مَا يَرِدُ عَلَيْهِ الاِخْتِيَارُ:
8 - أ - الْحُقُوقُ عَلَى نَوْعَيْنِ، حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى، وَحُقُوقُ الْعِبَادِ.
أَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْوَاجِبِ الْمُعَيَّنِ كَالصَّلاَةِ وَمِنَ الْمُحَرَّمِ كَالزِّنَى، فَلاَ اخْتِيَارَ لِلْعَبْدِ فِيهَا مِنَ النَّاحِيَةِ التَّكْلِيفِيَّةِ. أَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ الْعِبَادِ كَالدَّيْنِ، وَالْهِبَةِ، وَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ، وَالأَْخْذِ بِالشُّفْعَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّ لَهُ فِيهِ اخْتِيَارًا. قَال الشَّاطِبِيُّ: " مَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ فَلاَ خِيَرَةَ فِيهِ لِلْمُكَلَّفِ عَلَى حَالٍ، وَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ حَقِّ الْعَبْدِ فِي نَفْسِهِ فَلَهُ فِيهِ الْخِيَرَةُ (1) "، مِنْ حَيْثُ جَعَل اللَّهُ لَهُ ذَلِكَ لاَ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ مُسْتَقِلٌّ بِالاِخْتِيَارِ (2) .
ب - وَالتَّخْيِيرُ قَدْ يَرِدُ عَلَى شَيْئَيْنِ كِلاَهُمَا حَلاَلٌ، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَجُوزُ أَنْ يَرِدَ الاِخْتِيَارُ عَلَى أَيِّ الشَّيْئَيْنِ يُرِيدُهُ الْمُخَيِّرُ (بِكَسْرِ الْيَاءِ) .
وَقَدْ يَرِدُ عَلَى شَيْئَيْنِ كِلاَهُمَا مُحَرَّمٌ، فَإِذَا مَا أُكْرِهَ الْمُخَيَّرُ (بِفَتْحِ الْيَاءِ) عَلَى اخْتِيَارِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَزِمَهُ اخْتِيَارُ مَا كَانَ أَخَفَّ ضَرَرًا؛ لأَِنَّهُ يَرْتَكِبُ أَخَفَّ الضَّرَرَيْنِ لاِتِّقَاءِ أَشَدِّهِمَا (3) . وَقَدْ يَرِدُ عَلَى شَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا حَلاَلٌ وَالآْخَرُ حَرَامٌ، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ لاَ يَجُوزُ أَنْ يَرِدَ الاِخْتِيَارُ عَلَى غَيْرِ الْحَلاَل.
اشْتِرَاطُ الاِخْتِيَارِ لِتَرْتِيبِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ:
9 - الاِخْتِيَارُ شَرْطٌ لِتَرَتُّبِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ فِي
__________
(1) الموافقات 2 / 285، المطبعة الرحمانية.
(2) الموافقات 2 / 278
(3) الأشباه والنظائر لابن نجيم مع حاشية الحموي ص 121، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 87 طبع البابي الحلبي.(2/317)
الآْخِرَةِ، وَهُوَ شَرْطٌ لِتَرَتُّبِ الْعُقُوبَةِ عَلَى الْفِعْل فِي الدُّنْيَا، وَمَحَل بَحْثِ ذَلِكَ كُلِّهِ مُصْطَلَحُ (إِكْرَاهٌ) .
حِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّةِ الاِخْتِيَارِ:
10 - شُرِعَ الاِخْتِيَارُ لِتَحْقِيقِ مَصَالِحِ الْعِبَادِ الَّتِي هِيَ غَايَةٌ مِنْ غَايَاتِ الشَّرِيعَةِ، وَهَذِهِ الْمَصْلَحَةُ قَدْ تَكُونُ مَصْلَحَةً فَرْدِيَّةً لِلْمُخْتَارِ نَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ عِنْدَمَا يَكُونُ مَحَل الاِخْتِيَارِ قَاصِرًا عَلَيْهِ لاَ يَتَعَدَّاهُ إِلَى غَيْرِهِ. وَقَدْ تَكُونُ الْمَصْلَحَةُ الَّتِي يَجِبُ تَوَخِّيهَا فِي الاِخْتِيَارِ مَصْلَحَةً جَمَاعِيَّةً.
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
11 - اخْتِيَارُ الْمُسْتَنْجِي بَيْنَ اسْتِعْمَال الْمَاءِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَدَوَاتِ التَّطْهِيرِ، ذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ، بَابِ الاِسْتِنْجَاءِ.
وَاخْتِيَارُ الْمُنْفَرِدِ بَيْنَ الْجَهْرِ وَالإِْسْرَارِ فِي الصَّلَوَاتِ الْجَهْرِيَّةِ، ذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ فِي كِتَابِ الصَّلاَةِ.
وَاخْتِيَارُ مَنْ رُخِّصَ لَهُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلاَتَيْنِ بَيْنَ الْجَمْعِ وَعَدَمِهِ ذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ فِي كِتَابِ الصَّلاَةِ، بَابِ صَلاَةِ الْمُسَافِرِ.
وَاخْتِيَارُ الَّذِي قَرَأَ آيَةَ السَّجْدَةِ فِي الصَّلاَةِ بَيْنَ السُّجُودِ حَالاً وَالإِْرْجَاءِ، ذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ فِي كِتَابِ الصَّلاَةِ بَابِ سُجُودِ التِّلاَوَةِ.
وَاخْتِيَارُ الْحَاجِّ بَيْنَ الإِْفْرَادِ وَالتَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ، وَاخْتِيَارُهُ فِي فِدْيَةِ حَلْقِ الشَّعْرِ بَيْنَ الصِّيَامِ وَالصَّدَقَةِ وَالنُّسُكِ، وَاخْتِيَارُهُ بَيْنَ الْحَلْقِ وَالتَّقْصِيرِ فِي التَّحَلُّل مِنَ الإِْحْرَامِ، وَاخْتِيَارُهُ بَيْنَ التَّعَجُّل فِي يَوْمَيْنِ - مِنْ(2/317)
أَيَّامِ مِنًى - وَبَيْنَ التَّأَخُّرِ، ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ كُلَّهُ فِي كِتَابِ الْحَجِّ.
وَاخْتِيَارُ دَافِعِ الزَّكَاةِ - عِنْدَ الْبَعْضِ - إِنْ لَمْ يَجِدِ السِّنَّ الْمَطْلُوبَةَ فِي زَكَاةِ الإِْبِل أَنْ يَدْفَعَ السِّنَّ الأَْدْنَى مَعَ دَفْعِ الْفَرْقِ - وَهُوَ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ - أَوْ يَدْفَعُ السِّنَّ الأَْعْلَى مَعَ أَخْذِ الْفَرْقِ. كَمَا نَصُّوا عَلَى ذَلِكَ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ.
وَاخْتِيَارُ الْمُسَافِرِ بَيْنَ الصَّوْمِ وَالْفِطْرِ، عِنْدَ الْبَعْضِ، كَمَا ذَكَرُوا ذَلِكَ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ. - وَاخْتِيَارُ الْحَانِثِ بَيْنَ الإِْعْتَاقِ وَالْكِسْوَةِ وَالإِْطْعَامِ فِي الْكَفَّارَةِ كَمَا نَصُّوا عَلَى ذَلِكَ فِي كِتَابِ الأَْيْمَانِ.
وَاخْتِيَارُ الزَّوْجِ فِي الطَّلاَقِ الرَّجْعِيِّ بَيْنَ إِرْجَاعِ زَوْجَتِهِ أَوْ بَتِّ طَلاَقِهَا، وَاخْتِيَارُ الزَّوْجَةِ الَّتِي خُيِّرَتْ بَيْنَ إِيقَاعِ الطَّلاَقِ وَعَدَمِهِ كَمَا هُوَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الطَّلاَقِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ.
وَاخْتِيَارُ الصَّغِيرِ عِنْدَ انْتِهَاءِ مُدَّةِ الْحَضَانَةِ أَحَدَ وَالِدَيْهِ لِيَكُونَ مَعَهُ - عِنْدَ الْبَعْضِ - كَمَا هُوَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْحَضَانَةِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ.
وَاخْتِيَارُ صَاحِبِ الْحَقِّ بَيْنَ مُطَالَبَةِ الأَْصِيل أَوِ الْوَكِيل، أَوْ مُطَالَبَةِ أَيِّ الْكَفِيلَيْنِ شَاءَ كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ، وَفِي كِتَابِ الْكَفَالَةِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ.
وَاخْتِيَارُ الصَّغِيرَةِ الْمُتَزَوِّجَةِ حِينَ بُلُوغِهَا بَيْنَ الْبَقَاءِ عَلَى النِّكَاحِ أَوْ فَسْخِهِ، كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي خِيَارِ الْبُلُوغِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ.
وَاخْتِيَارُ الأَْمَةِ الْمُتَزَوِّجَةِ إِذَا عَتَقَتْ بَيْنَ الْبَقَاءِ عَلَى النِّكَاحِ أَوْ فَسْخِهِ كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي خِيَارِ الْعِتْقِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ.(2/318)
وَالاِخْتِيَارُ يُبْحَثُ أَيْضًا " فِي الْعَيْبِ وَفِي تَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْخِيَارَاتِ الْعَقْدِيَّةِ.
وَاخْتِيَارُ مَنْ لَهُ الشُّفْعَةُ بَيْنَ الأَْخْذِ بِالشُّفْعَةِ وَالتَّرْكِ كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي كِتَابِ الشُّفْعَةِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ.
وَاخْتِيَارُ الإِْمَامِ فِي الأَْرَاضِي الْمَفْتُوحَةِ عَنْوَةً بَيْنَ قِسْمَتِهَا وَوَقْفِهَا كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الْفُقَهَاءُ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ بَابِ الْغَنَائِمِ.
وَاخْتِيَارُ الإِْمَامِ بَيْنَ التَّنْفِيل وَعَدَمِهِ فِي الْجِهَادِ كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي بَابِهِ.
وَاخْتِيَارُ الإِْمَامِ بَيْنَ الإِْجَابَةِ إِلَى الْهُدْنَةِ وَعَدَمِهَا كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ.
وَاخْتِيَارُ الْقَاضِي الْعُقُوبَةَ الرَّادِعَةَ فِي التَّعْزِيرِ كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي بَابِ التَّعْزِيرِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ.
اخْتِيَالٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِخْتِيَال فِي اللُّغَةِ يُطْلَقُ بِمَعْنَى الْكِبْرِ، كَمَا يُطْلَقُ بِمَعْنَى الْعُجْبِ، وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنْ هَذَيْنِ الإِْطْلاَقَيْنِ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْكِبْرُ:
2 - مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْكِبْرَ يَنْقَسِمُ إِلَى بَاطِنٍ، وَظَاهِرٍ(2/318)
فَالْبَاطِنُ هُوَ خُلُقٌ فِي النَّفْسِ، وَالظَّاهِرُ هُوَ أَعْمَالٌ تَصْدُرُ عَنِ الْجَوَارِحِ. وَاسْمُ الْكِبْرِ بِالْخُلُقِ الْبَاطِنِ أَحَقُّ، وَأَمَّا الأَْعْمَال فَإِنَّهَا ثَمَرَاتٌ لِذَلِكَ الْخُلُقِ. وَخُلُقُ الْكِبْرِ مُوجِبٌ لِلأَْعْمَال، وَلِذَلِكَ إِذَا ظَهَرَ عَلَى الْجَوَارِحِ يُقَال: تَكَبَّرَ، وَإِذَا لَمْ يَظْهَرْ يُقَال: فِي نَفْسِهِ كِبْرٌ، فَالأَْصْل هُوَ الْخُلُقُ الَّذِي فِي النَّفْسِ، وَهُوَ الاِسْتِرْوَاحُ وَالرُّكُونُ إِلَى رُؤْيَةِ النَّفْسِ فَوْقَ الْمُتَكَبَّرِ عَلَيْهِ. وَلِهَذَا فَإِنَّ الْكِبْرَ يَسْتَدْعِي مُتَكَبَّرًا عَلَيْهِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ مُتَكَبِّرٌ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَعَ غَيْرِهِ، وَهُوَ يَرَى نَفْسَهُ فَوْقَ هَذَا الْغَيْرِ فِي صِفَاتِ الْكَمَال، فَعِنْدَئِذٍ يَكُونُ مُتَكَبِّرًا، وَلاَ يَكْفِي أَنْ يَسْتَعْظِمَ نَفْسَهُ لِيَكُونَ مُتَكَبِّرًا، فَإِنَّهُ قَدْ يَسْتَعْظِمُ نَفْسَهُ، وَلَكِنَّهُ يَرَى غَيْرَهُ أَعْظَمَ مِنْ نَفْسِهِ، أَوْ مِثْل نَفْسِهِ، فَلاَ يَتَكَبَّرُ عَلَيْهِ. وَلاَ يَكْفِي أَنْ يَسْتَحْقِرَ غَيْرَهُ. فَإِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ لَوْ رَأَى غَيْرَهُ مِثْل نَفْسِهِ لَمْ يَتَكَبَّرْ. بَل يَنْبَغِي لِيَكُونَ مُتَكَبِّرًا أَنْ يَرَى لِنَفْسِهِ مَرْتَبَةً وَلِغَيْرِهِ مَرْتَبَةً، ثُمَّ يَرَى مَرْتَبَةَ نَفْسِهِ فَوْقَ مَرْتَبَةِ غَيْرِهِ، فَعِنْدَ هَذِهِ الاِعْتِقَادَاتِ الثَّلاَثَةِ يَحْصُل فِيهِ خُلُقُ الْكِبْرِ. بَل إِنَّ هَذِهِ الْعَقِيدَةَ تُنْفَخُ فِيهِ، فَيَحْصُل فِي قَلْبِهِ اعْتِدَادٌ، وَهِزَّةٌ، وَفَرَحٌ، وَرُكُونٌ إِلَى مَا اعْتَقَدَهُ، وَعِزٌّ فِي نَفْسِهِ بِسَبَبِ ذَلِكَ، فَتِلْكَ الْعِزَّةُ، وَالْهِزَّةُ، وَالرُّكُونُ إِلَى الْعَقِيدَةِ هُوَ خُلُقُ الْكِبْرِ (1) .
ب - الْعُجْبُ:
3 - الْعُجْبُ فِي اللُّغَةِ هُوَ: الزُّهُوُّ، يُقَال رَجُل مُعْجَبٌ: يَعْنِي مَزْهُوٌّ بِمَا يَكُونُ مِنْهُ حَسَنًا أَوْ قَبِيحًا (2) .
__________
(1) إحياء علوم الدين للغزالي 11 / 18، 19
(2) لسان العرب لابن منظور 5 / 582(2/319)
وَأَصْل الْعُجْبِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ هُوَ حَمْدُ النَّفْسِ، وَنِسْيَانُ النِّعْمَةِ، وَهُوَ نَظَرُ الْعَبْدِ إِلَى نَفْسِهِ، وَأَفْعَالِهِ، وَيَنْسَى أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ مِنَّةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ، فَيَحْسُنُ حَال نَفْسِهِ عِنْدَهُ، وَيَقِل شُكْرُهُ، وَيَنْسُبُ إِلَى نَفْسِهِ شَيْئًا هُوَ مِنْ غَيْرِهَا، وَهِيَ مَطْبُوعَةٌ عَلَى خِلاَفِهِ (1) .
ح - التَّبَخْتُرُ:
4 - التَّبَخْتُرُ مِشْيَةٌ خَاصَّةٌ، وَهِيَ مِشْيَةُ الْمُتَكَبِّرِ الْمُعْجَبِ بِنَفْسِهِ. وَالتَّبَخْتُرُ آفَةٌ مِنَ الآْفَاتِ الْمُهْلِكَةِ؛ لأَِنَّهُ مَظْهَرٌ مِنْ مَظَاهِرِ الْعُجْبِ وَالْكِبْرِ.
5 - وَهَذِهِ الأَْلْفَاظُ الْمُتَشَابِهَةُ يُفَرَّقُ بَيْنَهَا بِأَنَّ الْكِبْرَ يَكُونُ بِالْمَنْزِلَةِ، وَالْعُجْبَ يَكُونُ بِالْفَضِيلَةِ، فَالْمُتَكَبِّرُ يُجِل نَفْسَهُ، وَالْمُعْجَبُ يَسْتَكْثِرُ فَضْلَهُ (2) . وَالْكِبْرُ يَسْتَلْزِمُ مُتَكَبَّرًا عَلَيْهِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَتَحَقَّقُ إِلاَّ بِذَلِكَ، أَمَّا الْعُجْبُ فَلاَ يَسْتَلْزِمُهُ؛ لأَِنَّ الْعُجْبَ صِفَةٌ نَفْسِيَّةٌ، فَقَدْ يُعْجَبُ الشَّخْصُ بِلُبْسِهِ أَوْ مِشْيَتِهِ أَوْ عِلْمِهِ. . . إِلَخْ. كَمَا أَنَّ الْعُجْبَ قَدْ يَحْدُثُ بِأَسْبَابِ الْكِبْرِ كَالْعِلْمِ، وَالْعَمَل، وَالنَّسَبِ، وَالْجَمَال، وَالْمَال. . . إِلَخْ، وَقَدْ يَحْدُثُ بِغَيْرِ أَسْبَابِ الْكِبْرِ كَعُجْبِهِ بِرَأْيِهِ الْخَطَأِ الَّذِي يُزَيَّنُ لَهُ بِجَهْلِهِ (3) . وَالاِخْتِيَال أَحَدُ مَظَاهِرِ الْكِبْرِ، سَوَاءٌ فِي الْمَشْيِ، أَوِ الرُّكُوبِ، أَوِ اللِّبَاسِ، أَوِ الْبُنْيَانِ (4) .
__________
(1) المدخل لابن الحاج 3 / 54
(2) أدب الدنيا والدين للماوردي بهامش الكشكول للعاملي ص 182
(3) إحياء علوم الدين 11 / 22
(4) المرجع السابق.(2/319)
وَقَدْ يَكُونُ مُظْهِرًا لإِِعْجَابِ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ، ذَلِكَ أَنَّ مِنْ أَسْبَابِ الْعُجْبِ الْجَمَال، وَالْمَال. وَاللِّبَاسَ وَالرُّكُوبَ وَالْمَشْيَ مِنَ الْجَمَال وَالزِّينَةِ. وَكَذَلِكَ فَإِنَّ الْعُجْبَ آفَةٌ نَفْسِيَّةٌ تَحْتَاجُ إِلَى إِظْهَارِ آثَارِهَا، وَلِهَذَا فَقَدْ يَظْهَرُ الْعُجْبُ فِي صُورَةِ اخْتِيَالٍ فِي الْمَشْيِ أَوِ اللِّبَاسِ. . إِلَخْ. أَمَّا التَّبَخْتُرُ فَهُوَ مَظْهَرٌ مِنْ مَظَاهِرِ الْكِبْرِ، وَالْعُجْبِ، وَالاِخْتِيَال، وَهُوَ خَاصٌّ بِالْمَشْيِ، يُقَال: فُلاَنٌ يَمْشِي البَخْتَرَى، أَيْ مِشْيَةً حَسَنَةً. فَأَهْل هَذَا الْخُلُقِ مُلاَزِمُونَ لِلْفَخْرِ، وَالْخُيَلاَءِ. فَالْمَرِحُ مُخْتَالٌ فِي مِشْيَتِهِ.
صِفَةُ الاِخْتِيَال (حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ) :
6 - الأَْصْل فِي الاِخْتِيَال أَنَّهُ حَرَامٌ، وَهُوَ مِنَ الْكَبَائِرِ، لِنَهْيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ (ص) عَنْهُ، وَسَيَأْتِي دَلِيل كُل مَظْهَرٍ مِنْ مَظَاهِرِ الاِخْتِيَال عِنْدَ بَيَانِهِ. وَمَظَاهِرُ الاِخْتِيَال كَثِيرَةٌ، مِنْهَا الاِخْتِيَال فِي الْمَشْيِ وَالرُّكُوبِ، وَمِنْهَا الاِخْتِيَال فِي اللِّبَاسِ، وَمِنْهَا الاِخْتِيَال فِي الْبُنْيَانِ.
أ - الاِخْتِيَال فِي الْمَشْيِ:
7 - الاِخْتِيَال فِي الْمَشْيِ يَحْدُثُ بِتَجَاوُزِ الإِْنْسَانِ حَدَّ الْقَصْدِ وَالاِعْتِدَال فِي مِشْيَتِهِ. وَالْقَصْدُ فِي الْمَشْيِ يَكُونُ بَيْنَ الإِْسْرَاعِ وَالْبُطْءِ. وَالْمَعْنَى أَنَّ الإِْنْسَانَ لاَ يُسْرِعُ فِي مِشْيَتِهِ بِأَنْ يَثِبَ وَثْبَ الشُّطَّارِ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: سُرْعَةُ الْمَشْيِ مُذْهِبُ بِهَاءِ الْمُؤْمِنِ (1) كَمَا
__________
(1) حديث " سرعة المشي تذهب بهاء المؤمن " أخرجه أبو نعيم في الحلية عن أبي هريرة. قال في الميزان: " حديث منكر جدا " (فيض القدير 4 / 104)(2/320)
أَنَّهُ لاَ يُبْطِئُ فِي مِشْيَتِهِ بِحَيْثُ يَدِبُّ عَلَى الأَْرْضِ دَبِيبَ الْمُتَمَاوِتِينَ الْمُتَثَاقِلِينَ.
وَلِهَذَا أَمَرَ اللَّهُ بِالْقَصْدِ فِي الْمَشْيِ، فَقَال تَعَالَى: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ} (1) ، كَمَا امْتَدَحَ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ يَقْتَصِدُ فِي مِشْيَتِهِ وَلاَ يَتَجَاوَزُ الاِعْتِدَال بِقَوْلِهِ: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَْرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمًا} . (2)
وَمِنْ ثَمَّ إِذَا تَجَاوَزَ الإِْنْسَانُ حَدَّ الاِعْتِدَال (3) وَالْقَصْدِ فِي الْمَشْيِ يَكُونُ قَدْ وَقَعَ فِي الْمَحْظُورِ، وَهُوَ الاِخْتِيَال. وَالأَْصْل فِي تَحْرِيمِ الاِخْتِيَال فِي الْمَشْيِ وَأَنَّهُ مِنَ الْكَبَائِرِ قَوْله تَعَالَى: {وَلاَ تَمْشِ فِي الأَْرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَْرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَال طُولاً كُل ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} . (4)
وَالْمُرَادُ بِالْمَرَحِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فِي الآْيَةِ الْكَرِيمَةِ هُوَ الْخُيَلاَءُ فِي الْمَشْيِ. وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ نَهَى عَنِ الْخُيَلاَءِ وَأَمَرَ بِالتَّوَاضُعِ. وَقَدِ اسْتَدَل الْعُلَمَاءُ بِالآْيَةِ عَلَى ذَمِّ الاِخْتِيَال. وَوَجْهُ الاِسْتِدْلاَل أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَعْقَبَ النَّهْيَ عَنِ الْمَرَحِ بِأَنَّ ذَلِكَ عَمَلٌ سَيِّئٌ مَكْرُوهٌ، فِي: {كُل ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} فَهَذَا يَدُل عَلَى حَظْرِهِ وَتَحْرِيمِهِ، كَمَا أَنَّهُ قَرَنَهُ بِالزِّنَا وَالْقَتْل وَسَائِرِ الْكَبَائِرِ، فَدَل عَلَى أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ هَذِهِ الْكَبَائِرِ (5) . وَمِنْ مَعَانِي الْمَرَحِ: الْكِبْرُ، وَتَجَاوُزُ الإِْنْسَانِ
__________
(1) سورة لقمان / 18
(2) سورة الفرقان / 63
(3) تفسير القرطبي 7 / 261
(4) سورة الإسراء / 37، 38
(5) تفسير القرطبي 7 / 261(2/320)
قَدْرَهُ، وَذَلِكَ مَذْمُومٌ (1) ، وَمِنْ أَدِلَّةِ تَحْرِيمِهِ أَيْضًا مَا رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَال: " مَنْ تَعَظَّمَ فِي نَفْسِهِ، وَاخْتَال فِي مِشْيَتِهِ، لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ (2) ".
ب - الاِخْتِيَال فِي اللِّبَاسِ:
8 - الاِخْتِيَال فِي اللِّبَاسِ يَحْدُثُ بِسَبَبِ تَجَاوُزِ حَدِّ الاِعْتِدَال وَالْقَصْدِ فِيهِ، مَعَ عَدَمِ وُجُودِ الدَّاعِيَةِ إِلَى ذَلِكَ (3) . وَالنِّيَّةُ وَالْقَصْدُ هُمَا الأَْصْل فِي ذَلِكَ.
وَحَدُّ الاِعْتِدَال وَالْقَصْدِ فِي اللِّبَاسِ يَكُونُ بِاتِّبَاعِ مَا وَرَدَ فِي صِفَةِ اللِّبَاسِ مِنْ آثَارٍ صَحِيحَةٍ، وَاجْتِنَابِ مَا وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهُ. وَلِلْعُرْفِ مَدْخَلٌ فِي ذَلِكَ، مَا لَمْ يُلْغِهِ الشَّرْعُ.
وَفِي الْمَوَاهِبِ: مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى سَبِيل الْخُيَلاَءِ فَلاَ شَكَّ فِي تَحْرِيمِهِ، وَمَا كَانَ عَلَى طَرِيقِ الْعَادَةِ فَلاَ تَحْرِيمَ فِيهِ، مَا لَمْ يَصِل إِلَى جَرِّ الذَّيْل الْمَمْنُوعِ مِنْهُ. وَنَقَل الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنِ الْعُلَمَاءِ كَرَاهَةَ كُل مَا زَادَ عَلَى الْعَادَةِ فِي اللِّبَاسِ لِمِثْل لاَبِسِهِ فِي الطُّول وَالسِّعَةِ (4) .
__________
(1) المرجع السابق.
(2) حديث " من تعظم في نفسه، واختال في مشيه. . . أخرجه أحمد في مسنده والبخاري في الأدب المفرد عن حديث عمر بن الخطاب، رمز السيوطي لحسنه وقال المناوي: هو كما قال، أو أعلى. قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح، وقال المنذري: رراته محتج بهم في الصحيح (فيض القدير 6 / 106)
(3) ومن الدواعي التي تبيح الاختيال في اللباس داعي الحرب، أو أن يكون بغرض إظهار نعمة الله عليه فقط. كما سيأتي.
(4) شرح الزرقاني على موطأ مالك 1 / 273(2/321)
مَا يَحِل مِنْ ثِيَابِ الزِّينَةِ وَلاَ يُعْتَبَرُ اخْتِيَالاً:
9 - الأَْصْل فِي لُبْسِ الثِّيَابِ الْجَمِيلَةِ لِلتَّزَيُّنِ بِهَا الإِْبَاحَةُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُل مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ (1) } ، وَلِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَدْخُل الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَال ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ، فَقَال رَجُلٌ: يَا رَسُول اللَّهِ إِنَّ الرَّجُل مِنَّا يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا، وَنَعْلُهُ حَسَنَةً قَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَال، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَبَطَرُ الْحَقِّ هُوَ دَفْعُهُ وَإِنْكَارُهُ تَرَفُّعًا وَتَجَبُّرًا، قَالَهُ النَّوَوِيُّ. وَفِي الْقَامُوسِ: بَطَرُ الْحَقِّ أَنْ يَتَكَبَّرَ عِنْدَهُ فَلاَ يَقْبَلَهُ، وَالْغَمْطُ وَالْغَمْصُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ (2) . وَقِيل غَمْصُ النَّاسِ احْتِقَارُهُمْ (3) .
وَالْحَدِيثُ يَدُل عَلَى أَنَّ مَحَبَّةَ لُبْسِ الثَّوْبِ الْحَسَنِ، وَالنَّعْل الْحَسَنَةِ، وَتَخَيُّرَ اللِّبَاسِ الْجَمِيل، لَيْسَ مِنَ الْكِبْرِ فِي شَيْءٍ، قَال الشَّوْكَانِيُّ: وَهَذَا مِمَّا لاَ خِلاَفَ فِيهِ فِيمَا أَعْلَمُ (4) .
وَفِي سُبُل السَّلاَمِ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ (5) وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ إِذَا أَنْعَمَ عَلَى عَبْدٍ نِعْمَةً فَإِنَّهُ يُحِبُّ
__________
(1) سورة الأعراف / 32
(2) نيل الأوطار للشوكاني 2 / 92
(3) أنوار البروق على هامش الفروق للقرافي 4 / 225
(4) نيل الأوطار 2 / 92
(5) حديث: " إن الله يحب. . " أخرجه الترمذي (10 / 259 ط مطبعة الصاوي) عن ابن عمرو، وقال: حديث حسن، وفي الباب عن أبي الأحوص عن أبيه وعمران بن حصين.(2/321)
أَنْ يَرَى أَثَرَهَا عَلَيْهِ فِي مَأْكَلِهِ، وَمَلْبَسِهِ، فَإِنَّهُ شُكْرٌ لِلنِّعْمَةِ؛ وَلأَِنَّهُ إِذَا رَآهُ الْمُحْتَاجُ فِي هَيْئَةٍ حَسَنَةٍ قَصَدَهُ لِيَتَصَدَّقَ عَلَيْهِ؛ وَلأَِنَّ بَذَاذَةَ الْهَيْئَةِ سُؤَالٌ وَإِظْهَارٌ لِلْفَقْرِ بِلِسَانِ الْحَال، وَلِذَا قِيل: وَلِسَانُ حَالِي بِالشِّكَايَةِ يَنْطِقُ وَقِيل: وَكَفَاكَ شَاهِدُ مَنْظَرِي عَنْ مَخْبَرِي (1) ، وَقَدْ يَكُونُ التَّزَيُّنُ بِاللِّبَاسِ وَاجِبًا. كَتَوَقُّفِ تَنْفِيذِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ، فِي نَحْوِ وُلاَةِ الأُْمُورِ وَغَيْرِهِمْ، فَإِنَّ الْهَيْئَةَ الرَّثَّةَ لاَ تَحْصُل مَعَهَا مَصَالِحُ الْعَامَّةِ مِنْ وُلاَةِ الأُْمُورِ.
وَقَدْ يَكُونُ مَنْدُوبًا، كَمَا فِي الصَّلَوَاتِ. قَال اللَّهُ تَعَالَى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُل مَسْجِدٍ} (2) ، وَفِي الْجَمَاعَاتِ؛ لِحَدِيثِ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ، وَحَدِيثِ إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَال. (3) رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَكَمَا فِي الْحُرُوبِ لإِِرْهَابِ الْعَدُوِّ، وَفِي الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا، وَفِي الْعُلَمَاءِ لِتَعْظِيمِ الْعِلْمِ فِي نُفُوسِ النَّاسِ، وَقَدْ قَال عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: أُحِبُّ أَنْ أَنْظُرَ إِلَى قَارِئِ الْقُرْآنِ أَبْيَضَ الثِّيَابِ. وَقَدْ يَكُونُ حَرَامًا إِذَا كَانَ وَسِيلَةً لِمُحَرَّمٍ، كَمَنْ يَتَزَيَّنُ لِلنِّسَاءِ الأَْجْنَبِيَّاتِ، وَكَمَنْ تَتَزَيَّنُ لِلرِّجَال
__________
(1) المدخل لابن الحاج 1 / 41، وسبل السلام للصنعاني شرح بلوغ المرام لابن حجر العسقلاني 2 / 86
(2) سورة الأعراف / 31
(3) حديث: " إن الله جميل. . . " أخرجه مسلم 1 / 93 ط عيسى الحلبي، تحقيق محمد فواد عبد الباقي، كذلك أخرجه أحمد 4 / 134 طبع المطبعة الميمنية.(2/322)
الأَْجَانِبِ (1) .
إِطَالَةُ الْمَرْأَةِ ثِيَابَهَا:
10 - شُرِعَ لِلنِّسَاءِ إِسْبَال الإِْزَارِ وَالثِّيَابِ وَكُل مَا يَسْتُرُ جَمِيعَ أَبْدَانِهِنَّ. يَدُل عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا قَالَتْ حِينَ ذَكَرَ الإِْزَارَ فَالْمَرْأَةُ يَا رَسُول اللَّهِ. قَال: تُرْخِيهِ شِبْرًا. قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: إِذَنْ يَنْكَشِفُ عَنْهَا. قَال: فَذِرَاعًا، لاَ تَزِدْ عَلَيْهِ (2) ، إِذْ بِهِ يَحْصُل أَمْنُ الاِنْكِشَافِ.
وَالْحَاصِل أَنَّ لَهَا حَالَةَ اسْتِحْبَابٍ، وَهُوَ قَدْرُ شِبْرٍ، وَحَالَةَ جَوَازٍ، بِقَدْرِ الذِّرَاعِ.
قَال الإِْمَامُ الزَّرْقَانِيُّ: وَيُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُسْبِل إِزَارَهَا، أَيْ تَجُرَّهُ عَلَى الأَْرْضِ ذِرَاعًا. وَالْمُرَادُ ذِرَاعُ الْيَدِ - وَهُوَ شِبْرَانِ - لِمَا رَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَال: رَخَّصَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأُِمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ شِبْرًا، ثُمَّ اسْتَزَدْنَهُ فَزَادَهُنَّ شِبْرًا (3) . فَدَل عَلَى أَنَّ الذِّرَاعَ الْمَأْذُونَ فِيهِ شِبْرَانِ. وَإِنَّمَا جَازَ ذَلِكَ لأَِنَّ الْمَرْأَةَ كُلَّهَا عَوْرَةٌ إِلاَّ وَجْهَهَا وَكَفَّيْهَا (4) .
__________
(1) تهذيب الفروق 4 / 245، وابن عابدين 5 / 231، وفتاوي البزاز الكردري بهامش الفتاوى الهندية 5 / 231 و 6 / 368
(2) هذا لفظ الموطأ (بشرح الزرقاني 4 / 274) ورواه بألفاظ أخرى أبو داود والترمذي والنسائي (فيض القدير 6 / 113) وحديث الإزار هو " لا ينظر الله إلى من جر ثوبه خيلاء) ، متفق عليه من حديث ابن عمر (الفتح الكبير 3 / 372)
(3) هكذا قال الزرقاني. وليس قوله " فزادهن شبرًا " في النسخة المطبوعة من سنن ابن ماجه.
(4) المرجع السابق.(2/322)
ج - الاِخْتِيَال فِي الرُّكُوبِ:
11 - قَدْ يَكُونُ فِي اسْتِعْمَال الْمَرْكُوبِ وَاقْتِنَائِهِ خُيَلاَءَ، وَقَدْ يَكُونُ تَحَدُّثًا بِنِعْمَةِ اللَّهِ وَإِظْهَارًا لَهَا، مِثْلُهَا مِثْل الثِّيَابِ الْجَمِيلَةِ. وَلِهَذَا وَجَبَ عَلَى كُل مُسْلِمٍ يَتَّخِذُ مَرْكُوبًا لِلزِّينَةِ أَلاَّ يَكُونَ قَاصِدًا بِهِ الْخُيَلاَءَ.
وَالأَْصْل فِي إِبَاحَةِ اتِّخَاذِ الْمَرْكُوبِ الْجَمِيل لِلزِّينَةِ إِذَا لَمْ يَكُنْ بِغَرَضِ الْخُيَلاَءِ قَوْله تَعَالَى: {وَالْخَيْل وَالْبِغَال وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (1) } ، وقَوْله تَعَالَى: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (2) } . وَهَذَا الْجَمَال وَالتَّزَيُّنُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا، فَقَدْ أَذِنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِعِبَادِهِ فِيهِ (3) .
د - الاِخْتِيَال فِي الْبُنْيَانِ:
12 - يُبَاحُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَتَّخِذَ لَهُ دَارًا يَسْكُنَهَا يَدْفَعَ بِهَا الْحَرَّ وَالْبَرْدَ وَالْمَطَرَ وَيَدْفَعَ بِهَا الأَْذَى وَالأَْعْيُنَ، وَيَنْبَغِي أَلاَّ يَقْصِدَ بِهَا الاِخْتِيَال أَوْ تُؤَدِّيَ إِلَيْهِ.
هـ - الاِخْتِيَال لإِِرْهَابِ الْعَدُوِّ:
13 - مِنَ الاِخْتِيَال مَا يَكُونُ مَحْمُودًا يُحِبُّهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَهُوَ الاِخْتِيَال لإِِرْهَابِ الْعَدُوِّ الْكَافِرِ وَإِغَاظَتِهِ فِي الْمَلْبَسِ وَالْمَشْيِ وَالرُّكُوبِ.
__________
(1) سورة النحل / 8
(2) سورة النحل / 6
(3) راجع أحكام القرآن لابن العربي 2 / 12، وتفسير القرطبي 10 / 71 وما بعدها.(2/323)
إِخْدَامٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْخْدَامُ لُغَةً: إِعْطَاءُ خَادِمٍ (1) . وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى (2) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - إِعْطَاءُ الْخَادِمِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنَ الزَّوْجِ إِلَى زَوْجَتِهِ مِمَّنْ يُخْدَمُ مِثْلُهَا أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. فَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ يَرَوْنَ أَنَّهُ يَجِبُ الإِْخْدَامُ عَلَى الزَّوْجِ لِزَوْجَتِهِ إِنْ كَانَتْ مِمَّنْ يُخْدَمُ مِثْلُهَا، وَالإِْنْفَاقُ عَلَى خَادِمِهَا الَّذِي مَعَهَا لِحُصُول الْمَقْصُودِ بِذَلِكَ (3) .
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
3 - يَذْكُرُ الْفُقَهَاءُ الإِْخْدَامَ فِي مَوَاضِعَ عِدَّةٍ: فَإِخْدَامُ الزَّوْجِ زَوْجَتَهُ يُذْكَرُ فِي أَبْوَابِ النَّفَقَاتِ، وَإِخْدَامُ الْمُفْلِسِ لِزَمَانَتِهِ - أَيْ إِنْ كَانَ مَرِيضًا مُزْمِنًا، وَيَحْتَاجُ فَضْلاً عَنِ النَّفَقَةِ إِلَى الْخَادِمِ، أَوْ إِنِ اقْتَضَى ذَلِكَ مَنْصِبُهُ - يُبْحَثُ فِي التَّفْلِيسِ، عِنْدَ الْحَدِيثِ عَمَّا يُفْعَل بِمَال الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لِلْفَلَسِ، وَإِخْدَامُ الْمَحْبُوسِ فِي التَّفْلِيسِ عِنْدَ الْحَدِيثِ عَنْ حَبْسِ الْفَلَسِ لِيُقِرَّ بِمَا عَلَيْهِ، أَوْ بِمَالٍ ثَبَتَ كِتْمَانُهُ.
__________
(1) المصباح المنير، وتاج العروس، ولسان العرب، والصحاح.
(2) الشرح الكبير مع الدسوقي 2 / 510، 511 ط عيسى الحلبي.
(3) البدائع 5 / 2215 ط الإمام، والشرح الكبير مع الدسوقي 2 / 510 - 511، والإقناع للشربيني 4 / 152 ط محمد علي صبيح، والمغني 9 / 237 وما بعدها ط المنار الأولى.(2/323)
إِخْرَاجٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْخْرَاجُ لُغَةً الدَّفْعُ مِنَ الدَّاخِل. وَهُوَ أَيْضًا الإِْبْعَادُ وَالتَّنْحِيَةُ (1) . وَهُوَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ كَذَلِكَ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
التَّخَارُجُ:
2 - يُفَرِّقُ الْفُقَهَاءُ بَيْنَ الإِْخْرَاجِ وَالتَّخَارُجِ، فَيَجْعَلُونَ بَيْنَهُمَا عُمُومًا وَخُصُوصًا فَيَخُصُّونَ التَّخَارُجَ بِتَصَالُحِ الْوَرَثَةِ عَلَى إِخْرَاجِ بَعْضِهِمْ مِنَ الْمِيرَاثِ بِشَيْءٍ مَعْلُومٍ مِنَ التَّرِكَةِ (3) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ، وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
3 - مَا يَكُونُ بِهِ الإِْخْرَاجُ: يَتَبَيَّنُ مِنَ اسْتِقْرَاءِ كَلاَمِ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُمْ يَعْتَبِرُونَ إِخْرَاجَ كُل شَيْءٍ بِحَسْبِهِ:
أ - فَالإِْخْرَاجُ لِلإِْنْسَانِ الْقَائِمِ مِنَ الدَّارِ يَكُونُ بِإِخْرَاجِ قَدَمَيْهِ عِنْدَ الْبَعْضِ، وَعِنْدَ الْبَعْضِ الآْخَرِ يَكُونُ بِإِخْرَاجِ إِحْدَى قَدَمَيْهِ إِنْ كَانَ يَعْتَمِدُ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ قَاعِدًا يَكُونُ بِإِخْرَاجِ رِجْلَيْهِ وَبَدَنِهِ، وَإِنْ
__________
(1) لسان العرب مادة: خرج.
(2) مغني المحتاج 4 / 331 طبع مصطفى الحلبي.
(3) شرح السراجية ص 127 طبع مصطفى الحلبي سنة 1363 هـ.(2/324)
كَانَ مُسْتَلْقِيًا يَكُونُ بِإِخْرَاجِ أَكْثَرِ بَدَنِهِ (1) ، كَمَا فَصَّل ذَلِكَ الْفُقَهَاءُ فِي كِتَابِ الأَْيْمَانِ عِنْدَ كَلاَمِهِمْ عَلَى الْيَمِينِ عَلَى الدُّخُول وَالْخُرُوجِ.
ب - وَالإِْخْرَاجُ مِنَ الْمَدِينَةِ يَكُونُ بِمُجَاوَزَةِ عُمْرَانِهَا بِبَدَنِهِ.
ج - وَالإِْخْرَاجُ مِنَ الدَّارِ الْمَسْكُونَةِ يَكُونُ بِإِخْرَاجِ السَّاكِنِ بِنَفْسِهِ وَمَتَاعِهِ وَعِيَالِهِ (2) .
د - وَإِخْرَاجُ الزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ يَكُونُ بِتَمْلِيكِهَا لِلْفَقِيرِ عِنْدَ الْبَعْضِ، حَتَّى لَوْ تَلِفَتْ قَبْل ذَلِكَ وَجَبَ عَلَيْهِ إِخْرَاجُهَا ثَانِيَةً. وَعِنْدَ الْبَعْضِ الآْخَرِ يَكُونُ إِخْرَاجُهَا بِالْعَزْل دُونَ اشْتِرَاطِ التَّمْلِيكِ، حَتَّى لَوْ تَلِفَتْ بَعْدَ الْعَزْل بِغَيْرِ تَعَدٍّ لَمْ يُكَلَّفِ الْمُزَكِّي إِخْرَاجَهَا ثَانِيَةً (3) ، كَمَا ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ، وَفِي كِتَابِ الْكَفَّارَاتِ.
هـ - وَإِخْرَاجُ الْمَسْرُوقِ مِنَ الْحِرْزِ يَكُونُ بِإِخْرَاجِهِ ظَاهِرًا - أَيْ مُظْهَرًا - عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَلاَ يُشْتَرَطُ ظُهُورُهُ عِنْدَ غَيْرِهِمْ، فَمَنِ ابْتَلَعَ جَوْهَرَةً وَخَرَجَ بِهَا لاَ يُقْطَعُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَيُقْطَعُ عِنْدَ غَيْرِهِمْ (4) ، كَمَا ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ السَّرِقَةِ.
__________
(1) الفتاوى الهندية 2 / 79 طبع بولاق، وحاشية الجمل على شرح المنهج 5 / 2، 3 ط دار إحياء التراث.
(2) الفتاوى الهندية 2 / 78، 79
(3) انظر: حاشية الدسوقي 1 / 502، 503 ط عيسى البابي الحلبي، والمغني 2 / 686 طبع المنار الطبعة الثالثة، والمجموع 6 / 35 نشر مكتبة الإرشاد بجدة، وحاشية البجيرمي على الخطيب 4 / 307 نشر دار المعرفة، والأموال لأبي عبيد ص 601 ط مطبعة عبد اللطيف حجازي، والمحلي 5 / 264 ط المنيرية، ومصنف ابن أبي شيبة 1 / 137 ب مخطوط اسطنبول.
(4) الفتاوى الهندية 2 / 171، ومواهب الجليل 6 / 308 نشر مكتبة النجاح - ليبيا.(2/324)
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ خِلاَفًا لِلْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الإِْخْرَاجَ يُنْسَبُ إِلَى الْفَاعِل إِذَا كَانَ ابْتِدَاءُ الإِْخْرَاجِ مِنْهُ، وَلاَ يَضُرُّ انْقِطَاعُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ قَالُوا فِي إِخْرَاجِ الْمَسْرُوقِ مِنَ الْحِرْزِ وَإِلْقَائِهِ بَعِيدًا ثُمَّ أَخْذِهِ إِيَّاهُ إِنَّهُ يُقْطَعُ، كَمَا فَسَّرَ الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ فِي بَابِ السَّرِقَةِ عِنْدَ كَلاَمِهِمْ عَلَى شُرُوطِ الإِْخْرَاجِ مِنَ الْحِرْزِ (1) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلإِْخْرَاجِ:
4 - يَتَبَيَّنُ مِنَ اسْتِقْرَاءِ الأَْحْكَامِ الْمُتَّصِلَةِ بِالإِْخْرَاجِ أَنَّهُ لاَ يَنْتَظِمُهُ حُكْمٌ وَاحِدٌ، بَل يَكُونُ حُكْمُهُ حَسَبَ أَحْوَالِهِ. فَأَحْيَانًا يَكُونُ الإِْخْرَاجُ وَاجِبًا - أَيْ فَرْضًا - كَإِخْرَاجِ الزَّكَاةِ، وَالْكَفَّارَاتِ وَمَا قَامَ الدَّلِيل عَلَى فَرْضِيَّتِهِ - كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ وَكِتَابِ الْكَفَّارَاتِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ، وَإِخْرَاجُ مَنِ اسْتَحَقَّ الْحَدَّ مِنَ الْمَسْجِدِ لإِِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ (2) ، كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ، وَكَإِخْرَاجِ الْمُحْتَرِفِينَ فِي الْمَسْجِدِ مِنْهُ (3) .
وَأَحْيَانًا يَكُونُ حَرَامًا كَإِخْرَاجِ الْمُعْتَدَّةِ مِنْ بَيْتِهَا بِغَيْرِ حَقٍّ، كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي كِتَابِ الْعِدَّةِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ، وَفِي شَرْحِ قَوْله تَعَالَى {لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ (4) } مِنْ كُتُبِ التَّفْسِيرِ، وَكَإِخْرَاجِ الْمَتَاعِ مِنَ
__________
(1) الفتاوى الهندية 2 / 180، والمغني 8 / 255، وحاشية القليوبي 4 / 195 ط عيسى البابي الحلبي، والدسوقي 4 / 338
(2) المحلى 11 / 123، والمغني 8 / 316 و 9 / 45، ومصنف عبد الرزاق 1 / 436، و 10 / 23، طبع المكتب الإسلامي، وصحيح البخاري في كتاب الأحكام (باب من حكم في المسجد) ، ونيل الأوطار 2 / 176
(3) كنز العمال برقم 23131 مطبعة البلاغة - حلب.
(4) سورة الطلاق / 1(2/325)
الْحِرْزِ بِنِيَّةِ السَّرِقَةِ، كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي حَدِّ السَّرِقَةِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ.
إِخْلاَفٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الإِْخْلاَفِ فِي اللُّغَةِ عَدَمُ الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ (1) قَال الزَّجَّاجُ: وَالْعُقُودُ أَوْكَدُ مِنَ الْعُهُودِ، إِذِ الْعَهْدُ إِلْزَامٌ، وَالْعُقُودُ إِلْزَامٌ عَلَى سَبِيل الإِْحْكَامِ وَالاِسْتِيثَاقِ، مِنْ عَقَدَ الشَّيْءَ بِغَيْرِهِ: وَصَلَهُ بِهِ كَمَا يُعْقَدُ الْحَبْل بِالْحَبْل. وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ الْمَذْكُورِ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْكَذِبُ
2 - مِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ سَوَّى بَيْنَ الْكَذِبِ وَالإِْخْلاَفِ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَجَعَل الْكَذِبَ فِي الْمَاضِي وَالْحَاضِرِ، وَإِخْلاَفَ الْوَعْدِ فِي الْمُسْتَقْبَل (2) .
مَا يَقَعُ فِيهِ الإِْخْلاَفُ:
3 - يَقَعُ الإِْخْلاَفُ فِي الْوَعْدِ وَفِي الْعَهْدِ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ جَعَل الْوَعْدَ وَالْعَهْدَ وَاحِدًا، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَل الْوَعْدَ
__________
(1) لسان العرب، والقاموس المحيط مادة " خلف ".
(2) انظر: الفروق للقرافي، وحاشية ابن الشاط عليه 4 / 24، بتصرف، طبع دار المعرفة - بيروت.(2/325)
غَيْرَ الْعَهْدِ، فَخَصَّ الْعَهْدَ بِمَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَوْ حَرَّمَهُ، وَجَعَل الْوَعْدَ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلإِْخْلاَفِ:
4 - عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْعَهْدِ وَالْوَعْدِ يَكُونُ إِخْلاَفُ الْعَهْدِ حَرَامًا أَمَّا الإِْخْلاَفُ بِالْوَعْدِ فَقَدْ قَال النَّوَوِيُّ: وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ وَعَدَ إِنْسَانًا شَيْئًا لَيْسَ بِمَنْهِيٍّ عَنْهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَفِيَ بِوَعْدِهِ وَهَل ذَلِكَ وَاجِبٌ أَمْ مُسْتَحَبٌّ؟ فِيهِ خِلاَفٌ بَيْنَهُمْ. ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ، فَلَوْ تَرَكَهُ فَاتَهُ الْفَضْل وَارْتَكَبَ الْمَكْرُوهَ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ شَدِيدَةٍ، وَلَكِنْ لاَ يَأْثَمُ. وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّهُ وَاجِبٌ، قَال الإِْمَامُ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيُّ: أَجَل مَنْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا الْمَذْهَبِ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ.
قَال: وَذَهَبَتِ الْمَالِكِيَّةُ مَذْهَبًا ثَالِثًا أَنَّهُ إِنِ ارْتَبَطَ الْوَعْدُ بِسَبَبٍ كَقَوْلِهِ: تَزَوَّجْ وَلَكَ كَذَا، أَوِ احْلِفْ أَنَّكَ لاَ تَشْتُمْنِي وَلَكَ كَذَا، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، وَجَبَ الْوَفَاءُ، وَإِنْ كَانَ وَعْدًا مُطْلَقًا لَمْ يَجِبْ. وَاسْتَدَل مَنْ لَمْ يُوجِبْهُ بِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْهِبَةِ، وَالْهِبَةُ لاَ تَلْزَمُ إِلاَّ بِالْقَبْضِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: تَلْزَمُ قَبْل الْقَبْضِ (1) .
هَذَا، وَإِنَّ مَنْ وَعَدَ وَفِي نِيَّتِهِ الإِْخْلاَفُ فَهُوَ آثِمٌ قَطْعًا، وَيَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ عَلَى شُعْبَةٍ مِنَ النِّفَاقِ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاَثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ. (2)
__________
(1) الأذكار ص / 281، 282
(2) حديث: آية المنافق ثلاث، متفق عليه (اللؤلؤ والمرجان ص 12)(2/326)
آثَارُ الإِْخْلاَفِ:
أ - إِخْلاَفُ الْوَعْدِ:
5 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْوَعْدَ لاَ يَلْزَمُ قَضَاءً إِلاَّ إِذَا كَانَ مُعَلَّقًا (1) .
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْوَعْدَ بِالْعَقْدِ مُلْزِمٌ لِلْوَاعِدِ قَضَاءً إِذَا دَخَل الْمَوْعُودُ تَحْتَ الْتِزَامٍ مَالِيٍّ بِنَاءً عَلَى ذَلِكَ الْوَعْدِ، كَمَا إِذَا قَال لَهُ: اهْدِمْ دَارَكَ وَأَنَا أُسَلِّفُكَ مَا تَبْنِي بِهِ. (2)
فَإِذَا مَا أَخْلَفَ وَعْدَهُ - ضَمِنَ الشُّرُوطَ الَّتِي اشْتَرَطَهَا الْحَنَفِيَّةُ أَوِ الْمَالِكِيَّةُ - أُجْبِرَ عَلَى التَّنْفِيذِ.
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ صَرَّحَ الرَّحِيبَانِيُّ مِنْهُمْ بِأَنَّهُ لاَ يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِالْوَعْدِ حُكْمًا (وَفَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: أَيْ فِي الظَّاهِرِ) . وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَهُمْ (3) .
وَمُقْتَضَى حُكْمِ الشَّافِعِيَّةِ بِكَرَاهَةِ الإِْخْلاَفِ عَدَمُ إِجْبَارِ الْمُخْلِفِ عَلَى التَّنْفِيذِ (4) .
ب - إِخْلاَفُ الشَّرْطِ:
الأَْصْل فِي الشَّرْطِ أَنْ يَكُونَ مُلْزِمًا، فَإِذَا أَخْلَفَهُ، اعْتُبِرَ إِخْلاَفُهُ إِخْلاَلاً بِالْعَقْدِ أَوْ مُثْبِتًا خِيَارًا، عَدَا بَعْضَ الشُّرُوطِ الَّتِي لاَ يَضُرُّ الإِْخْلاَل بِهَا فِي النِّكَاحِ خَاصَّةً؛ لأَِنَّهَا تُعْتَبَرُ مُلْغَاةً مُنْذُ اشْتِرَاطِهَا عِنْدَ الْبَعْضِ، كَمَا ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ.
__________
(1) الأشباه والنظائر 2 / 110، وانظر شرح مجلة الأحكام العدلية لعلي حيدر، ومحمد خالد الأتاسي، المادة 84
(2) الفروق 2 / 25
(3) مطالب أولي النهى 6 / 434، وكشاف القناع 6 / 284، والإنصاف 11 / 152
(4) الروضة للنووي 5 / 390، وشرح الأذكار 6 / 258، 259، والقليوبي 3 / 28(2/326)
أَدَاءٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الأَْدَاءُ: الإِْيصَال يُقَال: أَدَّى الشَّيْءَ أَوْصَلَهُ، وَأَدَّى دَيْنَهُ تَأْدِيَةً أَيْ قَضَاهُ. وَالاِسْمُ: الأَْدَاءُ. كَذَلِكَ الأَْدَاءُ وَالْقَضَاءُ يُطْلَقَانِ فِي اللُّغَةِ عَلَى الإِْتْيَانِ بِالْمُؤَقَّتَاتِ، كَأَدَاءِ صَلاَةِ الْفَرِيضَةِ وَقَضَائِهَا، وَبِغَيْرِ الْمُؤَقَّتَاتِ، كَأَدَاءِ الزَّكَاةِ وَالأَْمَانَةِ، وَقَضَاءِ الْحُقُوقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ (1) . وَفِي اصْطِلاَحِ الْجُمْهُورِ مِنَ الأُْصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ: الأَْدَاءُ فِعْل بَعْضِ (وَقِيل كُل) مَا دَخَل وَقْتُهُ قَبْل خُرُوجِهِ وَاجِبًا كَانَ أَوْ مَنْدُوبًا، أَمَّا مَا لَمْ يُقَدَّرْ لَهُ زَمَانٌ فِي الشَّرْعِ، كَالنَّفْل وَالنَّذْرِ الْمُطْلَقِ وَالزَّكَاةِ، فَلاَ يُسَمَّى فِعْلُهُ أَدَاءً وَلاَ قَضَاءً (2) . وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: الأَْدَاءُ تَسْلِيمُ عَيْنِ مَا ثَبَتَ بِالأَْمْرِ. وَلَمْ يُعْتَبَرْ فِي التَّعْرِيفِ التَّقْيِيدُ بِالْوَقْتِ لِيَشْمَل أَدَاءَ الزَّكَاةِ وَالأَْمَانَاتِ وَالْمَنْذُورَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ، كَمَا أَنَّهُ يَعُمُّ فِعْل الْوَاجِبِ وَالنَّفَل. وَقَدْ يُطْلَقُ كُلٌّ مِنَ الأَْدَاءِ وَالْقَضَاءِ عَلَى الآْخَرِ مَجَازًا شَرْعِيًّا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، والتلويح على التوضيح 1 / 160 ط صبيح، وكشاف اصطلاحات الفنون ص 100
(2) جمع الجوامع بشرح المحلي وحاشية البناني 1 / 109 ط الأزهرية، والبدخشي مع الأسنوي 1 / 64 ط صبيح، والتلويح 1 / 160 ط صبيح(2/327)
مَنَاسِكَكُمْ} (1) أَيْ أَدَّيْتُمْ، وَكَقَوْلِكَ: نَوَيْتُ أَدَاءَ ظُهْرِ الأَْمْسِ (2) .
2 - وَالأَْدَاءُ إِمَّا مَحْضٌ، سَوَاءٌ أَكَانَ كَامِلاً كَصَلاَةِ الْمَكْتُوبَةِ فِي جَمَاعَةٍ، أَمْ قَاصِرًا كَصَلاَةِ الْمُنْفَرِدِ؛ وَإِمَّا غَيْرُ مَحْضٍ، وَهُوَ الشَّبِيهُ بِالْقَضَاءِ، كَفِعْل اللاَّحِقِ الَّذِي أَدْرَكَ أَوَّل الصَّلاَةِ بِالْجَمَاعَةِ، وَفَاتَهُ الْبَاقِي فَأَتَمَّ صَلاَتَهُ بَعْدَ فَرَاغِ الإِْمَامِ، فَفِعْلُهُ أَدَاءٌ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ فِي الْوَقْتِ، قَضَاءٌ بِاعْتِبَارِ فَوَاتِ مَا الْتَزَمَهُ مِنَ الأَْدَاءِ مَعَ الإِْمَامِ، فَهُوَ يَقْضِي مَا انْعَقَدَ لَهُ إِحْرَامُ الإِْمَامِ، مِنَ الْمُتَابَعَةِ وَالْمُشَارَكَةِ مَعَهُ بِمِثْلِهِ (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْقَضَاءُ:
3 - الْقَضَاءُ لُغَةً: مَعْنَاهُ الأَْدَاءُ. وَاسْتَعْمَلَهُ الْفُقَهَاءُ بِالْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيِّ الآْتِي، خِلاَفًا لِلْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ لِلتَّمْيِيزِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الأَْدَاءِ. وَاصْطِلاَحًا: مَا فُعِل بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِ أَدَائِهِ اسْتِدْرَاكًا لِمَا سَبَقَ لِفِعْلِهِ مُقْتَضٍ، أَوْ تَسْلِيمِ مِثْل مَا وَجَبَ بِالأَْمْرِ، كَمَا يَقُول الْحَنَفِيَّةُ. فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الأَْدَاءِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ مُرَاعَاةُ قَيْدِ الْوَقْتِ فِي الأَْدَاءِ دُونَ الْقَضَاءِ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مُرَاعَاةُ
__________
(1) سورة البقرة / 200
(2) التلويح 1 / 161، 162، وشرح المنار ص 150، 154 ط العثمانية، وكشاف اصطلاحات الفنون ص 102 ط الهند، وكشف الأسرار 1 / 135 وما بعدها ط مكتبة الصنايع.
(3) التلويح 1 / 116، وكشاف اصطلاحات الفنون ص 102(2/327)
الْعَيْنِ فِي الأَْدَاءِ وَالْمِثْل فِي الْقَضَاءِ، إِذِ الأَْدَاءُ كَمَا سَبَقَ هُوَ فِعْل الْمَأْمُورِ بِهِ فِي وَقْتِهِ بِالنِّسْبَةِ لِمَا لَهُ وَقْتٌ، عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَفِي أَيِّ وَقْتٍ بِالنِّسْبَةِ لِمَا لَيْسَ لَهُ وَقْتٌ مُحَدَّدٌ، عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
ب - الإِْعَادَةُ:
4 - الإِْعَادَةُ لُغَةً: رَدُّ الشَّيْءِ ثَانِيًا، وَاصْطِلاَحًا: مَا فُعِل فِي وَقْتِ الأَْدَاءِ ثَانِيًا لِخَلَلٍ فِي الأَْوَّل وَقِيل لِعُذْرٍ. فَالصَّلاَةُ بِالْجَمَاعَةِ بَعْدَ الصَّلاَةِ مُنْفَرِدًا تَكُونُ إِعَادَةً بِاعْتِبَارِ أَنَّ طَلَبَ الْفَضِيلَةِ عُذْرٌ (1) ، فَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الأَْدَاءِ السَّبْقُ وَعَدَمُهُ.
الأَْدَاءُ فِي الْعِبَادَاتِ:
5 - الْعِبَادَاتُ الَّتِي لَمْ تُحَدَّدْ بِوَقْتٍ لاَ تُوصَفُ بِالأَْدَاءِ بِالْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيِّ، أَيِ الَّذِي يُقَابِل الْقَضَاءَ، وَذَلِكَ عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ، إِلاَّ أَنَّهُمْ يُطْلِقُونَ عَلَيْهَا لَفْظَ الأَْدَاءِ إِطْلاَقًا لُغَوِيًّا بِمَعْنَى الإِْتْيَانِ بِالْمَأْمُورِ بِهِ الأَْعَمِّ مِنَ الأَْدَاءِ الَّذِي يُقَابِل الْقَضَاءَ. وَلِذَلِكَ يَقُول الشَّبْرَامُلْسِيُّ عِنْدَ الْكَلاَمِ عَلَى أَدَاءِ الزَّكَاةِ - أَيْ دَفْعِهَا: لَيْسَ الْمُرَادُ بِالأَْدَاءِ الْمَعْنَى الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ الزَّكَاةَ لاَ وَقْتَ لَهَا مُحَدَّدًا حَتَّى تَصِيرَ قَضَاءً بِخُرُوجِهِ (2) . أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَغَيْرُ الْوَقْتِ عِنْدَهُمْ يُسَمَّى أَدَاءً شَرْعًا وَعُرْفًا، وَالْقَضَاءُ يَخْتَصُّ بِالْوَاجِبِ الْمُوَقَّتِ (3) .
__________
(1) التلويح 1 / 161، وجمع الجوامع 1 / 109 - 118 والبدخشي 1 / 64
(2) نهاية المحتاج 3 / 134، والتلويح 1 / 160، 204، وجمع الجوامع 1 / 110
(3) كشف الأسرار 1 / 136، 146، وابن عابدين 1 / 487 ط بولاق.(2/328)
أَقْسَامُ الْعِبَادَاتِ بِاعْتِبَارِ وَقْتِ الأَْدَاءِ:
6 - الْعِبَادَاتُ بِاعْتِبَارِ وَقْتِ الأَْدَاءِ نَوْعَانِ: مُطْلَقَةٌ وَمُؤَقَّتَةٌ.
فَالْمُطْلَقَةُ: هِيَ الَّتِي لَمْ يُقَيَّدْ أَدَاؤُهَا بِوَقْتٍ مُحَدَّدٍ لَهُ طَرَفَانِ؛ لأَِنَّ جَمِيعَ الْعُمْرِ فِيهَا بِمَنْزِلَةِ الْوَقْتِ فِيمَا هُوَ مُوَقَّتٌ، وَسَوَاءٌ أَكَانَتِ الْعِبَادَةُ وَاجِبَةً كَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ، أَمْ مَنْدُوبَةً كَالنَّفْل الْمُطْلَقِ (1) .
وَأَمَّا الْعِبَادَاتُ الْمُوَقَّتَةُ: فَهِيَ مَا حَدَّدَ الشَّارِعُ وَقْتًا مُعَيَّنًا لأَِدَائِهَا، لاَ يَجِبُ الأَْدَاءُ قَبْلَهُ، وَيَأْثَمُ بِالتَّأْخِيرِ بَعْدَ أَنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ وَاجِبًا، وَذَلِكَ كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَصَوْمِ رَمَضَانَ. وَوَقْتُ الأَْدَاءِ إِمَّا مُوَسَّعٌ وَأَمَّا مُضَيَّقٌ.
فَالْمُضَيَّقُ: هُوَ مَا كَانَ الْوَقْتُ فِيهِ يَسَعُ الْفِعْل وَحْدَهُ، وَلاَ يَسَعُ غَيْرَهُ مَعَهُ، وَذَلِكَ كَرَمَضَانَ فَإِنَّ وَقْتَهُ لاَ يَتَّسِعُ لأَِدَاءِ صَوْمٍ آخَرَ فِيهِ، وَيُسَمَّى مِعْيَارًا أَوْ مُسَاوِيًا (2) .
وَالْمُوَسَّعُ: هُوَ مَا كَانَ الْوَقْتُ فِيهِ يَفْضُل عَنْ أَدَائِهِ، أَيْ أَنَّهُ يَتَّسِعُ لأَِدَاءِ الْفِعْل وَأَدَاءِ غَيْرِهِ مِنْ جِنْسِهِ، وَذَلِكَ كَوَقْتِ الظُّهْرِ مَثَلاً، فَإِنَّهُ يَسَعُ أَدَاءَ صَلاَةِ الظُّهْرِ وَأَدَاءَ صَلَوَاتٍ أُخْرَى، وَلِذَلِكَ يُسَمَّى ظَرْفًا (3) . وَالْحَجُّ مِنَ الْعِبَادَاتِ الَّتِي يُشْتَبَهُ وَقْتُ أَدَائِهِ بِالْمُوَسَّعِ وَالْمُضَيَّقِ؛ لأَِنَّ الْمُكَلَّفَ لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُؤَدِّيَ
__________
(1) كشف الأسرار 1 / 146، 213، وجمع الجوامع 1 / 109،192 وما بعدها، والتلويح 1 / 202 وما بعدها.
(2) كشف الأسرار 1 / 213، والتلويح 1 / 202، وفواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت 1 / 71
(3) فواتح الرحموت 1 / 71، والتلويح 1 / 202، وشرح البدخشي 1 / 89 ط صبيح، والقواعد والفوائد الأصولية ص 70 ط السنة المحمدية.(2/328)
حَجَّتَيْنِ فِي عَامٍ وَاحِدٍ، فَهُوَ بِهَذَا يُشْبِهُ الْمُضَيَّقَ، وَلَكِنْ أَعْمَال الْحَجِّ لاَ تَسْتَوْعِبُ وَقْتَهُ، فَهُوَ بِهَذَا يُشْبِهُ الْمُوَسَّعَ، هَذَا عَلَى اعْتِبَارِهِ مِنَ الْوَقْتِ، وَقِيل إِنَّهُ مِنَ الْمُطْلَقِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْعُمْرَ وَقْتٌ لِلأَْدَاءِ كَالزَّكَاةِ (1) .
صِفَةُ الأَْدَاءِ (حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ) :
7 - الْعِبَادَاتُ إِمَّا فَرْضٌ أَوْ مَنْدُوبٌ، فَإِنْ كَانَتْ فَرْضًا كَالصَّلاَةِ وَالصِّيَامِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ وَالنُّذُورِ وَالْكَفَّارَاتِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ الأَْهْل أَدَاؤُهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ، إِذَا تَحَقَّقَ سَبَبُهَا، وَتَوَفَّرَتْ شُرُوطُهَا. فَإِنْ كَانَتِ الْعِبَادَةُ مُحَدَّدَةً بِوَقْتٍ لَهُ طَرَفَانِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْوَقْتُ مُوَسَّعًا، كَوَقْتِ الصَّلاَةِ، أَمْ كَانَ مُضَيَّقًا كَرَمَضَانَ فَإِنَّهُ يَجِبُ أَدَاؤُهَا فِي الْوَقْتِ الْمُحَدَّدِ، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ تَتَقَدَّمَ عَلَيْهِ وَلاَ أَنْ تَتَأَخَّرَ عَنْهُ إِلاَّ لِعُذْرٍ؛ لأَِنَّهَا تَفُوتُ بِفَوَاتِ الْوَقْتِ الْمُحَدَّدِ دُونَ أَدَاءٍ، وَتَتَعَلَّقُ بِالذِّمَّةِ إِلَى أَنْ تَقْتَضِيَ. وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي تَحْدِيدِ الْوَقْتِ الَّذِي يَجِبُ فِيهِ الأَْدَاءُ فِيمَا كَانَ وَقْتُهُ مُضَيَّقًا؛ لأَِنَّ الْوَقْتَ كُلَّهُ مَشْغُولٌ بِالْعِبَادَةِ، وَلَيْسَ فِيهِ زَمَنٌ فَارِغٌ مِنْهَا، إِلاَّ أَنَّهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِي تَعْيِينِ النِّيَّةِ لِصِحَّةِ الأَْدَاءِ فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَكْفِي مُطْلَقُ النِّيَّةِ؛ لأَِنَّ الْوَقْتَ لَمَّا كَانَ مِعْيَارًا فَلاَ يَصْلُحُ لِعَمَلٍ آخَرَ مِنْ جِنْسِهِ، وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ لاَ بُدَّ مِنَ التَّعْيِينِ، فَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ لَمْ يُجْزِهِ (2) .
__________
(1) شرح مسلم الثبوت 1 / 71، والتلويح 1 / 202، والبدخشي 1 / 92، وجمع الجوامع 1 / 191
(2) التلويح 1 / 208، والبدخشي 1 / 89، وكشف الأسرار 1 / 214، والبدائع 1 / 96، والمهذب 1 / 187، ومنتهى الإرادات 1 / 437، 445، ومنح الجليل 1 / 384، 387(2/329)
أَمَّا مَا كَانَ وَقْتُهُ مُوَسَّعًا فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَحْدِيدِ الْجُزْءِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ الأَْدَاءِ، فَعِنْدَ الْجُمْهُورِ هُوَ الْكُل لاَ جُزْءٌ مِنْهُ؛ لأَِنَّ الأَْمْرَ يَقْتَضِي إِيقَاعَ الْفِعْل فِي أَيِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْوَقْتِ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْوَقْتُ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ (1) ، وَهُوَ يَتَنَاوَل جَمِيعَ أَجْزَائِهِ، وَلَيْسَ تَعْيِينُ بَعْضِ الأَْجْزَاءِ لِوُجُوبِ الأَْدَاءِ بِأَوْلَى مِنْ تَعْيِينِ الْبَعْضِ الآْخَرِ، إِلاَّ أَنَّ الأَْدَاءَ يَجِبُ فِي أَوَّل الْوَقْتِ مَعَ الإِْمْكَانِ، وَقِيل يُسْتَحَبُّ؛ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوَّل الْوَقْتِ رِضْوَانُ اللَّهِ، وَآخِرُهُ عَفْوُ اللَّهِ (2) . وَيَجُوزُ التَّأْخِيرُ إِلَى آخِرِ الْوَقْتِ الْمُخْتَارِ؛ لأَِنَّ عَدَمَ جَوَازِ التَّأْخِيرِ فِيهِ ضِيقٌ عَلَى النَّاسِ، فَسُمِحَ لَهُمْ بِالتَّأْخِيرِ، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ يَجُوزُ التَّأْخِيرُ لَكِنْ مَعَ الْعَزْمِ عَلَى الْفِعْل، فَإِنْ لَمْ يَعْزِمْ أَثِمَ. وَإِنْ ظَنَّ الْمُكَلَّفُ أَنَّهُ لاَ يَعِيشُ إِلَى آخِرِ الْوَقْتِ، الْمُوَسَّعِ تَضَيَّقَ عَلَيْهِ الْوَقْتُ وَحَرُمَ عَلَيْهِ التَّأْخِيرُ اعْتِبَارًا بِظَنِّهِ، فَإِنْ أَخَّرَهُ وَمَاتَ عَصَى اتِّفَاقًا، فَإِنْ لَمْ يَمُتْ بَل عَاشَ وَفَعَل فِي آخِرِ الْوَقْتِ فَهُوَ قَضَاءٌ عِنْدَ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلاَّنِيِّ أَدَاءٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، لِصِدْقِ
__________
(1) حديث: " الوقت ما بين. . . " أخرجه مسلم (1 / 370،371) تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، وأخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان وابن خزيمة وأحمد (الدراية 1 / 98 - 100)
(2) أخرجه الدارقطني، وله اللفظ المذكور (الفتح الكبير 1 / 466) . وأخرجه الترمذي (1 / 321 ط البابي الحلبي - تحقيق أحمد شاكر 1356 هـ) بلفظ: " الوقت الأول من الصلاة رضوان الله، والوقت الآخر عفو الله ". وفي سنده راو منكر الحديث، وفي الباب عن غير ابن عمر، إلا أن الإمام أحمد قال: لا أعرف شيئا يثبت فيه، يعني في هذا الباب (تلخيص الحبير 1 / 180) .(2/329)
تَعْرِيفِ الأَْدَاءِ عَلَيْهِ، وَلاَ عِبْرَةَ بِالظَّنِّ الْبَيِّنِ خَطَؤُهُ.
وَعِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَقْتُ الأَْدَاءِ هُوَ الْجُزْءُ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ الْفِعْل، وَأَنَّ الصَّلاَةَ لاَ تَجِبُ فِي أَوَّل الْوَقْتِ عَلَى التَّعْيِينِ، وَإِنَّمَا تَجِبُ فِي جُزْءٍ مِنَ الْوَقْتِ غَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَإِنَّمَا التَّعْيِينُ إِلَى الْمُصَلِّي مِنْ حَيْثُ الْفِعْل حَتَّى إِنَّهُ إِذَا شَرَعَ فِي أَوَّل الْوَقْتِ يَجِبُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَكَذَا إِذَا شَرَعَ فِي وَسَطِهِ أَوْ آخِرِهِ، وَمَتَى لَمْ يُعَيِّنْ حَتَّى بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ مِقْدَارُ مَا يُصَلِّي فِيهِ أَرْبَعًا - وَهُوَ مُقِيمٌ - يَجِبُ عَلَيْهِ تَعْيِينُ ذَلِكَ الْوَقْتِ لِلأَْدَاءِ فِعْلاً وَيَأْثَمُ بِتَرْكِ التَّعْيِينِ.
وَقَال بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ الْعِرَاقِيِّينَ: إِنَّ وُجُوبَ الأَْدَاءِ يَتَعَلَّقُ بِآخِرِ الْوَقْتِ، فَعَلَى هَذَا، فَإِنْ قَدَّمَهُ ثُمَّ زَالَتْ أَهْلِيَّتُهُ قَبْل آخِرِ الْوَقْتِ فَالْمُؤَدَّى نَفْلٌ. وَقَال بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: إِنَّ الْوُجُوبَ يَتَعَلَّقُ بِأَوَّل الْوَقْتِ فَإِنْ أَخَّرَهُ فَهُوَ قَضَاءٌ. وَكِلاَ الْفَرِيقَيْنِ مِمَّنْ يُنْكِرُونَ التَّوَسُّعَ فِي الْوُجُوبِ (1) .
بِمَ يَتَحَقَّقُ الأَْدَاءُ إِذَا تَضَيَّقَ الْوَقْتُ؟
8 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يُمْكِنُ بِهِ إِدْرَاكُ الْفَرْضِ إِذَا تَضَيَّقَ الْوَقْتُ، فَعِنْدَ الْجُمْهُورِ يُمْكِنُ إِدْرَاكُهُ بِرَكْعَةٍ بِسَجْدَتَيْهَا فِي الْوَقْتِ، فَمَنْ صَلَّى رَكْعَةً فِي الْوَقْتِ ثُمَّ خَرَجَ الْوَقْتُ يَكُونُ مُؤَدِّيًا لِلْجَمِيعِ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
__________
(1) شرح البدخشي 1 / 89، والتلويح 1 / 207، وجمع الجوامع 1 / 187 وما بعدها، والقواعد والفوائد الأصولية لابن اللحام ص 70، 71، مطبعة أنصار السنة، والفروق للقرافي 2 / 75 وما بعدها ط دار المعرفة بيروت، والبدائع 1 / 95، والمهذب 1 / 60 والمغني 1 / 395 ط الثالثة بمطبعة المنار.(2/330)
قَال: مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصُّبْحِ قَبْل أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الصُّبْحَ، وَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْعَصْرِ قَبْل أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الْعَصْرَ (1) ، وَذَهَبَ أَشْهَبُ إِلَى أَنَّهَا تُدْرَكُ بِالرُّكُوعِ وَحْدَهُ وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضِ الْحَنَابِلَةِ يُمْكِنُ إِدْرَاكُ الصَّلاَةِ بِتَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: إِذَا أَدْرَكَ أَحَدُكُمْ أَوَّل سَجْدَةٍ مِنْ صَلاَةِ الْعَصْرِ قَبْل أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَلْيُتِمَّ صَلاَتَهُ، وَإِذَا أَدْرَكَ أَوَّل سَجْدَةٍ مِنْ صَلاَةِ الصُّبْحِ قَبْل أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَلْيُتِمَّ صَلاَتَهُ (2) وَفِي رِوَايَةٍ: فَقَدْ أَدْرَكَ؛ وَلأَِنَّ الإِْدْرَاكَ إِذَا تَعَلَّقَ بِهِ حُكْمٌ فِي الصَّلاَةِ اسْتَوَى فِيهِ الرَّكْعَةُ وَمَا دُونَهَا. وَقَال بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ: إِنَّهُ يَكُونُ مُؤَدِّيًا لِمَا صَلَّى فِي الْوَقْتِ قَاضِيًا لِمَا صَلَّى بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ، اعْتِبَارًا لِكُل جُزْءٍ بِزَمَانِهِ، وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ صَلاَةَ الصُّبْحِ وَحْدَهَا، فَإِنَّهَا لاَ تُدْرَكُ إِلاَّ بِأَدَائِهَا كُلِّهَا قَبْل طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِطُرُوءِ الْوَقْتِ النَّاقِصِ عَلَى الْوَقْتِ الْكَامِل، وَلِذَا عَدُّوا ذَلِكَ مِنْ مُبْطِلاَتِ الصَّلاَةِ (3)
__________
(1) حديث أبو هريرة: " من أدرك. . . " متفق عليه (تلخيص الحبير 1 / 175)
(2) حديث أبي هريرة " إذا أدرك أحدكم. . . " رواه النسائي، وهذا لفظه (1 / 257) ط المكتبة التجارية، ورواه مسلم من حديث عائشة (1 / 424)
(3) ابن عابدين 1 / 242، ومنح الجليل 1 / 111، والمهذب 1 / 60، ونهاية المحتاج 1 / 360، 361، والدسوقي 1 / 182، والمغني 1 / 377، 378، ومنتهى الإرادات 1 / 136، ومراقي الفلاح 180 بحاشية الطحطاوي.(2/330)
وَأَمَّا مَا كَانَ وَقْتُهُ مُطْلَقًا كَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ الْمُطْلَقَةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وَقْتِ وُجُوبِ الأَْدَاءِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلاَفِهِمْ فِي الأَْمْرِ بِهِ، هَل هُوَ عَلَى الْفَوْرِ أَوْ عَلَى التَّرَاخِي؟ وَالْكَلاَمُ فِيهِ عَلَى مِثَال مَا قِيل فِيمَا كَانَ وَقْتُهُ مُوَسَّعًا فِي أَنَّهُ يَجِبُ تَعْجِيل الأَْدَاءِ فِي أَوَّل أَوْقَاتِ الإِْمْكَانِ، وَيَأْثَمُ بِالتَّأْخِيرِ بِدُونِ عَزْمٍ عَلَى الْفِعْل، أَوْ أَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي وَلاَ يَجِبُ التَّعْجِيل وَلاَ يَأْثَمُ بِالتَّأْخِيرِ عَنْ أَوَّل أَوْقَاتِ الإِْمْكَانِ، لَكِنَّ الْجَمِيعَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ وُجُوبَ الأَْدَاءِ يَتَضَيَّقُ فِي آخِرِ عُمُرِهِ فِي زَمَانٍ يَتَمَكَّنُ فِيهِ مِنَ الأَْدَاءِ قَبْل مَوْتِهِ بِغَالِبِ ظَنِّهِ، وَأَنَّهُ إِنْ لَمْ يُؤَدِّ حَتَّى مَاتَ أَثِمَ بِتَرْكِهِ (1) . هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلْعِبَادَاتِ الْوَاجِبَةِ سَوَاءٌ أَكَانَتْ مُوَقَّتَةً أَمْ مُطْلَقَةً.
9 - أَمَّا الْمَنْدُوبُ مِنَ الْعِبَادَاتِ فَمِنَ الْمُقَرَّرِ أَنَّ الْمَنْدُوبَ حُكْمُهُ الثَّوَابُ عَلَى الْفِعْل وَعَدَمُ اللَّوْمِ عَلَى التَّرْكِ، لَكِنَّ فِعْلَهُ أَوْلَى مِنْ تَرْكِهِ. وَمِنَ الْمَنْدُوبِ مَا هُوَ مُوَقَّتٌ كَالرَّكْعَتَيْنِ قَبْل الظُّهْرِ وَالرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَهُ، وَمَا بَعْدَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَرَكْعَتَيِ الْفَجْرِ، وَمِنْهُ مَا هُوَ مُسَبَّبٌ كَصَلاَةِ الْخُسُوفِ وَالْكُسُوفِ، وَمِنْهُ مَا هُوَ مُطْلَقٌ كَالتَّهَجُّدِ. وَمِثْل ذَلِكَ فِي الصَّوْمِ أَيْضًا، فَمِنْهُ مَا هُوَ مُوَقَّتٌ، كَصِيَامِ يَوْمِ عَرَفَةَ لِغَيْرِ الْحَاجِّ، وَصِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ، وَمِنْهُ مَا يَتَطَوَّعُ بِهِ الإِْنْسَانُ فِي أَيِّ يَوْمٍ. وَقَدْ وَرَدَتْ آثَارٌ كَثِيرَةٌ فِي فَضْل مَا زَادَ عَلَى الْفَرْضِ مِنَ الْعِبَادَاتِ مِنْ صَلاَةٍ وَصَوْمٍ وَحَجٍّ وَزَكَاةٍ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَفْضَل الصَّلاَةِ
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 96، 104، 118، وابن عابدين 2 / 28، والمغني 2 / 684 و 3 / 341، ومنتهى الإرادات 1 / 416، ونهاية المحتاج 3 / 229 والمهذب 1 / 147، 206(2/331)
بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلاَةُ اللَّيْل (1) .
وَقَوْلُهُ: صَوْمُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ كَفَّارَةُ سَنَةٍ (2) . وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ رَسُول اللَّهِ أَنَّهُ قَال: مَنْ ثَابَرَ عَلَى اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ (3) . وَهَذِهِ الْعِبَادَاتُ الْمَنْدُوبَةُ يُطْلَبُ أَدَاؤُهَا طَلَبًا لِلثَّوَابِ وَلاَ يَجِبُ الأَْدَاءُ إِلاَّ مَا شُرِعَ فِيهِ، فَيَجِبُ إِتْمَامُهُ، وَإِذَا فَسَدَ قَضَاهُ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ. أَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فَيُسْتَحَبُّ الإِْتْمَامُ إِلاَّ فِي تَطَوُّعِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَإِنَّهُ إِذَا شَرَعَ فِيهِمَا فَيَجِبُ إِتْمَامُهُمَا بِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ (4) .
أَدَاءُ أَصْحَابِ الأَْعْذَارِ:
10 - يُشْتَرَطُ لأَِدَاءِ الْعِبَادَةِ أَهْلِيَّةُ الأَْدَاءِ مَعَ الإِْمْكَانِ وَالْقُدْرَةِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الأَْدَاءِ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ كَانَ أَهْلاً لِلأَْدَاءِ فِي أَوَّل الْوَقْتِ، ثُمَّ طَرَأَ عَلَيْهِ عُذْرٌ
__________
(1) حديث: " أفضل الصلاة. . . " رواه مسلم، وهذا لفظه (2 / 821) ط الحلبي، وأحمد (2 / 303، 329) ط الميمنية، وأبو داود (1 / 566) ط الحلبي.
(2) حديث: " صوم يوم عاشوراء. . . . " رواه مسلم وابن حبان من حديث أبي قتادة (تلخيص الحبير 2 / 213) .
(3) حديث عائشة: " من ثابر. . . " رواه النسائي وابن ماجه والترمذي، وقال الترمذي: غريب من هذا الوجه وقال النسائي: المغيرة بن زياد ليس بالقوي. وقال أحمد ضعيف. وأخرجه مسلم من حديث عنبسة بن أبي سفيان عن أم جيبة (تلخيص الحبير 2 / 12) .
(4) ابن عابدين 1 / 84، والبدائع 1 / 284 - 290، ونهاية المحتاج 3 / 124، ومنتهى الإرادات 1 / 461، والمغني 2 / 140، ومنح الجليل 1 / 210، 409، 563، والتلويح 1 / 125، وجمع الجوامع 1 / 90(2/331)
فِي آخِرِهِ، كَمَنْ كَانَ أَهْلاً لِلصَّلاَةِ فِي أَوَّل الْوَقْتِ، فَلَمْ يُصَل حَتَّى طَرَأَ عَلَيْهِ آخِرَ الْوَقْتِ عُذْرٌ يَمْنَعُ مِنَ الأَْدَاءِ، كَمَا إِذَا حَاضَتِ الطَّاهِرَةُ فِي آخِرِ الْوَقْتِ أَوْ نَفِسَتْ أَوْ جُنَّ الْعَاقِل أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ، أَوِ ارْتَدَّ الْمُسْلِمُ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ وَقَدْ بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ مَا يَسَعُ الْفَرْضَ. فَعِنْدَ الْجُمْهُورِ يَلْزَمُهُمُ الْفَرْضُ؛ لأَِنَّ الْوُجُوبَ وَالأَْهْلِيَّةَ ثَابِتَةٌ فِي أَوَّل الْوَقْتِ فَيَلْزَمُهُمُ الْقَضَاءُ.
أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَلاَ يَلْزَمُهُمُ الْفَرْضُ؛ لأَِنَّ الْوُجُوبَ يَتَعَيَّنُ فِي آخِرِ الْوَقْتِ إِذَا لَمْ يُوجَدِ الأَْدَاءُ قَبْلَهُ، فَيَسْتَدْعِي الأَْهْلِيَّةَ فِيهِ؛ لاِسْتِحَالَةِ الإِْيجَابِ عَلَى غَيْرِ الأَْهْل، وَلَمْ يُوجَدْ، فَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ قَضَاءٌ. وَهُوَ أَيْضًا رَأْيُ الإِْمَامِ مَالِكٍ وَابْنِ الْحَاجِبِ وَابْنِ عَرَفَةَ، خِلاَفًا لِبَعْضِ أَهْل الْمَدِينَةِ وَابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ حَيْثُ الْقَضَاءُ عِنْدَهُمْ أَحْوَطُ.
أَمَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلاً فِي أَوَّل الْوَقْتِ، ثُمَّ زَال الْعُذْرُ فِي آخِرِ الْوَقْتِ، كَمَا إِذَا طَهُرَتِ الْحَائِضُ فِي آخِرِ الْوَقْتِ وَأَسْلَمَ الْكَافِرُ وَبَلَغَ الصَّبِيُّ وَأَفَاقَ الْمَجْنُونُ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ وَأَقَامَ الْمُسَافِرُ أَوْ سَافَرَ الْمُقِيمُ فَلِلْحَنَفِيَّةِ قَوْلاَنِ:
أَحَدُهُمَا وَهُوَ قَوْل زُفَرَ أَنَّهُ لاَ يَجِبُ الْفَرْضُ وَلاَ يَتَغَيَّرُ الأَْدَاءُ إِلاَّ إِذَا بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ مِقْدَارُ مَا يُمْكِنُ فِيهِ أَدَاءُ الْفَرْضِ.
وَالْقَوْل الثَّانِي لِلْكَرْخِيِّ وَأَكْثَرِ الْمُحَقِّقِينَ: أَنَّهُ يَجِبُ الْفَرْضُ وَيَتَغَيَّرُ الأَْدَاءُ إِذَا بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ مِقْدَارُ مَا يَسَعُ التَّحْرِيمَةَ فَقَطْ، وَهُوَ قَوْل الْحَنَابِلَةِ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ. وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَجِبُ الْفَرْضُ إِذَا بَقِيَ مِنَ(2/332)
الْوَقْتِ مِقْدَارُ رَكْعَةٍ مَعَ زَمَنٍ يَسَعُ الطُّهْرَ، وَهُوَ قَوْلٌ لِبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ، وَفِي قَوْلٍ آخَرَ لِلشَّافِعِيَّةِ إِذَا بَقِيَ مِقْدَارُ رَكْعَةٍ فَقَطْ (1) .
هَذَا مِثَالٌ لاِعْتِبَارِ أَهْلِيَّةِ الأَْدَاءِ فِي بَعْضِ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ. وَلِمَعْرِفَةِ التَّفَاصِيل (ر: أَهْلِيَّةٌ. حَجٌّ. صَلاَةٌ. صَوْمٌ) .
11 - أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْقُدْرَةِ عَلَى الأَْدَاءِ فَإِنَّ الْمَطْلُوبَ أَدَاءُ الْعِبَادَةِ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي وَرَدَ بِهَا الشَّرْعُ، فَفِي الصَّلاَةِ مَثَلاً يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَدَاؤُهَا عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي وَرَدَتْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ لِمَا جَاءَ فِي قَوْلِهِ: صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي (2) ، فَمَنْ عَجَزَ عَنْ أَدَاءِ الصَّلاَةِ عَلَى الصِّفَةِ الْمَشْرُوعَةِ جَازَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِالصِّفَةِ الَّتِي يَسْتَطِيعُ بِهَا أَدَاءَ الصَّلاَةِ، فَمَنْ عَجَزَ عَنِ الْقِيَامِ صَلَّى جَالِسًا، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ. وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: صَل قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ (3) ، وَهَكَذَا (4) ، وَكَذَلِكَ الْعَاجِزُ عَنِ الصَّوْمِ لِشَيْخُوخَةٍ أَوْ مَرَضٍ لاَ يُرْجَى بُرْؤُهُ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ الصَّوْمُ؛ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَا جَعَل عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (5) مَعَ
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 95، 96، والمهذب 1 / 60، 61، ومنح الجليل 1 / 111 - 114، والفروق للقرافي 2 / 137، والكافي 1 / 238، والدسوقي 1 / 185، 186 ط دار الفكر، والمغني 1 / 373، 396، 397، نشر مكتبة الرياض الحديثة.
(2) متفق عليه (تلخيص الحبير 1 / 217 و 2 / 122)
(3) أخرجه البخاري والنسائي (تلخيص الحبير 1 / 225)
(4) المغني 4 / 143 ط الرياض، والمهذب 1 / 108 ط دار المعرفة بيروت، ومنح الجليل 1 / 165، 166، والدسوقي 1 / 257 وما بعدها والبدائع 1 / 106
(5) سورة الحج / 78(2/332)
الاِخْتِلاَفِ فِي وُجُوبِ الْفِدْيَةِ وَعَدَمِهَا، فَقِيل: تَجِبُ عَنْ كُل يَوْمٍ مُدٌّ مِنْ طَعَامٍ، وَقِيل: لاَ تَجِبُ (1) . وَالْحَجُّ أَيْضًا لاَ يَجِبُ أَدَاؤُهُ إِلاَّ عَلَى الْمُسْتَطِيعِ بِالْمَال وَالْبَدَنِ وَالْمَحْرَمِ أَوِ الرُّفْقَةِ الْمَأْمُونَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَرْأَةِ. فَمَنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ فَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ (2) ؛ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً (3) } .
12 - وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ كَالزَّكَاةِ فَنَظَرًا لِلأَْهْلِيَّةِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَى الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، فَعِنْدَ الْجُمْهُورِ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي مَال الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، لأَِنَّهُ حَقٌّ يَتَعَلَّقُ بِالْمَال، وَيُؤَدِّي عَنْهُمَا وَلِيُّهُمَا، وَتُعْتَبَرُ نِيَّةُ الْوَلِيِّ فِي الإِْخْرَاجِ. وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِمَا الزَّكَاةُ؛ لأَِنَّ الزَّكَاةَ عِبَادَةٌ، وَهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِهَا (4) .
وَكَذَلِكَ مَنْ عَجَزَ عَنْ أَدَاءِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنَ الْكَفَّارَةِ وَقْتَ الْوُجُوبِ، ثُمَّ تَغَيَّرَ حَالُهُ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ. فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ: الْعِبْرَةُ بِوَقْتِ الأَْدَاءِ لاَ بِوَقْتِ الْوُجُوبِ، وَهُوَ أَحَدُ الأَْقْوَال عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، فَلَوْ كَانَ مُوسِرًا وَقْتَ الْوُجُوبِ جَازَ لَهُ الصَّوْمُ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِوَقْتِ الْوُجُوبِ لاَ بِوَقْتِ الأَْدَاءِ. وَفِي قَوْلٍ آخَرَ
__________
(1) المهذب 1 / 185 ومنتهى الإرادات 1 / 443 ط دار الفكر، ومنح الجليل 1 / 392، والدسوقي 1 / 516، وابن عابدين 2 / 123 ط الثالثة.
(2) المهذب 1 / 203، ومنتهى الإرادات 2 / 2، والكافي 1 / 356 ط مكتبة الرياض، والبدائع 2 / 118
(3) سورة آل عمران / 97
(4) المغني 2 / 622، ومنح الجليل 1 / 344، والمهذب 1 / 147، وبدائع الصنائع 2 / 4، 5(2/333)
لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ أَغْلَظُ الأَْحْوَال مِنْ حِينِ الْوُجُوبِ إِلَى حِينِ التَّكْفِيرِ (1) .
تَعْجِيل الأَْدَاءِ عَنْ وَقْتِ الْوُجُوبِ أَوْ سَبَبِهِ:
13 - الْعِبَادَاتُ الْمُوَقَّتَةُ بِوَقْتٍ، وَالَّتِي يُعْتَبَرُ الْوَقْتُ سَبَبًا لِوُجُوبِهَا، كَالصَّلاَةِ وَالصِّيَامِ فَإِنَّ الْوَقْتَ فِيهِمَا سَبَبُ الْوُجُوبِ؛ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ (2) } ، وقَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ (3) } . هَذِهِ الْعِبَادَاتُ لاَ يَجُوزُ تَعْجِيل الأَْدَاءِ فِيهَا عَنْ وَقْتِ الْوُجُوبِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ. أَمَّا الْعِبَادَاتُ الَّتِي لاَ يُعْتَبَرُ الْوَقْتُ سَبَبًا لِوُجُوبِهَا، وَإِنْ كَانَ شَرْطًا فِيهَا، كَالزَّكَاةِ، أَوِ الْمُطْلَقَةِ الْوَقْتِ كَالْكَفَّارَاتِ، فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ يَخْتَلِفُونَ فِي جَوَازِ تَعْجِيل الأَْدَاءِ عَنْ وَقْتِ وُجُوبِهَا أَوْ عَنْ أَسْبَابِهَا: فَفِي الزَّكَاةِ مَثَلاً يَجُوزُ تَعْجِيل الأَْدَاءِ قَبْل الْحَوْل مَتَى تَمَّ النِّصَابُ، وَذَلِكَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسَلَّفَ مِنَ الْعَبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ زَكَاةَ عَامَيْنِ (4) ؛ وَلأَِنَّهُ حَقُّ مَالٍ أُجِّل لِلرِّفْقِ، فَجَازَ تَعْجِيلُهُ قَبْل مَحِلِّهِ، كَالدَّيْنِ الْمُؤَجَّل.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ عِنْدَهُمْ إِخْرَاجُ الْوَاجِبِ قَبْل تَمَامِ الْحَوْل إِلاَّ بِالزَّمَنِ الْيَسِيرِ كَالشَّهْرِ. وَصَدَقَةُ الْفِطْرِ يَجُوزُ تَعْجِيلُهَا عَنْ وَقْتِهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فَلاَ يَجُوزُ
__________
(1) البدائع 5 / 97، والكافي 1 / 454، ونهاية المحتاج 8 / 174، والمهذب 2 / 116، والمغني 7 / 381
(2) سورة الإسراء / 78
(3) سورة البقرة / 85
(4) أخرجه الطبراني والبزار من حديث ابن مسعود وفي إسناده محمد بن ذكوان وهو ضعيف (تلخيص الحبير 2 / 163)(2/333)
إِخْرَاجُهَا قَبْل وَقْتِهَا إِلاَّ بِالزَّمَنِ الْيَسِيرِ، كَالْيَوْمِ وَالْيَوْمَيْنِ.
وَكَفَّارَةُ الْيَمِينِ يَجُوزُ تَعْجِيلُهَا قَبْل الْحِنْثِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، مَعَ تَخْصِيصِ الشَّافِعِيَّةِ التَّقْدِيمَ إِذَا كَانَ بِغَيْرِ الصَّوْمِ، وَلاَ يَجُوزُ التَّقْدِيمُ عَلَى الْحِنْثِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (1) . وَفِي الْمَوْضُوعِ تَفْصِيلاَتٌ كَثِيرَةٌ تُنْظَرُ فِي مَوَاضِعِهَا.
النِّيَابَةُ فِي أَدَاءِ الْعِبَادَاتِ:
14 - الْعِبَادَاتُ الْمَالِيَّةُ الْمَحْضَةُ كَالزَّكَاةِ وَالصَّدَقَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ تَجُوزُ فِيهَا النِّيَابَةُ، سَوَاءٌ كَانَ مَنْ هِيَ عَلَيْهِ قَادِرًا عَلَى الأَْدَاءِ بِنَفْسِهِ أَمْ لاَ؛ لأَِنَّ الْوَاجِبَ فِيهَا إِخْرَاجُ الْمَال، وَهُوَ يَحْصُل بِفِعْل النَّائِبِ.
15 - أَمَّا الْعِبَادَاتُ الْبَدَنِيَّةُ الْمَحْضَةُ كَالصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ فَلاَ تَجُوزُ فِيهَا النِّيَابَةُ حَال الْحَيَاةِ بِاتِّفَاقٍ؛ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِْنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} ، وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ، وَلاَ يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ (2) ، أَيْ فِي حَقِّ الْخُرُوجِ عَنِ الْعُهْدَةِ، لاَ فِي حَقِّ الثَّوَابِ. أَمَّا بَعْدَ الْمَمَاتِ فَكَذَلِكَ الْحُكْمُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، إِلاَّ مَا قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ مِنْ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ عَنِ الْمَيِّتِ مَنْ يُصَلِّي عَنْهُ مَا فَاتَهُ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 27، والبدائع 2 / 40، 50 و 5 / 97، ونهاية المحتاج 3 / 139 و 8 / 171، 172، والحطاب 4 / 275، ومنح الجليل 1 / 333، والكافي 1 / 303 وشرح. منتهى الإرادات 3 / 428 و 1 / 422، والمغني 9 / 30
(2) أخرجه عبد الرزاق عن ابن عمر موقوفا (الدراية 1 / 283) ، وذكره مالك بلاغا من قول ابن عمر كذلك (الموطأ بتحقيق محمد عبد الباقي 1 / 303)(2/334)
مِنَ الصَّلَوَاتِ (1) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لاَ تَجُوزُ النِّيَابَةُ عَنِ الْمَيِّتِ فِي الصَّلاَةِ. أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلصَّوْمِ فَعِنْدَهُمْ أَنَّ مَنْ فَاتَهُ شَيْءٌ مِنْ رَمَضَانَ، وَمَاتَ قَبْل إِمْكَانِ الْقَضَاءِ، فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، أَيْ لاَ يُفْدَى عَنْهُ وَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ، أَمَّا إِذَا تَمَكَّنَ مِنَ الْقَضَاءِ، وَلَمْ يَصُمْ حَتَّى مَاتَ، فَفِيهِ قَوْلاَنِ:
أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ الصَّوْمُ عَنْهُ، لأَِنَّهُ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ، فَلاَ تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ فِي حَال الْحَيَاةِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَصُومَ وَلِيُّهُ عَنْهُ، بَل يُنْدَبُ، لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَوْمٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ (2) وَهَذَا الرَّأْيُ هُوَ الأَْظْهَرُ. قَال السُّبْكِيُّ: وَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُخْتَارُ وَالْمُفْتَى بِهِ، وَالْقَوْلاَنِ يَجْرِيَانِ فِي الصِّيَامِ الْمَنْذُورِ إِذَا لَمْ يُؤَدَّ (3) .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لاَ تَجُوزُ النِّيَابَةُ عَنِ الْمَيِّتِ فِي الصَّلاَةِ أَوِ الصِّيَامِ الْوَاجِبِ بِأَصْل الشَّرْعِ - أَيِ الصَّلاَةِ الْمَفْرُوضَةِ وَصَوْمِ رَمَضَانَ - لأَِنَّ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ لاَ تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ حَال الْحَيَاةِ، فَبَعْدَ الْمَوْتِ كَذَلِكَ. أَمَّا مَا أَوْجَبَهُ الإِْنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بِالنَّذْرِ، مِنْ صَلاَةٍ أَوْ صَوْمٍ، فَإِنْ كَانَ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ فِعْل الْمَنْذُورِ، كَمَنْ نَذَرَ صَوْمَ شَهْرٍ مُعَيَّنٍ وَمَاتَ قَبْل حُلُولِهِ، فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، فَإِنْ تَمَكَّنَ مِنَ الأَْدَاءِ وَلَمْ يَفْعَل حَتَّى مَاتَ سُنَّ لِوَلِيِّهِ فِعْل النَّذْرِ عَنْهُ؛ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: جَاءَتِ
__________
(1) البدائع 2 / 212 ط شركة. المطبوعات العلمية، وابن عابدين 1 / 514 و 2 / 121 - 130 و 5 / 96 ط بولاق ثالثة، والحطاب 2 / 543، 544 نشر مكتبة النجاح، والفروق 2 / 205، 3 / 188،. وكشف الأسرار 1 / 150
(2) متفق عليه من حديث عائشة (تلخيص الحبير 2 / 209)
(3) نهاية المحتاج 3 / 184 - 187(2/334)
امْرَأَةٌ إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُول اللَّهِ إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ نَذْرٍ أَفَأَصُومُ عَنْهَا؟ قَال: أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِيهِ أَكَانَ يُؤَدِّي ذَلِكَ عَنْهَا؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَال: فَصُومِي عَنْ أُمِّكِ (1) . وَلأَِنَّ النِّيَابَةَ تَدْخُل فِي الْعِبَادَةِ بِحَسَبِ خِفَّتِهَا، وَالنَّذْرُ أَخَفُّ حُكْمًا؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَجِبْ بِأَصْل الشَّرْعِ. وَيَجُوزُ لِغَيْرِ الْوَلِيِّ فِعْل مَا عَلَى الْمَيِّتِ مِنْ نَذْرٍ بِإِذْنِهِ وَبِدُونِ إِذْنِهِ (2) .
16 - وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ بِالنِّسْبَةِ لِلْحَجِّ بِاعْتِبَارِ مَا فِيهِ مِنْ جَانِبٍ مَالِيٍّ وَجَانِبٍ بَدَنِيٍّ. وَالْمَالِكِيَّةُ - فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ - هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِعَدَمِ جَوَازِ النِّيَابَةِ فِي الْحَجِّ. أَمَّا بَقِيَّةُ الْفُقَهَاءِ فَتَصِحُّ عِنْدَهُمُ النِّيَابَةُ فِي الْحَجِّ، لَكِنَّهُمْ يُقَيِّدُونَ ذَلِكَ بِالْعُذْرِ، وَهُوَ الْعَجْزُ عَنِ الْحَجِّ بِنَفْسِهِ؛ لِمَا رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ خَثْعَمَ قَالَتْ: يَا رَسُول اللَّهِ إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَال: نَعَمْ. (3)
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ قَال لِرَجُلٍ: أَرَأَيْتُكَ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكَ دَيْنٌ، فَقَضَيْتَهُ عَنْهُ قُبِل مِنْكَ؟ قَال: نَعَمْ، فَقَال
__________
(1) حديث ابن عباس: " جاءت امرأة. . . أخرجه مسلم (2 / 804 تحقيق محمد عبد الباقي) ورواه البخاري ببعض اختلاف في ألفاظه 3 / 44 ط محمد علي صبيح.
(2) شرح منتهى الإرادات 1 / 121، 417، 418، 457، 458، والمغني 9 / 31
(3) حديث ابن عباس: " إن امرأة من خثعم. . . " أخرجه مسلم (2 / 973) ، وهذا لفظه، وأخرجه البخاري (تلخيص الحبير 2 / 224)(2/335)
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَاللَّهُ أَرْحَمُ. حُجَّ عَنْ أَبِيكَ. (1)
وَضَابِطُ الْعُذْرِ الَّذِي تَصِحُّ مَعَهُ النِّيَابَةُ هُوَ الْعَجْزُ الدَّائِمُ إِلَى الْمَوْتِ، وَذَلِكَ كَالشَّيْخِ الْفَانِي وَالزَّمِنِ وَالْمَرِيضِ الَّذِي لاَ يُرْجَى بُرْؤُهُ. فَهَؤُلاَءِ إِذَا وَجَدُوا مَالاً يَلْزَمُهُمُ الاِسْتِنَابَةُ فِي الْحَجِّ عَنْهُمْ.
وَمَنْ أَحَجَّ عَنْ نَفْسِهِ لِلْعُذْرِ الدَّائِمِ، ثُمَّ زَال الْعُذْرُ قَبْل الْمَوْتِ، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَمْ يَجُزْ حَجُّ غَيْرِهِ عَنْهُ، وَعَلَيْهِ الْحَجُّ؛ لأَِنَّ جَوَازَ الْحَجِّ عَنِ الْغَيْرِ ثَبَتَ بِخِلاَفِ الْقِيَاسِ، لِضَرُورَةِ الْعَجْزِ الَّذِي لاَ يُرْجَى زَوَالُهُ، فَيَتَقَيَّدُ الْجَوَازُ بِهِ. (2)
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يُجْزِئُ حَجُّ الْغَيْرِ، وَيَسْقُطُ عَنْهُ الْفَرْضُ؛ لأَِنَّهُ أَتَى بِمَا أُمِرَ بِهِ فَخَرَجَ مِنَ الْعُهْدَةِ، كَمَا لَوْ لَمْ يَبْرَأْ. لَكِنَّ ذَلِكَ مُقَيَّدٌ بِمَا إِذَا عُوفِيَ بَعْدَ فَرَاغِ النَّائِبِ مِنَ الْحَجِّ، فَإِذَا عُوفِيَ قَبْل فَرَاغِ النَّائِبِ فَيَنْبَغِي أَنْ لاَ يُجْزِئَهُ الْحَجُّ؛ لأَِنَّهُ قَدَرَ عَلَى الأَْصْل قَبْل تَمَامِ الْبَدَل، وَيُحْتَمَل أَنْ يُجْزِئَهُ، وَإِنْ بَرَأَ قَبْل إِحْرَامِ النَّائِبِ لَمْ يُجْزِئْهُ بِحَالٍ. وَلِلشَّافِعِيَّةِ قَوْلاَنِ بِالإِْجْزَاءِ وَعَدَمِهِ وَالْمَرِيضُ الَّذِي يُرْجَى زَوَال مَرَضِهِ وَالْمَحْبُوسُ وَنَحْوُهُ إِذَا أَحَجَّ عَنْهُ فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هَذَا الْحَجُّ مَوْقُوفٌ. إِنْ مَاتَ الْمَحْجُوجُ عَنْهُ وَهُوَ مَرِيضٌ أَوْ مَحْبُوسٌ جَازَ الْحَجُّ، وَإِنْ زَال الْمَرَضُ أَوِ الْحَبْسُ قَبْل الْمَوْتِ لَمْ يَجُزْ. وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ: لَيْسَ لَهُ أَنْ
__________
(1) حديث: " أرايتك لو كان على أبيك دين. . . " أخرجه أحمد 6 / 429
(2) البدائع 2 / 212، وابن عابدين 2 / 244،245، 247(2/335)
يَسْتَنِيبَ أَصْلاً؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَيْأَسْ مِنَ الْحَجِّ بِنَفْسِهِ، فَلاَ تَجُوزُ فِيهِ النِّيَابَةُ كَالصَّحِيحِ، فَإِنْ خَالَفَ وَأَحَجَّ عَنْ نَفْسِهِ، لَمْ يُجْزِئْهُ وَلَوْ لَمْ يَبْرَأْ؛ لأَِنَّهُ يَرْجُو الْقُدْرَةَ عَلَى الْحَجِّ بِنَفْسِهِ فَلَمْ يَكُنْ بِهِ الاِسْتِنَابَةُ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ عَنْ نَفْسِهِ مَرَّةً أُخْرَى، وَفِي الْقَوْل الثَّانِي لِلشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ إِذَا مَاتَ؛ لأَِنَّهُ لَمَّا مَاتَ تَبَيَّنَّا أَنَّهُ كَانَ مَأْيُوسًا مِنْهُ (1) .
وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ لاَ تَجُوزُ النِّيَابَةُ فِي الْحَجِّ مُطْلَقًا. وَقِيل تَصِحُّ النِّيَابَةُ فِي الْحَجِّ لِغَيْرِ الْمُسْتَطِيعِ، قَال الْبَاجِيُّ: تَجُوزُ النِّيَابَةُ لِلْمَعْضُوبِ كَالزَّمِنِ وَالْهَرِمِ.
وَقَال أَشْهَبُ: إِنْ آجَرَ صَحِيحٌ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ لَزِمَهُ لِلْخِلاَفِ (2) . وَسَوَاءٌ فِيمَا مَرَّ فِي الْمَذَاهِبِ حَجُّ الْفَرِيضَةِ وَحَجُّ النَّذْرِ. وَالْعُمْرَةُ فِي ذَلِكَ كَالْحَجِّ (3) .
17 - أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِحَجِّ التَّطَوُّعِ فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ تَجُوزُ فِيهِ الاِسْتِنَابَةُ بِعُذْرٍ وَبِدُونِ عُذْرٍ، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِنْ كَانَ لِعُذْرٍ جَازَ وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ عُذْرٍ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا يَجُوزُ؛ لأَِنَّهَا حَجَّةٌ لاَ تَلْزَمُهُ بِنَفْسِهِ، فَجَازَ أَنْ يَسْتَنِيبَ فِيهَا كَالْمَعْضُوبِ.
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ لاَ يَجُوزُ، لأَِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْحَجِّ بِنَفْسِهِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَنِيبَ فِيهِ كَالْفَرْضِ، وَلِلشَّافِعِيَّةِ قَوْلاَنِ فِيمَا إِذَا كَانَ بِعُذْرٍ: أَحَدُهُمَا لاَ يَجُوزُ؛ لأَِنَّهُ غَيْرُ مُضْطَرٍّ إِلَى الاِسْتِنَابَةِ فِيهِ، فَلَمْ تَجُزِ الاِسْتِنَابَةُ فِيهِ كَالصَّحِيحِ، وَالثَّانِي يَجُوزُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لأَِنَّ كُل عِبَادَةٍ جَازَتِ النِّيَابَةُ فِي فَرْضِهَا
__________
(1) المغني 3 / 227 - 230، والمهذب 1 / 206، ومغني المحتاج 1 / 469
(2) منح الجليل 1 / 449 - 455، والدسوقي 2 / 17، 18
(3) البدائع 2 / 212 و 5 / 96، وابن عابدين 4 / 244 وما بعدها ومغني المحتاج 1 / 469 و 4 / 364، والمغني 3 / 227 وما بعدها.(2/336)
جَازَتِ النِّيَابَةُ فِي نَفْلِهَا. وَتُكْرَهُ الاِسْتِنَابَةُ فِي التَّطَوُّعِ عَنِ الْمَالِكِيَّةِ (1) .
18 - وَمَا مَرَّ إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِلْحَيِّ. أَمَّا الْمَيِّتُ فَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ: مَنْ مَاتَ قَبْل أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنْ أَدَاءِ الْحَجِّ سَقَطَ فَرْضُهُ، وَلاَ يَجِبُ الْقَضَاءُ عَنْهُ، وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنَ الأَْدَاءِ وَلَمْ يُؤَدِّ لَمْ يَسْقُطِ الْفَرْضُ، وَيَجِبُ الْقَضَاءُ مِنْ تَرِكَتِهِ، لِمَا رَوَى بُرَيْدَةُ قَال: أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: يَا رَسُول اللَّهِ إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ، وَلَمْ تَحُجَّ فَقَال لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حُجِّي عَنْ أُمِّكِ (2) ، وَلأَِنَّهُ حَقٌّ تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ حَال الْحَيَاةِ، فَلَمْ يَسْقُطْ بِالْمَوْتِ، كَدَيْنِ الآْدَمِيِّ، وَمِثْل ذَلِكَ الْحَجُّ الْمَنْذُورُ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ قَال: أَتَى رَجُلٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال لَهُ: إِنَّ أُخْتِي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ، وَإِنَّهَا مَاتَتْ، فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ كَانَ عَلَيْهَا دَيْنٌ أَكُنْتَ قَاضِيَهُ؟ قَال: نَعَمْ. قَال: فَاقْضِ اللَّهَ فَهُوَ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ (3) .
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ: مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ فَلاَ يَجِبُ الْحَجُّ عَنْهُ، إِلاَّ أَنْ يُوصِيَ بِذَلِكَ، فَإِذَا أَوْصَى حُجَّ مِنْ تَرِكَتِهِ. وَإِذَا لَمْ يُوصِ بِالْحَجِّ عَنْهُ، فَتَبَرَّعَ الْوَارِثُ بِالْحَجِّ بِنَفْسِهِ، أَوْ بِالإِْحْجَاجِ عَنْهُ رَجُلاً جَازَ، وَلَكِنْ مَعَ الْكَرَاهَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ (4) .
__________
(1) ابن عابدين 1 / 515 و 2 / 244، والمغني 3 / 230، والمهذب 1 / 306، ومنح الجليل 1 / 449
(2) أخرجه مسلم 2 / 805 عيسى الحلبي.
(3) حديث: " إن أختي نذرت. . . " أخرجه البخاري 8 / 177 ط محمد علي صبيح.
(4) ابن عابدين 1 / 514، 515 و 2 / 245، والمغني 3 / 241 - 243، ومغني المحتاج 1 / 468، والمهذب 1 / 206، ومنح الجليل 1 / 451(2/336)
تَأْخِيرُ الأَْدَاءِ عَنْ وَقْتِ الْوُجُوبِ:
19 - تَأْخِيرُ أَدَاءِ الْعِبَادَاتِ عَنْ وَقْتِ الْوُجُوبِ دُونَ عُذْرٍ يُوجِبُ الإِْثْمَ، فَإِنْ كَانَ مِنَ الْعِبَادَاتِ الْمُؤَقَّتَةِ بِوَقْتٍ مُحَدَّدٍ، كَالصَّلاَةِ وَالصِّيَامِ وَجَبَ قَضَاؤُهَا، وَكَذَلِكَ النَّذْرُ الْمُعَيَّنُ إِذَا لَمْ يُؤَدَّ. وَإِنْ كَانَتِ الْعِبَادَاتُ وَقْتُهَا الْعُمْرُ، كَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ فَإِنَّهُ مَتَى تَوَفَّرَتْ شُرُوطُ الأَْدَاءِ، كَحَوَلاَنِ الْحَوْل وَكَمَال النِّصَابِ فِي الزَّكَاةِ مَعَ إِمْكَانِ الأَْدَاءِ، وَلَمْ يَتِمَّ الأَْدَاءُ تَرَتَّبَ الْمَال فِي الذِّمَّةِ، وَكَذَلِكَ الْحَجُّ إِذَا وُجِدَتِ الاِسْتِطَاعَةُ الْمَالِيَّةُ وَالْبَدَنِيَّةُ، وَلَمْ يُؤَدِّ الْحَجَّ فَهُوَ بَاقٍ فِي ذِمَّتِهِ.
وَمِثْل ذَلِكَ الْوَاجِبَاتُ الْمُطْلَقَةُ كَالنُّذُورِ وَالْكَفَّارَاتِ مَعَ اخْتِلاَفِ الْفُقَهَاءِ فِيمَنْ مَاتَ، وَلَمْ يُؤَدِّ الزَّكَاةَ أَوِ الْحَجَّ أَوِ النَّذْرَ أَوِ الْكَفَّارَةَ، وَكُل مَا كَانَ وَاجِبًا مَالِيًّا، وَأَمْكَنَ أَدَاؤُهُ، وَلَمْ يُؤَدَّ حَتَّى مَاتَ الْمُكَلَّفُ، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ لاَ تُؤَدَّى مِنْ تَرِكَتِهِ، إِلاَّ إِذَا أَوْصَى بِهَا، فَإِذَا لَمْ يُوصِ فَقَدْ سَقَطَتْ بِالنِّسْبَةِ لأَِحْكَامِ الدُّنْيَا، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ تُؤَدَّى مِنْ تَرِكَتِهِ وَإِنْ لَمْ يُوصِ (1) . وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ وَلِلتَّفْصِيل (ر: قَضَاءٌ. حَجٌّ. زَكَاةٌ. نَذْرٌ) . هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلْعِبَادَاتِ الْوَاجِبَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ مُؤَقَّتَةً أَوْ غَيْرَ مُؤَقَّتَةٍ.
__________
(1) البدائع 2 / 103، 212، وابن عابدين 1 / 514، 515 و 2 / 121، والدسوقي 1 / 263 و 4 / 442، ومنح الجليل 1 / 451، ونهاية المحتاج 3 / 151، والمهذب 1 / 61، 182، 206، 250، ومنتهى الإرادات 1 / 417، 2 / 4، والمغني 3 / 242(2/337)
20 - أَمَّا النَّفْل - سَوَاءٌ مِنْهُ الْمُطْلَقُ أَوِ الْمُتَرَتِّبُ بِسَبَبٍ أَوْ وَقْتٍ - فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي قَضَائِهِ إِذَا فَاتَ: فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ لاَ يُقْضَى شَيْءٌ مِنَ السُّنَنِ سِوَى سُنَّةُ الْفَجْرِ. وَاسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ عَلَى ذَلِكَ بِمَا رَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَل حُجْرَتِي بَعْدَ الْعَصْرِ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ: مَا هَاتَانِ الرَّكْعَتَانِ اللَّتَانِ لَمْ تَكُنْ تُصَلِّيهِمَا مِنْ قَبْل؟ فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رَكْعَتَانِ كُنْتُ أُصَلِّيهِمَا بَعْدَ الظُّهْرِ، وَفِي رِوَايَةٍ: رَكْعَتَا الظُّهْرِ شَغَلَنِي عَنْهُمَا الْوَفْدُ، فَكَرِهْتُ أَنْ أُصَلِّيَهُمَا بِحَضْرَةِ النَّاسِ، فَيَرَوْنِي. فَقُلْتُ: أَفَأَقْضِيهِمَا إِذَا فَاتَتَا؟ قَال: لاَ. (1) وَهَذَا نَصٌّ عَلَى أَنَّ الْقَضَاءَ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى الأُْمَّةِ، وَإِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ اخْتُصَّ بِهِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيَاسُ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ لاَ يَجِبُ قَضَاءُ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ أَصْلاً، إِلاَّ أَنَّا اسْتَحْسَنَّا الْقَضَاءَ إِذَا فَاتَتَا مَعَ الْفَرْضِ؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَهُمَا مَعَ الْفَرْضِ لَيْلَةَ التَّعْرِيسِ (2) ، فَنَحْنُ نَفْعَل ذَلِكَ لِنَكُونَ عَلَى طَرِيقَتِهِ، وَهَذَا بِخِلاَفِ الْوِتْرِ؛ لأَِنَّهُ
__________
(1) لم نجده بهذا اللفظ، وقد أخرجه بألفاظ مقاربة أحمد في مسنده 6 / 315 ط الميمنية، وابن حبان في صحيحه (الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان 3 / 80 - 82 ط المكتبة السلفية بالمدينة) ، والبيهقي في " سننه " 2 / 484، 485 ط 2 بدائرة المعارف العثمانية. قال الهيثمي " رجال أحمد رجال الصحيح " (مجمع الزوائد 2 / 224) ط القدسي.
(2) رواه بالمعنى مسلم (1 / 471، نشر محمد عبد الباقي) وأبو داود من حديث أبي هريرة، في قصة التعريس في الوادي، وابن خزيمة وابن حبان والحاكم (الدراية في تخريج أحاديث الهداية ص 118)(2/337)
وَاجِبٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالْوَاجِبُ مُلْحَقٌ بِالْفَرْضِ فِي حَقِّ الْعَمَل (1) .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ قَال الإِْمَامُ أَحْمَدُ: لَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى شَيْئًا مِنَ التَّطَوُّعِ إِلاَّ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ وَالرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ، وَقَال الْقَاضِي وَبَعْضُ الأَْصْحَابِ: لاَ يُقْضَى إِلاَّ رَكْعَتَا الْفَجْرِ وَرَكْعَتَا الظُّهْرِ. وَقَال ابْنُ حَامِدٍ: تُقْضَى جَمِيعُ السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بَعْضَهَا وَقِسْنَا الْبَاقِيَ عَلَيْهِ. وَفِي شَرْحِ مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ: يُسَنُّ قَضَاءُ الرَّوَاتِبِ إِلاَّ مَا فَاتَ مَعَ فَرْضِهِ وَكَثُرَ فَالأَْوْلَى تَرْكُهُ، إِلاَّ سُنَّةَ فَجْرٍ، فَيَقْضِيهَا مُطْلَقًا لِتَأَكُّدِهَا.
وَلِلشَّافِعِيَّةِ قَوْلاَنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ السُّنَنَ الرَّاتِبَةَ لاَ تُقْضَى؛ لأَِنَّهَا صَلاَةُ نَفْلٍ، فَلَمْ تُقْضَ، كَصَلاَةِ الْكُسُوفِ وَالاِسْتِسْقَاءِ، وَالثَّانِي تُقْضَى (2) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ نَامَ عَنْ صَلاَةٍ أَوْ سَهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا (3) .
21 - وَأَمَّا قَضَاءُ سُنَّةِ الْفَجْرِ إِذَا فَاتَتْ فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لاَ تُقْضَى إِلاَّ إِذَا فَاتَتْ مَعَ الْفَجْرِ، وَإِذَا فَاتَتْ وَحْدَهَا فَلاَ تُقْضَى. وَعِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ تُقْضَى سَوَاءٌ فَاتَتْ وَحْدَهَا أَوْ مَعَ الْفَجْرِ. وَاخْتُلِفَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَمْتَدُّ إِلَيْهِ الْقَضَاءُ، فَعِنْدَ
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 287، ومنح الجليل 1 / 210، والدسوقي 1 / 319
(2) المغني 2 / 128 ومنتهى الإرادات 1 / 230 والمهذب 1 / 91
(3) ذكره بهذا اللفظ صاحب المهذب (1 / 91) وفي كتب الحديث " من نسي صلاة أو نام عنها فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها. . . " رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي. الفتح الكبير (3 / 242)(2/338)
الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ: تُقْضَى إِلَى الزَّوَال، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى الضُّحَى، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ تُقْضَى أَبَدًا (1) . وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ. وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مَكَانٍ آخَرَ (ر: نَفْلٌ. قَضَاءٌ) .
22 - وَمَا شَرَعَ فِيهِ مِنَ النَّفْل الْمُطْلَقِ فَإِنَّهُ يَجِبُ إِتْمَامُهُ، وَإِذَا فَسَدَ يُقْضَى. وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ. وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ يُسْتَحَبُّ الإِْتْمَامُ وَلاَ يَجِبُ، كَمَا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْقَضَاءُ إِلاَّ فِي تَطَوُّعِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَيَجِبُ إِتْمَامُهُمَا إِذَا شَرَعَ فِيهِمَا (2) .
الاِمْتِنَاعُ عَنِ الأَْدَاءِ:
23 - الْعِبَادَاتُ الْوَاجِبَةُ وُجُوبًا عَيْنِيًّا أَوْ كِفَائِيًّا كَالصَّلاَةِ وَالصِّيَامِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ وَصَلاَةِ الْجِنَازَةِ تُعْتَبَرُ مِنْ فَرَائِضِ الإِْسْلاَمِ وَمَعْلُومَةٌ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، وَقَدْ وَرَدَ الأَْمْرُ بِهَا فِي كَثِيرٍ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} وقَوْله تَعَالَى (3) {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَال} (4) وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بُنِيَ الإِْسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ (5) . وَهَذِهِ الْعِبَادَاتُ يَجِبُ عَلَى كُل مُكَلَّفٍ أَدَاؤُهَا عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي وَرَدَ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 474 ومنح الجليل 1 / 210 والمجموع شرح المهذب 4 / 41،42 ط المنيرية والمغني 2 / 128
(2) البدائع 1 / 287 وابن عابدين 1 / 463 والشرح الصغير 1 / 408 ومنتهى الإرادات 1 / 461 والمهذب 1 / 195
(3) سورة البقرة / 43
(4) سورة البقرة / 216
(5) أخرجه البخاري 1 / 10 ط محمد علي صبيح، ومسلم باختلاف يسير في ألفاظه 1 / 45 بتحقيق محمد عبد الباقي.(2/338)
بِهَا الشَّرْعُ. وَمَنِ امْتَنَعَ عَنْ أَدَائِهَا فَإِنْ كَانَ جَاحِدًا لَهَا فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ كَافِرًا يُقْتَل كُفْرًا بَعْدَ أَنْ يُسْتَتَابَ. وَإِنِ امْتَنَعَ عَنْ أَدَائِهَا كَسَلاً فَفِي الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ، كَالصَّلاَةِ يُؤَدَّبُ وَيُعَزَّرُ، وَيُتْرَكُ إِلَى أَنْ يَتَضَيَّقَ الْوَقْتُ، فَإِنْ ظَل عَلَى امْتِنَاعِهِ قُتِل حَدًّا لاَ كُفْرًا، وَهَذَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يُحْبَسُ أَبَدًا حَتَّى يُصَلِّيَ. وَفِي الْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ كَالزَّكَاةِ إِنِ امْتَنَعَ عَنْ أَدَائِهَا بُخْلاً فَإِنَّهَا تُؤْخَذُ مِنْهُ كُرْهًا، وَيُقَاتَل عَلَيْهَا كَمَا فَعَل أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِمَانِعِي الزَّكَاةِ، أَمَّا تَارِكُ الْحَجِّ كَسَلاً فَسَوَاءٌ أَكَانَ عَلَى الْفَوْرِ أَمْ عَلَى التَّرَاخِي فَإِنَّهُ يُتْرَكُ، وَلَكِنْ يُؤْمَرُ بِهِ وَيُدَيَّنُ لأَِنَّ شَرْطَهُ الاِسْتِطَاعَةُ، وَقَدْ يَكُونُ لَهُ عُذْرٌ بَاطِنِيٌّ لَمْ يُعْرَفْ.
24 - أَمَّا غَيْرُ الْوَاجِبَاتِ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَهُوَ مَا يُسَمَّى مَنْدُوبًا أَوْ سُنَّةً أَوْ نَافِلَةً فَهُوَ مَا يُثَابُ فَاعِلُهُ وَلاَ يُذَمُّ تَارِكُهُ، وَهَذَا عَلَى الْجُمْلَةِ؛ لأَِنَّ مِنَ السُّنَّةِ مَا يُعْتَبَرُ إِظْهَارًا لِلدِّينِ، وَتَرْكُهَا يُوجِبُ إِسَاءَةً وَكَرَاهِيَةً، وَذَلِكَ كَالْجَمَاعَةِ وَالأَْذَانِ وَالإِْقَامَةِ وَصَلاَةِ الْعِيدَيْنِ؛ لأَِنَّهَا مِنْ شَعَائِرِ الإِْسْلاَمِ، وَفِي تَرْكِهَا تَهَاوُنٌ بِالشَّرْعِ، وَلِذَلِكَ لَوِ اتَّفَقَ أَهْل بَلْدَةٍ عَلَى تَرْكِهَا وَجَبَ قِتَالُهُمْ بِخِلاَفِ سَائِرِ الْمَنْدُوبَاتِ؛ لأَِنَّهَا تُفْعَل فُرَادَى (1) .
أَثَرُ الأَْدَاءِ فِي الْعِبَادَاتِ:
25 - أَدَاءُ الْعِبَادَةِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ بِاسْتِيفَاءِ أَرْكَانِهَا وَشَرَائِطِهَا يَسْتَلْزِمُ الإِْجْزَاءَ وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ عَلَى
__________
(1) الاختيار 1 / 103 والبدائع 1 / 141، 311، والمهذب 1 / 58، 62، 125، 183 و 2 / 228 ومنتهى الإرادات 1 / 117، 122، 305، 336، ومنح الجليل 1 / 117، 710 والتلويح على التوضيح 2 / 124، وشرح البدخشي 1 / 47، وابن عابدين 1 / 72 والشرح الصغير 1 / 246(2/339)
تَفْسِيرِ الإِْجْزَاءِ بِمَعْنَى الاِمْتِثَال بِالإِْتْيَانِ بِالْمَأْمُورِ بِهِ. وَأَنَّ ذَلِكَ يُبَرِّئُ الذِّمَّةَ بِغَيْرِ خِلاَفٍ، وَعَلَى تَفْسِيرِ الإِْجْزَاءِ بِمَعْنَى إِسْقَاطِ الْقَضَاءِ فَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ يَسْتَلْزِمُهُ، خِلاَفًا لِعَبْدِ الْجَبَّارِ الْمُعْتَزِلِيِّ مِنْ أَنَّهُ لاَ يَسْتَلْزِمُهُ. وَالْفِعْل الْمُؤَدَّى عَلَى وَجْهِهِ الْمَشْرُوعِ يُوصَفُ بِالصِّحَّةِ، وَإِلاَّ فَبِالْفَسَادِ أَوِ الْبُطْلاَنِ، مَعَ تَفْرِيقِ الْحَنَفِيَّةِ بَيْنَ الْفَاسِدِ وَالْبَاطِل. وَالصِّحَّةُ أَعَمُّ مِنَ الإِْجْزَاءِ؛ لأَِنَّهَا تَكُونُ صِفَةً لِلْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلاَتِ، أَمَّا الإِْجْزَاءُ فَلاَ يُوصَفُ بِهِ إِلاَّ الْعِبَادَاتُ (1) .
وَإِذَا كَانَتِ الْعِبَادَاتُ الْمُسْتَجْمَعَةُ شَرَائِطُهَا وَأَرْكَانُهَا تُبَرِّئُ الذِّمَّةَ بِلاَ خِلاَفٍ فَإِنَّهُ قَدِ اخْتُلِفَ فِي تَرَتُّبِ الثَّوَابِ عَلَى هَذِهِ الْعِبَادَةِ أَوْ عَدَمِ تَرَتُّبِهِ، فَقِيل: إِنَّهُ لاَ يَلْزَمُ مِنْ إِبْرَاءِ الذِّمَّةِ تَرَتُّبُ الثَّوَابِ عَلَى الْفِعْل، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ يُبَرِّئُ الذِّمَّةَ بِالْفِعْل وَلاَ يُثِيبُ عَلَيْهِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى الْقَبُول، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى قَاعِدَةِ أَنَّ الْقَبُول وَالثَّوَابَ غَيْرُ الإِْجْزَاءِ وَغَيْرُ الْفِعْل الصَّحِيحِ. وَقِيل: إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الشَّرْعِ وَاجِبٌ صَحِيحٌ يُجْزِئُ إِلاَّ وَهُوَ مَقْبُولٌ مُثَابٌ عَلَيْهِ، كَمَا هُوَ مُقْتَضَى قَاعِدَةِ سَعَةِ الثَّوَابِ، وَالآْيَاتِ وَالأَْحَادِيثِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِوَعْدِ الْمُطِيعِ بِالثَّوَابِ (2) .
__________
(1) جمع الجوامع 1 / من 100الى 105 ط مصطفى الحلبي الثانية، والبدخشي من 1 / 57 إلى 60 وما بعدها ط صبيح، ومسلم الثبوت 1 / 120، 393، والتلويح 2 / 122
(2) الفروق للقرافي 2 / 50 وما بعدها، وهامش الفروق 2 / 78 ط دار المعرفة بيروت.(2/339)
أَدَاءُ الشَّهَادَةِ
حُكْمُ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ:
26 - أَدَاءُ الشَّهَادَةِ فَرْضُ كِفَايَةٍ؛ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} (1) ، وَقَوْلِهِ: {وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} (2) ، فَإِذَا تَحَمَّلَهَا جَمَاعَةٌ وَقَامَ بِأَدَائِهَا مِنْهُمْ مَنْ فِيهِ كِفَايَةٌ سَقَطَ الأَْدَاءُ عَنِ الْبَاقِينَ، لأَِنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا حِفْظُ الْحُقُوقِ وَذَلِكَ يَحْصُل بِبَعْضِهِمْ، وَإِنِ امْتَنَعَ الْكُل أَثِمُوا جَمِيعًا لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} (3) ، وَلأَِنَّ الشَّهَادَةَ أَمَانَةٌ فَلَزِمَ الأَْدَاءُ عِنْدَ الطَّلَبِ. وَقَدْ يَكُونُ أَدَاءُ الشَّهَادَةِ فَرْضَ عَيْنٍ إِذَا كَانَ لاَ يُوجَدُ غَيْرُهُ مِمَّنْ يَقَعُ بِهِ الْكِفَايَةُ، وَتَوَقَّفَ الْحَقُّ عَلَى شَهَادَتِهِ فَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الأَْدَاءُ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَحْصُل الْمَقْصُودُ إِلاَّ بِهِ.
إِلاَّ أَنَّهُ إِذَا كَانَتِ الشَّهَادَةُ مُتَعَلِّقَةً بِحُقُوقِ الْعِبَادِ وَأَسْبَابِهَا أَيْ فِي مَحْضِ حَقِّ الآْدَمِيِّ، وَهُوَ مَا لَهُ إِسْقَاطُهُ كَالدَّيْنِ وَالْقِصَاصِ فَلاَ بُدَّ مِنْ طَلَبِ الْمَشْهُودِ لَهُ لِوُجُوبِ الأَْدَاءِ، فَإِذَا طُلِبَ وَجَبَ عَلَيْهِ الأَْدَاءُ، حَتَّى لَوِ امْتَنَعَ بَعْدَ الطَّلَبِ يَأْثَمُ، وَلاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ قَبْل طَلَبِ الْمَشْهُودِ لَهُ؛ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَفْشُو الْكَذِبُ حَتَّى يَشْهَدَ الرَّجُل قَبْل أَنْ
__________
(1) سورة الطلاق / 2
(2) سورة البقرة / 282
(3) سورة البقرة / 283(2/340)
يُسْتَشْهَدَ. (1) وَلأَِنَّ أَدَاءَهَا حَقٌّ لِلْمَشْهُودِ لَهُ، فَلاَ يُسْتَوْفَى إِلاَّ بِرِضَاهُ، وَإِذَا لَمْ يَعْلَمْ رَبُّ الشَّهَادَةِ بِأَنَّ الشَّاهِدَ تَحَمَّلَهَا اسْتُحِبَّ لِمَنْ عِنْدَهُ الشَّهَادَةُ إِعْلاَمُ رَبِّ الشَّهَادَةِ بِهَا.
وَإِذَا كَانَتِ الشَّهَادَةُ مُتَعَلِّقَةً بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِيمَا سِوَى الْحُدُودِ، كَالطَّلاَقِ وَالْعِتْقِ وَغَيْرِهَا مِنْ أَسْبَابِ الْحُرُمَاتِ فَيَلْزَمُهُ الأَْدَاءُ حِسْبَةً لِلَّهِ تَعَالَى عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَى الأَْدَاءِ مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعِبَادِ.
وَأَمَّا فِي أَسْبَابِ الْحُدُودِ مِنَ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ فَالسَّتْرُ أَمْرٌ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ؛ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ (2) ، وَلأَِنَّهُ مَأْمُورٌ بِدَرْءِ الْحَدِّ. وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ الأَْوْلَى السَّتْرُ إِلاَّ إِذَا كَانَ الْجَانِي مُتَهَتِّكًا، وَبِمِثْل ذَلِكَ قَال الْمَالِكِيَّةُ (3) .
27 - وَإِذَا وَجَبَ أَدَاءُ الشَّهَادَةِ عَلَى إِنْسَانٍ وَلَكِنَّهُ عَجَزَ لِبُعْدِ الْمَسَافَةِ، كَأَنْ دُعِيَ مِنْ مَسَافَةِ الْقَصْرِ أَوْ كَانَ سَيَلْحَقُهُ ضَرَرٌ فِي بَدَنِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ أَهْلِهِ فَلاَ يَلْزَمُهُ الأَْدَاءُ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ (4) } ، وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ
__________
(1) أخرجه البخاري (7 / 3 ط السلفية) .
(2) أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه (الفتح الكبير 3 / 243) ورواه البخاري بلفظ مقارب.
(3) حاشية ابن عابدين على الدر 4 / 387 ط بولاق الثالثة والبدائع 6 / 282 ط الجمالية ومغني المحتاج 4 / 451 ط مصطفى الحلبي والشرح الصغير 4 / 249 ط دار المعارف والمغني 9 / 147، 206 ط الرياض الحديثة والمهذب للشيرازي 2 / 323 وكشاف القناع 6 / 406 ط الرياض والدسوقي 4 / 175
(4) سورة البقرة / 282(2/340)
ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ (1) . وَلأَِنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ أَنْ يَضُرَّ نَفْسَهُ لِنَفْعِ غَيْرِهِ.
كَذَلِكَ قَال بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: لاَ يَجِبُ الأَْدَاءُ إِذَا كَانَ الْحَاكِمُ غَيْرَ عَدْلٍ، قَال الإِْمَامُ أَحْمَدُ: كَيْفَ أَشْهَدُ عِنْدَ رَجُلٍ لَيْسَ عَدْلاً، لاَ أَشْهَدُ (2) .
كَيْفِيَّةُ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ:
28 - يُعْتَبَرُ لَفْظُ الشَّهَادَةِ فِي أَدَائِهَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، فَيَقُول: أَشْهَدُ أَنَّهُ أَقَرَّ بِكَذَا وَنَحْوَهُ؛ لأَِنَّ الشَّهَادَةَ مَصْدَرُ شَهِدَ يَشْهَدُ، فَلاَ بُدَّ مِنَ الإِْتْيَانِ بِفِعْلِهَا الْمُشْتَقِّ مِنْهَا؛ وَلأَِنَّ فِيهَا مَعْنًى لاَ يَحْصُل فِي غَيْرِهَا مِنَ الأَْلْفَاظِ، وَلَوْ قَال: أَعْلَمُ أَوْ أَتَيَقَّنُ أَوْ أَعْرِفُ لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ وَلاَ تُقْبَل شَهَادَتُهُ، إِلاَّ أَنَّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ مَنْ لَمْ يَشْتَرِطْ لأَِدَاءِ الشَّهَادَةِ صِيغَةً مَخْصُوصَةً بَل قَالُوا: الْمَدَارُ فِيهَا عَلَى مَا يَدُل عَلَى حُصُول عِلْمِ الشَّاهِدِ بِمَا شَهِدَ بِهِ كَرَأَيْتُ كَذَا أَوْ سَمِعْتُ كَذَا وَهُوَ الأَْظْهَرُ عِنْدَهُمْ (3) . وَلِتَحَمُّل الشَّهَادَةِ وَأَدَائِهَا شُرُوطٌ تَفْصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحِ (شَهَادَةٌ) .
__________
(1) أخرجه مالك في الموطأ مرسلا، وأخرجه ابن ماجه عن ابن عباس وعبادة بن الصامت وأخرجه الحاكم في مستدركه والبيهقي والدارقطني (الأشباه والنظائر للسيوطي ص 75، 76) ط التجارية وقال المناوي في فيض القدير (6 / 432) ط التجارية: " قال الهيثمي رجاله ثقات وقال النووي في الأذكار هو حسن ".
(2) مغني المحتاج 4 / 451، ومنتهى الإرادات 3 / 535 والشرح الصغير 4 / 285
(3) البدائع 6 / 273، والهداية 3 / 118، والشرح الصغير 2 / 348 ط الحلبي، والمغني 9 / 216، ومغني المحتاج 4 / 453(2/341)
أَدَاءُ الدَّيْنِ
مَفْهُومُ الدَّيْنِ:
29 - الدَّيْنُ هُوَ الْوَصْفُ الثَّابِتُ فِي الذِّمَّةِ، أَوْ هُوَ اشْتِغَال الذِّمَّةِ بِمَالٍ وَجَبَ بِسَبَبٍ مِنَ الأَْسْبَابِ، سَوَاءٌ أَكَانَ عَقْدًا كَالْبَيْعِ وَالْكَفَالَةِ وَالصُّلْحِ وَالْخُلْعِ، أَمْ تَبَعًا لِلْعَقْدِ كَالنَّفَقَةِ، أَمْ بِغَيْرِ ذَلِكَ كَالْغَصْبِ وَالزَّكَاةِ وَضَمَانِ الْمُتْلَفَاتِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْمَال الْوَاجِبِ فِي الذِّمَّةِ مَجَازًا، لأَِنَّهُ يَؤُول إِلَى الْمَال (1) .
حُكْمُ أَدَاءِ الدَّيْنِ:
30 - أَدَاءُ الدَّيْنِ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي وَجَبَ فَرْضٌ بِالإِْجْمَاعِ؛ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ (2) } . وَهُوَ يُعْتَبَرُ كَمَا قَال بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَوَائِجِ الأَْصْلِيَّةِ. وَإِذَا كَانَ الدَّيْنُ حَالًّا فَإِنَّهُ يَجِبُ أَدَاؤُهُ عَلَى الْفَوْرِ عِنْدَ الطَّلَبِ، وَيُقَال لَهُ الدَّيْنُ الْمُعَجَّل وَذَلِكَ مَتَى كَانَ قَادِرًا عَلَى الأَْدَاءِ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَطْل الْغَنِيِّ ظُلْمٌ (3)
أَمَّا إِذَا كَانَ الدَّيْنُ مُؤَجَّلاً فَلاَ يَجِبُ أَدَاؤُهُ قَبْل حُلُول الأَْجَل، لَكِنْ لَوْ أُدِّيَ قَبْلَهُ صَحَّ وَسَقَطَ عَنْ ذِمَّةِ الْمَدِينِ.
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 174، والأشباه لابن نجيم 2 / 209 والأشباه للسيوطي ص 329، وكشاف اصطلاحات الفنون 2 / 502، وابن عابدين 4 / 176 و 3 / 323 والمغني 4 / 93، وما بعدها.
(2) سورة البقرة / 283
(3) حديث: " مطل الغني ظلم " أخرجه البخاري 3 / 117 ط محمد علي صبيح، ومسلم (3 / 1197 تحقيق محمد عبد الباقي) .(2/341)
وَقَدْ يُصْبِحُ الْمُؤَجَّل حَالًّا فَيَجِبُ أَدَاؤُهُ عَلَى الْفَوْرِ وَذَلِكَ بِالرِّدَّةِ أَوْ بِالْمَوْتِ أَوْ بِالتَّفْلِيسِ (1) .
وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلاَتٌ كَثِيرَةٌ فِي ذَلِكَ تُنْظَرُ فِي (دَيْنٌ. أَجَلٌ. إِفْلاَسٌ) .
كَيْفِيَّةُ أَدَاءِ الدَّيْنِ:
31 - الأَْدَاءُ هُوَ تَسْلِيمُ الْحَقِّ لِمُسْتَحِقِّهِ، وَتَسْلِيمُ الْحَقِّ فِي الدُّيُونِ إِنَّمَا يَكُونُ بِأَمْثَالِهَا؛ لأَِنَّهُ لاَ طَرِيقَ لأَِدَاءِ الدُّيُونِ سِوَى هَذَا، وَلِهَذَا كَانَ لِلْمَقْبُوضِ فِي الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ حُكْمُ عَيْنِ الْحَقِّ إِذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَصَارَ اسْتِبْدَالاً بِبَدَل الصَّرْفِ وَرَأْسِ مَال السَّلَمِ وَالْمُسْلَمِ فِيهِ قَبْل الْقَبْضِ وَهُوَ حَرَامٌ، وَكَذَا لَهُ حُكْمُ عَيْنِ الْحَقِّ فِي غَيْرِ الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ، بِدَلِيل أَنَّهُ يُجْبَرُ رَبُّ الدَّيْنِ عَلَى الْقَبْضِ، وَلَوْ كَانَ غَيْرَ حَقِّهِ لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ، وَفِيمَا لاَ مِثْل لَهُ مِمَّا تَعَلَّقَ بِالذِّمَّةِ تَجِبُ الْقِيمَةُ كَمَا فِي الْغَصْبِ وَالْمُتْلَفَاتِ. وَقِيل إِنَّهُ فِي الْقَرْضِ إِذَا تَعَذَّرَ الْمِثْل فَإِنَّهُ يَجِبُ رَدُّ الْمِثْل فِي الْخِلْقَةِ وَالصُّورَةِ؛ لِحَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ أَنْ يَقْضِيَ الْبِكْرَ بِالْبِكْرِ؛ وَلأَِنَّ مَا ثَبَتَ فِي الذِّمَّةِ بِعَقْدِ السَّلَمِ ثَبَتَ بِعَقْدِ الْقَرْضِ قِيَاسًا عَلَى مَا لَهُ مِثْلٌ (2) .
وَيَجُوزُ الأَْدَاءُ بِالأَْفْضَل إِذَا كَانَ بِدُونِ شَرْطٍ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَسْلَفَ مِنْ رَجُلٍ بِكْرًا
__________
(1) القرطبي 3 / 415، والقواعد والفوائد الأصولية ص 182 وابن عابدين 2 / 6، والمهذب 1 / 311، ومنح الجليل 3 / 112، والحطاب 5 / 39، وكفاية الطالب 2 / 290، والمغني 4 / 481
(2) كشف الأسرار 1 / 160، والتلويح 1 / 168، والبدائع 7 / 150، 395، 396، والمغني 4 / 352 والدسوقي 3 / 226، والمهذب 1 / 311(2/342)
فَقَدِمَتْ عَلَيْهِ إِبِلٌ مِنْ إِبِل الصَّدَقَةِ فَأَمَرَ أَبَا رَافِعٍ أَنْ يَقْضِيَ الرَّجُل بِكْرَهُ، فَرَجَعَ إِلَيْهِ رَافِعٌ فَقَال: لَمْ أَجِدْ فِيهَا إِلاَّ خِيَارًا رُبَاعِيًّا، فَقَال: أَعْطِهِ إِيَّاهُ، إِنَّ خِيَارَ النَّاسِ أَحْسَنُهُمْ قَضَاءً (1) .
وَمَنْ طُولِبَ بِالأَْدَاءِ بِبَلَدٍ آخَرَ فِيمَا لاَ حِمْل لَهُ وَلاَ مُؤْنَةَ وَجَبَ الأَْدَاءُ (2) .
مَا يَقُومُ مَقَامَ الأَْدَاءِ:
32 - إِذَا أَدَّى الْمَدِينُ مَا عَلَيْهِ بِالصِّفَةِ الْوَاجِبَةِ سَقَطَ عَنْهُ الدَّيْنُ، وَبَرِئَتْ ذِمَّتُهُ، وَيَقُومُ مَقَامَ الأَْدَاءِ فِي إِسْقَاطِ الدَّيْنِ وَبَرَاءَةِ الذِّمَّةِ إِبْرَاءُ صَاحِبِ الدِّينِ لِلْمَدِينِ مِمَّا عَلَيْهِ أَوْ هِبَتُهُ لَهُ أَوْ تَصَدُّقُهُ بِهِ عَلَيْهِ، كَذَلِكَ يَقُومُ مَقَامَ الأَْدَاءِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ الْحَوَالَةُ بِالدَّيْنِ أَوِ الْمُقَاصَّةُ، أَوِ انْقِضَاءُ الْمُدَّةِ أَوِ الصُّلْحُ أَوْ تَعْجِيزُ الْعَبْدِ نَفْسَهُ فِي بَدَل الْكِتَابَةِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ بِالشُّرُوطِ الْخَاصَّةِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْفُقَهَاءُ لِكُل حَالَةٍ مِنْ ضَرُورَةِ الْقَبُول أَوْ عَدَمِهِ، وَفِيمَا يَجُوزُ فِيهِ مِنَ الدُّيُونِ وَمَا لاَ يَجُوزُ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الشُّرُوطِ (3) . وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي ذَلِكَ فِي (إِبْرَاءٌ، دَيْنٌ، حَوَالَةٌ، هِبَةٌ، إِلَخْ) .
__________
(1) حديث: " استسلف من رجل. . " أخرجه مسلم 3 / 1224 بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي. وهذا لفظه. وهو في الصحيحين بمعناه من حديث أبي هريرة (تلخيص الحبير 3 / 34)
(2) البدائع 7 / 395، والمغني 4 / 356، والدسوقي 3 / 227، والمهذب 1 / 311
(3) ابن عابدين 4 / 521، 14، 251، 263، والبدائع 6 / 11، 15، و 7 / 295 والشرح الصغير 4 / 290 والمهذب 1 / 455 و 2 / 15 والمغني 4 / 577 وما بعدها إلى 606(2/342)
الاِمْتِنَاعُ عَنِ الأَْدَاءِ:
33 - مَنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَكَانَ مُوسِرًا فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَدَاؤُهُ، فَإِنْ مَاطَل وَلَمْ يُؤَدِّ أَلْزَمَهُ الْحَاكِمُ بِالأَْدَاءِ بَعْدَ طَلَبِ الْغُرَمَاءِ، فَإِنِ امْتَنَعَ حَبَسَهُ لِظُلْمِهِ بِتَأْخِيرِ الْحَقِّ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ؛ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِل عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ (1) ، وَالْحَبْسُ عُقُوبَةٌ، فَإِنْ لَمْ يُؤَدِّ وَكَانَ لَهُ مَالٌ ظَاهِرٌ بَاعَهُ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَاعَ عَلَى مُعَاذٍ مَالَهُ وَقَضَى دُيُونَهُ (2) . وَكَذَلِكَ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بَاعَ مَال أُسَيْفِعٍ وَقَسَمَهُ بَيْنَ غُرَمَائِهِ (3) .
34 - وَإِنْ كَانَ لِلْمَدِينِ مَالٌ وَلَكِنَّهُ لاَ يَفِي بِدُيُونِهِ وَطَلَبَ الْغُرَمَاءُ الْحَجْرَ عَلَيْهِ لَزِمَ الْقَاضِيَ إِجَابَتُهُمْ، وَلَهُ مَنْعُهُ مِنَ التَّصَرُّفِ حَتَّى لاَ يَضُرَّ بِالْغُرَمَاءِ، وَيَبِيعُ مَالَهُ إِنِ امْتَنَعَ هُوَ عَنْ بَيْعِهَا، وَيَقْسِمُهَا بَيْنَ الْغُرَمَاءِ بِالْحِصَصِ. وَهَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، وَخَالَفَ أَبُو حَنِيفَةَ فَقَال: لاَ يُحْجَرُ عَلَى الْمَدِينِ، لأَِنَّ الْحَجْرَ فِيهِ إِهْدَارٌ لآِدَمِيَّتِهِ، وَإِنَّمَا يَحْبِسُهُ الْقَاضِي إِذَا كَانَ لَهُ مَالٌ حَتَّى يَبِيعَ
__________
(1) حديث: " لي الواجد. . . " أخرجه أبو داود 3 / 426) نشر المكتبة التجارية 1369 هـ، وابن ماجه 2 / 811) ط عيسى البابي الحلبي 1373 هـ تحقيق محمد عبد الباقي وأحمد 4 / 222
(2) حديث: " بيع مال معاذ) أخرجه الدارقطني والحاكم بلفظ: أنه صلى الله عليه وسلم حجر على معاذ وباع عليه ما له، ورواه البيهقي بلفظ مقارب، قال ابن الطلاع في الأحكام: هو حديث ثابت (تلخيص الحبير 3 / 37)
(3) أثر: " بيع مال أسيفع " أخرجه مالك في الموطأ بسند منقطع ووصله الدارقطني في العلل ورواه ابن أبي شيبة والبيهقي وعبد الرزاق (تلخيص الحبير 3 / 40، 41 وكنز العمال 6 / 253 ط حلب.(2/343)
وَيُوَفِّيَ دَيْنَهُ، إِلاَّ إِنْ كَانَ مَالُهُ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ، وَالدَّيْنُ مِثْلُهُ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي الدَّيْنَ مِنْهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ؛ لأَِنَّ رَبَّ الدَّيْنِ لَهُ أَخْذُهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَالْقَاضِي يُعِينُهُ عَلَيْهِ.
35 - وَإِنْ كَانَ الْمَدِينُ مُعْسِرًا وَثَبَتَ ذَلِكَ خَلَّى سَبِيلَهُ، وَوَجَبَ إِنْظَارُهُ؛ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ (1) } .
36 - وَالْمَدِينُ الْمُعْسِرُ يَجِبُ عَلَيْهِ التَّكَسُّبُ لِوَفَاءِ مَا عَلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ لاَ يُجْبَرُ عَلَى التَّكَسُّبِ وَلاَ عَلَى قَبُول الْهَدَايَا وَالصَّدَقَاتِ، لَكِنْ مَا يَجِدُّ لَهُ مِنْ مَالٍ مِنْ كَسْبِهِ فَإِنَّ حَقَّ الْغُرَمَاءِ يَتَعَلَّقُ بِهِ. (2)
37 - وَالْغَارِمُ إِنِ اسْتَدَانَ لِنَفْسِهِ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ يُؤَدِّي دَيْنَهُ مِنَ الزَّكَاةِ؛ لأَِنَّهُ مِنْ مَصَارِفِهَا (3) .
38 - هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلْحَيِّ، أَمَّا مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فَإِنَّ الدَّيْنَ يَتَعَلَّقُ بِالتَّرِكَةِ، وَيَجِبُ الأَْدَاءُ مِنْهَا قَبْل تَنْفِيذِ الْوَصَايَا وَأَخْذِ الْوَرَثَةِ نَصِيبَهُمْ؛ لأَِنَّ الدَّيْنَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ؛ وَلأَِنَّ فَرَاغَ ذِمَّتِهِ مِنْ أَهَمِّ حَوَائِجِهِ، وَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الدَّيْنُ حَائِلٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ (4) وَأَدَاءُ الْفَرْضِ أَوْلَى مِنَ التَّبَرُّعَاتِ،
__________
(1) سورة البقرة / 280
(2) البدائع 7 / 173 ط الجمالية والاختيار 2 / 96، 98 ط دار المعرفة بيروت، والحطاب 5 / 44، 48، والدسوقي 3 / 270، ومغني المحتاج 2 / 146، 147، وقليوبي 4 / 324 و 3 / 197 والمغني 4 / 484 إلى 495
(3) قليوبي 3 / 197، والمغني 2 / 667، والاختيار 1 / 119
(4) ذكره صاحب الاختبار لتعليل المختار 5 / 86، ولم نجده بلفظه في مظانه من كتب الحديث، وأخرج الإمام أحمد والنسائي والطبراني والحاكم وأبو نعيم في المعرفة حديثا بمعناه، وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: في الدين: " والذي نفسي بيده لو أن رجلا قتل في سبيل الله ثم أحيي، ثم قتل ثم أحيي، ثم قتل وعليه دين ما دخل الجنة حتى يقضى عنه دينه ". (كنز العمال 6 / 245 نشر مكتبة التراث الإسلامي بحلب 1397هـ) .(2/343)
وَقَدْ قَدَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْقِسْمَةِ فِي قَوْله تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} . (1)
فَتَجِبُ الْمُبَادَرَةُ بِأَدَاءِ دَيْنِهِ تَعْجِيلاً لِلْخَيْرِ لِحَدِيثِ: نَفْسُ الْمُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ. (2)
وَمَا مَرَّ إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِدُيُونِ الآْدَمِيِّ. أَمَّا دُيُونُ اللَّهِ تَعَالَى كَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ فَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ. (ف: 14، 16)
أَدَاءُ الْقِرَاءَةِ
مَعْنَى الأَْدَاءِ فِي الْقِرَاءَةِ:
39 - الأَْدَاءُ عِنْدَ الْقُرَّاءِ يُطْلَقُ عَلَى أَخْذِ الْقُرْآنِ عَنِ الْمَشَايِخِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التِّلاَوَةِ وَالْقِرَاءَةِ، أَنَّ التِّلاَوَةَ هِيَ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ مُتَتَابِعًا كَالأَْوْرَادِ وَالأَْحْزَابِ، وَالأَْدَاءُ هُوَ الأَْخْذُ عَنِ الْمَشَايِخِ، وَالْقِرَاءَةُ تُطْلَقُ عَلَى الأَْدَاءِ وَالتِّلاَوَةِ فَهِيَ أَعَمُّ مِنْهُمَا. وَالأَْدَاءُ الْحَسَنُ فِي الْقِرَاءَةِ هُوَ تَصْحِيحُ الأَْلْفَاظِ وَإِقَامَةُ الْحُرُوفِ عَلَى الصِّفَةِ الْمُتَلَقَّاةِ مِنْ أَئِمَّةِ الْقِرَاءَةِ
__________
(1) سورة النساء / 11
(2) قليوبي 1 / 344، والشرح الصغير 4 / 618 ط دار المعارف والاختيار 5 / 85، 86، والمغني 4 / 502، وحديث: " نفس المؤمن معلقة " أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن 3 / 389، 390 برقم 1079 ط الحلبي، وابن ماجه 2 / 806 برقم 413 ط الحلبي واللفظ لهما، وأخرجه أحمد (2 / 440، 475 ط الميمنية) والدارمي (2 / 262 ط محمد أحمد دهمان) .(2/344)
الْمُتَّصِلَةِ بِالرَّسُول (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) الَّتِي لاَ تَجُوزُ مُخَالَفَتُهَا، وَلاَ الْعُدُول عَنْهَا إِلَى غَيْرِهَا، وَلِذَلِكَ فَإِنَّ مِنَ اللَّحْنِ الْخَفِيِّ مَا يَخْتَصُّ بِمَعْرِفَتِهِ عُلَمَاءُ الْقِرَاءَةِ وَأَئِمَّةُ الأَْدَاءِ الَّذِينَ تَلَقَّوْا مِنْ أَقْوَال الْعُلَمَاءِ، وَضَبَطُوا عَنْ أَلْفَاظِ أَهْل الأَْدَاءِ الَّذِينَ تُرْتَضَى تِلاَوَتُهُمْ، وَيُوثَقُ بِعَرَبِيَّتِهِمْ، وَلَمْ يَخْرُجُوا عَنِ الْقَوَاعِدِ الصَّحِيحَةِ فَأَعْطُوا كُل حَرْفٍ حَقَّهُ مِنَ التَّجْوِيدِ وَالإِْتْقَانِ.
حُكْمُ حُسْنِ الأَْدَاءِ فِي الْقِرَاءَةِ:
40 - قَال الشَّيْخُ الإِْمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ نَصْرٍ عَلِيٌّ بْنُ مُحَمَّدٍ الشِّيرَازِيُّ فِي كِتَابِهِ (الْمُوَضِّحُ فِي وُجُوهِ الْقِرَاءَاتِ) : إِنَّ حُسْنَ الأَْدَاءِ فَرْضٌ فِي الْقِرَاءَةِ، وَيَجِبُ عَلَى الْقَارِئِ أَنْ يَتْلُوَ الْقُرْآنَ حَقَّ تِلاَوَتِهِ صِيَانَةً لِلْقُرْآنِ عَنْ أَنْ يَجِدَ اللَّحْنُ وَالتَّغْيِيرُ إِلَيْهِ سَبِيلاً.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْحَالاَتِ الَّتِي يَجِبُ فِيهَا حُسْنُ الأَْدَاءِ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ مَقْصُورٌ عَلَى مَا يَلْزَمُ الْمُكَلَّفَ قِرَاءَتُهُ فِي الْمُفْتَرَضَاتِ، فَإِنَّ تَجْوِيدَ اللَّفْظِ وَتَقْوِيمَ الْحُرُوفِ وَاجِبٌ فِيهِ فَحَسْبُ.
وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَى كُل مَنْ قَرَأَ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ كَيْفَمَا كَانَ، لأَِنَّهُ لاَ رُخْصَةَ فِي تَغْيِيرِ النُّطْقِ بِالْقُرْآنِ وَاتِّخَاذِ (1) اللَّحْنِ إِلَيْهِ سَبِيلاً إِلاَّ عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَقَدْ قَال اللَّهُ تَعَالَى: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ (2) } وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحَيْ " تَجْوِيدٌ، تِلاَوَةٌ ".
__________
(1) كشاف اصطلاحات الفنون 1 / 102، 103 ط بيروت عن طبعة الهند، والنشر في القراءات العشر ص 210 وما بعدها ط مصطفى محمد.
(2) الزمر / 28(2/344)
أَدَاةٌ
انْظُرْ: آلَةٌ
أَدَبٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - أَصْل مَعْنَى كَلِمَةِ " أَدَبٍ " فِي اللُّغَةِ: " الْجَمْعُ (1) "، وَمِنْهُ: الأَْدَبُ بِمَعْنَى الظَّرْفِ وَحُسْنِ التَّنَاوُل (2) . سُمِّيَ أَدَبًا؛ لأَِنَّهُ يَأْدِبُ - أَيْ يَجْمَعُ - النَّاسَ إِلَى الْمَحَامِدِ (3) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، فَلِلأَْدَبِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ وَالأُْصُولِيِّينَ عِدَّةُ إِطْلاَقَاتٍ:
أ - قَال الْكَمَال بْنُ الْهُمَامِ: الأَْدَبُ: الْخِصَال الْحَمِيدَةُ (4) ، وَلِذَلِكَ بَوَّبُوا فَقَالُوا: " أَدَبُ الْقَاضِي "، وَتَكَلَّمُوا فِي هَذَا الْبَابِ عَمَّا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَفْعَلَهُ
__________
(1) أساس اللغة لأحمد بن فارس، مادة (أدب) .
(2) القاموس المحيط، مادة (أدب) .
(3) لسان العرب، مادة (أدب) .
(4) فتح القدير 5 / 453، طبع بولاق سنة 1316 هـ، وانظر البحر الرائق 6 / 277، طبع المطبعة العلمية، وحاشية ابن عابدين 5 / 463(2/345)
وَمَا يَنْبَغِي أَنْ يَنْتَهِيَ عَنْهُ. وَكَذَلِكَ قَالُوا: " آدَابُ الاِسْتِنْجَاءِ "، " وَآدَابُ الصَّلاَةِ ". وَعَرَّفَهُ بَعْضُهُمْ بِقَوْلِهِ: الأَْدَبُ: وَضْعُ الأَْشْيَاءِ مَوْضِعَهَا (1) .
ب - كَمَا يُطْلِقُ الْفُقَهَاءُ وَالأُْصُولِيُّونَ لَفْظَ " أَدَبٍ " أَيْضًا أَصَالَةً عَلَى الْمَنْدُوبِ (2) ، وَيُعَبِّرُونَ عَنْ ذَلِكَ بِتَعْبِيرَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْهَا: النَّفَل، وَالْمُسْتَحَبُّ، وَالتَّطَوُّعُ، وَمَا فِعْلُهُ خَيْرٌ مِنْ تَرْكِهِ، وَمَا يُمْدَحُ بِهِ الْمُكَلَّفُ وَلاَ يُذَمُّ عَلَى تَرْكِهِ، وَالْمَطْلُوبُ فِعْلُهُ شَرْعًا مِنْ غَيْرِ ذَمٍّ عَلَى تَرْكِهِ، وَكُلُّهَا مُتَقَارِبَةٌ (3) .
ج - وَقَدْ يُطْلِقُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ كَلِمَةَ " آدَابٍ " عَلَى كُل مَا هُوَ مَطْلُوبٌ سَوَاءٌ أَكَانَ مَنْدُوبًا أَمْ وَاجِبًا (4) . وَلِذَلِكَ بَوَّبُوا فَقَالُوا: " آدَابُ الْخَلاَءِ وَالاِسْتِنْجَاءِ " وَأَتَوْا فِي هَذَا الْبَابِ بِمَا هُوَ مَنْدُوبٌ وَمَا هُوَ وَاجِبٌ، وَقَالُوا: إِنَّ الْمُرَادَ بِكَلِمَةِ " آدَابٍ " هُوَ كُل مَا هُوَ مَطْلُوبٌ.
د - وَيُطْلِقُ الْفُقَهَاءُ أَحْيَانًا (الأَْدَبَ) عَلَى الزَّجْرِ وَالتَّأْدِيبِ بِمَعْنَى التَّعْزِيرِ. (ر: تَعْزِيرٌ) .
__________
(1) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 41 طبع المطبعة العامرة العثمانية سنة 1304 هـ
(2) شرح المنار لابن ملك وحواشيه ص 588، طبع المطبعة العثمانية سنة 1315 هـ، وفتح الغفار شرح المنار 2 / 66، طبع مصطفى البابي الحلبي سنة 1355 هـ، والفتاوى البزازية بهامش الفتاوى الهندية 4 / 25، طبع بولاق سنة 1310 هـ، وحاشية القليوبي 1 / 38، طبع مصطفى البابي الحلبي.
(3) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 41 - 42
(4) انظر: حاشية البجيرمي على منهج الطلاب 1 / 51، / 316 طبع المكتبة الإسلامية في ديار بكر - تركيا.(2/345)
حُكْمُهُ:
2 - الأَْدَبُ فِي الْجُمْلَةِ هُوَ مَرْتَبَةٌ مِنْ مَرَاتِبِ الْحُكْمِ التَّكْلِيفِيِّ، وَهُوَ غَالِبًا يُرَادِفُ الْمَنْدُوبَ، وَفَاعِلُهُ يَسْتَحِقُّ الثَّوَابَ بِفِعْلِهِ، وَلاَ يَسْتَحِقُّ اللَّوْمَ عَلَى تَرْكِهِ (1) .
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
3 - لَقَدْ نَثَرَ الْفُقَهَاءُ الآْدَابَ عَلَى أَبْوَابِ الْفِقْهِ، فَذَكَرُوا فِي كُل بَابٍ مَا يَخُصُّهُ مِنَ الآْدَابِ، فَفِي الاِسْتِنْجَاءِ ذَكَرُوا آدَابَ الاِسْتِنْجَاءِ، وَفِي الطَّهَارَةِ بِأَقْسَامِهَا ذَكَرُوا آدَابَهَا، وَفِي الْقَضَاءِ ذَكَرُوا آدَابَ الْقَضَاءِ، بَل صَنَّفَ بَعْضُهُمْ كُتُبًا خَاصَّةً فِي الآْدَابِ الشَّرْعِيَّةِ، كَالآْدَابِ الشَّرْعِيَّةِ لاِبْنِ مُفْلِحٍ، وَأَدَبِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ لِلْمَاوَرْدِيِّ، وَغَيْرِهِمَا.
ادِّخَارٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - أَصْل كَلِمَةِ " ادِّخَارٍ " فِي اللُّغَةِ هُوَ " اذْتِخَارٌ " فَقُلِبَ كُلٌّ مِنَ الذَّال وَالتَّاءِ دَالاً مَعَ الإِْدْغَامِ فَتَحَوَّلَتِ الْكَلِمَةُ إِلَى (ادِّخَارٍ) . وَمَعْنَى ادَّخَرَ الشَّيْءَ: خَبَّأَهُ لِوَقْتِ الْحَاجَةِ (2) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
__________
(1) مراقي الفلاح بحاشية الطحطاوي 42 ط، العثمانية.
(2) انظر لسان العرب وتاج العروس وأساس اللغة، والنهاية، مادة " ذخر " بالذال المعجمة.(2/346)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الاِكْتِنَازُ:
2 - الاِكْتِنَازُ لُغَةً: إِحْرَازُ الْمَال فِي وِعَاءٍ أَوْ دَفْنُهُ (1) ، وَشَرْعًا: هُوَ الْمَال الَّذِي لَمْ تُؤَدَّ زَكَاتُهُ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَدْفُونًا. فَالاِدِّخَارُ أَعَمُّ فِي اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ مِنَ الاِكْتِنَازِ.
ب - الاِحْتِكَارُ:
3 - الاِحْتِكَارُ لُغَةً: حَبْسُ الشَّيْءِ انْتِظَارًا لِغَلاَئِهِ. وَشَرْعًا: اشْتِرَاءُ طَعَامٍ وَنَحْوِهِ وَحَبْسُهُ إِلَى الْغَلاَءِ (2) . فَالاِدِّخَارُ أَعَمُّ مِنَ الاِحْتِكَارِ؛ لأَِنَّهُ يَكُونُ فِيمَا يَضُرُّ حَبْسُهُ وَمَا لاَ يَضُرُّ.
ادِّخَارُ الدَّوْلَةِ الأَْمْوَال مِنْ غَيْرِ الضَّرُورِيَّاتِ:
4 - الأَْمْوَال إِمَّا أَنْ تَكُونَ بِيَدِ الدَّوْلَةِ، أَوْ بِيَدِ الأَْفْرَادِ. فَإِنْ كَانَتْ بِيَدِ الدَّوْلَةِ، وَقَدْ فَاضَتْ عَنْ مَصَارِفِ بَيْتِ الْمَال، فَفِي جَوَازِ ادِّخَارِ الدَّوْلَةِ لَهَا اتِّجَاهَاتٌ:
الاِتِّجَاهُ الأَْوَّل: لاَ يَجُوزُ لِلدَّوْلَةِ ادِّخَارُ شَيْءٍ مِنَ الأَْمْوَال، بَل عَلَيْهَا تَفْرِيقُهَا عَلَى مَنْ يَعُمُّ بِهِ صَلاَحُ الْمُسْلِمِينَ، وَلاَ تَدَّخِرُهَا، وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ (3) ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلْحَنَابِلَةِ. وَقَدِ اسْتَدَلُّوا عَلَى
__________
(1) المصباح ولسان العرب (كنز) .
(2) ابن عابدين 5 / 278، والمصباح المنير (حكر) .
(3) الفتاوى الهندية 5 / 334، ط بولاق، وحاشية ابن عابدين 5 / 218، ط بولاق الأولى، وانظر الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 237، وتفسير القرطبي 8 / 125، والأحكام السلطانية للماوردي ص 215، ط مصطفى البابي الحلبي، وفتح الباري 3 / 211 ط البهية المصرية.(2/346)
ذَلِكَ بِفِعْل الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَبِمَبَادِئِ الشَّرِيعَةِ، أَمَّا فِعْل الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ: فَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَصَنِيعُهُمَا بِبَيْتِ الْمَال، قَال عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَرْقَمَ: " اقْسِمْ بَيْتَ مَال الْمُسْلِمِينَ فِي كُل شَهْرٍ مَرَّةً، اقْسِمْ بَيْتَ مَال الْمُسْلِمِينَ فِي كُل جُمُعَةٍ مَرَّةً، اقْسِمْ بَيْتَ مَال الْمُسْلِمِينَ فِي كُل يَوْمٍ مَرَّةً "، ثُمَّ قَال رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَوْ أَبْقَيْتَ فِي بَيْتِ الْمَال بَقِيَّةً تَعُدُّهَا لِنَائِبَةٍ أَوْ صَوْتِ مُسْتَغِيثٍ، فَقَال عُمَرُ لِلرَّجُل الَّذِي كَلَّمَهُ: جَرَى الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِكَ، لَقَّنَنِي اللَّهُ حُجَّتَهَا وَوَقَانِي شَرَّهَا، أُعِدُّ لَهَا مَا أَعَدَّ لَهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَاعَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ (1) . وَكَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَمَا كَانَ عُمَرُ، فَقَدْ وَرَدَ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَعْطَى الْعَطَاءَ فِي سَنَةٍ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ آتَاهُ مَالٌ مِنْ أَصْبَهَانَ، فَقَال: اغْدُوا إِلَى عَطَاءٍ رَابِعٍ، إِنِّي لَسْتُ بِخَازِنٍ (2) .
وَأَمَّا مَبَادِئُ الشَّرِيعَةِ، فَإِنَّهَا تَفْرِضُ عَلَى أَغْنِيَاءِ الْمُسْلِمِينَ الْقِيَامَ بِرَفْعِ النَّوَائِبِ عِنْدَ نُزُولِهَا (3) .
الاِتِّجَاهُ الثَّانِي: أَنَّ عَلَى الدَّوْلَةِ ادِّخَارَ هَذَا الْفَائِضِ عَنْ مَصَارِفِ بَيْتِ الْمَال لِمَا يَنُوبُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ حَادِثٍ، لأَِنَّ ذَلِكَ تَقْتَضِيهِ مَصْلَحَةُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ سُرْعَةِ التَّصَرُّفِ لِرَفْعِ النَّائِبَاتِ عَنْهُمْ (4) . وَإِلَى هَذَا
__________
(1) سنن البيهقي 6 / 357، وكنز العمال برقم 11652
(2) الأموال لأبي عبيد ص 570، وتاريخ ابن عساكر 3 / 181، في ترجمة علي بن أبي طالب برقم 1220، وكنز العمال برقم 11703
(3) الأحكام السلطانية للماوردي ص 215، ولأبي يعلى ص 237
(4) الأحكام السلطانية للماوردي ص 215، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 237(2/347)
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ (1) ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلْحَنَابِلَةِ (2) .
الاِتِّجَاهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ لِلْمَالِكِيَّةِ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: إِذَا اسْتَوَتِ الْحَاجَةُ فِي كُل الْبُلْدَانِ فَإِنَّ الإِْمَامَ يَبْدَأُ بِمَنْ جُبِيَ فِيهِمُ الْمَال حَتَّى يَغْنَوْا غِنَى سَنَةٍ، ثُمَّ يَنْقُل مَا فَضَل لِغَيْرِهِمْ وَيُوقِفُ لِنَوَائِبِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ كَانَ غَيْرُ فُقَرَاءِ الْبَلَدِ أَكْثَرَ حَاجَةً فَإِنَّ الإِْمَامَ يَصْرِفُ الْقَلِيل لأَِهْل الْبَلَدِ الَّذِي جُبِيَ فِيهِمُ الْمَال ثُمَّ يَنْقُل الأَْكْثَرَ لِغَيْرِهِمْ (3) .
ادِّخَارُ الأَْفْرَادِ:
5 - الأَْمْوَال فِي يَدِ الأَْفْرَادِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ أَقَل مِنَ النِّصَابِ أَوْ أَكْثَرَ، فَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنَ النِّصَابِ فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ قَدْ أُدِّيَتْ زَكَاتُهَا أَوْ لَمْ تُؤَدَّ، فَإِنْ أُدِّيَتْ زَكَاتُهَا فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ زَائِدَةً عَنْ حَاجَاتِهِ الأَْصْلِيَّةِ أَوْ غَيْرَ زَائِدَةٍ عَنْ حَاجَاتِهِ الأَْصْلِيَّةِ.
6 - فَإِنْ كَانَتِ الأَْمْوَال الَّتِي بِيَدِ الْفَرْدِ دُونَ. النِّصَابِ حَل ادِّخَارُهَا (4) ؛ لأَِنَّ مَا دُونَ النِّصَابِ قَلِيلٌ، وَالْمَرْءُ لاَ يَسْتَغْنِي عَنِ ادِّخَارِ الْقَلِيل وَلاَ تَقُومُ حَاجَاتُهُ بِغَيْرِهِ.
7 - وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنَ النِّصَابِ، وَصَاحِبُهَا لاَ يُؤَدِّي زَكَاتَهَا، فَهُوَ ادِّخَارٌ حَرَامٌ، وَهُوَ اكْتِنَازٌ بِالاِتِّفَاقِ (5) . قَال عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
__________
(1) اللجنة ترى أن للسياسة الشرعية مدخلا في الأخذ بأحد هذين الاتجاهين بحسب استمرار الموارد، أو انقطاعها.
(2) الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 237
(3) الخرشي 3 / 129
(4) فتح الباري 3 / 210
(5) انظر تفسير القرطبي والطبري وأحكام القرآن للجصاص كلهم في تفسير الآية / 34 من سورة التوبة، وهي قوله تعالى: " والذين يكنزون الذهب والفضة. . . ".(2/347)
أَيُّ مَالٍ أُدِّيَتْ زَكَاتُهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ وَإِنْ كَانَ مَدْفُونًا فِي الأَْرْضِ، وَأَيُّ مَالٍ لَمْ تُؤَدَّ زَكَاتُهُ فَهُوَ كَنْزٌ يُكْوَى بِهِ صَاحِبُهُ وَإِنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ الأَْرْضِ (1) . وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا (2) .
وَاكْتِنَازُ الْمَال حَرَامٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ حَيْثُ قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيل اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَِنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} . (3)
8 - وَإِنْ كَانَتِ الأَْمْوَال الْمُدَّخَرَةُ أَكْثَرَ مِنَ النِّصَابِ، وَصَاحِبُهَا يُؤَدِّي زَكَاتَهَا، وَهِيَ فَائِضَةٌ عَنْ حَاجَاتِهِ الأَْصْلِيَّةِ، فَقَدْ وَقَعَ الْخِلاَفُ فِي حُكْمِ ادِّخَارِهَا: فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ إِلَى جَوَازِهِ، وَمِنْهُمْ عُمَرُ وَابْنُهُ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَجَابِرٌ. وَيُسْتَدَل لِمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ بِآيَاتِ الْمَوَارِيثِ؛ لأَِنَّ اللَّهَ جَعَل فِي تَرِكَةِ الْمُتَوَفِّي أَنْصِبَاءَ لِوَرَثَتِهِ، وَهَذَا لاَ يَكُونُ إِلاَّ إِذَا تَرَكَ الْمُتَوَفُّونَ أَمْوَالاً مُدَّخَرَةً، كَمَا يُسْتَدَل لَهُمْ
__________
(1) حديث " أي مال. . . " رواه البيهقي وسعيد بن منصور عن ابن عمر، ورواه ابن أبي شيبة وابن المنذر وأبو الشيخ وابن أبي حاتم من طريق ابن عمر بلفظ " ما أدى زكاته فليس بكنز " (الدر المنثور 3 / 232) . ورواه أبو داود والحاكم بلفظ ما بلغ أن تؤدى زكاته فزكي، فليس بكنز " وقال الحاكم: صحيح على شرط البخاري، وكذلك رواه الدارقطني والبيهقي. انظر (نصب الراية 2 / 372) .
(2) انظر تفسير ابن كثير 3 / 388، طبع دار الأندلس ببيروت، وحاشية الجمل 2 / 251، طبع دار إحياء التراث العربي
(3) سورة التوبة / 34 - 35(2/348)
بِحَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ الْمَشْهُورِ إِنَّكَ إِنْ تَدَعْ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ فِي أَيْدِيهِمْ (1) . وَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّ ادِّخَارَ شَيْءٍ لِلْوَرَثَةِ بَعْدَ أَدَاءِ الْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ الْوَاجِبَةِ مِنْ زَكَاةٍ وَغَيْرِهَا خَيْرٌ مِنْ عَدَمِ التَّرْكِ.
وَذَهَبَ أَبُو ذَرٍّ الْغِفَارِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (2) إِلَى أَنَّ ادِّخَارَ الْمَال الزَّائِدِ عَنْ حَاجَةِ صَاحِبِهِ - مِنْ نَفَقَتِهِ وَنَفَقَةِ عِيَالِهِ - هُوَ ادِّخَارٌ حَرَامٌ وَإِنْ كَانَ يُؤَدِّي زَكَاتَهُ وَكَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُفْتِي بِذَلِكَ، وَيَحُثُّ النَّاسَ عَلَيْهِ، فَنَهَاهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَكَانَ أَمِيرًا عَلَى الشَّامِ - عَنْ ذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ خَافَ أَنْ يَضُرَّهُ النَّاسُ فِي هَذَا، فَلَمْ يَتْرُكْ دَعْوَةَ النَّاسِ إِلَى ذَلِكَ، فَشَكَاهُ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، فَاسْتَقْدَمَهُ عُثْمَانُ إِلَى الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ، وَأَنْزَلَهُ الرَّبَذَةَ، فَبَقِيَ فِيهَا إِلَى أَنْ تَوَفَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَكَانَ أَبُو ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَحْتَجُّ لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بِجُمْلَةٍ مِنَ الأَْدِلَّةِ، مِنْهَا قَوْله تَعَالَى فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيل اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} ، وَيَقُول: إِنَّ هَذِهِ الآْيَةَ مُحْكَمَةٌ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ.
وَيَحْتَجُّ بِمَا رَوَاهُ الإِْمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ مَاتَ رَجُلٌ مِنْ أَهْل الصُّفَّةِ، وَتَرَكَ دِينَارَيْنِ، أَوْ دِرْهَمَيْنِ، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَيَّتَانِ، صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ (3) وَبِمَا رَوَاهُ
__________
(1) حديث " إنك إن تدع. . . " أخرجه البخاري من حديث سعد بن أبي وقاص (صحيح البخاري 4 / 3 ط صبيح)
(2) طبقات ابن سعد 4 / 226، مع التصرف.
(3) حديث " كيتان صلوا. . " أخرجه الإمام أحمد وفي مجمع الزوائد (10 / 240) : رواه أحمد وابنه عبد الله وقال: دينارًا أو درهمًا، والبزار كذلك وفيه عتيبة الضرير وهو مجهول، وبقية رجاله وثقوا. وقال أحمد شاكر: إسناده ضعيف (مسند أحمد بن حنبل 2 / 788) ط دار المعارف سنة 1368هـ.)(2/348)
ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَا مِنْ رَجُلٍ يَمُوتُ وَعِنْدَهُ أَحْمَرُ أَوْ أَبْيَضُ إِلاَّ جَعَل اللَّهُ بِكُل قِيرَاطٍ صَفْحَةً مِنْ نَارٍ يُكْوَى بِهَا مِنْ قَدَمِهِ إِلَى ذَقَنِهِ. (1)
وَعَنْ ثَوْبَانَ قَال: كُنَّا فِي سَفَرٍ وَنَحْنُ نَسِيرُ مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال الْمُهَاجِرُونَ: لَوَدِدْنَا أَنَّا عَلِمْنَا أَيَّ الْمَال نَتَّخِذُهُ، إِذْ نَزَل فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ مَا نَزَل، فَقَال عُمَرُ: إِنْ شِئْتُمْ سَأَلْتُ رَسُول اللَّهِ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالُوا: أَجَل، فَانْطَلَقَ، فَتَبِعْتُهُ أُوضِعُ عَلَى بَعِيرِي، فَقَال يَا رَسُول اللَّهِ: إِنَّ الْمُهَاجِرِينَ لَمَّا أَنْزَل اللَّهُ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ مَا أَنْزَل قَالُوا: وَدِدْنَا أَنَّا عَلِمْنَا أَيَّ الْمَال خَيْرٌ نَتَّخِذُهُ، قَال: نَعَمْ، فَيَتَّخِذُ أَحَدُكُمْ لِسَانًا ذَاكِرًا، وَقَلْبًا شَاكِرًا، وَزَوْجَةً تُعِينُ أَحَدَكُمْ عَلَى إِيمَانِهِ. (2)
9 - وَذَهَبَ الْبَعْضُ إِلَى أَنَّ ادِّخَارَ الأَْمْوَال يَكُونُ حَرَامًا وَإِنْ أَدَّى الْمُدَّخِرُ زَكَاتَهَا إِذَا لَمْ يُؤَدِّ صَاحِبُهَا الْحُقُوقَ الْعَارِضَةَ فِيهَا، كَإِطْعَامِ الْجَائِعِ، وَفَكِّ الأَْسِيرِ
__________
(1) حديث: " ما من رجل يموت. . . "، أخرجه ابن أبي حاتم عن ثوبان (تفسير ابن كثير 3 / 393 ط الأندلس) .
(2) تفسير ابن كثير، وتفسير الطبري، والقرطبي، وأحكام القرآن للجصاص لآية: " والذين يكنزون الذهب والفضة. . " وعمدة القاري 8 / 248، وفتح الباري 3 / 210، وحديث ثوبان أخرجه أحمد في مسنده (5 / 82 ط الميمنية) ، وابن ماجه 1 / 596 ط الحلبي) ، والترمذي (11 / 238 ط الصاوي) ، ببعض اختلاف في اللفظ وقال: حديث حسن.(2/349)
وَتَجْهِيزِ الْغَازِي وَنَحْوِ ذَلِكَ (1) .
وَذَهَبَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَحِل لِرَجُلٍ أَنْ يَدَّخِرَ أَرْبَعَةَ آلاَفِ دِرْهَمٍ فَمَا فَوْقَ وَإِنْ أَدَّى زَكَاتَهَا، وَكَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُول: " أَرْبَعَةُ آلاَفِ دِرْهَمٍ فَمَا دُونَهَا نَفَقَةٌ، وَمَا فَوْقَهَا كَنْزٌ (2) ".
وَكَأَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَأَى أَنَّ الْقِيَامَ بِالْحَاجَاتِ الأَْصْلِيَّةِ لِلْمَرْءِ لاَ يَتَطَلَّبُ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ آلاَفِ دِرْهَمٍ فِي أَحْسَنِ الأَْحْوَال (3) ، فَإِنْ حَبَسَ الشَّخْصُ مَبْلَغًا أَكْبَرَ مِنْ هَذَا فَقَدْ حَبَسَ خَيْرَهُ عَنِ النَّاسِ، وَعَنِ الْفُقَرَاءِ بِشَكْلٍ خَاصٍّ، وَهُوَ أَمْرٌ لاَ يَجُوزُ، فَقَدْ كَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُول: " إِنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَى الأَْغْنِيَاءِ فِي أَمْوَالِهِمْ مَا يَكْفِي فُقَرَاءَهُمْ، وَإِنْ جَاعُوا وَعَرُوا وَجَهَدُوا فَبِمَنْعِ الأَْغْنِيَاءِ، وَحَقٌّ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُحَاسِبَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيُعَذِّبَهُمْ عَلَيْهِ (4) .
صِفَتُهُ (حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ) :
10 - يَخْتَلِفُ حُكْمُ الاِدِّخَارِ بِاخْتِلاَفِ الْبَاعِثِ عَلَيْهِ:
فَإِنْ كَانَ ادِّخَارُ مَا يَتَضَرَّرُ النَّاسُ بِحَبْسِهِ طَلَبًا لِلرِّبْحِ، فَذَلِكَ مِمَّا يَدْخُل فِي بَابِ الاِحْتِكَارِ
__________
(1) تفسير القرطبي 8 / 125، ط دار الكتب " والمجموع 5 / 274
(2) انظر تفسير الطبري وابن كثير والقرطبي والجصاص لآية: " والذين يكنزون الذهب والفضة " وعمدة القاري 8 / 249، وأثر علي رضي الله عنه أخرجه عبد الرزاق (المصنف 4 / 109 ط سنة 1391 هـ) .
(3) اللجنة: هذا الرأي يناسب عصره، إذ أن مبلغ الأربعة آلاف كان يكفي حاجة أي إنسان.
(4) كنز العمال برقم 16840، ط حلب، والأموال لأبي عبيد ص 595(2/349)
(ر: احْتِكَارٌ) . وَإِنْ كَانَ لِتَأْمِينِ حَاجَاتِ نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ فَهُوَ الاِدِّخَارُ.
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ الاِدِّخَارِ فِي الْجُمْلَةِ دُونَ تَقْيِيدٍ بِمُدَّةٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ الأَْوْجَهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - وَلَهُمْ وَجْهٌ آخَرُ أَنَّهُ يُكْرَهُ ادِّخَارُ مَا فَضَل عَنْ كِفَايَتِهِ لِمُدَّةِ سَنَةٍ (1) .
وَدَلِيلُهُمْ فِي ذَلِكَ: مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ النَّفَقَاتِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَتِهِمْ مِنْ هَذَا الْمَال، ثُمَّ يَأْخُذُ مَا بَقِيَ فَيَجْعَلُهُ مَجْعَل مَال اللَّهِ، فَعَمِل بِذَلِكَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيَاتَهُ (2) . وَبِمَا رَوَاهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَبِيعُ نَخْل بَنِي النَّضِيرِ وَيَحْبِسُ؛ لأَِهْلِهِ قُوتَ سَنَتِهِمْ (3) .
عَلَى أَنَّ الْحَطَّابَ نَقَل عَنِ النَّوَوِيِّ إِجْمَاعَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ عِنْدَ إِنْسَانٍ (أَيْ مَا يَحْتَاجُهُ النَّاسُ) أَوِ اضْطُرَّ النَّاسُ إِلَيْهِ وَلَمْ يَجِدُوا غَيْرَهُ أُجْبِرَ عَلَى بَيْعِهِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنِ النَّاسِ. وَهُوَ مَا يَتَّفِقُ مَعَ قَاعِدَةِ: (يُتَحَمَّل الضَّرَرُ الْخَاصُّ لِدَفْعِ ضَرَرٍ عَامٍّ) .
ادِّخَارُ لُحُومِ الأَْضَاحِي:
11 - يَجُوزُ ادِّخَارُ لُحُومِ الأَْضَاحِي فَوْقَ ثَلاَثٍ فِي قَوْل
__________
(1) حاشية الجمل 3 / 93، وشرح الحطاب على مختصر خليل 4 / 227 - 228، ومطالب أولي النهى 3 / 65، والمحلى 9 / 64 ومجلة الأحكام العدلية م 26
(2) حديث:، (حبس نفقة سنة. . " أخرجه البخاري في النفقات ومسلم والترمذي.
(3) حديث: " بيع نخل بني النضير) ، أخرجه البخاري في صحيحه (فتح الباري 9 / 501)(2/350)
عَامَّةِ أَهْل الْعِلْمِ. وَلَمْ يُجِزْهُ عَلِيٌّ وَلاَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ ادِّخَارِ لُحُومِ الأَْضَاحِي فَوْقَ ثَلاَثٍ (1) .
وَلِلْجُمْهُورِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنِ ادِّخَارِ لُحُومِ الأَْضَاحِي فَوْقَ ثَلاَثٍ فَأَمْسِكُوا مَا بَدَا لَكُمْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ - وَرَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِنَّمَا نَهَيْتُكُمْ لِلدَّافَّةِ الَّتِي دَفَّتْ. فَكُلُوا وَتَزَوَّدُوا وَتَصَدَّقُوا وَادَّخِرُوا. وَقَال أَحْمَدُ فِيهِ أَسَانِيدُ صِحَاحٌ. أَمَّا عَلِيٌّ وَابْنُ عُمَرَ فَلَمْ يَبْلُغْهُمَا تَرْخِيصُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ كَانُوا سَمِعُوا النَّهْيَ فَرَوَوْا عَلَى مَا سَمِعُوا (2) .
ادِّخَارُ الدَّوْلَةِ الضَّرُورِيَّاتِ لِوَقْتِ الْحَاجَةِ:
12 - إِذَا تَوَقَّعَتِ الدَّوْلَةُ نُزُول نَازِلَةٍ بِالْمُسْلِمِينَ مِنْ جَائِحَةٍ أَوْ قَحْطٍ أَوْ حَرْبٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ وَجَبَ عَلَيْهَا أَنْ تَدَّخِرَ لَهُمْ مِنَ الأَْقْوَاتِ وَالضَّرُورِيَّاتِ مَا يَنْهَضُ بِمَصَالِحِهِمْ، وَيُخَفِّفُ عَنْهُمْ شِدَّةَ هَذِهِ النَّازِلَةِ، وَاسْتُدِل لِذَلِكَ بِقِصَّةِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ مَلِكِ مِصْرَ. وَقَدْ قَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْنَا ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، وَلَيْسَ فِي شَرْعِنَا مَا يُخَالِفُهُ، فَقَال جَل شَأْنُهُ: {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (3) قَال تَزْرَعُونَ
__________
(1) " النهى عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث. . . " ثبت في حديث متفق عليه عن عائشة مرفوعًا.
(2) المغني مع الشرح الكبير 11 / 110 ط الأولى بالمنار.
(3) سورة يوسف / 46(2/350)
سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ} . (1)
قَال الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ لِهَذِهِ الآْيَاتِ: " وَهَذَا يَدُل عَلَى جَوَازِ احْتِكَارِ الطَّعَامِ لِوَقْتِ الْحَاجَةِ (2) ".
إِخْرَاجُ الْمُدَّخَرَاتِ وَقْتَ الضَّرُورَةِ:
13 - يَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنِ ادَّخَرَ شَيْئًا مِنَ الأَْقْوَاتِ الضَّرُورِيَّةِ لِنَفْسِهِ أَوْ لِعِيَالِهِ وَاضْطُرَّ إِلَيْهِ أَحَدٌ غَيْرُهُ كَانَ عَلَيْهِ بَذْلُهُ لَهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْتَاجًا إِلَيْهِ حَالاً؛ لأَِنَّ الضَّرَرَ لاَ يُزَال بِالضَّرَرِ (3) .
وَيَأْثَمُ بِإِمْسَاكِهِ عَنْهُ مَعَ اسْتِغْنَائِهِ، وَإِنْ كَانُوا قَدِ اخْتَلَفُوا هَل يَبْذُلُهُ لَهُ بِالْقِيمَةِ أَوْ بِدُونِهَا. وَمَحَل تَفْصِيل ذَلِكَ مُصْطَلَحُ: (اضْطِرَارٌ) . دَلِيل وُجُوبِ الإِْخْرَاجِ فِي هَذِهِ الْحَال مِنَ السُّنَّةِ مَا رَوَاهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ كَانَ عِنْدَهُ فَضْل زَادٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لاَ زَادَ لَهُ. (4) وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَال: بَعَثَ رَسُول اللَّهِ بَعْثًا
__________
(1) سورة يوسف / 47، 48
(2) تفسير القرطبي 9 / 203 - 204 طبع دار الكتب المصرية.
(3) الاختيار شرح المختار 3 / 71، طبع مصطفى البابي الحلبي، وحاشية الدسوقي 2 / 111 و 112 طبع المطبعة الميمنية، وأسنى المطالب شرح روض الطالب 1 / 572، و 573 طبع المطبعة الميمنية، والمغني 8 / 603 طبع مكتبة الرياض الموافقة للطبعة الثالثة. والطرق الحكمية لابن القيم ص 261 طبع مطبعة السنة المحمدية، ومطالب أولي النهى 3 / 65
(4) حديث: " من كان عنده فضل زاد. . " أخرجه مسلم في صحيحه.(2/351)
قِبَل السَّاحِل فَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ، وَهُمْ ثَلاَثُمِائَةٍ وَأَنَا فِيهِمْ، فَخَرَجْنَا حَتَّى إِذَا كُنَّا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ فَنِيَ الزَّادُ، فَأَمَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِأَزْوَادِ ذَلِكَ الْجَيْشِ، فَجُمِعَ ذَلِكَ كُلُّهُ، فَكَانَ مِزْوَدَيْ تَمْرٍ، فَكَانَ يَقُوتُنَا كُل يَوْمٍ قَلِيلاً قَلِيلاً حَتَّى فَنِيَ، فَلَمْ يَكُنْ يُصِيبُنَا إِلاَّ تَمْرَةٌ تَمْرَةٌ، فَقُلْتُ: وَمَا تُغْنِي تَمْرَةٌ، فَقَال: لَقَدْ وَجَدْنَا فَقْدَهَا حِينَ فَنِيَتْ - أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي أَوَّل كِتَابِ الشَّرِكَةِ.
قَال فِي عُمْدَةِ الْقَارِي: قَال الْقُرْطُبِيُّ: جَمْعُ أَبِي عُبَيْدَةَ الأَْزْوَادَ وَقَسْمُهَا بِالسَّوِيَّةِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ حُكْمًا حَكَمَ بِهِ لَمَّا شَاهَدَ مِنَ الضَّرُورَةِ، وَخَوْفُهُ مِنْ تَلَفِ مَنْ لَمْ يَبْقَ مَعَهُ زَادٌ، فَظَهَرَ أَنَّهُ وَجَبَ عَلَى مَنْ مَعَهُ أَنْ يُوَاسِيَ مَنْ لَيْسَ لَهُ زَادٌ، أَوْ يَكُونُ عَنْ رِضًا مِنْهُمْ، وَقَدْ فَعَل ذَلِكَ غَيْرَ مَرَّةٍ سَيِّدُنَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) .
ادِّخَارُ غَيْرِ الأَْقْوَاتِ:
14 - ادِّخَارُ غَيْرِ الأَْقْوَاتِ الضَّرُورِيَّةِ جَائِزٌ بِالاِتِّفَاقِ كَالأَْمْتِعَةِ وَالأَْوَانِي وَنَحْوِ ذَلِكَ (2) .
وَعَلَى الدَّوْلَةِ أَنْ تَدَّخِرَ مِنْ غَيْرِ الضَّرُورِيَّةِ مَا قَدْ يَنْقَلِبُ ضَرُورِيًّا فِي وَقْتٍ مِنَ الأَْوْقَاتِ كَالْخَيْل مَثَلاً وَالْكُرَاعِ وَالسِّلاَحِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ غَيْرُ ضَرُورِيٍّ فِي أَوْقَاتِ السِّلْمِ، وَلَكِنَّهُ يُصْبِحُ ضَرُورِيًّا أَيَّامَ الْحَرْبِ، وَعَلَى الدَّوْلَةِ بَذْلُهُ لِلْمُحْتَاجِ حِينَ اضْطِرَارِهِ إِلَيْهِ (3) .
__________
(1) عمدة القاري 13 / 42، المطبعة المنيرية.
(2) حاشية الجمل 3 / 93، وحاشية ابن عابدين 5 / 218، والفتاوى الهندية 5 / 334
(3) المغني 6 / 415(2/351)
ادِّعَاءٌ
انْظُرْ: دَعْوَى
ادِّهَانٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِدِّهَانُ فِي اللُّغَةِ: الاِطِّلاَءُ بِالدُّهْنِ، وَالدُّهْنُ مَا يُدْهَنُ بِهِ مِنْ زَيْتٍ وَغَيْرِهِ (1) . وَالاِطِّلاَءُ أَعَمُّ مِنَ الاِدِّهَانِ؛ لأَِنَّهُ يَكُونُ بِالدُّهْنِ وَغَيْرِهِ، كَالاِطِّلاَءِ بِالنُّورَةِ.
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لَهُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - الاِدِّهَانُ بِالطِّيبِ أَوْ بِغَيْرِهِ مِمَّا لاَ نَجَاسَةَ فِيهِ مُسْتَحَبٌّ فِي الْجُمْلَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلإِْنْسَانِ، إِذْ هُوَ مِنَ التَّجَمُّل الْمَطْلُوبِ لِكُل مُسْلِمٍ، وَهُوَ مِنَ الزِّينَةِ الَّتِي يَشْمَلُهَا قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {قُل مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ (2) } . وَقَدْ رُوِيَتْ فِي الْحَثِّ عَلَى
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، والمغرب.
(2) سورة الأعراف / 32(2/352)
الاِدِّهَانِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اسْتَاكُوا عَرْضًا وَادَّهِنُوا غِبًّا (1) وَوَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُكْثِرُ دَهْنَ رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ.
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ الاِدِّهَانُ غِبًّا، وَهُوَ أَنْ يَدْهُنَ، ثُمَّ يَتْرُكَ حَتَّى يَجِفَّ الدُّهْنُ، ثُمَّ يَدْهُنَ ثَانِيًا، وَقِيل: يَدْهُنُ يَوْمًا وَيَوْمًا لاَ (2) .
وَيَتَأَكَّدُ اسْتِحْبَابُ الاِدِّهَانِ لِصَلاَةِ الْجُمُعَةِ، وَالْعِيدِ، وَمَجَامِعِ النَّاسِ. وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الرِّجَال وَالصِّبْيَانُ وَالْعَبِيدُ، إِلاَّ النِّسَاءَ، فَلاَ يَجُوزُ لِمَنْ أَرَادَ مِنْهُنَّ حُضُورَ الْجُمُعَةِ (3) .
وَيُسْتَثْنَى مِنَ الْحُكْمِ بَعْضُ الْحَالاَتِ الَّتِي يَحْرُمُ فِيهَا الاِدِّهَانُ أَوْ يُكْرَهُ، كَحَالاَتِ الإِْحْرَامِ بِالْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ وَالاِعْتِكَافِ، وَالصَّوْمِ، وَالإِْحْدَادِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَرْأَةِ (4) .
__________
(1) حديث " استاكوا عرضًا. . . " وتمامه " واكتحلوا وترًا " قال النووي في شرح المهذب (1 / 313 ط العالمية) : هذا الحديث ضعيف غير معروف، قال ابن الصلاح: بحثت عنه فلم أجد له أصلا ولا ذكرا في شيء من كتب الحديث ". أهـ.
(2) يدل على ذلك حديث عائشة رضى الله عنها: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يحرم يتطيب ما يجد، ثم أجد وبيض الدهن في رأسه ولحيته بعد ذلك ". أخرجه مسلم (2 / 848 ط عيسى الحلبي) . وانظر تفسير القرطبي 7 / 198 ط دار الكتب المصرية، والآداب الشرعية لابن مفلح 3 / 21 ط المنار، وزاد المعاد 1 / 44 ط مصطفى الحلبي، وفيض القدير 5 / 43 ط مصطفى محمد، والمجموع 1 / 280، 293 ط المنيرية، والمغني 1 / 93 ط الرياض.
(3) المجموع 4 / 537، والمغني 2 / 202 ط المنار، ومنح الجليل 1 / 263 نشر ليبيا.
(4) ابن عابدين 2 / 202، 617 ط بولاق. والمغني 3 / 300 و 7 / 518، ومنح الجليل 1 / 427، 512(2/352)
3 - أَمَّا الاِدِّهَانُ بِالنِّسْبَةِ لِغَيْرِ الإِْنْسَانِ، كَدَهْنِ الْحَبْل، وَالْعَجَلَةِ، وَالسَّفِينَةِ، وَالنَّعْل، وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَهُوَ جَائِزٌ بِمَا لاَ نَجَاسَةَ فِيهِ، أَمَّا الْمُتَنَجِّسُ فَفِيهِ خِلاَفٌ عَلَى أَسَاسِ جَوَازِ الاِنْتِفَاعِ بِالْمُتَنَجِّسِ أَوْ عَدَمِ الاِنْتِفَاعِ بِهِ (1) .
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
4 - لِلاِدِّهَانِ أَحْكَامٌ مُتَعَدِّدَةٌ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَسَائِل الْفِقْهِيَّةِ مُفَصَّلَةٌ أَحْكَامُهَا فِي أَبْوَابِهَا، وَمِنْ ذَلِكَ ادِّهَانُ الْمُحْرِمِ فِي بَابِ الْحَجِّ، وَالْمُعْتَكِفِ فِي بَابِ الاِعْتِكَافِ، وَالصَّائِمِ فِي بَابِ الصَّوْمِ، وَالْمُحِدَّةِ فِي بَابِ الْعِدَّةِ. كَذَلِكَ الاِدِّهَانُ بِالْمُتَنَجِّسِ فِي بَابِ الطَّهَارَةِ وَالنَّجَاسَةِ.
إِدْرَاكٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - يُطْلَقُ الإِْدْرَاكُ فِي اللُّغَةِ وَيُرَادُ بِهِ اللُّحُوقُ وَالْبُلُوغُ فِي الْحَيَوَانِ، وَالثَّمَرِ، وَالرُّؤْيَةِ. وَاسْمُ الْمَصْدَرِ مِنْهُ الدَّرَكُ بِفَتْحِ الرَّاءِ. وَالْمُدْرَكُ بِضَمِّ الْمِيمِ يَكُونُ مَصْدَرًا وَاسْمَ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، تَقُول: أَدْرَكْتُهُ مُدْرَكًا، أَيْ إِدْرَاكًا، وَهَذَا مُدْرَكُهُ، أَيْ مَوْضِعُ إِدْرَاكِهِ أَوْ زَمَانِهِ (2) .
__________
(1) ابن عابدين 1 / 220، والحطاب 1 / 117، نشر ليبيا، والمغني 1 / 38
(2) لسان العرب، وأساس البلاغة، والمصباح المنير.(2/353)
وَقَدِ اسْتَعْمَل الْفُقَهَاءُ الإِْدْرَاكَ فِي هَذِهِ الْمَعَانِي اللُّغَوِيَّةِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ: أَدْرَكَهُ الثَّمَنُ، أَيْ لَزِمَهُ، وَهُوَ لُحُوقٌ مَعْنَوِيٌّ، وَأَدْرَكَ الْغُلاَمُ: أَيْ بَلَغَ الْحُلُمَ، وَأَدْرَكَتِ الثِّمَارُ: أَيْ نَضِجَتْ. وَالدَّرَكُ بِفَتْحَتَيْنِ، وَسُكُونِ الرَّاءِ لُغَةٌ فِيهِ: اسْمٌ مِنْ أَدْرَكْتُ الشَّيْءَ، وَمِنْهُ ضَمَانُ الدَّرَكِ (1) .
وَيُطْلِقُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ الإِْدْرَاكَ وَيُرِيدُ بِهِ الْجُذَاذَ (2) .
وَقَدِ اسْتَعْمَل الأُْصُولِيُّونَ وَالْفُقَهَاءُ (مَدَارِكَ الشَّرْعِ) بِمَعْنَى مَوَاضِعَ طَلَبِ الأَْحْكَامِ، وَهِيَ حَيْثُ يُسْتَدَل بِالنُّصُوصِ، كَالاِجْتِهَادِ، فَإِنَّهُ مُدْرَكٌ مِنْ مَدَارِكِ الشَّرْعِ (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
اللاَّحِقُ وَالْمَسْبُوقُ:
2 - يُفَرِّقُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بَيْنَ الْمُدْرِكِ لِلصَّلاَةِ مَثَلاً وَاللاَّحِقِ بِهَا وَالْمَسْبُوقِ، مَعَ أَنَّ الإِْدْرَاكَ وَاللِّحَاقَ فِي اللُّغَةِ مُتَرَادِفَانِ. فَالْمُدْرِكُ لِلصَّلاَةِ مَنْ صَلاَّهَا كَامِلَةً مَعَ الإِْمَامِ، أَيْ أَدْرَكَ جَمِيعَ رَكَعَاتِهَا مَعَهُ، سَوَاءٌ أَدْرَكَ التَّحْرِيمَةَ أَوْ أَدْرَكَهُ فِي جُزْءٍ مِنْ رُكُوعِ الرَّكْعَةِ الأُْولَى. وَاللاَّحِقُ مَنْ فَاتَتْهُ الرَّكَعَاتُ كُلُّهَا أَوْ بَعْضُهَا بِعُذْرٍ بَعْدَ اقْتِدَائِهِ. أَمَّا الْمَسْبُوقُ فَهُوَ مَنْ سَبَقَهُ الإِْمَامُ بِكُل الرَّكَعَاتِ أَوْ بَعْضِهَا (4) .
__________
(1) النظم المستعذب 1 / 349 ط الحلبي، والمصباح المنير مادة (درك) ، وطلبة الطلبة.
(2) القليوبي 3 / 64 ط مصطفى الحلبي.
(3) المصباح المنير، مادة (درك) .
(4) حاشية ابن عابدين - 1 / 399، 400 ط بولاق.(2/353)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
3 - يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ لِلإِْدْرَاكِ تَبَعًا لِلاِسْتِعْمَالاَتِ الْفِقْهِيَّةِ أَوِ الأُْصُولِيَّةِ، فَاسْتِعْمَالُهُ الأُْصُولِيُّ سَبَقَتِ الإِْشَارَةُ إِلَيْهِ عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنْ مَدَارِكِ الشَّرِيعَةِ، وَتَفْصِيلُهُ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
أَمَّا الاِسْتِعْمَال الْفِقْهِيُّ فَيَصْدُقُ عَلَى أُمُورٍ عِدَّةٍ. فَإِدْرَاكُ الْفَرِيضَةِ: اللُّحُوقُ بِهَا وَأَخْذُ أَجْرِهَا كَامِلاً عِنْدَ إِتْمَامِهَا عَلَى الْوَجْهِ الأَْكْمَل، مَعَ الْخِلاَفِ بِأَيِّ شَيْءٍ يَكُونُ الإِْدْرَاكُ. وَإِدْرَاكُ فَضِيلَةِ صَلاَةِ الْجَمَاعَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ يَكُونُ بِاشْتِرَاكِ الْمَأْمُومِ مَعَ الإِْمَامِ فِي جُزْءٍ مِنْ صَلاَتِهِ، وَلَوْ آخِرَ الْقَعْدَةِ الأَْخِيرَةِ قَبْل السَّلاَمِ، فَلَوْ كَبَّرَ قَبْل سَلاَمِ إِمَامِهِ فَقَدْ أَدْرَكَ فَضْل الْجَمَاعَةِ (1) . أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَعِنْدَهُمْ تُدْرَكُ الصَّلاَةُ وَيَحْصُل فَضْلُهَا بِإِدْرَاكِ رَكْعَةٍ كَامِلَةٍ مَعَ الإِْمَامِ (2) .
4 - وَفِي الْمُعَامَلاَتِ نَجِدُ فِي الْجُمْلَةِ الْقَاعِدَةَ التَّالِيَةَ: وَهِيَ أَنَّ مَنْ أَدْرَكَ عَيْنَ مَالِهِ عِنْدَ آخَرَ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ كُل أَحَدٍ، إِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مِلْكُهُ بِالْبَيِّنَةِ، أَوْ صَدَّقَهُ مَنْ فِي يَدِهِ الْعَيْنُ (3) .
وَيَنْدَرِجُ تَحْتَ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ مَسْأَلَةُ (ضَمَانُ الدَّرَكِ) وَهُوَ الرُّجُوعُ بِالثَّمَنِ عِنْدَ اسْتِحْقَاقِ الْمَبِيعِ (4) . فَعِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ يَصِحُّ ضَمَانُ الدَّرَكِ؛ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ عِنْدَ رَجُلٍ فَهُوَ أَحَقُّ
__________
(1) مجمع الأنهر 1 / 143 المطبعة العثمانية، والإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع 2 / 6 ط محمد علي صبيح، والمقنع 1 / 192 ط السلفية.
(2) مواهب الجليل 2 / 82 - 83 ط ليبيا.
(3) نيل الأوطار 5 / 240 المطبعة العثمانية المصرية.
(4) ابن عابدين 4 / 264(2/354)
بِهِ، وَيَتْبَعُ الْبَيْعَ مَنْ بَاعَهُ (1) وَلِكَوْنِ الْحَاجَةِ تَدْعُو إِلَيْهِ (2) .
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
5 - يَبْحَثُ الْفُقَهَاءُ مُصْطَلَحَ (إِدْرَاكٍ) فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَوَاطِنِ. فَمَسْأَلَةُ إِدْرَاكِ الصَّلاَةِ بُحِثَتْ فِي الصَّلاَةِ عِنْدَ الْحَدِيثِ عَنْ إِدْرَاكِ رَكْعَةٍ فِي آخِرِ الْوَقْتِ: (إِدْرَاكُ الْفَرِيضَةِ، صَلاَةُ الْجُمُعَةِ، صَلاَةُ الْجَمَاعَةِ، صَلاَةُ الْخَوْفِ) ، وَمَسْأَلَةُ إِدْرَاكِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فِي الْحَجِّ عِنْدَ الْحَدِيثِ عَنِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، وَمَسْأَلَةُ زَكَاةِ الثَّمَرَةِ إِذَا أَدْرَكَتْ فِي الزَّكَاةِ عِنْدَ الْحَدِيثِ عَنْ زَكَاةِ الثِّمَارِ، وَضَمَانُ الدَّرَكِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الضَّمَانِ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْبَيْعِ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي الْكَفَالَةِ، أَمَّا الْحَنَابِلَةُ وَيُسَمُّونَهُ عُهْدَةَ الْمَبِيعِ - فَبَحَثُوهُ فِي السَّلَمِ، عِنْدَ الْحَدِيثِ عَنْ أَخْذِ الضَّمَانِ عَلَى عُهْدَةِ الْمَبِيعِ، وَمَسْأَلَةُ إِدْرَاكِ الْغُلاَمِ وَالْجَارِيَةِ فِي الْحَجْرِ، عِنْدَ الْحَدِيثِ عَنْ بُلُوغِ الْغُلاَمِ، وَمَسْأَلَةُ بَيْعِ الثَّمَرِ عَلَى الشَّجَرِ قَبْل الإِْدْرَاكِ وَبَعْدَهُ فِي الْمُسَاقَاةِ، عِنْدَ الْحَدِيثِ عَنْ إِدْرَاكِ الثَّمَرِ، وَمَسْأَلَةُ إِدْرَاكِ الصَّيْدِ حَيًّا فِي الصَّيْدِ وَالذَّبَائِحِ.
__________
(1) حديث " من وجد عين ما له. . . " رواه أحمد 5 / 13، وأبو داود 2 / 259، والنسائي 7 / 314 عن الحسن عن سمرة. وفي سماع الحسن عنه خلاف، وبقية رجاله ثقات (نيل الأوطار 5 / 360) وروى أحمد أوله أيضا ببعض اختلاف في اللفظ بسند صحيح (مسند أحمد بتحقيق أحمد شاكر 12 / 91)
(2) ابن عابدين 4 / 264، وحاشية الدسوقي 3 / 11 ط عيسى الحلبي، والمهذب 1 / 349 ط مصطفى الحلبي، والمغني 4 / 351 ط المنار.(2/354)
إِدْلاَءٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - فِي اللُّغَةِ: أَدْلَى الدَّلْوَ أَرْسَلَهَا فِي الْبِئْرِ لِيَسْتَقِيَ بِهَا، وَأَدْلَى بِحُجَّتِهِ أَحْضَرَهَا (1) ، وَأَدْلَى إِلَيْهِ بِمَالِهِ دَفَعَهُ، وَأَدْلَى إِلَى الْمَيِّتِ بِالْبُنُوَّةِ وَصَل بِهَا، وَالإِْدْلاَءُ إِرْسَال الدَّلْوِ فِي الْبِئْرِ، ثُمَّ اسْتُعِيرَ فِي إِرْسَال كُل شَيْءٍ مَجَازًا. وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِلإِْدْلاَءِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
2 - أَغْلَبُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِلَفْظِ: (إِدْلاَءٍ) فِي بَابَيِ الإِْرْثِ وَالْحَضَانَةِ، فَيَذْكُرُونَ الإِْدْلاَءَ بِالنَّسَبِ وَهُمْ يَقْصِدُونَ الصِّلَةَ الَّتِي تَصِل الإِْنْسَانَ بِالْمَيِّتِ أَوْ بِالْمَحْضُونِ، وَيُقَدِّمُونَ مَنْ يُدْلِي بِنَفْسِهِ عَلَى مَنْ يُدْلِي بِغَيْرِهِ، وَمَنْ يُدْلِي بِجِهَتَيْنِ عَلَى مَنْ يُدْلِي بِجِهَةٍ وَاحِدَةٍ (3) .
إِدْمَانٌ
انْظُرْ: خَمْرٌ - مُخَدِّرٌ
__________
(1) اللسان والمغرب، والمصباح
(2) دستور العلماء 1 / 63
(3) السراجية ص 85، 86 ط مصطفى الحلبي، والمهذب 2 / 169 ط عيسى الحلبي.(2/355)
أَذًى
التَّعْرِيفُ:
1 - الأَْذَى فِي اللُّغَةِ يُطْلَقُ عَلَى الشَّيْءِ تَكْرَهُهُ وَلاَ تُقِرُّهُ (1) ، وَمِنْهُ الْقَذَرُ (2) . وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى الأَْثَرِ الَّذِي يَتْرُكُهُ ذَلِكَ الشَّيْءُ إِذَا كَانَ أَثَرًا يَسِيرًا، جَاءَ فِي تَاجِ الْعَرُوسِ عَنِ الْخَطَّابِيِّ: الأَْذَى: الْمَكْرُوهُ الْيَسِيرُ (3) .
وَالأَْذَى يَرِدُ فِي اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ بِهَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ أَيْضًا (4) ، فَهُمْ يُطْلِقُونَهُ عَلَى الشَّيْءِ الْمُؤْذِي، وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَْذَى عَنِ الطَّرِيقِ. (5)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الضَّرَرُ:
2 - الشَّرُّ عِنْدَمَا يَكُونُ يَسِيرًا يُسَمِّيهِ أَهْل اللُّغَةِ " أَذًى "، وَعِنْدَمَا يَكُونُ جَسِيمًا يُسَمُّونَهُ " ضَرَرًا ". قَال فِي تَاجِ الْعَرُوسِ: " الأَْذَى: الشَّرُّ الْخَفِيفُ، فَإِنْ زَادَ فَهُوَ ضَرَرٌ (6) ".
__________
(1) أساس اللغة لابن فارس مادة: أذى (بتصرف) .
(2) المصباح المنير مادة: أذى.
(3) تاج العروس، والمرجع للعلايلي مادة: أذى.
(4) مفردات الراغب الأصفهاني مادة: أذى.
(5) حديث: (وأدناها إماطة الأذى. . .) أخرجه مسلم في كتاب الأيمان باب عدد شعب الأيمان.
(6) تاج العروس مادة: أذى.(2/355)
أَمَّا الْفُقَهَاءُ فَإِنَّ اسْتِعْمَالَهُمُ الْعَامَّ لِهَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ (أَذًى، ضَرَرٌ) يَدُل عَلَى أَنَّهُمْ يَعْتَمِدُونَ هَذَا الْفَرْقَ وَيُرَاعُونَهُ فِي كَلاَمِهِمْ، فَهُمْ يَقُولُونَ: عَلَى الطَّائِفِ حَوْل الْكَعْبَةِ أَلاَّ يُؤْذِيَ فِي طَوَافِهِ أَحَدًا (1) ، وَيَقُولُونَ: عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَلاَّ يُؤْذُوا أَحَدًا مِنْ أَهْل الْهُدْنَةِ مَا دَامُوا فِي هُدْنَتِهِمْ (2) ، وَنَحْوُ ذَلِكَ كَثِيرٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ. بَيْنَمَا هُمْ يَقُولُونَ: لاَ يَجُوزُ لِمَرِيضٍ أَنْ يُفْطِرَ إِنْ كَانَ لاَ يَتَضَرَّرُ بِالصَّوْمِ (3) .
وَيَقُولُونَ: ضَمَانُ الضَّرَرِ، وَلاَ يَقُولُونَ: ضَمَانُ الأَْذَى، كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي كِتَابِ الضَّمَانِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ.
فَنِسْبَةُ الأَْذَى لِلضَّرَرِ كَنِسْبَةِ الصَّغَائِرِ إِلَى الْكَبَائِرِ.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
أ - الأَْذَى بِمَعْنَى الضَّرَرِ الْبَسِيطِ:
3 - الأَْذَى حَرَامٌ، وَتَرْكُهُ وَاجِبٌ بِالاِتِّفَاقِ (4) مَا لَمْ يُعَارَضْ بِمَا هُوَ أَشَدُّ، فَعِنْدَئِذٍ يُرْتَكَبُ الأَْذَى، عَمَلاً بِالْقَاعِدَةِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا: يُرْتَكَبُ أَخَفُّ الضَّرَرَيْنِ لاِتِّقَاءِ أَشَدِّهِمَا (5) . وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ مِنْهَا: كِتَابُ الْحَجِّ، عِنْدَ كَلاَمِهِمْ عَلَى لَمْسِ الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ، وَفِي كِتَابِ الرِّقِّ، عِنْدَ كَلاَمِهِمْ عَلَى مُعَامَلَةِ الرَّقِيقِ، وَفِي كِتَابِ الْحَظْرِ وَالإِْبَاحَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ الْكَثِيرُ مِنْ هَذَا الْقَبِيل.
ب -
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 66، طبع بولاق الأولى.
(2) حاشية قليوبي 4 / 238، طبع مصطفى البابي الحلبي.
(3) الفروع 2 / 21، طبع مطبعة المنار سنة 1341 هـ
(4) انظر: الدر المختار بحاشية ابن عابدين 2 / 166، طبع بولاق الأولى، وحاشية قليوبي 4 / 94 و 238، والفروع 2 / 388
(5) انظر: الأشباه والنظائر لابن نجيم بحاشية الحموي ص 120(2/356)
الأَْذَى بِمَعْنَى الشَّيْءِ الْمُؤْذِي:
4 - يُنْدَبُ إِزَالَةُ الأَْشْيَاءِ الْمُؤْذِيَةِ لِلْمُسْلِمِينَ أَيْنَمَا وُجِدَتْ، فَقَدِ اعْتَبَرَ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِمَاطَةَ الأَْذَى عَنِ الطَّرِيقِ مِنَ الإِْيمَانِ بِقَوْلِهِ: الإِْيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً أَفْضَلُهَا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَْذَى عَنِ الطَّرِيقِ. (1)
وَقَال أَبُو بَرْزَةَ: يَا رَسُول اللَّهِ دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ. قَال: اعْزِل الأَْذَى عَنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ. (2) وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَمُرَّ بِنَبْلِهِ فِي مَكَانٍ يَكْثُرُ فِيهِ النَّاسُ فَعَلَيْهِ أَنْ يُمْسِكَ بِنَصْلِهِ؛ لِئَلاَّ يُؤْذِيَ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (3) . وَمَنْ رَأَى عَلَى أَخِيهِ أَذًى فَعَلَيْهِ أَنْ يُمِيطَهُ عَنْهُ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ أَحَدَكُمْ مِرْآةُ أَخِيهِ، فَإِنْ رَأَى بِهِ أَذًى فَلْيُمِطْهُ عَنْهُ (4) .
