168 - الشركات المساهمة
يقول السائل: هل يجوز إيثار المؤسس والمساهم في الشركات المساهمة على غيره في معاملات تلك الشركات عملاً بقوله تعالى: (أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى) ؟
الجواب: كثير من الناس يخطئ في فهم الآية الكريمة المذكورة في السؤال ويحملونها على غير وجهها الصحيح فيفهمون أن معنى الآية: أن الأقرب هو الأولى بالمعروف أو بالمعاملة وبعضهم يقول الأقرب فالأقرب، وهذا فهم خاطئ تماماً وحتى نفهم الآية فهماً صحيحاً لا بد من فهم ما يسبقها من الآيات وما يلحقها وكيف فسرها علماء التفسير.
يقول الله تعالى: (فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى) سورة القيامة 31-40.
قال أهل التفسير في معنى قوله تعال: (أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى) أي ويل لك يا أيها الشقي ثم ويل لك.
وقال المفسرون هذه العبارة في لغة العرب ذهبت مذهب المثل في التخويف والتحذير والتهديد فاحذر وانتبه لأمرك.
قال الراغب الأصفهاني: [وقوله تعالى: (أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى) كلمة تهديد وتخويف يخطب به من أشرف على هلاك فيحث به على التحرز أو يخاطب به من نجا ذليلاً منه فينهى عن مثله ثانياً وأكثر ما يستعمل مكرراً وكأنه حث على تأمل ما يئول إليه أمره ليتنبه للتحرز منه] المفردات في غريب القرآن ص 32.
وقال الإمام القرطبي: [قوله تعالى: (أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى) تهديد بعد تهديد ووعيد بعد وعيد أي فهو وعيد أربعة لأربعة كما روي أنها نزلت في أبي جهل الجاهل بربه فقال: (فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) أي لا صدق رسول الله ولا وقف بين يدي فصلى، ولكن كذب رسولي وتولى عن التصلية بين يدي.
فترك التصديق خصلة والتكذيب خصلة وترك الصلاة خصلة والتولي عن الله تعالى خصلة فجاء الوعيد أربعة مقابلة لترك الخصال الأربع والله أعلم. لا يقال: فإن قوله: (ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى) خصلة خامسة فإنا نقول: تلك كانت عادته قبل التكذيب والتولي فأخبر عنها وذلك بين في قول قتادة على ما نذكره.
وقيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من المسجد ذات يوم فاستقبله أبو جهل على باب المسجد مما يلي باب بني مخزوم فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده فهزه مرةً أو مرتين ثم قال: (أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى) فقال له أبو جهل: أتهددني؟ فوالله إني لأعز أهل الوادي وأكرمه. ونزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال لأبي جهل وهي كلمة وعيد ... قال قتادة: أقبل أبو جهل بن هشام يتبختر فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيده فقال: (أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى) . فقال: ما تستطيع أنت ولا ربك لي شيئاً إني لأعز من بين جبليها. فلما كان يوم بدر أشرف على المسلمين فقال: لا يعبد الله بعد هذا اليوم أبداً. فضرب الله عنقه وقتله شرّ قتلة. وقيل: معناه الويل لك ... وعلى هذا التأويل قيل: هو من المقلوب كأنه قيل: أويل ثم أخر الحرف المعتل والمعنى: الويل لك حياً والويل لك ميتاً والويل لك يوم البعث والويل لك يوم تدخل النار ... وقيل: المعنى أنت أولى وأجدر بهذا العذاب.
وقال أبو العباس أحمد بن يحيى: قال الأصمعي (أَوْلَى) في كلام العرب معناه مقاربة الهلاك كأنه يقول: قد وليت الهلاك، قد دانيت الهلاك، وأصله من الولى وهو القرب. قال الله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ) أي يقربون منكم ... وكان أبو العباس ثعلب يستحسن قول الأصمعي ويقول: ليس أحد يفسر كتفسير الأصمعي. وقال النحاس: العرب تقول أولى لك: كدت تهلك ثم أفلت وكأن تقديره: أولى لك وأولى بك الهلكة] تفسير القرطبي 19/114-116.
وقال ابن منظور: [وقوله عز وجل (أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى) معناه التوعد والتهدد أي الشر أقرب إليك وقال ثعلب: معناه دنوت من الهلكة وكذلك قوله تعالى: (فَأَوْلَى لَهُمْ) أي وليهم المكروه وهو اسم لدنوت أو قاربت وقال الأصمعي: أولى لك قاربك ما تكره أي نزل بك يا أبا جهل ما تكره ... ، قال ثعلب: ولم يقل أحد في أولى لك أحسن مما قال الأصمعي وقال غيرهما: أولى يقولها الرجل لآخر يحسره على ما فاته وبقول له: يا محروم أي شيء فاتك؟ وقال الجوهري: أولى لك تهدد ووعيد]
لسان العرب 15/404، وراجع أيضاً تفسير الألوسي 15/164، وتفسير ابن كثير 4/451.
إذا تقرر أن المراد بالآية التهديد والوعيد والآية لا تدل على الفهم الخاطئ الذي يفهمه كثير من الناس من هذه الآية، أقول بالنسبة لإيثار المساهم والمؤسس بمعاملات الشركة التي أسسها وأسهم فيها بأن ذلك لا يجوز لأن محاباة بعض المؤسسين يجعل الشركة شركة خاصة ويؤدي إلى الإضرار بمصالح جمهور المساهمين.
والواجب على إدارة الشركة هو القيام على مصالح جميع المساهمين ومعاملة الجميع على قدم المساواة، بل إن بعض أنظمة الشركات المساهمة تمنع التعامل مع بعض المساهمين في الشركة كأعضاء مجلس الإدارة من أجل المحافظة على مصالح الشركة بشكل عام.
?????(12/168)
169 - البيع
خُلو الرِجل، يقول السائل: ما قولكم فيما يعرف بِخُلو الرِجل المعمول به حالياً؟
الجواب: بدل خلو الرجل أو المفتاحية هو مبلغ من المال يدفعه الشخص نظير تنازل المنتفع بعقار عن حقه في الانتفاع.
ومسألة خلو الرجل من المسائل الشائكة التي خاض فيها العلماء واختلفوا في حكمها اختلافاً بيناً وخاصة أنه لا يوجد فيها نصوص شرعية لأنها من المسائل المتأخرة الحدوث.
وعلى كل حال فقد صار خلو الرجال معروفاً ومعمولاً به في كثير من بلاد المسلمين وخاصة في بلادنا.
وتنقسم صور الاتفاق على بدل الخلو إلى أربع صور وهي:
1. أن يكون الاتفاق بين مالك العقار وبين المستأجر عند بدء العقد وتسمى هذه الصورة المفتاحية.
فإذا اتفق المالك والمستأجر على أن يدفع المستأجر للمالك مبلغاً مقطوعاً زائداً عن الأجرة الدورية فلا مانع شرعاً من دفع هذا المبلغ المقطوع على أن يعد جزءاً من أجرة المدة المتفق عليها، وفي حالة الفسخ تطبق على هذا المبلغ أحكام الأجرة.
2. أن يكون الاتفاق بين المستأجر وبين المالك وذلك في أثناء مدة عقد الإجارة أو بعد انتهائها.
فإذا تم الاتفاق بين المالك والمستأجر أثناء مدة الإجارة على أن يدفع المالك للمستأجر مبلغاً مقابل تخليه عن حقه الثابت بالعقد في ملك منفعة بقية المدة فإن بدل الخلو هذا جائز شرعاً لأنه تعويض عن تنازل المستأجر برضاه عن حقه في المنفعة التي باعها للمالك.
أما إذا انقضت مدة الإجارة ولم يتجدد العقد صراحة أو ضمناً عن طريق التجديد التلقائي حسب الصيغة المفيدة له فلا يحل بدل الخلو لأن المالك أحق بملكه بعد انقضاء حق المستأجر.
3. أن يكون الاتفاق بين المستأجر ومستأجر جديد في أثناء مدة عقد الإجارة أو بعد انتهائها.
4. أن يكون الاتفاق بين المستأجر الجديد وبين كل من المالك والمستأجر الأول قبل انتهاء المدة أو بعد انتهائها.
فإذا تم الاتفاق بين المستأجر الأول وبين المستأجر الجديد أثناء مدة الإجارة على التنازل عن بقية مدة العقد لقاء مبلغ زائد عن الأجرة الدورية فإن بدل الخلو هذا جائز شرعاً مع مراعاة مقتضى عقد الإجارة المبرم بين المالك والمستأجر الأول ومراعاة ما تقضي به القوانين النافذة الموافقة للأحكام الشرعية.
على أنه في الإجارات الطويلة المدة خلافاً لنص عقد الإجارة طبقاً لما تسوغه بعض القوانين لا يجوز للمستأجر إيجار العين لمستأجر آخر ولا أخذ بدل الخلو فيها إلا بموافقة المالك.
أما إذا تم الاتفاق بين المستأجر الأول وبين المستأجر الجديد بعد انقضاء المة فلا يحل بدل الخلو لانقضاء حق المستأجر الأول في منفعة العين.
هذا ما قرره مجمع الفقه الإسلامي في دورته الرابعة، انظر مجلة المجمع عدد 4/ ج3/ص 2329/2330.
وبناءً على ذلك يتبين لنا أن ما يفعله كثير من مستأجري الدور السكنية والشقق والمحلات التجارية الذين يطالبون ببدل خلو مقابل إخلاء المأجور بعد انتهاء مدة الإجارة أن مطالبتهم تلك باطلة وإن أخذوا بدل الخلو فإنه يكون أكلاً لأموال الناس بالباطل.
ويظهر الظلم واضحاً في كثير من قضايا المطالبة بالخلو وخاصة إذا كان المستأجر قد استأجر منزلاً للسكن منذ مدة طويلة كعشرين سنة خلت والأجرة زهيدة وبقية الأجرة على حالها لأن المستأجر محمي بحكم القانون ويطالب صاحب المنزل الآن بإخلائه والمستأجر يرفض الإخلاء ويطالب بالخلو والمبلغ الذي يطلبه أضعاف الأجرة التي دفعها طوال العشرين عاماً، أليس هذا ظلماً وأكلاً لأموال الناس بالباطل.
وأخيراً أدعو المالكين والمستأجرين إلى التراحم فيما بينهم والاحتكام إلى شرع الله سبحانه وتعالى.
?????(12/169)
170 - الخصومات
يقول السائل: هل يجوز لأحد الخصمين اللذين اتفقا على التحكيم في نزاع بينهما عزل المحكم قبل أن يصدر الحكم؟
الجواب: إن تعيين المحكم أو المحكمين في قضية ما لا بد أن يكون بتراضي الخصمين في النزاع فإذا اتفق الخصمان على تعيين المحكم بينهما وشرع المحكم في النظر في القضية فلا ينبغي لأحد الخصمين عزل المحكم ولا بد من استمرار المحكم في القضية إلى أن يصدر الحكم لأن ذلك يؤدي إلى عدم استقرار أمور التحكيم ويقلل من هيبة المحكم وهذا قول جماعة من الفقهاء وهو رأي القانون المدني في كثير من البلاد العربية فلا يصح عزل المحكمين إلا بتراضي الخصوم جميعاً.
?????(12/170)
171 - البيع
ما حكم البيع بالتقسيط مع العلم أن الثمن يزيد عن البيع الحال وهل تعتبر تلك الزيادة من الربا المحرم؟ البيع بإسقاط إلى أجل،
الجواب: البيع بالتقسيط جائز شرعاً ولا مانع منه ويدل على ذلك قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه) وكذلك ما ورد في الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين والثلاث فقال رسول الله من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم وأجل معلوم) رواه البخاري ومسلم.
وثبت عن عائشة رضي الله عنها قالت: اشترى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من يهودي طعاماً بنسيئة إلى أجل ورهنه درعاً من حديد رواه البخاري ومسلم.
وليس في بيع التقسيط ربا وليس فيه غرر ما دام العاقدان قد بتا البيع فإذا قال البائع للمشتري: أبيعك هذه السلعة بألف دينار حاله وبألف ومئة مؤجلة فقال المشتري: اشتريها بألف ومئة مؤجلة فالعقد صحيح ولا مانع منه وزيادة المئة ليست من الربا المحرم فالصورة المذكورة جائزة.
وأما إذا قال المشتري: قبلت ولم يحدد ما الذي قبله هل هو الثمن الحال أم الثمن المؤجل؟ فلا يجوز ذلك ويعتبر العقد باطلاً لأنه بيعتين في بيعة حيث أنه لم يجزم ببيع واحد.
والبيع بالتقسيط فيه توسعة على الناس فالبائع يزيد مبيعاته والمشتري يستطيع الحصول على السلعة دون أن يكون لديه ثمناً حالاً بل يسدد ثمنها على أقساط.
وقد بحث مجمع الفقه الإسلامي هذا الموضوع وقرر جوازه مع مراعاة ما يلي:
1. تجوز الزيادة في الثمن المؤجل عن الثمن الحال كما يجوز ذكر ثمن المبيع نقداً وثمنه بالاقساط لمدد معلومة ولا يصح البيع إلا إذا جزم العاقدان بالنقد أو التأجيل. فإن وقع البيع مع التردد بين النقد والتأجيل بأن لم يحصل الاتفاق الجازم على ثمن محدد فهو غير جائز شرعاً.
2. لا يجوز شرعاً في بيع الأجل التنصيص في العقد على فوائد التقسيط مفصولة عن الثمن الحال بحيث ترتبط بالأجل سواء اتفق العاقدان على نسبة الفائدة أم ربطاها بالفائدة السائدة
3. إذا تأخر المشتري المدين في دفع القسط عن الموعد المحدد فلا يجوز إلزامه أي زيادة على الدين بشرط سابق أو بدون شرط لأن ذلك ربا محرم.
4. يحرم على المدين المليء أن يماطل في أداء ما حل من الأقساط ومع ذلك لا يجوز شرعاً اشتراط التعويض في حالة التأخر عن الأداء.
5. يجوز شرعاً أن يشترط البائع بالأجل حلول الأقساط قبل مواعيدها عند تأخر المدين عن أداء بعضها ما دام المدين قد رضي بهذا الشرط عند التعاقد.
6. لا حق للبائع في الاحتفاظ بالمبيع بعد البيع ولكن يجوز للبائع أن يشترط على المشتري رهن المبيع عنده لضمان حقه في استيفاء الأقساط المؤجلة.
*****(12/171)
172 - البيع
بيع المرابحة للآمر بالشراء، يقول السائل: ما هو المقصود بعقد المرابحة الذي تتعامل به بعض المؤسسات والبنوك التي تسير وفق أحكام الشريعة الإسلامية وما الفرق بينه وبين الربا؟
الجواب: عقد المرابحة هو في الأصل بيع المرابحة المعروف عند الفقهاء المتقدمين وإن اختلفت بعض صوره الحديثة التي تتعامل وفقها المؤسسات والبنوك الإسلامية كبيع المرابحة للآمر بالشراء فبيع المرابحة عند الفقهاء هو بيع بمثل الثمن الأول مع زيادة ربح.
وصورة بيع المرابحة المستعملة الآن في البنوك والمؤسسات الإسلامية هي أن يتفق العميل والبنك على أن يقوم العميل بشراء البضاعة بربح معلوم بعد شراء البنك لها وهذه الصورة هي المسماة ببيع المرابحة للآمر بالشراء ومثال ذلك أن يطلب صاحب مصنع من البنك أو المؤسسة التي تتعامل وفق الشريعة الإسلامية أن يشتري له جهازاً من الأجهزة اللازمة له ويكون طلب الشراء مصحوباً باستعداد لشراء ذلك الجهاز من البنك أو المؤسسة إذا كانت مواصفاته كما طلب ويدفع المشتري ربحاً يتم الاتفاق عليه مقابل قيام البنك أو المؤسسة بشراء ذلك الجهاز وتأجيل الثمن وجعله على أقساط فيشتري البنك أو المؤسسة الجهاز ويحوزه في ملكه ثم يبيعه للآمر بالشراء حسب الشروط التي تم الاتفاق عليها، وإذا لحق بالجهاز ضرر يكون الضرر على البنك إلى أن يقوم بتسليمه للآمر بالشراء ويكون الآمر بالشراء ملزماً بشراء السلعة إذا كانت مواصفاتها كما طلب.
فهذه الصورة من بيع المرابحة للآمر بالشراء هي أكثر صورة منتشرة الآن وهذه الصورة جائزة شرعاً عند كثير من فقهاء العصر وصدرت بجوازها فتاوى كثيرة والأدلة على جوازها، قوله تعالى: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) فالآية الكريمة تدل على حل جميع أنواع البيع إلا إذا ورد دليل بتحريم نوع معين والمرابحة من ضمن البيوع المباحة.
وكذلك فإن المعاملات مبنية على مراعاة العلل والمصالح كما قرر ذلك فقهاء الإسلام يقول د. يوسف القرضاوي حفظه الله: [إن الشرع لم يمنع من البيوع والمعاملات إلا ما اشتمل على ظلم وهو أساس تحريم الربا والاحتكار والغش ونحوها أو ما خشي منه أن يؤدي إلى نزاع وعداوة بين الناس وهو أساس تحريم الميسر والغرر …] .
وكذلك فإن بيع المرابحة جائز قياساً على جواز عقد الاستصناع، وأما قول من قال إن هذه الصورة ما هي إلا نوع من الربا فكلام باطل ومردود وقد أجاب عن ذلك الشيخ القرضاوي فقال: [قالوا: إن القصد من العملية كلها هو الربا والحصول على النقود التي كان يحصل عليها العميل من البنك الربوي فالنتيجة واحدة وإن تغيرت الصورة والعنوان، فإنها ليست من البيع والشراء في شيء فإن المشتري الحقيقي ما لجأ إلى المصرف إلا من أجل المال والمصرف لم يشتر هذه السلعة إلا بقصد أن يبيعها بأجل إلى المشتري وليس له قصد في شرائها.
ونقول إن هذا الكلام ليس صحيحاً في تصوير الواقع فالمصرف يشتري حقيقة ولكنه يشتري ليبيع لغيره كما يفعل أي تاجر وليس من ضرورة الشراء الحلال أن يشتري المرء للانتفاع أو القنية أو الاستهلاك الشخصي، والعميل الذي طلب من المصرف الإسلامي أن يشتري له السلعة يريد شراءها حقيقة لا صورة ولا حيلة كالطبيب الذي ذكرنا أنه يريد شراء أجهزة ولجوء مثله إلى المصرف الإسلامي ليشتري له السلعة المقصودة له أمر منطقي لأن مهمة المصرف أن يقدم الخدمة والمساعدة للمتعاملين معه. من ذلك أن يشتري لهم السلعة بما يملك من ماله ويبيعها لهم بربح مقبول. نقداً أو لأجل وأخذ الربح المعتاد على السلعة لا يجعلها حراماً وبيعها إلى المشتري بأجل لا يجعلها حراماً أيضاً.
المهم أن هنا قصداً إلى بيع وشراء حقيقيين لا صوريين وليس المقصود الاحتيال لأخذ نقود بالربا والقول بأن هذه العملية هي نفس ما يجري في البنوك الربوية وإنما تغيرت الصورة فقط قول غير صحيح. فالواقع أن الصورة والحقيقة تغيرتا كلتاهما فقد تحولت من استقراض بالربا إلى بيع وشراء وما أبعد الفرق بين الإثنين وقد حاول اليهود قديماً أن يستغلوا المشابهة بين البيع والربا ليصلوا منها إلى إباحة الربا فرد الله تعالى عليهم رداً حاسماً بقوله: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) سورة البقرة الآية 275.
على أن تغيير الصورة أحياناً يكون مهماً جداً وإن كانت نتيجة الأمرين واحدة في الظاهر فلو قال رجل لآخر أمام ملأ من الناس: خذ هذا المبلغ واسمح لي أن آخذ ابنتك لأزني بها فقبل وقبلت البنت لكان كل منهم مرتكباً منكراً من أشنع المنكرات ولو أنه قال له: زوجنيها وخذ هذا المبلغ مهراً لها … فقبل وقبلت لكان كل من الثلاثة محسناً والنتيجة في الظاهر واحدة ولكن يترتب على مجرد كلمة "زواج " من الحقوق والمسؤوليات شيء كثير. وكذلك كلمة " البيع " إذا دخلت بين المتعاملين فإنه يترتب عليها بأن يكون هلاك المبيع إذا هلك على ضمان البائع حتى يقبضه المشتري. وأن يتحمل تبعة الرد بالعيب إذا ظهر فيه عيب وكذلك إذا كان غائباً واشتراه على الصفة فجاء على غير المواصفات المطلوبة.
كما أنه إذا تأخر في توفية الثمن في الأجل المحدد لعذر مقبول لم تفرض عليه أية زيادة كما يفعل البنك الربوي بل يمهل حتى يوسر كما قال تعالى: (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ) البقرة 280.
وإن تأخر لغير عذر فهو حينئذ ظالم يستحق العقوبة كما في حديث: (مطل الغني ظلم) وحديث: (لي الواجد يحل عرضه وعقوبته) فمن حق المصرف الإسلامي أن يطالبه بالتعويض عن الضرر الفعلي قلّ أو كثر عملاً بالقاعدة الشرعية التي عبر عنها حديث: (لا ضرر ولا ضرار) وأخذ منها الفقهاء أن الضرر يزال.
وهذا يخالف ما تفعله البنوك الربوية لأنها تأخذ المبلغ المقترض والفائدة الربوية المقررة على كل حال من المعسر والموسر سواء حدث ضرر أم لم يحدث سواء كان الضرر قليلاً أم كثيراً بل تأخذه سواء سلمت السلعة المقترض لها المال أم لم يتسلمها أو هلكت فالبنك الربوي لا علاقة له بالسلعة بحال، انظر بيع المرابحة ص 27-31.(12/172)
173 - البيع
تحديد ربح التجار ي، قول السائل: هل حدد الإسلام حداً معيناً لربح التجارة في تجارتهم؟
الجواب: إن المتتبع لآيات القرآن الكريم ولأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم لا يجد أنها حددت مقدار أرباحهم بل جعلت ذلك حسب ظروف التجارة والسماحة والتيسير وعدم الاستغلال.
وقد ورد في السنة النبوية ما يدل على جواز أن يربح التاجر ضعف ثمن البضاعة فقد ورد في الحديث الذي رواه الإمام البخاري بإسناده عن شبيب بن غرقدة، قال: (سمعت الحي يحدثون عن عروة أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه ديناراً يشتري له به شاة فاشترى له به شاتين فباع إحداهما بدينار وجاءه بدينار وشاة فدعا له بالبركة في بيعه وكان لو اشترى التراب أربح فيه) وقول الراوي في الحديث: سمعت الحي أي قبيلته كما قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري 7/445.
وقد ورد هذا الحديث براوية أطول عند الإمام أحمد في مسنده عن عروة بن الجعد البارقي رضي الله عنه قال: (عرض للنبي صلى الله عليه وسلم جلب فأعطاني ديناراً، وقال: أي عروة أنت الجلب فاشتر لنا شاة فأتيت الجلب فساومت صاحبه فاشتريت منه شاتين بدينار فجئت أسوقهما فلقيني رجل فساومني فأبيعه شاة بدينار فجئت بالدينار وجئت بالشاة فقلت: يا رسول الله هذا ديناركم وهذه شاتكم. قال: وصنعت كيف؟ قال فحدثته الحديث. فقال: اللهم بارك له في صفقة يمينه، فلقد رأيتني أقف بكناسة الكوفة أي سوقها فأربح أربعين ألفاً قبل أن أصل إلى أهلي وكان يشتري الجواري ويبيع) الفتح الرباني 15/20.
ففي هذا الحديث نجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أقر عروة على بيعة الشاة بدينار مع أنه اشتراها بنصف دينار فقد ربح فيها ما نسبته 100% فهذا يدل على جواز أن يربح التجار هذه النسبة بشرط أن لا يكون في البيع غش أو خداع أو احتكار أو غبن فاحش.
فالتاجر المسلم الملتزم بدينه لا يتعامل بهذه الطرق غير المشروعة وقد ناقش مجمع الفقه الإسلامي مسألة تحديد أرباح التجار وقرر ما يلي:
أولاً: الأصل الذي تقرره النصوص والقواعد الشرعية ترك الناس أحراراً في بيعهم وشرائهم وتصرفهم في ممتلكاتهم وأموالهم في إطار أحكام الشريعة الإسلامية الغراء وضوابطها عملاً بمطلق قول الله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ) .
ثانياً: ليس هناك تحديد لنسبة معينة للربح يتقيد بها التجار في معاملاتهم بل ذلك متروك لظروف التجارة عامة وظروف التاجر والسع مع مراعاة ما تقضي به الآداب الشرعية من الرفق والقناعة والسماحة والتيسير.
ثالثاً: تضافرت نصوص الشريعة الإسلامية على وجوب سلامة التعامل من أسباب الحرام وملابساته كالغش والخديعة والتدليس والاستغفال وتزييف حقيقة الربح والاحتكار الذي يعود بالضرر على العامة والخاصة.
رابعاً: لا يتدخل ولي الأمر بالتسعير إلا حيث يجد خللاً واضحاً في السوق والأسعار نائشاً من عوامل مصطنعة فإن لولي الأمر حينئذ التدخل بالوسائل العادلة الممكنة التي تقضي على تلك العوامل وأسباب الخلل والغلاء والغبن الفاحش.
*****(12/173)
174 - ما يحرم بيعه
بيع العنب لمن يعصره خمراً، ما حكم بيع العنب لمن يقوم بعصره وصنع الخمر منه؟
الجواب: يحرم على المسلم أن يبيع العنب لشخص يصنع منه خمراً سواء كان ذلك الشخص مسلماً أو غير مسلم ويشترط لتحريم ذلك علم البائع بأن المشتري يصنع من العنب خمراً وهذا مذهب المالكية والحنابلة والمعتمد عند الشافعية ومذهب الظاهرية، ويدل على ذلك قوله تعالى: (وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) قال ابن قدامة رحمه الله: [وهذا النهي يقتضي التحريم] المغني 4/167.
ويدل على ذلك أيضاً ما ورد في الحديث: (لعن الرسول عليه الصلاة والسلام في الخمر عشرة: عاصرها ومعتصرها وشاربها وحاملها والمحمول إليه وساقيها وبائعها وآكل ثمنها والمشتري لها والمشتراة له) رواه الترمذي وابن ماجة وهو حديث صحيح كما قال الشيخ الألباني.
ويدل على ذلك ما روي في الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من حبس العنب أيام القطاف حتى يبيعه من يهودي أو نصراني أو ممن يتخذه خمراً فقد تقحم النار على بصيرة) رواه الطبراني في الأوسط بإسناد حسن كما قال الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام ص 167.
وقد خالفه بعض المحدثين في تحسينه الحديث وقد روى محمد بن سيرين أن قيماً كان لسعد بن أبي وقاص في أرض له فأخبره عن عنب أنه لا يصلح زبيباً ولا يصلح إلا لمن يعصره - يجعله خمراً 0 فأمر بقلعه وقال: بئس الشيخ أنا إن بعت الخمر) المغني 4/168.
وروى ابن حزم بسنده عن عطاء قال: [لا تبعه لمن يجعله خمراً] المحلى 7/522.
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مثل هذا السؤال فقال: [لا يجوز بيع العنب لمن يعصره خمراً بل قد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من يعصر العنب لم يتخذه خمراً فكيف بالبائع له الذي هو أعظم معاونة ولا ضرورة لذلك فإنه إذا لم يمكن بيعه رطباً ولا تزبيبه فإنه يتخذه خلاً أو دبساً ونحو ذلك] مجموع الفتاوى 29/236. *****(12/174)
175 - البيع
يقول السائل: إنه اشترى بيتاً من شخص آخر ووقعا عقد البيع بينهما حسب الأصول الشرعية إلا أن البائع وبعد مضي أكثر من سنة طلب فسخ عقد البيع بحجة أنه قد غبن غبناً فاحشاً في الصفقة فما الحكم في ذلك؟ فسخ البيع للغبن الفاحش،
الجواب: إذا وقع عقد البيع حسب الأصول الشرعية بين المتبايعين كان العقد صحيحاً ولا يحق لأحدهما المطالبة بالفسخ لادعائه وقوع الغبن الفاحش في الصفقة لأن مجرد وقوع الغبن الفاحش في عقد البيع ليس مبرراً لفسخه كما ورد في المادة 356 من مجلة الأحكام العدلية ونصها: [إذا وجد غبن فاحش في البيع ولم يوجد تغرير فليس للمغبون أن يفسخ البيع …] .
وما قررته المجلة هو مذهب الحنفية والشافعية والمالكية في المشهور عندهم والمقصود بالغبن أن يزيد في سعر السلعة عن سعرها الحقيقي إذا كان الغبن صادراً من البائع كأن يبيع ما قيمته عشرة بمائة.
أو ينقص من قيمة السلعة ويشتريها بأقل من سعرها الحقيقي كأن يشتري ما يساوي مائة بعشرة هذا إذا كان الغبن من المشتري وقد يكون الغبن يسيراً أو فاحشاً وهناك خلاف في تقدير كل منهما وأما الغرر فهو وصف المبيع للمشتري بغير صفته الحقيقية. *****(12/175)
176 - حق الشفعة
يقول السائل: حدثت بعض المشكلات عند بيع الأراضي والعقارات بسبب اختلاف الناس في فهم موضع الشفعة أرجو بيان صاحب الحق في الشفعة؟
الجواب: الشفعة عند الفقهاء هي: حق تملك العقار المبيع جبراً عن المشتري بما قام عليه من ثمن وتكاليف.
والشفعة مشروعة وثابتة بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد وردت فيها أحاديث كثيرة منها:
عن جابر رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة في كل ما لم يقسم فإذا أوقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة) رواه البخاري.
وعن جابر رضي الله عنه أيضاً: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة في كل شركة لم تقسم ربعة أو حائط لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه فإن شاء أخذه وإن شاء ترك فإن باعه ولم يؤذنه فهو أحق به) رواه مسلم.
وعن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (جار الدار أحق بالدار من غيره) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه. وغير ذلك من الأحاديث.
والحمكة من مشروعية الشفعة كما بينها العلامة ابن القيم: [من محاسن الشريعة وعدلها وقيامها بمصالح العباد ورودها بالشفعة ولا يليق به غير ذلك فإن حكمة الشارع اقتضت رفع الضرر عن المكلفين ما أمكن فإن لم يمكن رفعه إلا بضرر أعظم منه أبقاه على حاله وإن أمكن رفعه بالتزام ضرر دونه رفعه به ولما كانت الشركة منشأ الضرر في الغالب فإن الخلطاء يكثر فيهم بغي بعضهم على بعض شرع الله سبحانه وتعالى رفع هذا بالقسمة تارة وانفراد كل من الشريكين بنصيبه وبالشفعة تارة وانفراد أحد الشريكين بالجملة إذا لم يكن على الآخر ضرر في ذلك فإذا أراد بيع نصيبه وأخذ عوضه كان شريكه أحق به من الأجنبي وهو يصل إلى غرضه من العوض من أيهما كان فكان الشريك أحق بدفع العوض من الأجنبي وهو يصل إلى غرضه من العوض من أيهما كان فكان الشريك أحق بدفع العوض من الأجنبي ويزول عنه ضرر الشركة ولا يتضرر البائع لأنه يصل إلى حقه من الثمن وكان هذا من أعظم العدل وأحسن الأحكام المطابقة للعقول والفطر ومصالح العباد.. إعلام الموقعين 2/139.
وتثبت الشفعة للشريك فمثلاً إذا كان هنالك قطعة أرض أو عمارة يشترك في ملكها شخصان وملكهما مشاع فإذا أراد أحدهما بيع حصته فشريكه أحق بذلك من غيره وهذا مذهب جمهور الفقهاء عدا الحنفية.
وأما السادة الحنفية فعندهم تثبت الشفعة للشريك وللجار الملاصق ولكل من الفريقين أدلته وحججه وردوده على الفريق الآخر، وقد اختار بعض أهل العلم قولاً وسطاً بين هذين القولين السابقين فقرروا أن الشفعة تثبت للشريك وللجار إذا كان شريكاً مع جاره في حقٍ من حقوق الإرتفاق الخاصة كأن يكون طريقهما واحداً، وهذا القول اختاره العلامة ابن القيم والإمام الشوكاني ونقل عن الإمام أحمد.
وقد استدل لهذا القول بحديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(الجار أحق بشفعة جاره ينتظر بها وإن كان غائباً إذا كان طريقهما واحداً) ، رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة والترمذي وحسنه.
قال ابن القيم: والصواب القول الوسط الجامع بين الأدلة الذي لا يحتمل سواه وهو قول البصريين وغيرهم من فقهاء الحديث أنه أن كان بين الجارين حقٌ مشترك من حقوق الأملاك من طريقٍ أو ماء أو نحو ذلك تثبت الشفعة وأن لم يكن بينهما حق مشترك البتة بل كان كل واحدٍ منهما متميزاً ملكه وحقوق ملكه فلا شفعة) ، إعلام الموقعين 2/149.
وقال أيضاً: والقياس الصحيح يقتضي هذا القول فإن الإشتراك في حقوق الملك شقيق الإشتراك في الملك، والضرر الحاصل بالشركة فيها كالضرر الحاصل بالشركة في الملك أو أقرب إليه، ورفعه مصلحة للشريك من غير مضرة على البائع ولا على المشتري فالمعنى الذي وجبت لأجله شفعة الخلطة في الملك الموجود في الخلطة في حقوقه فهذا المذهب أوسط المذاهب وأجمعها للأدلة وأقربها إلى العدل..) ،
إعلام الموقعين 2/ 150 - 151.
وبناءً على ما تقدم فإن الشفعة تثبت للشريك وتثبت للجار إذا كان بينه وبين جاره حق مشترك لهما وفي ذلك تحقيق الحكمة من مشروعية الشفعة وهي إزالة الضرر.
****(12/176)
177 - القروض
رد القرض للمقرض مع هدية، يقول السائل: إنه استقرض مبلغاً من المال من شخص ولما قضاه القرض أهداه هدية فما حكم ذلك؟
الجواب: الإقراض من الأمور الطيبة التي يعين بها المسلم أخاه ويفك عسره ويفرج كربته وهو داخل في عمومات الأدلة التي تحض على قضاء حاجة المسلم وإعانته كما ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (من نفس على أخيه كربة من كرب الدنيا نفس الله بها عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه) .
وورد في الحديث عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من مسلم يقرض مسلماً قرضاً مرتين إلا كان كصدقتها مرة) رواه ابن ماجة وقال الشيخ الألباني: حديث حسن. الإرواء 5/226.
وقد ثبت في الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم استقرض جملاً من أعرابي) رواه البخاري.
وورد في الحديث عن عبد الله بن أبي ربيعة قال: (استقرض مني النبي صلى الله عليه وسلم أربعين ألفاً فجاءه مال فدفعه إلي وقال: إنما جزاء السلف الحمد والأداء) رواه النسائي وابن ماجة وأحمد وهو حديث حسن كما قال الشيخ الألباني. الإرواء 5/224، وغير ذلك من الأحاديث.
والأصل في القرض أن يسدده المقترض كما اقترضه وأما إذا أقرض وشرط أن يزيد عند السداد فهذا من الربا المحرم.
وأما إذا اقترض وزاده عند الوفاء وكانت تلك الزيادة غير مشروطة عند العقد فمذهب جمهور الفقهاء جواز ذلك. ولا تعد تلك الزيادة من الربا ومثل ذلك الهدية بعد سداد القرض كما في السؤال.
ويدل على جواز ذلك أحاديث واردة عن النبي صلى الله عليه وسلم وآثار عن الصحابة رضي الله عنهم منها:
1. عن أبي رافع رضي الله عنه قال: (استلف النبي صلى الله عليه وسلم بكراً - الفتي من الإبل - فجاءته إبل الصدقة فأمرني أن أقضي الرجل بكره، فقلت: إني لم أجد من الإبل إلا جملاً خياراً رباعياً - جملاً كبيراً له من العمر ست سنوات - فقال: أعطه إياه فإن من خير الناس أحسنهم قضاء) رواه مسلم.
2. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (استقرض رسول الله صلى الله عليه وسلم سناً فأعطى سناً خيراً من سنه، وقال: خياركم أحاسنكم قضاء) رواه أحمد والترمذي وصححه.
3. وفي رواية أخرى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كان لرجل على النبي صلى الله عليه وسلم مسن من الإبل فجاء يتقاضاه، فقال: أعطوه فطلبوا سنه فلم يجدوا إلا سناً فوقها، فقال: أعطوه. فقال: أوفيتني أوفاك الله فال النبي صلى الله عليه وسلم إن خيركم أحسنكم قضاء) رواه البخاري ومسلم.
4. وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد ضحى فقال: صل ركعتين وكان لي عليه دين فقضاني وزادني) رواه البخاري.
وفي رواية أخرى عند البخاري قال جابر: (فلما قدمنا المدينة، قال الرسول صلى الله عليه وسلم يا بلال: اقضه وزده فأعطاه أربعة دنانير وزاده قيراطاً) .
5. وعن مجاهد قال: (استلف عبد الله بن عمر من رجل دراهم ثم قضاه دراهم خيراً منه فقال الرجل: يا أبا عبد الرحمن هذه خير من دراهمي التي أسلفتك، فقال عبد الله بن عمر: قد علمت ولكن نفسي بذلك طيبة) رواه مالك في الموطأ.
6. وقال الإمام مالك رحمه الله: (لا بأس بأن يقبض من أسلف شيئاً من الذهب أو الورق أو الطعام أو الحيوان ممن أسلفه ذلك أفضل مما أسلفه إذا لم يكن ذلك على شرط منهما …) .
7. وقال القرطبي: [أجمع المسلمون نقلاً عن نبيهم صلى الله عليه وسلم أن اشتراط الزيادة في السلف ربا ولو كان قبضة من علف كما قال ابن مسعود أو حبة واحدة ويجوز أن يرد أفضل مما استلف إذا لم يشترط ذلك عليه لأن ذلك من باب المعروف استدلالاً بحديث أبي هريرة في البكر: (إن خياركم أحسنكم قضاء) رواه الأئمة البخاري ومسلم. فأثنى صلى الله عليه وسلم على من أحسن القضاء وأطلق ذلك ولم يقيده بصفة.
وبهذا يظهر لنا أن الهدية المذكورة في السؤال جائزة ولا باس بها ولا تعتبر من الربا المحرم] .
*****(12/177)
178 - الصرافة
صرف دولارات بعضها ببعض، يقول السائل: الدولار الأمريكي من الفئة الكبيرة هي المتداولة بين جمهور الناس في منطقتنا أما الفئة الصغيرة فهي غير متداولة ولكن البنوك تأخذ ثلاثة بالألف عمولة على تبديلها وتقول: إنها أجرة نقل للبنوك أما عامة الصرافين فيأخذونها بسعر أقل من ذلك أيضاً فهل يجوز تبديل الفئة الصغيرة بفئة كبيرة من البنوك وذلك بدفع ثلاثة بالألف أم أن تبدل بعملة أخرى بسعر أقل من السعر الحقيقي علماً بأنها لا تساوي قيمتها أي الفئة الصغيرة إلا في الولايات المتحدة الأمريكية؟
الجواب: لا يجوز شرعاً بيع الفئة الصغيرة من الدولار الأمريكي بفئة كبيرة من العملات الورقية - النقود - تقوم مقام الذهب والفضة وبالتالي فإن الربا يجري فيها كما يجري في الذهب والفضة فتأخذ النقود الورقية أحكام الذهب والفضة وبناء عليه لا يجوز بيع الجنس الواحد منها بعضه ببعض متفاضلاً سواء كان ذلك نسيئة أو يداً بيد لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلاً بمثل سواء بسواء يداً بيد فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد) رواه مسلم.
وأرى أن يقوم الصراف بتبديل الفئات الصغيرة من الدولار بعملة أخرى بسعر أقل من السعر الذي تبدل به الفئات الكبيرة من الدولار فهذه الصورة جائزة ولا بأس بها.(12/178)
179 - الصرافة
صرف العملة مع تأجيل القبض، يقول السائل: طلب شخص من صراف أن يبيعه مبلغاً من الدولاات على أن يسدد قيمتها بالشيكل بعد شهر فما حكم ذلك؟
الجواب: إن بيع عملة بعملة أخرى يسمى عند الفقهاء عقد الصرف وقد اتفق أهل العلم على أن من شروط عقد الصرف تقابض البدلين من الجانبين في المجلس قبل اقترافهما.
قال ابن المنذر: [أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن المتصارفين إذا افترقا قبل أن يتقابضا أن الصرف فاسد] .
فلذلك يشترط في عملية بيع عملة بأخرى أن يتم تبادل العملتين في المجلس ولا يجوز تأجيل قبض إحداهما وإن حصل التأجيل فالعقد باطل ويدل على ذلك حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (الذهب بالذهب مثلاً بمثل يداً بيد والفضة بالفضة مثلاُ بمثل يداً بيد) رواه مسلم.
وبما أن العملات الورقية تقوم مقام الذهب والفضة كما قال كثير من علماء العصر فأنه يشترط في بيع هذه العملات بغيرها من العملات التقابض ولا يجوز التأجيل وبناء على ما تقدم لا يجوز للسائل أن يشتري دولارات بشيكلات مؤجلة الدفع.
*****(12/179)
180 - الربا
شراء الذهب بأقساط إلى أجل مسمى، تقول السائلة: اشتريت أساور ذهبية من الصائغ واتفقت معه على تسديد الثمن على أقساط فما حكم ذلك؟
الجواب: إن بيع الأساور الذهبية وتسديد ثمنها فيما بعد على أقساط غير جائز شرعاً بل هو محرم لأنه من الربا المحرم بالنص ولا بد في هذا البيع أن يكون دفع الثمن فوراً وفي مجلس العقد أي لا بد من التقابض من العاقدين البائع والمشتري فلا يصح تأجيل أحد البدلين.
فمثلاً إذا قلت للصائغ: بعني أساور ذهبية. فقال: لا يوجد لدي الآن سآتيك بها في الاسبوع القادم وقبض منك ثمنها عند التعاقد فهذا أيضاً بيع باطل ويدل على ذلك ما ورد في الحديث عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلاً بمثل سواءً بسواء يداً بيد فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد) رواه مسلم.
وقد قرر الفقهاء المعاصرون أن الأوراق النقدية المعمول بها الآن تقوم مقام الذهب والفضة في التعامل بيعاً وشراءً وبها تقدر الثروات وتدفع الرواتب، ولذا تأخذ أحكام الذهب والفضة ولا سيما وجوب التناجز في مبادلة بعضها ببعض وتحريم التأجيل فيها فلذلك لا يجوز بيع الذهب بالعملات الورقية ولا شراء الذهب بالعملات الورقية ولا شراء الذهب بها إلا إذا كان يداً بيد وإذا كان هنالك تأجيل لأحد البدلين فإن ذلك حرام شرعاً لأنه باب من أبواب الربا.
*****(12/180)
181 - الربا
الكفالة في قرض بروي، يقول السائل: ما حكم أن يكفل شخصاً كفالة مالية من أجل سداد قرض ربوي؟
الجواب: إن الإسلام إذا حرم شيئاً سد كل الطرق الموصلة إليه والميسرة له، فالربا من أشد المحرمات وبالتالي حرم الإسلام كل ما يؤدي له أو يساعد فيه ومن هذا الباب يحرم على الشخص أن يكفل من اقترض قرضاً ربوياً ويحرم عليه أيضاً أن يشهد على ذلك ويحرم عليه أن يكتب معاملة ربوية، وقد ثبت في الحديث عن ابن مسعود: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن آكل الربا ومؤكله وشاهديه وكاتبه) رواه أصحاب السنن وهو حديث صحيح وأصله في الصحيحين. وآكل الربا هو من يأخذ المال بالربا ومؤكل الربا هو دافعه ومطعمه غيره وهذا الحديث يدل دلالة صريحة على تحريم الربا وما لحق به من حيث الشهود والكاتب والكفيل أشد من ذلك.
*****(12/181)
182 - شركة الأبدان
يقول السائل: ما حكم اشتراك شخصين في القيام بالأعمال للناس ويكون ما يكسبانه من الدخل بينهما حسب ما يتفقان؟
الجواب: إن الشركة المشار إليها تسمى شركة الأبدان عند الفقهاء ويسميها بعضهم شركة الأعمال أو شركة الصنائع وهذه الشركة تعتمد على عمل وجهد الشركاء ولا تعتمد على رأس المال مثل الخياطة والبناء وما يتعلق به كالقصارة والبلاط وتركيب الأدوات الصحية ونحو ذلك وهذه الشركة جائزة كما هو مذهب جمهور الفقهاء واحتجوا بما ورد في الحديث عن عبد الله بن مسعود قال: (اشتركت أنا وعمار وسعد فيما نصيب يوم بدر قال: فجاء سعد بأسيرين ولم أجيء أنا وعمار بشيء) رواه ابو داود والنسائي وابن ماجة ورجاله ثقات إلا أنه منقطع.
وهذا الحديث يدل على جواز شركة الأبدان، وقد تعامل الناس بهذا النوع من الشركة في سائر الأمصار من غير إنكار من أحد عليهم وشركة الأبدان تشتمل على الوكالة، والوكالة جائزة والمشتمل على الجائز جائز كما أن المضاربة تنعقد على العمل فجاز أن تنعقد عليه شركة الأبدان قياساً عليها كما قال الحنفية.
وشركة الأبدان ضرورة لا بد منها ولو قلنا بمنعها لأدى ذلك إلى تعطيل كثير من الأعمال التي تعارف الناس عليها ولفاتت كثير من المصالح. الشركات 2/37-41.
ولا بد لصحة هذه الشركة من معرفة نصيب كل من الشركاء كأن يكون لكل منهما النصف مثلاً ولا يجوز أن يكون نصيب الشركاء مبلغاً محدوداً كأن، يكون لأحدهما مئة دينار في الشهر مثلاً.
*****(12/182)
183 - الاقتطاع من أجر العامل
يقول السائل: إنه يقوم بإحضار عمال للعمل لدى أصحاب المصانع ويتفق مع أصحاب العمل على أن أجرة العامل عشرون ديناراً ويتفق مع العامل أن أجرة العمل خمسة عشر ديناراً ويأخذ خمسة دنانير عن كل عامل، فما الحكم في ذلك؟
الجواب: لا يجوز لهذا الشخص أن يأخذ الخمسة دنانير وهي الفرق بين ما اتفق عليه مع أصحاب العمل وما اتفق عليه مع العامل وإن هذا يعتبر أكلاً لأموال الناس بالباطل وخاصة انه لا يوجد أي جهد لهذا الشخص في عمل العامل والله سبحانه وتعالى يقول: (لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ) .
وهذا الرجل استغل العمال استغلالاً بشعاً فأخذ ثمرة جهدهم وتعبهم وهو لم يخسر شيئاً وقد جاء في الحديث عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (قال الله تعالى ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة رجل أعطى بي ثم غدر ورجل باع حراً فأكل ثمنه ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره) رواه البخاري.
*****(12/183)
184 - القروض
ديون الأب بعد وفاته، يقول السائل: إن والده قد توفي وكانت عليه ديون كثيرة ولم يترك مالاً لقضائها فهل يجب على أولاده قضاء ديونه؟
الجواب: يجب أن يعلم أنه إذا مات الميت وترك مالاً فالواجب على ورثته أولاً أن يقوموا بتجهيز الميت وتكفينه وما يتعلق بذلك من تركته، وبعد ذلك يجب قضاء ديونه باتفاق الفقهاء وبعد ذلك تنفذ وصاياه من ثلث المال الباقي بعد تجهيزه وبعد سداد الديون.
وينبغي أن يعلم أن قضاء الدين مقدم على تنفيذ وصايا الميت وإن كانت الوصية مقدمة على الدين في آية المواريث، يقول الله تعالى: (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ) .
وبعد ذلك يوزع الباقي على الورثة حسب التقسيم الشرعي لذلك، وأما بالنسبة لديون الميت فمنها ديون الله عز وجل مثل الزكاة والكفارات والنذور وأرجح الأقوال فيها أن تقضى عن الميت إن ترك مالاً سواء أوصى بقضائها أم لم يوص ويدل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (اقضوا الله فالله أحق بالوفاء) رواه البخاري.
وأما ديون العباد فيجب أن تقضى من مال الميت إن ترك مالاً كما ذكرت وأما إذا لم يترك مالاً وعليه ديون فيستحب للورثة أن يبادروا إلى سداد الديون على الميت إبراء لذمته ويدل على ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه) رواه أحمد وابن ماجة والترمذي وقال: حديث حسن ولا يجب على الورثة أن يقضوا ديون الميت إن لم يترك وفاء لدينه وفي هذه الحالة يكون قضاء الدين على ولي أمر المسلمين ويدل على ذلك ما رواه الإمام البخاري في صحيحه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم فمن مات وعليه دين ولم يترك وفاء فعلينا قضاءه ومن ترك مالاً فلورثته) .
وجاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤتى بالرجل المتوفى، عليه الدين فيسأل: هل ترك لدينه فضلاً؟ فإن حدث أنه ترك لدينه وفاء صلّى وإلا قال للمسلمين: صلوا على صاحبكم فلما فتح الله عليه الفتوح قال: أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم فمن توفي من المؤمنين فترك ديناً فعلي قضاءه ومن ترك مالاً فلورثته) رواه البخاري.
وبهذا يظهر لنا أنه لا يجب على الابن قضاء الدين عن أبيه ولكن يستحب له ذلك إبراء لذمة والده ووفاء لوالده وبراً به.
*****(12/184)
185 - الميراث
الميراث الانتقالي، يقول السائل: ما هو الحكم الشرعي في توزيع الميراث حسب النظام المسمى في المحاكم الشرعية بالانتقالي والذي يتضمن مساواة الأنثى للذكر في الأراضي الأميرية؟ وهل يتعارض ذلك مع الشريعة الإسلامية؟
الجواب: إن الأرض الأميرية هي التي تعود ملكيتها لبيت مال المسلمين وهذه الأراضي لم تقسم على الفاتحين المسلمين وبقيت رقبتها ملكاً للدولة الإسلامية وأعطيت منفعتها لمن يقيمون عليها وأصل ذلك يعود إلى عهد عمر بن الخطاب عندما فتح العراق ولم يقسم الأراضي المفتوحة على المقاتيلن وإنما أبقى رقبتها ملكاً لبيت مال المسلمين وملك القائمين عليها منفعتها على أن يؤدوا نصيباً مفروضاً لبيت مال المسلمين فالذي يملك التصرف في الأراضي الأميرية هو الحاكم المسلم والأراضي الأميرية لا يجري فيها الميراث الشرعي لأنه إذا مات من بيده الأرض فهو في الحقيقة غير مالك لها وإنما يملك حق المنفعة فقط فإذا مات انتقل حق المنفعة لورثته ولا يجري فيها الميراث فلا تعتبر من ضمن تركة المتوفى ولا تقضى ديونه ولا تقسم قسمة المواريث بل تنتقل بحسب ما يرى السلطان.
وقد قامت الحكومة العثمانية بسن قانون الانتقال بالأراضي الأميرية منذ عهد السلطان سليمان القانوني وقد جرى عليه تعديلات كثيرة وأصل أحكام هذا القانون مستندة لأحكام الشريعة الإسلامية ومن التعديلات التي أدخلت على هذا القانون في عهد السلطان عبد المجيد تساوي الذكور والإناث في أحكام قانون انتقال الأراضي.
وقضية تساوي الذكر والأنثى في هذا القانون لا تتعارض مع تفاوت نصيب الذكر والأنثى في الميراث الشرعي وذلك لأن مالك الأراضي الأميرية هو بيت مال المسلمين والذي يحق له التصرف فيها هو الحاكم المسلم ويجوز للحاكم أن يملك المنفعة في الأراضي الأميرية بالتساوي بين الذكر والأنثى ولا مانع يمنع ذلك في الشريعة الإسلامية لأن للإمام ولاية عامة على المسلمين وله أن يتصرف في مصالح المسلمين ويضاف إلى ما قلت أن الأراضي الأميرية كما لا يجري فيها الإرث الشرعي لا يجري فيها الوقف ولا الرهن ولا البيع ولا الهبة ولا الشفعة وقانون الانتقال بالأراضي الأميرية استمر العمل به في بلادنا حتى 16/4/1991 ثم أوقف العمل به نظراً للظروف الخاصة التي تمر بها البلاد ومن اراد التوسع في معرفة أحكام الانتقال بالأراضي الأميرية فليرجع إلى كتاب الفريدة في حساب الفريضة للشيخ محمد نسيب البيطار رحمه الله.
*****(12/185)
186 - أنت ومالك لأبيك
يقول السائل: هل يجوز للأب أن يتملك مال ولده ويأخذه له اعتماداً على قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (أنت ومالك لأبيك) ؟
الجواب: لقد اتفق الفقهاء على أنه يجب على الولد الموسر أن ينفق على والده الفقير المحتاج وإن لم يفعل فهو آثم عند الله سبحانه وتعالى.
ويجوز للأب أن يأكل من مال ولده ويأخذ منه قدر حاجته ما لم يكن في ذلك سرف أو سفه فقد ورد في الحديث عن عائشة قالت: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أطيب ما أكلتم من كسبكم وإن أولادكم من كسبكم) رواه أصحاب السنن الأربعة وأحمد وابن حبان والحاكم وهو حديث حسن صحيح كما قال الترمذي وفي رواية لأحمد: (ولد الرجل من أطيب كسبه فكلوا من أموالهم هنيئاً) ورواه الحاكم وصححه.
وينبغي للابن أن يبذل ماله لأبيه ولا يمنعه منه وليس معنى ذلك أن الأب يملك مال الابن من غير طيب نفس من ابنه وأما الحديث المذكور وهو قوله: (أنت ومالك لأبيك) فهو جزء من حديث ورد بروايات مختلفة منها عن جابر بن عبد الله أن رجلاً قال: (يا رسول الله إن لي مالاً وولداً وإن أبي يجتاح مالي. فقال عليه الصلاة والسلام: أنت ومالك لبيك) رواه ابن ماجة والطحاوي والطبراني وهو حديث صحيح كما قال الشيخ الألباني وقد ورد هذا الحديث من طرق كيثرة تكلم عليها الألباني بالتفصيل في كتابه إرواء الغليل 3/323-330.
ولم يأخذ أكثر الفقهاء بظاهر الحديث قال ابن حبان في صحيحه: تحت عنوان " ذكر خبر أوهم من لم يحكم صناعة العلم أن مال الابن يكون للأب … " ثم ذكر الحديث وعقب عليه بقوله: [ومعناه أنه صلى الله عليه وسلم زجر عن معاملته أباه بما يعامل به الأجنبي وأمره ببره والرفق به في القول والفعل معاً إلى أن يصل إليه ماله فقال له: (أنت ومالك لأبيك) لا أن مال الابن يملكه الأب في حياته عن غير طيب نفس من الابن له] صحيح ابن حبان 2/142-143.
ويرى بعض أهل العلم أن اللام في قوله صلى الله عليه وسلم: (لأبيك) تفيد الإباحة لا التمليك فيباح للوالد أن يأخذ من مال الابن حاجته ولا تفيد أن الأب يملك مال الابن فإن مال الابن له وزكاته عليه وهو موروث عنه.
وقال الشيخ علي الطنطاوي: [إن الحديث قوي الإسناد لكن لا يؤخذ عند جمهور الفقهاء على ظاهره بل يؤول ليوافق الأدلة الشرعية الأخرى الثابتة والقاعدة الشرعية المستنبطة منها وهي أن المالك العاقل البالغ يتصرف بماله وليس لأحد التصرف به بغير إذنه …] فتاوى الطنطاوي ص 137.
وأخيراً أذكر رواة للحديث السابق لما فيها من العظة والعبرة وإن كان في سندها كلام فقد روي: (أنه جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن أبي أخذ مالي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم للرجل: اذهب فائتني بأبيك. فنزل جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن الله يقرئك السلام ويقول: إذا جاءك الشيخ فسله عن شيء قاله في نفسه ما سمعته أذناه، فلما جاء الشيخ قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما بال ابنك يشكوك أتريد أن تأخذ ماله؟ فقال: سله يا رسول الله هل أنفقه إلا على عماته أو خالاته أو على نفسي؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إيه دعنا من هذا وأخبرنا عن شيء قلته في نفسك ما سمعته أذاك. فقال الشيخ: والله يا رسول الله ما يزال الله يزيدنا بك يقيناً لقد قلت في نفسي شيئاً ما سمعته أذناي. فقال: قل وأنا أسمع. قال: قلت:
تعل بما أجني عليك وتنهللسقمك إلا ساهراً أتململطرقت به دوني فعيناي تهمللتعلم أن الموت وقت مؤجلإليها مدى ما فيك كنت أؤملكأنك أنت المنعم المتفضلفعلت كما الجار والمجرور يفعلبرد على أهل الصواب موكل غذوتك مولوداً ومنتك يافعاًإذا ليلة ضافتك بالسقم لم أبتكأني أنا المطروق دونك بالذيتخاف الردى نفسي عليك وأنهافلما بلغت السن والغاية التيجعلت جزائي غلظة وفظاظةفليتك إذ لم ترع حق أبوتيتراه معداً للخلاف كأنه
قال فحينئذ أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بتلابيب ابنه وقال: أنت ومالك لأبيك) .
*****(12/186)
187 - المال الحرام
يقول السائل: إنه يكتسب مالاً من حرام مع العلم أنه قادر على اكتساب المال بطريق حلال ولكن ما يكسبه من الحرام كثير وما يكسبه من الحلال قليل؟ فماذا يفعل؟
الجواب: لا يجوز للمسلم أن يكتسب المال بطريق حرام قليلاً كان المال أو كثيراً يقول سبحانه وتعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) وكون المال الذي يكسبه بالحلال قليلاً وما يكسبه من الحرام أكثر ليس مبرراً لاكتساب المال بالحرام وليعلم السائل وغيره أن المسلم سيسأل يوم القيامة عن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه فقد ورد في الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيم أفناه؟ وعن علمه فيم فعل فيه؟ وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه؟ وعن جسمه فيم أبلاه) رواه الترمذي وقال حسن صحيح، وصححه الألباني.
*****(12/187)
188 - الرشوة
يقول السائل: هل تعتبر الهدايا التي تقدم لشخص مسوؤل عن صندوق المدرسة من قبل أولياء أمور الطلبة من باب الرشوة؟ ويسأل فيما إذا كان حديث ابن اللتبية ينطبق عليه أم لا؟
الجواب: أبدأ أولاً بذكر الحديث المشار إليه في السؤال فقد روى الإمام البخاري بسنده عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه قال: (استعمل النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأزد يقال له ابن اللتبية على الصدقة فلما قدم قال: هذا مالكم وهذا أهدي إلي. فقام النبي صلى الله عليه وسلم فصعد على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ما بال العامل نبعثه فيأتي يقول: هذا لك وهذا لي؟ فهلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى له أم لا؟ والذي نفسي بيده لا يأتي بشيء إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته إن كان بعيراً له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر …) ورواه مسلم وغيره.
وهذا الحديث الصحيح يدل على عدم جواز الهدية للمسؤولين إذا كانت الهدية جاءتهم بحكم المسؤولية التي يحملونها وتعتبر هذه الهدية في حكم الرشوة فإذا أهدى شخص هدية إلى موظف في وظيفة ما ولم يكن بينهما تهاد قبل توليه لتلك الوظيفة فلا يجوز أن يقبل الهدية. جاء في المغني عند الكلام على الهدية للقاضي قال: [ولا يقبل هدية من لم يكن يهدي إليه قبل ولايته وذلك لأن الهدية يقصد بها في الغالب استمالة قلبه ليعتني به في الحكم فتشبه الرشوة …] المغني 10/68.
وبناء على ما تقدم نقول للسائل: إذا جاءت الهدية من قبل شخص كان يهديك قبل توليك لوظيفتك فلا بأس بها وكذلك إذا لم يكن للمهدي غرض عند الشخص المهدى إليه، وأما إذا كانت الهدية بسبب تولي المنصب أو الوظيفة فلا ينبغي قبولها لأنها في الظاهر هدية وفي الباطن رشوة.
*****(12/188)
189 - السمسرة
قول السائل: شخص يعمل سائق سيارة باص ويقوم بنقل الزوار إلى أماكن معينة للزيارة ويأخذهم إلى محلات تجارية مخصوصة ليشتروا منها والسائق متفق مع أصحاب المحلات على أن يدفعوا له نسبة معينة من الربح مثل 10% أو 20% فهل يجوز ذلك؟
الجواب: الذي يظهر أن ذلك جائز ولا بأس به فهذا نوع من السمسرة المعروفة لدى التجار لدى التجار فالتاجر يقول للسمسار بع لي هذه البضاعة ولك كذا وكذا على حسب ما يتفقان أو يقول شخص للسمسار اشتر لي قطعة أرض ولك كذا وكذا على حسب ما يتفقان فهذه معاملة جائزة ولا بأس بها إن شاء الله.
*****(12/189)
190 - المال الحرام
يقول السائل: إن له أموالاً في أحد البنوك وأن البنك يعطيه على ذلك فوائد فما حكم ذلك؟
الجواب: لا شك أن الربا من أعظم المحرمات والربا المحرم هو الذي يسمى الآن الفائدة وهذه الفائدة مال حرام وكل مال حرام لا يجوز للمسلم أن ينتفع به انتفاعاَ شخصياً فلا يجوز أن يصرفه على نفسه ولا على زوجته وأولاده ومن يعولهم لأنه مال حرام بل هو من السحت ومصرف هذا المال الحرام وأمثاله هو إنفاقه على الفقراء والمحتاجين ومصارف الخير كدور الأيتام والمؤسسات الاجتماعية ونحوها. ولا يجوز ترك هذه الأموال للبنوك بل تؤخذ وتنفق في جهات الخير والبر.
*****(12/190)
191 - المال الحرام
تفصيل كيفية التصرف بالمال الربوي
كنت قد أجبت في حلقة يوم الجمعة الماضية عن سؤال يتعلق بالفوائد التي تدفعها البنوك وعن كيفية التصرف فيها وقلت في الجواب إن هذه الأموال تصرف للفقراء والمحتاجين ومصارف الخير كدور الأيتام والمؤسسات الاجتماعية ونحوها وكان جواب السؤال مقتضباً وفي هذه الحلقة أفصل الجواب لتوضيح الأمر بالتفصيل فأقول:
إن الربا من أكبر المحرمات وقد قامت الأدلة الصريحة من كتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم على تحريمه والأصل أنه يحرم على المسلم أن يضع أمواله في البنوك الربوية ابتداء إلا عند الضرورة فإذا حصل ووضع أمواله في البنك الربوي وأعطاه البنك الربوي ما يسمونه بالفائدة وهو الربا حقيقة وفعلاً فإن أمامه عدة احتمالات ليتصرف بهذا المال كما قرر ذلك بعض الفقهاء المعاصرين:
أولاً: أن ينفق هذا المال على نفسه وعياله وفي شؤونه الخاصة.
ثانياً: أن يترك هذا المال للبنك.
ثالثاً: أن يأخذ هذا المال ويتلفه ليتخلص منه.
رابعاً: أن يأخذه ويصرفه في مصارف الخير المختلفة للفقراء والمساكين والمؤسسات الخيرية.
هذه هي الاحتمالات الأربعة القائمة في هذه المسألة ونريد أن نناقشها واحداً تلو الآخر.
أما الخيار الأول وهو أن يأخذ هذا المال الحرام - الفائدة - من البنك وينفقه على نفسه وعياله وشؤونه الخاصة فهذا أمر محرم شرعاً بنص كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لأنه إن أخذه وأنفقه على نفسه وعياله يكون قد استحل الربا المحرم، يقول الله تعالى: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) ويقول أيضاً: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)
وأما الخيار الثاني الذي مفاده أن تترك الفائدة للبنوك فإنه مهما اعتبره بعض الناس اقتضاء التقوى وموافقة حكم الشرع ومهما ترجح هذا الرأي لديهم لا يشك في تحريم ذلك من له أدنى معرفة بنظام البنوك الربوية وخاصة بنوك أوروبا وأميركا حيث تقوم هذه البنوك بتوزيع تلك الأموال على جمعيات معادية للإسلام والمسلمين.
لذلك فإن إبقاء الفوائد للبنوك الربوية حرام ولا يجوز شرعاً، قال الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله: [والخلاصة أن ترك الفوائد للبنوك وبخاصة الأجنبي حرام بيقين وقد صدر ذلك عن أكثر من مجمع وخصوصاً مؤتمر المصارف الإسلامية الثاني في الكويت) فتاوى معاصرة 2/410.
وذكر أد علماء الهند المعاصرين أن تلك الفوائد التي كان المسلمون يتركونها للبنوك الربوية في الهند كانت تصرف على بناء الكنائس وعلى إرساليات التبشير وغير ذلك. راجع قضايا فقهية معاصرة ص 24.
وأما الخيار الثالث وهو إتلاف تلك الأموال فلا يقول به عاقل لأن المال نعمة من الله سبحانه وتعالى وليس بنجس بنفسه وإنما يخبث المال إذا كسبه بطريق حرام فإتلافه إهدار لنعمة الله، قال الشيخ مصطفى الزرقا: [فالمال لا ذنب له حتى نحكم عليه بالإعدام فإتلافه إهدار لنعمة الله وهو عمل أخرق والشريعة الإسلامية حكمة كلها لأن شارعها حكيم] .
فإذا بطلت الخيارات الثلاثة وبقي الخيار الرابع وهو أخذ المال من البنك وتوزيعه على الفقراء والمساكين وجهات الخير الأخرى وهذا شأن كل مال حرام يحوزه المسلم فيجب عليه أن يتصدق به، قال حجة الإسلام الغزالي موضحاً مسألة التصدق بالمال الحرام ما نصه: [فإن قيل: ما دليل جواز التصدق بما هو حرام وكيف يتصدق بما لا يملك؟ وقد ذهب جماعة إلى أن ذلك غير جائز لأنه حرام وحكى عن الفضيل أنه وقع في يده درهمان فلما علم أنهما من غير وجههما رماهما بين الحجارة وقال: لا أتصدق إلا بالطيب ولا أرضي لغيري مالاً لا أرضاه لنفسي؟ فنقول: نعم ذلك له وجه واحتمال وإنما اخترنا خلافه للخبر والأثر والقياس.
أما الخبر: فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتصدق بالشاة المصلية التي قدمت فكلمته بأنها حرام إذ قال صلى الله عليه وسلم (أطعموها الأسارى) قال الحافظ العراقي في تخريج هذا الحديث رواه أحمد وإسناده جيد.
ولما نزل قوله تعالى: (الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ) كذبه المشركون وقالوا للصحابة: ألا ترون ما يقول صاحبكم يزعم أن الروم ستغلب فخاطرهم أبو بكر بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما حقق الله صدقه وجاء أبو بكر رضي الله عنه بما قامرهم به قال عليه الصلاة والسلام: (هذا سحت فتصدق به وفرح المؤمنون بنصر الله وكان قد نزل تحريم القمار بعد إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم له في المخاطرة مع الكفار.
قال الحافظ العراقي: حديث مخاطرة ابي المشركين بإذنه صلى الله عليه وسلم لما نزل قوله تعالى:: (الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ) وفيه فقال صلى الله عليه وسام: (هذا سحت فتصدق به) أخرجه البيهقي في دلائل النبوة من حديث ابن عباس وليس فيه إن ذلك كان بإذنه صلى الله عليه وسلم والحديث عند الترمذي وحسنه والحاكم وصححه دون قوله أيضاً: (هذا سحت فتصدق به) .
وأما الاثر فإن ابن مسعود رضي الله عنه اشترى جارية فلم يظفر بمالكها لينقده الثمن فطلبه كثيراً فلم يجده فتصدق بالثمن وقال: اللهم هذا عنه إن رضي وإلا فالأجر لي.
وسئل الحسن رضي الله عنه عن توبة الغال-من يأخذ من مال الغنيمة قبل أن يقسم-وما يؤخذ منه بعد تفرق الجيش فقال: يتصدق به.
وروي أن رجلاً سوّلت له نفسه فغلّ مائة دينار من الغنيمة ثم أتى أميره ليردها عليه فأبى أن يقبضها وقال له: تفرق الناس. فأتى معاوية فأبى أن يقبضها. فأتى بعض النّساك فقال: ادفع خمسها إلى معاوية وتصدّق بما يبقى فبلغ معاوية قوله فتلهف إذ لم يخطر له ذلك. وقد ذهب أحمد بن حنبل والحارث المحاسبي وجماعة من الورعين إلى ذلك.
وأما القياس: فهو أن يقال أن هذا المال مردد بين أن يضيع وبين أن يصرف إلى خير إذ قد وقع اليأس من مالكه وبالضرورة يعلم أن صرفه إلى خير أولى من إلقائه في البحر فإنا إن رميناه في البحر فقد فوتناه على أنفسنا وعلى المالك ولم تحصل منه فائدة وإذا رميناه في يد فقير يدعو لمالكه حصل للمالك بركة دعائه وحصل للفقير سد حاجته وحصول الأجر للمالك بغير اختياره في التصدق لا ينبغي أن ينكر فإن في الخبر الصحيح: (إن للزارع والغارس أجراً في كل ما يصيبه الناس من ثماره وزروعه) رواه البخاري.
وأما قول القائل: لا نتصدق إلا بالطيب فذلك إذا طلبنا الأجر لأنفسنا ونحن الآن نطلب الخلاص من المظلمة لا الأجر وترددنا بين التضييع وبين التصدق ورجحنا جانب التصدق على جانب التضييع.
وقول القائل: لا نرضى لغيرنا ما لا نرضاه لأنفسنا فهو كذلك ولكنه علينا حرام لاستغنائنا عنه وللفقير حلال إذا حلّه دليل الشرع وإذا اقتضت المصلحة التحليل وجب التحليل وإذا حل فقد رضينا له الحلال.
ونقول: إنه له أن يتصدق على نفسه وعياله إذا كان فقيراً أما عياله وأهله فلا يخفى لأن الفقر لا ينتفي عنهم بكونهم من عياله وأهله بل هم أولى ولو تصدق به على فقير لجاز وكذا إذا كان هو الفقير] فتاوى معاصرة 2/412 - 413.
وبهذا يظهر لنا أن المصرف الوحيد لهذه الأموال-الفوائد- هو التصدق بها وقد قال بهذا القول عدد من الفقهاء المعاصرين في مؤتمر عقد سنة 1979 وشارك فيه عدد من العلماء المسلمين المعاصرين وهو قول سديد وفقه حسن وبه أقول.
*****(12/191)
192 - أتعاب العامل
يقول السائل: إنه يملك محلاً لبيع الخضار وأنه شغل عاملاً لديه بأجرة شهرية وأن العامل ترك العمل بعد مدة وطالب بأتعاب عن المدة التي اشتغلها مع العلم أنه لا يوجد أي عقد بينهما فهل يحق للعامل أن يطالب بأتعاب؟
الجواب: إذا لم يكن هناك عقد بين صاحب العمل والعامل فإن المعاملة بين الاثنين تكون حسب العرف السائد بين أصحاب العمل والعمال فإذا جرت العادة بأن يعطى العمال ما يسمى بالأتعاب بعد انتهاء عملهم فيستحق ذلك العامل الأتعاب التي أخذها أمثاله ويقدر ذلك أهل الخبرة. وأما إذا كان العرف لا يعطي العامل إلا أجرته فقط ولا يعطيه أتعاباً فلا يستحق العامل ذلك والأصل المعتمد في هذه المسألة القواعد الفقهية المقررة عند أهل العمل منها:
1. العادة محكمة.
2. المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً.
3. المعروف بين التجار كالمشروط بينهم.
ويجب أن يعلم أن العادة المعتبرة هنا هي العادة أو العرف الغالب المطرد فقد جاء في القاعدة الفقهية " إنما تعتبر العادة إذا اطردت أو غلبت ".
*****(12/192)
193 - القرعة
يقول السائل: نحن ثلاثة شركاء في قطعة أرض قمنا بتقسيمها واختلفنا في تحديد حصة كل منا فعملنا قرعة لتحديد الحصص فما حكم الشرع في القرعة؟
الجواب: إن القرعة مشروعة في كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - وبيان ذلك كما يلي:
1. يقول الله سبحانه وتعالى في قصة مريم عليها السلام: (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) سورة آل عمران الآية 44.
قال الإمام العربي المالكي في تفسيره للآية السابقة: [روي أن زكريا قال: أنا أحق بها خالتها عندي. وقال بنو إسرائيل: نحن أحق بها بنت عالمنا فاقترعوا عليها بالأقلام وجاء كل واحد منهم بقلمه واتفقوا أن يجعلوا الأقلام في الماء الجاري فمن وقف قلمه ولم يجر في الماء فهو صاحبها ... ] أحكام القرآن 1/273.
2. ويقول الله عز وجل في قصة يونس عليه السلام: (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ) سوة الصافات الآيتان 139-141.
ذكر الطبري: [أن يونس عليه السلام لما ركب في السفينة أصاب أهلها عاصفة من الريح فقالوا هذه بخطيئة احدكم فقال يونس وعرف أنه هو صاحب الذنب: هذه خطيئتي فألقوني في البحر وأنهم أبوا عليه حتى أفاضوا بسهامهم (فساهم فكان من المدحضين) فقال لهم قد أخبرتكم أن هذا الأمر بذنبي وأنهم أبوا عليه حتى أفاضوا بسهامهم الثانية فكان من المدحضين وأنهم أبوا أن يلقوه في البحر حتى أعادوا بسهامهم الثالثة فكان من المدحضين] تفسير القرطبي 15/124.
وقد استدل العلماء بهاتين الآيتين على مشروعية القرعة بالإضافة إلى الأحاديث التي سأذكرها فيما بعد. قال الإمام البخاري في صحيحه: [باب القرعة في المشكلات وقوله عز وجل إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم] وقال ابن عباس: [اقترعوا فجرت الأقلام مع الجرية وعال قلم زكريا الجرية فكفلها زكريا] .
وقوله تعالى: (فَسَاهَمَ) أقرع-فكان من المدحضين-من المسهومين) صحيح البخاري مع الفتح 6/221.
وقد ثبتت القرعة في شريعتنا الإسلامية بأحاديث كثيرة منها:
أ. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا) رواه البخاري ومسلم.
ب. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفراً أقرع بين نسئه فأيهن خرج سهمها خرج بها معه) رواه البخاري ومسلم.
ج. وعن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم عرض على قوم اليمين فأسرعوا فأمر أن يسهم بينهم في اليمين أيهم يحلف) رواه البخاري.
د. وعن عمران بن حصين رضي الله عنه: (أن رجلاً أعتق ستة مملوكين له عند موته لم يكن له مال غيرهم فدعا بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فجزأهم ثلاثاً ثم أقرع بينهم فأعتق اثنين وأرق أربعة وقال له قولاً شديداً) رواه مسلم.
وقد أخذ جمهور أهل العلم بالقرعة واعتبروها من الطرق المشروعة لإظهار الحقوق واعتبروها طريقاً من طرق الحكم في القضاء الشرعي وقد ثبت أن الرسول عليه الصلاة والسلام قد استعملها كما سبق.
وقد بيّن الإمام القرافي ضابط استعمال القرعة فقال: [اعلم أنه متى تعنيت المصلحة أو الحق في جهة لا يجوز الإقراع بينه وبين غيره. لأن في القرعة ضياع ذلك الحق المتعين أو المصلحة المتعينة.
ومتى تساوت الحقوق والمصالح فهذا هو موضع القرعة عند التنازع دفعاً للضغائن والأحقاد بما جرت به الأقدار وقضى بها الملك الجبار ... ] الفروق 4/111.
وما قام به الشركاء في السؤال عمل صحيح لا شيء فيه لأنهم لجأوا إلى تحديد حصة كل منهم بالقرعة وهذا من المواضع التي تستعمل فيها القرعة، وقد أجاز الفقهاء ذلك، وفي استعمال القرعة تطييب للقلوب ورضا كل شريك بحصته.
*****(12/193)
194 - لا يجوز أن يكون الربح في شركة المضاربة نسبة من رأس المال
يقول السائل: أعطيت شخصاً مبلغاً من المال ليتجر فيه، واتفقنا على أن تكون نسبة الربح 10% من رأس المال فهل تصح هذه المعاملة، أفيدونا؟
الجواب: الاتفاق المذكور يسمى عند الفقهاء عقد المضاربة، ولكن هذه المضاربة تعتبر مضاربة فاسدة لما سأذكره لاحقاً، وعقد المضاربة عند الفقهاء هو أن يدفع شخصٌ مبلغاً من المال لآخر ليتجر فيه، والربح مشترك بينهما على حسب ما يتفقان - أي يكون المال من شخص والعمل من شخص آخر- والمضاربة جائزة عند عامة الفقهاء اتباعاً لما ورد عن عدد من الصحابة رضي الله عنهم الذين أجازوها وعملوا بها، وإن لم يرد نصٌ صحيحٌ صريحٌ من الكتاب والسنة بخصوصها، قال الشيخ ابن حزم الظاهري: [كل أبواب الفقه ليس منها بابٌ إلا وله أصل في القرآن والسنة، حاشا القراض- أي المضاربة - فما وجدنا له أصلاً فيهما البتة، ولكنه إجماعٌ صحيحٌ مجرد] نيل الأوطار5/301. وقال ابن المنذر: [وأجمعوا على أن القراض بالدنانير والدراهم جائز] الإجماع ص58. وقد استدل العلماء على جواز المضاربة بأدلة عامة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم واحتجوا ببعض الأحاديث والآثار في ذلك كما سأبين. قال الماوردي: [والأصل في إحلال القراض وإباحته عموم قول الله عز وجل: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} سورة البقرة الآية 198، وفي القراض ابتغاء فضلٍ وطلبُ نماء] الحاوي الكبير 7/305. وجاء عن حكيم بن حزام صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنه كان يشترط على الرجل إذا أعطاه مالاً مقارضةً يضرب له به، أن لا تجعل مالي في كبد رطبة ولا تحمله في بحرٍ، ولا تنزل به بطن مسيل، فإن فعلت شيئاً من ذلك فقد ضمنت مالي) رواه البيهقي والدارقطني وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني سنده قوي، وصححه العلامة الألباني في إرواء الغليل 5/293. وروى مالك في الموطأ عن زيد بن أسلم عن أبيه أنه قال: (خرج عبد الله وعبيد الله ابنا عمر بن الخطاب في جيشٍ إلى العراق، فلما قفلا مرَّا على أبي موسى الأشعري وهو أمير البصرة فرحب بهما وسهّل ثم قال: لو أقدر لكما على أمرٍ أنفعكما به لفعلت، ثم قال: بلى هاهنا مال من مال الله أريد أن أبعث به إلى أمير المؤمنين فأسلفكماه فتبتاعان به متاعاً من متاع العراق ثم تبيعانه بالمدينة، فتؤديان رأس المال إلى أمير المؤمنين ويكون الربح لكما فقالا: وددنا ذلك ففعل، وكتب إلى عمر بن الخطاب أن يأخذ منهم المال، فلما قدما باعا فأربحا، فلما دفعا ذلك إلى عمر قال: أكل الجيش أسلفه مثل ما أسلفكما؟ قالا: لا، فقال عمر بن الخطاب: ابنا أمير المؤمنين فأسلفكما، أديا المال وربحه، فأما عبد الله فسكت وأما عبيد الله فقال: ما ينبغي لك يا أمير المؤمنين هذا لو نقص هذا المال أو هلك لضمناه فقال عمر: أدياه فسكت عبد الله وراجعه عبيد الله، فقال رجل من جلساء عمر: يا أمير المؤمنين لو جعلته قراضاً فقال عمر: قد جعلته قراضاً، فأخذ عمر رأس المال ونصف ربحه، وأخذ عبد الله وعبيد الله ابنا عمر بن الخطاب نصف ربح المال) ورواه الدارقطني والبيهقي أيضاً، قال الحافظ ابن حجر وإسناده صحيح، نيل الأوطار 5/300. وقال العلامة الألباني إسناده حسن كما في إرواء الغليل 5/293، وانظر الاستذكار 21/120. وقد وردت آثار أخرى في المضاربة عن عدد من الصحابة كعلي وابن مسعود وابن عباس وجابر وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين، قال الشوكاني: [فهذه الآثار تدل على أن المضاربة كان الصحابة يتعاملون بها من غير نكيرٍ إجماعاً منهم على الجواز] نيل الأوطار 5/300-301. وقد تكلم عليها العلامة الألباني وبين أنها صحيحة عن بعضهم كما في إرواء الغليل 5/290- 294. إذا تقرر هذا فإن من شروط عقد المضاربة أن يكون الربح معلوماً بنسبة شائعة من مجمل الربح المتحقق، كالربع أو الثلث أو النصف مثلاً، أو نسبة مئوية مثل 10% أو 20% 35% ونحو ذلك، قال الشيخ ابن قدامة المقدسي شارحاً قول الخرقي: [ولا يجوز أن يجعل لأحدٍ من الشركاء فضل دراهم] قال ابن قدامة: [وجملته أنه متى جعل نصيب أحد الشركاء دراهم معلومة , أو جعل مع نصيبه دراهم مثل أن يشترط لنفسه جزءً وعشرة دراهم بطلت الشركة. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على إبطال القراض إذا شرط أحدهما أو كلاهما لنفسه دراهم معلومة، وممن حفظنا ذلك عنه مالك والأوزاعي والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي ... وإنما لم يصح ذلك لمعنيين: أحدهما أنه إذا شرط دراهم معلومة احتمل أن لا يربح غيرها , فيحصل على جميع الربح، واحتمل أن لا يربحها فيأخذ من رأس المال جزءً وقد يربح كثيراً ً فيستضر من شرطت له الدراهم. والثاني أن حصة العامل ينبغي أن تكون معلومة بالأجزاء لما تعذر كونها معلومة بالقدر , فإذا جهلت الأجزاء فسدت، كما لو جهل القدر فيما يشترط أن يكون معلوماً به، ولأن العامل متى شرط لنفسه دراهم معلومة , ربما توانى في طلب الربح لعدم فائدته فيه وحصول نفعه لغيره بخلاف ما إذا كان له جزء من الربح] المغني 5/28. وقال الكاساني الحنفي: [وأما الذي يرجع إلى الربح فأنواع منها: إعلام مقدار الربح، لأن المعقود عليه هو الربح، وجهالة المعقود عليه توجب فساد العقد] بدائع الصنائع 5/118. وجاء في الموسوعة الفقهية الكويتية: [ما يتعلق بالربح من الشروط: أولاً: كون الربح معلوماً: اتفق الفقهاء على أنه يشترط لصحة المضاربة أن يكون نصيب كل من العاقدين من الربح معلوماً، لأن المعقود عليه هو الربح, وجهالة المعقود عليه توجب فساد العقد ... ثانياً: كون الربح جزءً شائعاً: ذهب الفقهاء إلى أنه يشترط أن يكون المشروط لكل من المضارب ورب المال من الربح جزءً شائعاً نصفاً أو ثلثاً أو ربعاً, فإن شرطا عدداً مقدراً بأن شرطا أن يكون لأحدهما مائة من الربح أو أقل أو أكثر والباقي للآخر لا يجوز والمضاربة فاسدة, لأن المضاربة نوعٌ من الشركة, وهي الشركة في الربح, وهذا شرط يوجب قطع الشركة في الربح, لجواز أن لا يربح المضارب إلا هذا القدر المذكور, فيكون ذلك لأحدهما دون الآخر فلا تتحقق الشركة, فلا يكون التصرف مضاربة. قال الكاساني: وكذا إن شرطا أن يكون لأحدهما النصف أو الثلث ومائة درهم, أو قالا: إلا مائة درهم, فإنه لا يجوز لأنه شرط يقطع الشركة في الربح, لأنه إذا شرط لأحدهما النصف ومائة، فمن الجائز أن يكون الربح مائتين، فيكون كل الربح للمشروط له, وإذا شرط له النصف إلا مائة فمن الجائز أن يكون نصف الربح مائة فلا يكون له شيء من الربح] الموسوعة الفقهية الكويتية 38/53-54. والربح المقصود في شركة المضاربة هو ما زاد عن رأس المال بعد التنضيض- تحويل العروض إلى نقود - وبعد حسم المصروفات، لأن الربح هو المقصود من شركة المضاربة، وبناءً على ما سبق فلا يجوز أن يكون الربح مجهولاً، كما لا يجوز أن يكون مبلغاً محدداً، وإن حصل ذلك كانت المضاربة فاسدة، وكذلك فلا يجوز شرعاً أن يكون الربح نسبة من رأس المال المقدم من رب المال، لأنه حينئذ يكون مبلغاً مشروطاً ومعيناً، لأن رأس المال لا بد أن يكون معلوماً، فإذا كان رأس المال عشرة آلاف دينار، واتفقا على نسبة ربح 10% من رأس المال، فحينئذ يكون الربح مبلغ معلوماً وهو مئة دينار، وهذا يعتبر من باب الربا، فكأنه أقرضه المال مع زيادة فهو رباً وليس ربحاً، والفرق واضحٌ بين الربح وبين الربا، فالربح هو الزيادة على رأس المال نتيجة تقليبه في النشاط التجاري، أو هو الزائد على رأس المال نتيجة تقليبه في الأنشطة الاستثمارية المشروعة كالتجارة والصناعة وغيرها. انظر الربح في الفقه الإسلامي ص 44. والربح عند الفقهاء ينتج من تفاعل عنصري الإنتاج الرئيسيين وهما العمل ورأس المال، فالعمل له دور كبير في تحصيل الربح. المصدر السابق ص44-45. وقد حدد المعيار الشرعي رقم (13) المتعلق بالمضاربة الصادر عن هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية أحكام الربح وشروطه في شركة المضاربة كما يلي: [يشترط في الربح أن تكون كيفية توزيعه معلومة علماً نافياً للجهالة ومانعاً من المنازعة، وأن يكون ذلك على أساس نسبة مشاعة من الربح لا على أساس مبلغ مقطوع أو نسبة من رأس المال ... إذا شرط أحد الطرفين لنفسه مبلغاً مقطوعاً، فسدت المضاربة ... لا ربح في المضاربة إلا بعد سلامة رأس المال ... ] كتاب المعايير الشرعية ص 224.
وخلاصة الأمر أن شركة المضاربة هي شركة على الربح، فلا بد أن يكون الربح معلوماً، ولا بد أن يكون نسبة شائعةً من الربح المتحقق بعد سلامة رأس المال وبعد حسم المصاريف، ولا يجوز أن يكون الربح مبلغاً محدداً، كما لا يجوز أن يكون الربح نسبة من رأس المال، لأنه حينئذ يكون رباً وهو محرم شرعاً.(12/194)
195 - حكم جائزة السداد المبكر في البنوك الإسلامية
يقول السائل: اشتريت سيارة بالمرابحة من أحد البنوك الإسلامية على أقساط لمدة سنتين، وبعد مرور السنة الأولى توفر لديَّ بقية ثمن السيارة، فطلبت من البنك أن أسدد بقية الأقساط على أن يخصم لي أرباح الأقساط الباقية، ولكن البنك رفض ذلك، فما الحكم في ذلك، وهل أرباح الأقساط التي عَجلتُ سدادها من حقي، أفيدونا؟
الجواب: هذه المسألة تسمى عند الفقهاء مسألة " ضع وتعجل " وهي مسألة خلافية بينهم، فذهب جمهور الفقهاء إلى منعها، وأجازها آخرون، والجواز منقول عن ابن عباس رضي الله عنهما وبه قال إبراهيم النخعي وابن سيرين وأبو ثور، وهو راوية عن الإمام أحمد، ومنقول عن الإمام الشافعي، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وابن عابدين الحنفي، انظر المبدع 4/280، الاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية ص134، إعلام الموقعين لابن القيم 3/359 حاشية ابن عابدين 5/160. وقال به جماعة من العلماء المعاصرين وعددٌ من هيئات الرقابة الشرعية في البنوك الإسلامية. قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [إذا كان عليه دين مؤجل فقال لغريمه: ضع عني بعضه وأعجل لك بقيته لم يجز، كرهه زيد بن ثابت وابن عمر والمقداد وسعيد بن المسيب وسالم والحسن وحماد والحكم والشافعي ومالك والثوري وهشيم وابن علية وإسحاق وأبو حنيفة، وقال المقداد لرجلين فعلا ذلك كلاكما قد آذن بحرب من الله ورسوله، وروي عن ابن عباس: أنه لم يرَ به بأساً، وروي ذلك عن النخعي وأبي ثور، لأنه آخذٌ لبعض حقه تاركٌ لبعضه فجاز كما لو كان الدين حالّاً] المغني 4/39. وقال العلامة ابن القيم بعد أن ذكر القول بمنع " ضع وتعجل " قال: [والقول الثاني أنه يجوز وهو قول ابن عباس وإحدى الروايتين عن الإمام أحمد حكاها ابن أبي موسى وغيره واختاره شيخنا] أي شيخ الإسلام ابن تيمية، إعلام الموقعين 3/359. وقد احتج هذا الفريق من أهل العلم بما ورد في الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لمَّا أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرج بني النضير قالوا: يا رسول الله إنك أمرت بإخراجنا ولنا على الناس ديون لم تحل، فقال صلى الله عليه وسلم: ضعوا وتعجلوا) رواه الحاكم وقال هذا حديث صحيح الإسناد. المستدرك 2/362. وأخرجه الطبراني في الكبير وفيه مسلم بن خالد الزنجي وهو ضعيف وقد وثق كما قال الهيثمي في مجمع الزوائد 4/130، ورواه البيهقي في السنن الكبرى 6/28، وقال إنه ضعيف لضعف مسلم بن خالد الزنجي. وروى البيهقي بإسناده: [أن ابن عباس كان لا يرى بأساً أن يقول أعجل لك وتضع عني] سنن البيهقي 6/28. وتضعيف مسلم بن خالد الزنجي غير مسلَّم، قال الذهبي عنه: [الإمام فقيه مكة] ثم ذكر اختلاف العلماء في توثيقه وتجريحه فقال: [قال يحيى بن معين ليس به بأس، وقال البخاري: منكر الحديث، وقال أبو حاتم: لا يحتج به، وقال ابن عدي: حسن الحديث أرجو أنه لا بأس به، وقال أبو داود: ضعيف. قلت - أي الذهبي -: بعض النقاد يرقي حديث مسلم إلى درجة الحسن] سير أعلام النبلاء 8/176-177. وسبق كلام الهيثمي أن مسلم بن خالد الزنجي قد وثق وهو شيخ الإمام الشافعي وقد روى عنه الإمام الشافعي واحتج به! قال العلامة ابن القيم بعد أن ساق الحديث: [قلت هو على شرط السنن وقد ضعفه البيهقي وإسناده ثقات وإنما ضعف بمسلم بن خالد الزنجي وهو ثقة فقيه روى عنه الشافعي واحتج به] إغاثة اللهفان 2/13. وبهذا يظهر لنا أن الحديث صالح للاحتجاج به. ولو سلمنا ضعف الحديث فإن النظر يفيد جواز مسألة ضع وتعجل وأنها لا علاقة لها بالربا، بل تعتبر من قبيل الصلح وليس فيها مخالفة لقواعد الشرع وأصوله بل حكمة الشرع ومصالح المكلفين تقتضي أن المدين والدائن قد اتفقا وتراضيا على أن يتنازل الأول عن الأجل والدائن عن بعض حقه، فهذا من قبيل الصلح، والصلح جائزٌ بين المسلمين إلا صلحاً أحل حراماً وحرم حلالاً. انظر الربا والمعاملات المصرفية ص 237. ومن المعلوم أنه يجوز شرعاً الصلح بين الناس بإسقاط صاحب الحق كلَّ حقه أو بعضَه، فقد ثبت في الحديث الصحيح عن كعب بن مالك رضي الله عنه، أنه كان له على عبد الله ابن أبي حدرد الأسلمي مالٌ، فلقيه فلزمه حتى ارتفعت أصواتهما، فمرَّ بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يا كعب، فأشار بيده كأنه يقول النصف، فأخذ نصف ماله عليه وترك نصفاً) رواه الإمام البخاري. وفي رواية للبخاري أيضاً عن كعب أنه تقاضى ابن أبي حدرد ديناً كان له عليه في المسجد، فارتفعت أصواتهما حتى سمعهما رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته، فخرج إليهما حتى كشف سجف حجرته - أي ستر البيت - فنادى: (يا كعب قال: لبيك يا رسول الله، فقال: ضع من دينك هذا، وأومأ إليه، أي الشطر، قال: لقد فعلت، قال: قم فاقضه) . وفي هذا الحديث دلالة على أنه يجوز لصاحب الحق أن يسقط شيئاً من حقه حيث أشار الرسول صلى الله عليه وسلم لكعب كي يسقط نصف دينه عن عبد الله بن أبي حدرد، ثم أمر الرسول صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي حدرد أن يسدد الشطر الثاني من الدين لكعب بن مالك. وقد وأجاب العلامة ابن القيم عن دعوى أن مسألة ضع وتعجل من باب الربا بقوله: [لأن هذا عكس الربا فإن الربا يتضمن الزيادة في أحد العوضين في مقابلة الأجل، وهذا يتضمن براءة ذمته من بعض العوض في مقابلة سقوط الأجل، فسقط بعض العوض في مقابلة سقوط بعض الأجل، فانتفع به كل واحدٌ منهما، ولم يكن هنا رباً، لا حقيقةً ولا لغةً ولا عرفاً، فإن الربا الزيادة وهي منتفيةٌ ههنا، والذين حرموا ذلك إنما قاسوه على الربا، ولا يخفى الفرق الواضح بين قوله: إما أن تربي وإما أن تقضي، وبين قوله: عجل لي وأهب لك مائة. فأين أحدهما من الآخر؟ فلا نص في تحريم ذلك ولا إجماع ولا قياس صحيح] إعلام الموقعين 3/359. وقال العلامة ابن القيم أيضاً: [قالوا: وهذا ضد الربا فإن ذلك يتضمن الزيادة في الأجل والدين وذلك إضرار محض بالغريم، ومسألتنا تتضمن براءة ذمة الغريم من الدين وانتفاع صاحبه بما يتعجله، فكلاهما حصل له الانتفاع من غير ضرر، بخلاف الربا المجمع عليه، فإن ضرره لاحق بالمدين ونفعه مختص برب الدين، فهذا (ليس) من الربا صورة ومعنى] إغاثة اللهفان 2/13. وقد أجاز مجمع الفقه الإسلامي مسألة "ضع وتعجل" فقد جاء في قرار المجمع ما يلي: [الحطيطة من الدين المؤجل لأجل تعجيله سواء أكانت بطلب الدائن أو المدين " ضع وتعجل " جائزة شرعاً لا تدخل في الربا المحرم إذا لم تكن بناءً على اتفاق مسبق، وما دامت العلاقة بين الدائن والمدين ثنائية، فإذا دخل طرف ثالث لم تجز، لأنها تأخذ عندئذ حكم حسم الأوراق التجارية] مجلة مجمع الفقه الإسلامي 7/2/218. وأجازت اللجنة الدائمة للإفتاء السعودية مسألة ضع وتعجل فقد ورد في فتاوى اللجنة الدائمة: [هذه المسألة فيها خلاف بين أهل العلم، والصحيح من قوليهم جواز الوضع والتعجيل وهو رواية عن الإمام أحمد واختيار الشيخين ابن تيمية وابن القيم ومنسوب إلى ابن عباس رضي الله عنهما ... اهـ] فتاوى اللجنة 13/168. وقد عملت كثيرٌ من البنوك الإسلامية بقول من يجيز مسألة "ضع وتعجل" بناءً على فتوى من هيئات الرقابة الشرعية فيها، وتسمى بجائزة السداد المبكر، ولكن ضمن ضوابط معينة وهي:
1- أن لا ينص في العقد على ذلك، وألا يكون هنالك ارتباط شفوي عند العقد أو بعده وإنما يكون بإرادة منفردة من البنك أي دون شرط ملفوظ أو ملحوظ.
2- أن تكون إعادة الأرباح أو جزءٍ منها من قِبل البنك على سبيل التبرع دون إلزام.
3- أن يتم وضع سياسة عامة تطبق في كل حالات السداد المبكر دون اتفاق مع العملاء على ذلك ولا بأس إن علم العملاء مسبقاً بذلك بشرط أن لا يكونوا طرفاً فيها ولا يطلب منهم الموافقة عليها.
4- إذا كان هنالك حالات خاصة لتحصيل ديون البنك قبل موعدها من العملاء ويرفض العملاء السداد المبكر إلا إذا حصلوا على حسم معقول فيجوز الاتفاق مع العميل على السداد المبكر وذلك بشكل فردي.
5- يجب أن يكون التسديد لجميع الدين ولا يصح أن يكون لجزءٍ منه.
وخلاصة الأمر أنه يجوز شرعاً إسقاط بعض حق الدائن مقابل تعجيل سداد الدَّين، وهي المسألة المعروفة عند الفقهاء بمسألة " ضع وتعجل" بشرط أن لا يكون هنالك شرطٌ سابق، ولا علاقة لهذه المسألة بالربا على الصحيح من أقوال العلماء، بل هي من باب الصلح، وصاحب الحق يتبرع ببعض حقه، وليس ملزماً بذلك، فلهذا فإن إسقاط بعض الدين عند تعجيل السداد أمرٌ غير لازم للبنوك الإسلامية، وليس ذلك حقاً من حقوق المشتري بالمرابحة، وإنما هو تبرع من البنك الإسلامي.(12/195)
196 - القسمة الرضائية
قول السائل: ورثنا عن أبينا قطعة أرض كبيرة وقمنا بتقسيمها بالتراضي، وبعد مضي عدة سنوات، يطالب بعض الورثة بإعادة القسمة من جديد، فهل يحق لهم ذلك، أفيدونا؟
الجواب: القسمة عند الفقهاء عُرفت بتعريفات كثيرة منها ما قاله الكاساني الحنفي: عبارة عن إفراز بعض الأنصباء عن بعض، ومبادلة بعضٍ ببعض؛ لأن ما من جزأين من العين المشتركة لا يتجزآن قبل القسمة، إلا وأحدهما ملك أحد الشريكين، والآخر ملك صاحبه غير عين، فكان نصف العين مملوكاً لهذا، والنصف مملوكاً لذاك على الشيوع، فإذا قسمت بينهما نصفين، والأجزاء المملوكة لكل واحد منهما شائعة غير معينة، فتجتمع بالقسمة في نصيبه دون نصيب صاحبه، فلا بد وأن يجتمع في نصيب كل واحد منهما أجزاء، بعضها مملوكة له، وبعضها مملوكة لصاحبه على الشيوع.] بدائع الصنائع5/462. وعرفت مجلة الأحكام العدلية القسمة في المادة (1114) : القسمة هي تعيين الحصة الشائعة, يعني إفراز وتمييز الحصص بعضها عن بعض بمقياس ما كالكيل والوزن والذراع.
والقسمة مشروعة بكتاب الله عز وجل وبسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فمن القرآن الكريم قوله تعالى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً} سورة النساء الآية 8. وقوله تعالى: {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} سورة الأنفال الآية41، وقوله سبحانه تعالى: {لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً} سورة النساء الآية 7، وقوله سبحانه: {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاء قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ} سورة القمر الآية 28. وأما من السنة النبوية فقد ثبت في أحاديث كثيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قسَّم الغنائم كما في حديث أنس رضي الله عنه قال: (اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم من الجعرانة حيث قسم غنائم حنين) رواه البخاري، وقال الإمام البخاري في صحيحه: [باب قول الله تعالى {فأن لله خمسه وللرسول} يعني للرسول قسم ذلك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما أنا قاسم وخازن والله يعطي) ] . وروى الإمام مسلم في صحيحه بإسناده عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (لما كان يوم حنين آثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ناساً في القسمة، فأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل، وأعطى عيينة مثل ذلك، وأعطى أناساً من أشراف العرب وآثرهم يومئذ في القسمة، فقال رجل: والله إن هذه لقسمة ما عدل فيها وما أريد فيها وجه الله. قال فقلت والله لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال فأتيته فأخبرته بما قال، قال فتغير وجهه حتى كان كالصرف - شجرٌ أحمر يصنع منه صبغ يدبغ به الجلود - ثم قال: (فمن يعدل إن لم يعدل الله ورسوله) . قال ثم قال: (يرحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر) . وعن علي رضي الله عنه قال: بعثني النبي صلى الله عليه وسلم فقمت على البُدن، فأمرني فقسمت لحومها، ثم أمرني فقسمت جلالها وجلودها) رواه البخاري ومسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قُسمت الأرض وحُدَّت، فلا شفعة فيها) رواه أبو داود وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة حديث رقم 1385. وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [وأجمعت الأمة على جواز القسمة، ولأن بالناس حاجة إلى القسمة ليتمكن كل واحد من الشركاء من التصرف على إيثاره ويتخلص من سوء المشاركة وكثرة الأيدي.] المغني 10/99. إذا تقرر هذا فإن الفقهاء قد جعلوا القسمة على أنواع باعتبار إرادة المتقاسمين: القسمة بهذا الاعتبار قسمان: قسمة تراض، وقسمة إجبار، ولا يخالف في ذلك أحد من أهل العلم على الإجماع. ذلك أن الشركاء قد يرغبون جميعاً في قسمة المال المشترك، أو يرغب بعضهم ويوافق الباقون على أصل القسمة وعلى كيفية تنفيذها، فلا تكون بهم حاجة إلى اللجوء إلى القضاء، وتسمى القسمة حينئذ قسمة تراض. وقد يرغب واحد أو أكثر، ويأبى غيره، فإذا لجأ الراغب إلى القضاء، فإن القاضي يتولى قسمة المال وفق الأصول المقررة شرعاً، وتكون القسمة حينئذ قسمة إجبار. فقسمة التراضي: هي التي تكون باتفاق الشركاء. وقسمة الإجبار: هي التي تكون بواسطة القضاء، لعدم اتفاق الشركاء. ثم ليس حتماً في قسمة الإجبار أن يتولاها القاضي بنفسه، أو بمن يندبه لذلك، بل له أن يحبس الممتنع من القسمة حتى يجيب إليها، ويحدد له القاضي مدةً معقولةً لإتمامها بصورة عادلة.] الموسوعة الفقهية الكويتية 33/215. وورد في مجلة الأحكام العدلية المادة (1121) أن قسمة الرضا هي: القسمة التي تجري بين المتقاسمين في الملك بالتراضي أو برضا الكل عند القاضي. وأما قسمة القضاء فعرفتها المادة (1122) بأنها تقسيم القاضي الملك المشترك جبراً وحكماً بطلب بعض المقسوم لهم. وإذا تمت القسمة بالتراضي أو جبراً من القاضي فحكمها اللزوم، لأنها من العقود اللازمة باتفاق الفقهاء، فلا يجوز لأحد من المتقاسمين أن يرجع عنها، فالقسمة لا تقبل الرجوع بالإرادة المنفردة، بمعنى أن ينقضها واحدٌ أو أكثر ويرد المال إلى الشركة، دون اتفاق من جميع المتقاسمين. انظر الموسوعة الفقهية الكويتية 33/245. وقال ابن رشد الحفيد: [والقسمة من العقود اللازمة لا يجوز للمتقاسمين نقضها ولا الرجوع فيها إلا بالطوارئ عليها] بداية المجتهد ونهاية المقتصد 2/218. وقال الدكتور وهبة الزحيلي: [القسمة من العقود اللازمة باتفاق الفقهاء، لا يجوز نقضها، ولا الرجوع فيها إلا بالطوارئ ... ولكن لبعض المذاهب تفصيل في مبدأ اللزوم: قال الحنفية: تلزم قسمة التراضي وقسمة التقاضي بعد تمامها، فلا يجوز الرجوع عنها إذا تمت. أما قبل التمام، فكذلك تلزم قسمة التقاضي، فلو قسم القاضي المال المشترك بين قوم، فخرجت السهام كلها بالقرعة، لا يجوز لهم الرجوع، وكذا لا رجوع إذا لم تتم القسمة، كأن خرج بعض السهام دون بعض. وأما قسمة التراضي: فيجوز للشركاء الرجوع عنها قبل تمامها؛ لأن قسمة التراضي لا تتم إلا بعد خروج السهام كلها، كما هو الشأن في كل عقد كالبيع مثلاً، يجوز الرجوع عنه قبل تمامه. إلا أنه إذا خرج جميع السهام إلا واحداً، لم يجز الرجوع في قسمة التراضي، لصيرورة السهم متعيناً لمن بقي من الشركاء أو لتعيين نصيب ذلك الواحد. وأطلق المالكية القول باللزوم فقالوا: ولزم ما خرج بالقسمة، فليس لأحدهم نقضها، وكذا يلزم الشريك في قسمة التراضي، فمن أراد الفسخ لم يكن منه. وقال الشافعية: تلزم قسمة الإجبار من غير تراضٍ، ومن المعلوم أن قسمة الإفراز والتعديل فيهما الإجبار، وأما قسمة التراضي قسمة رد دون غيرها، فالأرجح عندهم أنه لا بد من الرضا بها بعد خروج القرعة، ولا يلزم حكم القاسم إلا برضا الشركاء؛ لأنه لما اعتبر الرضا بالقسمة ابتداء، اعتبر بعد خروج القرعة. والحنابلة قالوا: تلزم عندهم قسمة الإجبار، فهم كالشافعية، وفي قسمة التراضي عندهم وجهان كالشافعية، لكن الأرجح عندهم أنه إذا خرجت القرعة لزمت القسمة؛ لأن القاسم كالحاكم، وقرعته كالحاكم، لأنه مجتهد في تعديل السهام كاجتهاد الحاكم في طلب الحق، فوجب أن تلزم قرعته.] الفقه الإسلامي وأدلته 5/683-684. وقد قررت المادة (1157) من المجلة لزوم القسمة وعدم الرجوع عنها حيث ورد فيها: [لا يسوغ الرجوع عن القسمة بعد تمامها.] وجاء في شرح المادة السابقة: [أي بعد تمامها على الوجه الآنف الذكر، أي ليس للمقسوم له أن يرجع عن القسمة، كما أنه ليس لورثته بعد وفاته الرجوع عنها (علي أفندي) . لا يجوز الرجوع عن القسمة الصحيحة والتامة التي جرت على الوجه السالف الذكر] درر الحكام 3/161. وورد في القانون المدني الأردني المادة 1048: [لا يسوغ الرجوع عن القسمة بعد تمامها إلا أنه يجوز لجميع الشركاء فسخ القسمة وإقالتها برضائهم وإعادة المقسوم مشتركاً بينهم كما كان] . ومما قرره الفقهاء أن القسمة إذا وقعت صحيحة فإنه يترتب عليها استقلال كل واحد من الشركاء بعد القسمة بملك نصيبه والتصرف فيه كأي مالك فيما يملك، لأن هذا هو ثمرة القسمة ومقصودها. الموسوعة الفقهية الكويتية 33/247. وانظر مجلة الأحكام العدلية المادة 1162. وقال الدكتور وهبة الزحيلي: [يترتب على القسمة الأحكام التالية:
1- يتعين نصيب كل شريك مستقلاً عن نصيب غيره، فيملك حصته مستقلاً بعد القسمة. 2- يملك الشريك المقسوم له جميع التصرفات الثابتة لصاحب الملكية المطلقة، من بيع وإيجار ورهن، وبناء وهدم، ونحوها. 3- لا تثبت الشفعة في القسمة؛ لأن حق الشفعة في المبادلة المحضة، والقسمة مبادلة من وجه واحد، فلا تحتمل الشفعة. والظاهر أن هذا الحكم متفق عليه في المذاهب] الفقه الإسلامي وأدلته 5/686.
وخلاصة الأمر أن القسمة إذا تمت بتراضي وتوافق جميع الأطراف، فهي لازمة للجميع، ولا يجوز لأحد من الأطراف الرجوع عنها، ومن آثار القسمة المقررة عند الفقهاء أن كل طرفٍ يملك نصيبه ويتصرف فيه تصرف المالك فيما يملك.(12/196)
197 - حقيقة تملك السلع وقبضها في بيع المرابحة كما تجريه البنوك الإسلامية
يقول السائل: أرجو توضيح حقيقة تملك السلع وقبضها من البنك الإسلامي قبل بيعها للآمر بالشراء في بيع المرابحة المعمول به في البنوك الإسلامية؟
الجواب: بيع المرابحة عند الفقهاء هو بيع بمثل الثمن الأول مع زيادة ربح. وصورة بيع المرابحة المستعملة الآن في البنوك الإسلامية هي أن يتفق العميل والبنك على أن يقوم العميل بشراء البضاعة بربحٍ معلومٍ بعد شراء البنك لها، وهذه الصورة هي المسماة ببيع المرابحة للآمر بالشراء فيجوز شرعاً للبنك الإسلامي أن يشتري السلعة بناءً على رغبة عميله وطلبه ما دام أن ذلك متفق مع الضوابط الشرعية لعقد البيع. ومن أهم الضوابط الشرعية لبيع المرابحة هو تملك البنك للسلعة تملكاً حقيقياً، جاء في معيار المرابحة: [يحرم على المؤسسة أن تبيع سلعة بالمرابحة قبل تملكها لها. فلا يصح توقيع عقد المرابحة مع العميل قبل التعاقد مع البائع الأول لشراء السلعة موضوع المرابحة، وقبضها حقيقةً أو حكماً بالتمكين أو تسليم المستندات المخولة بالقبض ... يجب التحقق من قبض المؤسسة للسلعة قبضاً حقيقياً أو حكمياً قبل بيعها لعميلها بالمرابحة للآمر بالشراء.] المعيار الشرعي رقم 8 من معايير هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية. وما ورد في المعيار السابق من أنه يحرم البيع قبل التملك وأنه يجب التحقق من قبض المؤسسة للسلعة قبضاً حقيقياً أو حكمياً قبل بيعها لعميلها بالمرابحة للآمر بالشراء، فهذا مبني على النصوص الشرعية التي منعت البيع قبل التملك، كما في حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يأتيني الرجل فيسألني من البيع ما ليس عندي أبتاع له من السوق ثم أبيعه؟ قال: لا تبع ما ليس عندك) رواه أصحاب السنن الأربعة وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، وصححه العلامة الألباني في إرواء الغليل 5/132. وأما مسألة القبض ففيها خلاف بين الفقهاء من حيث ما يشترط فيه القبض وما لا يشترط فيه، قال الشيخ ابن رشد المالكي: [فيما يشترط فيه القبض من المبيعات، وأما بيع ما سوى الطعام قبل القبض، فلا خلاف في مذهب مالك في إجازته، وأما الطعام الربوي فلا خلاف في مذهبه أن القبض شرط في بيعه. وأما غير الربوي من الطعام، فعنه في ذلك روايتان: إحداهما: المنع وهي الأشهر. وبها قال أحمد وأبو ثور، إلا أنهما اشترطا مع الطعام الكيل والوزن. والرواية الأخرى: الجواز. وأما أبو حنيفة فالقبض عنده شرطٌ في كل بيع ما عدا المبيعات التي لا تنتقل ولا تُحَول من الدور والعقار. وأما الشافعي فإن القبض عنده شرط في كل مبيع، وبه قال الثوري. وهو مروي عن جابر بن عبد الله وابن عباس، وقال أبو عبيد وإسحاق: كل شيء لا يكال ولا يوزن فلا بأس ببيعه قبل قبضه، فاشترط هؤلاء القبض في المكيل والموزون، وبه قال ابن حبيب وعبد العزيز بن أبي سلمة وربيعة، وزاد هؤلاء مع الكيل والوزن المعدود. فيتحصل في اشتراط القبض سبعة أقوال: الأول: في الطعام الربوي فقط. والثاني: في الطعام بإطلاق. الثالث: في الطعام المكيل والموزون. الرابع: في كل شيء ينقل. الخامس: في كل شيء. السادس: في المكيل والموزون. السابع: في المكيل والموزون والمعدود.] بداية المجتهد 2/117. ولا بد أن نعرف أنه لم يرد في الشرع تحديد لكيفية القبض، وإنما مرجع ذلك هو العرف والعادة، وقد قرر الفقهاء أن ما لم يرد له في الشرع تحديد فمرجعه إلى أعراف الناس ومعتادهم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: [والأسماء تعرف حدودها تارة بالشرع كالصلاة والزكاة والصيام والحج، وتارة باللغة كالشمس والقمر والبر والبحر، وتارة بالعرف كالقبض والتفريق وكذلك العقود كالبيع والإجارة والنكاح والهبة وغير ذلك، فما تواطأ الناس على شرط وتعاقدوا فهذا شرط عند أهل العرف] مجموع الفتاوى 29/448. وقال الإمام القرافي: [وأما العرف فمشترك بين المذاهب ومن استقرأها وجدهم يصرحون بذلك فيها] شرح تنقيح الفصول ص 488.وقال العلامة ابن عابدين الحنفي: والعرف في الشرع له اعتبار لذا عليه الحكم قد يدار. مجموعة رسائل ابن عابدين 2/112. إذا تقرر هذا فإن معرفة حقيقة القبض ترجع إلى العرف وما تعامل به الناس، قال الإمام النووي: [الرجوع فيما يكون قبضاً إلى العادة وتختلف بحسب اختلاف المال] المجموع 9/276.وورد في الموسوعة الفقهية: [تحديد القبض وتحققه: مذهب المالكية والشافعية والحنابلة أن قبض كل شيء بحسبه، فإن كان مكيلاً أو موزوناً أو معدوداً أو مذروعاً، فقبضه بالكيل أو الوزن أو العد أو الذرع ... وإن كان جزافاً فقبضه نقله ... وإن كان منقولاً من عروض وأنعام، فقبضه بالعرف الجاري بين الناس كما يقول المالكية: كاحتياز الثوب، وتسليم مقود الدابة أو ينقله إلى حيز لا يختص به البائع عند الشافعية. وفصَّل الحنابلة في المنقول من العروض والأنعام فقالوا: إن كان المبيع دراهم أو دنانير، فقبضها باليد، وإن كان ثياباً فقبضها نقلها. وإن كان حيواناً، فقبضه تمشيته من مكانه، وإن كان عقاراً فقبضه بالتخلية بينه وبين المشتري، بلا حائل دونه، وتمكينه من التصرف فيه، بتسليمه المفتاح إن وجد، بشرط أن يفرغه من متاع غير المشتري عند الشافعية ... واعتبر الحنفية التخلية - وهي: رفع الموانع والتمكين من القبض - قبضاً حكماً على ظاهر الرواية، وروى أبو الخطاب مثل ذلك عن أحمد وشرط مع التخلية التمييز] الموسوعة الفقهية الكويتية 9/132-134 بتصرف. وبما أن قبض الأشياء مبنيٌ على العرف فإن قبض الأشياء المستجدة يكون أيضاً حسب ما يتعارفه الناس، فهنالك صور للقبض مستحدثة كما في قبض الشيكات والكمبيالات والقيد على الحساب ووثائق الشحن ونحوها، وقد جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي بشأن القبض وبخاصة صوره المستجدة ما يلي: أولاً: قبض الأموال كما يكون حسياً في حالة الأخذ باليد، أو الكيل أو الوزن في الطعام، أو النقل والتحويل إلى حوزة القابض، يتحقق اعتباراً وحكماً بالتخلية مع التمكين من التصرف ولو لم يوجد القبض حساً. وتختلف كيفية قبض الأشياء بحسب حالها واختلاف الأعراف فيما يكون قبضاً لها. ثانياً: إن من صور القبض الحكمي المعتبرة شرعاً وعرفاً:1-القيد المصرفي لمبلغ من المال في حساب العميل في الحالات التالية: أ - إذا أُودعَ في حساب العميل مبلغٌ من المال مباشرة أو بحوالة مصرفية. ب - إذا عقد العميل عقْدَ صرفٍ ناجزٍ بينه وبين المصرف في حال شراء عملة بعملة أخرى لحساب العميل. ج - إذا اقتطع المصرف - بأمر العميل - مبلغاً من حسابٍ له إلى حسابٍ آخر بعملة أخرى، في المصرف نفسه أو غيره، لصالح العميل أو لمستفيد آخر، وعلى المصارف مراعاة قواعد عقد الصرف في الشريعة الإسلامية. ويغتفر تأخير القيد المصرفي بالصورة التي يتمكن المستفيد بها من التسلم الفعلي، للمدد المتعارف عليها في أسواق التعامل، على أنه لا يجوز للمستفيد أن يتصرف في العملة خلال المدة المغتفرة إلا بعد أن يحصل أثر القيد المصرفي بإمكان التسلم الفعلي.2- تسلم الشيك إذا كان له رصيد قابل للسحب بالعملة المكتوب بها عند استيفائه وحجَزَه المصرف.] مجلة المجمع الفقهي 6/1/453.وبناءً على ما سبق فإن القبض المعمول به في البنوك الإسلامية للسلع في بيع المرابحة يكون وفق الضوابط التالية: 1- يجب التحقق من قبض البنك للسلعة قبضاً حقيقياً أو حكمياً قبل بيعها لعميله بالمرابحة للآمر بالشراء.2- ينتقل الضمان من البائع الأول إلى البنك بالقبض أو بالتمكين منه. ويجب أن تتضح نقطة الفصل التي ينتقل فيها ضمان السلعة من البائع الأول إلى البنك، ومن البنك إلى عميله، وذلك من خلال مراحل انتقال السلعة من طرف لآخر.3-إن كيفية قبض الأشياء تختلف بحسب حالها واختلاف الأعراف فيما يكون قبضاً لها، فكما يكون القبض حسياً في حالة الأخذ باليد أو النقل أو التحويل إلى حوزة القابض أو وكيله يتحقق أيضاً اعتباراً وحكماً بالتخلية مع التمكين من التصرف ولو لم يوجد القبض حساً بما في ذلك المنقولات إذا جرى بها العرف.4-يعد قبضاً حكمياً تسلم البنك أو وكيله لمستندات الشحن عند شراء البضائع من السوق الخارجية، وكذلك تسلمه لشهادات التخزين التي تعين البضاعة من المخازن التي تدار بطرق مناسبة موثوق بها.5-فرز البضاعة المشتراة من قبل البنك في مخازن البائع بصورة مميزة يُعد قبضاً صحيحاً لها إذا اقترن بأحد الأمور الآتية: أ -إذا تم الفرز بمعاينة مندوب البنك. ب -إذا تسلم البنك أوراقاً تثبت ملكيته للسلع المفرزة. ت -إذا كانت السلع مرقمة وسجلت أرقام السلع المفرزة لصالح البنك.] ضوابط عقد المرابحة الصادرة عن الهيئة الشرعية لبنك البلاد الإسلامي. وهذه الضوابط تعتمد على التخلية وهي رفع الموانع والتمكين من القبض كما سبق، ومستندها ما ورد في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفرٍ فكنت على بَكْرٍ صعبٍ - ولد الناقة أول ما يركب وهو نفور لم يذلل - لعمر فكان يغلبني فيتقدم أمام القوم فيزجره عمر ويرده ثم يتقدم فيزجره عمر ويرده، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر: بعينه. قال هو لك يا رسول الله قال: بعينه. فباعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هو لك يا عبد الله بن عمر تصنع به ما شئت) رواه البخاري، قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [وقد احتج به للمالكية والحنفية في أن القبض في جميع الأشياء بالتخلية واليه مال البخاري] فتح الباري 4/335. وقال الكاساني: [والتخلية هي: أن يخلي البائع بين المبيع وبين المشتري برفع الحائل بينهما على وجهٍ يتمكن المشتري من التصرف فيه، فيجعل البائع مُسَلماً للمبيع والمشتري قابضاً له. فالتخلية بين المبيع وبين المشتري قبضٌ وإن لم يتم القبض حقيقةً فإذا هلك يهلك على المشتري] بدائع الصنائع 5/244.
وخلاصة الأمر أن قبض السلع يحدد بناءً على العرف، حيث لم يرد له تحديد في الشرع، وما كان كذلك فالمرجع فيه للعرف، وأن صور القبض المستجدة كذلك، ومعتمد ما يتم في البنوك الإسلامية من صور للقبض موافق لمبدأ التخلية المقرر في الفقه الإسلامي وعمل به كثير من الفقهاء.(12/197)
198 - مرجعية الرقابة الشرعية في البنوك الإسلامية
يقول السائل: نسمع أن للبنك الإسلامي رقابة شرعية تشرف عليه، فما هو دورها، وما هي مرجعيتها، أفيدونا؟
الجواب: تعتبر الرقابة الشرعية صمام الأمان في البنوك الإسلامية، وهي التي تضبط أعمال البنوك الإسلامية وتبين مدى توافقها مع الأحكام الشرعية، لأنه لا يمكن لأي بنك أن يرفع لافتة أنه بنك إسلامي، دون أن تكون أعماله متفقة مع الأحكام الشرعية، ولا يمكن أن يتم تحقيق تلك الدعوى بدون وجود هيئة رقابة شرعية. [فالرقابة الشرعية هي: التأكد من مدى مطابقة أعمال المؤسسة المالية الإسلامية (شركة أو مصرف) لأحكام الشريعة الإسلامية، حسب الفتاوى الصادرة والقرارات المعتمدة من جهة الفتوى.] انظر الرقابة الشرعية في المصارف الإسلامية، حمزة عبد الكريم، ص32. ويمكن تعريف الرقابة الشرعية أيضاً بأنها: مُراقبة سير العمل في المصارف الإسلامية، لمعرفة مدى مطابقتهِ لأحكام الشريعة الإسلامية، في معاملاته المصرفية المختلفة، للتحقق من التزام المصرف بخصائصه، والتأكد من تحقيق أهدافه] رسالة الرقابة الشرعية في المصارف الإسلامية لحسن صافي ص 41. وتعتبر الرقابة الشرعية ذات أهمية بالغة للبنوك الإسلامية لأكثر من سبب، من أبرزها: (1) الأساس الذي قامت عليه البنوك الإسلامية المعاصرة هو تقديم البديل الشرعي للبنوك الربوية غير المشروعة، ولا يخفى على أحدٍ أن الرقابة الشرعية ضرورة حيوية للبنوك الإسلامية، فهي الجهة التي تراقب وترصد سير عمل البنوك الإسلامية والتزامها وتطبيقها في معاملاتها للأحكام الشرعية. (2) كثير من العاملين في البنوك الإسلامية ليست لديهم المعرفة الكافية بقواعد المعاملات الإسلامية. (3) العمليات المصرفية في الاستثمار والتمويل بالذات تحتاج إلى رأي من هيئة الفتوى نظراً لتميز هذه العمليات بالتغير وعدم التكرار مع كل حالة أو عملية أو مشروع يموله المصرف، ومن ثم فالعاملون في النشاط الاستثماري يجب أن يكونوا على اتصال مستمر مع الرقابة الشرعية؛ لأنهم دائماً بحاجة إلى الفتيا في نوازل وواقعات تواجههم أثناء عملهم. (4) وجود الرقابة الشرعية في البنك يُعطيه الصبغة الشرعية، كما يُعطي وجود الرقابة ارتياحاً لدى جمهور المتعاملين مع البنك. وبالإجمال فإنَّ وجود الرقابة الشرعية في أية مؤسسة مالية إسلامية، بنك أو غيره، يمنحُها الثقة والقوة والشرعية، علماً بأن كل البنوك والمؤسسات المالية الإسلامية، في نظامها الداخلي وقوانينها الأساسية، تشترط خضوع كل المعاملات المصرفية فيها للأحكام الشرعية، وهذا يُضفي عليها صفة القانونية بالإضافة إلى الشرعية. ولا بد أن يُعلم أن القرارات الصادرة عن هيئة الرقابة الشرعية تكون إلزامية لإدارة البنك وموظفيه. وأهم أهداف الرقابة الشرعية أنها تتحقق من التزام البنك الإسلامي بالأحكام والمبادئ الشرعية. وتقوم بإيجاد الصيغ والعقود والنماذج المعتمدة في البنك من الناحية الشرعية، وتدقيق المعاملات التي ينفذها البنك بحيث تكون موافقة للأحكام الشرعية. وإبداء الرأي الشرعي في كل الأنظمة والعقود والتطبيقات والاتفاقيات والقوائم المالية وتعليمات العمل، للتأكد من خلوها من أي محظور شرعي، وكل ما يتطلبه أداء ذلك من رقابة وتدقيق ومتابعة. ولا بد من الإشارة إلى أن الأنظمة والتعليمات الصدارة عن سلطة النقد الفلسطينية تلزم البنوك الإسلامية العاملة في فلسطين بأن يكون لديها هيئة رقابة شرعية وقد بينت مهامها بما يلي: [1- التأكد من أن أعمال وأنشطة المصرف الإسلامي تتفق مع أحكام الشريعة الإسلامية.2- إبداء الرأي في صيغ العقود اللازمة لأعمال وأنشطة المصرف الإسلامي والاتفاقيات، والسياسات، والمنتجات، والمعاملات، والقوائم المالية، ونشر تقريرها ضمن التقارير المالية للمصرف، على أن يتضمن التقرير الأنشطة المخالفة للشريعة إن وجدت.3- تطبيق الأهداف والغايات المبينة في النظم الداخلية وعقود التأسيس الخاصة بها. 4- تقديم التوجيه والإرشاد والتدريب لكافة موظفي المصرف فيما يتعلق بالأحكام الشرعية والفتاوى ذات العلاقة.] وأود أن أقول لجمهور المتعاملين مع البنوك الإسلامية أنه يوجد خلف البنوك الإسلامية عددٌ كبيرٌ من العلماء والخبراء والباحثين الذين يؤسسون للعمل المصرفي الإسلامي ويوجهونه ويرشدونه ويدققون في معاملاته وفق الأسس والقواعد الشرعية. إذا تقرر هذا فإن الرقابة الشرعية في البنك الإسلامي لها مرجعية واضحة تجمع بين الأصالة والمعاصرة، ويمكن بيان معالم هذه المرجعية فيما يلي: أولاً: المعايير الشرعية لهيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية والإسلامية AAOIFIومقرها البحرين، والمقصور بالمعايير الشرعية هي: المعايير الشرعية والمعايير المحاسبية، ومعايير الضبط والمراجعة التي أصدرتها هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية، وهي اليوم تقرب من ثمانين معياراً، ويقوم بإعداد هذه المعايير المجلس الشرعي في الهيئة والمؤلف من عددٍ من المشايخ والعلماء والمتخصصين في أمور الاقتصاد المالي الإسلامي. بعضهم يمثل المصارف وبعضهم لديه خبرته ومكانته في الصناعة المالية الإسلامية، وهيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية والإسلامية في البحرين منظمة دولية مستقلة مؤلفة من أكثر من 140 عضواً من 40 بلداً، ومهمتها إصدار المعايير في عدد من المجالات كالمحاسبة والمراجعة والضوابط الأخلاقية والشريعة، وهذه المعايير معتمدة في 90% من المصارف والمؤسسات المالية الإسلامية على مستوى العالم. وقد شملت المعايير الشرعية الصادرة عن هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية كثيراً من أنواع معاملات البنوك الإسلامية مثل: المتاجرة في العملات وبطاقة الحسم وبطاقة الائتمان والمقاصة والضمانات والمرابحة للآمر بالشراء والإجارة والإجارة المنتهية بالتمليك والسلم والسلم الموازي والاستصناع والاستصناع الموازي والشركة (المشاركة) والشركات الحديثة والمضاربة والاعتمادات المستندية والأوراق التجارية وصكوك الاستثمار وبيوع السلم في الأسواق المنظمة والأوراق المالية (الأسهم والسندات) وعقود الامتياز والتأمين الإسلامي وإعادة التأمين والخدمات المصرفية في المصارف الإسلامية والتورق والغرر المفسد للمعاملات المالية والتحكيم والعوارض الطارئة على الالتزامات والتعاملات المالية بالإنترنت والحسابات الاستثمارية وتوزيع الربح وغيرها. ثانياً: فتاوى وقرارات وتوصيات الندوات والمجامع والملتقيات الفقهية. وهذه من الأهمية بمكان، حيث إن الاجتهاد الجماعي الذي تمارسه مجامع الفقه الإسلامي المعاصرة، يُعدُّ مَعْلَماً من معالم مسيرة الفقه الإسلامي في العصر الحاضر، ولا شك أن وجود هذه المجامع وصدور الآراء الفقهية الجماعية عنها يُعطي قوةً للفقه الإسلامي، وخاصة أن المجامع الفقهية تتصدى لكثير من النوازل الفقهية والقضايا المعاصرة، وهذا يجعل الفقه الإسلامي قادراً على مواجهة تطور الحياة العصرية. ولا شك أن الاجتهاد الجماعي الذي تمثله المجامع الفقهية، مقدمٌ على الاجتهاد الفردي الذي يصدر عن أفراد الفقهاء، فهو أكثر دقةً وإصابةً من الاجتهاد الفردي، كما أن فيه تحقيقاً لمبدأ الشورى في الاجتهاد، وهو مبدأ أصيل في تاريخ الفقه الإسلامي، فقد روى ميمون بن مهران: (أن أبا بكر رضي الله عنه كان إذا ورد عليه الخصوم نظر في كتاب الله، فإن وجد فيه ما يقضي بينهم قضى به، وإن لم يكن في الكتاب وعلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الأمر سنة قضى بها، فإن أعياه خرج فسأل المسلمين، وقال: أتاني كذا وكذا، فهل علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في ذلك بقضاء؟ فربما اجتمع إليه النفر، كلهم يذكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه قضاءً، فيقول أبو بكر: الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ على نبينا. فإن أعياه أن يجد فيه سنةً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، جمع رؤوس الناس وخيارهم فاستشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على أمرٍ قضى به ... ) سنن الدارمي 1/40. ثالثاً: المقاصد العامة للشريعة الإسلامية وقواعدها الكلية وأحكامها الجزئية المستمدة من الكتاب والسنة دون التقيد بمذهب معين. فمن المعلوم أن الأحكام الشرعية عند جماهير العلماء جملةً وتفصيلاً متضمنة لمقاصدها وأغراضها، ومنطوية على مصالح الخلق وإسعادهم في الدارين، سواء أكانت هذه المقاصد حكماً ومعاني جزئية تفصيلية، أم كانت مصالح ومنافع كلية عامة، أم كانت سماتٍ وأغراضاً كبرى تحيط بأبواب وأحكام شتى. انظر الاجتهاد المقاصدي حجيته، د. نور الدين الخادمي ص5. لذا كان من الضرورة بمكان، معرفة مقاصد الشريعة لكل من يتصدى لدراسة المعاملات المالية المعاصرة، وأما قضية المذاهب الفقهية فيرى بعض الباحثين أن الواجب على هيئات الرقابة الشرعية أن تلتزم بالمذاهب الفقهية الأربعة، وأن لا تخرج فتاواها عنها، والذي أراه هو عدم الالتزام بمذهب فقهي معين، وإنما اختيار القول الذي يدعمه الدليل الصحيح والمتفق مع مقاصد الشريعة الإسلامية، والموافق للقواعد والضوابط الفقهية التي تحكم نظام المعاملات المالية.
وخلاصة الأمر أن الرقابة الشرعية في البنوك الإسلامية أمر ضروري وهام، ولا تقوم البنوك الإسلامية إلا به، والرقابة الشرعية في البنوك الإسلامية لها مرجعيتها، وإن اعتماد المعايير الشرعية الصادرة عن هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية والإسلامية في البحرين، لأمرٌ جِدُ ضروري، لأنه يضبط معاملات البنوك الإسلامية، ويوحد الفتاوى الصادرة عن هيئات الرقابة الشرعية في البنوك الإسلامية، ويقلل الخلافات بينها. وذات الأمر يُقال عن اعتماد الفتاوى والقرارات والتوصيات الصادرة عن المجامع والملتقيات الفقهية.(12/198)
199 - الضوابط الشرعية للتعامل مع أموال الأيتام
يقول السائل: أنا وصي على أيتام ولهم أموال فما هي حدود التعامل مع أموالهم، أفيدونا؟
الجواب: اليتيم في الناس من قِبل الأب، وفي البهائم من قِبل الأم، ولا يقال لمن فقد الأم من الناس يتيم، كما قال ابن السكيت من أهل اللغة، واليتيم عند الفقهاء هو من مات أبوه وهو دون البلوغ. وقد ورد في الحديث عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يتم بعد احتلام) رواه الطبراني في الكبير وقال الهيثمي رجاله ثقات مجمع الزوائد4/266. وصححه العلامة الألباني في إرواء الغليل 5/79. وقد تضافرت النصوص من كتاب الله عز وجل ومن سنة النبي صلى الله عليه وسلم على وجوب العناية باليتيم والإحسان إليه، والمحافظة على أمواله، وبينت عِظم أجر كافل اليتيم، فمن ذلك قوله تعال: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ ... } سورة النساء الآية 36. وقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ} سورة البقرة الآية 83. وقال تعالى: {وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً} سورة النساء الآية 2. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} سورة النساء الآية 10.قال الفخر الرازي في تفسيره للآية السابقة: [واعلم أنه تعالى وإن ذكر الأكل، فالمراد به التصرف لأن أكل مال اليتيم كما يحرم، فكذا سائر التصرفات المهلكة لتلك الأموال محرمة، والدليل عليه أن في المال ما لا يصح أن يؤكل، فثبت أن المراد منه التصرف، وإنما ذكر الأكل لأنه معظم ما يقع لأجله التصرف] تفسير الرازي 5/44. وقال تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} سورة الأنعام الآية 152. وقال تعالى: {فأما اليتيم فلا تقهر} سورة الضحى الآية 9. وثبت في الحديث عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا وأشار بالسبابة والوسطى وفرَّج بينهما) رواه البخاري، قال الحافظ ابن حجر في شرح الحديث: [قال ابن بطال: حقٌ على من سمع هذا الحديث أن يعمل به ليكون رفيق النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة، ولا منزلة في الآخرة أفضل من ذلك] . ثم قال الحافظ ابن حجر: [قال شيخنا في شرح الترمذي: لعل الحكمة في كون كافل اليتيم يشبه في دخول الجنة أو شبهت منزلته في الجنة بالقرب من النبي صلى الله عليه وسلم أو منزلة النبي صلى الله عليه وسلم، لكون النبي صلى الله عليه وسلم شأنه أن يبعث إلى قوم لا يعقلون أمر دينهم، فيكون كافلاً لهم ومعلماً ومرشداً، وكذلك كافل اليتيم يقوم بكفالة من لا يعقل أمر دينه، بل ولا دنياه، ويرشده ويعلمه ويحسن أدبه، فظهرت مناسبة ذلك.] فتح الباري 10/536-537. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من ضم يتيماً بين مسلمين في طعامه وشرابه حتى يستغني عنه وجبت له الجنة) رواه أبو يعلى والطبراني وأحمد مختصراً بإسناد حسن كما قال الحافظ المنذري. وقال العلامة الألباني صحيح لغيره. انظر صحيح الترغيب والترهيب 2/676. وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: (أتى النبيَ صلى الله عليه وسلم رجلٌ يشكو قسوة قلبه؟ قال: أتحب أن يلين قلبك وتدرك حاجتك؟ ارحم اليتيم وامسح رأسه وأطعمه من طعامك يلن قلبك وتدرك حاجتك) رواه الطبراني وقال العلامة الألباني حسن لغيره. انظر صحيح الترغيب والترهيب 2/676. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله وأحسبه قال: وكالقائم الذي لا يفتر وكالصائم لا يفطر) رواه البخاري ومسلم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: يا رسول الله، وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات.) رواه البخاري ومسلم. وغير ذلك من الأحاديث. إذا تقرر هذا فإن [القاعدة العامة في عقود الوصي وتصرفاته: أن الوصي مقيد في تصرفه بالنظر والمصلحة لمن في وصايته، وعلى هذا لا يكون للوصي سلطة مباشرة التصرفات الضارة ضرراً محضاً كالهبة، أو التصدق، أو البيع والشراء بغبن فاحش، فإذا باشر الوصي تصرفاً من هذه التصرفات كان تصرفه باطلاً، لا يقبل الإجازة من أحدٍ، ويكون له سلطة مباشرة التصرفات النافعة نفعاً محضاً، كقبول الهبة والصدقة والوصية والوقف، والكفالة للمال. ومثل هذا: التصرفات الدائرة بين النفع والضرر، كالبيع والشراء والإجارة والاستئجار والقسمة والشركة، فإن للوصي أن يباشرها، إلا إذا ترتب عليها ضرر ظاهر، فإنها لا تكون صحيحة.] الموسوعة الفقهية الكويتية 7/213.وهذه أهم الضوابط الشرعية للتعامل مع أموال الأيتام: أولاً: الإنفاق على الأيتام من أموالهم بالمعروف ولا بد من [الالتزام بالأولويات الإسلامية التي تخص اليتامى، أي الإنفاق على الضروريات أولاً ثم يلي ذلك الإنفاق على الحاجيات, ولا يجوز الإنفاق على الكماليات إلاّ بعد تلبية والوفاء بالضروريات والحاجيات.] انظر الضوابط الشرعية لإدارة صندوق أموال اليتامى د. حسين شحاتة ص 2. ويشمل ذلك قضاء حاجاتهم كالطعام والكساء والمسكن والعلاج والتعليم ونحوها، وإذا وسَّع عليهم في الأعياد فلا حرج، قال الإمام مالك رحمه الله: [وليوسع عليهم ولا يضيق، وربما قال: أن يشتري لهم بعض ما يُلهيهم به وذلك مما يُطَيِّب به نفوسهم] مواهب الجليل شرح مختصر خليل عن الإنترنت. ثانياً: ويجب أن يكون [الإنفاق في مجال الحلال الطيب الذي يعود على اليتامى بالمنافع المعتبرة شرعاً حسب الظروف والأحوال. وتجنب الإسراف والتبذير في أموال اليتامى لأن ذلك محرم شرعاً ولا يعود عليهم بالنفع والخير] الضوابط الشرعية لإدارة صندوق أموال اليتامى د. حسين شحاتة ص2. ثالثاً: إذا كانت أموال الأيتام زائدة عن نفقتهم فللوصي استثمار أموال اليتامى وتنميتها، حتى لا تفنى في النفقات أو في الزكاة كما سيأتي، ومما يدل على جواز استثمار أموال اليتامى ما ورد في بعض الأحاديث والآثار عن الصحابة رضي الله عنهم ومنها:1. ما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال: (ألا من ولي يتيماً وله مال فليتجر له بماله ولا يتركه حتى تأكله الصدقة) رواه الترمذي وضعفه. 2. ما رواه الشافعي بسنده عن يوسف بن ماهك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ابتغوا في مال اليتيم أو أموال اليتامى لا تذهبها ولا تستهلكها الصدقة) رواه الشافعي في الأم والبيهقي في السنن الكبرى، وقال البيهقي وهذا مرسل إلا أن الشافعي رحمه الله أكده بالاستدلال بالخبر الأول، وبما روي عن الصحابة رضي الله عنهم. سنن البيهقي 4/107. 3.ما رواه البيهقي بسنده عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: (اتجروا في أموال اليتامى لا تأكلها الصدقة) وقال البيهقي هذا إسناد صحيح وله شواهد عن عمر رضي الله عنه. 4. ما رواه مالك في الموطأ أنه بلغه عن عمر بن الخطاب أنه قال: (اتجروا في أموال اليتامى لا تأكلها الصدقة) .5. وما رواه البيهقي بسنده أن عمر بن الخطاب قال لرجل أن عندنا مال يتيم قد أسرعت فيه الزكاة فدفعه إليه ليتجر فيه له. وغير ذلك من الأحاديث. وهنالك وسائل كثيرة لاستثمار أموال الأيتام بطرق شرعية كالمرابحة والاستصناع والمضاربة والمشاركة المتناقصة والمساقاة والمزارعة وغيرها 0ثالثاً: الأصل في مال الأيتام هو الحرمة في حق الوصي إلا إذا كان محتاجاً فإنه يأكل بالمعروف، والأولى في حقه أن يتعفف عن مال اليتم، ويدل على ذلك قوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} سورة الأنعام الآية 152.وقال الله تعالى في حق أموال الأيتام: {وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} سورة النساء الآية 6.وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} سورة النساء الآية 10. رابعاً: للوصي أن يبيع ويشتري للأيتام ما دام البيع والشراء ضمن ما تعارف عليه الناس في البيع والشراء. خامساً: لا يجوز للوصي باتفاق الفقهاء أن يهب شيئاً من مال اليتيم، ولا أن يتصدق منه، ولا أن يوصي بشيءٍ منه؛ لأنها من التصرفات الضارة ضرراً محضاً، فلا يملكها الوصي، ولا الولي ولو كان أباً. ولا يجوز للوصي أن يقرض مال اليتيم لغيره، ولا أن يقترضه لنفسه؛ لما في إقراضه من تعطيل المال عن الاستثمار، والوصي مأمور بتنميته بقدر الإمكان. الموسوعة الفقهية الكويتية 7/213 فما بعدها بتصرف. سادساً: يجب إيداع أموال الأيتام في المصارف الإسلامية إذا وجدت، ولا يجوز إيداعها في البنوك الربوية إلا لحفظها عند عدم وجود المصارف الإسلامية.
سابعاً: أداء زكاة مال اليتيم كما هو القول الراجح من أقوال الفقهاء، لأن الزكاة حق من حقوق المال، فتجب في كل مال تحققت فيه شروط الوجوب، بغض النظر عن مالك المال، فلا ينظر فيها إلى المالك فتجب الزكاة في مال البالغ وغير البالغ.
