَ بِخُبْزٍ وَزَيْتٍ فَأَكَل، ثُمَّ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَفْطَرَ عِنْدَكُمُ الصَّائِمُونَ، وَأَكَل طَعَامَكُمُ الأَْبْرَارُ، وَصَلَّتْ عَلَيْكُمُ الْمَلاَئِكَةُ (5) . وَعَنْ جَابِرٍ
__________
(1) حديث: " بركة إطعام. . . " أخرجه الترمذي (تحفة الأحوذي 5 / 578 نشر المكتبة السلفية) وأبو داود (سنن أبي داود 4 / 139 ط عزت عبيد دعاس) . قال أبو داود: هو ضعيف. وقال الترمذي: لا نعرف هذا الحديث إلا من حديث قيس بن الربيع، وقيس يضعف في الحديث. قال المنذري بعد نقل كلام الترمذي هذا: قيس بن الربيع صدوق وفيه كلام لسوء حفظه لا يخرج الإسناد عن حد الحسن.
(2) المغني 11 / 91، وفيض القدير 3 / 200.
(3) فتح الباري 9 / 457، والمحلى 7 / 435.
(4) حديث: " روى بشير بن يسار عن سويد بن النعمان أنه أخبره. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 534 ط السلفية) .
(5) حديث أنس: " أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء إلى سعد بن عبادة. . . " أخرجه أبو داود واللفظ له والبيهقي. وسكت عنه المنذري وقال عبد القادر الأرناؤوط محقق جامع الأصول: هو حديث صحيح. (عون المعبود 3 / 433 ط الهند. والسنن الكبرى للبيهقي 7 / 287 ط دائرة المعارف العثمانية، وجامع الأصول 4 / 311) .(6/120)
قَال صَنَعَ أَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ النَّبْهَانِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَعَامًا فَدَعَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ، فَلَمَّا فَرَغُوا قَال: أَثِيبُوا أَخَاكُمْ، قَالُوا: يَا رَسُول اللَّهِ وَمَا إِثَابَتُهُ؟ قَال: إِنَّ الرَّجُل إِذَا دَخَل بَيْتَهُ فَأَكَل طَعَامَهُ وَشَرِبَ شَرَابَهُ فَدَعَوْا لَهُ، فَذَلِكَ إِثَابَتُهُ (1)
- و - الأَْكْل بِثَلاَثَةِ أَصَابِعَ:
17 - السُّنَّةُ الأَْكْل بِثَلاَثَةِ أَصَابِعَ، قَال عِيَاضٌ: وَالأَْكْل بِأَكْثَرَ مِنْهَا مِنَ الشَّرَهِ وَسُوءِ الأَْدَبِ، وَلأَِنَّهُ غَيْرُ مُضْطَرٍّ لِذَلِكَ لِجَمْعِهِ اللُّقْمَةَ وَإِمْسَاكِهَا مِنْ جِهَاتِهَا الثَّلاَثِ: وَإِنِ اضْطُرَّ إِلَى الأَْكْل بِأَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثَةِ أَصَابِعَ، لِخِفَّةِ الطَّعَامِ وَعَدَمِ تَلْفِيقِهِ بِالثَّلاَثِ يَدْعَمُهُ بِالرَّابِعَةِ أَوِ الْخَامِسَةِ (2) . هَذَا إِنْ أَكَل بِيَدِهِ، وَلاَ بَأْسَ بِاسْتِعْمَال الْمِلْعَقَةِ وَنَحْوِهَا كَمَا يَأْتِي.
ز - أَكْل اللُّقْمَةِ السَّاقِطَةِ:
18 - إِذَا وَقَعَتِ اللُّقْمَةُ فَلْيُمِطِ الآْكِل عَنْهَا الأَْذَى وَلْيَأْكُلْهَا وَلاَ يَدَعْهَا لِلشَّيْطَانِ، لأَِنَّهُ لاَ يَدْرِي مَوْضِعَ الْبَرَكَةِ فِي طَعَامِهِ، وَقَدْ يَكُونُ فِي هَذِهِ اللُّقْمَةِ السَّاقِطَةِ، فَتَرْكُهَا يُفَوِّتُ عَلَى الْمَرْءِ بَرَكَةَ الطَّعَامِ (3) ، لِمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ
__________
(1) حديث جابر قال: " صنع أبو الهيثم. . . " أخرجه أبو داود وقال المنذري: فيه رجل مجهول، وفيه يزيد بن عبد الرحمن أبو خالد المعروف بالدالاني وقد وثقه غير واحد وتكلم فيه بعضهم. (عون المعبود 3 / 433 ط الهند) .
(2) نيل الأوطار 9 / 49، وأسنى المطالب 3 / 227.
(3) نيل الأوطار 9 / 44 وما بعدها.(6/121)
إِذَا طَعِمَ طَعَامًا لَعِقَ أَصَابِعَهُ الثَّلاَثَ، وَقَال: وَإِذَا سَقَطَتْ لُقْمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيُمِطْ عَنْهَا الأَْذَى وَلْيَأْكُلْهَا، وَلاَ يَدَعْهَا لِلشَّيْطَانِ (1) .
ج - عَدَمُ الاِتِّكَاءِ أَثْنَاءَ الأَْكْل:
19 - وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّا أَنَا فَلاَ آكُل مُتَّكِئًا (2) قَال الْخَطَّابِيُّ: الْمُتَّكِئُ هُنَا الْجَالِسُ مُعْتَمِدًا عَلَى وِطَاءٍ تَحْتَهُ، كَقُعُودِ مَنْ يُرِيدُ الإِْكْثَارَ مِنَ الطَّعَامِ. وَسَبَبُ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ قِصَّةُ الأَْعْرَابِيِّ الْمَذْكُورِ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ قَال: أُهْدِيَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاةٌ، فَجَثَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رُكْبَتَيْهِ يَأْكُل، فَقَال أَعْرَابِيٌّ: مَا هَذِهِ الْجِلْسَةُ؟ فَقَال: إِنَّ اللَّهَ جَعَلَنِي عَبْدًا كَرِيمًا، وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا عَنِيدًا. . . (3)
وَاخْتُلِفَ فِي صِفَةِ الاِتِّكَاءِ، لَكِنَّ مُرَادَهُمْ أَنَّ الإِْكْثَارَ مِنَ الطَّعَامِ مَذْمُومٌ، وَمُرَادُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَمُّ فِعْل مَنْ يَسْتَكْثِرُ الطَّعَامَ، وَمَدْحُ مَنْ لاَ يَأْكُل إِلاَّ الْبُلْغَةَ مِنَ الزَّادِ، وَلِذَلِكَ قَعَدَ مُسْتَوْفِزًا (4) .
ط - التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْحَاضِرِينَ عَلَى الطَّعَامِ:
20 - فَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى
__________
(1) حديث أنس: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا كل طعاما. . . ". أخرجه مسلم (3 / 1607 ط عيسى الحلبي) .
(2) حديث: " أما أنا فلا آكل متكئا. . . ". أخرجه البخاري من حديث جحيفة رضي الله عنه بلفظ: " إني لا آكل متكئا " وفي رواية: " لا آكل وأنا متكئ " وأما اللفظ الوارد في صلب الموسوعة فهو للترمذي. (فتح الباري 9 / 540 ط السلفية، وتحفة الأحوذي 5 / 557 - 559 نشر المكتبة السلفية) .
(3) حديث عبد الله بن بسر قال: " أهديت للنبي صلى الله عليه وسلم. . . " أخرجه ابن ماجه. وقال الحافظ البوصيري في الزوائد: إسناده صحيح رجاله ثقات (سنن ابن ماجه 2 / 1086 ط عيسى الحلبي) .
(4) أسنى المطالب 3 / 227، ونيل الأوطار 9 / 44 وما بعدها.(6/121)
بَعْضَ حُجَرِ نِسَائِهِ، فَدَخَل، ثُمَّ أَذِنَ لِي فَدَخَلْتُ الْحِجَابَ عَلَيْهَا، فَقَال: هَل مِنْ غَدَاءٍ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ. فَأُتِيَ بِثَلاَثَةِ أَقْرِصَةٍ فَوُضِعْنَ عَلَى نَبِيٍّ (مَائِدَةٍ مِنْ خُوصٍ) فَأَخَذَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُرْصًا فَوَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَخَذَ قُرْصًا آخَرَ فَوَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيَّ، ثُمَّ أَخَذَ الثَّالِثَ فَكَسَرَهُ اثْنَيْنِ، فَحَمَل نِصْفَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَنِصْفَهُ بَيْنَ يَدَيَّ، ثُمَّ قَال: هَل مِنْ أُدْمٍ؟ قَالُوا: لاَ، إِلاَّ شَيْءٌ مِنْ خَلٍّ، قَال: هَاتُوهُ، فَنِعْمَ الأُْدْمُ هُوَ (1) . وَالتَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْحَاضِرِينَ عَلَى الطَّعَامِ مُسْتَحَبَّةٌ، حَتَّى لَوْ كَانَ بَعْضُ الْحَاضِرِينَ أَفْضَل مِنْ بَعْضٍ (2) .
