191 - القتل على خلفية شرف العائلة
تقول السائلة: ما قولكم فيما يسمى بالقتل على خلفية شرف العائلة وهل يجوز للأب أو الأخ قتل ابنته أو أخته الزانية مع العلم أنه قد يقع القتل بمجرد الشك في سلوك الفتاة ودون إثبات لواقعة الزنا؟
الجواب: لا شك أن الزنا من كبائر الذنوب ومن الجرائم الاجتماعية الفظيعة، يقول الله سبحانه وتعالى: (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا) سورة الإسراء الآية 32.
قال الإمام القرطبي: [قال العلماء، قوله تعالى: (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا) أبلغ من أن يقول ولا تزنوا فإن معناه لا تدنوا من الزنا] تفسير القرطبي 10/253.
وقد جعل الله سبحانه وتعالى من صفات عباد الرحمن ترك الزنا فقال تعالى: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًاءَاخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا) سورة الفرقان الآيتان 68-69.
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة التحذير من الزنا وبيان ضرر الزنا فقد جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن) رواه البخاري ومسلم.
وعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه تضمنت له بالجنة) رواه البخاري، وما بين لحييه أي اللسان وما بين رجليه أي فرجه.
وورد في حديث السبعة الذين يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله: (ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله) رواه البخاري ومسلم. وغير ذلك من الأحاديث.
وقد قرر الإسلام عقوبة للزاني المحصن " المتزوج " وللزاني غير المحصن قال الله تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) سورة النور الآية 2.
وهذه الآية في حق الزانية والزاني غير المحصنين وعند جمهور الفقهاء يغرب الزاني لمدة عام بعد الجلد لما جاء في الحديث عن عبادة بن الصامت أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً البكر بالبكر جلد مئة ونفي سنة والثيب بالثيب جلد مئة والرجم) رواه مسلم، ويرى بعض أهل العلم أن التغريب خاص بالزاني الرجل دون المرأة.
وأما الزانيان المحصنين فعقوبتهما الرجم لما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر برجم ماعز عندما اعترف بالزنا وكان محصناً فقال عليه الصلاة والسلام: (اذهبوا به فارجموه) رواه مسلم. وغير ذلك من النصوص.
إذا ثبت هذا فإن تنفيذ العقوبات من اختصاص الدولة المسلمة بأمر الإمام ولي أمر المسلمين وليس من اختصاص الأفراد أو الجماعات أو الأحزاب أو غيرها.
قال الشيخ عبد القادر عوده رحمه الله تحت عنوان " من الذي يقيم الحدّ ": [من المتفق عليه بين الفقهاء أنه لا يجوز أن يقيم الحدّ إلا الإمام أو نائبه لأن الحدّ حق الله تعالى ومشروع لصالح الجماعة فوجب تفويضه إلى نائب الجماعة وهو الإمام ولأن الحدّ يفتقر إلى الاجتهاد ولا يؤمن في استيفائه من الحيف والزيادة على الواجب فوجب تركه لولي الأمر يقيمه إن شاء بنفسه أو بواسطة نائبه وحضور الإمام ليس شرطاً في إقامة الحد لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير حضوره لازماً فقال: اغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها. وأمر عليه الصلاة والسلام برجم ماعز ولم يحضر الرجم وأتي بسارق فقال: اذهبوا به فاقطعوه. لكن إذن الإمام بإقامة الحدّ واجب، فما أقيم حدّ في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بإذنه وما أقيم حدّ في عهد الخلفاء إلا بإذنهم] التشريع الجنائي الإسلامي 2/444.
وجاء في الموسوعة الفقهية: [اتفق الفقهاء على أنه لا يقيم الحدّ إلا الإمام أو نائبه وذلك لمصلحة العباد وهي صيانة أنفسهم وأموالهم وأعراضهم والإمام قادر على الإقامة لشوكته ومنعته وانقياد الرعية له قهراً وجبراً كما أن تهمة الميل والمحاباة والتواني منتفية عن الإقامة في حقه فيقيهما على وجهه فيحصل الغرض المشروع بيقين، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقيم الحدود وكذا خلفاءه من بعده] 17/144-145.
ومما يدل على أن تنفيذ العقوبات من اختصاص الدولة المسلمة ممثلة بالإمام أو من يقوم مقامه قوله تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) سورة النور الآية 2.
قال الإمام القرطبي في تفسير هذه الآية: [لا خلاف أن المخاطب بهذا الأمر الإمام ومن ناب منابه] تفسير القرطبي 12/161.
وبناء على ما سبق لا يجوز لشخص مهما كان أن يتولى تنفيذ العقوبات الشرعية بنفسه سواء أكان أباً أو أخاً أو عمّاً أو خالاً أو غير ذلك فلا يجوز لهؤلاء أن يقتلوا من تتهم بالزنا لتطهير شرف العائلة كما يدعون.
وهنا لا بد من بيان عدة أمور:
أولاً: إن الزنا يثبت بأحد أمور ثلاثة: الشهادة والإقرار والقرائن.
وقد شدد الإسلام في قضية الشهادة على الزنا واشترط أربعة شهود، قال تعالى: (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ) سورة النساء الآية 15.
وقال تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثمَانِينَ جَلْدَةً) سورة النور الآية 4.
والشهادة في الزنا لها شروط مفصلة مذكورة في كتب الفقه، ولا بد في الإقرار من أن يكون مفصلاً مبيناً كما في قصة ماعز، والقرائن لا بد أن تكون صحيحة ومعتبرة عند العلماء حتى يثبت الزنا. انظر الموسوعة الفقهية 24/37 فما بعدها.
ثانياً: إن كثيراً من حالات القتل على خلفية شرف العائلة تكون الفتاة فيها مظلومة ظلماً شديداً فقد تقتل لمجرد الشك في تصرفاتها ولا يكون زناها قد ثبت فعلاً أو تكون قد ارتكبت مخالفة أقل من الزنا غير موجبة للحد وإنما توجب التعزير فقط.
ثالثاً: ورد في بعض النصوص الشرعية جواز قتل الزناة حال تلبسهم بالجريمة فقط فقد ورد في الحديث أن سعد بن عبادة قال: (لو رأيت رجلاً مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أتعجبون من غيرة سعد لأنا أغير منه والله أغير منا) رواه البخاري.
ومعنى قوله: (لضربته بالسيف غير مصفح) أي أضربه بحد السيف لأقتله لا بعرض السيف تأديباً.
وورد عن عمر بن الخطابرضي الله عنه: (أنه كان يوماً يتغذى إذ جاءه رجل يعدو وفي يده سيف ملطخ بالدم ووراءه قوم يعدون خلفه فجاء حتى جلس مع عر فجاء الآخرون فقالوا: يا أمير المؤمنين إن هذا قتل صاحبنا. فقال له عمر: ما يقولون؟ قال: يا أمير المؤمنين إني ضربت فخذي امرأتي فإن كان بينهما أحد فقد قتلته. فقال عمر: ما يقول؟ فقالوا: يا أمير المؤمنين إنه ضرب بالسيف فوقع في وسط الرجل وفخذي المرأة فأخذ عمر سيفه فهزه ثم دفعه إليه وقال: إن عادوا فعد) فقه عمر 1/334.
وبناءاً على ذلك قال جمهور الفقهاء يجوز للزوج أن يقتل رجلاً شاهده مع زوجته متلبساً بجريمة الزنا سواء أكانت الزوجة مطاوعة أو مكرهة ودم المتلبس بالجريمة هدر إن ثبت ذلك عند القاضي بالشهادة أو بالإقرار. انظر فقه عمر 1/337-338.
وهذا القتل قال الفقهاء إنه يكون في حالة ضبط الزاني متلبساً بجريمته لأن الزوج في هذه الحالة يكون في حالة غضب شديد جداً.
رابعاً: إن كثيراً من حالات القتل على خلفية شرف العائلة تقع بعد حصول حادثة الزنا بفترة طويلة وغالباً ما تكون بعد أن تظهر على الفتاة علامات الحمل من الزنا وفي مثل هذه الحالات تكون الفتاة بكراً فلا يجوز قتلها لأن عقوبتها الشرعية ليست القتل ولو كانت متزوجة فلا تقتل لأن تنفيذ العقوبة كما سبق من اختصاص إمام المسلمين وليس الأمر للزوج أو الأب أو الأخ أو غيرهم.
خامساً: إن الآباء والأمهات والأخوة يتحملون جزءاً من المسؤولية عن وقوع ابنتهم في الفاحشة فالواجب هو تحصين البنات والشباب وتربيتهم تربية صحيحة وسد المنافذ التي تؤدي إلى وقوعهم في الفحشاء والمنكر فإن الوقاية خير من العلاج.
خامساً: إذا تم قتل الفتاة الزانية غير المحصنة فإن قاتلها يتحمل مسؤولية قتلها وينبغي أن يعاقب العقوبة الشرعية إلا إذا وجد مانع من ذلك كالأبوة فهي مانعة من القصاص عند جماهير أهل العلم. والمسألة فيها تفصيل لا يحتمله المقام.
?????(15/191)
192 - المنكرات في الحفلات
المنكرات في الأعراس، يقول السائل: ظهرت في الآونة الأخيرة في حفلات الأعراس عادات مشينة وظواهر غريبة عن تعاليم ديننا منها:
الجواب: إن أغلب الأعراس اليوم مخالفة لشرع الله سبحانه وتعالى من جوانب كثيرة ويستسيغ الناس ذلك لأنهم يريدون أن يفرحوا كما زعموا.
فالفرح عندهم لا يتم إلا بالاختلاط الماجن بين الرجال والنساء وفرحهم لا يتم إلا باستعمال المفرقعات المزعجة والتي قد تؤدي إلى حوادث مؤسفة.
وفرحهم لا يتم إلا بالرقص المختلط والعري والتهتك وبشرب الخمور ولا يتم فرحهم إلا بالفرق الموسيقية ومكبرات الصوت التي تزعج أهل الحي وأهل البلد إلى ساعة متأخرة من الليل مع أن الناس فيهم المريض الذي يحتاج إلى الراحة والهدوء وفيهم طالب العلم الذي لا يستطيع الدراسة بسبب إزعاج الأفراح وفيهم العامل الذي يريد النوم ليستيقظ مبكراً ليذهب إلى عمله.
وهكذا يبدأ الزوجان حياتهما بالمنكرات وانتهاك المحرمات الموجبة لغضب الله سبحانه وتعالى.
ولا شك لدي أن الرقص فيه خفة ورعونة ويكون حراماً إذا رقصت النساء أمام الرجال ولا يفعل ذلك إلا الفاسقات الفاجرات كما تفعله الراقصات في زماننا هذا.
وأما رقص النساء فيما بينهن فإذا لم يكن كرقص الفاسقات الفاجرات فلا بأس به وأما إن كان كرقص الفاجرات الفاسقات فهو ممنوع وغير جائز شرعاً وقد عده كثير من الفقهاء من منكرات الأعراس.
وأا رقص العروسين وسط النساء فمنكر قبيح وحرمته أشد وخاصة أنهما يقلدان في الرقص أهل الكفر والفسق والفجور.
وأما تقبيل العريس لعروسه أمام النساء فمنكر وخلاعة وقلة أدب وفعل ذلك أمام الناس يدل على قلة الدين ويدعو إلى الفحش والوقوع في المنكرات.
وأما الملابس الفاضحة التي تلبسها النساء في الأعراس فإن فعلن ذلك بحضور الرجال فهو حرام ومن يرضَ ذلك لزوجته أو بنته فهو ديوث كما ورد في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة لا ينظر الله عز وجل إليهم يوم القيامة العاق لوالديه والمرأة المترجلة والديوث) رواه أحمد والنسائي وابن حبان وقال الشيخ الألباني: حسن صحيح أنظر صحيح سنن النسائي 2/541.
والديوث هو الذي يرى المنكر في أهله ثم يسكت ولا ينكره كما ورد تفسيره في رواية أخرى عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة قد حرم الله عليهم الجنة: مدمن خمر والعاق والديوث الذي يقر في أهله الخبث) رواه أحمد.
وأما إن لم يكن بحضور الرجال فلا يخرج عن كونه تقليداً للفاسقات الفاجرات الكافرات فالصحيح المنع منه.
وواجب المسلمة ألا تحضر مثل هذه الأعراس التي تقع فيها هذه المنكرات والمخالفات ولا يكفي في هذا المقام الإنكار بالقلب وإنما الواجب هو عدم الحضور خشية الفتنة والاندفاع إلى اقتراف الحرام.
?????(15/192)
193 - الحداد
الحداد على الأخ الميت، تقول السائلة: إن أخاها قد مات فحدت عليه لمدة عام وكانت لا تلبس إلا الملابس السوداء في ذلك العام فما حكم ذلك؟
الجواب: لا يشرع الإحداد على الأخ الميت أو أي قريب مات أكثر من ثلاثة أيام أما زوج المرأة إن مات فتحد زوجته عليه أربعة أشهر وعشرة أيام إلا إذا كانت حاملاً عند الوفاة فتحدّ حتى تضع حملها وهي عدة الوفاة في حقها في الحالتين.
والمقصود بالإحداد هو امتناع المرأة من الزينة وما في معناها خلال مدة الإحداد الشرعي.
ومما يدل على مشروعية الإحداد ما ثبت في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحدّ على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً) رواه البخاري ومسلم.
وعن أم عطية رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تحد امرأة على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة اشهر وعشراً ولا تلبس ثوباً مصبوغاً إلا ثوب عصب ولا تكتحل ولا تمس طيباً إلا إذا طهرت نبذة من قسط أو أظفار) رواه البخاري ومسلم. وثوب العصب نوع من الثياب اليمانية.
وقوله نبذة من قسط أو أظفار - وهما نوعان من البخور - أي قطعة منهما.
من هذين الحديثين يؤخذ أنه لا يجوز للمرأة أن تحدّ على غير زوجها أكثر من ثلاثة أيام فإحداد المرأة على زوجها في عدة الوفاة واجب طوال العدة وأما إحدادها على غير زوجها كأبيها وأمها وأخيها وأختها وابنها وابنتها وغيرهم من الأقارب فليس بواجب بل هو جائز إن شاءت حدت وإن شاءت لم تحد.
ونقل الحافظ ابن حجر عن الحافظ ابن بطال قوله: [الإحداد امتناع المرأة المتوفى عنها زوجها من الزينة كلها من لباس وطيب وغيرهما وكل ما كان من دواعي الجماع وأباح الشارع للمرأة أن تحدّ على غير زوجها ثلاثة أيام لما يغلب من لوعة الحزن ويهجم من ألم الوجد وليس ذلك واجباً] فتح الباري 3/388.
ويحرم على المرأة أن تزيد مدة الإحداد عن ثلاثة أيام لموت أي قريب من أقربائها فلا يجوز الإحداد لمدة أسبوع ولا لأربعين يوماً ولا لسنة ولا لغير ذلك كما اعتاده كثير من النساء وللمرأة المسلمة اليوم أسوة حسنة في نساء النبي صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين وغيرهن من الصحابيات فقد ثبت في الحديث عن زينب بنت أبي سلمة قالت: (لما جاء نعي أبي سفيان من الشام دعت أم حبيبة رضي الله عنها - وهي أم المؤمنين - بصفرة في اليوم الثالث فمسحت عارضيها وذراعيها وقالت: إني كنت عن هذا لغنية لولا أني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج فإنها تحدّ عليه أربعة أشِهر وعشراً) رواه البخاري ومسلم.
فهذه أم حبيبة لما مات أبوها وفي رواية أخرى أخوها وبعد مرور ثلاثة أيام طلبت صفرة والصفرة نوع من الطيب فدعت به فمسحت عارضيها أي خديها وذراعيها مع أنها ليست محتاجة للتطيب وإنما لتثبت التزامها بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وثبت في الحديث عن محمد بن سيرين قال: (توفي ابن لأم عطية رضي الله عنها فلما كان اليوم الثالث دعت بصفرة فتمسحت به وقالت: نهينا أن نحد أكثر من ثلاث إلا على زوج) رواه البخاري.
وأما لبس السواد في الإحداد واتخاذ ذلك شعاراً للنساء في فترة الإحداد فليس مشروعاً وإنما يجوز للمرأة أن تلبس ما تشاء من ثيابها بشرط ألا يكون زينة في نفسه.
ويجب أن يعلم أن الإحداد خاص بالنساء وليس على الرجال إحداد بإجماع أهل العلم. الموسوعة الفقهية 2/104.
لذلك فليس مشروعاً ما يفعله بعض الرجال عند موت قريب لهم من لبس ملابس سوداء وإعفاء بعض الرجال لحاهم لعدة أيام حزناً على ميتهم مع أنهم كانوا يعتادون حلق لحاهم.
فإذا انقضت أيام الحزن عادوا إلى حلق لحاهم فهذا الأمر في معنى نشر الشعر المنهي عنه كما قال الشيخ الألباني عند ذكره لما لا يجوز فعله عند الوفاة فقال: [- نشر الشعر، لحديث امرأة من المبايعات قالت: (كان فيما أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المعروف الذي أخذ علينا أن لا نعصيه فيه وأن لا نخمش وجهاً ولا ندعو ويلاً ولا نشق جيباً وأن لا ننشر شعراً) أخرجه أبو داود ... بسند صحيح - إعفاء بعض الرجال لحاهم أياماً قليلة حزناً على ميتهم فإذا مضت عادوا إلى حلقها! فهذا الإعفاء في معنى نشر الشعر كما هو ظاهر يضاف إلى ذلك أنه بدعة وقد قال صلى الله عليه وسلم: (كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار) رواه النسائي والبيهقي في الأسماء والصفات بسند صحيح عن جابر) أحكام الجنائز وبدعها ص 30.
ومن صور الإحداد الجاهلي المعاصر الإحداد العام في الدول لموت رئيس أو عظيم أو حلول مصاب عام ومن مظاهر هذا الإحداد إيقاف الأعمال وتنكيس الأعلام وتغيير برامج الإعلام بما يناسب المقام من ثناء على الميت وذكر أعماله وغير ذلك مما يندرج تحت تقديس الأشخاص وتعظيمهم.
ولا يشك عالم بقواعد الشريعة ونصوصها عارف بسيرة أهل القرون الفاضلة أن هذا الفعل ليس مما يجيء بمثله الشرع الحنيف ولا فعله السلف الصالح مع كثرة من فقدوا رحمهم الله من العظماء والأكابر فهؤلاء الصحابة خير القرون رضي الله عنهم مات فيهم خير الخلق وسيد البشر وخليل الرحمن النعمة المسداة والرحمة المهداة رسولنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم فلم يفعلوا ما فعله المتأخرون مع الصعاليك العظماء فدل ذلك على عدم مشروعيته إذ لو كان مشروعاً لفعلوه مع إمام العظماء نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
وتقدم نقل الإجماع على أن الإحداد مما اختصت به النساء دون الرجال وهي إنما تحدّ على زوجها المتوفى عنها أربعة أشهر وعشراً أو على غيره ثلاثة أيام وأما ما سوى ذلك فهو من الإحداد الممنوع.
ولا شك أن تعطيل أعمال الناس لأجل موت أحدهم فيه إفساد لمصالح الأحياء وإهدار لطاقاتهم وربطهم بالموتى وكأن الحياة لا تصلح ولا تطيب إلا بمن فقدوا ومن جهة أخرى فإن هذا الإحداد المبتدع مما أخذه بعض المسلمين عن الكفار ومعلوم من نصوص الكتاب والسنة أن التشبه بهم ممنوع قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) والتشبه بهم من موالاتهم. وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التشبه بهم فعن ابن عمر رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ومن تشبه بقوم فهو منهم) رواه أحمد وأبو دواد.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بعد هذا الحديث: [وهذا الحديث أقل أحواله أن يقتضي تحريم التشبه بهم وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم] اقتضاء الصراط المستقيم 1/236 أحكام الإحداد ص 29- 30.
ومن الأمور التي أحدثها الناس في الإحداد امتناع أحدهم عن الزواج لمدة سنة بعد وفاة قريب له أو أكثر أو أقل، ومثل ذلك عدم حضورهم للأعراس بعد وفاة قريب لهم لمدة قد تطول أو تقصر حسب أهوائهم.
فكل ذلك ليس له أصل في الشرع والخير كل الخير في الاتباع والشر كل الشر في الابتداع.
?????(15/193)
194 - الحمل والإجهاض
الاحتفاظ بالبييضات الملقحة في عمليات أطفال الأنابيب، يقول السائل: في عمليات أطفال الأنابيب يتم تلقيح عدد من البييضات ويتم زرعها في رحم الزوجة ويبقى بعد ذلك فائض من البييضات الملقحة يحتفظ بها مجمدة فما حكم ذلك؟
الجواب: كثر إقبال الناس الذين لا ينجبون بالطريقة الطبيعية على مراكز أطفال الأنابيب التي انتشرت في الفترة الأخيرة وهذه المراكز الطبية تقوم بممارسة أعمالها دون وجود قانون أو نظام ينظم عملها ودون وجود هيئة طبية وشرعية تشرف على أعمالها وإن الموضوع جد خطير لما قد يترتب عليه من آثار سلبية كاختلاط الأنساب مثلاً.
لذلك لا بد من وضع ضوابط وقواعد للعمل في هذه المراكز وخاصة أن غلبة الجانب التجاري واضح في بعضها تماماً.
ومن المشكلات التي نشأت عن قضية أطفال الأنابيب القضية محل السؤال فمن المعلوم أن الأطباء يحرصون على إفراز أكبر عدد من البييضات بواسطة العقاقير وقد ذكر أحد الباحثين أنه أمكن استخراج خمسين بييضة من امرأة واحدة وأن أحد مراكز أطفال الأنابيب كان لديه أكثر من ألف ومئتي جنين فائض أودعت الثلاجة وجمدت وقد أخذت من أكثر من أربعين امرأة أجريت لهن عملية طفل الأنبوب وهذه الأجنة سميت أجنة تجاوزاً وإلا فهي في مرحلة ما قبل الجنين. انظر بحث د. محمد علي البار لمجمع الفقه الإسلامي ص 1803، مجلة المجمع عدد6/ج3.
والأطباء يسحبون البييضات الكثيرة لأن عملية طفل الأنابيب تتطلب استنبات العديد من البييضات من المبيض عند المرأة يصل عددها في المتوسط ما بين 4-8 بويضات وفي العادة تسحب كل تلك البييضات من المبيض وتلقح في المختبر وينقل منها ثلاثة أجنة فقط إلى رحم الأم والفائض من تلك الأجنة يحتفظ به بعد تبريده وتجميده. انظر بحث د. عبد الله باسلامة لمجمع الفقه الإسلامي ص 1841 مجلة المجمع عدد6/ج3.
إن الاحتفاظ بالبييضات الملقحة لفترة طويلة يعتبر مشكلة قد تنتج عنها أمور لا يحمد عقباها. فقد يحتفظ بالبييضات الملقحة ريثما يثبت نجاح عملية طفل الأنبوب وثبوت الحمل وقد يحتفظ بها حتى تتم عملية زرع أخرى وهكذا.
إن الأصل الذي قرره العلماء المعاصرون في هذه المسألة هو أن لا يكون هناك فائض من البييضات الملقحة وأن لا يتم تلقيح البييضات إلا بالعدد الذي لا يؤدي إلى وجود فائض منها وإذا ما بقي شيء من البييضات الملقحة بعد عملية الزرع فلا بد من التخلص منها.
وقد درس مجمع الفقه الإسلامي هذه المسألة في دورته السادسة سنة 1410 هـ وقرر ما يلي: [
1. في ضوء ما تحقق علمياً من إمكان حفظ البييضات غير ملقحة للسحب منها يجب عند تلقيح البييضات الاقتصار على العدد المطلوب للزرع في كل مرة تفادياً لوجود فائض من البييضات الملقحة.
2. إذا حصل فائض من البييضات الملقحة بأي وجه من الوجوه تترك دون عناية طبية إلى أن تنتهي حياة ذلك الفائض على الوجه الطبيعي.
3. يحرم استخدام البييضة الملقحة في امرأة أخرى ويجب اتخاذ الإجراءات الكفيلة بالحيلولة دون استعمال البييضة الملقحة في حمل غير مشروع] مجلة المجمع الفقهي العدد السادس ج3ص2151-2152.
?????(15/194)
195 - الميراث
التخارج في الميراث يقول السائل: باع شخص حصته من الميراث لأخيه قبل القسمة والآن قد باع الورثة حصصهم ويطالبهم هذا الشخص بجزء من حصته وهذا الجزء هو حصته من ثُمن والدته مع العلم أن الوالدة كانت متوفاة لما باع حصته من أخيه فهل يحق له ذلك؟
الجواب: ما فعله هذا الوارث من بيع حصته في التركة لأخيه يسمى عند الفقهاء التخارج وهو أن يتصالح الورثة على إخراج بعضهم عن الميراث بشيء معلوم.
والتخارج جائز شرعاً بشرط التراضي من الورثة وقد روى الإمام البخاري تعليقاً عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (يتخارج الشريكان وأهل الميراث) وقال الحافظ ابن حجر وصله ابن أبي شيبة بمعناه. صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 5/370.
وعن عمرو بن دينار: (أن امرأة عبد الرحمن بن عوف أخرجها أهله من ثلث الثمن بثلاثة وثمانين ألف درهم) رواه عبد الرزاق في المصنف 8/289، ورواه البيهقي بنحوه في السنن الكبرى 6/65.
وما دام أن هذا الشخص قد باع حصته لأخيه قبل تقسيم الميراث وكانت الوالدة قد توفيت قبل ذلك فلا يجوز له أن يطالب بأي شيء لأنه قد خرج من الميراث بشرط أن يكون التخارج قد تم بالتراضي.
?????(15/195)
196 - النكاح
يقول السائل: ما المقصود بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (غربوا النكاح، لا تضووا) ؟
الجواب: إن الحديث المذكور، لم يثبت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وإنما ورد من كلام عمر بن الخطاب رضي الل عنه، فقد روى إبراهيم الحربي في غريب الحديث، عن عبد الله بن المؤمل، عن أبي مليكة قال: قال عمر لآل السائب: قد أضوأتم، فانكحوا في النوابغ، قال الحربي: يعني تزوجوا الغرائب، ذكره الحافظ ابن حجر العسقلاني في التلخيص الحبير 3/146.
وورد في رواية أخرى، أن عمر بن الخطاب قال لبني السائب - وقد اعتادوا الزواج بقريباتهم -: " مالي أراكم يا بني السائب قد ضويتم، غربوا النكاح لا تضووا ".
قال العلامة ابن منظور في لسان العرب: " وغلام ضاوي، وكذلك غير الإنسان من أنواع الحيوان، وما أدري ما أضواه، وأضوى الرجل، ولد له ولد ضاويٍ، وكذلك المرأة وفي الحديث اغتربوا لا تضووا، أي تزوجوا في البعاد الأنساب لا في الأقارب لئلا تضووا أولادكم، وقيل معناه، انكحوا في الغرائب دون القرائب فإن ولد الغريبة أنجب وأقوى وولد القريبة أضعف وأضوى،.... ومعنى لا تضووا، أي لا تأتوا بأولاد ضاوين أي ضعفاء.... الخ " لسان العرب / مادة ضوى.
وتغريب النكاح مطلوب لأن زواج الأقارب وخاصة إذا كان متكرراً في نطاق الأسرة الواحدة فإنه قد ينتج عنه نسل ضعيف، والزواج من الأقارب هو واسطة لإظهار الصفات المَرَضيِّة الكامنة وتكثيفها في النسل.
وقال الإمام الشافعي: " ليس من قوم لا يخرجون نسائهم إلى رجال غيرهم ولا يخرجون رجالهم إلى نساء غيرهم إلا جاء أولادهم حمقى " الإنتقاء في فضائل الأئمة الثلاثة الفقهاء ص98.
*****(15/196)
197 - النكاح
قراءة الفاتحة عند عقد الزواج بدعة, يقول السائل: جرت عادة كثير من الناس أنه عندما يتم عقد قران رجل على امرأة وبعد أن يتم الإتفاق على المهر وتوابعه، فإنهم يقرأون الفاتحة، فما حكم ذلك؟
الجواب: إن الناس قد ابتدعوا أموراً كثيرة مخالفة لهدي النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يتعلق بقراءة القرآن الكريم بشكل عام، وقراءة سورة الفاتحة بشكل خاص.
فترى وتسمع قارئ القرآن بعد أن ينهي قراءته، يقول الفاتحة، ونرى المدرس بعد أن ينهي درسه يقول الفاتحة، وكذلك فإنهم يقرأون الفاتحة عند اتفاق الناس على أمر ما، مثل إقامة شركة بين اثنين مثلاً، فبعد الإتفاق يقولون الفاتحة، وكذلك بعد إجراء مراسم الصلح يقولون الفاتحة، وكذلك ما جاء في السؤال، فإنهم يقرأون الفاتحة بعد الإتفاق على التفاصيل المتعلقة بعقد النكاح، وغير ذلك من الحالات التي تقرأ فيها سورة الفاتحة.
وكل ذلك من الأمور المبتدعة في الدين التي ليس عليها دليل من الشرع، ولم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء في ذلك، ولا يجوز شرعاً لأحد أن يخص سورة الفاتحة أو آية من القرآن الكريم بالتلاوة قي وقت معين أو لغرض معين، إلا ما خصه الرسول صلى الله عليه وسلم، كما ثبت في السنة من تخصيص قراءة سورة الفاتحة للرقية، وقراءة آية الكرسي عندما يريد الإنسان النوم حفظاً من الشيطان، وقراءة (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) ، و (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) ، و (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) للرقية فهذا وأمثاله جائز لثبوته عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأدلة صحيحة.
وأما تخصيص قراءة الفاتحة في الحالات الذي ذكرتها سابقاً فلا يجوز، لأنه أمر محدث، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) رواه البخاري ومسلم.
وقال صلى الله عليه وسلم (إياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة) رواه أبو داود والترمذي وهو حديث صحيح.
وقال صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهدين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور) رواه أبو داود والترمذي، وقال حسن صحيح.
وقد شرع لنا النبي صلى الله عليه وسلم عند النكاح، خطبة النكاح، قال الإمام الترمذي: " باب ما جاء في خطبة النكاح، ثم ذكر حديث ابن مسعود، الذي ذكره ابن القيم مضمونه في كلامه الآتي.
وقال العلامة ابن القيم: " فصل في هديه - صلى الله عليه وسلم - في أذكار النكاح، ثم قال: ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه علمهم خطبة الحاجة، وهي (الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل، فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ثم يقرأ الآيات الثلاث:
(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) سورة آل عمران /102
(يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) سورة النساء /1
(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) سورة الأحزاب /72,71.
قال شعبة: " قلت لأبي اسحاق هذه في خطبة النكاح أو في غيرها؟ قال: في كل حاجة " زاد المعاد 2/454 - 455.
هذه هي السنة الثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فعلينا إتباعها، فإن الخير كل الخير في الإتباع، وإن الشر كل الشر في الإبتداع.
*****(15/197)
198 - النكاح
بطلان الدعوة إلى تأخير سن الزواج, يقول السائل: يطالب بعض الناس بتأخير سن الزواج، ويرفضون الزواج المبكر، فما قولكم في ذلك؟
الجواب: حض الإسلام على الزواج ورغّب فيه والزواج من سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن طريقته وهديه عليه الصلاة والسلام، والزواج المبكر أفضل وأولى من تأخير سن الزواج في حق الذكر والأنثى على السواء، يقول الله تعالى: (وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) سورة النور /32.
قال الإمام القرطبي في تفسير هذه الآية: "هذه المخاطبة تدخل في باب الستر والصلاح أي زوجوا من لا زوج له منكم، فإنه طريق التعفف، والخطاب للأولياء.... وقوله (الأيامى منكم) ، أي الذين لا أزواج لهم من النساء والرجال " تفسير القرطبي 12/236.
وقد حض الرسول صلى الله عليه وسلم على التبكير في الزواج وعدم تأخيره فمن ذلك - ما جاء في حديث طويل، عن عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث حيث قال: (اجتمع ربيعة بن الحارث والعباس بن عبد الطلب فقالا: والله لو بعثنا هذين الغلامين قالا لي وللفضل بن عباس، إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.... إلى أن قال: وقد بلغنا النكاح.... فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم - لمحمية - رجل كان مسؤولاً عن الصدقات -: (أنكح هذا الغلام ابنتك -للفضل بن عباس- فأنكحه وقال لنوفل بن الحارث: أنكح هذا الغلام ابنتك -لي- عبد المطلب بن ربيعة، فأنكحني....الخ الحديث) رواه مسلم.
والشاهد في هذا، قول عبد المطلب " وقد بلغنا النكاح " أي الحلم كقوله تعالى: (حتى إذا بلغوا النكاح) أي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بتزويجهما وهما غلامان.
- ما رواه مسلم بإسناده عن فاطمة بنت قيس، وفيه أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمرها أن تتزوج أسامة بن زيد، حيث قال لها: (أنكحي أسامة بن زيد، فكرهته، ثم قال أنكحي أسامة بن زيد، فنكحته فجعل الله فيه خيراً كثيراً، واغتبطت به) ، وقد كان أسامة بن زيد يوم زوجه النبي - صلى الله عليه وسلم - فاطمة بنت قيس، دون السادسة عشرة من عمره.
- وعن عائشة رضي الله عنها، أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: (لو كان أسامة جارية لكسوته وحليته حتى أُنفِقَهُ) رواه ابن ماجة وأحمد، وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة 3/16.
والمراد أنه لو كان أسامة بن زيد بنتاً لزينه وألبسه الحلي حتى يتزوج.
- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه وأمانته فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأر وفساد عريض) رواه الترمذي وابن ماجة والحاكم، وهو حديث حسن، كما قال الشيخ الألباني، صحيح سنن الترمذي 1/315.
- وعن علي رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (يا علي، ثلاثٌ لا تؤخرها، الصلاة إذا آنت، والجنازة إذا حضرت، والأيم إذا وجدت لها كفؤاً) رواه الترمذي وقال: غريب حسن، كما نقله الألباني في المشكاة 1/192.
والأيم هي المرأة التي لا زوج لها.
وبناءً على ما تقدم، نرى أن الأصل في الفتاة أن تتزوج إذا تقدم لها الخاطب الكفؤ ما دامت بالغة عاقلة، ولا يجوز لوليها أن يتأخر في تزويجها إذا وجد الكفؤ وقد ورد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: " زوجوا أولادكم إذا بلغوا لا تحملوا آثامهم " ذكره ابن الجوزي في أحكام النساء ص304.
وهذا يشمل الذكور والإناث فينبغي للولي أن لا يتأخر في تزويج أولاده وبناته حتى لا يقعوا في المعاصي والآثام.
وورد عن الحسن البصري أنه قال: " بادروا نساءَكم التزويج ".
وذكر ابن الجوزي عن بعض السلف أنه قال: " كان يقال العجلة من الشيطان إلا في خمس، إطعام الطعام إذا حضر الضيف، وتجهيز الميت إذا مات، وتزويج البكر إذا أدركت، وقضاء الدين إذا وجب، والتوبة من الذنب إذا أذنب " أحكام النساء ص304.
وقد أورد بعض أهل العلم أضرار تأخير زواج الفتاة فقال: "والواقع أن في تأخير زواج الأنثى إذا بلغت، أضراراً كثيرة.
منها: احتمال انزلاقها إلى الفاحشة.
ومنها: أن يفوتها الزوج الكفؤ.
ومنها: قد يفوتها قطار الزواج بالكلية.
ومنها: كدورة نفسها، وكراهية وليها الذي أخر زواجها بعدم قبوله من تقدم إليها من الخطّاب الأكفاء وقد يصدر منها ما لا تحمد عقباه.
ومنها: قد يصيب نفسها شيء من التعقيد والسخط على كل من حولها، ولا شك أن الولي يتحمل قسطه من هذه النتائج والآثام بسبب تأخيره تزويجها " المفصل في أحكام المرأة 6/309
وينبغي التذكير بأن قانون الأحوال الشخصية المعمول به في بلادنا، قد حدد أقل سن للزواج كما جاء في المادة الخامسة منه ما يلي:
((يشترط في أهلية الزواج أن يكون الخاطب والمخطوبة عاقلين، وأن يتم الخاطب السنة السادسة عشرة وأن تتم المخطوبة الخامسة عشرة من العمر)) .
وهذا تحديد مقبول ينبغي العمل به.
*****(15/198)
199 - حقوق الزوجين
أخذ الزوجة من مال زوجها البخيل دون إذنه، تقول السائلة: إن زوجها بخيل جداً في الإنفاق عليها وعلى أولاده فتأخذ نقوداً منه خفية، فهل يجوز لها ذلك؟
الجواب: إن إنفاق الزوج على زوجته وأولاده واجب باتفاق أهل العلم، ويدل على ذلك:
قوله تعالى: (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) سورة البقرة/233.
وقوله تعالى: (لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ) سورة الطلاق/7.
قال الإمام البخاري في صحيحه: " باب وجوب النفقة على الأهل والعيال ".
وقال الحافظ ابن حجر: " الظاهر أن المراد بالأهل في الترجمة الزوجة، وعطف العيال عليها من العام بعد الخاص....، ثم ساق الإمام البخاري بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أفضل الصدقة ما ترك غنى، واليد العليا خير من اليد السفلى، وإبدأ بمن تعول، تقول المرأة: إما أن تطعمني وإما أن تطلقني، ويقول العبد: أطعمني واستعملني، ويقول الابن: أطعمني إلى من تدعني) .
وقد حث الرسول صلى الله عليه وسلم على الإنفاق على الأهل والعيال والمنفق مأجور إن شاء الله حيث قال: (إذا أنفق المسلم نفقة على أهله، وهو يحتسبها كانت له صدقة) رواه البخاري.
ونقل الحافظ ابن حجر في الفتح عن المهلب قوله: " النفقة على الأهل واجبة بالإجماع وإنما سماها الشارع صدقة خشية أن يظنوا أن قيامهم بالواجب لا أجر لهم فيه وقد عرفوا ما في الصدقة من الأجر فعرفهم أنها لهم صدقة حتى لا يخرجوها إلى غير الأهل إلا بعد أن يكفوهم ترغيباً لهم في تقديم الصدقة الواجبة قبل صدقة التطوع " فتح الباري 11/425.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة - عتق رقبة -، ودينار أنفقته على أهلك) رواه مسلم.
وعن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفضل دينار ينفقه الرجل دينار ينفقه على عياله، ودينار ينفقه على دابته في سبيل الله، ودينار ينفقه على أصحابه في سبيل الله) رواه مسلم.
وإذا تقرر هذا، فنعود إلى جواب السؤال فنقول: يجوز لزوجة البخيل أن تأخذ من مال زوجها البخيل ما يكفي للإنفاق عليها وعلى أولادها بالمعروف أي ما تحصل به الكفاية من غير تقتير ولا إسراف.
ويدل على ذلك ما ورد في قصة هند زوج أبي سفيان كما رواها الإمام البخاري في صحيحه حيث قال البخاري: " باب إذا لم ينفق الرجل، فللمرأة أن تأخذ ما يكفيها وولدها بالمعروف، ثم روى بسنده عن عائشة رضي الله عنها، أن هنداً بنت عتبة قالت: " يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم، فقال رسول الله: (خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف) .
والمراد بالمعروف، أي أنها تأخذ القدر الذي عرف بالعادة أن فيه الكفاية لها ولولدها.
*****(15/199)
200 - الحمل والإجهاض
يحرم استئصال القدرة على الحمل إلا لضرورة ملحة، تقول السائلة: إنها أصيبت بمرض الأزمة وضيق التنفس، ونصحها بعض الأطباء بإغلاق مواسير الحمل، وفعلت ذلك، والآن ضميرها يؤنبها، وتسأل إن كان عليها كفارة لذلك
الجواب: إن نعمة التناسل من أعظم النعم على الإنسان وقد منَّ الله سبحانه وتعالى على عباده بهذه النعمة في آيات كثيرة منها، قوله تعالى: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) سورة الحجرات /13.
وقوله تعالى: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ) سورة النحل /72.
وحث النبي - صلى الله عليه وسلم - على الزواج وعلى تكثير الأولاد فقال: (تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم) رواه ابن حبان وأحمد والطبراني وغيرهم، وقال الشيخ الألباني: صحيح، إرواء الغليل 6/195.
وغير ذلك من النصوص الشرعية.
وبناءً على ما تقدم، يحرم اتخاذ وسيلة تؤدي إلى قطع النسل نهائياً إلا في حالات الضرورة بضوابطها الشرعية.
وقد جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي الخاص بتنظيم النسل ما يلي:
((وبناءً على أن من مقاصد الزواج في الشريعة الإسلامية، الإنجاب والحفاظ على النوع الإنساني، وإنه لا يجوز إهدار هذا المقصد، لأن إهداره يتنافى مع النصوص الشرعية وتوجيهاتها الداعية إلى تكثير النسل والحفاظ عليه والعناية به باعتبار حفظ النسل أحد الكليات الخمس التي جاءت الشرائع برعايتها قرر ما يلي:
1 - لا يجوز إصدار قانون عام يحد من حرية الزوجين في الإنجاب.
2 - يحرم استئصال القدرة على الإنجاب في الرجل والمرأة، وهو ما يعرف (بالإعقام) أو (التعقيم) ، ما لم تدع إلى ذلك ضرورة بمعاييرها الشرعية.
3 - يجوز التحكم المؤقت في الإنجاب، بقصد المباعدة بين فترات الحمل، أو إيقافه لمدة معينة من الزمان إذا دعت إليه حاجة معتبرة بحسب تقدير الزوجين، عن تشاور بينهما وتراضٍ بشرط أن لا يترتب على ذلك ضرر، وأن تكون الوسيلة مشروعة، وأن لا يكون فيها عدوان على حمل قائم)) .
وعليه فإن هذه المرأة قد ارتكبت إثماً عندما أقدمت على إغلاق مواسير الحمل، لأن مرضها ليس داعياً لمنع الحمل نهائيا، وكذلك فقد أثم الطيب الذي أشار عليها بذلك.
وعلى هذه المرأة والطبيب أن يتوبا إلى الله توبة صادقة، ويكثرا من فعل الخيرات ولا أعلم كفارة معينة تلزمهما، إلا ما ذكرت من التوبة.
*****(15/200)
201 - يحرم تمزيق الملابس عند الحزن والغضب
يقول السائل: ما حكم المرأة التي تمزق ملابسها عند الغضب من زوجها وأولادها؟
الجواب: لقد ثبت في الحديث الصحيح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية) رواه البخاري ومسلم
قال الحافظ ابن حجر: " قوله (ليس منا) أي ليس من أهل سنتنا وطريقتنا، وليس المراد به إخراجه عن الدين، ولكن فائدة إيراده بهذا اللفظ، المبالغة في الردع عن الوقوع في مثل ذلك " فتح الباري 3/406.
وشق الجيوب يقصد به شق الملابس وتمزيقها، والأصل أن الجيب هو ما يفتح من الثوب ليدخل فيه الرأس، وشق الجيوب من أفعال الجاهلية وهو من علامات السخط وعدم الرضا، وكثير من النساء يقمن بشق الجيوب عند وفاة الزوج أو أحد الأقارب أو عند الغضب الشديد، وهذا أمر لا يجوز شرعاً، فقد ثبت في الحديث عن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: "وجع أبو موسى وجعاً فغشي عليه ورأسه في حجر امرأة من أهله، فصاحت امرأة من أهله، فلم يستطع أن يرد عليها شيئاً فلما أفاق قال: أنا بريء مما برئ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم (برئ من الصالقة والحالقة والشاقة) رواه البخاري ومسلم.
والصالقة هي التي ترفع صوتها بالبكاء وتصيح، والحالقة التي تحلق شعر رأسها عند المصيبة، كما كانت نساء الجاهلية يفعلن، والشاقة التي تشق ثوبها.
وفي رواية أخرى عن أبي بردة قال: أغمي على أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، فأقبلت امرأته أم عبد الله تصيح برنة، ثم أفاق فقال: ألم تعلمي؟ ، وكان يحدثها أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (أنا بريء ممن حلق وصلق وخرق) رواه البخاري ومسلم.
قال صاحب مرقاة المفاتيح: " وكان الجميع من صنع الجاهلية، وكان ذلك في أغلب الأحوال من صنيع النساء " مرقاة المفاتيح 4/209.
وجاء في حديث آخر، عن أسيد بن أبي أسيد عن امرأة من المبايعات قالت: (كان فيما أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المعروف الذي أخذ علينا، أن لا نعصيه فيه، أن لا نخمش وجهاً، ولا ندعو ويلاً، ولا نشق جيباً، ولا ننشر شعراً) رواه أبو داود، وقال الشيخ الألباني: صحيح.
وجاء في حديث آخر عن أبي أمامة: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم لعن الخامشة وجهها والشاقة جيبها والداعية بالويل والثبور) رواه ابن ماجة، وقال الشيخ الألباني: صحيح.
وخلاصة الأمر أن هذه الأحاديث تدل على حرمة الأمور المذكورة من لطم الخدود، وشق الجيوب ونشر الشعر، لأن ذلك يعني عدم الرضا بالقضاء.
*****(15/201)
202 - العدة
المعتدة عدة وفاة لا تسافر لحج أو عمرة، يقول السائل: امرأة توفي عنها زوجها، وتريد أن تسافر إلى مكة المكرمة لتؤدي العمرة، وهي ما زالت في عدتها، فما حكم ذلك؟
الجواب: لا يجوز للمعتدة عدة الوفاة، السفر إلى الحج أو العمرة على الراجح من أقوال أهل العلم، والأصل أن المرأة التي يموت زوجها، ينبغي عليها أن تمكث في بيتها ولا تخرج منه إلا لحاجاتها الأساسية، ويدل على ذلك ما جاء في الحديث، أن أخت أبي سعيد الخدري، وهي الفريعة بنت مالك مات زوجها، فسألت الرسول صلى الله عليه وسلم أن ترجع إلى أهلها، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (.... أمكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله) قالت: " فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشراً " رواه أبو داود والترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح.
والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم لم يروا للمعتدة أن تنتقل من بيت زوجها حتى تنقضي عدتها، تحفة الأحوذي 4/329.
وقد ورد عن عمر رضي الله عنه، " انه كان يرد المتوفى عنهن أزواجهن من البيداء يمنعهن الحج " رواه مالك في الموطأ والبيهقي وعبد الرزاق.
وروى عبد الرزاق عن مجاهد قال: " كان عمر وعثمان يرجعانهن حواج ومعتمرات من الجحفة وذي الحليفة " المصنف 7/33.
قال الشيخ ابن قدامة: " إن المعتدة من الوفاة، ليس لها أن تخرج إلى الحج ولا إلى غيره رُويَ ذلك عن عمر وعثمان رضي الله عنهما وبه قال سعيد بن المسيب والقاسم ومالك والشافعي وأبو عبيد وأصحاب الرأي والثوري " المغني 8/166.
وقال الشيخ ابن قدامة أيضاً: " ولو كانت عليها حجة الإسلام فمات زوجها، لزمتها العدة في منزلها، وإن فاتها الحج، لأن العدة في المنزل تفوت ولا بدل لها والحج يمكن الإتيان به في غير هذا العام " المغني 8/168.
*****(15/202)
203 - العدة
حكم خروج المعتدة عدة وفاة من بيتها, يقول السائل: ما حكم خروج المرأة المتوفى عنها زوجها من بيتها أثناء عدتها؟ وهل يجوز لها أن تسافر للحج أو للعمرة خلال العدة؟
الجواب: إن الأصل في عدة المعتدة عدة وفاة أن تبقى في البيت الذي توفي فيه زوجها، وأن لا تخرج منه نهاراً إلا لحاجة، وأن لا تخرج منه ليلاً إلا لضرورة ويدل على ذلك، ما ورد في الحديث، عن فُرَيعة بنت مالك قالت: " خرج زوجي في طلب عبيد له قد هربوا فأدركهم فقتلوه فأتى نعيه وأنا في دارٍ شاسعة من دور أهلي، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقلت: إن نعي زوجي أتاني في دار شاسعة من دور أهلي ولم يدع نفقة ولا مالاً ورثته وليس المسكن له، فتحولت إلى أهلي وإخواني، فكان أرفق لي في بعض شأني، فقال: (تحولي) ، فلما خرجت إلى المسجد أو إلى الحجرة دعاني فقال: (امكثي في بيتك الذي أتاك فيه نعي زوجك، حتى يبلغ الكتاب أجله) ، قالت: فاعتددت أربعة أشهر وعشراً " رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وأحمد، وقال الترمذي: حسن صحيح.
قال الشيخ الشوكاني: " وقد استدل بحديثها - أي الفريعة - هذا على أن المتوفى زوجها عنها تعتد في المنزل الذي بلغها نعي زوجها وهي فيه ولا تخرج منه إلى غيره، وقد ذهب إلى ذلك جماعة من الصحابة والتابعين من بعدهم " نيل الأوطار 6/336.
ثم إن هذا القول نقل عن عمر وعثمان وابن عمر وسعيد بن المسيب وعطاء، وهو قول المالكية والحنفية والشافعية، قال ابن عبد البر: " وقد قال بحديث الفريعة جماعة من فقهاء الأمصار بالحجاز والشام والعراق ومصر ولم يَطعَن فيه أحد منهم " نيل الأوطار 6/336.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: " المعتدة عدة الوفاة تتربص أربعة أشهر وعشرا، وتتجنب الزينة والطيب في بدنها وثيابها، ولا تتزين ولا تتطيب ولا تلبس ثياب الزينة، وتلزم منزلها ولها أن تأكل كل ما أباحه الله.... ولا يحرم عليها عمل شغل من الأشغال المباحة، مثل التطريز والخياطة والغزل وغير ذلك مما تفعله النساء، ويجوز لها ما يباح لها في غير العدة، مثل كلام من تحتاج إلى كلامه من الرجال إذا كانت مستترة وغير ذلك، وهذا الذي ذكرته هو سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي كان يفعله نساء الصحابة إذا مات أزواجهن، مجموع الفتاوى 34/27-28.
وبناءً على ما سبق، يجوز للمعتدة عدة الوفاة أن تخرج في حوائجها الأصلية، كخروجها للتداوي أو لزيارة والديها المريضين أو للاكتساب إن لم يوجد من ينفق عليها كأن تكون موظفة فيجوز لها الخروج إلى وظيفتها، ويجوز لها الخروج يلاً إن اضطرت إلى ذلك، كأن تضطر للذهب إلى المستشفى ليلاً ونحو ذلك.
وأما خروجها إلى غير حوائجها فلا يجوز، وقد نص الفقهاء على أنها لا تخرج لزيارة قريب ولا لتجارة ولا لتهنئة ولا لتعزية.
وأما سفر المعتدة عدة الوفاة إلى الحج أو العمرة فلا يجوز حتى لو كان حج الفرض، قال الشيخ ابن قدامة: " إن المعتدة من وفاة ليس لها أن تخرج إلى الحج أو لغيره وروي ذلك عن عمر وعثمان رضي الله عنهما، وبه قال سعيد بن المسيب والقاسم ومالك والشافعي وأبو عبيد وأصحاب الرأي والثوري " المغني 8/167.
وهو قول الحنابلة أيضاً.
وقال الشيخ ابن قدامة أيضاً: " ولو كانت حجة الإسلام، فمات زوجها، لزمتها العدة في منزلها وإن فاتها الحج، لأن العدة في المنزل تفوت ولا بدل لها، والحج يمكن الإتيان به في غير هذا العام " المغني 8/168.
ومما يدل على ذلك ما رواه سعيد بن منصور بسنده عن مجاهد عن سعيد بن المسيب قال: " ردّ عمر بن الخطاب نساءً حاجات أو معتمرات توفي أزواجهن من ذي الحليفة ".
وروى عبد الرزاق بسنده عن مجاهد قال: " كان عمر وعثمان يرجعانهن حواج ومعتمرات من الجحفة وذي الحليفة " المصنف 7/33.
وأما ما ورد عن عائشة رضي الله عنها أنها حجت بأختها في عدتها، فقد ورد أن القاسم بن محمد قال: " أبى الناس ذلك عليها " المصنف لعبد الرزاق 7/30.
وكذلك لا يجوز للمعتدة عدة وفاة أن تسافر لأي غرض آخر، ويجب أن يعلم أن العدة فرض في حق المرأة المتوفى عنها زوجها، سواء دخل بها أو لم يدخل بها لأنها في الحالتين زوجته شرعاً.(15/203)
204 - حقوق الزوجين
ضرب الزوج زوجته مشروع بشروط، تقول السائلة: إن زوجها يضربها باستمرار، فهو يضربها عند حصول أي نقاش بينهما ويضربها إن قصرت في شيء، وتقول إنه يضربها ضرباً مبرحاً يترك آثاراً على وجهها وجسمها، فما حكم الشرع في ذلك؟
الجواب: يقول الله تعالى: (وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً) سورة النساء /34.
قال الإمام القرطبي في تفسير هذه الآية: " قوله تعالى (واضربوهن) أمر الله أن يبدأ النساء بالموعظة أولاً، ثم بالهجران، فإن لم ينجعا فالضرب، فإنه هو الذي يصلحها ويحملها على توفية حقه، والضرب في هذه الآية هو ضرب الأدب غير المبرح.... " تفسير القرطبي 5/172.
لا شك أن ضرب الزوج لزوجته مشروع، والضرب إحدى وسائل التأديب، ولكن لا يجوز للزوج أن يبادر إلى ضرب زوجته ابتداءً، ولا بد أن يعظها أولاً، فإن نفع الوعظ فبها ونعمت، وإن لم ينفعها الوعظ هجرها في المضجع، فإن أخفق الهجر في ردها إلى جادة الصواب، فإنه حينئذ يلجأ إلى الضرب، وليس المقصود بالضرب إلحاق الأذى بالزوجة كأن يكسر أسنانها أو يشوه وجهها، وإنما المقصود بالضرب هو إصلاح حال المرأة، ويكون الضرب غير مبرح، وكذلك لا يجوز الضرب على الوجه والمواضع الحساسة في الجسد، وقد ورد في ذلك أحاديث منها:
- قوله صلى الله عليه وسلم: (اتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن فاضربوهن ضرباً غير مبرح) رواه مسلم.
- قوله صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع: (ألا واستوصوا بالنساء خيراً، فأنهن عوان عندكم، ليس تملكون منهن شيئاً غير ذلك، إلا أن يأتين بفاحشةٍ مبينة، فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع واضربوهن ضرباً غير مبرح، فإن أطعنكم فلا تبتغوا عليهن سبيلاً، ألا إن لكم على نسائكم حقاً، ولنسائكم عليكم حقاً فأما حقكم على نسائكم فلا يوطئن فرشكم من تكرهون، ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون، ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن) رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح.
- وقال الإمام البخاري: باب ما يكره من ضرب النساء، وقول الله تعالى (واضربوهن) أي ضرباً غير مبرح "، ثم ساق البخاري بإسناده إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد، ثم يجامعها في آخر اليوم) وقال الحافظ ابن حجر معلقاً على عنوان الباب: وفيه إشارة إلى أن ضربهن لا يباح مطلقاً، بل فيه ما يكره كراهة تنزيه أو تحريم " فتح الباري 11/214.
- وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما ضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئاً قط، ولا امرأة ولا خادماً، إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه إلا أن ينتهك شيء من محارم الله، فينتقم لله عز وجل) رواه مسلم.
- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا ضرب أحدكم، فليتق الوجه) رواه مسلم.
- وعن معاوية بن حيدة قال: قلت يا رسول الله: ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال: (أن تطعمها إذا طعمت وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه ولا تقبح ولا تهجر إلا في البيت) رواه أبو داود، وقال الألباني: صحيح.
وخلاصة الأمر، أنه لا يجوز للزوج أن يضرب زوجته ابتداءً، وإنما يكون ذلك بعد الوعظ، وبعد الهجران.
ويجب أن يكون الضرب غير مبرح، فإن الضرب المبرح حرام لما سبق في الأحاديث، قال عطاء: " الضرب غير المبرح بالسواك ونحوه، وقال الحافظ ابن حجر: " إن كان لا بد فليكن التأديب بالضرب اليسير " فتح الباري 11/215.
وعلى الزوج أن يتجنب ضرب الوجه والمواضع الحساسة في الجسد.
*****(15/204)
205 - نظام الاحوال الشخصية
يقول السائل: ما قولكم في الاعتراضات التي أثيرت حول قانون الأحوال الشخصية؟
الجواب: اطلعت على دراسة لقانوني الأحوال الشخصية في الضفة الغربية وقطاع غزة أعدها المحامي كارم نشوان، وناقشها البرلمان الصوري الفلسطيني وأود أن أبين وأناقش بإيجاز بعض القضايا التي وردت في الدراسة المذكورة.
1 - عرضت الدراسة لبعض التوجهات، وأكدت عليها واعتبرتها مرتكزات للتعديلات المقترحة، وقد تبين لي ضعف هذه الأسس والمرتكزات، وأنها تشتمل على مغالطات تصادم الأحكام الشرعية المستمدة من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأول تلك التوجهات كما جاء في الدراسة: " الشريعة الإسلامية هي مصدر أساسي من مصادر القاعدة القانونية لقانون الأحوال الشخصية ".
وأقول: إن الشريعة الإسلامية، هي المصدر الأساسي والوحيد لنظام الأحوال الشخصية، فأحكام الأحوال الشخصية تؤخذ وتستمد من القرآن الكريم ومن السنة النبوية وما اعتمد عليهما من اجتهادات فقهاء الإسلام، ولا تؤخذ من أي مصدر آخر.
وإذا قلنا إن الشريعة الإسلامية مصدر أساسي، فمعنى ذلك أنه يوجد مصادر أخرى وإن كانت غير أساسية، وهذا منطق مرفوض رفضاً باتّاً مخالف لشرع الله تعالى.
2 - قال كاتب الدراسة: إنه يريد أن يفرق في الشريعة الإسلامية بين حدود دين الله سبحانه وتعالى والتي لا يجوز شرعاً تغييرها وبين حدود البشر واجتهاداتهم.
وأقول: إن هذا الفهم خاطئ لمبدأ الاجتهاد في دين الإسلام فإن الفقهاء المسلمين لما اختلفوا في الأحكام الشرعية الفرعية، بنوا اجتهاداتهم على قواعد وأسس شرعية صحيحة فكل اجتهاد لفقيه من فقهاء الإسلام يقع ضمن دائرة الإسلام ولا يخرج عنها إلا من شذ ولا عبرة بالشاذ، والأئمة المجتهدون لا يقولون في دين الله بأهوائهم ولا برغباتهم، وإنما يعتمدون على مصادر الشريعة الإسلامية من كتاب وسنة وإجماع وقياس وغيرها من المصادر.
3 - إن القول بأن الأحكام الشرعية تقبل التطوير والتغيير والاستدلال على ذلك بأن الإمام الشافعي غيّر مذهبه القديم إلى مذهبه الجديد.
إن هذا الكلام غير صحيح ولا يستند على أسس علمية معتبرة، وينم عن عدم معرفة بما غيره الإمام الشافعي في مصر من مذهبه القديم فإن علماء الإسلام متفقون إتفاقاً تاماً على أن الأحكام الشرعية الثابتة بكتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - لا تقبل التغيير ولا التبديل إلى يوم القيامة، وأما الأحكام التي يمكن أن يدخلها التغيير، فإنها بعض الأحكام المبنية على الاجتهاد، كالأحكام التي تبنى على المصلحة والعرف، والإمام الشافعي لما تراجع عن مذهبه القديم في العراق، وأنشأ المذهب الجديد في مصر لم يغير أي حكم من الأحكام المبنية على النصوص الصريحة من الكتاب أو السنة.
وبناءً على ذلك، فكل حكم ثبت بالنصوص الصريحة من الكتاب أو السنة لا يقول مسلم بأنه قابل للتغيير والتبديل.
فقضية تعدد الزوجات لا تقبل تغيراً ولا تبديلاً.
وقضية الولاية في الزواج لا تقبل تغييراً ولا تبديلاً.
وحق الرجل في الطلاق لا يقبل تغييراً ولا تبديلاً.
وأحكام الميراث لا تقبل تغييراً ولا تبديلاً.
وهكذا بقية الأحكام الشرعية الثابتة بالكتاب والسنة لا يدخلها التغيير ولا التبديل.
4 - ينبغي أن يعلم علماً تاماً أنه لا يجوز في دين الله سبحانه أن يلتزم المسلمون بأي قانون وضعي، وضعه الإنسان مع مخالفته لشرع الله، بغض النظر عن واضع القانون البشري.
5 - زعم كاتب الدراسة أن " القانون الحالي، يحمل مضامين قاسية ومجحفة بحق المرأة الفلسطينية تصل إلى التمييز الواضح والسافر، ليس لشيء، إنما لكونها امرأة.... ".
وأقول: إن هذا الكلام جد خطير وفيه تهجم وجرأة على شرع الله عز وجل.
إن شريعة الله عدل كلها، ورحمة كلها بالإنسان ذكراً كان أو أنثى.
إن الإسلام أعطى للمرأة حقوقاً لم تنلها في ظل أي نظام آخر، وإن الإسلام قد عامل المرأة معاملة كريمة حسنة، لم تنلها في ظل أي نظام، لا في القديم ولا في الحديث.
6 - إن كاتب الدراسة يتجاهل الفوارق الطبيعية بين المرأة والرجل ويريد أن يساوي بينهما مساواة تامة، ولا يدري أنه بعمله هذا يقف ضد المرأة من حيث لا يشعر.
فلا ينكر عاقل وجود فوارق بين المرأة والرجل، وأن المساواة التي ينادي بها دعاة تحرير المرأة، ستعود على المرأة بالوبال والخسران.
ويا معشر النساء اتعظن بحال المرأة في الغرب، حيث إنها صارت سلعة تباع وتشترى، والسعيد من اتعظ بغيره، والشقي من اتعظ بنفسه.
فكاتب الدراسة يريد أن يساوي في الحقوق والواجبات بين الرجل والمرأة، وهذا إجحاف في حق المرأة، فكيف يساوي بينهما والرجل هو الملزم شرعاً بالإنفاق على زوجته وأولاده، والزوجة غير ملزمة بالإنفاق على الزوج والأولاد فكيف يساوي بينهما والزوج ملزم بتأمين المسكن ومتطلباته للزوجة والأولاد، والزوجة ليست ملزمة بذلك، فكيف يساوي بينهما، وهل المساواة بين الزوجة والزوج إنصاف للمرأة؟
7 - طالب كاتب الدراسة بتعديل قانوني الأحوال الشخصية في مسائل كثيرة، أشير إلى بعضها إشارات سريعة:
- زعم أن تعريف الزواج في القانون لم ينص على ديمومة العقد، ودعا إلى النص على ذلك ولم يعلم أن الأصل في عقد الزواج في الشريعة الإسلامية هو التأبيد.
- دعا إلى تغيير سن الزواج وجعلها 18 سنة للذكر والأنثى، وهذا ضد مصلحة المجتمع عامة، وضد المرأة بشكل خاص.
- دعا إلى إلغاء الولاية في الزواج وهذا يعارض النصوص الشرعية في إثبات الولاية في الزواج، والتي هي لمصلحة المرأة ولحمايتها من الذئاب البشرية.
- زعم أن الزوجة تستحق المهر كاملاً إذا وقع الطلاق قبل الخلوة الصحيحة، وهذا مصادم للنص الصريح من كتاب الله تعالى: (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ) سورة البقرة/237.
- دعا إلى مشاركة المرأة لزوجها في أمواله الخاصة وإن لم يكن لها دور في جني المال، وهذا أكل لأموال الناس بالباطل.
- دعا إلى غلّ يد الرجل في الطلاق وهذا مصادم للنصوص الشرعية في إعطاء الزوج حق الطلاق، وأن الطلاق لا يتوقف على حكم الحاكم مع القيود والضوابط التي فرضتها الشريعة الإسلامية في هذا المجال.
- دعا إلى الحد من تعدد الزوجات تحت ذرائع واهية، واعتمد على أقوال ضعيفة لبعض الكتاب، وهذا مخالف للنصوص الشرعية.
- ألمح إلى إعادة النظر في الميراث وأنه لا بد من مساواة الرجل بالمرأة في الميراث، وهذا هدم للأحكام الشرعية الصريحة من كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وغير ذلك من القضايا التي يضيق المقام عن تفصيل الرد عليها.
وخلاصة الأمر: أن هذه التعديلات المطروحة لنظام الأحوال الشخصية المطبق عندنا ما هي إلا دعوة خطيرة لهدم الأسس الشرعية التي قامت عليها أحكام الأحوال الشخصية.
وإن الكاتب قد استمد أكثر اقتراحاته من الفكر الغربي المنحرف، ويدعو بطريقة أو بأخرى، إلى تنحية الشرعية الإسلامية جانباً.
وختاماً: أدعو الغيورين من هذه الأمة من القضاة الشرعيين والمفتين وأهل العلم وغيرهم للوقوف أمام الهجمة الشرسة الموجهة إلى آخر ما بقي من شريعة الإسلام في الأنظمة والقوانين.
*****(15/205)
206 - الخطبة
ماذا يترتب على العدول عن الخطبة,
يقول السائل: خطب رجل امرأة، ثم تراجع أهل الزوجة عن الخطبة، فماذا يترتب على رجوعهم عن الخطبة، حيث أنه أعطى المرأة جزءاً من المهر وأهداها حلياً وملابس وتكلّف مبلغاً من المال في حفل الخطبة، وهو يطالب بذلك؟
الجواب: إن الخطبة عند الفقهاء، هي وعد بالزواج، وليست عقد زواج، ويجوز شرعاً العدول عن الخطبة إذا كان العدول لسبب شرعي، كأن يظهر في أحد الخاطبين عيب يخل بالزواج أو يعرف أحد الخاطبين عن الآخر أمراً مخلاً بدينه. ويرى جماعة من أهل العلم أنه يحرم الرجوع عن الخطبة لغير سبب شرعي، لأن الخطبة وعد بالزواج، والوفاء بالوعد واجب شرعاً، فإذا أخل أحد الخاطبين بذلك فهو آثم شرعاً، وهو مذهب قوي تؤيده عمومات الأدلة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، الآمرة بالوفاء بالوعود والعهود. وبالنسبة لما دفعه الخاطب، فما دفعه على سبيل المهر، فله استرداده، فإذا دفع لها ألف دينار مثلاً، فله الحق في استرداد المبلغ كاملاً، فإذا كانت المخطوبة قد اشترت بالمبلغ ذهباً، وجب رد المبلغ إليه، وهو غير ملزم بأخذ الذهب الذي اشتري بما دفع. وأما إذا أعطاها ذهباً، فإنه يسترد الذهب الذي دفعه إليها، فإن كانت المخطوبة قد باعت الذهب مثلاً، فله أن يسترد مثل الذهب الذي أعطاها، إن كان له مثل أو قيمته. وأما بالنسبة للهدايا التي أهداها الخاطب للمخطوبة، فللخاطب أن يسترد الهدايا التي ما زالت موجودة أو قائمة، وأما الهدايا المستهلكة، فليس له استرداد قيمتها وهذا ما أخذ به قانون الأحوال الشخصية المعمول به في المحاكم الشرعية في بلادنا وأما بالنسبة للنفقات التي بذلها الخاطب في حفل الخطوبة، فليس له المطالبة بها. *****(15/206)
207 - الخطبة
إخبار الطبيب الخاطب عن مرض المخطوبة,
يقول السائل: إنه يريد أن يتقدم لخطبة فتاة، وقد علم أنها مريضة بمرض في القلب فذهب إلى الطبيب الذي يعالجها وسأله عن مرض الفتاة فرفض الطبيب أن يخبره بأي شيء يتعلق بمرض الفتاة، وأخبره أن ذلك من الأسرار المتعلقة بالمريض، ولا يجوز للطبيب أن يبوح بها، فما قولكم في هذه القضية؟
الجواب: لا شك أن من واجبات الطبيب أن يكتم أسرار المريض فلا يبوح بها إلا في حالات خاصة، سأذكرها فيما بعد. وكتمان الأسرار أمر مطلوب شرعاً في كثير من شؤون الحياة، فقد ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن من أشد الناس عذاباً يوم القيامة، الرجل يفضي إلى امرأته، أو تفضي إليه، ثم ينشر سرها) رواه مسلم. وعن أنس بن مالك قال: (أتى عليّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنا ألعب مع الغلمان قال: فسلم علينا فبعثني إلى حاجة فأبطأت على أمي، فلما جئت قالت: ما حبسك، قلت بعثني رسول الله في حاجة، قالت ما حاجته، قال: إنها سر، قالت: لا تحدثن بسر رسول الله أحداً) رواه مسلم. فانظر رعاك الله، إلى هذا الموقف العظيم من هذا الغلام وأمه في المحافظة على سر رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكشف الأسرار يلحق الأذى والضرر بالناس، وهو من خيانة الأمانة والمطلوب من الطبيب أن يكتم أسرار المريض، لأن المريض غالباً ما يبوح للطبيب المعالج بأسراره، فالأصل هو الكتمان. ((جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي المتعلق بقضية السر في مهنة الطب ما يلي:
1) أ. السر هو ما يفضي به الإنسان إلى آخر مستكتماً إياه من قبل أو من بعد ويشمل ما حفت به قرائن دالة على طلب الكتمان، إذا كان العرف يقضي بكتمانه كما يشمل خصوصيات الإنسان وعيوبه التي يكره أن يطلع عليها الناس. ب. السر أمانة لدى من استودع حفظه، إلتزاماً بما جاءت به الشريعة الإسلامية وهو ما تقضي به المروءة وآداب التعامل. ج. الأصل حظر إفشاء السر، وإفشاؤه بدون مقتضٍ معتبر موجب للمؤاخذة شرعاً. د. يتأكد واجب حفظ السر على من يعمل في المهن التي يعود الإفشاء فيها على أصل المهنة بالخلل، كالمهن الطبية، إذ يركن إلى هؤلاء ذوو الحاجة إلى محض النصح وتقديم العون، فيفضون إليهم بكل ما يساعد على حسن أداء هذه المهام الحيوية، ومنها أسرار لا يكشفها المرء لغيرهم حتى الأقربين إليه.
2) تستثنى من وجوب كتمان السر، حالات يؤدي فيها كتمان إلى ضرر يفوق ضرر إفشائه بالنسبة إلى صاحبه، أو يكون في إفشائه مصلحة ترجح على مضرة الكتمان، وهذه الحالات على ضربين: أ. حالات يجب فيها إفشاء السر بناءً على قاعدة ارتكاب أهون الضررين، لتفويت أشدهما وقاعدة تحقيق المصلحة العامة التي تقضي بتحمل الضرر الخاص لدرء الضرر العام، إذا تعين ذلك لدرئه، وهذه الحالات نوعان:. ما فيه درء مفسدة عن المجتمع. وما فيه درء مفسدة عن الفرد ب. حالات يجوز فيها إفشاء السر لما فيه:. جلب مصلحة للمجتمع. أو درء مفسدة عامة وهذه الحالات يجب الإلتزام فيها بمقاصد الشريعة وأولياتها من حيث حفظ الدين والنفس والعقل والمال والنسل. ج. الإستثناءات بشأن مواطن وجوب الإفشاء أو جوازه، ينبغي أن ينص عليها في نظام مزاولة المهن الطبية وغيرها من الأنظمة موضحة ومنصوصاً عليها، على سبيل الحصر مع تفصيل كيفية الإفشاء، ولمن يكون، وتقوم الجهات المسؤولة بتوعية الكافة بهذه المواطن.
3) يوصي المجمع نقابات المهن الطبية ووزارات الصحة وكليات العلوم الصحية، بإدراج هذا الموضوع ضمن برامج الكليات والإهتمام به وتوعية العاملين في هذا المجال بهذا الموضوع ووضع المقررات المتعلقة به والإستفادة من الأبحاث المقدمة في هذا الموضوع)) مجلة المجمع الفقهي 8/3/409 - 410. وبناءً على ما سبق، أنصح السائل أن يتوجه لأهل تلك الفتاة التي يريد خطبتها ويعلمهم أنه يريد خطبة ابنتهم وأنه علم أنها مريضة بالقلب ويريد أن يعرف عن مرضها من الطبيب المعالج، ويكون ذلك برفقة واحد من أهلها فيخبره الطبيب حينئذ بحقيقة مرضها وهو مطمئن أنه لا يكشف سراً. وأما ذهابه إلى الطبيب مباشرة ليسأله عن المريضة فهو غير مقبول، لأن بعض الناس قد يستغل مثل هذه الحالات في أمور لا تحمد عقباها. *****(15/207)
208 - التوقف عن الإنجاب بسبب مرض الثلاسيميا
يقول السائل: تزوجت من عدة سنوات وأنجبنا طفلة وتبين أنها مصابة بمرض الثلاسيميا ونريد الآن التوقف عن الإنجاب، لأن الأطباء يقولون إن هنالك احتمالاً كبيراً بإصابة أطفالنا بهذا المرض، فما الحكم في اتخاذ وسائل لمنع الحمل والإنجاب بشكل نهائي، أفيدونا؟
الجواب: [الثلاسيميا أو فقر دم البحر الأبيض المتوسط هو من أمراض الدم الوراثية والتي تتسبب في إحداث تلف في كريات الدم الحمراء، وسمي بهذا الاسم لانتشاره بشكل كبير في منطقة البحر الأبيض المتوسط، ويحدث نتيجة لوجود خلل في التركيب الجيني للهيموجلوبين. والثلاسيميا مرض وراثي ينتقل عن طريق الوراثة ففي حالة وجود اضطراب في جينات كل من الأم والأب، فإن هناك احتمال بنسبة 25% أن يولد الطفل مصاب بالمرض أما إذا كان أحد الأبوين سليماً والأخر يحمل جيناً مختل فمن الممكن أن ينتقل المرض لبعض الأبناء ويصبحون حاملين للصفة المرضية. وينتقل مرض الثلاسيميا من الوالدين إلى أبنائهم عن طريق الوراثة المتنحية وهذه الاحتمالات الممكنة لانتقال الثلاسيميا من الوالدين لأولادهما: أولاً: الوالد والوالدة سليمان: في حالة زواج شخصين سليمين وكل منهما لا يحمل الثلاسيميا فإن جميع أطفال هذه العائلة سليمين بإذن الله تعالى. ثانياً: الوالد حامل للمرض والوالدة سليمة: في حالة زواج شخصين أحدهما يحمل الثلاسيميا والآخر سليم، فإن في كل مرة تحمل فيها الزوجة تكون احتمالية أن يكون الأطفال سالمين 50%، وأن يكون الأطفال حاملين للمرض أيضاً 50%. ثالثاً: الوالد سليم والوالدة مصابة بالثلاسيميا: في حالة زواج شخصين أحدهما مصاب بالثلاسيميا والآخر سليم، فإن كل هذه العائلة تكون حاملة للمرض. رابعاً: الوالد والوالدة حاملان لمرض الثلاسيميا: في حالة زواج شخصين كلا منهم حامل لمرض الثلاسيميا، فإن أمام هذه العائلة أربع احتمالات في كل مرة تحمل فيها الزوجة نسبة أن يكون الطفل سليماً 25% ونسبة أن يكون الطفل مصاباً أيضاً 25% ونسبة الأطفال الحاملين للمرض تكون 50%. خامساً: الوالد حامل للمرض والوالدة مصابة بالثلاسيميا: في حالة زواج شخصين أحدهما يحمل للثلاسيميا والآخر مصاب فإن في كل مرة تحمل فيها الزوجة تكون احتمالية أن يكون الأطفال مصابين 50% وأن يكون الأطفال حاملين للمرض أيضاً 50%. سادساً: الوالد والوالدة مصابان بمرض الثلاسيميا: في حالة زواج شخصين كلا منهم مصاب بمرض الثلاسيميا فإن جميع أطفال هذه العائلة وللأسف الشديد يكونون مصابون بالمرض نقلاً عن www.moh.gov.sa/des/sections بتصرف. [وهناك نوعان من الثلاسيميا: نوعٌ يكون الشخص فيه حاملاً للمرض ولا تظهر عليه أعراضه، أو قد تظهر أعراض فقر دم بسيط ويكون هذا الشخص قادراً على نقل المرض لأبنائه. ونوعٌ يكون فيه الشخص مصاباً بالمرض وتظهر عليه أعراض واضحة للمرض منذ الصغر. وينتشر مرض الثلاسيميا في جميع أنحاء العالم، ولكن بنسبة أكبر في بعض البلدان، مثل بلدان حوض البحر الأبيض المتوسط. وقد أوضحت الدراسات أن حوالي 3-4% من السكان في فلسطين يحملون المرض أي ما يقارب 80-100 ألف شخص أو أكثر من ذلك ... وتظهر أعراض الإصابة بالثلاسيميا على المريض خلال السنة الأولى من العمر. ونتيجة لتكسر كريات الدم الحمراء مبكراً (السابق لأوانه) ، تظهر أعراض فقرُ دمٍ شديد على النحو التالي: شحوب البشرة، مع الاصفرار أحياناً. والتأخر في النمو، وضعف الشهية. وتكرر الإصابة بالالتهابات. ومع استمرار فقر الدم، تظهر أعراض أخرى مثل التغير في شكل العظام وخاصة عظام الوجه والوجنتين، وتصبح ملامح الوجه مميزة لهذا المرض. كما يحدث تضخم في الطحال والكبد، ويتأخر الطفل في النمو. أما في الحالات البسيطة (لدى حاملي المرض) فقد يحدث فقر دم بسيط لدرجة لا يكون المرض فيها بادياً للعيان ويعيش صاحبه بشكل طبيعي جداً ولا يحتاج إلى أي علاج وقد لا تكتشف هذه الحالات إلا صدفة. والمريض بالثلاسيميا بحاجة إلى نقل دم بشكل دوري لتعويضه عن كريات الدم التي تتكسر وللمحافظة على مستوى مقبول من الهيموغلوبين في دمه. وكثرة نقل الدم إلى المريض تسبب ترسب الحديد بشكل يحمل الضرر لأعضاء جسمه ولذلك فمن المهم أن يحصل المريض على أدوية تساعد على طرد الحديد الزائد من الجسم. ويتم علاج المضاعفات التي قد تظهر لدى المريض حسب كل حالة. وهنالك أبحاث تجري لاكتشاف علاجات أفضل للثلاسيميا وتجرى أحياناً عمليات لزرع نخاع عظمي، ولكن هذه العمليات مكلفة جداً ونتائجها ليست مضمونة. ويعتبر الفحص الطبي قبل الزواج أهم وسيلة للوقاية من الثلاسيميا ويوصى بإجراء هذا الفحص في مجتمعنا للأشخاص المقبلين على الزواج وذلك لتجنب الزواج بين شخصين حاملين للمرض، وهذه الحالة الوحيدة التي يمكن أن تؤدي إلى ولادة طفل مصاب بالمرض بصورته الشديدة كما تتوفر القدرة على فحص الجنين في الأشهر الأولى من الحمل عند الشك بإمكانية إصابته. والطريقة الوحيدة للوقاية من الثلاسيميا هي تجنب ولادة أطفال مصابين به من خلال ما يلي: 1- الاستشارة الطبية والفحص الطبي قبل الزواج: إجراء المقبلين على الزواج لفحص طبي للتأكد من أنهما لا يحملان الثلاسيميا في آن واحد وخاصة أن نسبة الحاملين للمرض في بلادنا كبيرة. 2- فحص الجنين في حالة الشك بإصابته بالثلاسيميا للتأكد من الإصابة واتخاذ الإجراءات الطبية اللازمة. 3- التقليل من ظاهرة الزواج بين الأقارب فمرض الثلاسيميا كسائر الأمراض الوراثية يزداد انتشاراً في حالة الزواج بين الأقارب إذ يزيد ذلك احتمال نقل الصفات الوراثية غير الحميدة إلى الأبناء. ولكن هذا لا ينفي ضرورة أن يقوم المقبلون على الزواج الذين لا تربطهم صلة قرابة بإجراء الفحص الطبي قبل الزواج] نشرة حول الثلاسيميا إصدار جمعية أصدقاء مرضى الثلاسيميا.
إذا تقرر هذا وظهر أن مرض الثلاسيميا ينتقل من الوالدين إلى أولادهما بالوراثة فيجوز اتخاذ الوسائل المؤقتة لمنع الحمل لتجنب ذلك، بشرط عدم استعمال وسيلة تقطع النسل بشكل نهائي، لأن قطع النسل بشكل نهائي من المحرمات شرعاً، وهذا ما قررته المجامع الفقهية المعتبرة، فقد ورد في قرار هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية رقم 42 بتاريخ 13/4/1396هـ: [ ... لذلك كله فإن المجلس يقرر بأنه لا يجوز تحديد النسل مطلقاً ولا يجوز منع الحمل إذا كان القصد منه خشية الإملاق، لأن الله تعالى هو الرزاق ذو القوة المتين {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُهَا} ، وأما إذا كان منع الحمل لضرورة محققة ككون المرأة لا تلد ولادة عادية وتضطر معها إلى إجراء عملية جراحية لإخراج الولد، أو كان تأخيره لفترة ما لمصلحة يراها الزوجان فإنه لا مانع حينئذ من منع الحمل أو تأخيره عملاً بما جاء في الأحاديث الصحيحة وما روي عن جمع من الصحابة رضوان الله عليهم من جواز العزل، وتمشياً مع ما صرح به بعض الفقهاء من جواز شرب الدواء لإلقاء النطفة قبل الأربعين، بل قد يتعين منع الحمل في حالة ثبوت الضرورة المحققة] نقلاً عن موقع islamtoday.net/nawafeth، وورد في قرار مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الخامس بالكويت سنة 1409هـ: [وبناءً على أن من مقاصد الزواج في الشريعة الإسلامية، الإنجاب والحفاظ على النوع الإنساني، وإنه لا يجوز إهدار هذا المقصد، لأن إهداره يتنافى مع النصوص الشرعية وتوجيهاتها الداعية إلى تكثير النسل والحفاظ عليه والعناية به باعتبار حفظ النسل أحد الكليات الخمس التي جاءت الشرائع برعايتها قرر ما يلي: 1 - لا يجوز إصدار قانون عام يحد من حرية الزوجين في الإنجاب. 2 - يحرم استئصال القدرة على الإنجاب في الرجل والمرأة، وهو ما يعرف (بالإعقام) أو (التعقيم) ، ما لم تدع إلى ذلك ضرورة بمعاييرها الشرعية. 3 - يجوز التحكم المؤقت في الإنجاب، بقصد المباعدة بين فترات الحمل، أو إيقافه لمدة معينة من الزمان إذا دعت إليه حاجة معتبرة بحسب تقدير الزوجين، عن تشاور بينهما وتراضٍ بشرط أن لا يترتب على ذلك ضرر، وأن تكون الوسيلة مشروعة، وأن لا يكون فيها عدوان على حمل قائم] مجلة المجمع الفقهي العدد 5 جزء1 ص748.
وخلاصة الأمر أن الوقاية من الأمراض الوراثية والسارية والمعدية مطلوبة شرعاً، وهذا ما قررته الشريعة الإسلامية، وهو مما يتفق مع مقاصدها، فلا شك أن من مقاصد الإسلام حفظ النسل، وقد دلت على ذلك نصوصٌ كثيرةٌ من كتاب الله عز وجل ومن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ومن هذا المنطلق فإن الفحص الطبي قبل الزواج أمرٌ مطلوبٌ شرعاً، وإذا ثبت إصابة الوالدين أو أحدهما بمرض الثلاسيميا، فالمطلوب منهما اتخاذ الأسباب الكفيلة لمعالجة المرض وما قد ينتج عنه، ويجوز استخدام وسائل منع الحمل المؤقتة لمنع انتقال المرض لأولادهما.(15/208)
209 - حكم استعمال الجدول الصيني لتحديد جنس الجنين
تقول السائلة: إنها أنجبت سبع بنات وترغب في إنجاب ولد ذكر، وقد نُصحت باستعمال الجدول الصيني، فإنه يفيد في اختيار جنس المولود، فما الحكم الشرعي في ذلك، أفيدونا؟
الجواب: الأولاد من زينة الحياة الدنيا التي جبلت عليها النفوس، قال الله تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وقال سبحانه وتعالى أيضاً: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ} وكثيرٌ من الناس يكره قدوم الإناث ويرغب في الذكور كما قال تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ} سورة النحل الآيتان 58-59. وإنجاب الذكور والإناث من عطاء الله عز وجل كما قال سبحانه وتعالى: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} سورة الشورى الآيتان 49-50. ومع ذلك فإن من الأنبياء من سأل الله عز وجل أن يرزقه الذكور كما قال تعال على لسان إبراهيم عليه السلام: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} سورة الصافات الآيتان 100-101 وقال تعالى على لسان زكريا عليه السلام: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ} سورة آل عمران الآيتان 38-39. ومحاولة اختيار جنس الجنين عُرفت على مدى العصور والأيام واتبعت وسائل كثيرة لذلك، ومنها برنامج الحمل الصيني ويسمى أيضاً"جدول الحمل الصيني" وهو من أشهر الجداول في العالم، وهو جدول صيني قديم يعتبر من أسرار الحضارة الصينية والذي بُني على علم الفلك، ووظيفة هذا الجدول تتلخص بأنها توضح احتمال تحديد نوع الجنين إذا كان ذكراً أم أنثى حسب نقطة تقاطع عمر المرأة مع الشهر الذي تم فيه الحمل (الإخصاب) على مدار الإثني عشر شهراً من السنة. وهو مرتبط بعلم الفلك والكون حسب زعمهم وقد ينجح مع شخص ويفشل مع آخر. ولكن هناك بعض المحللين للجدول يقولون إن الجدول الحقيقي مختلف عن الجدول المنتشر حيث إن الصينيين كانوا يتبعون الأشهر القمرية الصينية والعمر القمري وليس الميلادي] موسوعة ويكبيديا.wikipedia.org "ويعتبر البرنامج الصيني من المحاولات الساعية للتدخل في جنس المولود، حيث قدمه الصينيون قبل ما يتجاوز سبعمائة عام، عندما عكف علماء الفلك القدامى لديهم لإيجاد علاقات فلكية خاصة بين عمر الجنين وعمر الأم وربطها بعوامل خمس هي الماء، الأرض، الخشب، النار والمعدن. كما اعتمد البرنامج الصيني على فرضيات فلكية وضعها الصينيين بهدف تحديد نوع الجنين، ويؤكد الصينيون أن صحة هذا الجدول تبلغ 90%. تقول الأساطير أن المخطوطة الأصلية الصينية للمواليد كانت مدفونة في قبر ملكي بالقرب من بكين في الصين منذ سبعمائة سنة مضت. والمخطوطة اليوم معروضة في معهد بكين العلمي، يمكن من خلالها التنبؤ إذا كان المولود ذكراً أو أنثى، وذلك عن طريق مقارنة عمر الأم القمري والشهر الذي تكون فيه الجنين -التبويض- " http://albahethah.com/GirlBoy.aspx. وواضح مما كتب ونشر عن الجدول الصيني أن له خلفيات لا يقرها شرعنا الحنيف من حيث زعمهم أن الكواكب والنجوم لها تأثير في حياة الإنسان وكونه ذكراً أو أنثى، وهذا الأمر داخلٌ في التنجيم الذي حرمه الإسلام، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: [وصناعة التنجيم التي مضمونها الأحكام والتأثير وهو الاستدلال على الحوادث الأرضية بالأحوال الفلكية والتمزيج بين القوى الفلكية والقوابل الأرضية صناعة محرمة بالكتاب والسنة وإجماع الأمة بل هي محرمة على لسان جميع المرسلين في جميع الملل] مجموع الفتاوى 35/192. فالجدول الصيني نوع من أعمال الكهان والعرافين والمنجمين، وربطه بعض الباحثين بالبوذية، وبناءً على هذه المعطيات فإن القول بتحريم استعمال الجدول الصيني هو القول الصحيح في حالة اعتقاد من تستعمله بتأثير الكواكب والنجوم في تحديد جنس الجنين، وقد صدرت عدة فتاوى بتحريم استعماله كما في فتوى اللجنة الدائمة السعودية حيث ورد فيها: [معرفة نوع المولود هل هو ذكر أم أنثى قبل تخليقه: لا يعلمه إلا الله سبحانه، وأما بعد تخليقه: فيمكن ذلك بواسطة الأشعة الطبية، مما أقدر الله عليه الخلق. وأما تحديد نوعه بموجب الجدول المشار إليه: فهو كذب، وباطل؛ لأنه من ادعاء علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، ويجب إتلاف هذا الجدول وعدم تداوله بين الناس] " فتاوى اللجنة الدائمة 2/17. وقال الشيخ محمد الحمود النجدي: [فما يسمى " الجدول الصيني " هو ضرب من ضروب الكهانة والرجم بالغيب، فهم يزعمون أنه من الممكن التحكم في جنس المولود عن طريق معرفة عمر الأم، ومعرفة تاريخ بداية الحمل؟ فبمعرفة عمر الأم، يمكنها تحري الإخصاب في الشهر الذي يكون معه الحمل إما ذكر، أو أنثى! وعلى الأم أن تضيف سنة على عمرها الحقيقي! لأن هذا هو العمر في التقويم الصيني! ففيه محظوران شرعيان: الأول: زعمهم أن من كان عمرها كذا، وحملت في الشهر المعيَّن: يكون حملها ذكراً، أو أنثى- بحسب الجدول -. والثاني: أنه يستعمل لمن حملت أصلاً لتعرف جنس جنينها! ولا علاقة لعمر الأم وتاريخ حملها، بتحديد جنس جنينها لا من الناحية الطبية، ولا من الشرع، وما كان كذلك، فإنه يكون شركاً، فلا يجوز جعل ما ليس بسبب سبباً، ومن فعل فقد شارك الله في فعله. ويظهر أن هذا الجدول له تعلق بالديانة الصينية البوذية، أو علم النجوم والأبراج.] موقع الشيخ الأثري www.al-athary.net. ولا بد من التذكير بما قرره أهل العلم المعاصرون في مسألة تحديد جنس الجنين، فقد بحثت هذه القضية ونوقشت في مقالات وأبحاث وناقشها المجمع الفقهي الإسلامي برابطة العالم الإسلامي وصدر عنه القرار التالي: [ ... فإن المجمع يؤكد على أن الأصل في المسلم التسليم بقضاء الله وقدره، والرضا بما يرزقه الله؛ من ولد، ذكراً كان أو أنثى، ويحمد الله تعالى على ذلك، فالخيرة فيما يختاره الباري جل وعلا، ولقد جاء في القرآن الكريم ذم فعل أهل الجاهلية من عدم التسليم والرضا بالمولود إذا كان أنثى قال تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} ، ولا بأس أن يرغب المرء في الولد ذكراً كان أو أنثى، بدليل أن القرآن الكريم أشار إلى دعاء بعض الأنبياء بأن يرزقهم الولد الذكر، وعلى ضوء ذلك قرر المجمع ما يلي: أولاً: يجوز اختيار جنس الجنين بالطرق الطبيعية؛ كالنظام الغذائي، والغسول الكيميائي، وتوقيت الجماع بتحري وقت الإباضة؛ لكونها أسباباً مباحة لا محذور فيها. ثانياً: لا يجوز أي تدخل طبي لاختيار جنس الجنين، إلا في حال الضرورة العلاجية في الأمراض الوراثية، التي تصيب الذكور دون الإناث، أو بالعكس، فيجوز حينئذٍ التدخل، بالضوابط الشرعية المقررة، على أن يكون ذلك بقرار من لجنة طبية مختصة، لا يقل عدد أعضائها عن ثلاثة من الأطباء العدول، تقدم تقريراً طبياً بالإجماع يؤكد أن حالة المريضة تستدعي أن يكون هناك تدخل طبي حتى لا يصاب الجنين بالمرض الوراثي، ومن ثم يعرض هذا التقرير على جهة الإفتاء المختصة لإصدار ما تراه في ذلك. ثالثاً: ضرورة إيجاد جهات للرقابة المباشرة والدقيقة على المستشفيات والمراكز الطبية؛ التي تمارس مثل هذه العمليات في الدول الإسلامية، لتمنع أي مخالفة لمضمون هذا القرار. وعلى الجهات المختصة في الدول الإسلامية إصدار الأنظمة والتعليمات في ذلك] . ومن أهل العلم المعاصرين من أجاز تحديد جنس الجنين للحاجة وليس للضرورة العلاجية في الأمراض الوراثية كما ورد في قرار المجمع، فأجاز هؤلاء تحديد جنس الجنين بضوابط تضبط الأمر، ومنها: الأول: ألا تكون عملية تحديد جنس الجنين قانوناً ملزماً، وسياسةً عامةً. وقصر الجواز على تحقيق الرغبات الخاصة للأزواج في اختيار جنس الجنين. الثاني: قَصْرُ عملية تحديد جنس الجنين بما إذا دعت إليه الحاجة، أما في حال عدمها فترك الأمر على طبيعته دون تدخل هو المسلك القويم. فقد أثبتت إمكانية تحديد جنس الجنين الفعالية في حل كثير من المشكلات الاجتماعية والطبية، كتحقيق رغبة الزوجين في إنجاب مولود من جنس معين، بعدما أنجبوا لمرات عدة من الجنس الآخر. كما أنها أثبتت فاعلية في التقليل من احتمالات الإصابة بالأمراض الوراثية التي تنتقل إلى أحد الجنسين ... الثالث: اتخاذ الضمانات اللازمة والتدابير الصارمة لمنع أي احتمال لاختلاط المياه المفضي إلى اختلاط الأنساب. الرابع: التأكيد على حفظ العورات وصيانتها من الهتك، وذلك من خلال قصر الكشف على موضع الحاجة قدرًا وزمانًا، وأن يكون من الموافق في الجنس درء للفتنة ومنعًا لأسبابها. الخامس: المراقبة الدائمة من الجهات ذات العلاقة لنسب المواليد وملاحظة الاختلال في النسب واتخاذ الإجراءات المناسبة من القوانين والتنظيمات لمنعه وتوقيه كما جرى في ماليزيا والصين. السادس: أن يكون تحديد جنس الجنين بتراضي الوالدين: الأب والأم. لأن لكل واحد منهما حقاً في الولد فإن اختلفا. فالأصل بقاء الأمر على حاله دون تدخل في التحديد درءً لمفسدة الشقاق. السابع: اعتقاد أن هذه الوسائل ما هي إلا أسباب وذرائع لإدراك المطلوب لا تستقل بالفعل ولا تخرج عن تقدير الله وإذنه، فلله الأمر من قبل ومن بعد {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} رؤية شرعية في تحديد جنس الجنين للمصلح ص 20-21.
وخلاصة الأمر أنه لا يجوز استخدام الجدول الصيني لاختيار جنس الجنين نظراً لربطه بين النجوم والكواكب وجنس المولود، وأنه نوع من التنجيم والكهانة، ويجوز اختيار جنس الجنين للحاجة وفق الضوابط المذكورة أعلاه.(15/209)
210 - حكم حمل العروس للمصحف الشريف للتبرك به أثناء ما يسمى "جلوة العروس"
يقول السائل: ما الحكم الشرعي لما يجري في بعض الأعراس، حيث تحملُ العروسُ المصحفَ الشريفَ للتبرك به أثناء ما يسمى "جلوة العروس"، أفيدونا؟
الجواب: أنزل الله تبارك وتعالى القرآن الكريم ليكون نوراً مبيناً يهدي الناس سواء السبيل، وجعله كتاب هداية ومنهاجاً للأمة ليسيِّر الناس على هداه قال الله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً} سورة الإسراء الآية 9، وقال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا قَيِّماً لِّيُنذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً} سورة الكهف الآيات 1-3، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} سورة يونس الآية 57، وقال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاء} سورة الزمر الآية 23، وقال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} سورة ق الآية 37، وغير ذلك من الآيات الكريمات. ولا شك أن تعظيم كتاب الله أمرٌ واجبٌ شرعاً في حق كل مسلم، ومن وقَّر القرآن الكريم، فقد وقَّر الله سبحانه وتعالى، ومن استخف بالقرآن فقد استخف بالله عز وجل، وقد أجمعت الأمة المسلمة على وجوب تعظيم القرآن الكريم، ووجوب تنزيهه وصيانته عن الامتهان والابتذال، ومن القواعد المقررة شرعاً وجوب تعظيم شعائر الله، يقول الله تعالى: {ذلك وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} سورة الحج الآية 32. ويقول تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} سورة الحج الآية30، قال الإمام القرطبي: [ {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ} الشعائر جمع شعيرة، وهو كل شيء لله تعالى فيه أمر أشعر به وأعلم ... فشعائر الله أعلام دينه ... ] تفسير القرطبي12/56. وقد ورد عن عمر رضي الله عنه أنه قال: (عظِّموا القرآن) تفسير القرطبي 1/29. وقال الإمام النووي: [أجمع المسلمون على وجوب صيانة المصحف واحترامه] التبيان في آداب حملة القرآن، ص 108. وقال القاضي عياض: [من استخف بالقرآن أو بالمصحف أو بشيء منه فهو كافر بإجماع المسلمين] الآداب الشرعية 2/393. وقد بحث المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي مسألة تعظيم كتاب الله عز وجل وورد في قراره: [وبعد أن استمع المجلس إلى الأبحاث المقدمة في الموضوع المسئول عنه، والمناقشات المستفيضة في ذلك حوله، يؤكد على وجوب تعظيم كتاب الله واتباع هديه، والالتزام بمقاصده؛ فقد أنزل الله سبحانه وتعالى القرآن ليكون موعظةً وعبرةً، وشفاءً لما في الصدور، وليهتدي به الناس في عباداتهم ومعاملاتهم، ويطبقونه في جميع أمور حياتهم، ويتلونه حق تلاوته تدبراً وتذكراً، ويسترشدون به في جميع شؤونهم، ويأخذون أنفسهم بالعمل به في كل أحوالهم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} سورة يونس الآية 57، وقال سبحانه: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً} سورة الإسراء الآية 82، وقال تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} سورة فصلت الآية 44، وقال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} سورة صّ الآية 29، ويؤكد المجلس أن على المسلمين أن يعرفوا لكتاب ربهم منزلته، ويقدِّروه قدره، ويجعلوا مقاصده نصب أعينهم، ويتخذوا منه ومن سنة النبي صلى الله عليه وسلم مناراً يهتدون بهما. والمجلس إذ يذَّكر بهذا ليهيب بالمسلمين القيام بما يجب عليهم تجاه الآيات القرآنية من احترامها والمحافظة عليها من الامتهان والعبث ويقرر ما يلي: أولاً: جواز كتابة الآيات القرآنية وزخرفتها، واستخدامها لمقصد مشروع كأن تكون وسائل إيضاح لتعلم القرآن وتعليمه، وللقراءة والتذكير والاتعاظ، وفق الضوابط الآتية: (1) أن تعامل اللوحات المكتوب فيها القرآن من حيث الصناعة والنقل معاملة طباعة المصحف، وهذا يوجب اتخاذ الإجراءات التي تضمن احترام الآيات المكتوبة، وصيانتها عن الامتهان. (2) عدم التهاون بألفاظ القرآن ومعانيه فلا تصرف عن مدلولها الشرعي، ولا تبتر عن سياقها. (3) أن لا تصنع بمواد نجسة أو يحرم استعمالها. (4) أن لا تدخل في باب العبث كتقطيع الحروف وإدخال بعض الكلمات في بعض، وأن لا يبالغ في زخرفتها بحيث تصعب قراءتها. (5) أن لا تجعل على صورة ذوات الأرواح كما لو جعلت اللوحة القرآنية على شكل إنسان، أو على شكل طائر أو حيوان؛ ونحو ذلك من الأشكال التي لا يليق وضعها قالباً لآيات القرآن الكريم. (6) أن لا تصنع للتعاويذ المبتدعة وسائر المعتقدات الباطلة، ولا للصناعات المبتذلة ولا لترويج البضائع وإغراء الناس بالشراء. ثانياً: لا حرج في بيعها وشرائها بالضوابط السابق ذكرها وفق الراجح من أقوال العلماء في بيع المصحف وشرائه. ثالثاً: لا يجوز استخدام آيات القرآن الكريم للتنبيه والانتظار في الهواتف الجوالة وما في حكمها؛ وذلك لما في هذا الاستعمال من تعريض القرآن للابتذال والامتهان بقطع التلاوة وإهمالها، ولأنه قد تتلى الآيات في مواطن لا تليق بها. وأما تسجيل القرآن الكريم في الهاتف للتلاوة منه أو الاستماع إليه فلا حرج فيه، بل هو عون على نشر القرآن واستماعه وتدبره، ويحصل الثواب بالاستماع إليه؛ ففيه تذكير وتعليم، وإذاعة له بين المسلمين. ويوصي المجمع الجهات المسئولة في الدولة الإسلامية بضرورة مراقبة صناعة اللوحات القرآنية بما يكفل عدم حدوث تجاوزات فيها، ومنع استيراد اللوحات القرآنية وما شابهها من الجهات والدول التي لا تحترم ما في اللوحات من آيات كريمة، والله أعلم] موقع المجمع على شبكة الإنترنت.
إذا تقرر هذا فلا بد أن نعرف أن [التبرك: معناه طلب البركة ورجاؤها واعتقادها ... والتبرك نوعان:1- تبرك مشروع: وهو ما توفرت فيه الشروط التالية: أ- ورود الدليل الشرعي على أن هذه الأعيان والأوصاف مباركة. لأن هذا أمرٌ توقيفي، متوقفٌ على ثبوت الدليل من الكتاب والسنة. ب- اعتقاد أن المبارِك هو الله تبارك وتعالى، وأن هذه الأعيان والأوصاف إنما هي أسبابٌ للبركة، فقد يتحقَّق المسبب عند وجود سببه، وقد يتخلف لحكمة يعلمها الله تعالى.2- تبرك ممنوع، وفيه التبرك الموهوم الذي يتوهمه بعض الناس، وإن كان في الواقع لا حقيقة له، مثل اعتقاد البركة في بعض القبور والمغارات والأماكن أو الأشخاص -غير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام- أحياءً أو أمواتاً سواء ادَّعوا ذلك أو ادُّعي فيهم. والتبرك الممنوع ما افتقد الشرطين السابقين أو أحدهما.] بين التبرك المشروع والممنوع د. عبد الله الدميجي islamtoday.net.وبعد هذا البيان يظهر لنا أن تبرك العروس بحمل المصحف الشريف من التبرك الممنوع، لاشتماله على امتهان المصحف الشريف، لأن الحال الذي تكون عليه العروس والنساء في محل العرس يشتمل على منكراتٍ كثيرة، ولا شك أن هذا الفعل فيه تعريضٌ لكتاب الله عز وجل لما يخل بحرمته، ويتنافى مع تنزيهه من كل ما يخدش تعظيمه، ويضاف إلى ذلك أن هذا التبرك أمرٌ مبتدعٌ مخالف لهدي النبي صلى الله عليه وسلم ولهدي سلف الأمة، والتبرك بالمصحف الشريف لا يكون بأن تحمله العروس وترقص به، بل يكون التبرك المشروع بالعمل بكتاب الله عز وجل وبقراءته على الوجه المشروع، ويكون التبرك أيضاَ بفهم كتاب الله جل جلاله. قال سبحانه وتعال: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ} سورة البقرة الآية 121. وقال تعالى: {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً} سورة الكهف الآية 27، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} سورة فاطر الآيتان 29 -30، وجاء في الحديث عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه: قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (اقرؤوا القرآن، فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه) رواه مسلم.
وخلاصة الأمر أنه لا يجوز حمل العروس للمصحف الشريف أثناء ما يسمى "جلوة العروس" للتبرك به كما زعموا، لأن ذلك يتنافى مع تعظيم كلام رب العالمين، ومن أراد التبرك المشروع بكتاب الله عز وجل فعليه أن يلتزم به قولاً وعملاً وأن يتلوه آناء الليل وأطراف النهار، فحينئذ تحل عليه البركة ويصلح الله حاله ويحفظه من كل الشرور وييسر له أموره كلها.(15/210)
1 - الوصية بأكثر من الثلث
قول السائل: أنا رجل موسر وليس لي أولاد ولا بنات ولي إخوة وأخوات وقد كفلت ابن أخي منذ الصغر وعمل معي في تجارتي وأريد أن أوصي له بجميع ما أملك فما الحكم في ذلك، أفيدونا؟
الجواب: الوصية مشروعة بكتاب الله وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: ?مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ? سورة النساء 12. وقال الإمام البخاري في صحيحه [باب الوصايا وقول النبي صلى الله عليه وسلم (وصية الرجل مكتوبة عنده) ، وقول الله تعالى {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} سورة البقرة الآيات 180-182. وورد في الحديث عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: جاء النبي صلى الله عليه وسلم يعودني وأنا بمكة، وهو يكره أن يموت بالأرض التي هاجر منها قال: يرحم الله ابن عفراء. قلت يا رسول الله، أوصي بمالي كله قال: لا. قلت فالشطر قال: لا. قلت الثلث. قال: فالثلث، والثلث كثير، إنك أن تدع ورثتك أغنياء خيرٌ من أن تدعهم عالة يتكففون الناس في أيديهم، وإنك مهما أنفقت من نفقة فإنها صدقة، حتى اللقمة التي ترفعها إلى في امرأتك- أي فمها - وعسى الله أن يرفعك فينتفع بك ناسٌ ويضر بك آخرون. ولم يكن له يومئذ إلا ابنة) رواه البخاري ومسلم. وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما حقُ امرئٍ مسلمٍ له شيءٌ يريد أن يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده) رواه البخاري ومسلم. وفي رواية عند مسلم (أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ثلاث ليال إلا ووصيته عنده مكتوبة، قال عبد الله بن عمر رضي الله عنه ما مرت عليًّ ليلةٌ منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك إلا وعندي وصيتي) وغير ذلك من النصوص. وقد اتفق أهل العلم على أنه لا وصية لوارث، لما ثبت في الحديث من قول الرسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث) رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح. واتفق العلماء على أنه لا تجوز الوصية بأكثر من الثلث، لما ورد في حديث سعد السابق من قول الرسول الله صلى الله عليه وسلم: (الثلث والثلث كثير) ، وقال الإمام الترمذي بعد أن رواه: [حديث سعد حديث حسن صحيح وقد روي عنه من غير وجه وقد روي عنه «والثلث كبير» . والعمل على هذا عند أهل العلم لا يرون أن يوصي الرجل بأكثر من الثلث ويستحبون أن ينقص من الثلث. قال سفيان الثوري كانوا يستحبون في الوصية الخمس دون الربع، والربع دون الثلث، ومن أوصى بالثلث فلم يترك شيئاً لا يجوز له إلا الثلث.] سنن الترمذي 3/306. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لو غض الناس إلى الربع، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الثلث والثلث كثير أو كبير) رواه البخاري.
إذا تقرر هذا فإن السائل له ورثة وابن أخيه ليس من الورثة، فيجوز أن يوصي له، ولكن لا يزيد في الوصية عن الثلث، فإن زادت الوصية عن الثلث فتكون الزيادة عن الثلث موقوفة على إجازة الورثة عند جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والحنابلة في الصحيح من المذهب والمالكية في قول، فإن أجاز الورثة ما زاد عن الثلث، نفذت الوصية، وإن ردوا الزيادة بطلت. قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [ومن أوصى لغير وارث بأكثر من الثلث، فأجاز ذلك الورثة بعد موت الموصي جاز وإن لم يجيزوا، رد إلى الثلث، وجملة ذلك أن الوصية لغير الوارث تلزم في الثلث من غير إجازة وما زاد على الثلث يقف على إجازتهم، فإن أجازوه جاز ,، وإن ردوه بطل في قول جميع العلماء، والأصل في ذلك (قول النبي صلى الله عليه وسلم لسعد حين قال: أوصى بمالي كله؟ قال: لا قال: فبالثلثين؟ قال: لا قال: فبالنصف؟ قال: لا قال: فبالثلث؟ قال: الثلث والثلث كثير) ، وقوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم عند مماتكم) ، يدل على أنه لا شيء له في الزائد عليه، وحديث عمران بن حصين في المملوكين الذين أعتقهم المريض ولم يكن له مال سواهم، فدعا بهم النبي صلى الله عليه وسلم فجزأهم ثلاثة أجزاء وأقرع بينهم فأعتق اثنين، وأرق أربعة وقال له قولاً شديداً يدل أيضا على أنه لا يصح تصرفه فيما عدا الثلث، إذا لم يجز الورثة ويجوز بإجازتهم لأن الحق لهم] المغني 6/146.
ولا بد من التنبيه على أمرين هامين يتعلقان بالوصية: أحدهما عدم المضارة في الوصية حيث قال الله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُوَاْ أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاء فِي الثُّلُثِ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّةً مِّنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ} سورة النساء الآية 12. قال الإمام القرطبي: [قوله تعالى: {غير مضار} ... فالإضرار راجع إلى الوصية والدين، أما رجوعه إلى الوصية فبأن يزيد على الثلث أو يوصي لوارث، فإن زاد فإنه يرد، إلا أن يجيزه الورثة، لأن المنع لحقوقهم لا لحق الله تعالى. وإن أوصى لوارث فإنه يرجع ميراثاً.] تفسير القرطبي 5/80. فإذا كان قصد الوارث من الوصية لغير الوارث المُضَارَّة بالوارث وتقليل نصيبه من الميراث، فإن ذلك حرام عليه وهو آثم بهذا القصد، لقوله تعالى: {غير مضار} وورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الرجل ليعمل والمرأة بطاعة الله ستين سنة ثم يحضرهما الموت فيضاران في الوصية فتجب لهما النار) ثم قرأ أبو هريرة {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ} رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح غريب. قال الشوكاني: [الحديث حسنه الترمذي وفي إسناده شهر بن حوشب وقد تكلم فيه غير واحد من الأئمة. ووثقه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين ولفظ أحمد وابن ماجة الذي أشار إليه المصنف (أن الرجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة فإذا أوصى حاف في وصيته فيختم له بشر عمله فيدخل النار، وان الرجل ليعمل بعمل أهل الشر سبعين سنة فيعدل في وصيته فيدخل الجنة) وفيه وعيد شديد وزجر بليغ وتهديد، لأن مجرد المضارة في الوصية إذا كانت من موجبات النار بعد العبادة الطويلة في السنين المتعددة فلا شك أنها من الذنوب التي لا يقع في مضيقها إلا من سبقت له الشقاوة، وقراءة أبي هريرة للآية لتأييد معنى الحديث وتقويته، لأن الله سبحانه قد قيد ما شرعه من الوصية بعدم الضرار فتكون الوصية المشتملة على الضرار مخالفة لما شرعه الله تعالى وما كان كذلك فهو معصية.] نيل الأوطار 6/42-43.
وورد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (الإضرار في الوصية من الكبائر) رواه سعيد بن منصور موقوفاً بإسناد صحيح، ورواه النسائي ورجاله ثقات كما قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري 5/441.
وقد عدَّ الشيخ ابن حجر المكي الإضرار بالوصية من كبائر الذنوب، انظر الزواجر عن اقتراف الكبائر 1/614.
ثانيهما: كتابة الوصية والإشهاد عليها، اتفق الفقهاء على أنه يستحب للمسلم إذا أوصى أن يكتب وصيته لقوله صلى الله عليه وسلم (ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ثلاث ليال إلا ووصيته عنده مكتوبة) ، ويستحب للموصي أن يبدأ الوصية بالبسملة، والثناء على الله تعالى بالحمد ونحوه والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم الشهادتين كتابةً أو نطقاً، ثم الإشهاد على الوصية، لأجل صحتها ونفاذها، ومنعاً من احتمال جحودها وإنكارها. روي عن أنس رضي الله عنه أنه قال: كانوا يكتبون في صدور وصاياهم بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصى به فلان أنه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وأن الساعة آتية لا ريب فيها. وأن الله يبعث من في القبور، وأوصى من ترك من أهله أن يتقوا الله ويصلحوا ذات بينهم، ويطيعوا الله ورسوله إن كانوا مؤمنين، أوصاهم بما أوصى به إبراهيم بنيه ويعقوب (إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون) . الموسوعة الفقهية الكويتية ومما يدل على الإشهاد على الوصية قوله تعالى: {يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللهِ إِنَّا إِذاً لَّمِنَ الآثِمِينَ} سورة المائدة الآية 106.
وخلاصة الأمر أنه يجب أن لا تزيد الوصية عن الثلث، فإن زادت عن الثلث فلا بد من إجازة الورثة، وعليه فلا يجوز للسائل أن يوصي بجميع ماله لابن أخيه إلا إذا أجاز ذلك ورثته، ولا يجوز لأحد أن يضار بالوصية، ويستحب كتابة الوصية والإشهاد عليها.(16/1)
2 - المنع من توزيع التركة
يقول السائل: مضى على وفاة والدي أكثر من عشر سنوات، وقد ترك أموالاً وعقارات وقطعة أرض، وما زالت تركته غير مقسَّمة، وبعض الورثة ينتفع بالعقارات، ويرفض تقسيم التركة مع إلحاحي على القسمة، فما الحكم في ذلك، أفيدونا؟
الجواب: ينبغي أن يعلم أن الواجب بعد وفاة الميت مباشرة هو تجهيزه للدفن بالسرعة الممكنة، وتكون تكلفة ذلك من مال الميت، ولا يصح تأخير دفنه، فالإسراع في دفن الميت أمرٌ مطلوبٌ شرعاً، وقد نصت السنة النبوية على ذلك، فقد ورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أسرعوا بالجنازة فإن تكُ صالحةً فخير تقدمونها إليه وإن يكُ سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم) رواه البخاري ومسلم. والإسراع بالجنازة يشمل السرعة حال حملها والإسراع بها إلى الدفن، قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [قال القرطبي: مقصود الحديث: أن لا يتباطأ بالميت عن الدفن] فتح الباري 3/235. ويؤيد المسارعة في الدفن ما رواه الطبراني عن ابن عمر رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا مات أحدكم فلا تحبسوه وأسرعوا به إلى قبره) قال الحافظ ابن حجر: إسناده حسن، المصدر السابق. ويؤيده أيضاً ما رواه أبو داود بإسناده أن طلحة بن البراء مرض فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده فقال: (إني لا أُرَى طلحة إلا قد حدث فيه الموت فآذنوني به وعجلوا، فإنه لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهراني أهله) . ويؤيده أيضاً ما رواه الترمذي وأحمد عن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث يا علي لا يؤخرن: الصلاة إذا آنت، والجنازة إذا حضرت، والأيم - هي المرأة التي لا زوج لها - إذا وجدت لها كفؤاً) ، وذكر ابن الجوزي عن بعض السلف أنه قال: (كان يقال العجلة من الشيطان إلا في خمس، إطعام الطعام إذا حضر الضيف، وتجهيز الميت إذا مات، وتزويج البكر إذا أدركت، وقضاء الدين إذا وجب، والتوبة من الذنب إذا أذنب) أحكام النساء ص304. فإذا تم َّ دفن الميت فهنالك عدة حقوق تتعلق بتركته وهي كما يلي: قضاء الديون التي في ذمة الميت، ويدخل فيها مهر زوجته ونحو ذلك من حقوق الآدميين، والديون المتعلقة بحقوق الله عز وجل كالزكاة وحج الفريضة والكفارات. وبعد ذلك تنفذ وصايا الميت فيما لا يزيد عن ثلث التركة، وينبغي أن يعلم أن قضاء الدين مقدم على تنفيذ وصايا الميت وإن كانت الوصية مقدمة على الدين في آية المواريث، يقول الله تعالى: (مِنْ بَعِْ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ) . وبعد ذلك يوزع الباقي على الورثة حسب التقسيم الشرعي لذلك، ومن المعلوم عند أهل العلم أنه بمجرد وفاة الميت فإن ملكية أمواله تنتقل لورثته وتصير حقاً شرعياً لهم، والأصل أن تقسم التركة على الورثة بعد استيفاء الحقوق المتعلقة بالتركة كما ذكرت سابقاً، ويكون توزيع التركة على الورثة بعد وفاة الميت مباشرة وبعد حصر أمواله وحصر ورثته، وهذا أولى من تأخير التوزيع، حتى وإن تراضى الورثة على التأخير، لأنه قد يترتب على تأخير توزيع التركة مشكلات تقع بين الورثة، وأما أن يمنع بعض الورثة توزيع التركة مع انتفاعهم ببعضها، فهذا أمر محرم شرعاً، لأن هذا من التعدي على حقوق بقية الورثة، وحينئذ يكون انتفاع الوارث ببعض التركة كالعقار المذكور في السؤال من باب الغصب، وهو من الظلم المحرم قال الله تعالى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} سورة غافر الآية 18، وقال تعالى: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} سورة الحج الآية 71. وجاء في الحديث القدسي فيما يرويه النبي صلى الله عليه وسلم عن رب العزة والجلال: (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا) رواه مسلم. وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اتقوا الظلم فإن الظلم ظلماتٌ يوم القيامة، واتقوا الشح، فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم) رواه مسلم. وجاء في خطبة الوداع قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا إن الله حرم عليكم دمائكم وأموالكم، كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا) رواه البخاري. وحذر النبي صلى الله عليه وسلم أشد التحذير من غصب الأراضي وأخذها من أصحابها بغير حق فقد جاء في الحديث عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه من سبع أرضين) متفق عليه، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أخذ من الأرض شبراً بغير حقه طوقه من سبع أرضين) رواه أحمد بإسنادين أحدهما صحيح، ورواه مسلم إلا أنه قال: (لا يأخذ أحدٌ شبراً من الأرض بغير حقه إلا طوقه الله إلى سبع أرضين يوم القيامة) ، وقوله: (طوقه من سبع أرضين) قيل: أراد طوق التكليف لا طوق التقليد وهو أن يطوق حملها يوم القيامة، وقيل: إنه أراد أنه يخسف به الأرض فتصير البقعة المغصوبة في عنقه كالطوق. وجاء في الحديث عن سالم عن أبيه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أخذ من الأرض شبراً بغير حقه خسف به يوم القيامة إلى سبع أرضين) رواه البخاري. وعن يعلى بن مرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أيما رجل ظلم شبراً من الأرض كلفه الله عز وجل أن يحفره حتى يبلغ به سبع أرضين ثم يطوقه يوم القيامة حتى يقضى بين الناس) رواه أحمد والطبراني وابن حبان، وفي رواية لأحمد والطبراني عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من أخذ أرضاً بغير حقها كلف أن يحمل ترابها إلى المحشر) . وقال العلامة الألباني: صحيح. وعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أعظم الغلول عند الله عز وجل ذراع من الأرض تجدون الرجلين جارين في الأرض أو في الدار فيقتطع أحدهما من حظ صاحبه ذراعاً إذا اقتطعه طوقه من سبع أرضين) رواه أحمد بإسناد حسن والطبراني في الكبير. وقال العلامة الألباني: حسن صحيح. وعن وائل بن حجر رضي الله عنه قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من غصب أرضاً ظلماً لقي الله وهو عليه غضبان) رواه الطبراني من رواية يحيى بن عبد الحميد الحماني، وقال العلامة الألباني: صحيح. انظر صحيح الترغيب والترهيب 2/ 379 - 381. وإذا أخذ هذا الوارث- الذي يمنع قسمة التركة- مالاً من الميراث دون موافقة بقية الورثة، فإنه يكون داخلاً ضمن دائرة الكسب الحرام، والكسب الحرام نوع من أكل السحت، قال الله تعالى {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ?سورة المائدة الآية 42. وقال الله تعالى: ?وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ? سورة المائدة الآية 62. وقوله تعالى: ?لوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ? سورة المائدة الآية 63. قال أهل التفسير في قوله تعالى: ?أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ? أي الحرام وسمي المال الحرام سحتاً لأنه يسحت الطاعات، أي يذهبها ويستأصلها. انظر تفسير القرطبي 6/183. وقال جماعة من أهل التفسير: ويدخل في السحت كل ما لا يحل كسبه] فتح المالك 8/223. وعقوبة هذا الغاصب النار، فقد جاء في الحديث عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة لحم نبت من سحت وكل لحم نبت من سحت كانت النار أولى به) رواه أحمد والدارمي والبيهقي في شعب الإيمان، وفي رواية أخرى: (كل جسدٍ نبت من سحتٍ فالنار أولى به) رواه أحمد والطبراني والحاكم وغيرهم وقال العلامة الألباني صحيح. انظر صحيح الجامع الصغير 2/831. وعن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ... يا كعب بن عجرة إنه لا يربو لحم نبت من سحت إلا كانت النار أولى به) رواه أحمد والنسائي والترمذي وحسنه وصححه العلامة الألباني. صحيح سنن الترمذي 1/189. وعن أبي بكر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يدخل الجنة جسد غُذِيَ بحرام) رواه أبو يعلى والبزار والطبراني في الأوسط ورجال أبي يعلى ثقات وفي بعضهم اختلاف قاله الهيثمي. مجمع الزوائد 10/293. وصححه العلامة الألباني في صحيح الترغيب والترهيب 2/320. وغير ذلك من النصوص.
وإذا أصر بعض الورثة على المنع من توزيع التركة فإن للورثة الآخرين رفع الأمر إلى القضاء لإجبار الممتنع عل القسمة، قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [أما إذا طلب أحدهما - الشريكان - القسمة، فامتنع الآخر، لم يخل من حالين؛ أحدهما، يجبر الممتنع على القسمة، وذلك إذا اجتمع ثلاثة شروط: أحدها: أن يثبت عند الحاكم ملكهما ببينة؛ لأن في الإجبار على القسمة حكماً على الممتنع منهما، فلا يثبت إلا بما يثبت به الملك لخصمه، بخلاف حالة الرضا؛ فإنه لا يحكم على أحدهما، إنما يقسم بقولهما ورضاهما.
الشرط الثاني: أن لا يكون فيها ضرر، فإن كان فيها ضرر، لم يجبر الممتنع؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر، ولا ضرار) . رواه ابن ماجه، ورواه مالك في " موطئه " مرسلاً، وفي لفظ: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى أن لا ضرر ولا ضرار) .
الشرط الثالث: أن يمكن تعديل السهام من غير شيء يجعل معها، فإن لم يمكن ذلك، لم يجبر الممتنع؛ لأنها تصير بيعاً، والبيع لا يجبر عليه أحد المتبايعين، ... فإذا اجتمعت الشروط الثلاثة، أجبر الممتنع منهما على القسمة؛ لأنها تتضمن إزالة ضرر الشركة عنهما، وحصول النفع لهما؛ لأن نصيب كل واحد منهما إذا تميز، كان له أن يتصرف فيه بحسب اختياره، ويتمكن من إحداث الغراس والبناء والزرع والسقاية والإجارة والعارية، ولا يمكنه ذلك مع الاشتراك، فوجب أن يجبر الآخر عليه؛ لقوله عليه السلام: (لا ضرر ولا ضرار) .] المغني 10/102.
وخلاصة الأمر أنه إذا مات الميت فإنه يجهز ويدفن ثم تقضى ديونه وتنفذ وصاياه في حدود الثلث، وبعد ذلك توزع تركته، وينبغي التعجيل في توزيع التركة، ولا يحل لأحد من الورثة أن يمنع توزيعها، نظراً لتعلق حقوق الآخرين بها.(16/2)
3 - توزيع الأموال على الأولاد حال الحياة
يقول السائل: إنه يريد أن يوزع تركته على أولاده قبل وفاته خشية أن يختلفوا بعد مماته، فما الحكم في ذلك، أفيدونا؟
الجواب: ينبغي أن يعلم أولاً أن التركة لا تكون تركة إلا بعد وفاة المورث، فقد عرَّف جمهور الفقهاء التّركة بأنها كلّ ما يخلّفه الميّت من الأموال والحقوق الثّابتة مطلقاً. الموسوعة الفقهية الكويتية 11/206. وتنتقل ملكيّة التّركة جبراً إلى الورثة ولا يكون ذلك إلا بعد تحقق موت المورّث، فقد اتّفق الفقهاء على أنّ انتقال التّركة من المورّث إلى الوارث يكون بعد وفاة المورّث حقيقةً أو حكماً أو تقديراً. الموسوعة الفقهية الكويتية 11/210. إذا تقرر هذا فإن توزيع الشخص لأمواله على أولاده لا يكون من باب الميراث وإنما يكون من باب الهبة، وحتى يصح هذا التصرف شرعاً لا بد أن تتحقق الشروط الآتية: أولاً: لا بد أن يكون صاحب المال في كامل قواه العقلية والصحية، فإذا حصل هذا التصرف في مرض موته، فلا يصح، لأنه حينئذ يُعد بمثابة الوصية، ومن المقرر شرعاً أنه لا وصية لوارث إلا إذا أجازها بقية الورثة، لما ثبت في الحديث من قول الرسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث) رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح. ومرض الموت هو: المرض المخوف الّذي يتّصل بالموت، ولو لم يكن الموت بسببه، وهذا مذهب جمهور الفقهاء. وذهب الحنفيّة إلى أنّ مرض الموت: هو الّذي يغلب فيه خوف الموت، ويعجز معه المريض عن رؤية مصالحه خارجاً عن داره إن كان من الذكور، وعن رؤية مصالحه داخل داره إن كان من الإناث، ويموت على ذلك الحال قبل مرور سنة. الموسوعة الفقهية الكويتية 37/5. قال ابن المنذر: [أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم أن حكم الهبات في المرض الذي يموت فيه الواهب: حكم الوصايا] . المغني 6/61. وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [وحكم العطايا في مرض الموت المخوف حكم الوصية في خمسة أشياء: أحدها أن يقف نفوذها على خروجها من الثلث وإجازة الورثة، الثاني: أنها لا تصح لوارث إلا بإجازة بقية الورثة، الثالث: أن فضيلتها ناقصة عن فضيلة الصدقة في الصحة ... الرابع: أنه يزاحم بها الوصيا في الثلث، الخامس: أن خروجها من الثلث معتبر حال الموت لا قبله ولا بعده.] المغني 6/193. ثانياً: أن يقبض الموهوب له الهبة حال حياة الواهب، أي أن يحوزها الحيازة الشرعية بحيث يصير مالكاً لها وحر التصرف فيها، لأن من شروط صحة الهبة عند جمهور الفقهاء القبض، ويدل على ذلك ما ورد عن عائشة رضي الله عنها: (أن أبا بكر رضي الله عنه نحلها جذاذ عشرين وسقاً من ماله بالعالية، فلما مرض قال: يا بنية: كنت نحلتك جذاذ عشرين وسقاً، ولو كنت جذذته أو قبضته كان ذلك، فإنما هو اليوم مال وارث، فاقتسموه على كتاب الله تعالى) . رواه مالك في الموطأ ورواه البيهقي كما قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في التلخيص الحبير 3/72-73. قال الشيخ ابن قدامة المقدسي مستدلاً لهذا الشرط: [ولنا إجماع الصحابة رضي الله عنهم فإن ما قلناه مروي عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما , ولم يعرف لهما في الصحابة مخالف ... - ثم ذكر خبر عائشة رضي الله عنها السابق – ثم قال: وروى ابن عيينة عن الزهري عن عروة عن عبد الرحمن بن عبدٍ القاري أن عمر بن الخطاب قال: ما بال أقوام ينحلون أولادهم , فإذا مات أحدهم قال: مالي وفي يدي وإذا مات هو قال: كنت نحلته ولدي؟ لا نحلة إلا نحلة يحوزها الولد دون الوالد، فإن مات ورثه وروى عثمان أن الوالد يحوز لولده إذا كانوا صغاراً قال المروذي: اتفق أبو بكر وعمر وعثمان وعلي أن الهبة لا تجوز إلا مقبوضة] المغني 6/41-42. وبهذا يتبين لنا أن ما يفعله بعض الناس من توزيع أموالهم وقسمتها على أولادهم، ثم لا يمكنونهم من التصرف فيها حال حياتهم، أي لا يقبضونها، فهذه القسمة غير ملزمة لأنها غير صحيحة ولا تعتبر هبة بل وصية للوارث وهي لا تصح لما ذكرته سابقاً. ثالثاً: لابد من العدل بين الأولاد في الهبة والعطية، فالعدل بين الأولاد مطلوبٌ سواء أكان في الأمور المادية أو المعنوية، وقد رفض الرسول صلى الله عليه وسلم أن يشهد على إعطاء أحد الصحابة لأحد أولاده عطية دون الآخرين كما جاء في الحديث عن عامر قال: (سمعت النعمان بن بشير رضي الله عنهما وهو على المنبر يقول: أعطاني أبي أعطيةً فقالت عمرة بنت رواحة – أم النعمان – لا أرضى حتى تشهد رسول صلى الله عليه وسلم، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أعطيت ابني من عمرة بنت رواحة عطية فأمرتني أن أشهدك يا رسول الله. قال صلى الله عليه وسلم: أعطيت سائر ولدك مثل هذا؟ قال: لا، فقال صلى الله عليه وسلم: فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم. قال فرجع فردَّ عطيته) رواه البخاري، وفي روايةٍ أخرى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبشير والد النعمان (لا تشهدني على جورٍ أليس يسرك أن يكونوا لك في البر سواء؟ قال: نعم. قال: أشهد على هذا غيري) رواه أبو داود بسندٍ صحيح. ويدل على أنه يجب على الأب أن يسوي بين أولاده في الهبات والعطايا قوله صلى الله عليه وسلم: (اعدلوا بين أبنائكم، اعدلوا بين أبنائكم، اعدلوا بين أبنائكم) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وهو حديثٌ صحيح. وقوله صلى الله عليه وسلم: (سووا بين أولادكم في العطية لو كنت مفضلاً أحداً لفضلت النساء) رواه سعيد بن منصور والبيهقي وقال الحافظ ابن حجر إسناده حسن. وقال صلى الله عليه وسلم: (اعدلوا بين أولادكم في النِحَل كما تحبون أن يعدلوا بينكم في البِر) رواه مسلم.
ومن الجدير بالذكر أن جمهور الفقهاء يرون أن الذكر والأنثى سواءٌ في الهبات والأعطيات لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبشير بن سعد (فسووا بينهم) وفي روايةٍ أخرى (أليس يسرك أن يكونوا في البر سواء) والبنت كالابن في وجوب برها لأبيها. ويرى الحنابلة ومحمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة واسحاق وبعض الشافعية وبعض المالكية أن على الأب أن يقسم بين أولاده على حسب قسمة الله تعالى الميراث، فيجعل للذكر مثل حظ الأنثيين لأن الله سبحانه وتعالى قسم بينهم ذلك. وورد أن شريحاً القاضي قال لرجل قسَّم ماله بين أولاده (ارددهم إلى سهام الله تعالى وفرائضه) . ويرون أن الأب إذا لم يعدل في الهبة لأولاده فهو آثم وتصرفه باطل شرعاً قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [ ... يجب على الإنسان التسوية بين أولاده في العطية، وإذا لم يختص أحدهم بمعنى يبيح التفضيل فإن خص بعضهم بعطيته، أو فاضل بينهم فيها أثم ووجبت عليه التسوية بأحد أمرين: إما رد ما فضل به البعض، وإما إتمام نصيب الآخر، قال طاوس: لا يجوز ذلك , ولا رغيف محترق، وبه قال ابن المبارك وروي معناه عن مجاهد وعروة وكان الحسن يكرهه ويجيزه في القضاء ... ] ثم استدل الشيخ ابن قدامة المقدسي لهذا القول [ولنا ما روى النعمان بن بشير قال: (تصدق عليَّ أبي ببعض ماله فقالت أمي عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تشهد عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء أبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشهده على صدقته فقال: أكلَّ ولدك أعطيت مثله؟ قال: لا قال: فاتقوا الله، واعدلوا بين أولادكم قال: فرجع أبي فرد تلك الصدقة) وفي لفظ قال: " فاردده " وفي لفظ قال: " فأرجعه " وفي لفظ: " لا تشهدني على جور " وفي لفظ: " فأشهد على هذا غيري " وفي لفظ: " سوِ بينهم " وهو حديث صحيح متفق عليه، وهو دليل على التحريم لأنه سماه جورا ً، وأمر برده وامتنع من الشهادة عليه والجور حرام، والأمر يقتضي الوجوب، ولأن تفضيل بعضهم يورث بينهم العداوة والبغضاء وقطيعة الرحم فمنع منه، كتزويج المرأة على عمتها أو خالتها ... ] المغني 6/51-52. وقال الإمام القرطبي مرجحاً القول بالرد: [فإن قيل: الأصل تصرف الإنسان في ماله مطلقاً، قيل له: الأصل الكلي والواقعة المعينة المخالفة لذلك الأصل لا تعارض بينهما كالعموم والخصوص. وفي الأصول أن الصحيح بناء العام على الخاص، ثم إنه ينشأ عن ذلك العقوق الذي هو أكبر الكبائر، وذلك محرم، وما يؤدي إلى المحرم فهو ممنوع، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم) . قال النعمان: فرجع أبي فردَّ تلك الصدقة، والصدقة لا يعتصرها الأب بالإنفاق وقوله: (فأرجعه) محمول على معنى فاردده، والرد ظاهر في الفسخ، كما قال عليه السلام (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) أي مردود مفسوخ. وهذا كله ظاهر قوي، وترجيح جلي في المنع.] ٍ تفسير القرطبي 6/214.
ولا بد من تذكير الآباء أنه ينبغي عند توزيع أموالهم على أولادهم أن يكون ذلك التوزيع في بعض الأموال، وليس في كلها حتى لا يحرم الأب نفسه من ماله، وخاصة إذا امتد به العمر، فيصبح عالة يتكفف الناس، وكذلك إذا وجد ورثة آخرون كما يحصل أن يتزوج زوجة أخرى وقد يرزقه الله عز وجل أولاداً آخرين، فيحرمون من أمواله، وهذا ليس عدلاً ولا إنصافاً. وهنا يأتي قول بعض أهل العلم إن الأفضل أن لا يوزع الوالد أمواله على أولاده حال حياته، بل يتركها لتوزع بعد موته توزيع الميراث الشرعي، وهذا الأمر له حسنات كثيرة. [قال – الإمام - أحمد: أحب أن لا يقسم ماله، ويدعه على فرائض الله تعالى لعله أن يولد له فإن أعطى ولده ماله، ثم ولد له ولد فأعجب إليَّ أن يرجع فيسوي بينهم، يعني يرجع في الجميع أو يرجع في بعض ما أعطى كل واحد منهم ليدفعوه إلى هذا الولد الحادث ,، ليساوي إخوته] المغني 6/61.
وخلاصة الأمر أنه يجوز للوالد أن يوزع أمواله على أولاده حال حياته وأن ذلك لا يعتبر ميراثاً، لأن من شرط الميراث موت المورث، ويعد ذلك من الهبة، ولكن لا بد من تحقق الشروط التي ذكرتها.(16/3)
1 - موقف الشرع من العطوة في العرف العشائري
يقول السائل: في العرف العشائري إذا ركب رجل مع آخر في سيارة أو سفينة وحصل حادث وقتل الراكب فإن صاحب السيارة عليه أن يأخذ عطوة دم من أهل القتيل، ما حكم الشرع في ذلك؟ أفيدونا؟
الجواب: العطوة في العرف العشائري تعني: [تلك الفترة الزمنية التي يمنحها أهل المجني عليه للجاني وأهله أو لأهله فقط، وذلك بعد وقوع الجناية مباشرة، فيتوسط في العطوة أهل الخير " الجاهة "، ويعتمد عليها المصلحون كأول خطوة في حل مشكلات الناس منذ وقوع الجناية نظراً لتوتر النفوس وتحركها نحو الشر، وتأهب الطرفين للصد والرد والضرب والقتل". والعطوة هدنة تؤخذ بين المتخاصمين يعقدها وجهاء القوم بحيث تمنع الاعتداء من كلا الطرفين على بعضهما البعض مكفولة بوجهاء يضمنون عدم الاعتداء.] عن الإنترنت. والعطوة في العرف العشائري تؤخذ في حالات القتل غالباً، بغض النظر هل كان القتل عمداً أو خطأً، وتؤخذ أيضاً في حالات الجراحات والاغتصاب وغيرها. والعطوة في العرف العشائري على أنواع [منها (1) عطوة الدم وتسمى عطوة فورة الدم: وتكون في قضايا القتل والعرض ومدتها ثلاثة أيام وثلث وتسمى هذه الأيام المهربات المسربات. (2) عطوة الاعتراف أو الإقرار: وتعني اعتراف المتهم بالجريمة وهو مستعد بأن يعطي ما يترتب عليه من حقوق وواجبات. (3) عطوة حق وتعني عدم اعتراف المتهم بالجريمة، وفي هذه الحالة لا بد من التحكيم والتقاضي عند قاضٍ عشائريٍ، يثبت إدانته أو براءته التامة، وتسمى أيضاً عطوة تفتيش، أي العمل على التحري والتفتيش حول الشخص أو الأشخاص الذين تحوم حولهم الشبهات. (4) عطوة الإقبال وتؤخذ عادة بعد صدور الحكم القضائي وسميت بهذا الاسم لإقبال الطرفين على الصلح، حيث تتم مراسم الصلح فيها. (5) العطوة الناقصة وهي العطوة التي لا تشمل الجاني، ويكون الجاني في هذه الحالة مشمساً، أي مهدور الدم، ويكون ذلك بموافقة الطرفين المتخاصمينن وتكون هذه العطوة في حالة فرار الجاني من وجه العدالة. (6) عطوة شرف بيضاء وتكون هذه العطوة متخصصة في قضايا العرض وحرمة البيت وتقطيع الوجه، أي إن مدار بحث العطوة يركز على الحفاظ على شرف الإنسان وكرامته، على أن عرضه لم يمس وشرفه مصون، لكن يجب الانتقام من الرجل الذي حاول أن يمس هذا الشرف أمام قضاة العشائر. - والمقصود بتقطيع الوجه هو الإخلال بالالتزام يعني حينما يكفل إنسان طرفاً من الإطراف، ويخل بهذا الالتزام يعتبر أنه قطع وجه الكفيل صاحب الوجه، وهي من أصعب وأبشع الجرائم لدى البدو- (7) عطوة حوليه وهي العطوة التي تعطى لمدة حول كامل (أي سنة كاملة) وتجدد حولياً أي تلقائياً كل حول حتى يتم الصلح] . انظر التفصيل في: الموجز في القضاء العشائري ص 44-45، العرف العشائري بين الشريعة والقانون ص 76. والمقصود من العطوة الهدنة بين المتخاصمين وتهدئة الخواطر ومنع حالات الثأر والانتقام والتخريب. وهذه المعاني مما يقرها الشرع، لأن فيها حفظاً للدماء والأموال، وحفظهما من مقاصد الشارع الحكيم، فإن من مقاصد الإسلام الحفاظ على النفس البشرية، فلا يجوز قتلها أو الاعتداء عليها بأي شكل من الأشكال، فالإسلام اعتبر النفس البشرية معصومة وحافظ عليها، وقد وردت نصوص كثيرة في الكتاب والسنة في المحافظة على النفس، قال الله تعالى {ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتل إنه كان منصوراً} سورة الإسراء الآية 33. وقال تعالى: {ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً} سورة النساء الآية 93. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًاءَاخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} سورة الفرقان الآيتان 68-69. وثبت في الحديث عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الكبائر أو سئل عن الكبائر فقال: الشرك بالله وقتل النفس وعقوق الوالدين، فقال ألا أنبئكم بأكبر الكبائر قال قول الزور أو قال شهادة الزور. قال شعبة وأكثر ظني أنه قال شهادة الزور) رواه البخاري. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اجتنبوا السبع الموبقات قيل يا رسول الله وما هن قال: الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل مال اليتيم وأكل الربا والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات) رواه البخاري ومسلم. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً) رواه البخاري. وروى الإمام البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: (إن من ورطات - جمع ورطة بسكون الراء وهي الهلاك - الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها سفك الدم الحرام بغير حله) . وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة) رواه مسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره … كل المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه وماله) رواه البخاري ومسلم. وعن ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (يجيء المقتول بالقاتل يوم القيامة ناصيته ورأسه بيده وأوداجه تشخب دماً يقول يا رب هذا قتلني حتى يدنيه من العرش) رواه الترمذي وقال هذا حديث حسن وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في صحيح سنن الترمذي 3/40. وغير ذلك من النصوص التي تدل على عظمة النفس المعصومة وحرمتها. وأما حفظ المال فهو من مقاصد الشارع الحكيم أيضاً، ووردت نصوص كثيرة في المحافظة عليه، فمنها قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} سورة النساء الآية 29. وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه) رواه مسلم، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا) رواه البخاري ومسلم. وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس) رواه الحاكم وابن حبان وصححاه، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لامرئ من مال أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس) رواه البيهقي بإسناد صحيح وغير ذلك من النصوص. إذا تقرر هذا فإنه لا مانع شرعاً من أخذ العطوة في الحالة التي ذكرها السائل، حتى تهدأ نفوس ذوي المقتول، ويتم التحقق من دور السائق في الحادث، لأن الضمان في حوادث السيارات فيه تفصيل عند أهل العلم، فقد يكون السائق متسبباً في الحادث فيضمن، وقد يكون الحادث قد وقع بدون تسبب من السائق ولا مباشرته فلا ضمان عليه، [قال الفقهاء: إذا كان الاصطدام بسبب قاهر أو مفاجئ كهبوب الريح أو العواصف فلا ضمان على أحد، وإذا كان الاصطدام بسبب تفريط أحد رباني السفينتين أو قائدي السيارتين كان الضمان عليه وحده، ومعيار التفريط – كما يقول ابن قدامة - أن يكون الربان – وكذلك القائد - قادراً على ضبط سفينته أو سيارته أو ردِّها عن الأخرى فلم يفعل، أو أمكنه أن يعدلها إلى ناحية أخرى فلم يفعل، أو لم يكمل آلتها من الحبال والرجال وغيرها.] الموسوعة الفقهية الكويتية 28/293. وقد بحث المجمع الفقهي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي حوادث السيارات وما يترتب عليها، وقرر ما يلي: [الحوادث التي تنتج عن تسيير المركبات تطبق عليها أحكام الجنايات المقررة في الشريعة الإسلامية، وإن كات في الغالب من قبيل الخطأ، والسائق مسؤول عما يحدثه بالغير من أضرار، سواء في البدن أم المال إذا تحققت عناصرها من خطأ وضرر ولا يعفى من هذه المسؤولية إلا في الحالات الآتية: أ- إذا كان الحادث نتيجة لقوة قاهرة لا يستطيع دفعها وتعذر عليه الاحتراز منها، وهي كل أمر عارض خارج عن تدخل الإنسان. ب– إذا كان بسبب فعل المتضرر المؤثر تأثيراً قوياً في إحداث النتيجة. ج- إذا كان الحادث بسبب خطأ الغير أو تعديه فيتحمل ذلك الغير المسؤولية ... رابعاً: إذا اشترك السائق والمتضرر في إحداث الضرر كان على كل واحد منهما تبعة ما تلف من الآخر من نفس أو مال. خامساً: أ- مع مراعاة ما سيأتي من تفصيل، فإن الأصل أن المباشر ضامن ولو لم يكن متعدياً، وأما المتسبب فلا يضمن إلا إذا كان متعدياً أو مفرِطاً. ب – إذا اجتمع المباشر مع المتسبب كانت المسؤولية على المباشر دون المتسبب إلا إذا كان المتسبب متعدياً والمباشر غير متعدٍّ. ج – إذا اجتمع سببان مختلفان كل واحد منهما مؤثر في الضرر، فعلى كل واحد من المتسببين المسؤولية بحسب نسبة تأثيره في الضرر، وإذا استويا أو لم تعرف نسبة أثر كل واحد منهما فالتبعة عليهما على السواء، والله أعلم] مجلة المجمع الفقهي عدد 8، جزء2 ص 171. وقد نص قرار المجمع الفقهي على أن السائق يعفى من المسؤولية في الحالات الآتية: أ - إذا كان الحادث نتيجة لقوة قاهرة لا يستطيع دفعها وتعذر عليه الاحتراز منها، وهي كل أمر عارض خارج عن تدخل الإنسان. ب – إذا كان بسبب فعل المتضرر المؤثر تأثيراً قوياً في إحداث النتيجة. ج - إذا كان الحادث بسبب خطأ الغير أو تعديه فيتحمل ذلك الغير المسؤولية.](17/1)
2 - تنفيذ العقوبات من اختصاص الحاكم
قول السائل: إن شخصاً قد قتل أخاه، وقد اعتقل القاتل، ثم أفرج عنه بعد مدة قصيرة لعدم كفاية الأدلة، فهل يجوز لنا شرعاً أن نقتل القاتل مع العلم أننا متأكدون من قتله لأخي، أفيدونا؟
الجواب: لا شك أن حرمة دم المسلم من أعظم الحرمات عند الله سبحانه وتعالى، ولا شك أن قتل النفس المعصومة من أكبر الكبائر، وقد وردت الأدلة الكثيرة من كتاب الله عز وجل ومن سنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم التي تدل على ذلك فمنها قوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا} سورة الإسراء الآية 33. وقوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} سورة النساء الآية 93. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًاءَاخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} سورة الفرقان الآيتان 68-69.
وثبت في الحديث عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الكبائر أو سئل عن الكبائر فقال: الشرك بالله وقتل النفس وعقوق الوالدين، فقال ألا أنبئكم بأكبر الكبائر، قال قول الزور أو قال شهادة الزور، قال شعبة وأكثر ظني أنه قال شهادة الزور) رواه البخاري. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اجتنبوا السبع الموبقات قيل يا رسول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل مال اليتيم وأكل الربا والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات) رواه البخاري ومسلم. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً) رواه البخاري ونقل الحافظ ابن حجر العسقلاني عن الشيخ ابن العربي قوله: الفسحة في الدين سعة الأعمال الصالحة حتى إذا جاء القتل ضاقت لأنها لا تفي بوزره، والفسحة في الذنب قبوله الغفران بالتوبة حتى إذا جاء القتل ارتفع القبول] فتح الباري 12/233. وروى الإمام البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: (إن من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها سفك الدم الحرام بغير حله) وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [قوله (إن من ورطات) بفتح الواو والراء، وحكى ابن مالك أنه قيد في الرواية بسكون الراء والصواب التحريك وهي جمع ورطة بسكون الراء وهي الهلاك يقال وقع فلان في ورطة أي في شيء لا ينجو منه، وقد فسرها في الخبر بقوله التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها. قوله (سفك الدم) أي إراقته والمراد به القتل بأي صفة كان، لكن لما كان الأصل إراقة الدم عبر به. قوله (بغير حله) في رواية أبي نعيم " بغير حقه " وهو موافق للفظ الآية، وهل الموقوف على ابن عمر منتزع من المرفوع فكأن ابن عمر فهم من كون القاتل لا يكون في فسحه أنه ورط نفسه فأهلكها] فتح الباري 12/233-234. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة) رواه مسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره … كل المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه وماله) رواه البخاري ومسلم. وعن ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (يجيء المقتول بالقاتل يوم القيامة ناصيته ورأسه بيده وأوداجه تشخب دماً يقول يا رب هذا قتلني حتى يدنيه من العرش) رواه الترمذي وقال هذا حديث حسن وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في صحيح سنن الترمذي 3/40. وغير ذلك من النصوص التي تدل على عظمة النفس المعصومة.
إذا ثبت هذا فإن تنفيذ العقوبات كالقصاص والحدود من اختصاص الحاكم المسلم، وليس من اختصاص الأفراد أو الجماعات أو الأحزاب أو غيرها من الجهات. قال الشيخ أبو إسحق الشيرازي: [لا يقيم الحدود على الأحرار إلا الإمام أو من فوض إليه الإمام، لأنه لم يُقمْ حدٌ على حرٍ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بإذنه، ولا في أيام الخلفاء إلا بإذنهم، ولأنه حق لله تعالى يفتقر إلى الاجتهاد، ولا يؤمن في استيفائه الحيف فلم يجز بغير إذن الإمام] المهذب 20/34. وروى الإمام البيهقي بإسناده: [عن أبي الزناد عن أبيه عن الفقهاء الذين يُنْتَهى إلى قولهم من أهل المدينة كانوا يقولون لا ينبغي لأحدٍ أن يقيم شيئاً من الحدود دون السلطان] سنن البيهقي 8/245. وقال الإمام النووي: [أما الأحكام فإنه متى وجب حد الزنا أو السرقة أو الشرب لم يجز استيفاؤه إلا بأمر الإمام، أو بأمر من فوض إليه الإمام النظر في الأمر بإقامة الحد، لأن الحدود في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وفي زمن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم لم تستوف إلا بإذنهم، ولأن استيفاءها للإمام] المجموع.
ومما يدل على أن تنفيذ العقوبات من اختصاص الدولة المسلمة مُمَثلةً بالإمام أو من يقوم مقامه، قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} سورة النور الآية 2. قال الإمام القرطبي في تفسير هذه الآية: [لا خلاف أن المخاطب بهذا الأمر الإمام ومن ناب منابه] تفسير القرطبي 12/161. وقال الإمام القرطبي أيضاً: [لا خلاف أن القصاص في القتل لا يقيمه إلا أولو الأمر الذين فرض عليهم النهوض بالقصاص وإقامة الحدود وغير ذلك، لأن الله سبحانه خاطب جميع المؤمنين بالقصاص، ثم لا يتهيأ للمؤمنين جميعاً أن يجتمعوا على القصاص، فأقاموا السلطان مقام أنفسهم في إقامة القصاص وغيره من الحدود.] تفسير القرطبي 2/ 245 - 246. وقال الإمام القرطبي أيضاً: [اتفق أئمة الفتوى على أنه لا يجوز لأحد أن يقتص من أحد حقه دون السلطان، وليس للناس أن يقتص بعضهم من بعض، وإنما ذلك للسلطان أو من نصبه السلطان لذلك، ولهذا جعل الله السلطان ليقبض أيدي الناس بعضهم عن بعض] تفسير القرطبي 2/256. وقال ابن رشد القرطبي: [وأما من يقيم هذا الحد – جلد السكران - فاتفقوا على أن الإمام يقيمه وكذلك الأمر في سائر الحدود] بداية المجتهد 2/233. وقال البهوتي الحنبلي: [ (وإقامته) أي: الحد (للإمام ونائبه مطلقاً) أي: سواء كان الحد لله تعالى كحد زنا أو لآدمي كحد قذف، لأنه يفتقر إلى الاجتهاد ولا يؤمن فيه الحيف فوجب تفويضه إلى نائب الله تعالى في خلقه. ولأنه صلى الله عليه وسلم كان يقيم الحدود في حياته وكذا خلفاؤه من بعده ويقوم نائب الإمام فيه مقامه لقوله صلى الله عليه وسلم: (واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها فاعترفت فرجمها) . وأمر برجم ماعز ولم يحضره، وقال في سارق أتي به اذهبوا به فاقطعوه] منتهى الإرادات. وقال الشيخ عبد القادر عوده تحت عنوان " من الذي يقيم الحدّ ": [من المتفق عليه بين الفقهاء أنه لا يجوز أن يقيم الحدّ إلا الإمام أو نائبه لأن الحدّ حق الله تعالى ومشروع لصالح الجماعة فوجب تفويضه إلى نائب الجماعة وهو الإمام ولأن الحدّ يفتقر إلى الاجتهاد ولا يؤمن في استيفائه من الحيف والزيادة على الواجب فوجب تركه لولي الأمر يقيمه إن شاء بنفسه أو بواسطة نائبه وحضور الإمام ليس شرطاً في إقامة الحد لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير حضوره لازماً فقال: اغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها. وأمر عليه الصلاة والسلام برجم ماعز ولم يحضر الرجم وأتي بسارق فقال: اذهبوا به فاقطعه. لكن إذن الإمام بإقامة الحدّ واجب، فما أقيم حدّ في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بإذنه وما أقيم حدّ في عهد الخلفاء إلا بإذنهم] التشريع الجنائي الإسلامي 2/444. وجاء في الموسوعة الفقهية: [اتفق الفقهاء على أنه لا يقيم الحدّ إلا الإمام أو نائبه وذلك لمصلحة العباد وهي صيانة أنفسهم وأموالهم وأعراضهم والإمام قادر على الإقامة لشوكته ومنعته وانقياد الرعية له قهراً وجبراً كما أن تهمة الميل والمحاباة والتواني منتفية عن الإقامة في حقه فيقيهما على وجهه فيحصل الغرض المشروع بيقين، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقيم الحدود وكذا خلفاءه من بعده] 17/144-145.
وخلاصة الأمر أن القتل العمد جريمة من كبائر الذنوب، وأنه موجبٌ للقصاص كما قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} سورة البقرة الآية 178، وقد اتفق أهل العلم على أن من يتولى تنفيذ العقوبة هو الحاكم المسلم أو من ينيبه، ولا يجوز لأحد من الناس أن يتولى تنفيذ العقوبات بنفسه، لأن في ذلك فتحاً لأبواب الشرور والمفاسد الكثيرة، التي لا يعلم نتائجها إلا الله عز وجل(17/2)
3 - حكم من قتل في عماة
يقول السائل: وقعت مشاجرة كبيرة بين عدد كثير من الناس وبعد انتهاء الشجار عثر على جثة شخص مقتول، ولم يعرف قاتله، فماذا يترتب على ذلك، أفيدونا؟
الجواب: إن كثرة القتل والتساهل في دماء الناس من علامات الساعة الصغرى كما ورد في الحديث عن أبي وائل قال كنت جالساً مع عبد الله وأبي موسى رضي الله عنهما فقالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن بين يدي الساعة أياماً يُرفع فيها العلم وينزل فيها الجهل ويكثر فيها الهرج، والهرج القتل) رواه البخاري ومسلم. والهرج: القتل والفتن واضطراب الأمور. وجاء في رواية أخرى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يتقارب الزمان ويقبض العلم وتظهر الفتن ويلقى الشح ويكثر الهرج قالوا وما الهرج قال: القتل) رواه مسلم. ومع الأسف فإن الناس قد تساهلوا في أمر عظيم فصار الإنسان يُقتل لأتفه الأسباب، وصارت حرمة دم المسلم لا قيمة لها، مع أن حرمة دم المسلم من أعظم الحرمات عند الله سبحانه وتعالى، وقتل النفس المعصومة من أكبر الكبائر، وقد وردت النصوص الكثيرة من كتاب الله عز وجل ومن سنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم التي تدل على ذلك فمنها قوله تعالى: {ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتل إنه كان منصوراً} سورة الإسراء الآية 33. وقوله تعالى: {ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً} سورة النساء الآية 93. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًاءَاخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} سورة الفرقان الآيتان 68-69. وثبت في الحديث عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الكبائر أو سئل عن الكبائر فقال: الشرك بالله وقتل النفس وعقوق الوالدين، فقال ألا أنبئكم بأكبر الكبائر قال قول الزور أو قال شهادة الزور قال شعبة وأكثر ظني أنه قال شهادة الزور) رواه البخاري. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اجتنبوا السبع الموبقات، قيل يا رسول الله وما هن قال: الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم لله إلا بالحق وأكل مال اليتيم وأكل الربا والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات) رواه البخاري ومسلم. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لن يزال المؤمن في فسحةٍ من دينه ما لم يُصب دماً حراماً) رواه البخاري، ونقل الحافظ ابن حجر العسقلاني عن الشيخ ابن العربي قوله: الفسحة في الدين سعة الأعمال الصالحة حتى إذا جاء القتل ضاقت لأنها لا تفي بوزره، والفسحة في الذنب قبوله الغفران بالتوبة حتى إذا جاء القتل ارتفع القبول] فتح الباري 12/233. وروى الإمام البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: (إن من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها سفك الدم الحرام بغير حله) ، وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [قوله (إن من ورطات) بفتح الواو والراء، وحكى ابن مالك أنه قيد في الرواية بسكون الراء، والصواب التحريك وهي جمع ورطة بسكون الراء وهي الهلاك يقال وقع فلان في ورطة أي في شيء لا ينجو منه، وقد فسرها في الخبر بقوله التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها. قوله (سفك الدم) أي إراقته والمراد به القتل بأي صفة كان، لكن لما كان الأصل إراقة الدم عبر به. قوله (بغير حله) في رواية أبي نعيم " بغير حقه " وهو موافق للفظ الآية، وهل الموقوف على ابن عمر منتزع من المرفوع فكأن ابن عمر فهم من كون القاتل لا يكون في فسحه أنه ورط نفسه فأهلكها] فتح الباري 12/233-234. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة) رواه مسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره … كل المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه وماله) رواه البخاري ومسلم. وعن ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (يجيء المقتول بالقاتل يوم القيامة ناصيته ورأسه بيده وأوداجه تشخب دماً يقول يا رب هذا قتلني حتى يدنيه من العرش) رواه الترمذي وقال هذا حديث حسن وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في صحيح سنن الترمذي 3/40. وقد ورد في النصوص أن حرمة دم المسلم مقدمة على حرمة الكعبة المشرفة، بل حرمة دم المسلم أعظم عند الله عز وجل من زوال الدنيا فقد ورد في الحديث عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم) رواه الترمذي وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في صحيح سنن الترمذي 2/56. وجاء في رواية أخرى عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق ولو أن أهل سماواته وأهل أرضه اشتركوا في دم مؤمن لأدخلهم الله النار) وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في صحيح الترغيب 2/629. وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالكعبة ويقول: (ما أطيبك وأطيب ريحك ما أعظمك وأعظم حرمتك والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمة منك ماله ودمه وأن نظن به إلا خيراً) رواه ابن ماجة وصححه العلامة الألباني في صحيح الترغيب 2/630. ونظر ابن عمر رضي الله عنه يوماً إلى البيت أو إلى الكعبة فقال ما أعظمك وأعظم حرمتك والمؤمن أعظم حرمة عند الله منك) رواه الترمذي.
إذا تقرر هذا فإنه إذا وجد قتيلٌ بعد مشاجرة ولم يُعرف قاتلُه، أو كان هنالك شكٌ كبيرٌ في معرفة القاتل، فلا يجوز شرعاً اتهام شخص معين بالقتل، والحكم في هذه الحال هو ما ورد في الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قُتل في عِمِّيَّة، أو رِمِّيَّة بحجر، أو سوطٍ، أو عصا فعقله عقل الخطأ. ومن قتل عمداً فهو قود. ومن حال بينه وبينه، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً) رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة والدارقطني وغيرهم بإسناد قوي كما قال الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام، وقال العلامة الألباني حديث صحيح كما في صحيح سنن النسائي حديث رقم 4456. وقوله (في عِمِّيَّة) بكسر العين وتشديد الميم والياء، وهي الأمر الذي لا يستبين وجهه. وقيل كناية عن جماعة مجتمعين على أمر مجهول لا يعرف أنه حق أو باطل. ونقل الدارقطني عن الإمام أحمد بن حنبل: العِمِّيَّا هو الأمر الأعمى للعصبية لا تستبين ما وجهه. وقال إسحاق: هذا في تحارج القوم وقتل بعضهم بعضاً. فكأن أصله من التعمية وهو التلبيس. وقال ابن الأثير في تفسير اللفظين: المعنى أن يوجد بينهم قتيل يُعمَّى أمرُه، ولا يُتبين قاتلُه فحكمه حكم قتيل الخطأ تجب فيه الدية. النهاية في غريب الحديث 3/305. وروى الدارقطني عن طاووس قال في الرجل يصاب في الرِمِّيا - بكسر وتشديد وقصر، بوزن الهجيرى من الرمي، مصدر يراد به المبالغة - في القتال بالعصا أو السوط أو الترامي بالحجارة، يودى ولا يُقتل به من أجل أنه لا يُدرى منْ قاتلُه. قال الإمام الصنعاني في شرح الحديث السابق: [ ... إنه دليل على أن من لم يُعرف قاتلُه، فإنها تجب فيه الدية وتكون على العاقلة وظاهره من غير أيمان قسامة، وقد اختلف في ذلك: فقالت الهادوية إن كان الحاضرون الذين وقع بينهم القتل منحصرين لزمت القسامة وجرى فيها حكمها من الأيمان والدية، وإن كانوا غير منحصرين لزمت الدية في بيت المال، وقال الخطابي: اختلف هل تجب الدية في بيت المال، أو لا؟ قال إسحاق بالوجوب، وتوجيهه من حيث المعنى أن مسلمٌ مات بفعل قوم من المسلمين، فوجبت ديته في بيت مال المسلمين، وذهب الحسن إلى أن ديته تجب على جميع من يحضر، وذلك لأنه مات بفعلهم، فلا تتعداهم إلى غيرهم، وقال مالك إنه يهدر؛ لأنه إذا لم يوجد قاتله بعينه استحال أن يؤخذ به أحد. وللشافعي قول إنه يقال لوليه ادع على من شئت واحلف، فإن حلف استحق الدية، وإن نكل حلف المدعى عليه على النفي وسقطت المطالبة، وذلك لأن الدم لا يجب إلا بالطلب، وإذا عرفت هذا الاختلاف وعدم المستند القوي في أي هذه الأقوال، وقد عرفت أن سند الحديث قوي كما قاله المصنف علمت أن القول به أولى الأقوال] سبل السلام 5/388. وما رجحه الإمام الصنعاني هو الراجح لقوة دليله، فمن وجد مقتولاً بعد مشاجرة ولا يعرف قاتله، ففيه دية قتل الخطأ وتقسم الدية على من حضر الشجار وعلى عواقلهم، ولا يجوز شرعاً تحميل شخص بعينه القتل ما دام أنه لم يثبت أنه قاتل، وأمر القاتل إلى الله كما ورد عن عمر بن عبد العزيز أنه كُتب إليه في رجلٍ وجد قتيلاً لم يُعرف قاتله فكتب إليهم أن من القضايا قضايا لا يُحكم فيها إلا في الدار الآخرة وهذا منها. المغني 10/7.
وخلاصة الأمر أن حرمة المسلم حرمة عظيمة، و {أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} سورة المائدة الآية 32، وأن حرمة دم المسلم أعظم عند الله عز وجل من حرمة الكعبة، وأن تساهل الناس في أيامنا هذه في القتل بغير حق من علامات الساعة الصغرى، وأن من وجد مقتولاً بعد مشاجرة ولا يُعرف قاتلُه، ففيه دية قتل الخطأ وتقسَّم الدية على من حضر الشجار وعلى عواقلهم، ولا يجوز شرعاً تحميل شخص بعينه القتل ما دام أنه لم يثبت أنه قاتل.(17/3)
4 - تعجيل العقوبة في الدنيا لبعض المعاصي والذنوب
يقول السائل: هلاّ وضحتم لنا مسألة تعجيل العقوبة للمذنب في الدنيا، أفيدونا؟
الجواب: اقتضت حكمة الله عز وجل أن يعجل عقوبة بعض الذنوب في الدنيا، وقد يكون ذلك من باب الاعتبار والاتعاظ بما يصيب العصاة كما هو الحال في الظالمين وقاطعي الأرحام وحالفي الأيمان الكاذبة، وقد يكون تعجيل العقوبة من باب إرادة الخير بالمؤمن لأن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة وتفصيل ذلك كما يلي: إن تعجيل العقوبة في الدنيا ثابت في مجموعة من الأحاديث، فمن ذلك ما ورد في تعجيل عقوبة المستهزئ بالسنة النبوية فقد ورد في الحديث عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه: أن رجلاً أكل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بشماله، فقال صلى الله عليه وسلم: (كل بيمينك) قال: لا أستطيع. قال صلى الله عليه وسلم: (لا استطعت) ما منعه إلا الكبر، فما رفعها إلى فيه- فمه -، أي شلت يده. رواه مسلم. فهذا الرجل لما أمره النبي صلى الله عليه وسلم بالأكل بيمنه لم يعجبه ذلك تكبراً على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا عليه فشلت يده.
ومن ذلك أيضاً ما ورد عن أبى هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (بينما رجل يتبختر يمشى في برديه قد أعجبته نفسه فخسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة) رواه مسلم.
ومن الذنوب التي قد يعجل الله عقوبتها في الدنيا الظلم والبغي وقطيعة الرحم فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس شيء أُطيعَ الله فيه، أعجل ثواباً من صلة الرحم، وليس شيء أعجل عقاباً من البغي وقطيعة الرحم واليمين الفاجرة تدع الديار بلاقع) رواه البيهقي وصححه العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة 2/706، وبلاقع، جمع بلقع وبلقعة، وهي الأرض القفر التي لا شجر فيها، ذكره الزبيدي ونقل عن بعض العلماء، أن معنى الحديث [أي يفتقر الحالف ويذهب ما في بيته من المال، أو يفرق الله شمله ويغيّر ما أولاه من نعمة] تاج العروس 11/30. وفي رواية أخرى: (إن أعجل الطاعة ثواباً صلة الرحم، وإن أهل البيت ليكونون فجاراً، فتنمو أموالهم، ويكثر عددهم، إذا وصلوا أرحامهم، وإن أعجل المعصية، عقوبة البغي والخيانة، واليمين الغموس يذهب المال ويثقل في الرحم، ويذر الديار بلاقع) رواه الطبراني في الأوسط وقال العلامة اللباني: إنه صحيح بمجموع طرقه وشواهده. وعن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اليمين الفاجرة تذهب المال) رواه البزار بسند صحيح، كما قال ابن حجر الهيتمي في الزواجر عن اقتراف الكبائر 2/404. وجاء في الحديث أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من ذنب أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخره في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح.
ومن الذنوب التي قد يعجل الله عقوبتها في الدنيا حلف اليمين الكاذب ليستحل دماء الناس وأموالهم، كما ثبت في صحيح البخاري في الحادثتين التاليتين: الأولى: روى الإمام البخاري بسنده، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (إن أول قسامة كانت في الجاهلية، لفينا بني هاشم، كان رجل من بني هاشم استأجره رجل من قريش، من فخِذٍ أخرى، فانطلق معه في إبله فمر به رجل من بني هاشم قد انقطعت عروة جوالقه، فقال: أغثني بعقال أشد به عروة جوالقي لا تنفر الإبل فأعطاه عقالاً، فشد به عروة جوالقه، فلما نزلوا، عقلت الإبل إلا بعيراً واحداً، فقال الذي استأجره: ما شأن هذا البعير لم يعقل من بين الإبل؟ قال: ليس له عقال، قال: فأين عقاله؟ قال: فحذفه بعصاً كان فيها أجله، فمر رجل به من أهل اليمن فقال: أتشهد الموسم؟ قال: ما أشهد، وربما شهدته، قال: هل أنت مبلغ عني رسالة مرة من الدهر؟ قال: نعم، قال: فكتب، إذا أنت شهدت الموسم فناد يا آل قريش، فإذا أجابوك فناد يا آل بني هاشم، فإن أجابوك، فسل عن أبي طالب، فأخبره أن فلاناً قتلني في عقال، ومات المستأجَر، فلما قدم الذي استأجره، أتاه أبو طالب فقال: ما فعل صاحبنا؟ قال مرض فأحسنت القيام عليه، فوليت دفنه، قال: قد كان أهل ذاك منك فمكث حيناً، ثم إن الرجل الذي أوصى إليه أن يبلغ عنه، وافى الموسم فقال: يا آل قريش، قالوا هذه قريش، قال يا بني هاشم، قالوا: هذه بنو هاشم، قال: من أبو طالب؟ قالوا: هذا أبو طالب، قال: أمرني فلان أن أبلغك رسالة، أن فلاناً قتله في عقال، فأتاه أبو طالب فقال له: إختر منا إحدى ثلاث، إن شئت أن تؤدي مائة من الإبل، فإنك قتلت صاحبنا وإن شئت، حلف خمسون من قومك، أنك لم تقتله، فإن أبيت، قتلناك به، فأتى قومه، فقالوا نحلف، فأتته امرأة من بني هاشم كانت تحت رجل منهم قد ولدت له، فقالت: يا أبا طالب، أحب أن تجيز أبني هذا برجل من الخمسين ولا تصبر يمينه حيث تصبر الأيمان، ففعل، فأتاه رجل منهم فقال: يا أبا طالب، أردت خمسين رجلاً أن يحلفوا مكان مئة من الإبل، يصيب كل رجل بعيران، هذان بعيران فاقبلهما مني ولا تصبر يميني حيث تصبر الأيمان فقبلهما، وجاء ثمانية وأربعون، فحلفوا، قال ابن عباس: فالذي نفسي بيده ما حال الحول ومن الثمانية وأربعين عين تطرف) .