وخلاصة الأمر أن دين الإسلام اهتم اهتماماً كبيراً بالأيتام عامة وبأموالهم خاصة، فالآيات والأحاديث حضت الأوصياء على الإحسان للأيتام ورعايتهم وتربيتهم، ودعت إلى استثمار أموال الأيتام لمصلحتهم، وعلى من تولى مال يتيمٍ أن يضبط تصرفاته بضوابط الشرع المذكورة أعلاه، والواجب على وصي اليتيم هو عمل الصالح لليتيم، وليحذر من قربان مال اليتيم بغير التي هي أحسن. وليعلم أن التعرض لأموال الأيتام بسوء من السبع الموبقات المهلكات.(12/199)
200 - المعايير الشرعية لهيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية والإسلامية AAOFI
يقول السائل: ذكرتم في حلقة سابقة من يسألونك "المعايير الشرعية لهيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية والإسلامية" فأرجو توضيح ما يتعلق بهذه المعايير، أفيدونا؟
الجواب: هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية والإسلامية مقرها في البحرين، وهي منظمة دولية مستقلة مؤلفة من أكثر من 140 عضواً من 40 بلداً، ومهمتها إصدار المعايير في عددٍ من المجالات كالمحاسبة والمراجعة والضوابط الأخلاقية والشرعية، لتغطي كافة جوانب العمل المصرفي والمالي الإسلامي، وحتى تجعله ينسجم مع بعضه، ومع الواقع التجاري المحيط، وتسهل على المستثمر والمستهلك من جهة، وتيسر على البنوك إدارة أموالها، وتحقيق عائد أكبر، وتوفير بيئة آمنة من حيث تقليل مستوى المخاطرة من جهة أخرى.] نقلاً عن صحيفة الشرق الأوسط العدد 10290. وقد بلغ عدد المعايير الشرعية الصادرة عن هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية حتى بداية سنة 2010م ثمانين معياراً من المعايير الشرعية، بالإضافة إلى معايير خاصة بالمحاسبة والمراجعة وأخلاقيات العمل المصرفي الإسلامي. كما ينتظر أن يضاف 16 معياراً آخراً حتى عام 2011.انظر موقع هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية على شبكة الإنترنت: http://www.arabic.aaoifi.com/ara-keypublications.html وتعتبر هذه المعايير في الحقيقة والواقع، أهم الضوابط الشرعية لعمل المصارف الإسلامية في وقتنا الحاضر، ويُعدُّ الالتزام بالمعايير الشرعية الصادرة من هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية والإسلامية من عناصر التزام أي بنك إسلامي بالضوابط الشرعية في أعماله، حيث إن هذه المعايير معتمدة في 90% من المصارف والمؤسسات المالية الإسلامية على مستوى العالم، ويقوم بإعداد هذه المعايير المجلس الشرعي في الهيئة والمؤلف من 16 عالماً وباحثاً، بعضهم يمثل المصارف وبعضهم لديه خبرته ومكانته في الصناعة المالية الإسلامية، وهم من خيرة المشايخ المتخصصين في أمور الاقتصاد المالي الإسلامي. وبعد هذه المقدمة أبين أن المعايير جمع معيار، والمعيار ـ بكسر العين ـ كل ما تقدر به الأشياء من كيل أو وزن، وما اتخذ أساساً للمقارنة، وعيار النقود: مقدار ما فيها من المعدن الخالص، والمعيار هو ما يقدر به الشيء ... والمقصور بالمعايير الشرعية هي الضوابط التي تضبط العقود والأنشطة الإنسانية بأحكام الشريعة الإسلامية ومبادئها، ولكن المراد بها هنا هي: المعايير الشرعية والمعايير المحاسبية، ومعايير الضبط والمراجعة التي أصدرتها هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية. وقد شملت المعايير الشرعية الصادرة عن هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية كثيراً من أنواع معاملات البنوك الإسلامية مثل: المتاجرة في العملات، بطاقة الحسم وبطاقة الائتمان، المدين المماطل، المقاصة، الضمانات، تحول البنك التقليدي إلى مصرف إسلامي، الحوالة، المرابحة للآمر بالشراء، الإجارة والإجارة المنتهية بالتمليك، السَّلم والسَّلم الموازي، الاستصناع والاستصناع الموازي، الشركة (المشاركة) والشركات الحديثة، المضاربة، الاعتمادات المستندية، الجعالة، الأوراق التجارية، صكوك الاستثمار، القبض، القرض، بيوع السلم في الأسواق المنظمة، الأوراق المالية (الأسهم والسندات) ، عقود الامتياز، الوكالة وتصرف الفضولي، التمويل المصرفي المجمع، الجمع بين العقود، التأمين الإسلامي، المؤشرات، الخدمات المصرفية في المصارف الإسلامية، ضوابط الفتيا وأخلاقياتها في إطار المؤسسات، التورق، الغرر المفسد للمعاملات المالية، التحكيم، الوقف، إجارة الأشخاص، الزكاة، العوارض الطارئة على الالتزامات، الاتفاقيات الائتمانية، التعاملات المالية بالإنترنت، الرهن، الحسابات الاستثمارية وتوزيع الربح، إعادة التأمين وغيرها. وتأتي أهمية الالتزام بالمعايير الشرعية من خلال ما يلي: أولاً ـ إن وجود معيار شرعي لأي عقد، أو منتج، بصياغة قانونية واضحة يجعل المؤسسة المالية تسير على هداه بوضوح وبخطوات راسخة للوصول إلى تطبيق أحكام الشريعة دون لبس أو غموض. إن التزام المؤسسة المالية بهذه المعايير يترتب عليه كسب ثقة المتعاملين بها واحترامهم لها. ثانياً ـ إن الالتزام بهذه المعايير سيؤدي بإذن الله تعالى إلى مزيد من تحقيق التعاون بين المؤسسات المالية من خلال الأعمال المشتركة، بل إلى توحيدها من حيث العقود والضوابط والمبادئ العامة. ثالثاً ـ إن وجود هذه المعايير يفيد المتعاملين من حيث الالتزام بأحكام الشريعة، وبالتالي يعلمون ما لهم وما عليهم من واجبات وأحكام. رابعاً ـ إن المعايير الشرعية تفيد جهات القضاء أو التحكيم للوصول إلى الحكم العادل الواضح البين، وقد كانت في السابق إشكالية تثار دائماً: كيف تحكم في الخلاف: هل بالمذهب الحنفي، أو المالكي، أو الشافعي، أو الحنبلي، أو الإمامي، أو الزيدي، أو الإباضي ... ثم داخل المذهب بأي قول من أقوال المذهب أو أية رواية من رواياته؟ لذلك كانت المحاكم تلجأ إلى القوانين حتى مع نص في العقد على الالتزام بما لا يتعارض مع أحكام الشريعة ... خامساً ـ إن وجود هذه المعايير والالتزام بها يفيد الدولة والمصارف المركزية وجهات الرقابة والتدقيق، بكيفية التعامل مع المؤسسات المالية الإسلامية وضبطها، والتعرف على أعمالها وعقودها، وكيفية التدقيق عليها على ضوء أسس وضوابط حددتها المعايير الشرعية. سادساً ـ إن وجود هذه المعايير الشرعية والمحاسبية يفيد شركات التدقيق الخارجي في كيفية الضبط والتدقيق الداخلي على أسس وموازين وأوزان محددة. سابعاً ـ إن الالتزام بهذه المعايير يسهل عملية التصنيف والجودة، حيث يمكن المنافسة على ما هو الأجود. ثامناً ـ وأخيراً: إن الالتزام بها يؤدي إلى التطوير، ولكن هذا إنما يتحقق بإمكانية المراجعة بهذه المعايير على ضوء ضرورة العمل والتطبيق، ففقه التطبيق والمعايشة أهم أنواع الفقه، كما قال تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} ومن أهم المبررات العملية للاعتراف بهذه المعايير الشرعية والمحاسبية الصادرة من هيئة المحاسبة والمراجعة: (1) إن معايير المحاسبة السائدة في أماكن مختلفة من العالم تبلورت وصدرت لتتفق مع بيئة البلد الذي صدرت فيه، ومن أهم أوجه الاختلاف المتطلبات الشرعية ذات التأثير على أعمال المصارف. (2) وجود اختلافات بين البنوك التقليدية التي تقارن بها بالمصارف الإسلامية، وبين تلك المصارف، من أهمها المتطلبات الشرعية واختلاف الجوهر الاقتصادي للعديد من معاملاتها الهامة. (3) اختلاف المعلومات التي يحتاجها المستفيدون من القوائم المالية للمصارف الإسلامية عن تلك التي يحتاجها مستخدمو القوائم المالية للبنوك التقليدية. (4) وجود اختلافات هامة بين المعايير التي تستخدمها حالياً المصارف والمؤسسات المالية الإسلامية نفسها من بلد لآخر، ومن مصرف لآخر في نفس البلد، وأحياناً من سنة لأخرى لنفس المصرف. واليوم توجد عدة بنوك مركزية تلزم بهذه المعايير، أو ترشد إليها مثل: البحرين، وماليزيا، وسورية، ولبنان، والسودان، وسنغافورة، وقطر، والسعودية، وجنوب أفريقيا.] بحث آلية الالتزام بالمعايير الشرعية وضرورته للدكتور علي محيى الدين علي القره داغي. عن موقعه على الإنترنت.
إذا تقرر هذا فإن التزام المصارف الإسلامية بمعايير هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية يعتبر الأساس الرئيس للتحقق من استيفاءها لمتطلبات الشريعة، ولدفع عملية تطوير منتجاتها قدماً. كما يعمق الالتزام بالمعايير عنصر الشفافية في التقارير المالية للمؤسسات المالية الإسلامية. ولا شك أن من شأن التزام المصارف الإسلامية بهذه المعايير أن يوحد أسس وقواعد المعاملات المصرفية الإسلامية وتطبيقاتها، وكذلك فإن التزام هيئات الرقابة الشرعية في المصارف الإسلامية باعتماد هذه المعايير يقلل إلى حدٍ كبير من اختلاف الفتاوى بينها. وكما أن التزام المصارف الإسلامية بهذه المعايير يزيد من ثقة المتعاملين مع المصارف الإسلامية ويعمق الثقة بصحة معاملاتها.
وخلاصة الأمر أن المعايير الشرعية لهيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية والإسلامية في البحرين تعتبر من أهم مرجعيات الرقابة الشرعية للمصارف الإسلامية، وإن الالتزام بها يعبر عن مدى التزام المصارف الإسلامية بالأحكام الشرعية، كما أن الالتزام بها يضبط معاملات المصارف الإسلامية، ويقلل إلى حدٍّ كبير الاختلاف في الفتاوى بين هيئات الرقابة الشرعية للمصارف الإسلامية. كما أن الالتزام بهذه المعايير الشرعية يوفر حماية للمصارف الإسلامية من تلاعب المتلاعبين الذين يتسترون تحت مسميات التمويل الإسلامي المختلفة. ولذلك كله فإنني أرى أن اعتماد المعايير الشرعية الصادرة عن هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية والإسلامية في البحرين، لأمرٌ جِدُّ ضروري، لضبط معاملات المصارف الإسلامية، ولتوحيد الفتاوى الصادرة عن هيئات الرقابة الشرعية في المصارف الإسلامية، ولتقليل الخلافات بينها. وأطالب باعتماد هذه المرجعيات من قبل سلطة النقد الفلسطينية وأن تقوم السلطة بإلزام المصارف الإسلامية بها.(12/200)
201 - التجار واستغلال شهر الصيام برفع الأسعار
يقول السائل: ما قولكم في ظاهرة ارتفاع الأسعار في شهر رمضان، حيث يستغل كثيرٌ من التجار إقبال الناس على الشراء في شهر رمضان المبارك، فيرفعون أسعار السلع، أفيدونا؟
الجواب: وضع الإسلام مجموعةً من الضوابط والقيم الأخلاقية التي تضبط التعامل في الأسواق، وينبغي على التجار والمستهلكين التحلي بها، وهذه الضوابط والقيم مستمدة من كتاب الله تعالى ومن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ومن سير الصحابة والسلف في تعاملهم التجاري. قال أبو حامد الغزالي: [وقد أمر الله تعالى بالعدل والإحسان جميعاً، والعدل سبب النجاة فقط، وهو يجري من التجار مجرى رأس المال، والإحسان سبب الفوز ونيل السعادة، وهو يجري من التجارة مجرى الربح، ولا يُعَدُّ من العقلاء من قنع في معاملات الدنيا برأس ماله، فكذا في معاملات الآخرة، فلا ينبغي للمتدين أن يقتصر على العدل واجتناب الظلم ويدع أبواب الإحسان وقد قال الله تعالى: {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} وقال عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} ونعني بالإحسان فعل ما ينتفع به العامل وهو غير واجب عليه ولكنه تفضلٌ منه، فإن الواجب يدخل في باب العدل وترك الظلم] إحياء علوم الدين 2/80-81. وكذلك فإن الصدق والأمانة والنصيحة من أعظم أخلاق التاجر المسلم، فقد ورد في الحديث عن أبي سعيد الخدري رضي الها عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء) رواه الترمذي وقال حديث حسن. سنن الترمذي 3/515. وفيه ضعف منجبر كما قال العلامة الألباني في غاية المرام ص 124. وعن رفاعة رضي الهـ عنه أنه خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المصلى فرأى الناس يتبايعون فقال: (يا معشر التجار فاستجابوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ورفعوا أعناقهم وأبصارهم إليه، فقال: إن التجار يبعثون يوم القيامة فجاراً إلا من اتقى الله وبرَّ وصدق) رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح. سنن الترمذي 3/516، وغير ذلك من الأحاديث. ومن الأمور التي ينبغي للتجار ألا يتعاملوا بها الغبن، وهو أن يُغلبَ أحدُ المتبايعين، وهو نوعٌ من الخداع، قال أبو حامد الغزالي: [ ... فينبغي أن لا يغبن صاحبَه بما لا يتغابن به في العادة، فأما أصل المغابنة فمأذون فيه، لأن البيع للربح ولا يمكن ذلك إلا بغبن ما، ولكن يراعى فيه التقريب، فإن بذل المشتري زيادة على الربح المعتاد، إما لشدة رغبته أو لشدة حاجته في الحال إليه، فينبغي أن يمتنع من قبوله، فذلك من الإحسان ومهما لم يكن تلبيس لم يكن أخذ الزيادة ظلماً، وقد ذهب بعض العلماء إلى أن الغبن بما يزيد على الثلث يوجب الخيار، ولسنا نرى ذلك ولكن من الإحسان أن يحط ذلك الغبن. يروى أنه كان عند يونس بن عبيد حُللٌ -نوع من الثياب- مختلفة الأثمان، ضرب قيمة كل حلة منها أربعمائة، وضرب كل حلة قيمتها مائتان، فمرّ إلى الصلاة وخلَّف ابن أخيه في الدكان، فجاء أعرابي وطلب حلة بأربعمائة فعرض عليه من حلل المائتين فاستحسنها ورضيها فاشتراها، فمضى بها وهي على يديه فاستقبله يونس فعرف حلته فقال للأعرابي: بكم اشتريت؟ فقال: بأربعمائة. فقال: لا تساوي أكثر من مائتين فارجع حتى تردها. فقال: هذه تساوي في بلدنا خمسمائة وأنا أرتضيها. فقال له يونس: انصرف فإن النصح في الدين خير من الدنيا بما فيها. ثم ردّه إلى الدكان وردّ عليه مائتي درهم، وخاصم ابن أخيه في ذلك وقاتله، وقال أما استحييت أما اتقيت الله تربح مثل الثمن وتترك النصح للمسلمين فقال: والله ما أخذها إلا وهو راضٍ بها. قال: فهلا رضيت له بما ترضاه لنفسك، وهذا إن كان فيه إخفاء سعر وتلبيس فهو من باب الظلم…وروي عن محمد بن المنكدر أنه كان له شقق -نوع من الثياب- بعضها بخمسة وبعضها بعشرة فباع في غيبته غلام شقة من الخمسيات بعشرة، فلما عرف لم يزل يطلب ذلك الأعرابي المشتري طول النهار حتى وجده، فقال له: إن الغلام قد غلط فباعك ما يساوي خمسة بعشرة. فقال: يا هذا قد رضيت، فقال: وإن رضيت فإنا لا نرضى لك إلا ما نرضاه لأنفسنا، فاختر إحدى ثلاث خصال: إما أن تأخذ شقة من العشريات بدراهمك، وإما أن نردَّ عليك خمسة، وإما أن تردَّ شقتنا وتأخذ دراهمك. فقال: أعطني خمسة. فردَّ عليه خمسة وانصرف الأعرابي يسأل ويقول: من هذا الشيخ؟ فقيل له: هذا محمد بن المنكدر، فقال: لا إله إلا الله هذا الذي نستسقي به في البوادي إذا قحطنا. فهذا إحسان في أن لا يربح على العشرة إلا نصفاً أو واحداً على ما جرت به العادة في مثل ذلك المتاع في ذلك المكان، ومن قنع بربحٍ قليلٍ كثرت معاملاته واستفاد من تكررها ربحاً كثيراً، وبه تظهر البركة. كان علي رضي الهح عنه يدور في سوق الكوفة بالدرة ويقول: معاشر التجار خذوا الحق تسلموا، لا تردوا قليل الربح فتحرموا كثيره] إحياء علوم الدين 2/81-82. إذا تقرر هذا فإن رفع التجار للأسعار في رمضان منافٍ للقيم الأخلاقية التي قررها الشرع في البيع والشراء، صحيح أن الإسلام لم يحدد نسبة معينة للربح، ولكن الربح القليل والقناعة به أقرب إلي هدي السلف وأبعد عن الشبهات. وقد ناقش مجمع الفقه الإسلامي مسألة تحديد أرباح التجار وقرر ما يلي: [أولاً: الأصل الذي تقرره النصوص والقواعد الشرعية ترك الناس أحراراً في بيعهم وشرائهم وتصرفهم في ممتلكاتهم وأموالهم في إطار أحكام الشريعة الإسلامية الغراء وضوابطها عملاً بمطلق قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} سورة النساء الآية 29.ثانياً: ليس هناك تحديدٌ لنسبة معينةٍ للربح يتقيد بها التجار في معاملاتهم، بل ذلك متروكٌ لظروف التجارة عامة، وظروف التاجر والسلع، مع مراعاة ما تقضي به الآداب الشرعية من الرفق والقناعة والسماحة والتيسير.] ويحرم شرعاً على التجار أن يستغلوا حاجات الناس فيرفعوا الأسعار ويحتكروا السلع، وقد ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لا ضرر ولا ضرار) رواه أحمد وابن ماجة والطبراني وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة حديث رقم 250. ولا يقل استغلال التجار لشهر الصيام برفع الأسعار عن الاحتكار وهو أمرٌ محرمٌ، فقد ورد في الحديث عن معمر بن عبد الله رضي الهه عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحتكر إلا خاطئ) رواه مسلم. ويدخل رفع الأسعار بدون موجب في باب أكل أموال الناس بالباطل، كما قال الله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} سورة النساء الآية 29. ولا شك أن لجمهور المستهلكين دوراً واضحاً في زيادة جشع التجار في رفع الأسعار، وذلك من خلال زيادة الاستهلاك والإقبال المحموم على شراء السلع، وكأن الواحد منهم يشتري للمرة الأخيرة!! فلا بد للمستهلك أن يلتزم أيضاً بالضوابط الشرعية للاستهلاك، ومنها: مقاطعة السلع عندما يقوم التجار برفع الأسعار بدون موجب، كما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقد جاء الناس إليه فقالوا: (غلا اللحم فسعره لنا، فقال: أرخصوه أنتم. فقالوا: نحن نشتكي غلاء السعر واللحم عند الجزارين ونحن أصحاب الحاجة فتقول: أرخصوه أنتم؟ وهل نملكه حتى نرخصه؟ وكيف نرخصه وهو ليس في أيدينا؟ قال: اتركوه لهم.) وقيل لإبراهيم بن أدهم: إن اللحم غلا قال: فأرخصوه، أي لا تشتروه) . وعن رزين بن الأعرج قال: غلا علينا الزبيب بمكة فكتبنا إلى علي بن أبي طالب بالكوفة أن الزبيب قد غلا علينا، فكتب أن أرخصوه بالتمر) فأفضل حلٍ لمعالجة ظاهرة غلاء الأسعار هو المقاطعة، أو استبدال السلع الغالية بسلعٍ أخرى أرخص ثمناً، فإذا رفع التجار سعر اللحم فليتوجه الناس إلى شراء الدجاج، وإذا رفع التجار سعر البندورة الطازجة فليتوجه الناس إلى صلصة البندورة أو إلى خضارٍ أخرى وهكذا. ومن الضوابط الشرعية للاستهلاك البعد عن الإسراف والتبذير، فيشتري الشخص مقدار حاجته فقط، [فالإسلام يدعو إلى الاعتدال في الاستهلاك، فيمنع كلًا من التقتير أو الإسراف. قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوامًا} سورة الفرقان الآية 67. ولضمان السير على هذه الضوابط، جعل الإسلام المسلم مسؤولًا يوم القيامة عن سلوكه الاستهلاكيّ، هل كان خالصًا لوجهه سبحانه، وصوابًا على نحو ما أراد، فهو معاقبٌ لا محالة إن قصّر في هذا الجانب؛ ومن هذه النصوص قوله تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} سورة التكاثر آية 8. وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة من عند ربّه حتى يسأل عن خمسٍ ومنها: عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه؟) رواه الترمذي وقال حسن صحيح، وصححه العلامة الألباني. انظر سلوك المستهلك ص 18. وكذلك فإن من ضوابط الاستهلاك أن يكون الاستهلاك في حدود مستوى الدخل أي الإنفاق بالمعروف، وهذا ما أكّدت عليه نصوص الكتاب والسنة. قال الله تعالى: {وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا} سورة البقرة، آية 233، والمعروف: هو الإنفاق بحسب الوسع بدليل قوله تعالى: {لا تكلف نفس إلا وسعها} سورة الطلاق آية 7، وقال تعالى: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} سورة الطلاق آية 7، قال الشيخ ابن العربي المالكي: [يعني على قدر حال الأب من السعة والضيق] أحكام القران لابن العربي 1/227. وانظر سلوك المستهلك ص 121. ولا بد من التنبيه على دور القنوات الفضائية في زيادة شره المستهلكين وخاصة في شهر رمضان، فالفضائيات تسهم بشكلٍ كبيرٍ في توجيه جمهور المستهلكين إلى زيادة الاستهلاك، من خلال الدعاية للسلع، وكذلك من خلال برامج الطبخ المختلفة، التي تؤثر في سلوك النساء في المطبخ وبالذات في شهر رمضان، لذا لا بد من توعية المستهلكين بخطر الإعلام وعدم تصديق كل ما يشاهدونه على شاشات الفضائيات وفي الصحف والمجلات، ولا بد من الانتباه إلى خطورة الفضائيات ومدى تأثيرها على الناس، وتنبيه الناس إلى أن من نتائج التربية الغربيّة عامّة، والأمريكيّة خاصّة، التي قادها مربّون أمثال جون ديوي، وجورج كونت، وبرونز، هي: (إنجاب أمّة أغنام توجّهها وسائل الإعلام) . سلوك المستهلك ص 171. وأخيراً فنظراً لضعف الوازع الديني وقلة التقوى وزيادة الجشع والطمع لا بد من ضبط الأسواق ومراقبتها، فإن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن كما قال عثمان رضي الله عنه.
وخلاصة الأمر أن استغلال التجار لشهر الصيام برفع الأسعار بدون موجب، أمرٌ محرمٌ شرعاً، لأن فيه إلحاق الضرر بالناس، ويدخل أيضاً في باب أكل أموال الناس بالباطل، وأن الواجب على التجار أن يتقوا الله في المستهلكين، وأن يقنعوا بالربح القليل، وواجب المستهلكين أن يضبطوا استهلاكهم بالضوابط الشرعية التي أشرت لها، وإن لزم الأمر فإن أفضل وسيلة لمعالجة غلاء الأسعار هو مقاطعتها وتركها للتجار. كما أن مراقبة الأسعار أمر ضروري في ظل كثرة الجشع وزيادة الطمع وقلة التقوى وغياب الورع.(12/201)
1 - النذر بما لا يملك
يقول السائل: نذرت أمي إن توظفت لتوزعن أول راتب لي على الفقراء، فما حكم هذا النذر، وهل نذرها يلزمني، أفيدونا؟
الجواب: النذر عند أهل العلم هو أن يلزم المكلف نفسه بقربة لم يلزمه بها الشارع الحكيم، والوفاء بالنذر واجب لقوله تعالى: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} سورة الحج الآية 29، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصه فلا يعصه) رواه البخاري ومسلم. وقد اشترط الفقهاء لصحة النذر أن يكون المنذور به ملكاً للناذر، وفي السؤال المذكور فإن الأم نذرت أن توزع راتب ابنها وهي لا تملكه، قال ابن عابدين [وشرط صحة النذر أن يكون المنذور ملكاً للناذر] حاشية ابن عابدين 4/46. وقال الإمام البخاري في صحيحه [باب النذر فيما لا يملك وفي معصية] ثم ساق مجموعة من الأحاديث يفهم منها هذا الشرط كما قال الحافظ ابن حجر العسقلاني، فتح الباري 11/714. ومما يدل على أنه يشترط في المنذور به أن يكوم ملكاً للناذر ما رواه الإمام مسلم بإسناده عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: (كانت ثقيف حلفاء لبني عقيل، فأسرت ثقيف رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من بني عقيل، وأصابوا معه العضباء - اسم ناقة الرجل المأسور - فأتى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الوثاق، قال يا محمد فأتاه، فقال ما شأنك؟ فقال بم أخذتني وبم أخذت سابقة الحاج؟ - أي ناقته - فقال إعظاماً لذلك أخذتك بجريرة حلفائك ثقيف، ثم انصرف عنه فناداه، فقال يا محمد يا محمد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيماً رقيقاً، فرجع إليه فقال ما شأنك؟ قال: إني مسلم، قال لو قلتها وأنت تملك أمرك أفلحت كل الفلاح، ثم انصرف فناداه، فقال يا محمد يا محمد فأتاه فقال ما شأنك؟ قال إني جائع فأطعمني وظمآن فأسقني، قال هذه حاجتك ففدي بالرجلين. قال وأسرت امرأة من الأنصار وأصيبت العضباء، فكانت المرأة في الوثاق وكان القوم يريحون نعمهم بين يدي بيوتهم فانفلتت ذات ليلة من الوثاق فأتت الإبل فجعلت إذا دنت من البعير رغا فتتركه حتى تنتهي إلى العضباء فلم ترغ، قال وناقة منوقة - أي مذللة - فقعدت في عجزها ثم زجرتها فانطلقت، ونذروا بها فطلبوها فأعجزتهم، قال ونذرت لله إن نجاها الله عليها لتنحرنها، فلما قدمت المدينة رآها الناس فقالوا العضباء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت إنها نذرت إن نجاها الله عليها لتنحرنها، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له فال: سبحان الله بئسما جزتها نذرت لله إن نجاها الله عليها لتنحرنها، لا وفاء لنذر في معصية، ولا فيما لا يملك العبد) . قال الإمام النووي: [وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (ولا فيما لا يملك العبد) ، فهو محمول على ما إذا أضاف النذر إلى معين لا يملكه، بأن قال: إن شفى الله مريضي فلله عليَّ أن أعتق عبد فلان، أو أتصدق بثوبه أو بداره أو نحو ذلك. فأما إذا التزم في الذمة شيئاً لا يملكه فيصح نذره، مثاله: قال: إن شفى الله مريضي فلله عليَّ عتق رقبة، وهو في ذلك الحال لا يملك رقبة ولا قيمتها، فيصح نذره، وإن شفي المريض ثبت العتق في ذمته.] شرح النووي على صحيح مسلم 4/267. وعن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه أنه بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من حلف على يمين بملة غير الإسلام كاذباً فهو كما قال، ومن قتل نفسه بشيء عُذِب به يوم القيامة، وليس على رجلٍ نذرٌ في شيءٍ لا يملكه) رواه مسلم. وورد في الحديث عن عمران بن حصين رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا نذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم) رواه النسائي وابن ماجة وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في صحيح سنن النسائي 2/ 807. وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا وفاء لنذرٍ فيما لا تملك) رواه أبو داود وهو حديث حسن كما قال العلامة الألباني في صحيح سنن أبي داود 2/412.
وعن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه قال: نذر رجلٌ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينحر إبلاً ببوانة - اسم مكان قريبٌ من ينبع - فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني نذرت أن أنحر إبلاً ببوانة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هل كان فيها وثنٌ من أوثان الجاهلية يعبد؟ قالوا: لا. قال: هل كان فيها عيدٌ من أعيادهم؟ قالوا: لا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوف بنذرك، فإنه لا وفاء لنذرٍ في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم) رواه أبو داود وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في صحيح سنن أبي داود 2/637. وغير ذلك من الأحاديث.
إذا تقرر أنه يشترط في المنذور به أن يكون ملكاً للناذر، فقد اختلف أهل العلم فيما يترتب على من نذر ما لا يملكه، فمنهم من قال لا شيء عليه، لا كفارة ولا غيرها، قال الحافظ ابن حجر: [واختلف فيمن وقع منه النذر في ذلك هل تجب فيه كفارة؟ فقال الجمهور: لا، وعن أحمد والثوري وإسحاق وبعض الشافعية والحنفية نعم، ونقل الترمذي اختلاف الصحابة في ذلك كالقولين] فتح الباري 11/715، وقال الإمام النووي: [ ... لا يصح النذر فيما لا يملك، ولا يلزم بهذا النذر شيء] شرح النووي على صحيح مسلم 1/294.
ومن الفقهاء كالحنفية والحنابلة وبعض الشافعية وبعض أهل الحديث من ألزمه كفارة يمين، وهذا القول أرجح لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (كفارة النذر كفارة اليمين) رواه مسلم، قال الإمام النووي: [قوله صلى الله عليه وسلم: (كفارة النذر كفارة اليمين) اختلف العلماء في المراد به, فحمله جمهور أصحابنا على نذر اللجاج، وهو أن يقول إنسان يريد الامتناع من كلام زيد مثلاً: إن كلمت زيداً مثلاً فلله عليَّ حجة أو غيرها، فيكلمه فهو بالخيار بين كفارة يمين وبين ما التزمه، هذا هو الصحيح في مذهبنا، وحمله مالك وكثيرون أو الأكثرون على النذر المطلق، كقوله: عليَّ نذر، وحمله أحمد وبعض أصحابنا على نذر المعصية، كمن نذر أن يشرب الخمر، وحمله جماعة من فقهاء أصحاب الحديث على جميع أنواع النذر، وقالوا: هو مخير في جميع النذورات بين الوفاء بما التزم، وبين كفارة يمين] شرح النووي على صحيح مسلم 4/269. ويؤيده ما ورد في الحديث عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما النذر يمين، كفارتها كفارة يمين) أخرجه أحمد وصححه العلامة الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة حديث رقم 2860. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (النذر نذران: فما كان لله فكفارته الوفاء، وما كان للشيطان فلا وفاء فيه، وعليه كفارة يمين) وصححه العلامة الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة حديث رقم 479. وبناءً على ما تقدم يلزم المرأة المذكورة في السؤال كفارة يمين، وهي المذكورة في قوله تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْءَايَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} سورة المائدة الآية 89. ولا بد من التنبيه هنا أن مال الابن مملوك له، وليس ملكاً للأم ولا للأب، كما يفهمه بعض الناس من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أنت ومالك لأبيك) والأم كذلك، رواه ابن ماجة والطحاوي والطبراني وغيرهم وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في إرواء الغليل 3/323-330. فإن هذا الحديث ليس على ظاهره كما قال أكثر العلماء، قال ابن حبان في صحيحه: تحت عنوان [ذكر خبر أوهم من لم يحكم صناعة العلم أن مال الابن يكون للأب…] ثم ذكر الحديث وعقب عليه بقوله: [ومعناه أنه صلى الله عليه وسلم زجر عن معاملته أباه بما يعامل به الأجنبي وأمره ببره والرفق به في القول والفعل معاً إلى أن يصل إليه ماله فقال له: (أنت ومالك لأبيك) ، لا أن مال الابن يملكه الأب في حياته عن غير طيب نفس من الابن له] صحيح ابن حبان 2/142-143. ويرى بعض أهل العلم أن اللام في قوله صلى الله عليه وسلم: (لأبيك) تفيد الإباحة لا التمليك فيباح للوالد أن يأخذ من مال الابن حاجته ولا تفيد أن الأب يملك مال الابن، قال الشوكاني: [قوله: (أنت ومالك لأبيك) قال ابن رسلان: اللام للإباحة لا للتمليك، فإن مال الولد له وزكاته عليه وهو موروث عنه] نيل الأوطار 9/232. وقال الشيخ علي الطنطاوي: [إن الحديث قوي الإسناد لكن لا يؤخذ عند جمهور الفقهاء على ظاهره بل يؤول ليوافق الأدلة الشرعية الأخرى الثابتة والقاعدة الشرعية المستنبطة منها وهي أن المالك العاقل البالغ يتصرف بماله وليس لأحد التصرف به بغير إذنه …] فتاوى الطنطاوي ص 137.
وخلاصة الأمر أن هذه الأم قد نذرت أن توزع مالاً لا تملكه ويلزمها أن تكفر كفارة يمين، ولا يلزم ولدها شيء.(13/1)
2 - حكم افتداء اليمين بالمال
يقول ال سائل: حصل نزاع بيني وبين شخص في قضية ما وتوجهت اليمين عليَّ، ولكني هبت من حلف اليمين فعرضت عليه مبلغاً من المال ليعفيني من اليمين، مع العلم أنني إذا حلفت فأنا صادق في يميني، فهل هذا الأمر جائز شرعاً، أفيدونا؟
الجواب: إذا طُلبت اليمينُ من شخصٍ فحلف وهو صادق في يمينه فلا حرج عليه، واليمين مشروعة كما هو معلوم، ولكن مطلوب من المسلم أن يحفظ يمينه، كما قال الله تعالى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} سورة المائدة الآية 89. قال القرطبي: [أي بترك الحلف فإنكم إذا لم تحلفوا لم تتوجه عليكم هذه التكليفات] تفسير القرطبي 6/285. ونقل القرطبي أيضاً عن بعض المفسرين في قوله تعالى: {ولا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} سورة البقرة الآية 224، [بأن المعنى لا تكثروا من اليمين بالله تعالى فإنه أهيب للقلوب ولهذا قال الله تعالى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} وذمَّ من كثَّر اليمين فقال الله تعالى: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} والعرب تمتدح بقلة الأيمان ... ] تفسير القرطبي3/97. وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [ومن توجهت عليه يمين هو فيها صادق، أو توجهت له، أبيح له الحلف، ولا شيء عليه من إثم ولا غيره; لأن الله تعالى شرع اليمين، ولا يشرع محرماً. وقد أمر الله تعالى نبيه عليه السلام، أن يقسم على الحق، في ثلاثة مواضع من كتابه. وحلف عمر لأبيٍّ رضي الله عنهما على نخيل، ثم وهبه له، وقال: خفت إن لم أحلف أن يمتنع الناس من الحلف على حقوقهم، فتصير سنة. قال حنبل: بُلي أبو عبد الله- أي الإمام أحمد - بنحو هذا، جاء إليه ابن عمه، فقال: لي قِبَلكَ حقٌ من ميراث أبي، وأطالبك بالقاضي، وأحلفك. فقيل لأبي عبد الله: ما ترى؟ قال: أحل ف له، إذا لم يكن له قِبَلي حق، وأنا غيرُ شاكٍ في ذلك حلفت له، وكيف لا أحلف، وعمر قد حلف، وأنا من أنا؟ وعزم أبو عبد الله على اليمين، فكفاه الله ذلك، ورجع الغلام عن تلك المطالبة] المغني10/208.
وقال صاحب الهداية الحنفي: [ومن ادَّعى على آخر مالاً فافتدى يمينه أو صالحه منها على عشرة - مثلاً - فهو جائز] شرح فتح القدير. ومع ذلك فإن شأن ليمين عظيم، والتورع عن اليمين أمر معروف عند الصحابة والتابعين، قال الحافظ الهيثمي: باب الورع والخوف من الحلف، وساق فيه مجموعة من الآثار عن الصحابة والتابعين في ذلك، وأين حالهم من حالنا الذي يعبر عنه المثل العامي الدارج بين الناس: (قالوا للحرامي احلف فقال جاء فرج الله) !! فأي استخفاف هذا باليمين! قال العلامة ابن القيم: [قد ثبت وتقرر أن الإقدام على اليمين يصعب، ويثقل على كثير من الناس، سيما على أهل الدين وذوي المروءات والأقدار، وهذا أمر معتاد بين الناس على ممر الأعصار، لا يمكن جحده. وكذلك روي عن جماعة من الصحابة: أنهم افتدوا أيمانهم، منهم: عثمان، وابن مسعود وغيرهما، وإنما فعلوا ذلك لمروءتهم، ولئلا تسبق الظلمة إليهم إذا حلفوا، فمن يعادي الحالف، ويحب الطعن عليه، يجد طريقاً إلى ذلك، لعظم شأن اليمين وعظم خطرها] الطرق الحكمية1/125.
إذا تقرر هذا فإنه يجوز لمن طلبت منه اليمين أن يفتدي يمينه بالمال على الراجح من أقوال أهل العلم، فقد ثبت افتداء اليمين بالمال عن عدد من الصحابة رضوان الله عليهم، فقد روى الطبراني بإسناد جيد عن جبير بن مطعم رضي الله عنه أنه افتدى يمينه بعشرة آلاف درهم ثم قال: ورب الكعبة لو حلفت، حلفتُ صادقاً وإنما هو شيء افتديت به يميني. ورواه أيضاً الدارقطني في السنن. وروى عبد الرزاق في المصنف عن معمر قال: سئل الزهري عن الرجل يقع عليه اليمين، فيريد أن يفتدي يمينه، قال: قد كان يُفعل، قد افتدى عبيد السهام - صحابي اسمه عبيد بن سليم الأنصاري الأوسي ويقال له عبيد السهام لأنه كان اشترى من سهام خيبر ثمانية عشر سهماً فقيل له ذلك كما في الإصابة- في إمارة مروان، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة كثير، افتدى يمينه بعشرة آلاف. وروى عبد الرزاق في المصنف أيضاً عن الأسود بن قيس عن رجل من قومه، قال: عرف حذيفة بعيراً له مع رجل، فخاصمه، فقضي لحذيفة بالبعير، وقضى عليه باليمين، فقال حذيفة: افتدي يمينك بعشرة دراهم، فأبى الرجل، فقال له حذيفة: بعشرين، فأبى، قال: فبثلاثين، قال: فأبى، قال: فبأربعين، فأبى الرجل، فقال حذيفة: أتظن أني لا أحلف على مالي، فحلف عليه حذيفة. وروى البيهقي في كتاب المعرفة في كتاب أدب القاضي عن الإمام الشافعي قال: بلغني أن عثمان بن عفان رُدت عليه اليمين فافتداها بمال، وقال: أخاف أن يوافق قدر بلاء، فيقال: هذا بيمينه. وقال البيهقي في آخر الباب وفي كتاب المستخرج لأبي الوليد بإسناد صحيح عن الشعبي: وفيه إرسال، أن رجلاً استقرض من عثمان بن عفان سبعة آلاف درهم، فلما تقاضاه، قال له: إنما هي أربعة آلاف، فخاصمه إلى عمر، فقال: تحلف أنها سبعة آلاف؟ فقال عمر: أنصفك، فأبى عثمان أن يحلف، فقال له عمر: خذ ما أعطاك. وروى الإمام البخاري بسنده عن أبي قلابة حديثاً طويلاً وفيه: (وقد كانت هذيل خلعوا خليعاً لهم في الجاهلية، فطرق أهل بيت من اليمن بالبطحاء، فانتبه له رجل منهم، فحذفه بالسيف فقتله، فجاءت هذيل فأخذوا اليماني، فرفعوه إلى عمر بالموسم وقالوا: قتل صاحبنا، فقال: إنهم قد خلعوه، فقال: يقسم خمسون من هذيل ما خلعوه، قال: فأقسم منهم تسعة وأربعون رجلاً، وقدم رجل منهم من الشام، فسألوه أن يقسم، فافتدى يمينه منهم بألف درهم، فأدخلوا مكانه رجلاً آخر، فدفعه إلى أخي المقتول، فقرنت يده بيده، قالوا فانطلقنا والخمسون الذين أقسموا حتى إذا كانوا بنخلة أخذتهم السماء - أي المطر- فدخلوا في غار في الجبل، فانهجم الغار على الخمسين الذين أقسموا، فماتوا جميعاً وأفلت القرينان وأتبعهما حجر فكسر رجل أخي المقتول فعاش حولاً ثم مات) .
وقد اختلف أهل العلم في أيهما أولى الحلف أم افتداء اليمين؟ والذي أرجحه هو افتداء اليمين، قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [واختلف في الأولى، فقال قوم: الحلف أولى من افتداء يمينه; لأن عمر حلف; ولأن في الحلف فائدتين; إحداهما، حفظ ماله عن الضياع، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعته. والثانية، تخليص أخيه الظالم من ظلمه، وأكل المال بغير حقه، وهذا من نصيحته ونصرته بكفه عن ظلمه، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم على رجلٍ أن يحلف ويأخذ حقه. وقال أصحابنا: الأفضل افتداء يمينه; فإن عثمان افتدى يمينه، وقال: خفت أن تصادف قدراً، فيقال حلف فعوقب، أو هذا شؤم يمينه. وروى الخلال بإسناده، أن حذيفة عرف جملاً سرق له، فخاصم فيه إلى قاضي المسلمين، فصارت اليمين على حذيفة فقال: لك عشرة دراهم. فأبى، فقال لك عشرون، فأبى، فقال: لك ثلاثون، فأبى، فقال: لك أربعون، فأبى، فقال حذيفة: أتراني أترك جملي؟ فحلف بالله أنه له ما باع ولا وهب. ولأن في اليمين عند الحاكم تبذلاً، ولا يأمن أن يصادف قدراً، فينسب إلى الكذب، وأنه عوقب بحلفه كاذباً، وفي ذهاب ماله له أجر، وليس هذا تضييعاً للمال، فإن أخاه المسلم ينتفع به في الدنيا ويغرمه له في الآخرة. وأما عمر، فإنه خاف الاستنان به، وترك الناس الحلف على حقوقهم، فيدل على أنه لولا ذلك، لما حلف، وهذا أولى، والله تعالى أعلم.] المغني 10 208-209. ويؤيد ترجيح افتداء اليمين أن في ذلك [صون عرضه وهو مستحسن عقلاً وشرعاً، ولأنه لو حلف يقع في القيل والقال، فإن الناس بين مصدقٍ ومكذب، فإذا افتدى بيمينه فقد صان عرضه وهو حسن.] البحر الرائق. ويؤيده أيضاً ما ورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ذبوا عن أعراضكم بأموالكم) صححه العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة 3 /445، وفي صحيح الجامع 1/644.
وخلاصة الأمر أن شأن اليمين عظيم وينبغي التورع منها والخوف منها، وإذا طلب اليمين من شخص فحلف وهو صادق في يمينه فلا حرج عليه، ويجوز لمن طُلبت منه اليمين أن يفتدي يمينه بالمال على الراجح من أقوال أهل العلم، لثبوت افتداء اليمين بالمال عن عدد من الصحابة رضوان الله عليهم. وإذا قبل المدعي افتداء اليمين من المدَّعى عليه فإن حقه في اليمين يسقط ولا تقبل مطالبته باليمين بعد ذلك، لأن القاعدة الفقهية تقول الساقط لا يعود، يعني إذا أسقط شخصٌ حقاً من الحقوق التي يجوز إسقاطها، يسقط ذلك الحق وبعد إسقاطه لا يعود.(13/2)
3 - الحلف على ترك التدخين
يقول السائل: إنَه مدخن شره وقد حلف يميناً بالله العظيم ليلزم نفسه على ترك التدخين ولكنه لم يستطع ترك الدخان ورجع إلى التدخين فماذا يلزمه في هذه الحالة، أفيدونا؟
الجواب: لا شك أن الدخان خبيث من الخبائث، وإن أبى بعض المدخنين ذلك، كما أنّ التدخين حرام على الصحيح من أقوال أهل العلم، وإن أبى بعض المشايخ المدخنين ذلك، وخاصَة الذين يزعمون أنّ التدخين مباح من المباحات، فقولهم هذا قول ساقط متهافت، ولا قيمة له بعد أن اتفقت المصادر الطبيّة والعلمية والصحيَة على ضرر التدخين المتحقق على صحة المدخن وعلى نفسيّته وعلى ماله وعلى صحة من حوله، وأضرار التدخين على المجتمع بشكل عام، بل إنَ التدخين أشد فتكاً بالإنسان من مرض الإيدز، وقد اتفقت الهيئات العلمية والمجامع الطبيّة والصحيّة على أضرار التدخين، وقرّرت أنَه سبب رئيس للسرطان وتليف الكبد وأمراض الشريان التاجي والذبحة الصدريّة وسرطان الفم وغيرها من الأمراض الخبيثة، وهذا ما أكّده أهل الخبرة والاختصاص من الأطباء والكيميائيين وغيرهم، فالدخان يتكوّن من مجموعة كثيرة من المواد، منها أكثر من خمسة عشر نوعاً من السموم الفتّاكة كالنيكوتين الذي يعد من السموم القوية والفعّالة وله أثر سيء على الكلية والجهاز العصبي والدم، ومنها أوّل أكسيد الكربون وهو معروف بتأثيره السام وله تأثير سيء على الدم، ومنها القطران وهو المادة اللزجة الصفراء التي تؤدي إلى اصفرار أسنان المدخن ونخرها، وإلى التهابات اللثة، وهو أخطر محتويات الدخان على الصحة ويسبب السرطان والتهابات الشعب الهوائية وغير ذلك من المواد الضارة التي تلحق الضرر والأذى بصحة المدخن. فالتدخين يضر بالفم وبالشفاه واللثة والأسنان واللسان واللوزتين والجهاز الهضمي والجهاز التنفسي والأعصاب والدورة الدموية والجهاز البولي، كما أن للتدخين ضرراً على النسل لذلك تُنصح الحوامل بعدم التدخين وما كان ضرره كذلك فلا شك في حرمته، لأن الإسلام يحرم كل خبيث وضار، وصدق الله العظيم إذ يقول: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} سورة الأعراف الآية 127. وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم إذ يقول: (لا ضرر ولا ضرار) رواه أحمد وابن ماجة والطبراني وهو حديث صحيح، كما قال العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة حديث رقم 250. والأدلة على تحريم التدخين كثيرة وليس هذا محل ذكرها. إذا تقرر تحريم التدخين فإن الواجب على المدخن أن يقلع عن هذه المعصية، وأن يترك التدخين، وترك التدخين يحتاج إلى عزيمة صادقة وإرادة قوية، وليس الأمر كما يزعم كثير من المدخنين أنهم لا يستطيعون تركه، فهذا هراء، فالإرادة القوية تلعب دوراً مهماً في السيطرة والتخلص من العادات السلبية التي تضرُّ بصحة الإنسان، ومنها عادة التدخين. وتشكل عزيمة الإنسان الصادقة نقطة البداية في ترك التدخين، ولا بد أن يقتنع المدخن أولاً بضرر الدخان الحقيقي على صحته وماله، حتى يسهل عليه تركه، ثم يعزم على ذلك مع الصبر ومخالفة الهوى، مع العلم أنه يوجد اليوم أساليب علمية تساعد في الإقلاع عن التدخين.
وبعد هذا البيان الموجز لحكم التدخين وضرره أعود إلى السؤال فأقول: يجب على من حلف بالله تعالى ليلزم نفسه بترك الدخان أن يبر بيمينه، فيمتنع عن التدخين، وقد قرر الفقهاء أن من حلف على ترك معصية من المعاصي كالحلف على ترك التدخين فيلزمه البر بيمينه شرعاً، يقول الله تعالى: {ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها} سورة النحل الآية91. فإن لم يفعل أي لم يترك التدخين فقد حنث بيمينه وتلزمه كفارة اليمين، يقول الله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْءَايَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} سورة المائدة الآية 89. وكفارة اليمين هي إطعام عشرة مساكين أو كسوة عشرة مساكين أو عتق رقبة على التخيير، أي أنَ الحالف يختار واحدة من هذه الخصال الثلاث، فإذا كان فقيراً عاجزاً عن التكفير بإحدى هذه الخصال فإنه يصوم ثلاثة أيام. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: [ ... الذي يحلف على فعل ما يجب عليه، من الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، وطاعة السلطان، ومناصحته وترك الخروج، ومحاربته، وقضاء الدَّين الذي عليه، وأداء الحقوق إلى مستحقيها والامتناع من الظلم والفواحش، وغير ذلك، فهذه الأمور كانت قبل اليمين واجبة، وهي بعد اليمين أوجب، وما كان محرماً قبل اليمين فهو بعد اليمين أشد تحريماً، ولهذا كان الصحابة، رضي الله عنهم يبايعون النبي صلى الله عليه وسلم على طاعته والجهاد معه، وذلك واجب عليهم ولو لم يبايعوه، فالبيعة أكدته، وليس لأحد أن ينقض مثل هذا العقد) . مجموع الفتاوى 33/145.
ومن الجديد بالذكر أن من نذر نذراً ليلزم نفسه فعل شيء أو تركه، كأن قال المدخن لئن رجعت إلى التدخين لأتصدقن بمئة دينار مثلاً، فهذا له حكم اليمين، لأن النذر يمين، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصه فلا يعصه) رواه البخاري، فالواجب الوفاء بهذا النذر فإن لم يف بنذره لزمته كفارة يمين. ومما يدل على لزوم الكفارة عند عدم الوفاء بالنذر، عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (كفارة النذر كفارة اليمين) رواه مسلم، قال الإمام النووي: [قوله صلى الله عليه وسلم: (كفارة النذر كفارة اليمين) اختلف العلماء في المراد به، فحمله جمهور أصحابنا على نذر اللجاج، وهو أن يقول إنسان يريد الامتناع من كلام زيد مثلاً: إن كلمت زيداً مثلاً فلله عليَّ حجة أو غيرها , فيكلمه فهو بالخيار بين كفارة يمين وبين ما التزمه , هذا هو الصحيح في مذهبنا , وحمله مالك وكثيرون أو الأكثرون على النذر المطلق، كقوله: عليَّ نذر، وحمله أحمد وبعض أصحابنا على نذر المعصية، كمن نذر أن يشرب الخمر، وحمله جماعة من فقهاء أصحاب الحديث على جميع أنواع النذر، وقالوا: هو مخير في جميع النذورات بين الوفاء بما التزم، وبين كفارة يمين] شرح النووي على صحيح مسلم 4/269.
ويؤيد ذلك ما ورد في الحديث عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما النذر يمين، كفارتها كفارة يمين) أخرجه أحمد وصححه العلامة الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة حديث رقم 2860. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (النذر نذران: فما كان لله فكفارته الوفاء، وما كان للشيطان فلا وفاء فيه، وعليه كفارة يمين) رواه النسائي والبيهقي وغيرهما وصححه العلامة الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة حديث رقم 479.
وأخيراً أنبه على أن الحلف لا يكون إلا بالله أو بأسمائه وصفاته فقط ولا يجوز الحلف بغير الله عز وجل، فالحلف أو القسم المشروع لا يكون إلا بالله سبحانه وتعالى أو باسم من أسمائه أو صفة من صفاته وما عدا ذلك لا يجوز الحلف به. وقد علَّل أهل العلم عدم جواز الحلف إلا بالله لأن الحلف يقتضي تعظيم المحلوف به والعظمة إنما هي لله وحده، فلا يحلف إلا بالله وأسمائه وصفاته. فالحلف بغير الله حرام، سواء حلف بما هو معظم شرعاً كالحلف بالكعبة أو بالصلاة أو الصيام أو المسجد أو غيرها أو حلف بحياة فلان أو حلف بأبيه أو أمه أو حلف بحياة الملك أو حياة الرئيس أو غير ذلك، فكله حلف محرم، والأدلة على ذلك كثيرة منها: قوله صلى الله عليه وسلم: (من كان حالفاً فلا يحلف إلا بالله) رواه مسلم، فهذا الحديث يدل دلالة صريحة على قصر الحلف بالله فقط، وعن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو يحلف بأبيه فقال: (إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت) رواه البخاري ومسلم، وعن سعد بن عبيدة أن ابن عمر سمع رجلاً يقول: (لا والكعبة. فقال ابن عمر: لا تحلف بغير الله فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من حلف بغير الله فقد أشرك) ، وفي رواية (فقد كفر) ، رواه أبو داود والترمذي وأحمد وابن حبان والحاكم وغيرهم وحسنه الترمذي وصححه ابن حبان والحاكم ووافقه الذهبي، وصححه العلامة الألباني في إرواء الغليل حديث رقم 2561. وكذلك النذر فلا بد أن يكون لله عز وجل، فقد ورد في الحديث عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا نذر إلا فيما ابتغي به وجه الله) رواه أبو داود والحاكم وحسنه العلامة الألباني في صحيح الجامع حديث رقم 13479. وعن ثابت بن الضحاك (أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني نذرت أن أنحر إبلاً ببوانة، فقال: أكان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ قالوا: لا، قال: فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟ قالوا: لا، قال: أوف بنذرك، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم) رواه أبو داود وابن ماجة وصححه العلامة الألباني في صحيح سنن ابن ماجة 1732، وبوانة مكان قريب من مكة المكرمة.
وخلاصة الأمر أن الدخان من الخبائث وأن التدخين حرام شرعاً على الصحيح من أقوال أهل العلم، وأن من حلف على ترك التدخين فيلزمه البر بيمينه، فإن لم يفعل لزمته كفارة اليمين.(13/3)
4 - استبدال المنذور بخير منه
يقول السائل: إنه نذر أن يذبح عجلاً لله تعالى ويوزعه على الفقراء فهل يجوز له أن يستبدله بخروف لأن لحم الخروف أطيب، أفيدونا؟
الجواب: النذر عند العلماء هو أن يلزم المكلف نفسه بقربة لم يلزمه بها الشارع الحكيم، والوفاء بالنذر واجب لقوله تعالى: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} ولقوله صلى الله عليه وسلم: (من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصه فلا يعصه) رواه البخاري وغيره.
والأصل أنّ الناذر يفي بنذره كما نذر فمن نذر ذبح شاة فيلزمه أن يذبح شاة، ومن نذر صلاة لزمه أن يصليها، ومن نذر مبلغاً من المال لزمه إخراجه وهكذا، ومن أهل العلم من يرى أنه يجوز استبدال المنذور بأفضل منه أو استبداله لمصلحة راجحة ,وهو قول وجيه جداً وبه قال فقهاء الحنفية واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال: [مسألة: في الواقف والناذر يوقف شيئاً؛ ثم يرى غيره أحظ للموقوف عليه منه هل يجوز إبداله؛ كما في الأضحية؟ فأجاب: وأما إبدال المنذور والموقوف بخير منه كما في إبدال الهدي: فهذا نوعان: أحدهما: أن الإبدال للحاجة مثل أن يتعطل فيباع ويشترى بثمنه ما يقوم مقامه: كالفرس الحبيس للغزو إذا لم يمكن الانتفاع به للغزو فإنه يباع ويشترى بثمنه ما يقوم مقامه، والمسجد إذا خرب ما حوله فتنقل آلته إلى مكان آخر. أو يباع ويشترى بثمنه ما يقوم مقامه أو لا يمكن الانتفاع بالموقوف عليه من مقصود الواقف فيباع ويشترى بثمنه ما يقوم مقامه. وإذا خرب ولم تمكن عمارته فتباع العرصة، ويشترى بثمنها ما يقوم مقامها: فهذا كله جائز؛ فإن الأصل إذا لم يحصل به المقصود قام بدله مقامه.
والثاني: الإبدال لمصلحة راجحة مثل أن يبدل الهدي بخير منه، ومثل المسجد إذا بني بدله مسجد آخر أصلح لأهل البلد منه، وبيع الأول: فهذا ونحوه جائز عند أحمد وغيره من العلماء. واحتج أحمد بأن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - نقل مسجد الكوفة القديم إلى مكان آخر؛ وصار الأول سوقاً للتمارين فهذا إبدال لعرصة المسجد. وأما إبدال بنائه ببناء آخر، فإن عمر وعثمان بنيا مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بناءً غير بنائه الأول وزادا فيه؛ وكذلك المسجد الحرام فقد ثبت في الصحيحين (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لنقضت الكعبة، ولألصقتها بالأرض؛ ولجعلت لها بابين باباً يدخل الناس منه، وباباً يخرج الناس نه) . فلولا المعارض الراجح لكان النبي صلى الله عليه وسلم يغير بناء الكعبة. فيجوز تغيير بناء الوقف من صورة إلى صورة؛ لأجل المصلحة الراجحة.... لكن النصوص والآثار والقياس تقتضي جواز الإبدال للمصلحة.] مجموع فتاوى شيخ الإسلام 31/252-253. ومما يدل على جواز استبدال المنذور بأفضل منه ما ورد في الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (إن امرأة اشتكت شكوى فقالت: إن شفاني الله لأخرجن فلأصلين في بيت المقدس فبرأت ثم تجهزت تريد الخروج فجاءت ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تسلم عليها فأخبرتها ذلك فقالت: اجلسي فكلي ما صنعت وصلي في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول صلاة فيه أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا مسجد الكعبة) رواه مسلم. ويدل عليه ما ورد في الحديث عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رجلاً قام يوم الفتح فقال يا رسول الله: إني نذرت لله إن فتح الله عليك مكة أن أصلي في بيت المقدس ركعتين، قال: صل هاهنا، ثم أعاد عليه فقال: صل هاهنا، ثم أعاد عليه فقال: شأنك إذن) رواه أبو داود والحاكم وصححه، وصححه العلامة الألباني في إرواء الغليل 8/222، وورد في رواية أخرى عند الإمام أحمد في المسند (عن عمر بن عبد الرحمن بن عوف وعن رجال من الأنصار من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلاً من الأنصار جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح والنبي صلى الله عليه وسلم في مجلس قريب من المقام فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال يا نبي الله إني نذرت لئن فتح الله للنبي والمؤمنين مكة لأصلين في بيت المقدس وإني وجدت رجلاً من أهل الشام هاهنا في قريش مقبلاً معي ومدبراً فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هاهنا فصلّ ,فقال الرجل قوله هذا ثلاث مرات كل ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم هاهنا فصلّ ,ثم قال الرابعة مقالته هذه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اذهب فصل فيه فوالذي بعث محمداً بالحق لو صليت هاهنا لقضى عنك ذلك كل صلاة في بيت المقدس) ، قال الشوكاني [قوله: (صلّ ههنا) فيه دليل على أنّ من نذر بصلاة أو صدقة أو نحوهما في مكان ليس بأفضل من مكان الناذر فإنه لا يجب عليه الوفاء بإيقاع المنذور به في ذلك المكان بل يكون الوفاء بالفعل في مكان الناذر وقد تقدم أنه صلى الله عليه وآله وسلم أمر الناذر بأن ينحر ببوانة يفي بنذره بعد أن سأله هل كانت كذا هل كانت كذا فدل ذلك على أنه يتعين مكان النذر ما لم يكن معصية ولكن الجمع بين ما هنا وما هناك أن المكان لا يتعين حتماً بل يجوز فعل المنذور به في غيره فيكون ما هنا بياناً للجواز ويمكن الجمع بأنه يتعين مكان النذر إذا كان مساوياً للمكان الذي فيه الناذر أو أفضل منه لا إذا كان المكان الذي فيه الناذر فوقه في الفضيلة ويشعر بهذا ما في حديث ميمونة من تعليل ما أفتت به ببيان أفضلية المكان الذي فيه الناذرة في الشيء المنذور به وهو الصلاة.] نيل الأوطار 8/285-286. ويدل لذلك أيضاً ما جاء في الحديث عن أبيّ بن كعب ,قال: بعثني النبي صلى الله عليه وسلم مصدقاً فمررت برجل فلما جمع لي ماله لم أجد عليه فيه إلا - ناقة - ابنة مخاض فقلت له أدِ ابنة مخاض فإنها صدقتك، فقال: ذاك ما لا لبن فيه ولا ظهر ولكن هذه ناقة فتية عظيمة سمينة فخذها فقلت له ما أنا بآخذ ما لم أؤمر به وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم منك قريب فإن أحببت أن تأتيه فتعرض عليه ما عرضت علي فافعل فإن قبله منك قبلته وإن رده عليك رددته، قال فإني فاعل فخرج معي وخرج بالناقة التي عرض عليَّ حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له يا نبي الله أتاني رسولك ليأخذ مني صدقة مالي وأيم الله ما قام في مالي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا رسوله قط قبله فجمعت له مالي فزعم أن ما عليَّ فيه ابنة مخاض وذلك ما لا لبن فيه ولا ظهر وقد عرضت عليه ناقة فتية عظيمة ليأخذها فأبى عليَّ وها هي ذه قد جئتك بها يا رسول الله خذها فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ذاك الذي عليك فإن تطوعت بخير آجرك الله فيه وقبلناه منك قال فها هي ذه يا رسول الله قد جئتك بها فخذها قال: فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبضها ودعا له في ماله بالبركة) رواه أحمد وأبو داود، وقال العلامة الألباني حديث حسن كما في صحيح سنن أبي داود 1/298. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: [وما في هذا الحديث من إجزاء سن أعلا من الواجب مذهب عامة أهل العلم الفقهاء المشهورين وغيرهم. فقد ثبت أن إبدال الواجب بخير منه جائز بل يستحب فيما وجب بإيجاب الشرع وبإيجاب العبد. ولا فرق بين الواجب في الذمة وما أوجبه معيناً؛ فإنما وجب في الذمة وإن كان مطلقاً من وجه فإنه مخصوص متميز عن غيره؛ ولهذا لم يكن له إبداله بدونه بلا ريب. وعلى هذا، فلو نذر أن يقف شيئاً فوقف خيراً منه كان أفضل، فلو نذر أن يبني لله مسجداً وصفه، أو يقف وقفاً وصفه. فبنى مسجداً خيراً منه، ووقف وقفاً خيراً منه كان أفضل. ولو عيّنه، فقال: لله علي أن أبني هذه الدار مسجداً أو وقفها على الفقراء والمساكين. فبنى خيراً منها، ووقف خيراً منها، كان أفضل، كالذي نذر الصلاة بالمسجد الأقصى وصلى في المسجد الحرام، أو كانت عليه بنت مخاض فأدى خيراً منها.] مجموع فتاوى شيخ الإسلام 31/249.
وخلاصة الأمر أنه يجوز استبدال المنذور بخير منه وبأفضل منه إذا كان في استبداله مصلحة راجحة ولا يجوز استبداله بأقل منه فلا يجوز استبدال العجل بخروف كما في ورد السؤال.(13/4)
5 - يحرم الوفاء بنذر المعصية
يقول السائل: إنه نذر أن يرتكب الفاحشة مع امرأة ثم ندم على ما صدر منه ويريد أن يتراجع عما نذر فما الحكم في ذلك؟
الجواب: إنّ ما صدر عن السائل يسمى عند العلماء نذر المعصية ومجرد التلفظ بنذر المعاصي والآثام يعد ذنباً ومعصية لله تعالى , وقد اتفق أهل العلم على أنه يحرم الوفاء بنذر المعصية لما ثبت في الحديث من قول النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصه فلا يعصه) رواه البخاري
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في شرح الحديث: [ ... والخبر صريح في الأمر بوفاء النذر إذا كان في طاعة وفي النهي عن الوفاء به إذا كان في معصية] فتح الباري 11/709.
وروى الإمام مسلم بإسناده عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال (كانت ثقيف حلفاء لبني عقيل فأسرت ثقيف رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من بني عقيل وأصابوا معه العضباء – اسم لناقة الرجل المأسور - فأتى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الوثاق قال يا محمد فأتاه فقال ما شأنك؟ فقال بم أخذتني وبم أخذت سابقة الحاج؟ – أي ناقته - فقال إعظاماً لذلك أخذتك بجريرة حلفائك ثقيف ثم انصرف عنه فناداه فقال يا محمد يا محمد وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيماً رقيقاً فرجع إليه فقال ما شأنك؟ قال إني مسلم قال لو قلتها وأنت تملك أمرك أفلحت كل الفلاح ثم انصرف فناداه فقال يا محمد يا محمد فأتاه فقال ما شأنك؟ قال إني جائع فأطعمني وظمآن فأسقني قال هذه حاجتك ففدي بالرجلين. قال وأسرت امرأة من الأنصار وأصيبت العضباء فكانت المرأة في الوثاق وكان القوم يريحون نعمهم بين يدي بيوتهم فانفلتت ذات ليلة من الوثاق فأتت الإبل فجعلت إذا دنت من البعير رغا فتتركه حتى تنتهي إلى العضباء فلم ترغ قال وناقة منوقة - أي مذللة - فقعدت في عجزها ثم زجرتها فانطلقت ونذروا بها فطلبوها فأعجزتهم قال ونذرت لله إن نجاها الله عليها لتنحرنها فلما قدمت المدينة رآها الناس فقالوا العضباء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت إنها نذرت إن نجاها الله عليها لتنحرنها فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له فقال: سبحان الله بئسما جزتها نذرت لله إن نجاها الله عليها لتنحرنها لا وفاء لنذر في معصية ولا فيما لا يملك لعبد)
وعن عمران بن حصين رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا نذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم) رواه النسائي وابن ماجة وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في صحيح سنن النسائي 2/ 807.
وغير ذلك من الأحاديث. وبهذا يظهر لنا أنه يحرم الوفاء بنذر المعصية باتفاق أهل العلم ولكن يلزم الناذر كفارة يمين على الراجح من أقوال أهل العلم ليكفر ذنبه لأنه نذر ما هو حرام شرعاً
قال الشيخ ابن قدامة المقدسي [نذر المعصية فلا يحل الوفاء به إجماعاً ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من نذر أن يعصي الله فلا يعصه) ولأن معصية الله تعالى لا تحل في حال ويجب على الناذر كفارة يمين روي نحو هذا عن ابن مسعود وابن عباس , وجابر وعمران بن حصين وسمرة بن جندب وبه قال الثوري , وأبو حنيفة وأصحابه ...
ووجه الأول ما روت عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا نذر في معصية , وكفارته كفارة يمين) رواه الإمام أحمد في " مسنده " وأبو داود , في " سننه " وقال الترمذي: هو حديث غريب وعن أبي هريرة وعمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله روى الجوزجاني , بإسناده عن عمران بن حصين قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (النذر نذران فما كان من نذر في طاعة الله فذلك لله , وفيه الوفاء وما كان من نذر في معصية الله فلا وفاء فيه , ويكفره ما يكفر اليمين) وهذا نص ولأن النذر يمين بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (النذر حلفة) ، (وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأخت عقبة لما نذرت المشي إلى بيت الله الحرام , فلم تطقه: تكفر يمينها) صحيح أخرجه أبو داود وفي رواية: " ولتصم ثلاثة أيام " قال أحمد: إليه أذهب وقال ابن عباس في التي نذرت ذبح ابنها: كفري يمينك ولو حلف على فعل معصية لزمته الكفارة فكذلك إذا نذرها ... فأما أحاديثهم , فمعناها لا وفاء بالنذر في معصية الله وهذا لا خلاف فيه وقد جاء مصرحاً به هكذا في رواية مسلم ويدل على هذا أيضا أن في سياق الحديث: (ولا يمين في قطيعة رحم) يعني لا يبر فيها ولو لم يبين الكفارة في أحاديثهم فقد بينها في أحاديثنا] المغني 10/5-7
وروى الترمذي بإسناده عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا نذر في معصية الله وكفارته كفارة يمين) قال أبو عيسى - أي الترمذي - هذا حديث غريب وهو أصح من حديث أبي صفوان عن يونس وأبو صفوان هو مكي واسمه عبد الله بن سعيد بن عبد الملك بن مروان وقد روى عنه الحميدي وغير واحد من جلة أهل الحديث وقال قوم من أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم لا نذر في معصية الله وكفارته كفارة يمين وهو قول أحمد وإسحق واحتجا بحديث الزهري عن أبي سلمة عن عائشة] سنن الترمذي مع شرحه التحفة 5/102-103.
وقال المباركفوري [قوله: (وهو قول أحمد وإسحاق) قد اختلف فيمن وقع منه النذر في المعصية هل يجب فيه كفارة , فقال الجمهور لا , وعن أحمد والثوري وإسحاق وبعض الشافعية والحنفية نعم , واتفقوا على تحريم النذر في المعصية , واختلافهم إنما هو في وجوب الكفارة , واحتج من أوجبها بأحاديث الباب (وهو قول مالك والشافعي) وهو قول الجمهور , وأجابوا عن أحاديث ضعيفة. قلت: والظاهر أنها بتعددها وتعدد طرقها تصلح للاحتجاج والله تعالى أعلم..] تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي 5/103.
وحديث عائشة المذكور رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة وقد اختلف فيه أهل الحديث فضعفه بعضهم وصححه آخرون وممن صححه العلامة الألباني فقد تكلم عليه طويلاً في إرواء الغليل وذكر أن إحدى روايات النسائي سندها متصل صحيح رجاله كلهم ثقات رجال الشيخين ما عدا راوٍ وهو ثقة. ثم ذكر العلامة الألباني شاهداً صحيحاً للحديث رواه ابن الجارود ولفظه (النذر نذران فما كان لله فكفارته الوفاء , وما كان للشيطان فلا وفاء فيه , وعليه كفارة يمين] انظر إرواء الغليل 8/216-217.
ومما يدل على لزوم الكفارة في نذر المعصية عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم (كفارة النذر كفارة اليمين) رواه مسلم
قال الإمام النووي: [قوله صلى الله عليه وسلم: (كفارة النذر كفارة اليمين) اختلف العلماء في المراد به , فحمله جمهور أصحابنا على نذر اللجاج , وهو أن يقول إنسان يريد الامتناع من كلام زيد مثلاً: إن كلمت زيداً مثلاً فلله علي حجة أو غيرها , فيكلمه فهو بالخيار بين كفارة يمين وبين ما التزمه , هذا هو الصحيح في مذهبنا , وحمله مالك وكثيرون أو الأكثرون على النذر المطلق , كقوله: علي نذر , وحمله أحمد وبعض أصحابنا على نذر المعصية , كمن نذر أن يشرب الخمر , وحمله جماعة من فقهاء أصحاب الحديث على جميع أنواع النذر , وقالوا: هو مخير في جميع النذورات بين الوفاء بما التزم , وبين كفارة يمين.] شرح النووي على صحيح مسلم 4/269.
ويؤيده ما ورد في الحديث عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما النذر يمين، كفارتها كفارة يمين) أخرجه أحمد وصححه العلامة الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة حديث رقم 2860.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (النذر نذران: فما كان لله فكفارته الوفاء، وما كان للشيطان فلا وفاء فيه، وعليه كفارة يمين) وصححه العلامة الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة حديث رقم 479.
وقال العلامة ابن القيم [قال الموجبون للكفارة في نذر المعصية - وهم أحمد وإسحاق والثوري وأبو حنيفة وأصحابه - هذه الآثار قد تعددت طرقها. ورواتها ثقات. وحديث عائشة احتج به الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه , وإن كان الزهري لم يسمعه من أبي سلمة , فإن له شواهد تقويه رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم سوى عائشة: جابر وعمران بن حصين وعبد الله بن عمر , قاله الترمذي: وفيه حديث ابن عباس رفعه " من نذر نذرا في معصية , فكفارته كفارة يمين " رواه أبو داود , ورواه ابن الجارود في مسنده , ولفظه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم " النذر نذران: فما كان لله فكفارته الوفاء به , وما كان للشيطان فلا وفاء فيه وعليه كفارة يمين " وروى أبو إسحاق الجوزجاني حديث عمران بن حصين في كتابه المترجم وقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " النذر نذران فما كان من نذر في طاعة الله فذلك لله , وفيه الوفاء , وما كان من نذر في معصية الله فلا وفاء فيه , ويكفره ما يكفر اليمين " وروى الطحاوي بإسناد صحيح عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم " من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه ويكفر عن يمينه , وهو عند البخاري إلا ذكر الكفارة. قال الأشبيلي: وهذا أصح إسنادا , وأحسن من حديث أبي داود - يعني حديث الزهري عن أبي سلمة المتقدم. وفي مصنف عبد الرزاق: عن يحيى بن أبي كثير عن رجل من بني حنيفة , وعن أبي سلمة كلاهما عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا " لا نذر في غضب ولا في معصية الله , وكفارته كفارة يمين " قالوا: وقد روى مسلم في صحيحه من حديث عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " كفارة النذر كفارة اليمين ". وهذا يتناول نذر المعصية من وجهين. أحدهما: أنه عام لم يخص منه نذر دون نذر. الثاني: أنه شبهه باليمين , ومعلوم: أنه لو حلف على المعصية وحنث لزمه كفارة يمين , بل وجوب الكفارة في نذر المعصية أولى منها في يمين المعصية لما سنذكره. قالوا: ووجوب الكفارة قول عبد الله بن مسعود وجابر بن عبد الله , وعمران بن حصين وسمرة بن جندب , ولا يحفظ عن صحابي خلافهم. قالوا: وهب أن هذه الآثار لم تثبت , فالقياس يقتضي وجوب الكفارة فيه , لأن النذر يمين , ولو حلف ليشربن الخمر , أو ليقتلن فلانا , وجبت عليه كفارة اليمين وإن كانت يمين معصية فهكذا إذا نذر المعصية. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم تسمية النذر يمينا - لما قال لأخت عقبة لما نذرت المشي إلى بيت الله فعجزت تكفر يمينها , وهو حديث صحيح وسيأتي. وعن عقبة مرفوعا وموقوفا " النذر حلفة ". وقال ابن عباس في امرأة نذرت ذبح ابنها " كفري يمينك " فدل على أن النذر داخل في مسمى اليمين في لغة من نزل القرآن بلغتهم. وذلك أن حقيقته هي حقيقة اليمين فإنه عقده لله ملتزما له , كما أن الحالف عقد يمينه بالله ملتزما لما حلف عليه , بل ما عقد لله أبلغ وألزم مما عقد به فإن ما عقد به من الأيمان لا يصير باليمين واجبا , فإذا حلف على قربة مستحبة ليفعلنها لم تصر واجبة عليه , وتجزئه الكفارة ولو نذرها وجبت عليه ولم تجزئه الكفارة. فدل على أن الالتزام بالنذر آكد من الالتزام باليمين , فكيف يقال: إذا التزم معصية بيمينه وجبت عليه الكفارة , وإذا التزمها بنذره الذي هو أقوى من اليمين فلا كفارة فيها فلو لم يكن في المسألة إلا هذا وحده لكان كافيا. ومما يدل على أن النذر آكد من اليمين. أن الناذر إذا قال: لله علي أن أفعل كذا فقد عقد نذره بجزمه أيمانه بالله , والتزامه تعظيمه , كما عقدها الحالف بالله كذلك , فهما من هذه الوجوه سواء , والمعنى الذي يقصده الحالف ويقوم بقلبه هو بعينه مقصود للناذر قائم بقلبه ويزيد النذر عليه أنه التزمه لله , فهو ملتزم من وجهين: له , وبه. والحالف إنما التزم ما حلف عليه خاصة , فالمعنى الذي في اليمين داخل في حقيقة النذر فقد تضمن النذر اليمين وزيادة , فإذا وجبت الكفارة في يمين المعصية فهي أولى بأن تجب في نذرها. ولأجل هذه القوة والتأكيد: قال بعض الموجبين للكفارة فيه: إنه إذا نذر المعصية لم يبرأ بفعلها , بل تجب عليه الكفارة عينا , ولو فعلها لقوة النذر , بخلاف ما إذا حلف عليها , فإنه إنما تلزمه الكفارة إذا حنث , لأن اليمين أخف من النذر. وهذا أحد الوجهين لأصحاب أحمد , وتوجيهه ظاهر جدا , فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهاه عن الوفاء بالمعصية , وعين عليه الكفارة عينا , فلا يخرج من عهدة الأمر إلا بأدائهما.] حاشية ابن القيم على سنن أبي داود 9/84-86
وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين: [ولكن نقول: يكفر، يكفر كفارة يمين لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا نذر في معصية الله) وعليه كفارة يمين وهذا الحديث احتج به الإمام أحمد رحمه الله وإسحاق وصححه الطحاوي خلافاً لقول النووي رحمه الله: إنه ضعيف باتفاق المحدثين.
النووي ضعفه لكن الإمام أحمد احتج به واحتجاجه به يدل على صحته عنده وكذلك صححه الطحاوي وهو من الأئمة الذين يعتبر تصحيحهم. وعلى هذا فالحديث صحيح يحتج به، لكن جمهور أهل العلم قالوا: إن نذر المعصية لا كفارة فيه يحرم الوفاء به ولا يكفر واحتجوا بحديث عائشة الذي أشرنا إليه آنفاً وهو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من نذر أن يعصي الله فلا يعصه) ولكن نقول: إنه ما دام قد ورد حديث فيه زيادة وهو صحيح فإنه يجب الأخذ بهذه الزيادة وهي كفارة اليمين. فنقول يكفر ولأن المعنى يقتضي ذلك لأن هذا الرجل نذر نذراً فلم يفعل ونحن نقول: نذره انعقد لأنه ألزم نفسه به ولا يمكن أن يوفي به لأنه معصية وحينئذ يكون نذر نذراً لم يوفه فعليه الكفارة كما لو حلف أن يفعل معصية فإننا نقول له: لا تفعلها وعليك كفارة يمين. فما ذهب إليه الإمام أحمد رحمه الله وإن كان من مفرداته أقرب إلى الصواب بأنه لا يفعل المعصية وعله كفارة يمين] الشرح الممتع على زاد المستقنع 11/430.
وخلاصة الأمر أنه يحرم الوفاء بنذر المعصية باتفاق أهل العلم وتجب الكفارة فيه على أرجح قولي العلماء وكفارة اليمين هي المذكورة في قوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْءَايَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} سورة المائدة الآية 89.(13/5)
6 - الاستثناء في اليمين
يقول السائل: ما صحة أن الإنسان إذا حلف يميناً وقال إن شاء الله ثم حنث بيمنه فلا كفارة عليه أفيدونا؟ الجواب: هذه المسألة تسمى مسألة الاستثناء في اليمين عند الفقهاء والمقصود بالاستثناء في اليمين أن يذكر الحالف لفظ إن شاء الله بعد الحلف أو قبله لا فرق في ذلك. قال شيخ الإسلام ابن تيمية [الاشتراط بالمشيئة: هو استثناء في كلام النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والفقهاء وليس استثناء في العرف النحوي] انظر القواعد والفوائد الأصولية لابن اللحام الحنبلي ص 326.
والاستثناء يؤثر في اليمين والنذر والظهار ونحوها في قول أكثر أهل العلم. والاستثناء مشروع في اليمين ويدل على مشروعيته، ما ورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من حلف فقال إن شاء الله لم يحنث) . رواه أحمد والترمذي وفي رواية أخرى (من حلف فقال إن شاء الله فقد استثنى) .
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حلف فاستثنى فإن شاء مضى وإن شاء ترك غير حنث) رواه النسائي
وفي رواية عند أبي داود عن ابن عمر رضي الله عنهما يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حلف على يمين فقال إن شاء الله فقد استثنى) .
وفي رواية أخرى عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من حلف على يمين فقال إن شاء الله فلا حنث عليه) . والحديث برواياته الختلفة حديث صحيح كما بينه الشيخ الألباني في إرواء الغليل 8/196 فما بعدها، وفي صحيح سنن أبي داود 2/629.
وعن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والله لأغزون قريشًا ثم قال: إن شاء الله ثم قال: والله لأغزون قريشاً ثم قال: إن شاء الله ثم قال: والله لأغزون قريشاً ثم سكت ثم قال: إن شاء الله ثم لم يغزهم) . رواه أبو داود وهو حديث صحيح كما بينه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود 2/633. وغير ذلك من الأحاديث.
وقول إن شاء الله بعد الحلف أو قبله له تأثير في اليمين فهو يحصن الحالف من الإثم ويعفيه من الكفارة ودل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة السابق (لم يحنث) وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر رضي الله عنهما (فلا حنث عليه) .
قال الشوكاني: [قوله: (لم يحنث) فيه دليل على أن التقييد بمشيئة الله مانع من انعقاد اليمين أو يحل انعقادها وقد ذهب إلى ذلك الجمهور وادعى عليه ابن العربي الإجماع قال أجمع المسلمون على أن قوله إن شاء الله يمنع انعقاد اليمين بشرط كونه متصلاً] نيل الأوطار8/248
وقد ذكر الفقهاء عدة شروط حتى يكون الاستثناء مؤثراً في اليمين أولها: أن يجري لفظ إن شاء الله على اللسان ولا تكفي نية الاستثناء لأن الأصل في باب الأيمان والنذور أنها تبنى على اللفظ ولا تكفي النية بالقلب ويدل على ذلك قوله تعالى: { ... فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} سورة مريم الآية 26.
ويدل على ذلك أيضاً ما ورد في الحديث السابق: (من حلف فقال إن شاء الله) والقول يكون باللسان لا بالقلب.
قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [ويشترط أن يستثني بلسانه ولا ينفعه الاستثناء بالقلب في قول عامة أهل العلم منهم الحسن والنخعي ومالك والثوري والأوزاعي والليث والشافعي وإسحاق وأبو ثور وأبو حنيفة وابن المنذر ولا نعلم لهم مخالفاً لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حلف فقال: إن شاء الله) والقول هو النطق ولأن اليمين لا تنعقد بالنية فكذلك الاستثناء] المغني 9/523
وثانيها: أن لا يكون هنالك فاصلٌ زمني بين اليمين وقول إن شاء الله بمعنى أن يكون بينهما اتصال وقتي وهذا على الصحيح من أقوال العلماء خلافاً لابن عباس رضي الله عنهما حيث أجاز الاستثناء المنفصل قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [فإنه يشترط أن يكون الاستثناء متصلاً باليمين , بحيث لا يفصل بينهما كلام أجنبي ولا يسكت بينهما سكوتاً يمكنه الكلام فيه فأما السكوت لانقطاع نفسه أو صوته , أو عيٍ أو عارضٍ من عطسة أو شيء غيرها فلا يمنع صحة الاستثناء وثبوت حكمه , وبهذا قال مالك والشافعي والثوري وأبو عبيد وإسحاق وأصحاب الرأي لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حلف فاستثنى) وهذا يقتضي كونه عقيبه] المغني 9/522 ومن المعلوم أن الفاء تفيد الترتيب والتعقيب في لغة العرب.
وثالثها: أن يقصد الحالف قول إن شاء الله وأما إذا كانت هذه العبارة تجري على لسان الحالف بدون قصد فلا أثر لها حينئذ.
ورابعها: أن الاستثناء لا يصح في الأيمان المتعلقة بحقوق العباد لأن ذلك يؤدي إلى ضياع حقوق العباد فلا يصح لمن حلف يميناً في حق من حقوق العباد أن يستثني وبالتالي يعفي نفسه من الصدق في يمينه لأن اليمين المتعلقة بحقوق العباد يجب أن تكون حسب نية طالب اليمين من خصمٍ أو قاضٍ ونحوهما.
قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [الحال الثاني أن يكون الحالف ظالماً كالذي يستحلفه الحاكم على حق عنده , فهذا ينصرف يمينه إلى ظاهر اللفظ الذي عناه المستحلف ولا ينفع الحالف تأويله وبهذا قال الشافعي ولا نعلم فيه مخالفاً فإن أبا هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يمينك على ما يصدقك به صاحبك) رواه مسلم وأبو داود وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اليمين على نية المستحلف) رواه مسلم , وقالت عائشة رضي الله عنها: (اليمين على ما وقع للمحلوف له) ولأنه لو ساغ التأويل لبطل المعنى المبتغى باليمين إذ مقصودها تخويف الحالف ليرتدع عن الجحود , خوفاً من عاقبة اليمين الكاذبة فمتى ساغ التأويل له انتفى ذلك , وصار التأويل وسيلة إلى جحد الحقوق ولا نعلم في هذا خلافاً] المغني 9/522
وخلاصة الأمر أن الحالف إذا استخدم الاستثناء في يمينه بالشروط التي ذكرتها فإن ذلك يعفيه من الكفارة ولا إثم عليه إن شاء الله تعالى.(13/6)
7 - اليمين الغموس
يقول السائل: ما الحكم الشرعي فيمن يحلف يميناً أنه معيل لوالديه وهناك أحد من إخوته أو أخواته يساعد في الإنفاق عليهما أو على أحدهما؟ وما الحكم فيمن حلف على التصريح المشفوع بالقسم المرفق وما يترتب على ذلك؟ وما الحكم الشرعي فيمن يرسل أحد الأشخاص للمحكمة ويرسل معه الإقرار المرفق ويصادق القاضي على ذلك؟ ونص الإقرار هو: تصريح مشفوع بالقسم أنا الموقع أدناه/ من سكان هوية رقم أصرح بعد القسم بما يلي:
1. أن الاسم المبين أعلاه هو اسمي الحقيقي والتوقيع أدناه توقيعي.
2. إنني المعيل والمنفق الوحيد. لا يوجد أحد غيري يقوم بالإنفاق عليها لم يتقدم أحد غيري بتقديم طلب مماثل.
لذا أقدم هذا القسم القانوني للجهات المعنية. تحريراً في حضر أمامي المصرح المذكور أعلاه وأقسم على ما ورد. والمحكمة غير مسؤولة عما ورد بالقسم.
الجواب: ورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اليمين على نية المستحلف) رواه مسلم وفي رواية أخرى عند مسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يمينك على ما يصادقك عليه صاحبك) .
قال الإمام النووي: [قوله صلى الله عليه وسلم: (يمينك على ما يصادقك عليه صاحبك) وفي رواية: (اليمين على نية المستحلف) المستحلف بكسر اللام وهذا الحديث محمول على الحلف باستحلاف القاضي , فإذا أدعى رجل على رجل حقاً فحلفه القاضي فحلف وورَّى فنوى غير ما نوى القاضي , انعقدت يمينه على ما نواه القاضي ولا تنفعه التورية , وهذا مجمع عليه , ودليله هذا الحديث والإجماع.] شرح النووي على صحيح مسلم 4/280.
وبناءً على ما تقدم فإن لم يكن الحالف هو المعيل فعلاً لوالديه فهذه اليمين التي حلفها يمين محرمة بل كبيرة من الكبائر والعياذ بالله فقد ورد في الحديث عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الكبائر: الإشراك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس واليمين الغموس) . رواه الإمام البخاري في صحيحه. قال الحافظ ابن حجر: [اليمين الغموس.. قيل سميت بذلك لأنها تغمس صاحبها في الإثم ثم في النار] فتح الباري 14/363.
وفي رواية أخرى للحديث السابق قال: (جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ما الكبائر؟ قال: الإشراك بالله. قال: ثم ماذا؟ قال: عقوق الوالدين؟ قال: ثم ماذا؟ قال: اليمين الغموس) قلت- أي أحد رواة الحديث لعامر الشعبي-: [ما اليمين الغموس؟ ال: الذي يقتطع مال امرئ مسلم بيمين صبر هو فيها كاذب] حديث صحيح رواه ابن حبان في صحيحه 12/373. وروى الإمام البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من حلف يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو غضبان) فأنزل الله تصديق ذلك: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا..} إلى آخر الآية. فدخل الأشعث بن قيس فقال: ما حدثكم أبو عبد الرحمن؟ فقالوا: كذا وكذا. قال: فيَّ أنزلت، كان لي بئر في أرض ابن عم لي فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (بينتك أو يمينه فقلت: إذا يحلف عليها يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من حلف على يمين صبر هو فيها فاجر يقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو غضبان) صحيح البخاري مع الفتح 14 / 367. وينبغي التحذير من أن كثيراً من الناس يتساهلون في أمر الأيمان فيقدمون على الحلف متعمدين للكذب وهم لا يعرفون عواقب تلك الأيمان الكاذبة أو يعرفونها ومع ذلك يتلاعبون في الأيمان ويظنون الأمر هيناً وهو عند الله عظيم. يقول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} سورة آل عمران الآية 77 ففي هذه الآية عقوبات لمن يحلف كاذباً متعمداً ليأكل حقوق الناس وهي:
1. لا حظ له في الآخرة ولا نصيب له من رحمة الله.
2. لا يكلمه الله سبحانه وتعالى كلام أنس ولا لطف.
3. يعرض الله عنه يوم القيامة فلا ينظر إليه بعين الرحمة.
4. لا يطهره من الأوزار والذنوب.
5. يعذبه عذاباً أليماً على ما ارتكب من المعاصي.
وقد ورد في أحاديث أخرى عقوبات غير ذلك منها ما ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حلف على يمين وهو فيها فاجر يقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان) رواه أبو داود وابن ماجة وهو حديث صحيح.
وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وسلم: (لا يقتطع رجل حق امرئ مسلم بيمينه إلا حرم الله عليه الجنة وأوجب له النار فقال رجل من القوم: يا رسول الله وإن كان شيئاً يسيراً قال عليه الصلاة والسلام: وإن كان سواكاً من أراك) رواه ابن ماجة وهو حديث صحيح. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس شيء أُطيعَ الله فيه، أعجل ثواباً من صلة الرحم، وليس شيء أعجل عقاباً من البغي وقطيعة الرحم واليمين الفاجرة تدع الديار بلاقع) رواه البيهقي 10/350، وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة 2/706، وبلاقع، جمع بلقع وبلقعة، وهي الأرض القفر التي لا شجر فيها، ذكره الزبيدي ونقل عن بعض العلماء، أن معنى الحديث " أي يفتقر الحالف ويذهب ما في بيته من المال، أو يفرق الله شمله ويغيّر ما أولاه من نعمة " تاج العروس 11/30. وفي رواية أخرى: (إن أعجل الطاعة ثواباً صلة الرحم، وإن أهل البيت ليكونون فجاراً، فتنمو أموالهم، ويكثر عددهم، إذا وصلوا أرحامهم، وإن أعجل المعصية، عقوبة البغي والخيانة، واليمين الغموس يذهب المال ويثقل في الرحم، ويذر الديار بلاقع) رواه الطبراني في الأوسط وقال الشيخ الألباني: إنه صحيح بمجموع طرقه وشواهده. وعن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اليمين الفاجرة تذهب المال) رواه البزار بسند صحيح، كما قاله ابن حجر الهيتمي، الزواجر 2/404.
وخلاصة الأمر أنه لا يجوز شرعاً أن يكذب الحالف من أجل أن يحقق غرضاً مادياً أو غيره من الأغراض فإن الكذب من المحرمات التي تهدي إلى الفجور، وبالتالي إلى النار، كما ورد في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة وإن الرجل ليصدق حتى يكون صديقاً وإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذاباً) وإذا ترتب على الكذب أمر آخر فيكون أكثر حرمة، حيث أضيف إلى حرمة الكذب حرمة التزوير والتدليس، ولا يجوز أن يجتمع في المسلم واحدة من هذه الخصال. فيحرم على الشخص أن يحلف اليمين المذكور في النص أو يرسله موقعاً إلى المحكمة إلا إذا كان صادقاً.(13/7)
8 - معاهدة الله
يقول السائل: إذا عاهد شخص الله جل جلاله على أن يقوم بعمل ما أو يكف عن عمل ما ثم نقض عهده فهل يكون منافقاً تنطبق عليه الآيات الواردة في الذين ينقضون عهد الله؟
الجواب: وردت آيات عديدة في عهد الله أو معاهدة الله سبحانه وتعالى ومنها قوله تعالى: (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ) سورة البقرة الآية 27.
ومنها قوله تعالى: (إن الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) سورة آل عمران الآية 77.
ومنها قوله تعالى: (وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْءَاتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فلما ءاتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون) سورة التوبة الآيات 75 -77. وغير ذلك من الآيات.
قال الراغب الأصفهاني: (… وعهد الله تارة يكون بما ركزه في عقولنا وتارة يكون بما أمرنا به بالكتاب وبالسنة رسله وتارة بما نلتزمه وليس بلازم في أصل الشرع كالنذور وما يجري مجراها وعلى هذا قوله: (وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ) - (أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ) - (وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ) ] المفردات في غريب القرآن ص350.
وقال العلامة الألوسي في تفسير قوله تعالى:: (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ) [والمراد بالعهد ها هنا إما العهد المأخوذ بالعقل وهو الحجة القائمة على عباده تعالى الدالة على وجوده ووحدته وصدق رسله صلى الله تعالى عليهم وسلم وفي نقضها لهم ما لا يخفى من الذم لأنهم نقضوا ما أبرمه الله تعالى من الأدلة التي كررها عليهم في الأنفس والآفاق وبعث الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأنزل الكتب مؤكداً لها والناقضون على هذا جميع الكفار.
وأما المأخوذ من جهة الرسل على الأمم بأنهم إذا بعث إليهم رسول مصدق بالمعجزات صدقوه واتبعوه ولم يكتموا أمره. وذكره في الكتب المتقدمة ولم يخالفوا حكمه. والناقضون حيئذ أهل الكتاب والمنافقون منهم حيث نبذوا كل ذلك وراء ظهورهم وبدلوا تبديلاً والنقض على هذا عند بعضهم أشنع منه على الأول وعكس بعض - ولكل جهة - وقيل: الأمانة التي حملها الإنسان بعد إباء السماوات والأرض عن أن يحملنها وقيل: هو ما أخذ على بني إسرائيل من أن لا يسفكوا دماءهم ولا يخرجوا أنفسهم من ديارهم إلى غير ذلك من الأقوال وهي مبنية على الاختلاف في سبب النزول والظاهر العموم] روح المعاني 1/112-113.
وقد قرر العلماء أن من عاهد الله سبحانه وتعالى ثم نقض عهده فقد ارتكب معصية من المعاصي وينطبق عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا أؤتمن خان) رواه البخاري ومسلم.
وجاء في رواية أخرى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها، إذا أؤتمن خان وإذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر) رواه البخاري ومسلم.
قال الإمام النووي في شرح الحديث السابق: [هذا الحديث مما عده جماعة من العلماء مشكلاً من حيث إن هذه الخصال توجد في المسلم المصدق الذي ليس فيه شك. وقد أجمع العلماء على أن من كان مصدقاً بقلبه ولسانه وفعل هذه الخصال لا يحكم عليه بكفر ولا هو منافق يخلد في النار فإن إخوة يوسف صلى الله عليه وسلم جمعوا هذه الخصال. وكذا وجد لبعض السلف والعلماء بعض هذا أو كله. وهذا الحديث ليس فيه بحمد الله تعالى إشكال ولكن اختلف العلماء في معناه. فالذي قاله المحققون والأكثرون وهو الصحيح المختار أن معناه أن هذه الخصال خصال نفاق وصاحبها شبيه بالمنافقين في هذه الخصال ومتخلق بأخلاقهم فإن النفاق هو إظهار ما يبطن خلافه وهذا المعنى الموجود في صاحب هذه الخصال ويكون نفاقه في حق من حدثه ووعده وأئتمنه وخاصمه وعاهده من الناس لا أنه منافق في الإسلام فيظهره وهو يبطن الكفر. ولم يرد النبي صلى الله عليه وسلم بهذا أنه منافق نفاق الكفار المخلدين في الدرك الأسفل من النار وقوله صلى الله عليه وسلم: كان منافقاً خالصاً معناه شديد الشبه بالمنافقين بسبب هذه الخصال. قال بعض العلماء: وهذا فيمن كانت هذه الخصال غالباً عليه. فأما من يندر ذلك منه فليس داخلاً فيه. فهذا هو المختار في معنى الحديث. وقد نقل الإمام أبو عيسى الترمذي رضي الله عنه معناه عن العلماء مطلقاً فقال: إنما معنى هذا عند أهل العمل نفاق العمل. وقال جماعة من العلماء: المراد به المنافقون الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فحدثوا بإيمانهم وكذبوا واؤتمنوا على دينهم فخانوا ووعدوا في أمر الدين ونصره فأخلفوا وفجروا في خصوماتهم. وهذا قول سعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح ورجع إليه الحسن اليصري رحمه الله بعد أن كان على خلافه وهو مروي عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم. وروياه أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم قال القاضي عياض رحمه الله وإليه مال كثير من أئمتنا وحكى الخطابي رحمه الله قولاً آخر معناه التحذير للمسلم أن يعتاد هذه الخصال التي يخاف عليه أن تفضي به إلى حقيقة النفاق. وحكى الخطابي رحمه الله أيضاً: عن بعضهم أن الحديث ورد في رجل بعينه منافق وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يواجههم بصريح القول فيقول: فلان منافق وإنما كان يشير إشارة كقوله صلى الله عليه وسلم ما بال أقوام يفعلون كذا؟ والله أعلم] شرح النووي على صحيح مسلم 1/235-236.
ومن العلماء من حمل النفاق في الحديث على نفاق العمل كما سبق في كلام النووي عن الترمذي ونص كلام الإمام الترمذي في سننه هو: [وإنما معنى هذا عند أهل العلم نفاق العمل وإنما كان نفاق التكذيب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا روي عن الحسن البصري شيء من هذا أنه قال: النفاق نفاقان: نفاق العمل ونفاق التكذيب] سنن الترمذي 5/21.
قال القرطبي المحدث: [إن هذا النفاق هو نفاق العمل الذي سأل عنه عمر حذيفة لما قال له هل تعلم فيَّ شيئاً من النفاق؟ أي من صفات المنافقين الفعلية ووجه هذا أن من كانت فيه هذه الخصال المذكورة كان ساتراً لها ومظهراً لنقائضها فصدق عليه اسم منافق] المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم 1/250.
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني بعد أن ذكر أقوال أهل العلم في تفسير النفاق: [وأحسن الأجوبة ما ارتضاه القرطبي] فتح الباري 1/98.
وخلاصة الأمر أنه يجب على المسلم إذا عاهد الله أن يفعل خيراً أو ينتهي عن معصيه فعليه الوفاء بما عاهد عليه الله.
قال تعالى: (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا) سورة الإسراء الآية 34.
وأما إذا نقض عهده مع الله فقد ارتكب معصية وقد عدها جماعة من العلماء من كبائر الذنوب وانظر الزواجر عن اقتراف الكبائر 1/225-227. فعلى من نقض عهد الله أن يبادر إلى التوبة ويفي بما عاهد الله عليه.
وأخيراً أنبه على أن من حلف بعهد الله فهذه تعد يميناً يلزمه الوفاء بها وإذا حنث لزمته كفارة يمين قال الكاساني: [ولو قال عليَّ عهد الله أو ذمة الله أو ميثاقه فهو يمين لأن اليمين بالله تعالى هي عهد الله على تحقيقه أو نفيه ألا ترئ إلى قوله تعالى: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ) سورة النحل الآية 91. ثم قال سبحانه وتعالى: (وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا) سورة النحل الآية 91. وجعل العهد يميناً والذمة هي العهد] بدائع الصنائع 3/15.(13/8)
9 - اذا حلف يمينا ثم خالفها
يقول السائل: حلفت يميناً على ألا أزور بيت خالي ثم زرته في يوم العيد وصمت ثلاثة أيام كفارة يميني فما الحكم في ذلك؟
الجواب: ينبغي أن يعلم أن اليمين التي حلفتها يمين مكروهة لأنها تضمنت الإمتناع عن بر خالك وزيارته ولا يجوز للمسلم أن يجعل اليمين حائلاً ومانعاً من القيام بالخيرات، قال الله تعالى: (وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ) . فكل يمين تحول بين الإنسان وبين فعل الخيرات مكروهة.
وقال الله سبحانه وتعالى: (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) . سورة النور الاية 22.
قال ابن كثير رحمه الله: [يقول الله تعالى: (وَلَا يَأْتَلِ) من الآلية وهي الحلف أي لا يحلف ... وهذه الآية نزلت في الصديق رضي الله عنه حين حلف أن لاينفع مسطح بن أثاثة بنافعة أبداً بعد ما قاله في عائشة ما قال............ فلما أنزل الله براءة أم المؤمنين عائشة وطابت النفوس المؤمنة واستقرت وتاب الله على من تكلم من المؤمنين في ذلك وأقيم الحد على من أقيم عليه شرع تبارك وتعالى وله الفضل والمنّة يعطف الصديق على قريبه ونسيبه وهو مسطح بن أثاثة فإنه كان ابن خالة الصديق وكان مسكيناً لا مال له إلا ما ينفق عليه أبو بكر رضي الله عنه وكان من المهاجرين في سبيل الله وقد زلق زلقة تاب الله عليه منها وضرب الحد عليها، وكان الصديق رضي الله عنه معروفاً بالمعروف، له الفضل والأيادي على الأقارب والأجانب فلما نزلت هذه الاية إلى قوله تعالى: (أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ... ) الخ الآية، فأن الجزاء من جنس العمل فكما تغفر ذنب من أذنب إليك يغفر الله لك وكما تصفح يصفح عنك فعند ذلك قال الصديق: بلى والله نحب ان تغفر لنا يا ربنا ثم رجع إلى مسطح ما كان يصله من النفقة وقال: والله لا أنزعها منه ابداً-في مقابلة ما كان قال: والله لا أنفعه بنافعة أبداً-فلهذا كان الصديق هو الصديق رضي الله عنه وعن بنته] تفسير ابن كثير 3/276.
هذا ما يتعلق بيمينك أما صيام الأيام الثلاثة فأنت مشيت على رأي عامة الناس الذين يظنون أن كفارة اليمين هي صيام ثلاثة أيام وهذا من الأخطاء الشائعة والمنتشرة بين الناس والصحيح أن كفارة اليمين هي المذكورة في قوله تعالى: (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْءَايَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) سورة المائدة الآية 89.
فكفارة اليمين هي إما إطعام عشرة مساكين أو كسوة عشرة مساكين أو عتق رقبة على التخير أي أن الحالف يختار واحدة من هذه الخصال الثلاث فإذا كان فقيراً عاجزاً عن التكفير بإحدى هذه الخصال فإنه يصوم ثلاثة أيام وبناء على ذلك لا يجوز التكفير بصيام ثلاثة أيام إذا كان الشخص قادراً على ما سبق فإذا صام ثلاثة أيام وهو مستطيع للإطعام أو الكسوة فلا يعد مكفر عن يمينه وتبقى الكفارة ديناً في ذمته ولا تبرأ ذمته إلا إذا كفّر بالإطعام أو الكسوة واستثناء العتق لأنه لا يوجد في زمننا هذا تحرير رقاب.
وأخيراً أنبه على جواز إخراج قيمة الإطعام أو الكسوة نقداً كما هو مذهب الحنفية.
*****(13/9)
10 - يحرم على المسلم أن يحرم الحلال وكفارة ذلك.
يقول السائل: إن أباه حلف عليه يميناً أن لا يذهب إلى صلاة الجماعة في المسجد فما حكم هذه اليمين وما موقف الابن من يمين أبيه؟
الجواب: إن أباك أخطأ في حلفه هذا ولا يجب عليك أن تبر بيمين أبيك ولا يصح للأب أن يجعل يمينه حائلاً دون فعل الطاعات لقوله تعالى: (وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ) . وعلى أبيك كفارة يمين وهي إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة فإن لم يجد يصوم ثلاثة أيام لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير وليكفّر عن يمينه) حديث صحيح.
وكما قلت لا يجب عليك أن تبر بقسم أبيك لأن إبرار المقسم يكون مندوباً إذا لم يكن في اليمن مفسدة أو خوف ضرر أو أمر مكروه فإذا لم يكن في اليمين مثل ذلك يندب في حق المحلوف عليه أن يبر بقسم الحالف لما ثبت في الحديث عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع ونهانا عن سبع أمرنا بعيادة المريض واتباع الجنائز وتشميت العاطس وإبرار المقسم ونصر المظلوم وإجابة الداعي وإفشاء السلام ... إلخ الحديث) . والأمر في الحديث على أمور مندوبة باتفاق أهل العلم كما قرره الإمام الشوكاني، وقد أقسم أبو بكر على النبي صلى الله عليه وسلم ليخبره بتأويل الرؤيا فقال عليه الصلاة والسلام (لا تقسم) ولم يخبره كما ثبت ذلك في الصحيح.(13/10)
11 - الأكل من الشاة المنذورة
يقول السائل: نذر إنسان أن يذبح شاة فهل يجوز أن يأكل منها هو وأهل بيته؟
الجواب: إن الوفاء بالنذر واجب لقوله صلى الله عليه وسلم: (من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصيه فلا يعصيه) رواه البخاري ومسلم. ويجب أن يعلم أن النذر حتى يعتبر نذراً لا بد أن يكون لفظاً يجري على اللسان وأما مجرد النية بالنذر فلا يعتبر ذلك نذراً ويدل على ذلك قوله تعالى: (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا) سورة مريم الآية 26. إذا ثبت هذا فنقول: إن من نذر شاة لله تعالى فيجب عليه أن يفي بنذره ويجب أن يصرفها مصرف الصدقات فلا يجوز له أن يأكل منها ولا يجوز لأهل بيته أن يأكلوا منها لأن الشخص وأهل بيته لا يصح صرف الزكاة إليهم وكذلك في النذر لله تعالى لا يصح ولا يجوز أن يأكلوا منه. وإذا أكلها هو وأهل بيته فعليه أن يذبح شاة أخرى بدلاً منها ويوزعها على الفقراء والمحتاجين.
وهذا هو الحكم في كل نذر لله تعالى إلا إذا كان الناذر قد نوى أن يذبح الشاة ويأكل منها هو وأهله وأقاربه وجيرانه مثلاً فإن كانت نيته كذلك فله أن يأكل منها هو واهله ومن ذكر، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات وللكل امرئ ما نوى) رواه البخاري ومسلم. *****(13/11)
12 - الحلف بغير الله
يقول السائل: إن كثيراً من الناس اعتادوا الحلف بشرفهم او بحياتهم فهل يجوز ذلك؟ وماذا يترتب عليه؟
الجواب: إن الحلف أو القسم المشروع لا يكون إلا بالله سبحانه وتعالى أو باسم من أسمائه أو صفة من صفاته وما عدا ذلك لا يجوز الحلف به. وقد علل أهل العلم عدم جواز الحلف إلا بالله لأن الحلف يقتضي تعظيم المحلوف به والعظمة إنما هي لله وحده فلا يحلف إلا بالله وأسمائه وصفاته. فالحلف بغيرالله حرام سوء الحلف بالشرف أو الحياة أو الأب أو الحرم أو حياة الملك أو حياة الرئيس أو الكعبة أو بالصلاة أو الصيام أو المسجد وغيرهما والأدلة على ذلك كثيرة منها:
1. قوله عليه الصلاة والسلام: (من كان حالفاً فلا يحلف إلا بالله) رواه مسلم، فهذا الحديث يدل دلالة صريحة على قصر الحلف بالله فقط.
2. وعن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع عمر بن الخطاب وهو يحلف بأبيه فقال: (إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت) رواه البخاري ومسلم.
3. وعن ابن عمر أيضاً أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من حلف بغير الله فقد كفر) وفي روايةٍ أخرى (فقد أشرك) رواه أبو داود والترمذي وقال حسن، والحاكم وصححه، وأحمد وغيرهم.
وبهذا يظهر لنا أن الحلف بغير الله تعالى لا يجوز وقد قال ابن عبد البر رحمه الله: [لا يجوز الحلف بغير الله بالإجماع] فما حلف به هذا الشخص لا يعتبر يميناً ولا يجب عليه الوفاء بما حلف ولا تلزمه كفارة إذا حنث بذلك، وعليه أن يتوب لله تعالى ويستغفره وعليه ألا يعود للحلف بذلك.(13/12)
13 - النذر المعلق
تقول السائلة: إنها نذرت أن تذبح شاة لله تعالى إن شفي ولدها من مرض ألمََّ به وكيف تصنع بهذه الذبيحة؟ وهل يجوز لها ولأهل بيتها الأكل من هذه الذبيحة؟
الجواب: إن النذر عند أهل العلم هو أن يلزم المكلف نفسه بقربة لم يلزمه بها الشارع الحكيم، وهذا النذر محل السؤال نذر مكروه وهو ما يعرف عند العلماء بالنذر المعلق حيث إن المكلف علق فعل القربة على حصول غرض معين فلم تكن نيته خالصة لله تعالى وإنما كانت القربة على سبيل المعاوضة وهذا شأن البخيل الذي لا يدفع شيئاً من ماله إلا بمقابل، وقد ورد في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما أن الرسول صلى الله عليه وسلم: (نهى عن النذر وقال إنه لا يرد شيئاً وإنما يستخرج به البخيل) رواه البخاري ومسلم وغيرهما. ويجب على هذه المرأة الوفاء بنذرها إن شفي ولدها من المرض فالوفاء بالنذر واجب لقوله تعالى: (وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ) ولقوله عليه الصلاة والسلام: (من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصه فلا يعصه) رواه البخاري وأصحاب السنن.
فعلى هذه المراة أن تذبح شاة كما في نذرها. ولا يجزيء أن تخرج قيمة الشاة وعليها أن توزعها على الفقراء والمحتاجين ولا يجوز لها ولا لأهل بيتها الأكل من الشاة المنذورة بل يجب إخراجها وتوزيعها على الحتاجين.(13/13)
14 - إبرار المقسم
يقول السائل: حلف شخصٌ يميناً عليَّ أن أفعل فعلاً معيناً، ووقعت في الحرج لأنه حلف عليَّ ولم يكن لي رغبة أن أفعل ما حلف، فماذا يترتب عليَّ؟
الجواب: تسمى هذه المسألة عند أهل العلم مسألة إبرار المقسم، وهي أن تفعل ما أراده الحالف لتصير بذلك باراً بيمينه، وهذه المسألة فيها تفصيل عند العلماء:
1 - فإذا حلف شخصٌ على آخر أن يفعل أمراً واجباً كأن يصلي الظهر مثلاً، فعلى المحلوف عليه أن يبر بيمين الحالف، وكذلك إذا حلف عليه أن يترك معصية فيجب عليه أن يبر بيمينه.
2 - وأما إذا حلف شخصٌ على آخر أن يترك واجباً أو أن يفعل معصية، فيجب على المحلوف عليه أن يحنث بيمين الحالف لأنه لا طاعة إلا في المعروف، لما ثبت في الحديث الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام قال: (لا طاعة في معصية الله) رواه البخاري ومسلم.
3 - أما إذا حلف شخصٌ على آخر أن يفعل أمراً مباحاً أو مندوباً إليه، فيندب إبرار المقسم في هذه الحالة، كمن حلف على آخر أن يتغدى عنده في بيته، فيندب إبرار المقسم، وقد ثبت في الحديث عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع ونهانا عن سبع، أمرنا بعيادة المريض واتباع الجنائز وتشميت العاطس وإبرار القسم أو المقسم ونصر المظلوم وإجابة الداعي وإفشاء السلام، ونهانا عن خواتيم الذهب أو أن نتختم بالذهب وعن شربٍ بالفضة وعن المياثر وعن القسي وعن لبس الحرير والإستبرق والديباج) رواه البخاري ومسلم واللفظ لمسلم.
قال الإمام النووي: " وأما إبرار المقسم فهو سنة أيضاً مستحبة متأكدة، وإنما يندب إليه إذا لم يكن فيه مفسدة أو ضرر أو نحو ذلك، فإن كان شيءٌ من هذا لم يبر قسمه كما ثبت أن أبا بكر رضي الله عنه لما عبر الرؤيا بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أصبت بعضاً وأخطأت بعضاً) فقال أقسمت عليك يا رسول الله لتخبرني، فقال: (لا تقسم ولم يخبره) " شرح النووي على صحيح مسلم 14/32. وقال الشوكاني مبيناً الأمر بإبرار المقسم ليس على سبيل الوجوب: " قوله (وإبرار المقسم) ظاهر الأمر الوجوب واقترانه ببعض ما هو متفق على عدم وجوبه كإفشاء السلام، قرينة صارفة عن الوجوب، وعدم إبراره صلى الله عليه وسلم لقسم أبي بكر وإن كان خلاف الأحسن لكونه صلى الله عليه وسلم فعله لبيان عدم الوجوب.... " نيل الأوطار 8/262.
وقد ثبت في أحاديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم أبر المقسم كما في الحديث الشريف (أن ابنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلت إليه، ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة وسعد وأبيّ، أن ابني قد احتضر فاشهدنا، فأرسل يقرأ السلام ويقول: إن لله ما أخذ وما أعطى وكل شيء عنده مسمى، فلتصبر وتحتسب، فأرسلت إليه وتقسم عليه، فقام وقمنا معه، فلما قعد رفع إليه فأقعده في حجره ونفس الصبي تقعقع، ففاضت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال سعد: ما هذا يا رسول الله؟ قال: هذه رحمة يضعها الله في قلوب من يشاء من عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء) رواه البخاري. وفي رواية أخرى عند البخاري: (تقسم عليه ليأتينها) فبرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بقسم ابنته فذهب إليها. وجاء في الحديث عن مجاهد قال: (كان رجل من المهاجرين يقال له عبد الرحمن بن صفوان وكان له بلاء في الإسلام حسن وكان صديقاً للعباس، فلما كان فتح مكة، جاء بأبيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله بايعه على الهجرة فأبى وقال: إنها لا هجرة فانطلق إلى العباس وهو في السقاية فقال: يا أبا الفضل، أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي يبايعه على الهجرة فأبى، قال: فقام العباس معه وما عليه رداء، قال: فقال يا رسول الله، قد عرفت ما بيني وبين فلان وأتاك بأبيه لتبايعه على الهجرة فأبيت، فقال صلى الله عليه وسلم: إنها لا هجرة، فقال العباس: أقسمت عليك لتبايعنه، قال: فبسط رسول الله يده، قال: فقال له: هات أبررت قسم عمي ولا هجرة) رواه أحمد وابن ماجة وابن خزيمة، وفي سنده ضعف. وذكر الشيخ ابن قدامة " أن النبي صلى الله عليه وسلم أبرَّ قسم عمه العباس وأجابه إلى صورة ما أقسم عليه دون معناه حقيقةً لتعذر المعنى الحقيقي " انظر المغني 9/535.
وجاء في الحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت: (أهدت إليها امرأة تمراً في طبق فأكلت بعضاً وبقي بعض فقالت: أقسمت عليك إلا أكلت بقيته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبريها، فإن الإثم على المحنث) رواه أحمد وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح، مجمع الزوائد 4/183. والمحنث هو المتسبب في الحنث فيكون الإثم عليه. وجاء في الحديث عن أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما استفاد المؤمن بعد تقوى الله خيراً له من زوجة صالحة إن أمرها أطاعته، وإن نظر إليها سرَّته، وإن أقسم عليها أبرَّته، وإن غاب عنها نصحته في نفسها وماله) رواه ابن ماجة. وعن أبي حازم أن (ابن عمر مرَّ على رجل ومعه غنيمات له فقال: بكم تبع غنمك هذه بكذا وكذا، فحلف ألا يبيعها، فانطلق ابن عمر فقضى حاجته فمر عليه فقال: يا أبا عبد الرحمن خذها بالذي أعطيتني، قال: حلفت على يمين فلم أكن لأعين الشيطان عليك وأن أحنثك) رواه الطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح كما قال الهيثمي، مجمع الزوائد 4/183. فبرَّ ابن عمر بيمين الرجل.
وأخيراً أقول: إن هذا الذي أقسم عليك أن تفعل أمراً معيناً إن كان هذا الأمر مباحاً وجائزاً فينبغي عليك أن تبرَّ بيمينه لما ذكرت من الأدلة وإذا لم تبر بيمينه فعلى الحالف كفارة يمين. *****(13/14)
15 - حكم وضع الحالف يده على المصحف الشريف
يقول السائل: هل يشترط لصحة حلف اليمين بالله سبحانه وتعالى أن يضع الحالف يده على المصحف؟
الجواب: لا يشترط لصحة حلف اليمين بالله تعالى أن يضع الحالف يده على المصحف، فإن اليمين المشروع يكون بمجرد التلفظ باليمين فقط. ومن العلماء من يرى أن وضع اليد على المصحف أو وضع المصحف أمام الحالف أو في حجره، من باب تغليظ اليمين على الحالف، وتغليظ اليمين قال به جمهور الفقهاء ويكون ذلك في القضايا المهمة كقضايا الدماء والأموال الكثيرة ونحوها. وتغليظ الأيمان له أصل مشروع في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. أما من كتاب الله فقوله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنْ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنْ الآثِمِينَ) سورة المائدة /106. قال القرطبي: " هذه الآية أصل في التغليظ في الأيمان " تفسير القرطبي 6/353. وتغليظ اليمين يكون بأمور: منها التغليظ في الزمان ومنه الحلف بعد صلاة العصر، وهو المذكور في الآية كما قال المفسرون، قال القرطبي: " قوله تعالى (من بعد الصلاة) يريد صلاة العصر، قاله الأكثر من العلماء، لأن أهل الأديان يعظمون ذلك الوقت ويتجنبون فيه الكذب واليمين الكاذبة " تفسير القرطبي 6/353.
وثبت في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم رجل على فضل ماء بطريق يمنع منه ابن السبيل، ورجل بايع رجلاً بسلعةٍ، لا يبايعه إلا للدنيا، فإن أعطاه ما يريد وفّى وإلا، لم يف له، ورجل ساوم رجلاً بسلعةٍ بعد العصر، فحلف بالله لقد أعطى كذا وكذا فأخذها) رواه البخاري ومسلم. قال الحافظ ابن حجر: " قال المهلب: إنما خص النبي صلى الله عليه وسلم هذا الوقت بتعظيم الإثم على من حلف فيه كاذباً لشهود ملائكة الليل والنهار ذلك الوقت، انتهى. وفيه نظر لأن بعد صلاة الصبح يشاركه في شهود الملائكة ولم يأت فيه ما أتى في وقت العصر ويمكن أن يكون اختص بذلك لكونه وقت ارتفاع الأعمال " فتح الباري 6/212. ونقل الحافظ ابن حجر عن الخطابي قوله: " خُص وقت العصر بتعظيم الإثم فيه وإن كانت اليمين الفاجرة محرمة في كل وقت، لأن الله عظم شأن هذا الوقت بأن جعل الملائكة تجتمع فيه، وهو وقت ختام الأعمال، والأمور بخواتيمها، فغلظت العقوبة فيه لئلا يقدم عليها تجرؤاً، فإن من تجرأ عليها فيه، إعتادها في غيره، وكان السلف يحلفون بعد العصر، وجاء ذلك في الحديث أيضاً " فتح الباري 16/329. ومنها التغليظ في المكان، كالمسجد والمنبر، فقد ورد في الحديث، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحلف أحد عند منبري هذا على يمين آثمة، ولو على سواك أخضر، إلا تبوأ مقعده من النار) رواه مالك وأبو داود والنسائي وابن ماجة وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وغيرهم كما ذكره الحافظ ابن حجر في الفتح 6/213. وورد في الحديث عن أبي أمامة بن ثعلبة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حلف عند منبري هذا بيمين كاذبة يستحل بها مال امرئٍ مسلم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً) رواه النسائي، ورجاله ثقات، كما قال الحافظ ابن حجر في الفتح 6/213.
ويرى الشافعية والمالكية، أن اليمين المغلظة، تكون في مكة المكرمة بين الركن والمقام وفي المدينة المنورة عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وفي بقية البلاد تكون في المسجد عند المنبر، قياساً على العمل من الخلف والسلف بالمدينة عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال ابن عبد البر في الإستذكار 22/90. ومنها التغليظ في حال الحالف، كأن يكون قائماً مستقبل القبلة. ومنها التغليظ في اللفظ، كأن يقول الحالف: أقسم بالله الذي لا إله إلا هو، ما له عندي حق، أو يقول: أحلف بالله الذي لا إله إلا هو، عالم الغيب والشهادة، الرحمن الرحيم، الذي يعلم من السر ما يعلم من العلانية، الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ونحو ذلك. ومن هذا الباب ذكر بعض فقهاء الشافعية الحلف بالمصحف، ونُقل عن بعض السلف التحليف على المصحف. ولكن الصحيح أن الحلف على المصحف لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم بل هو بدعة كما قال ابن العربي المالكي: " وهو بدعة ما ذكرها أحد قط من الصحابة " أحكام القرآن 2/725. وقال ابن المنذر: "وأجمعوا على أنه لا ينبغي للحاكم أن يستحلف بالطلاق والعتاق والمصحف الشريف " تفسير القرطبي 6/354. وقال ابن قدامة: " قال ابن المنذر: ولم نجد أحداً يوجب اليمين بالمصحف. وقال الشافعي: رأيتهم يؤكدون بالمصحف، ورأيت ابن مازن وهو قاضي بصنعاء يغلظ اليمين بمصحف. قال أصحابه: - أي أصحاب الشافعي - فيغلظ عليه بإحضار المصحف، لأنه يشتمل على كلام الله تعالى وأسمائه. قال ابن قدامة: " وهذا زيادة على ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليمين، وفعله الخلفاء الراشدون وقضاتهم من غير دليل ولا حجة يستند إليها، ولا يترك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لفعل ابن مازن ولا لغيره " المغني 10/207. *****(13/15)
16 - حكم وضع الحالف يده على المصحف الشريف
يقول السائل: هل يشترط لصحة حلف اليمين بالله سبحانه وتعالى أن يضع الحالف يده على المصحف؟
الجواب: لا يشترط لصحة حلف اليمين بالله تعالى أن يضع الحالف يده على المصحف، فإن اليمين المشروع يكون بمجرد التلفظ باليمين فقط. ومن العلماء من يرى أن وضع اليد على المصحف أو وضع المصحف أمام الحالف أو في حجره، من باب تغليظ اليمين على الحالف، وتغليظ اليمين قال به جمهور الفقهاء ويكون ذلك في القضايا المهمة كقضايا الدماء والأموال الكثيرة ونحوها. وتغليظ الأيمان له أصل مشروع في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. أما من كتاب الله فقوله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنْ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنْ الآثِمِينَ) سورة المائدة /106. قال القرطبي: " هذه الآية أصل في التغليظ في الأيمان " تفسير القرطبي 6/353. وتغليظ اليمين يكون بأمور: منها التغليظ في الزمان ومنه الحلف بعد صلاة العصر، وهو المذكور في الآية كما قال المفسرون، قال القرطبي: " قوله تعالى (من بعد الصلاة) يريد صلاة العصر، قاله الأكثر من العلماء، لأن أهل الأديان يعظمون ذلك الوقت ويتجنبون فيه الكذب واليمين الكاذبة " تفسير القرطبي 6/353.
وثبت في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم رجل على فضل ماء بطريق يمنع منه ابن السبيل، ورجل بايع رجلاً بسلعةٍ، لا يبايعه إلا للدنيا، فإن أعطاه ما يريد وفّى وإلا، لم يف له، ورجل ساوم رجلاً بسلعةٍ بعد العصر، فحلف بالله لقد أعطى كذا وكذا فأخذها) رواه البخاري ومسلم. قال الحافظ ابن حجر: " قال المهلب: إنما خص النبي صلى الله عليه وسلم هذا الوقت بتعظيم الإثم على من حلف فيه كاذباً لشهود ملائكة الليل والنهار ذلك الوقت، انتهى. وفيه نظر لأن بعد صلاة الصبح يشاركه في شهود الملائكة ولم يأت فيه ما أتى في وقت العصر ويمكن أن يكون اختص بذلك لكونه وقت ارتفاع الأعمال " فتح الباري 6/212. ونقل الحافظ ابن حجر عن الخطابي قوله: " خُص وقت العصر بتعظيم الإثم فيه وإن كانت اليمين الفاجرة محرمة في كل وقت، لأن الله عظم شأن هذا الوقت بأن جعل الملائكة تجتمع فيه، وهو وقت ختام الأعمال، والأمور بخواتيمها، فغلظت العقوبة فيه لئلا يقدم عليها تجرؤاً، فإن من تجرأ عليها فيه، إعتادها في غيره، وكان السلف يحلفون بعد العصر، وجاء ذلك في الحديث أيضاً " فتح الباري 16/329. ومنها التغليظ في المكان، كالمسجد والمنبر، فقد ورد في الحديث، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحلف أحد عند منبري هذا على يمين آثمة، ولو على سواك أخضر، إلا تبوأ مقعده من النار) رواه مالك وأبو داود والنسائي وابن ماجة وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وغيرهم كما ذكره الحافظ ابن حجر في الفتح 6/213. وورد في الحديث عن أبي أمامة بن ثعلبة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حلف عند منبري هذا بيمين كاذبة يستحل بها مال امرئٍ مسلم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً) رواه النسائي، ورجاله ثقات، كما قال الحافظ ابن حجر في الفتح 6/213.
ويرى الشافعية والمالكية، أن اليمين المغلظة، تكون في مكة المكرمة بين الركن والمقام وفي المدينة المنورة عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وفي بقية البلاد تكون في المسجد عند المنبر، قياساً على العمل من الخلف والسلف بالمدينة عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال ابن عبد البر في الإستذكار 22/90. ومنها التغليظ في حال الحالف، كأن يكون قائماً مستقبل القبلة. ومنها التغليظ في اللفظ، كأن يقول الحالف: أقسم بالله الذي لا إله إلا هو، ما له عندي حق، أو يقول: أحلف بالله الذي لا إله إلا هو، عالم الغيب والشهادة، الرحمن الرحيم، الذي يعلم من السر ما يعلم من العلانية، الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ونحو ذلك. ومن هذا الباب ذكر بعض فقهاء الشافعية الحلف بالمصحف، ونُقل عن بعض السلف التحليف على المصحف. ولكن الصحيح أن الحلف على المصحف لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم بل هو بدعة كما قال ابن العربي المالكي: " وهو بدعة ما ذكرها أحد قط من الصحابة " أحكام القرآن 2/725. وقال ابن المنذر: "وأجمعوا على أنه لا ينبغي للحاكم أن يستحلف بالطلاق والعتاق والمصحف الشريف " تفسير القرطبي 6/354. وقال ابن قدامة: " قال ابن المنذر: ولم نجد أحداً يوجب اليمين بالمصحف. وقال الشافعي: رأيتهم يؤكدون بالمصحف، ورأيت ابن مازن وهو قاضي بصنعاء يغلظ اليمين بمصحف. قال أصحابه: - أي أصحاب الشافعي - فيغلظ عليه بإحضار المصحف، لأنه يشتمل على كلام الله تعالى وأسمائه. قال ابن قدامة: " وهذا زيادة على ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليمين، وفعله الخلفاء الراشدون وقضاتهم من غير دليل ولا حجة يستند إليها، ولا يترك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لفعل ابن مازن ولا لغيره " المغني 10/207. *****(13/16)
17 - تعجيل العقوبة في الدنيا للحالف كاذبا
يقول السائل: سمعت أنه من حلف يميناً يتعمد الكذب فيها، أن الله يعجل له العقوبة في الدنيا، فما قولكم في ذلك؟
الجواب: إن اليمين الكاذبة المتعمدة، والتي تؤكل بها أموال الناس وحقوقهم، من الكبائر ومن الأسباب الموجبة لدخول النار والعياذ بالله وعلى ذلك تدل الأدلة من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن ذلك قول الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) سورة آل عمران /77.
ففي هذه الآية عقوبات لمن يحلف كاذباً متعمداً، ليأكل حقوق الناس وهي:
1. لا حظ له في الآخرة ولا نصيب له من رحمة الله.
2. لا يكلمه الله سبحانه وتعالى كلام أنس ولطف.
3. يعرض الله عنه يوم القيامة، فلا ينظر إليه بعين الرحمة.
4. لا يطهر من الأوزار والذنوب.
5. يعذبه الله عذاباً أليماً على ما ارتكب من المعاصي.
ومنها ما ثبت في الحديث، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من حلف على يمين وهو فيها فاجر يقتطع بها مال امرئٍ مسلم، لقي الله وهو عليه غضبان) رواه أبو داود وابن ماجة وهو حديث صحيح.
ومنها ما ثبت في الحديث، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقتطع رجل حق امرئٍ مسلمٍ بيمينه، إلا حرّم الله عليه الجنة، وأوجب عليه النار، فقال رجل من القوم: يا رسول الله وإن كان شيئاً يسيراً، قال عليه الصلاة والسلام: وإن كان سواكاً من أراك) رواه ابن ماجة، وقال الشيخ الألباني: صحيح، انظر صحيح سنن ابن ماجة 2/36.
وغير ذلك من النصوص، وكل ذلك في العقوبة الأخروية.
وأما تعجيل العقوبة في الدنيا فإن الله سبحانه وتعالى قد يعجل العقوبة في الدنيا على بعض الذنوب، ومن ذلك تعجيل عقوبة قاطع الرحم والظالم وحالف الأيمان الكاذبة، فقد ورد في ذلك أحاديث منها:
1 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس شيء أُطيعَ الله فيه، أعجل ثواباً من صلة الرحم، وليس شيء أعجل عقاباً من البغي وقطيعة الرحم واليمين الفاجرة تدع الديار بلاقع) رواه البيهقي 10/350، وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة 2/706، وبلاقع، جمع بلقع وبلقعة، وهي الأرض القفر التي لا شجر فيها، ذكره الزبيدي ونقل عن بعض العلماء، أن معنى الحديث " أي يفتقر الحالف ويذهب ما في بيته من المال، أو يفرق الله شمله ويغيّر ما أولاه من نعمة " تاج العروس 11/30.
2 - وفي رواية أخرى: (إن أعجل الطاعة ثواباً صلة الرحم، وإن أهل البيت ليكونون فجاراً، فتنمو أموالهم، ويكثر عددهم، إذا وصلوا أرحامهم، وإن أعجل المعصية، عقوبة البغي والخيانة، واليمين الغموس يذهب المال ويثقل في الرحم، ويذر الديار بلاقع) رواه الطبراني في الأوسط وقال الشيخ الألباني: إنه صحيح بمجموع طرقه وشواهده.
3 - وعن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اليمين الفاجرة تذهب المال) رواه البزار بسند صحيح، كما قاله ابن حجر الهيتمي، الزواجر 2/404.
وقد وقع تعجيل العقوبة الدنيوية لمن حلف كاذباً ليستحل دماء الناس وأموالهم، كما ثبت في صحيح البخاري في الحادثتين التاليتين:
الأولى: روى الإمام البخاري بسنده، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " إن أول قسامة كانت في الجاهلية، لفينا بني هاشم، كان رجل من بني هاشم استأجره رجل من قريش، من فخِذٍ أخرى، فانطلق معه في إبله فمر به رجل من بني هاشم قد انقطعت عروة جوالقه، فقال: أغثني بعقال أشد به عروة جوالقي لا تنفر الإبل فأعطاه عقالاً، فشد به عروة جوالقه، فلما نزلوا، عقلت الإبل إلا بعيراً واحداً، فقال الذي استأجره: ما شأن هذا البعير لم يعقل من بين الإبل؟ قال: ليس له عقال، قال: فأين عقاله؟ قال: فحذفه بعصاً كان فيها أجله، فمر رجل به من أهل اليمن فقال: أتشهد الموسم؟ قال: ما أشهد، وربما شهدته، قال: هل أنت مبلغ عني رسالة مرة من الدهر؟ قال: نعم، قال: فكتب، إذا أنت شهدت الموسم فناد يا آل قريش، فإذا أجابوك فناد يا آل بني هاشم، فإن أجابوك، فسل عن أبي طالب، فأخبره أن فلاناً قتلني في عقال، ومات المستأجَر، فلما قدم الذي استأجره، أتاه أبو طالب فقال: ما فعل صاحبنا؟ قال مرض فأحسنت القيام عليه، فوليت دفنه، قال: قد كان أهل ذاك منك فمكث حيناً، ثم إن الرجل الذي أوصى إليه أن يبلغ عنه، وافى الموسم فقال: يا آل قريش، قالوا هذه قريش، قال يا بني هاشم، قالوا: هذه بنو هاشم، قال: من أبو طالب؟ قالوا: هذا أبو طالب، قال: أمرني فلان أن أبلغك رسالة، أن فلاناً قتله في عقال، فأتاه أبو طالب فقال له: إختر منا إحدى ثلاث، إن شئت أن تؤدي مائة من الإبل، فإنك قتلت صاحبنا وإن شئت، حلف خمسون من قومك، أنك لم تقتله، فإن أبيت، قتلناك به، فأتى قومه، فقالوا نحلف، فأتته امرأة من بني هاشم كانت تحت رجل منهم قد ولدت له، فقالت: يا أبا طالب، أحب أن تجيز أبني هذا برجل من الخمسين ولا تصبر يمينه حيث تصبر الأيمان، ففعل، فأتاه رجل منهم فقال: يا أبا طالب، أردت خمسين رجلاً أن يحلفوا مكان مئة من الإبل، يصيب كل رجل بعيران، هذان بعيران فاقبلهما مني ولا تصبر يميني حيث تصبر الأيمان فقبلهما، وجاء ثمانية وأربعون، فحلفوا، قال ابن عباس: فالذي نفسي بيده ما حال الحول ومن الثمانية وأربعين عين تطرف ".
الثانية: روى الإمام البخاري بسنده عن أبي قلابة حديثاً طويلاً وفيه: " وقد كانت هذيل خلعوا خليعاً لهم في الجاهلية، فطرق أهل بيت من اليمن بالبطحاء، فانتبه له رجل منهم، فحذفه بالسيف فقتله، فجاءت هذيل فأخذوا اليماني، فرفعوه إلى عمر بالموسم وقالوا: قتل صاحبنا، فقال: إنهم قد خلعوه، فقال: يقسم خمسون من هذيل ما خلعوه، قال: فأقسم منهم تسعة وأربعون رجلاً، وقدم رجل منهم من الشام، فسألوه أن يقسم، فافتدى يمينه منهم بألف درهم، فأدخلوا مكانه رجلاً آخر، فدفعه إلى أخي المقتول، فقرنت يده بيده، قالوا فانطلقنا والخمسون الذين أقسموا حتى إذا كانوا بنخلة أخذتهم السماء - أي المطر - فدخلوا في غار في الجبل، فانهجم الغار على الخمسين الذين أقسموا، فماتوا جميعاً وأفلت القرينان وأتبعهما حجر فكسر رجل أخي المقتول فعاش حولاً ثم مات ".
وهكذا ينتقم الله عز وجل في الدنيا من حالفي أيمان الزور والكذب، وفي ذلك عبرة للمعتبرين.
*****(13/17)
18 - يصح تقديم الكفارة على الحنث باليمين.
يقول السائل: إنه حلف على زوجته يميناً، أن لا تذهب إلى بيت أبيها، ثم ندم على ذلك وسمح لها بالذهاب إلى هناك، فهل يكفِّر كفارة اليمين قبل ذهاب زوجته إلى بيت أبيها، أم بعد ذلك؟
الجواب: ما كان لك أيها السائل أن تحلف هذا اليمين، الذي يؤدي إلى قطيعة الرحم، لأن للزوجة حقاً مؤكداً في زيارة أبيها وقد ورد في الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لا يمين في قطيعة رحم) رواه أبو داود والبيهقي، وإسناده حسن.
وما دام أنك قد تراجعت عن يمينك وأذنت لها بالذهاب إلى بيت أبيها، فقد أديت ما هو المطلوب شرعاً ويجب عليك أن تكفر عن يمينك وكفارة اليمين هي إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة فإن لم تجد فتصوم ثلاثة أيام لقوله تعالى: (لا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) سورة المائدة /89.
هذا بالنسبة لكفارة اليمين، وأما متى تكفر عن يمينك، فيجوز لك أن تكفِّر قبل ذهاب زوجتك إلى بيت أبيها، أو بعد ذهابها إليه، على الراجح من أقوال أهل العلم، فإن في الأمر سعة إن شاء الله تعالى، ويدل على ذلك أن الأحاديث الواردة في كفارة اليمين جاء في بعضها تقديم الكفارة على الحنث وجاء في بعضها تأخير الكفارة على الحنث.
ومن هذا أخذ أكثر العلماء جواز الأمرين، فمن ذلك ما ورد في الحديث، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لا أحلف على يمين، فأرى غيرها خير منها، إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها) متفق عليه.
وفي رواية: (إلا كفَّرت عن يميني وفعلت الذي هو خير) متفق عليه.
وفي رواية أخرى: (إلا أتيت الذي هو خير وكفَّرت عن يميني) متفق عليه.
وجاء في حديث آخر، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إذا حلفت على يمين، فكفِّر عن يمينك، ثم ائت الخير) رواه أبو داود والنسائي.
وفي حديث أخر: (إذا حلف أحدكم على يمين، ثم رأى غيرها خير اً منها فليكفِّرها وليأت الذي هو الخير) رواه مسلم.
وفي رواية: (من حلف على يمين، فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير، وليكفِّر عن يمينه) رواه مسلم.
وبهذا يظهر لنا جواز الأمرين، فإن شئت كفَّرت عن يمينك بعد الحنث أو قبله.
*****(13/18)
19 - كثرة حلف الأيمان.
يقول السائل: كثير من الناس وخاصة التجار يكثرون من الحلف في تعاملهم مع بعضهم بعضاً فتسمع التاجر يحلف والسائق يحلف وصاحب الحرفة يحلف، فما حكم هذه الأيمان؟
الجواب: إن كثرة حلف الأيمان من الناس تدل على نقصان ثقتهم بعضهم ببعض فيلجئون للحلف حتى يصدقوا فيما يقولون وهذه حال أكثر التجار فإنهم يكثرون من الأيمان ليصدقهم الناس في كلامهم. وكثرة الحلف مكروهة هذا إذا كان الحالف صادقاً قال الله تعالى: (وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ) سورة المائدة الآية 89. قال القرطبي: [أي بترك الحلف فإنكم إذا لم تحلفوا لم تتوجه عليكم هذه التكليفات] تفسير القرطبي 6/285. ونقل القرطبي أيضاً عن بعض المفسرين في قوله تعالى: (ولآ تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) سورة البقرة الآية 224، [بأن المعنى لا تكثروا من اليمين بالله تعالى فإنه أهيب للقلوب ولهذا قال الله تعالى: (وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ) وذمَّ من كثّر اليمين فقال الله تعالى: (وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ) والعرب تمتدح بقلة الأيمان ... ] تفسير القرطبي 3/97. وأما إذا كان الحالف كاذباً متعمداً للكذب فقد وقع في الحرام قال الله تعالى: (إن الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) سورة آل عمران الآية 77. وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كثرة الحلف في البيع والشراء ويلحق به غيرهما من وجوه التعامل بين الناس فقد ثبت في الحديث عن أبي هريرة ? قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الحلف منفقة للسلعة ممحقة للبركة) رواه البخاري ومسلم. وعن أبي قتادة الأنصاري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إياكم وكثرة الحلف في البيع فإنه ينفق ثم يمحق) رواه مسلم.
قال الإمام النووي: [وفيه النهي عن كثرة الحلف في البيع فإن الحلف من غير حاجة مكروه وينضم إليه ترويج السلعة وربما اغتر المشتري باليمين] شرح النووي على صحيح مسلم 3/220. وقال الحافظ أبو العباس القرطبي المحدّث - وهو شيخ القرطبي المفسر -: [ووله: (الحلف منفقة للسلعة ممحقة للربح) الرواية: منفقة ممحقة - بفتح الميم وسكون ما بعدها وفتح مابعدها - وهما في الأصل مصدران مزيدان محدودان بمعنى: النَّفاق. والمحق أي الحلف الفاجرة تنفق السلعة وتمحق بسببها البركة فهي ذات نفاق وذات محق. ومعنى تمحق البركة أي تذهبها وقد تذهب رأس المال كما قال الله تعالى: (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ) وقد يتعدى المحق إلى الحالف فيعاقب بإهلاكه وبتوالي المصائب عليه وقد يتعدى ذلك إلى خراب بيته وبلده كما روي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اليمين الفاجرة تذر الديار بلاقع) أي: خالية من سكانها إذا توافقوا على التجرؤ على الأيمان الفاجرة. وأما محق الحسنات في الآخرة فلا بد منه لمن لم يتب وسبب هذا كله أن اليمين الكاذبة يمين غموس يؤكل بها مال المسلم بالباطل. وقوله: (إياكم وكثرة الحلف فإنه ينفق ثم يمحق) إياكم معناه الزجر والتحذير ... أي: إحذره واتقه وإنما حذر من كثرة الحلف لأن الغالب ممن كثرت أيمانه وقوعه في الكذب والفجور وإن سلم من ذلك على بعده لم يسلم من الحنث أو الندم لأن اليمين حنث أو مندمة وإن سلم من ذلك لم يسلم من مدح السلعة المحلوف عليها والإفراط في تزيينها ليروجها على المشتري مع ما في ذلك من ذكر الله تعالى لا على جهة التعظيم بل على جهة مدح السلعة فاليمين على ذلك تعظيم للسلع لا تعظيم لله تعالى وهذه كلها أنواع من المفاسد لا يقدم عليها إلا من عقله ودينه فاسد] المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم 4/522-523. وجاء في الحديث عن عبد الله بن أبي أوفى ?: (أن رجلاً أقام سلعة وهو في السوق فحلف بالله لقد أعطي بها ما لم يعط ليوقع فيها رجلاً من المسلمين فنزلت: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا)) رواه البخاري. وعن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب اليم قال: فقرأها رسول الله ثلاث مرار. قال أبو ذر: خابوا وخسروا من هم يا رسول الله؟ قال: المسبل والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب) رواه مسلم. والمسبل هو الذي يجر رداءه تكبراً واختيالاً والمنان هو الذي لا يعطي شيئاً إلا منة. وعن سلمان ?: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: أشيمط زان وعائل مستكبر ورجل جعل الله بضاعته لا يشتري إلا بيمينه ولا يبيع إلا بيمينه) رواه الطبراني في معاجمه الثلاثة وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع الصغير 1/589. وجاء في رواية أخرى: (رجل اتخذ الأيمان بضاعة يحلف في كل حق وباطل) رواه الطبراني وقال الشيخ الألباني: حسن، كما في المصدر السابق. والأشيمط الزاني هو الرجل الكبير في العمر ومع ذلك يزني والعائل المستكبر هو ذو العيال المتكبر وغير ذلك من الأحاديث.
فعلى التجار أن يتقوا الله في أنفسهم وأن لا يكثروا من الأيمان. قال أبو حامد الغزالي: [ولا ينبغي أن يحلف عليه البتة فإنه إن كان كاذباً فقد جاء باليمين الغموس وهي من الكبائر التي تذر الديار بلاقع. وإن كان صادقاً فقد جعل الله عرضة لأيمانه وقد أساء فيه إذا الدنيا أخس من أن يقصد ترويجها بذكر اسم الله من غير ضرورة ... فإذا كان الثناء على السلعة مع الصدق مكروهاً من حيث أنه فضول لا يزيد في الرزق فلا يخفى التغليظ في أمر اليمين] إحياء علوم الدين 2/77.
وأخيراً فإن التاجر إذا كثر منه الحلف فعليه أن يكثر من الصدقة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يا معشر التجار إن البيع يحضره اللغو والحلف فشوبوه بالصدقة) أي اخلطوه بالصدقة رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وهو حديث صحيح كما قال الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود 2/640. ?????(13/19)
20 - إذا حلف يمينا ثم ندم عليه.
يقول السائل: إن متسولاً ألح عليه في الطلب ليتصدق عليه وإن السائل حلف يمينأً ألا يتصدق عليه ثم ندم على يمينه فماذا يصنع؟
الجواب: يقول الله تعالى: (ولآ تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) سورة البقرة الآية 224. لا يجوز للمسلم أن يجعل الأيمان حائلاً دون فعل الخيرات ومن ذلك التصدق على الفقراء والمحتاجين فيجب على السائل أن يكفر عن يمينه ثم يتصدق على ذلك المتسول إن كان مستحقاً للصدقة. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه) رواه مسلم.
وقد ذكر الإمام القرطبي: [أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه لما وقعت حادثة الإفك حلف أبو بكر ? ألا ينفق على مسطح بن أثاثة وكان قد شارك في حادثة الإفك وكان أبو بكر رضي الله عنه ينفق على مسطح حيث كان ابن خالته ومن المهاجرين البدريين المساكين فنزل قول الله تعالى: (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) سورة النور الآية 22. فقال أبو بكر رضي الله عنه: والله إني لأحب أن يغفر لي، فأرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه وقال أبو بكر: لا أنزعها منه أبداً. ومعنى قوله تعالى: (وَلَا يَأْتَلِ) أي لا يحلف مأخوذ من الألية وهي اليمين] تفسير القرطبي 12/207-208.(13/20)
21 - أحكام كفارة اليمين.
يقول السائل: هل يجوز للشخص أن يكفر عن يمين أو أكثر كفارة واحدة؟ وما هو مقدار الإطعام في الكفارة؟ وما هو مقدار النقود في الكفارة؟ وهل يجوز أن تعطى الكفارة لشخص واحد أم يجب تفريقها على عشرة مساكين؟
الجواب: إذا حلف المسلم يميناً ثم حنث بها فتجب الكفارة في حقه وقد صح في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حلف على يمين فرأى خيراً منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه) رواه مسلم. وسواء كفر عن يمينه قبل الحنث أو بعده فإن ذلك جائز على الراجح من أقوال أهل العلم. والأصل أن الكفارة تكون عن اليمين الواحدة ولكن هنالك حالات قال الفقهاء تتداخل فيها الكفارة فتجزئ الكفارة الواحدة عن الأيمان المتعددة فمن ذلك: إذا حلف شخص أيماناً مكررة على شيء واحد كأن يحلف قائلاً: والله لا آكل هذا الطعام، والله لا آكل هذا الطعام، والله لا آكل هذا الطعام. فإذا حنث بهذه الأيمان فتلزمه كفارة واحدة فقط على الراجح من أقوال العلماء وهذا هو القول المعتمد عند الشافعية وهو قول الحنابلة ونقل عن جماعة من الصحابة والتابعين كابن عمر رضي الله عنهما والحسن البصري وعروة بن الزبير وهو قول إسحاق بن راهويه والإمام الأوزاعي وابن حزم واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية. المغني 9/514، المحلى 6/312، الاستذكار 15/82. وروى عبد الرزاق عن ابن جريج قال: حدثت أن ابن جريج قال: حدثت أن ابن عمر قال لغلام له ومجاهد يسمع وكان يبعث غلامه ذاك إلى الشام: [إنك تزمن عند امرأتك (أي تطيل المكث) فطلقها. فقال الغلام: لا. فقال ابن عمر: والله لتطلقنها. فقال الغلام: والله لا أفعل، حتى حلف ابن عمر ثلاث مرات لتطلقنها وحلف العبد أن لا يفعل. فقال ابن عمر: غلبني العبد. قال مجاهد: فقلت لابن عمر: فكم تكفرها؟ قال: كفارة واحدة] المصنف 8/503-504، ورواه ابن حزم في المحلى 6/312، وقال التهانوي: سنده صحيح، إعلاء السنن 11/471. وقال البيهقي: [ويذكر عن مجاهد عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه أقسم مراراً فكفر كفارة واحدة] سنن البيهقي 10/56.