وَالْمَوْلُودُ يُحْلَقُ شَعْرُهُ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ وَيُمَاطُ عَنْهُ الأَْذَى (5) .
__________
(1) حديث: (الأيمان بضع وسبعون شعبة. . . .) أخرجه مسلم في كتاب الأيمان باب عدد شعب الأيمان.
(2) حديث: (اعزل الأذى. . . .) أخرجه مسلم - انظر شرح النووي لمسلم 16 / 171، طبع المطبعة الأزهرية، والإمام أحمد في المسند 4 / 423، الطبعة الأولى.
(3) شرح النووي لمسلم 16 / 169
(4) حديث " إن أحدكم مرآة. . . " أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة، وقال: " يحيى بن عبيد الله ضعفه شعبة، وفي الباب عن أنس " وأخرجه الطبراني في الأوسط، والضياء بلفظ: " المؤمن مرآة المؤمن " قال المناوي: بإسناد حسن (تحفة الأحوذي 2 / 416 ط. التجارية) .
(5) مسند الإمام أحمد 4 / 18، والمغني 8 / 646، طبع المنار الثالثة.(2/356)
وَيُقْتَل الْحَيَوَانُ الْمُؤْذِي (1) وَلَوْ وُجِدَ فِي الْحَرَمِ، كَفًّا لأَِذَاهُ عَنِ النَّاسِ.
5 - الأَْشْيَاءُ الْمُؤْذِيَةُ إِذَا وُجِدَتْ فِي بِلاَدِ الْحَرْبِ فَإِنَّهَا لاَ تُزَال إِضْعَافًا لِلْكُفَّارِ الْمُحَارِبِينَ، فَلاَ يُقْتَل الْحَيَوَانُ الْمُؤْذِي فِي بِلاَدِهِمْ (2) ، كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْفُقَهَاءُ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ.
أَذَانٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الأَْذَانُ لُغَةً: الإِْعْلاَمُ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ (3) } أَيْ أَعْلِمْهُمْ بِهِ (4)
وَشَرْعًا: الإِْعْلاَمُ بِوَقْتِ الصَّلاَةِ الْمَفْرُوضَةِ، بِأَلْفَاظٍ مَعْلُومَةٍ مَأْثُورَةٍ، عَلَى صِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ. أَوِ الإِْعْلاَمُ بِاقْتِرَابِهِ بِالنِّسْبَةِ لِلْفَجْرِ فَقَطْ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ (5) .
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 528، طبع مصطفى البابي الحلبي، والفتاوى الهندية 1 / 252، طبع بولاق، والموطأ 1 / 357، طبع عيسى البابي الحلبي، والمغني 3 / 341 وما بعدها.
(2) ابن عابدين 3 / 230، طبع بولاق الأولى، وحاشية الشرقاوي على التحرير 2 / 408، طبع مصطفى البابي الحلبي.
(3) سورة الحج / 27
(4) لسان العرب والمصباح المنير.
(5) شرح منتهى الإرادات 1 / 122 ط دار الفكر، والاختيار 1 / 42 ط دار المعرفة بيروت، ومنح الجليل 1 / 117 نشر مكتبة النجاح ليبيا.(2/357)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الدَّعْوَةُ - النِّدَاءُ:
2 - كِلاَ اللَّفْظَيْنِ يَتَّفِقُ مَعَ الأَْذَانِ فِي الْمَعْنَى الْعَامِّ وَهُوَ النِّدَاءُ وَالدُّعَاءُ وَطَلَبُ الإِْقْبَال (1) .
ب - الإِْقَامَةُ:
3 - لِلإِْقَامَةِ فِي اللُّغَةِ مَعَانٍ عِدَّةٌ، مِنْهَا الاِسْتِقْرَارُ، وَالإِْظْهَارُ، وَالنِّدَاءُ وَإِقَامَةُ الْقَاعِدِ.
وَهِيَ فِي الشَّرْعِ: إِعْلاَمٌ بِالْقِيَامِ إِلَى الصَّلاَةِ بِأَلْفَاظٍ مَعْلُومَةٍ مَأْثُورَةٍ عَلَى صِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ (2) .
ج - التَّثْوِيبُ:
4 - التَّثْوِيبُ فِي اللُّغَةِ: الرُّجُوعُ، وَهُوَ فِي الأَْذَانِ: الْعَوْدُ إِلَى الإِْعْلاَمِ بَعْدَ الإِْعْلاَمِ، وَهُوَ زِيَادَةُ عِبَارَةِ: (الصَّلاَةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ) مَرَّتَيْنِ بَعْدَ الْحَيْعَلَتَيْنِ فِي أَذَانِ الصُّبْحِ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ، أَوْ زِيَادَةُ عِبَارَةِ (حَيَّ عَلَى الصَّلاَةِ حَيَّ عَلَى الْفَلاَحِ) بَيْنَ الأَْذَانِ وَالإِْقَامَةِ، كَمَا يَقُول الْحَنَفِيَّةُ (3) .
صِفَتُهُ (حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ) :
5 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الأَْذَانَ مِنْ خَصَائِصِ الإِْسْلاَمِ وَشَعَائِرِهِ الظَّاهِرَةِ، وَأَنَّهُ لَوِ اتَّفَقَ أَهْل بَلَدٍ عَلَى تَرْكِهِ قُوتِلُوا، وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِهِ، فَقِيل: إِنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ كُلٍّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ فِي الْحَضَرِ وَالْمَالِكِيَّةِ عَلَى أَهْل الْمِصْرِ، وَاسْتَظْهَرَهُ بَعْضُ
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير.
(2) لسان العرب، وشرح منتهى الإرادات 1 / 122، ومغني المحتاج 1 / 133 ط الحلبي.
(3) لسان العرب، وشرح منتهى الإرادات 1 / 127 ومغني المحتاج 1 / 136، وابن عابدين 1 / 260، 261 ط بولاق.(2/357)
الْمَالِكِيَّةِ فِي مَسَاجِدِ الْجَمَاعَاتِ، وَهُوَ رَأْيٌ لِلشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ. كَذَلِكَ نُقِل عَنْ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، بِنَاءً عَلَى اصْطِلاَحِهِمْ فِي الْوَاجِبِ. وَاسْتَدَل الْقَائِلُونَ بِذَلِكَ بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا حَضَرَتِ الصَّلاَةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ (1) ، وَالأَْمْرُ هُنَا يَقْتَضِي الْوُجُوبَ عَلَى الْكِفَايَةِ؛ وَلأَِنَّهُ مِنْ شَعَائِرِ الإِْسْلاَمِ الظَّاهِرَةِ، فَكَانَ فَرْضَ كِفَايَةٍ كَالْجِهَادِ وَقِيل: إِنَّهُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَبِهِ قَال بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ لِلْجَمَاعَةِ الَّتِي تَنْتَظِرُ آخَرِينَ لِيُشَارِكُوهُمْ فِي الصَّلاَةِ، وَفِي السَّفَرِ عَلَى الصَّحِيحِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَمُطْلَقًا فِي رِوَايَةٍ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ، وَهِيَ الَّتِي مَشَى عَلَيْهَا الْخِرَقِيُّ. وَاسْتَدَل الْقَائِلُونَ بِذَلِكَ بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلأَْعْرَابِيِّ الْمُسِيءِ صَلاَتَهُ: افْعَل كَذَا وَكَذَا وَلَمْ يَذْكُرِ الأَْذَانَ مَعَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ الْوُضُوءَ وَاسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ وَأَرْكَانَ الصَّلاَةِ (2) . وَعَلَى كِلاَ الرَّأْيَيْنِ لَوْ أَنَّ قَوْمًا صَلَّوْا بِغَيْرِ أَذَانٍ صَحَّتْ صَلاَتُهُمْ وَأَثِمُوا، لِمُخَالَفَتِهِمُ السُّنَّةَ وَأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقِيل هُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ فِي الْجُمُعَةِ دُونَ غَيْرِهَا وَهُوَ رَأْيٌ لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ لأَِنَّهُ دُعَاءٌ لِلْجَمَاعَةِ، وَالْجَمَاعَةُ وَاجِبَةٌ فِي الْجُمُعَةِ، سُنَّةٌ فِي غَيْرِهَا عِنْدَ
__________
(1) حديث: " إذا حضرت الصلاة. . " أخرجه البخاري (1 / 153 ط صبيح) واللفظ له، ومسلم من حديث مالك بن الحويرث (تلخيص الحبير 1 / 193)
(2) حديث المسيء صلاته متفق عليه (اللؤلؤ والمرجان رقم 224)(2/358)
الْجُمْهُورِ (1) .
بَدْءُ مَشْرُوعِيَّةِ الأَْذَانِ:
6 - شُرِعَ الأَْذَانُ بِالْمَدِينَةِ فِي السَّنَةِ الأُْولَى مِنَ الْهِجْرَةِ عَلَى الأَْصَحِّ؛ لِلأَْحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ، وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَال: كَانَ الْمُسْلِمُونَ حِينَ قَدِمُوا الْمَدِينَةَ يَجْتَمِعُونَ فَيَتَحَيَّنُونَ الصَّلاَةَ وَلَيْسَ يُنَادِي بِهَا أَحَدٌ فَتَكَلَّمُوا يَوْمًا فِي ذَلِكَ، فَقَال بَعْضُهُمْ: اتَّخِذُوا نَاقُوسًا مِثْل نَاقُوسِ النَّصَارَى، وَقَال بَعْضُهُمْ: قَرْنًا مِثْل قَرْنِ الْيَهُودِ، فَقَال عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَوَلاَ تَبْعَثُونَ رَجُلاً يُنَادِي بِالصَّلاَةِ، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا بِلاَل قُمْ فَنَادِ بِالصَّلاَةِ، ثُمَّ جَاءَتْ رُؤْيَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ قَال: لَمَّا أَمَرَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّاقُوسِ لِيُعْمَل حَتَّى يُضْرَبَ بِهِ لِيَجْتَمِعَ النَّاسُ لِلصَّلاَةِ طَافَ بِي وَأَنَا نَائِمٌ رَجُلٌ يَحْمِل نَاقُوسًا، فَقُلْتُ لَهُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ أَتَبِيعُ النَّاقُوسَ؟ فَقَال: مَا تَصْنَعُ بِهِ؟ قُلْتُ: نَدْعُو بِهِ لِلصَّلاَةِ، فَقَال: أَلاَ أَدُلُّكَ عَلَى مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ؟ ، قُلْتُ: بَلَى، قَال: تَقُول: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، فَذَكَرَ الأَْذَانَ وَالإِْقَامَةَ، فَلَمَّا أَصْبَحْتُ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا رَأَيْتُ، فَقَال: إِنَّهَا لَرُؤْيَا حَقٍّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَقُمْ مَعَ بِلاَلٍ فَأَلْقِ عَلَيْهِ مَا رَأَيْتَ
__________
(1) الإنصاف 1 / 407 ط أولى، والمغني 1 / 417 - 418 ط الرياض، والحطاب 1 / 422 - 423 ط النجاح ليبيا، والمجموع 3 / 81 ط المكتبة السلفية بالمدينة المنورة، ومغني المحتاج 1 / 134 ط الحلبي، وفتح القدير 1 / 209 - 210 ط دار إحياء التراث العربي، والاختيار 1 / 42 ط دار المعرفة بيروت.(2/358)
فَلْيُؤَذِّنْ بِهِ. (1)
وَقِيل: إِنَّ الأَْذَانَ شُرِعَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ. وَقِيل: إِنَّهُ شُرِعَ بِمَكَّةَ قَبْل الْهِجْرَةِ، وَهُوَ بَعِيدٌ لِمُعَارَضَتِهِ الأَْحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ.
وَقَدِ اتَّفَقَتِ الأُْمَّةُ الإِْسْلاَمِيَّةُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الأَْذَانِ، وَالْعَمَل بِهِ جَارٍ مُنْذُ عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا بِلاَ خِلاَفٍ (2) .
حِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّةِ الأَْذَانِ:
7 - شُرِعَ الأَْذَانُ لِلإِْعْلاَمِ بِدُخُول وَقْتِ الصَّلاَةِ، وَإِعْلاَءِ اسْمِ اللَّهِ بِالتَّكْبِيرِ، وَإِظْهَارِ شَرْعِهِ وَرِفْعَةِ رَسُولِهِ، وَنِدَاءِ النَّاسِ إِلَى الْفَلاَحِ وَالنَّجَاحِ (3) .
فَضْل الأَْذَانِ:
8 - الأَْذَانُ مِنْ خَيْرِ الأَْعْمَال الَّتِي تُقَرِّبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَفِيهِ فَضْلٌ كَثِيرٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ، وَقَدْ وَرَدَتْ فِي فَضْلِهِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا مَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: لَوْ يَعْلَمُ
__________
(1) حديث رؤيا عبد الله بن زيد رواه أبو داود في سننه من طريق محمد بن إسحاق، ورواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح وقال: " سألت عنه البخاري، فقال هو عندي صحيح ". ورواه ابن حبان وابن خزيمة وقال عنه البيهقي. ثابت صحيح (نصب الراية 1 / 259) .
(2) انظر مسلم بشرح النووي 4 / 75 وسبل السلام 1 / 188 ط التجارية، وابن عابدين 1 / 257 ط بولاق، والحطاب 1 / 421 ط النجاح ليبيا، وفتح القدير 1 / 167 والمغني 1 / 403، ط الرياض.
(3) البحر الرائق 1 / 279 ط المطبعة العلمية بالقاهرة.(2/359)
النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الأَْوَّل ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلاَّ أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لاَسْتَهَمُوا. (1) وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْمُؤَذِّنُونَ أَطْوَل النَّاسِ أَعْنَاقًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ. (2) وَقَدْ فَضَّلَهُ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْحَنَابِلَةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ عَلَى الإِْمَامَةِ لِلأَْخْبَارِ الَّتِي وَرَدَتْ فِيهِ قَالُوا: وَلَمْ يَتَوَلَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلاَ خُلَفَاؤُهُ لِضِيقِ وَقْتِهِمْ، وَلِهَذَا قَال عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: لَوْلاَ الْخِلاَفَةُ لأََذَّنْتُ (3) .
9 - وَنَظَرًا لِمَا فِيهِ مِنْ فَضْلٍ وَدَعْوَةِ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الإِْقْبَال عَلَيْهِ فَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَنَّهُ إِذَا تَشَاحَّ أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدٍ عَلَى الأَْذَانِ قُدِّمَ مَنْ تَوَافَرَتْ فِيهِ شَرَائِطُ الأَْذَانِ، فَإِنْ تَسَاوَوْا أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ، كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ. وَقَدْ تَشَاحَّ النَّاسُ فِي الأَْذَانِ يَوْمَ الْقَادِسِيَّةِ فَأَقْرَعَ بَيْنَهُمْ سَعْدٌ (4) .
أَلْفَاظُ الأَْذَانِ:
10 - أَلْفَاظُ الأَْذَانِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ فِي رُؤْيَاهُ الَّتِي قَصَّهَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِيَ الَّتِي أَخَذَ بِهَا الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهِيَ:
__________
(1) حديث " لو يعلم. . " متفق عليه، من حديث أبي هريرة (تلخيص الحبير 1 / 209) .
(2) المغني 1 / 402 والحطاب 1 / 422 والمهذب 1 / 61، وحديث " المؤذنون أطول. . " أخرجه مسلم من حديث معاوية (تلخيص الحبير 1 / 208) .
(3) المغني 1 / 403 والحطاب 1 / 422 والمهذب 1 / 61، والأثر عن عمر رواه كل من أبي الشيخ، والبيهقي بلفظ: " لولا الخليفا لأذنت " وسيد بن منصور يلفظ: " لو أطيق مع الخليفا لأذنت ". (تلخيص الحبير 1 / 211)
(4) المغني 1 / 429 - 430، والمهذب 1 / 62(2/359)
اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّهِ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّهِ، حَيَّ عَلَى الصَّلاَةِ، حَيَّ عَلَى الصَّلاَةِ، حَيَّ عَلَى الْفَلاَحِ، حَيَّ عَلَى الْفَلاَحِ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ (1) .
هَكَذَا حَكَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ أَذَانَ (الْمَلَكِ) النَّازِل مِنَ السَّمَاءِ، وَوَافَقَهُ عُمَرُ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، فَقَال لَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَقُمْ مَعَ بِلاَلٍ فَأَلْقِ عَلَيْهِ مَا رَأَيْتَ، فَلْيُؤَذِّنْ بِهِ فَإِنَّهُ أَنْدَى صَوْتًا مِنْكَ (2) "
وَأَخَذَ الشَّافِعِيَّةُ بِحَدِيثِ أَبِي مَحْذُورَةَ (3) ، وَهُوَ بِنَفْسِ الأَْلْفَاظِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، مَعَ زِيَادَةِ التَّرْجِيعِ (4) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ التَّكْبِيرَ فِي أَوَّل الأَْذَانِ مَرَّتَانِ فَقَطْ مِثْل آخِرِهِ وَلَيْسَ أَرْبَعًا؛ لأَِنَّهُ عَمَل السَّلَفِ بِالْمَدِينَةِ، وَلِرِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ فِيهَا التَّكْبِيرُ فِي أَوَّل الأَْذَانِ مَرَّتَيْنِ فَقَطْ (5) .
__________
(1) الاختيار 1 / 42، والمغني 1 / 404
(2) رواه أبو داود وهذا لفظه، وروى نحوه كل من الترمذي وابن ماجه، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح (سنن أبي داود وتعليق محمد محيي الدين عبد الحميد عليها 1 / 196 مطبعة السعادة، وسنن الترمذي 1 / 359 ط الحلبي) .
(3) حديث أذان أبي محذورة رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي (جامع الأصول 5 / 280 نشر دار البيان) .
(4) المهذب 1 / 63 ط دار المعرفة.
(5) البدائع 1 / 147 ط أولى شركة المطبوعات العلمية، وفتح القدير 1 / 211، والزرقاني 1 / 157 ط دار الفكر، والشرح الصغير 1 / 249 ط دار المعارف، والفواكه الدواني 1 / 201 - 202 ط دار المعرفة.(2/360)
التَّرْجِيعُ فِي الأَْذَانِ:
11 - التَّرْجِيعُ هُوَ أَنْ يَخْفِضَ الْمُؤَذِّنُ صَوْتَهُ بِالشَّهَادَتَيْنِ مَعَ إِسْمَاعِهِ الْحَاضِرِينَ، ثُمَّ يَعُودُ فَيَرْفَعُ صَوْتَهُ بِهِمَا. وَهُوَ مَكْرُوهٌ تَنْزِيهًا فِي الرَّاجِحِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لأَِنَّ بِلاَلاً لَمْ يَكُنْ يُرَجِّعُ فِي أَذَانِهِ، وَلأَِنَّهُ لَيْسَ فِي أَذَانِ الْمَلَكِ النَّازِل مِنَ السَّمَاءِ (1) .
وَهُوَ سُنَّةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَفِي الصَّحِيحِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ؛ لِوُرُودِهِ فِي حَدِيثِ أَبِي مَحْذُورَةَ، وَهِيَ الصِّفَةُ الَّتِي عَلَّمَهَا لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَيْهَا السَّلَفُ وَالْخَلَفُ (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنَّهُ مُبَاحٌ وَلاَ يُكْرَهُ الإِْتْيَانُ بِهِ لِوُرُودِهِ فِي حَدِيثِ أَبِي مَحْذُورَةَ. وَبِهَذَا أَيْضًا قَال بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَالثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاقُ (3) ، وَقَال الْقَاضِي حُسَيْنٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: إِنَّهُ رُكْنٌ فِي الأَْذَانِ (4) .
التَّثْوِيبُ:
12 - التَّثْوِيبُ هُوَ أَنْ يَزِيدَ الْمُؤَذِّنُ عِبَارَةَ (الصَّلاَةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ) مَرَّتَيْنِ بَعْدَ الْحَيْعَلَتَيْنِ فِي أَذَانِ الْفَجْرِ، أَوْ بَعْدَ الأَْذَانِ كَمَا يَقُول بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ سُنَّةٌ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَِبِي مَحْذُورَةَ: فَإِذَا كَانَ صَلاَةُ الصُّبْحِ قُلْتَ: الصَّلاَةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ، الصَّلاَةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ (5) ، كَذَلِكَ لَمَّا أَتَى
__________
(1) ابن عابدين 1 / 259
(2) منح الجليل 1 / 119 ط النجاح، والفواكه الدواني 1 / 201 - 202، والمجموع 3 / 90 - 91، ومغني المحتاج 1 / 136
(3) المغني 1 / 405، وكشاف القناع 1 / 214 - 215
(4) المجموع 3 / 90 - 91
(5) حديث " الصلاة خير من النوم " أخرجه أبو داود بهذا اللفظ وأخرج نحوه ابن أبي شية وابن حبان، وصححه ابن خزيمة من طريق ابن جريج (سنن أبي داود 1 / 196 - مطبعة السعادة نصب الراية 1 / 265)(2/360)
بِلاَلٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُؤْذِنْهُ بِالصُّبْحِ فَوَجَدَهُ رَاقِدًا فَقَال: الصَّلاَةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ مَرَّتَيْنِ، فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَحْسَنَ هَذَا يَا بِلاَل، اجْعَلْهُ فِي أَذَانِكَ. وَخُصَّ التَّثْوِيبُ بِالصُّبْحِ لِمَا يَعْرِضُ لِلنَّائِمِ مِنَ التَّكَاسُل بِسَبَبِ النَّوْمِ (1) .
وَأَجَازَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ التَّثْوِيبَ فِي الصُّبْحِ وَالْعِشَاءِ؛ لأَِنَّ الْعِشَاءَ وَقْتُ غَفْلَةٍ وَنَوْمٍ كَالْفَجْرِ (2)
وَأَجَازَهُ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ فِي جَمِيعِ الأَْوْقَاتِ؛ لِفَرْطِ الْغَفْلَةِ عَلَى النَّاسِ فِي زَمَانِنَا (3) ، وَهُوَ مَكْرُوهٌ فِي غَيْرِ الْفَجْرِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَذَلِكَ لِمَا رُوِيَ عَنْ بِلاَلٍ أَنَّهُ قَال: أَمَرَنِي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أُثَوِّبَ فِي الْفَجْرِ وَنَهَانِي أَنْ أُثَوِّبَ فِي الْعِشَاءِ (4) . وَدَخَل ابْنُ عُمَرَ مَسْجِدًا يُصَلِّي فِيهِ فَسَمِعَ رَجُلاً يُثَوِّبُ فِي أَذَانِ الظُّهْرِ فَخَرَجَ، فَقِيل لَهُ: أَيْنَ؟ فَقَال: أَخْرَجَتْنِي الْبِدْعَةُ (5) .
__________
(1) ابن عابدين 1 / 260 والهداية 1 / 41 ط المكتبة الإسلامية ومغني المحتاج 1 / 136 ومنح الجليل 1 / 118 ومنتهى الإرادات 1 / 126 - 127
(2) البدائع 1 / 148، والمجموع 3 / 97 - 98
(3) المجموع 3 / 97 - 98
(4) حديث بلال: " أمرني. . . " أخرجه ابن ماجه واللفظ له، ورواه الترمذي وقال: هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث أبي إسرائيل الملائي، وليس بالقوي ولم يسمعه من الحكم، وأخرج البيهقي نحوه، وأعله وقال: عبد الرحمن لم يلق بلالا (نصب الراية 1 / 279، وسنن ابن ماجه 1 / 237 ط الحلبي) .
(5) كشاف القناع 1 / 215، والمغني 1 / 408، والحطاب 1 / 431، والمجموع 3 / 97 - 98، والبدائع 1 / 148، والهداية 1 / 41، والأثر عن مجاهد ذكره في جامع الأصول 5 / 287(2/361)
هَذَا هُوَ التَّثْوِيبُ الْوَارِدُ فِي السُّنَّةِ.
13 - وَقَدِ اسْتَحْدَثَ عُلَمَاءُ الْكُوفَةِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ بَعْدَ عَهْدِ الصَّحَابَةِ تَثْوِيبًا آخَرَ، وَهُوَ زِيَادَةُ الْحَيْعَلَتَيْنِ أَيْ عِبَارَةِ " حَيَّ عَلَى الصَّلاَةِ، حَيَّ عَلَى الْفَلاَحِ " مَرَّتَيْنِ بَيْنَ الأَْذَانِ وَالإِْقَامَةِ فِي الْفَجْرِ، وَاسْتَحْسَنَهُ مُتَقَدِّمُو الْحَنَفِيَّةِ فِي الْفَجْرِ فَقَطْ، وَكُرِهَ عِنْدَهُمْ فِي غَيْرِهِ، وَالْمُتَأَخِّرُونَ مِنْهُمُ اسْتَحْسَنُوهُ فِي الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا - إِلاَّ فِي الْمَغْرِبِ لِضِيقِ الْوَقْتِ - وَذَلِكَ لِظُهُورِ التَّوَانِي فِي الأُْمُورِ الدِّينِيَّةِ وَقَالُوا: إِنَّ التَّثْوِيبَ بَيْنَ الأَْذَانِ وَالإِْقَامَةِ فِي الصَّلَوَاتِ يَكُونُ بِحَسَبِ مَا يَتَعَارَفُهُ أَهْل كُل بَلَدٍ، بِالتَّنَحْنُحِ، أَوِ الصَّلاَةَ، الصَّلاَةَ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. كَذَلِكَ اسْتَحْدَثَ أَبُو يُوسُفَ جَوَازَ التَّثْوِيبِ؛ لِتَنْبِيهِ كُل مَنْ يَشْتَغِل بِأُمُورِ الْمُسْلِمِينَ وَمَصَالِحِهِمْ، كَالإِْمَامِ وَالْقَاضِي وَنَحْوِهِمَا، فَيَقُول الْمُؤَذِّنُ بَعْدَ الأَْذَانِ:
السَّلاَمُ عَلَيْكَ أَيُّهَا الأَْمِيرُ، حَيَّ عَلَى الصَّلاَةِ، حَيَّ عَلَى الْفَلاَحِ، الصَّلاَةَ يَرْحَمُكَ اللَّهُ (1) وَشَارَكَ أَبَا يُوسُفَ فِي هَذَا الشَّافِعِيَّةُ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ، وَكَذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ إِنْ لَمْ يَكُنِ الإِْمَامُ وَنَحْوُهُ قَدْ سَمِعَ الأَْذَانَ (2) ، وَاسْتَبْعَدَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ؛ لأَِنَّ النَّاسَ سَوَاسِيَةٌ فِي أَمْرِ الْجَمَاعَةِ وَشَارَكَهُ فِي ذَلِكَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ (3) .
14 - وَأَمَّا مَا يَقُومُ بِهِ بَعْضُ الْمُؤَذِّنِينَ مِنَ التَّسْبِيحِ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 261، وفتح القدير 1 / 214 - 215، والبدائع 1 / 148
(2) المهذب 1 / 66، والتاج والإكليل بهامش الحطاب 1 / 427، وكشاف القناع 1 / 215
(3) الحطاب 1 / 431(2/361)
وَالدُّعَاءِ وَالذِّكْرِ فِي آخِرِ اللَّيْل فَقَدِ اعْتَبَرَهُ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ بِدْعَةً حَسَنَةً، وَقَال عَنْهُ الْحَنَابِلَةُ: إِنَّهُ مِنَ الْبِدَعِ الْمَكْرُوهَةِ، وَلاَ يَلْزَمُ فِعْلُهُ وَلَوْ شَرَطَهُ الْوَاقِفُ لِمُخَالَفَتِهِ السُّنَّةَ (1) .
الصَّلاَةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ الأَْذَانِ:
15 - يَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ الصَّلاَةَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمُؤَذِّنِ بَعْدَ الأَْذَانِ سُنَّةٌ، وَعِنْدَهُمْ يُسَنُّ لِلْمُؤَذِّنِ مُتَابَعَةُ قَوْلِهِ سِرًّا مِثْلَهُ كَالْمُسْتَمِعِ لِيَجْمَعَ بَيْنَ أَدَاءِ الأَْذَانِ وَالْمُتَابَعَةِ، وَرُوِيَ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَذَّنَ فَقَال كَلِمَةً مِنَ الأَْذَانِ قَال مِثْلَهَا سِرًّا؛ لِيَكُونَ مَا يُظْهِرُهُ أَذَانًا وَدُعَاءً إِلَى الصَّلاَةِ، وَمَا يُسِرُّهُ ذِكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ سَمِعَ الأَْذَانَ.
بِذَلِكَ يُمْكِنُ أَنْ يَشْمَل الْمُؤَذِّنَ الأَْمْرُ الْوَارِدُ فِي قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا سَمِعْتُمُ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْل مَا يَقُول، ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاَةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا، ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ لِيَ الْوَسِيلَةَ فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ لاَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ إِلاَّ لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ، فَمَنْ سَأَل اللَّهَ لِيَ الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ عَلَيْهِ الشَّفَاعَةُ (2) .
وَاعْتَبَرَهُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ بِدْعَةً حَسَنَةً وَقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ أَحْمَدُ الْبِشْبِيشِيُّ فِي رِسَالَتِهِ الْمُسَمَّاةِ بِالتُّحْفَةِ السَّنِيَّةِ فِي أَجْوِبَةِ الأَْسْئِلَةِ الْمَرْضِيَّةِ أَنَّ أَوَّل مَا زِيدَتِ
__________
(1) الحطاب 1 / 430، وكشاف القناع 1 / 221
(2) منتهى الإرادات 1 / 130، والمغني 1 / 428، ومغني المحتاج 1 / 141. وحديث: " إذا سمعتم المؤذن. . . " رواه مسلم (صحيح مسلم 1 / 288)(2/362)
الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ كُل أَذَانٍ عَلَى الْمَنَارَةِ زَمَنَ السُّلْطَانِ الْمَنْصُورِ حَاجِّيِّ بْنِ الأَْشْرَفِ شَعْبَانَ وَذَلِكَ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ 791 هـ وَكَانَ قَدْ حَدَثَ قَبْل ذَلِكَ فِي أَيَّامِ السُّلْطَانِ يُوسُفَ صَلاَحِ الدِّينِ بْنِ أَيُّوبَ أَنْ يُقَال قَبْل أَذَانِ الْفَجْرِ فِي كُل لَيْلَةٍ بِمِصْرَ وَالشَّامِ: السَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا رَسُول اللَّهِ وَاسْتَمَرَّ ذَلِكَ إِلَى سَنَةِ 777 هـ فَزِيدَ فِيهِ بِأَمْرِ الْمُحْتَسِبِ صَلاَحِ الدِّينِ الْبُرُلُّسِيِّ أَنْ يُقَال: الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا رَسُول اللَّهِ ثُمَّ جَعَل ذَلِكَ عَقِبَ كُل أَذَانٍ سَنَةَ (791) هـ (1) .
النِّدَاءُ بِالصَّلاَةِ فِي الْمَنَازِل:
16 - يَجُوزُ لِلْمُؤَذِّنِ أَنْ يَقُول عِنْدَ شِدَّةِ الْمَطَرِ أَوِ الرِّيحِ أَوِ الْبَرْدِ: أَلاَ صَلُّوا فِي رِحَالِكُمْ، وَيَكُونُ ذَلِكَ بَعْدَ الأَْذَانِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَذَّنَ بِالصَّلاَةِ فِي لَيْلَةٍ ذَاتِ بَرْدٍ وَرِيحٍ، ثُمَّ قَال: أَلاَ صَلُّوا فِي الرِّحَال، ثُمَّ قَال: إِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْمُرُ الْمُؤَذِّنَ إِذَا كَانَتْ لَيْلَةٌ ذَاتُ بَرْدٍ وَمَطَرٍ أَنْ يَقُول: أَلاَ صَلُّوا فِي الرِّحَال (2) ، وَرُوِيَ أَيْضًا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا ابْتَلَّتِ النِّعَال فَالصَّلاَةُ فِي الرِّحَال (3) .
__________
(1) ابن عابدين 1 / 261، والدسوقي 1 / 193 ط دار الفكر.
(2) حديث ابن عمر " أنه أذن. . . " أخرجه النسائي (2 / 15)
(3) هامثس الحطاب 1 / 427، ومنتهى الإرادات 1 / 281، والمجموع 3 / 129 - 130، والشلبي على الزيلعي 1 / 133 ط دار المعرفة وحديث " إذا ابتلت النعال " لم يرد بهذا اللفظ في كتب الحديث وذكره ابن الأثير في النهاية وقال الشيخ تاج الدين الفزاري في الأقليد لم أجده في الأصول وإنما ذكره أهل العربية وللحديث شاهد آخر " إذا كان مطر وابل فصلوا في نعالكم " رواه الحاكم وعبد الله بن الإمام أح (تلخيص الحبير 2 / 31)(2/362)
شَرَائِطُ الأَْذَانِ
يُشْتَرَطُ فِي الأَْذَانِ لِلصَّلاَةِ مَا يَأْتِي:
دُخُول وَقْتِ الصَّلاَةِ:
17 - دُخُول وَقْتِ الصَّلاَةِ الْمَفْرُوضَةِ شَرْطٌ لِلأَْذَانِ، فَلاَ يَصِحُّ الأَْذَانُ قَبْل دُخُول الْوَقْتِ - إِلاَّ فِي الأَْذَانِ لِصَلاَةِ الْفَجْرِ عَلَى مَا سَيَأْتِي - لأَِنَّ الأَْذَانَ شُرِعَ لِلإِْعْلاَمِ بِدُخُول الْوَقْتِ، فَإِذَا قُدِّمَ عَلَى الْوَقْتِ لَمْ يَكُنْ لَهُ فَائِدَةٌ، وَإِذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ قَبْل الْوَقْتِ أَعَادَ الأَْذَانَ بَعْدَ دُخُول الْوَقْتِ، إِلاَّ إِذَا صَلَّى النَّاسُ فِي الْوَقْتِ وَكَانَ الأَْذَانُ قَبْلَهُ فَلاَ يُعَادُ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ بِلاَلاً أَذَّنَ قَبْل طُلُوعِ الْفَجْرِ فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَرْجِعَ فَيُنَادِيَ: أَلاَ إِنَّ الْعَبْدَ قَدْ نَامَ، فَرَجَعَ فَنَادَى: أَلاَ إِنَّ الْعَبْدَ قَدْ نَامَ. (1)
وَالْمُسْتَحَبُّ إِذَا دَخَل الْوَقْتُ أَنْ يُؤَذِّنَ فِي أَوَّلِهِ، لِيَعْلَمَ النَّاسُ فَيَأْخُذُوا أُهْبَتَهُمْ لِلصَّلاَةِ، وَكَانَ بِلاَلٌ لاَ يُؤَخِّرُ الأَْذَانَ عَنْ أَوَّل الْوَقْتِ (2)
أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْفَجْرِ فَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ الأَْذَانُ لِلْفَجْرِ
__________
(1) الحطاب 1 / 428، وكشاف القناع 1 / 220، والمجموع 3 / 87، والبدائع 1 / 154، وحديث (إن بلالا أذن) . . أخرجه أبو داود وقال: هذا الحديث لم يروه عن أيوب إلا حماد ابن سلمة، وذكر الترمذي لفظ الحديث وقال: هذا حديث غير محفوظ (سنن أبي داود 1 / 210 ط السعادة، وانظر نصب الراية 1 / 285)
(2) المغني 1 / 412، والأثر عن بلال أخرجه ابن ماجه 1 / 236 ط عيسى الحلبي.(2/363)
قَبْل الْوَقْتِ، فِي النِّصْفِ الأَْخِيرِ مِنَ اللَّيْل عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَأَبِي يُوسُفَ، وَفِي السُّدُسِ الأَْخِيرِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ. وَيُسَنُّ الأَْذَانُ ثَانِيًا عِنْدَ دُخُول الْوَقْتِ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ بِلاَلاً يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤَذِّنَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ. (1)
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - غَيْرِ أَبِي يُوسُفَ - لاَ يَجُوزُ الأَْذَانُ لِصَلاَةِ الْفَجْرِ إِلاَّ عِنْدَ دُخُول الْوَقْتِ، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا مِنَ الصَّلَوَاتِ؛ لِمَا رَوَى شَدَّادٌ مَوْلَى عِيَاضِ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لِبِلاَلٍ: لاَ تُؤَذِّنْ حَتَّى يَسْتَبِينَ لَكَ الْفَجْرُ. (2)
18 - وَأَمَّا الْجُمُعَةُ فَمِثْل بَاقِي الصَّلَوَاتِ لاَ يَجُوزُ الأَْذَانُ لَهَا قَبْل دُخُول الْوَقْتِ، وَلِلْجُمُعَةِ أَذَانَانِ، أَوَّلُهُمَا عِنْدَ دُخُول الْوَقْتِ، وَهُوَ الَّذِي يُؤْتَى بِهِ مِنْ خَارِجِ الْمَسْجِدِ - عَلَى الْمِئْذَنَةِ وَنَحْوِهَا - وَقَدْ أَمَرَ بِهِ سَيِّدُنَا عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ كَثُرَ النَّاسُ.
وَالثَّانِي وَهُوَ الَّذِي يُؤْتَى بِهِ إِذَا صَعِدَ الإِْمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَيَكُونُ دَاخِل الْمَسْجِدِ بَيْنَ يَدَيِ الْخَطِيبِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي كَانَ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَهْدِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ حَتَّى أَحْدَثَ عُثْمَانُ الأَْذَانَ الثَّانِيَ.
وَكِلاَ الأَْذَانَيْنِ مَشْرُوعٌ إِلاَّ مَا رُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ
__________
(1) البدائع 1 / 154، ومغني المحتاج 1 / 139، ومنتهى الإرادات 1 / 129 والحطاب 1 / 428، وحديث: " إن بلالا يؤذن. . " متفق عليه (نصب الراية 1 / 288)
(2) حديث شداد: (لا تؤذن حتى. . . " أخرجه أبو داود بزيادة " هكذا " ومد يده عرضا، وسكت عنه وأعله البيهقي بالانقطاع وقال في المعرفة: شداد مولي عياض لم يدرك بلالا. وقال ابن القطان: شداد مجهول ولا يعرف بغير رواية جعفر بن برقان عنه (سنن أبي داود 1 / 210، ونصف الراية 1 / 283)(2/363)
مِنْ أَنَّهُ اسْتَحَبَّ أَنْ يَكُونَ لِلْجُمُعَةِ أَذَانٌ وَاحِدٌ عِنْدَ الْمِنْبَرِ (1) . هَذَا وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأَذَانَيِ الْجُمُعَةِ مِنْ أَحْكَامٍ وَأَيِّهِمَا الْمُعْتَبَرِ فِي تَحْرِيمِ الْبَيْعِ (ر: بَيْعٌ، وَصَلاَةُ الْجُمُعَةِ) .
النِّيَّةُ فِي الأَْذَانِ:
19 - نِيَّةُ الأَْذَانِ شَرْطٌ لِصِحَّتِهِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لِحَدِيثِ: إِنَّمَا الأَْعْمَال بِالنِّيَّاتِ (2) ، وَلِذَلِكَ لَوْ أَخَذَ شَخْصٌ فِي ذِكْرِ اللَّهِ بِالتَّكْبِيرِ ثُمَّ بَدَا لَهُ عَقِبَ مَا كَبَّرَ أَنْ يُؤَذِّنَ فَإِنَّهُ يَبْتَدِئُ الأَْذَانَ مِنْ أَوَّلِهِ، وَلاَ يَبْنِي عَلَى مَا قَال. وَالنِّيَّةُ لَيْسَتْ شَرْطًا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى الأَْرْجَحِ وَلَكِنَّهَا مَنْدُوبَةٌ، إِلاَّ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ عِنْدَهُمْ عَدَمُ الصَّارِفِ فَلَوْ قَصَدَ تَعْلِيمَ غَيْرِهِ لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ.
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَلاَ تُشْتَرَطُ عِنْدَهُمُ النِّيَّةُ لِصِحَّةِ الأَْذَانِ وَإِنْ كَانَتْ شَرْطًا لِلثَّوَابِ عَلَيْهِ (3) .
أَدَاءُ الأَْذَانِ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ:
20 - اشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ كَوْنَ الأَْذَانِ بِاللَّفْظِ الْعَرَبِيِّ عَلَى الصَّحِيحِ وَلاَ يَصِحُّ الإِْتْيَانُ بِهِ بِأَيِّ لُغَةٍ أُخْرَى وَلَوْ عَلِمَ أَنَّهُ أَذَانٌ.
__________
(1) منح الجيل 1 / 118، والبدائع 1 / 152، والمغني 2 / 297 والمجموع 3 / 124
(2) حديث " إنما الأعمال. . . . متفق عليه من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه واللفظ للبخاري (اللؤلؤ والمرجان ص 496)
(3) منتهى الإرادات 1 / 129، والحطاب 1 / 424، ونهاية المحتاج 1 / 394، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص 11 ط الجمالية.(2/364)
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَعِنْدَهُمْ إِنْ كَانَ يُؤَذِّنُ لِجَمَاعَةٍ وَفِيهِمْ مَنْ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ لَمْ يَجُزِ الأَْذَانُ بِغَيْرِهَا، وَيُجْزِئُ إِنْ لَمْ يُوجَدْ مَنْ يُحْسِنُهَا، وَإِنْ كَانَ يُؤَذِّنُ لِنَفْسِهِ فَإِنْ كَانَ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ لاَ يُجْزِئُهُ الأَْذَانُ بِغَيْرِهَا وَإِنْ كَانَ لاَ يُحْسِنُهَا أَجْزَأَهُ (1) . وَلَمْ يَظْهَرْ لِلْمَالِكِيَّةِ نَصٌّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
خُلُوُّ الأَْذَانِ مِنَ اللَّحْنِ:
21 - اللَّحْنُ الَّذِي يُغَيِّرُ الْمَعْنَى فِي الأَْذَانِ كَمَدِّ هَمْزَةِ اللَّهُ أَكْبَرُ أَوْ بَائِهِ يُبْطِل الأَْذَانَ، فَإِنْ لَمْ يُغَيِّرِ الْمَعْنَى فَهُوَ مَكْرُوهٌ وَهَذَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ مَكْرُوهٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ قَال ابْنُ عَابِدِينَ: اللَّحْنُ الَّذِي يُغَيِّرُ الْكَلِمَاتِ لاَ يَحِل فِعْلُهُ (2) .
التَّرْتِيبُ بَيْنَ كَلِمَاتِ الأَْذَانِ:
22 - يُقْصَدُ بِالتَّرْتِيبِ أَنْ يَأْتِيَ الْمُؤَذِّنُ بِكَلِمَاتِ الأَْذَانِ عَلَى نَفْسِ النَّظْمِ وَالتَّرْتِيبِ الْوَارِدِ فِي السُّنَّةِ دُونَ تَقْدِيمٍ أَوْ تَأْخِيرٍ لِكَلِمَةٍ أَوْ جُمْلَةٍ عَلَى الأُْخْرَى، وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ أَنَّ التَّرْتِيبَ عِنْدَهُمْ وَاجِبٌ فَإِنْ فَعَل الْمُؤَذِّنُ ذَلِكَ اسْتَأْنَفَ الأَْذَانَ مِنْ أَوَّلِهِ؛ لأَِنَّ تَرْكَ التَّرْتِيبِ يُخِل بِالإِْعْلاَمِ الْمَقْصُودِ، وَلأَِنَّهُ ذِكْرٌ يُعْتَدُّ بِهِ فَلاَ يَجُوزُ الإِْخْلاَل بِنَظْمِهِ، وَقِيل: إِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى الْمُنْتَظِمِ مِنْهُ، فَلَوْ قَدَّمَ الشَّهَادَةَ بِالرِّسَالَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ بِالتَّوْحِيدِ أَعَادَ الشَّهَادَةَ بِالرِّسَالَةِ، وَإِنْ كَانَ
__________
(1) مراقي الفلاح ص 106، وابن عابدين 1 / 256، وكشاف القناع 1 / 215، والمجموع 3 / 129
(2) منتهى الإرادات 1 / 130، والحطاب 1 / 438، والمجموع 3 / 108 - 110 وابن عابدين 1 / 259، والاختيار 1 / 44(2/364)
الاِسْتِئْنَافُ أَوْلَى (1) .
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَعِنْدَهُمُ التَّرْتِيبُ سُنَّةٌ، فَلَوْ قَدَّمَ فِي الأَْذَانِ جُمْلَةً عَلَى الأُْخْرَى أَعَادَ مَا قَدَّمَ فَقَطْ وَلاَ يَسْتَأْنِفُهُ مِنْ أَوَّلِهِ (2) .
الْمُوَالاَةُ بَيْنَ أَلْفَاظِ الأَْذَانِ:
23 - الْمُوَالاَةُ فِي الأَْذَانِ هِيَ الْمُتَابَعَةُ بَيْنَ أَلْفَاظِهِ بِدُونِ فَصْلٍ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، وَمِنَ الْفَصْل بَيْنَ أَلْفَاظِهِ مَا يَحْدُثُ دُونَ إِرَادَةٍ كَالإِْغْمَاءِ أَوِ الرُّعَافِ أَوِ الْجُنُونِ. وَالْفَصْل بَيْنَ كَلِمَاتِ الأَْذَانِ بِأَيِّ شَيْءٍ كَسُكُوتٍ أَوْ نَوْمٍ أَوْ كَلاَمٍ أَوْ إِغْمَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ، إِنْ كَانَ يَسِيرًا فَلاَ يُبْطِل الأَْذَانَ وَيَبْنِي عَلَى مَا مَضَى، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، أَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَيُسَنُّ اسْتِئْنَافُ الأَْذَانِ فِي غَيْرِ السُّكُوتِ وَالْكَلاَمِ. هَذَا مَعَ اتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ عَلَى كَرَاهَةِ الْكَلاَمِ الْيَسِيرِ إِنْ كَانَ لِغَيْرِ سَبَبٍ أَوْ ضَرُورَةٍ.
أَمَّا إِذَا طَال الْفَصْل بَيْنَ كَلِمَاتِ الأَْذَانِ بِكَلاَمٍ كَثِيرٍ، وَلَوْ مُضْطَرًّا إِلَيْهِ كَإِنْقَاذِ أَعْمَى، أَوْ نَوْمٍ طَوِيلٍ أَوْ إِغْمَاءٍ أَوْ جُنُونٍ فَيَبْطُل الأَْذَانُ وَيَجِبُ اسْتِئْنَافُهُ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ طَرِيقَةُ الْخُرَاسَانِيِّينَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، قَال الرَّافِعِيُّ: وَالأَْشْبَهُ وُجُوبُ الاِسْتِئْنَافِ عِنْدَ طُول الْفَصْل، وَقَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ بِعَدَمِ الْبُطْلاَنِ مَعَ اسْتِحْبَابِ الاِسْتِئْنَافِ.
وَأَلْحَقَ الْحَنَابِلَةُ بِحَالاَتِ بُطْلاَنِ الأَْذَانِ وَوُجُوبِ
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 137، ومنتهى الإرادات 1 / 128، والحطاب 1 / 425
(2) بدائع الصنائع 1 / 149(2/365)
اسْتِئْنَافِهِ الْفَصْل بِالْكَلاَمِ الْيَسِيرِ الْفَاحِشِ كَالشَّتْمِ وَالْقَذْفِ (1) .
رَفْعُ الصَّوْتِ بِالأَْذَانِ:
24 - أَوْجَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالأَْذَانِ؛ لِيَحْصُل السَّمَاعُ الْمَقْصُودُ لِلأَْذَانِ، وَهُوَ كَذَلِكَ رَأْيٌ لِلْحَنَفِيَّةِ، وَهَذَا إِذَا كَانَ الْغَرَضُ إِعْلاَمَ غَيْرِ الْحَاضِرِينَ بِصَلاَةِ الْجَمَاعَةِ، أَمَّا مَنْ يُؤَذِّنُ لِنَفْسِهِ أَوْ لِحَاضِرٍ مَعَهُ فَلاَ يُشْتَرَطُ رَفْعُ الصَّوْتِ بِهِ إِلاَّ بِقَدْرِ مَا يُسْمِعُ نَفْسَهُ أَوْ يَسْمَعُهُ الْحَاضِرُ مَعَهُ، وَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَِبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ إِنِّي أَرَاكَ تُحِبُّ الْغَنَمَ وَالْبَادِيَةَ، فَإِذَا كُنْتَ فِي غَنَمِكَ وَبَادِيَتِكَ فَأَذَّنْتَ بِالصَّلاَةِ فَارْفَعْ صَوْتَكَ بِالنِّدَاءِ، فَإِنَّهُ لاَ يَسْمَعُ مَدَى صَوْتِ الْمُؤَذِّنِ جِنٌّ وَلاَ إِنْسٌ إِلاَّ شَهِدَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (2) وَهُوَ سُنَّةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ: عَلِّمْهُ بِلاَلاً فَإِنَّهُ أَنْدَى وَأَمَدَّ صَوْتًا مِنْكَ.
25 - هَذَا وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَنْبَغِي أَنْ يُجْهِدَ الْمُؤَذِّنُ نَفْسَهُ بِمَا فَوْقَ طَاقَتِهِ مُبَالَغَةً فِي رَفْعِ صَوْتِهِ
__________
(1) البحر الرائق 1 / 272، وابن عابدين 1 / 260 - 261، والبدائع 1 / 149، والحطاب 1 / 427، ومغني المحتاج 1 / 137، والمجموع 3 / 114 وكشاف القناع 1 / 218، والمغني 1 / 424
(2) منتهى الإرادات 1 / 129، وكشاف القناع 1 / 217، وحاشية الجمل على شرح المنهج 1 / 298، 302 وابن عابدين 1 / 261 والبدائع 1 / 149، ومغني المحتاج 1 / 137، والحطاب 1 / 426 - 437، والرهوني 1 / 314 ط بولاق، والجواهر 1 / 36، وحديث " إني أراك. . " رواه البخاري 1 / 150 ط صبيح والنسائي ومالك والبيهقي (تلخيص الحبير 1 / 193)(2/365)
بِالأَْذَانِ خَشْيَةَ حُدُوثِ بَعْضِ الأَْمْرَاضِ لَهُ.
26 - وَلِكَيْ يَكُونَ الأَْذَانُ مَسْمُوعًا وَمُحَقِّقًا لِلْغَرَضِ مِنْهُ اسْتَحَبَّ الْفُقَهَاءُ أَنْ يَكُونَ الأَْذَانُ مِنْ فَوْقِ مَكَانٍ مُرْتَفِعٍ يُسَاعِدُ عَلَى انْتِشَارِ الصَّوْتِ بِحَيْثُ يَسْمَعُهُ أَكْبَرُ عَدَدٍ مُمْكِنٍ مِنَ النَّاسِ كَالْمِئْذَنَةِ وَنَحْوِهَا.
سُنَنُ الأَْذَانِ
اسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ:
27 - يُسَنُّ اسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ حَال الأَْذَانِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَلَوْ تَرَكَ الاِسْتِقْبَال يُجْزِئُهُ وَيُكْرَهُ، لِتَرْكِهِ السُّنَّةَ الْمُتَوَاتِرَةَ؛ لأَِنَّ مُؤَذِّنِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا يُؤَذِّنُونَ مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةِ (1) ،
وَجَازَ عِنْدَ بَعْضِ كُلٍّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ الدَّوَرَانُ حَال الأَْذَانِ إِذَا كَانَ ذَلِكَ أَسْمَعَ لِصَوْتِهِ، لأَِنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الإِْعْلاَمُ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ إِذَا لَمْ يَتِمَّ الإِْعْلاَمُ بِتَحْوِيل وَجْهِهِ عِنْدَ الْحَيْعَلَتَيْنِ فَقَطْ مَعَ ثَبَاتِ قَدَمَيْهِ فَإِنَّهُ يَسْتَدِيرُ بِجِسْمِهِ فِي الْمِئْذَنَةِ (2) .
__________
(1) حديث " كانوا يؤذنون مستقبلي القبلة " أخرج ابن عدي والحاكم من طريق عبد الرحمن بن سعد القرظ، حدثني أبي عن آبائه: أن بلالا كان إذا كبر بالأذان استقبل القبلة. وسئل يحيى بن معين عن عبد الرحمن بن سعد هذا فقال: مدني ضعيف، ولم نجد نقلا في ذلك عن فعل غير بلال من مؤذني النبي صلى الله عليه وسلم (الدراية 1 / 117 ونصب الراية 1 / 275)
(2) ابن عابدين 1 / 259 - 260، والبدائع 1 / 149، والبحر الرائق 1 / 272، والحطاب 1 / 441، والدسوقي 1 / 196، والمجموع 3 / 106، ومغني المحتاج 1 / 136 - 137، وكشاف القناع 1 / 217، والمغني 1 / 426(2/366)
وَعِنْدَ الْحَيْعَلَتَيْنِ أَيْ قَوْلِهِ (حَيَّ عَلَى الصَّلاَةِ، حَيَّ عَلَى الْفَلاَحِ) يُسَنُّ أَنْ يَلْتَفِتَ الْمُؤَذِّنُ فَيُحَوِّل وَجْهَهُ - فَقَطْ دُونَ اسْتِدَارَةِ جِسْمِهِ - يَمِينًا وَيَقُول: حَيَّ عَلَى الصَّلاَةِ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ يُحَوِّل وَجْهَهُ شِمَالاً وَهُوَ يَقُول: حَيَّ عَلَى الْفَلاَحِ مَرَّتَيْنِ، هَكَذَا كَانَ أَذَانُ بِلاَلٍ وَبِهَذَا قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ.
التَّرَسُّل أَوِ التَّرْتِيل:
28 - التَّرَسُّل هُوَ التَّمَهُّل وَالتَّأَنِّي، وَيَكُونُ بِسَكْتَةٍ - تَسَعُ الإِْجَابَةَ - بَيْنَ كُل جُمْلَتَيْنِ مِنْ جُمَل الأَْذَانِ، عَلَى أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ كُل تَكْبِيرَتَيْنِ بِصَوْتٍ وَيُفْرِدَ بَاقِيَ كَلِمَاتِهِ؛ لِلأَْمْرِ بِذَلِكَ فِي قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا أَذَّنْتَ فَتَرَسَّل (1) ، وَلأَِنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الأَْذَانِ هُوَ إِعْلاَمُ الْغَائِبِينَ بِدُخُول وَقْتِ الصَّلاَةِ، وَالتَّرَسُّل أَبْلَغُ فِي ذَلِكَ مِنَ الإِْسْرَاعِ وَقَدْ لَخَّصَ ابْنُ عَابِدِينَ مَا فِي مَسْأَلَةِ حَرَكَةِ رَاءِ التَّكْبِيرَاتِ فَقَال " الْحَاصِل أَنَّ التَّكْبِيرَةَ الثَّانِيَةَ فِي الأَْذَانِ سَاكِنَةُ الرَّاءِ لِلْوَقْفِ حَقِيقَةً وَرَفْعُهَا خَطَأٌ، وَأَمَّا التَّكْبِيرَةُ الأُْولَى مِنْ كُل تَكْبِيرَتَيْنِ مِنْهُ وَجَمِيعُ تَكْبِيرَاتِ الإِْقَامَةِ فَقِيل مُحَرَّكَةُ الرَّاءِ بِالْفَتْحَةِ عَلَى نِيَّةِ الْوَقْفِ، وَقِيل بِالضَّمَّةِ إِعْرَابًا، وَقِيل سَاكِنَةٌ بِلاَ حَرَكَةٍ عَلَى مَا هُوَ ظَاهِرُ كَلاَمِ الأَْمْدَادِ وَالزَّيْلَعِيِّ وَالْبَدَائِعِ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالَّذِي يُظْهِرُ الإِْعْرَابَ لِمَا ذَكَرَهُ عَنِ الطَّلَبَةِ، وَلِمَا فِي
__________
(1) حديث " إذا أذنت فترسل " رواه الترمذي والحاكم والبيهقي وابن عدي وضعفوه، إلا الحاكم فقال: ليس في إسناده مطعون غير عمرو بن قائد، وهو في رواية الحاكم وليس في رواية الباقين وعندهم فيه عبد المنعم صاحب السقاء وهو كاف في تضعيف الحديث، وقد تكلم المحدثون في كل رواياته بالتضعيف. (تلخيص الحبير 1 / 200)(2/366)
الأَْحَادِيثِ الْمُشْتَهِرَةِ لِلْجِرَاحِيِّ أَنَّهُ سُئِل السُّيُوطِيُّ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَال هُوَ غَيْرُ ثَابِتٍ كَمَا قَال الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ قَوْل إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَمَعْنَاهُ كَمَا قَال جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ الرَّافِعِيُّ وَابْنُ الأَْثِيرِ أَنَّهُ لاَ يَمُدُّ. وَإِطْلاَقُ الْجَزْمِ عَلَى حَذْفِ الْحَرَكَةِ الإِْعْرَابِيَّةِ لَمْ يَكُنْ مَعْهُودًا فِي الصَّدْرِ الأَْوَّل، وَإِنَّمَا هُوَ اصْطِلاَحٌ حَادِثٌ فَلاَ يَصِحُّ الْحَمْل عَلَيْهِ (1) ".
صِفَاتُ الْمُؤَذِّنِ
مَا يُشْتَرَطُ فِيهِ مِنَ الصِّفَاتِ:
الإِْسْلاَمُ:
29 - إِسْلاَمُ الْمُؤَذِّنِ شَرْطٌ لِصِحَّتِهِ، فَلاَ يَصِحُّ أَذَانُ الْكَافِرِ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْل الْعِبَادَةِ؛ وَلأَِنَّهُ لاَ يَعْتَقِدُ الصَّلاَةَ الَّتِي يُعْتَبَرُ الأَْذَانُ دُعَاءً لَهَا، فَإِتْيَانُهُ بِالأَْذَانِ ضَرْبٌ مِنَ الاِسْتِهْزَاءِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ (2) ، وَلاَ يُعْتَدُّ بِأَذَانِهِ، وَفِي حُكْمِ إِسْلاَمِهِ لَوْ أَذَّنَ يُنْظَرُ مُصْطَلَحَ: (إِسْلاَمٌ) .
الذُّكُورَةُ:
30 - مِنَ الشُّرُوطِ الْوَاجِبَةِ فِي الْمُؤَذِّنِ أَنْ يَكُونَ رَجُلاً، فَلاَ يَصِحُّ أَذَانُ الْمَرْأَةِ؛ لأَِنَّ رَفْعَ صَوْتِهَا قَدْ يُوقِعُ فِي الْفِتْنَةِ، وَهَذَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ فِي الْجُمْلَةِ، وَلاَ يُعْتَدُّ بِأَذَانِهَا لَوْ أَذَّنَتْ. وَاعْتَبَرَ الْحَنَفِيَّةُ الذُّكُورَةَ مِنَ السُّنَنِ، وَكَرِهُوا أَذَانَ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 258 - 251، والحطاب 1 / 426، 437، ومغني المحتاج 1 / 136، والمغني 1 / 407، ومنتهى الإرادات 1 / 126
(2) منتهى الإرادات 1 / 125، ومنح الجليل 1 / 120، والمهذب 1 / 64، وابن عابدين 1 / 263 - 264(2/367)
الْمَرْأَةِ، وَاسْتَحَبَّ الإِْمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ إِعَادَةَ الأَْذَانِ لَوْ أَذَّنَتْ، وَفِي الْبَدَائِعِ: لَوْ أَذَّنَتْ لِلْقَوْمِ أَجْزَأَ، وَلاَ يُعَادُ، لِحُصُول الْمَقْصُودِ، وَأَجَازَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ أَذَانَهَا لِجَمَاعَةِ النِّسَاءِ دُونَ رَفْعِ صَوْتِهَا (1) .
الْعَقْل:
31 - يُشْتَرَطُ فِي الْمُؤَذِّنِ أَنْ يَكُونَ عَاقِلاً، فَلاَ يَصِحُّ الأَْذَانُ مِنْ مَجْنُونٍ وَسَكْرَانَ لِعَدَمِ تَمْيِيزِهِمَا، وَيَجِبُ إِعَادَةُ الأَْذَانِ لَوْ وَقَعَ مِنْهُمَا؛ لأَِنَّ كَلاَمَهُمَا لَغْوٌ، وَلَيْسَا فِي الْحَال مِنْ أَهْل الْعِبَادَةِ (2) ، وَهَذَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَكَرِهَ الْحَنَفِيَّةُ أَذَانَ غَيْرِ الْعَاقِل، وَاسْتُحِبَّ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ إِعَادَةُ أَذَانِهِ (3) .
الْبُلُوغُ:
32 - الصَّبِيُّ غَيْرُ الْعَاقِل (أَيْ غَيْرُ الْمُمَيِّزِ) لاَ يَجُوزُ أَذَانُهُ بِاتِّفَاقٍ؛ لأَِنَّ مَا يَصْدُرُ مِنْهُ لاَ يُعْتَدُّ بِهِ، أَمَّا الصَّبِيُّ الْمُمَيِّزُ فَيَجُوزُ أَذَانُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (مَعَ كَرَاهَتِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَيْضًا مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ إِذَا اعْتَمَدَ عَلَى بَالِغٍ عَدْلٍ فِي مَعْرِفَةِ دُخُول الْوَقْتِ (4) .
__________
(1) منتهى الإرادات 1 / 125، ومنح الجليل 1 / 120، وابن عابدين 1 / 263، والبدائع 1 / 150، ومغني المحتاج 1 / 135، 137
(2) منتهى الإرادات 1 / 125، ومنح الجليل 1 / 120، والمهذب 1 / 64
(3) البدائع 1 / 150، وابن عابدين 1 / 264
(4) المغني 1 / 413 - 414، ومغني المحتاج 1 / 137، والمهذب 1 / 64، ومنح الجليل 1 / 120، والبدائع 1 / 150، وابن عابدين 1 / 263، والحطاب 1 / 434(2/367)
مَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَّصِفَ بِهِ الْمُؤَذِّنُ:
33 - يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ الْمُؤَذِّنُ طَاهِرًا مِنَ الْحَدَثِ الأَْصْغَرِ وَالأَْكْبَرِ؛ لأَِنَّ الأَْذَانَ ذِكْرٌ مُعَظَّمٌ، فَالإِْتْيَانُ بِهِ مَعَ الطَّهَارَةِ أَقْرَبُ إِلَى التَّعْظِيمِ، وَلِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: لاَ يُؤَذِّنُ إِلاَّ مُتَوَضِّئٌ (1) ، وَيَجُوزُ أَذَانُ الْمُحْدِثِ مَعَ الْكَرَاهَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْحَدَثِ الأَْكْبَرِ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْحَدَثِ الأَْصْغَرِ كَذَلِكَ (2) .
34 - وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ عَدْلاً؛ لأَِنَّهُ أَمِينٌ عَلَى الْمَوَاقِيتِ، وَلْيُؤَمِّنْ نَظَرَهُ إِلَى الْعَوْرَاتِ. وَيَصِحُّ أَذَانُ الْفَاسِقِ مَعَ الْكَرَاهَةِ، وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لاَ يُعْتَدُّ بِأَذَانِ ظَاهِرِ الْفِسْقِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يُقْبَل خَبَرُهُ، وَفِي الْوَجْهِ الآْخَرِ يُعْتَدُّ بِأَذَانِهِ؛ لأَِنَّهُ تَصِحُّ صَلاَتُهُ بِالنَّاسِ، فَكَذَا أَذَانُهُ (3) .
35 - وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ صَيِّتًا، أَيْ حَسَنَ الصَّوْتِ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ: فَقُمْ مَعَ بِلاَلٍ، فَأَلْقِ عَلَيْهِ مَا رَأَيْتَ، فَإِنَّهُ أَنْدَى صَوْتًا مِنْكَ (4) ؛ وَلأَِنَّهُ أَبْلَغُ فِي الإِْعْلاَمِ، هَذَا مَعَ
__________
(1) حديث أبي هريرة: " لا يؤذن إلا متوضئ "، رواه الترمذي من حديث الزهري عن أبي هريرة، وهو منقطع والراوي له عن الزهري ضعيف، ورواه أيضا من رواية يونس عن الزهري عنه موقوفا وهو أصح. (تلخيص الحبير 1 / 206)
(2) منح الجليل 1 / 120، ومنتهى الإرادات 1 / 127، ومغني المحتاج 1 / 138، والبدائع 1 / 151
(3) مغني المحتاج 1 / 138، والمغني 1 / 413، وابن عابدين 1 / 263، والحطاب 1 / 436
(4) حديث: " فقم مع بلال. . . " " رواه أبو داود (1 / 188 عون المعبود - ط المطبعة الأنصارية بدهلي، وابن ماجه رقم 706 - ط عيسى الحلبي، والترمذي رقم 189 - ط مصطفى الحلبي، وقال عنه: " حسن صحيح ".(2/368)
كَرَاهَةِ التَّمْطِيطِ وَالتَّطْرِيبِ (1) .
36 - وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَجْعَل أُصْبُعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ حَال الأَْذَانِ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِلاَلاً بِذَلِكَ وَقَال: إِنَّهُ أَرْفَعُ لِصَوْتِكَ (2) .
37 - وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُؤَذِّنَ قَائِمًا، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبِلاَلٍ: قُمْ فَأَذِّنْ بِالصَّلاَةِ (3) ، قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُل مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ أَنَّهُ مِنَ السُّنَّةِ؛ لأَِنَّهُ أَبْلَغُ فِي الإِْسْمَاعِ. وَلاَ يُؤَذِّنُ قَاعِدًا إِلاَّ لِعُذْرٍ، أَوْ كَانَ الأَْذَانُ لِنَفْسِهِ كَمَا يَقُول الْحَنَفِيَّةُ، وَيُكْرَهُ أَنْ يُؤَذِّنَ رَاكِبًا إِلاَّ فِي سَفَرٍ، وَأَجَازَ أَبُو يُوسُفَ وَالْمَالِكِيَّةُ أَذَانَ الرَّاكِبِ فِي الْحَضَرِ (4)
38 - وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِأَوْقَاتِ الصَّلاَةِ؛ لِيَتَحَرَّاهَا فَيُؤَذِّنَ فِي أَوَّلِهَا، حَتَّى كَانَ الْبَصِيرُ أَفْضَل مِنَ الضَّرِيرِ، لأَِنَّ الضَّرِيرَ لاَ عِلْمَ لَهُ بِدُخُول الْوَقْتِ (5)
39 - وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ الْمُؤَذِّنُ هُوَ الْمُقِيمَ؛ لِمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ زِيَادِ بْنِ الْحَارِثِ الصُّدَائِيِّ، حِينَ أَذَّنَ
__________
(1) منتهى الإرادات 1 / 125 - 130، ومغني المحتاج 1 / 138، وابن عابدين 1 / 259، والحطاب 1 / 437
(2) كشاف القناع 1 / 218، والمهذب 1 / 64، والحطاب 1 / 439، والبدائع 1 / 151، وحديث: " جعل الأصبعين. . . "، أخرجه ابن ماجه في سننه، والحاكم في المستدرك، وسكت عنه، والطبراني في معجمه وضعفه ابن أبي حاتم (نصب الراية 1 / 278)
(3) حديث: " قم فأذن. . " متفق عليه، وهذا اللفظ للنسائي، ولفظهما: " قم يا بلال فناد بالصلاة) . (تلخيص الحبير 1 / 203)
(4) كشاف القناع 1 / 216، والحطاب 1 / 441، المهذب 1 / 64، والبدائع 1 / 151، وابن عابدين 1 / 263
(5) المغني 1 / 414، والبدائع 1 / 150، والحطاب 1 / 436، ومغني المحتاج 1 / 137(2/368)
فَأَرَادَ بِلاَلٌ أَنْ يُقِيمَ، فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ أَخَا صُدَاءٍ قَدْ أَذَّنَ، وَمَنْ أَذَّنَ فَهُوَ يُقِيمُ (1) .
40 - وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُؤَذِّنَ مُحْتَسِبًا، وَلاَ يَأْخُذَ عَلَى الأَْذَانِ أَجْرًا؛ لأَِنَّهُ اسْتِئْجَارٌ عَلَى الطَّاعَةِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْخَبَرِ: مَنْ أَذَّنَ سَبْعَ سِنِينَ مُحْتَسِبًا كُتِبَتْ لَهُ بَرَاءَةٌ مِنَ النَّارِ (2) ، وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ مُتَطَوِّعٌ رَزَقَ الإِْمَامُ مِنْ بَيْتِ الْمَال مَنْ يَقُومُ بِهِ؛ لِحَاجَةِ الْمُسْلِمِينَ إِلَيْهِ.
41 - وَبِالنِّسْبَةِ لِلإِْجَارَةِ عَلَى الأَْذَانِ فَقَدْ أَجَازَهُ مُتَأَخِّرُو الْحَنَفِيَّةِ، لِلْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَأَجَازَهُ كَذَلِكَ الإِْمَامُ مَالِكٌ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ (3) (ر: إِجَارَةٌ) .
مَا يُشْرَعُ لَهُ الأَْذَانُ مِنَ الصَّلَوَاتِ:
42 - الأَْصْل أَنَّ الأَْذَانَ شُرِعَ لِلصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةِ فِي حَال الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ وَالْجَمَاعَةِ وَالاِنْفِرَادِ، أَدَاءً وَقَضَاءً، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ (4) ، إِلاَّ مَا قَالَهُ الْمَالِكِيَّةُ مِنْ أَنَّهُ
__________
(1) البدائع 1 / 151، ومنتهى الإرادات 1 / 128، والمهذب 1 / 66، ومنح الجليل 1 / 122، وحديث: " إن أخا صداء. . . " رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي، واللفظ له، وقال الترمذي: إنما يعرف من حديث عبد الرحمن بن زياد الأفريقي، وقد ضعفه القطان وغيره. قال: ورأيت محمد بن إسماعيل - يعني الإمام البخاري - يقوي أمره ويقول: هو مقارب الحديث. قال: والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم (تلخيص الحبير 1 / 209)
(2) حديث: " من أذن. . " أخرجه ابن ماجه رقم 727 - ط عيسى الحلبي، وقال عنه البوصيري: " أخرجه الترمذي وقال: جابر بن يزيد الجعفر ضعفوه "، يعني الذين في إسناده.
(3) البدائع 1 / 152، والمغني 1 / 415، والمهذب 1 / 66، والحطاب 1 / 455، وابن عابدين 5 / 34
(4) البحر الرائق 1 / 276 ط المطبعة العلمية بالقاهرة، والإنصاف 1 / 406 ط أولى، ونهاية المحتاج 1 / 384(2/369)
يُكْرَهُ الأَْذَانُ لِلْفَائِتَةِ، وَمَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُ لاَ أَذَانَ فِي الْحَضَرِ لِلْمُنْفَرِدِ، وَلِلْجَمَاعَةِ غَيْرِ الْمُسَافِرَةِ الْمُجْتَمِعِينَ بِمَوْضِعٍ وَلاَ يُرِيدُونَ دُعَاءَ غَيْرِهِمْ؛ لأَِنَّ الأَْذَانَ إِنَّمَا جُعِل لِيُدْعَى بِهِ الْغَائِبُ، وَلاَ غَائِبَ حَتَّى يُدْعَى. وَيُنْدَبُ لَهُمُ الأَْذَانُ فِي السَّفَرِ (1) وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا الأَْصْل بَعْضُ الْفُرُوعِ الَّتِي اخْتَلَفَ فِيهَا الْفُقَهَاءُ وَهِيَ:
الأَْذَانُ لِلْفَوَائِتِ:
43 - سَبَقَ أَنَّ مَذْهَبَ الْمَالِكِيَّةِ كَرَاهَةُ الأَْذَانِ لِلْفَوَائِتِ، وَأَمَّا غَيْرُهُمْ فَإِنَّ الْفَائِتَةَ الْوَاحِدَةَ يُؤَذَّنُ لَهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ؛ لِمَا رَوَى أَبُو قَتَادَةَ الأَْنْصَارِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَفِيهِ قَال: فَمَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الطَّرِيقِ، فَوَضَعَ رَأْسَهُ، ثُمَّ قَال: احْفَظُوا عَلَيْنَا صَلاَتَنَا، فَكَانَ أَوَّل مَنِ اسْتَيْقَظَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالشَّمْسُ فِي ظَهْرِهِ. قَال: فَقُمْنَا فَزِعِينَ. ثُمَّ قَال: ارْكَبُوا فَرَكِبْنَا، فَسِرْنَا، حَتَّى إِذَا ارْتَفَعَتِ الشَّمْسُ نَزَل. ثُمَّ دَعَا بِمِيضَأَةٍ كَانَتْ مَعِي فِيهَا شَيْءٌ مِنْ مَاءٍ. قَال فَتَوَضَّأَ مِنْهَا وُضُوءًا دُونَ وُضُوءٍ. قَال: وَبَقِيَ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ مَاءٍ. ثُمَّ قَال لأَِبِي قَتَادَةَ: احْفَظْ عَلَيْنَا مِيضَأَتَكَ، فَسَيَكُونُ لَهَا نَبَأٌ ثُمَّ أَذَّنَ بِلاَلٌ بِالصَّلاَةِ، فَصَلَّى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ صَلَّى الْغَدَاةَ، فَصَنَعَ كَمَا كَانَ يَصْنَعُ كُل يَوْمٍ (2) .
__________
(1) الحطاب 1 / 451، ومنح الجليل 1 / 122
(2) حديث التعريس رواه مسلم (مسلم 1 / 472 ط عيسى الحلبي) .(2/369)
44 - أَمَّا إِذَا تَعَدَّدَتِ الْفَوَائِتُ فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: الأَْوْلَى أَنْ يُؤَذِّنَ وَيُقِيمَ لِكُل صَلاَةٍ، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُؤَذِّنَ لِلأُْولَى فَقَطْ وَيُقِيمَ لِمَا بَعْدَهَا، وَذَلِكَ جَائِزٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَيْضًا. وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ فِي قَضَاءِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلَوَاتِ الَّتِي فَاتَتْهُ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، فَفِي بَعْضِهَا أَنَّهُ أَمَرَ بِلاَلاً، فَأَذَّنَ وَأَقَامَ لِكُل صَلاَةٍ، وَفِي بَعْضِهَا أَنَّهُ أَذَّنَ وَأَقَامَ لِلأُْولَى، ثُمَّ أَقَامَ لِكُل صَلاَةٍ بَعْدَهَا، وَفِي بَعْضِهَا أَنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى الإِْقَامَةِ لِكُل صَلاَةٍ (1) . وَبِهَذِهِ الرِّوَايَةِ الأَْخِيرَةِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ عَلَى مَا جَاءَ فِي الأُْمِّ، وَلَكِنَّ الْمُعْتَمَدَ فِي الْمَذْهَبِ خِلاَفُ ذَلِكَ، وَوَرَدَ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي الإِْمْلاَءِ أَنَّهُ إِنْ أَمَّل اجْتِمَاعَ النَّاسِ أَذَّنَ وَأَقَامَ، وَإِنْ لَمْ يُؤَمِّل أَقَامَ؛ لأَِنَّ الأَْذَانَ يُرَادُ لِجَمْعِ النَّاسِ، فَإِذَا لَمْ يُؤَمَّل الْجَمْعُ لَمْ يَكُنْ لِلأَْذَانِ وَجْهٌ (2) .
الأَْذَانُ لِلصَّلاَتَيْنِ الْمَجْمُوعَتَيْنِ:
45 - إِذَا جُمِعَتْ صَلاَتَانِ فِي وَقْتِ إِحْدَاهُمَا، كَجَمْعِ الْعَصْرِ مَعَ الظُّهْرِ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ بِعَرَفَةَ، وَكَجَمْعِ الْمَغْرِبِ مَعَ الْعِشَاءِ بِمُزْدَلِفَةَ، فَإِنَّهُ يُؤَذِّنُ لِلأُْولَى فَقَطْ؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِمُزْدَلِفَةَ بِأَذَانٍ وَإِقَامَتَيْنِ (3) . وَهَذَا عِنْدَ
__________
(1) انظر الروايات في قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلوات التي فاتته يوم الخندق.
(2) البدائع 1 / 154، والمغني 1 / 419، ومنتهى الإرادات 1 / 129، والمهذب 1 / 62، ومغني المحتاج 1 / 135
(3) حديث: " صلى المغرب والعشاء بمزدلفة. . . " رواه مسلم من قول جابر في حديثه الطويل في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم. وفي رواية البخاري عن ابن عمر ذكر الإقامتين ولم يذكر أذانا، وفي البخاري أن ابن مسعود صلاهما بأذانين وإقامتين (البخاري 1 / 290 ط دار المعرفة بلبنان، ومسلم 2 / 891 بتحقيق محمد عبد الباقي، وانظر تلخيص الحبير ص 192)(2/370)
الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ قَوْل بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ، وَلَكِنَّ الأَْشْهَرَ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ يُؤَذِّنُ لِكُل صَلاَةٍ مِنْهُمَا (1) .
الأَْذَانُ فِي مَسْجِدٍ صُلِّيَتْ فِيهِ الْجَمَاعَةُ:
46 - لَوْ أُقِيمَتْ جَمَاعَةٌ فِي مَسْجِدٍ فَحَضَرَ قَوْمٌ لَمْ يُصَلُّوا فَالصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يُسَنُّ لَهُمُ الأَْذَانُ دُونَ رَفْعِ الصَّوْتِ لِخَوْفِ اللَّبْسِ - سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَسْجِدُ مَطْرُوقًا أَمْ غَيْرَ مَطْرُوقٍ، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَسْتَوِي الأَْمْرُ، إِنْ أَرَادُوا أَذَّنُوا وَأَقَامُوا، وَإِلاَّ صَلَّوْا بِغَيْرِ أَذَانٍ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ دَخَل مَسْجِدًا قَدْ صَلَّوْا فِيهِ فَأَمَرَ رَجُلاً فَأَذَّنَ وَأَقَامَ فَصَلَّى بِهِمْ فِي جَمَاعَةٍ (2) .
وَيُفَصِّل الْحَنَفِيَّةُ فَيَقُولُونَ: إِنْ كَانَ الْمَسْجِدُ لَهُ أَهْلٌ مَعْلُومُونَ وَصَلَّى فِيهِ غَيْرُ أَهْلِهِ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ لاَ يُكْرَهُ لأَِهْلِهِ أَنْ يُعِيدُوا الأَْذَانَ وَالإِْقَامَةَ إِذَا صَلَّوْا، وَإِنْ صَلَّى فِيهِ أَهْلُهُ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ أَوْ بَعْضُ أَهْلِهِ يُكْرَهُ لِغَيْرِ أَهْلِهِ وَلِلْبَاقِينَ مِنْ أَهْلِهِ أَنْ يُعِيدُوا الأَْذَانَ وَالإِْقَامَةَ إِذَا صَلَّوْا، وَإِنْ كَانَ الْمَسْجِدُ لَيْسَ لَهُ أَهْلٌ مَعْلُومُونَ بِأَنْ كَانَ عَلَى الطَّرِيقِ لاَ يُكْرَهُ تَكْرَارُ الأَْذَانِ وَالإِْقَامَةِ فِيهِ.
وَيَقُول الْمَالِكِيَّةُ: مَنْ أَتَى بَعْدَ صَلاَةِ الْجَمَاعَةِ صَلَّى بِغَيْرِ أَذَانٍ (3) .
__________
(1) البدائع 1 / 152 والمجموع 3 / 83 والحطاب 1 / 468
(2) رواه أبو يعلي، مجمع الزوائد 2 / 4 ط القدس.
(3) البدائع 1 / 153، والمجموع 3 / 85، والمغني 1 / 421، والحطاب 1 / 468(2/370)
تَعَدُّدُ الْمُؤَذِّنِينَ:
47 - يَجُوزُ أَنْ يَتَعَدَّدَ الْمُؤَذِّنُ فِي الْمَسْجِدِ الْوَاحِدِ، وَلاَ يُسْتَحَبُّ الزِّيَادَةُ عَلَى اثْنَيْنِ؛ لأَِنَّ الَّذِي حُفِظَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ لَهُ مُؤَذِّنَانِ بِلاَلٌ وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ (1) ، إِلاَّ أَنْ تَدْعُوَ الْحَاجَةُ إِلَى الزِّيَادَةِ عَلَيْهِمَا فَيَجُوزُ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ كَانَ لَهُ أَرْبَعَةُ مُؤَذِّنِينَ (2) ، وَإِنْ دَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ كَانَ مَشْرُوعًا.
وَكَيْفِيَّةُ أَذَانِهِمْ أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْوَاحِدُ يُسْمِعُ النَّاسَ فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يُؤَذِّنَ وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٍ، لأَِنَّ مُؤَذِّنِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَحَدُهُمَا يُؤَذِّنُ بَعْدَ الآْخَرِ (3) ، وَإِذَا كَانَ الإِْعْلاَمُ لاَ يَحْصُل بِوَاحِدٍ أَذَّنُوا بِحَسَبِ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ، إِمَّا أَنْ يُؤَذِّنَ كُل وَاحِدٍ فِي مَنَارَةٍ أَوْ نَاحِيَةٍ أَوْ أَذَّنُوا دَفْعَةً وَاحِدَةً فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، وَإِنْ خَافُوا مِنْ تَأْذِينٍ وَاحِدٍ بَعْدَ الآْخَرِ فَوَاتَ أَوَّل الْوَقْتِ أَذَّنُوا جَمِيعًا دَفْعَةً وَاحِدَةً (4) .
مَا يُعْلَنُ بِهِ عَنِ الصَّلَوَاتِ الَّتِي لَمْ يُشْرَعْ لَهَا الأَْذَانُ:
48 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الأَْذَانَ إِنَّمَا شُرِعَ لِلصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةِ، وَلاَ يُؤَذَّنُ لِصَلاَةٍ غَيْرِهَا كَالْجِنَازَةِ
__________
(1) حديث: " كان له مؤذنان. . . "، أخرجه البخاري ومسلم من حديث القاسم عن عائشة (تلخيص الحبير 1 / 208)
(2) يعرف ذلك مما في الصحيحين من حديث عمر وعائشة: " أن بلالا يؤذن بليل. . . " (نصب الراية 1 / 288)
(3) الأثر عن عثمان ذكره جماعة من الفقهاء منهم صاحب المهذب وبيض له المنذري والنووي. ولا يعرف له أصل. واحتج به الشافعي في الإملاء في جواز أكثر من مؤذنين (تلخيص الحبير 1 / 212)
(4) المغني 1 / 429، والحطاب 1 / 452 - 453، ومغني المحتاج 1 / 139، والمهذب 1 / 66، وابن عابدين 1 / 266(2/371)
وَالْوِتْرِ وَالْعِيدَيْنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ لأَِنَّ الأَْذَانَ لِلإِْعْلاَمِ بِدُخُول وَقْتِ الصَّلاَةِ، وَالْمَكْتُوبَاتُ هِيَ الْمُخَصَّصَةُ بِأَوْقَاتٍ مُعَيَّنَةٍ، وَالنَّوَافِل تَابِعَةٌ لِلْفَرَائِضِ، فَجَعَل أَذَانَ الأَْصْل أَذَانًا لِلتَّبَعِ تَقْدِيرًا، أَمَّا صَلاَةُ الْجِنَازَةِ فَلَيْسَتْ بِصَلاَةٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ، إِذْ لاَ قِرَاءَةَ فِيهَا وَلاَ رُكُوعَ وَلاَ سُجُودَ.
وَمِمَّا وَرَدَ فِي ذَلِكَ مَا فِي مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَال: صَلَّيْتُ مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعِيدَ غَيْرَ مَرَّةٍ وَلاَ مَرَّتَيْنِ بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلاَ إِقَامَةٍ (1) .
49 - أَمَّا كَيْفِيَّةُ النِّدَاءِ لِهَذِهِ الصَّلَوَاتِ الَّتِي لاَ أَذَانَ لَهَا فَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ بِالنِّسْبَةِ لِلْعِيدَيْنِ وَالْكُسُوفِ وَالاِسْتِسْقَاءِ وَالتَّرَاوِيحِ إِذَا صُلِّيَتْ جَمَاعَةً - وَفِي وَجْهٍ لِلشَّافِعِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ لِصَلاَةِ الْجِنَازَةِ - فَإِنَّهُ يُنَادَى لَهَا: الصَّلاَةُ جَامِعَةٌ، وَهُوَ رَأْيُ الْحَنَابِلَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْعِيدِ وَالْكُسُوفِ وَالاِسْتِسْقَاءِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ لِصَلاَةِ الْكُسُوفِ، وَعِنْدَ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ لِصَلاَةِ الْعِيدَيْنِ، وَاسْتَحْسَنَ عِيَاضٌ مَا اسْتَحْسَنَهُ الشَّافِعِيُّ، وَهُوَ أَنْ يُنَادَى لِكُل صَلاَةٍ لاَ يُؤَذَّنُ لَهَا: الصَّلاَةُ جَامِعَةٌ.
وَمِمَّا اسْتَدَل بِهِ الْفُقَهَاءُ حَدِيثُ عَائِشَةَ قَالَتْ: خَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَعَثَ مُنَادِيًا يُنَادِي الصَّلاَةُ جَامِعَةٌ (2) .
__________
(1) حديث جابر بن سمرة: " صليت. . . "، أخرجه مسلم (2 / 604 ط عيسى الحلبي) .
(2) ابن عابدين 1 / 565، وفتح القدير 1 / 210، والمجموع 3 / 77، والشرواني على التحفة 1 / 462 ط دار صادر والحطاب 1 / 435 و 2 / 191، والمواق بهاش الحطاب 1 / 423، وكشاف القناع 1 / 211، وحديث عائشة: " خسفت الشمس. . " رواه مسلم 2 / 620، وانظر نصب الراية (1 / 257)(2/371)
إِجَابَةُ الْمُؤَذِّنِ وَالدُّعَاءُ بَعْدَ الإِْجَابَةِ:
50 - يُسَنُّ لِمَنْ سَمِعَ الأَْذَانَ مُتَابَعَتُهُ بِمِثْلِهِ، وَهُوَ أَنْ يَقُول مِثْل مَا يَقُول، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا سَمِعْتُمُ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْل مَا يَقُول الْمُؤَذِّنُ (1) وَيُسَنُّ أَنْ يَقُول عِنْدَ الْحَيْعَلَةِ: لاَ حَوْل وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ. فَقَدْ رَوَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَال الْمُؤَذِّنُ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ فَقَال أَحَدُكُمْ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ. ثُمَّ قَال: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ قَال: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ. ثُمَّ قَال: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّهِ. قَال: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّهِ. ثُمَّ قَال: حَيَّ عَلَى الصَّلاَةِ. قَال: لاَ حَوْل وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ. ثُمَّ قَال: حَيَّ عَلَى الْفَلاَحِ. قَال: لاَ حَوْل وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ. ثُمَّ قَال: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ. قَال: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ. ثُمَّ قَال: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ. قَال: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، مِنْ قَلْبِهِ - دَخَل الْجَنَّةَ (2) .
وَلأَِنَّ حَيَّ عَلَى الصَّلاَةِ، حَيَّ عَلَى الْفَلاَحِ خِطَابٌ فَإِعَادَتُهُ عَبَثٌ. وَفِي التَّثْوِيبِ وَهُوَ قَوْل " الصَّلاَةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ " فِي أَذَانِ الْفَجْرِ يَقُول: صَدَقْتَ وَبَرِرْتَ - بِكَسْرِ الرَّاءِ الأُْولَى - ثُمَّ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يَقُول: اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ وَالصَّلاَةِ الْقَائِمَةِ آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ
__________
(1) حديث: " إذا سمعتم المؤذن. . . " أخرجه الحاكم. وقال الترمذي حديث حسن صحيح وهو في الصحيحين بلفظ: " إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن "، (تلخيص الحبير 1 / 211، واللؤلؤ والمرجان ص 78، وسنن الترمذي 1 / 407 مطبعة الحلبي) .
(2) حديث عمر بن الخطاب: " إذا قال المؤذن. . .) ، أخرجه مسلم (1 / 288 - ط عيسى الحلبي) .(2/372)
وَالْفَضِيلَةَ وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْتَهُ.
وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: إِذَا سَمِعْتُمُ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْل مَا يَقُول، ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاَةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا، ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ لِيَ الْوَسِيلَةَ، فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ لاَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ إِلاَّ لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ، فَمَنْ سَأَل اللَّهَ لِيَ الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ عَلَيْهِ الشَّفَاعَةُ، ثُمَّ يَدْعُو بَعْدَ الأَْذَانِ بِمَا شَاءَ، لِحَدِيثِ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: الدُّعَاءُ لاَ يُرَدُّ بَيْنَ الأَْذَانِ وَالإِْقَامَةِ (1) "، وَيَقُول عِنْدَ أَذَانِ الْمَغْرِبِ: اللَّهُمَّ هَذَا إِقْبَال لَيْلِكَ وَإِدْبَارُ نَهَارِكَ وَأَصْوَاتُ دُعَاتِكَ فَاغْفِرْ لِي.
وَلَوْ سَمِعَ مُؤَذِّنًا ثَانِيًا أَوْ ثَالِثًا اسْتُحِبَّ لَهُ الْمُتَابَعَةُ أَيْضًا. وَمَا سَبَقَ هُوَ بِاتِّفَاقٍ إِلاَّ أَنَّ الْمَشْهُورَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنْ يَحْكِيَ السَّامِعُ لآِخِرِ الشَّهَادَتَيْنِ فَقَطْ، وَلاَ يَحْكِي التَّرْجِيعَ، وَلاَ يَحْكِي الصَّلاَةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ وَلاَ يُبَدِّلُهَا بِصَدَقْتَ وَبَرِرْتَ، وَمُقَابِل الْمَشْهُورِ أَنَّهُ يَحْكِي لآِخِرِ الأَْذَانِ (2) .
الأَْذَانُ لِغَيْرِ الصَّلاَةِ:
51 - شُرِعَ الأَْذَانُ أَصْلاً لِلإِْعْلاَمِ بِالصَّلاَةِ إِلاَّ أَنَّهُ قَدْ يُسَنُّ الأَْذَانُ لِغَيْرِ الصَّلاَةِ تَبَرُّكًا وَاسْتِئْنَاسًا أَوْ إِزَالَةً لِهَمٍّ طَارِئٍ
__________
(1) حديث: أنس " الدعاء لا يرد. . " رواه النسائي وابن خزيمة وابن حبان وأخرجه أبو داود والترمذي واللفظ له، وقال: حديث حسن صحيح (تلخيص الحبير 1 / 213، وسنن الترمذي 1 / 416 مطبعة مصطفى الحلبي) .
(2) منتهى الإرادات 1 / 130، والمغني 1 / 426 - 427، ومغني المحتاج 1 / 140، والمهذب 1 / 65، ومنح الجليل 1 / 121، والحطاب 1 / 442، والبدائع 1 / 155، وابن عابدين 1 / 265 - 266(2/372)
وَالَّذِينَ تَوَسَّعُوا فِي ذِكْرِ ذَلِكَ هُمْ فُقَهَاءُ الشَّافِعِيَّةِ فَقَالُوا: يُسَنُّ الأَْذَانُ فِي أُذُنِ الْمَوْلُودِ حِينَ يُولَدُ، وَفِي أُذُنِ الْمَهْمُومِ فَإِنَّهُ يُزِيل الْهَمَّ، وَخَلْفَ الْمُسَافِرِ، وَوَقْتَ الْحَرِيقِ، وَعِنْدَ مُزْدَحِمِ الْجَيْشِ، وَعِنْدَ تَغَوُّل الْغِيلاَنِ وَعِنْدَ الضَّلاَل فِي السَّفَرِ، وَلِلْمَصْرُوعِ، وَالْغَضْبَانِ، وَمَنْ سَاءَ خُلُقُهُ مِنْ إِنْسَانٍ أَوْ بَهِيمَةٍ، وَعِنْدَ إِنْزَال الْمَيِّتِ الْقَبْرَ قِيَاسًا عَلَى أَوَّل خُرُوجِهِ إِلَى الدُّنْيَا.
وَقَدْ رُوِيَتْ فِي ذَلِكَ بَعْضُ الأَْحَادِيثِ مِنْهَا مَا رَوَى أَبُو رَافِعٍ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذَّنَ فِي أُذُنِ الْحَسَنِ حِينَ وَلَدَتْهُ فَاطِمَةُ (1) ، كَذَلِكَ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ وُلِدَ لَهُ مَوْلُودٌ فَأَذَّنَ فِي أُذُنِهِ الْيُمْنَى وَأَقَامَ فِي الْيُسْرَى لَمْ تَضُرَّهُ أُمُّ الصِّبْيَانِ (2) . وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِنَّ الشَّيْطَانَ إِذَا نُودِيَ بِالصَّلاَةِ أَدْبَرَ (3) . . " إِلَخْ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ مَسْأَلَةَ الأَْذَانِ فِي أُذُنِ الْمَوْلُودِ فَقَطْ وَنَقَل الْحَنَفِيَّةُ مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ وَلَمْ يَسْتَبْعِدُوهُ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: لأَِنَّ مَا صَحَّ فِيهِ الْخَبَرُ بِلاَ مُعَارِضٍ مَذْهَبٌ لِلْمُجْتَهِدِ وَإِنْ لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ، وَكَرِهَ الإِْمَامُ
__________
(1) حديث أبو رافع: " رأيت رسول الله. . . " رواه الترمذي وقال: هذا حديث صحيح والعمل عليه (تحفة الأحوذي 5 / 107، مطبعة الفجالة) .
(2) أم الصبيان: تابعة الجن، أي من يتبع الإنس من الجن للإيذاء، وحديث: " أذان من ولد. . . " رواه أبو يعلى الموصلي في مسنده، والبيهقي قال المناوي: إسناده ضعيف (تحفة الأحوذي 5 / 107، مطبعة الفجالة، وفيض القدير 6 / 238)
(3) حديث أبي هريرة: " إن الشيطان. . . " متفق عليه (اللؤلؤ والمرجان ص 114)(2/373)
مَالِكٌ هَذِهِ الأُْمُورَ وَاعْتَبَرَهَا بِدْعَةً، إِلاَّ أَنَّ بَعْضَ الْمَالِكِيَّةِ نَقَل مَا قَالَهُ الشَّافِعِيَّةُ ثُمَّ قَالُوا: لاَ بَأْسَ بِالْعَمَل بِهِ (1) .
إِذْخِرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْذْخِرُ نَبَاتٌ طَيِّبُ الرَّائِحَةِ (2) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - لاَ يَحِل قَطْعُ شَيْءٍ مِنْ شَجَرِ حَرَمِ مَكَّةَ الَّذِي نَبَتَ دُونَ تَدَخُّل الإِْنْسَانِ، وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ الإِْذْخِرُ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ قَطْعُهُ (3) ، لاِسْتِثْنَاءِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهُ لِلْحَاجَةِ إِلَيْهِ فِيمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: حَرَّمَ اللَّهُ مَكَّةَ فَلَمْ تَحِل لأَِحَدٍ قَبْلِي وَلاَ لأَِحَدٍ بَعْدِي، أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، لاَ يُخْتَلَى خَلاَهَا وَلاَ يُعْضَدُ شَجَرُهَا، وَلاَ يُنَفَّرُ صَيْدُهَا وَلاَ تُلْتَقَطُ لُقَطَتُهَا إِلاَّ لِمُعَرِّفٍ، قَال الْعَبَّاسُ:
__________
(1) نهاية المحتاج 1 / 383، وتحفة المحتاج بهامش الشرواني 1 / 461، وكشاف القناع 1 / 212، وابن عابدين 1 / 258، والحطاب 1 / 433 - 434
(2) لسان العرب، والنهاية لابن الأثير مادة: (إذخر)
(3) مغني المحتاج 1 / 528، طبع مصطفى البابي الحلبي، وحاشية قليوبي 2 / 142، طبع مصطفى البابي الحلبي، والفتاوى الهندية 1 / 253، طبع بولاق، وحاشية ابن عابدين 2 / 218، طبع بولاق الأولى، وجواهر الإكليل 1 / 198، طبع مطبعة عباس، والمغني لابن قدامة 3 / 349، طبع المنار الثالثة.(2/373)
إِلاَّ الإِْذْخِرَ لِصَاغَتِنَا وَقُبُورِنَا، فَقَال: إِلاَّ الإِْذْخِرَ، وَفِي رِوَايَةٍ لِقُبُورِنَا وَبُيُوتِنَا (1) . وَإِذَا جَازَ قَطْعُهُ وَاسْتِعْمَالُهُ فَإِنَّ هَذَا الاِسْتِعْمَال يُشْتَرَطُ أَلاَّ يَكُونَ فِي التَّطَيُّبِ (2) .
وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ الْفُقَهَاءُ فِي الْحَجِّ فِي بَابِ مَا يُحْظَرُ فِي الْحَرَمِ مِنَ الصَّيْدِ وَقَطْعِ الشَّجَرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
إِذْكَارٌ
انْظُرْ: ذِكْرٌ
أُذُنٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الأُْذُنُ: بِضَمِّ الذَّال وَسُكُونِهَا، عُضْوُ السَّمْعِ، وَهُوَ مَعْنًى مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ وَأَهْل اللُّغَةِ.
وَإِذَا كَانَتِ الأُْذُنُ عُضْوَ السَّمْعِ، فَإِنَّ السَّمْعَ هُوَ إِدْرَاكُ الأَْصْوَاتِ الْمَسْمُوعَةِ (3) وَشَتَّانَ مَا بَيْنَهُمَا.
__________
(1) متفق عليه واللفظ للبخاري. انظر فتح الباري شرح صحيح البخاري 3 / 166، طبع المطبعة البهية المصرية وشرح النووي لصحيح مسلم 9 / 127، طبع المطبعة المصرية.
(2) فتح الباري 3 / 166
(3) الفروق في اللغة لأبي هلال العسكري ص 81 طبع دار الآفاق الجديدة - بيروت.(2/374)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ، وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
2 - الأُْذُنُ عُضْوُ السَّمْعِ، وَفِي الْجَسَدِ مِنْهُ اثْنَتَانِ فِي الْعَادَةِ. وَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ أَحْكَامٌ هِيَ:
أ - يُطْلَبُ الأَْذَانُ فِي أُذُنِ الْمَوْلُودِ الْيُمْنَى، وَالإِْقَامَةُ فِي أُذُنِهِ الْيُسْرَى، لِيَكُونَ الأَْذَانُ بِمَا فِيهِ مِنَ التَّوْحِيدِ الْخَالِصِ أَوَّل مَا يَقْرَعُ سَمْعَهُ (1) ، وَقَدْ وَرَدَ الْحَدِيثُ الشَّرِيفُ بِذَلِكَ، وَيَذْكُرُ الْفُقَهَاءُ هَذَا غَالِبًا فِي الأَْذَانِ عِنْدَ كَلاَمِهِمْ عَلَى الْمَوَاطِنِ الَّتِي يُسَنُّ فِيهَا الأَْذَانُ، وَذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ فِي الأُْضْحِيَةِ عِنْدَ كَلاَمِهِمْ عَلَى الْعَقِيقَةِ.
ب - يَرَى الْفُقَهَاءُ عَدَمَ إِبَاحَةِ سَمَاعِ الْمُنْكَرِ، وَيَرَوْنَ وُجُوبَ كَفِّ السَّمْعِ عَنْ سَمَاعِهِ، حَتَّى إِذَا مَرَّ الْمَرْءُ بِمَكَانٍ لاَ مَنَاصَ لَهُ مِنَ الْمُرُورِ فِيهِ، وَفِيهِ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْمُنْكَرَاتِ، وَضَعَ أَصَابِعَهُ فِي آذَانِهِ لِئَلاَّ يَسْمَعَ شَيْئًا مِنْهَا. كَمَا فَعَل ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَدْ رَوَى نَافِعٌ قَال: إِنَّ ابْنَ عُمَرَ سَمِعَ صَوْتَ مِزْمَارِ رَاعٍ فَوَضَعَ أُصْبُعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ وَعَدَل رَاحِلَتَهُ عَنِ الطَّرِيقِ وَهُوَ يَقُول: يَا نَافِعُ أَتَسْمَعُ؟ فَأَقُول: نَعَمْ، فَيَمْضِي، حَتَّى قُلْتُ: لاَ، فَرَفَعَ يَدَهُ وَعَدَل رَاحِلَتَهُ إِلَى الطَّرِيقِ وَقَال: رَأَيْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ زَمَّارَةَ رَاعٍ فَصَنَعَ مِثْل هَذَا (2) .
ج - وَإِذَا كَانَتِ الأُْذُنُ غَيْرَ السَّمْعِ وَهِيَ آلَتُهُ، فَإِنَّ
__________
(1) تحفة المودود في أحكام المولود ص 17 ط مطبعة الإمام وحاشية القليوبي 4 / 256 ط مصطفى البابي الحلبي، وحاشية ابن عابدين 1 / 258، ط بولاق الأولى، والمغني 8 / 649 طبع المنار الثالثة.
(2) نيل الأوطار 8 / 100 طبع المطبعة العثمانية المصرية وعزاه إلى الإمام أحمد وأبي داود وابن ماجه وإسناده صحيح (المسند بتحقيق شاكر 6 / 245)(2/374)
الْجِنَايَةِ عَلَى الأُْذُنِ الْوَاحِدَةِ تُوجِبُ الْقِصَاصَ فِي الْعَمْدِ، وَنِصْفَ الدِّيَةِ فِي الْخَطَأِ حَتَّى وَلَوْ بَقِيَ السَّمْعُ سَلِيمًا. فَإِنْ ذَهَبَ السَّمْعُ أَيْضًا مَعَ الأُْذُنِ بِجِنَايَةٍ وَاحِدَةٍ لَمْ يَجِبْ أَكْثَرُ مِنْ نِصْفِ الدِّيَةِ.
وَقَدْ فَصَّل الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْجِنَايَاتِ، وَفِي الدِّيَاتِ (1) .
هَل الأُْذُنَانِ مِنَ الرَّأْسِ؟
3 - فِي اعْتِبَارِ الأُْذُنَيْنِ مِنَ الرَّأْسِ أَوْ مِنَ الْوَجْهِ خِلاَفٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ وَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ الاِخْتِلاَفُ فِي حُكْمِ مَسْحِ الأُْذُنَيْنِ، هَل هُوَ وَاجِبٌ أَمْ غَيْرُ وَاجِبٍ؟ وَهَل يُجْزِئُ مَسْحُهُمَا بِمَاءِ الرَّأْسِ أَمْ لاَ يُجْزِئُ؟ وَفَصَّل الْفُقَهَاءُ الْقَوْل فِي ذَلِكَ فِي كَيْفِيَّةِ الْمَسْحِ (2) فِي بَابِ الْوُضُوءِ.
دَاخِل الأُْذُنَيْنِ:
4 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اعْتِبَارِ دَاخِل الأُْذُنِ مِنَ الْجَوْفِ. وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي إِفْطَارِ الصَّائِمِ بِإِدْخَال شَيْءٍ إِلَى بَاطِنِ الأُْذُنِ إِذَا لَمْ يَصِل إِلَى حَلْقِهِ (3) . وَفَصَّلُوا الْكَلاَمَ فِي ذَلِكَ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ فِي بَابِ مَا يُفْطِرُ الصَّائِمَ.
__________
(1) انظر: حاشية ابن عابدين 5 / 370، والفتاوى الهندية 6 / 10، 25 طبع بولاق، وحاشية قليوبي 4 / 13، والمغني مع الشرح الكبير 9 / 421، طبع المنار الأولى.
(2) نيل الأوطار 1 / 161، والمغني 1 / 123، 106 طبع المنار الثالثة.
(3) حاشية قليوبي 2 / 56، والغرر البهية شرح البهجة الوردية 2 / 213، طبع المطبعة الميمنية، ومواهب الجيل 2 / 425، طبع مطبعة النجاح - ليبيا، وفتح القدير 2 / 72، 73 طبع بولاق سنة / 1315(2/375)
هَل يُعَبَّرُ بِالأُْذُنِ عَنِ الْجَسَدِ كُلِّهِ؟
5 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الأُْذُنَ عُضْوٌ مِنَ الْبَدَنِ لاَ يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الْكُل، وَفَرَّعُوا عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْمَرْءَ إِذَا أَضَافَ الظِّهَارَ أَوِ الطَّلاَقَ أَوِ الْعِتْقَ وَنَحْوَهَا إِلَى الأُْذُنِ لاَ يَقَعُ مَا قَصَدَ إِلَيْهِ. كَمَا يُؤْخَذُ ذَلِكَ مِنْ كَلاَمِهِمْ فِي الأَْبْوَابِ الْمَذْكُورَةِ.
هَل الأُْذُنُ مِنَ الْعَوْرَةِ؟
6 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الأُْذُنَ فِي الْمَرْأَةِ مِنَ الْعَوْرَةِ، وَلاَ يَجُوزُ إِظْهَارُهَا لِلأَْجْنَبِيِّ.
وَمَا اتَّصَل بِهَا مِنَ الزِّينَةِ - كَالْقُرْطِ - هُوَ مِنَ الزِّينَةِ الْبَاطِنَةِ الَّتِي لاَ يَجُوزُ إِظْهَارُهَا أَيْضًا إِلاَّ مَا حَكَاهُ الْقُرْطُبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ وَقَتَادَةَ مِنَ اعْتِبَارِ الْقُرْطِ مِنَ الزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي يَجُوزُ إِظْهَارُهَا (1) .
وَاتَّفَقُوا كَذَلِكَ عَلَى أَنَّ الأُْذُنَ مَوْضِعٌ لِلزِّينَةِ فِي الْمَرْأَةِ دُونَ الرَّجُل، وَلِذَلِكَ أَبَاحُوا ثَقْبَ أُذُنِ الْجَارِيَةِ لإِِلْبَاسِهَا الْقُرْطَ (2) . وَلَيْسَ لِذَلِكَ مَكَانٌ مُحَدَّدٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، وَقَدْ ذَكَرَهُ الْحَنَفِيَّةُ فِي كِتَابِ الْحَظْرِ وَالإِْبَاحَةِ، وَذَكَرَهُ الْقَلْيُوبِيُّ فِي كِتَابِ الصِّيَال، وَذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ
__________
(1) تفسير القرطبي 12 / 228، طبع دار الكتب، وتفسير الطبري 18 / 118، طبع مصطفى البابي الحلبي، وأحكام القرآن للجصاص 3 / 388، طبع المطبعة البهية المصرية سنة 1374 وأحكام القرآن لابن العربي ص 1357، طبع عيسى البابي الحلبي، ونهاية المحتاج 6 / 184، طبع مصطفى البابي الحلبي، وإعانة الطالبين 3 / 259، طبع مصطفى البابي الحلبي الثانية، الزيلعي على الكنز 6 / 17، طبع بولاق سنة / 1313
(2) حاشية ابن عابدين 5 / 249، 270، وتحفة الودود في أحكام المولود ص 153، وحاشية القليوبي 4 / 209، 211(2/375)
فِيمَا يَحِقُّ لِلْوَلِيِّ فِعْلُهُ فِي الصَّغِيرِ الْمُولَى عَلَيْهِ.
7 - وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ إِجْزَاءِ مَقْطُوعَةِ الأُْذُنِ فِي الأُْضْحِيَةِ وَالْهَدْيِ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا لَوْ تَعَيَّبَتْ أُذُنُهَا عَيْبًا فَاحِشًا، فَأَجَازَهَا الْبَعْضُ وَلَمْ يُجِزْهَا الْبَعْضُ الآْخَرُ (1) . وَمَحَل تَفْصِيل ذَلِكَ فِي كِتَابِ الأَْضَاحِي مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ.
8 - يُسْتَحَبُّ لِلْمُؤَذِّنِ أَنْ يَضَعَ يَدَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ أَثْنَاءَ الأَْذَانِ (2) . وَقَدْ نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى ذَلِكَ فِي كِتَابِ الأَْذَانِ عِنْدَ كَلاَمِهِمْ عَلَى مَا يُسْتَحَبُّ لِلْمُؤَذِّنِ.
9 - وَيُسَنُّ لِلرَّجُل رَفْعُ يَدَيْهِ إِلَى حِذَاءِ أُذُنَيْهِ، عِنْدَ الْبَعْضِ، فِي تَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ وَتَكْبِيرَاتِ الاِنْتِقَال فِي الصَّلاَةِ. وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الصَّلاَةِ.
10 - ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ وَسْمَ الْحَيَوَانَاتِ لِغَايَةٍ مَشْرُوعَةٍ - كَعَدَمِ اخْتِلاَطِهَا بِغَيْرِهَا - مُبَاحٌ، وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ أَفْضَل مَكَانٍ لِوَسْمِ الْغَنَمِ هُوَ آذَانُهَا، لِقِلَّةِ الشَّعْرِ فِيهَا (3) .
وَقَدْ ذَكَرُوا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي بَابِ قَسْمِ الصَّدَقَاتِ.
11 - وَمَا يَسِيل مِنَ الأُْذُنِ فِي حَالَةِ الْمَرَضِ نَجِسٌ، وَفِي انْتِقَاضِ الْوُضُوءِ بِهِ خِلاَفٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ مَبْنِيٌّ عَلَى خِلاَفِهِمْ فِي انْتِقَاضِ الْوُضُوءِ (4) بِكُل خَارِجٍ نَجِسٍ مِنَ الْبَدَنِ، وَقَدْ تَكَلَّمُوا عَلَى ذَلِكَ فِي بَابِ الْوُضُوءِ عِنْدَ كَلاَمِهِمْ عَلَى نَوَاقِضِ الْوُضُوءِ.
__________
(1) بداية المجتهد 1 / 444، طبع مكتبة الكليات الأزهرية، والمغني 8 / 625، وحاشية القليوبي 4 / 251، 252
(2) مراقي الفلاح بحاشية الطحطاوي ص 106، طبع المطبعة العامرة العثمانية، والمغني 1 / 422
(3) حاشية القليوبي 3 / 194
(4) حاشية ابن عابدين 1 / 100(2/376)
إِذْنٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الإِْذْنِ فِي اللُّغَةِ: إِطْلاَقُ الْفِعْل وَالإِْبَاحَةُ (1) .
وَلَمْ يَخْرُجِ الْفُقَهَاءُ فِي اسْتِعْمَالِهِمْ لِلإِْذْنِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الإِْبَاحَةُ:
2 - الإِْبَاحَةُ هِيَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْفِعْل وَالتَّرْكِ دُونَ تَرَتُّبِ ثَوَابٍ أَوْ عِقَابٍ. وَيَذْكُرُهَا الأُْصُولِيُّونَ عِنْدَ الْكَلاَمِ عَلَى الْحُكْمِ وَأَقْسَامِهِ بِاعْتِبَارِهَا مِنْ أَقْسَامِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ عِنْدَ جُمْهُورِ الأُْصُولِيِّينَ (3) . وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلاَتٌ كَثِيرَةٌ مِنْ حَيْثُ تَقْسِيمُ الإِْبَاحَةِ، وَتَقْسِيمُ مُتَعَلِّقِهَا وَهُوَ الْمُبَاحُ (انْظُرِ: الْمُلْحَقَ الأُْصُولِيَّ) .
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، والقاموس المحيط، وكشاف اصطلاحات الفنون 1 / 93، 113 ط بيروت، والكليات للكفوي 1 / 99 ط منشورات وزارة الثقافة - سورية.
(2) ابن عابدين 5 / 101، 221 ط بولاق الثالثة، وتكملة فتح القدير 8 / 211 ط دار إحياء التراث العربي، والدسوقي 3 / 304 ط دار الفكر، ومغني المحتاج 2 / 99 ط مصطفى الحلبي.
(3) جمع الجوامع 1 / 84 ط الأولى - الأزهرية، والمستصفي 1 / 75 ط بولاق.(2/376)
وَالْفُقَهَاءُ كَذَلِكَ يُفَسِّرُونَ الإِْبَاحَةَ بِالْمَعْنَى السَّابِقِ الَّذِي ذَكَرَهُ الأُْصُولِيُّونَ (1) .
وَأَيْضًا يَسْتَعْمِل الْفُقَهَاءُ الإِْذْنَ وَالإِْبَاحَةَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَهُوَ مَا يُفِيدُ إِطْلاَقَ التَّصَرُّفِ فَقَدْ قَال الْجُرْجَانِيُّ (2) : الإِْبَاحَةُ هِيَ الإِْذْنُ بِالإِْتْيَانِ بِالْفِعْل كَيْفَ شَاءَ الْفَاعِل. وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ (3) : مَنْ نَثَرَ عَلَى النَّاسِ نِثَارًا كَانَ إِذْنًا فِي الْتِقَاطِهِ وَأُبِيحَ أَخْذُهُ، وَفَسَّرَ الشَّيْخُ عُلَيْشٌ: الْمُبَاحَ بِالْمَأْذُونِ فِيهِ (4) .
وَإِذَا كَانَ الإِْذْنُ يُسْتَعْمَل بِمَعْنَى الإِْبَاحَةِ فَلأَِنَّ الإِْبَاحَةَ مَرْجِعُهَا الإِْذْنُ. فَالإِْذْنُ هُوَ أَصْل الإِْبَاحَةِ. وَلَوْلاَ صُدُورُ مَا يَدُل عَلَى الإِْذْنِ لَمَا كَانَ الْفِعْل جَائِزَ الْوُقُوعِ، فَالإِْبَاحَةُ الشَّرْعِيَّةُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ عِنْدَ جُمْهُورِ الأُْصُولِيِّينَ، وَيَتَوَقَّفُ وُجُودُهُ عَلَى الشَّرْعِ (5) .
وَبِذَلِكَ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الإِْبَاحَةَ تَكُونُ بِمُقْتَضَى الإِْذْنِ سَوَاءٌ أَكَانَ صَرِيحًا أَمْ ضِمْنًا، وَسَوَاءٌ أَكَانَ مِنَ الشَّارِعِ أَمْ مِنَ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ.
ب - الإِْجَازَةُ:
3 - الإِْجَازَةُ مَعْنَاهَا الإِْمْضَاءُ يُقَال: أَجَازَ أَمْرَهُ إِذَا أَمْضَاهُ وَجَعَلَهُ جَائِزًا، وَأَجَزْتُ الْعَقْدَ جَعَلْتُهُ جَائِزًا وَنَافِذًا. وَالإِْذْنُ هُوَ إِجَازَةُ الإِْتْيَانِ بِالْفِعْل.
فَالإِْجَازَةُ وَالإِْذْنُ كِلاَهُمَا يَدُل عَلَى الْمُوَافَقَةِ عَلَى الْفِعْل
__________
(1) ابن عابدين 5 / 221
(2) التعريفات للجرجاني ص 3 ط مصطفى الحلبي.
(3) المغني 5 / 604 ط مكتبة الرياض.
(4) منح الجليل 1 / 596 ط مكتبة النجاح طرابلس - ليبيا. .
(5) جمع الجوامع 1 / 175، والمستصفى 1 / 100، والموافقات للشاطبي 1 / 186 ط المكتبة التجارية - مصر.(2/377)
إِلاَّ أَنَّ الإِْذْنَ يَكُونُ قَبْل الْفِعْل، وَالإِْجَازَةَ تَكُونُ بَعْدَ وُقُوعِهِ (1) .
ج - الأَْمْرُ:
4 - الأَْمْرُ مِنْ مَعَانِيهِ لُغَةً: الطَّلَبُ، وَاصْطِلاَحًا: طَلَبُ الْفِعْل عَلَى سَبِيل الاِسْتِعْلاَءِ. فَكُل أَمْرٍ يَتَضَمَّنُ إِذْنًا بِالأَْوْلَوِيَّةِ.
أَقْسَامُ الإِْذْنِ
الإِْذْنُ قَدْ يَكُونُ عَامًّا وَقَدْ يَكُونُ خَاصًّا، وَالْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ قَدْ يَكُونُ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَأْذُونِ لَهُ، وَقَدْ يَكُونُ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَوْضُوعِ أَوِ الْوَقْتِ أَوِ الزَّمَانِ.
أ - الإِْذْنُ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَأْذُونِ لَهُ:
5 - الإِْذْنُ قَدْ يَكُونُ عَامًّا بِالنِّسْبَةِ لِلشَّخْصِ الْمَأْذُونِ لَهُ، وَذَلِكَ كَمَنْ أَلْقَى شَيْئًا وَقَال: مَنْ أَخَذَهُ فَهُوَ لَهُ فَلِمَنْ سَمِعَهُ أَوْ بَلَغَهُ ذَلِكَ الْقَوْل أَنْ يَأْخُذَهُ، وَكَمَنْ وَضَعَ الْمَاءَ عَلَى بَابِهِ، فَإِنَّهُ يُبَاحُ الشُّرْبُ مِنْهُ لِمَنْ مَرَّ بِهِ مِنْ غَنِيٍّ أَوْ فَقِيرٍ، وَكَذَا مَنْ غَرَسَ شَجَرَةً فِي مَوْضِعٍ لاَ مِلْكَ فِيهِ لأَِحَدٍ، وَلَمْ يَقْصِدِ الإِْحْيَاءَ، فَقَدْ أَبَاحَ لِلنَّاسِ ثِمَارَهَا. وَكَأَنْ يَجْعَل الإِْمَامُ لِلْمُسْلِمِينَ مَوْضِعًا لِوُقُوفِ الدَّوَابِّ فِيهِ، فَلِكُل مُسْلِمٍ حَقُّ الْوُقُوفِ فِيهِ؛ لأَِنَّهُ مَأْذُونٌ مِنَ السُّلْطَانِ (2) . وَمِنْ ذَلِكَ الدَّعْوَةُ الْعَامَّةُ لِلْوَلِيمَةِ.
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، وابن عابدين 2 / 383
(2) ابن عابدين 3 / 334، ومغني المحتاج 3 / 248، والمغني 5 / 604، والحطاب 4 / 6 ط النجاح - ليبيا، والاختيار 5 / 48 ط دار المعرفة بيروت، ومنتهى الإرادات 3 / 85 ط دار الفكر(2/377)
وَقَدْ يَكُونُ الإِْذْنُ خَاصًّا بِشَخْصٍ، كَمَنْ يَقُول: هَذَا الشَّيْءُ صَدَقَةٌ لِفُلاَنٍ، أَوْ كَالْوَقْفِ عَلَى أَهْل مَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ لِصَرْفِ غَلَّةِ الْوَقْفِ عَلَيْهِمْ، أَوْ تَخْصِيصِ أَحَدِ الضِّيفَانِ بِطَعَامٍ خَاصٍّ، أَوِ اقْتِصَارِ الدَّعْوَةِ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ (1) .
ب - الإِْذْنُ بِالنِّسْبَةِ لِلتَّصَرُّفِ وَالْوَقْتِ وَالْمَكَانِ:
6 - قَدْ يَكُونُ الإِْذْنُ عَامًّا بِالنِّسْبَةِ لِلتَّصَرُّفِ وَالْوَقْتِ وَالْمَكَانِ، وَقَدْ يَكُونُ خَاصًّا، فَإِذْنُ السَّيِّدِ لِعَبْدِهِ فِي التِّجَارَةِ يُعْتَبَرُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِذْنًا عَامًّا يُجِيزُ لِلْعَبْدِ الْمَأْذُونِ لَهُ التَّصَرُّفَ فِي سَائِرِ التِّجَارَاتِ مَا عَدَا التَّبَرُّعَاتِ، حَتَّى لَوْ أَذِنَ لَهُ فِي نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ التِّجَارَاتِ فَهُوَ مَأْذُونٌ فِي جَمِيعِهَا، خِلاَفًا لِزُفَرَ؛ لأَِنَّ الإِْذْنَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِسْقَاطُ الْحَقِّ، وَالإِْسْقَاطَاتُ لاَ تَتَوَقَّتُ بِوَقْتٍ، وَلاَ تَتَخَصَّصُ بِنَوْعٍ دُونَ نَوْعٍ، وَلاَ بِمَكَانٍ دُونَ مَكَانٍ، فَلَوْ أَذِنَ لَهُ يَوْمًا صَارَ مَأْذُونًا مُطْلَقًا حَتَّى يَحْجُرَ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَال لَهُ: أَذِنْتُ لَكَ فِي التِّجَارَةِ فِي الْبَرِّ دُونَ الْبَحْرِ، إِلاَّ أَنَّهُ إِذَا أَمَرَهُ بِشِرَاءِ شَيْءٍ خَاصٍّ كَأَنْ يَقُول لَهُ: اشْتَرِ بِدِرْهَمٍ لَحْمًا لِنَفْسِكَ أَوِ اشْتَرِ كِسْوَةً فَفِي الاِسْتِحْسَانِ يَقْتَصِرُ عَلَى مَا أَذِنَ لَهُ فِيهِ؛ لأَِنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الاِسْتِخْدَامِ، يَقُول ابْنُ عَابِدِينَ: اعْلَمْ أَنَّ الإِْذْنَ بِالتَّصَرُّفِ إِذْنٌ بِالتِّجَارَةِ وَبِالشَّخْصِ اسْتِخْدَامٌ (2) .
__________
(1) ابن عابدين 3 / 443، والدسوقي 4 / 87، 88 ط دار الفكر، ومنتهى الإرادات 2 / 514 ط دار الفكر، ومغني المحتاج 3 / 249، 390
(2) ابن عابدين 5 / 101، 102، والاختيار 2 / 101ط دارا لمعرفة بيروت، وبدائع الصنائع 7 / 191 ط الجالية، والدسوقي 3 / 304، والهداية 4 / 3 ط المكتبة الإسلامية.(2/378)
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ وَزُفَرَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ يَتَقَيَّدُ الإِْذْنُ بِالنِّسْبَةِ لِلْعَبْدِ، فَلاَ يَصِيرُ الْعَبْدُ مَأْذُونًا إِلاَّ فِيمَا أَذِنَ لَهُ فِيهِ سَيِّدُهُ؛ لأَِنَّ تَصَرُّفَهُ مُسْتَفَادٌ مِنَ الإِْذْنِ، فَاقْتَصَرَ عَلَى الْمَأْذُونِ فِيهِ، فَإِذَا أَذِنَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ فِي نَوْعٍ، كَالثِّيَابِ، أَوْ فِي وَقْتٍ كَشَهْرِ كَذَا أَوْ فِي بَلَدٍ فَلاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَجَاوَزَهُ، كَالْوَكِيل وَعَامِل الْقِرَاضِ؛ لأَِنَّهُ مُتَصَرِّفٌ بِالإِْذْنِ مِنْ جِهَةِ الآْدَمِيِّ، فَوَجَبَ أَنْ يَخْتَصَّ بِمَا أَذِنَ لَهُ فِيهِ (1) ، فَإِنْ لَمْ يَنُصَّ عَلَى شَيْءٍ وَتَصَرَّفَ حَسَبَ الْمَصْلَحَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَيَتَصَرَّفُ فِي كُل الأَْنْوَاعِ وَالأَْزْمِنَةِ وَالْبُلْدَانِ. وَأَمْثِلَةُ الإِْذْنِ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ كَثِيرَةٌ كَمَا فِي الْوَكَالَةِ وَالْقِرَاضِ وَالشَّرِكَةِ وَالإِْعَارَةِ وَالإِْجَارَةِ وَغَيْرِهَا، وَتُنْظَرُ فِي أَبْوَابِهَا.
مَنْ لَهُ حَقُّ الإِْذْنِ:
إِذْنُ الشَّارِعِ:
7 - إِذْنُ الشَّارِعِ يَكُونُ إِمَّا بِنَصٍّ، أَوْ بِاجْتِهَادٍ مِنَ الْحَاكِمِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمَصَالِحِ الْعِبَادِ، مَعَ مُرَاعَاةِ الْقَوَاعِدِ الْعَامَّةِ لِمَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ، كَجَلْبِ الْمَصَالِحِ وَدَرْءِ الْمَفَاسِدِ.
وَوُجُوهُ الإِْذْنِ مِنَ الشَّارِعِ مُتَعَدِّدَةُ الأَْسْبَابِ لِتَفَرُّعِ مَنَاحِي الشَّرِيعَةِ فِي الْحِفَاظِ عَلَى كِيَانِ الْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ.
8 - فَالإِْذْنُ مِنَ الشَّارِعِ قَدْ يَكُونُ لِلتَّوْسِعَةِ وَالتَّيْسِيرِ عَلَى الْعِبَادِ فِي حَيَاتِهِمْ، كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالإِْجَارَةِ وَالرَّهْنِ، كَمَا جَاءَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَأَحَل اللَّهُ الْبَيْعَ
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 99، والمغني 5 / 84، والدسوقي 3 / 304(2/378)
وَحَرَّمَ الرِّبَا} (1) ، وقَوْله تَعَالَى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} (2) . . . إِلَخْ.
وَكَذَلِكَ الإِْذْنُ بِالتَّمَتُّعِ بِالطَّيِّبَاتِ، كَالْمَأْكَل وَالْمَشْرَبِ وَالْمَسْكَنِ وَالْمَلْبَسِ، كَمَا جَاءَ فِي قَوْله تَعَالَى: {قُل مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} (3) .
وَالإِْذْنُ بِالنِّكَاحِ لِلتَّمَتُّعِ وَالتَّنَاسُل عَلَى مَا جَاءَ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} (4) . وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا الإِْذْنُ بِالصَّيْدِ إِلاَّ فِي حَالَةِ الإِْحْرَامِ وَالإِْذْنُ بِإِحْيَاءِ الْمَوَاتِ، وَالإِْذْنُ بِالاِنْتِفَاعِ بِالطَّرِيقِ الْعَامِّ وَالْمَسِيل الْعَامِّ وَهَكَذَا (5) .
9 - وَقَدْ يَكُونُ إِذْنُ الشَّارِعِ بِالاِنْتِفَاعِ عَلَى وَجْهِ التَّعَبُّدِ وَالْقُرْبَةِ، كَالاِنْتِفَاعِ بِالْمَسَاجِدِ وَالْمَقَابِرِ وَالرِّبَاطَاتِ (6) . وَالإِْذْنُ فِي كُل مَا سَبَقَ يَجِبُ أَنْ يُقْتَصَرَ فِيهِ عَلَى الأَْصْل الَّذِي وَرَدَ مِنَ الشَّارِعِ مُقَيَّدًا بِعَدَمِ الضَّرَرِ بِالْغَيْرِ، إِذْ لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ فِي الإِْسْلاَمِ.
وَقَدْ وَضَعَ الْفُقَهَاءُ لِكُل هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ قَوَاعِدَ وَشَرَائِطَ لاَ بُدَّ مِنْ مُرَاعَاتِهَا، وَمُخَالَفَةُ ذَلِكَ تُبْطِل التَّصَرُّفَ.
__________
(1) سورة البقرة / 275
(2) سورة البقرة / 283
(3) سورة الأعراف / 32
(4) سورة النساء / 3
(5) الموافقات 1 / 126، 131، 188، 195، و 2 / 180، 181، ومغني المحتاج 2 / 361، والمغني 5 / 561، 575، 581 و 8 / 539، وابن عابدين 5 / 283، والاختيار 3 / 67 ط دار المعرفة بيروت.
(6) ابن عابدين 1 / 4 49 والدسوقي 4 / 70 ومنتهي الإرادات 2 / 495، ومغني المحتاج 2 / 389(2/379)
10 - وَقَدْ يَكُونُ الإِْذْنُ مِنَ الشَّارِعِ رَفْعًا لِلْحَرَجِ وَدَفْعًا لِلْمَشَقَّةِ؛ لأَِنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَقْصِدْ إِلَى التَّكْلِيفِ بِالشَّاقِّ وَالإِْعْنَاتِ فِيهِ وَالنُّصُوصُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} (1) ، وَقَوْلُهُ: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (2) ، وَقَوْلُهُ: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} (3) .
كَذَلِكَ وَرَدَ أَنَّ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا خُيِّرَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلاَّ اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا، وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَى عَنِ الْوِصَال فِي الْعِبَادَةِ وَيَقُول: خُذُوا مِنَ الأَْعْمَال مَا تُطِيقُونَ فَإِنَّ اللَّهَ لَنْ يَمَل حَتَّى تَمَلُّوا. (4)
وَعَلَى هَذَا الأَْسَاسِ كَانَ الإِْذْنُ لِلْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ بِالْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ. وَلَقَدْ نُقِل عَنْ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ مَنْعُ الصَّوْمِ إِذَا خَافَ التَّلَفَ بِهِ وَأَنَّهُ لاَ يُجْزِئُهُ إِنْ فَعَل، وَنُقِل الْمَنْعُ فِي الطَّهَارَةِ عِنْدَ خَوْفِ التَّلَفِ وَالاِنْتِقَال إِلَى التَّيَمُّمِ. وَالدَّلِيل عَلَى الْمَنْعِ قَوْلُهُ: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} (5) ، وَجَاءَ فِي حَدِيثِ النَّاذِرِ لِلصِّيَامِ قَائِمًا فِي الشَّمْسِ حَيْثُ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ عَلِمَ بِذَلِكَ: مُرُوهُ فَلْيَسْتَظِل
__________
(1) سورة البقرة / 286
(2) سورة البقرة / 185
(3) سورة النساء / 28
(4) حديث " خذوا من. . " أخرجه البخاري ومسلم واللفظ له (فتح الباري 4 / 213 ط السلفية وصحيح مسلم 2 / 811 - الحديث رقم 177 تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي) .
(5) سورة النساء / 29(2/379)
وَلْيَتَكَلَّمْ وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ. (1)
وَكَذَلِكَ كَانَ الإِْذْنُ بِإِبَاحَةِ مَا كَانَ مُحَرَّمًا لِذَاتِهِ وَأَذِنَ بِهِ لِعَارِضٍ كَأَكْل الْمَيْتَةِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ لإِِزَالَةِ الْغُصَّةِ وَذَلِكَ إِذَا عَرَضَتْ ضَرُورَةٌ وَهِيَ خَشْيَةُ الْمَوْتِ أَوِ التَّلَفِ، وَكَذَلِكَ الإِْذْنُ بِإِبَاحَةِ مَا كَانَ مُحَرَّمًا لِغَيْرِهِ كَالإِْذْنِ بِنَظَرِ الأَْجْنَبِيَّةِ لِلزَّوَاجِ وَبِنَظَرِ الْعَوْرَةِ إِذَا عَرَضَتْ حَاجَةٌ كَالْعِلاَجِ (2) .
وَكُل مَا كَانَ مِنْ هَذَا الْقَبِيل مِمَّا فِيهِ مَشَقَّةٌ وَحَرَجٌ سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْمَشَقَّةُ حَاصِلَةً بِاخْتِيَارِ الْمُكَلَّفِ كَالنَّاذِرِ الصِّيَامَ قَائِمًا فِي الشَّمْسِ، أَمْ كَانَتِ الْمَشَقَّةُ تَابِعَةً لِلْفِعْل كَالْمَرِيضِ غَيْرِ الْقَادِرِ عَلَى الصَّوْمِ أَوِ الصَّلاَةِ، وَالْحَاجِّ الَّذِي لاَ يَقْدِرُ عَلَى الْحَجِّ مَاشِيًا أَوْ رَاكِبًا إِلاَّ بِمَشَقَّةٍ خَارِجَةٍ عَنِ الْمُعْتَادِ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي وَرَدَ فِيهِ الْيُسْرُ وَمَشْرُوعِيَّةُ الرُّخْصِ.
وَلَقَدْ وَضَعَ الْفُقَهَاءُ بَعْضَ الْقَوَاعِدِ الْعَامَّةِ لِذَلِكَ، كَقَوْلِهِمْ: الضَّرُورَاتُ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ. الْمَشَقَّةُ تَجْلُبُ التَّيْسِيرَ. الضَّرَرُ يُزَال (3) .
أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْمَشَقَّةُ الدَّاخِلَةُ عَلَى الْمُكَلَّفِ لَيْسَتْ بِسَبَبِهِ، وَلاَ بِسَبَبِ دُخُولِهِ فِي عَمَلٍ تَنْشَأُ عَنْهُ
__________
(1) الموافقات 2 / 120 - 142، 152، والأشباه للسيوطي ص 76 ط مصطفى الحلبي. وحديث: " مروه فليستظل. . . " أخرجه البخاري وأبو داود بلفظ: " مروه فليتكلم، ليستظل وليقعد وليتم صومه "، وأخرجه أيضا أحمد وابن ماجه ومالك في الموطأ (فتح الباري 11 / 586 ط السلفية، وأبو داود، 2 / 208 ط م الحلبي 1371 هـ، والمسند 4 / 168، وابن ماجه 1 / 690 ط ع الحلبي 1372 هـ، والموطأ، 2 / 475 ترتيب محمد عبد الباقي) .
(2) الاختيار 4 / 154، والمغني 6 / 552، 8 / 596، ومنح الجليل 1 / 596
(3) الموافقات 2 / 134، 152 والأشباه للسيوطي ص 76(2/380)
فَلَقَدْ فُهِمَ مِنْ مَجْمُوعِ الشَّرِيعَةِ الإِْذْنُ فِي دَفْعِهَا عَلَى الإِْطْلاَقِ رَفْعًا لِلْمَشَقَّةِ، بَل إِنَّ الشَّارِعَ أَذِنَ فِي التَّحَرُّزِ مِنْهَا عِنْدَ تَوَقُّعِهَا وَإِنْ لَمْ تَقَعْ، وَمِنْ ذَلِكَ الإِْذْنُ فِي دَفْعِ أَلَمِ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ وَالْحَرِّ وَالْبَرْدِ، وَالإِْذْنُ فِي التَّدَاوِي عِنْدَ وُقُوعِ الأَْمْرَاضِ، وَفِي التَّوَقِّي مِنْ كُل مُؤْذٍ آدَمِيًّا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ. وَلِذَلِكَ يَقُول الْفُقَهَاءُ: لاَ ضَمَانَ فِي قَتْل الصَّائِل عَلَى نَفْسٍ أَوْ طَرَفٍ أَوْ بُضْعٍ أَوْ مَالٍ (1) .
إِذْنُ الْمَالِكِ:
11 - الْمِلْكُ - كَمَا جَاءَ فِي دُسْتُورِ الْعُلَمَاءِ - هُوَ اتِّصَالٌ شَرْعِيٌّ بَيْنَ الإِْنْسَانِ وَبَيْنَ شَيْءٍ يَكُونُ سَبَبًا لِتَصَرُّفِهِ فِيهِ وَمَانِعًا مِنْ تَصَرُّفِ غَيْرِهِ فِيهِ (2) . وَيَقُول ابْنُ نُجَيْمٍ: الْمِلْكُ قُدْرَةٌ يُثْبِتُهَا الشَّارِعُ ابْتِدَاءً عَلَى التَّصَرُّفِ (3) .
وَالأَْصْل أَنَّ كُل مَمْلُوكٍ لِشَخْصٍ لاَ يَجُوزُ تَصَرُّفُ غَيْرِهِ فِيهِ بِدُونِ إِذْنِهِ إِلاَّ لِحَاجَةٍ، كَأَنْ يَحْتَاجَ الْمَرِيضُ لِدَوَاءٍ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِلْوَلَدِ وَالْوَالِدِ الشِّرَاءُ مِنْ مَال الْمَرِيضِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمَرِيضُ بِدُونِ إِذْنِهِ (4) .
وَإِذْنُ الْمَالِكِ لِغَيْرِهِ فِيمَا يَمْلِكُهُ يَكُونُ عَلَى الْوُجُوهِ الآْتِيَةِ:
أ - الإِْذْنُ بِالصَّرْفِ:
12 - يَجُوزُ لِلْمَالِكِ أَنْ يَأْذَنَ لِغَيْرِهِ بِالتَّصَرُّفِ فِيمَا يَمْلِكُهُ، وَذَلِكَ كَمَا فِي الْوَكَالَةِ وَالْقِرَاضِ (الْمُضَارَبَةُ)
__________
(1) الموافقات 2 / 150 والشرح الصغير 2 / 533 ط مصطفى الحلبي ومغني المحتاج 4 / 194، والاختيار 4 / 170، وما بعدها.
(2) دستور العلماء 3 / 322
(3) الأشباه لابن نجيم ط المطبعة الحسينية.
(4) ابن عابدين 5 / 131 ط بولاق ط الثالثة.(2/380)
فَإِنَّ الْوَكِيل وَعَامِل الْقِرَاضِ يَتَصَرَّفَانِ فِي مِلْكِ غَيْرِهِمَا بِإِذْنِ الْمَالِكِ عَلَى مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الإِْذْنُ مِنْ تَصَرُّفَاتٍ، وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا الْوَصِيُّ وَنَاظِرُ الْوَقْفِ، وَلِذَلِكَ شُرُوطٌ مُفَصَّلَةٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ فِي الْوَكَالَةِ وَالْقِرَاضِ وَالْوَصِيَّةِ وَالْوَقْفِ.
ب - الإِْذْنُ بِانْتِقَال الْمِلْكِ إِلَى الْغَيْرِ:
13 - كَمَا فِي الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالْوَقْفِ بِشُرُوطِهِ.
ج - الإِْذْنُ بِالاِسْتِهْلاَكِ:
14 - وَذَلِكَ بِأَنْ يَأْذَنَ الْمَالِكُ بِاسْتِهْلاَكِ مَا هُوَ مَمْلُوكٌ لَهُ مِنْ رَقَبَةِ الْعَيْنِ، حَيْثُ يَأْذَنُ لِغَيْرِهِ بِتَنَاوُلِهَا وَأَخْذِهَا وَذَلِكَ كَالطَّعَامِ الَّذِي يُقَدَّمُ فِي الْوَلاَئِمِ وَالْمَنَائِحِ وَالضِّيَافَاتِ، وَمَا يُنْثَرُ عَلَى النَّاسِ فِي الأَْحْفَال مِنْ دَرَاهِمَ وَوُرُودٍ، وَيَشْمَل ذَلِكَ أَيْضًا الإِْذْنَ بِالاِسْتِهْلاَكِ بِبَدَلٍ كَمَا فِي الْقَرْضِ (1) .
د - الإِْذْنُ بِالاِنْتِفَاعِ:
15 - وَذَلِكَ كَأَنْ يَأْذَنَ بَعْضُ النَّاسِ لِبَعْضِهِمْ بِالاِنْتِفَاعِ بِالشَّيْءِ الْمَمْلُوكِ، وَالإِْذْنُ بِالاِنْتِفَاعِ لاَ يَقْتَضِي مِلْكِيَّةَ الآْذِنِ لِلْعَيْنِ بَل يَكْفِي كَوْنُهُ مَالِكًا لِلْمَنْفَعَةِ، وَالإِْذْنُ بِالاِنْتِفَاعِ قَدْ يَكُونُ بِدُونِ عِوَضٍ كَمَا فِي الْعَارِيَّةِ، وَقَدْ يَكُونُ بِعِوَضٍ كَمَا فِي الإِْجَارَةِ.
وَقَدْ يَتَنَوَّعُ الإِْذْنُ بِالاِنْتِفَاعِ حَسَبَ كَوْنِ الآْذِنِ مَالِكًا لِلْعَيْنِ مِلْكِيَّةً تَامَّةً أَوْ مَالِكًا لِمَنْفَعَتِهَا فَقَطْ وَقْتَ
__________
(1) ابن عابدين 3 / 324، ومنتهى الإرادات 3 / 89، وقواعد الأحكام في مصالح الأنام 2 / 73، 74 ط الاستقامة، الشرح الصغير 2 / 206 ط مصطفى الحلبي.(2/381)
الإِْذْنِ، فَقَدْ يَكُونُ الآْذِنُ مُسْتَأْجِرًا وَيَأْذَنُ لِغَيْرِهِ بِالاِنْتِفَاعِ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى تَفْصِيلٍ فِي الْمَذَاهِبِ، وَمِثْل ذَلِكَ الإِْعَارَةُ وَالْوَصِيَّةُ بِالْمَنْفَعَةِ وَالْوَقْفُ فَيَكُونُ لِلْمُسْتَعِيرِ وَالْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ وَالْمُوصَى لَهُ بِالْمَنْفَعَةِ - إِذَا كَانَ فِي صِيَغِهَا مَا يُفِيدُ الإِْذْنَ بِذَلِكَ - حَقُّ الإِْذْنِ لِلْغَيْرِ بِالاِنْتِفَاعِ (1) .
وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا إِذْنُ الأَْفْرَادِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ بِالاِنْتِفَاعِ بِالطَّرِيقِ الْخَاصِّ وَالْمَجْرَى الْخَاصِّ (2) . فَالإِْذْنُ فِي كُل ذَلِكَ إِذْنٌ بِالاِنْتِفَاعِ، إِلاَّ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُرَاعَى أَنْ يَكُونَ الإِْذْنُ لاَ مَعْصِيَةَ فِيهِ كَإِعَارَةِ الْجَارِيَةِ لِلْوَطْءِ وَأَنْ يَكُونَ الاِنْتِفَاعُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَذِنَ فِيهِ الْمَالِكُ أَوْ دُونَهُ فِي الضَّرَرِ وَإِلاَّ كَانَ مُتَعَدِّيًا (3) .
إِذْنُ صَاحِبِ الْحَقِّ:
16 - حَقُّ الإِْنْسَانِ هُوَ مَا تَتَعَلَّقُ بِهِ مَصْلَحَةٌ خَاصَّةٌ مُقَرَّرَةٌ بِمُقْتَضَى الشَّرِيعَةِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مَالِيًّا أَمْ غَيْرَ مَالِيٍّ. وَالأَْصْل أَنَّ كُل تَصَرُّفٍ إِذَا كَانَ يَمَسُّ حَقًّا لِغَيْرِ مَنْ يُبَاشِرُهُ وَجَبَ لِنَفَاذِهِ الإِْذْنُ فِيهِ مِنْ صَاحِبِ هَذَا الْحَقِّ.
وَصُوَرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ فِي مَسَائِل الْفِقْهِ وَمِنْهَا الأَْمْثِلَةُ الآْتِيَةُ:
17 - أ - مِنْ حُقُوقِ الزَّوْجِ عَلَى الزَّوْجَةِ مَنْعُهَا مِنَ الْخُرُوجِ مِنْ مَنْزِلِهَا، وَعَلَى ذَلِكَ فَلاَ يَجُوزُ لَهَا الْخُرُوجُ
__________
(1) الاختيار 3 / 55 وما بعدها والهداية 4 / 252 ط المكتبة الإسلامية والدسوقي 3 / 437 و 4 / 41، 72، 88، والحطاب 6 / 35 ط دار الفكر والمغني 5 / 226
(2) المغني 5 / 587 وما بعدها.
(3) الدسوقي 3 / 435(2/381)
إِلاَّ بِإِذْنِهِ، وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ الْخُرُوجُ لِحَقٍّ أَقْوَى مِنْ حَقِّهِ كَحَقِّ الشَّرْعِ (مِثْل حَجَّةِ الْفَرِيضَةِ) ، أَوْ لِلْعِلاَجِ، أَوْ لِزِيَارَةِ أَبَوَيْهَا عَلَى تَفْصِيلٍ فِي الْمَذَاهِبِ (1) .
18 - ب - لِلْمُرْتَهِنِ حَقُّ حَبْسِ الْمَرْهُونِ، حَتَّى يَسْتَوْفِيَ دَيْنَهُ، وَعَلَى ذَلِكَ فَلاَ يَجُوزُ لِلرَّاهِنِ بَيْعُ الْمَرْهُونِ إِلاَّ بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ، وَإِذَا بَاعَهُ فَهُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى إِجَازَةِ الْمُرْتَهِنِ أَوْ قَضَاءِ دَيْنِهِ وَذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (2) وَلِلْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (رَهْنٌ) .
19 - ج - لِلْوَاهِبِ قَبْل إِقْبَاضِ الْهِبَةِ أَوْ الإِْذْنِ فِي الإِْقْبَاضِ حَقُّ الْمِلْكِيَّةِ، وَعَلَى ذَلِكَ فَلاَ يَجُوزُ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ قَبْضُ الْهِبَةِ إِلاَّ بِإِذْنِ الْوَاهِبِ، فَلَوْ قَبَضَ بِلاَ إِذْنٍ أَوْ إِقْبَاضٍ لَمْ يَمْلِكْهُ، وَذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، خِلاَفًا لِلْمَالِكِيَّةِ عَلَى تَفْصِيلٍ لِلْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ (3) .
20 - د - لِلزَّوْجَةِ حَقٌّ فِي الْوَطْءِ وَالاِسْتِمْتَاعِ وَلِذَلِكَ لاَ يَجُوزُ لِلزَّوْجِ أَنْ يَعْزِل عَنِ الْحُرَّةِ إِلاَّ بِإِذْنِهَا (4) .
21 - هـ - لِلْمَرْأَةِ حَقٌّ فِي أَمْرِ نَفْسِهَا عِنْدَ إِنْكَاحِهَا، وَلِذَلِكَ تُسْتَأْذَنُ عِنْدَ إِنْكَاحِهَا عَلَى الْوُجُوبِ بِالإِْجْمَاعِ إِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا، وَعَلَى الاِخْتِلاَفِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ بَيْنَ الْوُجُوبِ وَالاِسْتِحْبَابِ إِنْ كَانَتْ بِكْرًا (5) .
22 وَلِصَاحِبِ الْبَيْتِ حَقٌّ فِي عَدَمِ دُخُول أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِهِ، وَعَلَى ذَلِكَ فَلاَ يَجُوزُ لأَِحَدٍ دُخُول بَيْتٍ إِلاَّ
__________
(1) المغني 7 / 20، وابن عابدين 2 / 664، والدسوقي 2 / 512، والقليوبي 4 / 74
(2) الاختيار 2 / 69
(3) مغني المحتاج 2 / 400، الدسوقي 4 / 101
(4) الاختيار 4 / 163
(5) منتهى الإرادات 3 / 13، 14، والدسوقي 2 / 222، 228، والهداية 1 / 196(2/382)
بِإِذْنٍ مِنْ سَاكِنِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} ، أَيْ تَسْتَأْذِنُوا (1) .
وَالصُّوَرُ مِنْ هَذَا النَّوْعِ كَثِيرَةٌ تُنْظَرُ فِي مَوَاضِعِهَا.
إِذْنُ الْقَاضِي:
23 - الْقَضَاءُ مِنَ الْوِلاَيَاتِ الْعَامَّةِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ إِقَامَةُ الْعَدْل وَإِيصَال الْحَقِّ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ، وَلَمَّا كَانَتْ تَصَرُّفَاتُ النَّاسِ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ قَدْ يَشُوبُهَا الْجَوْرُ وَعَدَمُ الإِْنْصَافِ مِمَّا يَكُونُ مَحَل نِزَاعٍ بَيْنَهُمْ كَانَ لاَ بُدَّ لِنَفَاذِ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ مِنْ إِذْنِ الْقَاضِي تَحْقِيقًا لِلْعَدْل وَمَنْعًا لِلتَّنَازُعِ وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ مَا يَأْتِي:
24 - تَجِبُ النَّفَقَةُ عَلَى الزَّوْجِ لِزَوْجَتِهِ، فَإِذَا أَعْسَرَ الزَّوْجُ بِالنَّفَقَةِ فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لاَ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا، بَل يَفْرِضُ الْقَاضِي لَهَا النَّفَقَةَ، ثُمَّ يَأْمُرُهَا بِالاِسْتِدَانَةِ، فَإِذَا اسْتَدَانَتْ بِأَمْرِ الْقَاضِي صَارَتْ دَيْنًا عَلَى الزَّوْجِ وَيُطَالَبُ بِهَا، أَمَّا لَوِ اسْتَدَانَتْ بِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي فَتَكُونُ الْمُطَالَبَةُ عَلَيْهَا (2) وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحَيْ (نَفَقَةٌ وَإِعْسَارٌ) .
25 - تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي مَال الصَّغِيرِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، فَإِذَا كَانَ لِلصَّغِيرِ وَصِيٌّ فَقَدْ قَال مُتَأَخِّرُو الْمَذْهَبِ: لاَ يُزَكِّي عَنْهُ الْوَصِيُّ إِلاَّ بِإِذْنٍ مِنَ الْحَاكِمِ، خُرُوجًا مِنَ الْخِلاَفِ وَخَاصَّةً إِذَا كَانَ هُنَاكَ حَاكِمٌ حَنَفِيٌّ يَرَى عَدَمَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي مَال الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ، كَذَلِكَ قَال الإِْمَامُ مَالِكٌ: إِذَا وَجَدَ الْوَصِيُّ فِي التَّرِكَةِ خَمْرًا فَلاَ
__________
(1) الشرح الصغير 2 / 530 ط مصطفى الحلبي، ومغني المحتاج 4 / 199 والآية من سورة النور / 27
(2) الاختيار 4 / 6(2/382)
يُرِيقُهَا إِلاَّ بَعْدَ مُطَالَعَةِ السُّلْطَانِ لِئَلاَّ، يَكُونَ مَذْهَبُهُ جَوَازَ تَخْلِيلِهَا (1) .
26 - يَقُول الْحَنَابِلَةُ: مَنْ غَابَ وَلَهُ وَدِيعَةٌ أَوْ نَحْوُهَا وَأَوْلاَدٌ فَإِنَّ الإِْنْفَاقَ عَلَيْهِمْ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بِإِذْنِ الْحَاكِمِ أَمَّا الإِْنْفَاقُ عَلَى اللَّقِيطِ فَلاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ إِذْنُ الْحَاكِمِ وَإِنْ كَانَ الأَْوْلَى إِذْنَهُ احْتِيَاطًا (2) . (ر: وَدِيعَةٌ - نَفَقَةٌ) . وَالصُّوَرُ مِنْ هَذَا النَّوْعِ كَثِيرَةٌ وَتُنْظَرُ فِي مَوَاضِعِهَا.
إِذْنُ الْوَلِيِّ:
27 - الْوَلِيُّ هُوَ مَنْ لَهُ وِلاَيَةُ التَّصَرُّفِ عَلَى غَيْرِهِ، فِي النَّفْسِ أَوْ فِي الْمَال؛ لِصِغَرٍ أَوْ سَفَهٍ أَوْ رِقٍّ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَيَظَل الْحَجْرُ قَائِمًا إِلَى أَنْ يَزُول سَبَبُهُ.
وَلَمَّا كَانَ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَعُودُ تَصَرُّفُهُمْ بِالضَّرَرِ عَلَيْهِمْ، أَوْ عَلَى السَّيِّدِ بِالنِّسْبَةِ لِلْعَبْدِ، كَانَ لاَ بُدَّ مِنْ نَظَرِ الْوَلِيِّ وَإِذْنِهِ مَنْعًا لِلضَّرَرِ.
وَفِي الْجُمْلَةِ فَإِنَّ تَصَرُّفَاتِ السَّفِيهِ وَالْمُمَيِّزِ وَالْعَبْدِ فِي الْمَال وَالنِّكَاحِ لاَ بُدَّ فِيهَا مِنْ إِذْنِ الْوَلِيِّ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لاَ حَجْرَ عَلَى السَّفِيهِ
وَالصَّغِيرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَفِي رَأْيٍ لِلْحَنَابِلَةِ، لاَ يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ وَلَوْ بِالإِْذْنِ؛ لأَِنَّهُ يُشْتَرَطُ الْبُلُوغُ لِصِحَّةِ عَقْدَيِ النِّكَاحِ وَالْبَيْعِ، وَكَذَلِكَ السَّفِيهُ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَفِي رَأْيٍ لِلْحَنَابِلَةِ لاَ يَصِحُّ تَصَرُّفُهُ فِي الْمَال وَلَوْ أَذِنَ لَهُ الْمَوْلَى لأَِنَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ لِتَبْذِيرِهِ وَسُوءِ تَصَرُّفِهِ، فَإِذَا أَذِنَ لَهُ فَقَدْ أَذِنَ فِيمَا لاَ مَصْلَحَةَ فِيهِ،
__________
(1) منح الجليل 4 / 693 ط مكتبة النجاح طرابلس - ليبيا.
(2) منتهى الإرادات 2 / 483.(2/383)
وَقِيل يَصِحُّ بِالإِْذْنِ، أَمَّا نِكَاحُهُ فَيَصِحُّ.
أَمَّا غَيْرُ الْمُمَيِّزِ وَالْمَجْنُونِ فَلاَ يَصِحُّ تَصَرُّفُهُمَا وَلَوْ بِالإِْذْنِ،
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ إِذَا تَصَرَّفَ الْمُمَيِّزُ وَالسَّفِيهُ وَالْعَبْدُ بِدُونِ إِذْنِ الْوَلِيِّ بَيْنَ الإِْجَازَةِ وَالرَّدِّ وَالْبُطْلاَنِ (1) .
28 - وَالْمَرْأَةُ وَإِنْ كَانَتْ رَشِيدَةً لاَ بُدَّ مِنْ إِذْنِ الْوَلِيِّ عِنْدَ نِكَاحِهَا - بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا - عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ؛ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِدُونِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ. (2)
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ - يَنْعَقِدُ نِكَاحُ الْحُرَّةِ الْعَاقِلَةِ الْبَالِغَةِ بِرِضَاهَا وَإِنْ لَمْ يَعْقِدْ عَلَيْهَا وَلِيٌّ - بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا؛ لأَِنَّهَا تَصَرَّفَتْ فِي خَالِصِ حَقِّهَا، وَهِيَ مِنْ أَهْلِهِ؛ لِكَوْنِهَا عَاقِلَةً مُمَيِّزَةً، وَلَهَا اخْتِيَارُ الأَْزْوَاجِ، وَإِنَّمَا يُطَالَبُ الْوَلِيُّ بِالتَّزْوِيجِ كَيْ لاَ تُنْسَبَ إِلَى الْوَقَاحَةِ (3) .
إِذْنُ مُتَوَلِّي الْوَقْفِ:
29 - مُتَوَلِّي الْوَقْفِ أَوْ نَاظِرُ الْوَقْفِ هُوَ مَنْ يَتَوَلَّى الْقِيَامَ بِشُئُونِ الْوَقْفِ وَحِفْظِهِ وَعِمَارَتِهِ وَتَنْفِيذِ شَرْطِ
__________
(1) الاختيار 2 / 94، 96، 97، 100، والهداية 1 / 215 و 3 / 280، وابن عابدين 2 / 304، 5 / 113 ط ثالثة بولاق، والدسوقي 3 / 294، والحطاب 4 / 246 ط دار الفكر، ومنح الجليل 2 / 36، 37 و 3 / 168، وقليوبي 2 / 302، 303 ط عيسى الحلبي ومغني المحتاج 2 / 99، 165، 171، والمهذب 1 / 264، 339، 396 و 2 / 34، 36، 41 ط دار المعرفة بيروت، والمغني 6 / 449، 475، 491، 515، 525 ط مكتبة الرياض و 4 / 272 وما بعدها، ومنتهى الإرادات 2 / 141، 296 و 3 / 14
(2) حديث: " أيما امرأة. . . " أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه عن عائشة وهو صحيح (فيض القدير 3 / 143)
(3) المراجع السابقة، والهداية 1 / 196(2/383)
الْوَاقِفِ، وَلاَ يَتَصَرَّفُ إِلاَّ بِمَا فِيهِ مَصْلَحَةُ الْوَقْفِ، وَلاَ يَجُوزُ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ أَوْ لِغَيْرِهِمْ إِحْدَاثُ شَيْءٍ فِيهِ، مِنْ بِنَاءٍ أَوْ غَرْسٍ إِلاَّ بِإِذْنِ نَاظِرِ الْوَقْفِ - إِذَا رَأَى فِيهِ مَصْلَحَةً، وَلاَ يَحِل لِلْمُتَوَلِّي الإِْذْنُ إِلاَّ فِيمَا يَزِيدُ الْوَقْفُ بِهِ خَيْرًا.
كَذَلِكَ مِنْ وَظِيفَةِ النَّاظِرِ تَحْصِيل الْغَلَّةِ، وَقِسْمَتُهَا عَلَى مُسْتَحِقِّيهَا، وَتَنْزِيل الطَّلَبَةِ مَنَازِلَهُمْ، وَلاَ يَجُوزُ مِثْل ذَلِكَ لِلْجَابِي، وَلاَ لِلْعَامِل وَلاَ لِلْمُدَرِّسِ إِلاَّ بِإِذْنِ النَّاظِرِ.
وَمَنَافِعُ الْمَوْقُوفِ مِلْكٌ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ، يَسْتَوْفِيهَا بِنَفْسِهِ وَبِغَيْرِهِ، بِإِعَارَةٍ أَوْ إِجَارَةٍ، كَمَا يَقُول الشَّافِعِيَّةُ، وَلَكِنَّهُ لاَ يُمَكَّنُ (1) مِنْ ذَلِكَ إِلاَّ بِإِذْنِ النَّاظِرِ، مَعَ تَفْصِيلٍ كَثِيرٍ لِلْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ، وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (وَقْفٌ) .
إِذْنُ الْمَأْذُونِ لَهُ:
30 - غَالِبًا مَا يُطْلِقُ الْفُقَهَاءُ لَفْظَ الْمَأْذُونِ لَهُ عَلَى الْعَبْدِ الَّذِي أَذِنَ لَهُ سَيِّدُهُ فِي التِّجَارَةِ، وَلِذَلِكَ يَعْقِدُونَ لَهُ بَابًا يُسَمَّى بَابُ الْمَأْذُونِ.
وَلَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ بِالنِّسْبَةِ لِلْعَبْدِ الْمَأْذُونِ: هَل يَمْلِكُ أَنْ يَأْذَنَ لِغَيْرِهِ فِي التِّجَارَةِ أَمْ لاَ؟
فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ يَجُوزُ أَنْ يَأْذَنَ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ لَهُ لِغَيْرِهِ فِي التِّجَارَةِ؛ لأَِنَّ الإِْذْنَ فِي التِّجَارَةِ تِجَارَةٌ. أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَإِنَّهُمْ يَرَوْنَ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ
__________
(1) ابن عابدين 3 / 412، 442 وما بعدها ط بولاق الثالثة، ومغني المحتاج 2 / 389 ط مصطفى الحلبي، وقليوبي 3 / 109 ط عيسى الحلبي، ومنتهى الإرادات 2 / 506 ط دار الفكر، ومنح الجليل 4 / 34 - 82 ط مكتبة النجاح، والدسوقي 4 / 97(2/384)
يَأْذَنَ لِغَيْرِهِ بِالتِّجَارَةِ بِدُونِ إِذْنِ سَيِّدِهِ، فَإِذَا أَذِنَ لَهُ سَيِّدُهُ بِذَلِكَ جَازَ، قَال الشَّافِعِيَّةُ: وَهَذَا فِي التَّصَرُّفِ الْعَامِّ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُ فِي تَصَرُّفٍ خَاصٍّ كَشِرَاءِ ثَوْبٍ جَازَ (1) .
31 - وَمِمَّا يَدْخُل فِي ذَلِكَ أَيْضًا عَامِل الْقِرَاضِ بِاعْتِبَارِهِ مَأْذُونًا مِنْ رَبِّ الْمَال فِي التِّجَارَةِ.
وَيَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِعَامِل الْمُضَارَبَةِ أَنْ يُضَارِبَ غَيْرَهُ إِلاَّ بِإِذْنِ رَبِّ الْمَال، فَإِنْ أَذِنَ لَهُ جَازَ. وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ رَبَّ الْمَال لَوْ فَوَّضَ الأَْمْرَ لِلْعَامِل، بِأَنْ قَال لَهُ اعْمَل بِرَأْيِكَ مَثَلاً، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِلْعَامِل أَنْ يُضَارِبَ بِدُونِ إِذْنِ رَبِّ الْمَال. أَمَّا إِذَا قَيَّدَهُ بِشَيْءٍ فَلاَ يَجُوزُ لَهُ.
وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَنْ يُقَارِضَ غَيْرَهُ وَلَوْ بِالإِْذْنِ، لأَِنَّ الْقِرَاضَ عَلَى خِلاَفِ الْقِيَاسِ. وَالرَّأْيُ الثَّانِي: يَجُوزُ بِالإِْذْنِ، وَقَوَّاهُ السُّبْكِيُّ، وَقَال إِنَّهُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ (2) .
وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا الْوَكِيل وَالْوَصِيُّ وَالْقَاضِي، وَتُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَاتِهَا.
التَّعَارُضُ فِي الإِْذْنِ:
32 - إِذَا اجْتَمَعَ اثْنَانِ أَوْ أَكْثَرُ، مِمَّنْ لَهُمْ حَقُّ الإِْذْنِ فِي تَزْوِيجِ الْمَرْأَةِ مَثَلاً، وَكَانُوا فِي دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ، كَإِخْوَةٍ أَوْ بَنِيهِمْ أَوْ أَعْمَامٍ، وَتَشَاحُّوا فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَطَلَبَ
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 100، ومنتهى الإرادات 2 / 297، والدسوقي 3 / 304، والبدائع 7 / 197
(2) الاختيار 3 / 20، والمغني 5 / 48، والدسوقي 3 / 388، ومغني المحتاج 2 / 314(2/384)
كُلٌّ مِنْهُمْ أَنْ يُزَوِّجَ، فَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ يُقْرَعُ بَيْنَهُمْ، قَطْعًا لِلنِّزَاعِ، وَلِتَسَاوِيهِمْ فِي الْحَقِّ وَتَعَذُّرِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمْ، فَمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ زَوَّجَ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: يَنْظُرُ الْحَاكِمُ فِيمَنْ يَرَاهُ أَحْسَنَهُمْ رَأْيًا مِنَ الأَْوْلِيَاءِ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: يَكُونُ لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يُزَوِّجَهَا عَلَى حِيَالِهِ - رَضِيَ الآْخَرُ أَوْ سَخِطَ - إِذَا كَانَ التَّزْوِيجُ مِنْ كُفْءٍ بِمَهْرٍ وَافِرٍ.
وَهَذَا إِذَا اتَّحَدَ الْخَاطِبُ، أَمَّا إِذَا تَعَدَّدَ الْخَاطِبُ فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ رِضَاهَا، وَتُزَوَّجُ بِمَنْ عَيَّنَتْهُ، فَإِنْ لَمْ تُعَيِّنِ الْمَرْأَةُ وَاحِدًا وَرَضِيَتْ بِأَيِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، نَظَرَ الْحَاكِمُ فِي تَزْوِيجِهَا مِنَ الأَْصْلَحِ، كَمَا يَقُول الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فَإِنْ بَادَرَ أَحَدُهُمْ فَزَوَّجَهَا مِنْ كُفْءٍ فَإِنَّهُ يَصِحُّ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مَا يُمَيِّزُ أَحَدَهُمْ عَلَى غَيْرِهِ.
وَلَوْ أَذِنَتْ لَهُمْ فِي التَّزْوِيجِ، فَزَوَّجَهَا أَحَدُ الأَْوْلِيَاءِ الْمُسْتَوِينَ فِي الدَّرَجَةِ مِنْ وَاحِدٍ، وَزَوَّجَهَا الآْخَرُ مِنْ غَيْرِهِ، فَإِنْ عُرِفَ السَّابِقُ فَهُوَ الصَّحِيحُ وَالآْخَرُ بَاطِلٌ، وَإِنْ وَقَعَ الْعَقْدَانِ فِي زَمَنٍ وَاحِدٍ، أَوْ جُهِل السَّابِقُ مِنْهُمَا فَبَاطِلاَنِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ (1) ، مَعَ تَفْصِيلٍ فِي ذَلِكَ. (ر: نِكَاحُ وَلِيٍّ) .
33 - وَفِي الْوَصِيَّةِ لَوْ أُوصِيَ لاِثْنَيْنِ مَعًا فَهُمَا وَصِيَّانِ، وَلاَ يَجُوزُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا الاِنْفِرَادُ بِالتَّصَرُّفِ، فَإِنِ اخْتَلَفَ الْوَصِيَّانِ فِي أَمْرٍ، كَبَيْعٍ وَشِرَاءٍ، نَظَرَ الْحَاكِمُ فِيمَا فِيهِ الأَْصْلَحُ، كَمَا يَقُول الْمَالِكِيَّةُ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - مَا عَدَا أَبَا يُوسُفَ - لاَ يَنْفَرِدُ أَحَدُ الْوَصِيَّيْنِ بِالتَّصَرُّفِ إِلاَّ إِذَا كَانَا مِنْ جِهَةِ
__________
(1) البدائع 2 / 251، ومغني المحتاج 2 / 160، والدسوقي 2 / 233، والمغني 6 / 511(2/385)
قَاضِيَيْنِ مِنْ بَلْدَتَيْنِ، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَجُوزُ أَنْ يَنْفَرِدَ أَحَدُهُمَا بِالتَّصَرُّفِ. وَقَال أَبُو يُوسُفَ يَجُوزُ أَنْ يَنْفَرِدَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالتَّصَرُّفِ فِي جَمِيعِ الأُْمُورِ (1) .
بِمَ يَكُونُ الإِْذْنُ؟
34 - لِلتَّعْبِيرِ عَنِ الإِْذْنِ وَسَائِل مُتَعَدِّدَةٌ، وَمِنْ ذَلِكَ اللَّفْظُ الصَّرِيحُ الدَّال عَلَى الإِْذْنِ، كَقَوْل الأَْبِ لِوَلَدِهِ الْمُمَيِّزِ: أَذِنْتُ لَكَ فِي التِّجَارَةِ، أَوِ اشْتَرِ لِي ثَوْبًا وَبِعْهُ، أَوِ اتَّجِرْ فِي كَذَا (2) .
35 - وَقَدْ يَكُونُ الإِْذْنُ بِالإِْشَارَةِ أَوِ الْكِتَابَةِ أَوِ الرِّسَالَةِ وَذَلِكَ كَإِذْنِ الْمَرْأَةِ فِي إِنْكَاحِهَا إِذَا كَانَتْ خَرْسَاءَ، أَوْ إِذْنِ الْوَلِيِّ بِالإِْشَارَةِ إِذَا كَانَ أَخْرَسَ، فَإِنَّ الإِْذْنَ هُنَا يَصِحُّ بِالإِْشَارَةِ إِذَا كَانَتِ الإِْشَارَةُ مَعْهُودَةً مَفْهُومَةً، وَكَذَلِكَ الدَّعْوَةُ إِلَى الْوَلِيمَةِ بِكِتَابٍ أَوْ رَسُولٍ تُعْتَبَرُ إِذْنًا فِي الدُّخُول وَالأَْكْل، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ فَجَاءَ مَعَ الرَّسُول فَإِنَّ ذَلِكَ لَهُ إِذْنٌ (3)
وَكَمَا يَكُونُ الإِْذْنُ مُبَاشَرَةً مِمَّنْ يَمْلِكُهُ فَإِنَّهُ يَكُونُ بِالإِْنَابَةِ مِنْهُ.
__________
(1) الدسوقي 4 / 453، والكافي 2 / 1031 ط مكتبة الرياض الحديثة، وابن عابدين 5 / 464 ط ثالثة بولاق، ومغني المحتاج 2 / 77، والمغني 6 / 144
(2) ابن عابدين 5 / 101 ط ثالثة بولاق، ومغني المحتاج 2 / 99، وما بعدها، والدسوقي 3 / 304، ومنتهى الإرادات 2 / 296
(3) حديث: " إذا دعي أحدكم. . . " أخرجه البخاري في الأدب المفرد، وأبو داود والبيهقي في شعب الأيمان، وهو حسن (فيض القدير 1 / 347)(2/385)
كَذَلِكَ التَّوْكِيل بِالْكِتَابَةِ وَالرِّسَالَةِ يُعْتَبَرُ إِذْنًا (1) .
36 - وَقَدْ يُعْتَبَرُ السُّكُوتُ إِذْنًا فِي بَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ. وَالأَْصْل أَنَّ السُّكُوتَ لاَ يُعْتَبَرُ إِذْنًا، وَذَلِكَ لِقَاعِدَةِ: " لاَ يُنْسَبُ لِسَاكِتٍ قَوْلٌ " وَلَكِنْ خَرَجَ عَنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ بَعْضُ الصُّوَرِ الَّتِي يُعْتَبَرُ السُّكُوتُ فِيهَا إِذْنًا، وَمِنْ ذَلِكَ سُكُوتُ الْبِكْرِ عِنْدَ وَلِيِّهَا، فَإِنَّ سُكُوتَهَا يُعْتَبَرُ إِذْنًا، وَذَلِكَ بِمُقْتَضَى الْحَدِيثِ: اسْتَأْمِرُوا النِّسَاءَ فِي أَبْضَاعِهِنَّ فَإِنَّ الْبِكْرَ تَسْتَحِي فَتَسْكُتُ فَهُوَ إِذْنُهَا (2) وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ سَوَاءٌ أَكَانَ الاِسْتِئْذَانُ مُسْتَحَبًّا أَمْ وَاجِبًا (3) .
37 - وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي سُكُوتِ الْوَلِيِّ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ مُوَلِّيَهُ يَبِيعُ وَيَشْتَرِي فَسَكَتَ هَل يُعْتَبَرُ سُكُوتُهُ إِذْنًا أَمْ لاَ؟ فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَفِي قَوْلٍ لِلْمَالِكِيَّةِ يُعْتَبَرُ إِذْنًا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَزُفَرَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَفِي قَوْلٍ لِلْمَالِكِيَّةِ لاَ يُعْتَبَرُ إِذْنًا؛ لأَِنَّ مَا يَكُونُ الإِْذْنُ فِيهِ شَرْطًا لاَ يُعْتَبَرُ فِيهِ السُّكُوتُ، كَمَنْ يَبِيعُ مَال غَيْرِهِ
__________
(1) الأشباه لابن نجيم ص 136، 137 ط المطبعة الحسينية المصرية، والأشباه للسيوطي ص 155، 311، 312، ومغني المحتاج 2 / 150، 223، 266، والمغني 6 / 317، 534، ومنهى الإرادات 2 / 314 و 3 / 12، والدسوقي 3 / 280، ومنح الجليل 2 / 166، 464، 3 / 358،360، 490، وجواهر الإكليل 1 / 325 ط دار المعرفة بيروت.
(2) حديث: " استأمروا النساء. . . . " أخرجه أحمد بلفظ " استأمروا النساء في أبضاعهن قال: قيل فإن البكر تستحي، فتسكت، قال: فهو إذنها " وأخرجه البخاري والنسائي بألفاظ مقاربة (المسند 6 / 203، وفتح الباري 12 / 319 ط السلفية، والنسائي 6 / 70 ط م الحلبي سنة 1383 هـ)
(3) الأشباه لابن نجيم ص 61، والأشباه للسيوطي ص 141، ومغني المحتاج 2 / 147، والمغني 6 / 491، والاختيار 3 / 92، والكافي 2 / 524(2/386)
وَصَاحِبُهُ سَاكِتٌ فَلاَ يُعْتَبَرُ إِذْنًا؛ وَلأَِنَّ السُّكُوتَ يَحْتَمِل الرِّضَا وَيَحْتَمِل السَّخَطَ، فَلاَ يَصْلُحُ دَلِيل الإِْذْنِ عِنْدَ الاِحْتِمَال (1) .
38 - وَقَدْ يَكُونُ الإِْذْنُ بِطَرِيقِ الدَّلاَلَةِ، وَذَلِكَ كَتَقْدِيمِ الطَّعَامِ لِلضُّيُوفِ، فَإِنَّهُ قَرِينَةٌ تَدُل عَلَى الإِْذْنِ وَكَشِرَاءِ السَّيِّدِ لِعَبْدِهِ بِضَاعَةً وَوَضْعِهَا فِي حَانُوتِهِ، وَأَمْرِهِ بِالْجُلُوسِ فِيهِ، وَكَبِنَاءِ السِّقَايَاتِ وَالْخَانَاتِ لِلْمُسْلِمِينَ وَأَبْنَاءِ السَّبِيل (2) .
تَقْيِيدُ الإِْذْنِ بِالسَّلاَمَةِ:
39 - مِنَ الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ أَنَّ الْمُتَوَلِّدَ مِنْ مَأْذُونٍ فِيهِ لاَ أَثَرَ لَهُ، أَيْ لاَ يَكُونُ مَضْمُونًا، وَيُسْتَثْنَى مِنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ مَا كَانَ مَشْرُوطًا بِسَلاَمَةِ الْعَاقِبَةِ (3) .
وَيَقْسِمُ الْحَنَفِيَّةُ الْحُقُوقَ الَّتِي تَثْبُتُ لِلْمَأْذُونِ إِلَى قِسْمَيْنِ:
حُقُوقٌ وَاجِبَةٌ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ بِإِيجَابِ الشَّارِعِ، كَحَقِّ الإِْمَامِ فِي إِقَامَةِ الْحَدِّ، وَفِي الْقِصَاصِ وَالتَّعْزِيرِ، أَمْ كَانَتْ وَاجِبَةً بِإِيجَابِ الْعَقْدِ، كَعَمَل الْفَصَّادِ وَالْحَجَّامِ وَالْخَتَّانِ.
وَهَذِهِ الْحُقُوقُ لاَ يُشْتَرَطُ فِيهَا سَلاَمَةُ الْعَاقِبَةِ إِلاَّ بِالتَّجَاوُزِ عَنِ الْحَدِّ الْمُعْتَادِ.
حُقُوقٌ مُبَاحَةٌ، كَحَقِّ الْوَلِيِّ فِي التَّأْدِيبِ عِنْدَ
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 100، وابن عابدين 5 / 113، والاختيار 2 / 100، والمغني 5 / 85، ومنتهى الإرادات 2 / 298، والبهجة في شرح التحفة 2 / 295 ط مصطفى الحلبي الثانية.
(2) الاختيار 3 / 45، ومنتهى الإرادات 3 / 89، والقلبوبي 3 / 298، والحطاب 4 / 223
(3) الأشباه للسيوطي ص 111، وبدائع الصنائع 7 / 305(2/386)
أَبِي حَنِيفَةَ، وَحَقِّ الزَّوْجِ فِي التَّعْزِيرِ فِيمَا يُبَاحُ لَهُ، وَحَقِّ الاِنْتِفَاعِ بِالطَّرِيقِ الْعَامِّ،
وَهَذِهِ الْحُقُوقُ تَتَقَيَّدُ بِوَصْفِ السَّلاَمَةِ (1) .
وَبِالنَّظَرِ فِي ذَلِكَ عِنْدَ بَقِيَّةِ الْفُقَهَاءِ يَتَبَيَّنُ أَنَّهُمْ يُسَايِرُونَ الْحَنَفِيَّةَ فِي هَذَا الْمَعْنَى، إِلاَّ أَنَّ الْفُقَهَاءَ جَمِيعًا - وَمِنْهُمُ الْحَنَفِيَّةُ - يَخْتَلِفُونَ فِي تَحْدِيدِ الْحُقُوقِ الَّتِي تَتَقَيَّدُ بِوَصْفِ السَّلاَمَةِ، وَالَّتِي لاَ تَتَقَيَّدُ بِهَا، تَبَعًا لاِخْتِلاَفِ وُجْهَتِهِمْ فِي تَعْلِيل الْفِعْل، حَتَّى بَيْنَ فُقَهَاءِ الْمَذْهَبِ الْوَاحِدِ نَجِدُ ذَلِكَ فِي الْفِعْل الْوَاحِدِ كَالْخِلاَفِ بَيْنَ الإِْمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ فِي اقْتِصَاصِ الإِْنْسَانِ لِنَفْسِهِ.
وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي:
أَوَّلاً - مَا لاَ يَتَقَيَّدُ بِوَصْفِ السَّلاَمَةِ:
أ - الْحُقُوقُ الْوَاجِبَةُ بِإِيجَابِ الشَّارِعِ وَمِنْ أَمْثِلَتِهَا:
40 - إِذَا أَقَامَ الإِْمَامُ الْحَدَّ، فَجَلَدَ شَارِبَ الْخَمْرِ، أَوْ قَطَعَ يَدَ السَّارِقِ، فَمَاتَ الْمَحْدُودُ فَلاَ ضَمَانَ لأَِنَّ الْحُدُودَ إِذَا أُتِيَ بِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ فَلاَ ضَمَانَ فِيمَا تَلِفَ بِهَا؛ لأَِنَّ الإِْمَامَ فَعَل ذَلِكَ بِأَمْرِ اللَّهِ وَأَمْرِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلاَ يُؤَاخَذُ.
وَكَذَلِكَ إِذَا اقْتَصَّ مِنَ الْجَانِي فِيمَا دُونَ النَّفْسِ دُونَ تَجَاوُزٍ، فَسَرَتِ الْجِرَاحَةُ، فَمَاتَ فَلاَ ضَمَانَ؛ لأَِنَّهُ بِفِعْلٍ مَأْذُونٍ فِيهِ، فَلاَ يَتَقَيَّدُ بِوَصْفِ السَّلاَمَةِ. وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ (2) .
41 - وَإِذَا عَزَّرَ الإِْمَامُ فِيمَا شُرِعَ فِيهِ التَّعْزِيرُ، فَمَاتَ
__________
(1) الأشباه لابن نجيم ص 116
(2) البدائع 7 / 305، والدسوقي 4 / 355، ومنح الجليل 4 / 369 - 371، ونهاية المحتاج 8 / 29، والمهذب 2 / 189، والمغني 8 / 311، و 7 / 727(2/387)
الْمُعَزَّرُ لَمْ يَجِبْ ضَمَانُهُ؛ لأَِنَّهُ فَعَل مَا فَعَل بِأَمْرِ الشَّرْعِ، وَفِعْل الْمَأْمُورِ لاَ يَتَقَيَّدُ بِشَرْطِ السَّلاَمَةِ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالْمَالِكِيَّةِ. وَفِي قَوْلٍ لِلْمَالِكِيَّةِ إِنَّهُ لاَ يَضْمَنُ إِنْ ظَنَّ السَّلاَمَةَ، أَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ؛ لأَِنَّ تَعْزِيرَ الإِْمَامِ عِنْدَهُمْ مَشْرُوطٌ بِسَلاَمَةِ الْعَاقِبَةِ (1) .
42 - وَإِذَا اقْتَصَّ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ، فَقَطَعَ يَدَ الْقَاطِعِ، فَسَرَتِ الْجِرَاحَةُ، فَمَاتَ فَلاَ ضَمَانَ؛ لأَِنَّهُ قَطْعٌ مُسْتَحَقٌّ مُقَدَّرٌ فَلاَ تُضْمَنُ سِرَايَتُهُ كَقَطْعِ السَّارِقِ، وَهَذَا عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ، مَا عَدَا أَبَا حَنِيفَةَ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُ عِنْدَهُ، وَتَكُونُ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ؛ لأَِنَّ الْقَطْعَ لَيْسَ بِمُسْتَحَقٍّ عَلَى مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ، بَل هُوَ مُخَيَّرٌ فِيهِ وَالْعَفْوُ أَوْلَى، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ يُؤَدَّبُ لاِفْتِيَاتِهِ عَلَى الإِْمَامِ، وَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ (2) .
ب - الْحُقُوقُ الْوَاجِبَةُ بِإِيجَابِ الْعَقْدِ وَمِنْ أَمْثِلَتِهَا:
43 - الْحَجَّامُ وَالْفَصَّادُ وَالْخَتَّانُ وَالطَّبِيبُ لاَ ضَمَانَ عَلَيْهِمْ فِيمَا يَتْلَفُ بِفِعْلِهِمْ، إِذَا كَانَ ذَلِكَ بِالإِْذْنِ وَلَمْ يُجَاوِزُوا الْمَوْضِعَ الْمُعْتَادَ، وَكَانَتْ لَهُمْ بِصَنْعَتِهِمْ بَصَارَةٌ وَمَعْرِفَةٌ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْصَحِّ (3) .
44 - وَفِي عَقْدِ الإِْجَارَةِ يَدُ الْمُسْتَأْجِرِ يَدُ أَمَانَةٍ، وَلاَ
__________
(1) المغني 8 / 326، والهداية 2 / 117، والأشباه للسيوطي ص 111، والمهذب 2 / 290، ومنح الجليل 4 / 556، 557
(2) البدائع 7 / 305، والأشباه للسيوطي ص 111، والمغني 7 / 690، 727، والمواق بهامش الحطاب 6 / 233، 234
(3) المغني 5 / 538، ومنح الجليل 4 / 557، والتبصرة بهامش فتح العلي 2 / 348، ونهاية المحتاج 8 / 30، 32، وابن عابدين 5 / 44 ط ثالثة.(2/387)
يَضْمَنُ الْمُسْتَأْجِرُ مَا تَلِفَ بِالاِسْتِعْمَال الْمَأْذُونِ فِيهِ، وَأَمَّا لَوْ فَرَّطَ أَوْ جَاوَزَ مَا أَذِنَ لَهُ فِيهِ، بِأَنْ ضَرَبَ الدَّابَّةَ أَوْ كَبَحَهَا فَوْقَ الْعَادَةِ فَتَلِفَتْ ضَمِنَ، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ (1) .
ثَانِيًا - مَا يَتَقَيَّدُ بِوَصْفِ السَّلاَمَةِ:
45 - وَهُوَ الْحُقُوقُ الْمُبَاحَةُ وَمِنْ أَمْثِلَتِهَا: ضَرْبُ الزَّوْجَةِ لِلنُّشُوزِ، فِيهِ الضَّمَانُ فِيمَا يَنْشَأُ مِنْهُ مِنْ تَلَفٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَلاَ ضَمَانَ فِيهِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالْمَالِكِيَّةِ إِنْ ظَنَّ السَّلاَمَةَ (2) .
46 - وَالاِنْتِفَاعُ بِالطَّرِيقِ الْعَامَّةِ مِنْ سَيْرٍ وَسُوقٍ مَأْذُونٍ فِيهِ لِكُل النَّاسِ بِشَرْطِ سَلاَمَةِ الْعَاقِبَةِ، فَمَا لَمْ تَسْلَمْ عَاقِبَتُهُ لَمْ يَكُنْ مَأْذُونًا فِيهِ، فَالْمُتَوَلَّدُ مِنْهُ يَكُونُ مَضْمُونًا، إِلاَّ إِذَا كَانَ مِمَّا لاَ يُمْكِنُ الاِحْتِرَازُ مِنْهُ، وَعَلَى ذَلِكَ فَالرَّاكِبُ إِذَا وَطِئَتْ دَابَّتُهُ رَجُلاً فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا أَصَابَتْ يَدُهَا أَوْ رِجْلُهَا أَوْ رَأْسُهَا أَوْ صَدَمَتْ؛ لأَِنَّ هَذِهِ أَفْعَالٌ يُمْكِنُ الاِحْتِزَازُ عَنْهَا.
وَلاَ يَضْمَنُ مَا نَفَحَتْ بِرِجْلِهَا أَوْ ذَنَبِهَا؛ لأَِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ الاِحْتِزَازُ عَنْهُ، وَلَوْ وَقَّفَهَا فِي الطَّرِيقِ فَهُوَ ضَامِنٌ لِلنَّفْحَةِ أَيْضًا؛ لأَِنَّ الْمَأْذُونَ فِيهِ شَرْعًا هُوَ الْمُرُورُ، وَلَيْسَ الْوُقُوفُ إِلاَّ مَا قَالَهُ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ وَالْمَالِكِيَّةِ مِنْ أَنَّ وُقُوفَ الدَّابَّةِ فِي الطَّرِيقِ الْوَاسِعِ لِغَيْرِ شَيْءٍ لاَ ضَمَانَ فِيهِ. وَلَوْ وَقَّفَهَا أَمَامَ بَابِ الْمَسْجِدِ فَهُوَ كَالطَّرِيقِ، فَيَضْمَنُ وَلَوْ خَصَّصَ الإِْمَامُ لِلْمُسْلِمِينَ مَوْقِفًا فَلاَ ضَمَانَ إِلاَّ إِذَا كَانَ رَاكِبًا.
وَلَوْ كَانَ سَائِرًا أَوْ سَائِقًا أَوْ قَائِدًا فِي مَوَاضِعَ أَذِنَ
__________
(1) جواهر الإكليل 2 / 190، والمغني 5 / 481، 503، والاختيار 2 / 53، والمهذب 1 / 415
(2) ابن عابدين 5 / 375، والهداية 2 / 117، والمغني 8 / 327، والتبصرة 2 / 349، ومنح الجليل 4 / 556، ونهاية المحتاج 8 / 28(2/388)
الإِْمَامُ لِلنَّاسِ فِيهَا بِالْوُقُوفِ ضَمِنَ، لأَِنَّ أَثَرَ الإِْذْنِ فِي سُقُوطِ ضَمَانِ الْوُقُوفِ، لاَ فِي السَّيْرِ وَالسَّوْقِ، وَهَذَا عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ (1) .
47 - وَمَنْ حَفَرَ بِئْرًا فِي طَرِيقِ الْعَامَّةِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لِمَصْلَحَةٍ فَفِيهَا الضَّمَانُ بِمَا تَلِفَ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَتْ لِمَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَوَقَعَ فِيهَا إِنْسَانٌ وَمَاتَ فَإِنْ كَانَ الْحَفْرُ بِإِذْنِ السُّلْطَانِ فَلاَ ضَمَانَ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ يَضْمَنُ؛ لأَِنَّ أَمْرَ الْعَامَّةِ إِلَى الإِْمَامِ، فَلاَ بُدَّ مِنْ إِذْنِهِ، وَهَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالْحَنَفِيَّةِ عَدَا أَبِي يُوسُفَ فَعِنْدَهُ لاَ يَضْمَنُ؛ لأَِنَّ مَا كَانَ مِنْ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ كَانَ الإِْذْنُ فِيهِ ثَابِتًا دَلاَلَةً، وَهُوَ أَيْضًا رَأْيٌ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَلَمْ يُقَيِّدِ الْمَالِكِيَّةُ ذَلِكَ بِالإِْذْنِ. وَمَنْ حَفَرَ فِي مِلْكِهِ أَوْ فِي مَوَاتٍ فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ اتِّفَاقًا (2) . وَيَرَى أَبُو حَنِيفَةَ أَنَّ الْوَاقِعَ فِي الْحَفْرِ لَوْ مَاتَ جُوعًا أَوْ غَمًّا فَلاَ ضَمَانَ عَلَى الْحَافِرِ وَيُوَافِقُهُ أَبُو يُوسُفَ فِي الْمَوْتِ جُوعًا أَمَّا إِنْ مَاتَ غَمًّا فَالضَّمَانُ عَلَى الْحَافِرِ.
48 - وَمَنْ أَخْرَجَ جَنَاحًا إِلَى طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ نَصَبَ مِيزَابًا أَوْ بَنَى دُكَّانًا أَوْ وَضَعَ حَجَرًا أَوْ خَشَبَةً أَوْ قِشْرَ بِطِّيخٍ أَوْ صَبَّ مَاءً، فَزَلَقَ بِهِ إِنْسَانٌ فَمَا نَشَأَ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ مَضْمُونٌ عَلَى فَاعِلِهِ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ (3) . وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ (4) يَضْمَنُ فِيمَا
__________
(1) البدائع 7 / 272، والهداية 4 / 197، 198، ومغني المحتاج 4 / 204، 205، والمهذب 2 / 195، والمغني 8 / 38، والتبصرة 2 / 351 - 353، ومنح الجليل 4 / 353
(2) البدائع 7 / 278، والهداية 4 / 193، والتبصرة 2 / 346، والشرح الصغير 2 / 384، ط الحلبي ومغني المحتاج 4 / 83 - 85، والمغني 7 / 823، 824
(3) المغني 7 / 830، والبدائع 7 / 278، 279، والاختيار 5 / 45، ومغني المحتاج 4 / 85
(4) التبصرة 2 / 347(2/388)
وَضَعَهُ فِي الطَّرِيقِ، كَقِشْرِ الْبِطِّيخِ أَوْ صَبِّ الْمَاءِ، أَمَّا مَنْ وَضَعَ مِيزَابًا لِلْمَطَرِ، وَنَصَبَهُ عَلَى الشَّارِعِ، ثُمَّ بَعْدَ مُدَّةٍ سَقَطَ عَلَى رَأْسِ إِنْسَانٍ فَقَتَلَهُ، أَوْ عَلَى مَالٍ فَأَتْلَفَهُ فَلاَ ضَمَانَ، لأَِنَّهُ فِعْلٌ مَأْذُونٌ فِيهِ.
49 - وَمَنْ بَنَى جِدَارًا مَائِلاً إِلَى الشَّارِعِ فَتَلِفَ بِهِ شَيْءٌ فَفِيهِ الضَّمَانُ، وَإِنْ بَنَاهُ مُسْتَوِيًا أَوْ مَائِلاً إِلَى مِلْكِهِ فَسَقَطَ فَلاَ ضَمَانَ، وَإِنْ مَال قَبْل وُقُوعِهِ إِلَى هَوَاءِ الطَّرِيقِ، أَوْ إِلَى مِلْكِ إِنْسَانٍ فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ نَقْضُهُ وَلاَ فَرَّطَ فِي تَرْكِ نَقْضِهِ لِعَجْزِهِ فَلاَ ضَمَانَ، فَإِنْ أَمْكَنَهُ وَطُولِبَ بِذَلِكَ وَلَمْ يَفْعَل ضَمِنَ، وَإِنْ لَمْ يُطَالَبْ لَمْ يَضْمَنْ (1) .
أَثَرُ الإِْذْنِ فِي دُخُول الْبُيُوتِ:
50 - لاَ يَجُوزُ لأَِحَدٍ دُخُول دَارِ غَيْرِهِ بِدُونِ إِذْنِهِ وَلِذَلِكَ وَجَبَ الاِسْتِئْذَانُ عِنْدَ إِرَادَةِ الدُّخُول لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} (2) ، فَإِنْ أُذِنَ لَهُ دَخَل وَإِنْ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ رَجَعَ.
وَلِلإِْذْنِ فِي دُخُول الْبُيُوتِ أَثَرٌ فِي حَدِّ السَّرِقَةِ، إِذْ يُعْتَبَرُ الإِْذْنُ بِالدُّخُول شُبْهَةً دَارِئَةً لِلْحَدِّ؛ لأَِنَّ الدَّارَ قَدْ خَرَجَتْ مِنْ أَنْ تَكُونَ حِرْزًا بِالإِْذْنِ، وَلأَِنَّهُ لَمَّا أُذِنَ لَهُ بِالدُّخُول فَقَدْ صَارَ فِي حُكْمِ أَهْل الدَّارِ، فَإِذَا أَخَذَ شَيْئًا فَهُوَ خَائِنٌ لاَ سَارِقٌ (3) ، إِلاَّ أَنَّ الْفُقَهَاءَ يَخْتَلِفُونَ فِي
__________
(1) المغني 7 / 827، ومغني المحتاج 4 / 86، والهداية 4 / 195، 196 والتبصرة 2 / 347
(2) سورة النور / 27
(3) المغني 8 / 254، والبدائع 7 / 73، ومغني المحتاج 4 / 174، والمهذب 2 / 281، والشرح الصغير 4 / 483، ط دار المعارف.(2/389)
تَحْدِيدِ مَا يُعْتَبَرُ سَرِقَةً وَمَا لاَ يُعْتَبَرُ، عَلَى تَفْصِيلٍ مَوْطِنُهُ مُصْطَلَحُ (سَرِقَةٌ) .
51 - وَكَذَلِكَ لِلإِْذْنِ فِي دُخُول الْبُيُوتِ أَثَرٌ فِي الْجِنَايَةِ وَالضَّمَانِ، وَمِنْ ذَلِكَ مَنْ دَخَل دَارَ غَيْرِهِ بِإِذْنِهِ فَعَقَرَهُ كَلْبُهُ، فَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَفِي الْقَوْل الثَّانِي لِلشَّافِعِيَّةِ فِيهِ الضَّمَانُ عَلَى صَاحِبِهِ (1) ، لأَِنَّهُ تَسَبَّبَ فِي إِتْلاَفِهِ بِعَدَمِ كَفِّ الْكَلْبِ عَنْهُ خِلاَفًا لِلْحَنَفِيَّةِ وَقَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ.
وَكَذَلِكَ مَنْ حَفَرَ بِئْرًا فِي دَارِهِ، وَدَخَل الدَّارَ رَجُلٌ بِإِذْنِ صَاحِبِ الدَّارِ، فَوَقَعَ فِيهَا، فَلاَ ضَمَانَ عَلَى صَاحِبِ الدَّارِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ إِنْ كَانَتِ الْبِئْرُ مَكْشُوفَةً وَالدَّاخِل بَصِيرٌ يُبْصِرُهَا فَلاَ ضَمَانَ، وَإِنْ كَانَ الدَّاخِل أَعْمَى، أَوْ كَانَتِ الْبِئْرُ فِي ظُلْمَةٍ لاَ يُبْصِرُهَا، فَعَلَى صَاحِبِ الدَّارِ الضَّمَانُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَالأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَفِي الْقَوْل الثَّانِي لِلشَّافِعِيَّةِ لاَ ضَمَانَ (2) .
وَلِلتَّفْصِيل يُرْجَعُ إِلَى مُصْطَلَحِ (جِنَايَةٌ) .
أَثَرُ الإِْذْنِ فِي الْعُقُودِ:
52 - الأَْصْل أَنَّ الْمَأْذُونَ لَهُ فِي التَّصَرُّفَاتِ يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ فِيمَا لَهُ فِيهِ نَفْعٌ، كَالصَّبِيِّ الْمَأْذُونِ عِنْدَ مَنْ يُجِيزُ تَصَرُّفَ الصَّبِيِّ. أَمَّا التَّصَرُّفَاتُ الضَّارَّةُ فَلاَ تَصِحُّ وَلَوْ بِالإِْذْنِ، وَلِذَلِكَ لاَ يَصِحُّ تَبَرُّعُهُ.
وَالصَّبِيُّ الْمُمَيِّزُ الْمَأْذُونُ لَهُ يَمْلِكُ مَا يَمْلِكُهُ الْبَالِغُ
__________
(1) المغني 8 - 338، والبدائع 7 / 273، والمهذب 2 / 194، ومنح الجليل 4 / 354
(2) المغني 7 / 827، ومنح الجليل 4 / 353، ومغني المحتاج 4 / 83، والزيلعي 6 / 145، والبدايع 7 / 274، 277(2/389)
لَكِنْ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الإِْذْنِ أَنْ يَعْقِل أَنَّ الْبَيْعَ سَالِبٌ لِلْمِلْكِ عَنِ الْبَائِعِ، وَالشِّرَاءُ جَالِبٌ لَهُ، وَيَعْرِفُ الْغَبْنَ الْيَسِيرَ مِنَ الْفَاحِشِ (1) .
53 - وَالإِْذْنُ فِي الْعُقُودِ يُفِيدُ ثُبُوتَ وِلاَيَةِ التَّصَرُّفِ الَّذِي تَنَاوَلَهُ الإِْذْنُ، وَذَلِكَ كَالْوَكَالَةِ وَالشَّرِكَةِ وَالْقِرَاضِ (الْمُضَارَبَةِ) ، فَإِنَّهُ بِمُقْتَضَى هَذِهِ الْعُقُودِ يَثْبُتُ لِكُلٍّ مِنَ الْوَكِيل وَعَامِل الْقِرَاضِ وَالشَّرِيكِ وِلاَيَةُ التَّصَرُّفِ الَّذِي تَنَاوَلَهُ الإِْذْنُ، كَالْوَكَالَةِ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ أَوْ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ وَهَكَذَا، وَلاَ يَجُوزُ لَهُ مُبَاشَرَةُ أَيِّ عَقْدٍ يُخَالِفُ نَصَّ الإِْذْنِ.
وَأَمَّا حُقُوقُ مَا يُبَاشِرُونَهُ مِنْ عُقُودٍ مَأْذُونٍ فِيهَا فَبِالنِّسْبَةِ لِلشَّرِيكِ تَرْجِعُ إِلَيْهِمَا، وَبِالنِّسْبَةِ لِعَامِل الْمُضَارَبَةِ تَرْجِعُ إِلَى رَبِّ الْمَال (2) . أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْوَكِيل فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ:
فَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ تَكُونُ الْعُهْدَةُ عَلَى الْمُوَكِّل، وَيَرْجِعُ بِالْحُقُوقِ إِلَيْهِ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْوَكِيل الْخَاصِّ.
أَمَّا الْوَكِيل الْمُفَوِّضُ عِنْدَهُمْ فَالطَّلَبُ عَلَيْهِ.
وَيَقُول الْحَنَفِيَّةُ: كُل عَقْدٍ لاَ يَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى إِضَافَتِهِ إِلَى الْمُوَكِّل، وَيَكْتَفِي الْوَكِيل فِيهِ بِالإِْضَافَةِ إِلَى نَفْسِهِ فَحُقُوقُهُ رَاجِعَةٌ إِلَى الْعَاقِدِ، كَالْبِيَاعَاتِ وَالأَْشْرِيَةِ وَالإِْجَارَاتِ، فَحُقُوقُ هَذِهِ الْعُقُودِ تَرْجِعُ لِلْوَكِيل وَهِيَ عَلَيْهِ أَيْضًا، وَيَكُونُ الْوَكِيل فِي هَذِهِ
__________
(1) الحطاب 5 / 76،121، والاختيار 2 / 101، 102 وابن عابدين 5 / 113، والبدائع 7 / 194، 195، مغني المحتاج 2 / 99، وما بعدها، ومنتهى الإرادات 2 / 297
(2) البدائع 6 / 65، 113، 115، ومنتهى الإرادات 2 / 326، 337، وجواهر الإكليل 2 / 118، 177، والمهذب 1 / 353، 354، 400 ط دار المعرفة بيروت.(2/390)
الْحُقُوقِ كَالْمَالِكِ وَالْمَالِكُ كَالأَْجْنَبِيِّ، حَتَّى لاَ يَمْلِكَ الْمُوَكِّل مُطَالَبَةَ الْمُشْتَرِي مِنَ الْوَكِيل بِالثَّمَنِ، وَإِذَا اسْتُحِقَّ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي يَرْجِعُ بِالثَّمَنِ عَلَى الْوَكِيل.
وَكُل عَقْدٍ يَحْتَاجُ فِيهِ الْوَكِيل إِلَى إِضَافَتِهِ إِلَى الْمُوَكِّل فَحُقُوقُهُ تَرْجِعُ إِلَى الْمُوَكِّل، كَالنِّكَاحِ وَالطَّلاَقِ وَالْعَتَاقِ عَلَى مَالٍ وَالْخُلْعِ، فَحُقُوقُ هَذِهِ الْعُقُودِ تَكُونُ لِلْمُوَكِّل وَهِيَ عَلَيْهِ أَيْضًا، وَالْوَكِيل فِيهَا سَفِيرٌ وَمُعَبِّرٌ مَحْضٌ، حَتَّى إِنَّ وَكِيل الزَّوْجِ فِي النِّكَاحِ لاَ يُطَالَبُ بِالْمَهْرِ وَإِنَّمَا يُطَالَبُ بِهِ الزَّوْجُ إِلاَّ إِذَا ضَمِنَ الْمَهْرَ فَحِينَئِذٍ يُطَالَبُ بِهِ لَكِنْ بِحُكْمِ الضَّمَانِ (1) .
54 - وَقَدْ يَقُومُ إِذْنُ الشَّارِعِ مَقَامَ إِذْنِ الْمَالِكِ فَيَصِحُّ الْعَقْدُ وَإِنْ لَمْ يَأْذَنِ الْمَالِكُ، وَذَلِكَ كَمَنْ تَوَجَّهَ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَامْتَنَعَ مِنَ الْوَفَاءِ وَالْبَيْعِ، فَإِنْ شَاءَ الْقَاضِي بَاعَ مَالَهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ لِوَفَاءِ دَيْنِهِ، وَإِنْ شَاءَ عَزَّرَهُ وَحَبَسَهُ إِلَى أَنْ يَبِيعَهُ (2) .
55 - أَمَّا التَّصَرُّفُ فِي مَال الْغَيْرِ بِدُونِ إِذْنِهِ، وَذَلِكَ كَالْفُضُولِيِّ يَبِيعُ مَال غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَإِنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى الإِْجَازَةِ عِنْدَ غَيْرِ الشَّافِعِيَّةِ، وَالإِْجَازَةُ اللاَّحِقَةُ كَالْوَكَالَةِ السَّابِقَةِ، وَالْوَكَالَةُ إِذْنٌ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَفِي رَأْيٍ لِلْحَنَابِلَةِ الْبَيْعُ بَاطِلٌ (3) .
56 - وَإِذْنُ الْمَالِكِ فِي الْعُقُودِ الَّتِي يُبَاشِرُهَا بِنَفْسِهِ قَدْ يُفِيدُ تَمْلِيكَ الْعَيْنِ، سَوَاءٌ أَكَانَ عَلَى سَبِيل الْبَدَل
__________
(1) البدائع 6 / 33، والمهذب 1 / 364، ومنتهى الإرادات 2 / 308، والشرح الصغير 2 / 184 ط الحلبي، وتبيين الحقائق للزيلعي 4 / 256، 257
(2) مغني المحتاج 2 / 8، وجواهر الإكليل 2 / 3، والبدائع 4 / 177
(3) المغني 4 / 227، والدسوقي 3 / 12(2/390)
كَمَا فِي الْقَرْضِ، أَمْ بِدُونِ عِوَضٍ كَمَا فِي الْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ بِالْعَيْنِ.
وَقَدْ يُفِيدُ تَمْلِيكَ الْمَنْفَعَةِ أَوِ الاِنْتِفَاعَ كَالإِْجَارَةِ وَالإِْعَارَةِ أَوْ تَمْلِيكَ الاِنْتِفَاعِ بِالْبُضْعِ كَمَا فِي عَقْدِ النِّكَاحِ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ ذَلِكَ.
أَثَرُ الإِْذْنِ فِي الاِسْتِهْلاَكِ:
57 - الإِْذْنُ قَدْ يَرِدُ عَلَى اسْتِهْلاَكِ رَقَبَةِ الشَّيْءِ وَمَنَافِعِهِ، وَهُوَ مِنَ الشَّارِعِ يُفِيدُ التَّمَلُّكَ بِالاِسْتِيلاَءِ الْحَقِيقِيِّ، وَذَلِكَ كَالإِْذْنِ بِصَيْدِ الْبَحْرِ وَصَيْدِ الْبَرِّ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ، وَمِنْ ذَلِكَ الْمَاءُ وَالْكَلأَُ وَالنَّارُ وَهِيَ الْمُشْتَرَكَاتُ الثَّلاَثُ الَّتِي نَصَّ عَلَيْهَا الْحَدِيثُ: الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ فِي ثَلاَثٍ، فِي الْمَاءِ وَالْكَلأَِ وَالنَّارِ. (1)
أَمَّا الإِْذْنُ بِالاِسْتِهْلاَكِ مِنَ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ فَإِنَّهُ يَخْتَلِفُ أَثَرُهُ.
فَقَدْ يُفِيدُ التَّمْلِيكَ عَلَى سَبِيل الْعِوَضِ كَمَا فِي قَرْضِ الْخُبْزِ وَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ (2) .
وَقَدْ يُفِيدُ الإِْذْنُ التَّمْلِيكَ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ كَمَا فِي هِبَةِ الْمَأْكُول وَالْمَشْرُوبِ وَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ (3) .
وَقَدْ لاَ يَكُونُ الإِْذْنُ بِالاِسْتِهْلاَكِ تَمْلِيكًا، وَإِنَّمَا يَكُونُ طَرِيقًا إِلَيْهِ، وَذَلِكَ كَمَا فِي الْوَلاَئِمِ وَالْمَنَائِحِ وَالضِّيَافَاتِ (4) .
__________
(1) البدائع 6 / 693، وحديث: " المسلمون شركاء. . . " رواه أحمد (5 / 364) والبيهقي (6 / 150) ط حيدر آباد.
(2) البدائع 6 / 215، ومغني المحتاج 2 / 119، وقواعد الأحكام في مصالح الأنام 2 / 73، 74
(3) البدائع 6 / 117
(4) الحطاب 4 / 223، ومنتهى الإرادات 3 / 89، وقليوبي 3 / 298(2/391)
أَثَرُ الإِْذْنِ فِي الْجِنَايَاتِ:
58 - الأَْصْل أَنَّ الدِّمَاءَ لاَ تَجْرِي فِيهَا الإِْبَاحَةُ، وَلاَ تُسْتَبَاحُ بِالإِْذْنِ وَإِنَّمَا يَكُونُ الإِْذْنُ - إِذَا كَانَ مُعْتَبَرًا - شُبْهَةً تُسْقِطُ الْقِصَاصَ، وَمِنْ ذَلِكَ مَنْ قَال لِغَيْرِهِ: اقْتُلْنِي فَقَتَلَهُ، فَإِنَّ الْقَوَدَ يَسْقُطُ لِشُبْهَةِ الإِْذْنِ، وَذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْظْهَرِ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلْمَالِكِيَّةِ، وَفِي قَوْلٍ آخَرَ لِلْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ يُقْتَل وَفِي قَوْلٍ ثَالِثٍ أَنَّهُ يُضْرَبُ مِائَةً وَيُحْبَسُ عَامًا.
وَاخْتُلِفَ فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ، فَتَجِبُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ قَوْلٌ لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ (1) .
وَكَذَلِكَ مَنْ قَال لِغَيْرِهِ: اقْطَعْ يَدِي فَقَطَعَ يَدَهُ فَلاَ ضَمَانَ فِيهِ، وَذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَرَجَّحَهُ الْبُلْقِينِيُّ، وَقَال الْمَالِكِيَّةُ أَيْضًا: يُعَاقَبُ وَلاَ قِصَاصَ عَلَيْهِ (2) ، وَتُنْظَرُ التَّفْصِيلاَتُ فِي مُصْطَلَحِ: (جِنَايَةٌ) .
59 - وَمَنْ أَمَرَ إِنْسَانًا بِقَتْل غَيْرِهِ فَإِنْ كَانَ بِلاَ إِكْرَاهٍ فَفِيهِ الْقِصَاصُ عَلَى الْمَأْمُورِ وَاخْتُلِفَ فِي الآْمِرِ.
أَمَّا إِذَا كَانَ الأَْمْرُ بِإِكْرَاهٍ مُلْجِئٍ فَإِنَّ الْقِصَاصَ عَلَى الآْمِرِ، وَاخْتُلِفَ فِي الْمَأْمُورِ، فَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَقَوْل زُفَرَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، أَنَّهُ يُقْتَل لِمُبَاشَرَتِهِ الْقَتْل، وَقَال أَبُو يُوسُفَ: لاَ قِصَاصَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَالْمَذْهَبُ أَنَّ الْمَأْمُورَ لاَ يُقْتَل (3) .
__________
(1) ابن عابدين 5 / 363 ط بولاق الثالثة، ومغني المحتاج 4 / 11، 50، ومنتهى الإرادات 3 / 275، ومنح الجليل 4 / 346، 347، والحطاب 6 / 235، 236
(2) المراجع السابقة.
(3) الاختيار 2 / 108، ومنتهى الإرادات 3 / 274، والمهذب 2 / 178، والمواق بهامش الحطاب 6 / 242(2/391)
وَفِي الْمَوْضُوعِ تَفْصِيلاَتٌ كَثِيرَةٌ (ر: إِكْرَاهٌ - قَتْلٌ - جِنَايَةٌ) .
60 - وَلاَ قِصَاصَ عَلَى مَنْ قَتَل غَيْرَهُ دِفَاعًا عَنْ نَفْسِهِ أَوْ عِرْضِهِ أَوْ مَالِهِ؛ لأَِنَّ الدِّفَاعَ عَنْ ذَلِكَ مَأْذُونٌ فِيهِ لَكِنْ ذَلِكَ مَشْرُوطٌ بِمَا إِذَا كَانَ الدَّفْعُ لاَ يَتَأَتَّى إِلاَّ بِالْقَتْل (1) .
أَثَرُ الإِْذْنِ فِي الاِنْتِفَاعِ:
61 - الاِنْتِفَاعُ إِذَا كَانَ بِإِذْنٍ مِنَ الشَّارِعِ فَإِنَّهُ قَدْ يُفِيدُ التَّمْلِيكَ بِالاِسْتِيلاَءِ الْحَقِيقِيِّ كَمَا فِي تَمَلُّكِ الْحَيَوَانِ الْمُبَاحِ بِالصَّيْدِ، وَكَمَا فِي تَمَلُّكِ الأَْرْضِ الْمَوَاتِ بِالإِْحْيَاءِ.
وَقَدْ يُفِيدُ اخْتِصَاصًا لِمَنْ سَبَقَ، كَالسَّبْقِ إِلَى مَقَاعِدِ الْمَسَاجِدِ لِلصَّلاَةِ وَالاِعْتِكَافِ، وَالسَّبْقِ إِلَى الْمَدَارِسِ وَالرُّبُطِ وَمَقَاعِدِ الأَْسْوَاقِ.
وَقَدْ يُفِيدُ ثُبُوتَ حَقِّ الاِنْتِفَاعِ الْمُجَرَّدِ، كَالاِنْتِفَاعِ بِالطَّرِيقِ الْعَامِّ وَالْمَسِيل الْعَامِّ، وَالاِنْتِفَاعُ بِذَلِكَ مَشْرُوطٌ بِسَلاَمَةِ الْعَاقِبَةِ (2) .
62 - وَإِذَا كَانَ الاِنْتِفَاعُ بِإِذْنٍ مِنَ الْعِبَادِ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، فَإِنْ كَانَ الإِْذْنُ بِدُونِ عَقْدٍ كَإِذْنِ صَاحِبِ الطَّرِيقِ الْخَاصِّ وَالْمَجْرَى الْخَاصِّ لِغَيْرِهِ بِالاِنْتِفَاعِ فَإِنَّهُ لاَ يُفِيدُ تَمْلِيكًا، وَإِنَّمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ بِسُوءِ الاِسْتِعْمَال.
63 - أَمَّا إِذَا كَانَ مَنْشَأُ الاِنْتِفَاعِ عَنْ عَقْدٍ كَالإِْجَارَةِ وَالإِْعَارَةِ، فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ يَتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ عَقْدَ
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 194، وابن عابدين 5 / 362، والمغني 8 / 329، وما بعدها والتبصرة 2 / 357
(2) مغني المحتاج 2 / 370(2/392)
الإِْجَارَةِ يُفِيدُ مِلْكَ الْمَنْفَعَةِ، فَيَكُونُ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْمَنْفَعَةَ بِنَفْسِهِ، وَيَكُونُ لَهُ أَنْ يُؤَجِّرَ فَيُمَلِّكَ الْمَنْفَعَةَ لِغَيْرِهِ.
أَمَّا عَقْدُ الإِْعَارَةِ فَإِنَّهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِي إِفَادَتِهِ مِلْكَ الْمَنْفَعَةِ. فَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ عَلَى الصَّحِيحِ لاَ تُفِيدُ ذَلِكَ إِلاَّ بِإِذْنٍ مِنَ الْمَالِكِ، وَعَلَى ذَلِكَ فَلاَ يَجُوزُ لِلْمُسْتَعِيرِ أَنْ يُعِيرَ غَيْرَهُ وَإِنَّمَا يَسْتَوْفِي الْمَنْفَعَةَ بِنَفْسِهِ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ تُفِيدُ الإِْعَارَةُ مِلْكَ الْمَنْفَعَةِ فَيَجُوزُ لِلْمُسْتَعِيرِ أَنْ يُعِيرَ غَيْرَهُ.
64 - وَيَتَرَتَّبُ الضَّمَانُ عَلَى الاِنْتِفَاعِ النَّاشِئِ عَنْ مِثْل هَذِهِ الْعُقُودِ بِمُجَاوَزَةِ الاِنْتِفَاعِ الْمَأْذُونِ فِيهِ أَوْ بِالتَّفْرِيطِ (1) . عَلَى تَفْصِيلٍ فِي ذَلِكَ، يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ: (ضَمَانٌ) .
انْتِهَاءُ الإِْذْنِ:
65 - الإِْذْنُ إِذَا كَانَ مِنَ الشَّارِعِ فَلَيْسَ فِيهِ إِنْهَاءٌ لَهُ وَلاَ يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ؛ لأَِنَّ إِذْنَ الشَّارِعِ فِي الأَْمْوَال الْمُبَاحَةِ يُفِيدُ تَمَلُّكَهَا مِلْكِيَّةً مُسْتَقِرَّةً بِالاِسْتِيلاَءِ.
أَمَّا إِذْنُ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، فَإِنْ كَانَ إِذْنًا بِالاِنْتِفَاعِ، وَكَانَ مَنْشَأُ الاِنْتِفَاعِ عَقْدًا لاَزِمًا كَالإِْجَارَةِ فَإِنَّهُ يَنْتَهِي بِانْتِهَاءِ الْمُدَّةِ، أَوْ بِانْتِهَاءِ الْعَمَل وَفْقَ الإِْذْنِ الصَّادِرِ لَهُ وَمُدَّةِ قِيَامِ الإِْذْنِ.
وَإِنْ كَانَ مَنْشَأُ الاِنْتِفَاعِ عَقْدًا جَائِزًا كَالإِْعَارَةِ فَإِنَّ الإِْذْنَ يَنْتَهِي بِرُجُوعِ الْمُعِيرِ فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءَ سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْعَارِيَّةُ مُطْلَقَةً أَمْ مُؤَقَّتَةً؛ لأَِنَّهَا إِبَاحَةٌ، وَهَذَا
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 264، ومنتهى الإرادات 2 / 396، والمغني 5 / 478، وبدائع الصنائع 6 / 214، والشرح الصغير 2 / 205 ط الحلبي.(2/392)
عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ يَقُولُونَ: إِنْ كَانَتِ الإِْعَارَةُ مُؤَقَّتَةً وَفِي الأَْرْضِ غَرْسٌ أَوْ بِنَاءٌ فَلاَ يَجُوزُ رُجُوعُهُ قَبْل الْوَقْتِ.
وَيَقُول الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: إِنْ أَعَارَهُ أَرْضًا لِلزِّرَاعَةِ فَعَلَيْهِ الإِْبْقَاءُ إِلَى الْحَصَادِ.
وَإِنْ أَعَارَهُ أَرْضًا لِيَدْفِنَ فِيهَا فَلاَ يَرْجِعُ حَتَّى يَنْدَرِسَ أَثَرُ الْمَدْفُونِ، أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَعِنْدَهُمْ لاَ يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِي الْعَارِيَّةِ الْمُؤَقَّتَةِ قَبْل انْتِهَاءِ وَقْتِهَا، وَإِنْ كَانَتْ مُطْلَقَةً لَزِمَهُ أَنْ يَتْرُكَهُ مُدَّةً مُعْتَادَةً يَنْتَفِعُ بِهَا فِي مِثْلِهَا (1) .
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 270، 273، 359، والمغني 5 / 229، والبدائع 6 / 216، والجواهر 2 / 146(2/393)
وَإِنْ كَانَ إِذْنًا بِالتَّصَرُّفِ كَالْوَكَالَةِ وَالشَّرِكَةِ وَالْمُضَارَبَةِ فَإِنَّ الإِْذْنَ يَنْتَهِي بِالْعَزْل، لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَعْلَمَ الْمَأْذُونُ بِذَلِكَ، وَأَنْ لاَ يَتَعَلَّقَ بِالْوَكَالَةِ حَقٌّ لِلْغَيْرِ.
وَيَنْتَهِي الإِْذْنُ كَذَلِكَ بِالْمَوْتِ، وَبِالْجُنُونِ الْمُطْبَقِ وَبِالْحَجْرِ عَلَى الْمُوَكِّل، وَبِهَلاَكِ مَا وُكِّل فِيهِ، وَبِتَصَرُّفِ الْمُوَكَّل بِنَفْسِهِ فِيمَا وُكِّل فِيهِ، وَبِاللَّحَاقِ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا.
وَمِثْل ذَلِكَ نَاظِرُ الْوَقْفِ وَالْوَصِيُّ فَإِنَّهُمَا يَنْعَزِلاَنِ بِالرُّجُوعِ وَبِالْخِيَانَةِ وَبِالْعَجْزِ (1) .
__________
(1) البدائع 6 / 37، 78، 112، 216 و 7 / 385، وابن عابدين 3 / 396 و 5 / 108، 109، ومغني المحتاج 2 / 100، 101، 215، 231، 319، والدسوقي 3 / 396، ومنتهى الإرادات 2 / 398، 305، 307، وجواهر الإكليل 2 / 132(2/393)
إِرَادَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْرَادَةُ فِي اللُّغَةِ الْمَشِيئَةُ. وَيَسْتَعْمِلُهَا الْفُقَهَاءُ بِمَعْنَى الْقَصْدِ إِلَى الشَّيْءِ وَالاِتِّجَاهِ إِلَيْهِ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - النِّيَّةُ:
2 - إِذَا كَانَتِ الإِْرَادَةُ مَا سَبَقَ، فَإِنَّ النِّيَّةَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَصْدُ الشَّيْءِ مُقْتَرِنًا بِفِعْلِهِ (2) ، وَعِنْدَ الأَْئِمَّةِ الثَّلاَثَةِ: عَقْدُ الْقَلْبِ عَلَى إِيجَادِ الْفِعْل جَزْمًا (3) وَعَلَى هَذَا فَإِنَّهُ يُلْحَظُ فِي النِّيَّةِ ارْتِبَاطُهَا بِالْعَمَل، وَهِيَ بِغَيْرِ هَذَا الاِرْتِبَاطِ لاَ تُسَمَّى نِيَّةً، بَيْنَمَا لاَ يُلاَحَظُ ذَلِكَ فِي الإِْرَادَةِ.
ب - الرِّضَا:
3 - الرِّضَا هُوَ الرَّغْبَةُ فِي الْفِعْل وَالاِرْتِيَاحُ إِلَيْهِ، فَلاَ تَلاَزُمَ بَيْنَ الإِْرَادَةِ وَالرِّضَا، فَقَدْ يُرِيدُ الْمَرْءُ شَيْئًا مَعَ أَنَّهُ لاَ يَرْضَاهُ - أَيْ لاَ يَرْتَاحُ إِلَيْهِ وَلاَ يُحِبُّهُ - وَمِنْ هُنَا كَانَ تَفْرِيقُ عُلَمَاءِ الْعَقِيدَةِ بَيْنَ إِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى
__________
(1) المقنع 3 / 143 طبع المطبعة السلفية، والبحر الرائق 3 / 322 طبع المطبعة العلمية، وحاشية البجيرمي على منهج الطلاب 4 / 5، طبع المكتبة الإسلامية ديار بكر - تركيا.
(2) نهاية المحتاج 1 / 143، طبع مصطفى محمد.
(3) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 117، طبع المطبعة العثمانية، وحاشية الصفتي على الجواهر الزكية ص 47 و 48 طبع مصطفى البابي الحلبي، والمغني مع الشرح الكبير 3 / 26(3/5)
وَرِضَاهُ، وَكَذَلِكَ تَفْرِقَةُ الْفُقَهَاءِ بَيْنَهُمَا فِي بَابِ الإِْكْرَاهِ وَغَيْرِهِ.
ج - الاِخْتِيَارُ:
4 - الاِخْتِيَارُ لُغَةً: تَفْضِيل الشَّيْءِ عَلَى غَيْرِهِ. وَاصْطِلاَحًا: الْقَصْدُ إِلَى أَمْرٍ مُتَرَدِّدٍ بَيْنَ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ بِتَرْجِيحِ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ عَلَى الآْخَرِ. فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الإِْرَادَةِ أَنَّهَا تُتَّجَهُ إِلَى أَمْرٍ وَاحِدٍ.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ، وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
5 - أ - لاَ تُعْتَبَرُ الإِْرَادَةُ صَحِيحَةً إِلاَّ إِذَا صَدَرَتْ عَنْ ذِي أَهْلِيَّةٍ وَقَدْ تَنَاوَل الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْحَجْرِ، عِنْدَمَا حَكَمُوا بِفَسَادِ تَبَرُّعَاتِ الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ، وَالسَّفِيهِ وَالْمُفْلِسِ وَنَحْوِهِمْ، وَاعْتَبَرُوا إِرَادَتَهُمْ الصَّادِرَةَ بِذَلِكَ لاَغِيَةً لِصُدُورِهَا عَنْ غَيْرِ ذِي أَهْلِيَّةٍ، أَوْ عَنْ مُقَيَّدِ الأَْهْلِيَّةِ، أَوْ نَاقِصِهَا.
ب الأَْصْل فِي الإِْرَادَةِ أَنْ تَصْدُرَ عَنِ الأَْصِيل، وَلَكِنْ قَدْ تَنُوبُ عَنْ إِرَادَةِ الأَْصِيل إِرَادَةُ غَيْرِهِ، كَمَا فِي الْوَكَالَةِ، حَيْثُ تَنُوبُ إِرَادَةُ الْوَكِيل عَنْ إِرَادَةِ الْمُوَكِّل، كَمَا هُوَ مُفَصَّلٌ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ.
وَقَدْ تَنُوبُ إِرَادَةُ غَيْرِ الأَْصِيل عَنْ الأَْصِيل جَبْرًا كَالْوِلاَيَةِ أَوِ الْوِصَايَةِ فَيَلْزَمُ الأَْصِيل بِمَا أَمْضَاهُ ذَلِكَ الْغَيْرُ مِنْ تَصَرُّفَاتٍ (1) فِي الْجُمْلَةِ، وَقَدْ سَبَقَ الْكَلاَمُ عَنْهُ فِي مُصْطَلَحِ (إِجْبَار) .
مَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الإِْرَادَةِ:
6 - الأَْصْل أَنْ يُعَبَّرَ عَنِ الإِْرَادَةِ بِاللَّفْظِ الصَّادِرِ عَنْ
__________
(1) مواهب الجليل 4 / 248(3/5)
أَهْلِهِ، وَتَقُومُ مَقَامَهُ الإِْشَارَةُ مِنَ الْعَاجِزِ عَنِ اللَّفْظِ، أَوِ الرِّسَالَةُ، أَوِ السُّكُوتُ، أَوِ التَّعَاطِي، أَوِ الْقَرَائِنُ الْقَوِيَّةُ (1) . وَذَلِكَ مَنْثُورٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ فِي أَبْوَابٍ شَتَّى: كَالطَّلاَقِ، وَالنِّكَاحِ، وَالْبُيُوعِ، وَمِنْ هُنَا اعْتَبَرَ الْفُقَهَاءُ إِشَارَةَ الأَْخْرَسِ كَعِبَارَتِهِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأُْمُورِ.
الإِْرَادَةُ وَالتَّصَرُّفَاتُ:
7 - هُنَاكَ تَصَرُّفَاتٌ لاَ تُنْتِجُ آثَارَهَا إِلاَّ بِمُطَابَقَةِ الْقَبُول لِلإِْيجَابِ، كَالْعُقُودِ، لأَِنَّ الْعَقْدَ مَأْخُوذٌ مِنْ عَقَدَ طَرَفَيِ الْحَبْل، وَقَدْ شَبَّهَ الْفُقَهَاءُ الْعَقْدَ بِالْحَبْل، لاِحْتِيَاجِهِ إِلَى طَرَفَيْنِ، وَبِالتَّالِي إِلَى إِرَادَتَيْنِ، نَذْكُرُ مِنْ ذَلِكَ الْبَيْعَ، وَالإِْجَارَةَ، وَالرَّهْنَ، وَالصُّلْحَ، وَالشَّرِكَةَ، وَالْمُضَارَبَةَ، وَالْمُزَارَعَةَ، وَالنِّكَاحَ، وَالْخُلْعَ، وَنَحْوَ ذَلِكَ.
وَهُنَاكَ تَصَرُّفَاتٌ تُنْتِجُ آثَارَهَا بِالإِْرَادَةِ الْمُنْفَرِدَةِ وَهِيَ عَلَى نَوْعَيْنِ:
النَّوْعُ الأَْوَّل: مَا لاَ تَرِدُ فِيهِ الإِْرَادَةُ بِالرَّدِّ كَالْوَقْفِ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي أَبْوَابِهِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ.
النَّوْعُ الثَّانِي: مَا تَرِدُ فِيهِ الإِْرَادَةُ بِالرَّدِّ، كَالإِْقْرَارِ (2) ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي أَبْوَابِهِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ أَيْضًا.
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 135 و270 طبع شركة المطبوعات العلمية بمصر، وحاشية ابن عابدين 4 / 13 طبعة بولاق الأولى، وحاشية الدسوقي 3 / 3 طبع عيسى البابي الحلبي، ونهاية المحتاج 6 / 426 والكافي 2 / 802 الطبعة الأولى، وفتح القدير 5 / 77 طبع بولاق 1316، والأشباه والنظائر لابن نجيم بحاشية الحموي ص 184 وما بعدها طبع دار الطباعة العامرة، والمبسوط 11 / 150
(2) انظر المبسوط 13 / 12 - 13 وانظر المدخل الفقهي للزرقا ف / 183 وما بعدها ومصادر الحق في الفقه الإسلامي للسنهوري 2 / 103 طبع لجنة البيان العربي.(3/6)
8 - إِنَّ إِرَادَةَ الْعَاقِدَيْنِ تُنْشِئُ الْعَقْدَ، وَالإِْرَادَةُ الْمُنْفَرِدَةُ تُنْشِئُ التَّصَرُّفَاتِ غَيْرَ الْعَقْدِيَّةِ. أَمَّا أَحْكَامُ الْعُقُودِ، وَآثَارُهَا فَإِنَّهَا مِنْ تَرْتِيبِ الشَّارِعِ لاَ الْعَاقِدِ (1) .
9 - إِذَا وَقَعَ فِي تَصَرُّفٍ مَا الْغَلَطُ أَوِ التَّغْرِيرُ أَوِ التَّدْلِيسُ أَوِ الإِْكْرَاهُ كَانَ هَذَا التَّصَرُّفُ قَابِلاً لِلإِْبْطَال فِي الْجُمْلَةِ، بِإِثْبَاتِ الْخِيَارِ لِمَنْ وَقَعَ ذَلِكَ فِي إِرَادَتِهِ (2) .
إِرَاقَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْرَاقَةُ فِي اللُّغَةِ: الصَّبُّ، يُقَال: أَرَاقَ الْمَاءَ أَيْ صَبَّهُ (3) . وَيَسْتَعْمِل الْفُقَهَاءُ كَلِمَةَ " إِرَاقَةٍ " اسْتِعْمَالاَتٍ مُتَعَدِّدَةً، كُلُّهَا تَعُودُ لِمَعْنَى الصَّبِّ، فَيَقُولُونَ: إِرَاقَةُ الْخَمْرِ، وَإِرَاقَةُ الدَّمِ، وَكُلُّهَا بِمَعْنًى.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
أ - إِرَاقَةُ الدَّمِ:
2 - اعْتَبَرَ الشَّارِعُ إِرَاقَةَ دَمِ الأَْنْعَامِ قُرْبَةً بِذَاتِهَا فِي الْهَدْيِ وَالأُْضْحِيَّةِ وَالْعَقِيقَةِ، قَال ابْنُ الْقَيِّمِ: " وَالذَّبَائِحُ الَّتِي هِيَ قُرْبَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَعِبَادَةٌ ثَلاَثَةٌ: الْهَدْيُ وَالأُْضْحِيَّةُ وَالْعَقِيقَةُ (4) ". وَقَال الْمَرْغِينَانِيُّ:
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 123
(2) المبسوط 13 / 12 - 13
(3) المغرب في ترتيب المعرب
(4) زاد المعاد في هدي خير العباد 1 / 245 طبع مصطفى البابي الحلبي سنة 1369(3/6)
لاَ يَجُوزُ فِي الْهَدَايَا إِلاَّ مَا جَازَ فِي الضَّحَايَا، لأَِنَّهُ قُرْبَةٌ تَعَلَّقَتْ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ (1) ".
وَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لاَ يَقُومُ مَقَامَ الإِْرَاقَةِ غَيْرُهَا، حَتَّى لَوْ تَصَدَّقَ بِالأُْضْحِيَّةِ أَوِ الْهَدْيِ أَوْ شَاةِ الْعَقِيقَةِ قَبْل ذَبْحِهَا لَمْ يُجْزِئْهُ ذَلِكَ عَنِ الأُْضْحِيَّةِ أَوِ الْهَدْيِ أَوِ الْعَقِيقَةِ (2) . وَقَدْ تَحَدَّثَ الْفُقَهَاءُ عَنْ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الأَْضَاحِيِّ، وَفِي الْحَجِّ.
كَمَا اعْتَبَرَ الشَّارِعُ إِرَاقَةَ الدَّمِ قُرْبَةً عِنْدَمَا تَكُونُ وَسِيلَةً لِتَحْقِيقِ الْخَيْرِ، كَمَا هُوَ الْحَال فِي وُجُوبِ قِتَال الْكَافِرِينَ وَالْبُغَاةِ، وَقَتْلِهِمْ إِزَالَةً لِطُغْيَانِهِمْ، وَإِعْلاَءً لِكَلِمَةِ اللَّهِ فِي الأَْرْضِ، حَتَّى إِذَا مَا تَحَقَّقَ ذَلِكَ الْخَيْرُ بِغَيْرِ إِرَاقَةِ الدِّمَاءِ وَجَبَ أَلاَّ يُلْجَأَ إِلَيْهِ، وَلِذَلِكَ يَمْتَنِعُ الْقِتَال وَالْقَتْل إِذَا مَا أَجَابُوا أَهْل الْحَقِّ إِلَى الاِنْضِوَاءِ تَحْتَ رَايَةِ الإِْسْلاَمِ.
وَقَدْ فَصَّل الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ فِي كِتَابَيِ الْجِهَادِ وَالْبُغَاةِ.
وَكَمَا هُوَ الْحَال فِي إِرَاقَةِ الدَّمِ قِصَاصًا أَوْ حَدًّا، لِيَرْتَدِعَ النَّاسُ عَنِ الطُّغْيَانِ وَانْتِهَاكِ حُرُمَاتِ اللَّهِ، قَال تَعَالَى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَْلْبَابِ} . (3)
وَاعْتَبَرَ الشَّارِعُ إِرَاقَةَ الدَّمِ حَرَامًا إِذَا كَانَتْ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَلَمْ تَكُنْ لِغَرَضٍ مَشْرُوعٍ، وَلِذَلِكَ حَرَّمَ قَتْل الْمُسْلِمِ أَوِ الذِّمِّيِّ ظُلْمًا، وَحَرَّمَ ذَبْحَ الْحَيَوَانِ غَيْرِ الْمُؤْذِي لِغَيْرِ مَأْكَلَةٍ. وَحَرَّمَ ذَبْحَ الْحَيَوَانِ الْمَأْكُول إِذَا أُهِل بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ (4) ، كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الْفُقَهَاءُ فِي كِتَابِ
__________
(1) الهداية 1 / 185 طبع مصطفى البابي الحلبي.
(2) البدائع 5 / 66 مطبعة الجمالية بمصر سنة 1328
(3) سورة البقرة / 179
(4) جواهر الإكليل 1 / 209 وما بعدها، وحاشية ابن عابدين 5 / 169(3/7)
الذَّبَائِحِ.
وَاعْتَبَرَ الشَّارِعُ إِرَاقَةَ الدَّمِ مُبَاحَةً لِدَفْعِ صِيَال إِنْسَانٍ عَلَى إِنْسَانٍ (1) ، أَوْ لِحُصُولِهِ عَلَى مَا يَدْفَعُ عَنْهُ الْمَوْتَ، إِنْ لَمْ يُمْكِنِ الْحُصُول عَلَيْهِ إِلاَّ بِإِرَاقَةِ دَمِ مَنْ يَمْنَعُهُ مَا يُحْيِي بِهِ نَفْسَهُ مِمَّا هُوَ فَائِضٌ عَنْ حَاجَتِهِ (2) ، كَمَا تُبَاحُ إِرَاقَةُ دَمِ الْحَيَوَانِ الْمُؤْذِي (3) . وَقَدْ تَحَدَّثَ الْفُقَهَاءُ عَنْ ذَلِكَ فِي أَبْوَابٍ مُتَعَدِّدَةٍ، كَالصِّيَال، وَالْجِنَايَاتِ، وَالْحَجِّ عِنْدَ حَدِيثِهِمْ عَلَى مَا يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ قَتْلُهُ مِنَ الْحَيَوَانِ.
ب - إِرَاقَةُ النَّجَاسَاتِ:
3 - إِرَاقَةُ النَّجَاسَةِ إِتْلاَفٌ لَهَا، وَهُوَ مَطْلُوبٌ فِي الْجُمْلَةِ إِنْ لَمْ تَكُنْ ثَمَّةَ حَاجَةٌ أَوِ اضْطِرَارٌ إِلَيْهَا، وَجَمِيعُ الأَْحْكَامِ الَّتِي تَرِدُ عَلَى إِرَاقَتِهَا تَرِدُ عَلَى إِتْلاَفِهَا، وَقَدْ سَبَقَ الْكَلاَمُ عَنْهُ تَحْتَ مُصْطَلَحِ: " إِتْلاَفٌ ".
ج - إِرَاقَةُ الْمَنِيِّ:
4 - يُعَبِّرُ الْفُقَهَاءُ عَنْ إِرَاقَةِ الْمَنِيِّ خَارِجَ الْفَرْجِ عِنْدَ الْوَطْءِ بِالْعَزْل. وَهُوَ جَائِزٌ عَنِ الْحُرَّةِ بِإِذْنِهَا، وَلاَ يَحْتَاجُ إِلَى الإِْذْنِ عَنِ الأَْمَةِ فِي الْجُمْلَةِ (4) . وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: " عَزْلٌ ". وَقَدْ تَحَدَّثَ الْفُقَهَاءُ عَنْهُ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ.
__________
(1) انظر جواهر الإكليل 2 / 297 طبع مطبعة عباس، وحاشية قليوبي 2 / 206 طبع مصطفى البابي الحلبي. وحاشية ابن عابدين 5 / 351 ط بولاق الأولى، والمغني 8 / 329 وما بعدها
(2) المغني 8 / 602 وما بعدها.
(3) حاشية ابن عابدين 5 / 249، وموطأ الإمام مالك 1 / 353، ونيل الأوطار 5 / 27 طبع المطبعة العثمانية المصرية، وعمدة القاري شرح البخاري في كتاب الصيد، باب ما يقتل المحرم من الدواب.
(4) المغني 7 / 23 - 24 ط الرياض.(3/7)
أَرَاكٌ
اُنْظُرِ: اسْتِيَاك
إِرْبَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْرْبَةُ لُغَةً: الْحَاجَةُ، وَالْجَمْعُ الإِْرَبُ. يُقَال: أَرِبَ الرَّجُل إِلَى الشَّيْءِ إِذَا احْتَاجَ إِلَيْهِ فَهُوَ آرِبٌ (1) . وَاصْطِلاَحًا: الْحَاجَةُ إِلَى النِّسَاءِ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
غَيْرِ أُولِي الإِْرْبَةِ:
2 - قَال الْفَخْرُ الرَّازِيُّ: قِيل: هُمُ الَّذِينَ يَتْبَعُونَكُمْ لِيَنَالُوا مِنْ فَضْل طَعَامِكُمْ، وَلاَ حَاجَةَ بِهِمْ إِلَى النِّسَاءِ، لأَِنَّهُمْ بُلْهٌ لاَ يَعْرِفُونَ مِنْ أَمْرِهِنَّ شَيْئًا، أَوْ شُيُوخٌ صُلَحَاءُ إِذَا كَانُوا مَعَهُنَّ غَضُّوا أَبْصَارَهُمْ
. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْخَصِيَّ وَالْعِنِّينَ وَمَنْ شَاكَلَهُمَا قَدْ لاَ يَكُونُ لَهُ إِرْبَةٌ فِي نَفْسِ الْجِمَاعِ، وَيَكُونُ لَهُ إِرْبَةٌ قَوِيَّةٌ فِيمَا عَدَاهُ مِنَ التَّمَتُّعِ، وَذَلِكَ يَمْنَعُ مِنْ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُرَادَ. فَيَجِبُ أَنْ يُحْمَل الْمُرَادُ عَلَى مَنِ الْمَعْلُومُ مِنْهُ أَنَّهُ لاَ إِرْبَةَ لَهُ فِي سَائِرِ وُجُوهِ التَّمَتُّعِ، إِمَّا لِفَقْدِ
__________
(1) المصباح المنير، ولسان العرب مادة (أرب)
(2) تفسير الفخر الرازي 23 / 208 ط عبد الرحمن محمد.(3/8)
شَهْوَةٍ، وَإِمَّا لِفَقْدِ الْمَعْرِفَةِ، وَإِمَّا لِلْفَقْرِ وَالْمَسْكَنَةِ، فَعَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلاَثَةِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فَقَال بَعْضُهُمْ: هُمُ الْفُقَرَاءُ الَّذِينَ بِهِمُ الْفَاقَةُ، وَقَال بَعْضُهُمْ: الْمَعْتُوهُ وَالأَْبْلَهُ وَالصَّبِيُّ، وَقَال بَعْضُهُمْ: الشَّيْخُ، وَسَائِرُ مَنْ لاَ شَهْوَةَ لَهُ، وَلاَ يَمْتَنِعُ دُخُول الْكُل فِي ذَلِكَ. عَلَى أَنَّهُ لاَ يَنْبَغِي - كَمَا قَال أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ - أَنْ يَشْمَل ذَلِكَ (الصَّبِيَّ) ، لأَِنَّهُ أُفْرِدَ بِحُكْمٍ يَخُصُّهُ. وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {مِنَ الرِّجَال أَوِ الطِّفْل الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} . (1)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
3 - الرَّأْيُ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْخَصِيَّ وَالْمَجْبُوبَ وَالشَّيْخَ وَالْعَبْدَ وَالْفَقِيرَ وَالْمُخَنَّثَ وَالْمَعْتُوهَ وَالأَْبْلَهَ فِي النَّظَرِ إِلَى الأَْجْنَبِيَّةِ كَالْفَحْل (أَيْ كَصَاحِبِ الإِْرْبَةِ) لأَِنَّ الْخَصِيَّ قَدْ يُجَامِعُ وَيَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِهِ، وَالْمَجْبُوبُ يَتَمَتَّعُ وَيُنْزِل، وَالْمُخَنَّثُ فَحْلٌ فَاسِقٌ، وَأَمَّا الْمَعْتُوهُ وَالأَْبْلَهُ فَفِيهِمَا شَهْوَةٌ، وَقَدْ يَحْكِيَانِ مَا يَرَيَانِهِ (2) . وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ رَأْيٌ لِلْحَنَفِيَّةِ: حُكْمُ غَيْرِ أُولِي الإِْرْبَةِ حُكْمُ الْمَحَارِمِ فِي النَّظَرِ إِلَى النِّسَاءِ، يَرَوْنَ مِنْهُنَّ مَوْضِعَ الزِّينَةِ مِثْل الشَّعْرِ وَالذِّرَاعَيْنِ، وَحُكْمُهُمْ فِي الدُّخُول عَلَيْهِنَّ مِثْل الْمَحَارِمِ أَيْضًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإِْرْبَةِ مِنَ الرِّجَال} . (3)
__________
(1) تفسير الفخر الرازي 23 / 208. وأحكام القرآن لابن العربي " 3 / 1362، والآية من سورة النور / 31
(2) ابن عابدين 5 / 239 ط بولاق الأولى، والطحطاوي على الدر 4 / 186 ط المعرفة، وروح المعاني 18 / 144 ط المنيرية.
(3) حاشية الطحطاوي على الدر 4 / 186. والحطاب 1 / 500 - 501 ط ليبيا، والبجيرمي على الخطيب 3 / 314 ط المعرفة، والمغني 7 / 462 ط الأولى المنار. والآية من سورة النور / 31(3/8)
أَرَتُّ
اُنْظُرْ: أَلْثَغ
ارْتِثَاثٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِرْتِثَاثُ فِي اللُّغَةِ: أَنْ يُحْمَل الْجَرِيحُ مِنَ الْمَعْرَكَةِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ قَدْ أَثْخَنَتْهُ الْجِرَاحُ (1) يُقَال: ارْتَثَّ الرَّجُل - عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ - أَيْ حُمِل مِنَ الْمَعْرَكَةِ رَثِيثًا أَيْ جَرِيحًا وَبِهِ رَمَقٌ، وَيَزِيدُ الْفُقَهَاءُ فِي تَعْرِيفِهِ بَعْضَ الْقُيُودِ، فَهُوَ عِنْدَهُمْ: الْخُرُوجُ عَنْ صِفَةِ الْقَتْلَى، وَالصَّيْرُورَةُ إِلَى حَال الدُّنْيَا، وَالْمُرْتَثُّ هُوَ مَنْ حُمِل مِنَ الْمَعْرَكَةِ مُسْتَقِرَّ الْحَيَاةِ، بِأَنْ تَكَلَّمَ، أَوْ أَكَل أَوْ شَرِبَ، أَوْ نَامَ، أَوْ بَاعَ أَوِ ابْتَاعَ، أَوْ طَال بَقَاؤُهُ عُرْفًا، ثُمَّ مَاتَ بَعْدَ ذَلِكَ (2) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - الْمُرْتَثُّ يُغَسَّل وَيُصَلَّى عَلَيْهِ، لأَِنَّهُ لاَ يُعْتَبَرُ
__________
(1) لسان العرب وتاج العروس.
(2) بدائع الصنائع 1 / 321 ط شركة المطبوعات العلمية، وحاشية الدسوقي مع الشرح الكبير 1 / 425 ط عيسى الحلبي، والمغني مع الشرح الكبير 2 / 403 ط المنار الأولى، ونهاية المحتاج 2 / 490 ط مصطفى الحلبي.(3/9)
شَهِيدًا فِي حُكْمِ الدُّنْيَا، فَلاَ تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الشُّهَدَاءِ.
وَهُوَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَهِيدًا فِي حُكْمِ الدُّنْيَا فَهُوَ شَهِيدٌ فِي حَقِّ الثَّوَابِ، حَتَّى إِنَّهُ يَنَال ثَوَابَ الشُّهَدَاءِ وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ فِيمَنْ مَاتَ بَعْدَ الْمَعْرَكَةِ مَعَ الْكُفَّارِ.
أَمَّا الْمُرْتَثُّ مِنَ الْبُغَاةِ، أَوْ أَهْل الْعَدْل فِي الْمَعَارِكِ بَيْنَهُمْ، فَفِيهِ خِلاَفُ الْفُقَهَاءِ مِنْ حَيْثُ الْغُسْل وَالصَّلاَةُ (1) . ر: بُغَاة.
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
3 - يَذْكُرُ الْفُقَهَاءُ أَحْكَامَ الْمُرْتَثِّ فِي بَابِ الْجَنَائِزِ وَفِي بَابِ الْبُغَاةِ.
ارْتِدَادٌ
اُنْظُرْ: رِدَّةٌ
ارْتِزَاقٌ
اُنْظُرْ: رِزْقٌ
ارْتِفَاقٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الاِرْتِفَاقِ لُغَةً: الاِتِّكَاءُ. وَارْتَفَقَ
__________
(1) المراجع السابقة.(3/9)
بِالشَّيْءِ انْتَفَعَ بِهِ. وَمَرَافِقُ الدَّارِ: مَصَابُّ الْمَاءِ وَنَحْوُهَا، كَالْمَطْبَخِ وَالْكَنِيفِ (1) وَفِي الاِصْطِلاَحِ: عَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ حَقٌّ مُقَرَّرٌ عَلَى عَقَارٍ لِمَنْفَعَةِ عَقَارٍ آخَرَ. وَعَرَّفَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ تَحْصِيل مَنَافِعَ تَتَعَلَّقُ بِالْعَقَارِ (2) ، فَالاِرْتِفَاقُ عِنْدَهُمْ أَعَمُّ مِنْهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، لأَِنَّهُ يَشْمَل انْتِفَاعَ الشَّخْصِ بِالْعَقَارِ فَضْلاً عَنِ انْتِفَاعِ الْعَقَارِ بِالْعَقَارِ. وَاَلَّذِي يُسْتَفَادُ مِمَّا أَوْرَدَهُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي صُوَرِ الاِرْتِفَاقِ أَنَّهُمْ يَتَّفِقُونَ مَعَ الْمَالِكِيَّةِ فِي ذَلِكَ (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الاِخْتِصَاصُ:
2 - الاِخْتِصَاصُ: مَصْدَرٌ، اخْتَصَصْتُهُ بِالشَّيْءِ فَاخْتَصَّ هُوَ بِهِ (4) ، وَمَتَى اخْتَصَّ شَخْصٌ بِشَيْءٍ فَقَدِ امْتَنَعَ عَلَى غَيْرِهِ الاِنْتِفَاعُ بِهِ إِلاَّ بِإِذْنٍ مِنْهُ، فَالْفَرْقُ، عَدَا شَرْطِ الإِْذْنِ، هُوَ أَنَّ الاِرْتِفَاقَ تُتَصَوَّرُ فِيهِ الْمُشَارَكَةُ فِي الاِنْتِفَاعِ، خِلاَفًا لِلاِخْتِصَاصِ، كَمَا أَنَّ الاِرْتِفَاقَ تَغْلِبُ عَلَيْهِ الدَّيْمُومَةُ، أَمَّا الاِخْتِصَاصُ فَيَغْلِبُ عَلَيْهِ عَدَمُهَا.
ب - الْحِيَازَةُ أَوِ الْحَوْزُ:
3 - مِنْ مَعَانِي الْحِيَازَةِ أَوِ الْحَوْزِ لُغَةً: الْجَمْعُ وَالضَّمُّ.
__________
(1) القاموس والمصباح.
(2) البهجة شرح التحفة 2 / 251، 252 ط الحلبي، والبحر الرائق 6 / 148، 149 ط العلمية.
(3) الأحكام السلطانية للماوردي ص 187، ولأبي يعلى ص 208، وجامع الفصولين 1 / 65
(4) المصباح(3/10)
وَاصْطِلاَحًا: وَضْعُ الْيَدِ عَلَى الشَّيْءِ وَالاِسْتِيلاَءُ عَلَيْهِ (1) .
ج - الْحُقُوقُ:
4 - الْحُقُوقُ جَمْعُ حَقٍّ، وَالْحَقُّ لُغَةً: الأَْمْرُ الثَّابِتُ الْمَوْجُودُ. وَاصْطِلاَحًا يَسْتَعْمِلُهُ الْفُقَهَاءُ فِيمَا ثَبَتَ لإِِنْسَانٍ بِمُقْتَضَى الشَّرْعِ مِنْ أَجْل صَالِحِهِ.
وَمِمَّا فَرَّقَ بِهِ بَيْنَ الْحُقُوقِ وَالْمَرَافِقِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَقَارِ مَا نَقَلَهُ ابْنُ نُجَيْمٍ عَنْ جَامِعِ الْفُصُولَيْنِ وَمَا يُذْكَرُ فِي دَعْوَى الْعَقَارِ مِنْ قَوْلِهِ بِحُقُوقِهِ وَمَرَافِقِهِ: فَحُقُوقُهُ عِبَارَةٌ عَنْ مَسِيل الْمَاءِ وَطَرِيقِ غَيْرِهِ وِفَاقًا، وَمَرَافِقُهُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ مَنَافِعُ الدَّارِ، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ الْمَرَافِقُ: هِيَ الْحُقُوقُ (2) .
فَعَلَى قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ الْمَرَافِقُ وَالْحُقُوقُ سَوَاءٌ، وَعَلَى قَوْل أَبِي يُوسُفَ الْمَرَافِقُ أَعَمُّ، لأَِنَّهَا تَوَابِعُ الدَّارِ مِمَّا يُرْتَفَقُ بِهِ، كَالْمُتَوَضِّئِ، وَالْمَطْبَخِ كَمَا فِي الْقُهُسْتَانِيِّ، وَحَقُّ الشَّيْءِ تَابِعٌ لاَ بُدَّ لَهُ مِنْهُ، كَالطَّرِيقِ وَالشُّرْبِ فَهُوَ أَخَصُّ (3) .
صِفَتُهُ (الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ) :
5 - الْحُكْمُ الأَْصْلِيُّ لِلاِرْتِفَاقِ الإِْبَاحَةُ، مَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمُرْتَفِقِ ضَرَرٌ، أَوْ مَا لَمْ يَتَعَيَّنْ لِدَفْعِ ضَرَرٍ، أَمَّا الإِْرْفَاقُ فَهُوَ مَنْدُوبٌ لِحَضِّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَيْهِ، حَيْثُ قَال: لاَ يَمْنَعُ أَحَدُكُمْ جَارَهُ أَنْ
__________
(1) البهجة على التحفة 2 / 252
(2) الأحكام السلطانية للماوردي ص 187. ولأبي يعلى ص 7208 وجامع الفصولين 1 / 65، والبحر الرائق 6 / 148 ط العلمية.
(3) حاشية ابن عابدين 4 / 292 ط بولاق(3/10)
يَغْرِزَ خَشَبَةً فِي جِدَارِهِ (1) وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَدْخُل الْجَنَّةَ مَنْ خَافَ جَارُهُ بَوَائِقَهُ. (2)
أَنْوَاعُهُ مِنْ حَيْثُ قَابِلِيَّةُ رُجُوعِ الْمُرْفِقِ:
6 - الإِْرْفَاقُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَحْدُودًا بِزَمَنٍ كَسَنَةٍ، أَوْ عَشْرِ سِنِينَ، أَوْ إِلَى الأَْبَدِ فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ اُتُّبِعَ، وَكَانَ لاَزِمًا لِلْمُرْفِقِ، لَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ قَبْل الْمُدَّةِ الْمُحَدَّدَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الإِْرْفَاقُ مُطْلَقًا غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِأَجَلٍ، وَحِينَئِذٍ يُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ قَدْرُ مَا يُعَدُّ ارْتِفَاقًا بَيْنَ الْجِيرَانِ، بِأَنْ يَتْرُكَ مُدَّةً يَنْتَفِعُ فِيهَا عَادَةً أَمْثَالُهُ، وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الإِْرْفَاقُ بِالْغَرْزِ، أَوْ فَتْحِ بَابٍ، أَوْ سَقْيِ مَاءٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، كَإِعَادَةِ عَرْصَةٍ لِلْبِنَاءِ (3) .
وَيَأْتِي تَفْصِيل أَحْكَامِ الرُّجُوعِ فِي (ف 24)
أَسْبَابُ الاِرْتِفَاقِ:
7 - يَنْشَأُ الاِرْتِفَاقُ عَنْ إِذْنِ الشَّارِعِ، وَهُوَ بِالنِّسْبَةِ لِلأَْمْوَال الْعَامَّةِ، أَوِ الْمُبَاحَاتِ كَإِحْيَاءِ الْمَوَاتِ وَغَيْرِهِ، أَوْ إِذْنِ الْمَالِكِ بِالنِّسْبَةِ لِلأَْمْوَال الْخَاصَّةِ، أَوْ بِاقْتِضَاءِ التَّصَرُّفِ بِثُبُوتِ الاِرْتِفَاقِ كَمَا فِي الإِْجَارَةِ وَالْوَقْفِ، وَلَوْ لَمْ يَشْتَرِطِ الاِنْتِفَاعَ بِحُقُوقِ الاِرْتِفَاقِ، وَقَدْ يَثْبُتُ بِاسْتِصْحَابِ الْحَال دُونَ مَعْرِفَةِ سَبَبِ نُشُوئِهِ، وَذَلِكَ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ عَلَيْهِ.
__________
(1) أخرجه البخاري - فتح الباري 5 / 110 - ط السلفية ومسلم 3 / 1230 - ط عيسى الحلبي) واللفظ لمسلم.
(2) أخرجه أحمد (2 / 373 - ط الميمنية) وقال الهيثمي في المجمع (8 / 169 - ط مكتبة القدسي) : " رجاله رجال الصحيح "
(3) البهجة على التحفة 2 / 251، 252(3/11)
الاِرْتِفَاقُ بِالْمَنَافِعِ الْعَامَّةِ وَالأَْوْلَوِيَّةُ فِيهِ:
8 - صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ: يَجُوزُ الاِرْتِفَاقُ بِالْقُعُودِ فِي الْوَاسِعِ مِنَ الشَّوَارِعِ وَالطُّرُقَاتِ وَالرِّحَابِ بَيْنَ الْعُمْرَانِ لِلْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ عَلَى وَجْهٍ لاَ يَضِيقُ عَلَى أَحَدٍ، وَلاَ يَضُرُّ بِالْمَارَّةِ، لاِتِّفَاقِ أَهْل الأَْمْصَارِ فِي جَمِيعِ الأَْعْصَارِ عَلَى إِقْرَارِ النَّاسِ عَلَى ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ إِنْكَارٍ، وَلأَِنَّهُ ارْتِفَاقٌ مُبَاحٌ مِنْ غَيْرِ إِضْرَارٍ، فَلَمْ يُمْنَعْ مِنْهُ كَالاِجْتِيَازِ. قَال أَحْمَدُ فِي السَّابِقِ إِلَى دَكَاكِينِ السُّوقِ (أَيِ الأَْمَاكِنِ الْمُعَدَّةِ لِلْبَاعَةِ غَيْرِ الدَّائِمِينَ) غَدْوَةً: فَهُوَ لَهُ إِلَى اللَّيْل. وَكَانَ هَذَا فِي سُوقِ الْمَدِينَةِ فِيمَا مَضَى. وَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مِنًى مُنَاخُ مَنْ سَبَقَ (1) وَلَهُ أَنْ يُظَلِّل عَلَى نَفْسِهِ بِمَا لاَ ضَرَرَ فِيهِ. . . فَإِنْ قَامَ وَتَرَكَ مَتَاعَهُ فِيهِ لَمْ يَجُزْ لِغَيْرِهِ إِزَالَتُهُ، لأَِنَّ يَدَ الأَْوَّل عَلَيْهِ، وَإِنْ نَقَل مَتَاعَهُ كَانَ لِغَيْرِهِ أَنْ يَقْعُدَ فِيهِ، لأَِنَّ يَدَهُ قَدْ زَالَتْ، وَإِنْ قَعَدَ وَأَطَال مُنِعَ مِنْ ذَلِكَ، لأَِنَّهُ يَصِيرُ كَالْمُتَمَلِّكِ، وَيَخْتَصُّ بِنَفْعٍ يُسَاوِيهِ فِيهِ غَيْرُهُ فِي اسْتِحْقَاقِهِ. وَيُحْتَمَل أَنَّهُ لاَ يُزَال، لأَِنَّهُ سَبَقَ إِلَى مَا لَمْ يَسْبِقْ إِلَيْهِ مُسْلِمٌ. وَإِنْ اسْتَبَقَ اثْنَانِ إِلَيْهِ احْتَمَل أَنْ يُقْرَعَ بَيْنَهُمَا، وَاحْتَمَل أَنْ يُقَدِّمَ الإِْمَامُ مَنْ يَرَى مِنْهُمَا. وَإِنْ كَانَ الْجَالِسُ يُضَيِّقُ عَلَى الْمَارَّةِ لَمْ يَحِل لَهُ الْجُلُوسُ فِيهِ، وَلاَ يَحِل لِلإِْمَامِ تَمْكِينُهُ بِعِوَضٍ وَلاَ غَيْرِهِ (2) .
وَبِنَحْوِ ذَلِكَ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ قَال الرَّمْلِيُّ: (وَمَنْ أَلِفَ مِنْ مَسْجِدٍ أَوْ مَدْرَسَةٍ مَوْضِعًا يُفْتِي فِيهِ النَّاسَ،
__________
(1) حديث: " منى مناخ من سبق " أخرجه ابن ماجه (2 / 1000 - ط عيسى الحلبي) والترمذي (3 / 228 - ط عيسى الحلبي)
(2) المغني 5 / 576، 577 ط مكتبة الرياض(3/11)
أَوْ يُقْرِئُ فِيهِ قُرْآنًا، أَوْ عِلْمًا شَرْعِيًّا، أَوْ آلَةً لَهُ، أَوْ لِتَعَلُّمِ مَا ذُكِرَ كَسَمَاعِ دَرْسٍ بَيْنَ يَدَيْ مُدَرِّسٍ فَهُوَ كَالْجَالِسِ فِي الشَّارِعِ لِمُعَامَلَةٍ، لَكِنَّ ذَلِكَ مَشْرُوطٌ بِأَنْ يُفِيدَ أَوْ يَسْتَفِيدَ. بَل هُوَ أَوْلَى مِمَّنْ يَجْلِسُ فِي الشَّارِعِ لِمُعَامَلَةٍ، لأَِنَّ لَهُ غَرَضًا فِي مُلاَزَمَةِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ لِيَأْلَفَهُ النَّاسُ. وَحَدِيثُ النَّهْيِ عَنِ اتِّخَاذِ الْمَسَاجِدِ وَطَنًا. . . مَخْصُوصٌ بِمَا عَدَا ذَلِكَ، وَلاَ يُشْتَرَطُ فِي ذَلِكَ إِذْنُ الإِْمَامِ، وَإِذَا غَابَ الْمُدَرِّسُ فَلِغَيْرِهِ الْجُلُوسُ فِي مَكَانِهِ، حَتَّى لاَ تَتَعَطَّل مَنْفَعَتُهُ) .
وَلَوْ سَبَقَ رَجُلٌ إِلَى مَوْضِعٍ مِنْ رِبَاطٍ مُسَبَّلٍ (1) وَانْطَبَقَ عَلَيْهِ شَرْطُهُ، أَوْ فَقِيهٌ إِلَى مَدْرَسَةٍ، أَوْ مُتَعَلِّمُ قُرْآنٍ إِلَى مَا بُنِيَ لَهُ، أَوْ صُوفِيٌّ إِلَى خَانِقَاهُ (2) لَمْ يُزْعَجْ وَلَمْ يَبْطُل حَقُّهُ مِنْهُ بِخُرُوجِهِ لِشِرَاءِ حَاجَةٍ وَنَحْوِهِ مِنَ الأَْعْذَارِ، وَلَوْ لَمْ يَتْرُكْ مَتَاعًا وَلاَ نَائِبًا. وَمَتَى عَيَّنَ الْوَاقِفُ مُدَّةً لِلإِْقَامَةِ فَلَيْسَ لِلْمُرْتَفِقِ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا، إِلاَّ إِذَا لَمْ يُوجَدْ فِي الْبَلَدِ مَنْ يَنْطَبِقُ عَلَيْهِ شَرْطُ الْوَاقِفِ، لأَِنَّ الْعُرْفَ يَشْهَدُ بِأَنَّ الْوَاقِفَ لَمْ يُرِدْ خُلُوَّ الْمَدْرَسَةِ، وَكَذَا يُعْمَل بِالْعُرْفِ فِي كُل شَرْطٍ شَرَطَهُ الْوَاقِفُ، وَلاَ يُزَادُ فِي رِبَاطٍ مُدَّةٌ عَلَى ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ مَا لَمْ تَدْعُ ضَرُورَةٌ (3)
9 - هَذَا وَقَدْ فَصَّل كُلٌّ مِنَ الْمَاوَرْدِيِّ وَأَبِي يَعْلَى بَيَانَ الاِرْتِفَاقِ بِالْمَنَافِعِ الْعَامَّةِ وَلاَ سِيَّمَا مِنْ حَيْثُ الْحَاجَةُ إِلَى إِذْنِ السُّلْطَانِ أَوْ عَدَمُهَا فَقَالاَ: وَأَمَّا الإِْرْفَاقُ فَهُوَ مِنِ ارْتِفَاقِ النَّاسِ بِمَقَاعِدِ الأَْسْوَاقِ، وَأَفْنِيَةِ
__________
(1) نهاية المحتاج 5 / 345 بتصرف يسير.
(2) الفتاوى البزازية هامش الفتاوى الهندية 6 / 114 - 116 والبهجة في شرح التحفة 2 / 335 - 342
(3) نهاية المحتاج 5 / 345(3/12)
الشَّوَارِعِ، وَحَرِيمِ الأَْمْصَارِ، وَمَنَازِل الأَْسْفَارِ فَتَنْقَسِمُ ثَلاَثَةَ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ يَخْتَصُّ الاِرْتِفَاقُ فِيهِ بِالصَّحَارِيِ وَالْفَلَوَاتِ، وَقِسْمٌ يَخْتَصُّ الاِرْتِفَاقُ فِيهِ بِأَفْنِيَةِ الأَْمْلاَكِ، وَقِسْمٌ يَخْتَصُّ بِالشَّوَارِعِ وَالطُّرُقَاتِ.
وَالْقِسْمُ الأَْوَّل ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ لاِجْتِيَازِ السَّابِلَةِ وَاسْتِرَاحَةِ الْمُسَافِرِينَ فِيهِ فَلاَ نَظَرَ لِلسُّلْطَانِ فِيهِ لِبُعْدِهِ عَنْهُ وَضَرُورَةِ السَّابِلَةِ فِيهِ. وَاَلَّذِي يَخْتَصُّ السُّلْطَانُ بِهِ مِنْ ذَلِكَ إِصْلاَحُ عَوْرَتِهِ " خَلَلِهِ " وَحِفْظُ مِيَاهِهِ، وَالتَّخْلِيَةُ بَيْنَ النَّاسِ وَنُزُولُهُ، وَيَكُونُ السَّابِقُ إِلَى الْمَنْزِل أَحَقَّ بِحُلُولِهِ مِنَ الْمَسْبُوقِ حَتَّى يَرْتَحِل. فَإِنْ وَرَدُوهُ عَلَى سَوَاءٍ وَتَنَازَعُوا فِيهِ، نَظَرَ فِي التَّعْدِيل بَيْنَهُمْ بِمَا يُزِيل تَنَازُعَهُمْ. وَكَذَلِكَ الْبَادِيَةُ إِذَا انْتَجَعُوا أَرْضًا طَلَبًا لِلْكَلأَِ وَارْتِفَاقًا بِالْمَرْعَى وَانْتِقَالاً مِنْ أَرْضٍ إِلَى أَرْضٍ كَانُوا فِيمَا تَرَكُوهُ وَارْتَحَلُوا عَنْهُ كَالسَّابِلَةِ لاَ اعْتِرَاضَ عَلَيْهِمْ فِي تَنَقُّلِهِمْ وَرَعْيِهِمْ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي. أَنْ يَقْصِدُوا بِنُزُولِهِمْ بِهَا الإِْقَامَةَ وَالاِسْتِيطَانَ، فَلِلسُّلْطَانِ فِي نُزُولِهِمْ بِهَا نَظَرٌ يُرَاعَى فِيهِ الأَْصْلَحُ فَإِنْ كَانَ مُضِرًّا بِالسَّابِلَةِ مُنِعُوا مِنْهَا قَبْل النُّزُول وَبَعْدَهُ، وَإِنْ لَمْ يَضُرَّ بِالسَّابِلَةِ رَاعَى الأَْصْلَحَ فِي نُزُولِهِمْ بِهَا أَوْ مَنَعَهُمْ مِنْهَا وَنَقَل غَيْرَهُمْ إِلَيْهَا، كَمَا فَعَل عُمَرُ حِينَ مَصَّرَ الْبَصْرَةَ وَالْكُوفَةَ. نَقَل إِلَى كُل وَاحِدَةٍ مِنَ الْمِصْرَيْنِ مَنْ رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِيهِ، لِئَلاَّ يَجْتَمِعَ فِيهِ الْمُسَافِرُونَ، فَيَكُونَ سَبَبًا لاِنْتِشَارِ الْفِتْنَةِ وَسَفْكِ الدِّمَاءِ، كَمَا يُفْعَل فِي إِقْطَاعِ الْمَوَاتِ مَا يُرَى، فَإِنْ لَمْ يَسْتَأْذِنُوهُ حَتَّى نَزَلُوا فِيهِ لَمْ يَمْنَعْهُمْ مِنْهُ. كَمَا لاَ يَمْنَعُ مَنْ أَحْيَا مَوَاتًا بِغَيْرِ إِذْنِهِ. وَدَبَّرَهُمْ بِمَا يَرَاهُ صَلاَحًا لَهُمْ، وَنَهَاهُمْ عَنْ إِحْدَاثِ زِيَادَةٍ مِنْ بَعْدُ،(3/12)
إِلاَّ عَنْ إِذْنِهِ. رَوَى كَثِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَال: قَدِمْنَا مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي عُمْرَتِهِ سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ، فَكَلَّمَهُ أَهْل الْمِيَاهِ فِي الطَّرِيقِ أَنْ يَبْنُوا مَنَازِل فِيمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ لَمْ تَكُنْ قَبْل ذَلِكَ فَأَذِنَ لَهُمْ، وَاشْتَرَطَ أَنَّ ابْنَ السَّبِيل أَحَقُّ بِالْمَاءِ وَالظِّل.
الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ مَا يَخْتَصُّ بِأَفْنِيَةِ الدُّورِ وَالأَْمْلاَكِ. يُنْظَرُ فَإِنْ كَانَ مُضِرًّا بِأَرْبَابِهَا مُنِعَ الْمُرْتَفِقُ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُضِرٍّ بِهِمْ فَفِي إِبَاحَةِ ارْتِفَاقِهِمْ بِهِ مِنْ غَيْرِ إِذْنٍ قَوْلاَنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ لَهُمُ الاِرْتِفَاقَ بِهَا وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ أَرْبَابُهَا، لأَِنَّ الْحَرِيمَ مِرْفَقٌ إِذَا وَصَل أَهْلُهُ إِلَى حَقِّهِمْ مِنْهُ سَاوَاهُمْ النَّاسُ فِيمَا عَدَاهُ.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الاِرْتِفَاقُ بِحَرِيمِهِمْ إِلاَّ عَنْ إِذْنِهِمْ، لأَِنَّهُ تَبَعٌ لأَِمْلاَكِهِمْ فَكَانُوا بِهِ أَحَقَّ وَبِالتَّصَرُّفِ فِيهِ أَخَصَّ.
وَأَمَّا حَرِيمُ الْمَسَاجِدِ وَالْجَوَامِعِ فَيُنْظَرُ، فَإِنْ كَانَ الاِرْتِفَاقُ بِهَا مُضِرًّا بِأَهْل الْجَوَامِعِ وَالْمَسَاجِدِ مُنِعُوا مِنْهُ، وَلَمْ يَجُزْ لِلسُّلْطَانِ أَنْ يَأْذَنَ فِيهِ، لأَِنَّ الْمُصَلِّينَ بِهَا أَحَقُّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُضِرًّا جَازَ ارْتِفَاقُهُمْ بِحَرِيمِهَا.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ مَا اخْتَصَّ بِأَفْنِيَةِ الشَّوَارِعِ وَالطُّرُقَاتِ فَكِلاَهُمَا فِيهِ لاَ يَخْرُجُ عَمَّا سَبَقَ (1) .
حُقُوقُ الاِرْتِفَاقِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ:
10 - تَبَيَّنَ مِمَّا سَبَقَ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ يُطْلِقُونَ الاِرْتِفَاقَ عَلَى مَا يَرْتَفِقُ بِهِ، وَيَخْتَصُّ بِمَا هُوَ مِنْ التَّوَابِعِ،
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 187 وما بعدها ط الحلبي، ولأبي يعلى ص 208 وما بعدها ط الحلبي.(3/13)
كَالشُّرْبِ وَمَسِيل الْمَاءِ وَالطَّرِيقِ وَالْمُرُورِ وَالْمَجْرَى وَالْجِوَارِ، وَأَنَّ أَبَا يُوسُفَ خَصَّ الاِرْتِفَاقَ بِمَنَافِعِ الدَّارِ. وَلِكُلٍّ مِنَ الْمَرَافِقِ الْمَذْكُورَةِ مُصْطَلَحٌ خَاصٌّ بِهِ، وَلِذَلِكَ فَيَكْفِي هُنَا أَنْ يَعْرِفَ كُل وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْمَرَافِقِ، وَيُبَيِّنَ حُكْمَهُ، عَلَى أَنْ يَتْرُكَ التَّفْصِيل لِلْمُصْطَلَحَاتِ الْخَاصَّةِ.
الشُّرْبُ:
11 - الشُّرْبُ: لُغَةً النَّصِيبُ مِنَ الْمَاءِ (1) . وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هُوَ النَّصِيبُ مِنَ الْمَاءِ لِلأَْرَاضِيِ لاَ لِغَيْرِهَا.
وَرُكْنُهُ الْمَاءُ لأَِنَّهُ يَقُومُ بِهِ.
وَشَرْطُ حِلِّهِ أَنْ يَكُونَ ذَا حَظٍّ مِنَ الشُّرْبِ.
وَحُكْمُهُ الإِْرْوَاءُ، لأَِنَّ حُكْمَ الشَّيْءِ مَا يُفْعَل لأَِجْلِهِ (2) .
مَسِيل الْمَاءِ:
12 - الْمَسِيل: الْمَجْرَى وَمَسِيل الْمَاءِ مَجْرَاهُ (3) ، وَإِذَا كَانَ لِشَخْصٍ مَجْرَى مَاءٍ جَارٍ أَوْ سِيَاقِ مَاءٍ بِحَقٍّ قَدِيمٍ فِي مِلْكِ شَخْصٍ آخَرَ فَلَيْسَ لِصَاحِبِهِ مَنْعُهُ (4) . وَإِذَا كَانَ لِدَارٍ مَسِيل مَطَرٍ عَلَى دَارِ جَارٍ مِنْ قَدِيمٍ فَلَيْسَ لِلْجَارِ مَنْعُهُ، وَصُورَةُ حَقِّ الْمَسِيل أَنْ يَكُونَ لِرَجُلٍ أَرْضٌ لَهَا مَجْرَى مَاءٍ فِي أَرْضٍ أُخْرَى (5) .
حَقُّ التَّسْيِيل:
13 - صُورَتُهُ أَنْ تَكُونَ لِشَخْصٍ دَارٌ لَهَا حَقُّ تَسْيِيل
__________
(1) المصباح
(2) الفتاوى الهندية 5 / 390 ط الإسلامية.
(3) المصباح
(4) مجلة الأحكام م (6)
(5) حاشية ابن عابدين 4 / 183(3/13)
الْمَاءِ عَلَى أَسْطُحَةِ دَارٍ أُخْرَى، أَوْ عَلَى أَرْضِ دَارٍ أُخْرَى (1)
الطَّرِيقُ:
14 - فِي حَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ أَنَّ الطُّرُقَ ثَلاَثَةٌ: طَرِيقٌ إِلَى الطَّرِيقِ الأَْعْظَمِ، وَطَرِيقٌ إِلَى سِكَّةٍ غَيْرِ نَافِذَةٍ، وَطَرِيقٌ خَاصٌّ فِي مِلْكِ إِنْسَانٍ (2) ، وَسَيَأْتِي أَحْكَامُ التَّصَرُّفِ فِيهَا.
حَقُّ الْمُرُورِ:
15 - هُوَ أَنْ يَكُونَ لِشَخْصٍ حَقُّ الْمُرُورِ فِي أَرْضِ شَخْصٍ آخَرَ.
وَالْحُكْمُ فِيهِ مَا نَصَّتْ عَلَيْهِ الْمَادَّةُ (1225) مِنْ مَجَلَّةِ الأَْحْكَامِ: " إِذَا كَانَ لأَِحَدٍ حَقُّ الْمُرُورِ فِي عَرْصَةِ آخَرَ، فَلَيْسَ لِصَاحِبِ الْعَرْصَةِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنَ الْمُرُورِ وَالْعُبُورِ ".
وَقَدْ نَصَّتِ الْمَادَّةُ (1224) عَلَى حُكْمٍ عَامٍّ يَتَعَلَّقُ بِثُبُوتِ الْحُقُوقِ فِي الْمَرَافِقِ، هُوَ: " يُعْتَبَرُ الْقِدَمُ فِي حَقِّ الْمُرُورِ وَحَقِّ الْمَجْرَى وَحَقِّ الْمَسِيل. يَعْنِي تُتْرَكُ هَذِهِ الأَْشْيَاءُ وَتَبْقَى عَلَى وَجْهِهَا الْقَدِيمِ الَّذِي كَانَتْ عَلَيْهِ، لأَِنَّ الشَّيْءَ الْقَدِيمَ يَبْقَى عَلَى حَالِهِ بِحُكْمِ الْمَادَّةِ (6) وَلاَ يَتَغَيَّرُ إِلاَّ أَنْ يَقُومَ الدَّلِيل عَلَى خِلاَفِهِ. أَمَّا الْقَدِيمُ الْمُخَالِفُ لِلشَّرْعِ فَلاَ اعْتِبَارَ لَهُ. يَعْنِي إِذَا كَانَ الشَّيْءُ الْمَعْمُول بِهِ غَيْرَ مَشْرُوعٍ فِي الأَْصْل فَلاَ اعْتِبَارَ لَهُ وَإِنْ كَانَ قَدِيمًا، وَيُزَال إِنْ كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ فَاحِشٌ. مَثَلاً إِذَا كَانَ لِدَارٍ مَسِيلٌ قَذِرٌ فِي الطَّرِيقِ الْعَامِّ، وَلَوْ مِنَ الْقَدِيمِ، وَكَانَ فِيهِ
__________
(1) المصدر السابق 4 / 183
(2) حاشية ابن عابدين 4 / 180(3/14)
ضَرَرٌ لِلْمَارَّةِ فَإِنَّ ضَرَرَهُ يُرْفَعُ، وَلاَ اعْتِبَارَ لِقِدَمِهِ ".
وَفِي شَرْحِ الْمَادَّةِ قَال الأَْتَاسِيُّ: (وَكَذَا لاَ اعْتِبَارَ لِقِدَمِهِ إِذَا كَانَ غَيْرَ مَشْرُوعٍ،) وَإِنْ كَانَ ضَرَرُهُ خَاصًّا. كَمَا إِذَا كَانَ لِرَجُلٍ كَوَّةٌ تُشْرِفُ عَلَى مَقَرِّ نِسَاءِ جَارِهِ فَإِنَّهُ يَجِبُ إِزَالَةُ الضَّرَرِ، وَإِنْ كَانَ قَدِيمًا، كَمَا أَفْتَى فِي الْحَامِدِيَّةِ قَائِلاً: وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ الْقَدِيمِ وَالْحَادِثِ حَيْثُ كَانَ الضَّرَرُ بَيِّنًا، فَلَوْ كَانَ مَشْرُوعًا كَمَا إِذَا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ الشَّرْعِيَّةِ أَنَّ الْجَارَ أَحْدَثَ الْبِنَاءَ بَعْدَ أَنْ كَانَتِ الْكَوَّةُ تُشْرِفُ عَلَى أَرْضٍ سَبْخَةٍ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ إِزَالَةُ الضَّرَرِ (1) .
حَقُّ التَّعَلِّي:
16 - نَصَّتِ الْمَادَّةُ (1198) مِنَ الْمَجَلَّةِ عَلَى أَنَّ (كُل أَحَدٍ لَهُ التَّعَلِّي عَلَى حَائِطِهِ الْمِلْكِ، وَبِنَاءُ مَا يُرِيدُ، وَلَيْسَ لِجَارِهِ مَنْعُهُ مَا لَمْ يَكُنْ ضَرَرًا فَاحِشًا) .
وَقَال الأَْتَاسِيُّ فِي شَرْحِ الْمَادَّةِ: (وَلاَ عِبْرَةَ بِزَعْمِهِ أَنَّهُ يَسُدُّ عَنْهُ الرِّيحَ وَالشَّمْسَ، كَمَا أَفْتَى بِهِ فِي الْحَامِدِيَّةِ، لأَِنَّهُ لَيْسَ مِنَ الضَّرَرِ الْفَاحِشِ. وَفِي الأَْنْقِرَوِيَّةِ: لَهُ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى حَائِطِ نَفْسِهِ أَزْيَدَ مِمَّا كَانَ، وَلَيْسَ لِجَارِهِ مَنْعُهُ وَإِنْ بَلَغَ عَنَانَ السَّمَاءِ) . أَقُول: هَذَا مُسَلَّمٌ إِذَا كَانَ التَّعَلِّي يَسُدُّ الرِّيحَ وَالشَّمْسَ عَنْ مِثْل سَاحَةِ دَارِ الْجَارِ. أَمَّا إِذَا كَانَ يَسُدُّهُمَا عَنْ سَطْحِ بَيْتِهِ الْمُسَقَّفِ بِالْخَشَبِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُمْنَعُ مِنْهُ عَلَى مَا أَفْتَى بِهِ الْمُتَأَخِّرُونَ.
حَقُّ الْجِوَارِ:
17 - نَصَّتِ الْمَادَّةُ (1201) مِنَ الْمَجَلَّةِ عَلَى أَنَّ: (مَنْعَ الْمَنَافِعِ الَّتِي لَيْسَتْ مِنَ الْحَوَائِجِ الأَْصْلِيَّةِ، كَسَدِّ
__________
(1) شرح مجلة الأحكام العدلية 4 / 167 ط حمص.(3/14)
الْهَوَاءِ وَالنَّظَّارَةِ، أَوْ مَنْعِ دُخُول الشَّمْسِ لَيْسَ بِضَرَرٍ فَاحِشٍ، لَكِنْ سَدُّ الضِّيَاءِ بِالْكُلِّيَّةِ ضَرَرٌ فَاحِشٌ. فَإِذَا أَحْدَثَ رَجُلٌ بِنَاءً فَسُدَّ بِسَبَبِهِ شُبَّاكُ بَيْتِ جَارِهِ، وَصَارَ بِحَالٍ لاَ يَقْدِرُ عَلَى الْقِرَاءَةِ مَعَهَا مِنَ الظُّلْمَةِ، فَلَهُ أَنْ يُكَلَّفَ رَفْعُهُ لِلضَّرَرِ الْفَاحِشِ، وَلاَ يُقَال: الضِّيَاءُ مِنَ الْبَابِ كَافٍ، لأَِنَّ بَابَ الْبَيْتِ يُحْتَاجُ إِلَى غَلْقِهِ لِلْبَرْدِ وَغَيْرِهِ مِنَ الأَْسْبَابِ. وَإِنْ كَانَ لِهَذَا الْمَحَل شُبَّاكَانِ فَسُدَّ أَحَدُهُمَا بِإِحْدَاثِ ذَلِكَ الْبِنَاءِ فَلاَ يَضُرُّ ضَرَرًا فَاحِشًا) . (1)
وَالْعِلَّةُ فِي الْمَنْعِ هُوَ تَحَقُّقُ الضَّرَرِ الْفَاحِشِ، فَإِذَا تَحَقَّقَ مُنِعَ الْعَمَل، وَإِلاَّ أُبِيحَ.
تِلْكَ هِيَ حُقُوقُ الاِرْتِفَاقِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
18 - وَيُمْكِنُ إِنْشَاءُ حُقُوقِ ارْتِفَاقٍ أُخْرَى غَيْرِهَا حَسْبَمَا يَجْرِي الْعُرْفُ وَاسْتِعْمَال النَّاسِ، فَإِنْ حَدَثَتْ حُقُوقُ ارْتِفَاقٍ أُخْرَى بِالاِسْتِعْمَال تُطَبَّقُ عَلَيْهَا الأَْحْكَامُ السَّابِقَةُ، فَفِي وَسَائِل الْمُوَاصَلاَتِ الْعَامَّةِ مَثَلاً كَالْقِطَارَاتِ وَالطَّيَّارَاتِ وَالسَّيَّارَاتِ، وَالْمَقَاعِدِ فِي الأَْمَاكِنِ الْعَامَّةِ وَغَيْرِهَا، إِمَّا أَنْ يُخَصَّصَ مَقْعَدٌ مُعَيَّنٌ لِكُل رَاكِبٍ أَوْ لاَ، فَإِنْ خُصِّصَ لِكُل رَاكِبٍ مَقْعَدٌ مُعَيَّنٌ فَلاَ يَجُوزُ لِغَيْرِهِ أَنْ يَجْلِسَ فِيهِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ. وَأَمَّا إِذَا لَمْ تُعَيَّنْ الْمَقَاعِدُ لِلرَّاكِبِينَ فَلِكُل رَاكِبٍ أَنْ يَجْلِسَ فِي الْمَقْعَدِ الَّذِي سَبَقَ إِلَيْهِ، وَهَكَذَا الأَْمْرُ فِي كُل مَا كَانَ مِنْ هَذَا الْقَبِيل.
19 - هَذَا وَقَدْ أَوْرَدَ فُقَهَاءُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَحْكَامَ الْمَرَافِقِ السَّابِقَةِ، لَكِنْ تَحْتَ عَنَاوِينَ أُخْرَى غَيْرِ الاِرْتِفَاقِ، حَيْثُ أَوْرَدَهَا الْمَالِكِيَّةُ فِي بَابِ (نَفْيُ الضَّرَرِ وَسَدُّ الذَّرَائِعِ) ، وَأَوْرَدَهَا الشَّافِعِيَّةُ فِي بَابِ (تَزَاحُمُ الْحُقُوقِ) وَأَوْرَدَهَا الْحَنَابِلَةُ فِي بَابِ (الصُّلْحُ)
__________
(1) مجلة الأحكام العدلية(3/15)
التَّصَرُّفُ فِي حُقُوقِ الاِرْتِفَاقِ:
20 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الطَّرِيقَ نَوْعَانِ: نَافِذٌ، وَغَيْرُ نَافِذٍ. فَالطَّرِيقُ النَّافِذُ مُبَاحٌ لاَ يُمْلَكُ لأَِحَدٍ مِنَ النَّاسِ، فَلِكُلٍّ مِنْهُمْ فَتْحُ بَابِ مِلْكِهِ فِيهِ كَيْفَ شَاءَ، فَلِلْعَامَّةِ التَّصَرُّفُ فِيهِ بِمَا لاَ يَضُرُّ الْمَارَّةَ.
وَأَمَّا غَيْرُ النَّافِذِ فَهُوَ مِلْكُ مَنْ نَفَذَتْ أَبْوَابُهُمْ إِلَيْهِ، لاَ مَنْ لاَصَقَهُ جُدْرَانُهُمْ مِنْ غَيْرِ نُفُوذِ أَبْوَابِهِمْ إِلَيْهِ، فَمَنْ نَفَذَتْ أَبْوَابُهُمْ إِلَيْهِ فَهُمُ الْمُلاَّكُ وَهُمْ شُرَكَاءُ فِي ذَلِكَ، وَلَيْسَ لِغَيْرِهِمْ إِشْرَاعُ جَنَاحٍ فِيهِ، أَوْ بَابٍ لِلاِسْتِطْرَاقِ إِلاَّ بِرِضَاهُمْ. وَهَذَا فِي الْمَذَاهِبِ الثَّلاَثَةِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
21 - وَقَدْ أَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بَيْعَ الشُّرْبِ، أَوْ بَعْضَهُ، وَبَيْعَ حُقُوقِ الأَْمْلاَكِ، كَحَقِّ الْمُرُورِ، وَحَقِّ الْمَجْرَى، وَحَقِّ التَّعَلِّي، لِمَسِيسِ الْحَاجَةِ، وَجَوَّزُوا الْعَقْدَ عَلَى الْمَنَافِعِ، وَإِنْ كَانَتْ مَعْدُومَةً، إِرْفَاقًا بِالنَّاسِ، لَكِنِ اشْتَرَطُوا فِي حَقِّ إِجْرَاءِ الْمَاءِ عَلَى السُّطُوحِ وَإِجَارَتِهِ وَإِعَارَتِهِ أَنْ تُعْرَفَ السُّطُوحُ الَّتِي يَجْرِي عَلَيْهَا وَمِنْهَا، كَمَا أَجَازُوا إِعَارَةَ الْعُلُوِّ مِنْ جِدَارٍ وَنَحْوِهِ لِلْبِنَاءِ عَلَيْهِ، وَإِجَارَتَهُ لِذَلِكَ كَسَائِرِ الأَْعْيَانِ الَّتِي تُعَارُ وَتُؤْجَرُ، فَإِنْ بَاعَهُ حَقَّ الْبِنَاءِ أَوِ الْعُلُوِّ الْمَعْلُومِ اسْتَحَقَّ الْمُشْتَرِي الْبِنَاءَ عَلَيْهِ (1) .
22 - أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدْ جَاءَ فِي حَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ أَنَّ الطُّرُقَ ثَلاَثَةٌ:
طَرِيقٌ إِلَى الطَّرِيقِ الأَْعْظَمِ، وَطَرِيقٌ إِلَى سِكَّةٍ غَيْرِ نَافِذَةٍ، وَطَرِيقٌ خَاصٌّ فِي مِلْكِ إِنْسَانٍ، فَالأَْخِيرُ لاَ يَدْخُل فِي الْبَيْعِ بِلاَ ذِكْرِهِ أَوْ ذِكْرِ الْحُقُوقِ أَوِ
__________
(1) تبصرة الحكام 2 / 366، والمدونة 6 / 192، وأسنى المطالب والرملي 2 / 219 - 226، والمغني 4 / 547(3/15)
الْمَرَافِقِ. وَالأَْوَّلاَنِ يَدْخُلاَنِ بِلاَ ذِكْرٍ. وَالْمُرَادُ بَيْعُ رَقَبَةِ الطَّرِيقِ لاَ حَقِّ الْمُرُورِ، فَإِذَا كَانَتْ دَارُهُ دَاخِل دَارِ رَجُلٍ، وَكَانَ لَهُ طَرِيقٌ فِي دَارِ ذَلِكَ الرَّجُل إِلَى دَارِهِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ فِيهَا حَقُّ الْمُرُورِ فَقَطْ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ رَقَبَةُ الطَّرِيقِ، فَإِذَا بَاعَ رَقَبَةَ الطَّرِيقِ صَحَّ، فَإِنْ حَدَّ فَظَاهِرٌ، وَإِلاَّ فَلَهُ بِقَدْرِ عَرْضِ الْبَابِ الْعُظْمَى.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا الطَّرِيقِ وَاَلَّذِي يَكُونُ فِي سِكَّةٍ غَيْرِ نَافِذَةٍ أَنَّ الطَّرِيقَ الأَْوَّل مِلْكٌ لِلْبَائِعِ، وَالثَّانِي مُشْتَرَكٌ بَيْنَ جَمِيعِ أَهْل السِّكَّةِ، وَفِيهِ أَيْضًا حَقٌّ لِلْعَامَّةِ (1) .
وَلاَ يُبَاعُ الشُّرْبُ وَلاَ يُوهَبُ وَلاَ يُؤْجَرُ وَلاَ يُتَصَدَّقُ بِهِ إِلاَّ تَبَعًا لِلأَْرْضِ، لأَِنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى، وَنُقِل عَنْ شَرْحِ الْوَهْبَانِيَّةِ أَنَّ بَعْضَهُمْ جَوَّزَ بَيْعَهُ، ثُمَّ قَال: وَيَنْفُذُ الْحُكْمُ بِصِحَّةِ بَيْعِهِ (2) .
23 - أَمَّا حَقُّ الْمَسِيل فَإِذَا كَانَ مُحَدَّدًا بِبَيَانِ الْمِقْدَارِ الَّذِي يَسِيل فِيهِ الْمَاءُ فَبَيْعُهُ جَائِزٌ، وَإِذَا كَانَ غَيْرَ مُبَيَّنٍ فَلاَ يَجُوزُ لِلْجَهَالَةِ. أَمَّا بَيْعُ الرَّقَبَةِ فَيَجُوزُ مِنْ غَيْرِ بَيْعِ حَقِّ الْمَسِيل مَعَهُ، لَكِنْ يُشْتَرَطُ تَحْدِيدُهُ، وَيَصِحُّ بَيْعُ حَقِّ الْمُرُورِ تَبَعًا لِلأَْرْضِ بِلاَ خَوْفٍ، وَيَصِحُّ بَيْعُهُ وَحْدَهُ فِي رِوَايَةٍ، وَبِهِ أَخَذَ عَامَّةُ الْمَشَايِخِ، قَال السَّائِحَانِيُّ: وَهُوَ الصَّحِيحُ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى.
وَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ حَقِّ التَّعَلِّي، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَقِّ الْمُرُورِ، أَنَّ حَقَّ الْمُرُورِ يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَةِ الأَْرْضِ وَهِيَ مَالٌ هُوَ عَيْنٌ، أَمَّا حَقُّ التَّعَلِّي فَمُتَعَلِّقٌ بِالْهَوَاءِ، وَهُوَ لَيْسَ بِعَيْنٍ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ بَيْعُ حَقِّ الْمُرُورِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 180
(2) حاشية ابن عابدين 4 / 183 ط الأميرية(3/16)
وَحْدَهُ وَصَحَّحَهُ أَبُو اللَّيْثِ.
وَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ حَقِّ الشُّرْبِ إِلاَّ تَبَعًا، وَهُوَ الصَّحِيحُ كَمَا فِي الْفَتْحِ، وَظَاهِرُ كَلاَمِهِمْ أَنَّهُ بَاطِلٌ، قَال فِي الْخَانِيَّةِ: وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فَاسِدًا لاَ بَاطِلاً، لأَِنَّ بَيْعَهُ يَجُوزُ فِي رِوَايَةٍ، وَبِهِ أَخَذَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ (1) .
أَحْكَامُ رُجُوعِ الْمُرْفِقِ وَأَثَرِهِ عَلَى الاِرْتِفَاقِ:
24 - الْمُعْتَمَدُ فِي الإِْرْفَاقِ بِالْغَرْزِ أَنَّهُ لاَ رُجُوعَ فِيهِ بَعْدَ الإِْذْنِ، طَال الزَّمَانُ أَوْ قَصُرَ، عَاشَ أَوْ مَاتَ (الْمُرْتَفِقُ) ، إِلاَّ أَنْ يَنْهَدِمَ الْجِدَارُ فَلاَ يُعِيدُ الْغَرْزَ إِلاَّ بِإِرْفَاقٍ جَدِيدٍ، وَأَمَّا إِعَادَةُ الْعَرْصَةِ لِلْبِنَاءِ فَالرَّاجِحُ أَنَّ لَهُ الرُّجُوعَ حَيْثُ لَمْ يُقَيَّدْ بِأَجَلٍ، وَلَوْ قَبْل أَنْ يَمْضِيَ مَا يُرْفَقُ وَيُعَارُ لِمِثْلِهِ فِي الْعَادَةِ، وَلَكِنْ عَلَى الْمُرْفِقِ دَفْعُ مَا أَنْفَقَ الْمُرْتَفِقُ أَوْ قِيمَتِهِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْعَرْصَةِ وَالْجِدَارِ أَنَّ بَعْضَ أَهْل الْعِلْمِ يَرَى الْقَضَاءَ بِإِعَارَةِ الْجِدَارِ إِذَا امْتَنَعَ صَاحِبُهُ مَتَى لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِي الإِْعَارَةِ ضَرَرٌ، وَهُوَ قَوْل الإِْمَامِ الشَّافِعِيِّ وَابْنِ كِنَانَةَ وَابْنِ حَنْبَلٍ.
وَمَا ذُكِرَ بِالنِّسْبَةِ لِلْعَرْصَةِ مِنْ جَوَازِ الرُّجُوعِ هُوَ مَذْهَبُ الْمُدَوَّنَةِ.
وَجَعَل ابْنُ رُشْدٍ وَابْنُ زَرْقُونٍ حُكْمَ الْعَرْصَةِ جَارِيًا فِي الْجِدَارِ أَيْضًا، لأَِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مَنْفَعَةٌ، وَرَجَّحَهُ ابْنُ رِجَالٍ فَقَال: قَدْ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْمَذْهَبَ لاَ فَرْقَ بَيْنَ الْجِدَارِ وَالْعَرْصَةِ فِي أَنَّ لِكُلٍّ مِنْ صَاحِبَيْهِمَا الرُّجُوعَ حَيْثُ لَمْ يُقَيَّدْ بِأَجَلٍ بَعْدَ أَنْ يُعْطِيَ الْمُرْفِقُ كُلًّا مِنْهُمَا مَا أَنْفَقَهُ، وَإِلاَّ فَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ إِلاَّ بَعْدَ مُدَّةٍ يَرْتَفِقُ فِيهَا الْمُعَارُ، فَهُنَاكَ إِذَنْ رَأْيَانِ فِي جَوَازِ الرُّجُوعِ فِي الْعَرْصَةِ (2)
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 182 - 183
(2) البهجة على التحفة 2 / 3 ط الإسلامية.(3/16)
إِرْثٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الإِْرْثِ فِي اللُّغَةِ: الأَْصْل، وَالأَْمْرُ الْقَدِيمُ تَوَارَثَهُ الآْخَرُ عَنِ الأَْوَّل، وَالْبَقِيَّةُ مِنْ كُل شَيْءٍ. وَهَمْزَتُهُ أَصْلُهَا وَاوٌ (1) . وَيُطْلَقُ الإِْرْثُ وَيُرَادُ مِنْهُ انْتِقَال الشَّيْءِ مِنْ قَوْمٍ إِلَى قَوْمٍ آخَرِينَ. وَيُطْلَقُ وَيُرَادُ مِنْهُ الْمَوْرُوثُ (2) . وَيُقَارِبُهُ عَلَى هَذَا الإِْطْلاَقِ فِي الْمَعْنَى التَّرِكَةُ. وَعِلْمُ الْمِيرَاثِ - وَيُسَمَّى أَيْضًا عِلْمَ الْفَرَائِضِ - هُوَ عِلْمٌ بِأُصُولٍ مِنْ فِقْهٍ وَحِسَابٍ تُعَرِّفُ حَقَّ كُلٍّ فِي التَّرِكَةِ (3) . وَالإِْرْثُ اصْطِلاَحًا: عَرَّفَهُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْقَاضِي أَفْضَل الدِّينِ الْخُونَجِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ بِأَنَّهُ حَقٌّ قَابِلٌ لِلتَّجَزُّؤِ يَثْبُتُ لِمُسْتَحِقِّهِ بَعْدَ مَوْتِ مَنْ كَانَ لَهُ ذَلِكَ لِقَرَابَةٍ بَيْنَهُمَا أَوْ نَحْوِهَا (4) .
__________
(1) القاموس المحيط 1 / 167
(2) العذب الفائض 1 / 16 وحاشية البقري 10
(3) الدر، وحاشية ابن عابدين 5 / 499، والشرح الكبير 4 / 456، ونهاية المحتاج 6 / 2، والعذب الفائض 1 / 62
(4) العذب الفائض 1 / 16، وحاشية البقري 10(3/17)
أَهَمِّيَّةُ الإِْرْثِ:
2 - مَعْرِفَةُ الْفَرَائِضِ مِنْ أَهَمِّ الْعُلُومِ بَعْدَ مَعْرِفَةِ أَرْكَانِ الدِّينِ. وَقَدْ حَثَّ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى تَعْلِيمِهَا وَتَعَلُّمِهَا. فَقَدْ رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ وَعَلِّمُوهُ النَّاسَ، وَتَعَلَّمُوا الْفَرَائِضَ وَعَلِّمُوهَا النَّاسَ، فَإِنِّي امْرُؤٌ مَقْبُوضٌ، وَسَيُقْبَضُ هَذَا الْعِلْمُ مِنْ بَعْدِي حَتَّى يَتَنَازَعَ الرَّجُلاَنِ فِي فَرِيضَةٍ فَلاَ يَجِدَانِ مَنْ يَفْصِل بَيْنَهُمَا. (1)
وَقَدْ كَانَ أَكْثَرُ مُذَاكَرَةِ أَصْحَابِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ إِذَا اجْتَمَعُوا فِي عِلْمِ الْفَرَائِضِ وَمُدِحُوا عَلَى ذَلِكَ.
عَلاَقَةُ الإِْرْثِ بِالْفِقْهِ:
3 - وَالْفُقَهَاءُ فِي الْمَذَاهِبِ الإِْسْلاَمِيَّةِ حِينَ يَتَكَلَّمُونَ عَنِ الْمِيرَاثِ يُعَنْوِنَونَ لِذَلِكَ فِي كُتُبِهِمْ بِكِتَابِ الْفَرَائِضِ (2) . وَقَدْ أَفْرَدَهُ كَثِيرٌ مِنْهُمْ بِكُتُبٍ مُسْتَقِلَّةٍ عَنْ كُتُبِ الْفِقْهِ. وَابْتَدَأَ ذَلِكَ مِنَ الْقَرْنِ الثَّانِي لِلْهِجْرَةِ مَعَ ابْتِدَاءِ تَدْوِينِ الأَْحْكَامِ الْفِقْهِيَّةِ.
وَمِنْ أَوَّل مَنْ أَلَّفَ الْكُتُبَ الْخَاصَّةَ بِأَحْكَامِ الْفَرَائِضِ فِي الْقَرْنِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ ابْنُ شُبْرُمَةَ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَأَبُو ثَوْرٍ.
وَكَانَتْ كُتُبُ الْفِقْهِ الْمُدَوَّنَةُ فِي هَذَيْنِ الْقَرْنَيْنِ خَالِيَةً مِنْ أَحْكَامِ الْفَرَائِضِ مِثْل الْمُدَوَّنَةِ لِسَحْنُونٍ
__________
(1) حديث " تعلموا القرآن. . " أخرجه الحاكم (4 / 333 - ط دائرة المعارف العثمانية) ، وأخرجه الترمذي مختصرا. (6 / 265 - تحفة الأحوذي - نشر المكتبة السلفية) وقال. " هذا حديث فيه اضطراب "
(2) العذب الفائض 1 / 8، ونهاية المحتاج 6 / 2 نشر المكتبة الإسلامية، والمغني 6 / 165 ط الرياض.(3/17)
وَالْجَامِعِ الْكَبِيرِ وَالْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، وَالأُْمِّ لِلإِْمَامِ الشَّافِعِيِّ.
وَعَلَى الْخِلاَفِ مِنْ ذَلِكَ كَانَتْ كُتُبُ السُّنَّةِ، فَقَدْ شَمِلَتْ أَحْكَامَ الْفَرَائِضِ مَعَ أَحْكَامِ الْفِقْهِ كَالْمُوَطَّأِ وَمُصَنَّفِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَصَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، وَصَحِيحِ مُسْلِمٍ.
وَلَمْ تَبْدَأْ كُتُبُ الْفِقْهِ تَشْمَل أَحْكَامَ الْفَرَائِضِ إِلاَّ فِي الْقَرْنِ الرَّابِعِ، مِثْل رِسَالَةِ ابْنِ أَبِي زَيْدٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَمُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَاسْتَمَرَّ الأَْمْرُ كَذَلِكَ.
دَلِيل مَشْرُوعِيَّتِهِ:
4 - الْمِيرَاثُ مَشْرُوعٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ.
أَمَّا الْكِتَابُ فَآيَاتُ الْمَوَارِيثِ. وَأَمَّا السُّنَّةُ فَأَحَادِيثُ مِثْل قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا بَقِيَ فَلأَِوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ (1) وَمِثْل ثُبُوتِ مِيرَاثِ الْجَدَّةِ لأُِمٍّ بِشَهَادَةِ الْمُغِيرَةِ وَابْنِ سَلَمَةَ لَدَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَّثَهَا، وَلَمْ يَرِدْ تَوْرِيثُهَا فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ (2)
وَأَمَّا الإِْجْمَاعُ فَمِثْل إِرْثِ الْجَدَّةِ لأَِبٍ بِاجْتِهَادِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الدَّاخِل فِي عُمُومِ الإِْجْمَاعِ، وَلاَ مَدْخَل لِلْقِيَاسِ فِي ذَلِكَ.
__________
(1) حديث " ألحقوا الفرائض بأهلها. . . " أخرجه البخاري 12 / 11 - فتح الباري - ط السلفية) ومسلم (3 / 1233 - ط عيسى الحلبي) .
(2) حديث توريث الجدة لأم. . أخرجه أبو داود (3 / 81 - ط المطبعة الأنصارية بدهلي) ، والترمذي (6 / 277 - 278 - تحفة الأحوذي - نشر المكتبة السلفية) وقد أعله ابن حجر وغيره بالانقطاع. (التلخيص الحبير 3 / 82 - ط شركة الطباعة الفنية المتحدة بالقاهرة) . وحاشية ابن عابدين 5 / 499 ط الأميرية الثالثة.(3/18)
التَّدَرُّجُ فِي تَشْرِيعِ الْمِيرَاثِ:
5 - كَانَ أَهْل الْجَاهِلِيَّةِ يَتَوَارَثُونَ بِشَيْئَيْنِ: النَّسَبُ وَالسَّبَبُ.
فَأَمَّا مَا يَسْتَحِقُّ بِالنَّسَبِ فَلَمْ يَكُونُوا يُوَرِّثُونَ الصِّغَارَ وَلاَ الإِْنَاثَ، وَإِنَّمَا يُوَرِّثُونَ مَنْ قَاتَل وَحَازَ الْغَنِيمَةَ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَآخَرِينَ إِلَى أَنْ أَنْزَل اللَّهُ تَعَالَى {وَيَسْتَفْتُونَك فِي النِّسَاءِ قُل اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} : إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ} (1) وَأَنْزَل اللَّهُ تَعَالَى {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْل حَظِّ الأُْنْثَيَيْنِ} . (2)
وَقَدْ كَانُوا بَعْدَ مَبْعَثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فِي الْمُنَاكَحَاتِ وَالطَّلاَقِ وَالْمِيرَاثِ إِلَى أَنْ نُقِلُوا عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ بِالشَّرِيعَةِ.
قَال ابْنُ جُرَيْجٍ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ: أَبَلَغَكَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَرَّ النَّاسَ عَلَى مَا أَدْرَكَهُمْ مِنْ طَلاَقٍ أَوْ نِكَاحٍ أَوْ مِيرَاثٍ؟ ، قَال: لَمْ يَبْلُغْنَا إِلاَّ ذَلِكَ (3) .
وَرَوَى عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَال: بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاسُ عَلَى أَمْرِ جَاهِلِيَّتِهِمْ إِلَى أَنْ يُؤْمَرُوا بِشَيْءٍ أَوْ يُنْهَوْا عَنْهُ، وَإِلاَّ فَهُمْ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِ جَاهِلِيَّتِهِمْ.
وَكَانَ السَّبَبُ الَّذِي يَتَوَارَثُونَ بِهِ شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا الْحَلِفُ وَالْمُعَاقَدَةُ، وَالآْخَرُ التَّبَنِّي. ثُمَّ جَاءَ الإِْسْلاَمُ فَتُرِكُوا بُرْهَةً مِنَ الدَّهْرِ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ، ثُمَّ نُسِخَ. فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُول: إِنَّهُمْ كَانُوا يَتَوَارَثُونَ بِالْحَلِفِ وَالْمُعَاقَدَةِ بِنَصِّ التَّنْزِيل ثُمَّ نُسِخَ، وَقَال
__________
(1) سورة النساء / 127
(2) سورة النساء / 11
(3) الجصاص 2 / 90(3/18)
شَيْبَانُ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ عَقَدَتْ (1) أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} : كَانَ الرَّجُل فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُعَاقِدُ الرَّجُل فَيَقُول: دَمِي دَمُكَ، وَهَدْمِي هَدْمُكَ، وَتَرِثُنِي وَأَرِثُكَ، وَتُطْلَبُ بِي وَأُطْلَبُ بِكَ. قَال: فَوَرَّثُوا السُّدُسَ فِي الإِْسْلاَمِ مِنْ جَمِيعِ الأَْمْوَال، ثُمَّ يَأْخُذُ أَهْل الْمِيرَاثِ مِيرَاثَهُمْ، ثُمَّ نُسِخَ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَأُولُو الأَْرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} . (2)
الْحُقُوقُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالتَّرِكَةِ وَالتَّرْتِيبُ بَيْنَهَا:
6 - مِنْ إِطْلاَقَاتِ الإِْرْثِ لُغَةً: التَّرِكَةُ (3) . وَهِيَ فِي الاِصْطِلاَحِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ: مَا تَرَكَهُ الْمَيِّتُ مِنْ أَمْوَالٍ وَحُقُوقٍ. وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: هِيَ مَا تَرَكَهُ الْمَيِّتُ مِنَ الأَْمْوَال صَافِيًا عَنْ تَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ بِعَيْنٍ مِنَ الأَْمْوَال، فَالأَْصْل عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْحُقُوقَ لاَ يُورَثُ مِنْهَا إِلاَّ مَا كَانَ تَابِعًا لِلْمَال أَوْ فِي مَعْنَى الْمَال، كَحَقِّ التَّعَلِّي وَحُقُوقِ الاِرْتِفَاقِ، أَمَّا حَقُّ الْخِيَارِ وَحَقُّ الشُّفْعَةِ وَحَقُّ الاِنْتِفَاعِ بِالْعَيْنِ الْمُوصَى بِهَا فَلاَ تُورَثُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (4) ، وَيَدْخُل فِي التَّرِكَةِ اتِّفَاقًا الدِّيَةُ الْوَاجِبَةُ بِالْقَتْل الْخَطَأِ، أَوْ بِالصُّلْحِ عَنِ الْعَمْدِ، أَوْ بِانْقِلاَبِ الْقِصَاصِ مَالاً بِعَفْوِ بَعْضِ الأَْوْلِيَاءِ فَتُقْضَى مِنْهُ دُيُونُ الْمَيِّتِ وَتَنْفُذُ وَصَايَاهُ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ يُبْدَأُ مِنَ التَّرِكَةِ بِالدُّيُونِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِأَعْيَانِهَا
__________
(1) سورة النساء / 33، وقرأ السبعة ما عدا عاصما وحمزة والكسائي (عاقدت) وقرأ الثلاثة المذكورون (عقدت) الجصاص 2 / 90 - 91 ط البهية.
(2) سورة الأحزاب / 6 والمصدر السابق.
(3) القاموس
(4) نهاية المحتاج 6 / 3، العذب الفائض 1 / 13، الشرح الكبير 4 / 457(3/19)
قَبْل الْوَفَاةِ كَالأَْعْيَانِ الْمَرْهُونَةِ، لأَِنَّ الْمُوَرِّثَ فِي حَال حَيَاتِهِ لاَ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي الأَْعْيَانِ الَّتِي تَعَلَّقَ بِهَا حَقُّ الْغَيْرِ، فَأَوْلَى أَلاَّ يَكُونَ لَهُ فِيهَا حَقٌّ بَعْدَ وَفَاتِهِ.
فَإِذَا كَانَتْ التَّرِكَةُ كُلُّهَا مَرْهُونَةً فِي دَيْنٍ فَإِنَّ الْمُوَرِّثَ (الْمَيِّتَ) لاَ يُجَهَّزُ إِلاَّ بَعْدَ سَدَادِ الدَّيْنِ، أَوْ فِيمَا يَفْضُل بَعْدَ سَدَادِهِ، فَإِنْ لَمْ يَفْضُل شَيْءٌ مِنَ التَّرِكَةِ بَعْدَ سَدَادِ الدَّيْنِ يَكُونُ تَجْهِيزُهُ عَلَى مَنْ كَانَتْ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ فِي حَيَاتِهِ (1) .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَغَيْرِ الْمَشْهُورِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ إِذَا مَاتَ الإِْنْسَانُ بُدِئَ بِتَكْفِينِهِ وَتَجْهِيزِهِ مُقَدَّمًا عَلَى غَيْرِهِ، كَمَا تُقَدَّمُ نَفَقَةُ الْمُفْلِسِ عَلَى دُيُونِ غُرَمَائِهِ، ثُمَّ بَعْدَ التَّجْهِيزِ وَالتَّكْفِينِ تُقْضَى دُيُونُهُ مِنْ جَمِيعِ مَا بَقِيَ مِنْ مَالِهِ (2) .
7 - لَكِنْ اُخْتُلِفَ فِي الدُّيُونِ الَّتِي تُقْضَى بَعْدَ التَّجْهِيزِ وَالتَّكْفِينِ:
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الدَّيْنَ إِنْ كَانَ لِلْعِبَادِ فَالْبَاقِي بَعْدَ تَجْهِيزِ الْمَيِّتِ إِنْ وَفَى بِهِ فَذَاكَ، وَإِنْ لَمْ يَفِ فَإِنْ كَانَ الْغَرِيمُ وَاحِدًا يُعْطِي لَهُ الْبَاقِيَ. وَمَا بَقِيَ لَهُ عَلَى الْمَيِّتِ إِنْ شَاءَ عَفَا، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ إِلَى دَارِ الْجَزَاءِ.
وَإِنْ كَانَ الْغَرِيمُ مُتَعَدِّدًا، فَإِنْ كَانَ الْكُل دَيْنَ الصِّحَّةِ - وَهُوَ مَا كَانَ ثَابِتًا بِالْبَيِّنَةِ أَوِ الإِْقْرَارِ فِي زَمَانِ صِحَّةِ الْمَدِينِ - أَوْ كَانَ الْكُل دَيْنَ الْمَرَضِ - وَهُوَ مَا كَانَ ثَابِتًا بِإِقْرَارِهِ فِي مَرَضِهِ - فَإِنَّهُ يُصْرَفُ الْبَاقِي إِلَيْهِمْ عَلَى حَسَبِ مَقَادِيرِ دُيُونِهِمْ.
وَإِنِ اجْتَمَعَ الدَّيْنَانِ مَعًا يُقَدَّمُ دَيْنُ الصِّحَّةِ لِكَوْنِهِ أَقْوَى، لأَِنَّهُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ عَنِ التَّبَرُّعِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 463، 483، وشرح السراجية ص 4، والشرح الكبير 4 / 457، ونهاية المحتاج 6 / 7
(2) العذب الفائض 1 / 13 ط مصطفى الحلبي(3/19)
بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ، فَفِي إِقْرَارِهِ حِينَئِذٍ نَوْعُ ضَعْفٍ.
وَأَمَّا إِذَا أَقَرَّ فِي مَرَضِهِ بِدَيْنٍ عُلِمَ ثُبُوتُهُ بِطَرِيقِ الْمُعَايَنَةِ، كَاَلَّذِي يَجِبُ بَدَلاً عَنْ مَال مِلْكِهِ أَوِ اسْتَهْلَكَهُ فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ دَيْنِ الصِّحَّةِ، إِذْ قَدْ عُلِمَ وُجُوبُهُ بِغَيْرِ إِقْرَارِهِ، فَلِذَلِكَ سَاوَاهُ فِي الْحُكْمِ.
وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ - تَعَالَى - كَالصَّوْمِ وَالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ وَحِجَّةِ الإِْسْلاَمِ وَالنَّذْرِ وَالْكَفَّارَةِ، فَإِنْ أَوْصَى بِهِ الْمَيِّتُ وَجَبَ تَنْفِيذُهُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ الْبَاقِي بَعْدَ دَيْنِ الْعِبَادِ، وَإِنْ لَمْ يُوصِ لَمْ يَجِبْ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: بَعْدَ التَّجْهِيزِ وَالتَّكْفِينِ تُقْضَى دُيُونُ الْمَيِّتِ الَّتِي لآِدَمِيٍّ كَانَتْ بِضَامِنٍ أَمْ لاَ. حَالَّةً كَانَتْ أَوْ مُؤَجَّلَةً لأَِنَّ الْمُؤَجَّلَةَ تَحِل بِالْمَوْتِ، ثُمَّ هَدْيُ تَمَتُّعٍ إِنْ مَاتَ بَعْدَ رَمْيِ الْعَقَبَةِ أَوْصَى بِهِ أَمْ لاَ، ثُمَّ زَكَاةُ فِطْرٍ فَرَّطَ فِيهَا، وَكَفَّارَاتٌ فَرَّطَ فِيهَا، مِثْل كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَالصَّوْمِ وَالظِّهَارِ وَالْقَتْل إِذَا أَشْهَدَ فِي صِحَّتِهِ أَنَّهَا بِذِمَّتِهِ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْهَا يَخْرُجُ مِنْ رَأْسِ الْمَال. سَوَاءٌ أَوْصَى بِإِخْرَاجِهَا أَمْ لَمْ يُوصِ، لأَِنَّ الْمُقَرَّرَ عِنْدَهُمْ أَنَّ حُقُوقَ اللَّهِ مَتَى أَشْهَدَ فِي صِحَّتِهِ بِهَا خَرَجَتْ مِنْ رَأْسِ الْمَال، أَوْصَى بِهَا أَمْ لاَ، فَإِنْ أَوْصَى بِهَا، وَلَمْ يُشْهِدْ فَمِنَ الثُّلُثِ، وَمِثْل الْكَفَّارَاتِ عِنْدَهُمْ الَّتِي أَشْهَدَ بِهَا زَكَاةُ عَيْنٍ حَلَّتْ وَأَوْصَى بِهَا، وَزَكَاةُ مَاشِيَةٍ حَلَّتْ وَلاَ سَاعِيَ، وَلَمْ تُوجَدِ السِّنُّ الَّتِي تَجِبُ فِيهَا، فَإِنْ وُجِدَ فَهُوَ كَالدَّيْنِ الْمُتَعَلِّقِ بِحَقٍّ فَيَجِبُ إِخْرَاجُهُ قَبْل الْكَفَنِ وَالتَّجْهِيزِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّهُ بَعْدَ التَّجْهِيزِ وَالتَّكْفِينِ تُقْضَى الدُّيُونُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِذِمَّةِ الْمَيِّتِ مِنْ رَأْسِ الْمَال سَوَاءٌ أَكَانَتْ لِلَّهِ - تَعَالَى - أَمْ لآِدَمِيٍّ أَوْصَى بِهَا أَمْ لاَ،
__________
(1) شرح السراجية ص 5 وما بعدها ط مصطفى الحلبي حاشية الدسوقي 4 / 408 ط دار الفكر.
(2) حاشية الدسوقي 4 / 408 ط دار الفكر(3/20)
لأَِنَّهَا حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، وَيُقَدَّمُ دَيْنُ اللَّهِ - تَعَالَى - كَالزَّكَاةِ وَغَيْرِهَا عَلَى دَيْنِ الآْدَمِيِّ. وَذَلِكَ فِيمَا إِذَا تَلِفَ الْمَال. فَلَوْ كَانَ بَاقِيًا فَقَدْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الزَّكَاةِ فَتَخْرُجُ قَبْل التَّجْهِيزِ كَمَا قَال الْمَالِكِيَّةُ، وَإِنْ كَانَتِ الدُّيُونُ مُتَعَلِّقَةً بِعَيْنٍ قُدِّمَتْ عَلَى التَّجْهِيزِ (1) كَمَا سَبَقَ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنَّهُ بَعْدَ التَّجْهِيزِ وَالتَّكْفِينِ يُوفَى حَقُّ مُرْتَهِنٍ لَدَيْهِ، ثُمَّ إِنْ فَضَل لِلْمُرْتَهِنِ شَيْءٌ مِنْ دَيْنِهِ شَارَكَ الْغُرَمَاءَ، لأَِنَّهُ سَاوَاهُمْ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ فَضَل شَيْءٌ مِنْ ثَمَنِ الرَّهْنِ رُدَّ عَلَى الْمَال لِيُقْسَمَ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ، ثُمَّ بَعْدَمَا سَبَقَ تُسَدَّدُ الدُّيُونُ غَيْرُ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالأَْعْيَانِ وَهِيَ الَّتِي ثَبَتَتْ فِي الذِّمَّةِ. وَيَتَعَلَّقُ حَقُّ الْغُرَمَاءِ بِالتَّرِكَةِ كُلِّهَا وَإِنْ لَمْ يَسْتَغْرِقْهَا الدَّيْنُ سَوَاءٌ أَكَانَ الدَّيْنُ لِلَّهِ - تَعَالَى - كَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالْحَجِّ الْوَاجِبِ، أَمْ كَانَ لآِدَمِيٍّ كَالْقَرْضِ وَالثَّمَنِ وَالأُْجْرَةِ، فَإِنْ زَادَتِ الدُّيُونُ عَنِ التَّرِكَةِ وَلَمْ تَفِ بِدَيْنِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَدَيْنِ الآْدَمِيِّ يَتَحَاصُّونَ عَلَى نِسْبَةِ دُيُونِهِمْ كَمَال الْمُفْلِسِ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الدُّيُونُ لِلَّهِ - تَعَالَى - أَمْ لِلآْدَمِيِّينَ أَمْ مُخْتَلِفَةً، ثُمَّ بَعْدَ الدَّيْنِ الْوَصِيَّةُ لِلأَْجْنَبِيِّ - وَهُوَ مَنْ لَيْسَ بِوَارِثٍ - مِنْ ثُلُثِ مَا يَفِي مِنَ الْمَال بَعْدَ الْحُقُوقِ الثَّلاَثَةِ، فَإِنْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ لِوَارِثٍ فَلاَ بُدَّ مِنْ إِجَازَةِ بَاقِي الْوَرَثَةِ، وَإِنْ كَانَتْ لأَِجْنَبِيٍّ فَمَا يَزِيدُ عَنِ الثُّلُثِ يَتَوَقَّفُ عَلَى إِجَازَةِ كُل الْوَرَثَةِ (2) .
8 - وَالْفُقَهَاءُ مُجْمِعُونَ - كَمَا سَبَقَ - عَلَى أَنَّ الدَّيْنَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْوَصِيَّةِ، لِمَا قَالَهُ عَلِيٌّ: إِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى أَنَّ الدَّيْنَ قَبْل الْوَصِيَّةِ، وَلأَِنَّ الدَّيْنَ تَسْتَغْرِقُهُ حَاجَتُهُ فَقُدِّمَ كَمَئُونَةِ تَجْهِيزِهِ، ثُمَّ تَنْفُذُ وَصَايَاهُ.
__________
(1) نهاية المحتاج 6 / 76 وما بعدها
(2) العذب الفائض شرح عمدة الفارص ص 1 / 13(3/20)
9 - وَإِنَّمَا قُدِّمَتْ الْوَصِيَّةُ فِي الذِّكْرِ عَلَى الدَّيْنِ فِي الآْيَةِ {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} (1) لأَِنَّهَا تُشْبِهُ الْمِيرَاثَ، لِكَوْنِهَا مَأْخُوذَةً بِلاَ عِوَضٍ، فَيَشُقُّ إِخْرَاجُهَا عَلَى الْوَرَثَةِ، فَكَانَتْ لِذَلِكَ مَظِنَّةً فِي التَّفْرِيطِ فِيهَا بِخِلاَفِ الدَّيْنِ فَإِنَّ نُفُوسَهُمْ مُطْمَئِنَّةٌ إِلَى أَدَائِهِ، فَقُدِّمَ ذِكْرُهَا حَثًّا عَلَى أَدَائِهَا، وَتَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهَا مِثْلُهُ فِي وُجُوبِ الأَْدَاءِ، أَوِ الْمُسَارَعَةِ إِلَيْهِ، وَلِذَلِكَ جِيءَ بَيْنَهُمَا بِكَلِمَةِ التَّسْوِيَةِ، وَأَيْضًا إِذَا كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِالتَّبَرُّعَاتِ وَلَيْسَ فِي التَّرِكَةِ وَفَاءٌ بِالْكُل فَتَقْدِيمُهُ عَلَيْهَا ظَاهِرٌ، لأَِنَّ أَدَاءَ الدَّيْنِ فَرْضٌ عَلَيْهِ يُجْبَرُ عَلَى أَدَائِهِ فِي حَال حَيَاتِهِ، وَالْوَصِيَّةُ الْمَذْكُورَةُ تَطَوُّعٌ، وَلاَ شَكَّ أَنَّ الْفَرْضَ أَقْوَى (2) .
10 - ثُمَّ بَعْدَ التَّكْفِينِ وَالدَّيْنِ تَنْفُذُ الْوَصَايَا مِنْ ثُلُثِ مَا بَقِيَ، وَذَلِكَ فِي الْمَذَاهِبِ الأَْرْبَعَةِ - عَدَا خُوَاهَرْ زَادَهْ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ - لاَ مِنْ أَصْل الْمَال، لأَِنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ التَّكْفِينِ وَقَضَاءِ الدَّيْنِ قَدْ صَارَ مَصْرُوفًا فِي ضَرُورَاتِهِ الَّتِي لاَ بُدَّ لَهُ مِنْهَا، فَالْبَاقِي هُوَ مَالُهُ الَّذِي كَانَ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي ثُلُثِهِ، وَأَيْضًا رُبَّمَا اسْتَغْرَقَ ثُلُثُ الأَْصْل جَمِيعَ الْبَاقِي، فَيُؤَدِّي إِلَى حِرْمَانِ الْوَرَثَةِ بِسَبَبِ الْوَصِيَّةِ، وَهَذَا سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْوَصِيَّةُ مُطْلَقَةً أَمْ مُعَيَّنَةً، وَهُوَ الصَّحِيحُ.
11 - وَقَال شَيْخُ الإِْسْلاَمِ خُوَاهَرْ زَادَهْ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إِنْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ مُعَيَّنَةً كَانَتْ مُقَدَّمَةً عَلَى الإِْرْثِ. وَإِنْ كَانَتْ مُطْلَقَةً كَأَنْ يُوصِيَ بِثُلُثِ مَالِهِ أَوْ رُبُعِهِ كَانَتْ فِي مَعْنَى الْمِيرَاثِ لِشُيُوعِهَا فِي التَّرِكَةِ، فَيَكُونُ الْمُوصَى لَهُ شَرِيكًا لِلْوَرَثَةِ لاَ مُقَدَّمًا عَلَيْهِمْ، وَيَدُل عَلَى شُيُوعِهِ فِيهَا كَحَقِّ الْوَارِثِ أَنَّهُ إِذَا زَادَ الْمَال بَعْدَ
__________
(1) سورة النساء / 11
(2) السراجية ص 4، 5(3/21)
الْوَصِيَّةِ زَادَ عَلَى الْحَقَّيْنِ، وَإِذَا نَقَصَ نَقَصَ عَنْهُمَا، حَتَّى إِذَا كَانَ مَالُهُ حَال الْوَصِيَّةِ أَلْفًا مَثَلاً فَصَارَ أَلْفَيْنِ، فَلَهُ ثُلُثُ الأَْلْفَيْنِ. وَإِنِ انْعَكَسَ فَلَهُ ثُلُثُ الأَْلْفِ (1) .
ثُمَّ بَعْدَ التَّكْفِينِ وَالدَّيْنِ وَالْوَصِيَّةِ يُقْسَمُ الْبَاقِي مِنْ مَال الْمَيِّتِ بَيْنَ وَرَثَتِهِ الَّذِينَ ثَبَتَ إِرْثُهُمْ بِالْكِتَابِ وَهُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الآْيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ، أَوِ الَّذِينَ ثَبَتَ إِرْثُهُمْ بِالنِّسْبَةِ مِثْل قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَطْعِمُوا الْجَدَّاتِ السُّدُسَ، أَوِ الَّذِينَ ثَبَتَ إِرْثُهُمْ بِالإِْجْمَاعِ كَالْجَدِّ وَابْنِ الاِبْنِ وَبِنْتِ الاِبْنِ وَسَائِرِ مَنْ عُلِمَ تَوْرِيثُهُمْ بِالإِْجْمَاعِ (2) .
أَرْكَانُ الإِْرْثِ:
12 - الرُّكْنُ لُغَةً جَانِبُ الشَّيْءِ الأَْقْوَى، وَفِي الاِصْطِلاَحِ عِبَارَةٌ عَنْ جُزْءِ الْمَاهِيَّةِ (3) .
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الإِْرْثَ يُطْلَقُ وَيُرَادُ مِنْهُ الاِسْتِحْقَاقُ وَبِهَذَا الإِْطْلاَقِ لَهُ أَرْكَانٌ ثَلاَثَةٌ إِنْ وُجِدَتْ كُلُّهَا تَحَقَّقَتِ الْوِرَاثَةُ، وَإِنْ فُقِدَ رُكْنٌ مِنْهَا فَلاَ إِرْثَ.
أَوَّلُهَا: الْمُورَثُ وَهُوَ الْمَيِّتُ أَوِ الْمُلْحَقُ بِالأَْمْوَاتِ.
وَثَانِيهَا: الْوَارِثُ وَهُوَ الْحَيُّ بَعْدَ الْمُورَثِ أَوِ الْمُلْحَقُ بِالأَْحْيَاءِ.
وَثَالِثُهَا: الْمَوْرُوثُ (أَيِ التَّرِكَةُ) وَهُوَ لاَ يَخْتَصُّ
__________
(1) السراجية ص 6، 7، والشرح الصغير 4 / 618، وحاشية الدسوقي 4 / 458، ونهاية المحتاج 6 / 7، والعذب الفائض 1 / 15.
(2) المراجع السابقة. وحديث أطعموا الجدات أورده الجرجاني في شرح السراجية ص 7 ط مصطفى الحلبي، وأخرجه مالك وأحمد والأربعة من حديث المغيرة ومحمد بن مسلمة بلفظ " شهدت النبي صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس وصححه ابن حبان والحاكم (نصب الراية 4 / 428)
(3) القاموس والعذب الفائض 1 / 16(3/21)
بِالْمَال، بَل يَشْمَل الْمَال وَغَيْرَهُ.
وَعَلَى هَذَا فَمَنْ مَاتَ وَلَهُ وَارِثٌ وَلاَ مَال لَهُ فَلاَ إِرْثَ (1) ، وَكَذَلِكَ مَنْ مَاتَ وَلاَ وَارِثَ لَهُ فَلاَ إِرْثَ أَيْضًا عِنْدَ مَنْ لاَ يَرَى بَيْتَ الْمَال وَارِثًا، كَمَا سَيَأْتِي.
شُرُوطُ الْمِيرَاثِ:
13 - الشُّرُوطُ جَمْعُ شَرْطٍ وَهُوَ لُغَةً الْعَلاَمَةُ. وَاصْطِلاَحًا مَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهِ الْعَدَمُ وَلاَ يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ وُجُودٌ وَلاَ عَدَمٌ لِذَاتِهِ (2) ، وَهُوَ خَارِجٌ عَنِ الْمَاهِيَّةِ.
(وَلِلإِْرْثِ شُرُوطٌ ثَلاَثَةٌ) :
أَوَّلُهَا: تَحَقُّقُ مَوْتِ الْمُورَثِ أَوْ إِلْحَاقُهُ بِالْمَوْتَى حُكْمًا كَمَا فِي الْمَفْقُودِ إِذَا حَكَمَ الْقَاضِي بِمَوْتِهِ أَوْ تَقْدِيرًا كَمَا فِي الْجَنِينِ الَّذِي انْفَصَل بِجِنَايَةٍ عَلَى أُمِّهِ تُوجِبُ غُرَّةً.
ثَانِيهَا: تَحَقُّقُ حَيَاةِ الْوَارِثِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُورَثِ، أَوْ إِلْحَاقُهُ بِالأَْحْيَاءِ تَقْدِيرًا، كَحَمْلٍ انْفَصَل حَيًّا حَيَاةً مُسْتَقِرَّةً لِوَقْتٍ يَظْهَرُ مِنْهُ وُجُودُهُ عِنْدَ الْمَوْتِ وَلَوْ نُطْفَةً عَلَى تَفْصِيلٍ سَيَأْتِي فِي مِيرَاثِ الْحَمْل.
ثَالِثُهَا: الْعِلْمُ بِالْجِهَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلإِْرْثِ مِنْ زَوْجِيَّةٍ أَوْ قَرَابَةٍ أَوْ وَلاَءٍ، وَتَعَيُّنُ جِهَةِ الْقَرَابَةِ مِنْ بُنُوَّةٍ أَوْ أُبُوَّةٍ أَوْ أُمُومَةٍ أَوْ أُخُوَّةٍ أَوْ عُمُومَةٍ، وَالْعِلْمُ بِالدَّرَجَةِ الَّتِي اجْتَمَعَ الْمَيِّتُ وَالْوَارِثُ فِيهَا (3) .
__________
(1) ابن عابدين 5 / 482 ط بولاق الأولى، والتحفة الخيرية (الشنثورية) ص 47 ط الحلبي، والعذب الفائض 1 / 16 ط الحلبي.
(2) العذب الفائض 1 / 17
(3) ابن عابدين 5 / 483 ط بولاق، والتحفة ص 47 ط الحلبي والعذب الفائض 1 / 17، 18 ط الحلبي.(3/22)
أَسْبَابُ الإِْرْثِ:
14 - السَّبَبُ لُغَةً مَا يُتَوَصَّل بِهِ إِلَى غَيْرِهِ. وَاصْطِلاَحًا: مَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ الْوُجُودُ وَمِنْ عَدَمِهِ الْعَدَمُ لِذَاتِهِ.
أَسْبَابُ الإِْرْثِ أَرْبَعَةٌ، ثَلاَثَةٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا بَيْنَ الأَْئِمَّةِ الأَْرْبَعَةِ، وَالرَّابِعُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ.
فَالثَّلاَثَةُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا: النِّكَاحُ، وَالْوَلاَءُ، وَالْقَرَابَةُ، وَيُعَبِّرُ عَنْهَا الْحَنَفِيَّةُ بِالرَّحِمِ، وَالرَّابِعُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ هُوَ جِهَةُ الإِْسْلاَمِ، وَاَلَّذِي يَرِثُ بِهَذَا السَّبَبِ - عِنْدَ مَنْ قَال بِهِ وَهُمُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ - هُوَ بَيْتُ الْمَال عَلَى تَفْصِيلٍ فِيهِ (1) .
وَكُل سَبَبٍ مِنَ الأَْسْبَابِ الْمَذْكُورَةِ يُفِيدُ الإِْرْثَ عَلَى الاِسْتِقْلاَل (2)
مَوَانِعُ الإِْرْثِ:
15 - الْمَانِعُ: مَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ الْعَدَمُ (3) .
وَمَوَانِعُ الإِْرْثِ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا بَيْنَ الأَْئِمَّةِ الأَْرْبَعَةِ ثَلاَثَةٌ: الرِّقُّ، وَالْقَتْل، وَاخْتِلاَفُ الدِّينِ، وَاخْتَلَفُوا فِي ثَلاَثَةٍ أُخْرَى وَهِيَ: الرِّدَّةُ، وَاخْتِلاَفُ الدَّارَيْنِ، وَالدَّوْرُ الْحُكْمِيُّ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ مِنَ الْمَوَانِعِ جَهْل تَأَخُّرِ مَوْتِ الْوَارِثِ عَنْ مَوْتِ الْمُورَثِ وَاللِّعَانُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ عِنْدَ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ هَذِهِ الْمَوَانِعِ كُلِّهَا (4) .
__________
(1) العذب الفائض 1 / 18، وشرح الرحبية للمارديني ص 18 ط صبيح
(2) ابن عابدين 5 / 486 ط الأميرية والتحفة ص 49 وما بعدها والعذب الفائض 1 / 18 وما بعدها.
(3) العذب الفائض 1 / 23
(4) شرح الرحبية ص 23(3/22)
الرِّقُّ:
16 - اتَّفَقَ الأَْئِمَّةُ الأَْرْبَعَةُ عَلَى أَنَّ الرِّقَّ الْكَامِل يَمْنَعُ مِنَ الْمِيرَاثِ. وَذَلِكَ لأَِنَّ جَمِيعَ مَا فِي يَدِهِ مِنَ الْمَال فَهُوَ لِمَوْلاَهُ. فَلَوْ وَرَّثْنَاهُ مِنْ أَقْرِبَائِهِ لَوَقَعَ الْمِلْكُ لِسَيِّدِهِ، فَيَكُونُ تَوْرِيثًا لِلأَْجْنَبِيِّ بِلاَ سَبَبٍ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ إِجْمَاعًا (1) .
الْقَتْل:
17 - اتَّفَقَ الأَْئِمَّةُ الأَْرْبَعَةُ عَلَى أَنَّ الْقَتْل الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الْقِصَاصُ يَمْنَعُ الْقَاتِل الْبَالِغَ الْعَاقِل مِنَ الْمِيرَاثِ إِذَا كَانَ الْقَتْل مُبَاشِرًا (2) . وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِالْقَتْل الَّذِي يُوجِبُ الْقِصَاصَ، كَمَا اخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا كَانَ الْقَاتِل صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا أَوْ غَيْرَ مُبَاشِرٍ لِلْقَتْل أَوْ كَانَ الْقَتْل خَطَأً. فَذَهَبَ الأَْئِمَّةُ الثَّلاَثَةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْقَتْل الْعُدْوَانَ الْعَمْدَ الْمُوجِبَ لِلْقِصَاصِ: هُوَ أَنْ يَقْصِدَ الْجَانِي مَنْ يَعْلَمُهُ آدَمِيًّا مَعْصُومًا فَيَقْتُلَهُ بِمَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ مَوْتُهُ بِهِ.
وَذَهَبَ الإِْمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الْقَتْل الْعَمْدَ الَّذِي يُوجِبُ الْقِصَاصَ: مَا يَكُونُ بِضَرْبَةِ سِلاَحٍ أَوْ مَا يَجْرِي مَجْرَاهُ فِي تَفْرِيقِ الأَْجْزَاءِ كَالْمُحَدَّدِ مِنَ الْخَشَبِ أَوِ الْحَجَرِ، وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الْقَتْل شِبْهَ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ يَمْنَعُ مِنَ الْمِيرَاثِ، وَالْقَتْل شِبْهُ الْعَمْدِ: كَأَنْ يَتَعَمَّدَ الْقَاتِل ضَرْبَ الْمَقْتُول بِمَا لاَ يُقْتَل بِهِ غَالِبًا، وَمُوجِبُهُ عِنْدَ جَمِيعِ الْحَنَفِيَّةِ الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَالإِْثْمُ وَالْكَفَّارَةُ.
وَالْخَطَأُ كَأَنْ رَمَى إِلَى الصَّيْدِ فَأَصَابَ إِنْسَانًا، أَوِ
__________
(1) السراجية ص 18 ط الحلبي، والشرح الكبير 4 / 485 ط الحلبي، والتحفة ص 57 ط الحلبي، والعذب الفائض 1 / 23
(2) السراجية ص 19، والعذب الفائض 1 / 28(3/23)
انْقَلَبَ عَلَيْهِ فِي النَّوْمِ فَقَتَلَهُ، أَوْ وَطِئَتْهُ دَابَّةٌ، وَهُوَ رَاكِبُهَا أَوْ سَقَطَ مِنْ سَطْحٍ عَلَيْهِ، أَوْ سَقَطَ عَلَيْهِ حَجَرٌ مِنْ يَدِهِ فَمَاتَ. وَمُوجِبُهُ الْكَفَّارَةُ وَالدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَلاَ إِثْمَ فِيهِ. وَفِي الصُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ كُلِّهَا يُحْرَمُ الْقَاتِل مِنَ الْمِيرَاثِ عِنْدَهُمْ إِذَا لَمْ يَكُنْ الْقَتْل بِحَقٍّ (1) .
وَإِذَا كَانَ الْقَتْل بِالسَّبَبِ دُونَ الْمُبَاشَرَةِ كَحَافِرِ الْبِئْرِ أَوْ وَاضِعِ الْحَجَرِ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ، أَوْ كَانَ الْقَاتِل صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا فَلاَ حِرْمَانَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بِالْقَتْل فِي الصُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الأَْرْجَحِ إِلَى أَنَّ الْقَاتِل عَمْدًا مُبَاشِرًا أَوْ مُتَسَبِّبًا يُمْنَعُ مِنَ الْمِيرَاثِ مِنَ الْمَال وَالدِّيَةِ وَلَوْ كَانَ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا، وَإِنْ أَتَى بِشُبْهَةٍ تَدْفَعُ الْقِصَاصَ كَرَمْيِ الْوَالِدِ وَلَدَهُ بِحَجَرٍ فَمَاتَ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ رَأْيٌ آخَرُ هُوَ أَنَّ عَمْدَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ كَالْخَطَأِ، فَيَرِثُ مِنَ الْمَال دُونَ الدِّيَةِ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ عِنْدَهُمْ (3) . وَأَمَّا إِذَا قَتَل مُورَثُهُ قِصَاصًا أَوْ حَدًّا أَوْ دَفْعًا عَنْ نَفْسِهِ فَلاَ يُحْرَمُ مِنَ الْمِيرَاثِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (4) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ كُل مَنْ لَهُ مَدْخَلٌ فِي الْقَتْل يُمْنَعُ مِنَ الْمِيرَاثِ، وَلَوْ كَانَ الْقَتْل بِحَقٍّ كَمُقْتَصٍّ، وَإِمَامٍ، وَقَاضٍ، وَجَلاَّدٍ بِأَمْرِ الإِْمَامِ وَالْقَاضِي وَشَاهِدٍ وَمُزَكٍّ. وَيُحْرَمُ الْقَاتِل وَلَوْ قَتَل بِغَيْرِ قَصْدٍ كَنَائِمٍ وَمَجْنُونٍ وَطِفْلٍ وَلَوْ قَصَدَ بِهِ مَصْلَحَةً كَضَرْبِ الأَْبِ ابْنَهُ لِلتَّأْدِيبِ، وَفَتْحِهِ الْجَرْحَ
__________
(1) السراجية ص 18، والشرح الكبير 4 / 486، والعذب الفائض 1 / 29
(2) السراجية ص 18
(3) حاشية الدسوقي 4 / 486
(4) المراجع السابقة(3/23)
لِلْمُعَالَجَةِ، وَقَالُوا: لَوْ قَال الْمَقْتُول: وَرِّثُوهُ فَهُوَ وَصِيَّةٌ.
وَلَوْ سَقَطَ مُتَوَارِثَانِ مِنْ عُلُوٍّ إِلَى سُفْلٍ وَأَحَدُهُمَا فَوْقَ الآْخَرِ فَمَاتَ الأَْسْفَل لَمْ يَرِثْهُ الأَْعْلَى، لأَِنَّهُ قَاتِلٌ. وَإِنْ مَاتَ الأَْعْلَى وَرِثَهُ الأَْسْفَل لأَِنَّهُ غَيْرُ قَاتِلٍ لَهُ (1) .
اسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ عَلَى مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ مِنْ عَدَمِ الْحِرْمَانِ بِالْقَتْل بِالتَّسَبُّبِ، وَمِنْ عَدَمِ حِرْمَانِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ بِأَنَّ الْقَاتِل بِالتَّسَبُّبِ لَيْسَ بِقَاتِلٍ حَقِيقَةً، لأَِنَّهُ لَوْ حَفَرَ بِئْرًا فِي مِلْكِهِ وَوَقَعَ فِيهَا مُورَثُهُ فَمَاتَ فَلاَ يُؤَاخَذُ عَلَى ذَلِكَ بِشَيْءٍ. وَالْقَاتِل يُؤَاخَذُ بِفِعْلِهِ سَوَاءٌ أَكَانَ فِي مِلْكِهِ أَمْ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ كَالرَّامِي. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْقَتْل لاَ يَتِمُّ إِلاَّ بِمَقْتُولٍ وَقَدِ انْعَدَمَ حَال التَّسَبُّبِ. فَإِنَّ حَفْرَهُ مَثَلاً قَدِ اتَّصَل بِالأَْرْضِ دُونَ الْحَيِّ، وَلاَ يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَل قَاتِلاً حَال الْوُقُوعِ فِي الْبِئْرِ؛ إِذْ رُبَّمَا كَانَ الْحَافِرُ حِينَئِذٍ مَيِّتًا. وَإِذَا لَمْ يَكُنْ قَاتِلاً حَقِيقَةً لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ جَزَاءُ الْقَتْل، وَهُوَ الْحِرْمَانُ مِنَ الْمِيرَاثِ وَالْكَفَّارَةِ. وَالصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ لاَ يُحْرَمَانِ مِنَ الْمِيرَاثِ بِالْقَتْل، لأَِنَّ الْحِرْمَانَ جَزَاءٌ لِلْقَتْل الْمَحْظُورِ، وَفِعْلُهُمَا مِمَّا لاَ يَصْلُحُ أَنْ يُوصَفَ بِالْحَظْرِ شَرْعًا، إِذْ لاَ يُتَصَوَّرُ تَوَجُّهُ خِطَابِ الشَّارِعِ إِلَيْهِمَا. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْحِرْمَانَ بِاعْتِبَارِ التَّقْصِيرِ فِي التَّحَرُّزِ، وَلاَ يُتَصَوَّرُ نِسْبَةُ التَّقْصِيرِ إِلَيْهِمَا (2) .
وَاسْتَدَل الشَّافِعِيَّةُ بِحَدِيثِ لَيْسَ لِلْقَاتِل مِنَ الْمِيرَاثِ شَيْءٌ وَفَسَّرُوهُ بِأَنَّهُ لَيْسَ لِمَنْ لَهُ مَدْخَلٌ فِي الْقَتْل شَيْءٌ مِنَ الإِْرْثِ.
وَالْعِلَّةُ فِي ذَلِكَ خَوْفُ اسْتِعْجَال الْوَارِثِ لِلإِْرْثِ
__________
(1) التحفة الخيرية ص 56
(2) السراجية ص 19 وما بعدما(3/24)
بِقَتْل مُورَثِهِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ، وَهُوَ مَا إِذَا قَتَلَهُ عَمْدًا فَاقْتَضَتِ الْمَصْلَحَةُ حِرْمَانَهُ مِنَ الإِْرْثِ، عَمَلاً بِقَاعِدَةِ: مَنَ اسْتَعْجَل بِشَيْءٍ قَبْل أَوَانِهِ عُوقِبَ بِحِرْمَانِهِ، وَالاِسْتِعْجَال إِنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ ظَنِّهِ، وَبِالنَّظَرِ لِلظَّاهِرِ وَسَدِّ بَابِ الْقَتْل فِي بَاقِي الصُّوَرِ، وَهُوَ مَا إِذَا كَانَ الْقَتْل بِغَيْرِ قَصْدٍ كَمَا فِي النَّائِمِ وَالْمَجْنُونِ وَالطِّفْل.
وَلاَ مَدْخَل لِلْمُفْتِي فِي الْقَتْل وَلَوْ أَخْطَأَ فِي الإِْفْتَاءِ وَإِنْ كَانَ عَلَى مُعَيَّنٍ، لأَِنَّ إِفْتَاءَهُ غَيْرُ مُلْزِمٍ، وَلاَ رَاوِي الْحَدِيثِ، وَلاَ الْقَاتِل بِالْعَيْنِ، وَلاَ مَنْ أَتَى لاِمْرَأَتِهِ بِلَحْمٍ فَأَكَلَتْ مِنْهُ حَيَّةٌ ثُمَّ أَكَلَتْ مِنْهُ الزَّوْجَةُ فَمَاتَتْ.
وَأَمَّا مَنْ شَهِدَ عَلَى مُورَثٍ بِمُقْتَضَى جَلْدٍ فَجُلِدَ فَمَاتَ فَلِلنَّظَرِ فِيهِ مَجَالٌ، لَكِنْ ظَاهِرُ إِطْلاَقِهِمْ مَنْعُهُ بِذَلِكَ (1) .
اخْتِلاَفُ الدِّينَيْنِ:
18 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَهُوَ قَوْل أَبِي طَالِبٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ وَقَوْل عَلِيٍّ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَأَكْثَرِ الصَّحَابَةِ إِلَى أَنَّ الْكَافِرَ لاَ يَرِثُ الْمُسْلِمَ حَتَّى وَلَوْ أَسْلَمَ قَبْل قِسْمَةِ التَّرِكَةِ، لأَِنَّ الْمَوَارِيثَ قَدْ وَجَبَتْ لأَِهْلِهَا بِمَوْتِ الْمُورَثِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الاِرْتِبَاطُ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ بِالْقَرَابَةِ أَمْ بِالنِّكَاحِ أَمْ بِالْوَلاَءِ.
وَذَهَبَ الإِْمَامُ أَحْمَدُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ أَسْلَمَ الْكَافِرُ قَبْل قِسْمَةِ التَّرِكَةِ وَرِثَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَسْلَمَ عَلَى شَيْءٍ فَهُوَ لَهُ (2) وَلأَِنَّ فِي تَوْرِيثِهِ تَرْغِيبًا فِي الإِْسْلاَمِ.
__________
(1) التحفة الخيرية ص 56 وما بعدها
(2) حديث " من أسلم على شيء فهو له " أخرجه البيهقي (9 / 113 - ط دائرة المعارف العثمانية) وسعيد بن منصور في سننه (رقم 189 مطبعة علي بريس الهند)(3/24)
كَمَا ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْكَافِرَ يَرِثُ عَتِيقَهُ الْمُسْلِمَ (1) .
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَيْضًا إِلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ لاَ يَرِثُ الْكَافِرَ.
وَذَهَبَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَمُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ وَالْحَسَنُ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ وَمَسْرُوقٌ إِلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ يَرِثُ الْكَافِرَ.
اسْتَدَل الأَْئِمَّةُ الأَْرْبَعَةُ عَلَى مَذْهَبِهِمْ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَتَوَارَثُ أَهْل مِلَلٍ شَتَّى (2) وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: لاَ يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ وَلاَ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ. (3)
وَاسْتَدَل الْقَائِلُونَ بِتَوْرِيثِ الْمُسْلِمِ مِنَ الْكَافِرِ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: الإِْسْلاَمُ يَعْلُو وَلاَ يُعْلَى (4) وَمِنَ الْعُلُوِّ أَنْ يَرِثَ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ.
وَفَسَّرَ الْمَانِعُونَ الْحَدِيثَ بِأَنَّ نَفْسَ الإِْسْلاَمِ هُوَ الَّذِي يَعْلُو، عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ إِنْ ثَبَتَ الإِْسْلاَمُ عَلَى وَجْهٍ وَلَمْ يَثْبُتْ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ وَيَعْلُو. أَوْ أَنَّ الْمُرَادَ الْعُلُوُّ بِحَسَبِ الْحُجَّةِ أَوْ بِحَسَبِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ. أَيِ النُّصْرَةِ فِي الْعَاقِبَةِ لِلْمُسْلِمِينَ (5) .
إِرْثُ الْمُرْتَدِّ:
19 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ فِي أَنَّ الْمُرْتَدَّ - وَهُوَ مَنْ تَرَكَ الإِْسْلاَمَ بِإِرَادَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ - لاَ يَرِثُ
__________
(1) العذب الفائض 1 / 31
(2) حديث (لا يتوارث أهل ملتين شتى) أخرجه أبو داود 3 / 85 - عون المعبود - طبع المطبعة الأنصارية بدهلي) وابن ماجه (رقم 2731 ط عيسى الحلبي) وأحمد (2 / 178، 195 - ط الميمنية) من حديث عبد الله بن عمرو
(3) رواه أحمد والبخاري ومسلم
(4) حديث (الإسلام يعلو ولا يعلى) . أخرجه الدارقطني (3 / 252 - ط دار المحاسن بمصر) والبيهقي (6 / 205 - ط دائرة المعارف العثمانية) وحسنه الحافظ ابن حجر وفتح الباري (3 / 220 - ط السلفية)
(5) السراجية ص 74، 75(3/25)
أَحَدًا مِمَّنْ يَجْمَعُهُ وَإِيَّاهُمْ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ الْمِيرَاثِ، لاَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلاَ مِنْ أَهْل الدِّينِ الَّذِي انْتَقَل إِلَيْهِ، أَوْ أَيِّ دِينٍ آخَرَ خِلاَفُهُ، لأَِنَّهُ لاَ يُقَرُّ عَلَى الدِّينِ الَّذِي انْتَقَل إِلَيْهِ، وَلأَِنَّهُ صَارَ فِي حُكْمِ الْمَيِّتِ. وَكَذَلِكَ الْمُرْتَدَّةُ لاَ تَرِثُ أَحَدًا، لأَِنَّ حُكْمَ الإِْسْلاَمِ فِي الْمُرْتَدِّ إِنْ كَانَ رَجُلاً هُوَ أَنْ يَتُوبَ وَيَرْجِعَ إِلَى الإِْسْلاَمِ أَوْ يُقْتَل إِنْ أَصَرَّ عَلَى رِدَّتِهِ، وَإِنْ كَانَ امْرَأَةً فَإِنَّهَا تُحْبَسُ حَتَّى تَتُوبَ أَوْ يُدْرِكَهَا الْمَوْتُ، وَعَلَى ذَلِكَ فَلاَ مَعْنَى مُطْلَقًا لأََنْ يُقَال بِأَنَّهُ يَرِثُ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ.
أَمَّا كَوْنُهُ يُورَثُ فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - قَال الْقَاضِي: هِيَ الصَّحِيحُ فِي الْمَذْهَبِ - أَنَّ الْمُرْتَدَّ لاَ يَرِثُهُ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ غَيْرُهُمْ مِمَّنِ انْتَقَل إِلَى دِينِهِمْ بَل مَالُهُ كُلُّهُ - إِنْ مَاتَ أَوْ قُتِل عَلَى رِدَّتِهِ - يَكُونُ فَيْئًا وَحَقًّا لِبَيْتِ الْمَال.
وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ أُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّ الْمُرْتَدَّ يَرِثُهُ وَرَثَتُهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ قَوْل أَبِي بَكْرٍ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ الْمُسَيِّبِ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَالْحَسَنِ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالشَّعْبِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالأَْوْزَاعِيِّ، وَابْنِ شُبْرُمَةَ، وَاسْتَدَل لِهَذَا الْقَوْل بِفِعْل الْخَلِيفَتَيْنِ الرَّاشِدَيْنِ أَبِي بَكْرٍ، وَعَلِيٍّ، وَلأَِنَّ رِدَّتَهُ يَنْتَقِل بِهَا مَالُهُ فَوَجَبَ أَنْ يَنْتَقِل إِلَى وَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا لَوِ انْتَقَل بِالْمَوْتِ (1) .
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْمُرْتَدِّ وَالْمُرْتَدَّةِ، فَالْمُرْتَدَّةُ يَرِثُهَا أَقَارِبُهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَيَرِثُونَ
__________
(1) الشرح الكبير 4 / 486، والتحفة ص 61، والعذب الفائض ص 34، والمغني 6 / 300 و 8 / 128(3/25)
كُل مَالِهَا، سَوَاءٌ مَا اكْتَسَبَتْهُ حَال إِسْلاَمِهَا أَوْ حَال رِدَّتِهَا.
أَمَّا الْمُرْتَدُّ فَإِنَّ وَرَثَتَهُ الْمُسْلِمِينَ يَرِثُونَ مِنْهُ مَا اكْتَسَبَهُ فِي زَمَانِ إِسْلاَمِهِ. وَلاَ يَرِثُونَ مَا اكْتَسَبَهُ فِي زَمَانِ رِدَّتِهِ. وَيَكُونُ فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ (1) لَكِنْ هَل يَرِثُهُ وَرَثَتُهُ الْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ كَانُوا مَوْجُودِينَ وَقْتَ رِدَّتِهِ أَوْ وَقْتَ مَوْتِهِ أَوْ لَحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ؟ أَوْ مَنْ كَانُوا مَوْجُودِينَ وَقْتَ رِدَّتِهِ وَوَقْتَ مَوْتِهِ؟
اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ عَنِ الإِْمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي ذَلِكَ. فَرَوَى الْحَسَنُ عَنْهُ أَنَّ الْوَارِثَ لِلْمُرْتَدِّ مَنْ كَانَ وَارِثًا لَهُ وَقْتَ رِدَّتِهِ وَبَقِيَ إِلَى مَوْتِ الْمُرْتَدِّ، أَمَّا مَنْ حَدَثَتْ لَهُ صِفَةُ الْوِرَاثَةِ بَعْدَ ذَلِكَ فَلاَ يَرِثُهُ، فَلَوْ أَسْلَمَ بَعْضُ قَرَابَتِهِ بَعْدَ رِدَّتِهِ أَوْ وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ مِنْ عُلُوقٍ حَادِثٍ بَعْدَ رِدَّتِهِ، فَإِنَّهُ لاَ يَرِثُهُ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ، لأَِنَّ سَبَبَ التَّوْرِيثِ هُنَا الرِّدَّةُ، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا عِنْدَ ذَلِكَ لَمْ يَنْعَقِدْ لَهُ سَبَبُ الاِسْتِحْقَاقِ، وَتَمَامُ الاِسْتِحْقَاقِ بِالْمَوْتِ، فَيُشْتَرَطُ بَقَاءُ الْوَارِثِ إِلَى حِينِ تَمَامِ السَّبَبِ.
وَفِي رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ عَنْهُ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ وُجُودُ الْوَارِثِ وَقْتَ الرِّدَّةِ، وَلاَ يَبْطُل اسْتِحْقَاقُهُ بِمَوْتِهِ قَبْل مَوْتِ الْمُرْتَدِّ، لأَِنَّ الرِّدَّةَ فِي حُكْمِ التَّوْرِيثِ كَالْمَوْتِ، وَمَنْ مَاتَ مِنَ الْوَرَثَةِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُورَثِ قَبْل قِسْمَةِ مِيرَاثِهِ لاَ يَبْطُل اسْتِحْقَاقُهُ وَيَحِل وَارِثُهُ مَحَلَّهُ.
وَفِي رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ عَنْهُ، وَهُوَ الأَْصَحُّ، أَنَّهُ يُعْتَبَرُ مَنْ يَكُونُ وَارِثًا لَهُ حِينَ مَاتَ أَوْ قُتِل، سَوَاءٌ أَكَانَ مَوْجُودًا وَقْتَ الرِّدَّةِ أَمْ حَدَثَ بَعْدَهُ، لأَِنَّ الْحَادِثَ بَعْدَ انْعِقَادِ السَّبَبِ قَبْل تَمَامِهِ يُعْتَبَرُ كَالْمَوْجُودِ عِنْدَ ابْتِدَاءِ
__________
(1) السراجية ص 75(3/26)
السَّبَبِ، مِثْل الزِّيَادَةِ الَّتِي تَحْدُثُ فِي الْمَبِيعِ قَبْل الْقَبْضِ؛ إِذْ تُجْعَل كَالْمَوْجُودِ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ فَتَكُونُ مَعْقُودًا عَلَيْهَا بِالْقَبْضِ، وَيَكُونُ لَهَا حِصَّةٌ مِنَ الثَّمَنِ، فَكَذَلِكَ الأَْمْرُ هُنَا.
وَاعْتَبَرَ الإِْمَامُ مُحَمَّدٌ لَحَاقَ الْمُرْتَدِّ بِدَارِ الْحَرْبِ بِمَنْزِلَةِ مَوْتِهِ، فَتُقْسَمُ تَرِكَتُهُ مِنْ حِينِ اللَّحَاقِ. وَاعْتَبَرَ الإِْمَامُ أَبُو يُوسُفَ مَنْ يَكُونُ وَارِثًا لَهُ حِينَ قَضَاءِ الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ، وَتَرِثُ مِنْهُ امْرَأَتُهُ إِنْ مَاتَ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ عَلَى رَأْيِ الصَّاحِبَيْنِ، لأَِنَّ النِّكَاحَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمُرْتَدِّ وَإِنِ ارْتَفَعَ بِالرِّدَّةِ لَكِنَّهُ فَارٌّ عَنْ مِيرَاثِهَا. وَامْرَأَةُ الْفَارِّ تَرِثُ إِذَا كَانَتْ فِي الْعِدَّةِ وَقْتَ مَوْتِهِ.
وَعَلَى رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ عَنِ الإِْمَامِ تَرِثُ وَإِنْ كَانَتْ عِنْدَ مَوْتِهِ مُنْقَضِيَةَ الْعِدَّةِ، لأَِنَّ سَبَبَ التَّوْرِيثِ كَانَ مَوْجُودًا فِي حَقِّهَا عِنْدَ رِدَّتِهِ؛ إِذْ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ يُعْتَبَرُ قِيَامُ السَّبَبِ عِنْدَ أَوَّل الرِّدَّةِ (1) .
اخْتِلاَفُ الدِّينِ بَيْنَ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ:
20 - عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ أَنَّ الْكُفَّارَ يَتَوَارَثُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ، لأَِنَّهُمْ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ، فَيَرِثُ الْيَهُودِيُّ النَّصْرَانِيَّ وَالْعَكْسُ، وَيَرِثُ الْمَجُوسِيُّ وَعَابِدُ الْوَثَنِ النَّصْرَانِيَّ وَالْيَهُودِيَّ وَيَرِثُهُمَا الْمَجُوسِيُّ وَغَيْرُهُ.
وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُمْ مِلَلٌ، فَلاَ يَتَوَارَثُ أَهْل الْمِلَل بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ فَلاَ يَرِثُ الْيَهُودِيُّ النَّصْرَانِيَّ وَلاَ الْعَكْسُ (2) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي قَوْلٍ مُرَجَّحٍ وَنُسِبَ إِلَى الإِْمَامِ
__________
(1) المبسوط 10 / 102، 103 ط 2 دار المعرفة بلبنان
(2) الشنشورية وشرحها ص 60(3/26)
أَحْمَدَ أَنَّ الْكُفْرَ ثَلاَثُ مِلَلٍ: النَّصَارَى مِلَّةٌ، وَالْيَهُودُ مِلَّةٌ، وَمَنْ عَدَاهُمَا مِلَّةٌ، وَهُوَ قَوْل الْقَاضِي شُرَيْحٍ وَعَطَاءٍ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالضَّحَّاكِ وَالْحَكَمِ وَشَرِيكِ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ وَوَكِيعٍ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ رَأْيٌ آخَرُ مُرَجَّحٌ أَيْضًا وَهُوَ ظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ، وَهُوَ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِلَّةٌ، وَأَنَّ مَا سِوَاهُمَا مِلَلٌ مُخْتَلِفَةٌ. وَذُكِرَ فِي بَعْضِ كُتُبِ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ.
وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى يَتَوَارَثُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَلاَ يَرِثُهُمُ الْمَجُوسُ وَلاَ يَرِثُ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى الْمَجُوسَ.
وَاسْتَدَل الْمَانِعُونَ مِنَ الْمِيرَاثِ فِيمَا بَيْنَ الْكُفَّارِ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: لاَ يَتَوَارَثُ أَهْل مِلَّتَيْنِ شَتَّى (1) وَهُمْ أَهْل مِلَلٍ مُخْتَلِفَةٍ بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى} (2) فَقَدْ عَطَفَ النَّصَارَى عَلَى الَّذِينَ هَادُوا، وَالْعَطْفُ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَقَال تَعَالَى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْك الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} (3) وَالْيَهُودُ لاَ تَرْضَى إِلاَّ بِاتِّبَاعِ الْيَهُودِيَّةِ مَعَهُمْ وَالنَّصَارَى كَذَلِكَ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لِكُلٍّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ مِلَّةً عَلَى حِدَةٍ، وَلأَِنَّ النَّصَارَى يُقِرُّونَ بِنُبُوَّةِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالإِْنْجِيل، وَالْيَهُودُ يَجْحَدُونَ ذَلِكَ.
وَاسْتَدَل ابْنُ أَبِي لَيْلَى بِأَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّفَقُوا عَلَى دَعْوَى التَّوْحِيدِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَتْ نِحَلُهُمْ
__________
(1) تقدم (هامش ف 18)
(2) سورة البقرة / 63
(3) سورة البقرة / 120(3/27)
فِي ذَلِكَ، وَاتَّفَقُوا عَلَى الإِْقْرَارِ بِنُبُوَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالتَّوْرَاةِ، بِخِلاَفِ الْمَجُوسِ فَإِنَّهُمْ لاَ يَعْتَقِدُونَ التَّوْحِيدَ وَلاَ يُقِرُّونَ بِنُبُوَّةِ مُوسَى وَلاَ بِكِتَابٍ مُنَزَّلٍ، وَلاَ يُوَافِقُهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى عَلَى ذَلِكَ فَكَانُوا أَهْل مِلَّتَيْنِ، وَالدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ حِل الذَّبِيحَةِ وَالْمُنَاكَحَةِ فَإِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى فِي ذَلِكَ شَيْءٌ وَاحِدٌ، إِذْ تَحِل ذَبَائِحُهُمْ لِلْمُسْلِمِينَ بِخِلاَفِ الْمَجُوسِ.
وَاسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - جَعَل الدِّينَ دِينَيْنِ، الْحَقَّ وَالْبَاطِل فَقَال اللَّهُ عَزَّ وَجَل {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينٌ} (1) وَجَعَل النَّاسَ فَرِيقَيْنِ فَقَال: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} (2) . وَفَرِيقُ الْجَنَّةِ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ، وَفَرِيقُ السَّعِيرِ هُمُ الْكُفَّارُ جَمِيعُهُمْ، وَجَعَل الْخَصْمَ خَصْمَيْنِ فَقَال تَعَالَى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} (3) وَالْمُرَادُ الْكُفَّارُ جَمِيعًا مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ مِلَلٌ مُخْتَلِفَةٌ وَلَكِنَّهُمْ عِنْدَ مُقَابَلَتِهِمْ بِالْمُسْلِمِينَ أَهْل مِلَّةٍ وَاحِدَةٍ، لأَِنَّ الْمُسْلِمِينَ يُقِرُّونَ بِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِالْقُرْآنِ وَجَمِيعُهُمْ يُنْكِرُ ذَلِكَ، وَبِإِنْكَارِهِمْ كَفَرُوا، فَكَانُوا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ مِلَّةً وَاحِدَةً فِي الشِّرْكِ. وَيُشِيرُ إِلَى هَذَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَتَوَارَثُ أَهْل مِلَّتَيْنِ فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَّرَ الْمِلَّتَيْنِ قَوْلُهُ: لاَ يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ وَلاَ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ، إِذْ فِي التَّنْصِيصِ عَلَى الْوَصْفِ الْعَامِّ وَهُوَ الْكُفْرُ بَيَانُ أَنَّهُمْ فِي حُكْمِ التَّوْرِيثِ أَهْل مِلَّةٍ وَاحِدَةٍ (4) .
__________
(1) سورة الكافرين / 6
(2) سورة الشورى / 7
(3) سورة الحج / 19
(4) المبسوط 30 / 30 وما بعدها ط السعادة، والحديث تقدم (هامش ف 18)(3/27)
اخْتِلاَفُ الدَّارَيْنِ بَيْنَ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ:
21 - يَقْصِدُ الْفُقَهَاءُ بِاخْتِلاَفِ الدَّارَيْنِ اخْتِلاَفَ الْمَنَعَةِ، وَفَسَّرُوا الْمَنَعَةَ بِالْعَسْكَرِ وَاخْتِلاَفِ الْمَلِكِ وَالسُّلْطَانِ، كَأَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا بِالْهِنْدِ وَلَهُ دَارٌ وَمَنَعَةٌ وَالآْخَرُ فِي التُّرْكِ وَلَهُ دَارٌ وَمَنَعَةٌ أُخْرَى، وَانْقَطَعَتْ بَيْنَهُمَا الْعِصْمَةُ حَتَّى إِنَّ أَحَدَهُمَا يَسْتَحِل قَتْل الآْخَرِ (1) .
وَمِنَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ يَتَوَارَثُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ مَهْمَا اخْتَلَفَتْ دِيَارُهُمْ وَدُوَلُهُمْ وَجِنْسِيَّاتُهُمْ، لأَِنَّ دِيَارَ الإِْسْلاَمِ كُلَّهَا دَارٌ وَاحِدَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (2) ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ (3) وَلأَِنَّ وِلاَيَةَ كُل مُسْلِمٍ هِيَ لِلإِْسْلاَمِ وَتَنَاصُرُهُمْ يَكُونُ بِهِ وَلَهُ.
وَالْعِبْرَةُ فِي ذَلِكَ لاِخْتِلاَفِ الدَّارَيْنِ حُكْمًا لاَ حَقِيقَةً، فَإِذَا مَاتَ الْمُسْلِمُ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَرِثَهُ أَقَارِبُهُ الْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ وَإِنْ وُجِدَ اخْتِلاَفُ الدَّارَيْنِ حَقِيقَةً، لأَِنَّ الْمُسْلِمَ الَّذِي فِي دَارِ الْحَرْبِ هُوَ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ حُكْمًا، لأَِنَّهُ دَخَل دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ لِيَقْضِيَ غَرَضَهُ ثُمَّ يَعُودَ إِلَى دَارِ الإِْسْلاَمِ فَوُجِدَ اتِّحَادُ الدَّارَيْنِ حُكْمًا. وَالاِخْتِلاَفُ الْحَقِيقِيُّ إِنَّمَا يُعْتَبَرُ إِذَا لَمْ يُعَارِضْهُ اخْتِلاَفٌ حُكْمِيٌّ (4) .
وَكَذَلِكَ لاَ يَمْنَعُ اخْتِلاَفُ الدَّارَيْنِ مِنَ الْمِيرَاثِ بِالنِّسْبَةِ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَبَعْضِ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، فَيَرِثُ غَيْرُ الْمُسْلِمِ قَرِيبَهُ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 489
(2) سورة الحجرات / 10
(3) حديث (المسلم أخو المسلم) أخرجه البخاري (5 / 97 - فتح الباري - ط السلفية) ومسلم (4 / 1996 - ط عيسى الحلبي)
(4) حاشية الفناري على السراجية ص 79 وما بعدها.(3/28)
غَيْرَ الْمُسْلِمِ مَهْمَا اخْتَلَفَتْ دُوَلُهُمْ وَجِنْسِيَّاتُهُمْ؛ إِذْ لاَ يُوجَدُ دَلِيلٌ عَلَى الْمَنْعِ مِنَ الْمِيرَاثِ بَعْدَ تَحَقُّقِ سَبَبِهِ وَشَرْطِهِ (1) .
وَعِنْدَ الإِْمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الرَّاجِحُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ، وَعِنْدَ بَعْضِ الْحَنَابِلَةِ، أَنَّ اخْتِلاَفَ الدَّارَيْنِ يَمْنَعُ مِنَ التَّوَارُثِ بَيْنَ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِعَدَمِ وُجُودِ التَّنَاصُرِ وَالْمُوَالاَةِ بَيْنَهُمَا لاِخْتِلاَفِ دَوْلَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا، وَالْمُوَالاَةُ وَالتَّنَاصُرُ أَسَاسُ الْمِيرَاثِ (2) .
22 - وَهُنَاكَ مَوَانِعُ أُخْرَى فِي بَعْضِ الْمَذَاهِبِ، وَهِيَ اللِّعَانُ وَالزِّنَى، وَلَكِنَّ هَذَيْنِ الْمَانِعَيْنِ يَدْخُلاَنِ فِي عَدَمِ ثُبُوتِ النَّسَبِ، وَفِي انْتِفَاءِ الزَّوْجِيَّةِ بِاللِّعَانِ.
الدَّوْرُ الْحُكْمِيُّ:
23 - عِنْدَ الإِْمَامِ الشَّافِعِيِّ مِنْ مَوَانِعِ الإِْرْثِ، الدَّوْرُ الْحُكْمِيُّ، وَهُوَ أَنْ يَلْزَمَ مِنَ التَّوْرِيثِ عَدَمُهُ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُقِرَّ حَائِزٌ لِلْمَال فِي ظَاهِرِ الْحَال بِمَنْ يَحْجُبُهُ حِرْمَانًا، كَمَا إِذَا أَقَرَّ أَخٌ لأَِبٍ يَصِحُّ إِقْرَارُهُ بِابْنٍ لِلْمُتَوَفَّى مَجْهُول النَّسَبِ؛ إِذْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَثْبُتُ نَسَبُ الْقَرَابَةِ وَلَكِنْ لاَ يَرِثُ. إِذْ يَلْزَمُ مِنْ تَوْرِيثِهِ الدَّوْرُ الْحُكْمِيُّ، لأَِنَّهُ لَوْ وَرِثَ الاِبْنُ لَحَجَبَ الأَْخَ. فَلاَ يَكُونُ الأَْخُ وَارِثًا فَلاَ يَصِحُّ إِقْرَارُهُ، وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ إِقْرَارُهُ لَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ، وَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ، لَمْ يَثْبُتِ الإِْرْثُ. فَإِثْبَاتُ الإِْرْثِ يُؤَدِّي إِلَى نَفْيِهِ، وَمَا أَدَّى بِإِثْبَاتِهِ إِلَى نَفْيِهِ انْتَفَى مِنْ أَصْلِهِ، وَلاَ يَكُونُ
__________
(1) الشرح الكبير 4 / 486، والعذب الفائض 1 / 37، ونهاية المحتاج 6 / 37
(2) حاشية الفناري ص 79، ونهاية المحتاج 6 / 37، والعذب الفائض 1 / 37(3/28)
الدَّوْرُ الْحُكْمِيُّ إِلاَّ إِذَا كَانَ الْمُقِرُّ حَائِزًا لِلْمَال، وَأَقَرَّ بِمَنْ يَحْجُبُهُ حِرْمَانًا وَإِلاَّ فَلاَ، كَمَا إِذَا أَقَرَّ بَنُونَ بِابْنٍ آخَرَ أَوْ إِخْوَةٌ بِأَخٍ آخَرَ، أَوْ أَعْمَامٌ بِعَمٍّ آخَرَ، فَإِنَّ نَسَبَ الْمُقَرِّ بِهِ يَثْبُتُ، وَكَذَلِكَ إِرْثُهُ، لأَِنَّ الإِْرْثَ فَرْعُ النَّسَبِ وَقَدْ ثَبَتَ، وَلَوْ أَقَرَّ أَحَدُ الاِبْنَيْنِ الْحَائِزَيْنِ بِابْنٍ ثَالِثٍ وَأَنْكَرَهُ الاِبْنُ الآْخَرُ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُ الاِبْنِ الثَّالِثِ الْمُقَرِّ بِهِ إِجْمَاعًا، وَلاَ يَرِثُ ظَاهِرًا لِعَدَمِ النَّسَبِ، وَيُشَارِكُ الْمُقَرُّ بِهِ بَاطِنًا عَلَى الأَْظْهَرِ مِنْ قَوْلَيِ الإِْمَامِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَال الأَْئِمَّةُ الثَّلاَثَةُ: أَحْمَدُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى: يُشَارِكُهُ ظَاهِرًا مُؤَاخَذَةً لَهُ بِإِقْرَارِهِ، وَالْقَوْل الثَّانِي مِنْ قَوْلَيِ الإِْمَامِ الشَّافِعِيِّ لاَ يُشَارِكُهُ بَاطِنًا وَلاَ ظَاهِرًا، وَعَلَى الأَْظْهَرِ يُشَارِكُهُ فِي ثُلُثِ مَا فِي يَدِهِ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، لأَِنَّهُ الَّذِي اسْتَفْضَلَهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ مُقَابِل الأَْصَحِّ يُشَارِكُهُ فِي نِصْفِ مَا فِي يَدِهِ، لأَِنَّ مُقْتَضَى إِقْرَارِهِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ قَوْل الإِْمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ وَرِوَايَةٌ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ (1) .
24 - الْمُسْتَحِقُّونَ لِلتَّرِكَةِ:
1 - أَصْحَابُ الْفُرُوضِ.
2 - الْعَصَبَاتُ النَّسَبِيَّةُ. ثُمَّ الْعَصَبَاتُ السَّبَبِيَّةُ - عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - عَلَى خِلاَفٍ فِي التَّرْتِيبِ وَالتَّفْصِيل.
3 - الْمُسْتَحِقُّونَ بِالرَّدِّ، عَلَى خِلاَفٍ وَتَفْصِيلٍ فِيمَنْ يُرَدُّ عَلَيْهِ وَمَنْ لاَ يُرَدُّ، وَفِي الرَّدِّ عَلَى أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ.
4 - ذَوُو الأَْرْحَامِ، عَلَى خِلاَفٍ وَتَفْصِيلٍ فِي أَصْل تَوْرِيثِهِمْ وَكَيْفِيَّتِهِ.
__________
(1) الخطيب الشربيني مع حاشية البجيرمي 3 / 261 - وفتح الجواد شرح الإرشاد 1 / 411 ط الحلبي، والعذب الفائض 1 / 38، 39(3/29)
5 - مَوْلَى الْمُوَالاَةِ، عَلَى خِلاَفٍ وَتَفْصِيلٍ فِيهِ.
6 - الْمُقَرُّ لَهُ بِالنَّسَبِ عَلَى الْغَيْرِ، عَلَى خِلاَفٍ وَتَفْصِيلٍ.
7 - الْمُوصَى لَهُ بِمَا زَادَ عَنِ الثُّلُثِ.
8 - بَيْتُ الْمَال (1) :
الْفُرُوضُ الْمُقَدَّرَةُ:
25 - الْفُرُوضُ الْمُقَدَّرَةُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى سِتَّةٌ هِيَ: النِّصْفُ، وَالرُّبُعُ، وَالثُّمُنُ، وَالثُّلُثَانِ، وَالثُّلُثُ، وَالسُّدُسُ.
الأَْوَّل: النِّصْفُ: وَقَدْ ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي ثَلاَثَةِ مَوَاضِعَ: نَصِيبُ الْبِنْتِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} (2) وَنَصِيبُ الزَّوْجِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ} (3) وَنَصِيبُ الأُْخْتِ فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} . (4)
الثَّانِي: الرُّبُعُ فِي مَوْضِعَيْنِ: فِي قَوْله تَعَالَى مِيرَاثِ الأَْزْوَاجِ: {فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ} (5) وَالزَّوْجَاتِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ} . (6)
الثَّالِثُ: الثُّمُنُ: ذُكِرَ فِي قَوْله تَعَالَى فِي نَصِيبِ الزَّوْجَاتِ: {فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ} . (7)
__________
(1) شرح السراجية ص 11، وشرح الرحبية ص 10 ط محمد علي صبيح.
(2) سورة النساء / 11
(3) سورة النساء / 12
(4) سورة النساء / 17
(5) سورة النساء / 12
(6) سورة النساء / 12
(7) سورة النساء / 12(3/29)
الرَّابِعُ: الثُّلُثَانِ: ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي نَصِيبِ الْبَنَاتِ بِقَوْلِهِ: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} . (1)
الْخَامِسُ: الثُّلُثُ: وَقَدْ ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي مَوْضِعَيْنِ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَلأُِمِّهِ الثُّلُثُ} (2) وَفِي أَوْلاَدِ الأُْمِّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} . (3)
وَالسَّادِسُ: السُّدُسُ: وَقَدْ ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي ثَلاَثَةِ مَوَاضِعَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلأَِبَوَيْهِ لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} (4) وقَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُِمِّهِ السُّدُسُ} (5) وَفِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} . (6)
أَصْحَابُ الْفُرُوضِ:
26 - يَسْتَحِقُّ الْفُرُوضَ السَّابِقَةَ اثْنَا عَشَرَ شَخْصًا، أَرْبَعَةٌ مِنَ الرِّجَال، وَثَمَانِيَةٌ مِنَ النِّسَاءِ.
فَالرِّجَال هُمْ: الأَْبُ، وَالْجَدُّ الصَّحِيحُ (أَبُو الأَْبِ) وَإِنْ عَلاَ، وَالأَْخُ لأُِمٍّ، وَالزَّوْجُ.
وَالنِّسَاءُ هُنَّ: الزَّوْجَةُ، وَالْبِنْتُ، وَبِنْتُ الاِبْنِ وَإِنْ نَزَلَتْ، وَالأُْخْتُ الشَّقِيقَةُ، وَالأُْخْتُ لأَِبٍ، وَالأُْخْتُ لأُِمٍّ، وَالأُْمُّ، وَالْجَدَّةُ الصَّحِيحَةُ، وَهِيَ الَّتِي لاَ يَدْخُل فِي نِسْبَتِهَا إِلَى الْمَيِّتِ جَدٌّ فَاسِدٌ أَيْ:
__________
(1) سورة النساء / 11
(2) سورة النساء / 11
(3) سورة النساء / 12
(4) سورة النساء / 11
(5) سورة النساء / 11
(6) سورة النساء / 12(3/30)
رَحِمِيٌّ، وَهُوَ مَنْ يُدْلِي إِلَى الْمَيِّتِ بِأُنْثَى.
وَيُسَمَّى الزَّوْجُ وَالزَّوْجَةُ أَصْحَابَ الْفُرُوضِ السَّبَبِيَّةِ، إِذْ إِنَّ مِيرَاثَهُمَا بِسَبَبِ الزَّوَاجِ لاَ بِسَبَبِ الْقَرَابَةِ. وَيُسَمَّى مَنْ عَدَاهُمَا - وَهُمُ الأَْقَارِبُ - أَصْحَابَ الْفُرُوضِ النَّسَبِيَّةِ، لأَِنَّ الْقَرَابَةَ تُسَمَّى نَسَبًا.
وَقَدْ يَجْتَمِعُ الإِْرْثُ بِالْفَرْضِ مَعَ الإِْرْثِ بِالتَّعْصِيبِ.
وَأَصْحَابُ الْفُرُوضِ يَرِثُونَ إِذَا لَمْ يُوجَدْ مَنْ يَحْجُبُهُمْ مِنَ الْمِيرَاثِ حَجْبَ حِرْمَانٍ.
أَحْوَال الأَْبِ فِي الْمِيرَاثِ:
27 - لِلأَْبِ فِي الْمِيرَاثِ ثَلاَثُ حَالاَتٍ:
الأُْولَى: أَنْ يَرِثَ بِطَرِيقِ الْفَرْضِ فَقَطْ، وَذَلِكَ إِذَا كَانَ لِلْمَيِّتِ فَرْعٌ وَارِثٌ مُذَكَّرٌ، وَهُوَ الاِبْنُ وَابْنُ الاِبْنِ وَإِنْ نَزَل، وَمِيرَاثُهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ السُّدُسُ.
الثَّانِيَةُ: أَنْ يَرِثَ بِالْفَرْضِ وَبِالتَّعْصِيبِ مَعًا، وَذَلِكَ إِذَا كَانَ لِلْمَيِّتِ فَرْعٌ وَارِثٌ مُؤَنَّثٌ وَهُوَ الْبِنْتُ وَبِنْتُ الاِبْنِ مَهْمَا نَزَل أَبُوهَا.
وَإِنَّمَا وَرِثَ الأَْبُ بِطَرِيقِ الْفَرْضِ أَوَّلاً، ثُمَّ بِطَرِيقِ التَّعْصِيبِ، لأَِنَّهُ لَوْ وَرِثَ بِطَرِيقِ التَّعْصِيبِ فَقَطْ لَمْ يَبْقَ لَهُ شَيْءٌ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ، فَكَانَ لاَ بُدَّ مِنْ أَنْ يَرِثَ أَوَّلاً بِطَرِيقِ الْفَرْضِ حَتَّى يَضْمَنَ السُّدُسَ.
الثَّالِثَةُ: أَنْ يَرِثَ بِطَرِيقِ التَّعْصِيبِ فَقَطْ، وَذَلِكَ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ فَرْعٌ وَارِثٌ مُطْلَقًا، فَيَأْخُذُ التَّرِكَةَ كُلَّهَا، أَوِ الْبَاقِيَ مِنْهَا بَعْدَ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ.
وَالدَّلِيل عَلَى مَا ذُكِرَ قَوْله تَعَالَى: {وَلأَِبَوَيْهِ لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ(3/30)
يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُِمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُِمِّهِ السُّدُسُ} . (1)
فَإِنَّ الآْيَةَ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ نَصِيبَ كُلٍّ مِنَ الأَْبِ وَالأُْمِّ السُّدُسُ فِي تَرِكَةِ الْمُتَوَفَّى إِنْ كَانَ لَهُ مَعَهُمَا وَلَدٌ سَوَاءٌ أَكَانَ ذَكَرًا أَمْ أُنْثَى، فَإِنْ كَانَ هَذَا الْوَلَدُ ابْنًا كَانَ لَهُ الْبَاقِي بَعْدَ الأَْبَوَيْنِ، لأَِنَّهُ أَقْرَبُ الْعَصَبَاتِ وَأَحَقُّهُمْ بِمِيرَاثِ الْبَاقِي بَعْدَ سِهَامِ. ذَوِي الْفُرُوضِ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا بَقِيَ فَلأَِوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ (2) وَعَلَى ذَلِكَ يَكُونُ مِيرَاثُ الأَْبِ هُوَ السُّدُسَ فَرْضًا، وَهَذِهِ هِيَ الْحَالَةُ الأُْولَى مِنْ حَالاَتِ الأَْبِ.
وَإِنْ كَانَ وَلَدُ الْمُتَوَفَّى بِنْتًا، أَوْ بِنْتَ ابْنٍ وَإِنْ نَزَل وَلَمْ يَكُنْ مَعَهَا فَرْعٌ ذَكَرٌ يُعَصِّبُهَا كَانَ الْبَاقِي - بَعْدَ نَصِيبِ الْبِنْتِ أَوْ بِنْتِ الاِبْنِ - لِلأَْبِ مَعَ السُّدُسِ الَّذِي هُوَ فَرْضُهُ. وَذَلِكَ بِاعْتِبَارِهِ أَقْرَبُ الْعَصَبَاتِ إِلَى الْمُتَوَفَّى، وَهَذِهِ هِيَ الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُتَوَفَّى وَلَدٌ مُطْلَقًا وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَقَطْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ إِخْوَةٌ كَانَ لأُِمِّهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ الثُّلُثُ، وَيَكُونُ الْبَاقِي وَهُوَ الثُّلُثَانِ لِلأَْبِ بِطَرِيقِ التَّعْصِيبِ وَهِيَ الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ، لأَِنَّ الآْيَةَ ذَكَرَتْ فَرْضَ الأُْمِّ وَهُوَ الثُّلُثُ عِنْدَ عَدَمِ وُجُودِ الإِْخْوَةِ، وَالسُّدُسَ عِنْدَ وُجُودِ الإِْخْوَةِ، وَلَمْ تَذْكُرْ فَرْضًا لِلأَْبِ عِنْدَ عَدَمِ الإِْخْوَةِ، فَكَانَ مَدْلُول ذَلِكَ أَنَّ الأَْبَ يَرِثُ الْبَاقِيَ بَعْدَ نَصِيبِ الأُْمِّ، لأَِنَّ ذَلِكَ شَأْنُ الْعَصَبَاتِ، وَالأَْحْكَامُ الْمَذْكُورَةُ مَحَل اتِّفَاقٍ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ الأَْرْبَعَةِ (3) .
__________
(1) سورة النساء / 11
(2) الحديث تقدم (هامش ف 4)
(3) الفناري على السراجية 89 وما بعدها(3/31)
مِيرَاثُ الأُْمِّ:
28 - لِلأُْمِّ فِي الْمِيرَاثِ ثَلاَثُ حَالاَتٍ:
أَوَّلُهَا: أَنْ تَرِثَ بِطَرِيقِ الْفَرْضِ وَيَكُونَ فَرْضُهَا السُّدُسَ. وَذَلِكَ إِذَا كَانَ لِلْمَيِّتِ فَرْعٌ يَرِثُ بِطَرِيقِ الْفَرْضِ أَوِ التَّعْصِيبِ أَوْ جَمْعٌ مِنَ الإِْخْوَةِ.
وَالدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَلأَِبَوَيْهِ لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} (1) ، وَلَفْظُ الْوَلَدِ يَتَنَاوَل الذَّكَرَ وَالأُْنْثَى وَلاَ قَرِينَةَ تُخَصِّصُهُ بِأَحَدِهِمَا، كَمَا يَتَنَاوَل الْوَاحِدَ وَالْجَمْعَ، وَفِي حُكْمِ الْوَلَدِ وَلَدُ الاِبْنِ، وَإِنْ نَزَل، لأَِنَّ لَفْظَ الْوَلَدِ يَتَنَاوَلُهُ، وَلأَِنَّ الإِْجْمَاعَ عَلَى أَنَّ وَلَدَ الاِبْنِ يَقُومُ مَقَامَ وَلَدِ الصُّلْبِ فِي تَوْرِيثِ الأُْمِّ، وَالْمُرَادُ مِنَ الإِْخْوَةِ الاِثْنَانِ مِنَ الإِْخْوَةِ أَوَ الأَْخَوَاتِ فَأَكْثَرُ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ كَانَا مِنْ جِهَةِ الأَْبَوَيْنِ أَوْ مِنْ جِهَةِ الأَْبِ أَوْ مِنْ جِهَةِ الأُْمِّ وَلَوْ مَحْجُوبَيْنِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُِمِّهِ السُّدُسُ} (2) وَلَفْظُ الإِْخْوَةِ يَتَنَاوَل الْكُل لِلاِشْتِرَاكِ فِي الأُْخُوَّةِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، خِلاَفًا لاِبْنِ عَبَّاسٍ فَإِنَّهُ يَجْعَل الثَّلاَثَةَ مِنَ الإِْخْوَةِ وَالأَْخَوَاتِ حَاجِبَةً لِلأُْمِّ دُونَ الاِثْنَيْنِ، فَلَهَا مَعَهُمَا الثُّلُثُ عِنْدَهُ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الآْيَةَ نَصَّتْ عَلَى أَنَّ الَّذِي يَحْجُبُ الأُْمَّ مِنَ الثُّلُثِ إِلَى السُّدُسِ هُمُ الإِْخْوَةُ وَهُوَ جَمْعٌ يُطْلَقُ عَلَى الثَّلاَثَةِ فَصَاعِدًا وَلاَ يُطْلَقُ عَلَى الاِثْنَيْنِ. وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ:
أَوَّلاً: أَنَّ حُكْمَ الاِثْنَيْنِ فِي الْمِيرَاثِ حُكْمُ الْجَمْعِ بِدَلِيل أَنَّ الْبِنْتَيْنِ تَرِثَانِ الثُّلُثَيْنِ كَالْجَمْعِ مِنَ الْبَنَاتِ، وَالأُْخْتَيْنِ تَرِثَانِ الثُّلُثَيْنِ كَالأَْخَوَاتِ فَيَكُونُ الاِثْنَانِ مِنَ الإِْخْوَةِ كَالْجَمْعِ فِي الْحَجْبِ.
__________
(1) سورة النساء / 11
(2) سورة النساء / 11(3/31)
ثَانِيًا: أَنَّ الْجَمْعَ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْمُثَنَّى وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ {وَهَل أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} (1) فَقَدْ تَكَرَّرَ عَوْدُ الضَّمِيرِ - وَهُوَ جَمْعٌ - عَلَى الْمُثَنَّى وَهُمَا الْخَصْمَانِ.
وَكَذَلِكَ عَبَّرَ بِالْجَمْعِ عَنِ الْمُثَنَّى فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} (2) وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ دَخَل عَلَى عُثْمَانَ فَقَال لَهُ: لِمَ صَارَ الأَْخَوَانِ يَرُدَّانِ الأُْمَّ إِلَى السُّدُسِ؟ وَقَدْ قَال اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} وَالأَْخَوَانِ فِي لِسَانِ قَوْمِكَ لَيْسَا بِإِخْوَةٍ فَقَال عُثْمَانُ: هَل أَسْتَطِيعُ نَقْضَ أَمْرٍ كَانَ قَبْلِي وَتَوَارَثَهُ النَّاسُ وَمَضَى فِي الأَْمْصَارِ (3) . وَرُوِيَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّ الأُْمَّ لاَ تُحْجَبُ بِالإِْنَاثِ فَقَطْ، فَلاَ تُحْجَبُ مِنَ الثُّلُثِ إِلَى السُّدُسِ إِلاَّ بِالإِْخْوَةِ الذُّكُورِ أَوِ الذُّكُورِ مَعَ الإِْنَاثِ، لأَِنَّ (إِخْوَةٌ) فِي قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} جَمْعُ ذُكُورٍ فَلاَ يَدْخُل فِيهِ الإِْنَاثُ وَحْدَهُنَّ. وَقَال الْمُخَالِفُونَ: إِنَّ لَفْظَ الإِْخْوَةِ يَشْمَل الأَْخَوَاتِ الْمُنْفَرِدَاتِ مِنْ بَابِ التَّغْلِيبِ.
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ تَرِثَ بِطَرِيقِ الْفَرْضِ وَيَكُونَ فَرْضُهَا هُوَ ثُلُثَ التَّرِكَةِ كُلِّهَا، وَذَلِكَ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ فَرْعٌ وَارِثٌ، وَلاَ عَدَدٌ مِنَ الإِْخْوَةِ، وَلَيْسَ فِي الْوَرَثَةِ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَهَا إِلاَّ الأَْبُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلأَِبَوَيْهِ لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا
__________
(1) سورة ص / 21، 22
(2) سورة التحريم / 4
(3) حاشية الفناري ص 128. والتحفة ص 83(3/32)
تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُِمِّهِ الثُّلُثُ} . (1)
الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ تَرِثَ بِطَرِيقِ الْفَرْضِ وَيَكُونَ فَرْضُهَا هُوَ ثُلُثَ الْبَاقِي مِنَ التَّرِكَةِ بَعْدَ فَرْضِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ وَلَيْسَ ثُلُثَ التَّرِكَةِ كُلِّهَا، وَذَلِكَ إِذَا تُوُفِّيَ الْمَيِّتُ عَنِ الأُْمِّ وَالأَْبِ وَأَحَدِ الزَّوْجَيْنِ وَلَمْ يُوجَدْ جَمْعٌ مِنَ الإِْخْوَةِ.
وَتُسَمَّى الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ بِصُورَتَيْهَا بِالْمَسْأَلَتَيْنِ الْعُمَرِيَّتَيْنِ، لأَِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ هُوَ الَّذِي قَضَى فِيهِمَا بِمَا سَبَقَ.
وَتُسَمَّى أَيْضًا الْغَرَّاوِيَّةَ أَيِ الْمَشْهُورَةَ. نَظَرًا لِشُهْرَتِهَا (2) .
وَتُسَمَّى أَيْضًا بِالْغَرْبِيَّةِ.
حَالاَتُ الْجَدِّ الصَّحِيحِ: أ - عِنْدَ عَدَمِ الإِْخْوَةِ:
29 - الْجَدُّ الصَّحِيحُ هُوَ الَّذِي لاَ تَدْخُل فِي نِسْبَتِهِ إِلَى الْمَيِّتِ أُمٌّ كَأَبِي الأَْبِ، وَأَبِي أَبِي الأَْبِ مَهْمَا عَلاَ. وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ وَمِنَ الْعَصَبَاتِ. وَيُحْجَبُ بِالأَْبِ فَلاَ يَرِثُ مَعَ وُجُودِهِ فَإِنْ لَمْ يُوجَدِ الأَْبُ حَل الْجَدُّ مَحَلَّهُ، وَوَرِثَ بِاعْتِبَارِهِ أَبًا، وَكَانَ لَهُ نَفْسُ حَالاَتِ الأَْبِ الثَّلاَثِ السَّابِقَةِ: السُّدُسُ عِنْدَ وُجُودِ الْفَرْعِ الْمُذَكَّرِ فَرْضًا، وَالْفَرْضُ مَعَ التَّعْصِيبِ عِنْدَ وُجُودِ فَرْعٍ مُؤَنَّثٍ لِلْمُتَوَفَّى، وَالتَّعْصِيبُ فَقَطْ، فَيَأْخُذُ التَّرِكَةَ أَوْ مَا بَقِيَ مِنْهَا إِذَا لَمْ يُوجَدْ فَرْعٌ وَارِثٌ مُطْلَقًا.
وَالدَّلِيل عَلَى مِيرَاثِهِ فِي هَذِهِ الْحَالاَتِ هُوَ نَفْسُ دَلِيل تَوْرِيثِ الأَْبِ. فَهُوَ أَبٌ فِي الْمِيرَاثِ وَفِي بَعْضِ
__________
(1) سورة النساء / 11
(2) التحفة ص 85 وما بعدها ط الحلبي. والسراجية ص 127 وما بعدها ط الكردي(3/32)
الأَْحْكَامِ الأُْخْرَى. وَقَدْ سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى أَبًا فِي قَوْله تَعَالَى: {كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ} (1) وَهُمَا آدَم وَحَوَّاءُ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} . (2)
وَمِثَال هَذَا مِنَ السُّنَّةِ ارْمُوا بَنِي إِسْمَاعِيل فَإِنَّ أَبَاكُمْ كَانَ رَامِيًا. (3)
وَهَذِهِ الأَْحْكَامُ، إِذَا لَمْ يُوجَدْ مَعَ الْجَدِّ إِخْوَةٌ لِلْمُتَوَفَّى.
30 - ب - الْجَدُّ مَعَ الإِْخْوَةِ:
اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ تَوْرِيثِ الإِْخْوَةِ أَوِ الأَْخَوَاتِ لأُِمٍّ مَعَ الْجَدِّ. أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلإِْخْوَةِ الأَْشِقَّاءِ أَوْ لأَِبٍ فَإِنَّ الأَْئِمَّةَ: مَالِكًا وَالشَّافِعِيَّ وَأَحْمَدَ وَصَاحِبَيْ أَبِي حَنِيفَةَ ذَهَبُوا إِلَى تَوْرِيثِ الإِْخْوَةِ الأَْشِقَّاءِ أَوْ لأَِبٍ مَعَ الْجَدِّ.
وَذَهَبَ الإِْمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الْجَدَّ يَأْخُذُ حُكْمَ الأَْبِ فَيَحْجُبُ الإِْخْوَةَ، وَوَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ وَالْمُزَنِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَاسْتَثْنَى الإِْمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ إِقَامَةِ الْجَدِّ مَقَامَ الأَْبِ مَسْأَلَتَيْنِ يَأْتِي ذِكْرُهُمَا (ف: 32) .
وَاسْتَدَل أَبُو حَنِيفَةَ وَمَنْ وَافَقَهُ بِأَنَّ الْجَدَّ أَبٌ، فَيَقُومُ مَقَامَهُ عِنْدَ عَدَمِ وُجُودِهِ، وَيَحْجُبُ الإِْخْوَةَ كَمَا يَحْجُبُهُمْ الأَْبُ، وَقَدْ سُمِّيَ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ أَبًا، وَهُوَ يَأْخُذُ حُكْمَ الأَْبِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَْحْكَامِ، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الأَْبِ فِي حَجْبِ الإِْخْوَةِ، وَلأَِنَّ الْجَدَّ الْمُبَاشِرَ فِي أَعْلَى عَمُودِ النَّسَبِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَيِّتِ، وَابْنَ الاِبْنِ
__________
(1) سورة الأعراف / 27
(2) سورة يوسف / 38
(3) حديث " ارموا بني اسماعيل. . " أخرجه البخاري (6 / 91 - فتح الباري - ط السلفية) .(3/33)
الْمُبَاشِرِ فِي أَسْفَل الْعَمُودِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يُدْلِي إِلَى الْمَيِّتِ بِدَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ. وَالْفُقَهَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ ابْنَ الاِبْنِ يَحْجُبُ الإِْخْوَةَ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْجَدُّ كَذَلِكَ.
كَمَا اسْتَدَلُّوا بِقَوْل الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا بَقِيَ فَلأَِوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ (1) وَالْجَدُّ أَقْرَبُ إِلَى الْمَيِّتِ مِنَ الأَْخِ. إِذْ لَهُ قَرَابَةُ وَلاَءٍ وَجُزْئِيَّةٍ كَالأَْبِ، وَلاَ يَحْجُبُهُ عَنِ الإِْرْثِ سِوَى الأَْبِ. بِخِلاَفِ الإِْخْوَةِ وَالأَْخَوَاتِ، فَإِنَّهُمْ يُحْجَبُونَ بِثَلاَثَةٍ: بِالأَْبِ وَالاِبْنِ وَابْنِ الاِبْنِ، وَالْجَدُّ يَرِثُ بِالْفَرْضِ وَالتَّعْصِيبِ كَالأَْبِ، وَالإِْخْوَةُ يَنْفَرِدُونَ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا.
وَاسْتَدَل الْقَائِلُونَ بِتَوْرِيثِ الإِْخْوَةِ مَعَ الْجَدِّ بِأَدِلَّةٍ هِيَ:
أَوَّلاً: أَنَّ مِيرَاثَ الإِْخْوَةِ أَشِقَّاءَ أَوْ لأَِبٍ قَدْ ثَبَتَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْل حَظِّ الأُْنْثَيَيْنِ} (2) وَلَمْ يَرِدْ نَصٌّ يَمْنَعُهُمُ الإِْرْثَ، وَلَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى الْمَنْعِ.
ثَانِيًا: أَنَّ الْجَدَّ وَالإِْخْوَةَ يَتَسَاوُونَ فِي دَرَجَةِ الْقُرْبِ مِنَ الْمَيِّتِ. فَإِنَّ كُلًّا مِنَ الْجَدِّ وَالإِْخْوَةِ يُدْلِي إِلَى الْمَيِّتِ بِدَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ، فَكُلٌّ مِنْهُمَا يَتَّصِل بِهِ عَنْ طَرِيقِ الأَْبِ، فَالْجَدُّ أَبُو الأَْبِ، وَالأَْخُ ابْنُ الأَْبِ، وَقَرَابَةُ الْبُنُوَّةِ لاَ تَقِل عَنْ قَرَابَةِ الأُْبُوَّةِ.
ثَالِثًا: أَنَّ الْجَدَّ لاَ يَقُومُ مَقَامَ الأَْبِ فِي كُل حَالٍ بَل يَخْتَلِفُ عَنْهُ فِي بَعْضِ الأَْحْكَامِ، فَالصَّغِيرُ لاَ يَكُونُ مُسْلِمًا بِإِسْلاَمِ الْجَدِّ.
__________
(1) حديث " ألحقوا الفرائض. . . " تقدم (هامش ف 4)
(2) سورة النساء / 176(3/33)
نَصِيبُ الْجَدِّ مَعَ الإِْخْوَةِ:
31 - لَمْ يَرِدْ نَصٌّ فِي الْكِتَابِ وَلاَ فِي السُّنَّةِ فِي مِقْدَارِ مِيرَاثِ الْجَدِّ مَعَ الإِْخْوَةِ، وَإِنَّمَا ثَبَتَ الْحُكْمُ بِاجْتِهَادِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
فَمَذْهَبُ الإِْمَامِ عَلِيٍّ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ أَنَّ لِلْجَدِّ الْبَاقِيَ بَعْدَ فَرْضِ الأَْخَوَاتِ إِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُنَّ أَخٌ مَا لَمْ يَنْقُصْ عَنِ السُّدُسِ، وَإِلاَّ قَاسَمَ مَا لَمْ تُنْقِصْهُ الْمُقَاسَمَةُ عَنِ السُّدُسِ وَلَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ أَحَدٌ مِنَ الْبَنَاتِ أَوْ بَنَاتِ الاِبْنِ. فَإِنْ نَقَصْنَهُ عَنْهُ أَوْ كَانَ الْبَاقِي بَعْدَ فَرْضِ الأَْخَوَاتِ أَقَل مِنْهُ، أَوْ كَانَ مَعَهُ أَحَدٌ مِنَ الْبَنَاتِ أَوْ بَنَاتِ الاِبْنِ فُرِضَ لَهُ السُّدُسُ. وَعَنْهُ أَنَّهُ كَوَاحِدٍ مِنْهُمْ أَبَدًا.
وَمَذْهَبُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ نَصِيبَ الْجَدِّ يَجِبُ إِلاَّ يَنْقُصَ عَنْ ثُلُثِ التَّرِكَةِ إِنْ كَانَ مِيرَاثُهُ بِالْمُقَاسَمَةِ بِاعْتِبَارِهِ عَاصِبًا مَعَ الإِْخْوَةِ وَالأَْخَوَاتِ؛ إِذْ عِنْدَهُ أَنَّ الْجَدَّ يُعَصِّبُ الإِْخْوَةَ وَالأَْخَوَاتِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ أَكَانُوا ذُكُورًا فَقَطْ، أَمْ ذُكُورًا وَإِنَاثًا، أَمْ إِنَاثًا فَقَطْ.
فَإِنْ كَانَ مَعَ إِخْوَةٍ أَشِقَّاءَ قَاسَمَهُمْ عَلَى أَنَّهُ شَقِيقٌ، وَإِنْ كَانَ مَعَ إِخْوَةٍ لأَِبٍ قَاسَمَهُمْ عَلَى أَنَّهُ أَخٌ لأَِبٍ، عَلَى أَلاَّ يَقِل نَصِيبُهُ فِي أَيِّ حَالٍ عَنِ الثُّلُثِ، وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الأَْئِمَّةُ: مَالِكٌ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ ذَلِكَ بِمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ صَاحِبُ فَرْضٍ، فَإِنْ كَانَ مَعَهُ صَاحِبُ فَرْضٍ، فَلَهُ خَيْرُ ثَلاَثَةِ أُمُورٍ: إِمَّا الْمُقَاسَمَةُ، وَإِمَّا ثُلُثُ الْبَاقِي، وَإِمَّا ثُلُثُ جَمِيعِ الْمَال.
وَيَضْرِبُ ابْنُ قُدَامَةَ مَثَلاً لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَابِلَةُ وَمَنْ مَعَهُمْ فَيَقُول: إِنْ كَانَ مَعَ الْجَدِّ اثْنَانِ مِنَ الإِْخْوَةِ أَوْ أَرْبَعُ أَخَوَاتٍ أَوْ أَخٌ وَأُخْتَانِ. فَإِنَّ الْجَدَّ(3/34)
يُعْطَى الثُّلُثَ مِنْ جَمِيعِ الْمَال لأَِنَّ الثُّلُثَ وَالْمُقَاسَمَةَ سَوَاءٌ. فَإِنْ نَقَصُوا عَنْ ذَلِكَ فَالثُّلُثُ أَحَظُّ لَهُ فَقَاسَمَ بِهِ لاَ غَيْرُ، وَإِنْ زَادُوا فَالثُّلُثُ خَيْرٌ لَهُ، فَأَعْطِهِ إِيَّاهُ وَسَوَاءٌ أَكَانُوا مِنْ أَبٍ أَمْ أَبَوَيْنِ.
وَمَذْهَبُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّ حُكْمَ الْجَدِّ مَعَ الأَْخَوَاتِ الْمُنْفَرِدَاتِ عَنْ أَخٍ أَوْ فَرْعٍ وَارِثٍ يُعَصِّبُهُنَّ أَنَّهُ يَرِثُ الْبَاقِيَ بِاعْتِبَارِهِ عَصَبَةً بَعْدَ أَنْصِبَةِ الأَْخَوَاتِ وَأَنْصِبَةِ مَنْ يُوجَدُ مَعَهُنَّ مِنْ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ، لَكِنْ عَلَى أَلاَّ يَقِل نَصِيبُهُ عَنِ الثُّلُثِ، عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ نَصِيبُهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَقَل مِنَ الثُّلُثِ أُعْطِيَ الثُّلُثَ.
وَحُجَّتُهُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ نَصِيبَ الْجَدِّ مَعَ بَنَاتِ الْمُتَوَفَّى وَحْدَهُنَّ لاَ يَقِل عَنِ الثُّلُثِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ إِذَا تُوُفِّيَ عَنْ جَدٍّ وَإِخْوَةٍ، لأَِنَّ قَرَابَةَ الْفَرْعِ لَهَا صِلَةٌ أَقْوَى مِنْ قَرَابَةِ الأَْخِ لأَِخِيهِ.
وَمَا دَامَ الْفَرْعُ لاَ يُنْقِصُ نَصِيبَ الْجَدِّ عَنِ الثُّلُثِ فَبِالأَْوْلَى يَكُونُ الثُّلُثُ نَصِيبَهُ مَعَ الإِْخْوَةِ (1) .
32 - وَالْمَسْأَلَتَانِ اللَّتَانِ اسْتَثْنَاهُمَا الإِْمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ إِقَامَةِ الْجَدِّ مَقَامَ الأَْبِ فِي الْمِيرَاثِ وَالْحَجْبِ هُمَا:
أُولاَهُمَا: زَوْجٌ وَأُمٌّ وَجَدٌّ. فَإِنَّهُ قَال: إِنَّ لِلأُْمِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ثُلُثَ جَمِيعِ الْمَال. وَلَوْ كَانَ مَكَانَ الْجَدِّ أَبٌ كَانَ لَهَا ثُلُثُ مَا بَقِيَ.
وَثَانِيَتُهُمَا: زَوْجَةٌ وَأُمٌّ وَجَدٌّ، فَلِلأُْمِّ ثُلُثُ جَمِيعِ الْمَال. وَذَكَرَ أَصْحَابُ الإِْمْلاَءِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ عَلَى قَوْل أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ لِلأُْمِّ فِي هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ ثُلُثَ مَا بَقِيَ أَيْضًا. وَهَذَا مَا رَوَاهُ أَهْل الْكُوفَةِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَرَوَى أَهْل الْبَصْرَةِ عَنْ
__________
(1) التحفة الخيرية ص 130 وما بعدها ط الحلبي، والمغني / 218(3/34)
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ لِلزَّوْجِ النِّصْفَ، وَالْبَاقِي بَيْنَ الْجَدِّ وَالأُْمِّ نِصْفَيْنِ. وَرُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ هَارُونَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ لِلْمَرْأَةِ الرُّبُعَ، وَالْبَاقِي بَيْنَ الأُْمِّ وَالْجَدِّ نِصْفَيْنِ، وَقَدْ غَلَّطَ الرُّوَاةُ كُلُّهُمْ زَيْدًا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ، فَقَالُوا: إِنَّمَا قَال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ هَذَا فِي: زَوْجٍ وَأُمٍّ وَجَدٍّ (1) .
مِيرَاثُ الْجَدَّاتِ:
33 - الْجَدَّاتُ نَوْعَانِ: جَدَّاتٌ صَحِيحَاتٌ، وَجَدَّاتٌ غَيْرُ صَحِيحَاتٍ.
فَالْجَدَّةُ الصَّحِيحَةُ: هِيَ الَّتِي لاَ يَدْخُل فِي نِسْبَتِهَا إِلَى الْمَيِّتِ أَبٌ، أَوْ هِيَ الَّتِي تُدْلِي بِعَصَبَةٍ أَوْ صَاحِبَةِ فَرِيضَةٍ كَأُمِّ الأُْمِّ.
وَغَيْرُ الصَّحِيحَةِ: هِيَ الَّتِي تُدْلِي بِمَنْ لَيْسَ بِعَصَبَةٍ، وَلاَ صَاحِبَةِ فَرِيضَةٍ كَأُمِّ أَبِي الأُْمِّ.
وَمِيرَاثُ الْجَدَّةِ لَمْ يَرِدْ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَإِنَّمَا ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ وَغَيْرُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَاهَا السُّدُسَ، كَمَا ثَبَتَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَالسَّلَفِ وَالْخَلَفِ.
وَالْجَدَّةُ الصَّحِيحَةُ مِنْ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ. وَالْجَدَّةُ غَيْرُ الصَّحِيحَةِ مِنْ ذَوِي الأَْرْحَامِ.
34 - وَلِلْجَدَّةِ الصَّحِيحَةُ فِي الْمِيرَاثِ حَالَتَانِ:
الأُْولَى: أَنْ تَرِثَ بِطَرِيقِ الْفَرْضِ، وَيَكُونَ فَرْضُهَا السُّدُسَ، تَسْتَقِل بِهِ الْجَدَّةُ الْوَاحِدَةُ، وَتَشْتَرِكُ فِيهِ الْجَدَّاتُ الْمُتَعَدِّدَاتُ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْجَدَّةُ مِنْ جِهَةِ الأُْمِّ كَأُمِّ الأُْمِّ، أَمْ مِنْ جِهَةِ الأَْبِ كَأُمِّ الأَْبِ، أَمْ مِنِ الْجِهَتَيْنِ مَعًا كَأُمِّ الأُْمِّ الَّتِي هِيَ أُمُّ أَبِي الأَْبِ أَيْضًا.
وَإِذَا اجْتَمَعَتِ الْجَدَّةُ ذَاتُ الْقَرَابَتَيْنِ مَعَ الْجَدَّةِ
__________
(1) المبسوط 29 / 180 ط السعادة(3/35)
ذَاتِ الْقَرَابَةِ الْوَاحِدَةِ اشْتَرَكَتَا فِي السُّدُسِ مُنَاصَفَةً بَيْنَهُمَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْقِيَاسُ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ. لأَِنَّ تَعَدُّدَ جِهَةِ الْقَرَابَةِ فِي الْجَدَّةِ ذَاتِ الْقَرَابَتَيْنِ لَمْ يُكْسِبْهَا اسْمًا جَدِيدًا تَرِثُ بِهِ، بَل هِيَ فِي الْقَرَابَتَيْنِ جَدَّةٌ.
وَذَهَبَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَزُفَرُ وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِل الصَّحِيحِ: إِلَى أَنَّ السُّدُسَ يُقْسَمُ بَيْنَهُمَا أَثْلاَثًا: الثُّلُثَانِ لِذَاتِ الْقَرَابَتَيْنِ. وَثُلُثُهُ لِذَاتِ الْقَرَابَةِ الْوَاحِدَةِ، لأَِنَّ اسْتِحْقَاقَ الإِْرْثِ مُتَرَتِّبٌ عَلَى وُجُودِ سَبَبِهِ. فَإِذَا اجْتَمَعَ فِي شَخْصٍ سَبَبَانِ، وَإِنْ كَانَا مُتَّفِقَيْنِ وَرِثَ بِهِمَا، كَالْجَدَّةِ ذَاتِ الْقَرَابَتَيْنِ، وَكَانَتِ الْجَدَّةُ الْوَاحِدَةُ كَأَنَّهَا جَدَّتَانِ، وَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فِي شَخْصِهَا حَقِيقَةً فَإِنَّهَا مُتَعَدِّدَةٌ حُكْمًا وَمَعْنَى، فَتَسْتَحِقُّ بِالسَّبَبَيْنِ بِمُقْتَضَى هَذَا التَّعَدُّدِ. وَهَذَا مِثْل مَا إِذَا اجْتَمَعَ فِي شَخْصٍ وَاحِدٍ سَبَبَانِ مُخْتَلِفَانِ لِلإِْرْثِ فَإِنَّهُ يَرِثُ بِهِمَا اتِّفَاقًا، كَمَا إِذَا تُوُفِّيَتْ امْرَأَةٌ عَنْ زَوْجٍ هُوَ ابْنُ عَمِّهَا الشَّقِيقِ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ النِّصْفَ فَرْضًا بِاعْتِبَارِهِ زَوْجًا، وَالْبَاقِيَ تَعْصِيبًا بِاعْتِبَارِهِ ابْنَ عَمٍّ شَقِيقٍ (1) .
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ لِلْجَدَّةِ: حَجْبُ الْجَدَّاتِ كُلِّهِنَّ بِالأُْمِّ، سَوَاءٌ أَكُنَّ لأَِبٍ أَمْ لأُِمٍّ، أَمَّا الأُْمِّيَّاتُ فَلأَِنَّهُنَّ يُدْلِينَ بِالأُْمِّ. وَأَمَّا الأَْبَوِيَّاتُ فَلأَِنَّهُنَّ مِثْل الْجَدَّاتِ لأُِمٍّ، بَل هُنَّ أَضْعَفُ، وَلِهَذَا تُقَدَّمُ الْجَدَّةُ مِنْ قِبَل الأُْمِّ عَلَى الْجَدَّةِ لأَِبٍ فِي الْحَضَانَةِ.
وَالْجَدَّاتُ الأَْبَوِيَّاتُ يَسْقُطْنَ بِالأَْبِ، وَهُوَ قَوْل عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَغَيْرِهِمْ. وَنُقِل عَنْ
__________
(1) المبسوط 29 / 165 وما بعدها ط السعادة، والعذب الفائض 1 / 66، والتحفة الخيرية ص 98، 99 ط الحلبي(3/35)
عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي مَسْعُودٍ: أَنَّ أُمَّ الأَْبِ تَرِثُ مَعَ الأَْبِ، وَاخْتَارَهُ شُرَيْحٌ وَالْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ، لِمَا رَوَاهُ ابْنُ مَسْعُودٍ مِنْ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَى أُمَّ الأَْبِ السُّدُسَ مَعَ وُجُودِ الأَْبِ.
وَالْجَدَّةُ الْقُرْبَى مِنْ أَيِّ جِهَةٍ كَانَتْ مِنْ قِبَل الأُْمِّ أَوْ مِنْ قِبَل الأَْبِ تَحْجُبُ الْبُعْدَى مِنْ أَيِّ جِهَةٍ كَانَتْ الْبُعْدَى. وَهَذَا مَذْهَبُ عَلِيٍّ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ زَيْدٍ: أَنَّ الْقُرْبَى إِنْ كَانَتْ مِنْ قِبَل الأَْبِ وَالْبُعْدَى مِنْ قِبَل الأُْمِّ فَهُمَا سَوَاءٌ، وَالْقَوْلاَنِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِمَا فِي كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ. وَالصَّحِيحُ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْقُرْبَى مِنْ جِهَةِ الأَْبِ لاَ تُسْقِطُ الْبُعْدَى مِنْ جِهَةِ الأُْمِّ. وَعَلَى الرِّوَايَةِ الأُْولَى يَكُونُ الْحَجْبُ فِي أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ، وَعَلَى الثَّانِيَةِ يَكُونُ الْحَجْبُ فِي ثَلاَثَةٍ، وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ فِي الصَّحِيحِ مِنْ قَوْلَيْهِ، وَمَذْهَبُ الإِْمَامِ أَحْمَدَ (1) .
مِيرَاثُ الزَّوْجَيْنِ:
35 - مِيرَاثُ الزَّوْجَيْنِ نَصَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمْ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} . (2)
__________
(1) حاشية الفناري على السراجية ص 140، 141 ط الكردي والتحفة الخيرية ص 100 ط الحلبي.
(2) سورة النساء / 12(3/36)
فَالآْيَةُ تُبَيِّنُ أَنَّ كُلًّا مِنَ الزَّوْجَيْنِ لاَ يَرِثُ إِلاَّ بِطَرِيقِ الْفَرْضِ وَأَنَّ لِكُلٍّ حَالَتَيْنِ:
أَحْوَال الزَّوْجِ:
36 - أ - يَرِثُ الزَّوْجُ نِصْفَ مِيرَاثِ زَوْجَتِهِ بِطَرِيقِ الْفَرْضِ، إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا فَرْعٌ وَارِثٌ بِطَرِيقِ الْفَرْضِ أَوِ التَّعْصِيبِ، وَهُوَ الاِبْنُ وَابْنُ الاِبْنِ وَإِنْ نَزَل، وَالْبِنْتُ وَبِنْتُ الاِبْنِ وَإِنْ نَزَل، سَوَاءٌ أَكَانَ هَذَا الْفَرْعُ الْوَارِثُ مِنَ الزَّوْجِ أَمْ مِنْ غَيْرِهِ، وَتَشْمَل هَذِهِ الْحَالَةُ مَا إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجَةِ فَرْعٌ أَصْلاً وَمَا إِذَا كَانَ لَهَا فَرْعٌ غَيْرُ وَارِثٍ بِطَرِيقِ الْفَرْضِ أَوِ التَّعْصِيبِ، وَهُوَ بِنْتُ الْبِنْتِ أَوِ ابْنُ الْبِنْتِ.
ب - أَنْ يَرِثَ الرُّبُعَ بِطَرِيقِ الْفَرْضِ، وَذَلِكَ إِذَا كَانَ لِلزَّوْجَةِ فَرْعٌ وَارِثٌ بِطَرِيقِ الْفَرْضِ أَوِ التَّعْصِيبِ، سَوَاءٌ أَكَانَ هَذَا الْفَرْعُ الْوَارِثُ مِنْ هَذَا الزَّوْجِ أَمْ مِنْ غَيْرِهِ.
حَالاَتُ الزَّوْجَةِ:
لاَ تَرِثُ الزَّوْجَةُ إِلاَّ بِطَرِيقِ الْفَرْضِ، وَلَهَا حَالَتَانِ:
37 - (الأُْولَى) أَنْ يَكُونَ فَرْضُهَا الرُّبُعَ، وَذَلِكَ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِزَوْجِهَا فَرْعٌ وَارِثٌ بِطَرِيقِ الْفَرْضِ أَوِ التَّعْصِيبِ، وَهُوَ الاِبْنُ وَابْنُ الاِبْنِ وَإِنْ نَزَل، وَالْبِنْتُ وَبِنْتُ الاِبْنِ وَإِنْ نَزَل، سَوَاءٌ أَكَانَ هَذَا الْفَرْعُ الْوَارِثُ وَلَدًا لَهُ مِنْ هَذِهِ الزَّوْجَةِ أَمْ وَلَدًا لَهُ مِنْ غَيْرِهَا.
فَيَدْخُل فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مَا إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجِ فَرْعٌ أَصْلاً، وَمَا إِذَا كَانَ لَهُ فَرْعٌ غَيْرُ وَارِثٍ بِطَرِيقِ الْفَرْضِ أَوِ التَّعْصِيبِ وَهُوَ بِنْتُ الْبِنْتِ أَوِ ابْنُ الْبِنْتِ.
(الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ) أَنْ يَكُونَ فَرْضُهَا الثُّمُنَ، وَذَلِكَ(3/36)
إِذَا كَانَ لِلزَّوْجِ فَرْعٌ وَارِثٌ مِنْهَا أَوْ مِنْ غَيْرِهَا.
38 - وَيُشْتَرَطُ لِلْمِيرَاثِ بِالزَّوْجِيَّةِ شَرْطَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ الزَّوْجِيَّةُ صَحِيحَةً. . فَإِنْ كَانَ الْعَقْدُ فَاسِدًا فَلاَ تَوَارُثَ وَلَوِ اسْتَمَرَّتِ الْعِشْرَةُ بِمُقْتَضَاهُ إِلَى الْوَفَاةِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الأَْئِمَّةِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ.
وَقَال الإِْمَامُ مَالِكٌ: إِنَّ سَبَبَ الْفَسَادِ إِنْ كَانَ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ كَتَزَوُّجِ خَامِسَةٍ وَفِي عِصْمَتِهِ أَرْبَعٌ، أَوْ تَزَوُّجِ الْمُحَرَّمَةِ رَضَاعًا جَاهِلاً بِسَبَبِ التَّحْرِيمِ فَإِنَّهُ لاَ تَوَارُثَ، سَوَاءٌ أَمَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْل الْمُتَارَكَةِ وَالْفَسْخِ، أَمْ مَاتَ بَعْدَهُمَا، وَإِنْ كَانَ السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِلْفَسَادِ غَيْرَ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ كَعَدَمِ الْوَلِيِّ فِي النِّكَاحِ فِي زَوَاجِ الْبَالِغَةِ الْعَاقِلَةِ، فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَأَمْثَالِهَا إِنْ كَانَتِ الْوَفَاةُ بَعْدَ الْفَسْخِ فَلاَ تَوَارُثَ، لِعَدَمِ قِيَامِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلْمِيرَاثِ؛ إِذِ انْتَهَتِ الزَّوْجِيَّةُ. وَإِنْ كَانَتِ الْوَفَاةُ قَبْل الْفَسْخِ فَيَكُونُ الْمِيرَاثُ ثَابِتًا، لِقِيَامِ الزَّوْجِيَّةِ عَلَى رَأْيِ مَنْ يَرَى صِحَّةَ الزَّوَاجِ.
ثَانِيهِمَا: أَنْ تَكُونَ الزَّوْجِيَّةُ قَائِمَةً وَقْتَ الْوَفَاةِ حَقِيقَةً، أَوْ أَنْ تَكُونَ قَائِمَةً حُكْمًا، وَذَلِكَ بِأَنْ تَكُونَ الزَّوْجَةُ مُطَلَّقَةً طَلاَقًا رَجْعِيًّا، وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ.
أَمَّا إِذَا كَانَ الطَّلاَقُ بَائِنًا فَإِنَّهُ لاَ تَوَارُثَ وَلَوْ كَانَتِ الْوَفَاةُ فِي حَال الْعِدَّةِ، إِلاَّ إِذَا كَانَ مَنْ تَوَلَّى سَبَبَ الْفُرْقَةِ قَدْ اُعْتُبِرَ فَارًّا مِنَ الْمِيرَاثِ، وَذَلِكَ إِذَا كَانَ مَرِيضًا مَرَضَ الْمَوْتِ.
وَتَنْفَرِدُ الْوَاحِدَةُ بِالرُّبُعِ وَالثُّمُنِ وَيَشْتَرِكُ فِيهِ الأَْكْثَرُ مِنْ وَاحِدَةٍ: اثْنَتَانِ أَوْ ثَلاَثٌ أَوْ أَرْبَعٌ. (1)
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 491 ط بولاق، والخرشي 5 / 442 ط الشرقية، والتحفة ص 78 ط الحلبي، والعذب الفائض 1 / 51(3/37)
أَحْوَال الْبَنَاتِ:
39 - جُمِعَتْ أَحْكَامُ مِيرَاثِ بَنَاتِ الْمُتَوَفَّى فِي قَوْله تَعَالَى: {يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْل حَظِّ الأُْنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} . (1)
فَقَدْ دَلَّتِ الآْيَةُ عَلَى أَنَّ أَحْوَال الْبَنَاتِ الصُّلْبِيَّاتِ ثَلاَثٌ:
الأُْولَى: أَنْ يَكُونَ مَعَهُنَّ ابْنٌ صُلْبِيٌّ أَوْ أَبْنَاءٌ، فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَكُونُ الْجَمِيعُ عَصَبَةً لِلذَّكَرِ مِثْل حَظِّ الأُْنْثَيَيْنِ، وَيَأْخُذُونَ التَّرِكَةَ كُلَّهَا إِنْ لَمْ يَكُنِ لِلْمُورَثِ أَصْحَابُ فَرْضٍ، أَوِ الْبَاقِي بَعْدَ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ.
الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ لِلْمَيِّتِ بِنْتَانِ فَأَكْثَرُ، وَلَيْسَ مَعَهُنَّ ابْنٌ لِلْمَيِّتِ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ لَهُنَّ ثُلُثَا التَّرِكَةِ بِالتَّسَاوِي.
أَمَّا الْبِنْتَانِ فَاسْتِحْقَاقُهُمَا الثُّلُثَانِ، وَدَلِيل ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا اُسْتُشْهِدَ سَعْدُ بْنُ الرَّبِيعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمَ أُحُدٍ (2) وَكَانَ خَلَّفَ ابْنَتَيْنِ وَزَوْجَةً، فَاسْتَوْلَى أَخُوهُ عَلَى مَالِهِ، فَجَاءَتِ امْرَأَتُهُ إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَتْ: إِنَّ سَعْدًا قُتِل مَعَكَ وَخَلَفَ ابْنَتَيْنِ، وَقَدْ غَلَبَ عَمُّهُمَا عَلَى مَالِهِمَا وَلاَ يُرْغَبُ فِي النِّسَاءِ إِلاَّ بِمَالٍ، وَفِي رِوَايَةٍ: وَلاَ يُنْكَحَانِ إِلاَّ وَلَهُمَا مَالٌ، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَمْ يُنْزِل اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ شَيْئًا. ثُمَّ ظَهَرَ آثَارُ الْوَحْيِ عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْهُ قَال: قِفُوا مَال سَعْدٍ، فَقَدْ أَنْزَل اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مَا إِنْ بَيَّنَهُ لِي بَيَّنْتُهُ لَكُمْ، وَتَلاَ
__________
(1) سورة النساء / 11
(2)
(قتل يوم أحد) هكذا جاء في رواية التزمذي وأخرجه أيضا أحمد وأبو داود وابن ماجه (تحفة الأحوذي 6 / 267 - 268 ط الفجالة) .(3/37)
عَلَيْهِمْ قَوْله تَعَالَى: {لِلرِّجَال نَصِيبُ مِمَّا تَرَكَ} الآْيَةَ ثُمَّ قَوْله تَعَالَى: {يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْل حَظِّ الأُْنْثَيَيْنِ} فَدَعَا أَخَا سَعْدٍ وَأَمَرَهُ أَنْ يُعْطِيَ الْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَيْنِ وَالْمَرْأَةَ الثُّمُنَ وَلَهُ مَا بَقِيَ. وَقِيل: هَذَا أَوَّل مِيرَاثٍ فِي الإِْسْلاَمِ. (1)
كَمَا اسْتَدَل بِقَوْلِهِ تَعَالَى {يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْل حَظِّ الأُْنْثَيَيْنِ} وَوَجْهُ الاِسْتِدْلاَل أَنَّ أَدْنَى مَرَاتِبِ الاِخْتِلاَطِ: ابْنٌ وَبِنْتٌ، فَلِلاِبْنِ حِينَئِذٍ الثُّلُثَانِ بِالاِتِّفَاقِ، فَعُرِفَ بِهَذِهِ الإِْشَارَةِ أَنَّ الْبِنْتَيْنِ لَهُمَا الثُّلُثَانِ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلاَّ فِي حَالَةِ انْفِرَادِهِمَا فَلاَ حَاجَةَ إِلَى بَيَانِ حَالِهِمَا، بَل إِلَى بَيَانِ حَال مَا فَوْقَهُمَا، فَلِذَلِكَ جَاءَتِ الآْيَةُ {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} (2) أَيْ فَإِنْ كُنَّ جَمَاعَةً بَالِغَاتٍ مَا بَلَغْنَ مِنَ الْعَدَدِ فَلَهُنَّ مَا لِلاِثْنَتَيْنِ أَيِ الثُّلُثَانِ لاَ يَتَجَاوَزْنَهُ، وَبِأَنَّ الْبِنْتَيْنِ أَمَسُّ رَحِمًا مِنَ الأُْخْتَيْنِ اللَّتَيْنِ تُحْرِزَانِ الثُّلُثَيْنِ فَهُمَا أَوْلَى بِذَلِكَ الإِْحْرَازِ.
وَبِأَنَّ الأُْخْتَ إِذَا كَانَتْ مَعَ أَخِيهَا وَجَبَ لَهَا الثُّلُثُ، فَبِالأَْوْلَى أَنْ يَجِبَ لَهَا ذَلِكَ مَعَ أُخْتٍ أُخْرَى. وَكَذَا الْبِنْتُ يَجِبُ لَهَا مَعَ أُخْتِهَا مِثْل مَا كَانَ لَهَا لَوِ انْفَرَدَتْ مَعَ أَخِيهَا فَوَجَبَ لَهُمَا ذَلِكَ.
وَهَذَا كُلُّهُ مَذْهَبُ الأَْئِمَّةِ الأَْرْبَعَةِ وَسَائِرِ الصَّحَابَةِ.
وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْبِنْتَيْنِ حُكْمُهُمَا حُكْمُ الْوَاحِدَةِ، أَيْ أَنَّ نَصِيبَهُمَا إِذَا انْفَرَدَتَا
__________
(1) حديث (قفوا مال سعد. . . . .) أخرجه الترمذي (تحفة الأحوذي 6 / 267 نشر المكتبة السلفية) وأبو داود (3 / 80 - ط المطبعة الأنصارية بدهلي) والحاكم 4 / 334 - ط دائرة المعارف العثمانية)
(2) سورة النساء / 11(3/38)
عَنْ عَاصِبٍ هُوَ النِّصْفُ.
وَاسْتَدَل لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بِأَنَّ الآْيَةَ {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} قَدْ نَصَّتْ عَلَى حُكْمِ الأَْكْثَرِ مِنَ اثْنَتَيْنِ وَعَلَى الْوَاحِدَةِ. فَإِذَا أَعْطَيْتَ الثِّنْتَيْنِ الثُّلُثَيْنِ فَقَدْ خَالَفْتَ الآْيَةَ، فَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ أَنْ تُعْطَيَا الأَْقَل. (1) لَكِنْ قَال الشَّرِيفُ الأُْرْمَوِيُّ: صَحَّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا رُجُوعُهُ عَنْ ذَلِكَ، وَصَارَ إِجْمَاعًا؛ إِذِ الإِْجْمَاعُ بَعْدَ الاِخْتِلاَفِ حُجَّةٌ. وَحَكَى الإِْجْمَاعَ الْعَلاَّمَةُ الشِّنْشَوَرِيُّ وَقَال: مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَمُنْكَرٌ لَمْ يَصِحَّ عَنْهُ (2)
الثَّالِثَةُ: أَنْ تَرِثَ النِّصْفَ بِطَرِيقِ الْفَرْضِ وَذَلِكَ إِذَا كَانَتْ وَاحِدَةً لَمْ يُوجَدْ مَعَهَا مَنْ يُعَصِّبُهَا، وَهُوَ ابْنُ الْمُتَوَفَّى الْمُبَاشِرُ: وَدَلِيل ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} .
أَحْوَال بَنَاتِ الاِبْنِ (3) :
40 - بِنْتُ الاِبْنِ هِيَ كُل بِنْتٍ تَنْتَسِبُ إِلَى الْمُتَوَفَّى بِطَرِيقِ الاِبْنِ مَهْمَا نَزَلَتْ دَرَجَةُ أَبِيهَا فَتَشْمَل بِنْتَ الاِبْنِ وَبِنْتَ ابْنِ الاِبْنِ مَهْمَا نَزَل.
وَلَهَا فِي الْمِيرَاثِ سِتُّ حَالاَتٍ: ثَلاَثٌ مِنْهَا تَكُونُ لَهَا إِذَا قَامَتْ مَقَامَ الْبِنْتِ الصُّلْبِيَّةِ، وَذَلِكَ إِذَا لَمْ يُوجَدْ مَعَهَا فَرْعٌ وَارِثٌ لِلْمُتَوَفَّى أَقْرَبُ مِنْهَا دَرَجَةً سَوَاءٌ أَكَانَ هَذَا الْفَرْعُ مُذَكَّرًا أَمْ مُؤَنَّثًا. وَثَلاَثٌ مِنْهَا تَكُونُ لَهَا إِذَا لَمْ تَقُمْ مَقَامَ الْبِنْتِ الصُّلْبِيَّةِ.
__________
(1) حاشية الفناري على السراجية ص 102 وما بعدها ط الكردي.
(2) العذب الفائض 1 / 52
(3) السراجية مع حاشية الفناري ص 106(3/38)
فَإِذَا قَامَتْ مَقَامَ الْبِنْتِ الصُّلْبِيَّةِ كَانَتْ لَهَا الْحَالاَتُ الثَّلاَثُ الآْتِيَةُ:
الْحَالَةُ الأُْولَى: أَنْ تَرِثَ النِّصْفَ بِطَرِيقِ الْفَرْضِ، وَذَلِكَ إِذَا كَانَتْ وَاحِدَةً وَلَيْسَ مَعَهَا مَنْ يَعْصِبُهَا.
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ تَرِثَ بَنَاتُ الاِبْنِ الثُّلُثَيْنِ بِطَرِيقِ الْفَرْضِ، وَذَلِكَ إِذَا كُنَّ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُنَّ عَاصِبٌ. الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ تَرِثَ بِطَرِيقِ التَّعْصِيبِ، وَذَلِكَ إِذَا كَانَ مَعَهَا أَوْ مَعَهُنَّ مَنْ يُعَصِّبُ.
41 - فَإِذَا لَمْ تَقُمْ بِنْتُ الاِبْنِ مَقَامَ الْبِنْتِ الصُّلْبِيَّةِ بِأَنْ وُجِدَ مَعَهَا فَرْعٌ وَارِثٌ لِلْمُتَوَفَّى أَقْرَبُ دَرَجَةً مِنْهَا كَانَتْ لَهَا الأَْحْوَال الثَّلاَثَةُ الآْتِيَةُ:
الْحَالَةُ الأُْولَى: أَنْ تَأْخُذَ السُّدُسَ فَرْضًا تَكْمِلَةً لِلثُّلُثَيْنِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ وَاحِدَةً أَمْ أَكْثَرَ، وَذَلِكَ إِذَا كَانَ مَعَهَا بِنْتٌ أَعْلَى مِنْهَا دَرَجَةً، صُلْبِيَّةً كَانَتْ أَمْ غَيْرَ صُلْبِيَّةٍ، بِشَرْطِ أَلاَّ يُوجَدَ مَعَ بِنْتِ الاِبْنِ مَنْ يُعَصِّبُهَا، فَإِنْ كَانَ مَعَهَا مَنْ يُعَصِّبُهَا وَرِثَتْ بِطَرِيقِ التَّعْصِيبِ لاَ بِطَرِيقِ الْفَرْضِ.
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَلاَّ يَبْقَى لَهَا شَيْءٌ مِنْ فَرْضِ الْبَنَاتِ، وَذَلِكَ إِذَا وُجِدَ مَعَهَا اثْنَتَانِ فَأَكْثَرُ مِنَ الْبَنَاتِ الصُّلْبِيَّاتِ أَوْ مِنْ بَنَاتِ الاِبْنِ الأَْعْلَى دَرَجَةً، عَلَى أَنَّهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ تَرِثُ بِطَرِيقِ التَّعْصِيبِ إِنْ وُجِدَ مَعَهَا مَنْ يُعَصِّبُهَا، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فَلاَ شَيْءَ لَهَا. وَذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِلَى أَنَّ بِنْتَ أَوْ بَنَاتِ الاِبْنِ تَأْخُذُ أَوْ يَأْخُذْنَ السُّدُسَ تَكْمِلَةً لِلثُّلُثَيْنِ، لأَِنَّ الْبِنْتَيْنِ عِنْدَهُ حُكْمُهُمَا حُكْمُ الْوَاحِدَةِ. وَقَال ابْنُ مَسْعُودٍ: إِنَّ بَنَاتِ الاِبْنِ مَعَ الْبِنْتَيْنِ لاَ يَرِثْنَ مَعَ ابْنِ الاِبْنِ أَوْ أَبْنَائِهِ، بَل يَكُونُ الْبَاقِي لاِبْنِ الاِبْنِ، لأَِنَّهُ لَوْ أَعْطَى بَنَاتِ الاِبْنِ لَزَادَ(3/39)
حَقُّ الْبَنَاتِ عَلَى الثُّلُثَيْنِ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ - لَمْ يَجْعَل لَهُنَّ إِلاَّ الثُّلُثَيْنِ. وَحُجَّةُ مَنْ عَدَا ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَل الثُّلُثَيْنِ لِلْبَنَاتِ بِطَرِيقَةِ الْفَرْضِ، وَاسْتِحْقَاقُ بَنَاتِ الاِبْنِ بِطَرِيقِ التَّعْصِيبِ فَهُمَا مُخْتَلِفَانِ، فَلاَ يُضَمُّ أَحَدُ الْحَقَّيْنِ إِلَى الآْخَرِ فَلاَ زِيَادَةَ عَلَى الثُّلُثَيْنِ.
الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: لاَ تَرِثُ شَيْئًا، وَاحِدَةً كَانَتْ أَوْ أَكْثَرَ، مَعَهَا مُعَصِّبٌ، أَوْ لَيْسَ مَعَهَا مُعَصِّبٌ، وَذَلِكَ إِذَا وُجِدَ مَعَهَا ابْنٌ أَوِ ابْنُ ابْنٍ أَعْلَى دَرَجَةً
وَهَذِهِ الْحَالاَتُ هِيَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ عَامَّةُ الصَّحَابَةِ عَدَا ابْنِ مَسْعُودٍ فِي الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ. (1)
أَحْوَال الأَْخَوَاتِ الشَّقِيقَاتِ:
42 - لِلأَْخَوَاتِ الشَّقِيقَاتِ خَمْسَةُ أَحْوَالٍ. وَهَذِهِ الأَْحْوَال مِنْهَا مَا ثَبَتَ بِالْكِتَابِ، وَمِنْهَا مَا ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ، وَمِنْهَا مَا ثَبَتَ بِالإِْجْمَاعِ.
الْحَالَتَانِ الأُْولَى وَالثَّانِيَةُ: النِّصْفُ لِلْوَاحِدَةِ إِذَا انْفَرَدَتْ وَلَيْسَ فِي الْوَرَثَةِ مَنْ يَحْجُبُهَا، أَوْ أَخٌ شَقِيقٌ. وَالثُّلُثَانِ لِلاِثْنَتَيْنِ فَأَكْثَرَ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُمَا أَخٌ شَقِيقٌ. وَدَلِيل ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُل اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْل حَظِّ الأُْنْثَيَيْنِ} . (2)
فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالأَْخَوَاتِ فِي الآْيَةِ: الشَّقِيقَاتُ، أَوْ لأَِبٍ، وَذَلِكَ لأَِنَّهُنَّ اللاَّئِي يَرِثْنَ بِطَرِيقِ التَّعْصِيبِ
__________
(1) شرح السراجة ص 109 ط الكردي
(2) سورة النساء / 176(3/39)
فِي بَعْضِ الْحَالاَتِ. وَالأَْخَوَاتُ لأُِمٍّ يَرِثْنَ بِالْفَرْضِ فَقَطْ، وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي آيَةِ الْكَلاَلَةِ أَوَائِل السُّورَةِ، كَمَا بَيَّنَ فِي الآْيَةِ الأَْخِيرَةِ مِنَ السُّورَةِ نَصِيبَ الأَْخَوَاتِ الشَّقِيقَاتِ أَوْ لأَِبٍ.
وَإِذَا زَادَتِ الأَْخَوَاتُ عَنِ الاِثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ الثُّلُثَانِ، وَدَلِيلُهُ قَوْله تَعَالَى فِي بَيَانِ نَصِيبِ الأَْوْلاَدِ: {يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْل حَظِّ الأُْنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} لأَِنَّهُ إِذَا كَانَتِ الْبَنَاتُ الثَّلاَثُ فَأَكْثَرُ يَرِثْنَ الثُّلُثَيْنِ وَقَرَابَتُهُنَّ بِالْمُتَوَفَّى أَكْثَرُ، فَمِنْ بَابِ أَوْلَى أَلاَّ تَأْخُذَ الأَْخَوَاتُ الشَّقِيقَاتُ أَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثَيْنِ، وَلَمْ يَنُصَّ فِي الآْيَةِ عَلَى نَصِيبِ الأَْكْثَرِ مِنَ اثْنَتَيْنِ مِنَ الأَْخَوَاتِ لِدَلاَلَةِ الآْيَةِ الْخَاصَّةِ بِنَصِيبِ الأَْوْلاَدِ عَلَيْهِ.
الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ مَعَ الأُْخْتِ الشَّقِيقَةِ أَوِ الأَْخَوَاتِ الشَّقِيقَاتِ أَخٌ شَقِيقٌ فَيَكُونُ لَهُنَّ مَعَهُ الْبَاقِي بَعْدَ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ لِلذَّكَرِ مِثْل حَظِّ الأُْنْثَيَيْنِ، لأَِنَّهُنَّ يَصِرْنَ عَصَبَةً بِهِ وَهَذَا مَا دَل عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْل حَظِّ الأُْنْثَيَيْنِ} وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الأُْخْتَ الشَّقِيقَةَ أَوْ لأَِبٍ تَصِيرُ عَصَبَةً بِالْجَدِّ، مِنْ بَابِ الْعَصَبَةِ بِالْغَيْرِ إِذَا لَمْ يُوجَدْ أَخٌ يُعَصِّبُهَا، وَيَكُونُ لَهُ ضِعْفُ نَصِيبِهَا. (1)
الْحَالَةُ الرَّابِعَةُ: أَنْ تَكُونَ الأُْخْتُ الشَّقِيقَةُ أَوِ الأَْخَوَاتُ الشَّقِيقَاتُ عَصَبَةً مَعَ الْغَيْرِ، وَذَلِكَ إِذَا كَانَ لِلْمَيِّتِ أُخْتٌ شَقِيقَةٌ أَوْ أَخَوَاتٌ شَقِيقَاتٌ وَلَيْسَ مَعَهُنَّ أَخٌ شَقِيقٌ وَقَدْ تَرَكَ الْمَيِّتُ فَرْعًا وَارِثًا مُؤَنَّثًا، فَإِنَّ الْفَرْعَ الْوَارِثَ يَأْخُذُ نَصِيبَهُ وَالأُْخْتَ أَوِ الأَْخَوَاتِ
__________
(1) الدسوقي 4 / 459، المواق 6 / 410، العذب 1 / 90(3/40)
الشَّقِيقَاتِ يَأْخُذْنَ الْبَاقِيَ بِاعْتِبَارِهِنَّ عَصَبَةً، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اجْعَلُوا الأَْخَوَاتِ مَعَ الْبَنَاتِ عَصَبَةً. (1) وَهَذَا مَا أَفْتَى بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ. وَقَال: إِنَّهُ قَضَاءُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (2)
الْحَالَةُ الْخَامِسَةُ: الْحِرْمَانُ وَذَلِكَ إِنْ تَرَكَ الْمَيِّتُ فَرْعًا وَارِثًا ذَكَرًا أَوْ أَبًا، وَفِي مِيرَاثِهِنَّ مَعَ الْجَدِّ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ.
أَحْوَال الأَْخَوَاتِ لأَِبٍ:
43 - لِلأَْخَوَاتِ لأَِبٍ سَبْعُ حَالاَتٍ:
(1) النِّصْفُ لِلْوَاحِدَةِ إِذَا لَمْ يُوجَدْ مَعَهَا أُخْتٌ شَقِيقَةٌ أَوْ أَخٌ لأَِبٍ يُعَصِّبُهَا.
(2) الثُّلُثَانِ لِلأُْخْتَيْنِ فَأَكْثَرَ إِذَا لَمْ يُوجَدْ مَعَهُنَّ أُخْتٌ شَقِيقَةٌ أَوْ أَخٌ لأَِبٍ يُعَصِّبُهُنَّ. وَدَلِيل هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ آيَةُ الْكَلاَلَةِ آخِرَ سُورَةِ النِّسَاءِ {يَسْتَفْتُونَكَ قُل اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ} .
(3) السُّدُسُ لِلْوَاحِدَةِ أَوْ أَكْثَرَ مَعَ الأُْخْتِ الشَّقِيقَةِ الْوَاحِدَةِ تَكْمِلَةً لِلثُّلُثَيْنِ، لأَِنَّ فَرْضَ الشَّقِيقَةِ النِّصْفُ، وَالأُْخْتُ لأَِبٍ مَعَهَا كَبِنْتِ الاِبْنِ مَعَ الْبِنْتِ، فَتَأْخُذُ السُّدُسَ تَكْمِلَةً لِلثُّلُثَيْنِ، إِلاَّ إِذَا كَانَ مَعَهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَخٌ لأَِبٍ فَإِنَّهُ يُعَصِّبُهَا، وَهِيَ الْحَالَةُ الرَّابِعَةُ الآْتِيَةُ، وَيَسْقُطَانِ مَعًا " الأَْخُ وَالأُْخْتُ لأَِبٍ " لَوِ اسْتَغْرَقَتِ الْفُرُوضُ التَّرِكَةَ، لأَِنَّ حَقَّ الأَْخَوَاتِ الثُّلُثَانِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} .
__________
(1) حدبث (اجعلوا الأخوات مع البنات عصبة) جعله البخاري عنوانا (باب ميراث الأخوات مع البنات عصبة) ، الفتح 8 / 448، والعذب الفائض 1 / 91
(2) المبسوط 29 / 151 وشرح الرحبية ص 32 وما بعدها(3/40)
(4) التَّعْصِيبُ بِالأَْخِ لأَِبٍ فَيُعْطَى الذَّكَرُ ضِعْفَ الأُْنْثَى.
(5) الإِْرْثُ بِالتَّعْصِيبِ مَعَ الْبَنَاتِ أَوْ بَنَاتِ الاِبْنِ وَإِنْ نَزَل أَوْ مَعَهُمَا، فَتَأْخُذُ الْبَاقِيَ بَعْدَهُنَّ مِنَ التَّرِكَةِ بِالْعُصُوبَةِ، وَاحِدَةً أَوْ أَكْثَرَ، وَتَسْقُطُ إِذَا اسْتَغْرَقَتِ الْفُرُوضُ التَّرِكَةَ فَلاَ تَأْخُذُ شَيْئًا.