الثانية: روى الإمام البخاري بسنده عن أبي قلابة حديثاً طويلاً وفيه: (وقد كانت هذيل خلعوا خليعاً لهم في الجاهلية، فطرق أهل بيت من اليمن بالبطحاء، فانتبه له رجل منهم، فحذفه بالسيف فقتله، فجاءت هذيل فأخذوا اليماني، فرفعوه إلى عمر بالموسم وقالوا: قتل صاحبنا، فقال: إنهم قد خلعوه، فقال: يقسم خمسون من هذيل ما خلعوه، قال: فأقسم منهم تسعة وأربعون رجلاً، وقدم رجل منهم من الشام، فسألوه أن يقسم، فافتدى يمينه منهم بألف درهم، فأدخلوا مكانه رجلاً آخر، فدفعه إلى أخي المقتول، فقرنت يده بيده، قالوا فانطلقنا والخمسون الذين أقسموا حتى إذا كانوا بنخلة أخذتهم السماء -أي المطر- فدخلوا في غار في الجبل، فانهجم الغار على الخمسين الذين أقسموا، فماتوا جميعاً وأفلت القرينان وأتبعهما حجر فكسر رجل أخي المقتول فعاش حولاً ثم مات) .
ومن الذنوب التي يخشى أن يعجل الله عز وجل عقوبتها في الدنيا سب العلماء وأكل لحومهم كما قال الحافظ ابن عساكر يرحمه الله: [اعلم يا أخي وفقني الله وإياك لمرضاته وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته أن لحوم العلماء مسمومة وعادة الله في هتك منتقصيهم معلومة وأن من أطلق لسانه في العلماء بالثلب بلاه الله قبل موته بموت القلب (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) ] .
وأما كون تعجيل العقوبة في الدنيا من باب الخير للمؤمن فقد ورد في الحديث عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أراد الله بعبده الخير عجَّل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافيه به يوم القيامة) رواه الترمذي وقال العلامة الألباني حسن صحيح. وهذا التعجيل رحمة بالمؤمن لأن عذاب الآخرة أشد وأبقى كما قال تعالى: {ولعذاب الآخرة أشد وأبقى} سورة طه الآية 127. وصح في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للمتلاعنين: (إن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة) رواه البخاري ومسلم.
وأخيراً ينبغي التنبيه على أنه لا يجوز للمسلم أن يتمنى تعجيل العقوبة في الدنيا ولا يجوز له أن يدعو الله أن يعجل له عقوبة الذنوب في الدنيا قبل الآخرة بل ذلك من فعل الكفرة كما قال تعالى: {وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب} سورة ص الآية 16. وقال تعالى: {وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذابٍ أليم} سورة الأنفال الآية 32. وصح في الحديث عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد رجلاً من المسلمين قد خفت – أي ضعف - فصار مثل الفرخ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هل كنت تدعو بشيء أو تسأله إياه) قال نعم كنت أقول اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سبحان الله لا تطيقه - أو لا تستطيعه - أفلا قلت اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار قال فدعا الله له فشفاه.) رواه مسلم.
وخلاصة الأمر أن الله قد يعجل عقوبة بعض الذنوب كما في عقوبة الظالم فإن الله يمهل ولا يهمل وكما هو الحال في قاطع الرحم والعاق لوالديه وآكل حقوق الناس والمعتدي عليهم بيمينه الكاذب، وقد يكون تعجيل العقوبة في الدنيا رحمة بالمؤمنين لأن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، أجارنا الله وإياكم منه.(17/4)
5 - عقوبة الزاني بمحرم وكفارة ذلك
يقول السائل: إن الشيطان قد أغواه فوقع في الزنا مع خالته فما هي العقوبة الشرعية لهذه المعصية وما كفارة ذلك، أفيدونا؟
الجواب: الزنا بالمحارم من أفحش الزنا وأقبحه لما فيه من انتهاكٍ لحرمات الله، يقول الله سبحانه وتعالى: (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا) سورة الإسراء الآية 32. قال الشيخ ابن حجر المكي الهيتمي: [وأعظم الزنا على الإطلاق الزنا بالمحارم.] الزواجر عن اقتراف الكبائر 2/301.
وقد نص أهل العلم على تفاوت إثم الزنا كما هو الحال فيمن يزني بزوجة جاره وكذا من يزني بإحدى محارمه، ويدل عليه ما ورد في الحديث عن المقداد بن الأسود رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: ما تقولون في الزنا؟ قالوا: حرَّمه الله ورسوله فهو حرام إلى يوم القيامة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لأن يزني الرجل بعشرة نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره. فقال ما تقولون في السرقة؟ قالوا حرَّمها الله ورسوله فهي حرام قال لأن يسرق الرجل من عشرة أبيات أيسر عليه من أن يسرق من جاره.) رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط ورجاله ثقات، كما قال الهيثمي في مجمع الزوائد 8/168، وصححه العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة 1/96.
وجاء في الموسوعة الفقهية الكويتية: [يتفاوت إثم الزنا ويعظم جرمه بحسب موارده. فالزنا بذات المحرم أو بذات الزوج أعظم من الزنا بأجنبية أو من لا زوج لها, إذ فيه انتهاك حرمة الزوج, وإفساد فراشه, وتعليق نسب عليه لم يكن منه, وغير ذلك من أنواع أذاه. فهو أعظم إثماً وجرماً من الزنا بغير ذات البعل والأجنبية. فإن كان زوجها جاراً انضم له سوء الجوار. وإيذاء الجار بأعلى أنواع الأذى, وذلك من أعظم البوائق, فلو كان الجار أخاً أو قريباً من أقاربه انضم له قطيعة الرحم فيتضاعف الإثم. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه) . ولا بائقة أعظم من الزنا بامرأة الجار. فإن كان الجار غائباً في طاعة الله كالعبادة, وطلب العلم, والجهاد, تضاعف الإثم، حتى إن الزاني بامرأة الغازي في سبيل الله يوقف له يوم القيامة, فيأخذ من عمله ما شاء. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حرمة نساء المجاهدين على القاعدين كحرمة أمهاتهم, وما من رجل من القاعدين يخلف رجلاً من المجاهدين في أهله يخونه فيهم, إلا وُقِفَ له يوم القيامة فيأخذ من عمله ما شاء، فما ظنكم؟) - رواه مسلم - أي: ما ظنكم أن يترك له من حسناته؟ قد حكم في أنه يأخذ ما شاء على شدة الحاجة إلى حسنة واحدة, فإن اتفق أن تكون المرأة رحماً له انضاف إلى ذلك قطيعة رحمها, فإن اتفق أن يكون الزاني محصناً كان الإثم أعظم, فإن كان شيخاً كان أعظم إثماً وعقوبةً, فإن اقترن بذلك أن يكون في شهر حرام, أو بلد حرام, أو وقت معظم عند الله كأوقات الصلوات وأوقات الإجابة تضاعف الإثم.] الموسوعة الفقهية الكويتية 24/20. وقد وردت عدة أحاديث في الزنا بالمحارم منها: عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: (بينما أنا أطوف على إبل لي ضلت إذ أقبل ركب أو فوارس معهم لواء فجعل الأعراب يطيفون بي لمنزلتي من النبي صلى الله عليه وسلم إذ أتوا قبة فاستخرجوا منها رجلاً فضربوا عنقه فسألت عنه فذكروا أنه أعرس بامرأة أبيه) رواه أبو داود في باب الرجل يزني بحريمه، وصححه العلامة الألباني في إرواء الغليل 121/8. وفي صحيح سنن أبي داود 3/844. وفي رواية أخرى عن البراء رضي الله عنه قال: (لقيت عمي ومعه راية فقلت له أين تريد قال بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل نكح امرأة أبيه فأمرني أن أضرب عنقه وآخذ ماله) رواه أبو داود، وصححه العلامة الألباني في إرواء الغليل 18/8. وفي صحيح سنن أبي داود 3/844. وجاء في رواية ثالثة عن البراء رضي الله عنه قال: (مر بي خالي ... وقد عقد له النبي صلى الله عليه وسلم لواءً فقلت له أين تريد؟ فقال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه من بعده فأمرني أن أضرب عنقه) رواه أحمد وابن ماجة وصححه العلامة الألباني في إرواء الغليل 8/20. وفي صحيح سنن ابن ماجة 2/90. وروي في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من وقع على ذات محرم فاقتلوه) رواه أحمد والترمذي وابن ماجة والحاكم، وقال: صحيح ولم يخرجاه. ولكن الحديث ضعيف عند المحققين من المحدثين، انظر إرواء الغليل 8/22-23.
وقد أخذ بمقتضى هذه الأحاديث جماعة من أهل العمل فقالوا بقتل من زنى بإحدى محارمه، قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [اختلف في الحد فروي عن أحمد أنه يقتل على كل حال، وبهذا قال جابر بن زيد واسحاق وأبو أيوب وابن خيثمة وروى إسماعيل بن سعيد عن أحمد في رجل تزوج امرأة أبيه أو بذات محرم فقال: يقتل ويؤخذ ماله إلى بيت المال] المغني 9/56.
وجمهور الفقهاء على أن الزاني بإحدى محارمه كالزاني بأجنبية، قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [والرواية الثانية: حده حد الزاني وبه قال الحسن ومالك والشافعي لعموم الآية والخبر] المغني9/56.
والقول الأول أرجح من حيث الدليل قال الشيخ ابن قدامة المقدسي بعد أن ذكر الأحاديث السابقة: [وهذه الأحاديث أخص مما ورد في الزنا فتُقدم] المغني 9/56. وقال العلامة ابن القيم [فصلٌ في حكمه صلى الله عليه وسلم فيمن تزوج امرأة أبيه
روى الإمام أحمد والنسائي وغيرهما: عن البراء رضي الله عنه قال لقيت خالي أبا بردة ومعه الراية فقال أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه أن أقتله وآخذ ماله وذكر ابن أبي خيثمة في " تاريخه " من حديث معاوية بن قرة عن أبيه عن جده رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى رجل أعرس بامرأة أبيه فضرب عنقه وخمس ماله قال يحيى بن معين: هذا حديث صحيح. وفي " سنن ابن ماجه " من حديث ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من وقع على ذات محرم فاقتلوه وذكر الجوزجاني أنه رفع إلى الحجاج رجل اغتصب أخته على نفسها فقال احبسوه وسلوا من هاهنا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوا عبد الله بن أبي مطرف رضي الله عنه فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من تخطى حرم المؤمنين فخطوا وسطه بالسيف، وقد نص أحمد في رواية إسماعيل بن سعيد في رجل تزوج امرأة أبيه أو بذات محرم فقال يقتل ويدخل ماله في بيت المال. وهذا القول هو الصحيح وهو مقتضى حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال الشافعي ومالك وأبو حنيفة: حده حد الزاني ثم قال أبو حنيفة إن وطئها بعقد عزر ولا حد عليه وحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقضاؤه أحق وأولى.] زاد المعاد5/14-16. وقد اختار هذا القول العلامة الشيخ محمد العثيمين كما في الشرح الممتع 11/121، ورجحه أيضاً الدكتور عبد الكريم زيدان كما في المفصل في أحكام المرأة 5/134.
إذا تقرر هذا فإن تطبيق العقوبات الشرعية من حق الإمام والدولة المسلمة، وقد غاب في زماننا تطبيق الحدود، فإن الواجب على من زنى بإحدى محارمه أن يتوب إلى الله تعالى توبة صادقة يقول الله سبحانه وتعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} سورة التحريم الآية 8. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} سورة الفرقان الآيات 68-70. وقال الله تعالى {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} سورة الزمر الآيتان 53 - 54.
وخلاصة الأمر أن الزنا بالمحارم من كبائر الذنوب وهو من أقبح الزنا على الإطلاق، وعقوبة من يفعل ذلك القتل مطلقاً سواء أكان محصناً أو غير محصن، ونظراً لعدم تطبيق الحدود حالياً فالواجب على من وقع في ذلك أن يستتر وعليه التوبة الصادقة بشروطها، وهذه هي كفارة ذنبه الفظيع.(17/5)
6 - الصلح على أكثر من الدية في القتل العمد
يقول السائل: قُتل رجلٌ ظلماً وعدواناً وكما تعلمون أن القصاص معطل في وقتنا الحاضر فتصالح أهل المقتول مع جماعة القاتل على دفع أكثر من الدية المقررة شرعاً فما الحكم في ذلك، أفيدونا؟
الجواب: لا شك أن حرمة دم المسلم من أعظم الحرمات عند الله سبحانه وتعالى وقتل النفس المعصومة عمداً من أكبر الكبائر وقد وردت النصوص الكثيرة من كتاب الله عز وجل ومن سنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم التي تدل على ذلك فمنها قوله تعالى: ?وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا? سورة الإسراء الآية 33. وقوله تعالى: ?وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا? سورة النساء الآية 93. وقال تعالى: ?وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًاءَاخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا? سورة الفرقان الآيتان 68-69. وثبت في الحديث عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الكبائر أو سئل عن الكبائر فقال الشرك بالله وقتل النفس وعقوق الوالدين فقال ألا أنبئكم بأكبر الكبائر قال قول الزور أو قال شهادة الزور قال شعبة وأكثر ظني أنه قال شهادة الزور) رواه البخاري. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اجتنبوا السبع الموبقات قيل يا رسول الله وما هن قال الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل مال اليتيم وأكل الربا والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات) رواه البخاري ومسلم. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً) رواه البخاري ونقل الحافظ ابن حجر العسقلاني عن الشيخ ابن العربي قوله: الفسحة في الدين سعة الأعمال الصالحة حتى إذا جاء القتل ضاقت لأنها ل تفي بوزره، والفسحة في الذنب قبوله الغفران بالتوبة حتى إذا جاء القتل ارتفع القبول] فتح الباري 12/233. 234. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة) رواه مسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره … كل المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه وماله) رواه البخاري ومسلم. وعن ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (يجيء المقتول بالقاتل يوم القيامة ناصيته ورأسه بيده وأوداجه تشخب دماً يقول يا رب هذا قتلني حتى يدنيه من العرش) رواه الترمذي وقال هذا حديث حسن وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في صحيح سنن الترمذي 3/40. وورد في الحديث عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم) رواه الترمذي وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في صحيح سنن الترمذي 2/56. وجاء في رواية أخرى عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق ولو أن أهل سماواته وأهل أرضه اشتركوا في دم مؤمن لأدخلهم الله النار) وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في صحيح الترغيب 2/629.
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالكعبة ويقول: (ما أطيبك وأطيب ريحك ما أعظمك وأعظم حرمتك والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمة منك ماله ودمه وأن نظن به إلا خيراً) رواه ابن ماجة وصححه العلامة الألباني في صحيح الترغيب 2/630.
إذا تقرر هذا فقد اتفق أهل العلم على وجوب القصاص في حق القاتل عمداً لقوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى} سورة البقرة الآية 178. وجمهور الفقهاء يرون جواز قبول الدية بعد إسقاط حق أولياء القتيل في القصاص وهذا قول الحنابلة وبعض الشافعية وهو رواية عن الإمام مالك وبه قال أهل الظاهر وروي عن جماعة من فقهاء التابعين كسعيد بن المسيب ومحمد بن سيرين وعطاء ومجاهد، وهذا أرجح أقوال الفقهاء في المسألة ويدل عليه قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم} سورة البقرة، الآية 178. روى الإمام البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى: {فمن عفي له من أخيه شيء} قال: فالعفو أن يقبل الدية في العمد] صحيح البخاري مع الفتح 8/221. ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (من قتل له قتيل فهو بخير النظرين إما أن يودي وإما أن يقاد) رواه البخاري ومسلم.
وبناءً على ما سبق فإنه يجوز لأولياء القتيل أن يصلحوا على أكثر من الدية على الراجح من قولي العلماء في المسألة وهو قول جمهور الفقهاء، قال الشيخ ابن قدامة المقدسي [إن من له القصاص له أن يصالح عنه بأكثر من الدية وبقدرها وأقل منها ,، لا أعلم فيه خلافاً] المغني 8/363.
ويدل على ذلك قوله تعالى { ... فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة} سورة البقرة، الآية 178.
وورد في الحديث عن عائشة رضي الله عنها (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا جهم بن حذيفة مصدقاً- وهو من يجمع أموال الزكاة - فلاجَّه رجل في صدقته فضربه أبو جهم فشجه فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: القود يا رسول الله فقال: لكم كذا وكذا فلم يرضوا فقال: لكم كذا وكذا فرضوا فقال: إني خاطب على الناس ومخبرهم برضاكم قالوا: نعم فخطب فقال إن هؤلاء الذين أتوني يريدون القود فعرضت عليهم كذا وكذا فرضوا أفرضيتم قالوا: لا فهم المهاجرون بهم فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكفوا عنهم فكفوا ثم دعاهم فزادهم فقال: أفرضيتم قالوا: نعم قال: إني خاطب على الناس ومخبرهم برضاكم قالوا: نعم فخطب فقال: أرضيتم فقالوا: نعم) . رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة وصححه العلامة الألباني كما في صحيح سنن النسائي 3/990. قال صاحب عون المعبود: [وفي هذا الحديث من الفقه ... وجواز إرضاء المشجوج بأكثر من الدية في الدية إذا طلب المشجوج القصاص] 12/172. ومما يدل على جواز الصلح على أكثر من الدية ما ورد في الحديث عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من قتل عمداً دفع إلى أولياء المقتول فإن شاءوا قتلوا وإن شاءوا أخذوا الدية ثلاثين حقة، وثلاثين جذعة وأربعين خلفة- أي حاملة - وما صولحوا عليه فهو لهم وذلك لتشديد القتل) رواه الترمذي وحسنه ورواه ابن ماجة أيضاً وحسنه العلامة الألباني كما في صحيح سنن الترمذي 2/54.
فهذا الحديث يدل على جواز الصلح في الدماء بأكثر من الدية كما قال الشوكاني في نيل الأوطار 5/292.
وقال الشيخ محمد الشنقيطي [وإن حصل صلح فيجوز أن يصالح على أكثر من الدية وفي هذا قصة هدبة المعروفة أنه قتل رجلاً وكان الرجل المقتول أولياؤه يتامى قاصرون منهم ابن المقتول فانتظر حتى بلغ الإبن حبس هدبة ووقعت الحادثة في زمان معاوية رضي الله عنه فحبس فشفع سعيد بن العاص، وكذلك الحسن والحسين رضي الله عنهم شفعوا من أجل أن يسامح ولي المقتول وبذلوا لابن القتيل سبع ديات حتى يسامح وامتنع إلا القتل فقتل به، والشاهد في كون الصحابة بذلوا أكثر من الدية فاجتمع طبعاً دليل السُّنة ودليل الأثر عن الصحابة، وعلى هذا جمهور العلماء رحمهم الله على أنه يجوز في الصلح عن الديات بأكثر من الدية] عن الإنترنت وقد ذكر الحادثة الشيخ ابن قدامة المقدسي في المغني 8/363.
وخلاصة الأمر أنه يجوز تصالح أولياء المقتول مع جماعة القاتل عمداً على أكثر من الدية، وأرى أنه ينبغي التشديد مالياً على القاتل عمداً في زماننا هذا، نظراً لتعطل القصاص لعل ذلك يكون رادعاً للناس عن القتل عمداً.(17/6)
7 - حكم اليمين والخمسة المعمول بها في القضاء العشائري
يقول السائل: ما قولكم فيما يسمى باليمين والخمسة في القضاء العشائري، وهل هو معتبر في شريعتنا الإسلامية، أفيدونا؟
الجواب: ما يعرف بالقضاء العشائري هو في الحقيقة قضاء بالعرف وهو كما يقول المهتمون به: [مجموعةٌ من القوانين والأعراف المتداولة والمتعارف عليها، والتي تحوي خلاصة تجارب السنين، وما مرَّ به المجتمع البدوي من أمور ومشاكل، تكرَّر حدوثها حتى وجد الناس لها حلولاً رضوا عنها، وصاروا يتعاملون بها حتى ثبتت وأصبحت دستوراً يتعامل به الناس ويسيرون وفق نظامه وتعاليمه. وهذا القانون قابل للتعديل والإضافة، ليتماشى مع كلّ عصر وفق بيئته وظروفه.] عن شبكة الإنترنت.
ولا شك أن للعرف العشائري جوانب إيجابية في المجتمع، حيث يلجأ الناس لرجال العشائر في الحوادث وخاصة حوادث القتل ولهم دور خاص في تهدئة النفوس عند حصول حوادث القتل بأخذ ما يعرف بالعطوة، ولكن هنالك أموراً كثيرة في الأعراف العشائرية مخالفة لشرع الله عز وجل يحرم الحكم بها.
وأما اليمين بخمسة ويسمى أيضا يمين دين بخمسة وهو عادة وعرف عشائري يلجأ إليه في حال عدم توفير الأدلة التي تدين المتهم، ويطلب من الشخص المتهم وخمسة من حمولته أن يزكوا يمينه بأنه صادق فيما حلف، ويؤخذ يمين دين بخمسة في قضايا العرض وقضايا الدم وقضايا الأرض وفي المعاملات التي تزيد قيمتها عن ألف دينار (ثمن بعير) . [ويقول قضاة العشائر: اليمين بخمسة إما في الرقبة أو في المال الذي يعدل الرقبة والعرض والأرض وكل تهمة قد تصل إلى حدود ذلك فيحق للمدعي أن يطالب بهذه اليمين، ويقوم المدعي باختيار خمسة أشخاص ثقات من أهل الدين من عصبة المتهم نفسه فيأتون عند القاضي العشائري فيقرأ القاضي صيغة القسم على مسمعهم وصيغته: " والله العظيم الذي ما أعظم منه عظيم إني بريء فيما اتهمت فيه، وأني لا بآلي ولا بأعلم – أي ليس عندي علم ولا دراية - ولا لي هبّة ولا سبّة " – الهبة والسبة: أني لم أحرض أحداً ولم أتسبب في شيء مما جرى - ثم يقوم الأربعة بالتتالي فيقول كل واحد منهم: وأنا أشهد بالله العظيم أنه صادق فيما قال. فإذا حلف المتهم وزكى له الأربعة فعندها تنتهي القضية بالنسبة للمتهم أما إذا تراجع واحد منهم عن اليمين أو رفض الحلف أصلاً فيكون المته قد وقع في الحرج وخسر القضية] القضاء العشائري في بئر السبع ص 127 بتصرف. ويجب أن يعلم أولاً أن العرف له اعتبار في الشرع كما هو مذهب كثير من العلماء، قال العلامة ابن عابدين الحنفي في منظومته:
والعرف له اعتبار فلذا الحكم عليه قد يدار
انظر نشر العرف في بناء بعض الأحكام على العرف في الجزء الثاني من رسائل العلامة ابن عابدين ص112.
ولكن لا يعتبر العُرف في الشرع إلا بشروط هي: الشرط الأول: أن يكون العرف عاماً أو غالباً.
الشرط الثاني: أن يكون العرف مطرداً أو أكثرياً.
الشرط الثالث: أن يكون العرف موجوداً عند إنشاء التصرف.
الشرط الرابع: أن يكون العرف ملزماً؛ أي: يتحتم العمل بمقتضاه في نظر الناس.
الشرط الخامس: أن يكون العرف غير مخالف لدليل معتمد.
الشرط السادس: أن يكون العرف غير معارض بعُرف آخر في نفس البلد.
فإذا توفرت هذه الشروط فإن العرف حجة ... ] الجامع في أصول الفقه
إذا تقرر هذا فإن اليمين والخمسة وسيلة محرمة في شرعنا ولا يجوز التعامل معها لمخالفتها أدلة الشرع المعتبرة بشكل عام، وليست من طرق الإثبات المعتبرة في القضاء الشرعي لما يلي:
أولاً: من المعلوم عند العلماء أنه إذا تعذر على المدعي تقديم بينة بدعواه فإن اليمين تتوجه للمدعى عليه لما ورد في الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لو يعطى الناس بدعواهم لادَّعى رجال أموال قوم ودمائهم، لكن البينة على المدعي واليمين على من أنكر) رواه البيهقي وأصله في الصحيحين وهو حديث حسن. والذي يطالب بالحلف هو الشخص المدعى عليه ولا يجوز لأحد أن يحلف نيابة عنه، ولا تزر وازرة وزر أخرى. ويدل على ذلك أيضا ما ورد في الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما (أن رجلين اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأل النبي صلى الله عليه وسلم الطالب، البينة فلم تكن له بينة فاستحلف المطلوب فحلف بالله الذي لا إله إلا هو فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بلى قد فعلت ولكن قد غفر لك بإخلاص قول لا إله إلا الله) رواه أحمد وأبو داود، وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في صحيح سنن أبي داود 2/631.
ثانياً: إذا نكل واحد من الخمسة عن اليمين لأي سبب من الأسباب فإن التهمة تثبت على المدعى عليه، وهذا ظلم واضح وإدانة للمتهم بدون حجة ولا برهان.
ثالثاً: إذا حلف الخمسة وهم لم يحضروا الحادثة فشهادتهم شهادة زور وهي من كبائر الذنوب، قال الله تعالى {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} سورة الحج الآية 30. وقد ثبت في الحديث عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاثاً، الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور أو قول الزور، وكان رسول الله متكئاً فجلس، فما زال يكررها حتى قلنا يا ليته سكت) رواه البخاري ومسلم.
وخلاصة الأمر أن اليمين والخمسة المستعملة في الإثبات في الأعراف العشائرية وسيلة باطلة شرعاً، ويحرم استخدامها ويمكن تعديلها فيحلف الخمسة أنهم مثلاً ما علموا على المتهم أنه قام بما اتهم به ونحو ذلك.(17/7)
8 - عاقلة المرأة
يقول السائل: دهست امرأة شخصاً عن طريق الخطأ فمات وألزمت المرأة بالدية فهل زوج المرأة ملزم بتحمل الدية، أفيدونا؟
الجواب: اتفق أهل العلم على أن موجب القتل الخطأ أمران: أولهما الدية والثاني الكفارة ويدل على ذلك قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} سورة النساء الآية 92. والدية الشرعية تقدر بألف دينار ذهبي وتساوي في أيامنا هذه أربعة آلاف ومئتان وخمسون غراماً من الذهب عيار 24 قيراطاً، وأما الكفارة فهي صيام شهرين متتابعين نظراً لفقدان الرقاب في أيامنا هذه، حيث إن كفارة القتل على الترتيب وليست على التخيير.
واتفق العلماء على أن الدية في القتل الخطأ تكون على عاقلة القاتل، وأصل ذلك ما ورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى أن دية جنينها غرة عبد أو وليدة وقضى أن دية المرأة على عاقلتها) رواه البخاري، وفي رواية عند مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن دية جنينها غرة عبد أو وليدة وقضى بدية المرأة على عاقلتها وورثها ولدها ومن معهم فقال حمل بن النابغة الهذلي يا رسول الله كيف أغرم من لا شرب ولا أكل ولا نطق ولا استهل فمثل ذلك يطل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما هذا من إخوان الكهان من أجل سجعه الذي سجع) . والعاقلة هم العصبة، قال الشيخ ابن قدامة المقدسي [العاقلة: من يحمل العقل. والعقل: الدية، تسمى عقلاً؛ لأنها تعقل لسان ولي المقتول. وقيل: إنما سميت العاقلة، لأنهم يمنعون عن القاتل ... ولا خلاف بين أهل العل في أن العاقلة العصبات، وأن غيرهم من الإخوة من الأم، وسائر ذوي الأرحام، والزوج، وكل من عدا العصبات، ليس هم من العاقلة] المغني 8/390.
ويدخل في العاقلة أب القاتل وجده لأبيه وأبناؤه، وإخوته وأبناؤهم، وعمومته وأبناؤهم، وهذا مذهب جمهور الفقهاء، انظر المغني 8/390- 391. وبما أن المرأة المذكورة في السؤال قد قتلت المدهوس خطأً، فالدية على عاقلتها، وقد ورد في إحدى روايات حديث أبي هريرة رضي الله عنه السابق قال (قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنين امرأة من بني لحيان سقط ميتاً بغرة عبد أو أمة ثم إن المرأة التي قضى لها بالغرة توفيت فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن ميراثها لبنيها وزوجها وأن العقل على عصبتها) رواه البخاري. ولا يدخل في العصبة زوج المرأة ولا ابنها إلا إذا كانا من عصبتها كالمرأة المتزوجة من ابن عمها فزوجها وأولادها حينئذ من عصبتها، قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [ ... قال ابن بطال: يريد أن ولد المرأة إذا لم يكن من عصبتها لا يعقل عنها لأن العقل على العصبة دون ذوي الأرحام ولذلك لا يعقل الإخوة من الأم، قال: ومقتضى الخبر أن من يرثها لا يعقل عنها إذا لم يكن من عصبتها، وهو متفق عليه بين العلماء كما قاله ابن المنذر] فتح الباري 12/315. [وتقسم الدية على الأقرب فالأقرب، فتقسم على الإخوة وبنيهم، والأعمام وبنيهم، ثم أعمام الأب وبنيهم، ثم أعمام الجد وبنيهم] الموسوعة الفقهية الكويتية 29/222.
ويجب أن يعلم أن دية القتل الخطأ تؤدى مقسطة على ثلاث سنوات، قال الإمام الترمذي [وقد أجمع أهل العلم على أن الدية تؤخذ في ثلاث سنين في كل سنة ثلث] ، قال المباركفوري في شرحه: [قوله: (وقد أجمع أهل العلم على أن الدية تؤخذ في ثلات سنين) روى ابن أبي شيبة من طريق إبراهيم النخعي قال: أول من فرض العطاء عمر وفرض فيه الدية كاملة في ثلاث سنين، ثلثا الدية في سنتين، والنصف في سنتين، والثلث في سنة، وما دون ذلك في عامه. وأخرجه عبد الرزاق من طريق عن عمر كذا في الدراية. ولفظ عبد الرزاق في طريق أن عمر بن الخطاب جعل الدية الكاملة في ثلاث سنين، وجعل نصف الدية في سنتين، وما دون النصف في سنة. ولفظه في طريق أخرى: إن عمر جعل الدية في الأعطية في ثلات سنين، والنصف والثلثين في سنتين، والثلث في سنة، وما دون الثلث فهو في عامه، ولفظه في رواية أخرى وقضى بالدية في ثلاث سنين وفي كل سنة ثلث على أهل الديوان في أعطياتهم. وقضى بالثلثين في سنتين، وثلاث في سنة وما كان أقل من الثلث فهو في عامه ذلك.] تحفة الأحوذي 8/536. وذكر الشيخ ابن قدامة المقدسي أنه لا خلاف بين العلماء في أن الدية مؤجلة في ثلاث سنين. فإن عمر وعلياً رضي الله عنهما جعلا دية الخطأ على العاقلة في ثلاث سنين، ولا يعرف لهما في الصحابة مخالف. انظر المغني 8/375.
ولا بد من التنبيه إلى أنه إذا أخذت الدية من شركات التأمين فلا يجوز أخذها من العاقلة. وقد بحث مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي موضوع العاقلة وتطبيقاتها المعاصرة في تحمل الدية وذلك في دورته السادسة عشرة بدولة الإمارات العربية المتحدة في شهر صفر 1426هـ الموافق نيسان2005م، وبعد إطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت، قرر ما يأتي: أولاً: تعريف العاقلة: هي الجهة التي تتحمل دفع الدية عن الجاني في غير القتل العمد دون أن يكون لها حق الرجوع على الجاني بما أدته. وهي العصبة في أصل تشريعها، وأهل ديوانه الذين بينهم النصرة والتضامن. ثانياً: ما لا تتحمله العاقلة: العاقلة لا تتحمل ما وجب من الديات عمداً ولا صلحاً ولا اعترافاً. ثالثاً: التطبيقات المعاصرة: عند عدم وجود العشيرة أو العصبة التي تتحمل الدية، فإنه يجوز أن ينوب عنها عند الحاجة، بناءً على أن الأساس للعاقلة هو التناصر والتضامن، ما يلي: (أ) التأمين الإسلامي (التعاوني أو التكافلي) الذي ينص نظامه على تحمل الديات بين المستأمنين. (ب) النقابات والاتحادات التي تقام بين أصحاب المهنة الواحدة، وذلك إذا تضمن نظامها الأساسي تحقيق التعاون في تحمل المغارم. (ج) الصناديق الخاصة التي يكونها العاملون بالجهات الحكومية والعامة والخاصة لتحقيق التكافل والتعاون بينهم. رابعاً: التوصيات: • يوصي مجمع الفقه الإسلامي مختلف الحكومات والدول الإسلامية بأن تضع في تشريعاتها نصوصاً تضمن عدم ضياع الديات، لأنه لا يُطَلَّ (لا يُهدر) دم في الإسلام. • على الجهات ذات العلاقة العمل على إشاعة روح التعاون والتكافل في مختلف أفراد الجماعة والتجمعات التي تربط بيني أعضائها رابطة اجتماعية. ويتحقق ذلك بالآتي: - (أ) تضمين اللوائح والتنظيمات المختلفة مبدأ تحمل الديات. (ب) قيام شركات التأمين الإسلامية في مختلف دول العالم الإسلامي بعمل وثائق تشمل تغطية الحوادث ودفع الديات بشروط ميسرة وأقساط مناسبة. (ج) مبادرة الدول الإسلامية إلى تضمين بيت المال (الخزانة العامة) مهمة تغطية الديات عند فقد العاقلة، وذلك لتحقيق الأغراض الاجتماعية التي تناط ببيت المال – ومنها تحمل الديات – بالإضافة إلى دوره الاقتصادي. (د) دعوة الأقليات الإسلامية في مختلف مناطق العالم إلى إقامة تنظيمات تحقق التعاون والتكافل الاجتماعي فيما بينهم، والنص صراحة على تغطية تعويضات حوادث القتل وفقاً للنظام الشرعي. (هـ) توجيه رسائل إلى الحكومات والهيئات والجمعيات والمؤسسات الاجتماعية لتفعيل أعمال البر والإحسان، ومنها الزكاة والوقف والوصايا والتبرعات كي تسهم في تحمل الديات الناتجة عن القتل الخطأ.] وخلاصة الأمر أن على المرأة المذكورة في السؤال صيام شهرين متتابعين وذلك كفارة القتل الخطأ الذي وقع منها، وتلزم الدية عاقلتها وهم عصبتها كما وضحت سابقاً.(17/8)
9 - دية المرأة الحامل
يقول السائل: توفيت امرأة في حادث سير وكانت حاملاً في الشهر السادس وكان الخطأ من السائق حسب تقرير شرطة السير، فما هي الدية اللازمة شرعاً في هذه الحالة أفيدونا؟
الجواب: إذا كان حادث السير المذكور في السؤال قد وقع بسبب خطأ السائق فإن الواجب في ذلك شرعاً ديتان دية بسبب وفاة المرأة ودية لوفاة جنينها يقول الله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} سورة النساء الآية 92.
وبما أن السائق قد قتل المرأة وجنينها خطأً فيلزمه أيضاً دية الجنين وهي المعروفة عند الفقهاء بالغرة وهي: اسم للضمان المالي الذي يجب بالجناية على الجنين، ويدل على ذلك ما ورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن امرأتين من هذيل رمت إحداهما الأخرى فطرح جنينها فقضى فيه النبي صلى الله عليه وسلم بغرة عبدٍ أو أمةٍ) رواه البخاري ومسلم.
وعن عمر رضي الله عنه أنه استثارهم - أي الصحابة - في إملاص المرأة فقال المغيرة رضي الله عنه: (قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالغرة عبد أو أمة فشهد محمد بن مسلمة رضي الله عنه أنه شهد النبي صلى الله عليه وسلم قضى به) رواه البخاري ومسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى أن دية جنينها غرة عبدٍ أو وليدةٍ وقضى بدية المرأة على عاقلتها) رواه البخاري ومسلم. وغير ذلك من الأحاديث. قال الحافظ ابن حجر: [والغرة في الأصل البياض يكون في جبهة الفرس ... وتطلق الغرة على الشيء النفيس آدمياً كان أو غيره] فتح الباري 15/273. أي أن الواجب في قتل الجنين عبد أو أمة ولما كان لا يوجد في زماننا هذا رقيق فإن قيمة ذلك عشر دية المرأة أي خمس من الإبل.
قال الشيخ ابن قدامة المقدسي [ ... في جنين الحرة المسلمة غرة. وهذا قول أكثر أهل العلم، منهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعطاء، والشعبي، والنخعي، والزهري، ومالك، والثوري، والشافعي، وإسحاق، وأبو ثور، وأصحاب الرأي. وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه استشار الناس في إملاص – سقوط الجنين بسبب ضرب أمه - المرأة، فقال المغيرة بن شعبة: شهدت النبي صلى الله عليه وسلم قضى فيه بغرة عبدٍ أو أمةٍ. قال: لتأتين بمن يشهد معك. فشهد له محمد بن مسلمة. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (اقتتلت امرأتان من هذيل، فرمت إحداهما الأخرى بحجر، فقتلتها وما في بطنها، فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن دية جنينها عبد أو أمة، وقضى بدية المرأة على عاقلتها، وورثها ولدها ومن معهم) . متفق عليه] المغني 8/404.
إذا تقرر لزوم ديتين في هذه الحادثة فإن دية المرأة على النصف من دية الرجل عند جماهير أهل العلم والقول بخلاف ذلك قول شاذ لايعول عليه ولا يلتفت إليه، قال الحافظ ابن عبد البر: [أجمعوا على أن دية المرأة نصف دية الرجل] الاستذكار 25/63. وقال الإمام القرطبي: [وأجمع العلماء على أن دية المرأة على النصف من دية الرجل قال أبو عمر - يعني ابن عبد البر -: إنما صارت ديتها والله أعلم على النصف من دية الرجل من أجل أن لها نصف ميراث الرجل وشهادة امرأتين بشهادة رجل وهذا إنما هو في دية الخطأ وأما العمد ففيه القصاص بين الرجال والنساء لقوله عز وجل: (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) ... الخ] تفسير القرطبي 5/325.
وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي معلقاً على قول الخرقي: [ودية الحرة المسلمة نصف دية الحر المسلم. قال ابن المنذر وابن عبد البر أجمع أهل العلم على أن دية المرأة نصف دية الرجل] المغني 8/402. وهذا قول الأئمة الأربعة وأتباعهم وعلماء السلف والخلف ونقل عن عمر بن الخطاب وعثمان وعلي وابن عباس وابن عمر وزيد بن ثابت رضي الله عنهم ولا يعرف لهم مخالف فصار إجماعاً، الحاوي الكبير 12/289.
وقد شذّ الأصم وابن علية فقالا دية المرأة كدية الرجل وتابعهما على ذلك بعض المعاصرين كالمالكي في نظام العقوبات ص 121، والشيخ الدكتور يوسف القرضاوي في بحث له بعنوان (دية المرأة في الشريعة الإسلامية) انظر موقع القرضاوي على شبكة الإنترنت، وقولهما مخالف لما استقر عليه عمل علماء الأمة على مر العصور والأيام.
ومما يدل على قول جماهير أهل العلم ما رواه الشافعي وغيره عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قوَّم دية الحرة المسلمة إذا كانت من أهل القرى خمسمائة دينار أو ستة آلاف درهم فإذا كان الذي أصابها من الأعراب فديتها خمسون من الإبل ودية الأعرابية إذا أصابها الأعرابي خمسون من الإبل] رواه الشافعي في الأم 6/91-92 والبيهقي في السنن 8/95.
وقد ذكر عبد الرزاق وابن أبي شيبة والبيهقي عدة روايات عن الصحابة تفيد أن دية المرأة على النصف من دية الرجل، انظر مصنف عبد الرزاق 9/393-397، مصنف ابن أبي شيبة 9/299-302، سنن البيهقي 8/95-96.
وروى ابن أبي شيبة بإسناده عن شريح القاضي عن عمر رضي الله عنه قال: [ ... دية المرأة على النصف من دية الرجل] مصنف ابن أبي شيبة 9/300، وقال الشيخ الألباني: إسناده صحيح. إرواء الغليل 7/307.
وقد رويت بعض الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك ولكنها غير ثابتة ولكن ثبوت تنصيف دية المرأة عن عدد من الصحابة ونقل بعض أهل العلم الإجماع على ذلك يكفي في إثبات هذا الحكم لأن مثل هذا الأمر لا يعرف إلا توقيفاً لأنه من المقدرات التي لا مجال للعقل فيها فيكون له حكم الرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وخاصة أن عدداً كبيراً من الفقهاء والأئمة قالوا بذلك كسعيد بن المسيب وعروة بن الزبير والزهري وعطاء ومكحول والليث وابن شبرمة وهو قول الأئمة الأربعة كما سبق. انظر فقه عمر في الجنايات 2/474، فتح باب العناية 3/348. وتقدر الدية في بلادنا بالذهب فالدية الكاملة وهي دية الرجل 4250 غرام ذهب ونصفها دية المرأة أي 2125 غرام ذهب ودية الجنين عشر ذلك أي 212,5 غرام ذهب. كما ويلزم السائق المذكور في السؤال كفارة القتل الخطأ وهي الواردة في قوله تعالى {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} سورة النساء الآية 92. وبما أنه يتعذر في زماننا عتق رقبة فعليه صيام شهرين متتابعين. كما يجب عليه أن يتوب إلى الله تعالى توبة صادقة. وتجب الديتان المذكورتان في الجواب على عاقلة السائق لما ورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى أن دية جنينها غرة عبد أو وليدة وقضي بدية المرأة على عاقلتها) رواه البخاري ومسلم.
وخلاصة الأمر أنه يلزم السائق المذكور ديتان دية لقتل المرأة خطاً ودية لقتل الجنين أيضأ كما ويلزمه صيام شهرين متتابعين كفارة القتل الخطأ.(17/9)
10 - موت الرضيع بسبب أمه
يقول السائل: امرأة أرضعت طفلها ونامت أثناء الرضاعة وفي الصباح تبين أن الطفل قد مات مختنقاً بالغطاء حيث وجد على وجهه فماذا يلزم المرأة أفيدونا؟
الجواب: ينبغي أن يعلم أولاً أن جمهور الفقهاء قد قسموا القتل إلى ثلاثة أقسام وهي: العمد وشبه العمد والخطأ
ومنهم من جعله على أربعة أقسام: وهي العمد وشبه العمد والخطأ وما أجري مجرى الخطأ كفقهاء الحنفية وبعض الحنابلة
قال الشيخ ابن قدامة المقدسي في شرح قول الخرقي [والقتل على ثلاثة أوجه عمد وشبه العمد وخطأ]
قال [أكثر أهل العلم يرون القتل منقسماً إلى هذه الأقسام الثلاثة , روي ذلك عن عمر وعلي وبه قال الشعبي والنخعي , وقتادة وحماد وأهل العراق , والثوري والشافعي وأصحاب الرأي. وأنكر مالك شبه العمد , وقال: ليس في كتاب الله إلا العمد والخطأ فأما شبه العمد فلا يعمل به عندنا وجعله من قسم العمد وحكي عنه مثل قول الجماعة وهو الصواب لما روى عبد الله بن عمرو بن العاص , أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ألا إن دية الخطأ شبه العمد ما كان بالسوط والعصا مائة من الإبل , منها أربعون في بطونها أولادها) رواه أبو داود وفي لفظ: " قتيل خطإ العمد " وهذا نص يقدم على ما ذكره
وقسمه أبو الخطاب أربعة أقسام فزاد قسماً رابعاً وهو ما أجري مجرى الخطأ , نحو أن ينقلب نائم على شخص فيقتله أو يقع عليه من علو والقتل بالسبب , كحفر البئر ونصب السكين وقتل غير المكلف أجري مجرى الخطأ وإن كان عمداً
وهذه الصورة التي ذكرها عند الأكثرين من قسم الخطأ , فإن صاحبها لم يعمد الفعل أو عمده وليس هو من أهل القصد الصحيح فسموه خطأ , فأعطوه حكمه وقد صرح الخرقي بذلك فقال في الصبى والمجنون: عمدهما خطأ.] المغني 8/260.
إذا تقرر هذا فإن كان موت الطفل بسبب تقصير من أمه حيث إنها نامت أثناء إرضاع الولد ولم تضعه في محل نومه المعتاد مما أدى إلى وفاته مختنقاً بالغطاء فتعتبر هذه المرأة متسببة في قتل طفلها ويجري هذا القتل مجرى القتل الخطأ فتلزمها الدية والكفارة قال الكاساني الحنفي [وأما القتل الذي هو في معنى القتل الخطأ فنوعان: نوع في معناه من كل وجه، وهو أن يكون على طريق المباشرة، ونوع هو في معناه من وجه، وهو أن يكون من طريق التسبب، أما الأول: فنحو النائم ينقلب على إنسان فيقتله فهذا القتل في معنى القتل الخطأ من كل وجه لوجوده لا عن قصد؛ لأنه مات بثقله فترتب عليه أحكامه من وجوب الكفارة والدية وحرمان الميراث والوصية؛ لأنه إذا كان في معناه من كل وجه كان ورود الشرع بهذه الأحكام هناك وروداً ههنا دلالة ... أما وجوب الدية فلوجود معنى الخطأ، وهو عدم القصد وأما وجوب الكفارة وحرمان الميراث والوصية فلوجود القتل مباشرة؛ لأنه مات بثقله ... ] بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع 6/ 330.
وقال الشيخ ابن حزم الظاهري: [مسألة: في امرأة نامت بقرب ابنها أو غيره فوجد ميتاً، قال علي- أي ابن حزم - أخبرنا ... عن إبراهيم النخعي في امرأة شربت دواء فألقت ولدها قال: تكفر. وقال في امرأة أنامت صبيها إلى جنبها فطرحت عليه ثوباً فأصبحت وقد مات؟ قال: أحب إلينا أن تكفر. حدثنا ... عن إبراهيم أنه قال في امرأة غطت وجه صبي لها فمات في نومه؟ فقال: تعتق رقبة. قال أبو محمد - أي ابن حزم -: إن مات من فعلها مثل - أن تجر اللحاف على وجهه ثم ينام فينقلب فيموت غماً، أو وقع ذراعها على فمه، أو وقع ثديها على فمه، أو رقدت عليه - وهي لا تشعر - فلا شك أنها قاتلته خطأً فعليها الكفارة، وعلى عاقلتها الدية، أو على بيت المال ... ] المحلى 11/115-116.
وبناءً على ما سبق يلزم هذه المرأة أحكام القتل الخطأ وهي: أولاً: وجوب الدية لقوله تعالى {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} سورة النساء الآية 92.
وتدفع الدية لورثة الطفل الميت وتحرم الأم منها لأنها قتلته والقتل أحد موانع الميراث وكونها قتلته خطأً لا ينفي حرمانها من الميراث وهو الذي عليه جمهور أهل العلم من الصحابة والتابعين والفقهاء على أن القاتل خطأً لا يرث من مال المقتول ولا من ديته وهو مذهب الحنفية والشافعية والحنابلة.
قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [أجمع أهل العلم على أن قاتل العمد لا يرث من المقتول شيئاً ... فأما القاتل خطأً فذهب كثير من أهل العلم إلى أنه لا يرث أيضاً، نص عليه أحمد، ويروى ذلك عن عمر، وعلي وزيد وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس، وروي نحوه عن أبي بكر رضي الله عنهم. وبه قال شريح وعروة وطاووس وجابر بن زيد والنخعي والشعبي والثوري وشريك والحسن بن صالح ووكيع والشافعي ويحيى بن آدم وأصحاب الرأي وورثه قوم من المال دون الدية، وروي ذلك عن سعيد بن المسيب وعمرو بن شعيب وعطاء والحسن ومجاهد والزهري ومكحول والأوزاعي وابن أبي ذئب وأبي ثور، وابن المنذر وداود، وروي نحوه عن علي لأن ميراثه ثابت بالكتاب، والسنة تخصص قاتل العمد بالإجماع، فوجب البقاء على الظاهر فيما سواه. ولنا: الأحاديث المذكورة ولأن من لا يرث من الدية لا يرث من غيرها، كقاتل العمد، والمخالف في الدين، والعمومات مخصصة بما ذكرناه] المغني 6/364-365. وتكون الدية على عاقلة المرأة وهم عصبتها.
ثانياً: تلزمها كفارة القتل الخطأ وهي عتق رقبة مؤمنة إن وجدت وإلا فإن عليها صيام شهرين متتابعين لقوله تعالى {فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللهِ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} سورة النساء الآية 92. فإذا لم تستطع صيام شهرين متتابعين لعذر أبدي كمرض مزمن مثلاً فإنها تطعم ستين مسكيناً كما ذهب إليه جماعة من أهل العلم ومن المعلوم أن الفقهاء قد اختلفوا حال عجز المكفر عن الصيام على قولين الأول [وهو مذهب الجمهور أنه لا إطعام عليه، لأن الله جل وعلا لم يذكر في كفارة القتل إلا العتق والصيام، ولو كان ثمة إطعام لذكره.
والثاني: وهو قول عند الشافعية وهو أنه عليه الإطعام قياساً على غيره ككفارة الظهار والصوم، ولعل الصواب في المسألة هو التفصيل بين من عجز عن الصيام عجزاً أبدياً ومن كان عاجزاً عجزاً مؤقتاً، فالعاجز عجزاً أبدياً يطعم، والعاجز عجزاً مؤقتاً ينتظر القدرة على الصيام، ومما يؤيد هذا المنحى أنه جارٍ على القياس على العجز عن صوم رمضان، فمن المعلوم أنه إن كان عاجزاً عجزا مؤقتاً، فالواجب عليه إنما هو القضاء، وإن كان عاجزاً عجزاً أبدياً فالواجب عليه إطعام مسكين عن كل يوم، وإنما قسنا صوم القتل على صوم رمضان لأن كلاً منهما مستقر في الذمة على وجه الوجوب وجوباً متعيناً، خصوصاً إذا أخذنا في الاعتبار أن وجود الرقبة أصبح متعذراً تعذراً شديداً، إن لم يكن مستحيلاً.] نقلاً عن موقع الشبكة الإسلامية على الإنترنت.
ويجب أن يعلم أن الدية تسقط عن هذه المرأة إذا عفا أولياء الطفل أما الكفارة فلا تسقط بعفو الأولياء لأنها حق لله تعالى قال الإمام القرطبي في تفسير قوله تعالى { ... وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} سورة النساء الآية 92. [ ... يعني إلا أن يبرئ الأولياء ورثة المقتول القاتلين مما أوجب لهم من الدية عليهم ... وأما الكفارة التي هي لله تعالى فلا تسقط بإبرائهم؛ لأنه أتلف شخصاً في عبادة الله سبحانه، فعليه أن يخلص آخر لعبادة ربه وإنما تسقط الدية التي هي حق لهم.] تفسير القرطبي 5/323.
وخلاصة الأمر أن المرأة المذكورة في السؤال قتلت ابنها خطأً وأنه يلزما الدية والكفارة.(17/10)
11 - حرمة دم المسلم
يقول السائل: هل صحيح أن حرمة دم المسلم أعظم عند الله من هدم الكعبة المشرفة؟ وما صحة الحديث الوارد بهذا المعنى؟
الجواب: لا شك أن حرمة دم المسلم من أعظم الحرمات عند الله سبحانه وتعالى وقتل النفس المعصومة من أكبر الكبائر وقد وردت النصوص الكثيرة من كتاب الله عز وجل ومن سنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم التي تدل على ذلك فمنها قوله تعالى {ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتل إنه كان منصوراً} سورة الإسراء الآية 33.
وقوله تعالى {ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً} سورة النساء الآية 93.
وقال تعالى: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًاءَاخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا) سورة الفرقان الآيتان 68-69.
وثبت في الحديث عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الكبائر أو سئل عن الكبائر فقال الشرك بالله وقتل النفس وعقوق الوالدين فقال ألا أنبئكم بأكبر الكبائر قال قول الزور أو قال شهادة الزور قال شعبة وأكثر ظني أنه قال شهادة الزور) رواه البخاري.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اجتنبوا السبع الموبقات قيل يا رسول الله وما هن قال الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل مال اليتيم وأكل الربا والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات) رواه البخاري ومسلم.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً) رواه البخاري ونقل الحافظ ابن حجر العسقلاني عن الشيخ ابن العربي قوله: الفسحة في الدين سعة الأعمال الصالحة حتى إذا جاء القتل ضاقت لأنها لا تفي بوزره , والفسحة في الذنب قبوله الغفران بالتوبة حتى إذا جاء القتل ارتفع القبول] فتح الباري 12/233.
وروى الإمام البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: (إن من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها سفك الدم الحرام بغير حله) وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [قوله (إن من ورطات) بفتح الواو والراء, وحكى ابن مالك أنه قيد في الرواية بسكون الراء والصواب التحريك وهي جمع ورطة بسكون الراء وهي الهلاك يقال وقع فلان في ورطة أي في شيء لا ينجو منه, وقد فسرها في الخبر بقوله التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها. قوله (سفك الدم) أي إراقته والمراد به القتل بأي صفة كان, لكن لما كان الأصل إراقة الدم عبر به. قوله (بغير حله) في رواية أبي نعيم " بغير حقه " وهو موافق للفظ الآية, وهل الموقوف على ابن عمر منتزع من المرفوع فكأن ابن عمر فهم من كون القاتل لا يكون في فسحه أنه ورط نفسه فأهلكها] فتح الباري 12/233-234.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة) رواه مسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره … كل المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه وماله) رواه البخاري ومسلم.
وعن ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (يجيء المقتول بالقاتل يوم القيامة ناصيته ورأسه بيده وأوداجه تشخب دماً يقول يا رب هذا قتلني حتى يدنيه من العرش) رواه الترمذي وقال هذا حديث حسن وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في صحيح سنن الترمذي 3/40. وغير ذلك من النصوص التي تدل على عظمة النفس المعصومة.
إذا تقرر هذا فإن حرمة دم المسلم حرمة عظيمة ويكفي ما ورد من ترهيب مخيف في سفك دم المسلم بغير حق ولا شك أن حرمة دم المسلم مقدمة على حرمة الكعبة المشرفة، بل حرمة دم المسلم أعظم عند الله عز وجل من زوال الدنيا فقد ورد في الحديث عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم) رواه الترمذي وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في صحيح سنن الترمذي 2/56.
وجاء في رواية أخرى عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق ولو أن أهل سماواته وأهل أرضه اشتركوا في دم مؤمن لأدخلهم الله النار) وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في صحيح الترغيب 2/629.
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالكعبة ويقول: (ما أطيبك وأطيب ريحك ما أعظمك وأعظم حرمتك والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمة منك ماله ودمه وأن نظن به إلا خيراً) رواه ابن ماجة وصححه العلامة الألباني في صحيح الترغيب 2/630.
ونظر ابن عمر رضي الله عنه يوماً إلى البيت أو إلى الكعبة فقال ما أعظمك وأعظم حرمتك والمؤمن أعظم حرمة عند الله منك) رواه الترمذي.
وأما الحديث الذي أشار إليه السائل وهو (لهدم الكعبة حجراً حجراً أهون من قتل المسلم)
فقد ذكره الشيخ العجلوني في كشف الخفاء وقال [قال في المقاصد - أي السخاوي - لم أقف عليه بهذا اللفظ، ولكن معناه عند الطبراني في الصغير عن أنس رفعه (من آذى مسلماً بغير حق فكأنما هدم بيت الله) ونحوه عن غير واحد من الصحابة أنه صلى الله عليه وسلم نظر إلى الكعبة فقال لقد شرفك الله وكرمك وعظمك والمؤمن أعظم حرمة منك] كشف الخفاء ومزيل الإلباس حديث رقم 2086.
وخلاصة الأمر أن قتل المسلم بغير حق من كبائر الذنوب وأن حرمة دم المسلم أعظم عند الله عز وجل من هدم الكعبة المشرفة بل إن زوال الدنيا أهون عند الله من قتل المسلم بغير حق.(17/11)
12 - لا يملك ولي الأطفال أو وصيهم التنازل عن دية والدهم
قول السائل: قُتل شخصٌ خطأً في حادث شجار وترك خمسة أطفال وزوجة، وعند إقامة مراسم الصلح مع عائلة القاتل قام عم الصغار وأعلن تنازل عائلة المقتول عن الدية إكراماً لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فما الحكم الشرعي في التنازل عن الدية، أفيدونا؟
الجواب: اتفق أهل العلم على أن موجب القتل الخطأ أمران: أولهما الدية والثاني الكفارة ويدل على ذلك قوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً) سورة النساء الآية 92. والدية الشرعية تقدر بألف دينار ذهبي وتساوي في أيامنا هذه أربعة آلاف ومئتان وخمسون غراماً من الذهب، وأما الكفارة فهي صيام شهرين متتابعين نظراً لفقدان الرقاب في أيامنا هذه، حيث إن كفارة القتل على الترتيب وليست على التخيير. ويجب أن يعلم أن الدية حق لجميع ورثة المقتول، ويجري عليها ما يجري على التركة، فتوزع دية المقتول على ورثته، فالدية موروثة كسائر الأموال التي كان يملكها القتيل حال حياته، يرثه فيها ورثته حسب نصيبهم الشرعي. فقد ورد عن سعيد بن المسيب أن عمر رضي الله عنه كان يقول: [الدية على العاقلة ولا ترث المرأة من دية زوجها شيئاً حتى أخبره الضحاك بن سفيان الكلابي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إليه أن ورّث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها] رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة، وقال الإمام الترمذي: [هذا حديث حسنٌ صحيحٌ والعمل على هذا عند أهل العلم] وصححه العلامة الألباني في صحيح سنن الترمذي 2/61. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم: (قضى أن العقل - أي الدية - ميراث بين ورثة القتيل على فرائضهم) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة وهو حديث حسن كما قال العلامة الألباني في صحيح سنن ابن ماجة 2/98. وعن جابر رضي الله عنه قال: (جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الدية على عاقلة القاتلة فقالت عاقلة المقتولة: يا رسول الله ميراثها لنا. قال: لا. ميراثها لزوجها وولدها) رواه ابن ماجة وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في صحيح سنن ابن ماجة 2/99. فهذه الأحاديث تدل على أن الدية موروثة كسائر الأموال، قال الإمام البغوي بعد أن ذكر حديث توريث امرأة أشيم الضبابي من ديته: [وفيه دليل على أن الدية تجب للمقتول ثم تنتقل منه إلى ورثته كسائر أملاكه وهذا قول أكثر أهل العلم] شرح السنة 8/372. إذا تقرر هذا فإن الولي أو الوصي أو كبير العائلة أو مختارها أو شيخ القبيلة أو غيرهم لا يملكون التنازل عن حقوق الصغار في دية أبيهم المقتول، وهذا التنازل باطلٌ شرعاً، لأن الصغير نفسه وهو صاحب الحق لا يملك هذا التصرف شرعاً، حتى لو أجازه وليه أو وصيه، وكذلك الولي أو الوصي لا يملكان هذا الحق ابتداءً، ورد في الموسوعة الفقهية: [ذهب الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة إلى أنه ليس للوصي أن يتبرع بمال الصغير سواء أكان بالصدقة أم بالهبة بغير عوض أم بالمحاباة، لأن التبرع بمال الصغير لا حظ له فيه، وأنه ينافي مقصود الوصاية من الحفاظ على المال وتنميته والتصرف بما فيه نفعٌ يعود على الصغير، مستندين في ذلك إلى قوله تعالى: {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن} فقد نهى عن قربان مال اليتيم إلا بما فيه مصلحة له، والتبرع بالمال لا مصلحة لليتيم فيه، بل هو تصرفٌ في ماله على غير الوجه الذي أمر الله به، فيكون ممنوعاً ومنهياً عنه، ولقوله عليه الصلاة والسلام: (لا ضرر ولا ضرار) - رواه أحمد وابن ماجة والطبراني وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة حديث رقم 250 -، ولقوله عليه الصلاة والسلام: (ليس من أمتي من لم يجل كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف لعالمنا حقه) - رواه أحمد والحاكم وقال العلامة الألباني حديث حسن، كما في صحيح الترغيب والترهيب 1/152- والإضرار بالصغير ليس من المرحمة في شيء، فليس له أن يهب مال الصغير من غيره بغير عوض، لأنه إزالة ملكه من غير عوض فكان ضرراً محضاً، وليس له أن يتصدق بماله ولا أن يوصي به، لأن التصدق والوصية إزالة الملك من غير عوض مالي فكان ضرراً فلا يملكه] الموسوعة الفقهية الكويتية 43/198- 198. وجاء أيضاً في الموسوعة الفقهية في بيان حكم عقود الوصي وتصرفاته: [القاعدة العامة في عقود الوصي وتصرفاته: أن الوصي مقيد في تصرفه بالنظر والمصلحة لمن في وصايته، وعلى هذا لا يكون للوصي سلطة مباشرة التصرفات الضارة ضرراً محضاً كالهبة، أو التصدق، أو البيع والشراء بغبن فاحش، فإذا باشر الوصي تصرفاً من هذه التصرفات كان تصرفه باطلاً، لا يقبل الإجازة من أحد، ويكون له سلطة مباشرة التصرفات النافعة نفعاً محضاً، كقبول الهبة والصدقة والوصية والوقف، والكفالة للمال. ومثل هذا: التصرفات الدائرة بين النفع والضرر كالبيع والشراء والإجارة والاستئجار والقسمة والشركة، فإن للوصي أن يباشرها، إلا إذا ترتب عليها ضررٌ ظاهر، فإنها لا تكون صحيحة ... ولا يجوز للوصي باتفاق الفقهاء أن يهب شيئاً من مال الصغير ومنْ في حكمه، ولا أن يتصدق، ولا أن يوصي بشيء منه، لأنها من التصرفات الضارة ضرراً محضاً، فلا يملكها الوصي، ولا الولي ولو كان أباً. وكذلك لا يجوز له أن يقرض مال الصغير ونحوه لغيره، ولا أن يقترضه لنفسه، لما في إقراضه من تعطيل المال عن الاستثمار، والوصي مأمور بتنميته بقدر الإمكان.] الموسوعة الفقهية الكويتية 7/213، 215. وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [إذا وجب القصاص لصغير لم يجز لوليه العفو إلى غير مال، لأنه لا يملك إسقاط حقه] المغني 9/476. وقال الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز في جواب السؤال التالي: [حصل حادثٌ على رجل، وعلى إثر ذلك انتقل الرجل إلى رحمة الله، تغمده الله بواسع رحمته وأسكنه فسيح جناته، وقد حصل الحادث على الرجل من خلف سيارته التي يقودها، وبمناسبة أن الرجل المتوفى له أولاد وأعتقد أنهم قُصَّر، وقد حصلت محاورة بين أقربائه البعض منهم يرغب التنازل عن الرجل الذي صدم الرجل المتوفى من الخلف، والبعض منهم يرغبون دية يضعونها ويصرفون منها على الأولاد، والبعض منهم يقولون نبني له مسجداً ونحفر له بئراً بأرض فلاة ويكون الأجر له والبعض يقولون نأخذ الدية ونتصدق بها إذا حكم بها شرعاً، ويكون الأجر للمتوفى، وجهونا حول أحسن الطرق، هل هو العفو أو ما ذكرنا؟ الجواب: إذا كان المتوفى له أولاد صغار، أو أولاد مجانين، أو غير مرشدين، لم يجز العفو، بل يجب على وليهم أن يأخذ الدية، ويحفظها لهم ويصرفها في مصالحهم، ولا يجوز العفو لوليهم عن الدية، أما إذا كان الورثة مرشدين ليس فيهم قاصر، وأحبوا أن يسمحوا، فلا حرج عليهم، أو أحبوا أن يضعوها في تعمير مسجد، أو في حفر بئر بفلاة مع المسلمين، أو في صدقة على الفقراء، أو مساعدة المجاهدين كل هذا لا بأس به، هم أحرار؛ لأنهم مرشدون يتصرفون كيف شاءوا، والأولى أن يأخذوها، لا يسمحوا بها للصادم، حتى لا يتساهل الناس في الصدم والتعدي على الناس، الذي ينبغي أن يأخذوا الدية، ثم يتصرفوا فيما يرون إذا كانوا مرشدين، إما توزعوها بينهم، ويتصرفوا بها، وإما صرفوها في جهة بر كتعمير مسجد، أو صدقة على الفقراء، أو صرفها للمجاهدين في سبيل الله، أو نحو ذلك، أما إذا كانوا غير مرشدين، أو فيهم من هو ليس مرشد، فلا يجوز لولي القاصر أن يسمح في شيء منها، سواء كان القاصر صغيراً، أو معتوهاً، أو مجنوناً، أو سفيهاً، ليس لوليه أن يسمح، بل يجب أن يأخذ حقه من الدية ويحفظها للقاصر، حتى ينفق عليه منه، أو يصرفها في مصالحه كتعمير عقاره، وغير ذلك.] موقع الشيخ على شبكة الإنترنت. ويضاف إلى ما سبق أن تنازل عم الصغار عن الدية فيه مصادرة لحق الزوجة في نصيبها من دية زوجها، وهو حق ثابت كما سبق في الحديث حيث إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ورّث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها.
وخلاصة الأمر أن الأطفال لا يملكون إسقاط حقهم في دية والدهم لأنهم فاقدون لأهلية ذلك، وكذلك حق الزوجة في نصيبها من دية زوجها لا يسقط إلا بإرادتها ورضاها واختيارها، والأولياء والأوصياء ومن في حكمهم لا يملكون إسقاط حق الصغار في دية والدهم، وإن حصل هذا الإسقاط فهو باطل شرعاً، وبناءً على ما سبق يظهر لنا مدى الظلم الذي يلحق بأطفال المقتول عندما يتم الصلح برعاية القضاء العشائري ويتم إسقاط الدية والتنازل عنها إكراماً لله ورسوله صلى الله عليه وسلم كما يزعمون، وأي إكرام هذا الذي يكون بما لا يملكونه، ومن يريد أن يكرم فإنه يكرم بما يملك، ولا يكرم بمال غيره، بل هذا ظلم لا يقره دين الإسلام، فهذا الإسقاط للحقوق صدر عمن لا يملكه، فهو تصرف محرم شرعاً وباطل لا يترتب عليه أي أثر، وللصغار عند البلوغ أن يطالبوا بحقوقهم في دية والدهم والحقوق لا تسقط بالتقادم.(17/12)
13 - يحرم على المحامي قَبول الوكالة في القضايا الظالمة
يقول السائل: إنه محامٍ وقد وكله شخصٌ في قضية تملك عقار، وقد علم من خلال عرض القضية أمام المحكمة أن موكله يدعي حقاً ليس له، فما حكم الاستمرار في الوكالة بالترافع أمام القضاء، أفيدونا؟
الجواب: مهنة المحاماة مبنية على عقد الوكالة المعروف عند الفقهاء، وهي إقامة الغير مقام نفسه في تصرفٍ جائزٍ معلومٍ. والمحاماة جائزة شرعاً بضوابط شرعية كثيرة، ومنها ما يتعلق بالسؤال وهو أنه لا يجوز للمحامي أن يقبل الوكالة في الخصومة في قضية فيها ظلمٌ أو إبطالُ حقٍ أو تعدٍ على حقوق الناس، أو قضيةٍ كيدية، فإذا علم المحامي أن موكله ظالمٌ ومبطلٌ، فيحرم على المحامي أن يقبل الوكالة ابتداءً، ويحرم عليه أيضاً أن يستمر في الوكالة إذا علم بذلك أثناء نظر الدعوى. ويدل على ذلك أدلة كثيرة من كتاب الله عز وجل ومن سنة النبي صلى الله عليه وسلم، منها قوله تعالى: {وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً هَا أَنتُمْ هَؤُلاء جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً} سورة النساء الآيات107-109. قال الإمام الشوكاني: [ {ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم} أي: لا تحاجج عن الذين يخونون أنفسهم والمجادلة مأخوذة من الجدل، وهو الفتل، وقيل: مأخوذة من الجدالة، وهي وجه الأرض، لأن كل واحد من الخصمين يريد أن يلقي صاحبه عليها، وسمي ذلك خيانة لأنفسهم، لأن ضرر معصيتهم راجع إليهم، والخوان: كثير الخيانة، والأثيم: كثير الإثم، وعدم المحبة كناية عن البغض] تفسير فتح القدير 1/771. ومنها قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} سورة المائدة الآية 2، ولا شك أن الترافع في قضية ظالمة ومبطلة، والمحاماة عن أهل الباطل أنه داخل في عموم التعاون على الإثم والعدوان، وقد نهى الله عز وجل عن ذلك فهو محرم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: [والمعين على الإثم والعدوان من أعان الظالم على ظلمه، أما من أعان المظلوم على تخفيف الظلم عنه أو على أداء المظلمة فهو وكيل المظلوم لا وكيل الظالم] مجموع الفتاوى 28/284. ومنها ما ثبت في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، فقال رجلٌ: يا رسول الله، أنصره إذا كان مظلوماً، أرأيت إن كان ظالماً كيف أنصره؟ قال: تحجزه -أو تمنعه - من الظلم فإن ذلك نصره) رواه البخاري. ومنها ما جاء في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من حالت شفاعتُه دون حدٍ من حدود الله فقد ضاد الله في أمره، ومن مات وعليه دَينٌ فليس ثمَّ دينارٌ ولا درهمٌ، ولكنها الحسنات والسيئات، ومن خاصم في باطلٍ وهو يعلم، لم يزل في سخط الله حتى ينزع، ومن قال في مؤمن ما ليس فيه حُبس في ردغة الخبال حتى يأتي بالمخرج مما قال) وزاد الطبراني (وليس بخارج) . وورد في رواية أبي داود: [قيل يا رسول الله وما ردغة الخبال؟ قال: عصارة أهل النار] . قال العلامة الألباني: أخرجه أبو داود والحاكم والسياق له وأحمد ... وقال الحاكم: صحيح الإسناد. ووافقه الذهبي، وهو كما قالا، ورجاله ثقات رجال مسلم غير يحيى بن راشد وهو ثقة كما في التقريب. وقال المنذري في الترغيب: رواه أبو داود والطبراني بإسناد جيد] سلسلة الأحاديث الصحيحة 1/722. وانظر إرواء الغليل 7/349. قال الإمام الشوكاني: [قوله: (من خاصم) ، قال الغزالي: الخصومة لجاج في الكلام ليستوفي بها مال أو حق مقصود، وتارة تكون ابتداءً وتارة تكون اعتراضاً، والمراء لا يكون إلا اعتراضاً على كلام سابق، قال بعضهم: إياك والخصومة، فإنها تمحق الدِّين، ويقال: ما خاصم قط ورع. قوله: (لم يزل في سخط الله) هذا ذمٌ شديدٌ له شرطان: أحدهما أن تكون المخاصمة في باطل. والثاني أن يعلم أنه باطل، فإن اختل أحد الشرطين فلا وعيد، وإن كان الأولى ترك المخاصمة ما وجد إليه سبيلاً] نيل الأوطار 9/142. وورد عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ومن أعان على خصومةٍ بظلمٍ فقد باء بغضبٍ من الله عز وجل) رواه أبو داود وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في صحيح الترغيب والترهيب 2/545. وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (مثلُ الذي يُعين قومَه على غير الحق، كمثل بعيرٍ تردى في بئرٍ فهو ينزع منها بذنبه) رواه أبو داود وابن حبان، وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في صحيح الترغيب والترهيب 2/546. قال الحافظ ابن المنذر: [ومعنى الحديث أنه قد وقع في الإثم وهلك كالبعير إذا تردى في بئر فصار ينزع بذنبه ولا يقدر على الخلاص] المصدر السابق. وقال الإمام البخاري في صحيحه: [باب إثم من خاصم في باطل وهو يعلمه] . وقد عدَّ أهل العلم أن الإعانة على الخصومة بالباطل من كبائر الذنوب، قال الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب في كتابه الكبائر 1/152: [باب من أعان على خصومة في الباطل، وقول الله تعالى {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} ] سورة المائدة الآية 2، وقوله تعالى: {مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا} النساء الآية 85] ثم ذكر حديث ابن عمر الأول. وقد قرر كثير من أهل العلم حرمة الوكالة بالخصومة عن موكلٍ ظالمٍ ومبطلٍ، قال ابن مفلح المقدسي: [وقال ابن عقيل في الفنون: لا تصح وكالة من علم ظلم موكله في الخصومة، فظاهره يصح إذا لم يعلم، والظاهر أن مراده بالعلم أيضاً الظن وإلا فبعيدٌ جداً القول به مع ظن ظلمه. فإن قيل ظن التحريم لا يمنع صحة العقد بخلاف العلم به ولا يلزم من هذا أن يخاصم في باطل فلا معارضة بينه وبين ما سبق قيل: ليس المراد من التوكيل وصحته إلا المخاصمة فيما وكله فيه مما يعلمه، أو يظنه باطلاً وإلا فكان يمكن تصحيح العقد مع العلم، ولا يخاصم في باطلٍ فلا مفسدة في ذلك، وقد دل كلامه على أنه لو شك في ظلمه صحت وخاصم فيه وعلى هذا عمل كثير من الناس أو أكثرهم يتوكلون ويدعون مع الشك في صحة الدعوى وعدمها؛ لأنه ليس بمخبر عن نفسه، وإنما يخبر عن الموكل ويبلغ كلامه لكونه لا يلحن بحجته، ولأن الحاجة قد تمس إلى ذلك لكثرة مشقته، وهذا بخلاف المدعي لنفسه لخبرته بأحواله وقضاياه والله أعلم.] الآداب الشرعية 1/29. وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [ويشترط في جواز الدعوى أن يعلم صدق المدعي، فأما إن لم يعلم لم يحل له دعوى بشيء لا يعلم ثبوته] المغني 5/13. وقال المرداوي: [وقال القاضي في قوله تعالى {وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً} يدل على أنه لا يجوز لأحد أن يخاصم عن غيره في إثبات حق أو نفيه، وهو غير عالم بحقيقة أمره] الإنصاف 9/208. وقال الرحيباني الحنبلي: [لا تصح الوكالة لو ظن الوكيل ظلمه أي: ظلم موكله إجراءً للظن مجرى العلم قال في الإنصاف: قلت: وهو الصواب] مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى 9/377. وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء ما يلي: [إذا كان في الاشتغال بالمحاماة أو القضاء إحقاقٌ للحق وإبطالٌ للباطل شرعاً وردٌ الحقوق إلى أربابها ونصرٌ للمظلوم، فهو مشروع ; لما في ذلك من التعاون على البر والتقوى، وإلا فلا يجوز ; لما فيه من التعاون على الإثم والعدوان، قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} ] عن شبكة الإنترنت. وقال الشيخ مصطفى الزرقا: [ ... وأن لا يقبل - أي المحامي - دفاعاً عن موكِلٍ مبطلٍ، وإذا ظهر له أثناء سير الدعوى أن موكله مبطلٌ فعليه أن ينسحب منه شرعاً، ويستطيع أن يشرط ذلك على الموكل.] فتاوى الشيخ مصطفى الزرقا ص 380-381. وقال الدكتور زيد بن عبد المحسن نائب رئيس هيئة حقوق الإنسان في المملكة السعودية: [يجب على المحامين أن لا يتوكلوا عن غيرهم في دعوى أو نفيها عند علمهم ببطلانها أو كذب صاحبها لقوله تعالى: {وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً} ، وقال صلى الله عليه وسلم: (من خاصم في باطلٍ وهو يعلمه لم يزل في سخط حتى ينزع) أو كما قال صلى الله عليه وسلم، حيث ورد في المادة 11/1 من لائحة تنفيذ نظام المحاماة "على المحامي ألاّ يتوكل عن غيره في دعوى أو نفيها وهو يعلم أن صاحبها ظالمٌ ومبطلٌ، وألاّ يستمر فيها إذا ظهر له ذلك أثناء التقاضي"] صحيفة المدينة السعودية عن شبكة الإنترنت. إذا تقرر هذا فعلى المحامين أن يحذروا المبطلين من المدَّعين الذين يزورون الحقائق، ويزينون الباطل، حتى تنطلي الأمور على موكليهم من المحامين، فيسيرون معهم في الدعاوى الباطلة التي يترتب عليها ضياع حقوق الناس، وأكل أموالهم بالباطل، أو يترتب عليها التشهير بالناس كما هو الحال في القضايا الكيدية، التي يُقصد بها تشويه صورة المدعى عليهم، وهم أبرياء مما رماهم به خصومهم، وليحذروا ممن يتلاعبون بالألفاظ لتزيين باطلهم، الذين ينطبق عليهم ما ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن أخوف ما أخاف على أمتي كلُ منافقٍ عليم اللسان) رواه أحمد وصححه العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة 3/11. ولا شك أن [التمسك بأخلاقيات هذه المهنة يؤدي لرفض المحامي أو الوكيل بالخصومة قبول الوكالة في الدعاوى الكيدية التي لا يهدف صاحبها منها إلا الانتقام من خصمه وتوجيه الأذى له، وإشغال ساحات العدل بمجادلات طويلة لتسويف الدعوى والإضرار بخصمه مادياً ومعنوياً، مما يؤثر على إقرار العدل.] أثر أخلاقيات المحامي على العدالة والقضاء د. ناصر المعيلي. عن شبكة الإنترنت.
وخلاصة الأمر أنه يحرم على المحامي أن يقبل الوكالة في أي قضية مع علمه أنها باطلة، أو مع علمه أنه قد يترتب عليها أكل أموال الناس بالباطل، أو قضية فيها إلحاق ظلم، أو إجحافٍ بحقوق الناس، أو قضية كيدية، وكذلك يحرم على المحامي أن يستمر فيها إذا ظهر له ذلك أثناء التقاضي، ولا يجوز للمحامي الترافع في قضيةٍ إلا إذا علم مشروعية الدعوى ومضمونها.(17/13)
1 - نظرات شرعية في فتوى مجمع البحوث الإسلامية التابع للأزهر بتحليل بناء الجدار الفولاذي
يقول السائل: ما قولكم في فتوى مجمع البحوث الإسلامية التابع للأزهر في فتواه التي قالت بتحليل بناء الجدار الفولاذي، أفيدونا؟
الجواب: ذكر جماعة من العلماء أنه يشترط في المفتي أن يكون متيقظاً بصيراً بمكر الناس وخداعهم وأحوالهم، قال العلامة ابن عابدين: [شرط بعضهم تيقظ المفتي، قال: وهذا شرط في زماننا، فلا بد أن يكون المفتي متيقظاً، يعلم حيل الناس ودسائسهم، فإن لبعضهم مهارة في الحيل والتزوير وقلب الكلام وتصوير الباطل في صورة الحق، فغفلة المفتي يلزم منها ضرر كبير في هذا الزمان] الموسوعة الفقهية الكويتية 32/30. وقال العلامة ابن القيم تحت عنوان: [على المفتي ألا يعين على المكر والخداع، يحرم عليه - أي على المفتي - إذا جاءته مسألة فيها تحيل على إسقاط واجب أو تحليل محرم أو مكر أو خداع أن يعين المستفتى فيها ويرشده إلى مطلوبه أو يفتيه بالظاهر الذي يتوصل به إلى مقصوده، بل ينبغي له أن يكون بصيراً بمكر الناس وخداعهم وأحوالهم ولا ينبغي له أن يحسن الظن بهم بل يكون حذراً فطناً فقيهاً بأحوال الناس وأمورهم يؤازره فقهه في الشرع، وإن لم يكن كذلك زاغ وأزاغ، وكم من مسألة ظاهرها ظاهرٌ جميل، وباطنها مكرٌ وخداعٌ وظلم! فالغر ينظر إلى ظاهرها ويقضى بجوازه، وذو البصيرة ينقد مقصدها وباطنها، فالأول يروج عليه زَغَل المسائل كما يروج على الجاهل بالنقد زَغَل الدارهم، والثاني يخرج زيفها كما يخرج الناقد زيف النقود، وكم من باطلٍ يخرجه الرجل بحسن لفظه وتنميقه وإبرازه في صورة حق، وكم من حقٍ يخرجه بتهجينه وسوء تعبيره في صورة باطل! ومن له أدنى فطنة وخبرة لا يخفى عليه ذلك، بل هذا أغلب أحوال الناس ولكثرته وشهرته يستغنى عن الأمثلة ... ] إعلام الموقعين4/229. أقول هذا أفضل وصف ينطبق على فتوى مجمع البحوث الإسلامية التابع للأزهر بتحليل بناء الجدار الفولاذي، حيث فقد أعضاء المجمع الذين أفتوا بتحليل إنشاء الجدار شرط تيقظ المفتي، وإذا كان العلامة ابن عابدين الحنفي قد قال: وهذا شرط في زماننا، فلا بد أن يكون المفتي متيقظاً، يعلم حيل الناس ودسائسهم، فإن لبعضهم مهارة في الحيل والتزوير وقلب الكلام وتصوير الباطل في صورة الحق، فغفلة المفتي يلزم منها ضررٌ كبير في هذا الزمان، أقول إن كان شرط تيقظ المفتي شرطاً في زمان ابن عابدين، فهو أولى في زماننا، حتى لا يقع بعض المفتين قصيري النظر في مكر ودسائس الساسة، وينطلي عليهم ما يروج له الساسة من التزوير وقلب الكلام وتصوير الباطل في صورة الحق. هذا أولاً، أما ثانياً: فإني أذكر أعضاء المجمع الذين أفتوا بتحليل إنشاء الجدار ببعض البدهيات التي لا يجهلها مسلم عادي فضلاً أن يجهلها أعضاء المجمع الأزهري! أين أنتم من قول الله عز وجل: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} سورة التوبة الآية 71، ومن قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} سورة الحجرات الآية 10. ومن قوله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} سورة الأنبياء الآية 92، ومن قوله تعالى: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} سورة المؤمنون الآية 52، ومن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَالمِينْ} سورة المائدة الآية51. وأين أنتم من قَولَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: (مَثَلُ المُؤْمِنينَ في تَوَادِّهِمْ وتَرَاحُمهمْ وَتَعَاطُفِهمْ، مَثَلُ الجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الجَسَدِ بِالسَّهَرِ والحُمَّى) رواه البخاري ومسلم، قال القاضي عياض: [فتشبيه المؤمنين بالجسد الواحد تمثيلٌ صحيحٌ، وفيه تقريبٌ للفهم وإظهار للمعاني في الصور المرئية، وفيه تعظيم حقوق المسلمين، والحض على تعاونهم وملاطفة بعضهم بعضاً. وقال ابن أبي جمرة: شبَّه النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان بالجسد وأهله بالأعضاء لأن الإيمان أصل وفروعه التكاليف، فإذا أخلَّ المرءُ بشيءٍ من التكاليف شأن ذلك الإخلال بالأصل، وكذلك الجسد أصل الشجرة وأعضاؤه كالأغصان، فإذا اشتكى عضو من الأعضاء اشتكت الأعضاء كلها، كالشجرة إذا ضرب غصن من أغصانها اهتزت الأغصان كلها بالتحرك والاضطراب] فتح الباري 10/540. ومن قوله صلى الله عليه وسلم: (المُؤْمِنُ للْمُؤْمِنِ كَالبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضَاً وشبَّكَ بَيْنَ أصَابِعِهِ) رواه البخاري ومسلم ومن قوله صلى الله عليه وسلم: (من لا يرحم لا يرحم) رواه البخاري ومسلم، ومن قوله صلى الله عليه وسلم قال: (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره … كل المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه وماله) رواه البخاري. ومن قوله صلى الله عليه وسلم: (كم من جارٍ متعلقٍ بجاره يوم القيامة يقول يا رب هذا أغلق بابه دوني فَمنع معروفه) أخرجه البخاري في الأدب المفرد وحسنه العلامة الألباني في صحيح الأدب المفرد. ثالثاً: ورد في الحديث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار) رواه أحمد وابن ماجة والبيهقي والحاكم وقال: صحيح الإسناد على شرط مسلم ووافقه الذهبي وقال العلامة الألباني: صحيح. إرواء الغليل 3/408. وقد قرر فقهاء الإسلام قاعدة شرعية مأخوذة من الحديث النبوي السابق تقول: " لا ضرر ولا ضرار"، فمن حق الإنسان أن يتصرف فيما يملك، ولكن بشرط أن لا يلحق الضرر بغيره، وإذا طبقنا هذه القاعدة على واقع الجدار يعرف الجواب بأدنى تأمل. رابعاً: ألم تسمعوا بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (عُذبت امرأةٌ في هرة سجنتها حتى ماتت فدخلت فيها النار لا هي أطعمتها وسقتها إذ حبستها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض) . رواه البخاري ومسلم. خامساً: ألم تسمعوا بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (كفى بالمرء إثماً أن يحبس عمن يملك قوته) رواه البخاري ومسلم. وقد عدَّ العلماء ما ورد في هذا الحديث والذي قبله من كبائر الذنوب. انظر الكبائر للإمام الذهبي. سادساً: ألا تعلمون أيها المشايخ أن قطاع غزة كان تحت الحكم المصري منذ عام 1948م وحتى وقع تحت الاحتلال عام 1967م فدولتكم مسئولة عن القطاع وسكانه شرعاً وقانوناً وعرفاً. سابعاً: توافق صدور فتواكم مع قيام عدد كبير من المتضامنين الغربيين بالتظاهر وسط القاهرة مطالبين برفع الحصار عن قطاع غزة، وتزامن صدور فتواكم مع قيام مجموعة أخرى من الغربيين بتسيير قافلة شريان الحياة المحملة بمواد الإغاثة للذهاب إلى غزة، فهؤلاء الغربيين قاموا بما تمليه عليهم انسانيتهم تجاه أهل غزة!! وأنتم تناسيتم ما يمليه عليه دينكم من وجوب الوقوف مع إخوانكم في الدين وما تمليه عليكم عقيدتكم، أما عرفتم ما تقرره عقيدة أهل السنة والجماعة في هذه القضية، إن كل مسلم يفهم حقيقة هذا الدين فهماً صحيحاً، لا بد أن يقدم ما يستطيع لنصرة المسلمين المستضعفين الذين يتعرضون لأشرس الحروب وأقذرها، ومن لم يفعل فعليه أن يراجع نفسه، لأن منهج أهل السنة والجماعة يقضي أن يقف المسلم مع أخيه المسلم، وأن يكون عوناً له، قال شيخ الإسلام ابن تيمية عند حديثه عن أصول أهل السنة ولجماعة: [ثم هم مع هذه الأصول يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر على ما توجبه الشريعة. ويرون إقامة الحج والجهاد والجمع والأعياد مع الأمراء أبراراً كانوا أو فجاراً، ويحافظون على الجماعات. ويدينون بالنصيحة للأمة، ويعتقدون معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص؛ يشدُ بعضُه بعضاً وشبَّك بين أصابعه، وقوله صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد؛ إذا اشتكى منه عضو؛ تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر) . ويأمرون بالصبر عند البلاء، والشكر عند الرخاء والرضا بمر القضاء] العقيدة الواسطية. وأما من يخذل المسلمين ويسهم في حصارهم ويمنع العون عنهم فإن الله عز وجل سيخذله، كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من امرئٍ يخذل امرأ مسلماً في موطن ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلا خذله الله تعالى في موطن يحب فيه نصرته، وما من أحدٍ ينصر مسلماً في موطن ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلا نصره الله في موطن يحب فيه نصرته) رواه أحمد وأبو داود وحسنه العلامة الألباني في صحيح الجامع حديث رقم 5690.(18/1)
2 - المواد المضافة للأطعمة والأشربة
يقول السائل: ما حكم المواد الغذائية والمشروبات المصنعة التي تدخلها مواد مضافة غير معلومة المصدر، ويقال إنه ينتج عن استعمالها أضرار صحية فما الحكم في ذلك، أفيدونا؟
الجواب: من أهم المشكلات المعاصرة التي يواجهها الناس في الطعام والشراب والدواء هي المواد المضافة، وعرفتها موسوعة ويكبيديا بأنها: أي مادة تضاف إلى الغذاء وتعمل على تغيير أيٍ من صفاته، أو هي جميع المواد التي ليست من المكونات الطبيعية للأغذية وتضاف إليها قصداً في أي مرحلة من إنتاجها إلى استهلاكها، وتضاف بغرض تحسين الحفظ أو الصفات الحسية أو الطبيعية أو الحد من تعريض المستهلك للتسمم وغيره من الأضرار الصحية نتيجة الحفظ غير الجيد للغذاء ... إلخ فهي مواد تضاف إلى الأطعمة لكي تحافظ على نكهتها، أو لتحسن مذاقها أو مظهرها] ويندرج تحت المواد المضافة العديد من الأنواع على سبيل المثال: المواد الحافظة: وهي أي مواد تضاف لتثبيط أو ايقاف تحلل الأغذية بواسطة الكائنات الحية الدقيقة وبالتالي تؤدي إلى إطالة الفترة التخزينية للغذاء ومن أمثلتها بنزوات الصوديوم وحمض السورييك. والمواد المثبتة: وتسمى أحياناً بالمواد الرابطة وتستعمل لربط الماء وزيادة اللزوجة وتكوين الجل كما في حالة الجلي. والمواد الملونة وتنقسم هذه المواد إلى قسمين: المواد الملونة الطبيعية والمواد الملونة الصناعية، أما الطبيعية فهي عبارة عن مواد يتم استخلاصها من مصادر نباتية أو حيوانية أو معدنية أو أية مصادر أخرى. أما المواد الملونة الصناعية فهي مواد يتم إنتاجها صناعياً أو بأية وسيلة تركيبية وتعطي لوناً مميزاً عند إضافتها إلى المواد الغذائية. ومضادات الأكسدة وهي مواد تستخدم لحماية المنتجات الغذائية من الفساد الناتج عن الأكسدة، وذلك لمنع أو تأخير علامات التزنخ وهو تطور الرائحة الكريهة في المنتجات الغذائية المحتوية على نسبة عالية من الدهون والزيوت. عن الإنترنت. وهناك عدد من الاشتراطات الصحية لا بد من توفرها في المواد المضافة في الطعام والشراب والدواء ومنها: 1- لابد من تحديد الغرض الذي تضاف بسببه، ولابد من التأكد من صلاحيتها لهذا الغرض. 2- يلزم المصنع ألا يضيف أي مادة بهدف خداع المستهلك، أو تغطية عيب في المنتج التجاري، كأن تضاف مادة نكهة لتخفي فساد المنتج. 3- يجب ألا تقلل من القيمة الغذائية لمادة الغذائية التي أضيفت إليها. 4- لابد أن يثبت أنها غير مضرة بالصحة، وأن تكون مصرحاً بها للاستخدام من المنظمات العالمية. 5- يجب أن تتوفر طرائق لتحليلها ومعرفة كميتها في الأغذية التي أضيفت لها. وقد قررت جهات علمية وصحية تهتم بالطعام والشراب والدواء أنه قد ينتج عن استعمال المواد المضافة في الطعام والشراب والدواء أضرار صحية على المدى القريب والبعيد، يقول أحد الباحثين في التصنيع الغذائي [إن هذه المواد المضافة العديدة يمكن أن تمثل خطراً حقيقياً أو يمكن أن تحدث تغييرات خطيرة في الغذاء. إن التغييرات السلبية التي قد تحدثها المضافات للغذاء يمكن أن تأخذ إحدى صورتين: تخفيض أو تعديل مكونات غذائية مهمة، وفي هذه الحالة قد تتحطم العناصر الغذائية كلياً أو جزئياً أو تعدل كيميائياً بحيث تقل الفعالية الحيوية لها، الأمر الذي قد يؤدي إلى فقد في القيمة الغذائية للغذاء. تحول المكونات بطريقة قد تسبب ضرراً واضحا ... وقد أصبح معروفاً أن بعض المواد المضافة مسؤولة عن إصابة الإنسان بالسرطان مثل الهيدروكربونات عديدة الحلقات مثل 2، 3 بنزوبيرين وبعض صبغات الأنلين، والأفلاتوكسينات ... كما قد يؤدي استعمال المواد المضافة إلى تكوين مواد سامة في الغذاء ومن الأمثلة على ذلك تكون سلفوكسيمين المثيونين في الطحين نتيجة لمعاملته بمادة التبيض المسماة كلوريد النيتروجين الثلاثي، حيث وُجد نتيجة للدراسات على الكلاب أن الطحين المعامل بمادة كلوريد النيتروجين الثلاثي يؤدي إلى تشنجات، ويعود ذلك إلى تكون مادة سلفوكسيمين المثيونين..] بحث الإضافات الغذائية استخدامها وأثرها على الإنسان للدكتور إبراهيم عفانة. وهنالك سلبيات أخرى للمواد المضافة، ويمكن إيجازها فيما يلي: 1- تعمل على تغطية بعض العيوب الموجودة في الغذاء. 2- تعمل على تحسين الصفات الظاهرية أحياناً على حساب القيمة الغذائية. 3- تؤدي إلى التساهل في مراعاة الاشتراطات الصحية اعتماداً على إضافة مواد للغذاء. 4- يؤدي التحسين من صفات الغذاء الحسية إلى زيادة الإقبال عليه وتناول كميات أكبر منه، ما يزيد الكمية المتناولة من المادة المضافة وفي ذلك خطورة على الأطفال خاصة، إذ يزيد إقبالهم على المواد الغذائية الملونة بألوان اصطناعية، أو التي تحتوي نكهات اصطناعية فتزيد من فرص ظهور أضرار تلك المواد عليهم. 5- بعض المواد المضافة لها أثر سام على المدى الطويل. 6- لا يكتفي بعض المصنعين بإضافة الحدود المسموح بها من تلك المواد وفي هذا ضرر بالمستهلك.] عن الإنترنت. إذا تقرر هذا فإن كثيراً من المصانع المنتجة للأطعمة والأشربة المصنعة لا تفصح دائماً عن حقيقة المواد المضافة في منتجاتها، فمثلاً يذكرون الدهن الحيواني ولا يذكرون أنه من دهون الخنزير أو من الأبقار مثلاً، ويذكرون الجيلاتين ولا يبينون هل هو جيلاتين نباتي أو حيواني؟ ويضاف إلى ذلك مسألة استعمال الرموز للمواد المضافة (يستعملون الحرف الإنجليزي (E ويتبعونه برقم مثلاً E105) وعدد هذه المواد كبير جداً مما يجعل معرفة حقيقة هذه المواد المضافة أمراً صعباً للغاية. وتم تقسيم المواد المضافة إلى أربعة أقسام رئيسية هي: المواد الملونة: وقد رمز لها بالحرف (E) تتبعه الأرقام من 100 إلى 199. المواد الحافظة: وقد رمز لها بالحرف (E) تتبعه الأرقام من 200 إلى 299. مضادات الأكسدة: وقد رمز لها بالحرف (E) تتبعه الأرقام من 300 إلى 399. المواد المستحلبة والمثبتة: وقد رمز لها بالحرف (E) تتبعه الأرقام من 400 إلى 499. وكثير من هذه المواد المضافة صدرت تحذيرات من جهات علمية وصحية بأن لها أضراراً على صحة الإنسان، وهي موجودة في كثير من المنتجات الغذائية وفي المشروبات المختلفة الموجودة في الأسواق. وبناءً على كل ما سبق ونظراً لجهالة حقيقة المواد المضافة ومدى أضرارها، ونظراً لضعف الثقة بالمنتجين، حيث يغلب عليهم الجشع والطمع، وأكثر المنتجين للأغذية المصنعة والمشروبات هم من غير المسلمين، الذين لا يعرفون حراماً ولا حلالاً، فإني أدعو إلى الحذر الشديد من المنتجات المصنعة بشكل عام، وأدعو إلى العودة إلى الأشياء الطبيعية في مجال الطعام والشراب، وأقول إنه من الصعوبة بمكان إصدار حكم دقيق يشمل المواد المضافة في الطعام والشراب والدواء، لأن ذلك لا بد أن يكون عن معرفة حقيقية بمكونات كل نوع من الأطعمة والأشربة والأدوية، وعددها قد يصل إلى مئات الألوف، وهذا أمر عسر جداً، وقد استعرضت بعض الفتاوى الصادرة عن عدد من المفتين والهيئات العلمية فوجدتها تتكلم بشكل عام وتضع قيوداً يصعب التحقق من وجودها بسبب ما أشرت إليه قبل قليل، جاء في فتاوى الشبكة الإسلامية: [المواد التي تضاف إلى الأغذية (مطعومة أو مشروبة) بغرض حفظها أو تلوينها، منها ما هو طبيعي كالملح والزيت ونحو ذلك، ومنها ما هو صناعي يدخل فيه كثير من المركبات العضوية وغير العضوية. وفائدة هذا هو: منع أو تأخير أو إيقاف تكاثر الجراثيم الملوثة للغذاء، أو تثبيت لونه بحيث يكون عامل جذب للمستهلك. وقد تظهر السلعة بصورة طازجة وليست كذلك، لما للون المستخدم من أثر فعال في ذلك، ويرمز لكل من المواد الحافظة والملونة بالرمز (E) مع رقم معين يدل على نوع المادة المضافة. وقد تدخل في هذه المواد المضافة أجزاء حيوانية مثل العظم ونحو ذلك، ولا بأس بها إن كانت من حيوان مذكى ذكاة شرعية. وأما ما أخذ من حيوان غير مذكى أو ذكي ذكاة غير شرعية، أو أخذ من آدمي فيحرم تناول الغذاء المشتمل عليه، لأن ما ذكي ذكاة غير شرعية وما لم يذك ميتة لا يجوز أكل شيء منه، ويحرم كذلك أكل شيء من آدمي، أو حيوان لا تبيحه الذكاة كالخنزير، أجمع على ذلك أهل العلم. ومكمن الضرر في المواد الحافظة والملونة- بصفة عامة - أن منها مواد تضر بصحة الإنسان، إذ تؤدي إلى حالات سرطان على المدى الطويل. وقد نصت هيئات الرقابة الغذائية على ضرورة عدم استخدام مواد معينة (للحفظ أو التلوين) ثبت ضررها، وحددت كذلك نسبة هذه المواد المسموح باستخدامها، لأنها بزيادتها عن المعدل المطلوب تتحول إلى سموم يتناولها الإنسان. فنخلص من ذلك إلى أنه لا يجوز تناول الأطعمة والأشربة التي تشتمل على مواد حافظة أو ملونه دخل في تركيبها شيء أخذ من آدمي أو حيوان غير مذكى، وإذا كان يتعذر معرفة ذلك فإنه يجتنب ما اشتمل على مادة حافظة أخذت من حيوان، إلا ما غلب على الظن أنه أخذ من حيوان مذكى ذكاة شرعية. وكذلك لا يجوز تناول الأغذية المشتملة على مواد حافظة أو ملونة ثبت ضررها، لقوله تعالى {ولا تقتلوا أنفسكم} سورة النساءالآية29، وقوله صلى الله عليه وسلم (لا ضرر ولا ضرر) رواه مالك. ويحرم على الصناع استخدام المواد المحرمة أو المضرة بالصحة في الأغذية، وعلى المستهلك توخي الحذر وأخذ الحيطة عند شرائه أغذية تحتوي على مواد حافظة، ولو أمكن تجنب هذه الأغذية قدر المستطاع فهو أولى] وأقول هنالك صعوبة واضحة في التحقق مما ذكرته الفتوى.
وخلاصة الأمر أنه لا شك في الأضرار التي تنتج عن المواد المضافة للأغذية والأشربة المصنعة، وأنه يصعب إصدار حكم شرعي عام في حقيقة هذه المواد، والذي ننصح به هو تجنبها بقدر الاستطاعة، وعلى أصحاب مصانع الأغذية والمشروبات والأدوية والتجار المستوردين لها في بلادنا أن يراعوا الحلال والحرام في منتجاتهم وأن يتقوا الله في ذلك، وأن يعلموا أنهم مسؤولون أمام الله عز وجل الذي لا تخفى عليه خافية، وأن يجنبوا الناس تناول المحرمات، وما فيه أضرار، وأن يبعدوهم عن الشبهات.(18/2)
3 - حكم عملية ربط المعدة
يقول السائل: إنه يعاني من زيادة الوزن المفرطة مما سبب له مشكلات صحية كثيرة، وقد استعمل عدة وسائل لتخفيف الوزن بدون فائدة وقد نصحه بعض الأطباء بعملية ربط للمعدة، فهل هذا الأمر جائز شرعاً، أفيدونا؟
الجواب: شرع الإسلام التداوي، فإذا مرض الإنسان أو طرأ عليه ما يخل بصحته كالسمنة المفرطة فعليه أن يعالج ما يعرض لصحته من عوارض، وقد دلت نصوصٌ كثيرةٌ على جواز التداوي، منها ما جاء في حديث أسامة بن شريك رضي الله عنه قال: قالت الأعراب يا رسول الله ألا نتداوى؟ قال: (نعم عباد الله، تداووا، فإن الله لم يضع داءً إلا وضع له شفاءً إلا داءً واحداً، قالوا يا رسول الله، وما هو؟ قال: الهرم) رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجة وغيرهم، وقال العلامة الألباني: حديث صحيح كما في صحيح سنن أبي داود حديث رقم 3264. وورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما أنزل الله من داء، إلا أنزل له شفاء) رواه البخاري ومسلم. وجاء في الحديث عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لكل داء دواء، فإذا أصيب دواء الداء، برأ بإذن الله) رواه مسلم. وغير ذلك من النصوص.
ولا شك أنه يترتب على السمنة المفرطة أضرار صحية كثيرة، لذا فإن علاج السمنة المفرطة داخل تحت عموم النصوص التي تدل على جواز التداوي، وهنالك وسائل ينبغي لمن كانت عنده سمنة مفرطة أن يستعملها قبل اللجوء إلى عملية ربط المعدة، ومن أهمها تقليل الطعام والشراب، فكثرة الطعام والشراب من الأسباب الرئيسة للسمنة المفرطة، وقد وجهنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى التقليل منهما، بل ذكر أن كثرة الطعام من الشرور، كما ورد في الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (ما ملأ آدميٌ وعاءً شراً من بطنه، بحسب ابن آدم أكلات يُقْمنَ صُلْبَهُ، فإن كان لا محالة، فثلثٌ لطعامه، وثلثٌ لشرابه، وثلثٌ لنَفَسِه) رواه أحمد والترمذي والنسائي والحاكم، وقال العلامة الألباني: صحيح. سلسلة الأحاديث الصحيحة، حديث رقم 2265. وورد في الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً عظيم البطن فقال بإصبعه لو كان هذا في غير هذا لكان خيراً لك) رواه أحمد والطبراني بإسناد جيد وقال الهيثمي رجاله رجال الصحيح. وقال الشيخ الساعاتي: [لو كان العظم في غير البطن من أعضائه ... كان خيراً لأن عظم البطن يثقل الرجل ويضره ولا يفيده لأنه ينشأ عن كثرة الأكل وكثرة الأكل مذمومة فكأنه صلى الله عليه وسلم يحثه على التقليل من الأكل والشرب لأنه أصح للبدن) الفتح الرباني 17/218.
ومن الوسائل التي تعين على تخفيف السمنة، المداومة على الصوم، كصيام الاثنين والخميس وغيرهما من الأيام كما ورد في الحديث
عن ربيعة بن الغاز أنه سأل عائشة رضي الله عنها عن صيام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: (كان يتحرى صيام الاثنين والخميس) رواه ابن ماجة وابن خزيمة وغيرهما وصححه العلامة الألباني في صحيح سنن ابن ماجة حديث رقم 1414. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من الشهر السبت والأحد، والاثنين، ومن الشهر الآخر الثلاثاء والأربعاء، والخميس) رواه الترمذي وقال: حديث حسن. ومن الوسائل المعينة على التخلص من السمنة المفرطة ممارسة الرياضة، وخاصة رياضة المشي. فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير) رواه مسلم.
إذا تقرر هذا، فإن عملية ربط المعدة وهي عملية تجرى لتصغير المعدة، تجوز إذا استنفذت الوسائل الأخرى لعلاج السمنة المفرطة التي أشرت إليها، فحينئذ تكون هنالك حاجةٌ ماسةٌ لإجراء هذه العملية، ولا بد من تحقق الضوابط والشروط الشرعية المقررة لجواز العمليات الجراحية بشكل عام وهي:
[الشرط الأول: أن تكون الجراحة مشروعة: فلا يجوز للمريض أن يطلب فعل الجراحة ولا للطبيب أن يجيبه إلا بعد أن تكون تلك الجراحة مأذوناً بفعلها شرعاً، لأن الجسد ملك لله رب السماوات والأرض وما فيهن? فلا يجوز للإنسان أن يتصرف فيه إلا بإذن المالك الحقيقي. الشرط الثاني: أن يكون المريض محتاجاً إلى الجراحة: أي بأن يخاف على نفسه الهلاك أو تلف عضو من أعضاء جسده أو دون ذلك كتخفيف الألم. الشرط الثالث: أن يأذن المريض أو وليه بفعل الجراحة: فإذا رفض المريض ولو كان يتألم فلا يجوز للطبيب أن يجري الجراحة حتى يأذن له.
الشرط الرابع: أن تتوفر الأهلية في الطبيب الجراح: ويتحقق هذا الشرط بوجود أمرين: أن يكون ذا علم وبصيرة بالعملية المطلوبة، وأن يكون قادراً على تطبيقها وأدائها على الوجه المطلوب، فلو كان جاهلاً بالكلية كأن تكون خارجة عن اختصاصه أو جاهلاً ببعضها فإنه يحرم عليه فعلها، ويعتبر إقدامه عليها في حال جهله بمثابة الجاني المعتدي على الجسم المحرم بالقطع والجرح. وهنا لا بد من استشارة الأطباء الأخصائيين الثقات قبل القيام بعملية ربط المعدة.
الشرط الخامس: أن يغلب على ظن الطبيب الجراح نجاح الجراحة: بمعنى أن تكون نسبة نجاح العملية ونجاة المريض من أخطارها أكبر من نسبة عدم نجاحها وهلاكه، فإذا غلب على ظنه هلاك المريض بسببها فإنه لا يجوز له فعلها.
الشرط السادس: ألا يوجد البديل الذي هو أخف ضرراً من الجراحة: كالعقاقير والأدوية، فإن وجد البديل لزم المصير إليه صيانة لأرواح الناس وأجسادهم حتى لا تتعرض لأخطار الجراحة وأضرارها ومتاعبها كالقرحة الهضمية في بدايته يتم علاجه بالعقاقير والتي ثبت مؤخراً تأثيرها على القرحة وأنها أنجح العلاجات وأفيدها. وقد أشرت لبدائل عملية ربط المعدة. أما إذا كان الدواء أشد خطراً وضرراً ولا ينفع في علاج الداء أو زواله فإنه لا يعتبر موجباً للصرف عن فعل الجراحة كبعض الأمراض العصبية حيث يمكن علاج المريض بالعقاقير المهدئة لكنها لا تنفع في زوال الداء وقد تسبب الإدمان فوجود البديل على هذا الوجه وعدمه سواء. وهنا لا بد من التأكيد أنه إذا ترتب ضرر أكبر على عملية ربط المعدة فتحرم حينئذٍ لقوله تعالى: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} سورة البقرة الآية 195، ولقوله تعالى: {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً} سورة النساء الآية 29.
الشرط السابع: أن تترتب المصلحة على فعل الجراحة: إنما شرعت الجراحة لمصلحة الأجساد ودفع ضرر الأسقام عنها فإذا انتفت تلك المصالح وكانت ضرراً محضاً، فإنه حينئذ ينتفي السبب الموجب للترخيص بفعلها شرعاً وتبقى على أصل الحرمة، ومثال على هذا جراحة إزالة الثآليل بالقطع أو الكت الجراحي فقد ثبت طبياً أن الثآليل لا تزول بالعمل الجراحي، بل فعل القطع والكحت ينتهي بالمصاب إلى عواقب وخيمة وأضرار منها العدوى الجرثومية وتندب موضع الجراحة. وينبغي في هذه المصلحة أن تكون من جنس المصالح التي شهد الشرع باعتبارها وأنها مصلحة مقصودة، أما المبنية على الهوى كجراحة تغيير الجنس فلا يجوز فعلها لعدم اعتبار الشرع لها. الشرط الثامن: أن لا يترتب على فعلها ضرر أكبر من ضرر المرض: كجراحة التحدب الظهري الحاد فالغالب فيها أنها تنتهي بالشلل النصفي، فعلى الطبيب أن يقارن بين نتائج ومفاسد الجراحة ومفاسد المرض، فإن كانت المفاسد التي تترتب على الجراحة أكبر من المفاسد الموجودة في المرض حرمت الجراحة، لأن الشريعة لا تجيز الضرر بمثله أو بما هو أشد، وأما إذا كان العكس فتجوز.] الوجيز في أحكام الجراحة الطبية والآثار المترتبة عليها بتصرف يسير، وانظر للتوسع أحكام الجراحة الطبية للدكتور محمد الشنقيطي ص 104-125.
وخلاصة الأمر أن عملية ربط المعدة جائزةٌ شرعاً، إذا استنفذت الوسائل الأخرى لعلاج السمنة المفرطة، ضمن الشروط الشرعية المقررة لأحكام الجراحة الطبية.(18/3)
4 - وفاة العلماء
ولكن العلماء لا بواكي لهم
وفاة العلماء أ. د. حسام الدين عفانة / جامعة القدس
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يترك عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا) رواه البخاري ومسلم. وورد في الحديث من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين) وهو حديث حسن. وقال علي رضي الله عنه: (يموت العلم بموت حملته) رواه الخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: (عليكم بالعلم قبل أن يُرفع، ورفعُهُ هلاك العلماء) رواه الدارمي. ولا شك أن موت العلماء يعتبر خسارة عظيمة للأمة كما قال الشاعر: تعلَّم ما الرزيَّة فَقْدُ مالٍ ولا شاةٌ تموت ولا بعيرُ ولكن الرزيَّةُ فَقْدُ حُرٍّ يموت بموته بشرٌ كثيرُ
وكما قال الآخر: الأرض تحيا إذا ما عاش عالمها متى يمت عالم منها يمت طرف
كالأرض تحيا إذا ما الغيث حل بها وإن أبى عاد في أكنافها التلف
فقدت الأمة الإسلامية هذا الأسبوع عالمين جليلين من كبار العلماء المتخصصين في الفقه وأصوله، أما أولهما فهو العلامة شيخ الأصول في بلاد الشام الشيخ الدكتور مصطفى سعيد الخن الذي توفي يوم الجمعة 1 شباط 2008 حيث مات ميتةً كريمة في المسجد أثناء استماعه لخطبة الجمعة، وهذه نبذة موجزة عنه: هو مصطفى بن سعيد بن محمود الخن، الشَّافعي، الدِّمشقي، من أسرةٍ دمشقيةٍ عريقةٍ، وقد تتلمذ على الشَّيخ حسن حبنكة وعلى الشَّيخ علي بن عبد الغني الدقر وعلى الشَّيخ محمد أمين سويد وعلى الشَّيخ إبراهيم بن محمَّد الغلاييني وغيرهم، التحق بالجامع الأزهر عام 1369هـ -1949م وحصل على شهادته ثم اشتغل بعد تخرجه بالتَّدريس في كلِّية الشَّريعة بجامعة دمشق، ثم أعير لكلِّية الشَّريعة واللُّغة العربية، بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في الرياض، ثم رجع إلى الأزهر فسجل رسالة الدكتوراه بعنوان (أثر الاختلاف في القواعد الأصولية في اختلاف الفقهاء) بإشراف الأستاذ الدكتور مصطفى عبد الخالق، وحصل على الدكتوراه عام (1391هـ-1971م) مع مرتبة الشَّرف الأولى. عُيِّن بعدها في كلِّيي الشَّريعة والتَّربية بجامعة دمشق، ثم رجع إلى كلِّية الشَّريعة بجامعة الإمام محمَّد بن سود الإسلاميَّة، وأشرف على عدد من رسائل الماجستير والدكتوراه.
أهم مؤلفاته1. أثر الاختلاف في القواعد الأصولية في اختلاف الفقهاء. وكتابه هذا يدرس في عدة جامعات لطلبة الدراسات العليا. 2. عبد الله بن عباس: حبر الأمة وترجمان القرآن. 3. دراسة تاريخية للفقه وأصوله والاتِّجاهات التي ظهرت فيهما. 4. الحسن بن يسار البصري الحكيم الواعظ والزَّاهد العالم. 5. الأدلَّة الشَّرعية وموقف الفقهاء من الاحتجاج بها. 6. أبحاثٌ حول أصول الفقه الإسلامي (تاريخه وتطوره) . 7. الكافي الوافي في أصول الفقه الإسلامي. 8. (المنهل الراوي، في تقريب النواوي) ، للإمام الفقيه المحدث أبي زكريا النووي. تحقيق 9. (تسهيل الحصول على قواعد الأصول) ، للعلامة محمد أمين سويد. تحقيق10. (نزهة المتَّقين شرح رياض الصَّالحين من كلام سيِّد المرسلين) ، وقد شارك بالتَّأليف الدكتور مصطفى البغا والدكتور محيي الدين مستو والأستاذ علي الشربجي، والأستاذ محمد أمين لطفي. 11. (الفقه المنهجي على مذهب الإمام الشافعي) ، وقد شارك بالتَّأليف الدكتور مصطفى البغا والأستاذ علي الشربجي. 12. (العقيدة الإسلامية) : أركانها- حقائقها- مفسداتها، وقد شارك بالتَّأليف الدكتور محيي الدين مستو. 13. (الإيضاح في علوم الحديث والاصطلاح) ، وقد شارك بالتَّأليف الدكتور بديع اللحام 14. (حسن الأسوة بما ثبت عن الله ورسوله في النسوة) ، محمد صديق القَنُّوجي البخاري. بالاشتراك مع الدكتور محيي الدين مستو. 15. (إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول) ، للإمام الشوكاني. بالاشتراك مع الدكتور محيي الدين مستو. 16. (أنوار التنزيل وأسرار التأويل) ، للبيضاوي. بالاشتراك مع الدكتور محيي الدين مستو، والدكتور بديع اللحام. 17. (المنهاج القويم في مسائل التَّعليم) ، لابن حجر الهيتمي. بالاشتراك مع الدكتور محيي الدين مستو، والأستاذ علي الشربجي. وقد كتب عنه د. محيي الدين مستو كتابه: (مصطفى سعيد الخن، العالم المربِّي، وشيخ علم أصول الفقه في بلاد الشام) وقد أسلم روحه لبارئها بعد تسع وثمانين سنة أمضاها في طلب العلم والتعليم والتأليف والنصح للمسلمين.
وأما العالم الثاني الذي فقدناه يوم الثلاثاء 28/1/1429 هـ وفق 5/2/2008م فهو فضيلة الشيخ العلامة الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد رئيس مجمع الفقه الإسلامي الدولي وعضو هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية وعضو اللجنة الدائمة للإفتاء سابقاً
وهذه نبذة موجزة عنه: ولد عام 1365 هـ. درس في كلية الشريعة بالرياض, عمل أميناً للمكتبة العامة بالجامعة الإسلامية في المدينة المنورة ومن مشايخه الشيخ القاضي صالح بن مطلق والشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز والشيخ سليمان بن عبد الرحمن بن حمدان, والشيخ محمد الأمين الشنقيطي وغيرهم، نال شهادة الماجستير والدكتوراه من المعهد العالي للقضاء واشتغل قاضياً في المدينة المنورة وكان مدرساً وإماماً وخطيباً في المسجد النبوي الشريف وكان عضواً في مجمع الفقه الإسلامي الدولي, المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي ثم رئيساً للمجمع. وكان عضواً في المجمع الفقهي برابطة العالم الإسلامي.
أما مؤلفاته: فقد ألف في الحديث والفقه واللغة والمعارف العامة وكتبه تزيد على الستين كتاباً، أولاً في الفقه: 1 - 15 فقه القضايا المعاصرة: (فقه النوازل) ثلاثة مجلدات فيها خمس عشرة قضية فقهية مستجدة وهي: التقنين والإلزام والمواضعة في الاصطلاح وأجهزة الإنعاش وعلامة الوفاة وطفل الأنابيب وخطاب الضمان البنكي والحساب الفلكي والبوصلة والتأمين والتشريح وزراعة الأعضاء وتغريب الألقاب العلمية وبطاقه الائتمان وبطاقة التخفيض واليوبيل والمثامنة في العقار والتمثيل. 16- (التقريب لعلوم ابن القيم) مجلد. 17- (الحدود والتعزيرات) مجلد. 18- (الجناية على النفس وما دونها) مجلد. 19- (اختيارات ابن تيمية) للبرهان ابن القيم, تحقيق. 20- (حكم الانتماء إلى الفرق والأحزاب والجماعات الإسلامية) مجلد. 21- (معجم المناهي اللفظية) مجلد. 22- (لا جديد في أحكام الصلاة) . 23 - (تصنيف الناس بين الظن واليقين) . 24- (التعالم) . 25- (حلية طالب العلم) . 26- (آداب طالب الحديث من الجامع للخطيب) . 27- (الرقابة على التراث) . 28- (تسمية المولود) . 29- (أدب الهاتف) . 30- (الفرق بين حد الثوب والأزرة) . 31- (أذكار طرفي النهار) . 32- (المدخل المفصل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل) مجلدان. 33- (البلغة في فقه الإمام أحمد بن حنبل) للفخر ابن تيمية, مجلد, تحقيق. 34- (فتوى السائل عن مهمات المسائل) . ثانياً: في الحديث وعلومه: 35- (التأصيل لأصول التخريج وقواعد الجرح والتعديل) . ثلاث مجلدات, طبع منها الأول. 36- (معرفة النسخ والصحف الحديثية) . 37- (التحديث بما لا يصح فيه حديث) . 38- (الجد الحثيث في معرفة ما ليس بحديث) للغزي, تحقيق. 39-43- (الأجزاء الحديثية) مجلد, فيه خمس رسائل هي: 39- (مرويات دعاء ختم القرآن الكريم) جزء. 40- (نصوص الحوالة) جزء. 41- (زيارة النساء للقبور) جزء. 42- (مسح الوجه باليدين بعد رفعهما بالدعاء) جزء. 43- (ضعف حديث العجن) جزء. ثالثاً: في المعارف العامة: 44- 47- (النظائر) مجلد, ويحتوي على أربع رسائل: 44- (العزاب من العلماء وغيرهم) . 45- (التحول المذهبي) . 46- (التراجم الذاتية) . 47- (لطائف الكلم في العلم) . 48- (طبقات النسابين) مجلد. 49- (ابن القيم: حياته, آثاره, موارده) مجلد. 50-54- (الردود) مجلد, ويحتوي على خمس رسائل50- (الرد على المخالف) . 51- (تحريف النصوص) . 52- (براءة أهل السنة من الوقيعة في علماء الأمة) . 53- (عقيدة ابن أبي زيد القيرواني وعبث بعض المعاصرين بها) . 54- (التحذير من مختصرات الصابوني في التفسير) . 55- (بدع القراء) رسالة. 56- (خصائص جزيرة العرب) . 57- (السحب الوابلة على ضرائح الحنابلة) , 3 مجلدات, للشيخ محمد بن عبد الله بن حميد مفتي الحنابلة بمكة ت سنة 1296 هـ تحقيق بالاشتراك. 58- (تسهيل السابلة إلى معرفة علماء الحنابلة) للشيخ/ صالح بن عبد العزيز بن عثيمين المكي- رحمه الله تعالى- تحقيق في مجلدين. 59- (علماء الحنابلة من الإمام أحمد إلى وفيات القرن الخامس عشر الهجري) , مجلد 60- (دعاء القنوت) . 61- (فتح الله الحميد المجيد في شرح كتاب التوحيد) للشيخ حامد بن محمد الشارقي مجلد, تحقيق. 62- (نظرية الخلط بين الإسلام وغيره من الأديان) . 63- (تقريب آداب البحث والمناظرة) . 64- (جبل إلال بعرفات) , تحقيقات تاريخية وشرعية. 65- (مدينة النبي صلى الله عليه وسلم رأي العين) . 66- (قبة الصخرة, تحقيقات في تاريخ عمارتها وترميمها) . رحم الله مشايخنا رحمة واسعة وأسكنهم فسيح جناته وإنَّ لله ما أخذَ وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمَّى، اللهم أجرنا في مصيبتنا واخلف لنا خيراً منها. اللهم اغفر لهم وارحمهم وعافهم واعف عنهم وارفع درجتهم في عليين اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم. وإنا لله وإنا إليه راجعون.(18/4)
5 - مشروبات الطاقة
يقول السائل: هل مشروبات الطاقة المنتشرة في الأسواق من المشروبات المباحة أم لا؟ أفيدونا.
الجواب: بدأ انتشار مشروبات الطاقة منذ بضع سنوات في الأسواق المحلية وأقبل عليها الناس وخاصة فئة الشباب لما صاحب انتشارها من دعايات جذابة حول تأثيرها الفعال [وقد نجحت أساليب الدعاية الخاصة بمشروبات الطاقة في السيطرة على ذهن المستهلك بشكل ربما لم يسبق له مثيل، خاصة في أوساط المراهقين، الذين يبحثون عن وسائل مختلفة، لإثبات أنفسهم في المجالات المختلفة، مثل القوة الجسدية والنجاح في الامتحانات، وقوة التحمل واليقظة وغير ذلك، مما له علاقة بأحلام المراهقين] عن شبكة الإنترنت.
وعن محتويات مشروبات الطاقة تقول د. مريم الجلاهمة [هذه المنتجات تحتوي على 4 مواد رئيسة، هي الكافيين، السكر، التورين وفيتامينات (ب) . ومعظم هذه المشروبات تحتوي على كميات عالية من الكافيين بما يعادل كوباً كبيراً من القهوة المركزة، ويكفي شرب علبةٍ واحدةٍ من هذه المشروبات لتسبب القلق ومشكلات النوم والتبول الليلي للطفل، كما يمكن أن يؤدي الكافيين إلى الإجهاض خصوصاً في الأشهر الثلاثة الأولى من الحمل، حيث إن كوبين كبيرين يومياً من القهوة كافيان لحدوث الضرر. كما أن الكافيين يسبب الأرق، وصعوبة النوم لدى البالغين. إضافة إلى ذلك، فإن محتويات هذه المشروبات من السكر في العلبة الواحدة تعادل 12 ملعقة شاي، وهذه كمية كبيرة جداً تؤدي إلى السمنة. أما المادة الثالثة التي تحتويها هذه المشروبات فهي مادة التورين المستخلصة من عصارة الصفراء من الثيران وهي مادة تستخدم في عمليات حيوية بالجسم لإنتاج الطاقة، إلا أنه ليست هناك معلومات علمية متوافرة بشأن سلامتها، كما تحتوي هذه المشروبات على مجموعات من فيتامينات (ب) وهي فيتامينات يحتاجها الجسم لإنتاج الطاقة، لكن لا توجد مبررات علمية لإضافتها إلى هذه المشروبات، على اعتبار أن تناول غذاء متوازن يفي بحاجة الجسم منها. وفي ذات الإطار، فإن هذه المشروبات لها تأثيرات سلبية على الرياضيين، حيث إن محتوياتها العالية من السكر تؤدي إلى حدوث الجفاف لدى الرياضيين بسبب منع دخول الماء إلى داخل الجسم.] عن شبكة الإنترنت.
وقال الدكتور إبراهيم بن محمد الرقيعي، أستاذ الغذاء والتغذية في معهد بحوث الموارد الطبيعية والبيئة بمدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية [إن هذه المشروبات تحتوي على كمية من الطاق تبلغ 45 سعراً حرارياً، لكل 100مل (120 كيلو سعر لكل علبة 250 مل) ، وعلى نسبة عالية من الكافيين تبلغ 32 ملجم لكل 100 مل مشروب (80 ملجم في علبة سعتها 250 مل) ، واحتمال أن تصيب الإنسان بالجفاف، وأمراض الكلى، وارتفاع ضغط الدم، واضطراب ضربات القلب، والنوبات المرضية، والسكتة الدماغية.] عن شبكة الإنترنت.
وقد قامت عدة جهات صحية وعلمية بدراسات حول مشروبات الطاقة وقد أكدت هذه الدراسات على أضرار تناولها وأن لمشروبات الطاقة تأثيرات سلبية ضارة لصحة الإنسان فقد جاء في دراسة للدكتور فهد بن صالح العريفي استشاري الأطفال ورئيس قسم الطوارئ والإسعاف في مستشفى الملك فيصل التخصصي ومركز الأبحاث بالرياض: [مشروبات طاقة المتداولة خاصة بين فئة المراهقين والتي يعتقدون أنها تمدهم بالطاقة لها أضرار لا تحمد عقباها خاصة عند تناولها بشكل متكرر خلال 24 ساعة ومن خلال عملنا في أقسام الطوارئ تأتي حالات كثيرة من الأطفال والمراهقين بأعراض تتعلق بارتفاع مادة الكافيين والتي تزيد عن معدل ما هو موجود في المرطبات والتي تصل إلى 20 ضعفاً في بعض تلك المشروبات، ومن الأعراض الناتجة عن ارتفاع معدل مادة الكافيين في الدم عند هؤلاء الأطفال والمراهقين التي تتمثل في ازدياد دقات القلب تصل إلى 150 في الدقيقة وارتفاع في ضغط الدم وزيادة تدفق الدم للعضلات وتقليل كمية الدم إلى الجلد وهذا ما نلاحظه من شحوب في الوجه في حالات التسمم] عن شبكة الإنترنت.
وتقول الجمعية السعودية لعلوم الغذاء والتغذية: إن التناول المفرط لمادة الكافيين، المتوفرة بنسبة عالية في مشروبات الطاقة، من شأنه أن يثير القلق الحقيقي، لأن للكافيين تأثيرات سلبية، مثل زيادة معدل نبضات القلب، وارتفاع ضغط الدم، والجفاف، وعلى الرغم من عدم وجود معلومات كافية عن تأثير استهلاك هذه المشروبات، على المرأة الحامل، إلا أن العبوات تحمل تنبيهاً ينصح الحامل بعدم تناولها، أو عدم الإكثار منها، تماماً مثلما ينصح الأطباء الحامل بعدم الإكثار من شرب القهوة والشاي، والمشروبات الغازية التي تحتوي على المنبهات.] عن شبكة الإنترنت. وقال الدكتور عبد العزيز بن محمد العثمان الأستاذ المساعد للتغذية الإكلينيكية في كلية العلوم الطبية التطبيقية بجامعة الملك سعود بالرياض: [والذي لا يعرفه الكثيرون أن تلك المشروبات تسبب القلق بعد فترة من تناولها بسبب الكمية الكبيرة من الكافيين، فبعد فترة من الزمن يستهلك الجسم الكافيين فتقل نسبته في الدم بعد تخلص الجسم منه فيؤدي ذلك إلى حالة من القلق، وتلك حالات مشابهة لتأثير المخدرات، لو تزداد الكمية لأدت بالتأكيد إلى عدم انتظام ضربات القلب، ومشاكل النوم، وبعض الأعراض النفسية "الانسحابية" والصداع، وأكدت الدراسات الطبية بأن هذه المشروبات تساهم في ارتفاع ضغط القلب وزيادة نسبة السكر في الدم والأرق وآلام الصداع والقلق ونزيف الأنف والنوبات المرضية، ومشاكل تسوس الأسنان، وتقليل الاعتماد على النفس كأحد التأثيرات النفسية للمواد المخدرة.] عن شبكة الإنترنت. وأفادت حصيلة دراسة طبية أميركية جديدة بوجود ارتباط بين استهلاك مشروبات الطاقة وارتفاع ضغط الدم أو مخاطر الإصابة بأمراض القلب، حسب ما أورده تقرير لشبكة "إي فلوكس ميديا" العلمية. وأجرى هذه الدراسة فريق بحث طبي بقيادة الدكتور جيمس كالوس، المدير الأول لخدمات رعاية المرضى في مستشفى هنري فورد بمدينة ديترويت، وقدمت نتائجها في فعاليات المؤتمر العلمي السنوي لرابطة طب القلب الأمريكية لهذا العام (2007) ، الذي انعقد مؤخراً بمدينة أورلاندو بولاية فلوريدا… واكتشف الباحثون أن مستويات ضغط الدم ومعدلات دقات القلب قد ارتفعت في كل القياسات التي أجريت بعد اليوم الأول. وارتفع معدل دقات القلب بزيادة تصل إلى 11% في اليوم السابع. وتشير هذه النتائج تحديداً إلى أنه قد تكون هناك خطورة، عندما يتجاوز تناول هذه المشروبات مقدار علبتين في اليوم الواحد، خاصة في حالة الأشخاص المرضى بأمراض القلب. وينصح الدكتور جيمس كالوس الأشخاص الذين يعانون من ارتفاع في ضغط الدم ودقات القلب بأن يتجنبوا هذه المشروبات. وأضاف أنه لا ينبغي أن تؤخذ هذه المشروبات مع النشاط البدني أو مع غيرها من المشروبات التي تسبب ارتفاعاً في ضغط الدم.] عن شبكة الإنترنت. إذا تقرر أن مشروبات الطاقة ضارة بصحة الإنسان كما هو ثابت في كثير من التقارير الطبية والعلمية المنشورة على شبكة الإنترنت، فإنه يجب إخراج مشروبات الطاقة من دائرة المباح، لأننا إذا طبقنا قواعد إباحة الأطعمة والأشربة المقررة شرعاً عليها نحكم بخروجها من دائرة المباح، يقول الله تعالى {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} سورة النساء الآية 29، ويقول تعالى {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} سورة البقرة الآية 195، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار) رواه ابن ماجة والدارقطني والحاكم وغيرهم وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة حديث رقم 250. وإذا أخرجنا مشروبات الطاقة من دائرة المباح فإنها تكون في دائرة الحرام أو المكروه، ولا أستطيع أن أجزم بالتحريم، لأن التحريم يحتاج إلى نص صحيح صريح أو إلى قياس صحيح، فتبقى مشروبات الطاقة ضمن دائرة الكراهة الشديدة القريبة من الحرام، والمسلم يجتنب ما كان كذلك. وقد صح في الحديث قول النبي صلى الله عليه وسلم: (دع ما يريبك إلا ما لا يريبك) رواه أحمد والنسائي والترمذي وقال: حسن صحيح، وصححه ابن حبان والحاكم ووافقه الذهبي. وأخيراً فإن على التجار أن يراعوا الحلال والحرام فيما يبيعون للناس وأن يتقوا الله في ذلك وأن يعلموا أنهم مسئولون أمام الله عز وجل الذي لا تخفى عليه خافية وأن يجنبوا الناس تناول المحرمات ويبعدوهم عن الشبهات. وخلاصة الأمر أن مشروبات الطاقة ضارة بالصحة ويترتب على شربها أخطار كثيرة على صحة الإنسان وحكمها الشرعي الكراهة الشديدة وينبغي للمسلم أن لا يشربها، وفي المشروبات الحلال ما يغني عنها.(18/5)
6 - كتاب (قول يا طير) وما أثير حوله
يقول السائل: ما قولكم في الضجة التي أثيرت حول كتاب (قول يا طير) من قبل بعض المثقفين، وما قامت به وزارة التربية والتعليم من سحب الكتاب من مكتبات المدارس، أفيدونا؟
الجواب: كتاب (قول يا طير) لمؤلفيه د. شريف كناعنة من جامعة بير زيت، ود. ابراهيم مهوّي أستاذ الأدب العربي المعاصر من جامعة إدنبره سكوتلندا، هو كتاب [يضم خمساً وأربعين حكاية خرافية من مئتي حكاية روى معظمها نساء في جميع أنحاء فلسطين (الجليل والضفة الغربية وغزة) . وقد اختارها مؤلفا الكتاب باعتبارها الحكايات الأكثر رواجاً بين أبناء الشعب الفلسطيني ولقيمتها الفنية (جمالياتها وحسن أدائها) ، ولما تبرزه من ملامح عن الثقافة الشعبية في فلسطين. وكان الداعي الأساسي إلى وضع هذا الكتاب لا الحفاظ على فن قصصي نسائي كان واسع الانتشار عندما كان الشعب الفلسطيني يمارس ثقافته على كامل أرضه فحسب، بل أيضاً كي نعرض صورة علمية وموضوعية للثقافة العربية النابعة من أرض فلسطين ومن تراثها الإنساني الذي تضرب جذوره في عروق التاريخ. ولإبراز خصوصية هذه الثقافة كان علينا أن نضع الحكايات باللغة العربية الدارجة التي رويت بها، وأن نرفقها بدراسة معمقة على عدة مستويات تبرز الملامح الوطنية لهذه الثقافة، ... كذا قال المؤلفان. وقد تم توزيع عدد من نسخ الكتاب على المدارس الفلسطينية ليستفيد منه المعلمون لا الطلبة، وفي استمارة اعتمدتها وزارة التربية والتعليم لأحد المُقيمين لكتاب (قول يا طير) ... قبيل توزيعه على المدارس، جاء فيها [إن هذا الكتاب لا توجد له علاقة مباشرة بالمنهاج ولكن بعض القصص الخيالية يمكن الاستفادة منها] . ويفصح المُقيم خلال هذه الاستمارة بصورة واضحة عند إجابته عن الاتجاهات والقيم التي يؤديها هذا الكتاب، بالقول: [يمكن للأطفال أن يتعلموا بعض السلوكيات الخاطئة مثل الكذب والغش والخداع والألفاظ البذيئة، وكذلك الكبار أيضاً.] ثم يضيف [ ... ولكن ينصح أن لا يكون بأيدي الطلبة لاحتوائه على ألفاظ بذيئة ... وفي التنسيب النهائي لهذا المقيم الذي أدى مهمة فحص الكتاب، أوصى بحذف بعض العبارات أو الألفاظ البذيئة قبل توزيعه على الأطفال والطلبة. وذيل هذا الفاحص أو المقيم توصيته بأمثلة على العبارات التي طالب بحذفها مطالبا بالعودة إلى الصفحات (90، 97، 98، 105، 106، 115، 128، 129، 132، 146) من الكتاب. ورغم ذل تم توزيع الكتاب على المدارس دون أخذ هذه التوصية بعين الاعتبار] عن شبكة الإنترنت.
وهذا الكتاب يشتمل على خرافات وقصص من تراث الفلسطيني تشتمل على أمور منكرة مثل ما ورد في الكتاب من زنى الابن بأمه وملاحقة الأب لابنته ليتزوجها ومثل حكاية الشيخ المحتال التي تعطي انطباعاً سيئاً عن قارئ القرآن الكريم ... إلخ، واشتمل الكتاب أيضاً على ألفاظ ساقطة ونابية وعبارات جنسية هابطة كما أن الكتاب قد وضع باللغة العامية الدارجة. والضجة التي أثيرت حول الكتاب ليست بريئة من أهداف غير ثقافية؟؟!! ويظهر ذلك من تعبيرات بعض المحتجين على قرار وزارة التربية بسحب الكتاب - وأتمنى أن لا تكون الوزارة قد تراجعت عنه – ومن هذه التعبيرات (يبدو أن عدوى محاكم التفتيش التي أصابت بعض البلدان العربية قد انتقلت إلى فلسطين) ، (إن هذا الإعدام – سحب الكتاب - يرقى إلى مستوى الجنون الطالباني الذي نسف تمثال بوذا في أفغانستان، رغم قيمته التاريخية والفنية) ، (هذا التفكير الذي ينتمي إلى ممارسات محاكم التفتيش في القرون الوسطى) وأخطر من ذلك أن بعضهم قارن بين كتاب (قول يا طير) وبين القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة فزعم أن فيهما نصوصاً تخدش الحياء!! ولقد أعظم الفرية على كتاب الله عز وجل وعلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
إذا تقرر هذا عن حقيقة كتاب (قول يا طير) فإن وصفه بأنه (كتاب أكاديمي علمي يعد من أمهات كتب التراث الشعبي) وصف في غير محله، وما قيل من أن سحب الكتاب إنما هو اعتداء على الترات الفلسطيني، فكلام باطل، وكأن التراث الفلسطيني مقدس لا يجوز مسه بأي حال من الأحوال. إن التراث الفلسطيني فيه الغث والسمين وفيه النافع والضار وفيه ما يتفق مع عقيدتنا وديننا وفيه ما يخالف ذلك، فيجب أن يخضع التراث الفلسطيني للنقد العلمي، لأنه تراث غير معصوم وغير مقدس، وإذا كانت النصوص المنقولة عن نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم قد خضعت لمعايير النقد عند المحدثين أفلا تخضع الخرافات وقصص الفاحشة والرذيلة للنقد!! أم أن هؤلاء المثقفين يريدون أن يضفوا على التراث قدسية، تجعله فوق النقد وفوق المساءلة وفوق الفحص والاختبار. أم أن هؤلاء المثقفين يرددون علينا ما قاله الجاهليون كما أخبرنا الله عز وجل {وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون} سورة البقرة الآية 170. وقال تعالى {وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون} سورة المائدة الآية 104. وقال تعالى {وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير} سورة لقمان الآية 21. وقال تعالى {بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون} سورة الزخرف الآية 22. وقال تعالى {وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون} سورة الزخرف الآية 23.
ويضاف إلى ما سبق كما أشرت أن كتاب (قول يا طير) كتب باللغة العامية، والأصل أن نعلم أبنائنا اللغة العربية الفصحى
فهي لغتنا، وهي لغة القرآن الكريم ولغة الحديث النبوي الشريف، كما قال تعالى {بلسان عربي مبين} سورة الشعراء الآية195، فعلينا أن نكتب وننشر بالفصحى لا بالعامية.
وخلاصة الأمر أن كتاب (قول يا طير) يجب سحبه من مكتبات المدارس، لأن فيه ما يخالف ديننا وعاداتنا وأعرافنا الطيبة، ولا ينبغي أن يكون بين أيدي الأطفال لأن فيه ما فيه من الأمور التي أشرت لبعضها. وخلاصة الموقف الصحيح من التراث الفلسطيني وغيره من التراث العالمي أنه يجب أن يخضع لقواعد النقد العلمي فما كان صحيحاً بميزان شرعنا قبلناه وما كان غير ذلك رفضناه والحكمة ضالة المؤمن حيثما وجدها فهو أحق بها.(18/6)
7 - ضوابط تنفيذ وصية الميت
يقول السائل: أوصى شخص عند موته ألا يحضر جنازته أحد أبنائه، فهل تنفيذ وصية الميت لازم بغض النظر عن الشيء الموصى به، أفيدونا؟
الجواب: ينبغي أن يعلم أولاً أن الوصية مشروعة بكتاب الله وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى {كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقاً على المتقين} سورة البقرة الآية 180، وقال تعالى: {من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار وصية من الله والله عليم حليم} سورة النساء 12.
وورد في الحديث عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع من وجع أشفيت منه على الموت فقلت يا رسول الله بلغني ما ترى من الوجع وأنا ذو مال ولا يرثني إلا ابنة لي واحدة أفأتصدق بثلثي مالي قال لا قال قلت أفأتصدق بشطره قال لا الثلث والثلث كثير إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس ولست تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها حتى اللقمة تجعلها في في - فم – امرأتك ... ) رواه مسلم. وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده) رواه البخاري ومسلم. وفي رواية عند مسلم (أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ثلاث ليال إلا ووصيته عنده مكتوبة، قال عبد الله بن عمر رضي الله عنه ما مرت عليًّ ليلة منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك إلا وعندي وصيتي) . وغير ذلك من النصوص.
إذا تقرر هذا فإن الوصية تكون بالأمور المالية وتكون أيضاً بالأمور المعنوية فيمكن للإنسان أن يوصي بمبلغ من ماله لشخص معين أو جهة خيرية وقد يوصي بقضاء دين عليه أو يوصي ولده بحفظ كتاب الله أو يوصي أن يضحى عنه فقد ورد مثل ذلك في الأحاديث والآثار فقد روى أبو داود بإسناده عن حنش قال رأيت علياً رضي الله عنه يضحي بكبشين فقلت له ما هذا؟ فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصاني أن أضحي عنه فأنا أضحي عنه) رواه أبو داود والترمذي والحاكم وصححه. وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: لما حضر أُحدٌ – أي غزوة أحد - دعاني أبي من الليل فقال ما أراني إلا مقتولاً في أول من يقتل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وإني لا أترك بعدي أعز عليَّ منك غير نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم فن عليًّ ديناً فاقض واستوص بأخواتك خيراً، فأصبحنا فكان أول قتيل ودفن معه آخر في قبر ثم لم تطب نفسي أن أتركه مع الآخر فاستخرجته بعد ستة أشهر فإذا هو كيوم وضعته هنية غير أذنه) رواه البخاري. وعن عائشة رضي الله عنها أنها أوصت عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما: لا تدفني معهم – أي مع النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما - وادفني مع صواحبي بالبقيع لا أزكى به أبداً) رواه البخاري.
وتنفيذ الوصية واجب عند أهل العلم ما دامت ضمن دائرة الشرع ولا يجوز لأحد أن يغير شيئاً من وصية الميت ما دامت ضمن الضوابط الشرعية، قال الله تعالى {كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقاً على المتقين فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه إن الله سميع عليم} سورة البقرة الآيتان 180- 181. وأما إذا أوصى الميت بما يخالف الشرع فيجوز حينئذ تبديل الوصية باتفاق العلماء، قال الإمام القرطبي: [ولا خلاف أنه إذا أوصى بما لا يجوز، مثل أن يوصي بخمر أو خنزير أو شيء من المعاصي أنه يجوز تبديله ولا يجوز إمضاؤه، كما لا يجوز إمضاء ما زاد على الثلث، قاله أبو عمر. - أي الحافظ ابن عبد البر -] تفسير القرطبي 2/296. فإذا أوصى الميت بحرمان أحد أولاده من الميراث فلا تنفذ وصيته حتى لو كان الولد عاقاً لأبيه حال حياته، فلا يجوز للأب أن يوصي بحرمان ولده العاق فهذه وصية باطلة وإن أوصى فلا تنفذ، لأن الله سبحانه وتعالى أعطى كل وارث من الورثة حقه، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله أعطى كل ذي حق حقه) رواه البخاري ومسلم. وكذلك إذا أوصى الميت بنقله من محل وفاته إلى بلده وكان نقله يؤدي إلى تغير الميت أو انتهاك حرمته أو تأخير دفنه، فإن وصيته لا تنفذ، لأن في تنفيذها مخالفة للشرع ويدل على ذلك ما ورد في الحديث عن جابر بن عبد الله قال: كنا حملنا القتلى يوم أحد لندفنهم فجاء منادي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم أن تدفنوا القتلى في مضاجعهم فرددناهم) رواه أبو داود والترمذي والنسائي وقال الترمذي: حسن صحيح. ويؤيد ذلك أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالإسراع في الجنائز وتعجيل دفنها فقد ورد في الحديث: (إن طلحة بن البراء مرض فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده فقال: إني لأرى طلحة قد حدث فيه الموت فآذنوني به وعجلوا) رواه أبو داود أي عجلوا في التجهيز والتكفين. وكذلك إذا أوصى الإنسان أن لا يحضر جنازته أحد من الناس فوصيته لا تنفذ لمخالفتها للشرع. ومثل ذلك إذا أوصى شخص أن يدفن في المسجد لأن إدخال القبور للمساجد لا يجوز شرعاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم (قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) رواه البخاري ومسلم. وقال صلى الله عليه وسلم لما أخبرته أم سلمة وأم حبيبة رضي الله عنهما بكنيسة في الحبشة فيها تصاوير فقال: (أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله) رواه البخاري ومسلم. وقال صلى الله عليه وسلم: (ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك) رواه مسلم، وغير ذلك من الأحاديث.
وكذلك إذا أوصى شخص أن يوضع معه مصحف في قبره ليستأنس به حسب زعمه فيحرم تنفيذ هذه الوصية لما فيها من امتهان واحتقار للمصحف الشريف ويجب صيانة المصحف عن القاذورات والنجاسات ويجب تكريمه والمحافظة عليه.
وكذلك لا تنفذ الوصية فيما لو أوصى لأحد الورثة، إلا إذا أجازها الورثة لما ثبت في الحديث من قول الرسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث) رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح. وكذلك لا تصح الوصية بأكثر من الثلث ولا تنفذ عند جمهور أهل العلم إلا إذا أجازها الورثة، لما ورد في حديث سعد السابق قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الثلث والثلث كثير) وقال الترمذي بعد أن رواه [والعمل على هذا عند أهل العلم أنه ليس للرجل أن يوصي بأكثر من الثلث وقد استحب بعض أهل العلم أن ينقص من الثلث لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم والثلث كثير] سنن الترمذي 3/306. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لو غض الناس إلى الربع لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الثلث والثلث كثير أو كبير) رواه البخاري.
وخلاصة الأمر أنه يجوز للمسلم أن يوصي بالأمور المالية وغيرها ضمن الضوابط الشرعية، فإذا خالفت الوصية الأحكام الشرعية، فلا تنفذ، ووصية الميت ليست مقدسة يلزم تنفيذها عل كل حال، بل تنفذ إذا كانت ضمن ضوابط الشرع. وعليه فإن وصية الميت المذكورة في السؤال بأن لا يحضر جنازته أحد أولاده باطلة ولا تنفذ.(18/7)
8 - حكم سرقة الأبحاث
يقول السائل: ما قولكم فيما يفعله بعض الطلبة الجامعيين من أخذهم بحوث غيرهم من الطلاب وينسونها لأنفسهم ويقدمونها كأبحاث للتخرج على أنها من جهدهم أفيدونا؟
الجواب: ما ذكره السائل ظاهرة بدأت تنتشر في أوساط الطلبة الجامعيين وغيرهم حيث إن بعض الطلبة يسطون على أبحاث غيرهم وينسبونها لأنفسهم بل تعدى الأمر ذلك فأصبح لدينا بعض المكتبات ومراكز الإنترنت التي تبيع بحوثاً جاهزة للطلبة وبعض الناس يقومون بكتابة بحوث ويبيعونها للطلبة مقابل مبالغ معينة فضلاً عن سرقة الأبحاث عن طريق شبكة الإنترنت فهذا الأمر صار شائعاً في أوساط طلبة الجامعات ومما يؤسف له أن بعض أساتذة الجامعات يسهمون في ذلك بطريق مباشر أو غير مباشر فعندما يطلب أستاذ الجامعة بحوثاً من طلابه وعندما يتسلمها منهم لا يكلف نفسه عناء تصفحها فضلاً عن قراءتها فلا شك أن هذا يدفع الطلبة إلى سرقة البحوث لأنهم يعرفون سلفاً أن أستاذهم المذكور لا يقرأ البحوث وهذا الأمر يؤدي إلى آثار خطيرة على المسيرة التعليمية لأن الأصل أن هنالك أهدافاً يجب أن تتحقق عند تكليف الطلبة بالبحوث مثل تمرين الطلبة على الكتابة العلمية وتقوية صلتهم بالمكتبة والمراجع ونحو ذلك فعندما يحصل الطالب على بحث جاهز سواء كان ذلك مقابل أجر أو بدون أجر فإن الغايات المرجوة من تكليفه بالأبحاث لا تتحقق.
إذا تقرر هذا فإن كتابة الأبحاث للطلبة بأجر أو بدون أجر وكذا سرقة الطلبة للأبحاث من غيرهم أو عن طريق شبكة الإنترنت كل ذلك محرم شرعاً لما يلي:
أولاً: لأنه غش صريح فقد ثبت في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من غشنا فليس مني) رواه البخاري ومسلم وفي رواية أخرى عند مسلم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من غشنا فليس منا) .
ثانياً: إن هذا العمل يعتبر خيانة للأمانة العلمية التي يجب أن يحترمها أساتذة الجامعات قبل طلبتهم، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} سورة الأنفال الآية 27. وخيانة الأمانة من صفات المنافقين كما صحَّ في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان) رواه البخاري ومسلم. وفي رواية عند مسلم: (وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم) . وجاء في الحديث عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان وإذا حدّث كذب وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر) رواه البخاري ومسلم. وقد اعتبر العلماء خيانة الأمانة من كبائر الذنوب. انظر الزواجر عن اقتراف الكبائر 1/617. وقد وردت أحاديث كثيرة في الترهيب من خيانة الأمانة منها: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال في الخطبة: لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له) رواه ابن حبان والبيهقي والبغوي، ثم قال: هذا حديث حسن. شرح السنة 1/75 وحسّنه الشيخ الألباني لشواهده كما في تخريجه للمشكاة 1/17.
ثالثا: إن الشريعة الإسلامية حرمت انتحال الانسان قولاً لغيره أو إسناده إلى غير من صدر منه وقضت بضرورة نسبة القول إلى قائله والفكرة إلى صاحبها لينال هو دون غيره أجر ما قد تنطوي عليه من الخير أو يتحمل وزر ما قد تجره من شر فقد روي عن الإمام أحمد: أنه امتنع عن الإقدام على الاستفادة بالنقل أو الكتابة عن مقال أو مؤلف عرف صاحبه إلا بعد الاستئذان منه فقد روى الغزالي أن الإمام أحمد سئل عمن سقطت منه ورقة كتب فيها أحاديث أو نحوها أيجوز لمن وجدها أن يكتب منها ثم يردها؟ قال: لا، بل يستأذن ثم يكتب.
رابعاً: إن من ينسب جهود الآخرين لنفسه متشبع بما لم يعط كما ثبت في الحديث عن عائشة رضي الله عنها أن امرأة قالت يا رسول الله: أقول إن زوجي أعطاني ما لم يعطني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور) رواه البخاري ومسلم. قال الإمام النووي في شرحه للحديث: [قال العلماء: معناه المتكثر بما ليس عنده بأن يظهر أن عنده ما ليس عنده, يتكثر بذلك عند الناس, ويتزين بالباطل, فهو مذموم كما يذم من لبس ثوبي زور.] شرح النووي على صحيح مسلم 4/291. وقد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فكم في جامعاتنا ومؤسساتنا التعليمية وغيرها من أمثال هؤلاء الذين ينطبق عليه حديث الرسول الله صلى الله عليه (المتشبع بما لم يعط) فهؤلاء الذين تحملهم شهاداتهم ولا يحملونها.
خامساً: إن هذا العمل من التعاون على الباطل الذي يترتب عليه مفاسد كثيرة تنعكس على الفرد والمجتمع حيث سيتخرج أناس بالغش والتزوير وسيتولون المناصب بحصولهم على شهادات الزور (شهاداتهم الجامعية) .
وقد أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية بتحريم إعداد البحوث بالنيابة فقد أجابت عن السؤال التالي: [يطلب بعض المدرسين من الطلبة عمل بحث ويعطي الطالب عليه درجات، فهل يجوز لي أن أعمل هذا البحث للطالب مقابل أجر مادي آخذه منه؟
الجواب: عمل البحث المطلوب من الدارس في المدارس الحكومية أو غيرها واجب دراسي، له أهدافه: من تمرين الطالب على البحث، والتعرف على المصادر، ومعرفة مدى قدرته على استخراج المعلومات، وترتبيها.. إلى آخر ما يهدف إليه طلب إعداد البحث؛ لهذا فإن قيام بعض المدرسين أو غيرهم بذلك نيابة عن الطالب، مقابل أجرة أو بدون أجرة، هو عمل محرم، والأجرة عليه كسب حرام؛ لما فيه من الغش والكذب والتزوير، وهذا تعاون على الإثم، والله سبحانه يقول: (وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى اْلإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) سورة المائدة الآية 2. وقال صلى الله عليه وسلم: (مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا) رواه مسلم ... ] فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 12/203. وقال العلامة محمد بن صالح العثيمين [وإن مما يؤسف له أن بعض الطلاب يستأجرون من يعد لهم بحوثاً أو رسائل يحصلون على شهادات علمية أو من يحقق بعض الكتب فيقول لشخص حضر لي تراجم هؤلاء وراجع البحث الفلاني ثم يقدمه رسالة ينال بها درجة يستوجب بها أن يكون في عداد المعلمين أو ما أشبه ذلك فهذا في الحقيقة مخالف لمقصود الجامعة ومخالف للواقع وأرى أنه نوع من الخيانة لأنه لابد أن يكون المقصود من الرسالة هو الدراسة والعلم قبل كل شيء فإذا كان المقصود من ذلك الشهادة فقط فإنه لو سئل بعد أيام عن الموضوع الذي حصل على الشهادة فيه لم يجب لهذا أحذر إخواني الذي يحققون الكتب أو الذين يحضرون رسائل على هذا النحو من العاقبة الوخيمة ... ] من كتاب العلم للشيخ العثيمين عن شبكة الإنترنت.
وخلاصة الأمر أنه يحرم شرعاً كتابة الأبحاث العلمية نيابة عن الآخرين وهذا العمل لا تدخله النيابة ويحرم التعاون مع الطلبة في هذا العمل من قبل الأساتذة أو المكتبات أو مراكز الإنترنت لأنه تعاون على الإثم والباطل وقد قال الله تعالى:
{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} سورة المائدة الآية 2.(18/8)
9 - حكم التبرع بالأعضاء البشرية لغير المسلم
يقول السائل: ما هي الضوابط التي وضعها الفقهاء القائلون بجواز نقل الأعضاء البشرية من إنسان لآخر وخاصة ما يتعلق بالشخص المنقول إليه، أفيدونا؟
الجواب: مسألة نقل الأعضاء من إنسان وزرعها في جسم إنسان آخر من المسائل الحديثة التي بحثت بحثاً موسعاً من العلماء والباحثين المعاصرين وقد كتبت فيها أبحاث كثيرة وآخر ما اطلعت عليه رسالة دكتوراة تناولت الموضوع من جميع جوانبه وخلاصة الشروط التي ذكرها العلماء والباحثون المعاصرون لجواز نقل الأعضاء وزرعها ما يلي:
ما جاء في القرار الصادر عن المجمع الفقهي التابع لمنظمة المؤتمر الاسلامي في دورته المنعقدة بتاريخ 18 جمادى الآخرة 1408 هـ، الموافق 6 فبراير 1988 م
أولاً: يجوز نقل العضو من مكان من جسم الإنسان إلى مكان آخر من جسمه، مع مراعاة التأكد من أنَّ النفع المتوقع من هذه العملية أرجح من الضرر المترتب عليها، وبشرط أن يكون ذلك لإيجاد عضو مفقود أو لإعادة شكله أو وظيفته المعهود له، أو لإصلاح عيب أو إزالة دمامة تسبب للشخص أذى نفسياً أو عضوياً.
ثانياً: يجوز نقل العضو من جسم إنسان إلى جسم إنسان آخر، إن كان هذا العضو يتجدد تلقائياً، كالدم والجلد، ويراعى في ذلك اشتراط كون الباذل كامل الأهلية، وتحقق الشروط الشرعية المعتبرة.
ثالثاً: تجوز الاستفادة من جزء من العضو الذي استؤصل من الجسم لعلة مرضية لشخص آخر، كأخذ قرنية العين لإنسان ما عند استئصال العين لعلة مرضية.
رابعاً: يحرم نقل عضو تتوقف عليه الحياة كالقلب من إنسان حي إلى إنسان آخر.
خامساً: يحرم نقل عضو من إنسان حي يعطل زواله وظيفة أساسية في حياته وإن لم تتوقف سلامة أصل الحياة عليها كنقل قرنية العين كلتيهما، أما إن كان النقل يعطل جزءاً من وظيفة أساسية فهو محل بحث ونظر كما يأتي في الفقرة الثامنة.
سادساً: يجوز نقل عضو من ميت إلى حي تتوقف حياته على ذلك العضو، أو تتوقف سلامة وظيفة أساسية فيه على ذلك. بشرط أن يأذن الميت قبل موته أو ورثته بعد موته، أو بشرط موافقة ولي أمر المسلمين إن كان المتوفى مجهول الهوية أو لا ورثة له.
سابعاً: وينبغي ملاحظة: أنَّ الاتفاق على جواز نقل العضو في الحالات التي تم بيانها، مشروط بأن لا يتم ذلك بواسطة بيع العضو. إذ لا يجوز إخضاع أعضاء الإسان للبيع بحال ما.
أما بذل المال من المستفيد، ابتغاء الحصول على العضو المطلوب عند الضرورة أو مكافأة وتكريماً، فمحل اجتهاد ونظر.
ثامناً: كل ما عدا الحالات والصور المذكورة، مما يدخل في أصل الموضوع، فهو محل بحث ونظر، ويجب طرحه للدراسة والبحث في دورة قادمة، على ضوء المعطيات الطبية والأحكام الشرعية. والله أعلم
ويلاحظ على قرار المجمع الفقهي أنه لم يشر إلى الشخص الذي سيزرع فيه العضو المنقول ولكن بعض المجامع العلمية الأخرى وبعض الباحثين نصوا على أنه يشترط في الشخص الذي سيزرع فيه العضو المنقول أن يكون مسلماً أو ذمياً معصوم الدم ولا يجوز النقل لكافر حربي.
وجاء في رسالة الدكتوراه للباحث د. يوسف بن عبد الله الأحمد بعنوان (أحكام نقل أعضاء الإنسان في الفقه الإسلامي) شروط نقل الأعضاء فقال [ما يجوز نقله من الأعضاء مما ذكر، إنما يجوز وفق الشروط العامة التي لابد من اعتبارها في نقل أي عضو من الأعضاء، وهذه الشروط هي: 1. ألا يترتب على المتبرع ضرر بذهاب نفسه أو منفعة فيه؛ كالسمع والبصر والمشي ونحو ذلك؛ حفظاً لحق الله تعالى.
2. ألا يكون النقل إلا بإذن المنقول منه؛ حفظاً لحق العبد في بدنه. وأخذ العضو دون إذنه ظلم واعتداء.
3. أن يكون إذن المنقول منه وهو كامل الأهلية؛ فلا يصح من الصغير، والمجنون، أو بإسلوب الضغط والإكراه، واستعمال أساليب الحيل والإحراج؛ حفظاً لحق العبد في بدنه.
4. ألا يكون النقل بطريق تمتهن فيه كرامة الإنسان؛ كالبيع، وإنما تكون بطريق الإذن والتبرع.
5. أن يكون المنقول له معصوم الدم، فهو الذي أوجب الشرع حفظ نفسه بخلاف مهدر الدم؛ كالحربي.
6. أن تحفظ العورات؛ فلا يجوز الكشف عليها إلا عند الضرورة، أو الحاجة الملحة، والضروة أو الحاجة تقدر بقدرها.
7. إعمال الأطباء الذين يشرفون على علاج المريض قاعدة الموازنة بين المصالح والمفاسد للمريض والمتبرع؛ فلا تجرى عملية النقل وانتفاع المريض بها مرجوح، ولا ينقل العضو من الإنسان مع إمكان علاج المريض بوسيلة أخرى. وغير ذلك من الصور والأحوال التي يدور عليها تصرف الطبيب مع المريض بإعماله لقاعدة الموازنة بين المصالح والمفاسد.]
وجاء في فتوى للشبكة الإسلامية عند ذكر شروط زرع الأعضاء [والتبرع بما ذكر في الحالتين مشروط بأن يكون المتبرَّع له معصوم الدم، أي أن يكون مسلماً أو ذمياً، بخلاف الكافر المحارب.] عن شبكة الإنترنت
وجاء في فتوى أخرى للشبكة الإسلامية عند ذكر شروط زرع الأعضاء [ ... وعليه فإذا كان المسلم متأكداً من أن المستفيد من أعضائه مسلمون أو من أهل الذمة فلا مانع من توقيعه على مثل هذه الوثيقة، وأما إذا أمكن أن يستفيد منها محارب فلا يجوز له فعل ذلك.] عن شبكة الإنترنت
وجاء في فتوى ثالثة للشبكة الإسلامية عند ذكر شروط زرع الأعضاء [وذكرنا هناك أنه يشترط أن يكون المتبرَع له معصوم الدم أي أن يكون مسلماً أو ذمياً، أما الكافر المحارب فلا يجوز التبرع له بالأعضاء]
وجاء في قرارات مجلس هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية ما يلي: [قرر مجلس هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية بالإجماع جواز نقل عضو أو جزئه من إنسان حي مسلم أو ذمي إلى نفسه إذا دعت الحاجة إليه، وأمن الخطر في نزعه، وغلب على الظن نجاح زرعه. كما قرر بالأكثرية ما يلي:
أ- جواز نقل عضو أو جزئه من إنسان ميت إلى مسلم إذا اضطر إلى ذلك، وأمنت الفتنة في نزعه ممن أخذ منه، وغلب على الظن نجاح زرعه فيمن سيزرع فيه.
ب- جواز تبرع الإنسان الحي بنقل عضو منه أو جزئه إلى مسلم مضطر إلى ذلك.]
وخلاصة الأمر أنه لا يجوز التبرع بالأعضاء لغير المسلم ولغير الذمي فلا يجوز التبرع بالأعضاء للكافر الحربي ولا يزعمن أحد أن التبرع بالأعضاء عمل إنساني ينبغي التسوية فيه بين بني آدم جميعاً فهذه إنسانية مزيفة.
وقديماً قال الشاعر العربي: ومن يجعل المعروف في غير أهله يكن حمده ذمّاً عليه ويندمِ.(18/9)
10 - حديث (لا تجوز شهادة بدوي على حضري)
يقول السائل: إنه قرأ حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم ورد فيه أنه لا تجوز شهادة بدوي على حضري فهل هذا الحديث ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أفيدونا؟
الجواب: من المعلوم أن الأصل في الشاهد العدالة وأن يكون مرضياً كما قال تعالى: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} سورة الطلاق الآية 2 وقال تعالى {ممن ترضون من الشهداء} سورة البقرة الآية282. بالإضافة إلى الشروط الأخرى للشاهد التي ذكرها الفقهاء والعدالة في الأصل لا ارتباط لها بمكان إقامة الشاهد سواء أكان في البادية أو الحاضرة قال الشيخ ابن قدامة المقدسي [العدل هو الذي تعتدل أحواله في دينه وأفعاله قال القاضي: يكون ذلك في الدين والمروءة والأحكام ... ] المغني 10/148
وأما الحديث الذي أشار إليه السائل فقد رواه أبو داود بإسناده عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تجوز شهادة بدوي على صاحب قرية) ورواه أيضاً ابن ماجة والحاكم والبيهقي وقال الحافظ ابن دقيق العيد: ورجاله إلى منتهاه رجال الصحيح. الإلمام بأحاديث الأحكام ص 520. وصححه العلامة الألباني كما في إرواء الغليل 8/290.
وقد اختلف أهل العلم في المراد بهذا الحديث فقال جماعة من العلماء إن المقصود بالحديث هو رد شهادة البدوي مجهول العدالة وأما إذا كان عدلاً فتقبل شهادته.
قال أبو بكر اِلْجَصَّاصِ [وَاخْتُلِفَ فِي شَهَادَةِ الْبَدْوِيِّ عَلَى الْقَرَوِيِّ , فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَاللَّيْثُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ هِيَ جَائِزَةٌ إذَا كَانَ عَدْلًا وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ الزُّهْرِيِّ ... قَالَ أَبُو بَكْرٍ - الجصاص-: جَمِيعُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ دَلَائِلِ الْآيَةِ عَلَى قَبُولِ شَهَادَةِ الْأَحْرَارِ الْبَالِغِينَ يُوجِبُ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ شَهَادَةِ الْقَرَوِيِّ وَالْبَدْوِيِّ ; لِأَنَّ الْخِطَابَ تَوَجَّهَ إلَيْهِمْ بِذِكْرِ الْإِيمَانِ بِقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ} وَهَؤُلَاءِ مِنْ جُمْلَةِ الْمُؤْمِنِينَ , ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} يَعْنِي مِنْ رِجَالِ الْمُؤْمِنِينَ الْأَحْرَارِ , وَهَذِهِ صِفَةُ هَؤُلَاءِ , ثُمَّ قَالَ: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ} وَإِذَا كَانُوا عُدُولاً فَهُمْ مَرْضِيُّونَ. وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى فِي شَأْنِ الرَّجْعَةِ وَالْفِرَاقِ: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} وَهَذِهِ الصِّفَةُ شَامِلَةٌ لِلْجَمِيعِ إذَا كَانُوا عُدُولاً , وَفِي تَخْصِيصِ الْقَرَوِيِّ بِهَا دُونَ الْبَدْوِيِّ تَرْكُ الْعُمُومِ بِغَيْرِ دَلَالَةٍ ; وَلَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّهُمْ مُرَادُونَ بِقَوْلِهِ: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} وَبِقَوْلِهِ: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ} لِأَنَّهُمْ يُجِيزُونَ شَهَادَةَ الْبَدْوِيِّ عَلَى بَدْوِيٍّ مِثْلِهِ عَلَى شَرْطِ الْآيَةِ. وَإِذَا كَانُوا مُرَادِينَ بِالْآيَةِ فَقَدْ اقْتَضَتْ جَوَازَ شَهَادَتِهِمْ عَلَى الْقَرَوِيِّ مِنْ حَيْثُ اقْتَضَتْ جَوَازَ شَهَادَةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ , وَمِنْ حَيْثُ اقْتَضَتْ جَوَازَ شَهَادَةِ الْقَرَوِيِّ عَلَى الْبَدْوِيِّ.... وَقَدْ رَوَى سِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ {شَهِدَ أَعْرَابِيٌّ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رُؤْيَةِ الْهِلَالِ , فَأَمَرَ بلالاً يُنَادِي فِي النَّاسِ فَلْيَصُومُوا غَداً} فَقَبِلَ شَهَادَتَهُ وَأَمَرَ النَّاسَ بِالصِّيَامِ] أَحْكَامُ الْقُرْآنِ 2/229-230
وقال الإمام الشوكاني: [وذهب الأكثر إلى القبول قال ابن رسلان: وحملوا هذا الحديث على من لم تعرف عدالته من أهل البدو والغالب أنهم لا تعرف عدالتهم ا. هـ. وهذا حمل مناسب لأن البدوي إذا كان معروف العدالة كان رد شهادته لعلة كونه بدوياً غير مناسب لقواعد الشريعة لأن المساكن لا تأثير لها في الرد والقبول لعدم صحة جعل ذلك مناطاً شرعياً ولعدم انضباطه فالمناط هو العدالة الشرعية إن وجد للشرع اصطلاح في العدالة وإلا توجه الحمل على العدالة اللغوية فعند وجود العدالة يوجد القبول وعند عدمها يعدم ولم يذكر صلى الله عليه وآله وسلم المنع من شهادة البدوي إلا لكونه مظنة لعدم القيام بما تحتاج إليه العدالة وإلا فقد قبل صلى الله عليه وسلم في الهلال شهادة بدوي.] نيل الأوطار 8/330.