هَذَا وَمِنْ آدَابِ الأَْكْل أَثْنَاءَ الطَّعَامِ إِكْرَامُ الْخُبْزِ، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا: أَكْرِمُوا الْخُبْزَ (3) ، وَعَدَمُ الْبُصَاقِ وَالْمُخَاطِ حَال الأَْكْل إِلاَّ لِضَرُورَةٍ. وَمِنْ آدَابِهِ كَذَلِكَ الأَْكْل مَعَ الْجَمَاعَةِ، وَالْحَدِيثُ غَيْرُ الْمُحَرَّمِ عَلَى الطَّعَامِ، وَمُؤَاكَلَةُ صِغَارِهِ وَزَوْجَاتِهِ، وَأَلاَّ يَخُصَّ نَفْسَهُ بِطَعَامٍ إِلاَّ لِعُذْرٍ كَدَوَاءٍ، بَل يُؤْثِرُهُمْ عَلَى نَفْسِهِ فَاخِرَ الطَّعَامِ، كَقِطْعَةِ لَحْمٍ وَخُبْزٍ لَيِّنٍ أَوْ طَيِّبٍ.
__________
(1) حديث جابر: أخرجه مسلم (3 / 1622، 1623 ط عيسى الحلبي، ونيل الأوطار 8 / 163 ط دائرة المعارف العثمانية) .
(2) فتح الباري 9 / 437.
(3) حديث: " أكرموا الخبز. . . ". أخرجه الحاكم والبيهقي من حديث عائشة رضي الله عنها. وذكر السخاوي والمناوي طرق الحديث المختلفة وكلها مطعون فيها، لكن صنيع الحافظ العراقي يؤذن بأنه شديد الضعف لا موضوع، وأمثل طرقه طريق الحاكم والبيهقي من حديث عائشة المشار إليه آنفا. وحكم الألباني بحسنه. (فيض القدير 2 / 91 - 93، والمقاصد الحسنة ص 78 نشر مكتبة الخانجي، وصحيح الجامع الصغير 1 / 389) .(6/122)
وَإِذَا فَرَغَ ضَيْفُهُ مِنَ الطَّعَامِ وَرَفَعَ يَدَهُ قَال صَاحِبُ الطَّعَامِ: كُل، وَيُكَرِّرُهَا عَلَيْهِ مَا لَمْ يَتَحَقَّقْ أَنَّهُ اكْتَفَى مِنْهُ، وَلاَ يَزِيدُ عَلَى ثَلاَثِ مَرَّاتٍ، وَأَنْ يَتَخَلَّل، وَلاَ يَبْتَلِعَ مَا يَخْرُجُ مِنْ أَسْنَانِهِ بِالْخِلاَل بَل يَرْمِيهِ (1) .
آدَابُ الأَْكْل بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهُ:
22 - يُسَنُّ أَنْ يَقُول الآْكِل مَا وَرَدَ مِنْ حَمْدِ اللَّهِ وَالدُّعَاءِ بَعْدَ تَمَامِ الأَْكْل، فَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا رَفَعَ مَائِدَتَهُ قَال: " الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ غَيْرَ مَكْفِيٍّ (2) وَلاَ مُوَدَّعٍ وَلاَ مُسْتَغْنًى عَنْهُ رَبَّنَا " (3) وَقَدْ كَانَ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَكَل طَعَامًا غَيْرَ اللَّبَنِ قَال: " اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ، وَأَطْعِمْنَا خَيْرًا مِنْهُ " وَإِذَا شَرِبَ لَبَنًا قَال: " اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ، وَزِدْنَا مِنْهُ " (4) .
وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: " مَنْ أَطْعَمَهُ اللَّهُ طَعَامًا فَلْيَقُل: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ وَأَطْعِمْنَا خَيْرًا مِنْهُ، وَمَنْ سَقَاهُ اللَّهُ لَبَنًا فَلْيَقُل: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ وَزِدْنَا مِنْهُ " (5) .
__________
(1) أسنى المطالب 3 / 227.
(2) أحسن ما قيل في تفسيره: أنه وصف لله تعالى، أي غير محتاج إلى أحد، لكنه هو الذي يطعم عباده ويكفيهم.
(3) حديث: " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رفع مائدته. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 580 ط السلفية) .
(4) حديث: " وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أكل طعاما غير اللبن. . . " أخرجه الترمذي بلفظ: " من أطعمه الله الطعام فليقل: اللهم بارك لنا فيه وأطعمنا خيرا منه، ومن سقاه الله لبنا فليقل: اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه ". وقال: هذا حديث حسن. (سنن الترمذي5 / 506، 507 ط استانبول.)
(5) نيل الأوطار 9 / 552، وحاشية ابن عابدين 5 / 215 وحديث: " من أطعمه الله طعاما. . . " أخرجه الترمذي وأبو داود. وقال الترمذي: هذا حديث حسن. وفي إسناده عمر بن حرملة، ويقال: ابن أبي حرملة سئل عنه أبو زرعة فقال: بصري لا أعرفه إلا في هذا الحديث. كما أن في إسناده علي بن زيد بن جدعان أبو الحسن البصري وقد ضعفه جماعة من الأئمة. (تحفة الأحوذي 9 / 421، 422 نشر المكتبة السلفية، وعون المعبود 3 / 393 ط الهند) .(6/122)
آدَابٌ عَامَّةٌ فِي الأَْكْل:
أ - عَدَمُ ذَمِّ الطَّعَامِ:
23 - رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: مَا عَابَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَعَامًا قَطُّ، إِنِ اشْتَهَاهُ أَكَلَهُ، وَإِنْ كَرِهَهُ تَرَكَهُ (1) وَالْمُرَادُ الطَّعَامُ الْمُبَاحُ، أَمَّا الْحَرَامُ فَكَانَ يَعِيبُهُ وَيَذُمُّهُ وَيَنْهَى عَنْهُ.
وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْعَيْبُ مِنْ جِهَةِ الْخِلْقَةِ كُرِهَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ جِهَةِ الصَّنْعَةِ لَمْ يُكْرَهْ، لأَِنَّ صَنْعَةَ اللَّهِ لاَ تُعَابُ وَصَنْعَةَ الآْدَمِيِّينَ تُعَابُ. وَاَلَّذِي يَظْهَرُ التَّعْمِيمُ، فَإِنَّ فِيهِ كَسْرَ قَلْبِ الصَّانِعِ.
قَال النَّوَوِيُّ: مِنْ آدَابِ الطَّعَامِ الْمُتَأَكِّدَةِ أَلاَّ يُعَابَ كَقَوْلِهِ: مَالِحٌ، حَامِضٌ، قَلِيل الْمِلْحِ، غَلِيظٌ، رَقِيقٌ، غَيْرُ نَاضِجٍ، وَغَيْرُ ذَلِكَ - قَال ابْنُ بَطَّالٍ: هَذَا مِنْ حَسَنِ الآْدَابِ، لأَِنَّ الْمَرْءَ قَدْ لاَ يَشْتَهِي الشَّيْءَ وَيَشْتَهِيهِ غَيْرُهُ، وَكُل مَأْذُونٍ فِي أَكْلِهِ مِنْ قِبَل الشَّرْعِ لَيْسَ فِيهِ عَيْبٌ (2) .
__________
(1) حديث: " ما عاب النبي صلى الله عليه وسلم طعاما. . . ". أخرجه البخاري ومسلم (فتح الباري 9 / 547 ط السلفية، وصحيح مسلم 3 / 1632 ط عيسى الحلبي) .
(2) فتح الباري 9 / 547.(6/123)
ب - اسْتِعْمَال الْمَلاَعِقِ وَالسَّكَاكِينِ وَأَدَوَاتِ الطَّعَامِ:
24 - يَجُوزُ اسْتِعْمَال السِّكِّينِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ، لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيِّ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْتَزُّ مِنْ كَتِفِ شَاةٍ فِي يَدِهِ، فَدُعِيَ إِلَى الصَّلاَةِ، فَأَلْقَاهَا وَالسِّكِّينَ الَّتِي يَحْتَزُّ بِهَا، ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ (1) .
وَأَمَّا خَبَرُ لاَ تَقْطَعُوا اللَّحْمَ بِالسِّكِّينِ (2) فَقَدْ سُئِل عَنْهُ الإِْمَامُ أَحْمَدُ فَقَال: لَيْسَ بِصَحِيحٍ. وَقَال ابْنُ مُفْلِحٍ: أَمَّا تَقْطِيعُ الْخُبْزِ بِالسِّكِّينِ فَلَمْ أَجِدْ فِيهِ كَلاَمًا (3) .
- ج - تَحَرِّي الأَْكْل مِنَ الْحَلاَل:
25 - قَال اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِل إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (4) .
وَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَحْلُبَنَّ أَحَدٌ مَاشِيَةَ امْرِئٍ
__________
(1) حديث عمر بن أمية الضمري: " أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يحتز من كتف شاة. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 547 ط السلفية) .
(2) حديث: " لا تقطعوا اللحم بالسكين. . . " أخرجه أبو داود من حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعا وقال: وليس هو بالقوي. قال المنذري: في إسناده أبو مشعر السدي المدني واسمه نجيح وكان يحيى بن سعيد القطان لا يحدث عنه ويستضعفه جدا ويضحك إذا ذكره غيره وتكلم فيه غير واحد من الأئمة. وقال أبو عبد الرحمن السناني: أبو معشر له أحاديث مناكير منها هذا. (عون المعبود 3 / 411 ط الهند)
(3) الآداب الشرعية لابن مفلح 3 / 221 ط المنار. وترى اللجنة أن هذا من الأمور العادية والأصل فيها الإباحة.