وروى عبد الرزاق بإسناده أن إنساناً استفتى عروة بن الزبير فقال: [يا أبا عبد الله إن جارية لي قد تعرضت لي فأقسمت أن لا أقربها ثم تعرضت لي فأقسمت أن لا أقربها ثم تعرضت لي فأقسمت أن لا أقربها، فأكفر كفارة واحدة أو كفارات متفرقات؟ قال: هي كفارة واحدة] المصنف 8/504-505. وقال التهانوي: [أخرجه ابن حزم ن طريق عبد الرزاق وسنده صحيح] إعلاء السنن 11/472. وأما إذا حلف شخص أيماناً متعددة على أشياء متعددة كأن يقول: والله لا أزورك والله لا أكلمك والله لا أزوجك. فهذه أيمان متعددة على أمور مختلفة فإذا حنث بها جميعاً فتلزمه عن كل يمين كفارة على الراجح من أقوال العلماء وهو قول جمهور الفقهاء.
قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [وإن حلف أيماناً على أجناس فقال: والله لا أكلت والله لا شربت والله لا لبست فحنث في واحدة منها فعليه كفارة فإن أخرجها ثم حنث في يمين أخرى لزمته كفارة أخرى ... ورواه المروزي عن أحمد وهو قول أكثر أهل العلم] المغني 9/515. ثم قال ابن قدامة: [ولنا أنهن أيمان لا يحنث في إحداهن بالحنث في الأخرى فلم تتكفر إحداهما بكفارة الأخرى] المغني 9/515. وأما مقدار الإطعام في الكفارة فينبغي القول أولاً بأن خصال الكفارة على التخيير كما قال الله تعالى: (وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ) سورة المائدة الآية 89. فخصال الكفارة هي إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو عتق رقبة فإذا عجز الحانث عن هذه الخصال الثلاث انتقل إلى الصوم. وأما مقدار الإطعام فقال: جمهور أهل العلم يطعم كل مسكين مداً بمقدار مدّ النبي صلى الله عليه وسلم من غالب قوت البلد. فقد ذكر مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه كان يكفر عن يمينه بإطعام عشرة مساكين لكل مسكين مدً من حنطة. وروى مالك عن سليمان بن يسار أنه قال: [أدركت الناس وهم إذا أعطوا في كفارة اليمين أعطوا مداً من حنطة بالمد الأصغر ورأوا ذلك مجزئاً عنهم] قال الحافظ ابن عبد البر: [والمد الأصغر عندهم مد النبي صلى الله عليه وسلم] الاستذكار 15/87-88. والمد يساوي في زماننا نصف كيلو وزيادة قليلة. ويرى بعض العلماء أنه يكفي في الإطعام أن يطعم المساكين العشرة وجبتي غداء وعشاء. قال الإمام مالك: [إن غدى عشرة مساكين وعشاهم أجزأه] الاستذكار 15/89. ويجوز إخراج قيمة الطعام والكسوة في الكفارة على أرجح قولي العلماء في المسألة وهو قول الحنفية والإمام الأوزاعي إمام أهل الشام. لأن من مقاصد الكفارة بالإضافة إلى تكفير ذنب الحانث سد حاجة المسكين وسد الحاجة يقع بالقيمة كما يقع بالإطعام والكسوة بل لعل الأنفع للمسكين في زماننا أن يعطى القيمة فهي أقرب لسد حاجته فالمسكين ينتفع بالنقود أكثر من انتفاعه بالقمح أو الأرز أو الطبيخ فيستطيع المسكين أن يقضي حاجاته وحاجات أسرته ومصالحهم بالنقود.
وأما إعطاء الكفارة لشخص واحد فظاهر الآية الكريمة يدل على إطعام عشرة مساكين وليس إطعام مسكين واحد وهذا قول أكثر العلماء أنه لا يجزئ إعطاء مسكين واحد بل لا بد من إطعام عشرة مساكين وقال الإمام الأوزاعي يجوز أن يعطيها لمسكين واحد. وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: [إن خص بها أهل بيت شديدي الحاجة جاز بدليل أنه النبي صلى الله عليه وسلم قال للمجامع في رمضان حين أخبره بشدة حاجته وحاجة أهله: أطعمه أهلك] متفق عليه، انظر المغني 9/443. وهذا الرأي يظهر لي أنه الأقوى في المسألة، فإذا أعطى الكفارة أو قيمتها لعائلة محتاجة فأرجو أن يجزئه إن شاء الله.(13/21)
22 - إبرار المقسم
حلف بالحرام على زوجته ,
يقول السائل: إنه تشاجر مع زوجته وحلف عليها بالحرام أن لا تنام معه في غرفة النوم لمدة شهر كامل فما حكم ذلك ?
الجواب: لا يجوز للمسلم أن يحرم ما أحل الله سبحانه وتعالى ويعتبر هذا من التلاعب في الدين لقوله سبحانه وتعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا) فالذي يحرم ما أحل الله يكون قد اعتدى وتجاوز الحد هذا من ناحية. وأما من الناحية الأخرى فما قام به السائل من الحلف بالحرام على زوجته أن لا تنام معه في غرفة النوم لمدة شهر كامل فيعتبر يميناً وعليه ألا يقرب زوجته ذلك الأشهر وإن حنث بيمينه فعليه كفارة اليمين، وهي المذكورة في قوله تعالى: (فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ) .(13/22)
1 - ظاهرة التسول في المساجد
يقول السائل: كثرت في بلدنا ظاهرة التسول داخل المساجد فما أن ينتهي الإمام من الصلاة بالسلام إلا وتفاجأ بتشويش المتسول على الذاكرين والمسبوقين المصلين وهو يطالب الناس بالمساعدة وإظهار المسكنة فسؤالي ما حكم التسول داخل المسجد؟ وهل يجوز للإمام أو أحد المكلفين بالمسجد أن يطالب المتسول مدعي الفقر الخروج من المسجد؟ وهل يعتبر حينئذ مخالفاً لقوله تعالى: {وأما السائل فلا تنهر} ؟ وما صحة ما يقال: أن أحد السلف قال: لو كنت قاضياً لرددت شهادة كل من يعطي متسولاً داخل المسجد؟ ، أفيدونا.
الجواب: التسول هو طلب الصدقات من الناس في الأماكن العامة والبيوت والمساجد، والمتسول هو من يحترف مهنة التسول فأصبحت مهنته وصنعته، ومن المتسولين من يمضي حياته متسولاً، ومنهم من تبين بعد موته أنه يملك أموالاً طائلة، والحوادث في ذلك كثيرة، وقد انتشرت ظاهرة التسول وكثرت بشكل كبير ويعود ذلك لعدة عوامل منها الأحوال الصعبة التي يعشها شعبنا الفلسطيني من الحصار والإغلاق وقلة الأعمال وغير ذلك، والأصل في الشرع أن التسول حرام شرعاً إلا لضرورة أو حاجة ماسة وفق ضوابط معينة، قال أبو حامد الغزالي: [السؤال حرام في الأصل وإنما يباح بضرورة أو حاجة مهمة قريبة من الضرورة فإن كان عنها بدٌ فهو حرام، وإنما قلنا إن الأصل فيه التحريم لأنه لا ينفك عن ثلاثة أمور محرمة: الأول: إظهار الشكوى من الله تعالى إذ السؤال إظهار للفقر وذكر لقصور نعمة الله تعالى عنه وهو عين الشكوى وكما أن العبد المملوك لو سأل لكان سؤاله تشنيعاً على سيده فكذلك سؤال العباد تشنيع على الله تعالى وهذا ينبغي أن يحرم ولا يحل إلا لضرورة كما تحل الميتة.
الثاني: أن فيه إذلال السائل نفسه لغير الله تعالى وليس للمؤمن أن يذل نفسه لغير الله بل عليه أن يذل نفسه لمولاه فإن فيه عزه، فأما سائر الخلق فإنهم عباد أمثاله فلا ينبغي أن يذل لهم إلا لضرورة وفي السؤال ذل للسائل بالإضافة إلى المسؤول.
الثالث: أنه لا ينفك عن إيذاء المسؤول غالباً لأنه ربما لا تسمح نفسه بالبذل عن طيب قلب منه فإن بذل حياءً من السائل أو رياءً فهو حرام على الآخذ وإن منع ربما استحيا وتأذى في نفسه بالمنع إذ يرى نفسه في صورة البخلاء ففي البذل نقصان ماله وفي المنع نقصان جاهه وكلاهما مؤذيان والسائل هو السبب في الإيذاء والإيذاء حرام إلا بضرورة] إحياء علوم لدين 4 / 205.
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن السؤال في المسجد فقال: [أصل السؤال محرَّم في المسجد وخارج المسجد إلا لضرورة، فإن كانت ضرورة وسأل في المسجد ولم يؤذ أحدًا كتخطيه رقاب الناس، ولم يكذب فيما يرويه ويذكر من حاله ولم يجهر جهراً يضر الناس مثل أن يسأل والخطيب يخطب، أو وهم يسمعون علماً يشغلهم به ونحو ذلك جاز.] نقلاً عن غذاء الألباب للسفاريني 2 / 267.
وقد وردت أدلة كثيرة تنهى عن التسول، وسؤال الناس من غير ضرورة أو حاجة ملحة منها:
حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة ليس في وجهه مزعة لحم) رواه البخاري ومسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سأل الناس أموالهم تكثراً فإنما يسأل جمراً فليستقل أو ليستكثر) . رواه مسلم.
وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن المسألة كدٌ يكد بها الرجل وجهه إلا أن يسأل الرجل سلطاناً أو في أمر لا بد منه) رواه الترمذي وقال: حسن صحيح.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أصابته فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته ومن أنزلها بالله أوشك الله له بالغنى إما بموت عاجل، أو غنى عاجل) رواه أبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح.
وعن قبيصة بن مخارق الهلالي رضي الله عنه قال: تحملت حمالةً فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها، قال: ثم قال: (يا قبيصة إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة، رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلَّت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش أو قال سداداً من عيش، ورجل أصابته فاقة حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجا من قومه لقد أصابت فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش أو قال سداداً من عيش فما سواهن في المسألة، يا قبيصة سحتاً يأكلها صاحبها سحتاً) رواه مسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره فيتصدق به على الناس: خيرٌ له من أن يأتي رجلاً فيسأله أعطاه أو منعه) رواه البخاري ومسلم.
وعن سهل بن الحنظلية رضي الله عنه قال: قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم عيينة ابن حصن والأقرع بن حابس، فسألاه فأمر لهما بما سألاه وأمر معاوية فكتب لهما بما سألا فأما الأقرع: فأخذ كتابه فلفه في عمامته وانطلق وأما عيينة: فأخذ كتابه فأتى النبي صلى الله عليه وسلم بكتابه فقال: يا محمد أراني حاملاً إلى قومي كتاباً لا أدري ما فيه كصحيفة المتلمس فأخبر معاوية بقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سأل وعنده ما يغنيه: فإنما يستكثر من النار) وفي لفظ: (من جمر جهنم قالوا: يا رسول الله وما يغنيه) وفي لفظ: (وما الغنى الذي لا تنبغي معه المسألة قال: قدر ما يغديه وما يعشيه) وفي لفظ: (أن يكون له شِبع يومٍ وليلة) رواه الإمام أحمد وأبو داود وصححه العلامة الألباني في صحيح سنن أبي داود 1/306-307. - وصحيفة الملتمس: مثل يضرب للذي يحمل أسباب هلاكه، من غير أن يدري، وله قصة مشهورة في كتب الأدب – وغير ذلك من الأحاديث.
إذا تقرر هذا فإنه يجب منع المتسولين داخل المساجد لما يحدثونه من التشويش على المصلين والذاكرين، وأرى أن لا يعطوا شيئاً إذا سألوا داخل المسجد، وإنما يقفون على أبواب المسجد أو في ساحاته من غير تشويش على أهل المسجد، وخاصة أن كثيراً من المتسولين ليسوا أصحاب حاجةٍ حقيقيةٍ وإنما هم محترفون لمهنة التسول والشحاذة، والمساجد يجب أن تنزه عن مثل هذه الأمور، فالمساجد بنيت لعبادة الله عز وجل بإقامة الصلاة وتلاوة القرآن الكريم وتعليم العلم النافع وغير ذلك مما ينفع المسلمين، ولا يجوز أن تكون المساجد لنشد الضالة أو للبيع والشراء أو للتسول والشحاذة، فقد ورد في الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم: (نهى عن البيع والشراء في المسجد وأن تنشد فيه ضالة وأن ينشد فيه شعر ونهى عن التحلق قبل الصلاة يوم الجمعة) رواه الترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجة وهو حديث حسن كما قال الترمذي وحسنه العلامة الألباني أيضاً في صحيح سنن أبي داود 1/201.
وأما قوله تعالى {وأما السائل فلا تنهر} سورة الضحى الآية 10، فقد قال أهل التفسير إن الآية المذكورة تحمل على السائل عن العلم وعلى السائل للصدقة، قال ابن كثير: {وأما السائل فلا تنهر} أي: وكما كنت ضالاً فهداك الله، فلا تنهر السائل في العلم المسترشد.] تفسير ابن كثير 6/483. وقال الطبري: [وأما من سألك من ذي حاجة فلا تنهره، ولكن أطعمه واقض له حاجته] تفسير الطبري.
وقال القرطبي: [وأما السائل فلا تنهر، أي لا تزجره فهو نهي عن إغلاظ القول، ولكن رُدَّه ببذلٍ يسير، أو ردٍّ جميل.] تفسير القرطبي 20/101. وعدم السماح للمتسولين بالسؤال داخل المساجد لا يتنافى مع الآية الكريمة.
وأما القول المنسوب لأحد السلف وهو: [لو كنت قاضياً لرددت شهادة كل من يعطي متسولاً داخل المسجد] فقد وجدته بعد البحث والتقصي منسوباً لخلف بن أيوب العامري البلخي المتوفى سنة 215 هـ، وهو فقيه أهل بلخ وزاهدهم أخذ الفقه عن أبي يوسف ومحمد صاحبي أبي حنيفة وابن أبي ليلى والزهد عن إبراهيم بن أدهم، ونسبه إليه ابن مفلح المقدسي الحنبلي: [قال خلف بن أيوب لو كنت قاضياً لم أقبل شهادة من تصدق عليه] الآداب الشرعية 3/ 394. ونقل ابن مفلح أيضاً قول أبي مطيع البلخي الحنفي: لا يحل للرجل أن يعطي سؤَّال المسجد. وخلاصة الأمر أن الأصل في الشحاذة والتسول التحريم إلا لضرورة أو حاجة ملحة وينبغي للمسؤلين عن المساجد منع المتسولين داخل المساجد، ويجوز إعطاء المتسولين خارج المساجد إن كانوا صادقين، ومشكلة التسول تحتاج إلى حل تسهم فيه الجهات الرسمية والخيرية.(14/1)
2 - الاعتداء في الدعاء
يقول السائل: ما معنى الاعتداء في الدعاء، أفيدونا؟
الجواب: الدعاء عبادة عظيمة وحقيقته مناداة الله تعالى لما يريد الداعي من جلب منفعة أو دفع مضرة من المضار أو رفع البلاء بالدعاء، فهو سبب لذلك واستجلاب لرحمة المولى عز وجل وقد جاءت النصوص الكثيرة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم مبينة فضله وحاثة عليه ومن ذلك قوله تعالى: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) سورة غافر الآية 60. وقال تعالى: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) سورة الأعراف الآيتان 55-56. وقال تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) سورة البقرة الآية 186. وجاء في الحديث عن النعمان بن بشير رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الدعاء هو العبادة) رواه الترمذي وقال حسن صحيح، وصححه العلامة الألباني في صحيح سنن الترمذي 3/138. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس شيء أكرم على الله من الدعاء) رواه الترمذي وابن ماجة وقال العلامة الألباني حسن. انظر صحيح سنن الترمذي 3/138. وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما على الأرض مسلم يدعو الله تعالى بدعوة إلا آتاه الله إياها أو صرف عنه من السوء مثلها ما لم يدع بمأثمٍ أو قطيعة رحم، فقال رجل من القوم: إذاً نكثر، قال: الله أكثر) رواه الترمذي وقال حسن صحيح ووافقه العلامة الألباني في صحيح سنن الترمذي 3/181. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أبخل الناس من بخل بالسلام وأعجز الناس من عجز عن الدعاء) رواه ابن حبان وأبو يعلى وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في صحيح الجامع حديث رقم 1519. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سرَّه أن يستجيب الله له عند الشدائد والكرب فليكثر الدعاء في الرخاء) رواه الترمذي والحاكم وهو حديث حسن كما قال العلامة الألباني في صحيح الجامع حديث رقم 6290.
إذا تقرر هذا فإن للدعاء أحكاماً وآداباً قد فصلها العلماء في كتبهم ومنها ما ذكره الإمام النووي في كتابه الأذكار ص 340- 342.
وأما مسألة الاعتداء في الدعاء فد وردت الإشارة إليها في الكتاب والسنة، أما الكتاب ففي قوله تعالى {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} قال الإمام القرطبي: [يريد في الدعاء، وإن كان اللفظ عاماً] . تفسير القرطبي 7/226. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: [وقوله تعالى (إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) عقيب قوله (ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) دليل على أنّ من لم يدعه تضرعاً وخفيةً فهو من المعتدين الذين لا يحبهم] مجموع الفتاوى 15/24. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية أيضاً: [وعلى هذا فالاعتداء في الدعاء تارة بأن يسأل ما لا يجوز له سؤاله من المعونة على المحرمات وتارة يسأل ما لا يفعله الله مثل أن يسأل تخليده إلى يوم القيامة أو يسأله أن يرفع عنه لوازم البشرية من الحاجة إلى الطعام والشراب ويسأله بأن يطلعه على غيبه أو أن يجعله من المعصومين أو يهب له ولدا من غير زوجة ونحو ذلك مما سؤاله اعتداء لا يحبه الله ولا يحب سائله وفسر الاعتداء برفع الصوت أيضاً في الدعاء وبعد فالآية أعم من ذلك كله وإن كان الاعتداء بالدعاء مراداً] مجموع الفتاوى 15/22. وورد في الحديث (أن سعداً رضي الله عنه سمع ابناً له يدعو وهو يقول: اللهم إني أسألك الجنة ونعيمها وإستبرقها ونحواً من هذا، وأعوذ بك من النار وسلاسلها وأغلالها فقال لقد سألت الله خيراً كثيراً، وتعوذت بالله من شرٍ كثير، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنه سيكون قوم يعتدون في الدعاء، بحسبك أن تقول: اللهم إني أسألك من الخير كله ما علمت منه وما لم أعلم، وأعوذ بك من الشر كله ما علمت منه وما لم أعلم) رواه أحمد وأبو داود وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في صحيح سنن أبي داود حديث رقم 1313. وورد في الحديث أن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه سمع ابنه يقول: اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها، فقال أي بني سل الله الجنة وعُذ به من النار، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (سيكون قوم يعتدون في الدعاء) . رواه ابن ماجة وصححه العلامة الألباني في صحيح سنن ابن ماجة حديث رقم 3116. قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [والاعتداء في الدعاء يقع بزيادة الرفع فوق الحاجة – أي في الصوت - أو بطلب ما يستحيل حصوله شرعاً أو بطلب معصية أو يدعو بما لم يؤثر خصوصاً ما وردت كراهته كالسجع المتكلف وترك المأمور] فتح الباري 8/378. وقال الإمام القرطبي: [والاعتداء في الدعاء على وجوه؛ منها الجهر الكثير والصياح، ومنها أن يدعو طالباً معصية وغير ذلك، ومنها أن يدعو بما ليس في الكتاب والسنة، فيتخير ألفاظاً مقفرة وكلمات مسجعة قد وجدها في كراريس لا أصل لها ولا معول عليها، فيجعلها شعاره، ويترك ما دعا به رسوله وكل هذا يمنع من استجابة الدعاء] تفسير القرطبي 7/226. وقد نص أهل العلم على أن من الاعتداء في الدعاء أن يبالغ في تشقيق العبارات في الدعاء مثل من يقول (اللهم ارحمنا إذا ثقل منا اللسان، وارتخت منا اليدان، وبردت منا القدمان، ودنا منا الأهل والأصحاب، وشخصت منا الأبصار، وغسلنا المغسلون، وكفننا المكفنون، وصلى علينا المصلون، وحملونا على الأعناق، وارحمنا إذا وضعونا في القبور، وأهالوا علينا التراب، وسمعنا منهم وقع الأقدام، وصرنا في بطون اللحود، ومراتع الدود) ونحو ذلك من العبارات. وكذلك فإن من الاعتداء في الدعاء السجع المتكلف قال الإمام البخاري: باب ما يكره من السجع في الدعاء، ثم ذكر أثر ابن عباس رضي الله عنه وفيه ( ... وانظر السجع من الدعاء فاجتنبه فإني عهدت الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه لا يفعلون إلا ذلك الاجتناب) انظر فتح الباري 11/166. ومن الاعتداء في الدعاء أن يدعو على غيره ظلماً وعدواناً فقد جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزال يُستجاب للعبد ما لم يدع بإثمٍ أو قطيعة رحم) رواه البخاري ومسلم. وكذا إذا دعا الإنسان على نفسه فإن ذلك من الاعتداء في الدعاء فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا تدعوا على أنفسكم، ولا على أولادكم، ولا على أموالكم، فتُوَافِقُوا ساعة فيستجيب الله لكم) رواه مسلم، وورد في الحديث عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد رجلاً من المسلمين قد خفت – أي ضعف ـ فصار مثل الفرخ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هل كنت تدعو بشيء أو تسأله إياه) قال نعم كنت أقول اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سبحان الله لا تطيقه - أو لا تستطيعه - أفلا قلت اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار قال فدعا الله له فشفاه.) رواه مسلم. ومن الاعتداء في الدعاء المبالغة في رفع الصوت فعن أبى موسى الشعري رضي الله عنه قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة فجعلنا لا نصعد شرفاً، ولا نعلو شرفاً، ولا نهبط في وادٍ، إلا رفعنا أصواتنا بالتكبير، قال: فدنا منا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يا أيها الناس اربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصمَ ولا غائباً إنما تدعون سميعاً بصيراً) رواه البخاري ومسلم. ومعنى قوله (اربعوا) أي ارفقوا. وبالإضافة إلى رفع الصوت فإن تمطيط الكلمات وتقعيرها يعتبر من الاعتداء في الدعاء، قال الفقيه الحنفي الكمال بن الهمام: [ما تعارفه الناس في هذه الأزمان من التمطيط والمبالغة في الصياح والاشتغال بتحريرات النغم إظهاراً للصناعة النغمية لا إقامة للعبودية، فإنه لا يقتضي الإجابة بل هو من مقتضيات الرد، وهذا معلوم إن كان قصده إعجاب الناس به فكأنه قال اعجبوا من حسن صوتي وتحريري، ولا أرى أن تحرير النغم في الدعاء كما يفعله القراء في هذا الزمان يصدر ممن يفهم معنى الدعاء والسؤال وما ذاك إلا نوع لعب، فإنه لو قدر في الشاهد سائل حاجة من ملك أدى سؤاله وطلبه بتحرير النغم فيه من الخفض والرفع والتطريب والترجيع كالتغني، نسب البتة إلى قصد السخرية واللعب إذ مقام طلب الحاجة التضرع لا التغني فاستبان أن ذاك من مقتضيات الخيبة والحرمان] نقله المناوي في فيض القدير 1/296.
وخلاصة الأمر أن صور الاعتداء في الدعاء كثيرة كالسجع والصياح وتشقيق الكلام والدعاء بمحال وغيرها وأن خير الدعاء هو الدعاء المأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال الإمام الغزالي: [والأولى ألا يتجاوز الداعي الدعوات المأثورة، فإنه قد يتعدى في دعائه فيسأل ما لا تقتضيه مصلحته] إحياء علوم الدين 1/341.(14/2)
3 - ترك مجالسة أهل الأهواء وآكلي لحوم العلماء
يقول السائل: ما حكم حضور دروس الذين يتطاولون على العلماء ويشككون عامة الناس بكتب أهل العلم ويأتون بأمور غريبة مخالفة لما عليه علماء الإسلام، أفيدونا؟
الجواب: لا بد أن يعلم أولاً أن احترام العلماء وتقديرهم أمر مطلوب شرعاً، وقد وردت نصوص كثيرة في تقدير العلماء واحترامهم، قال الإمام النووي: [باب توقير العلماء والكبار وأهل الفضل وتقديمهم على غيرهم ورفع مجالسهم وإظهار مرتبتهم] . ثم ذكر قول الله تعالى: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) سورة الزمر الآية 9، ثم ساق الإمام النووي طائفة من الأحاديث في إكرام العلماء والكبار وأحيل القارئ إلى كتاب رياض الصالحين للإمام النووي ص 187-192.
ومما ورد أيضاً ما جاء في الحديث عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ليس من أمتي من لم يجل كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف لعالمنا حقه) رواه أحمد والحاكم وقال العلامة الألباني حديث حسن، كما في صحيح الترغيب والترهيب 1/152. وقال الإمام أبو جعفر الطحاوي صاحب العقيدة الطحاوية المشهورة: [وعلماء السلف من السابقين ومن بعدهم من التابعين أهل الخبر والأثر وأهل الفقه والنظر لا يذكرون إلا بالجميل ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل] شرح العقدية الطحاوية ص 554.
وقد حذر العلماء من سب العلماء ومن الوقيعة بهم فقد ورد عن الإمام أحمد بن الأذرعي قوله [الوقيعة في أهل العلم ولا سيما أكابرهم من كبائر الذنوب] حرمة أهل العلم ص 319.
وقال الحافظ ابن عساكر يرحمه الله مخاطباً رجلاً تجرأ على العلماء: [إنما نحترمك ما احترمت الأئمة] .
وقال الحافظ ابن عساكر يرحمه الله: [اعلم يا أخي وفقني الله وإياك لمرضاته وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته أن لحوم العلماء مسمومة وعادة الله في هتك منتقصيهم معلومة وأن من أطلق لسانه في العلماء بالثلب بلاه الله قبل موته بموت القلب (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) ] . ومع كل هذه النصوص التي تحث على ما سبق وغيرها من النصوص الشرعية التي تحرم السب والشتم واللعن والوقوع في أعراض المسلمين إلا أن بعض الناس من أشباه طلبة العلم ليس لهم شغل إلا شتم العلماء وسبهم على رؤوس الأشهاد في المساجد وفي الصحف والنشرات ويحاول هؤلاء المتسلقين على حياض العلم الشرعي تشويه صورة العلماء وتنفير عامة الناس منهم والتهوين من علمهم والتهوين من قيمة كتبهم ويزعمون أن العلماء قد حرفوا دين الله عز وجل وغير ذلك من سوء الأدب مع العلماء. إن أدعياء العلم هؤلاء، الذين يأتون الناس بالغرائب والعجائب ويزعمون – والزعم مطية الكذب - أنهم يرجعون إلى كتاب الله عز وجل وما صح من سنة النبي صلى الله عليه وسلم فقط، وهم في الحقيقة يتلاعبون في كتاب الله ولا يعرفون المبادئ الأولية لعلم الحديث، إن الموقف الشرعي من هؤلاء المبتدعة هو مقاطعتهم وعدم حضور مجالسهم ومقاطعة دروسهم ومحاضراتهم كما هو منهج السلف في عدم مجالسة أهل البدع والأهواء فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " لا تجالس أهل الأهواء فإن مجالستهم ممرضة للقلب " أخرجه الآجري في الشريعة ص61، وابن بطة في الإبانة الكبرى 2/438. وعن أبي قلابة رحمه الله تعالى أنه كان يقول: " لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم فإني لا آمن أن يغمسوكم في الضلالة أو يلبسوا عليكم في الدين بعض ما لبس عليهم " أخرجه الدارمي في سننه1/120 وعن الحسن البصري أنه قال: " لا تجالسوا أهل الأهواء، ولا تجادلوهم، ولا تسمعوا منهم " أخرجه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة 1/133. ويقول الحافظ ابن عبد البر: " أجمع العلماء على أنه لا يجوز للمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، إلا أن يكون يخاف من مكالمته وصلته ما يفسد عليه دينه، أو يولد به على نفسه مضرة في دينه أو دنياه، فإن كان كذلك فقد رخص له مجانبته ورب صرمٍ جميل خير من مخالطة مؤذية] التمهيد 6/127. هذه النصوص وغيرها ذكرها الدكتور إبراهيم الرحيلي في كتابه موقف أهل السنة والجماعة من أهل الأهواء والبدع. ومن أقوال الإمام الفضيل بن عياض في هؤلاء المبتدعة وأمثالهم: (لا تجلس مع صاحب بدعة فإني أخاف أن تنزل عليك اللعنة.) (من جالس صاحب بدعة لم يعط الحكمة.) (من أحب صاحب بدعة أحبط الله عمله وأخرج نور الاسلام من قلبه) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية [ومن كان متبدعاً ظاهر البدعة وجب الإنكار عليه، ومن الإنكار المشروع أن يهجر حتى يتوب، ومن الهجر امتناع أهل الدين من الصلاة عليه، لينزجر من يتشبه بطريقته ويدعو إليه، وقد أمر بمثل هذا مالك بن أنس وأحمد بن حنبل وغيرهما من الأئمة.] وإن الواجب شرعاً هو تأديب من يأتي الناس بالغرائب والمتشابهات كما فعل عمر رضي الله عنه مع صبيغ بن عسل، فقد روى الدارمي من طريق سليمان بن يسار قال قدم المدينة رجل يقال له صبيغ بن عسل فجعل يسأل عن متشابه القرآن فأرسل إليه عمر فأعد له عراجين النخل فقال من أنت قال أنا عبد الله صبيغ قال وأنا عبد الله عمر فضربه حتى أدمى رأسه فقال حسبك يا أمير المؤمنين قد ذهب الذي كنت أجده في رأسي)
وروى إسماعيل القاضي في الأحكام من طريق هشام عن محمد بن سيرين قال كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى لا تجالس صبيغ واحرمه عطاءه.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية [وقصة صبيغ بن عسل مع عمر بن الخطاب من أشهر القضايا فانه بلغه أنه يسأل عن متشابه القرآن حتى رآه عمر فسأل عمر عن {الذاريات ذرواً} فقال ما اسمك قال عبد الله صبيغ فقال وأنا عبد الله عمر وضربه الضرب الشديد وكان ابن عباس إذا ألح عليه رجل في مسألة من هذا الجنس يقول ما أحوجك أن يصنع بك كما صنع عمر بصبيغ وهذا لأنهم رأوا أن غرض السائل ابتغاء الفتنة لا الاسترشاد والاستفهام كما قال النبي عليه الصلاة والسلام) إذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه) وكما قال تعالى {فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة} فعاقبوهم على هذا القصد الفاسد كالذي يعارض بين آيات القرآن وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقال (لا تضربوا كتاب الله بعضه ببعض فان ذلك يوقع الشك في قلوبهم) ومع ابتغاء الفتنة ابتغاء تأويله الذي لا يعلمه إلا الله فكان مقصودهم مذموماً ومطلوبهم متعذراً مثل أغلوطات المسائل التي نهى رسول الله عنها] عن الإنترنت.
وخلاصة الأمر أنه يجب هجر المتلاعبين في كتاب الله عز وجل وآكلي لحوم العلماء والطاعنين في كتبهم ولا يجوز لعامة الناس حضور دروسهم وتكثير جمعهم، وما أحوجنا لإمام يصنع بهم كما صنع عمر رضي الله عنه بصبيغ.(14/3)
1 - زنا المحارم من أعظم الكبائر
يقول السائل: زنا رجل بإحدى محارمه وحملت ويريدان إجهاض الحمل خشية الفضيحة وخشية تعرض الفتاة للقتل، فما الحكم الشرعي في ذلك، أفيدونا؟
الجواب: لا شك أن الزنا من كبائر الذنوب، وقد وردت في تحريمه والترهيب منه نصوص كثيرة من كتاب الله عز وجل ومن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، منها قول الله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} سورة النور الآية2. وقال الله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً} سورة الفرقان الآيات 68-71. وقال الله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً} سورة الإسراء الآية 32. قال الشيخ السعدي في تفسير الآية الكريمة: [والنهي عن قربانه أبلغ من النهي عن مجرد فعله، لأن ذلك يشمل النهي عن جميع مقدماته ودواعيه فإن (من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه) خصوصاً هذا الأمر الذي في كثير من النفوس أقوى داع إليه. ووصف الله الزنا وقبحه بأنه {كان فاحشة} أي: إثماً يستفحش في الشرع والعقل والفطر، لتضمنه التجري على الحرمة في حق الله وحق المرأة وحق أهلها أو زوجها وإفساد الفراش واختلاط الأنساب وغير ذلك من المفاسد. وقوله: {وساء سبيلاً} أي: بئس السبيل سبيل من تجرأ على هذا الذنب العظيم.] تفسير السعدي ص457. وورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن) رواه البخاري ومسلم. وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة) رواه البخاري ومسلم. وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رأيت الليلة رجلين أتياني فأخرجاني إلى أرض مقدسة) فذكر الحديث إلى أن قال: (فانطلقنا إلى ثقب مثل التنور أعلاه ضيق وأسفله واسع، يتوقد تحته ناراً، فإذا ارتفعت ارتفعوا حتى كادوا أن يخرجوا، وإذا أخمدت رجعوا فيها، وفيها رجال ونساء عراة) الحديث، وفي رواية (فانطلقنا على مثل التنور قال فأحسب أنه كان يقول فإذا فيه لغط وأصوات، قال فاطلعنا فيه فإذا فيه رجال ونساء عراة، وإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم فإذا أتاهم ذلك اللهب ضوضوا - أي رفعوا أصواتهم مختلطة – الحديث، وفي آخره (وأما الرجال والنساء العراة الذين هم في مثل بناء التنور فإنهم الزناة والزواني) رواه البخاري. وغير ذلك. وهذه النصوص وردت في الترهيب من الزنا عامة، فكيف بالزنا بالمحارم!؟ فإنه أعظم الزنا، وكيف لا يكون كذلك، ومطلوبٌ من المسلم أن يحافظ على عرضه، فابنته وأخته وعمته وخالته وأم زوجته ونحوهن من المحارم، يلزم المسلم أن يحفظهن وأن يحميهن، لا أن يقع في الزنا معهن والعياذ بالله. وإذا كان الزنا بزوجة الجار من أعظم الذنوب، فكيف الزنا بالأخت أو البنت أو العمة أو الخالة؟! فقد ثبت في الحديث عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك، قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك، قلت: ثم أي؟ قال: أن تزاني حليلة جارك) رواه البخاري ومسلم. ورواه الترمذي والنسائي وزادا في روايتهما: وتلا هذه الآية {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً} والحليلة هي الزوجة. وعن المقداد بن الأسود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: ما تقولون في الزنا؟ قالوا حرام حرمه الله عز وجل ورسوله فهو حرام إلى يوم القيامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره) رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط وصححه العلامة الألباني في صحيح الترغيب 2/615. قال الإمام الذهبي: [وأعظم الزنا، الزنا بالأم والأخت وامرأة الأب وبالمحارم وقد صحح الحاكم (من وقع على ذات محرم فاقتلوه) ، وعن البراء أن خاله بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل عرَّس بامرأة أبيه أن يقتله ويخمس ماله) فنسأل الله المنان بفضله أن يغفر لنا ذنوبنا إنه جواد كريم] الكبائر 1/50. وقال الشيخ ابن حجر المكي: [وأعظم الزنا على الإطلاق، الزنا بالمحارم فقد صحح الحاكم أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من وقع على ذات محرم فاقتلوه ... وعُلم مما ذكر وغيره أن الزنا له ثمرات قبيحة: منها أنه يورد النار والعذاب الشديد، وأنه يورث الفقر وأنه يؤخذ بمثله من ذرية الزاني ... وعلم من ذلك أيضاً أن الزنا له مراتب: فهو بأجنبية لا زوج لها عظيم، وأعظم منه بأجنبية لها زوج، وأعظم منه بمحرم، وزنا الثيب أقبح من البكر بدليل اختلاف حديهما، وزنا الشيخ- أي الكبير - لكمال عقله أقبح من زنا الشاب، والحر والعالم لكمالهما أقبح من القن – أي العبد – والجاهل.] الزواجر عن اقتراف الكبائر 3/74. إذا تقررت خطورة الزنا عامة والزنا بالمحارم خاصة، فإن طائفة من أهل العلم قالوا بقتل الزاني بإحدى محارمه، وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عمن زنا بأخته ماذا يجب عليه؟ فأجاب: [وأما من زنا بإخته مع علمه بتحريم ذلك وجب قتله والحجة في ذلك ما رواه البراء بن عازب رضي الله عنه قال: مرَّ بي خالي أبو بردة ومعه راية فقلت: أين تذهب يا خالي! قال: (بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجلٍ تزوج امرأة أبيه فأمرني أن أضرب عنقه وأخمِّس ماله) مجموع الفتاوى 34/177. والحديث الذي استدل به شيخ الإسلام ابن تيمية رواه أحمد والترمذي والنسائي، وصححه العلامة الألباني في إرواء الغليل حديث رقم2351 وذهب جمهور الفقهاء إلى أن عقوبة الزاني بالمحارم هي نفس عقوبة الزاني، فإن كان محصناً فالرجم، وإن كان غير محصن فالجلد مئة، وذلك لعموم الأدلة الواردة في عقوبة الزاني، وحجة من قال بقتل الزاني بمحرم ما ورد في الحديث عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من وقع على ذات محرم فاقتلوه) رواه أحمد وابن ماجة والبيهقي والحاكم وقال: صحيح ولم يخرجاه. وحسنه جماعة وضعفه آخرون، فالحديث مختلف في إسناده، انظر إرواء الغليل حديث رقم 2352. وقال الشيخ ابن القيم: [فصل في حكمه صلى الله عليه وسلم فيمن تزوج امرأة أبيه، روى الإمام أحمد والنسائي وغيرهما: عن البراء رضي الله عنه قال لقيت خالي أبا بردة ومعه الراية فقال أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه أن أقتله وآخذ ماله) ... وفي سنن ابن ماجة من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من وقع على ذات محرم فاقتلوه) ، وذكر الجوزجاني أنه رفع إلى الحجاج رجل اغتصب أخته على نفسها، فقال احبسوه وسلوا من هاهنا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألوا عبد الله بن أبي مطرف رضي الله عنه فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من تخطى حرم المؤمنين فخطوا وسطه بالسيف) ، وقد ن أحمد في رواية إسماعيل بن سعيد في رجل تزوج امرأة أبيه أو بذات محرم فقال يقتل ويدخل ماله في بيت المال، وهذا القول هو الصحيح وهو مقتضى حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال الشافعي ومالك وأبو حنيفة: حده حد الزاني ... وحكمُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقضاؤه أحق وأولى] زاد المعاد5/13. وأخيراً فإن من المقرر عند أهل العلم أن الأصل هو تحريم الإجهاض قبل مرور مئة وعشرين يوماً على الحمل إلا لعذر مشروع على الراجح من أقوال العلماء، وأما بعد مضي مئة وعشرين يوماً على الحمل فقد اتفق أهل العلم على تحريم الإجهاض في هذه الحالة؛ لأن الروح تنفخ في الجنين عند مرور تلك المدة على رأي كثير من العلماء لما ثبت في حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق قال: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكاً فيأمر بأربع: برزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد ثم ينفخ فيه الروح…) رواه البخاري. ويستثنى من هذا الحكم حالة واحدة فقط، وهي إذا ثبت بتقرير لجنة من الأطباء الثقات أهل الاختصاص أن استمرار الحمل يشكل خطراً مؤكداً على حياة الأم فحينئذ يجوز إسقاط الحمل. وقد جاء في قرار المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي ما يلي: [إذا كان الحمل قد بلغ مائة وعشرين يوماً لا يجوز إسقاطه ولو كان التشخيص الطبي يفيد أنه مشوه الخلقة إلا إذا ثبت بتقرير لجنة طبية من الأطباء المختصين أن بقاء الحمل فيه خطر مؤكد على حياة الأم فعندئذ يجوز إسقاطه سواء كان مشوهاً أم لا دفعاً لأعظم الضررين] قرارات المجمع الفقهي الإسلامي ص 123. وبناءً على ما سبق فإن إسقاط الجنين الناتج عن زنا المحارم قبل مضي مئة وعشرين يوماً له وجه شرعي، وخاصة إن خشي قتل الفتاة بسبب الأعراف الاجتماعية والعادات والتقاليد السائدة.
وخلاصة الأمر أن زنا المحارم من أعظم الزنا، والواجب على الأسر أخذ الاحتياطات اللازمة لمنعه بالالتزام بالأحكام الشرعية الواردة مثل الاستئذان قبل الدخول، والتفريق بين الأولاد والبنات في المضاجع، وعدم إظهار مفاتن الجسد أمام المحارم واجتناب مشاهدة الأفلام الإباحية ونحوها، فالوقاية خير من العلاج، ولا يجوز إجهاض الجنين الناتج عن زنا المحارم إذا مضى على الحمل أربعة أشهر، وأما قبل ذلك فيجوز إجهاضه وخاصة إذا خشي على الفتاة من القتل، ومن وقع ذلك منه فعليه أن يبادر إلى التوبة النصوح، قال الله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} سورة الزمر الآيات 53-54.(15/1)
2 - يحرم تجسس الزوج على زوجته بحجة الغيرة عليها ولضمان حسن سلوكها
تقول السائلة: قام زوجي بتركيب آلة تسجيل على هاتف البيت لتسجيل مكالماتي، كما أنه يقوم بمراقبة هاتفي النقال باستمرار ولما فاتحته بالموضوع زعم أن ما فعله للمحافظة على أسرته وأنه شديد الغيرة على زوجته، فما حكم ذلك، أفيدونا؟
الجواب: لا بد من بيان معنى التجسس أولاً فهو اللغة تتبع الأخبار، يقال: جس الأخبار وتجسسها: إذا تتبعها، ومنه الجاسوس، لأنه يتتبع الأخبار ويفحص عن بواطن الأمور، والتجسس تعتريه أحكام ثلاثةٌ الحرمة والوجوب والإباحة. فالتجسس على المسلمين في الأصل حرامٌ منهيٌ عنه، لقوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} سورة الحجرات الآية 12. ولأن فيه تتبع عورات المسلمين ومعايبهم والاستكشاف عما ستروه ... قال ابن وهب: والستر واجبٌ إلا عن الإمام والوالي وأحد الشهود الأربعة في الزنا. وقد يكون التجسس واجباً، فقد نقل عن ابن الماجشون المالكي أنه قال: اللصوص وقطاع الطريق أرى أن يُطلبوا في مظانهم ويُعان عليهم حتى يقتلوا أو ينفوا من الأرض بالهرب. وطلبهم لا يكون إلا بالتجسس عليهم وتتبع أخبارهم. ويباح في الحرب بين المسلمين وغيرهم بعثُ الجواسيس لتعرف أخبار جيش الكفار من عدد وعتاد وأين يقيمون وما إلى ذلك. وكذلك يباح التجسس إذا رُفع إلى الحاكم أن في بيت فلان خمراً، فإن شهد على ذلك شهود كُشف عن حال صاحب البيت، فإن كان مشهوراً بما شُهد عليه أُخذ، وإن كان مستوراً فلا يُكشف عنه. وقد سُئل الإمام مالك عن الشرطي يأتيه رجلٌ يدعوه إلى ناس في بيت اجتمعوا فيه على شراب، فقال: إن كان في بيت لا يُعلم ذلك منه فلا يتتبعه، وإن كان معلوماً بذلك يتتبعه. وللمحتسب أن يكشف على مرتكبي المعاصي؛ لأن قاعدة ولاية الحسبة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. الموسوعة الفقهية الكويتية 10/162 بتصرف. ومما يدل على حرمة التجسس وتتبع عورات المسلمين قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثماً مُّبِيناً} سورة الأحزاب الآية 58. وثبت في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إياكم والظن، فإن الظنَ أكذبُ الحديث، ولا تحسسوا ولا تجسسوا ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً كما أمركم، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله ولا يحقره، التقوى هاهنا التقوى ها هنا - ويشير إلى صدره - بحسب امرئٍ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وعرضه، وماله، إن الله لا ينظر إلى أجسادكم، ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم) رواه مسلم. قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [قوله: (إياكم والظن) قال الخطابي وغيره: ليس المراد ترك العمل بالظن الذي تناط به الأحكام غالباً، بل المراد ترك تحقيق الظن الذي يضر بالمظنون به، وكذا ما يقع في القلب بغير دليل، وذلك أن أوائل الظنون إنما هي خواطر لا يمكن دفعها، وما لا يقدر عليه لا يكلف به، ويؤيده حديث (تجاوز الله للأمة عما حدثت به أنفسها) ... وقال القرطبي: المراد بالظن هنا التهمة التي لا سبب لها كمن يتهم رجلاً بالفاحشة من غير أن يظهر عليه ما يقتضيها، ولذلك عطف عليه قوله: (ولا تجسسوا) وذلك أن الشخص يقع له خاطر التهمة فيريد أن يتحقق فيتجسس ويبحث ويستمع، فنهى عن ذلك، وهذا الحديث يوافق قوله تعالى: {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} ، فدل سياق الآية على الأمر بصون عرض المسلم غاية الصيانة لتقدم النهي عن الخوض فيه بالظن، فإن قال الظان أبحث لأتحقق، قيل له {وَلَا تَجَسَّسُوا} فإن قال تحققت من غير تجسس، قيل له {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} ] فتح الباري 10/591. وعن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمانُ قلبَه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من اتبع عوراتهم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه في بيته) رواه أبو داود وقال العلامة الألباني حديث حسن صحيح، كما في صحيح سنن أبي داود 3/923. وعن ابن مسعود رضي الله عنه: أنه أُتِيَ برجلٍ فقيل له: هذا فلان تقطر لحيته خمراً، فقال: إنا قد نهينا عن التجسس، ولكن إن يظهر لنا شيءٌ نأخذ به. قال الإمام النووي في رياض الصالحين: حديث حسن صحيح، رواه أبو داود بإسناد على شرط البخاري ومسلم. وغير ذلك من النصوص. وقد اعتبر العلماء التجسس المحرم على المسلمين من كبائر الذنوب، قال ابن حجر الهيتمي المكي معلقاً على قوله تعالى: {وَلا تَجَسَّسُوا} : [وعلى كلٍ ففي الآية النهي الأكيد عن البحث عن أمور الناس المستورة وتتبع عوراتهم] الزواجر عن اقتراف الكبائر 2/14. وقال أيضاً عند حديثه عن كبيرة التسمع إلى حديث قومٍ يكرهون الإطلاع عليه: [أخرج البخاري وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ... ومن استمع إلى حديث قومٍ وهم له كارهون صب في أذنيه الآنك - أي بالمد وضم النون: الرصاص المذاب - يوم القيامة..) ... عَدُّ هذا هو صريح هذا الحديث وهو ظاهر وإن لم أرَ من ذكره لأن صب الرصاص المذاب في الأذنين يوم القيامة وعيدٌ شديدٌ جداً، ثم رأيت بعضهم ذكره ومر في مبحث الغيبة معنى قوله تعالى: {ولا تجسسوا} ، وقوله صلى الله عليه وسلم: (ولا تجسسوا ولا تحسسوا) ، قيل هما مترادفان ومعناهما طلب معرفة الأخبار، وقيل مختلفان فهو بالحاء أن تسمعها بنفسك وبالجيم أن تفحص عنها بغيرك، وقيل بالحاء استماع حديث القوم وبالجيم البحث عن العورات؛ ومن ذلك وغيره عُلم أنه ليس للإنسان أن يسترق السمع من دار غيره، وأن لا يستنشق ولا يمس ثوب إنسان ليسمع أو يشم أو يجد منكراً، وأن لا يستخبر من صغار دار أو جيرانها؛ ليعلم ما يجري في بيت جاره.] الزواجر عن اقتراف الكبائر 2/357. إذا تقرر هذا فإنه يحرم شرعاً على الزوج أن يتجسس على زوجته ما دامت ملتزمة بالأحكام الشرعية، لأن الأصل فيها هو السلامة من المعاصي والآثام، ولأن التجسس على الزوجة يعتبر من باب إساءة الظن وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثمٌ وَلا تَجَسَّسُوا} سورة الحجرات الآية 12. ولأن التجسس على الزوجة يؤدي إلى الفساد والإفساد، كما ورد في الحديث عن معاوية رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنك إن اتبعت عورات المسلمين أفسدتهم، أو كدت أن تفسدهم) رواه أبو داود وابن حبان وصححه العلامة الألباني في صحيح الترغيب 2/293. ومما يدل على حرمة التجسس على الزوجة وتتبع العورات أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يطرق الرجل أهله طُروقاً - قال أهل اللغة الطُروق بالضم المجيء بالليل من سفرٍ أو من غيره على غفلة - وقد بوبَّ الإمام البخاري في صحيحه" باب لا يطرق أهله ليلاً إذا أطال الغيبة مخافة أن يتخونهم أو يلتمس عثراتهم"، ثم روى بإسناده عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أطال أحدكم الغيبة فلا يطرق أهله ليلاً) ، وفي رواية عند مسلم عن جابر قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطرق الرجل أهله ليلاً يتخونهم أو يلتمس عثراتهم) ، قال الإمام الشوكاني: [قوله (يتخونهم أو يطلب عثراتهم) ... والتخون أن يظن وقوع الخيانة له من أهله، وعثراتهم بفتح المهملة والمثلثة جمع عثرة: وهي الزلة. ووقع في حديث جابر عند أحمد والترمذي بلفظ: (لا تلجوا على المغيبات فإن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم) ] نيل الأوطار 6/240-241. وأما تبرير الزوج بأن يتجسس على زوجته من باب الغيرة، فهذه الغيرة مذمومة، وقد ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن من الغيرة ما يحب الله ومنها ما يبغض الله، فأما الغيرة التي يحبها الله فالغيرة في الريبة، وأما الغيرة التي يبغضها الله فالغيرة في غير الريبة) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان وحسنه العلامة الألباني في صحيح الجامع 1/442. والغيرة من غير ريبة نوع من الإفراط، وأما التفريط في الغيرة فهو من لا يغار على زوجته ومحارمه مع وجود الريبة، فهذا ينطبق عليه وصف الديوث الوارد في الحديث، والدياثة من كبائر الذنوب كما قال ابن حجر المكي في الزواجر عن اقتراف الكبائر 2/109-111.
وخلاصة الأمر أنه يحرم شرعاً على الزوج أو الزوجة أن يتجسس كل واحد منهما على الآخر بدون موجب، وإن التجسس وسوء ظن أحد الزوجين بالآخر، يؤدي إلى الدمار، وخراب البيوت، وإفساد الحياة الزوجية ويفقدهما الشعور بالثقة والسكن المشار إليه في قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} سورة الروم الآية 21.(15/2)
3 - يحرم تزويج شاتم الرب والدين حتى يتوب
تقول السائلة: تقدم ابن عمي لخطبتي ومعروفٌ عنه كثرة سبه للدين والرب، ووالدي يجبرني على القبول به، وأنا أرفضه، فما حكم قبولي الزواج منه، أفيدونا؟
الجواب: واجب الآباء والأولياء أن يتحروا عمن يتقدم لخطبة بناتهم، وأن ينظروا ويفحصوا أحوالهم، وأن يجعلوا المعيار للقبول والرد هو ما قرره الشرع، فقد ورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنةٌ في الأرض وفسادٌ عريضٌ) رواه الترمذي وابن ماجة والحاكم، وقال الشيخ الألباني: حديث حسن. وجاء في الحديث عن أبي حاتم المزني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد. قالوا: وإن كان فيه؟ قال: إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه) ثلاث مرات. رواه الترمذي وهو حديث حسن كما قال الشيخ الألباني في صحيح سنن الترمذي 1/315. وهذا الحديث يقرر أصلاً مهماً في الزواج وهو اعتبار الكفاءة في الدين، فإن ساب الرب والدين ليس كفؤاً للمرأة الصالحة، فشاتم وساب الرب والدين لا ينبغي أن يزوج لأن أمره دائر بين الكفر والفسق على اختلافٍ بين العلماء في حاله. ولا شك أن من الأمور المقلقة والمنكرة انتشار سب الدين وسب الرب في المجتمع بشكل ظاهر وواضح، حيث إن هذه الظاهرة المنكرة أصبحت دارجة على ألسنة كثير من الناس، صغاراً وكباراً ذكوراً وإناثاً، ونسمعها باستمرار كلما تصايح اثنان، وترى بعض الناس يسبون الدين والرب بشكل عادي جداً وكأن الأمر ليس كفراً مخرجاً من الملة، وهذه الظاهرة المنكرة تحتاج إلى علاج شامل لتستأصل من أوساط الناس، وعلاج هذه الظاهرة يحتاج إلى تضافر الجهود من أئمة المساجد والخطباء والمربين والمدرسين والآباء والأمهات وغيرهم. ولا بد أن نغرس معاني الإيمان في نفوس أبنائنا وبناتنا ونعلمهم أن سب الدين وشتم الذات الإلهية من نواقض الإيمان. والأسرة والمسجد لهما دور كبير في ذلك، وكذلك المدرسة، فالمربون من المدرسين والمدرسات عليهم واجب كبير في هذه القضية، خاصة نحو صغار الأطفال الذين قد يسمعون هذه الشتائم لأول مرة في المدرسة من زملائهم أو في الشارع، والحق يقال إن هذه الظاهرة منتشرة في بلادنا بشكل واضح مع الأسف الشديد بخلاف كثير من بلاد المسلمين فلا تكاد توجد عندهم ولا يعرفونها. ويجب أن يعلم أن العلماء قد بينوا أن سب الدين أو سب الرب أو سب الرسول صلى الله عليه وسلم يُعد كفراً مخرجاً من الملة، وهو ردة عن دين الإسلام إذا كان الساب يعلم ما يصدر عنه، حتى لو كان مستهزئاً، يقول الله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَءَايَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} سورة التوبة الآيتان 65-66. قال القاضي عياض: [لا خلاف أن سابَّ الله تعالى من المسلمين كافر حلال الدم] الشفا بتعريف حقوق المصطفى 2/267. ونقل شيخ الإسلام ابن تيمية عن الإمام اسحق بن راهوية أحد الأئمة الأعلام قوله: [أجمع المسلمون على أن من سبَّ الله أو سبَّ رسوله صلى الله عليه وسلم أو دفع شيئاً مما أنزل الله عز وجل أو قتل نبياً من أنبياء الله عز وجل أنه كافر بذلك وإن كان مقراً بكل ما أنزل الله] الصارم المسلول على شاتم الرسول ص 9. وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [ومن سبَّ الله تعالى، كفر سواء كان مازحاً أو جاداً وكذلك من استهزأ بالله تعالى أو بآياته أو برسله، أو كتبه قال الله تعالى: {ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم} وينبغي أن لا يُكتفى من الهازئ بذلك بمجرد الإسلام حتى يؤدب أدباً يزجره عن ذلك، فإنه إذا لم يُكتف ممن سب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتوبة فممن سب الله تعالى أولى] المغني 9/28. إذا تقرر أن سب الذات الإلهية وسب الدين كفر مخرج من الملة، فيجب الانتباه إلى الفرق بين كون الشيء كفراً وتكفير الشخص الذي حصل منه ذلك بعينه، فلا نستطيع أن نحكم بكفر كل إنسان إذا صدر منه ما يحكم العلماء أنه كفر، لأن تكفير المعين يحتاج إلى معرفة أن موانع التكفير منتفية عن هذا الشخص المعين، وقد ذكر أهل العلم أن موانع التكفير هي الخطأ والجهل والعجز والإكراه. قال الشيخ العلامة محمد العثيمين: [للحكم بتكفير المسلم شرطان: أحدهما: أن يقوم الدليل على أن هذا الشيء مما يكفر. الثاني: انطباق الحكم على من فعل ذلك بحيث يكون عالماً بذلك قاصداً له، فإن كان جاهلاً لم يكفر لقوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} سورة النساء الآية 115. وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} سورة التوبة الآية 115. وقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} سورة الإسراء الآية 15. لكن إن فرط بترك التعلم والتبين لم يعذر، مثل أن يبلغه أن عمله هذا كفر فلا يتثبت ولا يبحث، فإنه لا يكون معذوراً حينئذ. وإن كان غير قاصدٍ لعمل ما يكفر لم يكفر بذلك، مثل أن يكره على الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان، ومثل أن ينغلق فكره فلا يدري ما يقول لشدة فرح ونحوه، كقول صاحب البعير الذي أضلها ثم اضطجع تحت شجرة ينتظر الموت فإذا بخطامها متعلقاً بالشجرة فأخذه فقال: (اللهم أنت عبدي وأنا ربك) أخطأ من شدة الفرح] فتاوى العقيدة ص263-264. وقد سئل الشيخ العلامة عبد الرزاق عفيفي عن سب الدين أو الرسول صلى الله عليه وسلم أو القرآن العظيم هل يكفر ولو كان جاهلاً؟ فقال: [هذا الباب كغيره من أبواب الكفر يُعلَّم ويؤدب فإن عُلِّم وعاند بعد التعليم والبيان كفر، وإذا قيل لا يعذر بالجهل فمعناه يُعلَّم ويؤدب وليس معناه أنه يكفر] فتاوى ورسائل الشيخ عبد الرزاق عفيفي ص372. وبناءً على ما تقدم فإن كثيراً من الناس الذين يسبون الدين والرب في بلادنا وتجري هذه الكلمة على ألسنتهم لا نستطيع أن نحكم عليهم بالكفر وبفسخ زواجهم، لأن هؤلاء يجهلون ما يترتب على التلفظ بالسب والشتم من نتائج، وكذلك فإن السب والشتم يصدر منهم من غير قصدٍ ولا إرادة وما كان كذلك فإن الله سبحانه وتعالى لا يؤاخذ عليه كما في يمين اللغو التي يتلفظ بها الإنسان، ولكنه لا يقصد اليمين فهو غير مؤاخذ بذلك، يقول الله تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} سورة المائدة الآية 89. ويضاف إلى ذلك أن السب والشتم إذا صدر عن الإنسان وهو في حالة من الغضب الشديد بحيث إنه لا يدري ما يصدر منه فأرجو أن لا يؤاخذ على كلامه. ولا يفهمنَّ أحدٌ أن في هذا الكلام تهويناً من هذه الجريمة المنكرة والعادة القبيحة ألا وهي سب الدين والذات الإلهية والرسول صلى الله عليه وسلم، فعلى من وقع منه ذلك أن يتوب إلى الله توبة صادقة نصوحاً، [وشروط التوبة الخمسة هي: الشرط الأول: الإخلاص لله بتوبته، بأن لا يكون الحامل له على التوبة رياء أو سمعة، أو خوفاً من مخلوق، أو رجاء لأمرٍ يناله من الدنيا، فإذا أخلص توبته لله وصار الحامل له عليها تقوى الله عز وجل والخوف من عقابه ورجاء ثوابه، فقد أخلص لله تعالى فيها. الشرط الثاني: أن يندم على ما فعل من الذنب، بحيث يجد في نفسه حسرةً وحزناً على ما مضى، ويراه أمراً كبيراً يجب عليه أن يتخلص منه. الشرط الثالث: أن يقلع عن الذنب وعن الإصرار عليه؛ فإن كان ذنبه تَرْكَ واجبٍ قام بفعله وتَدَارَكَه إن أمكن، وإن كان ذنبُه بإتيانِ محرمٍ أقلع عنه، وابتعد عنه، ومن ذلك إذا كان الذنب يتعلق بالمخلوقين، فإنه يؤدي إليهم حقوقهم أو يستحلهم منها. الشرط الرابع: العزم على أن لا يعود في المستقبل، بأن يكون في قلبه عزم مؤكد ألا يعود إلى هذه المعصية التي تاب منها. الشرط الخامس: أن تكون التوبة في وقت القبول، فإن كانت بعد فوات وقت القبول لم تقبل، وفوات وقت القبول عام وخاص: أما العام؛ فإنه طلوع الشمس من مغربها، فالتوبة بعد طلوع الشمس من مغربها لا تقبل، لقول الله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلْ انتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ} سورة الأنعام الآية 158. وأما الخاص؛ فهو حضور الأجل، فإذا حضر الأجل فإن التوبة لا تنفع لقول الله تعالى: {وَلَيْسَتْ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} سورة النساء الآية 18.] مجموع فتاوى الشيخ العثيمين 2/152. والمطلوب ممن تاب توبة صادقة أن يكثر من الاستغفار ومن فعل الخيرات، فلعل الله أن يتقبل منه يقول سبحانه وتعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} سورة الزمر الآية 53.
وخلاصة الأمر أن سب الدين والرب ردةٌ في حق من ارتكبه عامداً قاصداً عالماً به غير جاهل ولا مكره. وأن شاتم الرب والدين يحرم تزويجه شرعاً حتى يتوب إلى الله عز وجل توبة نصوحاً بشروطها، ولا يجوز لهذا الأب أن يجبر ابنته على الزواج من ابن أخيه ساب الرب والدين حتى يتوب.(15/3)
4 - مسابقة ملكة الجمال أمر محرم شرعا ومناف لقيمنا وأخلاقنا
يقول السائل: ما الحكم الشرعي في مسابقة ملكة الجمال، وما حكم المشاركة فيها، أفيدونا؟
الجواب: لعل من الأمور البدهية التي لا يجهلها مسلم، أن مسابقة ملكة الجمال تتنافى مع مبادئ ديننا الإسلامي الحنيف، وما هي إلا تقليدٌ أعمى للغربيين الذين صنعوها، وما مسابقة ملكات الجمال إلا امتهانٌ للمرأة واحتقار لشأنها، وجعلِ جسدها كالسلعة التي يُقلبها المتسوقون، وفيها استغلال لجسد المرأة في الإعلانات التجارية لتسويق البضائع وترويجها، وهذه المسابقات مظهر من مظاهر الانحلال والميوعة، ومحاربة الفضيلة ودعوة للرذيلة، وإشاعة للفحشاء والمنكر في المجتمع، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} سورة النور الآية 19. ومسابقة ملكات الجمال عودة إلى سوق النخاسة، بل هي أسوأ من ذلك، حيث كانت الجواري لا يبعن لجمالهن فقط، وإنما لصفاتٍ أخرى فيهن كالفصاحة والبلاغة والتدين ونحو ذلك. وفكرة مسابقة ملكات الجمال من الإفرازات الخبيثة للثقافة الغربية، يقول الدكتور مصطفى السباعي رحمة الله عليه: [من أبرز مظاهر مكر الحضارة الغربية بالمرأة ابتداعها مسابقات ملكات الجمال، وملكات الأناقة، وملكات الإغراء وملكات لا نهاية لممالكهن الوهمية، هل في ذلك إلا دليلٌ على رغبة الرجل الغربي في الاستمتاع بأنوثة المرأة، ودليلٌ على أن المرأة عندهم لا تهمُّها كرامتها بقدر ما يهمها لفت الأنظار إلى جمالها وأنوثتها؟ ... مسابقات ملكات الجمال مناسبة لاستمتاع رجال التحكيم والمتفرجين بأجسام الفتيات المتسابقات تحت ستار مشروع في رأي هذه الحضارة ... مسابقات ملكات الجمال، رقيةُ الساحر الماكر لاستخراج الفتيات من بيوت آبائهن إلى حيث يصبحن تحت سلطته وتصرفه ... التقت فتاة جميلة عاقلة، مع فتاة جميلة ساذجة دخلت مسابقة ملكات الجمال، فقالت هذه لتلك بغرور ساذج: لقد صرتُ مشهورة، تنشرُ الصحف صوري وتنقل وكالات الأنباء أخباري. فقالت الأخرى: إن اللوحة الفنية التي لم تلمسها الأيدي أغلى ثمناً وأبلغ لفتاً للأنظار من التي لمستها الأيدي حتى غيرت روعة ألوانها الطبيعية ... مرت فتاةٌ مغرورة ممن دخلت مسابقات ملكات الجمال بطائر حبيس في شبكة الصياد، فبكت حرقةً له، فقال لها الطائر الحبيس: لا تبكي على من لا تزال أمامه فرصة للإفلات من الشبكة، ولكن ابكي على من لم يعد يستطيع الإفلات منها بحال من الأحوال، ابكي على نفسك أيتها المسكينة لو كان لك عقل تفكرين به. ملكات الجمال يُنسيْنَ بعد أيام، ولكن العالمات والمخترعات والأمهات اللاتي ولدن عظماء التاريخ، سيظل يَذكُرهن التاريخ ما بقي إنسان يقرأ التاريخ] كتاب هكذا علمتني الحياة ص 111- 112. وهذه بعض النصوص الشرعية التي تؤصل لتحريم مسابقة ملكة الجمال من جميع جوانبها، سواء تنظيمها أو المشاركة فيها بأي شكل من الأشكال، يقول الله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} سورة الأعراف الآية 27. ولا شك أن عرض الفتيات في هذه المسابقات ما هو إلا عرضٌ لأجسادهن العارية، وكشفٌ لما أمر الله عز وجل بستره وحجبه عن أعين لصوص الأجساد، يقول الله تعالى: {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ ... } سورة النور الآية31، وقال تعالى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} الأحزاب الآية 59. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل ولا تنظر المرأة إلى عورة المرأة) رواه مسلم. وقد حذرنا الله عز وجل أن نسير وراء كل ناعق ممن يسعون إلى تدمير البقية الباقية من ديننا وأخلاقنا، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} سورة آل عمران الآية 100. وورد في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنه قال: أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا معشر المهاجرين خمسٌ إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن، لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المئونة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلَّط الله عليهم عدواً من غيرهم، فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم) رواه ابن ماجة وأبو نعيم في حلية الأولياء ورواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي، وهو حديث حسن كما قال العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة 1/167. ولا شك أن مسابقة ملكة الجمال من المنكرات التي يجب شرعاً إنكارها وعدم السكوت عليها، يقول الله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} سورة آل عمران الآية 110. وبناءً عل ما سبق يتقرر ما يلي: أولاً: يحرم شرعاً تنظيم مسابق ملكة الجمال والدعوة للمشاركة فيها. ثانياً: يحرم المساهمة في هذه المسابقة بأي شكل من الأشكال، كالإعلان عنها، وتقديم أي شيء يسهم فيها. وكذلك يحرم حضورها. ثالثاً: يحرم شرعاً مشاركة الفتيات فيها، ويحرم على أولياء أمورهن السماح لهن بالمشاركة فيها بأي صورة من الصور، ومن يسمح لبنته أو أخته للمشاركة فيها، فهو ديوث كما ورد في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثةٌ لا ينظر الله عز وجل إليهم يوم القيامة، العاق لوالديه والمرأة المترجلة والديوث) . وجاء في رواية أخرى: (ثلاثةٌ لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه، والديوث، ورجلة النساء) وفيها: (فما الديوث؟ قال: الذي لا يبالي بمن دخل على أهله، قيل فما الرجلة؟ قال: التي تتشبه بالرجال) رواه أحمد والنسائي وابن حبان والحاكم وقال صحيح الإسناد ووافقه الذهبي. وقال العلامة الألباني: حسن صحيح، انظر صحيح سنن النسائي 2/541، السلسلة الصحيحة حديث رقم 1397. قال ابن منظور: [الديوث هو الذي لا يغار على أهله] لسان العرب 4/456، وقال العلامة علي القاري: [والديوث الذي يُقرُ أي يُثبتُ بسكوته على أهله، أي من امرأته أو جاريته أو قرابته، الخبث أي الزنا أو مقدماته وفي معناه سائر المعاصي كشرب الخمر وترك غسل الجنابة ونحوهما، قال الطيبي أي: الذي يرى فيهن ما يسوءه ولا يغار عليهن ولا يمنعهن فيقر في أهله الخبث] مرقاة المفاتيح 7/ 241. وقال العلامة ابن القيم: [وذكر الديوث في هذا الحديث وما قبله يدل على أن أصل الدين الغيرة، من لا غيرة له لا دين له، فالغيرة تحمي القلب فتحمي له الجوارح فترفع السوء والفواحش، وعدمها يميت القلب فتموت الجوارح، فلا يبقى عندها دفع البتة، والغيرة في القلب كالقوة التي تدفع المرض وتقاومه، فإذا ذهبت القوة كأنه الهلاك] فيض القدير 3/430-431. رابعاً: يجب شرعاً منع إقامة هذه المسابقة، لأنها منكرٌ عظيم، ونوع من الإفساد في الأرض، وفي منعها محافظة على أخلاق مجتمعنا وقيمنا وعاداتنا الطيبة، ووقاية لنا من النار، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} سورة التحريم الآية 6. خامساً: واجب العلماء والدعاة والمربين وخطباء المساجد، إنكار هذه المسابقة الخبيثة والتحذير منها ومن شرورها. وأخيراً فإني لأستغرب سكوت الجمعيات النسوية - التي تزعم أنها تدافع عن المرأة وعن كرامتها- عن هذا الانتهاك الصارخ لحقوق المرأة، وعن هذا التعدي على كرامة المرأة، أم أن التعري وعرض لحوم النساء في المزادات اللاأخلاقية يندرج تحت لافتة تحرير المرأة!؟
وخلاصة الأمر أن مسابقة ملكة الجمال فكرة وافدة خبيثة، يُحرمها دينُنا وتعارضها أخلاق شعبنا وعاداته وقيمه الطيبة، فهي أمر محرم شرعاً ويحرم تنظيمها أو المشاركة فيها بأي شكل من الأشكال. وهي من المنكرات فيجب شرعاً إنكارها، وخاصة في ظل الظروف الصعبة التي يعيشها شعبنا المرابط في بيت المقدس وأكنافه.(15/4)
5 - الضوابط الشرعية لممارسة المرأة الألعاب الرياضية
يقول السائل: ما مدى صحة الاستدلال بحديث مسابقة النبي صلى الله عليه وسلم لإحدى زوجاته، على ممارسة المرأة لمختلف الألعاب الرياضية أمام الرجال، أفيدونا؟
الجواب: ورد في الحديث (عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفرةٍ، وهي جارية قالت: لم أحمل اللحم ولم أبدن - من البدانة وهي كثرة اللحم والسمنة - فقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: تقدموا، فتقدموا، ثم قال: تعالي أسابقك فسابقته فسبقته على رجلي، فلما كان بعد خرجت معه في سفر فقال لأصحابه: تقدموا ثم قال: تعالي أسابقك ونسيت الذي كان وقد حملت اللحم وبدنت، فقلت: كيف أسابقك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا على هذه الحال؟ فقال: لتفعلن فسابقته فسبقني، فجعل يضحك وقال: هذه بتلك السبقة) رواه أحمد وأبو داود والنسائي والطبراني وابن ماجة وغيرهم وقال العلامة الألباني: وهذا سند صحيح على شرط الشيخين وقد صححه العراقي في تخريج الإحياء، السلسلة الصحيحة1/204. وقد أخذ العلماء من هذا الحديث مشروعية الرياضة للنساء وفق الضوابط والشروط الشرعية التي سأذكرها لاحقاً، حيث أشار الحديث إلى ذلك عندما أمر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة أن يتقدموا، فتقدموا، ثم تسابق النبي صلى الله عليه وسلم مع عائشة رضي الله عنها. إذا تقرر هذا فلا بد من البيان أن الإسلام أباح الرياضة للرجال والنساء على حدٍ سواء، وفق ضوابط شرعية لا بد من الالتزام بها، وإن الإخلال بهذه الضوابط يخرج الرياضة عن دائرة الإباحة، وقد ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (المؤمن القوي خيرٌ وأحبُ إلى الله من المؤمن الضعيف) رواه مسلم، ولا شك أن الرياضة من أسباب قوة الجسم، ويجب أن يُعلم أن طبيعة جسد المرأة وتكوينها الخَلْقي يختلف عن طبيعة الرجل، فليس كل ما يناسب الرجل من أنواع الرياضة يناسب المرأة، ولا يجوز تقليد غير المسلمين فيما يفعلون ويمارسون من رياضات نسوية بحجج واهية، مثل مساواة المرأة مع الرجل وباسم التقدم والحضارة والإنعتاق من الإنغلاق، ونحو ذلك من الشعارات الخداعة. فهناك أنواع من الرياضة تمارسها النساء في الغرب لا يمكن أن تقرها شريعتنا الغراء، ولا يمكن أن تقبلها عادتنا وأعرافنا الطيبة. وقد قرر اللماء مجموعة من الضوابط والشروط الشرعية لممارسة المرأة للرياضة كما يلي: أولاً: لا بد للرياضة النسوية أن تكون منسجمة مع طبيعة المرأة وتكوينها الخَلْقي، فالمرأة لها طبيعتها وخصائصها المخالفة للرجل، وهذه سنة الله في خلْق الرجل والمرأة، قال الله تعالى: {وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} سورة النساء الآية 32، فيحرم على المرأة أن تمارس رياضةً لا تتفق مع خلقتها الأنثوية، كالمصارعة وكمال الأجسام ورفع الأثقال ونحوها من الرياضات، فإن فعلت ذلك فهي امرأة مترجلة، فقد ورد في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثةٌ لا ينظر الله عز وجل إليهم يوم القيامة، العاق لوالديه والمرأة المترجلة والديوث) . وجاء في رواية أخرى: (ثلاثةٌ لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه، والديوث، ورجلة النساء) وفيها: (فما الديوث؟ قال: الذي لا يبالي بمن دخل على أهله، قيل فما الرجلة؟ قال: التي تتشبه بالرجال) رواه أحمد والنسائي وابن حبان والحاكم وقال صحيح الإسناد ووافقه الذهبي. وقال العلامة الألباني: حسن صحيح، انظر صحيح سنن النسائي 2/541، السلسلة الصحيحة حديث رقم 1397. والمرأة المترجلة هي التي تتشبه بالرجال في زيهم وهيئتهم وأحوالهم. ثانياً: يحرم شرعاً على المرأة المسلمة كشف العورات في الرياضة وفي غير الرياضة، قال الله تعالى: {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ ... } سورة النور الآية31، وقال تعالى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} الأحزاب الآية 59. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل ولا تنظر المرأة إلى عورة المرأة) رواه مسلم. قال الحافظ ابن عبد البر: [والذي عليه فقهاء الأمصار بالحجاز والعراق أن على المرأة الحرة أن تغطي جسمها كله بدرع صفيقٍ سابغٍ وتخمر رأسها، فإنها كلها عورة إلا وجهها وكفيها، وأن عليها ستر ما عدا وجهها وكفيها] الاستذكار 5/443. وبناءً على ذلك يحرم على المرأة أن تمارس أي نوع من أنواع الرياضة يؤدي إلى كشف العورات كما هو الحال في السباحة وكرة القدم وكرة السلة وغيرها، سواء كشفت عورتها أمام الرجال أو أمام النساء ضمن الحدود المعتبرة شرعاً في حد العورة في نطاق قوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ ... } الآية. ثالثاً: يحرم الاختلاط أثناء ممارسة الرياضة النسوية، ويظهر هذا جلياً من خلال حديث مسابقة النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة حيث ورد فيه (فقال لأصحابه: تقدموا، فتقدموا، ثم قال: تعالي أسابقك فسابقته فسبقته على رجلي، فلما كان بعد خرجت معه في سفر فقال لأصحابه: تقدموا ثم قال: تعالي أسابقك) فقوله صلى الله عليه وسلم لأصحابه تقدموا في حالتي السباق، يدل على منع ممارسة المرأة للرياضة في حال الاختلاط مع الرجال وكذا في حال حضورهم. رابعاً: لا تمارس المرأة الرياضة في حال حضور الرجال كما يحدث في مباريات كرة القدم وغيرها، وكذلك في حال تصوير الألعاب ونشر الصور سواء عبر الصحف والمجلات أو البث التلفزيوني ونحو ذلك من الوسائل. ويدل على ذلك ما ورد في الحديث السابق حيث ورد فيه (فقال لأصحابه: تقدموا، فتقدموا، ثم قال: تعالي أسابقك فسابقته فسبقته على رجلي، فلما كان بعد خرجت معه في سفر فقال لأصحابه: تقدموا ثم قال: تعالي أسابقك) . وكذلك فإن النظر إلى اللاعبات خاصة وهن في الملابس الرياضية يعتبر زناً شرعاً فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة، فزنى العينين النظر وزنى اللسان النطق والنفس تتمنى وتشتهي والفرج يصدق ذلك أو يكذبه) رواه البخاري ومسلم. خامساً: أن تخلو الرياضة من كل ما يلحق الأذى والضرر بالمرأة بشكل عام، فتحرم الملاكمة والمصارعة ونحوهما من الرياضات العنيفة، التي لا تخلو من إلحاق الضرر والأذى بمن يمارسها. جاء في قرار مجلس المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي: [فقد نظر في موضوع الملاكمة والمصارعة الحرة من حيث عدهما رياضة بدنية جائزة، وكذا في مصارعة الثيران المعتادة في بعض البلاد الأجنبية، هل تجوز في حكم الإسلام أو لا تجوز. وبعد المداولة في هذا الشأن من مختلف جوانبه والنتائج التي تسفر عنها هذه الأنواع التي نسبت إلى الرياضة وأصبحت تعرضها برامج البث التلفازي في البلاد الإسلامية وغيرها. وبعد الاطلاع على الدراسات التي قدمت في هذا الشأن بتكليف من مجلس المجمع في دورته السابقة من قبل الأطباء ذوي الاختصاص، وبعد الاطلاع على الإحصائيات التي قدمها بعضهم عما حدث فعلاً في العالم نتيجة لممارسة الملاكمة وما يشاهد في التلفزة من بعض مآسي المصارعة الحرة، قرر مجلس المجمع ما يلي: أولا: الملاكمة: يرى مجلس المجمع بالإجماع أن الملاكمة المذكورة التي أصبحت تمارس فعلاً في حلبات الرياضة والمسابقة في بلادنا اليوم هي ممارسة محرمة في الشريعة الإسلامية لأنها تقوم على أساس استباحة إيذاء كل من المتغالبين للآخر إيذاءً بالغاً في جسمه قد يصل به إلى العمى أو التلف الحاد أو المزمن في المخ أو إلى الكسور البليغة، أو إلى الموت، دون مسئولية على الضارب، مع فرح الجمهور المؤيد للمنتصر، والابتهاج بما حصل للآخر من الأذى، وهو عمل محرم مرفوض كلياً وجزئياً في حكم الإسلام لقوله تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} وقوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} ، وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار) . على ذلك فقد نص فقهاء الشريعة على أن من أباح دمه لآخر فقال له: (اقتلني) أنه لا يجوز له قتله، ولو فعل كان مسئولاً ومستحقاً للعقاب. وبناءً على ذلك يقرر المجمع أن هذه الملاكمة لا يجوز أن تسمى رياضةً بدنيةً ولا تجوز ممارستها، لأن مفهوم الرياضة يقوم على أساس التمرين دون إيذاء أو ضرر، ويجب أن تحذف من برامج الرياضة المحلية ومن المشاركات فيها في المباريات العالمية، كما يقرر المجلس عدم جواز عرضها في البرامج التلفازية كي لا تتعلم الناشئة هذا العمل السيئ وتحاول تقليده. ثانيا: المصارعة الحرة: وأما المصارعة الحرة التي يستبيح فيها كل من المتصارعين إيذاء الآخر والإضرار به، فإن المجلس يرى فيها عملاً مشابهاً تمام المشابهة للملاكمة المذكورة، وإن اختلفت الصورة، لأن جميع المحاذير الشرعية التي أشير إليها في الملاكمة موجودة في المصارعة الحرة التي تجرى على طريقة المبارزة وتأخذ حكمها في التحريم. وأما الأنواع الأخرى من المصارعة التي تمارس لمحض الرياضة البدنية ولا يستباح فيها الإيذاء فإنها جائزة شرعاً ولا يرى المجلس مانعاً منها] . سادساً: أن لا يترتب على ممارسة الرياضة إخلال بالواجبات كتضييع الصلوات وإهمال المرأة لشؤون بيتها وأسرتها، أو وقوعٍ في المحرمات كالسباب والشتائم ونحوها أو سفر للمرأة بدون محرم. سابعاً: [الوقوف على القصد من تنظيم المسابقة: فلا يجوز أن تكون إقامة المسابقة الرياضية أياً كان شكلها " دوري" أو "كأس" مجرد تقليد للفكر الغربي، أو استجابة لمطالب لا تتناسب مع العرف القائم في بلادنا، وقد اتفق الفقهاء على اعتبار العرف في الاجتهاد الفقهي ... أما التقليد لذاته بما لا يتناسب مع أعرافنا، وما قد يتبعه من مفاسد أكبر من توافر الشروط الشرعية في الممارسة، فلا يجوز بناءً على اعتبار فقه المالآت في المسألة، إذ من المعلوم أن جهاز " الفيفا " الدولي يرصد مبالغ طائلة للدول الإسلامية للقيام بالألعاب الرياضية، ويشترط أن تنفق بعض النسب على الكرة النسائية، وهذا يعني أنه في بعض الأحيان تنشأ الفرق النسائية لأجل ما يأتي من الدعم المالي من الهيئات الدولية الرياضية، أو السعي وراء إثبات أن الدولة تعطي للمرأة حقوقاً إضافيةً حتى تحسن الصورة أمام الدول الغربية، دون مراعاة للأعراف والتقاليد، أو الالتفات إلى قواعد ومقاصد الشرع الحكيم، وهذا يُخرج المسألة من كونها تبيح للمرأة الممارسة، لأن المقصود ليس ممارسة النساء اللعبة الرياضية، ولكن غلب عليه مقاصد أخرى، والأمور بمقاصدها. وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (لتتبعن سَنَنَ من كان قبلكم، شبراً بشبر وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضبٍ تبعتموهم) . قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟) . وكما ورد عن ابن مسعود: " لا يُقلدنَّ أحدُكم دينَه رجلاً، إن آمن؛ آمن، وإن كفر؛ كفر، فإنه لا أسوة في الشر" وليس بلازم أن يكون في بلد ممارسة معينة أن تنتقل إلى كل البلاد، فالاختلاف سنة في بني البشر، كما قال تعالى: {ولا يزالون مختلفين} .] عن إسلام أون لاين. وخلاصة الأمر أن الرياضة مشروعة للنساء والرجال وفق الضوابط الشرعية المذكورة أعلاه، وإن لم تتوفر هذه الضوابط فيحرم شرعاً على المرأة ممارسة الرياضة حينئذ، ويمكن الاستعاضة عن ذلك ببدائل مقبولة شرعاً كاللعب على الأجهزة الرياضية في البيت أو ممارسة الألعاب الرياضية في صالات خاصة بالنساء ونحو ذلك ضمن حدود الشريعة(15/5)
6 - النقاب من الدين وليس من العادات كما زعم شيخ الأزهر
يقول السائل: هل ما قاله شيخ الأزهر عن النقاب بأنه ليس من الدين وإنما هو من العادات صحيح، أفيدونا؟
الجواب: من المؤسف حقاً أن بعض المشايخ الرسميين لهم مواقف وأقوال تصب في محاربة الإسلام الحق، وكأنهم صاروا أدوات طيعة في أيدي أعداء الإسلام، يستعملونهم في محاربة الدين، ولا أدل على ذلك من احتفاء جهات معادية للإسلام بأقوال د. سيد طنطاوي شيخ الأزهر في قضية النقاب، ومن أراد أن يعرف برهان ذلك فليرجع إلى ما كتبته بعض الصحف الغربية وبعض القنوات الفضائية، مرحبة بمقالة السوء التي صدرت عن شيخ الأزهر. وهذه ليست أول مرة يقف فيها شيخ الأزهر مثل هذه المواقف التي تسيء إساءة بالغة لأهم مؤسسة دينية على مستوى العالم الإسلامي، فرحم الله الأزهر عندما كان منارة للعلم والعلماء ومنبراً للدفاع عن الإسلام والمسلمين. ومما يثير الغضب والاشمئزاز في موقف شيخ الأزهر من النقاب في الحادثة الأخيرة، تجاهله الصريح لما قرره العلماء في حكم النقاب، بل تجاهله لما قرره هو نفسه قبل أن يجلس على كرسي مشيخة الأزهر كما سأذكر، وكذلك أسلوبه الفج وألفاظه الجارحة في التعامل مع الفتاة ومعلمتها، بل وصل به الأمر إلى الاستهزاء بالفتاة بعد أن أجبرها على خلع نقابها وظهر له أنها ليست جميلة فقال لها ما قال، فأين الشيخ من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} سورة الحجرات الآية11. ولو قبلنا كلام شيخ الأزهر أن النقاب من العادات – وهو ليس بمقبول- فلماذا لا تترك لها حرية الاختيار؟ وهي قد اختارت أمراً يزيد في سترها وعفافها، وأين موقف شيخ الأزهر من المتبرجات الكاسيات العاريات؟ وبدلاً من إصدار القرارات في منع المنقبات من دخول مؤسسات الأزهر، كان الواجب الشرعي يقتضي منع المتبرجات من ذلك! والحق يقال أن المتبرجات أولى بهذه الغضبة وأولى بهذا التعنيف من المنقبات. أم أن التبرج مسموح والتنقب ممنوع!!!
إذا تقرر هذا فلا بد من بيان أن النقاب هو ما تغطي به المرأة وجهها، وأما الحجاب فهو ما تستر به المرأة جميع بدنها، وأما الخمار فهو ما تغطي به المرأة رأسها، وقد اتفق أهل العلم على وجوب تغطية المرأة لرأسها وجميع بدنها، ووقع خلاف بين أهل العلم في حكم تغطية الوجه، فمن العلماء من أوجبه، ومنهم من استحبه، فأوجبوا الخمار والحجاب، واختلفوا في النقاب ما بين الوجوب والاستحباب، ولم يقل أحد من أهل العلم - فيما أعلم - أن النقاب ليس من الدين، كما زعم د. سيد طنطاوي شيخ الأزهر، بل إن ما قاله شيخ الأزهر قول شاذ، ليس له مستند علمي صحيح، ولا أريد هنا أن أذكر كلام العلماء وأدلتهم في الخلاف في حكم النقاب، ولكن أود أن أذكر شيئاً من كلام د. سيد طنطاوي قبل أن يصبح مفتياً للديار المصرية وقبل أن يصير شيخاً للأزهر، فقد قال في تفسيره للقرآن الكريم المسمى بالوسيط عند تفسير قوله تعالى: {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} قال د. سيد طنطاوي: [ومن الأحكام والآداب التي اشتملت عليها هاتان الآيتان ما يأتي: ... أنه لا يحل للمرأة أن تبدى زينتها لأجانب، إلا ما ظهر منها، لأن الله تعالى يقول: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} . قال الإمام القرطبي ما ملخصه: أمر الله تعالى النساء بألا يبدين زينتهن للناظرين، إلا ما استثناه من الناظرين في باقي الآية، حذاراً من الافتتان، ثم استثنى ما يظهر من الزينة، واختلف الناس في قدر ذلك. فقال ابن مسعود: طاهر الزينة هو الثياب. . . وقال سعيد بن جبير والأوزاعي: الوجه والكفان والثياب ... وقال ابن عباس وقتادة: ظاهر الزينة هو الكحل والسوار والخضاب ونحو هذا، فمباح أن تبديه لكل من ظهر عليها من الناس. وقال ابن عطية: ويظهر لي بحكم ألفاظ الآية، بأن المرأة مأمورة بأن لا تبدي وأن تجتهد في الإخفاء لكل ما هو زينة، ووقع الاستثناء فيما يظهر، بحكم ضرورة حركة فيما لا بد منه، أو إصلاح شأن ونحو ذلك، " فما ظهر " على هذا الوجه مما تؤدي إليه الضرورة في النساء فهو المعفو عنه. قلت: أي القرطبي: وهذا قول حسن، إلا أنه لما كان الغالب من الوجه والكفين ظهورهما، عادة وعبادة، صح أن يكون الاستثناء راجعاً إليهما. يدل على ذلك ما رواه أبو داود عن عائشة (أن أسماء بنت أبي بكر، دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رقاق، فأعرض عنها وقال: يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا، وأشار إلى وجهه وكفيه) . وقال بعض علمائنا: (إن المرأة إذا كانت جميلة وخيف من وجهها وكفيها الفتنة فعليها ستر ذلك. هذا وفى هذه المسألة كلام كثير للعلماء فارجع إليه إن شئت.]] فالدكتور طنطاوي ذكر قولين لأهل العلم في تغطية المرأة وجهها، ولم يذكر لنا أن تغطية المرأة لوجهها ليس له علاقة بالدين وأنه من العادات كما زعم، وأين شيخ الأزهر من النصوص التي ورد فيها ذكر النقاب، ومنها عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تنتقب المرأة المحرمة ولا تلبس القفازين) رواه البخاري. قال الشيخ أبو بكر بن العربي المالكي: [قوله في حديث ابن عمر: (لا تنتقب المرأة) وذلك لأن سترها وجهها بالبرقع فرض إلا في الحج، فإنها ترخي شيئاً من خمارها على وجهها غير لاصق به، وتعرض عن الرجال ويعرضون عنها] عارضة الأحوذي شرح سنن الترمذي 4/45. ولو قلنا بعدم وجوب النقاب فنهيه صلى الله عليه وسلم المحرمة أن تتنقب يدل على جوازه في غير حالة الإحرام. وروى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها في حديث قصة الإفك قالت: ( ... فبينما أنا جالسة في منزلي، غلبتني عيني، فنمت، وكان صفوان ابن المعطل السلمي ثم الذكواني من وراء الجيش، فأدلج، فأصبح عند منزلي ... فعرفني حين رآني، وكان يراني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني، فخمَّرت ـ وفي رواية فسترت ـ وجهي عنه بجلبابي ... ) . وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محرمات، فإذا حاذوا بنا أسدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفناه) . رواه أحمد وأبو داود وصححه العلامة الألباني في حجاب المرأة المسلمة ص 50. وذكر العلامة محمد العثيمين قول ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى: {يأَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} . سورة الأحزاب الآية 59) . قال ابن عباس: [أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب ويبدين عيناً واحدة] . قال العثيمين: وتفسير الصحابي حجة، بل قال بعض العلماء إنه في حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله رضي الله عنه " ويبدين عيناً واحدة " إنما رخص في ذلك لأجل الضرورة والحاجة إلى نظر الطريق فأما إذا لم يكن حاجة فلا موجب لكشف العين. والجلباب هو الرداء فوق الخمار بمنزلة العباءة. قالت أم سلمة رضي الله عنها لما نزلت هذه الآية: (خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان من السكينة وعليهن أكسية سود يلبسنها) . وقد ذكر عبيدة السلماني وغيره أن نساء المؤمنين كن يدنين عليهن الجلابيب من فوق رؤوسهن حتى لا يظهر إلا عيونهن من أجل رؤية الطريق.] رسالة الحجاب للعلامة العثيمين. وروى ابن أبي شيبة بإسناده عن جابر بن زيد أنه كره أن تصلي المرأة وهي منتقبة أو تطوف وهي منتقبة. وروى أيضاً عن طاووس أنه كره أن تصلي المرأة وهي منتقبة. وروى عن الحسن قال كان يكره أن تصلي المرأة منتقبة. وروى عن صفية بنت شيبة قالت: (رأيت عائشة طافت بالبيت وهي منتقبة) . فهذه النصوص وغيرها تدل دلالة واضحة على أن النقاب كان معروفاً عند النساء المسلمات في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وفي عهد الصحابة والتابعين، وليس الأمر كم زعم الزاعمون أن النقاب دخيل على الأمة في عهود الانحطاط كما يسمونها! ومما يدل على بطلان ما زعمه شيخ الأزهر أن المجلس الأعلى للأزهر عارض شيخه بشأن موقفه من النقاب، كما ورد في البيان الصادر عن المجلس الأعلى للأزهر بتاريخ 9/10/ 2009م فقد عارض المجلس الأعلى للأزهر موقف شيخ الأزهر محمد سيد طنطاوي بشأن موقفه من النقاب، معلناً أن النقاب مسموح به في المعاهد الأزهرية وجامعة الأزهر في وجود الرجال. وقال المجلس في بيانه عقب اجتماع طارئ برئاسة طنطاوي: إنه يسمح بارتداء النقاب في أفنية المعاهد الأزهرية بما فيها التي يقتصر التدريس فيها على نساء. وأضاف أن "الممنوع فقط هو استعماله داخل الفصل الدراسي الخاص بالبنات والذي يقوم بالتدريس فيه المدرسات من النساء فقط". وذكر المجلس في البيان الذي تلاه طنطاوي على الصحفيين أنه قرر: منع الطالبات في جميع مراحل الدراسة في الأزهر وفي جامعته من ارتداء النقاب في قاعات الامتحانات الخاصة بالفتيات والتي لا وجود للرجال معهن في هذه القاعات وتكون المراقبة عليهن أثناء الامتحانات مقصورة على النساء فقط] .
وخلاصة الأمر أن حكم النقاب يدور بين الوجوب والاستحباب، فهو من الدين، وليس من قبيل العادات كما زعم شيخ الأزهر، وكان الواجب على شيخ الأزهر أن يوجه غضبه وتعنيفه للمتبرجات، وليس للمنقبات طالبات الستر والعفاف.(15/6)
7 - أخطاء شائعة متعلقة بعدة الوفاة
تقول السائلة: توفي والدي ودخلت والدتي في العدة فقالت لها بعض النساء إنه يحرم عليها أن ترى أو تتكلم مع غير محارمها، فهل هذا الكلام صحيح، أفيدونا؟
الجواب: يشيع في مجتمعنا وخاصة بين النساء كلام كثير يتعلق بعدة الوفاة، لا أصل له في الدين، فمثلاً يقال بأن المرأة المتوفى عنها زوجها تدخل عدة الوفاة متى شاءت! ويقال بأن المرأة الكبيرة في السن لا تعتد عدة الوفاة! ويقال بأن المعتدة عدة وفاة لا يجوز أن يراها الرجال الأجانب مطلقاً! وإذا رأوها بطلت عدتها! ويقال بأن المعتدة عدة وفاة لا تتكلم مع غير محارمها! ولا ترد على التلفون! ولا تنشر الغسيل! إلى غير ذلك من الأقاويل التي ليس لها مستند شرعي، والأصل أن نتلقى الأحكام من كتاب الله عز وجل ومن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وذلك لأن عدة الوفاة أمر تعبدي أوجبه الله على المرأة. ويجب أن يعلم أولاً أن عدة الوفاة فريضة على كل امرأة مات عنها زوجها، سواء كانت عجوزاً أو غير عجوز، وسواء كانت تحيض أو لا تحيض، والمدخول بها وغير المدخول بها سواء في لزوم عدة الوفاة، لقول الله تعالى: ?وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً? سورة البقرة الآية 234. فالآية الكريمة عامة في كل زوجة مات عنها زوجها لقوله تعالى ?أَزْوَاجاً? فيجب على كل زوجة مات عنها زوجها أن تعتد أربعة أشهر وعشرة أيام، إلا إذا كانت حاملاً فتعتد بوضع الحمل على الراجح من أقوال أهل العلم. ويدل على وجوب العدة قوله تعالى ?يَتَرَبَّصْنَ? فهذا خبر بمعنى الأمر والأصل في الأمر أنه يفيد الوجوب. قال العلامة ابن القيم: [وأما عدة الوفاة فتجب بالموت سواء دخل بها أو لم يدخل اتفاقاً كما دل عليه عموم القرآن والسنة] زاد المعاد في هدي خير العباد 5/664. ويجب أن يعلم ثانياً أن عدة الوفاة تبدأ عقيب وفاة الزوج، فتحسب المتوفى عنها زوجها عدتها من يوم موت زوجها، وهذا باتفاق الفقهاء وليس صحيحاً أن المرأة المتوفى عنها زوجها تختار وقت دخولها في عدة الوفاة. ثالثاُ: تنتهي عدة الوفاة بانقضاء أربعة أشهر وعشرة أيام من تاريخ وفاة الزوج، إذا لم تكن الزوجة حاملاً، وأما الحامل فتنقضي عدتها بوضع الحمل لقوله تعالى: {وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} سورة الطلاق الآية 4. رابعاً: تستقر المعتدة عدة وفاة في بيت الزوجية، فقد ورد في الحديث عن فُرَيعة بنت مالك - وهي أخت أبي سعيد الخدري رضي الله عنهما - قالت: (خرج زوجي في طلب عبيدٍ له قد هربوا فأدركهم فقتلوه فأتى نعيه وأنا في دارٍ شاسعة من دور أهلي، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقلت: إن نعي زوجي أتاني في دار شاسعة من دور أهلي ولم يدع نفقة ولا مالاً ورثته وليس المسكن له، فتحولت إلى أهلي وإخواني، فكان أرفق لي في بعض شأني، فقال: تحولي، فلما خرجت إلى المسجد أو إلى الحجرة دعاني فقال: (امكثي في بيتك الذي أتاك فيه نعي زوجك، حتى يبلغ الكتاب أجله) ، قالت: فاعتددت أربعة أشهر وعشراً) رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وأحمد، وقال الترمذي: حسن صحيح. قال الإمام الشوكاني: [وقد استدل بحديثها - أي الفريعة - هذا على أن المتوفى زوجها عنها تعتد في المنزل الذي بلغها نعي زوجها وهي فيه، ولا تخرج منه إلى غيره، وقد ذهب إلى ذلك جماعة من الصحابة والتابعين من بعدهم] وذكر الشوكاني أن هذا قول جماهير أهل العلم. نيل الأوطار 6/336. ولا تخرج المعتدة من بيتها إلا للأمور الحاجية والضرورية، كالذهاب إلى المستشفى للعلاج، ولشراء حوائجها من السوق كالطعام واللباس ونحو ذلك، هذا إذا لم يكن عندها من يقضي لها حوائجها. وقد أذن النبي صلى الله عليه وسلم للمعتدة أن تخرج من بيتها للعذر فعن جابر رضي الله عنه قال: (طُلقت خالتي ثلاثاً، فخرجت تجدُ نخلاً لها فلقيها رجلٌ فنهاها، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال: اخرجي فجُدي نخلك لعلك أن تصدقي منه أو تفعلي خيراً) . رواه مسلم. [وروي جواز خروج المتوفى عنها للعذر عن جماعة منهم عمر رضي الله عنه، أخرج عنه ابن أبي شيبة أنه رخص للمتوفى عنها أن تأتي أهلها بياض يومها. وأن زيد بن ثابت رضي الله عنه رخص لها في بياض يومها. وأخرج عبد الرزاق عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان له ابنة تعتد من وفاة زوجها فكانت تأتيهم بالنهار فتحدث إليهم فإذا كان بالليل أمرها أن ترجع إلى بيتها. وأخرج أيضاً عن ابن مسعود رضي الله عنه في نساء نُعي إليهن أزواجُهن وتَشَكَّين الوحشة، فقال ابن مسعود: يجتمعن بالنهار ثم ترجع كل امرأة منهن إلى بيتها بالليل ... وروى الحجاج بن منهال أن امرأة سألت أم سلمة بأن أباها مريض وأنها في عدة وفاة فأذنت لها في وسط النهار. وأخرج الشافعي وعبد الرزاق عن مجاهد مرسلاً أن رجالاً استشهدوا بأحد فقال نساؤهم: يا رسول الله إنّا نستوحش في بيوتنا أفنبيت عند إحدانا فأذن لهن أن يتحدثن عند إحداهن فإذا كان وقت النوم تأوي كل واحدة إلى بيتها] نيل الأوطار 6/336- 337. وإذا خرجت المعتدة لغير حاجة فعدتها لا تبطل وتستغفر الله عز وجل وتتوب. وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية: [عن امرأة معتدة عدة وفاة، ولم تعتد في بيتها بل تخرج في ضرورتها الشرعية: فهل يجب عليها إعادة العدة؟ وهل تأثم بذلك؟ فأجاب: العدة انقضت بمضي أربعة أشهر وعشراً من حين الموت، ولا تقضي العدة. فإن كانت خرجت لأمر يحتاج إليه ولم تبت إلا في منزلها فلا شيء عليها. وإن كانت قد خرجت لغير حاجة وباتت في غير منزلها لغير حاجة، أو باتت في غير ضرورة أو تركت الإحداد، فلتستغفر الله وتتوب إليه من ذلك، ولا إعادة عليها.] مجموع الفتاوى 34/28. والمعتدة لا تخرج لصلاة الجمعة ولا لصلاة الجماعة فالنساء ليس عيلهن جمعة ولا جماعة.
خامساً: على المعتدة عدة وفاة أن تحدَّ على زوجها ويلزمها أن تتجنب الملابس الجميلة المزينة ويجوز لها أن تلبس ما عداها، ولا يعني أن تكون هذه الملابس سوداء كما جرت عادة النساء في بلادنا. وعليها أن تتجنب جميع أنواع العطور والمكياج والكحل. وأن تتجنب التزين بالذهب والفضة ونحوهما، فقد ورد في الحديث عن أم عطية رضي الله عنها قالت: (كنا نُنهى أن نحدَّ على ميتٍ فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً ولا نكتحل ولا نتطيب ولا نلبس ثوباً مصبوغاً إلا ثوب عصب، وقد رخص لنا عند الطهر إذا اغتسلت إحدانا من محيضها في نبذة من كست أظفار - نوع من البخور -) . رواه البخاري ومسلم، وعن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المتوفى عنها زوجها لا تلبس المعصفر من الثياب ولا الممشقة - المصبوغة - ولا الحلي ولا تختضب ولا تكتحل) . رواه أحمد وأبو داود والنسائي وصححه العلامة الألباني في صحيح سنن أبي داود 2/438. سادساً: لا تسافر المعتدة عدة وفاة مطلقاً، ولا لحج أو عمرة استدلالاً بحديث الفريعة السابق، وقد ورد عن عمر رضي الله عنه (أنه كان يرد المتوفى عنهن أزواجهن من البيداء يمنعهن الحج) رواه مالك في الموطأ والبيهقي وعبد الرزاق. وروى عبد الرزاق عن مجاهد قال: (كان عمر وعثمان يرجعانهن حواج ومعتمرات من الجحفة وذي الحليفة) المصنف 7/33] ، وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [ولو كانت حجة الإسلام، فمات زوجها، لزمتها العدة في منزلها وإن فاتها الحج، لأن العدة في المنزل تفوت ولا بدل لها، والحج يمكن الإتيان به في غير هذا العام] المغني 8/168. سابعاً: يجوز للمعتدة أن ترى الرجال الأجانب وأن ينظروا إليها، وتتكلم معهم ما دام أن كل ذلك ضمن الضوابط الشرعية المقررة كما قال تعالى: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً} سورة الأحزاب الآية 32، ولو رآها شخص أجنبي أو كلمها أثناء عدتها فلا تبطل عدتها، وكذلك لا يحرم عليها أمر من الأمور إلا ما ورد الشرع بتحريمه، قال شيخ الإسلام اب تيمية: [المعتدة عدة الوفاة تتربص أربعة أشهر وعشراً، وتتجنب الزينة والطيب في بدنها وثيابها، ولا تتزين ولا تتطيب ولا تلبس ثياب الزينة، وتلزم منزلها ولها أن تأكل كل ما أباحه الله.... ولا يحرم عليها عمل شغل من الأشغال المباحة، مثل التطريز والخياطة والغزل وغير ذلك مما تفعله النساء، ويجوز لها ما يباح لها في غير العدة، مثل كلام من تحتاج إلى كلامه من الرجال إذا كانت مستترة وغير ذلك، وهذا الذي ذكرته هو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يفعله نساء الصحابة إذا مات أزواجهن، مجموع الفتاوى 34/27-28. وقال الرحيباني الحنبلي: [لها- للمعتدة - التجمل بالفرش والستور، وأثاث البيت لأن الإحداد في البدن لا في الفرش ونحوه، ولها التنظيف بالحمام إن لم يكن فيه خروج محرم وغسل الرأس، ومشطه وتقليم الأظفار والاستحداد، وإزالة الأوساخ؛ لأنها ليست من الزينة] أسنى المطالب 17/450. ثامناً: لا يجوز لأحد أن يتقدم لخطبة المعتدة صراحة خلال مدة العدة، ويجوز التعريض بذلك أي التلميح لقوله تعالى: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاء أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىَ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} سورة البقرة الآية 235
وخلاصة الأمر أن عدة الوفاة فريضة شرعية وهي مسألة تعبدية لا تؤخذ أحكامها إلا من كتاب الله سبحانه وتعالى ومن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولا يعتمد في ذلك على ما هو شائع ومنتشر بين الناس، وقد بينت أهم أحكام المعتدة عدة وفاة باختصار(15/7)
8 - الجندر فكرة تغريبية
تقول السائلة: إنها دعيت للمشاركة في دورة عن (الجندر) تنظمها إحدى الجمعيات النسوية، فما هو الحكم الشرعي في المشاركة في ذلك، أفيدونا؟
الجواب: لا بد أن نتعرف أولاً على مصطلح (الجندر) ، وهو من المصطلحات الوافدة على أيدي التغربيين وفلول الماركسيين والجمعيات النسوية المدعومة غربياً [فقد بدأ استخدام لفظ (جندر) Gender في مؤتمر السكان والتنمية الذي عقد في القاهرة عام 1994، وهو لفظ غامض لم يحدد المؤتمرون معنىً دقيقاً له على طريقة دعاة العولمة الذين يمررون أفكارهم في مجتمعات المسلمين على صورة مصطلحات غير واضحة، فتنطلي على السذج. والراصدون لما يدخله أعداء الأمة المسلمة على دينها وثقافتها لهدم كيانها وخصوصيتها، يرون أن (الجندر) ليست مجرد كلمة، وإنما هي منظومة فلسفية متكاملة من القيم الغريبة على مجتمعنا الإسلامي، تهدف إلى إلغاء كافة الفروق بين الرجل والمرأة، والتعامل مع البشر على أنهم نوع من المخلوقات المتساوية في كل شيء من الخصائص والمقومات، وهذا النوع الإنساني في مقابل الحيوان والنبات. فالداعون إلى (الجندر) يعتبرون أن الفوارق التشريحية والفوارق بين وظائف الأعضاء والهرمونات بين الرجل والمرأة لم تعد ذات قيمة، وأنه يمكن تخطيها واعتبارها غير مؤثرة!! فهؤلاء لا يدعون إلى مجرد المساواة بين الرجل والمرأة، بل يدعون إلى إلغاء الفروق بينهما وعدم اعتبارها، بل واستغناء كل منهما عن الآخر، فلا تكامل بين الرجل والمرأة، ولا افتقار لأحدهما إلى الآخر لا في الجانب الاقتصادي ولا الاجتماعي ولا الجنسي، فالمرأة وفق هذا المفهوم تستطيع أن تقضي وطرها مع امرأة مثلها، والرجل يستطيع أن يقضي وطره مع رجل مثله. والحقيقة أن هذه الدعوة تهدف أول ما تهدف إلى هدم الكيان الأسري وتدمير المجتمع، وإحياء الفكر الماركسي، فهي تلتقي مع الفلسفة الماركسية في أمرين: الأول: فيما يتعلق بمفهوم الصراع، فأصحاب نظرية (الجندر) يؤكدون على وجود صراع بين الرجل والمرأة، ويكرسون ذلك الصراع ويؤججون ناره، ويفترضون وجود معركة بينهما!! الأمر الثاني الذي تلتقي فيه هذه النظرية مع الماركسية هو الدعوة إلى هدم الأسرة باعتبارها في نظر ماركس ـ إلى جانب الدين ـ هي أهم المعوقات التي تقف أمام تطور المجتمعات.] الشبكة الإسلامية. ويضاف إلى ما سبق أن من أهم الأفكار التي ينادي بها (الجندر) التشكيك بصحة الدين الإسلامي عن طريق بث الشبهات مثل: إن الدين الإسلامي سبب في عدم المساواة بين الرجل والمرأة في أمور عدة؛ كالقوامة والميراث ونقصان شهادة المرأة، وتعدد الزوجات، وعدم تعدد الأزواج، والحجاب حتى قضايا مثل ذكورة لفظ الجلالة، وإشارة القرآن إلى ضمير المذكر أكثر من ضمير المؤنث، لم تسلم من سموم (الجندر) . وقد بدأ مصطلح (الجندر) وتطبيقاته بالتغلغل في الدول العربية بداية التسعينيات مع تزايد نفوذ مؤسسات التمويل الأجنبي ولجان المرأة ومؤسسات الأمم المتحدة. وعبر الاتفاقيات الصادرة عن المؤتمرات الدولية، وهذه الآلية الدولية فيها طابع من الإلزام للحكومات العربية والإسلامية، بما وقعت عليه من اتفاقيات قد يتبع عدم تنفيذها ضغوط سياسية واقتصادية، أو إغراءات اقتصادية وسياسية. وقد شكلت مقررات مؤتمر بكين أساساً عملياً للسير في هذا الاتجاه، وكان بمثابة إشارة واضحة لكل الدول بحكوماتها ومنظماتها المدنية للعمل على تعزيز المساواة الاجتماعية بين الرجل والمرأة. عن الإنترنت. ويسعى (الجندريون والجندريات) إن صح التعبير فيما يسعون إليه، إلى إلغاء دور الأسرة من المجتمع المسلم وإلغاء دور الأب وإلغاء دور الأم ورفض الزواج ويدعون إلى ملكية المرأة لجسدها، وهي دعوة صريحة للإباحية، ورفض الإنجاب وإباحة الإجهاض والشذوذ الجنسي، وصدق من قال إن (الجندر) ما هو إلا مطية الشذوذ الجنسي. ومما ينادي به ويروج له (الجندريون والجندريات) [الأفكار الخطيرة التالية: أولاً: رفض أن اختلاف الذكر والأنثى راجع لصنع الله الذي أتقن كل شيء خلقه {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى} سورة النجم الآيتان 45-46. ثانياً: فرض فكرة حق الإنسان في تغيير هويته الجنسية وأدواره المترتبة عليها. ثالثاً: الاعتراف بالشذوذ الجنسي وفتح الباب لإدراج حقوق الشواذ من زواج المثليين وتكوين أسر غير نمطية، والحصول على أبناء بالتبني ضمن حقوق الإنسان. رابعاً: العمل على إضعاف الأسرة الشرعية التي هي لبنة بناء المجتمع السليم المترابط، ومحضن التربية الصالحة، ومركز القوة الروحية، ومفخرة الشعوب المسلمة في عصر الانحطاط المادي. خامساً: إذكاء روح العداء بين الجنسين، وكأنهما متناقضان متنافران، ويكفي لتأييد هذا الاتجاه مراجعة أوراق المؤتمر الدولي لتحديات الدراسات النسوية في القرن الحادي والعشرين الذي نظمه مركز البحوث التطبيقية والدراسات النسوية في جامعة صنعاء - اليمن، فقد كان مما جاء فيه الاعتراض على كثرة وجود اسم الإشارة للمذكر في اللغة العربية أكثر من المؤنث، وكذلك ضمائر المخاطبة للمذكر أكثر منها للمؤنث. سادساً: التقليد الأعمى للاتجاهات الجنسية الغربية المتطرفة ... سابعاً: رفع المسؤولية عن الشواذ جنسياً وإظهارهم بثوب الضحية التي جنى عليها المجتمع، وهذه محاولة قديمة تتشح بثوب العلمية أحياناً وتأتزر بلباس بعض الأبحاث المغرضة- التي ترى أنّ هناك سبباً فسيولوجياً في تركيب الدماغ يسبب الشذوذ- أحياناً أخرى، وكِلا القولين مردود، ذلك أنه لا أحد ينكر أن هناك عوامل مختلفة تؤثر وربما تدعو إلى الشذوذ، لكن كما يقول د. ستيفن أر. كوفي: "بين المؤثر والاستجابة توجد مساحة رحبة مِن حرية الاختيار"، وهذه هي المسؤولية التي يحاسب العبد بموجبها، وينتفي الحساب بانتفائها كما في حالة المجنون والصبي ونحوه.] المرأة المسلمة والتحديات الغربية للدكتور صالح الرقب. ويجب الانتباه إلى أن فكرة الجندر وما ترتب عليها آخذة بالانتشار في بلادنا عبر الجمعيات النسوية والمراكز البحثية - زعموا - المدعومة غربياً، التي تنشط في نشر هذه الأفكار الخبيثة من خلال المؤتمرات والندوات والمحاضرات، بل إن بعض جامعتنا مع الأسف الشديد أصبحت تعتبر ذلك من ضمن الدراسات والبرامج التي تفرض على الطلبة، فهذه المراكز البحثية المزعومة تهدف إلى تثبيت دراسات الجندر كحقل أكاديمي، وإجراء الدراسات والأبحاث المتعلقة بالجندر والمساندة في صياغة السياسات والاستراتيجيات في المجتمع الفلسطيني. والمشاركة في تطوير الوعي بالنوع الاجتماعي، والتأثير على صياغة سياسات فعالة تسهم في بناء مجتمع ديمقراطي يتمتع جميع أفراده بالعدل والمساواة. وهذه العبارات المعسولة تخفي تحتها السم الزعاف. وكذلك فإن بعض جامعتنا تسعى إلى إيجاد تخصص فرعي في دراسات الجندر لطلبة البكالوريوس وطرح مساقات تخدم ذلك التوجه الخبيث. وتطوير مشاريع مشتركة مع بعض الجامعات الأمريكية، وتبادل الكتب والمنشورات والأفلام الوثائقية، وتبادل باحثات وأساتذة على مدار عام أو فصل أكاديمي، وتبادل الزيارات القصيرة بين أعضاء الهيئات التدريسية وعمل أبحاث مشتركة حول قضايا المرأة، وتطوير مناهج الدراسات النسائية والجندر وتنظيم مؤتمرات دولية حول المرأة، ولا يتسع المقام إلى تفصيل أكثر مما سبق.
وخلاصة الأمر أن الجندر فكرة خبيثة هدامة يراد تسويقها بين المسلمين، لهدم البقية الباقية من الدين والأخلاق والقيم الطيبة، وهي فكرة مرفوضة إسلامياً قلباً وقالباً، ويجب على علماء الأمة والدعاة وخطباء المساجد أن يتصدوا لهذه الفكرة المشبوهة وأمثالها، وأن يقوموا بدورهم المنشود في توعية الناس، وخاصة النساء المسلمات بخطورة هذه الأفكار الخبيثة وبأضرارها المدمرة التي تعود بالخراب والفساد على المجتمع المسلم. ولا بد من التحذير من بعض المشايخ الذين يُستخدَمون لتسويق هذه الفكرة المشبوهة وأمثالها وهم يشعرون أو لا يشعرون. ويجب أن يعلم أنه يحرم شرعاً المشاركة في أي عمل له علاقة بفكرة الجندر من قريب أو بعيد، لأنها فكرة تصادم الدين الإسلامي مصادمة ظاهرة، بل تهدف إلى هدم المبادئ والأحكام الشرعية المتعلقة بالمرأة المسلمة خصوصاً والمجتمع المسلم عموماً، والواجب على المسلمين التمسك بدينهم فهو منهج رباني، فهو هدايتنا وطريق سعادتنا، ولسنا بحاجة إلى زبالة أفكار البشر المستوردة.(15/8)
9 - وثيقة حقوق المرأة الفلسطينية
يقول السائل: أثير نقاش مؤخراً حول وثيقة حقوق المرأة الفلسطينية وأنها تتضمن بنوداً مخالفة للإسلام، فما قولكم في ذلك أفيدونا؟
الجواب: إن وثيقة حقوق المرأة الفلسطينية لا تعتبر الإسلام من مرجعيتها أو من مصادرها، بل فيها ردٌ واضح للأحكام الشرعية المنصوصة في كتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وهذه الوثيقة تجعل مرجعيتها مجموعة من الأنظمة والقوانين الوضعية مثل المواثيق الدولية الصادرة عن منظمة الأمم المتحدة ومنظمة العمل الدولية ومنظمة العمل العربية والقانون الأساسي الفلسطيني، فقد ورد في الوثيقة ما يلي: [لم يكن للمرأة الفلسطينية أن تسمو بوضعها القانوني الخاص دون أن تستند في مطالبها إلى منظومة قانونية متكاملة، ترتكز في مجملها على مجموعة من الثوابت والحقوق القانونية التي تحقق في مجموعها نتائج ايجابية، لتحقيق المساواة المطلقة بينها وبين الرجل، حسب ما نصت عليه المواثيق والأعراف الدولية والقانون الأساسي الفلسطيني.] والمدقق في بنود هذه الوثيقة يقرأ بشكل واضح الدعوة إلى إقصاء الأحكام الشرعية المتعلقة بالمرأة وغيرها إقصاءً تاماً، وتدعو الوثيقة باسم حقوق المرأة إلى هدم المعقل الأخير للمرأة المسلمة ألا وهو الأسرة، قال تعالى: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} سورة البقرة الآية 61. وهذا عرض سريع لأهم بنود الوثيقة التي تسير في هذا السياق وبيان ما تخالفه من النصوص والأحكام الشرعية: 1- ورد في الوثيقة [يحق للمرأة الفلسطينية تقلد جميع المناصب العامة في الدولة، وممارسة جميع الصلاحيات القانونية المرتبطة بعمل هذه المناصب، وذلك وفقاً للحاجات والشروط القانونية والمهنية دونما تمييز بينها وبين الرجل.] ومعلوم شرعاً أن المرأة لا تتولى الولايات العامة لقوله صلى الله عليه وسلم: (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) رواه البخاري ولغير ذلك من الأدلة. 2- ورد في الوثيقة: [تحقيق وحدة الأسرة الفلسطينية في وطنها وفق إعلان حقوق الإنسان] ومن المعلوم شرعاً أن الإسلام قد بين كل الأحكام المتعلقة بالأسرة بياناً واضحاً جلياً. ودين الإسلام هو خير من رعى الأسرة. 3- ورد في الوثيقة: [يؤخذ بشهادة المرأة في جرائم الزنا على نحو مساوٍ لشهادة الرجل، على اعتبار تساويهما في شروط الأهلية القانونية.] وهذا فيه مصادمة واضحة للنصوص الشرعية، قال الله تعالى: {واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم} سورة النساء الآية 15. وقال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} سورة النور الآية 4. وقال الله تعالى: {لَوْلَا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} سورة النور الآية 13 وروى مالك عن الزهري: (مضت السنة بأن لا شهادة للنساء في الحدود والقصاص) الموطأ. 4- ورد في الوثيقة: [تلتزم السلطة الفلسطينية بمقاومة كافة الأعراف والتقاليد والمعتقدات الدينية التي تبيح العنف ضد المرأة] ولا شك أن هذا افتراء عظيم على الدين، فالدين الإسلامي لا يبيح العنف ضد المرأة ولكن الإسلام نظم مسألة تأديب الزوج لزوجته، يقول الله تعالى: {وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} سورة النساء الآية 34. 5- ورد في الوثيقة: [للمرأة متى أدركت سن الثمانية عشر، حق التزوج وتأسيس أسرة دون أي قيد بسبب العرق أو الجنسية أو الدين، وهي متساوية مع الرجل في كافة الحقوق عند الزواج وخلال قيامه ولدى انحلاله] وهذا فيه دعوة إلى تأخير سن الزواج وإلى إلغاء الولاية في النكاح وإلى زواج المسلمة من غير المسلم وإلغاء مبدأ القوامة وإلى قيام المرأة بتطليق زوجها وغير ذلك من المفاسد والمخالفة لأحكام الشريعة الإسلامية. 6- ورد في الوثيقة: [يلتزم المشرع الفلسطيني باعتبار الحد الأدنى لسن زواج الفتيات الثمانية عشرة سنة شمسية كون هذا السن متوافقاً مع ما أخذت به أحكام القانون المدني من سن الأهلية القانونية اللازم لمباشرة التصرفات القانونية.] وهذا البند كسابقه فيه دعوة إلى تأخير سن الزواج، وهذا بناءً على الفكرة الغربية التي ترى أن سن الطفولة يمتد إلى ثمانية عشر عاماً!! وهو مخالف لما هو مقرر شرعاً ومخالف لما قرره قانون الأحوال الشخصية المعمول به في بلادنا، حيث حدد أقل سن للزواج كما جاء في المادة الخامسة منه ما يلي: [يشترط في أهلية الزواج أن يكون الخاطب والمخطوبة عاقلين، وأن يتم الخاطب السنة السادسة عشرة وأن تتم المخطوبة الخامسة عشرة من العمر] . 7- ورد في الوثيقة: [الأصل في عقد الزواج الوحدانية والديمومة، ويجوز للقاضي استثناء السماح للرجل بالزواج من ثانية شريطة إبداء أسباب ضرورية وملحة، على أن يثبت القدرة على الإنفاق والعدل، بالإضافة إلى اشتراط علم الزوجة الأولى بهذا الحق، وعلم الزوجة الثانية بوجود زوجة سابقة.] وهذا فيه تعدٍ على الأحكام الشرعية، فالإسلام أباح تعدد الزوجات بشروطه المعروفة، ولم يشترط إبداء أسباب ضرورية وملحة، وليس من شروط التعدد علم الزوجة الأولى ولا الزوجة الثانية، قال الله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} سورة النساء الآية 3. 8- ورد في الوثيقة: [للمرأة الحق في الحصول على تعويض عن الطلاق التعسفي، ومنحها الحق في طلب التفريق القضائي عند وجود المبرر لذلك، مثل إصابة الرجل بالعقم أو بمرض مزمن أو عدم قدرته على مباشرة حياته الزوجية أو تعدد زوجاته] فهذه الوثيقة جعلت تعدد الزوجات من أسباب طلب الطلاق وهذا مخالف للشرع مخالفة واضحة. 9- ورد في الوثيقة: [للمرأة حق المساواة المطلق مع الرجل في جميع مجالات القانون المدني، كالمساواة في حق الملكية والتوريث] ، ونحن نؤمن [الإيمان المطلق بأن دين الإسلام هو دين العدل، ومقتضى العدل التسوية بين المتماثلين والتفريق بين المختلفين ويخطىء على الإسلام من يطلق أنه دين المساواة دون قيد؛ لأن المساواة المطلقة تقتضي أحياناً التسوية بين المختلفين، وهذه حقيقة الظلم، ومن أراد بالمساواة العدل فقد أصاب في المعنى وأخطأ في اللفظ، ولم يأت حرفٌ واحدٌ في القرآن يأمر بالمساواة بإطلاق، إنما جاء الأمر بالعدل، قال الله تعالى: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} سورة النحل الآية90، فأحكام الشريعة قائمة على أساس العدل، فتسوي حين تكون المساواة هي العدل، وتفرق حين يكون التفريق هو العدل، قال الله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} سورة الأنعام الآية115، أي صدقاً في الإخبار، وعدلاً في الأحكام] وثيقة حقوق المرأة المسلمة وواجباتها. وكذلك فإن الدعوة إلى المساواة بين الذكر والأنثى في الميراث فيها مصادمة صريحة للنصوص الشرعية، قال الله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} سورة النساء الآية 11. 10- ورد في الوثيقة: [للمرأة حرية التنقل والسفر والعمل دون اشتراط الحصول على إذن من أحد، متى بلغت الأهلية القانونية المطلوبة لذلك دونما تمييز عن الرجل] وهذا مخالف للنصوص الشرعية، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر ثلاثاً إلا ومعها ذو محرم) . رواه البخاري ومسلم. وفي رواية عند مسلم: (لا تسافر المرأ إلا مع ذي محرم) . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لامرأة مسلمة تسافر مسيرة ليلة إلا ومعها رجل ذو حرمة منها) رواه مسلم.
هذه طائفة من البنود الواردة في الوثيقة التغريبية للمرأة الفلسطينية. ومناقشة بنودها تحتاج إلى مجال أوسع من هذا المقام، ولكن لا بد من التأكيد على أن هذه الوثيقة ما هي إلا امتداد لحركة تغريب المرأة المسلمة وسلخها من دينها، وغلفت هذه الوثيقة بأغلفة براقة خداعة كالحقوق والمساواة، ونحن نعتقد [الاعتقاد الجازم بأن مصدر الخير والحق - فيما يتعلق بأمر الدنيا والآخرة - هو الوحي الإلهي بمصدريه الكتاب والسنة المطهرين، ومن ذلك الإجماع الثابت المعتبر، واعتبار الرجوع إليها وعدم مخالفتها، من أصل الإيمان وشرطه، قال عز وجل: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} سورة النساء الآية 65، ومن المعلوم بالضرورة أن من توحيد الله في ربوبيته الإيمان بأن الحكم والتشريع حق لله، في شؤون المجتمع، وشؤون أفراده، وفي الحياة كلها، ومن توحيده في ألوهيته الإيمان بوجوب التحاكم إليه في كل شيء. واليقين بصلاحية هذه الشريعة للتطبيق في كل زمان ومكان، وبشمولها لكل مناحي الحياة، والثقة التامة بهذا الدين, وأحكامه الكلية والجزئية، والإيمان بأنه هو الخير كله، والعدل كله، والرحمة كلها، قال الله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً} سورة الإسراء الآية 9، وسبب هذه الثقة صدور هذه الأحكام عن الله العزيز الحكيم، اللطيف الخبير، الموصوف بالعلم الشامل والحكمة التامة، قال الله عز وجل: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} سورة المائدة الآية 50. لذا فإن التصحيح والإصلاح لأي خلل في أي وضع أو ممارسة, يجب أن يكون وفق معيار الشريعة في الصواب والخطأ، والحق والضلال، وليس وفق موازين الآخرين من غير المسلمين أومن تأثر بهم من أبناء المسلمين، قال الله تعالى: {وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللهُ إِلَيْكَ} سورة المائدة الآية 49. ونحن نعتقد أن الشريعة الإسلامية تحرم التمييز الظالم ضد المرأة، الذي يخل بحقوقها, أو يخدش كرامتها. ولا يوجد تمييز مجافٍ للعدل ومحابٍ للرجل في منهج الإسلام أو أحكامه ضد المرأة, إلا ما كان في أذهان المرضى بالهزيمة النفسية، أو عند الجاهلين بالشرع المطهر، الذين لم يدركوا الحِكَم من وجود بعض الفروق الخَلقية والجبلية، وما لزم على ذلك من وجود بعض الاختلاف في الأحكام الشرعية والوظائف والحقوق الحياتية، وكل دعوى تنافي ذلك - سواء صدرت عن عدو مغرض أو عن صديق جاهل - فهي مبنية على وهم وغفلة، أو حجة داحضة.] وثيقة حقوق المرأة المسلمة وواجباتها. ويجب شرعاً على أهل العلم وغيرهم التصدي لأهل الأهواء ومتبعي الشهوات في كل المجالات التعليمية والثقافية والإعلامية والنسوية وغيرها، وعدم تمكينهم من انتهاك الحقوق الشرعية للنساء المسلمات، أو تبني المناهج والبرامج التي تقود إلى انتهاك عفتهن، أو إشاعة الفاحشة بين المؤمنين؛ إرضاءً للمناهج الغربية، وترويجاً للمبادئ الوضعية واعتبار ذلك معياراً للتقدم والحضارة، وما ذلك إلا سراب زائف.
وخلاصة الأمر أن وثيقة حقوق المرأة الفلسطينية مشتملة على جملة مخالفات صريحة وواضحة للنصوص الشرعية، وبالتالي فهذه الوثيقة ما هي إلا انسلاخ من الدين واعتداء على ثوابته، وتغريب للمرأة المسلمة، ويحرم شرعاً العمل بها أو الرضا بمضامينها.(15/9)
10 - ضوابط في أسماء المواليد
قول السائل: رزقت بمولودة سميتها سالي ولا أدري ما معناه، ثم قررت أن أغير اسمها إلى اسم آخر من الأسماء العربية المتداولة فما الحكم في ذلك، أفيدونا؟
الجواب: تسمية المواليد صارت من ميادين التقليد والتغريب الفسيحة التي قلد فيها المسلمون غيرهم، وخاصة تقليد أسماء الغربيين ذكوراً وإناثاً فصرنا نسمع أسماء مثل: جاكلين، جولي، ديانا، سوزان، فالي، فكتوريا، كلوريا، لارا، لندا، ليسندا، مايا، منوليا، هايدي، يارا. وتلك الأسماء الأعجمية: مرفت، شيريهان، شيرين، نيفين، شادي، وتلك الأسماء التافهة مثل: زوزو، فيفي، ميمي، وتلك الأسماء الغرامية الرخوة المتخاذلة: أحلام، أريج، تغريد، غادة، فاتن، ناهد، هيام، وهو بضم الهاء: ما يشبه الجنون من العشق أو داء يصيب الإبل، وبفتحها: الرمل المنهار الذي لا يتماسك. وتلك الأسماء ذوات المعاني القبيحة كعفلق وغير ذلك من الأسماء الكثيرة. انظر تسمية المولود ص2. ولا بد للمسلمن أن يتميزوا عن غيرهم من الأمم في كل شؤونهم وحتى بأسمائهم، وأن يلتزموا أدب الإسلام في تسمية المواليد، قال الشيخ بكر أبو زيد رحمة الله عليه: [أنادي بلسان الشريعة الإسلامية على المسلمين أن يتقوا الله، وأن يلتزموا بأدب الإسلام وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وأن لا يؤذوا السمع والبصر في تلكم الأسماء المرذولة، وأن لا يؤذوا أولادهم بها، فيحجبوا بذلك عنهم زينتهم: الأسماء الشرعية. وما هذه إلا ظاهرة مرضية مؤذية، يجب على من بسط الله يده أن يصدها عن مواليد المسلمين، فليزمهم عن طريق الأحوال المدنية بالأسماء المشروعة فحسب، فلا يسجل إلا ما كان شرعياً. وإذا كانت القوانين تصدر في فرنسا وغيرها لضبط اختيار أسماء المواليد حتى لا تخرج عن تاريخهم، ولا تتعارض مع قيمهم الوطنية، وإذا ألزم المسلمون في بلغاريا بتغيير أسمائهم الإسلامية، فنحن في الالتزام بدين الله - الإسلام - أحق من أمم الكفر] تسمية المولود ص 3. ومن المعلوم أنه ينبغي على المسلم أن يحسن تسمية أولاده، لأن الاسم يبقى مع الإنسان طوال حياته وبعد مماته، وقد ورد في الحديث عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم فأحسنوا أسمائكم) رواه أبو داود بإسناد حسن كما قال العلامة ابن القيم في تحفة المودود ص89. وقد اعتنى أهل العلم بهذا الموضوع ومنهم من خصَّه بالتأليف كالعلام ابن القيم حيث ألف كتابه (تحفة المودود بأحكام المولود) وجعل فيه باباً (في ذكر التسمية وأحكامها) ويقع في سبع وثلاثين صفحة، وألف الدكتور بكر أبو زيد كتاباً بعنوان (تسمية المولود) فصَّل الكلام فيه على الموضوع تفصيلاً حسناً، ويضاف إلى ذلك كلام متفرق لأهل العلم في كتبهم وفتاويهم، وقد حاولت أن أجمع أهم ضوابط تسمية المولود من كلام العلماء فكانت كما يلي: دلت الشريعة على تحريم تسمية المولود في واحد من الوجوه الآتية: 1- اتفق المسلمون على أنه يحرم كل اسم معبد لغير الله تعالى، من شمس أو وثن أو بشر أو غير ذلك، مثل: عبد الرسول، عبد النبي، عبد علي، عبد الحسين، عبد الأمير (يعني: أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه) ، عبد الصاحب (يعني: صاحب الزمان المهدي المنتظر) ، وهي تسميات الروافض. وقد غيَّر النبي صلى الله عليه وسلم كل اسم معبد لغير الله تعالى، مثل: عبد العزى، عبد الكعبة، عبد شمس، عبد الحارث. ومن هذا الباب: غلام الرسول، غلام محمد، أي: عبد الرسول ... وهكذا. والصحيح في عبد المطلب المنع. ومن هذا الغلط في التعبيد لأسماء يظن أنها من أسماء الله تعالى وليست كذلك مثل: عبد المقصود، عبد الستار، عبد الموجود، عبد المعبود، عبد الهوه، عبد المرسل، عبد الوحيد، عبد الطالب ... فهذه يكون الخطأ فيها من جهتين: من جهة التسمية الله بما لم يرد به السمع، وأسماؤه سبحانه توفيقية على النص من كتاب أو سنة. والجهة الثانية التعبيد بما لم يسم الله به نفسه ولا رسوله صلى الله عليه وسلم. 2- التسمية باسم من أسماء الله تبارك وتعالى فلا تجوز التسمية باسم يختص به الرب سبحانه، مثل: الرحمن، الرحيم، الخالق، البارئ، وقد غيَّر النبي صلى الله عليه وسلم ما وقع من التسمية بذلك. وفي القرآن العظيم: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} سورة مريم الآية 65، أي لا مثيل له يستحق مثل اسم الذي هو الرحمن. 3- التسمية بالأسماء الأعجمية المولدة للكافرين الخاصة بهم. والمسلم المطمئن بدينه يبتعد عنها وينفر منها ولا يحوم حولها. وقد عظمت الفتنة بها في زماننا، فيلتقط اسم الكافر من أوروبا وأمريكا وغيرهما، وهذا من أشد مواطن الإثم وأسباب الخذلان، ومنها: بطرس، جرجس، جورج، ديانا، روز، سوزان ... وغيرها ... وهذا التقليد للكافرين في التسمي بأسمائهم، إن كان عن مجرد هوى وبلادة ذهن، فهو معصية كبيرة وإثم، وإن كان عن اعتقاد أفضليتها على أسماء المسلمين، فهذا على خطر عظيم يزلزل أصل الإيمان، وفي كلتا الحالتين تجب المبادرة إلى التوبة منها، وتغييرها شرط في التوبة منها. 4 - التسمي بأسماء الأصنام المعبودة من دون الله ومنها: اللات، العزى، إساف، نائلة، هبل. 5- التسمي بالأسماء الأعجمية، تركية، أو فارسية أو بربرية أو غيرها مما لا تتسع لغة العرب ولسانها، ومنها: ناريمان، شيريهان، نيفين، شادي - بمعنى القرد عندهم - جيهان. وأما ما ختم بالتاء، مثل: حكمت، عصمت، نجدت، هبت، مرفت، رأفت ... فهي عربية في أصلها، لكن ختمها بالتاء الطويلة المفتوحة - وقد تكون بالتاء المربوطة - تتريك لها أخرجها عن عربيتها، لهذا لا يكون الوقف عليها بالهاء. والمختومة بالياء مثل: رمزي، حسني، رشدي، حقي، مجدي، رجائي هي عربية في أصلها، لكن تتريكها بالياء في آخرها منع من عربيتها بهذا المبنى، إذ الياء هنا ليست ياء النسبة العربية مثل: ربعي، ووحشي، وسبتي (لمن ولدت يوم السبت) ، ولا ياء المتكلم، مثل: كتابي، بل ياء الإمالة الفارسية والتركية. 6 - كل اسم فيه دعوى ما ليس للمسمى، فيحمل من الدعوى والتزكية والكذب ما لا يقبل بحال. ومنه ما ثبت في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أخنع اسم عند الله رجل تسمى ملك الأملاك) متفق عليه. ومثله قياساً على ما حرمه الله ورسوله: سلطان السلاطين، حاكم الحكام، شاهنشاه، قاضي القضاة. قال ابن القيم: [وقال بعض العلماء وفي معنى ذلك كراهية التسمية بقاضي القضاء وحاكم الحكام فان حاكم الحكام في الحقيقة هو الله، وقد كان جماعة من أهل الدين والفضل يتورعون عن إطلاق لفظ قاضي القضاة وحاكم الحكام قياساً على ما يبغضه الله ورسوله من التسمية بملك الأملاك وهذا محض القياس] تحفة المولود ص 91. وكذلك تحريم التسمية بمثل: سيد الناس، سيد الكل، سيد السادات، ست النساء. ويحرم إطلاق (سيد ولد آدم) على غير رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي حديث زينب بنت أبي سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تزكوا أنفسكم، الله أعلم بأهل البر منكم) رواه مسلم. 7- قال ابن القيم: التسمية بأسماء الشياطين، كخنزب، والولهان، والأعور، والأجدع، وقد وردت السنة بتغيير اسم من كان كذلك. ومن ضوابط الأسماء المكروهة ما يلي: يكره التسمي بما تنفر النفوس من معناه من الأسماء، إما لما يحمله من معنى قبيح أو مثير للسخرية، كما أن فيه مخالفة لهدي النبي صلى الله عليه وسلم في الأمر بتحسين الأسماء، ومثال ذلك اسم حرب، وهيام وهو اسم مرض يصيب الإبل ونحوها من الأسماء التي تحمل معان قبيحة وغير حسنة. ويكره التسمي بأسماء فيها معان رخوة أو شهوانية، ويكثر هذا في تسمية الإناث، مثل بعض الأسماء التي تحمل أوصافا جنسية أو شهوانية. ويكره تعمد التسمي بأسماء الفساق من المغنيين والمغنيات والممثلين والممثلات ونحوهم، فإن كانوا يحملون أسماء حسنة فيجوز التسمي بها لكن لأجل معانيها الحسنة وليس لأجل التشبه بهم أو تقليدهم. ويكره التسمي بأسماء فيها معان تدل على الإثم والمعصية، مثل سارق وظالم، أو التسمي بأسماء الفراعنة والعصاة مثل فرعون وهامان وقارون. ويكره التسمي بأسماء الحيوانات المشهورة بالصفات المستهجنة، مثل الحمار والكلب والقرد ونحوها. وتكره التسمية بكل اسم مضاف إلى الدين والإسلام، مثل نور الدين وشمس الدين وكذلك نور الإسلام وشمس الإسلام، لما فيها من إعطاء المسمى فوق حقه، وقد كان علماء السلف يكرهون تلقيبهم بهذه الألقاب، ولكن البلوى عمت بمثل هذه الأسماء كاسمي، وقد كان الإمام النووي يكره تلقيبه بمحيي الدين، وشيخ الإسلام ابن تيمية يكره تلقيبه بتقي الدين، ويقول: لكن أهلي لقبوني بذلك فاشتهر. تسمية المولود ص26. ويكره التسمي بأسماء الملائكة، وكذلك بأسماء سور القرآن مثل طه ويس ونحوها، وهذه الأسماء هي من الحروف المقطعة وليست من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم. وينبغي أن أذكر أن بعض أهل العلم ذكر مراتب الأسماء المستحسنة شرعاً أربعة:
المرتبة الأولى: اسميْ عبد الله وعبد الرحمن، وذلك لما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن) رواه مسلم. المرتبة الثانية: سائر الأسماء المعبدة لله عز وجل: مثل عبد العزيز وعبد الرحيم وعبد الملك وعبد الإله وعبد السلام وغيرها من الأسماء المعبدة لله عز وجل. المرتبة الثالثة: أسماء الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام، ولاشك أن خيرهم وأفضلهم وسيدهم هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ومن أسمائه كذلك أحمد، ثم أولوا العزم من الرسل وهم إبراهيم وموسى وعيسى ونوح عليهم الصلاة والسلام، ثم سائر الأنبياء والمرسلين عليهم جميعا صلوات الله وسلامه. المرتبة الرابعة: أسماء عباد الله الصالحين، وعلى رأسهم صحابة نبينا الكريم، فيستحب التسمي بأسمائهم الحسنة اقتداء بهم وطلبا لرفعة الدرجة. المرتبة الخامسة: كل اسم حسن ذو معنى صحيح جميل.
وخلاصة الأمر أنه ينبغي على الوالد أن يحسن اسم ولده، وأن ينتقي له الأسماء المشروعة، وأن لا يسميه بالأسماء المحرمة والمكروهة، ومنها اسم سالي فهو يطلق على إعصار يضرب سواحل أمريكا، وينبغي تغيير الأسماء القبيحة اقتداءً بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، كما هو ثابت في تغييره صلى الله عليه وسلم لعدد من الأسماء القبيحة واستبدالها بأسماء حسنة.(15/10)
11 - التابعة من الجن
تقول السائلة: إنها امرأة متزوجة من عدة سنوات وكلما حملت أسقطت جنينها، وقالت لها إحدى النساء إن تابعتها قرينة من الجن تتسلط على الحمل فتسقطه فهل هذا الأمر صحيح، أفيدونا؟
الجواب: الاعتقاد بوجود التابعة من الجن، فكرة قديمة وهي من موروثات عرب الجاهلية، قال الهروي في شرح حديث النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن حلوان الكاهن: [والكاهن هو الذي يتعاطى الأخبار عن الكائنات في المستقبل ويدعي معرفة الأسرار، وكانت في العرب كهنةٌ يدَّعون أنهم يعرفون كثيراً من الأمور الكائنة، ويزعمون أن لهم تابعة من الجن تلقى إليهم الأخبار] تحفة الأحوذي 4/413. وهذه الفكرة من الخرافات التي لا وجود لها، ولا يمكن عقلاً ولا شرعاً أن تؤثر هذه التابعة المزعومة في الحمل فتسقطه، فالأمور كلها بيد الله عز وجل، وقد ثبت في الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم يوماً، فقال: (يا غلام، إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تُجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن لإجهاض الحمل أسباباً كثيرةً يعرفها الأطباء، فينبغي مراجعة الأطباء فهم أهل الاختصاص في ذلك.
ويجب التفريق بين التابعة المزعومة وبين القرين وهو من الجن الموكل بكل إنسان، فالقرين ثابت بالكتاب والسنة، قال الله تعالى
{قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِن كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ} سورة ق الآية27. قال الإمام البخاري في باب تفسير سورة ق: [وقال قرينه: الشيطان الذي قيض له] صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 8/754. وقال الإمام الطبري في تفسير الآية السابقة: [يقول تعالى ذكره: قال قرين هذا الإنسان الكفَّار المنَّاع للخير، وهو شيطانه الذي كان موكلاً به في الدنيا كما حدثني ... عن ابن عباس قوله (قال قرينه ربنا ما أطغيته) قال: قرينه شيطانه.] تفسير الطبري 22/357. وقال تعالى {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} سورة الزخرف الآية 36. وثبت في الحديث عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحدٍ إلا وقد وكِّل به رينُه من الجن، قالوا: وإياك يا رسول الله؟ قال: وإياي إلا أن الله أعانني عليه فأسلمُ، فلا يأمرني إلا بالخير.) رواه مسلم. قال الإمام النووي: [قوله صلى الله عليه وسلم: (فأسلم) برفع الميم وفتحها، وهما روايتان مشهورتان فمن رفع قال: معناه: أسلمُ أنا من شره وفتنته، ومن فتحَ قال: إن القرين أسلمَ، من الإسلام وصار مؤمناً لا يأمرني إلا بخير، واختلفوا في الأرجح منهما فقال الخطابي: الصحيح المختار الرفع، ورجح القاضي عياض، الفتح وهو المختار، لقوله: (فلا يأمرني إلا بخير) ، واختلفوا على رواية الفتح، قيل: أسلمَ بمعنى استسلم وانقاد، وقد جاء هكذا في غير صحيح مسلم (فاستسلم) ، وقيل: معناه صار مسلماً مؤمناً، وهذا هو الظاهر، قال القاضي: واعلم أن الأمة مجتمعة على عصمة النبي صلى الله عليه وسلم من الشيطان في جسمه وخاطره ولسانه. وفي هذا الحديث: إشارة إلى التحذير من فتنة القرين ووسوسته وإغوائه، فأعلمنا بأنه معنا لنحترز منه بحسب الإمكان] شرح النووي على مسلم 6/293. وروى مسلم بإسناده عن عروة أن عائشة زوج النبى صلى الله عليه وسلم حدثته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من عندها ليلاً، قالت فغرت عليه فجاء فرأى ما أصنع فقال: (ما لك يا عائشة أغرت) فقلت وما لي لا يغار مثلي على مثلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أقد جاءك شيطانك) . قالت يا رسول الله أو معي شيطان، قال: نعم. قلت ومع كل إنسان قال: نعم. قلت ومعك يا رسول الله قال: نعم ولكن ربى أعانني عليه حتى أسلمَ) . فهذه النصوص وغيرها تثبت أن كل إنسانٍ قد وكِّل به قرينٌ من كفرة الجن، وعمل هذا القرين أنه يغوي الإنسان ويوسوس له. ونحن نؤمن أن الجن خلق من خلق الله عز وجل وأن لهم قدرات خاصة بهم كقدرتهم على سرعة الحركة مثلاً كما قال تعالى: {قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ} سورة النمل الآية 39. ولكن لا يصح أن نبالغ في قدراتهم، فهم لا يقدرون على إلحاق الضرر بالإنسان إلا بإذن الله عز وجل، كما أنه لا سلطان لهم على عباد الله الصالحين كما قال تعالى: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً} سورة الإسراء الآيتان 64-65. ولهم تسلط على الناس الضالين الغاوين كما قال تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ} سورة النحل الآيتان 99- 100. ويمكن للمسلم أن يحارب الشيطان وأن ينتصر عليه إذا تمسك بكتاب الله عز وجل وبسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، [ومن الأسباب المعينة على السلامة من شر الشيطان وجنوده: 1. الإيمان بالله وعبادته بإخلاص والتوكل عليه والاستعاذة به، قال الله تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} سورة الأعراف الآية200، وقال الله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ* إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ* إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} سورة النحل الآيات 98-100. وقد أخبر الله تعالى عن الشيطان أنه قال: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} سورة الحجر الآيتان 39-40. فأجابه الله {قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ* إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} سورة الحجر الآيتان 41-42.