وقال الإمام القرطبي [ ... فعمموا الحكم، ويلزم منه قبول شهادة البدوي على القروي إذا كان عدلاً مرضياً وبه قال الشافعي ومن وافقه، وهو - أي البدوي - من رجالنا وأهل ديننا. وكونه بدوياً ككونه من بلد آخر والعمومات في القرآن الدالة على قبول شهادة العدول تسوي بين البدوي والقروي، قال الله تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ} وقال تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} فمنكم خطاب للمسلمين ... ] تفسير القرطبي 8/231- 232
وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [ظاهر كلام الخرقي أن شهادة البدوي على من هو من أهل القرية وشهادة أهل القرية على البدوي , صحيحة إذا اجتمعت هذه الشروط وهو قول ابن سيرين وأبي حنيفة والشافعي , وأبي ثور واختاره أبو الخطاب وقال الإمام أحمد: أخشى أن لا تقبل شهادة البدوي على صاحب القرية فيحتمل هذا أن لا تقبل شهادته وهو قول جماعة من أصحابنا ومذهب أبي عبيد. وقال مالك كقول أصحابنا فيما عدا الجراح , وكقول الباقين في الجراح احتياطاً للدماء واحتج أصحابنا بما روى أبو داود في " سننه " عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تجوز شهادة بدوي على صاحب قرية) ولأنه متهم حيث عدل عن أن يشهد قروياً وأشهد بدوياً قال أبو عبيد: ولا أرى شهادتهم ردت إلا لما فيهم من الجفاء بحقوق الله تعالى والجفاء في الدين. ولنا , أن من قبلت شهادته على أهل البدو قبلت شهادته على أهل القرية كأهل القرى ويحمل الحديث على من لم تعرف عدالته من أهل البدو ونخصه بهذا لأن الغالب أنه لا يكون له من يسأله الحاكم فيعرف عدالته.] المغني 10/147-148.
وأما الذين لم يجيزوا شهادة البدوي على الحضري فيرون أن لذلك أسباباً منها أنه يغلب على أهل البادية الجهل بأحكام الدين عامة والشهادة خاصة قال الإمام الخطابي: [يشبه أن يكون إنما كره شهادة أهل البدو لما فيهم من الجفاء في الدين والجهالة بأحكام الشريعة ولأنهم في الغالب لا يضبطون الشهادة على وجهها ولا يقيمونها على حقها لقصور علمهم عما يحيلها ويغيرها عن وجهها] معالم السنن 4/157.
ويرى بعض أهل العلم أن رد شهادة البدوي على الحضري يعود لمكان التهمة في ترك إشهاد الحضري وإشهاد البدوي مكانه قال ابن العربي المالكي [ ... إسْقَاطُ شَهَادَةِ الْبَادِيَةِ عَنْ الْحَاضَرَةِ. وَاخْتُلِفَ فِي تَعْلِيلِ ذَلِكَ ; فَقِيلَ: لِأَنَّ الشَّهَادَةَ مَرْتَبَةٌ عَالِيَةٌ , وَمَنْزِلَةٌ شَرِيفَةٌ , وَوِلَايَةٌ كَرِيمَةٌ , فَإِنَّهَا قَبُولُ قَوْلِ الْغَيْرِ عَلَى الْغَيْرِ , وَتَنْفِيذُ كَلَامِهِ عَلَيْهِ ; وَذَلِكَ يَسْتَدْعِي كَمَالَ الصِّفَةِ , وَقَدْ بَيَّنَّا نُقْصَانَ صِفَتِهِ فِي عِلْمِهِ وَدِينِهِ. وَقِيلَ: إنَّمَا رُدَّتْ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِ , لِمَا فِيهِ مِنْ تَحْقِيقِ التُّهْمَةِ إذَا شَهِدَ أَهْلُ الْبَادِيَةِ بِحُقُوقِ أَهْلِ الْحَاضِرَةِ , وَتِلْكَ رِيبَةٌ ; إذْ لَوْ كَانَ صَحِيحاً لَكَانَ أَوْلَى النَّاسِ بِذَلِكَ الْحَضَرِيُّونَ , فَعَدَمُ الشَّهَادَةِ عِنْدَهُمْ وَوُجُودُهَا عِنْدَ الْبَدْوِيِّينَ رِيبَةٌ تَقْتَضِي التُّهْمَةَ , وَتُوجِبُ الرَّدَّ] أحكام القرآن 2/1006
وقال الدسوي المالكي: [وحاصله أن تحمل الشاهد الشهادة إذا استبعده العقل أي استغربه أي نسبه للبعد والغرابة كان ذلك مبطلاً للشهادة عند أدائها. قوله: (كبدوي يستشهد) أي يطلب منه تحمل الشهادة في الحضر لحضري أو لبدوي على حضري أو على بدوي بدين أو بيع أو شراء ونحوهما مما يقصد الإشهاد عليه من سائر عقود المعاوضة ونحو الوصية والعتق والتدبير، فإذا طلب من البدوي تحمل الشهادة بشيء من ذلك في الحاضرة فلا تقبل منه إذا أداها، وذلك لأن ترك إشهاد الحضري وطلب البدوي لتحمل تلك الشهادة فيه ريبة لأن العقل يستبعد ويستغرب إحضار البدوي لتحمل الشهادة دون الحضري، وأما لو تحمل البدوي الشهادة في الحضر لحضري أو بدوي على حضري أو بدوي بحرابة أو قتل أو قذف أو جرح أو شبه ذلك كغصب وضرب وأداها، فإنها تقبل منه لعدم الاستبعاد في تحملها] حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4/175.
وخلاصة الأمر أن الحديث المشار إليه في السؤال حديث صحيح ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولكن الحديث محمول على من لم تثبت عدالته من البدو حيث إن القاعدة عند المحققين من أهل العلم أن الأصل في الناس الجهالة لا العدالة. فإن ثبتت عدالة البدوي فشهادته مقبولة ولا فرق بينه وبين الحضري وهذا هو المتفق مع قواعد الشرع العامة التي لا تفرق بين الناس بناءً على اختلاف موطنهم.(18/10)
11 - حكم الاستغفار والترحم لمن مات على الكفر
يقول السائل: ذكرت بعض كتب التفسير أن قَوْل الله تَعَالَى {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} قد نزلت في قصة عم النبي صلى الله عليه وسلم أبو طالب مع أن الآية في سورة التوبة وهي متأخرة النزول أفيدونا؟
الجواب: روى الإمام البخاري بإسناده عن الزهري عن ابن المسيب عن أبيه أن أبا طالب لما حضرته الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل فقال أي عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية يا أبا طالب ترغب عن ملة عبد المطلب فلم يزالا يكلمانه حتى قال آخر شيء كلمهم به: على ملة عبد المطلب. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لأستغفرن لك ما لم أنه عنه فنزلت {ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم} ونزلت {إنك لا تهدي من أحببت} )
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [قوله: ( {فنزلت: ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعدما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم} . ونزلت {إنك لا تهدي من أحببت} أما نزول هذه الآية الثانية فواضح في قصة أبي طالب , وأما نزول التي قبلها ففيه نظر , ويظهر أن المراد أن الآية المتعلقة بالاستغفار نزلت بعد أبي طالب بمدة , وهي عامة في حقه وفي حق غيره , ويوضح ذلك ما سيأتي في التفسير بلفظ (فأنزل الله بعد ذلك {ما كان للنبي والذين آمنوا} الآية. وأنزل في أبي طالب {إنك لا تهدي من أحببت} . ولأحمد من طريق أبي حازم عن أبي هريرة في قصة أبي طالب قال: فأنزل الله {إنك لا تهدي من أحببت} وهذا كله ظاهر في أنه مات على غير الإسلام] فتح الباري 7/245
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني أيضاً: [قوله: (فأنزل الله: ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين) أي ما ينبغي لهم ذلك , وهو خبر بمعنى النهي ... وروى الطبري من طريق شبل عن عمرو بن دينار قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (استغفر إبراهيم لأبيه وهو مشرك , فلا أزال استغفر لأبي طالب حتى ينهاني عنه ربي. فقال أصحابه: لنستغفرن لآبائنا كما استغفر نبينا لعمه , فنزلت) وهذا فيه إشكال , لأن وفاة أبي طالب كانت بمكة قبل الهجرة اتفاقاً , وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى قبر أمه لما اعتمر فاستأذن ربه أن يستغفر لها فنزلت هذه الآية والأصل عدم تكرر النزول. وقد أخرج الحاكم وابن أبي حاتم من طريق أيوب بن هانئ عن مسروق عن ابن مسعود قال: " خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً إلى المقابر فاتبعناه , فجاء حتى جلس إلى قبر منها فناجاه طويلا ثم بكى , فبكينا لبكائه , فقال: إن القبر الذي جلست عنده قبر أمي , واستأذنت ربي في الدعاء لها فلم يأذن لي , فأنزل عليَّ: {ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين} وأخرج أحمد من حديث ابن بريدة عن أبيه نحوه وفيه (نزل بنا ونحن معه قريب من ألف راكب) ولم يذكر نزول الآية. وفي رواية الطبري من هذا الوجه (لما قدم مكة أتى رسم قبر) ومن طريق فضيل بن مرزوق عن عطية (لما قدم مكة وقف على قبر أمه حتى سخنت عليه الشمس رجاء أن يؤذن له فيستغفر لها فنزلت) وللطبراني من طريق عبد الله بن كيسان عن عكرمة عن ابن عباس نحو حديث ابن مسعود وفيه (لما هبط من ثنية عسفان) وفيه نزول الآية في ذلك. فهذه طرق يعضد بعضها بعضاً , وفيها دلالة على تأخير نزول الآية عن وفاة أبي طالب , ويؤيده أيضاً أنه صلى الله عليه وسلم قال يوم أحد بعد أن شج وجهه (رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون) لكن يحتمل في هذا أن يكون الاستغفار خاصاً بالأحياء وليس البحث فيه , ويحتمل أن يكون نزول الآية تأخر وإن كان سببها تقدم , ويكون لنزولها سببان: متقدم وهو أمر أبي طالب ومتأخر وهو أمر آمنة. ويؤيد تأخير النزول ما تقدم في تفسير براءة من استغفاره صلى الله عليه وسلم للمنافقين حتى نزل النهي عن ذلك , فإن ذلك يقتضي تأخير النزول وإن تقدم السبب , ويشير إلى ذلك أيضاً قوله في حديث الباب: (وأنزل الله في أبي طالب {إنك لا تهدي من أحببت} لأنه يشعر بأن الآية الأولى نزلت في أبي طالب وفي غيره والثانية نزلت فيه وحده , ويؤيد تعدد السبب ما أخرج أحمد من طريق أبي إسحاق عن أبي الخليل عن علي قال: (سمعت رجلاً يستغفر لوالديه وهما مشركان , فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله: ما كان للنبي الآية) وروى الطبري من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: وقال المؤمنون ألا نستغفر لآبائنا كما استغفر إبراهيم لأبيه؟ فنزلت ... ] فتح الباري 8/644-645.
[ومما يؤكد تأخر نزول قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} عن قصة أبي طالب:
1- قوله في الآية: (والذين آمنوا) وهذا يدل على أن الاستغفار وقع من النبي صلى الله عليه وسلم، ومن بعض المؤمنين، وقصة أبي طالب لم يكن الاستغفار فيها إلا من قبل النبي صلى الله عليه وسلم.
2- أن هذه الآية وردت في سورة التوبة، وسورة التوبة مدنية، ومن أواخر ما نزل.
3- أن الله تعالى لم يُعاتب النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته على عبد الله بن أبي، وإنما أنزل النهي فقط، ولو كان قد سبق النهي عن الاستغفار لمن مات على الكفر؛ لعاتب الله تعالى نبيه على ذلك.] ملتقى أهل التفسير عن شبكة الإنترنت.
ومن أهل العلم من يرى أن نزول الآية لم يكن في قصة أبي طالب حيث إنها في سورة براءة كما قرره الحافظ ابن حجر العسقلاني وهي من أواخر ما نزل من القرآن.
قال الألوسي [واستبعد ذلك الحسين بن الفضل بأن موت أبي طالب قبل الهجرة بنحو ثلاث سنين وهذه السورة من أواخر ما نزل بالمدينة. قال الو احدي: وهذا الاستبعاد مستبعد فأي بأس أن يقال: كان عليه الصلاة والسلام يستغفر لأبي طالب من ذلك الوقت إلى وقت نزول الآية فإن التشديد مع الكفار إنما ظهر في هذه السورة، وذكر نحواً من هذا صاحب التقريب، وعليه لا يراد بقوله: فنزلت في الخبر أن النزول كان عقيب القول بل يراد أن ذلك سبب النزول، فالفاء فيه للسببية لا للتعقيب. واعتمد على هذا التوجيه كثير من جلة العلماء وهو توجيه وجيه، خلا أنه يعكر عليه ما أخرجه ابن سعد وابن عساكر عن علي رضي الله عنه قال: أخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم بموت أبي طالب فبكى فقال: "اذهب فغسله وكفنه وواره غفر الله له ورحمه ففعلت وجعل رسول الله ?يستغفر له أياماً ولا يخرج من بيته حتى نزل عليه جبريل عليه الصلاة والسلام بهذه الآية {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ} الخ فإنه ظاهر في أن النزول قبل الهجرة لأن عدم الخروج من البيت فيه مغيا به، اللهم إلا أن يقال بضعف الحديث لكن لم نر من تعرض له، والأولى في الجواب عن أصل الاستبعاد أن يقال: إن كون هذه السورة من أواخر ما نزل باعتبار الغالب كما تقدم فلا ينافي نزول شيء منها في المدينة. والآية على هذا دليل على أن أبا طالب مات كافراً وهو المعروف من مذهب أهل السنة والجماعة] تفسير روح المعاني 6/32.
ومن أهل العلم من قال بتعدد سبب نزول الآية كالسيوطي حيث قال: [الحال السادس: أن لا يمكن ذلك فيحمل على تعدد النزول وتكرره.
مثاله: ما أخرجه الشيخان عن المسيب قال لما حضر أبا طالب الوفاة دخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل وعبد الله بن أمية فقال: أي عم قل لا إله إلا الله أحاج لك بها عند الله فقال أبو جهل وعبد الله: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب فلم يزالا يكلمانه حتى قال: هو على ملة عبد المطلب فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لأستغفرن لك ما لم أنه عنه فنزلت {ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين} الآية.
وأخرج الترمذي وحسنه عن علي قال: سمعت رجلاً يستغفر لأبويه وهما مشركان فقلت: تستغفر لأبويك وهما مشركان فقال: استغفر إبراهيم لأبيه وهو مشرك فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت.
وأخرج الحاكم وغيره عن ابن مسعود قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوماً إلى المقابر فجلس إلى قبر منها فناجاه طويلاً ثم بكى فقال: إن القبر الذي جلست عنده قبر أمي وإني استأذنت ربي في الدعاء لها فلم يأذن لي فأنزل علي {ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين} فجمع بين هذه الأحاديث بتعدد النزول] الإتقان في علوم القرآن 1/ 132-133.
إذا تقرر هذا فنعود إلى ما تدل عليه الآية الكريمة وهو تحريم الاستغفار والترحم على من مات كافراً من المغضوب عليهم ومن الضالين المضلين الذين ينطبق عليهم قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} سورة البقرة الآية 161، وقوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} سورة آل عمران الآية 91وهذا محل اتفاق بين أهل العلم ولا يغترن أحد بما يقوله بعض الشيوخ الذين انزلقوا في هذا المنزلق الخطير فخالفوا الأدلة الصريحة من كتاب والسنة قَال الله تَعَالَى {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} قال القرطبي [هَذِهِ الْآيَة تَضَمَّنَتْ قَطْع مُوَالَاة الْكُفَّار حَيّهمْ وَمَيِّتهمْ فَإِنَّ اللَّه لَمْ يَجْعَل لِلْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ فَطَلَبُ الْغُفْرَان لِلْمُشْرِكِ مِمَّا لَا يَجُوز.] تفسير القرطبي8/273
وقال الله تعالى {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} سورة التوبة الآية84.
وثبت في الحديث الصحيح أنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ؛ لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ) رواهُ مسلم.
قال الإمام النووي: [وَقَوْلُهُ (لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ) أَيْ مِمَّنْ هُوَ مَوْجُودٌ فِي زَمَنِي وَبَعْدِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَكُلُّهُمْ يَجِبُ عَلَيْهِ الدُّخُولُ فِي طَاعَتِهِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْيَهُودِيّ وَالنَّصْرَانِيَّ تَنْبِيهاً عَلَى مَنْ سِوَاهُمَا وَذَلِكَ لِأَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لَهُمْ كِتَابٌ فَإِذَا كَانَ هَذَا شَأْنَهُمْ مَعَ أَنَّ لَهُمْ كِتَاباً فَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ لَا كِتَابَ لَهُ أَوْلَى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ] شرح النووي على صحيح مسلم 1/342.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية [وَأَمَّا الشَّفَاعَةُ وَالدُّعَاءُ فَانْتِفَاعُ الْعِبَادِ بِهِ مَوْقُوفٌ عَلَى شُرُوطٍ وَلَهُ مَوَانِعُ فَالشَّفَاعَةُ لِلْكُفَّارِ بِالنَّجَاةِ مِنْ النَّارِ وَالِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ مَعَ مَوْتِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ لَا تَنْفَعُهُمْ - وَلَوْ كَانَ الشَّفِيعُ أَعْظَمَ الشُّفَعَاءِ جَاهاً - فَلَا شَفِيعَ أَعْظَمُ مِنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ الْخَلِيلُ إبْرَاهِيمُ وَقَدْ دَعَا الْخَلِيلُ إبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَاسْتَغْفَرَ لَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُ {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} . وَقَدْ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لِأَبِي طَالِبٍ إقتداءً بِإِبْرَاهِيمَ وَأَرَادَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لِبَعْضِ أَقَارِبِهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} ثُمَّ ذَكَرَ اللَّهُ عُذْرَ إبْرَاهِيمَ فَقَالَ: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إنَّ إبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} ] مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 1/145-146.
وقال الشيخ محمد رشيد رضا في تفسير قوله تعالى {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} [هذا نفي بمعنى النهي، فهو أبلغ من النهي المجرد، وهذا التعبير فيه يسمى نفي الشأن، وهو أبلغ من نفي الشيء نفسه، لأنه نفي معلل بالسبب المقتضي له. والمعنى: ما كان من شأن النبي ولا مما يصح أن يصدر عنه من حيث هو نبي - ولا من شأن المؤمنين ولا مما يجوز أن يقع منهم من حيث هم مؤمنون - أن يدعوا الله طالبين منه المغفرة للمشركين {وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} لهم في الأصل حق البر وصلة الرحم وكانت عاطفة القرابة تقتض الغيرة عليهم وحب المغفرة لهم (ولو) هذه تفيد الغاية لمعطوف عليه يحذف حذفاً مطرداً للعلم به، والمراد أنه ليس مما تبيحه النبوة ولا الإيمان ولا مما يصح وقوعه من أهلهما: الاستغفار للمشركين في حال من الأحوال، حتى لو كانوا أولي قربى، فإن لم يكونوا كذلك فعدم جوازه أولى. ثم قيد الحكم بقوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} أي من بعد ما ظهر لهم بالدليل أنهم من أهل النار الخالدين فيها بأن ماتوا على شركهم وكفرهم ولو بحسب الظاهر كاستصحاب حالة الكفر إلى الموت] ثم قال [والآية نص في تحريم الدعاء لمن مات على كفره بالمغفرة والرحمة وكذا وصفه بذلك كقولهم المغفور له المرحوم فلان، كما يفعله بعض المسلمين الجغرافيين الآن، لعدم تحققهم بمقتضى الإيمان، وتقيدهم بأحكام الإسلام، ومنهم بعض المعممين والحاملين لدرجة العالمية من الأزهر] تفسير المنار 11/56-57.
وقال الشيخ محمد صالح العثيمين:
[فيا عباد الله إن الله تعالى قال: (هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن) وقال الله تعالى: (يا أيها الذين أمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق) وقال الله تعالى: (يا أيها الذين أمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فانه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين) وقال الله تعالى: (إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا) والآيات في هذا معلومة فعلينا أن نتخذ الخطوات الآتية: إن الكافرين سواء كانوا من اليهود أو من النصارى أو من الوثنيين أو من الشيوعيين أو من أي صنف من أصناف الكفار هم أعداءنا إنهم كانوا لنا عدواً مبينا هكذا قال الله عز وجل الذي هو العالم بالخفيات وبما في القلوب كانوا أعداء عداوة بينة ظاهرة ولكنهم قد ينافقون أحياناً من أجل حظوظ أنفسهم فقط لا من أجل فائدة المسلمين.
ثانياً: أن نعلم أن الكفار مهما كانوا فإن ما يقدموا من خير لن ينفعهم عند الله تعالى لقول الله تبارك وتعالى (وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءا منثورا) هذا إذا تيقن أن فيه خيراً للإسلام والمسلمين فأما إذا كان فيه احتمال إن هذا الخير من أجل إبراز الدعوة النصرانية لمبرز ظاهر إنساني فان ذلك لا يكون فيه خير للمسلمين بل هو ضد المسلمين في الواقع.
ثالثاً: أن نعلم أنه لا يجوز لنا أن نترحم أو نستغفر لأحد من الكافرين المشركين أو اليهود أو النصارى لأن ذلك خلاف هدي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وخلاف هدي الذين آمنوا قال الله تعالى: (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربي من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم) هكذا نفى الله تعالى هذا الأمر نفياً قاطعاً لأن ما كان كذا يعني أنه ممتنع شرعاً فلا يجوز لأحد من المؤمنين أن يدعو لكافر بالمغفرة أو بالرحمة لأن هذا خلاف منهج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ومنهج الذين آمنوا ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في عمه أبي طالب حينما دعاه للإسلام ولكن آخر ما قال إنه على ملة عبد المطلب ولم يقل لا إله إلا الله قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لأستغفرن لك ما لم أنهى عنك) فنهاه الله تعالى أن يستغفر لعمه أبي طالب مع أن عمه أبا طالب نصره نصراً مؤزراً ودافع عنه وكان يقول فيه القصائد العصماء ومع ذلك نهاه الله عز وجل أن يستغفر له وقال: (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين) مع أن أبا طالب كان قد أفاد النبي صلى الله عليه وسلم وأفاد الرسالة النبوية وأفاد المسلمين ولكن ذلك لم ينفعه قال الله تعالى: (وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثوراً) وإذا كان هذا في عم النبي صلى الله عليه وسلم الذي دافع عنه وناصره فكيف في من لم يكن هذه حاله ولقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم أنه قال: (والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة- يعني أمة الدعوة - يهودياً أو نصرانياً ثم يموت ولم يؤمن بما جئت به إلا كان من أصحاب النار) هكذا ثبت عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ومن المعلوم أن اليهود والنصارى كثير منهم قد سمع بدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم فإذا ماتوا ولم يؤمنوا به فهم من أصحاب النار وإذا كانوا من أصحاب النار فإنه لا يجوز لنا أن ندعوا الله لهم بالرحمة والمغفرة لأن هذا ضد حكم الله تبارك وتعالى فالله حكم بأنهم في النار فكيف نسأل الله أن يجعلهم في رحمته ومغفرته هذا من المضادة لحكم الله تبارك وتعالى ولكننا مع ذلك لا نشهد لأحد بعينه من الكفار أنه في النار ولكننا نقول كل كافر من يهودي أو نصراني أو مشرك أو ملحد فإنه من أصحاب النار لكن الشهادة بالعين أمرها عظيم فلا يشهد لأحد بعينه بجنة ولا نار إلا لمن شهد له النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولكن من مات على الكفر فإننا نجري عليه أحكام الكافرين فلا نستغفر له ولا نسأل الله له الرحمة.
أيها الإخوة إن هذا الأمر يخفي على كثير من الناس يظنون أن الدعاء بالمغفرة والرحمة لمن يظن أنه أحسن إلى الإنسانية يظنون أنه لا بأس به ولكن كما سمعتم آيات الله عز وجل في النهي عن الاستغفار والاسترحام للمشركين فمن كان قد استغفر لأحد من اليهود أو النصارى أو المشركين فعليه أن يتوب إلى الله عز وجل وعليه أن لا يعود إلى ذلك ليحقق إيمانه وليكن على جادة النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به ... ] عن موقع الشيخ على شبكة الإنترنت.
وخلاصة الأمر أن من أهل العلم من يرى أن الآية نزلت في قصة أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم ولا تنافي بين كونه قد مات قبل الهجرة وكون الآية في سورة التوبة وهي من أواخر ما نزل. وقد نصت الآية على حرمة الاستغفار لمن مات كافراً.(18/11)
12 - التوسل بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول السائل: ما حكم أن يقول المسلم: يا رسول الله استغفر لي أو يا رسول الله ادع لي سواء أكان ذلك عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم أو في أي مكان آخر؟
الجواب: لا يجوز لأحد أن يقول [يا رسول الله استغفر لي أو يا رسول الله ادع لي] سواء أكان ذلك عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم أو في أي مكان آخر ويعتبر هذا القول وسيلة من وسائل الشرك والعياذ بالله حيث إن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد انتقل من هذه الدنيا إلى دار الآخرة فهو صلى الله عليه وسلم في حياة برزخية لا يعلم حقيقتها إلا الله عز وجل وقد قال سبحانه وتعالى {إنك ميت وإنهم ميتون} سورة الزمر الآية 30.
والرسول صلى الله عليه وسلم لا عمل له حيث انقطع عملة بوفاته صلى الله عليه وسلم. وأما قول الله عز وجل {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} سورة النساء الآية 64. فالمراد بها المجيء إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حال حياته وليس بعد وفاته ويدل على ذلك قوله تعالى
{إِذْ} ومن المعلوم أن الأصل في لفظة (إذ) في لغة العرب أنها تستعمل لما مضى من الزمان ولا تستعمل للزمان المستقبل. قال الجوهري [إذ كلمة تدل على ما مضى من الزمان ... ] الصحاح 2/560 وانظر لسان العرب 1/101. وأما لفظة إذا فتستعمل لما يستقبل من الزمان.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الرد على من يستدل بالآية السابقة على جواز سؤال النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء حال موته [ومنهم من يتأول قوله تعالى {ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً} ويقولون إذا طلبنا منه الاستغفار بعد موته كنا بمنزلة الذين طلبوا الاستغفار من الصحابة ويخالفون بذلك إجماع الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر المسلمين فإن أحداً منهم لم يطلب من النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته أن يشفع له ولا سأله شيئاً ولا ذكر ذلك أحد من أئمة المسلمين في كتبهم وإنما ذكر ذلك من ذكره من متأخري الفقهاء وحكوا حكاية مكذوبة على مالك رضي الله عنه سيأتي ذكرها وبسط الكلام عليها إن شاء الله تعالى ... ] مجموع فتاوى شيخ الإسلام 1/159.
وقال العلامة محمد بن صلح العثيمين عند حديثه عن أنواع التوسل: [النوع الرابع: أن يتوسل إلى الله بدعاء من ترجى إجابته كطلب الصحابة رضي الله عنهم من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو الله لهم مثل قول الرجل الذي دخل يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فقال: ادع الله أن يغيثنا؛ وقول عكاشة بن محصن للنبي صلى الله عليه وسلم: ادع الله أن يجعلني منهم.
وهذا إنما يكون في حياة الداعي، أما بعد موته فلا يجوز؛ لأنه لا عمل له: فقد انتقل إلى دار الجزاء؛ ولذلك لما أجدب الناس في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يطلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يستسقي لهم؛ بل استسقى عمر بالعباس عم النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: قم فاستسق؛ فقام العباس فدعا، وأما ما يروى عن العتبي أن أعرابياً جاء إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "السلام عليك يا رسول الله سمعت الله يقول: {ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً} وقد جئتك مستغفراً من ذنوبي مستشفعاً بك إلى ربي) وذكر تمام القصة؛ فهذه كذب لا تصح؛ والآية ليس فيها دليل لذلك؛ لأن الله يقول: {ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم} ولم يقل: (إذا ظلموا أنفسهم) و (إذ) لما مضى لا للمستقبل؛ والآية في قوم تحاكموا أو أرادوا التحاكم إلى غير الله ورسوله صلى الله عليه وسلم كما يدل على ذلك سياقها السابق واللاحق.] التوسل حكمه وأقسامه ص 22-23.
وخلاصة الأمر أنه لا يجوز أن يقال [يا رسول الله استغفر لي أو يا رسول الله ادع لي] سواء أكان ذلك عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم أو في أي مكان آخر.(18/12)
13 - شحن المحمول من كهرباء المسجد
يقول السائل: كنا نعتكف في أحد المساجد في العشر الأواخر من رمضان وكان جماعة من المعتكفين يقومون بشحن البلفونات (التلفون المحمول) من كهرباء المسجد فما حكم ذلك؟
الجواب: لا يجوز شحن البلفون من كهرباء المسجد لأن كهرباء المسجد لا يصح أن تستغل في الأمور الشخصية فلا يجوز لشخص مثلاً أن يمد خطاً من كهرباء المسجد إلى بيته والأصل عند العلماء أن المال الموقوف يستعمل حسب شرط الواقف إن كان هنالك شرط له فإن لم يكن له شرط فيستعمل المال الموقوف حسب ما تعارف الناس عليه وينبغي التنبيه إلى أن وجود الوصلات الكهربائية التي توصل بها البلفونات لشحنها لا يدل على أن الأوقاف قد أذنت في شحن البلفونات فهذه الوصلات إنما وضعت لخدمة المسجد من استخدام المكنسة الكهربائية أو مكبر الصوت ونحو ذلك ولا يصح القول بأن وجودها إذن للناس باستعمالها. كما أن فتح هذا الباب للناس يعني تحميل المساجد مصاريف عالية ولا يقولن أحد إن شحن البلفون ليس مكلفاً وعليه أن ينظر إلى كثرة البلفونات مع الناس.
وبمناسبة الحديث عن البلفون والمسجد أود التذكير ببعض الأمور:
أولاً: نلاحظ أن مستعملي البلفونات قد زودوها بنغمات موسيقية فهذا الأمر محرم شرعاً فما بالك عندما تعزف هذه الموسيقى في المسجد وأثناء الصلاة لا شك أن هذا منكر عظيم وقد قامت الأدلة الصحيحة على تحريم الموسيقى ومنها ما رواه الإمام البخاري في صحيحه قال الإمام البخاري: [وقال هشام بن عمار حدثنا صدقة بن خالد حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر حدثنا عطية بن قيس الكلابي حدثني عبد الرحمن بن غنم الأشعري قال حدثني أبو عامر أو أبو مالك الأشعري والله ما كذبني سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف ... الخ الحديث] .
وهذا الحديث يدل على تحريم الموسيقى من وجهين ذكرهما الشيخ العلامة الألباني الأول: قول النبي صلى الله عليه وسلم (يستحلون) فإنه صريح بأن المذكورات ومنها المعازف هي في الشرع محرمة، فيستحلها أولئك القوم.
الثاني: قرن المعازف مع المقطوع بحرمته وهو الزنا والخمر، ولو لم تكن محرمة لما قرنها معها. انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة 1/144. والأدلة على تحريم الموسيقى كثيرة وليس هذا محل بحثها.
وبناءً على ما سبق فلا يجوز وضع النغمات الموسيقية على البلفونات ويكتفى بالرني العادي.
ثانياً: نلاحظ كثرة رنين البلفونات أثناء الصلاة خاصة وفي المسجد بشكل عام على الرغم من اللوحات الإرشادية الموضوعة في المساجد والتي يطلب فيها إيقاف البلفونات عن العمل عند دخول المسجد ولا شك أن رنين البلفون وصدور النغمات الموسيقية فيه تشويش كبير على المصلين ويقطع خشوع المصلين ويتحمل الوزر والإثم حامل البلفون لأنه شوش على المصلين وقطع خشوعهم فلا يجوز لأحد أن يشوش على المصلين وأن يقطع خشوعهم فالتشويش في المسجد على المصلين والتالين لكتاب الله والذاكرين لا يجوز حتى ولو كان ذلك بقراءة القرآن الكريم فقد ورد في الحديث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد فسمعهم يجهرون بالقراءة فكشف الستر وقال: ألا إن كلكم مناجٍ ربه فلا يؤذي بعضكم بعضاً ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة أو قال في الصلاة) رواه أبو داوود بإسناد صحيح كما قال الإمام النووي وصححه الشيخ الألباني. وورد في الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال (إن المصلي يناجي ربه فلينظر بما يناجيه ولا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن) رواه مالك بسند صحيح قاله الشيخ الألباني.
والمذكور في الحديث رفع الصوت بالقرآن الكريم فما بالك بالنغمات الموسيقية التي تصدرها البلفونات!!
وقد همّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه بتعزير من يرفعون أصواتهم في المسجد فقد روى البخاري عن السائب بن يزيد قال: كنت قائماً في المسجد فحصبني رجل - أي رماني بحصاة - فنظرت فإذا هو عمر بن الخطاب فقال: اذهب فائتني بهذين، فجئته بهما، فقال: ممن أنتما؟ قال: من أهل الطائف، قال: لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما، ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
وبناءً على ما سبق فيجب على من يحمل البلفون أن يوقفه عن العمل عند دخوله المسجد
فإن نسيه شغالاً فرن أثناء الصلاة فينبغي أن يوقفه مباشرة وإن اقتضى ذلك أن يتحرك المصلي في صلاته فإن هذه الحركة مباحة على أقل تقدير إن لم تكن مستحبة نظراً للحاجة حيث إنه يترتب عليها منع ما يشوش على المصلين وقد ثبت في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم: (أمَّ الناس في المسجد فكان إذا قام حمل أمامة بنت زينب وإذا سجد وضعها) رواه البخاري ومسلم.
كما وأنه يجوز قتل الحية والعقرب في الصلاة وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك. رواه أصحاب السنن وقال الإمام الترمذي حديث حسن.
فيؤخذ من هذين الحديثين أن الحركة في الصلاة إن كانت لحاجة جائزةٌ ولا تبطل الصلاة أقول هذا مع التأكيد على إغلاق البلفون عند الدخول إلى المسجد فإن نسيه مفتوحاً ورنَّ أثناء الصلاة فيغلقه ولا شيء عليه(18/13)
14 - العمل عند تضارب الفتوى
يقول السائل: ما العمل عندما اختلاف فتاوى المفتين في مسألة واحدة؟
الجواب: إن الفتوى من أخطر الأمور وأشدها لأنها في الحقيقة توقيع عن رب العالمين كما قال العالمون وكثير من الذين يتصدرون للفتوى في دين الله لا يدركون خطورة شأن الفتوى وما يجب أن يكون عليه المفتي من علم وصدق والتزام بشرع الله. قال الله تعالى (فاسْألُوا أهلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) سورة النحل الآية 43، قال ابن عباس رضي الله عنهما: [أهل الذكر هم أهل العلم] تفسير القرطبي 10/108.
وقال العلامة ابن القيم [ولما كان التبليغ عن الله سبحانه وتعالى يعتمد العلمَ بما يبلغ، والصدق فيه، لم تصلح مرتبة التبليغ بالرواية والفتيا إلا لمن اتصف بالعلم والصدق، فيكون عالماً بما يبلغ، صادقاً فيه، ويكون مع ذلك حَسَنَ الطريقة، مرضيَّ السيرة، عدلاً في أقواله وأفعاله، متشابه السر والعلانية في مدخله ومخرجه وأحواله، وإذا كان مَنصِبُ التوقيع عن الملوك بالمحل الذي لا يُنكَرُ فضله، ولا يُجهل قدره، وهو من أعلى المراتب السنيات، فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسموات؟ فحقيقٌ بمن أقيم في هذا المنصب أن يُعدَ له عُدَّته، وأن يتأهب له أهبته، وأن يعلم قدر المقام الذي أقيم فيه، ولا يكون في صدره حرج من قول الحق والصدع به، فإن الله ناصره وهاديه، وكيف وهو المنصب الذي تولاه بنفسه رب الأرباب، فقال تعالى: (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ) ، وكفى بما تولاه الله تعالى بنفسه شرفاً وجلالةً، إذ يقول في كتابه: (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ) ، وليعلم المفتي عمن ينوب في فتواه، وليوقن أنه مسؤول غداً وموقوف بين يدي الله] إعلام الموقعين عن رب العالمين 2/ 16-17.
إذا تقرر هذا فأعود إلى السؤال فأقول: إن الأصل في المستفتي أن يسأل من يثق في علمه ودينه فيعرض مسألته عليه فإن أفتاه لزم المستفتي أن يأخذ بفتواه. قال محمد بن سيرين من أئمة التابعين: (إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذونه) رواه مسلم في مقدمة صحيحه1/76. وقال الإمام القدوة يزيد بن هارون: (إن العالم حجتك بينك وبين الله تعالى فانظر مَن تجعل حجتك بين يدي الله عز وجل) ذكره الخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه 2/178.
وقال الخطيب البغدادي: [أول ما يلزم المستفتي إذا نزلت به نازلة أن يطلب المفتي ليسأله عن حكم نازلته، فإن لم يكن في محلته وجب عليه أن يمضي إلى الموضع الذي يجده فيه، فإن لم يكن ببلده لزمه الرحيل إليه وإن بعدت داره فقد رحل غير واحد من السلف في مسألةٍ ... إلى أن قال [وإذا قصد أهل محلة للاستفتاء عما نزل به فعليه أن يسأل من يثق بدينه ويسكن إلى أمانته عن أعلمهم وأمثلهم؛ ليقصده ويؤم نحوه، فليس كل من ادعى العلم أحرزه، ولا كل من انتسب إليه كان من أهله] الفقيه والمتفقه 2/ 177. وقال الإمام الآمدي [القائلون بوجوب الاستفتاء على العامي اتفقوا على جواز استفتائه لمن عرفه بالعلم وأهلية الاجتهاد والعدالة بأن يراه منتصباً للفتوى والناس متفقون على سؤاله والاعتقاد فيه، وعلى امتناعه فيمن بالضد من ذلك] . الإحكام في أصول الأحكام 4/453. وقال الإمام القرافي المالكي [ولا يجوز لأحد الاستفتاء إلا إذا غلب على ظنه أن الذي يستفتيه من أهل العلم والدين والورع] الذخيرة 1/147. وقال الإمام الشوكاني: [إذا تقرر لك أن العامي يسأل العالم والمقصر يسأل الكامل فعليه أن يسأل أهل العلم المعروفين بالدين وكمال الورع عن العالم بالكتاب والسنة العارف بما فيهما، المطلع على ما يحتاج إليه في فهمهما من العلوم الآلية حتى يدلوه عليه ويرشدوه إليه فيسأله عن حادثته طلباً منه أن يذكر له فيها ما في كتاب الله سبحانه أو ما في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فحينئذ يأخذ الحق من معدنه ويستفيد الحكم من موضعه ويستريح من الرأي الذي لا يأمن المتمسك به أن يقع في الخطأ المخالف للشرع المباين للحق ومن سلك هذا المنهج ومشى في هذا الطريق لا يعدم مطلبه ولا يفقد من يرشده إلى الحق فإن الله سبحانه وتعالى قد أوجد لهذا الشأن من يقوم به ويعرفه حق معرفته وما من مدينة من المدائن إلا وفيها جماعة من علماء الكتاب والسنة وعند ذلك يكون حكم هذا المقصر حكم المقصرين من الصحابة والتابعين وتابعيهم فإنهم كانوا يستروون النصوص من العلماء ويعملون على ما يرشدونهم إليه ويدلونهم عليه وقد ذكر أهل الأصول أنه يكفي العامي في الاستدلال على من له أهلية الفتوى بأن يرى الناس متفقين على سؤاله مجتمعين على الرجوع إليه ولا يستفتي من هو مجهول الحال كما صرح به الغزالي والآمدي وابن الحاجب وحكى في المحصول الاتفاق على المنع] إرشاد الفحول ص 271. وغير ذلك من أقوال أهل العلم. ولا ينبغي التنقل بالسؤال من مفت إلى آخر حتى يحصل المستفتي على الجواب الذي يوافق هواه من المفتي المتساهل فإن التساهل في الفتوى من المحرمات قال الإمام النووي رحمة الله عليه: [يحرم التساهل في الفتوى، ومن عرف به حَرُمَ استفتاؤه، فمن التساهل أن لا يتثبت ويسرع بالفتوى قبل استيفاء حقها من النظر والفكر، فإن تقدمت معرفته بالمسئول عنه فلا بأس بالمبادرة، وعلى هذا يُحمل ما نقل عن الماضين من مبادرة، ومن التساهل أن تحمله الأغراض الفاسدة، على تتبع الحيل المحرمة أو المكروهة، والتمسك بالشبه طلباً للترخيص، لمن يروم نفعه، أو التغليظ على من يريد ضره، وأما من صح قصدُه فاحتسب في طلب حيلة لا شبهة فيها للتخليص من ورطة يمين ونحوها، فذلك حسنٌ جميلٌ، وعليه يحمل ما جاء عن بعض السلف من نحو هذا كقول سفيان - الثوري -: [إنما العلمُ عندنا الرخصة من ثقة فأما التشديد فيحسنه كل أحد] المجموع 1/46. وبهذه المناسبة فقد سئلت منذ عهد قريب عن فوائد صندوق التوفير في إحدى الشركات فأفتيت بتحريمها لأنها الربا المحرم في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وقد طرح السؤال على بعض المفتين وغير المفتين فأجابوا بأن ذلك عين الحلال بحجج هي أوهى من بيت العنكبوت، فقلت لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وإنا لله وإنا إليه راجعون. كيف أصبح الربا المحرم قطعاً في كتاب ربنا وسنة نبينا حلالاً خالصاً عند بعض المتسورين على الفتوى وعند بعض المجاهيل الذين يصدرون الفتاوى باسم حزب أو جماعة دون أن يُعرفوا بأعيانهم حتى ينظر الناس هل هؤلاء أهل للفتوى أم ليسوا لها أهلاً؟ ويجب أن يعلم أن الفتوى خاصة وأمور الدين عامة لا تقبل من المجاهيل فالمجهول مردود الرواية ولا يعتد بقوله لا في وفاق ولا في خلاف. وقد قرر العلماء أن المستفتي إن تعارضت لديه الفتاوى أنه يأخذ بقول الأعلم والأتقى والأكثر اعتماداً على الكتاب والسنة وقواعد الشرع تدل أيضاً أنه إذا تعارض الحل والتحريم فيقدم التحريم كما في مسألة صندوق التوفير لأن ذلك أحوط مع أن القول بالتحريم هو القول الصحيح الذي تؤيده الأدلة من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. انظر المجموع 1/92، شرح الكوكب المنير 4/580-581، الفتوى في الإسلام ص105-106.
وقد حق لنا أن نبكي على أحوال المفتين كما بكى ربيعة الرأي ـ شيخ الإمام مالك ـ فقيل: ما يبكيك؟ فقال: استفتي من لا علم له، وظهر في الإسلام أمر عظيم! وقال: ولبعض من يفتي ههنا أحق بالسجن من السراق! وقال بعض العلماء: [فكيف لو رأى ربيعة زماننا؟ وإقدام من لا علم عنده على الفتيا وتوثبه عليها، ومد باع التكلف إليها وتسلقه بالجهل والجرأة عليها مع قلة الخبرة وسوء السيرة وشؤم السريرة، وهو من بين أهل العلم منكر أو غريب، فليس له في معرفة الكتاب والسنة وآثار السلف نصيب ... ] إعلام الموقعين عن رب العالمين 6/118.(18/14)
15 - حديث التفكر في آلاء الله عز وجل
يقول السائل: سمعت حديثاً يقول (تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في الله) فهل هذا الحديث ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم وما معناه؟
الجواب: هذا الحديث ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم وله عدة ألفاظ منها ما رواه الطبراني في المعجم الأوسط والبيهقي في شعب الإيمان
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله) وفي رواية أخرى (فإنكم لن تدركوه إلا بالتصديق) وفي رواية ثالثة (لا تفكروا في الله وتفكروا في خلق الله) وفي رواية رابعة (تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في الله) والحديث بمجموع طرقه حديث حسن كما بين ذلك العلامة الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 4/395-397. وفي صحيح الجامع الصغير 1/572.
إذا تقرر هذا فإن المراد بالحديث أن يتفكر الإنسان في مخلوقات الله وفي نعم الله عز وجل، وقد أمرنا الله عز وجل أن نتفكر فيما خلق في آيات كثيرة منها: قوله تعالى {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} سورة الغاشية الآية 17..وقوله تعالى {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} سورة الأنعام الآية99.
وقوله تعالى {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} سورة الأعراف 185. وقوله تعالى {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} سورة يونس الآية 101. وقوله تعالى {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} سورة العنكبوت الآية 20. وقوله تعالى {فَانْظُرْ إِلَىءَاثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} سورة الروم الآية 50. وقوله تعالى {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ} سورة عبس الآية 24. وغير ذلك من الآيات الكريمات.
ولا ينبغي التفكر في ذات الله لأن التفكر في ذات الله قد يقود الإنسان إلى الشك وهذا الأمر من وساوس الشيطان ومن إضلاله للمؤمن ليخرجه من الإيمان إلى الكفر والعياذ بالله ولن يستطيع الإنسان بعقله المحدود أن يعرف قدر الله سبحانه وتعالى، قال جل جلاله: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء} سورة البقرة الآية 255. وقال تعالى: {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} سورة طه الآية110. وقال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} سورة الشورى الآية 11.
قال الإمام أبو جعفر الطحاوي صاحب العقيدة المرضية عند أهل السنة والجماعة ما نصه: [ولا نخوض في الله ولا نماري في دين الله] . وقال الشيخ ابن أبي العز الحنفي شارح العقيدة الطحاوية في شرح العبارة السابقة: [يشير الشيخ رحمه الله إلى الكف عن كلام المتكلمين الباطل وذم علمهم فإنهم يتكلمون في الإله بغير علم وغير سلطان أتاهم {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} سورة النجم الآية 23. وعن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه قال: [لا ينبغي لأحد أن ينطق في ذات الله بشيء بل يصفه بما وصف به نفسه ... ] شرح العقيدة الطحاوية ص 427.
وقد علَّمنا النبي صلى الله عليه وسلم كيفية معالجة شكوك ووساوس الشيطان عندما يعرض لنا فقد ورد في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: (يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول: من خلق ربك؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته) رواه البخاري ومسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال: هذا خلق الله الخلق فمن خلق الله فمن وجد من ذلك شيئا فليقل آمنت بالله) رواه مسلم. وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الشيطان يأتي أحدكم فيقول: من خلق السماء؟ فيقول: الله، فيقول: من خلق الأرض؟ فيقول: الله، فيقول: من خلق الله؟ فإذا وجد ذلك أحدكم فليقل: آمنت بالله ورسوله) رواه أحمد والطبراني وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في صحيح الجامع حديث رقم 1656. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يوشك الناس يتساءلون، حتى يقول قائلهم: هذا الله خلق الخلق، فمن خلق الله؟ فإذا قالوا ذلك؛ فقولوا: الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، ثم ليتفل عن يساره ثلاثاً، وليستعذ من الشيطان) رواه أحمد وأبو داود وصححه العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة 2/24. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان يأتي أحدكم فيقول: من خلقك؟ فيقول الله. فيقول: فمن خلق الله؟ فإذا وجد أحدكم ذلك فليقرأ آمنت بالله ورسله فإن ذلك يذهب عنه) رواه أحمد وصححه العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة 2/22. وفي صحيح الجامع حديث رقم 1657. وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من وجد من هذا الوسواس، فليقل: آمنا بالله ورسوله ثلاثاً فإن ذلك يذهب عنه) رواه أحمد وصححه العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة 2/22. وفي صحيح الجامع حديث رقم 6587. وقد ذكر بعض أهل العلم أنه يؤخذ من هذه الأحاديث ست وسائل للتغلب على وساوس الشيطان: 1- أن يقول المرء إذا انتابته هذه الخواطر: آمنت بالله ورسوله. 2- أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم فيقول مثلاً: (أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، من همزه ونفخه ونفثه) . 3- أن يتفل عن يساره ثلاثاً. 4- أن ينتهي عما هو فيه، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ولينته) ، وهذه وسيلة مهمة؛ فإن الاستطراد مع الشيطان في هذه الوساوس يزيد نارها اشتعالاً وضراماً، والواجب أن يقطع المسلم هذه الخواطر بقدر المستطاع، وأن يشغل ذهنه بالمفيد النافع. 5- أن يقرأ سورة الإخلاص (قل هو الله أحد) فإن فيها ذكر صفات الرحمن، ولذلك كانت تعدل ثلث القرآن، وقراءة هذه السورة العظيمة وتدبرها كفيل بقطع هذه الوساوس. 6- أن يتفكر الإنسان في خلق الله، وفي نعم الله، ولا يتفكر في ذات الله، لأنه لن يصل بعقله القاصر إلى تصور ذات الله، قال تعالى: {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} انتهى. وقال الشيخ العلامة الألباني بعد أن ذكر الأحاديث السابقة: [دلت هذه الأحاديث الصحيحة على أنه يجب على من وسوس إليه الشيطان بقوله: من خلق الله؟ أن ينصرف عن مجادلته إلى إجابته بما جاء في الأحاديث المذكورة، وخلاصتها أن يقول: [آمنت بالله ورسله، الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد. ثم يتفل عن يساره ثلاثاً، ويستعيذ بالله من الشيطان، ثم ينتهي عن الانسياق مع الوسوسة وأعتقد أن من فعل ذلك طاعة لله ورسوله، مخلصاً في ذلك أنه لا بد أن تذهب الوسوسة عنه، ويندحر شيطانه لقوله صلى الله عليه وسلم: (فإن ذلك يذهب عنه) . وهذا التعليم النبوي الكريم أنفع وأقطع للوسوسة من المجادلة العقلية في هذه القضية، فإن المجادلة قلما تنفع في مثلها. ومن المؤسف أن أكثر الناس في غفلة عن هذا التعليم النبوي الكريم، فتنبهوا أيها المسلمون وتعرفوا إلى سنة نبيكم واعملوا بها، فإن فيها شفاؤكم وعزكم] السلسلة الصحيحة 2/25.
وخلاصة الأمر أن الحديث ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم وأن المطلوب من المسلم أن يتفكر في مخلوقات الله عز وجل وآلائه وأن لا يتفكر ي ذات الله لأن التفكير في ذات الله من المضلات والعياذ بالله.(18/15)
16 - إتيان الزوجة في الدبر من الكبائر
تقول السائلة: إن زوجها أجبرها على الوطء في الدبر وهي تعلم أن ذلك محرم شرعاً ولكنها سمعت أن المرأة تصير طالقاً إذا أتاها زوجها في دبرها فما الحكم في هذه المسألة أفيدونا؟
الجواب: إن شريعة الإسلام المباركة قد بينت للناس كل الأحكام التي يحتاجون إليها في جميع نواحي حياتهم ومن ذلك طريقة المعاشرة الزوجية الصحيحة والموافقة للفطرة الإنسانية يقول الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} سورة البقرة الآية 222 وقال الله تعالى في الآية بعدها {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} سورة البقرة الآية 223 قال أهل التفسير إن المراد هو إتيان الزوجة في محل الولد وهو المحل الذي أمر الله عز وجل أن تؤتى الزوجة فيه ومن المعلوم عند الناس كافة أن محل الولد هو القبل لا الدبر. انظر تفسير القرطبي 3/90.
وقد وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة في تحريم إتيان الزوجة في دبرها فمن ذلك:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ملعون من أتى امرأة في دبرها) . رواه أحمد وأبو داود وهو حديث حسن.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من أتى حائضاً أو امرأةً في دبرها أو كاهناً فصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم) رواه أحمد والترمذي والنسائي وأبو داود. وقال: (فقد بريء مما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم) . وهو حديث صحيح كما قال الشيخ الألباني في إرواء الغليل 7/68. وعن خزيمة بن ثابت رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يأتي الرجل امرأته في دبرها) . رواه أحمد وابن ماجة. وعن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تأتوا النساء في أعجازهن أو قال في أدبارهن) . رواه أحمد.
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الذي يأتي امرأته في دبرها هي اللوطية الصغرى) . رواه أحمد.
وعن علي بن طلق قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقول لا تأتوا النساء في أستاههن فإن الله لا يستحي من الحق) . رواه أحمد والترمذي وقال حديث حسن وصححه ابن حبان. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا ينظر الله إلى رجل يأتي امرأته في دبرها) . رواه الترمذي وحسنه وصححه ابن حبان وصححه ابن راهويه انظر آداب الزفاف ص105، زاد المعاد 3/257. وعن خزيمة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن الله لا يستحيي من الحق لا تأتوا النساء في أعجازهن) رواه أحمد وابن ماجة والبيهقي وهو حديث صحيح كما قال الشيخ الألباني في إرواء الغليل 7/65
وهذه الأحاديث وإن كان في بعضها كلام لأهل الحديث فهي صالحة للاحتجاج ومثبتة لتحريم إتيان الزوجة في دبرها قال الحافظ ابن حجر العسقلاني عن هذه الأحاديث: [طرقها كثيرة فمجموعها صالح للاحتجاج به] فتح الباري 8/241.
وقال الشوكاني: [ولا شك أن الأحاديث المذكورة في الباب القاضية بتحريم إتيان النساء في أدبارهن يقوي بعضها بعضاً] نيل الأوطار6/228 وقد أخذ أهل العلم من هذه النصوص تحريم إتيان المرأة في دبرها قال شيخ الإسلام ابن تيمية: [وطء المرأة في دبرها حرام في قول جماهير العلماء] مختصر الفتاوى المصرية ص 37. ولم يصح عن أحد من العلماء إباحة ذلك وما روي من أقوال منسوبة لبعض أهل العلم بإباحة ذلك فهي أقوال ضعيفة شاذة وغير ثابتة عنهم. قال الحافظ ابن كثير: [وقال أبو بكر بن زياد النيسابورى… حدثني إسرائيل بن روح سألت مالك بن أنس: ما تقول في إتيان النساء في أدبارهن؟ قال: ما أنتم إلا قوم عرب، هل يكون الحرث إلا موضع الزرع؟ لا تعدوا الفرج، قلت: يا أبا عبد الله، إنهم يقولون إنك تقول ذلك- أي إباحة الوطء في الدبر- قال: يكذبون عليَّ يكذبون عليَّ، فهذا هو الثابت عنه، وهو قول أبي حنيفة، والشافعي، وأحمد بن حنبل وأصحابهم قاطبة، وهو قول سعيد بن المسيب وأبي سلمة، وعكرمة، وطاوس، وعطاء، وسعيد بن جبير، وعروة بن الزبير، ومجاهد بن جبر، والحسن وغيرهم من السلف أنهم أنكروا ذلك أشد الإنكار، ومنهم من يطلق على فعله الكفر، وهو مذهب جمهور العلماء] تفسير ابن كثير 1/265 وقال القرطبي: [والصحيح في هذه المسألة ما بيناه - تحريم الوطء في الدبر - وما نسب إلى مالك وأصحابه من هذا باطل وهم مبرءون من ذلك لأن إباحة الإتيان مختصة بموضع الحرث لقوله تعالى {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ} ... وهذا هو الحق وقد قال أصحاب أبي حنيفة: إنه عندنا ولائط الذكر سواء في الحكم ... وقال ابن العربي في قبسه: قال لنا الشيخ الإمام فخر الإسلام أبو بكر محمد بن أحمد بن الحسين فقيه الوقت وإمامه: ... وقد حرم الله تعالى الفرج حال الحيض لأجل النجاسة العارضة. فأولى أن يحرم الدبر لأجل النجاسة اللازمة. وقال مالك لابن وهب وعلي بن زياد لما أخبراه أن ناساً بمصر يتحدثون عنه أنه يجيز ذلك، فنفر من ذلك، وبادر إلى تكذيب الناقل فقال: كذبوا عليَّ، كذبوا عليَّ، كذبوا علي! ثم قال: ألستم قوما عرباً؟ ألم يقل الله تعالى: "نساؤكم حرث لكم" وهل يكون الحرث إلا في موضع المنبت! وما استدل به المخالف من أن قوله عز وجل: {أَنَّى شِئْتُمْ} شامل للمسالك بحكم عمومها فلا حجة فيها، إذ هي مخصصة بما ذكرناه، وبأحاديث صحيحة حسان وشهيرة رواها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنا عشر صحابياً بمتون مختلفة، كلها متواردة على تحريم إتيان النساء في الأدبار، ذكرها أحمد بن حنبل في مسنده، وأبو داود والنسائي والترمذي وغيرهم. وقد جمعها أبو الفرج بن الجوزي بطرقها في جزء سماه "تحريم المحل المكروه". ولشيخنا أبي العباس أيضا في ذلك جزء سماه (إظهار إدبار، من أجاز الوطء في الأدبار) . قلت: وهذا هو الحق المتبع والصحيح في المسألة، ولا ينبغي لمؤمن بالله واليوم الآخر أن يعرج في هذه النازلة على زلة عالم بعد أن تصح عنه. وقد حذرنا من زلة العالم. وقد روي عن ابن عمر تكفير من فعله، وهذا هو اللائق به رضي الله عنه. وكذلك كذَّب نافع من أخبر عنه بذلك، كما ذكر النسائي] تفسير القرطبي 3/94-95
وقد اعتبر الشيخ ابن حجر المكي إتيان المرأة في دبرها من كبائر الذنوب وهذا هو الحق الذي تؤيده الأدلة فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد لعن من فعل ذلك واللعن لا يكون إلا على كبائر الذنوب. انظر الزواجر عن اقتراف الكبائر 2/62.
وذكر الشيخ ابن القيم حكماً كثيرة في حرمة وطء المرأة في دبرها فقال [وإذا كان الله حرم الوطء في الفرج لأجل الأذى العارض فما الظن بالحش – الدبر - الذي هو محل الأذى اللازم ... للمرأة حق على الزوج في الوطء ووطؤها في دبرها يفوّت حقها ولا يقضي وطرها ولا يُحصّل مقصودها ... فإنه يذهب بالحياء جملة والحياء هو حياة القلوب فإذا فقدها القلب استحسن القبيح واستقبح الحسن وحينئذ فقد استحكم فساده] زاد المعاد 3/ 262-263
وقد أثبت العلم الحديث انتقال عدد كبير ن الأمراض الجنسية الخطيرة عن طريق الوطء في الدبر أو اللواط ومنها داء نقصان المناعة المكتسب (الإيدز) وهو مرض قاتل غالباً ما ينتشر بين الشاذين جنسياً الذين يمارسون اللواط (أكثر من 70% من حالات الإيدز) ] الموسوعة الطبية الفقهية ص456.
وخلاصة الأمر أنه يحرم إتيان المرأة في دبرها وأنه من كبائر الذنوب. ولا يجوز للمرأة أن تطاوع زوجها في ذلك فإن فعلاه فيجب عليهما أن يتوبا إلى الله توبة صادقة ولا يعودا لذلك مستقبلاً ولا علاقة لإتيان المرأة في دبرها بالطلاق أو تحريم الزوجة.(18/16)
17 - فتوى المفتي لا تحل حراما ولا تحرم حلالا
السؤال: يسألني بعض الناس أسئلة تتعلق بمشكلات مالية أو خصومات مع غيرهم وأجيبهم بناء على أسئلتهم وبعد ذلك يأتيني الطرف الثاني في المشكلة ويشرح لي المشكلة على خلاف ما قال السائل حيث إن السائل قد أخفى بعض المعلومات الهامة في السؤال لذا أحببت أن أوضح بعض الأمور المتعلقة بالفتوى والمفتي والمستفتي والمرتبطة بما سبق.
الجواب: يجب أن يعلم أولاً أن العلماء قد فرقوا بين الفتوى وحكم القاضي أو حكم الحاكم أو حكم المحكم.
فالفتوى أن يخبر المفتي بحكم الله سبحانه وتعالى لمعرفته بدليله كما ذكر الشيخ ابن حمدان الحنبلي في صفة الفتوى والمفتي والمستفتي ص4. بينما حكم القاضي أو الحاكم أو المحكم هو إنشاء لا إخبار فالقاضي ينشئ الالتزام للشخص المعين بما يعلم أن شرع الله يأمر به. انظر مباحث في أحكام الفتوى ص33. وقد فصل الإمام شهاب الدين القرافي المالكي المتوفى 684هـ الفرق بين الفتوى والقضاء في كتابيه المهمين وهما الفروق والإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام.
قال القرافي: [مثال الحاكم والمفتي مع الله تعالى – ولله المثل الأعلى- مثال قاضي القضاة يولّي شخصين، أحدهما نائبه في الحكم، والآخر ترجمان بينه وبين الأعاجم. فالترجمان يجب عليه اتباع تلك الحروف والكلمات الصادرة عن الحاكم، ويخبر بمقتضاها من غير زيادة ولا نقص. فهذا هو المفتي يجب عليه اتباع الأدلة بعد استقرائها، ويخبر الخلائق بما ظهر له منها من غير زيادة ولا نقص إن كان المفتي مجتهداً، وإن كان مقلداً كما في زماننا فهو نائب عن المجتهد في نقل ما يخص إمامه لمن يستفتيه، فهو كلسان إمامه والمترجم عن جنانه. ونائب الحاكم في الحكم ينشىء من إلزام الناس وإبطال الإلزام عنهم ما لم يقرره مستنيبه الذي هو القاضي الأصلي، بل فوّض ذلك لنائبه، فهو متبع لمستنيبه من وجه، وغير متبع له من وجه. متبع له في أنه فوّض له ذلك وقد امتثل، وغير متبع له في أن الذي صدر منه من الإلزام لم يتقدم مثله في هذه الواقعة من مستنيبه بل هو أصل فيه. فهذا مثال الحاكم مع الله تعالى، هو ممتثل لأمر الله تعالى في كونه فوض إليه ذلك، فيفعله بشروطه. وهو منشئ لأن الذي حكم به تعيّن، وتعيُّنه لم يكن مقرراً في الشريعة، وليس إنشاؤه لأجل الأدلة التي تعتمد في الفتاوى، لأن الأدلة يجب فيها اتباع الراجح. هاهنا له أن يحكم بأحد القولين المستويين على غير ترجيح ولا معرفة بأدلة القولين إجماعاً، بل الحاكم يتبع الحِجاج. والمفتي يتبع الأدلة. والمفتي لا يعتمد على الحجاج بل على الأدلة. والأدلة: الكتاب والسنة ونحوهما. والحِجاج: البيِّنة والإقرار ونحوهما. فهذا مثال الحاكم والمفتي مع الله تعالى، وليس له أن ينشئ حكماً بالهوى واتباع الشهوات بل لا بد من أن يكون ذلك القول الذي حكم به قال به إمام معتبر لدليل معتبر كما أن نائب الحاكم ليس له أن يحكم بالتشهي عن مستنيبه.] الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام ص43-45.
ومن الأمور المهمة التي يجب أن تكون معلومة للمستفتي أن القاضي والحاكم والمحكم مطلوب من كل منهم أن يستمع إلى الخصوم وإلى حججهم وأدلتهم ولا يجوز له أن يقضي قبل أن يسمع من الخصوم وهذا بخلاف المفتي فليس مطلوباً منه ذلك فالمفتي يجيب المستفتي حسب سؤاله فإذا أخفى المستفتي بعض المعلومات عن المفتي فإنما الإثم على المستفتي لا على المفتي.
إذا تقرر هذا فيجب أن يعلم أنه يحرم على المستفتي أن يتحايل على المفتي بصياغة السؤال بطريقة تؤدي إلى تضليل المفتي وخداعه ليحصل على الجواب الذي يريده، فالمفتي كالقاضي تماماً يفتي حسب الظاهر والفتوى لا تحل حراماً ولا تحرم حلالاً. وقد قرر النبي صلى الله عليه وسلم القول الفصل في هذا الباب وهو أن الحكم يكون حسب الظاهر في حديث صحيح مشهور عند أهل العلم رواه أصحاب الكتاب التسعة وأسوق رواية تامة للحديث بزياداته لتوضيح المقام نظراً لأهميته وخطورته، فعن أم سلمة رضي الله تعالى عنها قالت: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم خصومة بباب حجرته، فخرج فإذا رجلان من الأنصار جاءا يختصمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواريث بينهما قد درست ليس عندهما بينه إلا دعواهما في أرض قد تقادم شأنها، وهلك من يعرف أمرها، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنكم تختصمون إليّ، وإنما أنا بشر، ولم ينزل عليّ فيه شيء، وإني إنما أقضي بينكم برأيي فيما لم ينزل عليّ فيه، ولعلّ بعضكم أن يكون ألحن - أبلغ بحجَّته - من بعض، فأحسب أنه صادق فأقضي له، فإني إنما أقضي بينكم على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً ظلماً بقوله فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار، يطوّق بها من سبع أرضين يأتي بها سِطاماً في عنقه يوم القيامة، فليأخذها أو ليدعها. فبكى الرجلان جميعاً لما سمعا ذلك وقال كل واحد منهما: يا رسول الله حقي هذا الذي اطلب لأخي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما إذ قلتما هذا فاذهبا واقتسما، ثم توخيّا الحق فاجتهدا في قسم الأرض شطرين، ثم استهما، ثم ليُحَلل كل واحد منكما صاحبه] السطام هي الحديدة التي تحرك بها النار وتسعر، انظر الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام ص100-101.
وقد ظهر جلياً من هذا الحديث أن حكم الحاكم لا يحل حراماً ولا يحرم حلالاً وكذلك فتوى المفتي، قال الإمام البخاري في صحيحه باب من قُضي له بحق أخيه فلا يأخذه فإن قضاء الحاكم لا يحل حراماً ولا يحرم حلالاً ثم ذكر إحدى الروايات حديث أم سلمة رضي الله عنها السابق. صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 13/214.
وأخيراً فإن المستفتي إذا حصل على فتوى توافق هواه وكان مخادعاً في سؤاله ومحتالاً للحصول على الجواب المناسب لحاله فعليه أن يعرض تلك الفتوى على قلبه ليرى هل قلبه مطمئن لها أم لا؟ فقد ورد في الحديث عن وابصة بن معبد رضي الله عنه قال أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم جئت تسأل عن البر؟ قلت: نعم، قال: استفت قلبك البر ما اطمئنت إليه النفس واطمئن إليه القلب والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك) رواه أحمد والدارمي والطبراني وهو حديث حسن كما قال الإمام النووي والشيخ الألباني. قال العلامة ابن القيم: [لا يجوز العمل بمجرد فتوى المفتي إذا لم تطمئن نفسه، وحاك في صدره من قبوله، وتردد فيها، لقوله صلى الله عليه وسلم: (استفت نفسك، وإن أفتاك الناس وأفتوك) ، فيجب عليه أن يستفتي نفسه أولاً، ولا تخلصه فتوى المفتي من الله إذا كان يعلم أن الأمر في الباطن بخلاف ما أفتاه، كما لا ينفعه قضاء القاضي له بذلك، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من نار) والمفتي والقاضي في هذا سواء، ولا يظن المستفتي أن مجرد فتوى الفقيه تبيح له ما سأل عنه إذا كان يعلم أن الأمر بخلافه في الباطن، سواء تردد أو حاك في صدره، لعلمه بالحال في الباطن، أو لشكه فيه، أو لجهله به، أو لعلمه جهل المفتي أو محاباته في فتواه، أو عدم تقييده بالكتاب والسنة، أو لأنه معروف بالفتوى بالحيل والرخص المخالفة للسنة، وغير ذلك من الأسباب المانعة من الثقة بفتواه وسكون النفس إليها، فإن كان عدم الثقة والطمأنينة لأجل المفتي سأل ثانياً وثالثاً حتى تحصل له الطمأنينة، فإن لم يجد، فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها والواجب تقوى الله بحسب الاستطاعة] إعلام الموقعين عن رب العالمين 6/192-193.
وخلاصة الأمر أن المستفتي مطالب شرعاً بأن يصدق في كل المعلومات التي يذكرها في سؤاله للمفتي ويحرم عليه أن يتحايل أو يخادع حتى يحصل على الجواب الذي يوافق هواه.(18/17)
18 - لا يؤخذ حكم شرعي من رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم
يقول السائل: ما الحكم الشرعي فيمن يزعم أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وطلب منه أن يفعل فعلاً كأن يطلق زوجته فهل يلزمه طلاقها أفيدونا
الجواب: رؤية سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام ممكنة وهذا ما يعتقده أهل السنة والجماعة وقد وردت عدة أحاديث في ذلك منها عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول (من رآني في المنام فسيراني في اليقظة ولا يتمثل الشيطان بي) قال ابن سيرين: إذا رآه في صورته. رواه البخاري.
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم (من رآني في المنام فقد رآني فإن الشيطان لا يتخيل بي ورؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة) رواه البخاري ومسلم وغير ذلك من الأحاديث. ويؤخذ من الأحاديث الصحيحة الواردة في رؤية سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد يرى في النوم وأن من رآه في النوم على صورته المعروفة فقد رآه فإن الشيطان لا يتمثل في صورته صلى الله عليه وسلم ولكن الأمر الهام الذي يجب أن يعلم أن العلماء قد قرروا أنه لا يؤخذ أي حكم شرعي من رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في المنامات لأن الشريعة الإسلامية قد تمت وكملت قبل وفاة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} سورة المائدة الآية 3. كما أن مصادر التشريع معلومة ومعروفة وقد بينها الأصوليون وهي الكتاب والسنة والإجماع والقياس والمصادر التبعية على خلاف بينهم فيها وليس منها الرؤى ولا المنامات ولا يحتج بالرؤى في باب الأحكام الشرعية إلا من ضعف عقله وزاغ عن طريق الحق والصواب. فليست الرؤى والمنامات من مصادر التشريع وهذا هو الحق والصواب وماذا بعد الحق إلا الضلال؟ وأكثر ما يؤخذ من الرؤى أن تكون بشارة أو نذارة لا أن تكون مصدراً للتشريع
قال الإمام النووي عند كلامه على رؤى الرواة [قال القاضي عياض رحمه الله: هذا ومثله استئناس واستظهار على ما تقرر من ضعف أبان لا أنه يقطع بأمر المنام ولا أنه تبطل بسببه سنة ثبتت ولا تثبت به سنة لم تثبت وهذا بإجماع العلماء , هذا كلام القاضي. وكذا قاله غيره من أصحابنا وغيرهم فنقلوا الاتفاق على أنه لا يغير بسبب ما يراه النائم ما تقرر في الشرع. وليس هذا الذي ذكرناه مخالفاً لقوله صلى الله عليه وسلم (من رآني في المنام فقد رآني) فإن معنى الحديث أن رؤيته صحيحة وليست من أضغاث الأحلام وتلبيس الشيطان ولكن لا يجوز إثبات حكم شرعي به لأن حالة النوم ليست حالة ضبط وتحقيق لما يسمعه الرائي, وقد اتفقوا على أن من شرط من تقبل روايته وشهادته أن يكون متيقظاً لا مغفلاً ولا سيئ الحفظ ولا كثير الخطأ ولا مختل الضبط , والنائم ليس بهذه الصفة فلم تقبل روايته لاختلال ضبطه هذا كله في منام يتعلق بإثبات حكم على خلاف ما يحكم به الولاة , أما إذا رأى النبي صلى الله عليه وسلم يأمره بفعل ما هو مندوب إليه أو ينهاه عن منهي عنه أو يرشده إلى فعل مصلحة فلا خلاف في استحباب العمل على وفقه لأن ذلك ليس حكماً بمجرد المنام بل تقرر من أصل ذلك الشيء] . شرح النووي على صحيح مسلم 1/115وقال الإمام النووي أيضاً: [لو كانت ليلة الثلاثين من شعبان, ولم ير الناس الهلال, فرأى إنسان النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فقال له: الليلة أول رمضان لم يصح الصوم بهذا المنام، لا لصاحب المنام ولا لغيره] المجموع 6/292وقال الإمام النووي أيضاً عند كلامه على خصائص النبي صلى الله عليه وسلم: [ومنه أن من رآه في المنام فقد رآه حقاً فإن الشيطان لا يتمثل في صورته ولكن لا يعمل بما يسمعه الرائي منه في المنام مما يتعلق بالأحكام إن خالف ما استقر في الشرع لعدم ضبط الرائي لا للشك في الرؤيا لأن الخبر لا يقبل إلا من ضابط مكلف والنائم بخلافه] تهذيب الأسماء واللغات1/43
وقال الشاطبي: [وأما الرؤيا التي يخبر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم الرائي بالحكم فلا بد من النظر فيها أيضاً لأنه إذا أخبر بحكم موافق لشريعته فالحكم بما استقر وإن أخبر بمخالف فمحال لأنه صلى الله عليه وسلم لا ينسخ بعد موته شريعته المستقرة في حياته لأن الدين لا يتوقف استقراره بعد موته على حصول المرائي النومية لأن ذلك باطل بالإجماع فمن رأى شيئاً من ذلك فلا عمل عليه وعند ذلك نقول عن رؤياه غير صحيحة إذ لو رآه حقاً لم يخبر بما يخالف الشرع] الاعتصام 1/321. وانظر أيضاً الموافقات للشاطبي1/114-115. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية [الرؤيا المحضة التي لا دليل على صحتها لا يجوز أن يثبت بها شيء بالاتفاق] مجموع الفتاوى 27/457وقال ابن حزم الظاهري [الشرائع لا تُؤْخَذ بالمنامات] المحلى 6 / 507. وقال الشوكاني: [المسألة السابعة: في رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم ذكر جماعة من أهل العلم منهم الأستاذ أبو إسحاق أن يكون حجة ويلزم العمل به وقيل حجة ولا يثبت به حكم شرعي وإن كانت رؤية النبي صلى الله عليه وسلم رؤية حق والشيطان لا يتمثل به لكن النائم ليس من أهل التحمل للرواية لعدم حفظه وقيل إنه يعمل به ما لم يخالف شرعاً ثابتاً، ولا يخفاك أن الشرع الذي شرعه الله لنا على لسان نبينا صلى الله عليه وسلم قد كمله الله عز وجل وقال {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} ولم يأتنا دليل يدل على أن رؤيته في النوم بعد موته صلى الله عليه وسلم إذ قال فيها بقول أو فعل فيها فعلاً يكون دليلاً وحجة بل قبضه الله إليه عند أن كمَّل لهذه الأمة ما شرعه لها على لسانه ولم يبق بعد ذلك حاجة للأمة في أمر دينها وقد انقطعت البعثة لتبليغ الشرائع وتبينها بالموت وإن كان رسولاً حياً وميتاً وبهذا تعلم أن لو قدَّرنا ضبط النائم لم يكن ما رآه من قوله صلى الله عليه وسلم أو فعله حجة عليه ولا على غيره من الأمة] إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول ص249. وقال الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز: [، ولا يجوز أن يعتمد عليها في شيء يخالف ما علم من الشرع، بل يجب عرض ما سمعه الرائي من النبي من أوامر أو نواهي أو خبر أو غير ذلك من الأمور التي يسمعها أو يراها الرائي للرسول صلى الله عليه وسلم على الكتاب والسنة الصحيحة، فما وافقهما أو أحدهما قبل، وما خالفهما أو أحدهما ترك؛ لأن الله سبحانه قد أكمل لهذه الأمة دينها وأتم عليها النعمة قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فلا يجوز أن يقبل من أحد من الناس ما يخالف ما علم من شرع الله ودينه سواء كان ذلك من طريق الرؤيا أو غيرها وهذا محل إجماع بين أهل العلم المعتد بهم، أما من رآه عليه الصلاة والسلام على غير صورته فإن رؤياه تكون كاذبة كأن يراه أمرد لا لحية له، أو يراه أسود اللون أو ما أشبه ذلك من الصفات المخالفة لصفته عليه الصلاة والسلام، لأنه قال عليه الصلاة والسلام: " فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي " فدل ذلك على أن الشيطان قد يتمثل في غير صورته عليه الصلاة والسلام ويدعي أنه الرسول صلى الله عليه وسلم من أجل إضلال الناس والتلبيس عليهم. ثم ليس كل من ادعى رؤيته صلى الله عليه وسلم يكون صادقا وإنما تقبل دعوى ذلك من الثقات المعروفين بالصدق والاستقامة على شريعة الله سبحانه، وقد رآه في حياته صلى الله عليه وسلم أقوام كثيرون فلم يسلموا ولم ينتفعوا برؤيته كأبي جهل وأبي لهب وعبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين وغيرهم، فرؤيته في النوم عليه الصلاة والسلام من باب أولى] ونقل صاحب تهذيب الفروق والقواعد السنية عن العلامة العطار قوله: ولا يلزم من صحة الرؤيا التعويل عليها في حكم شرعي لاحتمال الخطأ في التحمل وعدم ضبط الرائي] تهذيب الفروق والقواعد السنية 4/270. وقد وجدت كلاماً للإمام القرافي في مسألة قريبة من مسألة الطلاق الزوجة بناءً على الرؤية حيث قال: [فلو رآه عليه الصلاة والسلام فقال له: إن امرأتك طالق ثلاثاً , وهو يجزم بأنه لم يطلقها فهل تحرم عليه ; لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقول إلا حقاً وقع فيه البحث مع الفقهاء واضطربت آراؤهم في ذلك بالتحريم وعدمه لتعارض خبره عليه الصلاة والسلام عن تحريمها في النوم وإخباره في اليقظة في شريعته المعظمة أنها مباحة له , والذي يظهر لي أن إخباره عليه الصلاة والسلام في اليقظة مقدم على الخبر في النوم لتطرق الاحتمال للرائي بالغلط في ضبط المثال , فإذا عرضنا على أنفسنا احتمال طروء الطلاق مع الجهل به واحتمال طروء الغلط في المثال في النوم وجدنا الغلط في المثال أيسر وأرجح , ومن هو من الناس يضبط المثال على النحو المتقدم إلا أفراد قليلة من الحفاظ لصفته عليه الصلاة والسلام وأما ضبط عدم الطلاق فلا يختل إلا على النادر من الناس والعمل بالراجح متعين , وكذلك لو قال له عن حلال: إنه حرام , أو عن حرام إنه حلال , أو عن حكم من أحكام الشريعة قدمنا ما ثبت في اليقظة على ما رأى في النوم لما ذكرناه كما لو تعارض خبران من أخبار اليقظة صحيحان فإنا نقدم الأرجح بالسند أو باللفظ أو بفصاحته أو قلة الاحتمال في المجاز أو غيره فكذلك خبر اليقظة وخبر النوم يخرجان على هذه القاعدة] الفروق 4/245-246.
وأخيراً أذكر ما قاله الشاطبي: [وعلى الجملة فلا يستدل بالرؤيا في الأحكام إلا ضعيف المنّة نعم يأتي المرئي تأنيساً وبشارة ونذارة خاصة بحيث لا يقطعون بمقتضاها حكماً ولا يبنون عليها أصلاً وهو الاعتدال في أخذها حسبما فهم من الشرع فيها] الاعتصام 1/322. وبعد هذه النقول عن فحول أهل العلم أقول لا شك أنه لا يصح في دين الإسلام الاعتماد على الرؤى والأحلام في إثبات الأحكام ولا يجوز للسائل أن يطلق زوجته بناءً على تلك المنامات.(18/18)
19 - النهي عن ترجيل الشعر يوميا ليس للتحريم
يقول السائل: إنه سمع حديثاً نبوياً فيه (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يمتشط الرجل كل يوم) فهل هذا الحديث ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم وما دلالته إن صح أفيدونا
الجواب: الحديث المذكور رواه أبو داود والنسائي والبيهقي ولفظه (عن حميد بن عبد الرحمن قال لقيت رجلاً صحب النبي صلى الله عليه وسلم كما صحبه أبو هريرة رضي الله عنه أربع سنين قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمتشط أحدنا كل يوم أو يبول في مغتسله أو يغتسل الرجل بفضل المرأة والمرأة بفضل الرجل وليغترفا جميعاً) والحديث قال عنه الإمام النووي: رواه أبو داود بإسناد حسن. المجموع 1/293 وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود 1/9
ويجب أن يعلم أن النهي في الحديث ليس للتحريم وإنما لكراهة التنزيه فليس كل نهي وارد في الشرع يدل على التحريم، فإن كثيراً من النواهي الشرعية تدل على الكراهة التنزيهية وقد عجبت ممن جمعوا أحاديث النواهي الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم وحشروها في باب واحد وكأنها كلها تدل على التحريم مما أوقع كثيراً من طلبة العلم الشرعي في إشكالات كثيرة وكان الواجب أن يبينوا إما بياناً إجمالياً أو بياناً تفصيلياً أن من أحاديث النواهي ما هو محمول على الكراهة التنزيهية حتى يكون طلبة العلم على بصيرة والمراد من الحديث المذكور في السؤال أنه لا ينبغي أن يكون المسلم مترفهاً منعماً يهتم كثيراً بتسريح شعره على سبيل المبالغة في ذلك وخير الأمور الوسط ومثله ما ورد في حديث آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم (نهى عن الترجل إلا غباً) رواه أبو داود والترمذي وصححه والترجل والترجيل: تسريح الشعر وتنظيفه وتحسينه
وقوله صلى الله عليه وسلم (إلا غباً) أي يوماً بعد يوم فلا يكره بل يسن فالمراد النهي عن المواظبة عليه والاهتمام به لأنه مبالغة في التزيين وتهالك به كما قاله المناوي في فيض القدير 6/404.
ومما يدل على ذلك ما ورد في الحديث عن عبد الله بن بريدة أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رحل إلى فضالة بن عبيد وهو بمصر فقدم عليه وهو يمد ناقة له فقال إني لم آتك زائراً إنما أتيتك لحديث بلغني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجوت أن يكون عندك منه علم فرآه شعثاً فقال ما لي أراك شعثاً وأنت أمير البلد؟ قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينهانا عن كثير من الإرفاه) رواه
أبو داود والنسائي وغيرهما والإرفاه من الرفاهية وهي السعة والدعة والتنعم
ويضاف إلى ذلك أنه قد وردت أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في العناية بالشعر وتنظيفه وتسريحه منها: عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من كان له شعر فليكرمه) . رواه أبو داود وقال صاحب عون المعبود: [قوله (من كان له شعر فليكرمه) أي فليزينه ولينظفه بالغسل والتدهين والترجيل ولا يتركه متفرقاً فإن النظافة وحسن المنظر محبوب] عون المعبود شرح سنن أبي داود 11/147
وقال الشوكاني: [الحديث قال في الفتح: وإسناده حسن وله شاهد من حديث عائشة في الغيلانيات وإسناده حسن أيضاً وسكت عنه أبو داود والمنذري وقد صرح أبو داود أيضاً أنه لا يسكت إلا عما هو صالح للاحتجاج ورجال إسناده أئمة ثقات. وفيه دلالة على استحباب إكرام الشعر بالدهن والتسريح وإعفائه عن الحلق لأنه يخالف الإكرام إلا أن يطول كما ثبت عند أبي داود والنسائي وابن ماجه من حديث وائل بن حجر رضي الله عنه قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم ولي شعر طويل فلما رآني قال: ذباب ذباب قال: فرجعت فجززته ثم أتيته من الغد فقال: إني لم أعنك) وقوله: ذباب. قال صاحب النهاية: الذباب الشؤم أي هذا شؤم
وأخرج مالك عن عطاء بن يسار قال: (أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم ثائر الرأس واللحية فأشار إليه رسول صلى الله عليه وسلم كأنه يأمره بإصلاح شعره ولحيته ففعل ثم رجع فقال صلى الله عليه وسلم أليس هذا خير من أن يأتي أحدكم ثائر الرأس كأنه شيطان) والثائر الشعث بعيد العهد بالدهن والترجيل.
وعن أبي قتادة رضي الله عنه (أنه كانت له جمة ضخمة فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فأمره أن يحسن إليها وأن يترجل كل يوم) . رواه النسائي.
قال الشوكاني أيضا ً: [الحديث رجال إسناده كلهم رجال الصحيح وأخرجه أيضًا مالك في الموطأ ولفظ الحديث عن أبي قتادة قال: (قلت يا رسول اللَّه إن لي جمة أفأرجلها قال: نعم وأكرمها) فكان أبو قتادة ربما دهنها في اليوم مرتين من أجل قوله صلى الله عليه وسلم نعم وأكرمها.] نيل الأوطار 1/239-241 بتصرف
وذكر المناوي أن حديث أبي قتادة محمول على أنه كان محتاجاً للترجيل كل يوم لغزارة شعره أو هو لبيان الجواز وذكر الحافظ السيوطي في حاشية أبي داود قال الشيخ ولي الدين العراقي في حديث أبي داود نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم (أن يمتشط أحدنا كل يوم) هو نهي تنزيه لا تحريم , والمعنى فيه أنه من باب الترفه والتنعم فيجتنب , ولا فرق في ذلك بين الرأس واللحية فيض القدير 6/404.
وروى الإمام البخاري بإسناده عن عائشة رضي الله عنها قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم (يصغي إلي رأسه وهو مجاور في المسجد فأرجله وأنا حائض)
وأخرج الترمذي في الشمائل عن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم (يكثر دهن رأسه , وتسريح لحيته)
وذكر العلامة ابن القيم: حديث (من كان له شعر فليكرمه) وحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم (نهى عن الترجل إلا غباً) وردَّ على من قال بوقوع التعارض بينهما فقال: [والصواب: أنه لا تعارض بينهما بحال , فإن العبد مأمور بإكرام شعره , ومنهى عن المبالغة والزيادة في الرفاهية والتنعم , فيكرم شعره , ولا يتخذ الرفاهية والتنعم ديدنه , بل يترجل غباً. هذا أولى ما حمل عليه الحديثان , وبالله التوفيق.] حاشية ابن القيم مطبوعة مع عون شرح سنن أبي داود 11/147
وخلاصة الأمر أنه ينبغي للمسلم أن يحافظ على شعره ويكرمه وينظفه دون مبالغة في ذلك.(18/19)
20 - حديث السجود لقبر آدم لا يصح
يقول السائل: إنه قرأ الحديث التالي ويسأل عن صحته والحديث هو: (ذكر أن إبليس جاء إلى موسى صلوات الله تعالى وسلامه عليه فقال له: أنت الذي اصطفاك الله تعالى برسالته وكلمك تكليماً، وإنما أنا خلق من خلق الله تعالى أردت أن أتوب إلى ربك فاسأله أن يتوب عليّ ففرح بذلك موسى فدعا وصلّى ما شاء الله تعالى. ثم قال: يا رب إنه إبليس خلق من خلقك يسألك التوبة فتب عليه. فقيل له: يا موسى إنه لا يتوب. فقال: يا رب إنه يسألك التوب. فأوحى الله تعالى: إني استجبت لك يا موسى فمره أن يسجد لقبر آدم فأتوب عليه فرجع موسى مسروراً فأخبره بذلك، فغضب من ذلك واستكبر ثم قال: أنا لم أسجد له حياً أأسجد له ميتاً..)
الجواب: هذا الحديث ليس ثابتاً عن النبي صلى الله عليه وسلم وإنما ذكره بعض أهل التفسير كالسيوطي حيث ذكره عند تفسير قوله تعالى {وَعَلَّمَءَادَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} سورة البقرة الآيات 31- 33، قال السيوطي في الدر النثور: [أخرج ابن أبي الدنيا في مكايد الشيطان عن ابن عمر قال: لقي إبليس موسى فقال: يا موسى أنت الذي اصطفاك الله برسالاته وكلمك تكليماً إذ تبت؟ وأنا أريد أن أتوب فاشفع لي إلى ربي أن يتوب عليَّ قال موسى: نعم. فدعا موسى ربه فقيل: يا موسى قد قضيت حاجتك، فلقي موسى إبليس قال: قد أمرت أن تسجد لقبر آدم ويتاب عليك. فاستكبر وغضب وقال: لم أسجد له حياً أأسجد له ميتا ً؟ ثم قال إبليس: يا موسى إن لك عليَّ حقاً بما شفعت لي إلى ربك فاذكرني عند ثلاث لا أهلكك فيهن. اذكرني حين تغضب فإني أجري منك مجرى الدم، واذكرني حين تلقى الزحف فإني آتي ابن آدم حين يلقى الزحف. فأذكره ولده وزوجته حتى يولي، وإياك أن تجالس امرأة ليست بذات محرم فإني رسولها إليك ورسولك إليها.] وذكره السيوطي أيضاً في الجامع الصغير ورمز لضعف الحديث انظر فيض القدير 3/166.
وكذلك فإن الشيخ الألباني قد ضعف الحديث في ضعيف الجامع الصغير ص 326 حديث رقم 2213 وذكر أن الحكيم الترمذي رواه في كتاب أسرار الحج.
وقد ورد هذا الحديث في حادثة أخرى مع نوح عليه السلام كما ذكره السيوطي في الدر المنثور في تفسير سورة هود فقال [ ... وأخرج ابن أبي الدنيا وابن عساكر في مكايد الشيطان عن أبي العالية قال: لما رست السفينة سفينة نوح عليه السلام إذا هو بإبليس على كوتل السفينة. . .! فقال له نوح عليه السلام: ويلك قد غرق أهل الأرض من أجلك.؟ ! قال له إبليس: فما أصنع؟ قال: تتوب. قال: فسل ربك هل لي من توبة؟ فدعا نوح ربه، فأوحى إليه أن توبته أن يسجد لقبر آدم. قال: قد جعلت لك توبة قال: وما هي؟ قال: تسجد لقبر آدم. قال: تركته حياً وأسجد له ميتاً؟ ! .]
وبهذا يظهر لنا أن الحديث غير ثابتٍ روايةً كم أنه مردود درايةً فالله سبحانه وتعالى لا يأمر أحداً من خلقه أن يسجد لقبر فإن السجود لغير الله شرك أكبر ويبدو أن الحديث من وضع بعض عباد القبور.(18/20)
21 - دعوة الناس يوم القيامة بآبائهم وليست بأمهاتهم
السؤال الأول: يقول السائل: سمعت حديثاً ينص على أن الناس يدعون يوم القيامة بأسماء أمهاتهم فهل ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم أفيدونا؟
الجواب: روي في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: (يدعى الناس يوم القيامة بأمهاتهم ستراً من الله عز وجل عليهم) وهذا الحديث مكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم. ذكره ابن الجوزي في كتابه الموضوعات 3/248 والسيوطي في اللآلئ المصنوعة 2/449 وقال العجلوني: [أخرجه ابن عدي عن أنس وقال منكر، وأورده ابن الجوزي في الموضوعات.] كشف الخفاء 2/394. وبهذا يظهر لنا أن الحديث المذكور حديث مكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم خلاف ذلك أي أن الناس يدعون يوم القيامة بأسماء آبائهم فقد روى الإمام البخاري في صحيحه بسنده عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الغادر ينصب له لواء يوم القيامة فيقال هذه غدرة فلان بن فلان) وقال الحافظ ابن حجر: [حديث ابن عمر في الغادر يرفع له لواء لقوله فيه (غدرة فلان ابن فلان) فتضمن الحديث أنه ينسب إلى أبيه في الموقف الأعظم ... وقال ابن بطال: في هذا الحديث ردٌ لقول من زعم أنهم لا يدعون يوم القيامة إلا بأمهاتهم ستراً على آبائهم. قلت: هو حديث أخرجه الطبراني من حديث ابن باس وسنده ضعيف جداً , وأخرج ابن عدي من حديث أنس مثله وقال: منكر أورده في ترجمة إسحاق بن إبراهيم الطبري. قال ابن بطال: والدعاء بالآباء أشد في التعريف وأبلغ في التمييز. وفي الحديث جواز الحكم بظواهر الأمور. قلت: وهذا يقتضي حمل الآباء على من كان ينسب إليه في الدنيا لا على ما هو في نفس الأمر وهو المعتمد] فتح الباري10/691. وقال الشيخ ابن القيم: [الفصل العاشر في بيان أن الخلق يدعون يوم القيامة بآبائهم لا بأمهاتهم هذا الصواب الذي دلت عليه السنة الصحيحة الصريحة ونص عليه الأئمة كالبخاري وغيره فقال في صحيحه باب يدعى الناس يوم القيامة بآبائهم لا بأمهاتهم ثم ساق في الباب حديث ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة يرفع الله لكل غادر لواء يوم هذه غدرة فلان بن فلان) وفي سنن أبي داود بإسناد جيد عن أبي الدرداء قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم فحسنوا أسماءكم) فزعم بعض الناس أنهم يدعون بأمهاتهم واحتجوا في ذلك بحديث لا يصح وهو في معجم الطبراني من حديث أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم (إذا مات أحد ما إخوانكم فسويتم التراب على قبره فليقم أحدكم على رأس قبره ثم ليقل يا فلان بن فلانة فإنه يسمعه ولا يجيبه ثم يقول يا فلان بن فلانة فإنه يقول أرشدنا يرحمك الله الحديث وفيه فقال رجل يا رسول الله فإن لم يعرف اسم أمه قال فلينسبه إلى أمه حواء يا فلان ابن حواء) قالوا وأيضا فالرجل قد لا يكون نسبه ثابتاً من أبيه كالمنفي باللعان وولد الزنى فكيف يدعى بأبيه؟ والجواب أما الحديث فضعيف باتفاق أهل العلم بالحديث، وأما من انقطع نسبه من جهة أبيه فإنه يدعى بما يدعى به في الدنيا فالعبد يدعى في الآخرة بما يدعى به في الدنيا من أب أو أم والله أعلم] تحفة المودود ص 139. وقال الشيخ ابن القيم في موضع آخر: [وفي هذا الحديث – حديث أبي الدرداء -: رد على من قال: إن الناس يوم القيامة إنما يدعون بأمهاتهم , لا آبائهم وقد ترجم البخاري في صحيحه لذلك فقال " باب يدعى الناس بآبائهم " وذكر فيه حديث نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " الغادر يرفع له لواء يوم القيامة؟ يقال له: هذه غدرة فلان بن فلان ". واحتج من قال بالأول. بما رواه الطبراني في معجمه من حديث سعيد بن عبد الله الأودي قال " شهدت أبا أمامة - وهو في النزع - قال: إذا مت فاصنعوا بي كما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم , فقال: إذا مات أحد من إخوانكم فسويتم التراب على قبره , فليقم أحدكم على رأس قبره , ثم ليقل يا فلان بن فلانة , فإنه يسمعه ولا يجيبه , ثم يقول: يا فلان بن فلانة فإنه يقول: أرشدنا رحمك الله - فذكر الحديث - وفيه فقال رجل يا رسول الله , فإن لم يعرف أمه , قال: فلينسبه إلى أمه حواء فلان بن حواء ". ولكن هذا الحديث متفق على ضعفه فلا تقوم به حجة فضلا عن أن يعارض به ما هو أصح منه.) وحديث التلقين الذي ورد في كلام العلامة ابن القيم السابق احتج به من يرى أن الميت يدعى بأمه ففيه (يا فلان بن فلانة) فهذا الحديث ورد عن جابر بن سعيد الأزدي قال: (دخلت على أبي أمامة وهو في النزع فقال لي: يا أبا سعيد إذا أنا مت فاصنعوا بي كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصنع بموتانا فإنه قال: إذا مات الرجل منكم فدفنتموه فليقم أحدكم عند رأسه فليقل: يا فلان ابن فلانة! فإنه يستوي قاعداً فليقل: يا فلان ابن فلانة فإنه سيقول أرشدني رحمك الله فليقل: اذكر ما خرجت عليه من دار الدنيا شهادة أن لا إله الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور فإن منكراً ونكيراً يأخذ كل واحد منهما بيد صاحبه ويقول له: ما نصنع عند رجل لقن حجته؟ فيكون الله حجيجهما دونه) قال الشيخ الألباني: منكر. أخرجه القاضي الخلعي في الفوائد 2/55. قلت - أي الألباني -: [وهذا إسناد ضعيف جداً لم أعرف أحداً منهم غير عتبة بن السكن. قال الدارقطني: متروك الحديث. وقال البيهقي: واهٍ منسوب إلى الوضع. والحديث أورده الهيثمي … وقال: رواه الطبراني في الكبير وفي إسناده جماعة لم أعرفهم] ثم ذكر الشيخ الألباني أن الأئمة النووي وابن الصلاح والحافظ العراقي قد ضعفوا الحديث. السلسلة الضعيفة 2/64-65. ونقل ابن علان قول الحافظ ابن حجر بعد تخريج حديث أبي أمامة: [هذا حديث غريب وسند الحديثين من الطريقين ضعيف جداً] الفتوحات الربانية على الأذكار النووية 4/196. وقال الصنعاني: [ويتحصل من كلام أئمة التحقيق أنه حديث ضعيف والعمل به بدعة ولا يغتر بكثرة من يفعله] سبل السلام 2/234. وورد في الحديث عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده كتابان فقال (أتدرون ما هذان الكتابان) ؟ فقلنا لا إلا أن تخبرنا يا رسول الله، قال (هذا كتاب رب العالمين فيه أسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم.....) الحديث رواه أحمد والترمذي والنسائي والطبراني وابن عاصم وغيرهم، وقال الشيخ الألباني حديث حسن. وهذا الحديث يدل على أن الناس يدعون بآبائهم يوم القيامة. وخلاصة الأمر أن الناس يدعون يوم القيامة بآبائهم كما صحت الأحاديث بذلك ولا يدعون بأمهاتهم. وعلى المسلم أن يستعد لليوم الآخر بالعمل الصالح فإن إستعد بالعمل الصالح فلا يؤثر عليه إن دعي بأبيه أو أمه.(18/21)
22 - ضوابط العلاج بالرقية
وردني السؤال التالي حول الرقية الشرعية: يقول السائل: إني أمارس العلاج بالقرآن الكريم منذ سنة 1993 حتى كتابة هذه السطور لأرضي ربي أولاً وعوناً للناس وكفايتهم عن التردد على السحرة والمشعوذين. ألخص طريقة العلاج وبحضور محارم المريضة فقط كالآتي: 1. أضع يدي على رأس المريض أو المريضة، مع وضع حاجز بيننا عند القراءة عليها، وأقرأ ما تيسر من القرآن وآيات الرقية في أذنها (المرأة) من خلال ماسورة بلاستيك. 2. لا أعالج أي مريضة إطلاقاً إلا إذا لبست طويل أو غطت الرأس بإشارب إن كانت متبرجة وبحضور صاحبات أو من الأهل أو محارمها. 3. أستغل العلاج بالقرآن الكريم وأوظفه في الدعوة إلى الله حيث تلبس المرأة بعد تماثلها للشفاء وتصلي وكذلك الرجال. 4. في الجلسة الأولى وبعد قراءة آيات الكشف على المصروع (وحسب الحاجة) أسأل أسئلة كثيرة هي علامات الصرع أو تأثير سحر أعرفها من خلال معرفة أحوال وأعمال الممسوس وكذلك من خلال التجربة. 5. من هذه الأسئلة ما يتعلق بالجنس خلال المنام أو اليقظة وعن رفض المرأة لزوجها في الفراش دون إرادتها، أو ربط الرجل عن زوجته بسحر أو أمور متعلقة بعقم المرأة والزوج من خلال الجماع وغيره. أو العادة السرية عند رفض المرأة لزوجها – بعد فترة طويلة – أو عند المراهقين. 6. إذا صرعت المرأة ممكن أن تتكشف ونغطيها مباشرة. 7. إذا صرعت المريضة فإنها تحاول إنزال يدي عن رأسها فتلمسني. 8. إذا صرع الجان المرأة أو الرجل يمنعها عن متابعة العلاج من غير إرادتها ويمنع إدخال أي سائل مقروء عليه قرآن – آيات الرقية وغيرها – إلى جوف المريض فاضطر إلى لمس الوجه لتثبيته بهدف إدخال الماء أو الزيت إلى فم المريض. وكذلك بعض نقاط في الأنف إذا خاف محارمها هذا العمل بأنفسهم. 9. لتعميم الجسد جميعه بالماء المقروء عليه قرآناً نرش المريض على ملابسه ثم أطلب من أهلها رش البنطلون، فحينما يخشون ذلك أرش البنطلون بنفسي من خلال مضخة دون أن نكشف جسدها وبحضور أهلها. 10. ويمسح جسد المصروعة بزيت حبة البركة المقروء عليه قرآن حتى إذا اقتضت الضرورة لكل الجسد حينها يخرج كل الرجال من الجلسة وأنا كذلك. 11. مرات قليلة أو نادرة جداً أمسح الوجه أو الرقبة بدون حائل أنا بدل أهلها وذلك لخوف الاقتراب منها غالباً حين الصرع. 12. لكشف أماكن تأثير الجن أو الشيطان الصارع في الجسد اضطر إلى تحسس بعض أماكن مع حائل طبعاً كالظهر أو الصدر أو البطن أو الكتف أو الأطراف. 13. يحتاج المريض إلى شرطة قرآن للسماع خاصة آيات الرقية وسورة البقرة وآية الكرسي والمعوذتين والإخلاص، وكذلك إلى زيت حبة البركة بثمنه كما في السوق. 14. بعضهم برفض أخذ الباقي من النقود فيتبرعوا بها لدعم العلاج. 15. يتبرع أهل المريض بشيء من المال في سبيل الله دون أن أطلب منهم غير ثمن المواد المساعدة في العلاج. 16. وهل في ذلك شيء حتى لو طلبت أجراً بسيطاً أردّ به بعض الناس لأخفف عني كثيراً من الحالات في الوقت نفسه. 17. لم يختلف شيء في طريقة العلاج منذ أن بدأت حتى الآن فحسب إحصاء خاص تبين أن 80% من الناس يتماثلون للشفاء حين يلتزمون بالعلاج من خلال هذه الطريقة. أفتوني في ذلك يرحمكم الله وجزاكم الله خيراً
الجواب:
بعد الاطلاع على رسالة السائل أفيده بما يلي:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المسلمين وعلى آله وصحبه الطيبين … وبعد فهذه أهم ضوابط المعالجة بالرقية الشرعية:
إن العلاج بالقرآن والرقية بآياته من الأمور المشروعة، يقول الله سبحانه وتعالى: (وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَارًا) سورة الإسراء الآية 82.
وثبت في الحديث الصحيح، عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مرض أحد من أهله نفث عليه بالمعوذتين) رواه مسلم.
ولا بد أن تكون الرقية شرعية فلا تصح الرقى الشركية، لقوله صلى الله عليه وسلم (لا بأس بالرقى ما لم تكن شركاً) رواه مسلم
ويشترط في الرقية الشرعية ما يلي:
أولاً: أن تكون بكلام الله، أو بأسمائه، أو صفاته، أو بالأدعية النبوية المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك
ثانياً: أن تكون باللسان العربي فكل كلام مجهول فليس لأحد أن يرقي به فضلاً عن أن يدعو به ولو عرف معناه لأنه يكره الدعاء بغير العربية، وإنما يرخص لمن لا يحسن العربية، فأما جعل الألفاظ الأعجمية شعاراً فليس من دين الإسلام كما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.
ثالثاً: أن تكون مفهومة المعنى.
رابعاً: ألا تشتمل على شيء غير مباح، كالاستغاثة بغير الله أو دعاء غيره، أو اسم للجن، أو ملوكهم ونحو ذلك.
خامساً: ألا يعتمد عليها.
سادساً: أن يعتقد أنها لا تؤثر بذاتها، بل بإذن الله تعالى.
سابعاً: لا يجوز اللجوء لأي إنسان يدعي المعالجة بالقرآن أو أنه يستطيع إخراج الجن من المصروع إلا بعد التأكد من أن هذا الشخص من الصالحين الملتزمين بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه يتبع الطرق المشروعة في الرقية والعلاج ولا يستخدم شياطين الجن الذين لا يخدمونه إلا إذا وقع في المحرمات.
وكذلك فإن بعض هؤلاء المعالجين يستخدمون الطلاسم في المعالجة، أو يذكرون كلاماً غير مفهوم المعنى، فهذا لا يجوز استعماله.
ثامناً: لا ينبغي لأحد من الناس أن يتفرغ لعلاج الناس بالرقى القرآنية أو بالأذكار الواردة، والإعلان عن نفسه بأنه المعالج بالقرآن والبديل الشرعي لفك السحر ومس الجان والعين والعقم والأمراض المستعصية، أو يعلن عن نفسه العيادة القرآنية، ويوزع الكروت، ويحدد المواعيد كالأطباء المختصين، لأن ذلك ليس من منهج الصحابة والتابعين والصالحين، ولم يكن معروفاً مثل هذا التفرغ عندهم مع أن الناس لا زالوا يمرضون على مر العصور والأزمان، ولأن فتح هذا الباب قد يؤدي إلى مفاسد كثيرة، ويلج منه الدجالون والمشعوذون وأمثالهم.
تاسعاً: لا يجوز للراقي مس شيء من بدن المرأة التي يرقيها لما في ذلك من الفتنة، وإنما يقرأ عليها بدون مس، وهناك فرق بين عمل الراقي وعمل الطبيب، لأن الطبيب قد لا يمكنه العلاج إلا بمس الموضع الذي يريد أن يعالجه، بخلاف الراقي فإن عمله ـ وهو القراءة والنفث ـ لا يتوقف على اللمس كما أفتت بذلك اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء السعودية، ولا يصح مس جسد المرأة إلا عند الحاجة.
عاشراً: لا يجوز للراقي أن يخلو بالمريضة أبداً ولا بد من وجود زوجها أو محرم أو أكثر من امرأة لقوله صلى الله عليه وسلم (ألا لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان) رواه أحمد والترمذي وقال: حسن صحيح وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع الصغير حديث رقم 2546.
أحد عشر: يجب أن تكون المريضة لابسةً للباس الشرعي أثناء العلاج.
ثاني عشر: لا يجوز إلصاق الأوراق المكتوب فيها شيء من القرآن أو الأدعية على الجسم أو على موضع منه، أو وضعها تحت الفراش ونحو ذلك على الراجح من أقوال أهل العلم لأنه من تعليق التمائم المنهي عنه بقوله صلى الله عليه وسلم: (من تعلق تميمة فلا أتم الله له) وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الرُّقى والتمائم والتولة شرك) رواه أحمد وأبو داود.
ويمنع ذلك سداً للذرائع أيضاً خشية أن يفضي إلى تعليق ما ليس من القرآن. ولأن التعليق قد يعرضه للامتهان فيحمله معه عند قضاء الحاجة والاستنجاء.
قال الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز [واختلف العلماء في التمائم إذا كانت من القرآن أو من الدعوات المباحة هل هي محرمة أم لا؟ والصواب تحريمها لوجهين: أحدهما: عموم الأحاديث المذكورة، فإنها تعم التمائم من القرآن وغير القرآن. والوجه الثاني: سد ذريعة الشرك فإنها إذا أبيحت التمائم من القرآن اختلطت بالتمائم الأخرى واشتبه الأمر وانفتح باب الشرك بتعليق التمائم كلها ومعلوم أن سد الذرائع المفضية إلى الشرك والمعاصي من أعظم القواعد الشرعية]
وذكر الشيخ العلامة محمد بن صلح العثيمين عن جماعة من العلماء أنه [… لا يجوز تعليق القرآن للاستشفاء به؛ لأن الاستشفاء بالقرآن ورد على صفة معينة، وهي القراءة به، بمعنى أنك تقرأ على المريض به؛ فلا نتجاوزها، فلو جعلنا الاستشفاء بالقرآن على صفة لم ترد؛ فمعنى ذلك أننا فعلنا سبباً ليس مشروعاً … ولولا الشعور النفسي بأن تعليق القرآن سبب للشفاء؛ لكان انتفاء السببية على هذه الصورة أمراً ظاهراً؛ فإن التعليق ليس له علاقة بالمرض، بخلاف النفث على مكان الألم؛ فإنه يتأثر بذلك.
ولهذا نقول؛ الأقرب أن يقال: إنه لا ينبغي أن تعلق الآيات للاستشفاء بها، لا سيما وأن هذا المعلق قد يفعل أشياء تنافي قدسية القرآن؛ كالغيبة مثلاً، ودخول بيت الخلاء، وأيضاً إذا علق وشعر أن به شفاء استغنى به عن القراءة المشروعة؛ فمثلاً علق آية الكرسي على صدره، وقال: ما دام أن آية الكرسي على صدري فلن أقرأها، فيستغنى بغير المشروع عن المشروع، وقد يشعر بالاستغناء عن القراءة المشروعة إذا كان القرآن على صدره] مجموع فتاوى ورسائل الشيخ العثيمين 1/58.
وقال الشيخ عبد الله الجبرين [ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي نزل عليه القرآن، وهو بأحكامه أعرف وبمنزلته أعلم أنه علق على نفسه أو غيره تميمة من القرآن أو غيره، أو اتخذه أو آيات منه حجاباً يقيه الحسد أو غيره من الشر، أو حمله أو شيئاً منه في ملابسه أو في متاعه على راحلته لينال العصمة من شر الأعداء أو الفوز والنصر عليهم أو لييسر له الطريق ويذهب عنه وعثاء السفر أو غير ذلك من جلب نفع أو دفع ضر. فلو كان مشروعاً لحرص عليه وفعله، وبلغه أمته، وبينه لهم، عملاً بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} (67) سورة المائدة، ولو فعل شيئاً من ذلك أو بينه لأصحابه لنقلوه إلينا، ولعملوا به، فإنهم أحرص الأمة على البلاغ والبيان، وأحفظها للشريعة قولاً وعملاً، وأتبعها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن لم يثبت شيء من ذلك عن أحد منهم؛ فدل ذلك على أن حمل المصحف أو وضعه في السيارة أو متاع البيت أو خزينة المال لمجرد دفع الحسد أو الحفظ أو غيرهما من جلب نفع أو دفع ضر لا يجوز]
أحد عشر: أن يكون الراقي مسلماً عدلاً من أهل الصلاح والتقوى معتقداً أن الله عز وجل هو الذي يشفي ملتزماً بأحكام الشرع ويحسن القراءة على المرقي وعارفاً بأحكام الرقية الشرعية ويفضل أن يكون من أهل العلم وليس ذلك بشرط على الصحيح من أقوال العلماء يقول الشيخ محمد بن صالح العثيمين [الذي أرى أنه لا يشترط أن يكون من أهل العلم إذا كان حافظاً لكتاب الله معروفاً بالتقى والصلاح ولم يقرأ إلا بالقرآن أو ما جاء عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم فلا بأس، وليس من شرطه أن يكون عالماً، وبعض العلماء يكون عالماً لكن في القراءة يكون أقل من الآخرين أي من بعض الناس]
ويقول الشيخ عبد الله بن جبرين [الصواب أنه يجوز استعمال الرقية من كل قارئ يحسن القرآن ويفهم معناه ويكون حسن المعتقد صحيح العمل مستقيماً في سلوكه، ولا يشترط إحاطته بالفروع ولا دراسته للفنون العلمية، وذلك لقصة أبي سعيد في الذي رقى اللديغ قال: وما كنا نعرف منه الرقية أو كما قال، وعلى الراقي أن يحسن النية وأن يقصد نفع المسلم ولا يجعل همه المال والأجرة ليكون ذلك أقرب إلى الإنتفاع بقراءته]
ثالث عشر: يجوز أخذ الأجرة على الرقية بضوابطها الشرعية، فقد أقر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك كما ثبت في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (انطلق نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في سفرة سافروها، حتى نزلوا على حي من أحياء العرب، فاستضافوهم، فأبوا أن يضيفوهم، فلدغ سيد ذلك الحي، فسعوا له بكل شيء لا ينفعه شيء، فقال بعضهم: لو أتيتم هؤلاء الرهط! الذين نزلوا لعلهم أن يكون عندهم شيء، فأتوهم فقالوا: يا أيها الرهط إن سيدنا لدغ، وسعينا له بكل شيء لا ينفعه، فهل عند أحد منكم من شيء؟ فقال بعضهم: نعم، والله إني لأرقي، ولكن استضفناكم فلم تضيفونا، فما أنا براقٍ حتى تجعلوا لنا جُعلاً، فصالحوهم على قطيع من الغنم، فانطلق يتفل عليه، ويقرأ: الحمد لله رب العالمين، فكأنما أنشط من عقال، فانطلق يمشي وما به قَلَبَة، فقال فأوفوهم جعلهم الذي صالحوهم عليه، فقال بعضهم: اقتسموا، فقال الذي رقى: لا تفعلوا حتى نأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فنذكر له الذي كان، فننظر ما يأمرنا، فقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكروا له ذلك، فقال: وما يدريك أنها رقية؟، ثم قال: قد أصبتم، اقتسموا، واضربوا لي معكم سهماً) رواه البخاري ومسلم.
ومع القول بجواز أخذ الأجرة فالأولى أن يكون الراقي متبرعاً بعمله لله تعالى قال الشيخ عبد الله الجبرين [يفضل أن الراقي يتبرع برقيته لنفع المسلمين واحتساب الأجر من الله في شفاء مرضى المسلمين وإزالة الضرر عنهم وأن لا يطلب أجرة على رقيته بل يترك الأمر إلى المرضى فإن دفعوا له أكثر من تعبه زهد فيها وردها وإن كانت دون حقه تغاضى عن الباقي وهذا من أكبر الأسباب لتأثير الرقية]
وخلاصة الأمر أن المعالجة بالقرآن وبالأدعية النبوية المأثورة أمر مشروع وينبغي للراقي أن يكون من أهل الخير والصلاح والتقى ومن المتمسكين بدين الله ومن المحافظين على الصلوات وغيرها من العبادات وأن يكون صحيح العقيدة وبعيداً عن البدع والخرافات وغير ذلك من المنكرات. وعلى الراقي أن يلتزم بالأحكام الشرعية للعلاج المذكورة سابقاً.(18/22)
23 - احاديث ضعيفة
يقول السائل: إنه سمع حديث استئذان ملك الموت على النبي صلى الله عليه وسلم عند وفاته وأنه ما استأذن على آدمي قبل النبي صلى الله عليه وسلم ولا يستأذن على آدمي بعده، فهل هذا الحديث ثابت أفيدونا؟
الجواب: حديث استئذان ملك الموت على النبي صلى الله عليه وسلم ورد بعدة روايات منها:
عن جعفر بن محمد، عن أبيه أن رجلاً من قريش دخل على أبيه علي بن الحسين، فقال: ألا أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بلى حدثنا عن أبي القاسم صلى الله عليه وسلم قال: لما مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل فقال: يا محمد! إن الله أرسلني إليك تكريماً لك، وتشريفاً لك، خاصة لك؛ يسألك عما هو أعلم به منك، يقول: كيف تجدك؟ قال: أجدني يا جبريل! مغموماً، وأجدني يا جبريل مكروباً، ثم جاءه اليوم الثاني، فقال له ذلك، فرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم كما رد أول يوم، ثم جاءه اليوم الثالث، فقال له كما قال أول يوم، ورد عليه، كما رد عليه، وجاء معه ملك - يقال له إسماعيل - على مئة ألف ملك، كل ملك على مئة ألف ملك، فاستأذن عليه، فسأله عنه؟ ثم قال جبريل: هذا ملك الموت يستأذن عليك؛ ما استأذن على آدمي قبلك، ولا يستأذن على آدمي بعدك، فقال: ائذن له، فأذن له، فسلم عليه، ثم قال: يا محمد! إن الله أرسلني إليك؛ فإن أمرتني أن أقبض روحك قبضت، وإن أمرتني أن أتركه تركته! فقال: وتفعل يا ملك الموت؟!، قال: نعم، بذلك أمرت، وأمرت أن أطيعك، قال: فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى جبريل عليه السلام فقال جبريل: يا محمد! إن الله قد اشتاق إلى لقائك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لملك الموت: امض لما أمرت به، فقبض روحه، فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاءت التعزية؛ سمعوا صوتاً من ناحية البيت! السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته، إن في الله عزاءً من كل مصيبة، وخلفاً من كل هالك، ودركاً من كل فائت، فبالله فاتقوا وإياه فارجوا؛ فإنما المصاب من حرم الثواب! فقال علي: أتدرون من هذا هو الخضر عليه السلام) رواه البيهقي في دلائل النبوة وذكره صاحب مشكاة المصابيح وقال الشيخ الألباني في تعليقه على المشكاة: [إسناده واهٍ وكل حديث فيه حياة الخضر إلى عهده صلى الله عليه وسلم لا يصح] مشكاة المصابيح 3/1685.
وقال العلامة ابن القيم عند تعداده للضوابط التي يعرف بها أن الحديث لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم
[ومنها الأحاديث التي يذكر فيها الخضر وحياته، كلها كذب ولا يصح في حيته حديث واحد] المنار المنيف ص 67.
وقال الشوكاني [وفي إسناده القاسم بن عبد الله بن عمر وهو متروك وقد كذبه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وقال أحمد إنه كان يضع الحديث] تحفة الذاكرين ص 316
وقال الشيخ الألباني أيضاً عن الحديث السابق: [موضوع – أي مكذوب – أخرجه الإمام الشافعي في السنن عن القاسم بن عبد الله بن عمر بن حفص عن جعفر … وهذا إسناد ضعيف جداً على إرساله، آفته القاسم هذا – وهو العمري المدني – قال الإمام أحمد: ليس بشيء كان يكذب ويضع الحديث. وكذبه ابن معين أيضاً، ولهذا قال الحافظ في التقريب: متروك رماه أحمد بالكذب.] سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة 11/2/642-643.
وقال محقق كتاب لطائف المعارف فيما لمواسم العام من وظائف: [وهذا الحديث بطوله فيه انقطاع فإن محمداً الباقر والد جعفر الصادق وهو محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب تابعي لم يدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم هو ولا أبوه زين العابدين] لطائف المعارف ص 212.
وجاء في رواية أخرى عن المطلب بن عبد الله بن حنطب قال: لما كان قبل وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاثة أيام هبط عليه جبريل فقال: يا محمد إن الله عز وجل أرسلني إليك إكراماً لك، وتفضيلاً لك، وخاصةً لك يسألك عما هو أعلم به منك، يقول: كيف تجدك؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أجدني يا جبريل مغموماً وأجدني يا جبريل مكروباً، فلما كان اليوم الثالث، هبط جبريل وهبط مع ملك الموت وهبط معهما ملك في الهواء يقال له: إسماعيل على سبعين ألف ملك، ليس فيهم ملك إلا على سبعين ألف ملك يشيعهم جبريل فقال: يا محمد إن الله أرسلني إليك إكراماً لك، وتفضيلاً لك، وخاصة لك يسألك عما هو أعلم به منك، يقول: كيف تجدك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أجدني يا جبريل مغموماً، وأجدني يا جبريل مكروباً، فاستأذن ملك الموت على الباب فقال له جبريل: يا محمد هذا ملك الموت يستأذن عليك، ولا استأذن على آدمي قبلك، ولا يستأذن على آدمي بعدك، فقال: ائذن له، فأذن له جبريل فأقبل حتى وقف بين يديه فقال: يا محمد إن الله أرسلني إليك وأمرني أن أطيعك، فيما أمرتني به، إن أمرتني أن أقبض نفسك قبضتها، وإن كرهت تركتها، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتفعل يا ملك الموت؟ قال: نعم وبذلك أمرت أن أطيعك فيما أمرتني به، فقال له جبريل: إن الله قد اشتاق إلى لقائك، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: امض لما أمرت به، فقال له جبريل: هذا آخر وطئي الأرض، إنما كنت حاجتي في الدنيا، فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاءت التعزية جاء آت يسمعون حسه ولا يرون شخصه، فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، كل نفس ذائقة الموت، إن في الله عزاءً من كل مصيبة، وخلفاً من كل هالك، ودركاً من كل ما فات، فبالله ثقوا، وإياه فارجوا فإن المصاب من حرم الثواب، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته) رواه الطبراني وفيه: عبد الله بن ميمون القداح، قال أبو حاتم وغيره متروك.
وقال الهيثمي [رواه الطبراني وفيه عبد الله بن ميمون القداح ذاهب الحديث] مجمع الزوائد 9/35
وقال الشيخ الألباني عن عبد الله بن ميمون القداح: [قلت: والقداح هذا، قال أبو حاتم: متروك. وقال البخاري:: ذاهب الحديث. وقال ابن حبان: لا يجوز أن يحتج به. وفي التقريب: منكر الحديث متروك. وبه أعله الهيثمي في مجمع الزوائد 9/35.] سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة 11/2/643.
وخلاصة الأمر أن حديث استئذان ملك الموت على النبي صلى الله عليه وسلم عند وفاته لا يصح ولا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بل هو من الأحاديث الواهية ولا تجوز رواية مثل هذا الحديث إلا مع بيان درجته.(18/23)
24 - احاديث ثابتة
يقول السائل: هل الحديث الوارد في قصة غدير خم وأن النبي صلى الله عليه وسلم عهد إلى علي رضي الله عنه بالخلافة ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفيدونا؟
الجواب: أولاً أذكر أن غَديرُ خُم هو موضع بين مكة والمدينة، وهو واد عند الجحفة به غدير، يقع شرق رابغ البلدة المعروفة في الحجاز. وأما الحديث فقد روى مسلم بإسناده عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فينا خطيباً بماء يدعى خماً بين مكة والمدينة فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكر ثم قال: أما بعد ألا أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب وأنا تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به، فحث على كتاب الله ورغب فيه ثم قال وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي) وروى الإمام أحمد في مسنده عدة أحاديث في قصة غدير خم منها (عن زاذان أبي عمر قال سمعت علياً في الرحبة وهو ينشد الناس من شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم غدير خم وهو يقول ما قال فقام ثلاثة عشر رجلا فشهدوا أنهم سمعوا رسول الله ?وهو يقول من كنت مولاه فعلي مولاه) ومنها عن سعيد بن وهب وزيد بن يثيع قالا نشد علي الناس في الرحبة من سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم غدير خم إلا قام قال فقام من قبل سعيد ستة ومن قبل زيد ستة فشهدوا أنهم سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعلي رضي الله عنه يوم غدير خم أليس الله أولى بالمؤمنين قالوا بلى قال اللهم من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه) وغير ذلك. وقصة غدير خم صحيحة ثابتة كما قال أهل الحديث ولكن ما يدعيه الشيعة من أن النبي صلى الله عليه وسلم عهد إلى علي رضي الله عنه بالخلافة وأوصى بالخلافة له محض افتراء وكذب على رسول الله ?قال شيخ الإسلام ابن تيمية: [ليس في هذا الحديث – حديث غدير خم – ما يدل على أنه نص على خلافة علي، إذ لم يرد به الخلافة أصلاً، وليس في اللفظ ما يدل عليه، ولو كان المراد به الخلافة لوجب أن يبلغ مثل هذا الأمر العظيم بلاغاً بيناً] منهاج السنة 4/84-85
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية أيضاً عند ذكره حديث غدير خم مرجعه صلى الله عليه وسلم من حجة الوداع، فإنه صلى الله عليه وسلم خطب فيه خطبة وصَّى فيها بإتباع كتاب الله، ووصَّى فيها بأهل بيته، كما روى ذلك مسلم في صحيحه عن زيد بن أرقم رضي الله عنه فزاد بعض أهل الأهواء في ذلك، حتى زعموا أنه عهد إلى علي رضي الله عنه بالخلافة بالنص الجلي، بعد أن فرش له، وأقعده على فراش عالية، وذكروا كلاماً وعملاً قد علم بالاضطرار أنه لم يكن من ذلك شيء، وزعموا أن الصحابة تمالؤا على كتمان هذا النص، وغصبوا الوصي حقه، وفسَّقوا وكفَّرُوا إلا نفراً قليلاً …] اقتضاء الصراط المستقيم 1/293. وقال الشيخ ابن كثير: [وأما ما يفتريه كثير من جهلة الشيعة والقصاص الأغبياء من أنه أوصى - أي النبي صلى الله عليه وسلم – إلى علي بالخلافة فكذب وبهت وافتراء عظيم، يلزم منه خطأ كبير من تخوين الصحابة وممالأتهم بعده على ترك تنفيذ وصيته وإيصالها إلى من أوصى إليه وصرفهم إياها إلى غيره لا لمعنى ولا لسبب] البداية والنهاية 7/225
وخلاصة الأمر أن حديث الغدير صحيح ولكن إدعاء الشيعة بأن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى لعلي رضي الله عنه بالخلافة كذب وافتراء.(18/24)
25 - منكرات في العيد
يقول السائل: في يوم العيد وأثناء زيارتنا للأقارب تخرج بعض النساء متبرجات ويمددن أيديهن للمصافحة فإذا لم نصافحهن يغضبن ونعتبر عندهن من المتشددين ويقلن لنا هذا يوم عيد لا يجوز أن تزورونا بدون مصافحتنا؟
الجواب: يجب أن يعلم أولاً أن أيام العيد هي أيام طاعة لله سبحانه وتعالى وذكرٍ له جل جلاله ففي هذه الأيام المباركة التي قال الله فيها: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ) سورة البقرة الآية 203. وهي أيام التشريق. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله عز وجل) رواه مسلم.
وأيام التشريق هي الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من ذي الحجة. قال الإمام النووي: [وفي الحديث استحباب الإكثار من الذكر في هذه الأيام من التكبير وغيره] شرح النووي على صحيح مسلم 3/209.
وقد ورد عن طائفة من السلف التكبير في هذه الأيام المباركة مطلقاً ومقيداً بعد الصلوات الخمس وقد سبق أن بينت ذلك مفصلاً في الحلقة السابقة من يسألونك.
فهذه الأيام المباركة لا يجوز التحلل من الأحكام الشرعية فيها بحجة أنها أيام عيد، وهذا مفهوم خاطئ لدى كثير من الناس بل يجب أن تزداد طاعتنا لله عز وجل في هذه الأيام المباركة الفاضلة.
وأما تبرج النساء في العيد فلا شك في تحريمه سواء كان في العيد أو في غير العيد بل هو مجمع على تحريمه، يقول الله تعالى: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَءَاتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) سورة الأحزاب الآية 33.
وقد ثبت في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رؤوسهن كأسمنة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا) رواه مسلم
قال الإمام النووي: [هذا الحديث من معجزات النبوة فقد وقع هذان الصنفان وهما موجودان وفيه ذم هذين الصنفين قيل: معناه كاسيات من نعمة الله عاريات من شكرها. وقيل: معناه تستر بعض بدنها وتكشف بعضه إظهاراً بحالها ونحوه. وقيل: معناه تلبس ثوباً رقيقاً يصف لون بدنها. وأما مائلات فقيل: معناه عن طاعة الله وما يلزمهن حفظه. مميلات أي يعلمن غيرهن فعلهن المذموم. وقيل: مائلات يمشين متبخترات مميلات لأكتافهن. وقيل: مائلات يمشطن المشطة المائلة، وهي مشطة البغايا. مميلات يمشطن غيرهن تلك المشطة. ومعنى رؤوسهن كأسنمة البخت أن يكبرنها ويعظمنها بلف عمامة أو عصابة أو نحوهما] شرح النووي على صحيح مسلم 5/291.
ويجب على الآباء والأزواج والأولياء عامة منع بناتهم وزوجاتهم وأخواتهم من التبرج ومن قَبل تبرجهن فهو ديوث ينطبق عليه ما ورد في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة قد حرّم الله عليهم الجنة مدمن الخمر والعاق والديوث الذي يقر الخبث في أهله) . رواه الإمام أحمد في مسنده
وفي رواية أخرى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث لا يدخلون الجنة ولا ينظر الله إليهم يوم القيامة العاق والديه والمرأة المترجلة المتشبهة بالرجال والديوث) رواه أحمد وذكر الشيخ الألباني أن حديث ابن عمر رواه النسائي والحاكم والبيهقي في سننه من طريقين صحيحين وصححه الحاكم ووافقه الذهبي وأقرهما الألباني على ذلك. جلباب المرأة المسلمة ص 145.
وعن عمار رضي الله عنه أن عليه الصلاة والسلام قال: (ثلاثة لا يدخلون الجنة أبداً الديوث والرجلة من النساء ومدمن الخمر. قالوا: يا رسول الله أما مدمن الخمر فقد عرفناه فما الديوث؟ قال: الذي لا يبالي من دخل على أهله. قلنا: فما الرجلة من النساء؟ قال: التي تشبه بالرجال) رواه الطبراني والبيهقي في الشعب وهو حديث حسن، وقال المنذري: [رواه الطبراني ورواته لا أعلم فيهم مجروحاً وشواهده كثيره] الترغيب 3/214.
والديوث هو الذي يقر الخبث في أهله كما ورد مفسراً في حديث ابن عمر، وقال ابن منظور: [الديوث هو الذي لا يغار على أهله] لسان العرب 4/456، وفسره به ابن الأثير في النهاية 2/147.
وقال العلامة علي القاري: [والديوث الذي يقر أي يثبت بسكوته على أهله أي من امرأته أو جاريته أو قرابته الخبث أي الزنا أو مقدماته وفي معناه سائر المعاصي كشرب الخمر وترك غسل الجنابه ونحوهما، قال الطيبي أي: الذي يرى فيهن ما يسوءه ولا يغار عليهن ولا يمنعهن فيقر في أهله الخبث] مرقاة المفاتيح 7/ 241.
ويجب التحذير مما يحصل من بعض الرجال في العيد من دخولهم على النساء في البيوت وهن لوحدهن بحجة أنها زيارة يوم العيد فهذا لا يجوز شرعاً وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك فقال في الحديث: (إياكم والدخول على النساء. فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله أفرأيت الحمو؟ قال: الحمو الموت) رواه البخاري ومسلم.
قال الإمام النووي [وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (الحمو الموت) فمعناه أن الخوف منه أكثر من غيره والشر يتوقع منه والفتنة أكثر لتمكنه من الوصول إلى المرأة والخلوة من غير أن ينكر عليه بخلاف الأجنبي والمراد بالحمو هنا أقارب الزوج غير آبائه وأبنائه. فأما الآباء والأبناء فمحارم لزوجته تجوز لهم الخلوة بها ولا يوصفون بالموت وإنما المراد الأخ وابن الأخ والعم وابنه ونحوهم ممن ليس بمحرم.
وعادة الناس المساهلة فيه ويخلو بامرأة أخيه فهذا هو الموت. وهو أولى بالمنع من الأجنبي لما ذكرناه فهذا الذي ذكرته هو صواب معنى الحديث] شرح النووي على صحيح مسلم 5/329.
وروى الإمام مسلم بسنده عن عبد الرحمن بن جبير أن عبد الله بن عمرو بن العاص حدثه أن نفراً من بني هاشم دخلوا على أسماء بنت عميس فدخل أبو بكر الصديق وهي تحته يومئذ – أي زوجته – فرآهم فكره ذلك فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: لم أر إلا خيراً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يدخلن رجل بعد يومي هذا على مغيبة إلا ومعه رجل أو اثنان) .
قال الإمام النووي: [المغيبة بضم الميم وكسر الغين المعجمة وإسكان الياء وهي التي غاب عنها زوجها والمراد غاب زوجها عن منزلها سواء غاب عن البلد بأن سافر أو غاب عن المنزل وإن كان في البلد هكذا ذكره القاضي وغيره وهذا ظاهر متعين. قال القاضي: ودليله هذا الحديث وأن القصة التي قيل الحديث بسببها وأبو بكر رضي الله عنه غائب عن منزله لا عن البلد، والله أعلم] شرح النووي على صحيح مسلم 5/330.
وأما مصافحة النساء الأجنبيات فهي حرام سواء في العيد أو غير العيد باتفاق العلماء والخلاف في ذلك شاذ غير معتبر بل مردود وقد دل على تحريم المصافحة أدلة كثيرة منها:
حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (كانت المؤمنات إذا هاجرن إلى النبي صلى الله عليه وسلم يمتحنهن بقول الله تعالى:
(يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ…) الخ الآية. قالت: من أقر بهذا الشرط من المؤمنات فقد أقر بالمحنة فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقررن بذلك من قولهن قال لهن رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلقن فقد بايعتكن. لا والله ما مست يد رسول الله يد امرأة قط غير أنه يبايعهن بالكلام) رواه الإمامان البخاري ومسلم في صحيحيهما.
وفي رواية للبخاري عن عائشة قالت: (فمن أقر بهذا الشرط من المؤمنات قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بايعتك كلاماً. لا والله ما مست يده يد امرأة قط في المبايعة، ما بايعهن إلا بقوله قد بايعتك على ذلك) .
وفي رواية أخرى لحديث عائشة عند ابن ماجة: [ولا مست كف رسول الله صلى الله عليه وسلم كف امرأة قط وكان يقول لهن إذا أخذ عليهن قد بايعتكن كلاماً) . صحيح سنن ابن ماجة رقم 2324
قال الحافظ ابن حجر: [قوله قد بايعتك كلاماً أن يقول ذلك كلاماً فقط لا مصافحة باليد كما جرت العادة بمصافحة الرجال عند المبايعة] فتح الباري 10/261.
وعن أميمة بنت رقيقة رضي الله عنها قالت: [أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسوة نبايعه فقلن نبايعك يا رسول الله على أن لا نشرك بالله شيئاً ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل أولادنا ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا ولا نعصيك في معروف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (فيما استطعتن وأطقتن) ، قالت: فقلن الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا هلم نبايعك يا رسول الله. فقال: (إني لا أصافح النساء إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة أو مثل قولي لامرأة واحدة) ] رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة ومالك وأحمد وابن حبان والدارقطني
وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح سنن الترمذي 4/152. وقال الحافظ ابن كثير: هذا إسناد صحيح تفسير ابن كثير 4/352
وعن معقل بن يسار رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له) رواه الطبراني والبيهقي. قال المنذري: [رجال الطبراني ثقات رجال الصحيح] . الترغيب والترهيب 3/39. وقال الشيخ الألباني: [رواه الروياني في مسنده، وهذا سند جيد رجاله كلهم ثقات من رجال الشيخين غير شداد بن سعيد فمن رجال مسلم وحده، وفيه كلام يسير لا ينزل به حديثه عن رتبة الحسن … والمِخيَط بكسر الميم وفتح الياء ما يخاط به كالإبرة والمسلة ونحوهما وفي الحديث وعيد شديد لمن مس امرأة لا تحل له، ففيه دليل على تحريم مصافحة النساء لأن ذلك مما يشمله المس دون شك] . سلسلة الأحاديث الصحيحة، المجلد الأول، الحديث رقم 326
وخلاصة الأمر أن تبرج النساء في العيد وغيره حرام شرعاً ولا يجوز الدخول على النساء الأجنبيات منفردات وتحرم مصافحتهن وعلى الناس أن يتقوا الله في تصرفاتهم في أيام العيد(18/25)
26 - تخزين المواد الغذائية وعلاقته بالتوكل على الله
يقول السائل: في هذه الأيام العصيبة يكثر الناس من شراء المواد الغذائية وتخزينها. فهل هذا الأمر يتنافى مع التوكل على الله سبحانه وتعالى؟
الجواب: إن التوكل على الله سبحانه وتعالى أمر مطلوب شرعاً وجزء من عقيدة المسلم قال تعالى: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) سورة آل عمران الآية 159. وقال تعالى: (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) سورة آل عمران الآية 122.
وقال تعالى: (وَقَالَ مُوسَى يَاقَوْمِ إِنْ كُنْتُمْءَامَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ) سورة يونس الآية 84.
وقال تعالى أيضاً: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ) سورة الفرقان الآية 58 وغير ذلك من الآيات.
فالمسلم يعتمد على الله سبحانه ويتوكل عليه وحده ولكن التوكل على الله سبحانه وتعالى لا يتنافى مع الأخذ بالأسباب فالمطلوب من المسلم أن يأخذ بالأسباب ثم يتوكل على الله جل جلاله. فقد ورد في الحديث عن أنس رضي الله عنه قال: قال رجل: يا رسول الله أرسل ناقتي وأتوكل على الله فقال صلى الله عليه وسلم: (اعقلها وتوكل) . رواه الترمذي وابن حبان وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي 2/309.
قال الإمام ابن العربي المالكي: [قد ورد صحيحاً بقريب من هذا المعنى صحيح. وذلك أن حقيقة التوكل لا ينافيه النظر في الأسباب بعد المعرفة بمقادير وإنزال منزلتها فأما التفويض فقطع الأسباب فلا يقدر عليه البشر وإنما هو لآحاد من الخلق وقليل ما هم وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعمل بالأسباب سنة للخلق وتطييباً لنفوسهم وإلا فمنزلته أعظم من منزلة مريم ولكنه صلى الله عليه وسلم بعث صلاحاً للدين والدنيا ومقيماً لقانونيهما] عارضة الأحوذي 9/235.
إذا تقرر هذا فإن ادخار الأطعمة وغيرها لا ينافي التوكل على الله سبحانه وتعالى بل هو أخذ بالأسباب الشرعية وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدخر قوت سنة لأهله قال الإمام البخاري في صحيحه: [باب حبس الرجل قوت سنة على أهله، وكيف نفقات العيال؟
ثم قال: [حدثني محمد بن سلام أخبرنا وكيع عن ابن عيينة قال: قال لي معمر قال لي الثوري: هـ سمعت في الرجل يجمع لأهله قوت سنتهم أو بعض السنة؟ قال معمر: فلم يحضرني. ثم ذكرت حديثاً حدثناه ابن شهاب الزهري عن مالك بن أوس عن عمر رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبيع نخل بني النضير ويحبس لأهله قوت سنتهم) . قال الحافظ ابن حجر: [قال ابن دقيق العيد: في الحديث جواز الادخار للأهل قوت سنة وفي السياق ما يؤخذ منه الجمع بينه وبين حديث (كان لا يدخر شيئاً لغد) فيحمل على الادخار لنفسه وحديث الباب على الادخار لغيره ولو كان له في ذلك مشاركة لكن المعنى أنهم المقصد بالادخار دونه حتى لو لم يوجدوا لم يدخر قال: والمتكلمون على لسان الطريقة جعلوا أو بعضهم ما زاد على السنة خارجاً عن طريقة التوكل انتهى. وفيه إشارة إلى الرد على الطبري حيث استدل بالحديث على جواز الادخار مطلقاً خلافاً لمن منع ذلك وفي الذي نقله الشيخ تقييد بالسنة اتباعاً للخبر الوارد لكن استدلال الطبري قوي بل التقييد بالسنة إنما جاء من ضرورة الواقع لأن الذي كان يدخر لم يكن يحصل إلا من السنة إلى السنة لأنه كان إما تمراً وإما شعيراً فلو قدر أن شيئاًَ مما يدخر كان لا يحصل إلا من سنتين إلى سنتين لاقتضى الحال جواز الادخار لأجل ذلك والله أعلم. ومع كونه صلى الله عليه وسلم كان يحتبس قوت سنة لعياله فكان في طول السنة ربما استجره منهم لمن يرد عليه ويعوضهم عنه وذلك مات صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة على شعير اقترضه قوتاً لأهله. واختلف في جواز ادخار القوت لمن يشتريه من السوق قال عياض: أجازه قوم واحتجوا بهذا الحديث ولا حجة فيه لأنه إنما كان من مغل الأرض ومنعه قوم إلا إن كان لا يضر بالسعر وهو متجه إرفاقاً بالناس ثم محل هذا الاختلاف إذا لم يكن في حال الضيق وإلا فلا يجوز الادخار في تلك الحالة أصلاً] فتح الباري 9/622-624.
ويجب التنبيه إلى أمرين في هذه المسألة: الأول: إنه لا ينبغي للناس التهافت الكبير على شراء المواد الغذائية بحيث أن الأسواق تكاد تفرغ مما فيها وأن يشتري الإنسان قدر حاجته ولا يبالغ في ذلك لما في المبالغة من أضرار قد تلحق بالمجتمع بشكل عام.
الثاني: على التجار أن يتقوا الله فلا يرفعوا الأسعار ولا يستغلوا إقبال الناس على الشراء برفع الأسعار بحجج واهية كما أن على التجار أن يتقوا الله وينصحوا للناس حيث إن بعض التجار الجشعين قد استغلوا الظروف الحالية فباعوا للناس بضائع قديمة انتهت صلاحيتها فهذا حرام شرعاً لما انطوى عليها من الغش والإضرار بالناس فقد صح في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من غشنا فليس منا) رواه مسلم.
وخلاصة الأمر أنه يجوز ادخار المواد الغذائية وغيرها بشرط أن لا يلحق هذا الأمر الضرر بالناس والادخار لا يتنافى مع التوكل على الله سبحانه وتعالى.(18/26)
27 - استعمال سيارة العمل في الشؤون الخاصة
يقول السائل: إنه يعمل في إحدى المؤسسات العامة وإن المؤسسة قد جعلت تحت تصرفه سيارة ليستخدمها في العمل فما مدى حريته في استخدام سيارة المؤسسة؟
الجواب: إن من الموظفين العاملين في المؤسسات العامة كالوزارات والجامعات والشركات العامة يسيؤون استخدام الأموال العامة وما هو في حكمها كالتلفونات والسيارات والمعدات والقرطاسية وغير ذلك.
وينبغي التوضيح أولاً أن أموال هذه الجهات وما في حكمها من أدوات مختلفة تعتبر من المال العام المملوك لعامة المسلمين في ذلك البلد والمال العام له حرمة في الشرع كالمال الخاص بل أشد لذا يحرم التساهل في استخدام المال العام وكأنه لا مالك له.
وقد دلت الأدلة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على حرمة الخوض في الأموال العامة، قال الله تعالى: (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ) سورة البقرة 188، وقال أيضاً: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) سورة النساء الآية 29.
وجاء في الحديث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن هذا المال خضرة حلوة فمن أخذه بحقه ووضعه في حقه فنعم المعونة هو ومن أخذه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع) رواه البخاري ومسلم.
وفي رواية أخرى: (وإن هذا المال خضر حلو ونعم صاحب المسلم هو لمن أعطى منه المسكين واليتيم وابن السبيل أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنه من يأخذه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع ويكون عليه شهيداً يوم القيامة) رواه مسلم.
وعن خولة الأنصارية رضي الله عنها قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن رجالاً يتخوضون في مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة) رواه البخاري.
قال الحافظ ابن حجر: [قوله (يتخوضون في مال الله بغير حق) أي يتصرفون في مال المسلمين بالباطل] فتح الباري 6/263.
ومن العلماء من جعل المال العام كمال اليتيم بالنسبة للولي لا يتصرف فيه إلا بما يحقق مصلحة اليتيم ونقل مثل ذلك عن عمر رضي الله عنه ومن القصص المشهورة عن عمر بن عبد العزيز أنه كان عنده مصباحان أحدهم للدولة يستعمله عند قضاء مصالحها والآخر مصباح شخصي له يشعله إذا انتهى من مصالح الدولة.
إذا تقرر هذا فأعود إلى السؤال فأقول إن السيارة التي أعطتك إياها المؤسسة لتستخدمها في العمل يجب أن يكون استخدامها في نطاق العمل وما يخدمه وبالتالي لا يجوز استخدامها في الأمور الخاصة كالذهاب بها في الرحلات أو العمل عليها كسيارة أجرة ونحو ذلك فهذا كسب لا شك حرام.
ومثل ذلك استخدام تلفون المؤسسة فينبغي أن يكون في الأصل في شؤون العمل وأما استخدام التلفون في الأمور الشخصية كمن يتصل بمن يريد من أهله وأقاربه خارج البلاد مستعملاً تلفون المؤسسة فلا يجوز ذلك. وقد يغض النظر عن بعض الاتصالات الداخلية التي يجريها الموظف لبعض شؤونه الخاصة وكذا استخدام بعض الأدوات اليسيرة في شؤونه الخاصة مما تعارف الناس عليه كاستخدام ورقة أو تصويرها ونحو ذلك ومن المعروف أن العرف له اعتبار فلذا الحكم عليه قد يدار ولكن لا يجوز التوسع في هذا الباب لأن الأصل حرمة المال العام. وأظن أنه يوجد في بعض المؤسسات العامة أنظمة وتعليمات لتنظيم استخدام الأموال العامة وما في حكمها كالسيارات فإن وجدت مثل هذه الأنظمة والتعليمات فيجب الالتزام بها.
وينبغي التذكير أن الموظف في الأصل هو بمثابة الأجير والأجير لا بد أن يكون أميناً ويدخل في الأمانة الأمانة في حسن أداء العمل وتشمل أيضاً الأمانة في استخدام المال العام وتشمل الأمانة في استخدام أدوات العمل وغير ذلك. قال الله تعالى: (قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) .
ويقول تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا) سورة النساء الآية 58.
ويقول تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ) سورة المؤمنون الآية 8.
وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله ألا تستعملني؟ قال: فضرب بيده على منكبي ثم قال: (يا أبا ذر إنك ضعيف وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها) رواه مسلم.
وخلاصة الأمر أن الأصل حرمة الأموال العامة وما في حكمها من الأدوات كالسيارات فلا يجوز استعمالها في الشؤون الشخصية إلا بالمقدار الذي يحقق مصلحة جهة العمل.(18/27)
28 - احاديث مكذوبة
يقول السائل: وزعت ورقة مطبوعة في المسجد عندنا وفيها هذا الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قرأ في مصبح أو ممسى أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم: (قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أياً ما تدعوا فله الأسماء الحسنى ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلاً * وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيراً) سورة الإسراء الآيات 110-111. لم يمت في ذلك اليوم ولا في تلك الليلة.) فهل هذا الحديث وارد عن النبي صلى الله عليه وسلم أفيدونا؟ الجواب: إن ملامح الوضع ظاهرة على هذا الحديث أي الكذب وقد بحثت عنه في مظانه فوجدت أن الزبيدي ذكره بلفظ آخر حيث قال: (وروى الديلمي من حديث أبي موسى: من قرأ في مصبح أو ممسى (قل ادعوا الله … إلى آخر السورة لم يمت قلبه ذلك اليوم ولا في تلك الليلة) اتحاف السادة المتقين 5/161.
ولفظه هنا (لم يمت قلبه) وفي لفظ الحديث المذكور في السؤال (لم يمت في ذلك اليوم) والفرق بين الأمرين كبير.
والديلمي المذكور هو صاحب مسند الفردوس وكتابه هذا من مظان الأحاديث الضعيفة والمكذوبة. انظر الأجوبة الفاضلة ص 111-112.
ومن علامات الحديث المكذوب أن يشتمل على أمر معلوم بطلانه قطعاً وهو في هذا الحديث أن الإنسان إذا قرأ آية من القرآن الكريم فإنه لا يموت يومه ذاك أو ليلته. انظر قواعد التحديث ص156.(18/28)
29 - السباب
يقول السائل: ما قولكم فيمن يزعم أن معاوية رضي الله عنه ليس صحابياً ولا يترضى عنه بل يسبه ويشتمه ويلعنه؟ الجواب: لا ريب أن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه صحابي ابن صحابي ولا ينكر ذلك إلا جاهل أو متجاهل. قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في تعريف الصحابي: [وأصح ما وقفت عليه من ذلك أن الصحابي من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ومات على الإسلام فيدخل فيمن لقيه من طالت مجالسته له أو قصرت ومن روى عنه أو لم يرو ومن غزا معه أو لم يغز ومن رآه رؤية ولو لم يجالسه ومن لم يره لعارضٍ كالعمى] الإصابة في تمييز الصحابة 1/4.
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني أيضاً بعد أن شرح التعريف السابق: [وهذا التعريف مبني على الأصح المختار عند المحققين كالبخاري وشيخه أحمد بن حنبل ومن تبعهما ووراء ذلك أقوال أخرى شاذة كقول من قال لا يعد صحابياً إلا من وصف بأحد أوصاف أربعة: من طالت مجالسته، أو حفظت روايته، أو ضبط أنه غزا معه أو استشهد بين يديه وكذا من اشترط في صحة الصحبة بلوغ الحلم أو المجالسة ولو قصرت] الإصابة 1/5.
وأما من زعم [أن معاوية أسلم وعمره 13 سنة ولم يرو أنه ذهب إلى المدينة وسكن فيها في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه والرسول صلى الله عليه وسلم مكث في مكة مدة قصيرة لا يتحقق فيها معنى الصحبة وعليه فمعاوية ليس من الصحابة] فهذا الزعم باطل مردود ومعاوية رضي الله عنه صحابي جليل بل أطلق عليه العلماء أنه خال المؤمنين وكاتب وحي رب العالمين. فهو خال المؤمنين لأن أخته حبيبة بنت أبي سفيان رضي الله عنها زوجة النبي صلى الله عليه وسلم ومن أمهات المؤمنين وهو من كتبة الوحي فكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم القرآن وقد عدد الحافظ ابن كثير كتاب الوحي وذكر منهم معاوية.
وكذلك فإن معاوية رضي الله عنه قد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم 163 حديثاً وخصص له الإمام أحمد في كتابه مسنداً خاصاً وروى له أكثر من مائة حديث. وكذا أبو يعلى الموصلي في مسنده والحميدي في مسنده. والطبراني في المعجم الكبير وغيرهم.
وقال الذهبي: مسنده في مسند بقي – يعني ابن مخلد - مئة وثلاثة وستون حديثاً، وقد عمل الأهوازي مسنده في مجلد واتفق له البخاري ومسلم على أربعة وانفرد البخاري بأربعة ومسلم بخمسة.
أخرج له أصحاب الكتب الستة ستون حديثاً] من سب الصحابة ص80.
قال الإمام النووي: [وأما معاوية رضي الله عنه فهو من العدول الفضلاء والصحابة النجباء رضي الله عنه] شرح النووي على صحيح مسلم 4/530.
وقد ورت أحاديث نبوية في فضل معاوية رضي الله عنه منها عن عبد الرحمن بن أبي عميرة وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لمعاوية: (اللهم اجعله هادياً مهدياً واهد به) رواه الترمذي وقال الشيخ الألباني: صحيح كما في السلسلة الصحيحة 1969 وصحيح سنن الترمذي 3/236.
وعن أبي إدريس الخولاني قال: [لما عزل عمر بن الخطاب عمير بن سعد عن حمص ولى معاوية فقال الناس: عزل عميراً وولى معاوية!؟ فقال عمير: لا تذكروا معاوية إلا بخير فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم اهد به] رواه الترمذي وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي 3/236.
وروى الإمام البخاري بسنده عن ابن أبي مليكة قال: [أوتر معاوية بعد العشاء بركعة وعنده مولى لابن عباس فأتى ابن عباس فقال: دعه فإنه قد صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروى البخاري أيضاً بسنده: قيل لابن عباس هل لك في أمير المؤمنين معاوية فإنه ما أوتر إلا بواحدة؟ قال: إنه فقيه] صحيح البخاري مع الفتح 8/104-105.
قال الحافظ ابن حجر: [وقوله دعه: أي اترك القول فيه والإنكار عليه فإنه قد صحب أي فلم يفعل شيئاً إلا بمستند وفي قوله في الرواية الأخرى أصاب إنه فقيه ما يؤيد ذلك] فتح الباري 8/105.
وقال الإمام الذهبي في حق معاوية: [حسبك بمن يؤمره عمر ثم عثمان على إقليم وهو ثقة فيضبطه ويقوم به أتم قيام ويرضي الناس بسخائه وحلمه وإن كان بعضهم تألم مرة منه وكذلك فليكن الملك وإن كان غيره من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً منه بكثير وأفضل وأصلح فهذا الرجل ساد وساس العالم بكمال عقله وفرط حلمه وسعة نفسه وقوة دهائه ورأيه وله هنات وأمور والله الموعد] سير أعلام النبلاء 3/132-133. وقال الذهبي أيضاً: [ومعاوية من خيار الملوك الذين غلب عدلهم على ظلمهم وما هو ببرئ من الهنات والله يعفو عنه] سير أعلام النبلاء 3/159.
وينبغي أن يعلم أن معاوية رضي الله عنه هو أحد كتبة الوحي الذين استكتبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لكتابة القرآن الكريم. انظر الإصابة 6/113، معاوية بن أبي سفيان لمحمود شاكر ص 88] يسألونك 7/339-340.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: [ومعاوية قد استكتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (اللهم علمه الكتاب والحساب وقه العذاب) ] الفتاوى الكبرى 4/259
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: [ولهذا كانوا – أي الرافضة – أبهت الناس وأشدهم فرية مثل ما يذكرون عن معاوية. فإن معاوية ثبت بالتواتر أنه أمَّره النبي صلى الله عليه وسلم كما أمره غيره وجاهد معه وكان أميناً عنده يكتب له الوحي وما اتهمه النبي صلى الله عليه وسلم في كتابة الوحي وولاه عمر بن الخطاب الذي كان من أخبر الناس بالرجال وقد ضرب الله الحق على لسانه وقلبه ولم يتهمه في ولايته] مجموع الفتاوى 4/472.
وقد قامت الأدلة على تحريم سب الصحابة رضي الله عنهم فقد ثبت في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تسبوا أحداً من أصحابي فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مدَّ أحدهم ولا نصيفه) رواه البخاري ومسلم.
وقال الإمام النووي: [واعلم أن سب الصحابة رضي الله عنهم حرام من فواحش المحرمات سواء من لابس الفتن منهم وغيره لأنهم مجتهدون في تلك الحروب متأولون …] ثم نقل عن القاضي عياض قوله: [وسب أحدهم - أي الصحابة - من المعاصي الكبائر] شرح النووي على صحيح مسلم 5/72-73.
وقال الإمام الآجري: [ومن سبهم فقد سب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن سب رسول الله صلى الله عليه وسلم استحق اللعنة من الله عز وجل ومن الملائكة ومن الناس أجمعين] .
وقال الإمام الآجري أيضاً: [لقد خاب وخسر من سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه خالف الله ورسوله ولحقته اللعنة من الله عز وجل ومن رسوله ومن الملائكة ومن جميع المؤمنين ولا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً لا فريضة ولا تطوعاً وهو ذليل في الدنيا وضيع القدر كثر الله بهم القبور وأخلى منهم الدور] من سب الصحابة ومعاوية فأمه هاوية ص15.
وقال الإمام أحمد: [إذا رأيت رجلاً يذكر أحداً من الصحابة بسوء فاتهمه على الإسلام] البداية والنهاية 8/142.
وقال الإمام أحمد أيضاً: [ومن السنة ذكر محاسن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم أجمعين والكف عن الذي شجر بينهم فمن سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو واحداً فهو مبتدع رافضي حبهم سنة والدعاء لهم قربة والاقتداء بهم وسيلة والأخذ بآرائهم فضيلة] السنة للإمام أحمد.
وقال الإمام البربهاوي: [إذا رأيت الرجل يطعن على أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه صاحب قول سوء وهوى] شرح السنة ص123
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فيمن يلعن معاوية فماذا يجب عليه؟ فأجاب: الحمد لله من لعن أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص ونحوهما من هو أفضل من هؤلاء كأبي موسى الأشعري وأبي هريرة ونحوهما أو من هو أفضل من هؤلاء كطلحة والزبير وعثمان وعلي بن أبي طالب أو أبي بكر الصديق وعمر أو عائشة أم المؤمنين غير هؤلاء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فإنه مستحق للعقوبة البليغة باتفاق أئمة الدين وتنازع العلماء هل يعاقب بالقتل أو ما دون القتل كما قد بسطنا ذلك في غير هذا الموضع وقد ثبت في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) واللعنة أعظم من السب وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لعن المؤمن كقتله فقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم لعن المؤمن كقتله وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خيار المؤمنين كما ثبت عنه أنه قال (خير القرون القرن الذي بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم) وكل من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤمناً به فله من الصحبة بقدر ذلك… الخ] الفتاوى الكبرى 4/ 255- 256
وسئل الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه أيما أفضل معاوية أو عمر بن عبد العزيز؟ فقال: لغبار لحق بأنف جواد معاوية بين يدي رسول الله خيرٌ من عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه وأماتنا على محبته. شذرات الذهب 1/65
قال الإمام الذهبي في ترجمة معاوية رضي الله عنه [فنحمد الله على العافية الذي أوجدنا في زمان قد انمحص فيه الحق واتضح من الطرفين وعرفنا مآخذ كل واحد من الطائفتين وتبصرنا فعذرنا واستغفرنا وأحببنا باقتصاد وترحمنا على البغاة بتأويل سائغ في الجملة أو بخطأ إن شاء الله مغفور وقلنا كما علمنا الله [ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا] وترضينا أيضا عمن اعتزل الفريقين كسعد بن أبي وقاص وابن عمر ومحمد بن مسلمة وسعيد بن زيد وخلق وتبرأنا من الخوارج المارقين الذين حاربوا عليا وكفروا الفريقين] سير أعلام النبلاء 3/128.
وخلاصة الأمر أن معاوية رضي الله عنه صحابي جليل يجب تقديره واحترامه والترضي عنه ويحرم سبه وشتمه ولعنه وينبغي أن يعلم أن من سب الصحابة ومعاوية فأمه هاوية.(18/29)
30 - حكم القراءة بالقراءات الشاذة
يقول السائل: إن إمام المسجد عندهم قرأ آيات من سورة الإسراء ومنها قوله تعالى: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا) حيث قرأ (أمّرنا) بتشديد الميم فما حكم ذلك؟ الجواب: من المعلوم أن القراءة المشهورة في بلادنا ويتداولها القراء وحفظة القرآن وطلاب العلم وغيرهم هي قراءة حفص بن سليمان الكوفي عن عاصم بن أبي النجود الكوفي. وهذه القراءة من القراءات المتواترة وهي عشر قراءات على الراجح من أقوال أهل العلم. وقد اتفقوا على جواز القراءة بها في الصلاة وخارج الصلاة وأما ما عداها من قراءات فهي شاذة لم تثبت بطريقة التواتر فالقراءة الشاذة ما نقل قرآناً من غير تواتر واستفاضة أو ما عبر عنه بأنها ما دون القراءات العشر المتواترة التي قبلتها الأمة عن الأئمة العشرة.
ومن القراءات الشاذة قراءة (أمّرنا) بتشديد الميم من الآية المذكورة في السؤال حيث نص علماء القراءات على أنها قراءة شاذة كما في المختصر في شواذ القرآن ص 79 وفي كتاب المحتسب في تبيين وجوه شواذ القرآن 2/60 وبما أن هذه القراءة شاذة فلا تصح القراءة بها في الصلاة وغيرها بل نقل الحافظ ابن عبد البر الإجماع على ذلك فقال: [الذي عليه جماعة الأمصار من أهل الأثر والرأي أنه لا يجوز لأحد أن يقرأ في صلاته نافلة كانت أو مكتوبة بغير ما في المصحف المجتمع عليه سواء كانت القراءة مخالفة له منسوبة لابن مسعود أو إلى أبي أو إلى ابن عباس أو إلى أبي بكر أو عمر أو مسندة إلى النبي صلى الله عليه وسلم] الاستذكار 8/47-48.
وقال الإمام النووي: [وتجوز قراءة القرآن بالقراءات السبع المجمع عليها ولا يجوز بغير السبع ولا بالروايات الشاذة المنقولة عن القراء السبعة، وسيأتي في الباب السابع إن شاء الله تعالى بيان اتفاق الفقهاء على استتابة من أقرأ بالشواذ أو قرأ بها وقال أصحابنا وغيرهم: لو قرأ بالشواذ في الصلاة بطلت صلاته إن كان عالماً وإن كان جاهلاً لم تبطل ولم تحسب له تلك القراءة وقد نقل الإمام أبو عمر بن عبد البر الحافظ إجماع المسلمين على أنه لا تجوز القراءة بالشاذ وأنه لا يصلى خلف من يقرأ بها. قال العلماء: من قرأ الشاذ إن كان جاهلاً به أو بتحريمه عرف بذلك فإن عاد إليه أو كان عالماً به عزر تعزيراً بليغاً إلى أن ينتهي عن ذلك ويجب عل كل متمكن من الإنكار عليه ومنعه الإنكار والمنع] التبيان في آداب حملة القرآن ص50-51.
وقال الإمام النووي أيضاً: [قال أصحابنا وغيرهم تجوز القراءة في الصلاة وغيرها بكل واحدة من القراءات السبع ولا تجوز القراءة في الصلاة ولا غيرها بالقراءة الشاذة لأنها ليست قرآناً فإن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر وكل واحدة من السبع متواترة هذا هو الصواب الذي لا يعدل عنه ومن قال غيره فغالظ أو جاهل وأما الشاذة فليست متواترة فلو خالف وقرأ بالشاذة أنكر عليه قراءتها في الصلاة أو غيرها وقد اتفق فقهاء بغداد على استتابة من قرأ بالشواذ وقد ذكرت قصة في التبيان في آداب حملة القرآن ونقل الإمام الحافظ
أبو عمر بن عبد البر إجماع المسلمين على أنه لا تجوز القراءة بالشاذ وأنه لا يصلى خلف من يقرأ بها قال العلماء فمن قرأ بالشاذ إن كان جاهلاً به أو بتحريمه عرف ذلك فإن عاد إليه بعد ذلك أو كان عالماً به عزر تعزيراً بليغاً إلى أن ينتهي عن ذلك ويجب على كل مكلف قادر على الإنكار أن ينكر عليه] المجموع 3/392.
وقال ابن عابدين الحنفي: [القرآن الذي تجوز به الصلاة بالاتفاق هو المضبوط في مصاحف الأئمة التي بعث بها عثمان ? إلى الأمصار وهو الذي أجمع عليه الأئمة العشرة وهذا هو المتواتر جملة وتفصيلاً فما فوق السبعة إلى العشرة غير شاذ وإنما الشاذ ما وراء العشرة وهو الصحيح] حاشية ابن عابدين 1/486.
وقال الزركشي: [قال أبو شامة رحمة الله وقد ورد إلى دمشق استفتاء من بلاد العجم عن القراءة الشاذة هل تجوز القراءة بها وعن قراءة القارىء عشراً كل آية بقراءة قارىء فأجاب عن ذلك جماعة من مشايخ عصرنا منهم شيخا الشافعية والمالكية حينئذ وكلاهما أبو عمر وعثمان يعنى ابن الصلاح وابن الحاجب قال شيخ الشافعية: يشترط أن يكون المقروء به على تواتر نقله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرآنا واستفاض نقله بذلك وتلقته الأمة بالقبول كهذه القراءات السبع لأن المعتبر في ذلك اليقين والقطع على ما تقرر وتمهد في الأصول فما لم يوجد فيه ذلك ما عدا العشرة فممنوع من القراءة به منع تحريم لا منع كراهة في الصلاة وخارج الصلاة وممنوع منه ممن عرف المصادر والمعاني ومن لم يعرف ذلك وواجب على من قدر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يقوم بواجب ذلك وإنما نقلها من نقلها من العلماء لفوائد منها ما يتعلق بعلم العربية لا القراءة بها هذا طريق من استقام سبيله … ويجب منع القارىء بالشواذ وتأثيمه بعد تعريفه وإن لم يمتنع فعليه التعزير يشرطه وأما إذا شرع القارىء في قراءة فينبغي ألا يزال يقرأ بها ما بقى للكلام متعلق بما ابتدأ به وما خالف هذا فمنه جائز وممتنع وعذره مانع من قيامه بحقه والعلم عند الله تعالى. وقال شيخ المالكية رحمه الله: لايجوز أن يقرأ بالقراءة الشاذة في صلاة ولا غيرها عالماً بالعربية كان أو جاهلاً.] البرهان في علوم القرآن 1 /332 – 333.
وخلاصة الأمر أن قراءة (أمّرنا) بتشديد الميم من الآية المذكورة في السؤال قراءة شاذة تحرم القراءة بها في الصلاة وخارج الصلاة محافظة على كتاب الله عز وجل.(18/30)
31 - مكانة الصحيحين البخاري ومسلم
يقول السائل: ما قولكم فيمن يزعم أن كون الحديث في الصحيحين لا يكفي للحكم بصحته؟ الجواب: كثرت السهام التي توجه للإسلام وللقضايا المسلَّمة عند جماهير علماء الأمة في هذا الزمان وهذه الهجمات ليست جديدة ولا يستبعد أن تكون هنالك أيدٍ خفيةً تحرك مثل هذه الدعوات المغرضة لتشكيك المسلمين عامة وطلبة العلم الشرعي خاصة في قضايا صارت من القطعيات في دين الإسلام كقول بعض من ينسب للعلم الشرعي إن السنة ليست مصدراً للتشريع ويجب الاكتفاء بما في القرآن الكريم، وكقول بعضهم إنه لا يوجد حديث واحد قاله النبي صلى الله عليه وسلم بلفظه بل كل ما ورد إنما هو بالمعنى، وكقول بعضهم إن أصول الفقه بدعة وإنه لا قياس في الشرع ونحو ذلك من الترهات والخزعبلات. وقد تصدى العلماء للرد على هذه القضايا وأمثالها قديماً وحديثاً ولا يتسع المقام لكل ذلك فلعلي أذكر شيئاً يسيراً في إبطال الفرية المذكورة في السؤال فأقول:
اتفق علماء الأمة قديماً وحديثاً على أن صحيح الإمام البخاري وصحيح الإمام مسلم هما أصح كتابين بعد كتاب الله عز وجل وأن الأحاديث المسندة المتصلة المذكورة فيهما أحاديث صحيحة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الإمام النووي: [اتفق العلماء رحمهم الله على أن أصح الكتب بعد القرآن العزيز الصحيحان البخاري ومسلم وتلقتهما الأمة بالقبول. وكتاب البخاري أصحهما وأكثرهما فوائد ومعارف ظاهرة وغامضة. وقد صح أن مسلماً كان ممن يستفيد من البخاري ويعترف بأنه ليس له نظير في علم الحديث] شرح النووي على صحيح مسلم 1/24.
وقال الإمام النسائي: [ما في هذه الكتب كلها أجود من كتاب البخاري] المصدر السابق.
وقال ابن الصلاح: [أول من صنف في الصحيح، البخاري أبو عبد الله محمد بن إسماعيل وتلاه أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري ومسلم مع أنه أخذ عن البخاري واستفاد منه فإنه يشارك البخاري في كثير من شيوخه وكتاباهما أصح الكتب بعد كتاب الله العزيز] هدي الساري 1/12.
وقال الذهبي: [وأما جامع البخاري الصحيح فأجل كتب الإسلام وأفضلها بعد كتاب الله تعالى] الحطة في ذكر الصحاح الستة ص312.
وقال ولي الله الدهلوي: [أما الصحيحان فقد اتفق المحدثون على أن جميع ما فيهما من المتصل المرفوع صحيح بالقطع وأنهما متواتران إلى مصنفيهما وأن كل من يهون أمرهما فهو مبتدع متبع غير سبيل المؤمنين] حجة الله البالغة 1/249.
وقال العلامة أحمد محمد شاكر: [الحق الذي لا مرية فيه عند أهل العلم بالحديث من المحققين وممن اهتدى بهديهم وتبعهم على بصيرة من الأمر: أن أحاديث الصحيحين صحيحة كلها. ليس في واحد منها مطعن أو ضعف. وإنما انتقد الدارقطني وغيره من الحفاظ بعض الأحاديث. على معنى أن ما انتقدوه لم يبلغ في الصحة الدرجة العليا التي التزمها كل واحد منهما في كتابه. وأما صحة الحديث في نفسه فلم يخالف أحد فيها. فلا يهولنك إرجاف المرجفين. وزعم الزاعمين أن في الصحيحين أحاديث غير صحيحة وتتبع الأحاديث التي تكلموا فيها وانقدها على القواعد الدقيقة التي سار عليها أئمة أهل العلم واحكم عن بينة. والله الهادي إلى سواء السبيل] الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث ص35.
وقال محدث العصر الشيخ الألباني: [… كيف والصحيحان هما أصح الكتب بعد كتاب الله تعالى باتفاق علماء المسلمين من المحدثين وغيرهم فقد امتازا على غيرهما من كتب السنة بتفردهما بجمع أصح الأحاديث الصحيحة وطرح الأحاديث الضعيفة والمتون المنكرة على قواعد متينة وشروط دقيقة وقد وفقوا في ذلك توفيقاً بالغاً لم يوفق إليه من بعدهم ممن نحا نحوهم في جمع الصحيح كابن خزيمة وابن حبان والحاكم وغيرهم حتى صار عرفاً عاماً أن الحديث إذا أخرجه الشيخان أو أحدهما فقد جاوز القنطرة ودخل في طريق الصحة والسلامة. ولا ريب في ذلك وأنه هو الأصل عندنا] مقدمته لشرح العقيدة الطحاوية ص14-15.