(4) سورة النساء / 29.(6/123)
بِغَيْرِ إِذْنِهِ، أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تُؤْتَى مَشْرَبَتُهُ (1) ، فَتُكْسَرَ خِزَانَتُهُ، فَيَنْتَقِل طَعَامُهُ، فَإِنَّمَا تُخَزِّنُ لَهُمْ ضُرُوعُ مَاشِيَتِهِمْ أَطْعِمَاتِهِمْ، فَلاَ يَحْلُبَنَّ أَحَدٌ مَاشِيَةَ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِهِ (2)
قَال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَصْل الْمَأْكُول وَالْمَشْرُوبِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِمَالِكٍ مِنَ الآْدَمِيِّينَ، أَوْ أَحَلَّهُ مَالِكُهُ، أَنَّهُ حَلاَلٌ إِلاَّ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَل فِي كِتَابِهِ أَوْ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَزِمَ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَل أَنْ يُحَرَّمَ. وَيَحْرُمُ مَا لَمْ يَخْتَلِفِ الْمُسْلِمُونَ فِي تَحْرِيمِهِ، وَكَانَ فِي مَعْنَى كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ إِجْمَاعٍ، فَإِنْ قَال قَائِلٌ: فَمَا الْحُجَّةُ فِي أَنَّ كُل مَا كَانَ مُبَاحَ الأَْصْل يَحْرُمُ بِمَالِكِهِ، حَتَّى يَأْذَنَ فِيهِ مَالِكُهُ فَالْحُجَّةُ فِيهِ: أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَل قَال: {لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِل إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (3) . وَقَال تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} (4) وَقَال: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} (5) ، مَعَ آيٍ كَثِيرَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَل حَظَرَ فِيهَا أَمْوَال النَّاسِ إِلاَّ بِطِيبِ أَنْفُسِهِمْ (6) .
وَمِمَّا رُوِيَ فِي تَحْرِيمِ مَال الْغَيْرِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ مَا وَرَدَ عَنْ عُمَيْرٍ مَوْلَى أَبِي اللَّحْمِ قَال: أَقْبَلْتُ مَعَ سَادَتِي نُرِيدُ الْهِجْرَةَ، حَتَّى أَنْ دَنَوْنَا مِنَ الْمَدِينَةِ، قَال:
__________
(1) المشربة بضم الراء وفتحها: الغرفة (المصباح) .
(2) حديث: " لا يحلبن أحدكم ماشية أحد. . . " أخرجه البخاري من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما مرفوعا. (فتح الباري 5 / 88 ط السلفية) .
(3) سورة النساء / 29.
(4) سورة النساء / 4.
(5) سورة النساء / 2.
(6) الأم 2 / 213.(6/124)
فَدَخَلُوا الْمَدِينَةَ، وَخَلَّفُونِي فِي ظَهْرِهِمْ، قَال: فَأَصَابَنِي مَجَاعَةٌ شَدِيدَةٌ، قَال: فَمَرَّ بِي بَعْضُ مَنْ يَخْرُجُ مِنَ الْمَدِينَةِ فَقَالُوا لِي: لَوْ دَخَلْتَ الْمَدِينَةَ فَأَصَبْتَ مِنْ تَمْرِ حَوَائِطِهَا، فَدَخَلْتُ حَائِطًا، فَقَطَعْتُ مِنْهُ قِنْوَيْنِ، فَأَتَانِي صَاحِبُ الْحَائِطِ، فَأَتَى بِي إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخْبَرَهُ خَبَرِي، وَعَلَيَّ ثَوْبَانِ، فَقَال لِي: أَيُّهُمَا أَفْضَل؟ فَأَشَرْتُ لَهُ إِلَى أَحَدِهِمَا، فَقَال: خُذْهُ، وَأَعْطَى صَاحِبَ الْحَائِطِ الآْخَرَ، وَأَخْلَى سَبِيلِي (1) وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحَاجَةَ لاَ تُبِيحُ الإِْقْدَامَ عَلَى مَال الْغَيْرِ مَعَ وُجُودِ مَا يُمْكِنُ الاِنْتِفَاعُ بِهِ أَوْ بِقِيمَتِهِ، وَلَوْ كَانَ مِمَّا تَدْعُو حَاجَةُ الإِْنْسَانِ إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ هُنَا أَخَذَ أَحَدَ ثَوْبَيْهِ، وَدَفَعَهُ إِلَى صَاحِبِ النَّخْل (2) .
مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى قَاعِدَةِ تَحَرِّي الْحَلاَل فِي الأَْكْل:
أ - حُكْمُ الْمُضْطَرِّ:
26 - مَنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ هَلاَكُ نَفْسِهِ، وَلَمْ يَجِدْ إِلاَّ مَيْتَةً أَوْ نَحْوَهَا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ أَوْ مَال الْغَيْرِ، لَزِمَهُ الأَْكْل مِنْهُ بِقَدْرِ مَا يُحْيِي نَفْسَهُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (3) . وقَوْله تَعَالَى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ} أَيْ عَلَى مُضْطَرٍّ آخَرَ {وَلاَ
__________
(1) حديث عمير قال " أقبلت مع سادتي. . . " أخرجه أحمد بن حنبل بهذا اللفظ من حديث عمير مولى أبي اللحم: وفي إسناده عبد الرحمن بن إسحاق تكلم فيه جماعة، وقال النسائي وابن خزيمة ليس به بأس ونقل الشوكاني قول الهيثمي: إن حديث عمير هذا أخرجه أحمد بإسنادين وأحدهما ابن لهيعة، وفي الآخر أبو بكر بن زيد بن المهاجر، ذكره ابن أبي حاتم ولم يذكر فيه حرجا ولا تعديلا: وبقية رجاله ثقات. مسند أحمد 55 / 223 ط الميمنية، ونيل الأوطار 8 / 153 ط المطبعة العثمانية المصرية) .
(2) نيل الأوطار 9 / 132.
(3) سورة البقرة / 195.(6/124)
عَادٍ} أَيْ سَدَّ الْجَوْعَةَ فَأَكَل {فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} (1) . قَال الزَّرْكَشِيُّ: وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ خَوْفُ حُصُول الشَّيْنِ الْفَاحِشِ فِي عُضْوٍ ظَاهِرٍ، كَخَوْفِ طُول الْمَرَضِ كَمَا فِي التَّيَمُّمِ. وَاكْتَفَى بِالظَّنِّ، كَمَا فِي الإِْكْرَاهِ عَلَى أَكْل ذَلِكَ، فَلاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّيَقُّنُ وَلاَ الإِْشْرَافُ عَلَى الْمَوْتِ (2) . وَلِلْمُضْطَرِّ أَنْ يَأْكُل مَا يَسُدُّ الرَّمَقَ أَيْ مَا يَحْفَظُ الْحَيَاةَ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ، وَهُوَ الأَْظْهَرُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ. قَال الْمَوَّاقُ: وَنَصُّ الْمُوَطَّأِ: وَمِنْ أَحْسَنِ مَا سَمِعْتُهُ فِي الرَّجُل يُضْطَرُّ إِلَى الْمَيْتَةِ أَنَّهُ يَأْكُل مِنْهَا حَتَّى يَشْبَعَ وَيَتَزَوَّدَ مِنْهَا، فَإِنْ وَجَدَ عَنْهَا غِنًى طَرَحَهَا (3) .
وَيَحْرُمُ الأَْكْل مِنَ الْمَيْتَةِ عَلَى الْمُضْطَرِّ فِي سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ، كَقَاطِعِ الطَّرِيقِ وَالآْبِقِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} (4) قَال مُجَاهِدٌ: غَيْرَ بَاغٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَلاَ عَادٍ عَلَيْهِمْ. وَقَال سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: إِذَا خَرَجَ يَقْطَعُ الطَّرِيقَ فَلاَ رُخْصَةَ لَهُ (5) ، فَإِنْ تَابَ وَأَقْلَعَ عَنْ مَعْصِيَتِهِ حَل لَهُ الأَْكْل (6) . وَفِي ذَلِكَ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ تَحْتَ عِنْوَانِ (اضْطِرَار) .
وَإِنِ اضْطُرَّ فَلَمْ يَجِدْ مَيْتَةً، وَمَعَ رَجُلٍ شَيْءٌ كَانَ لَهُ أَنْ يُكَابِرَهُ، وَعَلَى الرَّجُل أَنْ يُعْطِيَهُ، وَإِذَا كَابَرَهُ أَعْطَاهُ ثَمَنَهُ وَافِيًا، فَإِنْ كَانَ إِذَا أَخَذَ شَيْئًا خَافَ
__________
(1) سورة البقرة / 173.
(2) أسنى المطالب 1 / 570.
(3) ابن عابدين 3 / 57، والمواق 3 / 233، وقليوبي 4 / 262، والمغني 11 / 73.
(4) سورة البقرة / 173.
(5) المغني لابن قدامة 11 / 75، 76.
(6) أسنى المطالب 1 / 572.(6/125)
مَالِكُ الْمَال عَلَى نَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ مُكَابَرَتُهُ (1) .
قَال الْقَرَافِيُّ فِي الذَّخِيرَةِ: وَإِذَا أَكَل مَال مُسْلِمٍ اقْتَصَرَ عَلَى سَدِّ الرَّمَقِ، إِلاَّ أَنْ يَعْلَمَ طُول الطَّرِيقِ فَلْيَتَزَوَّدْ، لأَِنَّ مُوَاسَاتَهُ تَجِبُ إِذَا جَاعَ.
ب - الأَْكْل مِنْ بُسْتَانِ الْغَيْرِ وَزَرْعِهِ دُونَ إِذْنِهِ:
27 - قَال صَاحِبُ الْمُغْنِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ: مَنْ مَرَّ بِبُسْتَانِ غَيْرِهِ يُبَاحُ لَهُ الأَْكْل مِنْهُ، مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مُضْطَرًّا إِلَى الأَْكْل أَوْ لاَ، وَمَحَل ذَلِكَ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْبُسْتَانِ حَائِطٌ، أَيْ جِدَارٌ يَمْنَعُ الدُّخُول إِلَيْهِ لِحِرْزِهِ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الإِْشْعَارِ بِعَدَمِ الرِّضَا.