2. الالتزام بالكتاب والسنة والإكثار من تلاوة القرآن ولاسيما سورة البقرة وبالأخص آية الكرسي والآيتين الأخيرتين من السورة.
ففي حديث ابن مسعود: أن النبي صلى الله عليه وسلم خط خطاً بيده ثم قال: هذا سبيل الله مستقيماً ثم خط عن يمينه وشماله، ثم قال: هذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه، ثم قرأ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ.} رواه أحمد والحاكم وصححه ووافقه الذهبي. وفي حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة.) رواه مسلم. وفي حديث أبي هريرة: (أن الشيطان قال له إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح، فلما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بقول الشيطان، قال: صدقك وهو كذوب) . رواه البخاري. وروى النعمان بن بشير رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله كتب كتاباً قبل أن يخلق السماوات والأرض بألفي عام أنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة لا يقرآن في دار ثلاث ليال فيقربها شيطان) رواه الترمذي والحاكم والطبراني، وقال الهيثمي رجاله ثقات وصححه العلامة الألباني في صحيح الترغيب. 3. المحافظة على الصلاة في الجماعة والأذان لها وقيام الليل، فقد روى أبو الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا قد استحوذ عليهم الشيطان فعليكم بالجماعة فإنما يأكل الذئب القاصية) رواه النسائي وقال: قال السائب -أحد رواة الحديث- يعني بالجماعة جماعة الصلاة، ورواه أبو داود والحاكم وصححه ووافقه الذهبي. وعن ابن مسعود قال: (ذُكر عند النبي صلى الله عليه وسلم رجل نام ليلة حتى أصبح قال: ذاك رجل بال الشيطان في أذنه) رواه البخاري ومسلم. وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد يضرب على كل عقدة عليك ليل طويل فارقد، فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقدة، فأصبح نشيطاً طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان) رواه البخاري ومسلم.
4. المحافظة على ذكر الله تعالى دائماً، ولا سيما الأذكار المقيدة: صباحاً ومساء عند النوم وعند الدخول والخروج والأكل والجماع وعند الخلاء ونزع الثياب، ففي حديث الحارث الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (وآمركم بذكر الله كثيراً، وإن مثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو سراعاً في أثره حتى أتى على حصن حصين فأحرز نفسه فيه، كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله) رواه أحمد والترمذي والحاكم وأبو يعلى وصححه العلامة الألباني. ويمكن مراجعة كتب الأذكار للتعرف على أدعية الدخول والخروج والأكل والشرب والجماع وعند الخلاء ونزع الثياب وأذكار الصباح والمساء، 5. الالتزام بالجماعة، ففي حديث عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة، فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد) رواه الترمذي والحاكم وصححه الحاكم ووافقه الذهبي وصححه العلامة الألباني في صحيح سنن الترمذي.
6. البعد عن اتباع خطوات الشيطان ومظان وجوده، كالسوق ومجالس النساء ولا سيما الخلوة والانفراد بهن، ومجالس الغناء، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} سورة النور الآية21. وفي الحديث: (لا تكن أول من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منها، ففيها باض الشيطان وفرخ) رواه مسلم، وفي الحديث: (ألا لا يخلونّ رجل بامرأة فإن الشيطان ثالثهما) رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي. ويمكن مراجعة كتاب إغاثة اللهفان من مكايد الشيطان لابن القيم، وتلبيس إبليس لابن الجوزي، ووقاية الإنسان من الجن والشيطان لوحيد عبد السلام بالي، والصحيح المسند من أذكار اليوم والليلة لمصطفى العدوي والأذكار النووية وغيرها فإنها كتب نافعة في هذا الباب.
وخلاصة الأمر أنه لا وجود للتابعة وإنما ذلك من الخرافات، وأما القرين فهو من الجن وهو ثابت بالكتاب والسنة، وليس من قدرة الجن إسقاط الحمل، وينبغي مراجعة الأطباء فهم أهل الاختصاص لمعرفة أسباب سقوط الحمل.(15/11)
12 - حكم تولي المرأة القضاء الشرعي
يقول السائل: ما قولكم في تولي المرأة للقضاء الشرعي، أفيدونا؟
الجواب: منصب القضاء الشرعي من الولايات العامة التي لا يجوز شرعاً للمرأة أن تتولاها، كما هو مقرر عند العلماء، وإن أبى ذلك الذين يدَّعون مناصرة قضايا المرأة، فمن المعلوم أن الإسلام قد أكرم المرأة أيما إكرام، وأعطاها كل حقوقها، بخلاف ما عليه الشرائع الأخرى والأنظمة الوضعية، وقضية تكريم الإسلام للمرأة قضية واضحة جلية من خلال نصوص الكتاب والسنة، وإن كان كثير ممن أعمى الله بصائرهم وأبصارهم لا يرونها كما قال الشاعر: قد تنكرُ العينُ ضوء الشمسِ من رمدٍ ويُنْكِرُ الفَمُ طَعْمَ الماء منْ سَقَم
ولاشك أن الله جل جلاله قد خلق الذكر والأنثى وبينهما تفاوت في مجالات عدة، ومنها تفاوت وعدم تساوٍ في بعض الأحكام الشرعية كما قال سبحانه وتعالى: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى} سورة آل عمران الآية 36، فليست الأنثى كالذكر في كل الأمور، فهنالك فوارق واضحة في الخلقة الطبيعية، وكذلك في الأحكام الشرعية بين الذكر والأنثى، فالمرأة تختلف عن الرجل في أحكام تتعلق بالصلاة والصيام والحج والنفقات والديات وولاية الحكم وغيرها، والتفريق بين الذكر والأنثى مقرر في شريعتنا وفي الشرائع السابقة، وحتى في الأنظمة الوضعية، فالدعوة إلى مساواة الرجل بالمرأة في كل شيء، كذب وافتراء على دين الإسلام، قال الله تعالى {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} سورة القلم الآية 14. إذا تقرر هذا فإن جماهير أهل العلم لا يجيزون للمرأة أن تتولى القضاء، وقد قامت على ذلك أدلة كثيرة لا يتسع المقام لذكرها كلها، ولكن أذكر أهمها: قال الله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} سورة النساء الآية 34. وهذه الآية عامة حيث إن (أل) تفيد الاستغراق فتشمل كل النساء والرجال في جميع الأحوال، ومن المقرر عند الأصوليين أن العام يبقى على عمومه حتى يأتي ما يخصصه، ولم يوجد مخصص لهذا العموم، انظر إرشاد الفحول ص 14. وقال الشيخ ابن كثير في تفسير الآية: [أي: الرجل قيم على المرأة، أي هو رئيسها وكبيرها والحاكم عليها ومؤدبها إذا اعوجت {بما فضل الله بعضهم على بعض} أي: لأن الرجال أفضل من النساء، والرجل خيرٌ من المرأة؛ ولهذا كانت النبوة مختصة بالرجال وكذلك الملك الأعظم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) رواه البخاري ... وكذا منصب القضاء وغير ذلك {وبما أنفقوا من أموالهم} أي: من المهور والنفقات والكُلَف التي أوجبها الله عليهم لهنَّ في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فالرجل أفضل من المرأة في نفسه، وله الفضل عليها والإفضال، فناسب أن يكون قيماً عليها، كما قال الله تعالى: {وللرجال عليهن درجة} سورة البقرة الآية 228] تفسير ابن كثير 2/293. ومما يدل على أنه لا يجوز للمرأة أن تتولى القضاء ما رواه الإمام البخاري في صحيحه بإسناده عن أبى بكرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغه أن أهل فارس قد ملَّكوا عليهم بنت كسرى قال: (لن يفلح قومٌ ولوا أمرهم امرأة) ، فهذا الحديث يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل من أسباب عدم الفلاح تولي المرأة للولايات العامة، والقضاء داخل فيها، فإن قال قائل إن هذا الحديث ورد في حادثة خاصة، فنقول إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما هو مقرر عند الأصوليين. قال الأمير الصنعاني عند شرحه للحديث السابق: [فيه دليل على أن المرأة ليست من أهل الولايات، ولا يحل لقومها توليتها لأن تجنب الأمر الموجب لعدم الفلاح واجب] سبل السلام 4/96. وقال الشيخ ابن العربي المالكي: [وهذا نص في أن المرأة لا تكون خليفة، ولا خلاف فيه. ونقل عن محمد بن جرير الطبري إمام الدين أنه يجوز أن تكون المرأة قاضية؛ ولم يصح ذلك عنه؛ ولعله كما نقل عن أبي حنيفة أنها إنما تقضي فيما تشهد فيه، وليس بأن تكون قاضية على الإطلاق، ولا بأن يكتب لها منشور بأن فلانة مقدمة على الحكم، إلا في الدماء والنكاح، وإنما ذلك كسبيل التحكيم أو الاستبانة في القضية الواحدة، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: (لن يفلح قومٌ ولوا أمرهم امرأة) وهذا هو الظن بأبي حنيفة وابن جرير] أحكام القرآن 3/1457. ومما يدل على أنه لا يجوز للمرأة أن تتولى القضاء ما ورد في الحديث عن بريدة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (القضاة ثلاثةٌ، واحدٌ في الجنة واثنان في النار، فأما الذي في الجنة فرجلٌ عرف الحق فقضى به، ورجلٌ عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار، ورجلٌ قضى للناس على جهل فهو في النار) رواه أبو داود وابن ماجة وغيرهما وصححه العلامة الألباني في صحيح سنن ابن ماجة حديث رقم 2315. وهذا الحديث يدل دلالة واضحة على اشتراط كون القاضي رجلاً، لأن النبي صلى الله عليه وسلم حينما ذكر القضاة بينهم بقوله: رجلٌ في الحالات الثلاث، قال ابن تيمية الجد: [وهو – أي الحديث - دليل على اشتراط كون القاضي رجلاً] وقال الشوكاني: [واستدل المصنف أيضاً على ذلك بحديث بريدة المذكور في الباب لقوله فيه رجل ورجل، فدلَّ بمفهومه على خروج المرأة] نيل الأوطار 4/112. ومما يدل على أنه لا يجوز للمرأة أن تتولى القضاء أنه لم يثبت في تاريخ الإسلام وعلى مدى هذه القرون المتطاولة أن تولت امرأة القضاء، فلم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحدٍ من خلفاء المسلمين لا في عهد الراشدين ولا الأمويين ولا العباسيين ولا غيرهم أنهم ولوا امرأة القضاء، ولو حصل لنقل، قال الإمام القرافي: [ولذلك لم يسمع في عصر من الأعصار أن امرأة وليت القضاء، فكان ذلك إجماعاً، لأنه غير سبيل المؤمنين] الذخيرة 10/22. وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [ولهذا لم يول النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحدٌ من خلفائه، ولا من بعدهم امرأة قضاء ولا ولاية بلد فيما بلغنا، ولو جاز ذلك لم يخل منه جميع الزمان غالباً] المغني 5/34. ولا شك أن فتح هذا الباب إنما هو فتح لباب شرٍ، والمسلمون في غنىً عنه، وهو من باب من سنَّ في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء، كما ورد في الحديث في صحيح مسلم. ومما يؤكد أنه لا يجوز للمرأة أن تتولى القضاء أن في ذلك مدخلاً للخلطة المنهي عنها شرعاً، قال الإمام البغوي: [اتفقوا على أن المرأة لا تصلح أن تكون إماماً ولا قاضياً، لأن الإمام يحتاج إلى البروز لإقامة أمر الجهاد، والقيام بأمور المسلمين، والقاضي يحتاج إلى البروز لفصل الخصومات، والمرأة عورة لا تصلح للبروز، وتعجز لضعفها عند القيام بأكثر الأمور، ولأن المرأة ناقصة، والإمامة والقضاء من كمال الولايات، فلا يصلح لها إلا الكامل من الرجال] شرح السنة 10/77. ويضاف إلى ذلك ما يعتري المرأة من عوارض طبيعية كالحمل والرضاع والحيض والنفاس، وهذه أمور تتعارض مع توليها لمنصب القضاء الذي يحتاج إلى الصحة البدنية والنفسية، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحكم الحاكم بين اثنين وهو غضبان) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح. وغير ذلك من الأدلة. ولا بد أن أذكر هنا أمرين أولهما: مستند من قال بجواز تولي المرأة للقضاء هو تعيين عمر بن الخطاب رضي الله عنه الشفاء بنت عبد الله رضي الله عنها على ولاية الحسبة وهي أخطر من منصب قاضي الأحوال الشخصية كذا زعموا، أقول إن هذا الاستدلال باطل، لأن قصة تولية الشفاء للسوق في عهد عمر رضي الله عنه قصة ليست ثابتة، قال الشيخ ابن العربي المالكي: [وقد روي أن عمر قدَّم امرأة على حسبة السوق، ولم يصح؛ فلا تلتفتوا إليه؛ فإنما هو من دسائس المبتدعة في الأحاديث] . أحكام القرآن 3/1457. وهذه الحادثة روتها كتب التراجم بدون إسناد، ومع ذلك رويت بصيغة التضعيف فلا يعول عليها ولا يعتمد عليها، قال ابن سعد: [وكانت الشفاء بنت عبد الله أم سليمان بن أبي حثمة من المبايعات ... ويقال إن عمر بن الخطاب استعملها على السوق، وولدها ينكرون ذلك ويغضبون منه] طبقات ابن سعد 1/250، ولاشك أن أولادها أعلم بحال أمهم من غيرهم. وقال الحافظ ابن عساكر: [وكانت الشفاء بنت عبد الله أم سليمان بن أبي حثمة من المبايعات، ... ويقال إن عمر بن الخطاب استعملها على السوق، وولدها ينكرون ذلك ويغضبون منه) تاريخ دمشق عن المكتبة الشاملة، وقال الحافظ المزي في ترجمة الشفاء بنت عبد الله: [وكان عمر بن الخطاب يقدمها في الرأي ويرضاها ويفضلها وربما ولاها شيئاً من أمر السوق] تهذيب الكمال عن المكتبة الشاملة، وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [وكان عمر يقدمها في الرأي ويرعاها ويفضلها وربما ولاها شيئا من أمر السوق.] الإصابة 4/14. ثانيهما: لو سلمنا بجواز تولي المرأة للقضاء فإن من أجاز للمرأة تولي القضاء أجازه بشروط منها: أن تتوافر في المرأة المراد تقليدها القضاء الشروط المطلوبة في القضاة، من أهلية القضاء من رجحان العقل، والاتزان، وسلامة الحواس، ومن العدالة والاستقامة على طريق الحق، والقدرة على الوقوف أمام الباطل من خلال شخصية قوية متزنة، إضافة إلى العلم بالأحكام الشرعية؛ لأن القاضي الجاهل في النار، كما ورد ذلك في الحديث. وأن تهيأ للقاضيات الأجواء التي لا تتعارض مع أحكام الشريعة. وألا يكون هذا المنصب على حساب تربية أولادها والحقوق المتبادلة بينها وبين زوجها. عن موقع إسلام أون لاين، وإذا نظرنا في هذه الشروط نجد أنه من الصعب جداً تحققها.
وخلاصة الأمر أنه لا يجوز شرعاً أن تتولى المرأة منصب القضاء، وهذا هو القول الصحيح الذي تؤيده الأدلة في هذه المسألة، وليس عند من أجاز ذلك دليل صحيح يعتمد عليه.(15/12)
13 - العيدية
يقول السائل: هل يجوز أن أجعل عيدية أخواتي من مال الزكاة، وإذا أعطيت عيدية لأولادي وبناتي فهل يشترط أن أعطي الجميع نفس المبلغ، فما الحكم في ذلك، أفيدونا؟
الجواب: العيدية كما هو معروف بين الناس هي مبلغ من المال، يعطيه الشخص لقريبه بمناسبة حلول العيد – عيد الفطر أو عيد الأضحى – وهذه العيدية صارت لازمة أو شبه لازمة بحكم العرف، حيث إن الناس قد تعارفوا على ذلك، وهذا عرف صحيح يتفق مع الشرع، فالعيدية من باب البر والصلة والإحسان والمرؤة، ومن باب بذل المعروف للأقارب، وهذه المعاني مقررة شرعاً بنصوص الكتاب والسنة، والعرف الصحيح الذي لا يصادم النصوص الشرعية معتبر عند أهل العلم، قال الإمام القرافي: [وأما العرف فمشترك بين المذاهب ومن استقرأها وجدهم يصرحون بذلك فيها] شرح تنقيح الفصول ص 488. وقال الشيخ العلامة ابن عابدين الحنفي: والعرف في الشرع له اعتبارُ لذا عليه الحكم قد يدارُ
رسالة " نشر العرف في بناء بعض الأحكام على العرف " ضمن مجموعة رسائل ابن عابدين 2/112.
وقد قامت الأدلة الكثيرة على اعتبار العرف ووضع الفقهاء القواعد الفقهية في ذلك كما في قولهم: العادة محكمة، والمعروف عرفاً كالمشروط شرطاً، واستعمال الناس حجة يجب العمل بها، وغير ذلك. [وسلطان العرف العملي كبير في أحكام الأفعال المعتادة والمعاملات المختلفة المتعلقة بحقوق الناس أو أحوالهم الشخصية أو القضاء أو الشهادات والعقوبات وغيرها ويعمل بالعرف ما لم يصادم نصاً شرعياً من القرآن أو السنة واضح الدلالة قطعياً أو نصاً تشريعياً كالقياس ويعتبر ما ثبت بالعرف حينئذ ثابتاً بالنص اتباعاً للقاعدة الشرعية الثابت بالعرف كالثابت بالنص أو الثابت بالعرف ثابت بدليل شرعي] نظرية العرف ص 48. ومن أوسع مجالات إتباع العرف ما يتعلق بالأسرة مثل عشرة النساء والنفقة عليهن ومن ضمن ذلك ما تعارف عليه الناس من تقديم العيدية للأقارب، وهذا عرف صحيح ينبغي اعتباره والعمل به فهو لا يصادم النصوص الشرعية بل يؤكد مقاصد الشارع الحكيم.
إذا تقرر هذا فإنه لا يصح شرعاً اعتبار العيدية للأخوات من الزكاة إن لم يكن من أهلها، وذلك لأن الزكاة لها مصارفها المقررة شرعاً، ولا يجوز صرف الزكاة إلا في تلك المصارف، يقول الله سبحانه وتعالى في بيان مصارف الزكاة: ?إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ? سورة التوبة الآية 60. وقد أجمع أهل العلم على أن الزكاة لا تصرف إلا في المصارف الثمانية المذكورة في الآية الكريمة ولا حق لأحدٍ من الناس فيها سواهم، ولهذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: [هذه لهؤلاء] . وقد روي في الحديث عن زياد بن الحارث الصدائي رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعته - وذكر حديثاً طويلاً - فأتاه رجل فقال: أعطني من الصدقة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لم يرض بحكم نبيٍ ولا غيره في الصدقة حتى حكم هو فيها فجزأها ثمانية أجزاء فإن كنت في تلك الأجزاء أعطيتك حقك) رواه أبو داود والبيهقي والدارقطني وفي سنده ضعف. وإعطاء الأخوات من الزكاة يجوز شرعاً في حالة كون المزكي غير ملزمٍ شرعاً بالإنفاق عليهن، وهناك خلاف بين أهل العلم في النفقة على الأقارب غير الأصول والفروع، مثل الأخ أو الأخت والعم والعمة والخال والخالة وغيرهم. والقول الراجح في ذلك هو: إن النفقة تجب على ذي الرحم الوارث، سواء ورث بفرض أو تعصيب أو برحم، وهذا ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى. وبناءً على ذلك لا يجوز أن يعطي الرجل زكاة ماله لمن وجبت عليه نفقته، فمثلاً أخرج المزكي زكاة ماله وله أخت وليس لها من ينفق عليها إلا المزكي المذكور، فلا يجوز أن يعطيها من زكاة ماله. وهذا الأساس الذي بني عليه الحكم في المنع من إعطاء الزكاة للأقارب إذا كانت النفقة واجبة على المزكي، قال به جماعة من أهل العلم من السلف والخلف فمن ذلك ما رواه ابن أبي شيبة بإسناده عن أبي حفصة قال: [سألت سعيد بن جبير عن الخالة تعطى من الزكاة فقال: ما لم يغلق عليكم باباً] المصنف 3/192، - أي ما لم يضمها إلى عياله -. وما رواه أيضاً بإسناده عن عبد الملك قال: قلت لعطاء: [أيجزي الرجل أن يضع زكاته في أقاربه، قال: نعم إذا لم يكونوا في عياله] المصنف 3/192. وما رواه أيضاً عن سفيان الثوري أنه قال: [لا يعطيها من تجب عليه نفقته] المصنف 3/192وروى أبو عبيد القاسم بن سلام بإسناده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (إذا لم تعط منها أحداً تعوله فلا بأس) ، ورواه الأثرم في سننه بلفظ آخر عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: [إذا كان ذوو قرابة فأعطهم من زكاة مالك وإن كنت تعولهم فلا تعطهم ولا تجعلها لمن تعول] نيل الأوطار 4/200. وقال أبو عبيد: قال لي عبد الرحمن: [إنما كرهوا ذلك لأن الرجل إذا ألزم نفسه نفقتهم وضمهم إليه ثم جعل ذلك بعده إلى الزكاة كان كأنه قد وقى ماله بزكاته] الأموال ص695. وأما إذا لم تكن نفقة الأخوات واجبة على المزكي، فيجوز إعطاؤهن من الزكاة، بل الأخوات أولى بالزكاة من غيرهن في هذه الحالة، وللمزكي أجران أجر الصدقة وأجر الصلة، لما ثبت في الحديث عن سلمان بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الصدقة على المسكين صدقة وهي على ذي الرحم اثنتان صدقة وصلة) رواه أحمد والترمذي وقال: حديث حسن، ورواه الحاكم وقال: إسناده صحيح ووافقه الذهبي وحسنه العلامة الألباني في إرواء الغليل 3/387. قال المباركفوري: [قوله: (الصدقة على المسكين) أي صدقة واحدة (وهي على ذي الرحم اثنتان صدقة وصلة) يعني أن الصدقة على الأقارب أفضل لأنه خيران ولا شك أنهما أفضل من واحد] تحفة الأحوذي 3/261. وجاء في الفتاوى الهندية: [والأفضل في الزكاة والفطر والنذور الصرف أولاً إلى الأخوة والأخوات، ثم إلى أولادهم، ثم إلى الأعمام والعمات، ثم إلى أولادهم ثم إلى الأخوال والخالات، ثم إلى أولادهم، ثم إلى ذوي الأرحام ثم إلى الجيران ثم إلى أهل حرفته ثم إلى أهل مصره أو قريته] الفتاوى الهندية 1/190. وأما إعطاء الزكاة للأخوات – إن كن من أهلها - تحت غطاء العيدية فهذا فيه نوع إيهام غير مقبول، لأن الناس يعرفون أن العيدية من مقتضيات الأعراف الحميدة، وأما الزكاة فإنها مما أوجبه الله تعالى، وكذلك فإن إعطاء الزكاة للأخوات – إن كن من أهلها - تحت غطاء العيدية، فيه دفاع عن مال المعطي ووقاية له مما لزمه عرفاً، ولا يصح شرعاً جعل الزكاة وقايةً لمال المزكي مما لزمه شرعاً كالنفقات الواجبة أو عرفاً كالعيدية، كما أنه لا يصح جعل الزكاة وقاية من مال لا تستطيع الوصول إليه، كما يفعله بعض المزكين من احتساب ديونهم على الفقراء العاجزين عن السداد من مال الزكاة، قال أبو عبيد القاسم بن سلام، في تعليل منع احتساب الدين من الزكاة: [ ... إني لا آمن أن يكون إنما أراد أن يقي ماله بهذا الدين قد يئس منه فيجعله ردءاً لماله يقيه به إذا كان منه يائساً ... ] الأموال ص533-534. وأما العدل عند إعطاء الأولاد والبنات العيدية، فمطلوب شرعاً لعموم الأدلة الواردة في العدل بين الأولاد، وقد رفض الرسول صلى الله عليه وسلم أن يشهد على إعطاء أحد الصحابة لأحد أولاده عطية دون الآخرين كما جاء في الحديث عن عامر قال: (سمعت النعمان بن بشير رضي الله عنهما وهو على المنبر يقول: أعطاني أبي أعطيةً فقالت عمرة بنت رواحة – أم النعمان – لا أرضى حتى تشهد رسول صلى الله عليه وسلم، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أعطيت ابني من عمرة بنت رواحة عطية فأمرتني أن أشهدك يا رسول الله. قال صلى الله عليه وسلم: أعطيت سائر ولدك مثل هذا؟ قال: لا، فقال صلى الله عليه وسلم: فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم. قال فرجع فردَّ عطيته) رواه البخاري، وفي روايةٍ أخرى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبشير والد النعمان (لا تشهدني على جورٍ أليس يسرك أن يكونوا لك في البر سواء؟ قال: نعم. قال: أشهد على هذا غيري) رواه أبو داود بسندٍ صحيح. ويدل على أنه يجب على الأب أن يسوي بين أولاده في الهبات والعطايا قوله صلى الله عليه وسلم: (اعدلوا بين أبنائكم، اعدلوا بين أبنائكم، اعدلوا بين أبنائكم) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وهو حديثٌ صحيح كم قال العلامة الألباني في صحيح سنن أبي داود 2/677. وقوله صلى الله عليه وسلم: (سووا بين أولادكم في العطية لو كنت مفضلاً أحداً لفضلت النساء) رواه سعيد بن منصور والبيهقي وقال الحافظ ابن حجر إسناده حسن. وقال صلى الله عليه وسلم: (اعدلوا بين أولادكم في النِحَل كما تحبون أن يعدلوا بينكم في البِر) رواه مسلم. ومن الجدير بالذكر أن جمهور الفقهاء يرون أن الذكر والأنثى سواءٌ في الهبات والأعطيات وكذا في العيديات، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبشير بن سعد (فسووا بينهم) ، وفي روايةٍ أخرى (أليس يسرك أن يكونوا في البر سواء) ، والبنت كالابن في وجوب برها لأبيها. ولكن يجوز التفضيل بينهم لسبب معتبر شرعاً، والقول بجواز تفضيل بعض الأولاد لمسوغ شرعي لا بأس به ولا يخالف الأدلة الواردة في وجوب العدل بين الأولاد في العطية، جاء في فتاوى اللجنة الدائمة السعودية: [المشروع في عطية الأولاد هو التسوية بينهم في العطاء على السواء، ولا يجوز التفضيل إلا لمسوغ شرعي؛ لكون أحدهم مقعداً أو صاحب عائلة كبيرة أو لاشتغاله بالعلم، أو صرف عطية عن بعض ولده لفسقه أو بدعته، أو لكونه يعصي الله فيما يأخذه ... ] فتاوى اللجنة الدائمة 16/193.
وخلاصة الأمر أنه لا يجوز للشخص أن يحتسب العيدية من زكاة ماله، بل ينبغي أن تكون العيدية من ماله الخاص، وينبغي العدل بين الأولاد في العيدية فلا يعطي بعضهم ويحرم الآخرين، وتجوز المفاضلة في مبلغ العيدية بين الأولاد، فالكبير يعطى أكثر من الصغير، ولا تشترط المساواة بينهم فيها(15/13)
14 - الحملة الفرنسية على الحجاب
يقول السائل: ما قولكم في هذه الهجمة الشرسة التي تشن في فرنسا ضد الحجاب والنقاب، وما قولكم في موقف شيخ الأزهر بأن منع النقاب شأنٌ فرنسيٌ داخليٌ لا ينبغي للمرء أن يتدخل فيه، لأن لكل بلد قوانينها الخاصة بها كما زعم، أفيدونا؟
الجواب: الحجاب أو الجلباب الشرعي فريضة من فرائض الله سبحانه وتعالى، وهي قضية مسلَّمة عند المسلمين، لأنها ثابتة بالنصوص الشرعية من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} سورة الأحزاب الآية 59. وقال تعالى: {قل لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} سورة النور الآيتان 30-31. وعن أم عطية الأنصارية رضي الله عنها قالت: (أُمرنا أن نخرج الحُيَّض يوم العيدين وذوات الخدور فيشهدون جماعة المسلمين ودعوتهم ويعتزل الحيض عن مصلاهن. قالت امرأة: يا رسول الله، إحدانا ليس لها جلباب؟ قال: لتلبسها أختها من جلبابها) رواه البخاري ومسلم. وجاء في حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما: (أنها كانت عند أختها عائشة وعليها ثياب واسعة الأكمام فلما نظر إليها الرسول صلى الله عليه وسلم قام فخرج. فقالت عائشة رضي الله عنها تنحي فقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمراً كرهه فتنحت فدخل رسول الله فسألته عائشة رضي الله عنها لم قام؟ قال: أو لم تري هيئتها إنه ليس للمرأة المسلمة أن يبدو منها إلا هذا وهذا - أي وجهها وكفيها -) رواه الطبراني والبيهقي وهو حديث حسن كما قال الشيخ الألباني في جلباب المرأة المسلمة ص 59. وغير ذلك من الأدلة.
وهذه الهجمة الغربية على الجلباب ما هي إلا حلقة من حلقات الهجوم على الإسلام، وعلى ثوابته، فمن السب والشتم لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الرسوم المسيئة في الدنمارك، إلى الطعن في كتاب الله عز وجل، إلى الهجوم المتجدد والمحاربة للجلباب الشرعي، فقد سبق لساركوزي عندما كان وزيراً لداخلية فرنسا أن أصدر تشريعاً قانونياً حظر فيه الحجاب في المدارس، وكان ذلك بمباركة شيخ الأزهر محمد طنطاوي الذي قال وقتها: [مسألة الحجاب للمرأة المسلمة فرضٌ إلهي، وإذا قصرت في أدائه حاسبها الله على ذلك؛ ولذلك لا يستطيع أي مسلم سواء كان حاكماً أو محكوماً أن يخالف ذلك، ولا نسمح لغيرنا أن يتدخل في شئوننا كدولة مسلمة، هذا إذا كانت المرأة المسلمة تعيش في دولة إسلامية، أما إذا كانت تعيش في دولة غير إسلامية كفرنسا، وأراد المسئولون بها أن يقرروا قوانين تتعارض مع مسألة الحجاب للمرأة المسلمة، فهذا يُعد حقهم، وأكرر أن هذا حقهم الذي لا أستطيع أن أعارض فيه كمسلم لأنهم غير مسلمين… في هذه الحالة عندما تستجيب المرأة المسلمة لقوانين الدولة غير المسلمة، تكون من الناحية الشرعية في حكم المضطر] انتهى كلام شيخ الأزهر. واليوم يكرر شيخ الأزهر محمد طنطاوي موقفه المتخاذل فيقول: [أنا ليس لي شأن بقرار الرئيس الفرنسي بمنع ارتداء "النقاب" في بلاده لأن لكل دولة قوانينها التي تحكمها وهذا أمر داخلي تنظمه كل دولة كيفما تشاء.]
ويبدو أن شيخ الأزهر لم يقرأ تصريحات ساركوزي أو أنه تغافل عنها ليبرر موقفه المتخاذل، فكلام ساركوزي عن النقاب والحجاب وقد جعلهما شيئاً واحداً فقال: [إن البرقع أو النقاب الذي يغطي المرأة من رأسها إلى أخمص قدميها يشكل علامة استعباد للمرأة وان ارتداءه غير مرحب به في فرنسا. وأكد ساركوزي أن البرقع ليس رمزاً دينياً، وإنما رمز استعباد للمرأة، وأريد أن أؤكد علناً أن البرقع غير مرحب به في أراضي الجمهورية الفرنسية. وأضاف الرئيس الفرنسي: لا يمكن أن نقبل في بلادنا نساء سجينات خلف سياج ومعزولات عن أي حياة اجتماعية ومحرومات من الكرامة. هذه ليست الرؤية التي تتبناها الجمهورية الفرنسية بالنسبة لكرامة المرأة]
إن كلام شيخ الأزهر كلام باطل وموقفه هذا خذلان لمسلمات فرنسا وغيرهن من المسلمات اللواتي يعشن في غير العالم الإسلامي، وفي كلام شيخ الأزهر فتحٌ لباب شر واسع على المسلمين في الغرب، فغداً ستحذو دول أخرى حذو فرنسا في اتخاذ قرارات بمنع الحجاب، وماذا لو اتخذت دول الغرب قرارات بمنع إقامة صلاة الجمعة أو إغلاق المساجد أو منع المسلمين من الأضحية وغير ذلك مما يطمس شخصية المسلمين في الغرب؟!! وكان الواجب الشرعي على شيخ الأزهر أن يطالب الحكومة الفرنسية بإتاحة حرية ممارسة الشعائر الدينية للمسلمين وفق مبادئ الحرية التي تتغنى بها فرنسا، أم أن الحرية إذا وصلت للمسلمين فإنها تتوقف!! وإنه لمن المؤسف حقاً أن يكون هذا هو موقف من يجلس على رأس الهرم في هيئة من أهم الهيئات الشرعية في العالم الإسلامي- الأزهر -، وليته سكت لكان السكوت أولى من هذا الموقف المخزي. إن الواجب على علماء الأمة وعلى الهيئات الشرعية في العالم الإسلامي أن يتصدوا لما قاله ساركوزي عن الجلباب، وأن يساندوا المسلمات في فرنسا وغيرها، وأن يبطلوا كلام شيخ الأزهر، ويبينوا له وجه الحق في هذه المسألة وغيرها من المسائل، التي كانت فيها مواقفه مدعاة للسخرية!! ومتى يدرك شيخ الأزهر أن مسألة الحجاب والجلباب ليست شأناً فرنسياً داخلياً، بل هي شأنٌ إسلاميٌ عام، وأين أنت يا شيخ الأزهر من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً وشبَّك بين أصابعه) رواه البخاري ومسلم، وأين أنت يا شيخ الأزهر من قوله صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) رواه مسلم. وأين أنت يا شيخ الأزهر من قوله صلى الله عليه وسلم: (المؤمنون تتكافأ دماؤهم وهم يدٌ على من سواهم ويسعى بذمتهم أدناهم) رواه أبو داود والنسائي والحاكم وصححه العلامة الألباني في صحيح الجامع حديث رقم 6666. وأما من يخذل المسلمين ولا يقف معهم ولا يدافع عن أخواته المسلمات، فإن الله عز وجل سيخذله، كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من امرئٍ يخذل امرأً مسلماً في موطن يُنتقص فيه من عرضه ويُنتهك فيه من حرمته، إلا خذله الله تعالى في موطن يحب فيه نصرته، وما من أحدٍ ينصر مسلماً في موطن يُنتقص فيه من عرضه ويُنتهك فيه من حرمته إلا نصره الله في موطن يحب فيه نصرته.) رواه أحمد وأبو داود وحسنه العلامة الألباني في صحيح الجامع حديث رقم 5690. إذا تقرر هذان فإن الجلباب الشرعي فريضة من فرائض الله عز وجل، لا يملك أحدٌ من البشر مهما كان أن يشطبها أو يلغيها، والجلباب ليس علامة استعباد للمرأة كما زعم ساركوزي، بل هو طاعة لله عز وجل، واستعباد واستسلام لشرع رب العباد، وهو رمز للعفة والطهارة، وهو تاج الوقار والكرامة للمرأة المسلمة، التي اختارت طريق العفاف والطهر، لا طريق الرذيلة والعهر. ونحن لا نأخذ ديننا من غير كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، ولا نطيع كافراً في شأن ديننا كما قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} سورة آل عمران الآية 100. ويجب أن يعلم أن كلام ساركوزي عن الحجاب ما هو إلا اعتداءٌ صريحٌ وواضحٌ على دين الإسلام، وعلى كتاب الله عز وجل وعلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى فريضة من فرائض الله، ولا يقل جرماً عن الرسوم المسيئة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم. والواجب عى كل مسلم الوقوف في وجه هذه الحملة الفرنسية الجديدة على الإسلام والمسلمين. وهذه الحملة الفرنسية على النقاب والحجاب تتناقض مع شعارات الحرية والمساواة التي ترفعها فرنسا!!! وتصريحات ساركوزي تتناقض مع القرار الذي أصدره مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في 28 أيار 2008 وانتقد خلاله القانون الفرنسي الذي يقضي بحظر ارتداء الزي الديني في المدارس بما فيه الحجاب الإسلامي، ثم لماذا هذه الهجمة على الجلباب الشرعي مع أنه يوجد في فرنسا بل في كل العالم الغربي راهبات يغطين رؤوسهن، ويلبسن ما يشبه الجلباب، ولماذا لا يعتبر ساركوزي ذلك استعباداً، أم أنها الحرب لكل ما يمت للإسلام بصلة، {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} سورة البقرة الآية 120.
وخلاصة الأمر أن الجلباب الشرعي فريضة ربانية، وأن الهجوم عليه تعدٍ على دين الإسلام، وأن الواجب على الأمة الإسلامية عامة، والعلماء خاصة أن يتصدوا لهذه الحملة الفرنسية الجديدة، ويجب أن يُعلم أن الحجاب إيمان وطهارة وتقوى وحياء وعفة، واستعباد وطاعة لرب العباد(15/14)
15 - الاحتياط في باب المحرمات واجب
يقول السائل: عقد شاب نكاحه على فتاة وبعد مدة قالت أم الشاب إنها أرضعت تلك الفتاة، حيث إن الأم تقول إنها أرضعت الفتاة بعد أن طلقت من أبيه وتزوجت برجل آخر، فهل يجوز المضي في هذا الزواج، أفيدونا؟ الجواب: يقول الله تعالى عند ذكر المحرمات في النكاح {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ} سورة النساء الآية 23، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة) رواه البخاري ومسلم، وفي لفظ عند النسائي: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب.) وجاء في صحيح البخاري عن عقبة بن الحارث قال: تزوجت امرأة فجاءتنا امرأة سوداء فقالت أرضعتكما، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت تزوجت فلانة بنت فلان فجاءتنا امرأة سوداء فقالت لي إني قد أرضعتكما وهي كاذبة، فأعرض عني فأتيته من قبل وجهه، قلت إنها كاذبة، قال: كيف بها وقد زعمت أنها قد أرضعتكما؟ دعها عنك.)
وفي رواية أخرى للبخاري عن عقبة بن الحارث أنه تزوج ابنة لأبي إهاب بن عزيز، فأتته امرأة فقالت قد أرضعت عقبة والتي تزوج. فقال لها عقبة ما أعلم أنك أرضعتني ولا أخبرتني. فأرسل إلى آل أبي إهاب يسألهم فقالوا ما علمنا أرضعت صاحبتنا. فركب إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة فسأله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كيف وقد قيل) . ففارقها، ونكحت زوجاً غيره، قل الحافظ ابن حجر العسقلاني: [ (قوله كيف وقد قيل) فإنه يشعر بأن أمره بفراق امرأته إنما كان لأجل قول المرأة أنها أرضعتهما فاحتمل أن يكون صحيحاً فيرتكب الحرام فأمره بفراقها احتياطاً على قول الأكثر، وقيل بل قبل شهادة المرأة وحدها على ذلك] فتح الباري 4/374. وجاء في رواية أخرى عن عبد الله بن أبي مليكة قال: سمعت عقبة بن الحارث، وحدثني صاحب لي، وأنا لحديث صاحبي حافظ، قال: تزوجت أم يحيى بنت أبي إهاب، فدخلت علينا امرأة سوداء، فزعمت أنها أرضعتهما جميعاً، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فأعرض عني، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فأعرض عني، فذكرت ذلك له فأعرض عني، فقلت: إنها كاذبة، فقال: (وما يدريك أنها كاذبة؟ وقد قالت ما قالت، دعها عنك) رواه الطبراني في المعجم الكبير. والحديث صحيح كما في إرواء الغليل للعلامة الألباني 7/225.
إذا تقرر هذا فإن الشاب المذكور في السؤال يكون أخاً من الرضاعة للفتاة المذكورة من جهة الأم، فيحرم عليه أن يتزوجها لعموم قوله تعالى {وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ} ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) ، وقد ورد في شرح الأحكام الشرعية في الأحوال الشخصية للأبياني، في شرح المادة رقم (376) ما نصه: [وكذا لا يجوز للرجل أن يتزوج أخته من الرضاعة سواءً كانت شقيقةً بأن رضعا من امرأة كان سبب اللبن الذي رضعا منه واحداً أو كانت أختاً له لأب بأن رضع الصبي من امرأة ورضعت الصبية من امرأة أخرى كان السبب نزول اللبن لهما رجلاً واحداً بأن كان زوجاً لهما. أو كانت أختاً له من الأم بأن أرضعت امرأة غلاماً ثم طلقت من زوجها وتزوجت بآخر فولدت منه وأرضعت بنتاً من اللبن الذي تسبب في وجوده عندها الزوج الثاني] 2/56.
ولا بد هنا من التنبيه على أمرين هامين: أولهما: ينبغي الأخذ بالاحتياط في مسائل التحريم، ومنها مسألة الرضاع، وخاصة أن الدخول لم يتم، وقد قرر الفقهاء القاعدة الفقهية التي تقول: الاحتياط في باب الحرمة واجب، كما في المبسوط للسرخسي30/296، فالحل والحرمة حكمان شرعيان فالحلال ما أحله الشرع بدليله، والحرام ما حرمه الشرع بدليله، فإذا لم يقم الدليل على الراجح على الحل أو الحرمة, واشتبه الأمر على المكلف، فالأصل التوقف والبناء على الأحوط للدين والبعد عن الشكوك والتهمة والريبة، وتغليب جانب الحرمة لأنه المتيقن. ويؤيد هذه القاعدة ما ورد في الحديث عن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دع ما يريبك إلى مالا يريبك فإن الصدق طمأنينة وإن الكذب ريبة) رواه ابن حبان في صحيحه والترمذي وقال: حسن صحيح، وصححه العلامة الألباني في صحيح سنن النسائي 3/239. فمن شك في شيءٍ من الأقوال والأعمال هل هو حلال أم حرام؟ فليتركه تورعاً ويبني أمره على اليقين البحت والتحقيق الصرف, ويكون على بصيرة في دينه، لأن ترك ما يشك فيه أصل عظيم في الورع. انظر فتح الباري 4/293. ويدل للقاعدة السابقة ما جاء في الحديث عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الحلال بين والحرام بين وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب) رواه البخاري ومسلم. ففي هذا الحديث بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أن الأحكام ثلاثة أقسام: الحلال وهو بيِّن، والحرام وهو بينِّ والثالث: وهو المشتبه به لخفائه فلا يدري المكلف هل هو حلال أو حرام؟ وما كان هذا سبيله ينبغي اجتنابه لأنه إن كان في نفس الأمر حراماً فقد بريء من تبعته وإن كان حلالاً فقد أجر على تركه بهذا القصد0انظر شرح النووي على صحيح مسلم 11/27.
وقال الإمام ابن دقيق العيد عند شرحه للحديث السابق: [هذا أحد الأحاديث العظام التي عدت من أصول الدين وأدخلت في الأربعة الأحاديث التي جعلت أصلاً في هذا الباب وهو أصل كبير في الورع وترك المتشابهات في الدين والشبهات لها مثارات منها الاشتباه في الدليل الدال على التحريم أو التحليل وتعارض الإمارات والحجج0] إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام 4/182.
ثانيهما: إن شهادة المرأة الواحدة مقبولة في مسائل الرضاع على الراجح من أقوال أهل العلم، قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [وإذا شهدت امرأة واحدة على الرضاع حرم النكاح إذا كانت مرضية ... وجملة ذلك أن شهادة المرأة الواحدة مقبولة في الرضاع إذا كانت مرضية وبهذا قال طاوس , والزهري والأوزاعي وابن أبي ذئب , وسعيد بن عبد العزيز ... ولنا ما روى عقبة بن الحارث قال: (تزوجتُ أم يحيى بنت أبي إهاب فجاءت أمة سوداء , فقالت: قد أرضعتكما فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال: وكيف , وقد زعمت ذلك) متفق عليه، وفي لفظ رواه النسائي قال: (فأتيته من قبل وجهه , فقلت: إنها كاذبة قال: كيف وقد زعمت أنها قد أرضعتكما خل سبيلها) ، وهذا يدل على الاكتفاء بالمرأة الواحدة، وقال الزهري: فرِّق بين أهل أبياتٍ في زمن عثمان رضي الله عنه بشهادة امرأة في الرضاع، وقال الأوزاعي: فرَّق عثمانُ بين أربعةٍ وبين نسائهم , بشهادة امرأة في الرضاع، وقال الشعبي: كانت القضاة يفرقون بين الرجل والمرأة بشهادة امرأة واحدة في الرضاع، ولأن هذا شهادة على عورة فيقبل فيه شهادة النساء المنفردات , كالولادة، وعلَّلَ الشافعي بأنه عنىً يقبل فيه قول النساء المنفردات فيقبل فيه شهادة المرأة المنفردة , كالخبر.] المغني 8/190-191.
وقال الإمام البخاري في صحيحه: (باب شهادة المرضعة) ثم ذكر حديث عقبة بن الحارث السابق، وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [واحتج به من قَبلَ شهادة المرضعة وحدها، قال علي بن سعد: سمعت أحمد – يعني الإمام ابن حنبل - يُسأل عن شهادة المرأة الواحدة في الرضاع قال: تجوز على حديث عقبة بن الحارث، وهو قول الأوزاعي. ونقل عن عثمان وابن عباس والزهري والحسن وإسحاق، وروى عبد الرزاق عن ابن جريج عن ابن شهاب قال: " فرَّق عثمان بين ناس تناكحوا بقول امرأة سوداء أنها أرضعتهم " قال ابن شهاب: الناس يأخذون بذلك من قول عثمان- إلى - اليوم ... ] فتح الباري 5/331.
وقال الإمام الشوكاني: [ ... فالحق وجوب العمل بقول المرأة المرضعة حرة كانت أو أمة حصل الظن بقولها أو لم يحصل لما ثبت في رواية " أن السائل قال: وأظنها كاذبة " فيكون هذا الحديث الصحيح هادماً لتلك القاعدة المبنية على غير أساس أعني قولهم: إنها لا تقبل شهادة فيها تقرير لفعل الشاهد ومخصصاً لعمومات الأدلة كما خصصها دليل كفاية العدالة في عورات النساء عند أكثر المخالفين] نيل الأوطار 6/359.
وخلاصة الأمر أنه يجب الاحتياط في مسائل التحريم، ومنها مسائل الرضاع، فلا يجوز لمن قيل إنهما رضعا من امرأة واحدة أن يتزوجا وخاصة إذا جاء الإخبار بالرضاع قبل الدخول.(15/15)
16 - الزواج قسمة ونصيب
يقول السائل: تقدمت لخطبة فتاة وتمنَّعَ أهلُها في الموافقة على الزواج، وبعد مدة وافقوا على زواجي منها، ولكنني تراجعت عن فكرة الزواج منها ثم تزوجت الفتاة من شخص آخر، ولما علمت بزواجها ندمت ندماً شديداً، فهل ما حصل معي أمر مقدر حتمي وأنه ليس لي نصيب في تلك الفتاة، أفيدونا؟
الجواب: لاشك ولا ريب أنه لا يقع في ملك الله عز وجل إلا ما قدَّره الله وسبق في علمه سبحانه وتعالى، ومن ضمن ذلك زواج فلان بفلانة، فهذا من القدر، وما يقوله العامة: الزواج قسمة ونصيب، صحيح شرعاً، ويستند إلى الإيمان بالقدر، وهو ركن من أركان الإيمان، قال الإمام أبو جعفر الطحاوي صاحب العقيدة المرضية عند أهل السنة والجماعة: [ونؤمن باللوح والقلم، وبجميع ما فيه قد رقم ... فلو اجتمع الخلق كلهم على شيء كتبه الله تعالى فيه أنه كائن، ليجعلوه غير كائن، لم يقدروا عليه. ولو اجتمعوا كلهم على شيء لم يكتبه الله تعالى فيه، ليجعلوه كائناً، لم يقدروا عليه. جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة ... وما أخطأ العبد لم يكن ليصيبه، وما أصابه لم يكن ليخطئه ... وعلى العبد أن يعلم أن الله قد سبق علمه في كل كائن من خلقه، فقدر ذلك تقديراً محكماً مبرماً، ليس فيه ناقض، ولا معقب ولا مزيل ولا مغير ولا ناقص ولا زائد من خلقه في سماواته وأرضه ... وذلك من عقد الإيمان وأصول المعرفة والاعتراف بتوحيد الله تعالى وربوبيته، كما قال تعالى في كتابه: {وخلق كل شيء فقدره تقديراً} سورة الفرقان الآية 2، وقال تعالى: {وكان أمر الله قدراً مقدوراً} سورة الأحزاب الآية 28.] شرح العقيدة الطحاوية ص 292-304. وصح في حديث جبريل المشهور لما سأل النبيَ صلى الله عليه وسلم عن الإيمان، فقال صلى الله عليه وسلم: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره. وقال صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث: يا عمر أتدري من السائل؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه جبرائيل، أتاكم يعلمكم دينكم) رواه مسلم. وقال الإمام الترمذي: [باب ما جاء أن الإيمان بالقدر خيره وشره، ثم روى بسنده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن عبدٌ حتى يؤمن بالقدر خيره وشره، حتى يعلمَ أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه.) وصححه العلامة الألباني في صحيح سنن الترمذي 2/227.
ومما يدل على أن كل شيء يحصل للإنسان مقدرٌ وسابقٌ في علم الله عز وجل بما في ذلك الزواج، قوله تعالى: {ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها، إن ذلك على الله يسير} سورة الحديد الآية 22. وقوله تعالى: {ولا يعزب عن ربك مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين} سورة يونس 61. وقوله تعالى: {وما تسقط من ورقة إلا يعلمها، ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطبٍ ولا يابسٍ إلا في كتاب مبين} سورة الأنعام الآية 59. وقوله تعالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} سورة يس الآية 12. وقوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} سورة الحج الآية70. وقوله تعالى: {قُل لَن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} سورة التوبة الآية 51. وورد في الحديث عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وعرشه على الماء) رواه مسلم. قال الإمام النووي: [قوله صلى الله عليه وسلم (كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وعرشه على الماء) ، قال العلماء المراد تحديد وقت الكتابة في اللوح المحفوظ أو غيره، لا أصل التقدير فإن ذلك أزلي لا أول له، وقوله: (وعرشه على الماء) أي قبل خلق السماوات والأرض] شرح النووي على صحيح مسلم 6/155. وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل شيء بقدر حتى العجز والكيس) . رواه البخاري ومسلم. قال الإمام النووي: [قال القاضي ... ويحتمل أن العجز هنا على ظاهره، وهو عدم القدرة. وقيل: هو ترك ما يجب فعله، والتسويف به وتأخيره عن وقته، قال: ويحتمل العجز عن الطاعات، ويحتمل العموم في أمور الدنيا والآخرة. والكيس ضد العجز، وهو النشاط والحذق بالأمور. ومعناه أن العاجز قد قدِّر عجزُه، والكَيِّس قد قدِّر كَيسُه.] شرح النووي على صحيح مسلم 6/156. وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أول ما خلق الله القلم، فقال له اكتب، قال: وما أكتب يا رب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة) رواه أبو داود والترمذي وصححه العلامة الألباني في تخريجه لأحاديث العقيدة الطحاوية ص294. وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفةً ثم يكون علقةً مثل ذلك ثم يكون مضغةً مثل ذلك ثم يرسل إليه ملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات يكتب رزقه وأجله وعمله وشقيٌ أو سعيد) رواه البخاري ومسلم. وغير ذلك من النصوص.
إذا تقرر هذا فإن زواج فلان وفلانة مقدر ومكتوب وسابق في علم الله عز وجل، وهنا لا بد من توضيح عدة أمور: أولها: إن المسلم لا يعلم ما قدره الله عز وجل إلا بعد وقوعه، فالقدر من الأمور الغيبية، والمسلم مأمور أن يأخذ بالأسباب، والأخذ بالأسباب لا ينافي القدر، بل هو من قدر الله عز وجل، فإذا أراد شخص الزواج من فتاة فالمطلوب أن يسعى في ذلك، فسعيه للزواج من تلك الفتاة قدر من الله عز وجل، فإذا تم زواجه منها فهو قدر من الله سبحانه وتعالى. وقد جاء في حديث عبد الرحمن بن عوف عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهم، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، خرج إلى الشام، حتى إذا كان بسرغ، لقيه أمراء الأجناد، أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه، فأخبروه أن الوباء قد وقع بأرض الشام قال ابن عباس: فقال عمر: ادع لي المهاجرين الأولين فدعاهم فاستشارهم وأخبرهم أن الوباء قد وقع بالشام، فاختلفوا فقال بعضهم: قد خرجت لأمر، ولا نرى أن ترجع عنه وقال بعضهم: معك بقية الناس وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء فقال: ارتفعوا عني ثم قال: ادعوا لي الأنصار فدعوتهم، فاستشارهم فسلكوا سبيل المهاجرين، واختلفوا كاختلافهم فقال: ارتفعوا عني ثم قال: ادع لي من كان ههنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح فدعوتهم، فلم يختلف منهم عليه رجلان فقالوا: نرى أن ترجع بالناس ولا تقدمهم على هذا الوباء فنادى عمر، في الناس: إني مصبح على ظهر فأصبحوا عليه، قال أبو عبيدة بن الجراح: أفراراً من قدر الله فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة نعم، نفر من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كان لك إبل هبطت وادياً له عدوتان، إحداهما خصبة والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله، وان رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله قال: فجاء عبد الرحمن بن عوف وكان متغيباً في بعض حاجته، فقال: إن عندي في هذا علماً سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: إذا سمعتم به – أي الطاعون - بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه قال: فحمد الله عمر، ثم انصرف) رواه البخاري ومسلم.
ثانياً: قرر العلماء أن القدر قدران: أحدهما: القدر المثبت، أو المطلق، أو المبرم: وهو ما في أم الكتاب - اللوح المحفوظ - فهذا ثابت لا يتغير، ولا يتبدل. وثانيهما: القدر المعلق، أو المقيد: وهو ما في كتب الملائكة، فهذا هو الذي يقع فيه المحو والإثبات، فالآجال والأرزاق والأعمار، وغيرها مثبتة في أم الكتاب لا تتغير، ولا تتبدل، أما ما في صحف الملائكة فيقع فيه المحو والإثبات، والزيادة والنقص. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: [والأجل أجلان: أجل مطلق يعلمه الله، وأجل مقيد) وبهذا يتبين معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (من سرَّه أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه) . فإن الله أمر الملَك أن يكتب له أجلاً وقال: إن وصل رحمه زدته كذا وكذا. والملَك لا يعلم أيزداد أم لا؟ لكن الله يعلم ما يستقر عليه الأمر، فإذا جاء الأجل لا يتقدم ولا يتأخر] مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 8/517. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في موطن آخر عندما سئل عن الرزق: هل يزيد وينقص؟ [الرزق نوعان: أحدهما ما علمه الله أنه يرزقه، فهذا لا يتغير. والثاني: ما كتبه، وأعلم به الملائكة، فهذا يزيد وينقص بحسب الأسباب] مجموع فتاوى 8/517. وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: [كأن يقال للملَك - مثلاً - إنَّ عُمُرَ فلان مائة عامٍ -مثلاً- إن وصل رحمه، وستون إن قطعها. وقد سبق في علم الله أنه يصل أو يقطع. فالذي في علم الله لا يتقدم ولا يتأخر. والذي في علم الملَك هو الذي يمكن فيه الزيادة والنقص، وإليه الإشارة بقوله: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} سورة الرعد الآية 39. فالمحو والإثبات بالنسبة لما في علم الملَك. وما في أم الكتاب هو الذي في علم الله تعالى فلا محو فيه ألبتة، ويُقال له: القضاء المبرم، ويقال للأول: القضاء المعلَّق. فتح الباري 10/430.] عن موقع الإسلام اليوم.
وخلاصة الأمر أن زواج شخص ما من امرأة ما، أمر مقدر ولا مفر منه، وقد سبق في علم الله عز وجل، وهو مكتوب في اللوح المحفوظ، ولكن الإنسان لا يعلم ما كتب له، وهو مطالب بالأخذ بالأسباب، والأخذ بالأسباب من قدر الله عز وجل، وإذا تقدم شخص لخطبة فتاة ثم لم يتزوجها وتزوجت غيره، فهذا يدلنا على أن الله لم يقدر زواجهما، ونحن ما علمنا بقدر الله عز وجل إلا بعد وقوعه.(15/16)
17 - لفظ " الاختلاط " ليس دخيلا على التراث الإسلامي
يقول السائل: إنه سمع الشيخ يوسف القرضاوي في برنامج الشريعة والحياة يتحدث عن الاختلاط وأن الشيخ قد قال: إن لفظ " الاختلاط " دخيل على التراث الإسلامي ولم يرد فيه مطلقاً، فما قولكم في ذلك، أفيدونا؟
الجواب: ما قاله الشيخ يوسف القرضاوي في برنامج الشريعة والحياة حول لفظة الاختلاط، ما هو إلا تكرار لما قرره في بعض مؤلفاته، فقد سبق أن قال في أحد كتبه: [دخلت مجتمعنا الحديث كلمات أصبح لها دلالات لم تكن لها من قبل، من ذلك كلمة (الاختلاط) بين الرجل والمرأة] ملامح المجتمع المسلم ص368. وقال الشيخ يوسف القرضاوي في كتاب آخر: [وأود أن أبادر هنا فأقول: إن كلمة " الاختلاط " في مجال العلاقة بين الرجل والمرأة، كلمة دخيلة على " المعجم الإسلامي " لم يعرفها تراثنا الطويل العريض طوال القرون الماضية، ولم تعرف إلا في هذا العصر، ولعلها ترجمة لكلمة " أجنبية " في هذا المعنى، ومدلولها له إيحاء غير مريح بالنظر لحس الإنسان المسلم. وربما كان أولى منها كلمة " لقاء " أو " مقابلة " أو " مشاركة " الرجال للنساء، ونحو ذلك.] فتاوى معاصرة 2/279.
هذا ما قاله الشيخ يوسف القرضاوي وقرره من أن كلمة الاختلاط في مجال العلاقة بين الرجل والمرأة، كلمة دخيلة على " المعجم الإسلامي " لم يعرفها تراثنا الطويل العريض طوال القرون الماضية، ولم تعرف إلا في هذا العصر، وأقول إن هذه دعوى عريضة بلا دليل ولا برهان، بل إن تراثنا الإسلامي قد عرف كلمة الاختلاط في مجال العلاقة بين الرجل والمرأة، واستعملت في تراثنا الإسلامي بنفس المعنى الذي تستعمل فيه في عصرنا الحاضر، ولا أريد هنا أن أناقش رأي الشيخ يوسف القرضاوي في مسألة الاختلاط الآن، ولعلي أعود إليه لاحقاً، ولكن سأقتصر في الرد على إثبات وجود واستعمال لفظة الاختلاط في تراثنا الإسلامي، الشيء الذي نفاه الشيخ يوسف القرضاوي، ولكن قبل ذلك أقول: إن استعمال لفظة الاختلاط في لغة العرب ليس مقصوراً على الامتزاج والذوبان كما قال الشيخ يوسف القرضاوي في البرنامج المذكور: [فكلمة الاختلاط ... لا يوجد عندنا شيء اسمه الاختلاط، كلمة الاختلاط نفسها اختلط الشيء بالشيء كأنه امتزج به وكأنه ذابت الحدود ولم يعد هناك ... ] ، وأقول: لكنها استعملت في اختلاط الشيئين مع عدم ذوبان أحدهما في الآخر قال ابن منظور: [والخلاط اختلاط الإبل والناس والمواشي ... وفي حديث أبي سعيد كنا نرزق تمر الجمع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الخلط من التمر أي المختلط من أنواع شتى ... ويكون الخلطاء أيضاً أن يخلطوا العين المتميز بالعين المتميز كما فسر الشافعي ويكونون مجتمعين كالحلة يكون فيها عشرة أبيات لصاحب كل بيت ماشية على حدة فيجمعون مواشيهم على راع واحد يرعاها معا ويسقيها معا وكل واحد منهم يعرف ماله بسمته ونجاره] لسان العرب مادة خلط. هذا من حيث اللغة وأما في الشرع فقد وردت كلمة الاختلاط بالمعنى المستعمل اليوم في السنة النبوية، فمن ذلك:
1. ما رواه أبو داود بإسناده عن أبي أسيد الأنصاري رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو خارج من المسجد فاختلط الرجال مع النساء في الطريق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للنساء: استأخرن فإنه ليس لكن أن تحققن (أي تركبن حقها وهو وسطها) الطريق ... ) ورواه أيضاً البيهقي في شعب الإيمان 6/173 حديث رقم 7822، ورواه الطبراني في المعجم الكبير 19/261، وقال العلامة الألباني: حديث حسن، السلسلة الصحيحة 2 / 537.
2. وقال الإمام البخاري في صحيحه: [باب طواف النساء مع الرجال. وقال لي عمرو بن على حدثنا أبو عاصم قال ابن جريج أخبرنا قال أخبرني عطاء إذ منع ابن هشام النساء الطواف مع الرجال قال كيف يمنعهن، وقد طاف نساء النبي صلى الله عليه وسلم مع الرجال قلت أبعد الحجاب أو قبل؟ قال إي لعمري لقد أدركته بعد الحجاب. قلت كيف يخالطن الرجال؟ قال لم يكن يخالطن كانت عائشة رضي الله عنها تطوف حَجْرةً من الرجال لا تخالطهم - أي تعتزلهم -، ... ] قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [قوله: (باب طواف النساء مع الرجال) أي هل يختلطن بهم أو يطفن معهم على حدة بغير اختلاط أو ينفردن] فتح الباري 3/606.
هذا من السنة النبوية، وسأذكر نصوصاً كثيرة من أقوال أهل العلم ورد فيها استعمال لفظ الاختلاط بالمعنى الذي نستعمله اليوم، منها:
3. قال الإمام شمس الأئمة السرخسي المتوفى في حدود سنة 490 هـ: [وينبغي للقاضي أن يقدم النساء على حدة والرجال على حدة ; لأن الناس يزدحمون في مجلسه، وفي اختلاط النساء مع الرجال عند الزحمة من الفتنة والقبح ما لا يخفى] المبسوط 16/80.
4. وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي المتوفى سنة 620 هـ: عند كلامه على استحباب مكث الإمام والرجال بعد صلاة الجماعة قليلاً لتنصرف النساء: [ ... ولأن الإخلال بذلك من أحدهما يفضي إلى اختلاط الرجال بالنساء ... ] المغني 1/402.
5. وقال الشيخ أبو شامة المقدسي المتوفى سنة 665 هـ: [أما الألفية فصلاة ليلة النصف من شعبان سميت بذلك لأنها يقرأ فيها {قل هو الله أحد} ألف مرة لأنها مائة ركعة في كل ركعة يقرأ الفاتحة مرة وبعدها سورة الإخلاص عشر مرات وهي صلاة طويلة مستثقلة لم يأت فيها خبر ولا أثر إلا ضعيف أو موضوع، وللعوام بها افتتان عظيم والتزم بسببها كثرة الوقيد في جميع مساجد البلاد التي تصلي فيها، ويستمر ذلك كله ويجري فيه الفسوق والعصيان، واختلاط الرجال بالنساء، ومن الفتن المختلفة ما شهرته تغني عن وصفه ... وأما إن كان على الوجه الذي يجري في هذا الزمان من اختلاط الرجال والنساء ومضامة أجسامهم ومزاحمة من في قلبه مرض من أهل الريب ومعانقة بعضهم لبعض ... فيختلط الرجال والنساء والصبيان والغوغاء ... ] الباعث على إنكار البدع والحوادث ص 50- 58.
6. وقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي المتوفى سنة 476 هـ: [ولا تجب الجمعة على صبى ولا مجنون ... ولا تجب على المرأة ... ولأنها تختلط بالرجال وذلك لا يجوز) المهذب 4/484.
7. وقال الإمام النووي المتوفى سنة 676 هـ: [ ... وقوله ولأنها تختلط بالرجال وذلك لا يجوز ليس كما قال فإنها لا يلزم من حضورها الجمعة الاختلاط بل تكون وراءهم ... ولأن اختلاط النساء بالرجال إذا لم يكن خلوة ليس بحرام] المجموع 4/484.
8. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية المتوفى 728 هـ: [وأما ما يفعل في هذه المواسم مما جنسه منهي عنه في الشرع فهذا لا يحتاج إلى ذكر، لأن ذلك لا يحتاج أن يدخل في هذا الباب، مثل رفع الأصوات في المسجد أو اختلاط الرجال والنساء ... ] اقتضاء الصراط المستقيم 2/145.
9. وقال العلامة ابن القيم المتوفى سنة 751 هـ: [ (فصل) ومن ذلك: أن ولي الأمر يجب عليه أن يمنع اختلاط الرجال بالنساء في الأسواق ... ولا ريب أن تمكين النساء من اختلاطهن بالرجال أصل كل بلية وشر ... واختلاط الرجال بالنساء سبب لكثرة الفواحش والزنا] الطرق الحكمية ص 274 -275.
10. وقال الإمام الشاطبي المتوفى سنة 790 هـ: [ ... ومنها اختلاط الرجال والنساء والشمع بينهم ووجوههم بارزة ... ] الاعتصام 2/130.
11. وقال الشيخ ابن الحاج المالكي المتوفى 737 هـ: [ ... وأما إن كان على الوجه الذي يجري في هذا الزمان من اختلاط الرجال والنساء ومصادمة أجسادهم ومزاحمة من في قلبه مرض من أهل الريب ... لما يجري فيه من اختلاط الرجال والنساء ... ] المدخل 2/446. وغير ذلك من النقول الكثيرة.
وخلاصة الأمر أن ما ادعاه الشيخ القرضاوي من أن كلمة الاختلاط دخيلة على تراثنا الإسلامي ولم ترد فيه مطلقاً، ادعاءٌ باطلٌ لم يقم عليه أي دليل، بل إن لفظة الاختلاط عرفت قديماً، فهي مستعملة في السنة النبوية، واستعملها العلماء قديماً في مؤلفاتهم، وادعاء الشيخ القرضاوي بأنها لم تعرف إلا في هذا العصر، ادعاء غير صحيح كما ظهر ذلك جلياً من خلال كلام أهل العلم الذين ذكرتهم مع ذكر سنة وفاة كلٍ منهم.(15/17)
18 - تغطية المرأة لرأسها جزء من حجابها
يقول السائل: ما قولكم فيمن يزعم أن تغطية المرأة المسلمة لرأسها ليس عليه دليل صحيح، أفيدونا؟
الجواب: لا شك أن الإسلام يتعرض لهجمة شرسة من أعدائه ومن بعض أبنائه المنفلتين من الأحكام الشرعية، والمضبوعين بالثقافة الغربية، وما ذكره السائل مثال واضح على ذلك، حتى قال قائلهم: [غطاء رأس المرأة أو شعرها حكم ذكوري وليس قرآنياً] http://www.ahl-alquran.com/arabic/printpage.php?main_id=869&doc_type=1
ولا شك أن هذا الكلام من المفتريات على دين الإسلام عامة، وعلى القرآن الكريم خاصة، حيث اتفق أهل العلم قديماً وحديثاً على وجوب تغطية المرأة لرأسها، وهذه المسألة لا خلاف فيها بين علماء المسلمين، وإنما جاءت هذه الدعوات المنكرة من بعض المنحرفين عن دين الإسلام كالقرآنيين منكري السنة النبوية الذين زعموا أن هذا الحكم لا نص عليه في كتاب الله عز وجل فقال أحدهم: [إن المدقق في النص القرآني كله لا يجد ذكر كلمة الرأس أو الشعر مستخدمة في النصوص المتعلقة بلباس المرأة، مما يؤكد ابتداءً انتفاء الدلالة القطعية على وجوب تغطية الرأس أو الشعر، وإن عملية الاجتهاد في مسألة إخراج حكم وجوب تغطية الرأس أو الشعر من القرآن إنما هي نتيجة ظنية أو وهمية!! ... أما السنة فهي طريقة عملية مرتبطة بالشعائر التعبدية ليس وظيفتها التشريع أبداً ... أما قوله تعالى: {يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين} الأحزاب 59، فهو ليس نصاً تشريعياً، وإنما هو خطاب على لسان النبي - صلى الله عليه وسلم - ليقوم بتوجيه وتعليم المرأة أن تقوم باختيار لباس يحقق لها الحماية من الأذى الاجتماعي، لأن شكل اللباس يدل على الثقافة ويكون رسالة للتخاطب بين المرأة والرجال، إما خطاب ثقافي أو جنسي، وعلى المرأة أن تختار طريقة تواصلها مع الرجال، وفي حال مخالفة المرأة لهذا التوجيه فعقوبتها ما يصيبها من الأذى أثناء نشاطها الاجتماعي. والنص لا يوجد فيه دلالة على غطاء الرأس أبداً] المصدر السابق عن الإنترنت. وهذا الهراء يدل على جهل واضح بدلالات آيات الكتاب الكريم، ويشير إلى إنكار حجية السنة النبوية، وهو كلام متهافت ساقط ويدل على تهافته وسقوطه قول الله تعالى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} سورة الأحزاب الآية 59، فقد ذهب كثير من المفسرين إلى أن الجلباب يغطي الرأس كما نقله الطبري في تفسيره عن ابن عباس وقتادة ومجاهد، ونقله ابن كثير عن ابن مسعود، وعبيدة، وقتادة، والحسن البصري، وسعيد بن جبير، وإبراهيم النخعي، وعطاء الخراساني، وغير واحد. قال ابن كثير: [وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا أبو عبد الله الظهراني فيما كتب إلي، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن ابن خثيم، عن صفية بنت شيبة، عن أم سلمة قالت: لما نزلت هذه الآية: {يدنين عليهن من جلابيبهن} ، خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان من السكينة، وعليهن أكسية سود يلبسنها] تفسير ابن كثير 5/231، والحديث رواه البخاري أيضاً
ويدل على إبطال دعواهم الزائفة قوله تعالى {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وليضربن بخمرهن على جيوبهن} سورة النور الآية31. وقد ورد في المعاجم اللغوية أن الخمار: كل ما ستر، ومنه خمار المرأة، وهو ثوب تغطي به رأسها، وقال القرطبي: [الخمر: جمع الخمار، وهو ما تغطى به رأسها، ومنه اختمرت المرأة وتخمرت] تفسير القرطبي 12/230.
وقال ابن كثير في تفسير الخمر: [والخمر: جمع خمار، وهو ما يخمر به، أي: يغطى به الرأس، وهي التي تسميها الناس المقانع.
قال سعيد بن جبير: {وليضربن} : وليشددن {بخمرهن على جيوبهن} يعني: على النحر والصدر، فلا يرى منه شيء.
وقال البخاري: وقال أحمد بن شبيب: حدثنا أبي، عن يونس، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: يرحم الله نساء المهاجرات الأول، لما أنزل الله: {وليضربن بخمرهن على جيوبهن} شققن مروطهن فاختمرن به، وقال أيضاً: حدثنا أبو نعيم، حدثنا إبراهيم بن نافع، عن الحسن بن مسلم، عن صفية بنت شيبة؛ أن عائشة، رضي الله عنها، كانت تقول: لما نزلت هذه الآية: {وليضربن بخمرهن على جيوبهن} : أخذن أزرهن فشققنها من قبل الحواشي، فاختمرن بها. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس، حدثني الزنجي بن خالد، حدثنا عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن صفية بنت شيبة قالت: بينا نحن عند عائشة، قالت: فذكرنا نساء قريش وفضلهن. فقالت عائشة رضي الله عنها: إن لنساء قريش لفضلاً وإني - والله - وما رأيت أفضل من نساء الأنصار أشد تصديقاً بكتاب الله، ولا إيماناً بالتنزيل. لقد أنزلت سورة النور: {وليضربن بخمرهن على جيوبهن} ، انقلب إليهن رجالهن يتلون عليهن ما أنزل الله إليهم فيها، ويتلو الرجل على امرأته وابنته وأخته، وعلى كل ذي قرابة، فما منهن امرأة إلا قامت إلى مرطها المرحل فاعتجرت به، تصديقاً وإيماناً بما أنزل الله من كتابه، فأصبحن وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح معتجرات، كأن على رؤوسهن الغربان.] تفسير ابن كثير 5/539.
ومن الأدلة التي تبطل الرأي السابق ما أخرجه أبو داود والبيهقي وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها أن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب شامية رقاق فأعرض عنها ثم قال: ما هذا يا أسماء؟ إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا. وأشار إلى وجهه وكفيه. قال أبو داود هذا مرسل، خالد بن دريك لم يدرك عائشة. وقال البيهقي: مع هذا المرسل قول من مضى من الصحابة رضي الله عنهم في بيان ما أباح الله من الزينة الظاهرة فصار القول بذلك قوياً وبالله التوفيق. وصححه العلامة الألباني في صحيح أبي داود حديث رقم 3458.
ويدل على وجوب تغطية المرأة لرأسها ما ذكره العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة الحديث رقم 2930 قال: [ما أخرجه الطحاوي في شرح المعاني والطبراني في المعجم الكبير والزيادة له، عن عقبة بن عامر الجهني قال: نذرت أختي أن تمشي إلى الكعبة حافية حاسرة، فأتى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما بال هذه؟ . قالوا: نذرت أن تمشي إلى الكعبة حافية حاسرة! فقال: فذكره. وإسناده صحيح. وتابعه الحسن عن عقبة أنه قال: يا رسول الله! إن أختي نذرت أن تحج ماشية وتنشر شعرها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله لغني عن نذر أختك، مروها فلتركب ولتهد هدياً، وأحسبه قال: وتغطي شعرها. أخرجه الروياني في مسنده ورجاله ثقات. وتابعه ابن عباس رضي الله عنهما عن عقبة بن عامر به نحوه، وقال: ولتهد هدياً. مكان الزيادة. أخرجه الطحاوي بإسناد صحيح. وتابعه أبو عبد الرحمن الحبلى عن عقبة بن عامر به، إلا أنه قال: ولتصم ثلاثة أيام. مكان الزيادة. أخرجه الطحاوي أيضا وإسناده جيد. ورواه الشيخان وغيرهما من طريق أخرى: عن أبي الخير عن عقبة به مختصراً جداً بلفظ: لتمش ولتركب. وفي الحديث فوائد هامة منها: أن نذر المعصية لا يجوز الوفاء به. وفيه أحاديث كثيرة صحيحة معروفة. ومنها أن إحرام المرأة في وجهها، فلا يجوز لها أن تضرب بخمارها عليه، وإنما على الرأس والصدر، فهو كحديث: لا تنتقب المرأة المحرمة، ولا تلبس القفازين. أخرجه الشيخان. ومنها: أن الخمار إذا أطلق، فهو غطاء الرأس وأنه لا يدخل في مسماه تغطية الوجه، والأدلة على ذلك كثيرة من الكتاب والسنة وآثار السلف. خلافا لبعض العلماء النجديين الذين ادعوا أن الخمار غطاء الوجه أيضاً. انظر جلباب المرأة المسلمة.] وقوله صلى الله عليه وسلم في الرواية الأخرى (وتغطي شعرها) ، دليل على وجوب تغطية المرأة لشعرها لأن كشف المرأة لشعر رأسها حرام باتفاق جماهير أهل العلم، فشعر المرأة عورة كسائر جسدها على الصحيح من أقوال العلماء.
ومما يدل على وجوب تغطية المرأة لرأسها ما ورد في الحديث من قوله صلى الله عليه وسلم: (المرأة عورة، وإنها إذا خرجت استشرفها الشيطان، وإنها لا تكون أقرب إلى الله منها في قعر بيتها) . رواه الترمذي وابن خزيمة وابن حبان، وقال العلامة الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة حديث رقم 2688: حديث صحيح. وغير ذلك من الأدلة الكثير التي تدل على وجوب تغطية المرأة لرأسها.
وخلاصة الأمر أن المرأة المسلمة مأمورة بتغطية رأسها وشعرها وأن ذلك ثابت بالنصوص من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز الالتفات لكل ناعق ممن يزعمون خلاف ذلك، فإن قولهم متهافت ساقط لا يعول عليه ولا يلتفت إليه.(15/18)
19 - يستحب الإشهاد على الرجعة
يقول السائل: حصل نزاع وخصام بينه وبين زوجته فقال لها أنت طالق، فغضبت وذهبت إلى بيت أبيها، ثم ندم على تطليقها وخاصة أنها أول مرة يطلق في حياته الزوجية، فطلب من بعض الأقارب التدخل فأعادوها إلى البيت، وعادت الأمور إلى وضعها الطبيعي وانتهت المشكلة، فماذا يترتب على ما حصل بينه وبين زوجته، أفيدونا؟
الجواب: لا ينبغي للزوج أن يلجأ للطلاق في كل مشكلة تحدث بينه وبين زوجته، وإنما الواجب هو حل المشكلات الزوجية بالتفاهم وبالتي هي أحسن، وإذا كان الواقع كما ذكر السائل فإنه يكون قد طلق زوجته طلقة واحدة رجعية، والمطلقة الرجعية تعتبر زوجة فلا ينبغي أن يخرجها زوجها من البيت، ولا يجوز لها أن تخرج إلى بيت أبيها أو غيره، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} سورة الطلاق الآية 1. ويؤخذ من هذه الآية الكريمة أن المرأة المطلقة تقضي عدتها في بيت الزوجية {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} فأضاف الله عز وجل البيوت لهن. قال القرطبي: [أي ليس للزوج أن يخرجها من مسكن النكاح ما دامت في العدة ولا يجوز لها الخروج أيضاً لحق الزوج إلا لضرورة ظاهرة فإن خرجت أثمت ولا تنقطع العدة، والرجعية والمبتوتة في هذا سواء. وهذا لصيانة ماء الرجل. وهذا معنى إضافة البيوت إليهن كقوله تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْءَايَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} وقوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} فهو إضافة إسكان وليس إضافة تمليك] تفسير القرطبي 18/154. وينبغي للزوج أن يراجع زوجته حفاظاً على الأسرة ورعاية للأطفال حتى لا يتعرضوا للتشريد والضياع، [ ... فارْتِجَاعَ الزَّوْجِ لِزَوْجَتِهِ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْإِصْلَاحِ, لِذَلِكَ نَجِدُ الشَّرِيعَةَ الْإِسْلَامِيَّةَ قَدْ نَظَّمَتْ أَحْكَامَهَا. وَقَدْ أَشَارَ الْكَاسَانِيُّ إلَى حِكْمَةِ الرَّجْعَةِ بِقَوْلِهِ: [إنَّ الْحَاجَةَ تَمَسُّ إلَى الرّجْعَةِ ; لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ ثُمَّ يَنْدَمُ عَلَى ذَلِكَ عَلَى مَا أَشَارَ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَلَّ جَلَالُهُ بِقَوْلِهِ: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} فَيَحْتَاجُ إلَى التَّدَارُكِ, فَلَوْ لَمْ تَثْبُتْ الرَّجْعَةُ لَا يُمْكِنُهُ التَّدَارُكُ, لِمَا عَسَى أَنْ لَا تُوَافِقَهُ الْمَرْأَةُ فِي تَجْدِيدِ النِّكَاحِ وَلَا يُمْكِنُهُ الصَّبْرُ عَنْهَا فَيَقَعُ فِي الزِّنَا] لِذَا شُرِعَتْ الرَّجْعَةُ لِلْإِصْلَاحِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَهَذِهِ حِكْمَةٌ جَلِيلَةٌ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ.] الموسوعة الفقهية الكويتية 22/104-105. وبما أن بعض الأقارب كما ذكر السائل قد تدخلوا وأرجعوا الزوجة إلى زوجها فإن الرجعة عند جمهور الفقهاء يستحب فيها الإشهاد، أي يُشهدُ الزوجُ اثنين عدلين على أنه أرجعها إلى عصمته، قال الله تعالى: {فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم} سورة الطلاق الآية2، قال ابن كثير: [وقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} أي على الرجعة إذا عزمت عليها، كما رواه أبو داود وابن ماجة عن عمران بن حصين رضي الله عنه أنه سئل عن الرجل يطلق امرأته ثم يقع بها ولم يشهد على طلاقها ولا على رجعتها فقال: طلقت لغير سنة وراجعت لغير سنة أشهد على طلاقها وعلى رجعتها ولا تعد. وقال ابن جريج: كان عطاء يقول: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} قال: لا يجوز في نكاح ولا طلاق ولا رجاع إلا شاهدا عدل كما قال الله عز وجل إلا أن يكون من عذر] تفسير ابن كثير 6/239. وقد حمل أكثر أهل العلم الأمر في قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} على الندب مع أن الأصل في الأمر أنه يفيد الوجوب. ومما يدل على أن الأمر مصروف عن الوجوب، ما ورد في الحديث في قصة تطليق ابن عمر رضي الله عنه لزوجته كما رواها الإمام البخاري بإسناده عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما (أنه طلق امرأته وهي حائض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل عمر بن الخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسك بعد وإن شاء طلق قبل أن يمس فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء) . قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [فأما الشهادة ففيها روايتان – أي في مذهب الحنابلة -: إحداهما: تجب، وهذا أحد قولي الشافعي، لأن الله تعالى قال: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} وظاهر الأمر الوجوب ولأنه استباحة بضعٍ مقصود فوجبت الشهادة فيه كالنكاح وعكسه البيع. والرواية الثانية: لا تجب الشهادة، وهي اختيار أبي بكر، وقول مالك، وأبي حنيفة. لأنها لا تفتقر إلى قبول فلم تفتقر إلى شهادة كسائر حقوق الزوج، ولأن ما لا يشترط فيه الولي لا يشترط فيه الإشهاد كالبيع، وعند ذلك يحمل الأمر على الاستحباب ولا خلاف بين أهل العلم في أن السنة الإشهاد] المغني 7/522-523. وقال القرطبي: [الإشهاد عند أكثر العلماء على الرجعة ندب] تفسير القرطبي 18/158. وقال الإمام النووي: [إن الإشهاد على الرجعة ليس شرطاً ولا واجباً في الأظهر] روضة الطالبين 2/216.
ومع أن الإشهاد على الرجعة ليس واجباً ولا شرطاً كما قرره جمهور الفقهاء إلا أن الإشهاد على الرجعة أولى لما فيه من حفظ للحقوق وخاصة في حال حدوث شقاق وخصام بين الزوجين، وقد وردت بعض الآثار التي تؤكد على الإشهاد، فعن عمران بن حصين رضي الله عنه أنه (سئل عن الرجل يطلق امرأته ثم يقع بها ولم يشهد على طلاقها ولا على رجعتها فقال طلقت لغير سنة وراجعت لغير سنة أشهد على طلاقها وعلى رجعتها ولا تعد) رواه أبو داود وابن ماجة ولم يقل (ولا تعد) والأثر أخرجه أيضاً البيهقي والطبراني وزاد (واستغفر الله) ، قال الحافظ في بلوغ المرام وسنده صحيح] نيل الأوطار7/25. وروى ابن أبي شيبة في المصنف بإسناده عن الشعبي أنه سئل عن رجل طلق امرأته ثم راجعها فيجهل أن يشهد قال: يشهد إذا علم. وتصح الرجعة بالقول بأن يقول الزوج لفظاً يدل على إرجاع زوجته، قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [فأما القول فتحصل به الرجعة بغير خلاف وألفاظه: راجعتك , وارتجعتك ورددتك وأمسكتك، لأن هذه الألفاظ ورد بها الكتاب والسنة , فالرد والإمساك ورد بهما الكتاب بقوله سبحانه: {وبعولتهن أحق بردهن في ذلك} ، وقال: {فأمسكوهن بمعروف} ، يعني: الرجعة، والرجعة وردت بها السنة بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (مره فليراجعها) ، وقد اشتهر هذا الاسم فيها بين أهل العرف، كاشتهار اسم الطلاق فيه، فإنهم يسمونها رجعة , والمرأة رجعية، ويتخرج أن يكون لفظها هو الصريح وحده لاشتهاره دون غيره كقولنا في صريح الطلاق , والاحتياط أن يقول: راجعت امرأتي إلى نكاحي أو زوجتي أو راجعتها لما وقع عليها من طلاقي ... ] المغني 7/524.
وتصح الرجعة عند جمهور العلماء بالفعل أيضاً، وذلك بأن يجامع الرجل مطلقته الرجعية، وكذلك تصح الرجعة بمقدمات الجماع كاللمس بشهوة والقبلة بشهوة ونحو ذلك مع نية الزوج إرجاعها وهذا أرجح أقوال أهل العلم في المسألة. فقد وروى ابن أبي شيبة في المصنف بإسناده عن الحسن البصري في الرجل يطلق امرأته ثم يغشاها ولم يشهد قال: غشيانه لها مراجعة فليشهد. وروى أيضاً عن سفيان عن مغيرة عن إبراهيم وعن جابر عن الشعبي وعن سلان التيمي عن طاوس قالوا: الجماع رجعة فليشهد.
وينبغي التنبيه أنه لا يجوز التلاعب بالرجعة أو الهزل فيها لما في ذلك من أضرار قد تلحق بالحياة الزوجية، فقد ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق والرجعة) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة وغيرهم، وهو حديث حسن احتج به الأئمة والعلماء كالإمام الترمذي والحافظ ابن عبد البر والحافظ ابن حجر وشيخ الإسلام ابن تيمية والعلامة ابن القيم والإمام النووي والإمام البغوي والشوكاني والألباني وغيرهم كثير. قال الترمذي بعد أن روى هذا الحديث: [هذا حديث حسن غريب، والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم] سنن الترمذي مع شرحه تحفة الأحوذي 4/304. وقد ذكر الحافظ ابن حجر شواهد للحديث يتقوى بها في التلخيص الحبير 3/209-210. وكذلك فعل الشيخ الألباني حيث ذكر أربعة شواهد للحديث وآثاراً عن الصحابة ثم قال: [والذي يتلخص عندي مما سبق أن الحديث حسن بمجموع طريق أبي هريرة الأولى التي حسنها الترمذي وطريق الحسن البصري المرسلة وقد يزداد قوة بحديث عبادة بن الصامت والآثار المذكورة عن الصحابة فإنها ولو لم يتبين لنا ثبوتها عنهم عن كل واحد منهم تدل على أن معنى الحديث كان معروفاً عندهم والله أعلم] إرواء الغليل 6/228.
وخلاصة الأمر أن الطلاق للمرة الأولى يكون رجعياً وينبغي للزوج أن يراجع زوجته لما في ذلك من محافظة على الأسرة، والإشهاد على الرجعة مندوب إليه. وتصح الرجعة بالقول وبالفعل.(15/19)
20 - حكم تصوير الفتيات بالجوال وتداول صورهن
يقول السائل: برزت ظاهرة تصوير الفتيات خلسة بواسطة الجولات ذات الكاميرا، وصار بعض الشباب يتداولون تلك الصور عبر ما يعرف بالبلوتوث وعبر البريد الإلكتروني وبعضهم يستخدمها في أغراض خبيثة، فما الحكم في ذلك، أفيدونا؟
الجواب: أبين أولاً أن الراجح من أقوال أهل العلم هو جواز التصوير الفوتوغرافي، كالتصوير بالكاميرا ومثله التصوير بالفيديو والتصوير التلفزيوني ونحوها من الوسائل الحديثة، بشرط أن لا يعرض للتصوير ما يحرمه، كتصوير امرأة سافرة ونحو ذلك، والتصوير الفوتوغرافي بالشرط المذكور جائز، لأنه لا ينطبق عليه ما ورد من النصوص في تحريم الصور كقول النبي صلى الله عليه وسلم (أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون) رواه البخاري ومسلم، وكقوله صلى الله عليه وسلم (لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا صورة) رواه البخاري ومسلم، وكقوله صلى الله عليه وسلم: (من صور صورة في الدنيا كلف يوم القيامة أن ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ) رواه البخاري. ومن احتج بهذه الأحاديث ونحوها على تحريم الصور الفوتوغرافية فاستدلاله غير صحيح، لأن التصوير الفوتوغرافي لم يكن معروفاً في العهد النبوي، كما أن هذه النصوص لا تتناول التصوير الفوتوغرافي في دلالتها اللغوية، قال الدكتور محمد الحسن الدّدو: [إن الصور الفوتوغرافية لم تكن موجودة في العهد النبوي ولا في عهد أئمة الاجتهاد، وإنما عرفت في العصور المتأخرة، ولذلك فالنصوص الشرعية الواردة في التصوير لا تتناولها بدلالة الألفاظ قطعاً، لأن اللفظ النبوي في التصوير إنما يتناول ما كان موجوداً إذ ذاك، فالتصوير الذي حرَّمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وحذر منه هو ما كان موجوداً في زمانه، وهو النحت من الحجر أو من الطين أو من الخشب أو الرسم باليد فهذا هو التصوير، وهي كذلك لا يمكن أن تقاس على الصور المحرمة، فهي لا تدخل في دلالة اللفظ قطعاً، ومن فسر الألفاظ الواردة في التصوير بها فهو بمثابة من فسر نصوص القرآن بغير معانيها، كالذي يقول في قول الله تعالى: {وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم} أن السيارة مثلا (كابرس) أو (لاندروفر) أو نحو هذا، فهذا فسر القرآن بغير معناه ... فلذلك تفسير هذه النصوص بغير دلالاتها اللغوية منافٍ للمقصد الشرعي، وه من القول على الله بغير علم ... وكذلك لا يمكن أن تقاس هذه الصور الفوتوغرافية على الصور الحقيقية التي وردت فيها النصوص، لأن العلة مختلفة، فالعلة التي حرم النبي صلى الله عليه وسلم التصوير من أجلها، بينها بأنها مضاهاة خلق الله ومحاكاته، ولذلك يعذب المصور يوم القيامة (من صوِّر ذا روح عذب حتى ينفخ فيه الروح وما هو بنافخ) ، ولذلك قال: المضاهون خلقي فليخلقوا ذرة فليخلقوا شعيرة، فلهذا بين علة التحريم، وهذه العلة لا تتحقق في الصور الفوتوغرافية ... ] عن شبكة الإنترنت.
إذا تقرر هذا فإن ما ذكره السائل من تصوير الفتيات بالجولات ذات الكاميرا وتداول تلك الصور بالتقنيات الحديثة المعروفة اليوم، محرم شرعاً، لأنه مشتمل على مفاسد عديدة منها:
أولاً: الإطلاع على العورات وكشفها، وهو أمر محرم شرعاً، فقد ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو اطلع في بيتك أحدٌ ولم تأذن له، حذفته – أي رميته - بحصاة ففقأت عينه، ما كان عليك من جناح) رواه البخاري، وعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: إن رجلاً اطلع في جحر في باب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم مدرى - مشط له أسنان يسيرة - يحك به رأسه فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لو أعلم أنك تنظرني لطعنت به في عينك) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما جعل الإذن من أجل البصر) . رواه البخاري ومسلم.
ثانياً: إيذاء الناس وإلحاق الضرر بهم، وقد قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا} سورة الأحزاب الآية58. ولا شك أن تصوير الفتيات وتداول صورهن فيه أذىً وضررٌ كبير وتتبع لعوراتهم، فقد ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر، فنادى بصوت رفيع فقال: يا معشر من أسلم بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه! لا تؤذوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله - وفي رواية أخرى (في بيته) - ونظر ابن عمر إلى الكعبة فقال: ما أعظمك وما أعظم حرمتك والمؤمن أعظم حرمة عند الله منك) رواه الترمذي وابن حبان في صحيحه إلا أنه قال فيه (يا معشر من أسلم بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تؤذوا المسلمين ولا تعيروهم ولا تطلبوا عثراتهم) والحديث حسن صحيح كما قال العلامة الألباني في صحيح الترغيب والترهيب 2/588. وصح عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا ضرر ولا ضرار) رواه أحمد وابن ماجة والبيهقي والحاكم، وصححه العلامة الألباني في إرواء الغليل 3/408.
ثالثاً: إن نشر صور الفتيات وتداولها عبر التقنيات الحديثة - وخاصة المتبرجات منهن – فيه إشاعة للفاحشة بين المؤمنين، ولا شك في تحريم ذلك، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} سورة النور الآية 19. كما إن فيه فساداً وإفساداً حيث يقوم بعض الناس بعمل دبلجة للصور ونشرها في أوضاع مخلة بالآداب الشرعية، وهذا الأمر صار ميسوراً مع التقدم العلمي واستخدامه استخداماً سيئاً.
رابعاً: إن نشر صور الفتيات وتداولها عبر التقنيات الحديثة يحرم أيضاً لأنه يدخل في باب التجسس على الناس، وقد قال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا} سورة الحجرات الآية 12. قال الإمام القرطبي: [ومعنى الآية: خذوا ما ظهر ولا تتبعوا عورات المسلمين، أي لا يبحث أحدكم عن عيب أخيه حتى يطلع عليه بعد أن ستره الله.] تفسير القرطبي 16/333. وورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا، ولا تجسسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً كما أمركم، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره. التقوى هاهنا، التقوى هاهنا، التقوى هاهنا - ويشير إلى صدره - بحسب امرئٍ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وعرضه، وماله. إن الله لا ينظر إلى أجسادكم، ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم) رواه البخاري ومسلم، وهذه النصوص تدل دلالة واضحة على تحريم التجسس بكافة أشكاله وأنواعه، ولا شك أنه يدخل فيه التقاط الصور للفتيات وتداولها عبر التقنيات الحديثة.
خامساً: إن نشر صور الفتيات وتداولها عبر التقنيات الحديثة يتسبب في وقوع كثير من المشكلات العائلية، وخاصة إذا كانت الفتاة التي نشرت صورتها متزوجة، فقد يتسبب ذلك في وقوع الطلاق وتشريد الأطفال، لأن بعض الأزواج لديهم غيرة شديدة على زوجاتهم، فيتسرعون في تطليقهن لأدنى سبب، ولا شك أن الغيرة محمودة بشكل عام، ومنها ما هو مذموم وهو ما كان في غير ريبة، فقد ورد في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن من الغيرة ما يحب الله عز وجل ومنها ما يبغض الله عز وجل، ومن الخيلاء ما يحب الله عز وجل ومنها ما يبغض الله عز وجل فأما الغيرة التي يحب الله عز وجل فالغيرة في الريبة، وأما الغيرة التي يبغض الله عز وجل فالغيرة في غير ريبة، والاختيال الذي يحب الله عز وجل اختيال الرجل بنفسه عند القتال وعند الصدقة، والاختيال الذي يبغض الله عز وجل الخيلاء في الباطل) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان، وهو حديث حسن كما قال العلامة الألباني في إرواء الغليل 7/58. والغيرة من غير ريبة نوع من الإفراط، وأما التفريط في الغيرة فهو من لا يغار على زوجته ومحارمه مع وجود الريبة، فهذا ينطبق عليه وصف الديوث، والدياثة من كبائر الذنوب كما قال ابن حجر المكي في الزواجر عن اقتراف الكبائر 2/109-111. وقد وردت الأحاديث التي تحذر من الدياثة فمنها ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة قد حرّم الله عليهم الجنة مدمن الخمر والعاق والديوث الذي يقر الخبث في أهله) . وفي رواية أخرى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا يدخلون الجنة ولا ينظر الله إليهم يوم القيامة العاق والديه والمرأة المترجلة المتشبهة بالرجال والديوث) رواه أحمد وذكر الشيخ الألباني أن حديث ابن عمر رواه النسائي والحاكم والبيهقي في سننه من طريقين صحيحين وصححه الحاكم ووافقه الذهبي وأقرهما العلامة الألباني على ذلك في جلباب المرأة المسلمة ص 145.
وخلاصة الأمر أن تصوير الفتيات ونشر صورهن وتداولها عبر التقنيات الحديثة أمر محرم شرعاً لاشتماله على مفاسد عظيمة كما بينت بعضها، وعلى الناس أن يتقوا الله عز وجل في أعراضهم، وعلى المسلم أن يحسن التعامل مع الأجهزة الحديثة وألا يسيء استخدامها بل ينتفع بها الانتفاع الحسن.(15/20)
21 - طلاق قبل الدخول
يقول السائل: عقد رجل على امرأة ثم طلقها قبل الدخول وبعد ذلك دخل بها بدون عقد جديد ولا مهر لأنه جاهل بالحكم، وأنجب منها أولاداً وبعد عدة سنوات طلقها طلقة، فما الحكم في ذلك، أفيدونا؟
الجواب: طلاق الرجل المذكور واقع، وبما أنه لم يدخل بزوجته حيث أوقع الطلاق قبل الدخول فهذا الطلاق يكون بائناً، لأن كل طلاق يقع قبل الدخول يكون بائناً، وعليه فيلزمه عقد جديد بمهر جديد وولي وشاهدين، ويبقى له طلقتان. وهذا الطلاق بائن بينونة صغرى، حيث إن هذا الرجل قد طلق زوجته قبل الدخول بها يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} سورة الأحزاب الآية 49، وقد اتفق أهل العلم على أنه إذا انتفت العدة انتفت الرجعة. وهذا ما قرره قانون الأحوال الشخصية المطبق في المحاكم الشرعية في بلادنا
حيث جاء في المادة 94 (كل طلاق يقع رجعياً إلا المكمل للثلاث والطلاق قبل الدخول والطلاق على مال والطلاق الذي نص على أنه بائن في هذا القانون) ، وبما أن الرجل المذكور قد دخل بالمرأة بدون عقد ولا مهر جديدين، فإن نكاحه باطل لفقده شروط صحة النكاح، حيث تم بدون عقد ومهر جديدين بعد طلاقه لزوجته قبل الدخول بها، ثم إنه طلق مرة أخرى بعد عدة سنوات، وهذا الطلاق الأخير يعتبر لغواً لأنه لم يصادف محلاً، حيث إن زوجته قد بانت منه بينونة صغرى عندما طلقها قبل الدخول، وبما أنه لم يعقد عليها عقداً جديداً فلم تعد محلاً للطلاق فلذا اعتبرنا طلاقه لغواً لا أثر له، كما أن دخوله بتلك المرأة حرام شرعاً، ويجب التفريق بينهما فوراً، وأما الأولاد الذين كانوا نتيجة لهذه العلاقة المحرمة فيلحقون بأبيهم، لوجود الشبهة،.
إذا تقرر هذا فإن هذا الرجل والمرأة يستطيعان تصحيح الوضع الخاطئ بينهما بإنشاء عقد جديد بمهر جديد وولي وشاهدين فعلى هذا الرجل أن يراجع المحكمة الشرعية في بلده لإتمام ذلك.
ويجب أن نقرر هنا أن الأولاد الذين كانوا ثمرة هذه العلاقة المحرمة لا ذنب لهم، وإنما الذنب على الرجل والمرأة، فلذا فإن الواجب على المسلم أن يتفقه في أحكام دينه، وخاصة أمثال هذه القضايا الخطيرة، والتي لا يعذر الإنسان فيها بالجهل، العذر بالجهل ليس مقبولاً على إطلاقه عند أهل العلم بل المسألة فيها تفصيل فهنالك أمور من الدين، العلم بها فرض عين ولا يعذر المسلم بجهلها، فقد ورد في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (طلب العلم فريضة على كل مسلم) رواه ابن ماجة وغيره وهو حديث صحيح بمجموع طرقه وانظر صحيح الترغيب والترهيب 1/140. والمقصود بالعلم الذي هو فريضة ما هو فرض عين والمقصود بفرض العين ما يجب على كل مسلم مكلف أن يحصله ولا يعذر بجهله، وحدُّ هذا القسم هو ما تتوقف عليه صحة العبادة أو المعاملة فيجب على المسلم أن يتعلم كيفية الوضوء والصلاة والأحكام الأساسية في الصوم والزكاة إن كان عنده نصاب والأحكام الأساسية في الحج إن كان من أهل الاستطاعة وكذلك يجب عليه أن يتعلم أحكام المعاملات التي يحتاج إليها. قال ابن عابدين في حاشيته نقلاً عن العلامي في فصوله: [من فرائض الإسلام تعلم ما يحتاج إليه العبد في إقامة دينه وإخلاص عمله لله تعالى ومعاشرة عباده وفرض على كل مكلف ومكلفة بعد تعلمه علم الدين والهداية تعلم علم الوضوء والغسل والصلاة والصوم وعلم الزكاة لمن له نصاب والحج لمن وجب عليه والبيوع على التجار ليحترزوا عن الشبهات والمكروهات في سائر المعاملات وكذا أهل الحرف وكل من اشتغل بشيء يفترض عليه علمه وحكمه ليمتنع عن الحرام فيه] حاشية ابن عابدين 1/42. وقال الإمام النووي: [… فرض العين وهو تعلم المكلف ما لا يتأدى الواجب الذي تعين عليه فعله إلا به ككيفية الوضوء والصلاة ونحوها] المجموع 1/42.
فهذا النوع من العلم هو الذي لا يسع المسلم أن يجهله، وهو علم العامة كما قال الإمام الشافعي: [قال لي قائل: ما العِلْمُ؟ وما يَجِبُ على الناس في العلم؟ فقلت له: العلم عِلْمان: علمُ عامَّةٍ، لا يَسَعُ بالِغاً غيرَ مغلوب على عقْلِه جَهْلُهُ. قال: ومِثْل ماذا؟ قلت: مثلُ الصَّلَوَاتِ الخمس، وأن لله على الناس صومَ شهْر رمضانَ، وحجَّ البيت إذا استطاعوه، وزكاةً في أموالهم، وأنه حرَّمَ عليهم الزِّنا والقتْل والسَّرِقة والخمْر، وما كان في معنى هذا، مِمَّا كُلِّفَ العِبادُ أنْ يَعْقِلوه ويعْملوه ويُعْطُوه مِن أنفسهم وأموالهم، وأن يَكُفُّوا عنه ما حرَّمَ عليهم منه. وهذا الصِّنْف كلُّه مِن العلم موجود نَصًّا في كتاب الله، وموْجوداً عامًّا عنْد أهلِ الإسلام، ينقله عَوَامُّهم عن مَن مضى من عوامِّهم، يَحْكونه عن رسول الله، ولا يتنازعون في حكايته ولا وجوبه عليهم. وهذا العلم العام الذي لا يمكن فيه الغلط مِن الخبر، ولا التأويلُ، ولا يجوز فيه التنازعُ. قال: فما الوجه الثاني؟ قلت له: ما يَنُوبُ العِباد مِن فُروع الفرائض، وما يُخَصُّ به مِن الأحكام وغيرها، مما ليس فيه نصُّ كتاب، ولا في أكثره نصُّ سنَّة، وإن كانت في شيء منه سنةٌ فإنما هي مِن أخْبار الخاصَّة، لا أخبارِ العامَّة، وما كان منه يحتمل التأويل ويُسْتَدْرَكُ قِياسًا.] الرسالة ص 357-359. وقال جلال الدين السيوطي: [كل من جهل تحريم شيء مما يشترك فيه غالب الناس لم يقبل منه دعوى الجهل، إلا أن يكون قريب عهد بالإسلام أو نشأ ببادية بعيدة يخفى فيها مثل ذلك، كتحريم الزنا والقتل والسرقة والخمر والكلام في الصلاة والأكل في الصوم.] الموسوعة الفقهية الكويتية 16/199. وما يدل على أن المسلم لا يعذر بالجهل في هذا القسم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقبل عذر الجهل من الرجل الذي أساء الصلاة فلم يعتد بصلاته فعن أبي هريرة رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد فدخل رجل فصلى فسلَّم على النبي صلى الله عليه وسلم فرد وقال: ارجع فصل فإنك لم تصل، فرجع يصلي كما صلى ثم جاء فسلَّم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال ارجع فصل فإنك لم تصل ثلاثاً، فقال والذي بعثك بالحق ما أحسن غيره فعلمني، فقال: إذا قمت إلى الصلاة فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ثم اركع حتى تطمئن راكعا ثم ارفع حتى تعدل قائماً ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً ثم ارفع حتى تطمئن جالساً وافعل ذلك في صلاتك كلها) رواه البخاري ومسلم. ويدخل في هذا القسم حكم الطلاق قبل الدخول فهذا الحكم لا يعذر المسلم بالجهل به بشكل عام ما دام يعيش في ديار الإسلام. وهنالك حالات يعذر فيها المسلم بالجهل كمن يجهل دقائق المسائل الفقهية كالفرعيات في الصلاة والصيام والزكاة والحج وغيرها فقد عذر النبي صلى الله عليه وسلم الرجل الذي بال في المسجد كما ورد في الحديث عن أبي هريرة أن أعرابياً بال في المسجد فثار إليه الناس ليقعوا به فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوه وأهريقوا على بوله ذنوباً من ماء أو سجلاً من ماء فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين) رواه البخاري ومسلم، وكما عذر النبي صلى الله عليه وسلم الرجل الذي أحرم في ملابس مطيبة فعن يعلى بن أمية رضي الله عنه قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة عليه جبة وعليها خلوق أو قال أثر صفرة فقال كيف تأمرني أن أصنع في عمرتي ... قال أين السائل عن العمرة اغسل عنك أثر الصفرة أو قال أثر الخلوق واخلع عنك جبتك واصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك) رواه البخاري ومسلم.
وقد فصل العلامة محمد العثيمين مسألة العذر بالجهل فقال: [الجهل نوعان: جهل يعذر فيه الإنسان، وجهل لا يعذر فيه، فما كان ناشئاً عن تفريط وإهمال مع قيام المقتضي للتعلم، فإنه لا يعذر فيه، سواء في الكفر أو في المعاصي، وما كان ناشئاً عن خلاف ذلك، أي أنه لم يهمل ولم يفرط ولم يقم المقتضي للتعلم بأن كان لم يطرأ على باله أن هذا الشيء حرام فإنه يعذر فيه فإن كان منتسباً إلى الإسلام، لم يضره، وإن كان منتسباً إلى الكفر، فهو كافر في الدنيا، لكن في الآخرة أمره إلى الله على القول الراجح، يمتحن، فإن أطاع دخل الجنة، وإن عصى دخل النار. فعلى هذا من نشأ ببادية بعيدة ليس عنده علماء ولم يخطر بباله أن هذا الشيء حرام، أو أن هذا الشيء واجب، فهذا يعذر، وله أمثلة: منها: رجل بلغ وهو صغير وهو في بادية ليس عنده عالم، ولم يسمع عن العلم شيئاً، ويظن أن الإنسان لا تجب عليه العبادات إلا إذا بلغ خمس عشر سنة، فبقي بعد بلوغه حتى تم له خمس عشرة سنة وهو لا يصوم ولا يصلي ولا يتطهر من جنابة، فهذا لا نأمره بالقضاء لأنه معذور بجهله الذي لم يفرط فيه بالتعلم ولم يطرأ له على بال، وكذلك لو كانت أنثى أتاها الحيض وهي صغيرة وليس عندها من تسأل ولم يطرأ على بالها أن هذا الشيء واجب إلا إذا تم لها خمس عشرة سنة، فإنها تعذر إذا كانت لا تصوم ولا تصلي. وأما من كان بالعكس كالساكن في المدن يستطيع أن يسأل، لكن عنده تهاون وغفلة، فهذا لا يعذر، لأن الغالب في المدن أن هذه الأحكام لا تخفى عليه، ويوجد فيها علماء يستطيع أن يسألهم بكل سهولة، فهو مفرط، فيلزمه القضاء ولا يعذر بالجهل.] القول المفيد على كتاب التوحيد للشيخ العثيمين.
وقال الإمام القرافي: [القاعدة الشرعية دلّت على أن كل جهل يمكن المكلف دفعه، لا يكون حجة للجاهل، فإن الله تعالى بعث رسله إلى خلقه برسائله، وأوجب عليهم كآفّة أن يعلموها، ثم يعملوا بها، فالعلم والعمل بها واجبان، فمن ترك التعلم والعمل وبقي جاهلاً فقد عصى معصيتين لتركه واجبين] الفروق 4/264.
وخلاصة الأمر أن طلاق الرجل المذكور في السؤال قد وقع قبل الدخول وهو طلاق بائن وبما أنه دخل بالمرأة بدون عقد ومهر جديدين فقد وقع في الحرام، وطلاقه الثاني لغو لأنه لم يصادف محلاً، وعليه إنشاء عقد زواج جديد، وعليه أن يتوب إلى الله عز وجل توبة صادقة، وأما الأولاد فلا ذنب لهم ويلحقون بأبيهم وجهل الرجل في هذه المسألة غير مقبول.(15/21)
22 - حكم الزواج بنية الطلاق
يقول السائل: ما قولكم في مسألة الزواج بنية الطلاق فإن بعض العلماء المعاصرين قد أفتى بجواز ذلك بناءً على أنه عقد توفرت فيه أركان وشروط العقد الصحيح، أفيدونا؟
الجواب: الزواج بنية الطلاق هو أن يتزوج رجل امرأة وينوي بقلبه طلاقها بعد مدة من الزمن قد تطول أو تقصر بناءً على مصلحة الرجل ولا يخبر المرأة أو وليها بنيته طلاقها، وهذه المسألة بحثها الفقهاء المتقدمون وقد أثيرت حديثاً وخاصة بعد أن كثر سفر الشباب المسلم إلى ديار الغرب للدراسة والتجارة ونحو ذلك، وقد أفتى بعض العلماء المعاصرين أؤلئك الشباب بجواز النكاح بنية الطلاق صيانة لهم من الوقوع في الحرام، وعند التدقيق في كلام العلماء الذين أجازوا الزواج بنية الطلاق نجد أنهم نظروا إلى تحقق أركان وشروط العقد في هذا الزواج وأنه لا أثر لنية الزوج المبيتة بالطلاق، قال الشيخ ابن قدامة المقدسي [وإن تزوجها بغير شرط، إلا أن في نيته طلاقها بعد شهر، أو إذا انقضت حاجته في هذا البلد فالنكاح صحيح في قول عامة أهل العلم، إلا الأوزاعي قال: هو نكاح متعة. والصحيح: أنه لا بأس به، ولا تضر نيته، وليس على الرجل أن ينوي حبس امرأته، وحسبه إن وافقته وإلا طلقها) المغني 7/179-180.
وقال الإمام النووي: [قال القاضي: وأجمعوا على أن من نكح نكاحاً مطلقاً ونيَّتُه أن لا يمكث معها إلا مدة نواها فنكاحه صحيح حلال، وليس نكاح متعة. وإنما نكاح المتعة ما وقع بالشرط المذكور. ولكن قال مالك: ليس هذا من أخلاق الناس. وشذ الأوزاعي، فقال: هو نكاح متعة ولا خير فيه] شرح النووي على صحيح مسلم 3/529. وهذا ما قاله العلماء المعاصرون الذي أجازوا الزواج بنية الطلاق فهم قد اعتبروه من الناحية الإجرائية عقداً صحيحاً مستكملاً لأركانه وشروطه ولا أثر لنية الطلاق في صحته.
ولكن المانعين لهذا الزواج من أهل العلم قديماً وحديثاً نظروا إلى أمور أخرى هامة جداً بنوا عليه القول بمنع هذا النوع من الزواج منها:
1. إن الأصل في عقد الزواج في شريعة الإسلام الديمومة والاستمرار ويظهر هذا واضحاً من خلال تحريم الإسلام لكل زواج مؤقت كنكاح المتعة، قال الإمام النووي: [النكاح المؤقت باطل، سواء قيد بمدة مجهولة أو معلومة، وهو نكاح المتعة] روضة الطالبين 2/42. وقال الشيخ أبو القاسم الخرقي الحنبلي [ولو تزوجها على أن يطلقها في وقت بعينه، لم ينعقد النكاح] المغني 7/180.
2. إن الزواج بنية الطلاق يتنافى مع حقيقة عقد الزواج الذي سماه الله سبحانه وتعالى ميثاقاً غليظاً {وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً} وثبت في الحديث عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (اتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله) رواه مسلم. فأين الزواج بنية الطلاق من المقاصد الشرعية للزواج.
3. إن الزواج بنية الطلاق ينطوي على الغش والخداع للزوجة ووليها وفيه ظلم واضح للزوجة وإيقاع الضرر بها، وكل ذلك منهي عنه شرعاً، ولو أن الزوج أظهر نيته تلك لما قبلت الزوجة ذلك، ومن المعلوم أن الغش حرام بشكل عام، كيف وهو واقع في أمر عظيم ألا وهو الزواج، وينبغي التنبيه إلى أن ما يفعله بعض أغنياء المسلمين من الزواج عندما يسافرون إلى بلدان فقيرة وفي نيتهم الطلاق ويعرف من يزوجهم أنهم سيطلقون بعدة مدة، فهذا النوع أشبه بنكاح المتعة فهو محرم، لأن المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً.
4. إن الزواج بنية الطلاق فيه إساءة بالغة للإسلام والمسلمين وتشويه لصورة الإسلام حيث إنه يورث عند الآخرين انطباعاً بأن المسلم متحلل من القيم والأخلاق الحسنة ولا ينظر إلا لقضاء شهوته ولمصلحته الشخصية، كما أنه يسيء إساءة بالغة لحقيقة نظرة الإسلام للمرأة، حيث يهتم هذا المتزوج وهو ينوي الطلاق بقضاء شهواته
فقط ويكرس مفهوم الجنس للجنس، وهو مفهوم لا يقبله الإسلام إلى غير ذلك من المفاهيم الخاطئة.
إذا تقرر هذا فلا بد من التنبيه على أن الفتاوى التي نقلت عن أئمة الفقه المتقدمين إنما كانت في حالات خاصة على خلاف الأصل، فلا يجوز تعميمها لتصبح هي القاعدة العامة، وعليه فإني أرجح مذهب العلماء المانعين للزواج بنية الطلاق لما يترتب عليه من مفاسد ولمخالفته للمقاصد الشرعية، كما وأن المسلم لا يرضى هذا الزواج لابنته أو أخته فلا ينبغي أن يرضاه للناس كما ورد في الحديث عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: (إن فتىً شاباً أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! ائذن لي بالزنا. فأقبل القوم عليه فزجروه، وقالوا مه مه! فقال: ادنه. فدنا منه قريباً. قال: فجلس. قال أتحبه لأمك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداك. قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم. قال أفتحبه لابنتك؟ قال: لا والله يا رسول الله! جعلني الله فداك. قال: ولا الناس يحبونه لبناتهم. قال أتحبه لأختك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداك. قال: ولا الناس يحبونه لأخواتهم. قال أتحبه لعمتك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداك. قال: ولا الناس يحبونه لعماتهم. قال أتحبه لخالتك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداك. قال: ولا الناس يحبونه لخالاتهم. قال: فوضع يده عليه، وقال: اللهم! اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصن فرجه. فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء.) رواه أحمد وصححه العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة حديث رقم 370.
وقد اختار القول بمنع الزواج بنية الطلاق مجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي فقد جاء في قراره ما يلي: [الزواج بنية الطلاق وهو زواج توافرت فيه أركان النكاح وشروطه، وأضمر الزوج في نفسه طلاق المرأة بعد مدة معلومة كعشرة أيام، أو مجهولة كتعليق الزواج على إتمام دراسته أو تحقيق الغرض الذي قدم من أجله. وهذا النوع من النكاح على رغم أن جماعة من العلماء أجازوه، إلا أن المجمع يرى منعه لاشتماله على الغش والتدليس. إذ لو علمت المرأة أو وليها بذلك لم يقبلا هذا العقد. ولأنه يؤدي إلى مفاسد عظيمة وأضرار جسيمة تسيء إلى سمعة المسلمين.] عن شبكة الإنترنت. وقال بتحريمه الشيخ محمد رشيد رضا والشيخ العلامة محمد الصالح العثيمين ومن المتقدمين الإمام الأوزاعي وهو القول المعتمد عند الحنابلة.
وخلاصة الأمر أن الزواج بنية الطلاق ممنوع شرعاً ويحرم على المسلم أن يقدم عليه لمخالفته لمقاصد الشارع الحكيم ولما يترتب عليه من مفاسد كثيرة.(15/22)
23 - إنصاف الابن الذي يعمل في تجارة أبيه دون إخوته
يقول السائل: أنا أكبر إخوتي وأشتغل مع والدي في محله التجاري منذ ثلاث وعشرين سنة حيث إن والدي أخرجني من المدرسة بعد الصف السادس، وخلال هذه المدة تضاعفت أموال والدي عدة مرات ووالدي الآن مريض وأخشى إن توفي والدي أن أعامل كبقية إخوتي في الميراث مع العلم أنهم لم يعملوا مع والدي بل تعلموا في الجامعات ويشتغلون في أعمالهم الخاصة، فما هي الطريقة الشرعية لأخذ حقي من أموال والدي، أفيدونا؟
الجواب: إن ما ورد في السؤال يحدث كثيراً في مجتمعنا المحلي حيث إن أحد الأبناء يعمل مع والده في تجارته أو مصنعه أو مزرعته أو غير ذلك، ويكون لهذا الابن دور واضح في تنمية أموال أبيه دون بقية إخوته فما الواجب على الأب لكي يكون منصفاً مع ابنه الذي ساعده وعمل معه وأسهم في تنمية أمواله، إن الذي أراه في هذه المسألة أن الواجب على الوالد أن يقوم بواحد من ثلاثة أمور:
الأول: أن يعامل الابن في هذه الحالة معاملة الأجنبي بدون محاباة فيقدر لهذا الابن جهد أمثاله في عمل مشابه لعمل أبيه فيقوم اثنان أو أكثر من أهل الخبرة والمعرفة بتقدير جهد المثل للابن عن المدة التي اشتغلها مع أبيه وبالتالي يكون الابن شريكاً لأبيه في المحل التجاري حسب النسبة التي يقدرها أهل الخبرة كالربع أو الثلث أو غير ذلك وبناءً على ذلك إذا توفي الأب فإن حصة الأب من المحل التجاري تكون حقاً للورثة ويكون الابن الأكبر أحد الوارثين.
الثاني: أن يقدر أهل الخبرة والمعرفة للابن الذي عمل مع أبيه أجر المثل فيعامل مثل العامل الأجنبي فيعطى الابن أجراً مماثلاً لأجر عامل يقوم بمثل عمله، فيصرف له ذلك الأجر. وفي حال وفاة الأب كان الابن الذي عمل مع أبيه كغيره من الورثة.
الثالث: أن ينصف الأب ابنه الذي عمل معه بأن يخصه بعطية من المال تقابل عمل الابن معه بشرط أن تنفذ العطية حال حياة الأب ولا تكون مضافة لما بعد الموت، وهذا الأمر جائز شرعاً على قول جماعة من أهل العلم وغير مخالف لمبدأ العدل في العطايا والهبات للأبناء فقد قرر جماعة من الفقهاء جواز تخصيص أحد الأبناء بالهبة لسبب مشروع، قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [يجب على الإنسان التسوية بين أولاده في العطية إذا لم يختص أحدهم بمعنى ييح التفضيل ... فإن خص بعضهم لمعنىً يقتضي تخصيصه , مثل اختصاصه بحاجة أو زمانة أو عمى , أو كثرة عائلة أو اشتغاله بالعلم أو نحوه من الفضائل أو صرف عطيته عن بعض ولده لفسقه , أو بدعته أو لكونه يستعين بما يأخذه على معصية الله أو ينفقه فيها , فقد روي عن أحمد ما يدل على جواز ذلك لقوله في تخصيص بعضهم بالوقف: لا بأس به إذا كان لحاجة وأكرهه إذا كان على سبيل الأثرة، والعطية في معناه ويحتمل ظاهر لفظه المنع من التفضيل أو التخصيص على كل حال لكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يستفصل بشيراً في عطيته، والأول أولى إن شاء الله لحديث أبي بكر رضي الله عنه، ولأن بعضهم اختص بمعنى يقتضي العطية , فجاز أن يختص بها كما لو اختص بالقرابة وحديث بشير قضية في عين لا عموم لها وترك النبي صلى الله عليه وسلم الاستفصال يجوز أن يكون لعلمه بالحال فإن قيل: لو علم بالحال لما قال: " ألك ولد غيره؟ " قلنا: يحتمل أن يكون السؤال ها هنا لبيان العلة , كما قال عليه الصلاة والسلام للذي سأله عن بيع الرطب بالتمر: (أينقص الرطب إذا يبس؟ قال: نعم: قال: فلا إذا) وقد علم أن الرطب ينقض لكن نبه السائل بهذا على علة المنع من البيع كذا ها هنا.] المغني 6/51-53. وحديث أبي بكر الذي أشار إليه الشيخ ابن قدامة المقدسي هو ما رواه مسلم وغيره أن أبا بكر نحل عائشة جداد عشرين وسقاً دون سائر ولده.
[وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية عَنْ رَجُلٍ أَعْطَى بَعْضَ أَوْلادِهِ شَيْئًا وَلَمْ يُعْطِ الْآخَرَ ; لِكَوْنِ الْأَوَّلِ طَائِعًا لَهُ: فَهَلْ لَهُ بِرُّ مَنْ أَطَاعَهُ وَحِرْمَانُ مَنْ عَصَاهُ وَحَلَفَ الَّذِي لَمْ يُعْطِهِ بِالطَّلَاقِ أَنَّهُ لا يُكَلِّمُ أَبَاهُ إنْ لَمْ يُوَاسِهِ: فَهَلْ لَهُ مَخْرَجٌ؟ وَهَلْ الْيَمِينُ بِالطَّلَاقِ تَجْرِي مَجْرَى الْأيمَانِ أَمْ لا؟
فأجاب: على الرجل أن يعدل بين أولاده كما أمر الله ورسوله فقد ثبت في الصحيحين {عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لبشير بن سعد لما نحل ابنه النعمان نحلاً وأتى النبي صلى الله عليه وسلم ليشهده على ذلك فقال له: اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم وقال: لا تشهدني على هذا فإني لا أشهد على جور وقال له: اردده} فرده بشير. وقال له على سبيل التهديد: {أشهد على هذا غيري} . لكن إذا خص أحدهما بسبب شرعي: مثل أن يكون محتاجاً مطيعاً لله والآخر غني عاص يستعين بالمال على المعصية فإذا أعطى من أمر الله بإعطائه ومنع من أمر الله بمنعه فقد أحسن.] مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 31/295.
وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة السعودية: [المشروع في عطية الأولاد هو التسوية بينهم في العطاء على السواء، ولا يجوز التفضيل إلا لمسوغ شرعي؛ لكون أحدهم مقعداً أو صاحب عائلة كبيرة أو لاشتغاله بالعلم، أو صرف عطية عن بعض ولده لفسقه أو بدعته، أو لكونه يعصي الله فيما يأخذه ... ] فتاوى اللجنة الدائمة 16/193.
والقول بجواز تفضيل بعض الأولاد لمسوغ شرعي لا بأس به ولا يخالف الأدلة الواردة في وجوب العدل بين الأولاد في العطية
كالحديث الوارد عن النعمان بن بشير قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اعدلوا بين أبنائكم، اعدلوا بين أبنائكم، اعدلوا بين أبنائكم) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وهو حديث صحيح.
وعن جابر رضي الله عنه قال: قالت امرأة بشير: انحل ابني غلاماً - عبداً - وأشهد لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن ابنة فلان - زوجته - سألتني أن أنحل ابنها غلامي. فقال عليه الصلاة والسلام: له أخوة؟ قال: نعم، قال عليه الصلاة والسلام: فكلهم أعطيت مثل ما أعطيته؟ قال: لا، قال عليه الصلاة والسلام: فليس يصلح هذا وإني لا أشهد إلا على حق) رواه مسلم.
وعن عامر قال: سمعت النعمان بن بشير رضي الله عنهما وهو على المنبر يقول: أعطاني أبي عطية فقالت عمرة بنت رواحة - أم نعمان – لا أرضى حتى تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أعطيت ابني من عمرة بنت رواحة عطية فأمرتني أن أشهدك يا رسول الله. قال عليه الصلاة والسلام: أعطيت سائر ولدك مثل هذا؟ قال: لا، فقال صلى الله عليه وسلم: فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم، قال فرجع فرد عطيته) رواه البخاري.
وفي روايةٍ أخرى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبشير والد النعمان (لا تشهدني على جورٍ أليس يسرك أن يكونوا لك في البر سواء؟ قال: نعم، قال: أشهد على هذا غيري) رواه أبو داود بسندٍ صحيح.
وفي حديث آخر عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (سووا بين أولادكم في العطية لو كنت مفضلاً أحداً لفضلت النساء) رواه البيهقي وقال الحافظ ابن حجر إسناده حسن.
فهذه الأحاديث تحمل على التفضيل بين الأولاد لغير مسوغ شرعي أما إذا وجد مسوغ شرعي فلا حرج.
وخلاصة الأمر أن العدل يقتضي أن ينصف الأب ابنه الذي اشتغل معه دون إخوته بطريقة من الطرق التي ذكرتها سابقاً.(15/23)
24 - يجوز زواج الزانيين إذا تابا توبة صادقة
يق ول السائل: زنا شاب بفتاة واتفقت عائلتهما على تزويجهما والستر عليهما، فما الحكم في زواج الزانيين، أفيدونا؟
الجواب: الزنا كبيرة من كبائر الذنوب ومن الجرائم الاجتماعية الفظيعة، يقول الله سبحانه وتعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} سورة الإسراء الآية 32. قال الإمام القرطبي: [قال العلماء، قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} أبلغ من أن يقول: ولا تزنوا، فإن معناه لا تدنوا من الزنا] تفسير القرطبي 10/253. وقد جعل الله سبحانه وتعالى من صفات عباد الرحمن ترك الزنا فقال تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًاءَاخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} سورة الفرقان الآيتان 68-69.
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة التحذير من الزنا وبيان ضرر الزنا فقد جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن) رواه البخاري ومسلم.
وعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه تضمنت له بالجنة) رواه البخاري، وما بين لحييه أي اللسان وما بين رجليه أي فرجه.
وورد في حديث السبعة الذين يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله: (ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله) رواه البخاري ومسلم. وغير ذلك من الأحاديث. ومن المعلوم أن الأصل أن يقام الحد الشرعي على الزناة إذا بلغ الأمر للحاكم الشرعي.
إذا تقرر هذا فإنه يجوز للزانيين الزواج ولا بد لهما من التوبة الصادقة، فإن التوبة واجبة على العاصي لقوله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} سورة النور الآية 31. وقال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} سورة التحريم الآية 8. وقال الله تعالى {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} سورة الزمر الآية 53. وجاء في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما: قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (التائب من الذنب كمن لا ذنب له) رواه ابن ماجة وغيره وهو حديث حسن كما قال العلامة الألباني في صحيح سنن ابن ماجة 2/418. وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون) رواه الترمذي وابن ماجة والدارمي، وهو حديث حسن كما قال العلامة الألباني في صحيح سنن ابن ماجة 2/418. ولا بد من التذكير بأن التوبة الصادقة لا بد لها من ثلاثة شروط: أولها: الإقلاع عن المعصية فلا توبة مع مباشرة الذنب واستمرار الوقوع في المعصية. ثانيها: الندم على ما مضى وفات فمن لم يندم على ما صدر عنه من المعاصي والآثام فلا توبة له لأن عدم ندمه يدل على رضاه بما كان منه وإصراره عليه. ثالثها: أن يعزم على عدم العودة إلى المعصية مستقبلاً وهذا العزم ينبغي أن يكون مؤكداً قوياً وعلى التائب أن يكثر من فعل الخيرات ليكسب الحسنات {فإن الحسنات يذهبن السيئات} . ورابعها: إذا كانت المعصية تتعلق بحق من حقوق الناس فلا بد من إعادة الحقوق لأصحابها.
فإذا تاب الزانيان وتحققت توبتهما ورجعا إلى أمر الله تعالى وندما على ما اقترفا وأصلحا فإن الله تواب رحيم، فلهما الزواج، والقول بجواز نكاح الزانيين التائبين هو قول جمهور أهل العلم وقد وردت آثار كثيرة عن الصحابة وغيرهم من السلف فمن ذلك: ما رواه البيهقي في السنن الكبرى بإسناده عن ابن عباس رضى الله عنهما فى الرجل يفجر بالمرأة ثم يتزوجها بعد. قال: كان أوله سفاح وآخره نكاح وأوله حرام وآخره حلال. وروى البيهقي أيضاً عن سعيد عن قتادة عن جابر بن عبد الله وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير فى الرجل يفجر بالمرأة ثم يتزوجها فقالوا: لا بأس بذلك إذا تابا وأصلحا وكرها ما كان.
وروى عبد الرزاق عن شيخ من أهل المدينة قال: سمعت ابن شهاب يحدث عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: سئل أبو بكر الصديق رضي الله عنه عن رجل زنى بامرأة ثم يريد أن يتزوجها، قال: ما من توبة أفضل من أن يتزوجها، خرجا من سفاح إلى نكاح. مصنف عبد الرزاق.
وقال ابن أبي شيبة حدثنا وكيع عن ابن حباب عن بكير بن الأخنس عن أبيه قال: قرأت من الليل " حم عسق " فمررت بهذه الاية: {وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون} فغدوت إلى عبد الله أسأله عنها فأتاه رجل فسأله عن الرجل يفجر بالمرأة ثم يتزوجها فقرأ عبد الله: {وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات} .
وقال ابن أبي شيبة أيضاً حدثنا وكيع عن شريك عن عروة عن عبد الله بن بشير عن أبي الأشعث عن ابن عمر قال: أوله سفاح وآخره نكاح وأوله حرام وآخره حلال.
وحدثنا حفص عن أشعث عن الزهري أن رجلاً فجر بامرأة وهما بكران فجلدهما أبو بكر ونفاهما ثم زوجها إياه بعد الحول.
وحدثنا وكيع عن سفيان عن قتادة عن سعيد بن المسيب قال: لا بأس أن يتزوجها.
وحدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة قال: سأله رجل عن رجل فجر بامرأة، أيتزوجها؟ قال: نعم! وتلا هذه الآية: {وهو الذي يقبل التوبة عن عباده} .
وحدثنا جرير عن شعبة عن أبي نعامة قال: سئل سعيد بن جبير وأنا أسمع عن رجل فجر بامرأة، أيتزوجها؟ قال: هو أحق بها، أوله سفاح وآخره نكاح أحلها له ماله.
وحدثنا ابن عيينة عن عمرو بن جابر بن زيد قال: سئل عن الرجل يفجر بالمرأة ثم يتزوجها، قال: هو أحق بها، هو أفسدها.
وحدثنا وكيع عن سعيد بن حسان قال: سمعت حنظلة عن عكرمة قال: سألت سالماً عنه فقال: لا بأس به.
وحدثنا عبد الأعلى عن سعيد عن قتادة عن جابر بن عبد الله قال: إذا تابا وأصلحا فلا بأس.
وحدثنا عباد بن عوام عن داؤد عن يزيد بن أبي منصور أو ابن منصور عن صلة بن أشيم قال: لا بأس إن كانا تائبين فالله أولى بتوبتهما وإن كانا زانيين فالخبيث على الخبيث.
وحدثنا ابن عيينة عن عبيد الله بن أبي يزيد قال: سئل ابن عباس عن رجل زنى بامرأة فأراد أن يتزوجها، قال: الآن أصاب الحلال. مصنف ابن أبي شيبة
وروى عبد الرزاق قال: سمعت أبا حنيفة يحدث عن حماد عن إبراهيم قال: سئل علقمة بن قيس عن رجل زنى بامرأة، هل يصلح له أن يتزوجها؟ قال: {وهو الذي يقبل التوبة عن عباده} .
وروى عبد الرزاق عن معمر عن الحكم بن أبان قال: سألت سالم بن عبد الله عن الرجل يزني بالمرأة ثم ينكحها، فقال: سئل عن ذلك ابن مسعود، فقال: {وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات} .
وخلاصة الأمر أنه يجوز للزانيين الزواج بعد أن يرتفع عنهما وصف الزنا ولا يكون ذلك إلا بالتوبة الصادقة بشروطها السابقة.(15/24)
25 - حق الزوجة بمسكن مستقل
تقول السائلة: إن والد زوجها قد توفي ويريد زوجها أن يسكن أمه وأخاه غير المتزوج معها في نفس الشقة التي تسكنها هي وأولادها مع أن الشقة ليست كبيرة، فهل هي ملزمة بقبول ذلك، أفيدونا؟
الجواب: قرر الشرع أن من حقوق الزوجة على زوجها حق المسكن قال الله تعالى: (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ) سورة الطلاق الآية 6.
قال الشيخ ابن قدامة المقدسي [ويجب لها مسكن بدليل قوله سبحانه وتعالى: {أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم} فإذا وجبت السكنى للمطلقة فللتي في صلب النكاح أولى قال الله تعالى: {وعاشروهن بالمعروف} ومن المعروف أن يسكنها في مسكن، ولأنها لا تستغني عن المسكن للاستتار عن العيون وفي التصرف والاستمتاع وحفظ المتاع، ويكون المسكن على قدر يسارهما وإعسارهما لقول الله تعالى: {من وجدكم} ولأنه واجب لها لمصلحتها في الدوام فجرى مجرى النفقة والكسوة] المغني 8/200.
وقد نص الفقهاء على شروط بيت الزوجية ومن أهمها أن يكون خاصاً بالزوجة لا يشاركها فيه أحد بدون رضاها وقرروا أنه لا يجوز للزوج أن يسكن أحداً من أقاربه مع زوجته بدون رضاها ولو كان أباه أو أمه أو أخاه أو زوجته الأخرى
قال الكاساني الحنفي [وكل امرأة لها النفقة، لها السكنى لقوله عز وجل {أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم} ... ولأنهما استويا في سبب الوجوب وشرطه وهو ما ذكرنا فيستويان في الوجوب ويستوي في وجوبهما أصل الوجوب الموسر والمعسر؛ لأن دلائل الوجوب لا توجب الفصل وإنما يختلفان في مقدار الواجب منهما ... ولو أراد الزوج أن يسكنها مع ضرتها أو مع أحمائها كأم الزوج وأخته وبنته من غيرها وأقاربه فأبت ذلك؛ عليه أن يسكنها في منزل مفرد؛ لأنهن ربما يؤذينها ويضررن بها في المساكنة وإباؤها دليل الأذى والضرر ولأنه يحتاج إلى أن يجامعها ويعاشرها في أي وقت يتفق ولا يمكنه ذلك إذا كان معهما ثالث حتى لو كان في الدار بيوت ففرغ لها بيتا وجعل لبيتها غلقا على حدة قالوا: إنها ليس لها أن تطالبه ببيت آخر] بدائع الصنائع 3/428-429.
وقال ابن نجيم الحنفي [ (قوله والسكنى في بيت خالٍ عن أهله وأهلها) معطوف على النفقة أي تجب السكنى في بيت أي الإسكان للزوجة على زوجها؛ لأن السكنى من كفايتها فتجب لها كالنفقة، وقد أوجبها الله تعالى كما أوجب النفقة بقوله تعالى {أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم} أي من طاقتكم أي مما تطيقونه ملكاً أو إجارةً أو عاريةً إجماعاً، وإذا وجبت حقاً لها ليس له أن يشرك غيرها فيه؛ لأنها تتضرر به فإنها لا تأمن على متاعها ويمنعها ذلك من المعاشرة مع زوجها ومن الاستمتاع إلا أن تختار] البحر الرائق شرح كنز الدقائق، عن شبكة الإنترنت.
وقال الشيخ الحطاب المالكي [قال ابن فرحون إن من حقها أن لا تسكن مع ضرتها ولا مع أهل زوجها ولا مع أولاده في دار واحدة فإن أفرد لها بيتاً في الدار ورضيت فذلك جائز وإلا قضي عليه بمسكن يصلح لها] مواهب الجليل في شرح مختصر الشيخ خليل، عن شبكة الإنترنت.
وقال الخطيب الشربيني الشافعي [ويحرم أن يجمع ... بين ضرتين فأكثر في مسكن أي بيت واحد لما بينهما من التباغض إلا برضاهما فيجوز الجمع بينهما؛ لأن الحق لهما، ولو رجعا بعد الرضا كان لهما ذلك.] مغني المحتاج عن شبكة الإنترنت.
قال الشيخ ابن قدامة المقدسي [وليس للرجل أن يجمع بين امرأتيه في مسكن واحد بغير رضاهما صغيراً كان أو كبيراً لأن عليهما ضرراً لما بينهما من العداوة والغيرة واجتماعهما يثير المخاصمة والمقاتلة , وتسمع كل واحدة منهما حسه إذا أتى إلى الأخرى أو ترى ذلك فإن رضيتا بذلك جاز لأن الحق لهما , فلهما المسامحة بتركه وكذلك إن رضيتا بنومه بينهما في لحاف واحد، وإن رضيتا بأن يجامع واحدة بحيث تراه الأخرى , لم يجز لأن فيه دناءًة وسخفاً وسقوط مروءة فلم يبح برضاهما وإن أسكنهما في دار واحدة كل واحدة في بيت , جاز إذا كان ذلك مسكن مثلها.] المغني 7/300.
وقد نص قانون الأحوال الشخصية المعمول به في المحاكم الشرعية في بلادنا على الأمور المتعلقة بمسكن الزوجية فقد جاء في المادة 36 [يهيئ الزوج المسكن المحتوي على اللوازم الشرعية حسب حاله وفي محل إقامته وعمله.]
وجاء في المادة 38 [ليس للزوج أن يسكن أهله وأقاربه أو ولده المميز معه بدون رضاء زوجته في المسكن الذي هيأه لها ويستثنى من ذلك أبواه الفقيران العاجزان إذا لم يمكنه الإنفاق عليهما استقلالاً وتعين وجودهما عنده دون أن يحول ذلك من المعاشرة الزوجية كما انه ليس للزوجة أن تسكن معها أولادها من غيره أو أقاربه بدون رضاء زوجها]
كما منع القانون إسكان الضرائر في مسكن واحد إلا برضاهن كما نصت عليه المادة 40 [على من له أكثر من زوجة أن يعدل ويساوي بينهن في المعاملة وليس له إسكانهن في دار واحدة إلا برضاهن.]
وينبغي على الآباء والأمهات أن يحرصوا على أن يسكن أبناؤهم المتزوجون في مساكن خاصة بهم لأن في ذلك مصالح مشتركة بينهم وبين أبنائهم وزوجات أبنائهم، حيث إن سكن الابن وزوجته في مسكن منفرد ومستقل فيه منافع كبيرة للجميع وفيه بعد عن أسباب الشحناء والبغضاء والمشكلات التي تنتج عن احتكاك الزوجة مع أهل زوجها. وهذه أمور منهي عنها والشارع الحكيم إذا نهى عن أمر من الأمور فإن ذلك يعتبر نهياً عن الوسائل المؤدية إليه، وقد قرر العلماء أن للوسائل أحكام المقاصد قال الإمام العز بن عبد السلام: [للوسائل أحكام المقاصد فالوسيلة إلى أفضل المقاصد هي أفضل الوسائل والوسيلة إلى أرذل المقاصد هي أرذل الوسائل] قواعد الأحكام 1/46. وقال العلامة محمد بن صالح العثيمين [وقد قال أهل العلم للوسائل أحكام المقاصد فما كان وسيلةٌ لمطلوبٍ فهو مطلوب وما كان وسيلةً لمنهيٍ منه فهو منهيٌ عنه] عن شبكة الإنترنت.
وكذلك فإن سكن الابن وزوجته في مسكن منفرد يوفر حرية مطلقة للزوجين في بيتهما مما يشكل عاملاً مهماً في استقرار الحياة الزوجية وفي توفير السعادة الزوجية لهما.
وأخيراً لا بد من التنبيه على أن المسكن الخاص بالزوجين فيه بعد عن الحرمات كالاختلاط بين الزوجة وأخي زوجها فهذا أمر محرم وخاصة أن الزوج قد يغيب عن البيت. وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم الرجال من الدخول على النساء وخاصة أخو الزوج فقد صح في الحديث عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إياكم والدخول على النساء. فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله أفرأيت الحمو؟ قال: الحمو الموت) رواه البخاري ومسلم.
قال الإمام النووي: [قوله صلى الله عليه وسلم: (الحمو الموت) قال الليث بن سعد: الحمو أخو الزوج وما أشبهه من أقارب الزوج: ابن العم ونحوه. اتفق أهل اللغة على أن الأحماء أقارب زوج المرأة كأبيه وأخيه وابن أخيه وابن العم ونحوهم، والأختان أقارب زوجة الرجل والأصهار يقع على النوعين. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (الحمو الموت) فمعناه أن الخوف منه أكثر من غيره والشر يتوقع منه والفتنة أكثر لتمكنه من الوصول إلى المرأة والخلوة من غير أن ينكر عليه بخلاف الأجنبي، والمراد بالحمو هنا أقارب الزوج غير آبائه وأبنائه فأما الآباء والأبناء فمحارم لزوجته تجوز لهم الخلوة بها ولا يوصفون بالموت وإنما المراد الأخ وابن الأخ والعم وابنه ونحوهم ممن ليس بمحرم. وعادة الناس المساهلة فيه ويخلو بامرأة أخيه فهذا هو الموت وهو أولى بالمنع من الأجنبي … وقال ابن الأعرابي: هي كلمة تقولها العرب كما يقال: الأسد الموت. أي لقاؤه مثل الموت، وقال القاضي: معناه الخلوة بالأحماء مؤدية إلى الفتنة والهلاك في الدين فجعله كهلاك الموت فورد الكلام مورد غليظ] شرح النووي على صحيح مسلم 5/329.
وخلاصة الأمر أن للزوجة الحق في مسكن خاص بها لا يشاركها فيه أحد من أقارب الزوج ولا تشاركها أيضاً ضرتها إلا برضاها وهذا الحق ثابت للزوجة ولو لم تشترطه في العقد، ويحرم على الزوج أن يسكن أحداً من أقاربه مع زوجته بدون رضاها، وتشتد الحرمة فيما لو أسكن معها أخاه البالغ كما ورد في السؤال لما يترتب على ذلك من المفاسد.(15/25)
26 - النساء أولى بالحضانة من الرجال
يقول السائل: ماتت امرأة وتركت أطفالاً صغاراً وعهدت بهم لأمها، وتزوج زوجها بعدها ويطالب بحضانة أولاده وجدتهم لأمهم تصر على حضانتهم فمن الأحق بحضانة الأطفال في هذه الحالة، أفيدونا؟
الجواب: الحضانة عند الفقهاء هي القيام على شؤون الولد وحفظه وتربيته والاعتناء به في جميع مصالحه. والحضانة واجبة شرعاً قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [كفالة الطفل وحضانته واجبة لأنه يهلك بتركه فيجب حفظه عن الهلاك كما يجب الإنفاق عليه وإنجاؤه من المهالك] المغني 8/237.