وبعد أن ذكرت هذه الباقة العطرة من أقوال أهل العلم من المتقدمين والمتأخرين في الثناء على الصحيحين فيجب أن يعلم أن هؤلاء العلماء وغيرهم لم يطلقوا هذه الأحكام على الصحيحين جزافاً وإنما جاءت هذه الأحكام بعد أن درسوا الصحيحين دراسة واعية على بصيرة وهدى. فقد درس آلاف العلماء من الحفاظ وغيرهم أسانيد البخاري ومسلم دراسة مستفيضة فوصلوا إلى ما وصلوا إليه وهو الحق وماذا بعد الحق إلا الضلال. فالأحاديث المرفوعة في الصحيحين أو أحدهما صحيحة بدون أدنى شك. وأما الحديث المتفق عليه فهو ما اتفق البخاري ومسلم على روايته في صحيحيهما والحديث المتفق عليه هو أعلى درجة من درجات الحديث الصحيح. قال الإمام النووي: [الصحيح أقسام أعلاها ما اتفق عليه البخاري ومسلم ثم ما انفرد به البخاري ثم مسلم ثم على شرطهما ثم على شرط البخاري ثم مسلم ثم صحيح عند غيرهما] تدريب الراوي شرح التقريب 1/122-123.
وقال الشوكاني: [واعلم أن ما كان من الأحاديث في الصحيحين أو أحدهما جاز الاحتجاج به من دون بحث لأنهما التزما الصحة وتلقت ما فيهما الأمة بالقبول] نيل الأوطار 1/22.
وينبغي أن يعلم أن من أهل العلم من انتقد على الصحيحين أو أحدهما أحاديث كالدارقطني وقد فصل الحافظ ابن حجر الكلام على الأحاديث المنتقدة على صحيح البخاري في الفصل الثامن من مقدمته لفتح الباري والمسماة هدي الساري فذكر الأحاديث المنتقدة وأجاب عليها جواباً إجمالياً وجواباً مفصلاً فقال في الأول منهما: [والجواب عنه على سبيل الإجمال أن نقول لا ريب في تقديم البخاري ثم مسلم على أهل عصرهما ومن بعده من أئمة هذا الفن في معرفة الصحيح والمعلل … فبتقدير توجيه كلام من انتقد عليهما يكون قوله معارضاً لتصحيحهما ولا ريب في تقديمهما في ذلك على غيرهما فيندفع الاعتراض من حيث الجملة] هدي الساري ص506. ثم ذكر الجواب التفصيلي عن كل حديث انتقد على البخاري.
وخلاصة الأمر أن من طعن في أحاديث البخاري ومسلم فكلامه مردود عليه حيث إن أهل هذا الشأن من الحفاظ وأهل الحديث أجابوا عن ذلك أجوبة قاطعة واضحة. وإن الطعن في البخاري ومسلم ما هو إلا طعن في السنة النبوية ومن يطعن في السنة النبوية يخشى عليه من الزندقة.(18/31)
32 - الحجامة
يقول السائل: هل التداوي بالحجامة من السنة وما أفضل وقت للحجامة؟ الجواب: الحجامة مأخوذة من حجم بمعنى مصَّ، والحجامة تعني مص الدم وإخراجه من البدن. انظر لسان العرب 3/67-68. وجاء في الموسوعة الطبية الفقهية ص327 ما يلي: [والحجامة وسيلة قديمة كانت تستخدم لعلاج معظم الأمراض لأن الناس كانوا يجهلون أسباب الأمراض وكانت الوسائل العلاجية محدودة جداً وقد تجرى الحجامة باستخدام العلق الذي يوضع على الجلد فيمص الدم وقد تجرى الحجامة أيضاً دون تشريط الجلد، وذلك باستخدام كؤوس فارغة تسخن من باطنها لخلخلة الهواء وإحداث ضغط سلبي بداخلها ثم توضع على مناطق مختارة من الجلد فتجذب الدم في العروق إلى موضع الحجامة وهي طريقة تساعد في تخفيف الوجع وتعالج بعض الآفات الموضعية مثل التهاب العضلات والتهاب المفاصل والرثية ونحوها.
وفي العصر الحديث عاد الاهتمام بمثل هذه الطرق القديمة من العلاج فيما يعرف بالطب الطبيعي أو الطب البديل الذي أنشئت له في أنحاء متفرقة من العالم عيادات متخصصة أخذ روادها يتزايدون يوماً بعد يوم وبخاصة بعد اكتشاف الأضرار الجانبية الخطيرة لكثير من الأدوية الكيميائية وتحول كثير من الأطباء عن الأدوية المصنعة إلى المعالجات الطبيعية] .
والتداوي بالحجامة من المندوبات في الشريعة الإسلامية، وقد ورد في فضل التداوي بالحجامة أحاديث كثيرة منها: عن أنس رضي الله عنه أنه سئل عن أجر الحجام فقال: احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم حجمه أبو طيبة وأعطاه صاعين من طعام وكلم مواليه فخففوا عنه. وقال صلى الله عليه وسلم: (إن أمثل ما تداويتم به الحجامة والقُسْط البحري) رواه البخاري ومسلم. والقُسْط البحري من عقاقير البحر انظر عمدة القاري 14/681.
وروى البخاري بسنده أن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عاد المقنع - أحد التابعين - ثم قال: لا أبرح حتى يحتجم فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن فيه شفاء.
وعن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن كان في شيء من أدويتكم خير ففي شرطة محجم أو شربة عسل أو لذعة بنار توافق الداء وما أحب أن أكتوي) رواه البخاري مسلم.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم في رأسه من شقيقة كانت به. رواه البخاري.
وقد ذكر الأطباء والعلماء قديماً وحديثاً فوائد كثيرة للحجامة قال العلامة ابن القيم: [وأما منافع الحجامة فإنها تنقي سطح البدن أكثر من الفصد والفصد لأعماق البدن أفضل والحجامة تستخرج الدم من نواحي الجلد] الطب النبوي ص169.
وقال الدكتور عبد الرزاق الكيلاني: [وتفيد الحجامة الجافة في تسكين الآلام جميعها إذا طبقت في مكان الألم أو قريباً منه وقد سقط النبي صلى الله عليه وسلم على وركه فأصيب بوثي فيه فعالجه بالحجامة كما تفيد في الصداع والآلام الوربية والقطنية والآلام المفصلية وألم ذات الجنب وتفيد في التهاب القصبات وذات الرئة واحتقانات الكبد والتهاب التأمور وقصور القلب الخفيف كما تقوم مقام الاستدماء الذاتي لمكافحة أمراض الحساسية كالأكزيما والشري وغيرها وإذا أجريت في الرأس أفادت كثيراً من أمراض العين.
أما الحجامة المدماة فإنها عدا الأمراض التي تفيد فيها الحجامة الجافة تفيد في ارتفاع الضغط الشرياني بخاصة لأنها تكون كالفصادة وكذلك في قصور القلب الشديد ووذمة الرئة الحادة واحتقانات الكبد الشديدة وقصور الكلى الحاد والتسممات … وقد استعمل النبي صلى الله عليه وسلم الحجامة لعلاج الوثي ولعلاج الصداع والشقيقة والتسمم واستعملها الصحابة فوق ذلك لتبيغ الدم وأظن أنهم كانوا يقصدون به ارتفاع الضغط الشرياني] الحقائق الطبية في الإسلام ص284-285.
وذكر الدكتور محمود النسيمي استطبابات الحجامة ومنها: احتقانات الرئة واحتقان الكبد والتهاب الكلية الحاد والآلام العصبية … إلخ. انظر الطب النبوي والعلم الحديث 3/94-96.
وذكر الدكتور عبد المعطي قلعجي استعمال الحجامة في الطب المعاصر وذلك في تعليقه على الطب النبوي لابن القيم في هامش الصفحتين 162-163 وذكر المصادر الطبية التي ذكرت استطبابات الحجامة في الطب المعاصر.
وأما وقت الحجامة فقد وردت بعض الأحاديث التي تفيد أن أفضل الحجامة ما يكون بعد النصف الثاني من الشهر الهجري بقليل فمن ذلك: عن أنس رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يحتجم في الأخدعين والكاهل وكان يحتجم لسبع عشرة وتسع عشرة وإحدى وعشرين) رواه الترمذي وابن ماجة وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي 2/204. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن خير ما تحتجمون فيه يوم سبع عشرة ويوم تسع عشرة ويوم واحد وعشرين) رواه الترمذي وحسنه ضمن حديث طويل وقد ذكره الألباني في صحيح سنن الترمذي 2/204 وغير ذلك من الأحاديث انظر الطب النبوي للسيوطي ص 244 - 246.
قال ابن القيم بعد أن ذكر الحديثين السابقين: [وهذه الأحاديث موافقة لما أجمع عليه الأطباء أن الحجامة في النصف الثاني وما يليه من الربع الثالث من أرباعه أنفع من أوله وآخره وإذا استعملت عند الحاجة إليها نفعت أي وقت كان من أول الشهر وآخره. قال الخلال: أخبرني عصمة بن عصام قال: حدثنا حنبل قال: كان أبو عبد الله أحمد بن حنبل يحتجم أي وقت هاج به الدم وأي ساعة كانت] الطب النبوي ص174-175.
وقال الدكتور محمود النسيمي: [ليس للحجامة الجافة وقت معين لإجرائها وإنما تنفذ لدى وجود استطباب لها أما الحجامة المبزغة (الدامية) فلها أوقات مفضلة في الطب النبوي والعربي إذا استعملت بشكل وقائي أما في حالة الاستطباب العلاجي الإسعافي فإنها تجرى في أي وقت. ولقد مر أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم بعدما سم واحتجم على وركه من وثء كان به واحتجم وهو محرم على ظهر قدمه من وجع أو وثء كان به، وفي رأسه من شقيقة ألمت به ولم يرد عنه صلى الله عليه وسلم أنه انتظر في تلك الأحوال يوماً معيناً أو ساعة معينة من اليوم. ولذا تحمل أحاديث تفضيل أيام معينة من الشهر لإجراء الحجامة الدامية على إجرائها لأغراض وقائية كما في الدمويين لدى اشتداد الحر والله تعالى أعلم] الطب النبوي والعلم الحديث 3/102-103.
وخلاصة الأمر أن التداوي بالحجامة من الأمور المستحبة ويجوز استخدامها في أي وقت إن كانت علاجاً لداء معين وأما إن كان استعمالها على سبيل الوقاية فيستحب أن تكون في الأيام التي ذكرت في الأحاديث السابقة.(18/32)
33 - صلاة الحفظ
يقول السائل: قرأت في نشرة وزعت في بعض المساجد بعنوان الدعاء لحفظ القرآن وفيها حديث طويل يتضمن صلاة أربع ركعات لتقوية الحفظ فهل هذا الحديث ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ الجواب: روى الترمذي بإسناده عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: بأبي أنت تفلت هذا القرآن من صدري فما أجدني أقدر عليه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا الحسن أفلا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن وينفع بهن من علمته ويثبت ما تعلمت في صدرك؟ قال: أجل يا رسول الله فعلمني. قال إذا كان ليلة الجمعة، فإن استطعت أن تقوم في ثلث الليل الآخر فإنها ساعة مشهودة والدعاء فيها مستجاب فقد قال أخي يعقوب لبنيه: سوف أستغفر لكم ربي. يقول حتى تأتي ليلة الجمعة فإن لم تستطع فقم في وسطها فإن لم تستطع فقم في أولها فصل أربع ركعات: تقرأ في الركعة الأولى بفاتحة الكتاب وسورة يس وفي الركعة الثانية بفاتحة الكتاب وحم الدخان وفي الركعة الثالثة بفاتحة الكتاب وألم تنزيل (السجدة) وفي الركعة الرابعة بفاتحة الكتاب وتبارك المفصل فإذا فرغت من التشهد فاحمد الله وأحسن الثناء على الله وصل علي وأحسن وعلى سائر النبيين واستغفر للمؤمنين والمؤمنات ولإخوانك الذين سبقوك بالإيمان ثم قل في آخر ذلك: اللهم ارحمني بترك المعاصي أبداً ما أبقيتني وارحمني أن أتكلف ما لا يعنيني وارزقني حسن النظر فيما يرضيك عني اللهم بديع السموات والأرض ذا الجلال والإكرام والعزة التي لا ترام أسألك يا الله يا رحمن بجلالك ونور وجهك أن تلزم قلبي حفظ كتابك كما علمتني وارزقني أن أتلوه على النحو الذي يرضيك عني اللهم بديع السموات والأرض ذا الجلال والإكرام والعزة التي لا ترام أسألك يا الله يا رحمن بجلالك ونور وجهك أن تنور بكتابك بصري وأن تطلق به لساني وتشرح به صدري وأن تستعمل به بدني فإنه لا يعينني على الحق غيرك ولا يؤتينيه إلا أنت ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
يا أبا الحسن تفعل ذلك ثلاث جمع أو خمساً أو سبعاً تجاب بإذن الله والذي بعثني بالحق ما أخطأ مؤمناً قط. قال ابن عباس رضي الله عنهما: فوالله ما لبث علي إلا خمساً أو سبعاً حتى جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك المجلس فقال: يا رسول الله إني كنت فيما خلا لا آخذ إلا أربع آيات ونحوهن فإذا قرأتهن على نفسي تفلتن وأنا أتعلم اليوم أربعين آية ونحوها فإذا قرأتهن على نفسي فكأنما كتاب الله بي عيني ولقد كنت أسمع الحديث فإذا رددته تفلت وأنا اليوم أسمع الأحاديث فإذا تحدثت بها لم أخرم منها حرفاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: مؤمن ورب الكعبة يا أبا الحسن) .
قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث الوليد بن مسلم. سنن الترمذي مع شرحه التحفة 10/14-16.
وقد اختلف أهل الحديث في الحكم على هذا الحديث فحسنه الترمذي كما سبق إلا أن الشيخ الألباني ذكر أن الحافظ ابن عساكر قد نقل حكم الترمذي على الحديث دون لفظة حسن وكذلك الحافظ الضياء المقدسي ثم قال الألباني: [وهو الأقرب إلى الصواب واللائق بهذا الإسناد فإن الوليد بن مسلم يدلس تدليس التسوية كما سيأتي فهو علة الحديث وإن خفيت على كثير كالحاكم وغيره فإنه قال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين وتعقبه الذهبي بقوله: هذا حديث شاذ أخاف أن لا يكون كذا ولعل الصواب أن يكون موضوعاً وقد حيرني والله جودة سنده] السلسة الضعيفة 7/384-385.
وقال المنذري عن هذا الحديث [طرق أسانيد هذا الحديث جيدة ومتنه غريب جداً] . وقد عده ابن الجوزي في الموضوعات وذكره الشوكاني في كتابه في الأحاديث الموضوعة ص42.
وذكر الذهبي الحديث في سير أعلام النبلاء في ترجمة الوليد بن مسلم وساقه بطوله ثم قال: [هذا عندي موضوع والسلام] سير أعلام النبلاء 9/218.
وقال الذهبي أيضاً معلقاً على تصحيح الحاكم للحديث: [هذا حديث منكر شاذ وقد حيرني والله جودة إسناده] وقال الذهبي أيضاً في الميزان بأنه حديث منكر جداً. انظر المصدر السابق الحاشية.
وقد حكم الشيخ الألباني على الحديث بأنه منكر وتكلم عليه كلاماً طويلاً ثم قال: [وجملة القول أن هذا الحديث موضوع كما قال الذهبي في الميزان وقال أيضاً وهو من أنكر ما أتى به الوليد بن مسلم وابن الجوزي ما أبعد عن الصواب حين أورده في الموضوعات ومن تعقبه فلم يأت بشيء يستحق النظر فيه] السلسلة الضعيفة 7/387-388.
إذا تقرر هذا فإن الصحيح من أقوال العلماء أنه لا يجوز إثبات صلاة بناء على هذا الخبر الموضوع أو الضعيف جداً وخاصة أنه يثبت صلاة غريبة والأصل في العبادات التلقي عن النبي صلى الله عليه وسلم بطريق ثابت صحيح ولا يجوز شرعاً تخصيص وقت معين بعبادة معينة وبكيفية معينة بدون دليل شرعي صحيح وكذلك فإن في الحديث تخصيص ليلة الجمعة بعبادة خاصة وهذا يعارض ما ثبت في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تختصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم) رواه مسلم.
قال الإمام النووي: [وفي هذا الحديث النهي الصريح عن تخصيص ليلة الجمعة بصلاة من بين الليالي ويومها بصوم كما تقدم وهذا متفق على كراهيته] شرح النووي على صحيح مسلم 3/211.
ولا يصح العمل بهذا الحديث الموضوع على أساس أنه وارد في فضائل الأعمال لأن الحديث الموضوع لا يعمل به في فضائل الأعمال ولا غيرها، ولا يجوز أن ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وخلاصة الأمر أن الحديث المذكور لا يصح الاعتماد عليه لأنه موضوع أي مكذوب وصلاة الحفظ التي وردت فيه صلاة مبتدعة غير مشروعة.(18/33)
34 - كفارة القتل الخطأ
يقول السائل: ما الحكم فيمن لزمته كفارة القتل الخطأ ولا يوجد اليوم رقاب ليعتق وهو عاجز عن الصوم فماذا يصنع؟ الجواب: يقول الله تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) سورة النساء الآية 92.
فمن قتل مؤمناً خطأً فتلزمه الدية والكفارة وهي تحرير رقبة مؤمنة ومن المعلوم اليوم أن عهد الرق قد ولى فيتعذر عتق رقبة مؤمنة وحينئذ يصار إلى صوم شهرين متتابعين كما نصت الآية الكريمة: (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ) فإذا كان القاتل عاجزاً عن الصوم لهرم أو مرض أو نحو ذلك فجمهور العلماء يرون أنه لا يطالب بغير الصوم ولا يجب عليه أي شيء آخر ومن العلماء من قال إن عجز عن صوم الشهرين المتتابعين ينتقل إلى إطعام ستين مسكيناً قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [وكفارة القتل عتق رقبة مؤمنة بنص الكتاب سواء كان القاتل أو المقتول مسلماً أو كافراً فإن لم يجدها في ملكه فاضلة عن حاجته أو لم يجد ثمنها فاضلاً عن كفايته فصيام شهرين متتابعين توبة من الله وهذا ثابت بالنص أيضاً فإن لم يستطع ففيه روايتان: إحداهما: يثبت الصيام في ذمته ولا يجب شيء آخر , لأن الله تعالى لم يذكره ولو وجب لذكره والثاني: يجب إطعام ستين مسكيناً لأنها كفارة فيها عتق وصيام شهرين متتابعين فكان فيها إطعام ستين مسكيناً عند عدمها ككفارة الظهار والفطر في رمضان. وإن لم يكن مذكوراً في نص القرآن فقد ذكر ذلك في نظيره فيقاس عليه. فعلى هذه الرواية: إن عجز عن الإطعام ثبت في ذمته حتى يقدر عليه وللشافعي قولان في هذا كالروايتين والله أعلم] المغني 8/517.
وقال صاحب الهداية الحنفي: [وكفارته عتق رقبة مؤمنة لقوله تعالى: (وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ َمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ) بهذا النص ولا يجزئ فيه الإطعام لأنه لم يرد به نص والمقادير تعرف بالتوقيف] الهداية 9/205.
وقال ابن كثير: [واختلفوا فيمن لا يستطيع الصيام هل يجب عليه إطعام ستين مسكينا كما في كفارة الظهار على قولين أحدهما نعم كما هو منصوص عليه في كفارة الظهار وإنما لم يذكر ههنا لأن هذا مقام تهديد وتخويف وتحذير فلا يناسب أن يذكر فيه الإطعام لما فيه من التسهيل والترخيص والقول الثاني لا يعدل إلى الطعام لأنه لو كان واجبا لما أخر بيانه عن وقت الحاجة] تفسير ابن كثير 1 /536
ومن قال من العلماء إنه إن كان عاجزاً عن صوم الشهرين المتتابعين ينتقل إلى الإطعام اعتمد على القياس على الكفارة في الظهار بجامع أن كلاً منهما كفارة. قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ) سورة المجادلة الآيات 3-4.
ولعل الأخذ بالرأي الثاني أولى، لأن فيه تحقيق المقصود من شرعية الكفارة، وهو شعور الإنسان بذنبه فينزجر عن معاودة الإثم، قياساً على جريمة أخرى انتقل فيها العاجز عن الصيام إلى الإطعام
وخلاصة الأمر أن من الأفضل في حق من عجز عن صيام الشهرين المتتابعين أن يطعم ستين مسكيناً.(18/34)
35 - معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (استفت قلبك)
يقول السائل: ما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك) ؟ الجواب: ما ذكره السائل جزء من حديث رواه أحمد عن وابصة الأسدي قال أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أريد أن لا أدع شيئا من البر والإثم إلا سألته عنه وحوله عصابة من المسلمين يستفتونه فجعلت أتخطاهم قالوا إليك يا وابصة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت دعوني فأدنو منه فإنه أحب الناس إلي أن أدنو منه قال دعوا وابصة ادن يا وابصة مرتين أو ثلاثا قال فدنوت منه حتى قعدت بين يديه فقال يا وابصة أخبرك أو تسألني قلت لا بل أخبرني فقال جئت تسألني عن البر والإثم فقال نعم فجمع أنامله فجعل ينكت بهن في صدري ويقول يا وابصة استفت قلبك واستفت نفسك ثلاث مرات البر ما اطمأنت إليه النفس والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك) رواه أحمد بإسناد حسن كما قال المنذري في الترغيب وحسنه النووي أيضاً وقال الألباني: حسن لغيره. انظر صحيح الترغيب والترهيب 2/323.
ورواه الدارمي بسنده عن وابصة بن معبد الأسدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لوابصة جئت تسأل عن البر والإثم قال قلت نعم قال فجمع أصابعه فضرب بها صدره وقال استفت نفسك استفت قلبك يا وابصة ثلاثا البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك)
قال الحافظ ابن رجب الحنبلي: [ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: (استفت قلبك …) يعني أن ما حاك في صدر الإنسان فهو إثم وإن أفتاه غيره بأنه ليس بإثم فهذه مرتبة ثانية وهو أن يكون الشيء مستنكراً عند فاعله دون غيره وقد جعله أيضاً إثماً وهذا إنما يكون إذا كان صاحبه ممن شرح صدره للإيمان وكان المفتي يفتي له بمجرد ظن أو ميل إلى هوى من غير دليل شرعي. فأما ما كان مع المفتي به دليل شرعي فالواجب على المفتى الرجوع إليه وإن لم ينشرح له صدره وهذا كالرخصة الشرعية مثل الفطر في السفر والمرض وقصر الصلاة في السفر ونحو ذلك مما لا ينشرح به صدور كثير من الجهال فهذا لا عبرة به] جامع العلوم الحكم ص320
وقال القاضي البيضاوي: [المعنى أن الشيء إذا أشكل على السالك والتبس ولم يتبين أنه من أي القبيلين هو فليتأمل فيه إن كان من أهل الاجتهاد وليسأل المجتهدين إن كان من المقلدين فإن وجد ما تسكن إليه نفسه ويطمئن به قلبه وينشرح به صدره فليأخذ به وليختره لنفسه وإلا فليدعه وليأخذ بما لا شبهة فيه ولا ريبة. وهذا طريقة الورع والاحتياط وحاصله راجع إلى حديث الحسن بن علي رضي الله عنهما. ولعله إنما عطف اطمئنان القلب على اطمئنان النفس للتقرير والتأكيد فإن النفس إذا ترددت في أمر وتحيرت فيه وزال عنها القرار استتبع ذلك خفقاناً للقلب للعلاقة التي بينها وبين القلب الذي هو متعلق الأول لها فتنقل العلاقة إليه من تلك الهيئة أثراً فيحدث فيه خفقان واضطراب ثم ربما يسري هذا الأثر إلى سائر القوى فتحس بها الحلال والحرام فإذا زال ذلك عن النفس وحدث لها قرار وطمأنينة انعكس الأمر وتبدلت الحال على ما لها من الفروع والأعضاء وقيل المعني بهذا الأمر أرباب البصائر من أهل النظر والفكر المستقيمة وأصحاب الفراسات من ذوي النفوس المرتاضة والقلوب السليمة فإن نفوسهم بالطبع تصبو إلى الخير وتنبو عن الشر فإن الشيء ينجذب إلى ما يلائمه وينفر عما يخالفه ويكون ملهمة للصواب في أكثر الأحوال. قال التوربشتي رحمه الله: وهذا القول وإن كان غير مستعبد فإن القول بحمله على العموم فيمن يجمعهم كلمة التقوى وتحيط بهم دائرة الدين أحق وأهدى] مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح 6/26.
وخلاصة الأمر أن معنى الحديث هو أن من تعارضت عنده أقوال العلماء فإنه يجب عليه أن يقلد الأعلم الأورع، فإن لم يترجح عنده شيء في ذلك رجع إلى صدره وقلبه، فما وجد في صدره منه حرجاً تركه وابتعد عنه.(18/35)
36 - احتفال الشيعة بأربعينية الحسين رضي الله عنه
يقول السائل: عرضت المحطات الفضائية مشاهد من احتفالات الشيعة في كربلاء بمناسبة أربعينية الحسين وقد شاهدنا أموراً غربية يفعلونها فما حكم الشرع في ذلك؟ الجواب: يجب أن يعلم أولاً أن الخلاف بين أهل السنة والشيعة خلاف في العقائد والأصول وليس خلافاً في الفروع كما يظن كثير من الناس فعند الشيعة الكثير من العقائد الباطلة ويعرف ذلك من يقرأ في مصادرهم المعتمدة وإن حاول بعض مراجعهم الدينية المعاصرون إخفاء ذلك أو عدم الحديث عنه وهم يفعلون ذلك انطلاقاً من مبدأ التقية وهي عقيدة دينية تبيح لهم التظاهر بغير ما يبطنون ويقولون: (من لا تقية له لا دين له) . ومن مظاهر انحراف الشيعة عن دين الإسلام غلوهم الشديد في أئمتهم وقبور أئمتهم وما عرضته المحطات الفضائية غيض من فيض من الفظائع والمنكرات التي يفعلونها عند ما يسمونه العتبات المقدسة كما زعموا وليس من منهج الإسلام الصحيح شد الرحال والسفر إلى القبور ولا تقديسها ولا إقامة الشعائر الدينية عندها كما يفعل هؤلاء فقد ثبت في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى) رواه البخاري ومسلم. فهذا الحديث يدل على تحريم شد الرحال والسفر بقصد زيارة أي مسجد سوى المساجد الثلاثة لأنه لا يوجد لأي مسجد من مساجد المسلمين ميزة على مسجد آخر سوى المساجد الثلاثة المذكورة في الحديث فشد الرحال إلى مساجد كربلاء والنجف وقم باطل شرعاً هذا أولاً. وأما ثانياً فإنه لا يجوز شرعاً بناء المساجد على القبور وأن هذا كان من أسباب الشرك حيث عبد الناس أصحاب القبور من دون الله قال العلامة ابن القيم: [ومن أعظم مكايده
- أي الشيطان - التي كاد بها أكثر الناس وما نجا منها إلا من لم يرد الله تعالى فتنته: ما أوحاه قديماً وحديثاً إلى حزبه وأوليائه من الفتنة بالقبور. حتى آل الأمر فيها إلى أن عبد أربابها من دون الله وعبدت قبورهم واتخذت أوثاناً وبنيت عليها الهياكل وصورت صور أربابها فيها ثم جعلت تلك الصور أجساداً لها ظل ثم جعلت أصناماً وعبدت مع الله تعالى. وكان أول هذا الداء العظيم في قوم نوح كما أخبر سبحانه عنهم في كتابه حيث يقول: (قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّءَالِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا) سورة نوح الآيات 21-24] إغاثة اللهفان 1/182-183. ثم قال العلامة ابن القيم: [فقد رأيت أن سبب عبادة ود ويغوث ويعوق ونسراً واللات إنما كانت من تعظيم قبورهم ثم اتخذوا لها التماثيل وعبدوها كما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم قال شيخنا: وهذه العلة التي لأجلها نهى الشارع عن اتخاذ المساجد على القبور هي التي أوقعت كثيراً من الأمم إما في الشرك الأكبر أو فيما دونه من الشرك. فإن النفوس قد أشركت بتماثيل القوم الصالحين وتماثيل يزعمون أنها طلاسم للكواكب ونحو ذلك فإن الشرك بقبر الرجل الذي يعتقد صلاحه أقرب إلى النفوس من الشرك بخشبة أو حجر. ولهذا نجد أهل الشرك كثيراً يتضرعون عندها ويخشعون ويخضعون ويعبدونهم بقلوبهم عبادة لا يفعلونها في بيوت الله ولا وقت السحر ومنهم من يسجد لها وأكثرهم يرجون من بركة الصلاة عندها والدعاء ما لا يرجونه في المساجد فلأجل هذه المفسدة حسم النبي صلى الله عليه وسلم مادتها حتى نهى عن الصلاة في المقبرة مطلقاً. وإن لم يقصد المصلي بركة البقعة بصلاته كما يقصد بصلاته بركة المساجد كما نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس وغروبها لأنها أوقات يقصد المشركون الصلاة فيها للشمس فنهى أمته عن الصلاة حينئذ وإن لم يقصد المصلي ما قصده المشركون سداً للذريعة قال: وأما إذا قصد الرجل الصلاة عند القبور متبركاً بالصلاة في تلك البقعة. فهذا عين المحادة لله ولرسوله والمخالفة لدينه وابتداع دين لم يأذن به الله تعالى. فإن المسلمين قد أجمعوا على ما علموه بالاضطرار من دين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الصلاة عند القبور منهي عنها وأنه لعن من اتخذها مساجد فمن أعظم المحدثات وأسباب الشرك: الصلاة عندها واتخاذها مساجد وبناء المساجد عليها وقد تواترت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي عن ذلك والتغليظ فيه. فقد صرح عامة الطوائف بالنهي عن بناء المساجد عليها متابعة منهم للسنة الصحيحة الصريحة. وصرح أصحاب أحمد وغيرهم من أصحاب مالك والشافعي بتحريم ذلك. وطائفة أطلقت الكراهة والذي ينبغي أن تحمل على كراهة التحريم إحساناً للظن بالعلماء وأن لا يظن بهم أن يجوزوا فعل ما تواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن فاعله والنهي عنه. ففي صحيح مسلم عن جندب بن عبد الله البجلي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول: (إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل فإن الله تعالى قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك) وعن عائشة وعبد الله بن عباس قالا: (لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه فإذا اغتم كشفها فقال وهو كذلك: لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما صنعوا) متفق عليه. وفي الصحيحين أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله قال: (قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) . وفي رواية مسلم: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) . فقد نهى عن اتخاذ القبور مساجد في آخر حياته ثم إنه لعن وهو في السياق من فعل ذلك من أهل الكتاب ليحذر أمته أن يفعلوا ذلك. قالت عائشة رضي الله عنها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي لم يقم منه: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ولولا ذلك لأبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً) متفق عليه. وقولها (خشي) هو بضم الخاء تعليلاً لمنع إبراز قبره. وروى الإمام أحمد في مسنده بإسناد جيد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن من أشرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء والذين يتخذون القبور مساجد) ] المصدر السابق 1/184-186. ثالثاً: إن بعض وسائل الإعلام أطلقت على ما فعله الشيعة في كربلاء وتجمع العدد الكبير منهم هناك بأنه حج إلى كربلاء وهذا من أبطل الباطل فلا يعرف للمسلمين حج إلا إلى بيت الله الحرام في مكة المكرمة ومن اعتقد بغير ذلك فهو خارج عن ملة الإسلام والمسلمين ويوجد في مصادر الشيعة بعض الروايات في هذا المعنى المنحرف منها ما يتضمن الاستغناء عن الحج فالذي لا يستطيع الحج يكفيه زيارة قبر الحسين فعن أبي عبد الله قال: (إذا أردت الحج ولم يتهيأ لك، فائت قبر الحسين فإنها تكتب لك حجة، وإذا أردت العمرة ولم يتهيأ لك فائت قبر الحسين فإنها تكتب لك عمرة) وسائل الشيعة 10/332
بل تدرج بهم الغلو إلى الاعتقاد بأفضلية زيارة قبر الحسين في كربلاء على الحج فعن أبي عبد الله قال:
(من زار قبر " الحسين " يوم عرفة كتب الله له ألف ألف حجة مع القائم عليه السلام وألف ألف: عمرة مع رسول الله، وعتق ألف نسمة وحملان ألف فرس في سبيل الله، وسماه الله عز وجل عبدي الصديق آمن بموعدي وقالت الملائكة: فلان صديق زكاه الله من فوق عرشه، وسمي في الأرض كروبيا) وسائل الشيعة 10/360. وفي هذا يقول علامتهم آية الله السيد عبد الحسين: (لقد جعل رب العالمين لطفاً بعباده قبر الحسين عليه السلام بدلا من حج بيت الله الحرام ليتمسك به من لم يوفق إلى الحج بل إن ثوابه لبعض المؤمنين وهم اذين يراعون شرائط الزيارة أكثر من ثواب الحج كما صريح الروايات الواردة في هذا المعنى) الثورة الحسينية ص15. بل زعموا أن الله ينظر إلى زوار الحسين يوم عرفة قبل أن ينظر إلى أهل عرفات، فعن أبي عبد الله قال: (قلت له - أي الراوي –: إن الله يبدأ بالنظر إلى زوار الحسين عليه السلام عشية عرفة قبل نظره إلى أهل الموقف؟ فقال: نعم، قلت: وكيف ذلك؟ قال: لأن في أولئك أولاد زناء وليس في هؤلاء أولاد زناء) وسائل الشيعة 10/361. وفي رواية: (إن الله ينظر إلى زوار قبر الحسين نظر الرحمة في يوم عرفة قبل نظره إلى أهل عرفات) الثورة الحسينية ص 15 ولا شك أن كل هذا من الكذب الواضح على دين الإسلام. قال صاحب تيسير العزيز الحميد: [وقد آل الأمر بهؤلاء الضلال المشركين إلى أن شرعوا للقبور حجاً ووضعوا لها مناسك حتى صنف بعض غلاتهم في ذلك كتاباً سماه " مناسك حج المشاهد " مضاهاة منه القبور بالبيت الحرام ولا يخفى أن هذا مفارقة لدين الإسلام ودخول في دين عبادة الأصنام فانظر إلى هذا التباين العظيم بين ما شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقصده من النهي عما تقدم ذكره في القبور وبين ما شرعه هؤلاء وقصدوه ولا ريب أن في ذلك من المفاسد ما يعجز عن حصره.
فمنها: تعظيم المواقع في الافتتان بها ومنها اتخاذها أعياداً ومنها السفر إليها ومنها: مشابهة عبادة الأصنام بما يفعل عندها من العكوف عليها والمجاورة عندها وتعليق الستور عليها وعبادها يرجحون المجاورة عندها على المجاورة عند المسجد الحرام ويرون سدنتها أفضل من خدمة المساجد والويل عندهم لقيمها ليلة يطفىء القنديل المعلق عليها ومنها: النذر لها ولسدنتها ومنها: اعتقاد المشركين فيها أن بها يكشف البلاء وينصر على الأعداء ويستنزل غيث السماء وتفرج الكروب وتقضى الحوائج وينصر المظلوم ويجار الخائف إلى غير ذلك. ومنها: الدخول في لعنة الله ورسوله باتخاذ المساجد عليها وإيقاد السرج عليها ومنها: الشرك الأكبر الذي يفعل عندها] ص 637-638. ويجب أن يعلم أنه ليس لكربلاء ولا للنجف ولا لقم أي قداسة في دين الإسلام وهذه المواطن من ديار الإسلام ليس لها أي ميزة على غيرها من المواطن الأخرى وما يعتقده الشيعة من قداسة هذه المواطن فاعتقاد باطل وما يروونه من أحاديث وآثار في هذا الباب فكله من الكذب الصريح كما في حديثهم المكذوب: قال جعفر ((إن أرض الكعبة قالت من مثلي وقد بني بيت الله على ظهري يأتيني الناس من كل فج عميق وجعلت حرم الله وأمنه. فأوحى الله إليها أن كفي وقري ما فضل ما فضلت به فيما أعطيت كربلاء إلا بمنزلة الإبرة غرست في البحر فحملت من ماء البحر ولولا تربة كربلاء ما فضلتك ولولا من تضمه أرض كربلاء ما خلقتك ولا خلقت البيت الذي به افتخرت فقري واستقري وكوني ذنباً متواضعاً ذليلاَ مهيناً غير مستنكف ولا مستكبر لأرض كربلاء وإلا سخت بك وهويت بك في نار جهنم)) كامل الزيارات ص 270 بحار الأنوار للمجلسي 101/ 109.
ومثل ذلك ما جاء في كتاب الكافي وهو من أهم مصادرهم: (إن المؤمن إذا أتى قبر الحسين يوم عرفة واغتسل من الفرات ثم توجه إليه كتب الله له بكل خطوة حجة بمناسكها) وهذا من أكذب الكذب.
رابعاً: أما ما يفعله الشيعة من اللطم وضرب القامات بالسيوف ونحوها فمنكر عظيم ومن أعظم المحرمات وقد سبق أن ذكرت الأدلة على تحريمه في حلقة سابقة ويضاف إلى ذلك أن بعض مراجعهم قد سمى ذلك تخلفاً لما فيه من إساءة لدين الإسلام أمام الناس حيث إن هذا العمل لا يقره شرع ولا عقل بل هو نوع من الجنون.(18/36)
37 - احاديث مكذوبة
يقول السائل: إنه قرأ في إحدى المجلات الإسلامية مقالاً ذكر الكاتب فيه أن اسم النبي صلى الله عليه وسلم مكتوب مع اسم الله تعالى على العرش وسائر الملكوت وذكر حديثاً عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وفيه: (لما اقترف آدم الخطيئة قال: يا رب أسألك بحق محمد لما غفرت لي فقال الله: يا آدم وكيف عرفت محمداً ولم أخلقه؟ قال: يا رب لما خلقتني بيدك ونفخت فيَّ من روحك ورفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوباً لا إله إلا الله محمد رسول الله فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك فقال الله: صدقت يا آدم إنه لأحب الخلق إليَّ ادعني بحقه فقد غفرت لك ولولا محمد ما خلقتك) فما قولكم في ذلك؟
الجواب: إن من أسباب انحراف بعض المسلمين في فهمهم لحقائق الإسلام الغلو. والغلو هو مجاوزة الحد الشرعي بالزيادة. وقد حارب الإسلام الغلو ومجاوزة الحد فقد قال تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا) سورة النساء الآية 171.
وقال تعالى: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) سورة التوبة الآيتان 30-31.
وصح في الحديث عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة العقبة وهو على ناقته: هات القط لي سبع حصيات. فلقطت له سبع حصيات من حصى الخذف فجعل ينضهن في كفه ويقول: أمثال هؤلاء فارموا ثم قال: أيها الناس إياكم والغلو في الدين فإنما أهلك الذين من قبلكم الغلو في الدين) رواه أحمد والنسائي وابن ماجة وهو حديث صحيح كما قال الألبان في السلسلة الصحيحة حديث رقم 1283.
وصح في الحديث عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا هلك المتنطعون ألا هلك المتنطعون ألا هلك المتنطعون) رواه مسلم.
وصح في الحديث عن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله) رواه البخاري.
إذا تقرر هذا فأقول إن ما ذكره الكاتب المشار إليه في السؤال من أن اسم النبي صلى الله عليه وسلم مكتوب مع اسم الله تعالى على العرش من الكذب الممجوج على دين الإسلام والحديث الذي احتج به الكاتب مكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم فهذا الحديث رواه الحاكم وغيره وانتقد الإمام الذهبي رواية الحاكم لهذا الحديث فقال: إنه حديث موضوع أي مكذوب. انظر المستدرك 3/517.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: [ورواية الحاكم لهذا الحديث مما أنكر عليه فإنه نفسه قد قال في كتابه " المدخل إلى معرفة الصحيح من السقيم ": عبد الرحمن بن زيد بن أسلم روى عن أبيه أحاديث موضوعة لا تخفى على من تأملها من أهل الصنعة أن الحمل فيها عليه. قلت: وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ضعيف باتفاقهم يغلط كثيراً ضعفه أحمد بن حنبل وأبو زرعة وأبو حاتم والنسائي والدارقطني وغيرهم. وقال أبو حاتم ابن حبان: كان يقلب الأخبار وهو لا يعلم حتى كثر ذلك من روايته من رفع المراسيل وإسناد الموقوف فاستحق الترك. وأما تصحيح الحاكم لمثل هذا الحديث وأمثاله فهو مما أنكره عليه أئمة العلم بالحديث وقالوا: إن الحاكم يصحح أحاديث وهي موضوعة مكذوبة عند أهل المعرفة في الحديث ولهذا كان أهل العلم بالحديث لا يعتمدون على مجرد تصحيح الحاكم وإن كان غالب ما يصححه فهو صحيح لكن هو في الصحيحين بمنزلة الثقة الذي يكثر غلطه وإن الصواب أغلب عليه وليس فيمن يصحح الحديث أضعف من تصحيحه] مظاهر الانحرافات العقدية عند الصوفية 1/407-408.
وقال شيخ الإسلام أيضاً: [ومثل هذا لا يجوز أن تبنى عليه الشريعة ولا أن يحتج به في الدين باتفاق المسلمين فإن هذا من جنس الإسرائيليات ونحوها التي لا يعلم صحتها إلا بنقل ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم وهذه لو نقلها مثل كعب الأحبار ووهب بن منبه وأمثالهما ممن ينقل أخبار المبتدأ وقصص المتقدمين عند أهل الكتاب لم يجز أن يحتج بها في دين المسلمين باتفاق المسلمين فكيف إذا نقلها من لا ينقلها لا عن أهل الكتاب ولا عن ثقات علماء المسلمين بل إنما ينقلها عمن هو عند المسلمين مجروح ضعيف لا يحتج بحديثه واضطرب عليه اضطراباً يعرف به أنه لم يحفظ ذلك ولا ينقل ذلك ولا ما يشبه أحد من ثقات علماء المسلمين الذين يعتمد على نقلهم وإنما هي من جنس ما ينقله إسحاق بن بشر وأمثاله في كتب المبتدأ وهذه لو كانت ثابتة عن الأنبياء لكانت شرعاً لهم وحينئذ فكان الاحتجاج بها مبنياً على أن شرع من قبلنا هل هو شرع لنا أم لا؟ والنزاع في ذلك مشهور لكن الذي عليه الأئمة وأكثر العلماء أنه شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه وهذا إنما هو فيما ثبت أنه شرع لمن قبلنا من نقل ثابت عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أو بما تواتر عنهم لا بما يروى على هذا الوجه فإن هذا لا يجوز أن يحتج به في شرع أحد من المسلمين] مظاهر الانحرافات العقدية 1/408-409.
وقال الشيخ محمد خليل هراس معلقاً على الحديث السابق: [هذا الحديث باطل والله لم يخلق آدم ولا غيره من أجل أحد وإنما خلق الكل لعبادته كما قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) سورة الذاريات الآية 56. كما لا يجوز أن يسأل الله بحق أحد من خلقه فلا حق لأحد على الله] المصدر السابق 1/410.
وقال الشيخ الألباني عن هذا الحديث إنه موضوع أي مكذوب وفصل الكلام عليه ثم قال: [وجملة القول أن هذا الحديث لا أصل له عنه صلى الله عليه وسلم فلا جرم أن حكم عليه بالبطلان الحافظان الجليلان الذهبي والعسقلاني كما تقدم النقل عنهما ومما يدل على بطلانه أن الحديث صريح في أن آدم عليه السلام عرف النبي صلى الله عليه وسلم عقب خلقه وكان ذلك في الجنة وقبل هبوطه إلى الأرض وقد جاء في حديث إسناده خير من هذا أنه لم يعرفه إلا بعد نزوله إلى الهند وسماعه في اسمه بالآذان] سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة 1/40-41.
والحديث الذي أشار إليه الألباني هو: (نزل آدم بالهند واستوحش فنزل جبريل فنادى بالأذان الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله مرتين وأشهد أن محمداً رسول الله مرتين قال آدم: من محمد؟ قال: آخر ولدك من الأنبياء صلى الله عليه وسلم) ثم حكم الألباني على هذا الحديث بأنه ضعيف ثم قال: [وهذا الحديث مع ضعفه أقوى من الحديث المتقدم بلفظ: (لما اقترف آدم الخطيئة يا رب أسألك بحق محمد لما غفرت لي فقال الله: يا آدم وكيف عرفت محمد ولم أخلقه؟ …) وهو صريح في أن آدم عليه السلام كان يعرف النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الجنة قبل هبوطه إلى الأرض ولذلك سأل جبريل: ومن محمد؟ فهذا من أدلة بطلان ذلك الحديث كما سبق بيانه عند تحقيق الكلام على وضعه فتذكر أو راجع إن شئت. وأنا لا أجيز لنفسي الاحتجاج بمثل هذا الحديث كما هو ظاهر ولكن التحقيق العلمي يسمح برد الحديث الواهي بالحديث الضعيف ما دام ضعفه أقل منه كما لا يخفى على من مارس هذا العلم الشريف] سلسلة الأحاديث الضعيفة 1/396-397.
ولعل من سيئات الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث أن صار الناس يكتبون في كثير من اللوحات (الله، محمد) وهذا لا يجوز شرعاً لأنه يوحي بأن الله جل جلاله ومحمداً صلى الله عليه وسلم في منزلة واحدة وقال النبي صلى الله عليه وسلم لرجل قال له: ما شاء الله وشئت قال: أجعلتني لله نداً بل ما شاء الله وحده) رواه البخاري في الأدب المفرد وهو حديث صحيح كما قال الألباني في السلسلة الصحيحة حديث رقم 139.
وقد أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية بأنه لا تجوز كتابة اسم الجلالة (الله) وكتابة (محمد) اسم الرسول صلى الله عليه وسلم محاذياً له في ورقة أو في لوحة أو على جدار لما يتضمنه هذا العمل من الغلو في حق الرسول صلى الله عليه وسلم ومساواته بالله وهذا وسيلة من وسائل الشرك وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله) والواجب منع تعليق هذه اللوحات أو الورقات وطمس الكتابات التي على الجدران التي على هذا الشكل حماية للعقيدة وعملاً بوصية الرسول صلى الله عليه وسلم] .
وخلاصة الأمر أن الحديث المذكور في السؤال مكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه لا يجوز الاحتجاج به.
فالواجب على المسلم أن لا يجعل اسم النبي صلى الله عليه وسلم مقروناً مع لفظ الجلالة في لوحة واحدة أو ورقة واحدة أو على حجر يوضع على البيت ويجب إزالة مثل هذه اللوحات والورقات ونحوها حماية للتوحيد والعقيدة الصحيحة.(18/37)
38 - معركة هرمجدون
يقول السائل: إ نه قرأ مقالاً في إحدى المجلات بعنوان هرمجدون وذكر الكاتب كلاماً عن هذه المعركة وأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر عنها في صحاح الآثار. فما قولكم في ذلك؟
الجواب: قرأت المقال المشار إليه وقد استغربت أن ينشر مثل هذا الهراء في مجلة إسلامية محترمة على أنه حقائق شرعية صحيحة وقد بدأ الكاتب مقاله بأسلوب مثير حيث قال: [ما أدراك ما هرمجدون؟ إنها الواقعة العظيمة والحرب المدمرة … إنها الحرب التحالفية القادمة التي ينتظرها جميع أهل الأرض اليوم. إنها الحرب الدينية السياسية إنها أعظم وأشرس حروب التاريخ إنها المعركة الحاسمة والتي يجري إعداد مسرحها الآن إنها الحرب النووية العالمية متعددة الأطراف إنها الحرب التي يعم قبلها السلام المشبوه فيقول الناس حل السلام وحل الأمن إنها بداية النهاية إنها الحرب التي سيخسر فيها اليهود ويكسرون] ثم ذكر الكاتب أقوال عدد من القساوسة والزعماء الغربيين عن المعركة ثم قال الكاتب تحت عنوان المسلمون وهرمجدون: [بدأ بعض الكتاب المسلمين يهتم بأمر هذه المعركة ويصدر المقالات الهامة على حين نجد أقواماً من المسلمين لا يدرون ما هرمجدون!! وما تعني هذه الكلمة في قواميس أهل الكتاب. إن رسولنا الأمين محمداً صلى الله عليه وسلم قد أخبرنا في صحاح الآثار عن هذه المنازلة الاستراتيجية الضخمة القريبة وإنها ستكون حرباً تحالفية عالمية: فقد روى الإمام أحمد في مسنده وأبو داود وابن ماجة وابن حبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ستصالحون الروم صلحاً آمناً فتغزون أنتم وهم عدواً من ورائهم فتسلمون وتغنمون ثم تنزلون بمرج ذي تلول فيقوم رجل من الروم فيرفع الصليب ويقول: غلب الصليب فيقوم إليه رجل من المسلمين فيقتله فيغدر الروم وتكون الملاحم فيجتمعون لكم ثمانين غاية (علم وراية) مع كل غاية اثنا عشر ألفاً) وكما هو واضح من نص الحديث أن ثمة حربين ستقعان: الأولى: وهي هرمجدون العالمية وهي التي يعرفها جميع أهل الكتاب ويتوقعونها. والثانية: الملحمة الكبرى والتي ستكون بعد حرب " هرمجدون " بين المسلمين من جهة وأوروبا وأمريكا من جهة أخرى نتيجة غدر الروم بنا. فحرب " هر مجدون " ستكون حرباً مدمرة نووية تفني معظم الأسلحة الاستراتيجية وعالمية يكون المسلمون والروم (أوروبا وأمريكا) طرفاً واحداً لا محالة فيقاتلون عدواً مشتركاً يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (عدواً من ورائهم) والطرف الآخر لن يكون إلا المعسكر الشرقي وسيكون النصر حليف معسكرنا تدور رحاها في أرض فلسطين حيث تلتقي جيوش جرارة تقضي على جميع الأسلحة النووية والاستراتيجية وتعود الكلمة إلى السيوف والرماح والخيل] إلى آخر ما جاء في المقال. وأقول جواباً على هذا الكلام: إن ظاهرة القصص والحكايات والخرافات لا زالت منتشرة ومصدقة عند المسلمين ومن المعروف أن القصاص مولعون بنشر الغرائب والخرافات ليجذبوا إليهم الناس ويستميلوهم ومن هؤلاء القصاص الجدد من يسعى إلى تحقيق أهداف مادية من وراء نشر كتب حافلة بالغرائب والعجائب مثل كتاب " هرمجدون آخر بيان يا أمة الإسلام " وكتاب " عمر أمة الإسلام " وغيرهما من الكتب. إن هؤلاء جميعاً يعتمدون على مصادر غير إسلامية في كتاباتهم بشكل أساسي ثم يطعمونها بمجموعة من أحاديث الفتن والملاحم ومعظم هذه الأحاديث مكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم أو ضعيف لا يصح الاستدلال به. إن مصادرنا الإسلامية ليس فيها ذكر لمعركة هرمجدون فيما أعلم. وإنما ورد ذكر هذه المعركة في المصادر النصرانية كما في رؤيا يوحنا اللاهوتي حيث ذكر معركة هرمجدون ونص الرؤيا: [ورأيت في فم التنين ومن فم الوحش ومن فم النبي الكذاب ثلاثة أرواح نجسة شبه ضفادع فإنهم أرواح شياطين صانعة آيات تخرج على ملوك العالم وكل المسكونة لتجمعهم لقتال ذلك اليوم العظيم يوم الله القادر على كل شيء ها أنا آتي كلص طوبى لمن يسهر ويحفظ ثيابه لئلا يمشي عرياناً فيروا عريته فجمعهم إلى الموضع الذي يدعى بالعبرانية هرمجدون] سفر الرؤيا 16/16 نقلاً عن كتاب تخريج الأحاديث والآثار الواردة في كتاب هرمجدون ص 8. وأما الحديث الذي ذكره صاحب المقالة فلا ذكر فيه لمعركة هرمجدون ولا أدري كيف يجزم صاحب المقالة [بأن رسولنا الأمين محمداً صلى الله عليه وسلم قد أخبرنا في صحاح الآثار عن هذه المنازلة الاستراتيجية الضخمة القريبة] ثم ذكر الحديث: (ستصالحون الروم …إلخ) ثم قال: وكما هو واضح من نص الحديث أن ثمة حربين ستقعان الأولى: وهي هر مجدون العالمية … وما زعمه الكاتب أنه واضح من نص الحديث فكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن الحديث ليس فيه شيء عن هرمجدون فكيف يكون واضحاً من نص الحديث؟ إن تنزيل النصوص الشرعية على وقائع حدثت أو ستحدث لمن المنزلقات الكبرى التي وقع فيها كثير من القصاص الجدد ومنهم صاحب كتاب هرمجدون حيث إنه ذكر عدداً من أحاديث الفتن والملاحم وزعم أنها تنطبق على هذه المعركة وقد قام زميلنا الدكتور موسى البسيط بتخريج الأحاديث والآثار الواردة في ذلك الكتاب ووصل إلى نتيجة مفادها: [أولاً: إن ما يزيد عن 85% من الأحاديث والآثار والروايات التي استدل بها المؤلف إنما هي ضعيفة أو ضعيفة جداً أو مكذوبة أو لا يجزم بصحتها. ثانياً: أورد المؤلف نصاً زعم أنه في مخطوط نادر يعود إلى القرن الثالث الهجري ونسبه إلى كتاب والنص ليس له سند ولم يورد لنا ما يوثق المخطوط وقد نسب النص إلى الصحابة أبي هريرة وابن عباس وعلي رضي الله عنهم زوراً وبهتاناً زاعماً أن مثل هذا أخفاه أبو هريرة في الجراب الذي لم يبثه. ثالثاً: ما أورده المؤلف من الأحاديث الصحيحة لها معان محتملة لا يقطع بإنزالها على الواقع وأحداثه. رابعاً: أكثر الروايات منبعها كتاب الفتن " لنعيم بن حماد " ونعيم على الرغم من إمامته في السنة وتوثيق بعض العلماء له إلا أنهم عابوا عليه كثرة مناكيره وما تفرد به من روايات كثيرة في الفتن حتى إن من العلماء من أطلق الضعف فيه. خامساً: وروايات نعيم التي ساقها المؤلف غالباً ما تنتهي إلى كعب الأحبار وكعب وإن كان ثقة إلا أنه أكثر من الرواية عن أهل الكتاب حتى اتهم بالكذب بمعنى أنه يخبر بأحداث ووقائع أنها ستقع فلا تقع. وقال ابن الجوزي: إن بعض الذي يخبر به كعب عن أهل الكتاب يكون كذباً لا أنه يتعمد الكذب. سادساً: ومع الضعف الشديد في الروايات ومع أنها في كثير من الأحيان هي في أساسها ومنبعها إسرائيليات لا يوثق بها بتاتاً أو هي أقوال رجال من التابعين. إلا أن المؤلف أطلق لخياله العنان في تنزيل الروايات ولو ذهب به الأمر إلى تحريف الألفاظ على الواقع وهذا ضرب من التزوير كما في رواية: (رجل أخنس بمصر " انظر رقم 1، 2، ورواية " الأعرج الكندي " رقم 13. سابعاً: لا ينبغي أن نتبع أهل الكتاب في حمى تحديد نهاية للعالم والمصادر التي يستندون إليها مصادر ليس لنا ثقة في كلمة منها فكيف نبني عليها عقيدة! ومعلوم أن المنهج الإسلامي في الضبط والنقد والتوثيق منهج متميز والله تعالى ينهى عن اتباع الظن والرجم بالغيب فيقول الله تعالى: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) سورة الإسراء الآية 36.] تخريج الأحاديث والآثار الواردة في كتاب هر مجدون ص76-77. ومن أعظم الكذب والدجل الذي ساقه صاحب كتاب هر مجدون نقلاً عن كتاب مخطوط زعم أنه موجود بإحدى المكتبات في تركيا وجاء فيه ما يلي: [حرب آخر الزمان حرب كونية المرة الثالثة بعد اثنين كبريين يموت فيهما خلائق كثيرة الأولى أشعلها رجل كنيته السيد الكبير وتنادي الدنيا باسم هتللر … ثم قال: وهذا مما رواه أبو هريرة وابن عباس وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه وفي رواية خاف أن يحدث بها أبو هريرة ولما أحس الموت خاف أن يكتم علماً فقال لمن حوله: (في نبأ علمته عما هو كائن في حروب آخر الزمن فقالوا: أخبرنا ولا بأس جزاك الله خيراً فقال: في عقود الهجرة بعد ألف وثلاثمائة واعقدوا عقوداً يرى ملك الروم أن حرب الدنيا كلها يجب أن تكون فأراد الله له حرباً ولم يذهب طويل زمن عقد وعقد فسلط رجل من بلاد اسمها جرمن له اسم الهر أراد أن يملك الدنيا ويحارب الكل في بلاد ثلج وخير فأمسى في غضب الله بعد سنوات نار أراده قتيلاً سر الروش أو الروس. وفي عقود الهجرة بعد الألف وثلاثمائة عد خمساً أو ستاً يحكم مصر رجل يكنى ناصر يدعوه العرب شجاع العرب وأذله الله في حرب وحرب وما كان منصوراً ويريد الله لمصر نصراً له حقاً في أحب شهوره وهو له فأرضى مصر رب البيت والعرب بأسمر سادا أبوه أنور منه لكنه صالح لصوص المسجد الأقصى بالبلد الحزين وفي عراق الشأم رجل متجبر … و… سفياني في إحدى عينيه كسل قليل واسمه من الصدام وهو صدام لمن عارضه الدنيا جمعت له في كوت صغير دخلها وهو مدهون ولا خير في السفياني إلا بالإسلام وهو خير وشر والويل لخائن المهدي الأمين. وفي عقود الهجرة الألف وأربعمائة واعقد اثنين أو ثلاثاً … يخرج المهدي الأمين ويحارب كل الكون يجمعون له الضالون والمغضوب عليهم والذين مردوا على النفاق في بلاد الإسراء والمعراج عند جبل مجدون وتخرج له ملكة الدنيا والمكر زانية اسمها أمريكا. … إلخ هذا الدجل والهراء) ولنا أن نسأل بعد التأمل في هذا النص كيف يستخف بالعقول بمثل هذا المخطوط المزعوم؟ فأين هذا المخطوط؟ وما رقمه؟ وأين هي صورته؟ وما إسناده؟ ومن الذي كتبه وألفه؟ ولماذا ظهرت القطعة في هذه الأيام تحديداً ثم لماذا توقفت في رؤساء مصر عند عهد السادات ولم تأت بشيء بعده؟ إنها مخطوطة سحرية عجيبة حفلت بتفاصيل لا بل قل أكاذيب منسوبة إلى الصحابة ونراها تحدد اسم الرئيس واسم والده وتبين صفة عينه ولون بشرته …إن علامات الوضع والكذب الصريح على الرسول صلى الله عليه وسلم واضحة في هذه الورقة التي لا يصدق نسبها إلى رسول الله إلا رجل أبله مختل العقل لا يفقه عن الأحاديث وضوابط رواياتها شيئاً. ثم إن مقتضى أن يروى هذا النص عن الصحابة الثلاثة أن تشتهر هذه الرواية فكل صحابي من هؤلاء مفترض أن يسمع منه هذا النص اثنان من التابعين على الأقل ثم في الطبقة الثالثة يذيع ويشيع ويتواتر حتى نجده في كل كتب الحديث فأين هذا الذيوع وهذه الشهرة؟؟؟] تخريج الأحاديث والآثار الواردة ص24-26. وخلاصة الأمر أنه لا يشك كل من شمَّ رائحة العلم، أن هذا الكتاب المدَّعى كذب وإفك، جازى الله واضعه أسوأ الجزاء، وجلله بالفضيحة والخزي في الدنيا والآخرة إن أدلة وضع تلك النقول على رسولنا صلى الله عليه وسلم أكثر من أن تحصى: منها انفراد ذلك الكاتب المجهول بها، وانفراد ذلك المخطوط المزعوم بها، وانفراد مؤلفه المجهول بها مع كثرة ما كتبه أئمة الإسلام في جميع عصوره عن المهدي وعلامات الساعة، وجمعهم ما صح في ذلك وما ضعف وما بطل، وليس فيها تلك النقول، ثم أين إسناد ذلك المؤلف المزعوم أنه من علماء القرن الثالث؟ حتى ننظر في إسناد خبره ذاك، وهذه هي فضيلة الإسناد! إذ (لولا الإسناد لقال من شاء ما شاء) ، كما كان يقول عبد الله بن المبارك وغيره من أئمة الإسلام، ثم من يخفى عليه ما تضمنته تلك النقول من الركاكة والسماجة في الألفاظ والأسلوب، التي هي أبعد ما تكون عن بيان وجلالة الأحاديث النبوية، مما لا يخفى كذبه على عاقل، فضلاً عن عالم!!. إن اعتماد مؤلف كتاب (هرمجدون) على مثل هذه النقول، يدل على أحد أمرين: إما على جهل بالغ بالسنة، لا يجوز معه أن يتفوه فيها إلا بما صححه الأئمة المعتبرون، أو أنه ضم مع الجهل السابق غرضاً دنيوياً فاسداً، أراد من ورائه الشهرة والمال، أو إفساد دين الأمة وتصوراتها. راجع موقع الإسلام اليوم على شبكة الإنترنت.(18/38)
39 - استعمال أسماء الله الحسنى للتداوي
يقول السائل: وزعت ورقة في بعض المساجد عنوانها كيف تعالج نفسك بطاقة الشفاء الموجودة في أسماء الله الحسنى وسألني عن صحة ما ورد فيها وهذا نصها [اكتشف الدكتور إبراهيم كريم مبتكر علم البايوجيومتري أن أسماء الله الحسنى لها طاقة شفائية لعدد ضخم من الأمراض وبواسطة أساليب القياس الدقيقة المختلفة في قياس الطاقة داخل جسم الإنسان، واكتشف أن لكل اسم من أسماء الله الحسنى طاقة تحفز جهاز المناعة للعمل بكفاءة مثلى في عضو معين بجسم الإنسان، واستطاع الدكتور إبراهيم بواسطة تطبيق قانون الرنين أن يكتشف أن مجرد ذكر اسم من أسماء الله الحسنى يؤدي إلى تحسين في مسارات الطاقة الحيوية داخل جسم الإنسان وبعد أبحاث استمرت ثلاث سنوات توصل الدكتور إبراهيم إلى ما يلي: اسم الله اسم المرض اسم الله اسم المرض النافع الرؤوف جل جلاله النور العظام الركبة قشر الشعر القلب السميع الجبار البديع القوي الأذن العمود الفقري الشعر العضلات الوهاب المغني الغني الجبار أوردة القلب الأعصاب الصداع النصفي الغدة الدرقية الرزاق الجبار جل جلاله اللطيف والغني والرحيم عضلة القلب الشريان السرطان الجيوب الأنفية النور والبصير والوهاب الرزاق الحي الصبور العين المعدة الكلى الأمعاء الرافع المتعال الرؤوف النافع الفخذ الشرايين بالعين القولون الكبد البارئ الخالق المهيمن القوي البنكرياس الرحم الروماتيزم الغدة التيموسية الرشيد النافع الهادي الهادي البروستاتة أكياس دهنية المثانة الغدة الصنوبرية الظاهر الخافض عصب العين ضغط الدم البارئ الرزاق الغدة فوق الكلوية الرئة ويشير الدكتور إلى أنه أول شخص تجري عليه الأبحاث حيث عالج عينيه من الالتهاب وانتهى بنطق التسبيح باسم النور والوهاب والخبير وخلال عشر دقائق تم الشفاء وزال احمرار العين ويلاحظ أن نفس أسماء الجلالة تستخدم للوقاية أيضاً وقد اكتشف أن طاقة الشفاء تتضاعف عند تلاوة آيات الشفاء بعد ذكر التسبيح بأسماء الله الحسنى وهذه الآيات هي: (وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) .. (وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ) .. (فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ) .. (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ) .. (وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) .. (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَءَامَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ) . طريقة العاج: وضع اليد على مكان الألم وذكر التسبيح إلى ما شاء الله … ويكرر ذلك حتى بإذن الله يزول الألم] .
الجواب: يقول الله تعالى: (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) سورة الأعراف الآية 180. قال القرطبي: [قوله تعالى: (فادعوه بها) أي اطلبوا منه بأسمائه فيطلب بكل اسم ما يليق به يا رحيم ارحمني يا حكيم احكم لي يا رزاق ارزقني يا هادي اهدني يا فتاح افتح لي يا تواب تب علي هكذا. فإن دعوت باسم عام قلت: يا مالك ارحمني يا عزيز احكم لي يا لطيف ارزقني وإن دعوت بالأعم الأعظم فقلت يا الله فهو متضمن لكل اسم ولا تقول يا رزاق اهدني إلا أن تريد يا رزاق ارزقني الخير قال ابن العربي: وهكذا رتب دعاءك تكن من المخلصين] تفسير القرطبي 7/327. وقد صح في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن لله تسعة وتسعين اسماً مئة إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة) رواه البخاري ومسلم. وفي رواية: (من حفظها دخل الجنة) رواه البخاري ومسلم. قال الإمام النووي: [وأما قوله صلى الله عليه وسلم (من أحصاها دخل الجنة) فاختلفوا في المراد بإحصائها فقال البخاري وغيره من المحققين: معناه حفظها وهذا هو الأظهر لأنه جاء مفسراً في الرواية الأخرى (من حفظها) وقيل: أحصاها عدها في الدعاء بها وقيل: أطاقها أي أحسن المراعاة لها والمحافظة على ما تقتضيه وصدق بمعانيها وقيل: معناه العمل بها والطاعة بكل اسمها والإيمان بها لا يقتضي عملاً وقال بعضهم: المراد القرآن وتلاوته كله لأنه مستوف لها وهو ضعيف والصحيح الأول] شرح النووي على صحيح مسلم 6/177-178. وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [قال الأصيلي الإحصاء للأسماء العمل بها لا عدها وحفظها لأن ذلك قد يقع للكافر والمنافق كما في حديث الخوارج يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم وقال ابن بطال الإحصاء يقع بالقول ويقع بالعمل فالذي بالعمل أن لله أسماء يختص بها كالأحد والمتعال والقدير ونحوها، فيجب الإقرار بها والخضوع عندها وله أسماء يستحب الاقتداء بها في معانيها: كالرحيم والكريم والعفو ونحوها، فيستحب للعبد أن يتحلى بمعانيها ليؤدي حق العمل بها فبهذا يحصل الإحصاء العملي وأما الإحصاء القولي فيحصل بجمعها وحفظها والسؤال بها ولو شارك المؤمن غيره في العد والحفظ فإن المؤمن يمتاز عنه بالإيمان والعمل بها] فتح الباري 13/462. وقال العلامة محمد بن صالح العثيمين: [وليس معنى أحصاها أن تكتب في رقاع ثم تكرر حتى تحفظ ولكن معنى ذلك: أولاً: الإحاطة بها لفظاً. ثانياً: فهمها معنى. ثالثاً: التعبد لله بمقتضاها ولذلك وجهان: الوجه الأول: أن تدعو الله بها لقوله تعالى: (فادعوه بها) بأن تجعلها وسيلة إلى مطلوبك فتختار الاسم المناسب لمطلوبك فعند سؤال المغفرة تقول يا غفور اغفر لي وليس من المناسب أن تقول: يا شديد العقاب اغفر لي بل هذا يشبه الاستهزاء بل تقول: أجرني من عقابك. الوجه الثاني: أن تتعرض في عبادتك لما تقتضيه هذه الأسماء فمقتضى الرحيم الرحمة فاعمل العمل الصالح الذي يكون جالباً لرحمة الله هذا هو معنى أحصاها فإذا كان كذلك فهو جدير لأن يكون ثمناً لدخول الجنة] فتاوى العقيدة ص55-56. وينبغي أن يعلم أن قول النبي صلى الله عليه وسلم (إن لله تسعة وتسعين اسماً) لا يدل على أن أسماء الله الحسنى محصورة في تسعة وتسعين اسم بل هي أكثر ولا يعلم عددها إلا الله سبحانه وتعالى. قال الإمام النووي: [واتفق العلماء على أن هذا الحديث ليس فيه حصر لأسمائه سبحانه وتعالى فليس معناه أنه ليس له أسماء غير هذه التسعة وتسعين وإنما مقصود الحديث أن هذه التسعة وتسعين من أحصاها دخل الجنة فالمراد الإخبار عن دخول الجنة بإحصائها لا الإخبار بحصر الأسماء ولهذا جاء في الحديث الآخر: (أسألك بكل اسم سميت به نفسك أو استأثرت به في علم الغيب عندك) وقد ذكر الحافظ أبو بكر ابن العربي المالكي عن بعضهم أنه قال: لله تعالى ألف اسم. قال ابن العربي: وهذا قليل فيها والله أعلم] شرح النووي على صحيح مسلم 6/177. إذا تقرر هذا فأعود إلى الجواب عما ورد في الورقة المذكورة أعلاه فأقول: إن ما ورد من مزاعم بأن لكل اسم من أسماء الله الحسنى طاقة لشفاء الأمراض إنما هو من باب الكذب والدجل وليس لهذا الكلام أي أساس شرعي ولا أدري كيف عين هذا الدكتور لكل اسم من أسماء الله الحسنى الشفاء من مرض معين ولا أدري ما هي العلاقة التي تربط اسم الله الهادي مع المثانة وما العلاقة التي تربط بين اسم الله الباري وبين البنكرياس وما العلاقة بين اسم الله الجبار وبين الغدة الدرقية إلى آخر الترهات التي ذكرت في الورقة. ويضاف إلى ذلك أن الذكر الشرعي لم يرد فيه الذكر بالأسماء المفردة كأن يقول الشخص الله الله الله رحيم رحيم رحيم رزاق رزاق رزاق. وإنما الإنسان يدعو بجملة مفيدة كأن يقول يا رب اغفر لي، يا الله اهدني يا رحيم ارحمني وهكذا. وقد أصدرت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء السعودية فتوى في إبطال الورقة المذكورة جاء فيها: [وهذا العمل باطل لأنه من الإلحاد في أسماء الله وفيه امتهان لها. لأن المشروع في أسماء الله دعاؤه بها كما قال الله تعالى: (فادعوه بها) وكذلك إثبات ما تتضمنه من الصفات العظيمة لله لأن كل اسم منها يتضمن صفة لله جل جلاله لا يجوز أن تستعمل في شيء من الأشياء غير الدعاء بها إلا بدليل من الشرع. ومن يزعم بأنها تفيد كذا وكذا أو تعالج كذا وكذا بدو دليل من الشرع فإنه قول على الله بلا علم وقد قال تعالى: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) سورة الأعراف الآية 33. فالواجب إتلاف هذه الورقة والواجب على المذكورين وغيرهم التوبة إلى الله من هذا العمل وعدم العودة إلى شيء منه مما يتعلق بالعقيدة والأحكام الشرعية. وبالله التوفيق) . وخلاصة الأمر أن الشرع الإسلامي قد بين طرق العلاج من الأمراض وذلك بمراجعة أهل الاختصاص من الأطباء كما أن الرقية بالقرآن الكريم والأذكار والدعوات النبوية مشروعة بضوابطها الشرعية ولا ينبغي تصديق كل ناعق في هذا المجال.(18/39)
40 - معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يرد القضاء إلا
يقول السائل: ما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يرد القضاء إلا الدعاء) ؟
الجواب: ينبغي أن يعلم أولاً أن سؤال الله تعالى ودعائه من الأمور المرغب فيها شرعاً قال الإمام النووي: [اعلم أن المذهب المختار الذي عليه الفقهاء والمحدثون وجماهير العلماء من الطوائف كلها من السلف والخلف أن الدعاء مستحب، قال الله تعالى: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) سورة غافر الآية 60. وقال تعالى: (ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً) سورة الأعراف الآية 55. الأذكار ص340. وجاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس شيء أكرم على الله تعالى من الدعاء) رواه الترمذي وابن ماجة وهو حديث حسن كما قال الشيخ الألباني في صحيح سنن الترمذي 3/138. وعنه أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سرّه أن يستجيب الله تعالى له عند الشدائد والكرب فليكثر الدعاء في الرخاء) رواه الترمذي وقال الشيخ الألباني حديث حسن انظر صحيح سنن الترمذي 3/140. وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الدعاء هو العبادة) ثم قرأ: (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين) سورة غافر الآية 60. رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وقال الترمذي: حديث حسن صحيح وصححه الألباني في المصدر السابق. وعن جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من أحد يدعو بدعاء إلا آتاه الله ما سأل أو كف عنه من سوء مثله ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم) رواه الترمذي وحسنه الشيخ الألباني المصدر السابق 3/140. وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه (ما على الأرض من مسلم يدعو الله تعالى بدعوة إلا آتاه الله إياها أو صرف عنه من السوء مثلها ما لم يدع بمأثم أو بقطيعة رحم. فقال رجل من القوم إذاً نكثر؟ قال: الله أكثر) رواه الترمذي وقال حسن صحيح وكذا قال الألباني في المصدر السابق 1/181. إذا تقرر هذا فنعود للحديث النبوي محل السؤال فأقول هذا الحديث ورد بلفظ آخر وهو: (لا يرد القدر إلا الدعاء ولا يزيد في العمر إلا البر) رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي ورواه الترمذي بلفظ: (لا يرد القضاء إلا الدعاء) وهو حديث حسن كما قال الألباني في صحيح سنن الترمذي 2/225. وقد قرر العلماء: [أن الدعاء سبب في حصول الخير وأن هناك أشياء مقدرة ومربوطة بأسباب فإذا تحقق السبب وقع المقدر وإذا لم يتحقق السبب لم يقع، فإذا دعا المسلم ربه حصل له الخير وإذا لم يدع وقع به الشر كما جعل الله صلة الرحم سبباً لطول العمر وقطيعة الرحم سبباً لضده] المنتقى من فتاوى الفوزان 2/103. وقال العلامة ابن القيم: [والدعاء من أنفع الأدوية وهو عدو البلاء يدافعه ويعالجه ويمنع نزوله ويرفعه أو يخففه إذا نزل وهو سلاح المؤمن كما روى الحاكم في صحيحه من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الدعاء سلاح المؤمن وعماد الدين ونور السموات والأرض وله مع البلاء ثلاث مقامات: أحدها أن يكون أقوى من البلاء فيدفعه، الثاني أن يكون أضعف من البلاء فيقوى عليه البلاء فيصاب به العبد ولكن قد يخففه وإن كان ضعيفاً الثالث أن يتقاوما ويمنع كل واحد منهما صاحبه وقد روى الحاكم في صحيحه من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يغني حذر من قدر والدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل وإن البلاء لينزل فيلقاه الدعاء فيعتلجان إلى يوم القيامة) وفيه أيضاً من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل فعليكم عباد الله بالدعاء. وفيه أيضاً من حديث ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يرد القدر إلا الدعاء ولا يزيد في العمر إلا البر وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه) ] . الجواب الكافي ص4. وقال العلامة ابن القيم أيضاً: [وها هنا سؤال مشهور وهو أن المدعو به إن كان قد قدر لم يكن بد من وقوعه دعا به العبد أو لم يدع وإن لم يكن قد قدر لم يقع سواء سأله العبد أو لم يسأله فظنت طائفة صحة هذا السؤال فتركت الدعاء وقالت لا فائدة فيه وهؤلاء مع فرط جهلهم وضلالهم متناقضون فإن اطرد مذهبهم لوجب تعطيل جميع الأسباب فيقال لأحدهم إن كان الشبع والري قد قدرا لك فلا بد من وقوعهما أكلت او لم تأكل وإن لم يقدرا لم يقعا أكلت أو لم تأكل وإن كان الولد قدر لك فلا بد منه وطأت الزوجة والأمة أو لم تطأهما وإن لم يقدر لم يكن فلا حاجة إلى التزويج والتسري وهلم جرا فهل يقال هذا عاقل أو آدمي بل الحيوان البهيم مفطور على مباشرة الأسباب التي بها قوامه وحياته فالحيوانات أعقل وأفهم من هؤلاء الذين هم كالأنعام بل هم أضل سبيلاً وتكايس بعضهم وقال الاشتغال بالدعاء من باب التعبد المحض يثيب الله عليه الداعي من غير أن يكون له تأثير في المطلوب بوجه ما ولا فرق عند هذا الكيس بين الدعاء والإمساك عنه بالقلب واللسان في التأثير في حصول المطلوب وارتباط الدعاء عندهم به كارتباط السكوت ولا فرق وقالت طائفة أخرى أكيس من هؤلاء بل الدعاء علامة مجردة نصبها الله سبحانه أمارة على قضاء الحاجة فمتى وفق العبد للدعاء كان ذلك علامة له وأمارة على أن حاجته قد قضيت وهذا كما إذا رأيت غيماً أسوداً بارداً في زمن الشتاء فإن ذلك دليل وعلامة على أنه يمطر قالوا وهكذا حكم الطاعات مع الثواب والكفر والمعاصي مع العقاب هي أمارات محضة لوقوع الثواب والعقاب لأنها أسباب له وهكذا عندهم الكسر مع الإنكسار والحرق مع الإحراق والإزهاق مع القتل ليس شيء من ذلك سبباً ألبتة ولا إرتباط بينه وبين ما يترتب عليه إلا بمجرد الإقتران العادي لا التأثير السببي وخالفوا بذلك الحس والعقل والشرع والفطرة وسائر طوائف العقلاء بل أضحكوا عليهم العقلاء. والصواب أن ههنا قسماً ثالثاً غير ما ذكره السائل وهو أن هذا المقدور قدر بأسباب ومن أسبابه الدعاء فلم يقدر مجرداً عن سببه ولكن قدر بسببه فمتى أتى العبد بالسبب وقع المقدور ومتى لم يأت بالسبب انتقى المقدور وهذا كما قدر الشبع والري بالأكل والشرب … وكذلك قدر دخول الجنة بالأعمال ودخول النار بالأعمال وهذا القسم هو الحق … وحينئذٍ فالدعاء من أقوى الأسباب فإذا قدر وقوع المدعو به بالدعاء لم يصح أن يقال لا فائدة في الدعاء كما لا يقال لا فائدة في الأكل والشرب وجميع الحركات والأعمال وليس شيء من الأسباب أنفع من الدعاء ولا أبلغ في حصول المطلوب ولما كان الصحابة رضي الله عنهم أعلم الأمة بالله ورسوله وأفقههم في دينه كانوا أقوم بهذا السبب وشروطه وآدابه من غيرهم وكان عمر رضي الله عنه يستنصر به على عدوه وكان أعظم جنده وكان يقول للصحابة لستم تنصرون بكثرة وإنما تنصرون من السماء وكان يقول إني لا أحمل هم الإجابة ولكن هم الدعاء فإذا ألهمت الدعاء فإن الإجابة معه] الجواب الكافي ص 8-9. وقال أبو حامد الغزالي: [فإن قلت فما فائدة الدعاء والقضاء لا مرد له فاعلم أن من القضاء رد البلاء بالدعاء فالدعاء سبب لرد البلاء واستجلاب الرحمة كما أن الترس سبب لرد السهم والماء سبب لخروج النبات من الأرض فكما أن الترس يدفع السهم فيتدافعان فكذلك الدعاء والبلاء يتعالجان وليس من شرط الاعتراف بقضاء الله تعالى أن لا يحمل السلاح وقد قال تعالى - خذوا حذركم - وأن لا يسقي الارض بعد بث البذر فيقال إن سبق القضاء بالنبات نبت البذر وإن لم يسبق لم ينبت بل ربط الأسباب بالمسببات هو القضاء الأول الذي هو كملح البصر أو هو أقرب وترتيب تفصيل المسببات على تفاصيل الأسباب على التدريج والتقدير هو القدر والذي قدر الخير قدره بسبب والذي قدر الشر قدر لدفعه سبباً فلا تناقص بين هذه الأمور عند من انفتحت بصيرته ثم في الدعاء من الفائدة ما ذكرناه في الذكر فإنه يستدعي حضور القلب مع الله وهو منتهى العبادات ولذلك قال ?: (الدعاء مخ العبادة) والغالب على الخلق أنه لا تنصرف قلوبهم إلى ذكر الله عز وجل إلا عند إلمام حاجة وإرهاق ملمة فإن الإنسان إذا مسه الشر فذو دعاء عريض فالحاجة تحوج إلى الدعاء والدعاء يرد القلب إلى الله عز وجل بالتضرع والاستكانة فيحصل به الذكر الذي هو أشرف العبادات ولذلك صار البلاء موكلاً بالأنبياء عليهم السلام ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل لأنه يرد القلب بالإفتقار والتضرع إلى الله عز وجل ويمنع من نسيانه وأما الغنى فسبب للبطر في غالب الأمور فإن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى] إحياء علوم الدين 1/333.(18/40)
41 - قاعدة العمل بالحديث الضعيف
يقول السائل: أرجو توضيح قاعدة العمل بالحديث الضعيف إذا تعددت طرقه؟
الجواب: ينبغي أن يعلم أولاً أن الله سبحانه وتعالى قد حفظ لهذه الأمة كتابها - القرآن الكريم - حيث قال جل جلاله: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) سورة الحجر الآية 9. كما أن السنة النبوية قد حفظت حفظاً إجمالياً فقد هيأ الله جل جلاله العلماء الأعلام لحفظ السنة النبوية من التحريف والتزوير والتغيير والتبديل فوضعوا لنا علم الحديث وما تفرع عنه من علوم لخدمة السنة النبوية والدفاع عنها وتنقيتها مما دخلها وليس منها كالإسرائيليات والأحاديث الموضوعة المكذوبة. فعلم الحديث هو علم بقوانين يعرف بها أحوال السند والمتن كما عرفه الشيخ عز الدين بن جماعه كما في تدريب الراوي 1/41. بهذه القواعد الحاكمة لدراسة السند والمتن وبجهود علماء أهل الحديث العظيمة جزاهم الله خير الجزاء حفظت السنة النبوية. قال الشيخ جمال الدين القاسمي: [من أين للبليغ أن يحصي أيادي المحدثين وهم الذين عشقوا الهدي النبوي دون العالمين فتتبعوه ممن بدا وحضر وكابدوا لأخذه أهوال السفر! فكم جابوا صحارى تتلظى تلظي الرمضاء وقطعوا عن العمران فيافي تستدعي اليأس وتروع الأحشاء! فحفظوا ووعوا ولعهد النفر للتفقه في الدين رعوا ودافعوا عن الدين صنع الوضاعين وانتحال المفترين وذبّوا الكذب عن كلام الرسول الصادق بما مهدوه من تحري كل راوٍ موافق فدونوا ما سمعوه بالسند فراراً عن الرمي باتباع الأهواء وتحكيم الآراء فاستبرؤا لدينهم بجليل هذا الاحتياط ودربوا الأمة على التثبت في توثيق عرى الارتباط! رحماك اللهم! فالاعتراف بمآثرهم الحسنة أمر واجب وشكر فضلهم لا يقصر عنه إلا من هو عن الاتباع ناكب. أفليست دواوينهم بعد القرآن دعائم الإسلام التي قامت عليها صروحه وأعضاد الدين التي بان منها صريحه؟ لا جرم لولا أخذهم بناصية ما دونوه من صحيح السنة لانثالت على الناس جراثيم الأباطيل المستكنة التي رزئ بها الدين في عصر الوضاعين المنافقين الذين دخلوا في دين الله للتشويش فرد الله كيدهم بتنقيب المحدثين عن خرافاتهم ودأبهم في التفتيش حتى أشرقت شموس صحاح الأخبار وأنبعثت أشعتها في الأقطار وتمزقت عن البصائر حجب الجهالة وأغشية الضلالة فرحم الله تلك الأنفس التي نهضت لتأييد الدين ورضي عمن أحيا آثارهم من اللاحقين آمين] . قواعد التحدث ص59. وقد بين أهل الحديث أن الحديث ينقسم إلى صحيح وحسن وضعيف. فالحديث الصحيح هو الحديث المسند الذي يتصل إسناده بنقل العدل الضابط عن العدل الضابط إلى منتهاه ولا يكون شاذاً ولا معللاً. وأما الحديث الحسن فهو الحديث الذي اتصل سنده بنقل عدل خف ضبطه غير شاذ ولا معلل. وأما الحديث الضعيف فهو ما لم يجتمع فيه صفات الصحيح ولا صفات الحسن. انظر الباعث الحثيث ص 44، 37، 21. وقد اتفق المحدثون على الإحتجاج بالحديث الصحيح والحسن وأما الحديث الضعيف فقد اختلف العلماء في حكمه على مذاهب. [الأول: لا يعمل به مطلقاً لا في الأحكام ولا في الفضائل حكاه ابن سيد الناس في (عيون الأثر) عن يحيى بن معين ونسبه في (فتح المغيث) لأبي بكر بن العربي. والظاهر أن مذهب البخاري ومسلم ذلك أيضاً يدل عليه شرط البخاري في صحيحه وتشنيع الإمام مسلم على رواة الضعيف كما أسلفناه وعدم إخراجهما في صحيحهما شيئاً منه وهذا مذهب ابن حزم رحمه الله أيضاً حيث قال في الملل والنِحل: [ما نقله أهل المشرق والمغرب، أو كافة عن كافة، أو ثقة عن ثقة، حتى يبلغ إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن في الطريق رجلاً مجروحاً بكذب أو غفلة أو مجهول الحال فهذا يقول به بعض المسلمين ولا يحل عندنا القول به ولا تصديقه ولا الأخذ بشيء منه] . الثاني: أنه يعمل به مطلقاً قال السيوطي: [وعزي ذلك إلى أبي داود وأحمد لأنهما يريان ذلك أقوى من رأي الرجال] . الثالث: يعمل به في الفضائل بشروطه الآتية وهذا هو المعتمد عند الأئمة. قال ابن عبد البر: [أحاديث الفضائل لا يحتاج فيها إلى من يحتج به] . وقال الحاكم: [سمعت أبا زكريا العنبري يقول: [الخبر إذا ورد لم يحرم حلالاً ولم يحل حراماً ولم يوجب حكماً وكان في ترغيب أو ترهيب أغمض عنه وتسوهل في رواته] . ولفظ ابن مهدي فيما أخرجه البيهقي في (المدخل) : [إذا روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحلال والحرام والأحكام شددنا في الأسانيد وانتقدنا في الرجال وإذا روينا في الفضائل والثواب والعقاب سهلنا في الأسانيد وتسامحنا في الرجال] . ولفظ أحمد في رواية الميموني عنه: [الأحاديث الرقائق يحتمل أن يتساهل فيها حتى يجيء شيء فيه حكم] . وقال في رواية عباس الدوري عنه: [ابن اسحق رجل تكتب عنه هذه الأحاديث]- يعني المغازي ونحوها - وإذا جاء الحلال والحرام أردنا قوماً هكذا - وقبض أصابع يده الأربع -] قواعد التحديث ص116-117. إذا تقرر هذا فإن أرجح أقوال أهل العلم في هذه المسألة هو العمل بالحديث الضعيف فيما عدا الأحكام الشرعية أي يعمل به في فضائل الأعمال بالشروط الآتية: الأول: متفق عليه وهو أن يكون الضعف غير شديد فيخرج من انفرد من الكذابين والمتهمين ومن فحش غلطه. والثاني: أن يكون مندرجاً تحت أصل عام فيخرج ما يخترع بحيث لا يكون له أصل أصلاً. والثالث: أن لا يعتقد عند العمل به ثبوته لئلا ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يقله. الأجوبة الفاضلة ص43-44. وأما قاعدة تقوية الحديث الضعيف بكثرة الطرق وهي محل السؤال فإن المحققين من أهل الحديث يرون أن هذه القاعدة ليست على إطلاقها وإنما هي مقيدة ببعض القيود. قال الإمام النووي: [إذا روي الحديث من وجوه ضعيفة لا يلزم أن يحصل من مجموعها حسن بل ما كان ضعفه لضعف حفظ راويه الصدوق الأمين زال بمجيئه من وجه آخر وصار حسناً وكذا إذا كان ضعفها لإرسال زال بمجيئه من وجه آخر وأما الضعف لفسق الراوي فلا يؤثر فيه موافقة غيره] التقريب مع شرحه تدريب الراوي 1/176-177. ونقل السيوطي عن الحافظ ابن حجر: [وأما الضعيف لفسق الراوي أو كذبه فلا يؤثر فيه موافقة غيره له إذا كان الآخر مثله لقوة الضعف وتقاعد هذا الجابر، نعم يرتقي بمجموع طرقه عن كونه منكراً أو لا أصل له صرح به شيخ الإسلام قال: بل ربما كثرت الطرق حتى أوصلته إلى درجته المستور سيء الحفظ بحيث إذا وجد له طريق آخر فيه ضعف قريب محتمل ارتقى بمجموع ذلك إلى درجة الحسن] تدريب الراوي 1/177. وقال العلامة المحدث الألباني: [من المشهور عند أهل العلم أن الحديث إذا جاء من طرق متعددة فإنه يتقوى بها ويصير حجة وإن كان كل طريق منها على إنفراده ضعيفاً ولكن هذا ليس على إطلاقه بل هو مقيد عند المحققين منهم بما إذا كان ضعف رواته في مختلف طرقه ناشئاً من سوء حفظهم لا من تهمة في صدقهم أو دينهم وإلا فإنه لا يتقوى مهما كثرت طرقه وهذا ما نقله المحقق المناوي في (فيض القدير) عن العلماء قالوا: [وإذا قوي الضعف لا ينجبر بوروده من وجه آخر وإن كثرت طرقه ومن ثم اتفقوا على ضعف الحديث: [من حفظ على أمتي أربعين حديثاً] مع كثرة طرقه لقوة ضعفه وقصورها عن الجبر خلاف ما خف ضعفه ولم يقصر الجابر عن جبره فإنه ينجبر ويعتضد] ... وعلى هذا فلا بد لمن يريد أن يقوي الحديث بكثرة طرقه أن يقف على رجال كل طريق منها حتى يتبين له مبلغ الضعف فيها ومن المؤسف أن القليل جداً من العلماء من يفعل ذلك ولا سيما المتأخرين منهم فإنهم يذهبون إلى تقوية الحديث بمجرد نقلهم عن غيرهم أن له طرقاً دون أن يقفوا عليها ويعرفوا ماهية ضعفها] تمام المنة في التعليق على فقه السنة ص31-32.(18/41)
42 - شهر رجب
يقول السائل: وزعت في بعض المساجد نشرة تضمنت فضائل شهر رجب وقد ذكرت فيها مجموعة من الأحاديث نرجو بيان الحكم عليها؟
الجواب: ورد في النشرة المذكورة في السؤال ما يلي: يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: [ (رجب شهر الله. وشعبان شهري ورمضان شهر أمتي) رجب خص بالمغفرة من الله تعالى وشعبان بالشفاعة ورمضان بتضعيف الحسنات. وقد قيل رجب شهر التوبة وشعبان شهر المحبة ورمضان شهر القربة. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أكثروا من الاستغفار في رجب فإن لله تعالى في كل ساعة منه عتقاء من النار وأن لله مدائن لا يدخلها إلا من صام رجب ويسن الصيام في أوله وأوسطه وآخره ويوم الاثنين والخميس في ليلة السابع من رجب ليلة فضيلة تسمى ليلة الرغائب - ليلة نزول نطفة النبي صلى الله عليه وسلم من والده عبد الله إلى رحم أمه آمنة - وصيام نهارها فضيل حيث يعطي الله عز وجل لعبده الصائم ذلك اليوم ما يتمنى على الله عز وجل ويرغب. عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تغفلوا عن ليلة أول جمعة من رجب فإنها ليلة تسميها الملائكة ليلة الرغائب وذلك لأنه إذا مضى ثلث الليل لا يبقى ملك في السموات والأرضين إلا ويجتمعون في الكعبة وحولها فيطلع الله تعالى عليهم فيقول يا ملائكتي سلوني إذا شئتم فيقولون ربنا حاجتنا إليك أن تغفر لصوام رجب فيقول الله قد فعلت. وفي أواخره ليلة عظيمة وهي ليلة الإسراء والمعراج ليلة السابع والعشرين منه وقيام ليلها فضيل وصيام نهارها مستحب لكل مسلم ومسلمة. عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من صام يوم السابع والعشرين من رجب كتب الله له ثواب ستين شهراً] . وأقول إن كثيراً من الناس مولعون بنشر الأحاديث المختلقة والمكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعرضون عن الأحاديث الصحيحة الثابتة والتي فيها غنى عن تلك. ومن ذلك ما ورد في النشرة فالحديث الأول وهو: (رجب شهر الله وشعبان شهري ورمضان شهر أمتي) حديث موضوع كما قال الشوكاني في الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة ص100. وقال الحافظ العراقي: [حديث ضعيف جداً هو من مرسلات الحسن رويناه في كتاب الترغيب والترهيب للأصفهاني ومرسلات الحسن لا شيء عند أهل الحديث ولا يصح في فضل رجب حديث] فيض القدير 4/24 وقد عدَّه ابن الجوزي من الموضوعات أيضاً. وأما الحديث الثاني وهو: (أكثروا من الاستغفار في رجب فإن لله تعالى في كل ساعة منه عتقاء من النار وأن لله مدائن لا يدخلها إلا من صام رجب) فهو حديث مكذوب أيضاً ذكره ابن عراق في تنزيه الشريعة وابن طاهر المقدسي في تذكرة الموضوعات وذكره الشوكاني في الفوائد المجموعة ص439. وأما ما جاء في النشرة أنه يسن الصيام في أوله وأوسطه وآخره ويوم الإثنين والخميس فهذا الكلام ليس بصحيح لأنه لم يثبت في فضل صيام رجب بخصوصه شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه كما قال الحافظ ابن رجب الحنبلي في لطائف المعارف ص228. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: [فاتخاذه - أي شهر رجب - موسماً بحيث يفرد بالصوم مكروه عند الإمام أحمد وغيره كما روي عن عمر بن الخطاب وأبي بكرة وغيرهما من الصحابة] اقتضاء الصراط المستقيم 2/135. وقال الحافظ ابن حجر: [لم يرد في فضل شهر رجب ولا في صيامه ولا في صيام شيء منه معين ولا في قيام ليلة مخصوصة فيه حديث صحيح يصلح للحجة] رسالة تبين العجب ص3. وقال السيوطي: [ويكره إفراد رجب بالصوم] الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع ص174. وقال الإمام المحدث ابن دحية: [قال المؤتمن بن أحمد الساجي الحافظ: كان الإمام عبد الله الأنصاري شيخ خراسان لا يصوم رجباً وينهى عن ذلك ويقول: ما صح في فضل رجب وفي صيامه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء وقد روي كراهة صومه عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم منهم الصهر الأكرم والصاحب في الغار والرفيق الإمام أبو بكر الصديق خليفته على الأمة كلها بعد وفاته والقاتل لأهل الردة بجيوشه المنصورة وعزماته. وكان أمير المؤمنين أبو حفص عمر بن الخطاب الذي أجرى الله الحق على لسانه ووافقه في آيات محكمات تتلى علينا من قرآنه يضرب بالدرة صوامه وينهى عن ذلك قوامه روى ذلك الفاكهي في كتاب (مكة) له وأسنده الإمام المجمع على عدالته المتفق في (الصحيحن) على إخراج حديثه وروايته أبو عثمان سعيد بن منصور الخراساني قال: حدثنا سفيان عن مسعر عن وبرة عن خرشة بن الحر: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يضرب أيدي الرجال في رجب إذا رفعوا عن طعامه حتى يضعوا فيه ويقول: إنما هو شهر كان أهل الجاهلية يعظمونه] أداء ما وجب من بيان وضع الوضاعين في رجب ص55-57. وأما الإدعاء الكاذب المذكور في النشرة وهو: [أن ليلة السابع من رجب ليلة فضيلة تسمى ليلة الرغائب ليلة نزول نطفة النبي صلى الله عليه وسلم من والده عبد الله إلى رحم أمه آمنة] فهذا من أكذب الكذب والزور والبهتان حيث لا دليل على ذلك من الشرع. وأما حديث: [لا تغفلوا عن ليلة أول جمعة من رجب فإنها ليلة تسميها الملائكة ليلة الرغائب وذلك لأنه إذا مضى ثلث الليل لا يبقى ملك في السموات والأرضين إلا ويجتمعون في الكعبة وحولها فيطلع الله تعالى عليهم فيقول يا ملائكتي سلوني إذا شئتم فيقولون ربنا حاجتنا إليك أن تغفر لصوام رجب فيقول الله قد فعلت] فهذا الحديث مكذوب موضوع باتفاق المحدثين كما قال العلامة عبد الحي اللكنوي في الآثار المرفوعة في الأخبار الموضوعة ص63 حيث ذكر كلام الحافظ العراقي أن هذا الحديث موضوع وكذلك كلام ابن الجوزي أنه مكذوب ص64. وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي: [والأحاديث المروية في فضل صلاة الرغائب في أول ليلة جمعة من شهر رجب كذب وباطل لا تصح وهذه الصلاة بدعة عند جمهور العلماء. وممن ذكر ذلك من أعيان العلماء المتأخرين من الحفاظ أبو إسماعيل الأنصاري وأبو بكر بن السمعاني وأبو الفضل بن ناصر وأبو الفرج بن الجوزي وغيرهم. وإنما لم يذكرها المتقدمون لأنها أحدثت بعدهم وأول ما ظهرت بعد الأربعمائة فلذلك لم يعرفها المتقدمون ولم يتكلموا فيها] لطائف المعارف ص228. وقال العلامة ابن القيم: [وكذلك أحاديث صلاة الرغائب ليلة أول جمعة من رجب كلها كذب مختلق على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأمثلها: ما رواه عبد الرحمن بن منده - وهو صدوق - عن ابن جهضم - وهو واضع الحديث - حدثنا علي … عن أنس - يرفعه - (رجب شهر الله وشعبان شهري ورمضان شهر أمتي) الحديث. وفيه: (لا تغفلوا عن أول جمعة من رجب فإنها ليلة تسميها الملائكة ليلة الغائب) وذكر الحديث المكذوب بطوله. قال ابن الجوزي: اتهموا به ابن جهضم ونسبوه إلى الكذب وسمعت عبد الوهاب الحافظ يقول: رجاله مجهولون فتشت عليهم جميع الكتب فما وجدتهم! قال بعض الحفاظ: بل لعلهم لم يخلقوا. وكل حديث في ذكر صوم رجب وصلاة بعض الليالي فيه: فهو كذب مفترى كحديث (من صلى بعد المغرب أول ليلة من رجب عشرين ركعة … جاز على السراط بلا حساب) . وحديث (من صام يوماً من رجب وصلى أربع ركعات يقرأ في أول ركعة مئة مرة (آية الكرسي) وفي الثانية مئة مرة (قل هو الله أحد) : لم يمت حتى يرى مقعده من الجنة …) . وحديث: (من صام من رجب كذا وكذا) الجميع كذب مختلق] المنار المنيف ص95-97. وأما ما ورد في النشرة: [وفي أواخره ليلة عظيمة وهي ليلة الإسراء والمعراج ليلة السابع والعشرين منه وقيام ليلها فضيل وصيام نهارها مستحب لكل مسلم ومسلمة] . فهذا عين الكذب كما قال ذلك الإمام المحدث ابن دحية ووافقه على ذلك الحافظ ابن حجر وأنكر ذلك الإمام إبراهيم الحربي وغيره. قال ابن دحية: [وذكر بعض القصاص أن الإسراء كان في رجب وذلك عند أهل التعديل والتجريح عين الكذب] أداء ما وجب 53-54. وانظر ما قاله الحافظ ابن رجب الحنبلي في لطائف المعارف ص233 وما قاله العلامة المحدث الألباني في تعليقه على أداء ما وجب ص53. وأما حديث: (من صام يوم السابع والعشرين من رجب كتب الله له ثواب ستين شهراً) فهذا الحديث باطل موضوع لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقد ذكر العلماء عدداً من الأحاديث المكذوبة في فضل صوم رجب منها ما ذكره الشوكاني في الفوائد المجموعة ص100-101 فانظرها. وخلاصة الأمر أن المشروع في رجب هو المشروع في غيره من الشهور وليس لرجب أي خصوصية في صوم أو صلاة وأن ما رد في هذه النشرة من أحاديث كلها باطلة مكذوبة وأن هؤلاء الذين ينشرون مثل ذلك يشملهم الوعيد الوارد في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من حدث بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكذابين) رواه مسلم.(18/42)
43 - معنى حديث: (اختلاف أمتي رحمة)
يقول السائل: ما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (اختلاف أمتي رحمة) ؟
الجواب: هذا الكلام المنسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم لم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم وقد رواه البيهقي في المدخل إلى السنن الكبرى 1/147 بلفظ: [واختلاف أصحابي لكم رحمة] . ورواه الطبراني والديلمي وغيرهم وقد بين السخاوي حال الحديث في المقاصد الحسنة ص26-27. وكذلك العجلوني في كشف الخفاء 1/64-65. وفصل الشيخ الألباني الكلام عليه حيث قال: [لا أصل له ولقد جهد المحدثون في أن يقفوا له على سند فلم يوفقوا حتى قال السيوطي في الجامع الصغير: [ولعله خرج في بعض كتب الحفاظ التي لم تصل إلينا] . وهذا بعيد عندي إذ يلزم منه أنه ضاع على الأمة بعض أحاديثه صلى الله عليه وسلم وهذا مما لا يليق بمسلم اعتقاده. ونقل المناوي عن السبكي أنه قال: [وليس بمعروف عند المحدثين ولم أقف له على سند صحيح ولا ضعيف ولا موضوع] . وأقره الشيخ زكريا الأنصاري في تعليقه على تفسير البيضاوي (ق92/2) . ثم إن معنى هذا الحديث مستنكر عند المحققين من العلماء، فقال العلامة ابن حزم في الإحكام في أصول الأحكام 5/64 بعد أن أشار إلى أنه ليس بحديث: [وهذا من أفسد قول يكون لأنه لو كان الاختلاف رحمة لكان الاتفاق سخطاً وهذا ما لا يقوله مسلم لأنه ليس إلا اتفاق أو اختلاف وليس إلا رحمة أو سخط] سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة 1/76. فالحديث ليس بثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولكن معناه صحيح إذا حملناه على الاختلاف في الفروع الفقهية كما قال بعض أهل العلم كما سيأتي. وأما قول الشيخ ابن حزم في رد الحديث دراية: [لأنه لو كان الاختلاف رحمة لكان الاتفاق سخطاً] فغير مسلم لأن كون الاختلاف رحمة لا يعني أن يكون الاتفاق سخطاً كما قال وهذا الكلام من ابن حزم إنما هو أخذ بمفهوم المخالفة وابن حزم لا يأخذ بمفهوم المخالفة أصلا فكيف يحتج به هذا أولاً. وأما ثانياً فقد قال الإمام النووي: [قال الخطابي: وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اختلاف أمتي رحمة) فاستصوب عمر ما قاله. قال: وقد اعترض على حديث اختلاف أمتي رحمة رجلان أحدهما مغموض عليه في دينه وهو عمرو بن بحر الجاحظ والآخر معروف بالسخف والخلاعة وهو إسحق بن إبراهيم الموصلي فإنه لما وضع كتابه في الأغاني وأمكن في تلك الأباطيل لم يرض بما تزود من إثمها حتى صدر كتابه بذم أصحاب الحديث وزعم أنهم يروون ما لا يدرون وقال هو والجاحظ: لو كان الاختلاف رحمة لكان الاتفاق عذاباً ثم زعم إنما كان اختلاف الأمة رحمة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم خاصة فإذا اختلفوا سألوه فبين لهم والجواب عن هذا الاعتراض الفاسد أنه لا يلزم من كون الشيء رحمة أن يكون ضده عذاباً ولا يلتزم هذا ويذكره إلا جاهل أو متجاهل وقد قال تعالى: (ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه) فسمى الليل رحمة ولم يلزم من ذلك أن يكون النهار عذاباً وهو ظاهر لا شك فيه. قال الخطابي: والاختلاف في الدين ثلاثة أقسام: أحدها في إثبات الصانع ووحدانيته وإنكار ذلك كفر والثاني في صفاته ومشيته وإمكارها بدعة والثالث في أحكام الفروع المحتملة وجوهاً فهذا جعله الله تعالى رحمة وكرامة للعلماء وهو المراد بحديث اختلاف أمتي رحمة هذا آخر كلام الخطابي رحمه الله] شرح النووي على صحيح مسلم 4/258. وأما ثالثاً فالاختلاف المذكور هو الاختلاف في الفروع الفقهية والاختلاف فيها ليس فيه حرج ما دام أنه قد صدر عن أهل الاجتهاد. والاختلاف في الفروع موجود منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم كما حصل في نهاية غزوة الأحزاب عندما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة) رواه البخاري ومسلم. فقد اختلف الصحابة في ذلك فمنهم من قال إنه أراد منا الإسراع فصلى العصر في الطريق إلى ديار بني قريظة ومنهم من لم يصل العصر إلا في بني قريظة وصلوها بعد أن غابت الشمس ولما عرض الأمر على النبي صلى الله عليه وسلم لم يعنف أحداً من الفريقين. كما أن كبار الصحابة قد اختلفوا في مسائل الفروع وهذا أمر مشهور معروف واختلافهم فيه توسعة على الأمة. قال الشيخ ابن قدامة المقدسي في مقدمة كتابه العظيم المغني ما نصه: [أما بعد: فإن الله برحمته وطَوْله وقوته وحوله ضمن بقاء طائفة من هذه الأمة على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك وجعل السبب في بقائهم بقاء علمائهم واقتدائهم بأئمتهم وفقهائهم وجعل هذه الأمة مع علمائها كالأمم الخالية مع أنبيائها وأظهر في كل طبقة من فقهائها أئمة يقتدى بها وينتهى إلى رأيها وجعل في سلف هذه الأمة أئمة من الأعلام مهد بهم قواعد الإسلام. وأوضح بهم مشكلات الأحكام اتفاقهم حجة قاطعة واختلافهم رحمة واسعة. تحيا القلوب بأخبارهم وتحصل السعادة باقتفاء آثارهم ثم اختص منهم نفراً أعلى قدرهم ومناصبهم وأبقى ذكرهم ومذاهبهم فعلى أقوالهم مدار الأحكام وبمذاهبهم يفتي فقهاء الإسلام] المغني 1/3-4. وقد ذكر الحافظ ابن عبد البر عن جماعة من فقهاء السلف أن الاختلاف في الفروع فيه سعة فروى عن القاسم بن محمد بن أبي بكر قال: [لقد نفع الله باختلاف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في أعمالهم لا يعمل العامل بعمل رجل منهم إلا رأى أنه في سعة ورأى أنه خير منه قد عمله … وعن القاسم بن محمد قال: لقد أوسع الله على الناس باختلاف أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أي ذلك أخذت به لم يكن في نفسك منه شيء … وعن رجاء بن جميل قال: اجتمع عمر بن عبد العزيز والقاسم بن محمد فجعلا يتذاكران الحديث قال فجعل عمر يجيء بالشيء مخالفاً فيه القاسم قال وجعل ذلك يشق على القاسم حتى تبين فيه فقال له عمر لا تفعل فما يسرني أن لي باختلافهم حمر النعم … وعن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه أنه قال: لقد أعجبني قول عمر بن عبد العزيز ما أحب أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا لأنه لو كانوا قولاً واحداً كان الناس في ضيق وأنهم أئمة يقتدى بهم فلو أخذ رجل بقول أحدهم كان في سعة. قال أبو عمر هذا فيما كان طريقه الاجتهاد … وعن أسامة بن زيد قال سألت القاسم بن محمد عن القراءة خلف الإمام فيما لم يجهر فيه فقال إن قرأت فلك في رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة وإذا لم تقرأ فلك في رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة … وعن يحيى بن سعيد قال ما برح أولو الفتوى يفتون فيحل هذا ويحرم هذا فلا يرى المحرم أن المحل هلك لتحليله ولا يرى المحل أن المحرم هلك لتحريمه] جامع بيان العلم وفضله 2/80. وقال الشيخ شاه ولي الله الدهلوي تحت عنوان اختلاف الصحابة في الأحكام كثير، ما نصه: [وقد كان في الصحابة والتابعين ومن بعدهم من يقرأ البسملة ومنهم من لا يقرؤها ومنهم من يجهر بها ومنهم من لا يجهر بها وكان منهم من يقنت في الفجر ومنهم من لا يقنت في الفجر ومنهم من يتوضأ من الحجامة والرعاف والقيء ومنهم من لا يتوضأ من ذلك ومنهم من يتوضأ من مس الذكر ومس النساء بشهوة ومنهم من لا يتوضأ من ذلك ومنهم من يتوضأ مما مسته النار ومنهم من لا يتوضأ من ذلك ومنهم من يتوضأ من أكل لحم الإبل ومنهم من لا يتوضأ من ذلك. ثم قال الشيخ الدهلوي: ما كان خلاف الأئمة تعصباً أعمى: ومع هذا فكان بعضهم يصلي خلف بعض مثل ما كان أبو حنيفة وأصحابه والشافعي وغيرهم رضي الله عنهم يصلون خلف أئمة المدينة من المالكية وغيرهم وإن كانوا لا يقرؤون البسملة لا سراً ولا جهراً. وصلى الرشيد إماماً وقد احتجم فصلى الإمام أبو يوسف خلفه ولم يعد. وكان الإمام أحمد بن حنبل يرى الوضوء من الرعاف والحجامة فقيل له: فإن كان الإمام قد خرج منه الدم ولم يتوضأ هل تصلي خلفه؟ فقال: كيف لا أصلي خلف الإمام مالك وسعيد بن المسيب. وروي أن أبا يوسف ومحمداً كانا يكبران في العيدين تكبير ابن عباس لأن هارون الرشيد كان يحب تكبير جده. وصلى الشافعي رحمه الله الصبح قريباً من مقبرة أبي حنيفة رحمه الله فلم يقنت تأدباً معه وقال أيضاً: ربما انحدرنا إلى مذهب أهل العراق … وفي البزازية عن الإمام الثاني وهو أبو يوسف رحمه الله أنه صلى يوم الجمعة مغتسلاً من الحمام وصلى بالناس وتفرقوا ثم أخبر بوجود فأرة ميتة في بئر الحمام فقال: إذاً نأخذ بقول إخواننا من أهل المدينة إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثاً] حجة الله البالغة 1/295-296. وبعد اختلاف الصحابة والتابعين وتابعيهم اختلف الأئمة والعلماء في فروع الدين وما الاختلاف بين أصحاب المذاهب الأربعة عنا ببعيد. ولا يجوز أن يقال إن اختلاف هؤلاء الفقهاء شر وسخط وعذاب بل فيه السعة والرأفة والرحمة بالأمة. وينبغي أن لا تضيق صدورنا بالخلافات الفقهية فهي أمر تعارف عليه المسلمون منذ الصدر الأول للإسلام بل إن الإمام مالك بن أنس رفض حمل جميع المسلمين على مذهب واحد لما عرض عليه بعض الخلفاء العباسيين أن يحملوا المسلمين على ما قرره مالك في موطئه فرفض حمل الناس على ذلك حباً في التوسعة على المسلمين وعدم التضييق عليهم. قال ابن أبي حاتم: [قال مالك: ثم قال لي أبو جعفر المنصور: قد أردت أن أجعل هذا العلم علماً واحداً فأكتب به إلى أمراء الأجناد وإلى القضاة فيعملون به فمن خالف ضربت عنقه! فقلت له: يا أمير المؤمنين أو غير ذلك قلت: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان في هذه الأمة وكان يبعث السرايا وكان يخرج فلم يفتح من البلاد كثيراً حتى قبضه الله عز وجل ثم قام أبو بكر رضي الله عنه بعده فلم يفتح من البلاد كثيراً ثم قام عمر رضي الله عنه بعدهما ففتحت البلاد على يديه فلم يجد بداً من أن يبعث أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم معلمين فلم يزل يؤخذ عنهم كابراً عن كابر إلى يومهم هذا فإن ذهبت تحولهم مما يعرفون إلى ما لا يعرفون رأوا ذلك كفراً. ولكن أقر أهل كل بلدة على ما فيها من العلم خذ هذا العلم لنفسك فقال لي: ما أبعدت القول اكتب هذا العلم لمحمد يعني ولده المهدي الخليفة من بعده] أدب الاختلاف ص36-37. ولكن المذموم في الاختلاف في الفروع هو التعصب للرأي وإن ثبت أن هذا الرأي مخالف لما صح عن رسول صلى الله عليه وسلم فالتعصب صفة ذميمة لا ينبغي للمسلم أن يتصف بها. وخلاصة الرأي أن الاختلاف في الفروع لا بأس به وأن فيه توسعة على الأمة ما دام صادراً عن أهل العلم والاجتهاد.(18/43)
44 - تأثير الإكراه في المحرمات
يقول السائل: ما هو تأثير الإكراه في المحرمات؟
الجواب: الإكراه هو إجبار شخص بغير حق على أمر لا يرضاه والإكراه من عوارض الأهلية عند الأصوليين وهي أمور تعترض على أهلية المكلف فتحدث فيها تغييراً. ومن المعروف عند أهل العلم أن الإكراه هو أحد أسباب الضرورة وقد جعل كثير من العلماء الإكراه على نوعين: وهما الإكراه الملجئ وهو ما كان التهديد فيه بالقتل وهذا هو الإكراه الكامل. والإكراه غير الملجئ وهو إكراه ناقص كالتهديد بالحبس أوالتهديد بحبس قريب المكره كحبس أمه أو أبيه أو ابنه أو غيرهم. وأما تأثير الإكراه في المحرمات فقد جعل العلماء ذلك على أربعة اقسام: الأول: تباح بعض المحرمات في حالة الإكراه كأكل الميتة ولحم الخنزير وشرب الخمر وذلك إذا كان الإكراه ملجئاً قال الله تعالى: (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) سورة الأنعام الآية 119. والمكره مضطر فيدخل في الحكم. الثاني: [يرخص في الفعل أي أن الإكراه لا يبيحه لأن حرمته مؤبدة ولكن يمنع الإثم والمؤاخذة الأخروية. مثل إجراء كلمة الكفر على اللسان مع اطمئنان القلب بالإيمان. فإن ذلك يباح بالإكراه الملجئ فقط وإن صبر الشخص على ما أكره عليه وقتل صار شهيداً والأفضل عند الحنفية والحنابلة عدم التلفظ بالكفر إظهاراً لعزة الإسلام وإعلاءً لكلمة الحق عملاً بقصة خبيب بن عدي وعمار حيث قتل المشركون أهل مكة خبيباً لأنه لم يوافقهم على ما زعموا فكان عند المسلمين أفضل من عمار الذي نال في الظاهر من الرسول صلى الله عليه وسلم وذكر آلهتهم بخير وأقره الرسول على فعله وقال له: (إن عادوا فعد) أي فإن عادوا إلى الإكراه فعد إلى الترخص أو فإن عادوا إلى الإكراه فعد إلى طمأنينة القلب. الثالث: لا يباح الفعل ولكن يرخص فيه في الجملة وهي حقوق العباد كإتلاف مال الغير وتناول المضطر مال غيره فإن ذلك حرام ولكن هذه الحرمة قد تزول بإذن صاحب المال بالتصرف وإذا أكره الشخص على الإتلاف إكراهاً ملجئاً أواضطر إلى أخذ المال للانتفاع به فإنه يرخص له فيه مع بقاء الحرمة كالقسم السابق لأن إتلاف المال في ذاته ظلم وبالإكراه ونحوه لا تزول عصمة المال في حق صاحبه لبقاء حاجته إليه فيكون إتلافه وإن رخص فيه باقياً على الحرمة فإن صبر المستكره على ما هدد به كالقتل مثلاً وقتل كان شهيداً لأنه بذل نفسه لدفع الظلم] نظرية الضرورة الشرعية ص281-282. الرابع: لا يباح الفعل ولا يرخص فيه أصلاً كالقتل بغير حق والاعتداء على عضو من الأعضاء والزنا فهذه الأمور لا تحل بالإكراه مطلقاً. وقد اتفق أهل العلم على أن قتل المسلم لا يباح تحت أي ظرف من ظروف الإكراه والاضطرار فقتل المسلم لا يحله إكراه ولا اضطرار. قال القرطبي: [أجمع العلماء على أن من أكره على قتل غيره أنه لا يجوز له الإقدام على قتله ولا انتهاك حرمته بجلد أو غيره ويصبر على البلاء الذي نزل به ولا يحل له أن يفدي نفسه بغيره ويسأل الله العافية في الدنيا والآخرة] تفسير القرطبي 10/183. وقال الزيلعي الفقيه الحنفي: [لو أكره على قتل غيره بالقتل لا يرخص له القتل لإحياء نفسه لأن دليل الرخصة خوف التلف والمكره والمكره عليه في ذلك سواء فسقط الإكراه وإن قتله أثم لأن الحرمة بما فيه وكذا الإكراه على الزنا لا يرخص له] تبيين الحقائق 5/186. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: [والمقصود أنه إذا كان المكره على القتال في الفتنة ليس له أن يقاتل بل عليه إفساد سلاحه وأن يصبر حتى يقتل مظلوماً فكيف بالمكره على قتال المسلمين مع الطائفة الخارجة عن شرائع الإسلام؟! كمانعي الزكاة والمرتدين ونحوهم فلا ريب أن هذا يجب عليه إذا أكره على الحضور أن لا يقاتل وإن قتله المسلمون كما لو أكرهه الكفار على حضور صفهم ليقاتل المسلمين وكما لو أكره رجل رجلاً على قتل مسلم معصوم فإنه لا يجوز له قتله باتفاق المسلمين وإن أكرهه بالقتل فإنه ليس حفظ نفسه بقتل ذلك المعصوم أولى من العكس] مجموع الفتاوى 28/539. وقد وردت النصوص الكثيرة من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم في تحريم قتل المسلم قال تعالى: (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) سورة الإسراء الآية 33. وقال تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلا خَطَأً) سورة النساء الآية 92. وقال تعالى: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ) سورة النساء الآية 93. وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة) رواه البخاري ومسلم. وقال عليه الصلاة والسلام: (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره … كل المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه وماله) رواه البخاري ومسلم. وغير ذلك من النصوص. ولا يجوز أن يقال إن الإكراه يبيح قتل المسلم لأن الضرورات تبيح المحظورات. فإن هذه القاعدة الفقهية (الضرورات تبيح المحظورات) ليست على إطلاقها فإنها لا تدخل في بعض الأمور وخاصة القتل والزنا. قال العلامة علي حيدر في شرح المجلة: [إن الضرورات لا تبيح كل المحظورات بل يجب أن تكون المحظورات دون الضرورات أما إذا كانت الممنوعات أو المحظورات أكثر من الضرورات فلا يجوز إجراؤها ولا تصبح مباحة مثال: لو أن شخصاً هدد آخر بالقتل أو بقطع العضو وأجبره على قتل شخص فلا يحق للمكره أن يوقع القتل لأن الضرورة هنا مساوية للمحظور بل أن قتل المكره أخف ضرراً من أن يقتل شخصاً آخر في الحالة هذه إذا أوقع ذلك المكره القتل يكون حكمه حكم القاتل بلا إكراه أما من جهة القصاص فينفذ في حق كل من المجبر والمكره] درر الحكام شرح مجلة الحكام 1/38 ويضاف لما سبق أن دفع الإنسان الضرر عن نفسه مقيد بألا يلحق بغيره الضرر وقد ورد في القاعدة الفقهية (الضرر لا يزال بمثله) . فلا يجوز للمكره على القتل ان ينجي نفسه بقتل غيره لأن النفوس متساوية وغير متفاوتة. وخلاصة الأمر أن قتل المسلم لا يباح لا بالإكراه ولا بالضرورة وكذا الزنا على مذهب جمهور أهل العلم ويجوز للمسلم أن يتلفظ بكلمة الكفر إذا كان قلبه مطمئناً بالإيمان كما يجوز تناول المحرمات من الأطعمة والأشربة في حالتي الإكراه الملجئ والاضطرار.(18/44)
45 - صفات من يدخلون الجنة بغير حساب
يقول السائل: إنه قرأ في حلقة سابقة من يسألونك الحديث الذي ذكر فيه عكاشة بن محصن رضي الله عنه وأنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو الله أن يكون من السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب فمن هؤلاء الذين يدخلون الجنة بغير حساب وما صفاتهم؟
الجواب: ثبت في الصحيحين وغيرهما من كتب السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث تخبر أن طائفة من أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب ومن هذه الأحاديث ما ثبت في الحديث عن حصين بن عبد الرحمن قال: كنت عند سعيد بن جبير فقال: أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة؟ قلت: أنا ثم قلت: أما إني لم أكن في صلاة ولكني لدغت قال: فماذا صنعت؟ قلت: استرقيت قال: فما حملك على ذلك؟ قلت: حديث حدثناه الشعبي فقال: وما حدثكم الشعبي؟ قلت: حدثنا عن بريدة بن حصيب الأسلمي أنه قال: لا رقية إلا من عين أو حمة فقال: قد أحسن من انتهى إلى ما سمع ولكن حدثنا ابن عباس عن النبيصلى الله عليه وسلم قال: (عرضت عليَّ الأمم فرأيت النبي ومعه الرهيط والنبي ومعه الرجل والرجلان والنبي ليس معه أحد إذ رفع لي سواد عظيم فظننت أنهم أمتي فقيل لي: هذا موسى عليه الصلاة والسلام وقومه ولكن انظر إلى الأفق فإذا سواد عظيم فقيل لي انظر إلى الأفق الآخر فإذا سواد عظيم فقيل لي هذه أمتك ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب ثم نهض فدخل منزله فخاض الناس في أولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب فقال بعضهم: فلعلهم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال بعضهم: فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام ولم يشركوا بالله وذكروا أشياء فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما الذي تخوضون فيه؟ فأخبروه فقال: هم الذين لا يرقون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون فقام عكاشة بن محصن فقال: ادع الله أن يجعلني منهم فقال: أنت منهم، ثم قام رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم فقال: سبقك بها عكاشة) رواه البخاري ومسلم واللفظ لمسلم. صحيح مسلم بشرح النووي 1/449-450. وقد رواه الإمام البخاري في باب يدخل الجنة سبعون ألفاً بغير حساب. صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 14/197. وشرحه الإمام النووي تحت عنوان باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب ولا عذاب. شرح النووي على صحيح مسلم 1/446. وقد جعل العلامة ابن القيم ف كتابه (حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح أو وصف الجنة) باباً بعنوان فيمن يدخل الجنة من هذه الأمة بغير حساب وذكر أوصافهم. ص185. وأما صفات هؤلاء الذين يدخلون الجنة بغير حساب نسأل الله تعالى أن يجعلنا منهم فهي المذكورة في الحديث: (لا يرقون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون) . وفي رواية في الصحيحين: (هم الذين لا يكتوون ولا يسترقون وعلى ربهم يتوكلون) . وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يرقون ولا يسترقون) مأخوذ من الرقية وهي العوذة التي يرقى بها صاحب الآفة. والرقية الشرعية تكون بقراءة القرآن الكريم والأدعية المأثورة ونحوها لطلب الشفاء من المرض أو لدفع الضرر. والرقية مشروعة عند أكثر أهل العلم بشروط. وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم من خصائص الذين يدخلون الجنة بغير حساب أنهم لا يرقون ولا يسترقون وفي هذا إشارة إلى عظيم توكلهم على الله سبحانه وتعالى فتركوا الرقى لأنفسهم ولغيرهم. فتركهم للرقى على جهة التوكل على الله تعالى والرضا بما يقضيه من قضاء وينزل به من بلاء وهذه أرفع درجات المحققين بالإيمان كما قال الإمام الخطابي. انظر المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم 1/464. وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يكتوون) مأخوذ من الكي بالنار وهو أسلوب معروف في العلاج وهو مشروع وثابت في عدد من الأحاديث وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (وما أحب أن أكتوي) رواه البخاري ومسلم. وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يتطيرون) مأخوذ من الطيرة وهي التشاؤم والطيرة محرمة شرعاً وقد صح في الحديث من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر) رواه البخاري ومسلم. وقوله صلى الله عليه وسلم: (وعلى ربهم يتوكلون) والتوكل على الله هو الثقة بالله تعالى والإيقان بأن قضاءه نافذ واتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم في السعي فيما لا بد منه من المطعم والمشرب والتحرز من العدو كما فعله الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه أجمعين فالأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل. انظر شرح النووي على صحيح مسلم 1/448. قال الشيخ سليمان بن عبد الوهاب: [قوله: (وعلى ربهم يتوكلون) ذكر الأصل الجامع الذي تفرعت عنه هذه الأفعال وهو التوكل على الله وصدق الالتجاء إليه والاعتماد بالقلب عليه الذي هو خلاصة التفريد ونهاية تحقيق التوحيد الذي يثمر كل مقام شريف من المحبة والخوف والرجاء والرضى به رباً وإلهاً والرضى بقضائه بل ربما أوصل العبد إلى التلذذ بالبلاء وعده من النعماء فسبحانه من يتفضل على من يشاء بما يشاء والله ذو الفضل العظيم. واعلم أن الحديث لا يدل على أنهم لا يباشرون الأسباب أصلاً كما يظنه الجهلة فإن مباشرة الأسباب في الجملة أمر فطري ضروري لا انفكاك لأحد عنه حتى الحيوان البهيم بل نفس التوكل مباشرة لأعظم الأسباب كما قال تعالى: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) أي كافيه إنما المراد أنهم يتركون الأمور المكروهة مع حاجتهم إليها توكلاً على الله كالاسترقاء والاكتواء فتركهم له ليس لكونه سبباً لكن لكونه سبباً مكروهاً لا سيما والمريض يتشبث بما يظنه سبباً لشفائه بخيط العنكبوت أما نفس مباشرة الأسباب والتداوي على وجه لا كراهية فيه فغير قادح في التوكل فلا يكون تركه مشروعاً كما في الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعاً: [ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء] وعن أسامة بن شريك قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وجاءت الأعراب فقالوا يا رسول الله: أنتداوى؟ فقال: (نعم يا عباد الله تداووا فإن الله عز وجل لم يضع داء إلا وضع له شفاء غير داء واحد فقالوا: وما هو؟ قال: الهرم) رواه أحمد. قال ابن القيم: [فقد تضمنت هذه الأحاديث إثبات الأسباب والمسببات وإبطال قول من أنكرها والأمر بالتداوي وأنه لا ينافي التوكل كما لا ينافيه دفع داء الجوع والعطش والحر والبرد بأضدداها بل لا تتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله مقتضيات لمسبباتها قدراً وشرعاً وإن تعطيلها يقدح بمباشرته في نفس التوكل كما يقدح في الأمر والحكمة ويضعفه من حيث يظن معطلها أن تركها أقوى من التوكل فإن تركها عجز ينافي التوكل الذي حقيقته اعتماد القلب على الله في حصول ما ينفع العبد في دينه ودنياه ودفع ما يضره في دينه ودنياه ولا بد مع هذا الاعتماد من مباشرة الأسباب وإلا كان معطلاً للأمر والحكمة والشرع فلا يجعل العبد عجزه توكلاً ولا توكله عجزاً] تيسير العزيز الحميد ص86-87.(18/45)
46 - مكفرات الذنوب
يقول السائل: ما هي الأعمال التي تكفر الذنوب؟
الجواب: ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة أن أعمالاً صالحة تكفر الذنوب وتمحها ومنها ما يلي: أولاً: الوضوء وقد جاء فيه أحاديث كثيرة منها: عن حمران أنه قال فلما توضأ عثمان قال والله لأحدثنكم حديثا والله لولا آية في كتاب الله ما حدثتكموه إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا يتوضأ رجل فيحسن وضوءه ثم يصلي الصلاة إلا غفر له ما بينه وبين الصلاة التي تليها قال عروة الآية إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى إلى قوله اللاعنون. رواه مسلم وعن عثمان أنه دعا بطهور ثم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم يؤت كبيرة وذلك الدهر كله رواه مسلم عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمسا ما تقول ذلك يبقي من درنه قالوا لا يبقي من درنه شيئا قال فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بها الخطايا رواه البخاري. ثانياً: الصلوات الخمس: عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهن ما لم تغش الكبائر رواه مسلم وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارات لما بينهن رواه مسلم ثالثاً: موافقة تأمين المأموم لتأمين الملائكة: عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا أمن الإمام فأمنوا فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه وقال بن شهاب وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول آمين رواه البخاري ومسلم وعن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال أحدكم آمين والملائكة في السماء آمين فوافقت إحداهما الأخرى غفر له ما تقدم من ذنبه رواه مسلم رابعاً: المشي إلى المساجد: وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إسباغ الوضوء في المكاره وإعمال الأقدام إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة يغسل الخطايا غسلاً) رواه أبو يعلى والبزار بإسناد صحيح والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم وقال الألباني: صحيح. خامساً: المحافظة على صلاة الجمعة: عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمان مكفرات ما بينهن إذا اجتنب الكبائر باب الذكر المستحب عقب الوضوء رواه مسلم سادساً: صيام نهار رمضان وقيام ليله: عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ومن صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه رواه البخاري ومسلم سابعاً: صيام عاشوراء: عن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن صومه قال فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر رضي الله عنه رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا وببيعتنا بيعة قال فسئل عن صيام الدهر فقال لا صام ولا أفطر أو ما صام وما أفطر قال فسئل عن صوم يومين وإفطار يوم قال ومن يطيق ذلك قال وسئل عن صوم يوم وإفطار يومين قال ليت أن الله قوانا لذلك قال وسئل عن صوم يوم وإفطار يوم قال ذاك صوم أخي داود عليه السلام قال وسئل عن صوم يوم الإثنين قال ذاك يوم ولدت فيه ويوم بعثت أو أنزل علي فيه قال فقال صوم ثلاثة من كل شهر ورمضان إلى رمضان صوم الدهر قال وسئل عن صوم يوم عرفة فقال يكفر السنة الماضية والباقية قال وسئل عن صوم يوم عاشوراء فقال يكفر السنة الماضية. رواه مسلم ثامناً: صيام يوم عرفه: عن أبي قتادة رجل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال كيف تصوم فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأى عمر رضي الله عنه غضبه قال رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا نعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله فجعل عمر رضي الله عنه يردد هذا الكلام حتى سكن غضبه فقال عمر يا رسول الله كيف بمن يصوم الدهر كله قال لا صام ولا أفطر أو قال لم يصم ولم يفطر قال كيف من يصوم يومين ويفطر يوما قال ويطيق ذلك أحد قال كيف من يصوم يوما ويفطر يوما قال ذاك صوم داود عليه السلام قال كيف من يصوم يوما ويفطر يومين قال وددت أني طوقت ذلك ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث من كل شهر ورمضان إلى رمضان فهذا صيام الدهر كله صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده وصيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله رواه مسلم. تاسعاً: الحج والعمرة: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه رواه البخاري وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة رواه البخاري ومسلم عاشراً: الصدقة عن أبي وائل عن حذيفة قال قال عمر رضي الله عنه من يحفظ حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم في الفتنة قال حذيفة أنا سمعته يقول فتنة الرجل في أهله وماله وجاره تكفرها الصلاة والصيام والصدقة قال ليس أسأل عن هذه إنما أسأل عن التي تموج كما يموج البحر قال وإن دون ذلك بابا مغلقا قال فيفتح أو يكسر قال يكسر قال ذاك أجدر أن لا يغلق إلى يوم القيامة فقلنا لمسروق سله أكان عمر يعلم من الباب فسأله فقال نعم كما يعلم أن دون غد الليلة رواه البخاري ومسلم. أحد عشر: الحمد بعد الطعام عن سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من أكل طعاما ثم قال الحمد لله الذي أطعمني هذا الطعام ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ومن لبس ثوبا فقال الحمد لله الذي كساني هذا الثوب ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر رواه أبو داود والترمذي وقال هذا حديث حسن غريب. ثاني عشر: المرض والتعب عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفر الله بها عنه حتى الشوكة يشاكها رواه البخاري وعن أبي سعيد الخدري وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه رواه البخاري. ذهب جمهور أهل العلم إلى أن الأعمال الصالحة تكفر صغائر الذنوب وأما الكبائر فلا تُكَفَر بمجرد فعل الأعمال الصالحة بل لا بد من التوبة بشروطها حتى تُكَفَر. نيل الأوطار 3/57. قال القاضي عياض: [هذا المذكور في الحديث من غفران الذنوب ما لم تؤت كبيرة هو مذهب أهل السنة وأن الكبائر إنما تكفرها التوبة أو رحمة الله تعالى وفضله] شرح النووي على صحيح مسلم 1/446. وانظر نيل الأوطار 3/57. وقال الإمام ابن العربي المالكي: [الخطايا المحكوم بمغفرتها هي الصغائر دون الكبائر لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهن ما اجتنبت الكبائر) فإذا كانت الصلاة مقرونة بالوضوء لا تكفر الكبائر فانفراد الوضوء بالتقصير عن ذلك أحرى) عارضة الأحوذي 1/13.(18/46)
47 - حق الله وحق الناس
يقول السائل: قرأت في كتاب فقه كلاماً عن الحقوق وأن منها ما هو حق لله تعالى ومنها ما هو حق للناس فأرجو بيان الفرق بينهما وما أثر ذلك على المعاصي التي ارتكبها الإنسان ثم تاب منها؟
الجواب: قسم جمهور أهل العلم الحق باعتبار صاحب الحق إلى أربعة أقسام وهي: أولاً: حق الله تعالى ويسمى الحق العام: وهو ما قصد به التقرب إلى الله تعالى وتعظيمه وإقامة شعائر دينه، أو قصد به تحقيق النفع العام دون اختصاص بأحد، ونسب هذا الحق لله تعالى لعظم خطره وشمول نفعه كما قال ابن نجيم الحنفي في فتح الغفار 3/59. وحق الله تعالى يشمل الإيمان به جل جلاله والصلاة والصيام والزكاة والحج والجهاد وإقامة الحدود والكفارات وغير ذلك. انظر الفروق 1/140-141 الموسوعة الفقهية 18/14-19. ثانياً: حق العبد المحض: وهو ما كان متعلقاً بمصالح الإنسان الخالصة، قال القرافي: [وحق العبد مصالحه] الفروق 1/140. وحق العبد المحض يشمل الحقوق المالية، قال الشيخ محمد أبو زهرة: [حقوق العباد الخالصة وذلك كالديون والأملاك وحق الوراثة وغير ذلك مما يتعلق بالأموال نقلاً وبقاءً، فهذه كلها حقوق العباد خالصة والاعتداء على حقوق العباد ظلم، ولا يقبل الله تعالى توبة عبد قد أكل حقاً من حقوق العباد إلا إذا أداه أو أسقطه صاحبه وعفا] أصول الفقه ص324. وحق العبد يقبل الإسقاط، فإذا أسقط إنسان حقاً له على غيره فله ذلك، قال القرافي: [ونعني بحق العبد المحض أنه لو أسقطه لسقط] الفروق 1/141. ثالثاً: ما اجتمع فيه حق الله وحق العبد وحق الله غالب: ومثاله حد القذف فهو من جهة أن فيه مساً بأعراض الناس علناً فهو حق لله تعالى، ومن جهة أن المقذوف بالزنى قد اتهم في عرضه فهو حق له ولكن حق الله غالب فيه. وكذلك حد السرقة بعد أن يبلغ الإمام، وكذلك عدة المطلقة وعدة المتوفى عنها زوجها، فحق الله فيها صيانة الأنساب عن الاختلاط وحماية المجتمع من الفوضى، وأما حق العبد فيها فهو المحافظة على نسب أولاد الزوج وحق الله غالب. نظرية الحكم القضائي ص 242، الفقه الإسلامي وأدلته 4/15 رابعاً: ما اجتمع فيه حق الله وحق العبد وحق العبد الغالب: ومثاله القصاص وعقوبات الدماء بشكل عام كالديات. [فالقصاص لله فيه حق لأنه اعتداء على المجتمع واعتداء على مخلوق الله وعبده الذي حرم دمه إلا بحق ولله في نفس العبد حق الاستعباد حيث قال عز وجل: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) سورة الذاريات الآية 56. وللعبد في القصاص حق لأن القتل العمد اعتداء على شخصه لأن للعبد المقتول في نفسه حق الحياة وحق الاستمتاع بها فحرمه القاتل من حقه وهو اعتداء على أولياءالمقتول لأنه حرمهم من رعاية مورثهم واستمتاعهم بحياته فكان القتل العمد اعتداء على حق الله وحق العبد ولذلك كان في شرعية القصاص إبقاء للحقين وإخلاء للعالم من الفساد، تصديقاً لقول الله تعالى: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) سورة البقرة الآية 179. وغلب حق العبد لأن ولي المقتول يملك رفع دعوى القصاص أو عدم رفعها وبعد المطالبة بالقصاص والحكم على الجاني القاتل يملك التنازل عنه والصلح على مال أو الصلح بغير عوض كما يملك تنفيذ حكم القصاص على القاتل إن أراد ذلك وكان يتقن التنفيذ ولا يجوز ذلك إلا بإذن الحاكم لئلا يفتات عليه فلو فعل وقع القصاص موقعه واستحق التعزير] الموسوعة الفقهية 18/ 18-19. وأما إذا ارتكب الإنسان المعاصي ثم تاب منها فإن العلماء قد بينوا ما هو أثر التوبة على حقوق الله وحقوق العباد فإذا كانت المعصية متعلقة بحقوق الله المالية فلا بد للتائب منها أن يؤدي حقوق الله تعالى ولا يكفي مجرد الإقلاع عن المعصية. قال الإمام النووي: [… ثم إن كانت المعصية لا يتعلق بها حق مالي لله تعالى ولا للعباد كقبلة الأجنبية ومباشرتها فيما دون الفرج فلا شيء عليه سوى ذلك، وإن تعلق بها حق مالي كمنع الزكاة والغصب والجنايات في أموال الناس وجب مع ذلك تبرئة الذمة عنه] روضة الطالبين 11/245- 246. وذكر الخطيب الشربيني أن حق الله تعالى كالزكاة والكفارات لابد من أدائها. مغني المحتاج 4/440. وقال الإمام النووي أيضاً: [وإن تعلق بالمعصية حق ليس بمالي فإن كان حدا لله تعالى بأن زنى أو شرب الخمر فإن لم يظهر عليه فله أن يظهره ويقر به ليقام عليه الحد ويجوز أن يستر على نفسه وهو الأفضل، فإن ظهر فقد فات الستر فيأتي الإمام ليقيم عليه الحد] روضة الطالبين 11/ 246- 247 وكلام النووي يدل على أن الحدود المختصة بالله تعالى كحد الزنا والسرقة وشرب الخمر لا تسقط بمجرد التوبة ولا بد من إقامة الحد وهذا مذهب جمهور الفقهاء. انظر الموسوعة الفقهية 18/18-19. وكذلك فإنه من المقرر عند العلماء أن من شروط التوبة من المعصية المتعلقة بالناس رد الحقوق لأصحابها قال الإمام النووي: [وإن تعلق بها حق مالي كمنع الزكاة والغصب والجنايات في أموال الناس وجب مع ذلك تبرئة الذمة عنه بأن يؤدي الزكاة ويرد أموال الناس إن بقيت، ويغرم بدلها إن لم تبق، أو يستحل المستحق فيبرئه، ويجب أن يعلم المستحق إن لم يعلم به، وأن يوصله إليه إن كان غائباً إن كان غصبه منه هناك، فإن مات سلَّمه إلى وارثه، فإن لم يكن له وارث وانقطع خبره، دفعه إلى قاضٍ تُرضى سيرتهُ وديانته، فإن تعذر تصدق به على الفقراء بنية الغرامة له إن وجده … وإن كان معسرا نوى الغرامة إذا قدر، فإن مات قبل القدرة فالمرجو من فضل الله تعالى المغفرة. قلت - أي النووي - ظواهر السنن الصحيحة تقتضي ثبوت المطالبة بالظلامة، وإن مات معسراً عاجزاً إذا كان عاصياً بالتزامها، فأما إذا استدان في مواضع يباح له الاستدانة واستمر عجزه عن الوفاء حتى مات، أو أتلف شيئاً خطأً وعجز عن غرامته حتى مات، فالظاهر أن هذا لا مطالبة في حقه في الآخرة إذ لا معصية منه والمرجو أن الله تعالى يعوض صاحب الحق] . روضة الطالبين 11/245- 246. وقال النووي أيضاً: [وإن كان حقاً للعباد كالقصاص وحد القذف فيأتي المستحق ويمكنه من الاستيفاء فإن لم يعلم المستحق وجب في القصاص أن يعلمه فيقول أنا الذي قتلت أباك ولزمني القصاص، فإن شئت فاقتص وإن شئت فاعف … وأما الغيبة إذا لم تبلغ المغتاب فرأيت في فتاوى الحناطي أنه يكفيه الندم والاستغفار وإن بلغته … فالطريق أن يأتي المغتاب ويستحل منه فإن تعذر لموته أو تعسر لغيبته البعيدة استغفر الله تعالى ولا اعتبار بتحليل الورثة هكذا ذكره الحناطي] . روضة الطالبين11/ 247. وقال الشيخ أحمد النفراوي المالكي: [وأما تبعات العباد فلا يكفرها التوبة بل لا بد من استحلال أربابها لأن حقوق العباد لا يقال لها ذنوب] الفواكه الدواني 2/ 302.(18/47)
48 - شهر رجب
يقول السائل: وزعت في بعض المساجد نشرة تضمنت فضائل شهر رجب وقد ذكرت فيها مجموعة من الأحاديث نرجو بيان الحكم عليها؟
الجواب: ورد في النشرة المذكورة في السؤال ما يلي: يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: [ (رجب شهر الله. وشعبان شهري ورمضان شهر أمتي) رجب خص بالمغفرة من الله تعالى وشعبان بالشفاعة ورمضان بتضعيف الحسنات. وقد قيل رجب شهر التوبة وشعبان شهر المحبة ورمضان شهر القربة. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أكثروا من الاستغفار في رجب فإن لله تعالى في كل ساعة منه عتقاء من النار وأن لله مدائن لا يدخلها إلا من صام رجب ويسن الصيام في أوله وأوسطه وآخره ويوم الاثنين والخميس في ليلة السابع من رجب ليلة فضيلة تسمى ليلة الرغائب - ليلة نزول نطفة النبي صلى الله عليه وسلم من والده عبد الله إلى رحم أمه آمنة - وصيام نهارها فضيل حيث يعطي الله عز وجل لعبده الصائم ذلك اليوم ما يتمنى على الله عز وجل ويرغب. عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تغفلوا عن ليلة أول جمعة من رجب فإنها ليلة تسميها الملائكة ليلة الرغائب وذلك لأنه إذا مضى ثلث الليل لا يبقى ملك في السموات والأرضين إلا ويجتمعون في الكعبة وحولها فيطلع الله تعالى عليهم فيقول يا ملائكتي سلوني إذا شئتم فيقولون ربنا حاجتنا إليك أن تغفر لصوام رجب فيقول الله قد فعلت. وفي أواخره ليلة عظيمة وهي ليلة الإسراء والمعراج ليلة السابع والعشرين منه وقيام ليلها فضيل وصيام نهارها مستحب لكل مسلم ومسلمة. عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من صام يوم السابع والعشرين من رجب كتب الله له ثواب ستين شهراً] . وأقول إن كثيراً من الناس مولعون بنشر الأحاديث المختلقة والمكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعرضون عن الأحاديث الصحيحة الثابتة والتي فيها غنى عن تلك. ومن ذلك ما ورد في النشرة فالحديث الأول وهو: (رجب شهر الله وشعبان شهري ورمضان شهر أمتي) حديث موضوع كما قال الشوكاني في الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة ص100. وقال الحافظ العراقي: [حديث ضعيف جداً هو من مرسلات الحسن رويناه في كتاب الترغيب والترهيب للأصفهاني ومرسلات الحسن لا شيء عند أهل الحديث ولا يصح في فضل رجب حديث] فيض القدير 4/24 وقد عدَّه ابن الجوزي من الموضوعات أيضاً. وأما الحديث الثاني وهو: (أكثروا من الاستغفار في رجب فإن لله تعالى في كل ساعة منه عتقاء من النار وأن لله مدائن لا يدخلها إلا من صام رجب) فهو حديث مكذوب أيضاً ذكره ابن عراق في تنزيه الشريعة وابن طاهر المقدسي في تذكرة الموضوعات وذكره الشوكاني في الفوائد المجموعة ص439. وأما ما جاء في النشرة أنه يسن الصيام في أوله وأوسطه وآخره ويوم الإثنين والخميس فهذا الكلام ليس بصحيح لأنه لم يثبت في فضل صيام رجب بخصوصه شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه كما قال الحافظ ابن رجب الحنبلي في لطائف المعارف ص228. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: [فاتخاذه - أي شهر رجب - موسماً بحيث يفرد بالصوم مكروه عند الإمام أحمد وغيره كما روي عن عمر بن الخطاب وأبي بكرة وغيرهما من الصحابة] اقتضاء الصراط المستقيم 2/135. وقال الحافظ ابن حجر: [لم يرد في فضل شهر رجب ولا في صيامه ولا في صيام شيء منه معين ولا في قيام ليلة مخصوصة فيه حديث صحيح يصلح للحجة] رسالة تبين العجب ص3. وقال السيوطي: [ويكره إفراد رجب بالصوم] الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع ص174. وقال الإمام المحدث ابن دحية: [قال المؤتمن بن أحمد الساجي الحافظ: كان الإمام عبد الله الأنصاري شيخ خراسان لا يصوم رجباً وينهى عن ذلك ويقول: ما صح في فضل رجب وفي صيامه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء وقد روي كراهة صومه عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم منهم الصهر الأكرم والصاحب في الغار والرفيق الإمام أبو بكر الصديق خليفته على الأمة كلها بعد وفاته والقاتل لأهل الردة بجيوشه المنصورة وعزماته. وكان أمير المؤمنين أبو حفص عمر بن الخطاب الذي أجرى الله الحق على لسانه ووافقه في آيات محكمات تتلى علينا من قرآنه يضرب بالدرة صوامه وينهى عن ذلك قوامه روى ذلك الفاكهي في كتاب (مكة) له وأسنده الإمام المجمع على عدالته المتفق في (الصحيحن) على إخراج حديثه وروايته أبو عثمان سعيد بن منصور الخراساني قال: حدثنا سفيان عن مسعر عن وبرة عن خرشة بن الحر: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يضرب أيدي الرجال في رجب إذا رفعوا عن طعامه حتى يضعوا فيه ويقول: إنما هو شهر كان أهل الجاهلية يعظمونه] أداء ما وجب من بيان وضع الوضاعين في رجب ص55-57. وأما الإدعاء الكاذب المذكور في النشرة وهو: [أن ليلة السابع من رجب ليلة فضيلة تسمى ليلة الرغائب ليلة نزول نطفة النبي صلى الله عليه وسلم من والده عبد الله إلى رحم أمه آمنة] فهذا من أكذب الكذب والزور والبهتان حيث لا دليل على ذلك من الشرع. وأما حديث: [لا تغفلوا عن ليلة أول جمعة من رجب فإنها ليلة تسميها الملائكة ليلة الرغائب وذلك لأنه إذا مضى ثلث الليل لا يبقى ملك في السموات والأرضين إلا ويجتمعون في الكعبة وحولها فيطلع الله تعالى عليهم فيقول يا ملائكتي سلوني إذا شئتم فيقولون ربنا حاجتنا إليك أن تغفر لصوام رجب فيقول الله قد فعلت] فهذا الحديث مكذوب موضوع باتفاق المحدثين كما قال العلامة عبد الحي اللكنوي في الآثار المرفوعة في الأخبار الموضوعة ص63 حيث ذكر كلام الحافظ العراقي أن هذا الحديث موضوع وكذلك كلام ابن الجوزي أنه مكذوب ص64. وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي: [والأحاديث المروية في فضل صلاة الرغائب في أول ليلة جمعة من شهر رجب كذب وباطل لا تصح وهذه الصلاة بدعة عند جمهور العلماء. وممن ذكر ذلك من أعيان العلماء المتأخرين من الحفاظ أبو إسماعيل الأنصاري وأبو بكر بن السمعاني وأبو الفضل بن ناصر وأبو الفرج بن الجوزي وغيرهم. وإنما لم يذكرها المتقدمون لأنها أحدثت بعدهم وأول ما ظهرت بعد الأربعمائة فلذلك لم يعرفها المتقدمون ولم يتكلموا فيها] لطائف المعارف ص228. وقال العلامة ابن القيم: [وكذلك أحاديث صلاة الرغائب ليلة أول جمعة من رجب كلها كذب مختلق على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأمثلها: ما رواه عبد الرحمن بن منده - وهو صدوق - عن ابن جهضم - وهو واضع الحديث - حدثنا علي … عن أنس - يرفعه - (رجب شهر الله وشعبان شهري ورمضان شهر أمتي) الحديث. وفيه: (لا تغفلوا عن أول جمعة من رجب فإنها ليلة تسميها الملائكة ليلة الغائب) وذكر الحديث المكذوب بطوله. قال ابن الجوزي: اتهموا به ابن جهضم ونسبوه إلى الكذب وسمعت عبد الوهاب الحافظ يقول: رجاله مجهولون فتشت عليهم جميع الكتب فما وجدتهم! قال بعض الحفاظ: بل لعلهم لم يخلقوا. وكل حديث في ذكر صوم رجب وصلاة بعض الليالي فيه: فهو كذب مفترى كحديث (من صلى بعد المغرب أول ليلة من رجب عشرين ركعة … جاز على السراط بلا حساب) . وحديث (من صام يوماً من رجب وصلى أربع ركعات يقرأ في أول ركعة مئة مرة (آية الكرسي) وفي الثانية مئة مرة (قل هو الله أحد) : لم يمت حتى يرى مقعده من الجنة …) . وحديث: (من صام من رجب كذا وكذا) الجميع كذب مختلق] المنار المنيف ص95-97. وأما ما ورد في النشرة: [وفي أواخره ليلة عظيمة وهي ليلة الإسراء والمعراج ليلة السابع والعشرين منه وقيام ليلها فضيل وصيام نهارها مستحب لكل مسلم ومسلمة] . فهذا عين الكذب كما قال ذلك الإمام المحدث ابن دحية ووافقه على ذلك الحافظ ابن حجر وأنكر ذلك الإمام إبراهيم الحربي وغيره. قال ابن دحية: [وذكر بعض القصاص أن الإسراء كان في رجب وذلك عند أهل التعديل والتجريح عين الكذب] أداء ما وجب 53-54. وانظر ما قاله الحافظ ابن رجب الحنبلي في لطائف المعارف ص233 وما قاله العلامة المحدث الألباني في تعليقه على أداء ما وجب ص53. وأما حديث: (من صام يوم السابع والعشرين من رجب كتب الله له ثواب ستين شهراً) فهذا الحديث باطل موضوع لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقد ذكر العلماء عدداً من الأحاديث المكذوبة في فضل صوم رجب منها ما ذكره الشوكاني في الفوائد المجموعة ص100-101 فانظرها. وخلاصة الأمر أن المشروع في رجب هو المشروع في غيره من الشهور وليس لرجب أي خصوصية في صوم أو صلاة وأن ما رد في هذه النشرة من أحاديث كلها باطلة مكذوبة وأن هؤلاء الذين ينشرون مثل ذلك يشملهم الوعيد الوارد في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من حدث بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكذابين) رواه مسلم.(18/48)
49 - أول ما يحاسب عليه المرء يوم القيامة
يقول السائل: كيف نوفق بين ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن (أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة الصلاة) وبين ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم (إن أول ما يقضى بين الناس في الدماء) ؟
الجواب: أما الحديث الأول المتعلق بالصلاة فقد تقدمت رواياته في إجابة السؤال السابق وأما الحديث الثاني فقد رواه البخاري بإسناده عن عبد الله رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أول ما يقضى بين الناس في الدماء) وفي رواية مسلم: (أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء) . ولا تعارض بين هذا الحديث وحديث أبي هريرة في أن أول ما يحاسب عليه الصلاة لأن حديث أبي هريرة متعلق بحقوق الله سبحانه وتعالى والحديث الآخر متعلق بحقوق العباد أي إن أول حق من حقوق الله تعالى يحاسب عليه العبد هو الصلاة وأول حق من حقوق العباد يحاسب عليه العبد هو الدماء قال الإمام النووي: [قوله صلى الله عليه وسلم: (أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء) فيه تغليظ أمر الدماء وأنها أول ما يقضى فيه بين الناس يوم القيامة وهذا لعظم أمرها وكثير خطرها وليس هذا الحديث مخالفاً للحديث المشهور في السنن: (أول ما يحاسب به العبد صلاته) لأن هذا الحديث الثاني فيما بين العبد وبين الله تعالى وأما حديث الباب فهو فيما بين العباد والله أعلم بالصواب] شرح النووي على صحيح مسلم 4/319. وقال الحافظ ابن حجر: [ولا يعارض هذا حديث أبي هريرة رضي الله عنه رفعه: (إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة صلاته) الحديث أخرجه أصحاب السنن لأن الأول محمول على ما يتعلق بمعاملات الخلق والثاني فيما يتعلق بعبادة الخالق وقد جمع النسائي في روايته في حديث ابن مسعود بين الخبرين ولفظه: (أول ما يحاسب العبد عليه صلاته وأول ما يقضي بين الناس في الدماء) ] فتح الباري 11/482. وقال العلامة القاري: [الأظهر أن يقال لأن ذلك من المنهيات وهذا في المأمورات أو الأول في المحاسبة والثاني في الحكم لما أخرج النسائي عن ابن مسعود مرفوعاً: (أول ما يحاسب العبد عليه صلاته وأول ما يقضى بين الناس في الدماء) وفي الحديث إشارة إلى أن الأول الحقيقي هو الصلاة فإن المحاسبة قبل الحكم] المرقاة 7/9. وقال العلامة القاري في موضع آخر: [قال الأبهري: وجه الجمع بين هذا وبين قوله صلى الله عليه وسلم: (أول ما يقضى بين الناس يوم القيمة الدماء) أن الأول من حق الله تعالى والثاني من حقوق العباد أو الأول من ترك العبادات والثاني من فعل السيئات] المرقاة 2/420. وخلاصة الأمر أن التوفيق بين الحديثين يكون بحمل حديث أولية المحاسبة على الصلاة بأن ذلك متعلق بحقوق الله وأولية القضاء في الدماء بأن ذلك متعلق بحقوق العباد.(18/49)
50 - من البدع
يقول السائل: يجلس جماعة من المصلين بعد صلاة الفجر لعقد مجلس للصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ويأتون بأذكار كثيرة وفي لحظة من اللحظات يقفون قياماً ويزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم يحضر مجلسهم فيقومون احتراماً وتقديراً وإكباراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما يزعمون فما قولكم في ذلك؟
الجواب: لا شك أن الصلاة والسلام على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأمور المطلوبة شرعاً وقد ورد الأمر بذلك في قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) سورة الأحزاب الآية 56 ووردت الأحاديث الكثيرة في الصلاة والسلام على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد جمعها العلامة ابن القيم في كتابه (جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام) وتحدث عن المسائل المتعلقة بالصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم بشكل مفصل مع بيان الأدلة فهو كتاب نافع ومفيد في بابه. وأما ما ذكره السائل من عقد مجلس للصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بشكل جماعي ومع ما يصاحب ذلك من المخالفات فهذا من البدع المحدثة ولم يقم عليه دليل صحيح ولا كان عليه عمل السلف الصالح فالمسلم يصلي ويسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم انفراداً لا جماعة وأما ما يزعمه بعض الدجالين من أن النبي صلى الله عليه وسلم يحضر المجالس المشار إليها في السؤال فهو كلام باطل لا يقوم عليه دليل. بل الثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد مات بنص القرآن الكريم قال الله تعالى: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) سورة الزمر الآية 31. وقال الله تعالى: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) سورة الرحمن الآيات 26-27. وقال الله تعالى: (وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ) سورة الأنبياء الآية 34. وقد اتفق العلماء من الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة وغيرهم على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد مات فعلاً ويدل على ذلك أن الصحابة رضي الله عنهم قاموا على غسل النبي صلى الله عليه وسلم وتكفينه والصلاة عليه ودفنه وطلبت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بميراثه من أبي بكر خليفة المسلمين. وخلاصة الأمر أن حياة النبي صلى الله عليه وسلم الدنيوية قد انتهت بوفاته باتفاق أهل العلم ومن قال بخلاف ذلك فقوله باطل مردود ومن الثابت أن للنبي صلى الله عليه وسلم حياة برزخية في قبره لا يعلم حقيقيتها إلا الله سبحانه وتعالى وقد ورد في الحديث عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون) رواه أبو يعلى والبزار والبيهقي وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة حديث رقم 621. ولكن هذه الحياة لا يعلم كنهها إلا الله قال العلامة الألباني: [إن حياته صلى الله عليه وسلم بعد وفاته مخالفة لحياته قبل الوفاة ذلك أن الحياة البرزخية غيب من الغيوب ولا يدري كنهها إلا الله سبحانه وتعالى ولكن من الثابت والمعلوم أنها تختلف عن الحياة الدنيوية ولا تخضع لقوانينها فالإنسان في الدنيا يأكل ويشرب ويتنفس ويتزوج ويتحرك ويتبرز ويمرض ويتكلم ولا أحد يستطيع أن يثبت أن أحداً بعد الموت حتى الأنبياء عليهم السلام وفي مقدمتهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم تعرض له هذه الأمور بعد موته. ومما يؤكد هذا أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يختلفون في مسائل كثيرة بعد وفاته صلى الله عليه وسلم ولم يخطر في بال أحد منهم الذهاب إليه صلى الله عليه وسلم في قبره ومشاورته في ذلك وسؤاله عن الصواب فيها لماذا؟ إن الأمر واضح جداً وهو أنهم كلهم يعلمون أنه صلى الله عليه وسلم انقطع عن الحياة الدنيا ولم تعد تنطبق عليه أحوالها ونواميسها فرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته حي أكمل حياة يحياها إنسان في البرزخ ولكنها حياة لا تشبه حياة الدنيا ولعل مما يشير إلى ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (مما من أحدٍ يسلم عليَّ إلا ردَّ الله علي روحي حتى أرد عليه السلام) وعلى كل حال فإن حقيقتها لا يدريها إلا الله سبحانه وتعالى ولذلك لا يجوز قياس الحياة البرزخية أو الحياة الأخروية على الحياة الدنيوية كما لا يجوز أن تعطى واحدة منهما أحكام الأخرى بل لكل منها شكل خاص وحكم معين ولا تتشابه إلا في الاسم أما الحقيقة فلا يعلمها إلا الله تبارك وتعالى] التوسل ص65-66. إذا تقرر هذا فإن الزعم بأن النبي صلى الله عليه وسلم يحضر إلى المجلس المذكور في السؤال إنما هو كذب وافتراء على دين الله ومن الخرافات والخزعبلات التي ابتدعها جهلة المتصوفة ومن الغلو الذي حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث عن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبده فقولوا عبد الله ورسوله) رواه البخاري. ومن المعلوم أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا أشد الناس حباً للنبي صلى الله عليه وسلم ومع ذلك ما كانوا يفعلون ما يفعله هؤلاء ولم يكن من دأب الصحابة رضي الله عنهم القيام عند السلام على النبي صلى الله عليه وسلم مطلقاً لا في وقت زيارة قبره ولا غيره ولم يكن من عادتهم أن يقصدوا إلى قبره للسلام عليه صلى الله عليه وسلم كلما دخلوا المسجد النبوي ويقفوا عنده من أجل السلام عليه لكن روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان إذا جاء من سفره دخل المسجد النبوي فإذا صلى جاء إلى قبره عليه الصلاة والسلام فسلَّم عليه. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه] فتاوى إسلامية 1/110-111. وخلاصة الأمر أن الصلاة والسلام على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عبادة والأصل في باب العبادات هو التلقي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يرد أي دليل على القيام عند الصلاة والسلام على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الخير كل الخير في الاتباع وإن الشر كل الشر في الابتداع.(18/50)
51 - رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في المنام
يقول السائل: إذا رأى شخص في المنام النبي صلى الله عليه وسلم فأمره أو نهاه فما الحكم الشرعي لذلك؟