وَدَلِيل ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: إِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ حَائِطًا، فَأَرَادَ أَنْ يَأْكُل، فَلْيُنَادِ: يَا صَاحِبَ الْحَائِطِ، ثَلاَثًا، فَإِنْ أَجَابَهُ وَإِلاَّ فَلْيَأْكُل، وَإِذَا مَرَّ أَحَدُكُمْ بِإِبِلٍ فَأَرَادَ أَنْ يَشْرَبَ مِنْ أَلْبَانِهَا، فَلْيُنَادِ: يَا صَاحِبَ الإِْبِل أَوْ يَا رَاعِيَ الإِْبِل، فَإِنْ أَجَابَهُ، وَإِلاَّ فَلْيَشْرَبْ (2) .
وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَال: يَأْكُل مِمَّا تَحْتَ الشَّجَرِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ تَحْتَ الشَّجَرِ فَلاَ يَأْكُل ثِمَارَ النَّاسِ وَهُوَ غَنِيٌّ، وَلاَ يَأْكُل بِضَرْبٍ بِحَجَرٍ، وَلاَ يَرْمِي، لأَِنَّ هَذَا يُفْسِدُ.
__________
(1) الأم 2 / 25.
(2) حديث: " إذا أتى أحدكم حائطا. . . " أخرجه أحمد بن حنبل في مسنده. من حديث أبي سعيد رضي الله عنه مرفوعا. وعزاه الشوكاني فضلا عما سبق إلى أبي يعلى بهذا اللفظ وابن ماجه وابن حبان والحاكم والمقدسي وصححه الألباني. (مسند أحمد بن حنبل 3 / 7، 8 ط الميمنية وسنن ابن ماجه. 2 / 771، ط عيسى الحلبي، وفتح الباري 5 / 89 ط السلفية، والجامع الصغير بتحقيق الألباني1 / 135، 136، ونيل الأوطار 8 / 154 ط المطبعة العثمانية المصرية) .(6/125)
غَيْرَ أَنَّهُ يَمْتَنِعُ عَلَى الإِْنْسَانِ أَنْ يَأْخُذَ خُبْنَةً، وَهِيَ مَا تَحْمِلُهُ وَتَخْرُجُ بِهِ مِنْ ثِمَارِ الْغَيْرِ، لأَِنَّ هَذَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ بِنَصِّ الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ، فَقَدْ سُئِل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ فَقَال: مَنْ أَصَابَ بِفِيهِ مِنْ ذِي حَاجَةٍ غَيْرَ مُتَّخَذٍ خُبْنَةً فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، وَمَنْ خَرَجَ بِشَيْءٍ مِنْهُ فَعَلَيْهِ غَرَامَةُ مِثْلَيْهِ وَالْعُقُوبَةُ (1) .
وَقَوْل الْمَالِكِيَّةِ كَقَوْل الْحَنَابِلَةِ، وَلَكِنْ قَيَّدُوهُ بِحَال الْحَاجَةِ. أَمَّا فِي غَيْرِ الْحَاجَةِ فَالأَْصَحُّ عِنْدَهُمُ الْمَنْعُ (2) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَال النَّوَوِيُّ: مَنْ مَرَّ بِثَمَرِ غَيْرِهِ أَوْ زَرْعِهِ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ، وَلاَ يَأْكُل بِغَيْرِ إِذْنِ صَاحِبِهِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مُضْطَرًّا فَيَأْكُل وَيَضْمَنَ.
وَحُكْمُ الثِّمَارِ السَّاقِطَةِ مِنَ الأَْشْجَارِ حُكْمُ سَائِرِ الثِّمَارِ إِنْ كَانَتْ دَاخِل الْجِدَارِ، فَإِنْ كَانَتْ خَارِجَهُ فَكَذَلِكَ إِنْ لَمْ تَجْرِ عَادَتُهُمْ بِإِبَاحَتِهَا، فَإِنْ جَرَتْ بِذَلِكَ، فَهَل تَجْرِي الْعَادَةُ الْمُطَّرِدَةُ مَجْرَى الإِْبَاحَةِ؟ وَالأَْصَحُّ: أَنَّهَا تَجْرِي مَجْرَى الإِْبَاحَةِ (3) .
وَأَمَّا الأَْكْل مِنَ الزَّرْعِ فَعَنْ أَحْمَدَ فِيهِ رِوَايَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: قَال: لاَ يَأْكُل، إِنَّمَا رَخَّصَ فِي الثِّمَارِ وَلَيْسَ الزَّرْعَ، وَقَال: مَا سَمِعْنَا فِي الزَّرْعِ أَنْ يَمَسَّ مِنْهُ. وَوَجْهُهُ أَنَّ الثِّمَارَ خَلَقَهَا اللَّهُ لِلأَْكْل رَطْبَةً، وَالنُّفُوسُ
__________
(1) حديث: " فقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الثمر المعلق. . . " أخرجه أحمد والترمذي وأبو داود واللفظ له من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص. قال الترمذي: هذا حديث حسن، وقال أحمد شاكر تعليقا على إسناد أحمد بن حنبل: إسناده صحيح (مسند أحمد بن حنبل بتحقيق أحمد شاكر 11 / 160 رقم 6936، وسنن الترمذي 3 / 584 ط إستانبول، وسنن أبي داود 2 / 335، 336 ط عزت عبيد دعاس) .
(2) الفواكه الدواني 2 / 375 - 376.
(3) الروضة 3 / 292، وشرح الروض 1 / 574، والمهذب 1 / 258 ط دار المعرفة.(6/126)
تَتَشَوَّقُ إِلَيْهَا، وَالزَّرْعُ بِخِلاَفِهَا.
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: قَال: يَأْكُل مِنَ الْفَرِيكِ، لأَِنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِأَكْلِهِ رَطْبًا، أَشْبَهَ الثَّمَرَ. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْبَاقِلاَءِ وَالْحِمَّصِ وَشَبَهِهِ مِمَّا يُؤْكَل رَطْبًا، فَأَمَّا الشَّعِيرُ وَمَا لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِأَكْلِهِ فَلاَ يَجُوزُ الأَْكْل مِنْهُ، قَال: وَالأَْوْلَى فِي الثِّمَارِ وَغَيْرِهَا أَلاَّ يُؤْكَل مِنْهَا إِلاَّ بِإِذْنٍ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْخِلاَفِ وَالأَْخْبَارِ الدَّالَّةِ عَلَى التَّحْرِيمِ (1) .
وَعَنْهُ أَيْضًا فِي حَلْبِ الْمَاشِيَةِ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَحْلُبَ وَيَشْرَبَ وَلاَ يَحْمِل. وَالثَّانِيَةُ: لاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَحْلُبَ وَلاَ يَشْرَبَ، وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا مَا يُسْنِدُهُ مِنْ قَوْل الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَالإِْبَاحَةُ يُسْنِدُهَا الْحَدِيثُ الْمُتَقَدِّمُ.
وَالْحَظْرُ يَدُل لَهُ حَدِيثُ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ يَحْلُبَنَّ أَحَدٌ مَاشِيَةَ امْرِئٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تُؤْتَى مَشْرَبَتُهُ فَتُكْسَرَ خِزَانَتُهُ فَيَنْتَقِل طَعَامُهُ، فَإِنَّمَا تُخَزِّنُ لَهُمْ ضُرُوعُ مَاشِيَتِهِمْ أَطْعِمَاتِهِمْ، فَلاَ يَحْلُبَنَّ أَحَدٌ مَاشِيَةَ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِهِ (2) .
حُكْمُ أَخْذِ النِّثَارِ فِي الْعُرْسِ وَغَيْرِهِ:
28 - النِّثَارُ مَكْرُوهٌ فِي الْعُرْسِ وَغَيْرِهِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ وَعِكْرِمَةَ وَابْنِ سِيرِينَ وَعَطَاءٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْخِطْمِيِّ وَطَلْحَةَ وَزُبَيْدٍ الْيَامِيِّ، وَبِهِ قَال مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ النُّهْبَى وَالْمُثْلَةِ (3) . وَلأَِنَّ فِيهِ نَهْبًا وَتَزَاحُمًا وَقِتَالاً، وَرُبَّمَا أَخَذَهُ مَنْ يَكْرَهُ صَاحِبُ النِّثَارِ
__________
(1) المغني لابن قدامة 11 / 77.
(2) حديث: " لا يحلبن أحد ماشية أحد. . . " سبق تخريجه ف / 25.
(3) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن النهبى والمثلة. . . " أخرجه البخاري (5 / 119 - الفتح - ط السلفية) .(6/126)
لِحِرْصِهِ وَشَرَهِهِ وَدَنَاءَةِ نَفْسِهِ، وَيُحْرَمُهُ مِنْ يُحِبُّ صَاحِبُهُ لِمُرُوءَتِهِ وَصِيَانَةِ نَفْسِهِ وَعِرْضِهِ. وَالْغَالِبُ هَذَا، فَإِنَّ أَهْل الْمُرُوءَاتِ يَصُونُونَ أَنْفُسَهُمْ عَنْ مُزَاحَمَةِ سَفَلَةِ النَّاسِ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الطَّعَامِ أَوْ غَيْرِهِ، وَلأَِنَّ فِي هَذَا دَنَاءَةً، وَاَللَّهُ يُحِبُّ مَعَالِيَ الأُْمُورِ وَيَكْرَهُ سَفْسَافَهَا.
وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ: أَنَّهُ لَيْسَ بِمَكْرُوهٍ، اخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ، وَهُوَ قَوْل الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَالنَّخَعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ، لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ قُرْطٍ قَال: قُرِّبَ إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمْسُ بَدَنَاتٍ أَوْ سِتٌّ، فَطَفِقْنَ يَزْدَلِفْنَ إِلَيْهِ، بِأَيَّتِهِنَّ يَبْدَأُ، فَنَحَرَهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَال كَلِمَةً لَمْ أَسْمَعْهَا، فَسَأَلْتُ مَنْ قَرُبَ مِنْهُ، فَقَال: قَال: مَنْ شَاءَ اقْتَطَعَ (1) وَهَذَا جَارٍ مَجْرَى النِّثَارِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُعِيَ إِلَى وَلِيمَةِ رَجُلٍ مِنَ الأَْنْصَارِ ثُمَّ أَتَوْا بِنَهْبٍ فَأَنْهَبَ عَلَيْهِ. قَال الرَّاوِي: وَنَظَرْتُ إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُزَاحِمُ النَّاسَ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، قُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ أَوَمَا نَهَيْتَنَا عَنِ النُّهْبَةِ؟ قَال: " نَهَيْتُكُمْ عَنْ نُهْبَةِ الْعَسَاكِرِ " (2) وَلأَِنَّهُ نَوْعُ إِبَاحَةٍ فَأَشْبَهَ إِبَاحَةَ الطَّعَامِ لِلضِّيفَانِ (3) .
__________
(1) حديث: " من شاء اقتطع. . . " أخرجه أبو داود وقال عبد القادر الأرناؤوط محقق جامع الأصول: إسناده قوي. (سنن أبي داود 2 / 370 ط عزت عبيد دعاس، وجامع الأصول 3 / 355)
(2) حديث: " نهيتكم عن نهبة العساكر. . . " أورده ابن الأثير في النهاية بلفظ. " أنه نثر شيء في إملاك فلم يأخذوه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " ما لكم لا تنتهبون؟ قالوا: أو ليس قد نهيت عن النهبى؟ فقال: إنما نهيت عن نهبى العساكر، فانتبهوا ". ولم نعثر عليه ف
(3) مواهب الجليل 4 / 6 والمغني مع الشرح الكبير 8 / 118.(6/127)
زَمَانُ الأَْكْل بِالنِّسْبَةِ لِلصَّائِمِ:
29 - يُسَنُّ لِلصَّائِمِ أَنْ يُؤَخِّرَ سُحُورَهُ إِلَى آخِرِ اللَّيْل مَعَ تَحَقُّقِ بَقَاءِ اللَّيْل، وَأَنْ يُعَجِّل فُطُورَهُ بَعْدَ التَّيَقُّنِ مِنْ غُرُوبِ الشَّمْسِ (1) . وَتَفْصِيل ذَلِكَ يَنْظُرُ تَحْتَ عِنْوَانِ (الصَّوْم) .
أَكُولَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الأَْكُولَةُ لُغَةً: صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ، بِمَعْنَى: كَثِيرَةِ الأَْكْل، وَتَكُونُ بِمَعْنَى الْمَفْعُول أَيْضًا أَيِ الْمَأْكُولَةِ، وَفِي الْحَدِيثِ: نُهِيَ الْمُصَدِّقُ عَنْ أَخْذِ الأَْكُولَةِ مِنَ الأَْنْعَامِ فِي الصَّدَقَةِ (2) . وَاخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِ الأَْكُولَةِ فَقِيل: هِيَ الشَّاةُ الَّتِي تُعْزَل لِلأَْكْل وَتُسَمَّنُ. وَقِيل: أَكُولَةُ غَنْمِ الرَّجُل: الْخَصِيُّ وَالْهَرِمَةُ وَالْعَاقِرُ وَالْكَبْشُ (3) .
وَعِنْدَ الْفُقَهَاءِ: شَاةُ اللَّحْمِ تُسَمَّنُ لِتُؤْكَل، ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، وَكَذَا تُوصَفُ بِهِ الْمَرْأَةُ الْكَثِيرَةُ الأَْكْل (4) .
__________
(1) كتاب الأم 2 / 82، وأسنى المطالب 1 / 419.
(2) عن سفيان بن عبد الله أن عمر بن الحطاب بعثه مصدقا فكان فيما قال له: ". . . . لا تأخذ الأكولة ". أخرجه مالك (1 / 265 - ط الحلبي) وصححه النووي كما في نصب الراية (2 / 255 - ط الحلبي) .
(3) ترتيب القاموس، والمختار مادة: " أكل "، وطلبة الطلبة ص 17.
(4) الخرشي 22 / 152 ط دار صادر، وابن عابدين 2 / 22 ط بولاق، والقليوبي 2 / 11 ط مصطفى الحلبي، والفروع 1 / 761 ط المنار الأولى.(6/127)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
2 - الرُّبَّى: الشَّاةُ الَّتِي تُرَبَّى لِلَّبَنِ، وَهِيَ مِنْ كَرَائِمِ الأَْمْوَال، مِثْل الشَّاةِ الأَْكُولَةِ (1) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
3 - يَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلسَّاعِي أَنْ يَأْخُذَ الأَْكُولَةَ مِنَ الْغَنَمِ، لأَِنَّهَا مِنْ كَرَائِمِ الأَْمْوَال (2) .
لِقَوْلِهِ لِمُعَاذٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ: إِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ (3) ، هَذَا إِنْ كَانَتِ الْغَنَمُ خِيَارًا وَلِئَامًا، وَكَذَا إِنْ كَانَتْ كُلُّهَا لِئَامًا، لاَ يَأْخُذُ السَّاعِي الأَْكُولَةَ إِلاَّ بِرِضَا الْمَالِكِ (4) . فَإِنْ كَانَتْ كُلُّهَا خِيَارًا فَإِنَّ مِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ قَال: تَجِبُ الأَْكُولَةُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَال: تَكْفِي الْوَسَطُ (5) .
4 - وَالزَّوْجَةُ الأَْكُولَةُ لاَ تَخْتَلِفُ عَنْ غَيْرِهَا فِي مِقْدَارِ النَّفَقَةِ عِنْدَ مَنْ يُقَدِّرُ لِلزَّوْجَةِ بِحَسَبِ يَسَارِ الزَّوْجِ أَوْ إِعْسَارِهِ، وَكَذَا لاَ تَخْتَلِفُ عَنْ غَيْرِهَا عِنْدَ مَنْ يَقُول بِالْكِفَايَةِ، غَيْرَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَالُوا: إِنَّ الزَّوْجَةَ الأَْكُولَةَ يَجِبُ لَهَا كِفَايَتُهَا مِنَ الأَْكْل أَوْ يُطَلِّقُهَا، وَلاَ خِيَارَ لَهُ فِي فَسْخِ النِّكَاحِ وَإِمْضَائِهِ، وَهَذَا مَا لَمْ يَشْتَرِطْ كَوْنَهَا غَيْرَ أَكُولَةٍ، وَإِلاَّ فَلَهُ رَدُّهَا مَا لَمْ تَرْضَ بِالْوَسَطِ (6) .
__________
(1) القاموس مادة " رب ".
(2) الخرشي 2 / 152 ط دار صادر، وابن عابدين 2 / 22 ط بولاق، والقليوبي 2 / 11 ط مصطفى الحلبي، والفروع 1 / 761 ط المنار الأولى.
(3) ابن عابدين 2 / 22. والحديث " إياك وكرائم أموالهم " أخرجه البخاري (3 / 322 - الفتح - ط السلفية) ومسلم (1 / 51 - ط الحلبي) .
(4) الخرشي 2 / 152، وابن عابدين 2 / 22، والقليوبي 2 / 11، ومطالب أولي النهى 2 / 41.
(5) ابن عابدين 2 / 23، والقليوبي 2 / 11، والخرشي 2 / 152، والفواكه الدواني 1 / 401، ومطالب أولي النهى 2 / 41، والفروع 1 / 761.
(6) الدسوقي 2 / 509 ط الحلبي، ومنح الجليل 3 / 761.(6/128)
أَلْبِسَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الأَْلْبِسَةُ: جَمْعُ لِبَاسٍ، وَهُوَ مَا يَسْتُرُ الْبَدَنَ وَيَدْفَعُ الْحَرَّ وَالْبَرْدَ، وَمِثْلُهُ الْمَلْبَسُ، وَاللِّبْسُ بِالْكَسْرِ. وَلِبْسُ الْكَعْبَةِ وَالْهَوْدَجِ: كِسْوَتُهُمَا.
وَيُقَال: لَبِسْتُ امْرَأَةً، أَيْ تَمَتَّعْتُ بِهَا زَمَانًا. وَلِبَاسُ كُل شَيْءٍ غِشَاؤُهُ. وَاللَّبُوسُ بِفَتْحِ اللاَّمِ مَا يُلْبَسُ، وقَوْله تَعَالَى: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ} يَعْنِي الدِّرْعَ (1) . قَال اللَّهُ تَعَالَى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} (2) . .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - اسْتِعْمَال اللِّبَاسِ تَعْتَرِيهِ الأَْحْكَامُ الْخَمْسَةُ: فَالْفَرْضُ مِنْهُ: مَا يَسْتُرُ الْعَوْرَةَ وَيَدْفَعُ الْحَرَّ وَالْبَرْدَ، قَال تَعَالَى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُل مَسْجِدٍ} (3) أَيْ مَا يَسْتُرُ عَوْرَتَكُمْ عِنْدَ الصَّلاَةِ.