ومما يدل على مشروعية الحضانة ما ورد في الحديث عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (أن امرأة قالت: يا رسول الله إن ابني هذا كان بطني له وعاء وثديي له سقاء وحجري له حواء وإن أباه طلقني وأراد أن ينتزعه مني، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنت أحق به ما لم تنكحي) رواه أبو داود والحاكم وصححه ووافقه الذهبي وقال الشيخ العلامة الألباني حديث حسن كما في صحيح سنن أبي داود 2/430 وانظر أيضاً إرواء الغليل 7/244. وغير ذلك من النصوص.
وقد اتفق جماهير أهل العلم على أن جنس النساء أحق بالحضانة من جنس الرجال، قال الإمام النووي [الحضانة هي القيام بحفظ من لا يميز ولا يستقل بأمره وتربيته بما يصلحه ووقايته عما يؤذيه وهي نوع من ولاية وسلطنة لكنها بالإناث أليق لأنهن أشفق وأهدى إلى التربية وأصبر على القيام بها وأشد ملازمة للأطفال.] روضة الطالبين 6/504.
ومما يدل على أن النساء أولى بالحضانة من الرجال ما ورد في الحديث عن ابن جريج أخبرني زياد عن هلال بن أسامة أن أبا ميمونة سليم مولى من أهل المدينة رجل صدق قال بينما أنا جالس مع أبي هريرة جاءته امرأة فارسية معها ابن لها فادعياه وقد طلقها زوجها فقالت يا أبا هريرة ورطنت له بالفارسية زوجي يريد أن يذهب بابني فقال أبو هريرة استهما عليه ورطن لها بذلك فجاء زوجها فقال من يحاقني في ولدي فقال أبو هريرة: اللهم إني لا أقول هذا إلا أني سمعت امرأة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا قاعد عنده فقالت يا رسول الله إن زوجي يريد أن يذهب بابني وقد سقاني من بئر أبي عنبة وقد نفعني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم استهما عليه فقال زوجها من يحاقني في ولدي فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هذا أبوك وهذه أمك فخذ بيد أيهما شئت فأخذ بيد أمه فانطلقت به) رواه أبو داود والترمذي والنسائي وصححه الترمذي وصححه العلامة الألباني في صحيح سنن أبي داود 2/431
وقال العلامة ابن القيم بعد أن ذكر الحديث الذي سقته أولاً وفيه قول الرسول الله صلى الله عليه وسلم للمرأة: (أنت أحق به ما لم تنكحي) [ودل الحديث على أنه إذا افترق الأبوان وبينهما ولد فالأم أحق به من الأب ما لم يقم بالأم ما يمنع تقديمها أو بالولد وصف يقتضي تخييره وهذا ما لا يعرف فيه نزاع وقد قضى به خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر على عمر بن الخطاب ولم ينكر عليه منكر. فلما ولي عمر قضى بمثله فروى مالك في الموطأ: عن يحيى بن سعيد أنه قال سمعت القاسم بن محمد يقول كانت عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه امرأة من الأنصار فولدت له عاصم بن عمر ثم إن عمر فارقها فجاء عمر قباء فوجد ابنه عاصماً يلعب بفناء المسجد فأخذ بعضده فوضعه بين يديه على الدابة فأدركته جدة الغلام فنازعته إياه حتى أتيا أبا بكر الصديق رضي الله عنه فقال عمر: ابني. وقالت المرأة ابني فقال أبو بكر رضي الله عنه خل بينها وبينه فما راجعه عمر الكلام، قال ابن عبد البر: هذا خبر مشهور من وجوه منقطعة ومتصلة تلقاه أهل العلم بالقبول والعمل وزوجة عمر أم ابنه عاصم هي جميلة ابنة عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح الأنصاري. قال وفيه دليل على أن عمر كان مذهبه في ذلك خلاف أبي بكر ولكنه سلم للقضاء ممن له الحكم والإمضاء ثم كان بعد في خلافته يقضي به ويفتي ولم يخالف أبا بكر في شيء منه ما دام الصبي صغيراً لا يميز ولا مخالف لهما من الصحابة. وذكر عبد الرزاق عن ابن جريج أنه أخبره عن عطاء الخراساني عن ابن عباس قال طلق عمر بن الخطاب امرأته الأنصارية أم ابنه عاصم فلقيها تحمله بمحسر وقد فطم ومشى فأخذ بيده لينتزعه منها ونازعها إياه حتى أوجع الغلام وبكى وقال أنا أحق بابني منك فاختصما إلى أبي بكر فقضى لها به وقال ريحها وفراشها وحجرها خير له منك حتى يشب ويختار لنفسه ومحسر: سوق بين قباء والمدينة. وذكر عن الثوري عن عاصم عن عكرمة قال خاصمت امرأة عمر عمر إلى أبي بكر رضي الله عنهن وكان طلقها فقال أبو بكر رضي الله عنه الأم أعطف وألطف وأرحم وأحنى وأرأف هي أحق بولدها ما لم تتزوج. وذكر عن معمر قال سمعت الزهري يقول إن أبا بكر قضى على عمر في ابنه مع أمه وقال أمه أحق به ما لم تتزوج] زاد المعاد 5/435-437.
إذا تقرر هذا فإن أم الأم أحق بالحضانة من الأب باتفاق المذاهب الأربعة وهو ما قرره قانون الأحوال الشخصية المعمول به في المحاكم الشرعية في بلادنا فقد ورد في الفصل السادس عشر منه ما يلي [الحضانة، صاحب الحق في الحضانة من النساء، المادة 154: الأم النسبية أحق بحضانة ولدها وتربيته حال قيام الزوجية، وبعد الفرقة، ثم بعد الأم يعود الحق لمن تلي الأم من النساء حسب الترتيب المنصوص عليه في مذهب الإمام أبي حنيفة.]
والترتيب المنصوص عليه في مذهب الإمام أبي حنيفة هو تقديم الأم أولاً، ثم أم الأم، ثم أم الأب، ثم الأخوات، وتقدم الأخت من الأب والأم، ثم الأخت من الأم، ثم الأخت من الأب، ثم الخالات، ثم العمات، فإن لم يكن للصبي امرأة من أهله تستحق الحضانة، واختصم فيه الرجال فأولاهم به أقربهم تعصيباً. فيقدم الأب ثم الجد ثم الأخ، انظر تفصيل ذلك في حاشية ابن عابدين 3/555 فما بعدها.
ومما ينبغي ذكره أن حضانة أم الأم لأولاد ابنتها المتوفاة تستمر إلى أن يبلغ الصغير تسع سنوات وتبلغ الصغيرة الحادية عشرة من عمرها كما ورد في قانون الأحوال الشخصية المعمول به في المحاكم الشرعية في بلادنا في المادة 161: [تنتهي حضانة غير الأم من النساء للصغير إذا أتم التاسعة وللصغيرة إذا أتمت الحادية عشرة.]
وخلاصة الأمر أن أم الأم أحق بحضانة أولاد ابنتها المتوفاة من أبيهم وهذا هو المعمول به في المحاكم الشرعية في بلادنا.(15/26)
27 - رضاع الكبير
يقول السائل: ما قولكم في الفتوى المتعلقة برضاع الكبير والتي صدرت عن أحد مشايخ الأزهر، أفيدونا؟
الجواب: ينبغي أن يعلم أن مسألة رضاع الكبير من المسائل التي يدور حولها الخلاف قديماً وحديثاً فمنذ عهد الصحابة وجد الخلاف فيها وكذا اختلف فيها الفقهاء وتعددت الآراء فيها وما زال الخلاف قائماً حتى عصرنا الحاضر وهذا الأمر ليس بمستغرب، ولكن الأمر المستهجن هو طريقة طرح هذه المسألة من بعض المشايخ وطريقة تناول وسائل الإعلام لها، فبعض القنوات الفضائية عرضت المسألة بشكل جنسي مثير واتخذها بعض الكتاب مدخلاً للطعن في السنة النبوية والطعن في السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها توصلاً للقدح في دين الإسلام.
ولا بد أن أقرر أن الحديث الوارد في رضاع الكبير حديث صحيح ثابت، فقد رواه البخاري ومسلم وأصحاب السنن وغيرهم من أهل الحديث وأسوق روايته كما وردت في سنن أبي داود (عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وأم سلمة أن أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس كان تبنى سالماً وأنكحه ابنة أخيه هند بنت الوليد بن عتبة بن ربيعة وهو مولى لامرأة من الأنصار كما تبنى رسول الله صلى الله عليه وسلم زيداً وكان من تبنى رجلاً في الجاهلية دعاه الناس إليه وورث ميراثه حتى أنزل الله سبحانه وتعالى في ذلك {ادعوهم لآبائهم إلى قوله فإخوانكم في الدين ومواليكم} فردوا إلى آبائهم فمن لم يعلم له أب كان مولىً وأخاً في الدين فجاءت سهلة بنت سهيل بن عمرو القرشي ثم العامري وهي امرأة أبي حذيفة فقالت يا رسول الله: إنا كنا نرى سالماً ولداً وكان يأوي معي ومع أبي حذيفة في بيت واحد ويراني فضلى - أي منكشف بعضها - وقد أنزل الله عز وجل فيهم ما قد علمت فكيف ترى فيه فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم أرضعيه فأرضعته خمس رضعات فكان بمنزلة ولدها من الرضاعة فبذلك كانت عائشة رضي الله عنها تأمر بنات أخواتها وبنات إخوتها أن يرضعن من أحبت عائشة أن يراها ويدخل عليها وإن كان كبيراً خمس رضعات ثم يدخل عليها، وأبت أم سلمة وسائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يدخلن عليهن بتلك الرضاعة أحداً من الناس حتى يرضع في المهد وقلن لعائشة والله ما ندري لعلها كانت رخصة من النبي صلى الله عليه وسلم لسالم دون الناس)
قال الإمام الشوكاني: [هذا الحديث قد رواه من الصحابة أمهات المؤمنين وسهلة بنت سهيل وهي من المهاجرات وزينب بنت أم سلمة وهي ربيبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورواه من التابعين القاسم بن محمد وعروة بن الزبير وحميد بن نافع ورواه عن هؤلاء الزهري وابن أبي مليكة وعبد الرحمن بن القاسم ويحيى بن سعيد الأنصاري وربيعة ثم رواه عن هؤلاء أيوب السختياني وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة وشعبة ومالك وابن جريج وشعيب ويونس وجعفر بن ربيعة ومعمر وسليمان بن بلال وغيرهم، وهؤلاء هم أئمة الحديث المرجوع إليهم في أعصارهم، ثم رواه عنهم الجم الغفير والعدد الكثير، وقد قال بعض أهل العلم: إن هذه السنة بلغت طرقها نصاب التواتر وقد استدل بذلك من قال إن إرضاع الكبير يثبت به التحريم] نيل الأوطار 7/119. فالحديث ثابت لا شك فيه، ولكن أهل العلم اختلفوا في توجيهه، وأكثر العلماء على أن الحديث حادثة خاصة ولا يصح حملها على العموم
فالرضاع المؤثر ما كان في الصغر. ويدل على ذلك قوله تعالى: {والوالدات يُرضِعنَ أولادهنّ حولين كاملين لمن أراد أن يُتمّ الرضاعة} سورة البقرة الآية 233. يقول ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: [هذا إرشاد من الله تعالى للوالدات أن يرضعن أولادهن كمال الرضاعة؛ وهي سنتان، فلا اعتبار بالرضاعة بعد ذلك] . تفسير ابن كثير 1/567.
وثبت في الحديث أن عائشة رضي الله عنها قالت دخل عليَّ النبي صلى الله عليه وسلم وعندي رجل قال يا عائشة من هذا قلت أخي من الرضاعة قال يا عائشة انظرن من إخوانكن فإنما الرضاعة من المجاعة) رواه البخاري
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: قوله (فإنما الرضاعة من المجاعة) فيه تعليل الباعث على إمعان النظر والفكر , لأن الرضاعة تثبت النسب وتجعل الرضيع محرماً. وقوله " من المجاعة " أي الرضاعة التي تثبت بها الحرمة وتحل بها الخلوة هي حيث يكون الرضيع طفلاً لسد اللبن جوعته , لأن معدته ضعيفة يكفيها اللبن وينبت بذلك لحمه فيصير كجزء من المرضعة فيشترك في الحرمة مع أولادها , فكأنه قال لا رضاعة معتبرة إلا المغنية عن المجاعة أو المطعمة من المجاعة] فتح الباري 9 / 148.
وروى الترمذي بإسناده عن أم سلمة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحرم من الرضاعة إلا ما فتق الأمعاء في الثدي – أي في زمن الرضاع - وكان قبل الفطام) قال أبو عيسى – أي الترمذي - هذا حديث حسن صحيح والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم أن الرضاعة لا تحرم إلا ما كان دون الحولين وما كان بعد الحولين الكاملين فإنه لا يحرم شيئا) سنن الترمذي 3/458-459.
وروى أبو داود بإسناد صحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: (لا رضاع إلا ما شدَّ العظم، وأنبت اللحم) . ونقل الإمام الشافعي في كتابه الأم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله: إنما الرضاع رضاع الصغير. وغير ذلك من الأدلة.
وقال العلامة محمد العثيمين: [من الشروط أيضاً عند جمهور أهل العلم أن يكون الرضاع في زمنه أي في الزمن الذي يتغذى فيه الطفل بالرضاع أما إذا تجاوز ذلك الزمن بأن فطم ولم يكن مرتكزاً في رضاعه على اللبن فإن تأثير اللبن في حقه غير واقع، لا يؤثر وقد ذهب بعض العلماء إلى أن رضاع الكبير محرم لعموم قوله تعالى (وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ) ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لامرأة أبي حذيفة بالنسبة لمولي أبي حذيفة سالم قال أرضعيه تحرمي عليه وكان كبيراً يخدمهم واستدل بعض العلماء بهذا على أن رضاع الكبير مؤثر ومحرم لكن الجمهور على خلاف ذلك وأنه لا يؤثر ولا يحرم واختار شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله التفصيل وقال إذا دعت الحاجة إلى إرضاع الكبير وأرضع ثبت التحريم وإلا إذا لم يكن ثم حاجة لم يثبت. ولكن الراجح ما ذهب إليه جمهور العلماء ويدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نهى عن الخلوة بالنساء قالوا يا رسول الله أرأيت الحمو قال الحمو الموت محذراً من خلوة قريب الزوج لزوجته ولو كان الرضاع موجباً لتحريم الخلوة لبين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لدعاء الحاجة لبيانه لقال مثلاً إذا كان للزوج أخ وهو معهم في السكن فهو محتاج إلى أن يخلو بزوجته، ولو كان ثمة علاج لهذه الحالة الواقعية التي يحتاج الناس إليها لقال الرسول عليه الصلاة والسلام ترضعه وتنتهي المشكلة، فلما لم يبين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك مع دعاء الحاجة إليه في هذا الأمر العظيم دل هذا على أن لا أثر في رضاع الكبير وهذا هو الراجح وأنه ينبغي تجنب إرضاع الكبير مهما كانت الظروف حتى لا يقع في مشاكل.] موقع الشيخ على الإنترنت
وفي كلام الشيخ العثيمين أبلغ ردٍ على ما ورد في الفتوى المذكورة لحل مشكلة الاختلاط حسب ما زعمه ذلك المفتي الذي زعم أن إرضاع الكبير يضع حلاً لمشكلة الخلوة!!! وفي الحقيقة إن إثارة هذا النوع من الفتاوى بهذه الطريقة إنما هو عبث وتلاعب بالأحكام الشرعية، وقد فتحت هذه الفتوى باب شر على المسلمين ومن أراد أن يتعرف على شيء من ذلك فليقرأ ما كتب عن هذه الفتوى على شبكة الإنترنت. ولا بد من التنبيه أخيراً أن صاحب الفتوى المذكورة قد رجع عن فتواه وأنه رجع إلى قول جمهور الفقهاء أن الرضاع المحرم ما كان في الصغر. والرجوع إلى الحق فضيلة.
وخلاصة الأمر أن الصحيح من أقوال أهل العلم أن الرضاع المؤثر ما كان في الصغر. والفتوى المذكورة لم تأخذ بعين الاعتبار الأسس العلمية التي تبنى عليها الفتاوى كما قررها الفقهاء والأصوليون، وينبغي على المفتين والعلماء والخطباء عدم إثارة مثل هذه المسائل التي تشوش على عامة الناس.(15/27)
28 - حكم الدراسة في مدرسة تمنع الفتاة من ارتداء الجلباب
يقول السائل: ما حكم دراسة الفتاة المسلمة في مدرسة تشترط عليها أن لا تلبس الجلباب ويلزم ولي أمرها بتوقيع تعهد بذلك؟
الجواب: ينبغي أن يعلم أن لبس الجلباب بشروطه الشرعية فريضة على المرأة المسلمة المكلفة شرعاً يقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} سورة الأحزاب الآية 59. فهذه الآية الكريمة أوجبت اللباس الشرعي على جميع النساء المسلمات. وقال تعالى: {قل لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} سورة النور الآيتان 30-31. وثبت في الحديث عن أم عطية الأنصارية رضي الله عنها قالت: (أمرنا أن نخرج الحُيَّض يوم العيدين وذوات الخدور فيشهدون جماعة المسلمين ودعوتهم ويعتزل الحيض عن مصلاهن. قالت امرأة: يا رسول الله، إحدانا ليس لها جلباب؟ قال صلى الله عليه وسلم: لتلبسها أختها من جلبابها) رواه البخاري ومسلم.
وجاء في الحديث عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها: (أنها كانت عند أختها عائشة رضي الله عنها وعليها ثياب واسعة الأكمام فلما نظر إليها الرسول صلى الله عليه وسلم قام فخرج. فقالت عائشة رضي الله عنها تنحي فقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمراً كرهه فتنحت فدخل رسول الله فسألته عائشة رضي الله عنها لم قام؟ قال: أو لم تري هيئتها إنه ليس للمرأة المسلمة أن يبدو منها إلا هذا وهذا - أي وجهها وكفيها -) رواه الطبراني والبيهقي وهو حديث حسن كما قال العلامة الألباني في جلباب المرأة المسلمة ص 59. والذي يؤخذ من هذه الأدلة أن ستر المرأة لجميع بدنها إلا ما استثني واجب وجبه الله سبحانه وتعالى على المرأة المسلمة وقد بينت نصوص الكتاب والسنة شروط هذا اللباس وهي:
أولاً: أن يكون ساتراً لجميع بدن المرأة ما عدا الوجه والكفين على قول جمهور أهل العلم لما جاء في رواية أخرى لحديث أسماء بنت أبي بكرٍ رضي الله عنها السابق (دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليها ثيابٌ رقاق فأعرض عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لها: يا أسماء إن المرأة إن إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا، وهذا وأشار إلى وجهه وكفيه) رواه أبو داود والبيهقي وهو حديث حسن كما قال العلامة الألباني. فينبغي للمرأة المسلمة أن تغطي جميع بدنها ما عدا وجهها وكفيها ويدخل في ذلك القدمان.
ثانياً: أن يكون فضفاضاً واسعاً غير ضيق لأن الضيق يصف جسم المرأة وهذا يتنافى مع المقصود من الحجاب ولا يتحقق ذلك إلا باللباس الفضفاض الواسع.
ثالثاً: أن يكون صفيقاً غير شفاف أي ثخيناً سميكاً فلا يشف عما تحته وقد ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: (سيكون في آخر أمتي نساءٌ كاسياتٌ عاريات على رؤوسهن كأسمنة البخت العنوهن فإنهن ملعونات) رواه الطبراني بسندٍ صحيح كما قال الشيخ الألباني.
رابعاً: أن لا يكون زينةً في نفسه فلا يجوز للمرأة أن تلبس ما يبهر العيون من الملابس التي عليها نقوشٌ وزخارف مذهبة ونحو ذلك لأن هذه الملابس زينة في نفسها وقد نهيت المرأة عن إظهار زينتها قال تعالى: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ..) ونهى الله سبحانه وتعالى عن التبرج في قوله تعالى: (وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى) .
خامساً: أن لا يكون معطراً مطيباً فلا يحل للمرأة أن تستعمل الطيب والعطور إذا خرجت من بيتها لقوله صلى الله عليه وسلم (أيما إمرأة استعطرت فمرت على قوم ليجدوا ريحها فهي زانية) رواه النسائي وأبو داود والترمذي وقال حسنٌ صحيح.
سادساً: أن لا يشبه لباس الرجل، إن المرأة بطبيعتها وتكوينها الجسدي تختلف عن الرجل فلها لباسها وللرجل لباسه فلذلك لا يحل للمرأة أن تتشبه بالرجل وكذلك لا يحل للرجل أن يتشبه بالمرأة فقد جاء في الحديث (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل يلبس لبسة المرأة والمرأة تلبس لبسة الرجل) رواه أبو داود وابن ماجة والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي. وجاء في الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما قال (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال) رواه البخاري.
سابعاً: أن لا يشبه لباس غير المسلمات لأن الإسلام نهى عن التشبه بغيرهم في أمور كثيرة وللمسلمين شخصيتهم وهيئتهم الخاصة بهم فعليهم أن يخالفوا غيرهم في ذلك فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليَّ ثوبين معصفرين فقال إن هذه ثياب الكفار فلا تلبسها) رواه مسلم.
ثامناً: أن لا يكون لباس شهرة وهو كل ثوب قصد به الاشتهار بين الناس كأن يكون نفيساً جداً ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم (من لبس ثوب شهرةٍ في الدنيا ألسبه الله ثوب مذلةٍ يوم القيامة ثم ألهب فيه ناراً) رواه أبو داود وابن ماجة وهو حديثٌ حسن. فهذه الشروط إذا توفرت في اللباس كان لباساً شرعياً.
إذا تقرر هذا فأعود إلى ما ورد في السؤال فأقول إنه يحرم على الفتاة المسلمة أن تدرس في مدرسة تمنعها من لبس الجلباب لأن لبسه فريضة كما سبق، وخاصة أن الفتاة في ديارنا ليست مضطرة للدراسة في هذه المدرسة بالذات وإن كانت هذه المدرسة متميزة في التعليم أو أنها تدرس اللغات الأجنبية، فلا يجوز شرعاً للمسلم أن يضيع فريضة من فرائض الله عز وجل من أجل مثل هذه الأمور، وكذلك يحرم على ولي أمر الفتاة أن يوقع أي تعهد أو إقرار بالموافقة على أن تنزع ابنته الجلباب أو أن لا تلبسه خلال فترة دراستها في تلك المدرسة أو غيرها من المدارس التي تشترط هذا الشرط الباطل، لأن ذلك يعتبر طاعة في معصية الله عز وجل، والطاعة لها حدود لا يجوز تجاوزها فإذ أُمِرَ المسلم بالقيام بمعصية سواء أكان الآمر مسلماً أو غير مسلم حاكماً أو غير حاكم فلا يجوز للمسلم الطاعة في المعصية. وقد ثبت في الحديث الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة) رواه البخاري. وقد نص العلماء على أن الطاعة تكون في غير معصية فقد روى الإمام البخاري الحديث السابق في (باب السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية) صحيح البخاري مع فتح الباري 16/239. وقال ابن خواز منداد من كبار فقهاء المالكية: [وأما طاعة السلطان فتجب فيما كان لله فيه طاعة ولا تجب فيما كان فيه معصية] تفسير القرطبي 5/259.
وجاء في حديث آخر عن عمران بن حصين رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا طاعة لأحد في معصية الخالق) رواه أحمد والبزار وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: وسنده قوي. فتح الباري 5/241، وقال العلامة الألباني: إسناده صحيح على شرط مسلم. وجاء في رواية أخرى: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) وهي رواية صحيحة. سلسلة الأحاديث الصحيحة للعلامة الألباني 1/137-144.
وخلاصة الأمر أنه لا يجوز للمسلمة أن تخلع حجابها لتدرس في مدرسة معينة ولا يجوز لها أن توافق على عدم لبسه وكذلك يحرم على وليها أن يوقع أي تعهد أو إقرار بذلك بحجة الدراسة لأن ذلك ليس من الضرورة التي تبيح المحرمات. ويجب على المسؤولين عن التعليم في بلادنا أن يلزموا هذه المدارس بإلغاء هذا الشرط ذلك الإقرار الباطل. وعلى الناس عامة أن يقاطعوا هذه المدارس مقاطعة تامة.(15/28)
29 - حكم قبول الزواج من موظف بنك ربوي
تقول السائلة: إنها فتاة ملتزمة بالأحكام الشرعية وقد تقدم لخطبتها شاب صاحب أخلاق عالية ولكنه موظف في بنك تجاري فهل تقبل به أم لا، أفيدوني.
الجواب: وضع الإسلام معياراً شرعياً لقبول الخاطب وهو اعتبار الكفاءة في الدين فقد ورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض) رواه الترمذي وابن ماجة، وقال الشيخ الألباني: حديث حسن. قال الشيخ المباركفوري في شرح الحديث: [قوله: (إذا خطب إليكم) أي طلب منكم أن تزوجوه امرأة من أولادكم وأقاربكم (من ترضون) أي تستحسنون (دينه) أي ديانته (وخلقه) أي معاشرته (فزوجوه) أي إياها (إلا تفعلوا) أي إن لم تزوجوا من ترضون دينه وخلقه وترغبوا في مجرد الحسب والجمال أو المال (وفساد عريض) أي ذو عرض أي كبير , وذلك لأنكم إن لم تزوجوها إلا من ذي مال أو جاه , ربما يبقى أكثر نسائكم بلا أزواج , وأكثر رجالكم بلا نساء , فيكثر الافتتان بالزنا , وربما يلحق الأولياء عار فتهيج الفتن والفساد , ويترتب عليه قطع النسب وقلة الصلاح والعفة.] تحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي 4/173. وجاء في الحديث عن أبي حاتم المزني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد. قالوا: وإن كان فيه؟ قال: إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه) ثلاث مرات. رواه الترمذي وهو حديث حسن كما قال الشيخ الألباني في صحيح سنن الترمذي 1/315.
وقد اتفق جمهور أهل العلم على أن الأصل في الكفاءة هو الدين لقوله تعالى {أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون} سورة السجدة الآية 18. قال الشيخ ابن رشد الحفيد الفقيه المالكي المعروف: [ولم يختلف المذهب - أي مذهب مالك - أن البكر إذا زوجها الأب من شارب الخمر وبالجملة من فاسق أن لها أن تمنع نفسها من النكاح وينظر الحاكم في ذلك فيفرق بينهما، وكذلك إن زوجها ممن ماله حرام، أو ممن هو كثير الحلف بالطلاق.] بداية المجتهد ونهاية المقتصد 2/13.
وبهذا يظهر جلياً أن الأصل في الكفاءة هو الدين أي التقوى والصلاح - ويدخل حسن الخلق في ذلك - ولا تمنع الشريعة الإسلامية أن تتوفر صفات أخرى طيبة في الخاطب كالسب الكريم والغنى والحرفة الحسنة والسلامة من العيوب الخلْقية.
إذا تقرر هذا فإن الخاطب الذي يعمل في البنك التجاري أي الربوي لا يعد كفؤاً للفتاة المسلمة الملتزمة بدين الله عز وجل لأن العمل في البنوك الربوية من المحرمات ويتفرع تحريم العمل في البنوك الربوية على حرمة الربا، فإن الربا من أكبر الكبائر وتحريمه قطعي في كتاب الله سبحانه وتعالى وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ) سورة البقرةالآيات 275 - 279. وثبت في الحديث عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه وقال: هم سواء) رواه مسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اجتنبوا السبع الموبقات. قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات) رواه البخاري ومسلم. وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الربا ثلاثة وسبعون شعبة أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه) رواه الحاكم وصححه وقال الشيخ الألباني: صحيح. انظر صحيح الجامع الصغير 1/633. وقال صلى الله عليه وسلم: (درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد عند الله من ست وثلاثين زنية] رواه أحمد وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح. مجمع الزوائد 4/117. وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة 3/29. وهذه النصوص تدل على تحريم العمل في البنوك الربوية فإن الله سبحانه وتعالى إذا حرم شيئاً حرم كل ما يوصل إليه قال الإمام النووي في شرح قول الرسول صلى الله عليه وسلم: لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال: هم سواء) : [هذا تصريح بتحريم كتابة المبايعة بين المترابين والشهادة عليهما. وفيه: تحريم الإعانة على الباطل. والله أعلم.] شرح النووي على صحيح مسلم 4/207. ولا شك أن العمل في البنوك الربوية يدخل في عموم قول الله تعالى: (ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله) سورة المائدة الآية 2.
وبناءً على ما سبق فإن الواجب على السائلة أن تشترط على خاطبها أن يترك العمل في البنك الربوي فإن وافق فبها ونعمت، وإن لم يوافق فلا يجوز لها أن تقبل به زوجاً لأنه سينفق عليها بعد الزواج من راتبه وهو مال مكتسب من حرام. والله جل جلاله لا يبارك في جسد نبت من مال حرام فقد ورد في الحديث أن الرسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يدخل الجنة لحم نبت من سحت وكل لحم نبت من سحت كانت النار أولى به) رواه أحمد والدارمي والبيهقي في شعب الإيمان. وفي رواية أخرى: (كل جسدٍ نبت من سحتٍ فالنار أولى به) رواه أحمد والطبراني والحاكم وغيرهم وقال العلامة الألباني صحيح. انظر صحيح الجامع الصغير 2/831. وعن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ... يا كعب بن عجرة إنه لا يربو لحم نبت من سحت إلا كانت النار أولى به) رواه أحمد والنسائي والترمذي وحسنه وصححه العلامة الألباني. صحيح سنن الترمذي 1/189. وعن أبي بكر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يدخل الجنة جسد غُذِيَ بحرام) رواه أبو يعلى والبزار والطبراني في الأوسط ورجال أبي يعلى ثقات وفي بعضهم اختلاف قاله الهيثمي. مجمع الزوائد 10/293. وصححه العلامة الألباني في صحيح الترغيب والترهيب 2/320. وإذا اعتذر الخاطب بأنه قد لا يجد عملاً آخر وخاصة في ظل الظروف الصعبة التي يمر بها مجتمعنا من حصار وتضييق فنقول لهل يمكنها أن تقنعه أن يطلب الانتقال إلى وظيفة في البنك ليس لها اتصال مباشر بالأعمال الربوية كالحسابات الجارية والشيكات والحوالات ونحوها من الأعمال الجائزة، حتى يجد عملاً حلالاً، وهذا من باب ارتكاب أخف الضررين. كما وينبغي أن يعلم أن من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه قال الله جل جلاله: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) سورة الطلاق الآيتان 2-3. وقال الله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} سورة الطلاق الآية 4.
وخلاصة الأمر أنه لا يجوز تزويج الموظف في البنك الربوي الذي يباشر الأعمال الربوية إلا إذا وافق على ترك العمل فيه لأنه غير مرضي الدين.(15/29)
30 - حكم سفر الطالبة لدولة أوربية وإقامتها فيها منفردة
تقول السائلة: إنها طالبة في السنة الخامسة في كلية الطب وتريد السفر إلى إحدى الدول الأوربية في برنامج تدريبي في أحد المستشفيات لمدة لا تقل عن شهر واحد وأنها ستسافر وحدها وستقيم مع عائلة أجنبية خلال المدة التي ستقضيها هناك فما الحكم الشرعي لذلك؟
الجواب: شرع الإسلام أحكاماً كثيرة للحفاظ على المرأة المسلمة وصيانة كرامتها ومن ذلك منعها من السفر بدون محرم أو زوج فلا يجوز للمرأة المسلمة أن تسافر إلا مع محرم لها أو مع زوجها وخاصة إذا كان يخشى عليها الفتنة في سفرها كالسفر المذكور في السؤال فهذا سفر محرم باتفاق أهل العلم وليس الأمر متوقفاً على السفر بل يضاف إلى ذلك الإقامة في ذلك البلد الأوربي والسكن مع عائلة أجنبية ولا شك أن في ذلك مفاسد كثيرة على دين المرأة وخلقها كما سأبين.
وقد ثبتت أدلة كثيرة تدل على حرمة سفر المرأة إلا مع زوجها أو ذي محرم منها والمحرم هو: من لا يحل له نكاحها من الأقارب كالأب والابن والأخ والعم ومن يجري مجراهم كما ذكره الشيخ ابن الأثير في النهاية في غريب الحديث 1/373.
ومن العلماء من يرى أن الزوج يدخل في معنى المحرم قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [والمحرم زوجها أو من تحرم عليه على التأبيد بنسب أو سبب مباح كأبيها وابنها وأخيها من نسب أو رضاع] المغني 3/230.
ومن النصوص الواردة في ذلك: عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر ثلاثاً إلا ومعها ذو محرم) . رواه البخاري ومسلم. وفي رواية عند مسلم: (لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم) . وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تسافر المرأة ثلاثة أيام إلا مع ذي محرم) رواه البخاري. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة ليس معها حرمة) رواه البخاري والمقصود بالحرمة المحرم كما في رواية مسلم: (لا يحل لامرأة مسلمة تسافر مسيرة ليلة إلا ومعها رجل ذو حرمة منها) . وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم ولا يدخل عيها رجل إلا ومعها محرم، فقال رجل: يا رسول الله إني أريد أن أخرج في جيش كذا وكذا وامرأتي تريد الحج. فقال صلى الله عليه وسلم: اخرج معها) رواه البخاري ومسلم. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت أربعاً من النبي صلى الله عليه وسلم فأعجبنني قال: لا تسافر المرأة مسيرة يومين إلا ومعها زوجها أو ذو محرم، ولا صوم في يومين الفطر والأضحى، ولا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس ولا بعد العصر حتى تغرب، ولا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، مسجد الحرام ومسجد الأقصى ومسجدي هذا) رواه البخاري ومسلم. وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفراً يكون ثلاثة أيام فصاعداً إلا ومعها أبوها أو ابنها أو زوجها أو أخوها أو ذو محرم منها) رواه مسلم. ولا نملك أمام هذه النصوص إلا أن نقول {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} سورة الحشر الآية 7.
وينبغي التنبيه إلى أن أهل العلم يرون أن الأصل أن المرأة لا تسافر أي سفر إلا ومعها زوجها أو محرم لها قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [قال أبو عبد الله - أي الإمام أحمد -: أما أبو هريرة: فيقول: " يوماً وليلة " ويروى عن أبي هريرة: " لا تسافر سفرا ً " أيضا وأما حديث أبي سعيد يقول: " ثلاثة أيام " قلت: ما تقول أنت؟ قال: لا تسافر سفراً قليلاً ولا كثيراً , إلا مع ذي محرم] المغني 3/229. وقال الحافظ ابن عبد البر: [والذي جَمَعَ معاني آثار الحديث - على اختلاف ألفاظه - أن تكون المرأة تُمْنَع من كل سفر يُخْشى عليها فيه الفتنة، إلا مع ذي محرم أو زوج، قصيراً كان السفر أو طويلاً] الاستذكار 27/274.
وأما ما ورد في الأحاديث من اختلاف مدة السفر فورد في بعضها التقييد بثلاثة أيام أو بيوم أو بيوم وليلة أو التقييد بمسافة بريد فمرد ذلك إلى اختلاف أحوال السائلين واختلاف مواطنهم والتحديد بذلك ليس بمراد، وإنما هو تعبير عن أمر واقع، فلا يعمل بمفهومه وقد فصلَّ الإمام النووي الجواب عن ذلك فقال [قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تسافر المرأة ثلاثاً إلا ومعها ذو محرم) وفي رواية: (فوق ثلاث) وفي رواية: (ثلاثة) وفي رواية (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة ثلاث ليال إلا ومعها ذو محرم) وفي رواية (لا تسافر المرأة يومين من الدهر إلا ومعها ذو محرم منها أو زوجها) وفي رواية (نهى أن تسافر المرأة مسيرة يومين) وفي رواية (لا يحل لامرأة مسلمة تسافر مسيرة ليلة إلا ومعها ذو حرمة منها) وفي رواية (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة يوم إلا مع ذي محرم) وفي رواية (مسيرة يوم وليلة) وفي رواية (لا تسافر امرأة إلا مع ذي محرم) . هذه روايات مسلم وفي رواية لأبي داود (ولا تسافر بريداً) والبريد مسيرة نصف يوم, قال العلماء: اختلاف هذه الألفاظ لاختلاف السائلين, واختلاف المواطن, وليس في النهي عن الثلاثة تصريح بإباحة اليوم والليلة أو البريد, قال البيهقي: كأنه صلى الله عليه وسلم سأل عن المرأة تسافر ثلاثاً بغير محرم, فقال: لا. . وسئل عن سفرها يومين بغير محرم: فقال: لا. . وسئل عن سفرها يوماً فقال: لا. وكذلك البريد, فأدى كل منهم ما سمعه, وما جاء منها مختلفاً عن رواية واحد فسمعه في مواطن, فروى تارة هذا, وتارة هذا, وكله صحيح, وليس في هذا كله تحديد لأقل ما يقع عليه اسم السفر, ولم يرد صلى الله عليه وسلم تحديد أقل ما يسمى سفراً, فالحاصل أن كل ما يسمى سفراً تنهى عنه المرأة بغير زوج أو محرم, سواء كان ثلاثة أيام أو يومين أو يوماً أو بريداً أو غير ذلك ; لرواية ابن عباس المطلقة, وهي آخر روايات مسلم السابقة (لا تسافر امرأة إلا مع ذي محرم) وهذا يتناول جميع ما يسمى سفراً] شرح النووي على صحيح مسلم 9/102-104.
ويضاف إلى ما سبق أنه يحرم على المرأة المسلمة أن تقيم مع عائلة كافرة تسكن بينهم وتخالطهم كأنها فرد من أسرتهم فهذا أشد حرمةً وأعظم إثماً من مجرد السفر لما يترتب على ذلك من المفاسد العظيمة والفتنة التي تتعرض لها المرأة من اختلاط وخلوة بالرجال من أفراد الأسرة الأجنبية وقد ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يخلون رجل بامرأة إلا مع ذي محرم) رواه البخاري، وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يخلون رجل بامرأة إلا ثالثهما الشيطان) رواه الترمذي وقال حسن صحيح ورواه أحمد والحاكم وصححه. ويقول العلامة ابن القيم: [ولا ريبَ أن تمكينَ النساء من اختلاطهن بالرجال أصلُ كلِّ بلية وشر، وهو من أعظم أسباب نزول العقوبات العامة، كما أنه من أسباب فساد أمور العامة والخاصة، واختلاط الرجال بالنساء سببٌ لكثرة الفواحش والزنا، وهو من أسباب الموت العام، والطواعين المتَّصلة] الطرق الحكمية ص 407- 408.
وكذلك فإنه من المعلوم أن أؤلئك القوم لا يوجد عندهم ضوابط أخلاقية كما يوجد عندنا وعاداتهم تخالف في معظمها ما نحن عليه وغير ذلك من المفاسد الكثيرة التي ستؤدي غالباً إلى التأثر بمعتقداتهم وأفكارهم وتقاليدهم.
وخلاصة الأمر أنه يحرم على الطالبة المذكورة في السؤال السفر والإقامة مع أسرة أجنبية وخاصة أن سفرها لا يدخل في باب السفر الواجب ويمكن تحصيل مقاصده داخل البلاد.(15/30)
31 - اختلاف قيمة مؤخر المهر
يقول السائل: إنه متزوج من أكثر من أربعين سنة ويريد أن يعطي زوجته مؤخر مهرها وقدره مئتا دينار أردني ولكن زوجته ترفض أخذ المئتي دينار لأن قيمة العملة قد اختلفت اختلافاً كبيراً فما قولكم أفيدونا؟
الجواب: إن المهر حق من حقوق الزوجة الواجبة على زوجها يقول الله تعالى: (وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا) سورة النساء الآية 4.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصدق نساءه عند الزواج فعن أبي سلمة بن عبد الرحمن رضي الله عنه أنه قال (سألت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم كم كان صداق رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت كان صداقه لأزواجه ثنتي عشرة أوقية ونشاً. قالت أتدري ما النش؟ قال: قلت لا. قالت: نصف أوقية فتلك خمس مائة درهم فهذا صداق رسول الله صلى الله عليه وسلم لأزواجه) رواه مسلم.
وكذلك كان الصحابة رضوان الله عليهم يفعلون فعن أنسٍ رضي الله عنه قال سأل النبي صلى الله عليه وسلم عبدَ الرحمن بن عوف وتزوج امرأة من الأنصار كم أصدقتها؟ قال وزن نواة من ذهب) رواه البخاري
وقد اتفق العلماء على أنه يجوز التعجيل والتأجيل في المهر المسمى في عقد الزواج فيصح أن يكون بعض المهر معجلاً وبعضه مؤجلاً على حسب ما يتم عليه الاتفاق عند عقد الزواج وسواء كان المهر معجلاً أو مؤجلاً فهو حق ثابت للزوجة ودين واجب لها في ذمة الزوج.
قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [ويجوز أن يكون الصداق معجلاً ومؤجلاً وبعضه معجلاً وبعضه مؤجلاً لأنه عوض في معاوضة فجاز ذلك فيه كالثمن ثم إن أطلق ذكره اقتضى الحلول كما لو أطلق ذكر الثمن وإن شرطه مؤجلاً إلى وقت فهو إلى أجله وإن أجله ولم يذكر أجله فقال القاضي: المهر صحيح ومحله الفرقة فإن أحمد قال إذا تزوج على العاجل والآجل لا يحل الآجل إلا بموت أو فرقة وهذا قول النخعي والشعبي ... ووجه القول الأول أن المطلق يحمل على العرف والعادة في الصداق الآجل ترك المطالبة به إلى حين الفرقة فحمل عليه فيصير حينئذ معلوماً بذلك] المغني 7/222.
ومن المعلوم أن العرف في بلادنا جرى على أن يكون جزء من المهر مؤجلاً تأجيلاً مطلقاً ويكون ديناً في ذمة الزوج وفي هذه الحالة يجب المهر المؤجل للمرأة في حالتين وهما: الطلاق والوفاة فإذا طلق الزوج امرأته وب لها المؤجل من مهرها وكذا إذا مات زوجها وجب لها المهر المؤجل ويخرج من التركة ويخرج قبل الوصية وقبل قسمة التركة بين الورثة.
وكذلك إذا ماتت الزوجة ولها مهر مؤجل في ذمة زوجها فيكون مهرها المؤجل من ضمن تركتها ويوزع على الورثة بقدر نصيب كل منهم.
وقد نصت المادة " 46 " من قانون الأحوال الشخصية المعمول به في المحاكم الشرعية عندنا على ذلك ( ... وإذا لم يكن الأجل معيناً اعتبر المهر مؤجلاً إلى وقوع الطلاق أو وفاة أحد الزوجين) ويخرج قبل الوصية وقبل قسمة التركة بين الورثة.
ولا يجوز للزوجة أن تطالب زوجها بالمهر المؤجل ما دامت على ذمته لأن العرف جارٍ على تأخيره وتنص القاعدة الفقهية على أن العادة محكمة، وكذا المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً وكذا استعمال الناس حجة يجب العمل بها.
وقيام الرجل بدفع المهر المؤجل لزوجته أمر حسن وفيه إبراء لذمته ولكنه ليس واجباً عليه بل يجب في حالتي الطلاق أو الوفاة كما سبق.
وأما بالنسبة لعدم قبول الزوجة للمئتي دينار وهي مقدار مهرها المؤجل بحجة أن قيمة العملة قد تغيرت فلا بد أن أبين أن الأصل المقرر في الفقه الإسلامي أن الديون تقضى بأمثالها ولا تقضى بقيمتها ويدل على ذلك ما ورد في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: إني أبيع الإبل بالبقيع فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير؟ فقال صلى الله عليه وسلم: لا بأس أن تأخذ بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء) وفي رواية أخرى: (أبيع بالدنانير وآخذ مكانها الورق - الفضة المصكوكة - وأبيع بالورق وآخذ مكانها الدنانير) رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة والحاكم وصححه على شرط مسلم ووافقه الذهبي (فابن عمر كان يبيع الإبل بالدنانير أو الدراهم وقد يقبض الثمن في الحال وقد يبيع بيعاً آجلاً وعند قبض الثمن ربما لا يجد مع المشتري بالدنانير إلا دراهم وقد يجد مع من اشترى بدراهم ليس معه إلا دنانير أفيأخذ قيمة الثمن يوم ثبوت الدين أم يوم الأداء؟ مثلاً إذا باع بمئة دينار وكان سعر الصرف: الدينار بعشرة دراهم أي أن له ما قيمته ألف درهم وتغير سعر الصرف فأصبح الدينار مثلاً بأحد عشر درهماً أفيأخذ الألف أم ألفاً ومئة؟ وإذا أصبح بتسعة دراهم فقط أفيأخذ تسعمئة درهم يمكن صرفها بمئة دينار يوم الأداء أم يأخذ ألف درهم قيمة مئة الدينار يوم البيع؟ بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن العبرة بسعر الصرف يوم الأداء وابن عمر الذي عرف الحكم من الرسول الكريم سأله بكر بن عبد الله المزني ومسروق العجلي عن كرَّيٍ لهما له عليهما دراهم وليس معهما إلا دنانير فقال ابن عمر: أعطوه بسعر السوق. فهذا الحديث الشريف يعتبر أصلاً في أن الدين يؤدى بمثله لا بقيمته حيث يؤدي عن تعذر المثل بما يقوم مقامه وهو سعر الصرف يوم الأداء، يوم الأداء لا يوم ثبوت الدين] مجلة مجمع الفقه الإسلامي عدد 5 جزء 3 ص1727-1728.
وقرر معظم فقهاء العصر أن الديون تقضى بأمثالها ولا تقضى بقيمتها إلا إذا كان تغير قيمة العملة كبيراً ويرون أن قضاء الديون بقيمتها يعد من الربا المحرم شرعاً [إن الحكم على المدين المماطل بتعويض دائنه بفرق هبوط القوة الشرائية للنقد عقب مطله غير سائغ شرعاً إذ هو وقوع في حمى الربا المحرم تحت ستار تعويض الدائن عن انخفاض القوة الشرائية للنقود، بل إن الدائن ليحصل في كثير من الأحيان باسم ذلك التعويض على ما يزيد قدراً ويفوق جوراً الفوائد التأخيرية في البنوك الربوية] قضايا فقهية معاصرة في المال والاقتصاد ص500.
وقد بحث مجمع الفقه الإسلامي هذه المسألة بحثاً مستفيضاً وتوصل العلماء المشاركون في المجمع إلى القرار التالي: [العبرة في وفاء الديون الثابتة بعملة ما هي بالمثل وليس بالقيمة لأن الديون تقضى بأمثالها ... ] مجلة مجمع الفقه الإسلامي عدد 5 ج 3/2261.
هذا هو الأصل المقرر في قضاء الديون بأمثالها لا بقيمتها إلا إذا كان التغير في قيمة العملة كبيراً وبما أن المدة المذكورة في السؤال طويلة (أربعون سنة) فلا شك أن قيمة العملة الأردنية قد اختلفت اختلافاً كبيراً خلال هذه المدة فيجب على الزوج أن يعطي زوجته قيمة المئتي دينار لا عددها والمرجع في تقدير القيمة هنا الذهب أي نسأل الصاغة والصرافين عن المئتي دينار كم كان يشترى بها غرامات ذهب؟ فيعطي الزوجة قيمة ذلك الذهب في الوقت الحاضر. وأما أن يعطيها ما كتب لها في عقد الزواج منذ أربعين سنة، فظلم واضح.
وخلاصة الأمر أنه لا يجب على الزوج أن يدفع المهر المؤجل لزوجته ما دامت على ذمته فإن فعل فأمر حسن وعلى السائل أن يعطي زوجته قيمة مهرها المؤجل نظراً لاختلاف قيمة العملة اختلافاً كبيراً.(15/31)
32 - طاعة الزوجة لزوجها قبل الزفاف
تقول السائلة: إنه قد تم عقد قرانها وكتب عقد الزواج وسيتم الزفاف بعد سنة أي بعد تخرجها من الجامعة فهل هي ملزمة بطاعة زوجها واستئذانه في أمورها خلال هذه الفترة أم أنها ملزمة بطاعة أبيها فقط أرجو الإفادة.
الجواب: بداية أنصح دائماً بتقصير المدة بين عقد الزواج والزفاف لما يترتب على ذلك من مصلحة للزوجين وأهلهما إلا إذا وجدت أعذار مقبولة لتطويل تلكم الفترة كإعداد الزوج لبيت الزوجية ونحو ذلك. ومن المعلوم أن عقد الزواج إذا وقع صحيحاً ترتبت عليه آثاره الشرعية ومنها وجوب طاعة الزوجة لزوجها فطاعة الزوج فريضة قال الله تعالى: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ) سورة النساء الآية 34. فهذه الآية قررت للرجل حق القوامة على المرأة ولا شك أنه لا قوامة بدون طاعة الزوجة لزوجها فيجب على المرأة أن تسمع وتطيع زوجها إذا أمرها بالمعروف.
ويقول الله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} سورة البقرة الآية 227
وروى الترمذي بإسناده عن سليمان بن عمرو بن الأحوص قال حدثني أبي أنه شهد حجة الوداع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه وذكر ووعظ فذكر في الحديث قصة فقال ألا واستوصوا بالنساء خيراً فإنما هن عوان عندكم ليس تملكون منهن شيئاً غير ذلك إلا أن يأتين بفاحشة مبينة فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع واضربوهن ضرباً غير مبرح فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً ألا إن لكم على نسائكم حقاً ولنسائكم عليكم حقاً فأما حقكم على نسائكم فلا يوطئن فرشكم من تكرهون ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن) قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح ومعنى قوله عوان عندكم يعني أسرى في أيديكم. ومن صور الطاعة الزوجية ألا تخرج الزوجة من مسكنها إلا بإذن زوجها. وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا استأذنت امرأة أحدكم فلا يمنعها) رواه البخاري. وغير ذلك من النصوص التي أوجبت طاعة الزوجة لزوجها ووجوب استئذانه قبل الخروج من البيت. ولكن يجب أن يعلم أن حق الزوج في طاعة زوجته له واستئذانه قبل الخروج من البيت إنما يكون بعد أن تزف الزوجة لزوجها وبعد أن ينقلها إلى بيته، وأما ما دامت الزوجة في بيت أبيها ولما تزف بعد فحق الطاعة ثابت للأب لا للزوج وكذا الاستئذان يكون في هذه الفترة من حق الأب لا للزوج لأن الأب هو المسؤول عن البيت وما دامت ابنته تعيش معه في بيته فحق الطاعة ثابت للأب لا للزوج. ومثل ذلك يقال أيضاً في المنع من المعاشرة الزوجية بين الزوج وزوجته خلال هذه الفترة – فترة العقد وقبل الزفاف – فينبغي منع إقامة أي علاقة جنسية بينهما لما قد يترتب على المعاشرة الزوجية في الفترة التي تسبق الزفاف من مفاسد. فمثلاً إذا تمت معاشرة بينهما في تلك الفترة وحصل الحمل فقد لا يستطيع الزوج إتمام الزفاف لسبب من الأسباب فعندئذ تظهر علامات الحمل على الفتاة وهذا ينعكس سلباً عليها وعلى زوجها، وماذا لو قدر الله سبحانه وتعالى وفاة هذا الزوج قبل الزفاف وكان قد عاشرها وحملت منه فلا شك أن مشكلات كثيرة ستقوم وتؤدي إلى نزاع وخصام. وهنالك احتمال أن يقع سوء تفاهم بينهما وقد يصل الأمر إلى الفراق بالطلاق أو غيره فحينئذ ستكون الفتاة في موقف صعب جداً وكذلك إذا تم الزفاف وكانت العلاقة الجنسية قد تمت قبله فقد يطعن الزوج في عفاف زوجته وهذا يوقع الفتاة وأهلها في مشكلات عويصة.
والمرجع في المنع من هذه الأمور هو العرف الصحيح فإن المتعارف عليه بين الناس في بلادنا أن البنت ما دامت في بيت أبيها فإن حق الطاعة ثابت لأبيها لا للعاقد عليها وكذلك فإنها تستأذن أباها في الخروج من البيت فهو صاحب الأمر والنهي لا العاقد عليها وكذلك جرى العرف في بلادنا على أنه لا يجري بين العاقدين معاشرة جنسية إلا بعد الزفاف وكذلك فقد جرى العرف في بلادنا أن الأب هو الذي ينفق على البنت المعقود عليها ما دامت عند أبيها ولا يطالب العاقد بالإنفاق عليها إلا بعد الزفاف ويجب شرعاً مراعاة هذه الأعراف الصحيحة والتي لا تعارض الأحكام الشرعية فالعرف الصحيح الذي لا يصادم النصوص الشرعية معتبر عند أهل العلم. قال الإمام القرافي: [وأما العرف فمشترك بين المذاهب ومن استقرأها وجدهم يصرحون بذلك فيها] شرح تنقيح الفصول ص 488. وقال الشيخ ابن عابدين:
والعرف في الشرع له اعتبار لذا عليه الحكم قد يدار
رسالة " نشر العرف في بناء بعض الأحكام على العرف " ضمن مجموعة رسائل ابن عابدين 2/112.
وقد قامت الأدلة الكثيرة على اعتبار العرف ووضع الفقهاء القواعد الفقهية في ذلك كما في قولهم: العادة محكمة، والمعروف عرفاً كالمشروط شرطاً واستعمال الناس حجة يجب العمل بها وغير ذلك.
[وسلطان العرف العملي كبير في أحكام الأفعال المعتادة والمعاملات المختلفة المتعلقة بحقوق الناس أو أحوالهم الشخصية أو القضاء أو الشهادات والعقوبات وغيرها ويعمل بالعرف ما لم يصادم نصاً شرعياً من القرآن أو السنة واضح الدلالة قطعياً أو نصاً تشريعياً كالقياس ويعتبر ما ثبت بالعرف حينئذ ثابتاً بالنص اتباعاً للقاعدة الشرعية الثابت بالعرف كالثابت بالنص أو الثابت بالعرف ثابت بدليل شرعي] نظرية العرف ص 48.
وقال العلامة ابن القيم [وعلى هذا أبداً تجيء الفتاوى في طول الأيام، فمهما تجدد العرف فاعتبره، ومهما سقط فألغه، ولا تجمد على المنقول في الكتب طول عمرك، بل إذا جاءك رجل من غير إقليمك يستفتيك فلا تجره على عرف بلدك، وسله عن عرف بلده فأجره عليه وأفته به، دون عرف بلدك والمذكور في كتبك] أعلام الموقعين 3/78. وقد قرر مجمع الفقه الإسلامي أن العرف معتبر بشروط معينة فقد جاء في قرار المجمع ما يلي:
أولاً: يراد بالعرف ما اعتاده الناس وساروا عليه من قول أو فعل أو ترك، وقد يكون معتبراً شرعاً أو غير معتبر.
ثانياً: العرف، إن كان خاصاً، فهو معتبر عند أهله، وإن كان عاماً، فهو معتبر في حق الجميع.
ثالثاً: العرف المعتبر شرعاً هو ما استجمع الشروط الآتية:
أ - أن لا يخالف الشريعة فإن خالف العرف نصاً شرعياً أو قاعدة من قواعد الشريعة فإنه عرف فاسد
ب - أن يكون العرف مطَّرداً (مستمراً) أو غالباً.
ج - أن يكون العرف قائماً عند إنشاء التصرف
د - أن لا يصرح المتعاقدان بخلافه، فإن صرحا بخلافه فلا يعتد به.
رابعاً: ليس للفقيه – مفتياً كان أو قاضياً – الجمود على المنقول في كتب الفقهاء من غير مراعاة تبدل الأعراف.] مجلة مجمع الفقه الإسلامي عدد 5 جزء 4 ص 2921.
ويضاف إلى ما سبق أن المحاكم الشرعية في بلادنا تأخذ بهذه الأعراف الصحيحة فلا تثبت حق الطاعة للزوج ما لم يقم الزوج بما يجب القيام عليه لإتمام الزفاف وتهيئة أسبابه حسب العادة والعرف كما ورد ذلك في القرارات القضائية في الأحوال الشخصية ص 195 قرار رقم 24399.
وخلاصة الأمر أن المرأة المعقود عليها ما دامت باقية في بيت أبيها فإن طاعتها واجبة لأبيها لا لزوجها وكذلك فإنها تستأذن أباها في الخروج من البيت لا زوجها وكذلك تمنع المعاشرة الجنسية بين العاقدين قبل الزفاف.(15/32)
33 - إعلان البراءة من شخص
يقول السائل: ما قولكم فيما نقرؤه في الصحف من إعلانات البراءة حيث يتبرأ الوالد من ولده مثلاً أو تتبرأ العشيرة من أحد أفرادها أفيدونا؟
الجواب: البراءة من الناس ومن أفعالهم لا تجوز إلا بسبب شرعي فمن ذلك البراءة من الكافرين والمشركين كما قال تعالى {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلْ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} سورة الأنعام الآية 19. وقال تعالى {بَرَاءَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ وَأَذَانٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرْ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} سورة التوبة الآيات 1- 3. وقال تعالى {وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} سورة يونس الآية 41. وقال تعالى {فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} سورة الشعراء الآية 216. قال الألوسي في تفسير الآية السابقة: [فإن عصوك يا محمد في الأحكام وفروع الإسلام بعد تصديقك والإيمان بك وتواضعك لهم فقل إني بريء مما تعملون من المعاصي، أي أظهر عدم رضاك بذلك وإنكاره عليهم] تفسير روح المعاني 10/133. وقد ضرب الله سبحانه وتعالى مثلاً على سبيل المدح والثناء بسيدنا إبراهيم الخليل حيث إنه قد تبرأ من كفر أبيه وقومه فقال تعالى {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} سورة التوبة الآة 114. وقال تعالى {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} سورة الزخرف الآية 2. وقال تعالى {فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} سورة الأنعام الآية 78. وقال تعالى {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} سورة الممتحنة الآية 4.
وتجوز البراءة أيضاً من أهل المعاصي وممن يرتكب الموبقات فيجوز التبرؤ مما يفعله المجرمون كمن يقتل أو يزني أو يغتصب
ونحو ذلك من الجرائم فقد ورد في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما قال بعث النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة فدعاهم إلى الإسلام فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا فجعلوا يقولون صبأنا صبأنا فجعل خالد يقتل منهم ويأسر ودفع إلى كل رجل منا أسيره حتى إذا كان يوم أمر خالد أن يقتل كل رجل منا أسيره فقلت والله لا أقتل أسيري ولا يقتل رجل من أصحابي أسيره حتى قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم فذكرناه فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يده فقال اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد مرتين) رواه البخاري. قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [قوله: (اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد) قال الخطابي: أنكر عليه العجلة وترك التثبت في أمرهم قبل أن يعلم المراد من قولهم صبأنا] فتح الباري 8/72
وروى الإمام البخاري في باب ما ينهى من الحلق عند المصيبة ... قال حدثني أبو بردة بن أبي موسى رضي الله عنه قال وجع أبو موسى وجعاً شديداً فغشي عليه ورأسه في حجر امرأة من أهله فلم يستطع أن يرد عليها شيئاً فلما أفاق قال أنا بريء ممن برئ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم برئ من الصالقة والحالقة والشاقة) والصالقة هي التي ترفع صوتها بالبكاء والحالقة التي تحلق رأسها عند المصيبة والشاقة التي تشق ثوبها وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية) رواه البخاري. وفي هذا الحديث أعلن النبي صلى الله عليه وسلم البراءة ممن فعل هذه الأفعال الشائنة قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [قوله: (ليس منا) أي – ليس - من أهل سنتنا وطريقتنا , وليس المراد به إخراجه عن الدين , ولكن فائدة إيراده بهذا اللفظ المبالغة في الردع عن الوقوع في مثل ذلك كما يقول الرجل لولده عند معاتبته: لست منك ولست مني , أي ما أنت على طريقتي ... والأولى أن يقال: المراد أن الواقع في ذلك يكون قد تعرض لأن يهجر ويعرض عنه فلا يختلط بجماعة السنة تأديباً له على استصحابه حالة الجاهلية التي قبحها الإسلام , فهذا أولى من الحمل على ما لا يستفاد منه قدر زائد على الفعل الموجود. وحكي عن سفيان أنه كان يكره الخوض في تأويله ويقول: ينبغي أن يمسك عن ذلك ليكون أوقع في النفوس وأبلغ في الزجر. وقيل: المعنى ليس على ديننا الكامل , أي أنه خرج من فرع من فروع الدين وإن كان معه أصله , حكاه ابن العربي. ويظهر لي أن هذا النفي يفسره التبري الأتي في حديث أبي موسى بعد باب حيث قال " برئ منه النبي صلى الله عليه وسلم " وأصل البراءة الانفصال من الشيء] فتح الباري 3/209. وهنالك حالات أخرى أعلن النبي صلى الله عليه وسلم فيها البراءة ممن يفعل المعاصي منها عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من حمل علينا السلاح فليس منا) رواه البخاري ومسلم. وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (من حمل علينا السلاح فليس منا ومن غشنا فليس منا) رواه مسلم. وعن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من انتهب نهبة فليس منا) رواه الترمذي وقال هذا حديث حسن صحيح. والنهبة المال المأخوذ على وجه القهر والعلانية. وعن بريدة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من حلف بالأمانة فليس منّا) رواه أبو داود وهو حديث حسن
وعنه أيضاً قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من حلف بالأمانة ومن خبب على امرئ زوجته أو مملوكه فليس منا) رواه أحمد ومعنى خبب أي أفسد المرأة على زوجها، وغير ذلك من الأحاديث. وينبغي التنبيه على أمرين هامين أولهما أن البراءة من النسب محرمة تحريماً صريحاً فلا يجوز لأحد أن يعلن براءته من نسبه كأن يتبرأ الولد من نسبه لأبيه أو يعلن الوالد براءته من نسب ابنه منه ونحو ذلك فهذا أمر محرم شرعاً فقد ورد في الحديث عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا ترغبوا عن آبائكم فمن رغب عن أبيه فهو كفر) رواه البخاري ومسلم.
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [ ... وإنما المراد به من تحول عن نسبته لأبيه إلى غير أبيه عالماً عامداً مختاراً وكانوا في الجاهلية لا يستنكرون أن يتبنى الرجل ولد غيره ويصير الولد ينسب إلى الذي تبناه حتى نزل قوله تعالى: (ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله) ... وقال بعض الشراح: سبب إطلاق الكفر هنا أنه كذب على الله كأنه يقول خلقني الله من ماء فلا , وليس كذلك لأنه إنما خلقه من غيره ... ] فتح الباري 12/67. وروى مسلم يإسناده عن أبي ذر رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ليس من رجل ادعى لغير أبيه وهو يعلمه إلا كفر ومن ادعى ما ليس له فليس منا وليتبوأ مقعده من النار ومن دعا رجلاً بالكفر أو قال عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه) والأمر الثاني: ينبغي التحذير من قطع الأرحام فإن البراءة من أفعال العصاة والفساق لا تعني مقاطعتهم نهائياً فإن ذلك قد يزيد في عصيانهم وفسوقهم بل لا بد من التواصل معهم ونصحهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر لعلهم يتوبون ويرجعون عن غيهم وضلالهم فقد ثبت في الحديث عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام) رواه البخاري ومسلم وغير ذلك من الأحاديث.
وخلاصة الأمر أن إعلان البراءة من العصاة والفسقة جائز إن وجد له سبب شرعي معتبر وأما إعلان البراءة بدون سبب شرعي فذلك حرام شرعاً كمن يتبرأ من أبيه لأنه تزوج زوجة ثانية.(15/33)
34 - حكم الزواج العرفي
يقول السائل: ما هي حقيقة الزواج العرفي وما الحكم الشرعي فيمن تزوج عرفياً؟
الجواب: المشهور أن الزواج العرفي يطلق على الزواج المستكمل للأركان والشروط ولكنه غير مسجل بوثيقة رسمية كتسجيله في المحكمة الشرعية وقد تكتب ورقة بحضور الولي والشهود. وهذا ما درج عليه الكاتبون في قضايا الزواج والأحوال الشخصية.
ولكن بعض الناس يستعملون اصطلاح الزواج العرفي فيما يتم بين شاب وفتاة كأن يقول لها زوجيني نفسك فتقول له زوجتك نفسي ثم يكتبان ورقة بينهما أو عند محامٍ وهذا النوع أصبح منتشراً في بلاد كثيرة وبدأ يمارس في بلادنا. ولا شك في بطلان هذا الثاني وهو ما يسمى بالزواج المدني ولا يعتبر هذا زواجاً في الشرع بل هو زناً والعياذ بالله تعالى. وأما الأول فهو زواج معتبر شرعاً وهو ما كان سائداً بين المسلمين قديماً إلى أن صار توثيق الزواج بوثائق رسمية متعارفاً عليه بين المسلمين وصارت بعض قوانين الأحوال الشخصية تلزم تسجيل الزواج رسمياً. وهو ما نص عليه قانون الأحوال الشخصية المطبق في بلادنا، فقد جاء في المادة السابعة عشرة منه ما يأتي:
[أ- يجب على الخاطب مراجعة القاضي أو نائبه لإجراء العقد.
ب- يجري عقد الزواج من مأذون القاضي بموجب وثيقة رسمية، وللقاضي بحكم وظيفته في الحالات الاستثنائية أن يتولى ذلك بنفسه بإذن من قاضي القضاة.
ج- وإذا جرى الزواج بدون وثيقة رسمية فيعاقب كل من العاقد والزوجين والشهود بالعقوبة المنصوص عليها في قانون العقوبات الأردني وبغرامة على كلّ منهم لا تزيد عن مائة دينار.
د- وكل مأذون لا يسجل العقد في الوثيقة الرسمية بعد استيفاء الرسم يعاقب بالعقوبتين المشار إليهما في الفقرة السابقة مع العزل من الوظيفة] . وأرى أن تسجيل عقد الزواج في المحاكم الشرعية واجب شرعاً فيجب كتابة عقد الزواج خطياً وتسجيله في المحاكم الشرعية ولا يُكتفى بالإيجاب والقبول الشفويين كما أنه لا يكتفى بكتابة ورقة ولو كان ذلك بحضور الولي والشهود لأن في كتابة عقد الزواج وتسجيله في المحاكم الشرعية تحقيق لمصالح عظيمة للناس وفيه محافظة على حقوق المتزوجين وتسجيل الزواج بوثيقة رسمية يجب من باب سد الذرائع المؤدية للفساد بضياع الحقوق ولما في التسجيل من إثبات للزوجية القائمة بين الزوجين، وثبوت نسب الأولاد وحفاظاً على بناء الأسرة في المجتمع المسلم على أساس سليم ووي وقواعد الشرع العامة توجب التسجيل.
ولا شك أن عقد الزواج كان يتم قديماً بدون وثيقة وبدون تسجيل كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: [لم يكن الصحابة رضوان الله عليهم يكتبون صداقات لأنهم لم يكونوا يتزوجون على مؤخر، بل يعجلون المهر، وإن أخّروه فهو معروف، فلما صار الناس يزوجون على المؤخر، والمدة تطول وينسى صاروا يكتبون المؤخر، وصار ذلك حجة في إثبات الصداق وفي أنها زوجة له] . مجموع فتاوى شيخ الإسلام 32/131. ولكن صار تسجيل عقد الزواج أمراً لا بد منه ولا يقال لماذا لا نمشي على ما مشى عليه السابقون من عدم التسجيل؟ فأقول شتان ما بيننا وبينهم فلقد خربت ذمم كثير من الناس وقلت التقوى وكاد الورع أن يغيب في عصرنا لذا أؤكد على وجوب تسجيل الزواج في وثيقة رسمية وأعتقد أن من تزوج عرفياً أو زوج ابنته في زواج عرفي فهو آثم شرعاً وإن كان الزواج العرفي إن تم مستكملاً لأركان الزواج وشروطه صحيحاً شرعاً وكونه صحيحاً لا يمنع من تحريمه كمن حج بمال حرام فحجه صحيح ولكنه آثم شرعاً قال الإمام النووي [إذا حج بمال حرام أو راكباً دابةً مغصوبة أثم وصح حجه وأجزأه عندنا وبه قال أبو حنيفة ومالك والعبدري وبه قال أكثر الفقهاء] المجموع 6/62. ومثله الصلاة في الأرض المغصوبة صحيحة مع أن الغاصب آثم قال الإمام النووي: [الصلاة في الأرض المغصوبة حرام بالإجماع، صحيحة عندنا وعند الجمهور من الفقهاء وأصحاب الأصول] المجموع 3/165. ومن المعلوم أن كتابة العقود وتوثيقها بمختلف أنواعها أمر مطلوب شرعاً وخاصة في هذا الزمان حيث خربت ذمم كثير من الناس وقل دينهم وورعهم وزاد طمعهم وجشعهم. وإن الاعتماد على عامل الثقة بين الناس ليس مضموناً لأن قلوب الناس متقلبة وأحوالهم متغيرة. وقد أمر الله جل جلاله بتوثيق الدين حيث يقول الله سبحانه وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ.... وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا) سورة البقرة الآيتان 282-283. فهذا الأمر الرباني في كتابة الدنانير والدراهم لما في الكتابة من حفظ للحقوق فمن باب أولى كتابة ما يتعلق بالعرض والنسب. ويضاف إلى ما سبق أنه يجب على الناس الالتزام بما نص عليه قانون الأحوال الشخصية فطاعة هذا القانون من باب الطاعة في المعروف وخاصة أنه يحقق مصالح الناس ويحفظ حقوقهم وبالذات حقوق المرأة والأطفال. فمن المعلوم أن جميع المسلمين في هذه البلاد يرجعون إلى القضاء الشرعي في قضاياهم المتعلقة بالزواج والطلاق والميراث وغيرها ويتحاكمون إلى قانون الأحوال الشخصية وهو مستمد من الشريعة الإسلامية فيجب الالتزام به شرعاً وقد ورد في الحديث قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنما الطاعة في المعروف) رواه البخاري ومسلم، وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (السمع والطاعة حق ما لم يؤمر بالمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة) رواه البخاري ومسلم.
وأسوق للذين يفتون بعدم تسجيل الزواج في وثيقة رسمية ويشجعون الناس عليه بعض ما يحدث من أمور في الزواج العرفي: فقد ينكر الزوج أنه تزوج في الزواج غير المسجل فماذا يحدث للزوجة والأولاد. ومن المعلوم أن بعض قوانين الأحوال الشخصية قد [ألزمت المحاكم القضائية بعدم سماع دعوى الزوجية أو الإقرار بها إلا عند تقديم وثيقة رسمية، وهذا ما استقر عليه القضاء المصري منذ عام 1931، ونصت عليه المادة (99) من لائحة ترتيب المحاكم الشرعية والمعدلة بالقانون رقم (78) لعام 1951. وقد أفتت دار الإفتاء المصرية بتاريخ 1/2/1957 أن الفقرة الناصة على عدم سماع الدعوى عند إنكار دعوى الزوجية أو الإقرار بها إلا إذا كانت بوثيقة رسمية، فإن هذه الفقرة لا تَشترط الوثيقة الرسمية لصحة عقد الزواج، وإنما هي شرط لسماع الدعوى. ومن هذه القوانين قانون الأحوال الشخصية الكويتي، فقد جاء في المادة (92) منه الفقرة: (أ) : "لا تسمع عند الإنكار دعوى الزوجية، إلا إذا كانت ثابتة بوثيقة زواج رسمية، أو سبق الإنكار الإقرار بالزوجية في أوراق رسمية".] مستجدات فقهية في قضايا الزواج والطلاق ص 145 – 146. وكذلك فإن الزواج غير المسجل بوثيقة رسمية من السهولة بمكان إنكاره وبالتالي التحلل من جميع التزاماته المادية والمعنوية بخلاف الزواج الموثق بوثيقة رسمية [إن الزواج الرسمي تصدر به وثيقة رسمية من الدولة، بخلاف الزواج العرفي الذي يعقد مشافهة أو تكتب فيه ورقة عرفية، وقد عرف رجال القضاء المعاصرون الوثيقة الرسمية بأنها "التي تصدر من موظف مختص بمقتضى وظيفته بإصدارها". والوثيقة الرسمية لا تقبل الإنكار، ولا يجوز الطعن فيها بحال، وبناءً على ذلك يثبت بها عقد النكاح قطعاً. أما عقد الزواج العرفي ولو أثبت بالشهود، أو وثيقة عرفية فإنه يقبل الطعن فيه، ويقبل الإنكار. يقول الدكتور عبد الفتاح عمرو: "العقد العرفي يعتبر كالورقة العرفية التي تقبل الطعن والتزوير والإنكار، أما العقد الرسمي فهو كالوثائق الرسمية التي لا تقبل الطعن بالإنكار".] المصدر السابق ص 132.
وإذا ضاعت الورقة التي كتبت بينهما أو أتلفت عمداً فماذا بالنسبة لحقوق الزوجة والأولاد؟ وماذا عن حق الزوجة في الميراث حال وفاة الزوج في الزواج العرفي؟ وكم من المآسي قد حدثت للزوجة والأولاد بسبب عدم تسجيل الزواج بوثيقة رسمية؟
خلاصة الأمر أنه يجب شرعاً تسجيل الزواج بوثيقة رسمية ومن لم يفعل ذلك فهو آثم وإن كان العقد صحيحاً تترتب عليه آثاره الشرعية ولا ينبغي لأحد أن يشجع على الزواج العرفي لما يترتب عليه من مفاسد وضياع لحقوق الزوجة والأولاد. وأنصح الآباء أن لا يزوجوا بناتهم زواجاً عرفياً وأن يحرصوا أشد الحرص على الزواج الصحيح الموثق بوثيقة رسمية ومسجل في المحاكم الشرعية.(15/34)
35 - عم الزوج ليس من محارم الزوجة
تقول السائلة: إنها قد اختلفت مع زوجها في الظهور أمام عمه بدون حجاب فزوجها يقول إنها محرمة على عمه فيجوز أن تجلس معه بدون جلباب وأنه لا فرق بين عمها وعمه وتقول الزوجة إن عم زوجها أجنبي عليها وليس كعمها. فما قولكم في ذلك؟
الجواب: لا شك أن عم الزوج أجنبي على زوجته وكذا خال الزوج أجنبي على زوجته وهذا باتفاق أهل العلم بلا خلاف في ذلك وإذا كانا أجنبيين فيحرم على الزوجة أن تكشف أمام عم زوجها وخاله وإن ظهرت أمامهما فتظهر بلباسها الشرعي قال الله تعالى {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْأِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} سورة النور الآية 31. ففي الآية الكريمة ذكر الله تعالى من يجوز للمرأة أن تبدي زينتها أمامهم وهم محارمها من النسب، ويحرم عليها أيضاً مثلهم من الرضاع لما ثبت في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) رواه البخاري ومسلم. وليس من هؤلاء عم الزوج ولا خاله. وأما عم المرأة وخالها فهما من المحارم فيجوز إبداء الزينة لهما وإن لم يذكرا في الآية السابقة وهذا مذهب جماهير أهل العلم
قال الإمام القرطبي [والجمهور على أن العم والخال كسائر المحارم في جواز النظر لهما إلى ما يجوز لهم. وليس في الآية ذكر الرضاع، وهو كالنسب على ما تقدم. وعند الشعبي وعكرمة ليس العم والخال من المحارم. وقال عكرمة: لم يذكرهما في الآية لأنهما ينعتان لأبنائهما.] تفسير القرطبي 12/233.
وقال الشيخ ابن كثير [وقد روى ابن المنذر حدثنا موسى يعني ابن هارون حدثنا أبو بكر يعني ابن أبي شيبة حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة أخبرنا داود عن الشعبي وعكرمة في هذه الاَية {ولا يبدبن زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن} حتى فرغ منها وقال لم يذكر العم ولا الخال لأنهما ينعتان لأبنائهما ولا تضع خمارها عند العم والخال.] تفسير ابن كثير 4/540. وما ذهب إليه الشعبي وعكرمة من التابعين قول مرجوح والراجح مذهب جماهير أهل العلم بأن العم والخال يجوز إبداء الزينة لهما. وقد أجاب أهل العلم على عدم ذكر أعمام المرأة وأخوالها في الآية الكريمة بما يلي:
قالوا إن الأعمام والأخوال يندرجون تحت قوله تعالى في الآية السابقة: {أو آبائهن} فإنهم بمنزلة الآباء وقد ورد إطلاق الأب على العم كما في قوله تعالى {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} سورة البقرة الآية 133 ومن المعلوم أن إسماعيل عليه السلام هو عم يعقوب عليه السلام وقد جعله الله تعالى من آباء يعقوب
قال الألوسي: [ولم يذكر سبحانه الأعمام والأخوال مع أنهم كما قال الحسن وابن جبير كسائر المحارم في جواز إبداء الزينة لهم، قيل لأنهم في معنى الإخوان من حيث كون الجد سواء كان أب الأب أو أب الأم في معنى الأب فيكون ابنه في معنى الأخ ... وقيل لم يذكروا اكتفاء بذكر الآباء، فإنهم عند الناس بمنزلتهم، ولا سيما الأعمام وكثيراً ما يطلق الأب على العم ... ] تفسير الألوسي9/337-338.
وورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر رضي الله عنه على الصدقة فقيل منع ابن جميل وخالد بن الوليد والعباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ينقم ابن جميل إلا أنه كان فقيراً فأغناه الله وأما خالد فإنكم تظلمون خالداً قد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله وأما العباس فهي عليَّ ومثلها معها ثم قال يا عمر أما شعرت أن عم الرجل صنو أبيه) رواه مسلم
قال الإمام النووي: [قوله صلى الله عليه وسلم: (عم الرجل صنو أبيه) أي مثل أبيه , وفيه تعظيم حق العم.] شرح النووي على صحيح مسلم
وورد في الحديث عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (الخالة بمنزلة الأم) رواه الترمذي ثم قال [وفي الحديث قصة طويلة وهذا حديث صحيح] وأصل الحديث في الصحيحين.
وقال الإمام الكاساني: [لِأَنَّ الْعَمَّ يُسَمَّى أَباً وَكَذَلِكَ الْخَالُ وَزَوْجُ الْأُمِّ , قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {قَالُوا نَعْبُدُ إلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ} وَإِسْمَاعِيلُ كَانَ عَمَّ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقَدْ سَمَّاهُ أَبَاهُ , وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ} وَقِيلَ: إنَّهُمَا أَبُوهُ وَخَالَتُهُ وَإِذَا كَانَتْ الْخَالَةُ أُمَّاً كَانَ الْخَالُ أَباً] بدائع الصنائع 5/504.
ومما يدل على جواز إبداء الزينة للأعمام والأخوال قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ} سورة النساء الآية 23.
وقد قال العلماء: هنالك تلازم بين المحرمية المؤبدة وبين إبداء الزينة فبما أن المرأة تحرم على التأبيد على عمها وخالها فيجوز لها إبداء الزينة لهما.
وقال الشيخ السعدي عند تفسير قوله تعالى {لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا} سورة الأحزاب الآية 55 ما نصه [لما ذكر أنهن لا يسألن متاعاً إلا من وراء حجاب، وكان اللفظ عاماً لكل أحد احتيج أن يستثنى منه هؤلاء المذكورون، من المحارم، وأنه {لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ} في عدم الاحتجاب عنهم. ولم يذكر فيها الأعمام، والأخوال، لأنهن إذا لم يحتجبن عمن هن عماته ولا خالاته، من أبناء الإخوة والأخوات، مع رفعتهن عليهم، فعدم احتجابهن عن عمهن وخالهن، من باب أولى، ولأن منطوق الآية الأخرى، المصرحة بذكر العم والخال مقدمة على ما يفهم من هذه الآية.] تفسير السعدي ص 671.
وختاماً ينبغي التنبيه على أمرين: أولهما إن عم الأب وخاله محرمان على بناته وكذلك عم الأم وخالها محرمان على بناتها.
وثانيهما: إن نظر العم والخال جائز في حال أمن الفتنة والشهوة وأما مع النظر بشهوة فيحرم النظر من المحارم. وكذلك فإن العم والخال لا ينظران من المرأة إلا إلى ما يظهر منها غالباً.
وقد اختلف أهل العلم في تفسير قوله تعالى: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْءَابَائِهِنَّ أَوْءَابَاءِ بُعُولَتِهِنَّ ... ) على أقوال كثيرة أرجحها: أنه يجوز للمحارم أن ينظروا من المرأة إلى مواضع الزينة وإلى ما يظهر غالباً عند الخدمة كالرأس والشعر والعنق والخد والساعد والكف والساق والركبة وهذه الأعضاء يجوز النظر إليها إذا كان النظر بدون شهوة
قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [ويجوز للرجل أن ينظر من ذوات محارمه إلى ما يظهر غالباً كالرقبة والرأس والكفين والقدمين ونحو ذلك وليس له النظر إلى ما يستتر غالباً كالصدر والظهر ونحوهما] المغني 7/98.
وخلاصة الأمر أن عم الزوج وخال الزوج أجنبيان على الزوجة بخلاف عم الزوجة وخالها فهما من محارمها.(15/35)
36 - القتل على خلفية شرف العائلة والأخذ بالثأر
يقول السائل: كما تعلمون فقد كثرت حوادث القتل حيث قتل بعض الناس أخذاً بالثأر كما أنه قد قتلت بعض الفتيات تحت شعار القتل على خلفية شرف العائلة فما قولكم في ذلك؟
الجواب: لاشك أن قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق من أكبر الكبائر وقد وردت النصوص الكثيرة في كتاب الله سبحانه وتعالى وفي سنة نبيه صلى الله عليه وسلم في الترهيب من القتل بغير حق فمن ذلك قوله تعالى {ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا} سورة الإسراء الآية 33. وقوله تعالى {ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما} سورة النساء الآية 93.
وثبت في الحديث عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الكبائر أو سئل عن الكبائر فقال الشرك بالله وقتل النفس وعقوق الوالدين فقال ألا أنبئكم بأكبر الكبائر قال قول الزور أو قال شهادة الزور قال شعبة وأكثر ظني أنه قال شهادة الزور) رواه البخاري وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً) رواه البخاري وعن ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (يجيء المقتول بالقاتل يوم القيامة ناصيته ورأسه بيده وأوداجه تشخب دماً يقول يا رب هذا قتلني حتى يدنيه من العرش) رواه الترمذي وقال هذا حديث حسن وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في صحيح سنن الترمذي 3/40. وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم) رواه الترمذي وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في صحيح سنن الترمذي 2/56. وغير ذلك من الآيات والأحاديث ومن المعلوم أن عقوبة القتل عقوبة مشروعة في حالات معينة كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى) سورة البقرة الآية 178. وثبت في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث النفس بالنفس والثيب الزاني والمارق من الدين التارك للجماة) رواه البخاري ومسلم وكذلك فإنه من المقرر شرعاً وجوب تطبيق الحدود والتعزير على من ارتكب موجباً لها والمكلف بتنفيذ جميع العقوبات المقررة شرعاً – القصاص والحدود والتعزير - هو الحاكم المسلم أو من ينيبه وليس ذلك لأفراد الناس فلا يجوز لفرد أو جماعة تطبيق العقوبات الشرعية لأن هذا يفتح باباً عريضاً من أبواب الشر والفساد. ومن الأدلة على أن تنفيذ العقوبات من اختصاص الدولة المسلمة ممثلة بالإمام أو من يقوم مقامه قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} قال الإمام القرطبي في تفسير الآية: [لا خلاف في أن القصاص في القتل لا يقيمه إلا أولو الأمر، فرض عليهم النهوض بالقصاص وإقامة الحدود وغير ذلك؛ لأن الله سبحانه خاطب جميع المؤمنين بالقصاص، ثم لا يتهيأ للمؤمنين جميعًا أن يجتمعوا على القصاص، فأقاموا السلطان مَقام أنفسهم في إقامة القصاص وغيره من الحدود] تفسير القرطبي 2/245. ومما يدل على ذلك قوله تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) سورة النور الآية 2. قال الإمام القرطبي في تفسير هذه الآية: [لا خلاف أن المخاطب بهذا الأمر الإمام ومن ناب منابه] تفسير القرطبي 12/161. ويدل على ذلك أيضا ما ورد في الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال (أيها الناس قد آن لكم أن تنتهوا عن حدود الله من أصاب من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر الله فإنه من يبدي لنا صفحته نقم عليه كتاب الله) رواه مالك في الموطأ والحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي وقال العلامة الألباني [وهو كما قالا] . السلسلة الصحيحة 2/272.
وقال الشيخ أبو إسحق الشيرازي: [لا يقيم الحدود على الأحرار إلا الإمام أو من فوض إليه الإمام لأنه لم يقم حد على حر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بإذنه ولا في أيام الخلفاء إلا بإذنهم، ولأنه حق لله تعالى يفتقر إلى الاجتهاد ولا يؤمن في استيفائه الحيف فلم يجز بغير إذن الإمام] المهذب 20/34. وروى الإمام البيهقي بإسناده [عن أبي الزناد عن أبيه عن الفقهاء الذين يُنتهى إلى قولهم من أهل المدينة كانوا يقولون لا ينبغي لأحد أن يقيم شيئاً من الحدود دون السلطان] سنن البيهقي 8/245وقال الشيخ عبد القادر عوده رحمه الله تحت عنوان " من الذي يقيم الحدّ ": [من المتفق عليه بين الفقهاء أنه لا يجوز أن يقيم الحدّ إلا الإمام أو نائبه لأن الحدّ حق الله تعالى ومشروع لصالح الجماعة فوجب تفويضه إلى نائب الجماعة وهو الإمام ولأن الحدّ يفتقر إلى الاجتهاد ولا يؤمن في استيفائه من الحيف والزيادة على الواجب فوجب تركه لولي الأمر يقيمه إن شاء بنفسه أو بواسطة نائبه وحضور الإمام ليس شرطاً في إقامة الحد لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير حضوره لازماً فقال: اغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها. وأمر عليه الصلاة والسلام برجم ماعز ولم يحضر الرجم وأتي بسارق فقال: اذهبوا به فاقطعوه. لكن إذن الإمام بإقامة الحدّ واجب، فما أقيم حدّ في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بإذنه وما أقيم حدّ في عهد الخلفاء إلا بإذنهم] التشريع الجنائي الإسلامي 2/444. وجاء في الموسوعة الفقهية: [اتفق الفقهاء على أنه لا يقيم الحدّ إلا الإمام أو نائبه وذلك لمصلحة العباد وهي صيانة أنفسهم وأموالهم وأعراضهم والإمام قادر على الإقامة لشوكته ومنعته وانقياد الرعية له قهراً وجبراً كما أن تهمة الميل والمحاباة والتواني منتفية عن الإقامة في حقه فيقيهما على وجهه فيحصل الغرض المشروع بيقين، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقيم الحدود وكذا خلفاءه من بعده] الموسوعة الفقهية الكويتية 17/144-145. إذا تقرر هذا فإنه يحرم على المسلم أن يأخذ بالثأر وخاصة إذا قتل غير القاتل كأن يقتل أخاه أو قريباً له فإن هذا من أعظم المنكرات فلا يجوز شرعاً أن يؤخذ الانسان بجريرة غيره قال الله تعالى: {ولا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} سورة الأنعام الآية 164. وعن سليمان بن عمرو بن الأحوص عن أبيه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في حجة الوداع للناس: (أي يوم هذا؟ قالوا يوم الحج الأكبر، قال فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا ألا لا يجني جان إلا على نفسه ألا لا يجني جان على ولده ولا مولود على والده ... ) رواه الترمذي وقال وهذا حديث حسن صحيح وعن ابن عمر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض لا يؤخذ الرجل بجناية أبيه ولا جناية أخيه) رواه النسائي وابن ماجة وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في صحيح سنن النسائي 3/863. وعن الأسود بن هلال عن ثعلبة بن زهدم اليربوعي قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب في أناس من الأنصار فقالوا يا رسول الله هؤلاء بنو ثعلبة بن يربوع قتلوا فلاناً في الجاهلية فقال النبي صلى الله عليه وسلم وهتف بصوته ألا لا تجني نفس على الأخرى) رواه أحمد والنسائي وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة 2/721. وكذلك فإن القتل على خلفية ما يسمى شرف العائلة ممنوع شرعاً لأن عقوبة الزاني من اختصاص الحاكم المسلم أومن ينيبه ولا يجوز لشخص مهما كان أن يقوم بقتل الزانية سواء أكان أباً أو أخاً أو عمّاً أو خالاً أو غير ذلك فلا يجوز لهؤلاء أن يقتلوا من تتهم بالزنا لتطهير شرف العائلة كما يدعون لأن عقوبة الزانية إن كانت بكراً الجلد لا القتل، لقله تعالى: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} سورة النور الآية 2كما أن الإسلام قد شدد في قضية ثبوت الزنا واشترط أربعة شهود، قال تعالى: (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ) سورة النساء الآية 15. ولا بد في الإقرار من أن يكون مفصلاً مبيناً كما في قصة ماعز، والقرائن لا بد أن تكون صحيحة ومعتبرة عند العلماء حتى يثبت الزنا. انظر الموسوعة الفقهية 24/37 فما بعدها. كما أن كثيراً من حالات القتل على خلفية شرف العائلة تكون الفتاة فيها مظلومة ظلماً شديداً فقد تقتل لمجرد الشك في تصرفاتها ولا يكون زناها قد ثبت فعلاً أو تكون قد ارتكبت مخالفة أقل من الزنا غير موجبة للحد وإنما توجب التعزير فقط. كما أن الآباء والأمهات والأخوة يتحملون جزءاً من المسؤولية عن وقوع ابنتهم في الفاحشة فالواجب هو تحصين البنات والشباب وتربيتهم تربية صحيحة وسد المنافذ التي تؤدي إلى وقوعهم في الفحشاء والمنكر فإن الوقاية خير من العلاج. وإذا تم قتل الفتاة الزانية غير المحصنة فإن قاتلها يتحمل مسؤولية قتلها وينبغي أن يعاقب العقوبة الشرعية إلا إذا وجد مانع من ذلك كالأبوة فهي مانعة من القصاص عند جماهير أهل العلم. وخلاصة الأمر أن الإسلام حرم الأخذ بالثأر ومنع القتل على خلفية شرف العائلة وقرر أن تنفيذ جميع العقوبات الشرعية إنما هو من اختصاص الحكم المسلم أو من ينيبه وليس ذلك للأفراد أو الجماعات أو الأحزاب.(15/36)
37 - الطلاق المعلق وحكم الرجوع عنه
يقول السائل: قلت لزوجتي إن ذهبت إلى بيت أخيك فأنت طالق ولكنني تراجعت عن ذلك وأود أن آذن لها بالذهاب إلى بيت أخيها فما حكم ذلك؟
الجواب: الواجب على الزوج أن لا يستعمل الطلاق في مثل هذه الحالات لأن الطلاق شُرع كآخر حل إن استعصت الحلول الأخرى للمشكلات الزوجية. وما صدر عن السائل يعرف عند أهل العلم بالطلاق المعلق أي أنه علق طلاقها على شرط وهو ذهابها إلى بيت أخيها والطلاق المعلق يقع عند جمهور أهل العلم بما فيهم الأئمة الأربعة إن تحقق الشرط المعلق عليه وهو هنا ذهابها إلى بيت أخيها بغض النظر عن قصد الزوج بهذا اللفظ هل قصد منعها من الذهاب أم قصد طلاقها فعلاً إن ذهبت.
وقد أخذ قانون الأحوال الشخصية المطبق في المحاكم الشرعية في بلادنا بالرأي الذي يرى أن الطلاق المعلق على شرط لا يقع إن كان قصد المطلق هو الحث على فعل أمر ما أو المنع منه وهذا ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وجماعة من أهل العلم واعتبروه يميناً فيه كفارة يمين في حالة حصول الشرط. فقد ورد في المادة رقم 89 من قانون الأحوال الشخصية الأردني ما نصه (لا يقع الطلاق غير المنجز إذا قصد به الحمل على فعل شيء أو تركه) وغير المنجز هو المعلق وقوعه على وقوع شيء. انظر شرح قانون الأحوال الشخصية الأردني للدكتور عمر الأشقر ص 203-204.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: [مِنْ الصِّيَغِ: أَنْ يُعَلِّقَ الطَّلَاقَ أَوْ الْعَتَاقَ أَوْ النَّذْرَ بِشَرْطِ ; فَيَقُولُ: إنْ كَانَ كَذَا فَعَلَيَّ الطَّلَاقُ. أَوْ الْحَجُّ. أَوْ فَعَبِيدِي أَحْرَارٌ. وَنَحْوَ ذَلِكَ: فَهَذَا يُنْظَرُ إلَى مَقْصُودِهِ فَإِنْ كَانَ مَقْصُودُهُ أَنْ يَحْلِفَ بِذَلِكَ لَيْسَ غَرَضُهُ وُقُوعَ هَذِهِ الْأُمُورِ - كَمَنْ لَيْسَ غَرَضُهُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ إذَا وَقَعَ الشَّرْطُ - فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْحَالِفِ ; وَهُوَ مِنْ " بَابِ الْيَمِينِ ". وَأَمَّا إنْ كَانَ مَقْصُودُهُ وُقُوعَ هَذِهِ الْأُمُورِ: كَمَنَ غَرَضُهُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ عِنْدَ وُقُوعِ الشَّرْطِ: مِثْلَ أَنْ يَقُولَ لِامْرَأَتِهِ: إنَّ أبرأتيني مِنْ طَلَاقِك فأَنْتِ طَالِقٌ. فَتُبَرِّئُهُ. أَوْ يَكُونُ غرْضُهُ أَنَّهَا إذَا فَعَلَتْ فَاحِشَةً أَنْ يُطَلِّقَهَا فَيَقُولُ: ذَا فَعَلْت كَذَا فَأَنْتِ طَالِقٌ ; بِخِلَافِ مَنْ كَانَ غَرَضُهُ أَنْ يَحْلِفَ عَلَيْهَا لِيَمْنَعَهَا ; وَلَوْ فَعَلَتْهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ غَرَضٌ فِي طَلَاقِهَا فَإِنَّهَا تَارَةً يَكُونُ طَلَاقُهَا أُكْرِهَ إلَيْهِ مِنْ الشَّرْطِ فَيَكُونُ حَالِفًا. وَتَارَةً يَكُونُ الشَّرْطُ الْمَكْرُوهُ أَكْرَهَ إلَيْهِ مِنْ طَلَاقِهَا. فَيَكُونُ مُوقِعًا لِطَلَاقِ إذَا وُجِدَ ذَلِكَ الشَّرْطُ فَهَذَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ: إنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي فَعَلَيَّ صَوْمُ شَهْرٍ فَشُفِيَ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الصَّوْمُ. فَالْأَصْلُ فِي هَذَا: أَنْ يُنْظَرَ إلَى مُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ وَمَقْصُودِهِ فَإِنْ كَانَ غَرَضُهُ أَنْ تَقَعَ هَذِهِ الْأُمُورُ وَقَعَتْ مُنْجَزَةً أَوْ مُعَلَّقَةً إذَا قُصِدَ وُقُوعُهَا عِنْدَ وُقُوعِ الشَّرْطِ. وَإِنْ كَانَ مَقْصُودُهُ أَنْ يَحْلِفَ بِهَا ; وَهُوَ يَكْرَهُ وُقُوعَهَا إذَا حَنِثَ وَإِنْ وَقْعَ الشَّرْطُ فَهَذَا حَالِفٌ بِهَا ; لَا مُوقِعٌ لَهَا فَيَكُونُ قَوْلُهُ مِنْ " بَابِ الْيَمِينِ " ; لَا مِنْ " بَابِ التَّطْلِيقِ وَالنَّذْرِ " فَالْحَالِفُ هُوَ الَّذِي يَلْتَزِمُ مَا يَكْرَهُ وُقُوعَهُ عِنْدَ الْمُخَالَفَةِ كَقَوْلِهِ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَأَنَا يَهُودِيٌّ ; أَوْ نَصْرَانِيٌّ وَنِسَائِي طَوَالِقُ وَعَبِيدِي أَحْرَارٌ وَعَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ. فَهَذَا وَنَحْوُهُ يَمِينٌ ; بِخِلَافِ مَنْ يَقْصِدُ وُقُوعَ الْجَزَاءِ مِنْ نَاذِرٍ وَمُطَلِّقٍ وَمُعَلِّقٍ فَإِنَّ ذَلِكَ يَقْصِدُ وَيَخْتَارُ لُزُومَ مَا الْتَزَمَهُ وَكِلَاهُمَا مُلْتَزِمٌ ; لَكِنَّ هَذَا الْحَالِفَ يَكْرَهُ وُقُوعَ اللَّازِمِ وَإِنْ وُجِدَ الشَّرْطُ الْمَلْزُومُ كَمَا إذَا قَالَ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَأَنَا يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ فَإِنَّ هَذَا يَكْرَهُ الْكُفْرَ وَلَوْ وَقَعَ الشَّرْطُ: فَهَذَا حَالِفٌ وَالْمَوْقِعُ يَقْصِدُ وُقُوعَ الْجَزَاءِ اللَّازِمِ عِنْدَ وُقُوعِ الشَّرْطِ الْمَلْزُومِ ; سَوَاءٌ كَانَ الشَّرْطُ مُرَادًا لَهُ أَوْ مَكْرُوهاً أَوْ غَيْرَ مُرَادٍ لَهُ. فَهَذَا مُوقِعٌ لَيْسَ بِحَالِفِ. وَكِلَاهُمَا مُلْتَزِمٌ مُعَلِّقٌ ; لَكِنَّ هَذَا الْحَالِفَ يَكْرَهُ وُقُوعَ اللَّازِمِ.] مجموع الفتاوى 33/59-60. وانظر كلام العلامة ابن القيم في المسألة في إعلام الموقعين عن رب العالمين 4/97. وما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم في التفريق في الطلاق المعلق بين ما كان قصد المطلق فيه مجرد الحمل على فعل أو المنع منه وبين حصول الطلاق عند وقوع الشرط إذا كان الطلاق هو المقصود هو القوال الراجح في هذه المسألة وخاصة أن المسألة مسألة اجتهادية لم يرد فيها نصوص صريحة لا من الكتاب ولا من السنة ومما يؤيد ذلك ما يلي: [الأول إنه لم يقصد الطلاق وإنما قصد الحث أو المنع مثلاً، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى) . الثاني: الطلاق المعلق لقصد المنع أو الحث يسمى يميناً في اللغة وفي عرف الفقهاء ولذا دخل في أيمان البيعة، وفي عموم اليمين في حديث الاستثناء في اليمين وفي عموم اليمين في حديث التحذير من اقتطاع مال امرىء مسلم بيمين فاجرة وفي عموم الإيلاء، وفي عموم حديث (يمينك على ما يصدقك به صاحبك) وفي عموم حديث (وإياكم والحلف في البيع) كما ذكر ذلك العلامة شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وغيرهما من المحققين، وإذا كان يميناً دخل في عموم قوله تعالى: (قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ) وقوله تعالى: (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ ... ) الآية فتجب فيها الكفارة ... وما ورد من الآثار عن الصحابة من الفتوى بوقوع الطلاق المعلق عند حصول المعلق عليه فإنه إما غير صحيح نقلاً وإما صحيح معارض بمثله وإما صحيح لكنه فيما قصد به إيقاع الطلاق لا الحث على الفعل أو المنع منه فهو في غير محل النزاع فلا يكون فيه حجة على ما نحن بصدده والصواب التفصيل ... ] أبحاث هيئة كبار العلماء 2/390- 392.
إذا تقرر هذا فأقول للسائل حيث إن زوجتك لم تذهب إلى بيت أخيها فلا يلزمك شيء ولكن الإشكال في تراجعك عن هذا الطلاق المعلق فإن كنت تقصد مجرد منعها من الذهاب فقط ولم تقصد طلاقها فهذا فيه كفارة يمين كما هو قول شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وما أخذ به قانون الأحوال الشخصية المطبق في المحاكم الشرعية في بلادنا وأما إن كنت تقصد طلاقها فعلاً إن ذهبت إلى بيت أخيها فهذا فيه إشكال كبير فعند جمهور أهل العلم لا يصح الرجوع عن الطلاق المعلق على شرط وبهذا أخذ قانون الأحوال الشخصية المطبق في المحاكم الشرعية في بلادنا فقد ورد في المادة رقم 96 [تعليق الطلاق بالشرط صحيح وكذا إضافته إلى المستقبل ورجوع الزوج عن الطلاق المعلق والمضاف لزمان مستقبل غير مقبول] وأعتقد أن هذه المادة من القانون المذكور تحتاج إلى إعادة نظر حيث إنها تمنع المطلق من الرجوع عما علق عليه الطلاق فقد يكون ذلك الطلاق المعلق قد صدر عنه في وقت كانت علاقته سيئة مع شقيق زوجته ثم تحسنت العلاقة بينهما فأراد أن يأذن لزوجته بالذهاب إلى بين أخيها فلماذا لا يمكنه التراجع؟! أو لغير ذلك من الأسباب، وأرى أن فتح باب الرجوع عن الطلاق المعلق هو الأولى لأن فيه تيسيراً على الناس وفيه محافظة على الأسرة وإن كان ذلك على خلاف قول الجمهور. وقد ذكر بعض العلماء المعاصرين قولاً في مذهب الحنابلة يجيز الرجوع عن الطلاق المعلق ونسبه الشيخ ابن مفلح الحنبلي لشيخ الإسلام ابن تيمية [وقال بعض الحنابلة: إن لمن علق طلاق امرأته على شيء الرجوع عن ذلك، وإبطاله. وذلك بالتخريج على رواية جواز فسخ العتق المعلق على شرط قال ابن مفلح في الفروع (5/103) : " ولا يبطل التدبير برجوعه فيه, وإبطاله وبيعه ثم شراؤه كعتق معلق بصفة. وفيه رواية في الانتصار والواضح: له فسخه, كبيعه, ويتوجه في طلاق". وقد نقل عن شيخ الإسلام رحمه الله القول بأن لمن علق طلاق امرأته على شيء الرجوع عن ذلك، وإبطاله في الشرط المحض قال في الفروع نقلاً عنه (5/356) : ووافق على شرط محض, كإن قدم زيد] عن شبكة الإنترنت. وأرجو أن يقوم ديوان قاضي القضاة والقضاة الأفاضل بإعادة دراسة المادة رقم 96 من القانون والنظر في إمكانية تعديلها وخاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار أن المسألة محل اجتهاد وأن من أهل العلم من يرى أن الطلاق المعلق لاغٍ ولا عبرة به أصلاً وقد أخذت بذلك بعض مدونات الأحوال الشخصية في بعض البلدان الإسلامية كما جاء في الفصل 52 من مدونة الأحوال الشخصية المغربية أن (الطلاق المعلق على فعل شيء أو تركه لا يقع) وجاء في الفقرة (ب) من المادة 33 من قانون الأسرة الليبي رقم 10 لسنة 1984م أنه (لا يقع الطلاق المعلق على فعل شيء أو تركه) ، وورد في المادة 105 من قانون الأحوال الشخصية الكويتي أنه (يشترط في الطلاق أن يكون منجزاً) ، وهو ما يفهم منه أن الطلاق غير المنجز لا يعتبر، وممن أخذ بهذا القول من الفقهاء المعاصرين الأستاذ علي حسب الله وصرح بميله إليه] عن شبكة الإنترنت
وخلاصة الأمر أن الطلاق المعلق إن قصد به الحمل على فعل أمر ما أو المنع منه فحكمه حكم اليمين تلزم به كفارة يمين عند حصول ما علق عليه وإن قصد به الطلاق فعلاً فيقع الطلاق عند وقوع ما علق به وأما قضية الرجوع عن الطلاق المعلق إن قصد به الطلاق فالمسألة تحتاج إلى إعادة بحث ونظر في قول الجمهور المانعين من الرجوع عن الطلاق المعلق وهو الرأي الذي أخذ به قانون الأحوال الشخصية وهنالك رأي يجيز الرجوع عنه ولعله يجري تعديل قانون الأحوال الشخصية في هذه المسألة.(15/37)
38 - عدة الوفاة واجبة على الزوجة وإن كانت عجوزا
يقول السائل: توفي رجل كبير في السن فهل يلزم زوجته العجوز عدة الوفاة مع أنها لا تحيض منذ عهد بعيد أفيدونا.
الجواب: عدة الوفاة فريضة على كل امرأة مات عنها زوجها سواء كانت عجوزاً أو غير عجوز وسواء كانت تحيض أو لا تحيض والمدخول بها وغير المدخول بها سواء في لزوم عدة الوفاة لقول الله تعالى {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} سورة البقرة الآية 234.
فلآية الكريمة عامة في كل زوجة مات عنها زوجها لقوله تعالى [أَزْوَاجاً] فيجب على كل زوجة مات عنها زوجها أن تعتد أربعة أشهر وعشرة أيام إلا إذا كانت حاملاً فتعتد بوضع الحمل على الراجح من أقوال أهل العلم. ويدل على وجوب العدة قوله تعالى [يَتَرَبَّصْنَ] فهذا خبر بمعنى الأمر والأصل في الأمر أنه يفيد الوجوب.
قال العلامة ابن القيم [وأما عدة الوفاة فتجب بالموت سواء دخل بها أو لم يدخل اتفاقاً كما دل عليه عموم القرآن والسنة] زاد المعاد في هدي خير العباد 5/664.
وقال ابن كثير عند تفسير الآية السابقة: [هذا أمر من الله للنساء اللاتي يتوفى عنهن أزواجهن أن يعتددن أربعة أشهر وعشر ليال وهذا الحكم يشمل الزوجات المدخول بهن وغير المدخول بهن بالإجماع ومستنده في غير المدخول بها عموم الآية الكريمة وهذا الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي أن ابن مسعود سئل عن رجل تزوج امرأة فمات عنها ولم يدخل بها ولم يفرض لها فترددوا إليه مراراً في ذلك فقال أقول فيها برأيي فإن يك صواباً فمن الله وإن يك خطأً فمني ومن الشيطان والله ورسوله بريئان منه: لها الصداق كاملاً وفي لفظ لها صداق مثلها لا وكس ولا شطط وعليها العدة ولها الميراث، فقام معقل بن يسار الأشجعي فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قضى به في بروع بنت واشق ففرح عبد الله بذلك فرحاً شديداً وفي رواية فقام رجال من أشجع فقالوا: نشهد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى به في بروع بنت واشق) ولا يخرج من ذلك إلا المتوفى عنها زوجها وهي حامل فإن عدتها بوضع الحمل ولو لم تمكث بعده سوى لحظة لعموم قوله {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} ] تفسير ابن كثير 1/569-570.
وقال الإمام القرطبي: [عدة الوفاة تلزم الحرة والأمة والصغيرة والكبيرة والتي لم تبلغ المحيض، والتي حاضت واليائسة من المحيض والكتابية - دخل بها أو لم يدخل بها إذا كانت غير حامل - وعدة جميعهن إلا الأمة أربعة أشهر وعشرة أيام؛ لعموم الآية في قوله تعالى: {يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً} ... ] تفسير القرطبي 3/183.
وروى الإمام الترمذي بإسناده عن ابن مسعود رضي الله عنه (أنه سئل عن رجل تزوج امرأة ولم يفرض لها صداقاً ولم يدخل بها حتى مات، فقال ابن مسعود: [لها مثل صداق نسائها لا وكس ولا شطط وعليها العدة ولها الميراث] فقام معقل بن سنان الأشجعي فقال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بروع بنت واشق امرأة منا مثل الذي قضيت. ففرح بها ابن مسعود) وقال أبو عيسى الترمذي: حديث ابن مسعود حديث حسن صحيح) سنن الترمذي، فهذا الحديث يدل على لزوم عدة الوفاة للزوجة وإن لم يدخل بها وهذا على خلاف المطلقة قبل الدخول فلا عدة عليها لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} سورة الأحزاب الآية 49.
إذا تقرر وجوب عدة الوفاة على كل زوجة فأعود لما ورد في السؤال من كون المرأة المتوفى عنها زوجهاً عجوزاً فأقول إن من المفاهيم المغلوطة عند بعض الناس أن الزوجات الكبيرات في السن لا تلزمهن عدة الوفاة نظراً لكبرهن ولانقطاع الحيض عنهن وهذا الفهم الباطل قائم على أن الحكمة من عدة الوفاة معرفة براءة الرحم من الحمل والذي يجب أن يعلم أولاً أن العدة فريضة يجب الالتزام به بغض النظر عما قيل فيها من الحكمة وهذا لا ينفي احتمال أن يكون أحد مقاصد العدة هو معرفة براءة الرحم من الحمل مع أن ثبوت الحمل لا يحتاج إلى أربعة أشهر وعشرة أيام وخاصة في زماننا حيث يمكن معرفة وجود الحمل خلال أسبوعين أو ثلاثة فهل معنى ذلك إلغاء عدة الوفاة ما دام أنه يمكن معرفة براءة الرحم بالوسائل الطبية الحديثة!! هذا لا يقوله مسلم.
وقد ذكر بعض أهل العلم حكماً للعدة فمن ذلك ما قاله العلامة ولي الله الدهلوي: [اعلم أن العدة كانت من المشهورات المسلمة في الجاهلية وكانت مما لا يكادون يتركونه وكان فيها مصالح كثيرة: منها معرفة براءة رحمها من مائه لئلا تختلط الأنساب فإن النسب أحد ما يتشاح به ويطلبه العقلاء وهو من خواص نوع الإنسان ومما امتاز به من سائر الحيوان وهو المصلحة المرعية في باب الاستبراء. ومنها التنويه بفخامة أمر النكاح حيث لم يكن أمراً ينتظم إلا بجمع رجال ولا ينفك إلا بانتظار طويل ولولا ذلك لكان بمنزلة لعب الصبيان ينتظم ثم يفك في الساعة، ومنها أن مصالح النكاح لا تتم حتى يوطنا أنفسهما على إدامة هذا العقد ظاهراً فإن حدث حادث يوجب فك النظام لم يكن بد من تحقيق صور الإدامة في الجملة بأن تتربص مدة تجد لتربصها بالاً وتقاسي لها عناءً] حجة الله البالغة 2/256-257.
وقال العلامة ابن القيم: [وقد اضطرب الناس في حكمة عدة الوفاة وغيرها، فقيل: هي لبراءة الرحم، وأورد على هذا القول وجوه كثيرة.
منها: وجوبها قبل الدخول في – حالة - الوفاة، ... ومن الناس من يقول: هو تعبد لا يعقل معناه، وهذا فاسد لوجهين، أحدهما: أنه ليس في الشريعة حكم إلا وله حكمة وإن لم يعقلها كثير من الناس أو أكثرهم.
الثاني: أن العدد ليست من العبادات المحضة، بل فيها من المصالح رعاية حق الزوجين والولد والناكح.
قال شيخنا – أي شيخ الإسلام ابن تيمية -: والصواب أن يقال: أما عدة الوفاة فهي حرم لانقضاء النكاح، ورعاية لحق الزوج، ولهذا تحد المتوفى عنها في عدة الوفاة رعاية لحق الزوج، فجعلت العدة حريماً لحق هذا العقد الذي له خطر وشأن، فيحصل بهذه فصل بين نكاح الأول ونكاح الثاني، ولا يتصل الناكحان، ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عظم حقه، حرم نساؤه بعده، وبهذا اختص الرسول، لأن أزواجه في الدنيا هن أزواجه في الآخرة بخلاف غيره، فإنه لو حرم على المرأة أن تتزوج بغير زوجها، تضررت المتوفى عنها، وربما كان الثاني خيراً لها من الأول. ولكن لو تأيمت على أولاد الأول، لكانت محمودة على ذلك، مستحباً لها، وفي الحديث: (أنا وامرأة سفعاء الخدين، كهاتين يوم القيامة، وأومأ بالوسطى والسبابة، امرأة آمت من زوجها ذات منصب وجمال، وحبست نفسها على يتامى لها حتى بانوا أو ماتوا) . وإذا كان المقتضي لتحريمها قائماً فلا أقل من مدة تتربصها، وقد كانت في الجاهلية تتربص سنة، فخففها الله سبحانه بأربعة أشهر وعشراً، وقيل لسعيد بن المسيب: ما بال العشر؟ قال: فيها ينفخ الروح، فيحصل بهذه المدة براءة الرحم حيث يحتاج إليه، وقضاء حق الزوج إذا لم يحتج إلى ذلك] زاد المعاد في هدي خير العباد 5/665-666.
وقال الإمام الكاساني مبيناً أن عدة الوفاة لها حكمة أخرى وهي: [إظهار الحزن بفوت نعمة النكاح إذ النكاح كان نعمة عظيمة في حقها فإن الزوج كان سبب صيانتها وعفافها وإيفائها بالنفقة والكسوة والمسكن فوجبت عليها العدة إظهاراً للحزن بفوت النعمة وتعريفاً لقدرها] بدائع الصنائع 3/304.
وخلاصة الأمر أن عدة الوفاة فريضة شرعية على كل زوجة مات عنها زوجها عجوزاً كانت أم غير عجوز مدخولاً بها أو غير مدخول بها والحكمة من العدة على وجه القطع لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى وليس لنا إلا أن نقول {سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير} .(15/38)
39 - المعتدة عدة وفاة لا تسافر إلى الحج
السؤال: تكرر السؤال عن سفر المعتدة عدة وفاة إلى الحج حيث سئلت عن ذلك مراراً وقد بينت أنه لا يجوز للمعتدة عدة وفاة أن تسافر إلى الحج وطلبت إحدى السائلات التي توفي زوجها توضيح المسألة بالتفصيل.
الجواب: لا يجوز للمعتدة عدة الوفاة، السفر إلى الحج أو العمرة على الصحيح من أقوال أهل العلم ويجب على المرأة التي يموت عنها زوجها أن تمكث في بيتها ولا تخرج منه إلا لحاجاتها الأساسية وينبغي أن يعلم أن الحج في حق المرأة مشروط وجوبه بأن لا تكون المرأة معتدة عدة وفاة فإن كانت كذلك فليست بمستطيعة للحج ويكون الحج غير واجب عليها وهو شرط متفق عليه بين العلماء على تفاصيل فيه. نظر الموسوعة الفقهية الكويتية 17/38/38 وقال الشيخ ابن قدامةالمقدسي: [ولو كانت عليها حجة الإسلام فمات زوجها، لزمتها العدة في منزلها، وإن فاتها الحج، لأن العدة في المنزل تفوت ولا بدل لها والحج يمكن الإتيان به في غير هذا العام] المغني 8/168. ويدل على ذلك ما ورد في الحديث عن الفُرَيعة بنت مالك وهي أخت أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قالت: (خرج زوجي في طلب عبيد له قد هربوا فأدركهم فقتلوه فأتى نعيه وأنا في دارٍ شاسعة من دور أهلي، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقلت: إن نعي زوجي أتاني في دار شاسعة من دور أهلي ولم يدع نفقة ولا مالاً ورثته وليس المسكن له، فتحولت إلى أهلي وإخواني، فكان أرفق لي في بعض شأني، فقال: (تحولي) ، فلما خرجت إلى المسجد أو إلى الحجرة دعاني فقال: (امكثي في بيتك الذي أتاك فيه نعي زوجك، حتى يبلغ الكتاب أجله) قالت: فاعتددت أربعة أشهر وعشراً، قالت فلما كان عثمان بن عفان أرسل إليَّ فسألني عن ذلك فأخبرته فاتبعه وقضى به) رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وأحمد وصححه الحاكم والذهلي وابن القطان وغيرهم قال أبو عيسى الترمذي: [هذا حديث حسن صحيح والعمل على هذا الحديث عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم لم يروا للمعتدة أن تنتقل من بيت زوجها حتى تنقضي عدتها وهو قول سفيان الثوري والشافعي وأحمد وإسحق. وقال بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم للمرأة أن تعتد حيث شاءت وإن لم تعتد في بيت زوجها قال أبو عيسى والقول الأول أصح] سنن الترمذي 3/509-510 وقال الحافظ ابن عبد البر بعد ذكر حديث الفريعة [هذا مشهور عند الفقهاء بالحجاز والعراق معمول به عندهم تلقوه بالقبول وأفتوا به وإليه ذهب مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم والثوري والأوزاعي والليث بن سعد وأحمد بن حنبل ,كلهم يقول: إن المتوفى عنها زوجها تعتد في بيتها الذي كانت تسكنه وسواء كان لها أو لزوجها ولا تبيت إلا فيه حتى تنقضي عدتها ولها أن تخرج نهارها في حوائجها. وهو قول عمر وعثمان وابن مسعود وأم سلمة وزيد. وبه قال القاسم بن محمد وعروة بن الزبير وابن شهاب. وروى مالك عن حميد بن قيس المكي عن عمرو بن شعيب عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب كان يرد المتوفى عنهن أزواجهن من البيداء يمنعهن الحج. وروى مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه كان يقول: لا تبيت المتوفى عنها زوجها ولا المبتوتة إلا في بيتها] الاستذكار 18/181-182. وقال الحافظ بن عبد البر أيضاً: [قال عروة: وكانت عائشة تفتي المتوفى عنها زوجها بالخروج في عدتها. وروى الثوري عن عبيد الله بن عمر أنه سمع القاسم بن محمد يقول: أبى ذلك الناس عليها والله أعلم. قال أبو عمر: قد أخبر القاسم أن الناس في زمن عائشة - يعني علماء زمانها- أنكروا ذلك عليها وهم طائفة من الصحابة وجلة من التابعين وقد ذكرنا من روينا ذلك عنه في هذا الباب منهم. وجملة القول في هذه المسألة أن فيها للسلف والخلف قولين مع أحدهما سنة ثابتة وهي الحجة عند التنازع ولا حجة لمن قال بخلافها. وليس قول من طعن في إسناد الحديث الوارد بها مما يجب الاشتغال به لأن الحديث صحيح ونقلته معروفون قضى به الأئمة وعملوا بموجبه وتابعهم جماعة فقهاء الأمصار بالحجاز والعراق وأفتوا به تلقوه بالقبول لصحته عندهم] الاستذكار 18/184-185. وقال الإمام ابن العربي المالكي عن حديث الفريعة: [صحيح مليح حسن] عارضة الأحوذي 5/156. ثم قال: [ ... والقرآن يعضد ذلك الحديث فإن الله قد أوجب التربص على المتوفى عنها زوجها فما إلى إخراجها من سبيل وقد قضى به عمر بن الخطاب وكان يرد المعتدات من طريق الحج إلى المدينة] عارضة الأحوذي 5/158. وقد رد العلامة ابن القيم على ابن حزم في تضعيفه لحديثه الفريعة بحجة أن زينب وهي راوية الحديث عن الفريعة أنها مجهولة. قال ابن القيم [وأما قوله إن زينب بنت كعب مجهولة فنعم مجهولة عنده فكان ماذا؟ وزينب هذه من التابعيات وهي امرأة أبي سعيد روى عنها سعد ابن إسحاق بن كعب وليس بسعيد وقد ذكرها ابن حبان في كتاب الثقات] زاد المعاد 5/680. ثم قال: [فهذه امرأة تابعية كانت تحت صحابي وروى عنها الثقات ولم يطعن فيها بحرف واحتج الأئمة بحديثها وصححوه] زاد المعاد 6/681. ثم قال بعد أن ذكر آثاراً عن الصحابة والتابعين في أنها لا تخرج [وهذا قول الإمام أحمد ومالك والشافعي وأبي حنيفة رحمهم الله وأصحابهم والأوزاعي وأبي عبيد وإسحاق ... وحجة هؤلاء حديث الفريعة بن مالك وقد تلقاه عثمان بن عفان رضي الله عنه بالقبول وقضى به بمحضر المهاجرين والأنصار وتلقاه أهل المدينة والحجاز والشام والعراق ومصر بالقبول. ولم يعلم أن أحداً منهم طعن فيه ولا في رواته وهذا مالك مع تحريه وتشدده في الرواية: وقوله للسائل له عن رجل: أثقة هو؟ فقال: لو كان ثقة لرأيته في كتبي: قد أدخله في (موطئه) وبنى عليه مذهبه. قالوا: ونحن لا ننكر النزاع بين السلف في المسألة ولكن السنة تفصل بين المتنازعين قال أبو عمر بن عبد البر: أما السنة فثابتة بحمد الله وأما الإجماع فمستغنى عنه مع السنة لان الاختلاف إذا نزل في مسألة كانت الحجة في قول من وافقته السنة. وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن الزهري قال: أخذ المترخصون في المتوفى عنها بقول عائشة رضي الله عنها وأخذ أهل العزم والورع بقول ابن عمر] زاد المعاد 5/687. وقد ضعف الشيخ الألباني حديث الفريعة كما في إرواء الغليل 7/206. ولكنه تراجع عن تضعيفه كما في صحيح موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان 1/533 وكما في صحيح سنن الترمذي 1/355 وكما في صحيح سنن ابن ماجه 1/345. وقال الشوكاني: [وحديث فريعة لم يأت من خالفه بما ينتهض لمعارضته فالتمسك به متعين] نيل الأوطار 6/337وقال الإمام ابن العربي المالكي عند حديثه على خروج المعتدة عدة وفاة: [الثاني خروج العبادة كالحج والعمرة ... وقد قال عمر وابن عمر: لا يحججن وقد كان عمر رضي الله عنه يرد المعتدات من البيداء يمنعهن الحج. فرأي عمر في الخلفاء ورأي مالك في العلماء وغيرهم أن عموم فرض التربص في زمن العدة مقدم على عموم زمان فرض الحج لا سيما إن قلنا إنه على التراخي. وإن قلنا على الفور فحق التربص آكد من حق الحج لأن حق العدة لله تعالى ثم للآدمي في صيانة مائه وتحرير نسبه وحق الحج خاص لله تعالى] أحكام القرآن 1/209-210. وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن امرأة عزمت على الحج هي وزوجها فمات في شعبان فهل يجوز لها أن تحج؟ فأجاب ليس لها أن تسافر في العدة عن الوفاة إلى الحج في مذهب الأئمة الأربعة] مجموع الفتاوى 34/27-28. وأخيراً فيجب أن يعلم أن القول المخالف في هذه المسألة قول ضعيف لا يصح التمسك به ولا الفتوى به لأنه رأي في مقابل نص صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم كما قرر ذلك الحافظ ابن عبد البر وابن القيم والشوكاني وغيرهم من أهل العلم.
وخلاصة الأمر أن المعتدة عدة وفاة لا تسافر إلى الحج ولو كانت حجة الإسلام فإن سافرت فهي آثمة لمخالفتها للنص الشرعي الآمر لها بالبقاء في بيتها.(15/39)
40 - تحمل الزوج مصاريف علاج الزوجة
تقول السائلة: إنها قرأت فتوى لبعض العلماء تنص على أنه لا يجب على الزوج تحمل مصاريف علاج زوجته ولا يلزمه شراء الدواء لها فما قولكم في ذلك؟
الجواب: اتفق أهل العلم على وجوب إنفاق الزوج على زوجته وقد دل على ذلك نصوص كثيرة من كتاب الله تعالى ومن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم فمنها قوله تعالى: (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) سورة البقرة الآية 233، وقوله تعالى: (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّاءَاتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَاءَاتَاهَا) سورة الطلاق الآية 7. وقوله تعالى: (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ) سورة الطلاق الآية 6.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (أطعموهن مما تأكلون واكسوهن مما تكتسون ولا تضربوهن ولا تقبحوهن) رواه أبو داود وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود 2/402. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (إن هند بنت عتبة قالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح وليس يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم. فقال صلى الله عليه وسلم: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف) رواه البخاري ومسلم
وعن حكيم بن معاوية رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال: أن تطعمها إذا طعمت وتكسوها إذا اكتسيت ولا تقبح الوجه ولا تهجر إلا في البيت) رواه أبو داود وقال الألباني حديث حسن صحيح. انظر صحيح سنن أبي داود 2/402. وقال النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع: (ألا واستوصوا بالنساء خيراً فإنما هن عوان عندكم ... ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا لهن في كسوتهن وطعامهن) رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح، سنن الترمذي مع شرحه التحفة 4/274. وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي 1/341. وغير ذلك من النصوص
قال الشيخ ابن قدامة المقدسي [نفقة الزوجة واجبة بالكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب ... ] ثم ذكر النصوص الموجبة للنفقة من الكتاب والسنة ثم قال [وفيه دلالة على وجوب النفقة لها على زوجها وأن ذلك مقدر بكفايتها وأن نفقة ولده عليه دونها مقدر بكفايتهم، وأن ذلك بالمعروف وأن لها أن تأخذ ذلك بنفسها من غير علمه إذا لم يعطها إياه.
وأما الإجماع فاتفق أهل العلم على وجوب نفقات الزوجات على أزواجهن، إذا كانوا بالغين إلا الناشز منهن ذكره ابن المنذر وغيره وفيه ضرب من العبرة، وهو أن المرأة محبوسة على الزوج يمنعها من التصرف والاكتساب فلا بد من أن ينفق عليها ... ] المغني 8/195
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [وقال الطبري ما ملخصه: الإنفاق على الأهل واجب والذي يعطيه يؤجر على ذلك بحسب قصده ولا منافاة بين كونها واجبة وبين تسميتها صدقة بل هي من صدقة التطوع وقال المهلب: النفقة على الأهل واجبة بالإجماع وإنما سماها الشارع صدقة خشية أن يظنوا أن قيامهم بالواجب لا أجر لهم فيه وقد عرفوا ما في الصدقة من الأجر فعرّفهم أنها لهم صدقة حتى لا يخرجوها إلى غير الأهل إلا بعد أن يكفوهم ترغيباً لهم في تقديم الصدقة الواجبة قبل صدقة التطوع] فتح الباري 11/425.
وبعد اتفاق الفقهاء على وجوب النفقة على الزوج اختلفوا في أنواع النفقة الزوجية فأوجبوا على الزوج أن ينفق على زوجته فيما يتعلق بالمأكل والمشرب والملبس والمسكن وذهب جمهور الفقهاء بما فيهم أصحاب المذاهب الأربعة إلى عدم وجوب أجرة الطبيب ولا ثمن العلاج على الزوج وخالف آخرون فأوجبوا ذلك على الزوج ويجب أن يعلم أولاً أن المسألة ليس فيها نصوص خاصة وإنما هي مسألة اجتهادية وللعرف فيها اعتبار وقال ابن عبد الحكم الفقيه المالكي بوجوب تحمل الزوج لنفقات علاج زوجته وهو قول الزيدية وهذا قول وجيه يؤيده عموم النصوص الواردة بالإنفاق على الزوجة بالمعروف وحسن معاشرتها بالمعروف أيضاً وقد مشت معظم قوانين الأحوال الشخصية على هذا الرأي وأفتى به جماعة كبيرة من أهل العلم المعاصرين فقد ورد في المادة رقم 66 من قانون الأحوال الشخصية المعمول به في المحاكم الشرعية في بلادنا ما يلي: [نفقة الزوجة تشمل الطعام والكسوة والسكنى والتطبيب بالقدر المعروف ... ]
ويحتج لهذا القول بالعمومات الواردة كما في قوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} سورة النساء الآية 19
قال الإمام القرطبي: [قوله تعالى: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) أي على ما أمر الله به من حسن المعاشرة والخطاب للجميع إذ لكل أحد عشرة زوجاً كان أو ولياً ولكن المراد بهذا الأمر في الأغلب الأزواج وهو مثل قوله تعالى: (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ) وذلك توفية حقها من المهر والنفقة وألا يعبس في وجهها بغير ذنب وأن يكون منطلقاً في القول لا فظاً ولا غليظاً ولا مظهراً ميلاً إلى غيرها، والعشرة: المخالطة والممازجة ... فأمر الله سبحانه بحسن صحبة النساء إذا عقدوا عليهن لتكون أدمة ما بينهم وصحبتهم على الكمال فإنه أهدأ للنفس وأهنأ للعيش وهذا واجب على الزوج ... ] تفسير القرطبي 5/97. ولا شك أن معالجة الزوجة إن مرضت وتأمين الدواء لها من المعاشرة بالمعروف وكذلك قوله تعالى: (وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف) فإن أجرة العلاج وثمن الدواء داخل في الرزق
ويدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لهند زوجة أبي سفيان (خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف) فهذا يشمل كل ما تحتاج إليه الزوجة وأولادها ويدخل فيه الأدوية وأجرة العلاج. ولعل جمهور الفقهاء الذين قالوا بعدم وجوب أجرة العلاج على الزوج بنوا هذا الحكم على ما كان معروفاً في زمانهم وخاصة أن الناس كانوا يعتنون بصحتهم ويتعالجون بأدوية طبيعية غير مكلفة وأما في زماننا فقد اختلفت الأمور كثيراً وصار العلاج مكلفاً وكذا ما يترتب على ذلك من أجور المستشفيات ونحوها قال العلامة ابن عابدين الحنفي في منظومته: والعرف له اعتبار فلذا الحكم عليه قد يدار
انظر نشر العرف في بناء بعض الأحكام على العرف في الجزء الثاني من رسائل العلامة ابن عابدين ص112
ويجب أن يعلم أن هذا الإنفاق يؤجر عليه الزوج أجراً عظيماً فقد جاء في الحديث عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (دينار أنفقته في سبيل الله ودينار أنفقته في رقبة ودينار تصدقت به على مسكين ودينار أنفقته على أهلك أعظمها أجراً الذي أنفقته على أهلك) رواه مسلم. وقال صلى الله عليه وسلم: (أفضل دينار ينفقه الرجل دينار ينفقه على عياله) رواه مسلم.
وعن أبي مسعود البدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أنفق الرجل على أهله نفقة يحتسبها فهي له صدقة) رواه البخاري ومسلم. وعن سعد رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنك مهما أنفقت على أهلك من نفقة فإنك تؤجر حتى اللقمة ترفعها إلى فيّ امرأتك) رواه البخاري ومسلم.
وخلاصة الأمر أنه يلزم الزوج معالجة زوجته المريضة وعليه تحمل تكاليف علاجها ما دام مستطيعاً ويكون ذلك حسب العرف السائد في المجتمع.(15/40)
41 - تحريم الزوجة زوجها على نفسها لغو
يقول السائل: تخاصمت امرأة مع زوجها فسبها مسبة قذرة جداً ... فأقسمت المرأة أنها تُحرم العيش معه وهي تقصد بالعيش معه الحياة الزوجية فهجرته وهجرها أسبوعاً ثم اصطلحا وقد صامت ثلاثة أيام كفارة عن قسمها فما حكم ذلك؟
الجواب: الأصل في الحياة الزوجية أن تقوم على المودة والرحمة والمحبة والتفاهم قال تعالى: (وَمِنْءَايَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) سورة الروم الآية 21. قال بعض أهل التفسير: المودة المحبة والرحمة الشفقة وقال ابن عباس رضي الله عنهما: [المودة حب الرجل امرأته والرحمة رحمته إياها أن يصيبها سوء] تفسير القرطبي 14/17. ولكن من المشاهد أنه لا بد أن تشوب الحياة الزوجية مشكلات ونفور بين الزوجين ومهما حصل من مشكلات فلا يجوز استعمال الألفاظ البذيئة فذلك محرم على الزوجين فقد ورد في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس المؤمن بالطعان ولا باللعان ولا الفاحش ولا البذيء) رواه الترمذي وابن حبان والحاكم وصححاه. كما ينبغي أن يعلم أنه لا يجوز للزوج أن يهجر زوجته في الكلام فوق ثلاثة أيام لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام) رواه البخاري ومسلم. وأما الهجر في المضجع المذكور في قوله تعال {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِع} سورة النساء الآية 34. فهذا الهجر سببه النشوز وأجازه جماعة من العلماء إلى شهر كما هجر النبي صلى الله عليه وسلم نسائه شهراً.
إذا تقرر هذا فإن تحريم المرأة العيش مع زوجها أو تحريمه على نفسها لا أثر له على الزواج ولا عبرة به ولكنه أمر محرم فلا يجوز للمسلم أن يحرم ما أحل الله له، لأن ذلك من الاعتداء على شرع الله ويدل على ذلك قوله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) سورة المائدة /87
وإنما يعتبر هذا التحريم يميناً على الراجح من أقوال أهل العلم. فهذه المرأة حرمت على نفسها ما أحل الله تعالى فيلزمها كفارة يمين ويدل على ذلك قوله تعالى: (يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) سورة التحريم الآيتان1-2. فالله سبحانه وتعالى سمَّى تحريم ما أحل الله يميناً، وفرض تحلة اليمين، وهي كفارة اليمين، قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [ويروى نحو هذا عن ابن مسعود والحسن وجابر بن زيد وقتادة وإسحاق وأهل العراق، وقال سعيد بن جبير، فيمن قال الحلال حرام عليَّ، يمين من الأيمان يكفرها.... وعن الضحاك، أن أبا بكر وعمر وابن مسعود قالوا الحرام يمين....] المغني 9/508.
وقد ثبت في الحديث، عن عبيد بن عمير قال: سمعت عائشة رضي الله عنها تقول: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمكث عند زينب ابنة جحش، ويشرب عندها عسلاً، فتواصيت أنا وحفصة، أنَّ أيَتنا دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلتقل: " إني لأجد ريح مغافير، أكلت مغافير؟ - وهو نوع من النبات له رائحة كريهة - فدخل على إحداهما فقالت له ذلك، فقال: لا بأس شربت عسلاً عند زينب ابنة جحش، ولن أعود، فنزلت الآية (يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ.... إلى (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا (لعائشة وحفصة) (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا) -لقوله بل شربت عسلاً) رواه البخاري ومسلم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: [وسبب نزول هذه الآية إما تحريمه العسل وإما تحريمه مارية القبطية، وعلى التقديرين فتحريم الحلال يمين على ظاهر الآية وليس يميناً بالله، ولهذا أفتى جمهور الصحابة، كعمر وعثمان وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وغيرهم، أن تحريم الحلال يمين مكفرة] مجموع الفتاوى 35/271 - 272. وروى عبد الرزاق في المصنف بسنده عن الحسن البصري قال: " إن قال: كل حلالٍ عليَّ حرام، فهو يمين، وكان قتادة يفتي به " المصنف 6/402. وروى ابن أبي شيبة بأسانيده عن عمر وعائشة وابن عباس أنهم قالوا: " الحرام يمين " المصنف 5/37. وروى ابن أبي شيبة أيضاً عن عمر بن ذر قال: " سألت الشعبي عن رجلٍ قال " كل حلالٍ عليَّ حرام "، قال: لا يوجب طلاقاً ولا يحرم حلالاً، يكفر عن يمينه " المصنف 5/75.
وبناءً على ما تقدم فيلزم هذه المرأة أن تكفر كفارة يمين وصومها ثلاثة أيام لا يصح كفارةً ليمينها إلا إذا عجزت عن إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة فكفارة اليمين هي المذكورة في قوله تعالى: (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْءَايَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) سورة المائدة الآية 89. فكفارة اليمين إما إطعام عشرة مساكين أو كسوة عشرة مساكين أو عتق رقبة على التخيير أي أن الحالف يختار واحدة من هذه الخصال الثلاث فإذا كان فقيراً عاجزاً عن التكفير بإحدى هذه الخصال فإنه يصوم ثلاثة أيام وبناء على ذلك لا يجوز التكفير بصيام ثلاثة أيام إذا كان الشخص قادراً على ما سبق. ويجوز إخراج قيمة الإطعام أو الكسوة نقداً كما هو مذهب الحنفية.
وينبغي أن يعلم أنه كما اعتبرنا تحريم المرأة زوجها على نفسها لا أثر له على الزواج فكذلك لو تلفظت المرأة بطلاق زوجها أو ظاهرت منه ونحو ذلك فكله يعتبر لغواً لا أثر له على الزواج لأن العبرة أن يصدر الطلاق أو الظهار من الزوج وعلى ذلك دلت النصوص من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم كما في قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن} سورة الأحزاب الآية 49 وقال تعالى {وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف} سورة البقرة الاية231. وقال تعالى: {والذين يظاهرون من نسائهم} سورة المجادلة الآية 3. وقد حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الطلاق بيد الزوج لا بيد غيره كما في حديث ابن عباس رضي الله عنه (قال أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال يا رسول الله سيدي زوجني أمته وهو يريد أن يفرق بيني وبينها. قال فصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر فقال: (يا أيها الناس ما بال أحدكم يزوج عبده أمته ثم يريد أن يفرق بينهما إنما الطلاق لمن أخذ بالساق) رواه ابن ماجة والدارقطني والبيهقي وهو حديث حسن كما قال الشيخ الألباني في إرواء الغليل 7/108. وقال العلامة ابن القيم [وحديث ابن عباس المتقدم وإن كان في إسناده ما فيه فالقرآن يعضده وعليه عمل الناس] زاد المعاد في هدي خير العباد 5/ 278.
وخلاصة الأمر أن تحريم هذه المرأة العيش مع زوجها لا أثر له على الزواج ويعتبر يميناً وتلزمها كفارة اليمين المذكورة في الآية الكريمة كما بينت.(15/41)
42 - الحمل والإجهاض
يقول السائل: ما قولكم فيمن يقول بجواز إسقاط الحمل الناتج عن اغتصاب مهما كان عمر الجنين لأن ذلك من باب الستر على الفتاة البريئة؟
الجواب: لاشك أن الزنا من أفظع الجرائم وتزداد فظاعته في حق الرجل عندما يكون مغتصباً قال الله تعالى {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} سورة الإسراء الآية 32
والفتاة المغتصبة لا إثم عليها حيث إنها مكرهة لما ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) رواه الطبراني والدارقطني والحاكم بألفاظ مختلفة وصححه ابن حبان والحاكم ووافقه الذهبي.
كما أن المكرهة لا حد عليها قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [ولا حد على مكرهة في قول عامة أهل العلم روي ذلك عن عمر والزهري وقتادة والثوري والشافعي وأصحاب الرأي ولا نعلم فيه مخالفاً وذلك لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عفي لأمتي عن الخطأ , والنسيان وما استكرهوا عليه) وعن عبد الجبار بن وائل عن أبيه (أن امرأة استكرهت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلمفدرأ عنها الحد) رواه الأثرم قال: وأتي عمر بإماءٍ من إماء الإمارة , استكرههن غلمان من غلمان الإمارة فضرب الغلمان ولم يضرب الإماء وروى سعيد بإسناده عن طارق بن شهاب: قال: أتي عمر بامرأة قد زنت , فقالت: إني كنت نائمة فلم أستيقظ إلا برجل قد جثم عليَّ فخلى سبيلها ولم يضربها، ولأن هذا شبهة والحدود تدرأ بالشبهات ولا فرق بين الإكراه بالإلجاء وهو أن يغلبها على نفسها وبين الإكراه بالتهديد بالقتل ونحوه ونص عليه أحمد , في راعٍ جاءته امرأة قد عطشت فسألته أن يسقيها , فقال لها: أمكنيني من نفسك قال: هذه مضطرة وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهأن امرأة استسقت راعياً فأبى أن يسقيها إلا أن تمكنه من نفسها ففعلت , فرفع ذلك إلى عمر فقال لعلي: ما ترى فيها؟ قال: إنها مضطرة فأعطاها عمر شيئاً وتركها.] المغني 9/59-60.
إذا تقرر هذا فإن الأصل هو تحريم الإجهاض قبل مرور مئة وعشرين يوماً على الحمل إلا لعذر مشروع على الراجح من أقوال العلماء وأما بعد مضي مئة وعشرين يوماً فقد اتفق أهل العلم على تحريم الإجهاض بعد مرور مائة وعشرين يوماً على الحمل؛ لأن الروح تنفخ في الجنين عند مرور تلك المدة على رأي كثير من العلماء لما ثت في حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق قال: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكاً فيأمر بأربع: برزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد ثم ينفخ فيه الروح …) رواه البخاري. ويستثنى من هذا الحكم حالة واحدة فقط، وهي إذا ثبت بتقرير لجنة من الأطباء الثقات أهل الاختصاص أن استمرار الحمل يشكل خطراً مؤكداً على حياة الأم فحينئذ يجوز إسقاط الحمل.
وقد جاء في قرار المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة ما يلي: [إذا كان الحمل قد بلغ مائة وعشرين يوماً لا يجوز إسقاطه ولو كان التشخيص الطبي يفيد أنه مشوه الخلقة إلا إذا ثبت بتقرير لجنة طبية من الأطباء المختصين أن بقاء الحمل فيه خطر مؤكد على حياة الأم فعندئذ يجوز إسقاطه سواء كان مشوهاً أم لا دفعاً لأعظم الضررين] قرارات المجمع الفقهي الإسلامي ص 123
وجاء في فتوى للجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالسعودية: " من الضروريات الخمس التي دلّت عليها نصوص الكتاب والسنة دلالة قاطعة على وجوب المحافظة عليها وأجمعت الأمة على لزوم مراعاتها حفظ نفس الإنسان وهو في المرتبة الثانية بعد حفظ الدين سواء كانت النفس حملاً قد نفخ فيه الروح أم كانت مولودة ... فلا يجوز الاعتداء عليها بإجهاض إن كانت حملاً قد نفخ فيه الروح أو بإعطائها أدوية تقضي على حياتها وتجهز عليها، طلباً لراحتها أو راحة من يعولها أو تخليصاً للمجتمع من أرباب الآفات والعاهات والمشوهين والعاطلين، أو غير ذلك مما يدفع بالناس إلى التخلص لعموم قوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالحَقّ} وذلك لأن الجنين بعد نفخ الروح أصبح نفساً، يجب صيانتها والمحافظة عليها]
وأما إسقاط الجنين الناتج عن اغتصاب قبل المئة والعشرين يوماً فله وجه شرعي وقال به بعض أهل العلم وخاصة إن خشي قتل الأم بسبب الأعراف الاجتماعية والعادات والتقاليد السائدة.
وبناءً على ما تقدم يحرم الإجهاض بعد مرور مئة وعشرين يوماً على الحمل بغض النظر عن سبب الحمل هل الحمل حمل شرعي أم حمل ناتج عن زنا برضاً من المرأة والرجل أو كان نتيجة اغتصاب وإكراه؟ ودعوى جواز الإجهاض لستر الفتاة المغتصبة دعوى غير مقبولة شرعاً لما في ذلك من الاعتداء على نفس معصومة وهي الجنين بعد نفخ الروح فيه فما ذنب هذه النفس لتقتل من أجل دفع العار عن أمه ولا شك أن حفظ النفس مقدم على مسألة الستر المدعاة ومن المعلوم أن الإسلام قد شرع كثيراً من الأحكام الشرعية للمحافظة على الجنين فأجاز للحامل أن تفطر في رمضان إذا خافت على نفسها أو جنينها فقد ورد في الحديث عن أنس بن مالك - رجل من بني عبد الله بن كعب - رضي الله عنه: [قال أغارت علينا خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدته يتغدى فقال: ادن فكل. فقلت: إني صائم. فقال: ادن أحدثك عن الصوم أو الصيام إن الله وضع عن المسافر شطر الصلاة وعن الحامل والمرضع الصوم أو الصيام. واللهِ لقد قالهما النبي صلى الله عليه وسلم كليهما أو أحدهما فيا لهف نفسي أن أكون طعمت من طعام النبي صلى الله عليه وسلم] رواه أبو داود والنسائي والترمذي وقال: حديث أنس بن مالك الكعبي حديث حسن … والعمل على هذا عند أهل العلم. عارضة الأحوذي 3/188. وقال الشيخ الألباني: [حسن صحيح] انظر صحيح سنن الترمذي 1/218. وأجاز الشرع لها أن تؤجل الحج بسبب الحمل وإن حجت فأجاز لها أن تنيب عنها في بعض المناسك كما أن المرأة الحامل من زنا لا يقام عليها الحد حال حملها لما ورد في الحديث عن بريدة رضي الله عنه قال [ ... جاءت امرأة من غامد من الأزد فقالت يا رسول الله طهرني فقال ويحك ارجعي فاستغفري الله وتوبي إليه فقالت أراك تريد أن ترددني كما رددت ماعز بن مالك قال وما ذاك قالت إنها حبلى من الزنى فقال آنت قالت نعم فقال لها حتى تضعي ما في بطنك قال فكفلها رجل من الأنصار حتى وضعت قال فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال قد وضعت الغامدية فقال إذا لا نرجمها وندع ولدها صغيراً ليس له من يرضعه فقام رجل من الأنصار فقال إليَّ رضاعه يا نبي الله قال فرجمها) رواه مسلم قال الإمام النووي: [قوله: (فقال لها: حتى تضعي ما في بطنك) فيه: أنه لا ترجم الحبلى حتى تضع , سواء كان حملها من زنا أو غيره , وهذا مجمع عليه لئلا يقتل جنينها , وكذا لو كان حدها الجلد وهي حامل لم تجلد بالإجماع حتى تضع] شرح النووي على صحيح مسلم 11/201
وخلاصة الأمر أن ما ذكر في السؤال من جواز إجهاض الحمل الناتج عن اغتصاب بغض النظر عن عمر الجنين هو رأي غير صحيح ومخالف لما قرره أهل العلم قديماً وحديثاً.(15/42)
43 - الرجعة في الطلاق
يقول السائل: حصل خلاف بين زوج وزوجته فطلقها فذهبت الزوجة إلى بيت أبيها وقبل انقضاء عدتها نوى الزوج في نفسه إرجاعها وبقيت الزوجة ثمانية أشهر في بيت أبيها ثم أرجعها بعد أن سأل أحد المشايخ فأفتاه بأنه لا شيء عليه ورجعته لزوجته صحيحة وهي الآن تعيش مع زوجها فما قولكم في ذلك؟
الجواب: الرجعة هي أن يرد الزوج زوجته بعد طلاق غير بائن ويكون ذلك قبل انقضاء العدة والرجعة مشروعة بكتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} سورة البقرة الآية 229.