الجواب: قامت الأدلة الصحيحة على إمكانية رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام فقد روى الإمام البخاري في صحيحه بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من رآني في المنام فسيراني في اليقظة ولا يتمثل الشيطان بي) . وروى البخاري بسنده أيضاً عن أنس رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من رآني في المنام فقد رآني فإن الشيطان لا يتمثل بي ورؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءً من النبوة) . وروى بسنده عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الرؤيا الصالحة من الله والحلم من الشيطان فمن رأى شيئاً يكرهه فلينفث عن شماله ثلاثاً وليتعوذ من الشيطان فإنها لا تضره وإن الشيطان لا يتراءى بي) . وروى بسنده أيضاً عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من رآني فقد رأى الحق) . وروى بسنده أيضاً عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من رآني فقد رأى الحق فإن الشيطان لا يتكونني) . وقد دلت هذه الأحاديث على جواز رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وهذا أمر مشهور ومعروف عن أهل العلم. وأما إذا رأى شخص النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فأمره بشيء أو نهاه عن شيء فهل يعتبر ذلك تبليغاً من النبي صلى الله عليه وسلم يجب العمل بمقتضاه؟ فالصحيح من أقوال أهل العلم في هذه المسألة أن رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وأمره بشيء أو نهيه عن شيء أو كلامه في أمر شرعي لا يثبت بذلك كله حكم شرعي ولا يكون ذلك حجة ولا دليلاً إلا أن يكون ما ورد في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم أمر ثابت في الشريعة الإسلامية فالحجة لما هو ثابت في الشريعة ولا حجة لما ورد في الرؤيا بل الأصل هو ما ورد في الشريعة، قال الإمام الشاطبي: [ربما قال بعضهم: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقال لي كذا وأمرني بكذا فيعمل بها ويترك بها معرضاً عن الحدود الموضوعة في الشريعة وهو خطأ لأن الرؤيا من غير الأنبياء لا يحكم بها شرعاً على حال إلا أن تعرض على ما في أيدينا من الأحكام الشرعية فإن سوغتها عمل بمقتضاها وإلا وجب تركها والإعاض عنها وإنما فائدتها البشارة أو النذارة خاصة وأما استفادة الأحكام فلا] الاعتصام 2/318. وقال الشاطبي أيضاً: [ولا يقال: إن الرؤيا من أجزاء النبوة فلا ينبغي أن تهمل وأيضاً إن المخبر في المنام قد يكون النبي صلى الله عليه وسلم وهو قد قال: (من رآني في النوم فقد رآني حقاً فإن الشيطان لا يتمثل بي) وإذا كان فإخباره في النوم كإخباره في اليقظة. لأنا نقول: إن كانت الرؤيا من أجزاء النبوة فليست إلينا من كمال الوحي بل جزء من أجزائه والجزء لا يقوم مقام الكل في جميع الوجوه بل إنما يقوم مقامه في بعض الوجوه وقد صرفت إلى جهة البشارة والنذارة وفيها كاف] الاعتصام 2/319. وقال الشاطبي أيضاً: [وأما الرؤيا التي يخبر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم الرائي بالحكم فلا بد من النظر فيها أيضاً لأنه إذا أخبر بحكم موافق لشريعته فالحكم بما استقر وإن أخبر بمخالف فمحال لأنه صلى الله عليه وسلم لا ينسخ بعد موته شريعته المستقرة في حياته لأن الدين لا يتوقف استقراره بعد موته على حصول المرائي النومية لأن ذلك باطل بالإجماع فمن رأى شيئاً من ذلك فلا عمل عليه وعند ذلك نقول: إن رؤياه غير صحيحة إذ لو رآه حقاً لم يخبره بما يخالف الشرع] المصدر السابق 2/321. وقال الشاطبي أيضاً: [وعلى الجملة فلا يستدل بالرؤيا في الأحكام إلا ضعيف المنة نعم يأتي المرئي تأنيساً ونذارة خاصة بحيث لا يقطعون بمقتضاها حكماً ولا يبنون عليه أصلاً وهو الاعتدال في أخذها حسبما فهم من الشرع فيها والله أعلم] المصدر السابق 2/322. وقال الإمام القرافي: [فلو رآه صلى الله عليه وسلم فقال له إن امرأتك طالق ثلاثاً وهو يجزم بأنه لم يطلقها فهل تحرم عليه؟ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقول إلا حقاً. وقع فيه البحث مع الفقهاء واضطربت آراؤهم في ذلك بالتحريم وعدمه لتعارض خبره صلى الله عليه وسلم عن تحريمها في النوم وإخباره في اليقظة في شريعته المعظمة أنها مباحة له والذي يظهر لي أن إخباره عليه الصلاة والسلام في اليقظة مقدم على الخبر في النوم لتطرق الاحتمال للرائي بالغلط في ضبط المثال فإذا عرضنا على أنفسنا احتمال طروء الطلاق مع الجهل به واحتمال طروء الغلط في المثال في النوم وجدنا الغلط في المثال أيسر وأرجح ومن هو من الناس يضبط المثال على النحو المتقدم إلا أفراداً قليلةً من الحفاظ لصفته صلى الله عليه وسلم وأما ضبط عدم الطلاق فلا يختل إلا على النادر من الناس والعمل بالراجح متعين وكذلك لو قال له عن حلال إنه حرام أو عن حرام إنه حلال أو عن حكم من أحكام الشريعة قدمنا ما ثبت في اليقظة على ما رأى في النوم لما ذكرناه كما لو تعارض خبران من أخبار اليقظة صحيحان فإنا نقدم الأرجح بالسند أو باللفظ أو بفصاحته أو قلة الاحتمال في المجاز أو غيره فكذلك خبر اليقظة وخبر النوم يخرجان على هذه القاعدة] الفروق 4/245-246. وذكر الحافظ ابن حجر عن أبي محمد بن أبي جمرة أحد شراح الحديث قوله: [وكذلك يقال في كلامه صلى الله عليه وسلم في النوم أنه يعرض على سنته صلى الله عليه وسلم فما وافقها فهو هو وما خالفها فالخلل في سمع الرائي فرؤيا الذات الكريمة حق والخلل إنما هو في سمع الرائي أو بصره قال: وهذا خير ما سمعته في ذلك] فتح الباري 12/484. وقال الحافظ ابن حجر: [ويؤخذ من هذا ما تقدم التنبيه عليه أن النائم لو رأى النبي صلى الله عليه وسلم يأمره بشيء هل يجب عليه امتثاله ولا بد؟ أو لا بد أن يعرضه على الشرع الظاهر فالثاني هو المعتمد كما تقدم] المصدر السابق 12/486. وقال الشوكاني بعد أن ذكر أقوال أهل العلم في المسألة: [ولا يخفاك أن الشرع الذي شرعه الله لنا على لسان نبينا صلى الله عليه وسلم قد كمله الله عز وجل وقال: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) ولم يأتنا دليل يدل على أن رؤيته في النوم بعد موته صلى الله عليه وسلم إذا قال فيها بقول أو فعل فيها فعلاً يكون دليلاً وحجة بل قبضه الله إليه عند أن كمل لهذه الأمة ما شرعه لها على لسانه ولم يبق بعد ذلك حاجة للأمة في أمر دينها وقد انقطعت البعثة لتبليغ الشرائع وتبيينها بالموت وإن كان رسولاً حياً وميتاً وبهذا تعلم أن لو قدرنا ضبط النائم لم يكن ما رآه من قوله صلى الله عليه وسلم أو فعله حجة عليه ولا على غيره من الأمة] إرشاد الفحول 249. وبعد هذا العرض لأقوال العلماء في مسألة رؤية النبي صلى الله عليه وسلم نخلص إلى أنه لا يجوز الاعتماد على رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في إثبات حكم شرعي أو نفي حكم شرعي لأن الرسالة قد تمت وكملت قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن من شأن الصحابة رضوان الله عليهم ولا سلف الأمة الاعتماد على رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في إثبات الأحكام الشرعية أو نفيها.(18/51)
52 - احاديث مكذوبة
يقول السائل: هنالك حديث متداول بين الناس نريد أن نعرف حكمه وهو: (الخير فيَّ وفي أمتي إلى يوم القيامة) أفيدونا؟
الجواب: هذا الحديث المشهور ليس ثابتاً عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [لا أعرفه كما نقله السخاوي في المقاصد الحسنة ص208 حديث رقم 468] . وقال العجلوني: [قال ابن حجر المكي في الفتاوى الحديثية: [لم يرد بهذا اللفظ وإنما يدل على معناه الخبر المشهور [لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم …] كشف الخفاء 1/396. وقال الشيخ الألباني عن الحديث المذكور: لا أصل له. سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة 1/51 حديث رقم 30. وبهذا يظهر لنا أن هذا الحديث ليس له أصل فلا تجوز نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم.(18/52)
53 - حكم إقامة الجمعيات الخيرية
يقول السائل: ما قولكم فيمن يحرم إقامة الجمعيات الخيرية التي تهتم بشؤون الأسر الفقيرة ومساعدة الطلبة المحتاجين ونحو ذلك من الأعمال الخيرية؟
الجواب: إن مما ابتليت به الأمة المسلمة في زماننا هذا كثرة المتسورين على حمى العلم الشرعي من أشباه طلبة العلم ومن أدعياء الوعي والثقافة الذين يظنون أنهم بلغوا رتبة الاجتهاد وصاروا كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بل إنهم قد يخطئون هؤلاء الأئمة الكبار وبعض هؤلاء المتعالمين لا يحسن ألف باء العلم الشرعي!! إن قضية التحليل والتحريم من أخطر القضايا الشرعية يقول الله سبحانه وتعالى: (وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ) سورة النحل الآية 116. قال القرطبي في تفسير هذه الآية: [ومعنى هذا أن التحليل والتحريم إنما هو لله عز وجل وليس لأحد أن يقول ويصرح بهذا في عين من الأعيان إلا أن يكون الباري تعالى يخبر بذلك عنه] تفسير القرطبي 10/196. وقال الشوكاني: [وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي نضرة – هو المنذر بن مالك من التابعين - قال: قرأت هذه الآية في سورة النحل: (وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ) إلى آخر الآية فلم أزل أخاف الفتيا إلى يومي هذا. قلت – القائل الشوكاني -: صدق رحمه الله فإن هذه الآية تتناول بعموم لفظها فتيا من أفتى بخلاف ما في كتاب الله أو في سنة رسوله ? كما يقع كثيراً من المؤثرين للرأي المقدمين له على الرواية أو الجاهلين لعلم الكتاب والسنة كالمقلدة وإنهم لحقيقون بأن يحال بينهم وبين فتاويهم ويمنعوا من جهالاتهم فإنهم أفتوا بغير علم من الله ولا هدى ولا كتاب منير فضلوا وأضلوا فهم ومن يستفتيهم كما قال القائل: كبهيمة عمياء قاد زمامها أعمى على عوج الطريق الجائر] تفسير فتح القدير 3/201. وقال الله تعالى: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا) سورة يونس الآية 59. إذا تقرر هذا فأعود إلى السؤال فأقول إن إقامة الجمعيات الخيرية لتي تساعد الفقراء والمحتاجين وتقف مع أصحاب الحاجات من طلبة العلم وغيرهم هي في الحقيقة والواقع وسيلة من الوسائل التي تحقق مقاصد الشريعة الإسلامية في رعاية الفقراء والمحتاجين وقد قرر العلماء أن للوسائل أحكام المقاصد قال الإمام العز بن عبد السلام: [للوسائل أحكام المقاصد فالوسيلة إلى أفضل المقاصد هي أفضل الوسائل والوسيلة إلى أرذل المقاصد هي أرذل الوسائل] قواعد الأحكام 1/46. وقال الإمام القرافي: [اعلم أن الذريعة كما يجب سدها يجب فتحها وتكره وتندب وتباح فإن الذريعة هي الوسيلة فكما أن وسيلة المحرم محرمة فوسيلة الواجب واجبة كالسعي للجمعة والحج. وموارد الأحكام على قسمين مقاصد وهي المتضمنة للمصالح والمفاسد في أنفسها ووسائل وهي الطرق المفضية إليها وحكمها حكم ما أفضت إليه من تحريم وتحليل غير أنها أخفض رتبة من المقاصد في حكمها والوسيلة إلى أفضل المقاصد أفضل الوسائل وإلى أقبح المقاصد أقبح الوسائل وإلى ما يتوسط متوسطة ومما يدل على حسن الوسائل الحسنة قوله تعالى (ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخصمة في سبيل الله ولا يطئون موطئاً يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلاً إلا كتب لهم به عمل صالح) فأثابهم الله على الظمأ والنصب وإن لم يكونا من فعلهم بسبب أنهما حصلا لهم بسبب التوسل إلى الجهاد الذي هو وسيلة لإعزاز الدين وصون المسلمين فيكون الاستعداد وسيلة الوسيلة] الفروق 2/33. ومن المعلوم أن الإسلام قد اعتنى برعاية أصحاب الحاجات من الفقراء والمساكين واليتامى والأرامل وطلبة العلم ونحوهم وقد وردت النصوص الشرعية الكثيرة في هذا الباب منها: عن أبي هريرة ? قال: قال رسول الله ?: (الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله وأحسبه قال وكالقائم الذي لا يفتر وكالصائم الذي لا يفطر) رواه البخاري ومسلم. وعن سهل بن سعد ? قال: قال ?: (أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما) رواه البخاري. وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله ? قال: (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة) رواه البخاري ومسلم. وعن أبي هريرة ? عن النبي ? قال: (من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة. وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله تعالى يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه) رواه مسلم. وغير ذلك من النصوص. ومن المعلوم أن القيام على شؤون الفقراء والمساكين واليتامى والأرامل وطلبة العلم ونحوهم يحتاج في زماننا هذا إلى جهات مرتبة تقوم على مصالحهم وخاصة في ظل غياب دولة الإسلام التي من واجبها رعاية شؤونهم. وبما أن هذا المقصد لا يتحقق غالباً إلا من خلال إقامة الجمعيات الخيرية فتبقى إقامة الجمعيات الخيرية والمساهمة فيها لمن كان عنده المقدرة والصبر والتحمل على القيام بمثل هذه الأمور فإن ذلك من الوسائل المشروعة لتحقيق مقاصد الشارع الحكيم. ويجب التنبيه أن الجمعيات الخيرية التي أتحدث عنها هي الجمعيات التي تنطلق في أهدافها من شرع الله وتتبع في وسائلها ما شرعه الله سبحانه وتعالى ولا تتعامل بالمحرمات. وأما ما يزعمه الزاعمون من أن إقامة الجمعيات الخيرية ما هو إلا تعطيل لقيام دولة الإسلام فمجرد أوهام وسراب ولا حقيقة له والواقع يكذبه ولو اتبع المسلمون هذا الرأي منذ غياب دولة الإسلام لسار المسلمون من ضياع إلى ضياع ولو عمل المسلمون بهذا الرأي لتركنا هذا العمل الخيري لأعداء المسلمين ولجمعياتهم التنصيرية فهل نترك اليتامى والفقراء والأرامل للجمعيات التنصيرية لتفعل بفقراء المسلمين الأفاعيل ولتفسد عليهم دينهم وإذا لم ننشئ المدارس والمساجد والمراكز الطبية ولجان الزكاة فمن سيتولى القيام بذلك. إن على هؤلاء الذين يحرمون الحلال أن يعلموا أنهم على خطر عظيم إن تحريم الحلال لا يقل في خطورته عن تحليل الحرام وإن العلماء قد قرروا أن الأصل في الأشياء الإباحة يقول الله تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا) سورة البقرة الآية 29. وقال تعالى: (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً) سورة لقمان الآية 20. وقد ورد في الحديث عن أبي الدرداء ? أن النبي ? قال: (ما أحل الله في كتابه فهو حلال وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو عفو فاقبلوا من الله عافيته فإن الله لم يكن لينسى شيئاً وتلا قوله تعالى: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) سورة مريم الآية 64) رواه الحاكم وقال صحيح الإسناد ووافقه الذهبي وقال العلامة الألباني حديث حسن، انظر غاية المرام ص14. وقال الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله ورعاه: [وأحب أن أنبه هنا على أن أصل الإباحة لا يقتصر على الأشياء والأعيان بل يشمل الأفعال والتصرفات التي ليست من أمور العبادة وهي التي نسميها (العادات والمعاملات) فالأصل فيها عدم التحريم وعدم التقييد إلا ما حرمه الشارع وألزم به وقوله تعالى: (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ) سورة الأنعام الآية 119 , عام في الأشياء والأفعال. وهذا بخلاف العبادة فإنها من أمر الدين المحض الذي لا يؤخذ إلا عن طريق الوحي وفيها جاء الحديث الصحيح: (من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد) . وذلك أن حقيقة الدين تتمثل في أمرين: ألا يعبد إلا الله وألا يعبد الله إلا بما شرع فمن ابتدع عبادة من عنده كائناً من كان فهي ضلالة ترد عليه لأن الشارع وحده هو صاحب الحق في إنشاء العبادات التي يتقرب بها إليه. وأما العادات أو المعاملات فليس الشارع منشئاً لها بل الناس هم الذين أنشؤوها وتعاملوا بها والشارع جاء مصححاً لها ومعدلاً ومهذباً ومقراً في بعض الأحيان ما خلا عن الفساد والضرر منها. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: [إن تصرفات العباد من الأقوال والأفعال نوعان: عبادات يصلح بها دينهم وعادات يحتاجون إليها في دنياهم فباستقراء أصول الشريعة نعلم أن العبادات التي أوجبها الله أو أحبها لا يثبت الأمر بها إلا بالشرع وأما العادات فهي ما اعتاده الناس في دنياهم مما يحتاجون إليه والأصل فيه عدم الحظر فلا يحظر منه إلا ما حظره الله سبحانه وتعالى وذلك لأن الأمر والنهي هما شرع الله والعبادة لا بد أن تكون مأموراً بها فما لم يثبت أنه مأمور به كيف يحكم عليه بأنه محظور؟ ولهذا كان أحمد وغيره من فقهاء أهل الحديث يقولون: إن الأصل في العبادات التوقيف فلا يشرع منها إلا ما شرعه الله وإلا دخلنا في معنى قوله تعالى: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ) سورة الشورى الآية 21. والعادات الأصل فيها العفو فلا يحظر منها إلا ما حرمه وإلا دخلنا في معنى قوله: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا) سورة يونس الآية 59 وهذه قاعدة عظيمة نافعة وإذا كان كذلك فنقول: البيع والهبة والإجارة وغيرها من العادات التي يحتاج الناس إليها في معاشهم كالأكل والشرب واللباس فإن الشريعة قد جاءت في هذه العادات بالآداب الحسنة فحرمت منها ما فيه فساد وأوجبت ما لا بد منه وكرهت ما لا ينبغي واستحبت ما فيه مصلحة راجحة في أنواع هذه العادات ومقاديرها وصفاتها. وإذا كان كذلك فالناس يتبايعون ويستأجرون كيف يشاؤون ما لم تحرم الشريعة كما يأكلون ويشربون كيف شاؤوا ما لم تحرم الشريعة وإن كان بعض ذلك قد يستحب أو يكون مكروهاً وما لم تحد الشريعة في ذلك حداً فيبقون فيه على الإطلاق الأصلي] القواعد النورانية 112-113. ومما يدل على هذا الأصل المذكور ما جاء في الصحيح عن جابر بن عبد الله قال: [كنا نعزل والقرآن ينزل فلو كان شيء ينهى عنه لنهى عنه القرآن] فدل على أن ما سكت عنه الوحي غير محظور ولا منهي عنه وأنهم في حل من فعله حتى يرد نص بالنهي والمنع. وهذا من كمال فقه الصحابة رضي الله عنهم وبهذا تقررت هذه القاعدة الجليلة: (ألا تشرع عبادة إلا بشرع الله ولا تحرم عادة إلا بتحريم الله) ] الحلال والحرام ص21-23. وخلاصة الأمر أنه ينبغي إقامة الجمعيات الخيرية المنطلقة في أهدافها ووسائلها وتعاملها من شرع الله. وإن إقامة هذه الجمعيات الخيرية يدخل في عموم قوله تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى) .(18/53)
54 - بعض الاحاديث
يقول السائل: ما صحة الحديث الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم: (نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر) ؟
الجواب: هذا الحديث بين حاله أهل الحديث فمن كلامهم فيه ما قاله الحافظ ابن حجر: [قوله روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إنما نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر) هذا الحديث استنكره المزني فيما حكاه ابن كثير عنه في أدلة التنبيه. وقال النسائي في سننه باب الحكم بالظاهر ثم أورد حديث أم سلمة الذي قبله وقد ثبت في تخريج أحاديث المنهاج للبيضاوي سبب وقوع الوهم من الفقهاء في جعلهم هذا حديثا مرفوعا وأن الشافعي قال في كلام له وقد أمر الله نبيه أن يحكم بالظاهر والله متولي السرائر وكذا قال ابن عبد البر في التمهيد: أجمعوا أن أحكام الدنيا على الظاهر وأن أمر السرائر إلى الله وأغرب إسماعيل بن علي بن إبراهيم بن أبي القاسم الجنزوي في كتابه إدارة الأحكام فقال إن هذا الحديث ورد في قصة الكندي والحضرمي اللذين اختصما في الأرض فقال المقضي عليه قضيت علي والحق لي فقال صلى الله عليه وسلم: (إنما أقضي بالظاهر والله يتولى السرائر) . وفي الباب حديث عمر إنما كانوا يؤخذون بالوحي على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وإن الوحي قد انقطع وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم أخرجه البخاري وحديث أبي سعيد رفعه إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس وهو في الصحيح في قصة الذهب الذي بعث به علي وحديث أم سلمة الذي قبله وحديث ابن عباس الذي بعده] التلخيص الحبير 4/192. وقال ابن كثير [قوله وأيضاً نحن نحكم بالظاهر هذا الحديث كثيراً ما يلهج به أهل الأصول ولم أقف له على سند وسألت عنه الحافظ أبا الحجاج المزي فلم يعرفه لكن له معنى في الصحيح وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما أقضي بنحو مما أسمع] تحفة الطالب 1/ 174.. وقال الشوكاني: [وكذلك حديث (إنما نحكم بالظاهر) وهو وإن لم يثبت من وجه معتبر فله شواهد متفق على صحتها ومن أعظم اعتبارات الظاهر ما كان منه صلى الله عليه وسلم مع المنافقين من التعاطي والمعاملة بما يقتضيه ظاهر الحال] . نيل الأوطار 1/369.(18/54)
55 - يوم عاشوراء
يقول السائل: ما هي فضائل يوم عاشوراء وما حكم ما يفعله بعض المسلمين من ضرب أنفسهم بالسلاسل والأدوات الحادة حتى تسيل الدماء منهم في هذا اليوم؟
الجواب: الصحيح من أقوال أهل العلم أن ليوم عاشوراء فضيلة واحدة فقط ألا وهي صيامه وأما ما عدا ذلك مما زعم أنه من فضائل عاشوراء فليس له مستند صحيح وإنما كل ذلك من الافتراء والكذب. أما صوم عاشوراء فثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في عدة أحاديث منها عن ابن عباس رضي الله عنه أنه سئل عن صوم يوم عاشوراء فقال: [ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صام يوماً فتحرى فضله على الأيام إلا هذا اليوم يعني عاشوراء وهذا الشهر يعني رمضان] رواه البخاري ومسلم. وعن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه قال: [سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن هذا يوم عاشوراء ولم يكتب عليكم صيامه وأنا صائم فمن شاء صام ومن شاء أفطر] روه البخاري ومسلم. وعن أبي قتادة رضي الله عنه أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن صيام عاشوراء فقال: (أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله) رواه مسلم وغير ذلك من الأحاديث. وقد اتفق أهل العلم على أن صيام عاشوراء من السنن الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم ويستحب للمسلم أن يصوم يوماً قبله أو يوماً بعده وهو الأفضل قال العلامة ابن القيم: [فمراتب صومه ثلاثة أكملها أن يصام قبله يوم وبعده يوم ويلي ذلك أن يصام التاسع والعاشر وعليه أكثر الأحاديث ويلي ذلك إفراد العاشر وحده بالصوم] زاد المعاد 2/76. هذا هو الثابت في فضل عاشوراء وهو الصيام وأما ما روي من أمور أخرى في فضل عاشوراء فليس بثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم كالتوسعة على الأهل في يوم عاشوراء حيث روي في الحديث: (من وسع على أهله يوم عاشوراء وسع الله عليه سائر سنته) وهذا الحديث روي من وجوه متعددة لم يصح منها شيء كما قال الحافظ ابن رجب الحنبلي في لطائف المعارف ص113. وقال الشيخ الألباني بعد أن تكلم على طرق الحديث: [وهكذا سائر طرق الحديث مدارها على متروكين أو مجهولين ومن الممكن أن يكونوا من أعداء الحسين رضي الله عنه الذين وضعوا الأحاديث في فضل الإطعام والاكتحال وغير ذلك يوم عاشوراء معارضة منهم للشيعة الذين جعلوا هذا اليوم يوم حزن على الحسين رضي الله عنه لأن قتله كان فيه. ولذلك جزم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بأن هذا الحديث كذب وذكر أنه سئل الإمام أحمد عنه فلم يره شيئاً وأيد ذلك بأن أحداً من السلف لم يستحب التوسعة يوم عاشوراء وأنه لا يعرف شيء من هذه الأحاديث على عهد القرون الفاضلة] تمام المنة ص411 –412. وكذلك ما روي في إحياء ليلة عاشوراء أو صلاة أربع ركعات ليلة عاشوراء ويومها أو زيارة القبور في يوم عاشوراء وقراءة سورة فيها ذكر موسى عليه السلام فجر يوم عاشوراء فكل ذلك لا أصل له شرعاً وهو من البدع المحدثة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في جواب سؤال حول ما يفعله الناس في يوم عاشوراء من الكحل والاغتسال والحناء والمصافحة وطبخ الحبوب وإظهار السرور وعزوا ذلك إلى الشارع فهل ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك حديث صحيح أم لا وإذا لم يرد حديث صحيح في شيء من ذلك فهل يكون فعل ذلك بدعة أم لا؟ أجاب: الحمد لله رب العالمين لم يرد في شيء من ذلك حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه ولا استحب ذلك أحد من أئمة المسلمين لا الأئمة الأربعة ولا غيرهم ولا روى أهل الكتب المعتمدة في ذلك شيئاً لا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة رضي الله عنهم ولا التابعين لا صحيحاً ولا ضعيفاً لا في كتب الصحيح ولا السنن ولا المسانيد ولا يعرف شيء من هذه الأحاديث على عهد القرون الفاضلة ولكن روى بعض المتأخرين في ذلك أحاديث مثل ما رووا أن من اكتحل يوم عاشوراء لم يرمد ذلك العام ومن اغتسل يوم عاشوراء لم يمرض ذلك العام وأمثال ذلك ورووا فضائل في صلاة يوم عاشوراء ورووا أن في يوم عاشوراء توبة آدم واستواء السفينة على الجودي ورد يوسف على يعقوب وإنجاء إبراهيم من النار وفداء الذبيح بالكبش ونحو ذلك ورووا ذلك في حديث موضوع على النبي صلى الله عليه وسلم ورووا أنه من وسع على أهله يوم عاشوراء وسع الله عليه سائر سنته ورواية هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم كذب] الفتاوى الكبرى 2/248 –249. وأما ما يفعله بعض المسلمين من الرافضة في يوم عاشوراء من ضرب أنفسهم بالسلاسل والسيوف حتى تسيل دماؤهم بحجة الحزن على مقتل الحسين بن علي رضي الله عنهما فإن هذا العمل منكر لا يقره الإسلام بحال من الأحوال كما سأبين ولكن ينبغي أن يعلم أولاً أنه (لا نزاع في فضل الحسين ـ رضي الله عنه ـ ومناقبه؛ فهو من علماء الصحابة، ومن سادات المسلمين في الدنيا والآخرة الذين عرفوا بالعبادة والشجاعة والسخاء ... ، وابن بنت أشرف الخلق صلى الله عليه وسلم، والتي هي أفضل بناته، وما وقع من قتله فأمر منكر شنيع محزن لكل مسلم، وقد انتقم الله ـ عز وجل ـ من قتلته فأهانهم في الدنيا وجعلهم عبرة، فأصابتهم العاهات والفتن، وقلَّ من نجا منهم. والذي ينبغي عند ذكر مصيبة الحسين وأمثالها هو الصبر والرضى بقضاء الله وقدره، وأنه ـ تعالى ـ يختار لعبده ما هو خير، ثم احتساب أجرها عند الله ـ تعالى ـ. ولكن لا يحسن أبداً ما يفعله الشيعة من إظهار الجزع والحزن الذي يُلحَظُ التصنع والتكلف في أكثره، وقد كان أبوه عليٌّ أفضل منه وقُتل، ولم يتخذوا موته مأتماً، وقتل عثمان وعمر ومات أبو بكر ـ رضي الله عنهم ـ، وكلهم أفضل منه.. ومات سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، ولم يقع في يوم موته ما هو حاصل في مقتل الحسين. وليس اتخاذ المآتم من دين المسلمين أصلاً، بل هو أشبه بفعل أهل الجاهلية) يوم عاشوراء أحكام وفوائد ص9. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: [فصارت طائفة جاهلة ظالمة إما ملحدة منافقة وإما ضالة غاوية تظهر موالاتها وموالاة أهل بيته تتخذ يوم عاشوراء يوم مأتم وحزن ونياحة وتظهر فيه شعار الجاهلية من لطم الخدود وشق الجيوب والتعزي بعزاء الجاهلية والذي أمر الله به ورسوله في المصيبة إذا كانت جديدة إنما هو الصبر والاحتساب والاسترجاع كما قال تعالى: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) سورة البقرة الآيات 155-157. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية) وقال (أنا بريء من الصالقة والحالقة والشاقة) وقال ((النائحة إذا لم تتب قبل موتها فإنها تلبس يوم القيامة درعاً من جرب وسربالاً من قطران) وفي المسند عن فاطمة بنت الحسين عن أبيها الحسين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من رجل يصاب بمصيبة فيذكر مصيبته وإن قدمت فيحدث لها استرجاعاً إلا أعطاه الله من الأجر مثل أجره يوم أصيب بها) وهذا من كرامة الله للمؤمنين فإن مصيبة الحسين وغيره إذا ذكرت بعد طول العهد فينبغي للمؤمن أن يسترجع فيها كما أمر الله ورسوله ليعطى من الأجر مثل أجر المصاب يوم أصيب بها وإذا كان الله تعالى قد أمر بالصبر والاحتساب عند حدثان العهد بالمصيبة فكيف مع طول الزمان فكان ما زينه الشيطان لأهل الضلال والغي من اتخاذ يوم عاشوراء مأتماً وما يصنعونه فيه من الندب والنياحة وإنشاد قصائد الحزن ورواية الأخبار التي فيها كذب كثير والصدق منها ليس فيه إلا تجديد الحزن والغضب وإثارة الشحن والحرب وإلقاء الفتن بين أهل الإسلام والتوسل بذلك إلى سب السابقين الأولين وكثرة الكذب والفتن في الدين] الفتاوى الكبرى 2/252. وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي: [وأما اتخاذه مأتماً كما تفعله الرافضة لأجل قتل حسين بن علي رضي الله عنهما فيه فهو من عمل من ضل سعيه في الحياة الدنيا وهو يحسب أنه يحسن صنعاً ولم يأمر الله ولا رسوله باتخاذ أيام مصائب الأنبياء وموتهم مأتماً فكيف بمن دونهم] لطائف المعارف ص113. وقد أنكر هذا المنكر العيم عدد من علماء الشيعة مثل الدكتور موسى الموسوى حيث قال: [الضرورة تملي أن نفرد فصلاً خاصاً في ضرب السلاسل على الأكتاف وشج الرؤوس بالسيوف والقامات في يوم العاشر من محرم حداداً على الإمام الحسين. وبما أن هذه العملية البشعة ما زالت جزءاً من مراسم الاحتفال باستشهاد الإمام الحسين …] الشيعة والتصحيح ص98. وقال أيضاً: [ولا ندري على وجه الدقة متى ظهر ضرب السلاسل على الأكتاف في يوم عاشوراء وانتشر في أجزاء من المناطق الشيعية مثل إيران والعراق وغيرهما ولكن الذي لا شك فيه أن ضرب السيوف على الرؤوس وشج الرأس حداداً على الحسين في يوم العاشر من محرم تسرب إلى إيران والعراق من الهند وفي إبان الاحتلال الإنجليزي لتلك البلاد وكان الإنجليز هم الذين استغلوا جهل الشيعة وسذاجتهم وحبهم الجارف للإمام الحسين فعلموهم ضرب القامات على الرؤوس وحتى إلى عهد قريب كانت السفارات البريطانية في طهران وبغداد تمول المواكب الحسينية التي كانت تظهر بذلك المظهر البشع في الشوارع والأزقة] المصدر السابق ص99. وقال أيضاً: [وهنا اذكر كلاماً طريفاً مليئاً بالحكمة والأفكار النيرة سمعته من أحد أعلام الشيعة ومشايخهم قبل ثلاثين عاماً لقد كان ذلك الشيخ الوقور الطاعن في السن واقفاً بجواري وكان اليوم هو العاشر من محرم والساعة الثانية عشرة ظهراً والمكان هو روضة الإمام الحسين في كربلاء وإذا بموكب المطبرين الذين يضربون بالسيوف على رؤوسهم ويشجونها حداداً وحزناً على الحسين دخلوا الروضة في أعداد غفيرة والدماء تسيل على جباههم وجنوبهم بشكل مقزز تقشعر من رؤيته الأبدان ثم أعقب الموكب موكباً آخر وفي أعداد غفيرة أيضاً وهم يضربون بالسلاسل على ظهورهم وقد أدموها وهنا سألني الشيخ العجوز والعالم الحر ما بال هؤلاء الناس وقد أنزلوا بأنفسهم هذه المصائب والآلام؟ قلت: كأنك لا تسمع ما يقولون إنهم يقولون واحسيناه أي لحزنهم على الحسين. ثم سألني الشيخ من جديد أليس الحسين الآن في " مقعد صدق عند مليك مقتدر " قلت: بلى. ثم سألني مرة أخرى: أليس الحسين الآن في هذه اللحظة في الجنة " التي عرضها كعرض السماوات والأرض أعدت للمتقين "؟ قلت: بلى. ثم سألني: أليس في الجنة " حور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون "، قلت: بلى وهنا تنفس الشيخ الصعداء وقال بلهجة كلها حزن وألم: ويلهم من جهلة أغبياء لماذا يفعلون بأنفسهم هذه الأفاعيل لأجل إمام هو الآن في " جنة ونعيم " ويطوف عليه ولدان مخلدون بأكواب وأباريق وكأس من معين ". وفي عام 1352 هجري وعندما أعلن كبير علماء الشيعة في سوريا السيد محسن الأمين العاملي تحريم مثل هذه الأعمال وأبدى جرأة منقطعة النظير في الإفصاح عن رأيه وطلب من الشيعة أن يكفوا عنها لاقى معارضة قوية من داخل صفوف العلماء ورجال الدين؟! الذين ناهضوه وورائهم " الهمج الرعاع " على حد تعبير الإمام علي. وكادت خطواته الإصلاحية تفشل لولا أن تبنى جدنا السيد أبو الحسن بصفته الزعيم الأعلى للطائفة الشيعية موقف العلامة الأمين ورأيه في تلك الأعمال معلناً تأييده المطلق له ولفتواه] ص100-101. وخلاصة الأمر أنه يندب صوم عاشوراء ويوماً قبله ويوماً بعده وأما يفعله الشيعة من ضرب بالسيوف وغيرها حتى تسيل الدماء فمن المنكرات والإسلام منها بريء.(18/55)
56 - أحداث أفغانستان والتلاعب بآيات القرآن الكريم
يقول السائل: ما قولكم فيمن يربطون الأحداث التي وقعت في أفغانستان وما تعلق بها بالآيات القرآنية الواردة في قصة موسى عليه السلام مع فرعون ربطاً تفصيلياً حيث إنهم يجعلون لكل حدث من الأحداث مهما كان صغيراً ارتباطاً بآية قرآنية وإن كثيراً من عامة الناس قد صدقوا هذه التفسيرات؟
الجواب: عرف التاريخ الإسلامي جماعة من الوعاظ والقصاص الذين كانوا يحدثون الناس في المساجد بالغرائب والأباطيل والأكاذيب وكان هؤلاء القصاص يستميلون قلوب العامة إليهم بذلك قال ابن قتيبة: [… القصاص فإنهم يميلون وجه العوام إليهم ويشيدون ما عندهم بالمناكير والأكاذيب من الأحاديث ومن شأن العوام القعود عند القاص ما كان حديثه عجيباً خارجاً عن نظر المعقول أو كان رقيقاً يحزن القلب …] تأويل مختلف الحديث ص357. والعامة في كل عصر مولعون بالغريب ويعجبون بالخرافة ويستمتعون بالعجائب وقد ظهر في زماننا هذا نوع جديد من القصاص يهواهم العامة ويتحلقون حولهم ويظنونهم من المجددين لدين الإسلام وهؤلاء القصاص الجدد يزعمون أن عندهم فهماً جديداً لآيات القرآن وينزلون آيات الكتاب الكريم على الواقع الذي تعيشه الأمة المسلمة اليوم وهو واقع مرير بلا شك. ويتعلق العامة بالقصاص الجدد بسبب حالة الضعف والذلة والهوان التي تعيشها الأمة المسلمة ونظراً لحالة العداء الشديدة للغرب عامة ولأمريكا خاصة السائدة اليوم في العالم الإسلامي فلما سمع عامة الناس كلام القصاص الجدد حول دمار أمريكا وغرقها وتدمير أبراجها إلى آخر المقولة التي يرددها القصاص الجدد تعلق العامة بهذا الكلام كتعلق الغريق بالقشة. وأذكر هنا أمثلة من ربط الأحداث الحالية بالآيات القرآنية مما يروج على العامة وأشباه طلبة العلم فمن ذلك: إن قصة موسى عليه السلام المذكورة في سورة القصص تنطبق على أمريكا اليوم وأن أمريكا ستغرق كما غرق فرعون وسيكون غرق أمريكا خلال سنة أو سنتين!!! قال الله تعالى: (وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَب أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ فَلَمَّاءَاسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ) سورة الزخرف، الآيات 51-56 - الزعم بأن كلمة فرعون تعني البيت العظيم ويوجد اليوم البيت الأبيض قال الله تعالى (… سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ) - الزعم بأن ما ورد في سورة القصص من ذكر لبعض الأمور بصيغة المثنى مثل (رجلين) (امرأتين) (الأجلين) (فذانك برهانان) (سحران تظاهرا) (أهدى منهما) (أجرهم مرتين) إن هذه التثنية تدل على أن القصة ستحدث مرتين الأولى مع فرعون والثانية مع أمريكا!!! - الزعم بأن قصة قارون المذكورة في سورة القصص تنطبق على السعودية لأن قارون كان من قوم موسى واليوم أسامة بن لادن سعودي فقارون هي السعودية. فالله آتى قارون من الكنوز: (إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَءَاتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّة) والله سبحانه وتعالى أعطى السعودية آبار النفط. - الزعم بأن المراد بقوله تعالى على لسان فرعون: (فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى) أن الصرح هو المرصد الفلكي وأمريكا أطلقت التلسكوب الفضائي هابل. - الزعم بأن فرعون كان يقاتل القاعدة: (فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا) وأمريكا اليوم تقاتل شبكة القاعدة والناس تقول للقاعد فز!!! - الزعم بأن قوله تعالى مخاطباً موسى: (سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ) ينطبق على انضمام جماعة الجهاد إلى القاعدة والآية قالت (عضدك) والظواهري اسمه أيمن!!! - الزعم بأن قوله تعالى: (قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ) بأنه ينطبق على مصاهرة أسامة بن لادن للملا عمر!!! الزعم بأن قوله تعالى: (فسقى لهما) ينطبق على حفر أسامة بن لادن لآبار المياه في أفغانستان!!! - الزعم بأن تحالف الشمال الأفغاني ينطبق عليه قوله تعالى: (إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ) وقوله تعالى (والذين ظاهروهم) هم بنو قريظة والنسبة إليهم قرظي وقرظاي هو زعيم الحكومة الأفغانية الآن!!! - الزعم بأن قوله تعالى: (وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا) هي 10% من أرض أفغانستان التي كانت بأيدي تحالف الشمال الأفغاني حيث إن الطالبان والقاعدة سينتصرون عليهم ويطؤوا تلك الأرض التي لم يطؤوها من قبل!!! - الزعم بأن هناك توافقاً بين اسم موسى عليه السلام واسم أسامة بن لادن ففي قصة موسى في سورة القصص قال تعالى: (طسم) وأن السين والميم هما الحرفان المركزيان في اسم موسى وكذلك هما في اسم أسامة. والزعم بأن أوصاف موسى تنطبق على أسامة بن لادن من حيث الطول والسواد والأنف وحمل العصا فأسامة كذلك، إلى غير ذلك من المزاعم والترهات التي حاولوا إلصاقها بآيات الكتب المبين وبهر بها العامة. إنه نوع جديد من التلاعب بكلام رب العالمين إن كلام الله أجل وأعظم من هذه الأباطيل والترهات. وأقول في إبطال هذا الكلام ما يلي: ينبغي أن يعلم أنني لا أكتب هذا الكلام إلا دفاعاً عن كتاب الله سبحانه وتعالى وكلامي لا يعني أنني حريص على بقاء أمريكا بل إن كل مسلم يتمنى أن يقصم الله ظهر دول الكفر وعلى رأسها أمريكا. ولكنه الدفاع عن كلام رب العالمين حتى لا يكون لعبة للمتلاعبين بأقدس ما يملك المسلمون وألخص ردي فيما يلي: أولاً: إن تفسير كلام رب العالمين ليس من شأن العوام ولا من شأن أشباه طلبة العلم. إن تفسير كلام رب العالمين له قواعده وضوابطه التي قررها العلماء ولا بد من معرفتها قبل أن يخوض أي أحد في تفسير القرآن الكريم وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الجرأة على الخوض في كلام الله تعالى بغير علم فقد روى الترمذي بسنده عن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار) وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح. وحسنه البغوي في شرح السنة 1/258. وجاء في رواية أخرى عن ابن عباس رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (اتقوا الحديث عني إلا ما علمتم فمن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار ومن قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار) رواه الترمذي وقال حديث حسن وحسنه البغوي في شرح السنة 1/257. وعن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ) رواه الترمذي ثم قال: [هكذا روي عن بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم أنهم شددوا في هذا في أن يفسر القرآن بغير علم] سنن الترمذي مع شرحه عارضة الأحوذي 11/50-51. وقد ذكر الإمام القرطبي في مقدمة تفسيره باباً بعنوان (ما جاء في الوعيد في تفسير القرآن بالرأي والجرأة على ذلك) وذكر فيه الأحاديث السابقة ثم ذكر أقوال أهل العلم في التحذير الشديد من التلاعب بكلام الله وتفسيره حسب الآراء والأهواء التي لا تقوم على أساس صحيح ونقل عن ابن عطية قوله: [وكان جلة من السلف الصالح كسعيد بن المسيب وعامر الشعبي وغيرهما يعظمون تفسير القرآن ويتوقفون عنه تورعاً واحتياطاً لأنفسهم مع إدراكهم وتقدمهم قال أبو بكر الأنباري: وقد كان الأئمة من السلف الماضي يتورعون عن تفسير المشكل من القرآن؛ فبعض يقدر أن الذي يفسره لا يوافق مرا الله عز وجل فيحجم عن القول. وبعض يشفق من أن يجعل في التفسير إماماً يبنى على مذهبه ويقتفى طريقه. فلعل متأخراً أن يفسر حرفاً برأيه ويخطئ فيه ويقول: إمامي في تفسير القرآن بالرأي فلان الإمام من السلف وعن ابن أبي مليكة قال: سئل أبو بكر الصديق رضي الله عنه عن تفسير حرف من القرآن فقال: أي سماء تظلني وأي أرض تقلني! وأين أذهب! وكيف أصنع! إذا قلت في حرف من كتاب الله تعالى بغير ما أراد تبارك وتعالى) تفسير القرطبي 1/33-34. وقال الإمام بن العربي المالكي: [من تسور على تفسير القرآن فصور صورة خطأ فله الويل، ومن أصاب فمثله، كما روى أبو عيسى وهكذا قال النبي عليه السلام في القاضي أنه إذا حكم بجهل وأصاب فله النار لإقدامه على ما لا يحل في أمر يعظم قدره وهو الإخبار عن الله بما لم يشرع في حكمه أو إخباره عن ما لم يرده بقوله في وحيه) عارضة الأحوذي 11/52. ثانياً: لا شك أن الله سبحانه وتعالى حث على الاتعاظ والاعتبار بآيات القرآن الكريم قال الله تعالى: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) سورة القمر الآية 17. وهذه الآية تمسك بها القصاص الجدد ليفتحوا لأنفسهم باب القول في القرآن الكريم وفق أهوائهم وشهواتهم فيرون أنه لا يوجد أية شروط لمن أراد الادكار أي التفسير حتى لو كان كافراً. وهذا الكلام الباطل يرده ما قاله المفسرون في معنى الآية وهو (والله لقد سهلنا القرآن للحفظ والتدبر والاتعاظ لما اشتمل عليه من أنواع المواعظ والعبر (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) أي فهل من متعظ بمواعظه معتبر بقصصه وزواجره) انظر تفسير الألوسي 14/83. تفسير ابن كثير 6/50، صفوة التفاسير 3/286. إن الادكار والاتعاظ والاعتبار شيء والتلاعب بكتاب الله شيء آخر ولا يقبل بحال من الأحوال أن يقول إنسان مهما كان برأيه في كتاب الله ثم يقول إن أصبت فمن الله وإن أخطأت فمن نفسي ومن الشيطان فلو قال إنسان مثلاً إن المراد بقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) البقرة هي عائشة رضي الله عنها ثم يقول هذا رأيي فإن أصبت فمن الله وإن أخطأت فالله ورسوله منه بريئان!!! هل يكون هذا الكلام مقبولاً؟ بالتأكيد لا، لأن التفسير له قواعده وأصوله. قال الشيخ مناع القطان رحمه الله: ذكر العلماء للمفسر شروطاً نجملها فيما يلي: 1-صحة الاعتقاد: فإن العقيدة لها أثرها في نفس صاحبها، وكثيراً ما تحمل ذويها على تحريف النصوص والخيانة في نقل الأخبار، فإذا صنف أحدهم كتاباً في التفسير أوَّل الآيات التي تخالف عقيدته، وحملها باطل مذهبه، ليصد الناس عن اتباع السلف، ولزوم طريق الهدى. 2-التجرد عن الهوى: فالأهواء تدفع أصحابها إلى نصرة مذهبهم، فيغرون الناس بلين الكلام ولحن البيان، كدأب طوائف القدرية والرافضة والمعتزلة ونحوهم من غلاة المذاهب. 3-أن يبدأ أولاً بتفسير القرآن بالقرآن، فما أُجمل منه في موضع فإنه قد فصل في موضع آخر، وما اختصر منه في مكان فإنه قد بسط في مكان آخر. 4-أن يطلب التفسير من السنة فإنها شارحة للقرآن موضحة له، وقد ذكر القرآن أن أحكام رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما تصدر منه عن طريق الله (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله) [النساء: 105] وذكر الله أن السنة مبينة للكتاب: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون) [النحل: 44] ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه" يعني السنة. وقال الشافعي رضي الله عنه: "كل ما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مما فهمه من القرآن" وأمثلة هذا في القرآن كثيرة –جمعها صاحب الإتقان مرتبة مع السور في آخر فصل من كتابه كتفسير السبيل بالزاد والراحلة، وتفسير الظلم بالشرك، وتفسير الحساب اليسير بالعرض. 5-فإذا لم يجد التفسير من السنة رجع إلى أقوال الصحابة رضي الله عنهم فإنهم أدرى بذلك لما شاهدوه من القرآن والأحوال عند نزوله، ولما لهم من الفهم التام، والعلم الصحيح، والعمل الصالح. 6-فإذا لم يجد في القرآن ولا في السنة ولا في أقوال الصحابة فقد رجع كثير من الأئمة إلى أقوال التابعين، كمجاهد بن جبر، وسعيد بن جبير، وعكرمة مولى ابن عباس، وعطاء بن أبي رباح، والحسن البصري، ومسروق بن الأجدع، وسعيد بن المسيب، والربيع بن أنس وقتادة، والضحاك بن مزاحم، وغيرهم من التابعين، ومن التابعين من تلقى جمع التفسير عن الصحابة، وربما تكلموا في بعض ذلك بالاستنباط والاستدلال، والمعتمد في ذلك كله النقل الصحيح، ولهذا قال أحمد: "ثلاث كتب لا أصل لها، المغازي والملاحم والتفسير" يعني بهذا التفسير الذي لا يعتمد على الروايات الصحيحة في النقل. 7-العلم باللغة العربية وفروعها: فإن القرآن نزل بلسان عربي، ويتوقف فهمه على شرح مفردات الألفاظ ومدلولاتها بحسب الوضع، قال مجاهد: "لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتكلم في كتاب الله إذا لم يكن عالماً بلغات العرب". والمعاني تختلف باختلاف الإعراب، ومن هنا مست الحاجة إلى اعتبار علم النحو، والتصريف الذي تعرف به الأبنية، والكلمة المبهمة يتضح معناها بمصادرها ومشتقاتها. وخواص تركيب الكلام من جهة إفادتها المعنى، ومن حيث اختلافها بحسب وضوح الدلالة وخفائها. ثم من ناحية وجوه تحسين الكلام- وهي علوم البلاغة الثلاثة: المعاني والبيان والبديع –من أعظم أركان المفسر. إذ لابد له من مراعاة ما يقتضيه الإعجاز، وإنما يدرك الإعجاز بهذه العلوم. 8-العلم بأصول العلوم المتصلة بالقرآن، كعلم القراءات لأن به يعرف كيفية النطق بالقرآن ويترجح بعض وجوه الاحتمال على بعض، وعلم التوحيد، حتى لا يؤول آيات الكتاب التي في حق الله وصفاته تأويلاً يتجاوز الحق، وعلم الأصول، وأصول التفسير خاصة مع التعمق في أبوابه التي لا يتضح المعنى ولا يستقيم المراد بدونها، كمعرفة أسباب النزول، والناسخ والمنسوخ، ونحو ذلك. 9-دقة الفهم التي تمكن المفسر من ترجيح معنى على آخر، أو استنباط معنى يتفق مع نصوص الشريعة. مباحث في علوم القرآن ص 340 – 342. ثالثاً: إن الاتكاء على قوله تعالى: (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْءَانِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) سورة الكهف الآية 54. وقوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) سورة يوسف الآية 111. ونحوها من الآيات التي أخذ منها القصاص أن كل شيء يحدث في هذا الكون لا بد وأن يكون مذكوراً في القرآن الكريم. فإن هذا فهم خاطىء لكلام الله والواقع يكذبه فإن أحداثاً كثيرة وقعت ليس لها ذكر في القرآن الكريم وإنما القرآن الكريم فيه عمومات تحمل عليها الحوادث قال الشيخ العلامة السعدي: [وينبغي أن تنزل جميع الحوادث والأفعال الواقعة والتي لا تزال تحدث على العمومات القرآنية فبذلك تعرف أن القرآن بيان لكل شيء وأنه لا يحدث حادث ولا يستجد أمر من الأمور إلا وفي القرآن بيانه وتوضيحه] تفسير السعدي ص11. وأما القول بأن كل حادث صغير أو كبير مذكور في القرآن الكريم فادعاء باطل باطل. وخلاصة الأمر أنني أوجه نداء عبر هذا المنبر إلى هؤلاء الناس أن يثوبوا إلى رشدهم وأن يكفوا عن التلاعب بآيات القرآن الكريم وأن يكفوا عن إيقاع عامة الناس في الأوهام. وأن يعلموا أن لله سبحانه وتعالى سنناً في نصر المؤمنين وهزيمة الكافرين قال الله تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَءَامَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا) سورة النور الآية 55، فقد علق الله تعالى نصر المؤمنين وتمكينهم في الأرض على اتباع أوامر الله جل جلاله وعبادته والبعد عن الشرك فهل هذا متحقق في الأمة المسلمة اليوم؟؟؟ وقال الله تعالى: (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ) فهل وجد الشرط حتى يتحقق المشروط؟؟؟(18/56)
57 - انهيار مبنى التجارة العالمي والتلاعب بالقرآن
السؤال: سألني عدد من المصلين عن ورقة وزعت في بعض المساجد وهي بعنوان إحدى معجزات القرآن الكريم نقدمها للمسلمين واليهود والنصارى وجاء فيها: (انهار مركز التجارة العالمي بمدينة نيويورك في 11/9/2001 والذي يقع على ناصية شارع (جرف هار) ، وفي هذا يقول الله رب العزة العلي القدير قبل 1400سنة وقبل أن يأتي العالم بشارع (جرف هار) ويقيم فيه هذا المبنى ... بسم الله الرحمن الرحيم (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) سورة التوبة آية 109 وبالبحث في المصحف الشريف نجد أن تقع الآية 109 من سورة التوبة في الجزء (11) (يوم الانهيار) رقم سورة التوبة في المصحف الشريف هو (9) (شهر الانهيار) عدد كلمات السورة من أولها وحتى نهاية هذه الآية (2001) كلمة (عام الانهيار) . فسبحان الله العلي القدير، فهل للملحدين ومن ليس لهم دين أن يؤمنوا بإله واحد لا شريك له، الذي أخبرنا بكل الأحداث في كتابه الكريم منذ 1400سنة على لسان نبيه الأمين (محمد) صلى الله عليه وسلم نرجو تصوير وإهداء هذه المعجزة للكثير من الأحباب وجزاكم الله خيراً)
الجواب: لابد أن أبين أولاً أن بعض الناس قد تجاوزوا حدودهم ووصل بهم الأمر إلى أن يتلاعبوا بكتاب الله سبحانه وتعالى وقالوا في القرآن الكريم بمجرد آرائهم السقيمة التي لا تعتمد على أي أصل علمي معتبر عند أهل العلم وإنما هي الأهواء والشهوات. إن هؤلاء الجهلة يفسرون القرآن الكريم حسب أهوائهم وشهواتهم وما علموا أن تفسير كلام رب العالمين له قواعد وأصول وضوابط لا بد من معرفتها قبل أن يخوض أي أحد في تفسير القرآن الكريم وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الجرأة على الخوض في كلام الله تعالى بغير علم فقد روى الترمذي بسنده عن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار) وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح. وحسنه البغوي في شرح السنة 1/258. وجاء في رواية أخرى عن ابن عباس رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (اتقوا الحديث عني إلا ما علمتم فمن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار ومن قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار) رواه الترمذي وقال حديث حسن وحسنه البغوي في شرح السنة 1/257. وعن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ) رواه الترمذي ثم قال: [هكذا روي عن بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم أنهم شددوا في هذا في أن يفسر القرآن بغير علم] سنن الترمذي مع شرحه عارضة الأحوذي 11/50-51. وقد ذكر الإمام القرطبي في مقدمة تفسيره باباً بعنوان (ما جاء في الوعيد في تفسير القرآن بالرأي والجرأة على ذلك) وذكر فيه الأحاديث السابقة ثم ذكر أقوال أهل العلم في التحذير الشديد من التلاعب بكلام الله وتفسيره حسب الآراء والأهواء التي لا تقوم على أساس صحيح ونقل عن ابن عطية قوله: [وكان جلة من السلف الصالح كسعيد بن المسيب وعامر الشعبي وغيرهما يعظمون تفسير القرآن ويتوقفون عنه تورعاً واحتياطاً لأنفسهم مع إدراكهم وتقدمهم قال أبو بكر الأنباري: وقد كان الأئمة من السلف الماضي يتورعون عن تفسير المشكل من القرآن؛ فبعض يقدر أن الذي يفسره لا يوافق مراد الله عز وجل فيحجم عن القول. وبعض يشفق من أن يجعل في التفسير إماماً يبنى على مذهبه ويقتفى طريقه. فلعل متأخراً أن يفسر حرفاً برأيه ويخطئ فيه ويقول: إمامي في تفسير القرآن بالرأي فلان الإمام من السلف وعن ابن أبي مليكة قال: سئل أبو بكر الصديق رضي الله عنه عن تفسير حرف من القرآن فقال: أي سماء تظلني وأي أرض تقلني! وأين أذهب! وكيف أصنع! إذا قلت في حرف من كتاب الله تعالى بغير ما أراد تبارك وتعالى) تفسير القرطبي 1/33-34. وقال الإمام بن العربي المالكي: [من تسور على تفسير القرآن فصور صورة خطأ فله الويل، ومن أصاب فمثله، كما روى أبو عيسى وهكذا قال النبي عليه السلام في القاضي أنه إذا حكم بجهل وأصاب فله النار لإقدامه على ما لا يحل في أمر يعظم قدره وهو الإخبار عن الله بما لم يشرع في حكمه أو إخباره عن ما لم يرده بقوله في وحيه) عارضة الأحوذي 11/52. إذا تقرر أنه لا يجوز لأحد أن يقدم على تفسير كلام رب العالمين إلا إذا حصلت عنده أهلية لذلك فأعود إلى ما جاء في الورقة المذكورة في السؤال فأقول إن كاتب هذه الورقة قد أعظم الفرية على كلام رب العالمين وقال في القرآن بهواه وتلاعب بالذكر الحكيم فالويل له ثم الويل له عندما يقف بين يدي الله سبحانه وتعالى فإنه قد جزم قائلاً بأن الله جل جلاله قد قال في انهيار مركز التجارة العالمي الآية الكريمة: [وفي هذا يقول الله رب العزة العلي القدير …] ثم يفسر هذا المتلاعب قوله تعالى: (عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ) بأنه اسم للشارع الذي يقع فيه مركز التجارة العالمي (جرف هار) وهذا كذب واضح وقول في كتاب الله بغير علم وجرأة عجيبة غريبة على كلام الله سبحانه وتعالى ولنرجع إلى ما قاله أهل العلم في معنى جرف هار، قال الراغب الأصفهاني: [قال عز وجل: (عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ) يقال للمكان الذي يأكله السيل فيجرفه أي يذهب به جرف وقد جرف الدهر ماله أي اجتاحه تشبيهاً به] المفردات ص91. وقال الراغب أيضاً: [هار: يقال بئر هائر وهارٌ وهارٍ ومهار ويقال انهار فلان إذا سقط من مكان عال ورجل هار وهائر ضعيف في أمره تشبيهاً بالبئر الهائر] المفردات ص547. وذكر الألوسي أن معنى قوله تعالى: (عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ) أي طرفه ومنه أشفى على الهلاك أي صار على شفاء وشفي المريض لأنه صار على شفاء البرء والسلامة … وقيل هو الهوة وما يجرفه السيل من الأودية لجرف الماء له أي أكله وإذهابه (هار) أي متصدع مشرف على السقوط وقيل ساقط وهو نعت لجرف] تفسير الألوسي 11/21. وبهذا يظهر لنا أن الجرف الهار هو البئر الساقط أو المنهار وهما كلمتان عربيتان فصيحتان وليستا اسم شارع في نيويورك كما زعم هذا الأفاك الأثيم. ثم زعم الكاتب والزعم مطية الكذب أن الآية 109 من سورة التوبة وأنها واقعة في الجزء الحادي عشر من القرآن ورقم سورة التوبة هو التاسع في ترتيب سور القرآن الكريم وأن عدد كلمات سورة التوبة حتى نهاية الآية هو 2001 ويشير بذلك إلى تاريخ حادثة انهيار مركز التجارة العالمي 11/9/2001 وأقول إن هذا من التخرص والقول في كتاب الله بغير علم. والسؤال الذي يطرح نفسه من أي أتى هذا الكاتب بهذا التفسير العددي الذي تفوح منه رائحة الكذب والدجل بل هو دجل بلا خجل وتكلف باطل وتحميل لكلام الله تعالى ما لا يحتمل ومما يؤكد أن هذا الكلام زور وبهتان أن الكاتب زعم أن عدد كلمات سورة التوبة من أولها وحتى نهاية الآية التي استدل بها هو 2001 كلمة وهذا غير صحيح حيث إنني قمت بعدِّ الكلمات فوجدت أن عددها هو 2083 كلمة حسب رسم المصحف ويزيد العدد عن ذلك إن لم نعتبر رسم المصحف وهذا يثبت كذب هذه الدعوى العريضة. ثم لماذا يؤرخ القرآن بالتاريخ الميلادي؟؟!! ويذكرني هذا الكلام بما قاله الشيخ عبد الحميد كشك رحمه الله في أحد أشرطته أنه لما زار القاهرة رئيس يوغسلافيا السابق (تيتو) ظهر أحد الدجالين من اللابسين لباس العلماء وقال إن الله قد ذكر (تيتو) في القرآن الكريم ألا ترون قوله تعالى: (أوتيتم) فلفظها بطريقة توافق اسم تيتو؟ وهكذا يكون التلاعب في كتاب الله تعالى لخدمة الأهواء والشهوات. إن الآية الكريمة من سورة التوبة نزلت في حادثة مسجد الضرار الذي بناه بعض المنافقين يقول الله تعالى: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْل وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) سورة التوبة الآيات 107-110. قال ابن كثير: [سبب نزول هذه الآيات الكريمات أنه كان بالمدينة قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها رجل من الخزرج يقال له: أبو عامر الراهب , وكان قد تنصر في الجاهلية وقرأ علم أهل الكتاب وكان فيه عبادة في الجاهلية وله شرف في الخزرج كبير. فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجراً إلى المدينة واجتمع المسلمون عليه وصارت للإسلام كلمة عالية وأظهرهم الله يوم بدر شرق اللعين أبو عامر بريقه وبارز بالعداوة وظاهر بها وخرج فاراً إلى كفار مكة من مشركي قريش فألبهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجتمعوا بمن وافقهم من أحياء العرب وقدموا عام أحد فكان من أمر المسلمين ما كان وامتحنهم الله وكانت العاقبة للمتقين وكان هذا الفاسق قد حفر حفائر فيما بين الصفين فوقع في إحداهن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصيب ذلك اليوم فجرح في وجهه وكسرت رباعيته اليمنى السفلى وشج رأسه صلى الله عليه وسلم وتقدم أبو عامر في أول المبارزة إلى قومه من الأنصار فخاطبهم واستمالهم إلى نصره وموافقته فلما عرفوا كلامه قالوا: لا أنعم الله بك عيناً يا فاسق يا عدو الله ونالوا منه وسبوه. فرجع وهو يقول: والله لقد أصاب قومي بعدي شر. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دعاه إلى الله قبل فراره وقرأ عليه من القرآن فأبى أن يسلم وتمرد فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يموت بعيداً طريداً فنالته هذه الدعوة وذلك أنه لما فرغ الناس من أحد ورأى أمر الرسول صلى الله عليه وسلم في ارتفاع وظهور ذهب إلى هرقل ملك الروم يستنصره على النبي صلى الله عليه وسلم فوعده ومناه وأقام عنده وكتب إلى جماعة من قومه من الأنصار من أهل النفاق والريب يعدهم ويمنيهم أنه سيقدم بجيش يقاتل به رسول الله صلى الله عليه وسلم ويغلبه ويرده عما هو فيه وأمرهم أن يتخذوا له معقلاً يقدم عليهم فيه من يقدم من عنده لأداء كتبه ويكون مرصداً له إذا قدم عليهم بعد ذلك فشرعوا في بناء مسجد مجاور لمسجد قباء فبنوه وأحكموه وفرغوا منه قبل خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى تبوك وجاءوا فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي إليهم فيصلي في مسجدهم ليحتجوا بصلاته عليه السلام فيه على تقريره وإثباته وذكروا أنهم إنما بنوه للضعفاء منهم وأهل العلة في الليلة الشاتية. فعصمه الله من الصلاة فيه فقال: (إنا على سفر ولكن إذا رجعنا إن شاء الله) فلما قفل عليه السلام راجعاً إلى المدينة من تبوك ولم يبق بينه وبينها إلا يوم أو بعض يوم نزل عليه الوحي بخبر مسجد الضرار وما اعتمده بانوه من الكفر والتفريق بين جماعة المؤمنين في مسجدهم مسجد قباء الذي أسس من أول يوم على التقوى. فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك المسجد من هدمه قبل مقدمه المدينة. كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا) وهم أناس من الأنصار ابتنوا مسجداً فقال لهم أبو عامر: ابنوا مسجداً واستعدوا بما استطعتم من قوة وسلاح فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم فآتي بجند من الروم وأخرج محمداً وأصحابه فلما فرغوا من مسجدهم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: قد فرغنا من بناء مسجدنا فنحب أن تصلي فيه وتدعو لنا بالبركة. فأنزل الله تعالى: (لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ … الظالمين) تفسير ابن كثير 3/ 440- 441. وخلاصة الأمر أنه يحرم التلاعب بكلام رب العالمين كما فعل كاتب الورقة محل السؤال وأقول إنه يحرم تصوير هذه الورقة كما يحرم توزيعها على الناس لما فيها من الكذب على الله والدجل والخزعبلات والخرافات.(18/57)
58 - العيد
يقول السائل: ما هو المشروع من الأعمال في ليلة عيد الأضحى؟
الجواب: لم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء في إحياء ليلة العيد سواء كان ذلك ليلة عيد الفطر أو ليلة عيد الأضحى وما ورد من روايات فهي أحاديث ضعيفة جداً وبعضها مكذوب على رسول صلى الله عليه وسلم كما سأبين بعد قليل. لذا فإن إحياء ليلة العيد بدعة غير مشروعة فلا يشرع إحياؤها بصلاة خاصة أو أذكار خاصة أو غير ذلك من الطاعات قال العلامة ابن القيم في وصف هدي النبي صلى الله عليه وسلم ليلة عيد الأضحى: [ثم نام حتى أصبح ولم يحي تلك الليلة ولا صح عنه في إحياء ليلتي العيد شيء] زاد المعاد 2/247. بل ليلة العيد كغيرها من الليالي ليس لها خاصية تمتاز بها على غيرها وأما ما ورد من أحاديث فقد بين أهل الحديث حالها ودرجتها وأذكر بعضها: 1. ما روي عن أبي أمامه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قام ليلتي العيدين محتسباً لم يمت قلبه يوم تموت القلوب) وفي رواية (من أحيا) رواه ابن ماجة وذكره الدارقطني في العلل وذكره ابن الجوزي في العلل المتناهية وفي سنده متهم بالوضع وقال الحافظ ابن حجر: [حديث مضطرب الإسناد وذكر أن فيه متهماً بالوضع قاله المناوي في فيض القدير 6/39، وقال الألباني: موضوع انظر سلسلة الأحاديث الضعيفة 2/ 11. 2. ما روي عن معاذ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أحيا الليالي الأربع وجبت له الجنة ليلة التروية وليلة عرفة وليلة النحر وليلة الفطر) رواه الأصبهاني ونصر المقدسي وفي إسناده عبد الرحيم بن زيد العمي وهو متروك كما قال النسائي والحافظ ابن حجر وقال يحيى ابن معين كذاب وحكم الشيخ الألباني على الحديث بأنه موضوع كما في سلسلة الأحاديث الضعيفة 2/ 11. 3. ما روي عن عبادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من أحيا ليلة الفطر وليلة الأضحى لم يمت قلبه يوم تموت القلوب) رواه الطبراني في الأوسط والكبير وفي سنده عمر بن هارون البلخي وهو كذاب كما قال يحيى بن معين وابن الجوزي انظر السلسلة الضعيفة 2/. وحكم عليه الألباني بأنه حديث موضوع في المصدر السابق وكذا في ضعيف الترغيب والترهيب 1/334. 4. ما روي عن كردوس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أحيا ليلتي العيد وليلة النصف من شعبان لم يمت قلبه يوم تموت القلوب) قال ابن الجوزي: [هذا حديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه آفات ثم ذكر من آفاته مروان بن سالم قال فيه النسائي والدارقطني والأزدي متروك العلل المتناهية 2/562. وقال الحافظ ابن حجر عنه: [ومروان هذا متهم بالكذب] . الإصابة 5/580. وقال الحافظ عنه في لسان الميزان: [هذا حديث منكر مرسل] 4/391. وقال الذهبي في الميزان: [هذا حديث منكر مرسل] 5/372. ومن أهل العلم من قوى هذه الأحاديث بمجموع طرقها كما في مصباح الزجاجة 2/85. حيث قال: [فيقوى بمجموع طرقه] ومن أهل العلم من قال يتسامح في هذه الأحاديث لأنها في فضائل الأعمال كما قال الحافظ ابن حجر: [اعلم أنه يستحب إحياء ليلتي العيدين في ذكر الله تعالى والصلاة وغيرهما من الطاعات للحديث الوارد في ذلك: (من أحيا ليلتي العيدين لم يمت قلبه يوم تموت القلوب) وروي: (من قام ليلتي العيدين لله محتسباً لم يمت قلبه يوم تموت القلوب) هكذا جاء في رواية الشافعي وابن ماجة وهو حديث ضعيف رويناه من رواية أبي أمامه مرفوعاً وموقوفاً وكلاهما ضعيف لكن أحاديث الفضائل يتسامح فيها كما قدمناه في أول الكتاب] الأذكار ص 145. وما قاله الحافظ ابن حجر من التساهل في أحاديث الفضائل سبق له وأن قيده في أول كتابه الأذكار كما أشار إليه فقال [يجوز العمل في الفضائل والترغيب والترهيب بالحديث الضعيف ما لم يكن موضوعا] الأذكار ص 5. وهذه الأحاديث المذكورة في إحياء ليلتي العيد قد حكم عليها جماعة من المحدثين بأنها موضوعة أو فيها من هو كذاب أو متهم بالوضع فلا تنطبق عليها القاعدة السابقة. وخلاصة الأمر أن إحياء ليلتي العيدين بدعة لم يثبت فيه حديث يصلح للاحتجاج به أو الاعتماد عليه. السؤال الثاني: يقول السائل: إنه صاحب محل لبيع الورود وأنه يحضر الأزهار والورود لبيعها في يوم 14شباط بمناسبة عيد الحب فما حكم ذلك؟ الجواب: إن الأمة الإسلامية أمة مستقلة في شخصيتها وأعيادها وأمة الإسلام لها عيدان معروفان عيد الفطر وعيد الأضحى وليس لها أعياد سواهما. وقضية العيد جزء من شعائر الإسلام لا يجوز أخذها عن غيرها من الأمم أو الملل قال شيخ الإسلام ابن تيمية يرحمه الله: (إن الأعياد من جملة الشرع والمناهج والمناسك التي قال الله سبحانه: (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) وقال: (لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه) كالقبلة والصلاة والصيام فلا فرق بين مشاركتهم في العيد وبين مشاركتهم في سائر المناهج فإن الموافقة في جميع العيد موافقة في الكفر، والموافقة في بعض فروعه موافقة في بعض شعب الكفر، بل الأعياد هي من أخص ما تتميز به الشرائع ومن أظهر ما لها من الشعائر، فالموافقة فيها موافقة في أخص شرائع الكفر وأظهر شعائره , ولا ريب أن الموافقة في هذا قد تنتهي إلى الكفر في الجملة بشروطه. وأما مبدؤها فأقل أحواله أن يكون معصية وإلى هذا الاختصاص أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (إن لكل قوم عيدا وإن هذا عيدنا) اقتضاء الصراط المستقيم 1/528-529. والحديث الذي ذكره شيخ الإسلام رواه البخاري ومسلم ولفظه (عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما تقاولت الأنصار يوم بعاث قالت: وليستا بمغنيتين فقال أبو بكر: أمزامير الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وذلك في يوم عيد. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر إن لكل قوم عيداً وهذا عيدنا) فهذا الحديث أوجب اختصاص الأمة الإسلامية بأعيادها فقط وعليه لا يجوز للمسلمين أن يحتفلوا بأي عيد آخر. وعيد الحب لا علاقة للمسلمين به لا من قريب ولا من بعيد بل أصله من أعياد الرومان الوثنيين وله في تاريخهم أساطير موروثة. ومما قيل في سبب هذا العيد أنه لما دخل الرومان في النصرانية بعد ظهورها وحكم الرومان الإمبراطور الروماني (كلوديوس الثاني) في القرن الثالث الميلادي منع جنوده من الزواج لأن الزواج يشغلهم عن الحروب التي كان يخوضها فتصدى لهذا القرار (القديس فالنتين) وصار يجري عقود الزواج للجند سراً فعلم الإمبراطور بذلك فزج به في السجن وحكم عليه بالإعدام وفي سجنه وقع في حب ابنة السجان وكان هذا سراً فنفذ فيه حكم القتل يوم 14 فبراير عام 270 ميلادي ليلة 15 فبراير عيد (لوبر كيليا) ومن يومها أطلق عليه لقب قديس. وعيد الحب هذا له مظاهر كثيرة في أوروبا وأمريكا حيث يتم تبادل الورود الحمراء وتوزيع بطاقات التهنئة وتبادل كلمات الحب والعشق وتقام الحفلات الراقصة المختلطة ويقع فيها من المنكرات ما الله به عليم. وبناء على ما سبق فإنه يحرم على المسلمين الاحتفال بعيد الحب لأنه من الشعائر الوثنية ولأنه مرتبط بالقديس فالنتين وهو مرتبط بخرافات وأساطير باطلة ونحن أمة الإسلام قد نهينا عن التشبه بغيرنا وقد قال الله تعالى: (ولا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) سورة آل عمران الآية 105. وصح في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من تشبه بقوم فهو منهم) رواه أحمد وأبو داود وهو حديث صحيح كما قال الألباني في صحيح الجامع الصغير الحديث رقم 6025. وكذلك يحرم بيع كل ما له علاقة بهذا العيد أو الاستعداد له بتحضير الورود الحمراء أو المناديل الحمراء وغير ذلك مما هو مختص بهذا العيد ولا يجوز للمسلم المشاركة بهذا العيد بأي شكل من الأشكال. وينبغي أن يعلم أن الإسلام قد بين أسس وقواعد للحب فالإسلام هو دين المحبة المبنية على أسس سليمة متفقة مع الفطرة الإنسانية فالزوج يحب زوجته والزوجة تحب زوجها والمسلم يحب والديه والعكس صحيح والمسلم يحب أخاه وهكذا فالحب أشمل وأعم من هذا الحب المزعوم في عيد الحب فالحقيقة أن الحب في عيد الحب هو العشق واتخاذ الأخدان والعشيقات خارج نطاق الزواج والأسرة إنه دعوة للتحلل والإباحية. وختاماً فإن عدداً من علماء المسلمين المعاصرين قد أفتوا بتحريم الاحتفال بعيد الحب فمن ذلك ما أفتت به اللجنة الدائمة للإفتاء السعودية جواباً على السؤال التالي (يحتفل بعض الناس في اليوم الرابع عشر من شهر فبراير 14/2، من كل سنة ميلادية بيوم الحب (فالنتين داي) ، ويتهادون الورود الحمراء ويلبسون اللون الأحمر ويهنئون بعضهم وتقوم بعض محلات الحلويات بصنع حلويات باللون الأحمر ويرسم عليها قلوب وتعمل بعض المحلات إعلانات على بضائعها التي تخص هذا اليوم فما هو رأيكم؟ فأجابت اللجنة: ... يحرم على المسلم الإعانة على هذا العيد أو غيره من الأعياد المحرمة بأي شيء من أكلٍ أو شرب أو بيع أو شراء أو صناعة أو هدية أو مراسلة أو إعلان أو غير ذلك لأن ذلك كله من التعاون على الإثم والعدوان ومعصية الله والرسول والله جل وعلا يقول: (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب) . ويجب على المسلم الاعتصام بالكتاب والسنة في جميع أحواله لاسيما في أوقات الفتن وكثرة الفساد، وعليه أن يكون فطناً حذراً من الوقوع في ضلالات المغضوب عليهم والضالين والفاسقين الذين لا يرجون لله وقاراً ولا يرفعون بالإسلام رأساً، وعلى المسلم أن يلجأ إلى الله تعالى بطلب هدايته والثبات عليها فإنه لا هادي إلا الله ولا مثبت إلا هو سبحانه وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم(18/58)
59 - التنجيم
يقول السائل: يلاحظ في هذه الأيام ظهور المنجمين على المحطات الفضائية ومعهم أجهزة كمبيوتر ويتصل بهم المشاهدون ويعطونهم تواريخ ميلادهم ومعلومات أخرى فيقوم المنجمون بإدخال ذلك على الكمبيوتر ثم يذكرون نبوءاتهم فما حكم الشرع في ذلك؟
الجواب: لا بد أولاً من التذكير بأن التنجيم قد عرف قديماً وكانت العرب تؤقت بطلوع النجوم لأنهم ما كانوا يعرفون الحساب وإنما يحفظون أوقات السنة بالأنواء. المصباح المنير ص594. وأما التنجيم في اصطلاح علماء الشريعة فينقسم إلى قسمين: الأول: حسابي وهو تحديد أوائل الشهور بحساب سير النجوم فبواسطة هذا الحساب يعرفون الأوقات والأزمنة والفصول واتجاه القبلة ونحو ذلك. الموسوعة الفقهية 14/53. مجموع الفتاوى 35/181. حاشية ابن عابدين 1/43-44. وهذا النوع من التنجيم هو أحد فروع علم الفلك وما زال كثير من الناس يسمون علم الفلك بالتنجيم مع أن [ثمة فرق كبير بين المنجمين والفلكيين وبين التنجيم وعلم الفلك. فالمنجم أو (النجام) هو الذي يزعم معرفة حظوظ الناس ومستقبلهم ومصير حياتهم بحسب مواقع النجوم عند ولادتها وهو الذي ينظر إلى النجوم ويحسب مواقيت شروقها وغروبها وسيرها فيتوهم من خلالها أحوال الناس والعالم وعملية التنجيم المعروفة بـ (اوسترولوجي) هي عملية ربط مواقع النجوم وحركاتها بسلوك وأعمال ومصير الإنسان ويعتقد المنجم ويعلن أن النجوم تؤثر في حياة وموت الناس ويقف رجال العلم بمن فيهم علماء الفلك مع الفقهاء في رفض عمليات التنجيم وأقوال المنجمين ... ] محاضرة بعنوان علم الفلك وأوائل الشهور القمرية للدكتور يوسف مروة. وهذا النوع أجازه علماء الشريعة على تفصيل عندهم في اعتماده في دخول شهر رمضان وخروجه قال الشيخ ابن رسلان: [وأما علم النجوم الذي يعرف به الزوال وجهة القبلة وكم مضى وكم بقي فغير داخل فيما نهي عنه] نيل الأوطار 7/206. الثاني: الاستدلال على الحوادث الأرضية بالأحوال الفلكية. مجموع الفتاوى 35/192. وهذا النوع يقوم على تأثير التشكلات الفلكية في الحوادث التي تقع على الأرض. حاشية ابن عابدين 1/43. وهو المقصود بصناعة التنجيم. والتنجيم حرام شرعاً وقد نهي عنه حيث إن المنجمين يزعمون ربط الحوادث التي تقع للناس بحركات الكواكب والنجوم وأن لها تأثيراً في الحوادث بذاتها. وقد اتفق علماء الإسلام على تحريم التنجيم بهذا المعنى، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: [وصناعة التنجيم التي مضمونها الأحكام والتأثير وهو الاستدلال على الحوادث الأرضية بالأحوال الفلكية والتمزيج بين القوى الفلكي والقوابل الأرضية صناعة محرمة بالكتاب والسنة وإجماع الأمة بل هي محرمة على لسان جميع المرسلين في جميع الملل] مجموع الفتاوى 35/192. وقال الشيخ ابن رسلان في شرح السنن: [والمنهي عنه ما يدعيه أهل التنجيم من علم الحوادث والكوائن التي لم تقع وستقع في مستقبل الزمان ويزعمون أنهم يدركون معرفتها بسير الكواكب في مجاريها واجتماعها وافتراقها وهذا تعاط لعلم استأثر الله بعلمه] نيل الأوطار 7/206. وقال العلامة ابن عثيمين: [والتنجيم نوع من السحر والكهانة وهو محرم لأنه مبني على أوهام لا حقيقة لها فلا علاقة لما يحدث في الأرض لما يحدث في السماء ولهذا كان من عقيدة أهل الجاهلية أن الشمس والقمر لا ينكسفان إلا لموت عظيم فكسفت الشمس في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في اليوم الذي مات فيه ابنه إبراهيم رضي الله عنه فقال الناس: كسفت الشمس لموت إبراهيم فخطب النبي صلى الله عليه وسلم الناس حين صلى الكسوف وقال: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته) فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم ارتباط الحوادث الأرضية بالأحوال الفلكية وكما أن التنجيم بهذا المعنى نوع من السحر والكهانة فهو أيضاً سبب للأوهام والانفعالات النفسية التي ليس لها حقيقة ولا أصل فيقع الإنسان في أوهام وتشاؤمات ومتاهات لا نهاية لها] فتاوى العقيدة ص336. والأدلة على تحريم التنجيم كثيرة منها: 1. عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من اقتبس علماً من النجوم اقتبس شعبةً من السحر زاد ما زاد) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة وهو حديث صحيح كما قال الشيخ الألباني في صحيح الترغيب والترهيب 3/173 وانظر السلسلة الصحيحة 2/435. قال الشوكاني: [قوله: (زاد ما زاد) أي زاد من علم النجوم كمثل ما زاد من السحر والمراد أنه إذا ازداد من علم النجوم فكأنه ازداد من علم السحر وقد علم أن أصل علم السحر حرام والازدياد منه أشد تحريماً فكذا الازدياد من علم التنجيم] نيل الأوطار 7/207. 2. وجاء في رواية أخرى عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من اقتبس باباً من علم النجوم لغير ما ذكر الله فقد اقتبس شعبة من السحر. المنجم كاهن والكاهن ساحر والساحر كافر) رواه رزين في مسنده. انظر مشكاة المصابيح 2/1296. 3. وعن أبي محجن مرفوعاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أخاف على أمتي من بعدي ثلاثاً: حيف الأئمة وإيماناً بالنجوم وتكذيباً بالقدر) رواه ابن عساكر وابن عبد البر في جامع بيان العلم وصححه الألباني في صحيح الجامع 1/103. 4. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يوماً) رواه مسلم. 5. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أتى عرافا ً أو كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد) رواه أصحاب السنن وهو حديث صحيح كما قال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب 3/172. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: [العراف اسم للكاهن والمنجم والرَّمَّال ونحوهم ممن يتكلم في معرفة الأمور بهذه الطرق) مجموع الفتاوى 35/173. ونلاحظ في الحديثين الأخيرين أن مجرد إتيان الكاهن وسؤاله عن شيء يعاقب المسلم عليه بأن لا تقبل له صلاة أربعين يوماً وأما إذا صدقه فيما قال فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وذلك لأنه مما أنزل على محمد قوله تعالى: (قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ) سورة النمل الآية 65. وقوله تعالى: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ) سورة الجن الآيات 26-27. 6. وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أخاف على أمتي من بعدي خصلتين: تكذيباً بالقدر وتصديقاً بالنجوم) رواه أبو يعلى وابن عدي والخطيب وصححه الألباني في المصدر السابق وانظر السلسلة الصحيحة 3/118-120. وخلاصة الأمر أن التنجيم يقوم على الكذب والدجل وليس له أي أساس علمي صحيح وإن استخدام المنجمين للكمبيوتر على الفضائيات ما هو إلا من باب الكذب والدجل وخداع الناس ليوهموهم بأن القضية قضية علمية والحقيقة أن العلم بريء من هذا الدجل والسخف فقد أثبت العلم أنه لا يوجد أي دليل علمي قاطع يثبت وجود علاقة بين مواقع الكواكب في وقت معين وشخصية وتصرفات ومستقبل شخص ولد في هذا الوقت ولقد كذب التاريخ المنجمين قديماً وحديثاً في وقائع كثيرة من أشهرها ما حدث للمعتصم الخليفة العباسي عندما أراد فتح عمورية فنصحه المنجمون بوقت غير الوقت الذي أراده فلم يصدقهم فسار بجيشه إلى عمورية وفتحها وفي ذلك قال أبو تمام قصيدته المشهورة ومطلعها: السيف أصدق إنباءً من الكتب في حده الحد بين الجد واللعب بيض الصفائح لا سود الصحائف في متونهن جلاء الشك والريب والعلم في شهب الأرماح لامعة بين الخميسين لا في السبعة الشهب أين الرواية أم أين النجوم وما صاغوه من زخرف فيها ومن كذب وفي العصر الحديث تنبأ المنجمون بحدوث أشياء كثيرة وكل ذلك ثبت أنه دجل وكذب فقد تنبأ بعض المنجمين بنهاية العالم بحلول سنة 1986 وتنبأ بعضهم بحدوث براكين وزلازل وحروب وكل ذلك لم يقع فدلّ على كذبهم وجهلهم. وأخيراً أقول ما النجوم والكواكب إلا آية من آيات الله سبحانه وتعالى وليس لها أدنى تأثير على سعادة الناس أو شقائهم وصدق من قال: كذب المنجمون ولو صدقوا)(18/59)
60 - الطائفة الظاهرة
يقول السائل: من هي الطائفة الظاهرة التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث (لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة) وأين توجد هذه الطائفة؟
الجواب: صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة ذكر الطائفة الظاهرة التي تبقى في هذه الأمة المحمدية متمسكةً بدينها وقائمةً على أمر الله حتى قيام الساعة، وهذه مجموعة عطرة من هذه الأحاديث: 1. عن حميد بن عبد الرحمن أنه سمع معاوية رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين والله المعطي وأنا القاسم ولا تزال هذه الأمة ظاهرين على من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون. رواه البخاري. 2. وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يزال ناسٌ من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون. رواه البخاري ومسلم. 3. وعن عمير بن هانئ أنه سمع معاوية رضي الله عنه يقول سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتيهم أمر الله وهم على ذلك. قال عمير فقال مالك بن يخامر: قال معاذ وهم بالشام، فقال معاوية: هذا مالك يزعم أنه سمع معاذاً يقول وهم بالشام. رواه البخاري. 4. وعن حميد قال سمعت معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه يخطب قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين وإنما أنا قاسمٌ ويعطي الله، ولن يزال أمر هذه الأمة مستقيماً حتى تقوم الساعة أو حتى يأتي أمر الله 5. وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه يقول سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة قال فينزل عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم فيقول أميرهم تعال صل لنا فيقول لا إن بعضكم على بعض أمراء تكرمة الله هذه الأمة. رواه مسلم. إن أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم الواردة في ذكر الطائفة الظاهرة تؤكد لنا أن هذه الطائفة كانت موجودة على مر العصور والأيام ولم ينقطع وجودها في أي عصر من العصور. [اعلم أن أول صفة تتميز بها الطائفة المنصورة عن الطوائف الضالة الأخرى هي: صفة الاستمرارية أي إن الطائفة المنصورة مستمرة بوجودها ومقوماتها وأصولها ودعوتها ومنهجها ورجالها من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ساعتنا هذه بل إلى يوم القيامة ودليل هذا قوله تعالى: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) سورة التوبة الآية 100، ففي قوله تعالى: (السابقون الأولون) إشارة إلى تاريخ بدء هذه الجماعة ... وفي قوله تعالى: (والذين اتبعوهم) إشارة إلى استمرارية هذا الوجود وعموميته وعدم انقطاعه وأن ثمة رجالاً مستمرين على هذا السبيل وأن قوام هذا الاستمرار هو الاتباع (اتبعوهم) ... ويؤيد هذا ويوضحه قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون) ففي قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تزال) دلالة واضحة وبينة ناصعة على صفة الاستمرارية للطائفة المنصورة] صفات الطائفة المنصورة ص13-14. وهذه أقوال العلماء في بيان هذه الطائفة الظاهرة: 1. قال الإمام البخاري: [باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق وهم أهل العلم] صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 13/358. 2. قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [وأخرج الحاكم في علوم الحديث بسند صحيح عن أحمد: إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم؟] فتح الباري 13/359. 3. وقال عبد الله بن المبارك: [هم عندي أصحاب الحديث] . 4. وقال أحمد بن سنان الثقة الحافظ: [هم أهل العلم وأصحاب الآثار] سلسلة الأحاديث الصحيحة 1/3/136-137. 5. وقال القاضي عياض: [إنما أراد أحمد أهل السنة والجماعة ومن يعتقد مذهب أهل الحديث] إتحاف الجماعة 1/330. 6. وقال الإمام النووي: [وأما هذه الطائفة فقال البخاري: هم أهل العلم , وقال أحمد بن حنبل: إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم. قال القاضي عياض: إنما أراد أحمد أهل السنة والجماعة، ومن يعتقد مذهب أهل الحديث. قلت: ويحتمل أن هذه الطائفة مفرقة بين أنواع المؤمنين، منهم شجعان مقاتلون، ومنهم فقهاء، ومنهم محدثون، ومنهم زهاد وآمرون بالمعروف وناهون عن المنكر، ومنهم أهل أنواع أخرى من الخير، ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين بل قد يكونون متفرقين في أقطار الأرض] شرح النووي على صحيح مسلم 5/58-59. 7. وقال الإمام ابن العربي المالكي: [وأما الطائفة المنصورة فقيل هم أصحاب الحديث وقيل هم العباد وقيل هم المناضلون على الحق بألسنتهم وقيل هم المجاهدون في الثغور بأسنتهم] عارضة الأحوذي 5/34. وانظر المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم 3/763. وأما محل هذه الطائفة فقد جاء في الروايات أنها في الشام: فقد ورد في صحيح البخاري في حديث معاوية أن معاذ بن جبل قال: هم بالشام. صحيح البخاري مع الفتح 13/547. وورد أنهم أهل الغرب ففي صحيح مسلم من حديث سعد بن أبي وقاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يزال أهل الغرب ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة) . قال الإمام النووي: [قوله: (لا يزال أهل الغرب ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة) قال علي بن المديني: المراد بأهل الغرب العرب، والمراد بالغرب الدلو الكبير لا ختصاصهم بها غالباً. وقال آخرون: المراد به الغرب من الأرض، وقال معاذ: هم بالشام. وجاء في حديث آخر هم ببيت المقدس، وقيل: هم أهل الشام وما وراء ذلك. قال القاضي: وقيل: المراد بأهل الغرب أهل الشدة والجلد، وغرب كل شيء حده] شرح النووي على صحيح مسلم 5/60. وورد أنها في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس فقد ورد في حديث أبي أمامة عند الطبراني قوله صلى الله عليه وسلم: (هم ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس) . وورد أنها في دمشق وبيت المقدس فعن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على أبواب دمشق وما حولها وعلى أبواب بيت المقدس وما حوله لا يضرهم خذلان من خذلهم إلى يوم القيامة) رواه الطبراني في الأوسط وفيه الوليد بن عبّاد وهو مجهول كما قال الهيثمي في مجمع الزوائد 7/288. قال الشيخ حمود التويجري: [وقد اختلف في محل هذه الطائفة: فقال ابن بطال: [إنها تكون في بيت المقدس كما رواه الطبراني من حديث أبي أمامة ?: (قيل: يا رسول الله أين هم؟ قال بيت المقدس) وقال معاذ ?: هم بالشام. وفي كلام الطبري ما يدل على أنه لا يجب أن تكون في الشام أو في بيت المقدس دائماً، بل قد تكون في موضع آخر في بعض الأزمنة … فعلى هذا فهذه الطائفة قد تجتمع وقد تفترق وقد تكون في الشام وقد تكون في غيره فإن حديث أبي أمامة وقول معاذ لا يفيد حصرها بالشام وإنما يفيد أنها تكون في الشام في بعض الأزمان لا في كلها. قلت: الظاهر من حديث أبي أمامة وقول معاذ أن ذلك إشارة إلى محل هذه الطائفة في آخر الزمان عند خروج الدجال ونزول عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام ويدل على ذلك ما تقدم ذكره من حديث أبي أمامة الذي رواه ابن ماجة وفيه: (فقالت أم شريك: يا رسول الله! فأين العرب يومئذ؟ قال: هم قليل وجلهم يومئذ ببيت المقدس وإمامهم رجل صالح ... فأما في زماننا وما قبله فهذه الطائفة متفرقة في أقطار الأرض كما يشهد له الواقع من حال هذه الأمة منذ فتحت الأمصار في عهد الخلفاء الراشدين إلى اليوم وتكثر في بعض الأماكن أحياناً ويعظم شأنها ويظهر أمرها ببركة الدعوة إلى الله تعالى وتجديد الدين] اتحاف الجماعة 1/332-334. قال الإمام النووي: (… ويحتمل أن هذه الطائفة مفرقة بين أنواع المؤمنين، منهم شجعان مقاتلون، ومنهم فقهاء، ومنهم محدثون، ومنهم زهاد وآمرون بالمعروف وناهون عن المنكر، ومنهم أهل أنواع أخرى من الخير، ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين بل قد يكونون متفرقين في أقطار الأرض] شرح النووي على صحيح مسلم 5/58-59.(18/60)
61 - التوبة
يقول السائل: ما هي الأعمال التي تكفر الذنوب؟
الجواب: ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة أن أعمالاً صالحة تكفر الذنوب وتمحها ومنها ما يلي: أولاً: الوضوء وقد جاء فيه أحاديث كثيرة منها: عن حمران أنه قال فلما توضأ عثمان قال والله لأحدثنكم حديثا والله لولا آية في كتاب الله ما حدثتكموه إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا يتوضأ رجل فيحسن وضوءه ثم يصلي الصلاة إلا غفر له ما بينه وبين الصلاة التي تليها قال عروة الآية إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى إلى قوله اللاعنون. رواه مسلم وعن عثمان أنه دعا بطهور ثم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم يؤت كبيرة وذلك الدهر كله رواه مسلم عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمسا ما تقول ذلك يبقي من درنه قالوا لا يبقي من درنه شيئا قال فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بها الخطايا رواه البخاري. ثانياً: الصلوات الخمس: عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهن ما لم تغش الكبائر رواه مسلم وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارات لما بينهن رواه مسلم ثالثاً: موافقة تأمين المأموم لتأمين الملائكة: عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا أمن الإمام فأمنوا فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه وقال بن شهاب وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول آمين رواه البخاري ومسلم وعن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال أحدكم آمين والملائكة في السماء آمين فوافقت إحداهما الأخرى غفر له ما تقدم من ذنبه رواه مسلم رابعاً: المشي إلى المساجد: وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إسباغ الوضوء في المكاره وإعمال الأقدام إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة يغسل الخطايا غسلاً) رواه أبو يعلى والبزار بإسناد صحيح والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم وقال الألباني: صحيح. خامساً: المحافظة على صلاة الجمعة: عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن إذا اجتنب الكبائر باب الذكر المستحب عقب الوضوء رواه مسلم سادساً: صيام نهار رمضان وقيام ليله: عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ومن صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه رواه البخاري ومسلم سابعاً: صيام عاشوراء: عن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن صومه قال فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر رضي الله عنه رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا وببيعتنا بيعة قال فسئل عن صيام الدهر فقال لا صام ولا أفطر أو ما صام وما أفطر قال فسئل عن صوم يومين وإفطار يوم قال ومن يطيق ذلك قال وسئل عن صوم يوم وإفطار يومين قال ليت أن الله قوانا لذلك قال وسئل عن صوم يوم وإفطار يوم قال ذاك صوم أخي داود عليه السلام قال وسئل عن صوم يوم الإثنين قال ذاك يوم ولدت فيه ويوم بعثت أو أنزل علي فيه قال فقال صوم ثلاثة من كل شهر ورمضان إلى رمضان صوم الدهر قال وسئل عن صوم يوم عرفة فقال يكفر السنة الماضية والباقية قال وسئل عن صوم يوم عاشوراء فقال يكفر السنة الماضية. رواه مسلم ثامناً: صيام يوم عرفه: عن أبي قتادة رجل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال كيف تصوم فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأى عمر رضي الله عنه غضبه قال رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا نعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله فجعل عمر رضي الله عنه يردد هذا الكلام حتى سكن غضبه فقال عمر يا رسول الله كيف بمن يصوم الدهر كله قال لا صام ولا أفطر أو قال لم يصم ولم يفطر قال كيف من يصوم يومين ويفطر يوما قال ويطيق ذلك أحد قال كيف من يصوم يوما ويفطر يوما قال ذاك صوم داود عليه السلام قال كيف من يصوم يوما ويفطر يومين قال وددت أني طوقت ذلك ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث من كل شهر ورمضان إلى رمضان فهذا صيام الدهر كله صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده وصيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله رواه مسلم. تاسعاً: الحج والعمرة: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه رواه البخاري وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة رواه البخاري ومسلم عاشراً: الصدقة عن أبي وائل عن حذيفة قال قال عمر رضي الله عنه من يحفظ حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم في الفتنة قال حذيفة أنا سمعته يقول فتنة الرجل في أهله وماله وجاره تكفرها الصلاة والصيام والصدقة قال ليس أسأل عن هذه إنما أسأل عن التي تموج كما يموج البحر قال وإن دون ذلك بابا مغلقا قال فيفتح أو يكسر قال يكسر قال ذاك أجدر أن لا يغلق إلى يوم القيامة فقلنا لمسروق سله أكان عمر يعلم من الباب فسأله فقال نعم كما يعلم أن دون غد الليلة رواه البخاري ومسلم. أحد عشر: الحمد بعد الطعام عن سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من أكل طعاما ثم قال الحمد لله الذي أطعمني هذا الطعام ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ومن لبس ثوبا فقال الحمد لله الذي كساني هذا الثوب ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر رواه أبو داود والترمذي وقال هذا حديث حسن غريب. ثاني عشر: المرض والتعب عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفر الله بها عنه حتى الشوكة يشاكها رواه البخاري وعن أبي سعيد الخدري وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه رواه البخاري. ذهب جمهور أهل العلم إلى أن الأعمال الصالحة تكفر صغائر الذنوب وأما الكبائر فلا تُكَفَر بمجرد فعل الأعمال الصالحة بل لا بد من التوبة بشروطها حتى تُكَفَر. نيل الأوطار 3/57. قال القاضي عياض: [هذا المذكور في الحديث من غفران الذنوب ما لم تؤت كبيرة هو مذهب أهل السنة وأن الكبائر إنما تكفرها التوبة أو رحمة الله تعالى وفضله] شرح النووي على صحيح مسلم 1/446. وانظر نيل الأوطار 3/57. وقال الإمام ابن العربي المالكي: [الخطايا المحكوم بمغفرتها هي الصغائر دون الكبائر لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهن ما اجتنبت الكبائر) فإذا كانت الصلاة مقرونة بالوضوء لا تكفر الكبائر فانفراد الوضوء بالتقصير عن ذلك أحرى) عارضة الأحوذي 1/13.(18/61)
62 - التوبة
يقول السائل: قرأت في كتاب فقه كلاماً عن الحقوق وأن منها ما هو حق لله تعالى ومنها ما هو حق للناس فأرجو بيان الفرق بينهما وما أثر ذلك على المعاصي التي ارتكبها الإنسان ثم تاب منها؟
الجواب: قسم جمهور أهل العلم الحق باعتبار صاحب الحق إلى أربعة أقسام وهي: أولاً: حق الله تعالى ويسمى الحق العام: وهو ما قصد به التقرب إلى الله تعالى وتعظيمه وإقامة شعائر دينه، أو قصد به تحقيق النفع العام دون اختصاص بأحد، ونسب هذا الحق لله تعالى لعظم خطره وشمول نفعه كما قال ابن نجيم الحنفي في فتح الغفار 3/59. وحق الله تعالى يشمل الإيمان به جل جلاله والصلاة والصيام والزكاة والحج والجهاد وإقامة الحدود والكفارات وغير ذلك. انظر الفروق 1/140-141 الموسوعة الفقهية 18/14-19. ثانياً: حق العبد المحض: وهو ما كان متعلقاً بمصالح الإنسان الخالصة، قال القرافي: [وحق العبد مصالحه] الفروق 1/140. وحق العبد المحض يشمل الحقوق المالية، قال الشيخ محمد أبو زهرة: [حقوق العباد الخالصة وذلك كالديون والأملاك وحق الوراثة وغير ذلك مما يتعلق بالأموال نقلاً وبقاءً، فهذه كلها حقوق العباد خالصة والاعتداء على حقوق العباد ظلم، ولا يقبل الله تعالى توبة عبد قد أكل حقاً من حقوق العباد إلا إذا أداه أو أسقطه صاحبه وعفا] أصول الفقه ص324. وحق العبد يقبل الإسقاط، فإذا أسقط إنسان حقاً له على غيره فله ذلك، قال القرافي: [ونعني بحق العبد المحض أنه لو أسقطه لسقط] الفروق 1/141. ثالثاً: ما اجتمع فيه حق الله وحق العبد وحق الله غالب: ومثاله حد القذف فهو من جهة أن فيه مساً بأعراض الناس علناً فهو حق لله تعالى، ومن جهة أن المقذوف بالزنى قد اتهم في عرضه فهو حق له ولكن حق الله غالب فيه. وكذلك حد السرقة بعد أن يبلغ الإمام، وكذلك عدة المطلقة وعدة المتوفى عنها زوجها، فحق الله فيها صيانة الأنساب عن الاختلاط وحماية المجتمع من الفوضى، وأما حق العبد فيها فهو المحافظة على نسب أولاد الزوج وحق الله غالب. نظرية الحكم القضائي ص 242، الفقه الإسلامي وأدلته 4/15 رابعاً: ما اجتمع فيه حق الله وحق العبد وحق العبد الغالب: ومثاله القصاص وعقوبات الدماء بشكل عام كالديات. [فالقصاص لله فيه حق لأنه اعتداء على المجتمع واعتداء على مخلوق الله وعبده الذي حرم دمه إلا بحق ولله في نفس العبد حق الاستعباد حيث قال عز وجل: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) سورة الذاريات الآية 56. وللعبد في القصاص حق لأن القتل العمد اعتداء على شخصه لأن للعبد المقتول في نفسه حق الحياة وحق الاستمتاع بها فحرمه القاتل من حقه وهو اعتداء على أولياءالمقتول لأنه حرمهم من رعاية مورثهم واستمتاعهم بحياته فكان القتل العمد اعتداء على حق الله وحق العبد ولذلك كان في شرعية القصاص إبقاء للحقين وإخلاء للعالم من الفساد، تصديقاً لقول الله تعالى: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) سورة البقرة الآية 179. وغلب حق العبد لأن ولي المقتول يملك رفع دعوى القصاص أو عدم رفعها وبعد المطالبة بالقصاص والحكم على الجاني القاتل يملك التنازل عنه والصلح على مال أو الصلح بغير عوض كما يملك تنفيذ حكم القصاص على القاتل إن أراد ذلك وكان يتقن التنفيذ ولا يجوز ذلك إلا بإذن الحاكم لئلا يفتات عليه فلو فعل وقع القصاص موقعه واستحق التعزير] الموسوعة الفقهية 18/ 18-19. وأما إذا ارتكب الإنسان المعاصي ثم تاب منها فإن العلماء قد بينوا ما هو أثر التوبة على حقوق الله وحقوق العباد فإذا كانت المعصية متعلقة بحقوق الله المالية فلا بد للتائب منها أن يؤدي حقوق الله تعالى ولا يكفي مجرد الإقلاع عن المعصية. قال الإمام النووي: [… ثم إن كانت المعصية لا يتعلق بها حق مالي لله تعالى ولا للعباد كقبلة الأجنبية ومباشرتها فيما دون الفرج فلا شيء عليه سوى ذلك، وإن تعلق بها حق مالي كمنع الزكاة والغصب والجنايات في أموال الناس وجب مع ذلك تبرئة الذمة عنه] روضة الطالبين 11/245- 246. وذكر الخطيب الشربيني أن حق الله تعالى كالزكاة والكفارات لابد من أدائها. مغني المحتاج 4/440. وقال الإمام النووي أيضاً: [وإن تعلق بالمعصية حق ليس بمالي فإن كان حدا لله تعالى بأن زنى أو شرب الخمر فإن لم يظهر عليه فله أن يظهره ويقر به ليقام عليه الحد ويجوز أن يستر على نفسه وهو الأفضل، فإن ظهر فقد فات الستر فيأتي الإمام ليقيم عليه الحد] روضة الطالبين 11/ 246- 247 وكلام النووي يدل على أن الحدود المختصة بالله تعالى كحد الزنا والسرقة وشرب الخمر لا تسقط بمجرد التوبة ولا بد من إقامة الحد وهذا مذهب جمهور الفقهاء. انظر الموسوعة الفقهية 18/18-19. وكذلك فإنه من المقرر عند العلماء أن من شروط التوبة من المعصية المتعلقة بالناس رد الحقوق لأصحابها قال الإمام النووي: [وإن تعلق بها حق مالي كمنع الزكاة والغصب والجنايات في أموال الناس وجب مع ذلك تبرئة الذمة عنه بأن يؤدي الزكاة ويرد أموال الناس إن بقيت، ويغرم بدلها إن لم تبق، أو يستحل المستحق فيبرئه، ويجب أن يعلم المستحق إن لم يعلم به، وأن يوصله إليه إن كان غائباً إن كان غصبه منه هناك، فإن مات سلَّمه إلى وارثه، فإن لم يكن له وارث وانقطع خبره، دفعه إلى قاضٍ تُرضى سيرتهُ وديانته، فإن تعذر تصدق به على الفقراء بنية الغرامة له إن وجده … وإن كان معسرا نوى الغرامة إذا قدر، فإن مات قبل القدرة فالمرجو من فضل الله تعالى المغفرة. قلت - أي النووي - ظواهر السنن الصحيحة تقتضي ثبوت المطالبة بالظلامة، وإن مات معسراً عاجزاً إذا كان عاصياً بالتزامها، فأما إذا استدان في مواضع يباح له الاستدانة واستمر عجزه عن الوفاء حتى مات، أو أتلف شيئاً خطأً وعجز عن غرامته حتى مات، فالظاهر أن هذا لا مطالبة في حقه في الآخرة إذ لا معصية منه والمرجو أن الله تعالى يعوض صاحب الحق] . روضة الطالبين 11/245- 246. وقال النووي أيضاً: [وإن كان حقاً للعباد كالقصاص وحد القذف فيأتي المستحق ويمكنه من الاستيفاء فإن لم يعلم المستحق وجب في القصاص أن يعلمه فيقول أنا الذي قتلت أباك ولزمني القصاص، فإن شئت فاقتص وإن شئت فاعف … وأما الغيبة إذا لم تبلغ المغتاب فرأيت في فتاوى الحناطي أنه يكفيه الندم والاستغفار وإن بلغته … فالطريق أن يأتي المغتاب ويستحل منه فإن تعذر لموته أو تعسر لغيبته البعيدة استغفر الله تعالى ولا اعتبار بتحليل الورثة هكذا ذكره الحناطي] . روضة الطالبين11/ 247. وقال الشيخ أحمد النفراوي المالكي: [وأما تبعات العباد فلا يكفرها التوبة بل لا بد من استحلال أربابها لأن حقوق العباد لا يقال لها ذنوب] الفواكه الدواني 2/ 302.(18/62)
63 - الشهداء
يقول السائل: هل تأكل الأرض أجساد الشهداء أم لا؟
الجواب: الثابت عند أهل العلم أن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء فقط وهذا هو ما ورد به النص فقد ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله عزّ وجل حرم على الأرض أجساد الأنبياء) رواه أبو داود وغيره وهو حديث صحيح كما قال الألباني في صحيح سنن أبي داود 1/196. هذا هو الثابت وهو أن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء وأما غيرهم من الناس فإن الأرض تأكل أجسادهم سواء أكانوا أولياء أم شهداء أم غيرهم ولكن هذا لا ينفي أن بعض الناس تكون لهم كرامة بأن لا تأكل الأرض أجسادهم وهذا أمر وقع قديماً وحديثاً في أشخاص بأعيانهم فمن ذلك ما رواه البخاري عن جابر رضي الله عنه قال: لما حضر أحد دعاني أبي من الليل فقال: ما أراني إلا مقتولاً في أول من يقتل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وإني لا أترك بعدي أعز عليَّ منك غير نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن عليَّ ديناً فاقض واستوص بأخواتك خيراً فأصبحنا فكان أول قتيل ودفن معه آخر في قبر ثم لم تطب نفسي أن أتركه مع الآخر فاستخرجته بعد ستة أشهر فإذا هو كيوم وضعته هنية غير أذنه. فتح الباري 3/273. وذكر الحافظ ابن حجر أن ذلك كان كرامة لوالد جابر: [وكرامته بكون الأرض لم تبل جسده مع لبثه فيها والظاهر أن ذلك لمكان الشهادة] فتح الباري 3/277. وقد وردت قصة والد جابر وهو عبد الله بن عمرو الأنصاري عند الإمام مالك في الموطأ بلاغاً: أن عمرو بن الجموح وعبد الله بن عمرو الأنصاريين ثم السلميين كانا قد حفر السيل قبرهما وكان قبرهما مما يلي السيل وكانا في قبر واحد وهما ممن استشهد يوم أحد فحفر عنهما ليغيرا من مكانهما فوجدا لم يتغيرا كأنهما ماتا بالأمس وكان أحدهما قد جرح فوضع يده عل جرحه فدفن وهو كذلك فأميطت يده عن جرحه ثم أرسلت فرجعت كما كانت وكان بين أحد وبين يوم حفر عنهما ست وأربعون سنة] موطأ مالك 1/374. قال الحافظ ابن عبد البر عن الحديث السابق إنه متصل من وجوه صحاح بمعنى واحد متقارب فتح المالك 6/358. وقال الإمام الباجي معلقاً على هذه الحادثة: [وقوله فوجدا لم يتغيرا كأنهما ماتا بالأمس وهذه على ما نعتقده كرامة من الله تعالى خصهما بها ولعله قد خص بذلك أهل أحد ومن كان له مثل فضلهما فإن تلك الأرض تسرع التغيير إلى من دفن فيها ولو كان ذلك أمراً معتاداً في تلك الأرض لما ذكره في هذا الحديث على وجه التعجب منه] المنتقى وفي رواية أخرى عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: [استصرخ بنا إلى قتلانا يوم أحد وأجرى معاوية بن أبي سفيان العين فاستخرجهم بعد ستة وأربعين سنة لينة أجسادهم تنثني أطرافهم. قال أبو عمر _ ابن عبد البر -: هذا هو الصحيح – والله أعلم – انهم استخرجوا بعد ست وأربعين سنة لأن معاوية لم يجر العين إلا بعد اجتماع الناس عليه خليفة وكان اجتماع الناس عليه عام أربعين من الهجرة في آخرها وقد قيل: عام إحدى وأربعين وذلك حين بايعه الحسن بن علي وأهل العراق فسمي عام الجماعة وتوفي سنة ستين. وقد روى أبو مسلمة سعيد بن يزيد عن أبي نضرة عن جابر أنهم أخرجوا بعد ستة أشهر فإن صح هذا فمرتين أخرج والد جابر من قبره وأما خروجه وخروج غيره في حين إجراء معاوية العين فصحيح وذلك بعد ستة وأربعين عاماً على ما في حديث مالك وغيره] فتح المالك 6/359. وفي رواية أخرى عن جابر قال: [لما أراد معاوية أن يجري العين بأحد نودي بالمدينة من كان له قتيل فليأت قتيله قال جابر: فأتيناهم فأخرجناهم رطاباً يتثنون فأصابت المسحاة أصبع رجل منهم فانفطرت دماً قال أبو سعيد الخدري لا يَنكر بعد هذا منكرٌ أبداً. قال أبو عمر: الذي أصابت المسحاة إصبعه هو حمزة رضي الله عنه رواه عبد الأعلى بن حماد قال: حدثنا عبد الجبار يعني ابن الورد قال: سمعت أبا الزبير يقول: سمعت جابر بن عبد الله يقول: رأيت الشهداء يخرجون على رقاب الرجال كأنهم رجال نوم حتى إذا أصابت المسحاة قدم حمزة رضي الله عنه فانبثقت دماً وبالله التوفيق] المصدر السابق 6/360. قال الحافظ ابن حجر (وقد ذكر ابن إسحق القصة في المغازي حدثني أبي عن أشياخ من الأنصار قالوا: لما ضرب معاوية عينه التي مرت على قبور الشهداء انفجرت العين عليهم فجئنا فأخرجناهما - يعني عمراً وعبد الله – وعليهما بردتان قد غطي بهما وجوههما وعلى أقدامهم شيء من نبات الأرض فأخرجناهما يتثنيان تثنياً كأنهما دفنا بالأمس] وله شاهد بإسناد صحيح عند ابن سعد من طريق أبي الزبير عن جابر] فتح الباري 3/276. وذكر ابن قتيبة في المعارف وغيره أن طلحة بن عبد الله أحد العشرة رضي الله عنهم دفن فرأته بنته عائشة بعد دفنه بثلاثين سنة في المنام فشكا إليهما النز فأمرت به فاستخرج طرياً فدفن في داره بالبصرة قال غيره قال الراوي كأني انظر إلى الكافور في عينيه لم يتغير إلا عقيصته فمالت عن موضعها واخضر شقه الذي يلي النز] المجموع 5/303. وقد روى الترمذي في قصة أصحاب الأخدود حديثاً طويلاً وذكر في آخره: [فأما الغلام فإنه دفن قال: فذكر أنه أخرج في زمن عمر بن الخطاب وإصبعه على صدغه كما وضعها حين قتل] وقال الترمذي هذا حديث حسن غريب، سنن الترمذي مع شرحه تحفة الأحوذي 9/186 وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي 3/130. ونقل المباركفوري عن ابن إسحق قال: وحدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أنه حدث أن رجلاً من أهل نجران كان زمان عمر بن الخطاب حفر خربة من خرب نجران لبعض حاجته فوجد عبد الله بن التامر تحت دفن فيها قاعداً واضعاً يده على ضربة في رأسه ممسكاً عليها بيده فإذا أخذت يده عنها انبعث دماً وإذا أرسلت يده ردت عليها فأمسكت دمها وفي يده خاتم مكتوب فيه ربي الله فكتب فيه إلى عمر بن الخطاب يخبره بأمره فكتب عمر إليهم أن أقروه على حاله وردوا عليه الذي كان عليه ففعلوا] تحفة الأحوذي 9/186. وخلاصة الأمر أن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء فقط وأما الشهداء فتأكل الأرض أجسادهم كغيرهم من الأموات ولكن هنالك كرامات لبعض الشهداء بأن الأرض لا تأكل أجسادهم. وهذا الكلام لا يعني أن من أكلت الأرض أجسادهم ليسوا شهداء.(18/63)
64 - شروط الفتوى في دين الإسلام
يقول السائل: ما قولكم فيمن يفتون في دين الله بغير علم ولا هدى؟
الجواب: كثر المجترئون من طلبة العلم الشرعي وغيرهم على الإفتاء في دين الله سبحانه وتعالى، ويظنون أن الأمر هين، وهو عند الله عظيم، وكثر الخائضون في دين الله بغير علم، حتى إنك إذا جلست في مجلس وطرحت مسألة شرعية، ترى كثيراً من الجالسين يدلون برأيهم من غير أن يُطلب منهم، ويعضهم قد لا يحسن الوضوء. وصار دين الله وشرعه مع الأسف الشديد حمىً مستباحاً لأشباه المتعلمين، وظن كثيرٌ من طلبة العلم الشرعي، أنهم بمجرد حصولهم على الشهادة الجامعية الأولى يحق لهم الإفتاء في دين الله، وما دروا أن شهادة (البكالوريوس) في الشريعة الإسلامية في زماننا هذا، تعني محو أمية في العلوم الشرعية فقط، هذا إذا وزناها بالميزان الصحيح ولا يشذ عن هذا إلا القليل جداً. وإلى المجترئين على الفتوى في أيامنا هذه، أسُوق بعض كلام أهل العلم في الفتيا لعل أحدهم يعرف قدره وحده فيقف عنده فلا يتجاوزه. قال العلاّمة ابن القيم في بيان الشروط التي تجب فيمن يبلغ عن الله ورسوله: " ولما كان التبليغ عن الله سبحانه وتعالى يعتمد العلم بما يبلغ والصدق فيه، لم تصلح مرتبة التبليغ بالرواية والفتيا إلا لمن اتصف بالعلم والصدق، فيكون عالماً بما يبلغ صادقاً فيه ويكون مع ذلك حسن الطريقة، مرضي السيرة، عدلاً في أقواله وأفعاله، متشابه السر والعلانية في مدخله ومخرجه وأحواله، وإذا كان منصب التوقيع عن الملوك بالمحل الذي لا ينكر فضله، ولا يجهل قدره وهو من أعلى المراتب السنيات، فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسماوات؟ ، فحقيق بمن أقيم في هذا المنصب أن يعد له عدته، ويتأهب له أهبته، وأن يعلم قدر المقام الذي أقيم فيه، ولا يكون في صدره حرج من قول الحق والصدع به، فإن الله ناصره وهاديه، وكيف وهو المنصب الذي تولاه بنفسه رب الأرباب، فقال تعالى: (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ) سورة النساء /127، وكفى بما تولاه الله تعالى بنفسه شرفاً وجلالة إذ يقول في كتابه: (يَسْتَفْتُونَكَ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) سورة النساء /176، وليعلم المفتي عمن ينوب في فتواه، وليوقن أنه مسؤول غداً وموقوف بين يدي الله " إعلام الموقعين عن رب العالمين 1/11. ولكن كثيراً من المجترئين على الفتوى لا يفهم هذا الكلام لا من قريب ولا من بعيد، والمهم عندهم أن يظهروا أمام العامة بمختلف الوسائل ليشار إليهم بالبنان، فيجيبوا عن كل مسألة توجه لهم ولا يعرفون قول (لا أدري) ، لأنهم يعتبرون ذلك عاراً وشناراً أوردها سعد وسعد مشتمل ما هكذا يا سعد تورد الإبل لأن الناس يصفونهم بالجهل إن فعلوا ذلك، وما دروا أن سلفنا الصالح كانوا يحرصون على قول لا أدري، كحرص هؤلاء المتعالمين على الإجابة، وقديماً قال العلماء: " لا أدري نصف العلم "، قال ابن أبي ليلى: " أدركت مئة وعشرين من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل أحدهم عن المسألة، فيردها هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا حتى ترجع إلى الأول، وما منهم أحد يحدث بحديث أو يسأل عن شيء إلا ود أن أخاه كفاه. وقال عمر بن الخطاب: " أجرؤكم على الفتيا، أجرؤكم على النار. وقال ابن عباس: " إذا أخطأ العالم (لا أدري) أصيبت مقاتله ". فلا ينبغي لأحد أن يقتحم حمى الفتوى ولما يتأهل لذلك، وقد قرر أهل العلم أن من أفتى وليس بأهل للفتوى فهو آثم عاص. وكان شيخ الإسلام ابن تيمية شديد الإنكار على أدعياء العلم الذين يتصدرون للفتيا فقال له بعضهم يوماً: أجعلت محتسباً على الفتوى؟ فقال له: " يكون على الخبازين والطباخين محتسب ولا يكون على الفتوى محتسب " انظر الفتوى - د. يوسف القرضاوي ص24. وأدعياء العلم هؤلاء اقتحموا هذه العقبة الكؤود، ولم يستعدوا لها، فلو سألت أحدهم عن مبادئ وقواعد أصول الفقه، لما عرفها، فلو سألته ما العام؟ وما الخاص؟ وما المطلق وما المقيد؟ وما القياس؟ وما الحديث المرسل؟ لما أحرى جواباً. ولو سألته عن أمهات كتب الفقه المعتبرة لما عرفها، ولو سألته عن آيات الأحكام من كتاب الله وعن أحاديث الأحكام من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما عرف شيئاً. ويزداد الأمر سوءاً عندما نرى هؤلاء الناس المتعالمين يجعلون واقع الناس حاكماً على النصوص الصريحة من كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فترى وتسمع من الفتاوى الغريبة والعجيبة، فترى من يحلل الربا المحرم في كتاب الله وسنة رسوله، لأنه ضرورة اقتصادية كما يدعي، أو لأن ربا الجاهلية لا ينطبق على ربا البنوك الربوية كما يزعم. وهكذا ترى من هؤلاء العجب العجاب في اتباع الأهواء وإرضاء الأسياد، ونسوا أو تناسوا قول الله تعالى: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنْ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) سورة الجاثية /18. وقوله تعالى: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ) سورة المائدة /49. وختاماً، فعلى كل من يتصدى للفتوى أن يتق الله سبحانه وتعالى، وأن يأخذ للأمر عدته، وليعلم أنه يوقع عن رب العالمين، ويبلغ عن الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم. *****(18/64)
65 - حكم الاحتفال بعيد الحب
يقول السائل: إنه صاحب محل لبيع الورود وأنه يحضر الأزهار والورود لبيعها في يوم 14شباط بمناسبة عيد الحب فما حكم ذلك؟
الجواب: إن الأمة الإسلامية أمة مستقلة في شخصيتها وأعيادها وأمة الإسلام لها عيدان معروفان عيد الفطر وعيد الأضحى وليس لها أعياد سواهما. وقضية العيد جزء من شعائر الإسلام لا يجوز أخذها عن غيرها من الأمم أو الملل قال شيخ الإسلام ابن تيمية يرحمه الله: (إن الأعياد من جملة الشرع والمناهج والمناسك التي قال الله سبحانه: (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) وقال: (لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه) كالقبلة والصلاة والصيام فلا فرق بين مشاركتهم في العيد وبين مشاركتهم في سائر المناهج فإن الموافقة في جميع العيد موافقة في الكفر، والموافقة في بعض فروعه موافقة في بعض شعب الكفر، بل الأعياد هي من أخص ما تتميز به الشرائع ومن أظهر ما لها من الشعائر، فالموافقة فيها موافقة في أخص شرائع الكفر وأظهر شعائره , ولا ريب أن الموافقة في هذا قد تنتهي إلى الكفر في الجملة بشروطه. وأما مبدؤها فأقل أحواله أن يكون معصية وإلى هذا الاختصاص أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (إن لكل قوم عيدا وإن هذا عيدنا) اقتضاء الصراط المستقيم 1/528-529. والحديث الذي ذكره شيخ الإسلام رواه البخاري ومسلم ولفظه (عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما تقاولت الأنصار يوم بعاث قالت: وليستا بمغنيتين فقال أبو بكر: أمزامير الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وذلك في يوم عيد. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر إن لكل قوم عيداً وهذا عيدنا) فهذا الحديث أوجب اختصاص الأمة الإسلامية بأعيادها فقط وعليه لا يجوز للمسلمين أن يحتفلوا بأي عيد آخر. وعيد الحب لا علاقة للمسلمين به لا من قريب ولا من بعيد بل أصله من أعياد الرومان الوثنيين وله في تاريخهم أساطير موروثة. ومما قيل في سبب هذا العيد أنه لما دخل الرومان في النصرانية بعد ظهورها وحكم الرومان الإمبراطور الروماني (كلوديوس الثاني) في القرن الثالث الميلادي منع جنوده من الزواج لأن الزواج يشغلهم عن الحروب التي كان يخوضها فتصدى لهذا القرار (القديس فالنتين) وصار يجري عقود الزواج للجند سراً فعلم الإمبراطور بذلك فزج به في السجن وحكم عليه بالإعدام وفي سجنه وقع في حب ابنة السجان وكان هذا سراً فنفذ فيه حكم القتل يوم 14 فبراير عام 270 ميلادي ليلة 15 فبراير عيد (لوبر كيليا) ومن يومها أطلق عليه لقب قديس. وعيد الحب هذا له مظاهر كثيرة في أوروبا وأمريكا حيث يتم تبادل الورود الحمراء وتوزيع بطاقات التهنئة وتبادل كلمات الحب والعشق وتقام الحفلات الراقصة المختلطة ويقع فيها من المنكرات ما الله به عليم. وبناء على ما سبق فإنه يحرم على المسلمين الاحتفال بعيد الحب لأنه من الشعائر الوثنية ولأنه مرتبط بالقديس فالنتين وهو مرتبط بخرافات وأساطير باطلة ونحن أمة الإسلام قد نهينا عن التشبه بغيرنا وقد قال الله تعالى: (ولا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) سورة آل عمران الآية 105. وصح في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من تشبه بقوم فهو منهم) رواه أحمد وأبو داود وهو حديث صحيح كما قال الألباني في صحيح الجامع الصغير الحديث رقم 6025. وكذلك يحرم بيع كل ما له علاقة بهذا العيد أو الاستعداد له بتحضير الورود الحمراء أو المناديل الحمراء وغير ذلك مما هو مختص بهذا العيد ولا يجوز للمسلم المشاركة بهذا العيد بأي شكل من الأشكال. وينبغي أن يعلم أن الإسلام قد بين أسس وقواعد للحب فالإسلام هو دين المحبة المبنية على أسس سليمة متفقة مع الفطرة الإنسانية فالزوج يحب زوجته والزوجة تحب زوجها والمسلم يحب والديه والعكس صحيح والمسلم يحب أخاه وهكذا فالحب أشمل وأعم من هذا الحب المزعوم في عيد الحب فالحقيقة أن الحب في عيد الحب هو العشق واتخاذ الأخدان والعشيقات خارج نطاق الزواج والأسرة إنه دعوة للتحلل والإباحية. وختاماً فإن عدداً من علماء المسلمين المعاصرين قد أفتوا بتحريم الاحتفال بعيد الحب فمن ذلك ما أفتت به اللجنة الدائمة للإفتاء السعودية جواباً على السؤال التالي (يحتفل بعض الناس في اليوم الرابع عشر من شهر فبراير 14/2، من كل سنة ميلادية بيوم الحب (فالنتين داي) ، ويتهادون الورود الحمراء ويلبسون اللون الأحمر ويهنئون بعضهم وتقوم بعض محلات الحلويات بصنع حلويات باللون الأحمر ويرسم عليها قلوب وتعمل بعض المحلات إعلانات على بضائعها التي تخص هذا اليوم فما هو رأيكم؟ فأجابت اللجنة: ... يحرم على المسلم الإعانة على هذا العيد أو غيره من الأعياد المحرمة بأي شيء من أكلٍ أو شرب أو بيع أو شراء أو صناعة أو هدية أو مراسلة أو إعلان أو غير ذلك لأن ذلك كله من التعاون على الإثم والعدوان ومعصية الله والرسول والله جل وعلا يقول: (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب) . ويجب على المسلم الاعتصام بالكتاب والسنة في جميع أحواله لاسيما في أوقات الفتن وكثرة الفساد، وعليه أن يكون فطناً حذراً من الوقوع في ضلالات المغضوب عليهم والضالين والفاسقين الذين لا يرجون لله وقاراً ولا يرفعون بالإسلام رأساً، وعلى المسلم أن يلجأ إلى الله تعالى بطلب هدايته والثبات عليها فإنه لا هادي إلا الله ولا مثبت إلا هو سبحانه وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم(18/65)
66 - دعاء غير مشروع
يقول السائل: ما قولكم في الدعاء المسمى دعاء سيدنا عكاشة حيث أنه مطبوع في كتيب صغير ويوزع؟
الجواب: قرأت الدعاء المشار إليه ومقدمته فوجدته من جملة الأدعية المبتدعة التي احتوت على مبالغات ومجازفات فارغة وفيه أنواع من الضلال والشرك. وأول ما يلفت النظر فيه أنه منسوب إلى الصحابي الجليل عكاشة وأن الذي جمعه هو منشئ ضريح الصحابي عكاشة كما جاء على صفحة الغلاف ومن المعلوم أن الصحابي الجليل عكاشة بن محصن الأسدي رضي الله عنه استشهد في حروب الردة في خلافة أبي بكر رضي الله عنه وذلك في موقعة بزاخة وقاتله هو طليحة الأسدي. انظر سير أعلام النبلاء 1/307-308. وعكاشة بن محصن الأسدي رضي الله عنه هو الذي بشره النبي صلى الله عليه وسلم بدخول الجنة بغير حساب كما هو ثابت في الصحيحين في حديث طويل: (أن النبي صلى الله عليه وسلم عرضت عليه الأمم فرأى سواداً عظيماً فقيل له هذه أمتك ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب ثم فسرهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال هم الذين لا يرقون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون فقام عكاشة بن محصن فقال: ادع الله أن يجعلني منهم فقال: أنت منهم، ثم قام رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سبقك بها عكاشة) تهذيب الأسماء واللغات 1/338. فعكاشة لم يمت في بيت المقدس حتى يكون له ضريح منسوب إليه ولا يعرف أحد غيره من الصحابة اسمه عكاشة مات في بيت المقدس فيما أعلم. والدعاء المنسوب إلى عكاشة جاء في مقدمته في ثواب من قرأه أمور لا يقبلها شرع ولا عقل فقد جاء فيها ما يلي: [أما بعد فهذادعاء كامل عظيم ومنافعه كثيرة حملا وتلاوة لا يعلم ثواب هذا الدعاء إلا الله تعالى ولو كانت الأشجار أقلاماً والبحار مداداً والأولون والآخرون كُتَّاباً لعجزوا أن يكتبوا ثواب هذا الدعاء ومن قرأه فكأنما قرأ الدعوات كلها ويغفر الله ذنوبه جميعاً وإذا قرأه مريض شفاه الله تعالى ومن قرأه لدفع الجوع والقحط دفع الله عنه ذلك وإذا قرأه عطشان روي وإذا قرأه مديون قضى الله دينه وحمله ينفع إن شاء الله تعالى من جميع الأمراض والأرياح والآلام والأسقام ونافع إن شاء الله تعالى للدخول على الملوك والوزراء وأرباب الأقلام للمحبة والقبول والسفر في الليل والنهار وكذا البحار ومنع السحر عن حامله في البر والبحر ونافع إن شاء الله من لدغة الحية والعقرب والثعبان ونافع من الضرب بالسيف والنشاب والخناجر بإذن الله تعالى ولدفع شر الشياطين وكيدهم ومن كتبه في إناء صيني بماء وزعفران سبعة أيام وشربه على الريق رزقه الله ذهناً بليغاً وفهماً واسعاً وإن شرب منها المريض شفي ومن قرأه في عمره مرة واحدة جعل الله له ثواباً مثل ثواب الأولياء والأصفياء والزهاد من الرجال والنساء وينال ما يطلب من أمر الدنيا وتقضى حوائجه بإذن الله تعالى ومن علَّقه في محل بيعه تروج بضاعته وتكثر أرباحه ويحفظ المحل الذي هو فيه من الحرق والسرق وإذا وضع في سفينة نجت من الغرق إن شاء الله تعالى وحامله يفتح له أبواب الرزق من حيث لا يحتسب وتكون مقاصده ناجحة وإذا وضع في مزرعة بمحل طاهر بارك الله في محصولها وزاد نموها وحفظت من العاهات والآفات كما جرب ذلك مراراً ومع ذلك فإن فوائده لا تحصى ومنافعه لا تستقصى ومن عظيم فوائده أنه ينفع لكل شيء وإنما يلزم ذلك كله أن يستعمل بكل احترام واعتقاد ونية خالصة ولا يستعمل إلا فيما يرضي الله تعالى والله أعلم] . وهذا الثواب المزعوم المرتب على هذا الدعاء لم يرد مثله في الشرع حتى للقرآن الكريم ولا للأدعية النبوية الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم. فهذا دجل وكذب وافتراء على الله عز وجل وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم. كما أن هذا الدعاء فيه من الأمور الباطلة كقوله: [بحق عزرائيل وقبضته] فمن المعلوم أنه لم يثبت لا في الكتاب ولا في السنة تسمية ملك الموت بعزرائيل وإنما هذا من الإسرائيليات. وكذلك قوله: [وبحق نوح وسفينته] ولا أدري ما هو حق سفينة نوح؟ وقوله: [وبحق يوسف وغربته … وبحق صالح وناقته ودانيال وكرامته … إلخ ما ورد فيه من الترهات والخرافات. فهذا الدعاء وأمثاله من الأدعية المبتدعة التي ألزم دعاة التصوف أنفسهم ومريديهم بها ليست مشروعة وقد صح في الحديث قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس من أمرنا فهو رد) وهذا الدعاء وأمثاله ليس من أمر النبي صلى الله عليه وسلم يقول الشيخ الإمام أبو بكر بن العربي في معرض رده على الذين يخترعون أدعية من عند أنفسهم ويأمرون الناس أن يدعوا بها الله عند تفسير قوله تعالى: (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) . قال رحمه الله: [ويقال ألحد ولحد إذا مال والإلحاد يكون بوجهين بالزيادة فيها أو النقصان منها كما يفعله الجهال الذين يخترعون أدعية يسمون فيها الباري بغير أسمائه ويذكرونه بما لم يذكره من أفعاله إلى غير ذلك مما لا يليق به فحذار منها ولا يدعونَّ أحدٌ منكم إلا بما في الكتب الخمسة وهي كتاب البخاري ومسلم والترمذي وأبي داود والنسائي فهذه الكتب هي بدء الإسلام وقد دخل فيها ما في الموطأ الذي هو أصل التصانيف وذروا سواها ولا يقولنَّ أحدٌ أختار دعاء كذا فإن الله قد اختار له وأرسل بذلك الخلق رسوله] . أحكام القرآن 2/816. ويقول الإمام القرطبي عند تفسير قوله تعالى: (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) ، قال: [فعلى الإنسان أن يستعمل ما في كتاب الله وصحيح السنة من الدعاء ويدع ما سواه ولا يقولنَّ أختار كذا فإن الله تعالى قد اختار لنبيه وأوليائه وعلمهم كيف يدعون] تفسير القرطبي 4/231.. ويقول القرطبي أيضاً عند تفسير قوله تعالى: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) . بعد أن ذكر وجوهاً من الاعتداء في الدعاء قال: [ومنها أن يدعو الله بما ليس في الكتاب العزيز ولا في السنة فيتخير ألفاظاً مفقرة وكلمات مسجعة قد وجدها في كراريس لهؤلاء (يعني المشايخ) لا أصل لها ولا معول عليها فيجعلها شعاره ويترك ما دعا به رسوله صلى الله عليه وسلم وكل هذا يمنع من استجابة الدعاء] تفسير القرطبي 7/226. ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية منكراً على الذين يبتدعون أشياء من عند أنفسهم ويعتقدون أنها تقربهم إلى الله زلفى: [وما علم باتفاق الأمة أنه ليس بواجب ولا مستحب ولا قربة لم يجز أن يعتقد أو يقال إنه قربة أو طاعة فكذلك هم متفقون على أنه لا يجوز قصد التقرب به إلى الله ولا التعبد به ولا اتخاذه ديناً فلا يجوز جعله من الدين لا باعتقاد وقول ولا بإرادة وعمل وبإهمال هذا الأصل غلط خلق كثير من العلماء والعباد يرون الشيء إذا لم يكن محرماً لا ينهى عنه بل يقال إنه جائز ولا يفرق بين اتخاذه ديناً وطاعة وبين استعماله كما تستعمل المباحات المحضة ومعلوم أن اتخاذه ديناً بالاعتقاد أو بالقول أو بالعمل من أعظم المحرمات وأكبر السيئات وهذا من البدع المنكرات التي هي أعظم المعاصي التي يعلم أنها معاصٍ وسيئات] مجموعة الرسائل والمسائل 1/138 نقلاً عن مظاهر الانحرافات العقدية عند الصوفية 3/1183-1185. وخلاصة الأمر أن هذا الدعاء المسمى دعاء عكاشة دعاء مبتدع لا يجوز لأحد أن يأتي به ولا يعتقد صحته ومن أراد الدعاء فعليه بالأدعية القرآنية والأدعية النبوية ففيها الكفاية.(18/66)
67 - احاديث ثابتة
يقول السائل: ما صحة ما ورد في بعض الأحاديث أن من يتمسك بدينه في آخر الزمان له أجر خمسين من الصحابة رضي الله عنهم؟
الجواب: وردت عدة أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم يشد بعضها بعضاً تدل على أن المتمسك بدينه له أجر خمسين من الصحابة رضي الله عنهم فمن ذلك: ما جاء في الحديث عن عتبة بن غزوان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن من ورائكم أيام الصبر للمتمسك فيهن يومئذ بما أنتم عليه أجر خمسين منكم قالوا: يا نبي الله أو منهم؟ قال: بل منكم) أخرجه ابن نصر في كتاب السنة وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة المجلد الأول حديث رقم 494. وله شاهد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من ورائكم أيام الصبر، الصبر فيهن كقبض على الجمر للعامل فيها أجر خمسين قالوا: يا رسول الله أجر خمسين منهم أو خمسين منا. قال: خمسين منكم) قال الهيثمي رواه البزار والطبراني بنحوه إلا أنه قال (للمتمسك أجر خمسين شهيداً فقال عمر: يا رسول الله منا أو منهم؟ قال منكم) ورجال البزار رجال الصحيح غير سهيل بن عامر البجلي وثقه ابن حبان. مجمع الزوائد 7/282. وقال الشيخ الألباني عن إسناد الطبراني: وهذا إسناد صحيح رجاله كلهم ثقات رجال مسلم. السلسلة الصحيحة المجلد الأول حديث رقم 494. وعن أبي أمية الشعباني قال: أتيت أبا ثعلبة الخشني رضي الله عنه فقلت: يا أبا ثعلبة كيف تقول في هذه الآية: (لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) سورة المائدة الآية 105؟ قال: أما والله لقد سألت عنها خبيراً سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً وهوىً متبعاً ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك نفسك ودع أمر العوام فإن من ورائكم أياماً الصبر فيهن مثل قبض على الجمر للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عمله قال: وزادني غيره يا رسول الله أجر خمسين منهم؟ قال: خمسين منكم) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة وقال الترمذي حسن غريب ورواه ابن حبان وصححه ورواه الحاكم وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي وذكره الشيخ الألباني شاهداً لحديث عتبة بن غزوان المتقدم انظر المصدر السابق. وعن عتبة بن غزوان رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ورائكم أيام الصبر للمتمسك فيهن يومئذ بمثل ما أنتم عليه له كأجر خمسين منكم قالوا: يا نبي الله! أو منهم؟ قال: بل منكم - ثلاث مرات أو أربع -) رواه الطبراني في الكبير والأوسط عن شيخه بكر بن سهل عن عبد الله بن يوسف قال الهيثمي وكلاهما قد وثق وفيهما خلاف. فمجموع هذه الأحاديث يدل على الأجر العظيم لمن يتمسك بدينه وأنه يعادل أجر خمسين من الصحابة وانظر إتحاف الجماعة بما جاء في الفتن والملاحم وأشراط الساعة 2/90 - 91.(18/67)
68 - القرآن الكريم
يقول السائل: ما حكم استعمال الآيات القرآنية في التعليقات الساخرة والمزاح؟
الجواب: إن القرآن الكريم كلام الله ولا يجوز للمسلم أن يتلاعب بكلام الله بأي حال من الأحوال لأن ذلك من الاستهانة بالقرآن، وكلام الله يجب احترامه وصيانته عن كل ما لا يليق به وبالتالي لا يجوز استعماله في المزاح أو التعليقات والرسوم الساخرة لأن ذلك يتضمن إستخفافاً واستهانة بل على المسلم عندما يقرأ كلام الله سبحانه وتعالى أن يقرأه بتدبر وتفكر وأن يكون على طهارة لأن قراءة كلام الله سبحانه وتعالى عبادة من العبادات والقرآن أنزل ليكون دستوراً ومنهج حياة، يقول سبحانه وتعالى: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) سورة القمر الآية 17. وقال تعالى: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْءَانَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) سورة الحشر الآية 21. وقال تعالى: (إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْءَايَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا) سورة مريم الآية 58. *****(18/68)
69 - التوبة
التوبة الصادقة, يقول السائل: أنا شاب عصيت الله أربعة أعوام فأهملت الصيام وشتمت هذا وضربت ذاك، ووقعت في النميمة والغيبة والرياء والآن تبت إلى الله دون أن أعتذر لأصحاب الحقوق وما زلت أقع في الغيبة ولكن بشكل أقل من السابق فماذا أصنع؟
الجواب: لا شك أن التوبة من المعاصي والآثام واجبة على المسلم استجابة لأمر الله سبحانه وتعالى: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) ولقوله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا) . وهذا الأخ السائل عليه أن يحمد الله على توبته ولكن هذه التوبة ليست توبة نصوحاً لأن التوبة النصوح لا بد أن تتحقق فيها شروط أربعة وهي: الأول: أن يقلع الإنسان عن المعاصي والآثام فإذا كان يغتاب الناس فعليه أن يترك ذلك. الثاني: أن يندم ندماً حقيقاً وصادقاً على ما مضى. الثالث: أن يعزم عزماً أكيداً على أن لا يعود للمعاصي. الرابع: إذا كانت المعصية تتعلق بحق من حقوق الناس فلا بد من إعادتها لأصحابها. فعلى هذا السائل أن يحقق هذه الشروط في نفسه حتى تكون توبته صادقة وأما أن يتوب الإنسان من الذنب اليوم ويعود إليه غداً فما هذه بتوبة. وأما بالنسبة لتركك الصوم لأربعة أعوام فيلزمك القضاء فعيلك الصيام ولا تبرئ ذمتك إلا بالقضاء. كما أن عليك أن تكثر من فعل الخيرات والأعمال الصالحات فهذه تمحو السيئات بإذن الله سبحانه وتعالى حيث يقول: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) وقال صلى الله عليه وسلم: (أتبع السيئة الحسنة تمحها) رواه أحمد والترمذي وهو حديث حسن. *****(18/69)
70 - الغش
يقول السائل: يغش بعض الطلبة في الامتحان ويزعمون أن في الغش تحقيق مصلحة لهم فما حكم ذلك؟
الجواب: لا شك أن الغش حرام مطلقاً سواء كان في المعاملات أو في الامتحانات أو غيرها ويدل على ذلك ما جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم مر على صبرة طعام-كومة قمح أو شعير-فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بلللاً فقال: ما هذا يا صاحب الطعام؟ قال: أصابته السماء يا رسول الله- أي المطر-قال: أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس، من غشنا فليس منا) رواه مسلم وغيره. ومن المعلوم عند أهل العلم أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فألفاظ الحديث تعم كل غش سواء كان في الامتحانات أو غيرها. وأما زعمهم بأن الغش يحقق مصلحة لهم فهذا زعم باطل وكلام مردود لا يصح أبداً فإن المصلحة المعتبرة عند أهل العلم يجب أن لا تعارض نصاً-من الكتاب أو السنة-أو إجماعاً أو قياساً صحيحاً. وما يسمونه مصلحة هنا هو في الحقيقة مصلحة موهومة وملغاة بنص الشارع، فأين هي المصلحة في غش؟ إنها كمصلحة المرابي في زيادة أمواله عن طريق الربا وينبغي أن يعلم أن كثيراً من الناس يحملون المصلحة أكثر مما تحتمل ويقومون بتصرفات كثيرة معارضة لكتاب الله وسنة رسوله ويزعمون أن دليلهم هو المصلحة، وهم في الحقيقة والواقع لا يعرفون المصلحة على حقيقتها فالمصلحة هي المنفعة التي يقصدها الشرع من أجل حفظ مقاصد الشريعة ولا ينطبق هذا الكلام على الغش في الامتحانات لأن الغش محرم بالنص ولأن الغش يتعارض مع مقاصد الشريعة المطهرة. *****(18/70)
71 - العيد
يقول السائل: كيف تكون التهنئة بحلول العيد؟
الجواب: إن أصل التهنئة مشروع في الجملة فقد ثبت في الحديث الصحيح في قصة توبة كعب بن مالك رضي الله عنه حين تاب الله عليه بعد تخلفه عن غزوة تبوك حيث ورد في قصة توبته: (قال سمعت صوت صارخ يقول بأعلى صوته يا كعب بن مالك، أبشر فذهب الناس يبشروننا وأنطلقت أتأمم رسول الله صلى الله عليه وسلم - أقصده - يتلقاني الناس فوجاً فوجاً يهنؤني بالتوبة ويقولون: ليهنك توبة الله عليك حتى دخلت المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم حوله الناس فقام طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني وكان كعب لا ينساها لطلحة قال كعب: فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو يبرق وجهه من السرور أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك) رواه البخاري ومسلم. وهذا الحديث في التهنئة بشكل عام وأما التهنئة بالعيد والدعاء فيه فقد ورد في الحديث عن محمد بن زياد قال: [كنت مع أبي أمامة الباهلي وغيره من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم فكانوا إذا رجعوا من العيد يقول بعضهم لبعض يتقبل الله منا ومنك] قال الإمام أحمد بن حنبل إسناده إسناد جيد وجوَّده أيضاً العلامة ابن التركماني، الجوهر النقي 3/319. ونقل ابن قدامة عن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله قال: [ولا بأس أن يقول الرجل للرجل يوم العيد تقبل الله منا ومنك] . وقال حرب: [سئل أحمد عن قول الناس في العيدين: تقبل الله منا ومنكم قال: لا بأس به يرويه أهل الشام عن أبي أمامة قيل وواثلة بن الأسقع؟ قال: نعم، قيل فلا تكره أن يقال هذا يوم العيد: قال: لا] المغني 2/295-296. وسئل الإمام مالك عن قول الرجل لأخيه يوم العيد تقبل الله منا ومنك يريد الصوم فقال: ما أعرفه ولا أنكره، قال ابن حبيب المالكي معناه لا يعرفه سنة ولا ينكره على من يقوله لأنه قول حسن ولأنه دعاء. وقد عقد الإمام البيهقي باباً في سننه الكبرى بعنوان: [باب ما روي في قول الناس يوم العيد بعضهم لبعض تقبل الله منا ومنك] . ثم ساق فيه بعض الأحاديث الواردة في ذلك وضعّفها وساق فيه أيضاً أثراً عن عمر بن عبد العزيز فقال: [عن أدهم مولى عمر بن عبد العزيز قال: كنا نقول لعمر بن عبد العزيز في العيد تقبل الله منا ومنك يا أمير المؤمنين فيرد علينا ولا ينكر ذلك علينا] سنن البيهقي 3/319. وهذه الأحاديث وإن كانت ضعيفة فلا بأس أن يعمل بها في مثل هذا الأمر الذي يعد من فضائل الأعمال وخاصة إذا أضفنا إليها الحديث الذي لم يذكره البيهقي وهو حديث أبي أمامة المذكور ساباً، وخلاصة الأمر أنه لا بأس أن يقال في التهنئة بالعيد تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال أو نحوها من العبارات. *****(18/71)
72 - العلم
يقول السائل: ما هي الأمور التي يجب على المسلم أن يعلمها من أمر دينه؟
الجواب: إن العلماء قسموا العلم الشرعي إلى ثلاثة أقسام: الأول: ما هو فرض عين والمقصود بفرض العين ما يجب على كل مسلم مكلف أن يحصله ولا يعذر بجهله، وحد هذا القسم هو ما تتوقف عليه صحة العبادة أو المعاملة فيجب على المسلم أن يتعلم كيفية الوضوء والصلاة والأحكام الأساسية في الصوم والزكاة وإن كان عنده نصاب والأحكام الأساسية في الحج إن كان من أهل الاستطاعة وكذلك يجب عليه أن يتعلم أحكام المعاملات التي يحتاج إليها فمثلاً لو كان شخص يعمل في الصرافة مثلاً فيجب عليه أن يتعلم أحكام الصرف في الشرعية الإسلامية وهكذا بالنسبة للأمور التي يحتاج لها في عباداته ومعاملاته. قال ابن عابدين في حاشيته نقلاً عن العلامي في فصوله: [من فرائض الإسلام تعلم ما يحتاج إليه العبد في إقامة دينه وإخلاص عمله لله تعالى ومعاشرة عباده وفرض على كل مكلف ومكلفة بعد تعلمه علم الدين والهداية تعلم علم الوضوء والغسل والصلاة والصوم وعلم الزكاة لمن له نصاب والحج لمن وجب عليه والبيوع على التجار ليحترزوا عن الشبهات والمكروهات في سائر المعاملات وكذا أهل الحرف وكل من اشتغل بشيء يفترض عليه علمه وحكمه ليمتنع عن الحرام فيه] حاشية ابن عابدين 1/42. وقال الإمام النووي: [ ... فرض العين وهو تعلم المكلف ما لا يتأدى الواجب الذي تعين عليه فعله إلا به، ككيفة الوضوء والصلاة ونحوها وعليه حمل جماعات الحديث المروي في مسند أبي يعلى الموصلي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم: (طلب العلم فريضة على كل مسلم) وهذا الحديث وإن لم يكن ثابتاً فمعناه صحيح ... ] المجموع 1/24. والحديث الذي ذكره الإمام النووي وهو: (طلب العلم فريضة على كل مسلم) حديث مختلف فيه فمن العلماء من يرى أنه حديث ضعيف، قال الإمام البيهقي: [وهذا حديث متنه مشهور وإسناده ضعيف وقد روي من أوجه كلها ضعيف] وضعفه الإمام أحمد أيضاً كما قال الحافظ العراقي في تخريج أحاديث إحياء علوم الدين. ويرى بعض أهل الحديث أن الحديث يصلح للاحتجاج لتعدد طرقه كالسيوطي والألباني وعلى كل حال فالمقصود بالعلم في الحديث هو العلم الذي يكون فرض عين فقط وليس مطلق العلم. الثاني: فرض الكفاية وهو ما إذا قام به البعض كفى، وعرّفه الإمام النووي بقوله: [وهو تحصيل ما لا بد للناس منه في إقامة دينهم من العلوم الشرعية كحفظ القرآن والأحايث وعلومهما والأصول والفقه والنحو واللغة والتصريف ومعرفة رواة الحديث والإجماع والخلاف. وأما ما ليس علماً شرعياً ويحتاج إليه في قوام أمر الدنيا كالطب والحساب ففرض كفاية أيضاً ... ] المجموع 1/26. الثالث: النفل: وهو كالتوسع في العلوم الشرعية. ويجب أن يعلم أن طلب العلم الشرعي أفضل من نوافل العبادات، قال الإمام النووي: [فصل في ترجيح الاشتغال بالعلم على الصلاة والصيام وغيرهما من العبادات القاصرة على فاعلها] ثم ذكر عدداً من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وأقوال الصحابة والتابعين والعلماء التي تدل على ذلك فمنها قوله تعالى: (ِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) ومنها ما رواه ابن ماجة عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا في المسجد مجلسان مجلس يتفقهون ومجلس يدعون الله ويسألونه فقال: كلا المجلس إلى خير وأما هؤلاء فيدععون الله تعالى وأما هؤلاء فيتعلمون ويفقهون الجاهل هؤلاء أفضل بالتعليم أرسلت ثم قعد معهم) . وقال عطاء: [مجالس الذكر هي مجالس الحلال والحرام كيف تشتري وتبيع وتصلي وتصوم وتنكح وتطلق وتحج وأشباه هذا] . وقال أبو هريرة: [باب من العلم نتعلمه أحب إلينا من ألف ركعة تطوع] . وسأل رجل بان المبارك: [يا أبا عبد الرحمن في أي شيء أجعل فضل يويم في تعلم القرآن أو في تعلم العلم؟ فقال: هل تحسن من القرآن ما تقوم به صلاتك؟ قال: نعم. قال: عليك بالعلم] الآداب الشرعية 2/34. وينبغي أن يعلم أيضاً أنه لا يصح قول من يقول بوجوب ترك الصلاة النافلة أو ترك قراءة القرآن ووجوب الإنصات عندما يبدأ مدرس بإعطاء درس في المسجد احتجاجاً بالحديث السابق: (طلب العلم فريضة على كل مسلم) ولأن طلب العلم فرض والصلاة النافلة وقراءة القرآن مندوبة، فهذا الكلام لا يصح لأن العلم المقصود بالحديث هو ما كان فرض عين فقط كما بينت سابقاً وأما مطلق العلم فليس كذلك. وما قررته هنا لا يتنافى مع ما سبق من أن طلب العلم الشرعي بشكل عام أفضل من نافلة الصلاة وقراءة القرآن. وأما أنه يجب على كل مصلي قطع صلاته أو أنه يجب على كل قارئ للقرآن قطع قراءته والاستماع للدرس فهذا مما لا دليل عليه وليس بصحيح. *****(18/72)
73 - من البدع
الاحتفال بالإسراء والمعراج لا أصل له في الشرع, يقول السائل: متى أسري بالنبي عليه الصلاة والسلام وما حكم الاحتفال بمناسبة الإسراء والمعراج في السابع والعشرين من رجب؟
الجواب: إن حادثة الإسراء والمعراج حق وصدق ولا شك في ذلك ولا ريب وقد ثبت ذلك بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وأشارت إلى ذلك أول آية من سورة الإسراء حيث يقول تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْءَايَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) . وأما أنه صلى الله عليه وسلم أسري به في ليلة السابع والعشرين من شهر رجب فلم يثبت ذلك بسند صحيح وقد اختلف العلماء في وقت الإسراء والمعراج وعلى أقوال كثيرة، قال الحافظ ابن حجر: [وذهب الأكثر إلى أنه كان بعد المبعث ثم اختلفوا فقيل قبل الهجرة بسنة قاله ابن سعد وغيره وبه جزم النووي وبالغ ابن حزم فنقل الإجماع فيه وهو مردود فإن في ذلك اختلافاً كثير يزيد على عشرة أقوال] فتح الباري 8/201. ثم ذكر الحافظ هذه الأقوال وهي: - قبل الهجرة بثمانية أشهر. - قبل الهجرة بستة أشهر. - قبل الهجرة بسنة. - قبل الهجرة بأحد عشر شهراً. - قبل الهجرة بسنة وشهرين. - قبل الهجرة بسنة وثلاثة أشهر. - قبل الهجرة بسنة وخمسة أشهر. - قبل الهجرة بثمانية عشر شهراً. - قبل الهجرة بثلاث سنوات. - قبل الهجرة بخمس سنوات. وكما أنهم اختلفوا في تحديد السنة التي وقعت فيها حادثة الإسراء والمعراج فكذلك اختلفوا في الشهر الذي وقعت فيه فقيل كان ذلك في السابع والشعرين من رجب، وقيل في شهر رمضان، وقيل في شهر شوال، وقيل في شهر ربيع الأول، وقيل في شهر ربيع الثاني وقد ذكر هذه الأقوال كلها الحافظ ابن حجر في فتح الباري 8/208. وقد بحث المسألة أيضاً الإمام القرطبي في تفسيره وذكر الاختلاف الكبير في تحديد وقت الإسراء والمعراج وزاد أنه قد روي أن الإسراء كان بعد مبعثه بخمس سنين. تفسير القرطبي 10/210. وأضاف الحافظ ابن كثير أن من العلماء من يرى أن الإسراء والمعراج وقع قبل الهجرة بستة عشر شهراً وكان ذلك في شعر ذي القعدة وذكر أن بعض الناس ادعى أن ذلك كان أول ليلة جعة من شهر رجب وعقب على ذلك بأنه لا أصل له. البداية والنهاية 3/107. وقال العلامة أبو شامة المقدسي: [وذكر بعض القصاص أن الإسراء كان في رجب وذلك عند أهل التعديل والتجريح عين الكذب] الباعث ص 116. وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي: [وقد روي أنه كان في شهر رجب حوادث عظيمة ولم يصح شيء من ذلك فروي أن النبي صلى الله عليه وسلم ولد في أول ليلة منه وأنه بعص في السابع والعشرين منه وقيل في الخامس والعشرين ولا يصح شيء من ذلك وروي بإسناد لا يصح عن القاسم بن محمد أن الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم كان في سابع وعشرين من رجب وأنكر ذلك إبراهيم الحربي وغيره وروي عن قيس بن عباد قال: في اليوم العاشر من رجب ... ] لطائف المعارف ص 233. وبعد هذا العرض للأقوال الواردة في وقت حادثة الإسراء والمعراج أقول إن لم يثبت بحديث صحيح توقيت هذه الحادثة لا في السابع والعشرين من رجب ولا غيره وبناء على ذلك فإن تحديد السابع والعشرين من رجب على أنه وقتها غير صحيح وينقصه الدليل الثابت وقد رأينا أن أهل العلم لم يثبتوا تلك الروايات الواردة في تعيين وقت هذه الحادثة وحتى لو سلمنا جدلاً أن وقت حادثة الإسراء والمعراج معلوم لا يجوز للمسلمين الاحتفال بهذه المناسبة لأن ذلك لم يرد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يجوز لهم أن يعتبروها عيداً من أعياد المسلمين تعطل فيه الأعمال وتقام فيه الاحتفالات لأن ذلك زيادة في الدين وشرع لم يأذن به الله قال بعض أهل العلم: [وهذه الليلة التي حصل فيها الإسراء والمعراج لم يأت في الأحاديث الصحيحة تعيينها وكل ما ورد في تعيينها فهو غير ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم عند أهل العلم بالحديث ولله الحكمة البالغة في إنساء الناس لها ولو ثبت تعيينها لم يجز للمسلمين أن يخصّوها بشيء من العبادات فلم يجز لهم أن يحتفلوا بها لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم لم يحتفلوا بها ولم يخصوها بشيء ولو كان الاحتفال بها أمراً مشروعاً لبينه الرسول صلى الله عليه وسلم للأمة إما بالقول أو بفعل ولو وقع شيء من ذلك لعرف واشتهر ولنقله الصحابة رضي الله عنهم فقد نقلوا عن نبيهم صلى الله عليه وسلم كل شيء تحتاجه الأمة ولم يفرطوا في شيء من الدين بل هم السابقون إلى كل خير فلو كان الاحتفال بهذه الليلة مشروعاً لكانوا أسبق الناس إليه والنبي صلى الله عليه وسلم هو أنصح الناس للناس وقد بلغ الرسالة غاية البلاغ وأدى الأمانة فلو كان تعظيم هذه الليلة والاحتفال بها من دين الإسلام لم يغفله النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكتمه فلما لم يقع شيء من ذلك علم أن الاحتفال بها وتعظيمها ليس من الإسلام في شيء وقد أكمل الله لهذه الأمة دينها وأتم عليها النعمة وأنكر على من شرع في الدين ما لم يأذن به الله قال سبحانه وتعالى في كتابه المبين من سورة المائدة: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) وقال عز وجل في سورة الشورى: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) وثبت عن رسول صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة التحذير من البدع والتصريح بأنها ضلالة تنبيهاً للأمة على عظم خطرها وتنفيراً لهم من اقترافها ومن ذلك ما ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) وفي رواية لمسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنها قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته يوم الجمعة: (أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة) فتاوى الهيئة الدائمة للبحوث العلمية 3/45. *****(18/73)
74 - احاديث مكذوبة
حوار مكذوب بين الرسول صلى الله عليه وسلم وإبليس تقول السائلة: هناك ورقة مطبوعة يقوم بعض الناس بتوزيعها بعنوان: " حوار بين الرسول صلى الله عليه وسلم وإبليس لعنه الله " وذكر تحت هذا العنوان حديث عن معاذ بن جبل عن ابن عباس قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت رجل من الأنصار في جماعة فنادى مناد يا أهل المنزل أتأذنون لي بالدخول ولكم إلي حاجة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتعلمون من المنادي؟ فقالوا: الله ورسوله أعلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا إبليس لعنه الله تعالى ... الخ. ثم ساق حديثاً طويلاً جداً على شكل حوار بين الرسول صلى الله عليه وسلم وإبليس وذكر في آخره أنه مأخوذ من كتاب شجرة الكون لمحي الدين بن عربي، وتسأل السائلة عن صحة هذا الحديث وهل ثبت ذلك عن الرسول عليه الصلاة والسلام؟
الجواب: لا شك أن هذا الحديث المشار إليه مكذوب مختلق ورسول الله صلى الله عليه وسلم منه بريء وهو محض اختلاق وعلامات الوضع عليه ظاهرة جداً فإن للحديث النبوي نوراً يدل عليه، قال بعض أهل العلم: [إن للحديث ضوءاً كضوء النهار يعرفه وظلمة كظلمة الليل تنكره] وقال ابن الجوزي: [الحديث المنكر يقشعر له جلد طالب العلم وينفر منه قلبه في الغالب] . وهذا الكلام وما قبله ينطبق على الحديث المشار إليه ويضاف إلى ذلك طوله المستغرب وركاكة ألفاظه كما أن المصدر الذي نقل منه لا يعتبر ولا يعتد به ولا بمؤلفه فهو دجال من الدجاجلة ومخرف من المخرفين وشيطان من شياطين الإنس والعياذ بالله. قال عنه العز بن عبد السلام سلطان العلماء: [شيخ سوء كذّاب] . وقال الحافظ الذهبي عنه: [ ... ومن أردأ مؤلفاته كتاب " الفصوص " فإن كان لا كفر فيه فما في الدنيا كفر ... ] سير أعلام النبلاء 23/48. *****(18/74)
75 - احاديث مكذوبة
يقول السائل: ينتشر بين الناس حديث منسوب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ونصه: سيأتي على الناس زمان لا يبقى من القرآن إلا رسمه ومن الإسلام إلا اسمه همهم بطونهم ودينهم دراهمهم وقبلتهم نسائهم. فهل هذا حديث ثابت عن الرسول صلى الله عليه وسلم؟
الجواب: لقد روي هذا الحديث بألفاظ مختلفة ويتناقله كثير من الناس مع تفاوت في ألفاظه وعباراته وقد طبعه بعض الناس في نشرات وزعت على الناس وعلقت في بعض المساجد وهذا حديث باطل غير ثابت عن الرسول صلى الله عليه وسلم وقد روى بعض ألفاظه الديلمي في مسند الفردوس وهو موطن الروايات الواهية والموضوعة المكذوبة وذكر بعض ألفاظه صاحب كنز العمال وغيرهما وخلاصة الأمر أن الحديث غير ثابت عن الرسول صلى الله عليه وسلم.(18/75)
76 - خاتم النبوة
يقول السائل: ما قولكم في هذه الورقة المطبوعة والتي توزع في المساجد ومكتوب عليها ما يلي: هذا مثال خاتم النبوة الذي كان بين كتفيه صلى الله عليه وسلم ومكتوب من الشعر بقلم القدرة: توجه حيث شئت فإنك منصور الله وحده لا شريك له محمد رسول الله فإنك منصور. ثم كتب في أسفل الورقة ما يلي: ومن خواصه ما نقله الترمذي أن من توضأ ونظر إليه وقت الصبح حفظه الله تعالى إلى وقت المغرب ومن نظر إليه وقت المغرب حفظه الله تعالى إلى وقت الصبح ومن نظر إليه أول الشهر يحفظه الله إلى آخره ومن نظر إليه أول السنة يحفظه الله إلى آخرها من البلاء والآفات ومن نظر إليه أول الشهر يصير ذلك مباركاً عليه وإن مات في تلك السنة يختم له بالإيمان.