وَالْمَنْدُوبُ إِلَيْهِ أَوِ الْمُسْتَحَبُّ: هُوَ مَا يَحْصُل بِهِ أَصْل الزِّينَةِ وَإِظْهَارُ النِّعْمَةِ، قَال تَعَالَى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّك فَحَدِّثْ} (4) ، وَعَنْ أَبِي الأَْحْوَصِ عَنْ
__________
(1) الصحاح للمرعشلي، والصباح المنير، ولسان العرب، ومختار الصحاح للرازي مادة (لبس) . والآية من سورة الأنبياء / 80.
(2) سورة الأعراف / 26.
(3) سورة الأعراف / 31.
(4) سورة الضحى / 11.(6/128)
أَبِيهِ قَال: دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَآنِي سَيِّئَ الْهَيْئَةِ فَقَال: أَلَكَ شَيْءٌ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، مِنْ كُل الْمَال قَدْ آتَانِي اللَّهُ تَعَالَى، فَقَال: إِذَا كَانَ لَكَ مَالٌ فَلْيُرَ عَلَيْكَ (1) .
وَعَنِ ابْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ (2) .
وَمِنَ الْمَنْدُوبِ: اللُّبْسُ لِلتَّزَيُّنِ، وَلاَ سِيَّمَا فِي الْجُمَعِ وَالأَْعْيَادِ وَمَجَامِعِ النَّاسِ، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَا عَلَى أَحَدِكُمْ إِنْ وَجَدَ سَعَةً أَنْ يَتَّخِذَ ثَوْبَيْنِ لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ غَيْرَ ثَوْبَيْ مِهْنَتِهِ (3) وَمَحَلُّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلتَّكَبُّرِ.
وَالْمَكْرُوهُ: هُوَ اللِّبَاسُ الَّذِي يَكُونُ مَظِنَّةً لِلتَّكَبُّرِ وَالْخُيَلاَءِ، لِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَالْبَسُوا مِنْ غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلاَ مَخِيلَةٍ (4) .
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: كُل مَا شِئْتَ، وَالْبَسْ مَا شِئْتَ، مَا أَخْطَأَتْكَ اثْنَتَانِ: سَرَفٌ وَمَخِيلَةٌ (5) وَالْمَخِيلَةُ هِيَ الْكِبْرُ. وَقَال
__________
(1) حديث: " إذا كان لك مال فلير عليك. . " أخرجه أحمد (3 / 473 - ط الميمنية) والنسائي (8 / 196 ط المكتبة التجارية) وإسناده صحيح.
(2) حديث: " إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده. . . . ". أخرجه الترمذي (5 / 122 ط الحلبي) وإسناده حسن.
(3) حديث: " ما على أحدكم. . . " أخرجه ابن ماجه (1 / 348 ط الحلبي) ، وفي الزوائد: إسناده صحيح.
(4) حديث: " كلوا واشربوا. . . " أخرجه أحمد (2 / 181 ط الميمنية) والحاكم (4 / 135 ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه ووافقه الذهبي.
(5) عن ابن عباس قال: " كل ما شئت. . . " أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (8 / 405 ط الدار السلفية) وإسناده صحيح.(6/129)
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو: قُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ: أَمِنَ الْكِبْرِ أَنْ يَكُونَ لِي الْحُلَّةُ فَأَلْبَسُهَا؟ قَال: لاَ. قُلْتُ: أَمِنَ الْكِبْرِ أَنْ تَكُونَ لِي رَاحِلَةٌ فَأَرْكَبَهَا؟ قَال: لاَ. قُلْتُ: أَمِنَ الْكِبْرِ أَنْ أَصْنَعَ طَعَامًا فَأَدْعُوَ أَصْحَابِي؟ قَال: لاَ. الْكِبْرُ أَنْ تُسَفِّهَ الْحَقَّ وَتَغْمِصَ النَّاسَ (1) وَسَفَهُ الْحَقِّ: جَهْلُهُ. وَغَمْصُ النَّاسِ: احْتِقَارُهُمْ.
وَالْحَرَامُ: هُوَ اللُّبْسُ بِقَصْدِ الْكِبْرِ وَالْخُيَلاَءِ، لِمَا وَرَدَ فِي الأَْحَادِيثِ السَّابِقَةِ. وَمِنَ الْحَرَامِ لُبْسُ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ مَثَلاً بِالنِّسْبَةِ لِلرِّجَال، وَلَوْ بِحَائِلٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَدَنِهِ، مَا لَمْ يَدْعُ إِلَى لُبْسِهِ ضَرُورَةٌ، أَوْ مَرَضٌ كَحَكَّةٍ بِهِ، فَيَلْبَسُ الْحَرِيرَ لِذَلِكَ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: أَخَذَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرِيرًا فَجَعَلَهُ فِي يَمِينِهِ، وَذَهَبًا فَجَعَلَهُ فِي شِمَالِهِ. فَقَال: إِنَّ هَذَيْنِ حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي (2) .
وَعَنْ أَبِي مُوسَى الأَْشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: حُرِّمَ لِبَاسُ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي، وَأُحِل لإِِنَاثِهِمْ (3) .
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: " إِنَّمَا نَهَى
__________
(1) حديث: " الكبر أن تسفه الحق. . . " أخرجه أحمد (2 / 170 ط الميمنية) . وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رجاله ثقات. (4 / 220 ط القدسي) .
(2) حديث: " إن هذين حرام على ذكور أمتي. . . " أخرجه أبو داود (4 / 330 ط عزت عبيد دعاس) ، والنسائي (8 / 160 ط المكتبة التجارية الكبرى) من حديث علي بن أبي طالب وهو صحيح لطرقه.
(3) حديث: " حرم لباس الحرير والذهب على ذكور أمتي وأحل لإناثهم. . . . " أخرجه أحمد (4 / 392 ط الميمنية) والنسائي (8 / 161 ط المكتبة التجارية) . من حديث أبي موسى الأشعري، وهو صحيح لطرقه.(6/129)
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الثَّوْبِ الْمُصْمَتِ مِنَ الْحَرِيرِ (1) أَيِ الْخَالِصِ الَّذِي لاَ يُخَالِطُهُ شَيْءٌ، وَهَذَا مَا عَلَيْهِ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ (2) .
وَلِتَفْصِيلِهِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (حَرِير) (وَذَهَب) .
حِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّةِ اللِّبَاسِ:
3 - لَمَّا كَانَ فِي إِظْهَارِ الْعَوْرَةِ أَمَامَ الْغَيْرِ عَلَى نَحْوِ مَا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِخْلاَلٌ بِالصِّفَةِ الإِْنْسَانِيَّةِ الْكَرِيمَةِ وَالآْدَابِ الْعَامَّةِ، وَلِمَا يُسَبِّبُهُ كَشْفُهَا مِنْ إِخْلاَلٍ بِالأَْخْلاَقِ وَذُيُوعِ مَفَاسِدَ عَظِيمَةِ الأَْثَرِ بَيْنَ أَفْرَادِ الْمُجْتَمَعِ، كَانَ لاَ بُدَّ لِلشَّارِعِ تَكْرِيمًا لِلإِْنْسَانِ كَمَا فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} (3) وَاحْتِرَامًا لآِدَمِيَّتِهِ، وَتَمْيِيزًا لَهُ عَنْ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ - مِنْ أَنْ يَحْفَظَ عَلَيْهِ إِنْسَانِيَّتَهُ، فَأَنْعَمَ عَلَيْهِ بِنِعَمِهِ الَّتِي لاَ تُعَدُّ وَلاَ تُحْصَى، وَكَانَ مِنْهَا اللِّبَاسُ شِرْعَةً مِنْهُ لِلآْدَمِيِّينَ لِتُسْتَرَ بِهِ عَوْرَاتُهُمْ، وَلِيَكُونَ لَهُمْ بِهَذَا السِّتْرِ مَا يُزَيِّنُهُمْ وَيُجَمِّلُهُمْ، بَدَلاً مِنْ قُبْحِ الْعُرْيِ الَّذِي كَانَ مُتَفَشِّيًا بَيْنَهُمْ وَشَنَاعَتِهِ مَظْهَرًا وَمَخْبَرًا، وَفِي هَذَا يَقُول اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ
__________
(1) حديث: " إنما نهى عن الثوب المصمت من الحرير. . . " أخرجه أحمد (3 / 267 ط دار المعارف) وإسناده صحيح.
(2) رد المحتار على الدر المختار 5 / 223 - 224، والمغني لابن قدامة 1 / 582 - 587 ط مطبعة الرياض الحديثة، وروضة الطالبين 2 / 65 - 69، والمهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 73، 115، ونهاية المحتاج إلى شرح المنهاج 2 / 362، 365، 369، والشرح الكبير 1 / 211 - 220، والشرح الصغير 1 / 59.
(3) سورة الإسراء / 70.(6/130)
يَذَّكَّرُونَ} (1) وقَوْله تَعَالَى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُل مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (2) فَقَدْ أَمَرَ سُبْحَانَهُ بِأَخْذِ الزِّينَةِ وَأَهَمُّهَا سَتْرُ الْعَوْرَةِ، وَتَفْصِيل مَا يَتَّصِل بِسَتْرِ الْعَوْرَةِ يُنْظَرُ فِي (اسْتِتَار، وَعَوْرَة، وَصَلاَة) .
حُكْمُ الأَْلْبِسَةِ تَبَعًا لِذَوَاتِهَا:
4 - الأَْصْل فِي اللِّبَاسِ الْحِل مَهْمَا كَانَتِ الْمَادَّةُ الَّتِي صُنِعَ مِنْهَا إِلاَّ مَا وَرَدَ نَصٌّ بِتَحْرِيمِهِ كَالْحَرِيرِ لِلذُّكُورِ، وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (حَرِير) .