(6) تُحْجَبُ بِالأُْخْتَيْنِ الشَّقِيقَتَيْنِ إِلاَّ إِذَا كَانَ مَعَهَا أَخٌ لأَِبٍ، فَيَأْخُذَانِ الْبَاقِيَ تَعْصِيبًا لِلذَّكَرِ مِثْل حَظِّ الأُْنْثَيَيْنِ.
(7) تُحْجَبُ بِالأَْبِ، وَالاِبْنِ، وَابْنِ الاِبْنِ، وَإِنْ نَزَل، وَبِالأَْخِ الشَّقِيقِ، وَالأُْخْتِ الشَّقِيقَةِ إِذَا صَارَتْ عَصَبَةً مَعَ الْبِنْتِ أَوْ بِنْتِ الاِبْنِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مَعَ الأُْخْتِ لأَِبٍ أَخٌ يُعَصِّبُهَا أَمْ لاَ. لأَِنَّ الأُْخْتَ الشَّقِيقَةَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كَأَنَّهَا أَخٌ شَقِيقٌ فِي كَوْنِهَا عَصَبَةً أَقْرَبُ إِلَى الْمَيِّتِ. (1)
مِيرَاثُ أَوْلاَدِ الأُْمِّ:
44 - الْمُرَادُ بِأَوْلاَدِ الأُْمِّ، إِخْوَةُ الْمُتَوَفَّى وَأَخَوَاتُهُ مِنْ جِهَةِ أُمِّهِ فَقَطْ.
وَأَوْلاَدُ الأُْمِّ يَرِثُونَ دَائِمًا بِطَرِيقِ الْفَرْضِ، وَلاَ يَرِثُونَ بِالتَّعْصِيبِ وَلَوْ كَانَ الْمَوْجُودُ مِنْهُمْ أَخًا، لأَِنَّهُمْ لَيْسُوا عَصَبَةً لإِِدْلاَئِهِمْ إِلَى الْمُتَوَفَّى بِقَرَابَةِ الأُْمِّ وَحْدَهَا، وَلاَ يَصِيرُونَ عَصَبَةً بِالْغَيْرِ وَلاَ مَعَ الْغَيْرِ. وَذُكُورُهُمْ وَإِنَاثُهُمْ سَوَاءٌ فِي الْمِيرَاثِ عِنْدَ الاِنْفِرَادِ وَعِنْدَ الاِجْتِمَاعِ، فَلاَ يَفْضُل الذَّكَرُ عَلَى الأُْنْثَى.
__________
(1) المبسوط 29 / 156 والشرح الكبير 4 / 459 - 460، والعذب الفائض 1 / 91(3/41)
وَلَهُمْ ثَلاَثُ حَالاَتٍ:
الأُْولَى: السُّدُسُ فَرْضًا لِلْوَاحِدِ مِنْهُمْ، ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، وَذَلِكَ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُتَوَفَّى فَرْعٌ وَارِثٌ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، أَوْ أَصْلٌ مُذَكَّرٌ وَارِثٌ كَالأَْبِ وَالْجَدِّ وَإِنْ عَلاَ.
الثَّانِيَةُ: الثُّلُثُ فَرْضًا إِذَا كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ ذُكُورًا أَوْ إِنَاثًا أَوْ مُخْتَلِفِينَ يُقْسَمُ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ، وَذَلِكَ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُتَوَفَّى فَرْعٌ وَارِثٌ أَوْ أَصْلٌ مُذَكَّرٌ.
الثَّالِثَةُ: أَنَّهُمْ يُحْجَبُونَ بِالاِبْنِ وَابْنِ الاِبْنِ وَإِنْ نَزَل، وَالْبِنْتِ وَبِنْتِ الاِبْنِ وَإِنْ نَزَل، وَبِالأَْبِ وَالْجَدِّ وَإِنْ عَلاَ.
وَدَلِيل مَا ذُكِرَ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} (1)
إِذِ الْمُرَادُ مِنْهُ أَوْلاَدُ الأُْمِّ إِجْمَاعًا. وَيَدُل عَلَيْهِ قِرَاءَةُ أُبَيٍّ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ (وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ مِنَ الأُْمِّ) .
وَدَلِيل التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالأُْنْثَى وَأَنَّ نَصِيبَهُمْ لاَ يَزِيدُ عَلَى الثُّلُثِ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} لأَِنَّ الشَّرِكَةَ عِنْدَ الإِْطْلاَقِ تَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ وَقَدْ حَصَرَتِ الآْيَةُ نَصِيبَ الأَْكْثَرِ مِنَ الْوَاحِدِ فِي الثُّلُثِ. وَلأَِنَّ إِدْلاَءَ أَوْلاَدِ الأُْمِّ إِلَى الْمَيِّتِ هُوَ بِالأُْمِّ، فَفُرِضَ لِلْوَاحِدِ مِنْهُمْ أَقَل فَرْضِهَا وَهُوَ السُّدُسُ، وَفُرِضَ لِلأَْكْثَرِ مِنْ وَاحِدٍ أَكْثَرُ فَرْضِهَا وَهُوَ الثُّلُثُ. وَلَمْ يُفْرَضْ لَهُمْ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ كَيْ لاَ يُؤَدِّيَ إِلَى تَفْضِيل نَصِيبِ الْمُدْلِي عَلَى نَصِيبِ الْمُدْلَى بِهِ. وَسُوِّيَ بَيْنَ ذُكُورِهِمْ وَإِنَاثِهِمْ قِسْمَةً
__________
(1) سورة النساء / 12(3/41)
وَاسْتِحْقَاقًا، لأَِنَّ تَفْضِيل الذَّكَرِ عَلَى الأُْنْثَى إِنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ الْعُصُوبَةِ، وَهِيَ مُنْتَفِيَةٌ فِي قَرَابَةِ الأُْمِّ، فَلاَ يَفْضُل الذَّكَرُ مِنْهُمْ عَلَى الأُْنْثَى لاَ فِي الْقِسْمَةِ وَلاَ فِي الاِسْتِحْقَاقِ. (1)
الإِْرْثُ بِالْعُصُوبَةِ:
45 - عَصَبَةُ الرَّجُل لُغَةً: بَنُوهُ وَقَرَابَتُهُ لأَِبِيهِ، سُمُّوا بِذَلِكَ، لأَِنَّهُمْ عُصِّبُوا بِهِ، أَيْ أَحَاطُوا بِهِ. وَالأَْبُ طَرَفٌ وَالاِبْنُ طَرَفٌ. وَالْعَمُّ جَانِبٌ، وَالأَْخُ جَانِبٌ. (2)
وَيُسَمَّى بِهَا الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ وَالْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ لِلْغَلَبَةِ. وَقَالُوا فِي مَصْدَرِهَا الْعُصُوبَةَ. وَالذَّكَرُ يُعَصِّبُ الأُْنْثَى أَيْ يَجْعَلُهَا عَصَبَةً. (3)
46 - وَالْعَاصِبُ بِنَفْسِهِ فِي الاِصْطِلاَحِ: هُوَ مَنْ يَرِثُ الْمَال كُلَّهُ إِذَا انْفَرَدَ أَوِ الْبَاقِيَ بَعْدَ الْفَرْضِ، وَهُوَ الَّذِي يُرَادُ عِنْدَ الإِْطْلاَقِ. (4) وَعَرَّفَهُ صَاحِبُ السِّرَاجِيَّةِ: بِأَنَّهُ كُل ذَكَرٍ لاَ تَدْخُل فِي نِسْبَتِهِ إِلَى الْمَيِّتِ أُنْثَى، فَإِنَّ مَنْ دَخَلَتِ الأُْنْثَى فِي نِسْبَتِهِ إِلَيْهِ لَمْ يَكُنْ عَصَبَةً كَأَوْلاَدِ الأُْمِّ (5) .
47 -
__________
(1) الفناري على السراجة ص 94 وما بعدها، والعذب الفائض ص 54 - 63، والشرح الكبير 4 / 411، والتحفة مع الشرواني 6 / 17
(2) مختار الصحاح ص 435 ط دار الكتاب
(3) السراجية ص 146، والعذب الفائض 1 / 74
(4) الشرح الكبير 4 / 414، والتحفة مع الحاشية 6 / 28، والعذب الفائض 1 / 75
(5) السراجة ص 146(3/42)
وَالْعَصَبَةُ نَوْعَانِ، عَصَبَةٌ نَسَبِيَّةٌ وَهِيَ مَا سَبَقَ تَعْرِيفُهُ.
وَعَصَبَةٌ سَبَبِيَّةٌ وَيُرَادُ بِهَا الْمُعْتَقُ وَعَصَبَتُهُ الذُّكُورُ.
وَالْعَصَبَةُ النَّسَبِيَّةُ أَقْسَامٌ ثَلاَثَةٌ: عَصَبَةٌ بِنَفْسِهِ، وَعَصَبَةٌ بِغَيْرِهِ، وَعَصَبَةٌ مَعَ غَيْرِهِ.
48 - وَالْعَصَبَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ أَرْبَعَةُ أَصْنَافٍ:
الأَْوَّل: جُزْءُ الْمَيِّتِ، وَالثَّانِي أَصْلُهُ، وَالثَّالِثُ جُزْءُ أَبِيهِ، وَالرَّابِعُ جُزْءُ جَدِّهِ.
فَيُقَدَّمُ فِي هَذِهِ الأَْصْنَافِ وَالْمُنْدَرِجِينَ فِيهَا الأَْقْرَبُ فَالأَْقْرَبُ، أَيْ يُرَجَّحُونَ بِقُرْبِ الدَّرَجَةِ. فَأَوْلاَهُمْ بِالْمِيرَاثِ بَنُو الْمَيِّتِ، ثُمَّ بَنُوهُمْ وَإِنْ سَفَلُوا، ثُمَّ أَصْل الْمَيِّتِ أَيِ الأَْبُ، ثُمَّ أَبُوهُ وَإِنْ عَلاَ. وَقُدِّمَ الْبَنُونَ عَلَى الأَْبِ، لأَِنَّهُمْ فُرُوعُ الْمَيِّتِ وَالأَْبُ أَصْلُهُ، وَاتِّصَال الْفَرْعِ بِأَصْلِهِ أَظْهَرُ مِنْ اتِّصَال الأَْصْل بِفَرْعِهِ. فَإِنَّ الْفَرْعَ يَتْبَعُ أَصْلَهُ وَيَصِيرُ مَذْكُورًا بِذِكْرِهِ دُونَ الْعَكْسِ، فَإِنَّ الْبِنَاءَ وَالأَْشْجَارَ يَدْخُلاَنِ فِي بَيْعِ الأَْرْضِ وَإِنْ لَمْ يُذْكَرَا فِي عَقْدِ الْبَيْعِ، وَلاَ يَدْخُلاَنِ فِي بَيْعِهَا إِلاَّ بِالنَّصِّ عَلَيْهِمَا. وَقُدِّمَ بَنُو الْبَنِينَ وَإِنْ سَفَلُوا عَلَى الأَْبِ، لأَِنَّ سَبَبَ اسْتِحْقَاقِهِمْ أَيْضًا الْبُنُوَّةُ الْمُتَقَدِّمَةُ عَلَى الأُْبُوَّةِ. وَكَوْنُ الأَْبِ أَقْرَبَ مِنَ الْجَدِّ ظَاهِرٌ كَظُهُورِهِ فِيمَا بَيْنَ الاِبْنِ وَابْنِ الاِبْنِ، وَإِذَا أُرِيدَ بِالْجَدِّ أَبُو الأَْبِ فَيَخْرُجُ عَنْهُ أَبُو الأُْمِّ، ثُمَّ يُقَدَّمُ بَعْدَ مَنْ ذُكِرُوا جُزْءُ الأَْبِ أَيِ الإِْخْوَةُ ثُمَّ بَنُوهُمْ وَإِنْ سَفَلُوا. وَهَذَا (أَيْ تَأْخِيرُ الإِْخْوَةِ عَنِ الْجَدِّ) عِنْدَ الإِْمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ خِلاَفًا لِلصَّاحِبَيْنِ، ثُمَّ جُزْءُ جَدِّهِ أَيِ الأَْعْمَامُ، ثُمَّ بَنُوهُمْ وَإِنْ سَفَلُوا.
وَذَهَبَ الصَّاحِبَانِ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ جِهَاتِ الْعُصُوبَةِ سِتٌّ: الْبُنُوَّةُ ثُمَّ الأُْبُوَّةُ ثُمَّ الْجُدُودَةُ مَعَ الأُْخُوَّةُ ثُمَّ بَنُو الإِْخْوَةِ ثُمَّ الْعُمُومَةُ ثُمَّ الْوَلاَءُ، وَعِنْدَ الإِْمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ خَمْسُ جِهَاتٍ فَقَطْ: الْبُنُوَّةُ ثُمَّ الأُْبُوَّةُ ثُمَّ الأُْخُوَّةُ ثُمَّ الْعُمُومَةُ ثُمَّ الْوَلاَءُ،(3/42)
بِإِدْخَال الْجَدِّ وَإِنْ عَلاَ فِي الأُْبُوَّةِ وَإِدْخَال بَنِي الإِْخْوَةِ وَإِنْ نَزَلُوا بِمَحْضِ الذُّكُورَةِ فِي الأُْخُوَّةِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ الْجِهَاتُ سَبْعٌ: الْبُنُوَّةُ ثُمَّ الأُْبُوَّةُ ثُمَّ الْجُدُودَةُ مَعَ الأُْخُوَّةِ ثُمَّ بَنُو الإِْخْوَةِ ثُمَّ الْعُمُومَةُ ثُمَّ الْوَلاَءُ ثُمَّ بَيْتُ الْمَال (1)
وَمِمَّا تَقَدَّمَ يُعْلَمُ أَنَّ الْعَصَبَةَ إِذَا كَانَ وَاحِدًا مِنْ أَيِّ جِهَةٍ فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ كُل التَّرِكَةِ إِذَا لَمْ يُوجَدْ صَاحِبُ فَرْضٍ، فَإِنْ وُجِدَ كَانَ لَهُ الْبَاقِي، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَاقٍ فَلاَ شَيْءَ لَهُ.
وَإِذَا تَعَدَّدَتِ الْعَصَبَاتُ وَتَعَدَّدَتْ جِهَاتُهُمْ، فَإِنَّهُ يُقَدَّمُ مَنْ كَانَ مِنْ جِهَةِ الْبُنُوَّةِ كَمَا سَبَقَ. فَإِذَا تَعَدَّدُوا وَكَانُوا مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ قُدِّمَ أَقْرَبُهُمْ دَرَجَةً، فَيُقَدَّمُ الاِبْنُ عَلَى ابْنِ الاِبْنِ، وَالأَْبُ عَلَى الْجَدِّ، وَيُقَدَّمُ فُرُوعُ الْجَدِّ الأَْوَّل مَهْمَا نَزَلُوا عَلَى فُرُوعِ الْجَدِّ الثَّانِي مَهْمَا عَلَوْا، لأَِنَّهُمْ أَقْرَبُ دَرَجَةً.
وَإِنِ اتَّحَدَتِ الْجِهَةُ وَاتَّحَدَتِ الدَّرَجَةُ قُدِّمَ الأَْقْوَى قَرَابَةً، وَهُوَ مَنْ تَكُونُ قَرَابَتُهُ لأَِبَوَيْنِ، فَإِنَّهُ يُقَدَّمُ عَلَى مَنْ تَكُونُ قَرَابَتُهُ لأَِبٍ فَقَطْ، فَيُقَدَّمُ الأَْخُ الشَّقِيقُ عَلَى الأَْخِ لأَِبٍ، وَابْنُ الأَْخِ الشَّقِيقِ عَلَى ابْنِ الأَْخِ لأَِبٍ وَهَكَذَا.
وَإِنْ تَعَدَّدَتِ الْعَصَبَاتُ وَكَانُوا جَمِيعًا مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، وَفِي دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ، وَقُوَّةُ قَرَابَتِهِمْ وَاحِدَةٌ، اسْتَحَقُّوا جَمِيعًا فِي الْمِيرَاثِ؛ إِذْ لاَ تَفَاوُتَ بَيْنَهُمْ وَلاَ وَجْهَ لِتَرْجِيحِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، فَيَكُونُونَ فِي التَّعْصِيبِ سَوَاءً.
__________
(1) السراجية ص 146 وما بعدها، والعذب الفائض 1 / 75 وما بعدها، والشرح الكبير 4 / 414 وما بعدها، والتحفة مع الحاشية 6 / 28(3/43)
الْعَصَبَةُ بِالْغَيْرِ:
49 - وَهُنَّ النِّسَاءُ اللاَّتِي يَصِرْنَ عَصَبَةً بِالْغَيْرِ
وَهُنَّ أَرْبَعٌ: بِنْتُ الصُّلْبِ، وَبِنْتُ الاِبْنِ إِذَا لَمْ تُوجَدِ الْبِنْتُ، وَالأُْخْتُ الشَّقِيقَةُ، وَالأُْخْتُ لأَِبٍ عِنْدَ عَدَمِ الشَّقِيقَةِ، فَإِنَّ هَؤُلاَءِ الأَْرْبَعَ يَصِرْنَ عَصَبَةً بِإِخْوَتِهِنَّ الَّذِينَ فِي قُوَّتِهِنَّ، وَيُعَصَّبُ بَنَاتُ الاِبْنِ أَيْضًا بِبَنِي عَمِّهِنَّ الَّذِينَ فِي دَرَجَتِهِنَّ، وَيُعَصِّبْنَ كَذَلِكَ بِبَنِي إِخْوَتِهِنَّ، وَبَنِيَّ أَبْنَاءِ عَمِّهِنَّ إِذَا احْتَجْنَ إِلَيْهِمْ فِي التَّوْرِيثِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الأُْخْتَ الشَّقِيقَةَ أَوْ لأَِبٍ تُعَصَّبُ أَيْضًا بِالْجَدِّ وَتَكُونُ عَصَبَةً بِالْغَيْرِ (1) .
وَكَذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ إِذَا لَمْ يُوجَدْ أَخٌ يُعَصِّبُهَا.
وَمَنْ لاَ فَرْضَ لَهَا مِنْهُنَّ يُعَصِّبُهَا أَيْضًا مَنْ دُونَهَا مِنْ بَنِي الاِبْنِ.
وَالأَْصْل فِي هَذَا قَوْله تَعَالَى: {يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْل حَظِّ الأُْنْثَيَيْنِ} . (2)
وقَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْل حَظِّ الأُْنْثَيَيْنِ} . (3)
وَمَنْ لاَ فَرْضَ لَهَا وَأَخُوهَا عَصَبَةٌ لاَ تَصِيرُ عَصَبَةً بِأَخِيهَا، وَذَلِكَ لأَِنَّ النَّصَّ الْوَارِدَ فِي صَيْرُورَةِ الإِْنَاثِ بِالذُّكُورِ عَصَبَةً إِنَّمَا هُوَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ: الْبَنَاتِ بِالْبَنِينَ، وَالأَْخَوَاتِ بِالإِْخْوَةِ، وَالإِْنَاثُ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا ذَوَاتُ فُرُوضٍ. فَمَنْ لاَ فَرْضَ لَهَا مِنَ الإِْنَاثِ كَبِنْتِ الأَْخِ مَعَ أَخِيهَا، وَالْعَمَّةِ مَعَ الْعَمِّ، لاَ يَتَنَاوَلُهَا النَّصُّ، وَالأَْخُ يَنْقُل أُخْتَهُ مِنْ فَرْضِهَا حَالَةَ
__________
(1) المواق 6 / 410، والدسوقي 4 / 449، والعذب الفائض 1 / 90
(2) سورة النساء / 11
(3) سورة النساء / 176(3/43)
الاِنْفِرَادِ إِلَى الْعُصُوبَةِ، كَيْ لاَ يَلْزَمَ تَفْضِيل الأُْنْثَى عَلَى الذَّكَرِ أَوِ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمَا.
الْعَصَبَةُ مَعَ الْغَيْرِ:
50 - وَهِيَ كُل أُنْثَى تَصِيرُ عَصَبَةً مَعَ أُنْثَى غَيْرِهَا، وَهِيَ الأُْخْتُ الشَّقِيقَةُ أَوْ لأَِبٍ مَعَ الْبِنْتِ سَوَاءٌ أَكَانَتْ صُلْبِيَّةً أَمْ بِنْتَ ابْنٍ، وَسَوَاءٌ أَكَانَتْ وَاحِدَةً أَمْ أَكْثَرَ
، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: اجْعَلُوا الأَْخَوَاتِ مَعَ الْبَنَاتِ عَصَبَةً (1) وَالْمُرَادُ مِنَ الْجَمْعَيْنِ (الأَْخَوَاتُ) (وَالْبَنَاتُ) هُوَ الْجِنْسُ وَاحِدًا كَانَ أَوْ مُتَعَدِّدًا.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْعَصَبَةِ بِالْغَيْرِ وَالْعَصَبَةِ مَعَ الْغَيْرِ، أَنَّ الْمُعَصِّبَ لِغَيْرِهِ يَكُونُ عَصَبَةً بِنَفْسِهِ، فَتَتَعَدَّى بِسَبَبِهِ الْعُصُوبَةُ إِلَى الأُْنْثَى. وَفِي الْعَصَبَةِ مَعَ الْغَيْرِ لاَ يَكُونُ ثَمَّةَ عَاصِبٌ بِالنَّفْسِ أَصْلاً. (2)
الإِْرْثُ بِالْعُصُوبَةِ السَّبَبِيَّةِ:
51 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْعَتِيقَ رَجُلاً أَوِ امْرَأَةً يَرِثُ جَمِيعَ مَال مَنْ أَعْتَقَهُ أَوِ الْبَاقِيَ مِنْهُ إِذَا اتَّفَقَا فِي الدِّينِ، وَلَمْ يَخْلُفِ الْعَتِيقُ مَنْ يَرِثُهُ، أَوْ خَلَفَ مَنْ يَرِثُ الْبَعْضَ. أَمَّا إِذَا اخْتَلَفَا فِي الدِّينِ فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لاَ تَوَارُثَ بَيْنَهُمَا، وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الأَْصَحِّ إِلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ يَرِثُ عَتِيقَهُ الْكَافِرَ بِالْوَلاَءِ وَعَكْسِهِ. (3)
__________
(1) تقدم (هامش ف 42)
(2) السراجية ص 154، 156، والعذب الفائض 1 / 88 - 93 والشرح الكبير 4 / 414، والتحفة على الحاشية 6 / 27
(3) منتهى الإرادات 2 / 625(3/44)
وَلاَءُ الْمُوَالاَةِ:
52 - عَقْدُ الْمُوَالاَةِ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ الإِْرْثِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مَرْتَبَتُهُ بَعْدَ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ.
فَمَنْ أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْ رَجُلٍ وَوَالاَهُ وَعَاقَدَهُ ثُمَّ مَاتَ وَلاَ وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ فَمِيرَاثُهُ لَهُ.
وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَالْحَسَنِ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاَلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} وَعَلَى قِرَاءَةِ نَافِعٍ (عَاقَدَتْ) فَالآْيَةُ ثَابِتَةُ الْحُكْمِ مُسْتَعْمَلَةٌ عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ مِنْ إِثْبَاتِ الْمِيرَاثِ عِنْدَ فَقْدِ ذَوِي الأَْرْحَامِ.
وَقَدْ وَرَدَ الأَْثَرُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِثُبُوتِ هَذَا الْحُكْمِ وَبَقَائِهِ عِنْدَ عَدَمِ ذَوِي الأَْرْحَامِ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ أَنَّهُ قَال: يَا رَسُول اللَّهِ مَا السُّنَّةُ فِي الرَّجُل يُسْلِمُ عَلَى يَدَيِ الرَّجُل مِنَ الْمُسْلِمِينَ؟ فَقَال: هُوَ أَوْلَى النَّاسِ بِمَحْيَاهُ وَمَمَاتِهِ فَقَوْلُهُ: هُوَ أَوْلَى النَّاسِ بِمَمَاتِهِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ أَوْلاَهُمْ بِمِيرَاثِهِ، إِذْ لَيْسَ بَعْدَ الْمَوْتِ بَيْنَهُمَا وِلاَيَةٌ إِلاَّ فِي الْمِيرَاثِ.
وَقَال مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَابْنُ شُبْرُمَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَالأَْوْزَاعِيُّ: مِيرَاثُهُ لِلْمُسْلِمِينَ.
وَقَال يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: إِذَا جَاءَ مِنْ أَرْضِ الْعَدُوِّ فَأَسْلَمَ عَلَى يَدَيْ رَجُلٍ فَإِنَّ وَلاَءَهُ لِمَنْ وَالاَهُ. وَمَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْل الذِّمَّةِ عَلَى يَدَيْ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَوَلاَؤُهُ لِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً.
وَاسْتَدَل الْمَالِكِيَّةُ وَمَنْ مَعَهُمْ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ وَلأَِنَّ أَسْبَابَ الإِْرْثِ مَحْصُورَةٌ فِي رَحِمٍ وَنِكَاحٍ وَوَلاَءٍ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْهَا، وَالآْيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ، وَلِذَلِكَ لاَ يَرِثُ مَعَ ذِي(3/44)
رَحِمٍ شَيْئًا، وقَوْله تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} مَنْسُوخٌ.
وَقَال الْحَسَنُ: نَسَخَتْهَا {وَأُولُوا الأَْرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} وَقَال مُجَاهِدٌ: {فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} أَيْ مِنَ الْعَقْل - الدِّيَةِ - وَالنُّصْرَةِ وَالرِّفَادَةِ. وَلَيْسَ هَذَا بِوَصِيَّةٍ، لأَِنَّ الْوَصِيَّ لاَ يُشَارِكُ فِي دِيَةٍ، فَلَهُ الرُّجُوعُ (1)
بَيْتُ الْمَال:
53 - بَيْتُ الْمَال هُوَ الْجِهَةُ الَّتِي يَؤُول إِلَيْهَا كُل مَالٍ اسْتَحَقَّهُ الْمُسْلِمُونَ وَلَمْ يَتَعَيَّنْ مَالِكُهُ مِنْهُمْ، كَالْفَيْءِ (2) وَيُطْلِقُ عَلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ جِهَةَ الإِْسْلاَمِ أَيْضًا (3)
وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَقَوْلٌ لِلْمَالِكِيَّةِ - وَهُوَ شَاذٌّ - أَنَّ بَيْتَ الْمَال لَيْسَ وَارِثًا، وَإِنَّمَا تَئُول إِلَيْهِ التَّرِكَةُ أَوْ مَا يَبْقَى مِنْهَا بِاعْتِبَارِهِ مَالاً لاَ مُسْتَحِقَّ لَهُ، فَيَأْخُذُهُ بَيْتُ الْمَال كَمَا يَأْخُذُ كُل مَالٍ ضَائِعٍ لاَ مِلْكَ فِيهِ لأَِحَدٍ كَاللُّقَطَةِ، وَيَصْرِفُهُ فِي الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ، وَوَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْمُزَنِيُّ وَابْنُ سُرَيْجٍ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ أَنَّ بَيْتَ الْمَال مِنَ الْعَصَبَةِ وَرُتْبَتُهُ تَلِي رُتْبَةَ الْمُعْتِقِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِبَيْتِ الْمَال: بَيْتُ مَال وَطَنِهِ، مَاتَ فِيهِ أَوْ بِغَيْرِهِ مِنَ الْبِلاَدِ، كَانَ مَالُهُ
__________
(1) المبسوط 30 / 43 - 46، وأحكام القرآن للجصاص 2 / 186 ط دار الكتاب، والبهجة شرح التحفة ص 593، وشرح المحلي 3 / 137، هامش قليوبي وعميرة، والمغني 6 / 381 ط الرياض.
(2) الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 235
(3) التحفة هامش الشرواني 6 / 8(3/45)
بِوَطَنِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ. فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَطَنٌ فَقِيل: الْمُعْتَبَرُ الْوَطَنُ الَّذِي بِهِ الْمَال، وَقِيل الَّذِي مَاتَ بِهِ، وَهُمْ يَعُدُّونَ بَيْتَ الْمَال عَاصِبًا فَهُوَ كَوَارِثٍ ثَابِتِ النَّسَبِ، وَذَلِكَ هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَهُمْ، سَوَاءٌ أَكَانَ مُنْتَظِمًا أَمْ غَيْرَ مُنْتَظِمٍ.
وَقِيل: إِنَّهُ حَائِزٌ لِلأَْمْوَال الضَّائِعَةِ لاَ وَارِثٌ، وَهُوَ شَاذٌّ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى هَذَا الْقَوْل: أَنَّهُ يَجُوزُ لِلإِْنْسَانِ أَنْ يُوصِيَ بِجَمِيعِ مَالِهِ، إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ مِنَ النَّسَبِ، كَمَا يَجُوزُ الإِْقْرَارُ بِوَارِثٍ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ، بِخِلاَفِ الْقَوْل بِأَنَّ بَيْتَ الْمَال وَارِثٌ فَلاَ يَجُوزُ الْوَصِيَّةُ بِكُل الْمَال وَلاَ الإِْقْرَارُ بِوَارِثٍ. (1)
وَالشَّافِعِيَّةُ كَالْمَالِكِيَّةِ فِي أَنَّ بَيْتَ الْمَال يَلِي الْعَصَبَةَ النَّسَبِيَّةَ وَالسَّبَبِيَّةَ، وَأَنَّهُ يَرِثُ كُل الْمَال أَوِ الْبَاقِيَ مِنْهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُنْتَظِمًا، بِأَنْ كَانَ الْمُتَوَلِّي عَلَيْهِ جَائِرًا أَوْ غَيْرَ أَهْلٍ لِلْقِيَامِ عَلَيْهِ، لأَِنَّ الإِْرْثَ لِجِهَةِ الإِْسْلاَمِ، وَلاَ ظُلْمَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَلَمْ يَبْطُل حَقُّهُمْ بِجَوْرِ الإِْمَامِ، وَهَذَا هُوَ الأَْصْل عِنْدَهُمْ.
وَأَفْتَى الْمُتَأَخِّرُونَ: بِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَنْتَظِمْ أَمْرُ بَيْتِ الْمَال، بِأَنْ فَقَدَ الإِْمَامَ أَوْ بَعْضَ شُرُوطِ الإِْمَامَةِ، كَأَنْ جَارَ، فَإِنَّهُ يُرَدُّ عَلَى أَصْحَابِ الْفُرُوضِ، لاِنْحِصَارِ مَصْرِفِ التَّرِكَةِ فِيهِمْ وَفِي بَيْتِ الْمَال، فَإِذَا تَعَذَّرَ بَيْتُ الْمَال تَعَيَّنُوا.
الْحَجْبُ:
54 - الْحَجْبُ فِي اللُّغَةِ: الْمَنْعُ، بَابُهُ قَتَل، وَمِنْهُ قِيل لِلسِّتْرِ حِجَابٌ، لأَِنَّهُ يَمْنَعُ الْمُشَاهَدَةَ، وَقِيل لِلْبَوَّابِ حَاجِبٌ، لأَِنَّهُ يَمْنَعُ مِنَ الدُّخُول. (2)
__________
(1) حاشية الدسوقي 4 / 416
(2) المصباح(3/45)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ عَرَّفَهُ صَاحِبُ السِّرَاجِيَّةِ: بِأَنَّهُ مَنْعُ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ عَنْ مِيرَاثِهِ إِمَّا كُلِّهِ أَوْ بَعْضِهِ بِوُجُودِ شَخْصٍ آخَرَ (1)
، وَلاَ تَخْرُجُ التَّعْرِيفَاتُ فِي الْمَذَاهِبِ الأُْخْرَى عَنْ هَذَا التَّعْرِيفِ.
وَالْحَجْبُ مُطْلَقًا قِسْمَانِ:
حَجْبٌ بِوَصْفٍ، وَهُوَ الَّذِي يُعَبِّرُ عَنْهُ عُلَمَاءُ الْمِيرَاثِ بِالْمَانِعِ، كَمَنْعِ الْقَاتِل مِنَ الْمِيرَاثِ.
وَحَجْبٌ بِشَخْصٍ، وَهُوَ الْمُرَادُ عِنْدَ الإِْطْلاَقِ. وَهُوَ قِسْمَانِ:
حَجْبُ حِرْمَانٍ، وَهُوَ أَنْ يُسْقِطَ الشَّخْصُ غَيْرَهُ بِالْكُلِّيَّةِ. وَهُوَ لاَ يَدْخُل عَلَى سِتَّةٍ مِنَ الْوَرَثَةِ إِجْمَاعًا، وَهُمْ: الأَْبَوَانِ وَالزَّوْجَانِ وَالْوَلَدَانِ (الاِبْنُ وَالْبِنْتُ) وَضَابِطُهُمْ كُل مَنْ أَدْلَى بِنَفْسِهِ إِلَى الْمَيِّتِ إِلاَّ الْمُعْتَقَ.
وَالثَّانِي حَجْبُ نُقْصَانٍ. وَهُوَ: حَجْبٌ عَنْ سَهْمٍ أَكْثَرَ إِلَى سَهْمٍ أَقَل، وَهُوَ لِخَمْسَةٍ مِنَ الْوَرَثَةِ، لِلزَّوْجَيْنِ، إِذِ الزَّوْجُ يُحْجَبُ مِنَ النِّصْفِ إِلَى الرُّبُعِ، وَالزَّوْجَةُ مِنَ الرُّبُعِ إِلَى الثُّمُنِ بِوُجُودِ الْوَلَدِ أَوْ وَلَدِ الاِبْنِ، وَالأُْمُّ تُحْجَبُ مِنَ الثُّلُثِ إِلَى السُّدُسِ بِالْوَلَدِ، أَوْ وَلَدِ الاِبْنِ، أَوَ الاِثْنَيْنِ مِنَ الإِْخْوَةِ وَالأَْخَوَاتِ، وَبِنْتُ الاِبْنِ مَعَ بِنْتِ الصُّلْبِ مِنَ النِّصْفِ إِلَى السُّدُسِ تَكْمِلَةً لِلثُّلُثَيْنِ، وَالأُْخْتُ لأَِبٍ تَحْجُبُ الشَّقِيقَةَ مِنَ النِّصْفِ إِلَى السُّدُسِ.
وَالْمَحْرُومُ (الْمَمْنُوعُ) مِنَ الْمِيرَاثِ، لِوُجُودِ وَصْفٍ مَانِعٍ بِهِ لاَ يَحْجُبُ غَيْرَهُ، لاَ حِرْمَانًا كَامِلاً وَلاَ نَاقِصًا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَمِنْهُمُ الأَْئِمَّةُ الأَْرْبَعَةُ، لأَِنَّ وُجُودَهُ كَالْعَدَمِ، خِلاَفًا لاِبْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي حَجْبِ الزَّوْجَيْنِ وَالأُْمِّ حَجْبَ نُقْصَانٍ بِالْوَلَدِ
__________
(1) السراجية ص171(3/46)
وَالإِْخْوَةِ الْكُفَّارِ وَالأَْرِقَّاءِ وَالْقَاتِلِينَ، وَتَبِعَهُ دَاوُد الظَّاهِرِيُّ فِي الثَّلاَثَةِ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ فِي الْقَاتِل خَاصَّةً.
فَإِنْ مَاتَ شَخْصٌ عَنِ ابْنِهِ الْكَافِرِ وَزَوْجَةٍ وَأَخٍ شَقِيقٍ، فَلِلزَّوْجَةِ الرُّبُعُ وَالْبَاقِي لِلأَْخِ الشَّقِيقِ بِاتِّفَاقِ الأَْئِمَّةِ الأَْرْبَعَةِ.
وَالْمَحْجُوبُ حَجْبَ حِرْمَانٍ قَدْ يَحْجُبُ غَيْرَهُ حَجْبَ نُقْصَانٍ. فَإِذَا تُوُفِّيَ شَخْصٌ عَنْ أُمٍّ وَأَبٍ وَإِخْوَةٍ، فَإِنَّ الإِْخْوَةَ وَإِنْ كَانُوا مَحْجُوبِينَ بِالأَْبِ يُصَيِّرُونَ نَصِيبَ الأُْمِّ إِلَى السُّدُسِ.
55 - وَقَدْ وَضَعَ الْفُقَهَاءُ قَوَاعِدَ يَقُومُ عَلَيْهَا الْحَجْبُ هِيَ:
الأُْولَى: أَنَّ مَنْ يُدْلِي إِلَى الْمَيِّتِ بِوَارِثٍ يُحْجَبُ حَجْبَ حِرْمَانٍ عِنْدَ وُجُودِ ذَلِكَ الْوَارِثِ، لأَِنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ هُوَ وَمَنْ يُدْلِي بِسَبَبِهِ كَانَ هُوَ أَوْلَى بِالْمِيرَاثِ مِنْهُ، لأَِنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الْمَيِّتِ، وَلأَِنَّ الْبَعِيدَ إِنَّمَا اتَّصَل بِالْمَيِّتِ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْقَرِيبِ وَلِقِيَامِهِ مَقَامَهُ، وَحَيْثُ وُجِدَ الأَْصْل لاَ يَسْتَحِقُّ مَنْ كَانَ بَدَلاً عَنْهُ.
وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ تَسْرِي عَلَى الْعَصَبَاتِ مِنْ غَيْرِ اسْتِثْنَاءٍ، فَالأَْبُ يَحْجُبُ الْجَدَّ، وَالأَْخُ الشَّقِيقُ يَحْجُبُ ابْنَهُ وَهَكَذَا.
وَتَسْرِي هَذِهِ الْقَاعِدَةُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ، فَالأَْبُ يَحْجُبُ الْجَدَّ عَنْ فَرْضِهِ، وَالأُْمُّ تَحْجُبُ أُمَّ الأُْمِّ، وَلاَ تَسْرِي هَذِهِ الْقَاعِدَةُ فِي بَعْضِ أَحْوَال أَصْحَابِ الْفُرُوضِ كَأَوْلاَدِ الأُْمِّ بِالنِّسْبَةِ لِلأُْمِّ، فَإِنَّهُمْ يَرِثُونَ مَعَ وُجُودِهَا، لَكِنَّهُمْ يَحْجُبُونَهَا حَجْبَ نُقْصَانٍ إِذَا تَعَدَّدُوا، وَيَحْجُبُهُمُ الأَْبُ وَالْجَدُّ مَعَ أَنَّهُمْ لاَ يُدْلُونَ بِهِمَا، لأَِنَّ النَّصَّ قَيَّدَ مِيرَاثَهُمْ بِأَنْ(3/46)
يَكُونَ الْمَيِّتُ كَلاَلَةً لَيْسَ لَهُ وَالِدٌ وَلاَ وَلَدٌ.
الثَّانِيَةُ: أَنَّ الأَْقْرَبَ يَحْجُبُ الأَْبْعَدَ إِذَا كَانَ يَسْتَحِقُّ بِوَصْفِهِ وَنَوْعِهِ. وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ أَعَمُّ مِنَ السَّابِقَةِ، لأَِنَّهَا تَشْمَل الْبَعِيدَ الَّذِي يُدْلِي بِأَقْرَبَ مِنْهُ، وَمَنْ لاَ يُدْلِي بِهِ، فَالاِبْنُ يَحْجُبُ ابْنَ الاِبْنِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَبَاهُ، وَالْبِنْتَانِ تَحْجُبَانِ بِنْتَ الاِبْنِ فِي الاِسْتِحْقَاقِ بِالْفَرْضِ، وَالأَْخُ يَحْجُبُ الْعَمَّ وَلَوْ كَانَ لاَ يُدْلِي بِهِ، وَالْقُرْبَى تَحْجُبُ الْبُعْدَى مِنَ الْجَدَّاتِ وَإِنْ كَانَتْ لاَ تُدْلِي بِهَا، وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ تَتَحَقَّقُ فِي الْعَصَبَاتِ وَأَصْحَابِ الْفُرُوضِ عَلَى السَّوَاءِ.
الثَّالِثَةُ: أَنَّ الأَْقْوَى قَرَابَةً يَحْجُبُ الأَْضْعَفَ مِنْهُ، فَالأَْخُ الشَّقِيقُ يَحْجُبُ الأَْخَ لأَِبٍ، وَالأُْخْتُ لأَِبٍ لاَ تَأْخُذُ النِّصْفَ مَعَ الأُْخْتِ الشَّقِيقَةِ، وَهَكَذَا فِي كُل الأَْحْوَال الَّتِي تَتَّحِدُ فِيهَا الدَّرَجَةُ وَتَخْتَلِفُ قُوَّةُ الْقَرَابَةِ، فَإِنِ اتَّحَدَتِ الدَّرَجَةُ اُعْتُبِرَ الْحَجْبُ بِقُرْبِهَا. (1)
الْعَوْل:
56 - مِنْ مَعَانِي الْعَوْل فِي اللُّغَةِ: الزِّيَادَةُ، وَعَالَتِ الْفَرِيضَةُ فِي الْحِسَابِ زَادَتْ. وَالْفِعْل عَال وَمُضَارِعُهُ يَعُول وَتُعِيل. (2)
57 - وَفِي الاِصْطِلاَحِ: زِيَادَةُ سِهَامِ الْفُرُوضِ عَنْ أَصْل الْمَسْأَلَةِ، بِزِيَادَةِ كُسُورِهَا عَنِ الْوَاحِدِ الصَّحِيحِ.
وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ نُقْصَانُ أَنْصِبَاءِ الْوَرَثَةِ فِي التَّرِكَةِ بِنِسْبَةِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ، كَمَا إِذَا مَاتَتِ امْرَأَةٌ عَنْ زَوْجٍ وَأُمٍّ وَأُخْتٍ شَقِيقَةٍ، فَإِنَّ لِلزَّوْجِ النِّصْفَ
__________
(1) السراجية ص 171 - 180، والعذب الفائض 1 / 93 - 100 والشرح الكبير 4 / 415، والتحفة على الشرواني 6 / 18 - 22
(2) القاموس 4 / 23(3/47)
فَرْضًا، وَلِلأُْمِّ الثُّلُثَ فَرْضًا، وَلِلأُْخْتِ الشَّقِيقَةِ النِّصْفَ فَرْضًا، فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ قَدْ زَادَتِ الْفُرُوضُ عَمَّا تَنْقَسِمُ إِلَيْهِ التَّرِكَةُ الْمُعَبَّرُ عَنْهَا بِالْوَاحِدِ الصَّحِيحِ.
وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ كَانَتْ أَوَّل مَسْأَلَةٍ عَالَتْ فِي الإِْسْلاَمِ - وَقِيل: إِنَّ أَوَّل مَسْأَلَةٍ عَالَتْ هِيَ امْرَأَةٌ تُوُفِّيَتْ عَنْ زَوْجٍ وَأُخْتَيْنِ - وَقَدْ وَقَعَتْ فِي صَدْرِ خِلاَفَةِ عُمَرَ، فَاسْتَشَارَ الصَّحَابَةَ فِي ذَلِكَ وَقَال: وَاَللَّهِ مَا أَدْرِي أَيُّكُمْ قَدَّمَ اللَّهُ وَأَيُّكُمْ أَخَّرَ؟ وَإِنِّي إِنْ بَدَأْتُ بِالزَّوْجِ فَأَعْطَيْتُهُ حَقَّهُ كَامِلاً لَمْ يَبْقَ لِلأُْخْتَيْنِ حَقَّهُمَا، وَإِنْ بَدَأْتُ بِالأُْخْتَيْنِ فَأَعْطَيْتُهُمَا حَقَّهُمَا كَامِلاً لَمْ يَبْقَ لِلزَّوْجِ حَقُّهُ. فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِالْعَوْل الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَلَى الْمَشْهُورِ، أَوْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، أَوْ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فِي رِوَايَاتٍ أُخْرَى.
وَيُرْوَى أَنَّ الْعَبَّاسَ قَال: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَرَأَيْتَ لَوْ مَاتَ رَجُلٌ وَتَرَك سِتَّةَ دَرَاهِمَ، لِرَجُلٍ عَلَيْهِ ثَلاَثَةٌ، وَلآِخَرَ عَلَيْهِ أَرْبَعَةٌ كَيْفَ تَصْنَعُ؟ أَلَيْسَ تَجْعَل الْمَال سَبْعَةَ أَجْزَاءٍ قَال: نَعَمْ، قَال الْعَبَّاسُ: هُوَ ذَلِكَ فَقَضَى عُمَرُ بِالْعَوْل.
وَيُرْوَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَال: أَوَّل مَنْ أَعَال الْفَرَائِضَ عُمَرُ لَمَّا الْتَوَتْ عَلَيْهِ الْفَرَائِضُ وَدَافَعَ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَقَال: مَا أَدْرِي أَيُّكُمْ قَدَّمَهُ اللَّهُ وَلاَ أَيُّكُمْ أَخَّرَهُ، وَكَانَ امْرَأً وَرِعًا، فَقَال: مَا أَجِدُ شَيْئًا أَوْسَعَ لِي مِنْ أَنْ أَقْسِمَ التَّرِكَةَ عَلَيْكُمْ بِالْحِصَصِ، وَأُدْخِل عَلَى كُل ذِي حَقٍّ مَا دَخَل عَلَيْهِ مِنْ عَوْل الْفَرِيضَةِ، وَلَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ حَتَّى انْتَهَى أَمْرُ الْخِلاَفَةِ إِلَى عُثْمَانَ، فَأَظْهَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ خِلاَفَهُ فِي ذَلِكَ، وَقَال: لَوْ أَنَّهُمْ قَدَّمُوا مَنْ قَدَّمَ اللَّهُ وَأَخَّرُوا مَنْ أَخَّرَ اللَّهُ مَا عَالَتْ فَرِيضَةٌ قَطُّ. فَقِيل(3/47)
لَهُ: مَنْ قَدَّمَهُ اللَّهُ وَمَنْ أَخَّرَهُ اللَّهُ؟ فَقَال: قَدَّمَ اللَّهُ الزَّوْجَ وَالزَّوْجَةَ وَالأُْمَّ وَالْجَدَّةَ، وَأَمَّا مَنْ أَخَّرَهُ اللَّهُ فَالْبَنَاتُ، وَبَنَاتُ الاِبْنِ، وَالأَْخَوَاتُ الشَّقِيقَاتُ، وَالأَْخَوَاتُ لأَِبٍ. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ قَال: مَنْ أَهْبَطَهُ اللَّهُ مِنْ فَرْضٍ إِلَى فَرْضٍ فَهُوَ الَّذِي قَدَّمَهُ، وَمَنْ أَهْبَطَهُ اللَّهُ مِنْ فَرْضٍ إِلَى غَيْرِ فَرْضٍ فَهُوَ الَّذِي أَخَّرَهُ.
احْتَجَّ مَنْ قَال بِالْعَوْل بِأَنَّ الْوَرَثَةَ تَسَاوَوْا فِي سَبَبِ الاِسْتِحْقَاقِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ الْمُسَاوَاةَ فِيهِ فَيَأْخُذُ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَمِيعَ حَقِّهِ إِنِ اتَّسَعَ الْمَحَل، فَإِنْ ضَاقَ تَحَاصَّوْا - كَالْغُرَمَاءِ - فِي التَّرِكَةِ، وَلاَ يَصِحُّ إِسْقَاطُ حَقِّ وَاحِدٍ مِنَ الْوَرَثَةِ، لأَِنَّهُ اسْتَحَقَّ نَصِيبَهُ بِنَصٍّ ثَابِتٍ. وَهَذَا هُوَ رَأْيُ الأَْئِمَّةِ الأَْرْبَعَةِ. (1)
وَيَحْتَجُّ ابْنُ عَبَّاسٍ بِأَنَّ الْحُقُوقَ فِي الأَْمْوَال غَيْرُ مُتَسَاوِيَةٍ، فَإِذَا تَعَلَّقَ بِهَا حَقٌّ لاَ يَفِي بِهَا يُقَدَّمُ مِنْهَا مَا كَانَ أَقْوَى، فَفِي تَرِكَةِ الْمَيِّتِ يُقَدَّمُ التَّجْهِيزُ، وَالدَّيْنُ، وَالْوَصِيَّةُ، وَالْمِيرَاثُ، فَإِذَا ضَاقَتِ التَّرِكَةُ عَنِ الْفُرُوضِ يُقَدَّمُ الأَْقْوَى. وَلاَ شَكَّ أَنَّ مَنْ يُنْقَل مِنْ فَرْضٍ مُقَدَّرٍ إِلَى فَرْضٍ آخَرَ مُقَدَّرٍ يَكُونُ صَاحِبَ فَرْضٍ مِنْ كُل وَجْهٍ، فَيَكُونُ أَقْوَى مِمَّنْ يُنْقَل مِنْ فَرْضٍ مُقَدَّرٍ إِلَى فَرْضٍ آخَرَ غَيْرِ مُقَدَّرٍ، لأَِنَّهُ صَاحِبُ فَرْضٍ مِنْ وَجْهٍ وَعَصَبَةٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ. فَإِدْخَال النَّقْصِ عَلَيْهِ أَوِ الْحِرْمَانِ أَوْلَى، لأَِنَّ ذَوِي الْفُرُوضِ مُقَدَّمُونَ عَلَى الْعَصَبَاتِ.
58 - وَلَقَدْ وُجِدَ بِالاِسْتِقْرَاءِ أَنَّ أُصُول الْمَسَائِل الَّتِي تَعُول هِيَ: مَا كَانَ أَصْلُهُ سِتَّةً، وَاثْنَيْ عَشَرَ، وَأَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ.
__________
(1) السراجية ص 195 - 196، والمبسوط 29 / 161 - 162 ط دار المعرفة، والعذب الفائض 1 / 165(3/48)
59 - فَمَا أَصْلُهُ سِتَّةٌ قَدْ يَعُول إِلَى سَبْعَةٍ وَإِلَى ثَمَانِيَةٍ وَإِلَى تِسْعَةٍ وَإِلَى عَشَرَةٍ.
فَالأَْوَّل، كَزَوْجٍ وَأُخْتَيْنِ شَقِيقَتَيْنِ: فَإِنَّ الزَّوْجَ يَأْخُذُ النِّصْفَ وَهُوَ ثَلاَثَةُ أَسْهُمٍ، وَالأُْخْتَيْنِ الثُّلُثَيْنِ، وَهُوَ أَرْبَعَةٌ، فَالْمَجْمُوعُ سَبْعَةٌ.
وَمِثَال الْعَوْل إِلَى ثَمَانِيَةٍ: زَوْجٌ، وَأُخْتَانِ لأَِبٍ، وَأُمٌّ، فَإِنَّ الزَّوْجَ يَأْخُذُ النِّصْفَ ثَلاَثَةَ أَسْهُمٍ، وَتَأْخُذُ الأُْخْتَانِ الثُّلُثَيْنِ أَرْبَعَةَ أَسْهُمٍ، وَالأُْمُّ السُّدُسَ سَهْمًا، فَالْمَجْمُوعُ ثَمَانِيَةٌ.
وَمِثَال الْعَوْل إِلَى تِسْعَةٍ: زَوْجٌ، وَأُخْتَانِ شَقِيقَتَانِ، وَأَخَوَانِ لأُِمٍّ، فَإِنَّ لِلزَّوْجِ النِّصْفَ ثَلاَثَةً، وَلِلأُْخْتَيْنِ الشَّقِيقَتَيْنِ الثُّلُثَيْنِ أَرْبَعَةً، وَلِلأَْخَوَيْنِ لأُِمٍّ الثُّلُثَ سَهْمَيْنِ، فَيَكُونُ الْمَجْمُوعُ تِسْعَةً.
وَمِثَال الْعَوْل إِلَى عَشَرَةٍ: زَوْجٌ، وَأُخْتٌ شَقِيقَةٌ، وَأُخْتٌ لأَِبٍ، وَأَخَوَانِ لأُِمٍّ، وَأُمٌّ، فَلِلزَّوْجِ النِّصْفُ ثَلاَثَةُ أَسْهُمٍ، وَلِلأُْخْتِ الشَّقِيقَةِ النِّصْفُ ثَلاَثَةٌ، وَلِلأُْخْتِ لأَِبٍ السُّدُسُ سَهْمٌ، وَلِلأَْخَوَيْنِ لأُِمٍّ الثُّلُثُ سَهْمَانِ، وَلِلأُْمِّ السُّدُسُ سَهْمٌ، فَالْمَجْمُوعُ عَشَرَةٌ.
60 - وَإِذَا كَانَ أَصْل الْمَسْأَلَةِ اثْنَيْ عَشَرَ فَقَدْ تَعُول إِلَى ثَلاَثَةَ عَشَرَ، كَزَوْجَةٍ وَأُمٍّ وَأُخْتٍ لأَِبٍ، فَإِنَّ لِلزَّوْجَةِ الرُّبُعَ، وَلِلأُْمِّ الثُّلُثَ، وَلِلأُْخْتِ لأَِبٍ النِّصْفَ، فَأَصْل الْمَسْأَلَةِ: اثْنَا عَشَرَ، لِلزَّوْجَةِ ثَلاَثَةُ أَسْهُمٍ، وَلِلأُْخْتِ سِتَّةٌ، وَلِلأُْمِّ أَرْبَعَةٌ.
وَقَدْ تَعُول إِلَى خَمْسَةَ عَشَرَ، كَزَوْجٍ، وَبِنْتَيْنِ، وَأُمٍّ، وَأَبٍ، لِلزَّوْجِ الرُّبُعُ ثَلاَثَةٌ، وَلِلْبِنْتَيْنِ ثَمَانِيَةٌ، وَلِكُلٍّ مِنْ الأَْبِ وَالأُْمِّ اثْنَانِ، فَيَكُونُ الْمَجْمُوعُ خَمْسَةَ عَشَرَ.(3/48)
وَقَدْ تَعُول إِلَى سَبْعَةَ عَشَرَ، كَزَوْجَةٍ، وَأُمٍّ، وَأُخْتَيْنِ لأَِبٍ، وَأَخَوَيْنِ لأُِمٍّ. لِلزَّوْجَةِ الرُّبُعُ ثَلاَثَةٌ، وَلِلأُْمِّ السُّدُسُ اثْنَانِ، وَلِلأُْخْتَيْنِ لأَِبٍ الثُّلُثَانِ ثَمَانِيَةٌ، وَلِلأَْخَوَيْنِ لأُِمٍّ الثُّلُثُ أَرْبَعَةٌ، فَيَكُونُ الْمَجْمُوعُ سَبْعَةَ عَشَرَ.
61 - وَإِذَا كَانَ أَصْل الْمَسْأَلَةِ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ، فَإِنَّهَا لاَ تَعُول إِلاَّ إِلَى سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ، وَذَلِكَ كَزَوْجَةٍ، وَبِنْتَيْنِ، وَأُمٍّ، وَأَبٍ، لِلزَّوْجَةِ الثُّمُنُ ثَلاَثَةٌ، وَلِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ سِتَّةَ عَشَرَ، وَلِكُلٍّ مِنَ الأَْبِ وَالأُْمِّ السُّدُسُ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ، فَيَكُونُ الْمَجْمُوعُ سَبْعَةً وَعِشْرِينَ.
62 - وَمَا عَدَا مَا ذُكِرَ مِنْ أُصُول الْمَسَائِل فَلاَ تَعُول، وَهِيَ الاِثْنَانِ، وَالثَّلاَثَةُ، وَالأَْرْبَعَةُ، وَالثَّمَانِيَةُ، فَلاَ عَوْل فِي الاِثْنَيْنِ، لأَِنَّ الْمَسْأَلَةَ إِنَّمَا تَكُونُ مِنِ اثْنَيْنِ إِذَا كَانَ فِيهَا نِصْفَانِ، كَزَوْجٍ وَأُخْتٍ شَقِيقَةٍ، أَوْ نِصْفٌ وَمَا بَقِيَ، كَزَوْجٍ وَأَخٍ شَقِيقٍ.
كَمَا لاَ عَوْل فِي الثَّلاَثَةِ، لأَِنَّ الْخَارِجَ مِنْهَا إِمَّا ثُلُثٌ وَمَا بَقِيَ، كَأُمٍّ وَأَخٍ لأَِبٍ وَأُمٍّ، وَإِمَّا ثُلُثَانِ وَمَا بَقِيَ، كَبِنْتَيْنِ وَأَخٍ لأَِبٍ، وَإِمَّا ثُلُثٌ وَثُلُثَانِ، كَأُخْتَيْنِ لأُِمٍّ وَأُخْتَيْنِ شَقِيقَتَيْنِ.
وَلاَ عَوْل فِي الأَْرْبَعَةِ، لأَِنَّ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا، إِمَّا رُبُعٌ وَمَا بَقِيَ، كَزَوْجٍ وَابْنٍ، أَوْ رُبُعٌ وَنِصْفٌ وَمَا بَقِيَ، كَزَوْجٍ وَبِنْتٍ وَأَخٍ شَقِيقٍ، أَوْ رُبُعٌ وَثُلُثُ مَا بَقِيَ، كَزَوْجَةٍ وَأَبَوَيْنِ.
وَلاَ عَوْل فِي الثَّمَانِيَةِ، لأَِنَّ الْخَارِجَ مِنْهَا إِمَّا ثُمُنٌ وَمَا بَقِيَ، كَزَوْجَةٍ وَابْنٍ، أَوْ ثُمُنٌ وَنِصْفٌ وَمَا بَقِيَ كَزَوْجَةٍ وَبِنْتٍ وَأَخٍ لأَِبٍ وَأُمٍّ. (1)
__________
(1) السراجية ص 197 - 198(3/49)
الإِْرْثُ بِالرَّدِّ:
63 - مِنْ مَعَانِي الرَّدِّ فِي اللُّغَةِ: الرَّجْعُ. يُقَال: رَجَعْتُ بِمَعْنَى رَدَدْتُ. وَمِنْهُ رَدَدْتُ عَلَيْهِ الْوَدِيعَةَ وَرَدَدْتُهُ إِلَى مَنْزِلِهِ فَارْتَدَّ إِلَيْهِ. (1)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: دَفْعُ مَا فَضَل مِنْ فُرُوضِ ذَوِي الْفُرُوضِ النَّسَبِيَّةِ إِلَيْهِمْ بِقَدْرِ حُقُوقِهِمْ، عِنْدَ عَدَمِ اسْتِحْقَاقِ الْغَيْرِ (2) . فَالرَّدُّ لاَ يَتَحَقَّقُ إِلاَّ إِذَا ثَبَتَ أَمْرَانِ:
أَوَّلُهُمَا: أَلاَّ تَسْتَغْرِقَ الْفُرُوضُ التَّرِكَةَ؛ إِذْ لَوِ اسْتَغْرَقَتْهَا لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ حَتَّى يُرَدَّ.
ثَانِيهُمَا: أَلاَّ يُوجَدَ عَاصِبٌ نَسَبِيٌّ أَوْ سَبَبِيٌّ عَلَى الْخِلاَفِ فِي ذَلِكَ. فَلَوْ وُجِدَ عَاصِبٌ نَسَبِيٌّ وَلَوْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ، وَهُوَ الأَْبُ أَوِ الْجَدُّ أَخَذَ الْبَاقِيَ تَعْصِيبًا بَعْدَ الْفَرْضِ.
64 - وَالرَّدُّ مَحَل خِلاَفٍ بَيْنَ الصَّحَابَةِ. فَقَدِ انْقَسَمُوا فِيهِ إِلَى فَرِيقَيْنِ، وَتَبِعَ كُل فَرِيقٍ جَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ وَالأَْئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ.
65 - فَذَهَبَ فَرِيقٌ مِنَ الصَّحَابَةِ إِلَى الرَّدِّ عَلَى ذَوِي الْفُرُوضِ، وَتَبِعَهُمْ فِي ذَلِكَ الإِْمَامَانِ: أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، لَكِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِيمَنْ يُرَدُّ عَلَيْهِمْ.
فَذَهَبَ الإِْمَامُ عَلِيٌّ إِلَى: أَنَّهُ إِذَا لَمْ يُوجَدْ مَعَ ذَوِي الْفُرُوضِ عَصَبَةٌ مِنَ النَّسَبِ، وَلاَ مِنَ السَّبَبِ يُرَدُّ عَلَى ذَوِي الْفُرُوضِ بِقَدْرِ أَنْصِبَائِهِمْ إِلاَّ الزَّوْجَيْنِ، وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ. وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
وَذَهَبَ عُثْمَانُ إِلَى أَنَّهُ يُرَدُّ عَلَى الزَّوْجَيْنِ أَيْضًا،
__________
(1) المصباح المنير مادة (رد) .
(2) الفناري على السراجية ص 228(3/49)
وَهُوَ قَوْل جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ. وَاحْتَجَّ عُثْمَانُ لِلرَّدِّ عَلَى الزَّوْجَيْنِ بِأَنَّ الْغُنْمَ بِالْغُرْمِ، فَكَمَا أَنَّ بِالْعَوْل تَنْقُصُ سِهَامُهُمَا، فَيَجِبُ أَنْ تُزَادَ بِالرَّدِّ.
وَقَال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: يُرَدُّ عَلَى ذَوِي الْفُرُوضِ إِلاَّ عَلَى سِتَّةٍ: الزَّوْجَيْنِ، وَابْنَةِ الاِبْنِ مَعَ ابْنَةِ الصُّلْبِ، وَالأُْخْتِ لأَِبٍ مَعَ الأُْخْتِ الشَّقِيقَةِ، وَأَوْلاَدِ الأُْمِّ مَعَ الأُْمِّ، وَالْجَدَّةِ مَعَ ذِي سَهْمٍ أَيًّا كَانَ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ اسْتَثْنَى جِهَةَ الرَّدِّ عَلَى الزَّوْجَيْنِ، وَأَوْلاَدِ الأُْمِّ مَعَ الأُْمِّ، وَالْجَدَّةِ مَعَ ذِي سَهْمٍ فَقَطْ.
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ يُرَدُّ عَلَى أَصْحَابِ الْفُرُوضِ إِلاَّ ثَلاَثَةً: الزَّوْجَيْنِ وَالْجَدَّةَ. (1)
وَقَدْ أَجْمَعَ مُتَأَخِّرُو فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُمْ مَنْ بَعْدِ الأَْرْبَعِمِائَةِ، عَلَى أَنَّهُ يُرَدُّ عَلَى ذَوِي الْفُرُوضِ، وَيُورَثُ ذَوُو الأَْرْحَامِ إِذَا كَانَ بَيْتُ الْمَال غَيْرَ مُنْتَظِمٍ، وَذَلِكَ بِأَلاَّ يَكُونَ هُنَاكَ إِمَامٌ أَصْلاً، أَوْ وُجِدَ وَفَقَدَ بَعْضَ شُرُوطِهِ، وَقَال بَعْضُهُمْ: إِذَا فَقَدَ الإِْمَامُ بَعْضَ الشُّرُوطِ لَكِنْ تَوَفَّرَتْ فِيهِ الْعَدَالَةُ، وَأَوْصَل الْحُقُوقَ إِلَى أَصْحَابِهَا، كَانَ بَيْتُ الْمَال مُنْتَظِمًا.
أَدِلَّةُ الْقَائِلِينَ بِالرَّدِّ:
66 - اسْتَدَل الْقَائِلُونَ بِالرَّدِّ عَلَى غَيْرِ الزَّوْجَيْنِ:
أَوَّلاً: بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُولُوا الأَْرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} (2) فَإِنَّ مَعْنَاهَا بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِمِيرَاثِ بَعْضٍ بِسَبَبِ الرَّحِمِ، فَقَدْ دَلَّتْ
__________
(1) السراجية ص 229، والمبسوط 29 / 192 ط دار المعرفة والمغني 6 / 296، وحاشية الشرواني 6 / 12
(2) سورة الأنفال / 75(3/50)
عَلَى أَنَّ ذَوِي الرَّحِمِ يَسْتَحِقُّونَ جَمِيعَ الْمِيرَاثِ بِصِلَةِ الرَّحِمِ. وَالْمُتَبَادِرُ مِنَ الْمِيرَاثِ الْمُرَادُ فِي الآْيَةِ مَجْمُوعُهُ. وَإِرَادَةُ الْبَعْضِ خِلاَفُ الظَّاهِرِ. وَعَلَى ذَلِكَ فَلاَ يَرِدُ أَنَّ الأَْوْلَوِيَّةَ الْمَفْهُومَةَ مِنَ الآْيَةِ تَحْصُل بِإِعْطَاءِ كُل ذِي فَرْضٍ فَرْضَهُ، لأَِنَّ إِعْطَاءَ الْفَرْضِ حَصَل مِنْ آيَةٍ أُخْرَى هِيَ آيَةُ النِّسَاءِ، وَحَمْل آيَةِ الأَْنْفَال عَلَى التَّأْسِيسِ وَإِفَادَةُ حُكْمٍ جَدِيدٍ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهَا عَلَى تَأْكِيدِ مَا فِي آيَةِ الْفَرْضِ، فَيَجِبُ الْعَمَل بِمَا فِي الآْيَتَيْنِ، وَمِنْ أَجْل ذَلِكَ فَلاَ يُرَدُّ عَلَى الزَّوْجَيْنِ، لاِنْعِدَامِ الرَّحِمِ فِي حَقِّهِمَا.
ثَانِيًا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا دَخَل عَلَى سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ يَعُودُهُ فِي مَرَضِهِ قَال سَعْدٌ: أَمَا إِنَّهُ لاَ يَرِثُنِي إِلاَّ ابْنَةٌ لِي، أَفَأُوصِي بِجَمِيعِ مَالِي؟ إِلَى أَنْ قَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: الثُّلُثُ خَيْرٌ. وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ. (1) لَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ سَعْدًا اعْتَقَدَ أَنَّ الْبِنْتَ تَرِثُ جَمِيعَ الْمَال، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَمَنَعَهُ عَنِ الْوَصِيَّةِ بِمَا زَادَ عَنِ الثُّلُثِ، مَعَ أَنَّهُ لاَ وَارِثَ لَهُ إِلاَّ ابْنَةٌ وَاحِدَةٌ، فَدَل ذَلِكَ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْل بِالرَّدِّ؛ إِذْ لَوْ لَمْ تَكُنِ ابْنَتُهُ تَسْتَحِقُّ مَا زَادَ عَلَى فَرْضِهَا - وَهُوَ النِّصْفُ بِطَرِيقِ الرَّدِّ - لَجَوَّزَ لَهُ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَصِيَّةَ بِالنِّصْفِ.
ثَالِثًا: أَنَّ الرَّسُول عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَرَّثَ الْمُلاَعَنَةَ لِجَمِيعِ مَال وَلَدِهَا، وَلاَ يَكُونُ ذَلِكَ إِلاَّ بِطَرِيقِ الرَّدِّ.
وَفِي حَدِيثِ وَاثِلَةَ بْنِ الأَْسْقَعِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَال: تُحْرِزُ الْمَرْأَةُ مِيرَاثَ لَقِيطِهَا وَعَتِيقِهَا
__________
(1) حديث " الثلث خير. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 164، 9 / 497 ط السلفية) ومسلم (3 / 1253 - ط عيسى الحلبي)(3/50)
وَالاِبْنِ الَّذِي لُوعِنَتْ بِهِ. (1)
رَابِعًا: إِنَّ أَصْحَابَ الْفُرُوضِ قَدْ شَارَكُوا الْمُسْلِمِينَ فِي الإِْسْلاَمِ، وَتَرَجَّحُوا عَلَى غَيْرِهِمْ بِالْقَرَابَةِ، وَمُجَرَّدُ الْقَرَابَةِ فِي أَصْحَابِ الْفُرُوضِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ عِلَّةَ الْعُصُوبَةِ لَكِنْ يَثْبُتُ بِهَا التَّرْجِيحُ، بِمَنْزِلَةِ قَرَابَةِ الأُْمِّ فِي حَقِّ الأَْخِ لأَِبٍ وَأُمٍّ، فَإِنَّ قَرَابَةَ الأُْمِّ، وَإِنْ لَمْ تُوجِبْ بِانْفِرَادِهَا الْعُصُوبَةَ إِلاَّ أَنَّهُ يَحْصُل بِهَا التَّرْجِيحُ. وَلَمَّا كَانَ هَذَا التَّرْجِيحُ بِالسَّبَبِ الَّذِي اسْتَحَقُّوا بِهِ الْفَرِيضَةَ كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى الْفَرِيضَةِ، فَيُرَدُّ الْبَاقِي كُلُّهُ عَلَيْهِمْ بِنِسْبَةِ أَنْصِبَائِهِمْ، وَكَمَا يَسْقُطُ اعْتِبَارُ الأَْقْرَبِ وَالأَْقْوَى فِي أَصْل الْفَرِيضَةِ يَسْقُطُ أَيْضًا فِي اعْتِبَارِ الرَّدِّ. (2)
67 - وَذَهَبَ فَرِيقٌ آخَرُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُرَدُّ عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ، فَإِذَا لَمْ تَسْتَغْرِقِ الْفُرُوضُ التَّرِكَةَ، وَبَقِيَ مِنْهَا شَيْءٌ، وَلَمْ يُوجَدْ فِي الْوَرَثَةِ عَاصِبٌ يَرِثُ الْبَاقِيَ، فَإِنَّهُ يَكُونُ لِبَيْتِ الْمَال، لأَِنَّ هَذَا الْفَرِيقَ لاَ يَرَى تَوْرِيثَ ذَوِي الأَْرْحَامِ، وَلاَ الرَّدَّ عَلَى ذَوِي الْفُرُوضِ، وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَبِهِ أَخَذَ عُرْوَةُ وَالزُّهْرِيُّ وَالإِْمَامَانِ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ.
وَقَيَّدَ بَعْضُ أَئِمَّةِ الْمَالِكِيَّةِ الدَّفْعَ لِبَيْتِ الْمَال، إِذَا لَمْ يُوجَدْ عَاصِبٌ نَسَبِيٌّ أَوْ سَبَبِيٌّ بِمَا إِذَا كَانَ الإِْمَامُ عَدْلاً، يَصْرِفُ الْمَال فِي مَصَارِفِهِ الشَّرْعِيَّةِ، فَإِنْ لَمْ
__________
(1) حديث " تحرز المرأة ميراث لقيطها. . . " ورد بلفظ: " المرأة تحوز ثلاثة مواريث: عتيقها ولقيطها وولدها الذي لاعنت عنه ". أخرجه الترمذي (تحفة الأحوذي 6 / 298 - 299 - نشر المكتبة السلفية) وأبو داود (3 / 84 - طبع المطبعة الأنصارية بدهلي) ، والبيهقي (6 / 240 - ط دائرة المعارف العثمانية) وقال البيهقي: " هذا غير ثابت ".
(2) شرح السراجية ص 239، 241(3/51)
يَكُنْ عَدْلاً فَإِنَّهُ يُرَدُّ عَلَى أَصْحَابِ الْفُرُوضِ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدُوا فَلِبَيْتِ الْمَال. وَهُمْ يَعْتَبِرُونَ بَيْتَ الْمَال عَاصِبًا يَلِي فِي الرُّتْبَةِ الْعَاصِبَ النَّسَبِيَّ وَالسَّبَبِيَّ. (1)
68 - اسْتَدَل الْمَانِعُونَ مِنَ الرَّدِّ:
أَوَّلاً: بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ، فَإِنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - بَيَّنَ فِيهَا نَصِيبَ كُل وَارِثٍ مِنْ أَصْحَابِ الْفَرَائِضِ.
وَالتَّقْدِيرُ الثَّابِتُ بِالنَّصِّ يَمْنَعُ الزِّيَادَةَ عَلَيْهِ. لأَِنَّ فِي الزِّيَادَةِ مُجَاوَزَةَ الْحَدِّ الشَّرْعِيِّ، وَقَدْ قَال اللَّهُ - تَعَالَى - بَعْدَ آيَةِ الْمَوَارِيثِ: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ} (2) الآْيَةَ، فَقَدْ أَلْحَقَ الْوَعِيدَ بِمَنْ جَاوَزَ الْحَدَّ الْمَشْرُوعَ.
ثَانِيًا: أَنَّ الزَّائِدَ عَلَى الْفُرُوضِ مَالٌ لاَ مُسْتَحِقَّ لَهُ، فَيَكُونُ لِبَيْتِ الْمَال، كَمَا إِذَا لَمْ يَتْرُكْ وَارِثًا أَصْلاً، لأَِنَّ الرَّدَّ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِاعْتِبَارِ الْفَرْضِيَّةِ، أَوِ الْعُصُوبَةِ أَوِ الرَّحِمِ، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِاعْتِبَارِ الْفَرْضِيَّةِ، لأَِنَّ كُل ذِي فَرْضٍ قَدْ أَخَذَ فَرْضَهُ، وَلاَ بِاعْتِبَارِ الْعُصُوبَةِ، لأَِنَّ بِاعْتِبَارِهَا يُقَدَّمُ الأَْقْرَبُ فَالأَْقْرَبُ، وَلاَ بِاعْتِبَارِ الرَّحِمِ، لأَِنَّهُ فِي إِرْثِ ذَوِي الأَْرْحَامِ يُقَدَّمُ الأَْقْرَبُ أَيْضًا. فَإِذَا بَطَلَتْ هَذِهِ الْوُجُوهُ بَطَل الْقَوْل بِالرَّدِّ. (3)
أَقْسَامُ مَسَائِل الرَّدِّ:
69 - مَسَائِل الرَّدِّ أَقْسَامٌ أَرْبَعَةٌ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الْمَوْجُودَ فِي الْمَسْأَلَةِ إِمَّا صِنْفٌ وَاحِدٌ مِمَّنْ يُرَدُّ عَلَيْهِ مَا فَضَل
__________
(1) حاشية الدسوقي 4 / 416
(2) سورة النساء / 14
(3) السراجية ص 239، 240(3/51)
وَإِمَّا أَكْثَرُ مِنْ صِنْفٍ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْمَسْأَلَةِ مَنْ لاَ يُرَدُّ عَلَيْهِ، أَوْ لاَ يَكُونُ، فَانْحَصَرَتِ الأَْقْسَامُ فِي أَرْبَعَةٍ: (1)
70 - أَوَّلُهَا: أَنْ يَكُونَ فِي الْمَسْأَلَةِ جِنْسٌ وَاحِدٌ مِمَّنْ يُرَدُّ عَلَيْهِ مَا زَادَ عَلَى الْفُرُوضِ، عِنْدَ عَدَمِ مَنْ لاَ يُرَدُّ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ أَصْل الْمَسْأَلَةِ عَدَدَ رُءُوسِهِمْ، لأَِنَّ جَمِيعَ الْمَال لَهُمْ فَرْضًا وَرَدًّا، وَذَلِكَ كَمَا إِذَا تَرَكَ الْمَيِّتُ بِنْتَيْنِ، أَوْ أُخْتَيْنِ، أَوْ جَدَّتَيْنِ فَتَكُونُ الْمَسْأَلَةُ مِنِ اثْنَيْنِ، وَتُعْطَى كُل وَاحِدَةٍ نِصْفَ التَّرِكَةِ، لِتَسَاوِيهِمَا فِي الاِسْتِحْقَاقِ.
71 - ثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ فِي الْمَسْأَلَةِ جِنْسَانِ أَوْ ثَلاَثَةٌ مِمَّنْ يُرَدُّ عَلَيْهِ عِنْدَ عَدَمِ مَنْ لاَ يُرَدُّ عَلَيْهِ، وَقَدْ دَل الاِسْتِقْرَاءُ عَلَى أَنَّ أَجْنَاسَ مَنْ يُرَدُّ عَلَيْهِمْ لاَ تَزِيدُ عَنْ ثَلاَثَةٍ، فَيَكُونُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَصْل الْمَسْأَلَةِ مَجْمُوعَ سِهَامِ الْمُجْتَمِعِينَ. فَإِذَا كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ سُدُسَانِ، كَجَدَّةٍ وَأُخْتٍ لأُِمٍّ، فَالْمَسْأَلَةُ حِينَئِذٍ مِنْ سِتَّةٍ، وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَرْضًا، فَيُجْعَل الاِثْنَانِ أَصْل الْمَسْأَلَةِ، وَيُقْسَمُ الْمَال مُنَاصَفَةً بَيْنَ الْجَدَّةِ وَالأُْخْتِ لأُِمٍّ، لِتَسَاوِي نَصِيبِهِمَا.
وَإِذَا كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ ثُلُثٌ وَسُدُسٌ، كَوَلَدَيِ الأُْمِّ مَعَ الأُْمِّ، فَأَصْل الْمَسْأَلَةِ سِتَّةٌ، وَمَجْمُوعُ سِهَامِ الْوَرَثَةِ ثَلاَثَةٌ، فَتُجْعَل أَصْل الْمَسْأَلَةِ، وَتُقْسَمُ التَّرِكَةُ أَثْلاَثًا، لِوَلَدَيِ الأُْمِّ الثُّلُثَانِ، وَلِلأُْمِّ الثُّلُثُ.
72 - ثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ مَعَ الْجِنْسِ الْوَاحِدِ مِمَّنْ يُرَدُّ عَلَيْهِ، مَنْ لاَ يُرَدُّ عَلَيْهِ كَالزَّوْجِ أَوِ الزَّوْجَةِ، وَحِينَئِذٍ يُعْطَى فَرْضَ مَنْ لاَ يُرَدُّ عَلَيْهِ مِنْ أَقَل أَصْلٍ لِلْمَسْأَلَةِ، وَيُقْسَمُ الْبَاقِي عَلَى عَدَدِ رُءُوسِ مَنْ يُرَدُّ عَلَيْهِ، إِنِ اسْتَقَامَ الْبَاقِي عَلَى عَدَدِ الرُّءُوسِ،
__________
(1) شرح السراجية 239 - 241(3/52)
وَذَلِكَ كَزَوْجٍ وَثَلاَثِ بَنَاتٍ، فَإِنَّ أَصْل الْمَسْأَلَةِ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ لاَ يُرَدُّ عَلَيْهِ مِنْ أَرْبَعَةٍ، يُعْطَى الزَّوْجُ وَاحِدًا مِنْهَا، وَالْبَاقِي لِلْبَنَاتِ بِالتَّسَاوِي.
وَإِنْ لَمْ يَسْتَقِمِ الْبَاقِي، فَيَضْرِبُ عَدَدَ رُءُوسِ مَنْ يُرَدُّ عَلَيْهِمْ فِي أَصْل الْمَسْأَلَةِ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ لاَ يُرَدُّ عَلَيْهِ إِنْ وَافَقَ رُءُوسَهُمْ ذَلِكَ الْبَاقِي، فَمَا حَصَل تَصِحُّ مِنْهُ الْمَسْأَلَةُ، كَزَوْجٍ وَسِتِّ بَنَاتٍ. فَإِنَّ أَقَل أَصْلٍ لِلْمَسْأَلَةِ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ لاَ يُرَدُّ عَلَيْهِ أَرْبَعَةٌ، يَبْقَى مِنْهَا ثَلاَثَةٌ بَعْدَ نَصِيبِ الزَّوْجِ، فَلاَ تَنْقَسِمُ عَلَى عَدَدِ رُءُوسِ الْبَنَاتِ السِّتِّ، لَكِنْ بَيْنَهُمَا مُوَافَقَةٌ بِالثُّلُثِ، فَيَضْرِبُ وَفْقَ عَدَدِ الرُّءُوسِ، وَهُوَ اثْنَانِ فِي الأَْرْبَعَةِ، فَيَبْلُغُ ثَمَانِيَةً، لِلزَّوْجِ مِنْهَا اثْنَانِ وَلِلْبَنَاتِ سِتٌّ.
وَإِنْ لَمْ يُوَافِقِ الْبَاقِي عَدَدَ الرُّءُوسِ، فَيَضْرِبُ كُل عَدَدِ رُءُوسِهِمْ فِي أَصْل مَسْأَلَةِ مَنْ لاَ يُرَدُّ عَلَيْهِ، فَالْمَبْلَغُ هُوَ الْحَاصِل مِنْ ضَرْبِ وَفْقِ عَدَدِ الرُّءُوسِ فِي ذَلِكَ الأَْصْل عَلَى تَقْدِيرِ التَّوَافُقِ، أَوْ مِنْ ضَرْبِ كُل عَدَدِ الرُّءُوسِ عَلَى تَقْدِيرِ التَّبَايُنِ، وَذَلِكَ كَزَوْجٍ وَخَمْسِ بَنَاتٍ. فَأَصْل الْمَسْأَلَةِ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ، لاِجْتِمَاعِ الرُّبُعِ وَالثُّلُثَيْنِ، لَكِنْ مِثْلُهَا يُرَدُّ إِلَى الأَْرْبَعَةِ الَّتِي هِيَ أَقَل أَصْل فَرْضِ مَنْ لاَ يُرَدُّ عَلَيْهِ، فَإِذَا أَعْطَى الزَّوْجَ وَاحِدًا يَبْقَى ثَلاَثَةٌ، فَلاَ تَنْقَسِمُ عَلَى خَمْسِ بَنَاتٍ، فَيَضْرِبُ الأَْصْل أَرْبَعَةً فِي عَدَدِ رُءُوسِ الْبَنَاتِ، فَيَصِيرُ الْمَجْمُوعُ عِشْرِينَ، فَتَصِحُّ الْمَسْأَلَةُ، وَيَضْرِبُ نَصِيبَ الزَّوْجِ، وَهُوَ وَاحِدٌ فِي خَمْسَةٍ، فَيَصِيرُ نَصِيبُهُ خَمْسَةً، وَيُقْسَمُ الْبَاقِي، وَهُوَ خَمْسَةَ عَشَرَ عَلَى عَدَدِ رُءُوسِ الْبَنَاتِ، فَتَأْخُذُ كُل وَاحِدَةٍ ثَلاَثَةً.
73 - رَابِعُهَا: أَنْ يُوجَدَ أَكْثَرُ مِنْ نَوْعٍ مِنْ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ مِمَّنْ يُرَدُّ عَلَيْهِ وَمَعَهُمْ مَنْ لاَ يُرَدُّ عَلَيْهِ، وَفِي(3/52)
هَذِهِ الْحَالَةِ يَكُونُ أَصْل الْمَسْأَلَةِ هُوَ مَخْرَجَ فَرْضِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ، فَيُعْطَى نَصِيبُهُ مِنْهُ، ثُمَّ يُقْسَمُ الْبَاقِي عَلَى أَصْحَابِ الْفُرُوضِ الَّذِينَ يُرَدُّ عَلَيْهِمْ بِنِسْبَةِ فُرُوضِهِمْ، فَإِذَا احْتَاجَ الأَْمْرُ إِلَى تَصْحِيحِ الْمَسْأَلَةِ صُحِّحَتْ عَلَى نَحْوِ مَا سَبَقَ. فَإِذَا مَاتَ شَخْصٌ عَنْ زَوْجَةٍ وَأُمٍّ وَأَخَوَيْنِ لأُِمٍّ، فَإِنَّ أَصْل الْمَسْأَلَةِ أَرْبَعَةٌ، لِلزَّوْجَةِ مِنْهَا الرُّبُعُ سَهْمٌ، وَلِلأُْمِّ وَالأَْخَوَيْنِ لأُِمٍّ الثَّلاَثَةُ الأَْسْهُمِ الْبَاقِيَةُ. لِلأُْمِّ سَهْمٌ فَرْضًا وَرَدًّا وَلِلأَْخَوَيْنِ لأُِمٍّ سَهْمَانِ فَرْضًا وَرَدًّا.
وَإِذَا مَاتَ شَخْصٌ عَنْ زَوْجَةٍ وَأُمٍّ وَبِنْتَيِ ابْنٍ، فَيَكُونُ أَصْل الْمَسْأَلَةِ ثَمَانِيَةً، لِلزَّوْجَةِ مِنْهَا سَهْمٌ، وَالْبَاقِي - وَهُوَ سَبْعَةُ أَسْهُمٍ - يُقْسَمُ عَلَى بِنْتَيِ الاِبْنِ وَالأُْمِّ بِنِسْبَةِ 3: 2 إِلَى 6: 1 أَيْ 4 إِلَى 1 فَيَكُونُ الْمَجْمُوعُ خَمْسَةً، وَالسَّبْعَةُ لاَ تَنْقَسِمُ عَلَى خَمْسَةٍ، فَيُصَحَّحُ أَصْل الْمَسْأَلَةِ بِضَرْبِ خَمْسَةٍ فِي ثَمَانِيَةٍ فَيَصِيرُ أَرْبَعِينَ، لِلزَّوْجَةِ ثُمُنُهَا خَمْسَةٌ، وَلِلأُْمِّ سَبْعَةٌ، وَلِبِنْتَيِ الاِبْنِ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ. (1)
مِيرَاثُ ذَوِي الأَْرْحَامِ:
74 - الرَّحِمُ لُغَةً: بَيْتُ مَنْبَتِ الْوَلَدِ وَوِعَاؤُهُ، وَالْقَرَابَةُ، أَوْ أَصْلُهَا وَأَسْبَابُهَا، وَجَمْعُهُ أَرْحَامٌ، (2) وَشَرْعًا: كُل قَرِيبٍ.
وَفِي عُرْفِ الْفَرْضِيِّينَ: كُل قَرِيبٍ لَيْسَ بِذِي فَرْضٍ مُقَدَّرٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ - تَعَالَى، أَوْ سُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ إِجْمَاعِ الأُْمَّةِ، وَلاَ عَصَبَةَ تُحْرِزُ الْمَال عِنْدَ الاِنْفِرَادِ (3) .
__________
(1) السراجية ص 241 - 248
(2) القاموس
(3) السراجية ص 265، والعذب الفائض 2 / 15(3/53)
75 - وَفِي تَوْرِيثِ ذَوِي الأَْرْحَامِ اخْتِلاَفٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْفُقَهَاءِ بَعْدَهُمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَال بِتَوْرِيثِهِمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ.
فَمِمَّنْ قَال بِتَوْرِيثِهِمْ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَأَبُو الدَّرْدَاءِ وَأَبُو عُبَيْدَة بْنُ الْجَرَّاحِ، وَمِنَ التَّابِعِينَ شُرَيْحٌ وَالْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ وَعَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ.
وَمِمَّنْ قَال بِعَدَمِ تَوْرِيثِهِمْ: زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ رَوَى ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ. وَلَكِنْ هَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ. فَإِنَّهُ حُكِيَ أَنَّ الْمُعْتَضِدَ سَأَل أَبَا حَازِمٍ الْقَاضِيَ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَال أَبُو حَازِمٍ: أَجْمَعَ أَصْحَابُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرَ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ عَلَى تَوْرِيثِ ذَوِي الأَْرْحَامِ، وَلاَ يُعْتَدُّ بِقَوْلِهِ بِمُقَابَلَةِ إِجْمَاعِهِمْ.
وَأَمَّا الْفُقَهَاءُ فَمِمَّنْ قَال بِتَوْرِيثِهِمْ: الْحَنَفِيَّةُ وَالإِْمَامُ أَحْمَدُ، وَمُتَأَخِّرُو الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَعِيسَى بْنُ أَبَانَ، وَأَهْل التَّنْزِيل رَحِمَهُمُ اللَّهُ.
وَمِمَّنْ قَال بِأَنَّهُمْ لاَ يَرِثُونَ: سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَمُتَقَدِّمُو الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ.
أَدِلَّةُ الْمَانِعِينَ:
76 - اسْتَدَل مَنْ لاَ يَقُول بِتَوْرِيثِ ذَوِي الأَْرْحَامِ بِمَا يَلِي:
أَوَّلاً: أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - نَصَّ فِي آيَاتِ الْمَوَارِيثِ عَلَى بَيَانِ أَصْحَابِ الْفَرَائِضِ وَالْعَصَبَاتِ، وَلَمْ يَذْكُرْ لِذَوِي الأَْرْحَامِ شَيْئًا، {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًا} (1)
__________
(1) سورة مريم / 64(3/53)
وَأَدْنَى مَا فِي الْبَابِ أَنْ يَكُونَ تَوْرِيثُ ذَوِي الأَْرْحَامِ زِيَادَةً عَلَى كِتَابِ اللَّهِ، وَذَلِكَ لاَ يَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ أَوِ الْقِيَاسِ.
ثَانِيًا: أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِل عَنْ مِيرَاثِ الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ فَقَال: نَزَل جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَخْبَرَنِي إِلاَّ مِيرَاثَ لِلْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ. (1)
أَدِلَّةُ الْقَائِلِينَ بِتَوْرِيثِ ذَوِي الأَْرْحَامِ:
77 - وَاسْتَدَل مَنْ قَال بِتَوْرِيثِ ذَوِي الأَْرْحَامِ بِمَا يَأْتِي:
أَوَّلاً: بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُولُوا الأَْرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} (2)
إِذْ مَعْنَى الآْيَةِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى مِنْ بَعْضٍ، فَقَدْ أَثْبَتَتِ اسْتِحْقَاقَ ذَوِي الأَْرْحَامِ بِوَصْفٍ عَامٍّ، هُوَ وَصْفُ الرَّحِمِ، فَإِذَا انْعَدَمَ الْوَصْفُ الْخَاصُّ، وَهُوَ كَوْنُهُمْ أَصْحَابَ فُرُوضٍ أَوْ عَصَبَاتٍ، اسْتَحَقُّوا بِالْوَصْفِ الْعَامِّ، وَهُوَ كَوْنُهُمْ ذَوِي رَحِمٍ، وَلاَ مُنَافَاةَ بَيْنَ الاِسْتِحْقَاقِ بِالْوَصْفِ الْعَامِّ وَالاِسْتِحْقَاقِ بِالْوَصْفِ الْخَاصِّ، فَلاَ يَكُونُ ذَلِكَ زِيَادَةً عَلَى كِتَابِ اللَّهِ.
ثَانِيًا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: اللَّهُ وَرَسُولُهُ مَوْلَى مَنْ لاَ مَوْلَى لَهُ، وَالْخَال وَارِثُ مَنْ لاَ وَارِثَ لَهُ. (3) وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ الْخَال وَارِثُ مَنْ لاَ
__________
(1) حديث " نزل جبريل عليه السلام وأخبرني. . . " أخرجه الدارقطني (4 / 80 - ط دار المحاسن بالقاهرة) والحاكم (4 / 343 - ط دائرة المعارف العثمانية) وذكره ابن حجر في التلخيص (3 / 81 ط شركة الطباعة الفنية بالقاهرة) وضعف طرقه.
(2) سورة الأنفال / 75
(3) حديث " الله ورسوله مولى. . . " أخرجه الترمذي (6 / 281 - نشر المكتبة السلفية) وابن ماجه (2 / 914 - ط عيسى الحلبي) وابن حبان (رقم 1227 من زوائده - ط السلفية)(3/54)
وَارِثَ لَهُ، يَرِثُهُ وَيَعْقِل عَنْهُ (1)
وَذَهَبَ بَعْضُ أَئِمَّةِ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ ذَوِي الأَْرْحَامِ يَرِثُونَ إِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ أَصْحَابُ فُرُوضٍ، وَلاَ عَصَبَةٌ، وَلَمْ يَكُنِ الإِْمَامُ عَدْلاً. (2)
وَأَجْمَعَ مُتَأَخِّرُو الشَّافِعِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ بَيْتُ الْمَال غَيْرَ مُنْتَظِمٍ فَإِنَّ ذَوِي الأَْرْحَامِ يَرِثُونَ إِذَا لَمْ يُوجَدْ أَصْحَابُ فُرُوضٍ أَوْ عَصَبَةٍ. وَالْمُرَادُ بِعَدَمِ انْتِظَامِهِ أَلاَّ يَصْرِفَ الإِْمَامُ التَّرِكَةَ فِي مَصَارِفِهَا الشَّرْعِيَّةِ.
78 - وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ كَالْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، يُقَدِّمُونَ الرَّدَّ فِي حَال وُجُودِ أَصْحَابِ فُرُوضٍ لَمْ يَسْتَغْرِقُوا التَّرِكَةَ عَلَى تَوْرِيثِ ذَوِي الأَْرْحَامِ، فَإِنْ لَمْ يَكُونُوا، وَرِثَ ذَوُو الأَْرْحَامِ بِالْقَيْدِ السَّابِقِ. (3)
وَمَنِ انْفَرَدَ مِنْ ذَوِي الأَْرْحَامِ أَخَذَ جَمِيعَ التَّرِكَةِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، أَمَّا إِذَا تَعَدَّدُوا، فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي كَيْفِيَّةِ تَوْرِيثِهِمْ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ عَلَى ثَلاَثَةِ مَذَاهِبَ:
1 - مَذْهَبُ أَهْل الْقَرَابَةِ.
2 - مَذْهَبُ أَهْل الرَّحِمِ.
3 - مَذْهَبُ أَهْل التَّنْزِيل.
79 - وَأَهْل الْقَرَابَةِ هُمُ الَّذِينَ يَعْتَبِرُونَ قُوَّةَ الْقَرَابَةِ فِي تَوْرِيثِ ذَوِي الأَْرْحَامِ، فَيُقَدِّمُونَ الأَْقْرَبَ فَالأَْقْرَبَ كَمَا هُوَ الْحَال فِي إِرْثِ الْعَصَبَاتِ، وَهَذَا هُوَ السَّبَبُ فِي تَسْمِيَتِهِمْ بِأَهْل الْقَرَابَةِ.
فَكَمَا أَنَّ لِلْعَصَبَاتِ النَّسَبِيَّةِ جِهَاتٍ أَرْبَعًا،
__________
(1) حديث " الخال وارث. . . " أخرجه أبو داود (3 / 82 - طبع المطبعة الأنصارية بدهلي) وابن حبان (رقم 1225، 1226 من زوائده - ط المطبعة السلفية) وأحمد (4 / 131 - ط الميمنية)
(2) الشرح الكبير 4 / 416
(3) حاشية البقري على الرحبية ص 11(3/54)
فَكَذَلِكَ ذَوُو الأَْرْحَامِ، لأَِنَّ الْقَرِيبَ الَّذِي لَيْسَ صَاحِبَ فَرْضٍ وَلاَ عَاصِبًا، إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ فُرُوعِ الْمَيِّتِ، أَوْ مِنْ أُصُولِهِ، أَوْ مِنْ فُرُوعِ أَبَوَيْهِ، أَوْ مِنْ فُرُوعِ أَجْدَادِهِ وَجَدَّاتِهِ.
وَتَقْدِيمُ الأَْقْرَبِ هُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ. وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ، وَبِهِ قَطَعَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ الْبَغَوِيُّ وَالْمُتَوَلِّي.
80 - وَذَوُو الأَْرْحَامِ عِنْدَهُمْ أَصْنَافٌ أَرْبَعَةٌ:
الصِّنْفُ الأَْوَّل: مَنْ يَنْتَسِبُ إِلَى الْمَيِّتِ، وَهُمْ أَوْلاَدُ الْبَنَاتِ وَإِنْ نَزَلُوا، وَأَوْلاَدُ بَنَاتِ الاِبْنِ كَذَلِكَ.
الصِّنْفُ الثَّانِي: مَنْ يَنْتَسِبُ إِلَيْهِمُ الْمَيِّتُ، وَهُمُ الأَْجْدَادُ الرَّحِمِيُّونَ وَإِنْ عَلَوْا، كَأَبِي أُمِّ الْمَيِّتِ وَأَبِي أَبِي أُمِّهِ، وَالْجَدَّاتِ الرَّحِمِيَّاتِ وَإِنْ عَلَوْنَ، كَأُمِّ أَبِي أُمِّ الْمَيِّتِ، وَأُمِّ أُمِّ أَبِي أُمِّهِ.
الصِّنْفُ الثَّالِثُ: مَنْ يَنْتَسِبُ إِلَى أَبَوَيِ الْمَيِّتِ أَوْ أَحَدِهِمْ. وَهُمْ أَوْلاَدُ الأَْخَوَاتِ وَإِنْ نَزَلُوا، سَوَاءٌ أَكَانُوا ذُكُورًا أَمْ إِنَاثًا، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الأَْخَوَاتُ لأَِبٍ وَأُمٍّ، أَمْ لأَِبٍ، أَمْ لأُِمٍّ، وَبَنَاتِ الإِْخْوَةِ وَإِنْ نَزَلُوا، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الأُْخُوَّةُ مِنَ الأَْبَوَيْنِ، أَمْ مِنَ الأَْبِ، أَمْ مِنَ الأُْمِّ، وَبَنُو الإِْخْوَةِ لأُِمٍّ وَإِنْ نَزَلُوا.
الصِّنْفُ الرَّابِعُ: مَنْ يَنْتَسِبُ إِلَى جَدَّيِ الْمَيِّتِ، أَوْ أَحَدِهِمَا، وَهُمَا أَيْ جَدَّا الْمَيِّتِ أَبُو الأَْبِ، وَأَبُو الأُْمِّ، أَوْ يَنْتَسِبُ إِلَى جَدَّتَيْهِ أَوْ إِحْدَاهُمَا، وَهُمَا أُمُّ الأَْبِ، وَأُمُّ الأُْمِّ، وَيَشْمَل ذَلِكَ الْعَمَّاتِ عَلَى الإِْطْلاَقِ، وَالأَْعْمَامَ لأُِمٍّ، وَبَنَاتِ الأَْعْمَامِ وَالأَْخْوَال وَالْخَالاَتِ وَإِنْ تَبَاعَدَ هَؤُلاَءِ، وَأَوْلاَدُهُمْ وَإِنْ نَزَلُوا.(3/55)
كَيْفِيَّةُ التَّوْرِيثِ بَيْنَ الأَْصْنَافِ:
81 - اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنِ الإِْمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي تَقْدِيمِ بَعْضِ هَذِهِ الأَْصْنَافِ عَلَى بَعْضٍ. فَرَوَى أَبُو سُلَيْمَانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ أَقْرَب الأَْصْنَافِ إِلَى الْمَيِّتِ وَأَوْلاَهُمْ بِالتَّقْدِيمِ فِي الْوِرَاثَةِ عَنْهُ هُوَ الصِّنْفُ الثَّانِي، وَهُمُ الرَّحِمِيُّونَ مِنَ الأَْجْدَادِ وَالْجَدَّاتِ وَإِنْ عَلَوْا، ثُمَّ الصِّنْفُ الأَْوَّل وَإِنْ نَزَلُوا، ثُمَّ الصِّنْفُ الثَّالِثُ وَإِنْ نَزَلُوا، ثُمَّ الصِّنْفُ الرَّابِعُ وَإِنْ بَعُدُوا بِالْعُلُوِّ وَالنُّزُول. وَتَابَعَهُ فِي ذَلِكَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ أَقْرَبَ الأَْصْنَافِ وَأَوْلاَهُمْ بِالتَّقْدِيمِ إِلَى الْمَيِّتِ فِي الْمِيرَاثِ الصِّنْفُ الأَْوَّل، ثُمَّ الثَّانِي، ثُمَّ الثَّالِثُ، ثُمَّ الرَّابِعُ، كَتَرْتِيبِ الْعَصَبَاتِ، إِذْ يُقَدَّمُ مِنْهُمُ الاِبْنُ، ثُمَّ الأَْبُ، ثُمَّ الْجَدُّ، ثُمَّ الإِْخْوَةُ ثُمَّ الأَْعْمَامُ، وَهُوَ الْمَأْخُوذُ لِلْفَتْوَى.
وَوَفَّقَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ بِأَنَّ مَا رَوَاهُ أَبُو سُلَيْمَانَ عَنْ مُحَمَّدٍ هُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ الأَْوَّل، وَمَا رَوَاهُ أَبُو يُوسُفَ هُوَ قَوْلُهُ الثَّانِي.
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّ الصِّنْفَ الثَّالِثَ، وَهُمْ أَوْلاَدُ الأَْخَوَاتِ، وَبَنَاتُ الإِْخْوَةِ، وَبَنُو الإِْخْوَةِ لأُِمٍّ، مُقَدَّمٌ عَلَى الْجَدِّ أَبِي الأُْمِّ، وَإِنْ كَانَ قِيَاسُ مَذْهَبِهِمَا فِي الْجَدِّ أَبِي الأَْبِ - وَهُوَ مُقَاسَمَةُ الإِْخْوَةِ وَالأَْخَوَاتِ مَا دَامَتِ الْقِسْمَةُ خَيْرًا لَهُ مِنْ ثُلُثِ جَمِيعِ الْمَال - يَقْتَضِي ألاَّ يُقَدَّمَ الصِّنْفُ الثَّالِثُ عَلَى الْجَدِّ أَبِي الأُْمِّ.
وَتَوْجِيهُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ الأُْولَى جَرَى فِيهَا عَلَى قِيَاسِ مَذْهَبِهِ فِي الْعَصَبَاتِ، حَيْثُ(3/55)
قَدَّمَ هَا هُنَا الْجَدَّ أَبَا الأُْمِّ الَّذِي هُوَ فِي دَرَجَةِ الْجَدِّ أَبِي الأَْبِ عَلَى أَوْلاَدِ أَبِي الْمَيِّتِ، فَلاَ يَرِثُونَ مَعَهُ، أَمَّا الثَّانِيَةُ وَهِيَ تَقْدِيمُهُ أَوْلاَدَ الْمَيِّتِ فِي ذَوِي الأَْرْحَامِ عَلَى الْجَدِّ أَبِي الأُْمِّ فَهِيَ جَارِيَةٌ عَلَى مَذْهَبِهِ فِي الْعَصَبَاتِ، حَيْثُ كَانَ فِيهَا ابْنُ الاِبْنِ مُقَدَّمًا عَلَى الْجَدِّ أَبِي الأَْبِ.
كَيْفِيَّةُ تَوْرِيثِ كُل صِنْفٍ:
82 - الصِّنْفُ الأَْوَّل: وَهُوَ أَوْلاَدُ الْبَنَاتِ وَأَوْلاَدُ بَنَاتِ الاِبْنِ، أَوْلاَهُمْ بِالْمِيرَاثِ أَقْرَبُهُمْ إِلَى الْمَيِّتِ، كَبِنْتِ الْبِنْتِ، فَإِنَّهَا أَوْلَى بِالْمِيرَاثِ مِنْ بِنْتِ بِنْتِ الاِبْنِ، لأَِنَّ بِنْتَ الْبِنْتِ تُدْلِي إِلَى الْمَيِّتِ بِوَاسِطَةٍ وَاحِدَةٍ، وَالثَّانِيَةُ بِوَاسِطَتَيْنِ.
وَإِنِ اسْتَوَوْا فِي الدَّرَجَةِ، بِأَنْ يُدْلُوا كُلُّهُمْ إِلَى الْمَيِّتِ بِدَرَجَتَيْنِ أَوْ ثَلاَثٍ، فَحِينَئِذٍ يُقَدَّمُ وَلَدُ الْوَارِثِ عَلَى وَلَدِ ذِي الرَّحِمِ، كَبِنْتِ بِنْتِ الاِبْنِ، فَإِنَّهَا أَوْلَى مِنِ ابْنِ بِنْتِ الْبِنْتِ، لأَِنَّ الأُْولَى وَلَدُ بِنْتِ الاِبْنِ، وَهِيَ صَاحِبَةُ فَرْضٍ، وَالثَّانِيَةُ ذَاتُ رَحِمٍ، وَسَبَبُ هَذِهِ الأَْوْلَوِيَّةِ أَنَّ وَلَدَ الْوَارِثِ أَقْرَبُ حُكْمًا، وَالتَّرْجِيحُ يَكُونُ بِالْقُرْبِ الْحَقِيقِيِّ إِنْ وُجِدَ، وَإِلاَّ فَبِالْقُرْبِ الْحُكْمِيِّ.
83 - وَإِنِ اسْتَوَتْ دَرَجَاتُهُمْ فِي الْقُرْبِ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ وَلَدٌ وَارِثٌ كَبِنْتِ ابْنِ الْبِنْتِ، وَابْنِ بِنْتِ الْبِنْتِ، أَوْ كَانُوا كُلُّهُمْ يُدْلُونَ بِوَارِثٍ، كَابْنِ الْبِنْتِ وَبِنْتِ الْبِنْتِ، فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَالْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ يُعْتَبَرُ أَشْخَاصُ الْفُرُوعِ الْمُتَسَاوِيَةِ الدَّرَجَاتِ، وَيُقْسَمُ الْمَال عَلَيْهِمْ بِاعْتِبَارِ حَال ذُكُورَتِهِمْ وَأُنُوثَتِهِمْ، سَوَاءٌ أَكَانَ أُصُولُهُمْ مُتَّفِقِينَ فِي الذُّكُورَةِ أَوِ الأُْنُوثَةِ أَمْ لاَ. فَإِنْ كَانَتِ الْفُرُوعُ ذُكُورًا فَقَطْ، أَوْ(3/56)
إِنَاثًا فَقَطْ تَسَاوَوْا فِي الْقِسْمَةِ. وَإِنْ كَانُوا ذُكُورًا وَإِنَاثًا فَلِلذَّكَرِ مِثْل حَظِّ الأُْنْثَيَيْنِ. وَلاَ يُعْتَبَرُ فِي الْقِسْمَةِ حَال أُصُولِهِمْ مِنَ الذُّكُورَةِ وَالأُْنُوثَةِ. وَهُوَ رِوَايَةٌ شَاذَّةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَيَعْتَبِرُ مُحَمَّدٌ أَشْخَاصَ الْفُرُوعِ إِنِ اتَّفَقَتْ صِفَةُ الأُْصُول فِي الذُّكُورَةِ أَوِ الأُْنُوثَةِ، وَيَعْتَبِرُ الأُْصُول إِنِ اخْتَلَفَتْ صِفَاتُهُمْ، وَيُعْطِي الْفُرُوعَ مِيرَاثَ الأُْصُول. وَهُوَ الْقَوْل الأَْوَّل لأَِبِي يُوسُفَ وَأَشْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَجِهَةُ قَوْل أَبِي يُوسُفَ: أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْفُرُوعِ إِنَّمَا يَكُونُ لِمَعْنًى فِيهِمْ، وَهُوَ الْقَرَابَةُ، لاَ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِمْ، فَقَدِ اتَّحَدَتِ الْجِهَةُ، وَهِيَ الْوِلاَدَةُ، فَيَتَسَاوَى الاِسْتِحْقَاقُ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَإِنِ اخْتَلَفَتِ الصِّفَةُ فِي الأُْصُول. وَنَظِيرُ ذَلِكَ أَنَّ صِفَةَ الْكُفْرِ أَوِ الرِّقِّ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فِي الْمُدْلَى بِهِ، وَإِنَّمَا الَّذِي يُعْتَبَرُ صِفَةُ الْمُدْلِي، فَكَذَا تُعْتَبَرُ فِيهِ صِفَةُ الذُّكُورَةِ أَوِ الأُْنُوثَةِ فَقَطْ.
وَوَجْهُ قَوْل مُحَمَّدٍ: أَنَّ الْمَيِّتَ لَوْ تَرَكَ عَمَّةً وَخَالَةً، فَإِنَّ لِلْعَمَّةِ الثُّلُثَيْنِ، وَلِلْخَالَةِ الثُّلُثَ بِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ، وَلَوْ كَانَتِ الْعِبْرَةُ بِأَشْخَاصِ الْفُرُوعِ لَكَانَ الْمَال بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَبِذَلِكَ يَكُونُ الْمُعْتَبَرُ فِي الْقِسْمَةِ صِفَةَ الأَْصْل الْمُدْلَى بِهِ، وَهُوَ الأَْبُ فِي الْعَمَّةِ، وَالأُْمُّ فِي الْخَالَةِ.
84 - وَلَوْ تَرَكَ بِنْتَ ابْنِ بِنْتٍ، وَابْنَ بِنْتِ بِنْتٍ فَالْمَال عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَالْحَسَنِ أَثْلاَثًا: ثُلُثَاهُ لاِبْنِ بِنْتِ الْبِنْتِ، لِكَوْنِهِ ذَكَرًا، وَثُلُثُهُ لِلْبِنْتِ.
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَكُونُ الْمَال بَيْنَ الأُْصُول (الْبَطْنُ الثَّانِي) ، وَهُوَ أَوَّل مَا وَقَعَ فِيهِ الاِخْتِلاَفُ بِالذُّكُورَةِ وَالأُْنُوثَةِ، وَهُوَ بِنْتُ الْبِنْتِ وَابْنُ الْبِنْتِ أَثْلاَثًا:(3/56)
لِبِنْتِ ابْنِ الْبِنْتِ ثُلُثَاهُ، لأَِنَّهُ نَصِيبُ أَبِيهَا، وَثُلُثُهُ لاِبْنِ بِنْتِ الْبِنْتِ، لأَِنَّهُ نَصِيبُ أُمِّهِ. وَكَمَا اُعْتُبِرَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ حَال الأُْصُول فِي الْبَطْنِ الثَّانِي، فَكَذَلِكَ يُعْتَبَرُ عِنْدَهُ حَال الأُْصُول الْمُتَعَدِّدَةِ، إِذَا كَانَ فِي أَوْلاَدِ الْبَنَاتِ الْمُتَسَاوِيَةِ فِي الدَّرَجَةِ بُطُونٌ مُخْتَلِفَةٌ، فَحِينَئِذٍ يُقْسَمُ الْمَال عَلَى أَوَّل بَطْنٍ اخْتَلَفَ فِي الأُْصُول بِالذُّكُورَةِ وَالأُْنُوثَةِ: لِلذَّكَرِ مِثْل حَظِّ الأُْنْثَيَيْنِ، ثُمَّ يَجْعَل الذُّكُورَ مِنْ أَوَّل بَطْنٍ اخْتَلَفَ فِيهِ عَلَى حِدَةٍ، وَالإِْنَاثَ أَيْضًا طَائِفَةً أُخْرَى عَلَى حِدَةٍ، بَعْدَ الْقِسْمَةِ عَلَى الذُّكُورِ وَالإِْنَاثِ، فَمَا أَصَابَ الذُّكُورَ مِنْ أَوَّل بَطْنٍ وَقَعَ فِيهِ الاِخْتِلاَفُ يَجْمَعُ وَيُعْطِي فُرُوعَهُمْ بِحَسَبِ صِفَاتِهِمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ فُرُوعِهِمْ مِنَ الأُْصُول اخْتِلاَفٌ فِي الذُّكُورَةِ وَالأُْنُوثَةِ، بِأَنْ يَكُونَ جَمِيعُ مَا تَوَسَّطَ بَيْنَهُمَا ذُكُورًا فَقَطْ أَوْ إِنَاثًا فَقَطْ.
85 - وَإِنْ كَانَ مَا تَوَسَّطَ بَيْنَهُمَا فِيهِ اخْتِلاَفٌ، بِأَنْ كَانُوا ذُكُورًا وَإِنَاثًا يَجْمَعُ مَا أَصَابَ الذُّكُورَ وَيُقْسَمُ عَلَى أَعْلَى أَوَّل دَرَجَةٍ اُخْتُلِفَ فِيهَا ذُكُورَةً وَأُنُوثَةً فِي أَوْلاَدِهِمْ، وَيَجْعَل الذُّكُورَ طَائِفَةً وَالإِْنَاثَ طَائِفَةً أُخْرَى حَسْبَمَا سَبَقَ، وَكَذَلِكَ مَا أَصَابَ الإِْنَاثَ يُعْطِي فُرُوعَهُنَّ، إِنْ لَمْ تَخْتَلِفِ الأُْصُول الَّتِي بَيْنَهُمَا، فَإِنِ اخْتَلَفَتْ يَجْمَعُ مَا أَصَابَهُنَّ وَيُقْسَمُ عَلَى نَحْوِ مَا سَبَقَ وَهَكَذَا يَكُونُ الْحَال.
هَذَا وَإِنَّ مَشَايِخَ بُخَارَى أَخَذُوا بِقَوْل أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي مَسَائِل ذَوِي الأَْرْحَامِ لأَِنَّهُ أَيْسَرُ. (1)
__________
(1) السراجية ص 274 - 282(3/57)
الصِّنْفُ الثَّانِي:
86 - وَهُمُ الرَّحِمِيُّونَ مِنَ الأَْجْدَادِ وَالْجَدَّاتِ، وَالْحُكْمُ فِي تَوْرِيثِهِمْ أَنَّ أَوْلاَهُمْ بِالْمِيرَاثِ أَقْرَبُهُمْ إِلَى الْمَيِّتِ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ كَانَ، مِنْ جِهَةِ الأَْبِ أَوِ الأُْمِّ، فَأَبُو الأُْمِّ أَوْلَى مِنْ أَبِي أُمِّ الأُْمِّ.
وَعِنْدَ الاِسْتِوَاءِ فِي دَرَجَاتِ الْقُرْبِ يُقَدَّمُ مَنْ يُدْلِي بِوَارِثٍ عَلَى مَنْ لاَ يُدْلِي بِوَارِثٍ عِنْدَ أَبِي سَهْلٍ الْفَرْضِيِّ وَأَبِي فَضْلٍ الْخِفَافِ وَعَلِيِّ بْنِ عِيسَى الْبَصْرِيِّ؛ إِذْ عِنْدَهُمْ يَكُونُ أَبُو أُمِّ الأُْمِّ أَوْلَى مِنْ أَبِي أَبِي الأُْمِّ، لأَِنَّهُمَا يَسْتَوِيَانِ فِي الدَّرَجَةِ، لَكِنَّ أَبَا أُمِّ الأُْمِّ يُدْلِي بِوَارِثٍ، وَهِيَ الْجَدَّةُ الصَّحِيحَةُ (أُمُّ الأُْمِّ) وَالثَّانِي يُدْلِي بِغَيْرِ وَارِثٍ، وَهُوَ الْجَدُّ الرَّحِمِيُّ أَبُو الأُْمِّ، وَهُوَ لاَ يَرِثُ مَعَ الأُْمِّ.
وَعِنْدَ أَبِي سُلَيْمَانَ الْجُوزَجَانِيِّ وَأَبِي عَلِيٍّ الْبُسْتِيِّ لاَ تَفْضِيل لِمَنْ يُدْلِي بِوَارِثٍ عَلَى مَنْ لاَ يُدْلِي بِوَارِثٍ، وَيُقْسَمُ الْمَال فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ أَثْلاَثًا: ثُلُثَاهُ لأَِبِي أَبِي الأُْمِّ، وَثُلُثُهُ لأَِبِي أُمِّ الأُْمِّ، مُحْتَجِّينَ بِأَنَّ التَّرْجِيحَ فِي هَؤُلاَءِ بِالإِْدْلاَءِ بِوَارِثٍ يُؤَدِّي إِلَى جَعْل الأَْصْل - وَهُوَ الْجَدُّ وَالْجَدَّةُ - تَابِعًا لِلْفَرْعِ، وَهُوَ خِلاَفُ الْمَعْقُول.
87 - وَإِنِ اسْتَوَتْ دَرَجَاتُهُمْ فِي الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ، وَلَيْسَ فِيهِمْ مَعَ ذَلِكَ مَنْ يُدْلِي بِوَارِثٍ كَأَبِي أَبِي أُمِّ الأَْبِ، وَأُمِّ أَبِي أُمِّ الأَْبِ، أَوْ كَانُوا كُلُّهُمْ يُدْلُونَ بِوَارِثٍ، كَأَبِي أُمِّ أَبِي أَبِي الأَْبِ، وَأَبِي أُمِّ أُمِّ أُمِّ الأَْبِ، وَاتَّفَقَتْ صِفَةُ مَنْ يُدْلُونَ بِهِمْ فِي الذُّكُورَةِ وَالأُْنُوثَةِ، فَإِنَّ الْجَدَّ وَالْجَدَّةَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مُتَّحِدَانِ فِيمَنْ يُدْلِيَانِ بِهِ، فَلاَ يُتَصَوَّرُ اخْتِلاَفٌ فِي صِفَةِ الْمُدْلَى بِهِ، فَتَكُونُ الْقِسْمَةُ حِينَئِذٍ عَلَى أَشْخَاصِهِمْ لِلذَّكَرِ مِثْل حَظِّ الأُْنْثَيَيْنِ، فَيَكُونُ لأَِبِي أَبِي أُمِّ(3/57)
الأَْبِ الثُّلُثَانِ، وَلأَِبِي أَبِي أُمِّ الأَْبِ الثُّلُثُ.
وَإِنِ اسْتَوَتِ الدَّرَجَةُ وَاخْتَلَفَتْ صِفَةُ مَنْ يُدْلُونَ بِهِمْ فِي الذُّكُورَةِ وَالأُْنُوثَةِ، كَأَبِي أُمِّ أَبِي أَبِي الأَْبِ وَأَبِي أُمِّ أُمِّ أُمِّ الأَْبِ، يُقْسَمُ الْمَال عَلَى أَوَّل بَطْنٍ اُخْتُلِفَ فِيهِ، كَمَا فِي الصِّنْفِ الأَْوَّل، فَيَجْعَل لِلذَّكَرِ مِثْل ضِعْفِ نَصِيبِ الأُْنْثَى، وَيَتْبَعُ مَا اتُّبَعَ فِي تَوْرِيثِ الصِّنْفِ الأَْوَّل بَعْدَ الاِخْتِلاَفِ.
88 - وَإِنِ اخْتَلَفَتْ قَرَابَتُهُمْ مَعَ اسْتِوَاءِ دَرَجَاتِهِمْ، كَمَا إِذَا تَرَكَ أُمَّ أَبِي أُمِّ أَبِي الأَْبِ، وَأُمَّ أَبِي أَبِي أَبِي الأُْمِّ، فَالثُّلُثَانِ لِقَرَابَةِ الأَْبِ وَهُوَ نَصِيبُ الأَْبِ، وَالثُّلُثُ لِقَرَابَةِ الأُْمِّ، لأَِنَّ الَّذِينَ يُدْلُونَ بِالأَْبِ يَقُومُونَ مَقَامَهُ، وَالَّذِينَ يُدْلُونَ بِالأُْمِّ يَقُومُونَ مَقَامَهَا، فَيَجْعَل الْمَال أَثْلاَثًا، كَأَنَّهُ تَرَكَ أَبًا وَأُمًّا. ثُمَّ مَا أَصَابَ كُل فَرِيقٍ يُقْسَمُ بَيْنَهُمْ، كَمَا لَوِ اتَّحَدَتْ قَرَابَتُهُمْ، عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ يُقْسَمُ الثُّلُثَانِ عَلَى قَرَابَةِ الأَْبِ، وَالثُّلُثُ عَلَى قَرَابَةِ الأُْمِّ. وَالضَّابِطُ أَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ اسْتِوَاءٌ فِي الدَّرَجَةِ أَوْ لاَ. فَإِنْ لَمْ يَكُنِ اسْتِوَاءٌ فَالأَْقْرَبُ هُوَ الأَْوْلَى بِالْمِيرَاثِ، وَإِنْ وُجِدَ اسْتِوَاءٌ فِي الدَّرَجَةِ فَإِمَّا أَنْ تَتَّحِدَ الْقَرَابَةُ أَوْ تَخْتَلِفَ، فَإِنِ اخْتَلَفَتْ يُقْسَمُ الْمَال أَثْلاَثًا. وَإِنِ اتَّحَدَتْ: فَإِنِ اتَّفَقَتْ صِفَةُ الأُْصُول فَالْقِسْمَةُ عَلَى أَشْخَاصِ الْفُرُوعِ. وَإِنْ لَمْ تَتَّفِقْ يُقْسَمُ الْمَال عَلَى الْخِلاَفِ كَمَا فِي الصِّنْفِ الأَْوَّل.
الصِّنْفُ الثَّالِثُ:
89 - وَهُمْ أَوْلاَدُ الأَْخَوَاتِ، وَبَنَاتُ الإِْخْوَةِ مُطْلَقًا، وَبَنُو الإِْخْوَةِ لأُِمٍّ.
وَالْحُكْمُ فِيهِمْ أَنَّ أَوْلاَهُمْ بِالْمِيرَاثِ أَقْرَبُهُمْ دَرَجَةً إِلَى الْمَيِّتِ، فَبِنْتُ الأُْخْتِ أَوْلَى مِنِ ابْنِ بِنْتِ(3/58)
الأَْخِ، لِقُرْبِهَا، وَإِنِ اسْتَوَوْا فِي دَرَجَةِ الْقُرْبِ فَوَلَدُ الْعَصَبَةِ أَوْلَى مِنْ وَلَدِ ذَوِي الأَْرْحَامِ، كَبِنْتِ ابْنِ الأَْخِ، وَابْنِ بِنْتِ الأُْخْتِ، سَوَاءٌ أَكَانَ كِلاَهُمَا لأَِبٍ وَأُمٍّ، أَمْ لأَِبٍ، أَمْ مُخْتَلِفَيْنِ، فَالْمَال كُلُّهُ لِبِنْتِ ابْنِ الأَْخِ، لأَِنَّهَا وَلَدُ الْعَصَبَةِ. وَإِنْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ بِنْتَ ابْنِ الأَْخِ، وَابْنَ الأَْخِ لأُِمٍّ، كَانَ الْمَال بَيْنَهُمَا لِلذَّكَرِ مِثْل حَظِّ الأُْنْثَيَيْنِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ بِاعْتِبَارِ الأَْشْخَاصِ. لأَِنَّ الأَْصْل فِي الْمَوَارِيثِ تَفْضِيل الذَّكَرِ عَلَى الأُْنْثَى، وَإِنَّمَا تُرِكَ هَذَا الأَْصْل فِي أَوْلاَدِ الأُْمِّ بِالنَّصِّ عَلَى خِلاَفِ الْقِيَاسِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} (1) وَمَا كَانَ مَخْصُوصًا عَنِ الْقِيَاسِ لاَ يَلْحَقُ بِهِ مَا لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ. وَلَيْسَ أَوْلاَدُ هَؤُلاَءِ فِي مَعْنَاهُمْ مِنْ كُل وَجْهٍ، إِذْ لاَ يَرِثُونَ بِالْفَرْضِيَّةِ شَيْئًا، فَيَجْرِي فِيهِمْ ذَلِكَ الأَْصْل وَهُوَ أَنَّ لِلذَّكَرِ ضِعْفَ الأُْنْثَى، وَأَيْضًا فَإِنَّ تَوْرِيثَ ذَوِي الأَْرْحَامِ بِمَعْنَى الْعُصُوبَةِ، فَيَفْضُل فِيهِ الذَّكَرُ عَلَى الأُْنْثَى، كَمَا فِي حَقِيقَةِ الْعُصُوبَةِ.
وَعِنْدَ الإِْمَامِ مُحَمَّدٍ: الْمَال بَيْنَهُمَا مُنَاصَفَةً بِاعْتِبَارِ الأُْصُول، وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ، وَالْوَجْهُ فِيهِ أَنَّ اسْتِحْقَاقَهُمَا لِلْمِيرَاثِ بِقَرَابَةِ الأُْمِّ، وَبِهَذَا الاِعْتِبَارِ لاَ تَفْضِيل لِلذَّكَرِ عَلَى الأُْنْثَى أَصْلاً، بَل رُبَّمَا تَفْضُل الأُْنْثَى عَلَيْهِ، فَإِنَّ أُمَّ الأُْمِّ صَاحِبَةُ فَرْضٍ بِخِلاَفِ أَبِي الأُْمِّ، فَإِنْ لَمْ تَفْضُل الأُْنْثَى هُنَا فَلاَ أَقَل مِنَ التَّسَاوِي.
90 - وَإِنِ اسْتَوَوْا فِي الْقُرْبِ وَلَيْسَ بَعْضُهُمْ وَلَدَ الْعَصَبَةِ، وَبَعْضُهُمْ وَلَدُ ذَوِي الأَْرْحَامِ، كَأَنْ يَكُونَ الْكُل أَوْلاَدَ الْعَصَبَةِ، كَبِنْتِ أَخٍ شَقِيقٍ، وَبِنْتِ أَخٍ
__________
(1) سورة النساء / 12(3/58)
لأَِبٍ، أَوْ يَكُونَ الْكُل أَوْلاَدَ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ، كَثَلاَثَةِ أَوْلاَدِ ثَلاَثِ أَخَوَاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ، أَوْ يَكُونَ الْكُل أَوْلاَدَ ذِي الرَّحِمِ كَبِنْتِ بِنْتِ أَخٍ، وَابْنِ بِنْتِ أَخٍ آخَرَ، أَوْ يَكُونَ الْبَعْضُ وَلَدَ الْعَصَبَةِ، وَالْبَعْضُ الآْخَرُ وَلَدَ صَاحِبِ الْفَرْضِ، كَثَلاَثِ بَنَاتِ ثَلاَثَةِ إِخْوَةٍ مُفْتَرِقِينَ، فَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَعْتَبِرُ الأَْقْوَى فِي الْقَرَابَةِ، فَعِنْدَهُ يَجْعَل الْمَال أَوَّلاً لأَِوْلاَدِ بَنِي الأَْعْيَانِ، ثُمَّ لأَِوْلاَدِ بَنِي الْعَلاَّتِ إِنْ لَمْ يُوجَدْ أَوْلاَدُ بَنِي الأَْعْيَانِ، ثُمَّ لأَِوْلاَدِ بَنِي الأَْخْيَافِ إِنْ لَمْ يُوجَدْ أَوْلاَدُ بَنِي الْعَلاَّتِ، لِلذَّكَرِ مِثْل حَظِّ الأُْنْثَيَيْنِ.
91 - وَإِنْ لَمْ يُوجَدِ الأَْقْوَى بِأَنْ يَتَسَاوَوْا فِي الْقُوَّةِ، يُقْسَمُ الْمَال بَيْنَ أَبْدَانِهِمْ لِلذَّكَرِ مِثْل حَظِّ الأُْنْثَيَيْنِ، وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يُقْسَمُ الْمَال عَلَى الإِْخْوَةِ وَالأَْخَوَاتِ، كَمَا لَوْ كَانُوا هُمُ الْوَرَثَةَ دُونَ فُرُوعِهِمْ، مَعَ اعْتِبَارِ عَدَدِ الْفُرُوعِ وَالْجِهَاتِ فِي الأُْصُول، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْل الإِْمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، ثُمَّ يُقْسَمُ مَا أَصَابَ كُل فَرِيقٍ مِنْ تِلْكَ الأُْصُول بَيْنَ فُرُوعِهِمْ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي الصِّنْفِ الأَْوَّل، مِثَال ذَلِكَ: لَوْ تَرَكَ ثَلاَثَ بَنَاتِ إِخْوَةٍ مُتَفَرِّقِينَ وَثَلاَثَ بَنِينَ وَثَلاَثَ بَنَاتٍ مِنْ أَخَوَاتٍ مُفْتَرِقَاتٍ بِهَذِهِ الصُّورَةِ:
مَيِّتٌ
1 - بِنْتُ أَخٍ لأَِبَوَيْنِ
2 - ابْنٌ وَبِنْتُ أُخْتٍ لأَِبَوَيْنِ
3 - بِنْتُ أَخٍ لأَِبٍ
4 - ابْنٌ وَبِنْتُ أُخْتٍ لأَِبٍ
5 - بِنْتُ أَخٍ لأُِمٍّ
6 - ابْنٌ وَبِنْتُ أُخْتٍ لأُِمٍّ
عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يُقْسَمُ كُل الْمَال بَيْنَ فُرُوعِ بَنِي الأَْعْيَانِ، ثُمَّ بَيْنَ فُرُوعِ بَنِي(3/59)
الْعَلاَّتِ، ثُمَّ بَيْنَ فُرُوعِ بَنِي الأَْخْيَافِ، لِلذَّكَرِ مِثْل حَظِّ الأُْنْثَيَيْنِ أَرْبَاعًا، بِاعْتِبَارِ أَبْدَانِ الْفُرُوعِ وَصِفَاتِهِمْ، فَيُعْطِي بِنْتَ الأَْخِ لأَِبَوَيْنِ النِّصْفَ، وَبِنْتَ الأُْخْتِ لأَِبَوَيْنِ الرُّبُعَ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فُرُوعُ بَنِي الأَْعْيَانِ، يُقْسَمُ عَلَى فُرُوعِ بَنِي الْعَلاَّتِ. (1) أَرْبَاعًا أَيْضًا بِاعْتِبَارِ أَبْدَانِهِمْ، لاِبْنِ الأُْخْتِ مِنَ الأَْبِ النِّصْفُ، وَلِبِنْتِ الأَْخِ مِنَ الأَْبِ الرُّبُعُ، وَلِبِنْتِ الأُْخْتِ مِنَ الأَْبِ الرُّبُعُ. فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فُرُوعُ بَنِي الْعَلاَّتِ يُقْسَمُ الْمَال عَلَى فُرُوعِ بَنِي الأَْخْيَافِ أَرْبَاعًا أَيْضًا بِاعْتِبَارِ الأَْبْدَانِ، وَقَدَّمَ أَوْلاَدَ بَنِي الْعَلاَّتِ عَلَى أَوْلاَدِ بَنِي الأَْخْيَافِ، لأَِنَّ قَرَابَةَ الأَْبِ أَقْوَى مِنْ قَرَابَةِ الأُْمِّ، فَأَصْل الْمَسْأَلَةِ عَلَى رَأْيِهِ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَمِنْهَا تَصِحُّ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يُقْسَمُ ثُلُثُ الْمَال بَيْنَ فُرُوعِ بَنِي الأَْخْيَافِ عَلَى السَّوِيَّةِ أَثْلاَثًا، لاِسْتِوَاءِ أُصُولِهِمْ فِي الْقِسْمَةِ، فَإِذَا اُعْتُبِرَ عَدَدُ الْفُرُوعِ فِي الأُْخْتِ، صَارَتْ كَأَنَّهَا أُخْتَانِ لأُِمٍّ، فَتَأْخُذُ هِيَ ثُلُثَيِ الْمَال وَيَأْخُذُ الأَْخُ لأُِمٍّ ثُلُثَهُ، ثُمَّ يَنْتَقِل مَا أَصَابَ الأَْخَ، وَهُوَ تُسْعُ الْمَال لِبِنْتِهِ، وَمَا أَصَابَ الأُْخْتَ وَهُوَ تُسْعُ الْمَال إِلَى ابْنِهَا وَابْنَتِهَا بِالسَّوِيَّةِ، وَثُلُثَا الْمَال يُقْسَمُ بَيْنَ بَنِي الأَْعْيَانِ أَنْصَافًا، بِاعْتِبَارِ عَدَدِ الْفُرُوعِ فِي الأُْصُول، نِصْفُهُ لِبِنْتِ الأَْخِ نَصِيبُ أَبِيهَا، وَالنِّصْفُ الآْخَرُ بَيْنَ وَلَدَيِ الأُْخْتِ الْمُقَدَّرَةِ بِأُخْتَيْنِ أَثْلاَثًا، لِلذَّكَرِ مِثْل حَظِّ الأُْنْثَيَيْنِ، بِاعْتِبَارِ الأَْبْدَانِ، وَلاَ شَيْءَ لِفُرُوعِ بَنِي الْعَلاَّتِ، لأَِنَّهُمْ مَحْجُوبُونَ بِبَنِي الأَْعْيَانِ كَمَا
__________
(1) أولاد الإخوة الأعيان هم: الإخوة الأشقاء متحدي الأب والأم - أولاد الإخوة الأخياف هم: الإخوة من أم واحدة وآباء مختلفين. - أولاد العلات هم الإخوة من أب واحد وأمهات شتى (المصباح المنير، مادة عين، خيف، عل) بتصرف.(3/59)
سَبَقَ، فَتَصِحُّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ تِسْعَةٍ، ثَلاَثَةٌ مِنْهَا لِفُرُوعِ بَنِي الأَْخْيَافِ الثَّلاَثَةِ بِالسَّوِيَّةِ، وَثَلاَثَةٌ لِبِنْتِ الأَْخِ لأَِبَوَيْنِ، وَثَلاَثَةٌ لِوَلَدَيِ الأُْخْتِ لأَِبَوَيْنِ، لِلذَّكَرِ مِثْل حَظِّ الأُْنْثَيَيْنِ.
الصِّنْفُ الرَّابِعُ:
92 - هُوَ الَّذِي يَنْتَسِبُ إِلَى أَحَدِ جَدَّيِ الْمَيِّتِ أَوْ جَدَّتَيْهِ، وَهُمُ الْعَمَّاتُ عَلَى الإِْطْلاَقِ، وَالأَْعْمَامُ لأُِمٍّ، وَالأَْخْوَال وَالْخَالاَتُ مُطْلَقًا.
وَالْحُكْمُ فِيهِمْ: أَنَّهُ إِذَا انْفَرَدَ وَاحِدٌ مِنْهُمُ اسْتَحَقَّ الْمَال كُلَّهُ، لِعَدَمِ الْمُزَاحِمِ. فَإِذَا تَرَكَ الْمَيِّتُ عَمَّةً وَاحِدَةً، أَوْ عَمًّا وَاحِدًا لأُِمٍّ، أَوْ خَالاً وَاحِدًا، أَوْ خَالَةً وَاحِدَةً، كَانَ الْمَال كُلُّهُ لِلْوَاحِدِ الْمُنْفَرِدِ كَمَا هُوَ الْحُكْمُ فِي كُل الأَْصْنَافِ.
فَإِذَا اجْتَمَعُوا، وَكَانُوا مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ، كَالأَْعْمَامِ لأُِمٍّ، وَالْعَمَّاتِ (فَإِنَّهُمْ مِنْ جَانِبِ الأَْبِ) ، أَوِ الأَْخْوَال وَالْخَالاَتِ (فَإِنَّهُمْ مِنْ جَانِبِ الأُْمِّ) ، فَالْحُكْمُ فِيهِمْ: أَنَّ الأَْقْوَى مِنْهُمْ فِي الْقَرَابَةِ أَوْلَى بِالْمِيرَاثِ إِجْمَاعًا، فَمَنْ كَانَ شَقِيقًا فَهُوَ أَوْلَى مِمَّنْ كَانَ لأَِبٍ. وَمَنْ كَانَ لأَِبٍ فَهُوَ أَوْلَى مِمَّنْ كَانَ لأُِمٍّ. وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الأَْقْرَبُ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، فَعَمَّةٌ شَقِيقَةٌ أَوْلَى مِنْ عَمَّةٍ لأَِبٍ أَوْ عَمَّةٍ لأُِمٍّ أَوْ عَمٍّ لأُِمٍّ، لِقُوَّةِ قَرَابَتِهَا، وَكَذَا الْخَال أَوِ الْخَالَةُ لأَِبٍ وَأُمٍّ أَوْلَى بِالْمِيرَاثِ.
93 - وَإِنْ كَانُوا ذُكُورًا وَإِنَاثًا، وَاتَّحَدَتْ جِهَةُ الْقَرَابَةِ، وَاسْتَوَتْ قَرَابَتُهُمْ فِي الْقُوَّةِ، بِأَنْ يَكُونُوا كُلُّهُمْ أَشِقَّاءَ أَوْ لأَِبٍ أَوْ لأُِمٍّ، كَانَ لِلذَّكَرِ مِثْل حَظِّ الأُْنْثَيَيْنِ، كَعَمٍّ وَعَمَّةٍ كِلاَهُمَا لأُِمٍّ. أَوْ خَالٍ وَخَالَةٍ كِلاَهُمَا شَقِيقٌ، أَوْ لأَِبٍ، أَوْ لأُِمٍّ، لأَِنَّ الْعَمَّ وَالْعَمَّةَ مُتَّحِدَانِ فِي الأَْصْل الَّذِي هُوَ الأَْبُ، وَكَذَلِكَ أَصْل(3/60)
الْخَال وَالْخَالَةِ وَاحِدٌ، وَهُوَ الأُْمُّ. وَمَتَى اتَّفَقَ الأَْصْل فَالْعِبْرَةُ فِي الْقِسْمَةِ بِالأَْشْخَاصِ عِنْدَ الْجَمِيعِ.
94 - وَإِنِ اخْتَلَفَتْ جِهَةُ قَرَابَتِهِمْ، بِأَنْ كَانَتْ قَرَابَةُ بَعْضِهِمْ مِنْ جَانِبِ الأَْبِ، وَقَرَابَةُ بَعْضِهِمْ مِنْ جَانِبِ الأُْمِّ فَلاَ اعْتِبَارَ لِقُوَّةِ الْقَرَابَةِ. فَإِذَا تَرَكَ الْمَيِّتُ عَمَّةً شَقِيقَةً وَخَالَةً لأُِمٍّ، أَوْ خَالاً شَقِيقًا وَعَمَّةً لأُِمٍّ، فَالثُّلُثَانِ - وَهُوَ نَصِيبُ الأَْبِ - لِقَرَابَةِ الأَْبِ، وَالثُّلُثُ - وَهُوَ نَصِيبُ الأُْمِّ - لِقَرَابَةِ الأُْمِّ.
كَيْفِيَّةُ تَوْرِيثِ أَوْلاَدِ الصِّنْفِ الرَّابِعِ:
95 - الْحُكْمُ السَّابِقُ فِي تَوْرِيثِ الصِّنْفِ الرَّابِعِ لاَ يَسْرِي عَلَى أَوْلاَدِهِمْ، لأَِنَّ أَوْلَى الأَْوْلاَدِ بِالْمِيرَاثِ أَقْرَبُهُمْ إِلَى الْمَيِّتِ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ كَانَ، فَبِنْتُ الْعَمَّةِ أَوِ ابْنُهَا أَوْلَى مِنْ بِنْتِ بِنْتِ الْعَمَّةِ وَابْنِ بِنْتِهَا، لأَِنَّهُمَا أَقْرَبُ إِلَى الْمَيِّتِ.
وَإِنِ اسْتَوَوْا فِي الْقُرْبِ إِلَى الْمَيِّتِ، وَكَانَتْ جِهَةُ قَرَابَتِهِمْ مُتَّحِدَةً، بِأَنْ تَكُونَ قَرَابَةُ الْكُل مِنْ جَانِبِ أَبِي الْمَيِّتِ، أَوْ مِنْ جَانِبِ أُمِّهِ، فَمَنْ كَانَ لَهُ قُوَّةُ الْقَرَابَةِ فَهُوَ أَوْلَى بِالإِْجْمَاعِ مِمَّنْ لَيْسَ لَهُ قُوَّةُ الْقَرَابَةِ، فَإِذَا تَرَكَ الْمَيِّتُ ثَلاَثَةَ أَوْلاَدِ عَمَّاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ، كَانَ الْمَال كُلُّهُ لِوَلَدِ الْعَمَّةِ الشَّقِيقَةِ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فَلِوَلَدِ الْعَمَّةِ لأَِبٍ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فَلِوَلَدِ الْعَمَّةِ لأُِمٍّ، وَالْحُكْمُ كَذَلِكَ فِي أَوْلاَدِ أَخْوَالٍ مُتَفَرِّقِينَ، أَوْ خَالاَتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ.
96 - وَإِنِ اسْتَوَوْا فِي الْقَرَابَةِ بِحَسَبِ الدَّرَجَةِ وَقُوَّةِ الْقَرَابَةِ، وَكَانَتْ جِهَةُ الْقَرَابَةِ مُتَّحِدَةً، بِأَنْ يَكُونُوا كُلُّهُمْ مِنْ جِهَةِ أَبِي الْمَيِّتِ أَوْ جِهَةِ أُمِّهِ، فَوَلَدُ الْعَصَبَةِ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ، كَبِنْتِ الْعَمِّ وَابْنِ الْعَمَّةِ الشَّقِيقَةِ، أَوْ لأَِبٍ، أَوْ لأُِمٍّ، فَالْمَال كُلُّهُ لِبِنْتِ(3/60)
الْعَمِّ، لأَِنَّهَا وَلَدُ الْعَصَبَةِ، دُونَ ابْنِ الْعَمَّةِ، لأَِنَّهُ وَلَدُ رَحِمٍ.
وَإِنْ كَانَ الْعَمُّ أَوِ الْعَمَّةُ شَقِيقًا، وَالآْخَرُ لأَِبٍ، كَانَ الْمَال كُلُّهُ لِبِنْتِ الْعَمِّ الشَّقِيقِ، لِقُوَّةِ الْقَرَابَةِ، فَلَوْ تَرَكَ الْمَيِّتُ ابْنَ عَمَّةٍ شَقِيقَةٍ، وَبِنْتَ عَمٍّ لأَِبٍ، فَالْمَال كُلُّهُ لاِبْنِ الْعَمَّةِ الشَّقِيقَةِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، لِقُوَّةِ قَرَابَتِهِ دُونَ بِنْتِ الْعَمِّ، وَإِنْ كَانَتْ بِنْتَ وَارِثٍ.
وَقَال بَعْضُ مَشَايِخِ الْحَنَفِيَّةِ، بِنَاءً عَلَى رِوَايَةٍ غَيْرِ ظَاهِرَةٍ، الْمَال كُلُّهُ فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ لِبِنْتِ الْعَمِّ لأَِبٍ، لأَِنَّهَا وَلَدُ الْعَصَبَةِ، بِخِلاَفِ ابْنِ الْعَمَّةِ، فَإِنَّهُ وَلَدُ ذَاتِ رَحِمٍ.
97 - وَإِنِ اسْتَوَوْا فِي الْقُرْبِ، وَاخْتَلَفَتْ جِهَةُ قَرَابَتِهِمْ، بِأَنْ كَانَ بَعْضُهُمْ مِنْ جِهَةِ الأَْبِ، وَبَعْضُهُمْ مِنْ جِهَةِ الأُْمِّ، فَلاَ اعْتِبَارَ لِقُوَّةِ الْقَرَابَةِ وَلاَ لِوَلَدِ الْعَصَبَةِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، فَلاَ يَكُونُ وَلَدُ الْعَمَّةِ الشَّقِيقَةِ أَوْلَى مِنْ وَلَدِ الْخَال الشَّقِيقِ أَوِ الْخَالَةِ الشَّقِيقَةِ، لِعَدَمِ اعْتِبَارِ قُوَّةِ قَرَابَةِ وَلَدِ الْعَمَّةِ. وَكَذَا بِنْتُ الْعَمِّ الشَّقِيقِ لَيْسَتْ أَوْلَى مِنْ بِنْتِ الْخَال أَوِ الْخَالَةِ الشَّقِيقَةِ، لِعَدَمِ اعْتِبَارِ كَوْنِ بِنْتِ الْعَمِّ وَلَدَ عَصَبَةٍ، لَكِنْ يُقْسَمُ الْمِيرَاثُ بِاعْتِبَارِ الثُّلُثَيْنِ لِقَرَابَةِ الأَْبِ، وَالثُّلُثِ لِقَرَابَةِ الأُْمِّ، لِقِيَامِ قَرَابَةِ الأَْبِ مَقَامَهُ وَقَرَابَةِ الأُْمِّ مَقَامَهَا.
ثُمَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ مَا أَصَابَ كُل فَرِيقٍ مِنْ جِهَةِ الأَْبِ أَوْ جِهَةِ الأُْمِّ، يُقْسَمُ عَلَى أَشْخَاصِ فُرُوعِهِمْ مَعَ اعْتِبَارِ عَدَدِ الْجِهَاتِ فِي الْفُرُوعِ.
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُقْسَمُ الْمَال عَلَى أَوَّل بَطْنٍ اُخْتُلِفَ فِيهِ، مَعَ اعْتِبَارِ عَدَدِ الْفُرُوعِ وَالْجِهَاتِ فِي الأُْصُول(3/61)
كَمَا هُوَ الْحَال فِي الصِّنْفِ الأَْوَّل وَهَكَذَا. (1)
هَذِهِ هِيَ أَحْكَامُ تَوْرِيثِ ذَوِي الأَْرْحَامِ فِي مَذْهَبِ أَهْل الْقَرَابَةِ
مَذْهَبُ أَهْل التَّنْزِيل:
98 - مَعْنَى التَّنْزِيل:
أَنَّ مَنْ أَدْلَى مِنْ ذَوِي الأَْرْحَامِ إِلَى الْمَيِّتِ بِوَارِثٍ قَامَ مَقَامَ ذَلِكَ الْوَارِثِ، فَوَلَدُ الْبَنَاتِ، وَوَلَدُ بَنَاتِ الاِبْنِ، وَوَلَدُ الأَْخَوَاتِ مُطْلَقًا كَأُمَّهَاتِهِمْ. وَبَنَاتُ الإِْخْوَةِ، وَبَنَاتُ الأَْعْمَامِ الأَْشِقَّاءِ، أَوْ لأَِبٍ، وَبَنَاتُ بَنِيهِمْ، وَأَوْلاَدُ الإِْخْوَةِ مِنْ الأُْمِّ، وَأَوْلاَدُ الأَْعْمَامِ لأُِمٍّ كَآبَائِهِمْ. وَمِنَ الْقَائِلِينَ بِهِ عَلْقَمَةُ وَالشَّعْبِيُّ وَمَسْرُوقٌ وَنُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ وَأَبُو نُعَيْمٍ وَأَبُو عُبَيْدَةَ الْقَاسِمُ بْنُ سَلاَمٍ.
وَقَدْ ذَهَبَ إِلَيْهِ الإِْمَامُ الشَّافِعِيُّ وَالإِْمَامُ أَحْمَدُ فِي الرِّوَايَةِ الأُْخْرَى عَنْهُ، وَاسْتَثْنَيَا مِنْ هَذَا الأَْصْل مَسْأَلَتَيْنِ:
1 - أَنَّهُمَا نَزَّلاَ الْخَال وَالْخَالَةَ وَلَوْ مِنْ جِهَةِ الأَْبِ مَنْزِلَةَ الأُْمِّ عَلَى الأَْصَحِّ، وَنَزَّلاَ جَدَّ الْمَيِّتِ لأُِمٍّ مَنْزِلَةَ الأُْمِّ عَلَى الأَْصَحِّ.
2 - نَزَّلاَ الأَْعْمَامَ لأُِمٍّ وَالْعَمَّةَ مُطْلَقًا مَنْزِلَةَ الأَْبِ عَلَى الأَْصَحِّ.
وَقَدْ رَجَّحَ الإِْمَامَانِ مَذْهَبَ أَهْل التَّنْزِيل، لأَِنَّهُ مَذْهَبُ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْقَائِلِينَ بِتَوْرِيثِ ذَوِي الأَْرْحَامِ، فَلَوْ تَرَكَ الْمَيِّتُ بِنْتَ بِنْتٍ، وَبِنْتَ بِنْتِ ابْنٍ، فَعَلَى مَذْهَبِ أَهْل التَّنْزِيل الْمَال بَيْنَهُمَا: ثَلاَثَةُ أَرْبَاعِهِ لِبِنْتِ الْبِنْتِ، وَرُبُعُهُ لِبِنْتِ بِنْتِ الاِبْنِ فَرْضًا وَرَدًّا.
__________
(1) السراجية ص 265 - 300، والعذب الفائض 2 / 15 وما بعدها.(3/61)
99 - وَمَذْهَبُ أَهْل التَّنْزِيل كَمَذْهَبِ أَهْل الْقَرَابَةِ فِي أَنَّ مَنِ انْفَرَدَ مِنْ ذَوِي الأَْرْحَامِ يَأْخُذُ جَمِيعَ التَّرِكَةِ، ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى.
لَكِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْمَذْهَبَيْنِ يَظْهَرُ فِي اجْتِمَاعِ ذَوِي الأَْرْحَامِ، فَأَهْل التَّنْزِيل حِينَئِذٍ يَجْعَلُونَ الْفُرُوعَ قَائِمِينَ مَقَامَ أُصُولِهِمْ، وَيَأْخُذُونَ أَنْصِبَتَهُمْ. فَإِنْ أَدْلَوْا بِعَاصِبٍ أَخَذُوا نَصِيبَهُ تَعْصِيبًا. وَإِنْ أَدْلَوْا بِذِي فَرْضٍ أَخَذُوا نَصِيبَهُ فَرْضًا وَرَدًّا، وَيُقْسَمُ عَلَى الْجَمِيعِ بِالتَّسَاوِي بَيْنَ الذَّكَرِ وَالأُْنْثَى عِنْدَ الإِْمَامِ أَحْمَدَ، لأَِنَّهُمْ يَرِثُونَ بِالرَّحِمِ الْمُجَرَّدِ، فَيَسْتَوُونَ كَأَوْلاَدِ الأُْمِّ. وَذَهَبَ الإِْمَامُ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ الذَّكَرَ يَأْخُذُ مِثْل حَظِّ الأُْنْثَيَيْنِ.
فَفِي بِنْتِ بِنْتٍ، وَابْنٍ، وَبِنْتٍ مِنْ بِنْتٍ أُخْرَى، إِذَا رُفِعُوا دَرَجَةً صَارُوا فِي مَنْزِلَةِ بِنْتَيْنِ، فَتَكُونُ التَّرِكَةُ مُنَاصَفَةً، تَأْخُذُ بِنْتُ الْبِنْتِ نِصْفَهَا، وَيَأْخُذُ الاِبْنُ وَالْبِنْتُ النِّصْفَ الآْخَرَ، فَتَصِحُّ الْمَسْأَلَةُ مِنْ أَرْبَعَةٍ عَلَى مَذْهَبِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ. وَعِنْدَ الإِْمَامِ الشَّافِعِيِّ تَصِحُّ مِنْ سِتَّةٍ، لأَِنَّ أَصْل الْمَسْأَلَةِ ثَلاَثَةٌ. وَذَلِكَ فِي غَيْرِ أَوْلاَدِ الأُْمِّ لأَِنَّهُمْ مُتَسَاوُونَ فِي النَّصِيبِ بِالنَّصِّ. (1)
مَذْهَبُ أَهْل الرَّحِمِ:
100 - هُمُ الَّذِينَ يُسَوُّونَ بَيْنَ ذَوِي الأَْرْحَامِ فِي التَّوْرِيثِ، فَلاَ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ صِنْفٍ وَصِنْفٍ، وَلاَ بَيْنَ دَرَجَةٍ وَدَرَجَةٍ، وَلاَ بَيْنَ قَرَابَةٍ قَوِيَّةٍ وَأُخْرَى ضَعِيفَةٍ.
فَلَوْ كَانَ لِلْمُتَوَفَّى بِنْتُ أُخْتٍ، وَبِنْتُ بِنْتٍ، فَإِنَّ الْمِيرَاثَ بَيْنَهُمَا عَلَى السَّوَاءِ، وَلَوْ تَرَكَ ابْنَ أُخْتٍ،
__________
(1) العذب الفائض 2 / 18 وما بعدها.(3/62)
وَبِنْتَ ابْنِ أَخٍ، فَالْمِيرَاثُ بَيْنَهُمَا سَوَاءٌ، وَذَلِكَ لأَِنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلْمِيرَاثِ هُوَ الرَّحِمُ، وَهِيَ مُتَحَقِّقَةٌ فِي الْجَمِيعِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِقَةٍ، وَتَحَقُّقُهَا فِي الْجَمِيعِ بِقَدْرٍ مُشْتَرَكٍ، فَثَبَتَ الْمِيرَاثُ لِلْجَمِيعِ بِالتَّسَاوِي. وَلَقَدْ كَانَ مِنْ أَنْصَارِ هَذَا الرَّأْيِ حَسَنُ بْنُ مُيَسَّرٍ وَنُوحُ بْنُ ذُرَاحٍ، وَلَمْ يَأْخُذْ هَذَا الرَّأْيَ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْمَذَاهِبِ الْمَشْهُورَةِ. (1)
إِرْثُ ذَوِي الأَْرْحَامِ مَعَ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ:
101 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ مَنْ وَرَّثُوا ذَوِي الأَْرْحَامِ فِي أَنَّهُمْ إِذَا اجْتَمَعُوا مَعَ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ فَلِكُلٍّ مِنْهُمَا نَصِيبُهُ كَامِلاً، فَلاَ يُحْجَبُ الزَّوْجُ مِنَ النِّصْفِ إِلَى الرُّبُعِ، وَلاَ تُحْجَبُ الزَّوْجَةُ مِنَ الرُّبُعِ إِلَى الثُّمُنِ بِأَحَدٍ مِنْ ذَوِي الأَْرْحَامِ. وَذَلِكَ لأَِنَّ فَرْضَ الزَّوْجَيْنِ ثَبَتَ بِالنَّصِّ، وَإِرْثُ ذَوِي الأَْرْحَامِ غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ فَلاَ يُعَارِضُهُ. وَمَا بَقِيَ بَعْدَ فَرْضِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ يَكُونُ لِذَوِي الأَْرْحَامِ.
102 - لَكِنِ اخْتُلِفَ فِي كَيْفِيَّةِ تَوْرِيثِهِمْ: فَقَال أَهْل الْقَرَابَةِ: يُخْرَجُ نَصِيبُ الزَّوْجِ أَوِ الزَّوْجَةِ أَوَّلاً، ثُمَّ يُقْسَمُ الْبَاقِي عَلَى ذَوِي الأَْرْحَامِ، كَمَا يُقْسَمُ عَلَى الْجَمِيعِ لَوِ انْفَرَدُوا.
وَلأَِهْل التَّنْزِيل مَذْهَبَانِ: أَصَحُّهُمَا مَا قَالَهُ أَهْل الْقَرَابَةِ: رُوِيَ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ: أَنَّهُمْ يَرِثُونَ مَا فَضَل كَمَا يَرِثُونَ الْمَال إِذَا انْفَرَدُوا، وَهَذَا قَوْل أَبِي عُبَيْدٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَالْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ اللُّؤْلُؤِيِّ وَعَامَّةِ مَنْ وَرَّثَهُمْ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: أَنَّ الْبَاقِيَ بَعْدَ فَرْضِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ يُقْسَمُ بَيْنَهُمْ عَلَى نِسْبَةِ سِهَامِ الَّذِينَ يُدْلِي
__________
(1) المبسوط 30 / 4 ط دار المعرفة.(3/62)
بِهِمْ ذَوُو الأَْرْحَامِ مِنَ الْوَرَثَةِ مَعَ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ، وَهَذَا قَوْل يَحْيَى بْنِ آدَمَ وَضِرَارٍ. وَيُعْرَفُ الْقَائِلُونَ بِالأَْوَّل بِأَصْحَابِ: (اعْتِبَارِ مَا بَقِيَ) . وَالْقَائِلُونَ بِالثَّانِي بِأَصْحَابِ: (اعْتِبَارِ الأَْصْل) . وَلاَ خِلاَفَ فِي التَّوْرِيثِ إِذَا كَانَ ذَوُو الأَْرْحَامِ يُدْلُونَ بِذِي فَرْضٍ فَقَطْ، أَوْ بِعَصَبَةٍ فَقَطْ، وَإِنَّمَا يَقَعُ الْخِلاَفُ إِذَا كَانَ بَعْضُهُمْ يُدْلِي بِعَصَبَةٍ، وَبَعْضُهُمْ يُدْلِي بِذِي فَرْضٍ. فَلَوْ مَاتَتِ امْرَأَةٌ، عَنْ زَوْجٍ، وَبِنْتِ بِنْتٍ، وَخَالَةٍ، وَبِنْتِ عَمٍّ شَقِيقٍ أَوْ لأَِبٍ. فَعِنْدَ أَهْل الْقَرَابَةِ: لِلزَّوْجِ النِّصْفُ، وَالْبَاقِي لِبِنْتِ الْبِنْتِ وَحْدَهَا. وَعَلَى قَوْل أَهْل التَّنْزِيل: لِلزَّوْجِ النِّصْفُ، وَلِبِنْتِ الْبِنْتِ نِصْفُ الْبَاقِي، وَلِلْخَالَةِ سُدُسُ الْبَاقِي، وَلِبِنْتِ الْعَمِّ الْبَاقِي. فَتَصِحُّ الْمَسْأَلَةُ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ: لِلزَّوْجِ مِنْهَا سِتَّةٌ، وَلِبِنْتِ الْبِنْتِ ثَلاَثَةٌ، وَلِلْخَالَةِ وَاحِدٌ، وَلِبِنْتِ الْعَمِّ اثْنَانِ. وَعَلَى الْقَوْل الثَّانِي: إِذَا نَزَلُوا حَصَل مَعَ الزَّوْجِ أُمٌّ، وَعَمٌّ، وَبِنْتٌ بِالتَّنْزِيل، وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ بِنْتُ ابْنٍ وَهِيَ كَالْبِنْتِ فِي التَّنْزِيل لاَ فِي الْحَجْبِ، فَتَكُونُ الْمَسْأَلَةُ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ. يَخْرُجُ نَصِيبُ الزَّوْجِ أَوَّلاً الرُّبُعُ، ثَلاَثَةٌ، ثُمَّ يَخْرُجُ تَمَامُ نَصِيبِ النِّصْفِ لِلزَّوْجِ لِعَدَمِ الْحَجْبِ الْحَقِيقِيِّ، فَيَبْقَى سِتَّةٌ، تُقْسَمُ عَلَى التِّسْعَةِ، فَتَصِحُّ الْمَسْأَلَةُ مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، لِلزَّوْجِ تِسْعَةٌ، وَلِبِنْتِ الْبِنْتِ سِتَّةٌ، وَلِلْخَالَةِ اثْنَانِ، وَلِبِنْتِ الْعَمِّ وَاحِدٌ. (1)
الْمِيرَاثُ مِنْ جِهَتَيْنِ:
103 - قَدْ يَكُونُ لأَِحَدِ الْوَرَثَةِ جِهَتَانِ لِلْمِيرَاثِ. فَإِذَا كَانَتِ الْجِهَتَانِ مَعًا مِنْ طَرِيقِ الْعُصُوبَةِ وَرِثَ
__________
(1) العذب الفائض 2 / 50، 51، والمغني 7 / 93 ط المنار الأولى.(3/63)
بِأَقْوَاهِمَا. فَإِذَا مَاتَتِ امْرَأَةٌ عَنِ ابْنٍ، هُوَ ابْنُ ابْنِ عَمٍّ. فَإِنَّ التَّرِكَةَ تَكُونُ لَهُ بِاعْتِبَارِهِ ابْنًا وَلاَ شَيْءَ لَهُ بِالْقَرَابَةِ الأُْخْرَى، لأَِنَّ الْبُنُوَّةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْعُمُومَةِ.
فَإِذَا اخْتَلَفَتْ جِهَتَا إِرْثٍ تَقْتَضِي كُلٌّ مِنْهُمَا الْمِيرَاثَ، وَرِثَ بِالْجِهَتَيْنِ. فَإِذَا مَاتَ شَخْصٌ عَنْ أَخَوَيْنِ لأُِمٍّ، أَحَدُهُمَا ابْنُ عَمٍّ شَقِيقٍ. فَإِنَّ لِلأَْخَوَيْنِ لأُِمٍّ الثُّلُثَ فَرْضًا مُنَاصَفَةً بَيْنَهُمَا، وَالْبَاقِي يَنْفَرِدُ بِهِ الأَْخُ لأُِمٍّ الَّذِي هُوَ ابْنُ عَمٍّ شَقِيقٍ بِاعْتِبَارِهِ عَاصِبًا فَيَأْخُذُ الْبَاقِيَ.
وَقَدْ يُحْجَبُ الشَّخْصُ عَنِ الْمِيرَاثِ بِإِحْدَى الْجِهَتَيْنِ فَيَرِثُ بِالأُْخْرَى، لِعَدَمِ وُجُودِ حَاجِبٍ لَهُ فِيهَا، كَمَا إِذَا تُوُفِّيَ عَنْ بِنْتٍ، وَابْنَيْ عَمٍّ شَقِيقٍ أَحَدُهُمَا أَخٌ لأُِمٍّ، فَإِنَّ لِلْبِنْتِ النِّصْفَ فَرْضًا، وَالْبَاقِي لاِبْنَيِ الْعَمِّ الشَّقِيقِ تَعْصِيبًا مُنَاصَفَةً بَيْنَهُمَا، وَلاَ شَيْءَ لاِبْنِ الْعَمِّ الثَّانِي بِاعْتِبَارِهِ أَخًا لأُِمٍّ، لأَِنَّهُ مَحْجُوبٌ بِالْبِنْتِ.
مِيرَاثُ الْخُنْثَى:
104 - الْخُنْثَى لُغَةً: مَنْ لَهُ مَا لِلرِّجَال وَالنِّسَاءِ جَمِيعًا، جَمْعُهُ خَنَاثَى وَخَنَاثٌ. وَالْخَنِثُ كَكَتِفٍ مَنْ فِيهِ انْخِنَاثٌ، أَيْ تَكَسُّرٌ وَتَثَنٍّ. وَقَدْ خَنِثَ كَفَرِحَ وَانْخَنَثَ. (1)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: مَنْ لَهُ آلَةُ الرِّجَال وَآلَةُ النِّسَاءِ مَعًا. أَوْ لَيْسَ لَهُ شَيْءٌ مِنْهُمَا أَصْلاً (2)
، فَقَدْ سُئِل الشَّعْبِيُّ عَنْ مِيرَاثِ مَوْلُودٍ لَيْسَ لَهُ شَيْءٌ مِنَ الآْلَتَيْنِ وَيَخْرُجُ مِنْ سُرَّتِهِ شِبْهُ بَوْلٍ غَلِيظٍ، فَاعْتَبَرَهُ أُنْثَى.
__________
(1) القاموس المحيط.
(2) شرح السراجية ص 303 والعذب الفائض 2 / 53. والمغني 7 / 11 ط المنار الأولى، والرحبية ص 41(3/63)
وَهُوَ يَنْقَسِمُ إِلَى مُشْكِلٍ وَغَيْرِ مُشْكِلٍ. فَاَلَّذِي يَتَبَيَّنُ فِيهِ عَلاَمَاتُ الذُّكُورِيَّةِ أَوِ الأُْنُوثِيَّةِ، فَيُعْلَمُ أَنَّهُ رَجُلٌ أَوِ امْرَأَةٌ فَلَيْسَ بِمُشْكِلٍ، إِنَّمَا هُوَ رَجُلٌ فِيهِ خِلْقَةٌ زَائِدَةٌ، أَوِ امْرَأَةٌ فِيهَا خِلْقَةٌ زَائِدَةٌ.
105 - وَحُكْمُهُ فِي إِرْثِهِ وَسَائِرِ أَحْكَامِهِ: حُكْمُ مَا ظَهَرَتْ عَلاَمَاتُهُ فِيهِ. وَيُعْتَبَرُ بِمَبَالِهِ فِي قَوْل الْفُقَهَاءِ، قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُل مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْخُنْثَى يُورَثُ مِنْ حَيْثُ يَبُول. فَإِنْ بَال مِنْ حَيْثُ يَبُول الرَّجُل فَهُوَ رَجُلٌ، وَإِنْ بَال مِنْ حَيْثُ تَبُول الْمَرْأَةُ فَهُوَ امْرَأَةٌ، وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ ذَلِكَ: عَلِيٌّ وَمُعَاوِيَةُ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَأَهْل الْكُوفَةِ وَسَائِرُ أَهْل الْعِلْمِ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِل عَنْ مَوْلُودٍ لَهُ قُبُلٌ وَذَكَرٌ: مِنْ أَيْنَ يُورَثُ؟ قَال: مِنْ حَيْثُ يَبُول. وَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أُتِيَ بِخُنْثَى مِنَ الأَْنْصَارِ فَقَال: وَرِّثُوهُ مِنْ أَوَّل مَا يَبُول مِنْهُ. (1)
وَلأَِنَّ خُرُوجَ الْبَوْل أَعَمُّ الْعَلاَمَاتِ، لِوُجُودِهَا مِنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ. وَسَائِرُ الْعَلاَمَاتِ إِنَّمَا تُوجَدُ بَعْدَ الْكِبَرِ مِثْل نَبَاتِ اللِّحْيَةِ، وَتَفَلُّكِ الثَّدْيِ (اسْتِدَارَتُهُ) ، وَخُرُوجِ الْمَنِيِّ، وَالْحَيْضِ، وَالْحَبَل، وَإِنْ بَال مِنْهُمَا جَمِيعًا اُعْتُبِرَ أَسْبَقُهُمَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
فَإِنْ خَرَجَا مَعًا وَلَمْ يَسْبِقْ أَحَدُهُمَا، فَقَال الإِْمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ: يَرِثُ مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي يَنْزِل مِنْهُ
__________
(1) حديث " ورثوه من أول. . . " من حديث ابن عباس، أخرجه ابن عدى في الكامل من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس. وعنه البيهقي في سننه (6 / 261 - ط حيدر أباد الدكن) وقال: " الكلبي لا يحتج به ". وأورده ابن الجوزي في الموضوعات (3 / 230 - نشر المكتبة السلفية) .(3/64)
أَكْثَرُ، وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنِ الأَْوْزَاعِيِّ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ. وَتَوَقَّفَ فِي ذَلِكَ الإِْمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ. وَلَمْ يَعْتَبِرْهُ الإِْمَامُ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ عَنْهُ، وَإِنِ اسْتَوَى الْمِقْدَارُ الْخَارِجُ مِنَ الْمَحَلَّيْنِ فَقَال أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لاَ عِلْمَ لَنَا بِذَلِكَ، وَقَال الْحَنَابِلَةُ: فِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَكُونُ مُشْكِلاً.
106 - فَإِنْ مَاتَ لَهُ مَنْ يَرِثُهُ. فَقَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: يُوقَفُ الأَْمْرُ حَتَّى يَبْلُغَ، فَيَتَبَيَّنَ فِيهِ عَلاَمَاتُ الرِّجَال مِنْ نَبَاتِ اللِّحْيَةِ، وَخُرُوجِ الْمَنِيِّ مِنْ ذَكَرِهِ، وَكَوْنِهِ مَنِيَّ رَجُلٍ، أَوْ عَلاَمَاتُ النِّسَاءِ مِنَ الْحَيْضِ، وَالْحَبَل، وَتَفَلُّكِ الثَّدْيَيْنِ. وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الإِْمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْمَيْمُونِيِّ.
فَإِنِ احْتِيجَ إِلَى قِسْمَةِ الْمِيرَاثِ أُعْطِي هُوَ وَبَقِيَّةُ الْوَرَثَةِ الْيَقِينَ، وَوُقِفَ الْبَاقِي إِلَى حِينِ بُلُوغِهِ، فَتَعْمَل الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَنَّهُ ذَكَرٌ ثُمَّ عَلَى أَنَّهُ أُنْثَى، وَيَدْفَعُ إِلَى كُل وَارِثٍ أَقَل النَّصِيبَيْنِ، وَيُوقَفُ الْبَاقِي حَتَّى يَبْلُغَ.
107 - وَإِنْ مَاتَ قَبْل بُلُوغِهِ، أَوْ بَلَغَ مُشْكِلاً فَلَمْ تَظْهَرْ فِيهِ عَلاَمَةٌ. وَرِثَ نِصْفَ مِيرَاثِ ذَكَرٍ، وَنِصْفَ مِيرَاثِ أُنْثَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْل ابْنِ عَبَّاسٍ وَالشَّعْبِيِّ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَأَهْل الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ وَالثَّوْرِيِّ وَاللُّؤْلُؤِيِّ وَشَرِيكٍ وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ وَأَبِي يُوسُفَ وَيَحْيَى بْنِ آدَمَ وَضِرَارِ بْنِ صُرَدٍ وَنُعَيْمِ بْنِ حَمَّادٍ. وَوَرَّثَهُ أَبُو حَنِيفَةَ بِأَسْوَأِ حَالاَتِهِ، وَأَعْطَى الْبَاقِيَ لِسَائِرِ الْوَرَثَةِ، وَأَعْطَاهُ الإِْمَامُ الشَّافِعِيُّ وَمَنْ مَعَهُ الْيَقِينَ، وَوَقَفَ الْبَاقِي حَتَّى يَتَبَيَّنَ الأَْمْرُ أَوْ يَصْطَلِحَ الْوَرَثَةُ، وَبِهِ قَال أَبُو ثَوْرٍ(3/64)
وَدَاوُدُ وَابْنُ جَرِيرٍ. وَهُنَاكَ أَقْوَالٌ شَاذَّةٌ غَيْرُ هَذِهِ. (1)
108 - وَإِذَا أَخْبَرَ الْخُنْثَى بِحَيْضٍ، أَوْ مَنِيٍّ، أَوْ مَيْلٍ إِلَى الرِّجَال أَوِ النِّسَاءِ، فَإِنَّهُ يُقْبَل قَوْلُهُ، وَلاَ يُقْبَل رُجُوعُهُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلاَّ أَنْ يَظْهَرَ كَذِبُهُ يَقِينًا، مِثْل أَنْ يُخْبِرَ بِأَنَّهُ رَجُلٌ، ثُمَّ تَلِدَ، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يُتْرَكُ الْعَمَل بِقَوْلِهِ السَّابِقِ. (2)
مِيرَاثُ الْحَمْل:
109 - الْحَمْل مِنْ جُمْلَةِ الْوَرَثَةِ إِذَا عُلِمَ بِأَنَّهُ كَانَ مَوْجُودًا فِي الْبَطْنِ عِنْدَ مَوْتِ الْمُورَثِ وَانْفَصَل حَيًّا. وَيُعْلَمُ وُجُودُهُ فِي الْبَطْنِ إِذَا جَاءَتْ بِهِ لأَِقَل مُدَّةِ الْحَمْل، وَهِيَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ مُنْذُ مَوْتِ الْمُورَثِ، إِذَا كَانَ النِّكَاحُ قَائِمًا بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، لأَِنَّ أَقَل مُدَّةِ الْحَمْل سِتَّةُ أَشْهُرٍ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ.
وَإِنْ كَانَتْ مُعْتَدَّةً، وَجَاءَتْ بِهِ لأَِقَل مِنْ سَنَتَيْنِ مُنْذُ وُقُوعِ الْفُرْقَةِ بِمَوْتٍ أَوْ طَلاَقٍ بَائِنٍ فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْوَرَثَةِ، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ. وَفِي الأَْصَحِّ عِنْدَهُ أَنَّ أَكْثَرَ مُدَّةِ الْحَمْل أَرْبَعُ سِنِينَ، وَذَلِكَ مَذْهَبُ الإِْمَامِ الشَّافِعِيِّ، وَأَحَدُ قَوْلَيْنِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْقَوْل الثَّانِي عِنْدَهُمْ: أَنَّ أَكْثَرَ مُدَّةِ الْحَمْل خَمْسُ سِنِينَ. وَقَال مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: سَنَةٌ.
وَدَلِيل الْحَنَفِيَّةِ فِي أَكْثَرِ مُدَّةِ الْحَمْل حَدِيثُ عَائِشَةَ فَإِنَّهَا قَالَتْ: " لاَ يَبْقَى الْوَلَدُ فِي رَحِمِ أُمِّهِ أَكْثَرَ مِنْ
__________
(1) المغني 7 / 113 - 115 ط المنار، والسراجية ص 304 وما بعدها، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي 4 / 435 وشرح الرحبية ص 41
(2) السراجية ص 306(3/65)
سَنَتَيْنِ، وَلَوْ بِفَلْكَةِ مِغْزَلٍ (1) . وَمِثْل هَذَا لاَ يُعْرَفُ قِيَاسًا بَل سَمَاعًا مِنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (2)
وَدَلِيل الشَّافِعِيَّةِ فِي أَقْصَى الْمُدَّةِ الاِسْتِقْرَاءُ، وَأَنَّ عُمَرَ قَال فِي امْرَأَةِ الْمَفْقُودِ: تَتَرَبَّصُ أَرْبَعَ سِنِينَ، ثُمَّ تَعْتَدُّ بَعْدَ ذَلِكَ. وَسَبَبُ التَّقْدِيرِ بِالأَْرْبَعِ أَنَّهَا نِهَايَةُ مُدَّةِ الْحَمْل. (3)
وَقَال ابْنُ رُشْدٍ: (وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَرْجُوعٌ فِيهَا إِلَى الْعَادَةِ وَالتَّجْرِبَةِ. وَقَوْل ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ أَقْرَبُ إِلَى الْمُعْتَادِ. وَالْحُكْمُ إِنَّمَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بِالْمُعْتَادِ لاَ بِالنَّادِرِ وَلَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحِيلاً) . (4)
110 - وَإِذَا مَاتَ الإِْنْسَانُ عَنْ حَمْلٍ يَرِثُهُ، وَقَفَ الأَْمْرُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ، فَإِنْ طَالَبَ الْوَرَثَةُ بِالْقِسْمَةِ لَمْ يُعْطُوا كُل الْمَال بِغَيْرِ خِلاَفٍ. وَلَكِنْ يُدْفَعُ إِلَى مَنْ لاَ يُنْقِصُهُ الْحَمْل كُل مِيرَاثِهِ، وَيُدْفَعُ إِلَى مَنْ يُنْقِصُ الْحَمْل نَصِيبَهُ أَقَلُّهُ، وَلاَ يُدْفَعُ إِلَى مَنْ يُسْقِطُهُ الْحَمْل شَيْءٌ.
111 - وَيَرِثُ الْحَمْل إِذَا وُلِدَ لأَِقَل مُدَّةِ الْحَمْل. وَكَذَلِكَ يَرِثُ إِذَا وُلِدَ لأَِقْصَى مُدَّةِ الْحَمْل عَلَى الْخِلاَفِ السَّابِقِ. فَإِنْ وُلِدَ بَعْدَهَا فَلاَ يَرِثُ إِلاَّ بِإِقْرَارِ الْوَرَثَةِ.
__________
(1) حديث " قالت عائشة رضي الله عنها: لا يبقى الولد في رحم أمه. . . . " أخرجه الدارقطني (3 / 322 - ط دار المحاسن بالقاهرة) بلفظ: " ما تزيد المرأة في الحمل على سنتين ولا قدر ما يتحول ظل عود هذا المغزل ". وأخرجه الدارقطني بلفظ مقارب له وعنه البيهقي (7 / 443 - ط دائرة المعارف العثمانية)
(2) حديث " قالت عائشة رضي الله عنها: لا يبقى الولد في رحم أمه. . . . " أخرجه الدارقطني (3 / 322 - ط دار المحاسن بالقاهرة) بلفظ: " ما تزيد المرأة في الحمل على سنتين ولا قدر ما يتحول ظل عود هذا المغزل ". وأخرجه الدارقطني بلفظ مقارب له وعنه البيهقي (7 / 443 - ط دائرة المعارف العثمانية)
(3) شرح الروض 3 / 393 ط المكتبة الإسلامية
(4) ابن رشد 2 / 358 ط الحلبي. واللجنة ترى أن رأى ابن عبد الحكم أقرب إلى ما يقرره الطب، ومثل هذه الأمور يرجع إلى أهل الخبرة.(3/65)
112 - وَيَرِثُ الْحَمْل بِشَرْطَيْنِ:
الشَّرْطُ الأَْوَّل: أَنْ يُولَدَ حَيًّا، حَتَّى تُعْتَبَرَ حَيَاتُهُ عِنْدَ الْوِلاَدَةِ امْتِدَادًا لِحَيَاتِهِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، وَدَلِيلاً عَلَيْهَا. يَقُول الرَّسُول عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: إِذَا اسْتَهَل الْمَوْلُودُ وَرِثَ (1) وَيَرْوِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَالْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ قَوْلَهُمَا: قَضَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَرِثُ الصَّبِيُّ حَتَّى يَسْتَهِل. (2)
فَإِذَا وُلِدَ مَيِّتًا بِغَيْرِ جِنَايَةٍ عَلَى أُمِّهِ. وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ دَلِيلٌ عَلَى حَيَاتِهِ فِيمَا قَبْل، لاَ يَكُونُ وَارِثًا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، لأَِنَّ شَرْطَ الْمِيرَاثِ حَيَاةُ الْوَارِثِ. وَإِذَا نَزَل مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ بِجِنَايَةٍ عَلَيْهَا فَلاَ يَرِثُ أَيْضًا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، لِعَدَمِ وُجُودِ دَلِيلٍ عَلَى حَيَاتِهِ، وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَرِثُ، لأَِنَّ الشَّارِعَ اعْتَبَرَهُ حَيًّا قَبْل الْجِنَايَةِ؛ إِذْ أَوْجَبَ عَلَى الْجَانِي (الْغُرَّةَ) وَوُجُوبُهَا لِلْجِنَايَةِ عَلَى الْحَيِّ دُونَ الْمَيِّتِ، وَكَذَلِكَ يَرِثُ عِنْدَهُمْ مُورَثُهُ الَّذِي مَاتَ، وَهُوَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، ثُمَّ يَرِثُهُ وَرَثَتُهُ.
113 - وَيَكْفِي عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنْ يَخْرُجَ أَكْثَرُ الْحَمْل حَيًّا. فَإِذَا ابْتَدَأَ نُزُولُهُ مُسْتَقِيمًا بِرَأْسِهِ وَبَقِيَ حَيًّا حَتَّى خَرَجَ صَدْرُهُ كُلُّهُ، أَوِ ابْتَدَأَ نُزُولُهُ مَنْكُوسًا بِرِجْلَيْهِ وَاسْتَمَرَّ حَيًّا حَتَّى ظَهَرَتْ سُرَّتُهُ ثُمَّ مَاتَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَرِثَ عِنْدَهُمْ، لأَِنَّ لِلأَْكْثَرِ حُكْمَ الْكُل. (3)
__________
(1) حديث " إذا استهل المولود ورث " أخرجه أبو داود (3 / 87 - ط المطبعة الأنصارية بدهلي) وعنه البيهقي (6 / 257 - ط دائرة المعارف العثمانية) .
(2) حديث " لا يرث الصبي حتى يستهل " أخرجه ابن ماجه (رقم 2751 - ط عيسى الحلبي) . من حديث جابر والمسور بن مخرمة.
(3) السراجية ص 321، 322(3/66)
وَاشْتَرَطَ الأَْئِمَّةُ الثَّلاَثَةُ أَنْ تَتِمَّ وِلاَدَتُهُ كُلُّهُ حَيًّا. وَتُعْرَفَ حَيَاتُهُ بِالاِسْتِهْلاَل صَارِخًا. وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا سِوَى الاِسْتِهْلاَل. فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لاَ يَرِثُ حَتَّى يَسْتَهِل، وَلاَ يَقُومُ غَيْرُهُ مَقَامَهُ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي الاِسْتِهْلاَل مَا هُوَ؟ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لاَ يَرِثُ حَتَّى يَسْتَهِل صَارِخًا، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ، وَرُوِيَ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، مُسْتَدِلِّينَ بِأَنَّ مَفْهُومَ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا اسْتَهَل الْمَوْلُودُ وَرِثَ (1) أَنَّهُ لاَ يَرِثُ بِغَيْرِ الاِسْتِهْلاَل، وَلأَِنَّ الاِسْتِهْلاَل لاَ يَكُونُ إِلاَّ مِنْ حَيٍّ. وَالْحَرَكَةُ تَكُونُ مِنْ غَيْرِ حَيٍّ. وَرُوِيَ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَال: يَرِثُ السِّقْطُ وَيُورَثُ إِذَا اسْتَهَل. فَقِيل لَهُ مَا اسْتِهْلاَلُهُ؟ قَال: إِذَا صَاحَ أَوْ عَطَسَ أَوْ بَكَى، فَعَلَى هَذَا كُل صَوْتٍ يُوجَدُ مِنْهُ تُعْلَمُ بِهِ حَيَاتُهُ فَهُوَ اسْتِهْلاَلٌ، وَهَذَا قَوْل الزُّهْرِيِّ وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، لأَِنَّهُ صَوْتٌ عُلِمَتْ بِهِ حَيَاتُهُ فَأَشْبَهَ الصُّرَاخَ. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ: إِذَا عُلِمَتْ حَيَاتُهُ بِصَوْتٍ أَوْ حَرَكَةٍ أَوْ رَضَاعٍ أَوْ غَيْرِهِ وَرِثَ وَثَبَتَتْ لَهُ أَحْكَامُ الْمُسْتَهِل، لأَِنَّهُ حَيٌّ. وَبِهَذَا قَال الثَّوْرِيُّ وَالأَْوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ. (2)
الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ تَأْتِيَ بِهِ فِي أَثْنَاءِ الْعِدَّةِ، فَإِنْ أَقَرَّتْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَأَتَتْ بِهِ لأَِقَل مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ كَذَبَتْ، وَوَرِثَ، وَتَبَيَّنَ أَنَّهَا كَاذِبَةٌ فِي دَعْوَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَإِنْ لَمْ تُقِرَّ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَأَتَتْ بِهِ لِتَمَامِ أَكْثَرِ مُدَّةِ الْحَمْل، أَوْ لأَِقَل مِنْ ذَلِكَ وَرِثَ، لأَِنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهَا كَانَتْ عَالِقَةً قَبْل الْمَوْتِ.
وَإِنْ أَتَتْ بِهِ لأَِكْثَرَ مِنْ تَمَامِ مُدَّةِ الْحَمْل - عَلَى
__________
(1) الحديث تقدم تخريجه هامش (ف 112)
(2) المغني 7 / 197 - 200 ط أولى.(3/66)
الْخِلاَفِ الْمُتَقَدِّمِ - فَلاَ يَرِثُ، لأَِنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهَا عَلِقَتْ بِهِ بَعْدَ الْوَفَاةِ.
114 - وَإِذَا أُرِيدَ تَقْسِيمُ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ الَّذِي فِي وَرَثَتِهِ حَمْلٌ، أُوقِفَ لَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ نَصِيبُ أَرْبَعَةِ بَنِينَ أَوْ نَصِيبُ أَرْبَعِ بَنَاتٍ أَيُّهُمَا أَكْثَرُ. وَيُعْطَى بَقِيَّةُ الْوَرَثَةِ أَقَل الأَْنْصِبَاءِ. وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ، وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ؛ إِذِ الأَْصَحُّ أَنَّهُ لاَ ضَبْطَ لَهُ. وَمِثَال أَكْثَرِيَّةِ نَصِيبِ الْبَنِينَ: إِذَا مَاتَ عَنْ زَوْجَةٍ حَامِلٍ وَعَمٍّ أَوْ أَخٍ. وَمِثَال أَكْثَرِيَّةِ نَصِيبِ الْبَنَاتِ: إِذَا مَاتَ الْمَيِّتُ عَنْ زَوْجَةٍ حَامِلٍ وَأَبَوَيْنِ، فَإِنَّ الْمَسْأَلَةَ تَكُونُ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ، فَلِلزَّوْجَةِ الثُّمُنُ، وَلِلأَْبَوَيْنِ السُّدُسَانِ، فَيَبْقَى ثَلاَثَةَ عَشَرَ، وَذَلِكَ لِلْعَصَبَاتِ إِذَا قُدِّرَ أَرْبَعَةُ بَنِينَ، وَإِذَا قُدِّرَتْ أَرْبَعُ بَنَاتٍ فَلَهُنَّ الثُّلُثَانِ (سِتَّةَ عَشَرَ) .
فَإِذَا ظَهَرَ الْحَمْل، وَزَال الاِشْتِبَاهُ، فَإِنْ كَانَ الْحَمْل مُسْتَحِقًّا لِجَمِيعِ الْمَوْقُوفِ أَخَذَهُ، وَانْتَهَى الأَْمْرُ. وَإِنْ كَانَ مُسْتَحِقًّا لِلْبَعْضِ فَيَأْخُذُ الْحَمْل هَذَا الْبَعْضَ، وَيُقْسَمُ الْبَاقِي بَيْنَ الْوَرَثَةِ، فَيُعْطَى لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا كَانَ مَوْقُوفًا مِنْ نَصِيبِهِ.
وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَنْ مَعَهُ هُوَ مَذْهَبُ شَرِيكٍ النَّخَعِيِّ، فَقَدْ قَال: رَأَيْتُ بِالْكُوفَةِ لأَِبِي إِسْمَاعِيل أَرْبَعَةَ بَنِينَ فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ. وَلَمْ يُنْقَل عَنِ الْمُتَقَدِّمِينَ أَنَّ امْرَأَةً وَلَدَتْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ.
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُوقَفُ نَصِيبُ ثَلاَثَةِ بَنِينَ أَوْ ثَلاَثِ بَنَاتٍ أَيُّهُمَا أَكْثَرُ. رَوَاهُ عَنْهُ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ، أَنَّهُ يُوقَفُ نَصِيبُ ابْنَيْنِ أَوْ بِنْتَيْنِ أَيُّهُمَا أَكْثَرُ، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ. وَذَلِكَ لأَِنَّ وِلاَدَةَ أَرْبَعَةٍ فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ فِي غَايَةِ النُّدْرَةِ، فَلاَ يُبْنَى عَلَيْهِ حُكْمٌ بَل يُبْنَى عَلَى مَا يُعْتَادُ(3/67)
فِي الْجُمْلَةِ، وَهُوَ وِلاَدَةُ اثْنَيْنِ. وَرَوَى الْخَصَّافُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُوقَفُ نَصِيبُ ابْنٍ وَاحِدٍ أَوْ بِنْتٍ وَاحِدَةٍ أَيُّهُمَا أَكْثَرُ، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى. وَذَلِكَ لأَِنَّ الْمُعْتَادَ الْغَالِبَ إِلاَّ تَلِدَ الْمَرْأَةُ فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ إِلاَّ وَلَدًا وَاحِدًا فَيُبْنَى عَلَيْهِ الْحُكْمُ مَا لَمْ يُعْلَمْ خِلاَفُهُ.
115 - وَذُكِرَ فِي فَتْوَى أَهْل سَمَرْقَنْدَ: أَنَّ الْوِلاَدَةَ إِنْ كَانَتْ قَرِيبَةً تُوقَفُ الْقِسْمَةُ لِوُجُودِ الْحَمْل، إِذْ لَوْ عُجِّلَتْ فَرُبَّمَا لَغَتْ بِظُهُورِ الْحَمْل عَلَى خِلاَفِ مَا قُدِّرَ، وَإِنْ كَانَتْ بَعِيدَةً لَمْ تُوقَفْ، لأَِنَّ فِي ذَلِكَ إِضْرَارًا بِبَاقِي الْوَرَثَةِ، وَلَمْ يُعَيَّنْ لِلْقُرْبِ مُدَّةٌ بَل أُحِيل عَلَى الْعَادَةِ. وَقِيل: هُوَ مَا دُونَ الشَّهْرِ. وَعَلَى رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ يَأْخُذُ الْقَاضِي مِنَ الْوَرَثَةِ كَفِيلاً عَلَى مَا إِذَا كَانَ الْحَمْل أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ (1) .
وَمَذْهَبُ الإِْمَامِ أَحْمَدَ وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ كُلٍّ مِنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - كَمَا تَقَدَّمَ - أَنَّهُ يُوقَفُ لِلْحَمْل نَصِيبُ ذَكَرَيْنِ أَوْ أُنْثَيَيْنِ أَيُّهُمَا أَكْثَرُ. وَعُلِّل ذَلِكَ بِأَنَّ وِلاَدَةَ التَّوْأَمَيْنِ كَثِيرَةٌ مُعْتَادَةٌ، وَمَا زَادَ عَلَيْهِمَا فَنَادِرٌ لاَ يُبْنَى عَلَيْهِ حُكْمٌ. وَالْقَاعِدَةُ بِالنِّسْبَةِ لِحَجْزِ نَصِيبِ ذَكَرَيْنِ أَوْ أُنْثَيَيْنِ أَيُّهُمَا أَكْثَرُ. أَنَّهُ مَتَى زَادَتِ الْفُرُوضُ عَلَى الثُّلُثِ فَمِيرَاثُ الإِْنَاثِ أَكْثَرُ، لأَِنَّهُ يُفْرَضُ لَهُنَّ الثُّلُثَانِ، وَيَدْخُل النَّقْصُ عَلَى الْكُل بِالْمُحَاصَّةِ، وَإِنْ نَقَصَتْ عَنْهُ كَانَ مِيرَاثُ الذَّكَرَيْنِ أَكْثَرَ، وَإِنِ اسْتَوَتْ كَأَبَوَيْنِ وَحَمْلٍ، اسْتَوَى مِيرَاثُ الذَّكَرَيْنِ وَالأُْنْثَيَيْنِ.
__________
(1) السراجية ص 317، 318، والرهوني 8 / 343 ط بولاق، وروضة الطالبين 6 / 39، والعذب الفائض 2 / 89.(3/67)
مِيرَاثُ الْمَفْقُودِ:
116 - الْمَفْقُودُ لُغَةً: هُوَ الْمَعْدُومُ (1) . وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هُوَ الْغَائِبُ الَّذِي انْقَطَعَ خَبَرُهُ، وَلاَ يُدْرَى حَيَاتُهُ مِنْ مَوْتِهِ (2) . وَفَسَّرَهُ شَمْسُ الأَْئِمَّةِ بِأَنَّهُ: اسْمٌ لِمَوْجُودٍ هُوَ حَيٌّ بِاعْتِبَارِ أَوَّل حَالِهِ، وَلَكِنَّهُ كَالْمَيِّتِ بِاعْتِبَارِ مَآلِهِ (3) . وَقِيل: إِنَّ هَذَا أَحْسَنُ تَعْرِيفٍ.
117 وَالْحُكْمُ فِي مِيرَاثِهِ: أَنَّهُ حَيٌّ فِي حَقِّ مَالِهِ، فَلاَ يَرِثُ مِنْهُ أَحَدٌ، وَمَيِّتٌ فِي مَال غَيْرِهِ فَلاَ يَرِثُ مِنْ أَحَدٍ. وَذَلِكَ لأَِنَّ الأَْصْل ثُبُوتُ حَيَاتِهِ مَا لَمْ يَظْهَرْ خِلاَفُهُ، فَاعْتُبِرَ حَيًّا اسْتِصْحَابًا لِحَالِهِ، وَاسْتِصْحَابُ الْحَال حُجَّةٌ تَدْفَعُ الاِسْتِحْقَاقَ، وَلِذَلِكَ فَلاَ يَسْتَحِقُّ أَحَدٌ فِي مِيرَاثِهِ، لاِعْتِبَارِهِ حَيًّا، وَلاَ يَسْتَحِقُّ هُوَ فِي مِيرَاثِ غَيْرِهِ. وَيُوقَفُ مَالُهُ حَتَّى يَصِحَّ مَوْتُهُ، أَوْ يَمْضِيَ عَلَيْهِ مُدَّةٌ لاَ يَحْيَا إِلَى مِثْلِهَا مِثْلُهُ، وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ. وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحَدُ رَأْيَيْنِ لِلْحَنَفِيَّةِ.
118 - وَاخْتَلَفَتْ رِوَايَاتُ الْحَنَفِيَّةِ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي يُحْكَمُ بَعْدَهَا بِمَوْتِ الْمَفْقُودِ. فَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِنْ أَقْرَانِهِ فِي بَلَدِهِ، وَقِيل أَقْرَانُهُ فِي جَمِيعِ الْبِلاَدِ. لَكِنِ الأَْوَّل أَصَحُّ، لأَِنَّ فِي الْعَمَل بِالْقَوْل الثَّانِي حَرَجًا عَظِيمًا، كَمَا أَنَّ الأَْعْمَارَ تَتَفَاوَتُ بِتَفَاوُتِ الأَْقَالِيمِ.
وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمُدَّةَ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً مِنْ يَوْمِ وِلاَدَةِ الْمَفْقُودِ. وَقَال مُحَمَّدٌ: مِائَةٌ وَعَشْرُ سِنِينَ. وَقَال أَبُو يُوسُفَ: مِائَةٌ
__________
(1) القاموس
(2) السراجية ص 326
(3) حاشية الفناري ص 326(3/68)
وَخَمْسُ سِنِينَ. وَرُوِيَ عَنْهُ مِائَةُ سَنَةٍ. وَقَال بَعْضُهُمْ: تِسْعُونَ سَنَةً، لأَِنَّ الزِّيَادَةَ عَلَيْهَا فِي غَايَةِ النُّدْرَةِ فَلاَ تُنَاطُ بِهَا الأَْحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ، لأَِنَّهَا تُبْنَى عَلَى الأَْغْلَبِ. قَال الإِْمَامُ التُّمُرْتَاشِيُّ: وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهَا سَبْعُونَ سَنَةً، لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ فِي أَعْمَارِ هَذِهِ الأُْمَّةِ أَعْمَارُ أُمَّتِي مَا بَيْنَ سِتِّينَ إِلَى سَبْعِينَ. (1) وَقَال بَعْضُهُمْ: مَال الْمَفْقُودِ مَوْقُوفٌ إِلَى اجْتِهَادِ الإِْمَامِ. وَنُقِل عَنْ شَرْحِ الْفَرَائِضِ الْعُثْمَانِيَّةِ أَنَّ الإِْمَامَ أَبَا حَنِيفَةَ لَمْ يُقَدِّرْ فِي ذَلِكَ تَقْدِيرًا، وَفَوَّضَ الْمُدَّةَ إِلَى اجْتِهَادِ الْقَاضِي فِي كُل عَصْرٍ يَحْكُمُ بِمَوْتِهِ فِي أَيِّ مُدَّةٍ يَرَى فِيهَا مَصْلَحَةً بِاجْتِهَادِهِ، وَيَقْسِمُ مَالَهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ الْمَوْجُودِينَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى (2) .
وَلَمْ يُحَدِّدِ الْمَالِكِيَّةُ مُدَّةً مُعَيَّنَةً بَل قَالُوا: (لاَ يَقْسِمُ وَرَثَةُ الْمَفْقُودِ مَالَهُ حَتَّى يَأْتِيَ عَلَيْهِ مِنَ الزَّمَنِ مَا لاَ يَحْيَا إِلَى مِثْلِهِ) . (3)
وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ، فَقَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّ: (مَنْ أُسِرَ أَوْ فُقِدَ وَانْقَطَعَ خَبَرُهُ، تُرِكَ مَالُهُ حَتَّى تَقُومَ بَيِّنَةٌ بِمَوْتِهِ، أَوْ تَمْضِيَ مُدَّةٌ يُظَنُّ أَنَّهُ لاَ يَعِيشُ فَوْقَهَا، وَلاَ تَتَقَدَّرُ بِشَيْءٍ عَلَى الصَّحِيحِ، فَيَجْتَهِدُ الْقَاضِي وَيَحْكُمُ بِمَوْتِهِ) وَقِيل تُقَدَّرُ (بِسَبْعِينَ وَبِثَمَانِينَ وَبِتِسْعِينَ وَبِمِائَةٍ وَعِشْرِينَ) . (4)
119 - أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَالُوا: (إِنَّ الْمَفْقُودَ نَوْعَانِ:
__________
(1) حديث " أعمار أمتي. . . " أخرجه الترمذي (6 / 623 و 9 / 537 - نشر المكتبة السلفية) وقال: " حسن غريب ". وحسنه ابن حجر في فتح الباري (11 / 240 - ط السلفية) .
(2) السراجية وحاشية الفناري ص 326 - 328
(3) الحطاب 6 / 423 ط مكتبة النجاح
(4) الشرواني على التحفة 6 / 42، 43 بتصرف يسير.(3/68)
النَّوْعُ الأَْوَّل: مَنْ كَانَ الْغَالِبُ مِنْ حَالِهِ الْهَلاَكَ، وَهُوَ مَنْ يُفْقَدُ فِي مُهْلِكَةٍ كَاَلَّذِي يُفْقَدُ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ، أَوْ فِي مَفَازَةٍ يَهْلَكُ فِيهَا النَّاسُ، أَوْ يُفْقَدُ مِنْ بَيْنِ أَهْلِهِ، أَوْ يَخْرُجُ لِصَلاَةِ الْعِشَاءِ أَوْ غَيْرِهَا مِنَ الصَّلَوَاتِ، أَوْ لِحَاجَةٍ قَرِيبَةٍ فَلاَ يَرْجِعُ، وَلاَ يُعْلَمُ خَبَرُهُ، فَهَذَا يُنْتَظَرُ بِهِ أَرْبَعُ سِنِينَ، فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ خَبَرٌ قُسِمَ مَالُهُ، وَاعْتَدَّتِ امْرَأَتُهُ عِدَّةَ الْوَفَاةِ، وَحَلَّتْ لِلأَْزْوَاجِ. وَنَصَّ عَلَيْهِ الإِْمَامُ أَحْمَدُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ. وَذَكَرَ الْقَاضِي: أَنَّهُ لاَ يُقْسَمُ مَالُهُ حَتَّى تَمْضِيَ عِدَّةُ الْوَفَاةِ بَعْدَ أَرْبَعِ سِنِينَ. لأَِنَّهُ الْوَقْتُ الَّذِي يُبَاحُ لاِمْرَأَتِهِ التَّزَوُّجُ فِيهِ، وَالأَْوَّل أَصَحُّ، لأَِنَّ الْعِدَّةَ إِنَّمَا تَكُونُ بَعْدَ الْوَفَاةِ. فَإِذَا حُكِمَ بِوَفَاتِهِ فَلاَ وَجْهَ لِلْوُقُوفِ عَنْ قَسْمِ مَالِهِ.
النَّوْعُ الثَّانِي: مَنْ لَيْسَ الْغَالِبُ مِنْ حَالِهِ الْهَلاَكَ، كَالْمُسَافِرِ لِتِجَارَةٍ، أَوْ طَلَبِ عِلْمٍ، أَوْ سِيَاحَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلَمْ يُعْلَمْ خَبَرُهُ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: لاَ يُقْسَمُ مَالُهُ، وَلاَ تَتَزَوَّجُ امْرَأَتُهُ، حَتَّى يَتَيَقَّنَ مَوْتَهُ، أَوْ يَمْضِيَ عَلَيْهِ مُدَّةٌ لاَ يَعِيشُ لِمِثْلِهَا، وَذَلِكَ مَرْجِعُهُ اجْتِهَادُ الْحَاكِمِ. قَال صَاحِبُ الْمُغْنِي: (لأَِنَّ الأَْصْل حَيَاتُهُ، وَالتَّقْدِيرُ لاَ يُصَارُ إِلَيْهِ إِلاَّ بِتَوْقِيفٍ، وَلاَ تَوْقِيفَ هُنَا، فَوَجَبَ التَّوَقُّفُ عَنْهُ)
الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ يُنْتَظَرُ بِهِ تَتِمَّةُ تِسْعِينَ سَنَةً مُنْذُ وُلِدَ، لأَِنَّ الْغَالِبَ أَنَّهُ لاَ يَعِيشُ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا (1) .
120 - وَيُوقَفُ لِلْمَفْقُودِ حِصَّتُهُ مِنْ مَال مَوْرُوثِهِ الَّذِي مَاتَ فِي مُدَّةِ الاِنْتِظَارِ، فَإِنْ مَضَتِ الْمُدَّةُ، وَلَمْ
__________
(1) مطالب أولي النهى 4 / 630، وكشاف القناع 4 / 391(3/69)
يُعْلَمْ خَبَرُهُ، رُدَّ الْمَوْقُوفُ إِلَى وَرَثَةِ مَوْرُوثِ الْمَفْقُودِ.
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَرِثُ الْمَفْقُودَ إِلاَّ الأَْحْيَاءُ مِنْ وَرَثَتِهِ يَوْمَ قَسْمِ مَالِهِ، لاَ مَنْ مَاتَ قَبْل ذَلِكَ، وَلَوْ بِيَوْمٍ.
121 - وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ مَاتَ وَفِي وَرَثَتِهِ مَفْقُودٌ، فَمَذْهَبُ الإِْمَامِ أَحْمَدَ وَأَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ: أَنَّهُ يُعْطَى كُل وَارِثٍ مِنْ وَرَثَتِهِ نَصِيبَهُ الْمُتَيَقَّنَ، وَيُوقَفُ الْبَاقِي حَتَّى يَتَبَيَّنَ أَمْرُهُ، أَوْ تَمْضِي مُدَّةُ الاِنْتِظَارِ. وَذَلِكَ إِذَا كَانَ وُجُودُ الْمَفْقُودِ يُنْقِصُ أَنْصِبَةَ الْوَرَثَةِ الآْخَرِينَ، فَإِنْ كَانَ يَحْجُبُهُمْ حَجْبَ حِرْمَانٍ فَلاَ يُعْطَى أَحَدٌ مِنْهُمْ شَيْئًا مِنَ التَّرِكَةِ، بَل تُوقَفُ كُلُّهَا حَتَّى يَتَبَيَّنَ مَوْتُهُ أَوْ حَيَاتُهُ (1) .
مِيرَاثُ الأَْسِيرِ:
122 - الأَْسِيرُ لُغَةً: الأَْخِيذُ وَالْمُقَيَّدُ وَالْمَسْجُونُ (2) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: يُطْلَقُ عَلَى كُل مَنْ أُخِذَ سَوَاءٌ شُدَّ أَوْ لَمْ يُشَدَّ (3) .
123 - وَالْحُكْمُ فِيهِ أَنَّهُ إِذَا عُلِمَتْ حَيَاتُهُ فَإِنَّهُ يَرِثُ (4) .
فَإِنْ فَارَقَ دِينَهُ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمُرْتَدِّ؛ إِذْ لاَ فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَرْتَدَّ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ، ثُمَّ يَلْحَقَ بِدَارِ الْحَرْبِ، وَبَيْنَ أَنْ يَرْتَدَّ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَيُقِيمَ فِيهَا، فَهُوَ فِي الْحَالَيْنِ يَصِيرُ حَرْبِيًّا.
فَإِذَا لَمْ تُعْلَمْ رِدَّتُهُ وَلاَ حَيَاتُهُ وَلاَ مَوْتُهُ فَحُكْمُهُ
__________
(1) السراجية ص 329، والحطاب 6 / 423، والتحفة 6 / 44، والمغني 6 / 205 - 208
(2) القاموس
(3) السراجية ص 335
(4) المغني 7 / 131 ط المنار.(3/69)
حُكْمُ الْمَفْقُودِ، عَلَى التَّفْصِيل وَالْخِلاَفِ الَّذِي سَبَقَ (ف: 121) . فَإِنِ ادَّعَى وَرَثَتُهُ أَنَّهُ ارْتَدَّ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَمْ يُقْبَل ذَلِكَ إِلاَّ بِشَهَادَةِ مُسْلِمَيْنِ عَدْلَيْنِ، لأَِنَّ إِسْلاَمَهُ كَانَ مَعْلُومًا بِاسْتِصْحَابِ الْحَال، فَلاَ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِعَدَمِهِ بِشَهَادَةِ غَيْرِ الْمُسْلِمِ، لأَِنَّ شَهَادَةَ غَيْرِ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ لاَ تُقْبَل فِي الأُْمُورِ الْجُزْئِيَّةِ، فَعَدَمُ قَبُولِهَا فِي أَمْرِ الدِّينِ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ الأُْمُورِ مِنْ بَابِ أَوْلَى. فَإِنْ جَاءَ بَعْدَ الْقَضَاءِ بِرِدَّتِهِ، وَأَنْكَرَ الرِّدَّةَ فَلاَ يَنْقُضُ الْقَاضِي حُكْمَهُ، فَلاَ يُرَدُّ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ وَلاَ مَالُهُ إِلاَّ مَا كَانَ قَائِمًا بِعَيْنِهِ فِي يَدِ وَارِثِهِ، كَمَا فِي الْمُرْتَدِّ الْمَعْرُوفِ إِذَا جَاءَ تَائِبًا (1) .
مِيرَاثُ الْغَرْقَى وَالْحَرْقَى وَالْهَدْمَى:
124 - قَال السَّرَخْسِيُّ: اتَّفَقَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي الْغَرْقَى وَالْحَرْقَى إِذَا لَمْ يُعْلَمْ أَيُّهُمْ مَاتَ أَوَّلاً أَنَّهُ لاَ يَرِثُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَإِنَّمَا يُجْعَل مِيرَاثُ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ لِوَرَثَتِهِ الأَْحْيَاءِ، وَبِذَلِكَ قَضَى زَيْدٌ فِي قَتْلَى الْيَمَامَةِ، وَفِيمَنْ مَاتَ فِي طَاعُونِ عَمَوَاسَ، وَفِي قَتْلَى الْحَرَّةِ، وَنُقِل عَنِ الإِْمَامِ عَلِيٍّ فِي قَتْلَى الْجَمَل وَصِفِّينَ، وَهُوَ قَوْل عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَبِهِ أَخَذَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ.
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: أَنَّ بَعْضَهُمْ يَرِثُ مِنْ بَعْضٍ إِلاَّ فِيمَا وَرِثَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ صَاحِبِهِ، لأَِنَّ سَبَبَ اسْتِحْقَاقِ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِيرَاثَ صَاحِبِهِ مَعْلُومٌ، وَهُوَ حَيَاتُهُ، وَسَبَبُ الْحِرْمَانِ مَشْكُوكٌ فِيهِ، فَيَجِبُ التَّمَسُّكُ بِحَيَاتِهِ حَتَّى يَأْتِيَ بِيَقِينٍ آخَرَ، وَسَبَبُ الْحِرْمَانِ مَوْتُهُ قَبْل
__________
(1) السراجية ص 335 - 337(3/70)
مَوْتِ صَاحِبِهِ، وَذَلِكَ مَشْكُوكٌ فِيهِ، فَلاَ يَثْبُتُ الْحِرْمَانُ بِالشَّكِّ إِلاَّ فِيمَا وَرِثَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ لأَِجْل الضَّرُورَةِ، لأَِنَّهُ إِذَا أَعْطَيْنَا أَحَدَهُمَا مِيرَاثَ صَاحِبِهِ فَقَدْ حَكَمْنَا بِحَيَاتِهِ فِيمَا وَرِثَ مِنْ صَاحِبِهِ، وَمِنْ ضَرُورَتِهِ الْحُكْمُ بِمَوْتِ صَاحِبِهِ قَبْلَهُ، وَلَكِنِ الثَّابِتُ بِالضَّرُورَةِ لاَ يَعْدُو مَوْضِعَ الضَّرُورَةِ، وَقَدْ تَحَقَّقَتِ الضَّرُورَةُ فِيمَا وَرِثَ كُلٌّ مِنْهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ، وَفِيمَا سِوَى ذَلِكَ يَتَمَسَّكُ بِالأَْصْل، وَذَلِكَ عَمَلاً بِالْقَاعِدَةِ الْقَائِلَةِ: (إِنَّ الْيَقِينَ لاَ يَزُول بِالشَّكِّ) . وَهِيَ أَصْلٌ لأَِحْكَامٍ كَثِيرَةٍ.
وَوَجْهُ قَوْل الْمَانِعِينَ مِنَ الْمِيرَاثِ أَنَّ سَبَبَ اسْتِحْقَاقِ كُلٍّ مِنْهُمَا مِيرَاثَ صَاحِبِهِ غَيْرُ مَعْلُومٍ يَقِينًا، وَالاِسْتِحْقَاقُ يَنْبَنِي عَلَى السَّبَبِ، فَمَا لَمْ يَتَيَقَّنِ السَّبَبَ لاَ يَثْبُتُ الاِسْتِحْقَاقُ، وَفِي الْفِقْهِ أَصْلٌ كَبِيرٌ: أَنَّ الاِسْتِحْقَاقَ لاَ يَثْبُتُ بِالشَّكِّ (1) .
مِيرَاثُ وَلَدِ الزِّنَى:
125 - وَلَدُ الزِّنَى: وَهُوَ الْوَلَدُ الَّذِي تَأْتِي بِهِ أُمُّهُ نَتِيجَةَ ارْتِكَابِهَا الْفَاحِشَةَ. وَالْحُكْمُ: فِيهِ ثُبُوتُ نَسَبِهِ مِنْ أُمِّهِ. وَيَرِثُ بِجِهَتِهَا فَقَطْ، لأَِنَّ صِلَتَهُ بِهَا حَقِيقَةٌ مَادِّيَّةٌ لاَ شَكَّ فِيهَا، أَمَّا نَسَبُهُ إِلَى الزَّانِي فَلاَ يَثْبُتُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَلَوْ أَقَرَّ بِبُنُوَّتِهِ لَهُ مِنَ الزِّنَى، لأَِنَّ النَّسَبَ نِعْمَةٌ، فَلاَ يَتَرَتَّبُ عَلَى الزِّنَى الَّذِي هُوَ جَرِيمَةٌ، فَإِذَا لَمْ يُصَرِّحْ بِأَنَّهُ ابْنُهُ مِنَ الزِّنَى، وَكَانَتْ أُمُّ الْوَلَدِ غَيْرَ مُتَزَوِّجَةٍ، وَتَحَقَّقَتْ شُرُوطُ الإِْقْرَارِ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ حَمْلاً لِحَالِهِ عَلَى الصَّلاَحِ، وَعَمَلاً بِالظَّاهِرِ. وَإِذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا وَرِثَهُ الآْخَرُ (2) .
__________
(1) المبسوط 30 / 27 - 28 ط دار المعرفة بتصرف يسير
(2) تبيين الحقائق 6 / 241(3/70)
وَذَهَبَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ، وَابْنُ تَيْمِيَّةَ وَغَيْرُهُمَا إِلَى ثُبُوتِ نَسَبِ وَلَدِ الزِّنَى مِنَ الزَّانِي بِغَيْرِ صَاحِبَةِ فِرَاشِ الزَّوْجِيَّةِ، لأَِنَّ زِنَاهُ حَقِيقَةٌ ثَابِتَةٌ، فَكَمَا ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنَ الأُْمِّ يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنَ الزَّانِي، كَيْ لاَ يَضِيعَ نَسَبُ الْوَلَدِ، وَيُصِيبَهُ الضَّرَرُ وَالْعَارُ بِسَبَبِ جَرِيمَةٍ لَمْ يَرْتَكِبْهَا، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - يَقُول: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} . (1)
وَمُقْتَضَى هَذَا الرَّأْيِ أَنَّ التَّوَارُثَ يَثْبُتُ بَيْنَهُمَا، لأَِنَّ التَّوَارُثَ فَرْعُ ثُبُوتِ النَّسَبِ، وَهُمْ يُثْبِتُونَهُ عَلَى الْوَضْعِ الْمَذْكُورِ.
مِيرَاتُ وَلَدِ اللِّعَانِ وَالْمُتَلاَعِنِينَ:
126 - وَلَدُ اللِّعَانِ لاَ تَوَارُثَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُلاَعِنِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَبَاقِي الْمَذَاهِبِ الأَْرْبَعَةِ.
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: إِذَا لاَعَنَ الرَّجُل امْرَأَتَهُ، وَنَفَى وَلَدَهَا، وَفَرَّقَ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا، انْتَفَى وَلَدُهَا عَنْهُ، وَانْقَطَعَ تَعْصِيبُهُ مِنْ جِهَةِ الْمُلاَعِنِ، فَلَمْ يَرِثْهُ هُوَ وَلاَ أَحَدٌ مِنْ عَصَبَتِهِ، وَتَرِثُهُ أُمُّهُ، وَذَوُو الْفُرُوضِ مِنْهُ فُرُوضَهُمْ، وَيَنْقَطِعُ التَّوَارُثُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَلاَ نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْل الْعِلْمِ فِي هَذَا خِلاَفًا.
وَأَمَّا إِنْ مَاتَ أَحَدُهُمْ قَبْل تَمَامِ اللِّعَانِ مِنَ الزَّوْجِيَّةِ، وَرِثَهُ الآْخَرَانِ فِي قَوْل الْجُمْهُورِ.
وَقَال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: إِذَا أَكْمَل الزَّوْجُ لِعَانَهُ لَمْ يَتَوَارَثَا. وَقَال مَالِكٌ: إِنْ مَاتَ الزَّوْجُ بَعْدَ لِعَانِهِ. فَإِنْ لاَعَنَتِ الْمَرْأَةُ لَمْ تَرِثْ وَلَمْ تُحَدَّ. وَإِنْ لَمْ تُلاَعِنْ وَرِثَتْ وَحُدَّتْ. وَإِنْ مَاتَتْ هِيَ بَعْدَ لِعَانِ الزَّوْجِ وَرِثَهَا فِي قَوْل جَمِيعِهِمْ إِلاَّ الشَّافِعِيَّ.
وَإِنْ تَمَّ اللِّعَانُ بَيْنَهُمَا فَمَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْل تَفْرِيقِ
__________
(1) سورة فاطر / 18(3/71)
الْحَاكِمِ بَيْنَهُمَا فَفِيهِ رِوَايَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: لاَ يَتَوَارَثَانِ. وَهُوَ قَوْل مَالِكٍ وَزُفَرَ، وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنِ الزُّهْرِيِّ وَرَبِيعَةَ وَالأَْوْزَاعِيِّ، لأَِنَّ اللِّعَانَ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ الْمُؤَبَّدَ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِي حُصُول الْفُرْقَةِ بِهِ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا كَالرَّضَاعِ.
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: يَتَوَارَثَانِ مَا لَمْ يُفَرِّقِ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَّقَ بَيْنَ الْمُتَلاَعِنَيْنِ، وَلَوْ حَصَل التَّفْرِيقُ بِاللِّعَانِ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى تَفْرِيقِهِ.
وَإِنْ فَرَّقَ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا قَبْل تَمَامِ اللِّعَانِ لَمْ تَقَعِ الْفُرْقَةُ، وَلَمْ يَنْقَطِعِ التَّوَارُثُ فِي قَوْل الْجُمْهُورِ.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ: إِنْ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا بَعْدَ أَنْ تَلاَعَنَا ثَلاَثًا وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ، وَانْقَطَعَ التَّوَارُثُ، لأَِنَّهُ وُجِدَ مِنْهُمَا مُعْظَمُ اللِّعَانِ، وَإِنْ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا قَبْل ذَلِكَ لَمْ تَقَعِ الْفُرْقَةُ وَلَمْ يَنْقَطِعِ التَّوَارُثُ (1) .
وَرُوِيَ عَنِ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ التَّوَارُثَ لاَ يَنْقَطِعُ بِاللِّعَانِ بَيْنَ الْوَلَدِ وَالْمُلاَعِنِ.
اسْتِحْقَاقُ الْمُقَرِّ لَهُ بِالنَّسَبِ عَلَى الْغَيْرِ:
127 - إِذَا لَمْ يُوجَدْ أَحَدٌ مِنَ الْوَرَثَةِ السَّابِقِ ذِكْرُهُمْ بِتَرْتِيبِهِمْ، فَإِنَّ الْمَال يَئُول إِلَى بَيْتِ الْمَال عَلَى رَأْيٍ، أَوْ إِلَى الْمُقَرِّ لَهُ بِالنَّسَبِ عَلَى الْغَيْرِ، أَوِ الْمُوصَى لَهُ بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ حَسَبَ الْخِلاَفِ السَّابِقِ ذِكْرُهُ.
128 - وَالإِْقْرَارُ بِالنَّسَبِ قِسْمَانِ، الأَْوَّل: إِقْرَارٌ بِنَسَبٍ عَلَى الْمُقِرِّ، وَهُوَ الإِْقْرَارُ بِأَصْل النَّسَبِ:
__________
(1) المغني 7 / 121 - 122، والمبسوط 29 / 198 ط دار المعرفة، وروضة الطالبين 6 / 43 ط المكتب الإسلامي، ومنح الجليل 4 / 752(3/71)
الْبُنُوَّةُ وَالأُْبُوَّةُ وَالأُْمُومَةُ مُبَاشَرَةً. فَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الإِْقْرَارِ مَتَى تَوَافَرَتْ فِيهِ الشُّرُوطُ الَّتِي ذَكَرَهَا الْفُقَهَاءُ لِصِحَّتِهِ صَحَّ الإِْقْرَارُ وَثَبَتَ نَسَبُ الْمُقَرِّ لَهُ بِالْبُنُوَّةِ أَوِ الأُْبُوَّةِ لِلْمُقِرِّ، فَيَرِثُهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ كَسَائِرِ أَبْنَائِهِ، وَلاَ يَجُوزُ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهِ.
الثَّانِي: إِقْرَارٌ بِنَسَبٍ عَلَى غَيْرِ الْمُقِرِّ، وَهُوَ الإِْقْرَارُ بِقَرَابَةٍ يَكُونُ فِيهَا وَاسِطَةً بَيْنَ الْمُقِرِّ وَالْمُقَرِّ لَهُ، كَإِقْرَارِ شَخْصٍ لآِخَرَ بِأَنَّهُ أَخُوهُ أَوْ عَمُّهُ أَوْ جَدُّهُ، فَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الإِْقْرَارِ لاَ يَثْبُتُ بِهِ النَّسَبُ، وَيَجُوزُ الرُّجُوعُ عَنْهُ، وَلَكِنْ يُعَامَل الْمُقِرُّ بِمُقْتَضَى إِقْرَارِهِ، فَيَصِحُّ فِي حَقِّ نَفْسِهِ فِي الأُْمُورِ الْمَالِيَّةِ مَتَى تَحَقَّقَتْ شُرُوطُ صِحَّتِهِ؛ إِذْ لَيْسَ فِيهِ إِلْحَاقُ ضَرَرٍ بِالْغَيْرِ.
فَإِذَا تُوُفِّيَ الْمَيِّتُ عَنِ ابْنَيْنِ، وَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِثَالِثٍ وَأَنْكَرَ الثَّانِي. فَقَدْ قَال مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ: إِنَّ لِلْمُقَرِّ لَهُ حَقًّا عَلَى الْمُقِرِّ، فَيُشَارِكُهُ فِي مِيرَاثِهِ، لَكِنِ اخْتَلَفُوا فِي الْقَدْرِ الَّذِي يَجِبُ عَلَى الْمُقِرِّ إِعْطَاؤُهُ لِلْمُقَرِّ لَهُ، فَقَال مَالِكٌ وَأَحْمَدُ: عَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَهُ مَا زَادَ عَنْ نَصِيبِهِ فِيمَا لَوْ ثَبَتَ نَسَبُ الْمُقَرِّ لَهُ أَيْ ثُلُثُ مَا فِي يَدِهِ. وَقَال الإِْمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ: يُعْطِيهِ نِصْفَ مَا فِي يَدِهِ، لأَِنَّ الْمُقِرَّ بِمُقْتَضَى إِقْرَارِهِ يَقُول لِلْمُقَرِّ لَهُ: أَنَا وَأَنْتَ سَوَاءٌ فِي مِيرَاثِ أَبِينَا، وَمَا أَخَذَهُ الْمُنْكِرُ، فَكَأَنَّهُ تَلِفَ أَوْ أَخَذَتْهُ يَدٌ مُعْتَدِيَةٌ، فَنَسْتَوِي فِيمَا بَقِيَ وَهُوَ الَّذِي بِيَدِيِّ.
وَاحْتَجَّ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ بِأَنَّ الْمُقِرَّ أَقَرَّ بِالزَّائِدِ عَنْ مِيرَاثِهِ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ أَكْثَرُ مِمَّا أَقَرَّ بِهِ كَمَا لَوْ أَقَرَّ لَهُ بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُ الْمُقِرَّ شَيْءٌ قَضَاءً. وَهَل يَلْزَمُهُ دِيَانَةً؟ قَوْلاَنِ: أَصَحُّهُمَا لاَ يَلْزَمُهُ، لأَِنَّهُ لاَ يَثْبُتُ نَسَبُهُ بِهَذَا الإِْقْرَارِ، وَإِذَا(3/72)
كَانَ لاَ يَثْبُتُ نَسَبُهُ فَلاَ يَرِثُ. وَالْقَوْل الآْخَرُ إِنَّهُ يَلْزَمُهُ، وَالْقَدْرُ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ دَفْعُهُ دِيَانَةً فِيهِ الْوَجْهَانِ السَّابِقَانِ.
129 - وَإِذَا تَرَكَ الْمُتَوَفَّى ابْنًا وَاحِدًا فَأَقَرَّ بِأَخٍ لَهُ فَلاَ يَثْبُتُ نَسَبُ الْمُقَرِّ لَهُ بِالإِْقْرَارِ، لأَِنَّ نِصَابَ الشَّهَادَةِ لَمْ يَتِمَّ، وَلَكِنْ يُشَارِكُهُ فِي الْمِيرَاثِ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَ لَهُ نِصْفَ مَا فِي يَدِهِ. وَعَنِ الشَّافِعِيِّ قَوْلاَنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لاَ يَثْبُتُ النَّسَبُ وَلاَ يَجِبُ الْمِيرَاثُ. وَالثَّانِي يَثْبُتُ النَّسَبُ وَيَجِبُ الْمِيرَاثُ. وَالضَّابِطُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْمَال كُلَّهُ مِيرَاثًا يَثْبُتُ بِإِقْرَارِهِ النَّسَبُ وَيَتْبَعُهُ الْمِيرَاثُ فِي الْحُكْمِ (1) .
الْمُوصَى لَهُ بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ وَلاَ وَارِثَ لَهُ:
130 - إِذَا لَمْ يُوجَدْ وَارِثٌ لِلْمُتَوَفَّى حَسْبَمَا سَبَقَ، أَوْ مُقَرٌّ لَهُ بِالنَّسَبِ عَلَى الْغَيْرِ، كَانَتْ تَرِكَتُهُ كُلُّهَا لِلْمُوصَى لَهُ بِجَمِيعِ الْمَال عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، لأَِنَّهُمْ يُقَدِّمُونَهُ هُنَا عَلَى بَيْتِ الْمَال، وَإِنَّمَا أَجَازُوا الْوَصِيَّةَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، لأَِنَّ عَدَمَ تَنْفِيذِ الْوَصِيَّةِ فِيمَا زَادَ عَنِ الثُّلُثِ كَانَ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ أَحَدٌ مِنْهُمْ فَقَدْ زَال الْمَانِعُ. أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فَإِنَّهُمْ فِي هَذِهِ الْحَال لاَ يُجِيزُونَ الْوَصِيَّةَ بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ لِعَدَمِ وُجُودِ مَنْ لَهُ حَقُّ الإِْجَازَةِ (2) .
__________
(1) ابن عابدين 2 / 969 ط أولى، بداية المجتهد لابن رشد 2 / 256 ط الحلبي، والروضة 4 / 423 ط المكتب الإسلامي والمغني 7 / 144 - 146، والمهذب للشيرازي 2 / 353.