الجواب: إن خاتم النبوة حق وصدق وكان بين كتفي النبي صلى الله عليه وسلم وهو من علامات النبوة التي كان أهل الكتاب يعرفونه بها وقد ورد ذكر خاتم النبوة في أحاديث كثيرة منها: عن السائب بن يزيد قال: ذهبت بي خالتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن ابن أختي وجع، فنمسح رأسي ودعا لي بالبركة ثم توضأ فشربت من وضوئه ثم قمت خلف ظهره فنظرت إلى خاتم النبوة بين كتفيه) رواه البخاري ومسلم، وفي رواية لمسلم: (فنظرت إلى خاتمه بين كتفيه مثل زر الحجلة) . وعن جابر بن سمرة قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد شمط مقدم رأسه ولحيته ... ورأيت الخاتم عند كتفه مثل بيضة الحمامة يشبه جسده) رواه مسلم. وعن عاصم بن عبد الله بن سرجس قال: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وأكلت معه خبزاً ولحماً أو قال ثريداً قال: فقلت له: أستغفر لك النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم ولك ثم تلا هذه الآية: (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) قال: ثم درت خلفه فنظرت إلى خاتم النبوة بين كتفيه عند ناغض كتفه اليسرى جمعا عليه خيلان كأمثال الثآليل) رواه مسلم. وعن أبي نضرة العوقي قال: سألت أبي سعيد الخدري عن خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ يعني خاتم النبوة فقال: كان في ظهره بضعة ناشزة) رواه الترمذي في مختصر الشمائل وقال الشيخ الألباني: وسنده جيد. ثم قال الألباني: [أي كان الخاتم في ظهره الشريف قطعة لحم ظاهرة] . هذه بعض الأحاديث التي وردت في إثبات خاتم النبوة وصفته ومحله من جسده الشريف عليه الصلاة والسلام، وقد ورد في الخاتم أحاديث أخرى لا يعول عليها ولا يعتمد عليها وهي إما ضعيفة أو مكذوبة باطلة. ومن الأحاديث الباطلة الحديث المذكور في آخر الصفحة المشار إليها فإنه حديث باطل لم يروه الترمذي صاحب السنن ولعل الترمذي المذكور هو الحكيم الترمذي صاحب النوادر وكتابه موطن للأحاديث الضعيفة والواهية. وأما ما ذكر من أن خاتم النبوة مكتوب من الشعر بقلم القدرة وذكروا الكلمات التي كتبت على ظهر الرسول صلى الله عليه وسلم بالشعر فهذا كلام باطل من الخرافات التي لا تصح. قال الحافظ ابن حجر: [وأما ما ورد من أنها-أي خاتم النبوة-كانت كأثر محجم أو كالشامة السوداء أو الخضراء أو مكتب عليها محمد رسول الله أو سر فأنت منصور أو نحو ذلك فلم يثبت منها شيء وقد أطنب الحافظ قطب الدين في استيعابها في شرح السيرة وتبعه مغلطاي في الزهر الباسم ولم يبين شيئاً من حالها. والحق ما ذكرته ولا تغتر بما وقع في صحيح ابن حبان فإنه غفل حيث صحح ذلك والله أعلم] فتح الباري 7/374. وقال الحافظ الهيثمي: [اختلط على بعض الرواة خاتم النبوة بالخاتم الذي كان يختم به الكتب] يعني أن الخاتم الذي اتخذه الرسول عليه الصلاة والسلام وكان يختم به الكتب نقش عليه محمد رسول الله كما ورد في بعض الأحاديث، فظنوا أن تلك الكلمات كانت على خاتم النبوة الذي كان في ظهره الشريف عليه الصلاة والسلام وليس الأمر كذلك. *****(18/76)
77 - إحذروا هذه الخرافة
وصية الشيخ أحمد المكذوبة: يسأل كثير من الناس في هذه الأيام عن صحة الوصية المذكورة لاحقاً والمنسوبة إلى الشيخ أحمد حامل مفاتيح الحرم النبوي والتي توزع بكثرة وتداولها الناس وهذا هو نص الوصية وبعض نسخها يختلف عن البعض الآخر بزيادة أو نقصان. تقول الوصية: [هذه التوصية من المدينة المنورة من الشيخ أحمد حامل مفاتيح حرم الرسول صلى الله عليه وسلم في مشارق الأرض ومغاربها إليكم هذه التوصية: يقول الشيخ أحمد: إنه كان في ليلة يقرأ القرآن في حرم الرسول وفي تلك اللحظة غلبني النوم ورأيت في نومي رسول الله أتى إلي وقال: إنه قد مات هذا الأسبوع أربعون ألفاً من الناس على غير إيمانهم وإنهم ماتوا ميتة الجاهلية وإن النساء لا يطيعون أزواجهن ويظهرن أمام الرجال بزينتهن من غير ستر ولا حجاب عاريات الجسد ويخرجن من بيوتهن من غير علم أزواجهن وأن الأغنياء من الناس لا يؤدون الزكاة ولا يحجون إلى بيت الله الحرام ولا يساعدون الفقراء ولا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر. وقال لي رسول الله أن تبلغ الناس أن يوم القيامة قريب قريباً يظهر لكم نجمة في السماء ترونها جلياً وتقترب الأرض إلى السماء. ويقول الشيخ أحمد أن رسول الله قال إنه إذا قام أحد الناس بنشر هذه الوصية بين المسلمين فإنه سيحظى بشافعة رسول الله يوم القيامة ويحصل على الخير الكثير ويقضي حوائجه في الدنيا ويصونه من جميع البليات وشرور نفسه ويقضي الله دينه ويحصل على الخير الكثير والرزق الوفير ... أما إذا اطلع أحد على هذه الوصية ورماها بعيداً فإنه آثم إثماً كبيراً أو إذا اطلع عليها وما قام بنشرها فإنه يحرم من رحمة الله يوم القيامة ... ولهذا أطلب من الذين يقرأون هذه الوصية أن يقوموا بقراءة الفاتحة للنبي هذا وقد طلب مني رسول الله أن أبلغ أحد خدم الحرم الشرف أن القيامة قريبة فاستغفروا الله ... وحلمت يوم الإثنين بأنه من قام بنشر ثلاثون ورقة من هذه الوصية بين المسلمين فإن الله يزيل عنه الهم والغم ويوسع الله عليه في رزقه ويحل كل مشاكله ويرزقه خلال أربعين يوماً تقريباً وقد علمت أن أحدهم قام بنشره فرزقه الله بستة آلاف روبية ... وأن شخصاً كذب الوصية فقد ابنه في نفس اليوم وأشهد أن هذه المعلومات لا شك فيها ولا عفو فآمنوا بالله واعملوا صالحاً حتى يوفقنا الله في أعمالنا ويصلح شأننا في الدنيا والآخرة ويرحمنا برحمته. ويقول الله تعالى: (فَالَّذِينَءَامَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) سورة الأعراف الىية 157. (الَّذِينَءَامَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ) سورة يونس الآية 63-64. (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَءَامَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ) سورة إبراهيم الآية 27. لقد وزعت هذه التوصية حول العالم سبع مرات علماً أن هذه الوصية ستجلب لك بعد توزيعها الفلاح والخير بع أربعة أيام بإذن الله من وصولها إليك وليس الدين لهواً أو لعباً ... لذلك عليك أن تنشر نسخاً من هذه الوصية بعد ستة وتسعون ساعة من قرائتك لها ... وسبق أن وصلت هذه الوصية إلى أحد رجال الأعمال فوزعها فوراً ومن ثم جاءته أخبار بنجاح صفقة تجارية بتسعين ألف دينار بحيرني زيادة عما كان يتوقعه وأن أحد الأطباء وصلته هذه الوصية فأهملها فجاء مصرعه في حادث سيارة وغدا جثة هامدة تحدث عنها الجميع ... كما اغفلها أحد المقاولين توفي ابنه الأكبر في بلد عربي شقيق ... لذا يرجى إرسال خمسة وعشرين نسخة من هذه الوصية وينشر المرسل بما يحصل له في اليوم الرابع ... وحيث إن مهمة هذه الوصية الطواف حول العالم كله ... فيجب إرسال خمسة وعشرين نسخة متطابقة إلى أحد أصدقائك إلى معارفك ... وبعد أيام إن شاء الله ستفاجئ بالأخبار الطيبة وكما أسلفنا فإن من سبق ذكره ليس هواجس أو وساوس ... فآمنوا بالله واعملوا صالحاً والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته] . الجواب: إن هذه الوصية معروفة لدى أهل العلم منذ زمن طويل وليست جديدة وقد بين كثير من أهل العلم كذب هذه الوصية المزعومة ونشروا في ذلك فتاوى خاصة ولا بأس من توضيح بعض الأمور المتعلقة بهذه الوصية المكذوبة: أولاً: ذكر في الوصية المكذوبة أن عدد من مات من الناس خلال أسبوع بلغ أربعين الفاً ماتوا على غير الإيمان وهذا الكذب الصراح والتقول على الله سبحانه وتعالى لأن معرفة عدد الأموات سواء كانوا مؤمنين أو غيرهم لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى وهو من الغيب وطريق معرفة الغيب من الوحي ولا وحي بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم. ثانياً: ما ورد في الوصية المكذوبة من أخبار عن قرب يوم القيامة وعن تحلل الناس من الأحكام الشرعية ونحو ذلك عن الأمور المعروفة والثابتة في الكتاب والسنة ولا يحتاج الأمر إلى هذه الوصية المكذوبة. ثالثاً: ما ورد في الوصية المكذوبة من الأجر العظيم على كتابتها وأنه يحظى بشفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فهو من أعظم الكذب والدجل لأن الأجر والثواب لا يعلمه إلا الله وشفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تنال بمجرد كتابة القرآن كله فضلاً عن كتابة هذه الوصية المكذوبة وكذلك ما ورد من الوعيد الشديد لمن لم يكتبها أو ينشرها وأنه يحرم من رحمة الله فهو كذب على الله وافتراء عظيم. رابعاً: إن الله سبحانه وتعالى أتم الإسلام وأكمله قبل وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم قال تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) ففي كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يغني عن هذه الخزعبلات والترهات الفارغة. خامساً: يحرم على المسلم نشر هذه الوصية المكذوبة وتداولها ويجب تنبيه الناس إلى أنها كذب وافتراء على دين الله. *****(18/77)
78 - السحر والشعوذة والاستعانة بالحن
يقول السائل: ما هي الآيات التي تنفع في إبطال السحر؟
الجواب: لا شك أن القرآن الكريم فيه شفاء للناس وقد ذكر العلماء عدداً من الآيات القرآنية على وجه الخصوص تنفع وتفيد في إبطال السحر بإذن الله سبحانه وتعالى وهذه الآيات هي: (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) ، (لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ) ، (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) ، (قَالُوا يَامُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى) ، بسم الله الرحمن الرحيم (يس وَالْقُرْءَانِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَءَابَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) ، بسم الله الرحمن الرحيم (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ، بسم الله الرحمن الرحيم (إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) ، بسم الله الرحمن الرحيم (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) ، بسم الله الرحمن الرحيم (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) ، بسم الله الرحمن الرحيم (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ) ، بسم الله الرحمن الرحيم (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ) ، بسم الله الرحمن الرحيم (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) ، بسم الله الرحمن الرحيم (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ) ، (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحيم الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) آمين، اللهم إني أعيذ ... باسمائك وصفاتك العليا أن تحفظ من كل سوء وإني أعيذ ... بكلمات الله التامات من شر ما خلق. *****(18/78)
79 - السحر والشعوذة والاستعانة بالحن
يقول السائل في رسالة طويلة ما ملخصه: أنه يوجد عندهم امرأة تستعين بالجن في علاج المرضى فما حكم ذلك؟
الجواب: استعانة الإنس بالجن على أحوال كما فصلها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حيث قال: [فمن كان من الإنس يأمر الجن بما أمر الله به ورسوله من عبادة الله وحده وطاعة نبيه ويأمر الإنس بذلك فهذا من أفضل أولياء الله تعالى وهو في ذلك من خلفاء الرسول ونوابه. ومن كان يستعمل الجن في أمور مباحة له فهو كمن استعمل الإنس في أمور مباحة له كأن يأمرهم بما يجب عليهم وينهاهم عما حرم عليهم ويستعملهم في مباحات له فيكون بمنزلة الملوك الذين يفعلون مثل ذلك وهذا إذا قدر أنه من أولياء الله تعالى فغايته أن يكون في عموم أولياء الله مثل النبي الملك مع العبد الرسول كسليمان ويوسف مع إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ومن كان يستعمل الجن فيما ينهى الله عنه ورسوله إما في الشرك وإما في قتل معصوم الدم أو في العدوان عليهم بغير القتل كتمريضه وإنسائه العلم وغير ذلك من الظلم وإما في فاحشة كجلب من يطلب منه الفاحشة فهذا قد استعان بهم على الإثم والعدوان ثم إن استعان بهم على الكفر فهو كافر وإن استعان بهم على المعاصي فهو عاص إما فاسق وإما مذنب غير فاسق وإن لم يكن تام العلم بالشريعة فاستعان بهم فيما يظن أنه من الكرامات، مثل أن يستعين بهم على الحج أو أن يطيروا به عند السماع البدعي أو أن يحملوه إلى عرفات ولا يحج الحج الشرعي الذي أمره الله به ورسوله وأن يحملوه من مدينة إلى مدينة ونحو ذلك فهذا مغرور قد مكرا به] مجموع فتاوى ابن تيمية 11/307 -308.(18/79)
80 - السحر والشعوذة والاستعانة بالحن
فك السحر بالسحر, تقول السائلة: هل يجوز الذهاب إلى العراف لسؤاله هل فلان من الناس مسحور أم لا؟ وهل يجوز أن نطلب منه فك السحر أم لا؟
الجواب: يحرم شرعاً الذهاب إلى العرافين والسحرة والكهنة وأمثالهم ولا يجوز للمسلم أن يصدقهم فيما يقولون ويخبرون به فقد ثبت في الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة) رواه مسلم. وورد في حديث آخر أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من أتى كاهناً فصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد) رواه أصحاب السنن وغيرهم وهو حديث صحيح. ولا يجوز فك السحر بالسحر وهو المعروف بالنشرة أي حل السحر وإبطاله بسحر آخر ويدل على ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من تطير أو تطير له أو تكهن أو تكهن له أو سحر أو سحر له) رواه الطبراني وهو حديث حسن كما قال الألباني. وقد سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن النشرة-فك السحر بالسحر-فقال: (هي من الشيطان) رواه أحمد وأبو داود بإسناد جيد. والطريق المشروع لفك السحر وإبطاله يكون بالقرآن الكريم والأدعية الشرعية الثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم ومن ذلك قراءة آية الكرسي من سورة البقرة و (قل يا أيها الكافرون) و (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) و (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) و (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) و (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ) سورة الأعراف الآيات 117-119. وقوله تعالى: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) سورة يونس الآيات 79-82. والآيات من سورة طه:، (قَالُوا يَامُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى فَأَوْجَسَ فِي نَْسِهِ خِيفَةً مُوسَى قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى) سورة طه 65-69. ومن الأدعية الثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم في علاج السحر وغيره: (اللهم رب الناس أذهب البأس واشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقماً) . ومنه رقية جبريل التي رقى بها النبي صلى الله عليه وسلم وهي: (باسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك ومن شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك باسم الله أرقيك) ويكرر ذلك ثلاث مرات وغير ذلك من الأدعية والأذكار. *****(18/80)
81 - الزمن والمواقيت
الأشهر الحرم, يقول السائل: ما هي الأشهر الحرم وما هي الأمور التي لا يجوز فعلها فيها؟
الجواب: يقول الله سبحانه وتعالى: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) سورة التوبة الآية 36. الأشهر الحرم المقصودة في الآية هي: ذو القعدة وذو الحجة ومحرم ورجب الذي هو بين جمادى الآخرة وشعبان وقد حدد الرسول صلى الله عليه وسلم رجباً بهذا لأن بعض العرب كانوا يحرمون شهر رمضان ويسمونه رجباً فقد ورد في الحديث الصحيح عن أبي بكرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الزمان استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم ثلاثة متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان) رواه البخاري ومسلم. والأشهر الحرم لها فضل عظيم فضلها الله سبحانه وتعالى على سائر الأشهر ولله سبحانه وتعالى حكمة عظيمة في ذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما خص الله من شهور العام أربعة أشهر فجعلهن حرماً وعظم حرماتهن وجعل الذنب فيهن والعمل الصالح والأجر أعظم. وعن قتادة قال: [الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزراً من الظلم فيما سواها وإن كان الظلم في كل حال عظيماً ولكن الله يعظم من أمره إن شاء فإن الله تعالى اصطفى صفايا من خلقه اصطفى من الملائكة رسلاً ومن الناس رسلاً واصطفى من الكلام ذكره-جل وعلا-واصطفى من الأرض المساجد واصطفى من الشهور رمضان والأشهر الحرم واصطفى من الأيام يوم الجمعة واصطفى من الليالي ليلة القدر] . قال قتادة: [فعظموا ما عظم الله إنما تعظم الأمور بما عظمها الله عند أهل الفهم والعقل] . وقد كان العرب في الجاهلية يحرمون القتال في الأشهر الحرم وأقر الإسلام هذا الحكم يقول الله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) سورة البقرة الآية 217، ثم نسخ هذا الحكم كما قال جماعة من المفسرين بقوله تعالى: (وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) سورة التوبة الآية 36. وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على صيام الأشهر الحرم كما ورد في الحديث عن رجل من باهلة قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، أنا الرجل الذي أتيتك عام الأول. فقال: مالي أرى جسمك ناحلاً؟ قال: يا رسول الله، ما أكلت طعاماً بالنهار ما أكلت إلا بالليل. قال: من أمرك أن تعذب نفسك؟ قلت: يا رسول الله إني أقوى. قال: صم شهر الصبر ويوماً بعده. قلت: إني أقوى. قال: صم شهر الصبر ويومين بعده. قلت: إني أقوى. قال صم شهر الصبر وثلاثة ايام بعده وثم أشهر الحرم) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة وسنده جيد. وجاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: (أي الصيام بعد رمضان أفضل؟ قال: شهر الله المحرم) رواه البخاري ومسلم. ونظراً لتعظيم هذه الأشهر وفضلها قال جماعة من الفقهاء بتغليظ الدية على من قتل في الأشهر الحرم خطأ. قال الإمام الشافعي: [تغلظ الدية في النفس وفي الجراح في الشهر الحرام وفي البلد الحرام وذوي الرحم] والصحيح عدم التغليظ. وأخيراً فإني أنبه على أن بعض الناس يظنون أن الصيد في الأشهر الحرم ممنوع والصحيح أن الصيد لا يحرم في الأشهر الحرم ما عدا من يصيد في مكة والمدينة لأن كلا منها حرم فلا يحل الصيد فيهما وكذلك من كان محرماً بحج أو عمرة فلا يحل له صيد البر وأما ما عدا ذلك فيجوز الصيد سواء كان في الأشهر الحرم أو في غيرها. *****(18/81)
82 - الزمن والمواقيت
يقول السائل: ما قولكم في أن كثيراً من الناس والمؤسسات الرسمية وغيرها تستعمل الأشهر الميلادية في التأريخ لمراسلاتها وكتاباتها وقد أدى هذا الأمر إلى أن كثيراً من الناس لا يكادون يعرفون الأشهر الهجرية وكذلك فهنالك دعاوى لتغيير الأرقام العربية إلى أرقام أوروبية، أفيدونا وجزاكم الله خيراً؟
الجواب: مما يؤسف له أن هجمة التغريب التي تعرضت لها الأمة المسلمة قد امتدت إلى كل ما يتعلق بالأمة الإسلامية، دينها ولغتها وعاداتها وتقاليدها. وقد لقيت دعوات التغريب آذاناً صاغيةً وأيادٍ منفذة لهذه الأفكار ولم يسلم شيء تقريباً من هذه الهجمات التغريبية ومن ضمن ذلك اعتماد التأريخ الميلادي في مختلف شؤون الحياة والدعوة إلى استبدال رسم الأرقام العربية بالأرقام الأوروبية. أما بالنسبة لاعتماد التأريخ الميلادي فيجب أن يعلم أن التاريخ الهجري هو سمة من سمات الأمة الإسلامية لا يجوز الاستغناء عنه واستبداله بالتاريخ الميلادي بشكل تام. ومن المعلوم أن عمر بن الخطاب هو الذي سن فكرة التأريخ من أول محرم، قال ابن الأثير: [والصحيح المشهور أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر بوضع التأريخ والسبب في ذلك: أن أبا موسى الأشعري كتب إلى عمر أنه يأتينا منك كتب ليس لها تأريخ. فجمع عمر الناس للمشورة فقال بعضهم: أرخ بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم وقال بعضهم: بمهاجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: بل نؤرخ بمهاجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن مهاجرته فرق بين الحق والباطل، قال الشعبي: وقال محمد بن سيرين: قام رجل إلى عمر، فقال: أرخوا، فقال عمر: ما أرخوا؟ فقال: شيء تفعله الأعاجم في شهر كذا من سنة كذا، فقال عمر حسن فأرخوا فاتفقوا على الهجرة ثم قالوا: من أي الشهور؟ فقالوا: من رمضان، ثم قالوا: فالمحرم هو منصرف الناس من حجهم وهو شهر حرام فأجمعوا عليه] التشبه المنهي عنه ص 543-544. إن علماء الأمة كرهوا استعمال التقويم الميلادي لما له من ارتباط ديني عند النصارى وهو ميلاد عيسى عليه السلام ولا يجوز التشبه بهم في أمر دينهم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: [وما زال السلف يكرهون تغيير شعائر العرب في المعاملات وهو التكلم بغير العربية إلا لحاجة كما نص على ذلك مالك والشافعي وأحمد. بل قال مالك من تكلم في مسجدنا بغير العربية أخرج منه مع أن سائر الألسن يجوز النطق بها لأصحابها ولكن سوغوها للحاجة وكرهوها لغير الحاجة. ولحفظ شعائر الإسلام فإن الله أنز كتابه باللسان العربي وبعث نبيه العربي وجعل الأمة العربية خير الأمم فصار حفظ شعارهم من تمام حفظ الإسلام] مجموع فتاوى شيخ الإسلام 32/255. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية أيضاً: [وأما الرطانة وتسمية شهورهم بالأسماء العجمية فقال أبو محمد الكرماني - المسمى بحرب -: باب تسمية الشهور بالفارسية: قلت لأحمد: فإن للفرس أياماً وشهوراً يسمونها بأسماء لا تعرف؟ فكره ذلك أشد الكراهة وروى فيه عن مجاهد حديثاً أنه كره أن يقال: آذرماه، وذي ماه - أسماء شهور فارسية - قلت: فإن كان اسم رجل أسميه به؟ فكرهه. قال: وسألت إسحاق قلت: تاريخ الكتاب يكتب بالشهور الفارسية مثل: آذرماه، وذي ماه؟ قال: إن لم يكن في تلك الأسامي اسم يكره فأرجو. قال وكان ابن المبارك يكره إيزدان يحلف به، وقال: لا آمن أن يكون أضيف إلى شيء يعبد وكذلك الأسماء الفارسية قال: وكذلك أسماء العرب كل شيء مضاف. قال: وسألت إسحاق مرة أخرى قلت: الرجل يتعلم شهور الروم والفرس؟ قال: كل اسم معروف في كلامهم فلا بأس. فما قاله أحمد من كراهة الأسماء له وجهان: أحدهما: إذا لم يعرف معنى الاسم جاز أن يكون معنى محرماً فلا ينطق المسلم بما لا يعرف معناه ولهذا كرهت الرقى العجمية كالعبرانية أو السريانية أو غيرها خوفاً أن يكون فيها معان لا تجوز. وهذا المعنى هو الذي اعتبره إسحاق لكن إن علم أن المعنى مكروه فلا ريب في كراهته وإن جهل معناه فأحمد كرهه وكلام إسحاق يحتمل أنه لم يكرهه. الوجه الثاني: كراهته أن يتعود الرجل النطق بغير العربية فإن اللسان العربي شعار الإسلام وأهله واللغات من أعظم شعائر الأمم التي بها يتميزون] اقتضاء الصراط المستقيم 1/ 518-519. وكذلك فإن في اعتماد التأريخ الميلادي ربطاً لأجيال المسلمين بتأريخ النصارى وأعيادهم وإبعاداً لهم عن تأريخهم الهجري الذي ارتبط برسولهم عليه الصلاة والسلام وبشعائر دينهم وعبادتهم. قال القرطبي: تعليقاً على قوله تعالى: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ) سورة التوبة الآية 36. قال: [هذه الآية تدل على أن تعلق الأحكام في العبادات وغيرها إنما يكون بالشهور والسنين التي تعرفها العرب دون الشهور التي تعتبرها العجم والروم والقبط وإن لم تزد على اثني عشر شهراً لأنها مختلفة الأعداد منها ما يزيد على ثلاثين ومنها ما ينقص وشهور العرب لا تزيد على ثلاثين وإن كان منها ما ينقص] التشبه المنهي عنه ص 544-545. وخلاصة الأمر أنه لا يجوز إهمال استعمال التقويم الهجري واستعمال التقويم الميلادي بدلاً عنه. والأصل أن نستعمل التقويم الهجري ولا بأس باستعمال التقويم الميلادي إلى جانبه. وأما بالنسبة لتغيير الأرقام العربية إلى الأرقام الأوروبية فيجب أن يعلم أن الزعم بأن الأرقام التي نستعملها حالياً " 1، 2، 3 ... " هي أرقام هندية وأن الأرقام الأوروبية " 1,2,3 ... " هي الأرقام العربية كلام غير صحيح لم تقم عليه أدلة معتبرة وإنما ذلك مجرد دعوى وقد بحث هذه المسألة المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي وكذلك هيئة كبار العلماء السعودية وقد صدر عن المجمع القرار التالي: [فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي قد نظر في الكتاب الوارد ... المتضمن أن هناك نظرية تشيع بين بعض المثقفين مفادها أن الأرقام العربية في رسمها الراهن هي أرقام هندية وأن الأرقام الأوروبية هي الأرقام العربية الأصلية ويقودهم هذا الإستنتاج إلى خطوة أخرى هي الدعوة إلى اعتماد الأرقام في رسمها الأوروبي في البلاد العربية داعمين هذا المطلب بأن الأرقام الأوروبية أصبحت وسيلة للتعامل الحسابي مع الدول والمؤسسات الأجنبية التي باتت تملك نفوذاً واسعاً في المجالات الاقتصادية والاجتماعية في البلدان العربية وإن ظهور أنواع الآلات الحسابية والكمبيوتر التي لا تستخدم إلا هذه الأرقام يجعل اعتماد رسم الأرقام الأوروبي في البلاد العربية أمراً مرغوباً فيه إن لم يكن شيئاً محتوماً لا يمكن تفاديه. واطلع المجلس على قرار مجلس هيئة كبار العلماء ... في هذا الموضوع والمتضمن أنه لا يجوز تغيير رسم الأرقام العربية المستعملة حالياً إلى رسم الأرقام المستعملة في العالم الغربي للأسباب التالية: أولاً: أنه لم يثبت ما ذكره دعاة التغيير من أن الأرقام المستعملة في الغرب هي الأرقام العربية بل إن المعروف غير ذلك والواقع يشهد له كما أن مضي القرون الطويلة على استعمال الأرقام الحالية في مختلف الأحوال والمجالات يجعلها أرقاماً عربيةً وقد وردت في اللغة العربية كلمات لم تكن في أصولها عربية وباستعمالها أصبحت من اللغة العربية حتى أنه وجد شيء منها في كلمات القرآن الكريم - وهي التي توصف بأنها كلمات معربة -. ثانياً: إن الفكرة لها نتائج سيئة وآثار ضارة فهي خطوة من خطوات التغريب للمجتمع الإسلامي تدريجياً يدل لذلك ما ورد في الفقرة الرابعة من التقرير المرفق بالمعاملة ونصها: [صدرت وثيقة من وزراء الإعلام في الكويت تفيد بضرورة تعميم الأرقام المستخدمة في أوروبا لأسباب أساسها وجوب التركيز على دواعي الوحدة الثقافية والعلمية وحتى السياحية على الصعيد العالمي] . ثالثاً: إنها- أي هذه الفكرة - ستكون ممهدة لتغيير الحروف العربية واستعمال الحروف اللاتينية بدل العربية ولو على المدى البعيد. رابعاً: إنها أيضاً مظهر من مظاهر التقليد للغرب واستحسان طرائقه. خامساً: إن جميع المصاحف والتفاسير والمعاجم والكتب المؤلفة كلها تستعمل الأرقام الحالية في ترقيمها أو ف الإشارة إلى المراجع وهي ثروة عظيمة هائلة وفي استعمال الأرقام الإفرنجية الحالية - عوضاً عنها - ما يجعل الأجيال القادمة لا تستفيد من ذلك التراث بسهولة ويسر. سادساً: ليس من الضروري متابعة بعض البلاد العربية التي درجت على استعمال رسم الأرقام الأوروبية فإن كثيراً من تلك البلاد قد عطلت ما هو أعظم من هذا وأهم وهو تحكيم شريعة الله كلها مصدر العز والسيادة والسعادة في الدنيا والآخرة فليس عملها حجة. وفي ضوء ما تقدم يقرر مجلس المجمع الفقهي الإسلامي ما يلي: أولاً: التأكيد على مضمون القرار الصادر عن مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية في هذا الموضوع والمذكور آنفاً والمتضمن عدم جواز تغيير رسم الأرقام العربية المستعملة حالياً برسم الأرقام الأوروبية المستعملة في العالم الغربي للأسباب المبينة في القرار المذكور. ثانياً: عدم جواز قبول الرأي القائل بتعميم رسم الأرقام المستخدمة في أوروبا بالحجة التي استند إليها من قال ذلك، وذلك أن الأمة لا ينبغي أن تدع ما اصطلحت عليه قروناً طويلة لمصلحة ظاهرة وتتخلى عنه تبعاً لغيرها. ثالثاُ: تنبيه ولاة الأمور في البلاد العربية إلى خطورة هذا الأمر والحيلولة دون الوقوع في شرك هذه الفكرة الخطيرة العواقب على التراث العربي والإسلامي] قرارات المجمع الفقهي والإسلامي ص 129-131. وخلاصة الأمر أن استعمال رطانة الأعاجم في شهورهم وسنينهم وحساباتهم وغيرها تضعف الأمة بجعلها تابعة لغيرها مفضلة له على نفسها وتضعف لغتها وسائر روابطها كما هو مشاهد في الأمصار التي قلدت الإفرنج في هذه الأمور وأمثالها حتى ضاع استقلالهم وعزهم. الآداب الشرعية 3/432. ?????(18/82)
83 - فتوى حول الهجرة من فلسطين
يقول السائل: ما رأيكم فيما نقل عن الشيخ ناصر الدين الألباني في فتواه حول دعوته لأهل فلسطين للهجرة، وما رأيكم فيما نشر من ردود على تلك الفتوى؟
الجواب: لا شك لدي بأن ما نقل عن الشيخ الألباني-إن صح ذلك عنه-أنه خطأ واضح وأن الشيخ الألباني قد جانب الصواب في هذه الفتوى. ولا أريد أن أناقش هذه الفتوى لأن الحق فيها واضح ولكني أريد أن أتحدث عن بعض الردود وخاصة أن بعضها قد صدر عمن ينتسبون للعلم الشرعي ولا أعتب على بعض الصحافيين الذين وصفوا الشيخ الألباني بأوصاف لا تليق واستخدموا عبارات مجانبة للحوار والاختلاف البناء ولكني أسفت لما صدر عن بعض المشايخ من تفوهات وألفاظ مؤسفة وصف الشيخ الألباني بها بل أن بعضهم قد جرده من كل مؤهل وأنه يهرف بما لا يعرف وأنه دعي من الأدعياء ونقول لهؤلاء وأولئك: أنى لأي عالم مهما بلغ في العلم أن ينجو من الوقوع في الخطأ؟ فكل العلماء معرضون للوقوع في الأخطاء وكما يقال لكل جواد كبوة ولكل عالم هفوة ولا عصمة لغير رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولله در الإمام مالك إمام جار الهجرة رحمه الله عندما قال: [كل يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر] وأشار بيده إلى قبر المصطفى صلى الله عليه وسلم، ولو ذهبنا نحصي أخطاء علماء المسلمين لما سلم من ذلك إلا من رحم الله منهم. إن وقوع أي عالم في خطأ ما مهما كان هذا الخطأ لا يعني أن نجرده من كل علم وأن نصفه بأقبح الأوصاف وأن نلصق به شتى التهم ومختلف النقائص فإن هذا ليس من منهج علماء المسلمين في نقد آراء العلماء لأن النقد العلمي يجب أن يبنى على الحجج والبراهين والأدلة بأسلوب يتضمن الأدب والخلق الرفيع وينطوي على احترام الآخرين فالتهجم والتجريح ليس من شيم علماء المسلمين وكذلك الطعن في المخالفين وتجريدهم من الدين والعلم والفضل والخلق ليس من منهج النقد العلمي البناء. إن علماء المسلمين لهم احترامهم ولهم مكانتهم في قلوب المسلمين وينبغي التعامل معهم بكل أدب واحترام يليق بهم وإن صدرت عنهم آراء مجانبة للحق والصواب ولا يحق لأحد مهما كان أن يتناول العلماء بلسانه فإن لحوم العلماء مسمومة كما قال الحافظ ابن عساكر في كلمته النيرة التي تستحق أن تكتب بحروف من ذهب: [اعلم يا أخي - وفقني الله وإياك لمرضاته وجعلني وإياك ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته - أن لحوم العلماء مسمومة وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة وأن من أطلق لسانه في العلماء بالثلب ابتلاه الله قبل موته بموت القلب] . وأود ان أذّكر من لا يعرف الشيخ الألباني وفضله وخدمته الجليلة لسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم ببعض ذلك فأقول: لا شك أن الشيخ الألباني هو محدث الديار الشامية في القرن الرابع عشر الهجري بلا منازع وأن جهوده الضخمة في خدمة السنة النبوية لا ينكرها إلا مكابر ولا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا ذوو الفضل فالشيخ الألباني قام ومنذ سنين طويلة بالعمل على خدمة السنة النبوية وأصدر عشرات المؤلفات التي استفاد منها طلبة العلم الشرعي في الجامعات والمعاهد وفي حلقات العلم في المساجد وأذكر بعضها على سبيل المثال لا الحصر: 1. إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، وهو كتاب ضخم يقع في ثمانية مجلدات خرج فيه أحاديث كتاب منار السبيل من كتب فقه الحنابلة وبلغ عدد أحاديثه أكثر من 2700 حديث. 2. سلسلة الأحاديث الصحيحة وصدر منها إلى الآن خمس مجلدات بلغت أحاديثها 2500 حديث. 3. سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة صدر منها إلى الآن أربع مجلدات بلغت أحاديثها 2000 حديث. 4. صحيح الجامع الصغير وزيادته في ثلاثة مجلدات كبيرة مع ضعيف الجامع وبلغت أحاديثه أكثر من أربعة عشر ألف حديث. 5. صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم. 6. أحكام الجنائز. 7. جلباب المرأة المسلمة. 8. تخريج أحاديث الحلال والحرام. 9. الأجوبة النافعة. هذه بعض مؤلفات الشيخ الألباني وله غيرها كثير. وفي الختام أدعو المنتسبين للعلم الشرعي أني يراعوا أدب الأسلام في الاختلاف وأن يتبعوا المنهج العلمي في النقد وأن يرتفعوا عن المهاترات وأن يلتزموا بقول الله تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) . *****(18/83)
84 - السباب
يقول السائل: سبَّ شخص الدين في حالة غضب فقال له بعض الناس إنك قد كفرت وخرجت من ملة الإسلام والمسلمين وإن زواجك قد صار مفسوخاً فما قولكم في ذلك؟
الجواب: إن من الأمور المقلقة في المجتمع انتشار سب الدين وسب الرب بشكل ظاهر وواضح حيث إن هذه الظاهرة المنكرة أصبحت دارجة على ألسن كثير من الناس صغاراً وكباراً ذكوراً وإناثاً ونسمعها باستمرار كلما تصايح اثنان وهذه الظاهرة المنكرة تحتاج إلى علاج شامل لتستأصل من أوساط الناس وعلاج هذه الظاهرة يحتاج إلى تضافر الجهود من أئمة المساجد والخطباء والمربين والمدرسين والآباء والأمهات وغيرهم. ولا بد أن نغرس معاني الإيمان في نفوس أبنائنا وبناتنا ونعلمهم أن سب الدين وشتم الذات الإلهية من نواقض الإيمان. والأسرة والبيت لهما دور كبير في ذلك وكذلك المدرسة فالمربون من المدرسين والمدرسات عليهم واجب كبير في هذه القضية وخاصة نحو صغار الأطفال الذين قد يسمعون هذه الشتائم لأول مرة في المدرسة من زملائهم أو في الشارع والحق يقال إن هذه الظاهرة منتشرة في بلادنا بشكل واضح مع الأسف الشديد بخلاف كثير من بلاد المسلمين فلا تكاد توجد عندهم ولا يعرفونها. ويجب أن يعلم أن العلماء قد بينوا أن سب الدين أو سب الرب أو سب الرسول صلى الله عليه وسلم يعد كفراً مخرجاً من الملة وهو ردة عن دين الإسلام إذا كان الساب يعلم ما يصدر عنه حتى لو كان مستهزئاً. يقول الله تعالى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَءَايَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) سورة التوبة الآيات 65-66. قال القاضي عياض: [لا خلاف أن ساب الله تعالى من المسلمين كافر حلال الدم] الشفا بتعريف حقوق المصطفى 2/267. وقال القاضي عياض أيضاً: [قد تقدم من الكتاب والسنة وإجماع الأمة ما يجب من الحقوق للنبي صلى الله عليه وسلم وما يتعين له من بر وتوقير وتعظيم وإكرام وبحسب هذا حرم الله تعالى أذاه في كتابه وأجمعت الأمة على قتل متنقصه من المسلمين وسابه قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا) سورة الأحزاب الآية 57. وقال تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) سورة التوبة الآية 61. وقال الله تعالى (وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ الَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا) سورة الأحزاب الآية 53. وقال تعالى في تحريم التعريض به: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ) سورة البقرة الآية 104. وذلك أن اليهود كانوا يقولون راعنا يا محمد أي أرعنا سمعك واسمع منا ويعرضون بالكلمة يريدون الرعونة فنهى الله المؤمنين عن التشبه بهم وقطع الذريعة بنهي المؤمنين عنها لئلا يتوصل بها الكافر والمنافق إلى سبه والاستهزاء به] الشفا بتعريف حقوق المصطفى 2/217. وقال القاضي عياض أيضاً: [اعلم وفقنا الله وإياك أن جميع من سب النبي صلى الله عليه وسلم أو عابه أو ألحق به نقصاً في نفسه أو نسبه أو دينه أو خصلة من خصاله أو عرض به أو شبهه بشيء على طريق السب له أو الإزراء عليه أو التصغير لشأنه أو الغض منه والعيب له فهو ساب له والحكم فيه حكم الساب يقتل كما نبينه ولا نستثني فصلاً من فصول هذا الباب على هذا المقصد ولا نمتري فيه تصريحاً كان أو تلويحاً. وكذلك من لعنه أو دعا عليه أو تمنى مضرة له أو نسب إليه ما لا يليق بمنصبه على طريق الذم أو عبث في جهته العزيزة بسخف من الكلام وهجر ومنكر من القول وزور أو عيره بشيء مما جرى من البلاء والمحنة عليه أو غمصه ببعض العوارض البشرية الجائزة والمعهودة لديه. وهذا كله إجماع من العلماء وأئمة الفتوى من لدن الصحابة رضوان الله عليهم إلى هلم جرَّا] الشفا بتعريف حقوق المصطفى 2/220. ونقل شيخ الإسلام ابن تيمية عن الإمام اسحق بن راهوية أحد الأئمة الأعلام (أجمع المسلمون على أن من سب الله أو سب رسوله صلى الله عليه وسلم أو دفع شيئاً مما أنزل الله عز وجل أو قتل نبياً من أنبياء الله عز وجل أنه كافر بذلك وإن كان مقراً بكل ما أنزل الله] . الصارم المسلول على شاتم الرسول ص9. إذا تقرر أن سب الذات الإلهية وسب الرسول صلى الله عليه وسلم وسب الدين كفر مخرج من الملة فيجب الانتباه إلى الفرق بين كون الشيء كفراً وتكفير الشخص الذي حصل منه ذلك بعينه فلا نستطيع أن نحكم بكفر كل إنسان إذا صدر منه ما يحكم العلماء أنه كفر لأن تكفير المعين يحتاج إلى معرفة أن موانع التكفير منتفية عن هذا الشخص المعين وقد ذكر أهل العلم أن موانع التكفير هي الخطأ والجهل والعجز والإكراه. قال الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين: [للحكم بتكفير المسلم شرطان: أحدهما أن يقوم الدليل على أن هذا الشيء مما يكفر. الثاني: إنطباق الحكم على من فعل ذلك بحيث يكون عالماً بذلك قاصداً له فإن كان جاهلاً لم يكفر لقوله تعالى: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) سورة النساء الآية 115. وقوله تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ) سورة التوبة الآية 115. وقوله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) سورة الإسراء الآية 15. لكن إن فرط بترك التعلم والتبين لم يعذر مثل أن يبلغه أن عمله هذا كفر فلا يتثبت ولا يبحث فإنه لا يكون معذوراً حينئذ. وإن كان غير قاصد لعمل ما يكفر لم يكفر بذلك مثل أن يكره على الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان ومثل أن ينغلق فكره فلا يدري ما يقول لشدة فرح ونحوه كقول صاحب البعير الذي أضلها ثم اضطجع تحت شجرة ينتظر الموت فإذا بخطامها متعلقاً بالشجرة فأخذه فقال: [اللهم أنت عبدي وأنا ربك] أخطأ من شدة الفرح] فتاوى العقيدة ص263-264. وقد سئل الشيخ العلامة عبد الرزاق عفيفي عن سب الدين أو الرسول صلى الله عليه وسلم أو القرآن العظيم هل يكفر ولو كان جاهلاً؟ فقال: [هذا الباب كغيره من أبواب الكفر يعلّم ويؤدب فإن علّم وعاند بعد التعليم والبيان كفر وإذا قيل لا يعذر بالجهل فمعناه يعلم ويؤدب وليس معناه أنه يكفر] فتاوى ورسائل الشيخ عبد الرزاق عفيفي ص372. وبناء على ما تقدم فإن كثيراً من الناس الذين يسبون الدين والرب في بلادنا وتجري هذه الكلمة على ألسنتهم لا نستطيع أن نحكم عليهم بالكفر وبانفساخ زواجهم لأن هؤلاء يجهلون ما يترتب على التلفظ بالسب والشتم من نتائج وكذلك فإن السب والشتم يصدر منهم من غير قصد ولا إرادة وما كان كذلك فإن الله سبحانه وتعالى لا يؤاخذ عليه كما في يمين اللغو التي يتلفظ بها الإنسان ولكنه لا يقصد اليمين فهو غير مؤاخذ بذلك، يقول الله تعالى: (لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ) سورة المائدة الآية 89. ويضاف إلى ذلك أن السب والشتم إذا صدر عن الإنسان وهو في حالة من الغضب الشديد بحيث أنه لا يدري ما يصدر منه فأرجو أن لا يؤاخذ على كلامه. ولا يفهمن أحد أن في هذا الكلام تهويناً من هذه الجريمة المنكرة والعادة القبيحة ألا وهي سب الدين والذات الإلهية والرسول صلى الله عليه وسلم فعلى من وقع منه ذلك أن يتوب إلى الله توبة صادقة وأن يكثر من الاستغفار ومن فعل الخيرات فلعل الله أن يتوب عليه يقول سبحانه وتعالى: (قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) سورة الزمر الآية 53. وخلاصة الأمر أن سب الدين والرب ردة في حق من ارتكبه عامداً قاصداً عالماً به غير جاهل ولا مكره. وأما من لم يتحقق فيه ذلك فهو مرتكب لذنب عظيم وعليه التوبة بشروطها ولا ينفسخ زواجه.(18/84)
85 - التدخين
القول المبين في حكم التدخين, يقول السائل: القول المبين في حكم التدخين, يقول السائل: هل لكم أن تبينوا لنا حكم التدخين بياناً شافياً؟
الجواب: إن نبتة الدخان لم تكن معروفة في ديار الإسلام لذلك لم يتعرض لها الفقهاء المتقدمون في مؤلفاتهم وأول ما عرف الدخان في بلاد المسلمين في حوالي الألف للهجرة كما ذكر بعض العلماء ولما شاع التدخين اختلف الفقهاء في حكمه فمنهم من رأى أنه مباح ومنهم من رأى أنه حرام وخلافهم هذا كان قبل وقوفهم على أضرار التدخين أما الآن فقد أصبحت أضرار التدخين معلومة علماً تاماً ومقطوعاً بها. فقد اتفقت على أضراره الهيئات العلمية والمجامع الطبية وقرروا أنه سبب رئيس للسرطان وتليف الكبد وأمراض الشريان التاجي والذبحة الصدرية وسرطان الفم وغيرها من الأمراض الخبيثة لذلك رأى كثير من العلماء المعاصرين أن التدخين حرام وهذا هو القول الصحيح إن شاء الله وهذا التحريم مستند لما يلي: أولاً: ضرر التدخين المؤكد لصحة الإنسان المدخن وغيره: وهذا ما أكده أهل الخبرة والاختصاص من الأطباء والكيميائين وغيرهم فالدخان يتكون من مجموعة كثيرة من المواد منها أكثر من خمسة عشر نوعاً من السموم الفتاكة كالنيكوتين الذي يعد من السموم القوية والفعالة وله أثر سيء على الكلية والجهاز العصبي والدم، ومنها أول أكسيد الكربون وهو معروف بتأثيره السام وله تأثير سيء على الدم. ومنها القطران وهو المادة اللزجة الصفراء التي تؤدي إلى اصفرار الأسنان ونخرها وإلى التهابات اللثة وهو أخطر محتويات الدخان على الصحة ويسبب السرطان والتهابات الشعب الهوائية وغير ذلك من المواد الضارة التي تلحق الضرر والأذى بصحة المدخن فالتدخين يضر بالفم وبالشفاه واللثة والأسنان واللسان واللوزتين والجهاز الهضمي والجهاز التنفسي والأعصاب والدورة الدموية والجهاز البولي كما أن للتدخين ضرراً على النسل لذلك تُنصح الحوامل بعدم التدخين وما كان ضرره كذلك فلا شك في حرمته لأن الإسلام يحرم كل ضار يقول عليه الصلاة والسلام: (لاضرر ولا ضرار) رواه البيهقي وغيرهما وهو حديثٌ صحيح. وقال الإمام النووي: كل ما أضر أكله كالزجاج والحجر والسم يحرم أكله] . ثانياً: ضرر التدخين المالي: لا شك أن الملايين تنفق على التدخين وما يتعلق به وكذلك فإن الملايين تنفق في علاج الأمراض التي تنتج عن التدخين وأن الأرقام التي تذكر في هذا المجال أرقام كبيرة جداً مما يؤكد الضرر البالغ للتدخين على الناحية الإقتصادية على مستوى الأفراد الشعوب والإسلام لا يقر أبداً إنفاق الأموال في هذه الجوانب فإن إنفاق المال في التدخين إنفاق له فيما لا ينفع لا في الدنيا ولا في الآخرة. ثالثاً: يقول الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله: [وهناك ضرر آخر يغفل عنه عادة الكاتبون في هذا الموضوع وهو الضرر النفسي وأقصد به أن الإعتياد على التدخين وأمثاله يستعبد إرادة الإنسان، ويجعلها أسيرة لهذه العادة السخيفة بحيث لا يستطيع أن يتخلص منها بسهولة إذا رغب في ذلك يوماً لسببٍ ما. كظهور ضررها على بدنه أو سوء أثرها في تربية ولده أو حاجته إلى ما ينفق فيها لصرفه في وجوه أخرى أنفع وألزم أو نحو ذلك من الأسباب لهذا الإستعباد النفسي لدى بعض المدخنين يجور على قوت أولاده والضروري من نفقة أسرته ومن أجل إرضاء مزاجه هذا لأنه لم يعد قادراً على التحرر منه وإذا عجز مثل هذا يوماً عن التدخين لمانع داخلي أو خارجي فإن حياته تضطرب وميزانه يختل وحاله تسوء وفكره يتشوش وأعصابه تثور لسبب أو لغير سبب] ولا ريب في أن مثل هذا الضرر جدير بالإعتبار في إصدار حكم على التدخين. رابعاً: إن التدخين خبيث عند ذوي الطباع السليمة ولا ينكر ذلك إلا مكابر ولا يقول أحد من العقلاء إنه من الطيبات والله سبحانه وتعالى يقول: (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ) والدخان خبيث فهو من المحرمات. خامساً: إن الدخان مفتر من المفترات وهذا معروف عند المدخنين وكونه لا يفتر المدمنين عليه فهذا لا يعتبر في إثبات التحريم لأن بعض المدمنين على الخمر لا يسكر من كأس أو كأسين ويحتاج إلى كمية أكبر حتى يسكر فلا يقال إن الخمر في حقه غير محرم وكذلك الحال في الدخان وقد ثبت في الحديث عن أم سلمة رضي الله عنها: (أن الرسول عليه الصلاة والسلام نهى عن كل مسكر ومفتر) حديثٌ صحيح رواه أحمد وأبو داود وغيرهما، والأصل في النهي أنه يفيد التحريم ما لم ترد قرينه تصرفه عن ذلك. وبعد هذا العرض الموجز لأهم الأدلة الدالة على تحريم التدخين أقرر ما قاله بعض العلماء المعاصرين من حرمة التدخين بلا شك ولكن حرمته ليست كحرمة الخمر أو الزنا فالمحرمات تتفاوت فهي على درجات فبعضها يعد من الكبائر وبعضها صغائر وأظن أن التدخين من الأخيرة ومع ذلك فينبغي الإقلاع عن هذه العادة السيئة ولا يجوز التعامل مع كل ما يتعلق بالتدخين كصناعته وبيعه وتوزيعه والدعاية له وتقديمه للناس وغير ذلك. وأخيراً ينبغي أن تعلم أن قول من يرى أن التدخين مباح قول ضعيف لا وجه له بعد أن ثبت الضرر المؤكد للتدخين عند العامة والخاصة يقول الدكتور القرضاوي: [ويتبين من هذا التمحيص الذي ذكرناه أن إطلاق القول بإباحة التدخين لا وجه له بل هو غلط صريح وغفلة عن جوانب الموضوع كله ويكفي ما فيه من إضاعة لجزء من المال فيما لا نفع فيه وما يصحبه من نتن الرائحة المؤذية وما فيه من ضرر بعضه محقق وبعضه مظنون أو محتمل] . وإن كان لهذا القول وجه فيما مضى عند ظهور استعمال هذا النبات في سنة ألف من الهجرة حيث لم يتأكد علماء ذلك العصر من ثبوت ضرره فليس له أي وجه في عصرنا بعد أن أفاضت الهيئات العلمية الطبية في بيان أضراره وسيء آثاره وعلم بها الخاص والعام وأيدتها لغة الأرقام. *****(18/85)
86 - أهل البيت
يقول السائل: إنه قرأ في إحدى الصحف تعليقاً حول حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (تركت فيكم ما إن أخذتم به لم تضلوا كتاب الله وأهل بيتي) وقال المعلق على الحديث: بأن النص الصحيح عند أهل السنة وهم أهل هذه البلاد وبالمنطق السليم هو: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي كتاب الله وسنتي) فهل صحيح ما قاله المعلق؟
الجواب: إن الحكم على الحديث لا يخضع لشيء اسمه المنطق السليم أو المنطق غير السليم وإنما الحكم على الحديث يكون خاضعاً للقواعد والضوابط التي وضعها أهل الحديث المتخصصون في الحكم على الحديث من حيث الثبوت أو الرد. والحديث الذي أنكره المعلق هو حديثٌ صحيح ثابت عن الرسول صلى الله عليه وسلم ورد برواياتٍ كثيرةٍ أذكر بعضها: 1. عن زيد بن أرقم قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا خطيباً بماء يدعى خماً بين مكة والمدينة فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكّر ثم قال: (أما بعد ... ألا أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به. فحث على كتاب الله ورغب فيه ثم قال: وأذكركم الله في أهل البيت ... ) رواه الإمام مسلم في صحيحه حديث رقم 1408. وعن زيد بن ثابت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني تارك فيكم خليفتين كتاب الله حبل ممدود ما بين السماء والأرض وعترتي أهل بيتي وأنهما لن يتفرقا حتى يردا عليّ الحوض) رواه الإمام أحمد في المسند ورواه الطبراني وقال الشيخ الألباني: حديث صحيح. وغير ذلك من الروايات وهي كثيرة وقد صححها جماعة من المحدثين كالحاكم والذهبي والطبراني وغيرهم، والمراد بالحديث إن عملتم بالقرآن واهتديتم بهدي عترتي العلماء العاملين لم تضلوا ومثلهم العلماء العاملون من غير العترة فالتمسك بهديهم يوصل إلى المقصود وإنما خص أهل بيته صلى الله عليه وسلم لأن التمسك بالعلماء منهم أقوى من علماء غيرهم في التأثير بالقلوب. انظر الفتح الرباني 1/186. ولعل الكاتب أنكر صحة الحديث لورود عبارة (أهل بيتي) أو (عترتي) فيه، وقد استكشل الكاتب ذلك مع أن المشهور من الحديث (وسنتي) كما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي) رواه الحاكم وغيره وهو حديث صحيح. وقد أجاب الشيخ الألباني عن هذا الإشكال من وجهين فقال: [الأول: إن المراد من الحديث في قوله صلى الله عليه وسلم: (عترتي) أكثر مما يريده الشيعة ولا يرده أهل السنة بل هم مستمسكون به وألا وهو أن العترة فيه هم أهل بيته صلى الله عليه وسلم وقد جاء ذلك موضحاً في بعض طرقه كحديث: (وعترتي أهل بيتي) وأهل بيته في الأصل هم نساؤه صلى الله عليه وسلم وفيهن الصديقة عائشة رضي الله عنهن جميعاً كما هو صريح قوله تعالى في الأحزاب: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) بدليل الآية التي قبلها والتي بعدها: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَءَاتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْءَايَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا) وتخصيص الشيعة: (أَهْلَ الْبَيْتِ) في الآية بعلي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم دون نسائه صلى الله عليه وسلم من تحريفهم لآيات الله تعالى انتصاراً لأهوائهم كما هو مشروح في موضعه وحديث الكساء وما في معناه غاية ما فيه توسيع دلالة الآية ودخول علي وأهله فيها كما بينه الحافظ ابن كثير وغيره وكذلك حديث العترة قد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أن المقصود أهل بيته صلى الله عليه وسلم بالمعنى الشامل لزوجاته وعلي وأهله، ولذلك قال التوربشتي، كما قال في المرقاة 5/600: عترة الرجل: أهل بيته رهطه الأدنون ولاستعمالهم (العترة) على أنحاء كثيرة بيّنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: (أهل بيتي) ليعلم أنه أراد بذلك نسله وعصابته الأدنين وأزواجه. الوجه الآخر: إن المقصود من أهل البيت إنما هم العلماء الصالحون منهم والمتمسكون بالكتاب والسنة، قال الإمام أبو جعفر الطحاوي رحمه الله تعالى: (العترة) هم أهل بيته صلى الله عليه وسلم الذين هم على دينه وعلى التمسك بأمره) وذكر نحوه الشيخ علي القاري في الموضع المشار إليه آنفاً ثم استظهر أن الوجه في تخصيص أهل البيت بالذكر ما أفاده بقوله: إن أهل البيت غالباً ما يكونون أعرف بصاحب البيت وأحواله فالمراد بهم أهل العلم منهم المطلعون على سيرته والواقفون على طريقته العارفون بحكمه وحكمته وبهذا يصلح أن يكون مقابلاً لكتاب الله سبحانه كما قال: (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) .(18/86)
87 - حقوق الناس
يقول السائل: هل يجوز الأكل من ثمار البساتين بدون إذن أصحابها؟
الجواب: إن من القواعد المقررة شرعاً أنه لا يجوز أخذ مال المسلم إلا بإذنه ويدل على ذلك قوله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ) سورة النساء الآية 29. ويدل على ذلك أيضاً قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه) وقوله عليه الصلاة والسلام: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا) رواه البخاري ومسلم. وقوله عليه الصلاة والسلام: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس) رواه الحاكم وابن حبان وصححاه وقوله عليه الصلاة والسلام: (لا يحل لامرئ من مال أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس رواه البيهقي بإسناد صحيح، وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه أيحب أحدكم أن تؤتى مشربته فينتقل طعامه وإنما تخزن لهم ضروع مواشيهم أطعمتهم فلا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه) رواه البخاري ومسلم والمشربة بضم الراء الغرفة. قال الإمام النووي: [ومعنى الحديث أنه صلى الله عليه وسلم شبه اللبن في الضرع بالطعام المخزن المحفوظ في الخزانة في أنه لا يحل أخذه بغير إذنه، وفي الحديث فوائد منها تحريم أخذ مال الإنسان بغير إذنه والأكل منه والتصرف فيه، وأنه لا فرق بين اللبن وغيره وسواء المحتاج وغيره إلا المضطر ... فيأكل الطعام للضرورة ويلزمه بدل عندنا وعند الجمهور ... ] شرح صحيح مسلم 4/391. وقال ابن عبد البر: [في الحديث النهي عن أن يأخذ المسلم للمسلم شيئاً إلا بإذنه وإنما خص اللبن بالذكر لتساهل الناس فيه فنبه به على ما هو أولى منه] فتح الباري 6/14. وبناء على ما تقدم لا يجوز الأكل من ثمار الأشجار في البساتين أو على جوانب الطرقات إلا بإذن أصحابها وكذلك الأكل من الزروع لا يجوز إلا بإذن أصحابها وهذا القول الذي ذكرته هو الأقوى دليلاً والأحوط ديناً وأبعد عن الشبهات. قال ابن قدامة بعد أن ذكر الخلاف في المسألة: [والأولى في الثمار وغيرها ألا يأكل إلا بإذن لما فيه من الخلاف والأخبار الدالة على التحريم) المغني 9/418. *****(18/87)
88 - يحرم الطعن في العلماء
يقول السائل: ما حكم من سب وشتم فقهاء المسلمين وما حكم الصلاة خلف ذلك الشخص؟
الجواب: لا شك أن سب وشتم فقهاء الإسلام من المعاصي الكبيرة وأن الطعن في علماء الإسلام طعن في دين الله وإن شتم الفقهاء والعلماء يدل على جهل وضاح وينبئ عن قلة تقوى ودين ويشير إلى جهل هذا الطاعن بمكانة العلماء في الإسلام، يقول الله سبحانه وتعالى: (ِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) سورة الزمر الآية 9، ويقول الله سبحانه وتعالى: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَءَامَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) سورة المجادلة الآية 11. وروى ابو الدرداء عن الرسول صلى الله عليه وسلم: (فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب ليلة البدر والعلماء هم ورثة الأنبياء إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهم إنما ورثوا العلم فمن أخذ به فقد أخذ بحظ وافر) رواه أبو داود والترمذي وهو حديث حسن. ويجب أم يعلم أن احترام العلماء وتقديرهم واجب على المسلم، قال الإمام الطحاوي صاحب العقيدة الطحاوية المشهورة: [وعلماء السلف من السابقين ومن بعدهم من التابعين أهل الخبر والأثر وأهل الفقه والنظر لا يذكرون إلا بالجميل ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل] شرح العقدية الطحاوية ص 554. وقال الشاعر: أبوهم آدم والأم حواء يفاخرون به فالطين والماء على الهدى لمن استهدى أدلاء والجاهلون لأهل العلم أعداء الناس من جهة التمثال أكفاء فإن يكن لهم في أصلهم نسب ما الفضل إلا لأهل العلم إنهم وقدر كل امرئ ما كان يحسنه وقال الحافظ ابن عساكر رحمه الله: [اعلم يا أخي-وفقني الله وإياك لمرضاته وجعلني وإياك ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته-أن لحوم العلماء مسمومة وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة وأن من أطلق لسانه في العلماء بالثلب بلاه الله قبل موته بموت القلب] . وأخيراً فإن على هذا الطاعن في الفقهاء والعلماء أن يتوب إلى الله توبة صادقة بأن يكف لسانه عن الوقيعة في أعراض العلماء ويستغفر ربه ويتوب إليه ويكثر من الدعاء والاستغفار للعلماء، وأما بالنسبة للصلاة خلف من يسب العلماء ويقع فيهم فالصلاة خلفه تصح وإن كان هذا وأمثاله لا ينبغي أن يكونوا من أئمة المساجد بل يجب أن يزجروا وينهروا حتى يرتدعوا عن ضلالتهم. *****(18/88)
89 - الوقف
صرف المال الموقوف في غير ما وقف له, يقول السائل: إن شخصاً دفع مبلغاً من المال لفرش مسجد ولكن المسجد مفروش ولا يحتاج لفرش آخر فهل يجوز صرف المبلغ في شراء كتب للمسجد وهل تجب استشارة صاحب المال؟
الجواب: إن الأولى والأحوط في هذه المسألة أن يصرف المال فيما خصصه له من دفعه وأما إذا كان الواقع كما ذكر في السؤال من أن المسجد لا يحتاج إلى فرش فلا بأس بشراء كتب شرعية نافعة للمسجد وإذا أمكن استشارة ذلك الشخص فهو الأفضل وإن لم يمكن فلا بأس بفعل ذلك دون استشارته. *****(18/89)
90 - الوقف
قدم شخص بيته للصلاة فيه مؤقتاً ثم استرده, يقول السائل: إن شخصاً قدم بيتاً له ليصلي فيه أهل الحي حتى يتمكنوا من بناء مسجد وشرط عليهم إعادة البيت في الوقت الذي يطلبه، وبعد مضي سنوات طلب ذلك الشخص بيته فما حكم ذلك؟
الجواب: ما دام أن الاتفاق تم كذلك بين صاحب البيت وأهل الحي فيجب إعادة البيت لصاحبه حيث أنه لم يوقفه مسجداً وإنما قدمه لهم ليصلوا فيه مدة من الزمان حتى يطلبه فلما طلبه وجبت إعادته إليه والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: [المسلمون على شروطهم] رواه أصحاب السنن وغيرهم وهو حديث صحيح. وجاء في رواية أخرى: (المسلمون على شروطهم إلا شرطاً حرم حلالاً أو أحل حراماً) رواه الترمذي وقال: حسن صحيح. وأما لو وقفه مسجداً فلا يحق له الرجوع في وقف المسجد كما اتفق على ذلك أكثر الفقهاء. *****(18/90)
91 - الوقف
لا يجوز استرداد الأرض الموقوفة على المسجد, يقول السائل: أوقف رجل قطعة أرض لبناء مسجد وبعد أن تم البناء اقتطع الواقف جزءاً من الأرض الموقوفة وضمها إلى أرضه فما حكم ذلك؟
الجواب: إن الوقف من الأعمال الخيرية التي يتقرب بها العبد إلى الله وهو داخل في عموم قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاثة أشياء: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له) رواه مسلم. ولا شك أن الوقف على المساجد فيه أجر عظيم وأجر مستمر لا ينقطع وهذا الرجل الذي أوقف الأرض لبناء المسجد فعل خيراً ولكنه أخطأ عندما تراجع عن بعض ما وقف وضم جزءاً من الأرض الموقوفة لأرضه الخاصة وما فعله هذا الشخص لا يجوز لأن الوقف على المساجد باتفاق الفقهاء لا يجوز نقضه فهو وقف لازم فلا يجوز الرجوع في وقف المسجد سواء كان الرجوع من الواقف أو من ورثته لأن الوقف حين يتم يصير حقاً خالصاً لله تعالى لأن المساجد لله وخلوصه لله تعالى يقتضي عدم الرجوع فيه. ويدل على ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق: (صدقة جارية) فهذا يشعر بأن الوقف يلزم ولا يجوز الرجوع فيه ولو جاز فيه الرجوع لكان صدقة منقطعة وقد وصفه الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث بعدم الانقطاع وبالتالي على هذا الشخص أن يعيد ذلك الجزء من الأرض ويلحقه بأرض المسجد حتى لا يبطل عمله. *****(18/91)
92 - كتابة البسملة على الأوراق الرسمية
يقول السائل: كثيراً ما نرى أوراقاً كتبت عليها البسملة وقد رميت في الطرقات والشوارع وغيرها فهل يجوز كتابة البسملة على مثل هذه الأوراق التي تُرمى؟
الجواب: لا بأس بكتابة البسملة والحمدلة في الكتب والنشرات والأوراق الرسمية وغير ذلك لما روي في الحديث أنه عليه الصلاة والسلام قال: (كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أقطع) وفي رواية أخرى: (كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر) والحديث ورد بروايات أخرى غير ما ذكر وقد رواه أحمد ,وأبو داود وابن ماجة وابن حبان في صحيحه وفي سنده كلام كثير وضعفه الألباني وجماعة من المحدثين. وحسنه ابن الصلاح والنووي حيث قال بعد أن ذكر الحديث السابق بألفاظه المختلفة: [روينا هذه الألفاظ كلها في كتاب الأربعين للحافظ عبد القادر الرهاوي وهو حديث حسن ... ] الأذكار ص 94. وبعد هذا أقول يستحب كتابة البسملة والحمدلة في أول الكتب والنشرات وغيرها وكل من وقعت في يده ورقة أو نشرة كتب فيها شيء من ذكر الله كالبسملة والحمدلة وغيرها يجب عليه أن يحافظ عليها محافظة تامة ولا يجوز له رميها في الطرقات والشوارع وأماكن القاذورات وإذا لم يكن له حاجة بها فليلقها في مكان لائق وإن استغنى عنها فلا بأس بدفنها في مكان طاهر أو حرقها. *****(18/92)
93 - حكم اقتناء الكلاب في البيوت
يقول السائل: إن لهم جيراناً يقتنون كلباً في بيتهم ويعتنون به عناية كبيرة وينتقل الكلب في غرف البيت ويلعب مع أهل البيت ويركبونه في سيارتهم عند خروجهم من البيت ويشترون له طعاماً خاصاً فما قولكم في ذلك؟
الجواب: إن اقتناء الكلاب في البيوت لغير حاجة مشروعة من التقليد الأعمى لحضارة الغرب التي صارت تعتني بالكلاب في بلادها أكثر من عنايتها بالإنسان في آسيا وإفريقيا فالكلاب في أوروبا وأمريكا لها قيمة كبيرة فتراهم يهتمون بشؤونها اهتماماً عظيماً وينفقون عليها المليارات من الدولارات فقد جاء في إحصائية نشرت قبل حوالي عشر سنوات أن ما أنفق على الكلاب والقطط في أمريكا قد بلغ ثلاثة مليارات من الدولارات؟!! والكلاب في الغرب محترمة ومرفهة وتجد الكلاب من الطعام ما لا يجده ملايين البشر في إفريقيا وآسيا وتقام للكلاب الحفلات والمسابقات لاختيار أجمل كلب وتنشأ لها فنادق ومستشفيات وتستعمل الكلاب في ديار الغرب لأمور كثيرة ومنها أمور تتعلق بالشذوذ الجنسي؟!! وأمور يندى الجبين من ذكرها. هذا شيء قليل من اهتمام الغربيين بالكلاب والذي أصبح مثلاً يحتذى به في ديار المسلمين مع الأسف الشديد. ومعلوم أن الإسلام قد بين ووضح الأحكام الشرعية المتعلقة بالكلاب واقتنائها. فقد جاء في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من اقتنى كلباً إلا كلب ماشية أو ضارٍ نقص من عمله كل يوم قيراطان) رواه مسلم، والكلب الضاري هو كلب الصيد كما قال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم 4/183. وفي رواية أخرى عند مسلم: [من اتخذ كلباً إلا كلب زرع أو غنم أو صيد ينقص من أجره كل يوم قيراط] . وعن سفيان بن أبي زهير وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من اقتنى كلباً لا يغني عنه زرعاً ولا ضرعاً نقص من عمله قيراط) رواه البخاري ومسلم، وغير ذلك من الأحاديث. وقد أخذ جمهور أهل العلم من هذه الأحاديث تحريم اقتناء الكلاب لغير حاجة مشروعة. انظر المغني 4/191. ككلاب الصيد والحراسة وكلاب تتبع أثر اللصوص أو التي تكشف عن المخدرات ونحوها وأما عدا ذلك فيحرم اقتناؤها كما تدل على ذلك الأحاديث السابقة. قال الحافظ أبو العباس القرطبي: [واختلف في معنى قوله: (نقص من عمله كل يوم قيراطان) وأقرب ما قيل في ذلك قولان: أحدهما: أن جميع ما عمله من عمل ينقص لمن اتخذ ما نهي عنه من الكلاب بإزاء كل يوم يمسكه فيه جزءان من أجزاء ذلك العمل وقيل: من عمل ذلك اليوم الذي يمسكه فيه وذلك لترويع الكلب للمسلمين وتشويشه عليهم بنباحه ومنع الملائكة من دخول البيت ولنجاسته على ما يراه الشافعي. الثاني: أن يحبط من عمله كله عملان أو من عمل يوم إمساكه - على ما تقدم - عقوبة له على ما اقتحم من النهي والله تعالى أعلم] المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم 4/451-452. والكلب نجس العين على الراجح من أقوال أهل العلم وهو قول الشافعية والحنابلة وهو قول أبي حنيفة والأوزاعي وإسحاق وأبي ثور وغيرهم. انظر المجموع 2/567، المغني 1/36. ويدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب) رواه مسلم. فهذا الحديث يدل على نجاسة الكلب لأنه لا غسل إلا من حدث أو نجس وليس هنا حدث فتعين النجس كما قال الصنعاني في سبل السلام 1/22. ويجب أن يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر وخبره صدق وحق أن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب فقد ثبتت الأحاديث في ذلك ومنها عن أبي طلحة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا صورة) رواه البخاري ومسلم. وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (واعد رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام في ساعة يأتيه فيها فجاءت تلك الساعة ولم يأته وفي يده عصا فألقاها من يده وقال: ما يخلف الله وعده ولا رسله. ثم التفت فإذا جرو كلب تحت سريره، فقال: يا عائشة متى دخل هذا الكلب ههنا؟ فقالت: والله ما دريت فأمر به فأخرج فجاء جبريل، فقال رسول اله صلى الله عليه وسلم: واعدتني فجلست لك فلم تأت. فقال: منعني الكلب الذي كان في بيتك إنا لا ندخل بيتاً فيه كلب ولا صورة) رواه مسلم. وعن ابن عباس قال: (أخبرتني ميمونة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أصبح يوماً واجماً، فقالت ميمونة: يا رسول الله لقد استنكرت هيئتك منذ اليوم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن جبريل كان وعدني أن يلقاني فلم يلقني أم والله ما أخلفني. قال: فظل رسول الله صلى الله عليه وسلم يومه ذلك على ذلك ثم وقع في نفسه جرو كلب تحت فسطاط لنا فأمر به فأخرج ثم أخذ بيده ماء فنضح مكانه فلما أمسى لقيه جبريل فقال له: قد كنت وعدتني أن تلقاني البارحة. قال: أجل ولكنا لا ندخل بيتاً فيه كلب ولا صورة فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ فأمر بقتل الكلاب حتى إنه يأمر بقتل كلب الحائط الصغير ويترك كلب الحائط الكبير) رواه مسلم. قال الإمام النووي قوله صلى الله عليه وسلم: [ (لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا صورة) قال العلماء: سبب امتناعهم من بيت فيه صورة كونها معصية فاحشة وفيها مضاهاة لخلق الله تعالى وبعضها في صورة ما يعبد من دون الله تعالى. وسبب امتناعهم من بيت فيه كلب لكثرة أكله النجاسات ولأن بعضها يسمى شيطاناً كما جاء به الحديث والملائكة ضد الشياطين ولقبح رائحة الكلب والملائكة تكره الرائحة القبيحة ولأنها منهي عن اتخاذها فعوقب متخذها بحرمانه دخول الملائكة بيته وصلاتها فيه واستغفارها له وتبريكها عليه وفي بيته ودفعها أذى للشيطان وأما هؤلاء الملائكة الذين لا يدخلون بيتاً فيه كلب أو صورة فهم ملائكة يطوفون بالرحمة والتبريك والاستغفار وأما الحفظة فيدخلون في كل بيت ولا يفارقون بني آدم في كل حال لأنهم مأمورون بإحصاء أعمالهم وكتابتها] شرح النووي على صحيح مسلم 5/269-270. وقد أيد العلم الحديث ما ورد في السنة النبوية من النهي عن اقتناء الكلاب لما في ذلك من أضرار كثيرة على صحة الإنسان. [فالكلب ناقل لبعض الأمراض الخطيرة إذ تعيش في أمعائه دودة تدعى المكورة المقنفذة تخرج بيوضها مع برازه وعندما يلحس دبره بلسانه تنتقل هذه البيوض إليه ثم تنتقل منه إلى الأواني والصحون وأيدي أصحابه ومنها تدخل إلى معدتهم فأمعائهم فتنحل قشرة البيوض وتخرج منها الأجنة التي تتسرب إلى الدم والبلغم وتنتقل بهما إلى جميع أنحاء الجسم وبخاصة إلى الكبد لأنه المصفاة الرئيسة في الجسم فتتوضع فيه كما قد تتوضع في الدماغ أو الرئتين أو العظام أو العضلات أيضاً. ولكن توضعها في الكبد أكثر ثم تنمو في العضو الذي تتوضع فيه وتشكل كيساً مملوءً بالأجنة الأبناء وبسائل صاف كماء الينبوع وقد يكبر الكيس حتى يصبح بحجم رأس الجنين وقد تكون الأكياس متعددة. ويسمى المرض داء الكيسة المائية وتكون أعراضه على حسب العضو الذي تتوضع فيه وأخطرها ما كان في الدماغ أو في عضلة القلب. ولم يكن له علاج سوى العملية الجراحية ثم ظهرت بعض الأدوية التي تفيد فيه وإن كانت لا تزال تحت التجربة وثمة داء آخر خطر ينقله الكلب وهو داء الكلب الذي سببه حمة راشحة فيروس - يصاب به الكلب أولاً ثم ينتقل منه إلى الإنسان عن طريق لعاب الكلب بالعض أو بلحسه جرحاً في جسم الإنسان وقد ينتقل المرض قبيل ظهور أعراض المرض على الكلب أو بعد ظهورها ومتى ظهرت أعراض الداء على الإنسان أصبح الموت محتماً 100% إلا بمشيئة الله تعالى لذلك يلجأ إلى إعطاء الإنسان اللقاح الواقي من المرض منذ أن يعضه كلب حتى يثبت عدم إصابته الكلب بداء الكلب] الحقائق الطبية في الإسلام ص 106. ونشرت مجلة العربي في عددها رقم 395 لسنة 1991 تحت عنوان " في بيتنا كلب " ما يلي: من ضمن الأمراض التي يصاب بها الكلب ما يأتي: 1. الكَلَبْ: مرض يصيب الكلب بفعل فيروس خاص تستهويه الأنسجة العصبية في الجسم فيصاب بالجنون أو السعار من مظاهره التيه والشرود واحمرار في العينين مع فك متدل ولعاب يسيل فإذا أصاب الإنسان يصبه بتشنجات وهذيان وتكون خاتمته الموت الزؤام حيث لا علاج إلا الوقاية. 2. داء اللينتمانيا: طفيليات وحيدة الخلية إذا ما أصابت الإنسان تمرضه بإحدى صورتين: أ. جلدية فينفرج الجلد ويعاني من قرحة مزمنة. ب. إصابة الأحشاء فيعاني المريض بها من حمى وصداع وتضخم في الكبد والطحال. وهذه الطفيليات تنقلها بعوضة صغيرة والكلب أحد ضحايا المرض لجانب الإنسان فلهذا هو مصدر خطر كامن لهذا الداء. 3. الديدان الشرطية. وخلاصة الأمر أنه لا يجوز اقتناء الكلاب إلا للحاجات التي أقرها الشرع.(18/93)
94 - تكره الأسئلة التي لا يترتب عليها عمل
يقول السائل: يسألني بعض الناس أسئلة لا يترتب عليها عمل ولا نفع فيها للسائل كالسؤال عن المدة التي مكثها يونس عليه السلام في بطن الحوت وأمثال ذلك، فما الحكم في السؤال عن مثل هذه الأمور؟
الجواب: ينبغي أن يعلم أن أهل العلم والفتوى قد بينوا ووضحوا أن على المسلم إن أراد السؤال والاستفتاء فعليه أن يسأل عما ينفعه في دينه ودنياه فلا بأس بالسؤال عما يعترض المسلم في شؤونه كلها فيسأل عن أمور العبادات والمعاملات وعن قضايا العقيدة وما يتعلق بذلك. وأما السؤال عما لا نفع فيه للمسلم في حياته وآخرته فلا ينبغي السؤال عن ذلك ولا يجب على المسؤول أي العالم أو المفتي أن يجيبه على أمثال هذه الأسئلة كأن يسأل كيف هبط جبريل؟ وعلى أي صورة رآه النبي صلى الله عليه وسلم؟ وحين رآه على صورة البشر هل بقي ملكاً أم لا؟ وأين الجنة وأين النار؟ ومتى الساعة ونزول عيسى عليه السلام؟ وإسماعيل أفضل أم إسحاق؟ وأيهما الذبيح؟ وفاطمة أفضل من عائشة أم لا؟ وأبوا النبي صلى الله عليه وسلم كانا على أي دين؟ وما دين أبي طالب؟ ومن المهدي؟ إلى غير ذلك مما لا حاجة بالإنسان إليه ولا ينبغي أن يسأل عنه لأنه ليس تحته عمل ولا تجب عليه معرفته ولم يرد التكليف به. كما ذكره العلامة ابن عابدين في حاشيته رد المحتار على الدر المختار. وقد أرشد ابن عباس رضي الله عنه مولاه عكرمة إلى قاعدة هامة في أمر الفتوى حين أمره أن يفتي الناس فقال له: (انطلق فأفت الناس وأنا عون لك فمن جاءك يسألك عما يعنيه فأفته ومن سألك عما لا يعنيه فلا تفته) . وقال القاضي إياس بن معاوية: من المسائل ما لا ينبغي للسائل أن يسأل عنها ولا للمسؤول أن يجيب فيها. ومن سؤال الفراغ والفضول ما وقع للإمام الشعبي فقد أتاه رجل فقال له: ما اسم امرأة إبليس؟ قال: ذاك عرس ما شهدته! . ومن سؤال الفراغ أيضاً ما وقع لأحد كبار السادة المالكية (زياد بن عبد الرحمن القرطبي الملقب بشبطون) تلميذ مالك حكى القاضي عياض في ترجمته في " ترتيب المدارك " ما يلي: قال حبيب: كنا جلوساً عند زياد فأتاه كتاب من بعض الملوك ... فكتب فيه ثم طبع الكتاب ونفذ به الرسول فقال زياد: أتدرون عما سأل صاحب هذا الكتاب؟ سأل عن كفتي ميزان الأعمال يوم القيامة أمن ذهب هي أم من ورق؟ - أي فضة - فكتبت إليه: حدثنا مالك عن ابن شهاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) وسترد فتعلم. وجاء في " ترتيب المدارك " للقاضي عياض في باب تحري مالك في العلم والفتيا والحديث وورعه فيه وإنصافه، وسأل مالكاً رجل عن رجل وطئ بقدمه دجاجة ميتة فأخرجت منها بيضة فأفقست البيضة عنده عن فرخ أيأكله؟ فقال مالك: سل عما يكون ودع ما لا يكون، وسأله آخر عن نحو هذا فلم يجبه فقال له: لم لا تجيبني يا أبا عبد الله؟ فقال له: لو سألت عما تنتفع به لأجبتك. وسأله رجل عمن قال للآخر: يا حمار؟ قال: يجلد. قال: فإن قال له يا فرس؟ قال: تجلد أنت، ثم قال: يا ضعيف! وهل سمعت أحداً يقول لآخر: يا فرس؟! . وجاء في " الآداب الشرعية " لابن مفلح الحنبلي: قال أحمد بن حنبل سألني رجل مرة عن يأجوج ومأجوج أمسلمون هم؟ فقلت له: أحكمت العلم - كله - حتى تسأل عن ذا؟! قال الحافظ ابن حجر: وقد ذم السلف البحث عن أمور معينة ورد الشرع بالإيمان بها مع ترك كيفيتها ومنها ما لا يكون له شاهد في عالم الحس كالسؤال عن الساعة والروح ومدة هذه الأمة إلى أمثال ذلك مما لا يعرف إلا بالنقل الصرف وأكثر ذلك لم يثبت فيه شيء فيجب الإيمان به بغير بحث] الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام ص 264-266 الهامش. وقد فصل الإمام الشاطبي المواضع التي يكره السؤال عنها فقال: [ويتبين من هذا أن لكراهية السؤال مواضع نذكر منها عشرة مواضع: أحدها السؤال عما لا ينفع في الدين، كسؤال عبد الله بن حذافة: من أبي وروي في التفسير أنه عليه السلام الصلاة والسلام: (سئل ما بال الهلال يدو رقيقاً كالخيط ثم لا يزال ينمو حتى يصير بدراً ثم ينقص إلى أن يصير كما كان؟ فأنزل الله: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ) الآية، فإنما أجيب بما فيه منافع الدين. والثاني: أن يسأل بعد ما بلغ من العلم حاجته كما سأل الرجل عن الحج أكل عام؟ مع أن قوله تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) قاض بظاهره أنه للأبد لإطلاقه، ومثله سؤال بني إسرائيل بعد قوله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) . والثالث: السؤال من غير احتياج إليه في الوقت وكأن هذا - والله أعلم - بما لم ينزل فيه حكم وعليه يدل قوله: (ذروني ما تركتمكم) وقوله: (وسكت عن أشياء رحمة لكم لا عن نسيان فلا تبحثوا عنها) . والرابع: أن يسأل عن صعاب المسائل وشرارها كما جاء في النهي عن الأغلوطات. والخامس: أن يسأل عن علة الحكم وهو من قبيل التعبدات التي لا يعقل لها معنى أو السائل ممن لا يليق به ذلك السؤال كما في حديث قضاء الصوم دون الصلاة. والسادس: أن يبلغ بالسؤال إلى حد التكلف والتعمق وعلى ذلك يدل قوله تعالى: (مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) ولما سأل الرجل: يا صاحب الحوض هل ترد حوضك السباع؟ قال عمر بن الخطاب: يا صاحب الحوض لا تخبرنا فإنا نرد على السباع وترد علينا. الحديث. والسابع: أن يظهر من السؤال معارضة الكتاب والسنة بالرأي ولذلك قال سعيد: أعراقي أنت؟ وقيل لمالك بن أنس الرجل يكون عالماً بالسنة أيجادل عنها؟ قال: لا ولكن يخبر بالسنة فإن قبلت منه وإلا سكت. والثامن السؤال عن المتشابهات وعلى ذلك يدل قوله تعالى: (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ) الآية. وعن عمر بن عبد العزيز: من جعل دينه عرضا للخصومات أسرع التنقل. ومن ذلك سؤال من سأل مالكاً عن الاستواء فقال الاستواء معلوم والكيفية مجهولة والسؤال عنه بدعة. والتاسع: السؤال عما شجر بين السلف الصالح وقد سئل عمر بن عبد العزيز عن قتال أهل صفين فقال: تلك الدماء كف الله عنها يدي فلا أحب أن يلطخ بها لساني. والعاشر: سؤال التعنت والإفحام وطلب الغلبة في الخصام وفي القرآن في ذم نحو هذا: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ) وقال: (بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) وفي الحديث: (أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم) . هذه جملة المواضع التي يكره السؤال فيها يقاس عليها ما سواها وليس النهي فيها واحداً بل فيها ما تشتد كراهيته ومنها ما يخف، ومنها ما يحرم ومنها ما يكون محل اجتهاد وعلى جملة منها يقع النهي عن الجدال في الدين كما جاء (إن المراء في القرآن كفر) وقال تعالى: (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِيءَايَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) الآية! وأشباه ذلك من الآيات والأحاديث فالسؤال في مثل ذلك منهي عنه والجواب بحسبه] الموافقات 4/319-321. وقد روى أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال عن الصحابة رضي الله عنهم: (ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم) . الفتوى في الإسلام ص 175. وقال الشيخ القرافي: [وينبغي للمفتي: إذا جاءته فتيا في شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو فيما يتعلق بالربوبية يسأل عن أمور لا تصلح لذلك السائل لكونه من العوام الجلف أو يسال عن المعضلات ودقائق أصول الديانات ومتشابه الآيات والأمور التي لا يخوض فيها إلا كبار العلماء ويعلم أن الباعث له على ذلك إنما هو الفراغ والفضول والتصدي لما لا يصلح له: فلا يجيبه أصلاً ويظهر له الإنكار على مثل هذا، ويقول له: اشتغل بما يعنيك من السؤال عن صلاتك وأمور معاملاتك ولا تخض فيما عساه يهلكك لعدم استعدادك له. وإن كان الباعث له شبهة عرضت له: فينبغي أن يقبل عليه ويتلطف به في إزالتها بما يصل إليه عقله فهداية الخلق فرض على من سئل. والأحسن أن يكون البيان له باللفظ دون الكتابة فإن اللسان يفهم ما لا يفهم القلم لأنه حي والقلم موات فإن الخلق عيال الله وأقربهم إليه أنفعهم إلى عياله لا سيما في أمر الدين وما يرجع إلى العقائد] الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام ص 264-266. وخلاصة الأمر أن المسلم لا يسأل إلا عن الأمور التي يتعلق بها عمل وتكليف وأما الأمور التي لا يترتب عليها عمل فلا ينبغي السؤال عنها.(18/94)
95 - السباب
حكم سب الصحابة, يقول السائل: ما قولكم فيمن يسب واحداً من الصحابة وينتقص منه كالذين يسبون معاوية بن أبي سفيان ويتهمونه باتهامات باطلة فما حكم الشرع في ذلك؟
الجواب: حب الصحابة الكرام جزء من عقيدة المسلم عقيدة أهل السنة والجماعة، قال صاحب العقيدة الطحاوية ص 689: [ونحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نفرط في حب أحد منهم ولا نتبرأ من أحد منهم ونبغض من يبغضهم وبغير الخير يذكرهم ولا نذكرهم إلا بخير وحبهم دين وإيمان وإحسان وبغضهم كفر ونفاق وطغيان] . وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: [ومن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم] شرح العقيدة الواسطية ص 142. وقد قامت على صحة هذه العقيدة ألا وهي حب الصحابة رضي الله عنهم أجمعين وحرمة سبهم وحرمة بغضهم عشرات الأدلة من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وانعقد إجماع الصحابة على ذلك. فمن الآيات الكريمات الدالة على ذلك وفيها ثناء الله على الصحابة رضي الله عنهم قوله تعالى: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) سورة التوبة الآية 100. وقال تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) سورة آل عمران الآية 110 وقال تعالى: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا) سورة الفتح الآية 29. وقال تعالى: (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) سورة الحديد الآية 10. وقال تعالى: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجُِونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَايَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَءَامَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) سورة الحشر الآيات 8-10. وقال تعالى: (يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) سورة الأنفال الآية 64. وأما الأحاديث النبوية فمنها عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مدَّ أحدهم ولا نصيفه) رواه البخاري ومسلم. وعن عمران بن حصين رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم) رواه البخاري ومسلم. وعن ابن عمر رضي الله عنه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطب بالجابية فقال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقامي فيكم فقال: (استوصوا بأصحابي خيراً ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم … الخ) رواه أحمد والبيهقي والترمذي والحاكم وصححه ووافقه الذهبي ورواه ابن حبان وقال محققه: إسناده صحيح على شرط الشيخين. صحيح ابن حبان 16/240. ونص أهل العلم على وجوب احترام الصحابة رضي الله عنهم أجمعين وأنه يحرم الطعن فيهم أو سبهم أو الانتقاص منهم. قال أبو زرعة الرازي: [إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق] ولتكن ممن يقول: (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَايَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَءَامَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) سورة الحشر الآية 10] انظر صب العذاب على من سب الأصحاب للألوسي ص 391-392. وقال الإمام أحمد: [وخير الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر بعد أبي بكر وعثمان بعد عمر وعلي بعد عثمان ووقف قوم وهم خلفاء راشدون مهديون ثم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هؤلاء الأربعة خير الناس لا يجوز لأحد أن يذكر شيئاً من مساويهم ولا يطعن على أحد منهم بعيب ولا نقص فمن فعل ذلك فقد وجب تأديبه وعقوبته ليس له - أي الحاكم - أن يعفو عنه بل يعاقبه ويستتيبه فإن تاب قبل منه وإن ثبت أعاد عليه العقوبة وخلّده في الحبس حتى يموت أو يراجع] الصارم المسلول ص 570. وقال الإمام النووي: [واعلم أن سب الصحابة رضي الله عنهم حرام من فواحش المحرمات سواء من لابس الفتن منهم وغيره لأنهم مجتهدون في تلك الحروب متأولون …] ثم نقل عن القاضي عياض قوله: [وسب أحدهم - أي الصحابة - من المعاصي الكبائر] شرح النووي على صحيح مسلم 5/72-73. وقال الحافظ ابن حجر: [اتفق أهل السنة على أن الجميع - أي جميع الصحابة - عدول ولم يخالف في ذلك إلا شذوذ من المبتدعة وقد ذكر الخطيب في الكفاية فصلاً نفيساً في ذلك فقال عدالة الصحابة ثابتة معلومة بتعديل الله لهم وإخباره عن طهارتهم واختياره لهم فمن ذلك قوله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) وقوله: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) وقوله: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ) وقوله: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) وقوله: (يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) وقوله: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) إلى قوله: (إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) في آيات كثيرة يطول ذكرها وأحاديث شهيرة يكثر تعدادها، وجميع ذلك يقتضي القطع بتعديلهم ولا يحتاج أحد منهم مع تعديل الله له إلى تعديل أحد من الخلق على أنه لو لم يرد من الله ورسوله فيهم شيء مما ذكرناه لأوجبت الحال التي كانوا عليها من الهجرة والجهاد ونصرة الإسلام وبذل المهج والأموال وقتل الآباء والأبناء والمناصحة في الدين وقوة الإيمان واليقين القطع على تعديلهم والاعتقاد لنزاهتهم وأنهم كافة أفضل من جميع الخالفين بعدهم والمعدلين الذين يجيئون من بعدهم هذا مذهب كافة العلماء ومن يعتمد قوله، ثم روى بسنده إلى أبي زرعة الرازي قال: إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق وذلك أن الرسول حق والقرآن حق وما جاء به حق وإنما أدى إلينا ذلك كله الصحابة وهؤلاء (وهم) يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة والجرح بهم أولى وهم زنادقة انتهى. والأحاديث الواردة في تفضيل الصحابة كثيرة من أدلها على المقصود ما رواه الترمذي وابن حبان في صحيحه من حديث عبد الله بن مغفل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضاً فمن أحبهم فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه، وقال أبو محمد ابن حزم الصحابة كلهم من أهل الجنة قطعاً قال الله تعالى: (لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى) وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ) فثبت أن الجميع من أهل الجنة وأنه لا يدخل أحد منهم النار لأنهم المخاطبون بالآية السابقة] الإصابة في تمييز الصحابة ص 6-7 إذا تقرر هذا في فضل الصحابة وحرمة سبهم فإن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما واحد من الصحابة بل هو من فضلائهم فيحرم سبه وشتمه واتهامه بالاتهامات الباطلة. قال الإمام النووي: [وأما معاوية رضي الله عنه فهو من العدول الفضلاء والصحابة النجباء رضي الله عنه] شرح النووي على صحيح مسلم 4/530. وقد وردت أحاديث نبوية في فضل معاوية رضي الله عنه منها عن عبد الرحمن بن أبي عميرة وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لمعاوية: (اللهم اجعله هادياً مهدياً واهد به) رواه الترمذي وقال الشيخ الألباني: صحيح كما في السلسلة الصحيحة 1969 وصحيح سنن الترمذي 3/236. وعن أبي إدريس الخولاني قال: [لما عزل عمر بن الخطاب عمير بن سعد عن حمص ولى معاوية فقال الناس: عزل عميراً وولى معاوية!؟ فقال عمير: لا تذكروا معاوية إلا بخير فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم اهد به] رواه الترمذي وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي 3/236. وروى الإمام البخاري بسنده عن ابن أبي مليكة قال: [أوتر معاوية بعد العشاء بركعة وعنده مولى لابن عباس فأتى ابن عباس فقال: دعه فإنه قد صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروى البخاري أيضاً بسنده: قيل لابن عباس هل لك في أمير المؤمنين معاوية فإنه ما أوتر إلا بواحدة؟ قال: إنه فقيه] صحيح البخاري مع الفتح 8/104-105. قال الحافظ ابن حجر: [وقوله دعه: أي اترك القول فيه والإنكار عليه فإنه قد صحب أي فلم يفعل شيئاً إلا بمستند وفي قوله في الرواية الأخرى أصاب إنه فقيه ما يؤيد ذلك] فتح الباري 8/105. وقال الإمام الذهبي في حق معاوية: [حسبك بمن يؤمره عمر ثم عثمان على إقليم وهو ثقة فيضبطه ويقوم به أتم قيام ويرضي الناس بسخائه وحلمه وإن كان بعضهم تألم مرة منه وكذلك فليكن الملك وإن كان غيره من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً منه بكثير وأفضل وأصلح فهذا الرجل ساد وساس العالم بكمال عقله وفرط حلمه وسعة نفسه وقوة دهائه ورأيه وله هنات وأمور والله الموعد] سير أعلام النبلاء 3/132-133. وقال الذهبي أيضاً: [ومعاوية من خيار الملوك الذين غلب عدلهم على ظلمهم وما هو ببرئ من الهنات والله يعفو عنه] سير أعلام النبلاء 3/159. وينبغي أن يعلم أن معاوية رضي الله عنه هو أحد كتبة الوحي الذين استكتبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لكتابة القرآن الكريم. انظر الإصابة 6/113، معاوية بن أبي سفيان لمحمود شاكر ص 88(18/95)
96 - السباب
حكم سب العلماء
لا ريب أن احترام العلماء وتقديرهم من الأمور الواجبة شرعاً وإن خالفناهم الرأي فالعلماء ورثة الأنبياء، والأنبياء قد ورثوا العلم وأهل العلم لهم حرمة. وقد وردت نصوص كثيرة في تقدير العلماء واحترامهم، قال الإمام النووي: [باب توقير العلماء والكبار وأهل الفضل وتقديمهم على غيرهم ورفع مجالسهم وإظهار مرتبتهم] . ثم ذكر قول الله تعالى: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) سورة الزمر الآية 9، ثم ساق الإمام النووي طائفة من الأحاديث في إكرام العلماء والكبار وأحيل القارئ إلى كتاب رياض الصالحين للإمام النووي ص 187-192. ومع كل هذه النصوص التي تحث على ما سبق وغيرها من النصوص الشرعية التي تحرم السب والشتم واللعن والوقوع في أعراض المسلمين إلا أن بعض الناس من أشباه طلبة العلم ليس لهم شغل إلا شتم العلماء وسبهم على رؤوس الأشهاد في المساجد وفي الصحف والمجلات ويحاول هؤلاء الصبية تشويه صورة العلماء وتنفير عامة الناس منهم لأن هؤلاء العلماء علماء السلاطين - كما يزعم هؤلاء النكرات - ومن العلماء الفضلاء الذين تعرضوا وما زالوا يتعرضون لهذه الهجمة الشرسة العلامة الفقيه الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله ورعاه، فالشيخ القرضاوي لا ينكر علمه وفضله إلا حاقد أو جاهل. والشيخ القرضاوي لا يحبه ويقدره إلا من تأدب بأدب الإسلام ولا يبغضه ولا يشتمه إلا سفيه أو جاهل أو حاقد ليس له نصيب من أدب الإسلام. إن أدعياء الوعي وأدعياء الفكر والثقافة يشتمون الشيخ القرضاوي بغير وعي ولا يعرفون ماذا يصدر منهم من فظائع لا يجوز أن تقال في حق واحد من عامة الناس فضلاً أن تقال في حق عالم من علماء الأمة كالشيخ القرضاوي. إن هجمتهم الشرسة على العلامة القرضاوي تثير التساؤل، فهذه الهجمة تخدم أعداء الأمة الذين طالبوا بإغلاق السبل أمام الشيخ القرضاوي كيلا يخاطب الأمة الإسلامية. وأتسائل لمصلحة من يهاجم علماء الأمة؟ ولمصلحة من يشتم العلماء؟ هل هذه هي الطريق لإقامة الخلافة؟ هل علماء الأمة حالوا دون إقامة دولة الخلافة؟ أم أن بعض الناس يعلق فشله وعجزه على الآخرين؟ لماذا يوصف العلماء بالخيانة أو السذاجة والبلاهة؟ هل يصح أن يقال في علماء الأمة: " ومن الملمَّعين المنافقين "؟ كيف عرفتم أنهم منافقون؟ هل شققتم على قلوبهم؟ ألم تسمعوا قول النبي صلى الله عليه وسلم لأسامة بن زيد رضي الله عنه لما قتل رجلاً بعد أن قال لا إله إلا الله: (أفلا شققت على قلبه؟) رواه مسلم. ألم تسمعوا قول النبيصلى الله عليه وسلم: (إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم) رواه البخاري ومسلم. هل علمتم دخيلة الشيخ القرضاوي ونيته وأنه لا يريد من برامجه إلا المحافظة على مكاسب الشهرة؟! هل كلام الشيخ القرضاوي ينضح بالجهل أو التجاهل؟ أم أن كل إناء بما فيه ينضح؟ إن الشيخ القرضاوي محل ثقة أهل العلم وجماهير الناس شرقاً وغرباً والشيخ القرضاوي ليس بحاجة لينال ثقة أشباه طلبة العلم وصغارهم. فالناس يأخذون علمهم عن الشيخ القرضاوي وأمثاله من العلماء الكبار ولا يأخذون عن الأصاغر فإن الأخذ عن الأصاغر هَلَكَةٌ في الدين. قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (لا يزال الناس مشتملين بخير ما أتاهم العلم من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ومن أكابرهم فإذا أتاهم العلم من قبل أصاغرهم وتفرقت أهواؤهم هلكوا) رواه أبو عبيد والطبراني في الكبير والأوسط، وقال الهيثمي رجاله موثقون. ورواه أبو نعيم في الحلية ولفظه قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه (لا يزال الناس بخير ما أتاهم العلم من علمائهم وكبرائهم وذوي أسنانهم فإذا أتاهم العلم عن صغارهم وسفهائهم فقد هلكوا) . وورد في رواية أخرى عند الخطيب في تاريخه بلفظ (فإذا أتاهم العلم عن صغارهم وسفلتهم فقد هلكوا) . إتحاف الجماعة 2/ 105. إن الأمة بحاجة ماسة لعلم الشيخ القرضاوي وفهمه النير لأحكام الإسلام، وليست بحاجة إلى العلم بطلب النصرة من الكفرة وأعداء الدين حتى يقدموا الخلافة على طبق من ذهب لبعض الناس! وهم فقط ينتظرون حدوث ذلك الأمر البعيد إن لم يكن المستحيل. إن مبدأ طلب النصرة من غير المقتنعين بالفكرة مبدأ خاطئ ليس عليه دليل صحيح من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ومنهجه وإن حاولوا إثباته. إن الأمة لن تنظر إن شاء الله بارتياب إلى فتاوى وآراء العلامة القرضاوي، بل تتقبلها قبولاً حسناً، ولكن الأمة لتنظر بارتياب لمن يهاجم القرضاوي ويسبه ويشتمه لأن هؤلاء السابين الشاتمين هم الذين خرجوا عن أدب الحوار والخلاف ووصل بهم الأمر إلى اتهام نيات العلماء وطعنهم في إيمانهم!! أهكذا يكون النقد العلمي؟ قال الإمام الذهبي يرحمه الله: [ما زال الأئمة يخالف بعضهم بعضاً ويرد هذا على هذا ولسنا ممن يذم العالم بالهوى والجهل] سير أعلام النبلاء 19/342. أيها الناس تأدبوا مع العلماء، واعرفوا لهم مكانتهم، فما فاز من فاز إلا بالأدب وما سقط من سقط إلا بسوء الأدب. واعلموا أن الأمة لا تحترم ولا تقدر إلا من يحترم العلماء والأئمة. قال الحافظ ابن عساكر يرحمه الله مخاطباً رجلاً تجرأ على العلماء: [إنما نحترمك ما احترمت الأئمة] وأخيراً أختم بكلمة نيرة مضيئة قالها الحافظ ابن عساكر يرحمه الله: [اعلم يا أخي وفقني الله وإياك لمرضاته وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته أن لحوم العلماء مسمومة وعادة الله في هتك منتقصيهم معلومة وأن من أطلق لسانه في العلماء بالثلب بلاه الله قبل موته بموت القلب (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)(18/96)
97 - السباب
حكم سب الأموات, يقول السائل: ما حكم سب الأموات وذكر مساوئهم؟
الجواب: وردت أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم تنهى عن سب الأموات عامة كما في حديث عائشة رضي الله عنها قالت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا) رواه البخاري في باب ما ينهى عن سب الأموات. صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 3/502. وورد في الحديث عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تسبوا أمواتنا فتؤذوا أحيائنا) رواه أحمد والنسائي. وفي رواية عند ابن حبان: (لا تسبوا الأموات فتؤذوا الأحياء) وقال محقق صحيح ابن حبان: إسناده صحيح على شرط الشيخين. وذكر أن الحديث رواه أحمد والطبراني. انظر صحيح ابن حبان 7/292. ورواه الترمذي أيضاً وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي 2/190. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا مات صاحبكم فدعوه) رواه أبو داود والترمذي وابن حبان وفي رواية أبي داود: (إذا مات صاحبكم فدعوه لا تقعوا فيه) وقال الألباني: صحيح. انظر صحيح سنن أبي داود 3/926. وجاء في الحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اذكروا محاسن موتاكم وكفوا عن مساوئهم) رواه أبو داود والترمذي وابن حبان والحديث فيه اختلاف فقد سكت عنه أبو داود وصححه ابن حبان، وقال الحافظ ابن حجر: إنه من شرط الحسن. شرح ابن علان على الأذكار 4/211، وذكر محقق الأذكار أن الحديث حسن بشواهده ص 141. وعن عائشة رضي الله عنها: (أنه ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم هالك - أي ميت - بسوء فقال: لا تذكروا هلكاكم إلا بخير) رواه النسائي وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي 2/417. ويرى كثير من أهل العلم أن عموم هذه الأحاديث مخصوص ويرى بعض شراح صحيح البخاري أن ترجمة البخاري للباب بما ذكر أعلاه يشير إلى ذلك. قال الحافظ ابن حجر: [قال الزين بن المنير: لفظ الترجمة يشعر بانقسام السب إلى منهي وغير منهي، ولفظ الخبر مضمونه النهي عن السب مطلقاً، والجواب أن عمومه مخصوص بحديث أنس السابق حيث قال صلى الله عليه وسلم عند ثنائهم بالخير وبالشر: (وجبت وأنتم شهداء الله في الأرض) ولم ينكر عليهم. ويحتمل أن اللام في الأموات عهدية والمراد به المسلمون لأن الكفار مما يتقرب إلى الله بسبهم. وقال القرطبي في الكلام على حديث وجبت: يحتمل أجوبة: الأول: أن الذي كان يحدث عنه بالشر كان مستظهراً به فيكون من باب لا غيبة لفاسق أو كان منافقاً ثانيها: يحمل النهي على ابعد الدفن والجواز على ما قبله ليتعظ به من يسمعه. ثالثها: يكون النهي العام متأخراً فيكون ناسخاً وهذا ضعيف. وقال ابن رشيد ما محصله: إن السب ينقسم في حق الكفار وفي حق المسلمين أما الكافر فيمنع إذا تأذى به الحي المسلم. وأما المسلم فحيث تدعو الضرورة إلى ذلك كأن يصير من قبيل الشهادة وقد يجب في بعض المواضع وقد يكون فيه مصلحة للميت كمن علم أنه أخذ ماله بشهادة زور ومات الشاهد فإن ذكر ذلك ينفع الميت إن علم أن ذلك المال يرد إلى صاحبه. قال ولأجل الغفلة عن هذا التفصيل ظن بعضهم أن البخاري سهى عن حديث الثناء بالخير والشر وإنما قصد البخاري أن يبين أن ذلك الجائز كان على معنى الشهادة وهذا الممنوع وهو على معنى السب … وتأول بعضهم الترجمة الأولى على المسلمين خاصة والوجه عندي حمله على العموم إلا ما خصصه الدليل بل لقائل أن يمنع ما كان على جهة الشهادة، وقصد التحذير يسمى سباً في اللغة. وقال ابن بطال: سب الأموات يجري مجرى الغيبة فإن كان أغلب أحوال المرء الخير وقد تكون منه الفلتة فالاغتياب له ممنوع وإن كان فاسقاً معلناً فلا غيبة له فكذلك الميت ويحتمل أن يكون النهي على عمومه فيما بعد الدفن والمباح ذكر الرجل بما فيه قبل الدفن ليتعظ بذلك فسّاق الأحياء فإذا صار إلى قبره أمسك عنه لإفضاءه إلى ما قدم وقد عملت عائشة راوية هذا الحديث بذلك في حق من استحق عندها اللعن فكانت تلعنه وهو حي فلما مات تركت ذلك ونهت عن لعنه … قوله: (أفضوا) أي وصلوا إلى ما عملوا من خير أو شر واستدل به على منع سب الأموات مطلقاً وقد تقدم أن عمومه مخصوص وأصح ما قيل في ذلك أن أموات الكفار والفساق يجوز ذكر مساوئهم للتحذير منهم والتنفير عنهم. وقد أجمع العلماء على جواز جرح المجروحين من الرواة أحياءاً وأمواتاً] فتح الباري 3/502-503. وقال الإمام النووي: [قال العلماء يحرم سب الميت المسلم الذي ليس معلناً بفسقه وأما الكافر والمعلن بفسقه من المسلمين ففيه خلاف للسلف وجاءت فيه نصوص متقابلة وحاصله أنه ثبت في النهي عن سب الأموات ما ذكرناه في هذا الباب وجاء في الترخيص في سب الأشرار أشياء كثيرة منها ما قصه الله علينا في كتابه العزيز وأمرنا بتلاوته وإشاعة قراءته ومنها أحاديث كثيرة في الصحيح كالحديث الذي ذكر فيه صلى الله عليه وسلم عمرو بن لحي وقصة أبي رغال الذي كان يسرق الحاج بمحجنه وقصة ابن جدعان وغيرهم. ومنها الحديث الصحيح الذي قدمناه لما مرّت جنازة فأثنوا عليها شراً فلم ينكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم بل قال: (وجبت) . واختلف العلماء في الجمع بين هذه النصوص على أقوال أصحها وأظهرها أن أموات الكفار يجوز ذكر مساوئهم وأما أموات المسلمين المعلنين بفسق أو بدعة أو نحوهما فيجوز ذكرهم بذلك إذا كان فيه مصلحة لحاجة إليه للتحذير من حالهم والتنفير من قبول ما قالوه والاقتداء بهم فيما فعلوه وإن لم تكن حاجة لم يجز، وعلى هذا التفصيل تنزل هذه النصوص. وقد أجمع العلماء على جرح المجروح من الرواة والله أعلم] الأذكار ص 141. وخلاصة ما يؤخذ من هذه الأحاديث ما يلي: 1. تحريم سب الأموات لأنهم قد أفضوا إلى ما قدموا من خير أو شر فلا فائدة من سبهم ولأن ذلك يؤذي الأحياء. 2. حرمة الأموات من المسلمين كحرمة الأحياء منهم. 3. يجوز ذكر الأموات بما فيهم إن كان لمصلحة شرعية لا تتحقق إلا بذلك كتحذير الناس من بدعته والاقتداء بآثاره والتخلق بأخلاقه. 4. الكافر والمنافق معلوم النفاق كلام أهل الإيمان فيه شهادة عليه فمن ذكره المؤمنون بشر فقد وجبت له. انظر موسوعة المناهي الشرعية 2/49-50.(18/97)
98 - حكم من مات وليس في عنقه بيعة
يقول السائل: ما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية) ؟
الجواب: هذا بعض حديث رواه الإمام مسلم في صحيحه بإسناده عن زيد بن محمد عن نافع قال: جاء عبد الله بن عمر رضي الله عنه إلى عبد الله بن مطيع حين كان أمر الحرة ما كان زمن يزيد بن معاوية فقال: اطرحوا لأبي عبد الرحمن وسادة. فقال: إني لم آتك لأجلس أتيتك لأحدثك حديثاً، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية] صحيح مسلم 4/549. والمراد بالبيعة في هذا الحديث بيعة إمام المسلمين أو خليفة المسلمين الذي يبايعه أهل الحل والعقد من أمة الإسلام وهذا الحديث لا ينطبق على حكام هذا الزمان أو زعماء الأحزاب والجماعات المختلفة لأن كلاً منهم ليس إماماً لجماعة المسلمين وقد ذكر أهل العلم شروطاً لصحة البيعة منها أن يكون في المبَايَعُ له شروط الإمامة وقد فصلها العلماء في كتبهم وأن يكون المتولي لعقد البيعة – بيعة الانعقاد – أهل الحل والعقد، قال الماوردي: [فإذا اجتمع أهل العقد والحل للاختيار تصفحوا أحوال أهل الإمامة الموجودة فيهم شروطها فقدموا للبيعة منهم أكثرهم فضلاً وأكملهم شروطاً ومن يسرع الناس إلى طاعته ولا يتوقفون عن بيعته] الأحكام السلطانية ص 19. وعليه فإن أهل الحل والعقد من المسلمين هم الذين يتولون اختيار إمام المسلمين وخليفتهم ولا عبرة بقول العوام في بيعة الانعقاد قال الرملي الشافعي: [أما بيعة غير أهل الحل والعقد من العوام فلا عبرة لها] نهاية المحتاج 7/390. ولا يصح دعوى بعض الحزبيين أن من لم يبايع أمير حزبهم فإنه إذا مات مات ميتة جاهلية فهذه الدعوى تعدٍ على سنة النبي صلى الله عليه وسلم وتنزيل للنصوص على غير محلها الصحيح وتلاعب بعقول العوام وترهيب لهم في غير موضعه فإن المقصود بالحديث إمام جماعة المسلمين وليس زعيم فئة من فئات المسلمين الكثيرة والمتناحرة فيما بينها. وإمام المسلمين الذي تجب له البيعة له شروط ذكرها أهل العلم كما أشرت سابقاً وهذه الشروط لا تنطبق على قادة الأحزاب والجماعات الموجودة حالياً. وحديث ابن عمر محل السؤال ذكره الإمام النووي في: [باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين ... ] شرح النووي على صحيح مسلم 4/546. فالمقصود بالحديث: [من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية أي عند وجود الإمام الشرعي فقط وهذا هو الفهم الصحيح للحديث أنه إذا كان هناك إمام شرعي توفرت فيه شروط صحة البيعة وانتفت نواقضها فإنه يجب على المسلم أن يبادر إلى البيعة إذا كان من أهل الحل والعقد أو طلبت منه ولا يجوز له أن يبيت ولا يراه إماماً أما إذا لم تكن شروط صحة البيعة متوفرة في هذا الحاكم فليس عليه واجب البيعة بل عليه أن يسعى لإيجاد الإمام الشرعي حسب طاقته ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها. والذي يدل على أن الحديث خلاف ظاهره ما يلي: 1. أن البيعة واجبة وجوباً كفائياً إذا قام به البعض سقط عن الباقين كما هو قول الجمهور. 2. فعل رواي الحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما نفسه فهو أولى بفهم الحديث على وجهه الصحيح من غيره فقد قال عنه الحافظ ابن حجر: أنه امتنع أن يبايع لعلي أو معاوية، ثم بايع لمعاوية لما اصطلح مع الحسن بن علي واجتمع عليه الناس، وبايع لابنه يزيد بعد موت معاوية لاجتماع الناس عليه ثم امتنع من المبايعة لأحد حال الاختلاف إلى أن قتل ابن الزبير وانتظم الملك كله لعبد الملك بن مروان فبايع له حينئذ. فلو فهم الحديث على ظاهره لما بات ليلة إلا وفي عنقه بيعة لأحدهما يعطيها من يدله عليه اجتهاده على أنه أقرب للصواب وقد روي عنه قوله: ... لكني أكره أن أبايع أميرين قبل أن يجتمع الناس على أمير واحد. فالمقصود أنه أخذ مدة وليس في عنقه بيعة لأحد وهذا على خلاف ظاهر الحديث لانتفاء أحد شروط صحة البيعة وهو أن يكون المبايع واحداً كما مرّ] الإمامة العظمى ص 214-215. وخلاصة الأمر أن البيعة المقصودة في الحديث هي بيعة إمام جماعة المسلمين وليس زعيم جماعة من جماعات المسلمين.(18/98)
99 - الكرب والمصيبة
يقول السائل: ما موقف المسلم عندما تحل عليه المصائب كموت عزيز عليه؟
الجواب: المطلوب من المسلم أن يصبر ويحتسب ويسترجع فيقول " إنا لله وإنا إليه لراجعون " ويحرم شق الجيوب أي تمزيق الثياب ولطم الخدود ونشر الشعر والنياحة أما الصبر فقد حث الله سبحانه وتعالى المؤمنين في كتابه الكريم على الصبر وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقد وردت نصوص كثيرة في كتاب الله سبحانه وتعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم في الصبر منها: قوله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) سورة آل عمران الآية 200. وقال تعالى: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ) سورة البقرة 45. وقال تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) سورة البقرة الآية 155-157. وقال تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ) سورة محمد الآية 31. وقال تعالى: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) سورة الزمر الآية 10. وقال تعالى: (وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) سورة النحل الآية 126. وقال تعالى: (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) سورة الشورى الآية 43. وصح في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والصبر ضياء) رواه مسلم. وعن صهيب الرومي رضي الله عنه قال: (عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له) رواه مسلم. وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله به -إنا لله وإنا إليه راجعون - اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرا منها إلا أخلف الله له خيرا منها) رواه مسلم وعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: (أرسلت بنت النبي صلى الله عليه وسلم: إن ابني قد احتضر فاشهدنا أرسل يقرئ السلام ويقول: إن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى فلتصبر ولتحتسب. فأرسلت إليه تقسم عليه ليأتينها. فقام ومعه سعد بن عبادة ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وزيد بن ثابت ورجال رضي الله عنهم فرفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبي فأقعده في حجره ونفسه تقعقع ففاضت عيناه فقال سعد: يا رسول الله ما هذا؟ فقال: هذه رحمة جعلها الله تعالى في قلوب عباده) وفي رواية: (في قلوب من شاء من عباده وإنما يرحم الله من عباده الرحماء) متفق عليه. وعن أنس رضي الله عنه قال: (مرّ النبي صلى الله عليه وسلم بامرأة تبكي عند قبر فقال: اتقي الله واصبري. فقالت: إليك عني فإنك لم تصب بمصيبتي! ولم تعرفه فقيل لها: إنه النبي صلى الله عليه وسلم فأتت باب النبي صلى الله عليه وسلم فلم تجد عنده بوابين فقالت: لم أعرفك. فقال: إنما الصبر عند الصدمة الأولى) متفق عليه. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: (يقول الله تعالى: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة) رواه البخاري. فالصبر على البلاء بشتى أنواعه وأشكاله مطلوب من المسلم فإنه وإن كان شديداً على النفس وصعباً عليها فعلى المسلم أن يصبر نفسه فالصبر على البلاء بضاعة الصديقين ويدل على قوة اليقين بالله تعالى فلذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: (وأسألك من اليقين ما تهون عليَّ به مصائب الدنيا) رواه الترمذي وقال حديث حسن، ورواه النسائي والحاكم وصححه. ومما يؤسف له أن كثيراً من الناس وخاصة من النساء إذا أصابتهم مصيبة كموت ولد أو أخ أو زوج أو قريب أنهم يفقدون السيطرة على أعصابهم فيقعون في أمور محرمة نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم أن من أمور الجاهلية الباقية في الأمة النياحة على الأموات فقد جاء في الحديث عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر في الأحساب والطعن في الأنساب والاستسقاء بالنجوم والنياحة وقال: النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب) رواه مسلم. وعن أبي هريرة أنه عليه الصلاة والسلام قال: (اثنتان في الناس هما بهم كفر الطعن في النسب والنياحة على الميت) رواه مسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (لما مات إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم صاح أسامة بن زيد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس هذا مني وليس بصائح حق، القلب يحزن والعين تدمع ولا نغضب الرب) رواه ابن حبان والحاكم وسنده حسن كما قال الشيخ الألباني في أحكام الجنائز ص 27. وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية) متفق عليه. وجاء في حديث إحدى النساء اللواتي بايعن رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: (كان فيما أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المعروف الذي أخذ علينا أن لا نعصيه فيه وأن لا نخمش وجهاً ولا ندعو ويلاً ولا نشق جيباً وأن لا ننشر شعراً) رواه أبو داود والبيهقي بسند صحيح، قاله الشيخ الألباني في أحكام الجنائز ص 30(18/99)
100 - الكرب والمصيبة
يقول السائل: هل يثاب الإنسان على المصائب التي تصيبه كالمرض والعمى وموت قريب؟
الجواب: الذي عليه جمهور العلماء أن الإنسان المؤمن يثاب على المصائب التي تنزل به وتكفر خطاياه وترفع درجته ويزاد في حسناته وقد وردت أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك منها: عن عائشة رضي الله قالت سمعت رسول اللهصلى الله عليه وسلم يقول: (ما من شيء يصيب المؤمن حتى الشوكة تصيبه إلا كتب الله له حسنة أو حطت عنه بها خطيئة) رواه مسلم. وعن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا سقم ولا حزن حتى الهم يهمه إلا كفر به من سيئاته) رواه البخاري ومسلم واللفظ له، والوصب هو المرض والنصب هو التعب. وفي رواية البخاري: (ما يصب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه) . وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوعك فمسسته بيدي فقلت يا رسول الله: إنك لتوعك وعكاً شديداً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أجل إني أوعك كما يوعك رجلان منكم. قال فقلت: ذلك أن لك أجرين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أجل. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه إلا حط الله به سيئاته كما تحط الشجرة ورقها) رواه البخاري ومسلم واللفظ له، وغير ذلك من الأحاديث. قال الإمام النووي: [في هذه الأحاديث بشارة عظيمة للمسلمين فإنه قلما ينفك الواحد منهم ساعة من شيء من هذه الأمور وفيه تكفير الخطايا بالأمراض والأسقام ومصائب الدنيا وهمومها وإن قلت مشقاتها وفيه رفع الدرجات بهذه الأمور وزيادة الحسنات وهذا هو الصحيح الذي عليه الجماهير] شرح النووي على صحيح مسلم 6/99-100. وينبغي أن يعلم أن الذنوب التي تكفرها المصائب والأمراض والهم والغم هي صغائر الذنوب لا كبائرها كما قال جمهور العلماء. قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [وفي هذه الأحاديث بشارة عظيمة لكل مؤمن لأن الآدمي لا ينفك غالباً من ألم بسب مرض أو هم أو نحو ذلك مما ذكر وأن الأمراض والأوجاع والآلام بدنية كانت أو قلبية تكفر ذنوب من تقع له. وسيأتي في الباب الذي بعده من حديث ابن مسعود: (ما من مسلم يصيبه أذى إلا حاتَّ الله عنه خطاياه) وظاهرة تعميم جميع الذنوب لكن الجمهور خصوا ذلك بالصغائر للحديث الي تقدم التنبيه عليه في أوائل الصلاة (الصلوات الخمس والجمعة للجمعة ورمضان إلى رمضان كفارات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر) فحملوا المطلقات الواردة في التكفير على هذا المقيد ويحتمل أن يكون معنى هذه الأحاديث التي ظاهرها التعميم أن المذكورات صالحة لتكفير الذنوب فيكفر الله بها ما شاء من الذنوب ويكون كثرة التكفير وقلته باعتبار شدة المرض وخفته. ثم المراد بتكفير الذنب ستره أو محو أثره المرتب عليه من استحقاق العقوبة] فتح الباري 12/212. وقد اشترط بعض أهل العلم لحصول الثواب والتكفير عن الخطايا والذنوب بأن يصبر المصاب بها ويحتسب أما إذا لم يصبر ولم يحتسب فلا أجر له. قال الإمام أبو العباس القرطبي المحدث: [ومقصود هذه الأحاديث أن الأمراض والأحزان وإن دقت والمصائب وإن قلت أجر المؤمن على جميعها وكفرت عنه بذلك خطاياه حتى يمشي على الأرض وليست له خطيئة كما جاء في الحديث الآخر لكن هذا كله إذا صبر المصاب واحتسب وقال ما أمر الله به في قوله: (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) سورة البقرة 156. فمن كان كذلك وصل إلى ما وعد الله به ورسوله من ذلك] المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم 6/546. ولكن الحافظ ابن حجر لم يوافق القرطبي على ذلك ويرى أن مجرد حصول المرض أو غيره مما ذكر يترتب عليه التكفير المذكور سواء انضم إلى ذلك صبر المصاب أم لا. فتح الباري 12/212. ويرى بعض أهل العلم أن الذنوب والمصائب تكون كفارة للذنوب فقط ولا يثاب الإنسان عليها. والذي تؤيده الأدلة أن الذنوب والمصائب تكفر الذنوب ويثاب المؤمن عليها فقد ورد في إحدى روايات حديث عائشة المتقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلا كتبت له درجة ومحيت عنه بها خطيئة) رواه مسلم. وجاء في حديث آخر قوله صلى الله عليه وسلم: (ما ضرب على مؤمن عرق قط إلا حط الله به عنه خطيئة وكتب له حسنة ورفع له درجة) رواه الطبراني في الأوسط وسنده جيد كما قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري 12/208. وورد في الحديث عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عجب للمؤمن إذا أصابه خير حمد الله وشكر وإن أصابته مصيبة حمد الله وصبر فالمؤمن يؤجر في كل أمره حتى يؤجر في اللقمة يرفعها إلى في امرأته) رواه أحمد، وسنده قوي كما قال محقق شرح السنة 5/448. وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [وممن جاء عنه أن المريض يكتب له الأجر بمرضه أبو هريرة فعند البخاري في الأدب المفرد بسند صحيح عنه أنه قال: (ما من مرض يصيبني أحب إليَّ من الحمى لأنها تدخل في كل عضو مني وإن الله يعطي كل عضو قسطه من الأجر) ومثل هذا لا يقوله أبو هريرة برأيه] فتح الباري 12/213. وقال الحافظ أيضاً: [والتحقيق أن المصيبة كفارة لذنب يوازيها وبالرضا يؤجر على ذلك فإن لم يكن للمصاب ذنب عوض عن ذلك من الثواب بما يوازيه] المصدر السابق.(18/100)
101 - أول خلق الله
يقول السائل: إنه قرأ في إحدى النشرات التي وزعت في بعض المساجد أن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هو أول مخلوقات الله، فما قولكم في ذلك؟
الجواب: إن الزعم بأن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أول خلق الله كما يقول بعض الدجالين ما هو إلا كذب وافتراء على دين الله والإسلام منه بريء. وهذا من الغلو في رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن الغلو فقد جاء في الحديث عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إياكم والغلو في الدين إنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين) رواه أحمد والنسائي وابن ماجة وهو حديث صحيح كما قال الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة 1283. وعن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبده فقولوا عبد الله ورسوله) رواه البخاري. والزعم بأن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أول مخلوقات الله من ترهات الصوفية وضلالاتهم فمن المعروف عند أهل العلم أن المتصوفة قد انحرفوا انحرافاً خطيراً تجاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وتجاوزا به المنزلة التي أنزله الله سبحانه وتعالى فادعوا أنه أول مخلوق وأنه مخلوق من نور وأن جميع ما في هذا الكون تفرع عنه بعد ذلك وأن جميع علوم الرسل الذين أرسلوا من قبله فاضت عليهم من علمه بل ادعوا بأن علم اللوح والقلم من علمه صلى الله عليه وسلم وأن الدنيا وما فيها والآخرة وما فيها من جوده صلى الله عليه وسلم إلى غير ذلك من الأباطيل التي قالها هؤلاء كشيخهم الأكبر ابن عربي فقد قال: [قال تعالى: (مثل نوره كمشكاة فيها مصباح) فشبه نوره بالمصباح فلم يكن أقرب إليه تعالى قبولاً في ذلك الهباء إلا حقيقة محمد صلى الله عليه وسلم المسماة بالعقل فكان سيد العالم بأسره وأول ظاهر في الوجود فكان وجوده من ذلك النور الإلهي …) الفتوحات المكية 2/227. وقد اعتمد هؤلاء الدجاجلة على بعض الأحاديث المكذوبة لتأييد مزاعمهم الباطلة هذه فمنها ما نسبوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كنت نبياً وآدم بين الماء والطين) فهذا الحديث مكذوب موضوع ومثله ما نسبوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كنت نبياً ولا آدم ولا ماء ولا طين) فهذا الحديث أيضاً مكذوب موضوع كما قال العلامة الشيخ الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة 1/316. وذكره السيوطي في ذيل الأحاديث الموضوعة وقال الزركشي لا أصل له بهذا اللفظ. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: [لا أصل له من نقل ولا من عقل فإن أحداً من المحدثين لم يذكره ومعناه باطل فإن آدم عليه السلام لم يكن بين الماء والطين فإن الطين ماء وتراب وإنما كان بين الروح والجسد ثم هؤلاء الضلال يتوهمون أن النبي صلى الله عليه وسلم كان حينئذ موجوداً وأن ذاته خلقت قبل الذوات ويستشهدون على ذلك بأحاديث مفتراة مثل حديث فيه أنه كان نوراً حول العرش فقال: يا جبريل أنا كنت ذلك النور ويدعي أحدهم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحفظ القرآن قبل أن يأتيه به جبريل] السلسلة الضعيفة 1/316. واحتجوا أيضاً بالحديث المكذوب: [كنت أول النبيين في الخلق وآخرهم في البعث] وهذا الحديث موضوع ذكره ملا علي القاري في الموضوعات الكبرى وذكره الشوكاني في الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة ص 326، وذكر أن الصغاني قال أنه موضوع واحتجوا بما ورد في الحديث المكذوب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا جابر إن الله تعالى قد خلق قبل الأشياء نور نبيك … الخ) فحديث جابر هذا المنسوب إلى عبد الرزاق موضوع لا أصل له وقد عزاه غير واحد إلى عبد الرزاق خطأ فهو غير موجود في مصنفه ولا جامعه ولا تفسيره. ومن الذين نسبوه إلى عبد الرزاق ابن العربي الحاتمي في " تلقيح الأذهان " والديار بكري في كتاب " الخميس في تاريخ أنفس نفيس " والعجلوني في " كشف الخفاء " وفي " الأوائل العجلونية " وقال السيوطي في الحاوي في الفتاوى: أما حديث أولية النور المحمدي فلا يثبت. وقد حكم الشيخ عبد الله بن الصديق في رسالة " مرشد الحائر لبيان وضع حديث جابر " على هذا الحديث بالوضع وقد سبقه إلى ذلك أخوه أحمد بن الصديق فليتنبه إلى ذلك] شرح الزرقاني على المواهب 1/89. وذكر الشيخ الألباني أنه باطل. السلسلة الصحيحة 459 وبين بطلانه الشيخ أحمد الشنقيطي في رسالته بعنوان تنبه الحذاق على بطلان ما شاع بين الأنام من حديث النور المنسوب لمصنف عبد الرزاق. فهذه الأحاديث التي احتج بها هؤلاء مكذوبة لا تصلح لأن يثبت بها أمر من أمور العقيدة فالرسول محمد صلى الله عليه وسلم ليس أول مخلوق ولا هو مخلوق من نور كما يزعم المتصوفة بل الرسول صلى الله عليه وسلم مخلوق بشري خلق مما يخلق منه البشر ومرَّ بنفس الأدوار التي يمر بها البشر في بطن أمه ثم وضعته أمه كما تضع الأمهات ثم توفي عنه أبوه وتربى يتيماً مع أعمامه ومع هذا أقول: كوننا نقول إنه بشر مثلنا لا يحط هذا من مكانة الرسول صلى الله عليه وسلم بل الكل يقر بأن الرسول صلى الله عليه وسلم أفضل الخليقة على الإطلاق من إنس وجن وملائكة وله خصائص كثيرة خصه الله بها دون غيره من الرسل عليهم الصلاة والسلام. وبما أن الرسول محمداً صلى الله عليه وسلم من ذرية آدم عليه السلام كغيره من البشر وآدم أصله من تراب فإن أصل الرسول محمد أيضاً من تراب ومما يدل على أن أصل البشر من تراب الآيات التالية: قول الله تعالى: (وإذ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ) سورة ص الآيات 71-74. وقوله تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًاءَاخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) سورة المؤمنون الآيات 12-14. وعلى هذا نقول إن أول مخلوق بشري هو آدم عليه السلام وبما أن الرسول صلى الله عليه وسلم من ذرية آدم عليه السلام فهو بشر إذن وقد خلق مما يخلق منه البشر وهو الماء كما في قوله تعالى: (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا) سورة الإنسان الآية 2. والرسول صلى الله عليه وسلم بشر فهو مخلوق إذاً من نطفة كغيره من البشر وقد أمره الله أن يقول إنه بشر بقوله تعالى: (قل إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) سورة الكهف الآية 110. ومعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم ولد من أبوين قرشيين معروفين في القرن السادس الميلادي ولذا أقول إن اعتقاد المتصوفة أن الرسول صلى الله عليه وسلم أول مخلوق وأنه مخلوق من نور اعتقاد باطل يصطدم مع النصوص القرآنية والحديثية القاطعة التي تثبت بشرية الرسول محمد صلى الله عليه وسلم] مظاهر الانحرافات العقدية عند الصوفية 1/374-375. إن الغلو في شخصية المصطفى صلى الله عليه وسلم مخالف للعقيدة الصحيحة التي عليها أهل السنة والجماعة ومخالف لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإن الاعتقاد الصحيح في شخصية المصطفى صلى الله عليه وسلم هو كما جاء في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. قال الله تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) سورة فصلت الآية 6. وقال تعالى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ) سورة آل عمران الآية 144. وقال تعالى: (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى) سورة الضحى الآيتان 5-6. وقال تعالى: (مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا) سورة الشورى الآية 52. وقال تعالى: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا) سورة النساء الآية 113. وقال تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ) سورة الإسراء الآية 1. فسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم هو عبد الله ورسوله وهو بشر يجري عليه ما يجري على البشر في الأمور العادية وأوحى الله إليه وختم به النبوات والرسالات عليه أفضل الصلوات وأتم التسليمات ونحن حينما نعتقد في شخصية محمد صلى الله عليه وسلم ما أخبر به القرآن الكريم وما جاء عنه عليه الصلاة والسلام إنما نضع الأمور في موضعها الصحيح كما أراد الله سبحانه وتعالى وهذا هو الحق إن شاء الله وماذا بعد الحق إلا الضلال ولقد جاء في الحديث عن أنس أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا سيدنا وابن سيدنا ويا خيرنا وابن خيرنا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا أيها الناس قولوا بقولكم ولا يستهوينكم الشيطان أنا محمد بن عبد الله ورسول الله والله ما أحب أن ترفعوني فوق ما رفعني الله عز وجل) رواه أحمد وسنده صحيح ورجاله ثقات كما قال الشيخ الساعاتي في الفتح الرباني 22/21 وقال الشيخ الألباني: صحيح على شرط مسلم. غاية المرام ص 99.(18/101)
102 - احاديث ضعيفة
يقول السائل: علقت في المسجد نشرة بعنوان علامات اقتراب الساعة ذكر فيها حديث طويل أخرجه أبو نعيم في الحلية أرجو بيان الحكم عليه ونص الحديث هو: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من اقتراب الساعة اثنتان وسبعون خصلة: إذا رأيتم الناس أماتوا الصلاة وأضاعوا الأمانة وأكلوا الربا واستحلوا الكذب واستخفوا بالدماء واشتغلوا بالبناء وباعوا الدين بالدنيا وتقطعت الأرحام ويكون الحكم ضعفاً والكذب صدقاً والحرير لباساً وظهر الجور وكثر الطلاق وموت الفجأة وائتمن الخائن وخوَّن الأمين وصدق الكاذب وكذب الصادق وكثر القذف وكان المطر قيظاً والولد غيظاً وفاض اللئام فيضاً وغاض الكرام غيضاً وكان الأمراء فجرة والوزراء كذبة والأمناء خونة والعرفاء ظلمة والقراء فسقه إذا لبسوا مسوك الضأن قلوبهم أنتن من الجيفة وأمرّ من الصبر يغشيهم الله فتنه يتهاوكون فيها تهاوك اليهود الظلمة وتظهر الصفراء وتطلب البيضاء وتكثر الخطباء ويقل الأمر بالمعروف وخليت المصاحف وصورت المساجد وطولت المنابر وخربت القلوب وشربت الخمور وعطلت الحدود وولدت الأمة ربتها وترى الحفاة العراء قد صاروا ملوكاً وشاركت المرأة زوجها في التجارة وتشبه الرجال بالنساء والنساء بالرجال وحلف لغير الله وشهد المرء من غير أن يستشهد وسلم للمعرفة وتفقه لغير دين الله وطلبت الدنيا بعمل الآخرة واتخذ المغنم دولاً والأمانة مغنماً والزكاة مغرماً وكان زعيم القوم أرذلهم وعق الرجل أباه وجفا أمه وبر صديقه وأطاع امرأته وعلت أصوات الفسقة في المساجد واتخذ القينات والمعازف وشربت الخمور في الطرق واتخذ الظلم فخراً وبيع الحكم وكثرت الشرط واتخذ القرآن مزاميراً وجلود السباع صفاقاً ولعن آخر هذه الأمة أولها فليرتقبوا عند ذلك ريحاً حمراء وخسفاً ومسخاً وقذفاً وآيات) .
الجواب: هذا الحديث ضعيف كما قال الشيخ الألباني في السلسلة الضعيفة 3/ 314 وهذا نص كلامه: [ضعيف أخرجه أبو نعيم في الحلية من طريق سويد بن سعيد فرج بن فضالة عن عبد الله بن عبيد بن عمير الليثي عن حذيفة بن اليمان مرفوعاً، قال أبو نعيم: غريب من حديث عبد الله بن عبيد بن عمير لم يوره عنه فيما أعلم إلا فرج بن فضالة. قلت - الألباني - وهو ضعيف كما قال الحافظ العراقي وفيه علة أخرى وهي الانقطاع فقد قال أبو نعيم في ترجمة عبد الله بن عبيد هذا: أرسل عن أبي الدرداء وحذيفة وغيرهم.(18/102)
103 - مسائل طبية
حكم تشريح الجثث, يقول السائل: إنه طالب في كلية الطب وأنه يدرس علم التشريح وتتم دراستهم العملية على جثث آدمية فما هي الضوابط الشرعية لعملية تشريح الجثث؟
الجواب: ينبغي أن يعلم أولاً أن مسألة تشريح جثث الموتى من المسائل العصرية التي لم يبحثها الفقهاء المتقدمون بحثاً مفصلاً وإن وجدت بعض الإشارات لمثل ذلك في كلامهم كما نص جمهور الفقهاء على جواز شق بطن الحامل إذا ماتت وكان جنينها حياً فأجازوا شق بطنها لإخراج الجنين. المجموع 5/301. وقد بحث الفقهاء المعاصرون مسألة التشريح بحثاً موسعاً فكانوا بين مبيح ومانع والذي ترجح لدي بعد دراسة ما وقفت عليه من أبحاث في المسألة القول بإباحة التشريح بضوابط سأبينها لاحقاً. ولكن أذكر أولاً الغاية من التشريح المباح وهي: 1. التحقيق في دعوى جنائية لمعرفة أسباب الوفاة المرتكبة وذلك عندما يشكل على القضاء معرفة أسباب الوفاة ويكون التشريح هو السبيل الوحيد لمعرفة هذه الأسباب. 2. التحقق من الأمراض الوبائية التي تستدعي التشريح لاتخاذ الاحتياطات الكفيلة بالوقاية منها. 3. تعليم الطب. ومما يدل على جواز التشريح لهذه الدواعي ما يلي: أولاً: القياس على جواز شق بطن الحامل لاستخراج جنينها الذي ترجى حياته حيث أجاز ذلك فقهاء الحنفية والشافعية وبعض المالكية والحنابلة. المجموع 5/301، الإنصاف 2/556، أبحاث هيئة كبار العلماء 2/27-33. ويجوز التشريح قياساً على جواز تقطيع الجنين لإنقاذ أمه إذا غلب على الظن هلاكها بسببه. ومن العلماء من قاسه أيضاً على جواز شق بطن الميت إذا كان قد ابتلع مالاً ثميناً مغصوباً قبل وفاته. وهذه الأوجه الثلاثة من القياس اشتمل الأصل فيها على التصرف في جثة الميت بالشق، والقطع، طلباً لمصلحة الحي المتمثلة في إنقاذه من الموت كما في الوجه الأول، والثاني، وهي مصلحة ضرورية، كما اشتمل الوجه الثالث منها على مصلحة حاجية وهي رد المال المغصوب إلى صاحبه. وكلتا هاتين المصلحتين موجودتان في حال تعلم الجراحة الطبية، إذ يقصد منها تارة إنقاذ حياة المريض وهي المصلحة الضرورية، كما يقصد منها تارة أخرى إنقاذ المريض من آلام الأمراض والأسقام المضنية وهي المصلحة الحاجية، وأما إهانة الميت بتشريح جثته فقد رخص فيها أصحاب هذا القول بناء على القياس أيضاً، حيث استندوا على ما قرره بعض الفقهاء المتقدمين - رحمهم الله - من جواز نبش قبر الميت، وأخذ كفنه المسروق أو المغصوب، فقاسوا إهانته بالتشريح على إهانته بنبش كفنه، وكشف عورته بجامع تحصيل مصلحة الحي المحتاج إليها] أحكام الجراحة الطبية ص 172. ثانياً: ومما يدل على جواز التشريح للأغراض السابقة أن قواعد الشريعة الإسلامية تجيزه فإن من قواعد الشريعة الكلية ومقاصدها العامة أنه إذا تعارضت مصلحتان قدم أقواهما وإذا تعارضت مفسدتان ارتكب أخفهما تفادياً لأشدهما ومسألة التشريح داخلة في هذه القاعدة على كل حال فإن مصلحة حرمة الميت مسلماً كان أو ذمياً تعارضت مع مصلحة أولياء الميت والأمة والمتهم عند الاشتباه فقد ينتهي الأمر بالتشريح والتحقيق مع المتهم إلى إثبات الجناية عليه وفي ذلك حفظ لحق أولياء الميت وإعانة لولي الأمر على ضبط الأمن وردع لمن تسول له نفسه ارتكاب مثل هذه الجريمة خفية وقد ينتهي الأمر بثبوت موته موتاً عادياً وفي ذلك براءة المتهم كما أن في التشريح المرضي معرفة ما إذا كان هناك وباء ومعرفة نوعه فيتقى شره بوسائل الوقاية المناسبة وفي هذا المحافظة على نفوس الأحياء والحد من أسباب الأمراض وقد حثت الشريعة على الوقاية من الأمراض وعلى التداوي مما أصابها وفي هذا مصلحة للأمة ومحافظة على سلامتها وإنقاذها مما يخشى أن يصيبها جرياً على ما اقتضت به سنة الله شرعاً وقدراً. وفي تعريف الطلاب تركيب الجسم وأعضائه الظاهرة والأجهزة الباطنة ومواضعها وحجمها صحيحة ومريضة وتدريبهم على ذلك عملياً وتعريفهم بإصابتها وطرق علاجها في هذا وغيره مما تقدم بيانه … وما ذكره الأطباء مصالح كثيرة تعود على الأمة بالخير العميم فإذا تعارضت مصلحة المحافظة على حرمة الميت مع هذه المصالح نظر العلماء أي المصلحتين أرجح فبني عليها الحكم منعاً أو إباحة وقد يقال ان مصلحة الأمة في مسألتنا أرجح لكونها كليةً عامة ولكونها قطعية كما دل على ذلك الواقع والتجربة وهي عائدة إلى حفظ نفوس الناس وحفظها من الضروريات التي جاءت بمراعاتها وصيانتها جميع شرائع الأنبياء وقد وجدت نظائر لمسألة التشريح بحثها فقهاء الإسلام ... فلا يبعد أن يقال يجوز التشريح إلحاقاً له بهذه النظائر في الحكم] أبحاث هيئة كبار العلماء 2/63-64. وكذلك فإن قاعدة ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب تدل على جواز التشريح للأغراض السابقة فإن تعلم الجراحة الطبية فرض كفاية أي أنها واجبة على الأمة فيجب على الأمة سد حاجة الناس من هذه العلوم النافعة، ولا بد لمن أراد مزاولة الطب وعلاج الناس وإجراء الجراحات العملية أن يعرف الأعضاء وأماكنها علمياً وعملياً وواقعياً، ولا تتأتى هذه المعرفة إلا بالتشريح فإذا كان الطب تعلماً وتعليماً ومباشرة فرض كفاية، كان ما لا يتم هذا الفرض إلا به واجباً ولا يتم التعلم للطب إلا بذلك التشريح فيعتبر مشروعاً بل واجباً من هذا الوجه. حكم تشريح الإنسان ص41. هذه هي أهم الأدلة التي تدل على جواز التشريح وقد صدرت عدة فتاوى من هيئات علمية شرعية معتبرة تجيز ذلك فمنها ما صدر عن هيئة كبار العلماء في السعودية بجواز ذلك وقد جاء في قرار الهيئة ما يلي: [وظهر أن الموضوع ينقسم إلى ثلاثة أقسام: الأول: التشريح لغرض التحقق عن دعوى جنائية. الثاني: التشريح لغرض التحقق عن أمراض وبائية لتتخذ على ضوئه الاحتياطات الكفيلة بالوقاية منها. الثالث: التشريح للغرض العلمي تعلماً وتعليماً. وبعد تداول الرأي والمناقشة ودراسة البحث المقدم من اللجنة المشار إليه أعلاه قرر المجلس ما يلي: بالنسبة للقسمين الأول والثاني فإن المجلس يرى أن في إجازتهما تحقيقاً لمصالح كثيرة في مجالات الأمن والعدل ووقاية المجتمع من الأمراض الوبائية ومفسدة انتهاك كرامة الجثة المشرحة مغمورة في جنب المصالح الكثيرة والعامة المتحققة بذلك، وإن المجلس لهذا يقرر بالإجماع إجازة التشريح لهذين الغرضين سواء كانت الجثة المشرحة جثة معصوم أم لا. وأما بالنسبة للقسم الثالث وهو التشريح للغرض التعليمي فنظراً إلى أن الشريعة الإسلامية قد جاءت بتحصيل المصالح وتكثيرها، وبدرء المفاسد وتقليلها، وبارتكاب أدنى الضررين لتفويت أشدهما، وأنه إذا تعارضت المصالح أخذ بأرجحها، وحيث إن تشريح غير الإنسان من الحيوانات لا يغني عن تشريح الإنسان وحيث إن في التشريح مصالح كثيرة ظهرت في التقدم العلمي في مجالات الطب المختلفة: فإن المجلس يرى جواز تشريح جثة الآدمي في الجملة إلا أنه نظراً إلى عناية الشريعة الإسلامية بكرامة المسلم ميتاً كعنايتها بكرامته حياً وذلك لما روى أحمد وأبو داود وابن ماجة عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كسر عظم الميت ككسره حياً) ونظراً إلى أن التشريح فيه امتهان لكرامته، وحيث أن الضرورة إلى ذلك منتفية بتيسر الحصول على جثث أموات غير معصومة: فإن المجلس يرى الاكتفاء بتشريح مثل هذه الجثث وعدم التعرض لجثث أموات معصومين والحال ما ذكر] أبحاث هيئة كبار العلماء 2/68-69. ومنها قرار مجمع الفقه الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي ونصه: [بناء على الضرورات التي دعت إلى تشريح جثث الموتى والتي يصير بها التشريح مصلحة تربو على مفسدة انتهاك كرامة الإنسان الميت. قرر مجلس المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي ما يأتي: أولاً: يجوز تشريح جثث الموتى لأحد الأغراض التالية: أ. التحقيق في دعوى جنائية لمعرفة أسباب الموت أو الجريمة المرتكبة وذلك عندما يشكل على القاضي معرفة أسباب الوفاة ويتبين أن التشريح هو السبيل لمعرفة هذه الأسباب. ب. التحقق من الأمراض التي تستدعي التشريح ليتخذ على ضوئه الاحتياطات الواقية والعلاجات المناسبة لتلك الأمراض. جـ. تعليم الطب وتعلمه كما هو الحال في كليات الطب] قرارات المجمع الفقهي الإسلامي ص 17. وصدرت فتاوى أخرى بجواز التشريح كفتوى دار الإفتاء المصرية ولجنة الفتوى الأردنية ولجنة الفتوى الكويتية وغيرها. وينبغي أن يعلم أنه لا بد من مراعاة الضوابط التالية عند تشريح جثة الآدمي 1. التيقن من موت الشخص قبل إجراء التشريح عليه لأن تشريح الإنسان قبل موته فيه إيذاء وهو محرم شرعاً. 2. موافقة الشخص قبل موته على تشريح جثته إذا مات أو موافقة ذويه بعد موته ولا تشترط موافقة الميت ولا ذويه في الحالات الجنائية لما في التشريح في مثل هذه الحالات من مصلحة راجحة ولأن ممانعة الأهل قد تفوت حقاً من الحقوق العامة أو الخاصة. ويجوز تشريح جثث المتوفين المجهولين الذين ليس لهم أهل تؤخذ موافقتهم كما جاء مثلاً في الفتوى التي صدرت عن دار الإفتاء المصرية " يجوز شرعاً الحصول على جثث بعض المتوفين ممن لا أهل لهم للإفادة العلمية من تشريحهم مراعاة للمصلحة العامة على أن يقتصر في ذلك على ما تقضي به الضرورة القصوى"] الموسوعة الطبية الفقهية ص 201. 3. أن تراعى آداب تكريم الميت فلا يساء التصرف في جسده بما لا يخدم البحث العلمي والغرض التعليمي ولا تبقى الجثة مقطعة الأجزاء على منصات التشريح تتقاذفها أيدي الطلبة دون رادع أو زاجر بل لا بد من احترام إنسانية الميت والاقتصار فقط على موضع الحاجة والضرورة. ولا يجوز العبث بالجثة ويحسن أن يكون درس التشريح درساً جاداً يوجهه مدرس التشريح لبيان قدرة الله في الخلق وحكمته من خلق الإنسان في أحسن تقويم. 4. تجميع أجزاء الجثة بعد الفراغ من تشريحها ودفنها وفقاً للأحكام الشرعية المتعلقة بوجوب دفن الميت. 5. إذا كانت الجثة جثة امرأة فيجب أن يقتصر نظر الطالب ومسه على مواضع الضرورة والحاجة فقط ولا يمسها بدون ضرورة. 6. أن تكون الجثة لغير معصوم الدم فإذا وجد غير المعصوم فلا يجوز تشريح جثة المسلم إلا عند الضرورة كما جاء في قرار المجمع الفقهي ص 17. فهذه جملة من الضوابط لا بد من الالتزام بها من قبل الأطباء وطلبة الطب حتى لا يتجاوزوا الحد المشروع ويقتصر فيه على موضع الحاجة فمهنة الطب خلق في المقام الأول لأنه يتعامل مع خلق كريم. قال تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِيءَادَمَ) . يقول الشيخ إبراهيم اليعقوبي: (وكلامنا مع الأطباء والأساتذة والطلاب فالكل مسؤول أمام الله تعالى عن مثل هذه التصرفات ونخص بالذكر الأطباء المشرحين والطلاب الذي يتعلمون منهم ونأمرهم بتقوى الله عز وجل وباحترام الإنسان الآدمي الذي كرمه الله تعالى، وفضله على كل من سواه. ونأمرهم بأن لا يتخذوه هدفاً للعبث أو آلة للعب، بل يضعون نصب أعينهم مخافة الله عز وجل، وحرمة الآدمي، ويقصدون بهذا العمل تقديم النفع والعلم الصحيح لطلابهم ويقصد الطلاب من ذلك أيضاً وجه الله تعالى بهذا التعلم وخدمة الإنسانية واضعين نصب أعينهم خوف الله تعالى وحرمة الإنسان وكرامته] حكم تشريح الإنسان بين الشريعة والقانون ص 59-60.(18/103)
104 - معالجة مياه المجاري
يقول السائل: هل يجوز استعمال مياه المجاري التي تمت تنقيتها في الوضوء والغسل والشرب ونحو ذلك من الاستعمالات؟
الجواب: ينبغي أن يعلم أولاً أن الماء الطاهر الذي يصح استعماله في جميع الاستعمالات هو الماء المطلق الباقي على أصل خلقته ولم يتغير أحد أوصافه الثلاثة وهي اللون والطعم والرائحة فإذا تغير أحد أوصافه الثلاثة فينظر فيما خالطه أطاهر أم نجس؟ وقد فصل الفقهاء الكلام على أحكام المياه في كتبهم والذي يهمنا هنا أن مياه المجاري نجسة بلا ريب. فإذا تمت تنقيتها في محطات تنقية مياه المجاري بالوسائل العلمية الحديثة حيث إن التنقية تتم بإزالة النجاسة من مياه المجاري على أربعة مراحل وهي الترسيب والتهوية وقتل الجراثيم والتعقيم بالكلور، وهذه الطرق كفيلة بإزالة كل أثر للنجاسة في الطعم واللون والرائحة فإذا تمت التنقية بإزالة كل أثر للنجاسة فإن الماء يعود إلى أصل طهوريته لأن الحكم بنجاسة الماء معلل بعلة تغيره فإذا زالت هذه العلة رجع الحكم إلى أصله، لأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، ويدل على ذلك ما ورد في الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الوضوء من بئر بضاعة فقال صلى الله عليه وسلم: الماء طهور لا ينجسه شيء) رواه أحمد والترمذي وأبو داود والشافعي وغيرهم وقال الترمذي: حديث حسن. وصححه جماعة من أهل الحديث منهم أحمد ويحيى بن معين وابن حزم من المتقدمين والألباني من المتأخرين. انظر التلخيص الحبير 1/12 فما بعدها، إرواء الغليل 1/45. وقد ورد في بعض روايات الحديث السابق: (الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غير طعمه أو لونه أو ريحه) . وفي رواية أخرى: (إن الماء لا ينجسه شيء إلا ما غلب على ريحه وطعمه ولونه) . وقد اتفق المحدثون على أن الاستثناء الوارد وهو قوله: (إلا ما غير طعمه أو لونه أو ريحه] لم يثبت مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولكن معناه صحيح ثابت بالإجماع. قال الحافظ ابن حجر: [قال الشافعي: ما قلت من أنه إذا تغير طعم الماء وريحه ولونه كان نجساً، يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجه لا يثبت أهل الحديث مثله وهو قول العامة لا أعلم بينهم خلافاً. قال النووي: اتفق المحدثون على تضعيفه وقال ابن المنذر: أجمع العلماء على أن الماء القليل والكثير إذا وقعت فيه نجاسة فغيرت له طعماً أو لوناً أو ريحاً فهو نجس] التلخيص الحبير 1/15. وبناءً على ما سبق فإن المياه التي تنقى في محطات التنقية إذا تمت إزاة كل أثر للنجاسة منها فيجوز استعمالها في الوضوء والغسل وفي سائر الاستعمالات الأخرى. وقد بحثت هذه المسألة سابقاً من عدة مجامع علمية معتبرة فمن ذلك ما صدر عن هيئة كبار العلماء في السعودية حيث جاء في القرار ما يلي: [بناءً على ما ذكره أهل العلم من أن الماء الكثير المتغير بنجاسةٍ يطهر إذا زال تغيره بنفسه أو بإضافة ماء طهور إليه أو زال تغيره بطول مكث أو تأثير الشمس ومرور الرياح عليه أو نحو ذلك لزوال الحكم بزوال علته. وحيث إن المياه المتنجسة يمكن التخلص من نجاستها بعدة وسائل وحيث إن تنقيتها وتخليصها مما طرأ عليها من النجاسات بواسطة الطرق الفنية الحديثة لأعمال التنقية يعتبر من أحسن وسائل الترشيح والتطهير حيث يبذل الكثير من الأسباب المادية لتخليص هذه المياه من النجاسات كما يشهد بذلك ويقرره الخبراء المختصون بذلك ممن لا يتطرق الشك إليهم في عملهم وخبرتهم وتجاربهم. لذلك فإن المجلس يرى طهارتها بعد تنقيتها التنقية الكاملة بحيث تعود إلى خلقتها الأولى لا يُرى فيها تغيرٌ بنجاسة في طعم ولا لون ولا ريح ويجوز استعمالها في إزالة الإحداث والأخباث وتحصل الطهارة بها منها كما يجوز شربها إلا إذا كانت هناك أضرار صحية تنشأ عن استعمالها فيمتنع ذلك محافظة على النفس وتفادياً للضرر لا لنجاستها. والمجلس إذ يقرر ذلك يستحسن الاستغناء عنها في استعمالها للشرب متى وجد إلى ذلك سبيل احتياطاً للصحة واتقاء للضرر وتنزهاً عما تستقذره النفوس وتنفر منه الطباع] غاية المرام شرح مغني ذوي الأفهام 1/128-129. وجاء في قرار المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي ما يلي: [إن ماء المجاري إذا نقى بالطرق المذكورة أو ما يماثلها ولم يبق للنجاسة أثر في طعمه ولا في لونه ولا في ريحه صار طهوراً يجوز رفع الحدث وإزالة النجاسة به بناء على القاعدة الفقهية التي تقرر أن الماء الكثير الذي وقعت فيه نجاسة يطهر بزوال هذه النجاسة منه إذا لم يبق لها أثر فيه، والله أعلم] قرارات المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي ص 91.(18/104)
105 - الأجر على قدر المشقة
يقول السائل: الأجر على قدر المشقة عبارة تتردد على الألسن كثيراً فما مدى صحة ذلك؟
الجواب: إن الإسلام دين اليسر والتخفيف والرحمة ومن مقاصده رفع الحرج عن المكلفين ودفع الأذى عنهم ويدل على ذلك نصوص كثيرة من الكتاب والسنة. يقول الله تعالى: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) . ويقول أيضاً: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) . ويقول تعالى: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا وأبشروا) رواه البخاري. وقال رسول صلى الله عليه وسلم أيضاً: (إن الله لم يبعثني معنتاً ولا متعنتاً ولكن بعثني معلماً ميسراً) رواه مسلم. وقال عليه الصلاة والسلام لمعاذ بن جبل ولأبي موسى الأشعري عندما بعثهما إلى اليمن: (يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا) رواه البخاري. والآيات والأحاديث كثيرة جداً في هذا الباب والخلاصة أن الإسلام قرر قاعدة رفع الحرج عن المكلفين ودفع المشقات عنهم ولكن المشقة قد تكون مشقة لا تنفك عن التكاليف الشرعية أي ملازمة لها وهذه لا بد منها إذ لا يكاد ذلك يخلو من مشقة ولو كانت قليلة، والتاكليف الشرعية لا تخلو عادةً من مثل هذه المشقات فمثلاً الصوم فيه نوع من المشقة وخاصةً إذا وقع في أشهر الصيف الحارة والوضوء فيه مشقة وخاصةً إذا كان الماء البارد أيام الشتاء، والحج فيه مشقة وهكذا بقيت التكاليف الشرعية فيها نوع من المشقة ولكن هذه المشقة محتملة وغير مقصودة في ذاتها ولكن لما يترتب عليها من المصالح تماماً كالطبيب الذي يعطي المريض الدواء المر الذي فيه شفاؤه فإن الطبيب لا يقصد إيذاء المريض بذلك الدواء المر ولكن يقصد ما يترتب عليه من الشفاء. وكذلك الشارع يقصد ما يترتب على تلك المشقة من مصالح تعود على المكلف بالنفع العظيم. وهنالك نوع من المشقة الشديدة وغير المحتملة وهذه لم تقع في التكاليف الشرعية وبالتالي لا يجوز للمكلف أن يوقعها على نفسه مثل صوم الوصال والصيام قائماً في الشمس والحج ماشياً ونحو ذلك فهذه مشقات صعبة وشديدة على النفس ولم يرد التكليف الشرعي بها بل نهى الشارع الحكيم عن التشديد على النفس. يقول صلى الله عليه وسلم (خذوا من الأعما ما تطيقون) رواه البخاري ومسلم. وقال عليه الصلاة والسلام: (هلك المتنطعون) رواه مسلم. والمتنطع: هو المشدد على نفسه في غير موطن الشدة. وهذه المشقة الشديدة إذا أوقع المكلف نفسه فيها قيعتبر عمله غير مشروع ولا أجر له على ذلك لأن الأجر يكون على قدر الشمقة إذا كانت المشقة لازمة للتكاليف الشرعية. وأما إذا كانت المشقة غير لازمة لها فلا يصح للمكلف أن يجلبها على نفسه ظاناً أن ذلك طريقة للأجر والثواب لأن هذا المسلك مخالف للسنة وفيه تعذيبٌ للنفس وعناءٌ لها وهذا غير مقصود للشارع بل إن النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن ذلك. فقد ورد في الحديث أنه بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب فإذا برجلٍ قائم في الشمس فسأل عنه فقالوا إنه أبو اسرائيل نذر أن يقوم في الشمس ولا يقعد ولا يستظل ويصوم ولا يتكلم فقال (مروه فليستظل وليقعد وليتكلم وليتم صومه) رواه البخاري. وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى شيخاً يهادي بين ابنيه فقال: (ما بال هذا؟ قالوا: نذر أن يمشي، قال: إن الله عن تعذيب نفسه لغني وأمره أن يركب) رواه البخاري ومسلم. وقد دخل الرسول صلى الله عليه وسلم المسجد فإذا حبلٌ ممدود بين ساريتين فقال: ما هذا؟ فقالوا: حبل لزينب فإذا فترت تعلقت به. فقال عليه الصلاة والاسلام: حلوه ليصل أحدكم نشاطه فإذا فتر فليقعد) رواه البخاري، وغير رذلك من الأحاديث. ففي هذه الأحاديث جلب الصحابة على أنفسهم مشقات غير مقصودة للشارع، فالشرع لا يطلب من الصائم أن يقف في الشمس طول النهار ولا يطلب من الحاج أن يمشي على قدميه إلى بيت الله الحرام ولا يطلب منه أن يشدد على نفسه ويحملها فوق طاقتها فهذه مشقات لا أجر فيها ولا ثواب عليها. فلا يجوز للمكلف أن يوقع نفسه فيها ولا يكون الأجر على قدر المشقة إلا إذا كانت المشقة لا تنفك عن التكاليف الشرعية.(18/105)
106 - المذاهب الفقهية
تعدد المذاهب الفقهية, يقول السائل: لماذا يوجد لدى المسلمين مذاهب فقهية متعددة ومختلفة مع أن القرآن الكريم واحد والسنة النبوية واحدة؟
الجواب: إن تعدد المذاهب الفقهية لدى المسلمين له أسبابه ودواعيه المعتبرة وقبل بيانها لا بد من الإشارة إلى قضيتن هامتين: الأولى: إن الإختلافات الفقهية بين علماء الإسلام كأصحاب المذاهب الأربعة (أبو حينفة ومالك والشافعي وأحمد) هي اختلافات في الفروع أي في المسائل الفقهية والقواعد والأسس التي بنيت عليها تلك الفروع. وأما أصول الإسلام وقواعد العقيدة فهي محل اتفاق بين عامة علماء الإسلام لا خلاف بينهم فيها. الثانية: إن الإختلافات في فروع الإسلام موجودة منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضي الله عنهم ومن الشواهد على ذلك: عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب (لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة فأدرك بعضهم العصر في الطريق فقال بعضهم لا نصلي حتى نأتيها وقال بعضهم: بل نصلي، لم يرد منا ذلك، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنف واحداً منهم) رواه البخاري. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: خرج رجلان في سفر فحضرت الصلاة وليس معهما ماءً فتيمما صعيداً طيباً فصليا ثم وجد الماء في الوقت، فتوضأ أحدهما وأعاد اصلاة ولم يعد الآخر، ثم أتيا الرسول صلى الله عليه وسلم فذكرا ذلك له، فقال: للذي لم يعد أصبت السنة وأجزأتك صلاتك، وقال للذي أعاد لك الأجر مرتين) رواه أبو داود والنسائي وهو حديثٌ صحيح. ونلاحظ في هذين الحديثين أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم ينكر على الصحابة اختلافهم في قضايا فرعية بل أقر كل طرف على ما وصل إليه اجتهاده. واختلاف فقهاء المسلمين في أبواب الفقه الإسلامي له أسبابه المعتبرة وكل إمام من أئمة الفقه بنى مذهبه الفقهي على قواعد وأسس وضوابط معروفة. وهؤلاء الأئمة ما كانوا يصدرون في اجتهاداتهم وآرائهم الفقهية عن هوىً أو تشهٍ أو قولٍ في دين الله بغير دليل وإنما لدى كل منهم أصولٌ بنى مذهبه عليها، وأشير بإيجاز إلى بعض الأسباب التي نتج عنها الإختلاف الفقهي منها: - أن لا يبلغ الحديث أحد الفقهاء فيقول قولاً بخلاف حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وخاصةً أننا نعلم أنه يصعب على أحد من أهل العلم الإحاطة بجميع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد خفيت بعض الأحاديث على عدد من كبار الصحابة كأبي بكر وعمر، فمن اب أولى أن تخفى على الفقهاء الذين جاؤوا بعد ذلك أحاديث نبوية فاجتهدوا بخلافها. - ومنها: أن الحديث قد يصل إلى الإمام ولكنه لا يكون ثابتاً عنده لعلة من علل الحديث المعتبرة وقد يكون هذا الحديث قد وصل إلى إمام آخر بطريق صحيح فيأخذ به الثاني دون الأول فيقع اختلاف بينهما لذلك. - ومنها: الاختلاف في فهم النصوص من كتاب الله وسنة الرسول عليه الصلاة والسلام لكون لفظ وقع في النص وهو مشترك أو مجمل أو غريب له عدة معان كما في قوله تعالى: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ) . فالقرء في لغة العرب استعمل في الطهر واستعمل في الحيض فهو لفظ مشترك فمن الفقهاء من أخذ بالأول ومنهم من أخذ بالثاني. - ومنها: إن الأدلة قد تتعارض في نظر المجتهد فيقدم دليلاً على آخر لأمور يعتقدها المجتهد من المرجحات. - وغير ذلك من الأسباب التي أدت إلى وقوع الاختلافات الفقهية التي يصعب شرحها في هذا المقام ومحل بحثها كتب أسباب الاختلافات الفقهية ولكن ينبغي أن يعلم أن الاختلافات الفقهية التي وقعت بين علماء الإسلام لم تفسد المودة والمحبة بينهم وكان كل منهم يحترم الآخر ويقدره وكل منهم يلتمس العذر للصاحبه وإن خالفه ويقدر وجهة نظره، وما أوصلهم ذلك الاختلاف إلى الخصام أو تفسيه العقول أو الحط من مكانة المخالف أو الطعن فيه، بل كان كل منهم يثني على مخالفه ويمدحه بما فيه من خصال حميدة ومن علم واسع وفق دقيق. قال الإمام الشافعي: (الناس في الفقه عيال على أبي حنيفة) . وقال الإمام الشافعي أيضاً: [مالك بن أنس معلمي وعنه أخذت العلم وإذا ذكر العلماء فمالك النجم] . وعن عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل قال: (قلت لأبي أي رجل كان الشافعي فإني أسمعك تكثر الدعاء له. فقال: كان الشافعي رحمه الله كالشمس للدنيا وكالعافية للناس فانظر هل لهذين من خلف أو عرض؟ وقال الإمام الشافعي: [خرجت من بغداد فما خلفت بالعراق رجل أفضل ولا أعلم ولا أتقى من أحمد بن حنبل] . فانظر يا أخي المسلم إلى هذا الأدب الجم والخلق الرفيع الذي كان يتحلى به علماء الإسلام واقتبس منه قبساتهم واستضئ بنورهم (اولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) .(18/106)
107 - المذاهب الفقهية
اتباع مذهب فقهي واحد, يقول السائل: هل المسلم ملزم باتباع مذهب فقهي من المذاهب العروفة اليوم كالمذاهب الأربعة؟
الجواب: إن المسلم غير ملزم باتباع مذهب فقهي كالمذهب الحنفي أو المالكي أو الشافعي أو الحنبلي لأننا نعلم أن هذه المذاهب حدثت بعد عهد الصحابة والتابعين وأتباعهم وما لا يكون ديناً في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين وتابعيهم لا يكون ديناً للناس بعد ذلك. ولأننا نعلم أن أكثر الناس من العوام، والعوام لا مذهب لهم وإنما مذهبهم هو مذهب من يفتيهم، يقول الله تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) . ويقول العلامة ابن القيم رحمه الله في كتابه القيم أعلام الموقعين ما نصه (وهل يلزم العامي أن يتمذهب ببعض المذاهب المعروفة أم لا؟ فيه مذهبان: أحدهما: لا يلزم وهو الصواب المقطوع به. إذا لا واجب إلا ما أوجبه الله ورسوله ولم يوجب الله ولا رسوله على أحد من الناس أن يتمذهب بمذهب رجل من الأمة فيقلده دينه دون غيره وقد انطوت القرون الفاضلة مبرأة مبرأٌ أهلها من هذه النسبة بل لا يصلح للعامي مذهب ولو تمذهب به فالعامي لا مذهب له لأن المذهب إنما يكون لمن له نوع نظرٍ واستدلال ويكون بصيرأً بالمذاهب على حسبه أو لمن قرأ كتاباً في فروع ذلك المذهب وعرف فتاوى إمامه وأقواله. وأما من لم يتأهل لذلك البته بل قال أنا شافعي أو حنبلي أو غير ذلك لم يصر كذلك بمجرد القول كما لو قال: أنا فقيهٌ أو نحوي أو كاتب لم يصر كذلك بمجرد قوله. يوضحه أن القائل أنه شافعي أو حنفي أو مالكي يزعم أنه متبع لذلك الإمام سالك طريقه وهذا إنما يصح له إذا سلك سبيله في العلم والمعرفة والاستدلال. فأما مع جهله وبعده جداً عن سيرة الإمام وعلمه وطريقه فكيف يصح له الانتساب إليه إلا بالدعوى المجردة والقول الفارغ من كل معنى؟ والعامي لا يتصور أن يصح له مذهب ولو تصور ذلك لم يلزمه ولا لغيره ولا يلزم أحد قط أن يتمذهب بمذهب رجل من الأمة بحيث يأخذ أقواله كلها ويدع أقوال غيره. وهذه بدعةٌ قبيحة حدثت في الأمة لم يقل بها أحد من أئمة الإسلام وهم أعلى رتبة وأجل قدراً وأعلم بالله ورسوله من أن يلزموا الناس بذلك. وأبعد منه قول من قال يلزمه أن يتمذهب بمذهب عالم من العلماء وأبعد منه قول من قال يلزمه أن يتمذهب بأحد المذاهب الأربعة. أعلام الموقعين 4/ 262. ويضاف إلى ما قاله ابن القيم أن الأئمة الأربعة وغيرهم قد حذروا الناس من اتباعهم في كل ما قالوا وفي كل ما ذهبوا إليه. ونقول هذا الذي يزعم أن على المسلم اتباع مذهب فقهيٍ أنه ملزم بأخذ أقوال ذلك المذهب وعدم الخروج عنها بأن هذا زعم باطل ترده أقوال الأئمة أصحاب المذاهب المعروفة، وإليك بعضها: 1. قال الإمام أبو حنيفة مخاطباً صاحبه أبا يوسف: [ويحك يا يعقوب لا تكمتب كل ما تسمع مني فإني أرى الرأي اليوم وأتركه غداً، وأرى الرأي غداً وأتركه بعد غد] . 2. قال الإمام مالك: [ليس أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا ويؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم] . 3. وقال الإمام الشافعي: [أجمع المسلمون على أن من استبان له سنة عن رسوله صلى الله عليه وسلم لم يحل له أن يدعها لقول أحد] . وإن مما يدل على فساد القول بإلزام المسلم بإتباع مذهب فقهي معين أن اتباع المذهب ليس أمراً هيناً ولا يتيسر لكل أحد من الناس بل يحتاج إلى فقه وعلم في أصول ذلك المذهب حتى يعرف الأسس والقواعد التي بني عليها المذهب. يقول أبو حنيفة رحمه الله (لا يحل لأحدٍ أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين أخذناه) وفي روايةٍ أخرى عنه (حرام على من لم يعرف دليلي أن يفتي بكلامي) . وبعد هذا القول الفصل من أبي حنيفة هل يستطيع عوام الناس الذين يزعمون أنهم على مذهب أبي حنيفة مثلاً أن يعرفوا لِمَ قال أبو حنيفة أن لمس المرأة لا ينقض الوضوء أو لِمَ يرى أن المأموم لا يقرأ خلف الإمام وغير ذلك من المسائل الفقهية. إن إلزام المسلمين باتباع مذهب فقهي دعوى باطلة ومن نسج الخيال ويردها ويكذبها واقع المسلمين الذين عاشوا في العصور الثلاثة التي شهد لها الرسول صلى الله عليه وسلم بالخيرية وهي دعوى منكرة لا يوجد دليل شرعي على صحتها وما هي إلا إلزام للناس بما لم يلزمهم به الإسلام.(18/107)
108 - مفهوم العبادة في الإسلام
يقول السائل: ما معنى قوله تعالى (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) ؟
الجواب: إن مفهوم هذه الآية الكريمة من سورة الذاريات يخطيء كثير من المسلمين في فهمه على حقيقته فيظن كثير من الناس أن عبادة الله مقتصرة على الصلاة والصيام والزكاة والحج وبعض الذكار ويعتقدون أنهم بعملهم ذلك أقاموا الإسلام في حياتهم وهذا فهم ناقص لحقيقة العبادة في الإسلام. فأصل العبادة في اللغة: الطاعة والخضوع والتذلل كما قال الجوهري وغيره. أما مفهوم العبادة في الشرع فمفهوم واسع شامل يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في رسالته القيمة العبودية: [العبادة هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة فالصلاة والزكاة والصيام والحج وصدق الحديث والمانة وبر الوالدين وصلة الأرحام والوفاء بالعهود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد للكفار والمنافقين والإحسان للجار واليتيم والمسكين وابن السبيل والمملوك من الآدميين والبهائم والدعاء والذكر والقراءة وأمثال ذلك من العبادة. وكذلك حب الله ورسوله وخشية الله والإنابة إليه وإخلاص الدين له والصبر لحكمه والشكر لنعمه والرضى بقضائه والتوكل عليه والرجاء لرحمته والخوف من عذابه وأمثال ذلك هي من العبادة لله] العبودية ص 38. من خلال هذا الفهم النير لمفهوم العبادة في الإسلام نعلم خطأ من يقصرون العبادة على بعض الجوانب الروحية من الإسلام فالهدف الذي خلق الإنسان من أجله هو عبادة الله وعبادة الله تشمل الدين كله وتشمل الحياة كلها، فالإنسان المسلم عليه أن يكون عبداً لله طوال حياته طوال ليله ونهاره وطوال الشهور والسنوات وليست العبادة هي تلك التي تؤدى في أوقات محددة لا تستغرق إلا وقتاً يسيراً في حياة الإنسان فالمسلم يستمر في عبادة الله حتى يفارق هذه الدنيا. يقول الله تعالى: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) . إن المفهوم الحق للعبادة الذي أشرت إليه ينسجم مع النظرة الواعية في فهم الإسلام فهماً صحيحاً قائماً على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومبنياً على فهم السلف الصالح لهذا الدين بعمومه وشموله وأنه يغطي جميع جوانب الحياة وليس قاصراً على جانب واحد منها مع إهمال الجوانب الأخرى. إن من يظن أن مجرد الصلاة والصيام والحج وبعض الذكار هـ الدين كله وهي العبادة كلها لاشك أن مخطئ خطأً شنيعاً في تصوره لحقيقة الدين وفهمه لحقيقة العبادة. لا شك أن الصلاة والصيام والحج من أعظم الشعائر ومن أركان الإسلام ولكنها تبقى جزءاً من هذا البناء العظيم ومن هذا النظام الشامل لجميع نواحي الحياة، حتى الأمور التي يظنها كثير من الناس أنها من الأمور البسيطة وقد يعتبرها بعضهم لا علاقة للدين بها كقضاء الشهوة كما في قوله صلى الله عليه وسلم لبعض الصحابة: (وفي بضع أحدكم صدقة. قالوا: أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر. قالوا: نعم. قال: كذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر) رواه مسلم. فانظر أخي المسلم إلى هذه الشهوة الغريزية كيف تكون عبادة لله تعالى إذا نوى المسلم أن يعف نفسه وأن يحصن زوجه فعمله يكون عبادة لله تعالى له الأجر والثواب وهذا الأمر قد يعتبره بعض الناس تافهاً فما بالك بالأمور الأخرى؟ وفي الحقيقة إن شرح مفهوم العبادة في الإسلام لا يسعه هذا المقام الضيق فيحتاج إلى رسائل ومؤلفات ولكن لا بد من التأكيد على أن مفهوم العبادة في الإسلام مفهوم واسع شامل لكل نواحي الحياة وأن كل عمل يصدر عن المسلم يمكن أن يكون عبادة إذا توفرت فيه بعض الشروط. أولها: أن يكون العمل خالصاً لله تعالى فإذا قصد العامل أن يغني أسرته وينفع الناس فعمله عبادة. ثانيها: أن يكون العمل ضمن حدود الشرع فلا يجوز للمسلم أن يعمل فيما حرم الله فينبغي ان يكون على حسب ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. ثالثها: أن يكون عمله غير شاغل له عن القيام بما أوجب الله عليه، فإذا تحققت هذه الشروط كان العمل عبادة لله تعالى.(18/108)
109 - الخلافة الراشدة
يقول السائل: يتحدث الناس عن الخلافة الراشدة في آخر الزمان ويدعون الله أن تأتي فهل هذا صحيح وإن كان كذلك فمن هو المهدي المنتظر؟
الجواب: إن الخلافة الراشدة ستكون إن شاء الله وقد أخبر بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الحديث من قوله صلى الله عليه وسلم: (تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون ملكاً جبرية فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ثم سكت) رواه أحمد والبزار والطبراني وصححه الحافظ العراقي والشيخ الأباني وغيرهما. وهذا الحديث يبشر بقيام خلافة على منهاج النبوة ولكنه لم يحدد زماناً بعينه لذلك وهذه الخلافة الراشدة غير التي تكون في زمن المهدي المنتظر – والله أعلم – لأن ظهور المهدي المنتظر من علامات الساعة أو قربها ويكون حكمه قبيل نزول عيسى عليه الصلاة والسلام كما ثبت ذلك في أحاديث كثيرة. وأما الخلافة الراشدة فأظن أن زمانها قد قرب لأن العالم الإسلامي يعيش فيزمن الملك الجبري في هذه الأيام كما قاله بعض أهل العلم. وينبغي أن يعلم أن الاعتقاد بظهور المهدي المنتظر هو جزء من عقيدة المسلم وقد دلت على ذلك أحاديث كثيرة وردت عن الرسول صلى الله عليه وسلم بلغت حد التواتر كما قال المحققون من أهل الحديث. قال الإمام الشوكاني: [والأحاديث الواردة في المهدي التي أمكن الوقوف عليها منها خمسون حديثاً فيها الصحيح والحسن والضعيف والمنجبر وهي متواترة بلا شك ولا شبهة بل يصدق وصف التواتر على ما هو دونها على جميع الاصطلاحات المحررة في الأصول وأما الآثار عن الصحابة المصرحة بالمهدي فهي كثيرة أيضاً لها حكم الرفع إذ لا مجال للاجتهاد في مثل ذلك ... ] . وقال السفاريني في عقيدته المسماة لوامع الأنوار البهية " الإيمان بالمهدي من جملة عقيدة أهل السنة والجماعة.. ". وقال في موضع آخر: " وقد كثرت الأقوال في المهدي إلا عيسى عليه السلام وقد كثرت بخروجه الروايات حتى بلغت حد التواتر المعنوي ... ". والأحاديث الواردة في المهدي نقلت عن أكثر من عشرين من الصحابة رضي الله عنهم وقد احتج بها أهل الحديث وقبلوها وذكر صاحب كتاب (عقد الدرر في أخبار المهدي المنتظر) أكثر من خمسين من علماء الحديث الذين رووا تلك الأحاديث واحتجوا بها فلا مجال لإنكارها. وبعد هذا أقل لا بد من التنبيه على بعض الأمور المتعلقة بالمهدي: 1. أن المهدي رجل يعود نسبه إلى آل البيت رضي الله عنهم ويحكم بشرع الله كما وردت بذلك الأحاديث، قال الإمام أبو الحسن السجستاني: " وقد تواترت الأخبار واستفاضت عن رسول الله بذكر المهدي وأنه من أهل بيته وأنه يملك سبع سنين وأنه يملأ الأرض عدلاً ". 2. إن المهدي الذي يعتقد به أهل السنة والجماعة هو غير المهدي المنتظرعند الشيعة الإمامية فالشيعة يعتقون أن المهدي هو محمد بن الحسن العسكري الذي دخل السرداب وعمره تسع سنين وذلك سنة (265 هـ) وهم ينتظرون خروجه وهذه عقيدة باطلة فاسدة وخرافة لا حقيقة لها. 3. لا يصح الاعتقاد بأنه لن تقوم للإسلام قائمة ولا دولة إلا بظهور المهدي المنتظر ولا يجوز للمسلمين ترك العمل لقيام دولة الإسلام اعتماداً على ظهور المهدي فهذا أمر باطل. قال الشيخ الألباني حفظه الله: واعلم أخي المسلم أن كثيراً من المسلمين قد انحرفوا عن الصواب في هذا الموضوع فمنهم من استقر في نفسه أن دولة الإسلام لن تقوم إلا بخروج المهدي وهذه خرافة وضلال ألقاها الشيطان في قلوب كثير من العامة وبخاصة الصوفية منهم وليس في شيء من أحاديث المهدي ما يشعر بذلك مطلقاً بل هي كلها لا تخرج عن أن النبي صلى الله عليه وسلم بشر برجل من أهل بيته ووصفه بصفات بارزة من أهمها أنه يحكم بالإسلام وينشر العدل بين الأنام فهو في الحقيقة من المجددين الذين يبعثهم الله في رأس كل مائة سنة كما صح عنه صلى الله عليه وسلم.(18/109)
110 - احاديث مكذوبة
حديث الصيحة المكذوب, يقول السائل: ما مدى صحة الحديث الذي يتناقله كثير من الناس في هذه الأيام حول حدوث صيحة في شهر رمضان وبالذات ليلة الجمعة الموافقة للنصف من رمضان هذا العام 1414 هـ؟
الجواب: إن الحديث الوارد في هذا وهو عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا كانت صيحة في رمضان فإنه تكون معمعة في شوال وتميز القبائل في ذي القعدة وتسفك الدماء في ذي الحجة والمحرم.. قال: قلنا: وما الصيحة يا سول الله؟ قال: هذه في النصف من رمضان ليلة الجمعة من سنة كثيرة الزلازل فإذا صليتم الفجر من يوم الجمعة فادخلوا بيوتكم وأغلقوا أبوابكم وسدوا كواكم ودثروا أنفسكم وسدوا آذنكم إذا أحسستم بالصيحة فخروا لله سجداً وقولوا سبحان الله القدوس، سبحان الله القدوس، ربنا القدوس فمن يفعل ذلمك نجا، ومن لم يفعل ذلك هلك) رواه نعيم بن حماد في كتاب الفتن بسند ضعيف فيه محمد بن ثابت البناني قال فيه الحافظ بن حجر ضعيف وفيه ايضاً الحارث بن عبد الله الأعور الهمداني، قال فيه الحافظ ايضاً: كذبه الشعبي في رأيه ورمي بالرفض وفي حديثه ضعف. وهذا الحديث ذكره صاحب كنز العمال وأشار إلى أن الحديث رواه نعيم وهذا الحديث على كل حال ضعيف ولا تقوم الحجة به. وقد وردت روايات أخرى ضعيفة كرواية أبي أمامة عن الصيحة التي تكون في النصف من رمضان.. ذكره ابن الجوزي في الموضوعات وقال بعد أن ساقها بإسناده " هذا حديث لا يصح.. قال العقيلي وهو متروك الحديث – يعني أحد رواته – وقال ابن حبان كان يسرق الحديث ولايحل الاحتجاج به وقال الدارقطني منكر الحديث.. الخ ". وأما رواية الحاكم التي أشرت إليها فقد قال الذهبي عنها (ذا موضوع – أي مكذوب- ومسلمة ساقط متروك) وذكره ابن الجوزي في الموضوعات أيضاً. وبهذا يظهر لنا أن الأحاديث لا تثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى الناس أن يحذروا من نشر الأحاديث الساقطة وإنما عليهم الرجرع إلى ما صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم.(18/110)
111 - التوبة
يقول السائل: سرقت مالاً من شخص آخر ثم تبت ورجعت إلى الله، وأريد أن أعيد المال المسروق إلى صاحبه ولكني أخشى الخزي ولعار، فهل يجوز أن أتصدق بذلك المال وتكون تلك الصدقة عن صاحب المال؟
الجواب: إن التوبة الصادقة لا بد لها من شروط أربعة وهي: 1. الإقلاع عن المعصية. 2. الندم على ما فات. 3. العزم على عدم العود إلى المعصية. 4. إعادة الحقوق لأصحابها إذا كانت المعصية تتعلق بحق آدمي كما في السؤال فيجب عليك أن تعيد الأموال المسروقة إلى أصحابها إن كنت تعرفهم ولا تبرأ ذمتك بغير ذلك ولا يجوز لك أن تتصدق بذك المال لأنك لا تملكه ولأنك لم توكل بالتصدق عنهم حيث أخذته بغير حق والرسول صلى الله عليه وسلم يقول (لا يحل مال امرئٍ مسلم إلا عن طيب نفسٍ) رواه أحمد والبيهقي وابن حبان وهو حديثٌ صحيح. وأما إذا كان عن أصحاب المال غير معروفين لك فإن تصدقت بذلك المال عنهم فأرجو أن تبرأ ذمتك منه إن شاء الله.(18/111)
112 - احاديث مكذوبة
حديث (صنفان من أمتي إذا صلحا) , يقول السائل:: يدور على ألسنة كثيرٍ من الخطباء والوعاظ الحديث (صنفان من أمتي إذا صلحا صلح الناس، الأمراء والعلماء) فهل هذا الحديث ثابت عن الرسول صلى الله عليه وسلم؟
الجواب: قال الشيخ المحدث ناصر الدين الألباني حفظه الله تعالى عن هذا الحديث: [إنه موضوع، أي مكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال أخرجه تمام في الفوائد (238/1) وأبو نعيم في الحلية (4/ 96) وابن عبد البر في (جامع بيان العلم) 1/ 184. من طريق محمد بن زياد اليشكري عن ميمون بن مهران عن ابن عباس مرفوعاً وهذا سند موضوع محمد بن زياد هذا قال أحمد: (كذاب أعور يضع الحديث) وقال ابن معين والدارقطني (كذاب) وكذبه أبو زرعه وغيره. الحديث مما أورده السيوطي في الجامع خلافاً لشرطه: وأورده الغزالي في الأحياء (1/ 6) جازماً بنسبته إليه صلى الله عليه وسلم وقال مخرجه الحافظ العراقي بعد أن عزاه لابن عبد البر وأبي نعيم (سنده ضعيف) ولا منافاة بين قول الحافظ هذا وبين حكمنا عليه بالوضع إذ أن الموضوع من أنواع الحديث الضعيف كما هو مقرر في علم الأصول] .(18/112)
113 - احاديث ضعيفة
حديث (جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم) , يقول السائل: ما مدى صحة الحديث (جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم) ؟
الجواب: إن هذا الحديث ضعيف عند أهل الحديث، قل البزار: لا أصل له وكذلك قال عبد الحق الإشبيلي، وممن ضعفه الحافظ ابن حجر وابن الجوزي والمنذري والهيثمي وغيرهم. وظن عامة الناس أن هذا الحديث ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعلهم يطردون الأطفال من المساجد وينكرون على من يحضرهم إلى المساجد وهذا موقف غير صحيح. والحق أن الإسلام اعتنى بالأطفال، وأمر الآباء والأولياء بأن يأمروا أبنائهم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين. وإن المكان الصحيح لتعليمهم الصلاة وغيرها من أحكام الشرع هو المسجد. ولقد كان الأطفال يحضرون إلى المسجد في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وكان عليه الصلاة والسلام يخفف الصلاة ويقصرها عندما يسمع بكاء طفل في المسجد بل إنه عليه الصلاة والسلام قطع خطبته وحمل الحسن والحسين، لما دخلا المسجد فرآهما يعثران في ملابسهما فحملهما. فعلينا أن نقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم وأن نعود أطفالنا على ارتياد المساجد بدلاً من بقائهم في الأزقة والحارات عرضة لفساد الأخلاق وسوء الرفاق.(18/113)
114 - المزروعات المروية بماء نجس
يقول السائل: ما حكم الزروع والثمار التي تسقى بماء نجس أو التي تنبت في مكان نجس؟
الجواب: إن هذه الزروع والثمار ليست نجسة العين ولكن إذا أصابتها النجاسة فهي نجسة ويجب تطهيرها قبل استعمالها فإذا غسلت فقد طهرت. وأما إذا لم تصبها النجاسة مباشرة فهي طاهر قطعاًُ ولا حاجة لغسلها وإن نبتت في مكان نجس أو سقيت بماء نجس. وإن المسلمين قد توارثوا استخدام الزبل الطبيعي في تسميد مزروعاتهم وهو نجس عند كثير من الفقهاء ولكنهم لم يقولوا بنجاسة الثمار والمزروعات التي تنبت عليه. قال الإمام النووي رحمه الله: [الزرع النابت على السرجين (الزبل الطبيعي) قال الأصحاب ليس هو نجس العين لكن ينجس بملاقات النجاسة نجاسة مجاورة وإذا غسل طهر. وإذا سنبل فحباته طاهرة قطعاً ولا حاجة لغسلها وهكذا القثاء والخيار وشبههما يكون طاهراً ولا حاجة لغسله.. وكذا الشجرة إذا سقيت ماء نجساً فأغصانها وأوراقها وثمارها طاهرة] المجموع 2 / 573.(18/114)
115 - القرآن الكريم
الوقف في قراءة القرآن, يقول السائل: سمعت قارئاً من قراء القرآن الكريم يتلو قوله تعالى: (طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لِتَشْقَى) وقف على قوله تعالى (عَلَيْكَ) أي أنه قرأ الآية هكذا (طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ) وقرأ الآية الأخرى من نفس السورة هكذا (وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى) فوقف على لفظ الجلالة ومد بها صوته فما حكم قراءته وهل يجوز ذلك؟
الجواب: إن قراءة القرآن الكريم لها أصولها المعروفة عند العلماء ولها آداب خاصة قررها أهل العلم وما فعله القارئ المذكور من وقوف على لفظ (عَلَيْكَ) في الآية الأولى إن لم يكن وقفه ضرورياً فهو تلاعب في كتاب الله وسوء أدب مع كلام الله سبحانه وتعالى، لأن وقوفه على لفظ عليك وقف قبيح يخل بالمعنى فإنه ينفي أن الله سبحانه وتعالى أنزل على عبده شيئاً وهذا كذب صراح. وأما ما فعله في الآية الأخرى فهو وقف قبيح ايضاً لأنه يغير المعنى، ونحن نعلم أن كثيراً من القراء يقصدون الوقوف على لفظ الجلالة أينما ورد ويمدون به أصواتهم ليستثيروا مشاعر السامعين فتسمع جمهور الحاضرين يرددون وراء القارئ لفظ الجلالة (الله – الله – الله) أو يطلقون عبارات المدح والثناء على القارئ كقولهم (الله يفتح عليك) ونحو ذلك ولا يلقون بالاً للتفكر بالآيات القرآنية ولا يتدبرون معانيها. ومن العجب أن يقرأ القارئ آيات تصف تعذيب الكافرين في جحهنم والمستمعون يرددون (الله – الله – الله) عوضاً عن اتعاظهم واستعاذتهم بالله العظيم من نار جهنم. وينبغي أن يعلم أن لقراءة القرآن الكريم آداباً كثيرة لا يلتزم بها أكثر القراء وسأشير إلى بعضها باختصار: أولاً: القراءة مع التدبر وتفهم المعاني يقول الله تعالى: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ) ويقول جل جلاله: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا) . ثانياً: اجتناب الكلام واللغط والضحك خلال القراءة إلا كلاماً يضطر إليه، يقول سبحانه وتعالى: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْءَانُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) . وقد ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما: (أنه كان إذا قرئ القرآن لا يتكلم حتى يفرغ منه) . ومن الأمور المنكرة التي يفعلها بعض القراء أنهم أثناء قرائتهم لآية والانتهاء منها يتحدثون مع من حولهم ثم يتلون الآية التي بعدها وهكذا شأنهم. ثالثاً: قال الإمام النووي: (وينبغي أن يرتل قراءته وقد اتفق العماء رضي الله عنهم على استحباب الترتيل. قال تعالى: (وَرَتِّلِ الْقُرْءَانَ تَرْتِيلًا) . وثبت عن أم سلمة رضي الله عنها أنها: (نعتت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم قراءة مفسرة حرفاً حرفاً) رواه ابو داود والنسائي والترمذي وقال الترمذي حديث صحيح، التبيان في آداب حملة القرآن ص 46 – 47. فقراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت ترتيلاً يقف على رؤوس الآيات لا كما يفعله كثير من القراء الذين يقرأون الآيات الكثيرة بنفس واحد حتى يمدحوا ويسمعوا عبارات الثناء والتعظيم. رابعاً: وهذا من الأمور التي يجب أن تكون معلومة، إن على القارئ الالتزام بأحكام التلاوة والتجويد وهو علم قائم بذاته ولكن لا بد من الإشارة إلى مسألة مهمة منه لارتباطها الوثيق بالسؤال ألا وهي مسألة الوقف والابتداء. لا بد للقارئ أن يكون على علم بهذه المسألة لأهميتها، قال بعض علماء التلاوة والتجويد: (تعلم الوقف ومواضعه شطر علم التجويد) وقال الهذلي: [الوقف حلية التلاوة وزينة لاقارئ وبلاغ التالي وفهم المستمع ... ] . فعلى القارئ أن يتدبر معاني القرآن الكريم حتى يعرف الأماكن التي يجوز فيها الوقف وينبغي أن يعلم أن المعنى والتدبر هو الأصل واللفظ تابع له. فالوقف إذا كان على ما يؤدي معنى صحيحاً فهو وقف تام وحسن وإذا وقف على ما لا يؤدي معنى صحيحاً فهو وقف قبيح كما في المثالين المذكورين في السؤال. ومثله الوقف على لفظ بينهما، قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ) ومثله الوقف على لفظ يستحيي، في قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا) ومثله الوقف على لفظ (فَأَكَلَهُ) في قوله تعالى: (وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ) ومثله الوقف على لفظ (أَرْسَلْنَاكَ) في قوله تعالى: (فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا) فهذه الوقوف وأمثالها واضحة الفساد وتؤدي إلى اختلال المعنى فكل من تعمد الوقوف على هذه المواضع وأمثالها مع علمه بالمنع فقد أثم واعتدى وجهل وافترى وإذا كان معانداً فقد يكفر والعياذ بالله.(18/115)
116 - التحية
يقول السائل: نلاحظ أن بعض الناس عندما يصافحون غيرهم يحنون رؤوسهم فما حكم ذلك؟
الجواب: إن حني الظهر أو الرأس من مظاهر الإذلال والخنوع، والإسلام يرفض ذلك. وقد سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك كما ورد في حديث أنس رضي الله عنه قال: قال رجل يا رسول الله: الرجل منا يلقى أخاه او صديقه أينحني له؟ فقال عليه الصلاة والسلام: لا) رواه الترمذي وابن ماجة وقال الترمذي حديث حسن. وهذا الحديث واضح الدلالة على عدم جواز حني الظهر، ومنهج الإسلام في هذا الموضع هو طرح السلام والمصافحة دون حني الظهر أو الرأس مهما كانت منزلة الشخص المقابل.(18/116)
117 - الاحتفال بأعياد الميلاد حرام شرعا
يقول السائل: ما ملخصه، ما قولكم في الظاهرة المنتشرة في مجتمعنا وهي احتفال كثير من الناس بأعياد ميلادهم أو أعياد ميلاد أولادهم؟
الجواب: إن الأمة الإسلامية لها شخصيتها المتميزة ولها أفكارها ومبادؤها المستمدة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولكن للأسف فإن الأمة الإسلامية تخلت عن شخصيتها وأفكارها ومبادئها واستعارت أموراً كثيرة من غيرها من الأمم غير المسلمة وأولع كثير من المسلمين بتقليد غيرهم فوفدت على ديارنا كثير من العادات والتقاليد من غير المسلمين والتي لا تتفق مع الإسلام ومن ضمن هذه الأمور الوافدة الاحتفال بأعياد الميلاد على مختلف المستويات فهذا الأمر تقليد لغير المسلمين فإن الإسلام في أيامه الناصعة المضيئة ما عرف مثل هذه البدع المستوردة. فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قدوتنا وأسوتنا ما نقل عنه انه احتفل بعيد ميلاده وها هم الصحابة الأجلاء رضي الله عنهم ما عرف عنهم ذلك وهؤلاء هم الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم الخ) حديث صحيح. وعلى هذا فإن الاحتفال بعيد الميلاد بدعة ولا يجوز القيام به لقوله صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) . والاحتفال بأعياد الميلاد تشبه بغير المسلمين وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من تشبه بقوم فهو منهم) رواه أبو داود وهو حديث صحيح.(18/117)
118 - حكم الوقوف تحية للشهداء
يقول السائل: ما هو الحكم الشرعي في الوقوف دقيقة أو دقائق مع الصمت التام تحية للشهداء؟
الجواب: إن الأمة الإسلامية أمة متميزة عن غيرها من الأمم بثقافتها ومنهجها في حياتها كلها. فالإسلام له نهجه الخاص في تكريم الشهداء واحترامهم وتقديرهم يقول سبحانه وتعالى: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) . وقد حث الإسلام على الدعاء للأموات والتصدق عنهم وذكر محاسنهم والإمساك عن مساوئهم. ولم يرد في الشرع ما يجيز الوقوف حداداً على أرواحهم بل هذا أمر محدث نقله المقلدون عن غير المسلمين وإن مما يؤسف له أن كثيراً المسلمين في هذه الأزمان المتأخرة أصبحوا مولعين بتقليد غير المسلمين والتشبه بهم واعتبر هذا التقليد من التقدم والحضارة عند هؤلاء الذين خدعهم سراب الحضارة الغربية وأعمى أبصارهم وطمس على بصائرهم واعتقدوا أن التمسك بالآداب الإسلامية تخلف ورجعية وصاروا يجارون غير المسلمين بمثل هذه الأمور وصدق فيهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال: (لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لتبعتموهم) رواه البخاري ومسلم. فليس من منهج الإسلام الوقوف حداداً لأرواح الشهداء أو لما يعرف بالسلام الوطني فكل ذلك من الأمور المبتدعة التي لا يقبلها الإسلام ولا يقرها وإن اعتادها كثير من الناس. وينبغي أن يعلم أن فعل كثير من الناس لها لا يجعلها جائزة شرعاً لأن المقياس في الشريعة الإسلامية هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وما بني عليها. ولله در الفضيل بن عياض وهو من كبار العباد الزهاد عندما قال: [اتبع طرق الهدى ولا يضرك قلة السالكين وإياك وطريق الضلالة ولا تغتر بكثرة الهالكين] .(18/118)
119 - الأفلام والصحون اللاقطة
مشاهدة الأفلام الإباحية حرام شرعاً , يقول السائل: ما حكم مشاهدة الأفلام الإباحية والصور العارية؟
الجواب: إن الإسلام يحارب الفساد والإنحلال بمختلف ألوانه وأشكاله ويقطع كل الطرق التي تؤدي إليه ولا شك أن الأفلام الإباحية والصور العارية مظهر من مظاهر الإنحلال والفساد وأنها من الوسائل المؤدية إليه لذلك لا شك لدي في حرمة مشاهدة الأفلام الإباحية والصور الخليعة لأن للوسائل أحكام المقاصد كما قرر فقهاء الإسلام. قال العز بن عبد السلام: [للوسائل أحكام المقاصد فالوسيلة إلى أفضل المقاصد هي أفضل الوسائل والوسيلة إلى أرذل المقاصد هي أرذل الوسائل] . ومن المعروف عند العقلاء أن مشاهدة الأفلام الجنسية والصور الخليعة وسيلة من وسائل انتشار الفساد الخلقي والإنحلال وانتشار الموبقات وقد تؤدي إلى الزنا واللواط واستعمال العادة السرية فما أدى إلى الحرام فهو حرام وقد سمعنا وقرأنا عن حوادث كثيرة كان سببها مشاهدة تلك الأفلام الساقطة والصور الخليعة كالزنا واللواط وغير ذلك من المفاسد الأخلاقية. وانظر يا أخي إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا تباشر المرأة المرأة فتنعتها لزوجها كأنه ينظر إليها) رواه البخاري. ومعنى الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم ينهى المرأة أن ترى إمرأة أخرى وهي عارية وبعد ذلك تقوم بوصفها لزوجها فتجعله يفتتن بالمرأة الموصوفة. ومن المعلوم أن هذا الوصف يجعل الزوج يتخيل تلك المرأة بصفاتها التي نقلت إليه من زوجته ومع أن الأمر يتعلق بالخيال فقط فقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عنه فما بالك بمشاهدة الأفلام الجنسية حيث الصوت والصورة فهذا يؤدي إلى مفسدة أعظم من مجرد التفكير بامرأة وصفت له. قال الشيخ علي بن الحسن الحموي الشافعي رحمه الله معلقاً على الحديث السابق [ ... فصلى الله وسلم على منقذ العباد من الردى نبي الرحمة والهدى، تالله لقد صدق لأن الرجل الأجنبي إذا سمع وصف امرأة أجنبية تشكلت في قلبه وانطبعت في مرآة نفسه ويوحي الشيطان لعنه الله له عند ذلك كلاماً من غروره وأمانيه ويحول بينه وبين تقوى الله ومراضيه وتخطر له هنالك خواطر قبيحة وهواجس ذميمة فتارة بالزنا والفحشاء ... ] أحكام النظر ص 58 – 59. وكل هذا يحدث نتيجة التفكير في امرأة وإن ما ينتج عن مشاهدة الأفلام الجنسية لهو أعظم وأخطر بكثير مما وصف الشيخ المذكور رحمه الله. ولا أظن أن مسلماً تقياً يعرف مقاصد الشرع الشريف يقول بجواز ذلك هذا إذا أضفنا إلى ما تقدم أن إعداد الأفلام الجنسية والصور العارية حرام لأن فيها انتهاكاً للمحرمات والنظر إلى ما حرم الله كما أن نشر تلك الأفلام حرام أيضاً وطبع تلك الصور حرام أيضاً وترويج ذلك ونشره حرام أيضاً فالقضية كلها تدور ضمن دائرة التحريم.(18/119)
120 - الأفلام والصحون اللاقطة
يقول السائل: ما حكم استعمال الصحون التي تلتقط بث برامج التليفزيون عبر الأقمار الصناعية؟
الجواب: إن الصحون المشار إليها في السؤال كغيرها من الأدوات مثل التلفزيون والفيديو والمسجل والراديو، لا حكم لها في ذاتها وإنما الحكم في لاستعمالها فهي أدوات قد تستعمل في الخير وفي الشر ولكن هذه الأدوات وأمثالها من وسائل الإعلام صار شرها أكثر من خيرها وضررها أكثر من نفعها، ولا يستطيع كثير من الناس ضبط استعمالها في بيوتهم فمثلاً إن ما يعرف بالصحون اللاقطة لبرامج التلفزيون تستعمل استعمالاً سيئاً فأكثر البرامج التي تبث عليها برامج فساد وأفلام جنسية ساقطة وأفلام بوليسية تنشر الفحشاء والمنكر وتشجع الإجرام وصارت من معاول هدم الأخلاق ومحاربة الفضيلة. ولو سألت من عندهم مثل هذه الأجهزة لأخبروك عن البرامج الرهيبة التي تلتقط فبعض تلك المحطات مخصصة لبث الأفلام الجنسية باستمرار وبعضها لأفلام الإجرام والقتل وغير ذلك من المصائب. وهذه وتلك تترك آثاراً سيئة على المشاهدين عامة والشباب خاصةً وقد سمعنا عن بعض المآسي التي تحدث نتيجة لمشاهدة الأفلام الساقطة. وبناء على مفاسد هذه الأجهزة فإن المرء المسلم عليه أن يحتاط لدينه ويحافظ على أهله وأولاده أمام هذه الهجمة الشرسة ويمتنع عن إدخالها إلى بيته لأنه إن فعل ذلك يكون كمن وضع السم في الدسم وعرض نفسه وأهله وأولاده للفساد والإفساد ولا يزعم أحد أنه يستطيع أن يراقب استعمال هذه الصحون في بيته فإن ذلك يكاد يكون مستحيلاً. وعلى الآباء أن يتقوا الله في أولادهم وأسرهم فإن المسؤولية الأولى تقع على عاتقهم، فقد قال الله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) ، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته) .(18/120)
121 - من البدع
الاحتفال بذكرى الهجرة النبوية بدعة, يقول السائل: اعتاد كثير من الناس على الاحتفال بذكرى هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم في الأول من شهر محرم من كل عام ويتخذ هذا اليوم على أنه عيد وعطلة للمسلمين فما مدى صحة ذلك؟
الجواب: من المعلوم لدى أهل الحديث والسيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم هاجر من مكة إلى المدينة في أوئل شهر ربيع الأول من السنة الثالثة عشرة لبعثته صلى الله عليه وسلم حيث وصل إلى قباء إحدى ضواحي المدينة النبوية لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول يوم الاثنين كما قال الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية 3 / 188. ولم تكن هجرته صلى الله عليه وسلم في الأول من محرم كما يظن كثير من الناس. وفي عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه اتخذ التاريخ واختار الصحابة رضي الله عنهم التأريخ بهجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم. قال الإمام البخاري في الصحيح [باب التاريخ من أين أرخوا؟ ثم روى بسنده عن سهل بن سعد قال: ما عدوا من مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ولا من وفاته ما عدوا إلا من مقدمه المدينة] . وقال الحافظ ابن حجر: [وإنما أخروه – التاريخ – من ربيع الأول إلى المحرم لأن ابتداء العزم على الهجرة كان في المحرم إذ البيعة وقعت في أثناء ذي الحجة وهي مقدمة الهجرة فكان أول هلال استهل بعد البيعة والعزم على الهجرة هلال المحرم فناسب أن يجعل مبتدأ. وهذا أقوى ما وقفت عليه من مناسبة الابتداء من محرم ... ] فتح الباري 8 /270. وبالتالي فإن الأول من محرم هو بداية السنة الهجرية وليس هو موعد هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم. وعلى كلا الحالين لا يجوز اتخاذ الأول من محرم عيداً أو تخصيصه بنوع من العبادة لأن هذا الأمر بدعة لم يفعلها الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يفعلها أحد من خلفائه ولا من صحابته وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم قوله: (إياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة وقال الترمذي حسن صحيح.(18/121)
122 - السباب
يقول السائل: ما المقصود بالحديث (لا يسب أحدكم الدهر فإن الله هو الدهر) ؟
الجواب: وردت أحاديث صحيحة في النهي عن سب الدهر أذكر بعضها: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: قال الله تعالى: (يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر بيدي الأمر أقلب الليل والنهار) رواه البخاري ومسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يسب أحدكم الدهر فإن الله هو الدهر) رواه مسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقولن أحدكم يا خيبة الدهر فإن الله هو الدهر) رواه البخاري ومسلم وغير ذلك من الأحاديث. وكان سب الدهر من عادات العرب فإذا أصابهم مكروه أو أمر سوء سبوا الدهر وذموه لأن العرب كانوا ينسبون ما كان يصيبهم من المصائب والكوارث إلى الدهر فنهينا عن ذلك لأن الله سبحانه وتعالى هو مصرف الأمور وكما جاء في الحديث (أقلب الليل والنهار) وما الدهر إلا ظرف لوقوع الحوادث فيه. قال الإمام الخطابي في بيان المراد في قوله (أنا الدهر) معناه. أنا صاحب الدهر ومدبر الأمور التي تنسبوها إلى الدهر فمن سب الدهر من أجل أنه فاعل هذه الأمور عاد سبه إلى ربه الذي هو فاعلها وإنما الدهر زمان جعل ظرفاً لواقع الأمور وكانت عادتهم إذا أصابهم مكروه أضافوه إلى الدهر فقالوا بؤساً للدهر وتباً للدهر) فتح الباري 10 / 196. وينبغي أن يعلم أن الدهر ليس من أسماء الله سبحانه وتعالى على الصحيح من أقوال أهل العلم. وسب الدهر ينقسم إلى ثلاثة أقسام كما حققه بعض أهل العلم: الأول: أن يقصد مجرد الخبر دون اللوم كأن يقول تعبنا من حر هذا اليوم ونحوه فهذا جائز ولا شيء فيه. الثاني: أن يسب الدهر على أنه هو الفاعل لأن الدهر هو المتصرف في الأمور خيرها وشرها فهذا شرك أكبر لأنه اعتقد أن مع الله خالقاً حيث نسب الحواديث لغير الله سبحانه وتعالى. الثالث: أن يسب الدهر معتقداً أن الفاعل هو الله سبحانه وتعالى ولكنه يسب الدهر لأنه محل لهذه الأمور المكروهة فهذا حرام.(18/122)
123 - السباب
يقول السائل: ما حكم سب الدين وسب الرب وشتم الرسول صلى الله عليه وسلم؟
الجواب: إن من أسوأ الظواهر المنتشرة في بلادنا ما ذكره السائل من شتم الذات الإلهية وسب الدين وشتم الرسول صلى الله عليه وسلم. ولا شك أن المسؤولية في انتشار هذه الظاهرة المنكرة تقع على عاتق الآباء والأمهات والمربين والمربيات وغيرهم الذين يجب عليهم أن يبينوا للناس مغبة هذا الأمر المنكر وعواقبه الوخيمة ولا شك أن سب الدين وسب الذات الإلهية وكذلك شتم الرسول صلى الله عليه وسلم كفر صريح وخروج عن ملة الإسلام حتى لو كان الإنسان مازحاً لقوله تعالى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَءَايَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) . وعلى من حصل منه ذلك أن يبادر إلى التوبة الصادقة والرجوع إلى جادة الحق والصواب وعلى من سمع هذا المنكر أن يبادر إلى إنكاره وأن ينصح من صدر منه ذلك لعله يتوب ويرجع عن ذلك.(18/123)
124 - حكم الاستهزاء بحكم شرعي
يقول السائل: ما حكم الاستهزاء بحكم من أحكام الإسلام كالاستهزاء باللحية وهل هناك فرق بين ان يكون المستهزيء جاداً أو مازحاً؟
الجواب: إن الاستهزاء بما ثبت في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتبر كفراً والعياذ بالله لقوله سبحانه وتعالى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَءَايَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) . فهذه الآية نزلت في بعض المنافقين كما قال ابن كثير رحمه الله: قال أبو معشر المديني عن محمد بن كعب القرظي وغيره قالوا: قال رجل من المنافقين ما أرى قراءنا هؤلاء إلا أرغبنا بطونا وأكذبنا ألسنة وأجبننا عند اللقاء فرفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ارتحل وركب ناقته فقال يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب فقال: (أبالله وآياته كنتم تستهزؤون؟ إلى قوله – كانوا مجرمين.. الخ) . وذكر ابن كثير رحمه الله بعض الروايات الأخرى في سبب نزول الآيات: منها أن جماعة من المنافقين كانوا يسيرون مع الرسول صلى الله عليه وسلم وهو منطلق إلى غزوة تبوك فقال بعضهم لبعض أتحسبون جلاد بني الأصفر- قتال الروم – كقتال العرب بعضهم بعضاً والله لكأنا بكم غداً مقرنين في الحبال إرجافاً وترهيباً للمؤمنين.. الخ. تفسير ابن كثير 2 /367. لذلك فإن الاستهزاء بدين الله والاستهزاء برسول الله صلى الله عليه وسلم والاستهزاء بسنته عليه الصلاة والسلام يعد كفراً مخرجاً عن دين الاسلام. وإن الاستهزاء بمن يلتزم بأحكام الشرع، هو استهزاء بالشرع ذاته، فمن يسخر ويستهزئ بمن يطلق لحيته اتباعاً لأحكام الشرع يكون مستهزئاً بالشرع. وهذا كفر والعياذ بالله. ولا فرق بين أن يكون المستهزء جاداً أو مازحاً هزلاً. إن أحكام الشرع محترمة لا يجوز اللعب بها لا في حال الجد ولا في حال المزاح والله سبحانه وتعالى يقول: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ) وهؤلاء الذين نزلت فيهم الآية قالوا للرسول عليه الصلاة والسلام إنهم كانوا يمزحون ويتكلمون كلاماً لا يقصدونه وإنما يتحدثون ليصرفرا عنهم عناء الطريق فلذلك هذه الأمور لا يدخلها المزاح ولا الهزل بحال من الأحوال.(18/124)
125 - السحر والشعوذة والاستعانة بالحن
علاج عرق النسا بالشعوذة, يقول السائل: هناك طريقة شعبية لعلاج مرض يسمى (عرق النسا) حيث يقوم شخص اسمه محمد أو محمود ويقطع جذر نبتة تعرف بنفس الإسم ولا يتكلم مع أحد عند ذهابه أو إيابه ويقطعها عند سماع الأذان ويتلو بعض آيات القرآن الكريم ويسمي المريض بنسبته إلى أمه ويسأل هل تتعارض هذه الطريقة مع الإسلام وهل يجوز أخذ الأجرة على ذلك؟
الجواب: إذا مرض إنسان فعليه أن يذهب إلى الأطباء للمعالجة وهذا من باب الأخذ بالأسباب ولا ينافي التوكل على الله ولا يجوز اللجوء إلى المشعوذين أو الدجالين ونحوهم للمعالجة وإن تحقق على أيديهم شفاء بعض الحالات المرضية فلا يجوز أن ينخدع بصدقهم فإنهم دجالون كذبة. والقضية المطروحة في السؤال نوع من ذلك ولا علاقة لمثل هذه الأمور بالعلاج والشفاء من الأمراض بل هذه الطريقة غير مشروعة لمعالجة الأمراض. والصحيح هو الذهاب إلى أهل الاختصاص من الأطباء وهنالك بعض الأمراض التي تعالج بقراءة القرآن الكريم وبعض الأدعية المأثورة عن الرسول صلى الله عليه وسلم ويتم ذلك على أيدي الصادقين من الصالحين وليس على أيدي المشعوذين والدجالين. ولا يجوز أخذ الأجر على ما هو مذكور في الؤال والله أعلم. وأحيل السائل إلى كتاب الطب النبوي لابن القيم فقد ورد فيه وصفة طبية لعلاج (عرق النسا) ص 189.(18/125)
126 - السحر والشعوذة والاستعانة بالحن
يقول السائل: يدّعي بعض الناس معالجة المرضى، عن طريق استخدام الجن وقراءة القرآن على الماء أو على بعض الأشربة، وكذلك القراءة على بعض الأدوات كالموسى، فما قولكم في ذلك؟
الجواب: لقد كثر في زماننا هذا الذين يدَّعون العلاج بالقرآن الكريم، والذين يدَّعون أنهم يتعاملون مع الجن في معالجة المرضى، وأكثر هؤلاء من الدجالين والمشعوذين الذين يستغلون جهل الناس وضعف المرضى، فيبتزونهم ويأخذون منهم الأموال الكثيرة بغير حق ويرتكبون مخالفات شرعية كثيرة، ولا بد من توضيح الأمور التالية: 1 - إذا مرض الإنسان فعليه مراجعة الأطباء أهل الاختصاص، لأن الله تعالى خلق الداء والدواء، فقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما أنزل الله من داء، إلا أنزل له شفاء) رواه البخاري ومسلم. وجاء في حديث آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لكل داء دواء، فإذا أصيب دواء الداء، برأ بإذن الله) رواه مسلم. 2 - إن العلاج بالقرآن والرقية بآياته من الأمور المشروعة، يقول الله سبحانه وتعالى: (وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَارًا) سورة الإسراء /82. وروى الإمام البخاري في صحيحه، عن أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه -، أن رهطاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلقوا في سفرة سافروها حتى نزلوا بحي من أحياء العرب، فاستضافوهم فأبوا أن يضيفوهم، فلدغ سيد ذلك الحي، فسعوا له بكل شيء لا ينفعه شيء، فقال بعضهم: لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين قد نزلوا بكم لعله أن عند بعضهم شيء فأتوهم فقالوا: يا أيها الرهط، إن سيدنا لدغ فسعينا له بكل شيء لا ينفعه شيء، فهل عند أحدكم شيء، فقال بعضهم: نعم والله إني لراق، ولكن والله لقد استضفناكم فلم تضيفونا، فما أنا براق لكم حتى تجعلوا لنا جعلاً، فصالحهم على قطيع من الغنم فانطلق فجعل يتفل ويقرأ (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمينَ) حتى لكأنما نشط من عقال، فانطلق يمشي ما به قلبة، قال فأوفوهم جعلهم الذي صالحوهم عليه، فقال بعضهم: أقسموا، فقال الذي رقى لا تفعلوا حتى نأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فنذكر له الذي كان، فننظر ما يأمرنا، فقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له فقال: (وما يدريك أنها رقية، أصبتم، اقسموا واضربوا لي معكم بسهم) . وثبت في الحديث الصحيح، عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مرض أحد من أهله نفث عليه بالمعوذتين) رواه مسلم. 3 - لا ينبغي لأحد من الناس أن يتفرغ لعلاج الناس بالرقى القرآنية أو بالأذكار الواردة، والإعلان عن نفسه بأنه المعالج بالقرآن والبديل الشرعي لفك السحر ومس الجان والعين والعقم والأمراض المستعصية، أو يعلن عن نفسه العيادة القرآنية، ويوزع الكروت، ويحدد المواعيد كالأطباء المختصين، لأن ذلك ليس من منهج الصحابة والتابعين والصالحين، ولم يكن معروفاً مثل هذا التفرغ عندهم مع أن الناس لا زالوا يمرضون على مر العصور والأزمان، ولأن فتح هذا الباب قد يؤدي إلى مفاسد كثيرة، ويلج منه الدجالون والمشعوذون وأمثالهم. 4 - لا بأس بقراءة آيات من القرآن الكريم على إناء فيه ماء، ثم يشربه المريض ويغتسل به قال ابن القيم: " ورأى جماعة من السلف أن يكتب له الآيات من القرآن ثم يشربها قال مجاهد: لا بأس أن يكتب القرآن ويغسله ويسقيه المريض ومثله عن أبي قلابة ". 5 - إن مس الجن للإنسان ثابت، وقد قامت الأدلة على ذلك من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والواقع يؤيد ذلك. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " وليس في أئمة المسلمين من ينكر دخول الجن في بدن المصروع وغيره، ومن أنكر ذلك وادعى أن الشرع يكذب ذلك، فقد كذب على الشرع، وليس في الأدلة الشرعية ما ينفي ذلك " مجموع الفتاوى 24/276. ويكون العلاج من صرع الجن للإنسان بقراءة الآيات القرآنية والأوراد النبوية الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. 6 - لا يجوز اللجوء لأي إنسان يدعي المعالجة بالقرآن أو أنه يستطيع إخراج الجن من المصروع إلا بعد التأكد أن هذا الشخص من الصالحين الملتزمين بكتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنه يتبع الطرق المشروعة في الرقية والعلاج ولا يستخدم شياطين الجن الذين لا يخدمونه إلا إذا وقع في المحرمات. وكذلك فإن بعض هؤلاء المعالجين يستخدمون الطلاسم في المعالجة، أو يذكرون كلاماً غير مفهوم المعنى، فهذا لا يجوز استعماله. *****(18/126)
127 - السحر والشعوذة والاستعانة بالحن
الذهاب إلى السحرة حرام, تقول السائلة: إنها ذهبت مع ابنتها إلى امرأة ساحرة تحل السحر والحجاب فما حكم ذلك؟ الجواب: يحرم شرعاً الذهاب إلى السحرة من أجل فك السحر لقوله صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من تطير أو تطير له أو تكهن أو تكهن له أو سحر أو سحر له) رواه الطبراني وإسناده جيد. وقال عليه الصلاة والسلام لما سئل عن النشرة: (هي عمل الشيطان) رواه أبو داود وأحمد وإسناده جيد. والنشرة هي حل السحر عن المسحور بالسحر. ويجوز أن يحل السحر بالرقية بقراءة القرآن الكريم والأذكار الواردة عن الرسول صلى الله عليه وسلم وكذلك بالدعاء وطلب الشفاء من الله سبحانه وتعالى. وإليك أيها القاريء بعض الآيات والأذكار التي تفيد وتنفع بإذن الله سبحانه وتعالى في إتقاء السحر قبل وقوعه ودفع ضرره بعد وقوعه وهي: قراءة آية الكرسي وهي أعظم آية في القرآن الكريم: (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ... ) سورة البقرة 255. وقراءة (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) و (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) و (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) ثلاثاً بعد صلاة الفجر وبعد صلاة المغرب. قراءة آخر أيتين من سورة البقرة بعد صلاة المغرب وهي قوله تعالى: (ءَامَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ ... ) فقد صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قرأ آية الكرسي ليلة لم يزل عليه من الله حافظ ولا يقربه شيطان حتى يصبح) وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قرأ الآيتيتن من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه) . ومن الأذكار النافعة بإذن الله الإكثار من التعوذ (بكلمات الله التامات من شر ما خلق) في الليل والنهار وعند النزول في مكان ونحو ذلك. ومنها أيضاً (بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في السموات ولا في الأرض وهو السميع العليم) ثلاث مرات في أول الليل والنهار. ومنه (اللهم رب الناس أذهب البأس واشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقماً) ومن ذلك رقية جبريل عليه السلام التي رقى بها النبي صلى الله عليه وسلم (بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك ومن شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك بسم الله أرقيك) وغير ذلك من الأذكار.(18/127)
128 - نشرة كاذبة
يقول السائل: ما قولكم في هذه النشرة التي توزع بين الناس ويعتقد بها بعضهم، وهذا نصها: أما بعد أنا فتاة في الثالثة عشرة من عمري، عجز الأطباء عن علاجي عند ذلك زرت مقام السيدة زينب رضي الله عنها أخت الإمام الحسين رضي الله عنه حامل راية كربلاء لما طلبت من الله شفائي وبقيت حتى غالبني النوم في مقام السيدة زينب رضي الله عنها وفي منامي فسكبت الماء في حلقي وقالت لي قومي قد شفيت بإذن الله وأوصتني كتابة الواقعة (12) مرة وتوزيعها على الناس ووضعت الورقة في يد رجل فقير فقام بتوزيعها على الناس وبعد (12) يوماً أصبح غنياً، ووضعت الورقة في يد رجل موظف فلم يهتم بها وبعد (12) يوم فقد وظيفته. ووضعت الورقة في يد رجل عجوز فلم يهتم بها وبعد (12) يوم وضع في السجن ووضعت الورقة في يد رجل غني فلم يهتم بها وبعد (12) يوم فقد ثروته فعلى كل رجل وامرأة أن يصور الورقة (12) مرة يحصل بإذن الله وبركات السيدة زينب رضي الله عنها ما يتمناه بعد (12) يوم فإن لم يفعل فسوف تصيبه مصيبة بعد 12 يوما.