قال ابن كثير: [وقوله: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} أي إذا طلقتها واحدة أو اثنتين فأنت مخير فيها ما دامت عدتها باقية بين أنت تردها إليك ناوياً الإصلاح بها والإحسان إليها وبين أن تتركها حتى تنقضي عدتها فتبين منك وتطلق سراحها محسناً إليها لا تظلمها من حقها شيئاً ولا تضار بها] تفسير ابن كثير 1/546-547.
وقال تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} سورة البقرة الآية 228.
قال القرطبي: [ثم قوله: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} حكم خاص فيمن كان طلاقها دون الثلاث وأجمع العلماء على أن الحر إذا طلق زوجته الحرة وكانت مدخولاً بها تطليقة أو تطليقتين أنه أحق برجعتها ما لم تنقض عدتها وإن كرهت المرأة فإن لم يراجعها المطلق حتى انقضت عدتها فهي أحق بنفسها وتصير أجنبية منه لا تحل له إلا بخطبة ونكاح مستأنف بولي وإشهاد ليس على سنة المراجعة وهذا إجماع من العلماء] تفسير القرطبي 3/120.
وورد في الحديث عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق حفصة رضي الله عنها ثم راجعها) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وقال الشيخ الألباني صحيح، انظر صحيح سنن أبي داود 2/432. وروى الإمام البخاري بإسناده عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما (أنه طلق امرأته وهي حائض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل عمر بن الخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسل مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسك بعد وإن شاء طلق قبل أن يمس فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء) وغير ذلك من الأحاديث.
وينبغي للزوج أن يراجع زوجته حفاظاً على الأسرة ورعاية للأطفال حتى لا يتعرضوا للتشريد والضياع والرجعة تصح بالقول باتفاق العلماء كأن يقول الزوج لزوجته راجعتك أو أرجعتك أو يقول أرجعت زوجتي ونحو ذلك من العبارات الصريحة الدالة على الرجعة. قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [فأما القول فتحصل به الرجعة بغير خلاف وألفاظ راجعتك وارتجعتك ورددتك وأمسكتك لأن هذه الألفاظ ورد بها الكتاب والسنة فالرد والإمساك ورد بهما الكتاب بقوله سبحانه: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} وقال: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} يعني الرجعة. والرجعة وردت بها السنة بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (مره فليراجعها) وقد اشتهر هذا الاسم فيها بين أهل العرف كاشتهار اسم الطلاق فإنهم يسمونها رجعة والمرأة رجعية ويتخرج أن يكون لفظها هو الصريح وحده لاشتهاره دون غيره كقولنا في صريح الطلاق، والاحتياط أن يقول: راجعت امرأتي إلى نكاحي أو زوجتي أو راجعتها لما وقع عليها من طلاقي] المغني 7/524. وقال جمهور أهل العلم بأن الزوج إذا أرجع زوجته فمن السنة أن يشهد على ذلك لقوله تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} سورة الطلاق الآية 2. قال ابن كثير: [وقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} أي على الرجعة إذا عزمت عليها كما رواه أبو داود وابن ماجة عن عمران بن حصين رضي الله عنه أنه سئل عن الرجل يطلق امرأته ثم يقع بها ولم يشهد على طلاقها ولا على رجعتها فقال: طلقت لغير سنة ورجعت لغير سنة أشهد على طلاقها وعلى رجعتها ولا تعد. وقال ابن جريج: كان عطاء يقول: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} قال: لا يجوز في نكاح ولا طلاق ولا رجاع إلا شاهدا عدل كما قال الله عز وجل إلا أن يكون من عذر] تفسير ابن كثير 6/239.
وقد حمل أكثر أهل العلم الأمر في قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} على الندب مع أن الأصل في الأمر أنه يفيد الوجوب. قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [فأما الشهادة ففيها روايتان: إحداهما: تجب، وهذا أحد قولي الشافعي، لأن الله تعالى قال: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} وظاهر الأمر الوجوب ولأنه استباحة بضعٍ مقصود فوجبت الشهادة فيه كالنكاح وعكسه البيع. والرواية الثانية: لا تجب الشهادة، وهي اختيار أبي بكر، وقول مالك، وأبي حنيفة. لأنها لا تفتقر إلى قبول فلم تفتقر إلى شهادة كسائر حقوق الزوج، ولأن ما لا يشترط فيه الولي لا يشترط فيه الإشهاد كالبيع، وعند ذلك يحمل الأمر على الاستحباب ولا خلاف بين أهل العلم في أن السنة الإشهاد] المغني 7/522-523. وقال القرطبي: [الإشهاد عند أكثر العلماء على الرجعة ندب] تفسير القرطبي 18/158.
وتصح الرجعة عند جمهور العلماء بالفعل كما تصح بالقول وذلك بأن يجامع الرجل مطلقته الرجعية وكذلك تصح الرجعة بمقدمات الجماع كاللمس بشهوة والقبلة بشهوة ونحو ذلك مع نية الزوج إرجاعها وهذا أرجح أقوال أهل العلم في المسألة.
إذا تقرر هذا فأعود إلى السؤال فأقول أولاً: الواجب أن لا تخرج المطلقة الرجعية من بيت الزوجية لقول الله سبحانه وتعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا) سورة الطلاق الآية 1. ويؤخذ من هذه الآية الكريمة أن المرأة المطلقة تقضي عدتها في بيت الزوجية (لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ) فأضاف الله عز وجل البيوت لهن. قال القرطبي: [أي ليس للزوج أن يخرجها من مسكن النكاح ما دامت في العدة ولا يجوز لها الخروج أيضاً لحق الزوج إلا لضرورة ظاهرة فإن خرجت أثمت ولا تنقطع العدة والرجعية والمبتوتة في هذا سواء. وهذا لصيانة ماء الرجل. وهذا معنى إضافة البيوت إليهن كقوله تعالى: (وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْءَايَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ) وقوله تعالى: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ) فهو إضافة إسكان وليس إضافة تمليك] تفسير القرطبي 18/154. وقد نص قانون الأحوال الشخصية المطبق في المحاكم الشرعية في بلادنا في المادة 146 على ذلك فقد جاء فيها (تعتد معتدة الطلاق الرجعي والوفاة في البيت المضاف للزوجين بالسكن قبل الفرقة) .
ثانياً: إن الرجعة لا تصح بالنية المجردة عن القول أو الفعل. فهذا الزوج المذكور في السؤال لم يرجع زوجته الرجعة المعتبرة شرعاً.
ثالثاً: بناءً على ما تقدم فإن عودة الزوجين إلى المعاشرة الزوجية حرام شرعاً لأن الرجعة الشرعية الصحيحة لم تقع وما حصل بينهما إنما هو وطء بشبهة وعليهما تجديد عقد الزواج بمهر جديد لأن العدة قد انقضت ولم يرجع الزوج زوجته بطريق شرعي صحيح فالواجب أن يجددا عقد الزواج وأن يتوبا إلى الله سبحانه وتعالى توبة صادقة.
رابعاً: إن الشيخ الذي أفتى بأن الرجعة صحيحة قد أخطأ في فتواه وقوله غير صحيح ولا أعلم أحداً من أهل العلم قال بفتواه الخاطئة وهذا من الإفتاء بغير علم ومن الجرأة على دين الله عز وجل وإن التسرع في الفتيا خطأ وخطر يفضي إلى عدم إصابة الحق والجرأة على الله تعالى والوقوع فيما نهى عنه يقول تعالى: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) ، ومن أفتى بغير علم فعمل بفتواه عامل كان إثم العامل على من أفتاه، وقال عمر بن الخطاب: " أجرؤكم على الفتيا، أجرؤكم على النار". فلا ينبغي لأحد أن يقتحم حمى الفتوى ولمَّا يتأهل لذلك، وقد قرر أهل العلم أن من أفتى وليس بأهل للفتوى فهو آثم عاص. وكان شيخ الإسلام ابن تيمية شديد الإنكار على أدعياء العلم الذين يتصدرون للفتيا فقال له بعضهم يوماً: أجعلت محتسباً على الفتوى؟ فقال له: " يكون على الخبازين والطباخين محتسب ولا يكون على الفتوى محتسب"
فعلى هذا الشيخ أن يتق الله في نفسه وفي الناس الذين يفتيهم بغير علم(15/43)
44 - حدود طاعة الوالدين
يقول السائل: إن الإسلام أوجب طاعة الوالدين ولكن ما هي حدود طاعة الوالدين؟
الجواب: طاعة الوالدين من أوجب الواجبات التي أمر بها الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم وحق الوالدين عظيم ولهذا جاء حقهما في الترتيب بعد حق الله تعالى مباشرة. قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} سورة الإسراءالآيتان23-24. وقال الله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً} سورة النساء الآية 36. وقال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} سورة العنكبوت الآية8 وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أفضل الأعمال أو العمل الصلاة لوقتها وبر الوالدين) رواه مسلم. وعن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رضا الرب في رضا الوالد وسخط الرب في سخط الوالد) رواه الترمذي وابن حبان وهو حديث صحيح كما قال الشيخ الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة حديث رقم 516. ويجب أن يعلم أن طاعة الوالدين من أسباب تفريج الكرب والمصائب كما صح في الحديث عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (بينما ثلاثة نفر يتمشون أخذهم المطر فأووا إلى غار في جبل فانحطت على فم غارهم صخرة من الجبل فانطبقت عليهم فقال بعضهم لبعض انظروا أعمالاً عملتموها صالحة لله فادعوا الله تعالى بها لعل الله يفرجها عنكم فقال أحدهم اللهم إنه كان لي والدان شيخان كبيران وامرأتي ولي صبية صغار أرعى عليهم فإذا أرحت عليهم حلبت فبدأت بوالدي فسقيتهما قبل بني وأنه نأى بي ذات يوم الشجر فلم آت حتى أمسيت فوجدتهما قد ناما فحبت كما كنت أحلب فجئت بالحلاب فقمت عند رؤوسهما أكره أن أوقظهما من نومهما وأكره أن أسقي الصبية قبلهما والصبية يتضاغون عند قدمي فلم يزل ذلك دأبي ودأبهم حتى طلع الفجر فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا منها فرجة نرى منها السماء ففرج الله منها فرجة فرأوا منها السماء وقال الآخر اللهم إنه كانت لي ابنة عم أحببتها كأشد ما يحب الرجال النساء وطلبت إليها نفسها فأبت حتى آتيها بمائة دينار فتعبت حتى جمعت مائة دينار فجئتها بها فلما وقعت بين رجليها قالت يا عبد الله اتق الله ولا تفتح الخاتم إلا بحقه فقمت عنها فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا منها فرجة ففرج لهم وقال الآخر اللهم إني كنت استأجرت أجيراً بفرق أرز فلما قضى عمله قال أعطني حقي فعرضت عليه فرقه فرغب عنه فلم أزل أزرعه حتى جمعت منه بقراً ورعاءها فجاءني فقال اتق الله ولا تظلمني حقي قلت اذهب إلى تلك البقر ورعائها فخذها فقال اتق الله ولا تستهزئ بي فقلت إني لا أستهزئ بك خذ ذلك البقر ورعاءها فأخذه فذهب به فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا ما بقي ففرج الله ما بقي) رواه مسلم. وكذلك فإن عقوق الوالدين من أكبر الكبائر ومن أسباب دخول جهنم والعياذ بالله فقد ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاثاً، قالوا: بلى يا رسول الله. قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وجلس وكان متكئاً، فقال: ألا وقول الزور. قال: فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت) رواه البخاري ومسلم. وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة لا ينظر الله عز وجل إليهم يوم القيامة العاق لوالديه والمرأة المترجلة والديوث) رواه أحمد والنسائي وابن حبان وقال الشيخ الألباني: حسن صحيح انظر صحيح سنن النسائي 2/541. وغير ذلك من النصوص الكثيرة، إذا تقرر هذا فإن طاعة الوالدين ليست مطلقة وإنما لها حدود لا يجوز تعديها وأهم هذه الحدود أن طاعة الوالدين إنما تكون في المعروف فإذا أمر الوالدان ولدهما بمعصية فلا طاعة لهما قال الله تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} سورة لقمان: 15. ويدل على ذلك أيضا قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنما الطاعة في المعروف) رواه البخاري ومسلم
وجاء في حديث آخر عن عمران بن حصين رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا طاعة لأحد في معصية الخالق) رواه أحمد والبزار وقال الحافظ ابن حجر: وسنده قوي. فتح الباري 5/241، وقال الشيخ الألباني: وإسناده صحيح على شرط مسلم. وجاء في رواية أخرى: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) وهي رواية صحيحة. راجع سلسلة الأحاديث الصحيحة للشيخ الألباني 1/137-144. وقال الحسن البصري: [إن منعته أمه عن صلاة العشاء في الجماعة شفقة لم يطعها] رواه البخاري تعليقاً. فإذا أمر الوالدان أو أحدهما ولدهما بمعصية أو منكر فلا تجب طاعتهما لما تقدم من الأدلة وعلى الولد أن يرفض طاعة والديه إذا أمراه بمعصية ولكن برفق وحكمة دون أن يسيء لهما بالقول ولا بد من معاملتهما معاملة كريمة طيبة حتى لو كانا كافرين كما قال تعالى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} سورة لقمان الآية 15. وقد ورد في الحديث عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: قدمت عليَّ أمي وهي مشركة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: إن أمي قدمت وهي راغبة، أفأصِل أمي؟ قال: نعم، صِلي أمك. رواه البخاري ومسلم. وكذلك فإن الولد غير ملزم بطاعة والديه فيما يتعلق بشؤونه الخاصة ما دام أنه ملتزم فيها بشرع الله مثل أن يلزماه بأن يتزوج امرأة معينة كما تفعل بعض الأمهات من إلزام ولدها من الزواج من إحدى قريباتها أو أن يطلق زوجته بسبب خلاف وقع بين الأم وزوجة الابن وكذلك الأمر بالنسبة للبنت إذا أجبرها أبوها على الزواج من شخص لا ترضاه كأن يكون فاسقاً أو سيء الأخلاق ولو كان ابن عمها وفي هذه الحالات وأمثالها إذا امتنع الولد من طاعة والديه لم يكن عاقاً قال شيخ الإسلام ابن تيمية [ليس لأحد الأبوين أن يلزم الولد بنكاح من لا يريد وأنه إذا امتنع لا يكون عاقاً وإذا لم يكن لأحد أن يلزمه بأكل ما ينفر عنه مع قدرته على أكل ما تشتهيه نفسه كان النكاح كذلك وأولى فإن أكل المكروه مرارة ساعة وعشرة المكروه من الزوجين على طول يؤذي صاحبه كذلك ولا يمكن فراقه] مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 32/30. وإن احتج أحد بما ورد في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنه قال (كانت لي امرأة أحبها وكان أبي – أي عمر بن الخطاب رضي الله عنه - يكرهها فأمرني أبي أن أطلقها فأبيت فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال يا عبد الله بن عمر طلق امرأتك) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح وهذا الاحتجاج فيه نظر لأن عمر رضي الله عنه عندما أمر ابنه بطلاق زوجته كان له سبب شرعي لذلك وأين آباء اليوم من عمر رضي الله عنه!!! وقد جاء رجل إلى الإمام أحمد بن حنبل فقال: إن أبي يأمرني أن أطلق زوجتي؟ فقال له الإمام أحمد: لا تطلقها، فقال الرجل: أليس الرسول صلى الله عليه وسلم قد أمر عبد الله بن عمر أن يطلق زوجته حين أمره عمر بذلك؟ فقال الإمام أحمد: وهل أبوك مثل عمر؟ وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن رجل متزوج، وله أولاد، ووالدته تكره الزوجة وتشير عليه بطلاقها هل يجوز له طلاقها؟ فأجاب: لا يحل له أن يطلقها لقول أمه؛ بل عليه أن يبر أمه، وليس تطليق امرأته من بِرِّها. وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية أيضاً عن امرأة ووجها مُتَّفِقَين وأمُّها تريد الفرقة فلم تطاوعها البنت فهل عليها إثمٌ في دعاء أمها عليها؟ فأجاب رحمه الله: [إذا تزوجت المرأة لم يجب عليها أن تطيع أباها ولا أمها في فراق زوجها ولا في زيارتهم بل طاعة زوجها عليها إذا لم يأمرها بمعصية الله أحق من طاعة أبويها (وأيما امرأة ماتت وزوجها عليها راضٍ دخلت الجنة) وإذا كانت الأم تريد التفريق بينها وبين زوجها فهي من جنس هاروت وماروت لا طاعة لها في ذلك ولو دعت عليها اللهم إلا أن يكونا مجتمعَين على معصية أو يكون أمره للبنت بمعصية الله والأم تأمرها بطاعة الله ورسوله الواجبة على كل مسلم] مجموع فتاوى شيخ الإسلام 33/112.
وخلاصة الأمر أن طاعة الوالدين فريضة من فرائض الله عز وجل كما أن عقوق الوالدين من كبائر الذنوب ولكن طاعتهما لا تكون إلا في المعروف ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.(15/44)
45 - التبرج من كبائر الذنوب وعقوبة المتبرجات
تقول السائلة: هل خروج المرأة من بيتها بغير جلباب يُعد من كبائر الذنوب أم من صغائرها وما عقوبة من لا تلتزم بالجلباب الشرعي أفيدونا؟ الجواب: إن الجلباب الشرعي فريضة من فرائض الله في حق المرأة البالغة وهذا أمر متفق عليه بين أهل العلم بلا خلاف ونقل بعض العلماء الإجماع عليه وقد دلت على ذلك النصوص الشرعية من كتاب الله سبحانه وتعالى والأحاديث النبوية فمن ذلك قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً) سورة الأحزاب الآية 59. وقوله تعالى: (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) . سورة النور الآية 31. قال القرطبي: [وقال ابن عطية: ويظهر لي بحكم ألفاظ الآية أن المرأة مأمورة بأن لا تبدي، وأن تجتهد في الإخفاء لكل ما هو زينة، ووقع الاستثناء فيما يظهر بحكم ضرورة حركة فيما لا بد منه، أو إصلاح شأن، ونحو ذلك فـ {ما ظهر} على هذا الوجه مما تؤدي إليه الضرورة في النساء فهو المعفو عنه. قلت - القائل القرطبي - هذا قول حسن، إلا أنه لما كان الغالب من الوجه والكفين ظهورهما عادة وعبادة، وذلك في الصلاة والحج، فيصلح أن يكون الاستثناء راجعاً إليهما] تفسير القرطبي12/229. وقال ابن كثير [أي: ولا يظهرن شيئاً من الزينة للأجانب، إلا ما لا يمكن إخفاؤه، وقال ابن مسعود: كالرداء والثياب، يعني على ما كان يتعاطاه نساء العرب من المقنعة التي تجلل ثيابها، وما يبدو من أسافل الثياب، فلا حرج عليها فيه، لأن هذا لا يمكن إخفاؤه] تفسير ابن كثير4/538 وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأسماء رضي الله عنها (يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها شيء إلا هذا وهذا، وأشار إلى وجهه وكفيه) . رواه أبو داود وحسنه الشيخ الألباني وذكر له شواهد انظر صحيح الترغيب والترهيب 2/463. وغير ذلك من الأدلة التي توجب الجلباب الشرعي إذا تقرر هذا فإن الواجب على المرأة المسلمة البالغة أن تلتزم بالجلباب الشرعي ويحرم عليها أن تخرج من بيتها بدون ذلك فإذا خرجت من بيتها بدون الجلباب فهي متبرجة وخاصة إذا أضيف إليه التعطر (والمكياج) عند الخروج من البيت ولبس الملابس الضيقة كالبنطلون والتشبه بالرجال وكذلك تصفيف الشعر والتنمص ونحو ذلك من إظهار الزينة. والتبرج من كبائر الذنوب باتفاق العلماء وقد عدَّ الشيخ ابن حجر المكي خروج المرأة من بيتها متعطرة متزينة من الكبائر وأن الأدلة الشرعية تدل عليه. انظر الزواجر عن اقتراف الكبائر 2/96- 97. وقد توعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المتبرجة بأنها لا تدخل الجنة ولا تشم رائحتها كما سيأتي وهذا يدل على أن التبرج من الكبائر. ومن زعم أن التبرج من صغائر الذنوب فقوله باطل مردود عليه لأنه مخالف للنصوص الصريحة من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ومنها: قوله تعالى: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) سورة الأحزاب الآية 33. وقوله تعالى: (وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) سورة النور الآية 60. وورد في الحديث أن أميمة بنت رقيقة رضي الله عنها جاءت إلى رسول صلى الله عليه وسلم تبايعه على الإسلام فقال: أبايعك على ألا تشركي بالله شيئاً ولا تسرقي ولا تزني ولا تقتلي ولدك ولا تأتي ببهتان تفتريه بين يديك ورجليك ولا تنوحي ولا تتبرجي تبرج الجاهلية الأولى.) رواه أحمد وصحح إسناده الشيخ أحمد محمد شاكر وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: الرجلَ يلبسُ لِبْسَةَ المرأةِ والمرأةَ تلبس لِبْسَة الرجل) رواه أبو داود وصححه الشيخ الألباني. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (لعن المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال) رواه البخاري. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال صلى الله عليه وسلم: (ثلاثٌ لا يدخلون الجنة ولا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه والمرأة المترجلة المتشبهة بالرجال والديوث) رواه النسائي والحاكم وقال صحيح الإسناد ووافقه الذهبي وصححه الشيخ الألباني. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيما امرأة استعطرت ثم خرجت، فمرت على قوم ليجدوا ريحها؛ فهي زانية) رواه أبو داود والنسائي والترمذي وقال حسن صحيح وحسنه الشيخ الألباني. انظر صحيح الترغيب والترهيب 2/451. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لعن الله الواشمات والمُستوشمات والنامصات والمُتنمصات والمُتفلجات للحسن المغيرات خلق الله) رواه البخاري ومسلم، والنامصة: هي التي ترقق الحاجبين للنساء، والمتنمصة: هي التي يتم ترقيق حواجبها. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا) رواه مسلم قال الإمام النووي: [… هذا الحديث من معجزات النبوة, فقد وقع هذان الصنفان, وهما موجودان. وفيه ذم هذين الصنفين قيل: معناه كاسيات من نعمة الله عاريات من شكرها, وقيل: معناه تستر بعض بدنها, وتكشف بعضه إظهاراً بحالها ونحوه, وقيل: معناه تلبس ثوباً رقيقاً يصف لون بدنها. وأما (مائلات) فقيل: معناه عن طاعة الله, وما يلزمهن حفظه. (مميلات) أي يعلمن غيرهن فعلهن المذموم, وقيل: مائلات يمشين متبخترات, مميلات لأكتافهن. وقيل: مائلات يمشطن المشطة المائلة, وهي مشطة البغايا. مميلات يمشطن غيرهن تلك المشطة. ومعنى (رؤوسهن كأسنمة البخت) أن يكبرنها ويعظمنها بلف عمامة أو عصابة أو نحوهما] شرح النووي على صحيح مسلم 5/291. ويمكن أن يحمل قوله صلى الله عليه وسلم (رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة) على اللواتي يصففن شعورهن حتى تصبح رءوسهن مثل سنام الجمل. وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: سيكون في آخر أمتي رجال يركبون على سروج كأشباه الرحال ينزلون على أبواب المساجد، نساؤهم كاسيات عاريات على رؤوسهن كأسنمة البخت العجاف، العنوهن فإنهن ملعونات. لو كانت وراءكم أمة من الأمم خدمتهن نساؤكم كما خدمنكم نساء الأمم قبلكم) . رواه أحمد وابن حبان والطبراني والحاكم، وصححه ابن حبان والحاكم وحسنه الشيخ الألباني في صحيح الترغيب والترهيب 2/462وعن أبي أذينة الصدفي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (خير نسائكم الودود الولود المواتية المواسية إذا اتقين الله، وشر نسائكم المتبرجات المتخيلات وهن منافقات لا يدخل الجنة منهن إلا مثل الغراب الأعصم) رواه البيهقي وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة 4/464. وغير ذلك من النصوص.
وخلاصة الأمر أن التبرج من كبائر الذنوب لأن المتبرجة مستحقة للعن واللعن إنما يكون على كبائر الذنوب فقط فعلى كل متبرجة أن تتوب إلى الله سبحانه وتعالى وتلتزم بالجلباب وأن تتذكر قول الله عز وجل: (أَلَم يَأْنِ للَّذَينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُم لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الحَقِّ وِ لا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبلُ فَطَالَ عَلَيهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنهُمْ فَاسِقُونَ) سورة الحديد الآية 16. وأن تتذكر قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى. قالوا: يا رسول الله ومن يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى) . واعلمي أيتها الأخت المتبرجة أن الحجاب إيمان وطهارة وتقوى وحياء وعفة وأن التبرج معصية لله عز وجل وللرسول صلى الله عليه وسلم وموجب للطرد من رحمة الله تعالى لأن المتبرجة ملعونة وكذلك فإن التبرج موجب للنار نسأل الله العفو والعافية.(15/45)
46 - الستر على الزوجة الزانية
يقول السائل: إنه تزوج فتاة وهي زوجة صالحة محافظة على صلاتها وأخلاقها وهو يحبها وتحبه وقد اعترفت له بأنها كانت على علاقة مع رجل قبل الزواج وقد زنت وهو في حيرة من أمره هل يطلقها أم يستر عليها أفيدونا؟ الجواب: الواجب على الإنسان ذكراً كان أو أنثى أن لا يتحدث عن ماضيه السيئ وأن يستتر بستر الله تبارك وتعالى ما دام أنه قد تاب ورجع إلى جادة الصواب وهذا الأمر أشد تأكيداً في حق الزوجين فلا ينبغي أن يتحدثا بما ارتكبا من المعاصي قبل الزواج لما في ذلك من ضرر بليغ على حياتهما الزوجية ولا ينبغي لأحد من الزوجين البحث في ماضي الآخر لأن العبرة بما عليه صاحبه الآن فما دام مستقيماً وملتزماً بدين الله فهذا هو المطلوب بغض النظر عما ارتكب من المعاصي في حياته السابقة فقد يكون الإنسان كافراً ثم يسلم فإن الإسلام يجب ما قبله والتوبة الصادقة تجب ما قبلها والواجب عليهما أن يبقيا المعاصي السالفة طي الكتمان ولا يفضحا نفسيهما فالمسلم إذا عصى الله تبارك وتعالى سراً فلا يصح له أن يخبر عن ذلك وقد ورد في الحديث عن سالم بن عبد الله قال سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول سمعت رسول الله رضي الله عنه يقول: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملاً ثم يصبح وقد ستره الله عليه فيقول يا فلان عملت البارحة كذا وكذا وقد بات يستره ربه ويصبح يكشف ستر الله عنه) رواه البخاري ومسلم.
قال الإمام النووي: [قوله صلى الله عليه وسلم: (إلا المجاهرين) هم الذين جاهروا بمعاصيهم, وأظهروها , وكشفوا ما ستر الله تعالى عليهم , فيتحدثون بها لغير ضرورة ولا حاجة] شرح النووي على صحيح مسلم 6/412
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [قال ابن بطال: في الجهر بالمعصية استخفاف بحق الله ورسوله وبصالحي المؤمنين , وفيه ضرب من العناد لهم , وفي الستر بها السلامة من الاستخفاف , لأن المعاصي تذل أهلها , ومن إقامة الحد عليه إن كان فيه حد ومن التعزير إن لم يوجب حداً , وإذا تمحض حق الله فهو أكرم الأكرمين ورحمته سبقت غضبه , فلذلك إذا ستره في الدنيا لم يفضحه في الآخرة , والذي يجاهر يفوته جميع ذلك] فتح الباري 10/598-599.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني عالجت امرأة في أقصى المدينة وإني أصبت منها ما دون أن أمسها فأنا هذا فاقض في ما شئت فقال له عمر لقد سترك الله لو سترت نفسك قال فلم يرد النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً فقام الرجل فانطلق فأتبعه النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً دعاه وتلا عليه هذه الآية {أقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين} فقال رجل من القوم يا نبي الله هذا له خاصة، قال بل للناس كافة) رواه مسلم
وعن أبي بكرة رضي الله عنه أنه شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته واقفاً إذ جاءوا بامرأة حبلى فقالت إنها زنت أو بغت فارجمها فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم استتري بستر الله عز وجل فرجعت ثم جاءت الثانية والنبي صلى الله عليه وسلم على بغلته فقالت ارجمها يا نبي الله فقال استتري بستر الله تبارك وتعالى فرجعت ثم جاءت الثالثة وهو واقف حتى أخذت بلجام بغلته فقالت أنشدك الله ألا رجمتها ... إلخ الحديث) رواه أحمد
وروى مالك في الموطأ بإسناده عن زيد بن أسلم أن رجلاً اعترف على نفسه بالزنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوط فأتي بسوط مكسور فقال فوق هذا فأتي بسوط جديد لم تقطع ثمرته فقال دون هذا فأتي بسوط قد ركب به ولان فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلد ثم قال: أيها الناس قد آن لكم أن تنتهوا عن حدود الله من أصاب من هذه القاذورات شيئاً فليستتر بستر الله فإنه من يبدي لنا صفحته نقم عليه كتاب الله) .
والواجب عليك أيا الزوج أن تستر على زوجتك ما دام أنها قد تابت وتقول بأنها زوجة صالحة محافظة على صلاتها وأخلاقها فاستر عليها حتى يستر الله عليك في اليوم الآخر فقد قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَءَامَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} سورة النور الآية 19. وثبت في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ومن فرَّجَ عن مسلم كربة فرَّجَ الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة) رواه البخاري ومسلم
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا يستر عبدٌ عبداً في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة) رواه مسلم.
وورد في حديث آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من ستر أخاه المسلم في الدنيا ستره الله يوم القيامة". رواه أحمد وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع الصغير حديث رقم6287
وفي رواية أخرى قال صلى الله عليه وسلم (من علم من أخيه سيئةً فسترها ستره الله عز وجلًّ يوم القيامة) رواه أحمد وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة 5/449-450.
وقال الفضيل بن عياض رحمة الله عليه: [المؤمن يستر وينصح والفاجر يهتك ويعير] .
ولا بد لزوجتك أن تعلم أنها قد وقعت في ذنب عظيم وجرم فظيع فيلزمها التوبة والاستغفار والندم على ما فعلت فإن الله يقبل التوبة من عبده إذا عصاه ثم آب ورجع بل إن الله سبحانه وتعالى يبدل سيئاته حسنات فكيف لا نقبل نحن من قبله الله قال سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًاءَاخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلَّا مَنْ تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} سورة الفرقان الآيتان 68-70.
وقال تعالى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} سورة التحريم الآية 8.
وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} سورة البقرة الآية 222
وخلاصة الأمر فإن الواجب على المسلم إذا وقع في معصية الله أن يستر على نفسه ولا يفضحها فلا يتحدث بمعصيته مع أحد من الناس وأن يتوب إلى الله توبة نصوحاً ومن علم بمعصية أخيه فالواجب أن يستر عليه ولا يفضحه والواجب على السائل أن يستر على زوجته ولا يطلقها ما دام أنها قد تابت وصلح حالها.(15/46)
47 - ميراث القاتل خطأ
يقول السائل: ما قولكم في مسألة توريث القاتل خطأً من مال مورثه المقتول؟
الجواب: اتفق أهل العلم على أن القتل هو أحد موانع الميراث بشكل عام واختلفوا في مسألة القاتل خطأً هل يرث من مال مورثه المقتول خطأً والذي عليه جمهور أهل العلم من الصحابة والتابعين والفقهاء على أن القاتل خطأً لا يرث من مال المقتول ولا من ديته وهو مذهب الحنفية والشافعية والحنابلة.
قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [أجمع أهل العلم على أن قاتل العمد لا يرث من المقتول شيئاً ... فأما القاتل خطأً فذهب كثير من أهل العلم إلى أنه لا يرث أيضاً، نص عليه أحمد، ويروى ذلك عن عمر، وعلي وزيد وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس، وروي نحوه عن أبي بكر رضي الله عنهم. وبه قال شريح وعروة وطاووس وجابر بن زيد والنخعي والشعبي والثوري وشريك والحسن بن صالح ووكيع والشافعي ويحيى بن آدم وأصحاب الرأي وورثه قوم من المال دون الدية، وروي ذلك عن سعيد بن السيب وعمرو بن شعيب وعطاء والحسن ومجاهد والزهري ومكحول والأوزاعي وابن أبي ذئب وأبي ثور، وابن المنذر وداود، وروي نحوه عن علي لأن ميراثه ثابت بالكتاب، والسنة تخصص قاتل العمد بالإجماع، فوجب البقاء على الظاهر فيما سواه. ولنا: الأحاديث المذكورة ولأن من لا يرث من الدية لا يرث من غيرها، كقاتل العمد، والمخالف في الدين، والعمومات مخصصة بما ذكرناه] المغني 6/364-365.
وقد خالف في ذلك المالكية وبعض أهل العلم كما سبق في كلام ابن قدامة فقالوا بتوريث القاتل خطأً من مال مورثه المقتول لا من ديته وهذا القول مرجوح لما يلي: ما ورد في الحديث عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس للقاتل شيء وإن لم يكن له وارث فوارثه أقرب الناس إليه ولا يرث القاتل شيئاً) رواه أبو داود وغيره وقال الشيخ الألباني: حديث حسن. انظر صحيح سنن أبي داود 3/864. وجاء في رواية أخرى عند ابن ماجة عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ليس لقاتل ميراث) قال صاحب الزوائد: إسناده حسن. سنن ابن ماجة 2/884. وقال الشيخ الألباني عنه حديث صحيح. انظر صحيح سنن ابن ماجة 2/98.
وقد ورد الحديث السابق بطرق كثيرة وهو حديث حسن أو صحيح والقاتل خطأً يدخل في عموم قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يرث القاتل شيئاً) حيث إن لفظ القاتل لفظ عام فيشمل من قتل عمداً ومن قتل خطأً.
وكذلك فإن الرواية الأخرى للحديث: (ليس لقاتل ميراث) تشمل القاتل خطأً لأن لفظة قاتل نكرة في سياق النفي والنكرة في سياق النفي تعم فتشمل القاتل خطأً والقاتل عمداً.
ومما يدل على حرمان القاتل خطأً من الميراث ما ورد عن عمر بن شيبة بن أبي كثير الأشجعي أنه قتل امرأته خطأً فقال صلى الله عليه وسلم: (اعقلها ولا ترثها) رواه الطبراني.
قال الشوكاني: [وحديث عمر بن شيبة بن أبي كثير الأشجعي نص في محل النزاع فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (ولا ترثها) وكذلك حديث عدي الجذامي الذي أشرنا إليه ولفظه في سنن البيهقي: (إن عدياً كانت له امرأتان اقتتلتا فرمى إحداهما فماتت، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه فذكر له ذلك، فقال له: (اعقلها ولا ترثها) ] نيل الأوطار 6/85-86. وحديث عدي الجذامي قال عنه الهيثمي: [رواه أبو يعلى بطوله والطبراني باختصار ورجاله رجال الصحيح إلا أن فيه راوٍ لم يسم] مجمع الزوائد4/230.
وحديث عدي الجذامي رواه البيهقي أيضاً وروى غيره بمعناه ثم قال: [هذه مراسيل جيدة يقوي بعضها بعضاً] السنن الكبرى 6/219. وروى البيهقي بإسناده عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: [لا يرث القاتل خطأً ولا عمداً] .
وروى أيضاً بإسناده عن علي وزيد وعبد الله قالوا: [لا يرث القاتل عمداً ولا خطأً شيئاً] .
وروى أيضاً بإسناده عن جابر بن زيد قال: [أيما رجل قتل رجلاً أو امرأة عمداً أو خطأً ممن يرث فلا ميراث له منهما، وأيما امرأة قتلت رجلاً أو امرأة عمداً أو خطأً فلا ميراث لها منهما، وإن كان القتل عمداً فالقود إلا أن يعفو أولياء المقتول فإن عفوا فلا ميراث له من عقله ولا من ماله، قضى بذلك عمر بن الخطاب وعلي رضي الله عنهما وشريح وغيرهم من قضاة المسلمين] السنن الكبرى 6/220.
وروى عبد الرزاق بسنده عن أبي قلابة قال: قتل رجل أخاه في زمن عمر بن الخطاب، فلم يورثه، فقال: يا أمير المؤمنين! إنما قتلته خطأً، قال: لو قتلته عمداً أقدناك به] مصنف عبد الرزاق 9/403.
وروى عبد الرزاق بسنده عن إبراهيم النخعي قال: لا يرث القاتل من الدية ولا من المال عمداً كان أم خطأً] وروى عبد الرزاق أيضاً عن الثوري: [ونحن على ذلك لا يرث على حال] . مصنف عبد الرزاق 9/404.
ومما يرد به على قول المالكية ومن وافقهم في توريث القاتل خطأً أن قولهم فيه تشجيع على القتل فقد يتعمد الوارث قتل مورثه ويدعي أنه قتله خطأً ويصعب إثبات صفة العمد في القتل وقد يحتال في ذلك ويظهر أنه قتله خطأً فمن باب سد الذرائع يجب حرمان القاتل خطأً من الميراث وقاعدة سد الذرائع قاعدة معتبرة عند الأصوليين وتشهد لها قواعد الشرع وأصوله.
واستدل الإمام السرخسي على حرمان القاتل خطأً من الميراث بأن تهمة استعجال الشيء قبل أوانه قائمة في القتل الخطأ فمن الجائز أنه كان قاصداً إلى ذلك وأظهر الخطأ من نفسه فيجعل هذا التوهم كالمتحقق في حرمان الميراث. ويرى السرخسي أيضاً أن القاتل خطأً كما عوقب بالكفارة على قتله فكذلك يعاقب بالحرمان من الميراث. انظر المبسوط 30/47.
ويضاف إلى ما سبق أن دعوى المالكية تخصيص عموم الأدلة الواردة بحرمان القاتل من الميراث وإخراج القاتل خطأً منها دعوى ضعيفة وما اعتمدوا عليه لا يقوى على التخصيص. قال الشوكاني: [ولا يخفى أن التخصيص لا يقبل إلا بالدليل] نيل الأوطار 6/85.
وما ذكره المالكية من تخصيص القاتل خطأً من العموم استدلالاً بما روي عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام يوم فتح مكة، فقال: (المرأة ترث من دية زوجها وماله. وهو يرث من ديتها ومالها. ما لم يقتل أحدهما صاحبه فإذا قتل أحدهما صاحبه عمداً، لم يرث من ديته وماله شيئاً، وإن قتل أحدهما صاحبه خطأً، ورث من ماله، ولم يرث من ديته) .
قال في الزوائد: في إسناده محمد بن سعيد، وهو المصلوب. قال أحمد: حديثه موضوع، وقال مرة: عمداً كان يضع. وقال أبو الحاكم: كان يضع الحديث، صلب على الزندقة. وقال الحاكم أبو عبد الله: ساقط بلا خلاف] سنن ابن ماجة 2/914.
وقال الشيخ الألباني عن الحديث السابق إنه موضوع أي مكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم انظر سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة 10/1/205، ضعيف الجامع الصغير حديث رقم 5926 ص 854. فهذا الحديث لا يصلح للاحتجاج به كما ترى من كلام أهل العلم فيه ولا يكون مخصصاً لإخراج القاتل خطأً من عموم حرمان القاتل من الميراث.
وخلاصة الأمر أن القاتل خطأً لا يرث وهذا هو القول الراجح الذي تؤيده الأدلة ومقاصد الشريعة في المحافظة على الأنفس.(15/47)
48 - حقوق الزوجة على زوجها
السؤال: اشتكت مجموعة من النساء من سوء معاملة أزواجهن وقلن إن من أزواجهن من يضربهن ويشتمهن ويسب أهلهن ويسيء معاملتهن وبعضهم يقاطع زوجته الشهر والشهرين وأكثر من ذلك لأسباب تافهة وقالت إحداهن إنكم يا معشر المشايخ تتحدثون دائماً عن حق الزوج على زوجته ولا تتكلمون عن حقوق الزوجة على زوجها فلماذا؟ هلا بينتم لهؤلاء الأزواج حقوق زوجاتهم عليهم.
الجواب: إن الحياة الزوجية في الإسلام تقوم على المودة والمحبة والتفاهم بين الزوجين قال تعالى: {وَمِنْءَايَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} سورة الروم الآية 21.
إن الأساس الذي ينبغي أن تقوم عليه العلاقة الزوجية هو المودة والرحمة وتعني عطف قلوبهم بعضهم على بعض وقال بعض أهل التفسير: المودة المحبة والرحمة الشفقة وقال ابن عباس رضي الله عنهما: [المودة حب الرجل امرأته والرحمة رحمته إياها أن يصيبها سوء] تفسير القرطبي 14/17.
ويجب على كل من الزوجين أن يعرف ما له وما عليه وقد بين الإسلام واجبات الزوجين وحقوقهما بياناً شاملاً فقد وردت نصوص كثيرة في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم تبين حقوق الزوجة على زوجها
يقول الله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} سورة البقرة: 227. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لكم على نسائكم حقاً ولنسائكم عليكم حقاً) رواه الترمذي وصححه.
فمن حقوق الزوجة على زوجها أن يعاملها معاملة كريمة فيها اللطف والرحمة وحسن المعاملة قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَاءَاتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} سورة النساء الآية 19. قال الإمام القرطبي: [قوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} أي على ما أمر الله به من حسن المعاشرة والخطاب للجميع إذ لكل أحد عشرة زوجاً كان أو ولياً ولكن المراد بهذا الأمر في الأغلب الأزواج وهو مثل قوله تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} وذلك توفية حقها من المهر والنفقة وألا يعبس في وجهها بغير ذنب وأن يكون منطلقاً في القول لا فظاً ولا غليظاً ولا مظهراً ميلاً إلى غيرها، والعشرة: المخالطة والممازجة ... فأمر الله سبحانه بحسن صحبة النساء إذا عقدوا عليهن لتكون أدمة ما بينهم وصحبتهم على الكمال فإنه أهدأ للنفس وأهنأ للعيش وهذا واجب على الزوج ... ] تفسير القرطبي 5/97.
وقد حثّ سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على حسن معاملة الزوجة في أحاديث كثيرة وقد بوب على بعضها الإمام البخاري بتراجم مناسبة فقال: "باب الوصاة بالنساء"، وقال الإمام البخاري أيضاً: "باب المداراة مع النساء"، وقال الإمام البخاري أيضاً: "باب حسن المعاشرة مع الأهل".
ومن هذه الأحاديث حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره واستوصوا بالنساء خيراً فإنهن خلقن من ضلع أعوج وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه فإن ذهبت تقيمه كسرته وإن تركته لم يزل أعوج فاستوصوا بالنساء خيراً) .
قال الحافظ ابن حجر معلقاً على هذا الحديث: [وفي الحديث الندب إلى المداراة لاستمالة النفوس وتألف القلوب وفي سياسة النساء بأخذ العفو منهن والصبر على عوجهن وأن من رام تقويمهن فاته الانتفاع بهن مع أنه لا غنى للإنسان عن امرأة يسكن إليها ويستعين بها على معاشه فتح الباري 11/163.
وجاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إني أحرج عليكم حق الضعيفين اليتيم والمرأة) رواه ابن ماجة وابن حبان والحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
وورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبة حجة الوداع: (واستوصوا بالنساء خيراً فإنهن عوان عندكم ليس تملكون منهن شيئاً غير ذلك إلا أن يأتين بفاحشة مبينة فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع واضربوهن ضرباً غير مبرح فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهم ألا إن لكم على نسائكم حقاً ولنسائكم عليكم حقاً فأما حقكم على نسائكم فلا يوطئن فرشكم من تكرهون ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن) رواه الترمذي وقال حسن صحيح ورواه ابن ماجة وحسّنه الشيخ الألباني في صحيح سنن الترمذي 1/341. وقال صلى الله عليه وسلم: (اتقوا الله في النساء) رواه مسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً وخياركم خياركم لنسائهم) رواه الترمذي وقال: حسن صحيح. ورواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
قال العلامة ابن علان المكي: [ (وخياركم خياركم لنسائهم) وفي رواية (خيركم خيركم لأهله) قال في النهاية هو إشارة إلى صلة الرحم والحث عليها، قيل ولعل المراد من حديث الباب أن يعامل زوجته بطلاقة الوجه وكف الأذى والإحسان إليها والصبر على أذاها قلت ويحتمل أن الإضافة فيه للعهد والمعهود هو النبي صلى الله عليه وسلم والمراد (أنا خيركم لأهلي) وقد كان صلى الله عليه وسلم أحسن الناس لأهله وأصبرهم على اختلاف أحوالهم] دليل الفالحين 3/106.
ومن حقوق الزوجة على زوجها وجوب الإنفاق عليها بالمعروف من طعام وشراب وكسوة وغير ذلك من لوازم الحياة وأن لا يحرمها مما تشتهيه وأن لا يكون بخيلاً في النفقة عليها ولا على أولاده
وكل ذلك يكون حسب حالة الزوج المالية لقوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} سورة البقرة الآية 233، ولقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} سورة البقرة الآية 286.
وعلى الزوج أن يعلم أن المال الذي ينفقه على زوجته وأولاده له فيه أجر عظيم كما ورد في الحديث من قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا أنفق الرجل فهي له صدقة) رواه البخاري ومسلم.
وقد ورد أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ما حق زوجة أحدنا عليه قال: (أن تطعمها إذا طعمت وتكسوها إذا اكتسيت ولا تضرب الوجه ولا تقبح ولا تهجر إلا في البيت) رواه أبو داود وذكر معنى لا تقبح أي لا تقل قبحك الله. وهو حديث حسن صحيح كما قال الشيخ الألباني في صحيح سنن أب داود 2/402
ومن حقوق الزوجة على زوجها أن لا يفشي أسرارها وأن لا يذكر عيوبها لما ورد في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم: (إن من شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر سرها) رواه مسلم.
ومن حقوق الزوجة على زوجها أن يأذن لها بزيارة أهلها وأقاربها وجيرانها وكذلك إذا استأذنته بالخروج إلى صلاة الجماعة والجمعة بشرط أن يكون خروجها شرعياً فلا تمس طيباً ولا تخرج متزينة مع أن صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في المسجد ولا ينبغي لزوج منع زوجته من الذهاب إلى المسجد إلا إذا خشي الفتنة عليها أو إذا خرجت متعطرة فيجوز له حينئذ منعها لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تمنعوا النساء أن يخرجن إلى المساجد وبيوتهن خير لهن) رواه أحمد وأبو داود وإسناده صحيح.
وعلى المرأة إذا خرجت من بيتها قاصدة حضور الجماعة أو الجمعة أن تخرج وهي ملتزمة بأحكام الشرع من حيث اللباس والمشي وترك الزينة والطيب فقد ورد في الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وليخرجن تفلات) رواه أحمد وأبو داود وهو حديث صحيح كما قال الشيخ الألباني ومعنى تفلات: غير متطيبات. وفي حديث آخر قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا شهدت إحداكن المساجد فلا تمس الطيب) رواه مسلم.
ومن حقوق الزوجة على زوجها أن يفقهها في دينها لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} التحريم الآية 6. ويجب على الزوج أن يأمرها وأولاده بالمحافظة على الصلاة لقوله الله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} سورة طه الآية 132.
هذه أهم حقوق الزوجة على زوجها باختصار وينبغي أن يعلم أنه يحرم على الزوج أن يسب زوجته وأهلها أو يلعنها فعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس المؤمن بالطعان ولا باللعان ولا الفاحش ولا البذيء) رواه الترمذي وابن حبان والحاكم وصححاه
كما ينبغي أن يعلم أنه لا يجوز للزوج أن يهجر زوجته في الكلام فوق ثلاثة أيام لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام) رواه البخاري ومسلم. وأما الهجر في المضجع المذكور في قوله تعال {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِع} سورة النساء الآية 34. فهذا الهجر سببه النشوز وأجازه جماعة من العلماء إلى شهر كما هجر النبي صلى الله عليه وسلم نسائه شهراً.(15/48)
49 - قراءة الفتحة عند الخطبة ليست عقد زواج
يقول السائل: هل تعتبر قراءة الفاتحة عند الخطبة بمثابة عقد الزواج؟
الجواب: الخطبة هي مقدمة للزواج ووعد بالزواج وليست عقداً فلا يترتب على الخطبة شيء مما يترتب على عقد الزواج وإنما تبيح الخطبة نظر الخاطب إلى وجه المخطوبة وكفيها فقط، على الراجح من أقوال أهل العلم. وأما قراءة الفاتحة عند الخطبة فيجب أن يعلم أولاً أن قراءة الفاتحة في هذا المقام بدعة ليس لها أصل في الشرع. وأجابت اللجنة الدائمة للإفتاء السعودية برئاسة العلامة الشيخ عبد العزيز ابن باز رحمه الله عن سؤال حول حكم ما جرى العرف به من قراءة الفاتحة قبل الزواج ونحو ذلك مما اعتاد الناس قراءة الفاتحة عنده فما حكم ذلك؟ فأجابت اللجنة: [قراءة الفاتحة بعد الدعاء أو بعد قراءة القرآن أو قبل الزواج بدعة لأن ذلك لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من صحابته رضي الله عنه وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردّ) ] فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية 2/384.
وثانياً: إن قراءة الفاتحة عند الخطبة كما جرى العرف به عند كثير من الناس لا تعتبر عقداً للزواج إذ عقد الزواج لا بد فيه من الإيجاب والقبول والمراد بذلك الألفاظ التي تصدر عن كل واحد من المتعاقدين للدلالة على رضاه بالمعقود عليه وقد نصت المادة14 من قانون الأحوال الشخصية المعمول به في بلادنا على ما يلي: (ينعقد الزواج بإيجاب وقبول الخاطبين أو وكيليهما في مجلس العقد) ويكون الإيجاب والقبول بالألفاظ الصريحة كما ورد في المادة 15 من القانون المذكور.
وثالثاً: يجب كتابة عقد الزواج خطياً وتسجيله في المحاكم الشرعية ولا يُكتفى بالإيجاب والقبول الشفويين لأن في كتابة عقد الزواج خطياً تحقيق لمصالح عظيمة للناس وفيه محافظة على حقوق المتزوجين وقد نص قانون الأحوال الشخصية على ذلك في المادة 17: (أ. يجب على الخاطب مراجعة القاضي أو نائبه لإجراء العقد. ب. يجري عقد الزواج من مأذون القاضي بموجب وثيقة رسمية.)
وخلاصة الأمر أن قراءة الفاتحة ليست عقداً للزواج ولا يجوز شرعاً أن يترتب عليها ما يترتب على عقد الزواج الصحيح.(15/49)
50 - القواعد من النساء
يقول السائل: ما المقصود بالقواعد من النساء اللواتي ذكرن في سورة النور وما حدود التعامل معهن من حيث النظر والمصافحة أفيدونا؟
الجواب: قال الله تعالى: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} سورة النور الآية 60. قال الزبيدي [القاعد من النساء التي قعدت عن الولد وعن الحيض وعن الزوج والجمع قواعد. وفي الأفعال: قعدت المرأة عن الحيض: انقطع عنها وعن الأزواج: صبرت، وفي التنزيل: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ} قال الزجاج: هن اللواتي قعدن عن الأزواج، وقال ابن السكيت: امرأة قاعد، إذا قعدت عن المحيض، فإذا أردت القعود قلت: قاعدة… وقال أبو الهيثم: القواعد من صفات الإناث، لا يقال رجال قواعد. وفي حديث أسماء الأشهلية: (إنا معاشر النساء محصورات مقصورات قواعد بيوتكم وحوامل أولادكم) قال ابن الأثير: القواعد: جمع قاعد، وهي المرأة الكبيرة المسنة، هكذا يقال بغير هاء، أي أنها ذات قعود، فأما قاعدة فهي فاعلة من قولك قد قعدت قعوداً، ويجمع على قواعد أيضاً] تاج العروس من جواهر القاموس 5/ 196. وقد اتفق أهل التفسير على أن القواعد من النساء هن اللواتي لا مطمع للرجال فيهن لكبرهن في العمر وانقطاع الحيض عنهن. أخرج عبد الرزاق وابن أبي حاتم عن الحسن {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ} يقول المرأة إذا قعدت عن النكاح. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ} يعني المرأة الكبيرة التي لا تحيض من الكبر {اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا} يعني تزويجاً. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: {اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا} قال: لا يردنه. تفسير السيوطي 6/223. وقال الإمام القرطبي في تفسير الآية السابقة: [قوله تعالى {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ} القواعد واحدتها قاعد بلا هاء ليدل حذفها على أنه قعود الكبر كما قالوا امرأة حامل ليدل بحذف الهاء أنه حمل حبل، قال الشاعر: فلو أن ما في بطنه بين نسوة حبلن وإن كن القواعد عقرا
وقالوا في غير ذلك قاعدة في بيتها وحاملة على ظهرها بالهاء … القواعد العجز اللواتي قعدن عن التصرف من السن وقعدن عن الولد والمحيض وهذا قول أكثر العلماء، قال ربيعة: هي التي إذا رأيتها تستقذرها من كبرها] تفسير القرطبي 12/309. وقال ابن كثير: [والقواعد من النساء، قال سعيد بن جبير ومقاتل بن حيان والضحاك وقتادة: هن اللواتي انقطع عنهن الحيض ويئسن من الولد: {اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا} أي لم يبق لهن تشوف إلى التزوج فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة أي ليس عليهن من الحجر في التستر كما على غيرهن من النساء] تفسير ابن كثير 3/304- 305. فالقواعد من النساء هن الكبيرات في العمر ولا مطمع للرجال فيهن وقد انقطع الحيض عنهن فإذا كانت المرأة كذلك جاز لها التخفف من الجلباب الشرعي كما قال تعالى {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} والمقصود بوضع الثياب الرداء الذي ترتديه المرأة فوق ثيابها وهو الجلباب المعروف الذي ترتديه المرأة فوق ثيابها عند الخروج من البيت وهذا ما ذهب إليه أهل العلم فقد أخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن ابن عمر رضي الله عنهما في الآية قال: تضع الجلباب. وأخرج عبد الرزاق والفريابى وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبرانى والبيهقى في السنن عن ابن مسعود (أن يضعن ثيابهن) قال: الجلباب والرداء. تفسير فتح القدير للشوكاني 4/ 55. وقال ابن كثير [… قال ابن مسعود في قوله {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ} قال الجلباب أو الرداء وكذلك روي عن ابن عباس وابن عمر ومجاهد وسعيد بن جبير وأبي الشعثاء وإبراهيم النخعي والحسن وقتادة والزهري والأوزاعي وغيرهم، وقال أبو صالح تضع الجلباب وتقوم بين يدي الرجل في الدرع والخمار، وقال سعيد بن جبير وغيره في قراءة عبد الله بن مسعود أن يضعن من ثيابهن وهو الجلباب من فوق الخمار فلا بأس أن يضعن عند غريب أو غيره بعد أن يكون عليها خمار صفيق] تفسير ابن كثير 3/304- 305 وقال ابن الجوزي [قوله تعالى {أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ} أي عند الرجال ويعني بالثياب الجلباب والرداء والقناع الذي فوق الخمار هذا المراد بالثياب لا جميع الثياب] تفسير ابن الجوزي 6/62 – 63. وقد علل الإمام القرطبي جواز التخفف من الجلباب للقواعد من النساء بقوله [إنما خص القواعد بذلك لانصراف الأنفس عنهن إذ لا مذهب للرجال فيهن فأبيح لهن ما لم يبح لغيرهن وأزيل عنهن كلفة التحفظ المتعب لهن] تفسير القرطبي12/309 وقد بين الله سبحانه وتعالى أنه يجوز للقواعد من النساء وضع الثياب بشرط أن لا يبدين زينتهن للرجال ولا يتبرجن والتبرج عند العلماء هو أن تظهر المرأة زينتها ومحاسنها مما يجب عليها ستره وذلك قوله تعالى {غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} قال الإمام القرطبي [قوله تعالى: {غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} أي غير مظهرات ولا متعرضات بالزينة لينظر إليهن فإن ذلك من أقبح الأشياء وأبعده عن الحق والتبرج التكشف والظهور للعيون] تفسير القرطبي 12/309.
ومع جواز تخففهن من الثياب إلا أن الاستعفاف خير لهن بنص الآية الكريمة {وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ} وقد أخرج سعيد بن منصور وابن المنذر والبيهقي في السنن عن عاصم الأحول قال: دخلت على حفصة بنت سيرين وقد ألقت عليها ثيابها، فقلت أليس يقول الله {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ} قالت: اقرأ ما بعده {وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ} وهو ثياب الجلباب. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله {وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ} قال: يلبسن جلابيبهن. ذكرهما السيوطي في تفسيره 6/223
وعليه فلا ينبغي للقواعد من النساء أن يتوسعن في هذا الأمر فيتساهلن في لباسهن تساهلاً كبيراً ويتبرجن فإن ذلك حرام عليهن. [وفي ختم الآية بقوله تعالى: {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} إشارة إلى تحذير النساء المتقدمات بالسن - المرخص لهن بترك شيء من الحجاب – من ادعاء كونهن قواعد ولسن كذلك، أو خروجهن – بدعوى الرخصة – متبرجات بزينة وذلك مما لم يأذن به الله تعالى، السميع لما يقلن العليم بما يتصرفن الخبير بما يكتمن في قلوبهن] حجاب المسلمة بين انتحال المبطلين وتأويل الجاهلين ص111. وأما بالنسبة للنظر إلى النساء الكبيرات فلا بأس بالنظر إليهن قال الشيخ ابن قدامة المقدسي [والعجوز التي لا يشتهى مثلها لا بأس بالنظر منها إلى ما يظهر غالباً لقول الله تعالى: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا} قال ابن عباس في قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ … وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} قال: فنسخ واستثنى من ذلك القواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحاً الآية وفي معنى ذلك الشوهاء التي لا تشتهى] المغني 7/102 - 103. وأما مصافحة النساء الكبيرات فلا تجوز على الراجح من أقوال أهل العلم لأن الأدلة التي حرمت مصافحة المرأة الأجنبية عامة شاملة لعموم النساء الشابات والعجائز بلا فرق بينهن قال الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز والشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين جواباً على السؤال التالي: هل تجوز مصافحة المرأة الأجنبية؟ وإذا كانت تضع على يدها حاجزاً من ثوب وغيره فما الحكم؟ وهل يختلف الأمر إذا كان المصافح شاباً أو شيخاً أو كانت امرأة عجوزاً؟ قال الشيخان المذكوران في الجواب: [لا تجوز مصافحة النساء غير المحارم مطلقاً سواء كن شابات أو عجائز وسواء أكان المصافح شاباً أم شيخاً كبيراً لما في ذلك من خطر الفتنة لكل منهما، وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إني لا أصافح النساء) وقالت عائشة رضي الله عنها (ما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة قط، ما كان يبايعهن إلا بالكلام] ولا فرق بين كونها تصافحه بحائل أو بغير حائل، لعموم الأدلة ولسد الذرائع المفضية إلى الفتنة] فتاوى العلماء للنساء ص 50. وقال الدكتور عبد الكريم زيدان: [ومن عرض أقوال الفقهاء وأدلتهم وذكر ما جاء في السنة النبوية الشريفة بشأن المس والمصافحة بين الرجل والمرأة الأجنبية يترجح عندي عدم جواز المصافحة بين الرجل والمرأة الأجنبية سواء بدأ بالمصافحة الرجل أو بدأت بها المرأة سواء شابين أو عجوزين أو كان أحدهما شاباً والآخر عجوزاً، لأن الأحاديث التي ذكرنا وأفادت حظر المصافحة بين الرجل والمرأة الأجنبية جاءت مطلقة دون أن يرد فيها ما يقيد عدم الجواز بالشاب والشابة وجوازها بالنسبة للعجوز] المفصل في أحكام المرأة 3/239.
وخلاصة الأمر أنه يجوز للنساء الكبيرات في العمر أن يتخففن من الجلباب بشرط أن لا يتبرجن ولا بأس بالنظر إلى ما يظهر من المرأة الكبيرة التي لا تشتهى وأما مصافحتها فحرام شرعاً.(15/50)
51 - يحرم تقبيل المرأة الأجنبية
يقول السائل: كما تعلمون فإن الناس في العيد يزور بعضهم بعضاً وفي أثناء زيارتنا لابنة عمي وهي امرأة متزوجة قام أخي بتقبيلها على خدها ولما أخبرته أن ذلك لا يجوز قال لي إن هذه القبلة من باب التحية ولا شهوة فيها فهي جائزة فما قولكم في ذلك؟
الجواب: لا شك أن ما قام به أخوك من تقبيل ابنة عمه من المحرمات المتفق على تحريمها عند أهل العلم
فمن المعروف أن ابنة العم تعتبر أجنبية على ابن عمها فلا يجوز له أن يصافحها ولا يجوز له أن يقبلها مطلقاً حتى لو كانت القبلة بدون شهوة والمقصود بالمرأة الأجنبية عند العلماء هي كل امرأة يجوز للرجل نكاحها وهي غير القريبة المحرم وغير الزوجة.
وقد نص العلماء من أرباب المذاهب الأربعة وغيرهم على حرمة تقبيل المرأة الأجنبية بشهوة أو بدون شهوة فمن أقوالهم في ذلك: قال الإمام المرغيناني الحنفي صاحب كتاب الهداية: [ولا يحل له أن يمس وجهها ولا كفيها وإن كان يأمن الشهوة] الهداية مع تكملة شرح فتح القدير 8/460. وقال صاحب الاختيار: [ولا ينظر إلى المرأة الأجنبية إلا إلى الوجه والكفين إن لم يخف الشهوة، فإن خاف الشهوة لا يجوز إلا للحاكم والشاهد ولا يجوز أن يمس ذلك وإن أمن الشهوة] . الاختيار لتعليل المختار 4/ 156. وقال الزيلعي: [ولا يجوز له أن يمس وجهها ولا كفيها وإن أمن الشهوة لوجود المحرم وانعدام الضرورة والبلوى] . تبين الحقائق 6/18. وقال ابن عابدين: [فلا يحل مس وجهها وكفها وإن أمن الشهوة] . حاشية ابن عابدين 6/367.
وقال الإمام النووي: [وقد قال أصحابنا كل من حرم النظر إليه حرم مسه بل المس أشد، فإنه يحل النظر إلى الأجنبية إذا أراد أن يتزوجها وفي حال البيع والشراء والأخذ والعطاء ونحو ذلك، ولا يجوز مسها في شيء من ذلك] . الأذكار ص 228. وقال الحصني الشافعي: [وأعلم أنه حيث حرم النظر حرم المس بطريق الأولى لأنه أبلغ لذة] كفاية الأخيار ص 353.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: [ويحرم النظر بشهوة إلى النساء والمردان ومن استحله كفر إجماعاً ويحرم النظر مع وجود ثوران الشهوة وهو منصوص الإمام أحمد والشافعي.. وكل قسم متى كان معه شهوة كان حراماً بلا ريب سواء كانت شهوة تمتع النظر أو كانت شهوة الوطء، واللمس كالنظر وأولى] . الاختيارات العلمية ص 118 ضمن الفتاوى الكبرى المجلد الخامس. وقال صاحب منار السبيل: [ولمس كنظ وأولى لأنه أبلغ منه فيحرم المس حيث يحرم النظر] . منار السبيل 2/ 142. وغير ذلك من أقوالهم.
وقد احتج العلماء على تحريم تقبيل المرأة الأجنبية بأدلة كثيرة منها: إن الله تعالى سبحانه وتعالى قد حرم النظر إلى المرأة الأجنبية من غير سبب مشروع فما بالك بتقبيلها قال الله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} سورة النور الآيتان 30- 31
بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حث المسلم على أن يصرف بصره إذا وقع على امرأة أجنبية فقد ثبت في الحديث عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة فقال: إصرف بصرك) رواه مسلم.
وعن بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا علي لا تتبع النظرة النظرة فإنما لك الأولى وليست لك الآخرة) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وهو حديث حسن والأدلة على تحريم النظر إلى الأجنبية بدون سبب مشروع كثيرة فإذا كان النظر محرماً فمن باب أولى القبلة لأن القبلة أعظم أثراً في النفس من مجرد النظر حيث إن القبلة أكثر إثارة للشهوة وأقوى داعياً للفتنة من النظر بالعين وكل منصف يعلم ذلك.
ومما يدل على تحريم تقبيل المرأة الأجنبية ما ورد في الحديث عن معقل بن يسار رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له) رواه الطبراني والبيهقي وقال المنذري: [رجال الطبراني ثقات رجال الصحيح] . الترغيب والترهيب 3/39. وصححه الشيخ الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة المجلد الأول حديث رقم 326.
وقد اعتبر النبي صلى الله عليه وسلم القبلة للأجنبية نوعاً من الزنا كما ورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لكل ابن آدم حظه من الزنا ... واليدان تزنيان فزناهما البطش، والرجلان تزنيان فزناهما المشي، والفم يزني فزناه القُبَل) والقُبَل جمع قُبلة والحديث رواه أحمد وأبو داود وهو حديث حسن كما قال الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود 2/404.
ومما يدل على ذلك ما ورد في الحديث عن أبي اليسر قال: أتتني امرأة تبتاع تمراً فقلت: إن في البيت تمراً أطيب منه فدخلت معي في البيت فأهويت إليها فقبلتها. فأتيت أبا بكر فذكرت ذلك له فقال استر على نفسك وتب ولا تخبر أحداً فلم أصبر فأتيت عمر فذكرت ذلك له فقال استر على نفسك وتب ولا تخبر أحداً فلم أصبر فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال له (أخلفت غازياً في سبيل الله في أهله بمثل هذا؟) حتى تمنى أنه لم يكن أسلم إلا تلك الساعة حتى ظن أنه من أهل النار قال: وأطرق رسول الله صلى الله عليه وسلم طويلاً حتى أوحي إليه {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} قال أبو اليسر: فأتيته فقرأها عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أصحابه: يا رسول الله ألهذا خاصة أم للناس عامة؟ فقال: (بل للناس عامة) . رواه الترمذي وقال الشيخ الألباني حديث حسن كما في صحيح سنن الترمذي 3/63. فهذا الحديث يدل على أن تقبيل الأجنبية محرم وانظر إلى قول أبي بكر وعمر رضي الله عنهما للرجل: استر على نفسك وتب. وانظر إلى ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم للرجل وهذا فيه أبلغ دلالة على التحريم.
وأما ادعاء أخيك بأن تقبيل ابنة عمه يعتبر من باب التحية فهذا كلام باطل لأن الدين شرع التحية وبينها كما في الأدلة الواردة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وليس من التحية تقبيل المرأة الأجنبية!! ولا يقول بجواز تقبيل المرأة الأجنبية وأن ذلك من المباحات إلا فاسق أو جاهل بالأدلة الشرعية ومقاصد الشريعة المحمدية. وينبغي نبذ الفتاوى العرجاء التي تبيح تقبيل المرأة الأجنبية ولا تصدر هذه الفتاوى إلا من جهلة لا يعرفون ألف باء الإفتاء الشرعي.
وخلاصة الأمر أن تقبيل المرأة الأجنبية بشهوة أو بدون شهوة من المحرمات وأن على أخيك أن يتوب إلى الله سبحانه وتعالى مما اقترف ومما قال لأنه قال منكراً من القول وزوراً.(15/51)
52 - تأجير الأرحام محرم شرعا
يقول السائل: قام زوجان بعملية تلقيح صناعي لأسباب تتعلق بعدم قدرة الزوجة على الحمل وتمّت زراعة البويضة الملقحة في رحم امرأة أخرى وعمر الجنين الآن خمسة أشهر وقد علما أن هذا العملية حرام شرعاً فما العمل؟ وهل يجوز إجهاض الجنين وإن لم يجهض فلمن ينسب المولود؟ أفيدونا.
الجواب: هذه المسألة من نتائج الحضارة الغربية غير الأخلاقية وتسمى مسألة تأجير الأرحام واتفق فقهاء العصر على تحريمها إلا من شذ فرأى جوازها قياساً على الرضاع أو غير ذلك من الشبهات الزائفة وقد بحثت هذه المسألة من المجامع العلمية والفقهية المعتبرة وكذا بحثها عدد كبير من العلماء المعاصرين وصدرت قرارات وفتاوى عديدة بتحريمها فمن ذلك قرار مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي حيث جاء في قراره ما يلي: بعد استعراضه لموضوع التلقيح الصناعي "أطفال الأنابيب" وذلك بالإطلاع على البحوث المقدمة والاستماع لشرح الخبراء والأطباء وبعد التداول تبين للمجلس:
أن طرق التلقيح الصناعي المعروفة في هذه الأيام هي سبع: الأولى: أن يجري تلقيح بين نطفة مأخوذة من زوج وبييضة مأخوذ ة من امرأة ليست زوجته ثم تزرع اللقيحة في رحم زوجته. الثانية: أن يجري التلقيح بين نطفة رجل غير الزوج وبييضة الزوجة ثم تزرع تلك اللقيحة في رحم الزوجة. الثالثة: أن يجري تلقيح خارجي بين بذرتي زوجين ثم تزرع اللقيحة في رحم امرأة متطوعة بحملها. الرابعة: أن يجري تلقيح خارجي بين بذرتي رجل أجنبي وبييضة امرأة أجنبية وتزرع اللقيحة في رحم الزوجة الخامسة: أن يجري تلقيح خارجي بين بذرتي زوجين ثم تزرع اللقيحة في رحم الزوجة الأخرى. السادسة: أن تؤخذ نطفة من زوج وبييضة من زوجته ويتم التلقيح خارجياً ثم تزرع اللقيحة في رحم الزوجة. السابعة: أن تؤخذ بذرة الزوج وتحقن في الموضع المناسب من مهبل زوجته أو رحمها تلقيحاً داخلياً. وقرر: أن الطرق الخمسة الأولى كلها محرمة شرعاً وممنوعة منعاً باتاً لذاتها أو لما يترتب عليها من اختلاط الأنساب وضياع الأمومة وغير ذلك من المحاذير الشرعية.
أما الطريقان السادس والسابع فقد رأى مجلس المجمع أنه لا حرج من اللجوء إليهما عند الحاجة مع التأكيد على ضرورة أخذ كل الاحتياطيات اللازمة] مجلة مجمع الفقه الإسلامي عدد3 ج 1ص 515-516. وكذلك صدر قرار عن المجمع الفقهي الإسلامي لرابة العالم الإسلامي بتحريم الصورة المذكورة في السؤال في دورته المنعقدة عام 1405هـ
إذا تقرر ذلك فإن تأجير الأرحام من المحرمات لما يترتب عليه من اختلاط الأنساب ولأن المرأة الحاضنة أدخلت إلى بدنها بويضة ملقحة من مني أجنبي عليها وهذا محرم ويمكن تشبيه هذا العمل بالزنا وإن لم يكن زنا حقيقة فهو حرام لا شك فيه وينسب الولد في هذه الحالة للمرأة التي حملت به (المرأة الحاضنة) هذا إذا كانت المرأة الحاضنة غير ذات زوج وأما إن كانت ذات زوج فينسب الولد إلى زوج المرأة الحاضنة ويدل على ذلك ما ورد في الحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت كان عتبة بن أبي وقاص عهد إلى أخيه سعد بن أبي وقاص أن ابن وليدة زمعة مني فاقبضه قالت فلما كان عام الفتح أخذه سعد بن أبي وقاص وقال ابن أخي قد عهد إليَّ فيه فقام عبد بن زمعة فقال أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه فتساوقا - أي اختصما - إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال سعد يا رسول الله ابن أخي كان قد عهد إليَّ فيه فقال عبد بن زمعة أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هو لك يا عبد بن زمعة ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم الولد للفراش وللعاهر الحجر ثم قال لسودة بنت زمعة زوج النبي صلى الله عليه وسلم احتجبي منه لما رأى من شبهه بعتبة فما رآها حتى لقي الله) رواه البخاري ومسلم، قال الإمام النووي: (قوله صلى الله عليه وسلم: (الولد للفراش وللعاهر الحجر) قال العلماء: العاهر الزاني وعهر زنى وعهرت زنت والعهر الزنا , ومعنى الحجر أي له الخيبة ولا حق له في الولد… وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (الولد للفراش) , فمعناه أنه إذا كان للرجل زوجة أو مملوكة صارت فراشاً له فأتت بولد لمدة الإمكان منه لحقه الولد وصار ولداً يجري بينهما التوارث وغيره من أحكام الولادة , سواء كان موافقاً له في الشبه أم مخالفاً) شرح النووي على صحيح مسلم 4/31.
وقال الحافظ ابن عبد البر: [فكانت دعوى سعد سبب البيان من الله عز وجل على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم في أن العاهر لا يلحق به في الإسلام ولد يدعيه من الزنا وأن الولد للفراش على كل حال والفراش النكاح أو ملك اليمين لا غير … أجمع العلماء – لا خلاف بينهم فيما علمته - أنه لا يلحق بأحد ولد يستلحقه إلا من نكاح أو ملك يمين فإذا كان نكاح أو ملك فالولد للفراش على كل حال] الاستذكار 2/167-168.
ولا يجوز أن ينسب الولد للرجل صاحب المني ما دام أن المرأة الحاضنة ذات زوج وأما إذا كانت المرأة الحاضنة لا زوج لها فيصح إلحاق الولد بالرجل صاحب المني إن أقر به وادَّعاه على قول جماعة من أهل العلم.
وأما إجهاض هذا الجنين بعد أن صار عمره خمسة أشهر فهو من المحرمات لأن الأصل هو تحريم الإجهاض بعد مضي مئة وعشرين يوماً على الحمل باتفاق أهل العلم لأن الروح تنفخ في الجنين عند مرور تلك المدة على رأي كثير من العلماء لما ثبت في حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق قال: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكاً فيأمر بأربع: برزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد ثم ينفخ فيه الروح …) رواه البخاري. ويستثنى من هذا الحكم حالة واحدة فقط، وهي إذا ثبت بتقرير لجنة من الأطباء الثقات أهل الاختصاص أن استمرار الحمل يشكل خطراً مؤكداً على حياة الأم فحينئذ يجوز إسقاط الحمل.
وقد جاء في قرار المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة ما يلي: [إذا كان الحمل قد بلغ مائة وعشرين يوماً لا يجوز إسقاطه ولو كان التشخيص الطبي يفيد أنه مشوه الخلقة إلا إذا ثبت بتقرير لجنة طبية من الأطباء المختصين أن بقاء الحمل فيه خطر مؤكد على حياة الأم فعندئذ يجوز إسقاطه سواء كان مشوهاً أم لا دفعاً لأعظم الضررين] قرارات المجمع الفقهي الإسلامي ص 123.
وجاء في فتوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالسعودية ما يلي: [من الضروريات الخمس التي دلّت عليها نصوص الكتاب والسنة دلالة قاطعة على وجوب المحافظة عليها وأجمعت الأمة على لزوم مراعاتها حفظ نفس الإنسان وهو في المرتبة الثانية بعد حفظ الدين سواء كانت النفس حملاً قد نفخ فيه الروح أم كانت مولودة ... فلا يجوز الاعتداء عليها بإجهاض إن كانت حملاً قد نفخ فيه الروح أو بإعطائها أدوية تقضي على حياتها وتجهز عليها، طلباً لراحتها أو راحة من يعولها أو تخليصاً للمجتمع من أرباب الآفات والعاهات والمشوهين والعاطلين، أو غير ذلك مما يدفع بالناس إلى التخلص لعموم قوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالحَقّ} وذلك لأن الجنين بعد نفخ الروح أصبح نفساً، يجب صيانتها والمحافظة عليها] .
وخلاصة الأمر أن تأجير الأرحام من المحرمات وأنه شبيه بالزنا وأن الولد ينسب للمرأة الحاضنة إن لم تكن ذات زوج فإن كانت ذات زوج فينسب إلى زوجها فإن ادَّعاه الرجل صاحب النطفة ولم ينازعه أحد في ذلك ألحق به.(15/52)
53 - الحجاب الشرعي
يقول السائل: ما قولكم فيمن كفر شيخ الأزهر بسبب موقفه من قضية الحجاب في فرنسا؟
الجواب: إن الحجاب أو الجلباب الشرعي فريضة من فرائض الله سبحانه وتعالى وهي قضية مسلَّمة بين علماء الأمة قديماً وحديثاً لأنها ثابتة بالنصوص الشرعية من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) سورة الأحزاب الآية 59. فهذه الآية الكريمة أوجبت اللباس الشرعي على جميع النساء المسلمات. وقال تعالى: (قل لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ) سورة النور الآيتان 30-31. وعن أم عطية الأنصارية رضي الله عنها قالت: (أمرنا أن نخرج الحُيَّض يوم العيدين وذوات الخدور فيشهدون جماعة المسلمين ودعوتهم ويعتزل الحيض عن مصلاهن. قالت امرأة: يا رسول الله، إحدانا ليس لها جلباب؟ قال: لتلبسها أختها من جلبابها) رواه البخاري ومسلم. وجاء في حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها: (أنها كانت عند أختها عائشة وعليها ثياب واسعة الأكمام فلما نظر إليها الرسول صلى الله عليه وسلم قام فخرج. فقالت عائشة رضي الله عنها تنحي فقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمراً كرهه فتنحت فدخل رسول الله فسألته عائشة رضي الله عنها لم قام؟ قال: أو لم تري هيئتها إنه ليس للمرأة المسلمة أن يبدو منها إلا هذا وهذا - أي وجهها وكفيها -) رواه الطبراني والبيهقي وهو حديث حسن كما قال الشيخ الألباني في جلباب المرأة المسلمة ص 59. وغير ذلك من الأدلة.
وما قاله شيخ الأزهر طنطاوي حول الحجاب ونصه (مسألة الحجاب للمرأة المسلمة فرض إلهي، وإذا قصرت في أدائه حاسبها الله على ذلك؛ ولذلك لا يستطيع أي مسلم سواء كان حاكمًا أو محكومًا أن يخالف ذلك، ولا نسمح لغيرنا أن يتدخل في ئوننا كدولة مسلمة هذا إذا كانت المرأة المسلمة تعيش في دولة إسلامية، أما إذا كانت تعيش في دولة غير إسلامية كفرنسا، وأراد المسئولون بها أن يقرروا قوانين تتعارض مع مسألة الحجاب للمرأة المسلمة، فهذا يعد حقهم، وأكرر أن هذا حقهم الذي لا أستطيع أن أعارض فيه كمسلم لأنهم غير مسلمين… في هذه الحالة عندما تستجيب المرأة المسلمة لقوانين الدولة غير المسلمة، تكون من الناحية الشرعية في حكم المضطر) انتهى كلام شيخ الأزهر.
وأقول إن كلام طنطاوي شيخ الأزهر فيه حق وباطل أما ما قاله عن فرضية الحجاب فهو حق وأما ما زعمه من (حرية فرنسا أن تقرر قوانين تتعارض مع مسألة الحجاب للمرأة المسلمة، فهذا يعد حقهم، وأكرر أن هذا حقهم الذي لا أستطيع أن أعارض فيه كمسلم لأنهم غير مسلمين) فهذا كلام باطل وموقفه هذا خذلان لمسلمات فرنسا وغيرهن من المسلمات اللواتي يعشن في غير العالم الإسلامي وفي كلام شيخ الأزهر فتح لباب شر واسع على المسلمين في الغرب فغداً ستحذو دول أخرى حذو فرنسا في اتخاذ قرارات بمنع الحجاب وماذا لو اتخذت دول الغرب قرارات بمنع إقامة صلاة الجمعة أو إغلاق المساجد أو منع المسلمين من الأضحية وغير ذلك مما يطمس شخصية المسلمين في الغرب؟!! وكان الواجب الشرعي على شيخ الأزهر أن يطالب الحكومة الفرنسية بإتاحة حرية ممارسة الشعائر الدينية للمسلمين وفق مبادىء الحرية التي تتغنى بها فرنسا أم أن الحرية إذا وصلت للمسلمين فإنها تتوقف!! إنه لأمر مؤسف ومحزن أن يتمكن وزير داخلية فرنسا من انتزاع صك من مشيخة الأزهر يستند إليه في تشريع قانون حظر الحجاب!! إن واجب علماء الأمة أن ينكروا على شيخ الأزهر موقفه السابق وقد حصل هذا الإنكار من عدد كبير من العلماء فقد أنكر عدد من العلماء كلام شيخ الأزهر، واعتبروه باطلاً ولا أصل له في الشرع ولكن ينبغي الحذر الشديد من السقوط في منزلق التكفير حيث إن بعض الناس تسرعوا في تكفير شيخ الأزهر وإخراجه من ملة الإسلام والمسلمين وهذا كلام خطير جداً يجب التحذير منه فقد ثبت في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أيما امرئ قال لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما إن كان كما قال وإلا رجعت عليه) وعن أبي ذرٍ رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يرمي رجل رجلاً بالفسوق، ولا يرميه بالكفر إلا ارتدت عليه، إن لم يكن صاحبه كذلك) . رواه البخاري وفي رواية عند مسلم قال: (ومن دعا رجلاً بالكفر، أو قال عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه) . أي رجع عليه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: [وأما التكفير فالصواب أن من اجتهد من أمة محمد، صلى الله عليه وسلم وقصد الحق فأخطأ لم يكفر بل يغفر له خطؤه ومن تبين له ما جاء به الرسول فشاق الرسول من بعد ما تبين له الهدى واتبع غير سبيل المؤمنين فهو كافر ومن اتبع هواه وقصر في طلب الحق وتكلم بلا علم فهو عاص مذنب ثم قد يكون فاسقاً وقد يكون له حسنات ترجح على سيئاته] مجموع فتاوى ابن تيمية 12/ 180. وقال الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين: [للحكم بتكفير المسلم شرطان: أحدهما: أن يقوم الدليل على أن هذا الشيء مما يكفر. الثاني: إنطباق الحكم على من فعل ذلك بحيث يكون عالماً بذلك قاصداً له فإن كان جاهلاً لم يكفر لقوله تعالى: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) سورة النساء الآية 115. وقوله تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ) سورة التوبة الآية 115. وقوله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) سورة الإسراء الآية 15. لكن إن فرط بترك التعلم والتبين لم يعذر مثل أن يبلغه أن عمله هذا كفر فلا يتثبت ولا يبحث فإنه لا يكون معذوراً حينئذ. وإن كان غير قاصد لعمل ما يكفر لم يكفر بذلك مثل أن يكره على الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان ومثل أن ينغلق فكره فلا يدري ما يقول لشدة فرح ونحوه كقول صاحب البعير الذي أضلها ثم اضطجع تحت شجرة ينتظر الموت فإذا بخطامها متعلقاً بالشجرة فأخذه فقال: [اللهم أنت عبدي وأنا ربك] أخطأ من شدة الفرح] فتاوى العقيدة ص263-264.
وخلاصة الأمر أن الإقدام على التكفير أو التفسيق بغير دليل من كتاب الله تعالى أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم يعتبر جرأة على دين الله وقولاً على الله بغير علم وهو على خلاف طريقة أهل العلم من سلفنا الصالح رضوان الله عليهم. فالحذر الحذر من إطلاق ألفاظ التكفير أو التفسيق أو التبديع بغير حجة ولا برهان.(15/53)
54 - اللعان
يقول السائل: أنا شاب أدرس في غير بلدي، وكان لي صديق يدرس في نفس البلد، هو وزوجته، ثم ضاقت به الظروف فلم يستطع أن يدفع إيجار الشقة فنزل علي ضيفًا هو وزوجته حتى يفرغا من دراستهما وقد كان صديقي كثير الخروج لدروسه، مما سمح بوجود علاقة بيني وبين زوجته بالجماع الكامل لمدة شهرين، ثم عدت إلى دولتي. وفوجئت أن هذا الجماع أثمر طفلاً يشبهني وقد أخبرتني زوجة صديقي بأنه ولدي، ولما رأى أبوه الولد أنكره لعدم شبهه به، وهو الآن يفكر جديًّا في طلاقها؛ لأنه يكاد يجزم بأن الولد ليس ولده، وقد مرَّ على الطفل عام ونصف ولم يسجله باسمه، ولا يريد أن يفعل والسؤال: أنا أعرف أنني أخطأت، ومستعد لما تملونه عليّ. ولكن ما ذنب هذا الطفل، وباسم من يسجل، ومن ينفق عليه، ومع من يعيش؟ وهل أعترف لصديقي بالأمر؟ ماذا أفعل أرجوكم.
الجواب: إن الزنى كبيرة من كبائر الذنوب وقد ازداد إثم هذا الزاني لأنه زنى بزوجة جاره بل بزوجة ضيفه، وعلى هذا الزاني أن يتوب إلى الله عز وجل سبحانه وتعالى توبة صادقة نصوحا، حيث إنه قد وقع في ذنب عظيم، وهناك قضية مهمة أود الإشارة إليها وهي أن السبب في وقوع هذه المعاصي هو التساهل في الأحكام الشرعية، حيث إن الخلوة التي حصلت بين السائل وزوجة صديقه هي التي أوقعته في جريمة الزنا، ولو أنه التزم بالحكم الشرعي لما وقع في هذه الجريمة قال النبي صلى الله عليه وسلم (لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم) رواه مسلم وقوله صلى الله عليه وسلم (لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان) رواه الترمذي وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي 1/432.
وأما ما يتعلق بالولد الذي هو ثمرة الزنا فقد قرر أهل العلم أن الولد للفراش أي أن الولد ينسب لزوج المرأة الزانية ويدل على ذلك ما ورد في الحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت كان عتبة بن أبي وقاص عهد إلى أخيه سعد بن أبي وقاص أن ابن وليدة زمعة مني فاقبضه قالت فلما كان عام الفتح أخذه سعد بن أبي وقاص وقال ابن أخي قد عهد إليَّ فيه فقام عبد بن زمعة فقال أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه فتساوقا - أي اختصما - إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال سعد يا رسول الله ابن أخي كان قد عهد إلي فيه فقال عبد بن زمعة أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هو لك يا عبد بن زمعة ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم الولد للفراش وللعاهر احجر ثم قال لسودة بنت زمعة زوج النبي صلى الله عليه وسلم احتجبي منه لما رأى من شبهه بعتبة فما رآها حتى لقي الله) رواه البخاري ومسلم
قال الإمام النووي: (قوله صلى الله عليه وسلم: (الولد للفراش وللعاهر الحجر) قال العلماء: العاهر الزاني وعهر زنى وعهرت زنت والعهر الزنا , ومعنى الحجر أي له الخيبة ولا حق له في الولد… وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (الولد للفراش) , فمعناه أنه إذا كان للرجل زوجة أو مملوكة صارت فراشاً له فأتت بولد لمدة الإمكان منه لحقه الولد وصار ولداً يجري بينهما التوارث وغيره من أحكام الولادة , سواء كان موافقاً له في الشبه أم مخالفاً) شرح النووي على صحيح مسلم 4/31.
وقال الحافظ ابن عبد البر: [فكانت دعوى سعد سبب البيان من الله عز وجل على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم في أن العاهر لا يلحق به في الإسلام ولد يدعيه من الزنا وأن الولد للفراش على كل حال والفراش النكاح أو ملك اليمين لا غير … أجمع العلماء – لا خلاف بينهم فيما علمته - أنه لا يلحق بأحد ولد يستلحقه إلا من نكاح أو ملك يمين فإذا كان نكاح أو ملك فالولد للفراش على كل حال] الاستذكار 2/167-168. ولا يجوز أن ينسب الولد للزاني حتى ولو اعترف الزاني بأن الولد منه ما دامت الزانية ذات زوج وأما إذا كانت الزانية لا زوج لها فيصح إلحاق الولد بالزاني إن أقر به على قول جماعة من أهل العلم.
وأما قول السائل إن زوج المرأة قد أنكر الولد لما رأى أنه لا يشبهه فإن الشريعة قد شرعت اللعان في هذه الحالة وهي أن ينكر الزوج ولداً أنجبته زوجته قال الله تعالى {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} سورة النور الآيات 6-9. وقد ذكر أهل العلم أن سبب نزول هذه الآيات هو ما ورد في الحديث عن ابن عباس رضي الله عنه أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشريك ابن سحماء فقال النبي صلى الله عليه وسلم البينة أو حد في ظهرك فقال يا رسول الله إذا رأى أحدنا على امرأته رجلاً ينطلق يلتمس البينة فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول البينة وإلا حد في ظهرك فقال هلال والذي بعثك بالحق إني لصادق فلينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد فنزل جبريل وأنزل عليه والذين يرمون أزواجهم فقرأ حتى بلغ إن كان من الصادقين فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليها فجاء هلال فشهد والنبي صلى الله عليه وسلم يقول إن الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب ثم قامت فشهدت فلما كانت عند الخامسة وقفوها وقالوا إنها موجبة قال ابن عباس فتلكأت ونكصت حتى ظننا أنها ترجع ثم قالت لا أفضح قومي سائر اليوم فمضت فقال النبي صلى الله عليه وسلم أبصروها فإن جاءت به أكحل العينين سابغ الأليتين خدلج الساقين فهو لشريك ابن سحماء فجاءت به كذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن) رواه البخاري ويشترط في اللعان بين الزوجين أن يكون اللعان فورياً بأن ينفي الزوج الولد بمجرد الولادة قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: (وإذا ولدت امرأته ولداً فسكت عن نفيه مع إمكانه لزمه نسبه ولم يكن له نفيه بعد ذلك وبهذا قال الشافعي) المغني 8/61 وإذا تم اللعان بين الزوجين تفرقا فرقة أبدية لما ورد في الحديث عن سهل بن سعد (… فمضت السنة بعد في المتلاعنين أن يفرق بينهما ثم لا يجتمعان أبداً) رواه أبو داود وغير وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود 2/424.(15/54)
55 - حرية المرأة في تصرفها بمالها
يقول السائل: إنه قرأ حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم في سلسلة الأحاديث الصحيحة للشيخ الألباني ونصه: (ليس للمرأة أن تنتهك شيئاً من مالها إلا بإذن زوجها) وقد ذكر الشيخ الألباني أن هذا الحديث وما في معناه يدل على أن المرأة لا يجوز لها أن تتصرف بمالها الخاص إلا بإذن زوجها فما قولكم في ذلك؟
الجواب: إن الإسلام قد أعطى المرأة حقوقاً كثيرة ومن ذلك أن الشريعة الإسلامية قد أثبتت للمرأة ذمة مالية مستقلة فالمرأة أهل للتصرفات المالية تماماً كالرجل فهي تبيع وتشتري وتستأجر وتؤجر وتوكل وتهب ولا حجر عليها في ذلك ما دامت عاقلة رشيدة وقد دلت على ذلك عموم الأدلة من كتاب الله سبحانه وتعالى ومن سنة النبي صلى الله عليه وسلم فمن ذلك قوله تعالى: (فَإِنْءَانَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ) سورة النساء الآية 6.
والمرأة داخلة في هذا العموم على الصحيح من أقوال أهل العلم ومن قال سوى ذلك فقوله تحكم لا دليل عليه كما قال القرطبي عند تفسيره للآية الكريمة. انظر تفسير القرطبي 5/38-39.
وكذلك فإن المرأة داخلة في عموم النصوص التي وردت فيها التكاليف الشرعية بلا فرق بينها وبين الرجل إلا ما أخرجه الدليل. هذا بشكل عام وأما الأدلة بخصوص السؤال فكثيرة منها ما قاله الإمام البخاري في صحيحه:
[باب هبة المرأة لغير زوجها وعتقها إذا كان لها زوج فهو جائز إذا لم تكن سفيهة فإذا كانت سفيهة لم يجز. وقال الله تعالى: (وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ) سورة النساء الآية 5. ثم ذكر عدة أحاديث منها حديث كريب مولى ابن عباس: (أن ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها أخبرته أنها أعتقت وليدة ولم تستأذن النبي صلى الله عليه وسلم فلما كان يومها الذي يدور عليها فيه قالت: أشعرت يا رسول الله أني أعتقت وليدتي؟ قال: أو فعلت؟ قالت: نعم قال: أما إنك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك) . قال الحافظ ابن حجر: [قوله باب هبة المرأة لغير زوجها وعتقها إذا كان لها زوج] أي ولو كان لها زوج [فهو جائز إذا لم تكن سفيهة فإذا كانت سفيهة لم يجز. وقال تعالى: (وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ) ] وبهذا الحكم قال الجمهور وخالف طاووس فمنع مطلقاً وعن مالك رضي الله عنه لا يجوز لها أن تعطي بغير إذن زوجها ولو انت رشيدة إلا من الثلث وعن الليث لا يجوز مطلقاً إلا في الشيء التافه. وأدلة الجمهور من الكتاب والسنة كثيرة واحتج لطاووس بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رفعه (لا تجوز عطية امرأة في مالها إلا بإذن زوجها) أخرجه أبو داود والنسائي وقال ابن بطال: وأحاديث الباب أصح وحملها مالك على الشيء اليسير وجعل حده الثلث فما دونه] صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 5/267-268. وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [وظاهر كلام الخرقي: أن للمرأة الرشيدة التصرف في مالها كله بالتبرع والمعاوضة. وهذا إحدى الروايتين عن أحمد. وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي وابن المنذر وعن أحمد رواية أخرى: ليس لها أن تتصرف في مالها بزيادة على الثلث بغير عوض إلا بإذن زوجها وبه قال مالك] ثم قال ابن قدامة مستدلاً لقول الجمهور: [ولنا قوله تعالى: (فَإِنْءَانَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ) وهو ظاهر في فك الحجر عنهم وإطلاقهم في التصرف. وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا معشر النساء تصدقن ولو من حليكن) وأنهن تصدقن فقبل صدقتهن ولم يسأل ولم يستفصل. وأتته زينب امرأة عبد الله وامرأة أخرى اسمها زينب فسألته عن الصدقة: هل يجزيهن أن يتصدقن على أزواجهن وأيتام لهن؟ فقال: نعم ولم يذكر لهن هذا الشرط ولأن من وجب دفع ماله إليه لرشده جاز له التصرف فيه من غير إذن كالغلام ولأن المرأة من أهل التصرف ولا حق لزوجها في مالها فلم يملك الحجر عليها في التصرف بجميعه كأختها وحديثهم ضعيف وشعيب لم يدرك عبد الله بن عمرو فهو مرسل وعلى أنه صحيح محمول على أنه لا يجوز عطيتها لماله بغير إذنه بدليل أنه يجوز عطيتها ما دون الثلث من مالها وليس معهم حديث يدل على تحديد المنع بالثلث فالتحديد بذلك تحكم ليس فيه توقيف ولا عليه دليل وقياسهم على المريض غير صحيح لوجوه: أحدها: أن المرض سبب يفضي إلى وصول المال إليهم بالميراث والزوجية إنما تجعله من أهل الميراث فهي أحد وصفي العلة فلا يثبت الحكم بمجردها كما لا يثبت للمرأة الحجر على زوجها ولا لسائر الوارث بدون المرض. الثاني: أن تبرع المريض موقوف فإن برئ من مرضه صح تبرعه وههنا أبطلوه على كل حال والفرع لا يزيد على أصله. الثالث: أن ما ذكروه منتقض بالمرأة فإنها تنتفع بمال زوجها وتنبسط فيه عادة ولها النفقة منه وانتفاعها بماله أكثر من انتفاعه بمالها وليس لها الحجر عليه وعلى أن هذا المعنى ليس بموجود في الأصل ومن شرط صحة القياس وجود المعنى المثبت للحكم في الأصل والفرع جميعاً] المغني 4/348-349.
والحديث الذي ذكره ابن قدامة في تصدق النساء بحليهن رواه البخاري ومسلم وقد ذكر الحافظ ابن حجر أنه قد استدل بالحديث على جواز صدقة المرأة من مالها من غير توقف على إذن زوجها أو على مقدار معين من مالها كالثلث خلافاً لبعض المالكية ووجه الدلالة من القصة ترك الاستفصال عن ذلك كله قال القرطبي: ولا يقال في هذا إن أزواجهن كانوا حضوراً لأن ذلك لم ينقل ولو نقل فليس فيه تسليم أزواجهن لهن ذلك لأن من ثبت له الحق فالأصل بقاؤه حتى يصرح بإسقاطه ولم ينقل أن القوم صرحوا بذلك] فتح الباري 2/603-604.
واحتج الجمهور على قولهم أيضاً بما ورد في الحديث عن أم الفضل بنت الحارث رضي الله عنها (أن ناساً تماروا عندها يوم عرفة في صيام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم: هو صائم وقال بعضهم: ليس بصائم فأرسلت إليه بقدح لبن وهو واقف على بعيره بعرفة فشربه) رواه البخاري ومسلم.
قال الإمام النووي في شرح الحديث إن من فوائده: [إباحة قبول هدية المرأة المزوجة الموثوق بدينها ولا يشترط أن يسأل هل هو من مالها أم من مال زوجها أو أنها أذن فيه أم لا إذا كانت موثوقاً بدينها. ومنها أن تصرف المرأة في مالها جائز ولا يشترط إذن الزوج سواء الزوج سواء تصرفت في الثلث أو أكثر وهذا مذهبنا ومذهب الجمهور. وقال مالك: لا تتصرف فيما فوق الثلث إلا بإذنه وموضع الدلالة من الحديث أنه صلى الله عليه وسلم لم يسأل هل هو من مالها ويخرج من الثلث أو بإذن الزوج أم لا؟ ولو اختلف الحكم لسأل] شرح النووي على صحيح مسلم 3/197-198.
هذه أهم أدلة الجمهور على جواز تصرف المرأة في مالها بدون إذن زوجها وأما الحديث الذي ذكره السائل وهو (ليس للمرأة أن تنتهك شيئاً من مالها إلا بإذن زوجها) وما في معناه مثل حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يجوز لامرأة أمر في مالها إذا ملك زوجها عصمتها) رواه أبو داود وابن ماجة وعن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تجوز لامرأة عطية إلا بإذن زوجها) رواه أبو داود.
وعن عبد الله بن يحيى عن أبيه عن جده: (أن جدته خيرة امرأة كعب بن مالك أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بحلي لها فقالت: إني تصدقت بهذا. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يجوز للمرأة في مالها إلا بإذن زوجها فهل استأذنت كعباً؟ قالت: نعم. فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كعب بن مالك زوجها فقال: هل أذنت لخيرة أن تتصدق بحليها؟ فقال: نعم فقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم منها) قال في الزوائد: في إسناده يحيى وهو غير معروف في أولاد كعب فالإسناد ضعيف] سنن ابن ماجة 2/798. وقال الطحاوي: حديث شاذ لا يثبت. وقال الحافظ ابن عبد البر إسناد ضعيف لا تقوم به الحجة انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة 2/494. وهذه الأحاديث التي استدل بها المخالف أجاب عنها جمهور أهل العلم بعدة أجوبة منها: أولاً: إن هذه الأحاديث ضعيفة لا تصلح للاستدلال وبيان ذلك أن الحديث الأول وهو [ليس للمرأة أن تنتهك شيئاً من مالها إلا بإذن زوجها] حديث ضعيف قال الهيثمي [رواه الطبراني وفيه جناح مولى الوليد وهو ضعيف] مجمع الزوائد 5/15. ونقل المناوي عن الهيثمي قوله [وفيه جماعة لم أعرفهم] فيض القدير 5/482 كما أن الشيخ الألباني ضعف الحديث بقوله: [قلت هذا إسناد ضعيف] إلا أنه قواه بشواهده في السلسلة الصحيحة 2/419. وأما حديث عمرو بن شعيب فضعفه الإمام الشافعي فقد ذكر البيهقي عن الشافعي أنه قال: [يعني في هذا الحديث سمعناه وليس بثابت فيلزمنا نقول به والقرآن يدل على خلافه ثم السنة ثم الأثر ثم المعقول وقال في مختصر البويطي والربيع قد يمكن أن يكون هذا في موضع الاختيار كما قيل ليس لها أن تصوم يوماً وزوجها حاضر إلا بإذنه فإن فعلت فصومها جائز وإن خرجت بغير إذنه فباعت فجائز وقد اعتقت ميمونة رضي الله عنها قبل أن يعلم النبي صلى الله عليه وسلم فلم يعب ذلك عليها فدل هذا مع غيره على أن قول النبي صلى الله عليه وسلم إن كان قاله أدب واختيار لها قال الشيخ الطريق في هذا الحديث إلى عمرو بن الشعيب صحيح ومن أثبت أحاديث عمرو بن شعيب لزمه إثبات هذا إلا أن الأحاديث التي مضت في الباب قبله أصح إسناداً وفيها وفي الآيات التي احتج بها الشافعي رحمه الله دلالة على نفوذ تصرفها في مالها دون الزوج فيكون حديث عمرو بن شعيب محمولاً على الأدب والاختيار كما أشار إليه في كتاب البويطي وبالله التوفيق] السنن الكبرى 6/60-61.
وأما حديث خيرة امرأة كعب فهو حديث ضعيف أيضاً كما سبق في كلام الطحاوي وابن عبد البر.
ثانياً: قال الجمهور لو سلمنا بصحة الأحاديث التي احتج بها المخالف لقدمت عليها أحاديثنا لأنها أصح منها
ثالثاً: إن عموم الأدلة التي احتج بها الجمهور أقوى من هذه الأحاديث التي لم تسلم من الطعن.
رابعاً: لو سلمنا بصحة هذه الأحاديث فإنها تحمل على أن ذلك من حسن معاشرة الزوجة لزوجها لا على أنه لازم لها قال الإمام الخطابي معلقاً على حديث عبد الله بن عمرو إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يجوز لامرأة عطية إلا بإذن زوجها. قال الشيخ هذا عند أكثر العلماء على معنى حسن العشرة واستطابة نفس الزوج بذلك إلا أن مالك بن أنس قال ترد ما فعلت من ذلك حتى يأذن الزوج. قال الشيخ ويحتمل أن يكون ذلك في غير الرشيدة وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال للنساء تصدقن فجعلت المرأة تلقي القرط والخاتم وبلال رضي الله عنه يتلقاها بكسائه وهذه عطية بغير إذن أزواجهن] معالم السنن 3/148.
وخلاصة الأمر أنه يجوز للمرأة أن تتصرف في مالها بدون إذن زوجها ولكن الأولى والأفضل أن تشاور زوجها في ذلك تطييباً لخاطر زوجها ومحافظة منها على العشرة الزوجية.(15/55)
56 - الطلاق
يقول السائل: ما الحكم فيما يفعله بعض الأزواج عندما يطلق الواحد منهم زوجته طلقة رجعية فإنه يطردها من بيت الزوجية وفي حالات أخرى تخرج المرأة من بيت الزوجية بإرادتها عندما يطلقها زوجها طلقة رجعية؟
الجواب: يقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا) سورة الطلاق الآية 1. ويؤخذ من هذه الآية الكريمة أن المرأة المطلقة تقضي عدتها في بيت الزوجية (لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ) فأضاف الله عز وجل البيوت لهن.
قال القرطبي: [أي ليس للزوج أن يخرجها من مسكن النكاح ما دامت في العدة ولا يجوز لها الخروج أيضاً لحق الزوج إلا لضرورة ظاهرة فإن خرجت أثمت ولا تنقطع العدة والرجعية والمبتوتة في هذا سواء. وهذا لصيانة ماء الرجل. وهذا معنى إضافة البيوت إليهن كقوله تعالى: (وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْءَايَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ) وقوله تعالى: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ) فهو إضافة إسكان وليس إضافة تمليك] تفسير القرطبي 18/154 ومما يدل على أن المعتدة تقضي العدة في بيت الزوجية ما ورد في الحديث عن فُرَيعة بنت مالك قالت: " خرج زوجي في طلب عبيد له قد هربوا فأدركهم فقتلوه فأتى نعيه وأنا في دارٍ شاسعة من دور أهلي، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقلت: إن نعي زوجي أتاني في دار شاسعة من دور أهلي ولم يدع نفقة ولا مالاً ورثته وليس المسكن له، فتحولت إلى أهلي وإخواني، فكان أرفق لي في بعض شأني، فقال: (تحولي) ، فلما خرجت إلى المسجد أو إلى الحجرة دعاني فقال: (امكثي في بيتك الذي أتاك فيه نعي زوجك، حتى يبلغ الكتاب أجله) ، قالت: فاعتددت أربعة أشهر وعشراً " رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وأحمد، وقال الترمذي: حسن صحيح.
قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: (وممن أوجب على المتوفى عنها زوجها الاعتداد في منزلها عمر وعثمان رضي الله عنهما وروي ذلك عن ابن عمر وابن مسعود وأم سلمة رضي الله عنهم وبه يقول مالك والثوري والأوزاعي وأبو حنيفة والشافعي وإسحاق وقال ابن عبد البر وبه يقول جماعة فقهاء الأمصار بالحجاز والشام والعراق ومصر … وإذا ثبت هذا فإنه يجب الاعتداد في المنزل الذي مات زوجها وهي ساكنة به سواء كان مملوكا لزوجها أو بإجارة أو عارية لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لفريعة (امكثي في بيتك) ولم تكن في بيت يملكه زوجها وفي بعض ألفاظه (اعتدي في البيت الذي أتاك فيه نعي زوجك) وفي لفظ (اعتدي حيث أتاك الخبر) فإن أتاها الخبر في غير مسكنها رجعت إلى مسكنها فاعتدت فيه) المغني 8 /158- 159
وهذا الحديث وإن كان في عدة الوفاة إلا أن جمهور أهل العلم يرون أن المطلقة رجعياً لها نفس الحكم وخاصة أن الآية المذكورة أولاً دلت على ذلك، وبناء على ما سبق فإن الواجب على المطلقة رجعياً أن تبقى في بيت الزوجية ولا يجوز لزوجها أن يخرجها ولا يجوز لها أن تخرج لعل الزوج يراجعها وقد نص قانون الأحوال الشخصية المطبق في المحاكم الشرعية في بلادنا في المادة 146 على ذلك فقد جاء فيها (تعتد معتدة الطلاق الرجعي والوفاة في البيت المضاف للزوجين بالسكن قبل الفرقة) .
وخلاصة الأمر أن المطلقة طلاقاً رجعياً تعتد في بيت الزوجية ولا يجوز إخراجها إلا إذا ارتكبت الفاحشة ولا يجوز لها أن تخرج وبقاؤها في بيت الزوجية من دواعي مراجعتها.(15/56)
57 - حكم تصدق الزوجة من مال الزوج
تقول السائلة: هل يجوز للمرأة أن تتصدق من مال زوجها بدون إذنه؟
الجواب: لا شك أن الصدقة النافلة من أعمال البر والتقوى ويتقرب بها العبد إلى ربه جل وعلا وقد وردت نصوص كثيرة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في الحض على الصدقة فمن ذلك قوله تعالى: (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) سورة سبأ الآية 39.
وقال تعالى (وأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَءَاتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ سورة البقرة 110وورد في حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله [ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه] رواه البخاري ومسلم. وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث ورجل لا مفهوم يعمل به فإن المرأة كذلك كما نبه عليه الحافظ ابن حجر العسقلاني في فتح الباري 2/192 بل إن النبي صلى الله عليه وسلم قد حض النساء على التصدق فقد ورد في الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوم عيد فصلى ركعتين لم يصل قبل ولا بعد ثم مال على النساء ومعه بلال فوعظهن وأمرهن أن يتصدقن فجعلت المرأة تلقي القُلب والخرص) رواه البخاري والقُلب بضم القاف وسكون اللام هو السوار والخرص هو الحلقة من ذهب أو فضة. والأصل أن الإنسان يتصدق من ماله الخاص به ولكن وردت السنة بجواز تصدق الزوجة من مال زوجها فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها غير مفسدة كان لها أجرها بما أنفقت ولزوجها أجره بما كسب وللخازن مثل ذلك لا ينقص بعضهم أجر بعض شيئاً) رواه البخاري ومسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تصوم المرأة وبعلها شاهد إلا بإذنه ولا تأذن في بيته وهو شاهد إلا بإذنه وما أنفقت من كسبه من غير أمره فإن نصف أجره له) رواه البخاري ومسلم.
قال الإمام النووي: [قوله صلى الله عليه وسلم في الخازن الأمين الذي يعطي ما أمر به أحد المتصدقين وفي رواية: (إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها غير مفسدة كان لها أجرها بما أنفقت ولزوجها أجره بما كسب وللخازن مثل ذلك لا ينقص بعضهم أجر بعض شيئاً) وفي روية من طعام زوجها وفي رواية في العبد إذا أنفق من مال مواليه قال: الأجر بينكما نصفان وفي رواية ولا تصم المرأة وبعلها شاهد إلا بإذنه ولا تأذن في بيته وهو شاهد إلا بإذنه وما أنفقت من كسبه من غير أمره فإن نصف أجره له معنى هذه الأحاديث أن المشارك في الطاعة مشارك في الأجر ومعنى المشاركة ومعنى المشاركة أن له أجراً كما لصاحبه أجر وليس معناه أن يزاحمه في أجره والمراد المشاركة في أصل الثواب فيكون لهذا الثواب ولهذا الثواب وإن كان أحدهما أكثر ولا يلزم أن يكون مقدار ثوابهما سواء] شرح النووي على صحيح مسلم 3/92. واعلم أن أكثر أهل العلم يشترطون أن يأذن الزوج لزوجته في التصرف بماله ويدل عليه ما ورد في الحديث عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته عام حجة الوداع: (لا تنفق المرأة شيئاً من بيت زوجها إلا بإذن زوجها قيل: يا رسول الله ولا الطعام؟ قال ذلك أفضل أموالنا) رواه الترمذي وهو حديث حسن كما قال الألباني في صحيح سنن الترمذي 1/206.
قال الإمام البغوي: [العمل على هذا عند أهل العلم أن المرأة ليس لها أن تتصدق بشيء من مال الزوج دون إذنه وكذلك الخادم ويأثمان إن فعلا ذلك وحديث عائشة خارج على عادة أهل الحجاز أنهم يطلقون الأمر للأهل والخادم في الإنفاق والتصدق مما يكون في البيت إذا حضرهم السائل أو نزل بهم الضيف فحضهم على لزوم تلك العادة كما قال لأسماء: (لا توعي فيوعى عليك) وعلى هذا يخرج ما روي عن عمير مولى آبي اللحم قال: كنت مملوكاً فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أتصدق من مال موالي بشيء قال: (نعم والأجر بينكما نصفان) ] شرح السنة 6/205. وقال الإمام النووي: [واعلم أنه لا بد للعامل وهو الخازن وللزوجة والمملوك من إذن المالك في ذلك فإن لم يكن أذن أصلاً فلا أجر لأحد من هؤلاء الثلاثة بل عليهم وزر بتصرفهم في مال غيرهم بغير إذنه والإذن ضربان أحدهما الإذن الصريح في النفقة والصدقة والثاني الإذن المفهوم من اطراد العرف والعادة كإعطاء السائل كسرة ونحوها مما جرت العادة به واطراد العرف فيه وعلم بالعرف رضا الزوج والمالك به فإذنه في ذلك حاصل وإن لم يتكلم وهذا إذا علم رضاه لاطراد العرف وعلم أن نفسه كنفوس غالب الناس في السماحة بذلك والرضا به فإن اضطرب العرف وشك في رضاه أو كان شخصاً يشح بذلك وعلم من حاله ذلك أو شك فيه لم يجز للمرأة وغيرها التصدق من ماله إلا بصريح إذنه. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (وما أنفقت من كسبه من غير أمره فإن نصف أجره له) . فمعناه من غير أمره الصريح في ذلك القدر المعين ويكون معها إذن عام سابق متناول لهذا القدر وغيره وذلك الإذن الذي قد بيناه سابقاً إما بالصريح وإما بالعرف ولا بد من هذا التأويل لأنه صلى الله عليه وسلم جعل الأجر مناصفة وفي رواية أبي داود فلها نصف أجره ومعلوم أنها إذا أنفقت من غير إذن صريح ولا معروف من العرف فلا أجر لها بل عليها وزر فتعين تأويله. واعلم أن هذا كله مفروض في قدر يسير يعلم رضا المالك به في العادة فإن زاد على المتعارف لم يجز وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها غير مفسدة) فأشار صلى الله عليه وسلم إلى أنه قدر يعلم رضا الزوج به في العادة ونبه بالطعام أيضاً على ذلك لأنه يسمح به في العادة بخلاف الدراهم والدنانير في حق أكثر الناس وفي كثير من الأحوال] شرح النووي على صحيح مسلم 3/92-93.
وقد ذكر بعض أهل العلم أن الأحاديث الواردة في المسألة فيها نوع من الاختلاف حيث ذكر في حديث أبي هريرة السابق أن المرأة لا تنفق من غير إذن الزوج وورد في حديث عائشة ما يدل على الإباحة بحصول الأجر لها في ذلك وورد في حديث عائشة بتقييده بأن تكون غير مفسدة وإن كان من غير أمره وورد في حديث سعد رضي الله عنه قال: لما بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء قامت امرأة جليلة كأنها من نساء مضر قالت: يا رسول الله إنا كلٌّ على آبائنا وأبنائنا وأزواجنا فما يحل لنا من أموالهم؟ قال: الرطب تأكلنه وتهدينه) . رواه أبو داود وإسناده جيد كما في حاشية شرح السنة. قال الإمام العيني: [قلت: كيفية الجمع بينهما أن ذلك يختلف باختلاف عادات البلاد وباختلاف حال الزوج من مسامحته ورضاه بذلك أو كراهته لذلك وباختلاف الحال في الشيء المنفق بين أن يكون شيئا يسيراً يتسامح به وبين أن يكون له خطر في نفس الزوج يبخل بمثله وبين أن يكون ذلك رطباً يخشى فساده إن تأخر وبين أن يكون يدخر ولا يخشى عليه الفساد] عمدة القاري 6/401.
وخلاصة الأمر أنه يجوز للمرأة أن تتصدق من مال زوجها والأصل أنها تستأذنه في ذلك إلا ما جرى به العرف من عدم الحاجة لإذنه أو لأنه لا يكره ذلك كما إذا جاء سائل إلى البيت فأعطته الزوجة طعاماً أو نحوه فلا بأس في ذلك.(15/57)
58 - العدة
يقول السائل: ما هي عدة المرأة المختلعة من زوجها؟
الجواب: الخلع هو أن تفتدي المرأة نفسها بمال تدفعه لزوجها أو هو فراق الزوجة على مال. انظر فتح الباري 9/490.
والخلع مشروع بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وانعقد الإجماع على ذلك. قال الله تعالى: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّاءَاتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) سورة البقرة الآية 229.
وقال تعالى: (وَءَاتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا) سورة النساء الآية 4.
ويدل على مشروعيته ما ورد في الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة ثابت بن قيس أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله ثابت بن قيس ما أعتب عليه في خلق ولا دين ولكنني أكره الكفر في الإسلام؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتردين عليه حديقته؟ قالت: نعم. قال رسول الله: اقبل الحديقة وطلقها تطليقة) رواه البخاري.
وعن حبيبة بنت سهل الأنصارية أنها كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الصبح فوجد حبيبة بن سهل على بابه في الغلس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من هذه؟ فقالت: أنا حبيبة بنت سهل قال: ما شأنك؟ قالت: لا أنا ولا ثابت بن قيس – لزوجها – فلما جاء ثابت بن قيس قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذه حبيبة بنت سهل وذكرت ما شاء الله أن تذكر وقالت حبيبة: يا رسول الله كل ما أعطاني عندي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس: خذ منها فأخذ منها وجلست في أهلها) رواه أبو داود وقال الألباني صحيح. انظر صحيح سنن أبي داود 2/420. وغير ذلك من الأدلة.
وقد اختلف أهل العلم في الخلع هل هو طلاق أم فسخ؟ فالجمهور على أنه طلاق وقال الإمام أحمد في المشهور عنه إن الخلع يعتبر فسخاً وهو قول الشافعي في القديم ونقل عن ابن عباس وعثمان وعلي وعكرمة وطاووس وغيرهم. وهو اختيار شيخ الإسلام بن تيمية والعلامة ابن القيم. وقد ترتب على اختلافهم في كونه طلاق أم فسخ خلافهم في عدة المختلعة فذهب الجمهور إلى أن المختلعة تعتد عدة الطلاق ثلاثة قروء بناء على أن الخلع طلاق وذهب الآخرون إلى أنها تعتد بحيضة بناء على أن الخلع فسخ والقول الثاني قول قوي معتمد على أدلة صحيحة فمن ذلك حديث ابن عباس: (أن امرأة ثابت بن قيس اختلعت منه فجعل النبي صلى الله عليه وسلم عدتها حيضة) رواه أبو داود والترمذي وغيرهما وقال الألباني صحيح انظر صحيح سنن أبي داود 2/420. وقال الإمام الترمذي بعد أن روى حديث ابن عباس: [هذا حديث حسن غريب واختلف أهل العلم في عدة المختلعة فقال أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم: إن عدة المختلعة عدة المطلقة وهو قول سفيان الثوري وأهل الكوفة وبه يقول أحمد وإسحاق وقال بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم: عدة المختلعة حيضة قال إسحاق: وإن ذهب ذاهب إلى هذا فهو مذهب قوي] سنن الترمذي مع شرحه تحفة الأحوذي 4/306.
وعن الربيع بنت معوذ أنها اختلعت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أو أمرت أن تعتد بحيضة. رواه الترمذي وابن ماجة وهو حديث صحيح كما في صحيح سنن الترمذي للألباني 1/348.
وروى أبو داود عن ابن عمر قال: عدة المختلعة حيضة. وقال الألباني صحيح موقوف انظر صحيح سنن أبي داود 2/420.
وقال الحافظ الخطابي معلقاً على قصة زوجة ثابت: [في هذا الحديث دليل على أن الخلع فسخ وليس بطلاق ولو كان طلاقاً لاقتضي فيه شرائط الطلاق من وقوعه في طهر لم تمس فيه المطلقة ومن كونه صادراً من قبل الزوج وحده من غير مرضاة المرأة فلما لم يتعرف النبي صلى الله عليه وسلم الحال في ذلك فأذن له في مخالعتها في مجلسه ذلك دل على أن الخلع فسخ وليس بطلاق ألا ترى أنه لما طلق ابن عمر زوجته وهي حائض أنكر عليه ذلك وأمر بمراجعتها وإمساكها حتى تطهر فيطلقها طاهراً قبل أن يمسها. وإلى هذا ذهب ابن عباس واحتج بقول الله تعالى: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) سورة البقرة الآية 229. قال ثم ذكر الخلع فقال: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) سورة البقرة الآية 229 ثم ذكر الطلاق فقال: (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ) سورة البقرة الآية 230. فلو كان الخلع طلاقاً لكان الطلاق أربعاً وإلى هذا ذهب طاووس وعكرمة وهو أحد قولي الشافعي وبه قال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو ثور] معالم السنن 3/219-220. وقال الحافظ الخطابي أيضاً معلقاً على قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس: (فجعل النبي صلى الله عليه وسلم عدتها حيضة) قال: [هذا أدل شيء على أن الخلع فسخ وليس بطلاق وذلك أن الله تعالى قال: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ) فلو كانت مطلقة لم يقتصر لها على قرء واحد] المصدر السابق 3/220.
وقال العلامة ابن القيم: [وفي أمره صلى الله عليه وسلم المختلعة. أن تعتد بحيضة واحدة دليل على حكمين أحدهما: أنه لا يجب عليها ثلاث حيض بل تكفيها حيضة واحدة وهذا كما أنه صريح السنة فهو مذهب أمير المؤمنين عثمان ابن عفان وعبد الله بن عمر بن الخطاب والربيع بنت معوذ وعمها وهو من كبار الصحابة لا يعرف لهم مخالف منهم كما رواه الليث بن سعد عن نافع مولى ابن عمر أنه سمع الربيع بنت معوذ بن عفراء وهي تخبر عبد الله بن عمر رضي الله عنه أنها اختلعت من زوجها على عهد عثمان بن عفان فجاء عمها إلى عثمان بن عفان فقال له: إن ابنة معوذ اختلعت من زوجها اليوم أفتنتقل؟ فقال عثمان: لتنتقل ولا ميراث بينهما ولا عدة عليها إلا أنها لا تنكح حتى تحيض حيضة خشية أن يكون بها حبل. فقال عبد الله بن عمر: فعثمان خيرنا وأعلمنا وذهب إلى هذا المذهب إسحاق بن راهويه والإمام أحمد في رواية عنه اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية.
قال من نصر هذا القول: هو مقتضى قواعد الشريعة فإن العدة إنما جعلت ثلاث حيض ليطول زمن الرجعة فيتروى الزوج ويتمكن من الرجعة في مدة العدة فإذا لم تكن عليها رجعة فالمقصود مجرد براءة رحمها من الحمل وذلك يكفي فيه حيضة كالاستبراء قالوا: ولا ينتقض هذا علينا بالمطلقة ثلاثاً فإن باب الطلاق جعل حكم العدة فيه واحداً بائنة ورجعية.
قالوا: وهذا دليل على أن الخلع فسخ وليس بطلاق وهو مذهب ابن عباس وعثمان والربيع وعمها ولا يصح عن صحابي أنه طلاق البتة فروى الإمام أحمد عن يحيى بن سعيد عن سفيان عن عمرو عن طاووس عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: الخلع تفريق وليس بطلاق. وذكر عبد الرزاق عن سفيان عن عمرو عن طاووس أن إبراهيم بن سعد بن أبي وقاص سأله عن رجل طلق امرأته تطليقتين ثم اختلعت منه أينكحها؟ قال ابن عباس: نعم ذكر الله الطلاق في أول الآية وآخرها والخلع بين ذلك] زاد المعاد 5/196-198.
وقال العلامة ابن القيم أيضاً: [وهذا كما أنه موجب السنة وقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وموافق لأقوال الصحابة فهو مقتضى القياس فإنه استبراء لمجرد العلم ببراءة الرحم فكفت فيه حيضة كالمسبية والأمة المستبرأة والحرة والمهاجرة والزانية إذا أرادت أن تنكح] المصدر السابق 5/679.
ويجب أن يعلم أنه لا يجوز للمرأة المسلمة أن تطلب الطلاق أو الخلع من زوجها بدون عذر شرعي مقبول فقد ورد في الحديث عن ثوبان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [أيما امرأة سألت زوجها الطلاق فحرام عليها رائحة الجنة] رواه أصحاب السنن وصححه ابن خزيمة.
وورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المنتزعات والمختلعات هن المنافقات) رواه أحمد والنسائي وهو حديث صحيح كما قال الألباني في صحيح سنن النسائي 2/731. وصححه أيضاً في السلسلة الصحيحة 2/210-214. وساق له عدة طرق.
وخلاصة الأمر أن عدة المختلعة حيضة واحدة كما هو مقتضى السنة الثابتة لأن الخلع فسخ وليس بطلاق وإن قيل بأنه طلاق فيمكن أن تعتبر السنة فيه قد خصصت عموم قوله تعالى: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ) وإذا اعتدت المختلعة بحيضة واحدة فقد أصابت السنة وإن اعتدت بثلاث حيضات فذلك أحوط خروجاً من الخلاف.(15/58)
59 - الحضانة
يقول السائل: إنه طلق زوجته طلاقاً بائناً بينونة كبرى وله ولد منها له من العمر أربع سنوات وحضانة الولد لأمه كما تعلمون وقد اتفق مع مطلقته على أن تتنازل عن حقها في حضانة الولد مقابل مبلغ من المال يدفعه لها ويؤخذ الولد منها فما الحكم في ذلك؟
الجواب: الحضانة عند الفقهاء هي القيام على شؤون الولد وحفظه وتربيته والاعتناء به في جميع مصالحه. والحضانة واجبة شرعاً قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [كفالة الطفل وحضانته واجبة لأنه يهلك بتركه فيجب حفظه عن الهلاك كما يجب الإنفاق عليه وإنجاؤه من المهالك] المغني 8/237.
ووجوب الحضانة قد يكون عينياً إذا لم يوجد إلا الحاضن أو مع وجود غيره ولكن الطفل لم يقبل غيره. وقد يكون وجوبها كفائياً إذا تعدد الحاضن.
ومما يدل على مشروعية الحضانة ما ورد في الحديث عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (أن امرأة قالت: يا رسول الله إن ابني هذا كان بطني له وعاء وثديي له سقاء وحجري له حواء وإن أباه طلقني وأراد أن ينتزعه مني فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنت أحق به ما لم تنكحي) رواه أبو داود والحاكم وصححه ووافقه الذهبي وقال الشيخ الألباني حديث حسن كما في صحيح سنن أبي داود 2/430 وحسنه الألباني أيضاً في إرواء الغليل 7/244.
وأخذاً من الحديث السابق وغيره اتفق العلماء على أن الأم أولى الناس بالحضانة ما دامت شروط الحضانة متحققة فيها قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [إن الزوجين إذا افترقا ولهما ولد طفل أو معتوه فأمه أولى الناس بكفالته إذا كملت الشرائط فيها ذكراً كان أو أنثى وهذا قول يحيى الأنصاري والزهري والثوري ومالك والشافعي وأبي ثور وإسحق وأصحاب الرأي ولا نعلم أحداً خالفهم] المغني 8/238.
وقد اختلف الفقهاء في صاحب حق الحضانة من هو؟ فذهب بعض الفقهاء إلى أن الحضانة حق للحاضن وذهب آخرون إلى أنها حق للمحضون وترتب على هذا الاختلاف اختلافهم في مسائل منها إسقاط حق الحضانة فعند الحنفية إذا اختلعت المرأة من زوجها على أن تترك ولدها عند الزوج فالخلع عندهم صحيح والشرط باطل لأن هذا حق الولد أن يكون عند أمه ما دام محتاجاً إليها. وقد رجح العلامة ابن القيم أن الحضانة حق للحاضن أنظر زاد المعاد 5/451-452.
ومن العلماء من يرى أنه يجوز للحاضنة إسقاط حقها في الحضانة مقابل مال تتصالح عليه مع زوجها.
وقد سئل ابن رشد المالكي عن رجل طلق امرأته وله منها ولد تحضنه فواطأت زوجها أبا الصبي على أن أسقطت الحضانة بعوض أخذته هل ينفذ هذا العقد بينهما أم لا؟
فأجاب بما يلي: تصفحت سؤالك هذا ووقفت عليه والذي رأيت فيما سألت عنه على منهاج قول مالك الذي نعتقد صحته أن ذلك جائز لأن الحضانة حق للأم إن شاءت أخذته وإن شاءت تركته واختلف هل ذلك حق لها تنفرد به دون الابن أم لا؟ فقيل: إنها تنفرد به دونه. وقيل: إنها لا تنفرد به دونه وإن له فيها حقاً معها لأنه إنما وجبت لها من أجل أنها أرفق به من أبيه وأرأف عليه منه وهذا معنى ما يعبر به من الاختلاف في الحضانة. هل هي حق للأم أو للولد؟ فعلى القولين بأنها حق لها تنفرد به دون الابن يلزمها تركها له على عوض أو على غير عوض ولا يكون لها أن ترجع فيها. وعلى القول بأن ذلك حق للولد لا يلزمها تركها ويكون لها أن ترجع فيها إن تركتها أيضاً على عوض أو على غير عوض وترجع في العوض إن كانت تركتها على عوض. ولا وجه لقول من منع ذلك واحتج بما ذكر لأن ما اتفقنا عليه إنما هو صلح صالحها بما أعطاها على أن أسلمت إليه ابنه وتركت له حقاً في حضانتها إياه. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً أحل حراماً أو حرم حلالاً) . وليس في ترك الحضانة له بما بذل لها ذلك تحليل حرام أو تحريم حلال فوجب أن يجوز ذلك. وإنما جاز عند مالك وأصحابه رحمهم الله إذا خافت المرأة نشوز زوجها عليها وخشيت مفارقته إياها أن تترك له حقها الذي أوجب الله لها عليه في أن لا يؤثر عليها من سواها من أزواجه على مال يعطيها إياه بدليل قول الله عز وجل: (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) سورة النساء الآية 128. جاز أن تترك له حقها في حضانة ولدها منه على مال يعطيها إياه إذ لا فرق في المعنى بين الموضعين] . ثم ذكر كلاماً في الرد على من منع ذلك انظر فتاوى ابن رشد 3/1546-1547 وانظر المعيار المعرب 4/518-520. وقال الشيخ محمد عليش في فتح العلي المالك [وأما إذا أسقطت الحضانة بعد وجوبها فذلك لازم لها وسواء أسقطت ذلك بعوض، أو بغير عوض] .
وما قرره ابن رشد المالكي ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال: [وقياس المذهب عندي جواز أخذ العوض عن سائر حقوقها من القسم وغيره] الاختيارات الفقهية ص249. وهذا القول قول قوي وجيه انظر ضمان المنافع ص332.
وأخيراً ينبغي التنبيه إلى أنه وحسب قانون الأحوال الشخصية المعمول به في المحاكم الشرعية عندنا فإن الحاضنة إذا اتفقت مع مطلقها على التنازل عن حق الحضانة ثم رجعت عن ذلك ورفعت أمرها إلى القضاء فإن القاضي يحكم لها باستعادة حقها في حضانة الولد لأن الحنفية يرون أن الحضانة حق للمحضون.
وخلاصة الأمر فلا مانع شرعاً من الاتفاق على تنازل الحاضنة عن حقها في الحضانة مقابل مال تأخذه من مطلقها.(15/59)
60 - النكاح
يقول السائل: ما قولكم فيمن يحتج على جواز نكاح المتعة بقوله تعالى: (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً) ويزعم أن نكاح المتعة غير منسوخ في الشريعة؟
الجواب: زواج المتعة هو أن يعقد الرجل على امرأة لمدة محددة ويدفع لها مهراً معلوماً كأن يعقد عليها لمدة أسبوع أو شهر أو أكثر أو أقل. وهذا الزواج كان مباحاً في الشريعة الإسلامية ثم نسخ نسخاً مؤبداً وهذا قول عامة أهل العلم ولم يخالف في ذلك إلا بعض الشيعة الجعفرية وقولهم باطل لا دليل عليه. بل إن المنقول عن أئمتهم يدل على تحريم نكاح المتعة. وأما الآية التي ذكرت في السؤال وهي قوله تعالى: (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً) فلا دلالة فيها على جواز نكاح المتعة لأن هذه الآية إنما هي في الزواج الدائم المعروف ويدل على ذلك ما سبق من الآية: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا) سورة النساء الآية 24. فهذه الآية جاءت عقب ذكر المحرمات من النكاح ثم جاء قوله تعالى: (وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ) لبيان أنه يجوز نكاح سوى من ذكر من المحرمات فإذا نكح الرجل امرأة ممن يجوز نكاحها فإذا دخل بها فيجب لها المهر كاملاً فهذه الآية توجب المهر للمنكوحة ولا علاقة لها بالمتعة لا من قريب ولا من بعيد قال القرطبي: [قال ابن خويز منداد: ولا يجوز أن تحمل الآية على جواز المتعة لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن نكاح المتعة وحرمه ولأن الله تعالى قال:
(فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ) ومعلوم أن النكاح بإذن الأهلين هو النكاح الشرعي بولي وشاهدين ونكاح المتعة ليس كذلك] تفسير القرطبي 5/129-130. وقال القرطبي أيضاً: [وقال سعيد بن المسيب: نسختها آية الميراث إذ كانت المتعة لا ميراث فيها. وقالت عائشة والقاسم بن محمد: تحريمها ونسخها في القرآن وذلك في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) وليست المتعة نكاحاً ولا ملك يمين] المصدر السابق 5/130. وقال الألوسي: [وهذه الآية لا تدل على الحل والقول بأنها نزلت في المتعة غلط وتفسير البعض لها بذلك غير مقبول لأن نظم القرآن الكريم يأباه حيث بين سبحانه وتعالى أولاً المحرمات ثم قال عز شأنه: (وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ) وفيه شرط بحسب المعنى فيبطل تحليل الفرج وإعارته وقد قال بهما الشيعة ثم قال جل وعلا: (مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ) وفيه إشارة إلى النهي عن كون القصد مجرد قضاء الشهوة وصب الماء واستفراغ أوعية المني فبطلت المتعة بهذا القيد لأن مقصود المتمتع ليس إلا ذاك دون التأهل والاستيلاد وحماية الذمار والعرض ولذا تجد المتمتع بها في كل شهر تحت صاحب وفي كل سنة بحجر ملاعب فالإحصان غير حاصل في امرأة المتعة أصلاً ولهذا قالت الشيعة: إن المتمتع الغير الناكح إذا زنى لا رجم عليه ثم فرَّع سبحانه على حال النكاح قوله عز من قائل: (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ) وهو يدل على أن المراد بالاستمتاع هو الوطء والدخول لا الاستمتاع بمعنى المتعة التي يقول بها الشيعة والقراءة التي ينقلونها عمن تقدم من الصحابة شاذة] تفسير روح المعاني 5/8.
وقد دلت السنة النبوية على نسخ نكاح المتعة أيضاً فعن سبرة الجهني أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يا أيها الناس إني قد كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيله ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً) رواه مسلم. وفي رواية أخرى عند مسلم (عن سبرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المتعة وقال: ألا إنها حرام من يومكم هذا إلى يوم القيامة ومن كان أعطى شيئاً فلا يأخذه) . وروى مسلم بسنده عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه أنه قام بمكة فقال: إن ناساً أعمى الله قلوبهم كما أعمى أبصارهم يفتون بالمتعة يعرض برجل فناداه فقال: إنك لجلف جاف فلعمري لقد كانت المتعة تفعل على عهد إمام المتقين – يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم - فقال له ابن الزبير: فجرب بنفسك فوالله لئن فعلتها لأرجمنك بأحجارك. قال ابن شهاب: فأخبرني خالد بن المهاجر بن سيف الله أنه بينما هو جالس عند رجل جاءه رجل فاستفتاه في المتعة فأمره بها فقال له ابن أبي عميرة الأنصاري مهلاً قال: ما هي؟ والله لقد فعلت في عهد إمام المتقين. قال ابن أبي عميرة: إنها كانت رخصة أول الإسلام لمن اضطر إليها كالميتة والدم ولحم الخنزير ثم أحكم الله الدين ونهى عنها) . وعن علي رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن نكاح المتعة يوم خيبر) رواه البخاري ومسلم. وقد قرر العلماء أن نكاح المتعة منسوخ، قال الإمام البخاري: [وقد بينه علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه منسوخ] صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 9/209. ونقل الحافظ ابن حجر العسقلاني كلام جماعة من أهل العلم في نسخ نكاح المتعة فمن ذلك ما قاله [ابن المنذر: جاء عن الأوائل الرخصة فيها ولا أعلم اليوم أحداً يجيزها إلا بعض الرافضة ولا معنى لقول يخالف كتاب الله وسنة رسوله. وقال القاضي عياض: ثم وقع الإجماع من جميع العلماء على تحريمها إلا الروافض. وقال الخطابي: تحريم المتعة كالإجماع إلا عن بعض الشيعة ولا يصح على قاعدتهم في الرجوع في المختلفات إلى علي وآل بيته فقد صح عن علي أنها نسخت. ونقل البيهقي عن جعفر بن محمد أنه سئل عن المتعة فقال: هي الزنا بعينه. وقال القرطبي: الروايات كلها متفقة على أن زمن إباحة المتعة لم يطل وأنه حرم ثم أجمع السلف والخلف على تحريمها إلا من لا يلتفت إليه من الروافض] فتح الباري 9/216-217. وقال الشوكاني بعد أن ذكر أنه قد روي عن بعض الصحابة جواز المتعة: [وعلى كل حال فنحن متعبدون بما بلغنا عن الشارع وقد صح لنا عنه التحريم المؤبد ومخالفة طائفة من الصحابة له غير قادحة في حجيته ولا قائمة لنا بالمعذرة عن العمل به. كيف والجمهور من الصحابة قد حفظوا التحريم وعملوا به ورووه لنا حتى قال ابن عمر فيما أخرجه عنه ابن ماجة بإسناد صحيح (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لنا في المتعة ثلاثاً ثم حرمها والله لا أعلم أحداً تمتع وهو محصن إلا رجمته بالحجارة) وقال أبو هريرة رضي الله عنه فيما يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (هدم المتعة الطلاق والعدة والميراث) أخرجه الدارقطني وحسنه الحافظ] نيل الأوطار 6/156.
وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي شارحاً لقول الخرقي: [ولا يجوز نكاح المتعة. معنى نكاح المتعة: أن يتزوج المرأة مدة مثل أن يقول: زوجتك ابنتي شهراً أو سنة أو إلى انقضاء الموسم أو قدوم الحاج وشبهه. سواء كانت المدة معلومة أو مجهولة فهذا نكاح باطل. نص عليه أحمد فقال: نكاح المتعة حرام] المغني 7/178. وخلاصة الأمر أن نكاح المتعة منسوخ ولا دلالة في الآية المذكورة على جوازه وأجمعت الأمة على تحريمه إلا من شذ.(15/60)
61 - حق الأولاد
يقول السائل: هل يجوز لوالدته أن تعطي أحد أبنائها منزلاً وتسجله باسمه ليصبح الابن مالكاً له في المستقبل؟
الجواب: إن العدل بين الأولاد في الهبات والعطايا واجب شرعاً وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة في ذلك منها: 1. عن النعمان بن بشير قال: قال النبيصلى الله عليه وسلم: (اعدلوا بين أبنائكم، اعدلوا بين أبنائكم، اعدلوا بين أبنائكم) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وهو حديث صحيح. 2. وعن جابر رضي الله عنه قال: قالت امرأة بشير: انحل ابني غلاماً - عبداً - وأشهد لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن ابنة فلان - زوجته - سألتني أن أنحل ابنها غلامي. فقال عليه الصلاة والسلام: له أخوة؟ قال: نعم، قال عليه الصلاة والسلام: فكلهم أعطيت مثل ما أعطيته؟ قال: لا، قال عليه الصلاة والسلام: فليس يصلح هذا وإني لا أشهد إلا على حق) رواه مسلم وأبو داود وأحمد وغيرهم. 3. وعن عامر قال: سمعت النعمان بن بشير رضي الله عنهما وهو على المنبر يقول: أعطاني أبي عطية فقالت عمرة بنت رواحة - أم نعمان – لا أرضى حتى تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أعطيت ابني من عمرة بنت رواحة عطية فأمرتني أن أشهدك يا رسول الله. قال عليه الصلاة والسلام: أعطيت سائر ولدك مثل هذا؟ قال: لا، فقالصلى الله عليه وسلم: فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم، قال فرجع فرد عطيته) رواه البخاري. وفي روايةٍ أخرى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبشير والد النعمان: (لا تشهدني على جورٍ أليس يسرك أن يكونوا لك في البر سواء؟ قال: نعم، قال: أشهد على هذا غيري) رواه أبو داود بسندٍ صحيح. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (سووا بين أولادكم في العطية لو كنت مفضلاً أحداً لفضلت النساء) رواه سعيد بن منصور والبيهقي وقال الحافظ ابن حجر إسناده حسن. وبناءً على هذه الأحاديث قال جماعة من أهل العلم لا يجوز تفضيل بعض الأولاد على بعض في العطايا والهبات بل يجب العدل بينهم وإذا وقع التفضيل فإن العقد يكون باطلاً. فتح الباري 5/214. ولكن جماعة أخرى من أهل العلم قالوا بكراهة التفضيل وإذا وقع صح العقد ونفذت الهبة. انظر شرح السنة 8/297 شرح النووي على صحيح مسلم 11/66. ولكن مذهب المانعين أصح وأقوى دليلاً لأن الأحاديث المذكورة سابقاً صريحة في النهي عن اتفضيل وخاصة أن النبي صلى الله عليه وسلم قد سمَّى ذلك جوراً أي ظلماً. قال العلامة ابن القيم: [وأمر بالتسوية بين الأولاد في العطية وأخبر أن تخصيص بعضهم بها جور لا يصلح ولا تنبغي الشهادة عليه وأمر فاعله برده ووعظه وأمره بتقوى الله تعالى وأمره بالعدل لكون ذلك ذريعة ظاهرة قريبة جداً إلى وقوع العداوة بين الأولاد وقطيعة الرحم بينهم كما هو مشاهد عياناً فلو لم تأت السنة الصحيحة الصريحة التي لا معارض لها بالمنع منه لكان القياس وأصول الشريعة وما تضمنته من المصالح ودرء المفاسد يقتضي تحريمه] إغاثة اللهفان 1/365.