(2) السراجية ص 58، وبداية المجتهد 2 / 336 ط الحلبي 3، وشرح روض الطالب 3 / 33 ط المكتبة الإسلامية، ابن عابدين 5 / 417، 418، ومنتهى الإرادات 2 / 37 ط دار العروبة.(3/72)
التَّخَارُجُ:
131 - التَّخَارُجُ لُغَةً: أَنْ يَأْخُذَ بَعْضُ الشُّرَكَاءِ الدَّارَ، وَبَعْضُهُمُ الأَْرْضَ مَثَلاً (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: أَنْ يَتَصَالَحَ الْوَرَثَةُ عَلَى إِخْرَاجِ بَعْضِهِمْ مِنَ الْمِيرَاثِ عَلَى شَيْءٍ مَعْلُومٍ، سَوَاءٌ أَكَانَ الشَّيْءُ الْمَعْلُومُ مِنْ تَرِكَةِ الْمُوَرِّثِ أَمْ مِنْ غَيْرِهَا
132 - حُكْمُهُ: أَنَّهُ جَائِزٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي جَمِيعِ الأَْحْوَال.
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَيُجِيزُونَهُ فِي الْمَوَارِيثِ الْقَدِيمَةِ، أَمَّا فِي التَّرِكَاتِ الْحَاضِرَةِ، فَقَدْ صَرَّحَ الإِْمَامُ أَحْمَدُ بِأَنَّهُ يَجُوزُ إِذَا عُلِمَ لِلطَّرَفَيْنِ، أَمَّا إِذَا جَهِل صَاحِبُ الْحَقِّ الْمُتَصَالَحَ عَلَيْهِ فَيَمْتَنِعُ.
133 - وَإِذَا كَانَ فِي التَّرِكَةِ ذَهَبٌ وَفِضَّةٌ، أَوْ هُمَا مَعًا فَلاَ بُدَّ مِنْ مُرَاعَاةِ أَحْكَامِ الصَّرْفِ، مِنْ وُجُوبِ التَّقَابُضِ فِي الْمَجْلِسِ وَالْمُسَاوَاةِ إِنْ تَعَيَّنَتْ. كَمَا أَنَّهُ عِنْدَ التَّخَارُجِ تُغْتَفَرُ الْجَهَالَةُ فِيهِ؛ لأَِنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُسَامَحَةِ.
وَتَفْصِيل أَحْكَامِهِ وَالْخِلاَفُ فِيهِ وَتَخْرِيجُ مَسَائِلِهِ فِي مُصْطَلَحِهِ (2) .
الْمُنَاسَخَةُ:
134 - التَّنَاسُخُ لُغَةً: التَّتَابُعُ وَالتَّدَاوُل، وَمِنْهُ تَنَاسَخَ الْوَرَثَةُ؛ لأَِنَّ الْمِيرَاثَ لاَ يُقْسَمُ عَلَى حُكْمِ
__________
(1) القاموس
(2) البحر الرائق 5 / 190 ط العلمية، الدسوقي 4 / 468، 3 / 315، ونهاية المحتاج 4 / 375، والقليوبي 3 / 137، والمغني 4 / 544 ط الرياض. والسراجية 236 - 237، والمبسوط 2 / 135، و 15 / 60(3/73)
الْمَيِّتِ الأَْوَّل، بَل عَلَى حُكْمِ الثَّانِي، وَكَذَا مَا بَعْدَهُ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: انْتِقَال نَصِيبِ بَعْضِ الْوَرَثَةِ بِمَوْتِهِ قَبْل الْقِسْمَةِ إِلَى مَنْ يَرِثُ مِنْهُ.
135 - فَإِذَا مَاتَ إِنْسَانٌ وَلَمْ تُقْسَمْ تَرِكَتُهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ حَتَّى مَاتَ بَعْضُهُمْ فَلاَ يَخْلُو الْحَال مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَكُونَ وَرَثَةُ الثَّانِي هُمْ وَرَثَةُ الأَْوَّل. أَوْ يَكُونَ مِنْ بَيْنِهِمْ مَنْ لَمْ يَكُنْ وَارِثًا لِلأَْوَّل، فَإِذَا كَانَ وَرَثَةُ الثَّانِي هُمْ وَرَثَةُ الأَْوَّل فَيُكْتَفَى بِقِسْمَةِ التَّرِكَةِ بَيْنَ الْوَرَثَةِ الْمَوْجُودِينَ، بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمُتَوَفَّى الثَّانِيَ لَمْ يَكُنْ حَيًّا حِينَ وَفَاةِ الْمُتَوَفَّى الأَْوَّل، وَلاَ دَاعِيَ لِقِسْمَةِ التَّرِكَةِ بَيْنَ وَرَثَةِ الأَْوَّل، ثُمَّ وَرَثَةِ الثَّانِي؛ لأَِنَّهُمْ لَمْ يَتَغَيَّرُوا.
136 - فَلَوْ مَاتَ شَخْصٌ عَنْ بَنِينَ وَبَنَاتٍ مِنْ زَوْجَةٍ وَاحِدَةٍ، ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمْ قَبْل قِسْمَةِ التَّرِكَةِ، وَلاَ وَارِثَ لَهُ سِوَى إِخْوَتِهِ الْبَاقِينَ، فَيُكْتَفَى بِقِسْمَةٍ وَاحِدَةٍ بَيْنَهُمْ لِلذَّكَرِ مِثْل حَظِّ الأُْنْثَيَيْنِ.
137 - وَأَمَّا إِذَا كَانَ مِنْ وَرَثَةِ الْمُتَوَفَّى الثَّانِي مَنْ لَمْ يَكُنْ وَارِثًا لِلأَْوَّل، فَإِنَّهُ يَجِبُ قِسْمَةُ تَرِكَةِ الْمُتَوَفَّى الأَْوَّل بَيْنَ وَرَثَتِهِ، ثُمَّ يَقْسِمُ نَصِيبَ الثَّانِي بَيْنَ وَرَثَتِهِ حَسَبَ أَحْكَامِ الْمِيرَاثِ. وَذَلِكَ كَأَنْ يَمُوتَ إِنْسَانٌ عَنِ ابْنِهِ وَبِنْتِهِ، ثُمَّ قَبْل قِسْمَةِ التَّرِكَةِ بَيْنَهُمَا مَاتَ الاِبْنُ عَنْ: بِنْتٍ وَأُخْتٍ، فَإِنَّ تَرِكَةَ الأَْوَّل تُقْسَمُ بَيْنَ الاِبْنِ وَالْبِنْتِ، لِلذَّكَرِ مِثْل حَظِّ الأُْنْثَيَيْنِ، ثُمَّ يُقْسَمُ نَصِيبُ الاِبْنِ بَيْنَ بِنْتِهِ وَأُخْتِهِ مُنَاصَفَةً بَيْنَهَا، وَهَكَذَا يَكُونُ الْحُكْمُ فِي الْمُنَاسَخَاتِ (2) .
__________
(1) المصباح المنير
(2) السراجية ص 259(3/73)
حِسَابُ الْمَوَارِيثِ:
138 - إِذَا اسْتَحَقَّ التَّرِكَةَ وَارِثٌ وَاحِدٌ فَلاَ حَاجَةَ إِلَى تَقْسِيمِهَا، سَوَاءٌ أَكَانَ عَاصِبًا، أَمْ صَاحِبَ فَرْضٍ، أَمْ ذَا رَحِمٍ.
أَمَّا إِذَا تَعَدَّدَ الْوَرَثَةُ فَلاَ بُدَّ مِنْ تَقْسِيمِ التَّرِكَةِ بَيْنَهُمْ، فَيَأْخُذُ كُل وَارِثٍ نَصِيبَهُ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ مِنْهَا، وَيَلْزَمُ لِتَقْسِيمِ التَّرِكَةِ عَلَى الْوَرَثَةِ الأُْمُورُ الآْتِيَةُ:
139 - أَوَّلاً: مَعْرِفَةُ الْفُرُوضِ الَّتِي يَسْتَحِقُّهَا أَصْحَابُ الْفُرُوضِ مِنَ الْوَرَثَةِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمَعْرُوضَةِ. وَتَتَوَقَّفُ مَعْرِفَتُهَا عَلَى مَعْرِفَةِ أَحْوَال ذَوِي الْفُرُوضِ فِي الْمِيرَاثِ مَعَ غَيْرِهِمْ مِنَ الْوَرَثَةِ.
140 - ثَانِيًا: مَعْرِفَةُ أَصْل الْمَسْأَلَةِ الْمَعْرُوضَةِ، وَهُوَ أَقَل عَدَدٍ يُمْكِنُ أَنْ تُؤْخَذَ مِنْهُ سِهَامُ الْوَرَثَةِ بِدُونِ كَسْرٍ، وَهَذَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ مَنْ يُوجَدُ مِنَ الْوَرَثَةِ. فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنَ الْعَصَبَاتِ النَّسَبِيَّةِ، أَوْ مِنْ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ، أَوْ مُشْتَرَكًا. فَإِذَا وُجِدَ عَصَبَةٌ فَقَطْ يُعْتَبَرُ عَدَدُ رُءُوسِهِمْ أَصْل الْمَسْأَلَةِ، فَتُقْسَمُ التَّرِكَةُ عَلَيْهِمْ بِحَسَبِ عَدَدِ الرُّءُوسِ. فَفِي ثَلاَثَةِ أَبْنَاءٍ، أَوْ ثَلاَثَةِ إِخْوَةٍ أَشِقَّاءٍ، أَوْ لأَِبٍ، أَصْل الْمَسْأَلَةِ ثَلاَثَةٌ، وَتُقْسَمُ عَلَيْهِمْ أَثْلاَثًا، يَأْخُذُ كُل وَاحِدٍ ثُلُثَ التَّرِكَةِ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ. وَإِذَا وُجِدَتْ مَعَهُمْ أُنْثَى مُعَصَّبَةٌ بِهِمْ، عُدَّ كُل ذَكَرٍ بِاثْنَتَيْنِ مِنَ الإِْنَاثِ، وَتُقْسَمُ التَّرِكَةُ عَلَى عَدَدِ رُءُوسِهِمْ لِلذَّكَرِ مِثْل حَظِّ الأُْنْثَيَيْنِ، فَفِي ابْنَيْنِ وَثَلاَثِ بَنَاتٍ أَصْل الْمَسْأَلَةِ سَبْعَةٌ، لِكُل ابْنٍ سُبُعَانِ، وَلِكُل بِنْتٍ سُبُعٌ. وَفِي ثَلاَثَةِ إِخْوَةٍ أَشِقَّاءٍ وَأَرْبَعِ أَخَوَاتٍ شَقِيقَاتٍ. أَصْل الْمَسْأَلَةِ عَشَرَةٌ، لِكُل أَخٍ عُشْرَانِ، وَلِكُل أُخْتٍ عَشْرٌ.(3/74)
141 - وَإِذَا وُجِدَ وَاحِدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ مَعَ غَيْرِهِ مِنَ الْعَصَبَاتِ النَّسَبِيَّةِ. فَأَصْل الْمَسْأَلَةِ مَقَامُ الْكَسْرِ الاِعْتِيَادِيِّ الدَّال عَلَى فَرْضِ صَاحِبِ الْفَرْضِ، وَلَمَّا كَانَتِ الْفُرُوضُ لاَ تَتَعَدَّى الْكُسُورَ الآْتِيَةَ:
النِّصْفَ، الرُّبُعَ، الثُّمُنَ، الثُّلُثَيْنِ، الثُّلُثَ، السُّدُسَ.
فَلاَ يَخْرُجُ أَصْل الْمَسْأَلَةِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ عَنْ مَقَامَاتِ هَذِهِ الْكُسُورِ.
142 - وَإِذَا وُجِدَ أَصْحَابُ فُرُوضٍ مُخْتَلِفَةٍ وَحْدَهُمْ، أَوْ مَعَ غَيْرِهِمْ مِنَ الْعَصَبَاتِ النَّسَبِيَّةِ، فَأَصْل الْمَسْأَلَةِ الْمُضَاعَفُ الْبَسِيطُ لِمَقَامَاتِ الْكُسُورِ الاِعْتِيَادِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْفُرُوضِ، وَقَدْ دَل الاِسْتِقْرَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُضَاعَفَ الْبَسِيطَ لِمَقَامَاتِ الْكُسُورِ فِي أَيِّ مَسْأَلَةٍ لاَ يَخْرُجُ أَوَّلاً عَنْ سَبْعَةِ أَعْدَادٍ، وَهِيَ: (2، 3، 4، 6، 8، 12، 24) .
143 - وَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ عَائِلَةٌ، أَوْ فِيهَا رَدٌّ، يَخْرُجُ أَصْل الْمَسْأَلَةِ عَنْ هَذِهِ الأَْعْدَادِ، وَالْخَمْسَةُ الأُْولَى مِنْ هَذِهِ الأَْعْدَادِ مَأْخُوذَةٌ مِنْ مَقَامَاتِ الْكُسُورِ الاِعْتِيَادِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْفُرُوضِ، وَالْعَدَدُ (12) مَأْخُوذٌ مِنِ اخْتِلاَطِ. 1: 4 بِالنَّوْعِ الثَّانِي مِنَ الْفُرُوضِ وَهُوَ:
الثُّلُثَانِ الثُّلُثُ السُّدُسُ.(3/74)
وَأَمَّا النَّوْعُ الأَْوَّل مِنَ الْفُرُوضِ فَهُوَ:
النِّصْفُ الرُّبُعُ الثُّمُنُ
وَالْعَدَدُ (24) مَأْخُوذٌ مِنِ اخْتِلاَطِ الثُّمُنِ بِالنَّوْعِ الثَّانِي الْمَذْكُورِ.
وَيُغْنِي عَمَّا تَقَدَّمَ اعْتِبَارُ الْعَدَدِ (24) أَصْلاً لِمَسَائِل الْمَوَارِيثِ، فَذَلِكَ أَيْسَرُ وَأَسْهَل.
وَلاَ بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ أَصْل الْمَسْأَلَةِ الْمَعْرُوضَةِ، حَتَّى يُمْكِنَ مَعْرِفَةُ سِهَامِ كُل وَارِثٍ مِنَ الْوَرَثَةِ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلتَّرِكَةِ.
144 - ثَالِثًا: مَعْرِفَةُ عَدَدِ سِهَامِ كُل وَارِثٍ مِنَ الْوَرَثَةِ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلتَّرِكَةِ. فَإِذَا كَانَ الْوَارِثُ صَاحِبَ فَرْضٍ، فَعَدَدُ سِهَامِهِ مِنَ التَّرِكَةِ هُوَ النَّاتِجُ مِنْ ضَرْبِ أَصْل الْمَسْأَلَةِ فِي الْكَسْرِ الدَّال عَلَى فَرْضِهِ، فَإِذَا كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ أَبٌ وَأُمٌّ، فَإِنَّ الأُْمَّ تَسْتَحِقُّ الثُّلُثَ، وَيَكُونُ أَصْل الْمَسْأَلَةِ هُوَ ثَلاَثَةٌ، وَإِذَا كَانَ عَاصِبًا وَبَقِيَ لَهُ شَيْءٌ مِنَ التَّرِكَةِ. فَعَدَدُ سِهَامِهِ هُوَ الْبَاقِي مِنْ أَصْل الْمَسْأَلَةِ بَعْدَ طَرْحِ مَجْمُوعِ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ مِنْ أَصْل الْمَسْأَلَةِ. فَإِنْ كَانَ الْوَرَثَةُ زَوْجَةً وَأَبًا، فَأَصْل الْمَسْأَلَةِ يَكُونُ أَرْبَعَةً؛ لأَِنَّ الزَّوْجَةَ لَهَا الرُّبُعُ، فَيَكُونُ لَهَا سَهْمٌ، وَلِلأَْبِ الْبَاقِي ثَلاَثَةُ أَسْهُمٍ.
145 - رَابِعًا: مَعْرِفَةُ مِقْدَارِ السَّهْمِ الْوَاحِدِ مِنَ التَّرِكَةِ، وَهُوَ النَّاتِجُ مِنْ قِسْمَةِ التَّرِكَةِ عَلَى أَصْل الْمَسْأَلَةِ إِنْ كَانَ مَجْمُوعُ السِّهَامِ مُسَاوِيًا لأَِصْل الْمَسْأَلَةِ. فَفِي زَوْجٍ، وَابْنٍ، وَبِنْتٍ، يَكُونُ أَصْل الْمَسْأَلَةِ مِنْ أَرْبَعَةٍ: لِلزَّوْجِ سَهْمٌ، وَلِلْبِنْتِ سَهْمٌ، وَلِلاِبْنِ سَهْمَانِ.(3/75)
146 - خَامِسًا: مَعْرِفَةُ مِقْدَارِ نَصِيبِ كُل وَارِثٍ مِنَ التَّرِكَةِ، وَهُوَ النَّتِيجَةُ الْمَقْصُودَةُ مِنَ التَّرِكَةِ. وَهُوَ النَّاتِجُ مِنْ ضَرْبِ مِقْدَارِ السَّهْمِ الْوَاحِدِ مِنَ التَّرِكَةِ فِي عَدَدِ سِهَامِ كُل وَارِثٍ.
ثُمَّ إِذَا جَمَعْتَ سِهَامَ الْوَرَثَةِ بَعْدَ مَعْرِفَةِ عَدَدِ سِهَامِ كُل وَارِثٍ مِنْ أَصْل الْمَسْأَلَةِ حَسَبَ الطَّرِيقَةِ السَّابِقَةِ، وَقَارَنْتَ مَجْمُوعَ تِلْكَ السِّهَامِ بِأَصْل الْمَسْأَلَةِ، فَلاَ يَخْلُو الْحَال مِنْ أَحَدِ أُمُورٍ ثَلاَثَةٍ:
أ - أَنْ يَكُونَ مَجْمُوعُ السِّهَامِ مُسَاوِيًا لأَِصْل الْمَسْأَلَةِ، وَحِينَئِذٍ تَكُونُ الْمَسْأَلَةُ عَادِلَةً؛ لأَِنَّ كُل وَاحِدٍ مِنَ الْوَرَثَةِ يَأْخُذُ نَصِيبَهُ مِنَ التَّرِكَةِ بِلاَ زِيَادَةٍ وَلاَ نَقْصٍ، كَمَا فِي زَوْجٍ، وَأُخْتٍ شَقِيقَةٍ.
ب - أَنْ يَكُونَ مَجْمُوعُ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ أَكْثَرَ مِنْ أَصْل الْمَسْأَلَةِ، وَحِينَئِذٍ تَكُونُ الْمَسْأَلَةُ عَائِلَةً، كَمَا فِي زَوْجٍ، وَأُخْتَيْنِ شَقِيقَتَيْنِ، أَوْ لأَِبٍ.
ج - أَنْ يَكُونَ مَجْمُوعُ سِهَامِ الْفُرُوضِ أَقَل مِنْ أَصْل الْمَسْأَلَةِ وَلَمْ يُوجَدْ عَاصِبٌ نَسَبِيٌّ يَسْتَحِقُّ الْبَاقِيَ مِنَ التَّرِكَةِ بَعْدَ سِهَامِ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ، وَيُقَال لِلْمَسْأَلَةِ حِينَئِذٍ فِيهَا رَدٌّ. وَالأَْمْرَانِ: الثَّانِي وَالثَّالِثِ، وَهُمَا الْعَوْل وَالرَّدُّ، بَيَانُهُمَا فِيمَا سَبَقَ.
الْمُلَقَّبَاتُ مِنْ مَسَائِل الْمِيرَاثِ:
فِي الْفَرَائِضِ مَسَائِل اشْتُهِرَتْ بِأَلْقَابٍ خَاصَّةٍ لِمَا تَقَرَّرَ مِنَ الْقَوَاعِدِ وَالأَْحْكَامِ. مِنْهَا مَا اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى حُكْمِهَا، وَمِنْهَا مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ:
147 - أَوَّلاً: الْمُشَرَّكَةُ، أَوِ الْحِمَارِيَّةُ، أَوِ الْحَجَرِيَّةُ، أَوِ الْيَمِّيَّةُ:
وَصُورَتُهَا: امْرَأَةٌ مَاتَتْ وَتَرَكَتْ زَوْجًا وَأُمًّا(3/75)
وَأَخَوَيْنِ لأُِمٍّ، أَوْ أُخْتَيْنِ لأُِمٍّ، أَوْ أَخًا وَأُخْتًا لأُِمٍّ، وَأَخَوَيْنِ شَقِيقَيْنِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهَا الصَّحَابَةُ وَفُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ.
فَمَذْهَبُ الإِْمَامِ عَلِيٍّ، وَأَبِي مُوسَى الأَْشْعَرِيِّ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: أَنَّ لِلزَّوْجِ النِّصْفَ، وَلِلأُْمِّ السُّدُسَ، وَلِلأَْخَوَيْنِ لأُِمٍّ الثُّلُثَ، وَلاَ شَيْءَ لِلإِْخْوَةِ لأَِبٍ وَأُمٍّ. وَهَذَا هُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ، وَالإِْمَامُ أَحْمَدُ فِي الأَْصَحِّ عَنْهُ.
وَمَذْهَبُ عُثْمَانَ وَزَيْدٍ: أَنَّهُ يُشْرَكُ بَيْنَ الإِْخْوَةِ لأُِمٍّ وَالأَْشِقَّاءِ، فَيُقْسَمُ الثُّلُثُ بَيْنَ الْجَمِيعِ بِالسَّوِيَّةِ، كَمَا يُسَوَّى بَيْنَ الذَّكَرِ وَالأُْنْثَى، فِي النَّصِيبِ.
وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ شُرَيْحٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ.
وَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي رَأْيِهِ الأَْوَّل يَنْفِي التَّشْرِيكَ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رِوَايَتَانِ أَظْهَرُهُمَا التَّشْرِيكُ، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رِوَايَتَانِ أَظْهَرُهُمَا عَدَمُ التَّشْرِيكِ.
148 - وَتُسَمَّى هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَسْأَلَةَ التَّشْرِيكِ؛ لِمُشَارَكَةِ أَوْلاَدِ الأَْبِ وَالأُْمِّ لأَِوْلاَدِ الأُْمِّ فِي الْمِيرَاثِ. كَمَا تُسَمَّى، الْحِمَارِيَّةُ وَالْحَجَرِيَّةُ وَالْيَمِّيَّةُ أَيْضًا. لأَِنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا اُسْتُفْتِيَ عُمَرُ فِي الْمَسْأَلَةِ، أَفْتَى بِعَدَمِ مُشَارَكَةِ الإِْخْوَةِ لأَِبٍ وَأُمٍّ لِلإِْخْوَةِ لأُِمٍّ فِي الْمِيرَاثِ، فَقَال لَهُ الإِْخْوَةُ لأَِبٍ وَأُمٍّ: هَبْ أَنَّ أَبَانَا كَانَ حِمَارًا، وَفِي رِوَايَةٍ حَجَرًا مُلْقًى فِي الْيَمِّ. أَلَسْنَا مِنْ أُمٍّ وَاحِدَةٍ؟ فَرَجَعَ عَنْ رَأْيِهِ الأَْوَّل، وَأَفْتَى بِالتَّشْرِيكِ. وَقِيل لَهُ: لَقَدْ أَفْتَيْتَ سَابِقًا عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ. فَقَال: تِلْكَ عَلَى مَا قَضَيْنَا، وَهَذِهِ عَلَى مَا نَقْضِي.
قَال صَاحِبُ الْمَبْسُوطِ بَعْدَ أَنْ أَوْرَدَ الرَّأْيَ(3/76)
بِالتَّشْرِيكِ: وَهُوَ " أَيِ الْقَوْل بِالتَّشْرِيكِ " الْمَعْنَى الْفِقْهِيُّ. فَإِنَّ اسْتِحْقَاقَ الْمِيرَاثِ بِاعْتِبَارِ الْقُرْبِ وَالإِْدْلاَءِ. وَقَدِ اسْتَوَوْا فِي الإِْدْلاَءِ إِلَى الْمَيِّتِ بِالأُْمِّ وَرَجَحَ الإِْخْوَةُ لأُِمٍّ وَأَب بِالإِْدْلاَءِ إِلَيْهِ بِالأَْبِ. فَإِنْ كَانُوا لاَ يَتَقَدَّمُونَ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ، فَلاَ أَقَل مِنْ أَنْ يَسْتَوُوا بِهِمْ، وَإِنَّمَا لَمْ يَتَقَدَّمُوا لأَِنَّ الإِْدْلاَءَ بِالأَْبِ بِسَبَبِ الْعُصُوبَةِ. وَاسْتِحْقَاقُ الْعَصَبَاتِ مُتَأَخِّرٌ عَنِ الأَْبِ فِي حَقِّهِمْ. وَإِنَّمَا يَبْقَى الإِْدْلاَءُ بِقَرَابَةِ الأُْمِّ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ.
وَالْقَائِلُونَ بِالتَّشْرِيكِ سَوَّوْا فِي الْمِيرَاثِ بِالنِّسْبَةِ لأَِوْلاَدِ الأُْمِّ، وَلأَِوْلاَدِ الأَْبِ وَالأُْمِّ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالأُْنْثَى؛ لأَِنَّ الْمِيرَاثَ ثَبَتَ لَهُمْ بِاعْتِبَارِهِمْ أَوْلاَدَ أُمٍّ. وَالْحُكْمُ فِيهِمُ الْمُسَاوَاةُ. وَذَلِكَ بَعْدَ قِسْمَةِ الثُّلُثِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ مُنَاصَفَةً.
149 - وَاسْتَدَلُّوا لِلْقَوْل بِالتَّشْرِيكِ بِأَدِلَّةٍ مِنْهَا:
أَوَّلاً: أَنَّهُ لَوْ كَانَ بَعْضُ وَلَدِ الأُْمِّ ابْنَ عَمٍّ يُشَارِكُ بِقَرَابَةِ الأُْمِّ وَإِنْ سَقَطَتْ عُصُوبَتُهُ، فَبِالأَْوْلَى الأَْخُ مِنَ الأَْبَوَيْنِ.
ثَانِيًا: أَنَّهَا فَرِيضَةٌ جَمَعَتْ وَلَدَ الأَْبَوَيْنِ وَوَلَدَ الأُْمِّ، وَهُمْ مِنْ أَهْل الْمِيرَاثِ. فَإِذَا وَرِثَ وَلَدُ الأُْمِّ وَرِثَ وَلَدُ الأَْبَوَيْنِ كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا زَوْجٌ.
ثَالِثًا: أَنَّ الإِْرْثَ مَبْنِيٌّ عَلَى تَقْدِيمِ الأَْقْوَى عَلَى الأَْضْعَفِ. وَأَدْنَى أَحْوَال الأَْقْوَى مُشَارَكَتُهُ لِلأَْضْعَفِ، وَلَيْسَ فِي أُصُول الْمِيرَاثِ سُقُوطُ الأَْقْوَى بِالأَْضْعَفِ، وَوَلَدُ الأَْبِ وَالأُْمِّ أَقْوَى مِنْ وَلَدِ الأُْمِّ (1) .
150 - وَاسْتَدَل الْقَائِلُونَ بِعَدَمِ التَّشْرِيكِ بِأَدِلَّةٍ مِنْهَا:
__________
(1) السراجية ص241 - 248(3/76)
أَوَّلاً: قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} . (1)
إِذْ لاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالآْيَةِ أَوْلاَدُ الأُْمِّ عَلَى الْخُصُوصِ، كَمَا أَجْمَعَ عَلَى ذَلِكَ الْمُفَسِّرُونَ. وَيَدُل عَلَيْهِ قِرَاءَةُ أُبَيٍّ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ مِنْ أُمِّهِ. فَتَشْرِيكُ الأَْشِقَّاءِ مَعَ أَوْلاَدِ الأُْمِّ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ الآْيَةِ، وَيَلْزَمُ مِنْهُ مُخَالَفَةُ الآْيَةِ الأُْخْرَى {فَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْل حَظِّ الأُْنْثَيَيْنِ} . (2) ، إِذِ الْمُرَادُ مِنَ الإِْخْوَةِ فِي الآْيَةِ كُل الإِْخْوَةِ، مَا عَدَا إِخْوَةَ الأُْمِّ. وَقَدْ جَعَل اللَّهُ فِيهَا حَظَّ الذَّكَرِ مِثْل حَظِّ الأُْنْثَيَيْنِ. وَلَكِنِ الْقَائِلِينَ بِالتَّشْرِيكِ يُسَوُّونَ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالأُْنْثَى وَفِي ذَلِكَ مُخَالَفَةٌ لَهَا.
ثَانِيًا: قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا بَقِيَ فَلأَِوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ (3) وَإِلْحَاقُ الْفَرَائِضِ بِأَهْلِهَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ لأَِوْلاَدِ الأُْمِّ فِي الْمَسْأَلَةِ كُل الثُّلُثِ؛ لأَِنَّهُمْ مِنْ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ، فَمُشَارَكَةُ الإِْخْوَةِ لأَِبٍ وَأُمٍّ فِيهَا مُخَالَفَةٌ لِلْحَدِيثِ.
ثَالِثًا: أَنَّ الإِْجْمَاعَ انْعَقَدَ عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ وَاحِدٌ مِنْ أَوْلاَدِ الأُْمِّ، وَعَدَدٌ كَثِيرٌ مِنَ الإِْخْوَةِ الأَْشِقَّاءِ، فَإِنَّ وَلَدَ الأُْمِّ يَأْخُذُ السُّدُسَ، وَكُل الإِْخْوَةِ يَأْخُذُونَ الثُّلُثَ.
فَإِذَا كَانَ الْوَاحِدُ يَفْضُلُهُمْ هَذَا الْفَضْل، فَلِمَ لاَ يَجُوزُ لِلاِثْنَيْنِ إِسْقَاطُهُمْ.
__________
(1) سورة النساء / 12
(2) سورة النساء / 176
(3) حديث تقدم (هامش ف 4)(3/77)
الْغَرَّاوَانِ، أَوِ الْغَرِيمَتَانِ، أَوِ الْغَرِيبَتَانِ، أَوِ الْعُمَرِيَّتَانِ:
151 - صُورَتُهَا امْرَأَةٌ تُوُفِّيَتْ عَنْ: زَوْجٍ وَأُمٍّ وَأَبٍ، أَوْ رَجُلٌ تُوُفِّيَ عَنْ: زَوْجَةٍ وَأُمٍّ وَأَبٍ.
فَقَدِ اتَّفَقَ الأَْئِمَّةُ الأَْرْبَعَةُ فِي الأُْولَى عَلَى: أَنَّ لِلزَّوْجِ نِصْفَ التَّرِكَةِ، وَلِلأُْمِّ ثُلُثَ الْبَاقِي بَعْدَ فَرْضِ الزَّوْجِ. وَفِي الثَّانِيَةِ: لِلزَّوْجَةِ الرُّبُعَ، وَلِلأُْمِّ ثُلُثَ الْبَاقِي بَعْدَ فَرْضِ الزَّوْجَةِ، وَلِلأَْبِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا الْبَاقِيَ، بَعْدَ فَرْضِ الزَّوْجِ أَوِ الزَّوْجَةِ وَفَرْضِ الأُْمِّ.
وَوَجْهُ ذَلِكَ: أَنَّ كُل ذَكَرٍ وَأُنْثَى يَأْخُذَانِ الْمَال أَثْلاَثًا يَجِبُ أَنْ يَأْخُذَا الْبَاقِيَ بَعْدَ فَرْضِ الزَّوْجِيَّةِ كَذَلِكَ، كَالأَْخِ وَالأُْخْتِ لِغَيْرِ أُمٍّ. وَبِأَنَّ الأَْصْل أَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ ذَكَرٌ وَأُنْثَى مِنْ دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ، أَنْ يَكُونَ لِلذَّكَرِ ضِعْفُ مَا لِلأُْنْثَى، فَلَوْ جَعَل لِلأُْمِّ ثُلُثَ كُل التَّرِكَةِ مَعَ الزَّوْجِ، لَفَضَلَتْ عَلَى الأَْبِ، وَمَعَ الزَّوْجَةِ لَمْ يَكُنْ نَصِيبُ الأَْبِ ضِعْفَ نَصِيبِ الأُْمِّ، وَلاَ يَرِدُ مَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُمَا إِذَا اجْتَمَعَا مَعَ الاِبْنِ تَسَاوَيَا؛ لأَِنَّهُمْ إِذَا قَالُوا: الأَْصْل كَذَا. فَذَلِكَ لاَ يُنَافِي خُرُوجَ فَرْضٍ عَنْهُ لِدَلِيلٍ، كَمَا خَرَجَ عَنْهُ الإِْخْوَةُ لأُِمٍّ فِي تَسَاوِي نَصِيبِ الذَّكَرِ بِنَصِيبِ الأُْنْثَى.
وَخَالَفَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَال: لِلأُْمِّ فِي الصُّورَتَيْنِ الثُّلُثُ كَامِلاً. وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُِمِّهِ الثُّلُثُ} (1) : وَبِقَوْلِهِ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا بَقِيَ فَلأَِوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ (2) وَالأَْبُ فِي الصُّورَةِ عَصَبَةٌ، فَلَهُ مَا بَقِيَ بَعْدَ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ. قَال صَاحِبُ الْمُغْنِي - كَمَا نَقَل عَنْهُ
__________
(1) سورة النساء / 11
(2) حديث تقدم (هامش ف 4)(3/77)
صَاحِبُ الْعَذْبِ الْفَائِضِ: وَالْحُجَّةُ مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ لَوْلاَ انْعِقَادُ الإِْجْمَاعِ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلَى خِلاَفِهِ فِيهِمَا.
152 - وَلَوْ كَانَ مَكَانَ الأَْبِ فِي الصُّورَتَيْنِ جَدٌّ، لَكَانَ لِلأُْمِّ ثُلُثُ جَمِيعِ الْمَال، وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ.
وَرَوَى ذَلِكَ أَهْل الْكُوفَةِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي صُورَةِ الزَّوْجِ.
وَقَال أَبُو يُوسُفَ: إِنَّ لِلأُْمِّ مَعَ الْجَدِّ ثُلُثَ الْبَاقِي أَيْضًا، كَمَا مَعَ الأَْبِ، وَهُوَ الرِّوَايَةُ الأُْخْرَى عَنْ أَبِي بَكْرٍ. فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ جَعَل الْجَدَّ كَالأَْبِ. وَالْوَجْهُ عَلَى الرِّوَايَةِ الأُْولَى هُوَ تَرْكُ ظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى: {فَلأُِمِّهِ الثُّلُثُ} فِي حَقِّ الأَْبِ كَيْ لاَ يَلْزَمَ تَفْضِيلُهَا عَلَيْهِ مَعَ تَسَاوِيهِمَا فِي الْقُرْبِ. وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْجَدِّ فَأُبْقِيَ النَّصُّ عَلَى ظَاهِرِهِ {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُِمِّهِ الثُّلُثُ} لِعَدَمِ تَسَاوِي الأُْمِّ وَالْجَدِّ فِي الْقُرْبِ.
153 - وَتُسَمَّى الْمَسْأَلَةُ الْمَذْكُورَةُ بِالْغَرَّاوَيْنِ؛ لِشُهْرَتِهَا كَالْكَوْكَبِ الأَْغَرِّ " الْمُضِيءِ "، وَبِالْغَرِيمَتَيْنِ لأَِنَّ كُلًّا مِنَ الزَّوْجَيْنِ كَالْغَرِيمِ صَاحِبِ الدَّيْنِ، وَالأَْبَوَانِ كَالْوَرَثَةِ يَأْخُذَانِ مَا فَضَل بَعْدَ فَرْضِ كُلٍّ مِنْهُمَا، وَبِالْغَرِيبَتَيْنِ لِغَرَابَتِهِمَا بَيْنَ مَسَائِل الْفَرَائِضِ، وَبِالْعُمَرِيَّتَيْنِ؛ لأَِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَوَّل مَنْ قَضَى فِيهِمَا لِلأُْمِّ بِثُلُثِ الْبَاقِي، وَوَافَقَهُ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ (1) . وَهُنَاكَ مَسَائِل أُخْرَى مُسْتَثْنَاةٌ،
__________
(1) السراجية 132 - 134، والعذب الفائض 1 / 55، والشرح الكبير 4 / 410، 411 ط دار الفكر، والتحفة مع الشرواني 1 / 4، 5(3/78)
تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا، وَهَاتَانِ الْمَسْأَلَتَانِ سَبَقَ ذِكْرُهُمَا أَيْضًا لَكِنْ بِغَيْرِ تَفْصِيلٍ، مِمَّا دَعَا إِلَى إِفْرَادِهِمَا وَلأَِهَمِّيَّتِهِمَا.
الْخَرْقَاءُ:
154 - صُورَتُهَا: أُمٌّ وَجَدٌّ وَأُخْتٌ، سُمِّيَتْ خَرْقَاءَ لأَِنَّ أَقَاوِيل الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ تَخَرَّقَتْهَا. قَال أَبُو بَكْرٍ: لِلأُْمِّ الثُّلُثُ، وَالْبَاقِي لِلْجَدِّ، وَقَال زَيْدٌ: لِلأُْمِّ الثُّلُثُ، وَالْبَاقِي بَيْنَ الْجَدِّ وَالأُْخْتِ أَثْلاَثًا. وَقَال عَلِيٌّ: لِلأُْمِّ الثُّلُثُ، وَلِلأُْخْتِ النِّصْفُ، وَالْبَاقِي لِلْجَدِّ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رِوَايَتَانِ: فِي رِوَايَةٍ لِلأُْخْتِ النِّصْفُ وَالْبَاقِي بَيْنَ الأُْمِّ وَالْجَدِّ نِصْفَانِ، وَفِي رِوَايَةٍ وَهُوَ قَوْل عُمَرَ لِلأُْخْتِ النِّصْفُ، وَلِلأُْمِّ الثُّلُثُ، وَالْبَاقِي لِلْجَدِّ.
وَتُسَمَّى عُثْمَانِيَّةً، لأَِنَّ عُثْمَانَ انْفَرَدَ فِيهَا بِقَوْلٍ خَرَقَ الإِْجْمَاعَ فَقَال: لِلأُْمِّ الثُّلُثُ، وَالْبَاقِي بَيْنَ الْجَدِّ وَالأُْخْتِ نِصْفَانِ قَالُوا: وَبِهِ سُمِّيَتْ خَرْقَاءَ.
وَتُسَمَّى مُثَلَّثَةَ عُثْمَانَ، وَمُرَبَّعَةَ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَمُخَمَّسَةَ الشَّعْبِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ، لأَِنَّ الْحَجَّاجَ سَأَلَهُ عَنْهَا فَقَال: اخْتَلَفَ فِيهَا خَمْسَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَإِذَا أُضِيفَ إِلَيْهِمْ قَوْل الصِّدِّيقِ كَانَتْ مُسَدَّسَةً.
الْمَرْوَانِيَّةُ:
155 - صُورَتُهَا: سِتُّ أَخَوَاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ وَزَوْجٌ، لِلزَّوْجِ النِّصْفُ، وَلِلأُْخْتَيْنِ لأَِبَوَيْنِ الثُّلُثَانِ، وَلِلأُْخْتَيْنِ لأُِمٍّ الثُّلُثُ، وَسَقَطَ أَوْلاَدُ الأَْبِ، أَصْلُهَا مِنْ سِتَّةٍ، وَتَعُول إِلَى تِسْعَةٍ، سُمِّيَتْ مَرْوَانِيَّةً؛ لِوُقُوعِهَا فِي زَمَنِ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، وَتُسَمَّى الْغَرَّاءَ؛ لاِشْتِهَارِهَا بَيْنَهُمْ.(3/78)
الْحَمْزِيَّةُ:
156 - صُورَتُهَا: ثَلاَثُ جَدَّاتٍ مُتَحَاذِيَاتٍ، وَجَدٌّ، وَثَلاَثُ أَخَوَاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ، قَال أَبُو بَكْرٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ: لِلْجَدَّاتِ السُّدُسُ، وَالْبَاقِي لِلْجَدِّ. أَصْلُهَا مِنْ سِتَّةٍ، وَتَصِحُّ مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ. وَقَال عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ: لِلأُْخْتِ مِنَ الأَْبَوَيْنِ النِّصْفُ، وَمِنَ الأَْبِ السُّدُسُ تَكْمِلَةً لِلثُّلُثَيْنِ، وَلِلْجَدَّاتِ السُّدُسُ، وَلِلْجَدِّ السُّدُسُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رِوَايَةٌ شَاذَّةٌ: لِلْجَدَّةِ أُمُّ الأُْمِّ السُّدُسُ، وَالْبَاقِي لِلْجَدِّ. وَقَال زَيْدٌ: لِلْجَدَّاتِ السُّدُسُ، وَالْبَاقِي بَيْنَ الْجَدِّ وَالأُْخْتِ لأَِبَوَيْنِ وَالأُْخْتِ لأَِبٍ عَلَى أَرْبَعَةٍ، ثُمَّ تَرُدُّ الأُْخْتُ مِنَ الأَْبِ مَا أَخَذَتْ عَلَى الأُْخْتِ مِنَ الأَْبَوَيْنِ، أَصْلُهَا مِنْ سِتَّةٍ، وَتَصِحُّ مِنِ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ، وَتَعُودُ بِالاِخْتِصَارِ إِلَى سِتَّةٍ وَثَلاَثِينَ، لِلْجَدَّاتِ سِتَّةٌ، وَلِلأُْخْتِ مِنَ الأَْبَوَيْنِ نَصِيبُهَا وَنَصِيبُ أُخْتِهَا خَمْسَةَ عَشَرَ، وَلِلْجَدِّ خَمْسَةَ عَشَرَ. سُمِّيَتْ حَمْزِيَّةً؛ لأَِنَّ حَمْزَةَ الزَّيَّاتَ سُئِل عَنْهَا فَأَجَابَ بِهَذِهِ الأَْجْوِبَةِ.
الدِّينَارِيَّةُ:
157 - صُورَتُهَا: زَوْجَةٌ، وَجَدَّةٌ وَبِنْتَانِ وَاثْنَا عَشَرَ أَخًا وَأُخْتٌ وَاحِدَةٌ لأَِبٍ وَأُمٍّ، وَالتَّرِكَةُ بَيْنَهُمْ سِتُّمِائَةِ دِينَارٍ، لِلْجَدَّةِ السُّدُسُ مِائَةُ دِينَارٍ، وَلِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ أَرْبَعُمِائَةِ دِينَارٍ، وَلِلزَّوْجَةِ الثُّمُنُ خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ دِينَارًا، يَبْقَى خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ دِينَارًا لِكُل أَخٍ دِينَارَانِ، وَلِلأُْخْتِ دِينَارٌ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَتِ الدِّينَارِيَّةَ، وَتُسَمَّى الدَّاوُدِيَّةَ، لأَِنَّ دَاوُد الطَّائِيَّ سُئِل عَنْهَا، فَقَسَّمَهَا هَكَذَا، فَجَاءَتِ الأُْخْتُ إِلَى أَبِي حَنِيفَةَ فَقَالَتْ: إِنَّ أَخِي مَاتَ وَتَرَكَ سِتَّمِائَةِ(3/79)
دِينَارٍ، فَمَا أُعْطِيتُ مِنْهَا إِلاَّ دِينَارًا وَاحِدًا، فَقَال: مَنْ قَسَمَ التَّرِكَةَ؟ فَقَالَتْ: تِلْمِيذُكَ دَاوُدُ الطَّائِيُّ فَقَال: هُوَ لاَ يَظْلِمُ، هَل تَرَكَ أَخُوكِ جَدَّةً؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَال: هَل تَرَكَ بِنْتَيْنِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَال: هَل تَرَكَ زَوْجَةً؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَال: هَل تَرَكَ مَعَكِ اثْنَيْ عَشَرَ أَخًا؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَال: إِذَنْ حَقُّكِ دِينَارٌ. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنَ الْمُعَايَاةِ فَيُقَال: رَجُلٌ خَلَّفَ سِتَّمِائَةِ دِينَارٍ وَسَبْعَةَ عَشَرَ وَارِثًا، ذُكُورًا وَإِنَاثًا فَأَصَابَ أَحَدَهُمْ دِينَارٌ وَاحِدٌ.
الاِمْتِحَانُ:
158 - صُورَتُهَا: أَرْبَعُ زَوْجَاتٍ، وَخَمْسُ جَدَّاتٍ، وَسَبْعُ بَنَاتٍ، وَتِسْعُ أَخَوَاتٍ لأَِبٍ. أَصْلُهَا مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ، لِلزَّوْجَاتِ الثُّمُنُ ثَلاَثَةٌ، وَلِلْجَدَّاتِ السُّدُسُ أَرْبَعَةٌ، وَلِلْبَنَاتِ الثُّلُثَانِ سِتَّةَ عَشَرَ، وَلِلأَْخَوَاتِ مَا بَقِيَ سَهْمٌ، وَلاَ مُوَافَقَةَ بَيْنَ السِّهَامِ وَالرُّءُوسِ، وَلاَ بَيْنَ الرُّءُوسِ وَالرُّءُوسِ، فَيَحْتَاجُ إِلَى ضَرْبِ الرُّءُوسِ بَعْضِهَا فِي بَعْضٍ، فَاضْرِبْ أَرْبَعَةً فِي خَمْسَةٍ يَكُنْ عِشْرِينَ، ثُمَّ اضْرِبْ عِشْرِينَ فِي سَبْعَةٍ يَكُنْ مِائَةً وَأَرْبَعِينَ، ثُمَّ اضْرِبْ مِائَةً وَأَرْبَعِينَ فِي تِسْعَةٍ يَكُنْ أَلْفًا وَمِائَةً وَسِتِّينَ، فَاضْرِبْهَا فِي أَصْل الْمَسْأَلَةِ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ يَكُنْ ثَلاَثِينَ أَلْفًا وَمِائَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ، مِنْهَا تَصِحُّ الْمَسْأَلَةُ. وَجْهُ الاِمْتِحَانِ أَنْ يُقَال: رَجُلٌ خَلَفَ أَصْنَافًا، عَدَدُ كُل صِنْفٍ أَقَل مِنْ عَشَرَةٍ، وَلاَ تَصِحُّ مَسْأَلَتُهُ إِلاَّ مِمَّا يَزِيدُ عَلَى ثَلاَثِينَ أَلْفًا.
الْمَأْمُونِيَّةُ:
159 - صُورَتُهَا: أَبَوَانِ وَبِنْتَانِ، مَاتَتْ إِحْدَى الْبِنْتَيْنِ وَخَلَّفَتْ مَنْ خَلَّفَتْ. سُمِّيَتِ الْمَأْمُونِيَّةَ لأَِنَّ(3/79)
الْمَأْمُونَ أَرَادَ أَنْ يُوَلِّيَ قَضَاءَ الْبَصْرَةِ أَحَدًا، فَأَحْضَرَ بَيْنَ يَدَيْهِ يَحْيَى بْنَ أَكْثَمَ فَاسْتَحْقَرَهُ (أَيْ لِصِغَرِ سِنِّهِ) فَسَأَلَهُ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَقَال: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ: أَخْبِرْنِي عَنِ الْمَيِّتِ الأَْوَّل، ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، فَعَلِمَ الْمَأْمُونُ أَنَّهُ يَعْلَمُ الْمَسْأَلَةَ فَأَعْطَاهُ الْعَهْدَ، وَوَلاَّهُ الْقَضَاءَ.
وَالْجَوَابُ فِيهَا يَخْتَلِفُ بِكَوْنِ الْمَيِّتِ الأَْوَّل ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، فَإِنْ كَانَ ذَكَرًا، فَالْمَسْأَلَةُ الأُْولَى مِنْ سِتَّةٍ لِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ، وَلِلأَْبَوَيْنِ السُّدُسَانِ، فَإِذَا مَاتَتْ إِحْدَى الْبِنْتَيْنِ فَقَدْ خَلَّفَتْ أُخْتًا وَجَدًّا صَحِيحًا أَبَا أَبٍ، وَجَدَّةً صَحِيحَةً أُمَّ أَبٍ، فَالسُّدُسُ لِلْجَدَّةِ وَالْبَاقِي لِلْجَدِّ، وَسَقَطَتِ الأُْخْتُ عَلَى قَوْل أَبِي بَكْرٍ. وَقَال زَيْدٌ: لِلْجَدَّةِ السُّدُسُ وَالْبَاقِي بَيْنَ الْجَدِّ وَالأُْخْتِ أَثْلاَثًا، وَصَحَّحَ الْمُنَاسَخَةَ. وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ الأَْوَّل أُنْثَى، فَقَدْ مَاتَتِ الْبِنْتُ عَنْ أُخْتٍ، وَجَدَّةٍ صَحِيحَةٍ أُمِّ أُمٍّ، وَجَدٍّ فَاسِدٍ أَبِي أُمٍّ، فَلِلْجَدَّةِ السُّدُسُ وَلِلأُْخْتِ النِّصْفُ، وَالْبَاقِي يُرَدُّ عَلَيْهِمَا، وَسَقَطَ الْجَدُّ الْفَاسِدُ بِالإِْجْمَاعِ. كَذَا فِي الاِخْتِيَارِ شَرْحِ الْمُخْتَارِ (1) .
إِرْجَافٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْرْجَافُ فِي اللُّغَةِ: الاِضْطِرَابُ الشَّدِيدُ، وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى: الْخَوْضِ فِي الأَْخْبَارِ السَّيِّئَةِ وَذِكْرِ
__________
(1) الفتاوى الهندية 6 / 477 - 478(3/80)
الْفِتَنِ؛ لأَِنَّهُ يَنْشَأُ عَنْهُ اضْطِرَابٌ بَيْنَ النَّاسِ (1) . وَالإِْرْجَافُ فِي اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ: الْتِمَاسُ الْفِتْنَةِ، وَإِشَاعَةُ الْكَذِبِ وَالْبَاطِل لِلاِغْتِمَامِ بِهِ. (2)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّخْذِيل:
2 - التَّخْذِيل هُوَ: تَثْبِيطُ النَّاسِ عَنِ الْغَزْوِ، وَتَزْهِيدُهُمْ فِي الْخُرُوجِ إِلَيْهِ، كَقَوْلِهِ: الْوَقْتُ حَرٌّ شَدِيدٌ، الْمَشَقَّةُ شَدِيدَةٌ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا فَإِنَّ فِي التَّخْذِيل مَنْعَ النَّاسِ مِنَ النُّهُوضِ لِلْقِتَال، وَالإِْرْجَافُ نَشْرُ الاِضْطِرَابِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ. فَالإِْرْجَافُ أَعَمُّ مِنَ التَّخْذِيل (3) .
ب - الإِْشَاعَةُ:
3 - الإِْشَاعَةُ: لُغَةً الإِْظْهَارُ، وَاصْطِلاَحًا: نَشْرُ الأَْخْبَارِ الَّتِي يَنْبَغِي سَتْرُهَا، لِشَيْنِ النَّاسِ. وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: أَيُّمَا رَجُلٍ أَشَاعَ عَلَى رَجُلٍ عَوْرَةً لِيَشِينَهُ بِهَا. . (4)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
4 - الإِْرْجَافُ حَرَامٌ، وَتَرْكُهُ وَاجِبٌ لِمَا فِيهِ مِنَ الإِْضْرَارِ بِالْمُسْلِمِينَ، وَفَاعِلُهُ يَسْتَحِقُّ التَّعْزِيرَ (5) .
__________
(1) لسان العرب مادة: رجف.
(2) تفسير القرطبي 14 / 245 ط دار الكتب في تفسير آية / 60 من سورة الأحزاب، وحاشية الجمل على شرح المنهاج 4 / 95، طبع دار إحياء التراث العربي - بيروت، والمغني 8 / 351 طبع مكتبة الرياض.
(3) لسان العرب مادة: (تخذيل) ، وأحكام القرآن للجصاص
(4) لسان العرب مادة: (شيع) .
(5) أحكام القرآن للجصاص 3 / 458 طبع المطبعة البهية المصرية، وعدة أرباب الفتوى ص 82، طبع بولاق سنة 1304 هـ(3/80)
قَال تَعَالَى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَاَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً} . (1)
قَال الْقُرْطُبِيُّ: لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ: لأَُسَلِّطَنَّكَ عَلَيْهِمْ فَتَسْتَأْصِلُهُمْ بِالْقَتْل (2) .
وَبَلَغَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ نَاسًا مِنَ الْمُنَافِقِينَ يُثَبِّطُونَ النَّاسَ عَنْهُ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُحَرِّقُوا عَلَيْهِمُ الْبَيْتَ، فَفَعَل طَلْحَةُ ذَلِكَ. (3)
5 - وَلاَ يَجُوزُ لِلأَْمِيرِ أَنْ يَسْتَصْحِبَ مَعَهُ إِلَى الْجِهَادِ مُرْجِفًا، وَإِنْ كَانَ الأَْمِيرُ هُوَ أَحَدَ الْمُرْجِفِينَ لَمْ يُسْتَحَبَّ الْخُرُوجُ مَعَهُ لِلْجِهَادِ (4) ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيل اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلأََوْضَعُوا خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} . (5)
وَلَوْ خَرَجَ مُرْجِفٌ مَعَ الْجَيْشِ لاَ يُسْهَمُ لَهُ فِي الْغَنِيمَةِ، وَلاَ يُرْضَخُ لَهُ مِنْهَا (6) .
وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَحْكَامَ الإِْرْجَافِ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ، وَفِي قِسْمَةِ الْغَنِيمَةِ.
__________
(1) سورة الأحزاب / 60 - 61
(2) تفسير القرطبي 14 / 246
(3) معين الحكام ص 210 طبع المطبعة الميمنية. والحديث أخرجه ابن هشام في السيرة 2 / 517، ط مصطفى الحلبي.
(4) حاشية قليوبي 3 / 192، والمغني 8 / 351، طبع مكتبة الرياض الحديثة.
(5) سورة التوبة / 46 - 47
(6) المغني 8 / 351، وحاشية الجمل على شرح المنهاج 4 / 95، وحاشية قليوبي 3 / 193(3/81)
أَرْحَامٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الأَْرْحَامُ جَمْعُ رَحِمٍ، وَالرَّحِمُ وَالرَّحْمُ وَالرِّحْمُ بَيْتُ مَنْبَتِ الْوَلَدِ وَوِعَاؤُهُ، وَمِنَ الْمَجَازِ: الرَّحِمُ الْقَرَابَةُ، وَفِي التَّهْذِيبِ: بَيْنَهُمَا رَحِمٌ: أَيْ قَرَابَةٌ قَرِيبَةٌ. وَقَال ابْنُ الأَْثِيرِ: ذَوُو الرَّحِمِ: هُمُ الأَْقَارِبُ (1) . وَالرَّحِمُ يُوصَفُ بِهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ (2) .
وَعِنْدَ الْفُقَهَاءِ - غَيْرُ الْفَرْضِيِّينَ مِنْهُمْ - يُرَادُ بِهِمْ عِنْدَ الإِْطْلاَقِ الأَْقَارِبُ (3) ، غَيْرَ أَنَّهُ فِي فُرُوعِ بَعْضِ الْمَذَاهِبِ بَيْنَ الأَْرْحَامِ وَالأَْقَارِبِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مُطْلَقٌ، فَمَثَلاً لاَ تَدْخُل قَرَابَةُ الأُْمِّ فِي الْوَقْفِ عَلَى الْقَرَابَةِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، بَيْنَمَا لَوْ وَقَفَ عَلَى ذَوِي رَحِمِهِ يَدْخُل الأَْقَارِبُ مِنَ الْجِهَتَيْنِ (4) . وَهُمْ عِنْدَ أَهْل الْفَرَائِضِ أَخَصُّ مِنْ ذَلِكَ، وَيُرَادُ بِهِمْ " مَنْ لَيْسُوا بِذَوِي سَهْمٍ وَلاَ عَصَبَةٍ، ذُكُورًا كَانُوا أَوْ إِنَاثًا ". (5) وَالأَْرْحَامُ وَذَوُو الأَْرْحَامِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ عَلَى أَلْسِنَةِ الْفُقَهَاءِ (6) .
__________
(1) النهاية لابن الأثير.
(2) شرح الروض 3 / 52
(3) تهانوي 2 / 589، وشرح السراجية ص 265، والخرشي 8 / 176، وكفاية الطالب الرباني 2 / 339، وبجيرمي على الخطيب 3 / 263، والعذب الفائض 2 / 15
(4) مطالب أولي النهى 4 / 359، 360
(5) شرح السراجية ص 265، وبجيرمي على الخطيب 3 / 263، والعذب الفائض 2 / 15
(6) البحر الرائق 8 / 508، وابن عابدين 5 / 439، وشرح السراجية ص 52، والتاج والإكليل 6 / 373، وحاشية الرملي على شرح الروض 3 / 52(3/81)
2 - الرَّحِمُ نَوْعَانِ:
رَحِمٌ مَحْرَمٌ، وَرَحِمُ غَيْرُ مَحْرَمٍ.
وَضَابِطُ الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ: كُل شَخْصَيْنِ بَيْنَهُمَا قَرَابَةُ لَوْ فُرِضَ أَحَدُهُمَا ذَكَرًا وَالآْخَرُ أُنْثَى لَمْ يَحِل لَهُمَا أَنْ يَتَنَاكَحَا، كَالآْبَاءِ وَالأُْمَّهَاتِ وَالإِْخْوَةِ وَالأَْخَوَاتِ وَالأَْجْدَادِ وَالْجَدَّاتِ وَإِنْ عَلَوْا، وَالأَْوْلاَدِ وَأَوْلاَدِهِمْ وَإِنْ نَزَلُوا، وَالأَْعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ وَالأَْخْوَال وَالْخَالاَتِ، وَمَنْ عَدَا هَؤُلاَءِ مِنَ الأَْرْحَامِ، فَلاَ تَتَحَقَّقُ فِيهِمُ الْمَحْرَمِيَّةُ، كَبَنَاتِ الأَْعْمَامِ وَبَنَاتِ الْعَمَّاتِ وَبَنَاتِ الأَْخْوَال وَبَنَاتِ الْخَالاَتِ (1) .
الصِّفَةُ (الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ) :
تَتَّصِل بِالأَْرْحَامِ أَحْكَامٌ كَثِيرَةٌ تَخْتَلِفُ بِحَسَبِ مُتَعَلِّقِهَا. وَبَيَانُهَا فِيمَا يَأْتِي:
صِلَةُ الأَْرْحَامِ:
3 - الصِّلَةُ هِيَ فِعْل مَا يُعَدُّ بِهِ الإِْنْسَانُ وَاصِلاً، قَال ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْثَمِيُّ: " الصِّلَةُ إِيصَال نَوْعٍ مِنَ الإِْحْسَانِ (2) ".
وَصِلَةُ الرَّحِمِ بِالنِّسْبَةِ لِلأَْبَوَيْنِ، وَغَيْرِهِمَا وَاجِبَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ (3) ، وَهُوَ مَا صَوَّبَهُ النَّوَوِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ.
__________
(1) البدائع 5 / 122، والفروق 1 / 147، وكفاية الطالب الرباني 2 / 339، وشرح الروض 3 / 110، والآداب الشرعية 1 / 507، وفتاوى ابن تيمية 29 / 282، والفتاوى الهندية 2 / 8،7
(2) البحر الرائق 8 / 508، ونهاية المحتاج 5 / 419، ومغني المحتاج 2 / 405، وبجيرمي على المنهج 3 / 219، والزواجر لابن حجر 2 / 65
(3) ابن عابدين 5 / 264، وكفاية الطالب الرباني 2 / 339، وفتاوى ابن تيمية 29 / 186، والآداب الشرعية 1 / 507(3/82)
وَدَلِيل الْوُجُوبِ قَوْل اللَّهِ سُبْحَانَهُ: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَْرْحَامَ} . (1)
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ فَلْيَصِل رَحِمَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ فَلْيَقُل خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ. (2) وَفَصَّل الشَّافِعِيَّةُ بَيْنَ الأَْبَوَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، فَاتَّفَقُوا مَعَ غَيْرِهِمْ عَلَى وُجُوبِ بِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَأَنَّ عُقُوقَهُمَا كَبِيرَةٌ، وَذَهَبُوا إِلَى أَنَّ صِلَةَ غَيْرِهِمَا مِنَ الأَْقَارِبِ سُنَّةٌ. عَلَى أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ صَرَّحُوا بِأَنَّ ابْتِدَاءَ فِعْل الْمَعْرُوفِ مَعَ الأَْقَارِبِ سُنَّةٌ، وَأَنَّ قَطْعَهُ بَعْدَ حُصُولِهِ كَبِيرَةٌ (3) .
صِلَةُ الأَْبَوَيْنِ:
4 - وَصِلَةُ الأُْمِّ مُقَدَّمَةٌ عَلَى صِلَةِ الأَْبِ بِالإِْجْمَاعِ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرَجُلٍ سَأَلَهُ مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ : أُمُّكَ ثُمَّ أُمُّكَ ثُمَّ أُمُّكَ ثُمَّ أَبُوكَ. (4)
وَالتَّعْبِيرُ الْغَالِبُ لِلْفُقَهَاءِ عَنِ الإِْحْسَانِ لِلأَْبَوَيْنِ بِالْبِرِّ، وَفِي غَيْرِهِمَا مِنَ الأَْقَارِبِ بِالصِّلَةِ، لَكِنَّهُ قَدْ
__________
(1) سورة النساء / 1، وانظر القرطبي في تفسير هذه الآية، وكفاية الطالب الرباني 2 / 339
(2) حديث " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 445 ط السلفية) ومسلم 1 / 68 (طبع عيسى الحلبي) من حديث أبي هريرة مرفوعا. وانظر الزواجر 2 / 63، 67
(3) الجمل على المنهج 3 / 599، وبجيرمي على الخطيب 3 / 229، 230
(4) حديث " من أحق الناس بحسن صحابتي؟ . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 401 ط السلفية) ومسلم (4 / 1974 - بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي (طبع عيسى الحلبي) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وانظر كذلك البجيرمي 3 / 228، وتحفة المحتاج 6 / 308(3/82)
يَحْدُثُ الْعَكْسُ فَيَقُولُونَ: صِلَةُ الأَْبَوَيْنِ، وَبِرُّ الأَْرْحَامِ، وَلَمَّا كَانَتْ أَكْثَرُ أَحْكَامِ صِلَةِ الْوَالِدَيْنِ مُعَبَّرًا عَنْهَا بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ، فَإِنَّ مَوْطِنَ تَفْصِيلِهَا فِي ذَلِكَ الْمُصْطَلَحِ، مَعَ الْبَيَانِ هُنَا لِلتَّيْسِيرِ الَّذِي لاَ يُمْكِنُ الاِسْتِغْنَاءُ عَنْهُ مَعَ التَّفْصِيل لأَِحْكَامِ بَقِيَّةِ الأَْرْحَامِ (1)
صِلَةُ الأَْقَارِبِ:
5 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ - فِي قَوْلٍ لَهُمْ - إِلَى أَنَّ الأَْخَ الأَْكْبَرَ كَالأَْبِ بَعْدَ مَوْتِهِ فِي حُكْمِ الصِّلَةِ، وَكَذَا الْجَدُّ، وَإِنْ عَلاَ، وَالأُْخْتُ الْكَبِيرَةُ، وَالْخَالَةُ كَالأُْمِّ فِي الصِّلَةِ. وَقَرِيبٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ مَا اخْتَارَهُ الزَّرْكَشِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْعَمِّ وَالْخَالَةِ، إِذْ يَجْعَل الْعَمَّ بِمَثَابَةِ الأَْبِ، وَالْخَالَةَ بِمَثَابَةِ الأُْمِّ، لِمَا صَحَّ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْخَالَةَ بِمَنْزِلَةِ الأُْمِّ، وَأَنَّ عَمَّ الرَّجُل صِنْوُ أَبِيهِ (2) .
لَكِنْ كَلاَمُ الزَّرْكَشِيِّ مُخَالِفٌ لأَِئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ، لأَِنَّ الْوَالِدَيْنِ اخْتَصَّا مِنَ الرِّعَايَةِ وَالاِحْتِرَامِ وَالإِْحْسَانِ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ جِدًّا وَغَايَةٍ رَفِيعَةٍ لَمْ يَصِل إِلَيْهَا أَحَدٌ مِنْ بَقِيَّةِ الأَْرْحَامِ، وَأَجَابُوا عَمَّا صَحَّ فِي الْحَدِيثِ بِأَنَّهُ يَكْفِي التَّشَابُهُ فِي أَمْرٍ مَا كَالْحَضَانَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْخَالَةِ وَالأُْمِّ، وَالإِْكْرَامِ بِالنِّسْبَةِ لِلأَْبِ وَالْعَمِّ (3) .
__________
(1) الزواجر 2 / 61، والفروق 1 / 147، وابن عابدين 5 / 264، وفتاوى ابن تيمية 3 / 224
(2) حديث " عم الرجل صنو أبيه. . . " أخرجه مسلم (2 / 677 - ط عيسى الحلبي) وأبو داود (عون المعبود 2 / 32 ط المطبعة الأنصارية بدهلي) من حديث أبي هريرة. وحديث " الخالة بمنزلة الأم. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 304 ط السلفية) والترمذي (4 / 313 - ط مصطفى الحلبي) من حديث البراء بن عازب.
(3) ابن عابدين 5 / 264، والزواجر 2 / 66(3/83)
مَنْ تُطْلَبُ صِلَتُهُ مِنَ الأَْرْحَامِ:
6 - لِلْعُلَمَاءِ فِي الرَّحِمِ الَّتِي يُطْلَبُ وَصْلُهَا رَأْيَانِ:
الأَْوَّل: أَنَّ الصِّلَةَ خَاصَّةٌ بِالرَّحِمِ الْمَحْرَمِ دُونَ غَيْرِهِ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلْحَنَفِيَّةِ، وَغَيْرُ الْمَشْهُورِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ قَوْل أَبِي الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ (1) ،. قَالُوا: لأَِنَّهَا لَوْ وَجَبَتْ لِجَمِيعِ الأَْقَارِبِ لَوَجَبَ صِلَةُ جَمِيعِ بَنِي آدَمَ، وَذَلِكَ مُتَعَذِّرٌ، فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ ضَبْطِ ذَلِكَ بِقَرَابَةٍ تَجِبُ صِلَتُهَا وَإِكْرَامُهَا وَيَحْرُمُ قَطْعُهَا، وَتِلْكَ قَرَابَةُ الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ.
وَقَدْ قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلاَ عَلَى خَالَتِهَا وَلاَ عَلَى بِنْتِ أَخِيهَا وَأُخْتِهَا، فَإِنَّكُمْ إِذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ قَطَعْتُمْ أَرْحَامَكُمْ. (2)
الثَّانِي: أَنَّ الصِّلَةَ تُطْلَبُ لِكُل قَرِيبٍ، مَحْرَمًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ نَصُّ أَحْمَدَ، وَهُوَ مَا يُفْهَمُ مِنْ إِطْلاَقِ الشَّافِعِيَّةِ، فَلَمْ يُخَصِّصْهَا أَحَدٌ مِنْهُمْ بِالرَّحِمِ الْمَحْرَمِ (3) .
__________
(1) البحر الرائق 8 / 508، والطحطاوي على الدر 4 / 205، والفواكه الدواني 2 / 385، وكفاية الطالب الرباني 2 / 339، والآداب الشرعية 1 / 507
(2) حديث " لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها. . . " أخرجه أبو داود (عون المعبود 2 / 183 طبع المطبعة الأنصارية بدهلي) بلفظ مقارب دون " فإنكم. . . . " إلخ الشطر الأخير، وأصله في الصحيحين. وأخرج الشطر الأخير منه الطبراني في المعجم الكبير (11 / 337 - نشر وزارة الأوقاف العراقية) ، وانظر الفروق للقرافي 1 / 147
(3) ابن عابدين 5 / 264، والطحطاوي على الدر 4 / 205، والفواكه الدواني 2 / 385، وكفاية الطالب الرباني 2 / 339، والآداب الشرعية 1 / 507، والبجيرمي 3 / 229(3/83)
الصِّلَةُ مَعَ اخْتِلاَفِ الدِّينِ:
7 - لاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ صِلَةَ الاِبْنِ الْمُسْلِمِ لأَِبَوَيْهِ الْكَافِرَيْنِ مَطْلُوبَةٌ (1) . أَمَّا مَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الأَْقَارِبِ الْكُفَّارِ فَلاَ تُطْلَبُ صِلَتُهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِ؛ لِقَوْل اللَّهِ سُبْحَانَهُ: {لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (2) . وَدَلِيل اسْتِثْنَاءِ الأَْبَوَيْنِ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} . (3) ذَهَبَ إِلَى هَذَا الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (4) ، لَكِنْ نَقَل السَّمَرْقَنْدِيُّ عَنْ سَحْنُونِ بْنِ مُهَمَّدَانَ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ فِي الصِّلَةِ.
دَرَجَاتُ الصِّلَةِ:
8 - ذَهَبَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ دَرَجَاتِ الصِّلَةِ تَتَفَاوَتُ بِالنِّسْبَةِ لِلأَْقَارِبِ، فَهِيَ فِي الْوَالِدَيْنِ أَشَدُّ مِنَ الْمَحَارِمِ، وَفِيهِمْ أَشَدُّ مِنْ غَيْرِهِمْ (5) . وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالصِّلَةِ أَنْ تَصِلَهُمْ إِنْ وَصَلُوكَ؛ لأَِنَّ هَذَا مُكَافَأَةٌ، بَل أَنْ تَصِلَهُمْ وَإِنْ قَطَعُوكَ (6) . فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ لَيْسَ الْوَاصِل بِالْمُكَافِئِ وَلَكِنَّ الْوَاصِل الَّذِي إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا (7)
__________
(1) الفروق 1 / 145، والزواجر 2 / 62، والآداب الشرعية 1 / 487، وتنبيه الغافلين ص 48، وعمدة القاري 13 / 174
(2) سورة المجادلة / 22
(3) سورة لقمان / 15
(4) الطحطاوي على الدر 4 / 205، والفواكه الدواني 2 / 286، وبجيرمي على الخطيب 4 / 245، وتنبيه الغافلين ص 48، والعيني 13 / 173، والآداب الشرعية 1 / 487
(5) ابن عابدين 5 / 264، والزواجر 2 / 73
(6) ابن عابدين 5 / 264، وكفاية الطالب الرباني 2 / 339، والزواجر 2 / 76، وفتاوى ابن تيمية 15 / 349، 350
(7) حديث " ليس الواصل بالمكافئ. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 423 ط السلفية) وأبو داود (عون المعبود 2 / 61 طبع المطبعة الأنصارية بدهلي) من حديث عبد الله بن عمر(3/84)
بِمَ تَحْصُل الصِّلَةُ؟
9 - تَحْصُل صِلَةُ الأَْرْحَامِ بِأُمُورٍ عَدِيدَةٍ مِنْهَا:
الزِّيَارَةُ، وَالْمُعَاوَنَةُ، وَقَضَاءُ الْحَوَائِجِ، وَالسَّلاَمُ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بُلُّوا أَرْحَامَكُمْ وَلَوْ بِالسَّلاَمِ (1) وَلاَ يَكْفِي مُجَرَّدُ السَّلاَمِ عِنْدَ أَبِي الْخَطَّابِ (2)
كَمَا تَحْصُل الصِّلَةُ بِالْكِتَابَةِ إِنْ كَانَ غَائِبًا، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهَذَا فِي غَيْرِ الأَْبَوَيْنِ، أَمَّا هُمَا فَلاَ تَكْفِي الْكِتَابَةُ إِنْ طَلَبَا حُضُورَهُ (3) .
وَكَذَلِكَ بَذْل الْمَال لِلأَْقَارِبِ، فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ صِلَةٌ لَهُمْ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الصَّدَقَةُ عَلَى الْمِسْكِينِ صَدَقَةٌ، وَعَلَى ذِي الرَّحِمِ ثِنْتَانِ: صَدَقَةٌ، وَصِلَةٌ (4)
وَظَاهِرُ عِبَارَةِ الْحَنَفِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْغَنِيَّ لاَ تَحْصُل صِلَتُهُ بِالزِّيَارَةِ لِقَرِيبِهِ الْمُحْتَاجِ إِنْ كَانَ قَادِرًا
__________
(1) حديث " بلوا أرحامكم ولو بالسلام " أخرجه البزار والطبراني كما في مجمع الزوائد (8 / 152 - ط القدسي) . وقال السخاوي في المقاصد الحسنة: طرقه يقوي بعضها بعضا.
(2) الطحطاوي على الدر 4 / 205، وكفاية الطالب الرباني 2 / 339، ونهاية المحتاج 2 / 76، والآداب الشرعية 1 / 507 والفواكه الدواني 2 / 386
(3) الطحطاوي على الدر 4 / 206، الفواكه الدواني 2 / 386، وكفاية الطالب الرباني 2 / 339، والبجيرمي على الخطيب 3 / 229
(4) حديث: " الصدقة على المسكين. . . " أخرجه الترمذي (3 / 38 - طبع مصطفى الحلبي) وحسنه، وأحمد (4 / 17 - ط الميمنية) ، والحاكم (1 / 407 ط حيدر آباد الدكن) وصححه، من حديث كمال بن عامر.(3/84)
عَلَى بَذْل الْمَال لَهُ (1) . وَيَدْخُل فِي الصِّلَةِ جَمِيعُ أَنْوَاعِ الإِْحْسَانِ مِمَّا تَتَأَتَّى بِهِ الصِّلَةُ (2)
حِكْمَةُ تَشْرِيعِ الصِّلَةِ:
10 - فِي صِلَةِ الرَّحِمِ حِكَمٌ جَلِيلَةٌ، عَبَّرَ عَنْ أَهَمِّهَا حَدِيثُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ رِزْقُهُ، أَوْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِل رَحِمَهُ (3) وَمِنَ الْفَوَائِدِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا الْفُقَهَاءُ: رَضِيَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْهُمْ؛ لأَِنَّهُ أَمَرَ بِصِلَةِ الرَّحِمِ، وَإِدْخَال السُّرُورِ عَلَى الأَْرْحَامِ.
وَمِنْهَا زِيَادَةُ الْمُرُوءَةِ، وَزِيَادَةُ الأَْجْرِ بَعْدَ الْمَوْتِ؛ لأَِنَّهُمْ يَدْعُونَ لَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ كُلَّمَا ذَكَرُوا إِحْسَانَهُ (4) .
قَطْعُ الرَّحِمِ:
11 - بَيَّنَ ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْثَمِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ مَا يَكُونُ بِهِ قَطْعُ الرَّحِمِ، وَوَافَقَهُ صَاحِبُ تَهْذِيبِ الْفُرُوقِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ.
__________
(1) الطحطاوي على الدر 4 / 205، والفواكه الدواني 2 / 385، وكفاية الطالب الرباني 2 / 339، وحاشية الجمل على المنهج 3 / 599، وبجيرمي على الخطيب 3 / 229، والمغني مع الشرح الكبير 2 / 705، وكشاف القناع 4 / 252
(2) شرح روض الطالب 2 / 486، وكفاية الطالب 2 / 339، وابن عابدين 5 / 264
(3) حديث " من سره أن يبسط له رزقه. . . " أخرجه مسلم (4 / 1982 ط - عيسى الحلبي) من حديث أنس، وأخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 415 ط السلفية) من حديثه كذلك بلفظ مقارب.
(4) ابن عابدين 5 / 264، وكفاية الطالب الرباني 2 / 339، وحاشية الطحطاوي على الدر 4 / 206، وبجيرمي على الخطيب 3 / 230، وتنبيه الغافلين ص 49، والفروق للقرافي 1 / 147، والفواكه الدواني 2 / 276(3/85)
وَقَدْ أَوْرَدَ ابْنُ حَجَرٍ فِيهِ رَأْيَيْنِ:
أَحَدَهُمَا: الإِْسَاءَةُ إِلَى الأَْرْحَامِ.
الثَّانِيَ: يَتَعَدَّى إِلَى تَرْكِ الإِْحْسَانِ، فَقَطْعُ الْمُكَلَّفِ مَا أَلِفَهُ قَرِيبُهُ مِنْهُ مِنْ سَابِقِ الصِّلَةِ وَالإِْحْسَانِ لِغَيْرِ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَطَعَ رَحِمَهُ، وَقَدْ عَدَّهُ بَعْضُهُمْ كَبِيرَةً كَمَا سَبَقَ (1) .
وَالأَْعْذَارُ تَخْتَلِفُ بِحَسَبِ نَوْعِ الصِّلَةِ، فَعُذْرُ تَرْكِ الزِّيَارَةِ ضَبَطَهُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ بِالْعُذْرِ الَّذِي تُتْرَكُ بِهِ صَلاَةُ الْجُمُعَةِ، بِجَامِعِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا فَرْضُ عَيْنٍ وَتَرْكُهُ كَبِيرَةٌ، وَإِنْ كَانَتِ الصِّلَةُ بِبَذْل الْمَال، فَلَمْ يَبْذُلْهُ لِشِدَّةِ حَاجَتِهِ إِلَيْهِ، أَوْ فَقْدِهِ، أَوْ قَدَّمَ غَيْرَ الْقَرِيبِ امْتِثَالاً لأَِمْرِ الشَّرْعِ، كَانَ ذَلِكَ عُذْرًا (2) . وَعُذْرُ الْمُرَاسَلَةِ وَالْكِتَابَةِ أَلاَّ يَجِدَ مَنْ يَثِقُ بِهِ فِي أَدَاءِ الرِّسَالَةِ (3) .
وَمِنَ الأَْعْذَارِ الَّتِي زَادَهَا الْمَالِكِيَّةُ تَكَبُّرُ الْقَرِيبِ الْغَنِيِّ عَلَى قَرِيبِهِ الْفَقِيرِ، فَلاَ صِلَةَ عَلَى الْفَقِيرِ حِينَئِذٍ (4) .
حُكْمُ قَطْعِ الرَّحِمِ:
12 - قَطْعُ الرَّحِمِ الْمَأْمُورِ بِوَصْلِهَا حَرَامٌ بِاتِّفَاقٍ (5) ، لِقَوْل اللَّهِ سُبْحَانَهُ {وَاَلَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ
__________
(1) الزواجر 2 / 78، 79، وتهذيب الفروق 1 / 159، وتحفة المحتاج 6 / 308
(2) الزواجر 2 / 79، وتهذيب الفروق 1 / 160، وما بعدها، والطحطاوي على الدر 4 / 205
(3) الزواجر 2 / 80، والفواكه الدواني 2 / 386، وتهذيب الفروق 1 / 160
(4) الفواكه الدواني 2 / 386
(5) تنبيه الغافلين ص 47، والفواكه الدواني 2 / 386، وحاشية الشربيني على شرح البهجة 3 / 393، وتهذيب الفروق 1 / 160، والزواجر 2 / 62، وفتاوى ابن تيمية 3 / 425، وحاشية ابن عابدين 5 / 264(3/85)
بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَل وَيُفْسِدُونَ فِي الأَْرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} . (1)
تَقْدِيمُ الأَْرْحَامِ فِيمَا يَلْزَمُ الْمَيِّتَ:
13 - أَغْلَبُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ ذَوِي الأَْرْحَامِ يُقَدَّمُونَ عَلَى غَيْرِهِمْ فِي الأُْمُورِ الَّتِي تَجِبُ لِلْمَيِّتِ مِنْ غُسْلٍ وَصَلاَةٍ عَلَيْهِ، وَدَفْنٍ. إِلاَّ أَنَّ بَعْضَهُمْ يُقَدِّمُ الزَّوْجَيْنِ عَلَى الأَْقَارِبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُقَدِّمُ الْوَصِيَّ عَلَيْهِمْ (2) ، وَقَدْ يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ فِي الصَّلاَةِ عَلَيْهِ وَفِي الْغُسْل وَالدَّفْنِ، وَتَفْصِيل هَذِهِ الأَْحْكَامِ يَذْكُرُهُ الْفُقَهَاءُ فِي مُصْطَلَحِ الْجَنَائِزِ.
الْهِبَةُ لِلأَْرْحَامِ:
14 - لَوْ وَهَبَ إِنْسَانٌ لِرَحِمِهِ، وَأَرَادَ الرُّجُوعَ فِيمَا وَهَبَهُ بَعْدَ قَبْضِهِ، فَفِي غَيْرِ الْفُرُوعِ يَمْتَنِعُ الرُّجُوعُ بِاتِّفَاقٍ، أَمَّا الْفُرُوعُ فَلِلْعُلَمَاءِ فِيهِمْ ثَلاَثَةُ آرَاءٍ:
أ - مَنْعُ الرُّجُوعِ، وَهُوَ قَوْل الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ (3) ، لِحَدِيثِ الْحَاكِمِ مَرْفُوعًا: إِذَا كَانَتِ الْهِبَةُ لِذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ لَمْ يَرْجِعْ فِيهَا وَصَحَّحَهُ وَقَال عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ (4) .
__________
(1) سورة الرعد / 25
(2) انظر الفتاوى الهندية 1 / 160 وما بعدها، وابن عابدين 1 / 806، ومواهب الجليل 2 / 212، ومغني المحتاج 1 / 329، وكشاف القناع 1 / 379
(3) البحر 7 / 320، والعناية على الهداية 7 / 134، والفتاوى المهدية 4 / 582، والمغني مع الشرح الكبير 6 / 271
(4) حديث: " إذا كانت الهبة لذي رحم محرم لم يرجع فيها " أخرجه الدارقطني (3 / 44 - ط دار المحاسن بالقاهرة) والحاكم (2 / 52 ط حيدر آباد الدكن) ، والبيهقي (6 / 181 - ط حيدر آباد الدكن) من حديث سحرة، وقال البيهقي: " لم نكتبه إلا بهذا الإسناد وليس بالقوي "(3/86)
ب - جَوَازُ الرُّجُوعِ لِلأَْبِ وَلِسَائِرِ الأُْصُول، إِذَا بَقِيَ الْمَوْهُوبُ فِي سُلْطَةِ الْمَوْهُوبِ لَهُ، وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيَّةِ (1) ، لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: لاَ يَحِل لِرَجُلٍ أَنْ يُعْطِيَ عَطِيَّةً أَوْ يَهَبَ هِبَةً فَيَرْجِعَ فِيهَا إِلاَّ الْوَالِدَ فِيمَا يُعْطِي وَلَدَهُ. (2)
وَفِي شَرْحِ الرَّوْضِ كَرَاهِيَةُ ذَلِكَ، إِنْ سَوَّى بَيْنَ أَوْلاَدِهِ فِي الْعَطِيَّةِ.
ج - جَوَازُ الرُّجُوعِ بِالنِّسْبَةِ لِلأَْبِ وَالأُْمِّ دُونَ غَيْرِهِمَا، وَهُوَ قَوْل الْمَالِكِيَّةِ، غَيْرَ أَنَّ الأُْمَّ لاَ تَعْتَصِرُ (تَرْجِعُ) إِلاَّ مِنَ الْكَبِيرِ الْبَالِغِ، وَمِنَ الصَّغِيرِ إِنْ كَانَ أَبُوهُ حَيًّا، فَإِنْ تَيَتَّمَ بَعْدَ الْهِبَةِ فَفِي الرُّجُوعِ وَجْهَانِ، وَهَذَا مَا لَمْ يَقُل الْوَاهِبُ: هِيَ لِلَّهِ تَعَالَى، أَوْ يَجْعَلُهَا صِلَةَ رَحِمٍ، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ امْتَنَعَ الرُّجُوعُ (3) . وَظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ كَالْمَالِكِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ لِلأَْبِ، وَظَاهِرُ كَلاَمِ الْخِرَقِيِّ كَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِلأُْمِّ، لَكِنِ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهَا الرُّجُوعُ (4) . وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلاَتٌ أُخْرَى فِي أَصْل الْحُكْمِ وَمُسْتَثْنَيَاتِهِ يُرْجَعُ إِلَيْهَا فِي (الْهِبَةِ) .
__________
(1) نهاية المحتاج 5 / 414، 415، والشرواني على التحفة 6 / 309، وشرح الروض 2 / 483
(2) حديث: " لا يحل لرجل أن يعطي عطية. . . " أخرجه أبو داود (عون المعبود 3 / 315 - ط المطبعة الأنصارية بدهلي) وابن ماجه (2237 - ط عيسى الحلبي) من حديث ابن عباس وعبد الله بن عمرو. وقال ابن حجر: " رجاله ثقات " (فتح الباري 5 / 211 - ط السلفية)
(3) بلغة السالك 2 / 317، واقتصر الرهوني والخرشي على المنع بالنسبة لليتيم (الرهوني 7 / 331، والخرشي 7 / 113، 114)
(4) المغني مع الشرح 6 / 1 27 - 273(3/86)
إِرْثُ الأَْرْحَامِ:
15 - الرَّحِمُ فِي الْفَرَائِضِ: هِيَ كُل قَرِيبٍ لَيْسَ بِذِي فَرْضٍ وَلاَ عَصَبَةٍ (1) . وَيَرِثُونَ عِنْدَ عَدَمِ وُجُودِ عَاصِبٍ أَوْ صَاحِبِ فَرْضٍ يُرَدُّ عَلَيْهِ، وَيُقَدَّمُونَ عَلَى بَيْتِ الْمَال عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ مَا أَخَذَ بِهِ مُتَأَخِّرُو كُلٍّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ إِنْ لَمْ يَنْتَظِمْ بَيْتُ الْمَال (2) .
وَلِلْعُلَمَاءِ فِي تَوْرِيثِهِمْ مَذْهَبَانِ مَشْهُورَانِ: مَذْهَبُ أَهْل التَّنْزِيل، وَمَذْهَبُ أَهْل الْقَرَابَةِ. وَهُنَاكَ مَذْهَبٌ ثَالِثٌ يُسَمَّى أَهْل الرَّحِمِ، وَقَدْ هَجَرَهُ الْفُقَهَاءُ. وَكَيْفِيَّةُ تَوْرِيثِهِمْ ذُكِرَتْ فِي مُصْطَلَحِ (إِرْث) . (3)
الْوَصِيَّةُ لِلأَْرْحَامِ:
16 - الْوَصِيَّةُ لِذَوِي الأَْرْحَامِ غَيْرِ الْوَارِثِينَ جَائِزَةٌ اتِّفَاقًا.
وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ مَنْ أَوْصَى لأَِرْحَامِهِ غَيْرِ الْوَارِثِينَ يَدْخُل الْوَالِدَانِ وَالْوَلَدُ إِذَا كَانُوا مَمْنُوعِينَ مِنَ الْمِيرَاثِ؛ لأَِنَّ الْمَمْنُوعَ شَرْعًا هُوَ الْوَصِيَّةُ لِلْوَارِثِ. وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لاَ يَدْخُلُونَ؛ لأَِنَّ كُلًّا مِنَ الْوَالِدَيْنِ وَالْوَلَدِ لاَ يُطْلَقُ عَلَيْهِمْ (عُرْفًا) أَنَّهُمْ أَقَارِبُ، وَلَوْ أُطْلِقَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ كَانَ عُقُوقًا.
__________
(1) شرح السراجية ص 265، والشرح الصغير 4 / 430، والدسوقي 4 / 468
(2) حاشية الجمل على المنهج 4 / 10، والبجيرمي على الخطيب 3 / 263، وكشاف القناع 4 / 383، والعذب الفائض 2 / 15، وشرح السراجية ص 52 والدسوقي على الدردير 4 / 468، والشرح الصغير 4 / 430
(3) البجيرمي على الخطيب 3 / 263، والعذب الفائض 2 / 17، 18، الدسوقي على الدردير 4 / 468، والشرح الصغير 4 / 430(3/87)
وَيَدْخُل الْجَدُّ مُطْلَقًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (1) غَيْرَ أَنَّ الْقَائِلِينَ بِدُخُول الْجَدِّ اخْتَلَفُوا فِي حَدِّهِ وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ ثَلاَثَةُ آرَاءٍ.
أ - دُخُول أَقْرَبِ جَدٍّ يُنْسَبُ إِلَيْهِ الإِْنْسَانُ، وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيَّةِ (2) .
ب - دُخُول جَدِّ الأَْبِ، وَهُوَ قَوْل الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ مَا صَرَفَ إِلَيْهِ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ قَوْل أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، إِذْ قَالاَ: تُصْرَفُ إِلَى أَقْصَى جَدٍّ لَهُ فِي الإِْسْلاَمِ. وَقَال فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ: قَدْ كَانَ ذَلِكَ فِي الزَّمَانِ، حِينَ لَمْ يَكُنْ فِي أَقْرِبَاءِ الإِْنْسَانِ الَّذِينَ يُنْسَبُونَ إِلَى أَقْرَبِ أَبٍ لَهُ فِي الإِْسْلاَمِ كَثْرَةٌ، وَأَمَّا فِي زَمَانِنَا فَفِيهِمْ كَثْرَةٌ لاَ يُمْكِنُ إِحْصَاؤُهُمْ، فَتُصْرَفُ الْوَصِيَّةُ إِلَى أَوْلاَدِ أَبِيهِ وَجَدِّهِ وَجَدِّ أَبِيهِ وَأَوْلاَدِ أُمِّهِ وَجَدِّ أُمِّهِ وَجَدَّتِهِ وَجَدَّةِ أُمِّهِ. وَلاَ يُصْرَفُ إِلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ.
ج - تَجَاوُزُ الْجَدِّ الرَّابِعِ وَهُوَ رِوَايَةٌ لِلْحَنَابِلَةِ (3) . وَأَوْلاَدُ مَنْ ذُكِرَ مِنَ الأَْجْدَادِ يَدْخُلُونَ فِي الأَْرْحَامِ (4) .
وَالأَْحْفَادُ كَالأَْجْدَادِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - عَلَى الْخِلاَفِ السَّابِقِ - وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَالظَّاهِرُ مِنْ كَلاَمِ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 439، والبحر الرائق 8 / 508، والحطاب 6 / 373، الفواكه الدواني 2 / 331، وشرح الروض 3 / 52، والشرواني على التحفة 7 / 58، والخرشي 5 / 418، والطحطاوي على الدر 4 / 331
(2) تحفة المحتاج مع حاشيتي الشرواني وابن قاسم العبادي 7 / 58
(3) المغني مع الشرح الكبير 6 / 549، 550، والبحر الرائق 8 / 508
(4) البحر الرائق 8 / 508، والخرشي 5 / 418، وشرح الروض 3 / 53، والمغني مع الشرح الكبير 6 / 549، ومطالب أولي النهى 4 / 359(3/87)
الْمَالِكِيَّةِ عَدَمُ دُخُولِهِمْ فِي الأَْرْحَامِ (1) .
17 - وَيَسْتَوِي فِي الْوَصِيَّةِ لِلأَْرْحَامِ - إِنْ كَانُوا مَحْصُورِينَ - الذَّكَرُ وَالأُْنْثَى مَعَ وُجُوبِ اسْتِيعَابِهِمْ بِاتِّفَاقٍ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُونُوا مَحْصُورِينَ فَفِي ذَلِكَ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي الْوَصِيَّةِ.
وَلاَ فَرْقَ فِيهَا بَيْنَ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: يُقَدَّمُ الأَْقْرَبُ فَالأَْقْرَبُ مِنَ الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ، وَلَوْ عَدِمَ رَحِمَهُ بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ عِنْدَهُ، وَلَوْ وُجِدَ وَاحِدٌ أَخَذَ نِصْفَهَا.
وَالْغَنِيُّ كَالْفَقِيرِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِنْ كَانَ فِيهِمْ مُحْتَاجٌ، أَوْ أَحْوَجُ وَجَبَ إِيثَارُهُ، أَيْ زِيَادَتُهُ عَلَى غَيْرِهِ وَسَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ الْمُحْتَاجُ أَقْرَبَ أَمْ أَبْعَدَ (2) .
18 - وَإِذَا وُجِدَتْ قَرَابَةُ الأُْمِّ مَعَ قَرَابَةِ الأَْبِ فَالْفُقَهَاءُ فِي الاِسْتِوَاءِ وَعَدَمِهِ عَلَى رَأْيَيْنِ:
الأَْوَّل: اسْتِوَاؤُهُمَا مَعَ قَرَابَةِ الأَْبِ، وَهُوَ قَوْل الْحَنَفِيَّةِ، وَأَشْهَبَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ لِوَصِيَّةِ غَيْرِ الْعَرَبِ، وَالْمُعْتَمَدُ فِي كَثِيرٍ مِنْ كُتُبِهِمْ بِالنِّسْبَةِ لِوَصِيَّةِ الْعَرَبِ؛ لأَِنَّ الْعَرَبَ يَفْتَخِرُونَ بِالأُْمِّ، فَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال عَنْ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 264، والتاج والإكليل 6 / 373، وشرح الروض 3 / 53 والمغني مع الشرح الكبير 6 / 549، ومطالب أولي النهى 4 / 359
(2) الطحطاوي على الدر 4 / 331، والبحر الرائق 8 / 508، وبلغة السالك 4 / 470، والدسوقي على الدردير 4 / 426، 432، وشرح الروض 3 / 52، وكشاف القناع 4 / 243، ابن عابدين 5 / 439، والحطاب 6 / 373، والشرح الصغير 4 / 592، والمغني مع الشرح الكبير 6 / 533، 549.(3/88)
سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ: سَعْدٌ خَالِي فَلْيُرِنِي امْرُؤٌ خَالَهُ. (1)
وَاسْتِوَاءُ قَرَابَةِ الأُْمِّ قَوْل الْحَنَابِلَةِ أَيْضًا، إِنْ كَانَ يَصِلُهُمْ فِي حَيَاتِهِ.
الثَّانِي: الْمَنْعُ مِنْ دُخُول قَرَابَةِ الأُْمِّ، وَهُوَ قَوْل ابْنِ الْقَاسِمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِنْ وُجِدَتْ قَرَابَةٌ لِلْمُوصِي مِنْ جِهَةِ الأَْبِ غَيْرُ وَارِثَةٍ، وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ لِوَصِيَّةِ الْعَرَبِ؛ لأَِنَّ الْعَرَبَ لاَ يَفْتَخِرُونَ بِالأُْمِّ، وَهُوَ قَوْل الْحَنَابِلَةِ إِنْ كَانَ يَصِلُهُمْ فِي حَيَاتِهِ (2) .
وَلاَ يَدْخُل الْوَارِثُ بِالْفِعْل إِنْ أَوْصَى لأَِرْحَامِ نَفْسِهِ (3) ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيَّةِ، وَقِيل يَدْخُل؛ لِوُقُوعِ الاِسْمِ عَلَيْهِ ثُمَّ يَبْطُل نَصِيبُهُ لِتَعَذُّرِ إِجَازَتِهِ لِنَفْسِهِ، وَيُصْبِحُ الْبَاقِي لِغَيْرِهِ، وَقِيل يَدْخُل وَيُعْطَى نَصِيبُهُ، فَإِنْ مَنَعَ فَلاَ يَدْخُل أَيْضًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَيَدْخُل عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ مَا يُفْهَمُ مِنْ كَلاَمِ الشَّافِعِيَّةِ السَّابِقِ (4) .
__________
(1) حديث " سعد خالي، فليرني امرؤ خاله " أخرجه الترمذي (تحفة الأحوذي 10 / 254 - ط مطبعة الاعتماد بمصر) والحاكم (3 / 498 - ط حيدر آباد الدكن) وصححه.
(2) البحر الرائق 8 / 508، والدسوقي على الدردير 4 / 432، والشرواني على التحفة 7 / 58، وشرح الروض 3 / 52، والمغني مع الشرح الكبير 6 / 549
(3) طحطاوي على الدر 4 / 330، والبحر الرائق 8 / 507، وابن عابدين 5 / 439، والخرشي 5 / 418، والدسوقي على الدردير 4 / 432، وشرح الروض 3 / 54، ومطالب أولي النهى 4 / 482، وكشاف القناع 4 / 306، والشرواني على التحفة 7 / 57
(4) ابن عابدين 5 / 439، والخرشي 5 / 418، والجمل على المنهج 4 / 61، ومطالب أولي النهى 4 / 482، وكشاف القناع 4 / 306(3/88)
الْمُحَرَّمَاتُ مِنَ الأَْرْحَامِ:
19 - الْقَرَابَةُ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ تَحْرِيمِ النِّكَاحِ فِي الْجُمْلَةِ، وَيَحْرُمُ عَلَى الرَّجُل أَقَارِبُهُ إِلاَّ أَرْبَعَةً. بَنَاتَ كُلٍّ مِنْ أَعْمَامِهِ، وَأَخْوَالِهِ، وَعَمَّاتِهِ، وَخَالاَتِهِ (1) . وَبَيَانُ الْمُحَرَّمَاتِ تَفْصِيلاً، وَأَدِلَّةُ التَّحْرِيمِ يَأْتِي ذِكْرُهَا فِي (نِكَاحِ) الْمُحَرَّمَاتِ مِنَ النِّكَاحِ.
نَفَقَةُ الأَْرْحَامِ:
20 - تَجِبُ نَفَقَةُ الْوَالِدَيْنِ عَلَى الأَْوْلاَدِ، وَنَفَقَةُ الأَْوْلاَدِ عَلَى الْوَالِدَيْنِ بِاتِّفَاقٍ، وَكَذَلِكَ تَجِبُ لِلأَْجْدَادِ وَالْجَدَّاتِ وَالأَْحْفَادِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَقَصَرَهَا الْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ فَقَطْ؛ لأَِنَّ الْجَدَّ لَيْسَ بِأَبٍ حَقِيقِيٍّ وَكَذَلِكَ وَلَدُ الْوَلَدِ. أَمَّا بَقِيَّةُ الأَْرْحَامِ غَيْرِ الأُْصُول وَالْفُرُوعِ، فَلاَ تَجِبُ لَهُمْ نَفَقَةٌ وَلاَ تَلْزَمُهُمْ إِلاَّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، غَيْرَ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ أَوْجَبُوهَا لِذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ دُونَ غَيْرِهِ، وَتَوَسَّعَ الْحَنَابِلَةُ فِي ذَلِكَ فَأَوْجَبُوهَا لِكُل وَارِثٍ، وَفِي غَيْرِ الْوَارِثِ رِوَايَتَانِ، هَذَا إِنْ كَانُوا مِنْ غَيْرِ ذَوِي الأَْرْحَامِ الَّذِينَ لاَ يَرِثُونَ بِفَرْضٍ وَلاَ تَعْصِيبٍ، فَإِنْ كَانَ مِنْهُمْ فَلاَ تَجِبُ لَهُ نَفَقَةٌ، وَلاَ تَلْزَمُهُ إِلاَّ عِنْدَ أَبِي الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ عِنْدَ عَدَمِ الْعَصَبَةِ وَأَصْحَابِ الْفُرُوضِ (2) .
وَأَدِلَّةُ نَفَقَةِ الأَْرْحَامِ وَشُرُوطُهَا وَمِقْدَارُهَا وَسُقُوطُهَا
__________
(1) فتاوى ابن تيمية 29 / 282، وابن عابدين 2 / 276، والحطاب 4 / 211
(2) ابن عابدين 2 / 644، والحطاب 4 / 211، وبلغة السالك 1 / 525، 526، والبجيرمي على الخطيب 4 / 66، وكشاف القناع 3 / 310، والمغني 7 / 582 وما بعدها نشر مكتبة الرياض.(3/89)
وَبَقِيَّةُ أَحْكَامِهَا تَأْتِي فِي مُصْطَلَحِ (نَفَقَةِ الأَْقَارِبِ) .
النَّظَرُ وَاللَّمْسُ وَالْخَلْوَةُ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَحَارِمِ:
21 - الرَّحِمُ غَيْرُ الْمَحْرَمِ كَالأَْجْنَبِيِّ فِي النَّظَرِ وَاللَّمْسِ وَالْخَلْوَةِ (ر: أَجْنَبِيٌّ) .
أَمَّا الْمَحَارِمُ مِنَ الأَْرْحَامِ فَلِلْفُقَهَاءِ فِي نَظَرِ الرِّجَال إِلَى النِّسَاءِ - مَا لَمْ يَكُنْ بِشَهْوَةٍ - ثَلاَثَةُ آرَاءٍ:
أ - جَوَازُ النَّظَرِ إِلَى جَمِيعِ بَدَنِ الْمَرْأَةِ، عَدَا مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ، وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيَّةِ، وَلِلْحَنَابِلَةِ فِيهِ قَوْلٌ ضَعِيفٌ (1) .
ب - جَوَازُ النَّظَرِ إِلَى الذِّرَاعَيْنِ وَالشَّعْرِ وَمَا فَوْقَ النَّحْرِ، وَأَطْرَافِ الْقَدَمَيْنِ وَهُوَ قَوْل الْمَالِكِيَّةِ (2)
ج - جَوَازُ النَّظَرِ إِلَى الْوَجْهِ وَالرَّقَبَةِ وَالْيَدِ وَالْقَدَمِ وَالرَّأْسِ وَالسَّاقِ، وَهُوَ رَأْيُ الْحَنَابِلَةِ (3) ، وَيُكْرَهُ عِنْدَهُمْ النَّظَرُ إِلَى السَّاقِ وَالصَّدْرِ لِلتَّوَقِّي لاَ لِلتَّحْرِيمِ.
د - جَوَازُ النَّظَرِ إِلَى الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ وَالصَّدْرِ وَالسَّاقِ وَالْعَضُدِ وَهُوَ رَأْيُ الْحَنَفِيَّةِ (4) .
أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِمَا يَحْرُمُ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنَ الرَّجُل فَهُوَ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ. وَلِكُلٍّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ قَوْلٌ آخَرُ، هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَهُمَا، أَنَّهَا لاَ يَجُوزُ أَنْ تَنْظُرَ مِنْهُ إِلاَّ مَا يَجُوزُ لِلرَّجُل أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ
__________
(1) شرح الروض 3 / 110، 111، فتاوى ابن تيمية 15 / 413، والمغني 7 / 455
(2) الحطاب 1 / 500
(3) المغني مع الشرح الكبير 7 / 455، مطالب أولي النهى 5 / 12
(4) ابن عابدين 5 / 235، والبدائع 5 / 120(3/89)
مِنْ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ، وَيَجُوزُ النَّظَرُ إِلَى مَا دُونَ ذَلِكَ (1) .
وَكُل مَا حَرُمَ نَظَرُهُ حَرُمَ مَسُّهُ، لأَِنَّهُ أَبْلَغُ فِي اللَّذَّةِ (2) . وَتَجُوزُ الْخَلْوَةُ بِالْمَحَارِمِ بِاتِّفَاقٍ (3) . وَتَفَاصِيل هَذِهِ الأَْحْكَامِ تَأْتِي فِي مُصْطَلَحَاتِهَا.
وِلاَيَةُ الأَْرْحَامِ لِلنِّكَاحِ:
22 - الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى أَنَّ الأَْرْحَامَ - غَيْرَ الْعَصَبَةِ - لَيْسَ لَهُمْ حَقٌّ فِي وِلاَيَةِ النِّكَاحِ.
وَالأَْصَحُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُمْ يَلُونَ عَقْدَ النِّكَاحِ عِنْدَ عَدَمِ الْعَصَبَةِ (4) .
وَبَيَانُهُمْ وَتَرْتِيبُهُمْ فِي الْوِلاَيَةِ يُذْكَرُ فِي مُصْطَلَحِ نِكَاح (وِلاَيَتُهُ) .
الرَّحِمِيَّةُ فِي الْحُدُودِ وَالتَّعَازِيرِ:
23 - أَحْيَانًا تَكُونُ الرَّحِمِيَّةُ سَبَبًا فِي تَشْدِيدِ الْعُقُوبَةِ، كَمَا فِي قَتْل ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ، وَأَحْيَانًا تَكُونُ سَبَبًا فِي رَفْعِهَا، كَمَا لَوْ قَتَل الأَْبُ وَلَدَهُ أَوْ قَذَفَهُ، وَلِتَفْصِيل ذَلِكَ اُنْظُرْ: (قِصَاص، زِنا، قَذْف، سَرِقَة) .
__________
(1) البدائع 5 / 122، وشرح الروض 3 / 110، ومطالب أولي النهى 5 / 15، وبلغة السالك 1 / 106، والحطاب 1 / 501، والمغني 6 / 563 ط الرياض.
(2) المراجع السابقة.
(3) بلغة السالك 1 / 106، وشرح الروض 3 / 110، ومطالب أولي النهى 5 / 22
(4) ابن عابدين 2 / 312، 313، والفواكه الدواني 2 / 31، وكفاية الطالب الرباني 2 / 39، والبجيرمي على الخطيب 3 / 342، ومطالب أولي النهى 5 / 261(3/90)
شَهَادَةُ ذَوِي الأَْرْحَامِ وَالْقَضَاءُ لَهُمْ:
24 - لاَ تُقْبَل شَهَادَةُ أَصْلٍ لِفَرْعِهِ، وَلاَ فَرْعٍ لأَِصْلِهِ؛ لأَِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَمِيل بِطَبْعِهِ لِلآْخَرِ، وَلِحَدِيثِ: فَاطِمَةُ بِضْعَةٌ مِنِّي، يَرِيبُنِي مَا أَرَابَهَا. (1)
أَمَّا بَقِيَّةُ الأَْرْحَامِ فَتُقْبَل شَهَادَتُهُمْ، غَيْرَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ اشْتَرَطُوا لِقَبُول شَهَادَةِ الأَْخِ أَنْ يَكُونَ مُبْرِزًا فِي الْعَدَالَةِ، وَأَلاَّ يَكُونَ فِي عِيَال مَنْ يَشْهَدُ لَهُ، وَأَلاَّ تَكُونَ الشَّهَادَةُ فِي جُرْحٍ فِيهِ قِصَاصٌ (2) .
وَلاَ يَقْضِي الْقَاضِي لِمَنْ لاَ تَجُوزُ شَهَادَتُهُ لَهُ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَيَجُوزُ قَضَاؤُهُ لِبَاقِي أَقَارِبِهِ، إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَالُوا: لاَ يَقْضِي لِلْعَمِّ، إِلاَّ إِنْ كَانَ مُبْرِزًا فِي الْعَدَالَةِ (3) . وَمُقَابِل الصَّحِيحِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ جَوَازُ الْقَضَاءِ لِمَنْ يَشْهَدُ لَهُ، قَالَهُ أَبُو بَكْرٍ. وَقِيل: يَجُوزُ بَيْنَ وَالِدَيْهِ وَوَلَدِهِ (4) .
عِتْقُ الأَْرْحَامِ
25 - الْمَذَاهِبُ الأَْرْبَعَةُ عَلَى أَنَّ الْوَالِدَيْنِ - وَإِنْ عَلَوْا - يُعْتَقُونَ عَلَى الْمَوْلُودِينَ بِالتَّمَلُّكِ، وَأَنَّ الْمَوْلُودِينَ - وَإِنْ نَزَلُوا - يُعْتَقُونَ عَلَى الْوَالِدَيْنِ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الذَّكَرُ وَالأُْنْثَى، وَالْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ
__________
(1) حديث " فاطمة بضعة مني، يريبني ما أرابها " أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 327 ط السلفية) .
(2) ابن عابدين 4 / 380، والفتاوى الهندية 3 / 370، والدسوقي 4 / 168، 169، ونهاية المحتاج 8 / 244، والمحرر 2 / 303، ومطالب أولي النهى 6 / 625
(3) المراجع السابقة، وتبصرة الحكام 1 / 81
(4) الإنصاف 11 / 216(3/90)
؛ لأَِنَّهُ حُكْمٌ مُتَعَلِّقٌ بِالْقَرَابَةِ، فَاسْتَوَى فِيهِ الْجَمِيعُ (1) . وَاسْتَدَلُّوا عَلَى وُجُوبِ إِعْتَاقِ الْوَالِدَيْنِ بِقَوْل اللَّهِ سُبْحَانَهُ: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّل مِنَ الرَّحْمَةِ} (2) الآْيَةَ، وَلاَ يَتَأَتَّى خَفْضُ الْجَنَاحِ مَعَ الاِسْتِرْقَاقِ، وَعَلَى عِتْقِ الْمَوْلُودِينَ بِقَوْل اللَّهِ سُبْحَانَهُ: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا إِنْ كُل مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَْرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} (3) الآْيَةَ.
وَيَقُول سُبْحَانَهُ: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا} (4) الآْيَةَ، دَل كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى نَفْيِ اجْتِمَاعِ الْوَلَدِيَّةِ وَالْعَبْدِيَّةِ (5) .
أَمَّا بَقِيَّةُ الأَْرْحَامِ غَيْرِ الأُْصُول وَالْفُرُوعِ فَلِلْعُلَمَاءِ فِي عِتْقِهِمْ عِنْدَ تَمَلُّكِهِمْ ثَلاَثَةُ آرَاءٍ.
الأَْوَّل: عِتْقُ ذَوِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، فَمَنْ مَلَكَ قَرِيبًا ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ عَتَقَ عَلَيْهِ. وَصِفَةُ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا حَرُمَ نِكَاحُهُ (6) . وَالْمَحْرَمُ بِلاَ رَحِمٍ كَأَنْ يَمْلِكَ زَوْجَةَ ابْنِهِ أَوْ أَبِيهِ لاَ يُعْتَقُ عَلَيْهِ، وَكَذَا الرَّحِمُ بِلاَ مَحْرَمٍ، كَبَنِي الأَْعْمَامِ وَالأَْخْوَال.
الثَّانِي: الاِقْتِصَارُ عَلَى الإِْخْوَةِ وَالأَْخَوَاتِ، وَأَمَّا مَا عَدَا ذَلِكَ مِنْ أَوْلاَدِ الإِْخْوَةِ وَالأَْخَوَاتِ وَالأَْعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ وَالأَْخْوَال وَالْخَالاَتِ، فَإِنَّهُ لاَ يُعْتَقُ أَحَدٌ
__________
(1) الفتاوى الهندية 2 / 8، والخرشي 8 / 121، ومغني المحتاج 4 / 499، 500، وشرح الروض 4 / 446، ومطالب أولي النهى 4 / 696
(2) سورة الإسراء / 24
(3) سورة مريم / 92، 93
(4) سورة مريم / 88
(5) شرح الروض 4 / 446
(6) الفتاوى الهندية 2 / 807(3/91)
مِنْ هَؤُلاَءِ بِالْمِلْكِ، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ (1) .
الثَّالِثُ: الاِقْتِصَارُ عَلَى الأُْصُول وَالْفُرُوعِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ (2) .
إِرْدَافٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْرْدَافُ: مَصْدَرُ أَرْدَفَ، وَأَرْدَفَهُ: أَرْكَبَهُ خَلْفَهُ. وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى (3) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - يَجُوزُ إِرْدَافُ الرَّجُل لِلرَّجُل، وَالْمَرْأَةِ لِلْمَرْأَةِ إِذَا لَمْ يُؤَدِّ إِلَى فَسَادٍ أَوْ إِثَارَةِ شَهْوَةٍ؛ لإِِرْدَافِ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْفَضْل بْنِ الْعَبَّاسِ (4) .
وَيَجُوزُ إِرْدَافُ الرَّجُل لاِمْرَأَتِهِ، وَالْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا، لإِِرْدَافِ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِزَوْجَتِهِ صَفِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا (5) . وَإِرْدَافُ الرَّجُل لِلْمَرْأَةِ ذَاتِ الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ جَائِزٌ مَعَ أَمْنِ الشَّهْوَةِ. وَأَمَّا إِرْدَافُ الْمَرْأَةِ لِلرَّجُل الأَْجْنَبِيِّ، وَالرَّجُل لِلْمَرْأَةِ الأَْجْنَبِيَّةِ فَهُوَ مَمْنُوعٌ، سَدًّا لِلذَّرَائِعِ، وَاتِّقَاءً لِلشَّهْوَةِ الْمُحَرَّمَةِ.
__________
(1) الخرشي 8 / 121
(2) شرح الروض 4 / 446، ومغني المحتاج 4 / 499، 500
(3) المصباح ولسان العرب (ردف)
(4) حديث " إردافه الفضل " أخرجه البخاري ومسلم في كتاب الحج من صحيحيهما (اللؤلؤ والمرجان ص 295)
(5) حديث " إردافه صفية " أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 569 ط السلفية)(3/91)
الضَّمَانُ بِالإِْرْدَافِ.
3 - إِذَا اسْتَأْجَرَ رَجُلٌ دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا، وَأَرْدَفَ خَلْفَهُ آخَرَ بِغَيْرِ إِذْنِ صَاحِبِهَا، فَهَلَكَتْ الدَّابَّةُ بِسَبَبِ الإِْرْدَافِ، ضَمِنَ نِصْفَ قِيمَتِهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ رَأْيٌ لِلْحَنَابِلَةِ، وَيَضْمَنُ الْكُل عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (1) .
إِرْسَالٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْرْسَال لُغَةً: مَصْدَرُ (أَرْسَل) يُقَال: أَرْسَل الشَّيْءَ: أَطْلَقَهُ وَأَهْمَلَهُ، وَيُقَال: أَرْسَل الْكَلاَمَ أَيْ أَطْلَقَهُ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ، وَأَرْسَل الرَّسُول: بَعَثَهُ بِرِسَالَةٍ، وَأَرْسَل عَلَيْهِ شَيْئًا: سَلَّطَهُ عَلَيْهِ، وَفِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ قَوْله تَعَالَى {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} (2) .
وَيَسْتَعْمِل الْفُقَهَاءُ كَلِمَةَ الإِْرْسَال بِإِطْلاَقَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْهَا مَا يَلِي:
الإِْرْخَاءُ، كَإِرْسَال الْيَدَيْنِ فِي الصَّلاَةِ، وَإِرْسَال طَرَفِ الْعِمَامَةِ، وَإِرْسَال الشَّعْرِ بِعَدَمِ رَبْطِهِ. وَالتَّوْجِيهُ، كَإِرْسَال شَخْصٍ إِلَى آخَرَ بِمَالٍ أَوْ رِسَالَةٍ أَوْ
__________
(1) فتح القدير 7 / 169 ط دار صادر، وتحفة المحتاج 6 / 183 - 184 ط دار صادر، والإنصاف 6 / 54 ط حامد الفقي، وحاشية الدسوقي 4 / 37 - 38 - ط دار الفكر، والبخاري وشرحه فتح الباري10 / 327، والقرطبي 5 / 214 ط دار الكتب، وابن عابدين 1 / 272 ط الأولى، والقليوبي 3 / 82، وابن عابدين 5 / 235، 238، والمجموع للنووي 2 / 28، 31
(2) سورة مريم / 83(3/92)
نَحْوِ ذَلِكَ. وَالتَّخْلِيَةُ، وَذَلِكَ كَإِرْسَال الْمُحْرِمِ مَا تَحْتَ يَدِهِ مِنْ صَيْدٍ. وَالإِْهْمَال، كَإِرْسَال الْمَاءِ وَالنَّارِ وَالْحَيَوَانِ. وَالتَّسْلِيطُ، كَإِرْسَال الْحَيَوَانِ أَوِ السَّهْمِ عَلَى الصَّيْدِ.
وَبِمَعْنَى عَدَمِ الإِْضَافَةِ وَعَدَمِ الإِْطْلاَقِ، وَمِثَال ذَلِكَ مَا أَوْرَدَهُ ابْنُ نُجَيْمٍ فِيمَا إِذَا جَرَى الْخُلْعُ بَيْنَ الزَّوْجِ وَالْمَرْأَةِ فَإِلَيْهَا الْقَبُول، سَوَاءٌ أَكَانَ الْبَدَل مُرْسَلاً أَمْ مُطْلَقًا، أَمْ مُضَافًا إِلَى الْمَرْأَةِ أَوِ الأَْجْنَبِيِّ إِضَافَةَ مِلْكٍ أَوْ ضَمَانٍ. وَمَتَى جَرَى الْخُلْعُ بَيْنَ الأَْجْنَبِيِّ وَالزَّوْجِ، فَإِنْ كَانَ الْبَدَل مُرْسَلاً (أَيْ مُعَيَّنًا بِغَيْرِ الإِْضَافَةِ) فَالْقَبُول إِلَيْهَا كَقَوْلِهَا: اخْلَعْنِي عَلَى هَذِهِ الدَّارِ، فَإِنْ قَدَرَتْ عَلَى تَسْلِيمِهَا سَلَّمَتْهَا، وَإِلاَّ فَالْمِثْل فِيمَا لَهُ مِثْلٌ، وَالْقِيمَةُ فِي الْقِيَمِيِّ، وَتَتِمَّةُ هَذَا فِي الْخُلْعِ (1) . وَالْمُطْلَقُ كَقَوْلِهَا: خَالَعَنِي عَلَى ثَوْبٍ. وَالْمُضَافُ كَقَوْلِهَا: خَالَعَنِي عَلَى دَارِي (2) .
وَيَسْتَعْمِل عُلَمَاءُ الأُْصُول الإِْرْسَال فِي الْمَصْلَحَةِ الْمُرْسَلَةِ؛ لأَِنَّهَا كُل مَصْلَحَةٍ أَطْلَقَهَا الشَّارِعُ فَلَمْ يَعْتَبِرْهَا وَلَمْ يُلْغِهَا.
وَالإِْرْسَال فِي الْحَدِيثِ لَهُ إِطْلاَقٌ خَاصٌّ سَيَأْتِي فِيمَا يَلِي:
الإِْرْسَال فِي الْحَدِيثِ:
2 - يُطْلَقُ لَفْظُ الإِْرْسَال عِنْدَ جُمْهُورِ الْمُحَدِّثِينَ عَلَى تَرْكِ التَّابِعِيِّ الْوَاسِطَةَ الَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ رَفَعَ التَّابِعِيُّ الْحَدِيثَ لِلرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَوَاءٌ أَكَانَ
__________
(1) البحر الرائق شرح كنز الدقائق 4 / 101 للعلامة زين الدين بن نجيم، دار المعرفة. بيروت.
(2) حاشية منحة الخالق على البحر الرائق 4 / 101 للعلامة محمد أمين الشهير بابن عابدين.(3/92)
كَبِيرًا أَمْ صَغِيرًا، بِأَنْ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَا، أَوْ فَعَل كَذَا، أَوْ فُعِل بِحَضْرَتِهِ كَذَا، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ. وَبَعْضُهُمْ خَصَّهُ بِرَفْعِ التَّابِعِيِّ الْكَبِيرِ، وَهُوَ الَّذِي رَأَى جَمَاعَةً مِنَ الصَّحَابَةِ وَجَالَسَهُمْ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيٍّ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَأَمْثَالِهِمَا.
أَمَّا إِذَا انْقَطَعَ الإِْسْنَادُ قَبْل الْوُصُول إِلَى التَّابِعِيِّ، بِأَنْ كَانَ فِيهِ رَاوٍ لَمْ يَسْمَعْ مِنَ الْمَذْكُورِينَ فَوْقَهُ، فَلَيْسَ بِمُرْسَلٍ عِنْدَ الْحَاكِمِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَهْل الْحَدِيثِ، بَل يُسَمَّى مُنْقَطِعًا، إِنْ كَانَ السَّاقِطُ وَاحِدًا فَحَسْبُ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ سُمِّيَ مُعْضَلاً، وَأَمَّا عِنْدَ أَهْل الأُْصُول فَكُل ذَلِكَ يُسَمَّى مُرْسَلاً. وَذَهَبَ إِلَيْهِ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ الْخَطِيبُ وَقَطَعَ بِهِ. (1) وَجَاءَ فِي مُسْلِمِ الثُّبُوتِ: الأَْوْلَى أَنْ يُقَال: مَا رَوَاهُ الْعَدْل مِنْ غَيْرِ إِسْنَادٍ مُتَّصِلٍ لِيَشْمَل الْمُنْقَطِعَ. وَأَمَّا عِنْدَ أَهْل الْحَدِيثِ فَالْمُرْسَل قَوْل التَّابِعِيِّ: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ كَذَا، وَالْمُعْضَل مَا سَقَطَ مِنْ إِسْنَادِهِ اثْنَانِ مِنَ الرُّوَاةِ، وَالْمُنْقَطِعُ مَا سَقَطَ وَاحِدٌ مِنْهَا، وَالْمُعَلَّقُ مَا رَوَاهُ مَنْ دُونَ التَّابِعِيِّ مِنْ غَيْرِ سَنَدٍ، وَالْكُل دَاخِلٌ فِي الْمُرْسَل عِنْدَ أَهْل الأُْصُول، وَلَمْ يَظْهَرْ لِكَثِيرِ الاِصْطِلاَحِ وَالأَْسَامِي فَائِدَةٌ.
أَقْسَامُ وَحُكْمُ الْحَدِيثِ الْمُرْسَل:
3 - يَنْقَسِمُ الْمُرْسَل إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ هِيَ:
الْقِسْمُ الأَْوَّل: مَا أَرْسَلَهُ الصَّحَابِيُّ: حُكْمُهُ أَنَّهُ مَقْبُولٌ بِالإِْجْمَاعِ، وَذَلِكَ لِلإِْجْمَاعِ عَلَى عَدَالَةِ
__________
(1) حاشية الرهاوي على المنار ص643 - 644 ليحيى الرهاوي المصري المطبعة العثمانية.(3/93)
الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ (1) .
الْقِسْمُ الثَّانِي: إِرْسَال الْقَرْنِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ أَيِ التَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ، وَقَدْ اخْتَلَفَتْ آرَاءُ الْعُلَمَاءِ فِي الاِحْتِجَاجِ بِهِ، إِذْ أَنَّهُ حُجَّةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَأَشْهَرِ رِوَايَتَيِ الْحَنَابِلَةِ، إِذَا كَانَ الْمُرْسِل عَدْلاً.
أَمَّا الشَّافِعِيُّ فَلاَ يَعْتَبِرُهُ حُجَّةً إِلاَّ إِذَا تَأَيَّدَ بِآيَةٍ، أَوْ سُنَّةٍ مَشْهُورَةٍ، أَوْ مُوَافَقَةِ قِيَاسٍ صَحِيحٍ، أَوْ قَوْل صَحَابِيٍّ، أَوْ تَلَقَّتْهُ الأُْمَّةُ بِالْقَبُول، أَوِ اشْتَرَكَ فِي إِرْسَالِهِ عَدْلاَنِ، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ شَيْخَاهُمَا مُخْتَلِفَيْنِ، أَوْ ثَبَتَ اتِّصَالُهُ بِوَجْهٍ آخَرَ، بِأَنْ أَسْنَدَهُ غَيْرُ مُرْسِلِهِ، أَوْ أَسْنَدَهُ مُرْسِلُهُ مُرَّةً أُخْرَى.
وَلِثُبُوتِ الاِتِّصَال بِوَجْهٍ آخَرَ قُبِلَتْ مَرَاسِيل سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ؛ لأَِنَّهَا بِالتَّتَبُّعِ وُجِدَتْ مُسْنَدَةً (أَيْ مُتَّصِلَةً مَرْفُوعَةً إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وَأَكْثَرُهَا مِمَّا سَمِعَهُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. وَهَذَا مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ فِي احْتِجَاجِهِ بِالْمُرْسَل أَوْ عَدَمِهِ (2) .
وَأَمَّا رَأْيُ الإِْمَامِ أَحْمَدَ فَيَتَّضِحُ بِمَا نَقَلَهُ صَاحِبُ شَرْحِ رَوْضَةِ النَّاظِرِ، وَمُفَادُهُ أَنَّ لِلإِْمَامِ رِوَايَتَيْنِ أَشْهَرُهُمَا أَنَّهُ حُجَّةٌ (3) .
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا أَرْسَلَهُ الْعَدْل مِنْ غَيْرِ الْقُرُونِ الثَّلاَثَةِ: وَيُعْتَبَرُ هَذَا النَّوْعُ مِنَ الْمَرَاسِيل حُجَّةً عِنْدَ أَبِي الْحَسَنِ الْكَرْخِيِّ؛ لأَِنَّ إِرْسَال الْعَدْل يُقْبَل فِي كُل عَصْرٍ، إِذْ أَنَّ الْعِلَّةَ الَّتِي تُوجِبُ قَبُول مَرَاسِيل
__________
(1) أنوار الحلك على شرح المنار لابن ملك ص 644 لشيخ الإسلام محمد بن إبراهيم الشهير بابن الحلبي / المطبعة العثمانية.
(2) شرح المنار ص 644 لعز الدين عبد اللطيف بن عبد العزيز بن الملك / المطبعة العثمانية.
(3) نزهة الخاطر العاطر في شرح روضة الناظر وجنة المناظر 1 / 323 لعبد القادر بن بدران الحنبلي / المطبعة السلفية.(3/93)
الْقُرُونِ الثَّلاَثَةِ وَهِيَ الْعَدَالَةُ وَالضَّبْطُ، تَشْمَل سَائِرَ الْقُرُونِ (1) .
الْقِسْمُ الرَّابِعُ: مَا أُرْسِل مِنْ وَجْهٍ وَاتَّصَل مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، فَهُوَ مَقْبُولٌ عِنْدَ الأَْكْثَرِ؛ لأَِنَّ الْمُرْسِل سَاكِتٌ عَنْ حَال الرَّاوِي، وَالْمُسْنِدُ نَاطِقٌ، وَالسَّاكِتُ لاَ يُعَارِضُ النَّاطِقَ، مِثْل حَدِيثِ: لاَ نِكَاحَ إِلاَّ بِوَلِيٍّ رَوَاهُ إِسْرَائِيل بْنُ يُونُسَ مُسْنَدًا، وَرَوَاهُ شُعْبَةُ مُرْسَلاً. وَقَال بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لاَ يُقْبَل هَذَا النَّوْعُ مِنَ الْمَرَاسِيل؛ لأَِنَّ سُكُوتَ الرَّاوِي عَنْ ذِكْرِ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ بِمَنْزِلَةِ الْجَرْحِ فِيهِ، وَإِسْنَادُ الآْخَرِ بِمَنْزِلَةِ التَّعْدِيل، وَإِذَا اجْتَمَعَ الْجُرْحُ وَالتَّعْدِيل يُعْمَل بِالْجَرْحِ (2) .
أَوَّلاً: الإِْرْسَال بِمَعْنَى الإِْرْخَاءِ
كَيْفِيَّةُ وَضْعِ الْيَدَيْنِ فِي الصَّلاَةِ:
4 - اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ:
الأَْوَّل: أَنْ يَضَعَ الْمُصَلِّي يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى يَدِهِ الْيُسْرَى، وَهُوَ اخْتِيَارُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ رِوَايَةُ مُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ عَنْ مَالِكٍ، وَقَالُوا: إِنَّهُ السُّنَّةُ (3) وَاسْتَدَلُّوا بِمَا يَلِي:
أ - مَا رَوَاهُ سَهْل بْنُ سَعْدٍ قَال: كَانَ النَّاسُ يُؤْمَرُونَ أَنْ يَضَعَ الْمُصَلِّي الْيَدَ الْيُمْنَى عَلَى ذِرَاعِهِ الْيُسْرَى فِي الصَّلاَةِ. قَال أَبُو حَازِمٍ: لاَ أَعْلَمُهُ إِلاَّ يَنْمِي (4)
__________
(1) كشف الأسرار 3 / 7
(2) شرح المنار ص 644
(3) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع 2 / 533 للعلامة علاء الدين أبي بكر بن مسعود الكاساني الحنفي - مطبعة الإمام بالقاهرة، ومغني المحتاج 1 / 152 للخطيب الشربيني - دار الفكر بيروت، وكشاف القناع عن متن الإقناع 1 / 333 للعلامة منصور بن يونس بن إدريس البهوتي، الناشر مكتبة النصر الحديثة / الرياض.
(4) أي يسند ذلك ويرفعه.(3/94)
ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (1)
ب - مَا رُوِيَ عَنْ وَائِل بْنِ حُجْرٍ فِي صِفَةِ صَلاَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ وَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى كَفِّهِ الْيُسْرَى وَالرُّسْغِ وَالسَّاعِدِ. (2)
ج - مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَال: مَرَّ بِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا وَاضِعٌ يَدِي الْيُسْرَى عَلَى الْيُمْنَى فَأَخَذَ بِيَدِي الْيُمْنَى فَوَضَعَهَا عَلَى الْيُسْرَى. (3)
الثَّانِي: اسْتِحْبَابُ الإِْرْسَال وَكَرَاهِيَةُ الْقَبْضِ فِي الْفَرْضِ، وَالْجَوَازُ فِي النَّفْل، قِيل: مُطْلَقًا، وَقِيل: إِنْ طَوَّل. وَهَذِهِ رِوَايَةُ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ فِي الْمُدَوَّنَةِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّيْخُ خَلِيلٌ وَشُرَّاحُ مَتْنِهِ كَالدَّرْدِيرِ وَالدُّسُوقِيِّ، وَعُلِّلَتِ الْكَرَاهَةُ فِي الْفَرْضِ بِأَنَّ الْقَبْضَ فِيهِ اعْتِمَادٌ عَلَى الْيَدَيْنِ فَأَشْبَهَ الاِسْتِنَادَ، وَلِذَلِكَ قَال الدَّرْدِيرُ: فَلَوْ فَعَلَهُ لاَ لِلاِعْتِمَادِ بَل اسْتِنَانًا لَمْ يُكْرَهْ، ثُمَّ قَال: وَهَذَا التَّعْلِيل هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَعَلَيْهِ فَيَجُوزُ فِي النَّفْل مُطْلَقًا، بِجَوَازِ الاِعْتِمَادِ فِيهِ بِلاَ ضَرُورَةٍ.
الثَّالِثُ: إِبَاحَةُ الْقَبْضِ فِي الْفَرْضِ وَالنَّفَل، وَهُوَ قَوْل مَالِكٍ فِي سَمَاعِ أَشْهَبَ وَابْنِ نَافِعٍ.
وَذَكَرَ الْحَطَّابُ نَقْلاً عَنِ ابْنِ فَرْحُونَ: وَأَمَّا إِرْسَالُهُمَا " أَيِ الْيَدَيْنِ " بَعْدَ رَفْعِهِمَا فَقَال سَنَدٌ: لَمْ أَرَ فِيهِ نَصًّا، وَالأَْظْهَرُ عِنْدِي أَنْ يُرْسِلَهُمَا حَال التَّكْبِيرِ،
__________
(1) صحيح البخاري 1 / 296 للإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري نشر دار الطباعة المنيرة / بالقاهرة.
(2) صحيح مسلم 1 / 301 للإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري / طبع دار إحياء الكتب العربية - عيسى الحلبي / القاهرة، ونيل الأوطار 2 / 207، 208 للشيخ محمد ابن علي الشوكاني / مطبعة مصطفى الحلبي.
(3) سنن ابن ماجه 1 / 266 للحافظ أبي عبد الله محمد بن يزيد القزويني / مطبعة عيسى الحلبي / القاهرة.(3/94)
لِيَكُونَ مُقَارِنًا لِلْحَرَكَةِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُرْسِلَهُمَا بِرِفْقٍ (1) .
هَذَا، وَقَدْ ذُكِرَ عَنِ الشَّافِعِيَّةِ مَا يُؤَيِّدُ قَوْل الْمَالِكِيَّةِ إِذْ قَال الشِّرْبِينِيُّ مَا نَصُّهُ: " وَالْقَصْدُ مِنَ الْقَبْضِ الْمَذْكُورِ - يَعْنِي قَبْضَ الْيَدَيْنِ فِي الصَّلاَةِ - تَسْكِينُ الْيَدَيْنِ فَإِنْ أَرْسَلَهُمَا وَلَمْ يَعْبَثْ فَلاَ بَأْسَ (2) "
الرَّابِعُ: مَنْعُ الْقَبْضِ فِيهِمَا، حَكَاهُ الْبَاجِيُّ، وَتَبِعَهُ ابْنُ عَرَفَةَ، وَلَكِنْ قَال الْمِسْنَاوِيُّ: هَذَا مِنَ الشُّذُوذِ (3) .
إِرْسَال الْعَذَبَةِ مِنَ الْعِمَامَةِ وَالتَّحْنِيكُ بِهَا (4) :
5 - أَوْرَدَ الْحَطَّابُ نَقْلاً عَنِ الْمَدْخَل لاِبْنِ الْحَاجِّ أَنَّ الْعِمَامَةَ بِغَيْرِ عَذَبَةٍ وَلاَ تَحْنِيكٍ بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ، فَإِنْ فَعَلَهُمَا فَهُوَ الأَْكْمَل، وَإِنْ فَعَل أَحَدَهُمَا فَقَدْ خَرَجَ بِهِ مِنَ الْمَكْرُوهِ، وَقَدْ نُقِل عَنْ عَبْدِ الْحَقِّ الإِْشْبِيلِيِّ أَنَّهُ قَال: وَسُنَّةُ الْعِمَامَةِ بَعْدَ فِعْلِهَا أَنْ يُرْخِيَ طَرَفَهَا وَيَتَحَنَّكَ، فَإِنْ كَانَتْ بِغَيْرِ طَرَفٍ وَلاَ تَحْنِيكٍ فَيُكْرَهُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ.
أَمَّا النَّوَوِيُّ فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: لاَ كَرَاهَةَ فِي إِرْسَال الْعَذَبَةِ وَلاَ عَدَمِ إِرْسَالِهَا، إِلاَّ أَنَّ الشَّيْخَ الْكَمَال ابْنَ أَبِي شَرِيفٍ قَدْ تَعَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: بِأَنَّ ظَاهِرَ كَلاَمِهِ أَنَّهُ مِنَ الْمُبَاحِ الْمُسْتَوِي الطَّرَفَيْنِ، قَال: وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَل الإِْرْسَال مُسْتَحَبٌّ وَتَرْكُهُ خِلاَفُ الأَْوْلَى.
__________
(1) مواهب الجليل 1 / 537 لأبي عبد الله محمد بن محمد بن عبد الرحمن المغربي المعروف بالحطاب. مكتبة النجاح - ليبيا.
(2) الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع 1 / 131
(3) الدسوقي 1 / 250، والمدونة 1 / 74، وبداية المجتهد 1 / 137، والمنتقى شرح الموطأ 1 / 281، والزرقاني 1 / 214
(4) التحنيك، هو إدارة العمامة من تحت الحنك.(3/95)
وَبِالنِّسْبَةِ لِلْحَنَفِيَّةِ فَالْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يُنْدَبُ إِرْسَال ذَنَبِ الْعِمَامَةِ بِسِنِّ الْكَتِفَيْنِ إِلَى وَسَطِ الظَّهْرِ، وَقِيل لِمَوْضِعِ الْجُلُوسِ، وَقِيل شِبْرًا (1) .
أَمَّا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فَلاَ خِلاَفَ فِي اسْتِحْبَابِ الْعِمَامَةِ الْمُحَنَّكَةِ وَكَرَاهَةِ الصَّمَّاءِ، قَال صَاحِبُ النَّظْمِ: يَحْسُنُ أَنْ يُرْخِيَ الذُّؤَابَةَ خَلْفَهُ وَلَوْ شِبْرًا عَلَى نَصِّ أَحْمَدَ.
وَقَدْ ذَكَرَ السَّخَاوِيُّ عَنْ مُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ الْكَبِيرِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ عَلِيًّا إِلَى خَيْبَرَ فَعَمَّمَهُ بِعِمَامَةٍ سَوْدَاءَ، ثُمَّ أَرْسَلَهَا مِنْ وَرَائِهِ أَوْ قَال عَلَى كَتِفِهِ الأَْيْسَرِ، وَتَرَدَّدَ رَاوِيهِ فِيهِ، وَرُبَّمَا جَزَمَ بِالثَّانِي (2) .
ثَانِيًا: الإِْرْسَال بِمَعْنَى بَعْثِ الرَّسُول
الإِْرْسَال فِي النِّكَاحِ:
6 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى صِحَّةِ الإِْرْسَال فِي النِّكَاحِ وَتَرَتُّبِ آثَارِهِ، وَهُنَاكَ تَفْرِيعَاتٌ فِي الْمَذَاهِبِ مِنْهَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ، أَنَّهُ لَوْ أَرْسَل الرَّجُل إِلَى امْرَأَةٍ رَسُولاً، أَوْ كَتَبَ إِلَيْهَا كِتَابًا قَال فِيهِ: تَزَوَّجْتُكِ، فَقَبِلَتْ بِحَضْرَةِ شَاهِدَيْنِ، سَمِعَا كَلاَمَ الرَّسُول أَوْ قِرَاءَةِ الْكِتَابِ جَازَ ذَلِكَ، لاِتِّحَادِ الْمَجْلِسِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى؛ لأَِنَّ كَلاَمَ الرَّسُول هُوَ كَلاَمُ الْمُرْسَل لأَِنَّهُ يَنْقُل عِبَارَتَهُ، وَكَذَا الْكِتَابُ بِمَنْزِلَةِ الرَّسُول، فَكَانَ سَمَاعُ قَوْل الرَّسُول أَوْ قِرَاءَةُ الْكِتَابِ سَمَاعَ قَوْل الْمُرْسِل أَوْ كَلاَمِ الْكَاتِبِ مَعْنًى. وَإِنْ لَمْ يَسْمَعَا كَلاَمَ الرَّسُول أَوْ قِرَاءَةَ الْكِتَابِ لاَ يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى، وَقَال
__________
(1) ابن عابدين 5 / 481، والآداب الشرعية 3 / 536
(2) مواهب الجليل 1 / 541(3/95)
أَبُو يُوسُفَ: إِذَا قَالَتِ الْمَرْأَةُ: زَوَّجْتُ نَفْسِي يَجُوزُ وَإِنْ لَمْ يَسْمَعَا كَلاَمَ الرَّسُول أَوْ قِرَاءَةَ الْكِتَابِ. بِنَاءً عَلَى أَنَّ قَوْلَهَا: زَوَّجْتُ نَفْسِي شَطْرُ الْعَقْدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَالشَّهَادَةُ فِي شَطْرَيِ الْعَقْدِ شَرْطٌ؛ لأَِنَّهُ يَصِيرُ عَقْدًا بِالشَّطْرَيْنِ، فَإِذَا لَمْ يَسْمَعَا كَلاَمَ الرَّسُول وَقِرَاءَةَ الْكِتَابِ فَلَمْ يُوجَدْ شَطْرُ الشَّهَادَةِ عَلَى الْعَقْدِ. وَقَوْل الزَّوْجِ بِانْفِرَادِهِ عَقْدٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَقَدْ حَضَرَ الشَّاهِدَانِ (1) . هَذَا، وَقَدْ وَافَقَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَبَا حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدًا فِي قَوْلِهِمَا هَذَا (2) .
الإِْرْسَال لِنَظَرِ الْمَخْطُوبَةِ:
7 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى: أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَتَيَسَّرْ لِلرَّجُل أَنْ يَنْظُرَ إِلَى الْمَخْطُوبَةِ فَلَهُ أَنْ يُرْسِل مَنْ يَثِقُ بِهَا مِنَ النِّسَاءِ لِتَنْظُرَ لَهُ الْمَخْطُوبَةَ، ثُمَّ تَصِفَهَا لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، اسْتِدْلاَلاً بِفِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ رُوِيَ أَنَّهُ بَعَثَ أُمَّ سُلَيْمٍ إِلَى امْرَأَةٍ وَقَال: اُنْظُرِي عُرْقُوبَيْهَا وَشُمِّي مَعَاطِفَهَا. (3) رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ. هَذَا، وَقَدْ نُقِل عَنِ الشُّبْرَامَلْسِيِّ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ تَعْلِيقًا عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ. قَوْلُهُ: لَوْ أَمْكَنَهُ إِرْسَال امْرَأَةٍ تَنْظُرُهَا لَهُ وَتَصِفُهَا لَهُ لاَ يَجُوزُ لَهُ النَّظَرُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَقَدْ يَتَوَقَّفُ، إِذْ أَنَّ الْخَبَرَ لَيْسَ كَالْعِيَانِ، فَقَدْ يُدْرِكُ النَّاظِرُ مِنْ نَفْسِهِ عِنْدَ الْمُعَايَنَةِ مَا تَقْصُرُ الْعِبَارَةُ عَنْهُ (4) .
__________
(1) بدائع الصنائع 3 / 1335 نشر زكريا علي يوسف.
(2) الأم 5 / 73 للإمام أبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي - كتاب الشعب / القاهرة، والمدونة الكبرى 4 / 24 لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس رواية سحنون التنوخي / مطبعة الصادق / القاهرة وكشاف القناع 5 / 10
(3) نيل الأوطار للشوكاني 6 / 125
(4) حاشية الشبراملسي على نهاية المحتاج 6 / 193 مطبعة مصطفى الحلبي.(3/96)
الإِْرْسَال فِي الطَّلاَقِ:
8 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ إِذَا أَرْسَل إِلَى زَوْجَتِهِ كِتَابًا ضَمَّنَهُ قَوْلَهُ: أَنْتِ طَالِقٌ، فَالْحُكْمُ أَنَّهَا تَطْلُقُ فِي الْحَال، سَوَاءٌ وَصَل إِلَيْهَا الْكِتَابُ أَمْ لَمْ يَصِل، وَيُعْتَبَرُ ابْتِدَاءُ عِدَّتِهَا مِنْ حِينِ كِتَابَتِهِ الْكِتَابَ.
أَمَّا إِذَا كَتَبَ إِلَيْهَا مَا مُفَادُهُ: إِذَا وَصَلَكِ كِتَابِي فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَأَتَاهَا الْكِتَابُ طَلُقَتْ مِنْ تَارِيخِ الْوُصُول؛ لأَِنَّ شَرْطَ وُقُوعِ الطَّلاَقِ هُوَ وُصُول الْكِتَابِ إِلَيْهَا (1) .
الإِْرْسَال فِي التَّصَرُّفَاتِ الْمَالِيَّةِ:
الإِْرْسَال فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ:
9 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَرْسَل شَخْصٌ إِلَى غَيْرِهِ رَسُولاً أَوْ كِتَابًا يَطْلُبُ مِنْهُ فِيهِ أَنْ يَبِيعَهُ شَيْئًا مَا، وَقَبِل الْمُرْسَل إِلَيْهِ خِلاَل الْمَجْلِسِ الَّذِي تُلِيَ فِيهِ الْكِتَابُ الْمُرْسَل، أَوْ سَمَاعُ أَقْوَال الرَّسُول فَقَدْ تَمَّ الْبَيْعُ بَيْنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، لأَِنَّ الرَّسُول سَفِيرٌ وَمُعَبِّرٌ عَنْ كَلاَمِ الْمُرْسِل، نَاقِلٌ كَلاَمَهُ إِلَى الْمُرْسَل إِلَيْهِ، فَكَأَنَّهُ حَضَرَ بِنَفْسِهِ، فَأَوْجَبَ الْبَيْعَ، وَقَبِل الآْخَرُ فِي الْمَجْلِسِ.
وَهَذَا الْحُكْمُ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ يَسْرِي عَلَى عَقْدِ الإِْجَارَةِ، وَالْمُكَاتَبَةِ (2) ، إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ يُفَرِّقُونَ فِي
__________
(1) المغني مع الشرح الكبير 8 / 414 للإمام موفق الدين بن قدامة / دار الكتاب العربي - بيروت، وفتح القدير 3 / 93، والبدائع 4 / 1850، والبجيرمي 4 / 9، ومواهب الجليل 4 / 91، 92، والتاج والإكليل 4 / 98
(2) كشاف القناع 2 / 4، وحاشية البجيرمي على شرح منهج الطلاب 2 / 169، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي 3 / 382 لأبي البركات سيدي أحمد الدردير - مطبعة عيسى الحلبي - وبدائع الصنائع 6 / 2994(3/96)
حُكْمِ الإِْرْسَال بِالشِّرَاءِ تَبَعًا لِلَفْظِ الرَّسُول، فَإِذَا أَسْنَدَ الرَّسُول الشِّرَاءَ لِنَفْسِهِ طُولِبَ بِالثَّمَنِ، لَكِنْ إِذَا أَقَرَّ الْمُرْسِل بِأَنَّهُ أَرْسَلَهُ كَانَ لِلْبَائِعِ غَرِيمَانِ، فَيَتْبَعُ أَيَّهُمَا شَاءَ، إِلاَّ أَنْ يَحْلِفَ الْمُرْسِل أَنَّهُ دَفَعَ الثَّمَنَ لِلرَّسُول فَإِنَّهُ يَبْرَأُ، وَيَتْبَعُ الرَّسُول، أَمَّا إِذَا أَسْنَدَ الشِّرَاءَ لِمَنْ أَرْسَلَهُ فَإِنَّهُ لاَ يُطَالَبُ بِالثَّمَنِ، وَإِنَّمَا الَّذِي يُطَالَبُ بِهِ الْمُرْسِل (1) .
هَذَا، وَقَدْ ذَكَرَ الدَّرْدِيرُ فِي شَرْحِهِ الْكَبِيرِ أَنَّ الرَّسُول إِذَا قَال: بَعَثَنِي فُلاَنٌ لِتَبِيعَهُ كَذَا بِمِائَةٍ، أَوْ لِيَشْتَرِيَ مِنْكَ كَذَا بِمِائَةٍ مَثَلاً، فَرَضِيَ صَاحِبُ السِّلْعَةِ، لاَ يُطَالَبُ الرَّسُول بِالثَّمَنِ، فَإِنْ أَنْكَرَ فُلاَنٌ هَذَا أَنَّهُ أَرْسَلَهُ فَالثَّمَنُ عَلَى الرَّسُول. أَمَّا إِذَا قَال: بَعَثَنِي فُلاَنٌ لأَِشْتَرِيَ لَهُ مِنْكَ، فَيُطَالَبُ الرَّسُول بِالثَّمَنِ؛ لأَِنَّهُ فِي الْحَالَةِ الأُْولَى أَسْنَدَ الشِّرَاءَ لِغَيْرِهِ، وَفِي الْحَال الأَْخِيرَةِ أَسْنَدَ الشِّرَاءَ إِلَى نَفْسِهِ (2) .
كَمَا أَجْمَعَ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ الرَّسُول بِالشِّرَاءِ لاَ يَمْلِكُ إِبْطَال الْخِيَارِ، وَلاَ تَكُونُ رُؤْيَتُهُ رُؤْيَةَ الْمُرْسِل، وَيَثْبُتُ الْخِيَارُ لِلْمُرْسِل إِذَا لَمْ يَرَهُ (3) . وَقَدْ عَقَّبَ الإِْمَامُ السَّرَخْسِيُّ فِي الْمَبْسُوطِ عَلَى هَذَا الأَْمْرِ بِأَنَّ رُؤْيَةَ الرَّسُول وَقَبْضَهُ لاَ يَلْزَمُ الْمُرْسِل الْمَتَاعُ؛ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ عِلْمُ الْعَاقِدِ بِأَوْصَافِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لِيَتِمَّ رِضَاهُ، وَذَلِكَ لاَ يَحْصُل بِرُؤْيَةِ الرَّسُول، فَأَكْثَرُ مَا فِيهِ أَنَّ قَبْضَ رَسُولِهِ كَقَبْضِهِ بِنَفْسِهِ، وَلَوْ قَبَضَ بِنَفْسِهِ قَبْل الرُّؤْيَةِ كَانَ بِالْخِيَارِ إِذَا رَآهُ، فَكَذَلِكَ إِذَا أَرْسَل
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 382 للعلامة شمس الدين الشيخ محمد عرفه الدسوقي - مطبعة عيسى الحلبي.
(2) الشرح الكبير للدردير 3 / 382
(3) الفتاوى الهندية 3 / 65 تأليف العلامة الشيخ نظام وجماعة من علماء الهند الأعلام / المكتبة الإسلامية بتركيا.(3/97)
رَسُولاً فَقَبَضَهُ لَهُ. (1)
مِلْكِيَّةُ الشَّيْءِ الْمُرْسَل:
10 - قَرَّرَ الأَْئِمَّةُ أَنَّ الشَّيْءَ الْمُرْسَل بَاقٍ عَلَى مِلْكِ مُرْسِلِهِ، حَتَّى يَقْبِضَهُ الْمُرْسَل إِلَيْهِ، وَمَا دَامَ لَمْ يَقْبِضْهُ فَهُوَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ مُرْسِلِهِ، وَقَدْ عَيَّنَهُ لإِِنْسَانٍ فَلَمْ يَجُزْ لِغَيْرِهِ أَخْذُهُ مُطْلَقًا (2) .
الضَّمَانُ فِي الإِْرْسَال:
11 - ذَكَرَ الدَّرْدِيرُ أَنَّهُ إِنْ زَعَمَ شَخْصٌ أَنَّهُ مُرْسَلٌ مِنْ زَيْدٍ لاِسْتِعَارَةِ حُلِيٍّ لَهُ مِنْ بَكْرٍ، فَدَفَعَ لَهُ بَكْرٌ مَا طَلَبَ، وَزَعَمَ الرَّسُول أَنَّهُ تَلِفَ مِنْهُ، ضَمِنَهُ زَيْدٌ (الْمُرْسِل) إِنْ صَدَّقَهُ فِي الإِْرْسَال، وَإِنْ لَمْ يُصَدِّقْهُ حَلَفَ أَنَّهُ لَمْ يُرْسِلْهُ وَبَرِئَ، ثُمَّ حَلَفَ الرَّسُول: لَقَدْ أَرْسَلَنِي وَأَنَّهُ تَلِفَ لاَ تَفْرِيطَ مِنِّي وَبَرِئَ أَيْضًا، وَضَاعَ الْحُلِيُّ هَدَرًا.
لَكِنِ الرَّاجِحُ أَنَّ الرَّسُول يَضْمَنُ - وَلاَ يَبْرَأُ بِالْحَلِفِ - إِلاَّ لِبَيِّنَةٍ بِالإِْرْسَال، فَالضَّمَانُ عَلَى الْمُرْسِل (3) .
أَمَّا قَاضِي خَانْ فَقَدْ قَال فِي فَتَاوِيهِ: رَجُلٌ بَعَثَ رَسُولاً إِلَى بَزَّازٍ أَنِ ابْعَثْ إِلَيَّ بِثَوْبِ كَذَا وَكَذَا بِثَمَنِ كَذَا وَكَذَا، فَبَعَثَ إِلَيْهِ الْبَزَّازُ مَعَ رَسُولِهِ أَوْ مَعَ غَيْرِهِ، فَضَاعَ الثَّوْبُ قَبْل أَنْ يَصِل إِلَى الآْمِرِ، وَتَصَادَقُوا عَلَى ذَلِكَ وَأَقَرُّوا بِهِ، فَلاَ ضَمَانَ عَلَى الرَّسُول فِي شَيْءٍ، وَإِنْ بَعَثَ الْبَزَّازُ مَعَ رَسُول الآْمِرِ فَالضَّمَانُ عَلَى الآْمِرِ؛ لأَِنَّ رَسُولَهُ قَبَضَ الثَّوْبَ عَلَى الْمُسَاوَمَةِ،
__________
(1) المبسوط 13 / 73 لشمس الدين السرخسي - دار المعرفة للطباعة والنشر / بيروت.
(2) الفتاوى الكبرى الفقهية 3 / 370
(3) حاشية الدسوقي 3 / 441(3/97)
وَإِنْ كَانَ رَسُول رَبِّ الثَّوْبِ مَعَهُ. فَإِذَا وَصَل الثَّوْبُ إِلَى الآْمِرِ يَكُونُ ضَامِنًا (1) .
قَال الْحَنَفِيَّةُ: وَلَوْ أَرْسَل رَجُلٌ رَسُولاً إِلَى رَجُلٍ آخَرَ وَقَال لَهُ: ابْعَثْ إِلَيَّ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ قَرْضًا فَقَال: نَعَمْ، وَبَعَثَ بِهَا مَعَ رَسُولِهِ، كَانَ الآْمِرُ ضَامِنًا لَهَا، إِذَا أَقَرَّ أَنَّ رَسُولَهُ قَبَضَهَا.
وَلَوْ بَعَثَ رَجُلاً لِيَسْتَقْرِضَهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَأَقْرَضَهُ فَضَاعَ فِي يَدِهِ، إِنْ قَال الرَّسُول أَقْرِضْ فُلاَنًا الْمُرْسَل. فَهِيَ لِلْمُرْسِل وَعَلَيْهِ الضَّمَانُ، وَإِنْ قَال الرَّسُول: أَقْرِضْنِي لِفُلاَنٍ الْمُرْسِل فَأَقْرَضَهُ، وَضَاعَ فِي يَدِهِ، فَعَلَى الرَّسُول الضَّمَانُ. فَحَاصِل الْمَسْأَلَةِ أَنَّ التَّوْكِيل بِالإِْقْرَاضِ يَجُوزُ، وَبِالاِسْتِقْرَاضِ لاَ يَجُوزُ، وَالرِّسَالَةُ بِالاِسْتِقْرَاضِ لِلآْمِرِ جَائِزَةٌ، وَإِنْ أَخْرَجَ الْوَكِيل بِالاِسْتِقْرَاضِ الْكَلاَمَ مَخْرَجَ الرِّسَالَةِ يَقَعُ الْقَرْضُ لِلآْمِرِ، وَإِنْ أَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الْوَكَالَةِ بِأَنْ أَضَافَ إِلَى نَفْسِهِ يَصِيرُ مُسْتَقْرِضًا لِنَفْسِهِ، وَيَكُونُ مَا اسْتَقْرَضَ مِنَ الدَّرَاهِمِ لَهُ، وَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنَ الْمُوَكِّل (2) .
وَحَاصِل الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ الرَّسُول إِنْ كَانَ رَسُول رَبِّ الْمَال فَالْوَدِيعُ يَبْرَأُ بِالدَّفْعِ إِلَى الرَّسُول وَلَوْ مَاتَ الرَّسُول قَبْل الْوُصُول، وَيَرْجِعُ الْكَلاَمُ بَيْنَ رَبِّ الْمَال وَوَرَثَةِ الرَّسُول، فَإِنْ مَاتَ الرَّسُول قَبْل الْوُصُول كَانَ الضَّمَانُ فِي تَرِكَتِهِ، وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ الْوُصُول فَلاَ رُجُوعَ، حَمْلاً عَلَى أَنَّهُ أَوْصَلَهُ لِرَبِّ الْمَال.
وَإِنْ كَانَ الرَّسُول رَسُول الْوَدِيعِ فَلاَ يَبْرَأُ إِلاَّ بِوُصُولِهِ لِرَبِّ الْمَال بِبَيِّنَةٍ أَوْ إِقْرَارٍ، فَإِنْ مَاتَ الرَّسُول
__________
(1) هكذا، ولعل المراد ضمان الثمن، انظر الفتاوى الخانية بهامش الهندية 3 / 6
(2) الفتاوى الهندية 3 / 206(3/98)
قَبْل الْوُصُول رَجَعَ الْوَدِيعُ فِي تَرِكَتِهِ، وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ الْوُصُول فَلاَ رُجُوعَ وَهِيَ مُصِيبَةٌ عَلَى الْوَدِيعِ (1) .
قَال الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّ الْوَكِيل وَالْمُودَعَ وَالرَّسُول مُؤْتَمَنُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُوَكِّل وَالْمُودِعِ وَالْمُرْسِل، فَإِذَا ذَكَرُوا أَنَّهُمْ رَدُّوا مَا دُفِعَ إِلَيْهِمْ إِلَى أَرْبَابِهِ قُبِل ذَلِكَ مِنْهُمْ؛ لأَِنَّ أَرْبَابَ الأَْمْوَال قَدِ ائْتَمَنُوهُمْ عَلَى ذَلِكَ، فَكَانَ قَوْلُهُمْ مَقْبُولاً فِيمَا بَيْنَهُمْ (2) .
كَمَا لَوْ أَرْسَل رَسُولاً إِلَى رَجُلٍ وَقَال: ابْعَثْ إِلَيَّ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ قَرْضًا، فَقَال: نَعَمْ، وَبَعَثَ بِهَا مَعَ رَسُول الآْمِرِ، فَالآْمِرُ ضَامِنٌ لَهَا إِذَا أَقَرَّ بِأَنَّ رَسُولَهُ قَدْ قَبَضَهَا، وَإِنْ بَعَثَ بِهَا مَعَ غَيْرِهِ فَلاَ ضَمَانَ عَلَى الآْمِرِ حَتَّى تَصِل إِلَيْهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَنَّ رَجُلاً لَهُ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ فَبَعَثَ إِلَى الْمَدْيُونِ رَسُولاً أَنِ ابْعَثْ إِلَيَّ بِالدَّيْنِ الَّذِي لِي عَلَيْكَ، فَإِنْ بَعَثَ بِهِ مَعَ رَسُول الآْمِرِ فَهُوَ مِنْ مَال الآْمِرِ.
أَمَّا لَوْ بَعَثَ رَجُلٌ إِلَى رَجُلٍ بِكِتَابٍ مَعَ رَسُولٍ أَنِ ابْعَثْ إِلَيَّ ثَوْبَ كَذَا بِثَمَنِ كَذَا، فَفَعَل، وَبَعَثَ بِهِ مَعَ الَّذِي أَتَاهُ بِالْكِتَابِ، لَمْ يَكُنْ مِنْ مَال الآْمِرِ حَتَّى يَصِل إِلَيْهِ، وَفِي هَذَا إِنَّمَا الرَّسُول رَسُولٌ بِالْكِتَابِ (3) .
وَإِذَا أَرْسَل الْمُودَعُ (بِفَتْحِ الدَّال) الْوَدِيعَةَ لِلْمُودِعِ (بِكَسْرِ الدَّال) بِإِذْنِهِ صَحَّ هَذَا الإِْرْسَال، أَمَّا إِنْ أَرْسَلَهَا بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَتَلِفَتْ أَوْ ضَاعَتْ مِنَ الرَّسُول فَعَلَيْهِ ضَمَانُهَا، إِلاَّ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، هِيَ فِيمَا إِذَا عَرَضَتْ لِلْمُودَعِ إِقَامَةٌ طَوِيلَةٌ فِي الطَّرِيقِ، كَالسَّنَةِ مَثَلاً فَالْحَقُّ أَنَّ لَهُ أَنْ يَبْعَثَهَا مَعَ غَيْرِهِ - وَلَوْ بِغَيْرِ إِذْنٍ
__________
(1) الدسوقي بتصرف يسير 4 / 427
(2) مواهب الجليل 5 / 210
(3) الفتاوى الخانية بهامش الهندية 3 / 6(3/98)
وَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ إِذَا تَلِفَتْ أَوْ أَخَذَهَا اللِّصُّ، بَل بَعْثُهَا إِلَيْهِ فِي مِثْل هَذِهِ الْحَالَةِ وَاجِبٌ وَيَضْمَنُ إِنْ حَبَسَهَا، أَمَّا إِنْ كَانَتِ الإِْقَامَةُ الَّتِي عَرَضَتْ لَهُ قَصِيرَةً كَالأَْيَّامِ فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ إِبْقَاؤُهَا مَعَهُ، فَإِنْ بَعَثَهَا - بِغَيْرِ إِذْنٍ - ضَمِنَهَا إِنْ تَلِفَتْ، وَأَمَّا إِنْ كَانَتِ الإِْقَامَةُ الَّتِي عَرَضَتْ لَهُ مُتَوَسِّطَةً، كَالشَّهْرَيْنِ مَثَلاً خُيِّرَ فِي إِرْسَالِهَا وَفِي إِبْقَائِهَا، فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ إِنْ أَرْسَلَهَا وَتَلِفَتْ، أَوْ حَبَسَهَا (1) أَيْ وَتَلِفَتْ.
وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي وَصِيِّ رَبِّ الْمَال، إِذَا أَرْسَل الْمَال لِلْوَرَثَةِ، أَوْ سَافَرَ هُوَ بِهِ إِلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ إِذْنِهِمْ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُ الْمَال إِذَا ضَاعَ أَوْ تَلِفَ (2) . وَكَذَا الْقَاضِي إِذَا بَعَثَ الْمَال لِمُسْتَحِقِّهِ مِنْ وَرَثَةٍ أَوْ غَيْرِهِمْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَضَاعَ أَوْ تَلِفَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ، خِلاَفًا لِقَوْل أَصْبَغَ بِعَدَمِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ. وَنَقَل ابْنُ قُدَامَةَ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ قَوْلَهُ فِي رَجُلٍ لَهُ عَلَى آخَرَ دَرَاهِمُ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ رَسُولاً يَقْبِضُهَا، فَبَعَثَ إِلَيْهِ مَعَ الرَّسُول دِينَارًا، فَضَاعَ مِنَ الرَّسُول، فَهُوَ مِنْ مَال الْبَاعِثِ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُ بِمُصَارَفَتِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ مِنْ ضَمَانِ الْبَاعِثِ لأَِنَّهُ دَفَعَ إِلَى الرَّسُول غَيْرَ مَا أَمَرَهُ بِهِ الْمُرْسِل. فَإِنَّ الْمُرْسِل إِنَّمَا أَمَرَهُ بِقَبْضِ مَا لَهُ فِي ذِمَّتِهِ، وَهِيَ الدَّرَاهِمُ، وَلَمْ يَدْفَعْهَا، وَإِنَّمَا دَفَعَ دِينَارًا عِوَضًا عَنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَهَذَا صَرْفٌ يَفْتَقِرُ إِلَى رِضَى صَاحِبِ الدَّيْنِ وَإِذْنِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ، فَصَارَ الرَّسُول وَكِيلاً لِلْبَاعِثِ فِي تَأْدِيَتِهِ إِلَى صَاحِبِ الدَّيْنِ وَمُصَارَفَتِهِ بِهِ، فَإِذَا تَلِفَ فِي يَدِ وَكِيلِهِ كَانَ مِنْ ضَمَانِهِ، اللَّهُمَّ إِلاَّ أَنْ يُخْبِرَ الرَّسُول الْغَرِيمَ أَنَّ رَبَّ الدَّيْنِ أَذِنَ لَهُ فِي قَبْضِ الدِّينَارِ عَنِ الدَّرَاهِمِ فَيَكُونُ
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 424
(2) المصدر السابق 3 / 425(3/99)
حِينَئِذٍ مِنْ ضَمَانِ الرَّسُول؛ لأَِنَّهُ غَرَّهُ وَأَخَذَ الدِّينَارَ عَلَى أَنَّهُ وَكِيلٌ لِلْمُرْسِل. وَإِنْ قَبَضَ مِنْهُ الدَّرَاهِمَ الَّتِي أُمِرَ بِقَبْضِهَا فَضَاعَتْ مِنَ الرَّسُول فَهِيَ مِنْ ضَمَانِ صَاحِبِ الدَّيْنِ؛ لأَِنَّهَا تَلِفَتْ مِنْ يَدِ وَكِيلِهِ (1) .
وَرُوِيَ أَيْضًا عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَوْلُهُ فِي رَجُلٍ لَهُ عِنْدَ آخَرَ دَنَانِيرُ وَثِيَابٌ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ رَسُولاً وَقَال: خُذْ دِينَارًا وَثَوْبًا، فَأَخَذَ دِينَارَيْنِ وَثَوْبَيْنِ، فَضَاعَتْ، فَالضَّمَانُ عَلَى الْبَاعِثِ، يَعْنِي الَّذِي أَعْطَاهُ الدِّينَارَيْنِ وَالثَّوْبَيْنِ، وَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى الرَّسُول، يَعْنِي عَلَيْهِ ضَمَانُ الدِّينَارِ وَالثَّوْبِ الزَّائِدَيْنِ، وَإِنَّمَا جَعَل عَلَيْهِ الضَّمَانَ لأَِنَّهُ دَفَعَهُمَا إِلَى مَنْ لَمْ يُؤْمَرْ بِدَفْعِهِمَا إِلَيْهِ، وَيَرْجِعُ بِهِمَا عَلَى الرَّسُول لأَِنَّهُ غَرَّهُ وَجَعَل التَّلَفَ فِي يَدِهِ فَاسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الضَّمَانُ، وَلِلْمُوَكِّل تَضْمِينُ الْوَكِيل؛ لأَِنَّهُ تَعَدَّى بِقَبْضِ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِقَبْضِهِ، فَإِذَا ضَمِنَهُ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى أَحَدٍ؛ لأَِنَّ التَّلَفَ حَصَل فِي يَدِهِ فَاسْتَقَرَّ الضَّمَانُ عَلَيْهِ (2) .
أَثَرُ الإِْرْسَال فِي قَبُول الشَّهَادَةِ لِلْمُرْسِل أَوْ عَلَيْهِ:
12 - يَتَبَيَّنُ أَثَرُ الإِْرْسَال فِي قَبُول الشَّهَادَةِ لِلْمُرْسِل، أَوْ عَلَيْهِ مِنْ خِلاَل مَا ذُكِرَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَقْوَالٍ، فَالإِْمَامُ الْكَاسَانِيُّ يُبَيِّنُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: لَوْ أَنَّ رَجُلاً أَرْسَل رَسُولاً إِلَى امْرَأَةٍ يُرِيدُ الزَّوَاجَ مِنْهَا فَكَتَبَ إِلَيْهَا بِذَلِكَ كِتَابًا، فَقَبِلَتْ بِحَضْرَةِ شَاهِدَيْنِ سَمِعَا كَلاَمَ الرَّسُول وَقِرَاءَةَ الْكِتَابِ جَازَ ذَلِكَ؛ لاِتِّحَادِ الْمَجْلِسِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى؛ لأَِنَّ كَلاَمَ الرَّسُول كَلاَمُ الْمُرْسِل،
__________
(1) هذا الرأي إنما كان عندما كانت الرغبة في الدنانير غير الرغبة في الدراهم، والعكس، أما الآن وقد استقرت النسبة بين الدرهم والدينار، إذا كان النقد في بلد واحد، فلا يختلف الحكم في قبض الدراهم بدلا عن الدنانير، والعكس.
(2) المغني لابن قدامة 5 / 230 - 231(3/99)
لأَِنَّهُ يَنْقُل عِبَارَةَ الْمُرْسِل. وَكَذَا الْكِتَابُ بِمَنْزِلَةِ الْخِطَابِ مِنَ الْكَاتِبِ، فَكَانَ سَمَاعُ قَوْل الرَّسُول وَقِرَاءَةُ الْكِتَابِ سَمَاعَ قَوْل الْمُرْسِل وَكَلاَمَ الْكَاتِبِ مَعْنًى، وَإِنْ لَمْ يَسْمَعَا كَلاَمَ الرَّسُول وَقِرَاءَةَ الْكِتَابِ لاَ يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى، بَيْنَمَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ إِذَا قَالَتْ: زَوَّجْتُ نَفْسِي يَجُوزُ، وَإِنْ لَمْ يَسْمَعَا كَلاَمَ الرَّسُول وَقِرَاءَةَ الْكِتَابِ، إِذْ أَنَّ قَوْل الزَّوْجِ بِانْفِرَادِهِ عَقْدٌ عِنْدَهُ وَقَدْ حَضَرَ الشَّاهِدَانِ (1) . فَيَتَّضِحُ أَنَّ الشَّهَادَةَ هُنَا مَأْخُوذٌ بِهَا عِنْدَ السَّمَاعِ لِكَلاَمِ الْمُرْسِل. هَذَا وَقَدْ أَيَّدَ الدُّسُوقِيُّ الْكَاسَانِيَّ فِي اعْتِبَارِ الشَّهَادَةِ لِلْمُرْسِل، إِذْ ذَكَرَ فِي حَاشِيَةِ الدُّسُوقِيِّ عَلَى الشَّرْحِ الْكَبِيرِ أَنَّ الْمُودَعَ يَضْمَنُ الْوَدِيعَةَ إِنْ دَفَعَهَا لِلرَّسُول مِنْ غَيْرِ إِشْهَادٍ؛ لأَِنَّهُ لَمَّا دَفَعَ لِغَيْرِ الْيَدِ الَّتِي ائْتَمَنَتْهُ كَانَ عَلَيْهِ الإِْشْهَادُ، فَلَمَّا تَرَكَهُ صَارَ مُفَرِّطًا، وَأَمَّا إِنْ دَفَعَ لَهُ بِإِشْهَادٍ فَقَدْ بَرِئَ، وَيَرْجِعُ الْمُرْسَل إِلَيْهِ عَلَى الرَّسُول عِنْدَ عَدَمِ الْبَيِّنَةِ (2) .
ثَالِثًا: الإِْرْسَال بِمَعْنَى الإِْهْمَال
حُكْمُ ضَمَانِ مَا أَتْلَفَتْهُ الْحَيَوَانَاتُ وَالْمَوَاشِي الْمُرْسَلَةُ:
13 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي مَعْرِضِ بَيَانِهِمْ لِحُكْمِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِلَى التَّفْرِيقِ فِي حُكْمِ الضَّمَانِ بَيْنَ الدَّابَّةِ الَّتِي تُتْلِفُ أَمْوَال الْغَيْرِ وَمَعَهَا رَاكِبٌ، وَالدَّابَّةِ الَّتِي تُتْلِفُهَا مِنْ غَيْرِ قَائِدٍ.
وَبِنَاءً عَلَى هَذَا التَّفْرِيقِ فَقَدْ قَالُوا: إِذَا أَتْلَفَتِ الدَّابَّةُ مَالاً أَوْ نَفْسًا، لَيْلاً أَوْ نَهَارًا، وَكَانَ مَعَهَا رَاكِبُهَا
__________
(1) بدائع الصنائع 3 / 1335 للعلامة علاء الدين أبي بكر الكاساني الحنفي مطبعة الإمام / بالقاهرة
(2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 426 للعلامة شمس الدين محمد عرفة الدسوقي - مطبعة الحلبي / بالقاهرة.(3/100)
فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ؛ لأَِنَّهَا فِي يَدِهِ، وَعَلَيْهِ تَعَهُّدُهَا وَحِفْظُهَا، وَلأَِنَّهُ إِذَا كَانَ مَعَهَا كَانَ فِعْلُهَا مَنْسُوبًا إِلَيْهِ.
وَلَوْ كَانَ مَعَهَا سَائِقٌ وَقَائِدٌ فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ، وَلَوْ كَانَ مَعَهَا سَائِقٌ وَقَائِدٌ مَعَ رَاكِبٍ فَهَل يَخْتَصُّ الضَّمَانُ بِالرَّاكِبِ أَوْ يَجِبُ أَثْلاَثًا؟ وَجْهَانِ: أَرْجَحُهُمَا الأَْوَّل، وَلَوْ كَانَ عَلَيْهَا رَاكِبَانِ فَهَل يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَيْهِمَا أَوْ يَخْتَصُّ بِالأَْوَّل، دُونَ الرَّدِيفِ؟ وَجْهَانِ: أَوْجَهُهُمَا الأَْوَّل لأَِنَّ الْيَدَ لَهُمَا (1) .
أَمَّا إِذَا أَتْلَفَتِ الدَّابَّةُ أَمْوَال الْغَيْرِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مَعَهَا رَاكِبٌ فَهُنَا يُنْظَرُ إِلَى الزَّمَنِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الإِْتْلاَفُ، فَإِنْ كَانَ نَهَارًا فَلاَ ضَمَانَ عَلَى صَاحِبِهَا، وَإِنْ كَانَ لَيْلاً ضَمِنَ، لِتَقْصِيرِهِ بِإِرْسَالِهَا لَيْلاً، بِخِلاَفِ الإِْرْسَال نَهَارًا، لِلْخَبَرِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ. وَهُوَ عَلَى وَفْقِ الْعَادَةِ فِي حِفْظِ الزَّرْعِ وَنَحْوِهِ نَهَارًا وَالدَّابَّةِ لَيْلاً، وَلَوْ تَعَوَّدَ أَهْل الْبَلَدِ إِرْسَال الدَّوَابِّ وَحِفْظَ الزَّرْعِ لَيْلاً دُونَ النَّهَارِ انْعَكَسَ الْحُكْمُ، فَيَضْمَنُ مُرْسِلُهَا مَا أَتْلَفَتْهُ نَهَارًا دُونَ اللَّيْل، اتِّبَاعًا لِمَعْنَى الْخَبَرِ وَالْعَادَةِ، وَمِنْ ذَلِكَ يُؤْخَذُ مَا بَحَثَهُ الْبُلْقِينِيُّ أَنَّهُ لَوْ جَرَتْ عَادَةٌ بِحِفْظِهَا لَيْلاً وَنَهَارًا ضَمِنَ مُرْسِلُهَا مَا أَتْلَفَتْهُ مُطْلَقًا.
هَذَا، وَقَدِ اسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ مِنَ الدَّوَابِّ الَّتِي يَلْزَمُ الضَّمَانُ بِإِتْلاَفِهَا الْحَمَامَ وَغَيْرَهُ مِنَ الطُّيُورِ وَالنَّحْل، إِذْ أَنَّهُ لاَ ضَمَانَ بِإِتْلاَفِهَا مُطْلَقًا، وَهَذَا الْحُكْمُ حَكَاهُ فِي أَصْل الرَّوْضَةِ عَنِ ابْنِ الصَّبَّاغِ، وَعَلَّلَهُ بِأَنَّ الْعَادَةَ إِرْسَالُهَا (2) .
هَذَا، وَقَدْ وَافَقَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ الشَّافِعِيَّةَ فِي
__________
(1) الإقناع 2 / 201
(2) الإقناع 2 / 201 - 202(3/100)
أَنَّ الضَّمَانَ لاَزِمٌ فِي إِتْلاَفِ الدَّوَابِّ إِنْ كَانَ لَيْلاً، أَمَّا إِنْ كَانَ نَهَارًا فَلاَ ضَمَانَ فِيهِ (1) . بَيْنَمَا لِلْحَنَفِيَّةِ قَوْلٌ آخَرُ نَذْكُرُهُ بَعْدَ قَلِيلٍ بِإِذْنِ اللَّهِ.
هَذَا، وَقَدْ وَافَقَ الْمَالِكِيَّةُ الشَّافِعِيَّةَ فِي قَوْلِهِمْ بِتَضْمِينِ رَاكِبِهَا وَقَائِدِهَا وَسَائِقِهَا.
أَمَّا حُكْمُ مَا أَتْلَفَهُ الْحَمَامُ وَالنَّحْل وَالدَّجَاجُ فَجَاءَ عَنِ الْمَالِكِيَّةِ فِيهِ رِوَايَتَانِ:
الأُْولَى: تُوَافِقُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ. وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ حُكْمَهَا كَالْمَاشِيَةِ فِي الإِْتْلاَفِ، وَهَذِهِ رِوَايَةُ ابْنِ الْقَاسِمِ، إِلاَّ أَنَّ ابْنَ عَرَفَةَ قَدْ قَال بِصَوَابِ الرِّوَايَةِ الأُْولَى (2) . أَمَّا الْبَاجِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ فَقَدْ ذُكِرَ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: فِي الْمَوَاضِعِ ضَرْبٌ تَنْفَرِدُ فِيهِ الْمَزَارِعُ وَالْحَوَائِطُ، لَيْسَ بِمَكَانِ سَرْحٍ، فَهَذَا لاَ يَجُوزُ إِرْسَال الْمَوَاشِي فِيهِ، وَمَا أَفْسَدَتْ فِيهِ لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَعَلَى أَرْبَابِهَا الضَّمَانُ. وَضَرْبٌ آخَرُ جَرَتْ عَادَةُ النَّاسِ بِإِرْسَال مَوَاشِيهِمْ فِيهِ لَيْلاً أَوْ نَهَارًا، فَأَحْدَثَ رَجُلٌ فِيهِ زَرْعًا فَأَتْلَفَتْهُ الْمَوَاشِي، فَلاَ ضَمَانَ فِيهِ عَلَى أَهْل الْمَوَاشِي، سَوَاءٌ وَقَعَ الإِْتْلاَفُ لَيْلاً أَوْ نَهَارًا (3) .
وَمِنَ الْمُفِيدِ جِدًّا أَنْ نُشِيرَ إِلَى مَا ذَكَرَهُ مُؤَلِّفُ التَّاجِ وَالإِْكْلِيل إِذْ قَال: بِأَنَّ الرَّجُل إِذَا أَرْسَل فِي أَرْضِهِ نَارًا أَوْ مَاءً فَوَصَل إِلَى أَرْضِ جَارِهِ فَأَتْلَفَ زَرْعَهَا، يُنْظَرُ فِي الأَْمْرِ عَلَى ضَوْءِ قُرْبِ الأَْرْضِ وَبُعْدِهَا، فَإِنْ كَانَتِ الأَْرْضُ قَرِيبَةً فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ، وَإِنْ كَانَتْ بَعِيدَةً إِلاَّ أَنَّ النَّارَ وَصَلَتْهَا بِسَبَبِ رِيحٍ أَوْ غَيْرِهِ فَلاَ ضَمَانَ (4) .
__________
(1) التاج والإكليل 3 / 323 وكشاف القناع 2 / 438
(2) التاج والإكليل 6 / 324
(3) التاج والإكليل 6 / 323
(4) التاج والإكليل 6 / 321(3/101)
وَهَذَا الرَّأْيُ قَدْ قَال بِهِ الْحَنَفِيَّةُ أَيْضًا (1) ، إِلاَّ أَنَّ لَهُمْ رَأْيًا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِإِرْسَال الدَّابَّةِ وَالْكَلْبِ أَرَى أَنَّهُ لاَ بُدَّ مِنْ ذِكْرِهِ هُنَا، وَمُفَادُ هَذَا الرَّأْيِ هُوَ أَنَّهُمْ فَرَّقُوا بَيْنَ الدَّابَّةِ وَالْكَلْبِ عِنْدَ الإِْرْسَال، حَيْثُ إِنَّهُ إِذَا أَرْسَل الْكَلْبَ وَلَمْ يَكُنْ سَائِقًا لَهُ فَلاَ ضَمَانَ فِيمَا يُتْلِفُهُ، وَإِنْ أَصَابَ الْمُتْلَفَ مِنْ فَوْرِهِ لأَِنَّهُ لَيْسَ بِمُتَعَدٍّ، إِذْ لاَ يُمْكِنُهُ اتِّبَاعُهُ، وَالْمُتَسَبِّبُ لاَ يَضْمَنُ إِلاَّ إِذَا تَعَدَّى، بَيْنَمَا إِذَا أَرْسَل الدَّابَّةَ فَأَتْلَفَتْ أَمْوَال الْغَيْرِ عَلَى الْفَوْرِ فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ؛ لأَِنَّهُ مُتَعَدٍّ بِإِرْسَالِهَا فِي الطَّرِيقِ مَعَ إِمْكَانِ اتِّبَاعِهَا، إِلاَّ أَنَّ الإِْمَامَ أَبَا يُوسُفَ لَمْ يُفَرِّقْ فِي لُزُومِ الضَّمَانِ بَيْنَ مَا يُتْلِفُهُ الْكَلْبُ بِإِرْسَالِهِ وَمَا تُتْلِفُهُ الدَّابَّةُ بِإِرْسَالِهَا (2) .
هَذَا، وَقَدْ جَاءَ فِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ أَنَّ الرَّجُل إِذَا أَرْسَل طَيْرًا سَاقَهُ (أَيْ سَارَ خَلْفَهُ) أَوْ لاَ، أَوْ أَرْسَل دَابَّةً أَوْ كَلْبًا وَلَمْ يَكُنْ سَائِقًا لَهُ، أَوِ انْفَلَتَتْ دَابَّةٌ بِنَفْسِهَا فَأَصَابَتْ مَالاً أَوْ آدَمِيًّا نَهَارًا أَوْ لَيْلاً فَلاَ ضَمَانَ فِي الْكُل، لِقَوْل الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ أَيِ الْمُنْفَلِتَةُ هَدَرٌ (3) .
أَمَّا إِذَا كَانَ الْمُرْسَل مَاءً، فَالْحُكْمُ يَخْتَلِفُ تَبَعًا لِحَالَةِ الْمَاءِ الْمُرْسَل وَطَبِيعَةِ الأَْرْضِ، فَلَوْ أَرْسَل مَاءً فِي أَرْضِهِ فَخَرَجَ الْمَاءُ إِلَى أَرْضِ غَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ مَا أَرْسَلَهُ تَحْتَمِلُهُ أَرْضُهُ فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ. وَإِنْ أَرْسَل مَا لاَ تَحْتَمِلُهُ الأَْرْضُ كَانَ ضَامِنًا (4) ، فَإِنْ سَقَى أَرْضَهُ ثُمَّ أَرْسَل الْمَاءَ فِي النَّهْرِ حَتَّى جَاوَزَ عَنْ أَرْضِهِ وَقَدْ كَانَ رَجُلٌ أَسْفَل مِنْهُ طَرَحَ فِي النَّهْرِ تُرَابًا، فَمَال الْمَاءُ عَنِ النَّهْرِ حَتَّى غَرِقَ قَصْرُ إِنْسَانٍ، فَلاَ ضَمَانَ
__________
(1) الفتاوى الخانية على هامش الفتاوى الهندية 3 / 221
(2) حاشية ابن عابدين 6 / 607
(3) الدر المختار بهامش حاشية ابن عابدين 6 / 608
(4) الفتاوى الخانية على هامش الفتاوى الهندية 3 / 221(3/101)
عَلَى الْمُرْسِل؛ لأَِنَّهُ أَرْسَل الْمَاءَ فِي النَّهْرِ، وَهُوَ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِي ذَلِكَ، وَيَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى مَنْ طَرَحَ التُّرَابَ فِي النَّهْرِ وَمَنَعَ الْمَاءَ عَنِ السَّيَلاَنِ؛ لأَِنَّهُ مُتَعَدٍّ. وَلَوْ فَتَحَ فُوَّهَةَ النَّهْرِ وَأَرْسَل مَاءً قَدْرَ مَا يَحْتَمِلُهُ النَّهْرُ، فَدَخَل الْمَاءُ مِنْ فَوْرِهِ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ قَبْل أَنْ يَدْخُل فِي أَرْضِهِ فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ (1) .
هَذَا، وَمِمَّا يَجْدُرُ الإِْشَارَةُ إِلَيْهِ هُوَ أَنْ نَذْكُرَ الدَّلِيل الَّذِي اعْتَمَدَهُ الْحَنَابِلَةُ فِي مُوَافَقَتِهِمْ لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ فِي أَنَّ الضَّمَانَ فِي الْمُتْلَفِ لَيْلاً لاَ نَهَارًا، وَالدَّلِيل هُوَ رِوَايَةُ الإِْمَامِ مَالِكٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ حِزَامِ بْنِ سَعْدِ بْنِ مُحَيِّصَةَ أَنَّ نَاقَةً لِلْبَرَاءِ دَخَلَتْ حَائِطَ قَوْمٍ فَأَفْسَدَتْ - أَيْ مَا فِيهِ مِنْ أَمْوَالٍ - فَقَضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ عَلَى أَهْل الأَْمْوَال حِفْظَهَا بِالنَّهَارِ، وَمَا أَفْسَدَتْ فَهُوَ مَضْمُونٌ عَلَيْهِمْ.
وَلأَِنَّ الْعَادَةَ مِنْ أَهْل الْمَوَاشِي إِرْسَالُهَا نَهَارًا لِلرَّعْيِ وَحِفْظُهَا لَيْلاً، وَعَادَةُ أَهْل الْحَوَائِطِ حِفْظُهَا نَهَارًا، فَإِذَا أَفْسَدَتْ شَيْئًا لَيْلاً كَانَ مِنْ ضَمَانِ مَنْ هِيَ بِيَدِهِ إِنْ فَرَّطَ فِي حِفْظِهَا، مِثْل مَا إِذَا لَمْ يَضُمَّهَا وَنَحْوَهُ لَيْلاً، أَوْ ضَمَّهَا بِحَيْثُ يُمْكِنُهَا الْخُرُوجُ. أَمَّا إِذَا ضَمَّهَا مَنْ هِيَ بِيَدِهِ لَيْلاً فَأَخْرَجَهَا غَيْرُهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ أَوْ فَتْحَ غَيْرُهُ عَلَيْهَا بَابَهَا فَأَتْلَفَتْ شَيْئًا، فَالضَّمَانُ عَلَى مُخْرِجِهَا أَوْ فَاتِحِ بَابِهَا؛ لأَِنَّهُ السَّبَبُ وَلاَ ضَمَانَ عَلَى مَنْ كَانَتْ بِيَدِهِ لِعَدَمِ تَفْرِيطِهِ. ثُمَّ أَضَافَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى مَا تَقَدَّمَ، بِأَنَّ الْحُكْمَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَوَاضِعِ الَّتِي فِيهَا زَرْعٌ وَمَرَاعِي. أَمَّا الْقُرَى الْعَامِرَةُ الَّتِي لاَ مَرْعَى فِيهَا إِلاَّ بَيْنَ مَرَاحَيْنِ كَسَاقِيَةٍ وَطُرُقِ زَرْعٍ فَلَيْسَ لَهُ إِرْسَالُهَا بِغَيْرِ حَافِظٍ، فَإِنْ فَعَل لَزِمَهُ الضَّمَانُ لِتَفْرِيطِهِ.
__________
(1) المصدر السابق 3 / 222(3/102)
وَقَدْ خَالَفَ الْحَنَابِلَةُ مَا قَال بِهِ الْمَالِكِيَّةُ فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْعَادَةَ تُرَاعَى فِي أَحْكَامِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، إِذْ قَال الْحَارِثِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: لَوْ جَرَتْ عَادَةُ بَعْضِ أَهْل النَّوَاحِي رَبْطُهَا نَهَارًا وَإِرْسَالُهَا لَيْلاً وَحِفْظُ الزَّرْعِ لَيْلاً، فَالْحُكْمُ هُوَ وُجُوبُ الضَّمَانِ عَلَى مَالِكِهَا فِيمَا أَفْسَدَتْهُ لَيْلاً إِنْ فَرَّطَ فِي حِفْظِهَا، لاَ نَهَارًا (1) .
ثُمَّ اسْتَطْرَدَ الْحَنَابِلَةُ فِي ضَرْبِ الأَْمْثِلَةِ بِقَوْلِهِمْ: لَوْ أَنَّ الرَّجُل أَرْسَل صَيْدًا وَقَال: أَعْتَقْتُكَ، لَمْ يَزُل مِلْكُهُ عَنْهُ، كَمَا لَوْ أَرْسَل الْبَعِيرَ وَالْبَقَرَةَ، وَنَحْوَهُمَا مِنَ الْبَهَائِمِ الْمَمْلُوكَةِ، إِذْ أَنَّ مِلْكَهُ لاَ يَزُول عَنْهَا بِذَلِكَ (2) .
الإِْرْسَال فِي الْقَبْضِ وَالْعَزْل:
14 - قَال السَّرَخْسِيُّ: (إِذَا اشْتَرَى شَيْئًا ثُمَّ أَرْسَل رَسُولاً يَقْبِضُهُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إِذَا رَآهُ، وَرُؤْيَةُ الرَّسُول وَقَبْضُهُ لاَ يُلْزِمُهُ الْمَتَاعَ) لأَِنَّ الْمَقْصُودَ عِلْمُ الْعَاقِدِ بِأَوْصَافِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، لِيَتِمَّ رِضَاهُ، وَذَلِكَ لاَ يَحْصُل بِرُؤْيَةِ الرَّسُول، فَأَكْثَرُ مَا فِيهِ أَنَّ قَبْضَ رَسُولِهِ كَقَبْضِهِ بِنَفْسِهِ، وَلَوْ قَبَضَ بِنَفْسِهِ قَبْل الرُّؤْيَةِ كَانَ بِالْخِيَارِ إِذَا رَآهُ، فَكَذَلِكَ إِذَا أَرْسَل رَسُولاً فَقَبَضَهُ لَهُ، فَأَمَّا إِذَا وَكَّل وَكِيلاً يَقْبِضُهُ فَرَآهُ الْوَكِيل وَقَبَضَهُ لَمْ يَكُنْ لِلْمُوَكِّل فِيهِ خِيَارٌ بَعْدَ ذَلِكَ فِي قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَقَال أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: لَهُ الْخِيَارُ إِذَا رَآهُ؛ لأَِنَّ الْقَبْضَ فِعْلٌ، وَالرَّسُول وَالْوَكِيل فِيهِ سَوَاءٌ، وَكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَأْمُورٌ بِإِحْرَازِ الْعَيْنِ وَالْحَمْل إِلَيْهِ وَالنَّقْل إِلَى ضَمَانِهِ بِفِعْلِهِ، ثُمَّ خِيَارُهُ لاَ
__________
(1) كشاف القناع 4 / 128
(2) المصدر السابق 4 / 134 هذا ويؤخذ مما تقدم أن الفروع التي مثل بها في المذاهب المختلفة ترجع كلها من حيث الضمان وعدمه إلى ثلاثة أمور: الإهمال، أو التعدي أو العرف.(3/102)
يَسْقُطُ بِرُؤْيَةِ الرَّسُول فَكَذَلِكَ بِرُؤْيَةِ الْوَكِيل، وَكَيْفَ يَسْقُطُ خِيَارُهُ بِرُؤْيَتِهِ وَهُوَ لَوْ أَسْقَطَ الْخِيَارَ نَصًّا لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ مِنْهُ لأَِنَّهُ لَمْ يُوَكِّلْهُ بِهِ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا قَبَضَ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ، وَقَاسَا بِخِيَارِ الشَّرْطِ وَالْعَيْبِ فَإِنَّهُ لاَ يَسْقُطُ بِقَبْضِ الْوَكِيل وَرِضَاهُ بِهِ. فَكَذَلِكَ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ. وَأَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُول: التَّوْكِيل بِمُطْلَقِ الْقَبْضِ يُثْبِتُ لِلْوَكِيل وِلاَيَةَ إِتْمَامِ الْقَبْضِ، كَالتَّوْكِيل بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ يُثْبِتُ لِلْوَكِيل وِلاَيَةَ إِتْمَامِهِ، وَتَمَامُ الْقَبْضِ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بَعْدَ تَمَامِ الصَّفْقَةِ، وَلاَ تَتِمُّ مَعَ بَقَاءِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ، فَيَضْمَنُ التَّوْكِيل بِالْقَبْضِ إِنَابَةَ الْوَكِيل مَنَابَ نَفْسِهِ فِي الرُّؤْيَةِ الْمُسْقِطَةِ لِخِيَارِهِ، وَبِخِلاَفِ الرَّسُول فَإِنَّ الرَّسُول لَيْسَ إِلَيْهِ إِلاَّ تَبْلِيغُ الرِّسَالَةِ، فَأَمَّا إِتْمَامُ مَا أُرْسِل بِهِ فَلَيْسَ إِلَيْهِ، كَالرَّسُول بِالْعَقْدِ لَيْسَ إِلَيْهِ مِنَ الْقَبْضِ وَالتَّسْلِيمِ شَيْءٌ.
وَالدَّلِيل عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْوَكَالَةِ وَالرِّسَالَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَثْبَتَ صِفَةَ الرِّسَالَةِ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَفَى الْوَكَالَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {قُل لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} . (1) وَهَذَا بِخِلاَفِ خِيَارِ الْعَيْبِ فَإِنَّ بَقَاءَهُ لاَ يَمْنَعُ تَمَامَ الصَّفْقَةِ وَالْقَبْضِ، وَلِهَذَا مَلَكَ بَعْدَ الْقَبْضِ رَدَّ الْمَعِيبِ خَاصَّةً (2) . وَلَوْ أَرْسَل إِلَى وَكِيلِهِ رَسُولاً بِعَزْلِهِ فَبَلَّغَ الرِّسَالَةَ وَقَال لَهُ: إِنَّ فُلاَنًا أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ وَيَقُول: إِنِّي عَزَلْتُكَ عَنِ الْوَكَالَةِ، فَإِنَّهُ يَنْعَزِل كَائِنًا مَا كَانَ الرَّسُول، عَدْلاً كَانَ أَوْ غَيْرَ عَدْلٍ، صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا، بَعْدَ أَنْ تَكُونَ عِبَارَتُهُ مُعْتَبَرَةً، إِنْ بَلَّغَ الرِّسَالَةَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا؛ لأَِنَّ الرَّسُول قَائِمٌ مَقَامَ الْمُرْسِل، مُعَبِّرٌ وَسَفِيرٌ عَنْهُ، فَتَصِحُّ سِفَارَتُهُ بَعْدَ
__________
(1) سورة الأنعام / 66
(2) المبسوط 13 / 73 - 74(3/103)
أَنْ صَحَّتْ عِبَارَتُهُ عَلَى أَيِّ صِفَةٍ كَانَ (1) .
الرُّجُوعُ عَنِ الإِْرْسَال:
15 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْمُرْسِل لَوْ أَرْسَل رَسُولاً ثُمَّ رَجَعَ عَنْ رَأْيِهِ صَحَّ رُجُوعُهُ، لأَِنَّ الْخِطَابَ بِالرِّسَالَةِ لاَ يَكُونُ وَفْقَ الْمُشَافَهَةِ، وَذَا مُحْتَمِلٌ لِلرُّجُوعِ، فَهَا هُنَا أَوْلَى، وَسَوَاءٌ أَعَلِمَ الرَّسُول رُجُوعَ الْمُرْسِل أَمْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ، بِخِلاَفِ مَا إِذَا وَكَّل إِنْسَانًا ثُمَّ عَزَلَهُ بِغَيْرِ عِلْمِهِ، فَإِنَّهُ لاَ يَصِحُّ عَزْلُهُ؛ لأَِنَّ الرَّسُول يَحْكِي كَلاَمَ الْمُرْسِل وَيَنْقُلُهُ إِلَى الْمُرْسَل إِلَيْهِ، فَكَانَ سَفِيرًا وَمُعَبِّرًا مَحْضًا، فَلَمْ يُشْتَرَطْ عِلْمُ الرَّسُول بِذَلِكَ، فَأَمَّا الْوَكِيل فَإِنَّمَا يَتَصَرَّفُ عَنْ تَفْوِيضِ الْمُوَكِّل إِلَيْهِ، فَشَرَطَ عِلْمَهُ بِالْعَزْل، صِيَانَةً عَنِ التَّغْرِيرِ (2) .
وَذَكَرَ ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْثَمِيُّ عَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهُ قَال: لَوْ أَنَّ شَخْصًا أَرْسَل صَدَقَةً مَعَ رَسُولِهِ، ثُمَّ بَدَا لَهُ فَاسْتَرَدَّهَا مِنَ الطَّرِيقِ كَانَ لَهُ ذَلِكَ، وَإِذَا مَاتَ الْمُرْسِل قَبْل وُصُولِهَا كَانَتْ تَرِكَةً لِوَرَثَتِهِ (3) .
الإِْرْسَال بِمَعْنَى التَّسْلِيطِ:
16 - إِرْسَال كَلْبِ الصَّيْدِ، أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ الْمُعَلَّمَةِ، إِنْ كَانَ الْحَيَوَانُ يَنْطَلِقُ وَرَاءَ الصَّيْدِ بِإِرْسَال صَاحِبِهِ وَيَقِفُ بِأَمْرِهِ، فَيَكُونُ الصَّيْدُ مُبَاحَ الأَْكْل وَلَوْ لَمْ تُدْرَكْ ذَكَاتُهُ.
أَمَّا إِذَا انْطَلَقَ الْحَيَوَانُ الصَّائِدُ بِنَفْسِهِ فَصَادَ حَيَوَانًا، فَلاَ يُؤْكَل إِلاَّ إِذَا أُدْرِكَتْ تَذْكِيَتُهُ؛ لأَِنَّ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 2486
(2) بدائع الصنائع 6 / 2994
(3) الفتاوى الكبرى الفقهية للعلامة ابن حجر الهيثمي 3 / 367 - المكتبة الإسلامية بتركيا.(3/103)
الْحَيَوَانَ إِنَّمَا صَادَهُ لِنَفْسِهِ لاَ لِصَاحِبِهِ. وَتَفْصِيل أَحْكَامِ الصَّيْدِ فِي مُصْطَلَحِهِ (1) .
رَابِعًا: الإِْرْسَال بِمَعْنَى التَّخْلِيَةِ
17 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ إِرْسَال الْمُحْرِمِ الصَّيْدَ الَّذِي فِي يَدِهِ حَقِيقَةً إِذَا كَانَ مَعَهُ قَبْل الإِْحْرَامِ، وَكَذَلِكَ غَيْرُ الْمُحْرِمِ إِذَا صَادَهُ فِي الْحِل وَدَخَل بِهِ الْحَرَمَ. أَمَّا إِذَا كَانَ فِي بَيْتِهِ فَلاَ يَجِبُ إِرْسَالُهُ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ الصَّيْدُ فِي قَفَصٍ مَعَهُ، خِلاَفًا لِلْحَنَفِيَّةِ فِي الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ (2) . وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي الإِْحْرَامِ.
وَأَمَّا صَاحِبُ كِتَابِ الْهِدَايَةِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ فَإِنَّهُ يَذْكُرُ رَأْيًا مُخَالِفًا لِمَا قَالَهُ الأَْئِمَّةُ مِمَّا لَهُمْ مِنْ قَوْلٍ مُتَقَدِّمٍ. إِذْ أَنَّهُ قَال بِعَدَمِ إِرْسَال الصَّيْدِ بَعْدَ الإِْحْرَامِ فِيمَا إِذَا كَانَ فِي بَيْتِ الْمُحْرِمِ، أَوْ فِي قَفَصٍ مَعَهُ، وَاسْتَدَل عَلَى رَأْيِهِ هَذَا بِأَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَانُوا يُحْرِمُونَ وَفِي بُيُوتِهِمْ صُيُودٌ وَدَوَاجِنُ، وَلَمْ يُنْقَل عَنْهُمْ إِرْسَالُهَا، ثُمَّ أَضَافَ قَائِلاً بِأَنَّ مَنْ أَرْسَل صَيْدَهُ فِي مَفَازَةٍ فَهُوَ عَلَى مِلْكِهِ، فَلاَ مُعْتَبَرَ بِبَقَاءِ الْمِلْكِ، وَقِيل إِذَا كَانَ الْقَفَصُ فِي يَدِهِ لَزِمَهُ إِرْسَالُهُ لَكِنْ عَلَى وَجْهٍ لاَ يَضِيعُ، بِأَنْ يُخَلِّيَهُ فِي بَيْتِهِ لأَِنَّ إِضَاعَةَ الْمَال مَنْهِيٌّ عَنْهُ (3) .
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 2898، والتاج والإكليل 3 / 7216، والإقناع 2 / 232 - 233، وكشاف القناع 6 / 224
(2) الهداية 2 / 278، والمبسوط 4 / 188 - 189، والخرشي 2 / 364 - 365، ومغني المحتاج 1 / 521، وكشاف القناع 2 / 438
(3) الهداية 2 / 278(3/104)
أَرْشٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الأَْرْشِ فِي اللُّغَةِ: الدِّيَةُ وَالْخَدْشُ، وَمَا نَقَصَ الْعَيْبُ مِنَ الثَّوْبِ، لأَِنَّهُ سَبَبٌ لِلأَْرْشِ. وَاصْطِلاَحًا: هُوَ الْمَال الْوَاجِبُ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى بَدَل النَّفْسِ، وَهُوَ الدِّيَةُ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - حُكُومَةُ الْعَدْل:
2 - حُكُومَةُ الْعَدْل: هِيَ مَا يَجِبُ فِي جِنَايَةٍ لَيْسَ فِيهَا مِقْدَارٌ مُعَيَّنٌ مِنَ الْمَال. وَهِيَ نَوْعٌ مِنَ الأَْرْشِ، فَالأَْرْشُ أَعَمُّ مِنْهَا.
ب - الدِّيَةُ:
3 - الدِّيَةُ: هِيَ بَدَل النَّفْسِ لِسُقُوطِ الْقِصَاصِ بِأَسْبَابِهِ، وَقَدْ يُسَمَّى أَرْشُ مَا دُونَ النَّفْسِ الدِّيَةَ. الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
4 - جَعَل الشَّارِعُ لِكُل نَقْصٍ جَبْرًا، حَتَّى لاَ تَذْهَبَ الْجِنَايَةُ هَدْرًا، فَإِذَا لَمْ يَجِبِ الْقِصَاصُ، وَذَلِكَ فِي حَالَتَيِ الْجِنَايَةِ بِالْخَطَأِ، أَوْ سُقُوطِ الْقِصَاصِ لِسَبَبٍ مَا، وَجَبَ الأَْرْشُ بِحَسَبِ نَوْعِ الْجِنَايَةِ، فَإِذَا جَاءَ فِيهِ نَصٌّ بِسَهْمٍ مُعَيَّنٍ الْتَزَمَ فِيهِ ذَلِكَ.
مِنْ هَذَا مَا جَاءَ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كِتَابِهِ إِلَى(3/104)
أَهْل الْيَمَنِ: فِي الرِّجْل الْوَاحِدَةِ نِصْفُ الدِّيَةِ وَفِي الْمَأْمُومَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَفِي الْجَائِفَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَفِي الْمُنَقِّلَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ مِنَ الإِْبِل، وَفِي كُل أُصْبُعٍ مِنْ أَصَابِعِ الْيَدِ أَوِ الرِّجْل عَشَرَةٌ مِنَ الإِْبِل، وَفِي السِّنِّ خَمْسٌ مِنَ الإِْبِل، وَفِي الْمُوضِحَةِ خَمْسٌ مِنَ الإِْبِل الْحَدِيثَ (1) .
فَإِذَا كَانَ الْفَائِتُ بِالْجِنَايَةِ جِنْسَ الْمَنْفَعَةِ عَلَى الْكَمَال، أَوْ زَال بِهَا جَمَالٌ مَقْصُودٌ، كَانَ الْوَاجِبُ فِيهَا دِيَةً كَامِلَةً. فَإِذَا تَعَدَّدَ الْعُضْوُ مَرَّتَيْنِ فِي جِسْمِ الإِْنْسَانِ كَانَ فِي فَوَاتِ مَنْفَعَتِهِ نِصْفُ الدِّيَةِ، كَالْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ، وَإِذَا كَانَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ كَانَ الْوَاجِبُ فِيهِ بِحِسَابِهِ، كَالأَْصَابِعِ؛ لِقَوْل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فِي كُل أُصْبُعٍ عَشَرَةٌ مِنَ الإِْبِل، وَفِي كُل سِنٍّ خَمْسَةٌ مِنَ الإِْبِل، وَالأَْصَابِعُ سَوَاءٌ، وَالأَْسْنَانُ سَوَاءٌ. (2)
وَمَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ نَصٌّ مُقَدَّرٌ مِنَ الشَّارِعِ، فَفِيهِ حُكُومَةُ عَدْلٍ.
أَنْوَاعُ الأُْرُوشِ:
أ - أَرْشُ جِرَاحِ الْحُرَّةِ:
5 - قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ مَا يَجِبُ فِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ فِي الْحُرِّ يَجِبُ فِيهِ نِصْفُ الدِّيَةِ فِي الْحُرَّةِ.
__________
(1) حديث: " في الرجل الواحدة. . . " أخرجه النسائي، وهذا لفظه، وصححه كل من ابن حبان والحاكم والدارقطني، وأخرجه أبو داود في مراسيله من حديث كتاب عمرو بن حزم، (الدراية 2 / 276، ونصب الراية 2 / 367، وجامع الأصول 4 / 422) ، وانظر الدر المختار 5 / 370 ط بولاق الطبعة الأولى، والجمل 5 / 67 وما بعدها ط إحياء التراث، وكشاف القناع 6 / 15 ط السنة المحمدية، وفتح القدير على الهداية 8 / 268 - 273 ط دار صادر، والشرح الكبير على خليل 4 / 238 - 243 ط دار الفكر.
(2) حديث " في كل إصبع عشرة. . . " رواه الخمسة إلا الترمذي، ونيل الأوطار 7 / 72(3/105)
وَوَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ كُلٌّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، إِذَا بَلَغَ الأَْرْشُ ثُلُثَ الدِّيَةِ أَوْ أَكْثَرَ، أَمَّا إِذَا كَانَ أَقَل مِنَ الثُّلُثِ فَإِنَّهَا تَتَسَاوَى مَعَهُ (1) .
ب - أَرْشُ جِرَاحِ الذِّمِّيِّ:
6 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى تَسَاوِي الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ فِي الأُْرُوشِ وَالدِّيَاتِ، وَكَذَلِكَ الْمُسْتَأْمَنُ. وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: دِيَةُ الذِّمِّيِّ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الْمُسْلِمِ. أَمَّا الْمَجُوسِيُّ وَالْمُعَاهَدُ وَالْمُرْتَدُّ، فَفِيهِ ثُلُثُ خُمُسِ دِيَةِ الْمُسْلِمِ. وَقَال الْحَنَابِلَةُ: كُل هَؤُلاَءِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الْمُسْلِمِ. وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: كُلُّهُمْ عَلَى الثُّلُثِ مِنْ دِيَةِ الْمُسْلِمِ (2)
تَعَدُّدُ الأُْرُوشِ:
7 - الأَْصْل عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: الْقَوْل بِتَعَدُّدِ الأُْرُوشِ بِتَعَدُّدِ الْجِنَايَاتِ، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلاَتٌ، يُرْجَعُ إِلَيْهَا فِي الدِّيَاتِ وَالْمَعَاقِل (3) . .
__________
(1) الهداية وفتح القدير 8 / 306 ط دار صادر، والدر المختار 5 / 368، والبدائع 7 / 322 ط الجمالية، والنهاية 7 / 303 ط مصطفى الحلبي، والجمل 5 / 63، والشرح الكبير 4 / 28 وكشاف القناع 6 / 15
(2) الهداية وفتح القدير 8 / 282، والدسوقي 4 / 286 ط دار الفكر، والنهاية 7 / 307 ط مصطفى الحلبي، وابن عابدين 5 / 369، وكشاف القناع 6 / 15 ط أنصار السنة المحمدية.
(3) نفس المراجع السابقة(3/105)
إِرْشَادٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْرْشَادُ لُغَةً: الْهِدَايَةُ وَالدَّلاَلَةُ، يُقَال: أَرْشَدَهُ إِلَى الشَّيْءِ وَعَلَيْهِ: دَلَّهُ (1) . وَالأُْصُولِيُّونَ يَذْكُرُونَ الإِْرْشَادَ بِاعْتِبَارِهِ أَحَدَ الْمَعَانِي الْمَجَازِيَّةِ الَّتِي يَرِدُ لَهَا الأَْمْرُ، وَعَرَّفُوهُ بِأَنَّهُ: تَعْلِيمُ أَمْرٍ دُنْيَوِيٍّ، وَمَثَّلُوا لَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} . (2)
وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ النَّدْبِ؛ لاِشْتِرَاكِهِمَا فِي طَلَبِ تَحْصِيل الْمَصْلَحَةِ، غَيْرَ أَنَّ النَّدْبَ لِمَصْلَحَةٍ أُخْرَوِيَّةٍ، وَالإِْرْشَادَ لِمَصْلَحَةٍ دُنْيَوِيَّةٍ (3) .
وَيَسْتَعْمِلُهُ الْفُقَهَاءُ بِمَعْنَى الدَّلاَلَةِ عَلَى الْخَيْرِ، وَالإِْرْشَادِ إِلَى الْمَصَالِحِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ دُنْيَوِيَّةً أَمْ أُخْرَوِيَّةً، وَيَسْتَعْمِلُونَهُ كَذَلِكَ بِالْمَعْنَى الأُْصُولِيِّ، وَهُوَ تَعْلِيمُ أَمْرٍ دُنْيَوِيٍّ (4) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
النُّصْحُ:
2 - النُّصْحُ: الأَْمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ.
__________
(1) لسان العرب مادة (رشد)
(2) البقرة / 182
(3) كشف الأسرار 1 / 107 ط مكتب الصنايع، وجمع الجوامع 1 / 378 ط الأزهرية، والأحكام للآمدي 2 / 9 ط صبيح.
(4) الشرح الصغير 4 / 741 ط دار المعارف، وحاشية الجمل على المنهج 4 / 116 ط دار إحياء التراث العربي، والفتح المبين ص 125 ط عيسى الحلبي، ونهاية المحتاج 8 / 44 ط مصطفى الحلبي.(3/106)
وَالإِْرْشَادُ يُرَادِفُ النُّصْحَ، وَيُرَادِفُ الأَْمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ، إِلاَّ أَنَّ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ جَرَى عَلَى التَّعْبِيرِ بِالأَْمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ فِيمَا كَانَ مُجْمَعًا عَلَى وُجُوبِهِ أَوْ تَحْرِيمِهِ. أَمَّا مَا اُخْتُلِفَ فِيهِ فَقَدْ جَرَى عَلَى التَّعْبِيرِ فِيهِ بِالإِْرْشَادِ (1) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
3 - تَنَاوَل الأُْصُولِيُّونَ الأَْمْرَ الإِْرْشَادِيَّ مِنْ حَيْثُ الثَّوَابُ وَعَدَمُهُ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ فَعَل مَا أُرْشِدَ إِلَيْهِ، فَذَكَرُوا: أَنَّهُ مَا دَامَتِ الْمَصْلَحَةُ فِيهِ دُنْيَوِيَّةً فَلاَ ثَوَابَ فِيهِ، مَا دَامَ الشَّخْصُ قَدْ فَعَلَهُ لِمُجَرَّدِ غَرَضِهِ. فَإِنْ فَعَلَهُ لِمُجَرَّدِ الاِمْتِثَال وَالاِنْقِيَادِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أُثِيبَ عَلَيْهِ، لَكِنْ لأَِمْرٍ خَارِجٍ، وَإِنْ قَصَدَ الاِمْتِثَال وَتَحْصِيل الْمَصْلَحَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ مَعًا اسْتَحَقَّ ثَوَابًا أَنْقَصَ مِنْ ثَوَابِ مَحْضِ قَصْدِ الاِمْتِثَال (2) .
4 - وَأَمَّا الْفُقَهَاءُ فَحُكْمُ الإِْرْشَادِ عِنْدَهُمْ - أَيْ إِرْشَادِ النَّاسِ إِلَى الْخَيْرِ وَدَلاَلَتِهِمْ عَلَيْهِ وَنُصْحِهِمْ - هُوَ الْوُجُوبُ، وَذَلِكَ عَمَلاً بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} الآْيَةَ (3) وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الدِّينُ النَّصِيحَةُ (4) عَلَى أَنْ يَكُونَ الإِْرْشَادُ بِالرِّفْقِ وَالْقَوْل اللَّيِّنِ؛ لأَِنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الْقَبُول، وَمَحَل الْوُجُوبِ إِذَا ظَنَّ الْفَائِدَةَ، وَلَمْ يَخَفْ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ
__________
(1) الزرقاني على خليل 3 / 108 نشر دار الفكر، والفروق للقرافي 4 / 257
(2) كشف الأسرار 1 / 107، وجمع الجوامع 1 / 378، والأحكام للآمدي 2 / 9
(3) سورة آل عمران / 104
(4) رواه مسلم 1 / 74 ط عيسى الحلبي.(3/106)
مَالِهِ أَوْ غَيْرِهِ (1) .
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
5 - أَحْكَامُ الأَْمْرِ الإِْرْشَادِيِّ تَأْتِي عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ فِي مَبْحَثِ الأَْمْرِ، وَعِنْدَ الْفُقَهَاءِ فِي مَبْحَثِ الأَْمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ.
إِرْصَادٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْرْصَادُ فِي اللُّغَةِ: الإِْعْدَادُ. يُقَال: أَرْصَدَ لَهُ الأَْمْرَ: أَعَدَّهُ (2)
وَهُوَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: تَخْصِيصُ الإِْمَامِ غَلَّةَ بَعْضِ أَرَاضِي بَيْتِ الْمَال لِبَعْضِ مَصَارِفِهِ (3) .
وَيُطْلِقُ الْحَنَفِيَّةُ الإِْرْصَادَ أَيْضًا عَلَى: تَخْصِيصِ رَيْعِ الْوَقْفِ لِسَدَادِ دُيُونِهِ الَّتِي تَرَتَّبَتْ عَلَيْهِ لِضَرُورَةِ إِعْمَارِهِ (4) .
__________
(1) الفواكه الدواني 2 / 385 ط مصطفى الحلبي، والفتح المبين ص 125 ط عيسى الحلبي، والقرطبي 4 / 48، 165 ط دار الكتب المصرية. والشرح الصغير 4 / 174 ط دار المعارف، والآداب الشرعية لابن مفلح 1 / 174 ط المنار، وابن عابدين 1 / 234 ط بولاق.
(2) لسان العرب، وتاج العروس، وأساس البلاغة، والنهاية مادة (رصد) .
(3) الفتاوى المهدية 2 / 647 طبع المطبعة الأزهرية، وحاشية الجمل على منهج الطلاب 3 / 577 طبع دار إحياء التراث في بيروت، ومطالب أولي النهى 4 / 278 طبع المكتب الإسلامي.
(4) حاشية ابن عابدين 3 / 376 طبع بولاق الأولى.(3/107)
أَوَّلاً:
الإِْرْصَادُ بِمَعْنَى (تَخْصِيصِ بَعْضِ أَرَاضِيِ
بَيْتِ الْمَال لِبَعْضِ مَصَارِفِهِ) :
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْوَقْفُ:
2 - الْوَقْفُ لُغَةً: الْحَبْسُ، وَاصْطِلاَحًا: حَبْسُ الْعَيْنِ وَالتَّصَدُّقُ بِالْمَنْفَعَةِ. وَلِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْوَقْفِ وَالإِْرْصَادِ، يُشَارُ إِلَى أَنَّ فِي حَقِيقَةِ الإِْرْصَادِ اتِّجَاهَيْنِ.
الاِتِّجَاهُ الأَْوَّل: اعْتِبَارُ الإِْرْصَادِ غَيْرَ الْوَقْفِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ مَا يُفْهَمُ مِنْ كَلاَمِ الشَّافِعِيَّةِ أَيْضًا؛ لاِخْتِلاَل شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الْوَقْفِ فِيهِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَوْقُوفُ مَمْلُوكًا لِلْوَاقِفِ حِينَ الْوَقْفِ، وَالْمُرْصِدُ - بِكَسْرِ الصَّادِ - هُوَ الإِْمَامُ أَوْ نَائِبُهُ، وَهُوَ لاَ يَمْلِكُ مَا أَرْصَدَهُ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: " وَالإِْرْصَادُ مِنَ السُّلْطَانِ لَيْسَ بِإِيقَافٍ أَلْبَتَّةَ؛ لِعَدَمِ مِلْكِ السُّلْطَانِ، بَل هُوَ تَعْيِينُ شَيْءٍ مِنْ بَيْتِ الْمَال عَلَى بَعْضِ مُسْتَحِقِّيهِ (1) .
فَالْفَرْقُ بَيْنَ الإِْرْصَادِ وَالْوَقْفِ: أَنَّ الْعَيْنَ الْمَوْقُوفَةَ كَانَتْ قَبْل الْوَقْفِ مِلْكًا لِلْوَاقِفِ، وَفِي الإِْرْصَادِ كَانَتْ لِبَيْتِ الْمَال.
الاِتِّجَاهُ الثَّانِيَ: اعْتِبَارُ الإِْرْصَادِ وَقْفًا فِي حَقِيقَتِهِ؛ لِعَدَمِ اخْتِلاَل شَيْءٍ مِنْ شُرُوطِ الْوَقْفِ فِيهِ، فَالسُّلْطَانُ الْوَاقِفُ لِشَيْءٍ مِنْ أَمْوَال بَيْتِ الْمَال هُوَ وَكِيلٌ عَنِ الْمُسْلِمِينَ، فَهُوَ كَوَكِيل الْوَاقِفِ (2) ، وَعَلَى
__________
(1) حاشية الدسوقي 2 / 84 طبع دار الفكر - ببروت، وحاشية كنون على شرح الزرقاني 7 / 131 بهامش الرهوني.
(2) حاشية ابن عابدين 2 / 266، وحاشية أبي السعود على ملا مسكين 2 / 505، طبع جمعية المعارف.(3/107)
هَذَا الاِتِّجَاهِ لاَ فَرْقَ بَيْنَ الْوَقْفِ وَالإِْرْصَادِ مِنْ حَيْثُ سَبْقُ الْمِلْكِ، وَيَفْتَرِقَانِ بِأَنَّ الإِْرْصَادَ لاَ يَكُونُ إِلاَّ مِنَ الإِْمَامِ.
ب - الإِْقْطَاعُ:
3 - الإِْقْطَاعُ فِي اللُّغَةِ: مِنَ الْقَطْعِ بِمَعْنَى الْفَصْل (1) . وَهُوَ فِي الشَّرْعِ: مَا يَقْطَعُهُ الإِْمَامُ أَيْ يُعْطِيهِ مِنْ أَرَاضِي الْمَوَاتِ - رَقَبَةً أَوْ مَنْفَعَةً - لِمَنْ لَهُ حَقٌّ فِي بَيْتِ الْمَال، فَالإِْقْطَاعُ يَكُونُ تَمْلِيكًا وَغَيْرَ تَمْلِيكٍ (2) .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ إِقْطَاعِ التَّمْلِيكِ وَبَيْنَ الإِْرْصَادِ، أَنَّ الْمُقْطَعَ إِلَيْهِ يَمْلِكُ رَقَبَةَ الْقَطَائِعِ، وَلاَ يَتَرَتَّبُ لَهُ شَيْءٌ مِنْ هَذَا الْمِلْكِ فِي الإِْرْصَادِ.
أَمَّا إِقْطَاعُ الْمَنْفَعَةِ أَوِ الْخَرَاجِ، فَيَفْتَرِقُ عَنِ الإِْرْصَادِ بِأَنَّ الإِْرْصَادَ لَهُ صِفَةُ التَّأْبِيدِ، وَلاَ يَكُونُ لِهَذَا النَّوْعِ مِنَ الإِْقْطَاعِ صِفَةُ التَّأْبِيدِ، إِذْ يَحِقُّ لِلإِْمَامِ سَلْخُ تِلْكَ الْقَطَائِعِ عَمَّنْ جَعَلَهَا لَهُ، وَإِعْطَاؤُهَا لِغَيْرِهِ، وَعَلَى هَذَا فَإِنَّ الإِْقْطَاعَ يَحْمِل الصِّفَةَ الْفَرْدِيَّةَ الشَّخْصِيَّةَ، أَمَّا الإِْرْصَادُ فَيَحْمِل صِفَةَ الْعُمُومِ وَمَصْلَحَةَ الْجَمَاعَةِ.
ج - الْحِمَى:
4 - الْحِمَى فِي اللُّغَةِ: الْمَنْعُ وَالدَّفْعُ، وَفِي الشَّرْعِ: أَنْ يَحْمِيَ الإِْمَامُ مَكَانًا خَاصًّا مِنَ الْمَوَاتِ؛ لِحَاجَةِ غَيْرِهِ، كَرَعْيِ نَعَمِ جِزْيَةٍ وَصَدَقَةٍ، وَحَاجَةِ ضُعَفَاءِ الْمُسْلِمِينَ (3) .
__________
(1) لسان العرب مادة (قطع) .
(2) ابن عابدين 3 / 392، والشرح الكبير للدردير 4 / 68، والمهذب 1 / 433، والمغني 6 / 166.
(3) حاشية الدسوقي 4 / 69، والقليوبي 3 / 92 والمغني 6 / 166(3/108)
فَالْفَرْقُ بَيْنَ الْحِمَى وَالإِْرْصَادِ أَنَّ الإِْرْصَادَ تَخْصِيصُ الإِْمَامِ غَلَّةَ بَعْضِ أَرَاضِي بَيْتِ الْمَال لِبَعْضِ مَصَارِفِهِ، وَالْحِمَى هُوَ تَخْصِيصُ الإِْمَامِ نَفْسَ أَرَاضِي الْمَوَاتِ لِحَاجَةِ غَيْرِهِ.
صِفَتُهُ (حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ) :
5 - الإِْرْصَادُ مَشْرُوعٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ (1) ، إِمَّا لاِعْتِبَارِهِ وَقْفًا (فَتَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُهُ) ، وَإِمَّا لِكَوْنِهِ يُؤَمِّنُ مَصْلَحَةً عَامَّةً لِلْمُسْلِمِينَ بِطَرِيقٍ مَشْرُوعٍ؛ لأَِنَّ الْمُرْصَدَ (بِفَتْحِ الصَّادِ) هُوَ مَال بَيْتِ مَال الْمُسْلِمِينَ، وَصَل إِلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ، وَمَصْرِفُهُ كُل مَا تَقُومُ بِهِ مَصَالِحُ الْمُسْلِمِينَ، وَالْمُرْصَدُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالْقُضَاةِ وَنَحْوِهِمْ هُمْ عَمَلَةُ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ تَقُومُ بِهِمْ مَصَالِحُ الْمُسْلِمِينَ، فَهُمْ مَصْرِفٌ مِنْ مَصَارِفِ بَيْتِ الْمَال (2) . وَتَأْمِينُ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ وَاجِبٌ عَلَى الإِْمَامِ، فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْمَصَالِحُ لاَ يُمْكِنُ تَأْمِينُهَا إِلاَّ بِالإِْرْصَادِ، كَانَ الإِْرْصَادُ وَاجِبًا؛ لأَِنَّ مَا لاَ يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلاَّ بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ، وَقَدْ سُئِل الشَّيْخُ عَلِيٌّ الْعَقَدِيُّ الْحَنَفِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ مَشْرُوعِيَّةِ الإِْرْصَادِ فَأَجَابَ:
" لاَ شَكَّ فِي جَوَازِهَا لِمَا فِيهِ مِنْ إِيصَال الْحَقِّ إِلَى مُسْتَحِقِّيهِ فَيَكُونُ جَائِزًا، بَل وَاجِبًا لِمَا قُلْنَا، وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ ". (3)
أَرْكَانُ الإِْرْصَادِ:
6 - لاَ بُدَّ فِي الإِْرْصَادِ مِنْ وُجُودِ مُرْصِدٍ (بِكَسْرِ الصَّادِ) ، وَمُرْصَدٍ (بِفَتْحِ الصَّادِ) ، وَجِهَةٍ مُرْصَدٍ عَلَيْهَا، وَصِيغَةٍ.