وَكَذَلِكَ مَا كَانَ مِنْ جُلُودِ الْمَيْتَةِ وَمَا لاَ يُزَكَّى، فَإِذَا دُبِغَتْ طَهُرَتْ، وَحَل لُبْسُهَا وَلَوْ فِي الصَّلاَةِ. وَتَفْصِيلُهُ فِي (إِهَاب) (وَدِبَاغَة) .
وَأَمَّا الْمَلاَبِسُ الْمَصْنُوعَةُ مِنَ الصُّوفِ أَوِ الشَّعْرِ أَوِ الْوَبَرِ، فَإِنْ كَانَتْ مِنْ مَأْكُول اللَّحْمِ فَهِيَ طَاهِرَةٌ حَلاَلٌ، سَوَاءٌ أُخِذَتْ مِنْهُ فِي حَيَاتِهِ أَوْ بَعْدَ تَذْكِيَتِهِ أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَإِنَّمَا حَلَّتْ - وَلَوْ جُزَّتْ مِنَ الْمَيْتَةِ - لأَِنَّهَا لاَ تُحِلُّهَا الْحَيَاةُ.
وَفِيمَا أُخِذَ مِنْ غَيْرِ مَأْكُول اللَّحْمِ أَوْ مِنْ نَجِسِ الْعَيْنِ، تَفْصِيلٌ وَخِلاَفٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (شَعْر (3)) .
__________
(1) سورة الأعراف / 26.
(2) سورة الأعراف / 31.
(3) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 115، والدسوقي 1 / 220، ونهاية المحتاج 2 / 366، والمغني 1 / 589، وكشاف القناع 1 / 282.(6/130)
لُبْسُ جُلُودِ السِّبَاعِ:
5 - جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ) عَلَى جَوَازِ الاِنْتِفَاعِ بِجُلُودِ السِّبَاعِ بِشَرْطِ الدِّبَاغِ (1) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ (2)
وَقَال الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى الْحَنْبَلِيُّ: لاَ يَجُوزُ الاِنْتِفَاعُ بِهَا قَبْل الدَّبْغِ وَلاَ بَعْدَهُ، لِمَا رَوَى أَبُو رَيْحَانَةَ قَال: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ رُكُوبِ النُّمُورِ (3) أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ.
وَعَنْ مُعَاوِيَةَ وَالْمِقْدَادِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَنْهَى عَنْ لُبْسِ جُلُودِ السِّبَاعِ وَالرُّكُوبِ عَلَيْهَا (4) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ افْتِرَاشِ جُلُودِ السِّبَاعِ (5)
وَأَمَّا الثَّعَالِبُ فَيُبْنَى حُكْمُهَا عَلَى حِلِّهَا، وَفِيهَا لِلْحَنَابِلَةِ رِوَايَتَانِ، كَذَلِكَ يُخَرَّجُ فِي جُلُودِهَا، فَإِنْ قِيل بِتَحْرِيمِهَا فَحُكْمُ جُلُودِهَا حُكْمُ جُلُودِ بَقِيَّةِ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 224، والمهذب 1 / 17، والدسوقي 1 / 55.
(2) حديث: " أيما إهاب دبغ. . " أخرجه مسلم (1 / 277 ط الحلبي) من حديث ابن عباس.
(3) حديث كان النبي صلى الله عليه وسلم: " ينهى عن ركوب النمور. . . " أخرجه ابن ماجه (2 / 1205 - ط الحلبي) وأبو داود (4 / 372 ط عزت عبيد الدعاس) من حديث معاوية، وإسناده صحيح.
(4) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس جلود السباع. . . " أخرجه أبو داود (4 / 373 ط عزت عبيد دعاس) وإسناده حسن.
(5) حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم " نهى عن افتراش جلود السباع. . . " أخرجه الترمذي (4 / 241 ط الحلبي) . من حديث أبي المليح عن أبيه بلفظ: " نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن جلود السباع أن تفترش " وإسناده صحيح.(6/131)
السِّبَاعِ وَكَذَلِكَ السَّنَانِيرُ الْبَرِّيَّةُ (1) . .
لُبْسُ الثِّيَابِ الْجَمِيلَةِ:
6 - مِنَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ أَنَّهُ يُبَاحُ مِنَ الأَْلْبِسَةِ الثَّوْبُ الْجَمِيل مَا لَمْ يَكُنْ مِنْ مُحَرَّمٍ كَالْحَرِيرِ لِلذُّكُورِ، وَيُسْتَحَبُّ التَّزَيُّنُ فِي الأَْعْيَادِ وَالْجُمَعِ وَمَجَامِعِ النَّاسِ، وَذَلِكَ بِدُونِ صَلَفٍ وَلاَ خُيَلاَءَ (2) .
وَمَنْ تَرَكَ ذَلِكَ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ تَزَمُّتًا أَوْ تَدَيُّنًا فَقَدْ أَخْطَأَ، فَلَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا يَدْعُو إِلَيْهِ الشَّرْعُ، وَانْظُرِ الْقُرْطُبِيَّ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى: {قُل مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} (3) .
الأَْلْبِسَةُ مِنْ حَيْثُ أَلْوَانُهَا وَأَشْكَالُهَا وَصِفَاتُهَا وَمُنَاسَبَتُهَا لِعَادَاتِ النَّاسِ:
تَخْتَلِفُ الأَْلْبِسَةُ مِنْ حَيْثُ أَلْوَانُهَا:
أ - اللَّوْنُ الأَْبْيَضُ:
7 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اسْتِحْبَابِ لُبْسِ مَا كَانَ أَبْيَضَ اللَّوْنِ مِنَ الثِّيَابِ، وَتَكْفِينِ الْمَوْتَى بِهِ، لِحَدِيثِ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْبَسُوا مِنْ ثِيَابِكُمُ الْبَيَاضَ، فَإِنَّهَا أَطْهَرُ وَأَطْيَبُ، وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ (4)
قَال الشَّوْكَانِيُّ: أَمَّا كَوْنُهُ أَطْيَبَ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا كَوْنُهُ أَطْهَرَ فَلأَِنَّ أَدْنَى شَيْءٍ يَقَعُ عَلَيْهِ يَظْهَرُ،
__________
(1) المغني 1 / 66 - 80.
(2) حاشية ابن عابدين 5 / 223 - 224، ونهاية المحتاج إلى شرح المنهاج 2 / 361، 383.
(3) الجامع لأحكام القران 7 / 196 - 198، والآية من سورة الأعراف / 32.
(4) حديث: " البسوا من ثيابكم البياض. . . " أخرجه النسائي (4 / 34 ط المكتبة التجارية) وصححه ابن حجر في الفتح 3 / 135 ط السلفية.(6/131)
فَيُغْسَل إِذَا كَانَ مِنْ جِنْسِ النَّجَاسَةِ، فَيَكُونُ نَقِيًّا. كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دُعَائِهِ وَنَقِّنِي مِنَ الْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأَْبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ (1) .
وَقَدِ اسْتَحَبَّ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لُبْسَ الْبَيَاضِ لِقَارِئِ الْقُرْآنِ (2) .
ب - اللَّوْنُ الأَْحْمَرُ:
8 - ذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى الْقَوْل بِكَرَاهَةِ لُبْسِ مَا لَوْنُهُ أَحْمَرُ مَتَى كَانَ غَيْرَ مَشُوبٍ بِغَيْرِهِ مِنَ الأَْلْوَانِ لِلرِّجَال دُونَ النِّسَاءِ، لِقَوْل الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ نَهَانَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْمَيَاثِرِ الْحُمْرِ وَالْقِسِيِّ (3) وَلِقَوْل عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَرَّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ عَلَيْهِ ثَوْبَانِ أَحْمَرَانِ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (4)
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى جَوَازِ لُبْسِ الثَّوْبِ الأَْحْمَرِ إِذَا خَالَطَهُ لَوْنٌ آخَرُ بِأَحَادِيثَ مِنْهَا: حَدِيثُ هِلاَل بْنِ عَامِرٍ عَنْ أَبِيهِ قَال: رَأَيْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِنًى
__________
(1) حديث: " ونقني من الخطايا. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 227 ط السلفية) .
(2) رد المحتار على الدر المختار 11 / 545، 556، والمهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 211، وروضة الطالبين2 / 76، والمجموع شرح المهذب 4 / 452، وحاشية الجمل على شرح المنهج 2 / 98 - 99، والشرح الكبير 1 / 381، وكشاف القناع عن متن الإقناع 1 / 86 ط مطبعة النصر الحديثة، والمغني لابن قدامة 1 / 587 مطبعة الرياض الحديثة، وفتح الباري بشرح صحيح البخاري 10 / 305 - 306، ونيل الأوطار للشوكاني 2 / 110.
(3) حديث البراء " نهانا النبي صلى الله عليه وسلم عن المياثر الحمر والقسي. . . " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 292 ط السلفية) .
(4) حديث: " مر على النبي صلى الله عليه وسلم رجل عليه ثوبان أحمران. . . " أخرجه أبو داود (4 / 336 - ط عزت عبيد دعاس) وأعله ابن حجر في الفتح (10 / 306) براو ضعيف فيه.(6/132)
يَخْطُبُ عَلَى بَغْلَةٍ، وَعَلَيْهِ بُرْدٌ أَحْمَرُ، وَعَلِيُّ أَمَامَهُ يُعَبِّرُ عَنْهُ (1) وَحَدِيثُ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَال: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرْبُوعًا، وَقَدْ رَأَيْتُهُ فِي حُلَّةٍ حَمْرَاءَ، لَمْ أَرَ شَيْئًا قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (2) .