وخلاصة الأمر أن على هذه الوالدة أن لا تعطي البيت لأحد أبنائها فقط وتحرم الآخرين لما في ذلك من إيقاع للعداوة والبغضاء بين الأبناء وعليها أن تعود في عطيتها.(15/61)
62 - نفقة الزوجة
يقول السائل: توفي رجل وترك امرأته حاملاً فهل تجب النفقة لها في مال زوجها المتوفى أفيدونا؟
الجواب: الأصل أن نفقة الزوجة واجبة على زوجها لقوله تعالى: (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّاءَاتَاهُ) سورة الطلاق الآية 7. وقال تعالى: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى المَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) سورة البقرة الآية 233. وصح في الحديث عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اتقوا الله في النساء فإنهن أعوان عندكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف) رواه مسلم. هذا هو الأصل في أن نفقة الزوجة واجبة على زوجها ولكن إذا مات الزوج فقد اختلف أهل العلم هل لزوجته نفقة أم لا؟ والراجح من أقوال العلماء في المسألة أن النفقة تسقط بوفاة الزوج سواء كانت المرأة المتوفى عنها زوجها حاملاً أو غير حامل وتكتفي بنصيبها من ميراث زوجها. وكذلك الحال بالنسبة لجنينها فإن المعروف عند أهل العلم أن الجنين يرث. وعليه فإن هذه المرأة الحامل المتوفى عنها زوجها لا تجب لها النفقة في مال زوجها المتوفى وهذا قول جمهور أهل العلم من الحنفية والمالكية والشافعية وهو أصح القولين في مذهب أحمد ونقل عن ابن عباس وجابر وعطاء وسعيد بن المسيب وغيرهم. قال القرطبي: [واختلفوا في وجوب نفقة الحامل المتوفى عنها زوجها فقالت طائفة: لا نفقة لها، كذلك قال جابر بن عبد الله وابن عباس وسعيد بن المسيب وعطاء والحسن وعكرمة وعبد الملك بن يعلى ويحيى الأنصاري وربيعة ومالك وأحمد وإسحق وحكى أبو عبيد ذلك عن أصحاب الرأي. وفيه قول ثان وهو أن لها النفقة من جميع المال وروي هذا القول عن علي وعبد الله وبه قال ابن عمر وشريح وابن سيرين والشعبي وأبو العالية والنخعي وجلاس بن عمرو وحماد ابن أبي سليمان وأيوب السختياني وسفيان الثوري وأبو عبيد. قال ابن المنذر: وبالقول الأول أقول لأنهم أجمعوا على أن نفقة كل من كان يجبر على نفقته وهو حي مثل أولاده الأطفال وزوجته ووالديه تسقط عنه فكذلك تسقط عنه نفقة الحامل من أزواجه. وقال القاضي أبو محمد: لأن نفقة الحمل ليست بدين ثابت فتتعلق بماله بعد موته بدليل أنها تسقط عنه بالإعسار فبأن تسقط بالموت أولى وأحرى] تفسير القرطبي 3/185. وروى عبد الرزاق الصنعاني بإسناده عن عطاء قال: [لا نفقة للمتوفى الحامل إلا من مال نفسها] وروى عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: [لا نفقة للمتوفى عنها الحامل، وجبت المواريث] . وروى عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: [ليس للمتوفى عنها زوجها نفقة حسبها الميراث] . وروى عن سعيد بن المسيب في المتوفى عنها الحامل قال: [ليس لها نفقة] . وروى عن ابن جريح قال سئل ابن شهاب - الزهري - عن المتوفى عنها وهي حامل على من نفقتها؟ قال: [كان ابن عمر يرى نفقتها إن كانت حاملاً أو غير حامل فيما ترك زوجها فأبى الأئمة ذلك وقضوا بأن لا نفقة لها] مصنف عبد الرزاق 7/36-39. ومما يدل على ذلك ما قاله الشيخ ابن قدامة المقدسي: [لأن المال قد صار للورثة ونفقة الحامل وسكناها إنما هي للحمل أو من أجله ولا يلزم ذلك للورثة لأنه إن كان للميت ميراث فنفقة الحمل من نصيبه وإن لم يكن له ميراث لم يلزم وارث الميت الإنفاق على حمل امرأته كما بعد الولادة] المغني 8/334. ورد ابن حزم على من أوجب النفقة للحامل المتوفى عنها زوجها بقوله: [وأما من أوجب النفقة من جميع المال للمتوفى عنها زوجها ... فخطأ لا خفاء به لأن مال الميت ليس له بل قد صار لغيره فلا يجوز أن ينفق على امرأته ... من مال الورثة أو مما أوصى به لغيرهما وهذا عين الظلم] المحلى 10/89. ويمكن أن يجاب عن استدلال من أوجبوا لها النفقة استناداً إلى قوله تعالى: (وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ) سورة الطلاق الآية 6. وأن الحامل المتوفى عنها زوجها داخلة في العموم يجاب عن ذلك بأن الخطاب في الآية للأزواج وقد سقط خطابهم بالوفاة فلم يعودوا من أهل التكليف لأن تكليفهم سقط بالموت. وقد أخذ قانون الأحوال الشخصية المطبق في بلادنا برأي جمهور أهل العلم فلم يوجب النفقة للحامل المتوفى عنها زوجها وقد نصت على ذلك المادة رقم 144 فقد جاء فيها: (ليس للمرأة التي توفي زوجها سواء كانت حاملاً أو غير حامل نفقة عدة) .(15/62)
63 - كفارة الظهار
تقول السائلة: هل كفارة الظهار واجبة على الترتيب أو على التخيير؟
الجواب: الظهار عند الفقهاء هو تشبيه الزوج زوجته أو جزءً منها بامرأة محرمة عليه على التأبيد. والظهار من الأمور المحرمة شرعاً وهو كبيرة من الكبائر لأن الله سبحانه وتعالى نص على أنه منكر من القول وزور. فقال الله تعالى: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) سورة المجادلة الآيتان 1-2. قال الشيخ ابن حجر المكي: [الكبيرة السادسة والثمانون بعد المائتين قال تعالى:: (الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) وحكمة (مِنْكُمْ) توبيخ العرب وتهجين عادتهم في الظهار لأنه كان من أيمان الجاهلية خاصة دون سائر الأمم (مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ) أي ما نساؤهم بأمهاتهم حتى يشبهوهن بهن إذ حقيقة الظهار أن يقول لزوجته: أنت علي كظهر أمي أو نحو نحوها (إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ) أي ما أمهاتهم إلا والداتهم أو من في حكمهن كالمرضعة (وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا) أي شيئاً من القول منكراً وزوراً أي بهتاناً وكذباً إذ المنكر ما لا يعرف في الشرع والزور والكذب (وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) إذ جعل الكفارة مخلصة لهم من هذا القول المنكر والزور لا يقال المظاهر إنما شبه زوجته بنحو أمه فأي منكر وزور فيه لأنا نقول: إن قصد به الإخبار فواضح أنه منكر وكذب أو الإنشاء فكذلك لأنه جعله سبباً للتحريم والشرع لم يجعله كذلك وهذا غاية في قبح المخالفة وفحشها ومن ثم اتجه بذلك كون الظهار كبيرة لأن الله تعالى سماه زوراً والزور كبيرة كما يأتي ويوافق ذلك ما نقل عن ابن عباس من أن الظهار من الكبائر] الزواجر عن اقتراف الكبائر 2/114. وكفارة الظهار هي المنصوص عليها في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّاذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ) سورة المجادلة الآيتان 3-4. وكفارة الظهار واجبة على الترتيب باتفاق أهل العلم أي أن المظاهر يبدأ أولاً بعتق رقبة فإن لم يجد يصوم ستين يوماً فإن لم يستطع وكان عاجزاً عن الصيام يطعم ستين مسكيناً. قال القرطبي: [ذكر الله عز وجل الكفارة هنا مرتبة فلا سبيل إلى الصيام إلا عند العجز عن الرقبة وكذلك لا سبيل إلى الإطعام إلا عند عدم الاستطاعة على الصيام فمن لم يطق الصيام وجب عليه إطعام ستين مسكيناً لكل مسكين مدان بمد النبي صلى الله عليه وسلم] تفسير القرطبي 18/285. وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [إن كفارة المظاهر القادر على الإعتاق عتق رقبة لا يجزئه غير ذلك بغير خلاف علمناه بين أهل العلم والأصل في ذلك قوله تعالى:: (وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) إلى قوله: (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) وقول النبي صلى الله عليه وسلم لأوس بن الصامت حين ظاهر من امرأته: (يعتق رقبة قلت: لا يجد قال: فيصوم) وقوله لسلمة بن صخر مثل ذلك فمن لم يجد رقبة يستغنى عنها أو وجد ثمنها فاضلاً عن حاجته ووجدها به لم يجزئه إلا الإعتاق لأن وجود المبدل إذا منع الانتقال إلى البدل كانت القدرة على ثمنه تمنع الانتقال كالماء وثمنه يمنع الانتقال إلى التيمم] المغني 8/21-22. وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي أيضاً: [أجمع أهل العلم على أن المظاهر إذا لم يجد رقبة أن فرضه صيام شهرين متتابعين وذلك لقوله تعالى: (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) وحديث أوس بن الصامت وسلمة بن صخر وأجمعوا على أن من وجد رقبة فاضلة عن حاجته فليس له الانتقال إلى الصيام] المغني 8/24-25. وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي أيضاً: [أجمع أهل العلم على أن المظاهر إذا لم يجد الرقبة ولم يستطع الصيام أن فرضه إطعام ستين مسكيناً على ما أمر الله تعالى في كتابه وجاء في سنة نبيه صلى الله عليه وسلم سواء عجز عن الصيام لكبر أو مرض يخاف بالصوم تباطؤه أو الزيادة فيه أو الشبق فلا يصبر فيه عن الجماع فإن أوس بن الصامت لما أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصيام قالت امرأته: (يا رسول الله إنه شيخ كبير ما به من صيام قال: فليطعم ستين مسكيناً) ولما أمر سلمة بن صخر بالصيام قال: (وهل أصبت الذي أصبت إلا من الصيام؟ قال: فأطعم) فنقله إلى الإطعام لما أخبر أن به من الشبق والشهوة ما يمنعه من الصيام وقسنا على هذين ما يشبههما في معناهما ويجوز أن ينتقل إلى الإطعام إذا عجز عن الصيام للمرض وإن كان مرجو الزوال لدخوله في قوله سبحانه وتعالى: (فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا) ولأنه لا يعلم أن له نهاية فأشبه الشبق ولا يجوز أن ينتقل لأجل السفر لأن السفر لا يعجزه عن الصيام وله نهاية ينتهي إليها وهو من أفعاله الاختيارية] المغني 8/29. ونقل الشوكاني إجماع أهل العلم على أن كفارة الظهار واجبة على الترتيب. نيل الأوطار 6/292. وهو قول المذاهب الأربعة انظر الموسوعة الفقهية 35/104-105. ويدل على وجوبها على الترتيب أيضاً ما ورد في حديث خولة بنت مالك قالت: ظاهر مني زوجي أوس بن الصامت فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم أشكو إليه ورسول الله صلى الله عليه وسلم يجادلني فيه ويقول: (اتقي الله فإنه ابن عمك فما برحت حتى نزل القرآن: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا) إلى الفرض فقال: يعتق رقبة قالت: لا يجد قال فيصوم شهرين متتابعين قالت: يا رسول الله إنه شيخ كبير ما به من صيام قال: فليطعم ستين مسكيناً قالت: ما عنده من شيء يتصدق به قالت: فأتي ساعتئذ بعرق من تمر قلت يا رسول الله فإني أعينه بعرق آخر قال قد أحسنت إذهبي فأطعمي بها عنه ستين مسكيناً وارجعي إلى ابن عمك] رواه أبو داود وهو حديث حسن كما قال الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود 2/418. ويدل على وجوب الترتيب أيضاً ما ورد في حديث سلمة بن صخر البياضي لما ظاهر من امرأته وذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم: [أنت بذاك يا سلمة؟ قلت أنا بذاك يا رسول الله - مرتين - وأنا صابر لأمر الله فاحكم في ما أراك الله قال: حرر رقبة قلت: والذي بعثك بالحق ما أملك رقبة غيرها وضربت صفحة رقبتي قال: فصم شهرين متتابعين قال وهل أصبت الذي أصبت إلا من الصيام؟ قال: فأطعم وسقاً من تمر بين ستين مسكيناً قلت: والذي بعثك بالحق لقد بتنا وحشين مالنا طعام قال: فانطلق إلى صاحب صدقة بني زريق فليدفعها إليك فأطعم ستين مسكيناً وسقاً من تمر وكل أنت وعيالك بقيتها فرجعت إلى قومي فقلت: وجدت عندكم الضيق وسوء الرأي ووجدت عند النبي صلى الله عليه وسلم السعة وحسن الرأي وقد أمرني أو أمر لي بصدقتكم] رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال حديث حسن والحاكم وصححه وابن خزيمة وقال الألباني: حسن. المصدر السابق 2/417. إذا تقرر هذا فإن كفارة الظهار واجبة على الترتيب ومن قال إنها واجبة علىالتخيير فهو مخطئ وقوله مخالف لصريح الكتاب والسنة ومخالف لما اتفق عليه أهل العلم كافة.(15/63)
64 - دية المرأة
يقول السائل: إذا قتلت امرأة خطأ ولها زوج وأولاد فلمن تكون ديتها ومن يملك العفو عن الدية؟
الجواب: اتفق جماهير أهل العلم على أن دية القتيل تكون لورثته جميعاً ويستثنى من ذلك القاتل إن كان من الورثة فيحرم من الميراث. ويدل على ذلك قوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ) سورة النساء الآية 92. قال الألوسي: (وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ) أي مؤداة إلى ورثة القتيل يقتسمونها بينهم على حسب الميراث، فقد أخرج أصحاب السنن الأربعة عن الضحاك بن سفيان الكلابي قال: كتب إليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرني أن أورث امرأة أشيم الضبابي من عقل زوجها. ويقضى منها الدين وتنفذ الوصية ولا فرق بينها وبين سائر التركة) روح المعاني 3/109 وجاء في حديث أبي شريح الكعبي أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من قتل بعده قتيلاً فأهله بين خيرتين إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا أخذوا العقل) رواه البخاري ومسلم. والعقل هو الدية قال الإمام البغوي: [وفي قوله صلى الله عليه وسلم: (فأهله بين خيرتين) دليل على أن القصاص والدية تثبت لجميع الورثة من الرجال والنساء] شرح السنة 7/303. وروى أبو داود بإسناده من حديث عمرو بن شعيب: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى أن عقل المرأة بين عصبتها من كانوا لا يرثون منها شيئاً إلا ما فضل عن ورثتها فإن قتلت فعقلها بين ورثتها) ورواه النسائي وأحمد أيضاً وقال الشيخ الألباني حديث حسن انظر صحيح سنن أبي داود 3/863-864. ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: (فعقلها بين ورثتها) أي ديتها بين ورثتها أي سواء كانوا أصحاب الفرائض أو عصبة فإن دية المرأة المقتولة كسائر تركتها فلا تختص بالعصبة بل تقسم أولاً بين أصحاب الفرائض فإن فضل منها شيء يقسم بين العصبة بخلاف دية المرأة القاتلة التي وجبت عليها بسبب قتلها فإن العصبة يتحملونها خاصة دون أصحاب الفرائض] . انظر عون المعبود 12/199. وروى الترمذي بإسناده عن سعيد بن المسيب قال: قال عمر: الدية على العاقلة ولا ترث المرأة من دية زوجها شيئاً فأخبره الضحاك بن سفيان الكلابي أن رسول الله كتب إليه أن ورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. ورواه أبو داود وابن ماجة وأحمد وفي رواية أبي داود (فرجع عمر عنه) . قال الإمام الخطابي: [فيه من الفقه أن دية القتيل كسائر ماله يرثها من يرث تركته] معالم السنن 4/97. وقال الإمام الباجي: [قال ابن شهاب: وكان قتل أشيم خطأ فاقتضى ذلك تعلق هذا الحكم بقتل الخطأ إلا أن دية العمد محمولة عند جميع فقهاء الأمصار على ذلك ولم يفرق أحد منهم علمناه في ذلك بين دية العمد والخطأ وأنها كسائر مال الميت يرث منها الزوج والزوجة والإخوة للأم وغيرهم، وهذا المروي عن عمر وعلي وشريح والشعبي والنخعي والزهري وبه قال مالك وأبو حنيفة والشافعي] المنتقى شرح الموطأ 7/104. وروى الدارمي عدة آثار عن السلف في أن الدية تجري مجرى الميراث فروى عن إبراهيم النخعي قوله: [الدية على فرائض الله] وعن أبي قلابة قال: [الدية سبيلها سبيل الميراث] . وعن الزهري قال: [العقل – أي الدية – ميراث بين ورثة القتيل على كتاب الله وفرائضه] انظر سنن الدارمي مع شرحه فتح المنان 10/197 فما بعدها. وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [ودية المقتول موروثة عنه كسائر أمواله] المغني 6/388. وإذا كان الورثة يملكون الدية حسب نصيب كل منهم فإنهم يملكون العفو عن الدية حسب نصيب كل منهم فالعفو عن الدية حق لجميع الورثة فإذا اتفق الورثة جميعاً على العفو عن الدية فلهم ذلك وإذا امتنع بعض الورثة عن العفو وعفا الآخرون فتسقط من الدية حصة من عفوا.
وخلاصة الأمر أن دية المرأة المقتولة خطأ ولها زوج وأولاد تكون لورثتها جميعاً حسب فرائض الله سبحانه وتعالى ويملك الورثة العفو عن الدية كلها لأنها من الحقوق التي تسقط بالعفو فإذا عفا بعض الورثة دون بعض فمن عفا سقط نصيبه من الدية ومن لم يعف بقي نصيبه من الدية.(15/64)
65 - أموال اليتامى
يقول السائل: ما هو فضل كافل اليتيم وبم تكون كفالة اليتيم وكيف تقدر الكفالة المالية لليتيم؟
الجواب: كفالة اليتيم من أعظم أبواب الخير التي حثت عليها الشريعة الإسلامية قال الله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) سورة البقرة الآية 215. وقال تعالى: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا) سورة النساء الآية 36. ووردت أحاديث كثيرة في فضل كفالة اليتيم والإحسان إليه منها: عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما) رواه البخاري قال الحافظ ابن حجر في شرح الحديث: [قال ابن بطال: حق على من سمع هذا الحديث أن يعمل به ليكون رفيق النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة ولا منزلة في الآخرة أفضل من ذلك] . ثم قال الحافظ ابن حجر: وفيه إشارة إلى أن بين درجة النبي صلى الله عليه وسلم وكافل اليتيم قدر تفاوت ما بين السبابة والوسطى وهو نظير الحديث الآخر: (بعثت أنا والساعة كهاتين) الحديث] . وقال الحافظ أيضاً: [قال شيخنا في شرح الترمذي: لعل الحكمة في كون كافل اليتيم يشبه في دخول الجنة أو شبهت منزلته في الجنة بالقرب من النبي صلى الله عليه وسلم أو منزلة النبي صلى الله عليه وسلم لكون النبي صلى الله عليه وسلم شأنه أن يبعث إلى قوم لا يعقلون أمر دينهم فيكون كافلاً لهم ومعلماً ومرشداً وكذلك كافل اليتيم يقوم بكفالة من لا يعقل أمر دينه بل ولا دنياه ويرشده ويعلمه ويحسن أدبه فظهرت مناسبة ذلك أهـ ملخصاً] فتح الباري 10/536-537. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من ضم يتيماً بين مسلمين في طعامه وشرابه حتى يستغني عنه وجبت له الجنة] رواه أبو يعلى والطبراني وأحمد مختصراً بإسناد حسن كما قال الحافظ المنذري. وقال الألباني صحيح لغيره. انظر صحيح التغيب والترهيب 2/676. وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: (أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل يشكو قسوة قلبه؟ قال: أتحب أن يلين قلبك وتدرك حاجتك؟ ارحم اليتيم وامسح رأسه وأطعمه من طعامك يلن قلبك وتدرك حاجتك) رواه الطبراني وقال الألباني حسن لغيره. انظر صحيح الترغيب والترهيب 2/676. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله وأحسبه قال: وكالقائم الذي لا يفتر وكالصائم لا يفطر) رواه البخاري ومسلم، وغير ذلك من الأحاديث. وكفالة اليتيم تكون بضم اليتيم إلى حجر كافله أي ضمه إلى أسرته فينفق عليه ويقوم على تربيته وتأديبه حتى يبلغ لأنه لا يتم بعد الإحتلام والبلوغ. وهذه الكفالة هي أعلى درجات كفالة اليتيم حيث إن الكافل يعامل اليتيم معاملة أولاده في الإنفاق والإحسان والتربية وغير ذلك. وهذه الكفالة كانت الغالبة في عصر الصحابة كما تبين لي من استقراء الأحاديث الواردة في كفالة الأيتام فالصحابة رضي الله عنهم كانوا يضمون الأيتام إلى أسرهم ومن الأمثلة الواضحة على ذلك حديث زينب امرأة عبد الله بن مسعود قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تصدقن يا معشر النساء ولو من حليكن) قالت: فرجعت إلى عبد الله فقلت: إنك رجل خفيف ذات اليد وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمرنا بالصدقة فإته فاسأله فإن كان ذلك يجزي عني وإلا صرفتها إلى غيركم قالت: فقال لي عبد الله: بل ائتيه أنت قالت: فانطلقت فإذا امرأة من الأنصار بباب رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجتي حاجتها قالت: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ألقيت عليه المهابة قالت: فخرج علينا بلال فقلنا له: ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره أن امرأتين بالباب تسألانك أتجزيء الصدقة عنهما على أزواجهما وعلى أيتام في حجورهما ولا تخبره من نحن قالت: فدخل بلال على رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: من هما؟ فقال: امرأة من الأنصار وزينب. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الزيانب؟ من هما؟ قال: امرأة عبد الله فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لهما أجران أجر القرابة وأجر الصدقة) رواه البخاري ومسلم. والشاهد في الحديث: (وعلى أيتام في حجورهما) . وعن عمارة بن عمير عن عمته أنها سألت عائشة رضي الله عنها: في حجري يتيم أفآكل من ماله؟ فقالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من أطيب ما أكل الرجل من كسبه وولده من كسبه) رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن. وتكون كفالة اليتيم أيضاً بالإنفاق عليه مع عدم ضمه إلى الكافل كما هو حال كثير من أهل الخير الذين يدفعون مبلغاً من المال لكفالة يتيم يعيش في جمعية خيرية أو يعيش مع أمه أو نحو ذلك فهذه الكفالة أدنى درجة من الأولى ومن يدفع المال للجمعيات الخيرية التي تعنى بالأيتام يعتبر حقيقة كافلاً لليتيم وهو داخل إن شاء الله تعالى في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا) . قال الإمام النووي: [قوله صلى الله عليه وسلم: (كافل اليتيم له أو لغيره أنا وهو كهاتين في الجنة) كافل اليتيم القائم بأموره من نفقة وكسوة وتأديب وتربية وغير ذلك وهذه الفضيلة تحصل لمن كفله من مال نفسه، أو من مال اليتيم بولاية شرعية. وأما قوله: وله أو لغيره فالذي له أن يكون قريباً له كجده وأمه وجدته وأخيه وأخته وعمه وخاله وعمته وخالته وغيرهم من أقاربه، والذي لغيره أن يكون أجنبياً] شرح النووي على صحيح مسلم 5/408. وكفالة اليتيم المالية تقدر حسب مستوى المعيشة في بلد اليتيم المكفول بحيث تشمل حاجات اليتيم الأساسية دون الكمالية فينبغي أن يتوفر لليتيم المأكل والمشرب والملبس والمسكن والتعليم بحيث يعيش اليتيم حياة كريمة ولا يشعر بفرق بينه وبين أقرانه ممن ليسوا بأيتام. وأرى أنه في الظروف الحالية التي نعيشها ينبغي ألا تقل كفالة اليتيم عن خمسين دولاراً حتى يضمن لليتيم الحد الأدنى من العيش الكريم. ولا بأس أن يشارك أكثر من شخص في كفالة اليتيم الواحد.(15/65)
66 - الطلاق
يقول السائل: إنه عاقد على زوجته ولم يتم الدخول بعد وأنه قال لها مازحاً: أنت طالق مع العلم أنه لم يقصد طلاقها فماذا يترتب عليه؟
الجواب: إن التلاعب بألفاظ الطلاق من الأمور المنتشرة بين بعض الأزواج الذين يطلقون الألفاظ دون أن يلقوا لها بالاً ودون أن يدركوا ما يترتب على ألفاظهم من أمور قد تعصف بحياة الأسرة وتؤدي إلى تدميرها وما ذكر السائل مثال واضح على التلاعب بألفاظ الطلاق ويدعي أنه غير قاصد للطلاق ويجب أن يعلم أن جماهير أهل العلم اتفقوا على وقوع الطلاق عند صدور لفظ الطلاق عن الزوج وإن لم يكن قاصداً للطلاق وهذا هو المعروف عند أهل العلم بطلاق الهازل ويدل على ذلك ما ورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق والرجعة) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة وغيرهم وهو حديث حسن احتج به الأئمة والعلماء كالإمام الترمذي والحافظ ابن عبد البر والحافظ ابن حجر وشيخ الإسلام ابن تيمية والعلامة ابن القيم والإمام النووي والإمام البغوي والشوكاني والألباني وغيرهم كثير. قال الترمذي بعد أن روى الحديث: [هذا حديث حسن غريب والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم] تحفة الأحوذي 4/304. وقد ذكر الحافظ ابن حجر شواهد للحديث يتقوى بها في التلخيص الحبير 3/209-210. وكذلك فعل الشيخ الألباني حيث ذكر أربعة شواهد للحديث وآثاراً عن الصحابة ثم قال: [والذي يتلخص عندي مما سبق أن الحديث حسن بمجموع طريق أبي هريرة الأولى التي حسنها الترمذي وطريق الحسن البصري المرسلة وقد يزداد قوة بحديث عبادة بن الصامت والآثار المذكورة عن الصحابة فإنها ولو لم يتبين لنا ثبوتها عنهم عن كل واحد منهم تدل على أن معنى الحديث كان معروفاً عندهم والله أعلم] إرواء الغليل 6/228. وقال الخطابي: [اتفق عامة أهل العلم على أن صريح لفظ الطلاق إذا جرى على لسان البالغ العاقل فإنه مؤاخذ به ولا ينفعه أن يقول كنت لاعباً أو هازلاً أو لم أنو به طلاقاً أو ما أشبه ذلك من الأمور] معالم السنن 3/210. وقال الإمام البغوي: [اتفق أهل العلم على أن طلاق الهازل يقع] شرح السنة 2/220. [وقال القاضي اتفق أهل العلم على أن طلاق الهازل يقع فإذا جرى صريح لفظ الطلاق على لسان العاقل البالغ لا ينفعه أن يقول كنت فيه لاعباً أو هازلاً. لأنه لو قبل ذلك منه لتعطلت الأحكام وقال كل مطلق أو ناكح إني كنت في قولي هازلاً فيكون في ذلك إبطال أحكام الله تعالى فمن تكلم بشيء مما جاء ذكره في هذا الحديث لزمه حكمه وخص هذه الثلاث لتأكيد أمر الفرج] تحفة الأحوذي 4/304.
وخلاصة الأمر أن طلاق السائل واقع وبما أنه لم يدخل بزوجته حيث أوقع الطلاق قبل الدخول فهذا الطلاق يكون بائناً لأن كل طلاق يقع قبل الدخول يكون بائناً وعليه فيلزمه عقد جديد بمهر جديد كما أنه يجب لمطلقته نصف المهر المذكور بعقد الزواج قال الله تعالى: (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ) سورة البقرة 237. وهذا ما قررته المادة الحادية والخمسين في قانون الأحوال الشخصية المطبق في المحاكم الشرعية في بلادنا. وأخيراً أذكّر الأزواج بأنه لا يجوز شرعاً التساهل والتلاعب بألفاظ الطلاق لما يترتب عليها من هدم للزواج.(15/66)
67 - حكم نشر أسرار المعاشرة الزوجية
يقول السائل: ما حكم أن يتحدث الأزواج عما يجري بينهم وبين زوجاتهم من معاشرة؟ الجواب: اتفق أهل العلم على تحريم نشر أسرار الاستمتاع فيحرم على الزوج وكذا على الزوجة الحديث عما يجري بين الزوجين من أمور تتعلق بالمعاشرة الزوجية ويدل على ذلك قوله تعالى: (فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ) سورة النساء الآية 34. وقد ذكر الألوسي أن بعض المفسرين فسر الآية الكريمة بأن المراد منها حفظ النساء لأسرار أزواجهن أي ما يقع بينهم وبينهن في الخلوة. روح المعاني 5/24. ومما يدل على ذلك ما ورد في الحديث عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر سرها) رواه مسلم. وفي رواية أخرى عند مسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من أعظم الأمانة عند الله يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر سرها) . قال الإمام النووي: [وفي هذا الحديث تحريم إفشاء الرجل ما يجري بينه وبين امرأته من أمور الاستمتاع ووصف تفاصيل ذلك وما يجري من المرأة فيه من قول أو فعل ونحوه. فأما مجرد ذكر الجماع فإن لم تكن فيه فائدة ولا إليه حاجة فمكروه لأنه خلاف المروءة. وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) . وإن كان إليه حاجة أو ترتب عليه فائدة بأن ينكر عليه إعراضه عنها أو تدعي عليه العجز عن الجماع أو نحو ذلك فلا كراهة في ذكره كما قال صلى الله عليه وسلم: (إني لأفعله أنا وهذه) وقال صلى الله عليه وسلم لأبي طلحة: (أعرستم الليلة؟) …] شرح النووي على صحيح مسلم 4/10. وقال القرطبي المحدث: [ومقصود هذا الحديث هو أن الرجل له مع أهله خلوة وحالة يقبح ذكرها والتحدث بها وتحمل الغيرة على سترها ويلزم من كشفها عار عند أهل المروءة والحياء. فإن تكلم بشيء من ذلك وأبداه كان قد كشف عورة نفسه وزوجته إذ لا فرق بين كشفها للعيان وكشفها للأسماع والآذان إذ كل واحد منهما يحصل به الاطلاع على العورة ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (لا تعمد المرأة فتصف المرأة لزوجها حتى كأنه ينظر إليها) فإن دعت حاجة إلى ذكر شيء من ذلك فليذكره مبهماً غير معين بحسب الحاجة والضرورة كما قال صلى الله عليه وسلم: (فعلته أنا وهذه) وكقوله: (هل أعرستم الليلة) وكقوله: (كيف وجدت أهلك؟) والتصريح بذلك وتفصيله ليس من مكارم الأخلاق ولا من خصال أهل الدين] المفهم لم أشكل من تلخيص كتاب مسلم 4/162. وروى أبو داود بإسناده عن أبي هريرة رضي الله عنه في حديث طويل فيه خطبة للنبي صلى الله عليه وسلم وجاء فيه: (ثم حمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد … هل منكم الرجل إذا أتى أهله فأغلق عليه بابه وألقى عليه ستره واستتر بستر الله؟ قالوا: نعم قال: ثم يجلس بعد ذلك فيقول: فعلت كذا فعلت كذا قال: فسكتوا قال: فأقبل على النساء فقال: هل منكن من تحدث فسكتن فجثت فتاة على إحدى ركبتيها وتطاولت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليراها ويسمع كلامها فقالت: يا رسول الله إنهم ليتحدثون وإنهن ليتحدثنه فقال: هل تدرون ما مثل ذلك؟ فقال: إنما مثل ذلك مثل شيطانة لقيت شيطاناً في السكة فقضى منها حاجته والناس ينظرون إليه …] وصححه الألباني كما في آداب الزفاف ص 144. قال الشوكاني: [والحديثان يدلان على تحريم إفشاء أحد الزوجين لما يقع بينهما من أمور الجماع وذلك لأن كون الفاعل من أشر الناس وكونه بمنزلة شيطان لقي شيطانة فقضى حاجته منها والناس ينظرون من أعظم الأدلة الدالة على تحريم نشر أحد الزوجين للأسرار الواقعة بينهما الراجعة إلى الوطء ومقدماته فإن مجرد فعل المكروه لا يصير به فاعله من الأشرار فضلاً عن كونه من شرهم. وكذلك الجماع بمرأى الناس لا شك في تحريمه وإنما خص النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد الرجل فجعل الزجر المذكور خاصاً به ولم يتعرض للمرأة لأن وقوع ذلك الأمر في الغالب من الرجال] نيل الأوطار 6/224-225. وقد اعتبر العلامة ابن حجر المكي أن إفشاء أسرار الاستمتاع بين الزوجين من كبائر الذنوب فقال: [الكبيرة الثالثة والرابعة والستون بعد المئتين: إفشاء الرجل سر زوجته وهي سره بأن تذكر ما يقع بينهما من تفاصيل الجماع ونحوها مما يخفى] ثم ذكر الأحاديث السابقة وغيرها ثم قال: [عدُّ هذين كبيرتين لم أره لكنه صريح ما في هذه الأحاديث الصحيحة وهو ظاهر لما فيه من إيذاء المحكي عنه وغيبته وهتك ما أجمعت العقلاء على تأكد ستره وقبيح نشره] الزواجر عن اقتراف الكبائر 2/59-60. وخلاصة الأمر أنه يحرم على الزوجين نشر ما يجري بينهما من أمور الاستمتاع.(15/67)
68 - التعدد
تقول السائلة: إنها امرأة متزوجة منذ أكثر من عُشرين سنة وإن زوجها قد تزوج امرأة ثانية وصار يقضي معظم وقته عند الثانية وينفق على الثانية ويبخل عليَّ مع أنني ساندته في أول حياته حتى وقف على رجليه فما حكم الشرع في ذلك؟
الجواب: إن كثيراً من الأزواج يظلمون نسائهم وخاصة الذين يعددون فيميلون إلى الزوجة الثانية وينسون الأولى. وإن التعامل السيء للأزواج الذين يعددون مع زوجاتهم قد أساء إلى قضية تعدد الزوجات وأعطى الناس صورة سلبية عن التعدد حتى صار التعدد مقروناً بالظلم. وأصل تعدد الزوجات مشروع وقد نصت الآية الكريمة على ذلك قال الله تعالى: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا) سورة النساء الآية 3. وقد أجمع المسلمون على جواز التعدد ولكن التعدد مشروط بشرطين الشرط الأول وهو العدل وهو مأخوذ من قوله تعالى: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً) . والشرط الثاني هو المقدرة على الإنفاق على الزوجتين أو أكثر ويدل على ذلك قوله تعالى: (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) سورة النور الآية 33. [فقد أمر الله تعالى بهذه الآية الكريمة من يقدر على النكاح ولا يجده بأي وجه تعذر أن يستعفف، ومن وجوه تعذر النكاح من لا يجد ما ينكح به من مهر، ولا قدرة له على الإنفاق على زوجته. وكذلك يستدل على شرط الإنفاق بقوله تعالى: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا) سورة النساء، الآية 3. فقد روي عن الإمام الشافعي أنه قال في معنى: (ألا تعولوا) أي لا يكثر عيالكم. وفي هذا إشارة إلى شرط الإنفاق؛ لأن الخوف من كثرة العيال لما تؤدي إليه هذه الكثرة من ضرورة كثرة الإنفاق التي قد يعجز عنها من يريد الزواج بأكثر من واحدة، فيفهم من ذلك أن القدرة على الإنفاق على الزوجات عند إرادة التعدد شرط لإباحة هذا التعدد، كذلك قد يستدل على شرط القدرة على الإنفاق بالحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو قوله: (يا معُشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغضُّ لبصر وأحفظ للفرج، فمن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء) . فإذا لم يستطع على مؤونة الزواج لم يجز له الزواج وإن كان هو زواجه الأول، فمن باب أولى أن لا يباح له الزواج بالثانية – وعنده زوجة – إذا كان عاجزاً عن الإنفاق على الثانية مع إنفاقه على الأولى ثم إن الإقدام على الزيجة الثانية – مع علمه بعجزه عن الإنفاق عليها مع الأولى- عمل يتسم بعدم المبالاة بأداء حقوق الغير، ويعتبر من أنواع الظلم، والظلم لا يجوز في شرعة الإسلام. وبناء على جميع ما تقدم، يعتبر من الظلم المحظور أن يقدم الرجل على الزواج بأخرى مع وجود زوجة عنده، ومع علمه بعجزه عن الإنفاق على زوجتيه الجديدة والقديمة] المفصل في أحكام المرأة 6/ 289. وينبغي أن يعلم أن العدل بين الزوجات واجب شرعي ومن آثار العدل بين الزوجات القسمة بينهن بأن يقسم وقته بين زوجاته كأن يكون عند الأولى ليلة وعند الثانية ليلة أخرى وهكذا. قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [لا نعلم بين أهل العلم في وجوب التسوية بين الزوجات في القسم خلافاً، وقد قال الله تعالى: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) سورة النساء الآية 19.، وليس مع الميل معروف، وقال الله تعالى: (فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ) سورة النساء الآية 129] المغني 7/301. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم بين زوجاته فيعدل بينهن وكان صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك) رواه أبو داود والترمذي والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي. ولا بد لمن عدد الزوجات من العدل في النفقة والكسوة والمسكن وغير ذلك من الأمور المادية التي يملكها الإنسان وأما الأمور التي لا يملكها الإنسان كالحب أو الميل القلبي فهذه خارجة عن إرادة الإنسان فلا حرج عليه فيها وعلى ذلك يحمل قوله تعالى: (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ) سورة النساء الآية 129. قال الإمام القرطبي: [قوله تعالى: (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ) أخبر تعالى بنفي الاستطاعة في العدل بين النساء، وذلك في ميل الطبع بالمحبة والجماع والحظ من القلب. فوصف الله تعالى حالة البشر وأنهم بحكم الخلقة لا يملكون ميل قلوبهم إلى بعض دون بعض؛ ولهذا كان عليه الصلاة والسلام يقول: (اللهم إن هذه قسمتي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك) . ثم نهى فقال: (فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ) ، قال مجاهد: لا تتعمدوا الإساءة بل الزموا التسوية في القسم والنفقة؛ لأن هذا مما يستطاع] تفسير القرطبي 5/ 407. وهذه الآية الكريمة في الأمور المعنوية وأما الأمور المادية فالعدل فيها واجب وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم الأزواج من عدم العدل فقد ورد في الحديث عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا كانت عند الرجل امرأتان فلم يعدل بينهما جاء يوم القيامة وشقه ساقط) رواه أبو داود والترمذي وغيرهما وهو حديث صحيح كما قال الألباني في إرواء الغليل 7/ 80. وفي رواية أبي داود (جاء يوم القيامة وشقه مائل) وهذا الحديث دليل على وجوب العدل بين الزوجات وحرمة الميل في الإنفاق والقسمة والمراد بقوله صلى الله عليه وسلم: (وشقه ساقط أو مائل) أي نصفه مائل بحيث يراه أهل العرصات يوم القيامة ليكون هذا زيادة في التعذيب، انظر تحفة الأحوذي 4/ 248. وقد اعتبر الشيخ ابن حجر المكي ترجيح إحدى الزوجات على الأخرى ظلماً وعدواناً من كبائر الذنوب فقال: [أخرج الترمذي وتكلم فيه الحاكم وصححه على شرطهما عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من كانت عنده امرأتان فلم يعدل بينهما جاء يوم القيامة وشقه ساقط) وأبو داود (من كانت له إمرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل) والنسائي: (من كانت له امرأتان يميل إلى إحداهما على الأخرى جاء يوم القيامة وأحد شقيه مائل) ، وفي رواية لابن ماجة وابن حبان في صحيحهما (وأحد شقيه ساقط) . والمراد بقوله (فمال) وقوله (يميل) الميل بظاهره بأن يرجح إحداهما في الأمور الظاهرة التي حرم الشارع الترجيح فيها لا الميل القلبي لخبر أصحاب السنن الأربعة وابن حبان في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها كان صلى الله عليه وسلم يقسم فيعدل ويقول: (اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك يعني القلب) وقال الترمذي: روي مرسلاً وهو أصح. وروى مسلم وغيره (إن المقسطين عند الله على منابر من نور على يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا) . تنبيه: عدُّ هذا هو قضية هذا الوعيد الذي في هذه الأحاديث وهو ظاهر وإن لم يذكروه لما فيه من الإيذاء العظيم الذي لا يحتمل] الزواجر عن اقتراف الكبائر 2/ 80 – 81.
وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة في العدل بين الزوجات وهذه صورة من عدله صلى الله عليه وسلم بين نسائه: روى الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفضل بعضنا على بعض في القسم من مكثه عندنا، وكان قلَّ يوم إلا هو يطوف علينا جميعاً، فيدنو من كل امرأة من غير مسيس حتى يبلغ التي هو يومها فيبيت عندها) . وروى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: (إن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد سفراً أقرع بين أزواجه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه، وكان يقسم لكل منهن يومها وليلتها) . ويقول جابر بن زيد: [كانت لي امرأتان فكنت أعدل بينهما حتى في القبل] . وقال مجاهد: [كانوا يستحبون أن يعدلوا بين النساء حتى في الطيب: يتطيب لهذه كما يتطيب لهذه] . وقال ابن سيرين: [إنه يكره للزوج أن يتوضأ في بيت إحدى زوجتيه دون الأخرى] . وقال أبو القاسم: [ويكفيك ما مضى من عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم أجمعين في هذا، ولم يبلغنا عن أحد منهم أنه قسم إلا يوماً هاهنا، ويوماً هاهنا] . وقال ابن قدامة: [ويقسم الرجل بين نسائه ليلة ليلة، ويكون النهار في معاشه وقضاء حقوق الناس، إلا أن يكون معاشه ليلاً كالحراسة، فإنه يقسمه نهاراً، ويكون ليله كنهاره] عُشرة النساء ص 320- 321. وخلاصة الأمر أن العدل واجب بين الزوجات في الأمور المادية.(15/68)
69 - الطلاق
حكم كنايات الطلاق
الجواب: اتفق أهل العلم على تقسيم الطلاق من حيث الصيغة إلى قسمين: صريح وكنائي. فالطلاق الصريح هو الذي يقع بألفاظ صريحة في الطلاق ويلحق بالطلاق الصريح ما اشتهر استعماله في الطلاق عرفاً كما نص على ذلك قانون الأحوال الشخصية المطبق في بلادنا في المادة 95: [يقع الطلاق بالألفاظ الصريحة وما اشتهر استعماله فيه عرفاً دون الحاجة إلى نية] . فالطلاق الصريح يقع بمجرد صدور اللفظ ممن يملك الطلاق ولو لم يقصد فلا يحتاج الطلاق الصريح إلى نية كما قرر ذلك أهل العلم، قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [قد ذكرنا أن صريح الطلاق لا يحتاج إلى نية بل يقع من غير قصد ولا خلاف في ذلك] المغني 7/397. وأما الطلاق الكنائي فيكون باستعمال ألفاظ تحتمل الطلاق وغيره كقول الزوج لزوجته أخرجي من المنزل أو إلحقي بأهلك أو خليت سبيلك ونحو ذلك من الألفاظ. والطلاق بالكناية يقع إذا قصد الزوج الطلاق ونواه وأما إذا لم يقصده ولم ينوه فلا يقع. وهذا لأن الألفاظ الكنائية تحتمل الطلاق وغيره فلا يصرف إلى الطلاق إلا بالنية وأما وقوعه بالنية فلأن اللفظ يحتمله فيصرف إليها بها. الموسوعة الفقهية 29/26. ومما يدل على اعتبار النية في الطلاق الكنائي ما ورد في الحديث عن عائشة رضي الله عنها: [أن ابنة الجون لما أدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ودنا منها قالت: أعوذ بالله منك! فقال لها: (لقد عذت بعظيم؛ إلحقي بأهلك) رواه البخاري. وفي الصحيحين وغيرهما في حديث تخلف كعب بن مالك لما قيل له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك فقال: أطلقها أم ماذا أفعل؟ قال: (بل اعتزلها فلا تقربنها) فقال: لإمرأته الحقي بأهلك. فأفاد الحديثان أن هذه اللفظة تكون طلاقاً مع القصد ولا تكون طلاقاً مع عدمه] الروضة الندية 2/263-264. إذا تقرر هذا فنعود إلى رسالة السائل وما ذكر من ألفاظ كنائية فأقول إن ما قاله المالكية بوقوع الطلاق بلفظ اسقني الماء أو ساميحني أو اعفي عني إنما جاء بناءً على قولهم إن كناية الطلاق على قسمين: كناية ظاهرة وكناية خفية. انظر حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2/378 فما بعدها. وما ذكره السائل من لفظ اسقني الماء ولفظ سامحيني فهو كنايات خفية فأوقعوا بها الطلاق إن نوى الزوج الطلاق ولكن الذي يظهر لي أن الطلاق لا يقع بهذين اللفظين لأن هذه الألفاظ لا تستعمل في الطلاق لا لغة ولا عرفاً وهي غير محتملة للطلاق. قال الشيخ ابن قدامة المقدي: [فأما ما لا يشبه الطلاق ولا يدل على الفراق كقوله: اقعدي وقومي وكلي واشربي واقربي وأطعميني واسقني وبارك الله عليك وغفر الله لك وما أحسنك وأشباه ذلك فليس بكناية ولا تطلق به وإن نوى لأن اللفظ لا يحتمل الطلاق فلو وقع الطلاق به لوقع بمجرد النية وقد ذكرنا أنه لا يقع بها وبهذا قال أبو حنيفة واختلف أصحاب الشافعي في قوله: كلي واشربي فقال بعضهم: كقولنا وقال بعضهم: هو كناية لأنه يحتمل كلي ألم الطلاق واشربي كأس الفراق فوقع به كقولنا ذوقي وتجرعي. ولنا: أن هذا اللفظ لا يستعمل بمفرده إلا فيما لا ضرر فيه كنحو قوله: (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) سورة المرسلات الآية 43. وقال: (فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا) سورة النساء الآية 4. فلم يكن كناية كقوله: أطعميني، وفارق ذوقي وتجرعي، فإنه يستعمل في المكاره كقول الله تعالى: (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) سورة الدخان الآية 49. و (وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ) سورة الحج الآية 22. و (ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ) سورة القمر الآية 48. وكذلك التجرع قال الله تعالى: (يَتَجَرَّعهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ) سورة إبراهيم الآية 17. فلم يصح أن يلحق بهما ما ليس مثلهما] المغني 7/395-396. وأمام ما ذكره السائل من كتابة معلومات غير صحيحة فهذا يعتبر كذباً ولا يعتبر طلاقاً وكذلك إذا سئل فأجاب بإجابات كاذبة كما ذكر في السؤال فلا يعتبر طلاقاً. وأما قول الشخص لزوجته أنا أفكر في طلاقك في اليوم ألف مرة وكان ناوياً الطلاق فيقع طلقة رجعية. وأما قول الآخر أكبر خطأ عملته في حياتي أنني تزوجت بك. فلا يقع به الطلاق لأنه لم يصدر عنه لفظ صريح ولا كناية حتى يقع بالنية. وكذلك قوله سامحيني … فلا يقع الطلاق لما سبق. وأما قول الشخص لزوجته إما أن تتعاوني معي وإما أن نفترق فهو طلاق معلق فإن لم يتم التعاون بينهما فهي طلقة رجعية وإن تعاونت فليس طلاقاً.
وأخيراً يجب التنبه على أن الحياة الزوجية رباط مقدس يجب المحافظة عليه والمسلم لا يلجأ إلى الطلاق إلا إذا سدت جميع طرق الاصلاح وتعذرت الحياة وصارت صعبة جداً. وكذلك فإنه لا يجوز التلاعب بالزواج والطلاق من أجل تحقيق مصالح معينة كالحصول على حق الإقامة أو الحصول على معاش من تأمين أو نحو ذلك من الأغراض. ومن المعلوم عند أهل العلم أنه لا فرق بين الجد والهزل في الطلاق.(15/69)
70 - الخلوة
يقول السائل: ما هي حدود العلاقة التي تربط بين زوج البنت وحماته (أم زوجته) من حيث الخلوة والنظر وإبداء الزينة؟
الجواب: إن أم الزوجة (الحماة) من المحرمات على التأبيد بسبب المصاهرة قال الله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا) سورة النساء الآية 23. فقوله تعالى: (وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ) يدل على تحريم أم الزوجة على زوج ابنتها حرمة مؤبدة. ويرى أكثر العلماء أن هنالك تلازماً بين المحرمية وبين الأحكام المتعلقة بالخلوة والنظر وإبداء الزينة والسفر. فمادام زوج البنت محرماً على أم زوجته تنطبق عليه الأحكام المتعلقة بذلك وقد ثبت في الحديث من قوله النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلا ومعها ذو محرم) رواه البخاري ومسلم. وقد نص أهل العلم على أنه يجوز للمحرم أن ينظر إلى ما يظهر غالباً من محارمه، قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [ويجوز للرجل أن ينظر من ذوات محارمه إلى ما يظهر غالباً كالرقبة والرأس والكفين والقدمين ونحو ذلك وليس له النظر إلى ما يستتر غالباً كالصدر والظهر ونحوهما] المغني 7/98. ومن العلماء من يرى أنه لا يجوز لأم الزوجة إظهار زينتها لزوج ابنتها وإن كان يحرم زواجها منه على التأبيد لأن الآية الواردة في سورة النور والتي حصرت من يجوز إظهار الزينة لهم لم تذكر زوج البنت منهم قال الله تعالى: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْءَابَائِهِنَّ أَوْءَابَاءِ بُعُولَتِهِنَ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) سورة النور الآية 31. فالآية الكريمة حصرت الأشخاص الذين يجوز للمرأة أن تظهر زينتها لهم ولم يذكر زوج البنت منهم ونقل هذا القول عن بعض العلماء مثل سعيد بن جبير والإمام أحمد في رواية عنه كما في المغني 7/99. ولكن مذهب جمهور أهل العلم أرجح وأقوى حيث إن العم والخال لم يذكرا في الآية الكريمة واتفق جمهور العلماء على جواز إظهار الزينة أمامهما قال الجصاص الحنفي: [ولما ذكر الله تعالى مع الآباء ذوي المحارم الذين يحرم عليهم نكاحهن تحريماً مؤبداً دلّ ذلك على أن من كان في التحريم بمثابتهم فحكمه حكمهم مثل زوج الابنة] أحكام القرآن 5/174.
ومما يدل على ذلك أيضاً قصة عائشة مع أفلح أخي أبي القعيس وهو عمها من الرضاعة حيث قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه عمك فليلج عليك) رواه البخاري ومسلم. ومع ذلك أقول إن إظهار الزينة لزوج البنت ليس أمراً واجباً وإنما هو واقع في دائرة المباح وعليه فأرى أنه يجب الأخذ بالاحتياط في مسائل الخلوة والنظر وإظهار الزينة والسفر مع زوج ابنتها وخاصة إذ لم يكن الفارق في السن بينهما كبيراً كأن تكون أم الزوجة صغيرة في السن أو جميلة فلا بد من سد كل الطرق التي تؤدي إلى الفساد وقد سمعت عن حوادث كثيرة من ارتكاب الفواحش بين أم الزوجة وزوج ابنتها ترتب عليها حصول مصائب ومآسي فظيعة ولا يغب عن أذهاننا مدى الفساد وقلة التقوى والورع الذي يعيشه الناس. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم(15/70)
71 - الحمل والإجهاض
تقول السائلة: إنها امرأة متزوجة ولها رغبة في الإنجاب ولكن زوجها يتخذ الوسائل لمنع الإنجاب فما الحكم في ذلك؟
الجواب: قرر العلماء أن للزوجة حقاً في الإنجاب فإذا قام الزوج باتخاذ الوسائل لمنع الإنجاب كاستعمال العزل عند الجماع أو استخدام الوسائل الحديثة لمنع الحمل فإنه يلحق ضرراً بزوجته ومن المعلوم عند الفقهاء أنه يحرم إلحاق الضرر بالزوجة وبغيرها. وجمهور العلماء الذين أجازوا العزل اشترطوا إذن الزوجة فيه وأنه يحرم بدون إذنها ويقاس على ذلك استخدام الوسائل الحديثة من قبل الزوج لمنع الحمل دون إذن الزوجة فيلحق بالعزل دون إذنها. قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [ولا يعزل عن زوجته الحرة إلا بإذنها قال القاضي – أبو يعلى – ظاهر كلام أحمد وجوب استئذان الزوجة في العزل … لما روي عن عمر رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعزل عن الحرة إلا بإذنها) رواه الإمام أحمد في المسند وابن ماجة. ولأن لها في الولد حقاً وعليها في العزل ضرر فلم يجز إلا بإذنها] المغني 7/298. وقال البهوتي الحنبلي: [ويحرم العزل عن الحرة إلا بإذنها] كشاف القناع 3/112. وقال الحافظ ابن حجر: [اتفقت المذاهب الثلاثة على أن الحرة لا يعزل عنها إلا بإذنها] فتح الباري 9/382. ويقصد الحافظ ابن حجر بالمذاهب الثلاثة الحنفية والمالكية والحنابلة وأما الشافعية فلهم قولان في المسألة أحدهما موافق للمذاهب الثلاثة وقال الحافظ ابن حجر أيضاً: [وقد اختلف السلف في حكم العزل قال ابن عبد البر: لا خلاف بين العلماء أنه لا يعزل عن الزوجة الحرة إلا بإذنها لأن الجماع من حقها ولها المطالبة به وليس الجماع المعروف إلا ما لا يلحقه عزل. ووافقه في نقل هذا الإجماع ابن هبيرة] فتح الباري 3/382. وانظر كلام ابن عبد البر في فتح المالك 7/380. ويدل لحرمة العزل عن الزوجة بدون إذنها حديث عمر المتقدم في كلام الشيخ ابن قدامة المقدسي وهو (أن النبي هـ صلى الله عليه وسلم نهى أن يعزل عن الحرة إلا بإذنها) رواه أحمد وابن ماجة وضعفه الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير 3/188-189. ولكن صح ذلك عن ابن عباس ضي الله عنهما أنه قال: إن الحرة تستأمر في العزل) رواه عبد الرزاق بسند صحيح كما قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري 9/383. ووردت آثار كثيرة عن السلف تدل على ذلك منها ما رواه عبد الرزاق بسنده عن عطاء أنه كره أن يعزل عن الحرة إلا بأمرها يقول هو من حقها. وعن سعيد بن جبير قال: لا يعزل الحرة إلا بأمرها. وعن عكرمة قال: لا بأس أن يعزل الرجل عن امرأته إذا استأمرها فأذنت له] مصنف عبد الرزاق 7/143-144. وكذلك ما رواه ابن أبي شيبة بسنده عن إبراهيم التيمي وعمرو بن مرة قالا: يعزل عن الأمة ويستأمر الحرة وعن سعيد بن جبير قال: لا يعزل عن الحرة إلا بإذنها. وعن عبد الله قال: يستأمر الحرة ويعزل عن الأمة. وعن جابر بن يزيد قال: لا يعزل عن الحرة إلا بإذنها] . ثم نقل عن جماعة من السلف اشتراط إذن الزوجة الحرة في العزل مصنف ابن أبي شيبة 4/222-223. وخلاصة الأمر أن حق الزوجة في إنجاب الولد ثابت شرعاً ولا يجوز للزوج أن يحرمها منه فلا بد من إذنها عند العزل أو استعمال وسائل منع الحمل فإذا فعل ذلك بدون إذنها فهو آثم شرعاً وأتى بما ينافي المقاصد الشرعية.(15/71)
72 - عرض الأزياء
ما قولكم في الفتوى التي صدرت عن بعض المشايخ والتي يجيز فيها للمرأة المسلمة عرض الأزياء الشرعية أمام الرجال.
الجواب: قرأت الفتوى المشار إليها أعلاه وقد ناقش المفتي عدة قضايا لها صلة بموضوع الفتوى، فذكر ما يتعلق بثياب المرأة المسلمة وذكر شروط جلبابها، وفاته أن يذكر أن من شروط جلباب المرأة المسلمة ألا يكون زينة في نفسه ويدل على ذلك قوله تعالى: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) النور الآية 31. وفاته أيضاً أن يذكر أن من شروط جلباب المرأة المسلمة ألا يكون مبخراً مطيباً ويدل على ذلك أحاديث منها قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا خرجت إحداكن إلى المسجد فلا تقربن طيباً) رواه مسلم. ثم تكلم المفتي على مسألة نظر الرجل إلى المرأة وساق الأدلة على ذلك وقرر أنه لايجوز أن يتعمد الرجل النظر إلى المرأة إلا لحاجة ضرورية وبين أنه لا يجوز خروج النساء بقصد نظر الرجال إليهن ثم ذكر أن الهدف من عرض الأزياء هو بيع الملابس أو تسويق لهذه الموضات، فلا يلتجئ إليها إلا عند ضرورة وجودها بما لا يخالف شيئاً من الشرع الحنيف. ثم توصل المفتي إلى الحكم بتحريم عرض الأزياء الذي تدخله المخالفات الشرعية إلا أنه استثنى عرض النساء بثياب سابغة وليس فيه مخالفات شرعية ولم يقصد من ذلك التشهي بالنظر إلى النساء فأفتى بجواز ذلك مع الكراهة. وأقول تعقيباً على ذلك، إن كلام المفتي فيه تناقض واضح حيث إنه قرر عدم جواز تعمد نظر الرجل إلى المرأة إلا عند الضرورة، ثم أجاز عرض الأزياء بقيود ذكرها، وهذه الفتوى مخالفة لقوله تعالى: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ) سورة النور الآية 30. وقال المفتي: [ولا يلجأ إلى هذه الطريقة إلا بعد فقد كل الطرق لعرض الأزياء] وأتسائل هل عرض الأزياء أمر ضروري أم حاجي حتى يباح من أجله الحرام؟! وأجيب بأن عرض الأزياء ليس أمراً ضرورياً ولا أمراً حاجياً فلا يجوز شرعاً أن يباح له الأمر المحرم لأن المحرمات لا تباح بمثل هذا الأمر ويضاف إلى ذلك أن عرض الأزياء فكرة غربية خبيثة تقف خلفها جهات مشبوهة والذين يقومون بها إنما هم من المتشبهين بالغربيين.
وخلاصة الأمر أنه يحرم على المرأة المسلمة أن تقوم بعرض الأزياء أمام الرجال وهي ترتدي الملابس الشرعية، والمرأة أكرم في دين الله من أن تكون بمثابة وسيلة لعرض الأزياء كما يفعل غير المسمين.(15/72)
73 - النكاح
يحرم تزويج تارك الصلاة،
تقول السائلة: إنها فتاة ملتزمة بأحكام الإسلام وقد تقدم لخطبتها شاب تارك للصلاة ويريد أبوها أن يزوجها منه وهي ترفض ذلك فما قولكم؟ الجواب: إن واجب الآباء النظر والفحص في أحوال من يتقدم لخطبة بناتهم وأن يجعلوا المعيار للقبول والرد هو ما قرره الشرع فقد ورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض) رواه الترمذي وابن ماجة، وقال الشيخ الألباني: حسن. وجاء في الحديث عن أبي حاتم المزني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد. قالوا: وإن كان فيه؟ قال: إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه) ثلاث مرات. رواه الترمذي وهو حديث حسن كما قال الشيخ الألباني. صحيح سنن الترمذي 1/315. وهذا الحديث يقرر أصلاً مهماً في الزواج وهو اعتبار الكفاءة في الدين فإن تارك الصلاة ليس كفؤاً للمرأة الصالحة المصلية وتارك الصلاة لا ينبغي أن يزوج لأن أمره دائر بين الكفر والفسق على اختلافٍ بين العلماء في حاله. قال العلامة ابن القيم: [لا يختلف المسلمون أن ترك الصلاة المفروضة عمداً من أعظم الذنوب وأكبر الكبائر وأن إثمه عند الله أعظم من إثم قتل النفس وأخذ الأموال ومن إثم الزنا والسرقة وشرب الخمر وأنه متعرض لعقوبة الله وسخطه وخزيه في الدنيا والآخرة] كتاب الصلاة ص 3-4. قال الله تعالى مخبراً عن أصحاب الجحيم: (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) المدثر الآيتان 42-43. وقال الله تعالى: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) سورة مريم الآية 59. وقد وردت أحاديث كثيرة عن الرسول صلى الله عليه وسلم في الترهيب من ترك الصلاة تعمداً وكذلك آثار عن الصحابة والسلف أذكر طائفة منها: عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة) رواه مسلم. وفي رواية: (بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة) رواه أبو داود والنسائي وهو حديث صحيح كما قال الشيخ الألباني. وفي رواية أخرى: (بين الكفر والإيمان ترك الصلاة) رواه الترمذي وهو حديث صحيح كما قال الشيخ الألبني. وجاء في الحديث أنه عليه الصلاة والسلام قال: (عُرَى الإسلام وقواعد الدين ثلاث عليهن أٌسُ الإسلام من ترك واحدة منهن فهو بها كافر حلال الدم: شهادة أن لا إله إلا الله والصلاة المكتوبة وصوم رمضان) وإسناده حسن كما قال المنذري والهيثمي. وفي رواية أخرى: (من ترك منهن واحد فهو بالله كافر ولا يقبل منه صرف ولا عدل وقد حل دمه وماله) وسندها حسن كما قال الشيخ ابن حجر المكي في الزواجر عن اقتراف الكبائر 1/284. وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الذي تفوته صلاة العصر كأنما وتر أهله وماله) رواه البخاري ومسلم. وعن بريدة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر) رواه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وقال حديث حسن صحيح وصححه الشيخ الألباني. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الصلاة يوماً فقال: من حافظ عليها كانت له نوراً وبرهاناً ونجاة يوم القيامة ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نوراً ولا برهاناً ولا نجاة وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف) رواه أحمد والدارمي وقال المنذري: إسناده جيد. قال بعض العلماء: وإنما حشر مع هؤلاء لأنه إن اشتغل عن الصلاة بماله أشبه قارون فيحشر معه أو بملكه أشبه فرعون فيحشر معه أو بوزارته أشبه هامان فيحشر معه أو بتجارته أشبه أبي بن خلف تاجر كفار مكة فيحشر معه. الزواجر عن اقتراف الكبائر 1/289. وعن عبد الله بن شقيق العقيلي رضي الله عنه قال: (كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة) رواه الترمذي والحاكم وصححه. وقال الشيخ الألباني: صحيح. وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: (أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم أن لا تشرك بالله شيئاً وإن قطعت أو حرقت ولا تترك صلاة مكتوبة متعمداً فمن تركها فقد برئت منه الذمة ولا تشرب الخمر فإنها مفتاح كل شر) رواه ابن ماجة والبيهقي وصححه الشيخ الألباني. وعن أم أيمن رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تترك الصلاة متعمداً فإنه من ترك الصلاة متعمداً فقد برئت منه ذمة الله ورسوله) رواه أحمد والبيهقي وصححه الشيخ الألباني. وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (من ترك الصلاة فلا دين له) رواه ابن أبي شيبة في كتاب الإيمان والطبراني في المعجم الكبير وحسنه الشيخ الألباني. وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: (لا إيمان لمن لا صلاة له ولا صلاة لمن لا وضوء له) رواه ابن عبد البر وصححه الشيخ الألباني. انظر هذه الأحاديث والآثار وحكم الشيخ الألباني عليها صحيح الترغيب والترهيب ص 226-230. وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (لا حظ لأحد في الإسلام أضاع الصلاة) الزواجر عن اقتراف الكبائر 1/295. قال الشيخ ابن حجر المكي بعد أن ساق عدداً كبيراً من الأحاديث والآثار في تارك الصلاة: [اختلف العلماء من الصحابة ومن بعدهم في كفر تارك الصلاة وقد مرّ في الأحاديث الكثيرة السابقة التصريح بكفره وشركه وخروجه من الملة وبأنه تبرأ منه ذمة الله وذمة رسوله وبأنه يحبط عمله وبأنه لا دين له وبأنه لا إيمان له وبنحو ذلك من التغليظات وأخذ بظاهرها جماعة كثيرة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم فقالوا من ترك صلاة متعمداً حتى خرج جميع وقتها كان كافراً مراق الدم منهم عمر وعبد الرحمن بن عوف ومعاذ بن جبل وأبو هريرة وابن مسعود وابن عباس وجابر بن عبد الله وأبو الدرداء ومن غير الصحابة أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وعبد الله بن المبارك والنخعي والحكم بن عتيبة وأيوب السختياني وأبو داود الطيالسي وأبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب وغيرهم فهؤلاء الأئمة كلهم قائلون بكفر تارك الصلاة وإباحة دمه] الزواجر 1/298. وقد سقت هذه النصوص الكثيرة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وآثار السلف لأؤكد على قضية خطيرة جداً ألا وهي إن ترك الصلاة الذي هو من كبائر الذنوب قد صار أمراً عادياً في مجتمعنا ولا يثير في نفوساً شيئاً ولا يحرك ساكناً ولا يعتبره كثير من الناس وبعض المشايخ مما يطعن في شخصية تارك الصلاة بل إن بعض هؤلاء يتعاملون مع تارك الصلاة بكل الحب والاحترام والتقدير الذي لا يحظى به كثير من عباد الله المصلين المحافظين على حدود الله فإنا لله وإنا إليه راجعون. ويجب التأكيد على أن تارك الصلاة لا يجوز أن يزوج والولي أباً كان أو أخاً إن أجبر ابنته أو أخته على الزواج من تارك للصلاة فقد ارتكب جرماً عظيماً. وقد ورد عن الإمام أبي حنيفة أنه قال: [من زوج ابنته لتارك صلاة فكأنما ألقاها في نار جهنم] . فتارك الصلاة أقل أحواله أنه فاسق والفاسق ليس كفؤاً للمرأة المصلية الملتزمة بشرع الله. وتارك الصلاة هذا يجب أن ينصح وأن يعاد عليه النصح مراراً وتكراراً لعله يعود ويرجع ويتوب إلى الله سبحانه وتعالى. وأخيراً لا يجوز لهذا الأب أن يجبر ابنته على الزواج من تارك الصلاة فإن فعل فقد وقع في الحرام وعليه وزر عظيم والعياذ بالله. *****(15/73)
74 - النكاح
يقول السائل: ما قولكم في الزواج بين العيدين، عيد الفطر وعيد الأضحى حيث إنه يشاع بين الناس أن الزواج بينهما غير مرغوب في هذا الوقت ويتشاءمون منه؟
الجواب: الأصل في المسلم أنه لا يتطير ولا يتشاءم لأن الطيرة والتشاؤم من الشرك والعياذ بالله فقد جاء في الحديث عَنْ ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الطيرة شرك الطيرة شرك) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي وقال: حسن صحيح والحاكم وصححه ووافقه الذهبي وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي برقم (1314) وقال صلى الله عليه وسلم: (من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك) قالوا: فما كفارة ذلك؟ قال: أن تقول: اللهم لا خير إلا خيرك ولا طير إلا طيرك ولا إله غيرك) رواه أحمد وابن السني وإسناد ابن السني صحيح. وجاء في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (لا عَدْوَى وَلا طِيَرَةَ وَلا هَامَةَ وَلا صَفَرَ) رواه البخاري والتطيّر هو التشاؤم. واعتبر التطير شركاً لأن المتطيّر قطع توكّله على الله واعتمد على غيره. ولأنه تعلّق بأمر لا حقيقة له، والتشاؤم من الاعتقادات الجاهلية وما زال كثير منها منتشراً بين الناس في وقتنا الحاضر والتشاؤم من الزواج في شوال من الأمور التي كانت معروفة عند العرب في الجاهلية قال في صبح الأعشى (الشهر العاشر شوال سمي بذلك أخذا من شالت الإبل بأذنابها إذا حملت لكونه أول شهور الحج وقيل من شال يشول إذا ارتفع ولذلك كانت الجاهلية تكره التزويج فيه لما فيه من معنى الإشالة والرفع إلى أن جاء الإسلام بهدم ذلك قالت عائشة رضي الله عنها فيما ثبت في صحيح مسلم تزوجني رسول الله في شوال وبنى بي في شوال فأي نسائه كان أحظى عنده مني) . صبح الأعشى في صناعة الإنشا 2/ 402. وروى مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم في شوال , وبنى بي في شوال , فأي نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أحظى عنده مني؟ قال: وكانت عائشة تستحب أن تدخل نساءها في شوال) . قال الإمام النووي: قوله: (عن عائشة رضي الله عنها قالت: تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم في شوال , وبنى بي في شوال , فأي نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أحظى عنده مني؟ قال: وكانت عائشة تستحب أن تدخل نساءها في شوال) فيه استحباب التزويج والتزوج والدخول في شوال , وقد نص أصحابنا على استحبابه , واستدلوا بهذا الحديث , وقصدت عائشة بهذا الكلام رد ما كانت الجاهلية عليه , وما يتخيله بعض العوام اليوم من كراهة التزوج والتزويج والدخول في شوال , وهذا باطل لا أصل له , وهو من آثار الجاهلية , كانوا يتطيرون بذلك لما في اسم شوال من الإشالة والرفع. شرح النووي على صحيح مسلم 9 / 209. وقال الحافظ ابن عبد البر: (وكانت عائشة تنكر حديث الشؤم وتقول إنما حكاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أهل الجاهلية وأقوالهم وكانت تنفي الطيرة ولا تعتقد شيئا منها حتى قالت لنسوة كن يكرهن الابتناء بأزواجهن في شوال ما تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا في شوال وما دخل بي إلا في شوال فمن كان أحظى مني عنده وكانت تستحب أن يدخلن على أزواجهن في شوال) التمهيد لابن عبد البر 9/ 288. وقال السيوطي: (عن عائشة قالت تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم في شوال وأدخلت عليه في شوال وكانت عائشة تحب أن تدخل نساءها في شوال فأي نسائه كانت أحظى عنده مني) قال القاضي عياض والنووي قصدت عائشة بهذا الكلام رد ما كانت الجاهلية عليه من كراهة التزويج والدخول في شوال كانوا يتطيرون بذلك لما في اسم شوال من الإشالة والرفع قال … في طبقات ابن سعد أنهم كرهوا ذلك لطاعون وقع فيه. شرح السيوطى على سنن النسائي 6/70. وقال ملا علي القاري: قيل إنما قالت هذا ردا على أهل الجاهلية فإنهم كانوا لا يرون يمناً في التزوج والعرس في أشهر الحج. المرقاة 6/303. وقال الحافظ ابن كثير (عن عائشة قالت تزوجني رسول الله في شوال وبنى بي في شوال فأي نساء رسول الله كان أحظى عنده مني وكانت عائشة تستحب أن تدخل نساءها في شوال ورواه مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه من طرق عن سفيان الثوري به وقال الترمذي حسن صحيح لا نعرفه إلا من حديث سفيان الثوري فعلى هذا يكون دخوله بها عليه السلام بعد الهجرة بسبعة أشهر أو ثمانية أشهر وقد حكى القولين ابن جرير وقد تقدم في تزويجه عليه السلام بسودة كيفية تزويجه ودخوله بعائشة بعد ما قدموا المدينة وأن دخوله بها كان بالسنح نهاراً وهذا خلاف ما يعتاده الناس اليوم وفي دخوله عليه السلام بها في شوال رداً لما يتوهمه بعض الناس من كراهية الدخول بين العيدين) البداية والنهاية 3/ 231. وقال العلامة ابن القيم: (وقد كانت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها تستحب أن تتزوج المرأة أو يبنى بها في شوال وتقول: " ما تزوجني رسول الله إلا في شوال، فأي نسائه كان أحظى عنده مني " مع تطير الناس بالنكاح في شوال، وهذا فعل أولى العزم والقوة من المؤمنين الذين صح توكلهم على الله، واطمأنت قلوبهم إلى ربهم، ووثقوا به، وعلموا أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأنهم لن يصيبهم إلا ما كتب الله لهم، وأنهم ما أصابهم من مصيبة إلا وهي في كتاب من قبل أن يخلقهم ويوجدهم، وعلموا أنه لا بد أن يصيروا إلى ما كتبه وقدَّره ولا بد أن يجرى عليهم، وإن تطيرهم لا يرد قضاءه وقدره عنهم، بل قد يكون تطيرهم من أعظم الأسباب التي يجري عليهم بها القضاء والقدر فيعينون على أنفسهم، وقد جرى لهم القضاء والقدر بأن نفوسهم هي سبب إصابة المكروه لهم فطائرهم معهم، وأما المتوكلون على الله المفوِّضون إليه العالمون به وبأمره فنفوسهم أشرف من ذلك، وهممهم أعلى، وثقتهم بالله وحسن ظنهم به عدة لهم وقوة وجنة مما يتطير به المتطيرون ويتشاءم به المتشائمون، عالمون أنه لا طير إلا طيره، ولا خير إلا خيره، ولا إله غيره، ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين. مفتاح دار السعادة 2 / 261. وذهب بعض أهل العلم إلى استحباب الزواج في شوال كما سبق في كلام الإمام النووي أخذاً من حديث عائشة السابق قال البكري: (قوله وفي شوال أي ويسن أن يكون العقد في شوال وقوله وأن يدخل فيه أي ويسن أن يدخل على زوجته في شوال أيضا والدليل عليه وعلى ما قبله خبر عائشة رضي الله عنها قالت تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم في شوال ودخل فيه وأي نسائه كان أحظى عنده مني وفيه ردٌ على من كره ذلك) إعانة الطالبين 3/ 273. ولكن الإمام الشوكاني يرى أن حديث عائشة لا يدل على استحباب الزواج في شوال بل يدل على مجرد الإباحة واعترض على صاحب المنتقى بقوله (استدل المصنف بحديث عائشة على استحباب البناء بالمرأة في شوال وهو إنما يدل على ذلك إذا تبين أن النبي صلى الله عليه وسلم وسلم قصد ذلك الوقت لخصوصية له لا توجد في غيره لا إذا كان وقوع ذلك منه صلى الله عليه وسلم على طريق الاتفاق وكونه بعض أجزاء الزمان فإنه لا يدل على الاستحباب لأنه حكم شرعي يحتاج إلى دليل وقد تزوج صلى الله عليه وسلم بنسائه في أوقات مختلفة على حسب الاتفاق ولم يتحر وقتاً مخصوصاً ولو كان مجرد الوقوع يفيد الاستحباب لكان كل وقت من الأوقات التي تزوج فيها النبي صلى الله عليه وسلم يستحب البناء فيه وهو غير مسلم) نيل الأوطار 6/ 339 وخلاصة الأمر أنه لا يجوز التشاؤم بالزواج بين العيدين والزواج بينهما مباح ومشروع وقد تزوج النبي صلى الله عليه وسلم بين العيدين.(15/74)
75 - الميراث
يقول السائل: طلق رجل زوجته طلاقاً رجعياً ثم مات أثناء عدة مطلقته فهل ترث منه أم لا؟
الجواب: من المعلوم عند أهل العلم أن الزوجية من أسباب التوارث ويشترط لإثبات التوارث بين الزوجين أن تكون الزوجية صحيحة وأن تكون الزوجية قائمة وقت الوفاة حقيقة أو حكماً والمطلقة طلاقاً رجعياً تعتبر زوجة حكماً حيث إنها ما زالت في العدة فحق التوارث ثابت لها ولا يملك أحد حرمانها منه شرعاً وهذا الحكم لا خلاف فيه بين أهل العلم فيما أعلم. قال ابن حزم الظاهري: [أما المطلقة طلاقاً رجعياً فهي زوجة للذي طلقها ما لم تنقض عدتها يتوارثان ويلحقها طلاقة وإيلاؤه وظهاره ولعانه إن قذفها وعليه نفقتها وكسوتها وإسكانها فإذ هي زوجته فحلال له أن ينظر منها إلى ما كان ينظر إليه منها قبل أن يطلقها وأن يطأها إذ لم يأت نص يمنعه من شيء من ذلك وقد سماه الله تعالى بعلاً لها إذ يقول عز وجل: (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ) ] المحلى 10/251. وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [إذا طلق الرجل امرأته طلاقاً يملك رجعتها في عدتها لم يسقط التوارث بينهما ما دامت في العدة سواء كان في المرض أو الصحة بغير خلاف نعلمه وروي ذلك عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم وذلك لأن الرجعية زوجة يلحقها طلاقه وظهاره وإيلاؤه ويملك إمساكها بالرجعة بغير رضاها ولا ولي ولا شهود ولا صداق جديد] المغني 6/394. وخلاصة الأمر أن المطلقة رجعياً ترث زوجها ما دامت في العدة.(15/75)
76 - أماكن محرمة
يقول السائل: ما حكم دخول المطاعم التي تقدم الخمور؟
الجواب: لا يجوز شرعاً دخول المطاعم التي تقدم الخمور والجلوس فيها بل إن على المسلم أن يقاطع كل مجلس للخمر فقد ورد في الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة تدار عليها الخمر) رواه الترمذي وقال حديث حسن. وإن المسلم يُطلب منه إزالة المنكر فإن لم يستطع فلا أقل من أن يبتعد عن مواطن المنكر فلا يجلس في تلك المطاعم التي تقدم الخمور. *****(15/76)
77 - اللباس والزينة
يقول السائل: ما حكم استعمال جلد الخنزير في الملبوسة الجلدية والأحذية؟
الجواب: لا يجوز استعمال جلد الخنزير في صناعة الملابس والأحذية بل ذلك محرم على ما قرره أكثر الفقهاء حيث قالوا إن جلد الخنزير نجس لا يطهر بالدباغة ويدل على ذلك قوله تعالى: (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ) سورة الأنعام الآية 145. والضمير في قوله تعالى: (فَإِنَّهُ رِجْسٌ) يعود على الخنزير والرجس تعني النجس فالخنزير كله نجس كما قرره فقهاء الحنفية وغيرهم، قال العلامة ابن عابدين رحمه الله: [لأنه نجس العين بمعنى أن ذاته بجميع أجزائه نجسة حياً وميتاً فليست نجاسته لما فيه من الدم كنجاسة غيره من الحيوانات فلذا لم يقبل التطهير ... ] حاشية ابن عابدين 1/204. وقال أكثر العلماء إن جلد الخنزير لا يدخل في عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أيما إهاب دبغ فقط طهر) رواه مسلم وأحمد والترمذي. وقالوا إن العموم في الحديث مخصوص، قال القرطبي: [المشهور عندنا أن جلد الخنزير لا يدخل في الحديث ولا يتناوله العموم ... قال أبو عمر: يحتمل أن يكون أراد بهذا القول عموم الجلد المعهود الانتفاع بها فأما الخنزير فلم يدخل في المعنى لأنه غير معهود الانتفاع بجلده إذ لا تعمل فيه الذكاة ودليل آخر وهو ما قاله النضر بن شميل: إن الإهاب جلد البقر والغنم والإبل وما عداه فإنما يقال له جلد لا إهاب] تفسير القرطبي 10/15. وكلام النضر بن شميل فيه نظر. وعلى كل حال فهناك من العلماء من يرى أن جلد الخنزير يدخل في عموم الحديث السابق ولكن قول الجمهور أحوط وأبعد عن الشبهات فإن الشريعة قد حرمت أكل الخنزير ووصفت الخنزير بأنه رجس فالمفروض في المسلم أن يبتعد عن الخنزير وعن كل ما يتعلق به. *****(15/77)
78 - اللباس والزينة
يقول السائل: ما حكم استعمال الإنسان للعدسات الملونة في العيون؟
الجواب: إن لم تكن العدسات الملونة لازمة من الناحية الطبية فلا يجوز استعمالها لأنها تتضمن تغييراً لخلق الله سبحانه وتعالى وخاصة إذا كان الأمر يتعلق بالمرأة فإن ذلك يعتبر من الزينة الممنوعة وقد ينطوي على الغش والخداع إذا كانت المرأة تستعملها لتخدع الخطاب. *****(15/78)
79 - مسائل طبية
يقول السائل: ما حكم زراعة الشعر؟
الجواب: إن زراعة الشعر فيما يظهر لي جائزة إذا دعت لذلك الحاجة كأن يتساقط شعر شخص فيعالج ذلك بزراعة الشعر وأرى أن هذا من باب العلاج ولا بأس به إن شاء الله. *****(15/79)
80 - النزاعات والخلافات
يقول السائل: ما الحكم الشرعي فيما يسمية القضاء العشائري فراش العطوة والجلاء؟
الجواب: فراش العطوة هو عبارة عن المبلغ الذي يدفعه أهل الجاني وعشيرته في جرائم القتل العمد وحوادث السيارات ونحوها لذوي المجني عليه قبل الموافقة على إعطاء العطوة العشائرية ويكون دفع هذا المبلغ عن طريق رجال الجاهة الذين يتدخلون لاحتواء المشكلة التي قد تكون قد وقعت وحكم فراش العطوة في الشرع أنه أكل لأموال الناس بالباطل لأنه في حالات كثيرة لا يحسب مبلغ فراش العطوة من شروط الصلح أو الدية وبالتالي يكون من غير عوض، وهذا غير جائز شرعاً يقول الله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ) وأما إذا اعتبر مبلغ فراش العطوة جزءاً من الدية أو من المبلغ الذي يدفع عند إجراء المصالحة بين الطرفين فيجوز ذلك. وأما الجلاء أو الجلوة كما يسيمها القضاء العشائري وتعني ترحيل ذوي الجاني من أماكن سكنهم القريبة من أهل المجني عليه إلى أماكن سكن بعيدة وغالباً ما تكون الجلوة في قضايا القتل العمد والجلوة في القضاء العشائري لا تقتصر على الجاني وإنما قد تشمل الآباء والأجداد والأخوة والأعمام وكل من له صلة بالجاني إلى الجد الثالث وأحياناً قد تصل إلى الجد الخامس وهذا يشمل النساء والأطفال. العرف العشائري ص 363. والجلاء أو الجلوة في نظر الشريعة أمر باطل لا يجوز وهي ظلم واضح لأن الشريعة الإسلامية تقرر أن كل إنسان مسؤول عما يفعل ولا يحاسب شخص سواه على ما فعل، قال تعالى: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) . وفي الجلاء ظلم يتضمن إخراج الناس من بيوتهم وترحيلهم عنها وإلحاق الضرر بهم من غير جريرة ذنب ارتكبوه وليس لهم علاقة بالجريمة فلماذا يعاقبون على شيء لم يفعلوه؟ وإن كان الأمر يقتضي المحافظة على أهل الجاني من فورة غضب أهل المجني عليه فلا بأس من إبعاد أهل الجاني عن أهل المجني عليه لمدة قصيرة لا تعدو أياماً قليلة حتى تهدأً ثورة غضبهم أما تهجيرهم من بيوتهم وأطفالهم ونساؤهم شهوراً وأحياناً سنوات فهذا أمر لا تقره الشريعة بحال من الأحوال وهذا من الظلم والعدوان يقول الرسول عليه الصلاة والسلام (اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دمائهم واستحلوا محارمهم) رواه مسلم.
وعلى رجال الخير والإصلاح أن يتقوا الله سبحانه وتعالى وليعلموا أنه لا يجوز لهم أن يحكموا بغير ما أنزل الله فعليهم الحكم بما أنزل الله سبحانه وتعالى لأن الشريعة الإسلامية هي الكفيلة بتحقيق العدل بين الناس. *****(15/80)
81 - الطلاق
يقول السائل: إن رجلاً قد طلق زوجته بعد خلاف حصل بينهما وطردها إلى بيت أهلها ويرفض أن تبقى الزوجة في بيته لقضاء العدة فما حكم ذلك؟
الجواب: شرع الإسلام العدة في حالة الطلاق والوفاة لحكم كثيرة ومن حكمة مشروعية عدة الطلاق الرجعي أن تتاح فرصة للزوج لمراجعة مطلقته خلال مدة العدة وهذه الحكمة تكون أكثر تحققاً فيما لو بقيت الزوجة في بيت الزوج ولم تخرج منه كما جرت العادة في بلادنا أن الزوج إذا طلق زوجته فإنها تخرج من بيت الزوجية وتذهب إلى بيت أهلها وهذا الأمر ليس مشروعاً ولا يجوز للزوج أن يخرج زوجته من بيتها بطردها إلى بيت أبيها قال الله تعالى: (يَاأَيُّهَا النبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا) سورة الطلاق الآية 1. قال القرطبي في تفسير قوله تعالى: (لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ) أي ليس للزوج أن يخرجها من مسكن النكاح ما دامت في العدة ولا يجوز لها الخروج أيضاً لحق الزوج إلا لضرورة ظاهرة فإن خرجت أثمت ولا تنقطع العدة. تفسير القرطبي 18/ 154. ثم قال القرطبي في تفسير قوله تعالى: (وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ) [أي هذه الأحكام التي بينها أحكام الله على العباد وقد منع التجاوز عنها فمن تجاوز فقد ظلم نفسه وأوردها مورد الهلاك. (لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا) الأمر الذي يحدثه الله أن يقلب قلبه من بغضها إلى محبتها ومن الرغبة عنها إلى الرغبة فيها ومن عزيمة الطلاق إلى الندم عليه فيراجعها وقال جميع المفسرين: أراد بالأمر هنا الرغبة في الرجعة] تفسير القرطبي 18/156. وخلاصة الأمر أنه يحرم على الزوج أن يطرد مطلقته الرجعية من بيت الزوجية كما يحرم عليها أن تخرج أيضاً لقضاء العدة في بيت أبيها أو غيره وهذا باتفاق أهل العلم فيما أعلم ويستند العلماء في ذلك على النهي عن إخراجهن المذكور في الآية السابقة والأصل في النهي أنه للتحريم انظر تفسير الجصاص 5/348. لكل ما سبق فلا بد من إعادة النظر في العادة السيئة المنتشرة ي مجتمعنا ألا وهي ترك المرأة المطلقة رجعياً لبيت الزوجية وذهابها إلى بيت أهلها. لأن في فعلها هذا تعقيداً للمشكلة وقد يؤدي إلى إنهاء الحياة الزوجية.(15/81)
82 - الخطبة
يقول السائل: ما هو المباح في نظر الخاطب إلى مخطوبته؟ نظر الخاطب إلى مخطوبته
الجواب: نظر الخاطب إلى مخطوبته جائز ومشروع وثبت ذلك في أحاديث كثيرة منها: 1. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فأتاه رجل فأخبره أنه تزوج امراة من الأنصار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنظرت إليها؟ قال: لا، قال: فاذهب فانظر إليها فإن في اعين الأنصار شيئاً. رواه مسلم. 2. وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أنه خطب امرأة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما) . 3. وعن جابر قال: سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا خطب أحدكم المرأة فقدر أن يرى منها بعض ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل) رواه أحمد وأبو داود وصححه الحاكم ووافقه الذهبي ووافقهما الألباني. 4. وعن محمد بن مسلمة رضي الله عنه قال سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا ألقى الله عز وجل في قلب امرئ خطبة امرأة فلا بأس أن ينظر إليها) رواه أحمد وابن ماجة وابن حبان والحاكم وصححاه. وغير ذلك من الأحاديث التي تبيح نظر الخاطب للمخطوبة. وقد اختلف أهل العلم في المقدار الذي يجوز رؤيته من المخطوبة فأكثر الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية وإحدى الروايات عن أحمد أنه يجوز النظر إلى الوجه والكفين فقط. ونقل عن الإمام أحمد رواية أخرى أنه يجوز النظر إلى ما يظهر غالباً كالرقبة واليدين والقدمين. والقول الأول هو الصحيح الذي تؤيده الأدلة لأن النظر في الأصل محرم عدا نظر الفجأة وإنما أبيح النظر للحاجة والحاجة تندفع بالنظر إلى الوجه والكفين فيبقى ما عدا ذلك على التحريم كما ذكره ابن قدامة في المغني 7/97 ويدل على ذلك قوله تعالى: (ولا يبدين زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) سورة النور الآية 31. وقد ورد عن ابن عباس أن المراد بما ظهر منها الوجه والكفان. وقد رجح جماعة من العلماء المعاصرين قول الحنابة الثاني وهو جواز النظر لما يظهر غالباً من المرأة عند الخدمة وأجاز بعضهم أن يراها حاسرة وقد احتجوا بأدلة منها: ما ورد في حديث جابر السابق: (فقدر أن ينظر منها ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل) . ومما ورد عن جابر أنه قال: (فخطبت جارية فكنت أتخبأ لها حتى رأيت منها ما دعاني إلى نكاحها وتزوجتها) . رواه أبو داود وقال الحاكم حديث صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي. والذي يظهر لي أن هذه الرواية ليس فيها إثبات أنه كان ينظر منها إلى أكثر من الوجه والكفين لأن المرأة المسلمة إذا خرجت من بيتها لا يظهر منها سوى الوجه والكفان وجابر كان يختبئ لها تحت النخل أي خارج بيتها. وكذلك احتجوا بما ورد عن سهل بن أبي حثمة قال: رأيت محمد بن مسلمة يطارد امرأة ببصره فقلت تنظر إليها وأنت من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا ألقى الله في فلب امرئ) الحديث وقد سبق ذكره. قلت وما فعله محمد بن مسلمة لا يعدو أنه نظر إلى وجهها وكفيها وإنما دقق فيها النظر وطارد المرأة ببصره حتى أنكر عليه ذلك سهل بن أبي حثمة. ولا دلالة فيه على أنه نظر إلى أزيد من من الوجه والكفين. واحتجوا أيضاً بما ورد عن عمر رضي الله عنه (أنه خطب ابنة علي رضي الله عنه فذكر منها صغرا ... فقال: نرسل بها إليك تنظر إليها فكشف عن ساقيها فقالت: أرسل لولا أنك أمير المؤمنين للطمت عينيك) رواه سعيد بن منصور في سننه وعبد الرزاق في المصنف. وهذه الرواية عن عمر مرسلة والمرسل من قسم الضعيف عند أهل الحديث ففي ثبوتها نظر ولا يصح الاحتجاج بها. *****(15/82)
83 - النكاح
وليمة العرس,
يقول السائل: ما حكم وليمة العرس وما وقتها وهل تكون قبل الدخول أم بعده؟ الجواب: إن وليمة العرس سنة مؤكدة على قول جماهير الفقهاء وقد ورد فيها عدد من الأحاديث منها: 1. عن أنس رضي الله عنه قال: لما قدموا المدينة نزل المهاجرون على الأنصار فنزل عبد الرحمن بن عوف على سعد بن الربيع فقال: أقاسمك مالي وأنزل لك عن إحدى امرأتي، قال: بارك الله لك في أهلك ومالك فخرج إلى السوق فباع واشترى فأصاب شيئاً من إقط وسمن فتزوج فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أولم ولو بشاة) رواه البخاري ومسلم. 2. وعن بريدة بن الحصيب قال: لما خطب علي فاطمة رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنه لا بد للعروس من وليمة) رواه أحمد وهو حديث حسن. 3. وعن أنس رضي الله عنه قال: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أولم على امرأة من نسائه ما أولم على زينب فإنه أولم بشاة قال أنس: أطعمهم خبزاً ولحماً حتى تركوه) رواه البخاري ومسلم. 4. وعن أنس أيضاً في قصة زواج النبي صلى الله عليه وسلم من صفية رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل وليمتها التمر والسمن والأقط) رواه مسلم. وفي رواية أخرى: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام بين خيبر والمدينة ثلاث ليالٍ يبني بصفية فدعوت المسلمين إلى وليمته ما كان فيها من خبز ولا لحم وما كان فيها إلا أن أمر بالأنطاع فبسطت فألقى عليها التمر والأقط والسمن) رواه البخاري ومسلم. والأنطاع بسط من الجلد وغير ذلك من الأحاديث التي تدل على مشروعية وليمة العرس والأحاديث التي ورد فيها الأمر بالوليمة محمولة على الاستحباب ومصروفة عن الوجوب وهو قول أكثر الفقهاء. ولا يشترط في الوليمة أن تكون على لحم فقد ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه أولم بغير اللحم كما سبق قبل قليل. وإذا أولم بلحم فيجوز بشاة وبأكثر من شاة إذا كان موسراً. وأما وقت الوليمة الزفاف والعرس فقد ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم أولم بعد الدخول والأمر فيه سعة فلو كانت الوليمة قبل الدخول فلا بأس به. قال الحافظ ابن حجر: [وقد اختلف السلف في وقتها هل هو عند العقد أو عقبه أو عند الدخول أو عقبه أو موسع مع ابتداء العقد وانتهاء الدخول؟ على أقوال] ثم ذكر أقوال العلماء في ذلك والذي يظهر لي أن الأمر فيه سعة كما قلت فإن أولم يوم الزفاف قبل الدخول كما هي العادة عند كثير من الناس فحسن وإن أولم بعد الدخول فهو أحسن اقتداءً بلرسول صلى الله عليه وسلم. وينبغي أن يُعلم أن أكثر الفقهاء يرون وجوب إجابة الدعوة لوليمة العرس ويدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا دعي أحدكم إلى الوليمة فليأتها) رواه البخاري. وقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا دعي أحدكم إلى وليمة عرس فليجب) رواه مسلم. وقوله عليه الصلاة والسلام أيضاً: (شر الطعام طعام الوليمة يدعى له الأغنياء ويترك الفقراء ومن ترك الدعوة فقد عصى الله ورسوله) رواه البخاري. وإجابة الدعوة مقيدة فيما إذا لم يكن هناك عذر للمدعو لتركها فإذا ترك إجابة الدعوة لعذر فلا بأس في ذلك. وكذلك يشترط لإجابة الدعوة ألا يكون هناك منكر من المنكرات فإن كان هنالك منكر واستطاع إزالته وتغييره فحضر فهو أمر حسن وإن لم يستطع تغيير المنكر فعليه ألا يحضر. فمثلاً إذا دعي إلى وليمة عرس مختلطة والنساء متبرجات وفيها خمر وهنالك فرقة موسيقية وغير ذلك من المنكرات فيحرم في حقه الحضور لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقعدن على مائدة يدار عليها بالخمر) رواه أحمد والترمذي والحاكم وصححه ووافقه الذهبي. قال الإمام الأوزاعي رحمه الله: [لا ندخل وليمة فيها طبل ولا معزاف] وسنده صحيح كما قال الشيخ الألباني. وقال ابن قدامة رحمه الله: [إذا دعي إلى وليمة فيها معصية كالخمر والزمر والعود ونحوه وأمكنه الانكار وإزالة المنكر لزمه الحضور والإنكار وإن لم يقدر على الإنكار لم يحضر. وإن لم يعلم بالمنكر حتى حضر أزاله فإن لم يقد انصرف ... ] المغني 7/279. وأخيراً يستحب لمن حضر وليمة العرس أن يدعو بخير لصاحبها فقد ورد في ذلك أحاديث منها: عن عبد الله بن بسر أن أباه صنع للنبي عليه الصلاة والسلام طعاماً فدعاه فأجابه فلما فرغ من طعامه قال: [اللهم اغفر لهم وارحمهم وبارك لهم فيه رزقتهم) رواه مسلم وغيره. ومنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو بعد الفراغ من الدعوة بهذا الدعاء: (أكل طعامكم الأبرار وصلّت عليكم الملائكة وأفطر عندكم الصائمون) رواه أحمد والبيهقي بسند صحيح. وورد أنه عليه الصلاة والسلام كان يدعو للزوجين بقوله: (اللهم بارك فيهما وبارك لهما في أبنائهما) رواه الطبراني بسند صحيح. وفي رواية أخرى كان يدعو بهذا الدعاء: (بارك الله لك وبارك عليك وجمع بينكما في خير) رواه ابو داود والترمذي والحاكم وصححه ووافقه الذهبي. *****(15/83)
84 - النكاح
رفض الوالدة لزواج الابن،
يقول السائل: أنه يريد أن يتزوج فتاة أعجبته وفيها الصفات الحميدة ولكن والدته ترفض ذلك الزواج فهل يجب عليه أن يطيع والدته؟ الجواب: إن طاعة الوالدين فرض وقد دلت الآيات والأحاديث على ذلك ومنها قوله تعالى: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا) . ويقول الله تعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ... ) الآية. وثبت في الحديث عن أبي هريرة قال: (جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله من احق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أبوك) رواه البخاري ومسلم. ولا شك أن حق الأم على الإبن عظيم كما يشير ذلك الحديث السابق، ولكن الطاعة لا تكون إلا في المعروف، ويدل على ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنما الطاعة في المعروف) رواه البخاري ومسلم. وبناء على ذلك لا يجب على الإبن أن يطيع والدته في عدم الزواج من الفتاة التي يريدها خاصة إذا كانت الفتاة صاحبة خلق ودين وكذلك الحال فيما لو طلب أحد الوالدين من الإبن تطليق زوجته فلا يجب طاعتهما ولا يجب أن يطلق زوجته، وقد جاء رجل إلى الإمام أحمد بن حنبل فقال: إن أبي يأمرني أن أطلق زوجتي؟ قال له الإمام أحمد: لا تطلقها، فقال الرجل: أليس الرسول صلى الله عليه وسلم قد أمر عبد الله بن عمر أن يطلق زوجته حين أمره عمر بذلك؟ فقال الإمام أحمد: وهل أبوك مثل عمر؟ وخلاصة الأمر أنه لا يجب على الإبن أن يطيع والدته فيما طلبت من ترك الزواج من الفتاة التي يريدها الإبن، لأن ذلك يعود بالضرر على الإبن ثم في زواج الإبن من تلك الفتاة الصالحة سعادة للإبن ولا يعود أي ضرر من ذلك على والدته. *****(15/84)
85 - حقوق الزوجين
راتب الزوجة,
تقول السائلة: إنها موظفة ومتزوجة وتعطي والدتها من راتبها دون علم زوجها فهل يجوز ذلك؟ وهل يجوز له أن يطالبها ببعض راتبها؟ الجواب: إن المرأة لها ذمة مالية مستقلة عن زوجها وراتبها حق لها فيجوز لها أن تتصرف به إذا كانت عاقلة رشيدة. فلها الحق أن تعطي والدتها ولا يشترط علم الزوج أو إذنه. كما أنه لا يجوز لزوجها أن يتصرف في مال زوجته دون رضاها وموافقتها ولكن ما دامت هذه الزوجة موظفة فإن خروجها من بيت الزوجية يكون على حساب بعض حق الزوج فله أن يشترط عليها أن تعطيه بعض راتبها إذا أبت ذلك ورفضت فله الحق في منعها من العمل والأولى من كل ذلك أن يتفاهم الزوجان على هذه القضية حتى لا يؤثر عملها في وظيفتها على زواجهما.(15/85)
86 - الطلاق
يقول السائل: حلف رجل على زوجته بالطلاق ثلاثاً إذا خرجت من بيته إلى بيت أهلها بدون إذنه ثم خرجت بدون إذنه وكانت الزوجة حاملاً وبقيت في بيت أهلها حتى ولدت فما الحكم في ذلك؟
الجواب: إن الحلف بالطلاق من البدع المنكرة المنتشرة في مجتمعنا مع الأسف الشديد فقد اعتاد كثير من الناس على الحلف بالطلاق معرضين رباط الحياة الزوجية للخطر ولقد اختلف أهل العلم في الحلف بالطلاق فهل يقع الطلاق أم لا؟ فقد ذهب جمهور الفقهاء بما فيهم الأئمة الأربعة في المعتمد عندهم إلى أن الحلف بالطلاق يعتبر طلاقاً وخالف في ذلك جماعة من الفقهاء فقالوا لا يقع الطلاق بالحلف بالطلاق ويعتبر ذلك من لغو الكلام ومن الفقهاء من يرى أن الحلف بالطلاق يعتبر يميناً وإذا وقع الحنث فيه فتلزم كفارة اليمين وقد اعتبر قانون الأحوال الشخصية المعمول به في المحاكم الشرعية أن الحلف بالطلاق لا يقع به طلاق إذا كان يقصد به الحمل على فعل شيء أو تركه وبناء على ما تقدم أقول: إذا كان الزوج عندما حلف بالطلاق كان يقصد منع الزوجة من الخروج إلى بيت أهلها فلا يقع الطلاق وإنما هو يمين فتلزمه كفارة اليمين لأنها حنثت بيمينه فعليه ان يكفر عن يمينه بإطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة فإن لم يجد يصوم ثلاثة أيام، أما إذا كان قاصداً الطلاق فعلاً قيقع الطلاق طلقة واحدة وإن حلف عليها بالطلاق ثلاثاً لأن طلاق الثلاث بلفظ واحد يقع طلقة واحدة وبالتالي تكون هذه الزوجة قد وقع عليها طلقة. وبما أنها انقضت عدتها بوضع حملها حيث أنه لم يراجعها قبل وضع الحمل فتكون طلقة بائنة بينونة صغرى وبذلك لا تحل له إلا بعقد جديد ومهر جديد.(15/86)
87 - الطلاق
طلب الزوجة الطلاق لعقم الزوج,
تقول السائلة: ثبت لدى الأطباء أن زوجها عقيم لا ينجب وقد مضى على زواجهما سنوات ولها رغبة شديدة في الأولاد فهل يحق لها أن تطلب الطلاق من زوجها؟ الجواب: يجوز للمرأة أن تطلب من زوجها أن يطلقها إن ثبت أنه عقيم لا ينجب وتم التأكد من ذلك وإذا رفض الزوج أن يطلقها فللمرأة أن ترفع الأمر إلى القاضي الذي يحكم بالتفريق بينهما وهذا أرجح أقوال الفقهاء في المسألة لأن العقم من العيوب التي لا تتم معه مقاصد الزواج على أوجه الكمال لأن المرأة لها الحق في الأولاد ولها رغبة أكيدة أن تكون أماً، فلذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لرجل تزوج وهو خصي: أأعلمتها أنك عقيم، قال: لا، قال: فانطلق فأعلمها ثم خيرها، رواه عبد الرزاق في المصنف ورجاله ثقات. فعمر رضي الله عنه جعل الخيار للمرأة فإن قبلت بعقم زوجها فبها ونعمت وإن لم تقبل فلها الحق في طلب الطلاق منه.
ومع كل ما تقدم للمرأة أن لا تتعجل في طلب الطلاق من زوجها الذي لا ينجب وعلى الزوج أن يسعى في العلاج وخاصة في هذا الزمان الذي تقدم فيه علم الطب كثيراً وخاصة فيما يتعلق بعلاج العقم. وحبذا لو رضيت هذه الزوجة بما قسم الله لها ورضيت بزوجها العقيم لأن لله حكمه في ذلك يقول الله تعالى: (لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) سورة الشورى 49-50، وإن لم تتقبل نفسها ذلك فلها الحق في طلب الطلاق كما أسلفت. *****(15/87)
88 - الحضانة
يقول السائل: هل تسقط حضانة الزوجة المطلقة للأولاد إذا كانت فاسقة؟
الجواب: لقد اشترط أكثر الفقهاء في الحاضنة أن تتصف بالعدالة الظاهرة والأمانة في الدين كما عبر فقهاء المالكية، وبناء على ذلك فإن فسق الحاضنة يسقط حقها في الحضانة فإذا كانت الزوجة المطلقة الحاضنة فاسقة بشرب الخمر ونحو ذلك فلا حضانة لها وينتزع المحضون منها وهذا القول قال به جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة وبه أخذ قانون الأحوال الشخصية المعمول به في المحاكم الشرعية في بلادنا فقد جاء في المادة 155 منه " يشترط في الحاضنة أن تكون بالغة عاقلة أمينة ... قادرة على تربيته وصيانته ". ومع قوة هذا القول ووجاهته إلا أنه لم يرد عليه دليل شرعي صريح وكذلك فإن اعتبار هذا الشرط يوقع الناس في الحرج لأن الفسق مما يغلب وجوده بين كثير من الناس وفي اعتبار هذا الشرط أيضاً إلحاق الضرر بالأولاد ولأن الفسق لا يحول بين الحاضنة وبين العناية بأمر الأولاد في الأعم الأغلب وهذا ما قرره العلامة ابن القيم والإمام الشوكاني. قال ابن القيم مفنداً قول من يشترط العدالة في الحاضنة: [ومن العجب أنهم يقولون لا حضانة للفاسق فأي فسق أكبر من الكفر وأين الضرر المتوقع من الفاسق بنشوء الطفل على طريقته إلى الضرر المتوقع من الكافر مع أن الصواب أنه لا تشترط العدالة في الحاضنة قطعاً وإن شرطها أصحاب أحمد والشافعي وغيرهم واشتراطها في غاية البعد ولو اشترط في الحاضنة العدالة لضاع أطفال العالم ولعظمت المشقة على الأمة واشتد العنت ولم يزل من حين ما قام الإسلام إلى أن تقوم الساعة أطفال الفساق بينهم لا يتعرض لهم أحد في الدنيا مع كونهم الأكثرين، ومتى وقع في الإسلام انتزاع الطفل من أبويه أحدهما بفسقه؟ وهذا في الحرج والعسر - واستمرار العمل المتصل في سائر الأمصار والأعصار على خلافه - بمنزلة اشتراط العدالة في ولاية النكاح فإنه دائم الوقوع في الأمصار والأعصار والقرى والبوادي مع أن أكثر الأولياء الذين يلون ذلك فساق ولم يزل الفسق في الناس ولم يمنع النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحد من الصحابة فاسقاً من تربية ابنه وحضانته له ولا من تزويجه موليته والعادة شاهدة بأن الرجل ولو كان من الفساق فإنه يحتاط لابنته ولا يضيعها ويحرص على الخير لها وإن قدر خلاف ذلك فهو قليل بالنسبة إلى المعتاد والشارع يكتفي في ذلك بالباعث الطبيعي ولو كان الفاق مسلوب الحضانة وولاية النكاح لكان بيان هذا للأمة من أهم الأمور واعتناء الأمة بنقله وتوارث العمل به مقدماً على كثير مما نقلوه وتوارثوا العمل به فكيف يجوز عليهم تضييعه واتصال العلم بخلافه ولو كان الفسق ينافي الحضانة لكان من زنى أو شرب الخمر أو أتى كبيرة فرق بينه وبين أولاده الصغار والتمس لهم غيره والله أعلم] . زاد المعاد 5/461. وقال الشوكاني: [ليس على هذا دليل - اعتبار العدالة - فإن العدالة معتبرة فيما اعتبره الشرع لا في كل أمر من الأمور واعتبارها في هذا الموضوع حرج عظيم وتعسير شديد فإن غالب النساء التساهل في كثير من الأمور الدينية ولو كانت العدالة معتبرة فيهن ومسوغة لنزع أولادهن من أيديهن لم يبق صبي بيد أمه إلا في أندر الأحوال وأقلها فيكون في ذلك أعظم جناية على الصبيان بنزعهم ممن يرعى مصالحهم ويدفع مفاسدهم، وجناية على الأم بتوليها بولدها والتفريق بينها وبينه ومخالفة لما عليه أهل الإسلام سابقهم ولاحقهم] السيل الجرار 2/439. ويرى بعض فقهاء الحنفية أن مطلق الفسق لا يسقط الحضانة وإنما الفسق الذي يؤدي إلى إلحاق الضرر بالأولاد هو المسقط لها فقد ورد في حاشية ابن عابدين ما يلي: [قال في البحر - من كتب الحنفية - وينبغي أن يكون المراد بالفسق في كلامهم هنا الزنى المقتضي لإشغال الأم عن الولد بالخروج من المنزل ونحوه لا مطلقة الصادق بترك الصلاة لما سيأتي أن الذمية أحق بولدها المسلم ما لم يعقل الأديان فالفاسقة المسلمة أولى ... والحاصل أن الحاضنة إذا كانت فاسقة فسقاً يلزم منه ضياع الولد عندها يسقط حقها وإلا فهي أحق به إلى أن يعقل فينزع منها كالكتابية] حاشية ابن عابدين 5/556. *****(15/88)
89 - الطلاق
كراهية الزوج مسوغ لطلب الطلاق ,
هل يجوز للزوجة التي تكره زوجها أن تطالبه بالطلاق وإذا رفض زوجها تطليقها إلا إذا دفعت له مبلغاً من المال هل ما يأخذه من المال حلال له؟ الجواب: الأصل في الزواج أن يكون عن توافق وتراض وإذا وقعت كراهية بين الزوجين أو كرهت الزوجة زوجها فإنه يجوز لها أن تطالب زوجها بطلاقها بدون سبب مشروع لما ورد في الحديث عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير بأس فحرام عليها رائحة الجنة) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة والحاكم وقال الترمذي حديث حسن وقال الحاكم صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي. وأما إن كان هنالك سبب مشروع لطلبها الطلاق فلا بأس بذلك ومن الأسباب التي تجيز ذلك إذا وقع الشقاق والتنازع بين الزوجين وتعذرت سبل الإصلاح أو كرهت الزوجة زوجها وتعذر عيشهما سوية لأسباب خلقية أو دينية أو صحية ونحو ذلك. ويدل على جواز مطالبة المرأة لزوجها أن يطلقها مقابل مال تدفعه إليه هو ما يسمى عند الفقهاء بالخلع، قوله تعالى: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّاءَاتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) سورة البقرة آية 229. ويدل على ذلك أيضاً ما ورد في الحديث الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن امرأة ثابت بن قيس جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إني ما أعيب عليه في خلق ولا دين ولكني أكره الكفر في الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: 0 أتردين عليه حديقته؟ قالت: نعم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إقبل الحديقة وطلقها تطليقة) رواه البخاري. وينبغي على الرجل إذا طالبته امرأته أن يطلقها مقابل مال أن يقبل ذلك ويطلقها ولا ينبغي له إمساكها على خلاف رغبتها فليس من المروءة أن يعيش رجل مع امرأة وهي له كارهة. وما يأخذه الرجل من مال أو منافع مقابل تطليقه لزوجته حلال له ولا بأس به ويدل على ذلك قوله تعالى: (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا) سورة النساء آية 4. ويدل على ذلك أيضاً ما ورد في الحديث المتقدم من قول النبي صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس (اقبل الحديثة وطلقها تطليقة) . وأما مقدار المال الذي يأخذه الزوج في المخالعة فاختلف فيه الفقهاء فمنهم من يرى أنه لا يجوز للزوج أن يأخذ من زوجته أكثر مما أعطاها مهراً ومنهم من يرى جوز الزيادة على ذلك. ولكني أرى الرأي الأول هو الأصح فلا يأخذ الزوج أكثر مما دفع لها في المهر. ويؤيد ذلك ما ورد في إحدى الروايات لحديث ابن عباس المتقدم في قصة مخالعة ثابت بن قيس وزوجته: (فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يأخذ منها حديقته ولا يزداد) رواه ابن ماجة وهو حديث صحيح كما قال الشيخ الألباني وفي رواية أخرى (ففرق بينهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: خذ ما أعطيتها ولا تزدد) رواه البيهقي وله شواهد تقويه. وفي رواية أخرى: (أتردين عليه حديقته؟ ثم قالت: نعم وزيادة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما الزيادة فلا) رواه الدارقطني وقال إسناده صحيح. وورد عن علي رضي الله عنه أنه قال: (لا يأخذ منها فوق ما أعطاها) رواه عبد الرزاق في المصنف , وقال الزهري: [لا يحل له أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها] . وقال ميمون بن مهران: [إن أخذ منها أكثر مما أعطاها لم يسرح بإحسان] . *****(15/89)
90 - الطلاق
يقول السائل: ذهب أحد الأشخاص المتزوجين إلى القاضي وأعلن أنه طلق زوجته وحصل على ورقة تثبت ذلك الطلاق ويقول هذا الشخص أنه لم ينو طلاق زوجته ولكن طلاقه طلاق صوري من أجل أن يحصل على ورقة تثبت الطلاق لتقوم زوجته بتقديم تلك الورقة إلى مؤسسة التأمين أو الشؤون الإجتماعية للحصول على راتب شهري لها ولأولادها بحجة أنها مطلقة وهذان الزوجان يستمران في الحياة بشكل طبيعي فما الحكم في ذلك؟
الجواب: إن رابطة الزوجية رابطة وثيقة مقدسة ومحترمة ولا يجوز شرعاً التلاعب بها مهما كانت الغاية من ذلك وإن مما يؤسف له أن كثيراً من الأزواج لا يقدرون هذه الرابطة حق تقديرها وصاروا يتلاعبون بألفاظ الطلاق لغايات وأهداف دنيوية فاسدة فهذا يتزوج زواجاً صورياً كما يدعي ليحصل على هوية وذاك يطلق طلاقاً صورياً كما يدّعي للحصول على أموال أو لأجل أن يتزوج ثانية لأن القانون لا يجيز التعدد. وهكذا صرنا نسمع عن حالات فيها تلاعب واضح بالنكاح والطلاق ويجب أن يعلم أولاً أنه لا يجوز ذلك مهما كانت المسوغات التي يظن كثير من الناس أنها تجيز لهم ذلك التلاعب بحجة أن نيتهم عدم الطلاق وإنما يريدون التحايل على القانون فقط. ويدل على ذلك ما ورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث جدهن جد وهزلهن جد الطلاق والنكاح والرجعة) . رواه ابو داود والترمذي وابن ماجة وهو حديث حسن وقد ورد عن الحسن البصري رحمه الله أنه قال: [كان الرجل في الجاهلية يطلق فيقول كنت لاعباً ويعتق ثم يراجع ويقول كنت لاعباً فأنزل الله: (وَلَا تَتَّخِذُواءَايَاتِ اللَّهِ هُزُوًا) . فقال صلى الله عليه وسلم: (ثلاث جدهن جد ... الخ الحديث) ابطالاً لأمر الجاهلية] . رواه ابن أبي شيبة في المصنف وهو مرسل صحيح الإسناد إلى الحسن وروى مالك في الموطأ عن سعيد بن المسيب قال: [ثلاث ليس فيهن لعب النكاح والطلاق والعتق] . وروى الحسن عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: [ثلاث لا يلعب بهن النكاح والطلاق والعتاق] رواه ابن أبي شيبة في المصنف وإسناده صحيح إلى الحسن كما قال الشيخ الألباني. وبناء على ما تقدم لا يجوز التلاعب بالطلاق مهما كانت المغريات تدفع لذلك. فإذا ذهب الزوج إلى القاضي وأعلن أمام القاضي أنه طلق زوجته فإن الطلاق يقع وتحسب عليه طلقة وإن كان لا يقصد ذلك وإنما قصده الحصول على ورقة تثبت أنه طلق زوجته لتقدمها الزوجة لى مؤسسات التأمين أو الشؤون الإجتماعية للحصول على راتب لها ولأولادها بحجة انها مطلقة مع استمرار الزوجين في حياتهما الزوجية فإنه إذا حصل ذلك وكان الطلاق بائناً فإن الزوجين يتعاشران بالحرام. وعلى من فعل ذلك أن يجدد عقد الزواج وأن يتوب إلى الله توبة صادقة ويندم على ما فات. *****(15/90)
91 - النكاح
الزواج الصوري ,
يقول السائل: ما الحكم فيمن يعقد عقد زواج صوري من أجل تحقيق غرض معين ريثما يحقق غرضه ثم يطلقها أو العقد على فتاة لمدة محدودة؟ الجواب: إن موضوع الزواج من الأمور المهمة في حياة الناس ولا يجوز أن تكون عقود الزواج عرضة للتلاعب فيها لما يتريب على ذلك من أضرار بغض النظر عن الغاية من وراء ذلك، فمثلاً إذا عقد رجل على امرأة عقداً صورياً من أجل الحصول على هوية أو جمع شمل أو الحصول على مال أو نحو ذلك، فهذا لا يجوز وهو من الأمور المحرمة شرعاً ويجب أن يعلم أن الإسلام قد قرر أن الغاية لا تبرر الوسيلة بل الواجب أن تكون الغاية شريفة نبيلة مشروعة والوسيلة المؤدية إليها كذلك هذا بالنسبة للشطر الأول من السؤال. وأما الشطر الثاني المتعلق بالزواج لمدة محدودة ثم يطلقها بعد أن يحقق غرضه؟ الجواب: إن فقهاء الإسلام قرروا أن الأصل في عقد الزواج التأبيد لذلك قالوا إن العقد الذي ينص فيه على مدة معينة كسنة او سنتين يكون باطلاً، وذلك لأن المقصود بعقود الزواج تحقيق العشرة الدائمة وإنجاب الأولاد وتربيتهم وغير ذلك ولم يشرع الزواج لتحقيق متعة عابرة أو تحقيق غرض معين كمن يذهبون إلى أمريكا مثلاً فيتزوج امراة من أجل الحصول على الجنسية أو نحوها فهذا أمر غير مشروع. *****(15/91)
92 - الميراث
ميراث الزوجة من زوجها المتوفى قبل الدخول ,
يقول السائل: عقد شخص على امرأة ثم توفي الزوج قبل الدخول فما هو حقها في المهر وهل ترث منه؟ الجواب: اتفق العلماء أنه إذا مات أحد الزوجين فيجب المهر كاملاً ولو كان ذلك قبل الدخول ما دام أن المهر قد سمي في العقد. قال ابن رشد رحمه الله: [واتفق العلماء على أن الصداق يجب كله بالدخول أو الموت] بداية المجتهد 6/409. وقال بعض أهل العلم: [إن المهر صار واجباً بالعقد والعقد لم ينفسخ بالموت بل انتهى نهايته لأنه عقد للعمر فتنتهي نهايته عند انتهاء العمر وإذا انتهى يتأكد فيما مضى ويتقرر بجميع ما يستوجبه ولأن كل المهر لما وجب بنفس العقد صار ديناً في ذمة الزوج، والموت لا يكون مسقطاً للدين فلا يسقط شيء من المهر بالموت] المفصل في أحكام المرأة 7/90. وقد أخذ قانون الأحوال الشخصية المعمول به في المحاكم الشرعية بما اتفق عليه الفقهاء ونص على أن الموت سبب لوجوب كامل المهر كم أشارت إلى ذلك المادة 48 من القانون المذكور ويدل على ذلك ما ورد في الحديث عن علقمة قال: (أتي عبد الله يعني ابن مسعود - في امرأة تزوجها رجل ثم مات عنها ولم يفرض لها صداقاً ولم يكن دخل بها قال: فاختلفوا إليه فقال: أرى لها مثل مهر نسائها ولها الميراث وعليها العدة فشهد معقل بن سنان الأشجعي أن الرسول قضى في بروع بنت واشق بمثل ما قضى) وهو حديث صحيح. وأما بالنسبة لميراث الزوجة من زوجها المتوفى قبل الدخول بها فلا شك أن الزوجة ترث من زوجها سواء توفي قبل الدخول أو بعده وقد قررت الشريعة الإسلامية أن من أسباب الإرث الزوجية فقد قال الله سبحانه وتعالى: (وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ ... ) سورة النساء آية 12.
ولا شك أن كلمة أزواجكم تشمل ما كان بعد الدخول وقبل الدخول والزوجة تكون زوجة بمجرد العقد الصحيح فإذا كان العقد صحيحاً صارت زوجة ولها حق الإرث والآية واضحة الدلالة على مشروعية الإرث بالنكاح سواء حصل فيه دخول أو لم يحصل وقد قضى الني صلى الله عليه وسلم لبروع بنت واشق بالميراث وكان زوجها قد مات عنها قبل أن يدخل بها كما سبق في الحديث. *****(15/92)
93 - المهر
المهر المؤجل بعد وفاة الزوجة ,
يقول السائل: ما حكم المهر المؤجل إذا ماتت الزوجة؟ الجواب: إن المهر حق من حقوق الزوجة الواجبة على زوجها يقول الله تعالى: (وَءَاتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً) . وقد اتفق العلماء على أنه يجوز التعجيل والتأجيل في المهر المسمى في عقد الزواج فيصح أن يكون بعض المهر معجلاً وبعضه مؤجلاً على حسب ما يتم عليه الاتفاق عند عقد الزواج وسواء كان المهر معجلاً أو مؤجلاً فهو حق ثابت للزوجة ودين واجب لها في ذمة الزوج. ومن المعلوم أن العرف في بلادنا جرى على أن يكون جزء من المهر مؤجلاً تأجيلاً مطلقاً وفي هذه الحالة يجب المهر المؤجل للمرأة في حالتين وهما: الطلاق والوفاة فإذا طلق الزوج امرأته وجب لها المؤجل من مهرها وكذا إذا مات زوجها وجب لها المهر المؤجل ويخرج من التركة قبل توزيعها على الورثة. وكذلك إذا ماتت الزوجة ولها مهر مؤجل في ذمة زوجها فيكون مهرها المؤجل من ضمن تركتها ويوزع على الورثة بقدر نصيب كل منهم. وقد نصت المادة " 46 " من قانون الأحوال الشخصية المعمول به في المحاكم الشرعية عندنا على ذلك ( ... وإذا لم يكن الأجل معيناً اعتبر المهر مؤجلاً إلى وقوع الطلاق أو وفاة أحد الزوجين) . *****(15/93)
94 - حقوق الزوجين
اشتراط الزوجة الثانية طلاق الأولى ,
يقول السائل: رجل متزوج ورغب أن يتزوج بثانية فاشترطت عليه أن يطلق الأولى فما حكم ذلك؟ الجواب: لا يجوز شرعاً للمرأة أن تقرن موافقتها على الزواج بشرط أن يطلق الرجل زوجته الأولى وإن حصل ذلك فالشرط باطل ويدل على ذلك ما ورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل لمرأة تسأل طلاق أختها لتستفرغ صحفتها فإنما لها ما قدر لها) رواه البخاري مسلم. وفي رواية أخرى صحيحة: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تشترط المرأة طلاق أختها) . وفي رواية ثالثة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يخطب الرجل على خطبة أخيه أو يبيع على بيعه ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكتفي ما في صحفتها أو إنائها فإنما رزقها على الله تعالى) رواه البخاري ومسلم. وظاهر هذه الأحاديث تحريم اشتراط المرأة زواجها بطلاق زوجها للزوجة الأولى والمراد بأختها في الحديث الضرة فلا يجوز للمرأة أن تسأل زوجها أن يطلق ضرتها لتنفرد به وحدها. *****(15/94)
95 - النكاح
الزواج أولى من الدراسة ,
تقول السائلة: إنها طالبة جامعية وتقدم لخطبتها شاب ترضاه لنفسها فأيهما أولى مواصلة الدراسة
أم الزواج؟ الجواب: أن الأولى في حق هذه الفتاة أن تتزوج فإن الزواج مقدم على التعليم والزواج قد يفوت والتعليم يمكن استدراكه وقد حث الإسلام على تزويج الفتاة إذا تقدم لها خطاب كفؤ. فقد ورد في الحديث قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) رواه الترمذي وهو حديث حسن. وقد روي في حديث آخر أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (يا علي ثلاث لا تؤخرها: الصلاة إذا أتت والجنازة إذا حضرت والأيم إذا وجدت كفؤاً) رواه الترمذي وقال حسن غريب. والأيم: هي المرأة التي لا زوج لها. وبهذا يظهر أن الزواج مقدم على الدراسة والتعلم وهو الأصلح للمراة خاصة في هذا الزمان الذي كثر فيه الفساد في مجال التعليم وغيره من مجالات الحياة. والزواج فيه محافظة على المرأة وانسجام مع طبيعتها ووظيفتها الأساسية وقد يكون الاستمرار في التعلم سبباً من أسباب عدم الزواج وخاصة إذا واصلت المرأة تعليمها إلى مراحل عليا لأنها حينئذ تتقدم بها السن وتقل الرغبة في الزواج منها فالأفضل لهذه الفتاة أن تتزوج. *****(15/95)
96 - النكاح
زواج البنت الصغرى قبل البنت الكبرى ,
تقول السائلة: إن لها أخوات أكبر منها سناً وتقدّم شاب لخطبتها فرفض والدها أن يزوجها حتى تتزوج أخواتها الأكبر منها سناً فما الحكم في ذلك؟ الجواب: إن من العادات السيئة المنتشرة في مجتمعنا امتناع الأب عن تزويج البنت الصغرى قبل البنت الكبرى وقد يؤدي هذا التصرف الخاطئ إلى عدم زواج الإثنتين وهذا فيه مفاسد كبيرة، والأصل في هذه المسألة ما جاء في الحديث عن أبي حاتم المزني أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: - (إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه، وإن لا تفعلوا تكن فتنة وفساد كبير، قالوا: يا رسول الله وإن كان فيه؟ قال: إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه ... ثلاث مرات) رواه الترمذي وقال حديث غريب وحسنه الشيخ الألباني لشواهده. فلا ينبغي لهذا الأب وأمثاله منع زواج الصغيرة قبل الكبيرة لأن البنت الصغيرة قد ساق الله إليها زوجاً والكبيرة يرزقها الله زوجاً إن شاء والأمور كلها بيد الله، ولعل زواج الصغيرة يكون فاتحة خير وسبباً لزواج الكبيرة والبنتان أمانة بيد الأب فعليه أن يحسن القيام على هذه الأمانة فطالما تقدم لبنته الصغيرة الإنسان الكفؤ صاحب الخلق والدين فلا ينبغي له أن يمتنع عن تزويجها. *****(15/96)
97 - الاختلاط
تقول السائلة: هل يجوز للطالبة الجامعية الاشتراك في رحلة مختلطة مع الطلاب؟
الجواب: لا يجوز للطالبة أو للطالب المشاركة في رحلة مختلطة بل ذلك من المحرمات ويدل على ذلك أمور منها: قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تسافر المراة إلا مع ذي محرم ولا يدخل عليها رجل إلا ومعه محرم) رواه البخاري. ومنها أن الرحلات المختلطة فيها من المفاسد الشيء الكثير ونظراً لما تنطوي عليه مثل هذه الرحلات من الفتنة فلا يجوز للآباء أن يسمحوا لبناتهم أو لأبنائهم بالمشاركة فيها لأن الرحلات المختلطة بؤرة من بؤر الفساد التي تؤدي إلى أمور لا تُحمد عقباها فيحرم الاشتراك فيها. *****(15/97)
98 - مصافحة المرأة الأجنبية حرام شرعا
تقبيل النساء لقريبهن الغائب ,
تقول السائلة: جرت العادة عندنا أن يستقبل الرجل الغائب بالتقبيل فما حكم تقبيل النساء القريبات لقريبهن؟ الجواب: يحرم على الرجل أن يقبل غير زوجته ومحارمه وكذلك المرأة يحرم عليها تقبيل غير زوجها ومحارمها فتبادل القبلات عند قدوم المسافر أو غير ذلك من المناسبات بين الرجل وقريباته من النساء أو العكس كله محرم ما عدا المحارم منهن فيجوز للرجل أن يقبل ابنته وأخته وعمته وخالته وغيرهن من المحارم وكذلك يجوز للمرأة أن تقبل اباها وأخاها وخالها وعمها وغيرهم من المحارم ويدل على ذلك ما ورد في الحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما رأيت أحداً كان أشبه كلاماً وحديثاً من فاطمة برسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت إذا دخلت عليه رحّب بها وقام إليها فقبلها وأجلسها في مجلسه، وكان إذا دخل عليها رحّبت به وقامت فأخذت بيده وقبلته) رواه أبو داود والترمذي والبيهقي وهو حديث صحيح كما قال الشيبخ الألباني وورد: (أن أبا بكر قبل ابنته عائشة على خدها) رواه البخاري. ويشترط لجواز التقبيل بين المحارم أن يكون ذلك بغير شهوة بحيث يأمن الشهوة على نفسه وعليها وأن تكون القبلة على الخد أو على الرأس ولا ينبغي التقبيل على الفم لأنه يؤدي إلى تحريك الشهوة فينبغي تركه احتياطاً. وأما إذا قبل إحدى محارم مع الشهوة فهو حرام. *****(15/98)
99 - الخلوة
تقول السائلة: ما هو الحكم في جلوس الطالبة مع مدرسها في مكتب لوحدهما بحجة السؤال عن المادة التي يدرسها؟
الجواب: إن جلوس الطالبة مع الأستاذ كما يحصل في كثير من الجامعات في مكتبه على انفراد ومع إغلاق الباب عليهما هو خلوة محرمة ولقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يخلون رجل بامرأة إلا مع ذي محرم) رواه البخاري ولا يجوز لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يخلون رجل بامرأة إلا ثالثهما الشيطان) رواه الترمذي وقال حسن صحيح ورواه أحمد والحاكم وصححه. فعلى الطالبة إذا أرادت الاستفسار من أستاذها في مكتبه أن تصحب زميلة لها حتى تنتفي الشبهة وقطعاً لدابر الشيطان ودفعاً للشبهات. *****(15/99)
100 - تدريب رجل للفتيات
يقول السائل: هل يجوز لرجل مدرب للكراتيه أن يدرب فتيات على هذه الرياضة في صالة مغلقة؟
الجواب: إن الإسلام حافظ على المرأة محافظة تامة ومن محافظته عليها أن جعل لها مجالات خاصة في عملها وشؤونها تتناسب مع طبيعة المرأة وأمر المرأة في الإسلام قائم على الستر والمحافظة ولا شك أن تدريب الرجل للنساء في لعبة الكراتيه يتنافى مع وضع المرأة في الشرع وهو أمر محرم لا يجوز لما يترتب على ذلك من انتهاك للحرمات، فهذا يقتضي أن تظهر المرأة أمام الرجل الأجنبي عنها بملابس غير شرعية وكذلك فإنه يقتضي أن تقوم المرأة بحركات رياضية وغير ذلك من المفاسد الكثيرة. وهذا من جانب ومن جانب آخر فما هي حاجة الفتيات لرياضة الكراتيه والكراتيه رياضة فيها شدة وخشونة وكل ذلك لا يتناسب مع طبيعة المرأة وفطرتها التي فطرها الله عليها.
وخلاصة الأمر أنه يحرم على الرجل أن يقوم بتدريب الفتيات على الكراتيه أو غيرها من الألعاب ولو كان ذلك في صالة مغلقة. *****(15/100)
101 - ذهاب المرأة إلى نوادي اللياقة البدنية
يقول السائل: هل يجوز للمرأة أن تذهب إلى المسابح ونوادي اللياقة البدنية لتسبح ولتخفف من وزنها حتى تكون رشيقة الجسم؟
الجواب: يحرم على المرأة المسلمة أن ترتاد المسابح ونوادي اللياقة البدنية لتسبح أو لتقوم بتمارين رياضية لتخفيف وزنها أو ما شابه ذلك لما يترتب على ذلك من تهتك وتبذل سواء كانت هذه الأماكن عامة يدخلها الرجال والنساء على حد سواء أو كانت خاصة بالنساء ودليل ذلك ما ورد من الأحاديث التي تمنع المرأة المسلمة أن تخلع ثيابها في غير بيت زوجها ومنها: عن أبي المليح الهذلي أن نساء من أهل حمص أو من أهل الشام دخلن على عائشة رضي الله عنها فقالت: أنتن اللاتي يدخلن نسائكن الحمامات؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من امرأة تضع ثيابها في غير بيت زوجها إلا هتكت الستر بينها وبين ربها) رواه الترمذي وقال حديث حسن ورواه أبو داود وابن ماجة والحاكم وقال صحيح على شرطهما وقال الشيخ الألباني صحيح انظر صحيح الترغيب والترهيب ص 71. وفي حديث آخر عن أم سلمة قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أيما امراة نزعت ثيابها في غير بيتها خرق الله عنها ستره) رواه أحمد وأبو يعلي والطبراني وقال الشيخ الألباني: حديث حسن. صحيح الترغيب والترهيب ص72. وعن أم الدرداء قالت: (خرجت من الحمام فلقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من أين يا أم الدرداء؟ قالت: من الحمام. قال: والذي نفسي بيده ما من امرأة تضع ثيابها في غير بيت من بيوت أمهاتها وإلا وهي هاتكة كل ستر بينها وبين الرحمن) رواه أحمد بإسناد صحيح. وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل حليلته الحمام ... ) رواه الحاكم وقال صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي. والمراد بالحمام في هذه الأحاديث هو الحمام الذي يكون خارج المنزل كالحمامات العامة التي كانت معروفة في المدن في فترات سابقة. وقال صاحب عون المعبود: [إلا هتكت الستر وحجاب الحياء وجلباب الأدب ومعنى التهتك خرق الستر عما وراءه ما بينها وبين الله تعالى لأنها مأمورة بالتستر والتحفظ من أن يراها أجنبي حتى لا ينبغي لهن أن يكشفن عورتهن في الخلوة إلا عند أزواجهن فإذا كشفت أعضاءها في الحمام في غير ضررة فقد هتكت الستر الذي أمرها الله تعالى به] عون المعبود 11/32.
ولا يقولن قائل إن هذه الأحاديث قد وردت في الحمام فقط ولا دليل فيها على المسابح أو نوادي اللياقة لأننا نقول إن المسابح ونوادي اللياقة البدنية في معنى الحمامات العامة بل قد تكون أولى بالحكم من الحمام. ومن جانب آخر فإن التحريم في هذه المسألة له جانب آخر وهو سد الذرائع فإن الشريعة الإسلامية تسعى دائماً إلى سد الطرق المفضية إلى الفساد والإفساد والحرام كما قال الله تعالى: (وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ) فالله سبحانه وتعالى حرم سب آلهة المشركين لكونه ذريعة إلى سب الله تعالى وكذلك نقول هنا: إن ذهاب النساء إلى المسابح ونوادي اللياقة البدنية لو سلمنا أنه جائز لمنعنا منه لأنه يفضي إلى الفساد. *****(15/101)
102 - المحارم
تقول السائلة: من هو المحرم وهل تكون البنت الصغيرة محرماً؟
الجواب: اختلف العلماء في تحديد من هو المحرم بناء على اختلاف فهمهم للأحاديث التي ورد فيها المحرم ومنها: 1. عن ابن عمر أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (لا تسافر المرأة ثلاثاً إلا ومعها ذو محرم) رواه مسلم وبمعناه وردت أحاديث كثيرة. 2. عن أبي سعيد أنه سمع الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تسافر المرأة يومين من الدهر إلا ومعها ذو محرم منها أو زوجها) رواه مسلم. 3. وعنه أيضاً أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (لا يحل لإمرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفراً يكون ثلاثة أيام فصاعداً إلا ومعها أبوها أو ابنها أو زوجها أو ذو محرم منها) رواه مسلم. فمن العلماء من يرى أن ضابط المحرم هم من يحرم عليه نكاح المرأة على التأبيد لذلك لا يعد زوج الأخت محرماً قاله الحافظ ابن حجر في فتح الباري 4/448. ومنهم من يرى أن ضابط المحرم أعم من ذلك فالمحرم هو الرجل الذي تحرم عليه المرأة بنسب كأبيها وأخيها أو سبب مباح كالزوج وأبي الزوج وابن الزوج وكالإبن من الرضاع والأخ من الرضاع ونحوهما. ورى الإمام الشوكاني أن الزوج يدخل في مسمى المحرم أو أنه يقوم مقامه أخذاً بقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم فقام رجل فقال: يا رسول الله إن امرأتي خرجت حاجّة وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا قال: - انطلق فحج مع امرأتك) رواه البخاري ومسلم. ويرى الحنابلة أن المحرم الذي يشترط للسفر مع المرأة للحج يشمل زوجها وأبو زوجها ودخول الزوج في مفهوم المحرم مع كونه يحل لها وتحل له لحصول المقصود بسفره معها وهو حفظها وصيانتها ويؤيد ذلك ظاهر النصوص التي ذكرت بعضها سابقاً.
وعلى كل حال فإن المرأة لا تكون محرماً للمرأة وإنما المحرم هو الرجل فقط. *****(15/102)
103 - المحارم
زوج الأخت ليس محرماً ,
هل يعتبر زوج الأخت محرماً للمراة في سفرها للحج؟ الجواب: إن زوج الأخت لا يعتبر محرماً للمرأة في سفرها للحج أو لغيره وزوج الأخت يعتبر أجنبياً عن المرأة لا يجوز لها أن تتكشف أمامه. ولا يجوز أن يخلو بها ولا يثبت له من الأحكام التي تثبت للمحارم وكونها محرمة عليه من حيث الزواج لا يعني سوى ذلك. وتلك الحرمة حرمة مؤقتة فإذا ماتت زوجته أو طلقها فيجوز له أن يتزوج أختها. والمرأة لا تجد محرماً للحج فلا يجب عليها الحج لأن من ضمن الاستطاعة في حق المرأة أن يكون للمرأة محرم فإن لم يوجد فلا يجب عليها الحج. ولا بأس من التذكير بمحارم المرأة وهم: 1. الآباء والأجداد سواء من جهة الأب أو من جهة الأم. 2. الأبناء وأبناء الأبناء وأبناء البنات. 3. الأخوة مطلقاً. 4. الأعمام ويدخل في ذلك عم الأب وعم الأم. 5. الأخوال ويدخل في ذلك خال الأب وخال الأم. 6. أبناء الإخوة وأبناء أبنائهم وأبناء بناتهم. 7. أبناء الأخوات وأبناء أبنائهم وأبناء بناتهن. المحارم من المصاهرة: 1. أبناء زوج المرأة وأبناء أبنائه وأبناء بناته. 2. أبناء زوج المرأة وأجداده من جهة الأب ومن جهة الأم. 3. أزواج بنات المرأة وأزواج بنات أبنائها وأزواج بنات بناتها. *****(15/103)
104 - المحارم
ما يجوز للمحرم رؤيته ,
يقول السائل: ماذا يجوز للمحارم أن يروا من المرأة؟ الجواب: يقول الله تعالى: (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْءَابَائِهِنَّ أَوْءَابَاءِ بُعُولَتِهِنَّ ... ) سورة النور آية 31. وقد اختلف أهل العلم في تفسير قوله تعالى: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْءَابَائِهِنَّ أَوْءَابَاءِ بُعُولَتِهِنَّ ... ) على أقوال كثيرة أرجحها: أنه يجوز للمحارم أن ينظروا من المرأة إلى مواضع الزينة وإلى ما يظهر غالباً عند الخدمة كالرأس والشعر والعنق والخد والساعد والكف والساق والركبة وهذه الأعضاء يجوز النظر إليها إذا كان النظر بدون شهوة وأما مع النظر بشهوة فيحرم النظر من المحارم. *****(15/104)
105 - مسائل طبية
يقول السائل: ما حكم استعمال الأدوية التي تقلل الوزن؟
الجواب: لا مانع من استعمال الأدوية التي تقلل الوزن وتخفف السمنة بشرط ألا يلحق الإنسان بنفسه ضرر نتيجة استعمال هذه الأدوية وكذلك يشترط أن يكون الدواء مما يجوز استعماله شرعاً. وقد حثّ الإسلام على تقليل الطعام وعلى عدم الإفراط في تناول الأطعمة وغالباً ما تكون السمنة ناتجة عن الإكثار من الأطعمة فقد جاء في الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (ما ملأ آدمي وعاءً شراً من بطنه بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه فإن كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه) رواه أحمد والترمذي والنسائي والحاكم وقال الألباني: صحيح. وورد في الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً عظيم البطن فقال بإصبعه لو كان هذا في غير هذا لكان خيراً لك) رواه أحمد والطبراني بإسناد جيد وقال الهيثمي رجاله رجل الصحيح. وقال الشيخ الساعاتي: [لو كان العظم في غير البطن من أعضائه ... كان خيراً لأن عظم البطن يثقل الرجل ويضره ولا يفيده لأنه ينشأ عن كثرة الأكل وكثرة الأكل مذمومة فكأنه صلى الله عليه وسلم يحثه على التقليل من الأكل والشرب لأنه أصح للبدن) الفتح الرباني 17/218. *****(15/105)
106 - الحمل والإجهاض
يقول السائل: ما هو موقف الإسلام من تنظيم النسل وتحديده؟
الجواب: إن الإسلام قد اعتنى بالنسل والمحافظة عليه بل إن المحافظة عليه من مقاصد الشريعة الإسلامية وقد ورد في ذلك كثير من النصوص الشرعية منها: 1. يقول الله سبحانه وتعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ) سورة الرعد آية 38. 2. ويقول سبحانه وتعالى: (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ) سورة البقرة آية 187. 3. وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فليصم فإنه له وجاء) رواه مسلم. 4. وقال أيضاً: (تناكحوا تناسلوا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة) رواه ابن ماجة وغير ذلك من الأحاديث. ولا شك أن بقاء النوع الإنساني من أهم أغراض الزواج وبقاء النوع الإنساني إنما يكون بدوام التناسل فلذلك حث الإسلام على الزواج وعلى التناسل وبارك الأولاد ذكوراً وإناثاً. وقد ظهرت دعوات كثيرة لتنظيم النسل أو تحديده أو قطعه كلياً في كثير من البلدان وأعدت لذلك برامج كثيرة وأنفقت أموال طائلة واستغلت وسائل الإعلام لذلك وقامت بعض الدول بتنظيم الحملات المتعلقة بذلك من أجل تحديد النسل وتقليله وما يجري في مصر خير مثال على ذلك. ولقد قرر الفقهاء المعاصرون أن تنظيم النسل بالنسبة للأمة محرم ولا يجوز إذا تبنته الدولة وفرضته على الناس بشكل إجباري وأما إذا كان تنظيم النسل باختيار الزوجين فيجوز ذلك متى كان لهما ما يبرره ويسوغه. ويجب أن يعلم أن هنالك فرقاً واضحاً بين تنظيم النسل وبين وتحديد النسل فتنظيم النسل عبارة عن تنظيم عملية الإنجاب باتباع وسائل معينة بحيث تكون هنالك مدة بين كل مولود وآخر. وأما تحديد النسل فهو الوقوف بالنسل عند حد معين باستعمال وسائل وقائية أو علاجية لقطع النسل كأن تنجب الزوجة ولداً واحداً فقط أو اثنين. وتنظيم النسل جائز إذا توفرت الدواعي لذلك كما سأبينها بعد قليل وأما تحديد النسل فهو محرم ولا يجوز شرعاً لما يلي: أولاً: لأن الوقوف بالنسل عند حد معين يؤدي إلى كف أجهزة النسل في الإنسان عن أدائها لوظائفها وإن تعاطي الوسائل التي تؤدي إلى قطع النسل كالإختصاء أو استئصال الرحم ونحوه من الوسائل يعد تغييراً لخلق الله. ثانياً: إن تحديد النسل فيه معارضة صريحة لقوانين الفطرة ووظائفها كما أن تحديد النسل خشية الفقر فيه مساس بالعقيدة الإسلامية ومعارضة صريحة لآيات الله البينات. فالإسلام جعل للولد حق الحياة ولا يجوز لأبيه وأمه أن يتعديا على حياته بالقتل أو الوأد كما كان يصنع الجاهليون الذين قال الله فيهم: (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ) سورة الأنعام آية 140. وقال تعالى: (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا) سورة الإسراء آية 31. ثالثاً: إن تحديد النسل فيه معارضة للنصوص الشرعية الداعية إلى الإكثار من النسل وقد سبق ذكر بعضها. رابعاً: إن تحديد النسل يعارض أمراً ضرورياً من الضروريات الشرعية وهو حفظ النسل لذلك لا يجوز تحديد النسل فهو من المحرمات. وأما تنظيم النسل من قبل الزوجين إذا وجدت المسوغات له فجائز وأهم هذه المسوغات ما يلي: 1. الخشية على حياة الأم أو صحتها من الحمل وتبعاته فإن الولادات المتكررة مرهقة للمرأة فتحتاج المرأة إلى راحة بين الولادة والأخرى وهذه الراحة قد تطول وقد تقصر حسب حالتها الصحية وقد قال تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) . 2. الخشية على الأولاد أن تسوء تربيتهم أو أن تضطرب تربيتهم فقد روى أسامة بن زيد أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أني أعزل عن امرأتي، فقال له صلى الله عليه وسلم: لم تفعل ذلك؟ فقال الرجل: أشفق على أولادها فقال صلى الله عليه وسلم: (لو كان ضاراً لضر فارس والروم) رواه مسلم. فكأن الرسول عليه الصلاة والسلام رأى أن هذه الحالات الفردية لا تضر الأمة في مجموعها بدليل أنها لم تضر فارس والروم وهما أقوى دول الأرض حينذاك. 3. الخشية من الوقوع في حرج دنيوي قد يؤدي إلى الوقوع في حرج ديني فيقع في الحرام ويرتكب المحظورات من أجل الأولاد يقول الله سبحانه وتعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) . وخلاصة القول أن هذه الحالات الفردية هي التي يجوز فيها تنظيم النسل بشكل اختياري من الزوجين أما أن يكون ذلك سياسة عامة تفرضها الدولة على شعبها فلا يجوز ذلك. *****(15/106)
107 - تحنيط الجنين
تقول السائلة: إنها أسقطت جنيناً عمره سبعة أشهر فأخذه الطبيب لوضعه في المختبر فما حكم ذلك؟
الجواب: إن ما فعله الطبيب من أخذ الجنين ووضعه في المختبر عمل محرم شرعاً لا يجوز لأن مثل هذا الجنين ينبغي أن يغسل ويصلى عليه ويدفن وهذا هو حكم الجنين إذا كان قد مضى عليه في بطن أمه أربعة أشهر فأكثر فقد ورد في الحديث: ( ... والسقط يصلى عليه ويدعى لوالديه بالمغفرة والرحمة) رواه أبو داود وابن حبان والحاكم والبيهقي وهو حديث صحيح كما قال الشيخ الألباني. فالسقط إذا نفخت فيه الروح يصلّى عليه وتُطبّق عليه الأحكام الشرعية التي تُطبّق على الميت البالغ وبالتالي لا يجوز تحنيطه ووضعه في المختبر. وينبغي أن يعلم أن الإسلام قد احترم الإنسان حياً وميتاً وتحنيط هذا الجنين امتهان لكرامته واعتداء على حرمته وقد ورد في الحديث: عن عائشة رضي الله عنها أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (كسر عظم الميت ككسر عظم الحي) . وفي رواية أخرى (في الإثم) رواه أبو داود وابن ماجة وأحمد والبيهقي وهو حديث صحيح كما قال الشيخ الألباني. لذلك يجب على والد الطفل أن يأخذ الجنين من الطبيب وأن يقوم بغسله وتكفينه والصلاة عليه ودفنه في مقابر المسلمين. *****(15/107)
108 - حق الأولاد
يقول السائل: ما حكم تسمية الأولاد بالأسماء الأجنبية؟
تسمية الأولاد بالأسماء الأجنبية
الجواب: إن من حقوق الأولاد على الآباء أن يختاروا لهم أسماء حسنة فقد ورد في الحديث عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم فأحسنوا أسمائكم) رواه أبو داود بإسناد حسن. وهنالك أسماء مستحبة استحبها الرسول صلى الله عليه وسلم فينبغي أن يسمى الأولاد بها وهنالك أسماء غيرها الرسول صلى الله عليه وسلم لكراهيته لها. فمن الأسماء المستحبة المرغب فيها ما ثبت في الحديث الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أحب أسمائكم إلى الله عبد الله وعبد الرحمن) رواه مسلم. فهذا الحديث يفيد أن هذين الإسمين: (عبد الله وعبد الرحمن) أفضل الأسماء ومن الأسماء المستحبة أيضاً أسماء الأنبياء كإبراهيم وموسى وعيسى ونوح ويونس وغيرها ويدل على ذلك ما ثبت في الحديث عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: [ولد لي غلام فأتيت به النبي صلى الله عليه وسلم فسماه إبراهيم وحنكه بتمرة) رواه مسلم. ولما ورد في الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (تسموا بأسماء الأنبياء وأحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن وأصدقها الحارث وهمام وأقبحها حرب ومرة) ] رواه أبو داود والنسائي وأحمد وفي سنده بعض الكلام وله شواهد تقويه، قال الإمام البغوي معلقاً على هذا الحديث: [إنما صار الحارث وهمام من أصدق الأسماء من أجل مطابقة الإسم معناه لأن الحارث الكاسب يقال حرث الرجل: إذا كسب قال الله سبحانه وتعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ) . وهمام من هممت بالشيء: إذا أردته وما من أحد إلا وهو في كسب أو يهم بشيء وإنما صار حرب ومره من أقبح الأسماء لما في الحرب من المكاره وفي مره من المرارة والبشاعة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الفأل الحسن والإسم الحسن] شرح السنة 12/334 ومن الأسماء التي لا يجوز تسمية الأولاد بها كل اسم معبد لغير الله سبحانه وتعالى مثل: عبد علي وعبد الحسين وعبد النبي ونحوها. ومنها أسماء الفراعنة والجبابرة كفرعون وقارون ونحوهما، وأما الأسماء الأجنبية فإني أكره أن يسمى بها أبناء المسلمين لأن ذلك يدخل في التشبه بغير المسلمين وقد نهينا عن ذلك، كما أن في الأسماء العربية الإسلامية ما يغني عن التسمية بالأسماء الأجنبية. كما أن السماء المعروفة بين المسلمين لها معان ودلالات معينة وليس كذلك الأسماء الأجنبية. *****(15/108)
109 - حق الأولاد
يحرم لعن المرأة لأولادها,
يقول السائل: ما حكم لعن المراة لأولادها؟ الجواب: اللعن هو الإبعاد من رحمة الله سبحانه وتعالى واللعن من المحرمات بل من الكبائر فيحرم على المسلم أن يلعن شخصاً بعينه ويحرم على هذه المرأة أن تلعن أولادها ويدل على ذلك أحاديث كثيرة منها: ما رواه البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ... ومن لعن مؤمناً فهو كقتله) . وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس المؤمن بالطعان ولا باللعان ولا الفاحش ولا البذيء) رواه الترمذي وابن حبان والحاكم وصححاه. وروى الإمام مسلم في صحيحه عن زيد بن أسلم أن عبد الملك بن مروان بعث إلى أم الدرداء بأنجاد من عنده فلما أن كان ذات ليلة قام عبد الملك بن مروان فدعا خادمه فكأنه أبطأ عليه فلعنه فلما أصبح قالت له أم الدرداء، سمعت الليلة لعنت حين دعوته فقالت: سمعت أبا الدرداء يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة) والأنجاد المذكورة في الحديث جمع نجد وهو متاع البيت الذي يزينه من فرش وستور ونحو ذلك. قال الإمام النووي: [وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (أنهم لا يكونون شفعاء ولا شهداء) فمعناه: لا يشفعون يوم القيمة حين يشفع المؤمنون في إخوانهم الذين استوجبوا يوم القيامة على الأمم بتبليغ رسلهم إليهم الرسالات] شرح النووي على صحيح مسلم 16/115.