__________
(1) حاشية كنون على الزرقاني 7 / 131
(2) الفتاوى المهدية 2 / 647.
(3) الفتاوى المهدية 2 / 648(3/108)
وَلِكُل وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الأَْرْكَانِ شُرُوطٌ لاَ بُدَّ مِنْ تَوَفُّرِهَا فِيهِ؛ لِيَكُونَ الإِْرْصَادُ صَحِيحًا. وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
الأَْوَّل: الْمُرْصِدُ (بِكَسْرِ الصَّادِ)
7 - وَيُشْتَرَطُ فِي الْمُرْصِدِ (بِكَسْرِ الصَّادِ) أَنْ يَكُونَ جَائِزَ التَّصَرُّفِ فِيمَا أَرَصَدَهُ، مِنْ مَال بَيْتِ مَال الْمُسْلِمِينَ (1) .
وَجَائِزُ التَّصَرُّفِ هَذَا لاَ بُدَّ مِنْ أَنْ يَسْتَجْمِعَ شُرُوطَ أَهْلِيَّةِ التَّبَرُّعِ، وَأَنْ يَكُونَ إِمَامًا أَوْ أَمِيرًا (2) ، أَوْ وَزِيرًا فُوِّضَ إِلَيْهِ تَدْبِيرُ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ (3) ، أَوْ رَجُلاً لَهُ اسْتِحْقَاقٌ مِنْ بَيْتِ مَال الْمُسْلِمِينَ وَجُعِلَتْ لَهُ مَنْفَعَةُ عَقَارٍ مُعَيَّنٍ مِنْ بَيْتِ مَال الْمُسْلِمِينَ (4) ، وَعَلَى هَذَا فَإِنَّ الْمُرْصَدَ عَلَيْهِ لَهُ أَنْ يَرْصُدَهُ عَلَى غَيْرِهِ، وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِاشْتِرَاطِ أَلاَّ يَنْسُبَ الْمُرْصِدَ (بِكَسْرِ الصَّادِ) الإِْرْصَادَ إِلَى نَفْسِهِ. لأَِنَّ الأَْعْيَانَ الْمُرْصَدَةَ لَيْسَتْ مِلْكًا لَهُ، بَل هِيَ مِلْكُ بَيْتِ مَال الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا النَّصُّ، وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ بَقِيَّةُ الْفُقَهَاءِ، فَإِنَّهُ لاَ يَتَنَافَى مَعَ شَيْءٍ مِمَّا ذَهَبُوا إِلَيْهِ فِي الإِْرْصَادِ.
فَإِنْ نَسَبَ الْمُرْصِدُ الإِْرْصَادَ إِلَى نَفْسِهِ لَمْ يَصِحَّ إِرْصَادُهُ.
__________
(1) مطالب أولي النهى 4 / 278، طبع المكتب الإسلامي ببيروت.
(2) حاشية الجمل 3 / 577 طبع دار إحياء التراث ببيروت، حاشية الشرواني على التحفة 5 / 392 الطبعة الميمنية الأولى 1306، وحاشية البجيرمي على منهج الطلاب 3 / 202 طبع المكتبة الإسلامية بتركيا، ونهاية الزين شرح قرة العين 268 طبع مصطفى البابي الحلبي، وحاشية الدسوقي 4 / 82
(3) الفتاوى المهدية 2 / 647
(4) الفتاوى المهدية 2 / 646(3/109)
قَال عَلِيُّ كَنُونٍ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى الزَّرْقَانِيِّ: إِنْ وَقَفَ الأَْئِمَّةُ وَقْفًا عَلَى جِهَةِ الْبِرِّ وَالْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ وَنَسَبُوهُ لأَِنْفُسِهِمْ فَلاَ يَصِحُّ (1) .
الثَّانِي: الْمُرْصَدُ (بِفَتْحِ الصَّادِ) :
8 - يُشْتَرَطُ فِي الْمَال الْمُرْصَدِ أَنْ يَكُونَ عَيْنًا قَدْ آلَتْ إِلَى بَيْتِ مَال الْمُسْلِمِينَ بِالاِتِّفَاقِ (2) ، كَالأَْرَاضِيِ الَّتِي اسْتَوْلَى عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ عَنْوَةً، وَآلَتْ إِلَى بَيْتِ الْمَال، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلإِْمَامِ أَنْ يَرْصُدَ شَيْئًا مِنْ أَرَاضِي الْحَوْزِ؛ لأَِنَّ هَذِهِ الأَْرَاضِيَ مِلْكُ أَصْحَابِهَا، وَلَيْسَتْ مِلْكًا لِبَيْتِ الْمَال.
وَالْمُرَادُ بِأَرْضِ الْحَوْزِ هُنَا: الأَْرْضُ الَّتِي عَجَزَ صَاحِبُهَا عَنْ زِرَاعَتِهَا، وَأَدَاءِ خَرَاجِهَا، فَدَفَعَهَا إِلَى الإِْمَامِ لِتَكُونَ مَنَافِعُهَا جَبْرًا لِلْخَرَاجِ (3) .
الثَّالِثُ: الْمُرْصَدُ عَلَيْهِ:
9 - يُشْتَرَطُ فِي الْمُرْصَدِ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مِنْ مَصَارِفِ بَيْتِ مَال الْمُسْلِمِينَ عَلَى وَجْهِ الإِْجْمَال (4) . فَإِنْ لَمْ
__________
(1) حاشية كنون على شرح الزرقاني لمختصر خليل 7 / 131
(2) الفتاوى المهدية 2 / 246، وابن عابدين 3 / 259، وحاشية أبو السعود 2 / 505، والأشباه والنظائر لابن نجيم 1 / 310، وحاشية الشرواني على تحفة المحتاج 5 / 392، وحاشية الدسوقي 4 / 82، ومطالب أولي النهى 4 / 278 ونهاية الزين شرح قرة العين ص: 268
(3) البحر الرائق 5 / 203، وهي تختلف عن أراضي الحوز التي يذكرونها في الغنائم والخراج، وهي ما مات أربابه بلا وارث وآل لبيت المال، أو فتح عنوة وأبقي للمسلمين إلى يوم القيامة. انظر حاشية ابن عابدين 3 / 256، وحاشية الطحطاوي على الدر المختار 2 / 463
(4) الفتاوى المهدية 2 / 647، والأشباه والنظائر لابن نجيم 1 / 190، وابن عابدين 3 / 266، والشرواني على التحفة 5 / 392(3/109)
يَكُنْ لَهُ اسْتِحْقَاقٌ مِنْ بَيْتِ الْمَال لَمْ يَحِل لَهُ الأَْكْل مِنْ هَذَا الإِْرْصَادِ، وَلَوْ أَقَرَّهُ النَّاظِرُ وَبَاشَرَ الْعَمَل فِيمَا أُرْصِدَ لَهُ الْمُرْصَدُ؛ لأَِنَّ هَذَا مِنْ بَيْتِ الْمَال، وَهُوَ لاَ يَتَحَوَّل عَنْ حُكْمِهِ الشَّرْعِيِّ بِجَعْل أَحَدٍ (1) .
فَإِذَا أُرْصِدَ عَلَى جِهَةٍ مُعَيَّنَةٍ، تُؤَمِّنُ مَصْلَحَةً عَامَّةً لِلْمُسْلِمِينَ، كَالْمَدَارِسِ وَالْعُلَمَاءِ وَالْقُضَاةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِرْصَادُهُ صَحِيحٌ نَافِذٌ (2) ، لأَِنَّ الْمَصْرِفَ الأَْوَّل لأَِمْوَال بَيْتِ مَال الْمُسْلِمِينَ تَأْمِينُ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ لِلْمُسْلِمِينَ.
10 - وَاخْتَلَفُوا فِي الإِْرْصَادِ عَلَى أَشْخَاصٍ مُعَيَّنِينَ:
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْحَنَفِيَّةِ، وَمِنْهُمْ عَبْدُ الْبَرُّ بْنُ الشِّحْنَةِ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَمِنْهُمُ السُّيُوطِيُّ وَالسُّبْكِيُّ، إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الإِْرْصَادُ عَلَى أَشْخَاصٍ بِأَعْيَانِهِمْ (3) وَإِنْ كَانُوا يَقُومُونَ بِمَصَالِحَ عَامَّةٍ، أَوْ لَهُمُ اسْتِحْقَاقٌ مِنْ بَيْتِ الْمَال، كَوَقْفِ الإِْمَامِ عَلَى أَوْلاَدِهِ وَنَحْوِهِمْ (4) .
وَلَعَلَّهُمْ مَنَعُوا ذَلِكَ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ، وَقَطْعًا لِدَابِرِ تَلاَعُبِ الْفَسَقَةِ مِنَ الْحُكَّامِ بِصَرْفِ أَمْوَال بَيْتِ مَال الْمُسْلِمِينَ لِلْمُقَرَّبِينَ إِلَيْهِمْ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَجُمْهُورُ الشَّافِعِيَّةِ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى جَوَازِ الإِْرْصَادِ عَلَى أَشْخَاصٍ
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم 1 / 311
(2) الشرواني على تحفة المحتاج 5 / 392، وحاشية الجمل 3 / 77، وحاشية ابن عابدين على الدر المختار 3 / 259، والفتاوى المهدية 2 / 647، ومطالب أولي النهى 4 / 278، ونهاية الزين شرح قرة العين ص: 268، والرهوني علي الزرقاني 7 / 130 - 131
(3) الشرواني على تحفة المحتاج 5 / 392، وحاشية الجمل 3 / 576
(4) الفتاوى المهدية 2 / 648(3/110)
بِأَعْيَانِهِمْ، بِشَرْطِ ظُهُورِ الْمَصْلَحَةِ فِي ذَلِكَ (1) .
وَأَجَازَ ذَلِكَ ابْنُ نُجَيْمٍ وَمَنْ تَبِعَهُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، بِشَرْطِ أَنْ يَجْعَل آخِرَ الإِْرْصَادِ لِجِهَةٍ عَامَّةٍ، كَالْفُقَرَاءِ وَالْعُلَمَاءِ وَنَحْوِهِمْ، نَظَرًا لِلْمَال (2) .
11 - وَيَنُصُّ الْحَنَفِيَّةُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَمِنْهُمُ السُّيُوطِيُّ عَلَى أَنَّ الْمُرْصَدَ عَلَيْهِ يَسْتَحِقُّ مَا رُصِدَ لَهُ وَإِنْ لَمْ يَقُمْ بِعَمَلِهِ الْمَشْرُوطِ فِي الإِْرْصَادِ (3) ، وَيَرَى بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَمِنْهُمُ الرَّمْلِيُّ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُرْصَدِ عَلَيْهِ الْعَمَل بِشَرْطِ الإِْرْصَادِ، وَلاَ يَسْتَحِقُّ الْمَعْلُومُ الْمُرْصَدَ عَلَيْهِ إِلاَّ إِذَا بَاشَرَ الْعَمَل بِنَفْسِهِ أَوْ نَائِبِهِ (4) .
وَيَنُصُّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى، أَنَّهُ إِنْ قَصَّرَ الْمُرْصَدُ (بِفَتْحِ الصَّادِ) عَنْ كِفَايَةِ جَمِيعِ الْمُسْتَحِقِّينَ، وَكَانَ الإِْرْصَادُ عَلَى جِهَةٍ، رُوعِيَ فِي الاِسْتِحْقَاقِ صِفَةُ الأَْحَقِّيَّةِ مِنْ بَيْتِ الْمَال، فَيُقَدَّمُ الأَْحَقُّ فِي بَيْتِ الْمَال عَلَى غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانُوا جَمِيعًا مِنْ أَصْحَابِ الأَْحَقِّيَّةِ مِنْ بَيْتِ الْمَال، فَإِنَّهُ يُقَدَّمُ مِنْهُمْ مَنْ كَانَ أَكْثَرَ حَاجَةً إِلَيْهِ، فَيُقَدَّمُ الْمُدَرِّسُ عَلَى الْمُؤَذِّنِ، وَالْمُؤَذِّنُ عَلَى الإِْمَامِ، وَالإِْمَامُ عَلَى الْمُقِيمِ. فَإِنِ اسْتَوَوْا فِي الْحَاجَةِ إِلَيْهِمْ قُدِّمَ مِنْهُمْ مَنْ كَانَ أَكْبَرَ سِنًّا (5) .
الرَّابِعُ: الصِّيغَةُ:
12 - يُشْتَرَطُ فِي صِيغَةِ الإِْرْصَادِ مَا يُشْتَرَطُ فِي الْوَقْفِ. وَيَصِحُّ بِلَفْظِ الإِْرْصَادِ كَمَا يَصِحُّ بِلَفْظِ
__________
(1) نهاية الزين شرح قرة العين ص: 268، وحاشية الجمل 3 / 576، وحاشية الشرواني 5 / 392، وحاشية كنون على الزرقاني 7 / 131، وحاشية ابن عابدين 3 / 265، وتهذيب القواعد بهامش الفروق 3 / 10، والرهوني 7 / 130، 131
(2) الفتاوى المهدية 2 / 646، 648
(3) الأشباه والنظائر للسيوطي 1 / 310، والجمل 3 / 577
(4) حاشية الجمل 3 / 577
(5) الأشباه والنظائر 1 / 311(3/110)
الْوَقْفِ، وَكَثِيرًا مَا يَسْتَعْمِل الْفُقَهَاءُ إِحْدَى الصِّيغَتَيْنِ (الْوَقْفَ، الإِْرْصَادَ) لِلتَّعْبِيرِ عَنِ الأُْخْرَى.
13 - لِلْمُرْصِدِ أَنْ يَشْتَرِطَ فِي إِرْصَادِهِ مِنَ الشُّرُوطِ الْمَشْرُوعَةِ مَا يَشَاءُ كَالْوَاقِفِ. قَال فِي الْفَتَاوَى الْمَهْدِيَّةِ: الْوَاقِفُ يَتَصَرَّفُ فِي وَقْفِهِ كَيْفَ شَاءَ، وَمِثْلُهُ الْمُرْصِدُ بِإِجْمَاعِ الْمَذَاهِبِ الأَْرْبَعَةِ (1) .
آثَارُ الإِْرْصَادِ:
14 - إِذَا أَرْصَدَ الإِْمَامُ أَوْ نَائِبُهُ شَيْئًا مِنْ أَمْوَال الْمُسْلِمِينَ تَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ الآْثَارُ التَّالِيَةُ:
أ - تَأْبِيدُ هَذَا الإِْرْصَادِ وَاسْتِمْرَارُ صَرْفِهِ عَلَى الْمَصْرِفِ الَّذِي عَيَّنَهُ الْمُرْصِدُ. فَلاَ يَجُوزُ لإِِمَامٍ يَأْتِي بَعْدَهُ نَقْضُهُ وَلاَ إِبْطَالُهُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ (2) . وَلاَ أَدَل عَلَى ذَلِكَ مِنْ تِلْكَ الْحَادِثَةِ الَّتِي حَدَثَتْ فِي عَهْدِ السُّلْطَانِ بُرْقُوقٍ، فَإِنَّهُ فِي عَامِ نَيِّفٍ وَثَمَانِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ أَرَادَ أَنْ يَنْقُضَ الأَْرْصَادَ لِكَوْنِهَا أُخِذَتْ مِنْ بَيْتِ مَال الْمُسْلِمِينَ، فَعَقَدَ لِذَلِكَ مَجْلِسًا حَافِلاً حَضَرَهُ الشَّيْخُ سِرَاجُ الدِّينِ عُمَرُ بْنُ رَسْلاَنَ الْبُلْقِينِيُّ الشَّافِعِيُّ، وَالْبُرْهَانُ بْنُ جَمَاعَةَ، وَشِيحُ الْحَنَفِيَّةِ الشَّيْخُ أَكْمَل الدِّينِ شَارِحُ الْهِدَايَةِ، وَغَيْرُهُمْ، فَقَال لَهُ الشَّيْخُ الْبُلْقِينِيُّ: مَا وُقِفَ عَلَى الْعُلَمَاءِ وَالطَّلَبَةِ لاَ سَبِيل إِلَى نَقْضِهِ؛ لأَِنَّ لَهُمْ فِي الْخُمُسِ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَمَا رُصِدَ عَلَى فَاطِمَةَ وَخَدِيجَةَ وَعَائِشَةَ يُنْقَضُ، وَوَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ الْحَاضِرُونَ (3) . قَال فِي
__________
(1) الفتاوى المهدية 2 / 648
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 259، 266، والفتاوى المهدية 2 / 647، وحاشية كنون على شرح الزرقاني لمتن خليل 7 / 131
(3) ابن عابدين 3 / 259، والفتاوى المهدية 2 / 647 وما بعدها.(3/111)
الْفَتَاوَى الْمَهْدِيَّةِ: قَال السُّيُوطِيُّ: وَهُوَ الَّذِي اتَّفَقُوا عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ، قَالَهُ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ، سُلْطَانُ الْعُلَمَاءِ، فَكَلاَمُ الْفُقَهَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يُوَافِقُ بَعْضُهُ بَعْضًا (1) .
ب - مَدَى الاِلْتِزَامِ بِالشُّرُوطِ فِيهِ: يَرَى جُمْهُورُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلإِْمَامِ مُخَالَفَةُ شُرُوطِ الإِْرْصَادِ (2) بِمَعْنَى أَنَّهُ إِذَا رَأَى وَلِيُّ الأَْمْرِ الْمَصْلَحَةَ فِي زِيَادَةٍ فِيهِ، أَوْ نَقْصٍ فِي مَصَارِفِ الْوَقْفِ الْمَذْكُورِ، يَسُوغُ لَهُ ذَلِكَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنْ يَصْرِفَهُ عَنِ الْجِهَةِ الَّتِي عُيِّنَتْ فِي الإِْرْصَادِ، كَأَنْ يَمْنَعَ مَنْ عُيِّنَ فِيهِ وَيَصْرِفَ اسْتِحْقَاقَهُ لِغَيْرِهِ، فَحِينَئِذٍ لاَ يَصِحُّ الْعُدُول (3) .
وَعَلَّل الْعَلاَّمَةُ أَبُو السُّعُودِ جَوَازَ مُخَالَفَةِ الإِْمَامِ شُرُوطَ الإِْرْصَادِ، بِأَنَّ الْمُرْصَدَ مِنْ بَيْتِ الْمَال أَوْ يَرْجِعُ إِلَيْهِ (4) . وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ تَجِبُ مُرَاعَاةُ شُرُوطِ الْمُرْصَدِ، وَلاَ تَجُوزُ مُخَالَفَتُهَا، إِذَا كَانَتْ عَلَى وَفْقِ الأَْوْضَاعِ الشَّرْعِيَّةِ (5) .
ثَانِيًا:
الإِْرْصَادُ بِمَعْنَى تَخْصِيصِ
رَيْعِ الْوَقْفِ لِسَدَادِ دُيُونِهِ
:
15 - يُطْلِقُ الْحَنَفِيَّةُ " الإِْرْصَادَ " عَلَى تَحْوِيل جُزْءٍ مِنْ رَيْعِ الْوَقْفِ أَوْ كُلِّهِ عَنِ الْمُسْتَحِقِّينَ لِوَفَاءِ دَيْنٍ مَشْرُوعٍ
__________
(1) الفتاوى المهدية 2 / 648
(2) حاشية أبو السعود على ملا مسكين 2 / 505، والفتاوى المهدية 2 / 646 - 649، وحاشية ابن عابدين 3 / 259
(3) حاشية أبو السعود 2 / 505، وابن عابدين 3 / 259
(4) حاشية أبو السعود 2 / 506، وابن عابدين 3 / 259
(5) ابن عابدين 3 / 259، وحاشية كنون على شرح الزرقاني 3 / 131(3/111)
عَلَى الْوَقْفِ، كَمَا إِذَا بَنَى الْمُسْتَأْجِرُ لِلْعَقَارِ الْمَوْقُوفِ دُكَّانًا فِيهِ، أَوْ جَدَّدَ بِنَاءَهُ الْمُتَدَاعِيَ؛ لِيَكُونَ مَا أَنْفَقَهُ فِي ذَلِكَ دَيْنًا عَلَى الْوَقْفِ إِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ فَاضِلٌ فِي رَيْعِ الْوَقْفِ يَقُومُ بِذَلِكَ. فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَكُونُ الْبِنَاءُ لِلْوَقْفِ، وَيَأْخُذُ الْمُسْتَأْجِرُ مَا دَفَعَهُ عَلَى الْبِنَاءِ أَوْ عَلَى إِصْلاَحِهِ، وَيَكُونُ حَقُّهُ فِي اسْتِيفَاءِ مَا دَفَعَهُ مُقَدَّمًا عَلَى حَقِّ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ، وَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ مِنَ الأَْجْرِ بَعْدَ الْبِنَاءِ هُوَ أَجْرُ الْمِثْل لِلْمُسْتَأْجَرِ (بِفَتْحِ الْجِيمِ) بَعْدَ الْبِنَاءِ، وَأَجَازَ الْبَعْضُ تَأْجِيرَهُ إِيَّاهُ بِدُونِ أَجْرِ الْمِثْل؛ لأَِنَّهُ لَوْ أَرَادَ آخَرُ أَنْ يَسْتَأْجِرَهُ وَيَدْفَعَ لِلأَْوَّل مَا صَرَفَهُ عَلَى الْعِمَارَةِ لاَ يَسْتَأْجِرُهُ إِلاَّ بِتِلْكَ الأُْجْرَةِ الْقَلِيلَةِ (1) . وَمَحَل تَفْصِيل ذَلِكَ كُلِّهِ بَحْثُ (الْوَقْف) .
16 الْفَرْقُ بَيْنَ الإِْرْصَادِ بِهَذَا الْمَعْنَى وَبَيْنَ الْحَكْرِ (وَهُوَ فِي حَقِيقَتِهِ اسْتِئْجَارُ أَرْضِ الْوَقْفِ لِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ لإِِقَامَةِ بِنَاءٍ عَلَيْهَا) أَنَّ الْعِمَارَةَ فِي الإِْرْصَادِ تَكُونُ لِلْوَقْفِ، وَأَنَّ الْعِمَارَةَ فِي الْحَكْرِ تَكُونُ لِلْمُسْتَأْجِرِ، وَمَا يَدْفَعُهُ الْوَقْفُ لِلْمُسْتَأْجِرِ فِي الإِْرْصَادِ هُوَ دَيْنٌ عَلَى الْوَقْفِ لِلْمُسْتَأْجِرِ، وَمَا يَدْفَعُهُ الْمُسْتَأْجِرُ لِلْوَقْفِ فِي الْحَكْرِ هُوَ أُجْرَةُ الأَْرْضِ الَّتِي أَقَامَ عَلَيْهَا بِنَاءَهُ.
أَرْضٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الأَْرْضُ: هِيَ الَّتِي عَلَيْهَا النَّاسُ، وَلَفْظُهَا
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 6، 3 / 376(3/112)
مُؤَنَّثٌ. وَهِيَ اسْمُ جِنْسٍ، وَجَمْعُهَا: أَرَاضٍ وَأُرُوضٌ وَأَرْضُونَ (1) .
طَهَارَةُ الأَْرْضِ، وَتَطْهِيرُهَا، وَالتَّطْهِيرُ بِهَا
طَهَارَةُ الأَْرْضِ:
2 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ جَمِيعًا فِي أَنَّ الأَْصْل طَهَارَةُ الأَْرْضِ. فَتَصِحُّ الصَّلاَةُ عَلَى أَيِّ جُزْءٍ مِنْهَا، مَا لَمْ يَتَنَجَّسْ، وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي - إِلَى أَنْ قَال: - وَجُعِلَتْ لِي الأَْرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلاَةُ فَلْيُصَل. وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: وَجُعِلَتْ تُرْبَتُهَا طَهُورًا وَهَذَا نَصٌّ فِي طَهَارَةِ الأَْرْضِ.
تَطْهِيرُ الأَْرْضِ مِنَ النَّجَاسَةِ (2)
3 - الأَْرْضُ إِذَا تَنَجَّسَتْ بِمَائِعٍ، كَالْبَوْل وَالْخَمْرِ وَغَيْرِهِمَا فَتَطْهِيرُهَا أَنْ يَغْمُرَهَا الْمَاءُ بِحَيْثُ يَذْهَبُ لَوْنُ النَّجَاسَةِ وَرِيحُهَا، وَمَا انْفَصَل عَنْهَا غَيْرُ مُتَغَيِّرٍ بِهَا فَهُوَ طَاهِرٌ. بِهَذَا قَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، وَذَلِكَ لِمَا رَوَاهُ أَنَسٌ قَال: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَبَال فِي طَائِفَةٍ نَاحِيَةٍ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَزَجَرَهُ النَّاسُ، فَنَهَاهُمْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا قَضَى بَوْلَهُ أَمَرَ بِذَنُوبٍ مِنْ مَاءٍ فَأُهْرِيقَ عَلَيْهِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ (3)
__________
(1) لسان العرب
(2) الأم 1 / 44 وما بعدها، وفتح القدير 1 / 140، وابن عابدين 1 / 207، الاختيار 1 / 46، والمغني 2 / 54، 94، 95، 96، وبداية المجتهد 1 / 76، وفتح الباري 1 / 225، 227، 229، 298، 436 ط السلفية، ونيل الأوطار 1 / 38، ومسلم (1 / 371 ط عيسى الحلبي)
(3) أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 324 ط السلفية)(3/112)
وَمِثْل الْغَمْرِ بِالْمَاءِ مَا إِذَا أَصَابَهَا الْمَطَرُ أَوِ السَّيْل وَجَرَى عَلَيْهَا، فَإِنَّهَا تَطْهُرُ؛ لأَِنَّ تَطْهِيرَ النَّجَاسَةِ لاَ يُعْتَبَرُ فِيهِ نِيَّةٌ وَلاَ فِعْلٌ، فَاسْتَوَى مَا صَبَّهُ الآْدَمِيُّ وَمَا جَرَى بِغَيْرِ صَبٍّ.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا كَانَتِ الأَْرْضُ رَخْوَةً فَطَهُورُهَا بِغَمْرِهَا بِالْمَاءِ، كَمَا قَال الْجُمْهُورُ، وَإِنْ كَانَتِ الأَْرْضُ صُلْبَةً فَإِنَّهَا لاَ تَطْهُرُ حَتَّى يَنْفَصِل الْمَاءُ، فَيَكُونُ الْمُنْفَصِل عَنْهَا نَجَسًا؛ لأَِنَّ النَّجَاسَةَ انْتَقَلَتْ إِلَيْهِ.
وَإِنَّمَا تَطْهُرُ بِحَفْرِهَا، حَتَّى يَصِل الْحَفْرُ إِلَى مَوْضِعٍ لَمْ تَصِلْهُ النَّجَاسَةُ، أَوْ بِكَبْسِهَا بِتُرَابٍ أَلْقَاهُ عَلَيْهَا، فَزَالَتْ رَائِحَةُ النَّجَاسَةِ.
4 - إِذَا جَفَّتِ النَّجَاسَةُ الْمَائِعَةُ، فَقَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: لاَ تَطْهُرُ إِلاَّ بِالْمَاءِ، لِحَدِيثِ الأَْعْرَابِيِّ السَّابِقِ، وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ - فِي الأَْظْهَرِ - تَطْهُرُ لِلصَّلاَةِ عَلَيْهَا لاَ لِلتَّيَمُّمِ مِنْهَا، وَقِيل: تَطْهُرُ لَهُمَا، وَذَلِكَ لِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَال: إِنَّ الْكِلاَبَ كَانَتْ تَبُول، وَتُقْبِل وَتُدْبِرُ فِي الْمَسْجِدِ، فَلَمْ يَكُنْ يَرُشُّونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ.
وَقَال بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: إِذَا جَفَّتِ الأَْرْضُ فِي الظِّل فَقَدْ طَهُرَتْ، وَذَلِكَ لِمَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ أَنَّهُ قَال: إِذَا جَفَّتِ الأَْرْضُ فَقَدْ زَكَتْ (1)
5 - أَمَّا إِنْ كَانَتِ النَّجَاسَةُ غَيْرَ مَائِعَةٍ، بِأَنْ كَانَتْ ذَاتَ أَجْزَاءٍ مُتَفَرِّقَةٍ كَالرِّمَّةِ، وَالرَّوْثِ، وَالدَّمِ إِذَا جَفَّ، وَاخْتَلَطَتْ بِأَجْزَاءِ الأَْرْضِ لَمْ تَطْهُرْ بِالْغَسْل، بَل تَطْهُرُ بِإِزَالَةِ أَجْزَاءِ الْمَكَانِ، حَتَّى يَتَيَقَّنَ زَوَال
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة (1 / 57 الدار السلفية - بمباي)(3/113)
أَجْزَاءِ النَّجَاسَةِ، وَهَذَا مَا لاَ خِلاَفَ فِيهِ (1) .
التَّطْهِيرُ بِالأَْرْضِ
الاِسْتِجْمَارُ:
6 - الاِسْتِجْمَارُ هُوَ قَلْعُ النَّجَاسَةِ بِالْجِمَارِ، وَهِيَ الْحِجَارَةُ الصِّغَارُ. وَكَمَا يَصِحُّ الاِسْتِنْجَاءُ بِالْمَاءِ يَصِحُّ بِالأَْحْجَارِ، وَهَذَا مِمَّا لاَ خِلاَفَ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ (2) .
تَطْهِيرُ النَّعْل بِالأَْرْضِ:
7 - اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا تَنَجَّسَتِ النَّعْل وَمَا فِي مَعْنَاهَا بِمَائِعٍ، مِثْل الْبَوْل وَالدَّمِ وَالْخَمْرِ أَنَّهَا لاَ تَطْهُرُ إِلاَّ بِالْغَسْل، وَعَلَى رِوَايَةِ الْمَالِكِيَّةِ الْقَائِلَةِ بِأَنَّ إِزَالَةَ النَّجَاسَةِ سُنَّةٌ، تَكُونُ مَعْفُوًّا عَنْهَا.
وَأَمَّا إِذَا كَانَتِ النَّجَاسَةُ ذَاتَ جِرْمٍ، فَإِنْ كَانَتْ يَابِسَةً فَالْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، أَنَّهَا تَطْهُرُ بِالدَّلْكِ أَيْضًا، وَأَمَّا إِذَا كَانَتِ النَّجَاسَةُ ذَاتَ جِرْمٍ وَرَطْبَةً، فَالْمَالِكِيَّةُ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، أَنَّهَا تَطْهُرُ أَيْضًا بِالدَّلْكِ.
وَالأَْصْل فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الآْثَارُ الَّتِي وَرَدَتْ فِي طَهَارَةِ النِّعَال بِالدَّلْكِ. وَمِنْ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: إِذَا وَطِئَ أَحَدُكُمُ الأَْذَى بِنَعْلِهِ فَإِنَّ التُّرَابَ لَهُ طَهُورٌ. وَالْمَنْقُول فِي كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ النَّجَاسَةَ عِنْدَهُمْ
__________
(1) فتح القدير 1 / 148، 150، والاختيار 1 / 49، وبداية المجتهد 1 / 76، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 113، 114، ومغني المحتاج 1 / 43، وشرح الروض 1 / 21، والأم 1 / 18، 44، والمغني 1 / 149 وما بعدها و 156، 157، منتقى الأخبار 1 / 85
(2) المراجع السابقة.(3/113)
لاَ تَطْهُرُ إِلاَّ بِالْمَاءِ الْمُطْلَقِ، وَهَذِهِ أَيْضًا رِوَايَةٌ أُخْرَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (1) .
التَّتْرِيبُ فِي تَطْهِيرِ نَجَاسَةِ الْكَلْبِ:
8 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى وُجُوبِ اسْتِعْمَال التُّرَابِ مَعَ الْمَاءِ فِي التَّطْهِيرِ مِنْ نَجَاسَةِ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ وَمَا تَوَلَّدَ مِنْهُمَا، وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِمَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: طَهُورُ إِنَاءِ أَحَدِكُمْ إِذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ أَنْ يَغْسِلَهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ أُولاَهُنَّ بِالتُّرَابِ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَأَحْمَدُ. وَقَدْ قَاسُوا الْخِنْزِيرَ عَلَى الْكَلْبِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجِبُ اسْتِعْمَال التُّرَابِ فِي ذَلِكَ. وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (كَلْب)
التَّطَهُّرُ بِالتُّرَابِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَجْزَاءِ الأَْرْضِ:
9 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَبَاحُ بِالتَّيَمُّمِ - عِنْدَ وُجُودِ سَبَبِهِ - مَا يُسْتَبَاحُ بِالْوُضُوءِ وَالْغُسْل، وَالتَّيَمُّمُ يَكُونُ بِالتُّرَابِ الطَّهُورِ إِجْمَاعًا، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا عَدَاهُ مِنْ أَجْزَاءِ الأَْرْضِ، عَلَى تَفْصِيلٍ مَوْطِنُهُ مُصْطَلَحُ (تَيَمُّم (2))
__________
(1) الطحطاوي ص 84، وفتح القدير 1 / 135، والاختيار 1 / 45، والدسوقي 1 / 74، والجمل على المنهج 1 / 183، والمغني مع الشرح الكبير 1 / 728
(2) فتح القدير 1 / 135، 136، والاختيار 1 / 45، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 75، 83، 84، والمغني 1 / 52، 53 و 2 / 83، 84، والمحلى 1 / 94 وما بعدها، ونيل الأوطار 1 / 39، 83، 84، ومعاني الآثار للطحاوي 1 / 13، وسنن الدارقطني ص 24، 25(3/114)
الصَّلاَةُ عَلَى الأَْرْضِ:
10 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى صِحَّةِ الصَّلاَةِ عَلَى الأَْرْضِ الطَّاهِرَةِ فِي جَمِيعِ الْبِقَاعِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الصَّلاَةِ عَلَى الأَْرْضِ النَّجِسَةِ، فَمَنَعَهَا الْجُمْهُورُ وَهُوَ قَوْلٌ لِلْمَالِكِيَّةِ، وَذَهَبَ إِلَى صِحَّةِ الصَّلاَةِ عَلَيْهَا الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ.
وَهُنَاكَ أَحْكَامٌ خَاصَّةٌ لِبَعْضِ الْمَوَاضِعِ كَجَوْفِ الْكَعْبَةِ، وَالْمَقْبَرَةِ، وَالْحَمَّامِ، وَالْحُشِّ، وَمَعَاطِنِ الإِْبِل، وَالأَْرْضِ الْمَغْصُوبَةِ، وَأَرْضِ الْعَذَابِ، وَالْبِيَعِ، وَالْكَنَائِسِ، وَالطَّرِيقِ الْمَسْلُوكَةِ، عَلَى خِلاَفٍ وَتَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَاتِهَا (1) .
أَرْضُ الْعَذَابِ:
11 - هِيَ الأَْرْضُ الَّتِي عُذِّبَ فِيهَا قَوْمٌ كَذَّبُوا رُسُلَهُمْ، كَأَرْضِ بَابِل، وَدِيَارِ ثَمُودَ
، كَمَا جَاءَ فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ} . . . {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ} (2) . وَمِنَ الأَْحْكَامِ الَّتِي تَتَّصِل بِهَذِهِ الأَْرْضِ مَا يَأْتِي:
حُكْمُ دُخُول تِلْكَ الْمَوَاضِعِ:
12 - يُكْرَهُ دُخُول تِلْكَ الْمَوَاضِعِ، وَإِذَا دَخَل الإِْنْسَانُ شَيْئًا مِنْهَا فَعَلَى الصِّفَةِ الَّتِي أَرْشَدَ إِلَيْهَا
__________
(1)) الأم 1 / 79، 80، 85، 207 و7 / 188، 189، 320، وحاشية الجمل 1 / 416، 2 / 99، والاختيار 1 / 59، 118، والدسوقي 1 / 34، 68، 155، وبداية المجتهد 1 / 68، 103، 106، 107، والمغني 2 / 64، 67، 75، 372، والمحلى 4 / 24 - 34، 80 - 82، وفتح الباري 1 / 256، 257، و 6 / 239، ونيل الأوطار 2 / 111، 118، و3 / 248، وفتح القدير 1 / 479، 480، وأبو داود 1 / 182، 184، والجامع لأحكام القرآن 10 - 54 - 52
(2) سورة الحجر / 80 - 83(3/114)
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الاِعْتِبَارِ وَالْخَوْفِ وَالإِْسْرَاعِ، لِمَا وَرَدَ مِنْ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تَدْخُلُوا عَلَى هَؤُلاَءِ الْمُعَذَّبِينَ إِلاَّ أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ، أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْل مَا أَصَابَهُمْ. (1)
حُكْمُ التَّطَهُّرِ وَالتَّطْهِيرِ بِمَائِهَا:
13 - يُنْظَرُ فِي ذَلِكَ مُصْطَلَحُ: (آبَار) ف 32
حُكْمُ الاِنْتِفَاعِ بِمَائِهَا فِي غَيْرِ الطَّهَارَةِ:
14 - يُمْنَعُ الاِنْتِفَاعُ بِمَاءِ آبَارِ هَذِهِ الأَْرْضِ بِالنِّسْبَةِ لِلإِْنْسَانِ مِنْ طَبْخٍ وَعَجْنٍ، وَيَجُوزُ الاِنْتِفَاعُ بِهِ لِغَيْرِ الإِْنْسَانِ؛ لِمَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّاسَ نَزَلُوا مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْحِجْرِ أَرْضِ ثَمُودَ، فَاسْتَقَوْا مِنْ آبَارِهَا، وَعَجَنُوا بِهِ الْعَجِينَ، فَأَمَرَهُمْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُهْرِيقُوا مَا اسْتَقَوْا مِنْ آبَارِهَا، وَيَعْلِفُوا الإِْبِل الْعَجِينَ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَسْتَقُوا مِنَ الْبِئْرِ الَّتِي كَانَتْ تَرِدُهَا النَّاقَةُ.
حُكْمُ التَّيَمُّمِ بِتُرَابِهَا:
15 - يُكْرَهُ التَّيَمُّمُ بِتُرَابِ هَذِهِ الأَْرْضِ، وَذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَلِلْمَالِكِيَّةِ رَأْيَانِ، أَحَدُهُمَا يَحْرُمُ التَّيَمُّمُ، وَالثَّانِي يَجُوزُ صَحَّحَهُ التَّتَّائِيُّ (2) .
__________
(1) القرطبي 10 / 46 وما بعدها، وحديث: " لا تدخلوا. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 530 ط السلفية) .
(2) الشرح الصغير 1 / 29، 30، والدسوقي 1 / 34، وابن عابدين 1 / 90، وقليوبي 1 / 20(3/115)
حُكْمُ الصَّلاَةِ فِيهَا:
16 - الصَّحِيحُ الْمُخْتَارُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ صِحَّةُ الصَّلاَةِ فِيهَا، إِلاَّ أَنْ تَكُونَ بِهَا نَجَاسَةٌ؛ لأَِنَّ الصَّلاَةَ بِكُل مَوْضِعٍ طَاهِرٍ صَحِيحَةٌ. كَذَلِكَ ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَالْحَنَفِيَّةُ إِلَى صِحَّةِ الصَّلاَةِ فِيهَا مَعَ الْكَرَاهَةِ؛ لأَِنَّهُ مَوْضِعٌ مَسْخُوطٌ عَلَيْهِ. وَذَهَبَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِلَى عَدَمِ صِحَّةِ الصَّلاَةِ فِيهَا، وَأَنَّهَا مُسْتَثْنَاةٌ مِنْ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: جُعِلَتْ لِي الأَْرْضُ مَسْجِدًا. (1)
وَرُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَرِهَ الصَّلاَةَ بِخَسْفِ بَابِل (2) .
زَكَاةُ مَا يَخْرُجُ مِنَ الأَْرْضِ
17 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَا أَنْبَتَتْهُ الأَْرْضُ مِنْ زُرُوعٍ وَثِمَارٍ فِيهِ الزَّكَاةُ، بِشُرُوطٍ وَتَفْصِيلٍ مَوْطِنُهُ (زَكَاة) ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِيمَا يَخْرُجُ مِنَ الأَْرْضِ مِنْ مَعْدِنٍ، أَوْ رِكَازٍ عَلَى تَفْصِيلٍ مَوْطِنُهُ (الزَّكَاة وَالْمَعْدِنُ وَالرِّكَازُ) . (3)
التَّصَرُّفُ فِي أَرْضِ الْمَنَاسِكِ
مَكَانُ الإِْحْرَامِ:
18 - الْحَرَمُ يَجُوزُ إِحْيَاؤُهُ، وَيَجُوزُ لِلإِْمَامِ إِقْطَاعُهُ، فَمَنْ أَحْيَاهُ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ بِبَيْعٍ وَغَيْرِهِ؛ لأَِنَّهُ
__________
(1) تقدم تخريجه في فقرة (2)
(2) القرطبي 10 / 46 وما بعدها، وشرح منتهى الإرادات 1 / 158، وحاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 197، وفتح الباري 1 / 530
(3) الأم 2 / 28، 29 وحاشية الجمل على المنهاج 2 / 240، وفتح القدير 2 / 2، 3 والاختيار 1 / 148، 149، والشرح الكبير حاشية الدسوق1 / 486، والمغني 2 / 690 وما بعدها، المحلى 5 / 209 وما بعدها، الدرر البهية 2 / 11 وما بعدها، والجامع لأحكام القرآن 7 / 99 وما بعدها، ونيل الأوطار 4 / 121(3/115)
أَصْبَحَ مِلْكَهُ، وَلاَ يُضَيِّقُ عَلَى الْمُحْرِمِينَ لاِتِّسَاعِهِ، وَهَذَا مِمَّا لاَ خِلاَفَ فِيهِ.
وَعَرَفَةُ وَمُزْدَلِفَةُ وَمِنًى لاَ يَجُوزُ لأَِحَدٍ إِحْيَاؤُهَا، وَلاَ يَجُوزُ لِلإِْمَامِ إِقْطَاعُهَا. وَذَلِكَ لِتَعَلُّقِ حَقِّ النُّسُكِ بِهَا، حَتَّى وَإِنِ اتَّسَعَتْ وَلَمْ تَضِقْ بِالْحَجِيجِ، قَال الْجَمَل فِي حَاشِيَةِ شَرْحِ الْمَنْهَجِ: وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، فَلاَ تُمْلَكُ وَلاَ يُتَصَرَّفُ فِيهَا، وَقَال الْغَزَالِيُّ: الأَْظْهَرُ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يُضَيِّقْ لَمْ يَمْنَعْ، وَيَدُل لِذَلِكَ الْخَبَرِ الصَّحِيحِ قِيل يَا رَسُول اللَّهِ: أَلاَ تَبْنِي لَكَ بَيْتًا بِمِنًى يُظِلُّكَ؟ فَقَال: لاَ، مِنًى مُنَاخُ مَنْ سَبَقَ (1)
وَقِيسَ عَلَى ذَلِكَ نَمِرَةُ؛ لأَِنَّهُ يُسَنُّ لِلْحَاجِّ أَنْ يَسْتَقِرَّ بِهَا قَبْل الزَّوَال مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، كَمَا قِيسَ بِهَا الْمُحَصَّبُ؛ لأَِنَّهُ يُسَنُّ لِلْحُجَّاجِ إِذَا نَفَرُوا مِنْ مِنًى أَنْ يَبِيتُوا فِيهِ. وَعَلَى هَذَا فَالتَّصَرُّفُ فِي أَرْضِ الْمَنَاسِكِ لاَ يَتَأَتَّى؛ لأَِنَّهَا لاَ تُمْلَكُ بِالإِْحْيَاءِ (2) .
مِلْكِيَّةُ الأَْرْضِ
19 - مِلْكِيَّةُ الأَْرْضِ لَهَا أَسْبَابٌ تَشْتَرِكُ مَعَ غَيْرِهَا فِيهَا، وَهِيَ الْعُقُودُ النَّاقِلَةُ لِلْمِلْكِيَّةِ، وَالإِْرْثِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَهُنَاكَ أَسْبَابٌ خَاصَّةٌ بِتَمَلُّكِ الأَْرْضِ، وَهِيَ إِحْيَاءُ الْمَوَاتِ، وَالإِْقْطَاعُ، وَلِكُل سَبَبٍ مِنْ هَذِهِ
__________
(1) " ألا تبني لك بيتا يظلك بمنى قال: لا، منى مناخ من سبق ". رواه الترمذي (4 / 111 المطبعة المصرية 1350 هـ) بسنده عن مسيكة المكية عن عائشة مرفوعا وقال: هذا حديث حسن، ورواه الحاكم في المستدرك (1 / 467 ط دار الكتاب) وقال صاحب تحفة الأحوذي (3 / 621) مدار هذا الحديث على مسيكة المكية وهي مجهولة.
(2) حاشية الجمل على شرح المنهج 3 / 562، 563، والوجيز 1 / 242(3/116)
الأَْسْبَابِ مُصْطَلَحُهُ الْخَاصُّ، فَيُرْجَعُ لِمَعْرِفَةِ أَحْكَامِهِ إِلَيْهِ.
وَمِمَّا تَجْدُرُ الإِْشَارَةُ إِلَيْهِ، أَنَّ مُجَرَّدَ وَضْعِ الْيَدِ الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ لَيْسَ سَبَبًا مِنْ أَسْبَابِ مِلْكِهَا شَرْعًا، مَهْمَا طَالَتِ الْمُدَّةُ. وَيُنْظَرُ تَفْصِيل هَذَا فِي مُصْطَلَحِ (تَقَادُم) .
التَّصَرُّفُ فِي الأَْرْضِ الْمَوْقُوفَةِ:
20 - أَرْضُ الْوَقْفِ لاَ يَجُوزُ فِيهَا التَّصَرُّفُ النَّاقِل لِلْمِلْكِيَّةِ فِي الْجُمْلَةِ، إِلاَّ فِي حَالاَتٍ خَاصَّةٍ لِمَصْلَحَةِ الْوَقْفِ، أَوِ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (وَقْف) .
حُكْمُ إِجَارَةِ الأَْرْضِ:
21 - اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي جَوَازِ إِجَارَةِ الأَْرْضِ، فَأَكْثَرُهُمْ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ. وَقَدْ قَال بِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ وَابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَمِنَ التَّابِعِينَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَعُرْوَةُ وَالْقَاسِمُ وَسَالِمٌ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ، وَمَالِكٌ وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ، وَذَلِكَ لأَِنَّهُ لَمَّا سُئِل رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ عَنْ كِرَاءِ الأَْرْضِ قَال: أَمَّا بِشَيْءٍ مَعْلُومٍ مَضْمُونٍ فَلاَ بَأْسَ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ.
وَذَهَبَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَطَاوُسٌ فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ إِلَى كَرَاهَةِ تَأْجِيرِ الأَْرْضِ، أَيْ عَدَمِ جَوَازِهَا، وَذَلِكَ لِمَا رَوَى رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ كِرَاءِ الْمَزَارِعِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَرَوَى مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ أَنَّ طَاوُسًا يَمْنَعُ الإِْيجَارَ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَأَجَازَهَا بِالرُّبُعِ وَالثُّلُثِ.(3/116)
مَا يُكْرَى بِهِ (الْعِوَضُ)
22 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ مَنْ قَال بِجَوَازِ الإِْجَارَةِ فِي أَنَّ الأَْرْضَ تُكْرَى بِالذَّهَبِ وَسَائِرِ الْعُرُوضِ، عَدَا مَا تُنْبِتُهُ الأَْرْضُ، وَذَلِكَ لِمَا رَوَى حَنْظَلَةُ بْنُ قَيْسٍ أَنَّهُ سَأَل رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ عَنْ كِرَاءِ الأَْرْضِ فَقَال: نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كِرَاءِ الأَْرْضِ قَال: فَقُلْتُ: بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، قَال: إِنَّمَا نَهَى عَنْهَا بِبَعْضِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا، أَمَّا بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَلاَ بَأْسَ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلأَِنَّهَا عَيْنٌ يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْمَنْفَعَةِ الْمُبَاحَةِ الْمَقْصُودَةِ مِنْهَا مَعَ بَقَائِهَا، فَجَازَتْ إِجَارَتُهَا بِالأَْثْمَانِ، وَالْحُكْمُ فِي الْعُرُوضِ كَالْحُكْمِ فِي الأَْثْمَانِ.
كِرَاؤُهَا بِالطَّعَامِ وَمَا تُنْبِتُهُ الأَْرْضُ:
23 - إِنْ آجَرَهَا بِطَعَامٍ غَيْرِ خَارِجٍ مِنْهَا، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ جِنْسِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا أَوْ لَيْسَ مِنْ جِنْسِهِ، وَكَانَ الْعِوَضُ مَعْلُومًا فَقَدْ أَجَازَ ذَلِكَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ، مِنْهُمْ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةُ وَالنَّخَعِيُّ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَبُو ثَوْرٍ، وَذَلِكَ لِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، لَمَّا سُئِل عَنْ كِرَاءِ الأَْرْضِ قَال: أَمَّا بِشَيْءٍ مَعْلُومٍ مَضْمُونٍ فَلاَ بَأْسَ، وَلأَِنَّهُ عِوَضٌ مَعْلُومٌ مَضْمُونٌ فَجَازَتْ إِجَارَتُهُ بِهِ كَالأَْثْمَانِ.
وَقَال مَالِكٌ: لاَ تَجُوزُ الإِْجَارَةُ بِالطَّعَامِ وَلاَ بِمَا تُنْبِتُهُ وَلَوْ كَانَ غَيْرَ طَعَامٍ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ جِنْسِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا، أَوْ لَيْسَ مِنْ جِنْسِهِ، وَذَلِكَ لِمَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَأَبُو دَاوُدَ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلاَ يُكْرِيهَا بِطَعَامٍ مُسَمًّى. وَقِيسَ عَلَى الطَّعَامِ غَيْرُهُ مِمَّا تُنْبِتُهُ الأَْرْضُ.
وَإِنْ آجَرَهَا بِطَعَامٍ مَعْلُومٍ مِنْ جِنْسِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا(3/117)
كَأَنْ آجَرَهَا بِقَمْحٍ، وَهِيَ مَزْرُوعَةٌ قَمْحًا، فَقَال مَالِكٌ: لاَ يَجُوزُ؛ لِمَا تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ، وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَحْمَدَ.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ: يَجُوزُ ذَلِكَ، لأَِنَّ مَا جَازَتْ إِجَارَتُهُ بِغَيْرِ الْمَطْعُومِ جَازَتْ إِجَارَتُهُ بِهِ كَالدُّورِ، وَإِنْ آجَرَهَا بِجُزْءٍ مِمَّا يَخْرُجُ مِنْهَا مُشَاعًا كَثُلُثٍ أَوْ نِصْفٍ أَوْ رُبُعٍ، فَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ: لاَ يَجُوزُ، وَذَلِكَ لأَِنَّهُ إِجَارَةٌ بِعِوَضٍ مَجْهُولٍ، فَلاَ يَجُوزُ، كَمَا لَوْ آجَرَهَا بِثُلُثِ مَا يَخْرُجُ مِنْ غَيْرِهَا.
وَالظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَأَصْحَابِهِ وَهُوَ قَوْل الثَّوْرِيِّ وَاللَّيْثِ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَالأَْوْزَاعِيِّ أَنَّهُ يَجُوزُ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي الْمُزَارَعَةِ (1) .
الأَْرْضُ الْمَفْتُوحَةُ
الأَْرْضُ الَّتِي فُتِحَتْ صُلْحًا:
24 - كُل أَرْضٍ صُولِحَ أَهْلُهَا عَلَيْهَا فَهِيَ عَلَى مَا صُولِحُوا عَلَيْهِ. فَإِنْ صُولِحُوا عَلَى أَنْ تَكُونَ الأَْرْضُ لَهُمْ، وَيُؤَدُّوا عَنْهَا خَرَاجًا مَعْلُومًا، أَوْ يُؤَدُّوا خَرَاجًا غَيْرَ مُوَظَّفٍ عَلَى الأَْرْضِ، فَهَذِهِ الأَْرْضُ مِلْكٌ لَهُمْ يَتَصَرَّفُونَ فِيهَا كَيْفَمَا شَاءُوا، وَلاَ تُقْسَمُ عَلَى الْمُقَاتِلِينَ، وَهَذَا مِمَّا لاَ خِلاَفَ فِيهِ بَيْنَ أَهْل الْعِلْمِ، وَحُكْمُ هَذَا الْخَرَاجِ حُكْمُ الْجِزْيَةِ يَسْقُطُ بِإِسْلاَمِهِمْ
__________
(1) الأم 3 / 239 - 241، المنهج، وحاشية الجمل 3 / 529، 531، الوجيز 1 / 227، 230، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 4 / 7، وبداية المجتهد 2 / 208 - 210، وتكملة فتح القدير 7 / 148، 149 و8 / 32، والاختيار 2 / 66، 67، 349، 350، والمغني 5 / 394 - 396، ونيل الأوطار وشرح منتقى الأخبار 5 / 326، 237(3/117)
وَإِنْ صُولِحُوا عَلَى أَنَّ الأَْرْضَ لِلْمُسْلِمِينَ، وَأَنْ يُؤَدُّوا الْجِزْيَةَ عَنْ رِقَابِهِمْ، فَإِنَّ الأَْرْضَ تَكُونُ وَقْفًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَلاَ تُقْسَمُ بَيْنَهُمْ، وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا لاَ خِلاَفَ فِيهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.
الأَْرْضُ الَّتِي فُتِحَتْ عَنْوَةً:
25 - إِنْ فُتِحَتِ الأَْرْضُ عَنْوَةً: فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَقْسِيمِهَا عَلَى الْمُقَاتِلِينَ. فَقَال مَالِكٌ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ: لاَ تُقْسَمُ الأَْرْضُ، وَتَكُونُ وَقْفًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، يُصْرَفُ خَرَاجُهَا فِي مَصَالِحِهِمْ، مِنْ أَرْزَاقِ الْمُقَاتِلَةِ وَبِنَاءِ الْقَنَاطِرِ وَالْمَسَاجِدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ سُبُل الْخَيْرِ، وَهَذَا إِذَا لَمْ يَرَ الإِْمَامُ فِي وَقْتٍ مِنَ الأَْوْقَاتِ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ تَقْتَضِي الْقِسْمَةَ، فَلَهُ أَنْ يَقْسِمَهَا عَلَى الْمُقَاتِلِينَ، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ اتِّفَاقُ الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ، حِينَمَا امْتَنَعَ عُمَرُ عَنْ تَقْسِيمِ أَرْضِ السَّوَادِ، عِنْدَمَا طَلَبَ مِنْهُ ذَلِكَ بِلاَلٌ، وَسَلْمَانُ. وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ: الإِْمَامُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَقْسِمَهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْمُقَاتِلِينَ، أَوْ يَضْرِبَ عَلَى أَهْلِهَا الْخَرَاجَ وَيُقِرَّهَا بِأَيْدِيهِمْ. وَذَلِكَ لأَِنَّ كِلاَ الأَْمْرَيْنِ قَدْ ثَبَتَ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ ظَهَرَ عَلَى مَكَّةَ عَنْوَةً وَفِيهَا أَمْوَالٌ فَلَمْ يَقْسِمْهَا، وَظَهَرَ عَلَى قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ وَغَيْرِهِمَا فَلَمْ يَقْسِمْ شَيْئًا مِنْهَا، وَقَسَمَ نِصْفَ خَيْبَرَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَوَقَفَ النِّصْفَ لِنَوَائِبِهِ وَحَاجَاتِهِ، كَمَا فِي حَدِيثِ سَهْل بْنِ أَبِي حَثْمَةَ قَال: قَسَمَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ نِصْفَيْنِ: نِصْفًا لِنَوَائِبِهِ وَحَوَائِجِهِ، وَنِصْفًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، قَسَمَهَا بَيْنَهُمْ عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَسَكَتَ عَنْهُ، وَمَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ هُوَ رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ.(3/118)
وَقَال الشَّافِعِيُّ: إِنَّ الأَْرْضَ تُقْسَمُ بَيْنَ الْمُقَاتِلِينَ، كَمَا يُقْسَمُ الْمَنْقُول إِلاَّ أَنْ يَتْرُكُوا حَقَّهُمْ مِنْهَا بِعِوَضٍ، كَمَا فَعَل عُمَرُ مَعَ جَرِيرٍ الْبَجَلِيِّ، إِذْ أَنَّهُ عَوَّضَهُ سَهْمَهُ فِي أَرْضِ السَّوَادِ (1) . أَوْ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} (2) فَإِنَّهَا عَامَّةٌ فِي الْمَنْقُول وَالأَْرْضِ. وَيُفْهَمُ مِنْهَا أَنَّ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهَا لِلْمُقَاتِلِينَ، وَمَا قَال الشَّافِعِيُّ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَيْضًا.
26 - أَمَّا إِذَا لَمْ تُقْسَمِ الأَْرْضُ وَتُرِكَتْ بِأَيْدِي أَهْلِهَا، يَنْتَفِعُ الْمُسْلِمُونَ بِخَرَاجِهَا، فَقَدْ قَال جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ وَالْفُقَهَاءِ: إِنَّهَا أَرْضٌ مَوْقُوفَةٌ، لاَ يَجُوزُ بَيْعُهَا، وَلاَ شِرَاؤُهَا، وَلاَ هِبَتُهَا، وَلاَ تُورَثُ عَمَّنْ وَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا مِنَ الْكُفَّارِ. وَذَلِكَ لِمَا رَوَى الأَْوْزَاعِيُّ أَنَّ عُمَرَ وَالصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَمَّا ظَهَرُوا عَلَى الشَّامِ أَقَرُّوا أَهْل الْقُرَى فِي قُرَاهُمْ عَلَى مَا كَانَ بِأَيْدِيهِمْ مِنْ أَرْضِهِمْ، يَعْمُرُونَهَا وَيُؤَدُّونَ خَرَاجَهَا لِلْمُسْلِمِينَ، وَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ لأَِحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ شِرَاءُ مَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنَ الأَْرْضِ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ: إِنَّهَا مِلْكٌ لَهُمْ. لَهُمْ التَّصَرُّفُ فِيهَا بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْهِبَةِ، وَيَتَوَارَثُهَا عَنْهُمْ أَقَارِبُهُمْ، وَذَلِكَ لِمَا رَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ اشْتَرَى مِنْ دِهْقَانٍ أَرْضًا عَلَى أَنْ يَكْفِيَهُ خَرَاجَهَا، وَبِهَذَا قَال الثَّوْرِيُّ وَابْنُ سِيرِينَ (3) .
__________
(1) أخرجه يحيى بن آدم في كتاب الخراج ص 45 ط السلفية.
(2) سورة الأنفال / 41
(3) الأم 4 / 192، 193 و7 / 325، والوجيز 1 / 288، 289، 291، والخراج ص 68 ط السلفية، وفتح القدير 4 / 303 - 305، والاختيار 3 / 319، 320، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 189، وبداية المجتهد 1 / 368 - 371، والمغني 2 / 716 - 726 و8 / 527، والجامع لأحكام القرآن (القرطبي) 8 / 4، و18 / 23، وأحكام القرآن (الجصاص) 3 / 528 - 534، ونيل الأوطار ومنتقى الأخبار 8 / 11 - 13(3/118)
الأَْرْضُ الَّتِي أَسْلَمَ أَهْلُهَا عَلَيْهَا:
27 - حُكْمُ هَذِهِ الأَْرْضِ سَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ أَرْضِ الْعَرَبِ أَوْ أَرْضِ الْعَجَمِ، كَأَرْضِ الْمَدِينَةِ وَالطَّائِفِ وَالْيَمَنِ وَالْبَحْرَيْنِ، أَنَّهَا تَبْقَى مِلْكًا لأَِصْحَابِهَا، وَاسْتَدَل لِذَلِكَ بِحَدِيثِ: مَنْ أَسْلَمَ عَلَى شَيْءٍ فَهُوَ لَهُ، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ (1) .
أَرْضُ الْعُشْرِ:
28 - كُل أَرْضٍ أَسْلَمَ أَهْلُهَا عَلَيْهَا، وَهِيَ مِنْ أَرْضِ الْعَرَبِ أَوْ أَرْضِ الْعَجَمِ
، فَهِيَ لَهُمْ وَهِيَ أَرْضُ عُشْرٍ. وَكَذَلِكَ كُل أَرْضِ الْعَرَبِ، سَوَاءٌ فُتِحَتْ صُلْحًا أَوْ عَنْوَةً؛ لأَِنَّ أَهْلَهَا لاَ يُقَرُّونَ عَلَى الشِّرْكِ، حَتَّى لَوْ دَفَعُوا الْجِزْيَةَ؛ وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَحَ كَثِيرًا مِنْ أَرْضِ الْعَرَبِ عَنْوَةً، وَأَبْقَاهَا عُشْرِيَّةً، وَكَذَلِكَ الأَْرْضُ الَّتِي فَتَحَهَا الْمُسْلِمُونَ، عَنْوَةً وَقَسَمَهَا الإِْمَامُ بَيْنَ الْفَاتِحِينَ (2) .
أَرْضُ الْخَرَاجِ:
29 - هِيَ أَرْضُ الْعَجَمِ الَّتِي فَتَحَهَا الإِْمَامُ عَنْوَةً وَتَرَكَهَا فِي أَيْدِي أَهْلِهَا، أَوْ كَانَتْ عُشْرِيَّةً وَتَمَلَّكَهَا ذِمِّيٌّ،
كَمَا يَرَى أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ. وَقَال أَبُو يُوسُفَ: يَلْتَزِمُ مَالِكُهَا بِعُشْرَيْنِ قِيَاسًا عَلَى أَرْضِ تَغْلِبَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ تَبْقَى عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّهَا وَظِيفَةُ الأَْرْضِ.
وَالأَْرْضُ الْخَرَاجِيَّةُ لاَ تَعُودُ عُشْرِيَّةً بِحَالٍ؛ لأَِنَّ
__________
(1) الخراج لأبي يوسف ص 69
(2) الاختيار 1 / 113، والخراج لأبي يوسف ص 69(3/119)
الْخَرَاجَ كَمَا يُوضَعُ عَلَى الذِّمِّيِّ يُوضَعُ عَلَى الْمُسْلِمِ (1) .
أَرْضُ الْحَرْبِ
اُنْظُرْ: أَرْضٌ
أَرْضُ الْحَوْزِ
التَّعْرِيفُ:
1 - أَرْضُ الْحَوْزِ هِيَ: الأَْرْضُ الَّتِي مَاتَ عَنْهَا أَرْبَابُهَا بِلاَ وَارِثٍ، وَآلَتْ إِلَى بَيْتِ الْمَال، أَوْ فُتِحَتْ عَنْوَةً، أَوْ صُلْحًا، وَلَمْ تُمَلَّكْ لأَِهْلِهَا، بَل أُبْقِيَتْ رَقَبَتُهَا لِلْمُسْلِمِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَلَعَلَّهَا إِنَّمَا سُمِّيَتْ أَرْضَ الْحَوْزِ، لأَِنَّ الإِْمَامَ حَازَهَا لِبَيْتِ الْمَال وَلَمْ يَقْسِمْهَا (2) .
أَمَّا مَا فُتِحَ عَنْوَةً وَقُسِمَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُ يَكُونُ عُشْرِيًّا، وَمَا فُتِحَ عَنْوَةً وَأَقَرَّ أَهْلُهُ عَلَيْهِ عَلَى خَرَاجٍ يُؤَدُّونَهُ - كَسَوَادِ الْعِرَاقِ - فَإِنَّهُ يَكُونُ مِلْكًا لأَِهْلِهِ عِنْدَ
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) تنقيح الفتاوى الحامدية 2 / 199، وأرض الحوز هو اصطلاح لمتأخري الحنفية، ويسمونها أيضا (أرض المملكة) و (الأراضي الأميرية) . ودرج تسميتها: الأراضي الميرية. وهي في فتوى بعض متأخري الحنفية: أرض لا عشرية ولا خراجية. بل هي نوع ثالث من الأرض (مجمع الأنهر 1 / 672)(3/119)
الْحَنَفِيَّةِ، وَتَصَرُّفَاتُهُمْ فِيهِ كُلُّهَا نَافِذَةٌ. وَتَفْصِيل هَذَا التَّقْسِيمِ فِي مُصْطَلَحِ: (أَرْض) .
2 - وَالنَّوْعَانِ اللَّذَانِ سَمَّاهُمَا مُتَأَخِّرُو الْحَنَفِيَّةِ أَرْضَ الْحَوْزِ، يَرَى غَيْرُهُمْ فِيهِمَا مَا يَلِي (1) :
أ - مَا آل إِلَى بَيْتِ الْمَال مِمَّا مَاتَ عَنْهُ أَرْبَابُهُ بِلاَ وَارِثٍ، فَإِنَّهُ إِلَى الإِْمَامِ يَصْنَعُ فِيهِ مَا يَرَى فِيهِ الْمَصْلَحَةَ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَسَوَاءٌ قُلْنَا: إِنَّهُ آل إِلَى بَيْتِ الْمَال بِطَرِيقِ الْمِيرَاثِ، أَوْ بِأَنَّهُ كَسَائِرِ الأَْمْوَال الَّتِي لاَ مَالِكَ لَهَا.
ب - وَأَمَّا أَرْضُ الْعَنْوَةِ الَّتِي أُبْقِيَتْ رَقَبَتُهَا لِلْمُسْلِمِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَكَذَلِكَ الَّتِي فُتِحَتْ صُلْحًا، وَلَمْ تُمَلَّكْ لأَِهْلِهَا، بَل أُبْقِيَتْ رَقَبَتُهَا لِلْمُسْلِمِينَ فَهَذِهِ - عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - تَكُونُ وَقْفًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِمُجَرَّدِ الاِسْتِيلاَءِ عَلَيْهَا، وَقِيل: لاَ تَكُونُ وَقْفًا إِلاَّ بِأَنْ يَقِفَهَا الإِْمَامُ لَفْظًا، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَقَوْل الشَّافِعِيَّةِ، وَعَلَى كُل حَالٍ فَإِذَا صَارَتْ وَقْفًا فَيَمْتَنِعُ عِنْدَهُمْ بَيْعُهَا وَنَحْوُهُ كَهِبَتِهَا.
ثُمَّ هَذَا الْوَقْفُ هُوَ مِنْ جِنْسِ الْوَقْفِ الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهِ شَرْعًا، عَلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ كَلاَمِ الْمَاوَرْدِيُّ وَأَبِي يَعْلَى، وَقَال ابْنُ الْقَيِّمِ: لَيْسَ هُوَ الْوَقْفُ الْمُصْطَلَحُ عَلَيْهِ، بَل مَعْنَى وَقْفِهِ، عَدَمُ قِسْمَتِهِ بَيْنَ الْغَانِمِينَ. وَيَذْكُرُ الْفُقَهَاءُ أَحْكَامَ التَّصَرُّفِ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنَ الأَْرَاضِي - عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ - فِي أَوَائِل كِتَابِ الْبَيْعِ، وَفِي بَابِ قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ
.
__________
(1) أحكام أهل الذمة 1 / 104، وكشاف القناع 3 / 94، 158، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 131، 132، وشرح المنهاج وحاشية القليوبي 3 / 191، والزرقاني على خليل 3 / 126، 127، والأحكام السلطانية للماوردي ص 138(3/120)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - مِشَدُّ الْمَسْكَةِ:
3 - " مِشَدُّ الْمَسْكَةِ " اصْطِلاَحٌ جَرَى اسْتِعْمَالُهُ فِي الْعَهْدِ الْعُثْمَانِيِّ. وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ اسْتِحْقَاقِ الْحِرَاثَةِ فِي أَرْضِ الْغَيْرِ، مَأْخُوذٌ مِنَ الْمَسْكَةِ لُغَةً وَهِيَ: مَا يُتَمَسَّكُ بِهِ، فَكَأَنَّ الْمُتَسَلِّمَ لِلأَْرْضِ الْمَأْذُونَ لَهُ مِنْ صَاحِبِهَا فِي الْحَرْثِ صَارَ لَهُ مَسْكَةٌ يَتَمَسَّكُ بِهَا فِي الْحَرْثِ فِيهَا. وَوَجْهُ تَسْمِيَتِهَا مَسْكَةً، أَنَّ مَنْ ثَبَتَتْ لَهُ بِالْقِدَمِيَّةِ لاَ تُرْفَعُ يَدُهُ عَنْ أَرْضِهَا مَا دَامَ يَزْرَعُهَا، يَدْفَعُ إِلَى الْمُتَوَلِّي عَلَيْهَا مَا عَلَيْهَا مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْل، أَوْ عُشْرٍ أَوْ خَرَاجٍ، فَلَهُ الاِسْتِمْسَاكُ بِهَا مَا دَامَ حَيًّا. وَهِيَ حَقٌّ مُجَرَّدٌ؛ لأَِنَّهَا وَصْفٌ قَائِمٌ بِالأَْرْضِ؛ لأَِنَّهَا مُجَرَّدُ الْكِرَابِ وَالْحَرْثِ. فَإِنْ كَانَ لِمَنْ بِيَدِهِ الأَْرْضُ أَعْيَانٌ، كَأَشْجَارٍ أَوْ كَبَسَ الأَْرْضَ بِتُرَابٍ سُمِّيَتْ (الْكِرْدَارَ) ، وَلَمْ تُسَمَّ مِشَدَّ الْمَسْكَةِ (1) ، وَإِنْ كَانَتِ الأَْعْيَانُ قَدْ وَضَعَهَا فِي حَانُوتٍ وَكَانَتْ ثَابِتَةً سُمِّيَتِ (الْكَدَكَ أَوِ: الْجَدَكَ) .
وَمِشَدُّ الْمَسْكَةِ يَكُونُ فِي أَرَاضِي الْوَقْفِ، أَوْ أَرَاضِي بَيْتِ الْمَال. وَهِيَ الأَْرَاضِي الأَْمِيرِيَّةُ.
ب - أَرْضُ التَّيْمَارِ:
4 - هَذَا اصْطِلاَحٌ آخَرُ جَرَى اسْتِعْمَالُهُ فِي الدَّوْلَةِ الْعُثْمَانِيَّةِ. وَذُكِرَ فِي الْكُتُبِ الْفِقْهِيَّةِ لِمُتَأَخِّرِي الْحَنَفِيَّةِ، يُرِيدُونَ بِهِ مَا يَقْطَعُهُ الإِْمَامُ مِنْ أَرْضِ الْحَوْزِ لِبَعْضِ الأَْشْخَاصِ؛ لِيَأْخُذَ هَذَا الْمُقْطَعُ حَقَّ الأَْرْضِ مِنَ الْغَلَّةِ، وَتَبْقَى بَقِيَّتُهَا لِلْعَامِلِينَ فِي
__________
(1) تنقيح الفتاوى الحامدية لابن عابدين 2 / 198، 199 المطبعة الأميرية ببولاق 1300 هـ(3/120)
الأَْرْضِ، وَتَبْقَى رَقَبَتُهَا لِبَيْتِ الْمَال. وَيُسَمَّى الشَّخْصُ الَّذِي أُقْطِعَ الأَْرْضَ " التَّيْمَارِيُّ (1) "
ج - إِرْصَادٌ:
5 - هُوَ مَا يَجْعَلُهُ السُّلْطَانُ كَبَعْضِ الْقُرَى وَالْمَزَارِعِ مِنْ بَيْتِ الْمَال، عَلَى الْمَسَاجِدِ وَالْمَدَارِسِ وَنَحْوِهَا لِمَنْ يَسْتَحِقُّ مِنْ بَيْتِ الْمَال، كَالْقُرَّاءِ وَالأَْئِمَّةِ وَالْمُؤَذِّنِينَ وَنَحْوِهِمْ، وَلَيْسَ وَقْفًا حَقِيقَةً.
لِعَدَمِ مِلْكِ السُّلْطَانِ لَهُ، بَل هُوَ تَعْيِينُ شَيْءٍ مِنْ بَيْتِ الْمَال عَلَى بَعْضِ مُسْتَحِقِّيهِ، فَلاَ يَجُوزُ لِمَنْ بَعْدَهُ أَنْ يُغَيِّرَهُ وَيُبَدِّلَهُ (2) .
مَشْرُوعِيَّتُهَا:
6 - النَّوْعُ الأَْوَّل مِنْ أَرْضِ الْحَوْزِ (وَهُوَ مَا مَاتَ عَنْهُ أَرْبَابُهُ بِلاَ وَارِثٍ وَآل إِلَى بَيْتِ الْمَال) مُتَّفَقٌ عَلَى جَوَازِهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ مَعَ اخْتِلاَفِهِمْ فِي سَبَبِ أَيْلُولَتِهِ إِلَى بَيْتِ الْمَال، أَهُوَ بِاعْتِبَارِ بَيْتِ الْمَال وَارِثًا أَمْ بِاعْتِبَارِهِ مَحَلًّا لِلضَّوَائِعِ؟ .
أَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي (وَهُوَ مَا فُتِحَ عَنْوَةً وَأُبْقِيَ لِلْمُسْلِمِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) فَقَدْ أَفْتَى بَعْضُ مُتَأَخِّرِي الْحَنَفِيَّةِ بِجَوَازِهِ، وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ، بِأَنَّ الإِْمَامَ يُخَيَّرُ فِي الأَْرْضِ الْمَفْتُوحَةِ عَنْوَةً: بَيْنَ الْقِسْمَةِ وَبَيْنَ الإِْبْقَاءِ لِلْمُسْلِمِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، بِحَسَبِ مَا يَرَى الْمَصْلَحَةَ فِيهِ.
وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ صَاحِبُ الدُّرِّ الْمُنْتَقَى فَقَال: " فِيهِ كَلاَمٌ، لأَِنَّ تَخْيِيرَ الْخَلِيفَةِ - أَيْ إِذَا لَمْ يَقْسِمِ الأَْرْضَ عَلَى الْغَانِمِينَ - فِي الإِْبْقَاءِ لِلْمُسْلِمِينَ، إِنَّمَا
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 18، وتنقيح الفتاوى الحامدية 2 / 203 وما بعدها.
(2) ابن عابدين 3 / 266، 259(3/121)
هُوَ بِطَرِيقِ الْمَنِّ عَلَى الْكُفَّارِ بِرِقَابِهِمْ وَأَرَاضِيِهِمْ، فَتَكُونُ مَمْلُوكَةً لأَِهْلِهَا. . فَتَدَبَّرْ، فَإِنَّهُ مِنَ الْمُهِمَّاتِ (1) ".
مَا يُعْتَبَرُ مِنْ أَرْضِ الْحَوْزِ:
7 - أَرْضُ مِصْرَ وَالشَّامِ هِيَ فِي الأَْصْل أَرَاضٍ خَرَاجِيَّةٌ، فَلاَ يُعْتَبَرُ مِنْهَا حَوْزٌ إِلاَّ مَا نَشَأَ بِسَبَبِ أَيْلُولَتِهِ إِلَى بَيْتِ الْمَال، كَمَا سَبَقَ.
إِلاَّ أَنَّ الْكَمَال بْنَ الْهُمَامِ، يَرَى أَنَّ أَرْضَ مِصْرَ قَدْ صَارَتْ أَرْضَ حَوْزٍ. وَنَازَعَهُ ابْنُ عَابِدِينَ فِي ذَلِكَ وَإِلَيْك كَلاَمُهُمَا:
8 - قَال ابْنُ الْهُمَامِ: " أَرْضُ مِصْرَ فِي الأَْصْل خَرَاجِيَّةٌ، لَكِنِ الرَّسْمُ الآْنَ - أَيْ فِي أَيَّامِهِ، وَقَدْ تُوُفِّيَ سَنَةَ 861 هـ - أَنَّ الْمَأْخُوذَ مِنْهَا بَدَل إِجَارَةٍ لاَ خَرَاجٌ. قَال: لأَِنَّ الأَْرَاضِيَ لَيْسَتْ مَمْلُوكَةً لِلزُّرَّاعِ، كَأَنَّهُ لِمَوْتِ الْمَالِكِينَ شَيْئًا فَشَيْئًا مِنْ غَيْرِ إِخْلاَفِ وَرَثَةٍ، فَصَارَتْ لِبَيْتِ الْمَال (2) " وَنَقَلَهُ صَاحِبُ الْبَحْرِ وَأَقَرَّهُ.
9 - وَقَدْ أَبَى ابْنُ عَابِدِينَ ذَلِكَ، وَقَال: " إِذَا كَانَتْ أَرْضُ مِصْرَ عَنْوِيَّةً، وَالأَْرَاضِي الْعَنْوِيَّةُ مُمَلَّكَةٌ لأَِهْلِهَا، فَمِنْ أَيْنَ يُقَال إِنَّهَا صَارَتْ لِبَيْتِ الْمَال بِاحْتِمَال أَنَّ أَهْلَهَا كُلَّهُمْ مَاتُوا بِلاَ وَارِثٍ؟ فَإِنَّ هَذَا الاِحْتِمَال لاَ يَنْفِي الْمِلْكَ الَّذِي كَانَ ثَابِتًا. وَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ سَوَادَ الْعِرَاقِ مَمْلُوكَةٌ لأَِهْلِهَا، يَجُوزُ بَيْعُهُمْ لَهَا، وَتَصَرُّفُهُمْ فِيهَا، فَكَذَلِكَ أَرْضُ الشَّامِ وَمِصْرَ. قَال: وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِنَا ظَاهِرٌ. فَكَيْفَ يُقَال إِنَّهَا لَيْسَتْ مَمْلُوكَةً لِلزُّرَّاعِ؟ فَإِنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى إِبْطَال أَوْقَافِهَا، وَإِبْطَال الْمَوَارِيثِ فِيهَا، وَتَعَدِّي الظَّلَمَةِ
__________
(1) الدر المنتقى شرح الملتقى 1 / 672 ط استانبول.
(2) فتح القدير 5 / 283(3/121)
عَلَى أَرْبَابِ الأَْيْدِي الثَّابِتَةِ الْمُحَقَّقَةِ فِي الْمُدَدِ الْمُتَطَاوِلَةِ بِلاَ مُعَارِضٍ وَلاَ مُنَازِعٍ. وَوَضْعُ الْعُشْرِ أَوِ الْخَرَاجِ عَلَيْهَا لاَ يُنَافِي مِلْكِيَّتَهَا، وَاحْتِمَال مَوْتِ أَهْلِهَا بِلاَ وَارِثٍ لاَ يَصْلُحُ حُجَّةً فِي إِبْطَال الْيَدِ الْمُثْبِتَةِ لِلْمِلْكِ، فَإِنَّهُ مُجَرَّدُ احْتِمَالٍ لَمْ يَنْشَأْ عَنْ دَلِيلٍ، وَالأَْصْل بَقَاءُ الْمِلْكِيَّةِ. وَالْيَدُ أَقْوَى دَلِيلٌ عَلَيْهَا، فَلاَ تَزُول إِلاَّ بِحُجَّةٍ ثَابِتَةٍ. وَيُحْتَمَل أَنَّهَا كَانَتْ مَوَاتًا فَأُحْيِيَتْ فَمُلِكَتْ بِذَلِكَ، أَوِ اشْتُرِيَتْ مِنْ بَيْتِ الْمَال.
ثُمَّ قَال: وَالْحَاصِل فِي الدِّيَارِ الشَّامِيَّةِ وَالْمِصْرِيَّةِ وَنَحْوِهَا، أَنَّ مَا عُلِمَ مِنْهَا كَوْنُهُ لِبَيْتِ الْمَال بِوَجْهٍ شَرْعِيٍّ فَحُكْمُهُ مَا ذَكَرَهُ فِي الْفَتْحِ - أَيْ كَوْنُهُ أَرْضًا أَمِيرِيَّةً - وَمَا لَمْ يُعْلَمْ فَهُوَ مِلْكٌ لأَِرْبَابِهِ. وَالْمَأْخُوذُ مِنْهُ خَرَاجٌ لاَ أُجْرَةٌ لأَِنَّهُ خَرَاجِيٌّ فِي أَصْل الْوَضْعِ. وَالْحَقُّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ (1) ".
وَأَمَّا أَرْضُ الْعِرَاقِ فَقَدْ مُلِكَتْ رِقَابُهَا لأَِهْلِهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَهِيَ خَرَاجِيَّةٌ، وَهِيَ وَقْفٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ، كَأَرْضِ الشَّامِ وَمِصْرَ (2) ، عَلَى تَفْصِيلٍ يَذْكُرُهُ الْفُقَهَاءُ فِي كِتَابِ الْبَيْعِ. وَأَرْضُ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 257 - 258 بتصرف يسير. أما فيما يتعلق بالأراضي بمصر، فقد ذكر الشيخ محمد أبو زهرة أنه صدر الأمر العالي في 15 / 9 / 1891 للقضاء الأهلي، والأمر العالي في 3 / 9 / 1898 م، فصارت بمقتضاه الأرض التي كانت يد الناس عليها يد انتفاع، مملوكة ملكا تاما لواضعي اليد عليها. وما تملكه الحكومة من أراض غيرها تملكه ملكية خاصة، تتصرف فيه على أنها شخص معنوي، له ما لكل الأشخاص من تصرفات. وأما أراضي الشام فلا يزال العمل في الأراضي الأميرية في الأردن التي بأيدي الرعية، على أنها أميرية، وأنها ليست ملكا للرعية. وتنتقل من يد إلى يد بالفراغ، لدى دائرة (الطابو) " الملكية ونظرية العقد " ص 85 ط دار الفكر العربي، 1977 القاهرة، والقانون المدني أردني م 1198 وما بعدها.
(2) كشاف القناع 3 / 158(3/122)
جَزِيرَةِ الْعَرَبِ كُلُّهَا عِنْدَهُمْ عُشْرِيَّةٌ، فَلاَ يُعْتَبَرَانِ مِنْ أَرْضِ الْحَوْزِ إِلاَّ لِسَبَبٍ جَدِيدٍ مِمَّا سَبَقَ.
تَصَرُّفُ الإِْمَامِ فِي أَرْضِ الْحَوْزِ
دَفْعُهَا لِلزُّرَّاعِ، مَعَ بَقَاءِ رَقَبَتِهَا:
10 - يَجُوزُ لِلإِْمَامِ أَنْ يَدْفَعَ الأَْرْضَ الأَْمِيرِيَّةَ لِلزُّرَّاعِ بِأَحَدِ طَرِيقَيْنِ:
الأَْوَّل: إِقَامَتُهُمْ مَقَامَ الْمُلاَّكِ فِي الزِّرَاعَةِ، وَإِعْطَاءِ الْخَرَاجِ.
وَالثَّانِي: إِجَارَتُهَا لِلزُّرَّاعِ بِقَدْرِ الْخَرَاجِ. فَيَكُونُ الْمَأْخُوذُ فِي حَقِّ الإِْمَامِ خَرَاجًا. ثُمَّ إِنْ كَانَ دَرَاهِمَ فَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الإِْمَامِ خَرَاجٌ مُوَظَّفٌ، وَإِنْ كَانَ بَعْضَ الْخَارِجِ فَهُوَ خَرَاجُ مُقَاسَمَةٍ. وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى الزُّرَّاعِ هُوَ أُجْرَةٌ لاَ غَيْرُ، لاَ عُشْرٌ وَلاَ خَرَاجٌ (1) ، لأَِنَّهُ لَمَّا دَل الدَّلِيل عَلَى عَدَمِ لُزُومِ الْمُؤْنَتَيْنِ (الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ) فِي أَرَاضِي الْمَمْلَكَةِ وَالْحَوْزِ، كَانَ الْمَأْخُوذُ مِنْهَا أُجْرَةً لاَ غَيْرُ. فَإِنْ قُلْتَ: اسْتِئْجَارُ الأَْرْضِ بِبَعْضِ الْخَارِجِ لاَ يَجُوزُ؛ لِكَوْنِهِ إِجَارَةً فَاسِدَةً لِلْجَهَالَةِ، فَمَا وَجْهُ الْجَوَازِ هُنَا؟ فَالْجَوَابُ مَا قُلْنَا: إِنَّهُ جُعِل فِي حَقِّ الإِْمَامِ خَرَاجًا وَفِي حَقِّ الأُْكْرَةِ (أَيِ الزُّرَّاعِ) أُجْرَةً لِضَرُورَةِ عَدَمِ صِحَّةِ الْخَرَاجِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا. قَال ابْنُ عَابِدِينَ: " لِعَدَمِ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ بِسَبَبِ مَوْتِ أَهْلِهَا وَصَيْرُورَتِهَا لِبَيْتِ الْمَال ". وَقَال: " وَيُمْكِنُ جَعْلُهَا مُزَارَعَةً لاَ إِجَارَةً حَقِيقِيَّةَ ". ثُمَّ قَال: " وَعَلَى دَفْعِهَا بِأَحَدِ الطَّرِيقَيْنِ لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُمْ وَتَصَرُّفُهُمْ فِيهَا وَلاَ تُورَثُ. أَمَّا عَلَى الثَّانِي (أَيْ إِجَارَتِهَا لِلزُّرَّاعِ) فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا عَلَى الأَْوَّل فَلأَِنَّ إِقَامَتَهُمْ مَقَامَ الْمُلاَّكِ لِلضَّرُورَةِ فَتُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا، فَهَذِهِ
__________
(1) مجمع الأنهر 1 / 671، وابن عابدين 3 / 256(3/122)
التَّصَرُّفَاتُ لاَ تُعْرَفُ إِلاَّ فِي الأَْرَاضِيِ الْمَمْلُوكَةِ الْعُشْرِيَّةِ أَوِ الْخَرَاجِيَّةِ، وَأَرَاضِيِ الْمَمْلَكَةِ وَالْحَوْزِ لَيْسَتْ بِمَمْلُوكَةٍ، لاَ عُشْرِيَّةً وَلاَ خَرَاجِيَّةً، وَلاَ يُتَمَلَّكُ مِنْهَا شَيْءٌ إِلاَّ بِتَمْلِيكِ السُّلْطَانِ ".
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: " وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ خَرَاجَ الْمُقَاسَمَةِ لاَ يَلْزَمُ بِالتَّعْطِيل، فَلاَ شَيْءَ عَلَى الْفَلاَّحِ لَوْ عَطَّلَهَا ".
جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْخَانِيَّةِ: رَجُلٌ أَخَذَ أَرْضَ الْحَوْزِ مُزَارَعَةً، يَطِيبُ نَصِيبُ الأُْكْرَةِ (الْمُزَارِعِينَ) مِنْهَا، فَإِنْ كَانَتْ أَرْضُ الْحَوْزِ كُرُومًا وَأَشْجَارًا يُعْرَفُ أَهْلُهَا، لاَ يَطِيبُ لِلأُْكْرَةِ - أَيْ لِثُبُوتِ حَقِّ صَاحِبِ الشَّجَرِ - وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ يَطِيبُ؛ لأَِنَّ تَدْبِيرَهَا حِينَئِذٍ لِلسُّلْطَانِ، كَأَرَاضِي الْمَوَاتِ (1) .
بَيْعُ الإِْمَامِ أَرْضَ الْحَوْزِ،
وَحَقُّ مُشْتَرِيهَا فِي التَّصَرُّفِ
:
11 - يَجُوزُ لِلإِْمَامِ بَيْعُ أَرْضِ الْحَوْزِ. وَلِلْحَنَفِيَّةِ فِي ذَلِكَ قَوْلاَنِ. الأَْوَّل: أَنَّهُ يَجُوزُ مُطْلَقًا. وَهُوَ قَوْلٌ لِمُتَقَدِّمِي الْحَنَفِيَّةِ. وَأَخَذَ بِهِ ابْنُ عَابِدِينَ؛ لأَِنَّ لِلإِْمَامِ وِلاَيَةً عَامَّةً، وَلَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ إِلاَّ لِحَاجَةٍ. وَهُوَ قَوْل الْمُتَأَخِّرِينَ، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى. قَال بَعْضُهُمْ: أَوْ لِمَصْلَحَةٍ، كَأَنْ رَغِبَ أَحَدٌ فِي الْعَقَارِ بِضِعْفِ قِيمَتِهِ.
وَيُفْهَمُ مِنْ كَلاَمِ ابْنِ الْهُمَامِ أَنَّهُ مِمَّنْ لاَ يَرَى بَيْعَهَا إِلاَّ لِحَاجَةٍ بِالْمُسْلِمِينَ؛ لِشِبْهِ الإِْمَامِ بِوَلِيِّ الْيَتِيمِ، لاَ يَجُوزُ لَهُ بَيْعُ عَقَارِهِ إِلاَّ لِضَرُورَةٍ؛ لِعَدَمِ وُجُودِ مَا يُنْفِقُهُ
__________
(1) الدر المنتقى1 / 672(3/123)
سِوَاهُ (1) . وَإِذَا لَمْ يُعْرَفِ الْحَال فِي الشِّرَاءِ مِنْ بَيْتِ الْمَال هَل كَانَ لِحَاجَةٍ أَوْ مَصْلَحَةٍ، بِنَاءً عَلَى اشْتِرَاطِ أَحَدِهِمَا، فَالأَْصْل الصِّحَّةُ (2) .
الْوَظِيفَةُ فِي الْمَبِيعِ مِنْ أَرْضِ الْحَوْزِ:
12 - إِذَا بَاعَ الإِْمَامُ شَيْئًا مِنْ أَرْضِ الْحَوْزِ فَلَيْسَ عَلَى مُشْتَرِيهَا أُجْرَةٌ (أَيْ خَرَاجٌ) ؛ لأَِنَّ الإِْمَامَ قَدْ أَخَذَ عِوَضَ الْعَيْنِ، وَهُوَ الثَّمَنُ؛ لِبَيْتِ الْمَال، فَلَمْ يَبْقَ الْخَرَاجُ وَظِيفَةَ الأَْرْضِ، فَلاَ يُمْكِنُ بَعْدَهُ أَنْ تَكُونَ الْمَنْفَعَةُ لِلإِْمَامِ كُلُّهَا أَوْ بَعْضُهَا. وَلَوْ قَبِل بِعَوْدِ الْخَرَاجِ لَمْ يَجُزْ؛ لأَِنَّ السَّاقِطَ لاَ يَعُودُ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: عَلَى أَنَّهُ قَدْ يُنَازِعُ فِي سُقُوطِ الْخَرَاجِ، حَيْثُ كَانَتْ مِنْ أَرْضِ الْخَرَاجِ أَوْ سُقِيَتْ بِمَائِهِ، بِدَلِيل أَنَّ الْغَازِيَ الَّذِي اخْتَطَّ لَهُ الإِْمَامُ دَارًا لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ فِيهَا، فَإِذَا جَعَلَهَا بُسْتَانًا وَسَقَاهَا بِمَاءِ الْعُشْرِ فَعَلَيْهِ الْعُشْرُ، أَوْ بِمَاءِ الْخَرَاجِ فَعَلَيْهِ الْخَرَاجُ، كَمَا يَأْتِي، مَعَ أَنَّ الْوَاقِعَ الآْنَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْقُرَى أَوِ الْمَزَارِعِ الْمَوْقُوفَةِ أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهَا لِلْمِيرِيِّ النِّصْفُ أَوِ الرُّبُعُ أَوِ الْعُشْرُ.
أَمَّا الْعُشْرُ فَقَدْ نَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ ابْنِ نُجَيْمٍ أَنَّهُ لاَ يَجِبُ أَيْضًا، لأَِنَّهُ لَمْ يَرَ فِيهِ نَقْلاً. قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَلاَ يَخْفَى مَا فِيهِ؛ لأَِنَّهُمْ قَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ فَرْضِيَّةَ الْعُشْرِ ثَابِتَةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ وَالْمَعْقُول، وَبِأَنَّهُ زَكَاةُ الثِّمَارِ وَالزُّرُوعِ، وَبِأَنَّهُ يَجِبُ فِي الأَْرْضِ غَيْرِ الْخَرَاجِيَّةِ، وَبِأَنَّهُ يَجِبُ فِيمَا لَيْسَ بِعُشْرِيٍّ
__________
(1) فتح القدير 5 / 283، ونسبه ابن عابدين إلى البحر (3 / 255) ، وحاشية ابن عابدين 3 / 258، والدر المنتقى 1 / 673
(2) اللجنة ترى أن من الواجب في هذه الحال وجود ضمانات تجعله بعيدا عن شبهة التحايل.(3/123)
وَلاَ خَرَاجِيٍّ، كَالْمَفَاوِزِ وَالْجِبَال، وَبِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِهِ الأَْرْضُ النَّامِيَةُ بِالْخَارِجِ حَقِيقَةً، وَبِأَنَّهُ يَجِبُ فِي أَرْضِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالْمُكَاتَبِ؛ لأَِنَّهُ مُؤْنَةُ الأَْرْضِ، وَبِأَنَّ الْمِلْكَ غَيْرُ شَرْطٍ فِيهِ، بَل الشَّرْطُ مِلْكُ الْخَارِجِ، فَيَجِبُ فِي الأَْرَاضِي الْمَوْقُوفَةِ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَْرْضِ} . (1) وقَوْله تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} . (2) وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا سَقَتِ السَّمَاءُ فَفِيهِ الْعُشْرُ، وَمَا سُقِيَ بِغَرْبٍ أَوْ دَالِيَةٍ فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ. (3) وَلأَِنَّ الْعُشْرَ يَجِبُ فِي الْخَارِجِ لاَ فِي الأَْرْضِ، فَكَانَ مِلْكُ الأَْرْضِ وَعَدَمُهُ سَوَاءً كَمَا فِي الْبَدَائِعِ. وَلاَ شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الأَْرْضَ الْمُشْتَرَاةَ وُجِدَ فِيهَا سَبَبُ الْوُجُوبِ، وَهُوَ الأَْرْضُ النَّامِيَةُ، وَشَرْطُهُ وَهُوَ مِلْكُ الْخَارِجِ، وَدَلِيلُهُ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا، فَالْقَوْل بِعَدَمِ الْوُجُوبِ فِي خُصُوصِ هَذِهِ الأَْرْضِ يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ خَاصٍّ، وَنَقْلٍ صَرِيحٍ، وَلاَ يَلْزَمُ مِنْ سُقُوطِ الْخَرَاجِ الْمُتَعَلِّقِ بِالأَْرْضِ سُقُوطُ الْعُشْرِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْخَارِجِ (4) .
وَلِمُشْتَرِي الأَْرْضَ الأَْمِيرِيَّةَ مِنَ الإِْمَامِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ مِلْكُ رَقَبَةِ الأَْرْضِ، وَلَهُ التَّصَرُّفُ فِيهَا كَسَائِرِ الأَْرْضِ الْمَمْلُوكَةِ مِلْكًا حَقِيقِيًّا بِالْبَيْعِ وَالإِْجَارَةِ وَالرَّهْنِ وَالْوَقْفِ.
__________
(1) سورة البقرة / 267
(2) سورة الأنعام / 141
(3) حديث (فيما سقت السماء ففيه العشر، وما سقي بالغرب والدالية، ففيه نصف العشر) رواه بهذا اللفظ أحمد عن علي مرفوعا، وإسناده ضعيف، لأن فيه محمدا بن سالم الهمداني وهو أبو سهيل: ضعيف جدا، وأما المتن فإنه صحيح. ورواه بمعناه البخاري وأصحاب السنن من حديث ابن عمر (تحقيق أحمد محمد شاكر للمسند 2 / 299) .
(4) الدر المنتقى 1 / 671، وحاشية ابن عابدين 3 / 255(3/124)
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَإِذَا وَقَفَهَا تُرَاعَى شُرُوطُ وَقْفِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ سُلْطَانًا أَمْ أَمِيرًا أَمْ غَيْرَهُمَا. أَيْ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ مَلَكَهَا قَبْل وَقْفِهَا. فَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ شِرَاؤُهُ لَهَا وَعَدَمُهُ، ثُمَّ وَقَفَهَا، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لاَ يُحْكَمُ بِصِحَّةِ وَقْفِهِ (1) .
شِرَاءُ الإِْمَامِ لِنَفْسِهِ مِنْ أَرْضِ الْحَوْزِ:
13 - لاَ يَجُوزُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنْ يَشْتَرِيَ الإِْمَامُ لِنَفْسِهِ مِنْ أَرْضِ الْحَوْزِ؛ لأَِنَّهُ قَائِمٌ عَلَيْهَا، كَقِيَامِ الْوَلِيِّ عَلَى مَال الْيَتِيمِ. قَالُوا: وَإِذَا أَرَادَ الشِّرَاءَ لِنَفْسِهِ يَأْمُرُ غَيْرَهُ بِبَيْعِهَا لِغَيْرِهِ، ثُمَّ يَشْتَرِيهَا لِنَفْسِهِ مِنَ الْمُشْتَرِي (2) ، لأَِنَّ هَذَا أَبْعَدُ مِنَ التُّهْمَةِ.
وَقْفُ الإِْمَامِ أَرْضَ الْحَوْزِ الَّتِي بِأَيْدِي الْمُنْتَفِعِينَ:
14 - إِنْ وَقَفَ بَعْضُ السَّلاَطِينِ شَيْئًا مِنَ الْقُرَى وَالْمَزَارِعِ مِنْ أَرْضِ الْحَوْزِ، لِمَصَالِحِ مَا بَنَوْا مِنَ الْمَسَاجِدِ وَالْعِمَارَاتِ وَالْمَدَارِسِ، مَعَ بَقَاءِ رَقَبَةِ الأَْرْضِ بِأَيْدِي الرَّعَايَا، فَلاَ يَكُونُ ذَلِكَ وَقْفًا، وَإِنِ اعْتَقَدَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ أَنَّهَا وَقْفٌ، بَل يَكُونُ خَرَاجُهَا (أَيْ غَلَّتُهَا الْمَأْخُوذَةُ لِلدَّوْلَةِ مِنَ الْمُنْتَفِعِ بِهَا) لِلْجِهَاتِ الَّتِي عَيَّنَهَا الْوَاقِفُ.
وَلاَ يَلْزَمُ الْخَرَاجُ عَلَى هَذَا الْوَقْفِ. وَلاَ يَجُوزُ لِمَنْ بَعْدَهُ مِنَ السَّلاَطِينِ أَنْ يُبْطِلَهُ (3) . وَلاَ يَلْزَمُ مُرَاعَاةُ شُرُوطِ هَذَا الْوَقْفِ.
وَنَقَل ابْنُ عَابِدِينَ تَسْمِيَةَ هَذَا النَّوْعِ مِنَ التَّصَرُّفِ (إِرْصَادًا) ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ فِي الأَْلْفَاظِ ذَاتِ الصِّلَةِ.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 256
(2) الدر المنتقى 1 / 673، والدر المختار وحاشية ابن عابدين 3 / 258
(3) الدر المنتقى 1 / 673(3/124)
فَمَا وُقِفَ عَلَى أَشْخَاصٍ بِأَعْيَانِهِمْ يَجُوزُ نَقْضُهُ. وَمَا وُقِفَ عَلَى جِهَاتٍ كَالْمَسَاجِدِ وَالْمَدَارِسِ وَطَلَبَةِ الْعِلْمِ وَسَائِرِ مَصَارِفِ بَيْتِ الْمَال، فَهَذَا لاَ يَجُوزُ نَقْضُهُ؛ لأَِنَّهُ إِذَا أَبَّدَهُ عَلَى مَصْرِفِهِ الشَّرْعِيِّ فَقَدْ مَنَعَ مَنْ يَصْرِفُهُ مِنْ أُمَرَاءِ الْجَوْرِ فِي غَيْرِ مَصْرِفِهِ (1) .
إِقْطَاعُ الإِْمَامِ شَيْئًا مِنْ أَرْضِ الْحَوْزِ:
15 - إِنْ أَقْطَعَ الإِْمَامُ أَحَدًا شَيْئًا مِنْ أَرْضِ الْحَوْزِ، فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مَوَاتًا، أَوْ تَكُونَ عَامِرَةً، فَإِنْ كَانَتْ مَوَاتًا فَأَحْيَاهَا الْمُقْطَعُ مَلَكَهَا (بِالإِْحْيَاءِ) حَقِيقَةً، وَلَيْسَ لأَِحَدٍ إِخْرَاجُهَا عَنْهُ، وَيَصِحُّ لَهُ بَيْعُهَا وَوَقْفُهَا، وَتُورَثُ عَنْهُ كَسَائِرِ أَمْلاَكِهِ. وَعَلَيْهِ وَظِيفَتُهَا مِنْ عُشْرٍ أَوْ خَرَاجٍ.
وَإِنْ كَانَتْ عَامِرَةً فَإِنَّهُ يَمْلِكُ مَنَافِعَهَا فَقَطْ، فَلَهُ إِيجَارُهَا، كَإِيجَارِ الْمُسْتَأْجَرِ، وَلَيْسَ لَهُ بَيْعُهَا وَلاَ وَقْفُهَا وَلاَ تُورَثُ عَنْهُ، وَلِلإِْمَامِ إِخْرَاجُهَا عَنْهُ مَتَى شَاءَ (2) ، إِذَا رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي ذَلِكَ.
وَأَثْبَتُوا نَوْعًا مِنَ الْعَطَاءِ: أَنْ يُعْطِيَ السُّلْطَانُ بَعْضَ الْقُرَى وَالْمَزَارِعِ لأَِحَدٍ، مَعَ بَقَاءِ الأَْرْضِ بِأَيْدِي الرَّعَايَا يُؤَدُّونَ عَنْهَا الأُْجْرَةَ. وَلاَ يَكُونُ ذَلِكَ تَمْلِيكًا لِلرَّقَبَةِ بَل لِخَرَاجِهَا، مَعَ بَقَائِهَا لِبَيْتِ الْمَال، فَلاَ تُورَثُ عَمَّنْ أُعْطِيهَا إِذَا مَاتَ، بَل تَصِيرُ مَحْلُولاً (3) . أَيْ يَنْتَهِي إِرْصَادُهَا.
وَيُسَمَّى الشَّخْصُ الَّذِي يَأْخُذُ الأَْرْضَ بِهَذَا النَّوْعِ مِنَ الْعَطَاءِ (التَّيْمَارِيُّ) وَيُقَال لَهَا: (أَرْضُ التَّيْمَارِ (4)) .
__________
(1) ابن عابدين 3 / 259
(2) الدر المنتقى 1 / 671
(3) الدر المنتقى 1 / 672
(4) حاشية ابن عابدين 4 / 18(3/125)
وَابْنُ عَابِدِينَ لاَ يَرَى فَرْقًا بَيْنَ إِقْطَاعِ الْمَوَاتِ، وَإِقْطَاعِ الْعَامِرِ عَلَى وَجْهَيْنِ: إِقْطَاعِ رَقَبَتِهِ أَوْ إِقْطَاعِ مَنَافِعِهِ فَقَطْ، إِذَا كَانَ التَّصَرُّفُ عَلَى وَجْهِ الْمَصْلَحَةِ لِلْمُسْلِمِينَ (1) .
انْتِقَال الْحَقِّ فِي الاِنْتِفَاعِ بِأَرْضِ الْحَوْزِ:
16 - إِذَا مَاتَ وَاحِدٌ مِمَّنْ يَنْتَفِعُ بِأَرْضِ الْحَوْزِ، فَإِنَّهَا لاَ تُعْتَبَرُ تَرِكَةً عَنْهُ، فَلاَ تُقْضَى مِنْهَا دُيُونُهُ. وَلاَ تُقْسَمُ قِسْمَةَ الْمَوَارِيثِ، بَل تَنْتَقِل بِحَسَبِ مَا يَرَى السُّلْطَانُ. وَإِنْ عَطَّلَهَا الْمُنْتَفِعُ بِهَا ثَلاَثَ سِنِينَ أَوْ أَكْثَرَ بِحَسَبِ تَفَاوُتِ الأَْرْضِ تُنْزَعُ مِنْ يَدِهِ، وَتُعْطَى لآِخَرَ، لِيُؤَدِّيَ أُجْرَتَهَا لِبَيْتِ الْمَال (2) .
أَمَّا نَقْل أَرْضِ الْحَوْزِ مِنْ يَدٍ إِلَى يَدٍ، فَلاَ يَصِحُّ الْفَرَاغُ إِلاَّ بِإِذْنِ السُّلْطَانِ أَوْ نَائِبِهِ (3) . وَلَيْسَ ذَلِكَ بَيْعًا حَقِيقَةً، إِذْ تَبْقَى رَقَبَةُ الأَْرْضِ لِبَيْتِ الْمَال، وَإِذَا بِيعَتْ كَذَلِكَ فَلاَ شُفْعَةَ فِيهَا (4) .
نَزْعُ أَرْضِ الْحَوْزِ مِمَّنْ هِيَ بِيَدِهِ:
17 - لاَ يَجُوزُ لِلسُّلْطَانِ نَزْعُ الأَْرْضِ مِمَّنْ هِيَ بِيَدِهِ، مَا دَامَ يُؤَدِّي بَدَل الإِْجَارَةِ (5) ، مَا لَمْ يُعَطِّلْهَا ثَلاَثَ سَنَوَاتٍ. وَلِمَنْ هِيَ بِيَدِهِ التَّمَسُّكُ بِحَقِّهِ فِيهَا،
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 265
(2) انظر تنقيح الفتاوى الحامدية لابن عابدين 2 / 226، وحاشية ابن عابدين 4 / 18 واللجنة ترى أن التحديد بمدة يرجع فيه إلى طبيعة الأرض والمصلحة العامة أيضا، وقد اشتملت المراجع على تفصيلات هي من قبيل الأوضاع الزمنية التي ينظمها أولو الأمر، يرجع إليها من شاء في المرجعين السابقين
(3) الدر المنتقى 1 / 673، وحاشية ابن عابدين 3 / 256
(4) كذا في الفتاوى الخيرية (حاشية ابن عابدين 3 / 256)
(5) حاشية الطحطاوي على الدر المختار 2 / 464(3/125)
وَيُسَمَّى هَذَا الْحَقُّ (مِشَدَّ الْمَسْكَةِ) ، سُمِّيَتْ مَسْكَةً لأَِنَّ صَاحِبَهَا صَارَ لَهُ حَقُّ التَّمَسُّكِ بِهَا، وَلَهُ التَّخَلِّي عَنْ حَقِّهِ فِيهَا مُقَابِل مَالٍ (1) .
أَرْضُ الْعَذَابِ
اُنْظُرْ: أَرْض
أَرْضُ الْعَرَبِ
التَّعْرِيفُ
1 - أَرْضُ الْعَرَبِ تُسَمَّى أَيْضًا جَزِيرَةَ الْعَرَبِ. وَقَدْ وَرَدَ الاِسْمَانِ فِي السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ، وَالْفُقَهَاءُ يَسْتَعْمِلُونَ كِلاَ اللَّفْظَيْنِ:
وَيُطْلَقُ كُلٌّ مِنْهُمَا لُغَةً عَلَى، الإِْقْلِيمِ الَّذِي يَسْكُنُهُ الْعَرَبُ، وَاَلَّذِي هُوَ شِبْهُ جَزِيرَةٍ يُحِيطُ بِهَا بَحْرُ الْقُلْزُمِ (الْبَحْرُ الأَْحْمَرُ) مِنْ غَرْبِيِّهَا، وَبَحْرُ الْعَرَبِ مِنْ جَنُوبِيِّهَا، وَخَلِيجُ الْبَصْرَةِ (الْخَلِيجُ الْعَرَبِيُّ) مِنْ شَرْقِيِّهَا. وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الشَّمَال فَاخْتَلَفُوا فِي حَدِّهَا، فَقَدْ نَقَل صَاحِبُ مُعْجَمِ الْبُلْدَانِ عَنِ ابْنِ الأَْعْرَابِيِّ عَنِ الْهَيْثَمِ بْنِ عَدِيٍّ، فِي تَحْدِيدِ جَزِيرَةِ
__________
(1) اللجنة ترى أن لولي الأمر نزع هذا الحق لمصلحة عامة ظاهرة، كما هو الحال في الملك، بل هنا حق الجماعة أرجح لأن ملكيتها عامة.(3/126)
الْعَرَبِ أَنَّهَا مِنَ الْعُذَيْبِ (1) إِلَى حَضْرَمَوْتَ. قَال ابْنُ الأَْعْرَابِيِّ: مَا أَحْسَنَ هَذَا. وَعَنِ الأَْصْمَعِيِّ: جَزِيرَةُ الْعَرَبِ مَا بَيْنَ عَدَنِ أَبْيَنَ إِلَى رِيفِ الْعِرَاقِ فِي الطُّول (2) ، وَالْعَرْضِ مِنَ الأُْبُلَّةِ (3) إِلَى جُدَّةَ.
قَال يَاقُوتٌ: وَجَزِيرَةُ الْعَرَبِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ: الْيَمَنُ، وَنَجْدٌ، وَالْحِجَازُ، وَالْغَوْرُ (أَيْ تِهَامَةُ) .
فَمِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ الْحِجَازُ وَمَا جَمَعَهُ، وَتِهَامَةُ، وَالْيَمَنُ، وَسَبَأُ، وَالأَْحْقَافُ، وَالْيَمَامَةُ، وَالشَّحْرُ، وَهَجْرُ، وَعَمَّانُ، وَالطَّائِفُ، وَنَجْرَانُ، وَالْحَجَرُ، وَدِيَارُ ثَمُودَ، وَالْبِئْرُ الْمُعَطَّلَةُ وَالْقَصْرُ الْمَشِيدُ، وَإِرَمُ ذَاتُ الْعِمَادِ، وَأَصْحَابُ الأُْخْدُودِ، وَدِيَارُ كِنْدَةَ، وَجِبَال طَيِّئٍ، وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ.
وَاَلَّذِي قَالَهُ الْهَيْثَمُ وَالأَْصْمَعِيُّ هُوَ الَّذِي يَذْكُرُهُ الْفُقَهَاءُ.
وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَال: " جَزِيرَةُ الْعَرَبِ مَا بَيْنَ الْوَادِي إِلَى أَقْصَى الْيَمَنِ إِلَى تُخُومِ الْعِرَاقِ إِلَى الْبَحْرِ (4) ".
وَبَيَّنَ الْخَلِيل أَنَّ أَرْضَ الْعَرَبِ قِيل لَهَا جَزِيرَةُ الْعَرَبِ؛ لأَِنَّ الْبِحَارَ وَنَهْرَ الْفُرَاتِ قَدْ أَحَاطَتْ بِهَا، وَنُسِبَتْ إِلَى الْعَرَبِ؛ لأَِنَّهَا أَرْضُهَا وَمَسْكَنُهَا وَمَعْدِنُهَا (5) . وَقَال الْبَاجِيُّ: " قَال مَالِكٌ: جَزِيرَةُ الْعَرَبِ
__________
(1) العذيب من أرض العراق بعد القادسية أربعة أميال على حدود البادية (معجم البلدان)
(2) نقله ابن عابدين والدردير في بلغة السالك 1 / 367، وما في معجم البلدان " ما بين عدن أبين في الطول " ففيه سقط.
(3) الأبلة بناحية البصرة.
(4) حديث: " جزيرة العرب. . . . " أخرجه أبو داود. (عون المعبود 3 / 129، ط المطبعة الأنصارية بدهلي) .
(5) أحكام أهل الذمة 1 / 178(3/126)
مَنْبَتُ الْعَرَبِ. قِيل لَهَا جَزِيرَةُ الْعَرَبِ، لإِِحَاطَةِ الْبَحْرِ وَالأَْنْهَارِ بِهَا ". (1)
وَفِي الْمُغْنِي: قَال الإِْمَامُ أَحْمَدُ: " جَزِيرَةُ الْعَرَبِ الْمَدِينَةُ وَمَا وَالاَهَا "، يَعْنِي أَنَّ الْمَمْنُوعَ مِنْ سُكْنَى الْكُفَّارِ هُوَ الْمَدِينَةُ وَمَا وَالاَهَا، وَهُوَ مَكَّةُ وَالْيَمَامَةُ وَخَيْبَرُ وَيَنْبُعُ وَفَدَكُ وَمَخَالِيفُهَا (2) ؛ لأَِنَّهُمْ لَمْ يُجْلُوا مِنْ تَيْمَاءَ وَلاَ مِنَ الْيَمَنِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَة بْنِ الْجَرَّاحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: أَخْرِجُوا يَهُودَ أَهْل الْحِجَازِ وَأَهْل نَجْرَانَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ. (3)
وَقَال ابْنُ الْقَيِّمِ: " قَال بَكْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ - يَعْنِي الإِْمَامَ أَحْمَدَ - عَنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، فَقَال: إِنَّمَا الْجَزِيرَةُ مَوْضِعُ الْعَرَبِ، وَأَمَّا مَوْضِعٌ يَكُونُ فِيهِ أَهْل السَّوَادِ وَالْفُرْسِ فَلَيْسَ هُوَ جَزِيرَةُ الْعَرَبِ. مَوْضِعُ الْعَرَبِ الَّذِي يَكُونُونَ فِيهِ " وَقَال ابْنُ الْقَيِّمِ أَيْضًا: " قَال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُول فِي حَدِيثٍ لاَ يَبْقَى دِينَانِ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ تَفْسِيرُهُ: مَا لَمْ يَكُنْ فِي يَدِ فَارِسَ وَالرُّومِ. قِيل لَهُ: مَا كَانَ خَلْفَ الْعَرَبِ؟ قَال: نَعَمْ. " (4)
فَكَأَنَّ الإِْمَامَ أَحْمَدَ فِي هَذِهِ النُّصُوصِ الْمَنْقُولَةِ عَنْهُ يَذْهَبُ إِلَى تَعْرِيفٍ آخَرَ لِلْجَزِيرَةِ غَيْرِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. وَيَقُول ابْنُ الْقَيِّمِ: حَدِيثُ ابْنِ عُبَيْدَةَ
__________
(1) المنتقى شرح الموطأ 7 / 195
(2) وفي كشاف القناع 3 / 107 عن ابن تيمية التصربح بأن (تبوك) من الحجاز.
(3) حديث: " أخرجوا يهود أهل الحجاز " أخرجه أحمد (1 / 195 ط الميمنية) ، وقال الهيثمي: " رواه أحمد (بأسانيد) . ورجال طريقين منها ثقات، متصل إسنادهما، (مجمع الزوائد 5 / 325 ط القدس) .
(4) أحكام أهل الذمة 1 / 176، 177، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 180 ط الحلبي.(3/127)
صَرِيحٌ فِي أَنَّ أَرْضَ نَجْرَانَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ (1) .
الأَْحْكَامُ الْخَاصَّةُ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ:
2 - لَمَّا كَانَتْ أَرْضُ الْعَرَبِ مَنْبَتَ الإِْسْلاَمِ وَعَرِينَهُ، وَفِيهَا بَيْتُ اللَّهِ وَمَهْبِطُ الْوَحْيِ، فَقَدِ اخْتُصَّتْ عَنْ سَائِرِ الْبِلاَدِ الإِْسْلاَمِيَّةِ بِأَرْبَعَةِ أَحْكَامٍ:
الأَْوَّل: أَنَّهَا لاَ يَسْكُنُهَا غَيْرُ الْمُسْلِمِينَ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لاَ يُدْفَنُ بِهَا أَحَدٌ مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا لاَ يَبْقَى فِيهَا دَارُ عِبَادَةٍ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ.
وَالرَّابِعُ: أَنَّهَا لاَ يُؤْخَذُ مِنْ أَرْضِهَا خَرَاجٌ.
وَفِي كُلٍّ مِنْ هَذِهِ الأَْحْكَامِ تَفْصِيلٌ سَيَأْتِي.
مَا يُمْنَعُ الْكُفَّارُ مِنْ سُكْنَاهُ مِنْ أَرْضِ الْعَرَبِ:
3 - وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَادِيثُ فِي مَنْعِ الْكُفَّارِ مِنْ سُكْنَى الأَْرْضِ الَّتِي يَفْتَحُهَا الْمُسْلِمُونَ:
مِنْهَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَال: بَيْنَمَا نَحْنُ فِي الْمَسْجِدِ، إِذْ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: انْطَلِقُوا إِلَى يَهُودَ، فَخَرَجْنَا مَعَهُ حَتَّى جِئْنَا بَيْتَ الْمِدْرَاسِ، فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَادَاهُمْ: يَا مَعْشَرَ يَهُودَ، أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا. فَقَالُوا: بَلَّغْتَ يَا أَبَا الْقَاسِمِ. فَقَال: ذَلِكَ أُرِيدُ. ثُمَّ قَالَهَا الثَّانِيَةَ. فَقَالُوا: قَدْ بَلَّغْتَ يَا أَبَا الْقَاسِمِ. ثُمَّ قَال الثَّالِثَةَ. فَقَال: اعْلَمُوا أَنَّ الأَْرْضَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ. وَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُجْلِيَكُمْ، فَمَنْ وَجَدَ بِمَالِهِ شَيْئًا فَلْيَبِعْهُ، وَإِلاَّ فَاعْلَمُوا أَنَّ الأَْرْضَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَهَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ (2)
__________
(1) أحكام أهل الذمة 1 / 185
(2) فتح الباري 12 / 317 ط السلفية، ومسلم 3 / 1387 ط عيسى الحلبي.(3/127)
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَنْطَبِقُ عَلَيْهِ هَذَا الْحُكْمُ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، عَلَى أَقْوَالٍ:
4 - الأَْوَّل: وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، أَنَّ الْكُفَّارَ يُمْنَعُونَ مِنْ سُكْنَى جَزِيرَةِ الْعَرَبِ كُلِّهَا (1) ، أَخْذًا بِظَاهِرِ الأَْحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ وَمِنْهَا:
حَدِيثُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: لأَُخْرِجَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ حَتَّى لاَ أَدَعَ إِلاَّ مُسْلِمًا. (2)
وَحَدِيثِ عَائِشَةَ قَالَتْ: آخِرُ مَا عَهِدَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يُتْرَكُ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ دِينَانِ (3) وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: لاَ يَجْتَمِعُ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ دِينَانِ (4) ، وَرَوَى عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: قَاتَل اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ لاَ يَبْقَيَنَّ دِينَانِ بِأَرْضِ الْعَرَبِ} (5)
قَال ابْنُ الْهُمَامِ: " لاَ يُمَكَّنُونَ - يَعْنِي أَهْل الذِّمَّةِ مِنَ السُّكْنَى فِي أَمْصَارِ الْعَرَبِ وَقُرَاهَا، بِخِلاَفِ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ الَّتِي لَيْسَتْ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، يُمَكَّنُونَ مِنْ سُكْنَاهَا (6) . " وَفِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ "
__________
(1) فتح القدير 4 / 379
(2) حديث: " لأخرجن اليهود. . . . . " رواه مسلم 3 / 1388، ط عيسى الحلبي، ورواه أبو عبيد في الأموال ص 98 ط القاهرة عن جابر، وزاد " فأخرجهم عمر ".
(3) أحكام أهل الذمة 1 / 176، وحديث عائشة قالت: " آخر ما عهد. . . " رواه أحمد 6 / 275، ط الميمنية، وقال الهيثمي رجاله رجال الصحيح. (مجمع الزوائد 5 / 325 ط القدسي) .
(4) حديث ابن عمر: " لا يجتمع في جزيرة العرب. . . . . " أخرجه أبو عبيد في الأموال ص 98 ط القاهرة.
(5) حديث: " قاتل الله اليهود. . . . . " أخرجه مالك مرسلا (الموطأ 2 / 892 ط عيسى الحلبي) وهو في الصحيحين عن عائشة مرفوعا.
(6) فتح القدير 4 / 379(3/128)
فِي شَرْحِ الْوَهْبَانِيَّةِ لِلشُّرُنْبُلاَلِيِّ: يُمْنَعُونَ مِنِ اسْتِيطَانِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ؛ لأَِنَّهُمَا مِنْ أَرْضِ الْعَرَبِ.
قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَجْتَمِعُ دِينَانِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ ثُمَّ قَال ابْنُ عَابِدِينَ: قَوْلَهُ: لأَِنَّهُمَا مِنْ أَرْضِ الْعَرَبِ، أَفَادَ أَنَّ الْحُكْمَ غَيْرُ مَقْصُورٍ عَلَيْهِمَا، بَل جَزِيرَةُ الْعَرَبِ كُلُّهَا كَذَلِكَ، كَمَا عَبَّرَ بِهِ فِي الْفَتْحِ وَغَيْرِهِ (1) ".
وَقَال الْقُرْطُبِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ بَرَاءَةَ: أَمَّا جَزِيرَةُ الْعَرَبِ وَهِيَ مَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ وَالْيَمَامَةُ وَالْيَمَنُ وَمَخَالِيفُهَا، فَقَال مَالِكٌ: يُخْرَجُ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ كُل مَنْ كَانَ عَلَى غَيْرِ الإِْسْلاَمِ، وَلاَ يُمْنَعُونَ مِنَ التَّرَدُّدِ بِهَا مُسَافِرِينَ (2) .
5 - الرَّأْيُ الثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، أَنَّ الْمُرَادَ بِأَرْضِ الْعَرَبِ لَيْسَ كُل مَا تَشْمَلُهُ (جَزِيرَةُ الْعَرَبِ) فِي اللُّغَةِ، بَل أَرْضُ الْحِجَازِ خَاصَّةً. وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ، قَال: آخِرُ مَا تَكَلَّمَ بِهِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: أَخْرِجُوا يَهُودَ أَهْل الْحِجَازِ وَأَهْل نَجْرَانَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ (3)
وَفِي الْمُوَطَّأِ: قَدْ أَجْلَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَهُودَ نَجْرَانَ وَفَدَكٍ. فَأَمَّا يَهُودُ خَيْبَرَ فَخَرَجُوا مِنْهَا لَيْسَ لَهُمْ مِنَ الثَّمَرِ وَلاَ مِنَ الأَْرْضِ شَيْءٌ. وَأَمَّا يَهُودُ فَدَكٍ فَكَانَ لَهُمْ نِصْفُ الثَّمَرِ وَنِصْفُ الأَْرْضِ؛ لأَِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَالَحَهُمْ عَلَى نِصْفِ الثَّمَرِ وَنِصْفِ الأَْرْضِ، فَأَقَامَ لَهُمْ عُمَرُ نِصْفَ الثَّمَرِ وَنِصْفَ الأَْرْضِ قِيمَةً مِنْ ذَهَبٍ وَوَرِقٍ وَإِبِلٍ وَحِبَالٍ وَأَقْتَابٍ،
__________
(1) ابن عابدين 3 / 275
(2) الحطاب 3 / 381، الدسوقي 2 / 201
(3) أحكام أهل الذمة 1 / 176، والحديث تقدم تخريجه (ف 1) .(3/128)
ثُمَّ أَعْطَاهُمُ الْقِيمَةَ وَأَجْلاَهُمْ مِنْهَا (1) .
وَقَدْ خَصَّصُوا عُمُومَ الأَْحَادِيثِ الأُْخْرَى السَّابِقَةِ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَبِفِعْل عُمَرَ فِي مَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْ غَيْرِ إِنْكَارٍ.
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: فَأَمَّا إِخْرَاجُ أَهْل نَجْرَانَ مِنْهُ فَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَالَحَهُمْ عَلَى تَرْكِ الرِّبَا، فَنَقَضُوا عَهْدَهُ. فَكَأَنَّ جَزِيرَةَ الْعَرَبِ فِي تِلْكَ الأَْحَادِيثِ أُرِيدَ بِهَا الْحِجَازُ. وَلاَ يُمْنَعُونَ أَيْضًا مِنْ أَطْرَافِ الْحِجَازِ كَتَيْمَاءَ وَفَيْدٍ؛ لأَِنَّ عُمَرَ لَمْ يَمْنَعْهُمْ مِنْ ذَلِكَ (2) .
قَال الشَّافِعِيُّ: " إِنْ سَأَل مَنْ تُؤْخَذُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ أَنْ يُعْطِيَهَا وَيَجْرِيَ عَلَيْهِ الْحُكْمُ، عَلَى أَنْ يَسْكُنَ الْحِجَازَ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَالْحِجَازُ مَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ وَالْيَمَامَةُ وَمَخَالِيفُهَا كُلُّهَا، لأَِنَّ تَرْكَهُمْ يَسْكُنُونَ الْحِجَازَ مَنْسُوخٌ. وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَثْنَى عَلَى أَهْل خَيْبَرَ حِينَ عَامَلَهُمْ فَقَال: نُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمُ اللَّهُ (3) ثُمَّ أَمَرَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِجْلاَئِهِمْ مِنَ الْحِجَازِ. وَلاَ يَجُوزُ صُلْحُ ذِمِّيٍّ عَلَى أَنْ يَسْكُنَ الْحِجَازَ بِحَالٍ ". وَقَال: " لَمْ أَعْلَمْ أَنَّ أَحَدًا أَجْلَى أَحَدًا مِنْ أَهْل الذِّمَّةِ مِنَ الْيَمَنِ، وَقَدْ كَانَتْ بِهَا ذِمَّةٌ، وَلَيْسَتْ بِحِجَازٍ، فَلاَ يُجْلِيهِمْ أَحَدٌ مِنَ الْيَمَنِ، وَلاَ بَأْسَ أَنْ يُصَالِحَهُمْ عَلَى مُقَامِهِمْ بِالْيَمَنِ (4) ".
وَقَال الْغَزَالِيُّ فِي الْوَجِيزِ: " يُقَرُّونَ فِي سَائِرِ الْبِلاَدِ إِلاَّ بِالْحِجَازِ، وَهِيَ مَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ وَالْيَمَامَةُ وَنَجْدٌ
__________
(1) الموطأ وشرحه المنتقى 7 / 195
(2) المغني 10 / 614 ط أولى.
(3) حديث: " نقركم ما أقركم الله " أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 327 ط السلفية) .
(4) الأم للشافعي 4 / 178(3/129)
وَمَخَالِيفُهَا وَالْوَجُّ وَالطَّائِفُ وَخَيْبَرُ مِنْ مَخَالِيفِ الْمَدِينَةِ، وَهَل يَدْخُل الْيَمَنُ فِي ذَلِكَ؟ فِيهِ خِلاَفٌ، إِذْ قِيل تَنْتَهِي جَزِيرَةُ الْعَرَبِ إِلَى أَطْرَافِ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ (1) ".
وَذَكَرَ الرَّمْلِيُّ الأَْحَادِيثَ فِي إِخْرَاجِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، ثُمَّ قَال: " لَيْسَ الْمُرَادُ جَمِيعَ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ بَل الْحِجَازُ مِنْهَا، لأَِنَّ عُمَرَ أَجْلاَهُمْ مِنْهُ، وَأَقَرَّهُمْ بِالْيَمَنِ مَعَ أَنَّهُ مِنْهَا. وَهُوَ - أَيِ الْحِجَازُ - مَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ وَالْيَمَامَةُ وَقُرَاهَا، كَالطَّائِفِ وَجُدَّةَ وَخَيْبَرَ، وَيَنْبُعَ (2) ".
بَحْرُ الْجَزِيرَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْجُزُرِ:
6 - قَال الشَّافِعِيُّ: " لاَ يُمْنَعُ أَهْل الذِّمَّةِ مِنْ رُكُوبِ بَحْرِ الْحِجَازِ - أَيْ عَلَى سَبِيل الْعُبُورِ - وَيُمْنَعُونَ مِنَ الْمُقَامِ فِي سَوَاحِلِهِ. وَكَذَا إِنْ كَانَتْ فِي بَحْرِ الْحِجَازِ جَزَائِرُ وَجِبَالٌ تُسْكَنُ مُنِعُوا مِنْ سُكْنَاهَا؛ لأَِنَّهَا مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ (3) ". وَصَرَّحَ الرَّمْلِيُّ بِأَنَّ الْجُزُرَ يُمْنَعُونَ مِنْ سُكْنَاهَا، مَسْكُونَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَ مَسْكُونَةٍ. وَقَال: قَال الْقَاضِي: لاَ يُمَكَّنُونَ مِنَ الإِْقَامَةِ فِي مَرْكَبٍ أَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ، أَيْ إِذَا كَانَ بِمَوْضِعٍ وَاحِدٍ (4) .
وَلَمْ نَجِدْ لِغَيْرِ الشَّافِعِيَّةِ تَعَرُّضًا لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ (5) .
__________
(1) الوجيز 2 / 199، والوج هو الطائف (معجم البلدان) .
(2) نهاية المحتاج 8 / 85. وقد فسر الرملي وبعض الشافعية (اليمامة) الواردة في كلام الشافعي بأنها إحدى قرى الطائف.
(3) الأم 4 / 178
(4) نهاية المحتاج 8 / 85
(5) المياه الإقليمية والجزر التابعة تأخذ حكم البر عرفا. فكأنهم تركوا الإشارة إلى ذلك لوضوحه. (اللجنة) .(3/129)
شُمُول الْمَنْعِ لِجَمِيعِ الْكُفَّارِ:
7 - مَنْعُ الْكُفَّارِ مِنْ سُكْنَى جَزِيرَةِ الْعَرَبِ شَامِلٌ لِجَمِيعِهِمْ مَهْمَا كَانَتْ دِيَانَتُهُمْ، أَوْ صِفَاتُهُمْ، وَهُوَ مَا دَل عَلَيْهِ حَدِيثُ: لاَ يَبْقَى دِينَانِ بِأَرْضِ الْعَرَبِ (1)
دُخُول الْكَافِرِ أَرْضَ الْعَرَبِ
لِغَيْرِ الإِْقَامَةِ وَالاِسْتِيطَانِ:
8 - يَرَى الْجُمْهُورُ، وَمَعَهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْكَافِرِ دُخُول الْحَرَمِ الْمَكِّيِّ بِحَالٍ. وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ بِصُلْحٍ أَوْ إِذْنٍ. وَلِمَعْرِفَةِ تَفْصِيل ذَلِكَ (ر: حَرَم) . وَأَمَّا حَرَمُ الْمَدِينَةِ فَإِنَّهُ لاَ يُمْنَعُ مِنْ دُخُولِهِ لِرِسَالَةٍ أَوْ تِجَارَةٍ أَوْ حَمْل مَتَاعٍ. وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ (2)) .
9 - وَأَمَّا مَا عَدَا ذَلِكَ - مِنْ أَرْضِ الْعَرَبِ - فَلاَ يَدْخُلُهُ الْكَافِرُ إِلاَّ بِإِذْنٍ أَوْ صُلْحٍ. وَلِلْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ.
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ دَخَل - أَيِ الذِّمِّيُّ - أَرْضَ الْعَرَبِ لِتِجَارَةٍ جَازَ، وَلاَ يُطِيل، فَيُمْنَعُ أَنْ يُطِيل فِيهَا الْمُكْثَ، حَتَّى يَتَّخِذَ فِيهَا مَسْكَنًا؛ لأَِنَّ حَالَهُمْ فِي الْمُقَامِ فِي أَرْضِ الْعَرَبِ مَعَ الْتِزَامِ الْجِزْيَةِ، كَحَالِهِمْ فِي غَيْرِهَا بِلاَ جِزْيَةٍ، وَهُنَاكَ لاَ يُمْنَعُونَ مِنَ التِّجَارَةِ، بَل مِنْ إِطَالَةِ الْمُقَامِ، فَكَذَلِكَ فِي أَرْضِ الْعَرَبِ. وَقَدْ قَدَّرَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِسَنَةٍ. قَال صَاحِبُ الاِخْتِيَارِ: لأَِنَّهَا مُدَّةٌ تَجِبُ فِيهَا الْجِزْيَةُ، فَتَكُونُ الإِْقَامَةُ لِمَصْلَحَةِ الْجِزْيَةِ (3) .
__________
(1) المواق بهامش الحطاب 3 / 381
(2) أحكام أهل الذمة 1 / 185
(3) حاشية ابن عابدين 3 / 275 نقلا عن السير الكبير. والاختيار 4 / 136 ط دار المعرفة.(3/130)
10 - وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لأَِهْل الذِّمَّةِ الاِجْتِيَازُ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ فِي سَفَرِهِمْ لِتِجَارَةٍ وَنَحْوِهَا، وَإِقَامَةِ الأَْيَّامِ، كَالثَّلاَثَةِ لِمَصَالِحِهِمْ إِنْ دَخَلُوهَا لِمَصْلَحَةٍ، كَبَيْعِ طَعَامٍ وَغَيْرِهِ. قَال الصَّاوِيُّ: وَلَيْسَتِ الثَّلاَثَةُ قَيْدًا، بَل الْمَدَارُ عَلَى الإِْقَامَةِ لِلْمَصَالِحِ، وَالْمَمْنُوعُ الإِْقَامَةُ لِغَيْرِ مَصْلَحَةٍ (1) . وَعِبَارَةُ الْعَدَوِيِّ عَلَى قَوْل الْخَرَشِيِّ: (وَضَرَبَ لَهُمْ عُمَرُ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ) قَال: " الظَّاهِرُ أَنَّ تَخْصِيصَ الثَّلاَثَةِ بِالذِّكْرِ لِكَوْنِ الثَّلاَثَةِ إِذْ ذَاكَ مَظِنَّةٌ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ، وَإِلاَّ فَلَوْ كَانَتِ الْحَاجَةُ تَقْتَضِي أَكْثَرَ لَكَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ ". قَال الصَّاوِيُّ: وَظَاهِرُهُ أَنَّ لَهُمُ الْمُرُورَ عَابِرِينَ وَلَوْ لِغَيْرِ مَصْلَحَةٍ. وَفِي الْمُنْتَقَى لِلْبَاجِيِّ: قَال مَالِكٌ فِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ إِذَا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ: يُضْرَبُ لَهُمْ أَجَلٌ ثَلاَثُ لَيَالٍ، يَسْتَقُونَ وَيَنْظُرُونَ فِي حَوَائِجِهِمْ، وَقَدْ ضَرَبَ لَهُمْ ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ.
11 - أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلاَتٌ أَوْسَعُ، قَالُوا: إِنِ اسْتَأْذَنَ الْكَافِرُ فِي دُخُول الْحِجَازِ أُذِنَ لَهُ إِنْ كَانَ دُخُولُهُ لِمَصْلَحَةٍ، كَرِسَالَةٍ وَحَمْل مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ كَثِيرًا مِنْ طَعَامٍ وَغَيْرِهِ، وَكَإِرَادَةِ عَقْدِ جِزْيَةٍ أَوْ هُدْنَةٍ لِمَصْلَحَةٍ. وَهُنَا لاَ يُؤْخَذُ مِنْهُ شَيْءٌ فِي مُقَابَلَةِ دُخُولِهِ. أَمَّا مَعَ عَدَمِ الْمَصْلَحَةِ فَلاَ يُؤْذَنُ لَهُ، فَإِنْ كَانَ دُخُولُهُ لِتِجَارَةٍ لَيْسَ فِيهَا كَبِيرُ حَاجَةٍ، لَمْ يَجُزِ الإِْذْنُ لَهُ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْكَافِرُ ذِمِّيًّا، وَبِشَرْطِ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ شَيْءٌ مِنَ الْبِضَاعَةِ أَوْ ثَمَنِهَا.
وَلاَ يُقِيمُ بِالْحِجَازِ حَيْثُ دَخَلَهُ، إِلاَّ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ فَأَقَل، غَيْرَ يَوْمَيْ دُخُولِهِ وَخُرُوجِهِ، اقْتِدَاءً بِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. فَإِنْ أَقَامَ بِمَحَلٍّ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ
__________
(1) الشرح الصغير وبلغة السالك 1 / 367(3/130)
بِآخَرَ مِثْلَهَا، وَهَكَذَا، لَمْ يُمْنَعْ، إِنْ كَانَ بَيْنَ كُل مَحَلَّيْنِ مَسَافَةُ الْقَصْرِ (1) .
وَالشَّافِعِيُّ يَقُول: وَأَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ لاَ يَدْخُل الْحِجَازَ مُشْرِكٌ بِحَالٍ، وَلَوْلاَ مَا رَأَى عُمَرُ مِنْ أَنَّ أَجَل مَنْ قَدِمَ الْمَدِينَةَ مِنْ أَهْل الذِّمَّةِ تَاجِرًا ثَلاَثٌ، لاَ يُقِيمُ فِيهَا بَعْدَ ذَلِكَ، لَرَأَيْتُ أَنْ لاَ يُصَالَحُوا بِدُخُولِهَا بِكُل حَالٍ (2) .
12 - وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: لاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فِي الإِْقَامَةِ أَكْثَرُ مِنْ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ. وَقَال الْقَاضِي: أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ حَدُّ مَا يَتِمُّ الْمُسَافِرُ الصَّلاَةَ، وَقَالُوا كَالشَّافِعِيَّةِ: إِنْ أَقَامُوا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ أُخْرَى جَازَ (3) .
تَجَاوُزُ الْمُدَّةِ الْمَأْذُونِ فِيهَا:
13 - يَنُصُّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ أُذِنَ لَهُ مِنَ الْكُفَّارِ بِدُخُول شَيْءٍ مِنْ أَرْضِ الْعَرَبِ - عَلَى الاِخْتِلاَفِ السَّابِقِ - فَزَادَ فِي الإِْقَامَةِ عَلَى الْمَأْذُونِ فِيهِ يُعَزَّرُ، مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عُذْرٌ. وَالأَْعْذَارُ الَّتِي ذَكَرُوهَا لِتَمْدِيدِ الإِْقَامَةِ فِي أَرْضِ الْحِجَازِ - سِوَى الْحَرَمِ - ثَلاَثَةٌ:
أ - الدَّيْنُ:
14 - قَال الْحَنَابِلَةُ: أَنْ يَكُونَ دَخَل بِتِجَارَةٍ فَصَارَ لَهُ دَيْنٌ، وَحِينَئِذٍ إِنْ كَانَ الدَّيْنُ حَالًّا يُمْنَعُ مِنَ الإِْقَامَةِ إِنْ أَمْكَنَ التَّوْكِيل، وَإِلاَّ أُجْبِرَ غَرِيمُهُ عَلَى وَفَائِهِ لِيَخْرُجَ. فَإِنْ تَعَذَّرَ جَازَتِ الإِْقَامَةُ لاِسْتِيفَائِهِ؛ لأَِنَّ الْعُذْرَ مِنْ غَيْرِهِ، وَفِي إِخْرَاجِهِ قَبْل اسْتِيفَائِهِ ذَهَابُ مَالِهِ. وَسَوَاءٌ أَكَانَ التَّعَذُّرُ لِمَطْلٍ أَوْ
__________
(1) نهاية المحتاج 8 / 85، 86
(2) الأم 4 / 176
(3) المغني مع الشرح الكبير، 10 / 615(3/131)
تَغَيُّبٍ أَوْ غَيْرِهِمَا.
وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ مُؤَجَّلاً لَمْ يُمَكَّنْ مِنَ الإِْقَامَةِ حَتَّى يَحِل؛ لِئَلاَّ يَتَّخِذَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً لِلإِْقَامَةِ، وَيُوَكِّل مَنْ يَسْتَوْفِيهِ لَهُ إِذَا حَل (1) .
وَلَمْ نَجِدْ أَحَدًا مِنْ أَهْل الْمَذَاهِبِ الأُْخْرَى تَعَرَّضَ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
ب - بَيْعُ الْبِضَاعَةِ:
15 - قَال الْحَنَابِلَةُ: إِنِ احْتَاجَ إِلَى أَيَّامٍ أُخْرَى لِيَبِيعَ بِضَاعَتَهُ وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: يُحْتَمَل أَنْ تَجُوزَ إِقَامَتُهُ؛ لأَِنَّ فِي تَكْلِيفِهِ تَرْكَهَا أَوْ حَمْلَهَا مَعَهُ ضَيَاعَ مَالِهِ، وَذَلِكَ مِمَّا يُمْنَعُ مِنَ الدُّخُول بِالْبَضَائِعِ إِلَى الْحِجَازِ، فَتَفُوتُ مَصْلَحَتُهُمْ، وَتَلْحَقُهُمُ الْمَضَرَّةُ بِانْقِطَاعِ الْجَلْبِ عَنْهُمْ. وَيُحْتَمَل أَنْ يُمْنَعَ مِنَ الإِْقَامَةِ، لأَِنَّ لَهُ مِنَ الإِْقَامَةِ بُدًّا (2) .
ج - الْمَرَضُ:
16 - قَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ لَمْ تَعْظُمُ الْمَشَقَّةُ فِي نَقْلِهِ، وَلَمْ يَخَفْ زِيَادَةَ مَرَضِهِ، يُنْقَل حَتْمًا؛ لِحُرْمَةِ الْمَحَل.
وَإِنْ عَظُمَتِ الْمَشَقَّةُ فِي نَقْلِهِ، فَالْمُعْتَمَدُ أَنَّهُ يُتْرَكُ دَفْعًا لأَِعْظَمِ الضَّرَرَيْنِ.
وَنَصُّ الشَّافِعِيِّ: " يُمْهَل بِالإِْخْرَاجِ حَتَّى يَكُونَ مُحْتَمِلاً ". وَفِي قَوْلٍ لَهُمْ: يُنْقَل مُطْلَقًا (3) .
أَمَّا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، فَإِنَّ الْمَرَضَ عُذْرٌ يُجِيزُ إِقَامَتَهُ حَتَّى يَبْرَأَ مِنْ مَرَضِهِ؛ لأَِنَّ الاِنْتِقَال يَشُقُّ عَلَى الْمَرِيضِ. وَتَجُوزُ الإِْقَامَةُ أَيْضًا لِمَنْ يُمَرِّضُهُ، لِضَرُورَةِ إِقَامَتِهِ. وَفِي قَوْلٍ ذَكَرَهُ صَاحِبُ
__________
(1) كشاف القناع 3 / 108، والإنصاف 4 / 240
(2) المغني 10 / 615
(3) نهاية المحتاج 8 / 86، والأم 4 / 178(3/131)
الإِْنْصَافِ: إِنْ شَقَّ نَقْلُهُ جَازَ إِبْقَاؤُهُ، وَإِلاَّ فَلاَ (1) .
وَيُؤْخَذُ مِنَ النُّصُوصِ الْمَذْكُورَةِ أَنَّ مَنَاطَ الْحُكْمِ فِي الْبَقَاءِ وَعَدَمِهِ هُوَ الْمَشَقَّةُ، وَالْقَوَاعِدُ الْعَامَّةُ لِلشَّرِيعَةِ لاَ تَخْتَلِفُ مَعَ مَا نُقِل عَنِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
مَا يُشْتَرَطُ لِدُخُول الْكُفَّارِ أَرْضَ الْعَرَبِ:
17 - لَيْسَ لِلْكَافِرِ أَنْ يَدْخُل لِلإِْقَامَةِ بِأَرْضِ الْعَرَبِ، عَلَى الأَْقْوَال الْمُتَقَدِّمَةِ فِي تَفْسِيرِهَا. وَلَيْسَ لِلإِْمَامِ أَنْ يَعْقِدَ الذِّمَّةَ لِكَافِرٍ بِشَرْطِ الإِْقَامَةِ بِهَا. وَحِينَئِذٍ إِنْ شَرَطَ هَذَا فِي عَقْدِ الذِّمَّةِ، يَبْطُل الشَّرْطُ، فَلاَ يَجُوزُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَيَصِحُّ الْعَقْدُ. لَكِنْ لَهُ أَنْ يَعْقِدَ الذِّمَّةَ عَلَى أَنْ يَدْخُلَهَا الذِّمِّيُّ لِلتِّجَارَةِ وَنَحْوِهَا، فِي حُدُودِ الأَْيَّامِ الثَّلاَثَةِ، فَإِنْ لَمْ يَعْقِدِ الذِّمَّةَ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ فَلاَ يَجُوزُ دُخُولُهُ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ وَكَذَلِكَ لاَ يَجُوزُ دُخُول سَائِرِ الْكُفَّارِ مِنَ الْحَرْبِيِّينَ إِلاَّ بِإِذْنِ الإِْمَامِ أَوْ نَائِبِهِ. كَمَا أَنَّ الْحَرْبِيِّينَ لاَ يَدْخُلُونَ سَائِرَ بِلاَدِ الإِْسْلاَمِ إِلاَّ بِإِذْنِ الإِْمَامِ أَوْ نَائِبِهِ.
وَمَنْ دَخَل مِنْهُمْ دُونَ إِذْنٍ فَإِنَّهُ يُعَزَّرُ وَيُخْرَجُ. قَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّمَا يُعَزَّرُ إِنْ كَانَ عَالِمًا بِالْمَنْعِ. فَإِنْ كَانَ جَاهِلاً يُخْرَجُ وَلاَ يُعَزَّرُ، وَيُصَدَّقُ فِي دَعْوَاهُ الْجَهْل.
وَقَدْ سَبَقَ أَنَّهُ لَمْ يَشْتَرِطِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ الإِْذْنَ فِي دُخُول أَهْل الذِّمَّةِ الْحِجَازَ (2) .
__________
(1) كشاف القناع 3 / 137، والإنصاف 4 / 241
(2) الأم للشافعي 4 / 178، ونهاية المحتاج 8 / 86، وأحكام أهل الذمة 1 / 187، وكشاف القناع 3 / 107، 135 ط أنصار السنة المحمدية، وحاشية ابن عابدين 3 / 275، والشرح الصغير 1 / 367(3/132)
تَمَلُّكُ أَهْل الذِّمَّةِ شَيْئًا مِنْ أَرْضِ الْعَرَبِ:
18 - تَعَرَّضَ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الرَّمْلِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، فَقَال: الصَّوَابُ مَعَ شِرَاءِ الْكَافِرِ أَرْضًا فِي الْحِجَازِ لَمْ يَقُمْ بِهَا؛ لأَِنَّ مَا حَرُمَ اسْتِعْمَالُهُ حَرُمَ اتِّخَاذُهُ، كَالأَْوَانِي الذَّهَبِيَّةِ وَالْفِضِّيَّةِ، وَآلاَتِ اللَّهْوِ. وَإِلَيْهِ يُشِيرُ قَوْل الشَّافِعِيِّ: وَلاَ يَتَّخِذُ الذِّمِّيُّ شَيْئًا مِنَ الْحِجَازِ دَارًا (1) .
إِقَامَةُ الْكُفَّارِ فِيمَا سِوَى الْحِجَازِ مِنْ أَرْضِ الْعَرَبِ:
19 - لاَ يَجُوزُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ أَنْ يُقَرَّ بِأَرْضِ الْعَرَبِ أَحَدٌ مِنْ أَهْل الشِّرْكِ، وَعَبَدَةِ الأَْوْثَانِ، وَالدَّهْرِيِّينَ، وَنَحْوِهِمْ بِذِمَّةٍ أَوْ غَيْرِهَا. وَلَكِنْ يَجُوزُ، عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ خَاصَّةً، أَنْ يُقِيمَ بِهَا - خَارِجَ الْحِجَازِ - أَهْل الذِّمَّةِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ (2) . وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي (أَهْل الذِّمَّةِ) .
دَفْنُ الْكُفَّارِ بِأَرْضِ الْعَرَبِ
20 - إِنْ دَخَل الذِّمِّيُّ الْحِجَازَ، فَمَاتَ فِيهِ، يُنْقَل وَلاَ يُدْفَنُ هُنَاكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. فَإِنْ تَعَذَّرَ نَقْلُهُ مِنْهُ لِنَحْوِ خَوْفِ تَغَيُّرٍ، يُدْفَنُ هُنَاكَ لِلضَّرُورَةِ - أَيْ فِيمَا عَدَا الْحَرَمِ، أَمَّا الْحَرَمُ فَفِيهِ تَشْدِيدٌ (ر: حَرَم) - وَهَذَا بِخِلاَفِ الْحَرْبِيِّ وَالْمُرْتَدِّ، فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ دَفْنُهُمَا فِي الْحِجَازِ بِحَالٍ. فَإِنْ آذَى رِيحُهُمَا غُيِّبَتْ جِيفَتُهُمَا (3) .
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَهُمْ جَوَازُ دَفْنِ الذِّمِّيِّ
__________
(1) نهاية المحتاج 8 / 85
(2) نهاية المحتاج 8 / 82
(3) نهاية المحتاج 8 / 87(3/132)
بِالْحِجَازِ إِنْ مَاتَ بِهِ وَقَدْ دَخَل بِإِذْنٍ. وَفِي وَجْهٍ عِنْدَهُمْ: لاَ يُدْفَنُ بِهِ. وَفِي وَجْهٍ آخَرَ: إِنْ شَقَّ نَقْلُهُ جَازَ دَفْنُهُ. وَلَمْ يَنُصُّوا عَلَى دَفْنِ الْحَرْبِيِّ وَالْمُرْتَدِّ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لَوْ دَخَل مُشْرِكٌ الْحَرَمَ مَسْتُورًا وَمَاتَ، نُبِشَ قَبْرُهُ وَأُخْرِجَتْ عِظَامُهُ، فَلَيْسَ لَهُمُ الاِسْتِيطَانُ وَلاَ الاِجْتِيَازُ.
وَأَمَّا جَزِيرَةُ الْعَرَبِ، وَهِيَ مَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ وَالْيَمَامَةُ وَالْيَمَنُ وَمَخَالِيفُهَا، فَقَدْ قَال مَالِكٌ: يُخْرَجُ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ كُل مَنْ كَانَ عَلَى غَيْرِ الإِْسْلاَمِ، وَلاَ يُمْنَعُونَ مِنَ التَّرَدُّدِ بِهَا مُسَافِرِينَ، وَلاَ يُدْفَنُونَ فِيهَا وَيُلْجَئُونَ إِلَى الْحِل (2) .
وَلَمْ نَجِدْ لِلْحَنَفِيَّةِ كَلاَمًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
دُورُ الْعِبَادَةِ لِلْكُفَّارِ فِي أَرْضِ الْعَرَبِ:
21 - صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ أَرْضَ الْعَرَبِ - الْحِجَازَ وَمَا سِوَاهُ - لاَ يَجُوزُ إِحْدَاثُ كَنِيسَةٍ فِيهَا، وَلاَ بِيعَةٍ، وَلاَ صَوْمَعَةٍ، وَلاَ بَيْتِ نَارٍ، وَلاَ صَنَمٍ، تَفْضِيلاً لأَِرْضِ الْعَرَبِ عَلَى غَيْرِهَا، وَتَطْهِيرًا لَهَا عَنِ الدِّينِ الْبَاطِل كَمَا عَبَّرَ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ. وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ مُدُنُهَا وَقُرَاهَا وَسَائِرُ مِيَاهِهَا.
وَكَذَلِكَ لاَ يَجُوزُ إِبْقَاءُ شَيْءٍ مِنْهَا مُحْدَثٍ أَوْ قَدِيمٍ، أَيْ سَابِقٍ عَلَى الْفَتْحِ الإِْسْلاَمِيِّ (3) .
وَيُفْهَمُ مِثْل ذَلِكَ مِنْ كَلاَمِ الْمَالِكِيَّةِ (4) .
__________
(1) الإنصاف 4 / 241
(2) القرطبي 8 / 104، والزرقاني 3 / 142
(3) البحر الرائق 5 / 121، 122، ورد المحتار 3 / 271، والبدائع 7 / 214
(4) الدسوقي 2 / 201(3/133)
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: أَنَّ ذَلِكَ فِي الْحِجَازِ خَاصَّةً.
أَمَّا سَائِرُ أَرْضِ الْعَرَبِ فَحُكْمُهَا حُكْمُ غَيْرِهَا مِنْ بِلاَدِ الإِْسْلاَمِ، وَهِيَ خَمْسَةُ أَنْوَاعٍ:
1 - مَا أَسْلَمَ أَهْلُهُ عَلَيْهِ قَبْل الْفَتْحِ، فَلاَ يَجُوزُ إِحْدَاثٌ وَلاَ إِبْقَاءُ شَيْءٍ مِنَ الْمَعَابِدِ لأَِهْل الذِّمَّةِ.
2 - مَا فَتَحَهُ الْمُسْلِمُونَ عَنْوَةً، فَلاَ يَجُوزُ فِيهِ الإِْحْدَاثُ، وَفِي وُجُوبِ هَدْمِ الْمَوْجُودِ مِنْهُ رِوَايَتَانِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
3 - مَا أَحْدَثَهُ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الأَْمْصَارِ، كَالْبَصْرَةِ فَلاَ يَجُوزُ إِحْدَاثُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِيهِ وَلَوْ صُولِحُوا عَلَيْهِ.
4 - مَا فُتِحَ صُلْحًا عَلَى أَنَّ الأَْرْضَ لَنَا، فَلاَ يُحْدِثُونَ فِيهَا مَعْبَدًا، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ شُرِطَ لَهُمْ ذَلِكَ فِي عَقْدِ الصُّلْحِ. وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: مَا وَقَعَ مُطْلَقًا مِنْ شَرْطٍ فَعَلَى شُرُوطِ عُمَرَ.
5 - مَا فُتِحَ صُلْحًا عَلَى أَنَّ الأَْرْضَ لَهُمْ، وَلَنَا عَلَيْهَا الْخَرَاجُ، فَلَهُمْ إِحْدَاثُ مَا شَاءُوا لأَِنَّ الأَْرْضَ مِلْكُهُمْ (1) .
أَخْذُ الْخَرَاجِ مِنْ أَرْضِ الْعَرَبِ:
22 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ أَرْضَ الْعَرَبِ كُلَّهَا أَرْضُ عُشْرٍ - أَيْ زَكَوِيَّةٌ - لاَ يُؤْخَذُ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا خَرَاجٌ؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَأْخُذِ الْخَرَاجَ مِنْ أَرَاضِي الْعَرَبِ. قَالُوا: وَلأَِنَّهُ - أَيِ الْخَرَاجَ - بِمَنْزِلَةِ الْجِزْيَةِ، فَلاَ يَثْبُتُ فِي أَرَاضِيِهِمْ، كَمَا لاَ تَثْبُتُ فِي رِقَابِهِمْ؛ لأَِنَّ مِنْ شَرْطِ الْخَرَاجِ أَنْ يُقَرَّ أَهْلُهَا عَلَى
__________
(1) نهاية المحتاج 8 / 93، والمقنع وحاشيته 1 / 529، والمغني 10 / 609(3/133)
الْكُفْرِ، كَمَا فِي سَوَادِ الْعِرَاقِ، وَمُشْرِكُو الْعَرَبِ لاَ يُقْبَل مِنْهُمْ إِلاَّ الإِْسْلاَمُ أَوِ السَّيْفُ (1) . وَسَوَاءٌ أَكَانَتْ الأَْرْضُ فِي يَدِ صَاحِبِهَا مِمَّا كَانَ مَعْمُورًا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْ كَانَ مَوَاتًا وَأُحْيِيَ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَقَال الإِْمَامُ أَبُو يُوسُفَ فِي بَيَانِ ذَلِكَ: أَرْضُ الْعَرَبِ مُخَالِفَةٌ لأَِرْضِ الأَْعَاجِمِ، مِنْ قِبَل أَنَّ الْعَرَبَ إِنَّمَا يُقَاتَلُونَ عَلَى الإِْسْلاَمِ، لاَ تُقْبَل مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ.
فَإِنْ عَفَا لَهُمُ الإِْمَامُ عَنْ بِلاَدِهِمْ فَهِيَ أَرْضُ عُشْرٍ.
وَلاَ نَعْلَمُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلاَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ، أَوِ الْخُلَفَاءِ بَعْدَهُ، أَخَذُوا مِنْ عَبَدَةِ الأَْوْثَانِ مِنَ الْعَرَبِ جِزْيَةً، إِنَّمَا هُوَ الإِْسْلاَمُ أَوِ الْقَتْل (2) .
وَيَرَى أَبُو يُوسُفَ أَيْضًا أَنَّهُ لَيْسَ لِلإِْمَامِ تَحْوِيل أَرْضِ الْعَرَبِ مِنَ الْعُشْرِ إِلَى الْخَرَاجِ. يَقُول: أَرْضُ الْحِجَازِ مَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ وَأَرْضُ الْيَمَنِ، وَأَرْضُ الْعَرَبِ الَّتِي افْتَتَحَهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلاَ يُزَادُ عَلَيْهَا وَلاَ يُنْقَصُ مِنْهَا؛ لأَِنَّهُ شَيْءٌ قَدْ جَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلاَ يَحِل لِلإِْمَامِ أَنْ يُحَوِّلَهَا إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَقَدْ بَلَغَنَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ افْتَتَحَ حُصُونًا مِنَ الأَْرْضِ الْعَرَبِيَّةِ فَوَضَعَ عَلَيْهَا الْعُشْرَ، وَلَمْ يَجْعَل عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا خَرَاجًا. وَكَذَلِكَ قَوْل أَصْحَابِنَا فِي تِلْكَ الأَْرْضِينَ، أَلاَ تَرَى أَنَّ مَكَّةَ وَالْحَرَمَ كَذَلِكَ؟ أَوَلاَ تَرَى أَنَّ الْعَرَبَ مِنْ عَبَدَةِ الأَْوْثَانِ حُكْمُهُمُ الْقَتْل أَوِ الإِْسْلاَمُ، وَلاَ تُقْبَل مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ؟ وَهَذَا خِلاَفُ الْحُكْمِ فِي غَيْرِهِمْ فَكَذَلِكَ أَرْضُ الْعَرَبِ.
وَقَدْ جَعَل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَوْمٍ مِنْ أَهْل الْيَمَنِ - يُرَى أَنَّهُمْ مِنْ أَهْل الْكِتَابِ، الْخَرَاجَ عَلَى رِقَابِهِمْ -
__________
(1) فتح القدير 5 / 278، وابن عابدين 3 / 229
(2) الخراج ص 66 ط 3 السلفية.(3/134)
وَجَعَل عَلَى كُل حَالِمٍ أَوْ حَالِمَةٍ دِينَارًا أَوْ عَدْلَهُ مَعَافِرِيًّا. فَأَمَّا الأَْرْضُ فَلَمْ يَجْعَل عَلَيْهَا خَرَاجًا، وَإِنَّمَا جَعَل الْعُشْرَ فِي السَّيْحِ، وَنِصْفَ الْعُشْرِ فِي الدَّالِيَةِ (1) .
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، فَإِنَّ أَرْضَ الْعَرَبِ عِنْدَهُمْ قِسْمَانِ: الأَْوَّل مَا سِوَى الْحِجَازِ، وَالثَّانِي الْحِجَازُ. فَمَا سِوَى الْحِجَازِ لاَ فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَائِرِ الْبِلاَدِ. وَالْقَاعِدَةُ عِنْدَهُمْ، أَنَّ أَرْضَ بِلاَدِ الإِْسْلاَمِ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ:
1 - مَا أَسْلَمَ أَهْلُهُ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ فِيهِ الْعُشْرُ.
2 - مَا أَحْيَاهُ الْمُسْلِمُونَ، فَيَكُونُ فِيهِ الْعُشْرُ كَذَلِكَ.
3 - مَا فُتِحَ عَنْوَةً، وَلَمْ يَقِفْهُ الإِْمَامُ، بَل قَسَمَهُ بَيْنَ الْغَانِمِينَ، فَيَكُونُ فِيهِ الْعُشْرُ كَذَلِكَ.
4 - مَا صُولِحَ أَهْلُهُ عَلَيْهِ، فَيُوضَعُ عَلَيْهِ خَرَاجٌ، وَهُوَ قِسْمَانِ.
الأَْوَّل: مَا صُولِحَ أَهْلُهُ عَلَى زَوَال مِلْكِهِمْ عَنْهُ، فَيَكُونُ خَرَاجُهُ أُجْرَةً، لاَ تَسْقُطُ بِإِسْلاَمِ أَهْلِهِ. فَيُؤْخَذُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْل الذِّمَّةِ.
وَالثَّانِي: مَا صُولِحَ أَهْلُهُ عَلَى بَقَاءِ مِلْكِهِمْ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ خَرَاجُهُ جِزْيَةً، تَسْقُطُ بِإِسْلاَمِهِمْ، فَيُؤْخَذُ مِنْ أَهْل الذِّمَّةِ، وَلاَ يُؤْخَذُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (2) .
23 - أَمَّا أَرْضُ الْحِجَازِ فَقَدْ لَخَصَّ الْمَاوَرْدِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ كَلاَمَهُمْ فِيهَا فَقَال: أَرْضُ الْحِجَازِ تَنْقَسِمُ لاِخْتِصَاصِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِفَتْحِهَا قِسْمَيْنِ:
__________
(1) الخراج ص 58، 59
(2) الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 154، والأحكام السلطانية للمارردي ص 147(3/134)
الْقِسْمُ الأَْوَّل: صَدَقَاتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي أَخَذَهَا بِحَقَّيْهِ، فَإِنَّ أَحَدَ حَقَّيْهِ خُمُسُ الْخُمُسِ مِنَ الْفَيْءِ وَالْغَنَائِمِ، وَالْحَقُّ الثَّانِي أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ الَّذِي أَفَاءَهُ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ، مِمَّا لَمْ يُوجِفِ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ بِخَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ، فَمَا صَارَ إِلَيْهِ بِوَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْحَقَّيْنِ فَقَدْ رَضَخَ مِنْهُ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ، وَتَرَكَ بَاقِيَهُ لِنَفَقَتِهِ وَصَلاَتِهِ وَمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، حَتَّى مَاتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاخْتَلَفَ فِي حُكْمِهِ النَّاسُ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَجَعَلَهُ قَوْمٌ مَوْرُوثًا عَنْهُ، وَمَقْسُومًا عَلَى الْمَوَارِيثِ مِلْكًا، وَجَعَلَهُ آخَرُونَ لِلإِْمَامِ الْقَائِمِ مَقَامَهُ، فِي حِمَايَةِ الْبَيْضَةِ وَجِهَادِ الْعَدُوِّ. وَاَلَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهَا صَدَقَاتٌ مُحَرَّمَةُ الرِّقَابِ، مَخْصُوصَةُ الْمَنَافِعِ، مَصْرُوفَةُ الاِرْتِفَاعِ فِي وُجُوهِ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ. ثُمَّ ذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ صَدَقَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَصَرَهَا فِي ثَمَانٍ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: سَائِرُ أَرْضِ الْحِجَازِ مَا عَدَا مَا ذُكِرَ، وَهِيَ أَرْضُ عُشْرٍ لاَ خَرَاجَ عَلَيْهَا؛ لأَِنَّهَا مَا بَيْنَ مَغْنُومٍ مُلِكَ عَلَى أَهْلِهِ، أَوْ مَتْرُوكٍ لِمَنْ أَسْلَمَ عَلَيْهِ. وَكِلاَ الأَْمْرَيْنِ عُشْرِيٌّ لاَ خَرَاجَ عَلَيْهِ.
وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَافَقَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي كُل مَا قَالَهُ إِلاَّ أَنَّهُ ذَكَرَ رِوَايَةً أُخْرَى عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ - وَقَدَّمَهَا - فِي أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ، أَنَّهَا لِكُل الْمُسْلِمِينَ (1) .
حِمَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
24 - يَنْبَغِي أَنْ يُسْتَثْنَى أَيْضًا مِنْ سَائِرِ أَرْضِ الْحِجَازِ، مَا حَمَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَعْضِ
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 151 ط 1327 هـ، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 184 ط 1356 هـ(3/135)
الأَْقْوَال. فَلاَ يَجُوزُ لأَِحَدٍ إِحْيَاؤُهُ؛ لِيَكُونَ فِيهِ عُشْرٌ أَوْ خَرَاجٌ. فَقَدْ حَمَى الْبَقِيعَ (وَفِي رِوَايَةِ أَبِي عُبَيْدٍ: النَّقِيعَ، بِالنُّونِ) لِخَيْل الْمُسْلِمِينَ، صَعِدَ جَبَلاً وَقَال: هَذَا حِمَايَ: وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى الْقَاعِ، وَهُوَ قَدْرُ مِيلٍ إِلَى سِتَّةِ أَمْيَالٍ. فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: حِمَاهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَابِتٌ، وَإِحْيَاءُ مَا حَمَاهُ بَاطِلٌ. وَالْمُتَعَرِّضُ لإِِحْيَائِهِ مَرْدُودٌ مَزْجُورٌ (1) ، وَذَكَرَ ابْنُ قُدَامَةَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، أَنَّهُ إِنْ زَالَتْ حَاجَةٌ إِلَى حِمَى مَا حَمَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَفِي جَوَازِ إِحْيَائِهِ قَوْلاَنِ (2) .
وَلَمْ يَتَعَرَّضِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى اسْتِمْرَارِ مَا حَمَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوِ انْقِضَائِهِ. وَاسْتَظْهَرَ الْحَطَّابُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ جَوَازَ نَقْضِهِ إِنْ لَمْ يَقُمِ الدَّلِيل عَلَى إِرَادَةِ الاِسْتِمْرَارِ.
إِرْضَاعٌ
اُنْظُرْ: رَضَاع
إِرْفَاقٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْرْفَاقُ لُغَةً: نَفْعُ الْغَيْرِ، وَهُوَ مَصْدَرُ أَرْفَقَ، وَمَعْنَى رَفَقَ وَأَرْفَقَ وَاحِدٌ. وَالرِّفْقُ ضِدُّ الْعُنْفِ (3) .
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 165، ولأبى يعلى ص206
(2) المغني 5 / 581، 6 / 166، والحطاب 6 / 10
(3) الصحاح واللسان والمصباح مادة (رفق)(3/135)
وَاصْطِلاَحًا: إِعْطَاءُ مَنَافِعِ الْعَقَارِ.
وَالإِْرْفَاقُ أَحَدُ نَوْعَيِ الإِْقْطَاعِ؛ لأَِنَّهُ تَمْلِيكٌ أَوْ إِقْطَاعُ إِرْفَاقٍ، فَقَدْ عَلَّقَ الْقَلْيُوبِيُّ عَلَى قَوْل النَّوَوِيِّ. " وَلَوْ أَقْطَعَهُ الإِْمَامُ مَوَاتًا صَارَ أَحَقَّ بِإِحْيَائِهِ " فَقَال: وَمِثْلُهُ الأَْمْوَال الَّتِي جُهِلَتْ أَرْبَابُهَا إِرْفَاقًا وَتَمَلُّكًا (1) . وَتَفْصِيل أَحْكَامِ (إِقْطَاعِ الإِْرْفَاقِ) فِي مُصْطَلَحِ (إِقْطَاع) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الاِرْتِفَاقُ:
2 - الإِْرْفَاقُ هُوَ مَنْحُ الْمَنْفَعَةِ، وَالاِرْتِفَاقُ أَثَرُ الإِْرْفَاقِ وَتَفْصِيل أَحْكَامِ الاِرْتِفَاقِ فِي مُصْطَلَحِهِ.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
3 - يَخْتَلِفُ حُكْمُ إِرْفَاقِ الإِْقْطَاعِ مِنَ الإِْمَامِ بِحَسَبِ الْغَرَضِ مِنْهُ، أَمَّا الإِْرْفَاقُ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ فَمُسْتَحَبٌّ، وَالدَّلِيل مِنَ الْمَنْقُول مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ يَمْنَعُ جَارٌ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَةً فِي جِدَارِهِ. ثُمَّ يَقُول أَبُو هُرَيْرَةَ: مَالِي أَرَاكُمْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ؟ وَاَللَّهِ لأََرْمِيَنَّ بِهَا بَيْنَ أَكْتَافِكُمْ (2) . وَقَدْ حُمِل النَّهْيُ فِي الْحَدِيثِ عَلَى الْكَرَاهَةِ. وَالدَّلِيل مِنَ الْمَعْقُول أَنَّهُ لَمَّا كَانَ لِلإِْنْسَانِ حَقُّ الْمَنْفَعَةِ بِالأَْشْيَاءِ الَّتِي يَمْلِكُهَا، فَلَهُ أَنْ يُعِيرَهَا غَيْرَهُ، أَوْ يَهَبَهَا، فَإِنْ كَانَ يُرِيدُ بِذَلِكَ ثَوَابَ الآْخِرَةِ فَهِيَ لَهُ صَدَقَةٌ، وَلِذَلِكَ يُنْدَبُ إِرْفَاقُ الْغَيْرِ مَنْفَعَةً مُعَيَّنَةً لِمُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ،
__________
(1) البهجة شرح التحفة 2 / 251، والقليوبي 3 / 92
(2) حديث: " لا يمنع جار جاره. . . . " متفق عليه، وهذا اللفظ للبخاري: (اللؤلؤ والمرجان ص 393)(3/136)
أَوْ إِلَى الأَْبَدِ بِدُونِ أَجْرٍ (1) . وَيَذْكُرُ الْفُقَهَاءُ مَبَاحِثَ الإِْرْفَاقِ ضِمْنَ كَلاَمِهِمْ فِي الْعَارِيَّةِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ.
إِرْقَابٌ
اُنْظُرْ: رُقْبَى
إِزَارٌ
اُنْظُرْ: اتِّزَار
إِزَالَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الإِْزَالَةِ فِي اللُّغَةِ: التَّنْحِيَةُ، وَالإِْذْهَابُ وَالاِضْمِحْلاَل. وَهِيَ مَصْدَرُ أَزَلْتُهُ (2) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنْ ذَلِكَ.
وَقَدْ يَسْتَعْمِل الْفُقَهَاءُ الإِْزَالَةَ وَالإِْذْهَابَ وَالإِْبْطَال بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَقِيل: إِنَّ هَذِهِ الأَْلْفَاظَ الثَّلاَثَةَ قَدْ يَصِحُّ كُل وَاحِدٍ مِنْهَا فِي شَيْءٍ لاَ يَصِحُّ فِيهِ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 282 ط بولاق الأولى، والمغني 6 / 246 ط رشيد رضا.
(2) تاج العروس (زول) .(3/136)
غَيْرُهُ مِنْهَا، كَمَا يُقَال لِمَنْ صَرَفَ مَالَهُ فِي شَيْءٍ: أَذْهَبَ مَالَهُ فِي كَذَا، وَلاَ يُقَال أَبْطَلَهُ، وَلاَ أَزَالَهُ، وَيُقَال لِمَنْ نَقَل شَيْئًا مِنْ مَحَلٍّ إِلَى آخَرَ: أَزَالَهُ، وَلاَ يُقَال أَبْطَلَهُ، وَلاَ أَذْهَبَهُ، وَيُقَال لِمَنْ أَفْسَدَ صَلاَتَهُ: أَبْطَلَهَا، وَلاَ يُقَال أَذْهَبَهَا، وَلاَ أَزَالَهَا (1) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
2 - الإِْزَالَةُ قَدْ تَكُونُ مَطْلُوبَةً مِنَ الشَّارِعِ عَلَى سَبِيل الْفِعْل، وَقَدْ تَكُونُ مَطْلُوبَةً عَلَى سَبِيل التَّرْكِ.
وَالإِْزَالَةُ قَدْ تَتَوَقَّفُ عَلَى نِيَّةٍ أَحْيَانًا كَمَا فِي إِزَالَةِ الْجَنَابَةِ، عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَقَدْ تَحْصُل بِلاَ نِيَّةٍ كَمَا فِي إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ الْعَيْنِيَّةِ (2) .
وَمِنَ الإِْزَالَةِ الْمَطْلُوبَةِ عَلَى سَبِيل الْفِعْل: إِزَالَةُ الضَّرَرِ، وَمِنَ الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ: " الضَّرَرُ يُزَال "؛ لِقَوْل الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ (3) لَكِنْ لاَ يُزَال الضَّرَرُ بِضَرَرٍ مِثْلِهِ، وَيُدْفَعُ الضَّرَرُ الأَْشَدُّ بِالأَْخَفِّ (4) .
وَهَذِهِ قَاعِدَةٌ يَنْبَنِي عَلَيْهَا كَثِيرٌ مِنْ أَبْوَابِ الْفِقْهِ، فَمِنْ ذَلِكَ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ، وَجَمِيعُ أَنْوَاعِ الْخِيَارَاتِ، وَالشُّفْعَةُ، فَإِنَّ فِيهَا دَفْعَ ضَرَرِ الْقِسْمَةِ (5) .
3 - وَمِنَ الإِْزَالَةِ الْمَطْلُوبَةِ شَرْعًا: إِزَالَةُ الْمُنْكَرِ، وَهِيَ فِي الْجُمْلَةِ فَرْضُ كِفَايَةٍ؛ لِقَوْل اللَّهِ سُبْحَانَهُ: {وَلْتَكُنْ
__________
(1) القليوبي 4 / 138 ط الحلبي.
(2) جواهر الإكليل 1 / 13 ط الحلبي.
(3) حديث: " لا ضرر. . . " أخرجه مالك مرسلا (المنتقى 6 / 40 ط السعادة) ورواه الحاكم موصولا (2 / 57 ط حيدر آباد)
(4) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 34، 35 المطبعة الحسينية، والأشباه والنظائر للسيوطي 86، 87 ط الحلبي لابن نجيم ص34
(5) الأشباه.(3/137)
مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} . (1) إِذْ لَمْ يَقُل اللَّهُ سُبْحَانَهُ كُونُوا آمِرِينَ بِالْمَعْرُوفِ نَاهِينَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَمِنْ لِلتَّبْعِيضِ (2) . وَتَفْصِيل مَا يَتَّصِل بِإِزَالَةِ الْمُنْكَرِ تَحْتَ مُصْطَلَحِ: (الأَْمْرُ بِالْمَعْرُوفِ) (وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ)
4 - وَالْمُعْتَدَّةُ لِلْوَفَاةِ يَجِبُ عَلَيْهَا إِزَالَةُ الطِّيبِ تَفَجُّعًا عَلَى الزَّوْجِ، وَيَتَكَلَّمُ الْفُقَهَاءُ عَنْ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (إِحْدَاد (3)) .
وَيُنْدَبُ كَذَلِكَ إِزَالَةُ شَعْرِ الْعَانَةِ، وَمَا تَحْتَ الإِْبِطِ (4) وَنَحْوِهِمَا، وَفَصَّلَهُ الْفُقَهَاءُ فِي خِصَال الْفِطْرَةِ، مَسَائِل الْحَظْرِ وَالإِْبَاحَةِ.
كَذَلِكَ مِنَ الإِْزَالَةِ الْمَطْلُوبَةِ إِزَالَةُ النَّجَاسَةِ، وَلِذَلِكَ بَابٌ خَاصٌّ يُفَصِّل الْفُقَهَاءُ فِيهِ أَحْكَامَهَا (5) .
5 - وَمِنَ الإِْزَالَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا: إِزَالَةُ دَمِ الشَّهِيدِ، وَهِيَ حَرَامٌ عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: زَمِّلُوهُمْ فِي دِمَائِهِمْ، فَإِنَّهُ لَيْسَ كَلْمٌ يُكْلَمُ فِي اللَّهِ إِلاَّ
__________
(1) سورة آل عمران / 104
(2) ابن عابدين 1 / 604 ط بولاق، والحطاب 3 / 348 ط ليبيا وجواهر الإكليل 1 / 251 ط الحلبي، ونهاية المحتاج 8 / 44 ط الحلبي، والآداب الشرعية 1 / 181 ط المنار، والقرطبي 4 / 48، 165 ط دار الكتب، وإتحاف السادة المتقين بشرح أسرار إحياء علوم الدين 7 / 4، 14، 42، ومنهاج اليقين في أدب الدنيا والدين 158 ط محمود بك مطيعي.
(3) مجمع الأنهر 1 / 479 ط تركيا، وجواهر الإكليل 1 / 389، وشرح الروض 3 / 402 ط الميمنية، وشرح منتهى الإرادات 3 / 227 ط دار الفكر.
(4) ابن عابدين 5 / 261، 239، والفواكه الدواني 2 / 401 ط الحلبي، والمغني مع الشرح الكبير 1 / 71، 72، 77، 88 ط المنار، ومطالب أولي النهى 1 / 88، والكافي 1 / 27 ط المكتب الإسلامي.
(5) جواهر الإكليل 1 / 11(3/137)
أَتَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ جُرْحُهُ يُدْمِي لَوْنُهُ لَوْنُ الدَّمِ، وَرِيحُهُ رِيحُ الْمِسْكِ. (1)
وَفِي الإِْحْرَامِ تَحْرُمُ إِزَالَةُ شَعْرِ الْبَدَنِ وَالْوَجْهِ وَالرَّأْسِ دُونَ عُذْرٍ، وَيَجِبُ فِي إِزَالَتِهِ جَزَاءٌ. وَيَذْكُرُ الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ فِي مُحَرَّمَاتِ الإِْحْرَامِ، وَفِي الدِّمَاءِ الْوَاجِبَةِ فِي الْحَجِّ.
بِالإِْضَافَةِ إِلَى مَا تَقَدَّمَ بِنَوْعَيْهِ، تَأْتِي الإِْزَالَةُ فِي أَبْوَابٍ وَمَسَائِل كَثِيرَةٍ مِنْهَا: إِزَالَةُ تَغَيُّرِ الْمَاءِ، وَيَذْكُرُهُ الْفُقَهَاءُ فِي الْمِيَاهِ، وَمِنْهَا: إِزَالَةُ الأَْقْذَارِ، وَإِزَالَةُ الْوَشْمِ، وَمِنْهَا: إِزَالَةُ التَّعَدِّي، وَيُذْكَرُ فِي عُقُودِ الأَْمَانَاتِ وَفِي الْغَصْبِ، وَمِنْهَا: مَا يُذْكَرُ فِي الْوَقْفِ مِنْ حَيْثُ وَقْفُ مُسْتَحِقِّ الإِْزَالَةِ، وَمِنْ حَيْثُ مَنْعُ إِزَالَةِ الإِْرْصَادِ، وَمِنْهَا: الْبَكَارَةُ، وَيُبَيِّنُ الْفُقَهَاءُ أَحْكَامَهَا فِي النِّكَاحِ (تَعْرِيفُ الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ) ، وَفِي الْجِنَايَاتِ (الْجِنَايَةُ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ) وَمِنْهَا: إِزَالَةُ الْعِصْمَةِ، وَتُذْكَرُ فِي الطَّلاَقِ، وَمِنْهَا: إِزَالَةُ شُبْهَةِ الْبُغَاةِ وَالْمُرْتَدِّينَ.
أَزْلاَمٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الأَْزْلاَمُ فِي اللُّغَةِ: جَمْعُ زَلَمٍ - بِفَتْحِ الزَّايِ وَضَمِّهَا مَعَ فَتْحِ اللاَّمِ - الْقَدَحُ الَّذِي لاَ رِيشَ عَلَيْهِ.
__________
(1) حاشية الشلبي على الكنز 1 / 248 ط بولاق، والبدائع 1 / 324 المطبوعات العلمية، وجواهر الإكليل 1 / 115، ونهاية المحتاج 2 / 489، ونيل المآرب 1 / 64 ط بولاق، والمغني مع الشرح الكبير 2 / 402، وحديث: " زملوهم. . . " أخرجه النسائي 4 / 78 ط المكتبة التجارية، وأصله في البخاري (فتح الباري 3 / 212)(3/138)
وَالزَّلَمُ وَالسَّهْمُ وَالْقَدَحُ مُتَرَادِفَةُ الْمَعَانِي، تَدُل كُلُّهَا عَلَى قِطْعَةٍ مِنْ غُصْنٍ مُسَوَّاةٍ مُشَذَّبَةٍ.
قَال الأَْزْهَرِيُّ: الأَْزْلاَمُ كَانَتْ لِقُرَيْشٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، مَكْتُوبٌ عَلَيْهَا: أَمْرٌ وَنَهْيٌ، وَافْعَل وَلاَ تَفْعَل، قَدْ زُلِّمَتْ وَسُوِّيَتْ، وَوُضِعَتْ فِي الْكَعْبَةِ، يَقُومُ بِهَا سَدَنَةُ الْبَيْتِ، فَإِذَا أَرَادَ الرَّجُل سَفَرًا أَوْ نِكَاحًا أَتَى السَّادِنَ فَقَال: أَخْرِجْ لِي زَلَمًا، فَيُخْرِجُهُ وَيَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَإِذَا خَرَجَ قَدَحُ (الأَْمْرِ) مَضَى عَلَى مَا عَزَمَ عَلَيْهِ، وَإِنْ خَرَجَ قَدَحُ (النَّهْيِ) قَعَدَ عَمَّا أَرَادَهُ، وَرُبَّمَا كَانَ مَعَ الرَّجُل زَلَمَانِ وَضَعَهُمَا فِي قِرَابِهِ، فَإِذَا أَرَادَ الاِسْتِقْسَامَ أَخْرَجَ أَحَدَهُمَا.
وَقَال الْمُؤَرِّخُ السَّدُوسِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْل اللُّغَةِ: الأَْزْلاَمُ هِيَ قِدَاحُ الْمَيْسِرِ. وَقَال الأَْزْهَرِيُّ: وَهُوَ وَهْمٌ، وَاسْتَدَل عَلَيْهِ بِحَدِيثِ سُرَاقَةَ بْنِ جُعْشُمٍ الْمُدْلِجِيِّ (1) .
وَالْفُقَهَاءُ يَذْكُرُونَ الأَْزْلاَمَ عَلَى أَنَّهَا السِّهَامُ الَّتِي كَانَ أَهْل الْجَاهِلِيَّةِ يَسْتَقْسِمُونَ بِهَا فِي أُمُورِ حَيَاتِهِمْ (2) . وَهَذَا الرَّأْيُ يُوَافِقُ مَا قَالَهُ الأَْزْهَرِيُّ.
وَرَوَى ابْنُ بَطَّالٍ عَنِ الْهَرَوِيِّ هَذَا الْمَعْنَى، وَرُوِيَ عَنِ الْعَزِيزِيِّ: أَنَّهَا السِّهَامُ الَّتِي كَانَ أَهْل الْجَاهِلِيَّةِ يَسْتَقْسِمُونَ بِهَا عَلَى الْمَيْسِرِ (3) .
وَاَلَّذِي تَحَصَّل مِنْ كَلاَمِ أَهْل النَّقْل - كَمَا جَاءَ فِي فَتْحِ الْبَارِي وَالْقُرْطُبِيِّ وَالطَّبَرِيِّ - أَنَّ الأَْزْلاَمَ: مِنْهَا مَا هُوَ مُخَصَّصٌ لِلاِسْتِقْسَامِ بِهَا فِي أُمُورِ الْحَيَاةِ، مِنْ نِكَاحٍ وَسَفَرٍ وَغَزْوٍ وَتِجَارَةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَمِنْهَا مَا هُوَ
__________
(1) تاج العروس، ولسان العرب، والمصباح المنير مادة (زلم)
(2) طلبة الطلبة ص 158 ط المثنى ببغداد، والدسوقي 2 / 129 ط دار الفكر، والمبسوط 24 / 2 ط دار المعرفة بيروت.
(3) النظم المستعذب بأسفل المهذب 2 / 287 ط دار المعرفة بيروت.(3/138)
مُخَصَّصٌ لِلْمَيْسِرِ (1) . وَلَكِنْ عِنْدَ الإِْطْلاَقِ يَنْصَرِفُ إِلَى مَا هُوَ مُخَصَّصٌ لِلاِسْتِقْسَامِ. وَلِتَفْصِيل أَحْكَامِ مَا هُوَ مُخَصَّصٌ لِلْمَيْسِرِ يُرْجَعُ إِلَى مُصْطَلَحِهِ.
وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَل (الزَّلَمُ) فِي الاِسْتِقْسَامِ، وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَل (السَّهْمُ) فِي سَهْمِ الْقَوْسِ الَّذِي يُرْمَى بِهِ، وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَل (الْقَدَحُ) فِي قِدَاحِ الْمَيْسِرِ.
2 - وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا كَانَتْ تُتَّخَذُ مِنْهُ الأَْزْلاَمُ، فَقِيل: هِيَ السِّهَامُ الَّتِي يُرْمَى بِهَا، وَقِيل: هِيَ مِنْ حَصًى بِيضٍ، وَقِيل: مِنَ الْقَرَاطِيسِ. وَالْحُكْمُ لاَ يَخْتَلِفُ بِذَلِكَ مَا سَيَأْتِي (2) .
تَعْظِيمُ الْعَرَبِ لِلأَْزْلاَمِ:
3 - كَانَ الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُقَدِّسُونَ الأَْزْلاَمَ، وَلَهَا فِي حَيَاتِهِمْ شَأْنٌ كَبِيرٌ، يَرْجِعُونَ إِلَيْهَا فِي كُل شَيْءٍ، فَقَدْ ضَرَبَ بِهَا عَبْدُ الْمُطَّلِبِ - جَدُّ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى بَنِيهِ، إِذْ كَانَ نَذَرَ نَحْرَ أَحَدِهِمْ إِذَا كَمَلُوا عَشَرَةً (3) . وَكَذَلِكَ ضَرَبَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكٍ بْنِ جُعْشُمٍ بِقِدَاحِهِ الَّتِي يَسْتَقْسِمُ بِهَا حِينَ اتَّبَعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ وَقْتَ الْهِجْرَةِ (4) . وَكَانَ لِلْعَامِل الدِّينِيِّ أَثَرٌ كَبِيرٌ فِي ذَلِكَ، فَقَدْ كَانَتِ الأَْزْلاَمُ
__________
(1) فتح الباري 8 / 277 ط البحوث العلمية بالسعودية، والطبري 9 / 510 وما بعدها ط دار المعارف بمصر، والقرطبي 6 / 58 وما بعدها ط دار الكتب المصرية.
(2) فتح الباري 8 / 277، والطبري 9 / 510، والقرطبي 6 / 58، والمبسوط 24 / 2، والدسوقي 2 / 129، وأحكام القرآن لابن العربي 2 / 543 ط عيسى الحلبي، والفروق للقرافي 4 / 240 ط دار المعرفة بيروت.
(3) خبر ضرب عبد المطلب للقداح، أورده ابن هشام في السيرة 1 / 152 ط مصطفى الحلبي.
(4) خبر ضرب سراقة للقداح أورده ابن هشام في السير 1 / 489 ط مصطفى الحلبي.(3/139)
تُوضَعُ عِنْدَ (هُبَلٍ) - أَعْظَمِ صَنَمٍ لِقُرَيْشٍ فِي مَكَّةَ - وَيَقُومُ الْكُهَّانُ أَوِ السَّدَنَةُ بِإِجَالَتِهَا (أَيْ تَحْرِيكِهَا) لِمَنْ يُرِيدُ الاِسْتِقْسَامَ، إِعْظَامًا لِلأَْمْرِ الَّذِي يَبْغُونَهُ.
وَقَدْ بَلَغَ مِنْ تَقْدِيسِهِمْ لِلأَْزْلاَمِ، أَنَّهُمْ جَعَلُوا فِي الْبَيْتِ الْحَرَامِ صُورَةً لإِِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيل عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَهُمَا يَسْتَقْسِمَانِ بِالأَْزْلاَمِ. وَلِذَلِكَ لَمَّا قَدِمَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ أَبَى أَنْ يَدْخُل الْبَيْتَ وَفِيهِ الآْلِهَةُ، فَأَمَرَ بِهَا فَأُخْرِجَتْ، وَأَخْرَجَ صُورَةَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيل، وَفِي أَيْدِيهِمَا الأَْزْلاَمُ، وَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَاتَلَهُمُ اللَّهُ، لَقَدْ عَلِمُوا أَنَّهُمَا مَا اسْتَقْسَمَا بِهَا قَطُّ (1) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
أ - حُكْمُ صُنْعِهَا وَاقْتِنَائِهَا وَالتَّعَامُل فِيهَا:
4 - الأَْزْلاَمُ مِنْ أَعْمَال الْجَاهِلِيَّةِ الَّتِي حَرَّمَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِقَوْلِهِ: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَْنْصَابُ وَالأَْزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَل الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} . (2)
وَكُل مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَحْرُمُ صُنْعُهُ وَاقْتِنَاؤُهُ وَالتَّعَامُل فِيهِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةَ وَالْخِنْزِيرَ وَالأَْصْنَامَ. يَقُول ابْنُ الْقَيِّمِ: يُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَحْرِيمُ بَيْعِ كُل آلَةٍ مُتَّخَذَةٍ لِلشِّرْكِ، عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَتْ، وَمِنْ أَيِّ نَوْعٍ كَانَتْ، صَنَمًا أَوْ وَثَنًا أَوْ صَلِيبًا، فَهَذِهِ كُلُّهَا يَجِبُ إِزَالَتُهَا وَإِعْدَامُهَا،
__________
(1) القرطبي 6 / 59، والمغني 7 / 6، وحديث: " إخراج صورة إبراهيم وإسماعيل من البيت. . . " رواه البخاري (فتح الباري 8 / 16 ط السلفية) .
(2) سورة المائدة / 90(3/139)
وَبَيْعُهَا ذَرِيعَةٌ إِلَى اقْتِنَائِهَا، وَاِتِّخَاذِهَا، وَلِذَلِكَ يَحْرُمُ الْبَيْعُ (1) .
وَلأَِنَّ مِنْ شُرُوطِ الْبَيْعِ، كَمَا يَقُول الْفُقَهَاءُ: أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ غَيْرَ مَنْهِيٍّ عَنْهُ، وَالأَْزْلاَمُ - بِصِفَتِهَا وَهَيْئَتِهَا، مِنْ كَوْنِهَا الْقِدَاحَ الَّتِي كُتِبَ عَلَيْهَا الأَْمْرُ أَوِ النَّهْيُ لِتَكُونَ هِيَ الْمُوَجِّهَةُ - مَنْهِيٌّ عَنْهَا، فَيَنْطَبِقُ عَلَيْهَا مَا يَنْطَبِقُ عَلَى الصَّنَمِ وَالصَّلِيبِ، مِنْ حُرْمَةِ بَيْعِهَا وَاقْتِنَائِهَا وَالتَّعَامُل فِيهَا.
وَيَقُول بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: مَا لاَ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ لاَ يَجُوزُ اتِّخَاذُهُ، وَلاَ تَحِل الأُْجْرَةُ لِصُنْعِ مِثْل هَذِهِ الأَْشْيَاءِ، فَفِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: مَنِ اسْتَأْجَرَ رَجُلاً لِيَنْحِتَ لَهُ أَصْنَامًا، لاَ شَيْءَ لَهُ.
وَالْمَادَّةُ الَّتِي تُصْنَعُ مِنْهَا الأَْزْلاَمُ - سَوَاءٌ أَكَانَتْ حِجَارَةً أَمْ خَشَبًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ - لاَ يَجُوزُ بَيْعُهَا لِمَنْ يَتَّخِذُهَا لِمِثْل ذَلِكَ. فَلاَ يَصِحُّ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ بَيْعُ الْعِنَبِ لِمَنْ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا، وَلاَ بَيْعُ بُنْدُقٍ (2) لِقِمَارٍ، وَلاَ دَارٌ لِتُعْمَل كَنِيسَةً، وَلاَ بَيْعُ الْخَشَبَةِ لِمَنْ يَتَّخِذُهَا صَلِيبًا، وَلاَ بَيْعُ النُّحَاسِ لِمَنْ يَتَّخِذُهُ نَاقُوسًا. وَكَذَلِكَ كُل شَيْءٍ عُلِمَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ قَصَدَ بِهِ أَمْرًا لاَ يَجُوزُ (3) .
وَفِي الْمَبْسُوطِ فِي بَابِ الأَْشْرِبَةِ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَْنْصَابُ وَالأَْزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَل الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} . (4) قَال السَّرَخْسِيُّ بَعْدَ
__________
(1) زاد المعاد 4 / 245 ط مصطفى الحلبي.
(2) البندق هنا: كرة في حجم البندقة التي تؤكل، يرمى بها في القتال والصيد (المعجم الوسيط) .
(3) المهذب 1 / 19، 268، 381، ومنتهى الإرادات 2 / 155 ط دار الفكر، والمغني 4 / 383، 5 / 301 ط الرياض، ومغني المحتاج 2 / 12 ط مصطفى الحلبي، والفتاوى الهندية 4 / 450 ط المكتبة الإسلامية، والحطاب 4 / 254، 258 ط النجاح ليبيا، والخرشي 5 / 11 ط دار صادر.
(4) سورة المائدة / 90(3/140)
ذَلِكَ: بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ كُل ذَلِكَ رِجْسٌ، وَالرِّجْسُ: مَا هُوَ مُحَرَّمُ الْعَيْنِ، وَأَنَّهُ مِنْ عَمَل الشَّيْطَانِ (1) .
وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ إِذَا أُبْطِلَتِ الْهَيْئَةُ الْمُحَرِّمَةُ لِلأَْزْلاَمِ رَجَعَ حُكْمُهَا الأَْصْلِيُّ، وَهُوَ إِبَاحَةُ الاِنْتِفَاعِ بِهَا فِيمَا هُوَ حَلاَلٌ.
ب - أَهِيَ طَاهِرَةٌ أَمْ نَجِسَةٌ؟
5 - لَوْ نَظَرْنَا إِلَى الْمَادَّةِ الَّتِي تُصْنَعُ مِنْهَا الأَْزْلاَمُ، وَاَلَّتِي لاَ يَدْخُلُهَا مَا يُنَجِّسُهَا، لَوَجَدْنَا أَنَّهَا خَشَبٌ أَوْ حِجَارَةٌ أَوْ حَصًى، وَكُل ذَلِكَ طَاهِرٌ، وَصُنْعُهُ عَلَى هَيْئَةٍ خَاصَّةٍ لاَ يَجْعَلُهُ نَجِسًا.
وَلِذَلِكَ يَقُول النَّوَوِيُّ فِي الْمَجْمُوعِ - بَعْدَ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَْنْصَابُ وَالأَْزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَل الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} -: إِنَّ الْخَمْرَ نَجِسَةٌ لِلآْيَةِ، وَلاَ يَضُرُّ قَرْنُ الْمَيْسِرِ وَالأَْنْصَابِ وَالأَْزْلاَمِ بِهَا، مَعَ أَنَّ هَذِهِ الأَْشْيَاءَ طَاهِرَةٌ؛ لأَِنَّ هَذِهِ الثَّلاَثَةَ خَرَجَتْ بِالإِْجْمَاعِ، فَبَقِيَتِ الْخَمْرُ عَلَى مُقْتَضَى الْكَلاَمِ، وَلاَ يَظْهَرُ مِنَ الآْيَةِ دَلاَلَةٌ ظَاهِرَةٌ؛ لأَِنَّ الرِّجْسَ عِنْدَ أَهْل اللُّغَةِ الْقَذَرُ، وَلاَ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ النَّجَاسَةُ، وَكَذَلِكَ الأَْمْرُ بِالاِجْتِنَابِ لاَ يَلْزَمُ مِنْهُ النَّجَاسَةُ (2) .
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
6 - كَانَ الْعَرَبُ يَتَّخِذُونَ الأَْزْلاَمَ لِلاِسْتِقْسَامِ بِهَا فِي شُؤُونِ حَيَاتِهِمْ. وَبَيَانُ الْحُكْمِ فِي ذَلِكَ، وَتَفْصِيل الْكَلاَمِ فِيهِ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (اسْتِقْسَام) . كَمَا
__________
(1) المبسوط 24 / 2 ط دار المعرفة بيروت.
(2) المجموع شرح المهذب 2 / 563، 564 ط المطبعة السلفية.(3/140)
أَنَّ مِنَ الأَْزْلاَمِ مَا هُوَ مُخَصَّصٌ لِلْقِمَارِ، وَتُسَمَّى قِدَاحَ الْمَيْسِرِ، وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (مَيْسِر - قِمَارٌ) .
إِسَاءَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْسَاءَةُ لُغَةً: خِلاَفُ الإِْحْسَانِ، يُقَال: أَسَاءَ الرَّجُل إِسَاءَةً، خِلاَفُ أَحْسَنَ، وَأَسَاءَ إِلَيْهِ خِلاَفُ أَحْسَنَ إِلَيْهِ، وَأَسَاءَ الشَّيْءَ أَفْسَدَهُ، وَلَمْ يُحْسِنْ عَمَلَهُ، وَالإِْسَاءَةُ اسْمٌ لِلظُّلْمِ وَلِلْمَعْصِيَةِ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لَهُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2) ، وَمِنْ ذَلِكَ إِطْلاَقُهُمُ الإِْسَاءَةَ عَلَى إِضْرَارِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ بِالآْخَرِ (3) . وَفِي مِنَحِ الْجَلِيل: نُدِبَ لِلْقَاضِي تَأْدِيبُ مَنْ أَسَاءَ عَلَيْهِ (أَيْ تَعَدَّى) بِمَجْلِسِ حُكْمِهِ بِقَوْلِهِ: ظَلَمْتَنِي، أَوْ جُرْتَ عَلَيَّ، وَيَسْتَنِدُ الْقَاضِي فِيهِ لِعِلْمِهِ، فَيُؤَدِّبُهُ، وَإِنْ لَمْ تَشْهَدْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ، أَمَّا مَنْ أَسَاءَ (إِلَيْهِ) فِي غَيْرِ مَجْلِسِهِ فَلاَ يُؤَدِّبُهُ بِنَفْسِهِ، وَلْيَرْفَعْهُ لِقَاضٍ آخَرَ. وَقَال ابْنُ رُشْدٍ: لِلْقَاضِي
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، وترتيب القاموس المحيط 2 / 590 ط الرسالة، والطبري 15 / 24 ط بولاق الأولى، والفروق في اللغة لأبي هلال العسكري ص 13، والكليات للكفوي 1 / 18
(2) النظم المستعذب في شرح غريب المهذب، المطبوع بهامش المهذب 1 / 249 ط دار المعرفة، ومنح الجليل 4 / 148 ط النجاح ليبيا.
(3) جواهر الإكليل 1 / 328، 329، ط دار المعرفة بيروت، ومنتهى الإرادات 3 / 106 ط دار الفكر.(3/141)
الْفَاضِل الْعَدْل أَنْ يَحْكُمَ لِنَفْسِهِ، وَالْعُقُوبَةُ عَلَى مَنْ تَنَاوَلَهُ بِالْقَوْل وَأَذَاهُ وَهُوَ غَائِبٌ (1) .
وَفِي الْمُغْنِي لاِبْنِ قُدَامَةَ: لِلْقَاضِي أَنْ يُؤَدِّبَ الْخَصْمَ، إِذَا افْتَأَتَ عَلَيْهِ، بِأَنْ يَقُول: حَكَمْتَ عَلَيَّ بِغَيْرِ الْحَقِّ، أَوِ ارْتَشَيْتَ (2) .
وَبَعْضُ الأُْصُولِيِّينَ يَعْتَبِرُ الإِْسَاءَةَ مَرْتَبَةً بَيْنَ الْكَرَاهَةِ التَّحْرِيمِيَّةِ وَالتَّنْزِيهِيَّةِ، فَهِيَ أَفْحَشُ مِنَ الْكَرَاهَةِ التَّنْزِيهِيَّةِ، وَأَدْوَنُ مِنَ الْكَرَاهَةِ التَّحْرِيمِيَّةِ، وَيَقُولُونَ: إِنَّ تَارِكَ سُنَّةِ الْهُدَى - كَالأَْذَانِ وَالْجَمَاعَةِ - مُسِيءٌ يَسْتَوْجِبُ اللَّوْمَ (3) . وَقَال الْفَتُوحِيُّ: يُسَمَّى الْحَرَامُ مَحْظُورًا وَمَمْنُوعًا وَمَعْصِيَةً وَقَبِيحًا وَسَيِّئَةً.
وَيُقَال لِفَاعِل الْمَكْرُوهِ: مُخَالِفٌ وَمُسِيءٌ وَغَيْرُ مُمْتَثِلٍ، مَعَ أَنَّهُ لاَ يُذَمُّ فَاعِلُهُ، وَلاَ يَأْثَمُ عَلَى الأَْصَحِّ، قَال الإِْمَامُ أَحْمَدُ، فِيمَنْ زَادَ عَلَى التَّشَهُّدِ: أَسَاءَ. وَظَاهِرُ كَلاَمِ بَعْضِهِمْ أَنَّ الإِْسَاءَةَ تَخْتَصُّ بِالْحَرَامِ، فَلاَ يُقَال أَسَاءَ إِلاَّ لِفِعْلٍ مُحَرَّمٍ (4) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الضَّرَرُ:
2 - الضَّرَرُ لُغَةً: ضِدُّ النَّفْعِ، وَاصْطِلاَحًا: إِلْحَاقُ مَفْسَدَةٍ بِالْغَيْرِ (5) .
وَضَرَّهُ يَضُرُّهُ: إِذَا فَعَل بِهِ مَكْرُوهًا (6) .
فَالإِْسَاءَةُ وَالضَّرَرُ يَلْتَقِيَانِ فِي الْمَعْنَى، إِلاَّ أَنَّ
__________
(1) منح الجليل4 / 148 ط النجاح ليبيا.
(2) المغني 9 / 43 ط الرياض.
(3) شرح المنار ص 587 ط العثمانية.
(4) شرح الكوكب المنير ص 120، 130 ط السنة المحمدية.
(5) لسان العرب والمصباح المنير.
(6) الفتح المبين شرح الأربعين لابن حجر ص 237(3/141)
الإِْسَاءَةَ قَبِيحَةٌ، وَأَمَّا الْمَضَرَّةُ فَقَدْ تَكُونُ حَسَنَةً، إِذَا قُصِدَ بِهَا وَجْهٌ يَحْسُنُ، نَحْوَ الْمَضَرَّةِ بِالضَّرْبِ لِلتَّأْدِيبِ وَبِالْكَدِّ لِلتَّعَلُّمِ وَالتَّعْلِيمِ (1) .
ب - التَّعَدِّي:
3 - التَّعَدِّي: مُجَاوَزَةُ الشَّيْءِ إِلَى غَيْرِهِ، وَالتَّعَدِّي الظُّلْمُ (2) ، فَالإِْسَاءَةُ وَالتَّعَدِّي قَدْ يَلْتَقِيَانِ فِي الْمَعْنَى.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
4 - يُمْكِنُ إِجْمَال حُكْمِ الإِْسَاءَةِ بِأَنَّهَا إِذَا كَانَتْ مَعْصِيَةً كَزِنَى، أَوْ شُرْبِ خَمْرٍ، أَوْ تَرْكِ فَرْضٍ أَوْ وَاجِبٍ، أَوْ كَانَتْ تَعَدِّيًا وَظُلْمًا لِلْغَيْرِ، كَسَبٍّ وَشَتْمٍ وَأَخْذِ مَالٍ وَضَرْبٍ، فَهِيَ حَرَامٌ، تَسْتَوْجِبُ الْعُقُوبَةَ بِالْحَدِّ أَوِ التَّعْزِيرِ.
وَإِنْ كَانَتْ مُخَالِفَةً لِلسُّنَّةِ الَّتِي تُعْتَبَرُ مِنَ الشَّعَائِرِ، كَالْجَمَاعَةِ وَالأَْذَانِ وَالإِْقَامَةِ فَهِيَ مَكْرُوهَةٌ، تَسْتَوْجِبُ اللَّوْمَ وَالْعِتَابَ (3) .
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
5 - غَالِبًا مَا يُعَبِّرُ الْفُقَهَاءُ عَنِ الإِْسَاءَةِ بِالْمَعْنَى الْمَقْصُودِ مِنْهَا، وَهُوَ الضَّرَرُ وَالإِْضْرَارُ وَالظُّلْمُ، يَأْتِي هَذَا غَالِبًا فِي حُقُوقِ الاِرْتِفَاقِ، كَحَقِّ الشُّرْبِ، وَحَقِّ الطَّرِيقِ، وَحَقِّ الْمَسِيل، وَحَقِّ الْجِوَارِ.
وَيُعَبِّرُونَ كَذَلِكَ بِالإِْسَاءَةِ عَنِ الْحَاصِل بِالْمَصْدَرِ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مِنْ نَاحِيَةِ الْمَال أَطْلَقَ عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ اسْمَ الْغَصْبِ وَالسَّرِقَةِ أَوِ الإِْتْلاَفِ، وَإِذَا
__________
(1) الفروق في اللغة ص 13
(2) تاج العروس، والمصباح المنير، ونيل الأوطار 1 / 173 ط العثمانية
(3) المنار ص 587، وشرح الكوكب المنير ص 120، 130(3/142)
كَانَ مِنْ نَاحِيَةِ الْعِرْضِ أَطْلَقُوا اسْمَ السَّبِّ أَوِ الْقَذْفِ أَوِ الزِّنَى. وَإِذَا كَانَ مِنْ نَاحِيَةِ النَّفْسِ أَوِ الأَْطْرَافِ أَطْلَقُوا عَلَيْهِ اسْمَ الْجِنَايَةِ وَالْجِرَاحِ وَهَكَذَا.
إِسْبَاغٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْسْبَاغُ لُغَةً: الإِْكْمَال وَالتَّوْفِيَةُ، وَإِسْبَاغُ الْوُضُوءِ: إِبْلاَغُهُ مَوَاضِعَهُ.
وَاصْطِلاَحًا: أَنْ يُعِمَّ جَمِيعَ الأَْعْضَاءِ بِالْمَاءِ، بِحَيْثُ يَجْرِي عَلَيْهَا (1) ، وَعَرَّفَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ: كَمَال إِتْمَامِ الْوُضُوءِ وَتَوْفِيَتِهِ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الإِْسْبَال:
2 - الإِْسْبَال يَدُل عَلَى: إِرْسَال الشَّيْءِ مِنْ عُلُوٍّ إِلَى سُفْلٍ، كَإِسْبَال السِّتْرِ وَالإِْزَارِ، أَيْ إِرْخَاؤُهُ، وَالإِْسْدَال كَذَلِكَ (3) . فَالإِْسْبَال فِيهِ زِيَادَةٌ عَنِ الْمَطْلُوبِ، وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فِي الْجُمْلَةِ، إِلاَّ مَا وَرَدَ نَصٌّ فِي جَوَازِهِ، كَإِسْبَال السِّتْرِ عَلَى وَجْهِ الْمَرْأَةِ الْمُحْرِمَةِ مِنْ غَيْرِ مُلاَمَسَةٍ لِلْوَجْهِ، بِخِلاَفِ الإِْسْبَاغِ فَهُوَ مَطْلُوبٌ (ر: إِسْبَال)
__________
(1) المغني 1 / 224 ط دار الكتاب العربي، والمبسوط 1 / 9، ومواهب الجليل1 / 257
(2) حاشية الجمل على المنهج 1 / 35
(3) الصحاح، ومعجم مقاييس اللغة.(3/142)
ب - الإِْسْرَافُ:
3 - الإِْسْرَافُ هُوَ مَا زِيدَ بَعْدَ تَيَقُّنِ الْوَاجِبِ أَوِ الْمَطْلُوبِ، وَهُوَ مَكْرُوهٌ (1) ، بِخِلاَفِ الإِْسْبَاغِ. وَمِثْلُهُ إِطَالَةُ الْغُرَّةِ تَكُونُ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الْمَحْدُودِ، وَفَوْقَ الْوَاجِبِ فِي الْوُضُوءِ، فَهِيَ إِسْبَاغٌ وَزِيَادَةٌ (2) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
4 - الإِْسْبَاغُ، إِنْ أُرِيدَ بِهِ تَعْمِيمُ الأَْعْضَاءِ الْوَاجِبِ غَسْلُهَا بِالْمَاءِ فَهُوَ وَاجِبٌ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الزِّيَادَةُ وَالتَّوْفِيَةُ، فَهُوَ مَنْدُوبٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، لِحَدِيثِ: أَسْبِغُوا الْوُضُوءَ، وَحَدِيثِ إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ. (3) مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
5 - اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِلإِْسْبَاغِ يَرِدُ فِي الطَّهَارَةِ عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنِ الْوُضُوءِ.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 89 ط بولاق الأولى، والحطاب 1 / 257، والمبسوط1 / 9.
(2) حاشية ابن عابدين1 / 88، والقليوبي1 / 54 ط عيسى الحلبي.
(3) حديث: " أسبغوا الوضوء. . . . " رواه البخاري 1 / 167 برقم 165 ط السلفية من طريق محمد بن زياد، قال: سمعت أبا هريرة، وكان يمر بنا، والناس يتوضئون من المطهرة قال: أسبغوا الوضوء فإن أبا القاسم قال: " ويل للأعقاب من النار "، ورواه مسلم (1 / 214، 215) برقم 29 ط الحلبي بلفظ: " ويل للعراقيب من النار ". وحديث: " إسباغ الوضوء على المكاره " رواه مسلم (1 / 219) برقم 41 ط عيسى الحلبي: والحديث: عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ " قالوا: بلى يا رسول الله. قال: " إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط ".(3/143)
إِسْبَالٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الإِْسْبَال لُغَةً: إِرْسَال الشَّيْءِ مِنْ عُلُوٍّ إِلَى سُفْلٍ، كَإِسْبَال السِّتْرِ وَالإِْزَارِ، أَيْ إِرْخَاؤُهُ، وَالإِْسْدَال بِمَعْنَاهُ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - اشْتِمَال الصَّمَّاءِ:
2 - اشْتِمَال الصَّمَّاءِ هُوَ أَنْ يُجَلِّل (يَلُفَّ) بَدَنَهُ بِثَوْبٍ لَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، ثُمَّ يَرْفَعَهُ مِنْ أَحَدِ جَانِبَيْهِ، فَيَضَعَهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، فَيَبْدُو مِنْهُ فُرْجَةٌ (3) . فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الإِْسْبَال أَنَّ فِي الإِْسْبَال يُرْسِل أَطْرَافَ الثَّوْبِ. أَمَّا فِي اشْتِمَال الصَّمَّاءِ، فَيَرْفَعُ أَحَدَ جَانِبَيِ الثَّوْبِ؛ لِيَضَعَهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ.
ب - الإِْعْفَاءُ:
3 - الإِْعْفَاءُ يَدُل عَلَى أَصْلَيْنِ: هُمَا التَّرْكُ وَالطَّلَبُ، إِلاَّ أَنَّ الْعَفْوَ غَلَبَ عَلَى تَرْكِ عُقُوبَةٍ
__________
(1) الصحاح للجوهري، ومعجم مقاييس اللغة.
(2) المصباح المنير، وطلبة الطلبة، والمغرب في ترتيب المعرب، وحاشية ابن عابدين 1 / 429 ط بولاق، وشرح الزرقاني 1 / 180 ط بيروت، والمهذب 1 / 72 ط م الحلبي، والطحطاوي على مراقي الفلاح 192 ط العامرة.
(3) المغني 1 / 584، وشرح الزرقاني 1 / 180، ومغني المحتاج 1 / 186(3/143)
اسْتُحِقَّتْ، وَالإِْعْفَاءُ عَلَى التَّرْكِ مُطْلَقًا، وَمِنْهُ إِعْفَاءُ اللِّحْيَةِ، وَهُوَ تَرْكُ قَصِّهَا وَتَوْفِيرِهَا (1) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
4 - الإِْسْبَال أَوِ الإِْسْدَال بِمَعْنَى الإِْرْسَال وَالإِْرْخَاءِ، يَسْتَعْمِلُهَا الْفُقَهَاءُ فِي أُمُورٍ عَدِيدَةٍ، وَيَخْتَلِفُ الْحُكْمُ بِحَسَبِ الْمَوْضِعِ.
فَإِسْدَال الثَّوْبِ فِي الصَّلاَةِ - بِمَعْنَى إِرْسَالِهِ مِنْ غَيْرِ لُبْسٍ - مَكْرُوهٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ أَكَانَ لِلْخُيَلاَءِ، أَمْ لِغَيْرِهَا، وَصُورَتُهُ: أَنْ يَجْعَل ثَوْبَهُ عَلَى رَأْسِهِ أَوْ كَتِفِهِ، وَيُرْسِل أَطْرَافَهُ مِنْ جَانِبَيْهِ، دُونَ رَفْعِ أَحَدِهِمَا، وَتَحْتَهُ مَا يَسْتُرُ عَوْرَتَهُ، وَهَذَا مُشَابِهٌ لاِشْتِمَال الْيَهُودِ (2) . أَمَّا إِرْسَال الإِْزَارِ خُيَلاَءَ فَهُوَ حَرَامٌ، وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (اخْتِيَال) .
وَقَدْ يَكُونُ الإِْسْبَال مَطْلُوبًا كَإِسْبَال جِلْبَابِ الْمَرْأَةِ شِبْرًا أَوْ ذِرَاعًا، احْتِيَاطًا لِسَتْرِ الْعَوْرَةِ، وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (عَوْرَة، لِبَاس) .
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
5 - بَحَثَ الْفُقَهَاءُ مَسْأَلَةَ إِسْدَال الثَّوْبِ فِي الصَّلاَةِ، عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنْ مَكْرُوهَاتِهَا، عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَفِي سَتْرِ الْعَوْرَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَبَحَثُوا إِسْدَال الْخِمَارِ عَلَى وَجْهِ الْمَرْأَةِ الْمُحْرِمَةِ فِي الْحَجِّ عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنْ مُحَرَّمَاتِ الإِْحْرَامِ. وَإِسْبَال الْقَمِيصِ وَالإِْزَارِ وَالسَّرَاوِيلاَتِ - مُطْلَقًا فِي الصَّلاَةِ وَغَيْرِهَا، عَلَى وَجْهِ الْخُيَلاَءِ أَوْ عَلَى غَيْرِهِ - فِي كِتَابِ الصَّلاَةِ
__________
(1) المغرب في ترتيب المعرب.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 429 ط بولاق، وشرح الزرقاني 1 / 181، والجمل على شرح المنهج 1 / 406 ط م الحلبي، والمغني 1 / 585 ط الرياض، ومغني المحتاج 1 / 186(3/144)
عِنْدَ الْكَلاَمِ عَمَّا يُكْرَهُ فِيهَا، وَإِسْدَال الْيَدَيْنِ فِي الصَّلاَةِ بَعْدَ تَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ أَوْ قَبْضِهَا، فِي كِتَابِ الصَّلاَةِ عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنْ فَرَائِضِهَا، وَإِسْدَال الشَّعْرِ فِي الْجَنَائِزِ، عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنْ غُسْل الْمَيِّتِ.
اسْتِئْجَارٌ
انْظُرْ: إِجَارَة.
اسْتِئْذَانٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِسْتِئْذَانُ فِي اللُّغَةِ: طَلَبُ الإِْذْنِ، وَالإِْذْنُ: مِنْ أَذِنَ بِالشَّيْءِ إِذْنًا بِمَعْنَى أَبَاحَهُ، وَعَلَى هَذَا فَإِنَّ الاِسْتِئْذَانَ هُوَ طَلَبُ الإِْبَاحَةِ (1) .
وَالْفُقَهَاءُ يَسْتَعْمِلُونَ الاِسْتِئْذَانَ بِهَذَا الْمَعْنَى، فَيَقُولُونَ: " الاِسْتِئْذَانُ لِدُخُول الْبُيُوتِ " وَيَعْنُونَ بِهِ: طَلَبَ إِبَاحَةِ دُخُولِهَا لِلْمُسْتَأْذِنِ (2) .
وَقَدْ ذَكَرَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ فِي سُورَةِ النُّورِ كَلِمَةَ " اسْتِئْنَاسٍ " فِي قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} (3) وَأَرَادَ بِهَا الاِسْتِئْذَانَ لِدُخُول الْبُيُوتِ وَنَحْوِهَا، قَال ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ
__________
(1) المصباح المنير، والقاموس المحيط مادة: (إذن) .
(2) بدائع الصنائع 5 / 124 طبع مصر. مطبعة الجمالية
(3) سورة النور / 27(3/144)
وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمْ: الاِسْتِئْنَاسُ هُنَا الاِسْتِئْذَانُ (1) ، مَعَ أَنَّ الاِسْتِئْنَاسَ مَا هُوَ إِلاَّ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ الاِسْتِئْذَانِ، قَال الْجَصَّاصُ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ: وَإِنَّمَا سُمِّيَ الاِسْتِئْذَانُ اسْتِئْنَاسًا؛ لأَِنَّهُمْ إِذَا اسْتَأْذَنُوا أَوْ سَلَّمُوا أَنِسَ أَهْل الْبُيُوتِ بِذَلِكَ، وَلَوْ دَخَلُوا عَلَيْهِمْ بِغَيْرِ إِذْنٍ لاَسْتَوْحَشُوا وَشَقَّ عَلَيْهِمْ (2) .
صِفَتُهُ (حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ) :
2 - إِنَّ الْحُكْمَ التَّكْلِيفِيَّ لِلاِسْتِئْذَانِ مُرْتَبِطٌ ارْتِبَاطًا وَثِيقًا بِالإِْذْنِ، فَحَيْثُمَا تَوَقَّفَ حِل التَّصَرُّفِ عَلَى الإِْذْنِ، كَانَ الاِسْتِئْذَانُ فِيهِ وَاجِبًا، كَاسْتِئْذَانِ الأَْجْنَبِيِّ لِدُخُول بَيْتٍ غَيْرِ بَيْتِهِ، وَاسْتِئْذَانِ الْمَرْأَةِ الْمُتَزَوِّجَةِ زَوْجَهَا فِي خُرُوجِهَا مِنْ بَيْتِ الزَّوْجِيَّةِ، وَاسْتِئْذَانِ الزَّوْجِ زَوْجَتَهُ الْحُرَّةَ فِي الْعَزْل عَنْهَا، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَإِنَّمَا قُلْنَا: " حِل التَّصَرُّفُ " وَلَمْ نُعَبِّرْ بِصِحَّةِ التَّصَرُّفِ؛ لأَِنَّ التَّصَرُّفَ قَدْ يَقَعُ - إِذَا خَلاَ مِنَ الإِْذْنِ صَحِيحًا مَعَ الْكَرَاهَةِ، كَمَا لَوْ صَامَتِ الزَّوْجَةُ نَافِلَةً بِغَيْرِ إِذْنِ زَوْجِهَا.
وَقَدْ يَقَعُ غَيْرَ صَحِيحٍ كَمَا لَوْ زَوَّجَ الْوَلِيُّ الْبَالِغَةَ الْعَاقِلَةَ بِغَيْرِ رِضَاهَا، أَوِ بَاعَ الصَّغِيرَ الْمُمَيِّزَ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، عَلَى الْخِلاَفِ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.
أَوَّلاً
الاِسْتِئْذَانُ لِدُخُول الْبُيُوتِ
أ - الْمَكَانُ الْمُرَادُ دُخُولُهُ:
3 - إِنَّ مَنْ يُرِيدُ دُخُول بَيْتٍ مِنَ الْبُيُوتِ، فَإِنَّ ذَلِكَ الْبَيْتَ لاَ يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ بَيْتَهُ أَوْ غَيْرَ بَيْتِهِ، فَإِنْ
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص 3 / 381 طبع مصر، المطبعة البهية، وتفسير ابن كثير والقرطبي لهذه الآية.
(2) أحكام القرآن للجصاص 3 / 381(3/145)
كَانَ بَيْتَهُ، فَإِنَّهُ لاَ يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ خَالِيًا، لاَ سَاكِنَ فِيهِ غَيْرُهُ، أَوْ تَكُونَ فِيهِ زَوْجَتُهُ، وَلَيْسَ مَعَهَا غَيْرُهَا، أَوْ مَعَهَا بَعْضُ مَحَارِمِهِ، كَأُخْتِهِ وَبِنْتِهِ وَأُمِّهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
فَإِنْ كَانَ الْبَيْتُ بَيْتَهُ، وَلاَ سَاكِنَ فِيهِ غَيْرُهُ، فَإِنَّهُ يَدْخُلُهُ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانِ أَحَدٍ؛ لأَِنَّ الإِْذْنَ لَهُ، وَاسْتِئْذَانُ الشَّخْصِ نَفْسَهُ ضَرْبٌ مِنَ الْعَبَثِ الَّذِي تَتَنَزَّهُ عَنْهُ الشَّرِيعَةُ (1) .
4 - أَمَّا إِنْ كَانَ فِي بَيْتِهِ زَوْجَتُهُ، وَلَيْسَ مَعَهَا غَيْرُهَا، فَإِنَّهُ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ الاِسْتِئْذَانُ لِلدُّخُول؛ لأَِنَّهُ يَحِل لَهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى سَائِرِ جَسَدِهَا، وَلَكِنْ يَنْدُبُ لَهُ الإِْيذَانُ بِدُخُولِهِ بِنَحْوِ التَّنَحْنُحِ، وَطَرْقِ النَّعْل، وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ لأَِنَّهَا رُبَّمَا كَانَتْ عَلَى حَالَةٍ لاَ تُرِيدُ أَنْ يَرَاهَا زَوْجُهَا عَلَيْهَا (2) .
وَفِي وُجُوبِ اسْتِئْذَانِ الرَّجُل عَلَى مُطَلَّقَتِهِ الرَّجْعِيَّةِ قَوْلاَنِ مَبْنِيَّانِ عَلَى أَنَّهُ: هَل يَلْزَمُ مِنَ الطَّلاَقِ الرَّجْعِيِّ تَحْرِيمُهَا عَلَى مُطَلِّقِهَا أَمْ لاَ؟ فَمَنْ قَال إِنَّهَا لَيْسَتْ مُحَرَّمَةً، كَالْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضِ الْحَنَابِلَةِ، قَال: لاَ يَجِبُ الاِسْتِئْذَانُ بَل يُنْدَبُ، وَيَكُونُ دُخُولُهُ عَلَيْهَا كَدُخُولِهِ عَلَى زَوْجَتِهِ غَيْرِ الْمُطَلَّقَةِ.
وَمَنْ قَال إِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ، وَأَنَّ التَّحْرِيمَ قَدْ وَقَعَ بِإِيقَاعِ الطَّلاَقِ، كَالشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَبَعْضِ
__________
(1) تفسير القرطبي 12 / 219 طبع دار الكتب المصرية.