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَلْبَسُ يَوْمَ الْعِيدِ بُرْدَةً حَمْرَاءَ (3) .
وَالْمُرَادُ بِالْحُلَّةِ الْحَمْرَاءِ بُرْدَانِ يَمَنِيَّانِ مَنْسُوجَانِ بِخُطُوطٍ حُمْرٍ مَعَ سُودٍ، أَوْ خُضْرٍ، كَسَائِرِ الْبُرُودِ الْيَمَنِيَّةِ، وَوُصِفَتْ بِالْحُمْرَةِ بِاعْتِبَارِ مَا فِيهَا مِنَ الْخُطُوطِ الْحُمْرِ، وَإِلاَّ فَالأَْحْمَرُ الْبَحْتُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ عِنْدَهُمْ وَمَكْرُوهٌ لُبْسُهُ، وَبِهَذَا حَمَلُوا الأَْحَادِيثَ الْمُبِيحَةَ عَلَى أَنَّهَا وَرَدَتْ بِشَأْنِ الْبُرُودِ الْيَمَنِيَّةِ وَهِيَ الَّتِي تَشْتَمِل عَلَى اللَّوْنِ الأَْحْمَرِ وَغَيْرِهِ (4)
وَأَمَّا أَحَادِيثُ النَّهْيِ فَهِيَ خَاصَّةٌ بِمَا كَانَ أَحْمَرَ خَالِصًا لاَ يُخَالِطُهُ شَيْءٌ.
وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ إِلَى الْقَوْل بِجَوَازِ لُبْسِ الثَّوْبِ الأَْحْمَرِ الْخَالِصِ غَيْرِ الْمُزَعْفَرِ وَالْمُعَصْفَرِ، لِحَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ وَحَدِيثِ هِلاَل بْنِ عَامِرٍ الْمُتَقَدِّمَيْنِ، وَلِقَوْل ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
__________
(1) حديث عامر: " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى يخطب. . . " أخرجه أبو داود (4 / 338 - ط عزت عبيد دعاس) وحسنة ابن حجر في الفتح (10 / 305 - ط السلفية) .
(2) حديث: " كان رسول الله مربوعا وقد رأيته في حلة حمراء. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 305 - ط السلفية) .
(3) حديث: " كان يلبس يوم العيد بردة حمراء ". أخرجه البيهقي (3 / 280 - ط العثمانية) وإسناده صحيح.
(4) حاشية ابن عابدين 1 / 556، 5 / 228، والمجموع شرح المهذب 4 / 452، والشرح الكبير 1 / 381، والمغني لابن قدامة 1 / 586 ط طبعة الرياض الحديثة، وكشاف القناع عن متن الإقناع 1 / 284 ط النصر الحديثة.(6/132)
كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلْبَسُ يَوْمَ الْعِيدِ بُرْدَةً حَمْرَاءَ (1) .
ج - اللَّوْنُ الأَْسْوَدُ:
9 - أَجَازَ الْفُقَهَاءُ لُبْسَ الأَْسْوَدِ بِغَيْرِ كَرَاهَةٍ فِي ذَلِكَ لِلرَّجُل وَالْمَرْأَةِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ غَدَاةٍ، وَعَلَيْهِ مِرْطٌ مُرَحَّلٌ مِنْ شَعْرٍ أَسْوَدَ (2)
وَعَنْ جَابِرٍ قَال: رَأَيْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَل يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ (3) وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: صَنَعْتُ لِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُرْدَةً سَوْدَاءَ فَلَبِسَهَا فَلَمَّا عَرِقَ فِيهَا وَجَدَ رِيحَ الصُّوفِ فَقَذَفَهَا، وَكَانَتْ تُعْجِبُهُ الرِّيحُ الطَّيِّبَةُ (4) .
وَعَنْ أُمِّ خَالِدٍ قَالَتْ: أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِثِيَابٍ فِيهَا خَمِيصَةٌ سَوْدَاءُ؟ قَال: مَنْ تَرَوْنَ نَكْسُو هَذِهِ الْخَمِيصَةَ؟ فَأُسْكِتَ الْقَوْمُ، فَقَال: ائْتُونِي بِأُمِّ خَالِدٍ، فَأُتِيَ بِي إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَلْبَسَنِيهَا بِيَدِهِ وَقَال: أَبْلِي وَأَخْلِقِي مَرَّتَيْنِ وَجَعَل يَنْظُرُ إِلَى عَلَمِ الْخَمِيصَةِ وَيُشِيرُ بِيَدِهِ إِلَيَّ وَيَقُول: يَا أُمَّ خَالِدٍ هَذَا سَنَا، هَذَا سَنَا. وَالسَّنَا بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ:
__________
(1) حديث ابن عباس: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس يوم العيد. . . " سبق تخريجه آنفا.
(2) حديث: " عن خرج النبي صلى الله عليه وسلم ذات غداة وعليه مرط مرحل من شعر أسود ". أخرجه مسلم (4 / 1649 ط الحلبي) .
(3) حديث جابر: " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة وعليه عمامة سوداء ". أخرجه مسلم (2 / 990 - ط الحلبي) .
(4) حديث عائشة: صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم بردة سوداء. . . أخرجه أحمد (6 / 132 - ط الميمنية) وأبو داود (4 / 339 - ط عزت عبيد دعاس) وإسناده صحيح.(6/133)
الْحَسَنُ " (1) .
وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلنِّسَاءِ لِبَاسُ الثِّيَابِ السُّودِ، وَلاَ خِلاَفَ فِي ذَلِكَ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ كَمَا قَالَهُ الشَّوْكَانِيُّ (2) .
د - اللَّوْنُ الأَْصْفَرُ:
10 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ لُبْسِ الأَْصْفَرِ مَا لَمْ يَكُنْ مُعَصْفَرًا أَوْ مُزَعْفَرًا (3) لِقَوْل عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ: رَأَيْتُ عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَوْبَيْنِ أَصْفَرَيْنِ (4) وَلِقَوْل عِمْرَانَ بْنِ مُسْلِمٍ: رَأَيْتُ عَلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ إِزَارًا أَصْفَرَ (5) .
هـ - اللَّوْنُ الأَْخْضَرُ:
11 - ذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى اسْتِحْبَابِ لُبْسِهِ لأَِنَّهُ
__________
(1) حديث: " ائتوني بأم خالد. . . " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 303 ط السلفية) .
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 545، والمجموع شرح المهذب 4 / 452، والشرح الكبير 1 / 381، وكشاف القناع عن متن الإقناع 1 / 386 ط النصر الحديثة، ونيل الأوطار للشوكاني 2 / 113.
(3) رد المحتار على الدر المختار 1 / 356، والمجموع شرح المهذب 4 / 452، والشرح الكبير 1 / 381، وكشاف القناع عن متن الإقناع 1 / 286 ط النصر الحديثة، ومجمع الزوائد 5 / 129.
(4) حديث عبد الله بن جعفر: " رأيت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوبين أصفرين. . . " أخرجه الطبراني كما في مجمع الزوائد (5 / 129 - ط القدسي) وقال الهيثمي: فيه عبد الله بن مصعب الزهري ضعفه ابن معين.
(5) الأثر عن عمران بن مسلم: " رأيت على أنس بن مالك إزارا أصفر. . . " أخرجه الطبراني كما في مجمع الزوائد (5 / 130) وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح.(6/133)
لِبَاسُ أَهْل الْجَنَّةِ، لِمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ} (1) .
وَلِحَدِيثِ أَبِي رِمْثَةَ قَال: رَأَيْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ بُرْدَانِ أَخْضَرَانِ (2) .
و الْمُخَطَّطُ الأَْلْوَانِ:
12 - وَذَلِكَ يَجُوزُ لُبْسُهُ، لِمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: كَانَ أَحَبُّ الثِّيَابِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَلْبَسَهَا الْحِبَرَةَ وَالْحِبَرَةُ هِيَ الثَّوْبُ الْمُخَطَّطُ الأَْلْوَانِ كَمَا قَال الْجَوْهَرِيُّ (3) .
مَا يَحْرُمُ أَوْ يُكْرَهُ مِنَ الأَْلْبِسَةِ:
أ - الأَْلْبِسَةُ الَّتِي عَلَيْهَا نُقُوشٌ أَوْ تَصَاوِيرُ أَوْ صُلْبَانٌ أَوْ آيَاتٌ:
13 - يَحْرُمُ عَلَى الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ لُبْسُ الثِّيَابِ الَّتِي عَلَيْهَا تَصَاوِيرُ الْحَيَوَانَاتِ عَلَى الأَْصَحِّ، لِحَدِيثِ أَبِي طَلْحَةَ قَال: سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: لاَ تَدْخُل الْمَلاَئِكَةُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلاَ تَصَاوِيرُ (4) فَإِنْ أُزِيل مِنَ الصُّورَةِ مَا لاَ تَبْقَى بِإِزَالَتِهِ الْحَيَاةُ كَالرَّأْسِ، أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهَا رَأْسٌ فَلاَ بَأْسَ بِهِ.
__________
(1) سورة الإنسان / 21.
(2) حديث أبي رمثة: " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه بردان أخضران. . . " أخرجه أبو داود (4 / 334 - ط عزت عبيد دعاس) وإسناده صحيح.
(3) نيل الأوطار 2 / 95 ط دار الجيل. وحديث: " كان أحب الثياب. . . " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 276 ط السلفية) .
(4) حديث: " لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا تصاوير ". أخرجه البخاري (الفتح 10 / 380 - ط السلفية) .(6/134)