الجواب: إن هذه النشرة وأمثالها من عمل الدجالين والخرافيين والمجترئين على الله سبحانه وتعالى وما جاء فيها كذب ودجل وتقول على الله سبحانه وتعالى ورجم بالغيب. ودين الإسلام لا يقر بهذه الخزعبلات والخرافات البالية والإسلام قد شرع الأخذ بالأسباب لعلاج الأمراض ولم يشرع الذهاب إلى أصحاب القبور الذين لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً. وما جاء في هذه النشرة أن من وزعها يصير غنياً بعد اثني عشر يوماً لهو من الكذب الصراح والواقع يكذبه. وكذلك ما جاء بتهديد من لم يكتبها بأن مصيبة تلحق به بعد اثني عشر يوماً فهذا تقول على الله سبحانه وتعالى فما يصيب الإنسان في غده لا يعلمه إلا الله وهو مما استأثر الله بعلمه، فقد قال سبحانه وتعالى: (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا) . فهذه أمور غيبية لا يعلمها إلا الله جل جلاله. يقول الله تعالى: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) . ويقول أيضاً: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) . وعلى الناس أن يحذروا من هذه الخرافات وأمثالها ولا يجوز لهم نشرها وتوزيعها.(18/128)
129 - مسائل طبية
المسؤولية الطبية، يقول السائل: متى يتحمل الطبيب المسؤولية عن الأضرار التي تلحق بالمريض أو التي تؤدي إلى وفاة المريض؟
الجواب: من المعلوم أنه لا يجوز لأي إنسان ممارسة مهنة الطبيب إلا من درس الطب في كليات الطب وأتم سنوات الدراسة بنجاح وأعطي الشهادة الأولى في الطب وقام بالممارسة العملية تحت إشراف الأطباء الأكثر خبرة منه من خلال ما يعرف بسنة الامتياز. وأما من يمارس التطبيب دونما دراسة ودراية فهو متطبب جاهل يضمن كل تصرف يصدر عنه فقد ورد في الحديث عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من تطبب ولم يعلم منه طب قبل ذلك فهو ضامن) رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة وقال الشيخ الألباني: حديث حسن. وجاء في حديث آخر قول عليه الصلاة والسلام: (أيما طبيبُ تَطَببَ على قوم لا يعرف له تَطَبُبٌ قبل ذلك فأعنت فهو ضامن) رواه أبو داود وقال الشيخ الألباني: حديث حسن. انظر صحيح سنن أبي داود 3/866-867. وقال العلامة ابن القيم شارحاً الحديث الأول: [… وأما الأمر الشرعي فإيجاب الضمان على الطبيب الجاهل. فإذا تعاطى علم الطب وعمله ولم يتقدم له به معرفة فقد هجم بجهل على إتلاف الأنفس وأقدم بالتهور على ما لم يعلم فيكون قد غرر بالعليل فيلزمه الضمان لذلك وهذا إجماع من أهل العلم. قال الخطابي: لا أعلم خلافاً في أن المعالج إذا تعدى فتلف المريض كان ضامناً. والمتعاطي علماً أو عملاً لا يعرفه متعدٍ. فإذا تولد من فعله التلف ضمن الدية وسقط عنه القود - أي القصاص - لأنه لا يستبد بذلك بدون إذن المريض …] . ثم بين العلامة ابن القيم الحالات التي يكون فيها الطبيب مسئولاً عن وفاة المريض أو عن الأضرار التي تلحق بالمريض وألخصها فيما يلي: الأولى: أن يكون الطبيب حاذقاً ماهراً أعطى المهنة حقها ولم تجن يده فتولد من فعله المأذون به من جهة الشارع ومن جهة المريض تلف العضو أو موت المريض فهذا الطبيب لا يتحمل شيئاً من المسؤولية باتفاق الفقهاء لأن وفاة المريض أو تلف العضو ناتج عن فعل مأذون به شرعاً ومأذون به من المريض أو وليه إذا كان عمل الطبيب وفق قواعد الطب المعروفة ولم تخطئ يده. الثانية: متطبب جاهل باشرت يده المريض فتلف عضو منه أو مات فإن هذا المتطبب ضامن لما جنت يداه ويجب أن يعاقب أيضاً على تعديه وممارسته الطب دون أن يكون مؤهلاً لذلك. الثالثة: أن يكون الطبيب حاذقاً ماهراً أذن له وأعطى الصنعة حقها ولكن أخطأت يده وتعدت إلى عضو صحيح فأتلفته فتقوم لجنة طبية من أهل الاختصاص بفحص ما أقدم عليه الطبيب وتبين أن ما قام به خطأً فحينئذ فإن الطبيب يضمن ما أقدم عليه. الرابعة: أن يكون الطبيب ماهراً حاذقاً اجتهد فوصف للمريض دواء فأخطأ في اجتهاده فقتله فهذا يخَّرج على قولين عند الفقهاء: فمنهم من يرى أن دية المريض القتيل على بيت المال. ومنهم من يرى أن الدية على عاقلة الطبيب. الطب النبوي بتصرف ص264-266. ويرى العلماء المعاصرون أن المسؤولية الطبية تنقسم إلى قسمين: 1. المسؤولية الأخلاقية الأدبية والجنائية: وهي متعلقة بسلوك الطبيب والهيئة الطبية من ممرضين وفنيين في المختبرات والأشعة … الخ. ومن أمثلتها: قضايا الغش والكذب والتزوير في الشهادات والتقارير الطبية سواء أكانت لمصلحة المريض أو ضده. ومن أمثلتها: إجراء عملية جراحية مثل الزائدة الدودية لشخص لا يعاني من التهاب الزائدة ويجريها الطبيب للحصول على المال. وكذلك المستشفيات الخاصة التي تطلب من الأطباء في بعض الأحيان أن يزيدوا من الفحوص الطبية وإن كانت غير مطلوبة لتشخيص المرض ولكن للحصول على المال فينبغي تحميل الأطباء والمشرفين على المستشفيات المسؤولية عن مثل هذه الحالات وخاصة إذا لحق ضرر بالمريض. 2. المسؤولية المهنية: ويسأل الطبيب والهيئة الطبية عن الأضرار التي تلحق بالمريض عمداً أو جهلاً أو خطأً. أما العمد فلا يتصور من الطبيب أن يتعمد الإضرار بالمريض لأن وظيفة الطبيب هي مساعدة المريض على الشفاء. ولكن إن ثبت بالأدلة الصحيحة وجود الاعتداء عن عمد فإن الطبيب يعاقب ويضمن ما لحق بالمريض من الأضرار. وأما الجهل: فإن الطبيب يسأل عن الجهل بالمهنة سواء أكان جاهلاً بجميع الطب كمن ادعى الطب وهو لا يعلمه أو كان جاهلاً بجزء من الطب كالطبيب يعلم فرعاً من الطب ولا يعرف غيره كالطبيب الباطني إذا أجرى عملية لمريض في عينه فأتلفها فإنه يضمن. وأما الخطأ فإن الطبيب يسأل عن الخطأ الفاحش الذي يتجاوز فيه الطبيب الحد المعتبر عند أهل الاختصاص ولم يلتزم بأصول الطب المعتبرة حسب الزمان والمكان كأن يجري الطبيب عملية جراحية قد استغني عنها بعملية جراحية أخرى أو أن يداوي قرحة الإثني عشر بإزالة جزء من المعدة والإثني عشر مع وجود أدوية تقوم بمداوة القرحة وشفائها. وكأن يخطئ الجراح نتيجة الإهمال وعدم الانتباه مثل نسيان الشاش وبعض أدوات الجراحة في جوف المريض أو إصابة شريان أو عضو بسبب من خطأ الجراح أو مساعده أو حدوث إنتان بسبب عدم تعقيم الأدوات الجراحية … فإن الطبيب وطاقمه الطبي يضمنون كل ضرر يلحق بالمريض لأن ما قاموا به يعتبر خروجاً عن الأصول الطبية المعتبرة. وينبغي أن يعلم أن الخطأ الذي يقع فيه الطبيب يضمنه الطبيب أولاً وكذلك المستشفى أو الجهة التي يعمل فيها الطبيب فإن إدارة المستشفى تتحمل جزءاً من المسؤولية لأن المريض عندما يتعامل مع المستشفى فإنه يتعامل مع شخص معنوي وهو لا يتعامل مع الطبيب بصفته الشخصية ولكن بصفته موظفاً لدى المستشفى. لذلك فإذا حصل خطأ أو تقصير من الطبيب أو أي فرد في الهيئة الطبية في المستشفى فإن إدارة المستشفى مسؤولة بالتضامن مع موظفيها حيث إن إدارة المستشفى تملك سلطة التوجيه والإشراف والرقابة. انظر المسؤولية الطبية ص 123. وأخيراً ينبغي التنبيه على أن تكون العلاقة بين الطبيب ومريضه علاقة طيبة فيتلطف الطبيب بالمريض ويكون به رحيماً وعليه حليماً وبجيبه رفيقاً فلا يطلب منه الأموال الطائلة ولا يحمله ما لا يطيق. ونلاحظ في أيامنا هذه أن مهنة الطب تلك المهنة الإنسانية تحولت عند بعض الأطباء وعند كثير من أصحاب المستشفيات إلى حسابات مادية خالصة. وختاماً أذكر وصف الطبيب المسلم كما تبنته الجمعية الطبية الإسلامية بأمريكا الشمالية سنة 1977 م والذي يعكس الفكرة الإسلامية لآداب مهنة الطب فالطبيب المسلم: [يجب أن يؤمن بالله وبتعاليم الإسلام وسلوكياته في حياته الخاصة والعامة. وأن يكون عارفاً لجميل والديه ومعلميه ومن هم أكبر منه. وأن يكون بسيطاً متواضعاً رفيقاً رحيماً صبوراً متحملاً. وأن يسلك الطريق المستقيم ويطلب من الله دوام التوفيق. وأن يظل دائماً على دراية بالعلوم الطبية الحديثة وينمي مهارته باستمرار طلب العون عندما يلزمه ذلك. وأن يستشعر أن الله هو الذي يخلق ويملك جسد المريض وعقله فيعامل المريض في إطار تعاليم الله متذكراً أن الحياة هي هبة الله للإنسان وأن الحياة الآدمية تبدأ من لحظة الإخصاب ولا يمكن سلبها إلا بيد الله أو برخصة منه ويتذكر أن الله يراقب كل فكر وعمل. وأن يلتزم بالقوانين التي تنظم مهنته وأن يتبع أوامر الله كمنهج وحيد حتى لو اختلفت مع متطلبات الناس أو رغبات المريض. وألا يصف أو يعطي أي شيء ضارٍ وأن يقدم المساعدة اللازمة دون اعتبار للقدرة المادية أو أصل المريض أو عمله وأن يقدم النصيحة اللازمة للجسم والعقل وأن يحفظ سر المريض. وأن يتوخى الأسلوب المناسب في التخاطب وأن يفحص المريض من الجنس الآخر في وجود شخص ثالث ما تيسر ذلك. وألا ينتقد زملاءه الأطباء أمام المرضى أو العاملين في الحقل الطبي. وأن يسعى دائماً إلى تبني الحكمة في كل قراراته] . مجلة مجمع الفقه الإسلامي عدد 8 ج 3/114. *****(18/129)
130 - مسائل طبية
علاج الطبيب للمرأة، يقول السائل: هل يعتبر دخول المرأة إلى عيادة الطبيب منفردة لأجل الكشف والمعالجة خلوة محرمة؟
الجواب: إن دخول المرأة منفردة إلى عيادة الطبيب لأجل الكشف والمعالجة يعتبر خلوة محرمة والأصل في المرأة المسلمة إذا مرضت واحتاجت للعلاج أن تراجع طبيبة مسلمة كانت أو غير مسلمة ولا يحل لها مراجعة الطبيب الرجل إذا وجدت الطبيبة وكان بإمكانها مراجعتها فإن لم توجد الطبيبة أو تعذرت مراجعتها أو لم تكن من أهل الاختصاص بمرض تلك المرأة فيجوز حينئذ أن تراجع الطبيب الرجل وهنا لا بدّ من الالتزام بالضوابط التالية في تعامل الطبيب مع المرأة الأجنبية: 1. أن تتم المعاينة والكشف بحضور محرم للمرأة أو زوجها أو امرأة موثوقة خشية الوقوع في الخلوة المنهي عنها شرعاً. 2. ألا يطلع الطبيب على شيء من بدنها إلا بمقدار ما تقتضيه ضرورة العلاج فيجب على الطبيب أن يستر جسد المريضة إلا موضع المعالجة. 3. إذا استطاع الطبيب معالجة المرأة بالنظر دون اللمس فهو الواجب وعلى الطبيب أن يغض بصره وأن يتق الله ربه في ذلك. 4. ينبغي للمرأة المسلمة إذا احتاجت للمعالجة عند طبيب رجل أن تختار الطبيب الثقة الأمين صاحب الخلق والدين. *****(18/130)
131 - التدخين
يجوز للزوج منع زوجته من التدخين، يقول السائل: إن زوجته تدخن وهو لا يدخن فهل يحق له أن يمنعها من التدخين؟
الجواب: لا شك لدي أن التدخين خبيث من الخبائث وقد ثبت ضرره قطعاً بما لا يدع مجالاً للشك في تحريمه وهذا أصح أقوال أهل العلم في حكم التدخين. وقد بين الأطباء والعلماء الأضرار الناتجة عن التدخين وآثاره السيئة على المدخن ومن حوله وآثاره الضارة على المجتمع بشكل عام. وقد سنت بعض الدول قوانين لمنع التدخين في الأماكن العامة وألزمت مصانع الدخان إثبات العبارات الدالة على ضرر التدخين على كل علبة سجائر كما وأن بعض الدول منعت الإعلان عن السجائر عبر وسائل الإعلام العامة وكل هذا وغيره من الإجراءات تمت بعد التأكد من أضرار التدخين القطعية على الإنسان. وأقول بعد هذا إنه يجب على الزوج أن يمنع زوجته من التدخين لأنه يمنعها من ارتكاب حرام لأن التدخين حرام كما قلت. والواجب على هذه الزوجة المدخنة أن تطيع زوجها وأن تمتنع عن التدخين حتى وإن لم تقتنع بحرمته فإن التدخين يترك رائحة كريهة وللزوج أن يمنع زوجته عن كل ما يؤدي للرائحة الكريهة من أكل الثوم والبصل وقد نص العلماء على حق الزوج في منع الزوجة من أكل الثوم والبصل. قال ابن عابدين: [وفي شرح العلامة الشيخ إسماعيل النابلسي والد سيدنا عبد الغني، على شرح الدرر بعد نقله أن للزوج منع الزوجة من أكل الثوم والبصل وكل ما ينتن رائحة الفم. قال: ومقتضاه المنع من شربها التتن - الدخان - لأنه ينتن الفم خصوصاً إذا كان الزوج لا يشربه أعاذنا الله تعالى منه وقد أفتى بالمنع من شربه شيخ مشايخنا المسيري وغيره] حاشية ابن عابدين 6/459. ومن المعلوم أنه ينبغي للزوجين أن تكون رائحتهما طيبة لأن ذلك من حق أحدهما على الآخر والتدخين يجعل الأسنان صفراء ورائحة الفم كريهة. وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم أي النساء خير قال: (التي تسره إذا نظر وتطيعه إذا أمر ولا تخالفه في نفسها ولا ماله بما يكره) رواه النسائي وأبو داود وإسناده صحيح. وفي رواية أخرى: (خير النساء من تسرك إذا أبصرت وتطيعك إذا أمرت وتحفظ غيبتك في نفسها ومالك) رواه الطبراني بإسناد صحيح. *****(18/131)
132 - ملك الموت لا يقال له عزرائيل
يقول السائل: إنه قرأ في إحدى المجلات الدينية أن ملاك الموت هو عزرائيل فهل صحيح أن ملك الموت يسمى [عزرائيل] ؟
الجواب: لا شك أن الإيمان بالملائكة هو أحد أركان الإيمان والملائكة من عالم الغيب وطريق معرفة الغيب الخبر الصحيح فقط أي ما ورد في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وهذا هو السبيل الوحيد لمعرفة أي شيء عن الملائكة وملك الموت ورد ذكره في القرآن الكريم في آية واحدة فقط قال تعالى: (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) سورة السجدة الآية 11. ولم يذكر في القرآن الكريم اسمه وإنما قال الله تعالى: (مَلَكُ الْمَوْتِ) . وكذلك لم يسمَّ ملك الموت في الأحاديث الصحيحة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد ورد ذكر ملك الموت في خمسة عشر حديثاً في كتب السنة التسعة وهي صحيح البخاري وصحيح مسلم وسنن أبي داود وسنن الترمذي وسنن النسائي وسنن ابن ماجة وموطأ مالك ومسند أحمد وسنن الدارمي وفي جميع هذه الأحاديث ورد ذكره بملك الموت ولم يسمَّ بعزرائيل أو بغيره. وقد ذكر الحافظ ابن كثير أن ملك الموت قد سمي بعزرائيل في بعض الآثار. تفسير ابن كثير 3/458. قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب: [… ولم يجئ مصرحاً باسمه في القرآن ولا في الأحاديث الصحيحة …] أصول الإيمان ص 14. وبناءً على ذلك فمن عقيدة المسلم الصحيحة الثابتة الإيمان بملك الموت ولا نسميه إلا بذلك ولا نسميه عزرائيل لأن ذلك لم يثبت. قال صاحب العقيدة الطحاوية: [ونؤمن بملك الموت الموكل بقبض أرواح العالمين] شرح العقيدة الطحاوية ص 404. *****(18/132)
133 - احاديث مكذوبة
(اطلبوا العلم ولو في الصين) ليس حديثاً، يقول السائل: إنه سمع خطيب الجمعة يقول: صح الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اطلبوا العلم ولو في الصين) فهل هذا الحديث صحيح كما زعم ذلك الخطيب؟
الجواب: إن هذا الحديث باطل بل قد ذكره ابن الجوزي في الموضوعات أي الأحاديث المكذوبة على الرسول صلى الله عليه وسلم. وقال الشوكاني: (رواه العقيلي وابن عدي عن أنس مرفوعاً. قال ابن حبان: وهو باطل لا أصل له وفي إسناده أبو عاتكة وهومنكر الحديث …) الفوائد المجموعة ص 272 وانظر المقاصد الحسنة ص 93 وكشف الخفاء 1/138. وقال الشيخ الألباني عن الحديث بأنه باطل ثم ذكر من رواه ثم قال: [وخلاصة القول أن هذا الحديث بشطره الأول - أي اطلبوا العلم ولو بالصين - الحق فيه ما قاله ابن حبان وابن الجوزي - أي باطل ومكذوب - إذ ليس له طريق يصلح للاعتضاد به] السلسلة الضعيفة 1/415-416. وأخيراً فإن من الواجب على خطباء المساجد أن يتأكدوا من درجة الأحاديث التي يذكرونها في خطبهم حتى لا يسهموا في الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن في الأحاديث الصحيحة والحسنة ما يغني ويكفي عن الأحاديث الباطلة والمكذوبة. *****(18/133)
134 - الغيبة
يقول السائل: ورد في الحديث: (لا غيبة لفاسق) فهل هذا الحديث ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ وهل تجوز غيبة الفاسق؟
الجواب: يجب أن يعلم أولاً أن الغيبة هي أن تذكر أخاك بما يكرهه لو بلغه سواء ذكرته بنقص في بدنه أو نسبه أو خلقه أو في فعله أو قوله أو دينه أو دنياه كما قال أبو حامد الغزالي في إحياء علوم الدين 3/140. وقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: ذكرك أخاك بما يكره. قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته) رواه مسلم. والغيبة من كبائر الذنوب عند جمهور أهل العلم. قال القرطبي: [لا خلاف أن الغيبة من الكبائر وأن من اغتاب أحداً عليه أن يتوب إلى الله عز وجل] تفسير القرطبي 16/337. والغيبة من المعاصي التي يتساهل فيها كثير من الناس لأنها كلام يجري على اللسان ومعظم الناس لا يلقون بالاً لما يتكلمون ولا يقدرون عواقب أمر الغيبة فقد ورد في شأنها من الترهيب ما تقشعر له قلوب المؤمنين فمن ذلك قول الله تعالى: (ولا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) سورة الحجرات الآية 12. وقال صلى الله عليه وسلم: (كل المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه وماله) رواه مسلم , وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: حسبك من صفية كذا وكذا - قال بعض الرواة: تعني قصيرة - فقال: لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته) رواه الترمذي وأبو داود والبيهقي وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود 3/923. وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم) رواه أحمد وأبو داود وصححه الشيخ الألباني في السلسة الصحيحة 2/59. وغير ذلك من الأحاديث راجعها إن شئت في كتاب " الزواجر عن اقتراف الكبائر " لابن حجر الهيتمي المكي 2/16-24. إذا تقرر هذا فنعود إلى السؤال فأقول أما ما ورد أنه (لا غيبة لفاسق) فهذا ليس حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد ورد من طرق كلها لا تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال العلامة ابن القيم: [قال الدارقطني والخطيب قد روي من طرق وهو باطل] المنار المنيف ص 134. وقال الشيخ الألباني: [باطل رواه الطبراني في الكبير وأبو الشيخ في التاريخ وابن عدي … الخ] سلسلة الأحاديث الضعيفة 2/53. وقال الشيخ المناوي: [قال الحاكم هذا حديث غير صحيح ولا يعتمد عليه وقال ابن عدي عن أحمد بن حنبل حديث منكر] فيض القدير 5/481. وقال الشيخ العجلوني بعد أن ذكر أقوال المحدثين في الحديث: [وبالجملة فالحديث كما قال العقيلي ليس له أصل وقال الفلاس إنه منكر] كشف الخفاء ومزيل الإلباس 2/172. وذكر مثل كلامه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين 7/558. وبهذا يظهر لنا أن هذا الحديث باطل وغير ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولكن أهل العلم يرون أن الفاسق المجاهر بفسقه تجوز غيبته ضمن الحالات التي تجوز فيها الغيبة. قال الإمام النووي: [اعلم أن الغيبة تباح لغرض صحيح شرعي لا يمكن الوصول إليه إلا بها وهو ستة أسباب: الأول: التظلم فيجوز للمظلوم أن يتظلم إلى السلطان والقاضي وغيرهما ممن له ولاية أو قدرة على إنصافه من ظالمه فيقول ظلمني فلان بكذا. الثاني: الاستعانة على تغيير المنكر ورد العاصي إلى الصواب فيقول لمن يرجو قدرته على إزالة المنكر فلان يعمل كذا فازجره عنه ونحو ذلك ويكون مقصوده التوصل إلى إزالة المنكر فإن لم يقصد ذلك كان حراماً. الثالث: الاستفتاء فيقول للمفتي ظلمني أبي أو أخي أو زوجي أو فلان بكذا فهل له ذلك؟ وما طريقي في الخلاص منه وتحصيل حقي ودفع الظلم؟ ونحو ذلك فهذا جائز للحاجة ولكن الأحوط والأفضل أن يقول: ما تقول في رجل أو شخص أو زوج كان من أمره كذا؟ فإنه يحصل به الغرض من غير تعيين ومع ذلك فالتعيين جائز … الرابع: تحذير المسلمين من الشر ونصيحتهم وذلك من وجوه: منها جرح المجروحين من الرواة والشهود وذلك جائز بإجماع المسلمين بل واجب للحاجة. ومنها المشاورة في مصاهرة إنسان أو مشاركته أو إيداعه أو معاملته أو غير ذلك أو مجاورته. ويجب على المشاوَر أن لا يخفي حاله بل يذكر المساوئ التي فيه بنية النصيحة. ومنها إذا رأى متفقهاً يتردد إلى مبتدع أو فاسق يأخذ عنه العلم وخاف أن يتضرر المتفقه بذلك فعليه نصيحته ببيان حاله بشرط أن يقصد النصيحة وهذا مما يغلط فيه وقد يحمل المتكلم بذلك الحسد ويلبس الشيطان عليه ذلك ويخيل إليه أنه نصيحة فليتفطن لذلك. ومنها أن يكون له ولاية لا يقوم بها على وجهها إما بأن لا يكون صالحاً لها وإما بأن يكون فاسقاً أو مغفلاً ونحو ذلك. فيجب ذكر ذلك لمن له عليه ولاية عامة ليزيله ويولي من يصلح أو يعلم ذلك منه ليعامله بمقتضى حاله ولا يغتر به وأن يسعى في أن يحثه على الاستقامة أو يستبدل به. الخامس: أن يكون مجاهراً بفسقه أو بدعته كالمجاهر بشرب الخمر ومصادرة الناس وأخذ المكس وجباية الأموال ظلماً وتولي الأمور الباطلة فيجوز ذكره بما يجاهر به ويحرم ذكره بغيره من العيوب إلا أن يكون لجوازه سبب آخر مما ذكرناه. السادس: التعريف فإذا كان الإنسان معروفاً بلقب كالأعمش والأعرج والأصم والأعمى والأحول وغيرهم جاز تعريفهم بذلك ويحرم إطلاقه على جهة التنقص ولو أمكن تعريفه بغير ذلك كان أولى. فهذه ستة أسباب ذكرها العلماء وأكثرها مجمع عليه ودلائلها من الأحاديث الصحيحة مشهورة فمن ذلك: عن عائشة رضي الله عنها أن رجلاً استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (ائذنوا له بئس أخو العشيرة - أي القبيلة -) متفق عليه. احتج به البخاري في جواز غيبة أهل الفساد وأهل الريب. وعنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أظن فلاناً وفلاناً يعرفان من ديننا شيئاً) رواه البخاري. قال الليث بن سعد أحد رواة هذا الحديث: [هذان الرجلان كانا من المنافقين] . وعن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها قالت: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: إن أبا الجهم ومعاوية خطباني؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما معاوية فصعلوك – أي فقير – لا مال له. وأما أبو الجهم فلا يضع العصا عن عاتقه) متفق عليه. وفي رواية لمسلم: (فأما أبو الجهم فضرَّاب للنساء) . وهو تفسير لرواية (لا يضع العصا عن عاتقه) وقيل معناه كثير الأسفار] رياض الصالحين ص 580-583. والفاسق الذي تجوز غيبته هو المجاهر بفسقه والفسق هو الخروج عن الطاعة وتجاوز الحد بالمعصية والفسق يقع بالقليل من الذنوب إذا كانت كبائر وبالكثير وأكثر ما يقال الفاسق لمن التزم حكم الشرع وأقرَّ به ثم أخلَّ بجميع أحكامه أو ببعضها. الموسوعة الفقهية 33/140. فتارك الصلاة فاسق عند كثير من العلماء وبعضهم يكفره وشارب الخمر فاسق ومرتكب المحرمات فاسق كالزاني والديوث فاسق وهو الذي يرى المنكر في أهله ويسكت فهؤلاء الفسقة وأمثالهم تجوز غيبتهم ليحذرهم الناس ويعرفوا حالهم. قال القرطبي: [ليس من هذا الباب غيبة الفاسق المعلن به المجاهر … وروي عن الحسن أنه قال: ثلاثة ليست لهم حرمة صاحب الهوى والفاسق المعلن والإمام الجائر] تفسير القرطبي 16/339. وقال الحسن البصري: [أترغبون عن ذكر الفاجر اذكروه بما فيه يحذره الناس] مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 28/219. وقال إبراهيم النخعي: [ثلاث كانوا لا يعدونهن من الغيبة: الإمام الجائر والمبتدع والفاسق المجاهر بفسقه] . وعن الحسن البصري قال: [ليس بينك وبين الفاسق حرمة] . وورد عن عمر بن الخطاب أنه قال: [ليس للفاجر حرمة] . روى هذه الآثار ابن أبي الدنيا في كتابه الصمت ص 128-130. وخلاصة الأمر أن غيبة الفاسق المجاهر بفسقه جائزة بل قد تكون واجبة في بعض الحالات. والمجاهرة بالمعاصي من المصائب التي ابتلي بها الناس ومن كثرة المجاهرة بالمعاصي صار كثير من الناس لا يعدونها شيئا ًكترك الصلاة فهو عند ثير من الناس شيء هين وسهل والعياذ بالله. فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين) رواه مسلم. وهم الذين يجاهرون بمعاصيهم. وأخيراً ينبغي التنبيه على أمر مهم ألا وهو نصيحة الفسقة بأن يتوبوا ويرجعوا إلى الله سبحانه وتعالى وأنه لا بد من الإنكار عليهم لما ثبت في الحديث من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) رواه مسلم. *****(18/134)
135 - الحياء
يقول السائل: يتداول الناس عبارتين تتعلقان بالحياء الأولى قولهم: لا حياء في الدين، والثانية ما أخذ بسيف الحياء فهو حرام
الجواب: ثبت في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الإيمان بضع وسبعون شعبة أو بضع وستون شعبة فأفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان) متفق عليه. وجاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يعظ أخاه في الحياء فقال: (الحياء من الإيمان) رواه مسلم. وفي حديث عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الحياء لا يأتي إلا بخير) رواه مسلم. وفي رواية أخرى: (الحياء خير كله) أو قال: (الحياء كله خير) رواه مسلم. والحياء خلق يبعث على اجتناب القبيح ويمنع من التقصير في حق ذي الحق كما ذكره الحافظ ابن حجر في فتح الباري 1/58. والحياء من الخصال المطلوبة في المسلم الصادق مع الله سبحانه وتعالى وقال العلماء: [الحياء من الحياة وعلى حسب حياة القلب يكون فيه قوة خلق الحياء وقلة الحياء من موت القلب والروح] الموسوعة الفقهية 18/262. وأولى الحياء هو الحياء من الله سبحانه وتعالى والحياء من الله سبحانه وتعالى ألا يراك حيث نهاك فيكون ذلك عن معرفة ومراقبة وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك) رواه البخاري ومسلم. وجاء في الحديث عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (استحيوا من الله حق الحياء. قلنا يا نبي الله إنا لنستحي والحمد الله. قال: ليس ذاك ولكن الاستحياء من الله حق الحياء هو أن تحفظ الرأس وما وعى وتحفظ البطن وما حوى وتتذكر الموت والبلى ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا فمن فعل ذلك فقد استحيا - يعني من الله - حق الحياء) رواه الترمذي وحسّنه الشيخ الألباني. صحيح سنن الترمذي 2/299. إذا تقرر هذا فنعود إلى الجملة الأولى وهي: [لاحياء في الدين] إن مراد العامة من هذه الجملة هو أن الحياء لا يمنع من السؤال في الدين ولو كان السؤال مما يستحي منه الناس وهذه الجملة صحيحة المعنى فقد ورد في حديث أم سلمة رضي الله عنه قال: (جاءت أم سليم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن الله لا يستحي من الحق فهل على المرأة من غسل إذا احتلمت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم إذا رأت الماء. فقالت أم سلمة: يا رسول الله وتحتلم المرأة؟ فقال: تربت يداك فبم يشبهها ولدها) رواه مسلم. قال الإمام النووي: [قولها " إن الله لا يستحي من الحق " معناه لا يمتنع من بيان الحق وضرب المثل …] شرح النووي على صحيح مسلم 1/550. وروى مسلم في صحيحه أن عائشة رضي الله عنه قالت: (نعم النساء نساء الأنصار لم يكن يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين) . فينبغي على المسلم أن يسأل عن أمر دينه ولا يمنعه الحياء من ذلك. وأما العبارة الثانية وهي: [ما أخذ بسيف الحياء فهو حرام] فمعناها صحيح أيضاً فلا يجوز للمسلم أن يأخذ مال غيره بالحياء فيمد يده إلى مال أخيه المسلم والآخذ يعلم أن صاحب المال يمنعه من أخذه ويؤيد هذا المعنى ما ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس) رواه أحمد والبيهقي والدارقطني وصححه الشيخ الألباني. إرواء الغليل 5/279. وجاء في رواية أخرى: (لا يحل للرجل أن يأخذ عصا أخيه بغير طيب نفسه) رواه أحمد وغيره. *****(18/135)
136 - احاديث ثابتة
يقول السائل: إنه سمع أحد المشايخ على إحدى المحطات الفضائية ينكر حديث سحر النبي صلى الله عليه وسلم لأنه بزعمه يتنافى مع عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما قولكم في ذلك؟ الجواب: ما قاله الشيخ المذكور أثار تساؤلات كثيرة عند من شاهدوا برنامجه وقد طرح آرائه حول الإمام البخاري وحديث سحر النبي صلى الله عليه وسلم وغير ذلك. وقد شاهدت بعض حديثه المتعلق بهذه المسألة وسمعته يقول: [إن كان النبي صلى الله عليه وسلم سحر فإن نصف أحكام الإسلام الثوابت تسقط] . واحتج بحديث مكذوب من وضع الزنادقة لتأكيد كلامه وهو أنه عليه الصلاة والسلام قال: (ما جاءكم عني فاعرضوه على كتاب الله فإن وافقه فخذوه وإلا فاضربوا به عرض الحائط) . واعتبر رده لحديث سحر النبي صلى الله عليه وسلم دفاعاً عن الرسول صلى الله عليه وسلم وعن دينه وأن البخاري مجرد راوٍ للأحاديث … إلى آخر كلامه. وأقول: إن الشيخ المذكور ليس أول من أنكر حديث سحر النبي صلى الله عليه وسلم ولن يكون آخرهم فإن كثيراً من الفلاسفة والعقلانيين الذين يحكّمون العقل في النصوص قد ردّوا هذا الحديث. وحديث سحر النبي صلى الله عليه وسلم حديث صحيح رواه الإمامان الجليلان البخاري ومسلم في صحيحيهما فهو حديث متفق عليه ومعلوم عند أهل العلم أن الحديث الذي يرويه الإمامان البخاري ومسلم هو في أعلى درجات الحديث الصحيح كما أن الحديث قد رواه غيرهما أيضاً كالإمام أحمد وابن ماجة وابن حبان. فحديث سحر النبي صلى الله عليه وسلم حديث ثابت صحيح لا شك في ذلك ولا ريب وكون النبي صلى الله عليه وسلم قد سحر لا يطعن في نبوته ولا في عصمته ولا في رسالته صلى الله عليه وسلم. وقد أجاب علماء الحديث وشرّاحه عن هذا الحديث وبينوا المراد منه. قال الحافظ ابن حجر: [قال المازري: أنكر بعض المبتدعة هذا الحديث وزعموا أنه يحط منصب النبوة ويشكك فيها، قالوا: وكل ما أدى إلى ذلك فهو باطل وزعموا أن تجويز هذا يعدم الثقة بما شرعوه من الشرائع إذ يحتمل على هذا أن يخيل إليه أنه يرى جبريل وليس هو ثَمَ، وأنه يوحى إليه بشيء ولم يوح إليه بشيء. قال المازري: وهذا كله مردود لأن الدليل قد قام على صدق النبي صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن الله تعالى وعلى عصمته في التبليغ والمعجزات شاهدات بتصديقه فتجويز ما قام الدليل على خلافه باطل وأما ما يتعلق ببعض أمور الدنيا التي لم يبعث لأجلها ولا كانت الرسالة من أجلها فهو في ذلك عرضة لما يعترض البشر كالأمراض فغير بعيد أن يخيل إليه في أمر من أمور الدنيا ما لا حقيقة له مع عصمته عن مثل ذلك في أمور الدين. قال: وقد قال بعض الناس إن المراد بالحديث أنه كان صلى الله عليه وسلم يخيل إليه أنه وطئ زوجاته ولم يكن وطئهن وهذا كثيراً ما يقع تخيله للإنسان في المنام فلا يبعد أن يخيل إليه في اليقظة. قلت - أي الحافظ ابن حجر -: وهذا قد ورد صريحاً في رواية ابن عيينة في الباب الذي يلي هذا ولفظه (حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن) وفي رواية الحميدي (أنه يأتي أهله ولا يأتيهم) قال الداودي: يُرى بضم أوله أي يظن … قال عياض: فظهر بهذا أن السحر إنما تسلط على جسده وسائر جوارحه لا على تمييزه ومعتقده …] فتح الباري 12/337– 338. وقال العلامة ابن القيم: فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج السحر الذي سحرته اليهود به وقد أنكر هذا طائفة من الناس وقالوا لا يجوز هذا عليه وظنوه نقصاً أو عيباً وليس الأمر كما زعموا بل هو من جنس ما كان يضرّ به صلى الله عليه وسلم من الأسقام والأوجاع وهو مرض من الأمراض وإصابته به كإصابته بالسم لا فرق بينهما وقد ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إن كان ليخيل إليه أنه يأتي نساءه ولم يأتهن وذلك أشد ما يكون من السحر. قال القاضي عياض: والسحر مرض من الأمراض وعارض من العلل يجوز عليه صلى الله عليه وسلم كأنواع الأمراض مما لا ينكر ولا يقدح في نبوته وأما كونه يخيل إليه أنه فعل الشيء ولم يفعله فليس في هذا ما يدخل عليه داخلة في شيء من صدقه لقيام الدليل والإجماع على عصمته من هذا وإنما هذا فيما يجوز طروه عليه في أمر دنياه التي لم يبعث لسببها ولا فضل من أجلها وهو فيها عرضة للآفات كسائر البشر فغير بعيد من أمورها ما لا حقيقة له ثم ينجلي عنه لما كان] زاد المعاد في هدي خير العباد 4/124. وقال الإمام الخطابي: [قد أنكر قوم من أصحاب الطبائع السحر وأبطلوا حقيقته ودفع آخرون من أهل الكلام هذا الحديث وقالوا: لو جاز أن يكون له تأثير في رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يؤمن أن يؤثر ذلك فيما يوحى إليه من أمر الشرع فيكون فيه ضلال الأمة. والجواب أن السحر ثابت وحقيقته موجودة … وقد قال الله تعالى: (يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ) وأمر بالاستعاذة منه فقال عز وجل: (وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ) . وورد في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبار لا ينكرها إلا من أنكر العيان والضرورة … فأما ما زعموا من دخول الضرر في الشرع بإثباته فليس كذلك لأن السحر إنما يعمل في أبدانهم وهم بشرٌ يجوز عليهم من العلل والأمراض ما يجوز على غيرهم وليس تأثير السحر في أبدانهم بأكثر من القتل وتأثير السم وعوارض الأسقام فيهم وقد قتل زكريا وابنه وَسُمَّ نبينا صلى الله عليه وسلم بخيبر فأما أمر الدين فإنهم معصومون فيما بعثهم الله جلّ ذكره وأرصدهم له وهو جل ذكره حافظ لدينه وحارس لوحيه أن يلحقه فساد أو تبديل وإنما كان خيّل إليه أنه يفعل الشيء من أمر النساء خصوصاً وهذا من جملة ما تضمنه قوله: (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ) فلا ضرر إذاً يلحقه فيما لحقه من السحر على نبوته وشريعته والحمد لله على ذلك] شرح السنة 12/187-188. وبهذه النقول عن هؤلاء العلماء الأعلام يظهر لنا جلياً أنه لا يجوز أن تكذب الأحاديث الصحيحة بمجرد فهم سيء فهمه من فهمه. وإني لأعجب من هذا الشيخ إذ يردّ حديثاً في الصحيحين ويستدل على ذلك بحديث مكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو: [ما جاءكم عني فاعرضوه على كتاب الله فإن وافقه فخذوه وإلا فاضربوا به عرض الحائط] . قال الحافظ ابن عبد البر: [قال عبد الرحمن بن مهدي: الزنادقة والخوارج وضعوا ذلك الحديث يعني ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما أتاكم عني فاعرضوه على كتاب الله فإن وافق كتاب الله فأنا قلته وإن خالف كتاب الله فأنا لم أقله وإنما أنا موافق كتاب الله وبه هداني] . وهذه الألفاظ لا تصح عنه صلى الله عليه وسلم عند أهل العلم بصحيح النقل من سقيمه وقد عارض هذا الحديث قوم من أهل الحديث وقالوا نحن نعرض هذا الحديث على كتاب الله قبل كل شيء ونعتمد على ذلك قالوا فلما عرضناه على كتاب الله وجدناه مخالفاً لكتاب الله لأنا لم نجد في كتاب الله ألا يقبل من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ما وافق كتاب الله بل وجدنا كتاب الله يطلق التآسي به والأمر بطاعته ويحذر من المخالفة عن أمره جملة على أي حال] جامع بيان العلم وفضله 2/191. وقال البيهقي: [والحديث الذي روي في عرض الحديث على القرآن باطل لا يصح وهو ينعكس على نفسه بالبطلان فليس في القرآن دلالة على عرض الحديث] مفتاح الجنة ص 6 نقلاً عن السنة ومكانتها في التشريع ص161. وقال الإمام يحيى بن معين عن الحديث السابق: وضعته الزنادقة. ومثل قوله قال الخطابي وابن حزم والصغاني والشوكاني وذكره ابن الجوزي في الموضوعات. انظر الفوائد المجموعة ص291 والإحكام لابن حزم 1/249-253 وكشف الخفاء 1/86 والمقاصد الحسنة ص 36. وقد فصل الشيخ الألباني الكلام على هذا الحديث وما في معناه في السلسلة الضعيفة 3/203-211. وأما ما قاله ذلك الشيخ عن الإمام البخاري: [أنه مجرد راوٍ للحديث] فهذا كلام لا يقال في حق إمام أهل الحديث في زمانه والمقتدى به في أوانه والمقدم على سائر أضرابه وأقرانه كما وصفه الحافظ ابن كثير. وقال ابن السبكي عن الإمام البخاري: [هو إمام المسلمين وقدوة الموحدين وشيخ المؤمنين والمعول عيه في أحاديث سيد المرسلين وحافظ نظام الدين] . وقد كتب العلماء عنه كثيراً وقال الحافظ ابن حجر بعد ذكر كلام العلماء فيه: [ولو فتحت باب ثناء الأئمة عليه ممن تأخر عن عصره لفني القرطاس ونفدت الأنفاس فذاك بحر لا ساحل له] هدى الساري 2/258. وأما صحيح الإمام البخاري فهو أصح كتاب في الدنيا بعد كتاب الله عز وجل قال الإمام النووي: [اتفق العلماء رحمهم الله على أن أصح الكتب بعد الكتاب العزيز الصحيحان البخاري ومسلم وتلقتهما الأمة بالقبول وكتاب البخاري أصحهما وأكثرهما فوائد …] . وقال ابن السبكي: [وأما كتابه الجامع الصحيح فأجل كتب الإسلام بعد كتاب الله] انظر عشرون حديثاً من صحيح البخاري ص 8 فما بعدها. ولا يتسع المقام لذكر ما قاله العلماء في الإمام البخاري وفي صحيحه. وأخيراً فهل مثل الإمام البخاري يقال فيه: إنه مجرد راوٍ؟ هذا كلام من لا يعرف مكانة الإمام البخاري ولا عرف فضله! *****(18/136)
137 - تغير الأحكام الشرعية
لا أثر للبيئة في تغير الأحكام الشرعية الثابتة بالنصوص، يقول السائل: إنه قرأ مقالاً يذكر فيه كاتبه أن الإمام الشافعي رحمه الله كان له مذهب فقهي في العراق ولمّا سافر إلى مصر كان له مذهب آخر وأن الشافعي غيَّر مذهبه الأول بسبب اختلاف البيئتين والمجتمعين العراقي والمصري. فما قولكم في ذلك؟
الجواب: الإمام الشافعي ثالث الأئمة الأربعة ومدوّن علم أصول الفقه في كتابه العظيم " الرسالة " وصاحب كتاب " الأم " في الفقه. هذا الإمام العظيم قال عنه تلميذه الإمام أحمد: [كان الشافعي كالشمس للدنيا وكالعافية للبدن فهل ترى لهذين من خَلَفٍ أو عنهما من عوض] . وقال فيه الإمام الحافظ المحدّث عبد الرحمن بن مهدي: [لما نظرت الرسالة للشافعي أذهلتني لأنني رأيت كلام رجل عاقل فصيح ناصح فإني لأكثر الدعاء له ما ظننت أن الله خلق مثل هذا الرجل] . وقد أثنى عليه العلماء المتقدمون والمتأخرون وهو أهل لذلك. انظر الإمام الشافعي فقيه السنة الأكبر ص 5. ومن المعلوم أن فقه الإمام الشافعي مرّ بعدة مراحل أثناء حياة الإمام ومن المشهور أن الشافعي له مذهبان قديم وجديد أما القديم فكان في العراق وأما الجديد فكان في مصر ومن هنا جاءت المقولة المشهورة بين طلبة العلم أن الشافعي قد غيَّر مذهبه عندما سكن مصر ونريد أن ندقق في هذه القضية ونسأل هل فعلاً أن الإمام الشافعي غيَّر مذهبه؟ وما مدى هذا التغيير؟ الحقيقة أنه ليس صحيحاً أن الإمام الشافعي غير مذهبه القديم وألغاه تماماً ثم وضع مذهباً جديداً في مصر وخاصة أن فترة إقامته في مصر كانت قصيرة حيث إن إقامته لم تزد على أربع سنوات وهذه مدة لا تكفي لتغيير المذهب جملة وتفصيلاً. إن الفترة التي عاشها الشافعي في مصر جاءت بعد أن نضجت آراؤه وتكامل اجتهاده فأخذ يمحص آرائه السابقة ويعيد النظر فيها ودرس فيها أصوله التي بنى أقواله عليها ناقداً لها فاحصاً كاشفاً فهذا الإمام الذي كان يتسامى فلا يترك قولاً من غير نقد ولا تمحيص وكشف لمحاسنه ومساويه، وقربه من السنة أو بعده عنها قد أخذ أيضاً يدرس آراء نفسه هذه الدراسة الناقدة الفاحصة الكاشفة. ثم هو يدون ما انتهى إليه من دراسته فيدون رسالته ويكتب مسائل كثيرة له أو يملي أخرى ويروي عنه أصحابه جملة آرائه في تلك الفترة وينقلون خلافاته مع غيره من الفقهاء. انظر كتاب " الإمام الشافعي حياته وعصره – آراؤه وفقهه " للشيخ محمد أبو زهرة ص 129. وفي مدة إقامت في مصر أعاد كتابة رسالته في الأصول كتابة جديدة زاد فيها وحذف منها وأبقى لب رسالته القديمة ودرس آراءه في الفروع فعدل عن بعضها إلى جديد لم يقله وكان له بذلك قديم قد رجع عنه وجديد قد اهتدى إليه وقد يتردد بين الجديد والقديم فيذكر الرأيين من غير أن يرجع عن أولهما. المرجع السابق ص 128. وليس صحيحاً أنه بدّل جميع أقواله أو أكثرها وإنما بدّل بعضها وليس عليه في ذلك جناح فالعالم المجتهد المتجرد لطلب الحق يدور مع الحق حيث دار ومن الطبيعي لإمام مثل الشافعي له ذكاؤه وعقله وفهمه وله الثروة الضخمة من الأدلة وأقوال الصحابة ومن بعدهم وفتاوى العلماء وأدلة أولئك وهؤلاء – أن يقارن ويوازن ويهمل رأياً كان يراه ويعود إلى رأي لم يكن يراه أو يأتي برأي جديد. وليس الشافعي في هذا بدعاً من المجتهدين فالأئمة الثلاثة: أبو حنيفة ومالك وأحمد وغيرهم كثيراً ما رأوا رأياً فثبت لديهم غيره بالأثر أو النظر فرجعوا عن الأول وكثيراً ما ينقل رواة المذهب روايتين أو أكثر في مسألة واحدة عن إمامهم. الإمام الشافعي / عبد الغني الدقر ص 153-154. إن الإمام الشافعي كما سبق في بداية الجواب هو أول من دوّن علم أصول الفقه فهو رأس هذا العلم ومعلوم أن علم أصول الفقه هو العلم الذي يبين فيه قواعد وضوابط استنباط الأحكام الشرعية أي الفقه فالشافعي أعلم العلماء في قواعد الاستنباط وأصول الاجتهاد وقد بين الأصول التي بنى عليها مذهبه وليس من هذه الأصول تغير المجتمعات أو البيئات فأصول مذهب الشافعي الجديد هي: 1. الكتاب والسنة. 2. الإجماع فيما ليس فيه نص كتاب أو سنة. 3. قول الصحابي الذي لا يعرف له مخالف من الصحابة. 4. التخير من أقوال الصحابة عند اختلافهم. 5. القياس على ما سبق. ونلاحظ أن اختلاف البيئات أو المجتمعات ليس من أصول الشافعي ولا من أصول أحد من أئمة الإسلام فأصول الأحكام الشرعية ثابتة لا تقبل التغيير ولا التبديل. كما لو أننا لو ألقينا نظرة سريعة على بعض المسائل التي اختلف فيها اجتهاد الإمام الشافعي وغير رأيه فيها فكان له فيها قولان قديم وجديد لرأينا يقيناً أن لا علاقة لتغير البيئات والمجتمعات بها وسأورد ثلاث مسائل من التي اختلف فيها اجتهاد الشافعي فكان له فيها مذهبان: المسألة الأولى: قال الإمام الشافعي في القديم: لا يُسن قراءة سورة بعد الفاتحة في الركعتين الثالثة والرابعة. وقال في الجديد: يستحب قراءة سورة بعد الفاتحة في الركعتين الثالثة والرابعة. المجموع 3/386 وفرائد الفوائد ص 61. المسألة الثانية: قضاء الصوم عن الميت قال في القديم: يصوم عنه وليه. وقال في الجديد: لا يصوم عنه وليه. الأشباه والنظائر للسيوطي ص 813 والمجموع 6/368. المسألة الثالثة: اشترط الإمام الشافعي في الركاز الذي يجب فيه الخمس أن يبلغ نصاباً وهذا قوله في الجديد أما في القديم فلم يشترط ذلك. المجموع 6/77. ونلاحظ أنه لا أثر لاختلاف البيئة والمجتمع في اختلاف قولي الإمام الشافعي القديم والجديد في هذه المسائل. وإنما يرجع سبب اختلاف قولي الإمام الشافعي في هذه المسائل إلى الأدلة الشرعية في كل منها. ففي المسألة الأولى لماّ ثبت عند الإمام الشافعي حديث أبي قتادة رضي الله عنه قال به وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كان يقرأ في صلاة الظهر في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورة في كل ركعة وكان يسمعنا الآية أحياناً وكان يطيل في الأولى ما لا يطيل في الثانية وكان يقرأ في الركعتين الأخيرتين بفاتحة الكتاب) رواه البخاري ومسلم. وفي المسألة الثانية احتج الشافعي بما جاء عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من مات وعليه صيام فليطعم عنه مكان كل يوم مسكين) . وحجة القديم بصحة صوم الولي عنه حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من مات وعليه صوم صام عنه وليه) وقد نقل عن الشافعي أنه قال: قد روي في ذلك خبر فإن صح قلت به. المجموع 6/368-369. وفي المسألة الثالثة: استدل الشافعي لعدم اشتراط بلوغ النصاب في الركاز بعموم الحديث (وفي الركاز الخمس) حيث لم يحدد فيه نصاب. وفي الجديد اشترط النصاب اعتماداً على أن الركاز مال مستفاد من الأرض فاختص بما تجب فيه الزكاة قدراً أو نوعاً كالمعدن. مغني المحتاج 2/103. وهكذا يمكن أن يقال في جميع المسائل التي رجع فيها الشافعي عن قوله القديم وقال بالقول الجديد لأن المجتهد يرجع عن قول اجتهد فيه بناءاً على الدليل. فمن المعلوم عند أهل العلم أن تغيير الفتوى في المسألة الواحدة من العالم الواحد لا بدّ له من سبب صحيح فإذا بنى المجتهد فتواه على اجتهاد ثم بلغه حديث نبوي لم يكن قد سمع به من قبل والفتوى تعارضه يلزمه العدول فوراً عن قوله إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم. وأخيراً ينبغي التنبيه على أن الفقهاء والعلماء قد قرروا أن الأحكام الاجتهادية التي تبنى على العرف والمصلحة يمكن أن تتغير بتغير الأزمنة نظراً لاختلاف الأعراف من زمان إلى زمان وأما الأحكام المنصوص عليها فهذه ثابتة لا يمكن أن يدخلها التغيير والتبديل. قال العلامة ابن عابدين: [كثير من الأحكام تختلف باختلاف الزمان لتغير عرف أهله أو لحدوث ضرورة أو لفساد أهل الزمان بحيث لو بقي الحكم على ما كان عليه أولاً للزم منه المشقة والضرر بالناس ولخالف قواعد الشريعة الإسلامية المبنية على التخفيف والتيسير ودفع الضرر والفساد لهذا نرى مشايخ المذهب خالفوا ما نص عليه المجتهد في مواضع كثيرة بناها على ما كان في زمنه لعلمهم بأنه لو كان في زمنهم لقال بما قالوا به أخذاً من قواعد مذهبه] المدخل الفقهي العام 2/983. وقال علي حيدر شارح المجلة: (إن الأحكام التي تتغير بتغير الأزمان هي الأحكام المستندة على العرف والعادة لأنه بتغير الأزمان تتغير احتياجات الناس وبناءً على هذا التغير يتبدل أيضاً العرف والعادة وبتغير العرف والعادة تتغير الأحكام حسبما أوضحنا آنفاً بخلاف الأحكام المستندة إلى الأدلة الشرعية التي لم تبن على العرف والعادة فإنها لا تتغير …) درر الحكام 1/47. وقال الشيخ مصطفى الزرقا: [وقد اتفقت كلمة فقهاء المذاهب على أن الأحكام التي تتبدل بتبدل الزمان وأخلاق الناس هي الأحكام الاجتهادية من قياسية ومصلحية أي التي قررها الاجتهاد بناءاً على القياس أو على دواعي المصلحة وهي المقصودة بالقاعدة الآنفة الذكر. أما الأحكام الأساسية التي جاءت الشريعة لتأسيسها وتوطيدها بنصوصها الأصلية الآمرة الناهية كحرمة المحرمات المطلقة وكوجوب التراضي في العقود … إلى غير ذلك من الأحكام والمبادئ الشرعية الثابتة التي جاءت الشريعة لتأسيسها ومقاومة خلافها فهذه لا تتبدل بتبدل الأزمان] المدخل الفقهي العام 2/934-935. وبعد هذا البيان يظهر لنا جليا أن القول بأن الإمام الشافعي غير مذهبه لما حلَّ في مصر نظراً لاختلاف البيئة والمجتمع قول باطل يؤدي إلى نقض أصول الشريعة والتلاعب بها والإمام الشافعي ذلك الأصولي العظيم مبرؤ مما ينسب إليه. *****(18/137)
138 - البيئة والحكم الشرعي
لا أثر للبيئة في تغير الأحكام الشرعية الثابتة بالنصوص، يقول السائل: إنه قرأ مقالاً يذكر فيه كاتبه أن الإمام الشافعي رحمه الله كان له مذهب فقهي في العراق ولمّا سافر إلى مصر كان له مذهب آخر وأن الشافعي غيَّر مذهبه الأول بسبب اختلاف البيئتين والمجتمعين العراقي والمصري. فما قولكم في ذلك؟
الجواب: الإمام الشافعي ثالث الأئمة الأربعة ومدوّن علم أصول الفقه في كتابه العظيم " الرسالة " وصاحب كتاب " الأم " في الفقه. هذا الإمام العظيم قال عنه تلميذه الإمام أحمد: [كان الشافعي كالشمس للدنيا وكالعافية للبدن فهل ترى لهذين من خَلَفٍ أو عنهما من عوض] . وقال فيه الإمام الحافظ المحدّث عبد الرحمن بن مهدي: [لما نظرت الرسالة للشافعي أذهلتني لأنني رأيت كلام رجل عاقل فصيح ناصح فإني لأكثر الدعاء له ما ظننت أن الله خلق مثل هذا الرجل] . وقد أثنى عليه العلماء المتقدمون والمتأخرون وهو أهل لذلك. انظر الإمام الشافعي فقيه السنة الأكبر ص 5. ومن المعلوم أن فقه الإمام الشافعي مرّ بعدة مراحل أثناء حياة الإمام ومن المشهور أن الشافعي له مذهبان قديم وجديد أما القديم فكان في العراق وأما الجديد فكان في مصر ومن هنا جاءت المقولة المشهورة بين طلبة العلم أن الشافعي قد غيَّر مذهبه عندما سكن مصر ونريد أن ندقق في هذه القضية ونسأل هل فعلاً أن الإمام الشافعي غيَّر مذهبه؟ وما مدى هذا التغيير؟ الحقيقة أنه ليس صحيحاً أن الإمام الشافعي غير مذهبه القديم وألغاه تماماً ثم وضع مذهباً جديداً في مصر وخاصة أن فترة إقامته في مصر كانت قصيرة حيث إن إقامته لم تزد على أربع سنوات وهذه مدة لا تكفي لتغيير المذهب جملة وتفصيلاً. إن الفترة التي عاشها الشافعي في مصر جاءت بعد أن نضجت آراؤه وتكامل اجتهاده فأخذ يمحص آرائه السابقة ويعيد النظر فيها ودرس فيها أصوله التي بنى أقواله عليها ناقداً لها فاحصاً كاشفاً فهذا الإمام الذي كان يتسامى فلا يترك قولاً من غير نقد ولا تمحيص وكشف لمحاسنه ومساويه، وقربه من السنة أو بعده عنها قد أخذ أيضاً يدرس آراء نفسه هذه الدراسة الناقدة الفاحصة الكاشفة. ثم هو يدون ما انتهى إليه من دراسته فيدون رسالته ويكتب مسائل كثيرة له أو يملي أخرى ويروي عنه أصحابه جملة آرائه في تلك الفترة وينقلون خلافاته مع غيره من الفقهاء. انظر كتاب " الإمام الشافعي حياته وعصره – آراؤه وفقهه " للشيخ محمد أبو زهرة ص 129. وفي مدة إقامت في مصر أعاد كتابة رسالته في الأصول كتابة جديدة زاد فيها وحذف منها وأبقى لب رسالته القديمة ودرس آراءه في الفروع فعدل عن بعضها إلى جديد لم يقله وكان له بذلك قديم قد رجع عنه وجديد قد اهتدى إليه وقد يتردد بين الجديد والقديم فيذكر الرأيين من غير أن يرجع عن أولهما. المرجع السابق ص 128. وليس صحيحاً أنه بدّل جميع أقواله أو أكثرها وإنما بدّل بعضها وليس عليه في ذلك جناح فالعالم المجتهد المتجرد لطلب الحق يدور مع الحق حيث دار ومن الطبيعي لإمام مثل الشافعي له ذكاؤه وعقله وفهمه وله الثروة الضخمة من الأدلة وأقوال الصحابة ومن بعدهم وفتاوى العلماء وأدلة أولئك وهؤلاء – أن يقارن ويوازن ويهمل رأياً كان يراه ويعود إلى رأي لم يكن يراه أو يأتي برأي جديد. وليس الشافعي في هذا بدعاً من المجتهدين فالأئمة الثلاثة: أبو حنيفة ومالك وأحمد وغيرهم كثيراً ما رأوا رأياً فثبت لديهم غيره بالأثر أو النظر فرجعوا عن الأول وكثيراً ما ينقل رواة المذهب روايتين أو أكثر في مسألة واحدة عن إمامهم. الإمام الشافعي / عبد الغني الدقر ص 153-154. إن الإمام الشافعي كما سبق في بداية الجواب هو أول من دوّن علم أصول الفقه فهو رأس هذا العلم ومعلوم أن علم أصول الفقه هو العلم الذي يبين فيه قواعد وضوابط استنباط الأحكام الشرعية أي الفقه فالشافعي أعلم العلماء في قواعد الاستنباط وأصول الاجتهاد وقد بين الأصول التي بنى عليها مذهبه وليس من هذه الأصول تغير المجتمعات أو البيئات فأصول مذهب الشافعي الجديد هي: 1. الكتاب والسنة. 2. الإجماع فيما ليس فيه نص كتاب أو سنة. 3. قول الصحابي الذي لا يعرف له مخالف من الصحابة. 4. التخير من أقوال الصحابة عند اختلافهم. 5. القياس على ما سبق. ونلاحظ أن اختلاف البيئات أو المجتمعات ليس من أصول الشافعي ولا من أصول أحد من أئمة الإسلام فأصول الأحكام الشرعية ثابتة لا تقبل التغيير ولا التبديل. كما لو أننا لو ألقينا نظرة سريعة على بعض المسائل التي اختلف فيها اجتهاد الإمام الشافعي وغير رأيه فيها فكان له فيها قولان قديم وجديد لرأينا يقيناً أن لا علاقة لتغير البيئات والمجتمعات بها وسأورد ثلاث مسائل من التي اختلف فيها اجتهاد الشافعي فكان له فيها مذهبان: المسألة الأولى: قال الإمام الشافعي في القديم: لا يُسن قراءة سورة بعد الفاتحة في الركعتين الثالثة والرابعة. وقال في الجديد: يستحب قراءة سورة بعد الفاتحة في الركعتين الثالثة والرابعة. المجموع 3/386 وفرائد الفوائد ص 61. المسألة الثانية: قضاء الصوم عن الميت قال في القديم: يصوم عنه وليه. وقال في الجديد: لا يصوم عنه وليه. الأشباه والنظائر للسيوطي ص 813 والمجموع 6/368. المسألة الثالثة: اشترط الإمام الشافعي في الركاز الذي يجب فيه الخمس أن يبلغ نصاباً وهذا قوله في الجديد أما في القديم فلم يشترط ذلك. المجموع 6/77. ونلاحظ أنه لا أثر لاختلاف البيئة والمجتمع في اختلاف قولي الإمام الشافعي القديم والجديد في هذه المسائل. وإنما يرجع سبب اختلاف قولي الإمام الشافعي في هذه المسائل إلى الأدلة الشرعية في كل منها. ففي المسألة الأولى لماّ ثبت عند الإمام الشافعي حديث أبي قتادة رضي الله عنه قال به وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كان يقرأ في صلاة الظهر في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورة في كل ركعة وكان يسمعنا الآية أحياناً وكان يطيل في الأولى ما لا يطيل في الثانية وكان يقرأ في الركعتين الأخيرتين بفاتحة الكتاب) رواه البخاري ومسلم. وفي المسألة الثانية احتج الشافعي بما جاء عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من مات وعليه صيام فليطعم عنه مكان كل يوم مسكين) . وحجة القديم بصحة صوم الولي عنه حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من مات وعليه صوم صام عنه وليه) وقد نقل عن الشافعي أنه قال: قد روي في ذلك خبر فإن صح قلت به. المجموع 6/368-369. وفي المسألة الثالثة: استدل الشافعي لعدم اشتراط بلوغ النصاب في الركاز بعموم الحديث (وفي الركاز الخمس) حيث لم يحدد فيه نصاب. وفي الجديد اشترط النصاب اعتماداً على أن الركاز مال مستفاد من الأرض فاختص بما تجب فيه الزكاة قدراً أو نوعاً كالمعدن. مغني المحتاج 2/103. وهكذا يمكن أن يقال في جميع المسائل التي رجع فيها الشافعي عن قوله القديم وقال بالقول الجديد لأن المجتهد يرجع عن قول اجتهد فيه بناءاً على الدليل. فمن المعلوم عند أهل العلم أن تغيير الفتوى في المسألة الواحدة من العالم الواحد لا بدّ له من سبب صحيح فإذا بنى المجتهد فتواه على اجتهاد ثم بلغه حديث نبوي لم يكن قد سمع به من قبل والفتوى تعارضه يلزمه العدول فوراً عن قوله إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم. وأخيراً ينبغي التنبيه على أن الفقهاء والعلماء قد قرروا أن الأحكام الاجتهادية التي تبنى على العرف والمصلحة يمكن أن تتغير بتغير الأزمنة نظراً لاختلاف الأعراف من زمان إلى زمان وأما الأحكام المنصوص عليها فهذه ثابتة لا يمكن أن يدخلها التغيير والتبديل. قال العلامة ابن عابدين: [كثير من الأحكام تختلف باختلاف الزمان لتغير عرف أهله أو لحدوث ضرورة أو لفساد أهل الزمان بحيث لو بقي الحكم على ما كان عليه أولاً للزم منه المشقة والضرر بالناس ولخالف قواعد الشريعة الإسلامية المبنية على التخفيف والتيسير ودفع الضرر والفساد لهذا نرى مشايخ المذهب خالفوا ما نص عليه المجتهد في مواضع كثيرة بناها على ما كان في زمنه لعلمهم بأنه لو كان في زمنهم لقال بما قالوا به أخذاً من قواعد مذهبه] المدخل الفقهي العام 2/983. وقال علي حيدر شارح المجلة: (إن الأحكام التي تتغير بتغير الأزمان هي الأحكام المستندة على العرف والعادة لأنه بتغير الأزمان تتغير احتياجات الناس وبناءً على هذا التغير يتبدل أيضاً العرف والعادة وبتغير العرف والعادة تتغير الأحكام حسبما أوضحنا آنفاً بخلاف الأحكام المستندة إلى الأدلة الشرعية التي لم تبن على العرف والعادة فإنها لا تتغير …) درر الحكام 1/47. وقال الشيخ مصطفى الزرقا: [وقد اتفقت كلمة فقهاء المذاهب على أن الأحكام التي تتبدل بتبدل الزمان وأخلاق الناس هي الأحكام الاجتهادية من قياسية ومصلحية أي التي قررها الاجتهاد بناءاً على القياس أو على دواعي المصلحة وهي المقصودة بالقاعدة الآنفة الذكر. أما الأحكام الأساسية التي جاءت الشريعة لتأسيسها وتوطيدها بنصوصها الأصلية الآمرة الناهية كحرمة المحرمات المطلقة وكوجوب التراضي في العقود … إلى غير ذلك من الأحكام والمبادئ الشرعية الثابتة التي جاءت الشريعة لتأسيسها ومقاومة خلافها فهذه لا تتبدل بتبدل الأزمان] المدخل الفقهي العام 2/934-935. وبعد هذا البيان يظهر لنا جليا أن القول بأن الإمام الشافعي غير مذهبه لما حلَّ في مصر نظراً لاختلاف البيئة والمجتمع قول باطل يؤدي إلى نقض أصول الشريعة والتلاعب بها والإمام الشافعي ذلك الأصولي العظيم مبرؤ مما ينسب إليه. *****(18/138)
139 - البيئة والحكم الشرعي
التزام المسلمين بالأحكام الشرعية في بلاد غير المسلمين, يقول السائل: إنه سمع قولاً لأحد العلماء حول التزام المسلم الذي يعيش في بلاد غير المسلمين بالقوانين التي يضعها غير المسلمين وأن على المسلم احترام تلك الأنظمة وإن خالفت الدين الإسلامي مثل منع المرأة المسلمة من ارتداء الجلباب الشرعي فعلى المسلمة أن تطيع ذلك ولا تلبس الجلباب الشرعي فما قولكم في ذلك؟
الجواب: إن على المسلم الذي يقيم في ديار غير المسلمين أن يفرق بين الأنظمة التي يضعها أهل تلك البلاد والتي لا تتعارض مع أحكام ديننا الإسلامي الحنيف وبين الأنظمة والقوانين التي تعارض أحكام الشرع الثابتة بنصوص صريحة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أو التي اتفق عليها أكثر أهل العلم. فمثلاً إذا كان نظام السير في دولة غربية يفرض على السائق أن لا يحصل على رخصة السياقة إلا إذا بلغ سناً معيناً وأن على السائق أن يجري فحصاً سنوياً لسمعه وبصره أو نحو ذلك فالمسلم الذي يعيش في تلك البلاد يطيع ذلك النظام ولا بأس عليه. وأما إذا فرض القانون على المسلم الذي يعيش في ديار غير المسلمين أن لا يصلي أو أن لا يصوم أو فرضوا على المرأة المسلمة ألا تلبس الجلباب الشرعي وأن تخرج سافرة فيحرم على المسلم طاعتهم لأن الطاعة لها حدود لا يجوز تجاوزها فإذ أُمِرَ المسلم بالقيام بمعصية سواء أكان الآمر مسلماً أو غير مسلم حاكماً أو غير حاكم فلا يجوز للمسلم الطاعة في المعصية. وقد ثبت في الحديث الصحيح عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة) رواه البخاري. وقد نص العلماء على أن الطاعة تكون في غير معصية فقد روى الإمام البخاري الحديث السابق في (باب السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية) صحيح البخاري مع فتح الباري 16/239. وقال ابن خواز منداد من كبار فقهاء المالكية: [وأما طاعة السلطان فتجب فيما كان لله فيه طاعة ولا تجب فيما كان فيه معصية] تفسير القرطبي 5/259. ومما يدل على أن الطاعة تكون في المعروف ما ثبت في الحديث الصحيح عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية وأمَّر عليهم رجلاً من الأنصار وأمرهم أن يطيعوه. فغضب عليهم وقال: أليس قد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن تطيعوني؟ قالوا: بلى. قال: عزمت عليكم لما جمعتم حطباً وأوقدم ناراً ثم دخلتم فيها. فجمعوا حطباً فأوقدوا ولما هموا بالدخول نظر بعضهم إلى بعض، فقال بعضهم: إنما تبعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فراراً من النار أفندخلها؟ فبينما هم كذلك إذ خمدت النار وسكن غضبه فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: لو دخلوها ما خرجوا منها أبداً إنما الطاعة في المعروف) رواه البخاري. وجاء في حديث آخر عن عمران بن حصين رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا طاعة لأحد في معصية الخالق) رواه احمد والبزار وقال الحافظ ابن حجر: وسنده قوي. فتح الباري 5/241، وقال الألباني: وإسناده صحيح على شرط مسلم. وجاء في رواية أخرى: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) وهي رواية صحيحة. راجع سلسلة الأحاديث الصحيحة للشيخ الألباني 1/137-144. إذا ثبت هذا فأقول إن على المسلم الذي يعيش في ديار غير المسلمين أن ينظر وأن يقيس الأمور بمقياس الشرع فإذا كان ما ألزم به من أنظمة وقوانين تلك البلاد لا يعد معصية فلا بأس أن يعمل بها وأما إن كان في ذلك معصية ومخالفة واضحة لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فتحرم عليه الطاعة. قال الحافظ ابن حجر: (فإذا داهن فعليه الإثم ومن عجز وجبت عليه الهجرة من تلك الأرض) فتح الباري 5/241. وأوضح الأمر بمثال عملي مما يتعرض له المسلمون في بعض البلاد الغربية فقد ألزمت بعض المؤسسات التعليمية في إحدى الدول الغربية الفتيات المسلمات بخلع الجلباب الشرعي ومنعتهن من الدخول إلى تلك المؤسسات إلا باللباس الذي يظهر العورة ولا يستر البدن. والسؤال الذي طرح نفسه هو: ما حكم ارتداء المرأة المسلمة للجلباب الشرعي؟ الجواب: إن اللباس الشرعي الذي يستر ما أمر الله بستره فرض في حق المرأة المسلمة فلا يجوز لها الخروج من البيت إلا إذا سترت ما أمر الله بستره قال تعالى (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) سورة الأحزاب 59. وقال تعالى: (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ) سورة النور الآية 31. وبناءاً على هذه النصوص الشرعية وغيرها يحرم على المرأة المسلمة أن تخرج من بيتها إلى السوق أو المدرسة أو الجامعة أو المؤسسة التي تعمل فيها إلا وهي ملتزمة باللباس الشرعي الذي أوجبه الله تعالى فإذا ألزمت المرأة المسلمة بنظام أو قانون بأن تخلع اللباس الشرعي فلا يجوز لها أن تطيع من أمرها بذلك لأنه يأمرها بمعصية الله تبارك وتعالى ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. وينبغي التنبيه على أنه لو تعلق الأمر بمسألة خلافية بين فقهاء المسلمين فاخذ الإنسان بالرأي الأخف فلا حرج في ذلك وإن كان فيه موافقة لنظام وقوانين غير المسلمين. فمثلاً لو منعت امرأة من تغطية وجهها في مؤسسة أو جامعة أو مصنع فالتزمت بذلك فلا حرج عليها إن لم تغط وجهها لأن تغطية الوجه ليس فرضاً متفقاً عليه بين علماء المسلمين فكثير من الفقهاء يرون عدم وجوب تغطية المرأة لوجهها وهذا الرأي معتبر ومستند على أدلة قوية فلو أن المرأة المسلمة أخذت بهذا الرأي فلا حرج عليها إن شاء الله. *****(18/139)
140 - إخفاء العمل عن الناس ثم علمهم
يقول السائل: ما قولكم في رجل يُسئل: هل صليت العصر؟ فيقول: لقد أتيت الآن من المسجد الأقصى حيث صليت جماعة. وفي آخر صائم ويسر أشد السرور إذا دعاه أحد لتناول شراب أو طعام لينتهز الفرصة ويقول: إني صائم. وفي آخر تصدق بصدقة وأخفاها ثم انكشف أمرها فانتعش صدره فرحاً بأن الناس عرفوا أنه قصد إخفاءها. وفي آخر أيضاً تبرع ببناء مسجد وعندما يذكر الموضوع أمامه يقول: بل وتنازلت أيضاً عن أجرة دكان لي لتنفق على ذلك المسجد. أفتونا مأجورين؟
الجواب: إن السرور الحاصل للإنسان عندما تعرف طاعته وفرحه بعلم الناس بعبادته ليس من الرياء لأن هذا الأمر طرأ بعد الفراغ من العبادة. وليس من الرياء أيضاً أن يسر الإنسان بفعل الطاعة لأن ذلك دليل إيمانه وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من سرته حسنته وساءته سيئتة فذلك المؤمن) رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة والحاكم وصححه ووافقه الذهبي. وقال الترمذي: حسن صحيح غريب. وورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (قلت يا رسول الله: بينما أنا في بيتي في مصلاي إذا دخل عليَّ رجل فأعجبني الحال التي رآني عليها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رحمك الله يا أبا هريرة لك أجران أجر السر وأجر العلانية) رواه البغوي في شرح السنة 14/328. وجاء في رواية أخرى عن أبي هريرة: (أن رجلاً قال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الرجل يعمل العمل ويُسِرُهُ - أي يخفيه - فإذا اطُّلع عليه سَرَّهَ؟ قال: له أجران أجر السر وأجر العلانية) رواه الترمذي وقال: حديث غريب؟ ورواه ابن حبان وصححه ورواه ابن ماجة. وقال الإمام الترمذي: [وقد فسر بعض أهل العلم هذا الحديث بأن معناه أن يعجبه ثناء الناس عليه بالخير لقول النبي صلى الله عليه وسلم (أنتم شهداء الله في الأرض) فيعجبه ثناء الناس عليه لهذا فأما إذا أعجبه ليعلم الناس منه الخير ويكرّم ويعظّم على ذلك فهذا رياء. وقال بعض أهل العلم: إذا اطلع عليه فأعجبه رجاء أن يعمل بعمله فتكون له مثل أجورهم] تحفة الأحوذي 7/50. وقال ابن حبان: [- قوله إن الرجل يعمل العمل ويُسِرُهُ فإذا اطُّلع عليه سَرَّهَ - فمعناه أنه يُسُرُه أن الله تعالى وفقه لذلك العمل فعسى أن يستن به فيه فإذا كان كذلك كتب له أجران وإذا سره ذلك لتعظيم الناس إياه أو ميلهم إليه كان ضرباً من الرياء لا يكون له أجران ولا أجر واحد] صحيح ابن حبان 2/100. وروى مسلم في صحيحه عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: (قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير ويحمده الناس عليه؟ قال تلك عاجل بشرى المؤمن) . قال الإمام النووي: [قال العلماء معناه هذه البشرى المعجلة له بالخير وهي دليل على رضاء الله تعالى عنه ومحبته له فيحببه إلى الخلق كما سبق في الحديث ثم يوضع له القبول في الأرض. هذا كله إذا حمده الناس من غير تعرض منه لحمدهم وإلا فالتعرض مذموم] شرح النووي على صحيح مسلم 6/144. وخلاصة الأمر أن الأمور المذكورة في السؤال وأن معرفة الناس بها بعد حصولها ليس من الرياء وسرور الإنسان بعمله ليس من الرياء ولكن إن أحب أن يحمده الناس لتعرف مكانته وتقضى حوائجه ولكي يعظموه ويمدحوه فهذا مكروه مذموم. *****(18/140)
141 - حكم اقتناء الكلاب في البيوت
يقول السائل: ما حكم تربية الكلاب في البيوت؟
الجواب: يجوز اقتناء الكلاب في البيوت لحاجة نافعة ككلاب الصيد والحراسة وكذا الكلاب التي تستعمل في الكشف عن المخدارت ونحوها فيصح اقتناؤها. وقد ورد في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من اقتنى كلباً إلا كلب صيد أو كلب ماشية نقص من عمله كل يوم قيراطان) رواه مسلم. وفي رواية أخرى أنه عليه الصلاة والسلام قال: (من اتخذ كلباً إلا كلب زرع أو غنم أو صيد ينقص من أجره كل يوم قيراط) رواه مسلم. وفي حديث آخر عن السائب بن يزيد أنه سمع سفيان بن أبي زهير وهو رجل من أزد شنؤة - وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من اقتنى كلباً لا يغني عنه زرعاً ولا ضرعاً نقص كل يوم من عمله قيراط. قلت: أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: إي ورب هذا المسجد) رواه البخاري ومسلم. وغير ذلك من الأحاديث. وقد أخذا الفقهاء من هذه الأحاديث أنه لا يجوز اقتناء الكلب إلا لحاجة كالصيد والحرث والحراسة ونحوها من وجوه الانتفاع التي أجازها الشرع الحنيف. قال الحافظ ابن عبد البر: [وفي معنى هذا الحديث تدخل عندي إباحة اقتناء الكلاب للمنافع كلها ودفع المضار إذا احتاج الإنسان إلى ذلك إلا أنه مكروه اقتناؤها في غير الوجوه المذكورة في هذه الآثار لنقصان أجر مقتنيها والله أعلم. وقد أجاز مالك وغيره من الفقهاء اقتناء الكلاب للزرع والصيد والماشية ولم يجز ابن عمر اقتناؤه للزرع ووقف عندما سمعه. وزيادة من زاد في هذا الحديث: الحرث والزرع مقبولة فلا بأس باقتناء الكلب للزرع والكرم وأنها داخلة في معنى الحرث وكذلك ما كان مثل ذلك كما يقتنى للصيد والماشية وما أشبه ذلك. وإنما كره من ذلك اقتناؤها لغير منفعة وحاجة وكيدة فيكون حينئذ فيه ترويع للناس وامتناع دخول الملائكة في البيت والموضع الذي فيه الكلب فمن هاهنا والله أعلم كره اتخاذها. وأما اتخاذها للمنافع فما أظن شيئاً من ذلك مكروهاً لأن الناس يستعملون اتخاذها للمنافع ودفع المضرة - قرناً بعد قرن في كل مصر وبادية فيما بلغنا - والله أعلم. وبالأمصار علماء ينكرون المنكر ويأمرون بالمعروف ويسمع السلطان منهم فما بلغنا عنهم تغيير ذلك إلا عند أذى يحدث من عقر الكلب ونحوه وإن كنت ما أحب لأحد أن يتخذ كلباً ولا يقتنيه إلا لصي ماشية أو في بادية أو ما يجري مجرى البادية من المواضع المخوف فيها الطرق والسرق فيجوز حينئذ اتخاذ الكلاب فيها للمزارع وغيرها لما يخشى من عادية الوحش وغيره والله اعلم. وقد سئل هشام بن عروة عن الكلب يتخذ للدار فقال: لا بأس به إذا كانت الدار مخوفة] فتح المالك 10/308. وأما نقصان العمل المذكور في الأحاديث السابقة بسبب اقتناء الكلاب لغير حاجة فقد اختلف أهل العلم في سبب ذلك النقصان. قال الإمام النووي: [واختلف العلماء في سبب نقصان الأجر باقتناء الكلب. فقيل: لامتناع الملائكة من دخول بيته بسببه. وقيل: لما يلحق المارين من الأذى من ترويع الكلب لهم وقصده إياهم. وقيل: إن ذلك عقوبة له لاتخاذه ما نهي عن اتخاذه وعصيانه في ذلك. وقيل: لما يبتلى به من ولوغه في غفلة صاحبه ولا يغسله بالماء والتراب. والله أعلم] شرح النووي على صحيح مسلم 4/184. وقال الحافظ ابن عبد البر: [ووجه قوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث من نقصان الأجر محمول عندي والله أعلم على أن المعاني المتعبد بها في الكلاب من غسل الإناء سبعاً إذا ولغت فيه لا يكاد يقام بها ولا يكاد يتحفظ منها لأن متخذها لا يسلم من ولوغها في إنائه ولا يكاد يؤدي حق الله في عبادة الغسلات من ذلك الولوغ فيدخل عليه الإثم والعصيان فيكون ذلك نقصاً في أجره بدخول السيئات عليه وقد يكون ذلك من أجل أن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب ونحو ذلك. وقد يكون ذلك بذهاب أجره في إحسانه إلى الكلاب لأن معلوماً أن في الإحسان إلى كل ذي كبد رطبة أجراً لكن الإحسان إلى الكلب ينقص الأجر فيه أو يبلغه ما يلحق مقتنيه ومتخذه من السيئات لترك أدبه لتلك العبادات في التحفظ من ولوغه والتهاون بالغسلات منه ونحو ذلك مثل ترويع المسلم وشبهه والله أعلم بما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله ذلك. روى حماد بن زيد عن واصل مولى أبي عيينة قال: [سأل الرجل الحسن فقال: يا أبا سعيد أرأيت ما ذكر من الكلب أنه ينقص من أجر أهله كل يوم قيراط. قال: يذكر ذلك. فقيل له: مم ذلك يا أبا سعيد؟ قال: لترويعه المسلم] . وذكر ابن سعدان عن الأصمعي قال: [قال أبو جعفر المنصور لعمرو بن عبيد: ما بلغك في الكلب؟ فقال: بلغني أنه من اقتنى كلباً لغير زرع ولا حراسة نقص من أجره كل يوم قيراط. قال: ولما ذلك؟ قال: هكذا جاء الحديث. قال: خذها بحقها إنما ذلك لأنه ينبح الضيف ويروع السائل] فتح المالك 10/310. إذا تقرر هذا فينبغي التحذير من اقتناء الكلاب لغير حاجة والاعتناء بها عناية كبيرة قد تصل إلى أكثر من العناية بالإنسان كما هو الحال في الحضارة الغربية الحديثة التي تهتم بالكلاب أكثر من اهتمامها بالإنسان ففي الوقت الذي يموت فيه الناس جوعاً ومرضاً في مناطق كثيرة من العالم نرى أن الدول الغربية تنفق الملايين على الكلاب وهذا من انحدار الحضارة الغربية وانحطاطها. وأخيراً يجب التنبيه أنه في حالة اقتناء الكلب لحاجة فيجب أن يعلم أنه نجس فإذا ولغ في إناء فيجب غسل الإناء سبعاً لما ثبت في الحديث من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب) رواه مسلم. كما يجب الإحسان إلى الكلب إذا اقتني لحاجة ولا يجوز إلحاق الأذى والضرر به فقد جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (بينما رجل يمشي فاشتد عليه العطش فنزل بئراً فشرب منها ثم خرج فإذا هو بكلب يلهث يأكل الثرى من العطش فقال: قد بلغ هذا مثل الذي بلغ بي فملأ خفه ثم أمسكه بفيه ثم رقي فسقى الكلب. قالوا: يا رسول الله إن لنا في البهائم أجراً؟ قال: في كل كبد رطبة أجر) رواه البخاري ومسلم. *****(18/141)
142 - الفن
رسم الكاريكاتير، يقول السائل: ما قولكم في الرسم المسمى - الكاريكاتير - وما يتضمنه من إشارات ساخرة واستعمال بعض النصوص الشرعية في الرمز والتعبير فيه؟
الجواب: الرسم الساخر المعروف بالكاريكاتير من الأمور المشهورة في الصحافة بحيث لا تكاد تخلو منه صحيفة أو مجلة ويقدم رسام الكاريكاتير الأحداث والأشخاص بقالب نقدي أو حالة هزلية مضحكة. وهو وسيلة من وسائل التعبير عن الرأي إن أحسن استخدامه ولكن الواقع والمشاهد في الصحافة المحلية والعربية أن بعض رسامي الكاريكاتير يطلقون العنان لرسوماتهم فنراهم يسخرون من بعض الأمور الدينية ويستهزؤون ببعض الناس وبعضهم قد يرسم النساء في صور لا تقرها الشريعة الإسلامية كما أن بعضهم قد يستخدمون الآيات القرآنية بطريقة تنطوي على السخرية والاستهزاء. ولا بد من وضع الضوابط لرسم الكاريكاتير وأهمها عندي: أولاً: لا ينبغي أن يكون المقصد من الكاريكاتير السخرية والتشهير بل لا بد أن يكون المقصد منه هو النقد البناء والإصلاح. فالسخرية بالأشخاص من الأمور الممنوعة شرعاً يقول الله سبحانه وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ ولا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ ولا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) سورة الحجرات الآية 11. وقال تعالى: (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) سورة الهمزة الآية 1. وجاء في الحديث عن أبي هريرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (بحسب امرئٍ من الشر أن يحقر أخاه المسلم) رواه مسلم في صحيحه. ثانياً: لا يجوز أن يمس رسم الكاريكاتير بعقيدة الأمة وتحرم السخرية بأمور الدين وقد تؤدي إلى الكفر والعياذ بالله كالاستهزاء بالصلاة أو باللحية ونحوهما. قال الله تعالى: (ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم) سورة التوبة الآيتان 65- 66. ثالثاً: لا يجوز استخدام النصوص الشرعية من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية في التعليقات الساخرة مع رسم الكاريكاتير لما في ذلك من التلاعب بها وخاصة كلام رب العالمين سبحانه وتعالى الذي يجب احترامه والتأدب معه وصيانته عن كل مالا يليق بل المطلوب من المسلم أن يقرأ كلام الله جل جلاله بتدبر وتفكر. قال تعالى: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) سورة القمر الآية 17. رابعاً: ينبغي أن يكون رسم الكاريكاتير متفقاً في عرضه للأحداث والأشخاص مع الأحكام الشرعية والآداب المرعية فلا تستعمل فيه العبارات البذيئة والألفاظ الخسيسة ولا تستعمل فيه رسومات للأشخاص بأشكال وأوضاع لا يقرها الشرع الحنيف. انظر الشريعة الإسلامية والفنون ص 103 –104. *****(18/142)
143 - احذروا هذه الكتب
كتاب (الرحمة في الطب والحكمة) فيه دجل وأكاذيب، أحضر لي أحد طلابي كتاباً بعنوان (الرحمة في الطب والحكمة) تأليف جلال الدين السيوطي وقال إنه قرأ فيه أموراً غريبة عجيبة، وطلب مني أن أبين رأيي في هذا الكتاب
الجواب: هذا الكتاب المنسوب للعلامة جلال الدين السيوطي كتاب مكذوب عليه ونسبته إلى السيوطي باطلة فهو من الكتب المنحولة حيث إن السيوطي لم يورده في ثبت كتبه ولا في (التحدث بنعمة الله) . والسيوطي عالم جليل يصان عن مثل ما في هذا الكتاب من أباطيل وترهات وخزعبلات كما سأذكر أمثلة منها بعد قليل. وقد نسبه صاحب كتاب (كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون) لمهدي بن علي بن إبراهيم الصبنري اليمني المهجمي المتوفى سنة 815 هجرية. قال ابن الجزري في ترجمته [… وطبيب حاذق وهو مؤلف كتاب الرحمة في الطب والحكمة] . انظر كتب حذر منها العلماء 2/330. وهذا الكتاب مملوء بالدجل والخرافات والترهات والخزعبلات والأمور الساقطة التي لا يقرها شرع ولا عقل، وفيه وصفات لعلاج كثير من الأمراض التي لا يقول بها إلا جاهل أو دجال أو مخرف. وقد تصفحت الكتاب ورأيت فيه العجب العجاب وطلاسم وكلمات غير مفهومات فمنها ما جاء في ص32 [علاج وجع الرأس تكتب هذه الأحرف م ح أك ك ح ع ح أم ألصداع الرأس قال الرقيشي: من كتب في رق ظبي خشن عشرين دالاً كاملة وأضاف إليها ثلاث ياآت… الخ. لوجع الرأس تكتب البسملة … وبحرمة أنوش فريوش بربوش أنوش أحياش ترش تربوش … الخ هذه الطلاسم. وجاء في ص99 من الكتاب [في علاج الطحال بالكتابة … وهذا ما تكتب ح أب فاح ناخ وديوح ع هرخ ماع ويروج وحاميا وطايرا ووع ع ع محا حا وسلوهم ليكطاع لح دلي أجيبوا يا خدام هذه الأسماء برفع الطحال عن هذا الآدمي بحق هذه الأحرف] إلى آخر هذا الدجل والخزعبلات. وخلاصة الأمر أن هذا الكتاب كتاب دجل وخرافة وأباطيل فلا يجوز اقتناؤه ولا القراءة فيه لما فيه من الأباطيل وينبغي إتلافه. ولا يصح الاعتماد على الوصفات الواردة فيه لعلاج الأمراض وإنما ينبغي مراجعة الأطباء أهل الاختصاص لتشخيص الداء ومن ثم وصف الدواء. *****(18/143)
144 - شروط الفتوى في دين الإسلام
يقول السائل: هنالك عدة أصناف من الناس يتحدثون ويكتبون في الأمور الشرعية فمنهم حملة الشهادات الشرعية ومنهم الموظفون الرسميون في الوظائف الدينية ومنهم المثقفون الذين ثقفوا أنفسهم بأنفسهم وجميع هؤلاء يتكلمون في قضايا الدين وقد يفتي بعضهم في المسائل الشرعية، فمن يجوز له أن يتكلم في أمور الدين من هؤلاء؟
الجواب: كثر في زماننا المتسورون على العلم الشرعي والمتصدون له من غير أن يكونوا أهلاً لذلك وهذه سيئة من سيئات الواقع المرير الذي تعيشه الأمة الإسلامية في هذا العصر والأوان، ولعل انتشار وسائل الإعلام العصرية قد أسهم في ذلك وأذكر مثالاً واحداً على ذلك وهو أن محطات التلفزة العربية والمحلية كثرت بشكل واضح، ومن ضمن الديكورات التي تقدمها تخصيص برامج دينية للإجابة على المسائل المختلفة وهذه المحطات تستضيف أصنافاً من المنتسبين للعلم الشرعي للإجابة على أسئلة المشاهدين وهؤلاء المشايخ منهم من هو أهل للإفتاء والحديث في العلم الشرعي بلا ريب ومنهم من ليس كذلك، فبعض محطات التلفزيون المحلية تستضيف مشايخ ليتحدثوا في أمور الدين وهم ليسوا أهلاً لذلك فتصدر منهم أخطاء بشعة وتقول على دين الله وخاصة إذا كان الحديث على الهواء مباشرة وكانت الأسئلة في موضوعات مختلفة فيخبطون خبط عشواء. ويظن كثير من الناس أن إطلاق لقب شيخ على شخص ما يكفي ليكون فقيهاً ومفتياً كما ويظن آخرون أنه إذا حصل أحد المشايخ على شهادة جامعية عليا كانت أو دنيا فهذا مؤهل كاف للفتوى في دين الله كما يظن آخرون أن أئمة المساجد هم أهل الفتوى. ويظن آخرون أنه إذا قرأ كتاباً من الكتب الشرعية فإنه قد صار شافعي زمانه، وهكذا. وأود أن أنبه أننا نعيش في عصر اعتبر فيه الاختصاص شيئاً أساسياً فالاختصاص معتبر في جميع نواحي الحياة تقريباً. فمثلاً يشترط في أعضاء هيئة التدريس في الجامعات أن يكون الواحد منهم متخصصاً في العلم الذي يدرّسه وكذلك يشترط الاختصاص في الطب وفروعه المتعددة وكذلك يشترط الاختصاص في الحرف والمهن وغيرها. بل إن الاختصاص تطور وصار هنالك في العلم الواحد تخصصات كثيرة وقد يكون المتخصص في أحد فروع العلم المعاصر عامياً في فرع آخر من فروع ذلك العلم. وإذا كان الاختصاص له كل هذا الاعتبار في مجتمعنا فلماذا لا يعتبر في العلوم الشرعية؟ إن العلم الشرعي بحر لا ساحل له وفرو العلم الشرعي عديدة كعلوم القرآن وعلوم الحديث والفقه وأصول الفقه والعقيدة وغيرها ونحن في هذا الزمان كدنا نفقد ذلك العالم الموسوعي الذي يحيط بمعظم العلوم الشرعية فنحن نقرأ في كتب التراجم في وصف عالم من علمائنا المتقدمين أنه كان مفسراً محدثاً فقيهاً عالماً بالأصلين … الخ. وهذا في زماننا صار نادراً بل إن كثيراً من حملة الشهادات في العلوم الشرعية لا يكادون يتقنون تخصصهم الذي كانت معظم دراستهم فيه فضلاً أن يتقنوا تخصصاً آخر من التخصصات الشرعية. وبناء على ذلك أقول: إنه لا يكفي أن يتعرض للفتوى في دين الله من ليس له صلة بالفقه والأصول وإن كان قد درس التفسير أو علوم القرآن أو الحديث أو السياسة الشرعية وكذلك فإن كثيراً من الموظفين الرسميين في الوظائف الدينية ليسوا أهلاً للإفتاء في دين الله وإن لبسوا لباس العلماء. وكذلك المثقفون بالثقافة الدينية الذين قرأوا الكتب بأنفسهم أو على أقرانهم فهؤلاء لا يوثق بعلمهم لأن العلم الشرعي لا بد فيه من التلقي على أيدي العلماء والشيوخ ولا يكفي أخذه من الكتب أو أن يأخذه طالب علم عن طالب علم مثله بل الصحيح أن يأخذه طالب العلم عن شيخه، قال الإمام الشافعي: [من تفقه من الكتب ضيع الأحكام] مقدمة المجموع للنووي 2/38. وقال الإمام النووي: [قالوا ولا تأخذ العلم ممن كان أخذه له من بطون الكتب من غير قراءة على شيوخ أو شيخ حاذق فمن لم يأخذه إلا من الكتب يقع في التصحيف ويكثر منه الغلط والتحريف] مقدمة المجموع للنووي 1/36. وقديماً قالوا: [من كان شيخه كتابه غلب خطؤه صوابَه] . ويضاف إلى ذلك أن من المشاهد في الذين يثقفون أنفسهم بأنفسهم أو يتثقفون على أقرانهم أنه يغلب عليهم الغرور والكبر فيتيهون على الناس لأنهم لم يجالسوا العلماء ولم يتأدبوا بأدبهم. وقد ذكر العلماء كثيراً من الشروط التي يجب أن تتوفر فيمن يفتون ويوقعون عن رب العالمين. فمن ذلك أن يكون عالماً بالكتاب والسنة بشكل عام وبآيات وأحاديث الأحكام على وجه الخصوص فلابد أن يعرف وجوه دلالات النصوص على الأحكام وأن يعرف أسباب نزول الآيات وأسباب ورود الحديث لما لذلك من فائدة عظيمة في معرفة المقصود بالنصوص الشرعية وإن كان الراجح عند الأصوليين أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ولابد من معرفة الناسخ والمنسوخ في الكتاب والسنة ولا بد من معرفة ما يتعلق بعلم أصول الحديث، فلا بد أن يكون ممن له تمييز بين الصحيح والحسن والضعيف من الأحاديث ولا بد أن يكون عارفاً بمسائل الإجماع حتى لا يفتي بخلاف ما وقع الإجماع عليه ولابد من معرفة اللغة العربية معرفة تيسر له فهم لغة العرب ليفهم كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم فهما عربيان. ومما لا بد من معرفته والتمكن منه علم أصول الفقه فإن هذا العلم هو عماد فسطاط الاجتهاد وأساسه الذي تقوم عليه أركان بنائه كما قال الإمام الشوكاني في إرشاد الفحول ص 252. وقال العلامة الدكتور يوسف القرضاوي: [وقد رأينا عجباً ممن يقحمون أنفسهم في ميدان الاجتهاد والفتوى وهم لم يتقنوا علم الأصول بل أحياناً دون أن يقرأوا كتاباً واحداً فيه فكثيراً ما يستدلون بالمطلق وينسون المقيد ويحتجون بالعام ويهملون الخاص ويأخذون بالقياس ويغفلون النص أو يقيسون على غير أصل أو يقيسون مع عدم وجود علة مشتركة أو مع وجود فارق معتبر بين الفرع المقيس والأصل المقيس عليه] الاجتهاد في الشريعة الإسلامية ص 26. ولا بد من معرفة مقاصد الشرع الحكيم ولا بد من معرفة اختلاف الفقهاء، قال قتادة: [من لم يعرف الاختلاف لم يشم أنفه الفقه] وقال غيره: [من لم يعرف اختلاف الفقهاء فليس بفقيه] . وقال الإمام أحمد: [ينبغي لمن أفتى أن يكون عالماً بقول من تقدم وإلا فلا يفتي] وقال عطاء: [لا ينبغي لأحد أن يفتي الناس حتى يكون عالماً باختلاف الناس فإن لم يكن كذلك ردَّ من العلم ما هو أوثق من الذي في يديه] ، وقال سعيد بن أبي عروبة: [من لم يسمع الاختلاف فلا تعدوه عالماً] . وقال سفيان بن عيينة [أجسر الناس على الفتوى أقلهم علماً باختلاف العلماء] الاجتهاد في الشريعة الإسلامية ص 36. وفوق كل ذلك لا بد أن يكون هؤلاء المتصدين للفتوى وبيان الأحكام الشرعية من أهل التقوى والورع الذين يخافون الله سبحانه وتعالى ولا يبيعون آخرتهم بدنياهم أو بدنيا غيرهم. فقد ورد في الحديث عن علي بن أبي طالب قال: (قلت يا رسول الله: إن نزل بنا أمر ليس فيه بيان أمر ولا نهي فما تأمرني؟ فقال صلى الله عليه وسلم: شاوروا فيه الفقهاء والعابدين ولا تمضوا فيه رأي خاصة) رواه الطبراني في الأوسط ورجاله موثقون من أهل الصحيح كما قال الهيثمي في مجمع الزوائد 1/178. وروى الدارمي في سننه عن أبي سلمة الحمصي أن النبي صلى الله عليه وسلم: (سئل عن الأمر يحدث ليس في كتاب ولا سنة؟ فقال: ينظر فيه العابدون من المؤمنين) ورجاله رجال الصحيح، انظر شرح الدارمي 2/65. وما أحسن ما قاله الإمام أحمد بن حنبل [لا ينبغي للرجل أن ينصب نفسه للفتيا حتى يكون فيه خمس خصال، أولها: أن تكون له نية فإن لم تكن له نية لم يكن عليه نور ولا على كلامه نور. والثانية: أن يكون له علم وحلم ووقار وسكينة. والثالثة: أن يكون قوياً على ما هو فيه وعلى معرفته. والرابعة: الكفاية وإلا مضغه الناس. والخامسة: معرفة الناس] قال العلامة ابن القيم معلقاً على كلام الإمام أحمد: [وهذا مما يدل على جلالة أحمد ومحله من العلم والمعرفة فإن هذه الخمسة هي دعائم الفتوى وأي شىء نقص منها ظهر الخلل في المفتي بحسبه] . ثم شرح ابن القيم عبارة الإمام أحمد وأذكر بعض كلامه: [فأما النية فهي رأس الأمر وعموده وأساسه وأصله الذي عليه يبنى فإنها روح العمل وقائده وسائقه والعمل تابع لها يبنى عليها يصح بصحتها ويفسد بفسادها ... وقد جرت عادة الله التي لا تبدل وسنته التي لا تحول أن يُلبس المخلص من المهابة والنور والمحبة في قلوب الخلق وإقبال قلوبهم إليه ما هو بحسب إخلاصه ونيته ومعاملته لربه ويلبس المرائي اللابس ثوبي الزور من المقت والمهانة والبغضاء ما هو اللائق به فالمخلص له المهابة والمحبة وللآخر المقت والبغضاء. وأما قوله أن يكون له حلم ووقار وسكينة فليس صاحب العلم والفتيا إلى شيء أحوج منه إلى الحلم والسكينة والوقار فإنها كسوة علمه وجماله وإذا فقدها كان علمه كالبدن العاري من اللباس وقال بعض السلف: ما قرن شيء إلى شيء أحسن من علم إلى حلم] إعلام الموقعين 4/199 فما بعدها. ?????(18/144)
145 - مسألة اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم
يقول السائل: إنه سمع الدكتور يوسف القرضاوي في برنامج الشريعة والحياة يتكلم عن مسألة اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم وأنه قال إن النبي صلى الله عليه وسلم يمكن أن يخطئ في الاجتهاد في الأمور الدنيوية وأن كثيراً من الناس قد احتجوا عليه واستفظعوا صدور ذلك منه ونالوا من الدكتور القرضاوي وطعنوا فيه، فما قولكم في ذلك؟
الجواب: جزى الله خيراً الشيخ العلامة الدكتور يوسف القرضاوي على جهوده العلمية المميزة في التأليف والمحاضرات والبرامج التلفزيونية وغيرها، فإنه حقاً فقيه العصر والأوان ولا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا ذوو الفضل. وإن من مصائب الأمة الإسلامية في هذا الزمان أن يتكلم في مسائل العلم الشرعي أشباه طلبة العلم الذين إن قرأ الواحد منهم كتاباً أو كتابين ظن نفسه من كبار العلماء ومن أهل الاجتهاد المطلق فيجعل من نفسه حكماً يحكم بين العلماء فيرد عليهم ويصحح ويخطىء كما يشاء ويهوى من دون سند ولا أثارة من علم وهذا مع الأسف نشاهده ونسمعه باستمرار. إن ما قاله الدكتور يوسف القرضاوي سبقه إليه عدد من كبار علماء الإسلام وهو مسطور في كتب أصول الفقه من مئات السنين ولكن ما ذنب الشيخ القرضاوي أن شاتميه لا يقرأون ولا يفقهون. إن مسألة اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم مسألة اختلف فيها العلماء قديماً وتفرع عليها مسألة جواز خطأ اجتهاده صلى الله عليه وسلم وليست من المسائل الجديدة وقد ذكرها العلماء في كتبهم وحكوا فيها اختلاف العلماء فما سبوا ولا شتموا وإن كان بعض العلماء قد خطأ بعض الآراء وصوب غيرها. ولكنهم علماء علماء علماء وليسوا طلبة علم مبتدئين في طلب العلم، قال أبو إسحاق الشيرازي: [كان للنبي صلى الله عليه وسلم أن يجتهد في الحوادث ويحكم فيها بالاجتهاد وكذلك سائر الأنبياء عليهم السلام. ومن أصحابنا من قال ما كان له ذلك وبه قال بعض المعتزلة] التبصرة في أصول الفقه ص 521. وجاء في جمع الجوامع وشرحه لجلال الدين المحلي 2/386: [والصحيح جواز الاجتهاد للنبي صلى الله عليه وسلم ووقوعه لقوله تعالى: (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) ، (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) عوتب على استبقاء أسرى بدر بالفداء وعلى الإذن لمن ظهر نفاقهم في التخلف عن غزوة تبوك ولا يكون العتاب فيما صدر من الوحي فيكون عن اجتهاد. وقيل يمنع ... الخ] . وفصل الشوكاني مسألة اجتهاد الأنبياء فذكر خلاف العلماء فقال: [المذهب الأول ليس لهم ذلك لقدرتهم على النص بنزول الوحي ... المذهب الثاني أنه يجوز لنبينا صلى الله عليه وسلم ولغيره من الأنبياء وإليه ذهب الجمهور ... ] إرشاد الفحول ص 255-256. هذه بعض النقول في مسألة الاجتهاد وأما في مسألة الخطأ في الاجتهاد فقال أبو إسحاق الشيرازي: [يجوز الخطأ على رسول صلى الله عليه وسلم في اجتهاده إلا أنه لا يقر عليه بل ينبه عليه. ومن أصحابنا من قال لا يجوز عليه الخطأ] التبصرة في أصول الفقه ص 524 ثم ساق أدلة الفريقين وانتصر للقول الأول. وقال الآمدي: [القائلون بجواز الاجتهاد للنبي عليه الصلاة والسلام اختلفوا في جواز الخطأ عليه في اجتهاده فذهب بعض أصحابنا إلى المنع من ذلك. وذهب أكثر أصحابنا والحنابلة وأصحاب الحديث والجبائي وجماعة من المعتزلة إلى جوازه لكن بشرط أن لا يقر عليه وهو المختار ودليله المنقول والمعقول ... الخ] الإحكام في أصول الأحكام 4/216. وقال الكمال بن الهمام: [وقد ظهر أن المختار جواز الخطأ في اجتهاده عليه الصلاة والسلام إلا أنه لا يقر على خطأ بخلاف غيره] تيسير التحرير 4/190. ويكفي هذا من كتب الأصول لأن المقام لا يتسع لاستقصاء ما قال الأصوليون في المسألة. وأنا هنا لست في مقام بحث مسألة اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم وهل يخطئ في اجتهاده أم لا؟ ولست في مقام الترجيح بين أقوال العلماء في ذلك والذي أريد أن أصل إليه هو أن هذه المسائل وغيرها لا يبحثها ولا يناقشها العوام من طلبة العلم وأشباه المتعلمين وأنه ليس في مقدرتهم الترجيح بين أقوال العلماء في هذه المسائل الاجتهادية الخلافية وكون عالم قال بأحد الأقوال في المسألة لا ينبغي الإنكار عليه والهجوم عليه وسبه وشتمه لأن قوله لا يوافق ما نهوى ونتمنى. إن العلماء كما ترى أخي القارئ قد اختلفوا في هذه المسألة الاجتهادية وأمثالها من المسائل التي لا يوجد فيها نص صريح من كتاب الله أو سنة نبيه صلى الله عليه وسلم فلا يصح الإنكار على عالم قال برأي فيها. وقديماً قال العلماء: [لا يصح الإنكار في مسائل الخلاف] والمقصود بذلك مسائل الخلاف الاجتهادية التي لا يوجد فيها نصوص صريحة من الكتاب أو السنة. فكل مسألة اختلف فيها العلماء ولم يثبت فيها نص صريح يدل على صحة أحد الأقوال فيها وإنما المستند فيها الاجتهاد فلا يجوز الإنكار على العالم فيما قال باجتهاده. لأن المجتهد لم يخالف نصاً بل خالف اجتهاد مجتهد آخر وهذه المسائل لا يعرف فيها المجتهد المصيب على وجه القطع لذا لا ينبغي الإنكار على من خالف رأياً لم يثبت بأنه صواب قطعاً. راجع حكم الإنكار في مسائل الخلاف ص 72-73. قال الإمام النووي: [ولا ينكر محتسب ولا غيره على غيره وكذلك قالوا ليس للمفتي ولا للقاضي أن يعترض على من خالفه إذا لم يخالف نصاً أو إجماعاً أو قياساً جلياً] شرح النووي على صحيح مسلم 2/24. وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عمن يقلد بعض العلماء في مسائل الاجتهاد فهل ينكر عليه أم يهجر؟ وكذلك من يعمل بأحد القولين؟ فأجاب: [الحمد لله، مسائل الاجتهاد من عمل فيها بقول بعض العلماء لم ينكر عليه ولم يهجر ومن عمل بأحد القولين لم ينكر عليه] مجموع فتاوى شيخ الإسلام 20/207. وختاماً فينبغي على طلبة العلم وعلى عامة الناس أن تتسع صدورهم لسماع خلاف العلماء في مسائل العلم الشرعي وعلى هؤلاء وأولئك أن يعلموا أن العلماء عندما يختلفون فإنهم لا يصدرون في اختلافهم عن هوى أو تشهي أو قول في دين الله بغير علم أو مستند. وعليهم أن يعلموا أن الخلافات العلمية في المسائل التي لا يوجد فيها نصوص قطعية ليست مذمومة والخلاف فيها قديم والأمر فيه سعة، فلا تحجروا واسعاً. قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [فإن الله برحمته وطوله وقوته وحوله ضمن بقاء طائفة من هذه الأمة على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك وجعل السبب في بقائهم بقاء علمائهم واقتدائهم بأئمتهم وفقهائهم وجعل هذه الأمة مع علمائها كالأمم الخالية مع أنبيائها وأظهر في كل طبقة من فقهائها أئمة يقتدى بها وينتهى إلى رأيها وجعل في سلف هذه الأمة أئمة من الأعلام مهد بهم قواعد الإسلام وأوضح بهم مشكلات الأحكام اتفاقهم حجة قاطعة واختلافهم رحمة واسعة تحيا القلوب بأخبارهم وتحصل السعادة باقتفاء آثارهم ثم اختص منهم نفراً أعلى قدرهم ومناصبهم وأبقى ذكرهم ومذاهبهم فعلى أقوالهم مدار الأحكام وبمذاهبهم يفتي فقهاء الإسلام] المغني 1/ 4-5. ولا بد أن يتأدب طلبة العلم وعامة الناس مع العلماء وأن ينزلوهم منزلة الإكرام والاحترام وإن لم ترق لبعضنا آراؤهم واجتهاداتهم، فلكل مجتهد نصيب. ?????(18/145)
146 - بعض الاحاديث
يقول السائل: هل حديث: (طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة) حديث ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم؟
الجواب: إن هذا الحديث المشهور على الألسنة محل اختلاف بين علماء الحديث فمنهم من يضعفه ومنهم من يرى أنه حديث حسن أو صحيح. والحديث ورد بدون زيادة (ومسلمة) فهذه اللفظة لم ترد في أي من طرق الحديث الكثيرة، قال الحافظ السخاوي [تنبيه: قد ألحق بعض المصنفين بآخر هذا الحديث (ومسلمة) وليس لها ذكر في شيء من طرقه وإن كان معناها صحيحاً] المقاصد الحسنة ص 277. ولفظ مسلم الوارد في الحديث يشمل المسلمة. قال الإمام النووي: [وهذا الحديث وإن لم يكن ثابتاً فمعناه صحيح] المجموع 1/24. وقال البيهقي [متنه مشهور وإسناده ضعيف وقد روي من أوجه كلها ضعيفه] المقاصد الحسنة ص 276. وضعفه آخرون كأحمد وإسحاق وابن الصلاح وغيرهم. وترى طائفة من أهل العلم أن الحديث وإن ورد من طرق ضعيفة إلا أنه يتقوى ويرتقي إلى درجة الحسن أو الصحيح لغيره. قال السيوطي: [جمعت له خمسين طريقاً وحكمت بصحته لغيره. ولم أصحح حديثاً لم أسبق لتصحيحه سواه] فيض القدير 4/353. وقال السخاوي [ ... ولكن له شاهد عند ابن شاهين في الأفراد ... ورجاله ثقات بل يروى عن نحو عشرين تابعياً عن أنس ... ] المقاصد ص 275. وقال العلامة القاري [لكن كثرة الطرق تدل على ثبوته ويقوى بعضه ببعض. قال المزي تلميذ النووي إن طرقه تبلغ رتبة الحسن] المرقاة 1/478. وحكم بصحة الحديث الشيخ أبو الفيض الغماري بعد أن استوعب طرقه، وحكم بصحته أيضاً الألباني فقد صححه في صحيح الترغيب والترهيب ص 34، وفي صحيح سنن ابن ماجه 1/44 ونقل تصحيح الحديث عن غيرهم من العلماء، انظر شرح السنة 1/290، الحطة ص 48. وخلاصة الأمر أن الحديث لا يقل عن درجة الحسن والله أعلم. إذا تقرر هذا فلا بد من الإشارة إلى أن أهل العلم قد اختلفوا في المراد من الحديث وما هو العلم الذي طلبه فريضة على أكثر من عشرين قولاً وأجود ما قيل فيه ما قاله الحافظ ابن عبد البر: [ ... قد أجمع العلماء على أن من العلم ما هو فرض متعين على كل امرئ في خاصته بنفسه ومنه ما هو فرض على الكفاية إذا قام به قائم سقط فرضه على أهل ذلك الموضع واختلفوا في تلخيص ذلك والذي يلزم الجميع فرضه من ذلك ما لا يسع الإنسان جهله من جملة الفرائض المفترضة عليه نحو الشهادة باللسان والإقرار باللقب بأن الله وحده لا شريك له لا شبه له ولا مثل لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد خالق كل شيء وإيه مرجع كل شيء المحيي المميت الحي الذي لا يموت والذي عليه جماعة أهل السنة أنه لم يزل بصفاته وأسمائه ليس لأوليته ابتداء ولا لآخريته انقضاء وهو على العرش استوى. والشهادة بأن محمداً عبده ورسوله وخاتم أنبيائه حق وأن البعث بعد الموت للمجازاة بالأعمال والخلود في الآخرة لأهل السعادة بالإيمان والطاعة في الجنة ولأهل الشقاوة بالكفر والجحود في السعير حق وأن القرآن كلام الله وما فيه حق من عند الله يجب الإيمان بجميعه واستعمال محكمه وأن الصلوات الخمس فرض ويلزمه من علمها علم ما لا تتم إلا به من طهارتها وسائر أحكامها وأن صوم رمضان فرض ويلزمه علم ما يفسد صومه ومالا يتم إلا به وإن كان ذا مال وقدرة على الحج لزمه فرضاً أن يعرف ما تجب فيه الزكاة ومتى تجب وفي كم تجب ويلزمه أن يعلم بان الحج عليه فرض مرة واحدة في دهره إن استطاع إليه سبيلاً إلى أشياء يلزمه معرفة جملها ولا يعذر بجهلها نحو تحريم الزنا والربا وتحريم الخمر والخنزير وأكل الميتة والأنجاس كلها والغصب والرشوة على الحكم والشهادة بالزور وأكل أموال الناس بالباطل وبغير طيب من أنفسهم إلا إذا كان شيئاً لا يتشاح فيه ولا يرغب في مثله وتحريم الظلم كله وتحريم نكاح الأمهات والأخوات ومن ذكر معهن وتحريم قتل النفس المؤمنة بغير حق وما كان مثل هذا كله مما قد نطق الكتاب به وأجمعت الأمة عليه] جامع بيان العلم وفضله 1/10-11. ?????(18/146)
147 - بعض الاحاديث
يقول السائل: ورد في الحديث قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين) فكيف نفهم هذا الحديث ونحن نرى أن هنالك ممن ينتسب إلى العلم وهم من الفسقة؟
الجواب: روى هذا الحديث جماعة من الصحابة رضي الله عنهم ولهذا الحديث طرق كثيرة عنهم وهو حديث حسن لتعدد طرقه قال العلامة إبراهيم بن الوزير: [وهو حديث مشهور صححه ابن عبد البر] . وروي عن أحمد أنه قال: هو حديث صحيح. قال زين الدين: [وفي كتاب العلل للخلال عن أحمد سئل عنه فقيل له كأنه كلام موضوع؟ فقال: لا هو صحيح فقيل له: ممن سمعته؟ فقال من غير واحد ... ] العواصم والقواصم 1/308، وذكر العلامة ابن القيم طرق الحديث في مفتاح دار السعادة ص 163-164، وجزم الحافظ العلائي بأن الحديث حسن. انظر الحطة ص 71. والمقصود بهذا الحديث أن علم الكتاب والسنة يحمله من كل قرن يخلف السلف عدوله أي ثقاته يعني من كان عدلاً صاحب التقوى والديانة نافين عنه أي طاردين عن هذا العلم تحريف الغالين أي المبتدعة الذين يتجاوزون في كتاب الله وسنة رسوله عن المعنى المراد فينحرفون عن جهته. وانتحال المبطلين أي الادعاءات الكاذبة وتأويل الجاهلين أي تأويل الجهلة لبعض القرآن والسنة إلى ما ليس بصواب. المرقاة 1/508-509. وقال الإمام النووي: [ ... وفي الحديث الآخر (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين) وهذا إخبار منه صلى الله عليه وسلم بصيانة العلم وحفظه وعدالة ناقليه وأن الله تعالى يوفق له في كل عصر خلفاً من العدول يحملونه وينفون عنه التحريف وما بعد فلا يضيع وهذا تصريح بعدالة حامليه في كل عصر وهكذا وقع ولله الحمد وهذا من أعلام النبوة ولا يضر مع هذا كون بعض الفساق يعرف شيئاً من العلم فإن الحديث إنما هو إخبار بأن العدول يحملونه لا أن غيرهم لا يعرف شيئاً منه والله أعلم] تهذيب الأسماء واللغات 1/17. فالأصل في أهل العلم أن يكونوا عدولاً ثقاة يجمعون بين العلم والعمل كما كان علماؤنا المتقدمون ولكن كثيراً ممن ينتسبون للعلم أغرتهم الدنيا بملذاتها ومتعها وشهواتها المادية والمعنوية فانغمسوا فيها. وواجب العلماء أن يصونوا العلم وأن يبتعدوا عن مواطن الريب ومن ذلك إتيان السلاطين والحكام فقد جاء في الحديث عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سكن البادية فقد جفا ومن اتبع الصيد فقد غفل ومن أتى أبواب السلاطين فقد افتتن) رواه أبو داود والترمذي وحسنه والنسائي والبيهقي وغيرهم وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع الصغير 2/1079. وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: [لو أن أهل العلم صانوا العلم ووضعوه عند أهله لسادوا به أهل زمانهم ولكنهم بذلوه لأهل الدنيا لينالوا به من دنياهم فهانوا عليهم] رواه ابن ماجة والبيهقي في شعب الإيمان. انظر ما رواه الأساطين في عدم المجيء إلى السلاطين ص 54-55. وقال الشاعر: ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ولو عظموه في النفوس لعظما ?????(18/147)
148 - احاديث مكذوبة
قصة الظبية التي تكلمت مع النبي صلى الله عليه وسلم مكذوبة، يقول السائل: إنه سمع خطيب الجمعة يذكر قصة الظبية التي تكلمت مع النبي صلى الله عليه وسلم وأن الظبية نطقت بالشهادتين فهل هذه القصة ثابتة أفيدونا؟
الجواب: كثير من الخطباء والمدرسين لا يهتمون بمعرفة درجة الأحاديث التي يذكرونها في خطبهم ودروسهم مع أن ذلك واجب عليهم لأن المصلين يتلقون كلامهم ويسمعونه ومعظم المصلين لا يعرفون شيئاً عن الحكم على الأحاديث وأن هنالك أحاديث باطلة وأخرى مكذوبة وأخرى ضعيفة. إن واجب كل من يتصدى للتدريس أو الخطابة أو الوعظ أو التأليف أن يكون على بينة وبصيرة من الأحاديث التي يذكرها وينسبها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم ليس كالكذب على غيره فقد صح في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كذب عليَّ عامداً متعمداً فليتبوأ مقعده من النار) وهو حديث صحيح متواتر رواه البخاري ومسلم. فإن هؤلاء الخطباء والوعاظ وإن لم يتعمدوا الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم مباشرة فقد ارتكبوه تبعاً لنقلهم الأحاديث التي يقفون عليها جميعاً وهم يعلمون أن فيها ما هو ضعيف وما هو مكذوب قطعاً وقد أشار إلى هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم: (كفى بالمرء إثماً أن يحدّث بكل ما سمع) رواه مسلم. قال ابن حبان في صحيحه: فصل: " ذكر أسباب دخول النار لمن نسب الشيء إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو غير عالم بصحته " ثم ساق بسنده عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قال عليَّ ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار) وسنده حسن وأصله في الصحيحين بنحوه. ثم ذكر حديث سمرة بن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من حدّث بحديث يُرى - بضم الياء- أنه كذب فهو أحد الكاذبين) رواه مسلم. يتبين من هذه الأحاديث أنه لا يجوز نشر الأحاديث وروايتها دون التثبت من صحتها ومن فعل ذلك فهو حسبه من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل: إن كذباً عليّ ليس كالكذب على أحد فمن كذب عليّ عامداً متعمداً فليتبوأ مقعده من النار) رواه مسلم. ولو قلنا بأنه يجوز التساهل في الترغيب والترهيب ولكن لا يجوز أن يصل الأمر إلى ذكر الأحاديث الباطلة والمكذوبة وإنما العلماء تساهلوا بذكر الأحاديث الضعيفة في باب الترغيب والترهيب ولكنهم بينوا أسانيدها. قال الحافظ ابن الصلاح: [ويجوز عند أهل الحديث وغيرهم التساهل في الأسانيد ورواية ما سوى الموضوع - أي المكذوب - من أنواع الأحاديث الضعيفة من غير اهتمام ببيان ضعفها فيما سوى صفات الله وأحكام الشريعة من الحلال والحرام وغيرهما وذلك كالمواعظ والقصص وفضائل الأعمال وسائر فنون الترغيب والترهيب وسائر ما لا تعلق له بالأحكام والعقائد] علوم الحديث ص 113. إذا تقرر هذا فنعود إلى حديث الظبية لبيان حاله وقبل ذلك أذكر نصه: عن زيد بن أرقم قال: (كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض سكك المدينة فمررنا بخباء أعرابي فإذا ظبية مشدودة إلى الخباء فقالت: يا رسول الله إن هذا الأعرابي صادني ولي خشفان - ولدان - في البرية وقد تعقد اللبن في أخلافي - ضرعي - فلا هو يذبحني فأستريح ولا يدعني فأرجع إلى خشفي في البرية فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن تركتك ترجعين؟ قالت: نعم، وإلا عذبني الله عذاب العشار - قابض العشور أي الضرائب - فأطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم تلبث أن جاءت تلمظ فشدها رسول الله إلى الخباء وأقبل الأعرابي ومعه قربة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتبيعها مني؟ فقال الأعرابي: هي لك يا رسول الله. قال: فأطلقها رسول صلى الله عليه وسلم. قال زيد بن أرقم: وأنا والله رأيتها تسيح في البر وهي تقول لا إله إلا الله محمد رسول الله] . وقد وردت روايات أخر لهذه القصة الطريفة وقد رواها أبو نُعَيم في دلائل النبوة والبيهقي في دلائل النبوة أيضاً. قال العلامة ملا علي القاري: [حديث تسليم الغزالة اشتهر على الألسنة وفي المدائح النبوية. قال ابن كثير ليس له أصل ومن نسبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقد كذب] المصنوع في معرفة الحديث الموضوع ص 80. وقال الحافظ ابن حجر: [وأما تسليم الغزالة فلم نجد له إسناداً لا من وجه قوي ولا من وجه ضعيف والله أعلم] فتح الباري 7/404. وقد تكلم الحافظ ابن حجر بالتفصيل على هذه القصة وذكر عدة روايات لها في كتابه " تخريج أحاديث مختصر ابن الحاجب " فقال: [وأما تسليم الغزالة فمشتهر على الألسنة وفي المدائح النبوية ولم أقف لخصوص السلام على سند وإنما ورد الكلام في الجملة. وبالسند الماضي إلى البيهقي قال: باب كلام الظبية إن صح الخبر] . ثم ذكر أن هذه القصة وردت منسوبة إلى عيسى عليه السلام. ثم قال الحافظ ابن حجر: [وقد ورد كلام الظبية من طرق أخرى أشد وهاءً من الأول] انظر تخريج أحاديث مختصر ابن الحاجب 1/245-246. كما أن الحافظ الذهبي ذكره في ميزان الاعتدال وأشار إلى أنه خبر باطل. ميزان الاعتدال 4/456، وقد ذكر الحافظ ابن حجر أن هذا الحديث باطل موضوع في " لسان الميزان " 6/311. وقد ضعف هذه القصة بروايتها المختلفة الحافظ ابن كثير أيضاً في تحفة الطالب بمعرفة أحاديث مختصر ابن الحاجب ص 186-189. وقال العلامة السخاوي: [حديث تسليم الغزالة الذي اشتهر على الألسنة وفي المدائح النبوية وليس له أصل كما قال ابن كثير ومن نسبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقد كذب] المقاصد الحسنة ص 156. وقال العجلوني مثل كلام السخاوي انظر كشف الخفاء 1/306. وذكر الشيخ عبد الفتاح أبو غده يرحمه الله كلام الحافظ ابن حجر والسخاوي وابن كثير وذكر أن للقصة روايات متعددة. ثم قال الشيخ أبو غدة: [هي أحاديث ضعيفة واهية لا يصح الاعتماد عليها في إثبات ما هو خرق للعادة وإن كانت لتعدد طرقها لا يحكم الحديثي عليها بالوضع فإن إثبات مضمونها لا يقبل ولا يثبت إلا بالحديث الصحيح الرجيح ولدى النظر في أسانيدها يتبين أنها لا تخلو من مطاعن شديدة مردية فلا تغفل. وبالنظر في متونها يتبدّى تعارض شديد فيما بينها وفي الجمع بينها تعسف ظاهر] المصنوع في معرفة الحديث الموضوع ص 80. ?????(18/148)
149 - احاديث ضعيفة
يقول السائل: قرأت حديثاً معلقاً في المسجد ونصه: (عن أبي سعيد الخدريرضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من قال حين يأوي إلى فراشه: أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه ثلاث مرات غفر الله له ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر وإن كانت عدد ورق الشجر وإن كانت عدد رمال عالج وإن كانت عدد أيام الدنيا) فما درجة هذا الحديث؟
الجواب: هذا الحديث رواه الترمذي وقال هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث الوصافي عبيد الله بن الوليد، سنن الترمذي 5/439، ورواه أحمد في المسند كما في الفتح الرباني 14/248. وقد ضّعف العلماء هذا الحديث، قال الحافظ ابن حجر في تخريج الأذكار: [هذا الحديث غريب والوصافي وشيخه - يعني عطية العوفي - ضعيفان لكن رواه غيره عن عطية عن أبي سعيد بنحوه] الأذكار ص 77. وضعف الحديث أيضاً الشيخ الألباني في ضعيف سنن الترمذي ص 444، وفي ضعيف الجامع الصغير الحديث رقم 5728. ويغني عن هذا الحديث الضعيف ما ثبت من أحاديث صحيحة في الذكر قبل النوم ومنها: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أوى أحدكم إلى فراشه فلينفض فراشه بداخلة إزاره فإنه لا يدري ما خلفه عليه ثم يقول: باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه إن أمسكت نفسي فارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين) رواه البخاري ومسلم. وعن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ثم اضطجع على شقك الأيمن وقل: اللهم أسلمت نفسي إليك وفوضت أمري إليك وألجأت ظهري إليك رغبة ورهبة إليك لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك آمنت بكتابك الذي أنزلت ونبيك الذي أرسلت فإن مت مت على الفطرة، واجعلهن آخر ما تقول) رواه البخاري ومسلم. ?????(18/149)
150 - الكلام باللغات الأجنبية
يقول السائل: بعض الناس يتحدثون باللغة الإنجليزية في بيوتهم مع أولادهم وكذلك في أعمالهم يكون معظم كلامهم بالإنجليزية ويعتبرون ذلك نوعاً من التقدم والرقي فما قولكم في ذلك؟
الجواب: يجب أن يعلم أولاً أن تعلم اللغات الأخرى أمر لا بد منه وخاصة اللغات الحية كالإنجليزية، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه طلب من بعض الصحابة أن يتعلموا بعض اللغات. ونص العلماء على جواز ذلك وخاصة في زماننا حيث إن اللغة الإنجليزية هي لغة العلوم والتقدم في مختلف مجالات الحياة. ويجب أن يعلم أن تعلم اللغات الأخرى لا يجوز أن يكون على حساب لغتنا الأصلية اللغة العربية، ومن المؤسف جداً أن بعض الناس يتفاخرون بأنهم يدرسون أبنائهم اللغات الأجنبية في المدارس الأجنبية مع تقصيرهم الشديد في تعليمهم اللغة العربية إن اللغة العربية هي لغة القرآن الكريم ولغة رسوله صلى الله عليه وسلم قال تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا) سورة يوسف الآية 2، وقال تعالى: (بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) سورة الشعراء الآية 195، وقال تعالى: (لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) سورة النحل 103. والمسلم مطلوب منه أن يتعلم اللغة العربية وأن يعلمها أبنائه وأن يتحدث بها وقد كره العلماء أن يخلط الإنسان في كلامه بين العربية وغيرها من اللغات فقد ورد عن عمررضي الله عنه قال: [تعلموا العربية فإنها تزيد في العقل والمروءة] . وكتب عمر إلى أبي موسى الأشعري: [أن مر من قبلك بتعلم العربية فإنها تدل على صواب الكلام ومرهم برواية الشعر فإنه يدل على معالي الأخلاق] . وورد عن عمر رضي الله عنه: [أنه مرَّ على قوم يقرئ بعضهم بعضاً فقال: اقرأوا ولا تلحنوا] . وورد عنه أنه قال: [عليكم بالفقه في الدين والتفهم في العربية وحسن العباره] . وورد عنه أنه قال: [لا تعلموا رطانة الأعاجم] . وسئل الحسن البصري: [ما تقول في قوم يتعلمون العربية؟ فقال: أحسنوا، يتعلمون لغة نبيهم] . وقال ابن شهاب الزهري: [ما أحدث الناس مروءة أعجب من تعلم الفصاحة] انظر الصقعة الغضبية ص 243 -250. ونقل شيخ الإسلام ابن تيمية عن الشافعي قوله: [سمى الله الطالبين من فضله في الشراء والبيع تجاراً ولم تزل العرب تسميهم التجار ثم سماهم رسول الله بما سمى الله به من التجارة بلسان العرب والسماسرة اسم من أسماء العجم فلا نحب أن يسمى رجل يعرف العربية تاجراً إلا تاجراً ولا ينطق بالعربية فيسمي شيئاً بالعجمية وذلك أن اللسان الذي اختاره الله عز وجل لسان العرب فأنزل به كتابه العزيز وجعله لسان خاتم أنبيائه صلى الله عليه وسلم ولهذا نقول ينبغي لكل واحد يقدر على تعلم العربية أن يتعلمها لأنها اللسان الأولى مرغوباً فيه من غير أن يحرم على أحد أن ينطق بالعجمية] اقتضاء الصراط المستقيم ص 204. وبين شيخ الإسلام ابن تيمية أنه يكره تعود الرجل النطق بغير العربية فإن اللسان العربي شعار الإسلام وأهله واللغات من أعظم شعائر الأمم التي بها يتميزون. المصدر السابق ص 203. وقال شيخ الإسلام: [وأما اعتياد الخطاب بغير العربية التي هي شعار الإسلام ولغة القرآن حتى يصير ذلك عادة للمصر وأهله ولأهل الدار وللرجل مع صاحبه ولأهل السوق أو للأمراء أو لأهل الديوان أو لأهل الفقه فلا ريب أن هذا مكروه فإنه من التشبه بالأعاجم وهو مكروه] الاقتضاء ص 206. وقال ابن تيمية أيضاً: [وما زال السلف يكرهون تغيير شعائر العرب حتى في المعاملات وهو - التكلم بغير العربية - إلا لحاجة كما نص على ذلك مالك والشافعي وأحمد بل قال مالك: من تكلم في مسجدنا بغير العربية أخرج منه] مجموع الفتاوى 32/255. وهذا الذي ذكره الشافعي وشيخ الإسلام من كراهة الرطانة أي الحديث بغير العربية قال به كثير من أهل العلم من الأئمة والصحابة والتابعين وغيرهم. وقال حرب الكرماني - من أصحاب الإمام أحمد -: [باب تسمية الشهور بالفارسية، قلت لأحمد: فإن للفرس أياماً وشهوراً يسمونها بأسماء لا تعرف؟ فكره ذلك أشد الكراهة!] اقتضاء الصراط المستقيم ص 202، الآداب الشرعية لابن مفلح 3/432-433. واللغة العربية التي وسعت القرآن الكريم وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ووسعت شعر العرب وأدبهم قادرة على أن تسع أسماء المخترعات الجديدة والعلوم الحديثة فلا يظنن أحد أن اللغة العربية عاجزة وإنما العجز في الناطقين بها. قال الإمام الشافعي: [ولسان العرب أوسع الألسنة مذهباً وأكثر ألفاظاً] الرسالة ص 42. وقال الشافعي منبهاً إلى فضل العربية: [وأولى الناس بالفضل في اللسان من لسانه لسان النبي صلى الله عليه وسلم ولا يجوز والله أعلم أن يكون أهل لسانه أتباعاً لأهل لسان غير لسانه في حرف واحد بل كل لسان تبع للسانه وكل أهل دين قبله فعليهم اتباع دينه وقد بين الله ذلك في غير آية من كتابه قال الله تعالى: (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) ، وقال تعالى: (وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا) وقال تعالى: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا) وقال تعالى: (حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) ، وقال تعالى: (قُرْءَانًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) ... الخ] الرسالة ص 46-47. وصدق حافظ إبراهيم شاعر النيل عندما قال مدافعاً عن اللغة العربية: رجعت لنفسي فاتهمت حصاتي وناديت قومي فاحتسبت حياتي رموني بعقم في الشباب وليتني عقمت فلم أجزع لقول داتي ولدت ولما لم أجد لعرائسي رجالاً وأكفاءً وأدت ـــــناتي وسعت كتاب الله لفظاً وغايةً وما ضقت عن آي به وعظات فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة وتنسيق أسماء لمخترعات أنا البحر في أحشائه الدر كامن فهل سألوا الغواص عن صدفاتي ?????(18/150)
151 - لا يسمى المسجد الأقصى حرما
يقول السائل: هل تصح تسمية المسجد الأقصى " بالحرم "؟
الجواب: شاعت تسمية المسجد الأقصى المبارك بالحرم عند عامة الناس في ديار فلسطين وعند بعض الكاتبين المعاصرين فنجدهم يطلقون على المسجد الأقصى الحرم. وهذه التسمية غير صحيحة لأن المعلوم عند أهل العلم أنه لا يوجد عند المسلمين إلا حرمان وهما حرم مكة وحرم المدينة وهذا باتفاق أكثر العلماء وأضاف الشافعية ثالثاً وهو وادي وج بالقرب من الطائف، المجموع 7/483. وإليك تفصيل ذلك: أولاً: قال الله تعالى: (وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًاءَامِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) سورة القصص الآية 57. والمقصود بالحرم في هذه الآية الكريمة هو حرم مكة المكرمة. وقال تعالى: (أو لم يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًاءَامِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ) سورة العنكبوت الآية 67. والمقصود أيضاً بالحرم في هذه الآية الكريمة هو حرم مكة المكرمة. وثبت في الحديث عن عبد الله بن زيدرضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن إبراهيم حرّم مكة ودعا لها وحرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة ودعوت لها في مدها وصاعها مثل ما دعا إبراهيم لمكة) متفق عليه. وحرم مكة وحرم المدينة ثابتان بالأدلة الصحيحة واتفق أهل العلم على ذلك وأما وادي وج بالقرب من الطائف فقد اعتبره الشافعية حرماً وخالفهم بقية العلماء واحتج الشافعية بما ورد في حديث الزبيررضي الله عنه قال: (لما أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من لية حتى إذا كنا عند السدرة وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم في طرف القرن الأسود حذوها فاستقبل نخباً ببصره وقال: مرة واديه ووقف حتى اتقف الناس كلهم ثم قال: إن صيد وج وعضاهه حرم محرم لله وذلك قبل نزوله الطائف وحصاره لثقيف) رواه أبو داود وأحمد والبيهقي. وقوله: (من لية) هو جبل قرب الطائف، (وطرف القرن) جبل قرب الطائف أيضاً وقوله: (فاستقبل نخباً) ، هو واد بالطائف وقوله: (اتقف) أي حتى وقف الناس وقوله: (وعضاهه) هو كل شجر فيه شوك. عون المعبود 6/9 وهذا الحديث ضعفه جماعة من أهل العلم. قال البخاري: لا يصح. ونحوه قال الأزدي وذك الخلال أن أحمد ضعّفه، وضعّفه ابن حبان وضعّفه النووي. التلخيص الحبير 2/280. والراجح من أقوال أهل العلم أن " وج " ليس بحرم لضعف الحديث كما سبق. وبناء على ما تقدم لا يصح إطلاق اسم الحرم إلا على الحرمين حرم مكة وحرم المدينة ولا يجوز شرعاً إطلاق اسم الحرم على المسجد الأقصى المبارك ولا على المسجد الإبراهيمي في الخليل وتسميتهما حرماً بدعة لا أصل لها. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: [وليس ببيت المقدس مكان يسمى حرماً ولا بتربة الخليل ولا بغير ذلك من البقاع إلا ثلاثة أماكن أحدها: هو حرم باتفاق المسلمين وهو حرم مكة شرفها الله تعالى والثاني حرم عند جمهور العلماء وهو حرم النبي صلى الله عليه وسلم من عير إلى ثور بريد في بريد فإن هذا حرم عند جمهور العلماء كمالك والشافعي وأحمد وفيه أحاديث صحيحة مستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم والثالث " وج " وهو واد بالطائف فإن هذا روي فيه حديث رواه أحمد في المسند وليس في الصحاح وهذا حرم عند الشافعي لاعتقاده صحة الحديث وليس حرماً عند أكثر العلماء وأحمد ضعف الحديث المروي فيه فلم يأخذ به وأما ما سوى هذه الأماكن الثلاثة فليس حرماً عند أحد من علماء المسلمين فإن الحرم ما حرّم الله صيده ونباته ولم يحرم الله صيد مكان ونباته خارجاً عن هذه الأماكن الثلاثة] مجموع فتاوى شيخ الإسلام 27/14- 15. وقال شيخ الإسلام أيضاً: [ ... والأقصى اسم للمسجد كله ولا يسمى هو ولا غيره حرماً وإنما الحرم بمكة والمدينة خاصة. وفي وادي وج بالطائف نزاع بين العلماء] اقتضاء الصراط المستقيم ص 434. ولم تثبت تسمية المسجد الأقصى حرماً عن أحد من العلماء المحققين ولما تكلم الإمام بدر الدين الزركشي عن الأحكام المتعلقة بالمسجد الأقصى لم يذكر منها شيئاً في تسميته حرماً وإنما سماه المسجد الأقصى كما هو شأن بقية العلماء. إعلام الساجد بأحكام المساجد ص 191 فما بعدها. كما أن الشيخ مجير الدين الحنبلي لم يستعمل كلمة الحرم في وصف المسجد الأقصى في كتابه " الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل " وكذلك الشيخ عبد الغني النابلسي في كتابه " الحضرة الأنسية في الرحلة المقدسية ". ?????(18/151)
152 - القرآن الكريم
يقول السائل: لدي مصحف قديم قد بلي وتمزقت أوراقه فماذا أصنع فيه؟
الجواب: ينبغي أن يعلم أنه يجب على المسلم المحافظة على المصحف والاعتناء به جيداً على أكمل الوجوه، قال الإمام النووي: [أجمع المسلمون على وجوب صيانة المصحف واحترامه] التبيان في آداب حملة القرآن ص 108. ومن المحافظة على المصحف صيانته من التمزق والعناية بتجليده ولا ينبغي وضع أي كتاب عليه. وإنما يوضع المصحف فوق الكتب واستحب بعض أهل العلم أن يوضع المصحف في مكان خاص كأن يوضع على كرسي خاص به كذا ذكره ابن مفلح في الآداب الشرعية 2/333. وأما إذا بلي المصحف وتمزقت أوراقه ولم يعد صالحاً للقراءة فيه فحينئذ يجوز حرقه على رأي جماعة من أهل العلم، أو دفنه في أرض طيبه على قول آخرين من العلماء. وأما حرق المصحف إذا بلي فيؤيده ما رواه الإمام البخاري في صحيحه بإسناده عن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة، فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة، إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف ردَّ عثمان الصحف إلى حفصة وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق) . والشاهد من هذا الحديث قوله: (وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق) . وقد ورد في بعض روايات الحديث السابق: (أن يخرق) بالخاء وليس بالحاء ولكن صحح كثير من العلماء رواية (أن يحرق) بالحاء ورجحوها على الرواية بالخاء. قال الحافظ ابن حجر: [وقد وقع في رواية شعيب عند ابن أبي داود والطبراني وغيرهما: وأمرهم أن يحرقوا كل مصحف يخالف المصحف الذي أرسل به، قال: فذلك زمان حرقت المصاحف في العراق بالنار، وفي رواية سويد بن غفلة عن علي قال: لا تقولوا لعثمان في إحراق المصاحف إلا خيراً، وفي رواية بكير بن الأشج: فأمر بجمع المصاحف فأحرقها ثم بث في الأجناد التي كتب. ومن طريق مصعب بن سعد قال: أدركت الناس متوافرين حين حرق عثمان المصاحف فأعجبهم ذلك أو قال لم ينكر ذلك منهم أحد، وفي رواية أبي قلابة: فلما فرغ عثمان من المصحف كتب إلى أهل الأمصار: إني قد صنعت كذا وكذا، ومحوت ما عندي فامحوا ما عندكم، والمحو أعم أن يكون بالغسل أو التحريق. وأكثر الروايات صريح في التحريق فهو الذي وقع ويحتمل وقوع كل منهما بحسب ما رأى من كان بيده شيء من ذلك وقد جزم عياض بأنهم غسلوها بالماء ثم أحرقوها مبالغة في إذهابها، قال ابن بطال: في هذا الحديث جواز تحريق الكتب التي فيها اسم الله بالنار وأن ذلك إكرام لها وصون عن وطئها بالأقدام، وقد أخرج عبد الرزاق من طريق طاووس أنه كان يحرق الرسائل التي فيها البسملة إذا اجتمعت وكذا فعل عروة وكرهه إبراهيم وقال ابن عطية: الرواية بالحاء المهملة أصح، وهذا الحكم هو الذي وقع في ذلك الوقت وأما الآن فالغسل أولى لما دعت الحاجة إلى إزالته] فتح الباري 10/395. وروى أبو بكر بن أبي داود عن طاووس بإسناده: [أنه لم يكن يرى بأساً أن تحرق الكتب، وقال: إن الماء والنار خلق من خلق الله] وإسناده صحيح غاية المرام 2/122. وروى عبد الرزاق بإسناده عن ابن طاووس قال: [كان أبي يحرق الصحف إذا اجتمعت عنده فيها الرسائل فيها: بسم الله الرحمن الرحيم] مصنف عبد الرزاق 11/425. وقال ابن جرير الطبري فيما فعله عثمان: [وجمعهم على مصحف واحد وحرف واحد وحرق ما عدا المصحف الذي جمعهم عليه وعزم على كل من كان عنده مصحف مخالف للمصحف الذي جمعهم عليه أن يحرقه فاستوثقت له الأمة على ذلك بالطاعة ورأت أن فيما فعل من ذلك الرشد والهداية] تفسير ابن جرير الطبري 1/64-65، نقلاً عن مباحث في علوم القرآن ص 132. وقال الشيخ القرطبي: [وذكر أبو بكر الأنباري في كتاب الرد عن سويد بن غفلة، قال: سمعت علي بن أبي طالب يقول: يا معشر الناس اتقوا الله! وإياكم والغلو في عثمان وقولكم: حرّاق المصاحف فوالله ما حرقها إلا عن ملأ منا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. وعن عمير بن سعيد قال: قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لو كنت الوالي وقت عثمان لفعلت في المصاحف مثل الذي فعل عثمان. قال أبو الحسن بن بطال: وفي أمر عثمان بتحريق الصحف والمصاحف حين جمع القرآن جواز تحريق الكتب التي فيها أسماء الله تعالى وأن ذلك إكرام لها وصيانة عن الوطء بالأقدام وطرحها في ضياع من الأرض. روى معمر عن ابن طاووس عن أبيه: أنه كان يحرق الصحف إذا اجتمعت عند الرسائل فيها: بسم الله الرحمن الرحيم، وحرق عروة بن الزبير كتب فقه كانت عنده يوم الحرّه، وكره إبراهيم أن تحرق الصحف إذا كان فيها ذكر الله تعالى وقول من حرقها أولى بالصواب وقد فعله عثمان وقد قال القاضي أبو بكر لسان الأمة: جائز للإمام تحريق الصحف التي فيها القرآن إذا أداه الاجتهاد إلى ذلك] تفسير القرطبي 1/54-55. وأما دفن المصحف إذا بلي وتمزق فنص عليه الإمام أحمد رحمه الله وذكر الإمام أحمد أن أبا الجوزاء بلي له مصحف فحفر له في مسجده فدفنه، ذكره ابن مفلح في الفروع 1/194. وروى عبد الرزاق بإسناده عن إبراهيم النخعي أنه كره أن تحرق الصحف إذا كان فيها ذكر الله. مصنف عبد الرزاق 11/425. وعند الحنفية يدفن المصحف في أرض طيبة كما قال الإمام العيني: [قال أصحابنا الحنفية إن المصحف إذا بلي بحيث لا ينتفع به يدفن في مكان طاهر بعيد عن وطء الناس] عمدة القاري شرح صحيح البخاري 13/537، وانظر الفتاوى الهندية 5/323. وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال: [وأما المصحف العتيق والذي تخرق وصار بحيث لا ينتفع به بالقراءة فيه فإنه يدفن في مكان يصان فيه كما أن كرامة بدن المؤمن دفنه في موضع يصان فيه] مجموع الفتاوي 12/599. وخلاصة الرأي الذي أراه جواز الأمرين وهما الحرق والدفن في أرض طيبة لأن فيهما صيانة للمصحف من الإهانة ومحافظة على حرمته وقد أجازت الأمرين اللجنة الدائمة للإفتاء السعودية. فتاوى اللجنة 4/52. وأخيراً ينبغي أن يعلم أنه يلحق بالمصحف الذي بلي ولم يعد صالحاً للقراءة فيه المصحف الذي يقع في طباعته أخطاء كإسقاط بعض الآيات أو تقديم بعض الآيات عن محلها أو تأخيره وأود تنبيه الأخوة القراء بأن هنالك طبعة للقرآن الكريم مع تفسير الجلالين ومعه أسباب النزول للسيوطي صادرة عن دار العربية للطباعة والنشر والتوزيع في بيروت لبنان سنة 1968 م قد وقع فيها سقط في بعض آيات القرآن الكريم كما يلي: - في الآية 197 من سورة البقرة حيث سقط آخر الآية. - وسقط أول الآية 198. - وسقط جزء من الآية 201. - وفي سورة الأعراف سقط جزء من الآية 44. - وسقط آخر الآية 55. - وفي سورة الإسراء سقط معظم الآية 35. - وفي سورة الحج كتب أول الآية الثانية بشكل معكوس. فينبغي الانتباه إلى ذلك وأنصح بإتلاف نسخ الطبعة المشار إليها بحرقها أو دفنها في مكان طاهر. ?????(18/152)
153 - حكم إقامة نصب للشهداء
يقول السائل: ما حكم إقامة نصب للشهداء تكتب عليه أسماؤهم وبعض الآيات القرآنية؟
الجواب: ليس من منهج الإسلام في تكريم الشهداء إقامة ما يسمى بنصب الشهداء أو نصب الجندي المجهول أو نحو ذلك من الأمور المبتدعة والتي عملها بعض المسلمين تقليداً لغير المسلمين. ومن المعلوم عند أهل العلم أن البناء على القبور محرم شرعاً وعلى ذلك دلت الأحاديث النبوية الشريفة فقد ثبت في الحديث عن جابر رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه) رواه مسلم. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبنى على القبور أو يقعد عليها أو يصلى عليها) رواه أبو يعلى وقال الهيثمي: رجاله ثقات وغير ذلك من الأحاديث. وقد اتفق العلماء من لدن صحابة النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا الوقت على حرمة البناء على القبور. ويضاف إلى ذلك أن إقامة نصب للشهداء ما هو إلا تشبه بغير المسلمين وقد نهينا عن التشبه بهم في مثل هذه الأمور وقد قامت على إثبات هذا الأصل الأدلة الكثيرة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فمن ذلك قوله تعالى: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَءَامَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) سورة الحديد الآية 16. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: [فقوله (وَلَا يَكُونُوا) نهي مطلق عن مشابهتهم وهو خاص أيضاً في النهي عن مشابهتهم في قسوة قلوبهم وقسوة القلوب من ثمرات المعاصي] اقتضاء الصراط المستقيم ص 43. وكما في قوله صلى الله عليه وسلم: (خالفوا المشركين) رواه البخاري ومسلم. ومن المعلوم أن الشهداء لهم مكانة عظيمة عند الله سبحانه وتعالى فلا يحتاجون إلى إقامة هذه النصب لتكريمهم. قال الله تعالى: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا) سورة النساء الآية 69. وقال تعالى: (وَالَّذِينَءَامَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ) سورة الحديد الآية 19. وثبت في الحديث عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا وأن له ما على الأرض من شيء إلا الشهيد فإنه يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات لما يرى من الكرامة) رواه البخاري. وغير ذلك من الأحاديث. ?????(18/153)
154 - لا يجوز المزاح في الأمور الشرعية
يقول السائل: كنا في أحد المجالس وكان هنالك شخص يمازح الآخرين ويذكر بعض النكت التي تتضمن الاستخفاف بالأمور الشرعية كالاستخفاف بمعرفة الله سبحانه وتعالى والاستخفاف بالجنة فما حكم ذلك؟
الجواب: المزاح مفتاح من مفاتيح الشر كما هو معلوم لأنه قد يؤدي إلى مفاسد كثيرة ولكن الإنسان لا يستغني عن شيء من المزاح فلذا وضع العلماء له ضوابط معينة حتى يكون المزاح جائزاً فلذلك قال العلماء: لا بأس بالمزاح إذا راعى المازح فيه الحق وتحرى الصدق فيما يقوله في مزاحه وتحاشى عن فحش القول. الموسوعة الفقهية 37/43. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يمزح فمن ذلك ما ورد في الحديث عن الحسن قال: (إن امرأة عجوزاً جاءته تقول: يا رسول الله ادع الله أن يدخلني الجنة، فقال لها: يا أم فلان إن الجنة لا يدخلها عجوز. وانزعجت المرأة وبكت ظناً منها أنها لن تدخل الجنة فلما رأى ذلك منها، بين لها غرضه: أن العجوز لن تدخل الجنة عجوزاً بل ينشئها الله خلقاً آخر فتدخلها شابة بكراً ... ) رواه الترمذي في الشمائل وقال الشيخ الألباني حديث حسن. مختصر الشمائل المحمدية ص 128، غاية المرام 215. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (قالوا: يا رسول الله! إنك تداعبنا. قال: نعم غير أني لا أقول إلا حقاً) رواه الترمذي وقال: حسن صحيح. وصححه الشيخ الألباني في مختصر الشمائل المحمدية ص 126، وفي السلسلة الصحيحة 4/304. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن رجلاً استحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم - أي سأله أن يحمله على دابه - فقال صلى الله عليه وسلم: إني حاملك على ولد ناقة. فقال الرجل: يا رسول الله ما أصنع بولد الناقة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: وهل تلد الإبل إلا النوق) رواه الترمذي في الشمائل وابن حبان وأحمد وقال الشيخ الألباني: إسناده صحيح على شرط الشيخين. مختصر الشمائل المحمدية ص 127. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: يا ذا الأذنين - يعني يمازحه -) رواه الترمذي في الشمائل وأبو داود وصححه الشيخ الألباني، مختصر الشمائل ص 124. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أيضاً: (أن رجلاً من أهل البادية كان اسمه زاهر بن حرام، قال: وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحبه وكان دميماً فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يوماً وهو يبيع متاعه فاحتضنه من خلفه وهو لا يبصر قال: أرسلني، من هذا؟ فالتفت فعرف النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل لا يألو ما ألزق ظهره بصدر النبي صلى الله عليه وسلم حين عرفه وجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: من يشتري العبد. فقال: يا رسول الله إذاً والله تجدني كاسداً. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ولكن عند الله لست بكاسد - أو قال: لكن عند الله غال) رواه الترمذي في الشمائل وأحمد وصححه الحافظ ابن حجر والألباني. مختصر الشمائل المحمدية ص 127. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كان ابن لأم سليم يقال له أبو عمير، كان النبي صلى الله عليه وسلم ربما مازحه إذا جاء فدخل يوماً يمازحه فوجده حزيناً فقال: ما لي أرى أبا عمير حزيناً؟ فقالوا: يا رسول الله مات نغره الذي كان يلعب به. فجعل يناديه صلى الله عليه وسلم: يا أبا عمير ما فعل النغير) رواه البخاري. وغير ذلك من الأحاديث. ولكن المزاح قد يخرج عن الإباحة إلى التحريم إذا اشتمل المزاح على سخرية واستهزاء فيحرم شرعاً المزاح الذي يشتمل على تحقير مسلم أو استخفاف به، يقول الله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ) سورة الحجرات الآية 11. وثبت في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم) رواه مسلم. ولا يجوز أن يشتمل المزاح على اللمز والتنابز بالألقاب لقوله تعالى: (وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) سورة الحجرات الآية 11. ولا يجوز أن يشتمل المزاح على ترويع المسلم وإخافته لما جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل لمسلم أن يروع مسلماً) رواه أبو داود وأحمد والطبراني وصححه الشيخ الألباني في غاية المرام ص 257. وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يأخذن أحدكم متاع أخيه لاعباً ولا جاداً ومن أخذ عصا أخيه فليردها) رواه أبو داود والترمذي وأحمد وقال الشيخ الألباني: حديث حسن. صحيح سنن أبي داود 3/944. وكذلك لا يجوز أن يشتمل المزاح على الكذب من أجل أن يضحك الناس لما ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ويل للذي يحدث بالحديث ليضحك به القوم فيكذب، ويل له! ويل له) رواه أبو داود والترمذي وأحمد وحسّنه الألباني في صحيح سنن الترمذي 2/268. فالحديث نص صريح مؤكد على حرمة اختلاق أفعال وأقوال ذريعة لإضحاك الناس. قال المناوي في الحكمة من تكرار الويل في الحديث: [كرره إيذاناً بشدة هلكته، وذلك لأن الكذب وحده رأس كل مذموم وجماع كل فضيحة فإذا انضم إليه استجلاب الضحك الذي يميت القلب ويجلب النسيان ويورث الرعونة كان أقبح القبائح ومن ثم قال الحكماء: إيراد المضحكات على سبيل السخف نهاية القباحة] فيض القدير 6/369. والحكمة من هذا المنع أنه يجرّ إلى وضع أكاذيب ملفقة على أشخاص معينين يؤذيهم الحديث عنهم كما أنه يعطي ملكة التدرب على اصطناع الكذب وإشاعته فيختلط في المجتمع الحقّ بالباطل والباطل بالحقّ ومن هذا المنطلق حرّم الإسلام الكذب على وجه العموم وتوعّد المتخلق به عاقبة سوء فقد جاء في الحديث عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة ولا يزال الرجل يصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً) رواه البخاري ومسلم] قضايا اللهو والترفيه بين الحاجة النفسية والضوابط الشرعية ص 210-211. هذا بالنسبة للمزاح وأما اشتمال النكات والمزاح على الاستخفاف بالأمور الشرعية فهذا حرام شرعاً وقد يكون في بعض الحالات كفراً مخرجاً من الملة والعياذ بالله. فالاستخفاف بالله سبحانه وتعالى كوصف الله سبحانه وتعالى بما لا يليق فهذا كفر صريح مخرج من الملة والعياذ بالله كوصف الله سبحانه وتعالى بالإجرام عند وفاة شخص عزيز على الإنسان فهذا كفر لا شك فيه. وقد اتفق العلماء على أن الاستخفاف بالله تعالى بالقول أو الفعل أو الاعتقاد حرام وفاعله مرتد عن الإسلام سواء أكان مازحاً أم جاداً. الموسوعة الفقهية 3/249. ويدل على ذلك قوله تعالى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَءَايَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) سورة التوبة الآية 65. وكذلك الاستخفاف بالعقيدة الإسلامية بشكل عام كالاستخفاف والاستهزاء بالملائكة والأنبياء والمرسلين، قال تعالى: (إن الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا) سورة الأحزاب الآية 57. ومن ذلك الاستخفاف بالجنة والاستهزاء بما أعده الله من جزاء للطائعين فيها كمن يستهزئ بما أعده الله لعباده الصالحين من الحور العين وغير ذلك فهذا حرام قطعاً. ومثله الاستخفاف والاستهزاء بالأحكام الشرعية ومثله الاستهزاء والاستخفاف بالصحابة رضوان الله عليهم. ?????(18/154)
155 - حكم التسليم بالإشارة
يقول السائل: ما حكم التسليم على المسلم بالإشارة، وما قولكم في استعمال عبارات صباح الخير ومساء الخير ونحوها بدلاً من لفظ السلام عليكم؟
الجواب: التسليم أي طرح السلام من السنن الثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم فقد صح في الحديث عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم: (أي الإسلام خير؟ قال: تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف) رواه البخاري ومسلم. وثبت في الحديث أيضاً عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع: بعيادة المريض واتباع الجنائز وتشميت العاطس ونصر الضعيف وعون المظلوم وإفشاء السلام وإبرار المقسم) رواه البخاري ومسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أو لا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم) رواه مسلم. والأصل في التسليم أن يكون باللسان أي باللفظ وليس باليد أو بالرأس بدون تلفظ. والسلام بالإشارة باليد أو بالرأس بدون تلفظ مكروه عند أهل العلم لما ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس منا من تشبه بغيرنا، لا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى فإن تسليم اليهود الإشارة بالأصابع وتسليم النصارى بالكف) رواه الترمذي وضعفه ولكن له شواهد تقويه لذا حسنه الشيخ الألباني في صحيح سنن الترمذي 2/346، وفي السلسلة الصحيحة 5/227. ويؤيد ذلك ويقويه ما رواه النسائي في عمل اليوم والليلة ص 288 عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تسلموا تسليم اليهود فإن تسليمهم بالرؤوس والأكف والإشارة) ، قال الحافظ ابن حجر: أخرجه النسائي بسند جيد. فتح الباري 13/255. ويؤيد ذلك أيضاً أن السلف كانوا يكرهون التسليم باليد فقد روى الإمام البخاري في الأدب المفرد عن عطاء بن أبي رباح قال: كانوا يكرهون التسليم باليد. وقال الشيخ الألباني: صحيح الإسناد. صحيح الأدب المفرد 1/385. وقال الشيخ الألباني في موضع آخر: وإسناده صحيح على شرطه في الصحيح. حجاب المرأة المسلمة ص 99. ويجوز التسليم بالإشارة مع التلفظ إذا كان المسلًّم عليه بعيداً بحيث لا يسمع التسليم قال العلامة فضل الله الجيلاني: [والنهي عن السلام بالإشارة مخصوص بمن قدر على اللفظ حساً وشرعاً وإلا فهي مشروعة لمن يكون في شغل يمنعه من التلفظ بجواب السلام كالمصلي والبعيد والأخرس وكذا الأصم] فضل الله الصمد في توضيح الأدب المفرد 2/489. وقال الحافظ ابن حجر: [واستدل بالأمر بإفشاء السلام على أنه لا يكفي سراً بل يشترط الجهر وأقله أن يسمع في الابتداء وفي الجواب. ولا تكفي الإشارة باليد ونحوه ... ويستثنى من ذلك حالة الصلاة فقد وردت أحاديث جيدة أنه صلى الله عليه وسلم ردَّ السلام وهو يصلي إشارة ... وكذا من كان بعيداً بحيث لا يسمع التسليم يجوز السلام عليه إشارة ويتلفظ مع ذلك بالسلام) فتح الباري 13/255. ويجب أن يعلم أن تحية المسلمين هي السلام وليس صباح الخير ولا مساء الخير ولا أي عبارة أخرى سواء أكانت بالعربية أو بغيرها من اللغات كما يفعل بعض الناس حيث إنهم يحيون بعضهم بعضاً بألفاظ غير عربية. فالسلام هو تحية أهل الإسلام بل إنها تحية أهل الجنة أيضاً، قال الله تعالى: (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْءَابَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار) سورة الرعد الآيتان 23-24. وقال تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) سورة النور الآية 27. وقال تعالى: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) سورة الذاريات الآيتان 24 - 25. فتحية الأنبياء والملائكة والمسلمين هي السلام فقد ثبت في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خلق الله عز وجل آدم على صورته - أي صورة آدم - فلما خلقه قال: اذهب فسلم على أؤلئك، نفر من الملائكة جلوس فاستمع ما يحيونك فإنها تحيتك وتحية ذريتك فقال: السلام عليكم، فقالوا: السلام عليك ورحمة الله، فزادوه ورحمة الله) رواه البخاري ومسلم. فالسلام هي تحيتنا التي ينبغي أن نستعملها وهي تحية عظيمة تحمل معنى عظيماً فهي دعاء بالسلامة من الآفات في الدين والنفس ولأن في تحية المسلمين بعضهم لبعض بهذا اللفظ عهداً بينهم على صيانة دمائهم وأعراضهم وأموالهم. الموسوعة الفقهية 25/156. ولا ينبغي للمسلمين أن يستبدلوا هذه التحية العظيمة بألفاظ مستوردة مثل: Good morning، أو بونجور، أو صباح الخير، أو مساء الخير. قال الله تعالى: (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) سورة البقرة الآية 61. وقد كره العلماء استعمال هذه الألفاظ وأمثالها، قال الشيخ ابن حجر الهيتمي المكي: [مطلب على أنه تكره التحية بصباح الخير بخلاف صبحك الله بالخير] الفتاوى الحديثية ص 133. وقال الأستاذ عمر فروخ: [ومعظم الناس إذا حيا بعضهم بعضاً قالوا: صباح الخير أو مساء الخير! والرد على هذه التحية هو: صباح النور، مساء النور، وهذه التحية هي التحية المجوسية يعتقد المجوسي بقوتين: الخير والشر يمثلهما النور والظلمة. وللمجوسي إله للخير أو النور، وإله للشر أو الظلمة وهما يتنازعان السيطرة على العالم فكان من المعقول أن يحي المجوس بعضهم بعضاً بقولهم: صباح الخير - صباح النور! ومع أن الإسلام قد أمرنا بأن نأخذ تحية الإسلام: (السلام عليكم) مكان كل تحية أخرى فلا يزال العرب في معظمهم - من المسلمين ومن غير المسلمين - يتبادلون التحية بقولهم صباح الخير-صباح النور] معجم المناهي اللفظية ص 334-335. ?????(18/155)
156 - التعامل مع غير المسلم
يقول السائل: إنه يعمل عند شخص غير مسلم وقد أهداه هدية فقبلها فما حكم ذلك؟
الجواب: يجوز للمسلم أن يقبل الهدية من غير المسلم بشرطها كما سأذكر فيما بعد ويدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل هدية غير المسلمين وأهدى لهم. قال الإمام البخاري: [" باب قبول الهدية من المشركين " وقال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم هاجر ابراهيم عليه السلام بسارة فدخل قرية فيها ملك أو جبار، فقال: أعطوها آجر - هاجر -. وأُهديت للنبي صلى الله عليه وسلم شاة فيها سم. وقال أبو حميد: أهدى ملك أيلة للنبي صلى الله عليه وسلم بغلة بيضاء فكساه برداً وكتب إليه ببجرهم] . ثم روى البخاري بسنده عن أنس قال: (أهدي للنبي صلى الله عليه وسلم جبة من سندس وكان ينهى عن الحرير فعجب الناس منها فقال: والذي نفس محمد بيده لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذا. وقال سعيد عن قتادة عن أنس: إن أكيدر دومة أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم) . وعن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن يهودية أتت النبي صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة فأكل منها فجيء بها فقيل: ألا نقتلها؟ قال: لا. فما زلت أعرفها في لهوات - جمع لهات وهي سقف الحلق - رسول الله صلى الله عليه وسلم) . وعن عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثين ومائة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هل مع أحد منكم طعام؟ فإذا مع رجل صاع من طعام أو نحوه فعجن ثم جاء رجل مشرك مشعان طويل بغنم يسوقها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بيعاً أم عطية؟ أو قال: أم هبة؟ قال: لا، بل بيع، فاشترى منه شاة فصنعت وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بسواد البطن أن يشوى وأيم الله ما في الثلاثين ومائة إلا وقد حز النبي صلى الله عليه وسلم له حزة من سواد بطنها إن كان شاهداً أعطاها إياه وإن كان غائباً خبأ له فجعل منها قصعتين فأكلوا أجمعون وشبعنا ففضلت القصعتان فحملناه على البعير أو كما قال] صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 6/158-160. قال الحافظ ابن حجر: [قوله باب قبول الهدية من المشركين، أي جواز ذلك وكأنه أشار إلى ضعف الحديث الوارد في رد هدية المشرك وهو ما أخرجه أبو موسى بن عقبة في المغازي عن ابن شهاب عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك ورجال من أهل العلم أن عامر بن مالك الذي يدعى ملاعب الأسنة قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مشرك فأهدى له فقال: إني لا أقبل هدية مشرك، الحديث. رجاله ثقات إلا أنه مرسل وقد وصله بعضهم عن الزهري ولا يصح. وفي الباب حديث عياض بن حمار أخرجه أبو داود والترمذي وغيرهما من طريق قتادة عن يزيد بن عبد الله عن عياض قال: أهديت للنبي صلى الله عليه وسلم ناقة فقال: أسلمت؟ قلت: لا، قال: إني نهيت عن زبد المشركين. والزبد بفتح الزاي وسكون الموحدة الرفد صححه الترمذي وابن خزيمة] فتح الباري 6/158. وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن النهي عن قبول هدية المشركين المذكور في الحديث السابق منسوخ كما ذكره الحافظ ابن حجر في الفتح 6/158. ونقل العيني عن الخطابي قوله: [يشبه أن يكون هذا الحديث منسوخاً لأنه صلى الله عليه وسلم قبل هدية غير واحد من المشركين أهدى له المقوقس مارية والبغلة وأهدى له أكيدر دومة فقبل منهما] عمدة القاري 9/436. وقد ذكر العيني عدداً من الأحاديث في قبول النبي صلى الله عليه وسلم لهدايا الكفار منها: (عن أنس أن أكيدر دومة الجندل أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبة من سندس) رواه مسلم. ومنها حديث بلال رضي الله عنه الطويل في قصة الدين الذي تحمله بلال رضي الله عنه فقال له رسول الله: (أبشر فقد جاء الله بقضائك. ثم قال: ألم تر الركائب المناخات الأربع؟ فقلت: بلى. فقال: إن لك رقابهن وما عليهن فإن عليهن كسوة وطعاماً أهداهن إلي عظيم فدك فاقبضهن واقض دينك. ففعلت) رواه أبو داود وقال الشيخ الألباني صحيح الإسناد. صحيح سنن أبي داود 2/592. وعن عبد الله بن الزبير قال: (قدمت قتيلة ابنة عبد العزى على ابنتها أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما بهدايا ضباب وأقط وسمن وهي مشركة فأبت أسماء أن تقبل هديتها وتدخلها بيتها، فسألت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل: (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) فأمرها أن تقبل هديتها وتدخلها بيتها) رواه أحمد والطبراني وجوّده، كما قال الهيثمي في مجمع الزوائد 4/152. وغير ذلك من الأحاديث. وخلاصة الأمر أنه يجوز قبول هدية غير المسلمين بشرط أن تكون الهدية مما له قيمة في عرف الشرع فلا يجوز للمسلم أن يقبل الخمر كهدية لأن الخمر مال غير متقوم شرعاً. كما أنه يجوز أن للمسلم أن يهدي لغير المسلم وخاصة إذا كان ذا رحم للمسلم، قال الإمام البخاري: [باب الهدية للمشركين وقوله الله تعالى: (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) . ثم روى البخاري بإسناده عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (رأى عمر حلة على رجل تباع، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم ابتع هذه الحلة تلبسها يوم الجمعة وإذا جاءك الوفد، فقال: إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة، فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم منها بحلل فأرسل إلى عمر منها بحلة فقال عمر: كيف ألبسها وقد قلت فيها ما قلت؟ قال: إني لم أكسكها لتلبسها تبيعها أو تكسوها فأرسل بها عمر إلى أخ له من أهل مكة قبل أن يسلم) . وروى البخاري عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: (قدمت علي أمي وهي مشركة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت إن أمي قدمت علي وهي راغبة أفأصل أمي؟ قال: نعم، صلي أمك) صحيح البخاري مع الفتح 6/160-162. وذكر الحافظ ابن حجر أن المراد من سياق الآية التي ذكرها البخاري بيان من يجوز بره من المشركين وأن الهدية للمشرك إثباتاً ونفياً والتواد المنهي عنه في قوله تعالى: (لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) فتح الباري 6/160. ?????(18/156)
157 - التعامل مع غير المسلم
يقول السائل: كيف نعزي غير المسلمين بموتاهم؟
الجواب: يجوز للمسلم أن يعزي غير المسلم في ميته وهذا قول جمهور أهل العلم وذكر العلماء عدة عبارات تقال في هذه التعزية منها: - أخلف الله عليك ولا نقص عددك. - أعطاك الله على مصيبتك أفضل ما أعطى أحداً من أهل دينك. المغني 2/46. - ألهمك الله الصبر وأصلح بالك، ومنها: أكثر الله مالك وأطال حياتك أو عمرك. - ومنها لا يصيبك إلا خير. أحكام أهل الذمة 1/161. ?????(18/157)
158 - دخول النجاسة في المصنوعات
يقول السائل: إن كثيراً من الأدوية ومواد التنظيف مثل بعض أنواع الصابون والشامبو يدخل في تركيبها عناصر مأخوذة من حيوانات ميتة أو من الخنزير أو الكحول، فما حكم استعمالها؟ الجواب:(18/158)
159 - احاديث مكذوبة
..... وأما الثاني: عن خالد بن الوليد رضي الله عنه قال: جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله: جئت أسألك عما يغنيني في الدنيا والآخرة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سل عما بدا لك: قال: أريد أن أكون أعلم الناس. فقال صلى الله عليه وسلم: اتق الله تكن أعلم الناس. قال: أريد أن أكون أغنى الناس ... أعطاني أحد المصلين نشرتين وجدهما معلقتين في المسجد تتضمن الأولى منهما حديثاً قدسياً وتتضمن الأخرى حديثاً طويلاً وسألني هل هذين الحديثين ثابتين؟! عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: قال الله عز وجل: يا ابن آدم لا تخف من ذي سلطان ما دام سلطاني باقياً وسلطاني لا يزول أبداً، يا ابن آدم لا تخشى من ضيق
أعطاني أحد المصلين نشرتين وجدهما معلقتين في المسجد تتضمن الأولى منهما حديثاً قدسياً وتتضمن الأخرى حديثاً طويلاً وسألني هل هذين الحديثين ثابتين؟!