(2) تفسير القرطبي 12 / 219، والشرح الصغير 4 / 762 طبع دار المعارف بمصر، والفواكه الدواني 2 / 427، طبع مصطفى البابي الحلبي، وشرح الكافي 2 / 1133، الطبعة الأولى سنة 1398، وحاشية ابن عابدين 2 / 531 طبع بولاق، والآداب الشرعية لابن مفلح 1 / 451 طبع مطبعة المنار بمصر.(3/145)
الْحَنَابِلَةِ، قَال بِوُجُوبِ الاِسْتِئْذَانِ قَبْل الدُّخُول عَلَيْهَا (1) .
5 - وَإِنْ كَانَ فِي بَيْتِهِ أَحَدُ مَحَارِمِهِ، كَأُمِّهِ أَوْ أُخْتِهِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، مِمَّنْ لاَ يَصْلُحُ لَهُ أَنْ يَرَاهُ عُرْيَانًا، مِنْ رَجُلٍ أَوِ امْرَأَةٍ، فَلاَ يَحِل لَهُ أَنْ يَدْخُل عَلَيْهِ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَيَكُونُ الاِسْتِئْذَانُ عِنْدَهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَاجِبًا لاَ يَجُوزُ تَرْكُهُ، بَل قَال الْمَالِكِيَّةُ: مَنْ جَحَدَ وُجُوبَ الاِسْتِئْذَانِ يَكْفُرُ، لأَِنَّهُ مِمَّا عُلِمَ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ (2) .
وَيَدُل عَلَى وُجُوبِ الاِسْتِئْذَانِ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ وَآثَارُ الصَّحَابَةِ وَمَبَادِئُ الشَّرِيعَةِ.
أَمَّا الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا بَلَغَ الأَْطْفَال مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا} . (3) . .
وَأَمَّا السُّنَّةُ الْمُطَهَّرَةُ فَمَا رَوَاهُ الإِْمَامُ مَالِكٌ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ: أَنَّ رَجُلاً سَأَل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: أَسْتَأْذِنُ عَلَى أُمِّي؟ فَقَال: نَعَمْ، فَقَال: إِنَّهَا مَعِي فِي الْبَيْتِ. فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا. فَقَال الرَّجُل: إِنِّي خَادِمُهَا، فَقَال رَسُول اللَّهِ: اسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا، أَتُحِبُّ أَنْ تَرَاهَا عُرْيَانَةً؟ قَال: لاَ، قَال: فَاسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا. (4)
وَأَمَّا آثَارُ الصَّحَابَةِ فَهِيَ كَثِيرَةٌ، نَذْكُرُ مِنْهَا مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ قَوْل عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 531، والمغني لابن قدامة 7 / 279 الطبعة الثالثة للمنار، والشرح الكبير 2 / 422
(2) بدائع الصنائع 5 / 124، وأحكام القرآن للجصاص 3 / 386، والشرح الصغير 4 / 762، وشرح الكافي 2 / 1133، والفواكه الدواني 2 / 427، وتفسير القرطبي 12 / 219
(3) سورة النور / 59
(4) حديث: " أن رجلا. . . " أخرجه الإمام مالك في باب الاستئذان في الموطأ 2 / 963 طبع البابي الحلبي.(3/146)
: عَلَيْكُمْ أَنْ تَسْتَأْذِنُوا عَلَى أُمَّهَاتِكُمْ وَأَخَوَاتِكُمْ (1)
وَمَا رَوَاهُ الْجَصَّاصُ عَنْ عَطَاءٍ قَال: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ أَأَسْتَأْذِنُ عَلَى أُخْتِي؟ قَال: نَعَمْ، قُلْتُ: إِنَّهَا مَعِي فِي الْبَيْتِ وَأَنَا أُنْفِقُ عَلَيْهَا، قَال: اسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا (2)
وَمَا ذَكَرَهُ الْكَاسَانِيُّ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ، أَنَّهُ سَأَلَهُ رَجُلٌ فَقَال: أَسْتَأْذِنُ عَلَى أُخْتِي؟ فَقَال: إِنْ لَمْ تَسْتَأْذِنْ رَأَيْتَ مَا يَسُوءُكَ (3)
وَأَمَّا مَبَادِئُ الشَّرِيعَةِ: فَإِنَّهُ إِذَا دَخَل عَلَيْهَا بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ، فَرُبَّمَا كَانَتْ مَكْشُوفَةَ الْعَوْرَةِ، فَيَقَعُ بَصَرُهُ عَلَى مَا لاَ يَحِل لَهُ النَّظَرُ إِلَيْهِ مِنْهَا، وَلِذَلِكَ وَجَبَ الاِسْتِئْذَانُ، سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ.
6 - وَيَتَّفِقُ الْمُحَرِّمُونَ لِلدُّخُول - عَلَى الْمَحَارِمِ وَنَحْوِهِمْ - إِلاَّ بِاسْتِئْذَانٍ عَلَى أَنَّ حُرْمَةَ الدُّخُول عَلَى ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ، وَعَلَى الرِّجَال بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ أَيْسَرُ مِنْ تَرْكِ الاِسْتِئْذَانِ عَلَى الأَْجْنَبِيَّاتِ؛ لِجَوَازِ نَظَرِهِ إِلَى الشَّعْرِ وَالصَّدْرِ وَالسَّاقِ مِنْ ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ دُونَ الأَْجْنَبِيَّاتِ (4) .
وَأَجَازَ الشَّافِعِيَّةُ لِلرَّجُل أَنْ يَدْخُل عَلَى مَحَارِمِهِ الَّذِينَ يَسْكُنُونَ مَعَهُ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ، وَلَكِنْ عَلَيْهِ أَنْ يُشْعِرَهُمْ بِدُخُولِهِ بِنَحْوِ تَنَحْنُحٍ، وَطَرْقِ نَعْلٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، لِيَسْتَتِرَ الْعُرْيَانُ (5) .
__________
(1) تفسير الطبري 18 / 110 طبع مصطفى البابي الحلبي، وأحكام الجصاص 3 / 386
(2) أحكام الجصاص 3 / 386
(3) بدائع الصنائع 5 / 125
(4) أحكام الجصاص 3 / 386، وبدائع الصنائع 5 / 125، والفواكه الدواني 2 / 426
(5) مغني المحتاج 4 / 199 طبع مصطفى البابي الحلبي.(3/146)
7 - وَإِنْ كَانَ الْبَيْتُ غَيْرَ بَيْتِهِ، وَأَرَادَ الدُّخُول إِلَيْهِ، فَعَلَيْهِ الاِسْتِئْذَانُ، وَلاَ يَحِل لَهُ الدُّخُول قَبْل الإِْذْنِ بِالاِتِّفَاقِ، سَوَاءٌ أَكَانَ بَابُ الْبَيْتِ مَفْتُوحًا أَوْ مُغْلَقًا (1) . وَسَوَاءٌ أَكَانَ فِيهِ سَاكِنٌ أَمْ لَمْ يَكُنْ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} . (2) وَلأَِنَّ لِلْبُيُوتِ حُرْمَتَهَا فَلاَ يَجُوزُ أَنْ تُنْتَهَكَ هَذِهِ الْحُرْمَةُ؛ وَلأَِنَّ الاِسْتِئْذَانَ لَيْسَ لِلسُّكَّانِ أَنْفُسِهِمْ خَاصَّةً، بَل لأَِنْفُسِهِمْ وَلأَِمْوَالِهِمْ؛ لأَِنَّ الإِْنْسَانَ كَمَا يَتَّخِذُ الْبَيْتَ سِتْرًا لِنَفْسِهِ، يَتَّخِذُهُ سِتْرًا لأَِمْوَالِهِ، وَكَمَا يَكْرَهُ اطِّلاَعَ الْغَيْرِ عَلَى نَفْسِهِ، يَكْرَهُ اطِّلاَعَهُ عَلَى أَمْوَالِهِ (3) .
وَيُفَرِّقُ الشَّافِعِيَّةُ، فِي حَالَةِ كَوْنِ بَيْتِ ذَلِكَ الْغَيْرِ هُوَ بَيْتُ أَحَدِ مَحَارِمِهِ، بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ الْبَابُ مُغْلَقًا أَوْ مَفْتُوحًا، فَيَقُولُونَ:
إِنْ كَانَ الْبَابُ مُغْلَقًا فَإِنَّهُ لاَ يَدْخُل إِلاَّ بَعْدَ اسْتِئْذَانٍ وَإِذْنٍ، أَمَّا إِنْ كَانَ مَفْتُوحًا فَوَجْهَانِ، وَالأَْوْجَهُ الاِسْتِئْذَانُ (4) . وَيُسْتَثْنَى مِنْ وُجُوبِ الاِسْتِئْذَانِ لِدُخُول الْبُيُوتِ عُمُومًا:
8 - أَوَّلاً: دُخُول الْبُيُوتِ غَيْرِ الْمَسْكُونَةِ الَّتِي فِيهَا مَتَاعٌ - أَيْ مَنْفَعَةٌ - لِلنَّاسِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ دُخُولُهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ، بِنَاءً عَلَى الإِْذْنِ الْعَامِّ بِدُخُولِهَا، وَقَدْ اخْتُلِفَ فِي تَحْدِيدِ هَذِهِ الْبُيُوتِ.
فَقَال قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّهَا الْبُيُوتُ الَّتِي تُبْنَى عَلَى الطُّرُقَاتِ، يَأْوِي إِلَيْهَا الْمُسَافِرُونَ، وَمِثْلُهَا الْخَانَاتُ.
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 124، والشرح الصغير 4 / 762
(2) سورة النور / 27
(3) بدائع الصنائع 5 / 124
(4) مغني المحتاج 4 / 199 طبع مصطفى البابي الحلبي.(3/147)
وَقَال الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَعَلِيٌّ الشَّعْبِيُّ: إِنَّهَا الدَّكَاكِينُ الَّتِي فِي الأَْسْوَاقِ، وَقَدِ اسْتَظَل عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فِي خَيْمَةِ فَارِسِيٍّ بِالسُّوقِ مِنَ الْمَطَرِ دُونَ إِذْنٍ مِنْهُ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَسْتَأْذِنُ فِي دُخُول حَوَانِيتِ السُّوقِ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِعِكْرِمَةَ فَقَال: وَمَنْ يُطِيقُ مَا كَانَ يُطِيقُهُ ابْنُ عُمَرَ؟ قَال الْجَصَّاصُ: وَلَيْسَ فِي فِعْل ابْنِ عُمَرَ هَذَا دَلاَلَةٌ عَلَى أَنَّهُ رَأَى دُخُولَهَا بِغَيْرِ إِذْنٍ مَحْظُورًا، وَلَكِنَّهُ احْتَاطَ لِنَفْسِهِ، وَذَلِكَ مُبَاحٌ لِكُل وَاحِدٍ.
وَقَال عَطَاءٌ: هِيَ الْبُيُوتُ الْخَرِبَةُ الَّتِي يَدْخُلُهَا النَّاسُ لِلْبَوْل وَالْغَائِطِ. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ أَيْضًا أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا بُيُوتُ مَكَّةَ (1) . وَقَدْ بَيَّنَ الإِْمَامُ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الأَْصْل فِي قَوْل مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ هَذَا فَقَال: وَتَجْوِيزُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ دُخُول بُيُوتِ مَكَّةَ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ، مَبْنِيٌّ عَلَى الْقَوْل بِأَنَّ بُيُوتَ مَكَّةَ غَيْرُ مُتَمَلَّكَةٍ، وَأَنَّ النَّاسَ فِيهَا شُرَكَاءُ (2) . وَأَدْخَل جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ فِي ذَلِكَ كُل مَكَانٍ فِيهِ انْتِفَاعٌ، وَلَهُ فِيهِ حَاجَةٌ (3) .
وَبَنَى الْمَالِكِيَّةُ ذَلِكَ عَلَى الْعُرْفِ، فَقَالُوا: يُبَاحُ لَهُ أَنْ يَدْخُل بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ كُل مَحَلٍّ مَطْرُوقٍ، كَالْمَسْجِدِ، وَالْحَمَّامِ، وَالْفُنْدُقِ، وَبَيْتِ الْعَالِمِ، وَالْقَاضِي، وَالطَّبِيبِ - وَهُوَ الْمَكَانُ الَّذِي يَسْتَقْبِل فِيهِ النَّاسَ - لِوُجُودِ الإِْذْنِ الْعَامِّ بِدُخُولِهِ (4) .
__________
(1) أحكام الجصاص 3 / 387، والطبري 18 / 113، والقرطبي 12 / 221 - 222، وعمدة القاري شرح البخاري 22 / 131 طبعة المنيرية.
(2) تفسير القرطبي 12 / 221
(3) تفسير القرطبي 12 / 221
(4) الفواكه الدواني 2 / 426، وشرح الكافي 2 / 1134، والشرح الصغير 4 / 762(3/147)
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَالُوا: إِنَّ الْبُيُوتَ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا سَاكِنٌ، وَلِلْمَرْءِ فِيهَا مَنْفَعَةٌ، فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَدْخُلَهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ، كَالْخَانَاتِ وَالرِّبَاطَاتِ الَّتِي تَكُونُ لِلْمَارَّةِ، وَالْخَرَابَاتِ الَّتِي تُقْضَى فِيهَا حَاجَةُ الْبَوْل وَالْغَائِطِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ} أَيْ مَنْفَعَةٌ (1) .
9 - ثَانِيًا: وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ أَيْضًا مَا إِذَا كَانَ فِي تَرْكِ الاِسْتِئْذَانِ لِدُخُول بَيْتٍ إِحْيَاءٌ لِنَفْسٍ أَوْ مَالٍ، حَتَّى لَوِ اسْتَأْذَنَ وَانْتَظَرَ الإِْذْنَ تَلِفَتِ النَّفْسُ وَضَاعَ الْمَال، وَقَدْ أَوْرَدَ الْحَنَفِيَّةُ عَدَدًا مِنَ الْفُرُوعِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ. وَقَوَاعِدُ الْمَذَاهِبِ الأُْخْرَى لاَ تَأْبَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ، إِلاَّ الْحَنَابِلَةَ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يُجِيزُوا دُخُول الْبَيْتِ إِذَا خِيفَ ضَيَاعُ الْمَال إِلاَّ بِاسْتِئْذَانٍ، فَإِذْنٍ (2) . وَمِنْ هَذِهِ الْفُرُوعِ:
الأَْوَّل: إِذَا كَانَ الْبَيْتُ مُشْرِفًا عَلَى الْعَدُوِّ، يُقَاتِل مِنْهُ الْعَدُوُّ، وَيُوقِعُ بِهِ النِّكَايَةَ، يَجُوزُ دُخُولُهُ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ؛ لِمَا فِي دَفْعِ الْعَدُوِّ مِنْ إِحْيَاءِ نُفُوسِ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالِهِمْ.
الثَّانِي: إِذَا سَقَطَ ثَوْبُهُ فِي بَيْتِ غَيْرِهِ، وَخَافَ لَوْ أَعْلَمَهُ أَخَذَهُ، جَازَ لَهُ الدُّخُول لأَِخْذِهِ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ، وَيِنَبْغِي أَنْ يَعْلَمَ الصُّلَحَاءُ أَنَّهُ إِنَّمَا دَخَل لِذَلِكَ.
الثَّالِثُ: لَوْ نَهَبَ مِنْهُ ثَوْبًا وَدَخَل النَّاهِبُ دَارَهُ لاَ بَأْسَ بِدُخُولِهَا لِيَأْخُذَ حَقَّهُ.
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 125، والآية من سورة النور / 29
(2) حاشية ابن عابدين 5 / 126، 127، وأسنى المطالب 4 / 387 طبع المكتبة الإسلامية، ونهاية المحتاج 8 / 315 طبع المكتبة الإسلامية، والمغني 9 / 325 ط 3 للمنار.(3/148)
الرَّابِعُ: لَوْ كَانَ لَهُ مَجْرَى فِي دَارِ رَجُلٍ، أَرَادَ إِصْلاَحَهُ، وَلاَ يُمْكِنُ أَنْ يَمُرَّ فِي بَطْنِهِ، يُقَال لِرَبِّ الدَّارِ: إِمَّا أَنْ تَدَعَهُ يُصْلِحُهُ وَإِمَّا أَنْ تُصْلِحَهُ.
الْخَامِسُ: آجَرَهُ دَارًا وَسَلَّمَهَا لَهُ، لَهُ دُخُولُهَا لِيَنْظُرَ حَالَهَا فَيَرْمِهَا، وَلَوْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ بِذَلِكَ عِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، إِلاَّ إِذَا رَضِيَ الْمُسْتَأْجِرُ (1) .
10 - ثَالِثًا: وَأَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ دُخُول الْبَيْتِ الَّذِي يُتَعَاطَى فِيهِ الْمُنْكَرُ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ، بِقَصْدِ تَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ، كَمَا إِذَا سَمِعَ فِي دَارٍ صَوْتَ الْمَزَامِيرِ وَالْمَعَازِفِ، فَلَهُ أَنْ يَدْخُل عَلَيْهِمْ بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ؛ وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِعِلَّتَيْنِ. الأُْولَى: أَنَّ الدَّارَ لَمَّا اُتُّخِذَتْ لِتَعَاطِي الْمُنْكَرِ فَقَدْ سَقَطَتْ حُرْمَتُهَا، وَإِذَا سَقَطَتْ حُرْمَتُهَا جَازَ دُخُولُهَا بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ. وَالثَّانِيَةِ: أَنَّ تَغْيِيرَ الْمُنْكَرِ فَرْضٌ، فَلَوْ شُرِطَ الإِْذْنُ لَتَعَذَّرَ التَّغْيِيرُ (2) .
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ، فَقَدْ كَانُوا أَكْثَرَ تَفْصِيلاً لِلأَْمْرِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ حَيْثُ قَالُوا: إِنَّ الْمُنْكَرَ إِنْ كَانَ مِمَّا يَفُوتُ اسْتِدْرَاكُهُ، جَازَ لَهُ دُخُولُهُ لِمَنْعِ ذَلِكَ الْمُنْكَرِ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ، كَمَا إِذَا أَخْبَرَهُ مَنْ يَثِقُ بِصِدْقِهِ: أَنَّ رَجُلاً خَلاَ بِرَجُلٍ لِيَقْتُلَهُ، أَوْ خَلاَ بِامْرَأَةٍ لِيَزْنِيَ بِهَا، فَيَجُوزُ لَهُ فِي مِثْل هَذِهِ الْحَال أَنْ يَتَجَسَّسَ، وَيُقْدِمَ عَلَى الْكَشْفِ وَالْبَحْثِ حَذَرًا مِنْ فَوَاتِ مَا لاَ يُسْتَدْرَكُ، مِنْ إِزْهَاقِ رَوْحِ مَعْصُومٍ، وَانْتِهَاكِ عَرْضِ الْمَحَارِمِ، وَارْتِكَابِ الْمَحْظُورَاتِ.
أَمَّا إِذَا لَمْ يَفُتِ اسْتِدْرَاكُهُ، كَمَا إِذَا دَخَل مَعَهَا الْبَيْتَ لِيُسَاوِمَهَا عَلَى أُجْرَةِ الزِّنَا، ثُمَّ يَخْرُجَانِ لِيَزْنِيَا
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 126 - 127
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 180 - 181، وجواهر الإكليل 1 / 251 طبع مصر، عباس شقرون.(3/148)
فِي بَيْتٍ آخَرَ، أَوْ إِذَا كَانَ مِمَّا يُمْكِنُ إِنْكَارُهُ وَرَفْعُهُ بِغَيْرِ دُخُولٍ، لَمْ يَحِل لَهُ الدُّخُول بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ، كَمَا إِذَا سَمِعَ الْمُحْتَسِبُ أَصْوَاتَ تَلاَهٍ مُنْكَرَةً مِنْ دَارٍ تَظَاهَرَ أَهْلُهَا بِأَصْوَاتِهِمْ، أَنْكَرَهَا خَارِجَ الدَّارِ، وَلَمْ يَهْجُمْ عَلَيْهَا بِالدُّخُول؛ لأَِنَّ الْمُنْكَرَ ظَاهِرٌ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَكْشِفَ عَمَّا سِوَاهُ (1) .
ب - الشَّخْصُ الْمُسْتَأْذِنُ:
11 - إِنَّ مَنْ يُرِيدُ الدُّخُول، إِمَّا أَنْ يَكُونَ صَغِيرًا غَيْرَ مُمَيِّزٍ، أَوْ صَغِيرًا مُمَيِّزًا، أَوْ كَبِيرًا، وَالْمُرَادُ بِالتَّمْيِيزِ هُنَا: الْقُدْرَةُ عَلَى وَصْفِ الْعَوْرَاتِ (2) .
أَمَّا الْكَبِيرُ فَإِنَّهُ لاَ يَحِل لَهُ الدُّخُول بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ وَإِذْنٍ.
12 - وَأَمَّا الصَّغِيرُ الْمُمَيِّزُ فَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ (عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ، وَطَاوُسُ بْنُ كَيْسَانَ، وَالْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ وَغَيْرُهُمْ) إِلَى وُجُوبِ أَمْرِهِ بِالاِسْتِئْذَانِ قَبْل الدُّخُول، فِي الأَْوْقَاتِ الثَّلاَثَةِ الَّتِي هِيَ مَظِنَّةُ كَشْفِ الْعَوْرَاتِ؛ لأَِنَّ الْعَادَةَ جَرَتْ بِتَخَفُّفِ النَّاسِ فِيهَا مِنَ الثِّيَابِ.
وَلاَ حَرَجَ عَلَيْهِ فِي تَرْكِ الاِسْتِئْذَانِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الأَْوْقَاتِ الثَّلاَثَةِ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْحَرَجِ فِي الاِسْتِئْذَانِ عِنْدَ كُل خُرُوجٍ وَدُخُولٍ. وَالصَّغِيرُ مِمَّنْ يَكْثُرُ دُخُولُهُ وَخُرُوجُهُ فَهُوَ مِنَ الطَّوَّافِينَ. قَال اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ
__________
(1) حاشية القليوبي 3 / 33 طبع عيسى البابي الحلبي، ومعالم القربة في أحكام الحسبة لابن الأخوة ص 37 - 38 طبع كمبرج مطبعة دار الفنون سنة 1937
(2) بدائع الصنائع 5 / 125(3/149)
أَيْمَانُكُمْ وَاَلَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْل صَلاَةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاَةِ الْعِشَاءِ ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآْيَاتِ وَاَللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (1)
وَذَهَبَ أَبُو قِلاَبَةَ إِلَى أَنَّ اسْتِئْذَانَ هَؤُلاَءِ فِي هَذِهِ الأَْوْقَاتِ الثَّلاَثَةِ مَنْدُوبٌ غَيْرُ وَاجِبٍ، فَكَانَ يَقُول: " إِنَّمَا أُمِرُوا بِهَذَا نَظَرًا لَهُمْ (2) ".
ج - صِيغَةُ الاِسْتِئْذَانِ:
13 - يَكُونُ الاِسْتِئْذَانُ - فِي الأَْصْل - بِاللَّفْظِ، وَقَدْ يَنُوبُ عَنْهُ غَيْرُهُ، وَالصِّيغَةُ الْمُثْلَى لِلاِسْتِئْذَانِ أَنْ يَقُول الْمُسْتَأْذِنُ: " السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ، أَأَدْخُل؟ " (3) مُقَدِّمًا السَّلاَمَ؛ لِمَا رَوَاهُ رِبْعِيُّ بْنُ خِرَاشٍ قَال: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَامِرٍ فَاسْتَأْذَنَ عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي بَيْتٍ فَقَال: أَأَلِجُ؟ فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِخَادِمِهِ: اخْرُجْ إِلَى هَذَا فَعَلِّمْهُ الاِسْتِئْذَانَ. فَقُل لَهُ: قُل: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ أَأَدْخُل؟ فَسَمِعَ الرَّجُل ذَلِكَ مِنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ أَأَدْخُل؟ فَأَذِنَ لَهُ رَسُول اللَّهِ، فَدَخَل. (4)
__________
(1) سورة النور / 58، وانظر بدائع الصنائع 5 / 125، وأحكام ابن العربي 5 / 1385، والفواكه الدواني 2 / 426، وتفسير القرطبي 12 / 303، وتفسير الطبري 18 / 111
(2) القرطبي 2 / 302
(3) الفواكه الدواني 2 / 427، والشرح الصغير 4 / 762، وشرح الكافي 2 / 1134، وتفسير القرطبي 12 / 215، وحاشية ابن عابدين 5 / 265
(4) حديث: " جاء رجل. . . " أخرجه أبو داود في سننه في كتاب الأدب باب الاستئذان.(3/149)
وَقَال بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَمِنْهُمُ ابْنُ رُشْدٍ: يَبْدَأُ بِالاِسْتِئْذَانِ لاَ بِالسَّلاَمِ، ثُمَّ يُسَلِّمُ (1) .
14 - وَيَقُومُ قَرْعُ الْبَابِ مَقَامَ الاِسْتِئْذَانِ بِاللَّفْظِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْبَابُ مُغْلَقًا أَمْ مَفْتُوحًا (2) . فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَال: أَتَيْت رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَمْرِ دَيْنٍ كَانَ عَلَى أَبِي، فَدَقَقْتُ الْبَابَ فَقَال: مَنْ ذَا؟ فَقُلْتُ: أَنَا، فَخَرَجَ وَهُوَ يَقُول: أَنَا، أَنَا. كَأَنَّهُ كَرِهَهُ. (3)
كَمَا يَقُومُ مَقَامَ التَّنَحْنُحِ (4) .
وَيَقُومُ مَقَامَ اللَّفْظِ الْمَأْثُورِ كُل مَا تَعَارَفَهُ النَّاسُ مِنْ أَلْفَاظِ الاِسْتِئْذَانِ، فَقَدْ رَوَى أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ مُسْنَدًا عَنْ أَبِي عَبْدِ الْمَلِكِ، مَوْلَى أُمِّ مِسْكِينِ بِنْتِ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، قَال: أَرْسَلَتْنِي مَوْلاَتِي إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ، فَجَاءَ مَعِي، فَلَمَّا قَامَ بِالْبَابِ قَال: أَنْدَرُ؟ قَالَتْ: أَنْدَرُونَ (5) .
غَيْرَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ نَصُّوا عَلَى كَرَاهَةِ الاِسْتِئْذَانِ بِالذِّكْرِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ جَعْل اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى آلَةً، قَال فِي الْفَوَاكِهِ الدَّوَانِي: " وَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ فِي الاِسْتِئْذَانِ بِنَحْوِ " سُبْحَانَ اللَّهِ " وَ " لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ "
__________
(1) الفواكه الدواني 2 / 427، والشرح الصغير 4 / 762
(2) شرح الكافي 2 / 1134، والشرح الصغير 4 / 763، وتفسير القرطبي 12 / 217
(3) حديث: " أتيت رسول الله. . . " أخرجه البخاري في الاستئذان باب: إذا قال من ذا قال أنا، ومسلم في الآداب، باب: كراهة قول المستأذن أنا، وأخرجه أيضا أبو داود في الأدب والترمذي في الاستئذان.
(4) الفواكه الدواني 2 / 427، والشرح الصغير 4 / 762، وشرح الكافي 2 / 1134، وأحكام الجصاص3 / 383
(5) تفسير القرطبي 12 / 218، و (أندر) كلمة للاستئذان بالفارسية و (أندرون) كلمة الإذن.(3/150)
فَهُوَ بِدْعَةٌ مَذْمُومَةٌ، لِمَا فِيهِ مِنْ إِسَاءَةِ الأَْدَبِ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى فِي اسْتِعْمَال اسْمِهِ فِي الاِسْتِئْذَانِ (1) ".
د - آدَابُ الاِسْتِئْذَانِ:
15 - إِذَا اسْتَأْذَنَ عَلَى إِنْسَانٍ، فَتَحَقَّقَ أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعِ الاِسْتِئْذَانَ، فَلَهُ أَنْ يُكَرِّرَ الاِسْتِئْذَانَ حَتَّى يَسْمَعَهُ.
أَمَّا إِذَا اسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ فَظَنَّ أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ، فَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ السُّنَّةَ أَلاَّ يُكَرِّرَ الاِسْتِئْذَانَ أَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثِ مَرَّاتٍ.
وَقَال مَالِكٌ: لَهُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى الثَّلاَثِ، حَتَّى يَتَحَقَّقَ سَمَاعَهُ (2) .
وَحَكَى النَّوَوِيُّ قَوْلاً ثَالِثًا، وَهُوَ أَنَّهُ إِنْ كَانَ بِلَفْظِ السَّلاَمِ الْمَشْرُوعِ لَمْ يُعِدْهُ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِهِ أَعَادَهُ (3) .
وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ، مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَغَيْرِهِ، قَال أَبُو سَعِيدٍ: كُنْتُ فِي مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ الأَْنْصَارِ، إِذْ جَاءَ أَبُو مُوسَى الأَْشْعَرِيُّ، كَأَنَّهُ مَذْعُورٌ فَقَال: اسْتَأْذَنْتُ عَلَى عُمَرَ ثَلاَثًا، فَلَمْ يَأْذَنْ لِي، فَرَجَعْتُ، فَقَال: مَا مَنَعَكَ؟ قُلْتُ: اسْتَأْذَنْتُ ثَلاَثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي فَرَجَعْتُ، وَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا اسْتَأْذَنَ أَحَدُكُمْ ثَلاَثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فَلْيَرْجِعْ فَقَال - أَيْ عُمَرُ -: وَاَللَّهِ لَتُقِيمَنَّ عَلَيْهِ
__________
(1) الفواكه الدواني 2 / 427
(2) عمدة القاري على صحيح البخاري 22 / 241، والشرح الصغير 4 / 762، وشرح الكافي 2 / 1134، وتفسير القرطبي 12 / 214، وحاشية ابن عابدين 5 / 265
(3) شرح النووي لصحيح مسلم 14 / 131، طبع المطبعة المصرية.(3/150)
بَيِّنَةً، قَال أَبُو مُوسَى: أَمِنْكُمْ أَحَدٌ سَمِعَهُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَال أُبَيٌّ بْنُ كَعْبٍ: فَوَاَللَّهِ لاَ يَقُومُ مَعَكَ إِلاَّ أَصْغَرُ الْقَوْمِ، فَكُنْتُ أَصْغَرَ الْقَوْمِ، فَقُمْتُ مَعَهُ، فَأَخْبَرْتُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال ذَلِكَ (1) .
16 - وَقَدْ فَصَّل الْحَنَفِيَّةُ دُونَ غَيْرِهِمْ فِي مُدَّةِ الاِنْتِظَارِ بَيْنَ كُل اسْتِئْذَانَيْنِ فَقَالُوا: يَمْكُثُ بَعْدَ كُل مَرَّةٍ مِقْدَارَ مَا يَفْرُغُ الآْكِل، وَالْمُتَوَضِّئُ، وَالْمُصَلِّي بِأَرْبَعِ رَكَعَاتٍ (2) .
حَتَّى إِذَا كَانَ أَحَدٌ عَلَى عَمَلٍ مِنْ هَذِهِ الأَْعْمَال فَرَغَ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى عَمَلٍ مِنْهَا كَانَتْ عِنْدَهُ فُرْصَةٌ يَأْخُذُ فِيهَا حَذَرَهُ، وَيُصْلِحُ شَأْنَهُ قَبْل أَنْ يَدْخُل الدَّاخِل.
وَرَوَى الْجَصَّاصُ بِسَنَدِهِ فِي ذَلِكَ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلَهُ: الاِسْتِئْذَانُ ثَلاَثٌ، فَالأُْولَى يَسْتَنْصِتُونَ، وَالثَّانِيَةُ يَسْتَصْلِحُونَ، وَالثَّالِثَةُ يَأْذَنُونَ أَوْ يَرُدُّونَ (3) .
وَإِذَا كَانَ الاِسْتِئْذَانُ بِاللَّفْظِ فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ الصَّوْتُ بِحَيْثُ يَسْمَعُ الْمُسْتَأْذَنُ عَلَيْهِ، دُونَ صِيَاحٍ. وَإِنْ كَانَ بِدَقِّ الْبَابِ فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ الدَّقُّ خَفِيفًا بِحَيْثُ يَسْمَعُ أَيْضًا بِلاَ عُنْفٍ (4) . فَقَدْ رَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَال كَانَتْ أَبْوَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُقْرَعُ بِالأَْظَافِرِ (5)
__________
(1) حديث: " إذا استأذن. . . " أخرجه البخاري في الاستئذان باب التسليم والاستئذان ثلاثا، ومسلم في الآداب باب الاستئذان، وأخرجه أيضا الإمام مالك والترمذي وأبو داود في الاستئذان بألفاظ مختلفة.
(2) حاشية ابن عابدين 5 / 265
(3) أحكام الجصاص 3 / 382، وبدائع الصنائع 5 / 124 - 125
(4) تفسير القرطبي 12 / 217
(5) قال في مجمع الزوائد: أخرجه البزار، وفيه ضرار بن صرد، وهو ضعيف 8 / 43 طبع مكتبة القدسي.(3/151)
17 - وَلاَ يَقِفُ الْمُسْتَأْذِنُ قُبَالَةَ الْبَابِ إِنْ كَانَ الْبَابُ مَفْتُوحًا، وَلَكِنَّهُ يَنْحَرِفُ ذَاتَ الْيَمِينِ أَوْ ذَاتَ الشِّمَال (1) . فَقَدْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ هَدْيِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَسُول اللَّهِ قُدْوَةٌ. فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ قَال: كَانَ رَسُول اللَّهِ إِذَا أَتَى بَابَ قَوْمٍ لَمْ يَسْتَقْبِل الْبَابَ مِنْ تِلْقَاءِ وَجْهِهِ، وَلَكِنْ مِنْ رُكْنِهِ الأَْيْمَنِ أَوِ الأَْيْسَرِ، وَيَقُول: السَّلاَمُ عَلَيْكُمُ، السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ ذَلِكَ أَنَّ الدُّورَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا يَوْمَئِذٍ سُتُورٌ (2)
وَهُوَ أَيْضًا مِنْ تَوْجِيهَاتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَعَنْ هُذَيْل بْنِ شُرَحْبِيل قَال: جَاءَ رَجُلٌ فَوَقَفَ عَلَى بَابِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَأْذِنُ، فَقَامَ عَلَى الْبَابِ - وَفِي رِوَايَةٍ: مُسْتَقْبِل الْبَابِ - فَقَال لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَكَذَا عَنْكَ أَوْ هَكَذَا، فَإِنَّمَا الاِسْتِئْذَانُ مِنَ النَّظَرِ. (3)
أَمَّا إِنْ كَانَ الْبَابُ مَرْدُودًا فَلَهُ أَنْ يَقِفَ حَيْثُ شَاءَ وَيَسْتَأْذِنَ، وَإِنْ شَاءَ دَقَّ الْبَابَ (4) .
18 - وَلاَ يَحِل لِلْمُسْتَأْذِنِ النَّظَرُ فِي دَاخِل الْبَيْتِ لأَِنَّ لِلْبُيُوتِ حُرْمَتَهَا، وَحَدِيثُ رَسُول اللَّهِ السَّابِقُ إِنَّمَا الاِسْتِئْذَانُ مِنَ النَّظَرِ يَدُل عَلَى ذَلِكَ (5)
وَرُوِيَ أَنَّ جَارًا لِحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ وَقَفَ، وَجَعَل يَنْظُرُ إِلَى مَا فِي الْبَيْتِ وَهُوَ يَقُول: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ أَأَدْخُل؟ فَقَال حُذَيْفَةُ: أَمَّا بِعَيْنِكَ فَقَدْ دَخَلْتَ،
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص 3 / 383، وتفسير القرطبي 12 / 216
(2) أخرجه أبو داود في الأدب. باب كم مرة يسلم الرجل في الاستئذان.
(3) أخرجه أبو داود في الأدب باب الاستئذان.
(4) تفسير القرطبي 12 / 216
(5) شرح النووي لصحيح مسلم 14 / 138(3/151)
وَأَمَّا بِإِسْتِكَ فَلَمْ تَدْخُل (1) .
فَإِنْ نَظَرَ الْمُسْتَأْذِنُ إِلَى دَاخِل الْبَيْتِ فَجَنَى صَاحِبُ الْبَيْتِ عَلَى عَيْنِهِ فَهَل يَضْمَنُ؟ فِي ذَلِكَ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ تَجِدُهُ فِي مُصْطَلَحِ (جِنَايَة) .
وَإِذَا اسْتَأْذَنَ فَقَال لَهُ صَاحِبُ الْبَيْتِ: مَنْ بِالْبَابِ؟ فَعَلَيْهِ أَنْ يَذْكُرَ اسْمَهُ فَيَقُول: فُلاَنٌ، أَوْ يَقُول: أَيَدْخُل فُلاَنٌ؟ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، وَلاَ يَقُول " أَنَا " لأَِنَّهُ لَمْ يَحْصُل بِقَوْلِهِ: " أَنَا " فَائِدَةٌ وَلاَ زِيَادَةُ إِيضَاحٍ، بَل الإِْيهَامُ بَاقٍ (2) . لِحَدِيثِ جَابِرٍ الْمُتَقَدِّمِ.
وَمَنِ اسْتَأْذَنَ فَأُذِنَ لَهُ دَخَل، وَإِنْ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فَلْيَنْصَرِفْ، وَلاَ يُلِحُّ بِالاِسْتِئْذَانِ وَلاَ يَتَكَلَّمُ بِقَبِيحِ الْكَلاَمِ، وَلاَ يَقْعُدُ عَلَى الْبَابِ لِيَنْتَظِرَ، لأَِنَّ لِلنَّاسِ حَاجَاتٍ وَأَشْغَالاً فِي الْمَنَازِل، فَلَوْ قَعَدَ عَلَى الْبَابِ وَانْتَظَرَ، لَضَاقَ ذَرْعُهُمْ وَشَغَل قَلْبَهُمْ، وَلَعَلَّهُ لاَ تَلْتَئِمُ حَاجَاتُهُمْ، فَكَانَ الرُّجُوعُ خَيْرًا لَهُ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَل: {وَإِنْ قِيل لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} . (3)
ثَانِيًا
الاِسْتِئْذَانُ لِلتَّصَرُّفِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ أَوْ حَقِّهِ
19 - الأَْصْل أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلإِْنْسَانِ التَّصَرُّفُ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ، أَوْ فِي حَقٍّ لِلْغَيْرِ إِلاَّ بِإِذْنٍ مِنَ الشَّارِعِ، أَوْ مِنْ
__________
(1) تفسير القرطبي 12 / 218
(2) شرح النووي لصحيح مسلم 14 / 135، وحاشية ابن عابدين 5 / 265، والشرح الصغير 4 / 762، وتفسير القرطبي 12 / 217
(3) سورة النور / 28، وانظر بدائع الصنائع 5 / 125، والشرح الصغير 4 / 762(3/152)
صَاحِبِ الْحَقِّ، وَعِنْدَئِذٍ لاَ يَكُونُ اعْتِدَاءً، فَلاَ يَجُوزُ أَكْل طَعَامِ الْغَيْرِ إِلاَّ بِإِذْنِ الْمَالِكِ، أَوْ فِي حَالَةِ الضَّرُورَةِ، وَلاَ يَجُوزُ سُكْنَى دَارِهِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ، وَيَدُل عَلَى ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنِ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ: لاَ يَحْلِبَنَّ أَحَدٌ مَاشِيَةَ غَيْرِهِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ، فَإِنَّهُ يَدُل عَلَى تَحْرِيمِ أَخْذِ مَال الإِْنْسَانِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَالأَْكْل مِنْهُ، وَالتَّصَرُّفِ فِيهِ، مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ اللَّبَنِ وَغَيْرِهِ (1) .
وَقَدْ يَبْذُل ذَلِكَ الْغَيْرُ الإِْذْنَ بِالتَّصَرُّفِ فِي مِلْكِهِ، أَوْ فِي حَقِّهِ بَادِئَ ذِي بَدْءٍ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ، كَأَنْ يَقُول لأَِجِيرِهِ: أَذِنْتُ لَكَ أَنْ تَأْكُل مِمَّا تَصْنَعُهُ مِنْ مَأْكُولاَتٍ دُونَ أَنْ تَحْمِل مِنْهُ شَيْئًا، وَعِنْدَئِذٍ فَلاَ حَاجَةَ لِلاِسْتِئْذَانِ لِحُصُول مَقْصُودِهِ، وَهُوَ الإِْذْنُ.
وَقَدْ لاَ يَبْذُل الإِْذْنَ. وَعِنْدَئِذٍ، يَجِبُ عَلَى مَنْ أَرَادَ التَّصَرُّفَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ اسْتِئْذَانُهُ فِي ذَلِكَ التَّصَرُّفِ (ر: إِذْن) .
وَمِنْ صُوَرِ التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ أَوْ حَقِّهِ مَا يَأْتِي:
أ - الاِسْتِئْذَانُ لِدُخُول الأَْمْلاَكِ الْمَمْنُوعَةِ:
20 - لاَ يَجُوزُ لأَِحَدٍ أَنْ يَدْخُل مِلْكَ غَيْرِهِ سَوَاءٌ أَكَانَ بَيْتًا، أَمْ بُسْتَانًا مَحُوطًا، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ إِلاَّ بِإِذْنِهِ (2) .، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ مُفَصَّلاً عَنِ الاِسْتِئْذَانِ لِدُخُول الْبُيُوتِ.
ب - اسْتِئْذَانُ الْمَرْأَةِ لإِِدْخَال الْغَيْرِ إِلَى بَيْتِ زَوْجِهَا:
21 - يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ اسْتِئْذَانُ زَوْجِهَا إِنْ أَرَادَتْ أَنْ
__________
(1) شرح النووي لصحيح مسلم 12 / 29 طبع المطبعة المصرية.
(2) الفتاوى الهندية 5 / 373 - 374، وحاشية ابن عابدين 1 / 255، والإنصاف 4 / 291(3/152)
تُدْخِل إِلَيْهِ مَنْ تَعْلَمُ أَنَّ زَوْجَهَا يَكْرَهُ دُخُولَهُ، وَلاَ خِلاَفَ فِي ذَلِكَ، لِقَوْل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَلاَ تَأْذَنْ فِي بَيْتِهِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ (1) ، وَلاَ يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ إِلاَّ حَالاَتُ الضَّرُورَةِ.
قَال الْعَيْنِيُّ - شَارِحُ الْبُخَارِيِّ - أَمَّا عِنْدَ الدَّاعِي لِلدُّخُول عَلَيْهَا لِلضَّرُورَةِ، كَالإِْذْنِ لِشَخْصٍ فِي دُخُول مَوْضِعٍ مِنْ حُقُوقِ الدَّارِ الَّتِي هِيَ فِيهَا، أَوْ إِلَى دَارٍ مُنْفَرِدَةٍ عَنْ مَسْكَنِهَا، أَوِ الإِْذْنِ لِدُخُول مَوْضِعٍ مُعَدٍّ لِلضِّيفَانِ، فَلاَ حَرَجَ فِي الإِْذْنِ بِذَلِكَ لأَِنَّ الضَّرُورَاتِ مُسْتَثْنَاةٌ فِي الشَّرْعِ (2) .
ج - الاِسْتِئْذَانُ لِلأَْكْل مِنْ ثَمَرِ الْبُسْتَانِ وَشُرْبِ لَبَنِ الْمَاشِيَةِ:
22 - لاَ يَجُوزُ لأَِحَدٍ أَنْ يَحْلُبَ مَاشِيَةَ أَحَدٍ وَلاَ أَنْ يَأْكُل مِنْ ثَمَرِ بُسْتَانِهِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ - عَلَى وَجْهِ الْعُمُومِ - عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ (3) ، لِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ يَحْلِبَنَّ أَحَدٌ مَاشِيَةَ امْرِئٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تُؤْتَى مَشْرَبَتُهُ فَتُكْسَرَ خِزَانَتُهُ فَيَنْتَقِل طَعَامُهُ، فَإِنَّمَا تُخَزِّنُ لَهُمْ ضُرُوعُ مَوَاشِيهِمْ أَطْعِمَاتِهِمْ، فَلاَ يَحْلِبَنَّ أَحَدٌ مَاشِيَةَ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِهِ. (4)
وَذَهَبَ الْبَعْضُ وَمِنْهُمْ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ
__________
(1) أخرجه البخاري في النكاح، باب لا تأذن المرأة في بيت زوجها لأحد إلا بإذنه، وأخرجه مسلم في الزكاة، والترمذي في الأدب، والنسائي في الصوم.
(2) عمدة القاري 20 / 186 طبع المنار
(3) عمدة القاري 12 / 278، وشرح النووي لصحيح مسلم 12 / 29، وعون المعبود 2 / 344 طبع الهند.
(4) أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 88) ومسلم 3 / 1352 ط عيسى الحلبي، كلاهما في اللقطة.(3/153)
بْنُ رَاهْوَيْهِ إِلَى جَوَازِ الأَْكْل مِنْ ثَمَرِ الْبُسْتَانِ، وَحَلْبِ الْمَاشِيَةِ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ حَال صَاحِبِهِ، لِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ عَلَى مَاشِيَةٍ، فَإِنْ كَانَ فِيهَا صَاحِبُهَا فَلْيَسْتَأْذِنْهُ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُ فَلْيَحْلُبْ وَلْيَشْرَبْ، إِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا فَلْيُصَوِّتْ ثَلاَثًا، فَإِنْ أَجَابَ فَلْيَسْتَأْذِنْهُ، وَإِلاَّ فَلْيَتَحَلَّبْ وَلْيَشْرَبْ وَلاَ يَحْمِل (1) .
د - اسْتِئْذَانُ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا فِي التَّبَرُّعِ مِنْ مَالِهِ:
23 - لاَ تَسْتَأْذِنُ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا فِيمَا تَتَنَاوَلُهُ مِنْ حَقٍّ ثَابِتٍ لَهَا فِي مِلْكِ الزَّوْجِ، كَالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَاللِّبَاسِ الْمَعْرُوفِ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ خِلاَفٌ مَعْلُومٌ، لِحَدِيثِ هِنْدِ بِنْتِ عُتْبَةَ حِينَ قَالَتْ: يَا رَسُول اللَّهِ إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ، وَلَيْسَ يُعْطِينِي مَا يَكْفِينِي وَوَلَدِي إِلاَّ مَا أَخَذْتُ مِنْهُ وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ، فَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ. (2)
كَمَا أَنَّهَا لاَ تَسْتَأْذِنُهُ فِي التَّبَرُّعِ بِالشَّيْءِ التَّافِهِ الَّذِي تَتَسَامَحُ بِهِ النُّفُوسُ، كَالدِّرْهَمِ وَالرَّغِيفِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، إِنْ لَمْ يَمْنَعْهَا مِنْ ذَلِكَ (3) ، لِمَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَنَّهَا جَاءَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُول اللَّهِ لَيْسَ لِي إِلاَّ مَا أَدْخَل عَلَيَّ الزُّبَيْرُ، فَهَل عَلَيَّ جُنَاحٌ أَنْ أَرْضَخَ مِمَّا يُدْخِل عَلَيَّ، فَقَال: ارْضَخِي وَلاَ تُوعِي (4)
__________
(1) عمدة القاري 12 / 278، وشرح النووي لمسلم 12 / 29 وعون المعبود 2 / 344
(2) أخرجه البخاري في النفقات، ومسلم في القضاء.
(3) الأموال لأبي عبيد ص 457، طبع مطبعة حجازي بمصر، ومصنف ابن أبي شيبة 1 / 135 ب مخطوط طوب قبولاي - إسطنبول.
(4) لا توعي أي لا تخزني، وأصله من أوعى الشيء إذا جعله في الوعاء.(3/153)
فَيُوعَى عَلَيْكِ، وَعَنْ عَائِشَة قَالَتْ: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَنْفَقَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا، غَيْرَ مُفْسِدَةٍ، كَانَ لَهَا أَجْرُهَا وَلَهُ مِثْلُهُ، وَلَهَا بِمَا أَنْفَقَتْ، وَلِلْخَازِنِ مِثْل ذَلِكَ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ.
وَقِيل: لاَ يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ التَّبَرُّعُ بِشَيْءٍ مِنْ مَال زَوْجِهَا إِلاَّ بِإِذْنِهِ (1) ، لِمَا رَوَى أَبُو أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ قَال: سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: لاَ تُنْفِقُ الْمَرْأَةُ شَيْئًا مِنْ بَيْتِهَا إِلاَّ بِإِذْنِ زَوْجِهَا، قِيل يَا رَسُول اللَّهِ وَلاَ الطَّعَامَ؟ قَال: ذَلِكَ أَفْضَل أَمْوَالِنَا.
وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَحِل مَال امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلاَّ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ قَال ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي: وَالأَْوَّل أَصَحُّ؛ لأَِنَّ حَدِيثَيْ عَائِشَةَ وَأَسْمَاءَ خَاصَّانِ صَحِيحَانِ، وَحَدِيثَ: لاَ يَحِل مَال امْرِئٍ. . عَامٌّ، وَالْخَاصُّ يُقَدَّمُ عَلَى الْعَامِّ.
أَمَّا حَدِيثُ أَبِي أُمَامَةَ فَهُوَ ضَعِيفٌ (2) . وَتَجِدُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (صَدَقَة وَهِبَة) .
هـ - اسْتِئْذَانُ مَنْ عَلَيْهِ حَقٌّ صَاحَبَ الْحَقَّ:
24 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى وُجُوبِ اسْتِئْذَانِ مَنْ عَلَيْهِ حَقٌّ لاَزِمٌ حَالٌّ صَاحَبَ الْحَقَّ، كَالْمَدِينِ مَعَ الدَّائِنِ. وَيَسْقُطُ هَذَا الْوُجُوبُ إِذَا كَانَ الْمَدِينُ خَارِجًا لأَِدَاءِ فَرْضٍ عَيْنِيٍّ، كَالْغَزْوِ عِنْدَ النَّفِيرِ الْعَامِّ.
فَإِنْ كَانَ مُؤَجَّلاً فَلاَ يَجِبُ الاِسْتِئْذَانُ؛ لِعَدَمِ
__________
(1) المغني 4 / 515 - 516، ونيل الأوطار 6 / 16 طبع المطبعة العثمانية المصرية.
(2) المغني 4 / 516(3/154)
تَوَجُّهِ الْمُطَالَبَةِ قَبْل حُلُولِهِ (1) ، عَلَى تَفْصِيلٍ مَوْضِعُهُ: (الْجِهَادُ، وَالدَّيْنُ) . وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى وُجُوبِ الاِسْتِئْذَانِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الدَّيْنُ حَالًّا أَمْ مُؤَجَّلاً (2) .
و اسْتِئْذَانُ الطَّبِيبِ فِي التَّطْبِيبِ:
25 - يُفَرِّقُ الْفُقَهَاءُ بَيْنَ الْمَرِيضِ الْمُشْرِفِ عَلَى الْمَوْتِ - كَالْجَرِيحِ مَثَلاً - وَيُمْكِنُ اسْتِحْيَاؤُهُ بِالتَّطْبِيبِ، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَجِبُ عَلَى الطَّبِيبِ أَنْ يُبَاشِرَ التَّطْبِيبَ إِنْقَاذًا لِهَذَا الْجَرِيحِ مِنَ الْمَوْتِ دُونَ اسْتِئْذَانٍ؛ لأَِنَّ اسْتِنْقَاذَهُ أَصْبَحَ فَرْضَ عَيْنٍ عَلَيْهِ مَا دَامَ قَادِرًا عَلَيْهِ، حَتَّى لَوِ امْتَنَعَ عَنْ ذَلِكَ لَكَانَ آثِمًا، وَفِي ضَمَانِهِ لَهُ - إِنْ مَاتَ لِعَدَمِ اسْتِحْيَائِهِ - اخْتِلاَفٌ (3) .
وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَرِيضُ كَذَلِكَ فَلاَ يَجُوزُ لِلطَّبِيبِ مُبَاشَرَةُ تَطْبِيبِهِ، إِلاَّ بَعْدَ الاِسْتِئْذَانِ، فَإِنْ طَبَّبَهُ بِإِذْنٍ، فَأَصَابَهُ تَلَفٌ، فَلاَ ضَمَانَ عَلَى الطَّبِيبِ. وَإِنْ طَبَّبَهُ بِغَيْرِ إِذْنٍ فَعَطِبَ فَعَلَى الطَّبِيبِ الضَّمَانُ (4) . (ر: تَطْبِيب، جِنَايَة، دِيَة) .
ز - إِذْنُ السُّلْطَانِ لإِِقَامَةِ الْجُمُعَةِ:
26 - قَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، إِنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْجُمُعَةِ إِذْنُ الإِْمَامِ.
__________
(1) شرح الزرقاني 3 / 110 طبع دار الفكر - بيروت، وحاشية الجمل 5 / 190، ط دار إحياء التراث الإسلامي، والبحر الرائق 5 / 77 - 78 المطبعة العلمية.
(2) المغني 8 / 360، والإنصاف 4 / 122، طبع مطبعة السنة المحمدية 1375
(3) المغني 5 / 495، وحاشية الجمل 5 / 7، وشرح الزرقاني 8 / 8
(4) بدائع الصنائع 10 / 4779، طبع مصر مطبعة الإمام، والهداية بشرح فتح القدير 8 / 291 طبع بولاق سنة 1318، وحاشية الجمل 5 / 24(3/154)
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ مَنْدُوبٌ. وَدَلِيل ذَلِكَ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عِنْدَمَا حُوصِرَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَقَامَ الْجُمُعَةَ مِنْ غَيْرِ إِذْنٍ وَلاَ اسْتِئْذَانٍ مِنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ؛ وَلأَِنَّهَا عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ، لاَ يَتَوَقَّفُ إِقَامَتُهَا عَلَى إِذْنٍ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، إِلَى أَنَّ إِذْنَ الإِْمَامِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ صَلاَةِ الْجُمُعَةِ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمَأْثُورُ عَنِ الأَْئِمَّةِ، وَالْمُتَوَارَثُ عَنْهُمْ، وَلأَِنَّ فِي هَذَا دَفْعًا لِلْفِتْنَةِ (1) .
ح - اسْتِئْذَانُ الْمَرْءُوسِ رَئِيسَهُ:
27 - أُقِيمَتِ الْوِلاَيَاتُ رِعَايَةً لِلْمَصَالِحِ وَحِفَاظًا عَلَيْهَا، وَاسْتِئْذَانُ مَنْ لَهُ الْوِلاَيَةُ فِي حُدُودِ وِلاَيَتِهِ أَمْرٌ لاَ بُدَّ مِنْهُ؛ لِتَسْتَقِيمَ الأُْمُورُ وَتُحْسَمَ الْفَوْضَى، وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ مِنْهُ.
إِذَا غَزَا الأَْمِيرُ بِالنَّاسِ، لَمْ يَحِل لأَِحَدٍ مِمَّنْ مَعَهُ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ الْمُعَسْكَرِ لِيُحْضِرَ الزَّادَ وَالْعَتَادَ، وَلاَ أَنْ يُبَارِزَ أَحَدًا مِنَ الْعَدُوِّ، وَلاَ أَنْ يُحْدِثَ حَدَثًا إِلاَّ بِإِذْنِهِ؛ لأَِنَّ الأَْمِيرَ أَعْرَفُ بِحَال النَّاسِ، وَحَال الْعَدُوِّ، وَمَكَامِنِهِمْ وَمَوَاضِعِهِمْ وَقُرْبِهِمْ وَبُعْدِهِمْ، فَإِذَا خَرَجَ خَارِجٌ بِغَيْرِ إِذْنِهِ لَمْ يَأْمَنْ أَنْ يُصَادِفَ كَمِينًا لِلْعَدُوِّ أَوْ طَلِيعَةً لَهُمْ فَيَأْخُذُوهُ، أَوْ يَرْحَل الأَْمِيرُ بِالْمُسْلِمِينَ وَيَتْرُكُهُ فَيَهْلَكُ (2) .
وَمَنْ كَانَ مَعَ الْجَيْشِ فِي الْغَزْوِ فَأَرَادَ الْجَيْشُ أَنْ
__________
(1) الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 83 - 84، والأحكام السلطانية للماوردي ص 103، والمقنع 1 / 249، 453، والطحاوي على مراقي الفلاح ص 278، وحاشية الدسوقي 1 / 384
(2) المغني 8 / 367(3/155)
يَنْتَقِل مِنْ مَوْقِعٍ لآِخَرَ، وَأَرَادَ بَعْضُ الْجُنْدِ التَّخَلُّفَ لأَِمْرٍ مَا، لاَ يَحِل لأَِحَدٍ مِنْهُمُ التَّخَلُّفُ عَنِ الْمَسِيرِ مَعَ الْجَيْشِ، إِلاَّ بِإِذْنٍ (1) .
وَإِذَا جَمَعَ الإِْمَامُ أَوِ الأَْمِيرُ أُولِي الرَّأْيِ لاِسْتِشَارَتِهِمْ فِي أَمْرٍ مِنَ الأُْمُورِ، فَلَيْسَ لأَِحَدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَنْصَرِفَ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ؛ لأَِنَّهُ قَدْ يَحْتَاجُ. إِلَى رَأْيِهِ (2) ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ} (3) وَالآْيَةُ لَيْسَتْ خَاصَّةً بِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأَِنَّ الْوُلاَةَ خُلَفَاءُ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رِعَايَةِ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ فَتَنْطَبِقُ عَلَيْهِ الآْيَةُ
ط - اسْتِئْذَانُ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا لِلْخُرُوجِ مِنْ مَنْزِلِهِ:
28 - عَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ تَسْتَأْذِنَ زَوْجَهَا لِلْخُرُوجِ مِنْ مَنْزِلِهِ، لأَِنَّ احْتِبَاسَهَا حَقٌّ لَهُ، فَإِنْ خَرَجَتْ مِنْ غَيْرِ إِذْنِهِ فَلَهُ أَنْ يُؤَدِّبَهَا، لاَ يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ إِلاَّ حَالاَتُ الضَّرُورَةِ (4) أَوْ الْحَاجَةِ.
وَاسْتَثْنَى الْفُقَهَاءُ مِنْ ذَلِكَ خُرُوجَ الْمَرْأَةِ بِغَيْرِ إِذْنِ زَوْجِهَا فِي حَالَةِ النَّفِيرِ الْعَامِّ، بِهُجُومِ الْعَدُوِّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ.
وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ خُرُوجَهَا لِخِدْمَةِ أَبِيهَا الزَّمِنِ الَّذِي لَيْسَ لَهُ مَنْ يَخْدُمُهُ، وَخُرُوجِهَا لِلاِسْتِفْتَاءِ فِي حَادِثَةٍ وَقَعَتْ لَهَا، وَلاَ يُوجَدُ مَنْ يُعَرِّفَهَا
__________
(1) المغني 8 / 370
(2) تفسير القرطبي 12 / 320
(3) سورة النور / 62
(4) إحياء علوم الدين 2 / 57، طبع مطبعة الاستقامة، وشرح الزرقاني 2 / 90، وأسنى المطالب 3 / 239، ط المكتبة الإسلامية، والمغني 7 / 20، 46(3/155)
حُكْمَ الشَّرْعِ فِيهَا إِنْ لَمْ تَخْرُجْ (1) . وَهَذَا إِنْ خَشِيَتْ أَنْ تَقَعَ فِي مَحْظُورٍ.
ي - اسْتِئْذَانُ الأَْبَوَيْنِ فِيمَا يَكْرَهَانِهِ:
29 - إِذَا أَرَادَ الإِْنْسَانُ أَنْ يَأْتِيَ عَمَلاً لَهُ مِنْهُ بُدٌّ، وَيَكْرَهُهُ وَالِدَاهُ، فَلاَ يَحِل لَهُ أَنْ يَأْتِيَهُ إِلاَّ بَعْدَ اسْتِئْذَانِهِمَا فِيهِ، بِرًّا بِهِمَا، وَمُرَاعَاةً لِحَقِّهِمَا، إِلاَّ إِنْ كَانَ أَبَوَاهُ كَافِرَيْنِ، وَيَكْرَهَانِ هَذَا الْعَمَل؛ لِمَا فِيهِ مِنْ نُصْرَةِ الإِْسْلاَمِ وَالْمُسْلِمِينَ، كَالْجِهَادِ وَالتَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ، وَالدَّعْوَةِ إِلَيْهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ لاَ عِبْرَةَ بِإِذْنِهِمَا أَوْ عَدَمِهِ.
وَخَالَفَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ فِي ذَلِكَ فَقَال: لاَ يَغْزُو إِلاَّ بِإِذْنِهِمَا وَلَوْ كَانَا كَافِرَيْنِ، لِعُمُومِ الأَْخْبَارِ الَّتِي سَيَأْتِي ذِكْرُهَا. وَبِنَاءً عَلَى هَذَا، فَإِنَّهُ لَوْ أَرَادَ الْوَلَدُ أَنْ يَخْرُجَ، لِمَا يُخَافُ عَلَيْهِ الْهَلاَكُ مِنْهُ، كَخُرُوجِهِ إِلَى غَزْوٍ غَيْرِ مَفْرُوضٍ عَلَيْهِ عَيْنًا، أَوْ أَرَادَ الْخُرُوجَ لِمَا لاَ يُخْشَى عَلَيْهِ الْهَلاَكُ مِنْهُ، وَلَكِنْ يُخْشَى عَلَيْهِمَا الضَّيْعَةُ، كَمَنْ أَرَادَ الْخُرُوجَ إِلَى الْحَجِّ وَأَبَوَاهُ مُعْسِرَانِ وَنَفَقَتُهُمَا عَلَيْهِ، وَلَيْسَ عِنْدَهُ مِنَ الْمَال مَا يَفِي بِنَفَقَةِ الْحَجِّ - مِنَ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ - وَنَفَقَتِهِمَا، وَكَمَا إِذَا أَرَادَ الْخُرُوجَ لِطَلَبِ الْعِلْمِ فِي بَلْدَةٍ أُخْرَى، أَوْ لِلتِّجَارَةِ، وَخَافَ عَلَى وَالِدَيْهِ الضَّيْعَةَ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَخْرُجَ إِلاَّ بِإِذْنِهِمَا.
وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ أَنَّهُ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُول اللَّهِ فَقَال: جِئْتُ أُبَايِعُكَ عَلَى
__________
(1) فتح القدير 2 / 520 طبع بولاق، وشرح السير الكبير 1 / 201، والفتاوى الهندية 5 / 365، وابن عابدين 2 / 140، والمغني 8 / 358، والزرقاني 3 / 111، وحاشية الجمل 5 / 190 - 191، وحاشية قليوبي2 / 146(3/156)
الْهِجْرَةِ وَتَرَكْتُ أَبَوَيَّ يَبْكِيَانِ، فَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ارْجِعْ فَأَضْحِكْهُمَا كَمَا أَبْكَيْتَهُمَا. (1)
وَلِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ أُجَاهِدُ؟ فَقَال: أَلَكَ أَبَوَانِ؟ قَال: نَعَمْ، قَال: فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ. (2)
أَمَّا إِنْ كَانَ الْعَمَل لاَ بُدَّ لَهُ مِنْهُ، كَافْتِرَاضِهِ عَلَيْهِ فَرْضَ عَيْنٍ فَلاَ يُشْتَرَطُ اسْتِئْذَانُهُمَا لِعَمَلِهِ، كَمَا فِي حَالَةِ الْجِهَادِ، إِذَا هَجَمَ الْعَدُوُّ عَلَى بَلَدٍ مِنْ بِلاَدِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّهُ يَخْرُجُ لِدَفْعِهِ بِغَيْرِ إِذْنِ أَبِيهِ (3) .
ك - الاِسْتِئْذَانُ فِي الْعَزْل عَنِ الزَّوْجَةِ:
30 - الأَْصْل أَنَّ لِكُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ الْحَقَّ فِي إِنْجَابِ الأَْوْلاَدِ، فَلَيْسَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَعْزِل عَنْ زَوْجَتِهِ إِلاَّ بِإِذْنِهَا، وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ الأَْوْلَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَلَيْسَ لِلزَّوْجَةِ أَنْ تَتَّخِذَ أَيَّ وَسِيلَةٍ لِمَنْعِ الْحَمْل إِلاَّ بِإِذْنِهِ.
لِحَدِيثِ: نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُعْزَل عَنِ الْحُرَّةِ إِلاَّ بِإِذْنِهَا. رَوَاهُ الإِْمَامُ أَحْمَدُ، وَالْوَجْهُ الآْخَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يَجُوزُ وَإِنْ لَمْ تَأْذَنْ (4) .
__________
(1) أخرجه النسائي وأبو داود في الجهاد.
(2) أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 403 ط السلفية) ، ومسلم (4 / 1975 - ط عيسى الحلبي) إلا أنه قال: أحي والداك؟ .
(3) الفتاوى الهندية 5 / 365 طبع بولاق سنة 1310، وحاشية ابن عابدين 2 / 140، والمغني 8 / 358 وما بعدها، وشرح الزرقاني 3 / 111، وحاشية الجمل 5 / 190 - 191 طبع دار إحياء التراث العربي، وحاشية قليوبي 2 / 146
(4) ابن عابدين 5 / 239، والبدائع 6 / 2965 ط الإمام، والمغني 7 / 24، وفتاوى الشيخ عليش 1 / 398، والمهذب 2 / 67. والحديث أخرجه ابن ماجه (1 / 620 ط عيسى الحلبي) وأحمد (1 / 31 ط الميمنية) ، ونقل محقق سنن ابن ماجه عن البوصيري أنه قال في الزوائد: في إسناده ابن لهيعه وهو ضعيف، وبه أعله ابن حجر في التلخيص الحبير (3 / 188 ط شركة الطباعة الفنية المتحدة بالقاهرة) .(3/156)
ل - اسْتِئْذَانُ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا فِي صَوْمِ التَّطَوُّعِ:
31 - لاَ يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَصُومَ صَوْمَ تَطَوُّعٍ بِحَضْرَةِ زَوْجِهَا إِلاَّ بَعْدَ اسْتِئْذَانِهِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تَصُومُ الْمَرْأَةُ وَبَعْلُهَا شَاهِدٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ (1) . وَالْحِكْمَةُ فِيهِ أَلاَّ تُفَوِّتَ عَلَيْهِ حَقًّا مِنْ حُقُوقِهِ، كَالْوَطْءِ وَدَوَاعِيهِ، وَانْظُرْ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (صِيَام) .
م - اسْتِئْذَانُ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا فِي إِرْضَاعِ غَيْرِ وَلَدِهَا:
32 - إِذَا أَرَادَتِ الْمَرْأَةُ إِرْضَاعَ غَيْرِ وَلَدِهَا فَعَلَيْهَا اسْتِئْذَانُ زَوْجِهَا فِي ذَلِكَ، إِلاَّ إِذَا تَعَيَّنَتْ لإِِرْضَاعِهِ، فَإِنَّ عَلَيْهَا إِرْضَاعَهُ وَلَوْ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ (2) (ر: رَضَاع) .
ن - اسْتِئْذَانُ الرَّجُل زَوْجَتَهُ لِلْمَبِيتِ عِنْدَ غَيْرِهَا فِي لَيْلَتِهَا:
33 - لاَ يَجُوزُ لِلرَّجُل أَنْ يَبِيتَ عِنْدَ غَيْرِ صَاحِبَةِ الْحَقِّ فِي الْقَسْمِ إِلاَّ بِإِذْنِهَا (3) . (ر: نِكَاح، قَسْم)
س - اسْتِئْذَانُ الضَّيْفِ الْمُضِيفَ لِلاِنْصِرَافِ:
34 - لاَ يَجُوزُ لِلضَّيْفِ أَنْ يَنْصَرِفَ مِنْ بَيْتِ مُضِيفِهِ إِلاَّ بَعْدَ اسْتِئْذَانِهِ (4) . قَال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ:
__________
(1) أخرجه البخاري في النكاح، باب صوم المرأة بإذن زوجها تطوعا، وانظر ما جاء في عمدة القاري 20 / 184، وتحفة الأحوذي 3 / 495 طبع دار الاتحاد العربي للطباعة.
(2) الفتاوى الهندية 5 / 372
(3) شرح الزرقاني 2 / 58، وأسنى المطالب 3 / 231، وحاشية الجمل 2 / 58، والشرح الصغير 2 / 508، 509
(4) الفتاوى الهندية 5 / 344، 345(3/157)
الرَّجُل تَدْخُل عَلَيْهِ فِي بَيْتِهِ لاَ تَخْرُجُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ، هُوَ عَلَيْكَ أَمِيرٌ مَا دُمْتَ فِي بَيْتِهِ (1) .
ع - اسْتِئْذَانُ الرَّجُل لِلْجُلُوسِ عَلَى تَكْرِمَتِهِ فِي بَيْتِهِ:
35 - عَلَى الرَّجُل إِذَا دَخَل بَيْتَ إِنْسَانٍ أَلاَّ يَتَقَدَّمَ عَلَيْهِ فِي الصَّلاَةِ، وَلاَ يَجْلِسَ فِي مَكَانِ جُلُوسِهِ الْمُخَصَّصِ لَهُ، إِلاَّ بَعْدَ اسْتِئْذَانِهِ، لِمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يُؤَمُّ الرَّجُل فِي سُلْطَانِهِ، وَلاَ يُجْلَسُ عَلَى تَكْرِمَتِهِ فِي بَيْتِهِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ (2) .
ف - اسْتِئْذَانُ الشَّخْصَيْنِ لِلْجُلُوسِ بَيْنَهُمَا:
36 - إِذَا أَرَادَ الشَّخْصُ أَنْ يَجْلِسَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَعَلَيْهِ اسْتِئْذَانُهُمَا؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَحِل لِلرَّجُل أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ اثْنَيْنِ إِلاَّ بِإِذْنِهِمَا (3) وَالْحِكْمَةُ فِيهِ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ بَيْنَهُمَا مَحَبَّةٌ وَمَوَدَّةٌ، أَوْ حَدِيثُ سِرٍّ، وَجُلُوسُهُ بَيْنَهُمَا يَسُوءُهُمَا.
ص - الاِسْتِئْذَانُ لِلنَّظَرِ فِي كِتَابِ غَيْرِهِ:
37 - إِذَا أَرَادَ الشَّخْصُ أَنْ يَنْظُرَ فِي كِتَابٍ فِيهِ مَا يَخُصُّ غَيْرَهُ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَأْذِنَهُ قَبْل النَّظَرِ؛ لِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ
__________
(1) آثار أبي يوسف برقم 413 طبع مطبعة الاستقامة.
(2) تحفة الأحوذي 8 / 55، طبع مطبعة الفجالة الجديدة، وسنن الترمذي في الأدب برقم 2922
(3) أخرجه الترمذي في الأدب، باب ما جاء في كراهية الجلوس بين الرجلين بغير إذنهما، وأخرجه أبو داود بلفظ (لا يجلس بين رجلين إلا بإذنهما) وانظر: تحفة الأحوذي 8 / 28(3/157)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ نَظَرَ فِي كِتَابِ أَخِيهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَإِنَّمَا يَنْظُرُ فِي النَّارِ (1) لِئَلاَّ يَفْتَضِحَ لِذَلِكَ الْغَيْرِ سِرٌّ.
ق - اسْتِئْذَانُ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا فِيمَا تُنْفِقُهُ مِنْ مَالِهَا:
38 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ الْبَالِغَةَ الرَّشِيدَةَ تَتَصَرَّفُ فِي مَالِهَا بِمِلْءِ حُرِّيَّتِهَا دُونَ اسْتِئْذَانِ أَحَدٍ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَطَاوُسٌ إِلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ الْمُتَزَوِّجَةَ لاَ تَتَبَرَّعُ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ مِنْ مَالِهَا، إِلاَّ بَعْدَ اسْتِئْذَانِ زَوْجِهَا، وَهَل إِذَا تَصَرَّفَتْ يَكُونُ تَصَرُّفُهَا نَافِذًا حَتَّى يَرُدَّهُ الزَّوْجُ، أَوْ يَكُونُ مَرْدُودًا حَتَّى يُجِيزَهُ؟ قَوْلاَنِ لِلْمَالِكِيَّةِ (2) .
وَذَهَبَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ إِلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ لاَ يَجُوزُ لَهَا التَّبَرُّعُ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِهَا، سَوَاءٌ أَكَانَ أَقَل مِنَ الثُّلُثِ أَمْ أَكْثَرَ، إِلاَّ بَعْدَ اسْتِئْذَانِ زَوْجِهَا (3) . أَمَّا غَيْرُ التَّبَرُّعِ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ، فَهِيَ وَالرَّجُل فِيهِ سَوَاءٌ (ر: حَجْر)
ر - مَا لاَ يَحْتَاجُ أَصْلاً إِلَى اسْتِئْذَانٍ:
39 - تَصَرُّفُ الإِْنْسَانِ غَيْرِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ فِي مِلْكِهِ أَوْ حَقِّهِ تَصَرُّفًا غَيْرَ مُضِرٍّ بِالْغَيْرِ، لاَ يَحْتَاجُ إِلَى اسْتِئْذَانِ أَحَدٍ؛ لأَِنَّ الإِْذْنَ لِصَاحِبِ الْمِلْكِ أَوْ صَاحِبِ الْحَقِّ، وَاسْتِئْذَانُ الإِْنْسَانِ نَفْسَهُ ضَرْبٌ مِنَ الْعَبَثِ الَّذِي تَتَنَزَّهُ عَنْهُ الشَّرِيعَةُ.
__________
(1) الحديث أخرجه أبو داود في الدعاء، وقال في المنهل العذب الورود: والحديث وإن كان ضعيفا فإن له شواهد تقويه 8 / 152
(2) شرح الزرقاني 5 / 306، ونيل الأوطار 6 / 18 - 19 طبع المطبعة العثمانية المصرية.
(3) نيل الأوطار 6 / 18 - 19(3/158)
فَمَنْ أَرَادَ بَيْعَ مَالِهِ، أَوْ أَكْل طَعَامِهِ، لَيْسَ بِحَاجَةٍ إِلَى اسْتِئْذَانٍ، وَمِنْ ذَلِكَ التَّصَرُّفُ فِي الْمِلْكِيَّاتِ الْعَامَّةِ، كَالطُّرُقَاتِ وَالْمَسَاجِدِ وَالأَْنْهَارِ الْعَامَّةِ، لأَِنَّ لِكُل وَاحِدٍ فِيهَا حَقًّا، فَلاَ يَحْتَاجُ إِلَى اسْتِئْذَانٍ لِتَصَرُّفِهِ فِيهَا التَّصَرُّفَ الْمَشْرُوعَ الَّذِي لاَ يَضُرُّ بِالآْخَرِينَ (1) .
وَمِنْ ذَلِكَ الْقِيَامُ بِالْفُرُوضِ الْعَيْنِيَّةِ كَأَدَاءِ الصَّلاَةِ، وَمُقَاتَلَةِ الأَْعْدَاءِ الْمُغِيرِينَ، وَنَحْوِ ذَلِكَ وَقَدْ تَقَدَّمَ.
و مَا يَسْقُطُ فِيهِ الاِسْتِئْذَانُ لِسَبَبٍ:
أ - تَعَذُّرُ الإِْذْنِ:
40 - يَسْقُطُ الاِسْتِئْذَانُ حَال تَعَذُّرِ الإِْذْنِ لِسَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ التَّعَذُّرِ، كَمَوْتِ صَاحِبِ الإِْذْنِ، أَوْ سَفَرِهِ سَفَرًا بَعِيدًا، أَوْ حَبْسِهِ وَمَنْعِهِ مِنْ مُقَابَلَةِ أَحَدٍ، وَكَانَ التَّصَرُّفُ لاَ يُمْكِنُ تَأْخِيرُهُ إِلَى حِينِ قُدُومِهِ مِنَ السَّفَرِ، أَوْ خُرُوجِهِ مِنَ الْحَبْسِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَمِنْ هُنَا نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ إِنْقَاقِ بَعْضِ أَهْل الْمَحَلَّةِ عَلَى مَسْجِدٍ لاَ مُتَوَلِّي لَهُ مِنْ غَلَّتِهِ. وَجَوَازُ إِنْفَاقِ الْوَرَثَةِ الْكِبَارِ عَلَى الْوَرَثَةِ الصِّغَارِ الَّذِينَ لاَ وَلِيَّ لَهُمْ، وَجَوَازُ إِنْفَاقِ الْمُودَعِ لَدَيْهِ عَلَى أَبَوَيِ الْمُودِعِ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانِهِ، إِنْ كَانَ فِي مَكَانٍ لاَ يُمْكِنُ فِيهِ اسْتِطْلاَعُ رَأْيِ الْقَاضِي.
وَمِثْلُهُ إِنْفَاقُ الْمُودَعِ لَدَيْهِ عَلَى الْوَدِيعَةِ، إِنِ احْتَاجَتْ إِلَى النَّفَقَةِ (2) ، وَجَوَازُ إِنْفَاقِ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ فِي الطَّرِيقِ، بَعْدَ مَوْتِ مَنْ أَذِنَ لَهُ،
__________
(1) المغني 5 / 520، 541، و 4 / 518
(2) حاشية ابن عابدين 5 / 127. والمغني 6 / 396(3/158)
وَجَوَازُ بَيْعِ الرُّفْقَةِ فِي السَّفَرِ أَمْتِعَةَ الْمُتَوَفَّى مِنْهُمْ، لِتَجْهِيزِهِ مِنْ ثَمَنِهَا (1) .
ب - دَفْعُ الضَّرَرِ:
41 - يَسْقُطُ الاِسْتِئْذَانُ إِنْ كَانَ فِي الاِسْتِئْذَانِ ضَرَرٌ، فَيَجُوزُ بَيْعُ مَا يُخَافُ عَلَيْهِ التَّلَفُ مِنَ الأَْمَانَاتِ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ، وَيَجُوزُ لِلسُّلْطَانِ أَنْ يُزَوِّجَ مَنْ غَابَ وَلِيُّهَا، أَوْ حُبِسَ وَمُنِعَ مِنَ الْوُصُول إِلَيْهِ دَفْعًا لِضَرَرِ الاِنْتِظَارِ، وَيَجُوزُ دُخُول الْبَيْتِ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ إِنْ كَانَ ذَلِكَ الدُّخُول يَمْنَعُ مِنْ وُقُوعِ جَرِيمَةٍ (2) .
ج - الْحُصُول عَلَى حَقٍّ لاَ يُمْكِنُ
الْحُصُول عَلَيْهِ بِالاِسْتِئْذَانِ:
42 - يَسْقُطُ الاِسْتِئْذَانُ عَنْ صَاحِبِ الْحَقِّ، إِنْ كَانَ الاِسْتِئْذَانُ يُفَوِّتُ حَقَّهُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْل مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} . (3)
فَيَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَأْخُذَ مِنْ مَال زَوْجِهَا مَا يَكْفِيهَا وَوَلَدَهَا بِالْمَعْرُوفِ، مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ، إِذَا مَنَعَهَا النَّفَقَةَ (4) ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ حَقٌّ لَهَا، وَيَجُوزُ لِلضَّيْفِ أَنْ يَأْخُذَ مَا يَأْكُلُهُ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ إِذَا مَنَعَ قِرَاهُ (5) ،
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 127
(2) حاشية ابن عابدين 5 / 127 و3 / 180 - 181، وجواهر الإكليل 1 / 251، وحاشية قليوبي3 / 33، 228، ومعالم القربة في أحكام الحسبة ص 37 - 38
(3) سورة البقرة / 194، وانظر حاشية الدسوقي 3 / 431 طبع دار الفكر، وحاشية القليوبي 4 / 335، والمغني 9 / 327
(4) المغني 8 / 278
(5) المغني 8 / 278 و613(3/159)
وَيَجُوزُ لِمَنْ لَهُ عَلَى آخَرَ دَيْنٌ فَجَحَدَهُ إِيَّاهُ. وَلاَ بَيِّنَةَ لَهُ عَلَيْهِ، أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِهِ مَا يَقَعُ وَفَاءً لِحَقِّهِ، بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ مِنْهُ (1) ، بِشُرُوطٍ وَخِلاَفٍ يَسِيرٍ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مَوْضِعِهِ.
اسْتِئْسَارٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِسْتِئْسَارُ لُغَةً: بِمَعْنَى تَسْلِيمِ النَّفْسِ لِلأَْسْرِ، يُقَال: اسْتَأْسِرْ أَيْ: كُنْ لِي أَسِيرًا (2) ، وَاسْتَأْسَرَ الرَّجُل لِلْعَدُوِّ: إِذَا أَعْطَى بِيَدِهِ وَانْقَادَ (3) . وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الْفِقْهِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الاِسْتِسْلاَمُ:
2 - الاِسْتِسْلاَمُ: هُوَ الاِنْقِيَادُ (4) . وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الاِسْتِئْسَارِ، فَقَدْ يَكُونُ الاِسْتِسْلاَمُ فِي غَيْرِ الْحَرْبِ.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
3 - الأَْصْل أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الاِسْتِئْسَارُ إِلاَّ لِمُقْتَضًى شَرْعِيٍّ، وَمَعَ ذَلِكَ إِذَا خَشِيَ الأَْسْرَ فَالأَْوْلَى لَهُ أَنْ يُقَاتِل حَتَّى يُقْتَل، وَلاَ يُسَلِّمَ نَفْسَهُ لِلأَْسْرِ؛ لأَِنَّهُ
__________
(1) المغني 9 / 327
(2) الصحاح ولسان العرب، مادة (أسر) .
(3) المغرب في ترتيب المعرب، ونيل الأوطار 7 / 269 ط مصطفى الحلبي.
(4) المصباح المنير.(3/159)
يَفُوزُ بِثَوَابِ الدَّرَجَةِ الرَّفِيعَةِ، وَيَسْلَمُ مِنْ تَحَكُّمِ الْكُفَّارِ عَلَيْهِ، بِالتَّعْذِيبِ وَالاِسْتِخْدَامِ وَالْفِتْنَةِ، وَإِنِ اسْتَأْسَرَ جَازَ، كَمَا يَشْهَدُ لِذَلِكَ قِصَّةُ عَاصِمِ بْنِ ثَابِتٍ الأَْنْصَارِيِّ وَأَصْحَابِهِ، فَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ عَشَرَةً عَيْنًا، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَاصِمَ بْنَ ثَابِتٍ، فَنَفَرَتْ إِلَيْهِمْ هُذَيْلٌ بِقَرِيبٍ مِنْ مِائَةِ رَجُلٍ رَامٍ، فَلَمَّا أَحَسَّ بِهِمْ عَاصِمٌ وَأَصْحَابُهُ لَجَئُوا إِلَى فَدْفَدٍ، فَقَالُوا لَهُمْ: انْزِلُوا، فَأَعْطُونَا بِأَيْدِيكُمْ، وَلَكُمُ الْعَهْدُ وَالْمِيثَاقُ أَلاَّ نَقْتُل مِنْكُمْ أَحَدًا، فَقَال عَاصِمٌ: أَمَّا أَنَا فَلاَ أَنْزِل فِي ذِمَّةِ كَافِرٍ، فَرَمَوْهُمْ بِالنَّبْل فَقَتَلُوا عَاصِمًا فِي سَبْعَةٍ مَعَهُ، وَنَزَل إِلَيْهِمْ ثَلاَثَةٌ عَلَى الْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ، مِنْهُمْ خُبَيْبٌ وَزَيْدُ بْنُ الدَّثِنَةِ، فَلَمَّا اسْتَمْكَنُوا مِنْهُمْ، أَطْلَقُوا أَوْتَارَ قِسِيِّهِمْ فَرَبَطُوهُمْ بِهَا. (1) قَال صَاحِبُ الْمُغْنِي: فَعَاصِمٌ أَخَذَ بِالْعَزِيمَةِ، وَخَبِيبٌ وَزَيْدٌ أَخَذَا بِالرُّخْصَةِ، وَكُلُّهُمْ مَحْمُودٌ غَيْرُ مَذْمُومٍ وَلاَ مَلُومٍ (2) .
مَوْطِنُ الْبَحْثِ:
أَبْوَابُ الْجِهَادِ وَالسِّيَرِ، عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنِ الْفِرَارِ وَالزَّحْفِ فِي الْقِتَال.
__________
(1) أخرجه البخاري (فتح الباري 7 / 308، 378، 379 ط السلفية) وأبو داود (3 / 4، 5 بشرحه عون المعبود - نشر دار الكتاب العربي) .
(2) الدر بهامش حاشية ابن عابدين 3 / 222 ط بولاق، والمواق 3 / 357 ط ليبيا، وكشف الغمة عن جميع الأمة للشعراني 2 / 154 ط الحلبي، والمغني10 / 553 ط المنار.(3/160)
اسْتِئْمَارٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِسْتِئْمَارُ فِي اللُّغَةِ: الْمُشَاوَرَةُ (1) . وَفِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ: هُوَ طَلَبُ الأَْمْرِ أَوِ الإِْذْنِ (2) . وَمِمَّا اسْتَعْمَل الْفُقَهَاءُ الاِسْتِئْمَارَ فِيهِ: إِذْنُ الْبَالِغَةِ عِنْدَ تَزْوِيجِهَا.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الاِسْتِئْذَانُ:
2 - الاِسْتِئْذَانُ طَلَبُ الإِْذْنِ، يُقَال اسْتَأْذَنْتُهُ: طَلَبْتُ مِنْهُ الإِْذْنَ فِي كَذَا، فَأَذِنَ لِي، وَقَدْ يُعْرَفُ الإِْذْنُ بِالسُّكُوتِ، وَالأَْمْرُ لاَ يُعْلَمُ إِلاَّ بِالنُّطْقِ (3) .
يَدُل عَلَى ذَلِكَ قَوْل الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْبِكْرُ تُسْتَأْذَنُ، وَالأَْيِّمُ تُسْتَأْمَرُ (4)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
3 - اسْتِئْمَارُ الْمَرْأَةِ فِي تَزْوِيجِهَا مَطْلُوبٌ شَرْعًا، إِمَّا عَلَى سَبِيل الْوُجُوبِ، بِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ فِي الثَّيِّبِ
__________
(1) لسان العرب مادة (أمر) .
(2) فتح القدير على الهداية 2 / 396 دار صادر.
(3) المصباح المنير مادة (أذن) ، والنهاية لابن الأثير ولسان العرب مادة: (أمر) .
(4) حديث " البكر تستأذن. . . "، ورد بلفظ: " لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن ". أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 191 و 12 / 340 ط السلفية) ، ومسلم 2 / 1036 - بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي - طبع عيسى الحلبي) .(3/160)
الْكَبِيرَةِ الْعَاقِلَةِ، وَإِمَّا عَلَى سَبِيل النَّدْبِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ؛ لِلْبِكْرِ الْبَالِغَةِ الْعَاقِلَةِ. وَأَوْجَبَ ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ.
وَيَنْدُبُ اسْتِئْمَارُ الأُْمِّ، تَطْيِيبًا لِخَاطِرِهَا فِي تَزْوِيجِ بِنْتِهَا (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي النِّكَاحِ. مُصْطَلَحُ: (نِكَاح) .
اسْتِئْمَانٌ
:
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِسْتِئْمَانُ فِي اللُّغَةِ: طَلَبُ الأَْمَانِ. يُقَال: اسْتَأْمَنَهُ: طَلَبَ مِنْهُ الأَْمَانَ، وَاسْتَأْمَنَ إِلَيْهِ: دَخَل فِي أَمَانِهِ، وَقَدْ أَمَّنَهُ وَآمَنَهُ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: دُخُول دَارِ الْغَيْرِ (أَيْ إِقْلِيمِهِ) بِأَمَانٍ، مُسْلِمًا كَانَ الدَّاخِل أَوْ حَرْبِيًّا (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْعَهْدُ:
2 - الأَْصْل فِي مَعْنَاهُ: حِفْظُ الشَّيْءِ وَمُرَاعَاتُهُ حَالاً بَعْدَ حَالٍ، ثُمَّ اسْتُعْمِل فِي الْمُوثَقِ الَّذِي يَلْزَمُ مُرَاعَاتُهُ. فَالْفَرْقُ بَيْنَ الْعَهْدِ وَالاِسْتِئْمَانِ: أَنَّ الْعَهْدَ
__________
(1) المبسوط للسرخسي 4 / 218، والمغني 6 / 491، والحطاب 3 / 434، 435 ط ليبيا، وفتح القدير على الهداية 2 / 396 ط دار صادر، وحاشية القليوبي 3 / 222، ونهاية المحتاج 6 / 224 ط المكتب الإسلامي.
(2) المصباح، ولسان العرب مادة (أمن) ، ورد المحتار 3 / 247، والتعريفات للجرجاني.(3/161)
أَعَمُّ مِنَ الاِسْتِئْمَانِ (1) .
ب - الذِّمَّةُ:
3 - مِنْ مَعَانِي الذِّمَّةِ فِي اللُّغَةِ: الْعَهْدُ، وَالأَْمَانُ، وَالضَّمَانُ. وَمِنْ مَعَانِيهَا فِي الاِصْطِلاَحِ: إِقْرَارُ بَعْضِ الْكُفَّارِ عَلَى كُفْرِهِمْ، بِشَرْطِ بَذْل الْجِزْيَةِ، وَالْتِزَامِ أَحْكَامِ الْمِلَّةِ. فَالْفَرْقُ بَيْنَ الذِّمَّةِ وَالاِسْتِئْمَانِ، أَنَّ عَقْدَ الاِسْتِئْمَانِ مُؤَقَّتٌ، وَعَقْدَ الذِّمَّةِ مُؤَبَّدٌ فِي الأَْصْل (2) .
ج - الاِسْتِجَارَةُ:
4 - الاِسْتِجَارَةُ مِنْ مَعَانِيهَا لُغَةً: طَلَبُ شَخْصٍ مِنْ آخَرَ أَنْ يَحْفَظَهُ وَيَحْمِيَهُ. وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنْ ذَلِكَ.
فَالاِسْتِجَارَةُ أَعَمُّ؛ لأَِنَّهَا تَشْمَل كُل أَحْوَال طَلَبِ الْحِمَايَةِ، بِخِلاَفِ الاِسْتِئْمَانِ، فَإِنَّهُ فِي دُخُول دَارِ الإِْسْلاَمِ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِ وَعَكْسِهِ.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
5 - اسْتِئْمَانُ رَايَةٍ أَوْ عَلاَمَةٍ تَدُل عَلَى الأَْمَانِ - جَائِزٌ بِشُرُوطٍ وَتَفْصِيلاَتٍ تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (مُسْتَأْمَن)
فَإِذَا تَمَّ ذَلِكَ حُرِّمَتْ أَمْوَالُهُمْ وَدِمَاؤُهُمْ.
كَمَا يَجُوزُ اسْتِئْمَانُ الْمُسْلِمِ لِدُخُول دَارِ الْحَرْبِ لِتِجَارَةٍ، أَوْ تَبْلِيغِ رِسَالَةٍ، إِذَا كَانُوا مِمَّنْ يُوفُونَ بِالْعَهْدِ؛ لأَِنَّ الظَّاهِرَ عَدَمُ تَعَرُّضِهِمْ لَهُ (3) .
__________
(1) المصباح، ولسان العرب مادة (عهد)
(2) المصباح، ولسان العرب مادة (ذم)
(3) ابن عابدين 3 / 224، 227، 247 ط بولاق، والمغني 8 / 396، 399، 4 / 402، وقليوبي وعميرة 4 / 105، 172، 225، 226، وجواهر الإكليل 1 / 257، 258، 255 ط شقرون، وبدائع الصنائع 9 / 4321 ط الإمام.(3/161)
اسْتِئْنَاسٌ
:
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الاِسْتِئْنَاسِ فِي اللُّغَةِ: الاِسْتِئْذَانُ. وَاسْتَأْنَسَ بِهِ: سَكَنَ إِلَيْهِ قَلْبُهُ، وَاسْتَأْنَسَ الْحَيَوَانُ: ذَهَبَ تَوَحُّشُهُ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِهَذَا اللَّفْظِ عَنِ الْمَعَانِي اللُّغَوِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الاِسْتِئْذَانُ:
2 - الاِسْتِئْذَانُ: طَلَبُ الإِْذْنِ فِي شَيْءٍ مَا، فَالاِسْتِئْذَانُ مُرَادِفٌ لِلاِسْتِئْنَاسِ بِالإِْطْلاَقِ الأَْوَّل.
أَوَّلاً - بِمَعْنَى الاِسْتِئْذَانِ
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
3 - الاِسْتِئْنَاسُ مَطْلُوبٌ شَرْعًا فِي الْجُمْلَةِ عَلَى تَفْصِيلٍ، مَوْضِعُهُ (اسْتِئْذَانٌ (2)) .
ثَانِيًا - بِمَعْنَى اطْمِئْنَانِ الْقَلْبِ
4 - الاِسْتِئْنَاسُ بِمَعْنَى اطْمِئْنَانِ الْقَلْبِ، لَهُ صُوَرٌ مِنْهَا: الاِسْتِئْنَاسُ بِالرُّفْقَةِ فِي السَّفَرِ، وَالاِسْتِئْنَاسُ بِمَجَالِسِ الصَّالِحِينَ، وَإِينَاسُ الْمُحْتَضَرِ، وَمَنِ
__________
(1) المصباح المنير، ولسان العرب مادة: (أنس) .
(2) القرطبي 12 / 212 ط دار الكتب، والفخر الرازي 23 / 196، والألوسي 18 / 134، وابن عابدين 1 / 374 و 5 / 265 ط بولاق.(3/162)
اشْتَدَّ بِهِ الْمَرَضُ إِذَا كَانَ يَسْتَأْنِسُ بِذَلِكَ، وَهُوَ مَطْلُوبٌ فِي الْجُمْلَةِ كَذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ خَيْرٍ وَرَحْمَةٍ، لَكِنْ إِنْ كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ بِإِيذَاءِ صَاحِبِ الْبَيْتِ، أَوْ كَانَ ذَرِيعَةً إِلَى مَفْسَدَةٍ، فَهُوَ حَرَامٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ} . (1)
وَقَدْ أَجَازَ الْعُلَمَاءُ تَرْكَ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ، إِذَا كَانَ أَدَاؤُهُمَا يُؤَدِّي إِلَى تَخَلُّفِهِ عَنِ الرَّكْبِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ فَوَاتِ اطْمِئْنَانِ الْقَلْبِ بِالأُْنْسِ بِالرُّفْقَةِ. وَيَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ، إِذَا كَانَ طَلَبُ الْمَاءِ يُفَوِّتُ عَلَيْهِ الرُّفْقَةَ، أَوْ يَشُقُّ عَلَى الْمُحْتَضَرِ أَوِ الْمَرِيضِ. وَقَدْ فَصَّل الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ فِي مَبَاحِثِ (التَّيَمُّمِ، وَالسَّفَرِ، وَالاِحْتِضَارِ وَالْمَرَضِ) . (2)
ثَالِثًا - بِمَعْنَى ذَهَابِ التَّوَحُّشِ
5 - يَجُوزُ تَرْوِيضُ الْحَيَوَانِ الْمُتَوَحِّشِ لِيَسْتَأْنِسَ؛ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ، مِنْ كَوْنِهِ يُنْتَفَعُ بِجِلْدِهِ أَوْ عَظْمِهِ أَوْ لَحْمِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. وَيَتَرَتَّبُ عَلَى اسْتِئْنَاسِ الْحَيَوَانِ الْمُتَوَحِّشِ آثَارٌ مِنْهَا: أَنْ تَكُونَ تَذْكِيَتُهُ كَالْمُسْتَأْنِسِ، إِنْ كَانَ مِمَّا يَحِل أَكْلُهُ، وَتَجْرِي عَلَيْهِ كُل أَحْكَامِ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي تَجْرِي عَلَى سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ الْمُسْتَأْنِسَةِ. وَلِتَفْصِيل ذَلِكَ يُرْجَعُ إِلَى مَبَاحِثِ (الذَّكَاةِ وَالصَّيْدِ) . (3)
__________
(1) سورة الأحزاب / 53
(2) بدائع الصنائع 1 / 186 ط زكريا يوسف، وابن عابدين 1 / 384 ط بولاق الأولى، وحاشية الجمل 1 / 199 ط إحياء التراث العربي، والمغني 1 / 239 ط السعودية، وحاشية الدسوقي 1 / 149، 150 ط دار الفكر.
(3) ابن عابدين 5 / 298 - 305، والدسوقي 2 / 103 - 109، ونهاية المحتاج 8 / 117، والمغني مع الشرح الكبير11 / 26(3/162)
اسْتِئْنَافٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الاِسْتِئْنَافِ لُغَةً: الاِبْتِدَاءُ وَالاِسْتِقْبَال، وَقَدِ اسْتَأْنَفَ الشَّيْءَ أَخَذَ أَوَّلَهُ وَابْتَدَأَهُ (1) .
وَبِتَتَبُّعِ اسْتِعْمَالاَتِ هَذَا الْمُصْطَلَحِ لَدَى الْفُقَهَاءِ، يُمْكِنُ الْوُصُول إِلَى تَعْرِيفٍ بِأَنَّهُ: الْبَدْءُ بِالْمَاهِيَّةِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ أَوَّلِهَا، بَعْدَ التَّوَقُّفِ فِيهَا وَقَطْعِهَا لِمَعْنًى خَاصٍّ (2) .
فَالاِسْتِئْنَافُ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بَعْدَ قَطْعِ الْمَاهِيَّةِ الأُْولَى؛ لِمَا جَاءَ فِي رَدِّ الْمُحْتَارِ: " قَوْلُهُ (وَاسْتِئْنَافُهُ أَفْضَل) أَيْ: بِأَنْ يَعْمَل عَمَلاً يَقْطَعُ الصَّلاَةَ ثُمَّ يَشْرَعَ بَعْدَ الْوُضُوءِ، شُرُنْبُلاَلِيَّةٌ عَنِ الْكَافِي، وَفِي حَاشِيَةِ أَبِي السُّعُودِ عَنْ شَيْخِهِ: فَلَوْ لَمْ يَعْمَل مَا يَقْطَعُ الصَّلاَةَ، بَل ذَهَبَ عَلَى الْفَوْرِ فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ كَبَّرَ يَنْوِي الاِسْتِئْنَافَ، لَمْ يَكُنْ مُسْتَأْنِفًا بَل بَانِيًا
. اهـ. (3)
__________
(1) تاج العروس مادة (أنف) 6 / 48، والمصباح المنير مادة (أنف) 1 / 35، والنهاية 1 / 75 - 76
(2) تبيين الحقائق 1 / 145، والمغني 1 / 244 - 245، والفروع 1 / 401، ورد المحتار 1 / 603، وبدائع الصنائع 4 / 2020 ط الإمام، والدسوقي 2 / 452، والمنهاج 1 / 279 - 280، والمجموع 4 / 457
(3) رد المحتار 1 / 603(3/163)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْبِنَاءُ:
2 - مِنْ مَعَانِي الْبِنَاءِ لُغَةً: أَنَّهُ ضِدُّ الْهَدْمِ، وَاصْطِلاَحًا: يَأْتِي بِمَعْنَى الْمُضِيِّ فِي الْمَاهِيَّةِ الشَّرْعِيَّةِ الْمَبْدُوءِ بِهَا إِلَى نِهَايَتِهَا، بَعْدَ زَوَال الْعَارِضِ الَّذِي قَطَعَهَا بِسَبَبِهِ،
وَمِثَالُهُ: أَنْ يَسْبِقَ الْمُصَلِّيَ حَدَثٌ، بَعْدَ أَنْ صَلَّى رَكْعَةً، فَيَتَوَضَّأَ، وَيَبْنِيَ عَلَى صَلاَتِهِ بِإِكْمَال مَا بَقِيَ، وَذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (1) . وَفِيهِ خِلاَفٌ تَفْصِيلُهُ فِي مَبَاحِثِ (الصَّلاَةِ) فَالْبِنَاءُ مُبَايِنٌ لِلاِسْتِئْنَافِ.
ب - الاِسْتِقْبَال:
3 - الاِسْتِقْبَال لُغَةً: الْمُوَاجَهَةُ، أَمَّا شَرْعًا: فَيَأْتِي مُرَادِفًا لِلاِسْتِئْنَافِ، وَمِثَالُهُ قَوْل الْكَاسَانِيِّ: إِذَا أَيِسَتِ الْمُعْتَدَّةُ بِالأَْقْرَاءِ، تَنْتَقِل عِدَّتُهَا إِلَى الأَْشْهُرِ، فَتَسْتَقْبِل الْعِدَّةَ بِهَا (2) . وَيَأْتِي بِمَعْنَى الاِتِّجَاهِ إِلَى الْقِبْلَةِ أَوْ غَيْرِهَا.
ج - الاِبْتِدَاءُ:
4 - مِنْ مَعَانِي الاِبْتِدَاءِ لُغَةً: التَّقْدِيمُ، وَالأَْخْذُ فِي الشَّيْءِ مِنْ أَوَّلِهِ، وَلاَ يَخْرُجُ التَّعْرِيفُ الاِصْطِلاَحِيُّ عَنْ ذَلِكَ. فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الاِسْتِئْنَافِ، أَنَّ الاِبْتِدَاءَ أَعَمُّ (3) .
__________
(1) تبيين الحقائق 1 / 145
(2) بدائع الصنائع 1 / 149 و4 / 2017 ط الإمام، وحاشية الشلبي على تبيين الحقائق 1 / 41، ورد المحتار1 / 393، والمغني 1 / 246
(3) المصباح.(3/163)
د - الإِْعَادَةُ:
5 - مِنْ مَعَانِي الإِْعَادَةِ لُغَةً: فِعْل الشَّيْءِ ثَانِيَةً، وَمِنْهُ التَّكْرَارُ.
وَاصْطِلاَحًا: عَرَّفَهَا الْغَزَالِيُّ عِنْدَ كَلاَمِهِ عَنْ إِعَادَةِ الْمُوَقَّتِ: بِأَنَّهَا فِعْل الشَّيْءِ ثَانِيًا فِي الْوَقْتِ بَعْدَ فِعْلِهِ عَلَى نَوْعٍ مِنَ الْخَلَل (1) .
وَتَفْتَرِقُ الإِْعَادَةُ عَنِ الاِسْتِئْنَافِ بِأَنَّهَا لاَ تَكُونُ إِلاَّ بَعْدَ فِعْل الْعَمَل الأَْوَّل مَعَ خَلَلٍ مَا، أَمَّا الاِسْتِئْنَافُ فَلاَ يَكُونُ إِلاَّ بَعْدَ قَطْعِ الْعَمَل قَبْل تَمَامِهِ.
هـ: الْقَضَاءُ:
6 - الْقَضَاءُ لُغَةً: أَدَاءُ الشَّيْءِ، وَاصْطِلاَحًا: عَرَّفَهُ الْغَزَالِيُّ: بِأَنَّهُ فِعْل مِثْل مَا فَاتَ وَقْتُهُ الْمُحَدَّدِ، فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الاِسْتِئْنَافِ، أَنَّ الْقَضَاءَ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بَعْدَ الْوَقْتِ، وَلاَ يَكُونُ إِلاَّ فِي الأَْفْعَال ذَاتِ الْوَقْتِ الْمُحَدَّدِ. أَمَّا الاِسْتِئْنَافُ فَقَدْ يَكُونُ فِي الْوَقْتِ، وَقَدْ يَكُونُ بَعْدَهُ، وَقَدْ يَكُونُ فِي غَيْرِ الْوَقْتِ.
صِفَتُهُ (الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ) :
7 - الاِسْتِئْنَافُ تَعْتَرِيهِ بِضْعَةُ أَحْكَامٍ تَكْلِيفِيَّةٍ.
فَقَدْ يَكُونُ وَاجِبًا اتِّفَاقًا، وَذَلِكَ كَمَا لَوْ تَعَمَّدَ الْحَدَثَ وَهُوَ فِي الصَّلاَةِ. وَهُوَ أَيْضًا وَاجِبٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ (2) ، إِذَا سَبَقَهُ حَدَثٌ غَيْرُ الرُّعَافِ، إِذْ لاَ
__________
(1) المستصفى 1 / 95، ورد المحتار 2 / 65
(2) الدسوقي 1 / 207، ورد المحتار 1 / 389، 393، 457، 603، والمجموع 4 / 456، 457، ونهاية المحتاج 1 / 415، والمغني 1 / 246، 2 / 95 ط مطبعة العاصمة. القاهرة وفواتح الرحموت 1 / 85 ط الأميرية، وبدائع الصنائع 2 / 130(3/164)
بِنَاءَ عِنْدَهُمْ إِلاَّ فِي الرُّعَافِ؛ لأَِنَّهُ رُخْصَةٌ فَيَتَوَقَّفُ فِيهَا عَلَى مَوْرِدِ النَّصِّ.
وَقَدْ يَكُونُ مُسْتَحَبًّا، كَمَنْ أَحْدَثَ وَهُوَ يُؤَذِّنُ، وَاحْتَاجَ لِفَاصِلٍ طَوِيلٍ لِلتَّطَهُّرِ، فَإِنَّ اسْتِئْنَافَ الأَْذَانِ أَوْلَى.
وَقَدْ يَكُونُ مَكْرُوهًا كَمَا فِي الصُّورَةِ السَّابِقَةِ إِذَا كَانَ الْفَاصِل لِلتَّطَهُّرِ يَسِيرًا؛ لأَِنَّ الْبِنَاءَ هُنَا أَوْلَى، لِئَلاَّ يُوهِمَ التَّلاَعُبَ إِذَا اسْتَأْنَفَ.
وَقَدْ يَكُونُ الاِسْتِئْنَافُ مُبَاحًا، كَالْبَيْعِ الصَّحِيحِ وَالإِْجَارَةِ الصَّحِيحَةِ - إِذَا جَرَتْ فِيهَا الإِْقَالَةُ أَوْ كَانَ الْبَيْعُ فَاسِدًا - فَإِنَّهُ يَصِحُّ اسْتِئْنَافُ الْعَقْدِ.
مَوَاطِنُ الاِسْتِئْنَافِ:
الاِسْتِئْنَافُ مُصْطَلَحٌ يَرِدُ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَبْوَابِ الْفِقْهِ، إِلاَّ أَنَّ اسْتِعْمَالَهُ فِي أَبْوَابِ الْعِبَادَاتِ أَكْثَرُ مِنْهُ فِي غَيْرِهَا، وَفِيمَا يَلِي بَعْضُ الصُّوَرِ.
الاِسْتِئْنَافُ فِي الْوُضُوءِ:
8 - جَاءَ فِي الْفُرُوعِ لاِبْنِ مُفْلِحٍ فِي مَعْرِضِ بَيَانِ أَثَرِ نِسْيَانِ التَّسْمِيَةِ عَلَى صِحَّةِ الْوُضُوءِ: " وَإِنْ ذَكَرَ فِي بَعْضِهِ ابْتَدَأَ، وَقِيل بَنَى، وَعَنْهُ تُسْتَحَبُّ (1) " أَيْ أَنَّ الْمُتَوَضِّئَ إِذَا ذَكَرَ التَّسْمِيَةَ فِي أَثْنَاءِ الْوُضُوءِ اسْتَأْنَفَ وُضُوءَهُ وُجُوبًا فِي قَوْلٍ لَدَى الْحَنْبَلِيَّةِ، وَفِي قَوْلٍ آخَرَ لاَ يَجِبُ الاِسْتِئْنَافُ، وَيَجُوزُ الْبِنَاءُ.
الاِسْتِئْنَافُ فِي الْغُسْل:
9 - جَاءَ فِي الْفُرُوعِ لاِبْنِ مُفْلِحٍ فِي الْغُسْل: " وَحَيْثُ فَاتَتِ الْمُوَالاَةُ فِيهِ أَوْ فِي وُضُوءٍ، وَقُلْنَا يَجُوزُ فَلاَ بُدَّ
__________
(1) الفروع 1 / 143 - 144 ط الثانية 1379 هـ(3/164)
لِلإِْتْمَامِ مِنْ نِيَّةٍ مُسْتَأْنَفَةٍ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ مِنْ شَرْطِ النِّيَّةِ الْحُكْمِيَّةِ: قُرْبَ الْفِعْل مِنْهَا، كَحَالَةِ الاِبْتِدَاءِ. . . " (1)
الاِسْتِئْنَافُ فِي الأَْذَانِ وَالإِْقَامَةِ:
10 - جَاءَ فِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ فِي الأَْذَانِ وَالإِْقَامَةِ: " إِنْ تَكَلَّمَ فِي الأَْذَانِ أَوِ الإِْقَامَةِ - وَلَوْ بِرَدِّ سَلاَمٍ - اسْتَأْنَفَ (2) "
الاِسْتِئْنَافُ فِي الصَّلاَةِ:
11 - قَال الزَّيْلَعِيُّ: " (وَإِنْ سَبَقَهُ حَدَثٌ) أَيِ الْمُصَلِّيَ (تَوَضَّأَ وَبَنَى) ، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَسْتَقْبِل (يَسْتَأْنِفَ) وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيِّ؛ لأَِنَّ الْحَدَثَ يُنَافِيهَا، وَالْمَشْيُ وَالاِنْحِرَافُ يُفْسِدَانِهَا، فَأَشْبَهَ الْحَدَثَ الْعَمْدَ، وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: مَنْ أَصَابَهُ قَيْءٌ أَوْ رُعَافٌ أَوْ قَلَسٌ أَوْ مَذْيٌ فَلْيَنْصَرِفْ فَلْيَتَوَضَّأْ، ثُمَّ لْيَبْنِ عَلَى صَلاَتِهِ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ لاَ يَتَكَلَّمُ. وَقَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: إِذَا رَعَفَ أَحَدُكُمْ فِي صَلاَتِهِ أَوْ قَلَسَ، فَلْيَنْصَرِفْ فَلْيَتَوَضَّأْ وَلْيَرْجِعْ فَلْيُتِمَّ صَلاَتَهُ، عَلَى مَا مَضَى مِنْهَا مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ (3) .
وَالاِسْتِئْنَافُ أَفْضَل تَحَرُّزًا عَنْ شُبْهَةِ
__________
(1) الفروع 1 / 204 - 205
(2) الدر المختار في هامش رد المحتار 1 / 385، 389، 393
(3) تبيين الحقائق 1 / 145 أما حديث: " من أصابه. . . ". فأخرجه ابن ماجه والدارقطني وأحمد عن عائشة بلفظ " من أصابه قيء أو رعاف أو قلس أو مذي فلينصرف فليتوضأ ثم ليبن على صلاته، وهو في ذلك لا يتكلم " وضعفه أحمد مرفوعا، والصواب أنه مرسل. انظر منتقى الأخبار في هامش نيل الأوطار 1 / 222، وبلوغ المرام في هامش سبل السلام 1 / 68(3/165)
الْخِلاَفِ (1) .
وَهَذَا الْحُكْمُ عَلَى سَبِيل الْوُجُوبِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي غَيْرِ الرُّعَافِ، إِذِ الْبِنَاءُ رُخْصَةٌ.
الاِسْتِئْنَافُ فِي التَّيَمُّمِ:
12 - وَقَال الْكَاسَانِيُّ: " وَإِنْ وَجَدَ الْمَاءَ فِي الصَّلاَةِ، فَإِنْ وَجَدَهُ قَبْل أَنْ يَقْعُدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ الأَْخِيرِ انْتَقَضَ تَيَمُّمُهُ، وَتَوَضَّأَ وَاسْتَقْبَل (اسْتَأْنَفَ) الصَّلاَةَ عِنْدَنَا، وَلِلشَّافِعِيِّ ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ: فِي قَوْلٍ مِثْل قَوْلِنَا، وَفِي قَوْلٍ يُقَرِّبُ الْمَاءَ مِنْهُ حَتَّى يَتَوَضَّأَ وَيَبْنِيَ، وَفِي قَوْلٍ يَمْضِي عَلَى صَلاَتِهِ وَهُوَ أَظْهَرُ أَقْوَالِهِ (2) ".
الاِسْتِئْنَافُ فِي الْكَفَّارَاتِ:
13 - وَمِنْ أَمْثِلَةِ الاِسْتِئْنَافِ فِي الْكَفَّارَاتِ مَا قَال صَاحِبُ الدُّرِّ الْمُخْتَارِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ: " (وَالشَّرْطُ اسْتِمْرَارُ الْعَجْزِ إِلَى الْفَرَاغِ مِنَ الصَّوْمِ، فَلَوْ صَامَ الْمُعْسِرُ يَوْمَيْنِ ثُمَّ) قَبْل فَرَاغِهِ وَلَوْ بِسَاعَةٍ (أَيْسَرَ) وَلَوْ بِمَوْتِ مُوَرِّثِهِ مُوسِرًا (لاَ يَجُوزُ لَهُ الصَّوْمُ) ، وَيَسْتَأْنِفُ بِالْمَال (3) "، وَالْعَجْزُ الْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْعَجْزُ عَنِ الإِْطْعَامِ وَالْكِسْوَةِ وَالتَّحْرِيرِ؛ لأَِنَّ الصَّوْمَ لاَ يُقْبَل هُنَا إِلاَّ بَعْدَ الْعَجْزِ عَنْ تِلْكَ الثَّلاَثَةِ.
الاِسْتِئْنَافُ فِي الْعِدَّةِ:
14 - جَاءَ فِي بَدَائِعِ الصَّنَائِعِ: ". . . إِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثُمَّ مَاتَ، فَإِنْ كَانَ الطَّلاَقُ رَجْعِيًّا انْتَقَلَتْ عِدَّتُهَا إِلَى عِدَّةِ الْوَفَاةِ، سَوَاءٌ طَلَّقَهَا فِي حَالَةِ الْمَرَضِ
__________
(1) متن الخرقي في هامش المغني 1 / 361، والمغني1 / 364، 374
(2) بدائع الصنائع 1 / 57
(3) الدر المختار في هامش رد المحتار عليه 3 / 727(3/165)
أَوِ الصِّحَّةِ، وَانْهَدَمَتْ عِدَّةُ الطَّلاَقِ، وَعَلَيْهَا أَنْ تَسْتَأْنِفَ عِدَّةَ الْوَفَاةِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا (1) ".
وَقَال فِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ: " (وَالصَّغِيرَةُ) لَوْ حَاضَتْ بَعْدَ تَمَامِ الأَْشْهُرِ (لاَ) تَسْتَأْنِفُ (إِلاَّ إِذَا حَاضَتْ فِي أَثْنَائِهَا) فَتَسْتَأْنِفُ بِالْحَيْضِ (كَمَا تَسْتَأْنِفُ) الْعِدَّةَ (بِالشُّهُورِ مَنْ حَاضَتْ حَيْضَةً) أَوِ اثْنَتَيْنِ (ثُمَّ أَيِسَتْ) ، تَحَرُّزًا عَنِ الْجَمْعِ بَيْنَ الأَْصْل وَالْبَدَل (2) . "
أَسْتَارٌ
اُنْظُرْ: اسْتِتَار
اسْتِبَاقٌ
اُنْظُرْ: سِبَاق
اسْتِبْدَادٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِسْتِبْدَادُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ اسْتَبَدَّ، يُقَال: اسْتَبَدَّ بِالأَْمْرِ، إِذَا انْفَرَدَ بِهِ مِنْ غَيْرِ مُشَارِكٍ لَهُ
__________
(1) بدائع الصنائع 4 / 1995، 2017، 2018، 2020 ط الإمام
(2) الدر المختار في هامش رد المحتار عليه 3 / 314، 515(3/166)
فِيهِ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنْ ذَلِكَ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - اسْتِقْلاَلٌ:
2 - مِنْ مَعَانِي الاِسْتِقْلاَل: الاِعْتِمَادُ عَلَى النَّفْسِ، وَالاِسْتِبْدَادُ بِالأَْمْرِ، وَهُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى يُرَادِفُ الاِسْتِبْدَادَ، غَيْرَ أَنَّهُ يُخَالِفُهُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ إِطْلاَقَاتِهِ اللُّغَوِيَّةِ، فَيَكُونُ مِنَ الْقِلَّةِ وَمِنَ الاِرْتِفَاعِ (2) .
ب - مَشُورَةٌ:
3 - الشُّورَى لُغَةً وَشَرْعًا: عَدَمُ الاِسْتِئْثَارِ بِالرَّأْيِ، وَهِيَ ضِدُّ الاِسْتِبْدَادِ بِالرَّأْيِ.
صِفَتُهُ (الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ) :
4 - الاِسْتِبْدَادُ الْمُفْضِي إِلَى الضَّرَرِ أَوِ الظُّلْمِ مَمْنُوعٌ، كَالاِسْتِبْدَادِ فِي احْتِكَارِ الأَْقْوَاتِ (3) ، وَاسْتِبْدَادِ أَحَدِ الرَّعِيَّةِ فِيمَا هُوَ مِنِ اخْتِصَاصِ الإِْمَامِ مِثْل الْجِهَادِ (4) ، وَالاِسْتِبْدَادِ فِي إِقَامَةِ الْحُدُودِ بِغَيْرِ إِذْنِ الإِْمَامِ (5) . وَلِتَفْصِيل ذَلِكَ يُرْجَعُ إِلَى مُصْطَلَحِ (احْتِكَارٍ، وَحُدُودٍ، وَجِهَادٍ) وَإِلَى كُتُبِ الْفِقْهِ فِي الْمَوَاطِنِ الْمُبَيَّنَةِ بِالْهَوَامِشِ.
__________
(1) المصباح المنير في مادة (بدّ)
(2) لسان العرب والصحاح وتاج العروس في مادة (قلل)
(3) المغني 4 / 243 ط السعودية. . وابن عابدين 5 / 255، 256 ط بولاق الأولى، وجواهر الإكليل 1 / 132 ط شقرون، وقليوبي 2 / 186 ط الحلبي.
(4) المغني 7 / 690 و692 و8 / 110، 367 والسياسة الشرعية ص 57
(5) المغني 8 / 176، والاختيار 4 / 85،84، وابن عابدين 3 / 146 ط بولاق الأولى، وشرح روض الطالب 4 / 122(3/166)
أَمَّا مَا كَانَ لِتَحْقِيقِ وَاجِبٍ لاَ يَتِمُّ إِلاَّ بِهِ فَهُوَ جَائِزٌ، كَاسْتِبْدَادِ الْمَرْأَةِ بِالْخُرُوجِ مَعَ الْمَحْرَمِ بِغَيْرِ إِذْنِ زَوْجِهَا. لِتَحُجَّ الْفَرِيضَةَ (1) .
اسْتِبْدَالٌ
اُنْظُرْ: إِبْدَال
اسْتِبْرَاء
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِسْتِبْرَاءُ لُغَةً: طَلَبُ الْبَرَاءَةِ، وَبَرِئَ تُطْلَقُ بِإِزَاءِ ثَلاَثِ مَعَانٍ: بَرِئَ إِذَا تَخَلَّصَ، وَبَرِئَ إِذَا تَنَزَّهَ وَتَبَاعَدَ، وَبَرِئَ إِذَا أَعْذَرَ وَأَنْذَرَ (2) .
أَمَّا الاِسْتِبْرَاءُ فَيُقَال: اسْتَبْرَأَ الذَّكَرَ اسْتَنْقَاهُ، أَيِ اسْتَنْظَفَهُ مِنَ الْبَوْل (3) .
وَاسْتَبْرَأَ مِنْ بَوْلِهِ إِذَا اسْتَنْزَهَ (4) .
وَلِلاِسْتِبْرَاءِ اسْتِعْمَالاَنِ شَرْعِيَّانِ:
الأَْوَّل: يَتَّصِل بِالطَّهَارَةِ كَشَرْطٍ لِصِحَّتِهَا، فَهُوَ بِهَذَا مِنْ مَبَاحِثِ الْعِبَادَةِ، وَهُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ قِسْمِ التَّحْسِينِ. يَقُول الشَّاطِبِيُّ: (وَأَمَّا التَّحْسِينَاتُ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 146، والمغني 3 / 240 ط السعودية، وروض الطالب 1 / 445 ط المكتب الإسلامي، وحاشية الدسوقي 2 / 9 ط دار الفكر.
(2) لسان العرب (برأ)
(3) تاج العروس.
(4) الأساس.(3/167)
فَمَعْنَاهَا الأَْخْذُ بِمَا يَلِيقُ مِنْ مَحَاسِنِ الْعَادَاتِ. فَفِي الْعِبَادَاتِ كَإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ (1))
الثَّانِي: يَتَّصِل بِالاِطْمِئْنَانِ عَلَى سَلاَمَةِ الأَْنْسَابِ، وَعَدَمِ اخْتِلاَطِهَا، فَهُوَ بِهَذَا مِنْ مَبَاحِثِ النِّكَاحِ، وَهُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ قِسْمِ الضَّرُورِيِّ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّاطِبِيُّ.
أَوَّلاً: الاِسْتِبْرَاءُ فِي الطَّهَارَةِ:
2 - عَرَّفَ ابْنُ عَرَفَةَ الاِسْتِبْرَاءَ بِالاِسْتِعْمَال الأَْوَّل بِقَوْلِهِ: (إِزَالَةُ مَا بِالْمَخْرَجَيْنِ مِنَ الأَْذَى) ، فَالاِسْتِبْرَاءُ عَلَى هَذَا يَكُونُ مِنَ الْبَوْل، وَالْغَائِطِ، وَالْمَذْيِ، وَالْوَدْيِ، وَالْمَنِيِّ (2) . وَهُوَ مَا يُفْهَمُ مِنْ كَلاَمِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (3) .
وَعَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ: بِأَنَّهُ طَلَبُ الْبَرَاءَةِ مِنَ الْخَارِجِ، وَصَرَّحُوا بِأَنَّهُ لاَ يُتَصَوَّرُ فِي الْمَرْأَةِ (4) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الاِسْتِنْقَاءُ، وَالاِسْتِنْجَاءُ، وَالاِسْتِنْزَاهُ، وَالاِسْتِنْثَارُ.
أ - الاِسْتِنْقَاءُ:
3 - الاِسْتِنْقَاءُ: هُوَ طَلَبُ النَّقَاوَةِ، وَهُوَ أَنْ يُدَلِّكَ الْمَقْعَدَةَ بِالأَْحْجَارِ، أَوْ بِالأَْصَابِعِ حَالَةَ الاِسْتِنْجَاءِ بِالْمَاءِ.
ب - الاِسْتِنْجَاءُ:
4 - الاِسْتِنْجَاءُ: هُوَ اسْتِعْمَال الأَْحْجَارِ أَوِ الْمَاءِ.
ج - الاِسْتِنْزَاهُ:
5 - الاِسْتِنْزَاهُ: هُوَ التَّحَفُّظُ مِنَ الْبَوْل وَالتَّوَقِّي مِنْهُ.
__________
(1) الموافقات 2 / 11
(2) شرح حدود ابن عرفه للرصاع ص 36
(3) نهاية المحتاج 1 / 127، ومطالب أولي النهى 1 / 72
(4) حاشية ابن عابدين 1 / 230 ط1272(3/167)
د - الاِسْتِنْثَارُ:
6 - الاِسْتِنْثَارُ: قَال النَّوَوِيُّ فِي تَهْذِيبِ الأَْسْمَاءِ: اسْتَنْثَرَ الرَّجُل مِنْ بَوْلِهِ اجْتَذَبَهُ وَاسْتَخْرَجَ بَقِيَّتَهُ مِنَ الذَّكَرِ (1) . فَالصِّلَةُ بَيْنَ هَذِهِ الأَْلْفَاظِ وَبَيْنَ الاِسْتِبْرَاءِ، هِيَ أَنَّهَا كُلَّهَا تَتَعَلَّقُ بِإِنْقَاءِ الْمَخْرَجَيْنِ مِنَ الْخَارِجِ مِنْهُمَا.
صِفَتُهُ (الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ) :
7 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ (مِنْهُمُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ) إِلَى أَنَّ الاِسْتِبْرَاءَ فَرْضٌ (2) ، وَذَهَبَ جُمْهُورُ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ؛ لأَِنَّ الظَّاهِرَ مِنِ انْقِطَاعِ الْبَوْل عَدَمُ عَوْدِهِ (3) .
وَاسْتَدَل الْقَائِلُونَ بِالْوُجُوبِ بِحَدِيثِ الدَّارَقُطْنِيِّ: تَنَزَّهُوا مِنَ الْبَوْل فَإِنَّ عَامَّةَ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنْهُ (4) وَيُحْمَل الْحَدِيثُ عَلَى مَا إِذَا ظَنَّ أَوْ تَحَقَّقَ بِمُقْتَضَى عَادَتِهِ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَسْتَبْرِئْ خَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ (5) .
وَيَقُول ابْنُ عَابِدِينَ: وَعَبَّرَ بَعْضُهُمْ بِلَفْظِ يَنْبَغِي، وَعَلَيْهِ فَهُوَ مَنْدُوبٌ كَمَا صَرَّحَ بِهِ بَعْضُ
__________
(1) رد المحتار 1 / 230، وشرح الززقاني على مختصر خليل 1 / 75، وفتح الباري 1 / 335، وحاشية كنون على الزرقاني 1 / 164
(2) رد المحتار 1 / 230، وشرح الزرقاني1 / 80، وشرح المحلي على منهاج الطالبين 1 / 42
(3) شرح المحلي على منهاج الطالبين 1 / 42، والمغني 1 / 146 ط المنار الأولى.
(4) حديث: " تنزهوا من البول. . . " أخرجه الدارقطني 1 / 127 - ط شركة الطباعة الفنية، وقال أبو زرعة " سنده صحيح " علل الحديث لابن أبي حاتم 1 / 26 - ط السلفية.
(5) مغني المحتاج 1 / 44، والمغني 1 / 136(3/168)
الشَّافِعِيَّةِ، وَمَحَلُّهُ إِذَا أَمِنَ خُرُوجَ شَيْءٍ بَعْدَهُ، فَيَنْدُبُ ذَلِكَ مُبَالَغَةً فِي الاِسْتِبْرَاءِ (1) .
8 - وَدَلِيل الاِسْتِبْرَاءِ حَدِيثَانِ:
الدَّلِيل الأَْوَّل: الْحَدِيثُ الَّذِي أَخْرَجَهُ السِّتَّةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَال: مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَائِطٍ أَيْ بُسْتَانٍ مِنْ حِيطَانِ الْمَدِينَةِ أَوْ مَكَّةَ، فَسَمِعَ صَوْتَ إِنْسَانَيْنِ يُعَذَّبَانِ فِي قُبُورِهِمَا، فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ، ثُمَّ قَال: بَلَى، كَانَ أَحَدُهُمَا لاَ يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ، وَكَانَ الآْخَرُ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ، ثُمَّ دَعَا بِجَرِيدَةٍ فَكَسَرَهَا كِسْرَتَيْنِ، فَوَضَعَ عَلَى كُل قَبْرٍ مِنْهُمَا كِسْرَةً، فَقِيل: لَهُ يَا رَسُول اللَّهِ؛ لِمَ فَعَلْتَ هَذَا؟ قَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَعَلَّهُ يُخَفِّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ تَيْبَسَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ (2) .
وَعَلَّقَ ابْنُ حَجَرٍ عَلَى الْحَدِيثِ بِقَوْلِهِ: لاَ يَسْتَتِرُ فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ بِمِثْنَاتَيْنِ مِنْ فَوْقُ: الأُْولَى مَفْتُوحَةٌ وَالثَّانِيَةُ مَكْسُورَةٌ. وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عَسَاكِرَ: يَسْتَبْرِئُ بِمُوَحَّدَةٍ سَاكِنَةٍ مِنَ الاِسْتِبْرَاءِ، ثُمَّ قَال: وَأَمَّا رِوَايَةُ الاِسْتِبْرَاءِ فَهِيَ أَبْلَغُ فِي التَّوَقِّي.
الدَّلِيل الثَّانِي: عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: تَنَزَّهُوا مِنَ الْبَوْل فَإِنَّ عَامَّةَ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنْهُ. (3)
حِكْمَةُ تَشْرِيعِهِ:
9 - يَقُول عَلِيٌّ الأَُجْهُورِيُّ: إِنَّ الاِسْتِبْرَاءَ مَعْقُول الْمَعْنَى، وَلَيْسَ مِنَ التَّعَبُّدِ؛ لأَِنَّهُ بِالاِسْتِبْرَاءِ يَنْتَهِي خُرُوجُ الْحَدَثِ الْمُنَافِي لِلْوُضُوءِ (4) .
__________
(1) رد المحتار 1 / 230
(2) حديث: " يعذبان وما يعذبان. . . . " فتح الباري 1 / 317 - ط السلفية، ومسلم 1 / 240 - 241 ط عيسى الحلبي.
(3) نيل الأوطار 1 / 114
(4) شرح الزرقاني على مختصر خليل 1 / 81(3/168)
وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ فَجَمِيعُ الْمَذَاهِبِ تَتَّفِقُ عَلَى أَنَّ الْمُحْدِثَ إِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ عَدَمُ انْقِطَاعِ الْخَارِجِ فَإِنَّهُ لاَ يَصِحُّ وُضُوءُهُ؛ لأَِنَّ الأَْحْكَامَ تُبْنَى عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ اتِّفَاقًا (1) .
كَيْفِيَّةُ الاِسْتِبْرَاءِ:
10 - الاِسْتِبْرَاءُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنَ الْغَائِطِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنَ الْبَوْل، فَإِذَا كَانَ مِنَ الْغَائِطِ فَإِنَّهُ يَكْفِيهِ أَنْ يُحِسَّ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ فِي الْمَخْرَجِ مِمَّا هُوَ بِصَدَدِ الْخُرُوجِ.
وَأَمَّا إِذَا كَانَ مِنَ الْبَوْل، فَهُوَ إِمَّا مِنَ الْمَرْأَةِ، وَإِمَّا مِنَ الرَّجُل، فَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَإِنَّهُ لاَ اسْتِبْرَاءَ عَلَيْهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَلَكِنْ إِذَا فَرَغَتْ تَنْتَظِرُ قَلِيلاً ثُمَّ تَسْتَنْجِي، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ تَسْتَبْرِئُ بِعَصْرِ عَانَتِهَا.
وَأَمَّا الرَّجُل فَاسْتِبْرَاؤُهُ يَحْصُل بِأَيِّ أَمْرٍ اعْتَادَهُ دُونَ أَنْ يَجُرَّهُ ذَلِكَ إِلَى الْوَسْوَسَةِ (2) .
آدَابُ الاِسْتِبْرَاءِ:
11 - لِلاِسْتِبْرَاءِ آدَابٌ مِنْهَا: أَنْ يَطْرُدَ الْوَسْوَاسَ عَنْ نَفْسِهِ. قَال الْغَزَالِيُّ: وَلاَ يَكْثُرُ التَّفَكُّرُ فِي الاِسْتِبْرَاءِ، فَيَتَوَسْوَسُ وَيَشُقُّ عَلَيْهِ الأَْمْرُ (3) .
وَمِنْ وَسَائِل طَرْدِ الْوَسْوَاسِ النَّضْحُ، وَهُوَ رَشُّ الْمَاءِ، وَاخْتُلِفَ فِي مَوْضِعِ النَّضْحِ، فَحَكَى النَّوَوِيُّ أَنَّهُ نَضْحُ الْفَرْجِ بِمَاءٍ قَلِيلٍ بَعْدَ الْوُضُوءِ لِدَفْعِ الْوَسْوَاسِ.
__________
(1) المرجع السابق
(2) رد المحتار 1 / 230، وحاشية القليوبي 1 / 41، وشرح الزرقاني على خليل 1 / 80، والمغني لابن قدامة 1 / 155، والإحياء 1 / 136
(3) الإحياء 1 / 136(3/169)
وَقِيل: هُوَ أَنْ يَنْضَحَ ثَوْبَهُ بِالْمَاءِ، بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الاِسْتِنْجَاءِ؛ لِدَفْعِ الْوَسْوَاسِ أَيْضًا (1) .
قَال الْغَزَالِيُّ: وَمَا يُحِسُّ بِهِ مِنْ بَلَلٍ، فَلْيُقَدِّرْ أَنَّهُ بَقِيَّةُ الْمَاءِ، فَإِنْ كَانَ يُؤْذِيهِ فَلْيَرُشَّ عَلَيْهِ الْمَاءَ حَتَّى يَقْوَى فِي نَفْسِهِ ذَلِكَ، وَلاَ يُسَلَّطُ عَلَيْهِ الشَّيْطَانُ بِالْوَسْوَاسِ، وَفِي الْخَبَرِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَهُ (2) . وَهَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ عَنِ الْحَكَمِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَانَ إِذَا تَوَضَّأَ أَخَذَ حَفْنَةً مِنْ مَاءٍ فَقَال بِهَا هَكَذَا وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنِ الْحَكَمِ بْنِ سُفْيَانَ قَال: رَأَيْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ وَنَضَحَ فَرْجَهُ قَال أَحْمَدُ: فَنَضَحَ فَرْجَهُ، عَلَّقَ عَلَيْهِ السِّنْدِيُّ فَقَال: وَقِيل: نَضَحَ أَيِ اسْتَنْجَى بِالْمَاءِ، وَعَلَى هَذَا فَمَعْنَى إِذَا تَوَضَّأَ أَرَادَ أَنْ يَتَوَضَّأَ، وَقِيل: رَشَّ الْفَرْجَ بِالْمَاءِ بَعْدَ الاِسْتِنْجَاءِ لِيَدْفَعَ بِهِ وَسْوَسَةَ الشَّيْطَانِ، وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ وَكَأَنَّهُ يُؤَخِّرُهُ أَحْيَانًا إِلَى الْفَرَاغِ مِنَ الْوُضُوءِ (3) .
ثَانِيًا: الاِسْتِبْرَاءُ فِي النَّسَبِ:
12 - مَعْنَى الاِسْتِبْرَاءِ فِي النَّسَبِ، طَلَبُ بَرَاءَةِ الْمَرْأَةِ مِنَ الْحَبَل، يُقَال: اسْتَبْرَأَتِ الْمَرْأَةُ: طَلَبَتْ بَرَاءَتَهَا مِنَ الْحَبَل (4) .
وَعَرَّفَهُ ابْنُ عَرَفَةَ بِمَا تَوْضِيحُهُ: تَرْكُ السَّيِّدِ
__________
(1) طرح التثريب 2 / 86
(2) الإحياء 1 / 136
(3) حاشية السندي على النسائي 1 / 86، 87 وقد اضطرب في إسناده كما قال ابن عبد البر في الاستيعاب (1 / 361 - ط مطبعة نهضة مصر) وله شواهد عند الدارقطني (1 / 111 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(4) المصباح المنير.(3/169)
جَارِيَتَهُ مُدَّةً مُقَدَّرَةً شَرْعًا يُسْتَدَل بِهَا عَلَى بَرَاءَةِ الرَّحِمِ (1) .
13 - وَيَكُونُ تَارَةً بِحَيْضِهَا، إِذِ الْحَيْضُ دَلِيلٌ عَلَى بَرَاءَةِ الرَّحِمِ، وَقَدْ يَكُونُ بِانْتِظَارِهَا مُدَّةً مِنَ الزَّمَنِ تُوجِبُ الاِطْمِئْنَانَ بِعَدَمِ الْحَمْل، وَقَدْ يَكُونُ بِوَضْعِ الْحَمْل الَّذِي عَلِقَ بِهَا، حَيًّا أَوْ مَيِّتًا، تَامَّ الْخِلْقَةِ أَوْ غَيْرَ تَامٍّ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْعِدَّةُ:
14 - الْعِدَّةُ تَرَبُّصٌ يَلْزَمُ الْمَرْأَةَ عِنْدَ زَوَال النِّكَاحِ (3) ، فَتَشْتَرِكُ الْعِدَّةُ وَالاِسْتِبْرَاءُ فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُدَّةٌ تَتَرَبَّصُ فِيهَا الْمَرْأَةُ لِتَحِل لِلاِسْتِمْتَاعِ بِهَا.
15 - وَمَعَ هَذَا فَهُمَا يَفْتَرِقَانِ فِي النَّوَاحِي التَّالِيَةِ:
(أ) يَقُول الْقَرَافِيُّ: إِنَّ الْعِدَّةَ تَجِبُ وَلَوْ تَيَقَّنَّا بَرَاءَةَ الرَّحِمِ، كَمَنْ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا بَعْدَ أَنْ غَابَ عَنْهَا عَشْرَ سَنَوَاتٍ، وَكَذَا إِذَا تُوُفِّيَ عَنْهَا، وَكَذَا الصَّغِيرَةُ فِي الْمَهْدِ إِذَا تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا، أَمَّا الاِسْتِبْرَاءُ فَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَالْعِدَّةُ وَاجِبَةٌ عَلَى كُل حَالٍ لِتَغْلِيبِ جَانِبِ التَّعَبُّدِ فِيهَا (4) .
(ب) اعْتُبِرَ الْقُرْءُ الْوَاحِدُ كَافِيًا فِي الاِسْتِبْرَاءِ وَلَمْ يُعْتَبَرْ كَافِيًا فِي الْعِدَّةِ.
(ج) الْقُرْءُ فِي الاِسْتِبْرَاءِ هُوَ الْحَيْضُ، وَأَمَّا الْقُرْءُ فِي الْعِدَّةِ فَمُخْتَلَفٌ فِيهِ بَيْنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ.
(د) الْوَطْءُ فِي الْعِدَّةِ يُوجِبُ تَحْرِيمَ الْمَدْخُول بِهَا تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا عِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ، أَمَّا وَطْءُ الْمَمْلُوكَةِ فِي مُدَّةِ
__________
(1) شرح حدود ابن عرفة للرصاع ص 217
(2) الرهوني 4 / 207
(3) ابن عابدين 2 / 598
(4) الفروق 3 / 205(3/170)
الاِسْتِبْرَاءِ، فَالاِتِّفَاقُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَحْرُمُ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا (1) .
اسْتِبْرَاءُ الْحُرَّةِ:
16 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى الاِسْتِبْرَاءِ فِي الْحُرَّةِ، عَلَى خِلاَفٍ بَيْنَهُمْ فِي الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ، وَفِي الأَْحْوَال الَّتِي يُطْلَبُ فِيهَا.
فَفِي الْمَزْنِيِّ بِهَا، اسْتِبْرَاءٌ عَلَى سَبِيل الْوُجُوبِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ مَا نُقِل عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، وَنُقِل عَنْهُ الاِسْتِحْبَابُ، كَالْمَنْقُول عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ. وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ: بِأَنَّهُ إِنْ عَلَّقَ طَلاَقَ امْرَأَتِهِ عَلَى وُجُودِ حَمْلٍ بِهَا فَتُسْتَبْرَأُ نَدْبًا، أَمَّا إِنْ عَلَّقَهُ عَلَى أَنَّهَا حَائِلٌ (غَيْرُ حَامِلٍ) فَتُسْتَبْرَأُ وُجُوبًا.
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِطَلَبِ الاِسْتِبْرَاءِ فِي صُورَةٍ مِنَ الْمِيرَاثِ، فِيمَا إِذَا مَاتَ وَلَدُ الزَّوْجَةِ مِنْ غَيْرِ زَوْجٍ سَابِقٍ، وَلَمْ يَكُنْ لِهَذَا الْوَلَدِ أَصْلٌ أَوْ فَرْعٌ وَارِثٌ، فَإِنَّهُ تُسْتَبْرَأُ زَوْجَتُهُ لِتَبَيُّنِ حَمْلِهَا مِنْ عَدَمِهِ لِمَعْرِفَةِ مِيرَاثِ الْحَمْل.
كَمَا اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ اسْتِبْرَاءِ الْحُرَّةِ الَّتِي وَجَبَ عَلَيْهَا إِقَامَةُ الْحَدِّ أَوِ الْقِصَاصِ، نَظَرًا لِحَقِّ الْحَمْل فِي الْحَيَاةِ (2) . وَدَلِيل ذَلِكَ خَبَرُ الْغَامِدِيَّةِ الْمَعْرُوفُ (3) .
17 - وَمِنَ الْمَسَائِل الَّتِي صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ فِيهَا بِوُجُوبِ اسْتِبْرَاءِ الْحُرَّةِ مَا يَأْتِي:
__________
(1) الفروق 3 / 205
(2) ابن عابدين 5 / 242، 2 / 292، والقليوبي 3 / 354 والمغني 7 / 487، و 6 / 316 ط الرياض.
(3) خبر الغامديه. أخرجه مسلم (3 / 1323 - ط عيسى الحلبي) .(3/170)
(أ) إِذَا ظَهَرَ حَمْلٌ بِالْمَعْقُودِ عَلَيْهَا عَقْدًا صَحِيحًا، وَلَمْ تُعْلَمْ خَلْوَةٌ، وَأَنْكَرَ الْوَطْءَ، وَنَفَى الْحَمْل بِلِعَانٍ، فَتُسْتَبْرَأُ بِوَضْعِ الْحَمْل (1) .
(ب) إِذَا وُطِئَتْ الزَّوْجَةُ الْحُرَّةُ بِزِنًا. وَبِمِثْل ذَلِكَ قَال الْحَنَفِيَّةُ (2) .
(ج) إِذَا وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ بِأَنِ اعْتَقَدَ الْمُسْتَمْتِعُ بِهَا أَنَّهَا زَوْجَتُهُ.
(د) الْوَطْءُ بِنِكَاحٍ فَاسِدٍ مُجْمَعٍ عَلَى فَسَادِهِ لاَ يَدْرَأُ الْحَدَّ، كَمُحَرَّمٍ بِنَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ.
(هـ) إِذَا غَصَبَهَا غَاصِبٌ وَغَابَ عَلَيْهَا (أَيْ مَكَثَتْ عِنْدَهُ مُدَّةً وَخَلاَ بِهَا) وَلَوِ ادَّعَى أَنَّهُ لَمْ يَطَأْهَا وَصَدَّقَتْهُ؛ وَذَلِكَ لاِتِّهَامِهِ بِتَخْفِيفِ عُقُوبَتِهِ، وَاتِّهَامِهَا بِحِفْظِ شَرَفِهَا ظَاهِرًا؛ وَلأَِنَّ ذَلِكَ حَقُّ اللَّهِ؛ وَلأَِنَّ الْغَيْبَةَ مَظِنَّةُ الْوَطْءِ (3) .
حِكْمَةُ تَشْرِيعِ الاِسْتِبْرَاءِ:
18 - إِنَّ حِكْمَةَ مَشْرُوعِيَّةِ الاِسْتِبْرَاءِ، سَوَاءٌ أَكَانَ فِي الْحَرَائِرِ أَمِ الإِْمَاءِ هِيَ:
تَعَرُّفُ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ احْتِيَاطًا لِمَنْعِ اخْتِلاَطِ الأَْنْسَابِ. وَحِفْظُ النَّسَبِ مِنْ أَهَمِّ مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ الإِْسْلاَمِيَّةِ (4) .
اسْتِبْرَاءُ الأَْمَةِ:
يَكُونُ اسْتِبْرَاءُ الأَْمَةِ وَاجِبًا، وَيَكُونُ مُسْتَحَبًّا، فَيَكُونُ وَاجِبًا فِي الصُّوَرِ الآْتِيَةِ:
__________
(1) البناني 4 / 199
(2) البدائع 4 / 1998 طبعة الإمام.
(3) شرح الزرقاني 4 / 202، والمدونة 3 / 122
(4) المبسوط للسرخسي13 / 146(3/171)
(أ) عِنْدَ حُصُول الْمِلْكِ لِلَّتِي يُقْصَدُ وَطْؤُهَا:
19 - إِذَا حَصَل الْمِلْكُ لِلأَْمَةِ الَّتِي يُقْصَدُ وَطْؤُهَا بِسَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ الْمِلْكِ، فَاسْتِبْرَاؤُهَا وَاجِبٌ.
وَهَذَا الْقَدْرُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ إِجْمَالاً، وَذَلِكَ لِلْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال فِي سَبْيِ أَوْطَاسٍ: لاَ تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ، وَلاَ غَيْرُ ذَاتِ حَمْلٍ حَتَّى تَحِيضَ (1)
وَمِنَ الْقِيَاسِ مَا يَقُولُهُ السَّرَخْسِيُّ: وَالْمَعْنَى فِي الْمَسْبِيَّةِ حُدُوثُ مِلْكِ الْحِل فِيهَا لِمَنْ وَقَعَتْ فِي سَهْمِهِ بِسَبَبِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ، وَيَتَعَدَّى الْحُكْمُ إِلَى الْمُشْتَرَاةِ أَوِ الْمَوْهُوبَةِ. وَالْحِكْمَةُ صِيَانَةُ مَاءِ نَفْسِهِ عَنِ الْخَلْطِ.
وَبَعْدَ الاِتِّفَاقِ فِي الأَْصْل اخْتَلَفُوا فِي التَّفْصِيل: فَالْمَالِكِيَّةُ اشْتَرَطُوا لِتَحَقُّقِ وُجُوبِ الاِسْتِبْرَاءِ شُرُوطًا خُلاَصَتُهَا:
أَوَّلاً: أَلاَّ يَتَيَقَّنَ بَرَاءَةَ رَحِمِهَا مِنَ الْحَمْل، وَهَذَا الشَّرْطُ قَال بِهِ أَيْضًا ابْنُ سُرَيْجٍ، وَابْنُ تَيْمِيَّةَ، وَابْنُ الْقَيِّمِ، وَرَجَّحَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ (2) كَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ صَاحِبِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَجُمْهُورُ الشَّافِعِيَّةِ وَأَحْمَدُ فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ إِلَى أَنَّهُ لاَ بُدَّ مِنَ الاِسْتِبْرَاءِ، لِوُجُودِ الْعِلَّةِ، وَهِيَ مِلْكُ حِلٍّ بِسَبَبِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ.
ثَانِيًا: أَلاَّ يَكُونَ وَطْؤُهَا مُبَاحًا لِمَنِ انْتَقَل مِلْكُهَا إِلَيْهِ قَبْل الاِنْتِقَال، كَمَا لَوِ اشْتَرَى السَّيِّدُ زَوْجَتَهُ الَّتِي عَقَدَ عَلَيْهَا قَبْل الشِّرَاءِ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مُطَالَبٍ بِأَنْ
__________
(1) المبسوط 13 / 146 وحديث " لا توطأ حامل. . . " أخرجه أبو داود (عون المعبود 2 / 213 - 214 ط المطبعة الأنصارية بدهلي) وأحمد (3 / 62 ط الميمنية) وحسنه ابن حجر في التلخيص (1 / 172 ط شركة الطباعة الفنية) .
(2) نيل الأوطار 7 / 110(3/171)
يَسْتَبْرِئَهَا عَلَى سَبِيل الْوُجُوبِ.
وَالإِْبَاحَةُ هِيَ الإِْبَاحَةُ الْمُعْتَدُّ بِهَا الْمُطَابِقَةُ لِلْوَاقِعِ، أَمَّا إِذَا كَشَفَ الْغَيْبُ عَنْ عَدَمِ حِلْيَةِ وَطْئِهِ فَلاَ بُدَّ مِنِ اسْتِبْرَائِهَا، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (1) .
ثَالِثًا: أَلاَّ يَحْرُمَ عَلَيْهِ الاِسْتِمْتَاعُ بِهَا بَعْدَ مِلْكِهَا، فَإِنْ حُرِّمَتْ فِي الْمُسْتَقْبَل لَمْ يَجِبِ اسْتِبْرَاؤُهَا، وَذَلِكَ كَمَنِ اشْتَرَى أُخْتَ زَوْجَتِهِ، أَوْ مُتَزَوِّجَةً بِغَيْرِهِ، دَخَل بِهَا أَمْ لَمْ يَدْخُل (2)
ب - قَصْدُ تَزْوِيجِ الأَْمَةِ:
20 - يَجِبُ عَلَى السَّيِّدِ أَنْ يَسْتَبْرِئَ أَمَتَهُ إِذَا أَرَادَ تَزْوِيجَهَا وَذَلِكَ إِذَا وَطِئَهَا، أَوْ إِذَا زَنَتْ عِنْدَهُ إِذَا اشْتَرَاهَا مِمَّنْ لَمْ يَنْفِ وَطْأَهُ لَهَا، وَفِي غَيْرِ هَذِهِ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا.
وَفَصَّل الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ بَيْنَ الزِّنَا وَبَيْنَ الْوَطْءِ، فَإِذَا وَطِئَهَا السَّيِّدُ وَجَبَ اسْتِبْرَاؤُهَا، وَإِذَا زَنَتْ عِنْدَهُ لَمْ يُلْزَمْ بِاسْتِبْرَائِهَا قَبْل التَّزْوِيجِ (3) .
ج - زَوَال الْمِلْكِ بِالْمَوْتِ أَوِ الْعِتْقِ:
21 - إِذَا مَاتَ السَّيِّدُ يَجِبُ عَلَى وَارِثِهِ أَنْ يَسْتَبْرِئَ الأَْمَةَ الَّتِي وَرِثَهَا عَنْهُ، وَلاَ يَحِل لَهُ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِهَا إِلاَّ بَعْدَ اسْتِبْرَائِهَا، سَوَاءٌ أَكَانَ سَيِّدُهَا حَاضِرًا، أَمْ غَائِبًا يُمْكِنُهُ الْوُصُول إِلَيْهَا، أَقَرَّ بِوَطْئِهَا أَمْ لاَ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَتْ مُتَزَوِّجَةً وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا وَمَاتَ
__________
(1) شرح الزرقاني 4 / 226، والرهوني 4 / 207، والمغني 7 / 514، والمدونة 2 / 345، وتحفة المحتاج 8 / 273
(2) المبسوط 13 / 149، والزرقاني 4 / 227
(3) المبسوط 13 / 152 - 153، والحطاب 4 / 168، والزرقاني 4 / 227، وتحفة المحتاج 8 / 275(3/172)
السَّيِّدُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَذَلِكَ لأَِنَّهَا حَلَّتْ لِلسَّيِّدِ زَمَنًا.
أَمَّا لَوْ لَمْ تَنْقَضِ الْعِدَّةُ، أَوْ كَانَتْ وَقْتَ الْمَوْتِ ذَاتَ زَوْجٍ فَلاَ يَجِبُ الاِسْتِبْرَاءُ، كَمَا لاَ يَجِبُ الاِسْتِبْرَاءُ إِذَا كَانَ السَّيِّدُ غَائِبًا عَنْهَا غَيْبَةً لاَ يُمْكِنُهُ الْوُصُول إِلَيْهَا، وَامْتَدَّ غِيَابُهُ بِمِقْدَارِ الاِسْتِبْرَاءِ فَأَكْثَرَ (1) .
وَأَمَّا أُمُّ الْوَلَدِ فَلاَ بُدَّ لَهَا أَنْ تَسْتَأْنِفَ الاِسْتِبْرَاءَ بَعْدَ الْعِتْقِ. وَفِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّ السَّيِّدَ إِذَا زَال فِرَاشُهُ عَنِ الأَْمَةِ الَّتِي كَانَ يَطَؤُهَا فَالاِسْتِبْرَاءُ وَاجِبٌ، اسْتَوْلَدَهَا أَوْ لَمْ يَسْتَوْلِدْهَا، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ زَال فِرَاشُهُ بِعِتْقٍ أَمْ مَوْتٍ، وَسَوَاءٌ مَضَتْ عَلَيْهَا مُدَّةُ الاِسْتِبْرَاءِ أَمْ لَمْ تَمْضِ (2) .
د - زَوَال الْمِلْكِ بِالْبَيْعِ:
22 - إِذَا أَرَادَ السَّيِّدُ بَيْعَ الأَْمَةِ فَلاَ يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ وَطِئَهَا قَبْل ذَلِكَ أَوْ لاَ.
أَمَّا الأَْمَةُ الَّتِي لَمْ يَطَأْهَا فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَبِيعَهَا بِدُونِ اسْتِبْرَاءٍ. وَاسْتَحَبَّ الإِْمَامُ أَحْمَدُ اسْتِبْرَاءَهَا.
وَأَمَّا الأَْمَةُ الَّتِي كَانَ يَسْتَمْتِعُ بِهَا سَيِّدُهَا وَيَطَؤُهَا، فَمَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّ اسْتِبْرَاءَهَا وَاجِبٌ عَلَى السَّيِّدِ قَبْل الْبَيْعِ. وَيُفَصِّل أَحْمَدُ بَيْنَ الْيَائِسَةِ وَغَيْرِهَا. وَدَلِيلُهُ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَنْكَرَ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ بَيْعَ جَارِيَةٍ كَانَ يَطَؤُهَا قَبْل اسْتِبْرَائِهَا (3) .
__________
(1) حاشية العدوي على الخرشي 4 / 163
(2) نفس المرجع السابق، وانظر قليوبي وعميرة 4 / 59
(3) المغني 7 / 515(3/172)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الاِسْتِبْرَاءَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ سُنَّةٌ، وَذَلِكَ قَبْل بَيْعِهِ لَهَا؛ لِيَكُونَ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْهَا. وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّهُ مُسْتَحَبٌّ (1) .
هـ - الاِسْتِبْرَاءُ بِسُوءِ الظَّنِّ:
23 - قَال الْمَازِرِيُّ: وَكُل مَنْ جَازَ حَمْلُهَا فَفِي اسْتِبْرَائِهَا قَوْلاَنِ. وَمَثَّل لَهُ بِأَمْثِلَةٍ مِنْهَا: اسْتِبْرَاءُ الأَْمَةِ خَوْفَ أَنْ تَكُونَ زَنَتْ، وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالاِسْتِبْرَاءِ لِسُوءِ الظَّنِّ (2) .
مُدَّةُ الاِسْتِبْرَاءِ:
الْمُسْتَبْرَأَةُ لَهَا أَحْوَالٌ مِنْهَا:
الْحُرَّةُ، وَالأَْمَةُ الَّتِي بَلَغَتْ الْمَحِيضَ وَهِيَ تَحِيضُ فِعْلاً، وَالْحَامِل، وَاَلَّتِي لاَ تَحِيضُ لِصِغَرٍ أَوْ كِبَرٍ.
اسْتِبْرَاءُ الْحُرَّةِ:
24 - اسْتِبْرَاءُ الْحُرَّةِ كَعِدَّتِهَا، إِلاَّ فِي ثَلاَثِ مَسَائِل يُكْتَفَى فِيهَا بِحَيْضَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ اسْتِبْرَاؤُهَا لإِِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهَا فِي الزِّنَا أَوِ الرِّدَّةِ؛ لِيَتَبَيَّنَ عَدَمُ حَمْلِهَا؛ لأَِنَّ ذَلِكَ مَانِعٌ مِنْ إِقَامَةِ الْحَدِّ، أَوْ فِي الْمُلاَعَنَةِ لِنَفْيِ حَمْلِهَا. وَالاِكْتِفَاءُ فِي الْمَزْنِيِّ بِهَا بِحَيْضَةٍ وَاحِدَةٍ هُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عَنْ كُلٍّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. وَلَهُمَا رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهَا تُسْتَبْرَأُ بِثَلاَثٍ (3) .
اسْتِبْرَاءُ الأَْمَةِ الْحَائِضِ:
25 - ذَهَبَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ، وَعُثْمَانُ، وَعَائِشَةُ، وَالْحَسَنُ، وَالشَّعْبِيُّ،
__________
(1) الشروانى 8 / 275، والمبسوط 13 / 151
(2) شرح المواق على مختصر خليل 4 / 168
(3) الزرقاني 4 / 203(3/173)
وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَأَبُو قِلاَبَةَ، وَمَكْحُولٌ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، إِلَى أَنَّ الأَْمَةَ إِذَا كَانَتْ مِمَّنْ تَحِيضُ كَعَادَةِ النِّسَاءِ كُل شَهْرٍ أَوْ نَحْوَهُ، فَاسْتِبْرَاؤُهَا يَقَعُ بِحَيْضَةٍ كَامِلَةٍ، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ اسْتِبْرَاءُ الْبَيْعِ وَالْعِتْقِ وَالْوَفَاةِ، أُمَّ وَلَدٍ كَانَتْ أَوْ لاَ.
وَفَرَّقَ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ أُمِّ الْوَلَدِ وَغَيْرِهَا، فَإِذَا كَانَتِ الْمُسْتَبْرَأَةُ غَيْرَ أُمِّ وَلَدٍ، فَاسْتِبْرَاؤُهَا بِحَيْضَةٍ كَامِلَةٍ، أَمَّا أُمُّ الْوَلَدِ، إِذَا أُعْتِقَتْ بِإِعْتَاقِ الْمَوْلَى أَوْ بِمَوْتِهِ، فَإِنَّهَا تَعْتَدُّ بِثَلاَثَةِ قُرُوءٍ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَغَيْرِهِ أَنَّهُمْ قَالُوا: عِدَّةُ أُمِّ الْوَلَدِ ثَلاَثُ حِيَضٍ (1) .
اسْتِبْرَاءُ الْحَامِل:
26 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالْحَنَفِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، إِلَى أَنَّ الْمُسْتَبْرَأَةَ إِذَا كَانَتْ حَامِلاً فَاسْتِبْرَاؤُهَا يَكُونُ بِوَضْعِ حَمْلِهَا كُلِّهِ، وَلَوْ وَضَعَتْهُ بَعْدَ لَحْظَةٍ مِنْ وُجُوبِهِ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الأَْمَةَ الْمَسْبِيَّةَ، أَوِ الَّتِي زَال عَنْهَا فِرَاشُ السَّيِّدِ يَحْصُل اسْتِبْرَاؤُهَا بِوَضْعِ حَمْلِهَا، وَإِنْ كَانَتْ مُشْتَرَاةً - وَهِيَ حَامِلٌ مِنْ زَوْجٍ أَوْ وَطْءٍ بِشُبْهَةٍ - فَلاَ اسْتِبْرَاءَ فِي الْحَال، وَيَجِبُ بَعْدَ زَوَال الْعِدَّةِ أَوِ النِّكَاحِ، لأَِنَّ حُدُوثَ حِل الاِسْتِمْتَاعِ إِنَّمَا وُجِدَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِنْ تَقَدَّمَ عَلَيْهِ الْمِلْكُ؛ لأَِنَّهُ مِلْكٌ مَشْغُولٌ بِحَقِّ الْغَيْرِ. وَالْحَامِل مِنْ زِنًا إِذَا كَانَتْ لاَ تَحِيضُ فِي أَثْنَاءِ مُدَّةِ الْحَمْل تُسْتَبْرَأُ بِوَضْعِ الْحَمْل، وَإِنْ كَانَتْ تَحِيضُ فَكَذَلِكَ عَلَى الأَْصَحِّ، وَفِي قَوْلٍ يَحْصُل اسْتِبْرَاؤُهَا بِحَيْضَةٍ عَلَى الْحَمْل (2) .
__________
(1) الزرقاني 4 / 201، والمغني 7 / 500، والمدونة 2 / 352، وبدائع الصنائع 4 / 2001، والمبسوط 13 / 148
(2) الشرواني 8 / 277، والمغني 9 / 215، وروضة الطالبين 8 / 426(3/173)
اسْتِبْرَاءُ الأَْمَةِ الَّتِي لاَ تَحِيضُ لِصِغَرٍ أَوْ كِبَرٍ:
27 - مَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّ الأَْمَةَ الَّتِي لاَ تَحِيضُ لِصِغَرٍ أَوْ كِبَرٍ: أَنَّهَا تَتَرَبَّصُ ثَلاَثَةَ أَشْهُرٍ، وَنَقَل ابْنُ رُشْدٍ فِي الْمُقَدِّمَاتِ أَنَّهُ قَدْ جَرَى اخْتِلاَفٌ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ، فَقِيل: اسْتِبْرَاؤُهَا شَهْرٌ، وَقِيل: شَهْرٌ وَنِصْفٌ، وَقِيل: شَهْرَانِ، وَقِيل: ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ الْحَنْبَلِيِّ، وَهُوَ قَوْل الْحَسَنِ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَالنَّخَعِيِّ، وَأَبِي قِلاَبَةَ، وَهُوَ قَوْلٌ ثَانٍ فِي الْمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ.
وَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالرَّاجِحُ عَنِ الشَّافِعِيِّ، أَنَّهَا تُسْتَبْرَأُ بِشَهْرٍ فَقَطْ، وَعَلَّل ذَلِكَ بِأَنَّ الشَّهْرَ يَتَحَقَّقُ فِيهِ فِي غَيْرِهَا طُهْرٌ وَحَيْضٌ، وَلأَِنَّ الشَّهْرَ قَائِمٌ مَقَامَ الطُّهْرِ وَالْحَيْضِ شَرْعًا (1) .
الاِسْتِمْتَاعُ بِالأَْمَةِ الْمُسْتَبْرَأَةِ:
28 - مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ فِي رِوَايَةٍ أَنَّ الْمُسْتَبْرَأَةَ لاَ يُقَبِّلُهَا، وَلاَ يُبَاشِرُهَا، وَلاَ يَنْظُرُ مِنْهَا إِلَى عَوْرَةٍ، حَتَّى يَنْتَهِيَ أَمَدُ الاِسْتِبْرَاءِ، وَذَلِكَ لأَِنَّهُ مِنَ الْجَائِزِ أَنَّهَا حَمَلَتْ مِنَ الْبَائِعِ، وَأَنَّ الْبَيْعَ بَاطِلٌ. وَهَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ لاَ تَحِل إِلاَّ فِي الْمِلْكِ. وَوَافَقَهُمْ أَحْمَدُ، وَلَهُ رِوَايَةٌ بِالتَّفْصِيل بَيْنَ الْمُطِيقَةِ وَغَيْرِهَا (2) .
__________
(1) المبسوط 13 / 146، والمقدمات 2 / 95، والشرواني 8 / 277
(2) المبسوط 13 / 146، والمدونة 2 / 359، والزرقاني 4 / 230، وعمدة القاري 5 / 601، والقليوبي 4 / 61، والمغني 7 / 511(3/174)
أَثَرُ الْعَقْدِ وَالْوَطْءِ زَمَنَ الاِسْتِبْرَاءِ
29 - الْعَقْدُ عَلَى الْمُسْتَبْرَأَةِ حَرَامٌ فِي جَمِيعِ الْمَذَاهِبِ، وَكَذَلِكَ الْوَطْءُ بِالأَْوْلَى، وَتَفْصِيل أَثَرِهِ مِنْ حَيْثُ نَشْرُ الْحُرْمَةِ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ (1) .
إِحْدَادُ الْمُسْتَبْرَأَةِ:
30 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَبْرَأَةَ لاَ يَجِبُ عَلَيْهَا الإِْحْدَادُ وَلاَ يُسْتَحَبُّ لَهَا؛ لأَِنَّ الإِْحْدَادَ شُرِعَ لِزَوَال نِعْمَةِ الزَّوَاجِ (2) .
اسْتِبْضَاعٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - أ - الاِسْتِبْضَاعُ فِي اللُّغَةِ: مِنَ الْبُضْعِ، بِمَعْنَى الْقَطْعِ وَالشَّقِّ، وَيُسْتَعْمَل اسْتِعْمَالاً مَجَازِيًّا فِي النِّكَاحِ وَالْمُجَامَعَةِ. وَالْبُضْعُ - بِالضَّمِّ - الْجِمَاعُ، وَالْفَرْجُ نَفْسُهُ (3) ، وَعَلَى هَذَا فَالاِسْتِبْضَاعُ هُوَ: طَلَبُ الْجِمَاعِ، وَمِنْهُ نِكَاحُ الاِسْتِبْضَاعِ، الَّذِي عَرَّفَهُ ابْنُ حَجَرٍ بِقَوْلِهِ: وَهُوَ قَوْل الرَّجُل لِزَوْجَتِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ: " أَرْسِلِي إِلَى فُلاَنٍ، فَاسْتَبْضِعِي مِنْهُ " أَيِ اطْلُبِي مِنْهُ الْمُبَاضَعَةَ،
__________
(1) الزرقاني 3 / 165 - 166، وابن قاسم العبادي 8 / 277، والمغني 7 / 514
(2) المغني 7 / 517، وحاشية الشلبي على الزيلعي 3 / 35، والإشراف على مسائل الخلاف 2 / 172، وابن عابدين 2 / 618
(3) تاج العروس، ولسان العرب، مادة (ب ض ع)(3/174)
وَهُوَ الْجِمَاعُ (1) . وَهَذَا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَقَدْ أَبْطَلَهُ الإِْسْلاَمُ.
ب - وَيَأْتِي الاِسْتِبْضَاعُ فِي اللُّغَةِ بِمَعْنًى آخَرَ، وَهُوَ: اسْتِبْضَاعُ الشَّيْءِ، أَيْ جَعْلُهُ بِضَاعَةً (2) ؛ لأَِنَّ الْبِضَاعَةَ هِيَ طَائِفَةٌ مِنْ مَال الرَّجُل يَبْعَثُهَا لِلتِّجَارَةِ.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ لِنِكَاحِ الاِسْتِبْضَاعِ:
2 - طَالَمَا أَنَّ نِكَاحَ الاِسْتِبْضَاعِ هُوَ زِنًى مَحْضٌ، فَإِنَّ الآْثَارَ الْمُتَرَتِّبَةَ عَلَيْهِ هِيَ نَفْسُ الآْثَارِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى الزِّنَى، مِنْ حَيْثُ الْعُقُوبَةُ، وَضَمَانُ الْعُقْرِ، وَوُجُوبُ الاِسْتِبْرَاءِ، وَعَدَمُ إِلْحَاقِ نَسَبِ الْمَوْلُودِ مِنْ ذَلِكَ بِالزَّانِي، بَل يَلْحَقُ بِصَاحِبِ الْفِرَاشِ، إِلاَّ أَنْ يَنْفِيَهُ بِشُرُوطِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. (ر: زِنى) .
الاِسْتِبْضَاعُ فِي التِّجَارَاتِ:
3 - يُطْلِقُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ كَلِمَةَ اسْتِبْضَاعٍ أَيْضًا عَلَى: دَفْعِ الرَّجُل مَالاً لآِخَرَ لِيَعْمَل فِيهِ، عَلَى أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ كُلُّهُ لِرَبِّ الْمَال، وَلاَ شَيْءَ لِلْعَامِل. فَيُقَال لِصَاحِبِ الْمَال مُسْتَبْضِعٌ، وَمُبْضِعٌ، (بِالْكَسْرِ) ، وَيُقَال لِلْعَامِل مُسْتَبْضَعٌ، وَمُبْضَعٌ مَعَهُ (بِالْفَتْحِ) ، وَهَذِهِ الْمُعَامَلَةُ هِيَ اسْتِبْضَاعٌ وَإِبْضَاعٌ (3) .
وَلِمَعْرِفَةِ أَحْكَامِهِ (ر: إِبْضَاع) .
__________
(1) فتح الباري شرح صحيح البخاري 9 / 151 طبع المطبعة البهية المصرية سنة 1348 هـ.
(2) لسان العرب.
(3) حاشية ابن عابدين على الدر المختار 3 / 344 و 4 / 489 ط1 ببولاق، ومواهب الجليل لشرح مختصر خليل 5 / 255 ط مطبعة النجاح - طرابلس ليبيا.(3/175)
اسْتِتَابَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِسْتِتَابَةُ فِي اللُّغَةِ: طَلَبُ التَّوْبَةِ، يُقَال: اسْتَتَبْتُ فُلاَنًا: عَرَضْتُ عَلَيْهِ التَّوْبَةَ مِمَّا اقْتَرَفَ.
وَالتَّوْبَةُ هِيَ: الرُّجُوعُ وَالنَّدَمُ عَلَى مَا فَرَّطَ مِنْهُ، وَاسْتَتَابَهُ: سَأَلَهُ أَنْ يَتُوبَ (1) . وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
صِفَتُهَا (الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ) :
2 - اسْتِتَابَةُ الْمُرْتَدِّ وَاجِبَةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ كُلٍّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ؛ لاِحْتِمَال أَنْ تَكُونَ عِنْدَهُ شُبْهَةٌ فَتُزَال. وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ آخَرُ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهَا: مُسْتَحَبَّةٌ؛ لأَِنَّ الدَّعْوَةَ قَدْ بَلَغَتْهُ (2) .
اسْتِتَابَةُ الزَّنَادِقَةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ:
3 - فِي اسْتِتَابَةِ الزَّنَادِقَةِ وَفِرَقِ الْبَاطِنِيَّةِ رَأْيَانِ.
الأَْوَّل: لِلْمَالِكِيَّةِ، وَفِي الظَّاهِرِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، رَأْيٌ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، لاَ يُسْتَتَابُونَ وَلاَ يُقْبَل مِنْهُمْ، وَيُقْتَلُونَ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا} (3) ، وَالزِّنْدِيقُ لاَ تَظْهَرُ مِنْهُ عَلاَمَةٌ
__________
(1) لسان العرب 1 / 233 ط بيروت، والمصباح المنير، والمغني 8 / 154
(2) فتح القدير 4 / 385، وابن عابدين 3 / 285، والدسوقي 4 / 304، والقليوبي 4 / 177، والمغني 8 / 124
(3) سورة البقرة / 160(3/175)
تُبَيِّنُ رُجُوعَهُ وَتَوْبَتَهُ؛ لأَِنَّهُ كَانَ مُظْهِرًا لِلإِْسْلاَمِ، مُسِرًّا لِلْكُفْرِ، فَإِذَا وَقَفَ عَلَى ذَلِكَ، فَأَظْهَرَ التَّوْبَةَ، لَمْ يَزِدْ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ قَبْلَهَا، وَهُوَ إِظْهَارُ الإِْسْلاَمِ؛ وَلأَِنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ فِي الْبَاطِنِ خِلاَفَ مَا يُظْهِرُونَ.
الثَّانِي: وَهُوَ لِلْحَنَفِيَّةِ فِي غَيْرِ الظَّاهِرِ، وَرَأْيٌ لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، يُسْتَتَابُ؛ لأَِنَّهُ كَالْمُرْتَدِّ، فَتَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُهُ (1) . (ر: زَنْدَقَة) .
اسْتِتَابَةُ السَّاحِرِ:
4 - اسْتِتَابَةُ السَّاحِرِ فِيهَا رِوَايَتَانِ.
الأُْولَى: لِلْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ، وَهُوَ رَأْيٌ لِلْمَالِكِيَّةِ، وَرَأْيٌ لِلْحَنَابِلَةِ، أَنَّهُ لاَ يُسْتَتَابُ وَهُوَ ظَاهِرُ مَا نُقِل عَنِ الصَّحَابَةِ. فَإِنَّهُ لَمْ يُنْقَل عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ اسْتَتَابَ سَاحِرًا، لِخَبَرِ عَائِشَة: إِنَّ السَّاحِرَةَ سَأَلَتْ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ مُتَوَافِرُونَ: هَل لَهَا مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَمَا أَفْتَاهَا أَحَدٌ (2) وَلأَِنَّ السِّحْرَ مَعْنًى فِي نَفْسِهِ، وَلِسَعْيِهِ بِالْفَسَادِ.
الثَّانِيَةُ: لِلشَّافِعِيَّةِ وَرَأْيٌ لِلْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، أَنَّهُ يُسْتَتَابُ. فَإِنْ تَابَ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ بِأَعْظَمَ مِنَ الشِّرْكِ، وَلأَِنَّ اللَّهَ قَبِل تَوْبَةَ سَحَرَةِ فِرْعَوْنَ؛ وَلأَِنَّ السَّاحِرَ لَوْ كَانَ كَافِرًا فَأَسْلَمَ صَحَّ إِسْلاَمُهُ وَتَوْبَتُهُ، فَإِذَا صَحَّتِ التَّوْبَةُ مِنْهُمَا (أَيِ السَّاحِرِ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 31 و3 / 269، ونهاية المحتاج 7 / 399 ط المكتبة الإسلامية، والجمل 5 / 126 ط إحياء التراث، والقليوبي وعميرة 4 / 177 ط عيسى الحلبي، وجواهر الإكليل 1 / 256 ط شقرون، والمغني 6 / 298 ط مكتبة الرياض الحديثة.
(2) الحديث أخرجه ابن أبي حاتم كما في تفسير ابن كثير 1 / 249 ط دار الأندلس.(3/176)
وَالْكَافِرِ) صَحَّتْ مِنْ أَحَدِهِمَا (السَّاحِرِ الْمُسْلِمِ) ، (ر: سِحْر) وَيَأْخُذُ حُكْمَ الْمُرْتَدِّ، فَيُحْبَسُ حَتَّى يَتُوبَ (1) .
اسْتِتَابَةُ تَارِكِ الْفَرْضِ:
5 - اتَّفَقَتِ الْمَذَاهِبُ عَلَى اسْتِتَابَةِ تَارِكِ الْفَرْضِ مِنْ غَيْرِ جُحُودٍ أَوِ اسْتِخْفَافٍ، حَيْثُ تُقْبَل تَوْبَتُهُ. فَإِنْ أَبَى أَنْ يَتُوبَ، قَال الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي رَأْيٍ عِنْدَهُمْ: يُحْبَسُ حَتَّى يَتُوبَ أَوْ يَمُوتَ. وَقَال الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ رَأْيٌ لِلْحَنَابِلَةِ: إِنْ أَبَى يُقْتَل، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْجُمْهُورِ (2) .
اسْتِتَارٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِسْتِتَارُ فِي اللُّغَةِ: التَّغَطِّي وَالاِخْتِفَاءُ. يُقَال: اسْتَتَرَ وَتَسَتَّرَ أَيْ تَغَطَّى، وَجَارِيَةٌ مُسْتَتِرَةٌ أَيْ مُخَدَّرَةٌ (3) . وَقَدْ اسْتَعْمَلَهُ الْفُقَهَاءُ بِهَذَا الْمَعْنَى، كَمَا اسْتَعْمَلُوهُ بِمَعْنَى اتِّخَاذِ السُّتْرَةِ فِي الصَّلاَةِ.
وَالسُّتْرَةُ (بِالضَّمِّ) هِيَ فِي الأَْصْل: مَا يُسْتَتَرُ بِهِ مُطْلَقًا، ثُمَّ غَلَبَ فِي الاِسْتِعْمَال الْفِقْهِيِّ عَلَى: مَا يُنْصَبُ أَمَامَ الْمُصَلِّي، مِنْ عَصًا أَوْ تَسْنِيمِ تُرَابٍ أَيْ
__________
(1) نهاية المحتاج 7 / 398، والقليوبي وعميرة 4 / 169، وجواهر الإكليل 2 / 265 و278، والمغني 8 / 153، وابن عابدين 1 / 31 ط بولاق الأولى.
(2) ابن عابدين 1 / 235، والبجيرمي على الخطيب 4 / 208
(3) المصباح المنير، والقاموس، ولسان العرب.(3/176)
تَكْوِيمِهِ وَنَحْوِهِ (1) ، لِمَنْعِ الْمُرُورِ أَمَامَهُ.
وَيُسَمَّى سَتْرُ الصَّدَقَةِ إِخْفَاؤُهَا
صِفَتُهُ (الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ) :
2 - يَخْتَلِفُ حُكْمُ الاِسْتِتَارِ تَبَعًا لِلأَْحْوَال وَالأَْفْعَال الَّتِي يَكُونُ فِيهَا، عَلَى مَا سَيَأْتِي:
الاِسْتِتَارُ (بِمَعْنَى اتِّخَاذِ الْمُصَلِّي سُتْرَةً)
3 - اتِّخَاذُ السُّتْرَةِ لِلْمُصَلِّي مَشْرُوعٌ اتِّفَاقًا؛ لِحَدِيثِ: لِيَسْتَتِرْ أَحَدُكُمْ وَلَوْ بِسَهْمٍ. (2) ثُمَّ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِهِ بَيْنَ الْوُجُوبِ وَالسُّنَّةِ أَوِ الاِسْتِحْبَابِ، عَلَى تَفْصِيلٍ مَوْطِنُهُ مُصْطَلَحُ: (سُتْرَةُ الْمُصَلِّي) . (3)
الاِسْتِتَارُ حِينَ الْجِمَاعِ:
4 - يَشْمَل الاِسْتِتَارُ هُنَا أَمْرَيْنِ:
الأَْوَّل: الاِسْتِتَارُ عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ حِينَ الْوَطْءِ.
الثَّانِيَ: عَدَمُ التَّجَرُّدِ حِينَ الْوَطْءِ.
أَمَّا الأَْوَّل: فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْوَطْءُ فِي حَالَةِ انْكِشَافِ الْعَوْرَةِ، أَوْ فِي حَالَةِ عَدَمِ انْكِشَافِهَا.
فَفِي حَالَةِ انْكِشَافِ الْعَوْرَةِ انْعَقَدَ الإِْجْمَاعُ عَلَى فَرْضِيَّةِ الاِسْتِتَارِ، أَمَّا فِي حَالَةِ عَدَمِ ظُهُورِ شَيْءٍ مِنَ الْعَوْرَةِ فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الاِسْتِتَارَ سُنَّةٌ. وَأَنَّ مَنْ يَتَهَاوَنُ فِيهِ فَقَدْ خَالَفَ السُّنَّةَ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {
__________
(1) الطحاوي على مراقي الفلاح ص 200، والدردير على خليل 1 / 244، والمغني 2 / 237
(2) حديث " ليستتر. . . " أخرجه الحاكم 1 / 252 ط دائرة المعارف العثمانية، وحكم عليه المناوي في فيض القدير بالإرسال 1 / 486 ط المكتبة التجارية الكبرى.
(3) الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 200، والدردير على خليل 1 / 244، والمغني 2 / 237(3/177)
إِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ أَهْلَهُ فَلْيَسْتَتِرْ. (1) وَحَمَلُوا الأَْمْرَ عَلَى النَّدْبِ
وَلِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الدَّنَاءَةِ وَالإِْخْلاَل بِالْمُرُوءَةِ (2) .
وَأَمَّا الثَّانِي: (عَدَمُ التَّجَرُّدِ حِينَ الْجِمَاعِ) وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمَا أَحَدٌ يَطَّلِعُ عَلَيْهِمَا، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ (3) إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلرَّجُل أَنْ يُجَرِّدَ زَوْجَتَهُ لِلْجِمَاعِ، وَقَيَّدَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِكَوْنِ الْبَيْتِ صَغِيرًا، وَيُسْتَدَل لِذَلِكَ بِحَدِيثِ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَال: قُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ عَوْرَاتُنَا مَا نَأْتِي مِنْهَا وَمَا نَذَرُ؟ قَال احْفَظْ عَوْرَتَكَ إِلاَّ مِنْ زَوْجَتِكَ، أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ، قُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ الْقَوْمُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ؟ قَال: إِنِ اسْتَطَعْتَ أَلاَّ تُرِيَهَا أَحَدًا فَلاَ تُرِيَنَّهَا. قُلْتُ يَا رَسُول اللَّهِ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُنَا خَالِيًا، قَال: فَاَللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ مِنَ النَّاسِ (4)
__________
(1) أخرجه ابن ماجه في كتاب النكاح باب: التستر عند الجماع
(2) البحر الرائق 3 / 237 ط المطبعة العلمية، وفتاوى قاضي خان 3 / 408 ط 2 بولاق / 1310، والجيرمي على منهج الطلاب 3 / 436 ط مصطفى محمد، وروضة الطالبين 7 / 406 ط المكتب الإسلامي، ونهاية المحتاج 6 / 375 ط مصطفى البابي الحلبي 1357، وحاشية الشررواني على التحفة 6 / 500، والمغني لابن قدامة 8 / 135 ط المنار، ومنتهى الإرادات 2 / 229 ط دار الجيل، والشرح الكبير على متن الخرقي 8 / 143 ط المنار، وحاشية الرهوني على شرح الزرقاني لمتن خليل 4 / 46 - 47 ط بولاق 1306، وحاشية محمد بن المدني على كنون على شرح الزرقاني لمتن خليل 4 / 47
(3) نيل الأوطار 6 / 195، ومراقي الفلاح بحاشية الطحطاوى ص 57، وحاشية ابن عابدين 5 / 234، والقليوبي 3 / 213، والبجيرمي على المنهج 3 / 316، والمغني والشرح الكبير 8 / 135، والقواعد الفقهية 294
(4) حديث " احفظ عورتك. . . " أخرجه أبو داود في الحمام، وابن ماجه في النكاح، والترمذي في الأدب، وأحمد بن حنبل 5 / 3.(3/177)
وَبِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِيَّاكُمْ وَالتَّعَرِّي، فَإِنَّ مَعَكُمْ مَنْ لاَ يُفَارِقُكُمْ إِلاَّ عِنْدَ الْغَائِطِ، وَحِينَ يُفْضِي الرَّجُل إِلَى أَهْلِهِ، فَاسْتَحْيُوهُمْ وَأَكْرِمُوهُمْ. (1)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ، لِحَدِيثِ عُتْبَةَ بْنِ عَبْدٍ السُّلَمِيِّ، قَال: قَال رَسُول اللَّهِ: إِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ أَهْلَهُ فَلْيَسْتَتِرْ، وَلاَ يَتَجَرَّدَا تَجَرُّدَ الْعِيرَيْنِ. (2)
5 - مَا يُخِل بِالاِسْتِتَارِ:
أ - يُخِل بِالاِسْتِتَارِ وُجُودُ شَخْصٍ مُمَيِّزٍ مُسْتَيْقِظٍ مَعَهُمَا فِي الْبَيْتِ، سَوَاءٌ أَكَانَ زَوْجَةً، أَمْ سُرِّيَّةً، أَمْ غَيْرَهُمَا (3) ، يَرَى أَوْ يَسْمَعُ الْحِسَّ (4) ، وَبِهِ قَال الْجُمْهُورُ، وَقَدْ سُئِل الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ عَنِ الرَّجُل يَكُونُ لَهُ امْرَأَتَانِ فِي بَيْتٍ، قَال: كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يَطَأَ إِحْدَاهُمَا وَالأُْخْرَى تَرَى أَوْ تَسْمَعُ (5) .
ب - وَيُخِل بِالاِسْتِتَارِ وُجُودُ نَائِمٍ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ، فَقَال الرَّهُونِيُّ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى شَرْحِ الزُّرْقَانِيِّ لِمَتْنِ خَلِيلٍ: لاَ يَجُوزُ لِلرَّجُل أَنْ يُصِيبَ زَوْجَتَهُ أَوْ أَمَتَهُ وَمَعَهُ فِي الْبَيْتِ أَحَدٌ يَقْظَانُ أَوْ نَائِمٌ (6) ، لأَِنَّ النَّائِمَ قَدْ يَسْتَيْقِظُ فَيَرَاهُمَا عَلَى تِلْكَ الْحَال.
ج - وَيُخِل بِالاِسْتِتَارِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْمَالِكِيَّةِ وُجُودُ صَغِيرٍ غَيْرِ مُمَيِّزٍ، اتِّبَاعًا لاِبْنِ عُمَرَ الَّذِي كَانَ يُخْرِجُ الصَّبِيَّ
__________
(1) أخرجه الترمذي في الأدب.
(2) أخرجه ابن ماجه في كتاب النكاح. باب التستر عند الجماع.
(3) حاشية الشرواني على تحفة المحتاج شرح المنهاج 6 / 500
(4) الرهوني 4 / 46 - 47، والمغني 8 / 137
(5) مخطوط مصنف ابن أبي شيبة 1 / 230
(6) حاشية الرهوني 4 / 46 - 47(3/178)
فِي الْمَهْدِ عِنْدَمَا يُرِيدُ الْجِمَاعَ (1) . وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ - وَمِنْهُمْ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ - إِلَى أَنَّ وُجُودَ غَيْرِ الْمُمَيِّزِ لاَ يُخِل بِالاِسْتِتَارِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ مَشَقَّةٍ وَحَرَجٍ.
الآْثَارُ الْمُرَتَّبَةُ عَلَى تَرْكِ الاِسْتِتَارِ فِي الْجِمَاعِ:
6 - مِنْ حَقِّ الْمَرْأَةِ الاِمْتِنَاعُ عَنْ إِجَابَةِ طَلَبِ زَوْجِهَا إِلَى فِرَاشِهِ، إِنْ كَانَ مِمَّنْ لاَ يَسْتَتِرُ عَنِ النَّاسِ حِينَ الْجِمَاعِ، وَلاَ تَصِيرُ نَاشِزًا بِهَذَا الاِمْتِنَاعِ؛ لأَِنَّهُ امْتِنَاعٌ بِحَقٍّ؛ وَلأَِنَّ الْحَيَاءَ وَالْمُرُوءَةَ يَأْبَيَانِ ذَلِكَ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ (2) ، وَقَوَاعِدُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لاَ تَأْبَاهُ.
الاِسْتِتَارُ عِنْدَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ:
7 - يَشْمَل هَذَا أَمْرَيْنِ: الاِسْتِتَارُ عَنِ النَّاسِ، وَالاِسْتِتَارُ عَنِ الْقِبْلَةِ إِنْ كَانَ خَارِجَ الْبُنْيَانِ. أَمَّا الأَْوَّل، فَالأَْصْل وُجُوبُ سَتْرِ الْعَوْرَةِ عِنْدَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ، بِحُضُورِ مَنْ لاَ يَحِل لَهُ النَّظَرُ إِلَيْهَا، وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (عَوْرَة) ، كَمَا أَنَّهُ يُسَنُّ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ اسْتِتَارُ شَخْصِ الإِْنْسَانِ عِنْدَ إِرَادَةِ الْغَائِطِ.
وَأَمَّا الاِسْتِتَارُ عَنِ الْقِبْلَةِ بِسَاتِرٍ فَإِنَّ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ يَرَى جَوَازَ اسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ وَاسْتِدْبَارِهَا عِنْدَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ، إِنِ اسْتَتَرَ عَنِ الْقِبْلَةِ بِسَاتِرٍ. وَيَرَى بَعْضُهُمْ تَحْرِيمَ اسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ وَاسْتِدْبَارِهَا مُطْلَقًا، وَتَفْصِيل مَا يَتَّصِل بِالاِسْتِتَارِ عَنِ الْقِبْلَةِ فِي مُصْطَلَحِ: (قَضَاءُ الْحَاجَةِ) .
__________
(1) حاشيية الرهوني 4 / 46 - 47
(2) البحر الرائق 3 / 237، وشرح البجيرمي على منهج الطلاب 3 / 436 ط مصطفى محمد، ونهاية المحتاج 6 / 375 ط مصطفى البابي الحلبي 1357(3/178)
الاِسْتِتَارُ حِينَ الاِغْتِسَال:
أ - وُجُوبُ الاِسْتِتَارِ عَمَّنْ لاَ يَحِل لَهُ النَّظَرُ إِلَيْهِ:
8 - الأَْمْرُ الَّذِي لاَ خِلاَفَ فِيهِ هُوَ: افْتِرَاضُ الاِسْتِتَارِ حِينَ الاِغْتِسَال، بِحَضْرَةِ مَنْ لاَ يَجُوزُ لَهُ النَّظَرُ إِلَى عَوْرَةِ الْمُغْتَسِل (1) ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: احْفَظْ عَوْرَتَكَ إِلاَّ مِنْ زَوْجَتِكَ، أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ. (2) وَعَنْ أُمِّ هَانِئٍ قَالَتْ: ذَهَبْتُ إِلَى رَسُول اللَّهِ عَامَ الْفَتْحِ فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِل، وَفَاطِمَةُ تَسْتُرُهُ فَقَال: مَنْ هَذِهِ؟ فَقُلْتُ: أَنَا أُمُّ هَانِئٍ. (3) (ر: عَوْرَة)
فَإِذَا لَمْ يُمْكِنْهُ الاِغْتِسَال إِلاَّ بِكَشْفِ عَوْرَتِهِ أَمَامَ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلاَءِ، فَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ كَشْفَ الْعَوْرَةِ حِينَئِذٍ لاَ يُسْقِطُ وُجُوبَ الْغُسْل عَلَيْهِ - إِنْ كَانَ رَجُلاً بَيْنَ رِجَالٍ، أَوِ امْرَأَةً بَيْنَ نِسَاءٍ - لأَِمْرَيْنِ: الأَْوَّل: نَظَرُ الْجِنْسِ إِلَى الْجِنْسِ أَخَفُّ مِنَ النَّظَرِ إِلَى الْجِنْسِ الآْخَرِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْغُسْل فَرْضٌ فَلاَ يُتْرَكُ لِكَشْفِ الْعَوْرَةِ.
أَمَّا إِنْ كَانَتِ امْرَأَةٌ بَيْنَ رِجَالٍ، أَوْ رَجُلٌ بَيْنَ نِسَاءٍ، أَوْ خُنْثَى بَيْنَ رِجَالٍ أَوْ نِسَاءٍ، أَوْ هُمَا مَعًا، فَلاَ يَجُوزُ لِهَؤُلاَءِ الْكَشْفُ عَنْ عَوْرَاتِهِمْ لِلْغُسْل، بَل يَتَيَمَّمُونَ، لَكِنْ شَارِحُ مُنْيَةِ الْمُصَلِّي لَمْ يُسَلِّمْ بِهَذَا التَّفْصِيل؛ لأَِنَّ تَرْكَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ مُقَدَّمٌ عَلَى فِعْل
__________
(1) ابن عابدين 1 / 105 و 225، وحاشية الجمل 1 / 87، والخرشي على خليل 1 / 146، والمغني 1 / 231، وحديث " احفظ عورتك " أخرجه ابن ماجه 1 / 618 ط عيسى الحلبي، وأحمد 5 / 3 ط الميمنية، وحسنه ابن حجر في الفتح 1 / 386 ط السلفية.
(2) حديث: " احفظ عورتك. . . . . " تقدم تخريجه في فقرة (4)
(3) أخرج الحديث البخاري في الغسل، باب من اغتسل عريانا. فتح الباري 1 / 306 و308(3/179)
الْمَأْمُورِ، وَلِلْغُسْل خَلَفٌ وَهُوَ التَّيَمُّمُ (1) .
وَعُمُومُ كَلاَمِ الْحَنَابِلَةِ، فِي تَحْرِيمِ كَشْفِ الْعَوْرَةِ عِنْدَ الاِغْتِسَال بِحُضُورِ مَنْ يَحْرُمُ نَظَرُهُ إِلَيْهَا، يُشْعِرُ بِأَنَّهُمْ يُخَالِفُونَ الْحَنَفِيَّةَ.
وَاَلَّذِي يُؤْخَذُ مِنْ كَلاَمِ الْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لَوْ تَرَتَّبَ عَلَى الْقِيَامِ بِالطَّهَارَةِ الْمَائِيَّةِ كَشْفُ الْعَوْرَةِ، فَإِنَّهُ يُصَارُ إِلَى التَّيَمُّمِ؛ لأَِنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ لاَ بَدَل لَهُ؛ وَلأَِنَّهُ وَاجِبٌ لِلصَّلاَةِ وَالصِّيَانَةِ عَنِ الْعُيُونِ، وَيُبَاحُ فِعْل الْمَحْظُورِ مِنْ أَجْلِهِ، كَاسْتِتَارِ الرَّجُل بِالْحَرِيرِ إِذَا تَعَيَّنَ. أَمَّا الطَّهَارَةُ الْمَائِيَّةُ فَلَهَا بَدَلٌ، وَلاَ يُبَاحُ فِعْل الْمَحْظُورِ مِنْ أَجْلِهَا (2) وَمِنْ هُنَا كَانَ السَّلَفُ وَالأَْئِمَّةُ الأَْرْبَعَةُ يَتَشَدَّدُونَ فِي الْمَنْعِ مِنْ دُخُول الْحَمَّامِ إِلاَّ بِمِئْزَرٍ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي ذَلِكَ آثَارًا عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ وَأَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، حَتَّى بَلَغَ الأَْمْرُ بِعُمَرِ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ كَتَبَ: لاَ يَدْخُلَنَّ أَحَدٌ الْحَمَّامَ إِلاَّ بِمِئْزَرٍ، وَبِعُمَرِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنْ كَتَبَ إِلَى عَامِلِهِ بِالْبَصْرَةِ أَمَّا بَعْدُ: فَمُرْ مَنْ قِبَلَكَ أَلاَّ يَدْخُلُوا الْحَمَّامَ إِلاَّ بِمِئْزَرٍ، وَأَخَذَ يَفْرِضُ الْعُقُوبَاتِ الرَّادِعَةَ عَلَى مَنْ دَخَل الْحَمَّامَ بِغَيْرِ مِئْزَرٍ، وَعَلَى صَاحِبِ الْحَمَّامِ الَّذِي أَدْخَلَهُ. وَعَنْ عُبَادَةَ قَال: رَأَيْتُ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَضْرِبُ صَاحِبَ الْحَمَّامِ وَمَنْ دَخَلَهُ بِغَيْرِ إِزَارٍ (3) .
__________
(1) ابن عابدين 1 / 105 و 225، والمغني 1 / 233
(2) منح الجليل 1 / 87، والمجموع 2 / 275
(3) ابن أبي شيبة 1 / 19 مخطوط اسطنبول - متحف طول قبوسراي مكتبة مدينة برقم 333، 334، ونهاية المحتاج 1 / 214 ط المكتبة الإسلامية بالرياض، ومنتهى الإرادات 1 / 32 ط دار العروبة.(3/179)
ب - اسْتِتَارُ الْمُغْتَسِل بِحُضُورِ الزَّوْجَةِ:
9 - مِمَّا لاَ خِلاَفَ فِيهِ أَيْضًا: أَنَّ لِكُل وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ أَنْ يَغْتَسِل بِحُضُورِ الآْخَرِ، وَهُوَ بَادِي الْعَوْرَةِ (1) . لِلْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ: احْفَظْ عَوْرَتَكَ إِلاَّ مِنْ زَوْجَتِكَ، أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ. وَلِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كُنْتُ أَغْتَسِل أَنَا وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ مِنْ قَدَحٍ، يُقَال لَهُ: الْفَرَقُ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
اسْتِتَارُ الْمُغْتَسِل مُنْفَرِدًا:
10 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُنْفَرِدِ أَنْ يَغْتَسِل عُرْيَانًا (2) . وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيل يَغْتَسِلُونَ عُرَاةً، يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، وَكَانَ مُوسَى يَغْتَسِل وَحْدَهُ، فَقَالُوا: وَاَللَّهِ مَا يَمْنَعُ مُوسَى أَنْ يَغْتَسِل مَعَنَا إِلاَّ أَنَّهُ آدَرُّ - مَنْفُوخُ الْخُصْيَةِ - فَذَهَبَ مَرَّةً يَغْتَسِل، فَوَضَعَ ثَوْبَهُ عَلَى حَجَرٍ، فَفَرَّ الْحَجَرُ بِثَوْبِهِ، فَخَرَجَ مُوسَى فِي إِثْرِهِ يَقُول: ثَوْبِي يَا حَجَرُ، حَتَّى نَظَرَ بَنُو إِسْرَائِيل إِلَى مُوسَى فَقَالُوا: وَاَللَّهِ مَا بِمُوسَى مِنْ بَأْسٍ، وَأَخَذَ ثَوْبَهُ، فَطَفِقَ بِالْحَجَرِ ضَرْبًا.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: بَيْنَا أَيُّوبُ يَغْتَسِل عُرْيَانًا فَخَرَّ عَلَيْهِ جَرَادٌ مِنْ ذَهَبٍ، فَجَعَل أَيُّوبُ يَحْتَشِي فِي ثَوْبِهِ، فَنَادَاهُ رَبُّهُ: يَا أَيُّوبَ أَلَمْ أَكُنْ
__________
(1) المحلى 10 / 33، وفتاوى قاضي خان 3 / 407، ومغني المحتاج 1 / 75، والخرشي 3 / 4، والمغني 7 / 458، وفتح الباري 1 / 303 ط المطبعة البهية 1348
(2) مغني المحتاج 1 / 75، والمغني 1 / 231، وفتح الباري 1 / 307(3/180)
أَغْنَيْتُكَ عَمَّا تَرَى؟ قَال: بَلَى وَعِزَّتِكَ، وَلَكِنْ لاَ غِنَى بِي عَنْ بَرَكَتِكَ. (1)
فَقَدْ قَصَّ عَلَيْنَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ دُونَ نَكِيرٍ، فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى الْجَوَازِ؛ لأَِنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا إِذَا لَمْ يَرِدْ فِي شَرْعِنَا مَا يُخَالِفُهُ.
وَسُئِل الإِْمَامُ مَالِكٌ عَنِ الْغُسْل فِي الْفَضَاءِ، فَقَال: لاَ بَأْسَ بِهِ، فَقِيل: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ إِنَّ فِيهِ حَدِيثًا، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ، وَقَال تَعَجُّبًا: لاَ يَغْتَسِل الرَّجُل فِي الْفَضَاءِ؟ ! ، وَجْهُ إِجَازَةِ مَالِكٍ لِلرَّجُل أَنْ يَغْتَسِل فِي الْفَضَاءِ إِذَا أَمِنَ أَنْ يَمُرَّ بِهِ أَحَدٌ، وَأَنَّ الشَّرْعَ إِنَّمَا قَرَّرَ وُجُوبَ سَتْرِ الْعَوْرَةِ عَنِ الْمَخْلُوقِينَ مِنْ بَنِي آدَمَ دُونَ سِوَاهُمْ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ، إِذْ لاَ يُفَارِقُهُ الْحَفَظَةُ الْمُوَكَّلُونَ بِهِ فِي حَالٍ مِنَ الأَْحْوَال، قَال تَعَالَى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} . (2) وَقَال تَعَالَى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} (3) : وَلِهَذَا قَال مَالِكٌ تَعَجُّبًا: لاَ يَغْتَسِل الرَّجُل فِي الْفَضَاءِ، إِذْ لاَ فَرْقَ فِي حَقِّ الْمَلاَئِكَةِ بَيْنَ الْفَضَاءِ وَغَيْرِهِ (4) .
وَلَكِنْ هَذَا جَوَازٌ مَقْرُونٌ بِالْكَرَاهَةِ التَّنْزِيهِيَّةِ، وَلِذَلِكَ يَنْدُبُ لَهُ الاِسْتِتَارُ (5) . لِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا، وَوَصَلَهُ غَيْرُهُ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ، عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: احْفَظْ عَوْرَتَكَ إِلاَّ مِنْ زَوْجَتِكَ أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ. قُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ فَإِنْ
__________
(1) فتح الباري 1 / 307
(2) سورة ق 18.
(3) سورة الانفطار / 10، 11، 12
(4) حاشية الرهوني 1 / 226
(5) فتح الباري 1 / 386، ونيل الأوطار 1 / 253 ط المطبعة العثمانية 1357، ومغني المحتاج 1 / 75، وشرح الرهوني 1 / 226 ط 1 بولاق 1306، والمغني 1 / 231، والطحاوي على مراقي الفلاح ص 57(3/180)
كَانَ أَحَدُنَا خَالِيًا؟ قَال: فَاَللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ مِنَ النَّاسِ (1) .
وَذَهَبَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى إِلَى وُجُوبِ الاِسْتِتَارِ حِينَ الْغُسْل، وَلَوْ كَانَ فِي خَلْوَةٍ (2) .
مُسْتَدِلًّا بِالْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلاً يَغْتَسِل بِالْبِرَازِ - أَيْ بِالْخَلاَءِ - فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَال: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَل حَلِيمٌ حَيِيٌّ سِتِّيرٌ، يُحِبُّ الْحَيَاءَ وَالسَّتْرَ فَإِذَا اغْتَسَل أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَتِرْ. (3)
اسْتِتَارُ الْمَرْأَةِ الْمُتَزَيِّنَةِ:
11 - يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ الاِسْتِتَارُ عَنْ غَيْرِ الزَّوْجِ وَالْمَحَارِمِ، بِسَتْرِ عَوْرَتِهَا وَعَدَمِ إِبْدَاءِ زِينَتِهَا (4) ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَِزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ} . (5) وَفِيمَا يَجِبُ سَتْرُهُ عَنِ الْمَحَارِمِ وَغَيْرِهِمْ، وَفِي سَتْرِ الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ مَوْطِنُهُ مُصْطَلَحُ: (تَزَيُّن) (وَعَوْرَةٌ) .
الاِسْتِتَارُ مِنْ عَمَل الْفَاحِشَةِ:
12 - مَنِ ابْتُلِيَ بِمَعْصِيَةٍ، كَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالزِّنَا، فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَتِرَ بِذَلِكَ، وَلاَ يُجَاهِرَ بِفِعْلِهِ السَّيِّئِ، كَمَا يَنْبَغِي لِمَنْ عَلِمَ بِفَاحِشَتِهِ أَنْ يَسْتُرَ عَلَيْهِ
__________
(1) تحفة المحتاج بشرح المنهاج 1 / 297، والحديث تقدم تخريجه في فقرة (4)
(2) فتح الباري 1 / 306، ونيل الأوطار 1 / 253
(3) أخرجه أبو داود في الحمام، والنسائي في الاغتسال باب الاستتار عند الاغتسال.
(4) تفسير الطبري 18 / 118، 119، وتفسير القرطبي 12 / 228
(5) سورة الأحزاب / 59(3/181)
وَيَنْصَحَهُ، وَيَمْنَعَهُ عَنِ الْمُنْكَرِ بِالْوَسِيلَةِ الَّتِي يَسْتَطِيعُهَا.
13 - وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَرْءَ إِذَا وَقَعَ مِنْهُ مَا يُعَابُ عَلَيْهِ يُنْدَبُ لَهُ السَّتْرُ عَلَى نَفْسِهِ، فَلاَ يُعْلِمُ أَحَدًا، حَتَّى الْقَاضِيَ، بِفَاحِشَتِهِ لإِِقَامَةِ الْحَدِّ أَوِ التَّعْزِيرِ عَلَيْهِ (1) ، لِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: كُل أُمَّتِي مُعَافًى إِلاَّ الْمُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنَ الْمُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَل الرَّجُل بِاللَّيْل عَمَلاً، ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى، فَيَقُول: يَا فُلاَنُ عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سَتْرَ اللَّهِ عَنْهُ. (2)
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَصَابَ مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ شَيْئًا فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ مَنْ يُبْدِي لَنَا مِنْ صَفْحَتِهِ نُقِمْ عَلَيْهِ كِتَابَ اللَّهِ. (3) وَقَال أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: لَوْ أَخَذْتُ شَارِبًا لأََحْبَبْتُ أَنْ يَسْتُرَهُ اللَّهُ، وَلَوْ أَخَذْتُ سَارِقًا لأََحْبَبْتُ أَنْ يَسْتُرَهُ اللَّهُ (4) ، وَأَنَّ الصَّحَابَةَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَلِيًّا وَعَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ وَأَبَا هُرَيْرَةَ وَأَبَا الدَّرْدَاءِ وَالْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ وَغَيْرَهُمْ (5) ، قَدْ أُثِرَ عَنْهُمُ السَّتْرُ عَلَى مُعْتَرِفٍ بِالْمَعْصِيَةِ، أَوْ تَلْقِينِهِ الرُّجُوعَ مِنْ إِقْرَارِهِ بِهَا، سَتْرًا عَلَيْهِ، وَسَتْرُ مُعْتَرِفِ الْمَعْصِيَةِ عَلَى نَفْسِهِ أَوْلَى مِنْ سَتْرِ غَيْرِهِ عَلَيْهِ.
وَالْجَهْرُ بِالْمَعْصِيَةِ عَنْ جَهْلٍ، لَيْسَ كَالْجَهْرِ بِالْمَعْصِيَةِ تَبَجُّحًا. قَال ابْنُ حَجَرٍ: فَإِنَّ مَنْ قَصَدَ
__________
(1) فتح الباري 1 / 399، والفروع 3 / 264، ومنتهى الإرادات 2 / 460، ومغني المحتاج 4 / 150، وحاشية ابن عابدين 5 / 140
(2) فتح الباري 10 / 399
(3) أخرجه الحاكم والبيهقي، ومالك في الموطأ باب الحدود.
(4) مخطوط مصنف ابن أبي شيبة 2 / 132
(5) مخطوط مصنف ابن أبي شيبة 2 / 123 و130(3/181)
إِظْهَارَ الْمَعْصِيَةِ وَالْمُجَاهَرَةَ بِهَا أَغْضَبَ رَبَّهُ (1) . وَقَال الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ: وَأَمَّا التَّحَدُّثُ بِهَا تَفَكُّهًا فَحَرَامٌ قَطْعًا (2) .
أَثَرُ الاِسْتِتَارِ بِالْمَعْصِيَةِ:
14 - يَتَرَتَّبُ عَلَى الاِسْتِتَارِ بِالْمَعْصِيَةِ:
أ - عَدَمُ إِقَامَةِ الْعُقُوبَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ؛ لأَِنَّ الْعُقُوبَاتِ لاَ تَجِبُ إِلاَّ بَعْدَ إِثْبَاتِهَا. (ر: إِثْبَات) فَإِذَا اسْتَتَرَ بِهَا وَلَمْ يُعْلِنْهَا وَلَمْ يُقِرَّ بِهَا وَلَمْ يَنَلْهُ أَيُّ طَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ الإِْثْبَاتِ، فَلاَ عُقُوبَةَ.
ب - عَدَمُ شُيُوعِ الْفَاحِشَةِ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ وَاَللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} . (3)
ج - مَنِ ارْتَكَبَ مَعْصِيَةً فَاسْتَتَرَ بِهَا فَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى أَنْ يَتُوبَ مِنْهَا، فَإِنْ تَابَ سَقَطَتْ عَنْهُ الْمُؤَاخَذَةُ، فَإِنْ كَانَتِ الْمَعْصِيَةُ تَتَعَلَّقُ بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ التَّوْبَةَ تُسْقِطُ الْمُؤَاخَذَةَ؛ لأَِنَّ اللَّهَ أَكْرَمُ الأَْكْرَمِينَ، وَرَحْمَتُهُ سَبَقَتْ غَضَبَهُ، فَلِذَلِكَ إِذَا سَتَرَهُ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَفْضَحْهُ فِي الآْخِرَةِ. وَإِنْ كَانَتْ تَتَعَلَّقُ بِحَقٍّ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ، كَقَتْلٍ وَقَذْفٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّ مِنْ شُرُوطِ التَّوْبَةِ فِيهَا أَدَاءَ هَذِهِ الْحُقُوقِ لأَِصْحَابِهَا، أَوْ عَفْوَ أَصْحَابِهَا عَنْهَا، وَلِذَلِكَ وَجَبَ عَلَى مَنِ اسْتَتَرَ بِالْمَعْصِيَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِحَقِّ آدَمِيٍّ أَنْ يُؤَدِّيَ هَذَا الْحَقَّ لِصَاحِبِهِ (4) . (ر: التَّوْبَة)
__________
(1) فتح الباري 10 / 400
(2) مغني المحتاج 4 / 150
(3) فتح الباري 10 / 400، والآية من سورة النور / 19
(4) مغني المحتاج 4 / 150، وابن عابدين 5 / 140، وكفاية الطالب 2 / 255، والشرواني 4 / 434 - 435 ط 2 مصطفى البابي الحلبي سنة 1963 هـ.(3/182)
اسْتِثْمَارٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِسْتِثْمَارُ فِي اللُّغَةِ: مِنْ (ثَمَرَ) ، وَثَمَرَ الشَّيْءُ: إِذَا تَوَلَّدَ مِنْهُ شَيْءٌ آخَرُ (1) ، وَثَمَّرَ الرَّجُل مَالَهُ: أَحْسَنَ الْقِيَامَ عَلَيْهِ وَنَمَّاهُ، وَثَمَرُ الشَّيْءِ: هُوَ مَا يَتَوَلَّدُ مِنْهُ، وَعَلَى هَذَا فَإِنَّ الاِسْتِثْمَارَ هُوَ: طَلَبُ الْحُصُول عَلَى الثَّمَرَةِ. وَالْفُقَهَاءُ يَسْتَعْمِلُونَ هَذَا اللَّفْظَ بِهَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الاِنْتِفَاعُ:
2 - الاِنْتِفَاعُ هُوَ الْحُصُول عَلَى الْمَنْفَعَةِ، فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الاِسْتِثْمَارِ، أَنَّ الاِنْتِفَاعَ أَعَمُّ مِنَ الاِسْتِثْمَارِ؛ لأَِنَّ الاِنْتِفَاعَ قَدْ يَكُونُ بِالاِسْتِثْمَارِ، وَقَدْ لاَ يَكُونُ.
ب - الاِسْتِغْلاَل:
3 - الاِسْتِغْلاَل طَلَبُ الْغَلَّةِ، وَالْغَلَّةُ هِيَ: كُل عَيْنٍ حَاصِلَةٍ مِنْ رَيْعِ الْمِلْكِ، وَهَذَا هُوَ عَيْنُ الاِسْتِثْمَارِ، فَمَا تُخْرِجُهُ الأَْرْضُ هُوَ ثَمَرَةٌ، وَهُوَ غَلَّةٌ، وَهُوَ رِيعٌ.
وَلِلْحَنَفِيَّةِ تَفْرِقَةٌ خَاصَّةٌ بَيْنَ الثَّمَرَةِ وَالْغَلَّةِ فِي بَابِ الْوَصِيَّةِ، فَإِذَا أَوْصَى بِثَمَرَةِ بُسْتَانِهِ انْصَرَفَ إِلَى
__________
(1) مقاييس اللغة، ولسان العرب، والمصباح.(3/182)
الْمَوْجُودِ خَاصَّةً، وَإِذَا أَوْصَى بِغَلَّتِهِ شَمِل الْمَوْجُودَ وَمَا هُوَ بِعَرْضِ الْوُجُودِ (1) .
صِفَتُهُ (الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ) :
4 - الأَْصْل اسْتِحْبَابُ اسْتِثْمَارِ الأَْمْوَال الْقَابِلَةِ لِذَلِكَ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ وُجُوهِ النَّفْعِ (2) .
أَرْكَانُ الاِسْتِثْمَارِ:
كُل اسْتِثْمَارٍ لاَ يَخْلُو مِنْ رُكْنَيْنِ اثْنَيْنِ: الْمُسْتَثْمِرُ (بِكَسْرِ الْمِيمِ) ، وَالْمُسْتَثْمَرُ (بِفَتْحِ الْمِيمِ) .
أَوَّلاً: الْمُسْتَثْمِرُ (بِكَسْرِ الْمِيمِ) :
5 - الأَْصْل أَنْ يَتِمَّ اسْتِثْمَارُ الْمَال مِنْ قِبَل مَالِكِهِ، وَلَكِنْ قَدْ يَحْدُثُ مَا يَجْعَل الْغَيْرَ يَقُومُ بِهَذَا الاِسْتِثْمَارِ عَنِ الْمَالِكِ، وَهَذَا عَلَى صُورَتَيْنِ:
أ - الاِسْتِثْمَارُ بِالإِْنَابَةِ:
وَالإِْنَابَةُ قَدْ تَكُونُ مِنَ الْمَالِكِ كَالْوَكَالَةِ، أَوْ مِنَ الشَّارِعِ كَالْقَيِّمِ.
ب - الاِسْتِثْمَارُ بِالتَّعَدِّي:
وَقَدْ يَقْدَمُ عَلَى اسْتِثْمَارِ الْمَال أَجْنَبِيٌّ بِغَيْرِ إِذْنِ صَاحِبِ الْمَال، وَبِغَيْرِ إِعْطَاءِ الشَّرْعِ هَذَا الْحَقَّ لَهُ، وَعِنْدَئِذٍ يُعْتَبَرُ غَاصِبًا (ر: غَصْب) (3) .
__________
(1) أساس البلاغة، والمغرب، والمصباح المنير، مادة (غل) ، وحاشية القليوبي 3 / 171، والهداية بشرح فتح القدير 8 / 484 ط بولاق، وحاشية ابن عابدين 5 / 444 ط بولاق، وانظر المغرب مادة (ريع) .
(2) القليوبي 4 / 95
(3) الخراج ليحيى بن آدم ص 95(3/183)
ثَانِيًا: الْمَال الْمُسْتَثْمَرُ:
6 - لِكَيْ يَكُونَ الاِسْتِثْمَارُ حَلاَلاً يُشْتَرَطُ فِي الْمَال الْمُسْتَثْمَرِ أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا، مِلْكًا مَشْرُوعًا لِلْمُسْتَثْمِرِ (بِكَسْرِ الْمِيمِ) ، أَوْ لِمَنْ كَانَ الْمُسْتَثْمِرُ نَائِبًا عَنْهُ نِيَابَةً شَرْعِيَّةً أَوْ تَعَاقُدِيَّةً، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ يَحِل اسْتِثْمَارُهُ، كَالْمَال الْمَغْصُوبِ أَوِ الْمَسْرُوقِ.
وَكَذَلِكَ لاَ يَحِل اسْتِثْمَارُ الْوَدِيعَةِ؛ لأَِنَّ يَدَ الْوَدِيعِ يَدُ حِفْظٍ.
مِلْكُ الثَّمَرَةِ:
7 - إِذَا كَانَ الاِسْتِثْمَارُ مَشْرُوعًا، كَانَتِ الثَّمَرَةُ مِلْكًا لِلْمَالِكِ، أَمَّا إِذَا كَانَ الاِسْتِثْمَارُ غَيْرَ مَشْرُوعٍ، كَمَنْ غَصَبَ أَرْضًا وَاسْتَغَلَّهَا، فَإِنَّ الثَّمَرَةَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَمْلِكُهَا الْغَاصِبُ مِلْكًا خَبِيثًا، وَيُؤْمَرُ بِالتَّصَدُّقِ بِهَا. وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى: أَنَّ الْغَلَّةَ لِلْمَالِكِ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِهَا (1) .
طُرُقُ الاِسْتِثْمَارِ:
8 - يَجُوزُ اسْتِثْمَارُ الأَْمْوَال بِأَيِّ طَرِيقٍ مَشْرُوعٍ (2) .
__________
(1) ابن عابدين 5 / 120، والشرح الصغير 3 / 595، والقليوبي 3 / 33، والمغني 5 / 275.
(2) ابن عابدين 2 / 44، 45، وجواهر الإكليل 1 / 136، 137، و 2 / 120، وحاشية قليوبي 3 / 94، والمغني 5 / 521، وتكملة فتح القدير 8 / 32، 45.(3/183)
اسْتِثْنَاءٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِسْتِثْنَاءُ لُغَةً: مَصْدَرُ اسْتَثْنَى، تَقُول: اسْتَثْنَيْتُ الشَّيْءَ مِنَ الشَّيْءِ إِذَا أَخْرَجْتَهُ، وَيُقَال: حَلَفَ فُلاَنٌ يَمِينًا لَيْسَ فِيهَا ثُنْيَا، وَلاَ مَثْنَوِيَّةً، وَلاَ اسْتِثْنَاءَ، كُلُّهُ وَاحِدٌ (1) .
وَذَكَرَ الشِّهَابُ الْخَفَاجِيُّ أَنَّ الاِسْتِثْنَاءَ فِي اللُّغَةِ وَالاِسْتِعْمَال يُطْلَقُ عَلَى: التَّقْيِيدِ بِالشَّرْطِ (2) ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {وَلاَ يَسْتَثْنُونَ} (3) أَيْ لاَ يَقُولُونَ: " إِنْ شَاءَ اللَّهُ ".
وَالاِسْتِثْنَاءُ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ وَالأُْصُولِيِّينَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَفْظِيًّا أَوْ مَعْنَوِيًّا أَوْ حُكْمِيًّا، فَالاِسْتِثْنَاءُ اللَّفْظِيُّ هُوَ: الإِْخْرَاجُ مِنْ مُتَعَدِّدٍ بِإِلاَّ، أَوْ إِحْدَى أَخَوَاتِهَا (4) ، وَيَلْحَقُ بِهِ فِي الْحُكْمِ الإِْخْرَاجُ بِأَسْتَثْنِي وَأُخْرِجُ وَنَحْوِهِمَا عَلَى لَفْظِ الْمُضَارِعِ، وَعَرَّفَهُ السُّبْكِيُّ بِأَنَّهُ: الإِْخْرَاجُ بِإِلاَّ أَوْ إِحْدَى أَخَوَاتِهَا مِنْ مُتَكَلِّمٍ وَاحِدٍ (5) .
وَعَرَّفَهُ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ الْحَنَفِيُّ بِأَنَّهُ: الْمَنْعُ مِنْ دُخُول بَعْضِ مَا تَنَاوَلَهُ صَدْرُ الْكَلاَمِ فِي حُكْمِهِ بِإِلاَّ أَوْ إِحْدَى أَخَوَاتِهَا، فَعَرَّفَهُ بِالْمَنْعِ، وَلَمْ يُعَرِّفْهُ بِالإِْخْرَاجِ؛
__________
(1) لسان العرب - ثنى
(2) حاشية ابن عابدين 2 / 509
(3) سورة القلم / 18
(4) روضة الناظر ص 132 ط السلفية 1385 هـ
(5) جمع الجوامع وحاشية البناني 2 / 9(3/184)
لأَِنَّ الاِسْتِثْنَاءَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لاَ إِخْرَاجَ بِهِ، إِذْ لَمْ يَدْخُل الْمُسْتَثْنَى فِي الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ أَصْلاً حَتَّى يَكُونَ مُخْرَجًا. فَالاِسْتِثْنَاءُ لِمَنْعِهِ مِنَ الدُّخُول (1) ، وَالْفُقَهَاءُ يَسْتَعْمِلُونَ الاِسْتِثْنَاءَ أَيْضًا بِمَعْنَى قَوْل: " إِنْ شَاءَ اللَّهُ " فِي كَلاَمٍ إِنْشَائِيٍّ أَوْ خَبَرِيٍّ (2) .
وَهَذَا النَّوْعُ لَيْسَ اسْتِثْنَاءً حَقِيقِيًّا بَل هُوَ مِنْ مُتَعَارَفِ النَّاسِ. فَإِنْ كَانَ بِإِلاَّ وَنَحْوِهَا فَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ حَقِيقِيٌّ، أَوِ " اسْتِثْنَاءٌ وَضْعِيٌّ (3) "، كَأَنْ يَقُول: لاَ أَفْعَل كَذَا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ، أَوْ: لأََفْعَلَنَّ كَذَا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ، وَمِنَ الْعُرْفِيِّ قَوْل النَّاسِ: إِنْ يَسَّرَ اللَّهُ، أَوْ إِنْ أَعَانَ اللَّهُ، أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ.
وَإِنَّمَا سُمِّيَ هَذَا التَّعْلِيقُ - وَلَوْ كَانَ بِغَيْرِ إِلاَّ - اسْتِثْنَاءً لِشِبْهِهِ بِالاِسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِل فِي صَرْفِهِ الْكَلاَمَ السَّابِقَ لَهُ عَنْ ظَاهِرِهِ (4) .
وَالاِسْتِثْنَاءُ الْمَعْنَوِيُّ هُوَ: الإِْخْرَاجُ مِنَ الْجُمْلَةِ بِغَيْرِ أَدَاةِ اسْتِثْنَاءٍ، كَقَوْل الْمُقِرِّ: " لَهُ الدَّارُ، وَهَذَا الْبَيْتُ مِنْهَا لِي ". وَإِنَّمَا أَعْطَوْهُ حُكْمَ الاِسْتِثْنَاءِ؛ لأَِنَّهُ فِي قُوَّةِ قَوْلِهِ: " لَهُ جَمِيعُ الدَّارِ إِلاَّ هَذَا الْبَيْتِ (5) ".
وَالاِسْتِثْنَاءُ الْحُكْمِيُّ يُقْصَدُ بِهِ أَنْ يُرِدَ التَّصَرُّفَ مَثَلاً عَلَى عَيْنٍ فِيهَا حَقٌّ لِلْغَيْرِ، كَبَيْعِ الدَّارِ الْمُؤَجَّرَةِ، فَإِنَّ الإِْجَارَةَ لاَ تَنْقَطِعُ بِذَلِكَ، وَالْبَيْعُ صَحِيحٌ، فَكَأَنَّ الْبَيْعَ وَرَدَ عَلَى الْعَيْنِ بِاسْتِثْنَاءِ مَنْفَعَتِهَا مُدَّةَ الإِْجَارَةِ.
وَهَذَا الإِْطْلاَقُ قَلِيلٌ فِي مُتَعَارَفِ الْفُقَهَاءِ وَالأُْصُولِيِّينَ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الأَْشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ لِلسُّيُوطِيِّ
__________
(1) التوضيح ومعه التلويح على التوضيح 2 / 20 صببح.
(2) المغني 7 / 351
(3) حاشية ابن عابدين 2 / 514
(4) المغني 5 / 155 ط الرياض
(5) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 411(3/184)
وَالْقَوَاعِدِ لاِبْنِ رَجَبٍ (1) ، إِلاَّ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ لاَ يَدْخُل فِي مَفْهُومِ الاِسْتِثْنَاءِ الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهِ، وَلِذَا فَلاَ تَنْطَبِقُ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الاِسْتِثْنَاءِ فِيمَا يَلِي مِنْ هَذَا الْبَحْثِ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّخْصِيصُ:
2 - التَّخْصِيصُ: قَصْرُ الْعَامِّ عَلَى بَعْضِ أَفْرَادِهِ (2) ، فَهُوَ يُبَيِّنُ كَوْنَ اللَّفْظِ قَاصِرًا عَنِ الْبَعْضِ. وَقَال الْغَزَالِيُّ: إِنَّ الاِسْتِثْنَاءَ يُفَارِقُ التَّخْصِيصَ فِي أَنَّ الاِسْتِثْنَاءَ يُشْتَرَطُ اتِّصَالُهُ، وَأَنَّهُ يَتَطَرَّقُ إِلَى الظَّاهِرِ وَالنَّصِّ (3) جَمِيعًا، إِذْ يَجُوزُ أَنْ يَقُول: لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلاَّ ثَلاَثَةً، كَمَا يَقُول: اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ إِلاَّ زَيْدًا، وَالتَّخْصِيصُ لاَ يَتَطَرَّقُ إِلَى النَّصِّ أَصْلاً، وَمِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا أَيْضًا أَنَّ الاِسْتِثْنَاءَ لاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ بِقَوْلٍ، وَيَكُونُ التَّخْصِيصُ بِقَوْلٍ أَوْ قَرِينَةٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ دَلِيلٍ عَقْلِيٍّ (4) .