عن النبي صلى الله عليه وسلم وهذا هو نص الحديث الأول كما جاء في النشرة وعنوانها " حديث قدسي جليل ": [عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: قال الله عز وجل: يا ابن آدم لا تخف من ذي سلطان ما دام سلطاني باقياً وسلطاني لا يزول أبداً، يا ابن آدم لا تخشى من ضيق رزق ما دامت خزائني مملوءة وخزائني لا تنفذ أبداً، يا ابن آدم لا تطلب غيري وأنا لك فإن طلبتني وجدتني وإن فتني فتك وفاتك الخير كله، يا ابن آدم خلقتك للعبادة فلا تلعب وقسمت لك رزقاً فلا تتعب فإن أنت رضيت بما قسمته لك أرحت لك قلبك وبدنك وكنت عندي محموداً وإن لم ترض بما قسمته لك فوعزتي وجلالي لأسلطن عليك الدنيا تركض فيها ركض الوحش في البرية ثم لا يكون لك منها إلا ما قسمته لك وكنت عندي مذموماً، يا ابن آدم خلقت السموات السبع والأرضين السبع ولم أعيَ بخلقهنّ أَفيعييني رغيف عيش أسوقه لك بلا تعب! يا ابن آدم إنه لم أنسى من عصاني فكيف من أطاعني وأنا رب رحيم وعلى كل شيْ قدير! يا ابن آدم لا تسألني رزق غدٍ كما لم أطلب منك عمل غد، يا ابن آدم أنا لك محب فبحقي عليك كن لي محباً] عن أحمد والترمذي وابن ماجه.
وأما نص الحديث الثاني فقد جاء في النشرة بعنوان " الحديث الشريف الذي جمع فأوعى ": [عن خالد بن الوليد رضي الله عنه قال: جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله: جئت أسألك عما يغنيني في الدنيا والآخرة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سل عما بدا لك: قال: أريد أن كون أعلم الناس. فقال صلى الله عليه وسلم: اتق الله تكن أعلم الناس. قال: أريد أن أكون أغنى الناس. فقال صلى الله عليه وسلم: كن قانعاً تكن أغنى الناس. قال: أحب أن أكون أعدل الناس. فقال صلى الله عليه وسلم: أحب للناس ما تحب لنفسك تكن أعدل الناس. قال: أحب أن أكون خير الناس. فقال صلى الله عليه وسلم: كن نافعاً للناس تكن خير الناس. قال: أحب أن أكون أخص الناس إلى الله. فقال صلى الله عليه وسلم: أكثر ذكر الله تكن أخص الناس إلى الله. قال: أحب أن يكمل إيماني. فقال صلى الله عليه وسلم: حسن خلقك يكمل إيمانك. قال: أحب أن أكون من المحسنين. فقال صلى الله عليه وسلم: اعبد الله كأنك تراه وإن لم تكن تراه فإنه يراك تكن من المحسنين. قال: أحب أن أكون من المطيعين. فقال صلى الله عليه وسلم: أد فرائض الله تكن من المطيعين. قال: أحب أن ألقى الله نقياً من الذنوب. فقال صلى الله عليه وسلم: اغتسل من الجنابة متطهراً تلقى الله نقياً من الذنوب. قال: أحب أن أحشر يوم القيامة في النور. فقال صلى الله عليه وسلم: لا تظلم أحداً تحشر يوم القيامة في النور. قال: أحب أن يرحمني ربي يوم القيامة. فقال صلى الله عليه وسلم: ارحم نفسك وارحم عباده يرحمك ربك يوم القيامة. قال: أحب أن تقل ذنوبي. فقال صلى الله عليه وسلم: أكثر من الاستغفار تقل ذنوبك. قال: أحب أن أكون أكرم الناس. فقال صلى الله عليه وسلم: لا تشكو من أمرك شيئاً إلى الخلق تكن أكرم الناس. قال: أحب أن أكون أقوى الناس. قال صلى الله عليه وسلم: توكل على الله تكن أقوى الناس. قال: أحب أن يوسع الله علي في الرزق. قال صلى الله عليه وسلم: دم على الطهارة يوسع الله عليك في الرزق. قال: أحب أن أكون من أحباب الله ورسوله. قال صلى الله عليه وسلم: أحب ما أحبه الله ورسوله تكن من أحبابهم. قال: أحب أن أكون آمناً من سخط الله يوم القيامة. قال صلى الله عليه وسلم: لا تغضب على أحدٍ من خلق الله تكن آمناً من سخط الله يوم القيامة. قال: أحب أن تٌستجاب دعوتي. قال صلى الله عليه وسلم: اجتنب أكل الحرام تستجاب دعوتك. قال: أحب أن يسترني ربي يوم القيامة. قال صلى الله عليه وسلم: استر عيوب إخوانك يسترك الله يوم القيامة. قال: ما الذي ينجي من الذنوب؟ أو قال من الخطايا؟ قال صلى الله عليه وسلم: الدموع والخضوع والأمراض. قال: أي حسنة أعظم عند الله تعالى؟ قال صلى الله عليه وسلم: حسن الخلق والتواضع والصبر على البلاء. قال: أي سيئة أعظم عند الله تعالى؟ قال صلى الله عليه وسلم: سوء الخلق والشح المناع. قال: ما الذي يسكن غضب الرب في الدنيا والآخرة؟ قال صلى الله عليه وسلم: الصدقة الخفية وصلة الرحم. قال: ما الذي يطفئ نار جهنم يوم القيامة؟ قال صلى الله عليه وسلم: الصبر في الدنيا على البلاء والمصائب] .
قال الإمام المستغفري: ما رأيت حديثاً أعظم وأشمل لمحاسن الدين وأنفع من هذا الحديث جمع فأوعى. رواه الإمام أحمد بن حنبل.
الجواب: هذان الحديثان الطويلان ليس لهما أصل في كتب السنة النبوية وعلامات الوضع ظاهرة عليهما أي الكذب ومن المعلوم أن الحديث الموضوع هو الكذب المختلق كما ذكره الشيخ القاسمي في قواعد التحديث ص 155.
فالحديث الأول وهو حديث قدسي كما جاء في النشرة ما هو إلا كذب على الله سبحانه وعلى النبي صلى الله عليه وسلم كما أنه كذب على الأئمة الذين ذكروا في النشرة على أنهم خرجوا الحديث في كتبهم وهم أحمد والترمذي وابن ماجة وقد بحثت عنه في كتبهم وهي المسند للإمام أحمد وسنن الترمذي وسنن ابن ماجة فلم أجد الحديث فيها ولا ذكره أحد من الذين صنفوا الفهارس الحديثية، وكذلك فإن الحديث لا يوجد في الكتب التي اعتنت بالأحاديث القدسية.
وأما الحديث الثاني فواضح أنه مكذوب باطل. وينبغي أن يعلم أن جماعة من أدعياء الزهد والورع والدجاجلة يزعمون أنهم يرغبون الناس في السنة النبوية فيكذبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيحتسبون وضعهم للأحاديث في الترغيب والترهيب ظناً منهم أنهم يتقربون إلى الله ويخدمون دين الإسلام ويحببون الناس في العبادات والطاعات ولما أنكر العلماء عليهم ذلك وذكروهم بقوله صلى الله عليه وسلم: (من كذب عليّ عامداً متعمداً فليتبوأ مقعده من النار) قالوا: نحن نكذب له صلى الله عليه وسلم لا عليه، وهذا كله من الجهل بالدين وغلبة الهوى والغفلة ومن أمثلة ما وضعوه في هذا السبيل حديث فضائل القرآن سورة سورة فقد اعترف بوضعه نوح بن أبي مريم واعتذر لذلك بأنه رأى الناس قد أعرضوا عن القرآن واشتغلوا بفقه أبي حنيفة ومغازي ابن إسحاق ومن هؤلاء الوضاعين غلام خليل وقد كان زاهداً متخلياً عن الدنيا وشهواتها منقطعاً إلى العبادة والتقوى محبوباً من العامة حتى أن بغداد أغلقت أسواقها يوم وفاته حزناً عليه ومع ذلك فقد زين له الشيطان وضع أحاديث في فضائل الأذكار والأوراد حتى قيل له: هذه الأحاديث التي تحديث بها من الرقائق؟ فقال: وضعناها لنرقق بها قلوب العامة انظر كتاب السنة ومكانتها في التشريع ص 87.
وقال الإمام أبو حامد الغزالي: [وقد ظن ظانون أنه يجوز وضع الأحاديث في فضائل الأعمال وفي التشدد في المعاصي وزعموا أن القصد منه صحيح وهو خطأ محض إذ قال صلى الله عليه وسلم: (من كذب علي عامداً متعمداً فليتبوأ مقعده من النار) وهذا لا يترك إلا لضرورة ولا ضرورة إذ في الصدق مندوحة عن الكذب ففيما ورد من الآيات والأخبار كفاية عن غيرها وقول القائل: إن ذلك قد تكرر على الأسماع وسقط وقعه وما هو جديد فوقعه أعظم فهذا هوس إذ ليس هذا من الأغراض التي تقام محذور الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى الله تعالى ويؤدي فتح بابه إلى أمور تشوش الشريعة فلا يقاوم خير هذا شره أصلاً والكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكبائر التي لا يقاومها شيء نسأل الله العفو عنا وعن جميع المسلمين] إحياء علوم الدين 2/68.
إن من واجب أهل العلم أن يتصدوا لهؤلاء الذين ينشرون مثل هذه الأحاديث المكذوبة بين الناس ويعلقونها في المساجد وأن يبينوا لهؤلاء أن في الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يغني ويكفي عن مثل هذه المكذوبات.
قال الإمام الشوكاني: [فلما كان تمييز الموضوع من الحديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل الفنون وأعظم العلوم وأنبل الفوائد من جهات يكثر تعدادها ولو لم يكن منها إلا تنبيه المقصرين من علم السنة على ما هو مكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحذروا من العمل به واعتقاد ما فيه وإرشاد الناس إليه. كما وقع لكثير من المصنفين في الفقه والمتصدرين للوعظ والمشتغلين بالعبادة والمتعرضين للتصنيف في الزهد فيكون لمن بين لهؤلاء ما هو كذب من السنة أجر من قام بالبيان الذي أوجبه الله مع ما في ذلك من تخليص عباد الله من معرة العمل بالكذب وأخذه على أيدي المتعرضين لما ليس من شأنه من التأليف والاستدلال والقيل والقال، وقد أكثر العلماء رحمهم الله من البيان للأحاديث الموضوعة وهتكوا أستار الكذابين ونفوا عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم انتحال المبطلين وتحريف الغالين وافتراء المفترين وزور المزورين] الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة ص 3.
?????(18/159)
160 - قول عبارة "عليه السلام " عند ذكر علي بن أبي طالب
يقول السائل: إنه لاحظ أن بعض كتب الحديث كلما ذكر فيها علي بن أبي طالب رضي الله عنه قالوا: علي عليه السلام. فلماذا يخص علي بن أبي طالب رضي الله عنه بذلك دون غيره من الصحابة؟
الجواب: اتفق أهل العلم على أن آل النبي صلى الله عليه وسلم يصلى عليهم بغير خلاف بين الأمة كما قال العلامة ابن القيم في جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام ص 259 والمسلمون يصلون على النبي وآله في صلواتهم. وأما إفراد علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالسلام فهذا من فعل الشيعة وتأثر بهم بعض نساخ الكتب الدينية على مرّ العصور والأزمان. قال العلامة القسطلاني: [وقد جرت عادة بعض النساخ أن يفردوا علياً وفاطمة رضي الله عنهما بالسلام فيقولوا عليه أو عليها السلام من دون سائر الصحابة رضي الله عنهم في ذلك. وهذا وإن كان معناه صحيحاً لكن ينبغي أن يساوى بين الصحابة رضي الله عنهم في ذلك فإن هذا من باب التعظيم والتكريم والشيخان وعثمان أولى بذلك منهما] المواهب اللدنية 3/355. وقد كره أهل العلم إفراد عليرضي الله عنه بالسلام دون غيره من الصحابة ولم يرد دليل يخصص علياً صلى الله عليه وسلم بذلك بل هو من فعل الشيعة وسرى ذلك إلى أهل السنة. قال الإمام النووي: [وأما السلام فقال الشيخ أبو محمد الجويني من أصحابنا هو في معنى الصلاة فلا يستعمل في الغائب فلا يفرد به غير الأنبياء فلا يقال علي عليه السلام وسواء في هذا الأحياء والأموات] الأذكار ص 100. وعلل الحافظ ابن حجر المنع من ذلك لكونه صار شعاراً للرافضة. فتح الباري 13/424. وما ذكره السائل في رسالته عن استعمال هذه العبارة كثيراً في نيل الأوطار للشوكاني وأحياناً في صحيح البخاري فهذا من فعل النساخ والعلم عند الله تعالى. وأخيراً أنبه على عبارة دارجة ومستعملة أيضاً في حق علي بن أبي طالب رضي الله عنه حيث يقولون عند ذكر علي كرّم الله وجهه، فاستعمال هذه العبارة من غلو الشيعة في علي ابن أبي طالب رضي الله عنه وليس لتخصيصه بذلك أي دليل شرعي فلا ينبغي استعمالها. ?????(18/160)
161 - محدث العصر العلامة محمد ناصر الدين الألباني
محدث العصر العلامة محمد ناصر الدين الألباني إن هذا العام لجدير أن يسمى عام الحزن على العلماء، لقد فقد العالم الإسلامي ثلة خيرة طيبة من علماء المسلمين، فقدنا الشيخ الشعراوي والشيخ عبد العزيز بن باز والشيخ علي الطنطاوي والشيخ مصطفى الزرقا وفقدنا أول أمس السبت محدث هذا العصر والأوان العلامة محمد ناصر الدين الألباني رحمهم الله رحمة واسعة وتقبلهم في الصالحين وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يترك عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا) رواه البخاري ومسلم. وفي هذه المقالة القصيرة أحببت أن أقوم ببعض الواجب تجاه محدثنا الراحل فأذكر بعض ما كان فيه وبعض جوانب خدمته للسنة النبوية الشريفة وأنا أعلم أنني لن أوفيه حقه في هذه المقالة فإن الأمر يحتاج إلى مؤلفات ولكن ما لا يدرك كله لا يترك جله فأقول، هو محدث هذا العصر والزمان العالم الرباني أبو عبد الرحمن محمد ناصر الدين بن نوح نجاتي الأرناؤوط الألباني وكما يظهر من سياق نسبه أنه ليس عربي الأصل وإنما هو من مسلمي ألبانيا وهذا لا يضيره فإن كبار علماء المسلمين كانوا من غير العرب كالبخاري ومسلم وإمام الحرمين الجويني والغزالي وغيرهم كثير جداً. اشتغل الشيخ الألباني بالحديث النبوي الشريف منذ عهد بعيد وقام على خدمة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقدم لنا أعمالاً جليلة وترك ثروة علمية كبيرة فقد مضى عليه أكثر من ستين عاماً وهو في هذا العمل الجليل دراسةً وتدريساً تأليفاً وتحقيقاً وعملاً ودعوة فرسخ في رياض الفقه قدمه وسبح في بحار التخريج قلمه فأتى بتحقيقات جليلة خلت عنها الدفاتر وأشار إلى تدقيقات نفيسة لم تحوها كتب الأكابر شهد له بذلك شائنوه قبل محبيه ومخالفوه قبل موافقيه. ولذلك فإنني لست بمبالغ إذا قلت: إنه لا يستغني باحث هذه الأيام عن الرجوع إلى آرائه في التضعيف والتصحيح فإنها محض النصح النصيح ومخض عن زبد الحق الصريح ينقح فيها ما لا يستغني عن التنقيح ويرجح ما هو مفتقر إلى الترجيح ويوضح ما لا بد من التوضيح. انظر مقدمة الجامع المفهرس 1/11-12. كان الشيخ الألباني يرحمه الله كما وصفه الشيخ محمد إبراهيم شقرة: [راحلة علم عالية السنام تامة الخلق متماسكة البناء تغدو إليها رواحل العلم خفافاً خماصاً وتروح عنها ثقالاً بطاناً فقد أنعم الله عليه بعلم أوثقه إلى القرون الأولى وأقامه على جادتها وأراه فيها من آيات العلم الكبرى فكان لزاماً عليها أن تقصده في رغبة مقسطة تعرف له بها حقاً لا تؤديه إياه إلا أن تأتيه بهذه الرغبة فلا يرتد طرفها عنه إلا بأخذها منه حظاً وافراً تعرف به أنه حظ لا يكون إلا منه وأن الشيخ ما نيل منه بأذى ولا ينال - إن نيل - إلا بسب الحسد فالحسد في الناس قديم ... وللشيخ - نفع الله بعلومه - تفرد علمي يقوم على أسس قوية وأهمها: 1. وضوح منهجه العلمي بكل مراحله وسماته وقواعده وأصوله التي يقوم عليها. 2. قدرته الحوارية التي أمكنت لها في عقله إحاطته الواسعة بالسنن والآثار والأخبار. 3. حجته البالغة التي تداعت إليها الحجج وتناهت عندها الأدلة فأصاب منها قدراً وأعجز بها خصمه. وهذه الثلاثة أفضت به إلى رابعة وهي: 4. شدته في الحق الذي يراه بما عنده من دليل وجرأته فيه لو عاد عليه بعداوة رعاع الناس فالعالم لا ترهبه عداوة الأعداء ولا ينعشه حب الأصدقاء والأولياء. وفتاواه الصريحة الجريئة التي تناقلها الناس وشاعت في أرجاء الأرض في مناسبات شتى، شاهد عدل على ذلك] فتاوى الشيخ الألباني ص 3-4. ولقد استفاد من علم الشيخ الألباني طلاب العلم الشرعي بل إن العلماء كانوا يطلبون منه أن يخرج لهم الأحاديث النبوية التي وردت في كتبهم كما في كتاب فقه السيرة للشيخ محمد الغزالي يرحمه الله وكتاب الحلال والحرام للشيخ العلامة يوسف القرضاوي يحفظه الله. خلف الشيخ الألباني ثروة علمية ضخمة أذكر بعضها على سبيل المثال لا الحصر: 1. إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل. وهذا الكتاب أعظم مؤلفات الشيخ الألباني وقد خرج فيه 2707 حديثاً أوردها العلامة الشيخ إبراهيم بن محمد بن ضويان في كتابه منار السبيل شرح الدليل للشيخ مرعي الكرمي ويقع في ثماني مجلدات وكانت مدة عمل الشيخ الألباني فيه أكثر من عشر سنوات وألحق به جزء للفهارس. 2. سلسلة الأحاديث الصحيحة وصدر منها سبع مجلدات تضم ثلاثة ألاف حديث خرجها تخريجاً علمياً دقيقاً وموسعاً. 3. سلسلة الأحاديث الضعيفة وصدر منها خمس مجلدات تضم ألفين وخمسمئة حديث. 4. صحيح الجامع الصغير وزيادته في ثلاثة مجلدات كبيرة مع ضعيف الجامع وبلغ مجموع أحاديثه أربعة عشر ألف حديث. 5. صحيح السنن الأربعة وضعيفها. وهو مشروع علمي جليل حيث قام العلامة الألباني بالحكم على الأحاديث الواردة في كتب السنن الأربعة وهي سنن أبي داود وسنن الترمذي وسنن النسائي وسنن ابن ماجة وجعل عمله على قسمين: قسم لصحيح السنن وقسم آخر لضعيفها وأخرج لنا مجموعة علمية قيمة يقع الصحيح منها في أحد عشر مجلداً من الحجم الكبير ويقع الضعيف منها في أربع مجلدات. هذا غيض من فيض من مؤلفات العلامة الألباني يرحمه الله والتي بلغت أكثر من ثمانين كتاباً مطبوعاً وخمسين كتاباً مخطوطاً. وقد أثنى على الشيخ الألباني عدد كبير من علماء العصر كالشيخ عبد العزيز بن باز والشيخ محمد بن عثيمين والشيخ محمد المجذوب رحمهم الله والشيخ يوسف القرضاوي حفظه الله. ومن شعر الشيخ محمد المجذوب في الشيخ الألباني: فما عسى أن يقول الشعر في رجل يدعوه حتى عداه ناصر الدين وأي خير إذا فرد تجاهله وقد فشا فضله بين الملايين وقال فيه الشيخ ابن عثيمين: [.. فالرجل طويل الباع واسع الاطلاع قوي الإقناع] . وقال الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق: [كان ناصر الدين وما زال كالمطر لا يبالي على أي أرض سقط] انظر حياة الألباني وآثاره وثناء العلماء عليه. وأخيراً فإن هذا العالم الرباني قد تطاول عليه كثيرون من أشباه طلبة العلم حسداً أو جهلاً أو إنكاراً لجهوده أو لأنهم لا يعترفون بأي عالم في عالمنا الإسلامي إلا إذا كان على مشربهم فإلى هؤلاء وأؤلئك أسوق كلمة الحافظ ابن عساكر النيرة وهي: [إعلم يا أخي وفقنا الله وإياك لمرضاته وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته أن لحوم العلماء مسمومة وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة وإن من أطلق لسانه في العلماء بالثلب ابتلاه الله تعالى قبل موته بموت القلب] . رحم الله الشيخ الألباني رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته ونفعنا والمسلمين بعلمه. ?????(18/161)
162 - إحذروا هذه الخرافة
يقول السائل: أحضر لي أحد طلابي في الكلية، قطعة من اللحم -- هكذا تبدو --، وقال إن هذه القطعة تنمو وتكبر إذا وضعت في سائل كالشاي مثلاً، وزعم بعض الناس أن السائل الذي ينتج عنها مفيد في علاج الأمراض المستعصية، وأن هذه القطعة أحضرت من الخارج، وتداولها الناس، فتباع وتشترى، وهنالك إشاعات كثيرة حول فوائدها، فما قولكم في القضية؟
الجواب: إن الإسلام شرع التداوي، والتداوي من باب الأخذ بالأسباب، فقد روي في الحديث قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله أنزل الداء والدواء، وجعل لكل داء دواء، فتداووا ولا تتداووا بالحرام) رواه أبو داود. وجاء في حديث أسامة بن شريك رضي الله عنه قال: قالت الأعراب يا رسول الله ألا نتداوى؟ قال: (نعم عباد الله، تداووا، فإن الله لم يضع داءً إلا وضع له شفاءً إلا داءً واحداً، قالوا يا رسول الله، وما هو؟ قال: الهرم) رواه الترمذي وابن ماجة، وقال الشيخ الألباني: حديث صحيح. وقد قرر العلماء أن الذي يتولى المداواة لا بد أن يكون من أهل الطب والخبرة وقد ورد في الحديث، أنه عليه الصلاة والسلام قال: (من طبب ولم يُعلم منه طب فهو ضامن) رواه أبو داود وابن ماجة، وقال الشيخ الألباني: حديث حسن. وجاء في رواية أخرى (أيما طبيب تطبب على قوم لا يُعرف له تطبب قبل ذلك فأعنت فهو ضامن) رواه أبو داود، وقال الشيخ الألباني: حديث حسن، انظر صحيح سنن أبي داود 3/866 - 867. فهذا الحديث أصل من أصول الطب الإسلامي وتصريح بأن العلاج يكون بالدواء لا بالتعزيمات السحرية أو الدجل الذي يدعيه بعض الجهلة لأكل أموال الناس بالباطل. وقد جرد الإسلام علم الطب من الخرافات والتعاويذ السحرية في دفع الأمراض ووضع الأسس الأولية التي تصلح لدفع جميع الأمراض البدنية، راجع الطب النبوي ص261. فالمشروع في حق المسلم إذا مرض وأراد التداوي أن يسأل الأطباء، فهم أدرى الناس بالداء والدواء، ولا يجوز له الذهاب إلى الدجالين والمشعوذين والسحرة والكهان وأضرابهم. وقد أردت أن أمهد بهذا الكلام قبل الحديث عن قطعة اللحم المزعومة حتى نكون على بينة من أمر التداوي الصحيح. فإذا ثبت هذا أقول بالنسبة لقطعة اللحم المزعومة، إن بعض الصحف نشرت صورة لها وأجرت مقابلات مع بعض الناس الذين ادّعوا أنهم استعملوها، وزعم بعضهم أنه شرب من الشاي الذي تحول إلى خل بعد وضع قطعة اللحم المشار إليها فيه، وأنه كان يعاني من التهاب شديد في المفاصل، فاستخدم ذلك السائل لمرة وادة، فمسح على مفاصله فتلاشى المرض، وزعم آخر أنه كان يعاني من آلام في الظهر، فمسح ظهره بذلك السائل فشفي، وغير ذلك من الادعاءات. وحتى نكون على بينة من أمر قطعة اللحم المزعومة، فقد طلبت من رئيس قسم التصنيع الغذائي، في كلية العلوم والتكنلوجيا - جامعة القدس، إجراء الفحوص المخبرية على قطعة اللحم المزعومة، فقام مشكوراً بإجراء الفحوصات عليها بالتعاون بين مختبري التصنيع الغذائي والعلوم البحرية في الكلية وكانت النتيجة في الخطاب التالي: ((الدكتور حسام الدين عفانة المحترم.. تحية طيبة وبعد. رداً على تساؤلات بعض الأخوة حول كتلة اللحم المزعومة ومضار استعمالها أو منافعها، فإنه وبناءً على نتائج الفحوصات المخبرية التي أجريناها على هذه المادة نؤكد ما يلي: - إن هذه الكتلة ليست قطعة من اللحم ولا حيواناً بحرياً كما يعتقد البعض، حيث إن فحصها مجهرياً دل على أنها لا تتكون من أنسجة أو خلايا سواء كانت حيوانية أو نباتية. - إن هذه المادة ما هي إلا إفرازات لكائنات حية دقيقة لا يمكن رؤيتها بالعين المجردة، ولكن يمكن رؤيتها فقط عند فحص هذه الكتلة مجهرياً. - إن اللون اللحمي الذي تأخذه هذه الإفرازات هو ناتج عن مادة الشاي، فعند نقل جزء من هذه الكتلة إلى محلول السكر في الماء، ينتج عنها كتلة من الإفرازات الشفافة. - إن رائحة الخل التي تنبعث عن هذه الكتلة هي دليل على عملية تخمر مادة السكر المضافة إلى محاول الشاي، والتي تقوم بها بعض الكائنات الدقيقة الموجودة داخل هذه الإفرازات كما أن درجة الحامضية العالية للسائل تدل على تكوين أحماض منها حامض الخل، نتيجة عملية التخمر. - من المعروف أن أنواعاً مختلفة من الكائنات الحية الدقيقة تسبب الأمراض المعدية للإنسان كما أن هناك أنواعاً أخرى تفيد الإنسان، غير أننا في هذه الحالة وبما أننا لا زلنا نجهل كنه هذه المادة، لا يمكننا الإشارة إلى أي فائدة من استعمالها أو اقتنائها، بل نخشى من أن تسبب هذه الكائنات الدقيقة أو السائل الحامضي مضاراً للذين يستعملونها)) أ. هـ. وأخيراً وبناءً على هذا التحليل العلمي، أنصح الأخوة القراء ألا يستعملوا قطعة اللحم المزعومة وألا يصدقوا الشائعات التي تقال حولها، وألا يدفعوا أموالهم لشرائها، وأن يتعالجوا حسب الطرق المعروفة للعلاج من خلال الأطباء وليس من خلال الدجالين والمشعوذين وآكلي أموال الناس بالباطل. *****(18/162)
163 - مداراة الناس
يقول السائل: ما المقصود بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنا لنبش في وجوه أقوام، وإن قلوبنا لتلعنهم) ؟
الجواب: إن النص المذكور، ذكره الإمام البخاري معلقاً غير مجزوم به عن أبي الدرداء رضي الله عنه، حيث قال الإمام البخاري: " باب مداراة الناس، ويذكر عن أبي الدرداء، وإنا لنكشر في وجوه أقوام إن قلوبنا لتلعنهم ". فهذا الكلام ليس عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هو من كلا م أبي الدرداء رضي الله عنه. والكشر هو ظهور الأسنان وأكثر ما يطلق عند الضحك قاله الحافظ في فتح الباري 13/144. ومن المعروف عند أهل العلم أن التعليقات في صحيح البخاري كثيرة، والتعليق هو حذف راوٍ أو أكثر من أول السند ولو إلى آخر الإسناد. وحكم التعليقات في صحيح البخاري أن ما كان منها بصيغة الجزم، كقال وروى وجاء ونحو ذلك مما بني الفعل فيه للمعلوم فهو صحيح إلى من علقه عنه. وما كان بصيغة منها التمريض، كقيل وروي ويروى ويذكر ونحو ذلك مما بني الفعل فيه للمجهول، فلا يستفاد منها صحة ولا ينافيها، هذا ما قرره أئمة المحدثين. قال الحافظ ابن حجر: " إن الأثر المذكور الموقوف على أبي الدرداء، قد وصله جماعة من المحدثين ولكنه ضعيف "، وقد بين وصله في الفتح 13/144. وقال الشيخ الألباني: " لا أصل له مرفوعاً " أي إلى النبي- صلى الله عليه وسلم -، ثم قال: " وبالجملة فالحديث لا أصل له مرفوعاً، والغالب أنه ثابت موقوفاً " أي على أبي الدرداء، انظر سلسلة الأحاديث الضعيفة 1/252. وإذا تقرر هذا فأقول: إن المراد بالنص السابق المنسوب إلى أبي الدرداء، هو مداراة الناس، وهي أمر مطلوب شرعاً، نقل الحافظ ابن حجر عن ابن بطال قوله: " المداراة من أخلاق المؤمنين، وهي خفض الجناح للناس ولين الكلمة، وترك الإغلاظ لهم في القول وذلك من أقوى أسباب الألفة. وظن بعضهم أن المداراة هي المداهنة فأخطأ لأن المداراة مندوب إليها والمداهنة محرمة بالاتفاق والفرق أن المداهنة من الدهان، الذي يظهر على الشيء ويستر باطنه، وفسرها العلماء بأنها معاشرة الفاسق وإظهار الرضا بما هو فيه من غير إنكار عليه. والمداراة هي الرفق بالجاهل في التعليم، وبالفاسق في النهي عن فعله وترك الإغلاظ عليه حتى لا يظهر ما هو فيه، والإنكار عليه بلطف القول والفعل ولا سيما إذا احتيج إلى تألفه ونحو ذلك " فتح الباري 13/ 144 - 145. وقد ذكر الحافظ أيضاً حديث جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مداراة الناس صدقة) ثم بين الحافظ ابن حجر من رواه وذكره أنه ضعيف. وروى حديث جابر المذكور الحافظ ابن حبان، ثم قال: " المداراة التي تكون صدقة للمداري هي تخلق الإنسان الأشياء المستحسنة مع من يدفع إلى عشرته ما لم يشبها بمعصية الله. والمداهنة هي استعمال المرء الخصال التي تستحسن منه في العشرة، وقد يشوبها ما يكره الله جل وعلا " صحيح ابن حبان 2/218. *****(18/163)
164 - يكره تسمية العنب كرما
يقول السائل: لماذا نه النبي صلى الله عليه وسلم عن تسمية العنب بالكرم؟
الجواب: ثبت في الحديث الصحيح، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تسموا العنب الكرم، ولا تقولوا خيبة الدهر، فإن الدهر هو الله) رواه البخاري. وفي رواية لمسلم: (ولا يقولن أحدكم للعنب الكرم فإن الكرم الرجل المسلم) رواه مسلم. وفي رواية أخرى: (لا تقولوا كرم فإن الكرم قلب المؤمن) رواه البخاري ومسلم. وفي رواية ثالثة: (لا تقولوا الكرم، ولكن قولوا الحبلة، يعني العنب) رواه مسلم. وغير ذلك من الروايات الصحيحة الثابتة عن الرسول- صلى الله عليه وسلم - التي تدل على كراهة تسمية العنب كرماً. قال الإمام النووي: " قال العلماء: سبب كراهة ذلك أن لفظة الكرم كانت العرب تطلقهاعلى شجر العنب، وعلى العنب، وعلى الخمرالمتخذة من العنب، سموها كرماً لكونها متخذة منه ولأنها تحمل على الكرم والسخاء، فكره الشرع إطلاق هذه اللفظة على العنب وشجره، لأنهم إذا سمعوا اللفظة ربما تذكروا بها الخمر وهيجت نفوسهم إليها فوقعوا فيها أو قاربوا ذلك، وقال: إنما يستحق هذا الاسم الرجل المسلم أو قلب المؤمن، لأن الكرم مشتق من الكَرَم بفتح الراء، وقد قال تعالى: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) سورة الحجرات /13. فسمى قلب المؤمن كرماً لما فيه من الإيمان والهدى والنور والتقوى والصفات المستحقة لهذا الاسم " شرح النووي على صحيح مسلم 15/407. *****(18/164)
165 - من البدع
يقول السائل: ما حكم عمل وليمة عند ختان المولود، وعمل مولد بهذه المناسبة، ودعوة الأقارب والأصدقاء والجيران؟
الجواب: من المعلوم أن الختان من سنن الفطرة، وهو واجب في حق الذكور دون الإناث والوليمة عند الختان تسمّى الإعذاريقال أعذر إعذاراً كما ذكره في المصباح المنير. ووليمة الختان ليست واجبة بل مستحبة، قال الإمام البغوي: " ويستحب للمرء إذا أحدث الله له نعمة أن يحدث له شكراً، ومثله العقيقة، والدعوة على الختان، وعند القدوم من الغيبة، كلها سنن مستحبة شكراً لله تعالى على ما أحدث له من النعمة وآكدها استحباباً، وليمة العرس والإعذار والخُرس، الإعذار دعوة الختان، والخرس دعوة السلامة من الطلق " شرح السنة 9/137 - 138. وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: ".... فحكم الدعوة للختان وسائر الدعوات غير الوليمة - أي وليمة الزواج - أنها مستحبة لما فيها من إطعام الطعام، والإجابة إليها مستحبة غير واجبة وهذا قول مالك والشافعي وأبي حنيفة وأصحابه....، وإجابة كل داعٍ مستحبة لهذا الخبر، ولأن فيه جبر قلب الداعي، وتطييب قلبه، وقد دعي الإمام أحمد إلى ختان فأجاب وأكل.... " المغني 7/286. وقد وردت أحاديث كثيرة في إجابة الدعوة للوليمة سواءً أكانت وليمة عرس أو غير عرس، ويدخل في ذلك وليمة الختان، فمن ذلك: عن ابن عمر رضي الله عنهما أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دعي أحدكم إلى وليمة فليأتها) رواه البخاري ومسلم. وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من دعي إلى طعام فليجب، فإن شاء أكل وإن شاء ترك) رواه مسلم. وعن ابن عمر رضي الله عنه كان يقول عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إذا دعا أحدكم أخاه فليجب عرساً كان أو نحوه) رواه مسلم. وهذه الأحاديث وغيرها تدل على استحباب دعوة الختان وعلى استحباب إجابتها، وهذا مذهب جمهور أهل العلم. وأما ما ورد في الحديث عن الحسن البصري قال: " دعي عثمان بن أبي العاص فأبى أن يجيب، فقيل له، فقال: إنا كنا لا نأتي الختان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا ندعى له " رواه أحمد في المسند فهذا الحديث لا يقتضي منع دعوة الختان. وقد أجاب الإمام أحمد الدعوة إلى ختان كما سبق في كلام ابن قدامة والأئمة الثلاثة على استحباب الدعوة لها والإجابة. هذا ما يتعلق بالدعوة إلى وليمة الختان، وأما ما يتعلق بعمل المولد عند الختان فأقول: إن عمل المولد ليس مشروعاً في الدين، بل هو من الأمور المبتدعة التي لا أصل لها، فعمل الملد بدعة منكرة، سواء كان ذلك بمناسبة المولد النبوي أو بمناسبة ختان أو غير ذلك من المناسبات التي اعتاد عوام الناس عمل المولد فيها فلا يجوز شرعاً إقامة الموالد، لأن الرسول- صلى الله عليه وسلم - لم يفعلها ولا خلفاؤه الراشدون ولا غيرهم من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، ولا التابعون لهم بإحسان في القرون الثلاثة المفضلة، التي شهد لها الرسول- صلى الله عليه وسلم - بالخيرية، وهم أعلم الناس بالسنة النبوية، وقد صحّ الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو ردّ) متفق عليه، أي مردود. وفي رواية أخرى: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردّ) . وثبت في الحديث الصحيح أيضاً، أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة وصححه ابن حبان والحاكم والذهبي وغيرهم، وغير ذلك من الأحاديث. وهذه الموالد أحدثت في الإسلام بعد أكثر من أربعمئة عام من تاريخ الإسلام، فأين كان المسلمون الأوائل عنها، أين كان الصحابة والتابعون والعلماء والأعلام الذين عاشوا في تلك القرون المفضلة؟ ومن المعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بين لنا أحكام الشرع الحنيف وبلغ عن ربه البلاغ المبين، وما ترك طريقاً يقربنا من الجنة، ويباعدنا من النار إلا وبينه للأمة، كما ورد في الحديث الصحيح، عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - قال: (ما بعث الله من نبيٍ إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه، وينذرهم شر ما يعلمه لهم) رواه مسلم. فالموالد غير مشروعة من حيث أصلها، ومن حيث ما يصاحبها من الأمور المنكرة كالغلو في رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصفه بأوصاف مخالفة للشرع، واختلاط الرجال بالنساء، واستعمال آلات الملاهي، وغير ذلك من الأمور المنكرة. وأخيراً أقول للسائل، إن شئت أن تدعو الأقارب والجيران والأصدقاء بمناسبة ختان ولدك فافعل، واصنع لهم طعاماً وأطهمهم، ولا تصنع لهم مولداً، لأنه بدعة، ولا تَنسَ أن تدعو الفقراء والمحتاجين إلى وليمتك، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (شر الطعام طعام الوليمة، يدعى لها الأغنياء ويترك المساكين) رواه البخاري ومسلم. *****(18/165)
166 - العدوى في المرض
تقول السائلة: هل هناك عدوى في المرض وكيف نوفق بين قول الرسول صلى الله عليه وسلم (لا عدوى) ، وبين قولهصلى الله عليه وسلم: (فر من المجذوم فرارك من الأسد) ؟
الجواب: روى الإمام البخاري في صحيحه بسنده عن أبي هريرة- رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر، وفر من الجذام كما تفر من الأسد) ورواه مسلم أيضاً. وقد اختلف أهل العلم في التوفيق بين الأحاديث التي تنفي العدوى وهذا منها، وبين الأحاديث التي تأمر باجتناب المرضى المصابين بأمراض خطيرة، كالجذام والطاعون وغيرهما. وقد ذكر الحافظ ابن حجر في الفتح عدة مسالك في ذلك، أحسنها ما قاله الإمام البيهقي: " وأما ما ثبت عن النبي- صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (لا عدوى) فهو على الوجه الذي كانوا يعتقدونه في الجاهلية من إضافة الفعل إلى غير الله تعالى، وقد يجعل الله بمشيئته مخالطة الصحيح من به شيء من هذه العيوب، سبباً لحدوث ذلك، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فر من المجذوم فرارك من الأسد) ، وقال: (لا يورد ممرض على مصح) وقال في الطاعون: (من سمع به بأرض فلا يقدم عليه) وكل ذلك بتقدير الله تعالى" فتح الباري 12/367. فالرسول صلى الله عليه وسلم لا ينكر العدوى ولا ينفيها، وعلى الناس ألا يعتقدوا أن العدوى تضر بنفسها، وإنما تضر بأمر الله تعالى، فهي سبب من الأسباب. *****(18/166)
167 - يحرم الطعن في العلماء
يقول السائل: إنه سمع بعض المدرسين يطعن في الفقهاء، ويصفهم بأنهم علماء الحيض والنفاس، لأنهم يتكلمون في مسائل الحيض والنفاس ومسائل الطهارة والصلاة والزكاة ونحوها، ويهملون على زعمه مسائل مهمة تتعلق بالحكم والسياسة، فما قولكم في ذلك؟
الجواب: لا شك لدي بأن قائل هذا الكلام جاهلٌ متغطرس، لا يعرف منزلة العلم ولا العلماء، ولا يعرف شيئاً عن جهود العلماء والفقهاء في نشر العلم وتبيانه للناس وأكبر دليلٍ على ذلك كتب العلماء التي خلفوها، وهي ناطقة بصدق حالهم، وأنهم أخذوا الإسلام جملةً واحدة، فما قصروه على جانب واحد من جوانبه، فإذا استعرضت أي كتاب من كتب فقهائنا وعلمائنا لوجدتها تتحدث عن الأحكام الشرعية في جميع أبواب الفقه، وليست مقصورة على أحكام الحيض والنفاس، كما زعم القائل. إن هذا التطاول على العلماء والفقهاء حرامٌ شرعاً، وإن من عقيدة أهل السنة والجماعة أنهم يدينون الله سبحانه وتعالى باحترام العلماء الهداة ولا بد أن نعرف لعلمائنا فضلهم. ما الفضل إلا لأهل العلم إنهم على الهدى لمن استهدى أدلاء وقدر كل امرئ ما كان يحسنه والجاهلون لأهل العلم أعداء فالتطاول على العلماء والفقهاء وإيذاؤهم حرامٌ شرعاً، ويودي بالمتطاول المؤذي للعلماء، وقد قال بعض أهل العلم: " أعراض العلماء على حفرةٍ من حفر جهنم " وورد عن ابن عباس رضي الله عنهما: " من آذى فقيهاً، فقد آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن آذى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد آذى الله عز وجل ". ويضاف لما سبق، أن المتطاول ما عرف مكانة أحكام الحيض والنفاس في الفقه الإسلامي، وأهميتها وكثرة الأحكام المترتبة على معرفة أحكام الحيض والنفاس. فقد قال الإمام النووي يرحمه الله: ((إعلم أن باب الحيض من عويص الأبواب ومما غلط فيه كثيرون من الكبار لدقة مسائله واعتنى به المحققون وأفردوه بالتصنيف في كتب مستقلة. وأفرد أبو الفرج الدارمي من أئمة العراقيين مسألة المتحيرة في مجلد ضخم ليس فيه إلا مسألة المتحيرة وما يتعلق بها، وأتى فيه بنفائس لم يُسبق إليها، وحقق أشياء مهمة من أحكامها، وقد اختصرت أنا مقاصده في كراريس، وسأذكر في هذا الشرح ما يليق به منها إن شاء الله. وجمع إمام الحرمين في النهاية في باب الحيض نحو نصف مجلد وقال بعد مسائل الصفرة والكدرة: لا ينبغي للناظر في أحكام الإستحاضة أن يضجر من تكرير الصور وإعادتها في الأبواب. وبسط أصحابنا رحمهم الله مسائل الحيض أبلغ بسط وأوضحوه كامل إيضاح واعتنوا بتفاريعه أشد اعتناء وبالغوا في تقريب مسائله بتكثير الأمثلة وتكرير الأحكام، وكنت جمعت في الحيض في شرح المهذب مجلداً كبيراً مشتملاً على نفائس، ثم رأيت الآن اختصاره والإتيان بمقاصده، ومقصودي بما نبهت عليه، ألا يضجر مطالعه بإطالته فإني أحرص إن شاء الله على ألا أطيله إلا بمهمات وقواعد مطلوبات وما ينشرح به قلب من به طلب مليح وقصد صحيح، ولا ألتفت إلى كراهة ذوي المهانة والبطالة، فإن مسائل الحيض يكثر الإحتياج إليها لعموم وقوعها وقد رأيت ما لا يحصى من المرات من يسأل من الرجال والنساء عن مسائل دقيقة وقعت فيه، لا يهتدي إلى الجواب الصحيح فيها، إلا أفراد من الحذاق المعتنين بباب الحيض، ومعلوم أن الحيض من الأمور العامة المتكررة ويترتب عليه ما لا يحصى من الأحكام، كالطهارة والصلاة والقراءة، والصوم والإعتكاف والحج، والبلوغ والوطء، والطلاق والخلع والإيلاء، وكفارة القتل وغيرها والعدة والإستبراء، وغير ذلك من الأحكام، فيجب الإعتناء بما هذه حاله، وقد قال الدارمي في كتاب المتحيرة: الحيض كتاب ضائع لم يصنف فيه تصنيف يقوم بحقه ويشفي القلب، وأنا أرجو من فضل الله تعالى أن ما أجمعه في هذا الشرح يقوم بحقه أكمل قيام وإنه لا تقع مسألة إلا وتوجد فيه نصاً أو استنباطاً، لكن قد يخفى موضعها على من لا تكمل مطالعته وبالله التوفيق)) المجموع 2/344 - 345. وقال العلاّمة البركوي: " فقد اتفق الفقهاء على فرضية علم الحال على كل من آمن بالله واليوم الآخر من نسوة ورجال. فمعرفة أحكام الدماء المختصة بالنساء واجبة عليهن، وعلى الأزواج والأولياء ولكن هذا العلم كان في زماننا مهجوراً، بل صار كأن لم يكن شيئاً مذكوراً، لا يفرقون بين الحيض والنفاس والإستحاضة....". ونقل ابن عابدين عن ابن نجيم قال: " واعلم أن باب الحيض من غوامض الأبواب خصوصاً المتحيرة وتفاريعها، ولهذا اعتنى به المحققون. وأفرده محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة رحمه الله في كتاب مستقل ومعرفة مسائله من أعظم المهمات، لما يترتب عليها مما لا يحصى من الأحكام، كالطهارة والصلاة وقراءة القرآن والصوم والاعتكاف والحج والبلوغ والوطء والطلاق والعدة والإستبراء، وغير ذلك من الأحكام، وكان من أعظم الواجبات لأن عظم منزلة العلم بالشيء بحسب منزلة ضرر الجهل به، وضرر الجهل بمسائل الحيض أشد من ضرر الجهل بغيرها، فيجب الاعتناء بمعرفتها وإن كان الكلام فيها طويلاً، فإن المحصل يتشوف إلى ذلك ولا التفات إلى كراهة أهل البطالة " انظر الرسالة الرابعة من مجموعة رسائل ابن عابدين المسماة منهل الواردين من بحار الفيض، على ذخر المتأهلين في مسائل الحيض ص69 - 70. وأخيراً، فإن على طلبة العلم أن يتأدبوا مع العلماء، ويعرفوا للعلماء مكانتهم وفضلهم: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعلَمُونَ) سورة الزمر /9. وقال تعالى: (يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) سورة المجادلة 11 قال الحافظ ابن عساكر يرحمه الله: " اعلم يا أخي وفقني الله وإياك لمرضاته وجعلني وإياك ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته أن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة، وأن من أطلق لسانه في العلماء بالثلب بلاه الله قبل موته بموت القلب (فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) سورة النور /63. *****(18/167)
168 - الفرق بين كبائر الذنوب وصغائرها
يقول السائل: ما المقصود بكبائر الذنوب، وما الفرق بينها وبين صغائر الذنوب وما هي كبائر الذنوب؟
الجواب: ينبغي أن يعلم أولاً أن كل مخالفة لأوامر الله أو نواهيه قبيحة، سواءً كان الذنب كبيراً أو صغيراً، وعلى المسلم أن يعلم أنه عندما يرتكب ذنباً أنه يعصي الله عز وجل، وقد قال بعض السلف: " لا تنظر إلى صغر الذنب، ولكن انظر من عصيت ". فالمسلم ملتزم بشرع الله التزاماً كاملاً ولا يدفعه أن هذا الذنب صغير إلى التساهل في الوقوع في المعاصي، فإن الله عز وجل قال: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا) سورة النساء /123. فالأصل في المسلم أن يجتنب كل ما نهى الشارع الحكيم عنه، ويدل على ذلك ما ثبت في الحديث الصحيح أن عليه الصلاة والسلام قال: (ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم) رواه البخاري ومسلم. إذا تقرر ذلك فأقول إن جماهير العلماء قالوا: إن المعاصي تنقسم إلى صغائر وكبائر، وقد اختلفوا في حقيقة الكبيرة، وهذه بعض أقوالهم: فمنهم من يرى أن الكبيرة هي ما لحق صاحبها بخصوصها وعيد شديد بنص من القرآن الكريم أو السنة النبوية، قال ابن عباس رضي الله عنهما: " الكبيرة كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب " تفسير القرطبي 5/159. ومن العلماء من يرى أن الكبيرة هي كل معصية أوجبت الحد. ومنهم من يرى أن الكبيرة هي كل محرم لعينه منهيٌ عنه لمعنى في نفسه فأن فعل على وجه يجمع وجهين أو وجوهاً من التحريم كان فاحشة، فالزنا كبيرة، وأن يزني الرجل بزوجة جاره فاحشة. وقال المفسر الواحدي: " الصحيح أن الكبيرة ليس لها حد يعرفها العباد به، وإلا لاقتحم الناس الصغائر واستباحوها، ولكن الله عز وجل أخفى ذلك عن العباد ليجتهدوا في اجتناب المنهي عنه رجاءً أن تجتنب الكبائر، ونظائره إخفاء الصلاة الوسطى وليلة القدر وساعة الإجابة ونحو ذلك، وغير ذلك من الأقوال " الزواجر عن اقتراف الكبائر 1/14 - 16. وكل ما ذكره أهل العلم في تعريف الكبيرة إنما هو على وجه التقريب، وليس على وجه التحديد. وكبائر الذنوب كثيرة، وليس محصورة في عدد معين عند أهل العلم، وإن ذكر في بعض الأحاديث عددها، فليس المراد الحصر، فمن ذلك ما ورد في الحديث، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه قال: كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: (ألا أنبئكم بأكبر البائر ثلاثاً، الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور أو قول الزور، وكان رسول الله متكئاً فجلس، فما زال يكررها حتى قلنا يا ليته سكت) رواه البخاري ومسلم. وعن أنس ابن مالك رضي الله عنه قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الكبائر أو سئل عن الكبائر فقال: (الشرك بالله وقتل النفس وعقوق الوالدين وقال ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قال قول الزور، أو قال شهادة الزور) رواه مسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اجتنبوا السبع الموبقات، قيل يا رسول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات) رواه البخاري ومسلم. قال الإمام النووي: " وأما قوله صلى الله عليه وسلم (الكبائر سبع) فالمراد به من الكبائر سبع، فإن هذه الصيغة وإن كانت للعموم، فهي مخصوصة بلا شك، وإنما وقع الاقتصار على هذه السبع وفي الأخرى ثلاث، وفي الرواية الأخرى أربع، لكونها من أفحش الكبائر مع كثرة وقوعها لا سيما فيما كانت عليه الجاهلية ولم يذكر في بعضها ما ذكر في الأخرى، وهذا مصرح بما ذكرته من أن المراد البعض" شرح النووي على صحيح مسلم 1/264. ويؤيد عدم انحصار الكبائر في سبع أو ثلاث أو أربع ما ورد عن ابن عباس رضي الله عنه، أنه لما سئل عن الكبائر أسبع هي؟ فقال: هي إلى سبعين أقرب. وقال سعيد بن جبير: قال رجل لابن عباس الكبائر سبع؟ قال: هي إلى سبعمائة أقرب منها إلى السبع، غير أنه لا كبيرة مع استغفار ولا صغيرة مع إصرار " تفسير القرطبي 5/159. وهذا هو الراجح إن شاء الله، وهو أن الكبائر ليست محصورة في عدد معين، وقد ذكر الإمام ابن حجر المكي يرحمه الله عدداً كبيراً من الذنوب التي تعد من الكبائر وساق الأدلة على ذلك فمن أراد الاستزادة فليرجع إلى كتابه القيم الزواجر عن اقتراف الكبائر. *****(18/168)
169 - حكم الإكرام بالقيام
يقول السائل:: ما حكم قيام الناس لشخص يدخل إلى مجلسهم؟
الجواب: يجوز القيام للقادم إذا كان القيام بقصد إكرام أهل الفضل كالعلماء والوالدين لأن احترام هؤلاء وأمثالهم مطلوب شرعاً. وقد ثبت في الحديث الصحيح، عن أبي سعيد الخدري، أن أهل قريظة نزلوا على حكم سعد، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليه فجاء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قوموا إلى سيدكم، أو قال خيركم.... الحديث) رواه البخاري ومسلم واللفظ للبخاري. قال الإمام النووي: " قوله صلى الله عليه وسلم: قوموا إلى سيدكم أو خيركم فيه إكرام أهل الفضل وتلقيهم بالقيام لهم إذا أقبلوا، هكذا احتج به جماهير العلماء لاستحباب القيام....، قلت القيام للقادم من أهل الفضل مستحب، وقد جاء فيه أحاديث ولم يصح في النهي عنه شيء صريح " شرح النووي على صحيح مسلم 12/440. ويدل على ذلك ما ورد في الحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما رأيت أحداً من الناس كان أشبه بالنبي - صلى الله عليه وسلم - كلاماً ولا حديثاً ولا جلسة من فاطمة، قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأها قد أقبلت، رحب بها ثم قام إليها فقبلها، ثم أخذ بيدها فجاء بها حتى يجلسها في مكانه، وكانت إذا أتاها النبي صلى الله عليه وسلم رحبت به، ثم قامت إليه فأخذت بيده فقبلته....) رواه أبو داود والترمذي، وهو حديث صحيح كما قال الشيخ الألباني، انظر صحيح الأدب المفرد ص356. ويؤيد ذلك ما جاء في الحديث الطويل في قصة توبة كعب بن مالك، حين تخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فتاب الله عليه، وفيه: (وآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صلى صلاة الفجر، فتلقاني الناس فوجاً فوجاً يهنئوني بالتوبة يقولون: لتهنك توبة الله عليك حتى دخلت المسجد، فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم وحوله الناس، فقام إليّ طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني....) رواه البخاري ومسلم وغير ذلك من الأحاديث. وينبغي التنبيه، أنه ورد النهي عن القيام للقادم إذا كان بقصد المباهاة والتفاخر والسمعة والكبرياء، فقد ورد في الحديث عن معاوية بن أبي سفيان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سرّه أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار) رواه أبو داود والترمذي وحسنه. وقد جعل ابن رشد المالكي، القيام للقادم على أربعة أوجه: 1 - محظور، وهو أن يقع لمن يريد أن يقام له تكبراً وتعاظماً على القائمين إليه. 2 - مكروه، وهو أن يقع لمن لا يتكبر ولا يتعاظم على القائمين، ولكن يخشى أن يدخل إلى نفسه بسبب ذلك ما يحذر، ولما فيه من التشبه بالجبابرة. 3 - جائز، وهو أن يقع على سبيل البر والإكرام لمن لا يريد ذلك، ويؤمن معه التشبه بالجبابرة. 4 - مندوب، وهو أن يقوم لمن قدم من سفر فرحاً بقدومه، أو إلى من تجددت له نعمة، فهنئه بحصولها، أو مصيبة فيعزيه بسببها. " فتح الباري 13/290. قال الشيخ أحمد بن قدامة المقدسي: " وقد قال العلماء: يستحب القيام للوالدين والإمام العادل، وفضلاء الناس، وقد صار هذا كالشعار بين الأفاضل، فإذا تركه الإنسان في حق من يصلح أن يفعله في حقه، لم يأمن أن ينسبه إلى إهانته والتقصير في حقه، فيوجب ذلك حقداً، واستحباب هذا في حق القادم لا يمنع الذي يقام له أن يكره ذلك ويرى أنه ليس بأهل لذلك " مختصر منهاج القاصدين ص 251. *****(18/169)
170 - فساد ذات البين
يقول السائل: ما المراد بقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (فإن فساد البين هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين) ؟
الجواب: إن المذكور في السؤال جزء من حديث رواه أبو داود والترمذي وغيرهما عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا بلى يا رسول الله، قال: إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة) قال الترمذي هذا حديث صحيح. وقال: يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (هي الحالقة لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين) . وهذا الحديث فيه حث وترغيب على إصلاح ذات البين وقوله عليه الصلاة والسلام: (فإن فساد ذات البين هي الحالقة) ، أي هي الخصلة التي من شأنها أن تحلق الدين وتستأصله كما يستأصل الموسى الشعر، كما قال صاحب، عون المعبود 13/178. وقال ابن منظور: " الحالقة أي التي من شأنها أن تحلق أي تهلك وتستأصل الدين كما تستأصل الموسى الشعر.... " لسان العرب 3/293. *****(18/170)
171 - احاديث مكذوبة
يقول السائل: يتداول بعض الخطباء والمدرسين حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو (الناس كلهم هلكى إلا العالمون، والعالمون كلهم هلكى إلا العاملون، والعاملون كلهم هلكى إلا المخلصون، والمخلصون على خطر عظيم) فهل هذا الحديث ثابت عن الرسول صلى الله عليه وسلم؟
الجواب: هذا الحديث حديث مكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الصغاني: "وهذا الحديث مفترى ملحون والصواب في الإعراب العالمين والعاملين والمخلصين ". وقال الشيخ الألباني: موضوع أي مكذوب، انظر سلسلة الأحاديث الضعيفة1/102 وكشف الخفاء2/312. *****(18/171)
172 - احاديث مكذوبة
يقول السائل: وزع بعض الناس الورقة المطبوعة التالية، وفيها صيغة للصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فهل هذه الصيغة واردة عن الرسول عليه الصلاة والسلام؟ ونصها كما يلي:
: اللهم صل وسلم على سيدنا محمد سيد المرسلين اللهم صل وسلم على سيدنا محمد سيد المرسلين اللهم صل وسلم على سيدنا محمد سيد الشاهدين اللهم صل وسلم على سيدنا محمد سيد الخائفين اللهم صل وسلم على سيدنا محمد سيد الخاشعين اللهم صل وسلم على سيدنا محمد سيد الطائعين اللهم صل وسلم على سيدنا محمد سيد التائبين اللهم صل وسلم على سيدنا محمد سيد العابدين اللهم صل وسلم على سيدنا محمد سيد الحامدين اللهم صل وسلم على سيدنا محمد سيد الصالحين اللهم صل وسلم على سيدنا محمد سيد الراكعين اللهم صل وسلم على سيدنا محمد سيد الساجدين اللهم صل وسلم على سيدنا محمد سيد القائمين اللهم صل وسلم على سيدنا محمد سيد القاعدين اللهم صل وسلم على سيدنا محمد سيد المتقين اللهم صل وسلم على سيدنا محمد سيد المستغفرين اللهم صل وسلم على سيدنا محمد سيد النادمين اللهم صل وسلم على سيدنا محمد سيد الشاكرين اللهم صل وسلم على سيدنا محمد سيد الحافظين اللهم صل وسلم على سيدنا محمد سيد الذاكرين اللهم صل وسلم على سيدنا محمد سيد العاقلين اللهم صل وسلم على سيدنا محمد سيد المحسنين اللهم صل وسلم على سيدنا محمد سيد الأكرمين اللهم صل وسلم على سيدنا محمد سيد المنذرين اللهم صل وسلم على سيدنا محمد سيد المبشرين اللهم صل وسلم على سيدنا محمد سيد الطيبين اللهم صل وسلم على سيدنا محمد سيد النبيين اللهم صل وسلم على سيدنا محمد سيد العالمين اللهم صل وسلم على سيدنا محمد سيدنا النبي الزكي النقي اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد القرشي الهاشمي اللهم صل وسلم على سيدنا محمد المدني العربي المكرم يوم القيامة اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد سيد أهل الجنة اللهم صل وسلم على سيدنا محمد صاحب المقام المحمود اللهم صل وسلم على سيدنا صاحب الصراط المستقيم اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد أفضل الأولين والآخرين اللهم صل وسلم على سيدنا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وعلى جميع الملائكة المقربين، وعلى عباد الله الصالحين من أهل السماوات وأهل الأرضين وعلينا معهم أجمعين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين صلى الله عليه وسلم. روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (والذي بعثني بالحق بشيراً ونذيراً من دعا بهذه الصلاة في عمره مرةً أو ساعةً أو جمعةً أو شهراً إلا أدخله الله الجنة بغير حساب وقال صلى الله عليه وسلم من كتبها وعلقها على نفسه كفاه الله شر من يخاف، ومن مات وجعلها في كفنه كانت له شهيداً يوم القيامة ويوكل الله به ملائكة يحفظونه من كل هول وشدة. وقال صلى الله عليه وسلم بينما أنا أصلي خلف المقام فلما فرغت دعوت الله عز وجل، وسألته المغفرة لأمتي إنه غفور رحيم، فنزل عليَّ جبريل عليه السلام فقلت يا أخي يا جبريل أنت حبيبي وحبيب أمتي، علمني شيئاً يكون لي ولأمتي من بعدي، لينالوا إحساناً لهم ورحمة بهم، فقال جبريل عليه السلام، ما من مسلم يدعو بهذه الصلاة في عمره مرة واحدةً إلا جاء يوم القيامة ووجهه يتلألأ نوراً كالقمر ليلة البدر، فيتعجب الناس منه ويقولون هذا نبي مرسل أو ملك مقرب، إنه عبد دعا بهذه الصلاة في عمره مرةً. وقال جبريل عليه السلام يا محمد ما دعا بهذه الصلاة أحد خمسة عشر مرة في عمره إلا قمت أنا وأنت يوم القيامة على قبره ويهدي الله فرساً من الجنة سرجها من الياقوت الأحمر فيأتونه ويقولون يا عبد الله ما جزاؤك اليوم إلى الجنة إنزل في جوار النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال جبريل يا محمد هذه الصلاة فيها اسم الله الأعظم فمن قرأها كان آمناً يوم القيامة من الفزع الأكبر ومن عذاب القبر. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أخي يا جبريل ما ثواب من يدعو بهذ الصلاة، فقال يا محمد سألتني عن شيء لا يعلمه إلا الله تعالى، يا محمد لو كانت الأشجار أقلاماً والبحار مداداً والجن والإنس كتاباً ما قدروا على كتابة ثواب هذه الصلاة يا محمد ما من أحد من أمتك يدعو بهذه الصلاة إلا كتب الله له ثواب أربعة من الملائكة واربعة من الأنبياء فأما الأنبياء فثوابك يا محمد صلوات الله عليك وسلامه وموسى وعيسى وإبراهيم صلوات الله عليهم أجمعين وأما الملائكة فثوابي أنا وميكائيل واسرافيل وعزرائيل عليهم السلام فعجبت من هذه الصلاة وأن الملائكة يستغفرون لمن يدعو بها ثم قال الرسول- صلى الله عليه وسلم - من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ولم يؤمن بهذه الصلاة فأنا بريء منه وهو بريء مني ومن كانت هذه الصلاة عنده ولم يعلمها للمسلمين فأنا بريء منه وهو بريء مني وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك هذه الصلاة يوماً قط وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه كنت لم أحفظ القرآن فعلمني رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الصلاة فرزقني الله حفظ القرأن......الخ)) . الجواب: هذه الصيغة في الصلاة والسلام على النبي- صلى الله عليه وسلم - صيغة باطلة لم ترد عن الرسول صلى الله عليه وسلم وهي افتراء وكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم وتعتبر من الغلو في الدين، حيث قال صلى الله عليه وسلم: (إياكم والغلو في الدين، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين) رواه أحمد والنسائي وابن ماجة والحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين وصححه الإمام النووي. وقد وردت صيغ معتمدة عند المحدثين في الصلاة على النبي- صلى الله عليه وسلم - تغني عن هذه الصورة الباطلة، فعلى المسلم أن يلتزم بالصيغ الصحيحة، ويتجنب الصيغ المكذوبة، فإن الخير كل الخير في الإتباع، والشر كل الشر في الإبتداع. *****(18/172)
173 - أحاديث الأبدال
يقول السائل: إنه قرأ في إحدى المجلات مقالة حول الأبدال وأنهم يكونون بالشام كما ورد في الحديث المذكور في المقال، وهو عن الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الأبدال يكونون بالشام، وهم أربعون رجلاً، كلما مات منهم رجل، أبدل الله مكانه رجلاً، يسقى بهم الغيث، وينصر بهم على الأعداء ويصرف بهم عن أهل الأرض البلاء) رواه الترمذي، فما قولكم في ذلك؟
الجواب: لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث صحيح في الأبدال وكل ما ورد من الأحاديث في الأبدال والأقطاب والأغواث والنقباء والنجباء والأوتاد، كلها أحاديث باطلة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قرر ذلك المحققون من أهل العلم حديثاً وقديماً. ومن هذه الأحاديث الباطلة، الحديث المذكور أعلاه، فإنه حديث منقطع وهو ضعيف قال الشيخ أحمد محمد شاكر يرحمه الله في تعليقه على مسند الإمام أحمد 2/171، قال: " وإسناده ضعيف لانقطاعه....". وقال ابن القيم: " ذكره الإمام أحمد ولا يصح أيضاً فإنه منقطع " المنار المنيف ص136. وقال الشيخ الألباني: ضعيف، انظر ضعيف الجامع الصغير ص334. ويضاف إلى ذلك كله أن الحديث لم يروه الترمذي كما ورد في السؤال. وأحاديث الأبدال لم يروها أحد من أصحاب الكتب الستة إلا حديثاً واحداً رواه أبو داود في سننه، وورد فيه ذكر الأبدال، وهو حديث أم سلمة وهو حديث ضعيف لا يصح وفيه " فإذا رأى الناس ذلك، أتاه أبدال الشام وعصائب أهل العراق فيبايعونه...." وهذا الحديث ضعيف، فهو من رواية قتادة عن صالح أبي الخليل عن صاحب له لم يسمَّ عن أم سلمة، فالحديث ضعيف، كما أن قتادة لم بصرح بالسماع، وقد ضعفه الشيخ الألباني وغيره. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: " والحديث المروي في الأبدال، أربعون رجلاً، حديث ضعيف، فإن أولياء الله المتقين، يزيدون وينقصون بحسب كثرة الإيمان والتقوى، وبحسب قلة ذلك، كانوا في أول الإسلام أقل من أربعين، فلما انتشر الإسلام كانوا أكثر من ذلك " مجموع الفتاوى 27/498. وخلاصة الأمر كما قال العلاّمة ابن القيم: " إن أحاديث الأبدال والأقطاب وألأغواث والنقباء والنجباء والأوتاد، كلها باطلة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " المنار المنيف ص136. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: ".... كل حديث يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم في عدة الأولياء والأبدال والنقباء والنجباء والأوتاد والأقطاب مثل أربعة أو سبعة أو اثني عشر أو أربعين أو سبعين أو ثلاثمئة وثلاثة عشر، أو القطب الواحد، فليس في ذلك شيء صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينطق السلف بشيء من هذه الألفاظ إلا بلفظ الأبدال، وروي فيهم حديث أنهم أربعون رجلاً وأنهم بالشام وهو في المسند من حديث علي رضي الله عنه، وهو حديث منقطع ليس بثابت " مجموع الفتاوى 11/167. وقال الحافظ السخاوي: " حديث الأبدال له طرق عن أنس- رضي الله عنه - مرفوعاً بألفاظ كثيرة كلها ضعيفة " المقاصد الحسنة ص8. وقد ضعف الشيخ الألباني حفظه الله الأحاديث الواردة في الأبدال كما في السلسلة الضعيفة 2/340 - 341. ورد الشيخ الألباني على السيوطي تصحيحه لها، وذكر حديث عبادة: " الأبدال في هذه الأمة ثلاثون، مثل إبراهيم خليل الرحمن عز وجل، كلما مات رجل، أبدل الله تبارك وتعالى مكانه رجلاً "، ثم قال: " منكر رواه الأمام أحمد.... وقال أحمد عقبه: وهو حديث منكر.... الخ ". كما ضعف الشيخ الألباني أحاديث الأبدال الواردة عن أنس رواه الخلال في كرامات الأولياء، وقال الشيخ الألباني: ضعيف. وحديث عون بن مالك رواه الطبراني، وقال الشيخ الألباني: ضعيف. وحديث عطاء مرسلاً رواه الحاكم في الكنى، وقال الشيخ الألباني: ضعيف، انظر ضعيف الجامع الصغير، الأحاديث من رقم 2265 إلى 2270 وانظر أيضاً السلسلة الضعيفة 3/677 حيث ذكر الشيخ الألباني حديث عطاء السابق وقال: منكر. ونقل عن الذهبي أنه قال: " والخبر منكر ". ولا ينخدعن أحد بما ذكره السيوطي في رسالته: " الخبر الدال على وجود القطب والأوتاد والنجباء والأبدال " فإنها أحاديث ضعيفة مثخنة بالجراح. وذكر الحافظ ابن الجوزي أحاديث الأبدال وطعن فيها واحداً واحداً وحكم بوضعها. وقال الشيخ ملا علي القاري: " حديث الأبدال من الأولياء، له طرق عن أنس مرفوعاً بألفاظ مختلفة كلها ضعيفة " ذكره ابن الديبع. وعن ابن الصلاح: أقوى ما روينا في الأبدال قول علي أنه بالشام يكون الأبدال وأما الأدباء والنجباء والنقباء، فقد ذكرها بعض مشايخ الطريقة، ولا يثبت ذلك " الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة ص101 - 102. وجاء في تذكرة الموضوعات للفتني الهندي: " وعن أبي هريرة: " لن تخلو الأرض من ثلاثين، مثل إبراهيم خليل الرحمن، بهم يعانون وبهم يرزقون وبهم يمطرون " وفيه واضع ضعيف،.... وعن أنس: البدلاء أربعون.... فيه العلاء روى عن أنس نسخة موضوعة....، وعن أنس بطريق آخر: الأبدال أربعون رجلاً وأربعون امرأة كلما مات.... الخ فيه مجاهيل.... الخ " تذكرة الموضوعات 194. وقال ابن عرَّاق الكناني بعد أن ساق عدداً من أحاديث الأبدال: ".... ولا يصح منها شيء ". *****(18/173)
174 - هل كان الرسول صلى الله عليه وسلم يكرر الحديث في أك
يقول السائل: هل كان الرسول عيه الصلاة والسلام يكرر الحديث الواحد في أكثر من مجلس؟
الجواب: إن تعدد روايات الصحابة للحديث الواحد مع اختلاف هذه الروايات، إما بزيادة أو نقص، يشير إلى تكرار الحديث في عدة مواطن، ولا نزعم أن هذا كان ديدناً له عليه الصلاة والسلام، ولعل في المثال التالي ما يشير إلى ذلك، وهو روايات حديث (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا.... الخ) من مسند أحمد، فهذا الحديث، رواه جماعة من الصحابة منهم أبو هريرة وأبو بكر وأنس وجابر وأوس وغيرهم، وكلهم يروي الحديث نفسه مع زيادة أو نقص، وبعضهم يذكر مناسبة للحديث وهذه الروايات هي: 1 - عن أبي هريرة: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإن قالوها، عصموا مني دماءَهم وأموالهم، إلا بحقها، وحسابهم على الله) . 2 - قال عمر: يا أبا بكر، كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قال لا إله إلا الله، فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه , وحسابه على الله تعالى) . 3 - عن أبي هريرة (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها، عصموا مني دماءَهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله) . 4 - عن أبي هريرة (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، ثم قد حُرِّم عليَّ دماؤُهم وأموالهم، وحسابهم على الله عز وجل) . 5 - حديث أنس (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فإذا شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، واستقبلوا قبلتنا وأكلوا ذبيحتنا وصلوا صلاتنا، فقد حُرِّمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم) . 6 - حديث جابر (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها، عَصَموا مني دماءَهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله عز وجل) . 7 - حديث جابر (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها، عَصَموا مني بها دماءَهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله ثم قرأ: (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ) سورة الغاشية /22,21) . 8 - حديث أوس (أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وفد ثقيف، فكنا في قبة فقام من كان فيها غيري وغير رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجاء رجل فقال: اذهب فاقتله، ثم قال: أليس يشهد أن لا إله إلا الله، قال بلى، ولكن يقولها تعوذاً، فقال ردَّه قال: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها حُرِّمت عليَّ دماؤُهم وأموالهم إلا بحقها....) .(18/174)
175 - القرآن الكريم
يقول السائل: هل الاستماع والإنصات لقارئ القرآن الكريم، إذا كان يقرأ من الإذاعة أو في المسجد واجب لقوله تعالى: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) ؟
الجواب: يرى كثير من أهل العلم أن هذه الآية الكريمة (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) سورة الأعراف /204، قد نزلت في الصلاة، وهذا يدل على أن الإستماع لقراءة القرآن يكون واجباً حال قراءة الإمام للقرآن في الصلاة سواء كانت فرضاً أو نفلاً، ونقل ابن جرير الطبري شيخ المفسرين، أن هذه الآية نزلت في الصلاة عن جماعة من السلف، فقد روى ابن جرير بسنده عن أبي هريرة قال: (كانوا يتكلمون في الصلاة، فلما نزلت هذه الآية (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ) ، أمروا بالإنصات. ورويَ مثل ذلك عن ابن عباس وابن مسعود والزهري وعطاء وعبيد بن عمير وعن سعيد بن المسيب ومجاهد وسعيد بن جبير والضحاك وإبراهيم النخعي وقتادة وغيرهم. وهذا أرجح أقوال أهل العلم في سبب نزول هذه الآية وبناءً عليه يكون الإستماع واجباً لقراءة الإمام في الصلاة. وأما الإستماع والإنصات لقراءة القارئ خارج الصلاة، سواء كان يقرأ من الإذاعة أو في المسجد أو كان يقرأ من المسجل فمندوبة، قال ابن عبد البر: " في قول الله عز وجل: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) ، مع إجماع أهل العلم أن مراد الله من ذلك في الصلوات المكتوبة أوضح الدلائل على أن المأموم إذا جهر إمامه في الصلاة أنه لا يقرأ معه بشيء، وأن يستمع له وينصت " فتح المالك بترتيب التمهيد لابن عبد البر على موطأ مالك 2/126. وذكر ابن عبد البر في الإستذكار وفي التمهيد خبر أبي عياض عن أبي هريرة قال: (كانوا يتكلمون في الصلاة حتى نزلت هذه الآية (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا)) . وقال إبراهيم بن مسلم: " فقلت لأبي عياض: لقد كنت أظن أن لا ينبغي لأحد يسمع القرآن ألا يسمع، قال: إنما ذلك في الصلاة المكتوبة، فأما في الصلاة غير المكتوبة فإن شئت سمعت وإن شئت مضيت ولم تسمع " الإستذكار 4/230. وقال ابن جرير الطبري بعد أن ساق أقوال العلماء في تأويل الآية السابقة: " وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: أمروا باستماع القرآن في الصلاة إذا قرأ الإمام وكان من خلفه ممن يأتم به يسمعه في الخطبة، وإنا قلنا ذلك أولى بالصواب لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا قرأ الإمام فأنصتوا) وإجماع الجميع على أن من سمع خطبة الإمام ممن عليه الجمعة الإستماع والإنصات لها مع تتابع الأخبار بالأمر بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه لا وقت يجب على أحد استماع القرآن والإنصات لسماعه من قارئه إلا في هاتين الحالتين على اختلاف في إحداهما وهي حالة أن يكون خلف إمام مؤتم به، وقد صح الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما ذكر من قوله: (إذا قرأ الإمام فأنصتوا) ، فالإنصات خلفه لقراءته واجب على من كان مؤتماً سامعاً قراءته بعموم ظاهر القرآن والخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " تفسير الطبري 6/166. وروى الطبري بإسناده عن سعيد بن جبير أن الآية (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا) قال: "الإنصات يوم الأضحى ويوم الفطر ويوم الجمعة وفيما يجهر به الإمام في الصلاة" تفسير الطبري 6/165. وعلق القرطبي على قول سعيد بن جبير بعد أن نقله بقوله: " وهو الصحيح لأنه يجمع ما أوجبته هذه الآية وغيرها من السنة في الإنصات " تفسير القرطبي 7/353 - 354. ثم نقل القرطبي عن النقاش قوله: " أجمع أهل التفسير أن هذا الإستماع في الصلاة المكتوبة وغير المكتوبة ". وحكى ابن المنذر الإجماع على عدم وجوب الاستماع والإنصات في غير الصلاة والخطبة وذلك أن إيجابهما على كل من يسمع أحداً يقرأ فيه حرج عظيم لأنه يقتضي أن يترك له المشتغل بالعلم علمه والمشتغل بالحكم حكمه، والمتبايعان مساومتهما وتعاقدهما وكل ذي شغلٍ شغله " تفسير المنار 9/552 - 553. وقال العز بن عبد السلام: " الاستماع للقرآن والتفهم لمعانيه من الآداب المشروعة المحثوث عليها، والاشتغال عن ذلك بالتحدث بما لا يكون أفضل من الاستماع سوء أدب على الشرع " فتاوى العز بن عبد السلام ص485 - 486. وقال جلال الدين السيوطي: " يسن الاستماع لقراءة القرآن، وترك اللغط والحديث بحضور القراءة، قال تعالى: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) " الإتقان 1/145. ومما يدل على أن الاستماع لقراءة القرآن خارج الصلاة والخطبة مندوب ما ورد من الأدلة في جواز الكلام خارج الصلاة والخطبة. ومما ينبغي التنبيه عليه، أن ترك الاستماع والإنصات للقرآن والاشتغال بالأحاديث المختلفة مكروه كراهة شديدة، وتكون الكراهة أشد إذا كان المتحدثون بأمور الدنيا قرب قارئ القرآن، وأما إذا كان المجلس فيه كثير من الناس يستمعون وينصتون فتنحى بعضهم وتحدثوا بصوت منخفض من غير تشويش على الآخرين فالخطب هين ويسير. ولا يعني قولنا إن الاستماع لقارئ القرآن في المسجد أو في الإذاعة أو من المسجل مندوب أن يتساهل الناس في الاستماع لكلام الله، فينبغي لكل مسلم أن يحرص على الاستماع والإنصات لقراءة القرآن وأن يتأدب في مجلس قراءة القرآن. كما وينبغي التنبيه أن بعض القراء يسيئون في قرائتهم للقرآن الكريم، ويشوشون على عباد الله، كالقراء الذين يقرأون في المآتم عبر مكبرات الصوت، فإن ذلك حرام شرعاً، وكذلك القراء الذين يقرأون عبر مكبرات الصوت قبل صلاة الجمعة وقبل الأذان للصلوات الخمس، فكل ذلك من البدع المخالفة للشرع لأن هؤلاء وأولئك يشوشون على عباد الله، وخاصة يوم الجمعة، فإن الوقت قبل صلاة الجمعة هو وقت للتنفل وللدعاء وللذكر والاستغفار، ولا ينبغي لأحد أن يشوش على عباد الله في قراءة القرآن ولا بالدروس ولا بالمواعظ، وإنما كل مسلم يقرأ إن رغب أو يصلي أو يدعو أو يستغفر لوحده. وقد ورد في الحديث أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: (إن المصلي يناجي ربه فلينظر بما يناجيه ولا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن) رواه الإمام مالك، وقال الشيخ الألباني: سنده صحيح. *****(18/175)
176 - احذروا هذه الكتب
أحضر لي أحد طلابي كتاباً صغير الحجم، بعنوان (مولد العروس) للعلاّمة والحبر الفهامة، الإمام ابن الجوزي، هكذا جاء في على غلافه، ويحتوي على نثر وشعر يتعلق بالمولد النبوي، وسألني عن هذا الكتاب؟
الجواب: إن هذا الكتاب المسمى (مولد العروس) والمنسوب لابن الجوزي مكذوب عليه وفيه كثير من المخالفات الشرعية، ولم تثبت نسبته بطريق صحيح إلى الإمام ابن الجوزي ولم ينسبه أحد إليه إلا كارل بروكلمان، وفي نسبة هذه المخطوطة لإبن الجوزي - أي مخطوط مولد العروس - نظر، فهو يخلو من الإسناد الذي اعتاد عليه ابن الجوزي في كتبه، كما يخلو من تعليق أو نقد ابن الجوزي لما يرد فيه من أخبار، وكل ما ورد فيه يتعلق بولادة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأشعار مدحه، مما يدل على أن أحد العوام قد وضعه ثم إن الذين ترجموا لابن الجوزي، لم يذكروه ضمن كتبه. وورد فيه أيضاً أمور كثيرة مخالفة للعقيدة الإسلامية وللنصوص الشرعية من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - كما ورد في ص15 منه (وفي الحديث الصحيح أن البيت الذي فيه اسم محمد وأحمد فإن الملائكة تزوره في كل يوم وليلة سبعين مرة) ، ومن المعلوم أن هذا الحديث مكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل إن ابن الجوزي نفسه ذكره في كتابه الموضوعات وحكم عليه بالوضع والكذب، انظر كتب حذر منها العلماء 2/303 - 304 وانظر أيضاً نفس المصدر 2/388 - 389. *****(18/176)
177 - احذروا هذه الكتب
يقول السائل: أحضرت لي سائلة كتاباً بعنوان (عرائس المجالس في قصص الأنبياء) وذكرت لي أن فيه أموراً غريبة وطلبت بيان القول فيما اشتمل عليه من الأخبار?وسائلة أخرى، أحضرت لي كتيباً بعنوان (المجموعة المباركة في الصلوات المأثورة والأعمال المبرورة) ، وسألتني عن صحة الأحاديث المذكورة فيه؟
الجواب: أما الكتاب الأول وهو (عرائس المجالس في قصص الأنبياء) تأليف أبي إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي المتوفى 427 هـ. وهو كتاب يشتمل على قصص الأنبياء المذكورة في القرآن الكريم، وفيه كثير من الإسرائيليات والأخبار الواهيات والغرائب وفيه أيضاً بلايا ورزايا، انظر كتب حذر منها العلماء 2/20. والثعلبي معروف عند أهل العلم أنه ينقل في كتبه كثيراً من الأحاديث المكذوبة ولهذا قالوا عنه إنه كحاطب ليل، كما قال العلامة اللكنوي في الأجوبة الفاضلة ص101 -102. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: " علماء الجمهور متفقون على أن ما يرويه الثعلبي وأمثاله لا يحتجون به، لا في فضيلة أبي بكر وعمر، ولا في إثبات حكم من الأحكام، إلا أن يعلم ثبوته بطريقه " منهاج السنة 4/25، نقلاً عن المصدر السابق. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية أيضاً: " والثعلبي هو نفسه كان فيه خير ودين، ولكنه كان حاطب ليل، ينقل ما وجد في كتب التفسير من صحيح وضعيف وموضوع ". وقال الشيخ ابن كثير عن الثعلبي: " وكان كثير الحديث واسع السماع، ولهذا يوجد في كتبه الغرائب شيء كثير " انظر التعليق على سير أعلام النبلاء 17/436. وخلاصة القول في كتاب (عرائس المجالس) للثعلبي، أنه لا يجوز شرعاً الإعتماد عليه في الأحاديث التي ينقلها، إلا بعد البحث والتنقيب عن حال تلك الأحاديث، ولذا لا أنصح أحداً باقتناء هذا الكتاب إلا أن يكون من أهل العلم بالحديث. وأما الكتاب الثاني وهو (المجموعة المباركة في الصلوات المأثورة والأعمال المبرورة) فإنه كتاب دجل وخرافات وكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم في معظم ما احتواه، كما في الخبر الذي ساقه "عن صحابي يقال له عبد الله السلطان، هكذا زعم، وأن عبد الله السلطان هذا كان مشهوراً بشرب الخمر والزنا والفسق والفجور وترك الصلاة وترك الصوم....، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم سأل زوجة عبد الله السلطان عن حاله وما كان يفعل، فقالت: ما رأيت منه إلا الأفعال القبيحة وشرب الخمر والفسوق والفجور، ولا رأيته يصلي في جميع عمره ركعة واحدة ولا يصوم أبداً، ولكني رأيته إذا جاء شهر رجب يقوم ويدعو بهذا الدعاء، ثم ذكرته.... فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من قرأ هذا الإستغفار وجعله في بيته أو في متاعه جعل الله له ثواب ألف صديق وثواب ثمانين ألف حجة وثمانين ألف مسجد.... " إلى آخر ما قاله من الدجل بلا خجل، والكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم. وهذه أخبار مكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وضعها وكذبها أدعياء الزهد والمنحرفون عن منهج الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الذكر والعبادة. وقد قال الشيخ علي الطنطاوي في فتاويه ص287 تحت عنوان كتاب يجب أن يمنع، ما نصه: " سألني كثيرون عن كتيب صغير ما أدري من أين يشترونه اسمه (المجموعة المباركة) ، وليس مباركاً ولا صحيحاً، لأن فيه أحاديث موضوعة مكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز للمسلم أن يصدقة، ولا يقرأه ولا يبيعه وينبغي لمن قدر على إنكار هذا المنكر أن ينكره ويمنع تداول هذا الكتاب وأن يبيد النسخ الموجودة منه في الأسواق ". وينبغي تذكير أصحاب المكتبات وأصحاب دور النشر، أن يتقوا الله عندما يبيعوا كتاباً أو ينشرونه، فليس كل كتاب ينشر أو يباع. فإن كتب أهل البدعة والضلالة يحرم بيعها ونشرها، وكذا كتب السحر والشعوذة والتمائم الشركية وتحضير الأرواح، والكتب الساقطة الهابطة، كالقصص والروايات الجنسية، والمجلات الخليعة التي تنشر الصور العارية الفاضحة والمقالات الجنسية وأمثالها. قال الشيخ ابن القيم: " وكذلك الكتب المشتملة على الشرك وعبادة غير الله، فهذه كلها يجب إزالتها وإعدامها، وبيعها ذريعة إلى اقتنائها واتخاذها، فهو أولى بتحريم البيع من كل ما عداها، فإن مفسدة بيعها بحسب مفسدتها في نفسها ". وقد نص كثير من العلماء على حرمة المتاجرة بكتب أهل البدع والضلالة، راجع الكتاب النافع المفيد بعنوان كتب حذر منها العلماء للشيخ مشهور سلمان 1/52 - 53.(18/177)
178 - الميل الشرعي
يقول السائل: هل الميل المذكور في كتب الفقه هو الميل المعروف الآن والمستخدم في قياس المسافات والمعروف باللغة الإنجليزية Mile؟
الجواب: ورد استعمال كلمة الميل في السنة النبوية في عدد كثير من الأحاديث منها: ما ورد في حديث المقداد بن الأسود في صفة يوم القيامة قال سمعت رسول الله ? يقول: (تدنى الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل) رواه مسلم. قال سليم - أحد رواة الحديث -: [فوالله ما أدري ما يعني بالميل أمسافة الأرض أم الميل الذي تكتحل به العين) . وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (أجرى النبي صلى الله عليه وسلم ما ضمر من الخيل من الحقباء إلى ثنية الوداع وأجرى ما لم يضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق، قال ابن عمر: وكنت فيمن أجرى. قال عبد الله: حدثنا سفيان قال: حدثني عبد الله، قال سفيان بين الحقباء إلى ثنية الوداع خمسة أميال أو ستة وبين ثنية إلى مسجد بني زريق ميل) رواه البخاري. عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا هل عسى أحدكم أن يتخذ الصبة من الغنم على رأس ميل أو ميلين فيتعذر عليه الكلأ فيرتفع ثم تجيء الجمعة فلا يجيء ولا يشهدها وتجيء الجمعة فلا يشهدها وتجيء الجمعة فلا يشهدها حتى يطبع الله على قلبه) رواه ابن ماجة والحاكم وصححه وقال الألباني: حسن، صحيح سنن ابن ماجة 1/186. وغير ذلك من الأحاديث. وقد استعملت لفظة الميل في كتب الفقهاء أيضاً وعادة ما يذكرونها عند حديثهم عن مسافة القصر في الصلاة. فقد قال الإمام الشافعي: [وإذا سافر الرجل سفراً يكون ستة وأربعين ميلاً بالهاشمي فله أن يقصر الصلاة سافر رسول الله صلى الله عليه وسلم أميالاً فقصر الصلاة، وقال ابن عباس: اقصر إلى جدة وإلى الطائف وإلى عسفان، قال الشافعي: وأقرب ذلك إلى مكة ستة وأربعون ميلاً بالهاشمي] الحاوي الكبير 3/358. وقال القرافي عند حديثه عن مسافة السفر: [وهو في الكتاب سفر ثمانية وأربعين ميلاً: أربعة برد كل بريد أربعة فراسخ وكل فرسخ ثلاثة أميال وقيل: أربعة وعشرون فرسخاً وروي عن مالك خمسة وأربعون ميلاً وقال ابن حبيب أربعون ميلاً وروي عن ابن القاسم من صلى في ستة وثلاثين ميلاً لا يعيد، وقال ابن عبد الحكم يعيد في الوقت، وفي الجواهر: وروي عن مالك اثنان وأربعون ميلاً لنا ما في البخاري: كان ابن عباس وابن عمر يقصران ويفطران في أربعة برد. ويروى عنه عليه السلام: لا تقصروا في أدنى من أربعة برد من مكة إلى عسفان … والميل يشبه أن يكون من الميل بفتح الميم لأن البصر يمل فيه على وجه الأرض حتى يفنى إدراكه وفيه سبعة مذاهب: قال صاحب التنبيهات هو عشرة غلى والغلوة طلق الفرس وهو مائتا ذراع فيكون الميل ألفي ذراع قاله ابن حبيب وقال ابن عبد البر أصح ما قيل فيه ثلاثة آلاف وخمسمائة ونقل صاحب البيان ثلاثة آلاف ذراع وقيل أربعة آلاف ذراع كل ذراع ستة وثلاثون أصبعاً كل إصبع ست شعيرات بطن أحدها إلى ظهر الأخرى كل شعيرة ست شعرات شعر البرذون وقيل أمد البصر قاله صاحب الصحاح، وقيل ألف خطوة بخطوة الجمل وقيل أن ينظر الشخص فلا يعلم أهو آت أم ذاهب رجل أو امرأة] الذخيرة 2/ 358-359. وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [قيل لأبي عبد الله في كم تقصر الصلاة؟ قال: في أربعة برد، قيل له: مسيرة يوم تام؟ قال: لا. أربعة برد: ستة عشر فرسخاً ومسيرة يومين. فمذهب أبي عبد الله: أن القصر لا يجوز في أقل من ستة عشر فرسخاً، والفرسخ: ثلاثة أميال، فيكون ثمانية وأربعين ميلاً. قال القاضي: والميل اثنا عشر ألف قدم وذلك مسيرة يومين قاصدين، وقد قدّره ابن عباس فقال: من عسفان إلى مكة والطائف ومن مكة إلى الطائف ومن جدة إلى مكة، وذكر صاحب المسالك: أن من دمشق إلى القطيفة أربعة وعشرين ميلاً ومن دمشق إلى الكسوة اثنا عشر ميلاً وممن الكسوة إلى حاسم أربعة وعشرين ميلاً فعلى هذا تكون مسافة القصر يومين قاصدين. وهذا قول ابن عباس وابن عمر وإليه ذهب مالك والليث الشافعي وإسحاق] المغني 2/188. وكذلك تحدث اللغوييون في كتبهم عن الميل فقال ابن منظور: [والميل من الأرض قدر منتهى مد البصر … وقيل للأعلام المبنية في طريق مكة أميال لأنها بنيت على مقادير مدى البصر من الميل إلى الميل وكل ثلاثة أميال منها فرسخ] لسان العرب 13/263. وجاء في المصباح المنير، 2/588: [والميل بالكسر عند العرب مقدار مدى البصر من الأرض قاله الأزهري وعند القدماء من أهل الهيئة ثلاثة آلاف ذراع وعند المحدثين أربعة آلاف ذراع والخلاف لفظي لأنهم اتفقوا على أن مقداره ست وتسعون ألف إصبع والإصبع ست شعيرات بطن كل واحدة إلى الأخرى ولكن القدماء يقولون الذراع اثنتان وثلاثون إصبعاً والمحدثون يقولون أربع وعشرون إصبعاً فإذا قسم الميل على رأي القدماء كل ذراع اثنين وثلاثين كان المتحصل ثلاثة آلاف ذراع وإن قسم على رأي المحدثين أربعاً وعشرين كان المتحصل أربعة آلاف ذراع (والفرسخ) عند الكل ثلاثة أميال وإذا قدر (الميل) بالغلوات وكانت كل غلوة أربعمائة ذراع كان ثلاثين غلوة وإن كان كل غلوة مائتي ذراع كان ستين غلوة ويقال للأعلام المبينة في طريق مكة أميال لأنها بنيت على مقادير مدى البصر من الميل إلى الميل وإنما أضيف إلى بني هاشم فقيل (الميل الهاشمي) لأن بني هاشم حددوه وأعلموه] . وقال ابن الرفعة: [وأما الذراع فلم أظفر به مبيناً في كلام أصحابنا إلا في مسافة القصر إذ قالوا هي أربعة برد وكل بريد على المشهور أربعة فراسخ والفرسخ ثلاثة أميال بالهاشمي ومجموع ذلك ثمانية وأربعون ميلاً. والميل الهاشمي منسوب إلى هاشم بن عبد مناف بن قصي جد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه الذي قدر أميال البادية وبردها وهو بالخطا أربعة آلاف خطوة كل خطوة ثلاثة أقدام فالميل إذن اثنا عشر ألف قدم وهو بالأذرع ستة آلاف ذراع كل ذراع أربع وعشرون إصبعاً معترضات معتدلات والإصبع ست شعرات معتدلات معترضات وزاد بعضهم: وعرض كل شعيرة سبع شعرات أو ست شعرات من شعر البغل لأنها متناسبة] الإيضاح والبيان في معرفة المكيال والميزان ص 77-79 وقد اختلف الفقهاء في تحديد الميل فذهب الحنفية إلى أنه أربعة آلاف ذراع وللمالكية قولان: ذهب ابن عبد البر إلى أنه ثلاثة آلاف ذراع وخمسمائة ذراع وقال ابن حبيب: والميل ألف باع والباع ذراعان فيكون الميل ألفي ذراع، قال الدسوقي: والمشهور أن الميل ألفا ذراع والصحيح أنه ثلاثة آلاف ذراع وخمسمئة. وقال الشافعية: الميل أربعة آلاف خطوة. قال الحنابلة: الميل الهاشمي ستة آلاف ذراع بذراع اليد وهي اثنا عشر ألف قدم] الموسوعة الفقهية 38/325. وقد ذكر بعض المعاصرين تقدير الميل بالأقيسة المعروفة الآن فذكر أن الميل يعادل ألف باع والباع أربعة اذرع شرعية فتكون مسافته 4×1000×46. 2 = 1848 متراً. إذا ثبت هذا فإن الميل وهو وحدة قياس أوروبية أو أمريكية ويساوي (1609 متراً عندهم) من الممكن أن تكون مأخوذة من الميل المستخدمة عند الفقهاء. ولكن مما يؤسف له أن المسلمين اليوم قد تخلوا عن استعمال وحدات المقاييس والموازيين والمكاييل الإسلامية وتحولوا إلى استخدام أنظمة المعايير الغربية: [مع أن العمل بوحدات التعامل الإسلامية ظل جارياً في المجتمعات الإسلامية على المستويات الشعبية والرسمية مدة تزيد على ثلاثة عشر قرناً ونيف إلى أن تم إلغاء التعامل بها قصراً وبصورة تدريجية منذ بداية النصف الأول من هذا القرن مما أدى إلى طمس سريع وعجيب لمعالم هذه الوحدات حتى غدت أثراً بعد عين وتناستها الأوساط الرسمية والشعبية الإسلامية بعد أن كانت مشخصة المعالم معروفة المقادير والأعيان يعرفها العام والخاص من المدن والأرياف معرفة الأب لأبنائه وإن كثروا ولم يبق منها مشخصاً ومعروفاً إلا الوحدات التي حفظتها الشريعة الإسلامية ولا يستخدم الناس منها سوى ما له صلة بأمور العبادات كمقادير الزكاة وصدقة الفطر ومسافة القصر في الصلاة ورخصة الصائم وحتى هذه أصبحت الحاجة ماسة إلى مقارنتها بوحدات النظم العرفية السائدة اليوم وقد كان هذا نتيجة لتسلط الدول الاستعمارية عسكرياً وسياسياً واقتصادياً على الأمة الإسلامي التي توزعت أوطانها بين هذه الدول بعد أن تم القضاء على دولة الخلافة الإسلامية … ورافق هذا كله تسرب وحدات نظم الغرب والشرق إلى داخل الأسواق الإسلامية وذلك بقصد إحداث ازدواجية في وحدات نظم التعامل وفعلاً تم هذا ولم يمض وقت طويل حتى تفوقت الوحدات الاستعمارية على الوحدات الإسلامية ثم حلت محلها من التعامل على جميع المستويات وكان ذلك مدعوماً بقوة القوانين الاستعمارية وهكذا أصبحت الوحدات الفرنسية هي الرسمية في الأقطار التي نكبت بالاستعمار الفرنسي وصار الحال كذلك في الأقطار التي نكبت باستعمار بريطانيا أو البرتغال أو إسبانيا أو إيطاليا أو هولندا غير أن وحدات نظم التعامل الفرنسية كانت لها الغلبة في معظم أجزاء العالم الإسلامي واليوم وقد غدت وحدات نظم التعامل الإسلامية رموزاً لمصطلحات لا وجود لها إلا في التراث الإسلامي كالتي يرد ذكرها متفرقاً بين الكثير من مؤلفات الفقه والتفسير والحديث النبوي الشريف وتاريخ الحضارة العام … الخ] مقدمة محقق الإيضاح والبيان في معرفة المكيال والميزان لابن الرفعة ص 6-7.(18/178)
179 - العيد
يقول السائل: ما هو هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم في يوم العيد؟
الجواب: كان من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العيد في مصلى العيد وهو ليس المسجد النبوي وإنما كان أرض خلاء وكان عليه الصلاة والسلام يأمر بإخراج النساء يشهدن الصلاة ويسمعن الذكر حتى الحيض منهن فقد جاء في الحديث عن أم عطية رضي الله عنها قالت: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخرجهن في الفطر والأضحى العواتق والحيض وذوات الخدور. فأما الحيض فيعتزلن الصلاة ويشهدن الخير ودعوة المسلمين قلت يا رسول الله إحدانا لا يكون لها جلباب قال: لتلبسها أختها جلبابها) رواه البخاري ومسلم. وجاء في رواية أخرى: (والحيّض يكن خلف الناس يكبرن مع الناس) رواه مسلم، والعواتق أي الشابات، والحيّض: جمع حائض، وذوات الخدور: ربات البيوت. وكان من هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم الاغتسال للعيد. وكان يلبس أجمل ثيابه يوم العيد، فإن التجمل باللباس يوم العيد والجمعة واجتماع الناس من الأمور المشروعة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان من هديه عليه الصلاة والسلام الخروج ماشياً إلى الصلاة فإذا وصل إلى المصلى بدأ الصلاة من غير أذان ولا إقامة فكان يصلي ركعتين فيهما تكبيرات زوائد. وأصح ما ورد في صفة صلاة العيد وعدد التكبيرات الزوائد ما جاء في الحديث عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كبر في عيد ثنتي عشرة تكبيرة سبعاً في الأولى وخمساً في الآخرة ولم يصل قبلها ولا بعدها) رواه أحمد وابن ماجة وقال الحافظ العراقي إسناده صالح ونقل الترمذي تصحيحه عن البخاري. ويكون التكبير سبعاً في الأولى بعد القراءة وهذا مذهب جمهور أهل العلم من الصحابة والتابعين والأئمة. وأما ما ورد في التكبير ثلاثاً في الأولى قبل القراءة وثلاثاً في الثانية بعد القراءة فإن الحديث فيه ضعيف لا يعول عليه وما تقدم أصح. وكان عليه الصلاة والسلام يقرأ في الركعة الأولى بعد الفاتحة سورة (ق) وفي الركعة الثانية سورة القمر. كما جاء في الحديث عن أبي واقد الليثي وقد سأله عمر: ما كان رسول الله يقرأ به في الأضحى والفطر؟ فقال: كان يقرأ فيهما بـ (ق والقرآن المجيد، واقتربت الساعة وانشق القمر) رواه مسلم. وأحياناً كان يقرأ في الأولى سورة الأعلى وفي الثانية سورة الغاشية كما في الحديث عن سمرة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في العيدين بـ سبح اسم ربك الأعلى، وهل أتاك حديث الغاشية) رواه أحمد. وبعد انتهائه علي الصلاة والسلام من الصلاة كان يشرع في الخطبة وكان يبدؤها بالحمد لله وليس بالتكبير كما يفعل أكثر الخطباء اليوم. قال العلامة ابن القيم رحمه الله: [وكان يفتتح خطبه كلها بالحمد لله ولم يحفظ عنه في حديث واحد أنه كان يفتتح خطبتي العيدين بالتكبير] زاد المعاد 1 /447 وكان عليه الصلاة والسلام يكبر كثيراً خلال خطبتي العيد. ومما يجدر ذكره أن التكبير في عيد الأضحى يبدأ من فجر يوم عرفة ويستمر حتى عصر اليوم الثالث من أيام التشريق وقد صح ذلك عن جماعة من الصحابة منهم عمر وعلي وعبد الله بن عباس وعبد الله بن مسعود , فصح عنهم التكبير من غداة عرفة إلى آخر أيام التشريق. ويكون التكبير في أعقاب الصلوات المفروضة وغيرها من الأوقات. قال الإمام الشوكاني: [والظاهر أن تكبير التشريق لا يختص استحبابه بعقب الصلوات المفروضة بل هو مستحب في كل وقت من تلك الأيام] نيل الأوطار 3/358. وينبغي أن يعلم أن أيام العيد هي أيام ذكر لله تعالى وليست أياماً للتحلل من الأحكام الشرعية كما يظن كثير من الناس قال عليه الصلاة والسلام (أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله عز وجل) رواه مسلم. وكان عليه الصلاة والسلام بعد انتهاء الصلاة والخطبة يأتي النساء فيعظهن ويذكرهن فقد جاء في الحديث عن جابر رضي الله عنه قال: (شهدت مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم العيد فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة ثم قام متوكأً على بلال فأمر بتقوى الله وحث على الطاعة ووعظ الناس وذكرهم ثم مضى حتى أتى النساء فوعظهن وذكرهن) رواه مسلم. وكان عليه الصلاة والسلام يعود من المصلى من طريق غير الطريق الذي سلكه في ذهابه ليكثر الناس الذين يسلم عليهم أو لغير ذلك من الحكم. وبعد رجوعه إلى منزله كان يتولى أضحيته بنفسه أو يوكل أحداً بذبحها فعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا نصلي ثم نرجع فننحر فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا ... ) رواه مسلم. وأخيراً ينبغي التذكير بصلة الأرحام والإحسان إلى الفقراء والمساكين يوم العيد وكذلك فلا بأس بالتهنئة بالعيد والتوسعة على الأهل والأولاد.(18/179)
180 - ضوابط العلاج بالخلايا الجذعية
يقول السائل: ما هو الحكم الشرعي في استعمال الخلايا الجذعية في العلاج، أفيدونا؟
الجواب: الخلايا الجذعية Stem Cells هي خلايا موجودة في الجنين الباكر ثم يقل عددها بعد ذلك، ولكنها تستمر إلى الإنسان البالغ في مواضع معينة، وهذه الخلايا لها القدرة بإذن الله تعالى لتشكل مختلف أنواع خلايا الجسم والتي تقدر بأكثر من 220 نوعاَ من الخلايا المختلفة الأشكال والأحجام والوظائف، وتوجد هذه الخلايا في التكوين الجنيني لما بعد ولادته، وتعتبر مصدراً لبعض أنواع الأنسجة، خاصة الخلايا الجرثومي Germ cells وهي تعطي الخلايا الجنسية، وخلايا الدم، وخلايا الجلد، وقد عرفت فيما بعد باسم الخلايا الجذعية البالغة Adult stem cells،أما الخلايا الجذعية التي حركت المعامل وتعلقت بها الآمال بعد الله سبحانه وتعالى في علاج العديد من الأمراض فهي الخلايا الجذعية الجنينية Embryonic stem cells التي وصفت بأنها سيدة الخلايا لأنها بمثابة (الكل) ، حيث لها قابلية التحول إلى أي نوع من أنواع خلايا الجسم وفق معاملات بيئية محددة في المختبر، ومصادر الخلايا الجذعية هي:
1 ـ الجنين الباكر (الكرة الجرثومية أو البلاستولا) وبالذات من كتلة الخلايا الداخلية.
2 ـ الجنين الباكر (الخلايا الجنسية الأولية، أو ما يعرف بالخلايا الجرثومية الأولية Primordial Germ Cells) ، وهذا الجنين عمره عدة أسابيع (4 ـ 5 أسابيع) ، على عكس الخلايا الجذعية المأخوذة من كتلة الخلايا الداخلية من البلاستولا، التي لا يزيد عمرها عن بضعة أيام (أربعة إلى ستة أيام) .
3 ـ الأجنة المسقطة في أي مرحلة من مراحل الحمل.
4 ـ المشيمة والحبل السري بعد الولادة مباشرة.
5 ـ من خلال الأطفال الأصحاء. ويمكن استعمال الخلايا الجذعية في علاج عدة أمراض كالشلل الرعاش والزهايمر وأمراض القلب والسكري وإصابات النخاع الشوكي كما يقول الطب الحديث، عن شبكة الإنترنت. وقضية الخلايا الجذعية من القضايا الطبية التي أثارت عاصفة دينية وأخلاقية وأثارت إشكالات عديدة على مستوى العالم، وقد تدارست المجامع الفقهية الإسلامية هذه القضية المعاصرة ووضعت لها ضوابط معينة لجواز استعمالها في العلاج، فمن ذلك ما صدر عن مجمع الفقه الإسلامي الدولي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السادس بجدة في السعودية في شعبان 1410 الموافق 1990م، فبعد إطلاعه على الأبحاث والتوصيات المتعلقة بهذا الموضوع الذي كان أحد موضوعات الندوة الفقهية الطبية السادسة المنعقدة في الكويت في ربيع الأول 1410هـ وبالتعاون بين هذا المجمع وبين المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية، قرر ما يلي:
أولاً: لا يجوز استخدام الأجنة مصدراً للأعضاء المطلوب زرعها في إنسان آخر إلا في حالات بضوابط لابد من توافرها: أ- لا يجوز إحداث إجهاض من أجل استخدام الجنين لزرع أعضائه في إنسان آخر، بل يقتصر الإجهاض على الإجهاض الطبعي غير المتعمد والإجهاض للعذر الشرعي، ولا يلجأ لإجراء العملية الجراحية لاستخراج الجنين إلا إذا تعينت لإنقاذ حياة الأم. ب- إذا كان الجنين قابلاً لاستمرار الحياة، فيجب أن يتجه العلاج الطبي إلى استبقاء حياته والمحافظة عليها، لا إلى استثماره لزراعة الأعضاء، وإذا كان غير قابل لاستمرار الحياة، فلا يجوز الاستفادة منه إلا بعد موته بالشروط الواردة في القرار رقم 26 (1/4) لهذا المجمع.
ثانياً: لا يجوز أن تخضع عمليات زرع الأعضاء للأغراض التجارية على الإطلاق.
ثالثاً: لا بد أن يسند الإشراف على عمليات زراعة الأعضاء إلى هيئة متخصصة موثوقة. والله أعلم. مجلة المجمع (العدد السادس، ج3 ص 1791) . كما أن المجمع المذكور اتخذ قراراً آخر في نفس الدورة حول زراعة خلايا المخ والجهاز العصبي ورد فيه: [فبعد إطلاعه على الأبحاث والتوصيات المتعلقة بهذا الموضوع الذي كان أحد موضوعات الندوة الفقهية الطبية السادسة المنعقدة في الكويت في ربيع الأول 1410هـ بالتعاون بين هذا المجمع وبين المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية، وفي ضوء ما انتهت إليه الندوة المشار إليها من أنه لا يقصد من ذلك نقل مخ إنسان إلى إنسان آخر، وإنما الغرض من هذه الزراعة علاج قصور خلايا معيّنة في المخ عن إفراز مادتها الكيميائية أو الهرمونية بالقدر السويّ فتودع في مواطنها خلايا مثيلة من مصدر آخر، أو علاج فجوة في الجهاز العصبي نتيجة بعض الإصابات، قرر ما يلي:
أولاً: إذا كان المصدر للحصول على الأنسجة هو الغدة الكظرية للمريض نفسه، وفيه ميزة القبول المناعي، لأن الخلايا من الجسم نفسه، فلا بأس من ذلك شرعاً.
ثانياً: إذا كان المصدر هو أخذها من جنين حيواني، فلا مانع من هذه الطريقة إن أمكن نجاحها ولم يترتب على ذلك محاذير شرعية. وقد ذكر الأطباء أن هذه الطريقة نجحت بين فصائل مختلفة من الحيوان، ومن المأمول نجاحها للإنسان باتخاذ الاحتياطات الطبية اللازمة لتفادي الرفض المناعي.
ثالثاً: إذا كان المصدر للحصول على الأنسجة هو خلايا حية من مخ جنين باكر - في الأسبوع العاشر أو الحادي عشر - فيختلف الحكم على النحو التالي:
أ- الطريقة الأولى: أخذها مباشرة من الجنين الإنساني في بطن أمه، بفتح الرحم جراحياً، وتستتبع هذه الطريقة إماتة الجنين بمجرد أخذ الخلايا من مخه، ويحرم ذلك شرعاً إلاّ إذا كان بعد إجهاض طبعي غير متعمد أو إجهاض مشروع لإنقاذ حياة الأم، وتحقق موت الجنين، مع مراعاة الشروط التي سترد في موضوع الاستفادة من الأجنّة في القرار رقم 59 (8/6) لهذه الدورة.
ب- الطريقة الثانية: وهي طريقة قد يحملها المستقبل القريب في طياته باستزراع خلايا المخ في مزارع للإفادة منها ولا بأس في ذلك شرعاً إذا كان المصدر للخلايا المستزرعة مشروعاً، وتم الحصول عليها على الوجه المشروع.
رابعاً: المولود اللادماغي: طالما ولد حياً، لا يجوز التعرض له بأخذ شيء من أعضائه إلى أن يتحقق موته بموت جذع دماغه، ولا فرق بينه وبين غيره من الأسوياء في هذا الموضوع، فإذا مات فإن الأخذ من أعضائه تراعى فيه الأحكام والشروط المعتبرة في نقل أعضاء الموتى من الإذن المعتبر، وعدم وجود البديل، وتحقق الضرورة وغيرها، مما تضمنه القرار رقم 26 (1/4) من قرارات الدورة الرابعة لهذا المجمع. ولا مانع شرعاً من إبقاء هذا المولود اللادماغي على أجهزة الإنعاش إلى ما بعد موت جذع المخ - والذي يمكن تشخيصه- للمحافظة على حيوية الأعضاء الصالحة للنقل، توطئة للاستفادة منها بنقلها إلى غيره بالشروط المشار إليها. والله أعلم. مجلة المجمع (العدد السادس، ج3 ص1739) . وكذلك فقد ناقش مجلس مجمع الفقه الإسلامي برابطة العالم الإسلامي في دورته السابعة عشرة بمكة المكرمة سنة 2003 هـ موضوع" نقل وزراعة الخلايا الجذعية بتفصيل مصادر تلك الخلايا "، وبما يتفق مع توصيات المنظمة في ندوتها السادسة سنة 1989 م سالفة الذكر، فقد جاء في القرار الثالث من قرارات مجلس مجمع الفقه الإسلامي ما يلي:"الخلايا الجذعية" وهي خلايا المنشأ التي يخلق منها الجنين، ولها القدرة -بإذن الله- في تشكل مختلف أنواع خلايا جسم الإنسان، وقد تمكن العلماء حديثاً من التعرف على هذه الخلايا، وعزلها، وتنميتها، وذلك بهدف العلاج وإجراء التجارب العلمية المختلفة، ومن ثم يمكن استخدامها في علاج بعض الأمراض، ويتوقع أن يكون لها مستقبل، وأثر كبير في علاج كثير من الأمراض، والتشوهات الخلقية، ومن ذلك بعض أنواع السرطان، والبول السكري، والفشل الكلوي والكبدي، وغيرها. ويمكن الحصول على هذه الخلايا من مصادر عديدة منها:
1.الجنين الباكر في مرحلة الكرة الجرثومية" البلاستولا "، وهي الكرة الخلوية الصانعة التي تنشأ منها مختلف خلايا الجسم، وتعتبر اللقائح الفائضة من مشاريع أطفال الأنابيب هي المصدر الرئيس، كما يمكن أن يتم تلقيح متعمد لبييضة من متبرعة وحيوان منوي من متبرع للحصول على لقيحة وتنميتها إلى مرحلة البلاستولا، ثم استخراج الخلايا الجذعية منها.
2. الأجنة السقط في أي مرحلة من مراحل الحمل.
3. المشيمة، أو الحبل السري.
4. الأطفال، والبالغون.
5. الاستنساخ العلاجي، بأخذ خلية جسدية من إنسان بالغ، واستخراج نواتها ودمجها في بييضة مفرغة من نواتها، بهدف الوصول إلى مرحلة البلاستولا، ثم الحصول منها على الخلايا الجذعية.
وبعد الاستماع إلى البحوث المقدمة في الموضوع، وآراء الأعضاء، والخبراء، والمختصين، والتعرف على هذا النوع من الخلايا، ومصادرها، وطرق الانتفاع منها: اتخذ المجلس القرار التالي:
أولاً: يجوز الحصول على الخلايا الجذعية، وتنميتها، واستخدامها بهدف العلاج، أو لإجراء الأبحاث العلمية المباحة، إذا كان مصدرها مباحاً، ومن ذلك- على سبيل المثال - المصادر الآتية:
1. البالغون، إذا أذنوا، ولم يكن في ذلك ضرر عليهم.
2. الأطفال، إذا أذن أولياؤهم، لمصلحة شرعية، وبدون ضرر عليهم.
3. المشيمة أو الحبل السري، وبإذن الوالدين.
4. الجنين السقط تلقائيّاً، أو لسبب علاجي يجيزه الشرع، وبإذن الوالدين. مع التذكير بما ورد في القرار السابع من دورة المجمع الثانية عشرة، بشأن الحالات التي يجوز فيها إسقاط الحمل.
5. اللقائح الفائضة من مشاريع أطفال الأنابيب إذا وجدت، وتبرع بها الوالدان، مع التأكيد على أنه لا يجوز استخدامه في حمل غير مشروع.
ثانياً: لا يجوز الحصول على الخلايا الجذعية واستخدامها إذا كان مصدرها محرَّماً، ومن ذلك على سبيل المثال:
1. الجنين المسقط تعمُّداً بدون سبب طبي يجيزه الشرع.
2. التلقيح المتعمد بين بييضة من متبرعة وحيوان منوي من متبرع.
3. الاستنساخ العلاجي. والله أعلم.
وخلاصة الأمر أن الإسلام لا يعارض البحث العلمي الذي يحقق منافع للناس، فيجوز العلاج باستعمال الخلايا الجذعية، ولكن ضمن الضوابط الشرعية، فلا يجوز شرعاً الحصول على الخلايا الجذعية من مصادر محرمة كالحصول عليها بطريقة الاستنساخ أو بطريق إهلاك الأجنة، ويجوز الحصول عليها من مصادر مباحة بواسطة الحبل السري أو المشيمة أو من الأنسجة أو الأجنة المجهضة تلقائيّاً، وكذلك يجب أخذ الاحتياطات اللازمة لمنع حدوث أضرار نتيجة العلاج الجيني.(18/180)
181 - عقوبة الظالم الدنيوية والأخروية
يقول السائل: إنه تعرض لظلمٍ شديدٍ من بعض أقاربه، حيث سلبوا حقوقاً له، واستولوا على أرضه ظلماً، واستعانوا ببعض وجوه العشائر في تحقيق مآربهم، فما الحكم الشرعي في ذلك، أفيدونا؟
الجواب: لا شك أن الظلم مرتعه وخيم، والظلم من أقبح المعاصي وأشدها عقوبة، وقد حرم الله جل جلاله الظلم في كتابه الكريم وعلى لسان نبيه الأمين صلى الله عليه وسلم، ومن يستعرض القرآن الكريم والسنة النبوية يقف على مئات الآيات والأحاديث التي تحدثت عن الظلم والظالمين، وتوعدت الظلمة ولعنتهم، قال الله تعالى: {وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} سورة آل عمران الآية 57، وقال الله تعالى: {وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} سورة آل عمران الآية 86، وقال الله تعالى: {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} سورة الأنعام الآية 21، وقال الله تعالى: {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} سورة الأعراف الآية 44، وقال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} سورة هود الآية 102، وقال الله تعالى: {إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} سورة إبراهيم الآية 22 وقال الله تعالى: {وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً} سورة الإسراء الآية 82،وقال الله تعالى: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقاً} سورة الكهف الآية 29،وقال الله تعالى: {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} سورة الحج الآية 53، وقال الله تعالى: {وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَاباً أَلِيماً} الفرقان37 الآية وقال الله تعالى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} سورة غافر الآية 18، وقال الله تعالى: {يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} غافر الآية52 وقال الله تعالى: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} سورة الحج الآية 71. وقال الله تعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا القُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي القَوْمَ المُجْرِمِين ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} سورة يونس الآيتان13-14. وقال الله تعالى: {وَتِلْكَ القُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا} سورة الكهف الآية 59،وقال الله تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء} سورة إبراهيم الآيتان42-43، وقال الله تعالى: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ} سورة الشورى الآية 42، وغير ذلك من الآيات، وأما الأحاديث فمنها: ما ورد في الحديث القدسي الذي يرويه النبي صلى الله عليه وسلم عن رب العزة والجلال: (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا) رواه مسلم. وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم) رواه مسلم. وجاء في خطبة الوداع قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا إن الله حرم عليكم دمائكم وأموالكم كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا) رواه البخاري. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لتؤدُّن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء) رواه مسلم، والأصل في المسلم أنه لا يظلم، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه) رواه البخاري، وغير ذلك من الأحاديث. إذا تقرر هذا فإن مظاهر الظلم المتعلقة بحقوق العباد في مجتمعنا الحاضر قد تعددت وتنوعت أشكالها، ومنها ما ذكره السائل من الظلم في أخذ الحقوق وأكل أموال الناس بالباطل وغصب الأراضي، فقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم أشد التحذير من غصب الأراضي وأخذها من أصحابها بغير حق، فقد ورد في الحديث عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من ظلم قيد شبرٍ من الأرض طوقه من سبع أرضين) رواه البخاري ومسلم، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أخذ من الأرض شبراً بغير حقه خُسف به يوم القيامة إلى سبع أرضين) رواه البخاري. ومن أشكال الظلم القتل وسفك الدماء، قال الله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا} سورة الإسراء الآية 33. وقال تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيمًا} سورة النساء الآية 93.وثبت في الحديث عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكبائر فقال: (الشرك بالله وقتل النفس وعقوق الوالدين) رواه البخاري. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً) رواه البخاري. وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجلٍ مسلم) رواه الترمذي وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في صحيح سنن الترمذي 2/56. وغير ذلك من الآيات والأحاديث. ومن أشكال الظلم التعدي على أعراض الناس، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثمًا مُبِينًا} سورة الأحزاب الآية 58، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} سورة النور الآية 23. ومن أشكال الظلم ما يكون بين الموظفين فيجور المدير على من هم تحت مسؤوليته، فصرنا نرى من يتولى مسؤولية ما، يصير كالفراعنة الجبابرة فيسوم الناس سوء المعاملة، ونسي هؤلاء قول النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم من وَليَ من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم؛ فاشقق عليه. ومن وَلِيَ من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم؛ فأرفق به) رواه مسلم. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من ولاه الله عز وجل شيئاً من أمر المسلمين، فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم، احتجب الله عنه دون حاجته وخلته وفقره) رواه أبو داود والترمذي وصححه العلامة الألباني في صحيح الترغيب 2/260. [قال القاضي: المراد باحتجاب الله عنه أن لا يجيب دعوته ويخيب آماله] عون المعبود 6/426. ويلحق بذلك ظلم العمال وصغار الموظفين الذين تضيع حقوقهم وأجورهم، وورد في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه) رواه ابن ماجة وصححه العلامة الألباني في إرواء الغليل حديث رقم 1498. ومن أشكال الظلم ما يكون بين أفراد الأسرة فيظلم الزوج زوجته، والزوجة زوجها، ويكون ذلك بتضييع حقوقهما، وكذلك ظلم ذوي الأرحام بقطع صلتهم ومن الظلم أكل أموال اليتامى، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} سورة النساء الآية 10. ومن جوانب ظلم العباد تأخير رد الديون والمماطلة فيها، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مطل الغني ظلم) رواه البخاري. وغير ذلك من أشكال الظلم، وعلى كل حال فالظلم بجميع أشكاله وأنواعه محرم. وأما عقوبة الظالم، فقد تكون في الدنيا قبل الآخرة، فقد قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} سورة الأنعام الآية 129، قال ابن كثيرٍ في تفسير الآية: [نسلط بعضهم على بعض، ونهلك بعضهم ببعض، وننتقم من بعضهم ببعض، جزاءً على ظلمهم وبغيهم] تفسير ابن كثير 3/92. وقال الفخر الرازي: [الآية تدل على أن الرعية متى كانوا ظالمين، فالله تعالى يسلط عليهم ظالماً مثلهم، فإن أرادوا أن يتخلصوا من ذلك الأمير الظالم فليتركوا الظلم] التفسير الكبير 13/194. ويجب أن يُعلم أن الظلم من الذنوب التي قد يعجل الله عقوبتها في الدنيا، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس شيء أُطيعَ الله فيه، أعجل ثواباً من صلة الرحم، وليس شيء أعجل عقاباً من البغي وقطيعة الرحم واليمين الفاجرة تدع الديار بلاقع) رواه البيهقي وصححه العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة 2/706، وبلاقع، جمع بلقع وبلقعة، وهي الأرض القفر التي لا شجر فيها. والله جل جلاله قد يملي للظالم ثم يأخذه أخذةً شديدةً، كما ورد في حديث أَبي موسى رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليملي للظالم، فإذا أخذه لم يفلته، ثم قرأ: {وكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} رواه البخاري ومسلم. وأما عقوبة الظالم في الآخرة فقد قال تعالى: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً} سورة طه الآية111،وقال تعالى: {أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} سورة هود الآية 18، وقال الله تعالى: {أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ} سورة الشورى الآية 45 وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الظلم ظلماتٌ يوم القيامة) كما سبق. وأما إعانة الظالم على ظلمه فمن المهلكات التي توجب غضب الله عز وجل، فقد ورد في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أعان على خصومةٍ بظلمٍ، لم يزل في سخط الله حتى ينزع) رواه ابن ماجة وحسنه العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة 3/19، وعن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أعان ظالماً بباطلٍ ليدحض بباطله حقاً، فقد برئ من ذمة الله عز وجل وذمة رسوله) رواه الطبراني والحاكم وصححه ووافقه الذهبي وحسنه العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة 3/17.
وخلاصة الأمر أن الظلم ظلماتٌ يوم القيامة، وأن إعانة الظالم على ظلمه موجبة لسخط الله عز وجل، وعلى الظالم أن يرجع عن ظلمه وأن يتحلل من المظالم، لما ثبت في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرضه أو من شيء فليتحلله منه اليوم، قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أُخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه) رواه البخاري. وليحذر الظلمة دعوة المظلوم فإنها ليس بينها وبين الله حجاب كما في الحديث في صحيح البخاري. وقال الإمام الشافعي:
لا تظلمن إذا ما كنت مقتدراً ... فالظلم ترجع عقباه إلى الندم
تنام عيناك والمظلوم منتبهٌ ... يدعو عليك وعين الله لم تنم(18/181)