هَذَا وَإِنَّ الْفَرْقَ الأَْوَّل الَّذِي ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ مِنِ اشْتِرَاطِ الاِتِّصَال فِي الاِسْتِثْنَاءِ، وَعَدَمِ اشْتِرَاطِهِ فِي التَّخْصِيصِ، لاَ يَجْرِي عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، لِقَوْلِهِمْ بِوُجُوبِ اتِّصَال الْمُخَصِّصَاتِ أَيْضًا.
ب - النَّسْخُ:
3 - النَّسْخُ: رَفْعُ الشَّارِعِ حُكْمًا مِنْ أَحْكَامِهِ بِدَلِيلٍ لاَحِقٍ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الاِسْتِثْنَاءِ: أَنَّ النَّسْخَ
__________
(1) القواعد لابن رجب ص 41، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 288
(2) شرح جمع الجوامع 2 / 3
(3) المستصفى 2 / 164
(4) كشاف اصطلاحات الفنون 1 / 183(3/185)
رَفْعٌ لِمَا دَخَل تَحْتَ اللَّفْظِ، وَالاِسْتِثْنَاءُ يَدْخُل عَلَى الْكَلاَمِ فَيَمْنَعُ أَنْ يَدْخُل تَحْتَ اللَّفْظِ مَا كَانَ يَدْخُل لَوْلاَهُ، فَالنَّسْخُ قَطْعٌ وَرَفْعٌ، وَالاِسْتِثْنَاءُ مَنْعٌ أَوْ إِخْرَاجٌ، وَأَنَّ الاِسْتِثْنَاءَ مُتَّصِلٌ، وَالنَّسْخَ لاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُنْفَصِلاً (1) .
ج - الشَّرْطُ:
4 - يُشْبِهُ الاِسْتِثْنَاءُ بِإِلاَّ وَأَخَوَاتِهَا الشَّرْطَ (التَّعْلِيقَ) ، لاِشْتِرَاكِهِمَا فِي مَنْعِ الْكَلاَمِ مِنْ إِثْبَاتِ مُوجِبِهِ، وَيَفْتَرِقَانِ فِي أَنَّ الشَّرْطَ يَمْنَعُ الْكُل، وَالاِسْتِثْنَاءَ يَمْنَعُ الْبَعْضَ.
وَيُشَابِهُ الاِسْتِثْنَاءُ بِالْمَشِيئَةِ الشَّرْطَ، لاِشْتِرَاكِهِمَا فِي مَنْعِ الْكُل وَذِكْرِ أَدَاةِ التَّعْلِيقِ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ عَلَى طَرِيقِهِ؛ لأَِنَّهُ مَنْعٌ لاَ إِلَى غَايَةٍ، وَالشَّرْطُ مَنْعٌ إِلَى غَايَةِ تَحَقُّقِهِ، كَمَا فِي قَوْلِكَ: أَكْرِمْ بَنِي تَمِيمٍ إِنْ دَخَلُوا دَارِي. وَمِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ لاَ يَدْخُل الاِسْتِثْنَاءُ بِالْمَشِيئَةِ فِي بَحْثِ التَّعْلِيقِ وَالشَّرْطِ. وَلاَ يُورِدُهُ الْفُقَهَاءُ فِي مَبَاحِثِ تَعْلِيقِ الطَّلاَقِ، وَإِنَّمَا فِي بَابِ الاِسْتِثْنَاءِ، لِمُشَارَكَتِهِ لَهُ فِي الاِسْمِ (2) .
5 - الْقَاعِدَةُ الأَْصِيلَةُ فِي الاِسْتِثْنَاءِ:
الاِسْتِثْنَاءُ مِنَ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ، وَالاِسْتِثْنَاءُ مِنَ الإِْثْبَاتِ نَفْيٌ، فَنَحْوُ: مَا قَامَ أَحَدٌ إِلاَّ زَيْدًا، يَدُل عَلَى إِثْبَاتِ الْقِيَامِ لِزَيْدٍ، وَنَحْوُ: قَامَ الْقَوْمُ إِلاَّ زَيْدًا، يَدُل عَلَى نَفْيِ الْقِيَامِ عَنْهُ،
وَفِي هَذَا خِلاَفُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ.
فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَقَدْ قِيل: خِلاَفُهُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ. وَقِيل: بَل فِي الثَّانِيَةِ فَقَطْ، فَقَدْ قَال: إِنَّ
__________
(1) المستصفى 2 / 164، وروضة الناظر ص 132
(2) ابن عابدين 2 / 509، وشرح فتح القدير 3 / 143 بولاق(3/185)
الْمُسْتَثْنَى مِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ مَسْكُوتٌ عَنْهُ غَيْرُ مَحْكُومٍ عَلَيْهِ، فَزَيْدٌ فِي الْمِثَال الْمُتَقَدِّمِ غَيْرُ مَحْكُومٍ بِقِيَامِهِ وَلاَ بِعَدَمِهِ.
وَحَاصِل الْخِلاَفِ فِي نَحْوِ: قَامَ الْقَوْمُ إِلاَّ زَيْدًا، أَنَّ الْجُمْهُورَ يَقُولُونَ: إِنَّ زَيْدًا بِالاِسْتِثْنَاءِ دَخَل فِي عَدَمِ الْقِيَامِ. وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ انْتَقَل إِلَى عَدَمِ الْحُكْمِ. وَعِنْدَ الْفَرِيقَيْنِ هُوَ مُخْرَجٌ مِنَ الْكَلاَمِ الأَْوَّل (1) .
وَأَمَّا مَالِكٌ فَيُوَافِقُ الْجُمْهُورَ عَلَى أَنَّ الاِسْتِثْنَاءَ مِنَ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ فِي غَيْرِ الأَْيْمَانِ، أَمَّا فِي الأَْيْمَانِ فَلَيْسَ الاِسْتِثْنَاءُ إِثْبَاتًا.
فَمَنْ حَلَفَ: لاَ يَلْبَسُ الْيَوْمَ ثَوْبًا إِلاَّ الْكَتَّانَ، يَحْنَثُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ إِذَا قَعَدَ ذَلِكَ الْيَوْمَ عَارِيًّا فَلَمْ يَلْبَسْ شَيْئًا؛ لأَِنَّهُ لَمَّا كَانَ النَّفْيُ إِثْبَاتًا فَقَدْ حَلَفَ أَنْ يَلْبَسَ الْكَتَّانَ، فَإِذَا لَمْ يَلْبَسْهُ وَقَعَدَ عَارِيًّا حَنِثَ.
أَمَّا عِنْدَ مَالِكٍ فَلاَ يَحْنَثُ، وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَوَجَّهَ الْقَرَافِيُّ ذَلِكَ بِأَنَّ (إِلاَّ) فِي هَذَا الْمِثَال وَنَحْوِهَا صِفَةٌ، فَهِيَ بِمَعْنَى غَيْرُ، فَيَكُونُ قَدْ حَلَفَ عَلَى أَلاَّ يَلْبَسَ ثِيَابًا مُغَايِرَةً لِلْكَتَّانِ.
وَوَجَّهَهُ أَيْضًا بِأَنَّ مَعْنَى الْكَلاَمِ: أَنَّ جَمِيعَ الثِّيَابِ مَحْلُوفٌ عَلَيْهَا غَيْرَ الْكَتَّانِ (2) .
__________
(1) شرح جمع الجوامع وحاشية البناني 2 / 15، 16، وشرح مسلم الثبوت 1 / 326 وما بعدها.
(2) شرح جمع الجوامع وحاشية البناني 2 / 15، 16، والأشباه للسيوطي ص 288(3/186)
أَنْوَاعُ الاِسْتِثْنَاءِ:
6 - الاِسْتِثْنَاءُ إِمَّا مُتَّصِلٌ وَإِمَّا مُنْفَصِلٌ.
فَالاِسْتِثْنَاءُ الْمُتَّصِل: مَا كَانَ فِيهِ الْمُسْتَثْنَى بَعْضُ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ نَحْوُ جَاءَ الْقَوْمُ إِلاَّ زَيْدًا.
وَالاِسْتِثْنَاءُ الْمُنْقَطِعُ: (وَيُسَمَّى الْمُنْفَصِل أَيْضًا) مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ الْمُسْتَثْنَى بَعْضُ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، مِثْل قَوْله تَعَالَى: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ} (1) فَإِنَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ لَيْسَ عِلْمًا (2) .
وَيَتَبَيَّنُ مِنْ هَذَا أَنَّ الاِسْتِثْنَاءَ الْمُنْقَطِعَ لاَ إِخْرَاجَ بِهِ، وَلاَ يَكُونُ مِنَ الْمُخَصِّصَاتِ؛ لأَِنَّ الْمُسْتَثْنَى لَمْ يَدْخُل أَصْلاً. هَذَا وَلاَ بُدَّ لِلاِسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ مِنَ الْمُخَالَفَةِ بَيْنَ الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، فِيمَا يُتَوَهَّمُ فِيهِ الْمُوَافَقَةُ. وَالْفَائِدَةُ فِيهِ دَفْعُ هَذَا التَّوَهُّمِ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ شَبِيهٌ بِ (لَكِنَّ) ، فَإِنَّهُ لِلاِسْتِدْرَاكِ، أَيْ دَفْعِ التَّوَهُّمِ مِنَ السَّابِقِ. وَأَشْهَرُ صُوَرِ الْمُخَالَفَةِ: أَنْ يَنْفِيَ عَنِ الْمُسْتَثْنَى الْحُكْمَ الَّذِي ثَبَتَ لِلْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، نَحْوُ: جَاءَنِي الْمُدَرِّسُونَ إِلاَّ طَالِبًا، فَقَدْ نَفَيْنَا الْمَجِيءَ عَنِ الطَّالِبِ بَعْدَمَا أَثْبَتْنَاهُ لِلْمُدَرِّسِينَ.
وَلَمَّا كَانَ الاِسْتِثْنَاءُ الْمُنْقَطِعُ لاَ إِخْرَاجَ بِهِ، فَإِنَّهُ لاَ يَكُونُ اسْتِثْنَاءً حَقِيقَةً، بَل هُوَ مَجَازٌ (3) .
قَال الْمَحَلِّيُّ: هَذَا هُوَ الأَْصَحُّ، بِدَلِيل أَنَّهُ يَتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ الْمُتَّصِل دُونَ الْمُنْقَطِعِ.
وَعَلَى هَذَا جَاءَ حَدُّ الاِسْتِثْنَاءِ فِيمَا سَبَقَ، فَقَدْ عُرِّفَ بِمَا لاَ يَشْمَل
__________
(1) سورة النساء / 157
(2) في كشاف اصطلاحات الفنون أنه: ليس جميع أدوات الاستثناء تصلح في الاستثناء المنقطع، وإنما ذلك في " إلا " و " غير " و " بيد أن " خاصة.
(3) كشاف اصطلاحات الفنون 1 / 184، وشرح مسلم الثبوت 1 / 316 وانظر مصطلح (أيمان)(3/186)
الْمُنْقَطِعَ (1) وَفِي الْمَسْأَلَةِ أَقْوَالٌ أُخْرَى مَوْطِنُ تَفْصِيلِهَا كُتُبُ الأُْصُول.
صِيغَةُ الاِسْتِثْنَاءِ:
أ - أَلْفَاظُ الاِسْتِثْنَاءِ:
7 - يَذْكُرُ اللُّغَوِيُّونَ وَالأُْصُولِيُّونَ لِلاِسْتِثْنَاءِ الْحَقِيقِيِّ الأَْلْفَاظَ التَّالِيَةَ: إِلاَّ، وَغَيْرَ، وَسِوَى، وَخَلاَ، وَعَدَا، وَحَاشَا، وَبَيْدَ، وَلَيْسَ، وَلاَ يَكُونُ (2) .
ب - الاِسْتِثْنَاءُ بِالْمَشِيئَةِ وَنَحْوِهَا:
8 - شَرَعَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى هَذَا النَّوْعَ مِنَ الاِسْتِثْنَاءِ، فَقَدْ قَال لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} . (3)
قَال الْقُرْطُبِيُّ: عَاتَبَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى قَوْلِهِ لِلْكُفَّارِ حِينَ سَأَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ، وَالْفِتْيَةِ، وَذِي الْقَرْنَيْنِ: (ائْتُونِي غَدًا (4)) وَلَمْ يَسْتَثْنِ فِي ذَلِكَ. فَاحْتُبِسَ الْوَحْيُ عَنْهُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، حَتَّى شَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَأَرْجَفَ الْكُفَّارُ بِهِ، فَنَزَلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْكَهْفِ، وَأُمِرَ فِي هَذِهِ الآْيَةِ مِنْهَا: أَلاَّ يَقُول فِي أَمْرٍ مِنَ الأُْمُورِ: إِنِّي أَفْعَل غَدًا كَذَا وَكَذَا إِلاَّ أَنْ يُعَلِّقَ ذَلِكَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَل، حَتَّى لاَ يَكُونَ مُحَقِّقًا لِحُكْمِ الْخَبَرِ، فَإِنَّهُ إِذَا قَال: لأََفْعَلَنَّ ذَلِكَ وَلَمْ يَفْعَل كَانَ كَاذِبًا، وَإِذَا قَال لأََفْعَلَنَّ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ خَرَجَ عَنْ أَنْ يَكُونَ مُحَقِّقًا لِلْمُخْبَرِ عَنْهُ.
قَال الْقُرْطُبِيُّ: وَقَال ابْنُ عَطِيَّةَ: فِي الْكَلاَمِ
__________
(1) شرح جمع الجوامع وحاشية البناني 2 / 12
(2) روضة الناظر ص 132
(3) سورة الكهف / 23
(4) حديث السؤال عن ذي القرنين أخرجه ابن المنذر في تفسيره عن مجاهد مرسلا (الدر المنثور 4 / 217 ط الميمنية)(3/187)
حَذْفٌ، تَقْدِيرُهُ إِلاَّ أَنْ تَقُول: إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ. أَوْ: إِلاَّ أَنْ تَقُول: إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَقَال: وَالآْيَةُ لَيْسَتْ فِي الأَْيْمَانِ، وَإِنَّمَا هِيَ فِي سُنَّةِ الاِسْتِثْنَاءِ فِي غَيْرِ الْيَمِينِ (1) ، وَأَوْضَحَ كَذَلِكَ أَنَّ آخِرَ الآْيَةِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} . (2) يَدُل - عَلَى أَحَدِ الأَْقْوَال فِي تَفْسِيرِهَا - أَنَّهُ إِذَا نَسِيَ الاِسْتِثْنَاءَ بِالْمَشِيئَةِ يَقُولُهُ بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا تَذَكَّرَهُ.
فَعَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَال: مَا دَامَ فِي مَجْلِسِ الذِّكْرِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ: وَلَوْ بَعْدَ سَنَةٍ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: سَنَتَيْنِ. فَيُحْمَل عَلَى تَدَارُكِ التَّبَرُّكِ بِالاِسْتِثْنَاءِ.
فَأَمَّا الاِسْتِثْنَاءُ الْمُفِيدُ حُكْمًا - يَعْنِي فِي الْيَمِينِ وَنَحْوِهَا - فَلاَ يَصِحُّ إِلاَّ مُتَّصِلاً. هَذَا، وَإِنَّ الاِسْتِثْنَاءَ بِالْمَشِيئَةِ وَنَحْوِهَا يَدْخُل فِي كَلاَمِ النَّاسِ فِي الأَْخْبَارِ، وَالأَْيْمَانِ، وَالنُّذُورِ، وَالطَّلاَقِ، وَالْعَتَاقِ، وَالْوَعْدِ، وَالْعَقْدِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. ثُمَّ يَكُونُ لَهُ أَثَرُهُ فِي حِل الْيَمِينِ وَنَحْوِهَا.
اسْتِثْنَاءُ عَدَدَيْنِ بَيْنَهُمَا حَرْفُ الشَّكِّ:
9 - إِذَا قَال: لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إِلاَّ مِائَةَ دِرْهَمٍ أَوْ خَمْسِينَ دِرْهَمًا، فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الْحَاصِل عَلَى قَوْلَيْنِ:
الأَْوَّل: وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: يَلْزَمُهُ تِسْعُمِائَةٍ؛ وَوَجْهُهُ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الاِسْتِثْنَاءُ تَكَلُّمًا بِالْبَاقِي بَعْدَ الثُّنْيَا شَكَكْنَا فِي الْمُتَكَلِّمِ بِهِ، وَالأَْصْل عَدَمُ شَغْل الذِّمَمِ، فَثَبَتَ الأَْقَل.
وَالثَّانِي: وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ الاِسْتِثْنَاءَ " خُرُوجٌ بَعْدَ دُخُولٍ ".
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن، 10 / 385
(2) سورة الكهف / 23(3/187)
يَلْزَمُهُ تِسْعُمِائَةٍ وَخَمْسُونَ؛ فَإِنَّهُ لَمَّا دَخَل الأَْلْفُ صَارَ الشَّكُّ فِي الْمُخْرَجِ، فَيَخْرُجُ الأَْقَل (1) . وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي الإِْقْرَارِ وَالْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
الاِسْتِثْنَاءُ بَعْدَ جُمَلٍ مُتَعَاطِفَةٍ:
10 - إِذَا وَرَدَ الاِسْتِثْنَاءُ بِإِلاَّ وَنَحْوِهَا بَعْدَ جُمَلٍ مُتَعَاطِفَةٍ بِالْوَاوِ فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْفَخْرِ الرَّازِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِالْجُمْلَةِ الأَْخِيرَةِ فَقَطْ. وَعِنْدَ جُمْهُورِ الشَّافِعِيَّةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ يَعُودُ إِلَى الْكُل.
وَقَال الْبَاقِلاَّنِيُّ بِالتَّوَقُّفِ فِي عَوْدِهِ إِلَى مَا عَدَا الأَْخِيرَ.
وَقَال الْغَزَالِيُّ بِالتَّوَقُّفِ مُطْلَقًا.
وَقَال أَبُو الْحُسَيْنِ الْمُعْتَزِلِيُّ: إِنْ ظَهَرَ الإِْضْرَابُ عَنِ الأُْولَى، كَمَا لَوِ اخْتَلَفَ بِالإِْنْشَائِيَّةِ وَالْخَبَرِيَّةِ، أَوِ الأَْمْرِيَّةِ وَالنَّهْيِيَّةِ، أَوْ لَمْ يَكُنِ اشْتِرَاكٌ فِي الْغَرَضِ الْمَسُوقِ لَهُ الْكَلاَمُ، فَإِنَّهُ يَعُودُ لِلأَْخِيرَةِ فَقَطْ، وَإِلاَّ فَلِلْجَمِيعِ.
وَالنِّزَاعُ كَمَا تَرَى فِي الظُّهُورِ. وَلاَ تَتَأَتَّى دَعْوَى النُّصُوصِيَّةِ فِي وَاحِدٍ مِنَ الاِحْتِمَالاَتِ الْمَذْكُورَةِ. وَلَمْ يُنَازِعْ أَحَدٌ أَيْضًا فِي إِمْكَانِ عَوْدِ الاِسْتِثْنَاءِ إِلَى الأَْخِيرَةِ وَحْدَهَا، وَإِمْكَانِ عَوْدِهِ إِلَى الْكُل، فَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ فِي اللُّغَةِ، هَذَا إِذَا كَانَ الْعَطْفُ بِالْوَاوِ، أَمَّا إِذَا كَانَ الْعَطْفُ بِالْفَاءِ أَوْ ثُمَّ فَالْخِلاَفُ قَائِمٌ أَيْضًا، لَكِنْ ذَهَبَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ - كَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَالآْمِدِيِّ - إِلَى أَنَّهُ يَعُودُ حِينَئِذٍ إِلَى الأَْخِيرِ.
وَاحْتَجَّ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ حُكْمَ الْجُمْلَةِ الأُْولَى، ظَاهِرٌ فِي الثُّبُوتِ عُمُومًا، وَرَفْعُهُ عَنِ الْبَعْضِ بِالاِسْتِثْنَاءِ مَشْكُوكٌ فِيهِ لِجَوَازِ كَوْنِهِ لِلأَْخِيرَةِ فَقَطْ، فَلاَ يَرْفَعُ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 459(3/188)
حُكْمَ الأُْولَى؛ لأَِنَّ الظَّاهِرَ لاَ يُعَارِضُهُ الْمَشْكُوكُ. بِخِلاَفِ الأَْخِيرَةِ، فَإِنَّ حُكْمَهَا غَيْرُ ظَاهِرٍ؛ لأَِنَّ الرَّفْعَ ظَاهِرٌ فِيهَا فِيمَا لاَ صَارِفَ لَهُ، فَيَتَعَلَّقُ بِهَا.
وَاحْتَجُّوا ثَانِيًا بِأَنَّ الاِتِّصَال مِنْ شَرْطِ الاِسْتِثْنَاءِ، وَالاِتِّصَال ثَابِتٌ فِي الْجُمْلَةِ الأَْخِيرَةِ، أَمَّا فِيمَا قَبْلَهَا فَإِنَّهَا مُتَّصِلَةٌ بِالْعَطْفِ، إِلاَّ أَنَّ الاِتِّصَال بِالْعَطْفِ فَقَطْ ضَعِيفٌ، فَلاَ يُعْتَبَرُ إِلاَّ بِدَلِيلٍ آخَرَ مُوجِبٍ لاِعْتِبَارِ هَذَا الاِتِّصَال.
وَالشَّافِعِيَّةُ وَمَنْ مَعَهُمُ احْتَجُّوا بِالْقِيَاسِ عَلَى الشَّرْطِ، فَإِنَّهُ إِذَا تَعَقَّبَ جُمَلاً رَجَعَ إِلَيْهَا اتِّفَاقًا.
وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِأَنَّ الْعَطْفَ يَجْعَل الْمُتَعَدِّدَ كَالْمُفْرَدِ، فَالْمُتَعَلِّقُ بِالْوَاحِدِ هُوَ الْمُتَعَلِّقُ بِالْكُل. وَبِأَنَّ الْغَرَضَ مِنَ الاِسْتِثْنَاءِ قَدْ يَتَعَلَّقُ بِالْكُل، فَإِمَّا أَنْ يُكَرَّرَ الاِسْتِثْنَاءُ بَعْدَ كُل جُمْلَةٍ، وَإِمَّا أَنْ يُؤْتَى بِهِ بَعْدَ وَاحِدَةٍ فَقَطْ، أَوْ يُؤْتَى بِهِ بَعْدَ الْجَمِيعِ. فَالتَّكْرَارُ مُسْتَهْجَنٌ، فَبَطَل الأَْوَّل وَفِي الثَّانِي تَرْجِيحٌ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ، فَبَقِيَ الْوَجْهُ الثَّالِثُ، فَيَلْزَمُ الظُّهُورُ فِيهِ.
11 - وَمِمَّا اخْتُلِفَ فِيهِ بِنَاءً عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ قَوْل اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا} . (1) . . قَال الْحَنَفِيَّةُ: الَّذِينَ تَابُوا مِنَ الْقَاذِفِينَ لاَ تُقْبَل شَهَادَتُهُمْ، وَالاِسْتِثْنَاءُ عَائِدٌ عَلَى الْحُكْمِ بِفِسْقِهِمْ. وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ: تُقْبَل شَهَادَتُهُمْ؛ لأَِنَّ الاِسْتِثْنَاءَ يَعُودُ عَلَى الْجُمَل الثَّلاَثِ.
__________
(1) مسلم الثبوت وشرحه 1 / 332 - 338، وشرح جمع الجوامع 2 / 17 - 19، وروضة الناظر ص 135، والآية من سورة النور / 4(3/188)
أَمَّا الْجَلْدُ فَاتُّفِقَ عَلَى عَدَمِ سُقُوطِهِ بِالتَّوْبَةِ لأَِجْل الدَّلِيل الْمَانِعِ مِنْ تَعَلُّقِ الاِسْتِثْنَاءِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} (1) وَالْمَانِعُ هُوَ كَوْنُ الْجَلْدِ حَقًّا لِلآْدَمِيِّ، وَحَقُّ الآْدَمِيِّ لاَ يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ.
الاِسْتِثْنَاءُ بَعْدَ الْمُفْرَدَاتِ الْمُتَعَاطِفَةِ:
12 - إِنْ كَانَ الاِسْتِثْنَاءُ بَعْدَ مُفْرَدَاتٍ مُتَعَاطِفَةٍ فَالْخِلاَفُ فِيهِ كَالْخِلاَفِ فِي الْجُمَل، وَلَكِنْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ أَوْلَى بِعَوْدِهِ لِلْكُل مِنَ الْوَارِدِ بَعْدَ الْجُمَل الْمُتَعَاطِفَةِ، وَذَلِكَ لِعَدَمِ اسْتِقْلاَل الْمُفْرَدَاتِ. نَحْوُ: تَصَدَّقْ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيل إِلاَّ الْفَسَقَةَ مِنْهُمْ.
الاِسْتِثْنَاءُ الْعُرْفِيُّ بَعْدَ الْمُتَعَاطِفَاتِ:
13 - أَمَّا الاِسْتِثْنَاءُ الْعُرْفِيُّ بِإِنْ شَاءَ اللَّهُ وَنَحْوِهَا، فَإِنَّهُ إِذَا تَعَقَّبَ جُمَلاً نَحْوَ: وَاَللَّهِ لاَ آكُل وَلاَ أَشْرَبُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَيَتَعَلَّقُ بِالْجَمِيعِ اتِّفَاقًا. وَوَجْهُهُ أَنَّهُ شَرْطٌ وَلَيْسَ مِنْ حَقِيقَةِ الاِسْتِثْنَاءِ، وَالشَّرْطُ مُقَدَّمٌ تَقْدِيرًا؛ لأَِنَّ لَهُ صَدْرَ الْكَلاَمِ بِاتِّفَاقِ النُّحَاةِ، فَيَصِحُّ تَعَلُّقُهُ بِالأَْوَّل؛ لأَِنَّهُ مُقَارِنٌ لَهُ تَقْدِيرًا. بِخِلاَفِ الاِسْتِثْنَاءِ فَإِنَّهُ مُؤَخَّرٌ لَفْظًا أَوْ تَقْدِيرًا (2) .
الاِسْتِثْنَاءُ بَعْدَ الاِسْتِثْنَاءِ:
14 - هَذَا النَّوْعُ مِنَ الاِسْتِثْنَاءِ يَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ:
الأَْوَّل: الاِسْتِثْنَاءَاتُ الْمُتَعَدِّدَةُ الْمُتَعَاطِفَةُ نَحْوُ: لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلاَّ أَرْبَعَةً، وَإِلاَّ ثَلاَثَةً، وَإِلاَّ اثْنَيْنِ.
__________
(1) سورة النور / 4
(2) مسلم الثبوت وشرحه 1 / 332 - 338، وشرح جمع الجوامع 2 / 17 - 19، وروضة الناظر ص 135، والتمهيد للأسنوي 392 - 393(3/189)
وَحُكْمُهَا أَنْ تَعُودَ كُلُّهَا إِلَى الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ الْمَذْكُورُ قَبْلَهَا. فَيَلْزَمُهُ فِي الْمِثَال الْمَذْكُورِ وَاحِدٌ فَقَطْ.
الثَّانِي: الاِسْتِثْنَاءَاتُ الْمُتَوَالِيَةُ بِدُونِ عَاطِفٍ إِنْ لَمْ يَكُنْ أَحَدُهَا مُسْتَغْرِقًا لِمَا قَبْلَهُ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْهَا يَعُودُ إِلَى مَا قَبْلَهُ. فَلَوْ قَال: لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلاَّ سَبْعَةً، إِلاَّ خَمْسَةً إِلاَّ دِرْهَمَيْنِ، صَحَّ، وَكَانَ مُقِرًّا بِسِتَّةٍ، فَإِنَّ خَمْسَةَ إِلاَّ دِرْهَمَيْنِ عِبَارَةُ عَنْ ثَلاَثَةٍ اسْتَثْنَاهَا مِنْ سَبْعَةٍ بَقِيَ أَرْبَعَةٌ، اسْتَثْنَاهَا مِنْ عَشَرَةٍ بَقِيَ سِتَّةٌ (1) .
وَإِنْ كَانَ أَحَدُ الاِسْتِثْنَاءَاتِ مُسْتَغْرِقًا لِمَا قَبْلَهُ فَإِنَّهَا لاَ تَبْطُل، بَل تَعُودُ جَمِيعُهَا إِلَى الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ وَاخْتِلاَفٌ (2) .
شُرُوطُ الاِسْتِثْنَاءِ
15 - شُرُوطُ الاِسْتِثْنَاءِ عَامَّةٌ، مَا عَدَا شَرْطَ الاِسْتِغْرَاقِ، فَإِنَّهُ لاَ يَأْتِي فِي الاِسْتِثْنَاءِ بِالْمَشِيئَةِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ الرَّمْلِيُّ (3) ، وَسَيَأْتِي أَيْضًا أَنَّ شَرْطَ الْقَصْدِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ فِي الاِسْتِثْنَاءِ بِالْمَشِيئَةِ.
الشَّرْطُ الأَْوَّل:
16 - يُشْتَرَطُ فِي الاِسْتِثْنَاءِ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلاً بِالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، بِأَلاَّ يَكُونَ مَفْصُولاً بِمَا يُعَدُّ فِي الْعَادَةِ فَاصِلاً. فَلَوْ كَانَ مَفْصُولاً بِتَنَفُّسٍ أَوْ سُعَالٍ أَوْ نَحْوِهِمَا لَمْ يَمْنَعِ الاِتِّصَال، وَكَذَلِكَ إِنْ حَال بَيْنَ الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ كَلاَمٌ غَيْرُ أَجْنَبِيٍّ، وَمِنْهُ النِّدَاءُ؛ لأَِنَّهُ لِلتَّنْبِيهِ وَالتَّأْكِيدُ. أَمَّا إِنْ سَكَتَ سُكُوتًا يُمْكِنُهُ الْكَلاَمُ فِيهِ، أَوْ فَصَل بِكَلاَمٍ أَجْنَبِيٍّ، أَوْ عَدَل إِلَى شَيْءٍ آخَرَ اسْتَقَرَّ حُكْمُ الْمُسْتَثْنَى فَلَمْ يَرْتَفِعْ، بِخِلاَفِ مَا لاَ يُمْكِنُ، كَمَا لَوْ أَخَذَ آخِذٌ بِفَمِهِ فَمَنَعَهُ
__________
(1) شرح المحلي على جمع الجوامع 2 / 17، والمغني 5 / 147
(2) التمهيد ص 391
(3) نهاية المحتاج 6 / 455(3/189)
الْكَلاَمَ (1) . هَذَا هُوَ الْقَوْل الْمُقَدَّمُ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ، وَيُشْتَرَطُ لِتَحَقُّقِ الاِتِّصَال أَنْ يَنْوِيَ الاِسْتِثْنَاءَ فِي الْكَلاَمِ السَّابِقِ، فَلَوْ لَمْ يَنْوِ إِلاَّ بَعْدَ فَرَاغِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ لَمْ يَصِحَّ. وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: الْعُمْدَةُ مُجَرَّدُ الاِتِّصَال سَوَاءٌ نَوَى أَوَّل الْكَلاَمِ، أَوْ أَثْنَاءَهُ، أَوْ بَعْدَ فَرَاغِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ.
وَقَدْ نُقِل خِلاَفُ هَذَا عَنْ قَوْمٍ. فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَجُوزُ الاِسْتِثْنَاءُ إِلَى شَهْرٍ، وَقِيل أَبَدًا. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: إِلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَعَنْ عَطَاءٍ وَالْحَسَنِ: يَجُوزُ فِي الْمَجْلِسِ، وَأَوْمَأَ إِلَيْهِ أَحْمَدُ فِي الاِسْتِثْنَاءِ فِي الْيَمِينِ (2) ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ: إِلَى سَنَتَيْنِ. وَقِيل: مَا لَمْ يَأْخُذْ فِي كَلاَمٍ آخَرَ. وَقِيل:
إِنْ نَوَى الاِسْتِثْنَاءَ فِي أَثْنَاءِ الْكَلاَمِ جَازَ التَّأْخِيرُ بَعْدَهُ. وَنُسِبَ هَذَا الْقَوْل إِلَى الإِْمَامِ أَحْمَدَ.
وَقِيل: يَجُوزُ التَّأْخِيرُ فِي كَلاَمِ اللَّهِ تَعَالَى خَاصَّةً.
وَمَا وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا حَرَّمَ مَكَّةَ، وَقَال: لاَ يُخْتَلَى شَوْكُهَا، وَلاَ يُعْضَدُ شَجَرُهَا، قَال الْعَبَّاسُ: يَا رَسُول اللَّهِ إِلاَّ الإِْذْخِرَ، فَإِنَّهُ لِقَيْنِهِمْ وَبُيُوتِهِمْ، فَقَال: إِلاَّ الإِْذْخِرَ (3) فَهَذَا ظَاهِرُهُ أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُنْفَصِلٌ. فَحُمِل عَلَى أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ مَحْذُوفٍ مُقَدَّرٍ.
__________
(1) الدر المختار مع حاشية ابن عابدين 4 / 458، وحاشية الدسوقي 2 / 388
(2) روضة الناظر ص 132
(3) حديث: " لا يختلى شوكها. . . " أخرجه البخاري " فتح الباري 12 / 205 ط السلفية " والقين: الحداد، واختلى الشوك: جزه رطبا، وعضد الشجر: ضربه ليسقط ورقه.(3/190)
فَكَأَنَّهُ كَرَّرَ الْقَوْل، فَلاَ يَتَعَلَّقُ بِالْكَلاَمِ الْمَذْكُورِ أَوَّلاً (1)
وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ الْقَائِلِينَ بِوُجُوبِ الاِتِّصَال؛ أَنَّ الْقَوْل بِجَوَازِ الاِسْتِثْنَاءِ غَيْرِ الْمُتَّصِل يَسْتَلْزِمُ أَلاَّ يَجْزِمَ بِصِدْقٍ أَوْ كَذِبٍ فِي شَيْءٍ مِنَ الأَْخْبَارِ لاِحْتِمَال الاِسْتِثْنَاءِ، وَكَذَلِكَ لاَ يَثْبُتُ عَقْدٌ مِنَ الْعُقُودِ، وَلإِِجْمَاعِ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ عَلَى وُجُوبِ الاِتِّصَال. فَلَوْ قَال: لَهُ عَشَرَةٌ، ثُمَّ زَادَ بَعْدَ شَهْرٍ: إِلاَّ ثَلاَثَةً يُعَدُّ لَغْوًا.
وَلَعَل مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمَنْ قَال شِبْهَ قَوْلِهِ، إِنَّمَا قُصِدَ بِهِ أَنَّ مَنْ نَسِيَ أَنْ يَقُول: " إِنْ شَاءَ اللَّهُ " يَقُولُهَا مَتَى تَذَكَّرَ ذَلِكَ، وَلَوْ بَعْدَ مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ، امْتِثَالاً لِلآْيَةِ، وَلَيْسَ فِي الاِسْتِثْنَاءِ الْمُوجِبِ رَفْعُ حُكْمِ الْمُسْتَثْنَى (2) كَمَا تَقَدَّمَ.
الشَّرْطُ الثَّانِي:
17 - وَيُشْتَرَطُ فِي الاِسْتِثْنَاءِ أَلاَّ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى مُسْتَغْرِقًا لِلْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، فَإِنَّ الاِسْتِثْنَاءَ الْمُسْتَغْرِقَ لِلْمُسْتَثْنَى مِنْهُ بَاطِلٌ اتِّفَاقًا، إِلاَّ عِنْدَ مَنْ شَذَّ.
وَادَّعَى الْبَعْضُ الإِْجْمَاعَ عَلَيْهِ. فَلَوْ قَال: " لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلاَّ عَشَرَةً " لَغَا قَوْلُهُ " إِلاَّ عَشَرَةً " وَلَزِمَهُ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ. وَمِمَّنْ شَذَّ ابْنُ طَلْحَةَ الْمَالِكِيُّ فِي الْمَدْخَل، نَقَل عَنْهُ الْقَرَافِيُّ أَنَّهُ قَال فِيمَنْ قَال لِزَوْجَتِهِ: " أَنْتِ طَالِقٌ ثَلاَثًا إِلاَّ ثَلاَثًا ": لاَ يَقَعُ عَلَيْهِ طَلاَقٌ (3) .
__________
(1) شرح مسلم الثبوت 1 / 320، 321
(2) تفسير القرطبي 10 / 385، وشرح جمع الجوامع وحاشية البناني 2 / 10 وما بعدها
(3) جمع الجوامع وشرحه 2 / 14(3/190)
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ، فَهُمْ يُوَافِقُونَ عَلَى بُطْلاَنِ الاِسْتِثْنَاءِ إِنْ كَانَ بِعَيْنِ لَفْظِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، كَقَوْلِهِ: عَبِيدِي أَحْرَارٌ إِلاَّ عَبِيدِي، أَوْ بِلَفْظٍ مُسَاوٍ لَهُ، كَقَوْلِهِ: نِسَائِي طَوَالِقُ إِلاَّ زَوْجَاتِي.
أَمَّا إِنْ كَانَ بِغَيْرِهِمَا كَقَوْلِهِ: ثُلُثُ مَالِي لِزَيْدٍ إِلاَّ أَلْفًا، وَالثُّلُثُ أَلْفٌ. فَيَصِحُّ الاِسْتِثْنَاءُ وَلاَ يَسْتَحِقُّ زَيْدٌ شَيْئًا.
فَالشَّرْطُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِيهَامُ الْبَقَاءِ لاَ حَقِيقَتُهُ، حَتَّى لَوْ طَلَّقَهَا سِتًّا إِلاَّ أَرْبَعًا صَحَّ، وَوَقَعَ ثِنْتَانِ. وَإِنْ كَانَتِ السِّتَّةُ لاَ صِحَّةَ لَهَا مِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ؛ لأَِنَّ الطَّلاَقَ لاَ يَزِيدُ عَنْ ثَلاَثٍ، وَمَعَ هَذَا لاَ يُجْعَل كَأَنَّهُ قَال: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلاَثًا إِلاَّ أَرْبَعًا، فَكَأَنَّ اعْتِبَارَ اللَّفْظِ أَوْلَى (1) .
وَجَعَل صَاحِبُ الْمُغْنِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ مِنَ الاِسْتِثْنَاءِ الْمُسْتَغْرِقِ أَنْ يَقُول مَثَلاً: " لَهُ عَلَيَّ ثَلاَثَةُ دَرَاهِمَ وَدِرْهَمَانِ إِلاَّ دِرْهَمَيْنِ " فَلاَ يَصِحُّ الاِسْتِثْنَاءُ، وَيَلْزَمُهُ جَمِيعُ مَا أَقَرَّ بِهِ، وَهُوَ فِي مِثَالِنَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ (2) .
اسْتِثْنَاءُ الأَْكْثَرِ وَالأَْقَل:
18 - أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِثْنَاءُ النِّصْفِ، وَمَا زَادَ عَلَى النِّصْفِ، مَا لَمْ يَكُنْ مُسْتَغْرِقًا كَمَا تَقَدَّمَ، نَحْوُ: " لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلاَّ سِتَّةً (3) أَوْ: لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلاَّ خَمْسَةً ". وَنَسَبَ صَاحِبُ فَوَاتِحِ
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 4 / 458، ومسلم الثبوت 1 / 323، 324
(2) المغني لابن قدامة 5 / 159، 160 نشر مكتبة الرياض الحديثة
(3) ابن عابدين 4 / 458(3/191)
الرَّحَمُوتِ هَذَا الْقَوْل إِلَى الْحَنَفِيَّةِ، وَالأَْكْثَرِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ.
وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ، وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلاَّنِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ (1) .
قِيل: إِنَّمَا يَمْنَعُ الْحَنَابِلَةُ اسْتِثْنَاءَ أَكْثَرَ مِنَ النِّصْفِ، وَيُجِيزُونَ اسْتِثْنَاءَ النِّصْفِ. وَقِيل: يَمْنَعُونَ النِّصْفَ أَيْضًا.
وَفِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلٌ ثَالِثٌ: أَنَّهُ يَمْنَعُ اسْتِثْنَاءَ الأَْكْثَرِ إِنْ كَانَ كُلٌّ مِنَ الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ عَدَدًا صَرِيحًا. قِيل وَبِهَذَا قَال الْقَاضِي الْبَاقِلاَّنِيُّ آخِرًا.
وَقَدْ احْتَجَّ لِجَوَازِ اسْتِثْنَاءِ الأَْكْثَرِ فِي غَيْرِ الْعَدَدِ بِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَك مِنَ الْغَاوِينَ} (2) وَالْغَاوُونَ هُمْ الأَْكْثَرُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} (3) وَاحْتَجَّ لِجَوَازِهِ أَيْضًا فِي الْعَدَدِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ جَمِيعًا عَلَى لُزُومِ وَاحِدٍ فِي الإِْقْرَارِ بِلَفْظِ: " لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلاَّ تِسْعَةً (4) " وَاحْتَجَّ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ أَئِمَّةَ اللُّغَةِ أَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءُ الأَْكْثَرِ جَائِزًا لُغَةً، مِنْهُمُ ابْنُ جِنِّي، وَالزَّجَّاجُ، وَالْقُتَيْبِيُّ. قَال الزَّجَّاجُ: لَمْ يَأْتِ الاِسْتِثْنَاءُ إِلاَّ فِي قَلِيلٍ مِنَ الْكَثِيرِ (5) .
الشَّرْطُ الثَّالِثُ:
19 - وَيُشْتَرَطُ فِي الاِسْتِثْنَاءِ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى مِمَّا يَدْخُل تَحْتَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي
__________
(1) في فواتح الرحموت أنه من الشافعية، والصواب أنه مالكي كما في الأعلام للزركلي 7 / 46
(2) سورة الحجر 42
(3) سورة يوسف 103
(4) فواتح الرحموت 1 / 335، 336، وجمع الجوامع وشرح المحلي 2 / 14
(5) روضة الناظر ص 133(3/191)
صِحَّةِ الاِسْتِثْنَاءِ إِذَا كَانَ الْمُسْتَثْنَى مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، فَجَوَّزَهُ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَالْبَاقِلاَّنِيُّ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ. وَمِثَال ذَلِكَ قَوْلُهُ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ مِنَ الدَّنَانِيرِ إِلاَّ فَرَسًا ".
وَكَذَا لَوْ قَال: لَهُ عَلَيَّ فَرَسٌ إِلاَّ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ، فَيُجْبَرُ عَلَى الْبَيَانِ فَإِنِ اسْتَغْرَقَتِ الْقِيمَةُ الْمُقَرَّ بِهِ بَطَل الاِسْتِثْنَاءُ. وَلَزِمَهُ الأَْلْفُ بِتَمَامِهَا (1) .
وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ يَصِحُّ اسْتِحْسَانًا اسْتِثْنَاءُ الْمُقَدَّرِ مِنَ الْمُقَدَّرِ الْكَيْلِيِّ وَالْوَزْنِيِّ، وَالْمَعْدُودِ الَّذِي لاَ تَتَفَاوَتُ آحَادُهُ، كَالْفُلُوسِ وَالْجَوْزِ، مِنَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ. وَذَلِكَ لأَِنَّهَا تَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ فَاعْتُبِرَتْ جِنْسًا وَاحِدًا، فَكَانَتْ كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ. وَتُطْرَحُ قِيمَةُ الْمُسْتَثْنَى مِمَّا أَقَرَّ بِهِ.
وَيَصِحُّ عِنْدَهُمَا هَذَا النَّوْعُ مِنَ الاِسْتِثْنَاءِ وَلَوِ اسْتَغْرَقَتِ الْقِيمَةُ جَمِيعَ مَا أَقَرَّ بِهِ، لاِسْتِغْرَاقِهِ بِغَيْرِ الْمُسَاوِي.
وَالْقَوْل الآْخَرُ لِلْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ، وَهُوَ قَوْل مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ. وَهُوَ الْقِيَاسُ.
أَمَّا فِي غَيْرِ الْمُقَدَّرَاتِ، كَمَا لَوْ قَال: لَهُ عَلَيَّ مِائَةُ دِرْهَمٍ إِلاَّ ثَوْبًا، فَلاَ يَصِحُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ جَمِيعًا، قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ الاِسْتِثْنَاءُ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ لاَ يَصِحُّ إِلاَّ أَنْ يُسْتَثْنَى الدَّرَاهِمُ مِنَ الدَّنَانِيرِ، أَوِ الدَّنَانِيرُ مِنَ الدَّرَاهِمِ. وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَهُمْ لاَ يَصِحُّ مُطْلَقًا.
وَحُجَّةُ الْمُجِيزِينَ أَنَّ الاِسْتِثْنَاءَ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ، مِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآِدَم فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ
__________
(1) حاشية الدسوقي 3 / 411 ط دار الفكر.(3/192)
الْجِنِّ} . (1) وَقَال اللَّهُ تَعَالَى: {لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلاَ تَأْثِيمًا إِلاَّ قِيلاً سَلاَمًا سَلاَمًا} . (2)
وَحُجَّةُ الْمَانِعِينَ أَنَّ الاِسْتِثْنَاءَ صَرْفُ اللَّفْظِ بِحَرْفِ الاِسْتِثْنَاءِ عَمَّا كَانَ يَقْتَضِيهِ لَوْلاَهُ.
وَغَيْرُ الْجِنْسِ الْمَذْكُورِ لَيْسَ بِدَاخِلٍ فِي الْكَلاَمِ، فَإِذَا ذَكَرَهُ فَمَا صَرَفَ الْكَلاَمَ عَنْ صَوْبِهِ، وَلاَ ثَنَاهُ عَنْ وَجْهِ اسْتِرْسَالِهِ، فَلاَ يَكُونُ اسْتِثْنَاءً، وَإِنَّمَا يُسَمَّى هَذَا النَّوْعُ اسْتِثْنَاءً مَجَازًا، وَهُوَ مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي الاِسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ (ف: 6) وَإِنَّمَا هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ اسْتِدْرَاكٌ، وَتَكُونُ إِلاَّ بِمَعْنَى لَكِنَّ، فَإِذَا ذَكَرَ الاِسْتِدْرَاكَ بَعْدَ الإِْقْرَارِ، كَأَنْ قَال: لَهُ عِنْدِي مِائَةُ دِرْهَمٍ إِلاَّ ثَوْبًا لِي عَلَيْهِ كَانَ بَاطِلاً؛ لأَِنَّهُ يَكُونُ مُقِرًّا بِشَيْءٍ، مُدَّعِيًا لِشَيْءٍ سِوَاهُ، فَيُقْبَل إِقْرَارُهُ، وَتَبْطُل دَعْوَاهُ وَهِيَ الاِسْتِثْنَاءُ.
وَحُجَّةُ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الأَْثْمَانِ وَغَيْرِهَا أَنَّ قَدْرَ الدَّنَانِيرِ مِنَ الدَّرَاهِمِ مَعْلُومٌ، وَيُعَبَّرُ بِأَحَدِهِمَا عَنِ الآْخَرِ، فَإِذَا اسْتَثْنَى أَحَدَهُمَا مِنَ الآْخَرِ عُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ التَّعْبِيرَ بِأَحَدِهِمَا عَنِ الآْخَرِ، فَإِنَّ قَوْمًا يُسَمُّونَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ دِينَارًا، وَفِي بِلاَدٍ أُخْرَى يُسَمُّونَ ثَمَانِيَةَ دَرَاهِمَ دِينَارًا (3) .
الشَّرْطُ الرَّابِعُ: التَّلَفُّظُ بِالاِسْتِثْنَاءِ
20 - ذَهَبَ ابْنُ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يُجْزِئُ فِي الاِسْتِثْنَاءِ تَحْرِيكُ الشَّفَتَيْنِ إِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحْلَفًا، فَإِنْ كَانَ مُسْتَحْلَفًا لَمْ يُجْزِئْهُ إِلاَّ الْجَهْرُ.
__________
(1) سورة الكهف / 50
(2) سورة الواقعة / 25
(3) ابن عابدين 4 / 458، والمغني لابن قدامة 5 / 154 وما بعدها ط الرياض. وروضة الناظر ص 132، والإحكام للآمدي 2 / 85 وما بعدها ط محمد صبيح.(3/192)
وَقَال ابْنُ الْقَاسِمِ: يَنْفَعُهُ وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْهُ الْمَحْلُوفُ لَهُ. (1)
وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ لِلاِسْتِثْنَاءِ أَنْ يَتَلَفَّظَ بِهِ بِحَيْثُ يُسْمِعُ غَيْرَهُ، وَإِلاَّ فَالْقَوْل قَوْل خَصْمِهِ فِي النَّفْيِ، وَحَكَمَ بِالْوُقُوعِ إِذَا حَلَفَ الْخَصْمُ عَلَى نَفْيِ الاِسْتِثْنَاءِ.
هَذَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ، أَمَّا فِيمَا عَدَاهُ فَيَكْفِي أَنْ يُسْمِعَ نَفْسَهُ، إِنِ اعْتَدَل سَمْعُهُ وَلاَ عَارِضَ، وَيُدَيَّنُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى (2) .
وَلَمْ يَظْهَرْ لِلْحَنَابِلَةِ تَعَرُّضٌ لِصِفَةِ النُّطْقِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الاِسْتِثْنَاءِ، غَيْرَ أَنَّهُمْ فَرَّقُوا فِي نِيَّةِ الاِسْتِثْنَاءِ بِالْقَلْبِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ الْمَنْطُوقُ بِهِ عَامًّا، كَقَوْلِهِ: نِسَائِي طَوَالِقُ، وَاسْتَثْنَى بِقَلْبِهِ وَاحِدَةً، فَيَكُونُ لَهُ اسْتِثْنَاؤُهُ دِيَانَةً لاَ قَضَاءً؛ لأَِنَّ قَوْلَهُ " نِسَائِي " اسْمٌ عَامٌّ يَجُوزُ التَّعْبِيرُ بِهِ عَنْ بَعْضِ مَا وُضِعَ لَهُ، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ نَصًّا فِيمَا يَتَنَاوَلُهُ لاَ يَحْتَمِل غَيْرَهُ كَالْعَدَدِ، فَلاَ يَرْتَفِعُ بِالنِّيَّةِ مَا ثَبَتَ بِاللَّفْظِ، كَقَوْلِهِ: نِسَائِي الأَْرْبَعُ أَوِ الثَّلاَثُ طَوَالِقُ، فَلاَ يُقْبَل اسْتِثْنَاؤُهُ ظَاهِرًا، وَقِيل لاَ يُقْبَل وَلاَ بَاطِنًا (3) .
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ الصَّحِيحُ أَنَّهُ إِذَا تَكَلَّمَ بِالطَّلاَقِ وَاسْتَثْنَى فَلاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاؤُهُ مَسْمُوعًا، وَالْمُرَادُ مَا شَأْنُهُ أَنْ يُسْمَعَ، بِحَيْثُ لَوْ قَرَّبَ شَخْصٌ أُذُنَهُ إِلَى فَمِهِ يَسْمَعُ اسْتِثْنَاءَهُ، وَلَوْ حَال دُونَ سَمَاعِ الْمُنْشِئِ لِلْكَلاَمِ صَمَمٌ أَوْ كَثْرَةُ أَصْوَاتٍ. وَفِي قَوْل الْكَرْخِيِّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الاِسْتِثْنَاءِ أَنْ يَكُونَ
__________
(1) المواق بهامش الحطاب 3 / 268
(2) نهاية المحتاج 6 / 456، وحواشي تحفة المحتاج للشرواني 7 / 62
(3) كشاف القناع 5 / 272، والمغني 7 / 158 ط 3(3/193)
بِلَفْظٍ مَسْمُوعٍ (1) وَيَقُول الْحَنَفِيَّةُ أَيْضًا: إِنَّ الاِسْتِثْنَاءَ بِالْكِتَابَةِ صَحِيحٌ، حَتَّى لَوْ تَلَفَّظَ بِالطَّلاَقِ وَكَتَبَ الاِسْتِثْنَاءَ مَوْصُولاً، أَوْ عَكَسَ، أَوْ أَزَال الاِسْتِثْنَاءَ بَعْدَ الْكِتَابَةِ لَمْ يَقَعِ الطَّلاَقُ (2) .
وَجَاءَ فِي التَّتَارْخَانِيَّةِ مِنْ كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ الزَّوْجَةَ إِذَا سَمِعَتِ الطَّلاَقَ وَلَمْ تَسْمَعِ الاِسْتِثْنَاءَ لاَ يَسَعُهَا أَنْ تُمَكِّنَهُ مِنَ الْوَطْءِ، وَيَلْزَمُهَا مُنَازَعَتُهُ.
21 - وَلَوِ اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ فِي صُدُورِ الاِسْتِثْنَاءِ، فَادَّعَاهُ الزَّوْجُ وَأَنْكَرَتْهُ الزَّوْجَةُ، فَيُقْبَل قَوْلُهُ. وَهَذَا ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. وَهُوَ الْمَذْهَبُ.
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: لاَ يُقْبَل إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ، عَلَيْهِ الاِعْتِمَادُ وَالْفَتْوَى احْتِيَاطًا لِغَلَبَةِ الْفَسَادِ، إِذْ قَدْ يُعَلِّمُهُ ذَلِكَ حِيلَةً بَعْضُ مَنْ لاَ يَخَافُ اللَّهَ تَعَالَى، وَلأَِنَّ دَعْوَى الزَّوْجِ خِلاَفُ الظَّاهِرِ، فَإِنَّهُ بِدَعْوَى الاِسْتِثْنَاءِ يَدَّعِي إِبْطَال الْمُوجِبِ بَعْدَ الاِعْتِرَافِ بِهِ.
فَالظَّاهِرُ خِلاَفُ قَوْلِهِ، وَإِذَا عَمَّ الْفَسَادُ يَنْبَغِي الرُّجُوعُ إِلَى الظَّاهِرِ. وَفِي قَوْلٍ ثَالِثٍ عِنْدَهُمْ نَقَلَهُ ابْنُ الْهُمَامِ عَنِ الْمُحِيطِ إِنْ عُرِفَ الزَّوْجُ بِالصَّلاَحِ فَالْقَوْل قَوْلُهُ تَصْدِيقًا لَهُ، وَإِنْ عُرِفَ بِالْفِسْقِ أَوْ جُهِل حَالُهُ فَلاَ؛ لِغَلَبَةِ الْفَسَادِ. وَأَيَّدَهُ ابْنُ عَابِدِينَ (3) . وَلَمْ نَطَّلِعْ عَلَى نُصُوصٍ لِغَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
الشَّرْطُ الْخَامِسُ: الْقَصْدُ:
22 - اشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ لِصِحَّةِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 510، 514
(2) حاشية ابن عابدين 2 / 510
(3) ابن عابدين 2 / 511(3/193)
الاِسْتِثْنَاءِ فِي الْيَمِينِ وَالطَّلاَقِ الْقَصْدَ، سَوَاءٌ أَكَانَ الاِسْتِثْنَاءُ حَقِيقِيًّا، بِإِلاَّ أَوْ إِحْدَى أَخَوَاتِهَا، أَمْ عُرْفِيًّا، بِإِنْ شَاءَ اللَّهُ وَنَحْوِهِ. فَلاَ يُفِيدُ الاِسْتِثْنَاءُ الْحَالِفَ إِلاَّ أَنْ يَقْصِدَ مَعْنَى الاِسْتِثْنَاءِ أَيْ: حِل الْيَمِينِ، لاَ أَنْ يَقْصِدَ مُجَرَّدَ التَّبَرُّكِ، أَوْ لَمْ يَقْصِدْ شَيْئًا. وَكَذَا لاَ بُدَّ أَنْ يَقْصِدَ التَّلَفُّظَ بِهِ، فَلَوْ جَرَى الاِسْتِثْنَاءُ عَلَى، لِسَانِهِ سَهْوًا لَمْ يَنْفَعْهُ.
وَقَدِ اتَّفَقُوا أَيْضًا عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَصْدِ إِنْ تَحَقَّقَ فِي أَوَّل النُّطْقِ بِالْكَلاَمِ الْمُشْتَمِل عَلَى الاِسْتِثْنَاءِ، أَوْ فِي أَثْنَائِهِ وَقَبْل الْفَرَاغِ مِنْهُ. أَمَّا إِنْ وُجِدَتِ النِّيَّةُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهُ فَهِيَ صَحِيحَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ بِشَرْطِ الاِتِّصَال. أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ فَلِكُلٍّ مِنْهُمْ قَوْلاَنِ: الأَْوَّل وَهُوَ الْمُقَدَّمُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ النِّيَّةَ صَحِيحَةٌ وَيَنْحَل بِهَا الْيَمِينُ أَوِ الطَّلاَقُ بِشَرْطِ الاِتِّصَال كَمَا تَقَدَّمَ، وَالْقَوْل الثَّانِي، وَهُوَ غَيْرُ الْمُقَدَّمِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ الْقَصْدَ بَعْدَ الْفَرَاغِ لاَ يَصِحُّ، فَتَنْعَقِدُ الْيَمِينُ، وَيَقَعُ الطَّلاَقُ (1) .
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدْ صَرَّحُوا بِعَدَمِ اشْتِرَاطِ الْقَصْدِ فِي الاِسْتِثْنَاءِ بِالْمَشِيئَةِ، فَيَكُونُ عَدَمُ اشْتِرَاطِهِ فِي الاِسْتِثْنَاءِ بِإِلاَّ وَأَخَوَاتِهَا مِنْ بَابِ أَوْلَى (2) .
وَهَذَا مَا قَالَهُ (أَسَدٌ) مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ؛ لأَِنَّ الطَّلاَقَ مَعَ الاِسْتِثْنَاءِ لَيْسَ طَلاَقًا.
وَكَذَا إِذَا قَال: " إِنْ شَاءَ اللَّهُ " مَنْ لاَ يَعْرِفُ مَعْنَاهَا. وَالْقَوْل الآْخَرُ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ يَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةٍ،
__________
(1) نهاية المحتاج 6 / 455، والمغني 8 / 717، وحاشية الدسوقي 2 / 129، 130، 388
(2) فتح القدير 3 / 143، وحاشية ابن عابدين 2 / 510(3/194)
وَهُوَ قَوْل (خَلَفٍ) . (1)
جَهَالَةُ الْمُسْتَثْنَى بِإِلاَّ وَأَخَوَاتِهَا:
23 - الاِسْتِثْنَاءُ مِنْ حَيْثُ الْجَهَالَةُ نَوْعَانِ:
الأَْوَّل: مَا سِوَى الْعُقُودِ، كَالإِْقْرَارِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَسْتَثْنِيَ الْمُتَكَلِّمُ شَيْئًا مَجْهُولاً كَأَنْ يَقُول الْمُقِرُّ: لَهُ عِنْدِي أَلْفُ دِينَارٍ إِلاَّ شَيْئًا، أَوْ: إِلاَّ قَلِيلاً، أَوْ: إِلاَّ بَعْضَهَا، أَوْ يُقِرَّ لَهُ بِدَارٍ وَيَسْتَثْنِيَ غُرْفَةً مِنْهَا دُونَ أَنْ يُعَيِّنَهَا.
وَكَمَا يَجْرِي فِي الإِْقْرَارِ يَجْرِي فِي غَيْرِهِ مِنَ النَّذْرِ وَالْيَمِينِ وَالطَّلاَقِ وَغَيْرِهَا. وَيُطَالَبُ الْمُتَكَلِّمُ بِبَيَانِ مَا أَبْهَمَهُ، وَيَلْزَمُهُ ذَلِكَ إِنْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ، وَفِي حُكْمِ ذَلِكَ فِي الأَْبْوَابِ الْمُخْتَلِفَةِ تُنْظَرُ الْمُصْطَلَحَاتُ الْخَاصَّةُ بِتِلْكَ الأَْبْوَابِ. النَّوْعُ الثَّانِي: الْعُقُودُ، وَالاِسْتِثْنَاءُ الْمُبْهَمُ فِي الْعُقُودِ بَاطِلٌ وَمُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ (2) . وَفِي الْحَدِيثِ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الثُّنْيَا إِلاَّ أَنْ تُعْلَمَ. (3)
وَعِلَّةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا، فَلَوْ كَانَ مَا اسْتَثْنَى غَيْرَ مَعْلُومٍ عَادَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ غَيْرَ مَعْلُومٍ، كَمَنْ بَاعَ ثَوْبًا إِلاَّ شَيْئًا مِنْهُ.
24 - وَقَدْ وَضَعَ الْحَنَفِيَّةُ قَاعِدَةً لِمَا يَجُوزُ اسْتِثْنَاؤُهُ فِي الْعُقُودِ بِأَنَّ " مَا جَازَ إِيرَادُ الْعَقْدِ عَلَيْهِ بِانْفِرَادِهِ صَحَّ
__________
(1) فتح القدير 3 / 143، والدر المختار وحاشية ابن عابدين 2 / 510
(2) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 379 ط مصطفى الحلبي.
(3) الحديث أخرجه النسائي 7 / 296 ط المكتبة التجارية، والترمذي 3 / 585 ط الحلبي وإسناده صحيح.(3/194)
اسْتِثْنَاؤُهُ مِنَ الْعَقْدِ " فَبَيْعُ قَفِيزٍ مِنْ صُبْرَةٍ جَائِزٌ، فَكَذَا اسْتِثْنَاؤُهُ (1) .
وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ كَذَلِكَ مَعْلُومِيَّةَ الْمُسْتَثْنَى، فَلَوِ اسْتَثْنَى جُزْءًا شَائِعًا فَلَهُ اسْتِثْنَاءُ مَا شَاءَ، أَمَّا إِنِ اسْتَثْنَى قَدْرًا مَعْلُومًا بِالْكَيْل مِنْ صُبْرَةٍ بَاعَهَا جُزَافًا، أَوْ أَرْطَالاً مِنْ لَحْمِ شَاةٍ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَثْنِيَ أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ الثُّلُثِ، وَيَجُوزُ عِنْدَهُمْ اسْتِثْنَاءُ جِلْدٍ وَسَاقِطٍ مِنْ رَأْسٍ وَأَكَارِعَ، فِي السَّفَرِ فَقَطْ، وَإِنَّمَا جَازَ اسْتِثْنَاؤُهُمَا فِي السَّفَرِ فَقَطْ لِخِفَّةِ ثَمَنِهِمَا فِيهِ دُونَ الْحَضَرِ (2) .
وَالْحَنَابِلَةُ فِي اشْتِرَاطِ كَوْنِ الْمُسْتَثْنَى مَعْلُومًا يُوَافِقُونَ الْحَنَفِيَّةَ، وَيَقُولُونَ بِالْقَاعِدَةِ الَّتِي قَرَّرُوهَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَإِنْ كَانُوا يُخَالِفُونَهُمْ فِي بَعْضِ آحَادِ الْمَسَائِل، لِمُخَالَفَتِهِمْ فِي تَحَقُّقِ مَنَاطِ الْحُكْمِ فِيهَا، فَهُمْ مَثَلاً يُجِيزُونَ اسْتِثْنَاءَ الرَّأْسِ وَالأَْطْرَافِ مِنَ الشَّاةِ الْمَبِيعَةِ؛ لأَِنَّهُمُ اعْتَبَرُوهَا مَعْلُومَةً.
وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ، مَرُّوا بِرَاعِي غَنْمٍ، فَذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ وَعَامِرٌ، فَاشْتَرَيَا مِنْهُ شَاةً وَشَرَطَا لَهُ سَلَبَهَا (3) .
مَا يَثْبُتُ فِيهِ حُكْمُ الاِسْتِثْنَاءِ الْحَقِيقِيِّ:
25 - حُكْمُ الاِسْتِثْنَاءِ الْحَقِيقِيِّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ التَّخْصِيصُ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ الْقَصْرُ، لأَِنَّهُمْ يَشْتَرِطُونَ فِي الْمُخَصَّصِ أَنْ يَكُونَ مُسْتَقِلًّا. وَيَثْبُتُ
__________
(1) ابن عابدين 4 / 40، 41
(2) حاشية الدسوقي 3 / 18
(3) المغني 4 / 100 - 103 ط الثالثة وسلب الذبيحة: إهابها وكراعها وما في بطنها - لسان العرب.(3/195)
حُكْمُهُ هَذَا حَيْثُمَا تَمَّتْ شُرُوطُهُ الْمُعْتَبَرَةُ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا، فَيَثْبُتُ فِي الْعُقُودِ وَالْوُعُودِ وَالنُّذُورِ وَالأَْيْمَانِ وَالطَّلاَقِ، وَسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ الْقَوْلِيَّةِ، فَلَوِ اسْتَثْنَى مِنَ الْمَبِيعِ جُزْءًا مَعْلُومًا مِنَ الْعَيْنِ، أَوْ مَنْفَعَةً مَعْلُومَةً لِمُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ جَازَ، إِلاَّ أَنَّهُ قَدْ يَعْرِضُ لِبَعْضِ الاِسْتِثْنَاءَاتِ الْبُطْلاَنُ لِمَانِعٍ (1) .
مَا يَثْبُتُ فِيهِ حُكْمُ الاِسْتِثْنَاءِ بِالْمَشِيئَةِ:
26 - الاِسْتِثْنَاءُ بِالْمَشِيئَةِ إِذَا تَمَّتْ شُرُوطُهُ يُسْتَتْبَعُ أَثَرُهُ وَهُوَ: إِبْطَال حُكْمِ مَا قَبْلَهُ. وَهَذَا الإِْبْطَال إِمَّا بِمَعْنَى الْحِل بَعْدَ الاِنْعِقَادِ، وَإِمَّا بِمَعْنَى مَنْعِ الاِنْعِقَادِ، فَإِذَا بَدَا لِلْحَالِفِ مَثَلاً أَنْ يَسْتَثْنِيَ بَعْدَ تَمَامِ يَمِينِهِ تَنْحَل يَمِينُهُ بِاسْتِثْنَائِهِ عِنْدَ مَنْ أَجَازَ نِيَّةَ الاِسْتِثْنَاءِ بَعْدَ تَمَامِ الْيَمِينِ. وَاَلَّذِي يَنْوِيهِ الْحَالِفُ قَبْل الْفَرَاغِ مِنْ يَمِينِهِ ثُمَّ يَأْتِي بِهِ يَمْنَعُ انْعِقَادَ يَمِينِهِ (2) . 27 - أَمَّا مَا يُبْطِلُهُ الاِسْتِثْنَاءُ، فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُبْطِل الْيَمِينَ (3) ، لِمَا وَرَدَ مِنَ الأَْحَادِيثِ الَّتِي قُدِّمَ ذِكْرُهَا. وَأَمَّا مَا عَدَا ذَلِكَ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى اتِّجَاهَيْنِ:
الاِتِّجَاهُ الأَْوَّل: أَنَّ الاِسْتِثْنَاءَ بِالْمَشِيئَةِ يَمْنَعُ انْعِقَادَ مَا اقْتَرَنَ بِهِ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الْقَوْلِيَّةِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ. غَيْرَ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ نَصُّوا عَلَى أَنَّ حُكْمَ الاِسْتِثْنَاءِ يَثْبُتُ فِي صِيَغِ الإِْخْبَارِ، وَإِنْ كَانَ
__________
(1) القواعد لابن رجب ص 41، ونيل المآرب 1 / 101، 102 و2 / 4 ط بولاق، وجمع الجوامع 2 / 10، ومسلم الثبوت 1 / 316
(2) انظر بحث الأيمان ف 250، 420، من الطبعة التمهيدية للموسوعة.
(3) تفسير القرطبي 6 / 273، 274(3/195)
إِنْشَاءَ إِيجَابٍ، لاَ فِي الأَْمْرِ وَالنَّهْيِ. فَلَوْ قَال: اعْطُوا ثُلُثَ مَالِي لِفُلاَنٍ بَعْدَ مَوْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ بَطَل الاِسْتِثْنَاءُ وَصَحَّتِ الْوَصِيَّةُ.
وَعَنِ الْحَلْوَانِيِّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ كُل مَا يَخْتَصُّ بِاللِّسَانِ يُبْطِلُهُ الاِسْتِثْنَاءُ، كَالطَّلاَقِ وَالْبَيْعِ، بِخِلاَفِ مَا لاَ يَخْتَصُّ بِهِ كَنِيَّةِ الصَّوْمِ، فَلاَ يَرْفَعُهَا الاِسْتِثْنَاءُ فَلَوْ قَال: نَوَيْتُ صِيَامَ غَدٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، لَهُ أَدَاؤُهُ بِتِلْكَ النِّيَّةِ (1)
الاِتِّجَاهُ الثَّانِي: أَنَّ الاِسْتِثْنَاءَ بِالْمَشِيئَةِ لاَ يَمْنَعُ انْعِقَادَ أَيَّ تَصَرُّفٍ مَا عَدَا الأَْيْمَانَ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ. وَبِهِ قَال الأَْوْزَاعِيُّ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ، فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ - بِاسْتِثْنَاءِ ابْنِ الْمَوَّازِ - أَنَّ الاِسْتِثْنَاءَ (بِإِنْ شَاءَ اللَّهُ) يُبْطِل الأَْيْمَانَ، وَلاَ يُبْطِل مَا قَبْلَهُ فِي غَيْرِ الأَْيْمَانِ، فَلَوْ أَقَرَّ قَائِلاً: لَهُ فِي ذِمَّتِي أَلْفٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، أَوْ: إِنْ قَضَى اللَّهُ، لَزِمَهُ الأَْلْفُ؛ لأَِنَّهُ لَمَّا أَقَرَّ عَلِمْنَا أَنَّ اللَّهَ شَاءَ أَوْ قَضَى (2) .
وَسَوَاءٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَكَانَ الطَّلاَقُ وَالْعَتَاقُ مُنَجَّزًا أَمْ كَانَ مُعَلَّقًا. قَال ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْمَشِيئَةِ بَعْدَ تَعْلِيقِ الطَّلاَقِ: إِنَّمَا وَرَدَ التَّوْقِيفُ بِالاِسْتِثْنَاءِ فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَقَوْل الْمُتَقَدِّمِينَ: الأَْيْمَانُ بِالطَّلاَقِ وَالْعَتَاقِ إِنَّمَا جَازَ عَلَى التَّقْرِيبِ وَالاِتِّسَاعِ، وَلاَ يَمِينَ فِي الْحَقِيقَةِ إِلاَّ بِاَللَّهِ، وَهَذَا طَلاَقٌ وَعَتَاقٌ (3) .
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّ الْيَمِينَ يُبْطِلُهَا الاِسْتِثْنَاءُ. وَأَمَّا غَيْرُهَا فَلاَ يُؤَثِّرُ فِيهِ، كَمَا لَوْ قَال:
__________
(1) فتح القدير 3 / 143، وحاشية ابن عابدين 2 / 506، ونهاية المحتاج 6 / 460، والقلبوبي 3 / 340
(2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 402
(3) المغني لابن قدامة 8 / 719(3/196)
بِعْتُكَ أَوْ وَهَبْتُكَ كَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَيَثْبُتُ حُكْمُ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ
وَهَذَا هُوَ الْقَوْل الْمُقَدَّمُ عِنْدَهُمْ.
أَمَّا الطَّلاَقُ وَالْعَتَاقُ فَفِي رِوَايَةٍ: تَوَقَّفَ أَحْمَدُ عَنِ الْقَوْل فِيهِمَا. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: قَطَعَ أَنَّهُ لاَ يَنْفَعُهُ الاِسْتِثْنَاءُ فِيهِمَا، وَقَال: مَنْ حَلَفَ فَقَال: إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَحْنَثْ، وَلَيْسَ لَهُ اسْتِثْنَاءٌ فِي الطَّلاَقِ وَالْعَتَاقِ لأَِنَّهُمَا لَيْسَا مِنَ الأَْيْمَانِ. وَنَقَلَهُ صَاحِبُ الْمُغْنِي أَيْضًا عَنِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ، وَقَال: إِنَّ الْحَدِيثَ إِنَّمَا تَنَاوَل الأَْيْمَانَ، وَلَيْسَ هَذَا بِيَمِينِهِ، إِنَّمَا هُوَ تَعْلِيقٌ عَلَى شَرْطٍ (1) .
28 - وَذَكَرَ مُتَأَخِّرُو الْحَنَابِلَةِ فِي الاِسْتِثْنَاءِ فِي الطَّلاَقِ وَالْعَتَاقِ وَغَيْرِهِمَا قَوْلاً ثَالِثًا، قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ، وَنَقَلَهُ رِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ - وَهُوَ أَنَّ إِيقَاعَ الطَّلاَقِ وَالْعَتَاقِ لاَ يَدْخُل فِيمَا يُبْطِلُهُ الاِسْتِثْنَاءُ، أَمَّا الْحَلِفُ بِالطَّلاَقِ وَالْعَتَاقِ فَيَدْخُل - قَال: وَمِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ قَال: إِنْ كَانَ الْحَلِفُ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ (كَمَا لَوْ قَال: عَلَيَّ الطَّلاَقُ لأََفْعَلَنَّ كَذَا) دَخَل فِي حَدِيثِ الاِسْتِثْنَاءِ، وَنَفَعَتْهُ الْمَشِيئَةُ رِوَايَةٌ وَاحِدَةٌ.
وَإِنْ كَانَ بِصِيغَةِ الْجَزَاءِ كَمَا لَوْ قَال لِزَوْجَتِهِ: إِنْ فَعَلْتِ كَذَا فَأَنْتِ طَالِقٌ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ. قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: وَهَذَا الْقَوْل هُوَ الصَّوَابُ الْمَأْثُورُ عَنْ أَصْحَابِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجُمْهُورِ التَّابِعِينَ كَسَعِيدٍ وَالْحَسَنِ، لَمْ يَجْعَلُوا فِي الطَّلاَقِ اسْتِثْنَاءً، وَلَمْ يَجْعَلُوهُ مِنَ الأَْيْمَانِ. ثُمَّ نُقِل عَنِ الصَّحَابَةِ وَجُمْهُورِ التَّابِعِينَ أَنَّهُمْ جَعَلُوا الْحَلِفَ بِالصَّدَقَةِ وَالْهَدْيِ وَالْعَتَاقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ يَمِينًا مُكَفَّرَةً. وَقَال أَحْمَدُ: إِنَّمَا يَكُونُ
__________
(1) المغني 8 / 719(3/196)
الاِسْتِثْنَاءُ فِيمَا فِيهِ كَفَّارَةٌ (1) . وَتَمَامُ الْقَوْل فِي الاِسْتِثْنَاءِ فِي الطَّلاَقِ الْمُعَلَّقِ يُنْظَرُ فِي بَحْثِ الأَْيْمَانِ، وَتَمَامُ الْكَلاَمِ عَلَى تَفْرِيعِ مَسَائِل الاِسْتِثْنَاءِ وَتَفْصِيل الْكَلاَمِ فِيهَا فِي أَبْوَابِ الْفِقْهِ الْمُخْتَلِفَةِ، فَيُرْجَعُ فِي كُل مَسْأَلَةٍ مِنْهَا إِلَى بَابِهَا فِي الطَّلاَقِ وَالْعَتَاقِ وَالْهِبَةِ وَالْيَمِينِ وَالنَّذْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَمَا يَتَعَلَّقُ مِنْهُ بِالْمَبَاحِثِ الأُْصُولِيَّةِ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
اسْتِجْمَارٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِسْتِجْمَارُ لُغَةً: الاِسْتِنْجَاءُ بِالْحِجَارَةِ، مَأْخُوذٌ مِنَ الْجَمَرَاتِ وَالْجِمَارِ، وَهِيَ الأَْحْجَارُ الصَّغِيرَةُ. وَاسْتَجْمَرَ وَاسْتَنْجَى وَاحِدٌ (2) .
صِفَتُهُ (الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ) :
2 - الاِسْتِنْجَاءُ بِالْحَجَرِ وَنَحْوِهِ وَحْدَهُ، أَوْ بِالْمَاءِ وَحْدَهُ وَاجِبٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ عَلَى التَّخْيِيرِ، وَسُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَفْضَل.
وَلَكِنْ يَتَعَيَّنُ الاِسْتِنْجَاءُ بِالْمَاءِ فِي الْمَنِيِّ، وَالْحَيْضِ، وَالنِّفَاسِ، وَفِي الْبَوْل، وَالْغَائِطِ إِذَا انْتَشَرَ انْتِشَارًا كَثِيرًا، وَاخْتُلِفَ فِي بَوْل الْمَرْأَةِ (3) . وَتَفْصِيل أَحْكَامِ الاِسْتِجْمَارِ فِي مُصْطَلَحِ " اسْتِنْجَاء ".
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية 35 / 283، وما بعدها. وانظر بحثا له جليل القدر في تحليل معنى الاستثناء ومواقعه في 35 / 307 وما بعدها.
(2) لسان العرب مادة (جمر)
(3) الدسوقي 1 / 111، وابن عابدين 1 / 226، والمغني 1 / 159، ونهاية المحتاج 1 / 129(3/197)
اسْتِحَاضَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِسْتِحَاضَةُ لُغَةً: مَصْدَرُ اسْتُحِيضَتِ الْمَرْأَةُ فَهِيَ مُسْتَحَاضَةٌ. وَالْمُسْتَحَاضَةُ مَنْ يَسِيل دَمُهَا وَلاَ يُرْقَأُ، فِي غَيْرِ أَيَّامٍ مَعْلُومَةٍ، لاَ مِنْ عِرْقِ الْحَيْضِ بَل مِنْ عِرْقٍ يُقَال لَهُ: الْعَاذِل (1) .
وَعَرَّفَ الْحَنَفِيَّةُ الاِسْتِحَاضَةَ بِأَنَّهَا: دَمُ عِرْقٍ انْفَجَرَ لَيْسَ مِنَ الرَّحِمِ.
وَعَرَّفَهَا الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهَا: دَمُ عِلَّةٍ يَسِيل مِنْ عِرْقٍ مِنْ أَدْنَى الرَّحِمِ يُقَال لَهُ الْعَاذِل، قَال الرَّمْلِيُّ: الاِسْتِحَاضَةُ دَمٌ تَرَاهُ الْمَرْأَةُ غَيْرُ دَمِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ، سَوَاءٌ اتَّصَل بِهِمَا أَمْ لاَ. وَجَعَل مِنْ أَمْثِلَتِهَا الدَّمَ الَّذِي تَرَاهُ الصَّغِيرَةُ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْحَيْضُ:
2 - الْحَيْضُ دَمٌ يَنْفُضُهُ رَحِمُ امْرَأَةٍ بَالِغَةٍ لاَ دَاءَ بِهَا وَلاَ حَبَل، وَلَمْ تَبْلُغْ سِنَّ الإِْيَاسِ (3)
__________
(1) طحطاوي على مراقي الفلاح 76
(2) نهاية المحتاج 1 / 315، ومراقي الفلاح بحاشية الطحطاوي 79، ومغني المحتاج 1 / 108، وشرح العناية 1 / 163، وكشاف القناع 1 / 177، وحاشية رد المحتار على الدر المختار 1 / 188، وفتح القدير 1 / 141
(3) طحطاوي على مراقي الفلاح 75، وسن الإياس هو خمس وخمسون سنة على الراجح. وانظر كشاف القناع 1 / 196، ونهاية المحتاج 1 / 304، وبلغة السالك 1 / 207(3/197)
ب - النِّفَاسُ:
3 - النِّفَاسُ دَمٌ يَخْرُجُ عَقِبَ الْوِلاَدَةِ، وَهَذَا الْقَدْرُ لاَ خِلاَفَ فِيهِ، وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الأَْرْجَحِ: وَمَعَ الْوِلاَدَةِ، وَزَادَ الْحَنَابِلَةُ: مَعَ وِلاَدَةٍ وَقَبْلَهَا بِيَوْمَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةٍ (1) .
4 - وَتَفْتَرِقُ الاِسْتِحَاضَةُ عَنِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ بِأُمُورٍ مِنْهَا:
أ - الْحَيْضُ لَهُ وَقْتٌ، وَذَلِكَ حِينَ تَبْلُغُ الْمَرْأَةُ تِسْعَ سِنِينَ فَصَاعِدًا، فَلاَ يَكُونُ الْمَرْئِيُّ فِيمَا دُونَهُ حَيْضًا، وَكَذَلِكَ مَا تَرَاهُ بَعْدَ سِنِّ الْيَأْسِ لاَ يَكُونُ حَيْضًا عِنْدَ الأَْكْثَرِ، أَمَّا الاِسْتِحَاضَةُ فَلَيْسَ لَهَا وَقْتٌ مَعْلُومٌ.
ب - الْحَيْضُ دَمٌ يَعْتَادُ الْمَرْأَةَ فِي أَوْقَاتٍ مَعْلُومَةٍ مِنْ كُل شَهْرٍ، أَمَّا الاِسْتِحَاضَةُ فَهِيَ دَمٌ شَاذٌّ يَخْرُجُ مِنْ فَرْجِ الْمَرْأَةِ فِي أَوْقَاتٍ غَيْرِ مُعْتَادَةٍ.
ج - الْحَيْضُ دَمٌ طَبِيعِيٌّ لاَ عَلاَقَةَ لَهُ بِأَيِّ سَبَبٍ مَرَضِيٍّ، فِي حِينِ أَنَّ دَمَ الاِسْتِحَاضَةِ دَمٌ نَاتِجٌ عَنْ فَسَادٍ أَوْ مَرَضٍ أَوِ اخْتِلاَل الأَْجْهِزَةِ أَوْ نَزْفِ عِرْقٍ.
د - لَوْنُ دَمِ الْحَيْضِ أَسْوَدُ ثَخِينٌ مُنْتِنٌ لَهُ رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ غَالِبًا، بَيْنَمَا لَوْنُ دَمِ الاِسْتِحَاضَةِ أَحْمَرُ رَقِيقٌ لاَ رَائِحَةَ لَهُ.
هـ - دَمُ النِّفَاسِ لاَ يَكُونُ إِلاَّ مَعَ وِلاَدَةٍ.
الاِسْتِمْرَارُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ:
5 - الاِسْتِحَاضَةُ غَالِبًا مَا تَحْصُل بِالاِسْتِمْرَارِ، وَهُوَ: زِيَادَةُ الدَّمِ عَنْ أَكْثَرِ مُدَّةِ الْحَيْضِ أَوِ النِّفَاسِ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِذْ لَمْ يَعْتَبِرِ الاِسْتِمْرَارَ بِهَذَا الْمَعْنَى غَيْرُهُمْ، وَالاِسْتِمْرَارُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْمُعْتَادَةِ أَوْ فِي الْمُبْتَدَأَةِ.
__________
(1) نهاية المحتاج 1 / 305، وابن عابدين 1 / 199، وكشاف القناع 1 / 218، وبلغة السالك 1 / 216(3/198)
الاِسْتِمْرَارُ فِي الْمُعْتَادَةِ:
6 - إِذَا اسْتَمَرَّ دَمُ الْمُعْتَادَةِ وَجَاوَزَ أَكْثَرَ الْحَيْضِ فَطُهْرُهَا وَحَيْضُهَا مَا اعْتَادَتْ، وَتُرَدُّ إِلَى عَادَتِهَا فِي الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ فِي جَمِيعِ الأَْحْكَامِ، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ طُهْرُهَا الْمُعْتَادُ أَقَل مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، أَمَّا إِذَا كَانَ طُهْرُهَا أَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَلاَ تُرَدُّ إِلَى عَادَتِهَا فِي الطُّهْرِ، وَقَدْ بَيَّنَ ابْنُ عَابِدِينَ سَبَبَ ذَلِكَ فَقَال: لأَِنَّ الطُّهْرَ بَيْنَ الدَّمَيْنِ أَقَل مِنْ أَدْنَى مُدَّةِ الْحَمْل عَادَةً، وَأَدْنَى مُدَّةِ الْحَمْل كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ سِتَّةُ أَشْهُرٍ.
وَلِلْعُلَمَاءِ عِدَّةُ أَقْوَالٍ لِتَقْدِيرِ طُهْرِ الْمَرْأَةِ فِي مِثْل هَذِهِ الْحَالَةِ أَقْوَاهَا قَوْلاَنِ، وَهُمَا:
أ - يُقَدَّرُ طُهْرُهَا بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ إِلاَّ سَاعَةً؛ تَحْقِيقًا لِلتَّفَاوُتِ بَيْنَ طُهْرِ الْحَمْل وَطُهْرِ الْحَيْضِ (1) .
ب - يُقَدَّرُ طُهْرُهَا بِشَهْرَيْنِ، وَهُوَ مَا اخْتَارَهُ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ. قَال ابْنُ عَابِدِينَ: إِنَّ أَكْثَرَ الْعُلَمَاءِ يَقُولُونَ بِالأَْوَّل، وَلَكِنِ الْفَتْوَى عَلَى الثَّانِي؛ لأَِنَّهُ أَيْسَرُ عَلَى الْمُفْتِي وَالنِّسَاءِ.
الاِسْتِمْرَارُ فِي الْمُبْتَدَأَةِ:
7 - ذَكَرَ الْبِرْكَوِيُّ أَرْبَعَ حَالاَتٍ لِلْمُبْتَدَأَةِ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، أَمَّا عِنْدَ الأَْئِمَّةِ الثَّلاَثَةِ: الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَمَالِكٍ، فَسَيَأْتِي بَيَانُ أَحْوَالِهَا فِي الْمَوْضِعِ التَّالِي.
وَثَلاَثٌ مِنْ حَالاَتِ الْمُبْتَدَأَةِ تَتَّصِل بِمَوْضُوعِ الاِسْتِمْرَارِ، أَمَّا الْحَالَةُ الرَّابِعَةُ لِلْمُبْتَدَأَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَسَتَأْتِي ف 13
__________
(1) منهل الواردين (مجموعة رسائل ابن عابدين) 1 / 93(3/198)
حَالاَتُ الاِسْتِمْرَارِ فِي الْمُبْتَدَأَةِ:
8 - الأُْولَى: أَنْ يَسْتَمِرَّ بِهَا الدَّمُ مِنْ أَوَّل مَا بَلَغَتْ، فَحِينَئِذٍ يُقَدَّرُ حَيْضُهَا مِنْ أَوَّل الاِسْتِمْرَارِ عَشَرَةَ أَيَّامٍ، وَطُهْرُهَا عِشْرِينَ ثُمَّ ذَلِكَ دَأْبُهَا، وَإِذَا صَارَتْ نُفَسَاءَ فَنِفَاسُهَا يُقَدَّرُ بِأَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ بَعْدَ النِّفَاسِ يُقَدَّرُ بِعِشْرِينَ يَوْمًا طُهْرًا، إِذْ لاَ يَتَوَالَى نِفَاسٌ وَحَيْضٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، بَل لاَ بُدَّ مِنْ طُهْرٍ تَامٍّ بَيْنَهُمَا، وَلَمَّا كَانَ تَقْدِيرُهُ بَيْنَ الْحَيْضَتَيْنِ عِشْرِينَ، فَلْيَكُنْ كَذَلِكَ بَيْنَ النِّفَاسِ وَالْحَيْضِ تَقْدِيرًا مُطَّرِدًا.
الثَّانِيَةُ: أَنْ تَرَى دَمًا وَطُهْرًا فَاسِدَيْنِ، وَالدَّمُ الْفَاسِدُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مَا زَادَ عَلَى عَشَرَةِ أَيَّامٍ، وَالطُّهْرُ الْفَاسِدُ مَا نَقَصَ عَنْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، فَلاَ يُعْتَدُّ بِمَا رَأَتْ مِنْ حَيْثُ نَصْبُ الْعَادَةِ بِهِ، بَل يَكُونُ حَيْضُهَا عَشَرَةً، وَلَوْ حُكْمًا، مِنْ حِينِ اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ، وَيَكُونُ طُهْرُهَا عِشْرِينَ، وَذَلِكَ دَأْبُهَا حَتَّى تَرَى دَمًا وَطُهْرًا صَحِيحَيْنِ.
بَيَانُ ذَلِكَ: مُرَاهِقَةٌ (أَيْ مُقَارِبَةٌ لِلْبُلُوغِ) رَأَتْ أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا دَمًا وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ طُهْرًا، ثُمَّ اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ، فَحَيْضُهَا عَشَرَةٌ وَطُهْرُهَا عِشْرُونَ، وَالطُّهْرُ النَّاقِصُ الْفَاصِل بَيْنَ الدَّمَيْنِ يُعْتَبَرُ كَالدَّمِ الْمُسْتَمِرِّ حُكْمًا، وَعَلَيْهِ تَكُونُ هَذِهِ كَاَلَّتِي اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ مِنْ أَوَّل مَا بَلَغَتْ، فَيَكُونُ حَيْضُهَا عَشَرَةَ أَيَّامٍ مِنْ أَوَّل أَيَّامِ الدَّمِ الأَْحَدِ عَشَرَ وَطُهْرُهَا عِشْرِينَ. هَذَا إِذَا كَانَ الطُّهْرُ فَاسِدًا بِأَنْ كَانَ أَقَل مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، أَمَّا إِذَا كَانَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَأَكْثَرَ وَقَدْ فَسَدَ بِمُخَالَطَتِهِ دَمَ الاِسْتِحَاضَةِ، كَمُبْتَدَأَةٍ رَأَتْ أَحَدَ عَشَرَ دَمًا وَخَمْسَةَ عَشَرَ طُهْرًا ثُمَّ اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ، فَالدَّمُ الأَْوَّل فَاسِدٌ لِزِيَادَتِهِ عَلَى الْعَشَرَةِ، وَالطُّهْرُ صَحِيحٌ ظَاهِرًا لأَِنَّهُ تَامٌّ إِذْ هُوَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا،(3/199)
وَلَكِنَّهُ فَاسِدٌ فِي الْمَعْنَى لأَِنَّ أَوَّلَهُ دَمٌ، وَهُوَ الْيَوْمُ الزَّائِدُ عَلَى الْعَشَرَةِ، وَلَيْسَ مِنَ الْحَيْضِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لأَِنَّ أَكْثَرَ الْحَيْضِ عَشَرَةُ أَيَّامٍ فَقَطْ عِنْدَهُمْ فَهُوَ مِنَ الطُّهْرِ، وَبِمَا أَنَّ الطُّهْرَ خَالَطَهُ الدَّمُ فِي أَوَّلِهِ فَلاَ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عَادَةً.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ فِي شَرْحِ رِسَالَةِ الْحَيْضِ: وَالْحَاصِل أَنَّ فَسَادَ الدَّمِ يُفْسِدُ الطُّهْرَ الْمُتَخَلِّل فَيَجْعَلُهُ كَالدَّمِ الْمُتَوَالِي، فَتَصِيرُ الْمَرْأَةُ كَأَنَّهَا اُبْتُدِئَتْ بِالاِسْتِمْرَارِ، وَيَكُونُ حَيْضُهَا عَشَرَةً وَطُهْرُهَا عِشْرِينَ، وَلَكِنْ إِنْ لَمْ يَزِدِ الدَّمُ وَالطُّهْرُ عَلَى ثَلاَثِينَ يُعْتَبَرُ ذَلِكَ مِنْ أَوَّل مَا رَأَتْ، وَإِنْ زَادَ يُعْتَبَرُ مِنْ أَوَّل الاِسْتِمْرَارِ الْحَقِيقِيِّ، وَيَكُونُ جَمِيعُ مَا بَيْنَ دَمِ الْحَيْضِ الأَْوَّل وَدَمِ الاِسْتِمْرَارِ طُهْرًا (1) .
الثَّالِثَةُ: أَنْ تَرَى دَمًا صَحِيحًا، وَطُهْرًا فَاسِدًا، فَإِنَّ الدَّمَ الصَّحِيحَ يُعْتَبَرُ عَادَةً لَهَا فَقَطْ، فَتُرَدُّ إِلَيْهِ فِي زَمَنِ الاِسْتِمْرَارِ، وَيَكُونُ طُهْرُهَا أَثْنَاءَ الاِسْتِمْرَارِ بَقِيَّةَ الشَّهْرِ.
فَلَوْ رَأَتِ الْمُبْتَدَأَةُ خَمْسَةً دَمًا وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ طُهْرًا ثُمَّ اسْتَمَرَّ الدَّمُ، فَحَيْضُهَا خَمْسَةٌ وَطُهْرُهَا بَقِيَّةُ الشَّهْرِ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ، فَتُصَلِّي مِنْ أَوَّل الاِسْتِمْرَارِ أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا تَكْمِلَةَ الطُّهْرِ، ثُمَّ تَتْرُكُ الصَّلاَةَ خَمْسَةً، ثُمَّ تَغْتَسِل وَتُصَلِّي خَمْسَةً وَعِشْرِينَ وَهَكَذَا، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ إِذَا كَانَ الطُّهْرُ فَاسِدًا فِي الْمَعْنَى فَقَطْ، كَمَا لَوْ رَأَتِ الْمُبْتَدَأَةُ ثَلاَثَةً دَمًا وَخَمْسَةَ عَشَرَ طُهْرًا، ثُمَّ يَوْمًا دَمًا ثُمَّ خَمْسَةَ عَشَرَ طُهْرًا ثُمَّ اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ، فَإِنَّ الْيَوْمَ الَّذِي رَأَتْ فِيهِ الدَّمَ - وَقَدْ تَوَسَّطَ بَيْنَ الطُّهْرَيْنِ - أَفْسَدَهُمَا مَعًا لأَِنَّهُ لاَ يُعْتَبَرُ حَيْضًا فَهُوَ مِنَ الطُّهْرِ، وَعَلَيْهِ: فَالأَْيَّامُ الثَّلاَثَةُ الأُْولَى حَيْضٌ، وَوَاحِدٌ
__________
(1) شرح رسالة الحيض مجموعة رسائل ابن عابدين 1 / 94 - 96(3/199)
وَثَلاَثُونَ يَوْمًا طُهْرٌ، ثُمَّ تَسْتَأْنِفُ مِنْ أَوَّل الاِسْتِمْرَارِ فَثَلاَثَةٌ حَيْضٌ، وَسَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ طُهْرٌ، وَهَكَذَا دَأْبُهَا، وَبِهَذَا تَشْتَرِكُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَعَ السَّابِقَةِ فِي الْحُكْمِ، مِنْ حَيْثُ نَصْبُ الْعَادَةِ عِنْدَ الاِسْتِمْرَارِ فِي كُل شَهْرٍ.
وَإِذَا كَانَ الطُّهْرُ الثَّانِي الَّذِي مَرَّ بِهَا قَبْل الاِسْتِمْرَارِ طُهْرًا فَاسِدًا - لأَِنَّهُ أَقَل مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا - فَالْحُكْمُ يَخْتَلِفُ عَمَّا تَقَرَّرَ؛ لأَِنَّهُ أَمْكَنَ اعْتِبَارُ الْيَوْمِ الَّذِي رَأَتْ فِيهِ الدَّمَ بَعْدَ الْخَمْسَةَ عَشَرَ الأُْولَى مِنْ أَيَّامِ الْحَيْضِ.
فَلَوْ رَأَتِ الْمُرَاهِقَةُ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ دَمًا، ثُمَّ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا طُهْرًا، ثُمَّ يَوْمًا دَمًا، ثُمَّ أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا طُهْرًا، ثُمَّ اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ، فَالأَْيَّامُ الثَّلاَثَةُ الأُْوَل دَمٌ صَحِيحٌ، فَهُوَ حَيْضٌ، وَالْخَمْسَةَ عَشَرَ بَعْدَهَا طُهْرٌ صَحِيحٌ، وَالْيَوْمُ الَّذِي بَعْدَهَا مَعَ اثْنَيْنِ مِمَّا بَعْدَهُ حَيْضٌ، ثُمَّ طُهْرُهَا خَمْسَةَ عَشَرَ، اثْنَا عَشَرَ مِنْ أَيَّامِ الاِنْقِطَاعِ الَّتِي سَبَقَتِ الاِسْتِمْرَارَ، وَثَلاَثَةٌ مِنْ أَوَّل الاِسْتِمْرَارِ، وَلِهَذَا تُصَلِّي مِنْ أَوَّل الاِسْتِمْرَارِ ثَلاَثَةً ثُمَّ تُعْتَبَرُ حَائِضًا ثَلاَثَةً فَتَتْرُكُ فِيهَا الصَّلاَةَ، ثُمَّ تَغْتَسِل وَتُصَلِّي خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَهَكَذَا يُقَدَّرُ حَيْضُهَا بِثَلاَثَةٍ وَطُهْرُهَا بِخَمْسَةَ عَشَرَ.
أَمَّا الْحَالَةُ الرَّابِعَةُ فَسَتُبْحَثُ فِي الْفِقْرَةِ / 13 اسْتِحَاضَةُ الْمُبْتَدَأَةِ بِالْحَمْل.
اسْتِحَاضَةُ الْمُبْتَدَأَةِ بِالْحَيْضِ، وَالْمُبْتَدَأَةِ بِالْحَمْل:
9 - الْمُبْتَدَأَةُ بِالْحَيْضِ هِيَ الَّتِي كَانَتْ فِي أَوَّل حَيْضٍ (1) فَابْتَدَأَتْ بِالدَّمِ، وَاسْتَمَرَّ بِهَا. فَعِنْدَ
__________
(1) رد المحتار على الدر المختار 1 / 190، وفتح القدير 1 / 158، وحاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح.(3/200)
الْحَنَفِيَّةِ تَقَدَّمَ تَفْصِيل حُكْمِهَا.
10 - وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تُعْتَبَرُ الْمُبْتَدَأَةُ بِأَتْرَابِهَا، فَإِنْ تَجَاوَزَتْهُنَّ فَرِوَايَةُ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْمُدَوَّنَةِ: تَتَمَادَى إِلَى تَمَامِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، ثُمَّ هِيَ مُسْتَحَاضَةٌ تَغْتَسِل وَتُصَلِّي وَتَصُومُ.
وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ زِيَادٍ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّهَا تَقْتَصِرُ عَلَى عَوَائِدِ أَتْرَابِهَا أَيْ فِي السِّنِّ، فَتَأْخُذُ بِعَوَائِدِهِنَّ فِي الْحَيْضِ مِنْ قِلَّةِ الدَّمِ وَكَثْرَتِهِ، يُقَال إِنَّهَا تُقِيمُ قَدْرَ أَيَّامِ لَدَّاتِهَا، ثُمَّ هِيَ مُسْتَحَاضَةٌ بَعْدَ ذَلِكَ تُصَلِّي وَتَصُومُ، إِلاَّ أَنْ تَرَى دَمًا تَسْتَكْثِرُهُ لاَ تَشُكُّ فِيهِ أَنَّهُ دَمُ حَيْضَةٍ (1) . وَقَالُوا أَيْضًا: إِنَّ الْمُسْتَحَاضَةَ إِذَا عَرَفَتْ أَنَّ الدَّمَ النَّازِل هُوَ دَمُ الْحَيْضِ، بِأَنْ مَيَّزَتْهُ بِرِيحٍ أَوْ ثِخَنٍ أَوْ لَوْنٍ أَوْ تَأَلُّمٍ، فَهُوَ حَيْضٌ بِشَرْطِ أَنْ يَتَقَدَّمَهُ أَقَل الطُّهْرِ، وَهُوَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، فَإِنْ لَمْ تُمَيِّزْ، أَوْ مَيَّزَتْ قَبْل تَمَامِ أَقَل الطُّهْرِ فَهِيَ مُسْتَحَاضَةٌ أَيْ بَاقِيَةٌ عَلَى أَنَّهَا طَاهِرَةٌ، وَلَوْ مَكَثَتْ عَلَى ذَلِكَ طُول حَيَاتِهَا.
11 - وَأَمَّا الْمُبْتَدَأَةُ بِالْحَيْضِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، فَقَدْ قَالُوا: الْمُبْتَدَأَةُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُمَيِّزَةً لِمَا تَرَاهُ أَوْ لاَ، فَإِذَا كَانَتِ الْمُبْتَدَأَةُ مُمَيِّزَةً لِمَا تَرَاهُ بِأَنْ تَرَى فِي بَعْضِ الأَْيَّامِ دَمًا قَوِيًّا وَفِي بَعْضِهَا دَمًا ضَعِيفًا، أَوْ فِي بَعْضِهَا دَمًا أَسْوَدَ وَفِي بَعْضِهَا دَمًا أَحْمَرَ، وَجَاوَزَ الدَّمُ أَكْثَرَ الْحَيْضِ، فَالضَّعِيفُ أَوِ الأَْحْمَرُ اسْتِحَاضَةٌ وَإِنْ طَال، وَالأَْسْوَدُ أَوِ الْقَوِيُّ حَيْضٌ (2) إِنْ لَمْ يَنْقُصِ الأَْسْوَدُ أَوِ الْقَوِيُّ عَنْ أَقَل الْحَيْضِ، وَهُوَ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ عِنْدَهُمْ، وَلاَ جَاوَزَ أَكْثَرَ الْحَيْضِ وَهُوَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا أَيْضًا، حَتَّى لَوْ رَأَتْ يَوْمًا وَلَيْلَةً أَسْوَدَ ثُمَّ اتَّصَل بِهِ
__________
(1) أسهل المدارك شرح إرشاد السالك في فقه الإمام مالك 141
(2) مغني المحتاج 1 / 113، وحاشية الشرقاوي على تحفة الطلاب 1 / 153، والمجموع شرح المهذب للإمام النووي 2 / 412(3/200)
الضَّعِيفُ، وَتَمَادَى سِنِينَ كَانَ طُهْرًا، وَإِنْ كَانَتْ تَرَى الدَّمَ دَائِمًا؛ لأَِنَّ أَكْثَرَ الطُّهْرِ لاَ حَدَّ لَهُ، فَإِنْ فُقِدَ شَرْطٌ مِنْ ذَلِكَ كَأَنْ رَأَتِ الأَْسْوَدَ أَقَل مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ أَوْ سِتَّةَ عَشَرَ، أَوْ رَأَتِ الضَّعِيفَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ، أَوْ رَأَتْ أَبَدًا يَوْمًا أَسْوَدَ وَيَوْمَيْنِ أَحْمَرَ فَحُكْمُهَا كَحُكْمِ غَيْرِ الْمُمَيِّزَةِ لِمَا تَرَاهُ.
وَالْمُبْتَدَأَةُ غَيْرُ الْمُمَيِّزَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، بِأَنْ رَأَتِ الدَّمَ بِصِفَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ بِصِفَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ لَكِنْ فَقَدَتْ شَرْطًا مِنْ شُرُوطِ التَّمْيِيزِ الَّتِي ذُكِرَتْ، فَإِنْ لَمْ تَعْرِفْ وَقْتَ ابْتِدَاءِ دَمِهَا فَحُكْمُهَا حُكْمُ الْمُتَحَيِّرَةِ، كَمَا ذَكَرَهُ الرَّافِعِيُّ (1) وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ، وَإِنْ عَرَفَتْهُ فَالأَْظْهَرُ أَنَّ حَيْضَهَا يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ مِنْ أَوَّل الدَّمِ وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا؛ لأَِنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمُتَيَقَّنُ، وَمَا زَادَ مَشْكُوكٌ فِيهِ، فَلاَ يُحْكَمُ بِأَنَّهُ حَيْضٌ، وَطُهْرُهَا تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا تَتِمَّةَ الشَّهْرِ (2) .
12 - وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَالُوا: إِنَّ الْمُبْتَدَأَةَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُمَيِّزَةً لِمَا تَرَاهُ أَوْ لاَ، فَإِنْ كَانَتْ مُمَيِّزَةً عَمِلَتْ بِتَمْيِيزِهَا إِنْ صَلَحَ الأَْقْوَى أَنْ يَكُونَ حَيْضًا، بِأَنْ لَمْ يَنْقُصْ عَنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُمَيِّزَةٍ قُدِّرَ حَيْضُهَا بِيَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَتَغْتَسِل بَعْدَ ذَلِكَ وَتَفْعَل مَا تَفْعَلُهُ الطَّاهِرَاتُ. وَهَذَا فِي الشَّهْرِ الأَْوَّل وَالثَّانِي وَالثَّالِثِ، أَمَّا فِي الشَّهْرِ الرَّابِعِ فَتَنْتَقِل إِلَى غَالِبِ الْحَيْضِ، وَهُوَ سِتَّةُ أَيَّامٍ أَوْ سَبْعَةٌ بِاجْتِهَادِهَا أَوْ تَحَرِّيهَا (3) . وَقَال صَاحِبُ مَطَالِبِ أُولِي النُّهَى فِي شَرْحِ غَايَةِ الْمُنْتَهَى (4) : لَوْ رَأَتْ يَوْمًا وَلَيْلَةً دَمًا أَسْوَدَ، ثُمَّ رَأَتْ دَمًا أَحْمَرَ، وَجَاوَزَ خَمْسَةَ عَشَرَ
__________
(1) المجموع شرح المهذب للإمام النووي 2 / 410
(2) حاشية الشرقاوي على تحفة الطلاب 1 / 155، 156
(3) المغني والشرح الكبير 1 / 342
(4) مطالب أولي النهى 1 / 254(3/201)
يَوْمًا، فَحَيْضُهَا زَمَنَ الدَّمِ الأَْسْوَدِ، وَمَا عَدَاهُ اسْتِحَاضَةٌ لأَِنَّهُ لاَ يَصْلُحُ حَيْضًا. أَوْ رَأَتْ فِي الشَّهْرِ الأَْوَّل خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا دَمًا أَسْوَدَ، وَفِي الشَّهْرِ الثَّانِي أَرْبَعَةَ عَشَرَ، وَفِي الشَّهْرِ الثَّالِثِ ثَلاَثَةَ عَشَرَ، فَحَيْضُهَا زَمَنُ الأَْسْوَدِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَمُهَا مُتَمَيِّزًا، بِأَنْ كَانَ كُلُّهُ أَسْوَدَ أَوْ أَحْمَرَ وَنَحْوَهُ، أَوْ كَانَ مُتَمَيِّزًا، وَلَمْ يَصْلُحْ الأَْسْوَدُ وَنَحْوُهُ أَنْ يَكُونَ حَيْضًا بِأَنْ نَقَصَ عَنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، أَوْ زَادَ عَنِ الْخَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، فَتَجْلِسُ أَقَل الْحَيْضِ مِنْ كُل شَهْرٍ لأَِنَّهُ الْيَقِينُ حَتَّى تَتَكَرَّرَ اسْتِحَاضَتُهَا ثَلاَثًا؛ لأَِنَّ الْعَادَةَ لاَ تَثْبُتُ بِدُونِهَا، ثُمَّ تَجْلِسُ بَعْدَ التَّكْرَارِ مِنْ مِثْل أَوَّل وَقْتِ ابْتِدَاءٍ بِهَا إِنْ عَلِمَتْهُ مِنْ كُل شَهْرٍ سِتًّا أَوْ سَبْعًا بِتَحَرٍّ، أَوْ تَجْلِسُ مِنْ أَوَّل كُل شَهْرٍ هِلاَلِيٍّ إِنْ جَهِلَتْهُ، أَيْ: وَقْتَ ابْتِدَائِهَا بِالدَّمِ سِتًّا أَوْ سَبْعًا مِنَ الأَْيَّامِ بِلَيَالِيِهَا بِتَحَرٍّ فِي حَال الدَّمِ وَعَادَةِ أَقَارِبِهَا النِّسَاءِ، وَنَحْوِهِ، لِحَدِيثِ حَمْنَةَ بِنْتِ جَحْشٍ قَالَتْ: يَا رَسُول اللَّهِ إِنِّي أُسْتَحَاضُ حَيْضَةً كَبِيرَةً شَدِيدَةً، قَدْ مَنَعَتْنِي الصَّوْمَ وَالصَّلاَةَ، فَقَال: تَحِيضِي فِي عِلْمِ اللَّهِ سِتًّا أَوْ سَبْعًا ثُمَّ اغْتَسِلِي. (1) وَيُتَّجَهُ احْتِمَالٌ قَوِيٌّ بِوُجُوبِ قَضَاءِ مَنْ جَهِلَتْ وَقْتَ ابْتِدَائِهَا بِالدَّمِ نَحْوِ صَوْمٍ كَطَوَافٍ وَاعْتِكَافٍ وَاجِبَيْنِ فِيمَا فَعَلَتْهُ أَيِ الصَّوْمَ وَنَحْوَهُ قَبْل التَّحَرِّي، كَمَنْ جَهِل الْقِبْلَةَ وَصَلَّى بِلاَ تَحَرٍّ فَيَقْضِي وَلَوْ أَصَابَ.
13 - وَأَمَّا الْمُبْتَدَأَةُ بِالْحَمْل: وَهِيَ الَّتِي حَمَلَتْ مِنْ زَوْجِهَا قَبْل أَنْ تَحِيضَ إِذَا وَلَدَتْ فَرَأَتِ الدَّمَ زِيَادَةً عَنْ أَرْبَعِينَ يَوْمًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ فَالزِّيَادَةُ اسْتِحَاضَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لأَِنَّ الأَْرْبَعِينَ لِلنِّفَاسِ كَالْعَشَرَةِ لِلْحَيْضِ، فَالزِّيَادَةُ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا اسْتِحَاضَةٌ دُونَ نَظَرٍ إِلَى تَمْيِيزٍ أَوْ عَدَمِهِ. أَمَّا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فَإِنْ
__________
(1) رواه أحمد وغيره.(3/201)
أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ حَيْضًا فَحَيْضٌ، وَإِلاَّ فَاسْتِحَاضَةٌ؛ لأَِنَّهُ يُتَصَوَّرُ عِنْدَهُمْ اقْتِرَانُ الْحَيْضِ بِالنِّفَاسِ (1) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ الزِّيَادَةُ عَلَى السِّتِّينَ اسْتِحَاضَةٌ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ الْمُمَيِّزَةِ لِمَا تَرَى وَغَيْرِ الْمُمَيِّزَةِ، كَمَا فِي الْحَيْضِ.
فَإِذَا بَلَغَتْ بِالْحَمْل وَوَلَدَتْ وَاسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ، وَلَمْ تَرَ طُهْرًا صَحِيحًا بَعْدَ وِلاَدَتِهَا وَانْتِهَاءِ مُدَّةِ نِفَاسِهَا - وَهِيَ أَرْبَعُونَ يَوْمًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ - فَيُقَدَّرُ طُهْرُهَا بَعْدَ الأَْرْبَعِينَ بِعِشْرِينَ يَوْمًا، ثُمَّ بَعْدَهُ يَكُونُ حَيْضُهَا عَشَرَةً وَطُهْرُهَا عِشْرِينَ، وَهَذَا شَأْنُهَا مَا دَامَتْ حَالَةُ الاِسْتِمْرَارِ قَائِمَةً بِهَا.
وَإِذَا وَلَدَتْ فَرَأَتْ أَرْبَعِينَ يَوْمًا دَمًا، ثُمَّ خَمْسَةَ عَشَرَ طُهْرًا، ثُمَّ اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ، فَحَيْضُهَا عَشَرَةٌ مِنْ أَوَّل الاِسْتِمْرَارِ، وَطُهْرُهَا خَمْسَةَ عَشَرَ، أَيْ تُرَدُّ إِلَى عَادَتِهَا فِي الطُّهْرِ إِذَا كَانَ طُهْرًا صَحِيحًا خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَأَكْثَرَ، وَكَذَلِكَ يَكُونُ هَذَا الرَّدُّ إِذَا رَأَتْ سِتَّةَ عَشَرَ يَوْمًا طُهْرًا فَمَا فَوْقَهَا إِلَى وَاحِدٍ وَعِشْرِينَ، فَعِنْدَئِذٍ يُقَدَّرُ حَيْضُهَا بِتِسْعَةٍ وَطُهْرُهَا بِوَاحِدٍ وَعِشْرِينَ، ثُمَّ كُلَّمَا زَادَ الطُّهْرُ نَقَصَ مِنَ الْحَيْضِ مِثْلُهُ إِلَى أَنْ يَكُونَ حَيْضُهَا ثَلاَثَةً، وَطُهْرُهَا سَبْعَةً وَعِشْرِينَ، فَإِذَا زَادَ الطُّهْرُ عَلَى سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ فَحَيْضُهَا عَشَرَةٌ مِنْ أَوَّل الاِسْتِمْرَارِ، وَطُهْرُهَا مِثْل مَا رَأَيْتَ قَبْل الاِسْتِمْرَارِ كَائِنًا مَا كَانَ عَدَدُهُ. بِخِلاَفِ مَا إِذَا كَانَ طُهْرُهَا نَاقِصًا عَنْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَإِنَّهُ يُقَدَّرُ بَعْدَ الأَْرْبَعِينَ - الَّتِي هِيَ مُدَّةُ نِفَاسِهَا - بِعِشْرِينَ وَحَيْضُهَا بِعَشَرَةٍ، فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الَّذِي وَضَعَتْ وَاسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ ابْتِدَاءً، وَإِذَا كَانَ طُهْرُهَا الَّذِي رَأَتْهُ بَعْدَ الأَْرْبَعِينَ الَّتِي لِلنِّفَاسِ كَامِلاً خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَأَكْثَرَ، وَقَدْ زَادَ دَمُهَا عَلَى أَرْبَعِينَ فِي النِّفَاسِ بِيَوْمٍ مَثَلاً،
__________
(1) كشاف القناع 1 / 188 ط أنصار السنة.(3/202)
فَسَدَ هَذَا الطُّهْرُ فِي الْمَعْنَى؛ لأَِنَّهُ خَالَطَهُ دَمٌ يَوْمَ تُؤْمَرُ بِالصَّلاَةِ فِيهِ، وَلِهَذَا لاَ يَصْلُحُ لاِعْتِبَارِهِ عَادَةً لَهَا، فَيُقَدَّرُ حَيْضُهَا وَطُهْرُهَا حَسَبَ التَّفْصِيل التَّالِي:
فَإِذَا كَانَ بَيْنَ نِهَايَةِ النِّفَاسِ - الأَْرْبَعِينَ - وَأَوَّل الاِسْتِمْرَارِ عِشْرُونَ يَوْمًا فَأَكْثَرُ، كَأَنْ زَادَ دَمُهَا عَلَى الأَْرْبَعِينَ بِخَمْسَةٍ أَوْ سِتَّةٍ وَطَهُرَتْ بَعْدَهُ خَمْسَةَ عَشَرَ ثُمَّ اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ، فَإِنَّهُ يُقَدَّرُ حَيْضُهَا مِنْ أَوَّل الاِسْتِمْرَارِ بِعَشَرَةِ أَيَّامٍ، وَطُهْرُهَا بِعِشْرِينَ، وَهَكَذَا دَأْبُهَا.
وَإِنْ كَانَ بَيْنَ النِّفَاسِ وَأَوَّل الاِسْتِمْرَارِ أَقَل مِنْ عِشْرِينَ كَأَنْ زَادَ دَمُهَا عَلَى الأَْرْبَعِينَ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ فَإِنَّهُ يَكْمُل طُهْرُهَا إِلَى الْعِشْرِينَ، وَيُؤْخَذُ مِنْ أَوَّل الاِسْتِمْرَارِ مَا يَتِمُّ بِهِ تَكْمِيل هَذِهِ الْعِشْرِينَ، ثُمَّ يُقَدَّرُ حَيْضُهَا بَعْدَ ذَلِكَ بِعَشَرَةٍ وَطُهْرُهَا بِعِشْرِينَ وَهَكَذَا.
وَالْجَدِيرُ بِالذِّكْرِ أَنَّ الْمُبْتَدَأَةَ بِالْحَيْضِ أَوِ النِّفَاسِ إِذَا انْقَطَعَ دَمُهَا لأَِقَل مِنْ عَشَرَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَيْضِ، وَلأَِقَل مِنْ أَرْبَعِينَ فِي النِّفَاسِ، فَإِنَّهَا تَغْتَسِل وَتُصَلِّي فِي آخِرِ الْوَقْتِ، وَتَصُومُ احْتِيَاطًا، وَلاَ يَحِل لِزَوْجِهَا وَطْؤُهَا حَتَّى يَسْتَمِرَّ الاِنْقِطَاعُ إِلَى تَمَامِ الْعَشَرَةِ فِي الْحَيْضِ، هَذَا إِذَا انْقَطَعَ لِتَمَامِ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ، أَمَّا إِذَا انْقَطَعَ لأَِقَل مِنْ ثَلاَثَةٍ فَهُوَ اسْتِحَاضَةٌ وَلَيْسَ بِحَيْضٍ، فَتَتَوَضَّأُ وَتُصَلِّي فِي آخِرِ الْوَقْتِ (1) . وَهَذَا كُلُّهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
14 - أَمَّا أَحْكَامُ الْمُبْتَدَأَةِ بِالْحَمْل عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ فَقَوْلُهُمْ هُنَا كَأَقْوَالِهِمْ فِي الْمُبْتَدَأَةِ بِالْحَيْضِ.
وَالْمَالِكِيَّةُ قَالُوا: تُعْتَبَرُ الْمُبْتَدَأَةُ بِأَتْرَابِهَا، فَإِنْ تَمَادَى بِهَا الدَّمُ فَالْمَشْهُورُ أَنَّهَا تَعْتَكِفُ سِتِّينَ يَوْمًا، ثُمَّ هِيَ مُسْتَحَاضَةٌ تَغْتَسِل، وَتَصُومُ وَتُصَلِّي، وَتُوطَأُ (2) .
__________
(1) رد المحتار على الدر المختار 1 / 190
(2) أسهل المدارك شرح إرشاد السالك 142(3/202)
فَإِذَا عَبَرَ الدَّمُ السِّتِّينَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَيَنْزِل مَنْزِلَةَ عُبُورِهِ أَكْثَرَ الْحَيْضِ؛ لأَِنَّ النِّفَاسَ كَالْحَيْضِ فِي غَالِبِ أَحْكَامِهِ، فَكَذَلِكَ فِي الرَّدِّ إِلَيْهِ، فَيُقَاسُ بِمَا ذُكِرَ فِي الْحَيْضِ وِفَاقًا وَخِلاَفًا، فَيُنْظَرُ هُنَا أَيْضًا إِذَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ مُبْتَدَأَةً فِي النِّفَاسِ أَمْ مُعْتَادَةً، مُمَيِّزَةً لِمَا تَرَاهُ أَمْ غَيْرَ مُمَيِّزَةٍ، وَيُقَاسُ بِمَا تَقَدَّمَ فِي الْحَيْضِ، فَتُرَدُّ الْمُبْتَدَأَةُ الْمُمَيِّزَةُ إِلَى التَّمْيِيزِ شَرْطَ أَلاَّ يَزِيدَ الْقَوِيُّ عَلَى سِتِّينَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَغَيْرُ الْمُمَيِّزَةِ تُرَدُّ إِلَى لَحْظَةٍ فِي الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْمُعْتَادَةُ الْمُمَيِّزَةُ تُرَدُّ إِلَى التَّمْيِيزِ لاَ الْعَادَةِ فِي الأَْصَحِّ، وَغَيْرُ الْمُمَيِّزَةِ الْحَافِظَةُ تُرَدُّ إِلَى الْعَادَةِ، وَتَثْبُتُ الْعَادَةُ بِمَرَّةٍ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَأَمَّا النَّاسِيَةُ لِعَادَتِهَا فَتُرَدُّ إِلَى مَرَدِّ الْمُبْتَدَأَةِ فِي قَوْلٍ، وَتَحْتَاطُ فِي الْقَوْل الآْخَرِ (1) .
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَيَرَوْنَ أَنَّ النُّفَسَاءَ إِذَا زَادَ دَمُهَا عَلَى الأَْرْبَعِينَ، وَوَافَقَ عَادَةَ حَيْضٍ فَهُوَ حَيْضٌ، وَمَا زَادَ فَهُوَ اسْتِحَاضَةٌ. وَإِنْ لَمْ يُوَافِقْ عَادَةَ حَيْضٍ فَمَا زَادَ عَلَى الأَْرْبَعِينَ اسْتِحَاضَةٌ، وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ مُبْتَدَأَةٍ بِالْحَمْل أَوْ مُعْتَادَةٍ لَهُ.
اسْتِحَاضَةُ ذَاتِ الْعَادَةِ:
أ - ذَاتُ الْعَادَةِ بِالْحَيْضِ:
15 - مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ فِي ذَاتِ الْعَادَةِ بِالْحَيْضِ - وَهِيَ الَّتِي تَعْرِفُ شَهْرَهَا وَوَقْتَ حَيْضِهَا وَعَدَدَ أَيَّامِهَا أَنَّهُ: إِذَا رَأَتِ الْمُعْتَادَةُ مَا يُوَافِقُ عَادَتَهَا مِنْ حَيْثُ الزَّمَنُ وَالْعَدَدُ، فَكُل مَا رَأَتْهُ حَيْضٌ. وَإِذَا رَأَتْ مَا يُخَالِفُ عَادَتَهَا مِنْ حَيْثُ الزَّمَنُ أَوِ الْعَدَدُ أَوْ كِلاَهُمَا، فَحِينَئِذٍ قَدْ تَنْتَقِل الْعَادَةُ وَقَدْ لاَ تَنْتَقِل، وَيَخْتَلِفُ حُكْمُ مَا رَأَتْ، فَتَتَوَقَّفُ مَعْرِفَةُ حَال مَا رَأَتْ مِنَ
__________
(1) حاشيتا قليوبي وعميرة 1 / 109، 110(3/203)
الْحَيْضِ وَالاِسْتِحَاضَةِ عَلَى انْتِقَال الْعَادَةِ.
فَإِنْ لَمْ تَنْتَقِل كَمَا إِذَا زَادَ الدَّمُ عَنِ الْعَشَرَةِ رُدَّتْ إِلَى عَادَتِهَا، فَيُجْعَل الْمَرْئِيُّ فِي الْعَادَةِ حَيْضًا، وَالْبَاقِي الَّذِي جَاوَزَ الْعَادَةَ اسْتِحَاضَةً.
وَإِنِ انْتَقَلَتِ الْعَادَةُ فَكُل مَا رَأَتْهُ حَيْضٌ.
وَتَفْصِيل قَاعِدَةِ انْتِقَال الْعَادَةِ وَحَالاَتِهَا وَأَمْثِلَتِهَا فِي مُصْطَلَحِ (حَيْض (1)) .
16 - وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: أَقْوَالٌ مُتَعَدِّدَةٌ أَشَارَ إِلَيْهَا ابْنُ رُشْدٍ فِي الْمُقَدِّمَاتِ أَشْهَرُهَا:
أَنَّهَا تَبْقَى أَيَّامَهَا الْمُعْتَادَةَ، وَتَسْتَظْهِرُ (أَيْ تَحْتَاطُ) بِثَلاَثَةِ أَيَّامٍ، ثُمَّ تَكُونُ مُسْتَحَاضَةً تَغْتَسِل وَتُصَلِّي وَتَصُومُ وَتَطُوفُ وَيَأْتِيهَا زَوْجُهَا، مَا لَمْ تَرَ دَمًا تُنْكِرُهُ بَعْدَ مُضِيِّ أَقَل مُدَّةِ الطُّهْرِ مِنْ يَوْمِ حُكِمَ بِاسْتِحَاضَتِهَا، وَهُوَ ظَاهِرُ رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ فِي الْمُدَوَّنَةِ.
وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ تَغْتَسِل عِنْدَ تَمَامِ الْخَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا اسْتِحْبَابًا لاَ إِيجَابًا.
وَهَذَا كُلُّهُ إِذَا لَمْ تَكُنْ مُمَيِّزَةً، أَمَّا الْمُمَيِّزَةُ فَتَعْمَل بِتَمْيِيزِهَا مِنْ رُؤْيَةِ أَوْصَافِ الدَّمِ وَأَحْوَالِهِ مِنَ التَّقَطُّعِ وَالزِّيَادَةِ وَاللَّوْنِ، فَتُمَيِّزُ بِهِ مَا هُوَ حَيْضٌ، وَمَا هُوَ اسْتِحَاضَةٌ (2) .
وَإِذَا أَتَاهَا الْحَيْضُ فِي وَقْتِهِ، وَانْقَطَعَ بَعْدَ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ أَوْ سَاعَةٍ، وَأَتَاهَا بَعْدَ ذَلِكَ قَبْل طُهْرٍ تَامٍّ، فَإِنَّهَا تُلَفِّقُ أَيَّامَ الدَّمِ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ، فَإِنْ كَانَتْ مُعْتَادَةً فَتُلَفِّقُ عَادَتَهَا وَاسْتِظْهَارَهَا، وَإِنْ كَانَتْ مُبْتَدَأَةً لَفَّقَتْ نِصْفَ شَهْرٍ، وَإِنْ كَانَتْ حَامِلاً فِي ثَلاَثَةِ أَشْهُرٍ فَأَكْثَرَ لَفَّقَتْ نِصْفَ شَهْرٍ وَنَحْوَهُ، أَوْ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ لَفَّقَتْ عِشْرِينَ يَوْمًا وَنَحْوَهَا.
__________
(1) شرح رسالة الحيض (مجموعة رسائل ابن عابدين) 1 / 86 - 87
(2) أسهل المدارك شرح إرشاد السالك 142(3/203)
وَالأَْيَّامُ الَّتِي اسْتَظْهَرَتْ بِهَا هِيَ فِيهَا حَائِضٌ، وَهِيَ مُضَافَةٌ إِلَى الْحَيْضِ، إِنْ رَأَتِ الدَّمَ فِيهَا بَعْدَ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ تَرَهُ، وَأَيَّامُ الطُّهْرِ الَّتِي كَانَتْ تُلْغِيهَا عِنْدَ انْقِطَاعِ الدَّمِ فِي خِلاَل ذَلِكَ، وَكَانَتْ لاَ تَرَى فِيهَا دَمًا هِيَ فِيهَا طَاهِرَةٌ، تُصَلِّي فِيهَا وَيَأْتِيهَا زَوْجُهَا وَتَصُومُهَا، وَلَيْسَتْ تِلْكَ الأَْيَّامُ بِطُهْرٍ تَعْتَدُّ بِهِ فِي عِدَّةٍ مِنْ طَلاَقٍ؛ لأَِنَّ الَّذِي قَبْل تِلْكَ الأَْيَّامِ مِنَ الدَّمِ، وَاَلَّتِي بَعْدَ تِلْكَ الأَْيَّامِ قَدْ أُضِيفَتْ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ وَجُعِل حَيْضَةً وَاحِدَةً، وَكُل مَا بَيْنَ ذَلِكَ مِنَ الطُّهْرِ مُلْغًى، ثُمَّ تَغْتَسِل بَعْدَ الاِسْتِظْهَارِ، وَتُصَلِّي، وَتَتَوَضَّأُ لِكُل صَلاَةٍ، إِنْ رَأَتِ الدَّمَ فِي تِلْكَ الأَْيَّامِ، وَتَغْتَسِل كُل يَوْمٍ إِذَا انْقَطَعَ عَنْهَا الدَّمُ مِنْ أَيَّامِ الطُّهْرِ (1) .
17 - أَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَالْمُعْتَادَةُ بِالْحَيْضِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ غَيْرَ مُمَيِّزَةٍ لِمَا تَرَى بِأَنْ كَانَ الدَّمُ بِصِفَةٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ كَانَ بِصِفَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَفَقَدَتْ شَرْطَ التَّمْيِيزِ، وَلَكِنْ سَبَقَ لَهَا حَيْضٌ وَطُهْرٌ، وَهِيَ تَعْلَمُ أَيَّامَ حَيْضِهَا وَطُهْرِهَا قَدْرًا وَوَقْتًا فَتُرَدُّ إِلَيْهِمَا قَدْرًا وَوَقْتًا، وَتَثْبُتُ الْعَادَةُ بِمَرَّةٍ فِي الأَْصَحِّ.
وَأَمَّا الْمُعْتَادَةُ الْمُمَيِّزَةُ فَيُحْكَمُ بِالتَّمْيِيزِ لاَ بِالْعَادَةِ فِي الأَْصَحِّ، كَمَا لَوْ كَانَتْ عَادَتُهَا خَمْسَةً مِنْ أَوَّل كُل شَهْرٍ وَبَاقِيهِ طُهْرٌ، فَاسْتُحِيضَتْ فَرَأَتْ عَشَرَةً سَوَادًا مِنْ أَوَّل الشَّهْرِ وَبَاقِيهِ حُمْرَةً، فَحَيْضَتُهَا الْعَشَرَةُ السَّوَادُ وَمَا يَلِيهِ اسْتِحَاضَةٌ.
وَالْقَوْل الثَّانِي يُحْكَمُ بِالْعَادَةِ، فَيَكُونُ حَيْضُهَا الْخَمْسَةَ الأُْولَى (2) . وَالأَْوَّل أَصَحُّ لأَِنَّ التَّمْيِيزَ
__________
(1) المواق 1 / 369، وأسهل المدارك شرح إرشاد السالك في فقه الإمام مالك 143
(2) مغني المحتاج 1 / 115، وحاشية الشرقاوي على تحفة الطلاب 3 / 156، والمجموع شرح المهذب للإمام النووي 2 / 424(3/204)
عَلاَمَةٌ قَائِمَةٌ فِي شَهْرِ الاِسْتِحَاضَةِ، فَكَانَ اعْتِبَارُهُ أَوْلَى مِنِ اعْتِبَارِ عَادَةٍ انْقَضَتْ (1) .
18 - أَمَّا الْحَنَابِلَةُ: فَقَالُوا لاَ تَخْلُو الْمُسْتَحَاضَةُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ: مُمَيِّزَةٌ لاَ عَادَةَ لَهَا، وَمُعْتَادَةٌ لاَ تَمْيِيزَ لَهَا، وَمَنْ لَهَا عَادَةٌ وَتَمْيِيزٌ، وَمَنْ لاَ عَادَةَ لَهَا وَلاَ تَمْيِيزَ.
أَمَّا الْمُمَيِّزَةُ: وَهِيَ الَّتِي لِدَمِهَا إِقْبَالٌ وَإِدْبَارٌ، بَعْضُهُ أَسْوَدُ ثَخِينٌ مُنْتِنٌ، وَبَعْضُهُ أَحْمَرُ مُسَرَّقٌ أَوْ أَصْفَرُ أَوْ لاَ رَائِحَةَ لَهُ، وَيَكُونُ الدَّمُ الأَْسْوَدُ أَوِ الثَّخِينُ لاَ يَزِيدُ عَنْ أَكْثَرِ الْحَيْضِ، وَلاَ يَنْقُصُ عَنْ أَقَلِّهِ، فَحُكْمُ هَذِهِ: أَنَّ حَيْضَهَا زَمَانُ الدَّمِ الأَْسْوَدِ أَوِ الثَّخِينِ أَوِ الْمُنْتِنِ، فَإِنِ انْقَطَعَ فَهِيَ مُسْتَحَاضَةٌ، تَغْتَسِل لِلْحَيْضِ، وَتَتَوَضَّأُ بَعْدَ ذَلِكَ لِكُل صَلاَةٍ وَتُصَلِّي.
أَمَّا الْمُسْتَحَاضَةُ الَّتِي لَهَا عَادَةٌ وَلاَ تَمْيِيزَ لَهَا؛ لِكَوْنِ دَمِهَا غَيْرَ مُنْفَصِلٍ أَيْ عَلَى صِفَةٍ لاَ تَخْتَلِفُ، وَلاَ يَتَمَيَّزُ بَعْضُهُ مِنْ بَعْضٍ، أَوْ كَانَ مُنْفَصِلاً، إِلاَّ أَنَّ الدَّمَ الَّذِي يَصْلُحُ لِلْحَيْضِ دُونَ أَقَل الْحَيْضِ، أَوْ فَوْقَ أَكْثَرِهِ؟ فَهَذِهِ لاَ تَمْيِيزَ لَهَا، فَإِنْ كَانَتْ لَهَا عَادَةٌ قَبْل أَنْ تُسْتَحَاضَ جَلَسَتْ أَيَّامَ عَادَتِهَا، وَاغْتَسَلَتْ عِنْدَ انْقِضَائِهَا، ثُمَّ تَتَوَضَّأُ بَعْدَ ذَلِكَ لِوَقْتِ كُل صَلاَةٍ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَنْ لَهَا عَادَةٌ وَتَمْيِيزٌ، فَاسْتُحِيضَتْ، وَدَمُهَا مُتَمَيِّزٌ، بَعْضُهُ أَسْوَدُ وَبَعْضُهُ أَحْمَرُ، فَإِنْ كَانَ الأَْسْوَدُ فِي زَمَنِ الْعَادَةِ فَقَدِ اتَّفَقَتِ الْعَادَةُ وَالتَّمْيِيزُ فِي الدَّلاَلَةِ فَيُعْمَل بِهِمَا، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنَ الْعَادَةِ أَوْ أَقَل - وَيَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ حَيْضًا - فَفِيهِ
__________
(1) المجموع شرح المهذب 2 / 439، 441 حيث ذكر أيضا أنها إن كانت ناسية لعادتها مميزة للحيض من الاستحاضة باللون مثلا فإنها ترد إلى التمييز. وعلى قول من قال تقدم العادة على التمييز حكمها حكم من لا تمييز لها.(3/204)
رِوَايَتَانِ: الرِّوَايَةُ الأُْولَى: اعْتِبَارُ الْعَادَةِ لِعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأُِمِّ حَبِيبَةَ إِذْ سَأَلَتْهُ عَنِ الدَّمِ: اُمْكُثِي قَدْرَ مَا كَانَتْ تَحْبِسُكِ حَيْضَتُكِ ثُمَّ اغْتَسِلِي وَصَلِّي (1) وَلأَِنَّ الْعَادَةَ أَقْوَى (2) . وَالثَّانِيَةُ: يُقَدَّمُ التَّمْيِيزُ فَيُعْمَل بِهِ وَتَدَعُ الْعَادَةَ.
أَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ: وَهِيَ الَّتِي لاَ عَادَةَ لَهَا وَلاَ تَمْيِيزَ فَسَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ فِي مَوْضُوعِ (اسْتِحَاضَةُ مَنْ لَيْسَ لَهَا عَادَةٌ (3)) .
ب - ذَاتُ الْعَادَةِ فِي النِّفَاسِ:
19 - إِذَا رَأَتْ ذَاتُ الْعَادَةِ بِالنِّفَاسِ زِيَادَةً عَنْ عَادَتِهَا، فَإِنْ كَانَتْ عَادَتُهَا أَرْبَعِينَ فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ الزِّيَادَةُ اسْتِحَاضَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ عَادَتُهَا دُونَ الأَْرْبَعِينَ، وَكَانَتِ الزِّيَادَةُ إِلَى الأَْرْبَعِينَ أَوْ دُونَهَا، فَمَا زَادَ يَكُونُ نِفَاسًا، وَإِنْ زَادَ عَلَى الأَْرْبَعِينَ تُرَدُّ إِلَى عَادَتِهَا فَتَكُونُ عَادَتُهَا نِفَاسًا، وَمَا زَادَ عَلَى الْعَادَةِ يَكُونُ اسْتِحَاضَةً (4) .
أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فَمَا ذُكِرَ فِي الْحَيْضِ لِلْمُعْتَادَةِ يُذْكَرُ هُنَا أَيْضًا.
حَيْثُ ذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ أَكْثَرَ النِّفَاسِ سِتُّونَ يَوْمًا. فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ الزَّائِدُ عَنِ السِّتِّينَ كُلُّهُ اسْتِحَاضَةٌ وَلاَ تَسْتَظْهِرُ، فَإِنَّ الاِسْتِظْهَارَ خَاصٌّ بِالْحَيْضِ، وَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَمَا زَادَ عَلَى السِّتِّينَ فَهُوَ اسْتِحَاضَةٌ فَإِذَا عَبَرَ دَمُ النُّفَسَاءِ السِّتِّينَ فَفِيهِ طَرِيقَانِ: أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ كَالْحَيْضِ إِذَا عَبَرَ الْخَمْسَةَ
__________
(1) رواه مسلم.
(2) مطالب أولي النهى شرح غاية المنتهى 1 / 255
(3) المغني والشرح الكبير 1 / 324، 328، 332، 336
(4) حاشية رد المحتار على الدر المختار 1 / 200(3/205)
عَشَرَ فِي الرَّدِّ إِلَى التَّمْيِيزِ إِنْ كَانَتْ مُمَيِّزَةً لِمَا تَرَى، أَوِ الْعَادَةِ إِنْ كَانَتْ مُعْتَادَةً غَيْرَ مُمَيِّزَةٍ، وَالثَّانِي لَهُ ثَلاَثَةُ أَوْجُهٍ:
الأَْوَّل: أَصَحُّهُمَا كَالطَّرِيقِ الأَْوَّل أَيْ أَنَّهُ كَالْحَيْضِ.
الثَّانِي: أَنَّ السِّتِّينَ كُلَّهَا نِفَاسٌ، وَمَا زَادَ عَلَى السِّتِّينَ اسْتِحَاضَةٌ، اخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ.
الثَّالِثُ: أَنَّ السِّتِّينَ نِفَاسٌ، وَاَلَّذِي بَعْدَهُ حَيْضٌ فَعَلَى هَذَا قَال أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْمَرْزُبَانِيُّ: قَال صَاحِبَا التَّتِمَّةِ وَالْعِدَّةِ: إِنْ زَادَ الدَّمُ بَعْدَ السِّتِّينَ حَكَمْنَا بِأَنَّهَا مُسْتَحَاضَةٌ فِي الْحَيْضِ. وَهَذَا الْوَجْهُ ضَعِيفٌ جِدًّا، وَهُوَ أَضْعَفُ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ (1) .
وَقَالَتِ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ زَادَ دَمُ النُّفَسَاءِ عَلَى أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَأَمْكَنَ جَعْلُهُ حَيْضًا فَهُوَ حَيْضٌ، وَإِلاَّ فَهُوَ اسْتِحَاضَةٌ. وَلَمْ نَقِفْ فِيمَا بَيْنَ أَيْدِينَا مِنْ مَرَاجِعِ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُمْ تَحَدَّثُوا عَنْ عَادَةٍ فِي النِّفَاسِ.
اسْتِحَاضَةُ مَنْ لَيْسَ لَهَا عَادَةٌ مَعْرُوفَةٌ:
20 - مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا عَادَةٌ مَعْرُوفَةٌ فِي الْحَيْضِ - بِأَنْ كَانَتْ تَرَى شَهْرًا سِتًّا وَشَهْرًا سَبْعًا - فَاسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ، فَإِنَّهَا تَأْخُذُ فِي حَقِّ الصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ وَالرَّجْعَةِ بِالأَْقَل، وَفِي حَقِّ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَالْوَطْءِ بِالأَْكْثَرِ، فَعَلَيْهَا أَنْ تَغْتَسِل فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ لِتَمَامِ الْيَوْمِ السَّادِسِ وَتُصَلِّي فِيهِ، وَتَصُومُ إِنْ كَانَ دَخَل عَلَيْهَا شَهْرُ رَمَضَانَ احْتِيَاطًا.
وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ تُعْتَبَرُ حَيْضَةً ثَالِثَةً يَكُونُ قَدْ سَقَطَ حَقُّ الزَّوْجِ فِي مُرَاجَعَتِهَا.
__________
(1) المجموع للإمام النووي 2 / 534، والدسوقي 1 / 174، والمهذب 1 / 52(3/205)
وَأَمَّا فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ لِلزَّوَاجِ مِنْ آخَرَ، وَحِل اسْتِمْتَاعِ الزَّوْجِ بِهَا فَتَأْخُذُ بِالأَْكْثَرِ؛ لأَِنَّ تَرْكَهَا التَّزَوُّجَ مَعَ جَوَازِهِ أَوْلَى مِنْ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِدُونِ حَقِّ التَّزَوُّجِ، وَكَذَا تَرْكُ الْوَطْءِ مَعَ احْتِمَال الْحِل، أَوْلَى مِنَ الْوَطْءِ مَعَ احْتِمَال الْحُرْمَةِ، فَإِذَا جَاءَ الْيَوْمُ الثَّامِنُ فَعَلَيْهَا أَنْ تَغْتَسِل ثَانِيًا، وَتَقْضِيَ الْيَوْمَ السَّابِعَ الَّذِي صَامَتْهُ؛ لأَِنَّ الأَْدَاءَ كَانَ وَاجِبًا، وَوَقَعَ الشَّكُّ فِي السُّقُوطِ، إِنْ لَمْ تَكُنْ حَائِضًا فِيهِ صَحَّ صَوْمُهَا وَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَتْ حَائِضًا فَعَلَيْهَا الْقَضَاءُ، فَلاَ يَسْقُطُ الْقَضَاءُ بِالشَّكِّ.
وَلَيْسَ عَلَيْهَا قَضَاءُ الصَّلَوَاتِ؛ لأَِنَّهَا إِنْ كَانَتْ طَاهِرَةً فِي هَذَا الْيَوْمِ فَقَدْ صَلَّتْ، وَإِنْ كَانَتْ حَائِضًا فِيهِ فَلاَ صَلاَةَ عَلَيْهَا، وَبِالتَّالِي لاَ قَضَاءَ عَلَيْهَا (1) . وَلَوْ كَانَتْ عَادَتُهَا خَمْسَةً فَحَاضَتْ سِتَّةً، ثُمَّ حَاضَتْ حَيْضَةً أُخْرَى سَبْعَةً، ثُمَّ حَاضَتْ حَيْضَةً أُخْرَى سِتَّةً، فَعَادَتُهَا سِتَّةٌ بِالإِْجْمَاعِ حَتَّى يَنْبَنِيَ الاِسْتِمْرَارُ عَلَيْهَا.
أَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَلأَِنَّ الْعَادَةَ تَنْتَقِل بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ، وَإِنَّمَا يَنْبَنِي الاِسْتِمْرَارُ عَلَى الْمَرَّةِ الأَْخِيرَةِ لأَِنَّ الْعَادَةَ انْتَقَلَتْ إِلَيْهَا، وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ فَلأَِنَّ الْعَادَةَ وَإِنْ كَانَتْ لاَ تَنْتَقِل إِلاَّ بِالْمَرَّتَيْنِ فَقَدْ رَأَتِ السِّتَّةَ مَرَّتَيْنِ.
وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي جَمِيعِ مَا ذُكِرَ لِمَنْ لَيْسَ لَهَا عَادَةٌ مَعْرُوفَةٌ فِي النِّفَاسِ.
اسْتِحَاضَةُ الْمُتَحَيِّرَةِ:
21 - الْمُتَحَيِّرَةُ: هِيَ الَّتِي نَسِيَتْ عَادَتَهَا بَعْدَ اسْتِمْرَارِ الدَّمِ وَتُوصَفُ بِالْمُحَيِّرَةِ بِصِيغَةِ اسْمِ
__________
(1) البدائع 1 / 174(3/206)
الْفَاعِل، لأَِنَّهَا تُحَيِّرُ الْمُفْتِيَ، وَبِصِيغَةِ اسْمِ الْمَفْعُول لأَِنَّهَا حُيِّرَتْ بِسَبَبِ نِسْيَانِهَا (1) ، وَتُدْعَى أَيْضًا الْمُضِلَّةَ؛ لأَِنَّهَا أَضَلَّتْ عَادَتَهَا.
وَمَسَائِل الْمُحَيِّرَةِ مِنْ أَصْعَبِ مَسَائِل الْحَيْضِ وَأَدَقِّهَا، وَلَهَا صُوَرٌ كَثِيرَةٌ وَفُرُوعٌ دَقِيقَةٌ، وَلِهَذَا يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ حِفْظُ عَادَتِهَا فِي الزَّمَانِ وَالْعَدَدِ.
وَجَمِيعُ الأَْحْكَامِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ تُبْنَى عَلَى الاِحْتِيَاطِ، وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ تَشْدِيدٌ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ فَلَيْسَ الْقَصْدُ التَّشْدِيدَ لأَِنَّهَا لَمْ تَرْتَكِبْ مَحْظُورًا.
وَتَفْصِيل أَحْكَامِ الْمُتَحَيِّرَةِ فِي مُصْطَلَحِهَا.
مَا تَرَاهُ الْمَرْأَةُ الْحَامِل مِنَ الدَّمِ أَثْنَاءَ حَمْلِهَا:
22 - إِذَا رَأَتِ الْمَرْأَةُ الْحَامِل الدَّمَ حَال الْحَبَل وَقَبْل الْمَخَاضِ، فَلَيْسَ بِحَيْضٍ وَإِنْ كَانَ مُمْتَدًّا بَالِغًا نِصَابَ الْحَيْضِ، بَل هُوَ اسْتِحَاضَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (2) وَالْحَنَابِلَةِ.
وَكَذَلِكَ مَا تَرَاهُ حَالَةَ الْمَخَاضِ وَقَبْل خُرُوجِ أَكْثَرِ الْوَلَدِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّ الدَّمَ الَّذِي تَرَاهُ الْحَامِل قَبْل الْوِلاَدَةِ بِيَوْمَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةٍ دَمُ نِفَاسٍ (3) وَإِنْ كَانَ لاَ يُعَدُّ مِنْ مُدَّةِ النِّفَاسِ.
وَاسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ: بِقَوْل عَائِشَةَ الْحَامِل لاَ تَحِيضُ وَمِثْل هَذَا لاَ يُعْرَفُ بِالرَّأْيِ (4) .
وَقَال الشَّافِعِيُّ: هُوَ حَيْضٌ فِي حَقِّ تَرْكِ الصَّوْمِ وَالصَّلاَةِ وَحُرْمَةِ الْقُرْبَانِ، لاَ فِي حَقِّ أَقْرَاءِ الْعِدَّةِ،
__________
(1) طحطاوي 1 / 76
(2) فتح القدير 1 / 164
(3) المغني مع الشرح الكبير 1 / 375
(4) فالظاهر أنها قالته سماعا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأن فم الرحم ينسد حال الحبل في المعتاد، ولا ينفتح إلا بخروج الولد حيث يندفع النفاس. فتح القدير 1 / 165(3/206)
وَاحْتَجَّ بِمَا يُرْوَى عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال لِفَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ: إِذَا أَقْبَل قُرْؤُكِ فَدَعِي الصَّلاَةَ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ حَالٍ وَحَالٍ. وَلأَِنَّ الْحَامِل مِنْ ذَوَاتِ الأَْقْرَاءِ إِلاَّ أَنَّ حَيْضَهَا لاَ يُعْتَبَرُ فِي حَقِّ أَقْرَاءِ الْعِدَّةِ؛ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ أَقْرَاءِ الْعِدَّةِ فَرَاغُ الرَّحِمِ، وَحَيْضُهَا لاَ يَدُل عَلَى ذَلِكَ.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَإِنَّهُمْ نَصُّوا عَلَى أَنَّ الْحَامِل إِذَا رَأَتْ دَمًا فِي الشَّهْرِ الأَْوَّل أَوِ الثَّانِي يُعْتَبَرُ حَيْضًا، وَتُعَامَل كَأَنَّهَا حَامِلٌ؛ لأَِنَّ الْحَمْل لاَ يَسْتَبِينُ - عَادَةً - فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ، وَأَمَّا إِذَا رَأَتْ دَمًا فِي الشَّهْرِ الثَّالِثِ أَوِ الرَّابِعِ أَوِ الْخَامِسِ وَاسْتَمَرَّ كَانَ أَثَرُ حَيْضِهَا عِشْرِينَ يَوْمًا، وَمَا زَادَ فَهُوَ اسْتِحَاضَةٌ.
وَإِنَّمَا فَرَّقُوا فِي أَكْثَرِ الْحَيْضِ بَيْنَ الْحَامِل وَغَيْرِهَا؛ لأَِنَّ الْحَمْل يَحْبِسُ الدَّمَ، فَإِذَا خَرَجَ كَانَ زَائِدًا، وَرُبَّمَا اسْتَمَرَّ لِطُول الْمُكْثِ. وَأَمَّا إِنْ رَأَتْهُ فِي الشَّهْرِ السَّابِعِ أَوِ الثَّامِنِ أَوِ التَّاسِعِ وَاسْتَمَرَّ نَازِلاً كَانَ أَكْثَرُ الْحَيْضِ فِي حَقِّهَا ثَلاَثِينَ يَوْمًا. وَأَمَّا إِنْ رَأَتْهُ فِي الشَّهْرِ السَّادِسِ فَظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ أَنَّ حُكْمَهَا حُكْمُ مَا إِذَا حَاضَتْ فِي الشَّهْرِ الثَّالِثِ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ شُيُوخُ إِفْرِيقِيَّةَ فَرَأَوْا أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ مَا بَعْدَهُ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ (1) .
وَبَعْدَ هَذِهِ الْمُدَّةِ يُعْتَبَرُ اسْتِحَاضَةً (2) .
مَا تَرَاهُ الْمَرْأَةُ مِنَ الدَّمِ بَيْنَ الْوِلاَدَتَيْنِ (إِنْ كَانَتْ حَامِلاً بِتَوْأَمَيْنِ) :
23 - التَّوْأَمُ: اسْمُ وَلَدٍ إِذَا كَانَ مَعَهُ آخَرُ فِي بَطْنٍ
__________
(1) حاشية الدسوقي 1 / 169 - 170، والذخيرة 1 / 386 ط كلية الشريعة بالأزهر.
(2) أسهل المدارك شرح إرشاد السالك في فقه الإمام مالك 147، والدسوقي 1 / 169.(3/207)
وَاحِدٍ، فَالتَّوْأَمَانِ هُمَا الْوَلَدَانِ فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ إِذَا كَانَ بَيْنَهُمَا أَقَل مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، يُقَال لِكُل وَاحِدٍ تَوْأَمٌ، وَلِلأُْنْثَى تَوْأَمَةٌ (1) .
فَإِنْ كَانَ بَيْنَ الأَْوَّل وَالثَّانِي أَقَل مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَالدَّمُ الَّذِي تَرَاهُ النُّفَسَاءُ بَيْنَ الْوِلاَدَتَيْنِ دَمٌ صَحِيحٌ، أَيْ نِفَاسٌ فِي قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ دَمٌ فَاسِدٌ أَيِ اسْتِحَاضَةٌ، وَذَلِكَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا وَلَدَتْ وَفِي بَطْنِهَا وَلَدٌ آخَرُ، فَالنِّفَاسُ مِنَ الْوَلَدِ الأَْوَّل عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ مِنَ الْوَلَدِ الثَّانِي، وَانْقِضَاءُ الْعِدَّةِ بِالْوَلَدِ الثَّانِي بِالإِْجْمَاعِ.
وَجْهُ قَوْل مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ: أَنَّ النِّفَاسَ يَتَعَلَّقُ بِوَضْعِ مَا فِي الْبَطْنِ، كَانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَيَتَعَلَّقُ بِالْوَلَدِ الأَْخِيرِ، وَهَذَا لأَِنَّهَا لاَ تَزَال حُبْلَى، وَكَمَا لاَ يُتَصَوَّرُ انْقِضَاءُ عِدَّةِ الْحَمْل بِدُونِ وَضْعِ الْحَمْل، لاَ يُتَصَوَّرُ وُجُودُ النِّفَاسِ مِنَ الْحُبْلَى؛ لأَِنَّ النِّفَاسَ بِمَنْزِلَةِ الْحَيْضِ، فَكَانَ الْمَوْجُودُ قَبْل وَضْعِ الْوَلَدِ الثَّانِي نِفَاسًا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، فَلاَ تَسْقُطُ الصَّلاَةُ عَنْهَا بِالشَّكِّ.
وَلأَِبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ: أَنَّ النِّفَاسَ إِنْ كَانَ دَمًا يَخْرُجُ عَقِيبَ الْوِلاَدَةِ فَقَدْ وُجِدَ بِوِلاَدَةِ الأَْوَّل، بِخِلاَفِ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ؛ لأَِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِفَرَاغِ الرَّحِمِ وَلَمْ يُوجَدْ، وَبَقَاءُ الْوَلَدِ الثَّانِي فِي الْبَطْنِ لاَ يُنَافِي النِّفَاسَ (2) .
وَيَتَّفِقُ الْحَنَابِلَةُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ مَعَ الشَّيْخَيْنِ، وَفِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ مَعَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّ أَوَّل النِّفَاسِ مِنَ الْوَلَدِ الأَْوَّل. وَتَبْدَأُ
__________
(1) أسهل المدارك شرح إرشاد السالك في فقه الإمام مالك 148
(2) بدائع الصنائع للكاساني 1 / 176، وفتح القدير 1 / 167(3/207)
لِلثَّانِي بِنِفَاسٍ جَدِيدٍ (1) .
24 - وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: الدَّمُ الَّذِي بَيْنَ التَّوْأَمَيْنِ نِفَاسٌ، وَقِيل حَيْضٌ، وَالْقَوْلاَنِ فِي الْمُدَوَّنَةِ (2) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: ثَلاَثَةُ أَوْجُهٍ كَاَلَّتِي رُوِيَتْ عَنِ الْحَنَابِلَةِ.
أَحْكَامُ الْمُسْتَحَاضَةِ:
25 - دَمُ الاِسْتِحَاضَةِ حُكْمُهُ كَالرُّعَافِ الدَّائِمِ، أَوْ كَسَلَسِ الْبَوْل، حَيْثُ تُطَالَبُ الْمُسْتَحَاضَةُ بِأَحْكَامٍ خَاصَّةٍ تَخْتَلِفُ عَنْ أَحْكَامِ الأَْصِحَّاءِ، وَعَنْ أَحْكَامِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ، وَهِيَ:
أ - يَجِبُ رَدُّ دَمِ الاِسْتِحَاضَةِ، أَوْ تَخْفِيفُهُ إِذَا تَعَذَّرَ رَدُّهُ بِالْكُلِّيَّةِ، وَذَلِكَ بِرِبَاطٍ أَوْ حَشْوٍ أَوْ بِالْقِيَامِ أَوْ بِالْقُعُودِ، كَمَا إِذَا سَال أَثْنَاءَ السُّجُودِ وَلَمْ يَسِل بِدُونِهِ، فَتُومِئُ مِنْ قِيَامٍ أَوْ مِنْ قُعُودٍ، وَكَذَا لَوْ سَال الدَّمُ عِنْدَ الْقِيَامِ صَلَّتْ مِنْ قُعُودٍ؛ لأَِنَّ تَرْكَ السُّجُودِ أَوِ الْقِيَامِ أَوِ الْقُعُودِ أَهْوَنُ مِنَ الصَّلاَةِ مَعَ الْحَدَثِ.
وَهَكَذَا إِذَا كَانَتِ الْمُسْتَحَاضَةُ تَسْتَطِيعُ مَنْعَ سَيَلاَنِ الدَّمِ بِالاِحْتِشَاءِ فَيَلْزَمُهَا ذَلِكَ، فَإِذَا نَفَذَتِ الْبِلَّةُ أَوْ أَخْرَجَتِ الْحَشْوَةَ الْمُبْتَلَّةَ انْتَقَضَ وُضُوءُهَا.
فَإِذَا رَدَّتِ الْمُسْتَحَاضَةُ الدَّمَ بِسَبَبٍ مِنَ الأَْسْبَابِ الْمَذْكُورَةِ أَوْ نَحْوِهَا خَرَجَتْ عَنْ أَنْ تَكُونَ صَاحِبَةَ عُذْرٍ (3) .
وَاعْتَبَرَ الْمَالِكِيَّةُ الْمُسْتَحَاضَةَ صَاحِبَةَ عُذْرٍ كَمَنْ بِهِ سَلَسٌ، فَإِذَا فَارَقَهَا الدَّمُ أَكْثَرَ زَمَنِ وَقْتِ الصَّلاَةِ لَمْ
__________
(1) المغني 1 / 365
(2) أسهل المدارك شرح إرشاد السالك 149
(3) حاشية رد المحتار على الدر المختار 1 / 204، والطحطاوي على مراقي الفلاح 80، والقليوبي 1 / 101، والمغني مع الشرح الكبير 1 / 358(3/208)
تُعَدَّ صَاحِبَةَ عُذْرٍ.
وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهَا إِذَا رَأَتِ الدَّمَ عِنْدَ الْوُضُوءِ فَإِذَا قَامَتْ ذَهَبَ عَنْهَا، قَال مَالِكٌ: تَشُدُّ ذَلِكَ بِشَيْءٍ وَلاَ تَتْرُكُ الصَّلاَةَ (1) .
وَيُسْتَثْنَى مِنْ وُجُوبِ الشَّدِّ أَوِ الاِحْتِشَاءِ أَمْرَانِ:
الأَْوَّل: أَنْ تَتَضَرَّرَ الْمُسْتَحَاضَةُ مِنَ الشَّدِّ أَوِ الاِحْتِشَاءِ.
الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ صَائِمَةً فَتَتْرُكُ الاِحْتِشَاءَ نَهَارًا لِئَلاَّ يَفْسُدَ صَوْمُهَا.
وَإِذَا قَامَتِ الْمُسْتَحَاضَةُ وَمَنْ فِي حُكْمِهَا مِنَ الْمَعْذُورِينَ بِالشَّدِّ أَوِ الاِحْتِشَاءِ ثُمَّ خَرَجَ الدَّمُ رَغْمَ ذَلِكَ وَلَمْ يَرْتَدَّ، أَوْ تَعَذَّرَ رَدُّهُ وَاسْتَمَرَّ وَقْتَ صَلاَةٍ كَامِلٍ، فَلاَ يَمْنَعُ خُرُوجُ الدَّمِ أَوْ وُجُودُهُ مِنْ صِحَّةِ الطَّهَارَةِ وَالصَّلاَةِ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِي حُبَيْشٍ لِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي امْرَأَةٌ أُسْتَحَاضُ فَلاَ أَطْهُرُ، أَفَأَدَعُ الصَّلاَةَ؟ فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ ذَلِكَ عِرْقٌ، وَلَيْسَ بِالْحَيْضَةِ، فَإِذَا أَقْبَلَتِ الْحَيْضَةُ فَاتْرُكِي الصَّلاَةَ، فَإِذَا ذَهَبَ قَدْرُهَا فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ وَصَلِّي (2) ، وَفِي رِوَايَةٍ: تَوَضَّئِي لِكُل صَلاَةٍ (3) ، وَفِي رِوَايَةٍ: تَوَضَّئِي لِوَقْتِ كُل صَلاَةٍ (4) ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: وَإِنْ قَطَرَ الدَّمُ عَلَى الْحَصِيرِ. (5)
وَذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ لِلْمُسْتَحَاضَةِ وَلِغَيْرِهَا مِنَ الْمَعْذُورِينَ ثَلاَثَةَ شُرُوطٍ:
الأَْوَّل: شَرْطُ الثُّبُوتِ: حَيْثُ لاَ يَصِيرُ مَنِ اُبْتُلِيَ
__________
(1) المواق 1 / 367
(2) رواه الترمذي، وقال. حديث حسن صحيح.
(3) رواه الترمذي أيضا.
(4) رواه الترمذي أيضا، وقال حديث حسن صحيح.
(5) رواه ابن ماجه في سننه، والبيهقي.(3/208)
بِالْعُذْرِ مَعْذُورًا، وَلاَ تَسْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمَعْذُورِينَ، حَتَّى يَسْتَوْعِبَهُ الْعُذْرُ وَقْتًا كَامِلاً لِصَلاَةٍ مَفْرُوضَةٍ وَلَوْ حُكْمًا، وَلَيْسَ فِيهِ انْقِطَاعٌ - فِي جَمِيعِ ذَلِكَ الْوَقْتِ - زَمَنًا بِقَدْرِ الطَّهَارَةِ وَالصَّلاَةِ، وَهَذَا شَرْطٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.
الثَّانِيَ: شَرْطُ الدَّوَامِ، وَهُوَ أَنْ يُوجَدَ الْعُذْرُ فِي كُل وَقْتٍ آخَرَ، سِوَى الْوَقْتِ الأَْوَّل الَّذِي ثَبَتَ بِهِ الْعُذْرُ وَلَوْ مَرَّةً وَاحِدَةً.
الثَّالِثَ: شَرْطُ الاِنْقِطَاعِ، وَبِهِ يَخْرُجُ صَاحِبُهُ عَنْ كَوْنِهِ مَعْذُورًا، وَذَلِكَ بِأَنْ يَسْتَمِرَّ الاِنْقِطَاعُ وَقْتًا كَامِلاً فَيَثْبُتُ لَهُ حِينَئِذٍ حُكْمُ الأَْصِحَّاءِ مِنْ وَقْتِ الاِنْقِطَاعِ (1) .
مَا تَمْتَنِعُ عَنْهُ الْمُسْتَحَاضَةُ:
26 - قَال الْبِرْكَوِيُّ مِنْ عُلَمَاءِ الْحَنَفِيَّةِ: الاِسْتِحَاضَةُ حَدَثٌ أَصْغَرُ كَالرُّعَافِ. فَلاَ تَسْقُطُ بِهَا الصَّلاَةُ وَلاَ تَمْنَعُ صِحَّتَهَا أَيْ عَلَى سَبِيل الرُّخْصَةِ لِلضَّرُورَةِ، وَلاَ تُحَرِّمُ الصَّوْمَ فَرْضًا أَوْ نَفْلاً، وَلاَ تَمْنَعُ الْجِمَاعَ - لِحَدِيثِ حَمْنَةَ: أَنَّهَا كَانَتْ مُسْتَحَاضَةً وَكَانَ زَوْجُهَا يَأْتِيهَا - وَلاَ قِرَاءَةَ قُرْآنٍ، وَلاَ مَسَّ مُصْحَفٍ، وَلاَ دُخُول مَسْجِدٍ، وَلاَ طَوَافًا إِذَا أَمِنَتِ التَّلْوِيثَ. وَحُكْمُ الاِسْتِحَاضَةِ كَالرُّعَافِ الدَّائِمِ، فَتُطَالَبُ الْمُسْتَحَاضَةُ بِالصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ (2) .
وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، قَالُوا: لاَ تُمْنَعُ
__________
(1) مراقي الفلاح وحاشية الطحطاوي ص 81.
(2) مجموعة رسائل ابن عابدين 1 / 114، وحاشية رد المحتار على الدر المختار 1 / 198، وفتح القدير 1 / 156، وحاشية الطحطاوي ص 80، والدسوقي 1 / 169، والمغني 1 / 357 مع الشرح الكبير، وشرح المنهاج 1 / 101، والشرح الصغير 1 / 7210، والقوانين الفقهية ص 32 ط بيروت.(3/209)
الْمُسْتَحَاضَةُ عَنْ شَيْءٍ، وَحُكْمُهَا حُكْمُ الطَّاهِرَاتِ فِي وُجُوبِ الْعِبَادَاتِ، وَاخْتُلِفَ عَنْ أَحْمَدَ فِي الْوَطْءِ، فَهُنَاكَ رِوَايَةٌ أُخْرَى عَنْهُ بِالْمَنْعِ كَالْحَيْضِ مَا لَمْ يَخَفْ عَلَى نَفْسِهِ الْوُقُوعَ فِي مَحْظُورٍ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ كَمَا فِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ: هِيَ طَاهِرٌ حَقِيقَةً.
وَهَذَا فِي غَيْرِ الْمُسْتَحَاضَةِ الْمُتَحَيِّرَةِ، فَإِنَّ لَهَا أَحْكَامًا خَاصَّةً تُنْظَرُ تَحْتَ عِنْوَانِ (مُتَحَيِّرَة) .
طَهَارَةُ الْمُسْتَحَاضَةِ:
27 - يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَحَاضَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ الاِحْتِيَاطُ فِي طَهَارَتَيِ الْحَدَثِ وَالنَّجَسِ، فَتَغْسِل عَنْهَا الدَّمَ، وَتَحْتَشِي بِقُطْنَةٍ أَوْ خِرْقَةٍ دَفْعًا لِلنَّجَاسَةِ أَوْ تَقْلِيلاً لَهَا، فَإِنْ لَمْ يَنْدَفِعِ الدَّمُ بِذَلِكَ وَحْدَهُ تَحَفَّظَتْ بِالشَّدِّ وَالتَّعْصِيبِ. وَهَذَا الْفِعْل يُسَمَّى اسْتِثْفَارًا وَتَلَجُّمًا، وَسَمَّاهُ الشَّافِعِيُّ التَّعْصِيبَ (1) .
قَال الشَّافِعِيَّةُ: وَهَذَا الْحَشْوُ وَالشَّدُّ وَاجِبٌ إِلاَّ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ تَتَأَذَّى بِالشَّدِّ. وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ صَائِمَةً فَتَتْرُكَ الْحَشْوَ نَهَارًا وَتَقْتَصِرَ عَلَى الشَّدِّ وَالتَّلَجُّمِ
فَإِذَا اسْتَوْثَقَتْ عَلَى الصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ، ثُمَّ خَرَجَ دَمُهَا بِلاَ تَفْرِيطٍ لَمْ تَبْطُل طَهَارَتُهَا وَلاَ صَلاَتُهَا
28 - وَأَمَّا إِذَا خَرَجَ الدَّمُ لِتَقْصِيرِهَا فِي التَّحَفُّظِ فَإِنَّهُ يَبْطُل طُهْرُهَا.
وَأَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَيَجِبُ عَلَى الْمَعْذُورِ رَدُّ عُذْرِهِ، أَوْ تَقْلِيلُهُ إِنْ لَمْ يُمْكِنْ رَدُّهُ بِالْكُلِّيَّةِ. وَبِرَدِّهِ لاَ يَبْقَى ذَا عُذْرٍ. أَمَّا إِنْ كَانَ لاَ يَقْدِرُ عَلَى الرَّبْطِ أَوْ مَنْعِ النَّشِّ
__________
(1) المجموع للإمام النووي 2 / 538، وشرح منتهى الإرادات 1 / 114(3/209)
فَهُوَ مَعْذُورٌ (1) .
وَأَمَّا غَسْل الْمَحَل وَتَجْدِيدُ الْعِصَابَةِ وَالْحَشْوِ لِكُل فَرْضٍ، فَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يُنْظَرُ إِنْ زَالَتِ الْعِصَابَةُ عَنْ مَوْضِعِهَا زَوَالاً لَهُ تَأْثِيرٌ، أَوْ ظَهَرَ الدَّمُ عَلَى جَوَانِبِهَا، وَجَبَ التَّجْدِيدُ بِلاَ خِلاَفٍ؛ لأَِنَّ النَّجَاسَةَ كَثُرَتْ وَأَمْكَنَ تَقْلِيلُهَا وَالاِحْتِرَازُ عَنْهَا. فَإِنْ لَمْ تَزُل الْعِصَابَةُ عَنْ مَوْضِعِهَا وَلاَ ظَهَرَ الدَّمُ، فَوَجْهَانِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، أَصَحُّهُمَا: وُجُوبُ التَّجْدِيدِ كَمَا يَجِبُ تَجْدِيدُ الْوُضُوءِ، وَالثَّانِي: إِذْ لاَ مَعْنَى لِلأَْمْرِ بِإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ مَعَ اسْتِمْرَارِهَا، بِخِلاَفِ الأَْمْرِ بِتَجْدِيدِ طَهَارَةِ الْحَدَثِ مَعَ اسْتِمْرَارِهِ فَإِنَّهُ مَعْهُودٌ فِي التَّيَمُّمِ (2) .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لاَ يَلْزَمُهَا إِعَادَةُ الْغُسْل وَالْعَصْبِ لِكُل صَلاَةٍ إِنْ لَمْ تُفَرِّطْ، قَالُوا: لأَِنَّ الْحَدَثَ مَعَ قُوَّتِهِ وَغَلَبَتِهِ لاَ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، وَلِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ اعْتَكَفَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْرَأَةٌ مِنْ أَزْوَاجِهِ، فَكَانَتْ تَرَى الدَّمَ وَالصُّفْرَةَ وَالطَّسْتُ تَحْتَهَا وَهِيَ تُصَلِّي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ (3) .
ب - حُكْمُ مَا يَسِيل مِنْ دَمِ الْمُسْتَحَاضَةِ عَلَى الثَّوْبِ:
إِذَا أَصَابَ الثَّوْبَ مِنَ الدَّمِ مِقْدَارُ مُقَعَّرِ الْكَفِّ فَأَكْثَرَ وَجَبَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ غَسْلُهُ، إِذَا كَانَ الْغَسْل مُفِيدًا، بِأَنْ كَانَ لاَ يُصِيبُهُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، حَتَّى لَوْ لَمْ تَغْسِل وَصَلَّتْ لاَ يَجُوزُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُفِيدًا لاَ يَجِبُ مَا دَامَ الْعُذْرُ قَائِمًا (4) . أَيْ إِنْ كَانَ لَوْ غَسَلَتِ الثَّوْبَ تَنَجَّسَ ثَانِيًا قَبْل الْفَرَاغِ مِنَ الصَّلاَةِ، جَازَ أَلاَّ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 204
(2) المجموع 2 / 540
(3) شرح المنتهى 1 / 114، وصحيح البخاري 1 / 81 ط صبيح.
(4) البدائع 1 / 147، وحاشية رد المحتار على الدر المختار 1 / 204(3/210)
تَغْسِل؛ لأَِنَّ فِي إِلْزَامِهَا التَّطْهِيرَ مَشَقَّةً وَحَرَجًا.
وَإِنْ كَانَ لَوْ غَسَلَتْهُ لاَ يَتَنَجَّسُ قَبْل الْفَرَاغِ مِنَ الصَّلاَةِ، فَلاَ يَجُوزُ لَهَا أَنْ تُصَلِّيَ مَعَ بَقَائِهِ، إِلاَّ فِي قَوْلٍ مَرْجُوحٍ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِذَا تَحَفَّظَتْ لَمْ يَضُرَّ خُرُوجُ الدَّمِ، وَلَوْ لَوَّثَ مَلْبُوسَهَا فِي تِلْكَ الصَّلاَةِ خَاصَّةً (1) .
وَلاَ يَضُرُّ كَذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ؛ لِقَوْلِهِمْ: إِنْ غَلَبَ الدَّمُ وَقَطَرَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ تَبْطُل طَهَارَتُهَا (2) .
مَتَى يَلْزَمُ الْمُسْتَحَاضَةَ أَنْ تَغْتَسِل:
29 - نَقَل صَاحِبُ الْمُغْنِي فِي ذَلِكَ أَقْوَالاً:
الأَْوَّل: تَغْتَسِل عِنْدَمَا يُحْكَمُ بِانْقِضَاءِ حَيْضِهَا أَوْ نِفَاسِهَا. وَلَيْسَ عَلَيْهَا بَعْدَ ذَلِكَ إِلاَّ الْوُضُوءُ وَيُجْزِيهَا ذَلِكَ. وَهَذَا رَأْيُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ. لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ: إِنَّمَا ذَلِكَ عِرْقٌ وَلَيْسَتْ بِالْحَيْضَةِ، فَإِذَا أَقْبَلَتْ فَدَعِي الصَّلاَةَ، فَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ وَصَلِّي، وَتَوَضَّئِي لِكُل صَلاَةٍ قَال التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَلِحَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال فِي الْمُسْتَحَاضَةِ: تَدَعُ الصَّلاَةَ أَيَّامَ أَقْرَائِهَا ثُمَّ تَغْتَسِل وَتُصَلِّي، وَتَتَوَضَّأُ لِكُل صَلاَةٍ.
الثَّانِيَ: أَنَّهَا تَغْتَسِل لِكُل صَلاَةٍ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ فِي الْمُتَحَيِّرَةِ؛ لأَِنَّ عَائِشَةَ رَوَتْ أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ اسْتُحِيضَتْ، فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَغْتَسِل لِكُل صَلاَةٍ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. إِلاَّ أَنَّ أَصْحَابَ الْقَوْل الأَْوَّل قَالُوا: إِنَّ ذِكْرَ الْوُضُوءِ لِكُل صَلاَةٍ زِيَادَةٌ يَجِبُ
__________
(1) حاشية القليوبي 1 / 101
(2) كشاف القناع 1 / 194(3/210)
قَبُولُهَا. وَمِنْ هُنَا قَال الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يُسْتَحَبُّ لَهَا أَنْ تَغْتَسِل لِكُل صَلاَةٍ. وَيَكُونُ الأَْمْرُ فِي الْحَدِيثِ لِلاِسْتِحْبَابِ.
الثَّالِثُ: أَنَّهَا تَغْتَسِل لِكُل يَوْمٍ غُسْلاً وَاحِدًا، رُوِيَ هَذَا عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ.
الرَّابِعُ: تَجْمَعُ بَيْنَ كُل صَلاَتَيْ جَمْعٍ بِغُسْلٍ وَاحِدٍ، وَتَغْتَسِل لِلصُّبْحِ (1) .
وُضُوءُ الْمُسْتَحَاضَةِ وَعِبَادَتُهَا:
30 - قَال الشَّافِعِيُّ: تَتَوَضَّأُ الْمُسْتَحَاضَةُ لِكُل فَرْضٍ وَتُصَلِّي مَا شَاءَتْ مِنَ النَّوَافِل، لِحَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ السَّابِقِ؛ وَلأَِنَّ اعْتِبَارَ طَهَارَتِهَا ضَرُورَةٌ لأَِدَاءِ الْمَكْتُوبَةِ، فَلاَ تَبْقَى بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهَا.
وَقَال مَالِكٌ فِي أَحَدِ قَوْلَيْنِ: تَتَوَضَّأُ لِكُل صَلاَةٍ، وَاحْتَجَّ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ. فَمَالِكٌ عَمِل بِمُطْلَقِ اسْمِ الصَّلاَةِ، وَالشَّافِعِيُّ قَيَّدَهُ بِالْفَرْضِ؛ لأَِنَّ الصَّلاَةَ عِنْدَ الإِْطْلاَقِ تَنْصَرِفُ إِلَى الْفَرْضِ، وَالنَّوَافِل أَتْبَاعُ الْفَرَائِضِ؛ لأَِنَّهَا شُرِعَتْ لِتَكْمِيل الْفَرَائِضِ جَبْرًا لِلنُّقْصَانِ الْمُتَمَكِّنِ فِيهَا، فَكَانَتْ مُلْحَقَةً بِأَجْزَائِهَا، وَالطَّهَارَةُ الْوَاقِعَةُ لِصَلاَةٍ مَفْرُوضَةٍ وَاقِعَةٌ لَهَا بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا، بِخِلاَفِ فَرْضٍ آخَرَ لأَِنَّهُ لَيْسَ بِتَبَعٍ، بَل هُوَ أَصْلٌ بِنَفْسِهِ (2) .
وَالْقَوْل الثَّانِي لِلْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ تَجْدِيدَ الْوُضُوءِ لِوَقْتِ كُل صَلاَةٍ مُسْتَحَبٌّ، وَهُوَ طَرِيقَةُ الْعِرَاقِيِّينَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ (3) .
__________
(1) المغني والشرح الكبير 1 / 378، والدسوقي 1 / 130
(2) المجموع للإمام النووي 2 / 541
(3) الدسوقي 1 / 116(3/211)
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: تَتَوَضَّأُ الْمُسْتَحَاضَةُ وَأَمْثَالُهَا مِنَ الْمَعْذُورِينَ لِوَقْتِ كُل صَلاَةٍ مَفْرُوضَةٍ، وَتُصَلِّي بِهِ فِي الْوَقْتِ مَا شَاءَتْ مِنَ الْفَرَائِضِ (1) وَالنُّذُورِ وَالنَّوَافِل وَالْوَاجِبَاتِ، كَالْوِتْرِ وَالْعِيدِ وَصَلاَةِ الْجِنَازَةِ وَالطَّوَافِ وَمَسِّ الْمُصْحَفِ (2) . وَاسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ: وَتَوَضَّئِي لِوَقْتِ كُل صَلاَةٍ. (3)
وَلاَ يُنْتَقَضُ وُضُوءُ الْمُسْتَحَاضَةِ بِتَجَدُّدِ الْعُذْرِ، بَعْدَ أَنْ يَكُونَ الْوُضُوءُ فِي حَال سَيَلاَنِ الدَّمِ.
قَال الْحَنَفِيَّةُ: فَلَوْ تَوَضَّأَتْ مَعَ الاِنْقِطَاعِ ثُمَّ سَال الدَّمُ انْتَقَضَ الْوُضُوءُ.
وَلَوْ تَوَضَّأَتْ مِنْ حَدَثٍ آخَرَ - غَيْرِ الْعُذْرِ - فِي فَتْرَةِ انْقِطَاعِ الْعُذْرِ، ثُمَّ سَال الدَّمُ انْتَقَضَ الْوُضُوءُ أَيْضًا.
وَكَذَا لَوْ تَوَضَّأَتْ مِنْ عُذْرِ الدَّمِ، ثُمَّ أَحْدَثَتْ حَدَثًا آخَرَ انْتَقَضَ الْوُضُوءُ (4) .
بَيَانُ ذَلِكَ: لَوْ كَانَ مَعَهَا سَيَلاَنٌ دَائِمٌ مَثَلاً، وَتَوَضَّأَتْ لَهُ، ثُمَّ أَحْدَثَتْ بِخُرُوجِ بَوْلٍ انْتَقَضَ الْوُضُوءُ.
31 - ثُمَّ اخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي طَهَارَةِ الْمُسْتَحَاضَةِ، هَل تُنْتَقَضُ عِنْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ؟ أَمْ عِنْدَ دُخُولِهِ؟ أَمْ عِنْدَ كُلٍّ مِنَ الْخُرُوجِ وَالدُّخُول؟ قَال أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: تُنْتَقَضُ عِنْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ لاَ غَيْرُ؛ لأَِنَّ طَهَارَةَ الْمَعْذُورِ مُقَيَّدَةٌ بِالْوَقْتِ
__________
(1) البدائع 1 / 143، وحاشية رد المحتار على الدر المختار 1 / 203، الحطاب 1 / 318
(2) طحطاوي على مراقي الفلاح 80
(3) رواه التزمذي وقال: حديث حسن صحيح.
(4) حاشية رد المحتار على الدر المختار 1 / 204، والمغني مع الشرح الكبير 1 / 379(3/211)
فَإِذَا خَرَجَ ظَهَرَ الْحَدَثُ.
وَقَال زُفَرُ: عِنْدَ دُخُول الْوَقْتِ لاَ غَيْرُ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلاَمِ أَحْمَدَ؛ لِحَدِيثِ تَوَضَّئِي لِكُل صَلاَةٍ وَفِي رِوَايَةٍ لِوَقْتِ كُل صَلاَةٍ.
وَقَال أَبُو يُوسُفَ: عِنْدَ كُلٍّ مِنْهُمَا، أَيْ لِلاِحْتِيَاطِ. وَهُوَ قَوْل أَبِي يَعْلَى مِنَ الْحَنَابِلَةِ (1) .
وَثَمَرَةُ الْخِلاَفِ تَظْهَرُ فِي مَوْضِعَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُوجَدَ الْخُرُوجُ بِلاَ دُخُولٍ، كَمَا إِذَا تَوَضَّأَتْ فِي وَقْتِ الْفَجْرِ ثُمَّ طَلَعَتِ الشَّمْسُ، فَإِنَّ طَهَارَتَهَا تُنْتَقَضُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لِوُجُودِ الْخُرُوجِ، وَعِنْدَ زُفَرَ وَأَحْمَدَ لاَ تُنْتَقَضُ لِعَدَمِ دُخُول الْوَقْتِ؛ لأَِنَّ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَى الظُّهْرِ لَيْسَ بِوَقْتِ صَلاَةٍ، بَل هُوَ وَقْتٌ مُهْمَلٌ.
وَالثَّانِي: أَنْ يُوجَدَ الدُّخُول بِلاَ خُرُوجٍ، كَمَا إِذَا تَوَضَّأَتْ قَبْل الزَّوَال ثُمَّ زَالَتِ الشَّمْسُ، فَإِنَّ طَهَارَتَهَا لاَ تُنْتَقَضُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ لِعَدَمِ الْخُرُوجِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَزُفَرَ وَأَحْمَدَ تُنْتَقَضُ لِوُجُودِ الدُّخُول.
فَلَوْ تَوَضَّأَتْ لِصَلاَةِ الضُّحَى أَوْ لِصَلاَةِ الْعِيدِ فَلاَ يَجُوزُ لَهَا أَنْ تُصَلِّيَ الظُّهْرَ بِتِلْكَ الطَّهَارَةِ، عَلَى قَوْل أَبِي يُوسُفَ وَزُفَرَ وَأَحْمَدَ، بَل تُنْتَقَضُ الطَّهَارَةُ لِدُخُول وَقْتِ الظُّهْرِ.
وَأَمَّا عَلَى قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ فَتَجُوزُ لِعَدَمِ خُرُوجِ الْوَقْتِ.
أَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَيُنْتَقَضُ وُضُوءُهَا بِمُجَرَّدِ أَدَاءِ أَيِّ فَرْضٍ، وَلَوْ لَمْ يَخْرُجِ الْوَقْتُ أَوْ يَدْخُل كَمَا تَقَدَّمَ.
__________
(1) فتح القدير 1 / 159، والطحطاوي على مراقي الفلاح ص 80، وكشاف القناع 1 / 196 والبدائع للكاساني 1 / 145، ومطالب أولي النهى 1 / 264(3/212)
وَأَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَهِيَ طَاهِرٌ حَقِيقَةً عَلَى مَا سَبَقَ.
بُرْءُ الْمُسْتَحَاضَةِ وَشِفَاؤُهَا:
32 - عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِذَا انْقَطَعَ دَمُ الْمُسْتَحَاضَةِ انْقِطَاعًا مُحَقَّقًا حَصَل مَعَهُ بُرْؤُهَا وَشِفَاؤُهَا مِنْ عِلَّتِهَا، وَزَالَتِ اسْتِحَاضَتُهَا، نُظِرَ:
إِنْ حَصَل هَذَا خَارِجَ الصَّلاَةِ:
أ - فَإِنْ كَانَ بَعْدَ صَلاَتِهَا، فَقَدْ مَضَتْ صَلاَتُهَا صَحِيحَةً، وَبَطَلَتْ طَهَارَتُهَا فَلاَ تَسْتَبِيحُ بِهَا بَعْدَ ذَلِكَ نَافِلَةً.
ب - وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْل الصَّلاَةِ بَطَلَتْ طَهَارَتُهَا، وَلَمْ تَسْتَبِحْ تِلْكَ الصَّلاَةَ وَلاَ غَيْرَهَا.
أَمَّا إِذَا حَصَل الاِنْقِطَاعُ فِي نَفْسِ الصَّلاَةِ فَفِيهِ قَوْلاَنِ:
أَحَدُهُمَا: بُطْلاَنُ طَهَارَتِهَا وَصَلاَتِهَا.
وَالثَّانِي: لاَ تَبْطُل كَالتَّيَمُّمِ.
وَالرَّاجِحُ الأَْوَّل (1) .
وَإِذَا تَطَهَّرَتِ الْمُسْتَحَاضَةُ وَصَلَّتْ فَلاَ إِعَادَةَ عَلَيْهَا.
وَلاَ يُتَصَوَّرُ هَذَا التَّفْصِيل عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لأَِنَّهُمْ يَعْتَبِرُونَهَا مَعْذُورَةً لِوُجُودِ الْعُذْرِ فِي الْوَقْتِ وَلَوْ لَحْظَةً كَمَا سَبَقَ. وَلاَ يُتَصَوَّرُ هَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَيْضًا؛ لأَِنَّهَا طَاهِرٌ حَقِيقَةً.
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَعِنْدَهُمْ تَفْصِيلٌ. قَالُوا: إِنْ كَانَ لَهَا عَادَةٌ بِانْقِطَاعٍ زَمَنًا يَتَّسِعُ لِلْوُضُوءِ وَالصَّلاَةِ تَعَيَّنَ فِعْلُهُمَا فِيهِ. وَإِنْ عَرَضَ هَذَا الاِنْقِطَاعُ لِمَنْ عَادَتُهَا الاِتِّصَال بَطَلَتْ طَهَارَتُهَا، وَلَزِمَ اسْتِئْنَافُهَا. فَإِنْ وُجِدَ
__________
(1) المجموع للإمام النووي 2 / 545(3/212)
الاِنْقِطَاعُ قَبْل الدُّخُول فِي الصَّلاَةِ لَمْ يَجُزِ الشُّرُوعُ فِيهَا. وَإِنْ عَرَضَ الاِنْقِطَاعُ فِي أَثْنَاءِ الصَّلاَةِ أَبْطَلَهَا مَعَ الْوُضُوءِ. وَمُجَرَّدُ الاِنْقِطَاعِ يُوجِبُ الاِنْصِرَافَ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ لَهَا عَادَةٌ بِانْقِطَاعٍ يَسِيرٍ. وَلَوْ تَوَضَّأَتْ ثُمَّ بَرِئَتْ بَطَل وُضُوءُهَا إِنْ وُجِدَ مِنْهَا دَمٌ بَعْدَ الْوُضُوءِ (1) .
عِدَّةُ الْمُسْتَحَاضَةِ:
33 - سَبَقَتِ الإِْشَارَةُ إِلَى بَعْضِ أَحْكَامِهَا. وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (عِدَّة) .
اسْتِحَالَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الاِسْتِحَالَةِ لُغَةً: تَغَيُّرُ الشَّيْءِ عَنْ طَبْعِهِ وَوَصْفِهِ، أَوْ عَدَمِ الإِْمْكَانِ (2) . وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ وَالأُْصُولِيِّينَ لِلَفْظِ (اسْتِحَالَةٍ) عَنْ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ اللُّغَوِيَّيْنِ.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ وَمَوْطِنُ الْبَحْثِ:
يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ تَبَعًا لِلاِسْتِعْمَالاَتِ الْفِقْهِيَّةِ أَوِ الأُْصُولِيَّةِ:
2 - الاِسْتِعْمَال الْفِقْهِيُّ الأَْوَّل: بِمَعْنَى تَحَوُّل الشَّيْءِ وَتَغَيُّرِهِ عَنْ وَصْفِهِ. وَمِنْ ذَلِكَ اسْتِحَالَةُ الْعَيْنِ النَّجِسَةِ. وَبِمَ تَكُونُ الاِسْتِحَالَةُ؟
الأَْعْيَانُ النَّجِسَةُ، كَالْعَذِرَةِ، وَالْخَمْرِ، وَالْخِنْزِيرِ، قَدْ تَتَحَوَّل عَنْ أَعْيَانِهَا وَتَتَغَيَّرُ أَوْصَافُهَا،
__________
(1) كشاف القناع 1 / 197
(2) المصباح المنير، مادة (حول) .(3/213)
وَذَلِكَ بِالاِحْتِرَاقِ أَوْ بِالتَّخْلِيل، أَوْ بِالْوُقُوعِ فِي شَيْءٍ طَاهِرٍ، كَالْخِنْزِيرِ يَقَعُ فِي الْمِلاَحَةِ، فَيَصِيرُ مِلْحًا.
وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى طَهَارَةِ الْخَمْرِ بِاسْتِحَالَتِهَا بِنَفْسِهَا خَلًّا، وَيَخْتَلِفُونَ فِي طَهَارَتِهَا بِالتَّخْلِيل (1) .
أَمَّا النَّجَاسَاتُ الأُْخْرَى الَّتِي تَتَحَوَّل عَنْ أَصْلِهَا فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي طَهَارَتِهَا.
وَيُفَصِّل ذَلِكَ الْفُقَهَاءُ فِي مَبْحَثِ الأَْنْجَاسِ، وَكَيْفِيَّةِ تَطْهِيرِهَا، فَمَنْ يَحْكُمُ بِطَهَارَتِهَا يَقُول: إِنَّ اسْتِحَالَةَ الْعَيْنِ تَسْتَتْبِعُ زَوَال الْوَصْفِ الْمُرَتَّبِ عَلَيْهَا عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ (2) .
وَيُرَتِّبُونَ عَلَى ذَلِكَ فُرُوعًا كَثِيرَةً، تَفْصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحِ (تَحَوُّل) .
3 - الاِسْتِعْمَال الْفِقْهِيُّ الثَّانِي: بِمَعْنَى عَدَمِ إِمْكَانِ الْوُقُوعِ. وَمِنْ ذَلِكَ اسْتِحَالَةُ وُقُوعِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، أَوِ اسْتِحَالَةُ الشَّرْطِ الَّذِي عُلِّقَ عَلَيْهِ الطَّلاَقُ وَنَحْوُهُ.
فَمِنَ الشَّرَائِطِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْفُقَهَاءُ فِي الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ: أَلاَّ يَكُونَ مُسْتَحِيل التَّحَقُّقِ عَقْلاً أَوْ عَادَةً، أَيْ بِأَنْ يَكُونَ مُتَصَوِّرَ الْوُجُودِ حَقِيقَةً أَوْ عَادَةً، وَيَضْرِبُونَ لِذَلِكَ أَمْثِلَةً، كَمَنْ يَحْلِفُ: لأََشْرَبَنَّ الْمَاءَ الَّذِي فِي الْكُوزِ، وَلاَ مَاءَ فِيهِ، وَهَذَا فِي الْمُسْتَحِيل حَقِيقَةً. وَكَحَلِفِهِ لَيَصْعَدَنَّ إِلَى السَّمَاءِ، فَهُوَ مُسْتَحِيلٌ عَادَةً.
وَهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِي الْحِنْثِ وَعَدَمِهِ، وَالْكَفَّارَةِ وَعَدَمِهَا، وَهَل يَكُونُ ذَلِكَ فِي يَمِينِ الْبِرِّ أَوِ الْحِنْثِ؟ وَهَل الْحُكْمُ يَسْتَوِي فِي ذَلِكَ إِنْ كَانَتِ
__________
(1) نهاية المحتاج 1 / 230، والمغني 1 / 72، والدسوقي 1 / 52، وفتح القدير 1 / 139
(2) نهاية المحتاج 1 / 230، والمغني 1 / 72، والدسوقي 1 / 57، وفتح القدير 1 / 139(3/213)
الْيَمِينُ مُؤَقَّتَةً أَوْ مُطْلَقَةً؟ وَيُفَصِّل الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ فِي مَسَائِل الأَْيْمَانِ، وَمَسَائِل الطَّلاَقِ، وَمَسَائِل الْعِتْقِ.
الاِسْتِعْمَال الأُْصُولِيُّ:
4 - يَسْتَعْمِل الأُْصُولِيُّونَ لَفْظَ اسْتِحَالَةٍ بِمَعْنَى: عَدَمِ إِمْكَانِ الْوُقُوعِ، وَمِنْ ذَلِكَ حُكْمُ التَّكْلِيفِ بِالْمُسْتَحِيل لِذَاتِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ وَقَدِ اخْتَلَفَ الأُْصُولِيُّونَ فِي جَوَازِ التَّكْلِيفِ بِالْمُمْتَنِعِ، وَقَسَّمُوهُ إِلَى: مُمْتَنِعٍ لِذَاتِهِ، وَمُمْتَنِعٍ لِغَيْرِهِ. فَالْمُمْتَنِعُ لِذَاتِهِ، كَالْجَمْعِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ. اخْتَارَ جُمْهُورُ الأُْصُولِيِّينَ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ التَّكْلِيفُ بِهِ.
وَالْمُسْتَحِيل لِغَيْرِهِ إِنْ كَانَتِ اسْتِحَالَتُهُ عَادَةً، كَالتَّكْلِيفِ بِحَمْل الْجَبَل، فَالْجُمْهُورُ عَلَى جَوَازِ التَّكْلِيفِ بِهِ عَقْلاً، وَعَدَمِ وُقُوعِهِ شَرْعًا. وَإِنْ كَانَتِ اسْتِحَالَتُهُ لِعَدَمِ تَعَلُّقِ إِرَادَةِ اللَّهِ بِهِ، كَإِيمَانِ أَبِي جَهْلٍ، فَالْكُل مُجْمِعٌ عَلَى جَوَازِهِ عَقْلاً، وَوُقُوعِهِ شَرْعًا (1) . وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
اسْتِحْبَابٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِسْتِحْبَابُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ اسْتَحَبَّهُ إِذَا أَحَبَّهُ، وَيَكُونُ الاِسْتِحْبَابُ بِمَعْنَى الاِسْتِحْسَانِ (2) ، وَاسْتَحَبَّهُ عَلَيْهِ: آثَرَهُ (3) .
__________
(1) فواتح الرحموت بهامش المستصفى 1 / 123، والإحكام للآمدي 1 / 69
(2) المصباح المنير (حبب) .
(3) مختار الصحاح، مادة (حبب) .(3/214)
وَالاِسْتِحْبَابُ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ: اقْتِضَاءُ خِطَابِ اللَّهِ الْعَقْل اقْتِضَاءً غَيْرَ جَازِمٍ، بِأَنْ يَجُوزَ تَرْكُهُ (1) . وَضِدُّهُ الْكَرَاهِيَةُ (2) .
2 - وَيُرَادِفُ الْمُسْتَحَبُّ: الْمَنْدُوبَ وَالتَّطَوُّعَ وَالطَّاعَةَ وَالسُّنَّةَ وَالنَّافِلَةَ وَالنَّفَل وَالْقُرْبَةَ وَالْمُرَغَّبَ فِيهِ وَالإِْحْسَانَ وَالْفَضِيلَةَ وَالرَّغِيبَةَ وَالأَْدَبَ وَالْحَسَنَ (3) .
وَخَالَفَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ فِي التَّرَادُفِ الْمَذْكُورِ - كَالْقَاضِي حُسَيْنٍ وَغَيْرِهِ - فَقَالُوا: إِنَّ الْفِعْل إِنْ وَاظَبَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ السُّنَّةُ، وَإِنْ لَمْ يُوَاظِبْ عَلَيْهِ - كَأَنْ فَعَلَهُ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ - فَهُوَ الْمُسْتَحَبُّ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْهُ - وَهُوَ مَا يُنْشِئُهُ الإِْنْسَانُ بِاخْتِيَارِهِ مِنَ الأَْوْرَادِ - فَهُوَ التَّطَوُّعُ،
وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِلْمَنْدُوبِ هُنَا لِعُمُومِهِ لِلأَْقْسَامِ الثَّلاَثَةِ بِلاَ شَكٍّ.
وَهَذَا الْخِلاَفُ لَفْظِيٌّ، إِذْ حَاصِلُهُ أَنَّ كُلًّا مِنَ الأَْقْسَامِ الثَّلاَثَةِ، كَمَا يُسَمَّى بِاسْمٍ مِنَ الأَْسْمَاءِ الثَّلاَثَةِ كَمَا ذُكِرَ، هَل يُسَمَّى بِغَيْرِهِ مِنْهَا؟ فَقَال الْبَعْضُ: لاَ يُسَمَّى، إِذِ السُّنَّةُ: الطَّرِيقَةُ وَالْعَادَةُ، وَالْمُسْتَحَبُّ: الْمَحْبُوبُ، وَالتَّطَوُّعُ: الزِّيَادَةُ. وَالأَْكْثَرُ قَالُوا: نَعَمْ يُسَمَّى، وَيَصْدُقُ عَلَى كُلٍّ مِنَ الأَْقْسَامِ الثَّلاَثَةِ أَنَّهُ طَرِيقَةٌ أَوْ عَادَةٌ فِي الدِّينِ، وَمَحْبُوبٌ لِلشَّارِعِ بِطَلَبِهِ، وَزَائِدٌ عَلَى الْوَاجِبِ (4) .
__________
(1) شرح جمع الجوامع 1 / 80 ط محمود شاكر الكتبي.
(2) شرح الكوكب المنير ص 128، القاهرة - مطبعة السنة المحمدية.
(3) شرح جمع الجوامع بحاشية البناني 1 / 90، 91، والكليات لأبي البقاء 1 / 173، 2 / 108، 3 / 11 ط دمشق، وإرشاد الفحول ص 6 ط مصطفى الحلبي، وشرح الكوكب المنير ص 126، وكشاف اصطلاحات الفنون مادة (حبب) 2 / 274، ومادة (سنن) 3 / 705 ط الخياط.
(4) شرح جمع الجوامع ص 90، 91(3/214)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ هُوَ مَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّةً وَتَرَكَهُ أُخْرَى، فَيَكُونُ دُونَ السُّنَنِ الْمُؤَكَّدَةِ كَمَا قَال التَّهَانُوِيُّ، بَل دُونَ سُنَنِ الزَّوَائِدِ كَمَا قَال أَبُو الْبَقَاءِ الْكَفَوِيُّ.
وَيُسَمَّى عِنْدَهُمْ بِالْمَنْدُوبِ لِدُعَاءِ الشَّارِعِ إِلَيْهِ، وَبِالتَّطَوُّعِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ وَاجِبٍ، وَبِالنَّفَل لِزِيَادَتِهِ عَلَى غَيْرِهِ (1) .
وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْمُسْتَحَبُّ مُسْتَحَبًّا لاِخْتِيَارِ الشَّارِعِ إِيَّاهُ عَلَى الْمُبَاحِ (2) . وَهُمْ بِهَذَا يَقْتَرِبُونَ مِمَّا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْقَاضِي حُسَيْنٌ، لَوْلاَ أَنَّهُمْ يَخْتَلِفُونَ مَعَهُ فِي التَّطَوُّعِ، حَيْثُ يَجْعَلُونَهُ مُرَادِفًا لِلْمُسْتَحَبِّ، وَيَجْعَلُهُ قَسِيمًا لَهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَيُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْمُسْتَحَبِّ وَبَيْنَ السُّنَّةِ بِأَنَّهَا هِيَ: الطَّرِيقَةُ الْمَسْلُوكَةُ فِي الدِّينِ مِنْ غَيْرِ الْتِزَامٍ عَلَى سَبِيل الْمُوَاظَبَةِ، فَيَخْرُجُ الْمُسْتَحَبُّ بِالْقَيْدِ الأَْخِيرِ، إِذْ لاَ مُوَاظَبَةَ عَلَيْهِ مِنْ قِبَل النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالتَّسْلِيمُ (3) .
وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْمُسْتَحَبَّاتِ وَسُنَنِ الزَّوَائِدِ، فَقَال: الْمُسْتَحَبُّ هُوَ الَّذِي يَكُونُ عَلَى سَبِيل الْعَادَةِ، سَوَاءٌ أَتُرِكَ أَحْيَانًا أَمْ لاَ.
وَفِي نُورِ الأَْنْوَارِ شَرْحِ الْمَنَارِ: السُّنَنُ الزَّوَائِدُ فِي مَعْنَى الْمُسْتَحَبِّ، إِلاَّ أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ مَا أَحَبَّهُ الْعُلَمَاءُ، وَالسُّنَنُ الزَّوَائِدُ مَا اعْتَادَهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
هَذَا وَقَدْ يُطْلَقُ الْمُسْتَحَبُّ عَلَى كَوْنِ الْفِعْل
__________
(1) كشاف اصطلاحات الفنون (جب) 2 / 274، وكليات أبي البقاء 1 / 173، 2 / 108، 3 / 11، 5 / 96، وحاشية الرهاوي على شرح المنار ص 586 ط إستانبول.
(2) كشاف اصطلاحات الفنون (حبب) 2 / 274، وحاشية البناني على شرح جمع الجوامع 1 / 91
(3) حاشية الرهاوي على شرح المنار ص 586 ط الأولى.(3/215)
مَطْلُوبًا، طَلَبًا جَازِمًا أَوْ غَيْرَ جَازِمٍ، فَيَشْمَل الْفَرْضَ وَالسُّنَّةَ وَالنَّدْبَ، وَعَلَى كَوْنِهِ مَطْلُوبًا طَلَبًا غَيْرَ جَازِمٍ فَيَشْمَل الأَْخِيرَيْنِ فَقَطْ (1) .
حُكْمُ الْمُسْتَحَبِّ:
3 - ذَهَبَ الأُْصُولِيُّونَ - مِنْ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ - إِلَى أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ يُمْدَحُ فَاعِلُهُ وَيُثَابُ، وَلاَ يُذَمُّ تَارِكُهُ وَلاَ يُعَاقَبُ (2) . وَذَلِكَ لأَِنَّ تَرْكَ الْمُسْتَحَبِّ جَائِزٌ. غَيْرَ أَنَّ هَذَا التَّرْكَ إِنْ وَرَدَ فِيهِ نَهْيٌ غَيْرُ جَازِمٍ نُظِرَ: فَإِنْ كَانَ مَخْصُوصًا، كَالنَّهْيِ فِي حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ: إِذَا دَخَل أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ فَلاَ يَجْلِسُ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ (3) كَانَ مَكْرُوهًا، وَإِنْ كَانَ نَهْيًا غَيْرَ مَخْصُوصٍ، وَهُوَ النَّهْيُ عَنْ تَرْكِ الْمَنْدُوبَاتِ عَامَّةً الْمُسْتَفَادُ مِنْ أَوَامِرِهَا، فَإِنَّ الأَْمْرَ بِالشَّيْءِ يُفِيدُ النَّهْيَ عَنْ تَرْكِهِ، فَيَكُونُ خِلاَفَ الأَْوْلَى، كَتَرْكِ صَلاَةِ الضُّحَى. وَذَلِكَ لأَِنَّ الطَّلَبَ بِدَلِيلٍ خَاصٍّ آكَدُ مِنَ الطَّلَبِ بِدَلِيلٍ عَامٍّ.
وَالْمُتَقَدِّمُونَ يُطْلِقُونَ الْمَكْرُوهَ عَلَى ذِي النَّهْيِ الْمَخْصُوصِ وَغَيْرِ الْمَخْصُوصِ، وَقَدْ يَقُولُونَ فِي الأَْوَّل: مَكْرُوهٌ كَرَاهَةً شَدِيدَةً، كَمَا يُقَال فِي الْمَنْدُوبِ: سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ (4) .
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَإِنَّهُمْ يَنُصُّونَ عَلَى أَنَّ الشَّيْءَ إِذَا كَانَ مُسْتَحَبًّا أَوْ مَنْدُوبًا عِنْدَهُمْ وَلَيْسَ سُنَّةً فَلاَ يَكُونُ تَرْكُهُ مَكْرُوهًا أَصْلاً، وَلاَ يُوجِبُ تَرْكُهُ إِسَاءَةً أَيْضًا
__________
(1) كشاف اسطلاحات الفنون (حبب) 2 / 274، ودستور العلماء 2 / 185
(2) إرشاد الفحول ص 6، وشرح جمع الجوامع 1 / 80، والكليات 1 / 173
(3) حديث " إذا دخل أحدكم. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 48 - ط السلفية) ومسلم 1 / 495 ط عيسى الحلبي.
(4) شرح جمع الجوامع 1 / 81(3/215)
فَلاَ يُوجِبُ عِتَابًا فِي الآْخِرَةِ، كَتَرْكِ سُنَنِ الزَّوَائِدِ، بَل أَوْلَى فِي عَدَمِ الإِْسَاءَةِ وَعَدَمِ اسْتِحْقَاقِ الْعِتَابِ؛ لأَِنَّهُ دُونَهَا فِي الدَّوَامِ وَالْمُوَاظَبَةِ، وَإِنْ كَانَ فِعْلُهُ أَفْضَل (1)
وَلِمَعْرِفَةِ مَا تَبَقَّى مِنْ مَبَاحِثِ الاِسْتِحْبَابِ، كَكَوْنِ الْمُسْتَحَبِّ مَأْمُورًا بِهِ، وَهَل يَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ فِيهِ؟ يُرْجَعُ إِلَى الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
اسْتِحْدَادٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِسْتِحْدَادُ لُغَةً: مَأْخُوذٌ مِنَ الْحَدِيدَةِ، يُقَال: اسْتَحَدَّ إِذَا حَلَقَ عَانَتَهُ. اسْتُعْمِل عَلَى طَرِيقِ الْكِنَايَةِ وَالتَّوْرِيَةِ (2) . وَالتَّعْرِيفُ الاِصْطِلاَحِيُّ لاَ يَفْتَرِقُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، حَيْثُ عَرَّفَهُ الْفُقَهَاءُ بِقَوْلِهِمْ: الاِسْتِحْدَادُ حَلْقُ الْعَانَةِ، وَسُمِّيَ اسْتِحْدَادًا، لاِسْتِعْمَال الْحَدِيدَةِ وَهِيَ: الْمُوسَى (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الإِْحْدَادُ:
2 - الإِْحْدَادُ: مَصْدَرُ أَحَدَّ. وَإِحْدَادُ الْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا تَرْكُهَا لِلزِّينَةِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الاِسْتِحْدَادُ
__________
(1) كشاف اصطلاحات الفنون (سنن) 3 / 705
(2) لسان العرب مادة (حدد) 3 / 141 ط دار صادر.
(3) تحفة الأحوذي 8 / 33 ط السلفية بالمدينة.(3/216)
مُخَالِفًا لِلإِْحْدَادِ، وَلاَ يَشْتَرِكُ مَعَهُ فِي وَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ.
ب - التَّنَوُّرُ:
3 - التَّنَوُّرُ هُوَ: الطِّلاَءُ بِالنُّورَةِ. يُقَال: تَنَوَّرَ. تَطَلَّى بِالنُّورَةِ لِيُزِيل الشَّعْرَ. وَالنُّورَةُ مِنَ الْحَجَرِ الَّذِي يُحْرَقُ، وَيُسَوَّى مِنَ الْكِلْسِ، وَيُزَال بِهِ الشَّعْرُ (1) .
فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الاِسْتِحْدَادُ أَعَمَّ فِي الاِسْتِعْمَال مِنَ التَّنَوُّرِ، لأَِنَّهُ كَمَا يَكُونُ بِالْحَدِيدَةِ يَكُونُ بِغَيْرِهَا كَالنُّورَةِ وَغَيْرِهَا.
حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ:
4 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الاِسْتِحْدَادَ سُنَّةٌ لِلرِّجَال وَالنِّسَاءِ عَلَى السَّوَاءِ. وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ دُونَ غَيْرِهِمْ بِالْوُجُوبِ لِلْمَرْأَةِ إِذَا طَلَبَ مِنْهَا زَوْجُهَا ذَلِكَ (2) .
دَلِيل مَشْرُوعِيَّتِهِ:
5 - يُسْتَدَل عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الاِسْتِحْدَادِ بِالسُّنَّةِ؛ لِمَا رَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: الْفِطْرَةُ خَمْسٌ، أَوْ خَمْسٌ مِنَ الْفِطْرَةِ: الْخِتَانُ، وَالاِسْتِحْدَادُ، وَنَتْفُ الإِْبِطِ، وَتَقْلِيمُ الأَْظَافِرِ، وَقَصُّ الشَّارِبِ. (3) وَلِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال:
__________
(1) لسان العرب مادة (نور) 5 / 244 ط دار صادر، والصحاح مادة (نور) 2 / 839 ط دار الكتاب العربي.
(2) المجموع للنووي 1 / 289 ط المنيرية، وكفاية الطالب 2 / 354 ط مصطفى الحلبي.
(3) رواه البخاري والترمذي.(3/216)
عَشْرٌ مِنَ الْفِطْرَةِ: قَصُّ الشَّارِبِ، وَإِعْفَاءُ اللِّحْيَةِ، وَالسِّوَاكُ، وَالاِسْتِنْشَاقُ، وَقَصُّ الأَْظَافِرِ، وَغَسْل الْبَرَاجِمِ، وَنَتْفُ الإِْبِطِ، وَحَلْقُ الْعَانَةِ، وَانْتِقَاصُ الْمَاءِ - قَال زَكَرِيَّا - (الرَّاوِي) : وَنَسِيتُ الْعَاشِرَةَ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ الْمَضْمَضَةَ (1) .
مَا يَتَحَقَّقُ بِهِ الاِسْتِحْدَادُ:
6 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَتَحَقَّقُ بِهِ الاِسْتِحْدَادُ عَلَى أَقْوَالٍ.
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: السُّنَّةُ الْحَلْقُ لِلرَّجُل، وَالنَّتْفُ لِلْمَرْأَةِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: الْحَلْقُ لِلرَّجُل وَالْمَرْأَةِ، وَيُكْرَهُ النَّتْفُ لِلْمَرْأَةِ؛ لأَِنَّهُ يُعَدُّ مِنَ التَّنَمُّصِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَهَذَا رَأْيُ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ (2) .
وَقَال جُمْهُورُ الشَّافِعِيَّةِ: النَّتْفُ لِلْمَرْأَةِ الشَّابَّةِ، وَالْحَلْقُ لِلْعَجُوزِ. وَنُسِبَ هَذَا الرَّأْيُ إِلَى ابْنِ الْعَرَبِيِّ (3) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ بَأْسَ بِالإِْزَالَةِ بِأَيِّ شَيْءٍ، وَالْحَلْقُ أَفْضَل (4) .
وَقْتُ الاِسْتِحْدَادِ:
7 - يُكْرَهُ تَرْكُهُ بَعْدَ الأَْرْبَعِينَ، كَمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ: وُقِّتَ لَنَا فِي قَصِّ الشَّارِبِ وَتَقْلِيمِ الأَْظَافِرِ وَنَتْفِ الإِْبِطِ وَحَلْقِ الْعَانَةِ أَلاَّ يُتْرَكَ أَكْثَرَ مِنْ
__________
(1) أخرجه مسلم وأحمد والنسائي والترمذي وحسنه (صحيح مسلم 1 / 223 ط الحلبي، سنن النسائي 8 / 109 ط الحلبي) .
(2) كفاية الطالب 2 / 353، وفتح الباري 10 / 273 ط عبد الرحمن محمد.
(3) فتح الباري 10 / 273
(4) المغني 1 / 86 ط السعودية، وكشاف القناع 1 / 65(3/217)
أَرْبَعِينَ يَوْمًا. (1)
وَالضَّابِطُ فِي ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الأَْحْوَال وَالأَْشْخَاصِ وَالأَْزْمَانِ وَالأَْمَاكِنِ، بِشَرْطِ أَلاَّ يَتَجَاوَزَ الأَْرْبَعِينَ يَوْمًا، وَهُوَ التَّوْقِيتُ الَّذِي جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ (2) .
الاِسْتِعَانَةُ بِالآْخَرِينَ فِي الاِسْتِحْدَادِ:
8 - الأَْصْل عِنْدَ الْفُقَهَاءِ جَمِيعًا أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الإِْنْسَانِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى أَنْ يُظْهِرَ عَوْرَتَهُ لأَِجْنَبِيٍّ إِلاَّ لِضَرُورَةٍ. وَيُرْجَعُ إِلَى تَفْصِيل ذَلِكَ فِي: (اسْتِتَار، وَعَوْرَة) . وَاعْتَبَرَ الْفُقَهَاءُ حَلْقَ الْعَانَةِ لِمَنْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَحْلِقَهَا بِالْحَدِيدَةِ أَوْ يُزِيلَهَا بِالنُّورَةِ ضَرُورَةً (3) .
آدَابُ الاِسْتِحْدَادِ:
9 - تَكَلَّمَ الْفُقَهَاءُ عَلَى آدَابِ الاِسْتِحْدَادِ فِي ثَنَايَا الْكَلاَمِ عَلَى الاِسْتِحْدَادِ، وَخِصَال الْفِطْرَةِ، وَالْعَوْرَةِ. فَقَالُوا: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَبْدَأَ فِي حَلْقِ الْعَانَةِ مِنْ تَحْتِ السُّرَّةِ، كَمَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يَحْلِقَ الْجَانِبَ الأَْيْمَنَ، ثُمَّ الأَْيْسَرَ، كَمَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يَسْتَتِرَ، وَأَلاَّ يُلْقِيَ الشَّعْرَ فِي الْحَمَّامِ أَوِ الْمَاءِ، وَأَنْ يُوَارِيَ مَا يُزِيلُهُ مِنْ شَعْرٍ وَظُفُرٍ (4) .
__________
(1) فتح الباري 10 / 284، والترمذي (تحفة الأحوذي 8 / 38) ومسلم 1 / 222 - ط عيسى الحلبي.
(2) تحفة الأحوذي 8 / 39، وفتح الباري 10 / 284، وكشاف القناع 1 / 65 ط السنة المحمدية، والنووي 1 / 289، وابن عابدين 5 / 261، والهندية 5 / 357، والمغني 1 / 87، وكفاية الطالب 2 / 353
(3) البحر الرائق 8 / 219
(4) الفتاوى الهندية 5 / 358، والمغني 1 / 86، والمراجع السابقة(3/217)
مُوَارَاةُ الشَّعْرِ الْمُزَال أَوْ إِتْلاَفُهُ:
10 - صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِاسْتِحْبَابِ مُوَارَاةِ شَعْرِ الْعَانَةِ بِدَفْنِهِ؛ لِمَا رَوَى الْخَلاَّل بِإِسْنَادِهِ عَنْ مُمْل بِنْتِ مُشَرِّحٍ الأَْشْعَرِيَّةِ قَالَتْ: رَأَيْتُ أَبِي يُقَلِّمُ أَظَافِرَهُ، وَيَدْفِنُهَا وَيَقُول: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَل ذَلِكَ. وَسُئِل أَحْمَدُ، يَأْخُذُ الرَّجُل مِنْ شَعْرِهِ وَأَظَافِرِهِ أَيُلْقِيهِ أَمْ يَدْفِنُهُ؟ قَال: يَدْفِنُهُ، قِيل: بَلَغَكَ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ؟ قَال: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَدْفِنُهُ.
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِدَفْنِ الشَّعْرِ وَالأَْظَافِرِ، قَال الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: وَقَدِ اسْتَحَبَّ أَصْحَابُنَا دَفْنَهَا؛ لِكَوْنِهَا أَجْزَاءً مِنَ الآْدَمِيِّ (1) ، وَنُقِل ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ.
اسْتِحْسَانٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِسْتِحْسَانُ فِي اللُّغَةِ: هُوَ عَدُّ الشَّيْءِ حَسَنًا (2) ، وَضِدُّهُ الاِسْتِقْبَاحُ. وَفِي عِلْمِ أُصُول الْفِقْهِ عَرَّفَهُ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّهُ: اسْمٌ لِدَلِيلٍ يُقَابِل الْقِيَاسَ الْجَلِيَّ يَكُونُ بِالنَّصِّ أَوِ الإِْجْمَاعِ أَوِ الضَّرُورَةِ أَوِ الْقِيَاسِ الْخَفِيِّ.
كَمَا يُطْلَقُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - فِي كِتَابِ الْكَرَاهِيَةِ
__________
(1) تحفة الأحوذي 8 / 39، 40، وكشاف القناع 1 / 65، والمغني 1 / 88. والمجموع للنووي 1 / 289، 290
(2) تاج العروس (حسن) .(3/218)
وَالاِسْتِحْسَانِ - عَلَى اسْتِخْرَاجِ الْمَسَائِل الْحِسَانِ، فَهُوَ اسْتِفْعَالٌ بِمَعْنَى إِفْعَالٍ، كَاسْتِخْرَاجٍ بِمَعْنَى إِخْرَاجٍ. قَال النَّجْمُ النَّسَفِيُّ: فَكَأَنَّ الاِسْتِحْسَانَ هَاهُنَا إِحْسَانُ الْمَسَائِل، وَإِتْقَانُ الدَّلاَئِل (1) .
حُجِّيَّةُ الاِسْتِحْسَانِ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ:
2 - اخْتَلَفَ الأُْصُولِيُّونَ فِي قَبُول الاِسْتِحْسَانِ، فَقَبِلَهُ الْحَنَفِيَّةُ، وَرَدَّهُ الشَّافِعِيَّةُ وَجُمْهُورُ الأُْصُولِيِّينَ.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ نَسَبَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْقَوْل بِهِ إِلَى مَالِكٍ، وَقَال بَعْضُهُمْ: الَّذِي يَظْهَرُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ الْقَوْل بِالاِسْتِحْسَانِ لاَ عَلَى مَا سَبَقَ، بَل حَاصِلُهُ: اسْتِعْمَال مَصْلَحَةٍ جُزْئِيَّةٍ فِي مُقَابَلَةِ قِيَاسٍ كُلِّيٍّ، فَهُوَ يُقَدِّمُ الاِسْتِدْلاَل الْمُرْسَل عَلَى الْقِيَاسِ.
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ حُكِيَ عَنْهُمُ الْقَوْل بِهِ أَيْضًا.
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْخِلاَفَ لَفْظِيٌّ؛ لأَِنَّ الاِسْتِحْسَانَ إِنْ كَانَ هُوَ الْقَوْل بِمَا يَسْتَحْسِنُهُ الإِْنْسَانُ وَيَشْتَهِيهِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَلاَ يَقُول بِهِ أَحَدٌ، وَإِنْ كَانَ هُوَ الْعُدُول عَنْ دَلِيلٍ إِلَى دَلِيلٍ أَقْوَى مِنْهُ، فَهَذَا مِمَّا لاَ يُنْكِرُهُ أَحَدٌ (2) .
أَقْسَامُ الاِسْتِحْسَانِ:
يَنْقَسِمُ الاِسْتِحْسَانُ بِحَسَبِ تَنَوُّعِ الدَّلِيل الَّذِي يَثْبُتُ بِهِ إِلَى أَرْبَعَةِ أَنْوَاعٍ:
__________
(1) إفاضة الأنوار بحاشية نسمات الأسحار ص 155 ط الأولى، وطلبة الطلبة ص 89 ط الأولى. ورد المحتار 5 / 213 ط الأولى.
(2) إرشاد الفحول ص 240 ط مصطفى الحلبي، والبحر المحيط للزركشي مخطوطة باريس، الورقة: (334 / ب) ، والمستصفى 1 / 274 ط بولاق، وشرح العضد لمختصر ابن الحاج 2 / 288 ط الأولى(3/218)
أَوَّلاً - اسْتِحْسَانُ الأَْثَرِ أَوِ السُّنَّةِ:
3 - وَهُوَ أَنْ يَرِدَ فِي السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ حُكْمٌ لِمَسْأَلَةٍ مَا مُخَالِفٌ لِلْقَاعِدَةِ الْمَعْرُوفَةِ فِي الشَّرْعِ فِي أَمْثَالِهَا؛ لِحِكْمَةٍ يُرَاعِيهَا الشَّارِعُ، كَبَيْعِ السَّلَمِ، جَوَّزَتْهُ السُّنَّةُ نَظَرًا لِلْحَاجَةِ، عَلَى خِلاَفِ الأَْصْل فِي بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الإِْنْسَانِ وَهُوَ الْمَنْعُ.
ثَانِيًا - اسْتِحْسَانُ الإِْجْمَاعِ:
4 - وَهُوَ أَنْ يَنْعَقِدَ الإِْجْمَاعُ فِي أَمْرٍ عَلَى خِلاَفِ مُقْتَضَى الْقَاعِدَةِ، كَمَا فِي صِحَّةِ عَقْدِ الاِسْتِصْنَاعِ، فَهُوَ فِي الأَْصْل أَيْضًا بَيْعُ مَعْدُومٍ لاَ يَجُوزُ، وَإِنَّمَا جُوِّزَ بِالإِْجْمَاعِ اسْتِحْسَانًا لِلْحَاجَةِ الْعَامَّةِ إِلَيْهِ.
ثَالِثًا - اسْتِحْسَانُ الضَّرُورَةِ:
5 - وَهُوَ أَنْ يُخَالِفَ الْمُجْتَهِدُ حُكْمَ الْقَاعِدَةِ نَظَرًا إِلَى ضَرُورَةٍ مُوجِبَةٍ مِنْ جَلْبِ مَصْلَحَةٍ أَوْ دَفْعِ مَفْسَدَةٍ، وَذَلِكَ عِنْدَمَا يَكُونُ اطِّرَادُ الْحُكْمِ الْقِيَاسِيِّ مُؤَدِّيًا إِلَى حَرَجٍ فِي بَعْضِ الْمَسَائِل، كَتَطْهِيرِ الآْبَارِ وَالْحِيَاضِ؛ لأَِنَّ الْقِيَاسَ إِلاَّ تَطْهُرَ إِلاَّ بِجَرَيَانِ الْمَاءِ عَلَيْهَا، وَفِيهِ حَرَجٌ شَدِيدٌ.
رَابِعًا - الاِسْتِحْسَانُ الْقِيَاسِيُّ:
6 - وَهُوَ أَنْ يَعْدِل عَنْ حُكْمِ الْقِيَاسِ الظَّاهِرِ الْمُتَبَادَرِ إِلَى حُكْمٍ مُخَالِفٍ بِقِيَاسٍ آخَرَ هُوَ أَدَقُّ وَأَخْفَى مِنَ الْقِيَاسِ الأَْوَّل، لَكِنَّهُ أَقْوَى حُجَّةً وَأَسَدُّ نَظَرًا. فَهُوَ عَلَى الْحَقِيقَةِ قِيَاسٌ سُمِّيَ اسْتِحْسَانًا أَيْ قِيَاسًا مُسْتَحْسَنًا لِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا. وَذَلِكَ كَالْحُكْمِ عَلَى سُؤْرِ سِبَاعِ الطَّيْرِ، فَالْقِيَاسُ نَجَاسَةُ سُؤْرِهَا قِيَاسًا عَلَى نَجَاسَةِ سُؤْرِ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ كَالأَْسَدِ وَالنَّمِرِ؛ لأَِنَّ السُّؤْرَ مُعْتَبَرٌ بِاللَّحْمِ، وَلَحْمُهَا نَجِسٌ.(3/219)