وقال عليه الصلاة والسلام: (إني لم أبعث لعاناً وإنما بعثت رحمة) رواه مسلم. وقال صلى الله عليه وسلم: (لا تتلاعنوا بلعنة الله ولا بغضب الله ولا بجهنم) . رواه الترنمذي وقال حديث حسن صحيح ورواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي. وعن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن العبد إذا لعن شيئاً صعدت اللعنة إلى السماء فتُغلق أبواب السماء دونها ثم تهبط إلى الأرض فتُغلق أبوابها دونها ثم تأخذ يميمناً وشمالاً فإذا لم تجد مساغاً رجعت إلى الذي لعن فإن كان لذلك أهلاً وإلا رجعت إلى قائلها) رواه أبو داود وأحمد وقال الشيخ الألباني حديث حسن.
وعن ابن عباس أن رجلاً لعن الريح فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تلعنها فإنها مأمورة إنه من لعن شيئاً ليس له بأهل رجعت اللعنة عليه) رواه أبو داود والترمذي وقال الشيخ الألباني أنه حديث صحيح. والذي يؤخذ من هذه الأحاديث حرمة لعن الإنسان المعين وكذلك عن غير الإنسان مثل لعن الريح كما في الحديث الأخير وورد في بعض الأحاديث النهي عن لعن الحيوان فكل ذلك من اللعن المحرم. قال الإمام البغوي: [اللعن المنهي عنه أن يلعن رجلاً بعينه مواجهة براً كان أو فاجراً لأن عليه أن يوقر البر ويرحم الفاجر فيستغفر له فإذا لعنه في وجهه زاده ذلك شراً فأما لعن الكفار على العموم والفجار كما جاء في الحديث من لعن شارب الخمر ولعن الواصلة والمستوصلة وآكل الربا ونحوها فغير منهي عنه] شرح السنة 13/138. أي أن لعن الكفار والفجار دون تعيين الأشخاص جائز كأن تلعن شارب الخمر أو تلعن آكل الربا لورود ذلك في الحديث.
وأخيراً فعلى هذه المرأة التي لعنت أولادها أن تتوب إلى الله عز وجل توبة صادقة وتكثر من الدعاء ولأولادها ويجب عليها أن لا تعود إلى لعن أولادها. *****(15/109)
110 - حقوق الزوجين
الكذب عى الزوجة,
تقول السائلة: أن زوجها يكذب عليها في حالات كثيرة ويدعي أن الكذب على الزوجة جائز شرعاً فما قولكم في ذلك؟
الجواب: لا شك أن الكذب خصلة ذميمة وذنب من أقبح الذنوب وقد تظاهرت الآيات والأحاديث على تحريم الكذب بشكل عام فقد ثبت في الحديث الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقاً وإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار وإن والرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذاباً) رواه البخاري ومسلم. وثبت في الحديث الصحيح أيضاً عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من نفاق حتى يدعها إذا اؤتمن خان وإذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر) رواه البخاري مسلم. والكذب ليس من صفات المؤمنين الصادقين يقول الله سبحانه وتعالى: (إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ) . هذا هو الأصل في الكذب أنه محرم وأنه فاحشة من فواحش الذنوب ولكن هذا الأصل له استثناء فقد أجاز الشرع الكذب في بعض المواطن وجعله مباحاً قال الإمام النووي رحمه الله: [اعلم أن الكذب وإن كان أصله محرماً فيجوز في بعض الأحوال إلى أن قال " إن الكلام وسيلة إلى المقاصد فكل مقصود محمود يمكن تحصيله بغير الكذب يحرم الكذب فيه وإن لم يمكن تحصيله إلا بالكذب جاز الكذب، ثم إن كان تحصيل ذلك المقصود مباحاً كان الكذب مباحاً وإن كان واجباً كان الكذب واجباً فإذا اختفى مسلم من ظالم يريد قتله أو أخذ ماله وسئل إنسان عنه وجب الكذب بإخفائه وكذا لو كان عنده وديعة وأراد ظالم أخذها وجب الكذب بإخفائه والأحوط في ذلك كله أن يوري ومعنى التورية أن يقصد في كلامه مقصوداً صحيحاً ليس هو كاذباً بالنسبة إليه وإن كان كاذباً في ظاهر اللفظ بالنسبة إلى ما يفهمه المخاطب ولو ترك التورية وأطلق عبارة الكذب فليس بحرام في هذا الحال] رياض الصالحين ص592.
وخلاصة الأمر أن هنالك أحوالاً يجوز فيها الكذب وقد وردت في أحاديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ومنها: 1. ما رواه البخاري ومسلم في صحيحهما أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيراً أو يقول خيراً) . 2. ما رواه مسلم في صحيحه أن أم كلثوم بنت عقبة قالت: ولم أسمعه أي الرسول صلى الله عليه وسلم يرخص في شيء مما يقول الناس كذب إلا في ثلاث الحرب والإصلاح بين الناس وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها. وهذا الحديث يدل على جواز أن يكذب الرجل على زوجته وكذلك المرأة على زوجها ولكن أهل العلم قيدوا كذب الرجل على امرأته وعكسه بأن يكون الكذب فيما يتعلق بأمر المعاشرة وحصول الألفة بينهما. قال الخطابي: [كذب الرجل على زوجته أن يعدها ويمنيها ويظهر لها من المحبة أكثر مما في نفسه يستديم بذلك صحبتها ويصلح من خلقها] عون المعبود 13/179. وقال الحافظ ابن حجر [واتفقوا على أن المراد بالكذب في حق المرأة والرجل إنما هو فيما لا يسقط حقاً عليه أو عليها أو أخذ ما ليس له أو لها] فتح الباري 6/228. وقال الإمام النووي: [وأما كذبه لزوجته وكذبها له فالمراد به إظهار الود والوعد بما لا يلزم ونحو ذلك، فأما المخادعة في صنع ما عليه أو عليها أو أخذ ما ليس له أو لها فهو حرام بإجماع المسلمين) شرح النووي على مسلم 16/158.
وبهذا يظهر جواز الكذب بين الزوجين إذا كان في ذلك محافظة على الحياة الزوجية ومنع لهدمه فإذا سأل الزوج زوجته هل تحبه فعليها أن تجيبه بنعم وإن كانت تكرهه محافظة على بقاء الأسرة واستمرارية الحياة الزوجية وكما قال عمر رضي الله عنه لتلك المرأة: [فإن كانت أحداكن لا تحب أحدنا فلا تحدثه بذلك فإن أقل البيوت الذي يبنى على الحب] . *****(15/110)
111 - حقوق الزوجين
الإنفاق على الزوجة من مال حرام ,
تقول السائلة: إن زوجها يتعامل في تجارته بالمحرمات بالإضافة إلى المباحات وهو ينفق عليها وعلى أولاده من هذه الأموال فما حكم ذلك؟
الجواب: إن الواجب على المسلم أن يكسب ماله من حلال وبطريق مشروع ويدل على ذلك قوله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) سورة البقرة آية 172. وقوله تعالى: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا) سورة البقرة آية 168. وما ورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً وإن الله تعالى أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، قال تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك) رواه مسلم. وبناءً على ما سبق لا يجوز للمسلم أن يكتسب المال بطريق محرم وفي السؤال أن زوج المرأة يكتسب المال من طريقين أحدهما حرام والآخر حلال ويقوم بالإنفاق على الأسرة من مجموع المالين.
والواجب على زوجته وأولاده المكلفين أن ينصحوا أباهم أن يقلع عن المعصية وهي المتاجرة في المحرمات وأن يكتفي بالتجارة في الحلال فإن استجاب فبها ونعمت وإن لم يفعل واستطاعت الزوجة والأولاد أن يستغنوا عن أموال الزوج فهو الأفضل وإن لم يستطيعوا فلا بأس في أن يأكلوا من ماله وهذا المال المختلط من الحلال والحرام يجوز الأخذ منه والإنفاق منه والإثم يقع على الزوج، ولا شيء على زوجته وأولاده. *****(15/111)
112 - اللباس والزينة
ما حكم لبس المرأة الأساور الذهبية التي تكون على شكل حيات؟
الجواب: لا يجوز لبس الأساور الذهبية أو غيرها التي تكون على شكل ما فيه روح سواء على شكل حيات أو طيور أو غير ذلك، فإن هذه التماثيل محرمة شرعاً فلا يجوز صنعها ولا بيعها ولا اقتناؤها ولا لبسها وكل ذلك حرام والإسلام حرم التماثيل محافظة على التوحيد فقد ورد في الحديث: (أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال لأحد أصحابه ألا أبعثك على ما بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا تدع صورة إلا طمستها ولا قبر مشرف إلا سويته) رواه مسلم. *****(15/112)
113 - انتساب الزوجة إلى زوجها
يقول السائل: لقد شاع بين كثير من الناس انتساب المراة إلى زوجها لا إلى أبيها وصار يستعمل في الكثير من المعاملات الرسمية فما حكم ذلك؟
الجواب: إن من أمراض الأمة الإسلامية الشائعة اليوم تشبهها بغيرها من الأمم وتقليدها في كثير من الأمور وهذا الأمر وهو أن تسمى الزوجة باسم زوجها من التقاليد الغربية الوافدة وهي تقاليد غريبة عن المجتمع المسلم وهذا الأمر صار شائعاً ومنتشراً بين الناس ومستعملاً في كثير من المعاملات، وهو تقليد سخيف لغير المسلمين وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن هذه الأمة وللأسف تتبع الأمم الأخرى في كثير من أمورها وهذا دليل على الضعف وعلى الهوان، إذ يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذعاً بذراع حتى لو دخل جحر ضب لدخلتموه) . وجاء في حديث آخر قوله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لتركبن سنة من كان قبلكم سنة سنة) رواه الترمذي وأحمد وقال الترمذي حسن صحيح. وانتساب المرأة لغير أبيها لا يجوز شرعاً وهو حرام. وإذا كانت الزوجة منكرة لنسبها قد يكون كفراً والعياذ بالله فقد ورد في جملة أحاديث صحيحة وثابتة عن الرسول عليه الصلاة والسلام منها: 1. عن أبي ذر رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (ليس من رجل ادعى لغير أبيه إلا كفر بالله ... ) رواه البخاري ومسلم وذكر الرجل في الحديث خرج مخرج الغالب والمرأة كذلك. 2. وعن وائلة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن من أعظم الفرى أن يدعي الرجل إلى غير أبيه ... ) رواه البخاري والفرى جمع فرية وهي الكذب. 3. وعن أبي بكر وسعد رضي الله عنهما كلاهما يقول: سمعته أذناي ووعاه قلبي محمداً صلى الله عليه وسلم يقول: (من ادعى لغير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام) رواه مسلم. وهذه الأحاديث تحمل على من انتسب لغير أبيه واستحل ذلك. وأما الشائع اليوم من انتساب المرأة لزوجها وإن كان لا إنكار فيه للأبوة وللعائلة إلا أنه محرم أيضاً لأن فيه تشبهاً بغير المسلمين وفيه تلبيس على الناس فعلى المرأة أن تتسمى باسم أبيها فتقول فلانة بنت فلان وزوجة فلان. *****(15/113)
114 - حقوق الزوجين
يقول السائل: إن زوجته ترفض خدمة والده فهل يحق له أن يجبرها على ذلك؟
الجواب: لا يجب على الزوجة أن تخدم والد زوجها والشرع لا يلزمها بذلك ولا يجوز للزوج أن يجبر زوجته على خدمة والده أو أي أحد من أقاربه والأمر متروك للزوجة فإن خدمت والد زوجها فبها ونعمت وإن لم تفعل فلا حرج عليها. وإن كان الأفضل والأولى في حق هذه الزوجة أن تخدم والد زوجها من باب بر الزوج وطاعته إن أمرها بذلك وتكون تلك الخدمة تبرعاً منها وتفضلاً وإحساناً ولكن الأمر ليس واجباً عليها. *****(15/114)
115 - الضرب وسيلة مشروعة للتربية
يقول السائل: هل يجوز استعمال الضرب كوسيلة من وسائل التربية في المدرسة من قبل المدرسين؟
الجواب: إن طرق وأساليب تربية الصغار كثيرة ومنها الضرب والمقصود به الضرب غير المبرح، والضرب بشكل عام عقوبة يجوز استعمالها شرعاً فقد شرع الضرب في الحدود وفي التعزير وشرع ضرب الزوج لزوجته في حال النشوز وشرع ضرب الأولاد تأديباً لهم على ترك الصلاة وغير ذلك من الحالات ولكن ضرب الأولاد يحتاج إلى تفصيل وتوضيح. ولا يجوز للمدرس أن يضرب الولد لمجرد وقوع المخالفة منه وإنما يلجأ إلى الضرب بعد أن يستنفذ أساليب التربية الأخرى فالأصل في معاملة الأولاد والطلاب اللين والرحمة بهم والرفق بهم ثم يتدرج المربي من الأخف إلى الأشد إن لم ينفع الأخف كوسيلة للتربية فعلى المربي أن يرشد الطالب إلى الخطأ بالتوجيه كما ثبت في الحديث عن عمر بن أبي سلمة رضي الله عنه قال: (كنت غلاماً في حجر الرسول صلى الله عليه وسلم وكانت يدي تطيش في الصحفة - تتحرك في وعاء الطعام فيأكل من عدة أماكن-فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا غلام سم الله وبكل بيمينك وكل مما يليك) رواه البخاري ومسلم.
كما أن على المربي أن يرشد الطالب إلى الخطأ بالملاطفة أو بالإشارة ويجوز للمربي أن يوبخ الطالب المخطئ بالكلام الهادئ أولاً ويجوز أن يعنفه بشدة فإذا لم تفلح هذه الأساليب ولم تأت بالثمرة المرجوة منها فحينئذ يجوز استعمال الضرب كوسيلة من وسائل التربية وتقويم السلوك فقد ورد في الحديث قول الرسول صلى الله عليه وسلم (مروا أبنائكم بالصلاة وهم أبناء سبع واضربوهم عليها وهم أبناء عشر) رواه أبو داود والترمذي وهو حديثٌ حسن. والضرب المقصود هو الضرب غير المبرح وغير المؤلم وخاصة إذا كان الطالب قد وقع في الخطأ للمرة الأولى ولا يجوز الضرب على الوجه أو الرأس والمواضع الحساسة من الجسم حتى لا يلحق الضرر بالمضروب. وينبغي للمربي ألا يضرب وهو في حالة الغضب لئلا يفقد السيطرة على نفسه فيضرب الطالب ضرباً مبرحاً يلحق به الأذى. انظر تربية الأولاد في الإسلام 2/678.
كما أن بعض الفقهاء منعوا الضرب أكثر من ثلاث مرات كأن يضربه ثلاثة أسواط وأجاز بعض الفقهاء الضرب عشرة أسواط. وينبغي أن يعلم أن الدعوة إلى إلغاء عقوبة الضرب في المدارس وإلغاء ذلك فعلياً قد أثر على العملية التعليمية أثيراً سلبياً لأن كثيراً من الطلاب لا يستقيم حالهم ولا يصلح أمرهم إلا بالعقوبة أو الخوف منها وهذا أمرٌ طبيعي في الإنسان رغم كل ما يدعيه دعاة إلغاء الضرب من مبررات لإلغائه وإن حصول بعض التجاوزات من بعض المعلمين بضرب الطالب ضرباً مبرحاً قد ينتج عنه ضرر به لا يعني إلغاء الضرب نهائياً، ومن المتفق عليه بين الفقهاء أنه لا يجوز التأديب بقصد الإتلاف ومن وقع منه ذلك فإنه يتحمل المسؤولية. وأخيراً فإني أؤكد على أهمية عقوبة الضرب في المدارس وفي التأديب بشكلٍ عام لأهميتها في إصلاح النفوس. وقد روي في الحديث: (رحم الله إمرءاً علق في بيته سوطاً يؤدب أهله) .(15/115)
116 - اللباس والزينة
يقول السائل: ما حكم استعمال العطور والأدوية التي تحتوي على نسبة من الكحول؟
الجواب: لا بأس باستعمال العطور والأدوية التي تشمل على نسبة من الكحول لأن ذلك لا يتخذ للأسكار ثم إن اختلاط قليل من الخمر بشيء مع عدم ظهور أثر له لا يوجب تحريم ذلك المخلوط به لأنه لما لم يظهر له أثر لم يكن له حكم إذ أن علة الحكم هي الموجبة له فإذا فقدت العلة فقد الحكم عليه فإن النسبة التي تخلط بالعطور والأودية من الكحول لا تؤدي إلى الإسكار فلا يثبت لهذه الأشياء حكم الخمر، ومن المعلوم أن الأدوية التي تحتوي على الكحول لا تسكر بمقاديرها الطبية فلا مانع من استعمالها. *****(15/116)
117 - النزاعات والخلافات
تعويض المضروب بالمال,
يقول السائل: تشاجر شخصان فضرب أحدهما الآخر بآلة حادة فأصابه بجرح عميق ثم أخذت عطوة بين الطرفين ودفع الطرف المعتدى مبلغاً من المال للمعتدى عليه فما حكم المال المأخوذ وهل يجوز للمعتدى عليه أخذه؟
الجواب: يجوز للشخص المعتدى عليه أخذ المال الذي دفع له مقابل إصابته في الشجار ويعتبر هذا المال عند الفقهاء دية فيما دون النفس وهو أمر مشروع عند جماهير فقهاء المسلمين فقد أجازوا أخذ الدية في الجناية على ما دون النفس، والمراد بذلك الجناية على أعضاء جسم الإنسان كقطع يده أو رجله أو إصابة عينه أو أذنه أو أنفه أو جرحه ... الخ. ويدل على ذلك أدلة كثيرة منها: ما ورد في حديث عمرو بن حزم عن أبيه عن جده أن الرسول صلى الله عليه وسلم كتب له في كتابه: [وفي الأنف إذا أوعب جدعه الدية وفي اللسان الدية وفي الشفتين الدية وفي البيضتين الدية وفي الرجل الواحدة الدية] رواه النسائي ومالك في الموطأ وصححه أحمد والحاكم وابن حبان وغيرهم. وعن أبي شريح الخزاعي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من أصيب بدم أو خبل -والخبل الجراح- فهو بالخيار بين إحدى ثلاث: إما أن يقتص أو يأخذ العقل-الدية-أو يعفو فإذا أراد رابعة فخذوا على يديه) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة. وما ورد في الحديث أيضاً: ( ... وفي كل إصبع من أصابع اليد أو الرجل عشر من الإبل وفي السن خمس من الإبل وفي الموضحة خمس من الإبل ... ) وهو جزء من الحديث الأول. وبناء على ما سبق يجوز أخذ المال المشار إليه في السؤال إذا كان تقدير ذلك المال مستنداً لما ورد في الشرع من الدية فيما دون النفس. *****(15/117)
118 - النزاعات والخلافات
شجرة تضر الجيران,
يقول السائل: يوجد في أرض جيراني سجرة سرو قديمة وكبيرة وجذور هذه الشجرة تلحق الضرر بمنزلي وطلبت من جيراني قطعها فرفضوا قعطها فزرعت شجراً ليلحق الضرر بجيراني فما الحكم في ذلك؟
الجواب: ورد في الحديث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار) رواه ابن ماجة والدارقطني والحاكم وغيرهم وهو حديث صحيح كما قال الشيخ الألباني. ويدل هذا الحديث على أنه لا يجوز إلحاق الضرر بالآخرين وكذلك لا يجوز مقابلة الضرر بالضرر وهذا معنى قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث: (لا ضرر ولا ضرار) فيكون معنى الحديث لا يجوز إلحاق مفسدة بغيره مطلقاً ولا يجوز إلحاق مفسدة بغيره على وجه المقابلة. وقد جعل أهل العلم هذا الحديث قاعدة من القواعد المعروفة في الفقه الإسلامي: (لا ضرر ولا ضرار) . وبناء على ما تقدم نقول: يجب على أصحاب الشجرة أن يقطعوها لأنها ألحقت ضرراً بمنزل جارهم لأن الواجب عليهم إزالة الضرر عن جارهم، وقد قرر الفقهاء وجوب إزالة الضرر بعد وقوعه فقالوا في القاعدة الفقهية: " الضرر يُزال ". وقد يقول قائل أن الشجرة تقع في أرض أصحابها والإنسان حرّ التصرف في ملكه فنقول نعم صحيح إن الإنسان حرّ التصرف في ملكه ولكن بشرط أن لا يتأذى غيره من هذا التصرف قال الحافظ ابن رجب: [ومنها-أي الأمور الممنوعة-أن يحدث في ملكه ما يضر ملك جاره من هز أو دق ونحوهما فإنه يمنع منه. وكذا إذا كان يضر بالسكان كما إذا كان له رائحة خبيثة ونحو ذلك] جامع العلوم والحكم ص 386. وقرر الفقهاء أنه إذا طالت أغصان شجرة لشخص وتدلت على جدار جاره فأضرته يكلف رفعها أو قطعها. ولا يجوز للإنسان المتضرر من أفعال الآخرين أن يقابل الضرر بالضرر وهذا هو المعنى المشار إليه في قوله صلى الله عليه وسلم: (ولا ضرار) وعليه فلا يجوز للسائل أن يزرع شجراً في أرضه يحلق الأذى بجيرانه. *****(15/118)
119 - الرحلات
يقول السائل: ما حكم الذهاب إلى منطقة البحر الميت في رحلات ترفيهية؟
الجواب: إن منطقة البحر الميت هي المنطقة التي كان يسكنها قوم لوط عليه الصلاة والسلام ومعلوم أن قوم لوط كذبوا نبيهم لوط وأن الله عاقبهم بتدمير قراهم ومدنهم كما قال الله تعالى: (قَالُوا يَالُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ) سورة هود الآيتان 81-82. والمطلوب من المسلم أن يتعظ ويعتبر مما أصاب الذين ظلموا أنفسهم ومنهم قوم لوط كما قال تعالى: (وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) سورة الصافات الآيات 133-138. وقد ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الدخول على الأقوام المعذبين إلا إذا كان المسلم باكياً ومتعظاً فإن لم يكن حاله كذلك فلا يدخل فقد روى البخاري ومسلم عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم مثل ما أصابهم) . قال الحافظ ابن حجر: [ ... ووجه هذه الخشية أن البكاء يبعثه على التفكير والاعتبار فكأنه أمره بالتفكير في أحوال توجب البكاء من تقدير الله تعالى على أولئك بالكفر مع تمكينه لهم في الأرض وإمهالهم مدة طويلة ثم إيقاع نقمته بهم وشدة عذابه وهو سبحانه مقلب القلوب فلا يأمن المؤمن أن تكون عاقبته إلى مثل ذلك والمتفكر أيضاً في مقابلة أولئك نعمة الله بالكفر وإهمالهم إعمال عقولهم فيما يوجب الإيمان به والطاعة له فمن مر عليهم ولم يتفكر فيما يوجب البكاء اعتباراً بأحوالهم فقد شابههم في الإهمال ودلّ على قساوة قلبه وعدم خشوعه فلا يأمن أن يجره ذلك إلى العمل بمثل أعمالهم فيصيبه ما أصابهم] شرح السنة 2/77.
وقال الإمام الخطابي: [معناه أن الداخل في دار قوم هلكوا بخسف أو عذاب ذا لم يكن باكيا إما شفقة عليهم وإما خوفاً من حلول مثلها به كان قاسي القلب قليل الخشوع فلا يأمن إذا كان هكذا أن يصيبه ما أصابهم] شرح السنة 14/362. وقد ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لما مر بديار ثمود مرّ مسرعاً لم ينزل فيها فقد جاء في رواية لحديث ابن عمر قال: (مررنا مع النبي صلى الله عليه وسلم على الحجر-ديار ثمود-فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين حذراً أن يصيبكم مثل ما أصابهم ثم زجر فأسرع حتى خلفها) رواه مسلم وقوله زجر أي زجر ناقته وحثها على المسير.
وبناء على ما سبق أرى أنه لا ينبغي الذهاب إلى منطقة البحر الميت في رحلات ترفيهية لأن من يذهبون في هذه الرحلات أبعد ما يكونون عن البكاء والاتعاظ والاعتبار. ويضاف إلى ذلك ما في تلك المناطق من المنكرات والمحظورات التي توجد عند شواطئ البحار من عري وتهتك واختلاط وفساد وإفساد. *****(15/119)
120 - الخطبة
خِطبة النكاح,
يقول السائل: هل من السنة أن تُلقى خطبة عند عقد النكاح أفيدونا؟
الجواب: خُطبة النكاح بضم الخاء غير الخِطبة بكسر الخاء فالأولى هي الكلام الذي يقال عند العقد والثانية هي مقدمة لعقد النكاح وخُطبة النكاح من مستحبات عقد النكاح عند أكثر أهل العلم وإن تم العقد بدون خطبة فالنكاح جائز ولا بأس به ولكن اتباع السنة أولى وأحسن. قال الإمام أبو داود في سننه: [باب في خطبة النكاح] ثم روى بإسناده عن عبد الله بن مسعود في خطبة الحاجة في النكاح وغيره قال: (علمنا رسول الله رضي الله عنه خطبة الحاجة إنْ الْحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)) وهو حديث صحيح رواه أيضاً الترمذي وابن ماجة وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن ابي داود 2/398. وقال الشيخ الألباني: [وهذه الزيادة (في النكاح وغيره) هي لأبي داود من طريق سفيان عن أبي إسحاق وظاهرها أنها من قول ابن مسعود لكن خالف شعبة فجعلها من قول أبي إسحاق حيث قال قلت لأبي إسحاق هذه في خطبة النكاح أو في غيرها؟ قال في كل حاجة] رواه الطيالسي، انظر خطبة الحاجة للألباني ص 13.
قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [ويستحب أن يخطب العاقد أو غيره قبل التواجب ثم يكون العقد بعده لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أقطع) وقال: (كل خطبة ليس فيها شهادة فهي كاليد الجذماء) رواهما ابن المنذر ويجزئ من ذلك أن يحمد الله ويتشهد ويصلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمستحب أن يخطب بخطبة عبد الله بن مسعود] ثم ذكر الحديث المتقدم ثم قال ابن قدامة: [قال الخلال: حدثنا أبو سليمان إمام طرسوس قال: كان الإمام أحمد بن حنبل إذا حضر عقد نكاح فلم يخطب فيه بخطبة عبد الله بن مسعود قام وتركهم. وهذا كان من أبي عبد الله من المبالغة في استحبابها لا على الإيجاب. فإن حرب بن إسماعيل قال: قلت لأحمد فيجب أن تكون خطبة النكاح مثل قول ابن مسعود؟ فوسع في ذلك. وقد روى عن عمر أنه إذا كان دعي ليزوج قال: لا تعصفوا علينا الناس: الحمد لله وصلى الله على محمد إن فلاناً يخطب إليكم فإن أنكحتموه فالحمد لله وإن رددتموه فسبحان الله. والمستحب خطبة واحدة يخطبها الولي أو الزوج أو غيرهما وقال الشافعي: المسنون خطبتان هذه التي ذكرناها في أوله وخطبة من الزوج قبل قبوله والمنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن السلف خطبة واحدة وهو أولى ما اتبع] المغني 7/81-82. وقال الإمام النووي: [يستحب أن يبدأ الخاطب بالحمد لله والثناء عليه والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله جئتكم راغباً في فتاتكم فلانة أو في كريمتكم فلانة بنت فلان أو نحو ذلك] الأذكار ص 240.
وروى عبد الرزاق بإسناده عن إبراهيم النخعي قال: [كانوا - أي الصحابة - يحبون أن يتشهدوا إذا خطب الرجل على نفسه أو على غيره والخصمان إذا اختصما: إن الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ثم بحسب إمرىء أن يبلغ حاجته. قال: وأما الخصمان فينطقان بحجتهما] مصنف عبد الرزاق 6/188(15/120)
121 - مسائل طبية
يقول السائل: إنه يريد التقدم لخطبة فتاة ولكن يوجد في عائلتها أمراض وراثية فهل يجوز له أن يشترط عليها إجراء الفحص الطبي قبل أن يدخل في إجراءات الخطبة؟
الفحص الطبي قبل الزواج
الجواب: لا بأس بأن يشترط هذا الشخص على الفتاة التي سيتقدم إليها أن تقوم بإجراء فحص طبي نظراً لوجود أمراض وراثية في عائلتها. وكذلك لا مانع من إجراء الفحص الطبي قبل الزواج بشكل عام لمن يرغبون في الزواج، ولكني لا أرى أن يلزم كل من يريد الزواج بإجراء فحص طبي وإنما يبقى الأمر اختياراً لا إجبار فيه لا بقانون ولا بغيره. قال د. محمد علي البار: [ولا يوجد ما يمنع من إجراء فحص للراغبين في الزواج يثبت خلوهما من الأمراض المعدية والعيوب الوراثية الظاهرة أو الموجودة في تاريخ الأسرة، ولا بد على الأقل من التأكد من عدم وجود مرض من أمراض الزنا أو اللواط لدى أحد الخاطبين وإن كان هناك مرض تم معالجته قبل عقد الزوجية.
وهناك باب جديد في الطب يسمى الاستشارة الوراثية وقد بدأ في الظهور في الدول الغربية وسيصل عما قريب إلينا مع ما يفد من حضارة الغرب خيرها وشرها] الجنين المشوه والأمراض الوراثية ص 366. والفحص الطبي قبل الزواج مشروع ويدل على ذلك الأدلة العامة الآمرة بالتداوي ومعروف أن الفحص الطبي قبل الزواج من باب الوقاية والوقاية خير من العلاج. ومن المعلوم أيضاً أن من مقاصد الزواج في الشريعة الإسلامية طلب الأولاد ومقصود أيضاً أن تكون الذرية صالحة جسمانياً ومعنوياً ولا تكون الذرية كذلك إلا إذا كانت خالية من الأمراض وخاصة الوراثية، قال الله تعالى على لسان زكريا عليه السلام: (رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ) سورة آل عمران الآية 38. ودعا المؤمنون ربهم قائلين: (هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) سورة الفرقان الآية 74. ولا تكون الذرية قرة أعين وذرية طيبة إذا كانت ذرية مشوهة الخلقة أو ناقصة الأعضاء أو متخلفة عقلياً. وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم من أراد الزواج أن يحسن اختيار الزوجة فقد ورد في الحديث عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (تخيروا لنطفكم وأنكحوا الأكفاء وأنكحوا إليهم) رواه ابن ماجة وقال الشيخ الألباني، حديث حسن، كما في صحيح سنن ابن ماجة 1/333.
وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تزوجوا الودود الولود) رواه أحمد وصححه ابن حبان والحاكم وسئل عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (ما حق الولد على أبيه؟ قال: أن ينتقي أمه ويحسن اسمه ويعلمه القرآن) . وهذا الانتقاء للزوجة يشمل الصفات الخلقية والمعنوية ويتفق مع قول النبي صلى الله عليه وسلم: (تنكح المرأة لأربع لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك) رواه البخاري ومسلم. ومما يدل على جواز الفحص الطبي قبل الزواج للذكر والأنثى على حد سواء قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا توردوا الممرض على المصح) رواه البخاري ومسلم. وكذلك فقد ورد في الحديث عن أبي هريرة: (أن رجلاً خطب امرأة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: انظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئاً) رواه مسلم. فهذا الحديث يدل على أنه ينبغي للخاطب أن ينظر إلى مخطوبته لئلا يكون فيها عيوب. ومما يؤيد الفحص الطبي قبل الزواج أن الفقهاء أجازوا للزوج أن يفسخ الزواج لوجود عيب جنسي في زوجته يمنع من الوصول إليها. وكذلك أجاز الفقهاء للزوجة أن تطلب التفريق بينها وبين زوجها إذا وجدت به علة تحول دون دخوله بها. فيمكن بواسطة الفحص الطبي أن يجتنب الزوجان الوصول للفراق بسبب العيوب الجسمية فيجريان فحصاً طبياً قبل الزواج وهذا خير من الزواج ثم اكتشاف العيوب التي تجيز الفسخ أو طلب التفريق بينهما فيفترقان ويقعان في المشكلات الاجتماعية والمالية.
وقد ذكر قانون الأحوال الشخصية المعمول به في بلادنا العيوب التي تجيز فسخ الزواج فقد ورد في المادة 113: [للمرأة السالمة من كل عيب يحول دون الدخول بها أن تراجع القاضي وتطلب التفريق بينها وبين زوجها إذا علمت أن فيه علة تحول دون بنائه بها كالجب والعنة والخصاء] وجاء في المادة 116: [إذا ظهر للزوجة قبل الدخول أو بعده أن الزوج مبتلى بعلة أو مرض لا يمكن الإقامة معه بلا ضرر كالجذام أو البرص أو السل أو الزهري أو طرأت مثل هذه العلل والأمراض فلها أن تراجع القاضي وتطلب التفريق] . أما المادة 117 فنصها: [للزوج حق طلب فسخ عقد الزواج إذا وجد في زوجته عيباً جنسياً مانعاً من الوصول إليها كالرتق والقرن أو مرضاً منفراً بحيث لا يمكن المقام معها عليه بلا ضرر ولم يكن الزوج قد علم به قبل العقد أو رضي به صراحة أو ضمناً] نظام الأسرة في الإسلام 3/ 237. وهنالك إيجابيات عديدة للفحص الطبي قبل الزواج منها: [1. تعتبر الفحوصات الطبية قبل الزواج من الوسائل الوقائية الفعالة جداً في الحدّ من الأمراض الوراثية والمعدية والخطرة. 2. وهي تشكل حماية للمجتمع من انتشار الأمراض والحد منها والتقليل من أي كوارث تحدث هزات مالية وإنسانية للأفراد والأسر والمجتمعات، خاصة لدى ارتفاع نسب المعاقين في المجتمع وتأثيره المالي والإنساني من كون متطلباتهم أكثر من حاجات الأفراد الآخرين. 3. تحاول هذه الفحوصات أن تضمن إنجاب أطفال أصحاء سليمين عقلياً وجسدياً من تزاوج الخاطبين المعنيين وعدم انتقال الأمراض الوراثية التي يحملها أو يظهرها أحد الخاطبين أو كلاهما. 4. تحديد قابلية الزوجين المؤهلين للإنجاب من عدمه بصورة عامة وإلى حد ما لأن أسباب العقم ليست معروفة كلها ويحقق رغبة الخطيبين لمعرفة الأسباب المحتملة للعقم وبهذا يقدمان على الزواج وهما مطمئنين بأنهما سيكون لهما أولاد بإذن الله لأن وجود العقم في أحد الزوجين قد يكون من أهم أسباب الاختلاف والنزاع بين الزوجين وقد يصل ذلك إلى الطلاق. 5. ويهدف الفحص الطبي إلى التحقق من قدرة كل من الزوجين المؤهلين على ممارسة علاقة جنسية سليمة مع الطرف الآخر بما يشبع رغبات كل منهما بصورة طبيعية والتأكد من عدم وجدود عيوب عضوية أو فيزيولوجية مرضية تقف أمام هذا الهدف المشروع لكل من الزوجين. 6. كذلك يهدف الفحص الطبي للتحقق من وجود أمراض مزمنة مؤثرة على مواصلة الحياة بعد الزواج مثل السرطانات وغيرها مما له دور في إرباك استقرار الحياة الزوجية المؤملة. 7. ضمان عدم تضرر صحة كل من الخاطبين نتيجة معاشرة الآخر جنسياً وحياتياً والتأكد من سلامتهما من الأمراض الجنسية والمعدية وغيرها من الوبائيات ويشتمل كذلك على عدم تضرر صحة المرأة أثناء الحمل وبعد الولادة نتيجة اقترانها بالزوج المأمول] مستجدات فقهية في قضايا الزواج ص 84-85.
وخلاصة الأمر أن الفحص الطبي قبل الزواج يحقق مصالح مشروعة للفرد وللأسرة وللمجتمع ويدرأ مفاسد اجتماعية وخسائر مالية فلا مانع منه على أن يكون بشكل اختياري وليس إجبارياً.(15/121)
122 - الحمل والإجهاض
ما يترتب على الإجهاض,
تقول السائلة: إنها كانت حاملاً في الشهر الخامس وطلب منها زوجها إسقاط الحمل فذهبت هي وزوجها إلى طبيب فأسقط حملها وبعد مضي سنوات على تلك الحادثة ندمت على ما فعلت فما هو المطلوب منها؟
الجواب: إن كثيراً من النساء والأزواج والأطباء يتساهلون تساهلاً كبيراً في موضوع الإجهاض ويظنون أن الأمر هين وهو عند الله عظيم وما عرفوا أن الإجهاض جناية وأنه قد يكون قتلاً ولا شك لدي أن كل من يشارك في عمليات الإجهاض يكون آثماً وعليه مسؤولية كبيرة وله عقوبة كما سأبين فيما بعد، ما لم يكن هنالك عذر شرعي لإسقاط الجنين كأن تقرر ذلك لجنة طبية متخصصة بأن استمرار الحمل يشكل خطراً مؤكداً على حياة الأم ولا بد من إستشارة علماء الشرع قبل ذلك. قال الشيخ ابن الجوزي تحت عنوان إثم المرأة إذا تعمدت الإسقاط: [لما كان موضوع النكاح لطلب الولد وليس من كل الماء يكون الولد فإذا تكون فقد حصل المقصود من النكاح فتعمد إسقاطه مخالفة لمراد الحكمة إلا أنه إن كان ذلك في أول الحمل فقبل نفخ الروح كان فيه إثم كبير لأنه مترق إلى الكمال وسار إلى التمام إلا أنه أقل إثماً من الذي نفخ فيه الروح. فإذا تعمدت إسقاط ما فيها الروح كان كقتل مؤمن وقد قال تعالى: (وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) الموؤدة: البنت كانوا يدفنونها حية فهي تسأل يوم القيامة لتبكت قاتليها] أحكام النساء ص 37. وقد اتفق أهل العلم على تحريم الإجهاض بعد مرور مائة وعشرين يوماً على الحمل لأن الروح تنفخ في الجنين عند مرور تلك المدة على رأي كثير من العلماء لما ثبت في حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق قال: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكاً فيأمر بأربع: برزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد ثم ينفخ فيه الروح …) رواه البخاري.
ويستثنى من هذا الحكم حالة واحدة فقط وهي إذا ثبت بتقرير لجنة من الأطباء الثقات من أهل الاختصاص أن استمرار الحمل يشكل خطراً مؤكداً على حياة الأم فحينئذ يجوز إسقاط الحمل. وقد جاء في قرار المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة ما يلي: [إذا كان الحمل قد بلغ مائة وعشرين يوماً لا يجوز إسقاطه ولو كان التشخيص الطبي يفيد أنه مشوه الخلقة إلا ذا ثبت بتقرير لجنة طبية من الأطباء المختصين أن بقاء الحمل فيه خطر مؤكد على حياة الأم فعندئذ يجوز إسقاطه سواء كان مشوهاً أم لا دفعاً لأعظم الضررين] قرارات المجمع الفقهي الإسلامي ص 123.
وأما الإجهاض قبل مرور مائة وعشرين يوماً على الحمل ففي حكمه خلاف بين العلماء والذي عليه جمهور العلماء هو تحريم الإجهاض بمجرد ثبوت الحمل إلا لعذر شرعي وهذا هو القول المعتمد عند المالكية والإمام الغزالي من الشافعية وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وقول بعض الحنفية والحنابلة وأهل الظاهر. واختاره كثير من العلماء المعاصرين كالشيوخ محمود شلتوت والقرضاوي والزحيلي وغيرهم. وهذا القول هو الذي أميل إليه وتطمئن إليه نفسي. إذا تقرر هذا فإن العلماء قد أوجبوا الضمان المالي والكفارة على من يسقط الجنين سواء أسقطه بضرب المرأة الحامل فأدى الضرب لإسقاط الجنين أو شربت المرأة دواء فأسقطت أو قام طبيب بإسقاط الجنين أو غير ذلك من الطرق التي تؤدي إلى إسقاط الجنين. أما الضمان المالي في إسقاط الجنين فهو ما يعرف عند الفقهاء بالغرة وهو ما ورد في الحديث الشريف عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن امرأتين من هذيل رمت إحداهما الأخرى فطرحت جنينها فقضى فيه النبي صلى الله عليه وسلم بغرة عبد أو أمة) رواه البخاري ومسلم. وعن عمر رضي الله عنه أنه استثارهم - أي الصحابة - في إملاص المرأة فقال المغيرة رضي الله عنه: (قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالغرة عبد أو أمة فشهد محمد بن مسلمة رضي الله عنه أنه شهد النبي صلى الله عليه وسلم قضى به) رواه البخاري ومسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى أن دية جنينها غرة عبد أو وليدة وقضي بدية المرأة على عاقلتها) رواه البخاري ومسلم. وغير ذلك من الأحاديث. قال الحافظ ابن حجر: [والغرة في الأصل البياض يكون في جبهة الفرس ... وتطلق الغرة على الشيء النفيس آدمياً كان أو غيره] فتح الباري 15/273. أي أن الواجب في قتل الجنين عبد أو أمة ولما كان لا يوجد في زماننا هذا رقيق فإن قيمة ذلك عشر دية المرأة أو نصف عشر دية الرجل أي خمسين من الإبل وتجب الغرة في مال الجاني أو على العاقلة بناء على اختلاف الفقهاء في ذلك وتكون حقاً لورثة الجنين. قال الخرقي: [وإذا شربت الحامل دواء فألقت به جنيناً فعليها غرة لا ترث منها شيئاً وتعتق رقبة] .
وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي شارحاً عبارة الخرقي: ليس في هذه الجملة اختلاف بين أهل العلم نعلمه إلا ما كان من قول من لم يوجب عتق الرقبة على ما قدمنا] المغني 8/418. وقال الحافظ ابن عبد البر: [أجمع العلماء أن الغرة تجب في الجنين الذي يسقط من بطن أمه ميتاً وهي حية حين سقوطه وأن الذكر والأنثى في ذلك سواء في كل واحد منهما الغرة. واختلفوا على من تجب الغرة في ذلك فقالت طائفة منهم مالك والحسن بن حي هي في مال الجاني وهو قول الحسن البصري والشعبي وقال آخرون: هي على العاقلة وممن قال ذلك الثوري وأبو حنيفة والشافعي وأصحابهم وهو قول إبراهيم وابن سيرين] الاستذكار 25/78-79. هذا بالنسبة للضمان المالي في إسقاط الجنين. وأما بالنسبة للكفارة فقد أوجب جمهور أهل العلم الكفارة على من أسقط الجنين. وقد ذكر الشيخ ابن قدامة المقدسي أن: [هذا قول أكثر أهل العلم منهم الحسن وعطاء والزهري والحكم ومالك والشافعي وإسحاق. قال ابن المنذر: كل من نحفظ عنه من أهل العلم أوجب على ضارب بطن المرأة تلقي جنيناً الرقبة مع الغرة وروى ذلك عن عمر رضي الله عنه وقال أبو حنيفة: لا تجب الكفارة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوجب الكفارة حين أوجب الغرة. ولنا قول الله تعالى: (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) وقال: (وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) وهذا الجنين إن كان من مؤمنين أو كان أحد أبويه مؤمناً فهو محكوم بإيمانه تبعاً له يرثه ورثته المؤمنون ولا يرث الكافر منه شيئاً وإن كان من أهل الذمة فهو من قوم بيننا وبينهم ميثاق ولأنه نفس مضمون بالدية فوجبت فيه الرقبة كالكبير وترك ذكر الكفارة لا يمنع وجوبها كقوله عليه الصلاة والسلام: (في النفس المؤمنة مئة من الإبل) وذكر الدية في مواضع ولم يذكر الكفارة ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بدية المقتولة على عاقلة القاتلة ولم يذكر كفارة وهي واجبة كذا هاهنا وإنما كان كذلك لأن الآية أغنت عن ذكر الكفارة في موضع آخر] المغني 8/417-418. وبناء على ما سبق فإنه يجب على هذه المرأة الكفارة وكذلك يجب على زوجها وعلى الطبيب الذي تولى عملية الإجهاض الكفارة أيضاً وهي المذكورة في قوله تعالى: (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ... فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله وكان الله عليماً حكيماً) سورة النساء الآية 92. وبما أنه يتعذر في زماننا عتق رقبة فعلى كل واحد من هؤلاء صيام شهرين متتابعين. كما يجب عليهم أن يتوبوا إلى الله توبة صادقة.
وختاماً أقول إن على الأزواج والزوجات أن يتقوا الله سبحانه وتعالى وألا يقدموا على عمليات الإجهاض إلا عند وجود العذر الذي ذكرته سابقاً. كما أن على الأطباء أن يتقوا الله سبحانه وتعالى وعليهم أن يعلموا أنه لا يجوز لهم القيام بعمليات الإجهاض ولو أذن في ذلك الزوجان ما لم يكن هنالك عذر شرعي وعلى هؤلاء الأطباء ألا يبيعوا خرتهم بدراهم معدودة يجنونها. وأخيراً فإني أدعو وزارة الصحة إلى تشديد الرقابة على الأطباء الذي يمارسون عمليات الإجهاض ومعاقبة المخالفين معاقبة شديدة وإن اقتضى الأمر سحب رخص مزاولة المهنة منهم نظراً لانتشار هذا الأمر مع انعدام الرقابة عليه.(15/122)
123 - الحمل والإجهاض
تقول السائلة: إنها امرأة متزوجة وعندها تسعة أطفال وأنها تعاني من مشكلات صحية في القلب وقد نصحها الأطباء بأن لا تحمل مرة أخرى وأن تجري عملية ربط للأنابيب. فما حكم الشرع في ذلك؟
الجواب: الأصل أنه لا يجوز شرعاً استئصال القدرة على الإنجاب في الرجل والمرأة، إلا في حالات الضرورة والضرورة تقدر بقدرها ولعل حالة هذه المرأة تعد من الضرورات التي تبيح المحظورات إذا كان واقع حالها كما ذكرت، وقد نصحها الأطباء بأن لا تحمل ثانية نظراً لما تعانيه من مشكلات صحية فيجوز لها أن تجري عملية ربط للأنابيب لأنه قد يترتب على الحمل في هذه الحالة ضرر كبير على المرأة ويخشى على حالها فصحتها وبقاؤها مقدم على حصول الولد، حيث إن القاعدة الفقهية تقول: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، وتقول القاعدة الأخرى: إذا وجد مفسدتان ارتكب أخفهما. وقد قرر مجمع الفقه الإسلامي ما يلي: [أولاً: لايجوز إصدار قانون عام يحد من حرية الزوجين في الإنجاب. ثانياً: يحرم استئصال القدرة على الإنجاب في الرجل أو المرأة وهو ما يعرف بالإعقام أو التعقيم مالم تدع إلى ذلك الضرورة بمعاييرها الشرعية. ثالثاً: يجوز التحكم المؤقت بالإنجاب بقصد المباعدة بين فترات الحمل أو إيقافه لمدة معينة من الزمان إذا دعت حاجة معتبرة شرعاً بحسب تقدير الزوجين عن تشاور بينهما وتراض بشرط أن لا يترتب على ذلك ضرر وأن تكون الوسيلة مشروعة وأن لا يكون فيها عدوان على حمل قائم] مجلة المجمع الفقهي الإسلامي عدد 5 ج1 ص 748.
وينبغي التذكير هنا أن بعض الأطباء قد يتساهلون في الأمور الموجبة لمنع الحمل أو قطعه نهائياً فتراهم ينصحون النساء بقطع الحمل والإجهاض لأسباب واهية وغير معتبرة شرعاً لذا أرى أن على النساء وأزواجهن عدم الأخذ بأقوال الأطباء على إطلاقها بل لا بد أن يكون الطبيب الذي يقبل قوله في هذه القضايا الخطيرة من أهل الاختصاص وأن يكون ثقة في دينه وحبذا لو صدر تقرير طبي في هذه الحالات وأمثالها عن لجنة طبية لا تقل عن ثلاثة أطباء ثقات ومن أهل الاختصاص فيكون هذا أولى وأحسن لأننا قد سمعنا عن حالات كثيرة وقع فيها تساهل كبير في هذه القضايا من بعض الأطباء.(15/123)
124 - اللباس والزينة
حكم عمليات التجميل,
تقول السائلة: ما الحكم الشرعي لعمليات التجميل المسماة بشفط الدهون؟
الجواب: إن الله سبحانه وتعالى قد خلق الإنسان في أحسن خلقة وأتمها كما قال جل جلاله: (ولَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) سورة التين الآية 4. ولكن قد تطرأ على الإنسان أمراض أو إصابات في حوادث أو استعمال خاطىء للأدوية فينتج عن ذلك حدوث عيوب فطرية وتشوهات في الخلقة كشق في الشفة أو التصاق أصابع اليدين أو الرجلين أو اصبع زائدة أو سمنة مفرطة نتيجة خلل ما في الجسم أو التشوهات التي تنتج بسبب الحرائق أو حوادث السيارات ونحو ذلك من الحالات التي قد تحتاج إلى تدخل طبي إما بجراحة أو غيرها لتقويم ما أصاب بدن الإنسان فهذه الجراحة التجميلية تعتبر في حكم الأمر الحاجي أو الضروري حيث إن الحاجة قد تنزل منزلة الضرورة فتجوز الجراحة التجميلية في هذه الحالات وأمثالها. وخاصة أن هذه العيوب: [يستضر الإنسان بها حساً ومعنىً وذلك ثابت طبياً ومن ثم فإنه يشرع التوسيع على المصابين بهذه العيوب بالإذن لهم في إزالتها بالجراحة اللازمة، وذلك لما يأتي: أولاً: إن هذه العيوب تشتمل على ضرر حسي، ومعنوي وهو موجب للترخيص بفعل الجراحة لأنه يعتبر حاجة، فتنزل منزلة الضرورة ويرخص بفعلها إعمالاً للقاعدة الشرعية التي تقول: الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة. ثانياً: يجوز فعل هذا النوع من الجراحة كما يجوز فعل غيره من أنواع الجراحة المشروعة … فالجراحة العلاجية مثلاً وجدت فيها الحاجة المشتملة على ضرر الألم وهو ضرر حسي، وهذا النوع من الجراحة في كثير من صوره يشتمل على الضرر الحسي والمعنوي ولا يشكل على القول بجواز فعل هذا النوع من الجراحة، ما ثبت في النصوص الشرعية من تحريم تغيير خلقة الله تعالى وما سيأتي من الحكم بتحريم الجراحة التجميلية التحسينية وذلك لما يأتي: أولاً: إن هذا النوع من الجراحة وجدت فيها الحاجة الموجبة للتغيير، فأوجبت استثناءه من النصوص الموجبة للتحريم، قال الإمام النووي رحمه الله في شرحه لحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في لعن النبي صلى الله عليه وسلم للواشمات والمستوشمات: [وأما قوله (المتفلجات للحسن) فمعناه يفعلن ذلك طلباً للحسن وفيه إشارة إلى أن الحرام هو المفعول لطلب الحسن، أما لو احتاجت إليه لعلاج أو عيب في السن ونحوه فلا بأس] . فبين رحمه الله أن المرم ما كان المقصود منه التجميل والزيادة في الحسن وأما ما وجدت فيه الحاجة الداعية إلى فعله فإنه لا يشمله النهي والتحريم. وهذا النوع من الجراحة وجدت فيه الحاجة كما تقدم لأن هذه العيوب منها ما يشتمل على بعض الآلام كتشوهات الحالب وأورامه وأورام الحويضة وكسور الوجه ومنها ما يشتمل على ما هو في حكم الألم من تأذي المصاب به من فوات مصلحة العضو كما في الأصابع الملتصقة وانسداد فتحة الشرج والشق الموجود في الشفة فكل هذه أضرار موجبة للترخيص واستثناء الجراحة المتعلقة بها من عموم النهي عن تغيير الخلقة. ثانياً: إن هذا النوع لا يشتمل على تغيير الخلقة قصداً لأن الأصل فيه أنه يقصد منه إزالة الضرر، والتجميل والحسن جاء تبعاً. ثالثاً: إن إزالة التشوهات والعيوب الطارئة لا يمكن أن يصدق عليه أنه تغيير لخلقة الله، وذلك لأن خلقة العضو هي المقصودة من فعل الجراحة وليس المقصود إزالتها. رابعاً: إن إزالة تشوهات الحروق والحوادث يعتبر مندرجاً تحت الأصل الموجب لجواز معالجتها فالشخص مثلاً إذا احترق ظهره أذن له في العلاج والتداوي وذلك بإزالة الضرر وأثره لأنه لم يرد نص يستثني الأثر من الحكم الموجب لجواز مداواة تلك الحروق فيستصحب حكمه إلى الآثار ويؤذن له بإزالتها وبناء على ما سبق فإنه لا حرج على الطبيب ولا على المريض في فعل هذا النوع من الجراحة والإذن به ويعتبر جواز إزالة العيوب الخلقية في هذا النوع مبنياً على وجود الحاجة الداعية إلى فعله وأما العيوب الحادثة بسبب الحروق والحوادث ونحوها فإنه تجوز إزالتها بدون ذلك الشرط اعتباراً للأصل الموجب لجواز مداواة نفس الحرق والجرح] أحكام الجراحة الطبية ص 185-187.
هذا هو النوع الأول من أنواع الجراحة التجميلية وكما رأينا فهو جائز ولا بأس به بعد توفر الشروط التالية: 1. أن لا يترتب على فعلها ضرر أكبر من ضرر الحالة المرضية أو من التشوه الموجود فإذا اشتملت على ضرر أكبر فلا يجوز فعلها فإن الضرر لا يزال بمثله ولا بأكبر منه كما هو معروف من القواعد الفقهية الشرعية. 2. ألا يكون هنالك وسيلة للعلاج يكون استعمالها أهون وأسهل ولا يترتب عليها ضرر كما في الجراحة فإذا أمكن العلاج بوسائل أسهل فينبغي المصير إليها. 3. أن يغلب على ظن الطبيب الجراح نجاح العملية بمعنى أن تكون نسبة احتمال نجاح العملية أكبر من نسبة احتمال فشلها، فإذا غلب على ظن الطبيب الجراح فشل العملية أو هلاك المريض فلا ينبغي الإقدام على ذلك، قال سلطان العلماء العز بن عبد السلام: [وأما ما لا يمكن تحصيل مصلحته إلا بإفساد بعضه كقطع اليد المتآكلة حفظاً للروح إذا كان الغالب السلامة فإنه يجوز قطعها] انظر العمليات التجميلية ص 34 فما بعدها. وأما النوع الثاني من عمليات التجميل فهي عمليات التجميل التحسينية التي يقصد بها تحسين المظهر وتحقيق الشكل الأفضل والصورة الأجمل دون وجود دوافع ضرورية أو حاجية تستلزم الجراحة. ومن هذا النوع عمليات تجميل الأنف إما بتصغيره أو تكبيره وتجميل الثديين للنساء بالتصغير أو التكبير وتجميل الوجه بشد التجاعيد، وتجميل الحواجب والتجميل بشد البطن أو التجميل بإزالة الدهون من الأرداف ونحو ذلك. [وهذا النوع من الجراحة لا يشتمل على دوافع ضرورية ولا حاجية بل غاية ما فيه تغيير خلقة الله تعالى والعبث بها حسب أهواء الناس وشهواتهم فهو غير مشروع ولا يجوز فعله وذلك لما يأتي: أولاً: لقوله تعالى - حكاية عن إبليس لعنه الله -: (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ) وجه الدلالة: أن هذه الآية الكريمة واردة في سياق الذم، وبيان المحرمات التي يسول الشيطان فعلها للعصاة من بني آدم ومنها تغيير خلقة الله. وجراحة التجميل التحسينية تشتمل على تغيير خلقة الله والعبث فيها حسب الأهواء والرغبات فهي داخلة في المذموم شرعاً وتعتبر من جنس المحرمات التي يسول الشيطان فعلها للعصاة من بني آدم. ثانياً: لحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلعن المتنمصات والمتفلجات للحسن اللآتي يغيرن خلق الله) رواه مسلم. وجه الدلالة: إن الحديث دل على لعن من فعل هذه الأشياء وعلل ذلك بتغيير الخلقة وفي رواية: (والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله) رواها أحمد فجمع بين تغيير الخلقة وطلب الحسن وهذا المعنيان موجودان في الجراحة التجميلية التحسينية لأنها تغيير للخلقة بقصد الزيادة في الحسن فتعتبر داخلة في هذا الوعيد الشديد ولا يجوز فعلها. ثالثاً: لا تجوز جراحة التجميل التحسينية كما لا يجوز الوشم والوشر والنمص بجامع تغيير الخلقة في كل طلباً للحسن والجمال. رابعاً: إن هذه الجراحة تتضمن في عدد من صورها الغش والتدليس وهو محرم شرعاً ففيها إعادة صورة الشباب للكهل والمسن في وجهه وجسده، وذلك مفض للوقوع في المحظور من غش الأزواج من قبل النساء اللاتي يفعلن ذلك وغش الزوجات من قبل الرجال الذين يفعلون ذلك] أحكام الجراحة الطبية ص 193-195. [خامساً: أن هذه الجراحة لا تخلو من الأضرار والمضاعفات التي تنشأ عنها ففي جراحة تجميل الثديين بتكبيرهما عن طريق حقن مادة السلكون أو الهرمونات الجنسية يؤدي ذلك إلى حدوث أخطار كثيرة إضافة إلى قلة نجاحها. ونظراً لخطورتها يقول بعض الأطباء المختصين: هناك اتجاه علمي بأن مضاعفات إجراء هذه العملية كثيرة لدرجة أن إجراءها لا ينصح به] المصدر السابق ص 196.
إذا تقرر هذا البيان حول الجراحة التجميلية فنعود إلى عملية شفط الدهون فأقول إذا كانت عملية شفط الدهون ضرورية أو حاجية مثل حالات الترهل والسمنة المفرطة وتضخم الصدر والأرداف وتضخم الثديين فبعض النساء لديهن أثداء كبيرة مترهلة وتشكل عبئاً ثقيلاً على الجسم وتؤدي إلى أمراض وانزلاق غضروفي في الظهر وتثقل على العمود الفقري فإنه حينئذ تجوز هذه العمليات بالشروط التي ذكرتها سابقاً وخاصة أنه يمكن علاج حالات السمنة الزائدة بوسائل أسهل من الجراحة فمثلاً يمكن ممارسة التمارين الرياضية ويمكن اتباع نظام غذائي معين فيه تخفيف للسمنة ونحو ذلك من الوسائل. وأما عمليات شفط الدهون من أجل رشاقة المظهر وتقليداً للممثلات وعارضات الأزياء وغيرهن من الساقطات وهو ما يسمونه التجميل من أجل التجميل فهذه العمليات محرمة شرعاً لأن الهدف من هذه العمليات هو مراعاة مقاييس الجمال كما تصورها وسائل الإعلام المختلفة فهذه العمليات داخلة في تغيير خلق الله سبحانه وتعالى وهو من عمل الشيطان واتباع لخطوات: (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ) ويدخل في قوله صلى الله عليه وسلم: (والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله) .(15/124)
125 - مسائل طبية
مرض الثلاسيميا,
السؤال من جمعية أصدقاء مرضى الثلاسيميا الفلسطينية ونصه: إن مشكلة الثلاسيميا هي ما تعرفون في بلادنا وإن نسبة انتشار المرض والسمة الوراثية تصل إلى 4% أي أن مئة وعشرين ألف مواطن يحملون سمة المرض الوراثية. فما هو الحكم الشرعي لإجراء الفحص الطبي لمثل هذه الأمراض سيما وأن السمة الوراثية لا تكتسب لاحقاً وإنما هي تبقى ملازمة للإنسان وجوداً أو نفياً طوال حياته.
الجواب: أولاً لا بد من التعريف بمرض الثلاسيميا وأخطاره وطرق علاجه وأساليب الوقاية منه. (فالثلاسيميا مرض وراثي يؤثر على صنع الدم، فتكون مادة الهيموغلوبين في كريات الدم الحمراء غير قادرة على القيام بوظيفتها مما يسبب فقر الدم عند المريض. وهناك نوعان من الثلاسيميا: نوع يكون الشخص فيه حاملاً للمرض ولا تظهر عليه أعراضه، أو قد تظهر أعراض فقر دم بسيط ويكون هذا الشخص قادراً على نقل المرض لأبنائه. ونوع يكون فيه الشخص مصاباً بالمرض وتظهر عليه أعراض واضحة للمرض منذ الصغر. وينتشر مرض الثلاسيميا في جميع أنحاء العالم، ولكن بنسبة أكبر في بعض البلدان، مثل بلدان حوض البحر الأبيض المتوسط. وقد أوضحت الدراسات أن حوالي 3-4% من السكان في فلسطين يحملون المرض أي ما يقارب 80-100 ألف شخص أو أكثر من ذلك. وينتقل مرض الثلاسيميا بالوراثة من الآباء إلى الأبناء إذا كان أحد الوالدين حاملاً للمرض أو مصاباً به، فمن الممكن أن ينتقل المرض إلى بعض الأبناء بصورته البسيطة [أي أن يصبحوا حاملين للمرض] . أما إذا كان الوالدان يحملان المرض فإن هناك احتمالاً بنسبة 25% أن يولد طفلهما مصاباً بالمرض بصورته الشديدة. وتظهر أعراض الإصابة بالثلاسيميا على المريض خلال السنة الأولى من العمر. ونتيجة لتكسر كريات الدم الحمراء مبكراً (السابق لأوانه) ، تظهر أعراض فقر دم شديد على النحو التالي: - شحوب البشرة، مع الاصفرار أحياناً. والتأخر في النمو. وضعف الشهية. وتكرر الإصابة بالالتهابات. ومع استمرار فقر الدم، تظهر أعراض أخرى مثل التغير في شكل العظام وخاصة عظام الوجه والوجنتين، وتصبح ملامح الوجه مميزة لهذا المرض. كما يحدث تضخم في الطحال والكبد، ويتأخر الطفل في النمو.
أما في الحالات البسيطة (لدى حاملي المرض) فقد يحدث فقر دم بسيط لدرجة لا يكون المرض فيها بادياً للعيان ويعيش صاحبه بشكل طبيعي جداً ولا يحتاج إلى أي علاج وقد لا تكتشف هذه الحالات إلا صدفة. والمريض بالثلاسيميا بحاجة إلى نقل دم بشكل دوري لتعويضه عن كريات الدم التي تتكسر وللمحافظة على مستوى مقبول من الهيموغلوبين في دمه. وكثرة نقل الدم إلى المريض تسبب ترسب الحديد بشكل يحمل الضرر لأعضاء جسمه ولذلك فمن المهم أن يحصل المريض على أدوية تساعد على طرد الحديد الزائد من الجسم. ويتم علاج المضاعفات التي قد تظهر لدى المريض حسب كل حالة. وهنالك أبحاث تجري لاكتشاف علاجات أفضل للثلاسيميا وتجرى أحياناً عمليات لزرع نخاع عظمي، ولكن هذه العمليات مكلفة جداً ونتائجها ليست مضمونة. ويعتبر الفحص الطبي قبل الزواج أهم وسيلة للوقاية من الثلاسيميا ويوصى بإجراء هذا الفحص في مجتمعنا للأشخاص المقبلين على الزواج وذلك لتجنب الزواج بين شخصين حاملين للمرض، وهذه الحالة الوحيدة التي يمكن أن تؤدي إلى ولادة طفل مصاب بالمرض بصورته الشديدة كما تتوفر القدرة على فحص الجنين في الأشهر الأولى من الحمل عند الشك بإمكانية إصابته. والطريقة الوحيدة للوقاية من الثلاسيميا هي تجنب ولادة أطفال مصابين به من خلال ما يلي: - الاستشارة الطبية والفحص الطبي قبل الزواج: إجراء المقبلين على الزواج لفحص طبي للتأكد من أنهما لا يحملان الثلاسيميا في آن واحد وخاصة أن نسبة الحاملين للمرض في بلادنا كبيرة - فحص الجنين في حالة الشك بإصابته بالثلاسيميا للتأكد من الإصابة واتخاذ الإجراءات الطبية اللازمة. - التقليل من ظاهرة الزاوج بين الأقارب فمرض الثلاسيميا كسائر الأمراض الوراثية يزداد انتشاراً في حالة الزاوج بين الأقارب إذ يزيد ذلك احتمال نقل الصفات الوراثية غير الحميدة إلى الأبناء. ولكن هذا لا ينفي ضرورة أن يقوم المقبلون على الزواج الذين لا تربطهم صلة قرابة بإجراء الفحص الطبي قبل الزواج) نشرة حول الثلاسيميا إصدار جمعية أصدقاء مرضى الثلاسيميا. هذه المعلومات الموثقة تبين لنا خطورة مرض الثلاسيميا وأثره السيء على مستقبل الأجيال وبناء على ذلك فلا بد من اتخاذ السبل للوقاية من هذا المرض. ومن المعلوم أن من مقاصد الشريعة الإسلامية المحافظة على النسل.
حيث إن النسل هو أحد الكليات الخمس أو الضرورات الخمس التي جاءت الشريعة الإسلامية بصيانتها والمحافظة عليها وشرع الإسلام أحكاماً كثيرة للمحافظة على النسل ليس هذا محل بحثها. ولكن المقصود هو وجوب المحافظة على النسل ويظهر هذا في نوعين من الأحكام الأول وقائي قبل وقوع المرض والثاني علاجي بعد وقوعه ويكون بالتداوي وأود أن أبين هنا ما يتعلق بالوقائي فمن المعلوم أن الوقاية خير من العلاج ولذا شرع الإسلام حسن اختيار الزوجة فقد جاء في الحديث عن عائشة رضي الله عنها أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (تخيروا لنطفكم فأنكحوا الأكفاء وأنكحوا إليهم) رواه ابن ماجة والحاكم وصححه الشيخ الألباني بمجموع طرق كما في السلسة الصحيحة 3/56-67 وحسنه في صحيح سنن ابن ماجة 1/333. ومن الوقاية أيضاً الابتعاد عن زواج الأقارب تفادياً لضعف النسل وخاصة إذا تكرر زواج الأقارب فإن النسل يكون أكثر ضعفاً.
وقد ورد في الأثر عن عمر رضي الله عنه أنه قال لآل السائب: قد أضوأتم فانكحوا في النوابغ قال الحربي يعني تزوجوا الغرائب. ذكره الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير 3/146. وقد رويت بعض الأحاديث في تغريب النكاح ولكنها ليست ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكر الحافظ ابن حجر في المصدر السابق. وذكر طرفاً منها الزبيدي في إتحاف السادة المتقين 5/348-349. ومع ذلك فإن تغريب النكاح أمر معروف لدى الناس قديماً وحديثاً. وما دام أن العلم الحديث قد أثبت أن الزواج بين الأقارب من أسباب انتشار مرض الثلاسيميا فينبغي أخذ ذلك بالاعتبار والتقليل ما أمكن من زواج الأقارب. وإن حصل زواج بين الأقارب فينبغي أن لا يتكرر في العائلة الواحدة حيث إن توالي الزواج بين الأقارب في الآباء والأبناء يؤول إلى تأخر الذرية وانحطاطها بدناً وعقلاً ذلك الانحطاط الذي نرى آثاره ظاهرة في الأسر الكبيرة التي تلتزم ذلك فيما بين أفرادها. أما أسباب هذا الانحطاط فهي على الغالب اتحاد الأوصاف والأخلاق الموروثة المتشابهة من سيئة أو حسنة في العقب فتتجلى بوضوح أكثر مما كانت عليه في كل من الأبوين منفرداً. لهذا نرى في ثمرة هذا التزواج القريب الخوارق والتطرف في الحسن أو القبح والجودة أو الرداءة إلى غير ذلك وبما أن الأول من النوادر والثاني هو الغالب كان الأولى في التزاوج أن يكون بين الأباعد ليقل اتحاد الصفات المتشابهة. الطب النبوي والعلم الحديث 2/97-98. ومن طرق وأساليب الوقاية المعروفة حديثاً الفحص الطبي قبل الزواج وهو أمر مشروع أخذاً من عموم الأدلة الآمرة بالتداوي ويدل على مشروعية الفحص الطبي قبل الزواج قوله صلى الله عليه وسلم: (لا توردوا الممرض على المصح) رواه مسلم. ويؤيده أيضاً ما جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رجلاً خطب امرأة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم انظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئاً) رواه مسلم.
والفحص الطبي قبل الزواج يشمل الفحوصات التي تعنى بمعرفة الأمراض الوراثية والمعدية والجنسية وغيرها. والفحص الطبي قبل الزواج له منافع كثيرة منها [1. تعتبر الفحوصات الطبية قبل الزواج من الوسائل الوقائية الفعالة جداً في الحدّ من الأمراض الوراثية والمعدية والخطرة. 2. وهي تشكل حماية للمجتمع من انتشار الأمراض والحد منها والتقليل من أي كوارث تحدث هزات مالية وإنسانية للأفراد والأسر والمجتمعات، خاصة لدى ارتفاع نسب المعاقين في الجتمع وتأثيره المالي والإنساني من كون متطلباتهم أكثر من حاجات الأفراد الآخرين. 3. تحاول هذه الفحوصات أن تضمن إنجاب أطفال أصحاء سليمين عقلياً وجسدياً من تزاوج الخاطبين المعنيين وعدم انتقال الأمراض الوراثية التي يحملها أو يظهرها أحد الخاطبين أو كلاهما. 4. تحديد قابلية الزوجين المؤهلين للإنجاب من عدمه بصورة عامة وإلى حد ما لأن أسباب العقم ليست معروفة كلها ويحقق رغبة الخطيبين لمعرفة الأسباب المحتملة للعقم وبهذا يقدمان على الزواج وهما مطمئنين بأنهما سيكون لهما أولاد بإذن الله لأن وجود العقم في أحد الزوجين قد يكون من أهم أسباب الاختلاف والنزاع بين الزوجين وقد يصل ذلك إلى الطلاق. 5. ويهدف الفحص الطبي إلى التحقق من قدرة كل من الزوجين المؤهلين على ممارسة علاقة جنسية سليمة مع الطرف الآخر بما يشبع رغبات كل منهما بصورة طبيعية والتأكد من عدم وجدود عيوب عضوية أو فيزيولوجية مرضية تقف أمام هذا الهدف المشروع لكل من الزوجين. 6. كذلك يهدف الفحص الطبي للتحقق من وجود أمراض مزمنة مؤثرة على مواصلة الحياة بعد الزواج مثل السرطانات وغيرها مما له دور في إرباك استقرار الحياة الزوجية المؤملة. 7. ضمان عدم تضرر صحة كل من الخاطبين نتيجة معاشرة الآخر جنسياً وحياتياً والتأكد من سلامتهما من الأمراض الجنسية والمعدية وغيرها من الوبائيات ويشتمل كذلك على عدم تضرر صحة المرأة أثناء الحمل وبعد الولادة نتيجة اقترانها بالزوج المأمول] مستجدات فقهية في قضايا الزواج ص 84-85. وبناءً على ذلك فإن الفحص الطبي أخذ بالأسباب المشروعة وعليه فينبغي تشجيع الناس على إجراء الفحص الطبي قبل الزواج لأنه يحقق الأهداف المشروعة من الزواج فننصح المقبلين على الزواج إجراء فحوصات للدم لتحديد ما إذا كان الشخص حاملاً للثلاسيميا أو خالياً منها ويعتبر هذا الفحص من طرق الوقاية المطلوبة شرعاً.
وكذلك فإن الفحص الطبي قبل الزواج يحقق مصالح مشروعة للفرد وللأسرة والمجتمع ويدرأ مفاسد اجتماعية ومالية على المستوى الإجتماعي والاقتصادي. انظر المصدر السابق ص 96-97.(15/125)
126 - اللباس والزينة
لا يجوز تزيين الملابس بالآيات القرآنية ,
يقول السائل: إنه قرأ فتوى في إحدى الصحف تتعلق بالملابس التي كتبت عليها آيات من القرآن الكريم وقد جاء فيها: [يجوز لبس الثوب المطرز بآيات من القرآن حتى للمحدث حدثاً أكبر أو أصغر ... ] فما قولكم في ذلك؟
الجواب: القرآن الكريم كتاب هداية ودستور ومنهاج للأمة وقد أنزل القرآن ليسير الناس وفق هداه ويطبقوه في حياتهم. وتعظيم كتاب الله أمر واجب في حق كل مسلم ومن وقر القرآن فقد وقر الله سبحانه وتعالى ومن استخف بالقرآن فقد استخف بالله تعالى: (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) وقد ورد عن عمر رضي الله عنه أنه قال: (عظموا القرآن) تفسير القرطبي 1/29. وقد ذكر العلماء جملة من الآداب التي ينبغي للمسلم أن يتحلى بها عند التعامل مع القرآن الكريم. انظر التبيان في آداب حملة القرآن للإمام النووي. إذا تقرر هذا فنعود إلى السؤال فنقول: إنه لا يجوز أن يكتب شيء من القرآن على الملابس أو تطرز الملابس بالآيات القرآنية لما في ذلك من امتهان لكلام الله سبحانه وتعالى واحتقار له حيث إن الإنسان إذا لبس ثوباً عليه آيات من القرآن فقد يجلس عليها أو يقضي حاجته وهو يلبس تلك الثياب فيدخل محل النجاسات، وكتاب الله ينزه عن ذلك الامتهان.
وكم يكون امتهان كتاب الله كبيراً وفظيعاً إذا كتبت بعض الآيات على الملابس الداخلية للرجال والنساء أو على ملابس البحر كما فعلت بعض المصانع الأجنبية؟ كما أن القول بجواز ذلك للمحدث حدثاً أكبر أو أصغر كما جاء في الفتوى فيه استخفاف بكلام الله وتحقير له فإذن يجوز بناء على هذه الفتوى أن يجامع الرجل زوجته وهما أو أحدهما يلبس ملابس طرزت بآيات القرآن الكريم؟ هل يصح هذا شرعاً؟!! فالقول بجواز ذلك فيه فتح باب شر كبير يؤدي إلى استهانة الناس بكتاب الله سبحانه وتعالى أو ببعضه وبعض المصحف له حكم المصحف كما قرر ذلك أهل العلم، انظر كشاف القناع 1/59. والقول بجواز ذلك غير صحيح لما فيه من تعريض آيات القرآن للامتهان والاحتقار، فالملابس قد تتسخ أو تصيبها نجاسة كما أن الإنسان قد يخلع الثوب الذي كتب عليه بعض القرآن ويضعه مع غيره من الملابس القذرة أو في محل قذر وكذلك قد ينام فيها، فهذا كله فيه إهانة لكلام الله سبحانه وتعالى، فالقول بجواز ذلك لا وجه له وترده الأصول والقواعد العامة القاضية بوجوب احترام كلام الله عز وجل وقد ذكر الحافظ ابن رجب أن الإمام أحمد سئل عن الستر يكتب عليه القرآن فكره ذلك وقال: [لا يكتب القرآن على شيء منصوب لا ستر ولا غيره] أحكام الخواتم ص 103. وقد منع كثير من أهل العلم نقش جدران المساجد بآيات من القرآن الكريم والجدران مرفوعة ومصانة فكيف بالملابس التي تلبس وتتعرض للنجاسات وللدخول بها إلى محل قضاء الحاجة ولغير ذلك من الامتهان؟ فالقرآن الكريم له حرمته في قلب كل مسلم وما زال المسلمون إلى وقتنا الحاضر يرفضون كتابة آيات من القرآن الكريم أو لفظ الجلالة أو لفظ محمد صلى الله عليه وسلم أو أي شيء مقدس على الملابس والمصنوعات أو إطلاق مثل ذلك على المحلات. وكم مرة قرأنا أو سمعنا تقديم احتجاجات من المسلمين وجمعياتهم في بلاد الغرب ضد شركات أو مصانع وضعت آيات من القرآن الكريم على منتوجاتها ثم يأتي بعض المفتين في ديارنا فيجيزون ذلك اعتماداً على أقوال بعض متأخري الفقهاء دون حجة أو دليل صحيح. وقد تكون فتواهم مناسبة لزمانهم وأما في زماننا فقد تغيرت الظروف والأحوال فيتغير مناط الحكم. إن الأصول العامة للشريعة الإسلامية ترد هذه الفتوى ولو من باب سد الذرائع لما قد تؤدي إليه من امتهان واحتقار لكلام رب العالمين ولما في ذلك من مصادمة مقاصد الشارع الحكيم في تعظيم القرآن الكريم.
وقد منع أهل العلم المعاصرون مثل هذه الأمور وصدرت فتاوى كثيرة بهذا الخصوص منها فتوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء السعودية حيث ورد سؤال عرض على اللجنة متعلق بكتابة آية الكرسي والبسملة على ساعة حائط فأجابت اللجنة بما يلي: [أنزل الله القرآن ليتعبد الناس بتلاوته وتدبر معانيه فيعرفوا أحكامه ويأخذوا أنفسهم بالعمل بها وهكذا يكون موعظة له وذكرى تقشعر منه جلودهم وتلين به قلوبهم ويكون شفاء لما في الصدور من الجهل والضلال وطهارة للنفوس من أدران الشكوك وما ارتكبته من المعاصي والذنوب وجعله سبحانه هدى ورحمة لمن فتح له قلبه وألقى إليه السمع وهو شهيد قال الله تعالى: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) وقال: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ) الآية وقال: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) وجعل الله سبحانه القرآن معجزة لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم وآية باهرة على أنه رسول الله من عند الله إلى الناس كافة رحمة بهم وإقامة للحجة عليهم قال تعالى: (وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِءَايَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) وقال: (تِلْكَءَايَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ) وقال: (تِلْكَءَايَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ) إلى غير ذلك من الآيات، وإذاً فالقرآن كتاب هداية وتشريع ومواعظ وعبر وبيان للأحكام وآية بالغة ومعجزة باهرة وحجة دامغة أيد الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم ولم ينزله سبحانه ليكتب كلمة أو آية منه على ساعات الدليل زينة لها أو ترويجاً لها وإغراء بشرائها أو ليتخذها حاملها حرزاً له إلى جانب استخدامها في معرفة الجهات فكتابة آية من القرآن أو اكثر على ساعات الدليل أو نحوها فيه انحراف بالقرآن عما أنزل من أجله واستعماله فيما فيه إزراء به وإهانة له بتعريضه إلى ما لا يليق به من الأوساخ والأقذار ودخول بيت الخلاء به ونحو ذلك ومع هذا فهو عمل مخالف لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهدي أصحابه رضي الله عنهم ولما كان عليه السلف الصالح فعلى من آمن بالقرآن وسنة النبي عليه الصلاة والسلام وأراد الخير لنفسه أن يبتغي البركة وصلاح شؤونه في دينه ودنياه من الله سبحانه بتلاوة كتابه الكريم والعمل به في عباداته ومعاملاته ليفيض سبحانه عليه ويعظم له الأجر ويحفظه في كل أحواله وييسر له سائر شؤونه. وكذلك الحكم في كتابة الكلمات: (الله أكبر ولا إله إلا الله محمد رسول الله) التي جعلت داخل إطار ساعة الدليل فإنها جعلت في الشرع لإعظام الله وإكباره والثناء عليه بها ومفتاحاً للدخول في الإسلام وعلامة على الإيمان ويعصم بها دم من قالها وماله ولم تجعل لتكون رسوماً على أجهزة أو ساعات أو آلات للاستهانة بها فمن المعلوم أن ساعات الدليل وغيرها تؤدي الغرض الذي صنعت من أجله من غير أن يتوقف ذلك على كتابة الآية أو هذه الأذكار عليها أو فيها] فتاوى اللجنة الدائمة 4/34-35.
وسئل العلامة الشيخ عبد الله بن حميد رحمة الله عليه: [ما حكم وضع آية الكرسي على قلب من ذهب للنساء والأطفال وكذلك كلمة الله ومحمد صلى الله عليه وسلم وحكم الدخول به في دورات المياه أفيدونا جزاكم الله خيراً؟ فأجاب: هذا خطأ، القرآن لم ينزل للهو بأن يجعل على ذهب أو أواني أو ما أشبه ذلك إنما القرآن أنزله الله شفاء لأمراض القلوب وهداية للناس ونوراً ورحمة وموعظة للمؤمنين ولم ينزل القرآن من اجل أن يعلقوه على حليهم!! أو يعلقوه على ملابسهم!! ثم دخولهم به دورات المياه لقضاء حاجتهم فهذا لا يجوز ولا ينبغي. القرآن يجل ويعظم وينزه أن يسلك به هذا المسلك السيء القرآن أنزله الله هدى، قال الله تعالى: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا) الإسراء الآية 82. فتعليق القرآن على هذه الكيفية لا يجوز، بل لا بد من محي القرآن وإزالته عن هذه المعلقات من ذهب أو غيره لأن فيها امتهان للقرآن وكذلك فإن دخولهم لدورات المياه وللحمامات ولأمكنة قضاء الحاجة وهم حاملون للقرآن فلا يجوز بكل حال بل لا بد من إزالة القرآن تعظيماً له وتوقيراً عن مثل هذا الصنيع كما قرره أهل العلم] فتاوى المرة المسلمة 1/458.(15/126)
127 - المحارم
يقول السائل: عندنا شخص لا يصافح أمه ولا أخته ولا يزور أخته المتزوجة إلا وزوجها حاضر لأنه يعتبر وجوده مع أخته في بيت واحد خلوة فما قولكم في ذلك؟
الجواب: مصافحة الرجل لأمه ولأخته ولمحارمه على التأبيد جائزة شرعاً ولا بأس بها بشرط أمن الشهوة فإذا خشي حصول الشهوة عند مصافحة إحدى محارمه فيحرم عليه مصافحتها. وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصافح ابنته فاطمة رضي الله عنها ويقبلها فقد جاء في الحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما رأيت أحداً من الناس كان أشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم كلاماً ولا حديثاً ولا جلسة من فاطمة. قالت: وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رآها قد أقبلت رحب بها ثم قام إليها فقبلها ثم أخذ بيدها فجاء بها حتى يجلسها في مكانه وكانت إذا أتاها النبي صلى الله عليه وسلم رحبت به ثم قامت إليه فأخذت بيده فقبلته] رواه الإمام البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والبيهقي والحاكم وصححه الشيخ الألباني في صحيح الأدب المفرد 1/355. وعن ابن عباس قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم من سفر قبل ابنته فاطمة) رواه الطبراني في الأوسط ورجاله ثقات وفي بعضهم ضعف لا يضر كما قال الهيثمي في مجمع الزوائد 8/42. وروى البيهقي بإسناده: (أن أبا بكر دخل على عائشة وقد أصابتها الحمى فقال لها: كيف أنت يا بنية؟ وقبل خدها) سنن البيهقي 7/101. وأما الخلوة مع الأخت فالأصل أن الانفراد مع الأخت أو البنت وغيرهما من المحرمات على التأبيد لا يعتبر خلوة محرمة إلا إذا خشي المرء على نفسه الفتنة والشهوة فقد ورد في الحديث عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا لا يبيتن رجل عند امرأة ثيب إلا أن يكون ناكحاُ أو محرماً) رواه مسلم. قال الإمام النووي: [معناه لا يبيتن رجل عند امرأة إلا زوجها أو محرم لها. قال العلماء: إنما خص الثيب لكونها التي يدخل إليها غالباً وأما البكر فمصونة متصونة في العادة مجانبة للرجال أشد مجانبة فلم يحتج إلى ذكرها ولأنه من باب التنبيه لأنه إذا نهي عن الثيب التي يتساهل الناس في الدخول عليها في العادة فالبكر أولى. وفي هذا الحديث والأحاديث بعده تحريم الخلوة بالأجنبية وإباحة الخلوة بمحارمه وهذان الأمران مجمع عليهما وقد قدمنا أن المحرم هو كل من حرم عليه نكاحها على التأبيد لسبب مباح لحرمتها. فقولنا: على التأبيد احتراز من أخت امرأته وعمتها وخالها ونحوهن ومن بنتها قبل الدخول بالأم] شرح النووي على صحيح مسلم 5/328.(15/127)
128 - كشف أسرار البيوت
يقول السائل: إن زوجته تجلس مع صديقاتها كثيراً ويتحدثن في أمور حياتهن الزوجية وعن علاقتهن بأزواجهن وإن مثل هذه الأحاديث تؤدي إلى كشف بعض الأسرار عن حياته مع زوجته وهو يبغض هذا التصرف من زوجته، فما حكم الشرع في ذلك، أفيدونا؟
الجواب: لا شك أن في الحياة الزوجية أسراراً كثيرة يجب على الزوجين أن يحافظا على كتمانها ولا يجوز إفشائها وهذا الكتمان يتناول المعاشرة بين الزوجين وأموراً أخرى خاصة بهما ويجب أن يعلم أن حفظ أسرار الحياة الزوجية واجب على الزوج والزوجة معاً وليس الأمر مخصوصاً بأحدهما وقد أثنى الله على النساء الصالحات بقوله تعالى: (فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ) سورة النساء الآية 34. قال الشهيد سيد قطب يرحمه الله: [فمن طبيعة المؤمنة الصالحة ومن صفتها الملازمة لها بحكم إيمانها وصلاحها، أن تكون قانتة مطيعة، والقنوت: الطاعة عن إرادة وتوجه ورغبة ومحبة، لا عن قسر وإرغام وتفلت ومعاظلة! ومن ثم قال: قانتات، ولم يقل طائعات، لأن مدلول اللفظ الأول نفسي وظلاله رخية ندية وهذا هو الذي يليق بالسكن والمودة والستر والصيانة بين شطري النفس الواحدة، في المحضن الذي يرعى الناشئة ويطبعهم بجوه وأنفاسه وظلاله وإيقاعاته! ومن طبيعة المؤمنة الصالحة ومن صفاتها الملازمة لها بحكم إيمانها وصلاحها كذلك أن تكون حافظة لحرمة الرباط المقدس بينها وبين زوجها في غيبته - وبالأولى في حضوره - فلا تبيح من نفسها في نظرة أو نبرة، - بله العرض والحرمة - ما لا يباح إلا له هو بحكم أنه الشطر الآخر للنفس الواحدة. وما لا يباح، لا تقرره هي ولا يقرره هو، إنما يقرره الله سبحانه (بِمَا حَفِظَ اللَّهُ) . فليس الأمر أمر رضاء الزوج عن ان تبيح زوجته من نفسها في غيبته أو حضوره، ما لا يغضب هو له، أو يمليه عليه وعليها المجتمع! إذا انحرف المجتمع عن منهج الله. إن هنالك حكماً واحداً في حدود هذا الحفظ فعليها أن تحفظ نفسها (بِمَا حَفِظَ اللَّهُ) ، والتعبير القرآني لا يقول هذا بصيغة الأمر، بل بما هو أعمق وأشد توكيداً من الأمر، إنه يقول: إن هذا الحفظ بما حفظ الله هو من طبيعة الصالحات ومن مقتضى صلاحهن! وعندئذ تتهاوى أعذار المهزومين والمهزومات من المسلمين والمسلمات، أمام ضغط المجتمع المنحرف، وتبرز حدود ما تحفظه الصالحات بالغيب: (بِمَا حَفِظَ اللَّهُ) مع القنوت الطائع الراضي الودود] في ظلال القرآن 2/357-358.
وقال الشيخ محمد رشيد رضا يرحمه الله في تفسير الآية السابقة: [هذا تفصيل لحال النساء في هذه الحياة المنزلية التي تكون المرأة فيها تحت رياسة الرجل ذكر أنهن فيها قسمان صالحات وغير صالحات وأن من صفة الصالحات القنوت وهو السكون والطاعة لله تعالى وكذا لأزواجهن بالمعروف وحفظ الغيب. قال الثوري وقتادة: حافظات للغيب يحفظن في غيبة الأزواج ما يجب حفظه في النفس والمال وروى ابن جرير والبيهقي من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خير النساء التي إذا نظرت إليك سرتك وإذا أمرتها أطاعتك وإذا غبت عنها حفظتك في مالك ونفسها) وقرأ صلى الله عليه وسلم الآية. وقال الأستاذ الإمام: الغيب هنا هو ما يستحى من إظهاره أي حافظات لكل ما هو خاص بأمور الزوجية لكل ما هو خاص بأمور الزوجية الخاصة بالزوجين فلا يطلع أحد منهن على شيء مما هو خاص بالزوج. أقول ويدخل في قوله هذا وجوب كتمان كل ما يكون بينهن وبين أزواجهن في الخلوة ولا سيما حديث الرفث فما بالك بحفظ العرض، وعندي أن هذه العبارة هي أبلغ ما في القرآن من دقائق كنايات النزاهة تقرأها خرائد العذارى جهراً ويفهمن ما تومىء إليه مما يكون سراً وهن على بعد من خطرات الخجل أن تمس وجدانهن الرقيق بأطراف أناملها فلقلوبهن الأمان من تلك الخلجات التي تدفع الدم إلى الوجنات ناهيك بوصل حفظ الغيب (بِمَا حَفِظَ اللَّهُ) فالانتقال السريع من ذكر ذلك الغيب الخفي إلى ذكر الله الجلي يصرف النفس عن التمادي في التفكر فيما يكون من وراء الأستار من تلك الخفايا والأسرار وتشغلها بمراقبته عز وجل وفسروا قوله تعالى (بِمَا حَفِظَ اللَّهُ) بما حفظه لهن في مهورهن وإيجاب النفقة لهن يريدون أنهن يحفظن حق الرجال في غيبتهم جزاء على المهر ووجوب النفقة المحفوظين لهن في حكم الله تعالى وما أراك إلا ذاهباً معي إلى وهن هذا القول وهزاله وتكريم أولئك الصالحات بشهادة الله تعالى أن يكون حفظهن لذلك الغيب من يد تلمس أوعين تبصر أو أذن تسترق السمع معللاً بدراهم قبضن ولقيمات يرتقبن ولعلك بعد أن تمج هذا القول يقبل ذوقك ما قبله ذوقي وهو أن الباء في قوله (بِمَا حَفِظَ اللَّهُ) هي صنو باء لا حول ولا قوة إلا بالله، وان المعنى حافظات للغيب بحفظ الله أي بالحفظ الذي يؤتيهن الله إياه بصلاحهن فإن الصالحة يكون لها من مراقبة الله تعالى وتقواه ما يجعلها محفوظة من الخيانة قوية على حفظ الأمانة أو حافظات له بسبب أمر الله بحفظه فهن يطعنه ويعصين الهوى فعسى أن يصل معنى هذه الآية إلى نساء عصرنا اللواتي يتفكهن بإفشاء أسرار الزوجية ولا يحفظن الغيب فيها!] تفسير المنار 5/70-71. وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من كشف أسرار العلاقة الزوجية بين الزوجين فقد جاء في الحديث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر سرها) رواه مسلم. وفي رواية أخرى عند مسلم: (إن من أعظم الأمانة عند الله يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر سرها) . قال الإمام النووي يرحمه الله شارحاً الحديث: [باب تحريم إفشاء سر المرأة ... وفي هذا الحديث تحريم إفشاء الرجل ما يجري بينه وبين امرأته من أمور الاستمتاع ووصف تفاصيل ذلك وما يجري من المرأة فيه من قول أو فعل ونحوه] شرح النووي على صحيح مسلم 10/8-9. وجاء في حديث طويل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال مخاطباً أصحابه: (هل منكم الرجل إذا أتى أهله فأغلق عليه بابه وألقى عليه ستره واستتر بستر الله؟ قالوا: نعم. قال: ثم يجلس بعد ذلك فيقول فعلت كذا فعلت كذا. قال: فسكتوا. قال: فأقبل على النساء فقال: هل منكن من تحدث؟ فسكتن. فجثت فتاة على إحدى ركبتيها وتطاولت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليراها ويسمع كلامها، فقالت: يا رسول الله إنهم ليتحدثون، وإنهن ليتحدثن. فقال: هل تدرون ما مثل ذلك؟ فقال: إنما مثل ذلك مثل شيطانة لقيت شيطاناً في السكة فقضى منها حاجته والناس ينظرون إليه) رواه أبو داود وأحمد، وفي سنده بعض كلام وله شواهد تقويه، كما قال ابن حجر المكي الهيتمي في الزواجر 2/59. وقال صاحب عون المعبود: [والحديث يدل على تحريم إفشاء أحد الزوجين لما يقع بينهما من أمور الجماع وذلك لأن كون الفاعل لذلك بمنزلة شيطان لقي شيطانة فقضى حاجته منها والناس ينظرون، من أعظم الأدلة الدالة على تحريم نشر أحد الزوجين للأسرار الواقعة بينهما الراجعة إلى الوطء ومقدماته] عون المعبود شرح سنن أبي داو 6/158. وقد اعتبر الشيخ ابن حجر المكي الهيتمي أن نشر أسرار العلاقة الزوجية من كبائر الذنوب واستدل على ذلك بالأحاديث الصحيحة الواردة في ذلك، انظر الزواجر عن اقتراف الكبائر 2/60. وكما قلت فإن المحافظة على الأسرار بين الزوجين ليست مقصورة على العلاقة الزوجية بينهما بل تتعداها إلى أمور كثيرة في الحياة الزوجية وقد لام النبي صلى الله عليه وسلم بعض زوجاته عندما أفشت بعض الأسرار التي أطلعها عليها، قال الله تعالى: (وإذ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ) سورة التحريم 3-4.
وكذلك فإن البيوت فيها أسرار كثيرة لا ينبغي نشرها وإشاعتها وإن نشر تلك الأسرار قد يؤدي إلى وقوع الخلاف والنزاع بين الزوجين فمحافظة على استقرار الحياة الزوجية يجب كتمان أسرار الزوجين وعدم نشرها. ومما ينبغي التنبيه عليه أن كتمان الأسرار يدخل في مجالات كثيرة منها مجال العمل فالموظف الذي يعمل في شركة أو مصنع أو أية مؤسسة عليه أن يحافظ على أسرار العمل الذي يشتغل فيه ولا يجوز له أن يفشي أسرار محل عمله لما يترتب على ذلك من إلحاق الضرر والأذى وإن إفشاء مثل هذه الأسرار يعتبر خيانة للأمانة والله سبحانه وتعالى يقول: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) سورة الأنفال الآية 27. فإفشاء السر خيانة للأمانة وخيانة الأمانة من المحرمات وقد جاء في الحديث عن أنس رضي الله عنه أنه قال (أتى عليَّ النبي صلى الله عليه وسلم وأنا ألعب مع الغلمان فسلّم علينا فبعثني في الحاجة فأبطأت على أمي فلما جئت قالت: ما حبسك؟ فقلت: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجة. قال: ما حاجته؟ قلت: إنها سر. قالت: لا تخبرن بسر رسول الله صلى الله عليه وسلم) رواه مسلم.(15/128)
129 - الديوث
يقول السائل: ما المقصود بالديوث الذي ورد ذكره في الحديث النبوي؟
الجواب: ورد ذكر الديوث في عدة أحاديث منها: ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة قد حرّم الله عليهم الجنة مدمن الخمر والعاق والديوث الذي يقر الخبث في أهله) . وفي رواية أخرى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث لا يدخلون الجنة ولا ينظر الله إليهم يوم القيامة العاق والديه والمرأة المترجلة المتشبهة بالرجال والديوث) رواه أحمد وذكر الشيخ الألباني أن حديث ابن عمر رواه النسائي والحاكم والبيهقي في سننه من طريقين صحيحين وصححه الحاكم ووافقه الذهبي وأقرهما الألباني على ذلك. جلباب المرأة المسلمة ص 145. وعن عمار رضي الله عنه أن عليه الصلاة والسلام قال: (ثلاثة لا يدخلون الجنة أبداً الديوث والرجلة من النساء ومدمن الخمر. قالوا: يا رسول الله أما مدمن الخمر فقد عرفناه فما الديوث؟ قال: الذي لا يبالي من دخل على أهله. قلنا: فما الرجلة من النساء؟ قال: التي تشبه بالرجال) رواه الطبراني والبيهقي في الشعب وهو حديث حسن، وقال المنذري: [رواه الطبراني ورواته لا أعلم فيهم مجروحاً وشواهده كثيره] الترغيب 3/214. والديوث هو الذي يقر الخبث في أهله كما ورد مفسراً في حديث ابن عمر، وقال ابن منظور: [الديوث هو الذي لا يغار على أهله] لسان العرب 4/456، وفسره به ابن الأثير في النهاية 2/147 وقال العلامة علي القاري: (والديوث الذي يقر أي يثبت بسكوته على أهله أي من امرأته أو جاريته أو قرابته الخبث أي الزنا أو مقدماته وفي معناه سائر المعاصي كشرب الخمر وترك غسل الجنابه ونحوهما، قال الطيبي أي: الذي يرى فيهن ما يسوءه ولا يغار عليهن ولا يمنعهن فيقر في أهله الخبث) مرقاة المفاتيح 7/ 241. وخلاصة الأمر أن الديوث هو الذي لا يغار على زوجته ومحارمه والدياثة من كبائر الذنوب وقد عدها ابن حجر المكي منها وذكر الأحاديث السابقة وغيرها ثم قال: [قال الجلال البلقيني: فهذه كبيرة بلا منازع ومفسدتها عظيمة] الزواجر عن اقتراف الكبائر 2/109-111. والديوث فاسق عند العلماء ومردود الشهادة عند الشافعية والحنابلة لأنه يرى المنكرات في أهله ومحارمه ويسكت.
قال العلامة ابن القيم: [وذكر الديوث في هذا الحديث وما قبله يدل على أن أصل الدين الغيرة، من لا غيرة له لا دين له فالغيرة تحمي القلب فتحمي له الجوارح فترفع السوء والفواحش وعدمها يميت اللب فتموت الجوارح فلا يبقى عندها دفع البتة والغيرة في القلب كالقوة التي تدفع المرض وتقاومه فإذا ذهبت القوة كأنه الهلاك] فيض القدير 3/430-431.(15/129)
130 - تدريب رجل للفتيات
ما حكم أن يدّرب الرجل امرأة على قيادة السيارة؟
الجواب: يجوز للرجل أن يدرب المرأة على قيادة السيارة بشرط أن لا يخلو بها كأن يكونا منفردين أثناء التدريب بل لا بد من وجود شخص ثالث كزوج المرأة أو أخيها أو أختها أو ابنها أو غيرهم، لأن انفراد المدرب مع المرأة قد يوقعهما في الفساد وخاصة أن بعض مدربي قيادة السيارات يأخذون المتدربين إلى مناطق خالية فسداً لطرق الفساد لا بد من وجود شخص ثالث مأمون على المرأة. والأولى أن تتعلم المرأة القيادة على يد امرأة مثلها ويوجد الآن مدربات لهذا الأمر فإن تعذر ذلك فيجوز كما قلت أن تتعلم مع رجل وخاصة أن حاجة النساء لقيادة السيارات تكاد تكون كحاجة الرجال.(15/130)
131 - الاختلاط
تقول السائلة: إن إحدى الجمعيات تقيم حفلاً لتكريم مجموعة من النساء اللواتي أكملن حفظ أجزاء من القرآن الكريم ويحضر الاحتفال الرجال والنساء فتقوم إحدى الأخوات بتلاوة القرآن بصوت جميل أمام الجمهور ثم تقوم أخت أخرى بإلقاء خطبة وثالثة تقوم بإلقاء قصيدة ومجموعة من النساء ينشدن أنشودة على المسرح وكل ذلك أمام النساء والرجال مع العلم أنه يمكن أن يكون الاحتفال خاصاً بالنساء فما قولكم في ذلك؟
الجواب: إن التهاون في الأحكام الشرعية صار سمة واضحة عند بعض العاملين للإسلام وخاصة في مجال الأحكام الشرعية المتعلقة بالمرأة وما ذكر في السؤال هو مثال واضح يتكرر دائماً تحت راية العصرنة والتقدم وعدم الجمود. إن الإسلام قرر أن النساء شقائق الرجال وأن للمرأة أن تتعلم وتتقدم في العلوم كلها وشهد تاريخ الإسلام الحافظات للقرآن الكريم والمحدثات والفقيهات والأديبات والشاعرات ... الخ، ولكن ضمن ضوابط وقواعد الشريعة. والذي أراه أن الأصل هو أن تختص النساء بنشاطاتهن بشكل عام وكذلك الحال بالنسبة للرجال. وما دام يمكن تكريم الحافظات للقرآن الكريم ضمن احتفال نسائي خاص بهن فلماذا مشاركة الرجال؟ صحيح أن صوت المرأة الطبيعي ليس عورة كما هو قول جمهور أهل العلم، ولكن عندما تنشد المرأة نشيداً فلا بد من أن تتصنع في صوتها! وكذلك الحال عندما تنشد مجموعة من النساء وكل ذلك على المسرح وأمام الرجال!! وأين ذلك من قوله تعالى: (فَلَا تَخْضَعْنَ بالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا) سورة الأحزاب الآية 32. قال الشيخ ابن كثير في تفسير الآية: [ومعنى هذا أنها تخاطب الأجانب بكلام ليس فيه ترخيم] تفسير ابن كثير 3/482. إن ترخيم صوت المرأة وتحسينه قد يثير الفتنة بها وهذا مما يحرم من باب سد الذرائع، وكذلك فإن الرجال سينظرون إلى النساء أو إلى المرأة عندما تنشد أو ينشدن؟! وخلاصة الأمر أن هذه الأمور لا تجوز شرعاً فلا يجوز القيام بها.(15/131)
132 - الاختلاط
يقول السائل: ما حكم الشرع في لعب طالب وطالبة كرة الطاولة أمام الطلبة؟
الجواب: إن الناظر إلى حال طلبتنا وطالباتنا في الجامعات ليحزن مما يشاهده من اختلاط ومناظر سيئة تتكرر يومياً في الجامعات ومن هذه المناظر جلوس طالب مع طالبة منفردين وأجسامهما متلاصقة، ومنها اتخاذ الطالب صديقة له من الطالبات يذهب ويأتي معها باستمرار ومنها جلسات صاخبة بين الطلبة والطالبات وخصوصاً أن كثيراً من هذه النوعية من الطالبات متبرجات سافرات يلبسن الملابس الضيقة والفاضحة وشعورهن منفوشة ... الخ، وهذا شيء قليل مما هو واقع في جامعاتنا وإنني عندما أرى هذه المشاهد أتساءل في نفسي: أين هؤلاء من الأحكام الشرعية؟ أين هؤلاء من قيمنا وعاداتنا وتقاليدنا؟ أين أباء هؤلاء الطلبة الطالبات أليس عندهم شيء من الغيرة؟ هل يقبل هؤلاء الطلبة أن يتعامل الآخرون مع أخواتهم بهذه الطريقة؟ إلى غير ذلك من التساؤلات التي تثير المرارة والأسى في النفس. وإذا كان المسلم مطلوب منه غض البصر وكذلك المسلمة فكيف حال هذا اللاعب وتلك اللاعبة؟ ومعروف أن اللعب فيه حركة وصوت ... الخ وأين هؤلاء من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يا علي لا تتبع النظرة النظرة فإن لك الأولى وليست لك الآخرة) رواه أبو داود وهو حديث حسن كما قال الشيخ الأباني في صحيح سنن أبي داود 2/403 وعن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة فقال: اصرف بصرك) رواه مسلم. وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (كان الفضل بن عباس رديف رسول الله فجاءته امرأة من خثعم تستفتيه فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر ... الخ الحديث) رواه البخاري ومسلم. وجاء في رواية أخرى أن العباس رضي الله عنه سأله: (لماذا لويت عنق ابن عمك؟ قال: رأيت شاباً وشابة فلم آمن الشيطان عليهما) رواه الترمذي وقال حسن صحيح.
وينبغي أن يعلم أنه نظراً لعدم الالتزام بشريعة الإسلام في كثير من جوانب حياتنا ومنها التعليم المختلط وعدم وجود بدائل شرعية فلا بد من التذكير بالضوابط الشرعية لتعامل الرجال مع النساء وهذه الضوابط بينها الشيخ العلامة يوسف القرضاوي فقال: [1. الالتزام بغض البصر من الفريقين فلا ينظر إلى عورة ولا ينظر بشهوة ولا يطيل النظر في غير حاجة، قال تعالى: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ) سورة النور الآيتان 31-32. 2. الالتزام من جانب المرأة باللباس الشرعي المحتشم الذي يغطي البدن ما عدا الوجه والكفين ولا يشف ولا يصف، قال تعالى: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) سورة النور الآية 31. وقد صح عن عدد من الصحابة أن ما ظهر من الزينة هو الوجه والكفان. وقال تعالى في تعليل الأمر بالاحتشام: (ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ) سورة الأحزاب الآية 59. أي أن هذا الزي يميز المرأة الحرة العفيفة الجادة من المرأة اللعوب المستهترة فلا يتعرض أحد للعفيفة بأذى لأن زيها وأدبها يفرض على كل من يراها احترامها. 3. الالتزام بأدب المسلمة في كل شيء وخصوصاً في التعامل مع الرجال: أ. في الكلام بحيث يكون بعيداً عن الإغراء والإثارة وقد قال تعالى: (فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا) سورة الأحزاب الآية 32. ب. في المشي كما قال تعالى: (ولا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ) سورة النور الآية 31. وأن تكون كالتي وصفها الله بقوله: (فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ) سورة القصص الآية 25. جـ. في الحركة فلا تتكسر ولا تتمايل كأولئك اللائي وصفهن الحديث الشريف بـ: (المميلات المائلات) ولا يصدر عنها ما يجعلها من صنف المتبرجات تبرج الجاهلية الأولى أو الأخيرة. 4. أن تتجنب كل ما شأنه أن يثير ويغري من الروائح العطرية وألوان الزينة التي ينبغي أن تكون للبيت لا للطريق وللقاء مع الرجال. 5. الحذر من أن يختلي الرجل بامرأة وليس معهما محرم فقد نهت الأحاديث الصحيحة عن ذلك وقالت: (إن ثالثهما الشيطان) إذ لا يجوز أن يخلى بين النار والحطب. وخصوصاً إذا كانت الخلوة مع أحد أقارب الزوج وفيه جاء: (إياكم والدخول على النساء. قالوا: يا رسول الله، أرأيت الحمو؟! قال: الحمو الموت) أي هو سبب الهلاك لأنه قد يجلس ويطيل الجلوس وفي هذا خطر شديد. 6. أن يكون اللقاء في حدود ما تفرضه الحاجة وما يوجبه العمل المشترك دون إسراف أو توسع يخرج المرأة عن فطرتها الأنثوية أو يعرضها للقيل والقال أو يعطلها عن واجبها المقدس في رعاية البيت وتربية الأجيال] فتاوى معاصرة 2/285-286.(15/132)
133 - المنكرات في الحفلات
يقول السائل: ما قولكم فيما يفعله بعض الناس في الأعراس حيث إنهم يزفون العروسين بالسيارات ويطلقون العنان لأبواق السيارات فما حكم ذلك؟
الجواب: إن مظاهر إزعاج الناس وإلحاق الأذى والضرر بهم كثيرة في مجتمعنا وللأسف. وإن كثيراً من الناس لا يراعون حقوق الآخرين ومشاعرهم بل يضربون بها عرض الحائط في حالات كثيرة منها: 1. ما ذكره السائل من استعمال أبواق السيارات بشكل مؤذٍ ومزعج. 2. ومنها استعمال مكبرات الصوت في الأعراس والحفلات حتى ساعة متأخرة من الليل. 3. ومنها إطلاق النار في الحفلات والأعراس. 4. وإطلاق الألعاب النارية في الأعراس والمناسبات الأخرى. إن هذه الأمور وأمثالها تسبب الأذى وتلحق الضرر بالناس ومعلوم عند العلماء أن إلحاق الأذى حرام شرعاً فلا يجوز للمسلم أن يؤذي غيره سواء كان الإيذاء معنوياً أو مادياً بل إن الإيذاء المعنوي قد يكون أشد من الإيذاء المادي فشتم المسلم في عرضه أشد من صفعه وهكذا. وقد وردت نصوص كثيرة تحرم إلحاق الأذى وتحث على ترك إيذاء عباد الله. فمن ذلك أنه لا يجوز إيذاء المسلمين في طرقاتهم وشوارعهم فمن المعلوم أن الطريق من الحقوق العامة التي ينتفع بها الناس كافة فلا يجوز لأحد أن يؤذي غيره فيها. فاستعمال الطرق والشوارع له أحكام شرعية متعلقة به وليس للإنسان مطلق الحرية أن يتصرف في الشوارع حسبما يريد وكيفما يريد. جاء في الحديث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إياكم والجلوس على الطرقات. فقالوا: ما لنا بد إنما هي مجالسنا نتحدث فيها. قال: فإذا أتيتم إلى المجالس فأعطوا الطريق حقها. قالوا: وما حق الطريق؟ قال: غض البصر وكف الأذى وردّ السلام وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر) رواه البخاري.
فانظر أخي المسلم إلى هذه المعاني العظيمة التي تضمنها هذا الحديث وقارنها بواقع كثير من الناس اليوم في سوء استعمالهم للطريق فستجد الشباب الذين يعاكسون الفتيات في الطرقات، وأصحاب المحلات وغيرهم الذين يلقون القاذورات في الشوارع، وأصحاب السيارات الذين يطلقون العنان لأبواق سياراتهم أو الذين يعتبرون الشوارع ملكاً خاصاً لهم، والناس الذين يتعدون على الشوارع فيأخذون منها بدل أن يعطوها شيئاً من أرضهم لتوسعة الشوارع أو يتركون فيها مخلفات البناء. إن إزالة الأذى من طرقات الناس تعتبر صدقة كما جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تميط الأذى عن الطريق صدقة) رواه البخاري. وعنه أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بينما رجل يمشي بطريق وجد غصن شوك على الطريق فأخذه فشكر الله له فغفر له) رواه البخاري ومسلم. وإزالة الأذى من طرقات الناس إحدى مراتب الإيمان كما جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة أفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان) رواه مسلم. وعن أبي برزةرضي الله عنه قال: (قلت يا نبي الله علمني شيئاً أنتفع به قال: اعزل الأذى عن طريق المسلمين) رواه مسلم. قال الإمام النووي: [هذه الأحاديث المذكورة في الباب ظاهرة في فضل إزالة الأذى عن الطريق سواء كان الأذى شجرة تؤذي أو غصن شوكة أو حجراً يعثر به أو قذراً أو جيفة أو غير ذلك] شرح النووي على صحيح مسلم 6/131.
وما ذكره الإمام النووي من أنواع الأذى المادية التي كانت معروفة في زمانهم قد يكون يسيراً مع أنواع الأذى المعنوية الموجودة في زمانناً مثل استعمال مكبرات الصوت في المناسبات حتى ساعات متأخرة من الليل واستعمال أبواق السيارات وإطلاق الألعاب النارية وغيرها. فهذه مزعجة للنائم والمريض ولطالب العلم ومخيفة للأطفال فكل ذلك أذى يجب الامتناع عنه ديانة ومنع الناس منه قانوناً ونظاماً، وأنواع الأذى هذه يشملها عموم الأحاديث السابقة فإن كلمة الأذى الواردة فيها تعمها جميعاً. وكذلك ما ورد في أحاديث أخرى من تحريم للأذى بشكل عام كما جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره) رواه البخاري. فهذا النهي الوارد في الحديث يعم كل أذى فلا يجوز إلحاق الأذى بالجار سواء أكان الأذى مادياً أو معنوياً.(15/133)
134 - الموسيقى
يقول السائل: إنه سمع الشيخ يوسف القرضاوي في برنامج الشريعة والحياة يضعف الحديث الذي رواه الإمام البخاري في صحيحه وهو: (ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف) وإن الشيخ القرضاوي يرى أن هذا الحديث لا يصلح للاستدلال على تحريم الموسيقى والأغاني المصاحبة لها فما قولكم في ذلك؟
الجواب: ما قاله الشيخ العلامة القرضاوي في برنامج الشريعة والحياة قاله منذ زمن طويل فقد ذكر في كتابه الحلال والحرام ص 293 ما نصه: [أما ما ورد فيه - أي الغناء - من أحاديث نبوية فكلها مثخنة بالجراح لم يسلم منها حديث من طعن عند فقهاء الحديث وعلمائه، قال القاضي أبو بكر ابن العربي: لم يصح في تحريم الغناء شيء، وقال ابن حزم: كل ما روي فيها باطل موضوع] . وقال الشيخ القرضاوي نحو هذا الكلام في كتابه فتاوى معاصرة 1/690-691. وفصّل الشيخ القرضاوي الكلام على المسألة في كتابه الإسلام والفن ص 30-90 وفي هذا الكتاب تكلم الشيخ القرضاوي على الحديث المذكور في السؤال فقال: [والحديث وإن كان في صحيح البخاري إلا أنه من المعلقات لا من المسندات المتصلة ولذلك رده ابن حزم لانقطاع سنده ومع التعليق فقد قالوا: إن سنده ومتنه لم يسلما من الاضطراب وقد اجتهد الحافظ ابن حجر لوصل الحديث ووصله بالفعل من تسع طرق ولكنها جميعاً تدور على راوٍ تكلم فيه عدد من الأئمة النقاد ألا وهو هشام بن عمار وهو وإن كان خطيب دمشق ومقرئها ومحدثها وعالمها وثقة ابن معين والعجلي فقد قال عنه أبو داود: حدث بأربعمائة حديث لا أصل لها، وقال أبو حاتم: صدوق وقد تغير فكان كل ما دفع إليه قرأه وكل ما لقنه تلقن وكذلك قال ابن سيار: وقال الإمام أحمد: طياش خفيف. وقال النسائي: لا بأس به، وهذا ليس بتوثيق مطلق ورغم دفاع الحافظ الذهبي عنه قال: صدوق مكثر له ما ينكر. وأنكروا عليه أنه لم يكن يحدث إلا بأجر ومثل هذا لا يقبل حديثه في مواطن النزاع وخصوصاً في أمر عمت به البلوى. ورغم ما في ثبوته من الكلام ففي دلالته كلام آخر فكلمة المعازف لم يتفق على معناها بالتحديد ما هو؟ فقد قيل الملاهي وهذه مجملة وقيل آلات العزف ولو سلمنا بأن معناها آلات الطرب المعروفة بآلات الموسيقى فلفظ الحديث المعلق في البخاري غير صريح في إفادة حرمة المعازف لأن عبارة يستحلون كما ذكر ابن العربي لها معنيان: أحدهما يعتقدون أن ذلك حلال. والثاني أن تكون مجازاً عن الاسترسال في استعمال تلك الأمور إذ لو كان المقصود بالاستحلال المعنى الحقيقي لكان كفراً فإن استحلال الحرام المقطوع به مثل الخمر والزنا المعبر عنه بالحر كفر بالإجماع ولو سلمنا بدلالتها على الحرمة فهل يستفاد منها تحريم المجموع المذكور من الحر والخمر والحرير والمعازف أو كل فرد منها على حدة والأول هو الراجح فإن الحديث في الواقع ينعى على أخلاق طائفة من الناس انغمسوا في الترف والليالي الحمراء وشرب الخمور فهم بين خمر ونساء ولهو وغناء وخز وحرير ولذا روى ابن ماجة هذا الحديث عن أبي مالك الاشعري بلفظ: (ليشربن أناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها يعزف على رؤوسهم بالمعازف والمغنيات يخسف الله بهم الأرض ويجعل منهم القردة والخنازير) وكذلك رواه ابن حبان في صحيحه والبخاري في تاريخه وكل من روى الحديث من طريق غير طريق هشام بن عمار جعل الوعيد على شرب الخمر وما المعازف إلا مكملة وتابعة ... ] الإسلام والفن ص 41-44. وواضح من كلام الشيخ القرضاوي أنه اتكأ فيه على كلام الشيخ ابن حزم في تضعيف الحديث ورده من حيث السند واستند إلى قول ابن حزم أن كل ما روي في الغناء باطل موضوع. وقد أخطأ الشيخ ابن حزم في هذه المسألة خطأً كبيراً وتابعه الشيخ القرضاوي في خطئه ومعلوم كما قال بعض السلف: [كل يؤخذ من قوله ويترك إلا الرسول صلى الله عليه وسلم] وليس أحد من أهل العلم معصوم عن الوقوع في الخطأ. وقد بين أهل الحديث والمحققون من الفقهاء خطأ ابن حزم ومن تابعه في حكمه على الحديث الذي رواه الإمام البخاري في صحيحه حيث قال الإمام البخاري: [وقال هشام بن عمار حدثنا صدقة بن خالد حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر حدثنا عطية بن قيس الكلابي حدثني عبد الرحمن بن غنم الأشعري قال حدثني أبو عامر أوأبو مالك الأشعري والله ما كذبني سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف ... الخ الحديث] . وهذا الحديث رواه البخاري معلقاً بصيغة الجزم محتجاً به وما رواه البخاري معلقاً مجزوماً به فهو صحيح يحتج به قال الحافظ ابن حجر: [وقد تقرر عند الحفاظ أن الذي يأتي به البخاري من التعاليق كلها بصيغة الجزم يكون صحيحاً إلى من علق عنه ولو لم يكن من شيوخه لكن إذا وجد الحديث المعلق من رواية بعض الحفاظ موصولاً إلى من علقه بشرط الصحة أزال الإشكال ولهذا عنيت في ابتداء الأمر بهذا النوع وصنفت كتاب تغليق التعليق وقد ذكر شيخنا في شرح الترمذي وفي كلامه على علوم الحديث أن حديث هشام بن عمار جاء عنه موصولاً في مستخرج الإسماعيلي قال حدثنا الحسن بن سفيان حدثنا هشام بن عمار وأخرجه الطبراني في مسند الشاميين فقال حدثنا محمد بن يزيد بن عبد الصمد حدثنا هشام بن عمار قال وأخرجه أبو داود في سننه فقال: حدثنا عبد الوهاب بن نجدة حدثنا بشر بن بكر حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر بسنده] فتح الباري 12/152-153.
وقال الإمام النووي: [قال الشيخ أبو عمرو رحمه الله - يعني ابن الصلاح - وهكذا الأمر في تعليقات البخاري بألفاظ جازمة مثبتة على الصفة التي ذكرناها كمثل ما قال فيه قال فلان أو روى فلان أو ذكر فلان أو نحو ذلك ولم يصب أبو محمد بن حزم الظاهري حيث جعل مثل ذلك انقطاعاً قادحاً في الصحة واستروح إلى ذلك في تقرير مذهبه الفاسد في إباحة الملاهي وزعمه أنه لم يصح في تحريمها حديث مجيباً عن حديث أبي عامر أو أبي مالك الأشعري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (ليكونن في أمتي أقوام يستحلون الحرير والخمر والمعازف.. إلى آخر الحديث) فزعم أنه وإن أخرجه البخاري فهو غير صحيح لأن البخاري قال فيه: قال هشام بن عمار وساقه بإسناده فهو منقطع فيما بين البخاري وهشام. وهذا خطأ من ابن حزم من وجوه: أحدها: أنه لا انقطاع في هذا أصلاً من جهة أن البخاري لقي هشاماً وسمع منه وقد قررنا في كتابنا علوم الحديث أنه إذا تحقق اللقاء والسماع مع السلامة من التدليس حمل ما يرويه عنه على السماع بأي لفظ كان كما يحمل قول الصحابي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم على سماعه منه إذا لم يظهر خلافه وكذا غير قال من الألفاظ. الثاني: أن هذا الحديث بعينه معروف الاتصال بصريح لفظه من غير جهة البخاري. الثالث: أنه وإن كان ذلك انقطاعاً فمثل ذلك في الكتابين - أي الصحيحين - غير ملحق بالانقطاع القادح لما عرف من عادتهما وشرطهما وذكرهما ذلك في كتاب موضوع لذكر الصحيح خاصة فلن يستجيزا فيه الجزم المذكور من غير ثبت وثبوت بخلاف الانقطاع أو الإرسال الصادر من غيرهما هذا كله في المعلق بلفظ الجزم] شرح النووي على صحيح مسلم 1/18-19، وانظر الباعث الحثيث ص34-35. ويرى جماعة من أهل العلم أن هذا الحديث ليس معلقاً وإنما هو في صورة المعلق قال الإمام العيني: [والحديث صحيح وإن كانت صورته صورة التعليق وقد تقرر عند الحفاظ أن الذي يأتي به البخاري من التعاليق كلها بصيغة الجزم يكون صحيحاً إلى من علقه عنه ولو لم يكن من شيوخه] عمدة القاري 14/591.
وقال العلامة الشيخ الألباني: [وهذا النوع من التعليق صورته صورة التعليق كما قال الحافظ العراقي في تخريجه لهذا الحديث في المغني عن حمل الأسفار 2/271، وذلك لأن الغالب على الأحاديث المعلقة أنها منقطعة بينها وبين معلقها ولها صور عديدة معروفة وهذا ليس منها لأن هشام بن عمار من شيوخ البخاري الذين احتج بهم في صحيحه في غير ما حديث كما بينه الحافظ في ترجمته من مقدمة الفتح ولما كان البخاري غير معروف بالتدليس كان قوله في هذا الحديث قال في حكم قوله عن أو حدثني أو قال لي.... ويشبه قول العراقي المذكور قول ابن الصلاح في مقدمة علوم الحديث ص 72 صورته صورة الانقطاع وليس حكمُه حكمَه، وليس خارجاً من الصحيح إلى الضعيف. ثم رد على ابن حزم إعلاله إياه بالانقطاع وسيأتي تمام كلامه إن شاء الله في الفصل الثالث. والمقصود أن الحديث ليس منقطعاً بين البخاري وشيخه هشام كما زعم ابن حزم ومن قلده من المعاصرين كما سيأتي بيانه في الفصل المذكور إن شاء الله تعالى على أنه لو فرض أنه منقطع فهي علة نسبية لا يجوز التمسك بها لأنه قد جاء موصولاً من طرق جماعة من الثقات الحفاظ سمعوه من هشام بن عمار فالمتشبث والحالة هذه بالانقطاع يكابر مكابرة ظاهرة كالذي يضعف حديثاً بإسناد صحيح متشبثاً بإسناد له ضعيف] تحريم آلات الطرب ص 39-40. ويضاف إلى ذلك أن الحافظ ابن حجر ذكر تسع طرق موصولة للحديث في كتابه تغليق التعليق 5/17-22. قال الحافظ ابن حجر في " تغليق التعليق ": [وهذا حديث صحيح لا علة له ولا مطعن فيه وقد أعله أبو محمد بن حزم بالانقطاع بين البخاري وصدقة بن خالد وبالاختلاف في اسم أبي مالك وهذا كما تراه قد سقته من رواية تسعة عن هشام متصلاً فيهم مثل الحسن بن سفيان وعبدان وجعفر الفريابي وهؤلاء الحفاظ أثبات وأما الاختلاف في كنية الصحابي فالصحابة كلهم عدول] نقلاً عن تحريم آلات الطرب ص 87. وذكر الشيخ الألباني أن الحديث قد وصله الطبراني والبيهقي وابن عساكر وابن أبي شيبة وأحمد وغيرهم انظر السلسلة الصحيحة 1/14، تحريم آلات الطرب ص 45. وذكر الشيخ الألباني أيضاً جماعة من العلماء الذين صححوا الحديث منهم: 1. البخاري 2. ابن حبان 3. الإسماعيلي 4. ابن الصلاح 5. النووي 6. ابن تيمية 7. ابن القيم 8. ابن كثير 9. العسقلاني 10. ابن الوزير الصنعاني 11. السخاوي 12. الأمير الصنعاني. .... إلى غير هؤلاء ممن لا يحضرني فهل يدخل في عقل مسلم أن يكون المخالفون كابن حزم ومن جرى خلفه وليس فيهم مختص في علم الحديث هل يعقل أن يكون هؤلاء على صواب وأؤلئك الأئمة على خطأ؟! (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) ، (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) ] تحريم آلات الطرب ص 89.
وقال العلامة ابن القيم: [ولم يصنع من قدح في صحة هذا الحديث شيئاً كابن حزم نصرة لمذهبه الباطل في إباحة الملاهي وزعم أنه منقطع لأن البخاري لم يصل سنده به. وجواب هذا الوهم من وجوه: أحدها أن البخاري قد لقي هشام بن عمار وسمع منه فإذا قال: قال هشام، فهو بمنزلة قوله عن هشام. الثاني: أنه لو لم يسمع منه فهو لم يستجز الجزم به عنه إلا وقد صح عنه أنه حدث به. وهذا كثيراً ما يكون لكثرة من رواه عنه عن ذلك الشيخ وشهرته فالبخاري أبعد خلق الله من التدليس الثالث: أنه أدخله في كتابه المسمى بالصحيح محتجاً به فلولا صحته عنده لما فعل ذلك. الرابع: أنه علقه بصيغة الجزم دون صيغة التمريض فإنه إذا توقف في الحديث أو لم يكن على شرطه يقول ويروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويذكر عنه ونحو ذلك فإذا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد جزم وقطع بإضافته إليه. الخامس: أنا لو أضربنا عن هذا كله صفحاً فالحديث صحيح متصل عند غيره] إغاثة اللهفان 1/259-260. وأما ما ادعاه الشيخ القرضاوي من أن الحديث مضطرب سنداً ومتناً فكلام غير مسلم، قال الإمام الشوكاني: [ويجاب عن دعوى الاضطراب في السند بأنه قد رواه أحمد وابن أبي شيبة من حديث أبي مالك بغير شك ورواه أبو داود من حديث أبي عامر وأبي مالك وهي رواية ابن داسه عن أبي داود ورواية ابن حبان أنه سمع أبا عامر وأبا مالك الأشعريين فتبين بذلك أنه من روايتهما جميعاً. وأما الاضطراب في المتن فيجاب بأن مثل ذلك غير قادح في الاستدلال لأن الراوي قد يترك بعض ألفاظ الحديث تارة ويذكرها أخرى. والرابع أن لفظة المعازف التي هي محل الاستدلال ليست عند أبي داود ويجاب بأنه قد ذكرها غيره وثبتت في الصحيح والزيادة من العدل مقبولة وأجاب المجوزون أيضاً على الحديث المذكور من حيث دلالته فقالوا: لا نسلم دلالته على التحريم وأسندوا هذا المنع بوجوه: أحدها أن لفظة يستحلون ليست نصاً في التحريم فقد ذكر أبو بكر ابن العربي لذلك معنيين: أحدهما أن المعنى يعتقدون أن ذلك حلال. الثاني أن يكون مجازاً عن الاسترسال في استعمال تلك الأمور ويجاب بأن الوعيد على الاعتقاد يشعر بتحريم الملابسة بفحوى الخطاب وأما دعوى التجوز فالأصل الحقيقة ولا ملجأ إلى الخروج عنها وثانيها أن المعازف مختلف في مدلولها كما سلف وإذا كان اللفظ محتملاً لأن يكون للآلة ولغير الآلة لم ينتهض للاستدلال لأنه إما أن يكون مشتركاً والراجح التوقف فيه أو حقيقة ومجازاً ولا يتعين المعنى الحقيقي ويجاب بأنه يدل على تحريم استعمال ما صدق عليه الاسم والظاهر الحقيقة في الكل من المعاني المنصوص عليها من أهل اللغة وليس من قبيل المشترك لأن اللفظ لم يوضع لكل واحد على حدة بل وضع للجميع على أن الراجح جواز استعمال المشترك في جميع معانيه مع عدم التضاد كما تقرر في الأصول وثالثها أنه يحتمل أن تكون المعازف المنصوص على تحريمها هي المقترنة بشرب الخمر كما ثبت في رواية بلفظ: (ليشربن أناس من أمتي الخمر تروح عليهم القيان وتغدو عليهم المعازف) ويجاب بأن الاقتران لا يدل على أن المحرم هو الجمع فقط وإلا لزم أن الزنى المصرح به في الحديث لا يحرم إلا عند شرب الخمر واستعمال المعازف واللازم باطل بالإجماع فالملزوم مثله وأيضاً يلزم في مثل قوله تعالى (إنه كان لا يؤمن بالله العظيم ولا يحض على طعام المسكين) أنه لا يحرم عدم الإيمان بالل إلا عند عدم الحض على طعام المسكين فإن قيل تحريم مثل هذه الأمور المذكورة في الإلزام قد علم من دليل آخر فيجاب بأن تحريم المعازف قد علم من دليل آخر أيضاً كما سلف على أنه لا ملجأ إلى ذلك حتى يصار إليه ورابعها أن يكون المراد يستحلون مجموع الأمور المذكورة فلا يدل على تحريم واحد منها على الانفراد وقد تقرر أن النهي عن الأمور المتعددة أو الوعيد على مجموعها لا يدل على تحريم كل فرد منها ويجاب عنه بما تقدم في الذي قبله] نيل الأوطار 8/115-116. ويكفي هذا القدر من كلام أهل العلم وإلا فالمسألة فيها كلام كثير للعلماء في إبطال كلام ابن حزم ومن تابعه. وينبغي أن يعلم أنه على الرغم من كون الشيخ ابن حزم من كبار الفقهاء المجتهدين إلا أن له أوهاماً ليست قليلة في علم الحديث كتسرعه في الحكم على الرجال تعديلاُ وتجريحاً فوقع في أوهام شنيعة كتضعيفه بعض أحاديث الصحيحين وتجهيله عدداً من الرواة الثقاة وغير ذلك من الأوهام ولا يتسع المقام للتفصيل ومن أراد التوسع فيه فلينظر كتاب (الصناعة الحديثية عند ابن حزم) للشيخ علي رضا فقد ذكر مئة وثمانين وهماً لابن حزم في الأحاديث. وأما كلام الشيخ القرضاوي عن هشام بن عمار الذي روى عنه الإمام البخاري الحديث السابق فكلام غير مقبول وغير مسلم. فهشام بن عمار هذا قال عنه الحافظ الذهبي: [الإمام الحافظ المقرئ عالم أهل الشام ... خطيب دمشق ... فقد كان من أوعية العلم ... وثقه يحيى بن معين وقال عنه كيّس كيس ووثقه العجلي وقال النسائي لا بأس به وقال الدارقطني: صدوق كبير المحل. وأطال الذهبي في ترجمته انظر سير أعلام النبلاء 11/420-435 وهشام بن عمار احتج به البخاري والنسائي وابن ماجة وغيرهم. وترجم الحافظ المزي لهشام بن عمار وذكر في ترجمته ما يلي: [ ... وقال معاوية بن صالح وإبراهيم بن الجنيد عن يحيى بن معين: ثقة. وقال أبو حاتم عن يحيى بن معين: كيّس كيّس. وقال العجلي: ثقة. وقال في موضع آخر صدوق. .... وقال عبدان بن أحمد الجواليقي: ... ما كان في الدنيا مثله] تهذيب الكمال في أسماء الرجال 30/247-248. وخلاصة الأمر أن الشيخ القرضاوي حفظه الله قد جانب الصواب في هذه المسألة.(15/134)
135 - الميراث
يقول السائل: هل يرث الإبن من الرضاع من أمه؟
الجواب: من المعروف عند جمهور أهل العلم أن أسباب الميراث ثلاثة وهي القرابة والزوجية والولاء. فأما القرابة فهي كل صلة بين شخصين بسبب الولادة من قبل أب وأم قريبة كانت أو بعيد. انظر العذب الفائض 1/19. يقول الله سبحانه وتعالى: (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا) سورة النساء الآية 11. وقال تعالى: (وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) سورة الأنفال الآية 75. وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولى رجل ذكر) رواه البخاري. وفي رواية لمسلم: (اقسموا المال بين أهل الفرائض على كتاب الله فما تركت الفرائض فلأولى رجل ذكر) والمستحقون للميراث بالقرابة هم أصحاب الفرائض والعصبات النسبية وذوو الأرحام وهذا فيه تفصيل كثير عند العلماء. وأما الزوجية فيدل على توارث الزوجين قوله تعالى: (وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ) سورة النساء الآية 12. ويشترط لتوارث الزوجين أن ينعقد النكاح صحيحاً ولو لم يتم دخول أو خلوة بعد العقد الصحيح ويشترط أيضاً أن تكون الزوجية الصحيحة قائمة عند الوفاة. وأما الولاء فهو قرابة غير حقيقية أي حكمية تحصل بسبب العتق أو عقد الموالاة. وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنما الولاء لمن أعتق) رواه البخاري ومسلم. ونظراً لانتهاء عصر الرق فلا حاجة للحديث عن ذلك الآن. إذا تقرر هذا فإن الرضاعة ليست من أسباب الميراث باتفاق أهل العلم والإبن من الرضاع لا يرث من أمه الرضاعية ولا أثر للرضاع في الميراث. قال الإمام النووي: [الرضاع يؤثر في تحريم النكاح وثبوت المحرمية المقيدة لجواز النظر والخلوة دون سائر أحكام النسب كالميراث والفقة والعتق بالملك وسقوط القصاص ورد الشهادة وغيرها وهذا كله متفق عليه) روضة الطالبين 6/418-419. وقال الإمام البغوي (ولا يتعلق بالرضاع من أحكام النسب إلا شيئان: تحريم النكاح والمحرمية وهي أنه يجوز للرجل أن يخلو بالمحرمة عليه بالرضاع وأن يسافر بها. أما الميراث ووجوب النفقة وحصول العتق وغيرها من أحكام النسب فلا يتعلق شيء منها بالرضاع) التهذيب 6/ 285.(15/135)
136 - الميراث
حرمان البنات في الوقف,
يقول السائل: لدينا وقفية وقد شرط الواقف فيها إعطاء الذكور من ورثته دون الإناث فما الحكم في هذا الشرط؟
الجواب: الوقف قربة يتقرب بها الواقف إلى الله سبحانه وتعالى وهو داخل في عموم النصوص التي تحث على أفعال البر كما في قوله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) سورة البقرة الآية 267. وقوله تعالى: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) سورة آل عمران الآية 92 ويدخل في عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له) رواه البخاري ومسلم وثبت في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما: (أن عمر بن الخطاب أصاب أرضاً بخيبر فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها فقال: يا رسول الله إني أصبت أرضاً بخيبر لم أصب مالاً قط أنفس عندي منه فما تأمرني به؟ قال: إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها. قال: فتصدق بها عمر أنه لا يباع ولا يوهب ولا يورث وتصدق بها في الفقراء وفي القربي وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف ويطعم غير متمول) رواه البخاري ومسلم. وجاء في رواية أخرى أن عمر رضي الله عنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (إن المئة سهم التي بخيبر لم أصب مالاً قط أعجب إليَّ منها وقد أردت أن أتصدق بها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: احبس أصلها وسبل ثمرتها) رواه النسائي وابن ماجة والبيهقي وهو حديث صحيح كما قال الألباني في إرواء الغليل 6/31. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علماً علَّمه ونشره وولداً صالحاً تركه ومصحفاً ورَّثه أو مسجداً بناه أو بيتاً لابن السبيل بناه أو نهراً أجراه أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته يلحقه بعد موته) رواه ابن ماجة وابن خزيمة وهو حديث حسن كما قال الألباني، صحيح سنن ابن ماجة 1/46. وغير ذلك من النصوص. إذا تقرر هذا فنعود إلى ما ذكره السائل من شرط الواقف بحرمان البنات من وقفيتة فأقول إن كثيراً من الواقفين للوقفيات الأهلية أو الذرية يشترطون شروطاً لا تقرها الشريعة الإسلامية ومن ذلك حرمان البنات وهذا يتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية التي أوجبت العدل بين الذكور والإناث من المعلوم عند أهل العلم أن الإنسان ليس حراً فيما يشترطه من شروط في عقوده ومعاملاته بل لا بد أن تكون هذه الشروط لا تتعارض مع قواعد الشريعة وأصولها، قال الإمام البخاري في صحيحه: [باب المكاتب وما لا يحل من الشروط التي تخالف كتاب الله ... وقال ابن عمر أو عمر: كل شرط خالف كتاب الله فهو باطل وإن اشترط مئة شرط] ثم روى البخاري بسنده عن عائشة رضي الله عنها قالت: (أتتها بريرة تسألها في كتابها فقالت: إن شئت أعطيت أهلك ويكون الولاء لي فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرته ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ابتاعيها فأعتقيها فإنما الولاء لمن أعتق. ثم قام رسول الله على المنبر فقال: ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله! فمن اشترط شرطاً ليس في كتاب الله فليس له وإن اشترط مئة شرط) رواه البخاري. قال الحافظ ابن حجر: [وأن المراد ما خالف كتاب الله ثم استظهر على ذلك بما نقله عن عمر أو ابن عمر وتوجيه ذلك أن يقال المراد بكتاب الله في الحديث المرفوع حكمه وهو أعم من أن يكون نصاً أو مستنبطاً فكل ما كان ليس من ذلك فهو مخالف لما في كتاب الله] فتح الباري 6/282. ولا شك أن اشتراط حرمان الإناث من الوقفية مخالف للأحكام الشرعية التي أمرت بالعدل بين الأبناء فعن عامر قال: سمعت النعمان بن بشير رضي الله عنهما وهو على المنبر يقول: (أعطاني أبي عطية فقالت عمرة بنت رواحة - أم النعمان -: لا أرضى حتى تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أعطيت ابني من عمرة بنت رواحة عطية فأمرتني أن أشهدك يا رسول الله. قال عليه الصلاة والسلام: أعطيت سائر ولدك مثل هذا؟ قال: لا. فقال صلى الله عليه وسلم: فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم، قال فرجع فرد عطيته) رواه البخاري. وفي رواية أخرى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبشير والد النعمان: (لا تشهدني على جور أليس يسرك أن يكونوا لك في البر سواء. قال: نعم. قال: أشهد على هذا غيري) رواه أبو داود بسند صحيح. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (سووا بين أولادكم في العطية لو كنت مفضلاً أحداً لفضلت النساء) رواه سعيد بن منصور والبيهقي وقال الحافظ ابن حجر إسناده حسن وغير ذلك من الأحاديث. فبناءً على ذلك فيجب إبطال هذا الشرط لمعارضته للشريعة كما سلف ولا ينبغي التمسك بما قرره الفقهاء أن شرط الواقف كنص الشارع حيث إن بعض الفقهاء اعتبروا هذه القاعدة موجبة لتنفيذ شروط الواقفين وأنه يجب العمل بها مهما كانت وإن خالفت الشرع وهذا غير مسلم وغير مقبول. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: [وقد اتفق المسلمون على أن شروط الواقف تنقسم إلى صحيح، وفاسد، كالشروط في سائر العقود ومن قال من الفقهاء: إن شروط الواقف نصوص كألفاظ الشارع، فمراده أنها كالنصوص في الدلالة على مراد الواقف لا في وجوب العمل بها أي أن مراد الواقف يستفاد من ألفاظه المشروطة كما يستفاد مراد الشارع من ألفاظه فكما يعرف العموم والخصوص والإطلاق والتقييد والتشريك والترتيب في الشرع من ألفاظه الشارع فكذلك تعرف في الوقف من ألفاظ الواقف. مع أن التحقيق في هذا أن لفظ الواقف ولفظ الحالف والشافع والموصي وكل عاقد يحمل على عادته في خطابه ولغته التي يتكلم بها، سواء وافقت العربية العرباء أو العربية المولدة أو العربية الملحونة أو كانت غير عربية وسواء وافقت لغة الشارع أو لم توافقها فإن المقصود من الألفاظ دلالتها على مراد الناطقين بها فنحن نحتاج إلى معرفة كلام الشارع لأن معرفة لغته وعرفه وعادته تدل على معرفة مراده وكذلك في خطاب كل أمة وكل قوم فإذا تخاطبوا بينهم في البيع والإجارة أو الوقف أو الوصية أو النذر أو غير ذلك بكلام رجع إلى معرفة مرادهم وإلى ما يدل على مرادهم من عادتهم في الخطاب وما يقترن بذلك من الأسباب. وأما أن تجعل نصوص الواقف أو نصوص غيره من العاقدين كنصوص الشارع في وجوب العمل بها فهذا كفر باتفاق المسلمين إذ لا أحد يطاع في كل ما يأمر به من البشر - بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم - والشروط إن وافقت كتاب الله كانت صحيحة. وإن خالفت كتاب الله كانت باطلة كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خطب على منبره وقال: (ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله؟ من اشترط شرطاً ليس في كتاب الله فهو باطل. وإن كان مئة شرط كتاب الله أحق وشرط الله أوثق] مجموع الفتاوى 31/47-48.
وقال العلامة ابن القيم: [فالصواب الذي لا تسوغ الشريعة غيره عرض شرط الواقفين على كتاب الله سبحانه وعلى شرطه، فما وافق كتابه وشرطه فهو صحيح وما خالفه كان شرطاً باطلاً مردوداً ولو كان مئة شرط وليس ذلك بأعظم من رد حكم الحاكم إذا خالف حكم الله ورسوله ومن رد فتوى للمفتي وقد نص الله سبحانه على رد وصية الجانف في وصيته والآثم فيها مع أن الوصية تصح في غير قربة وهي أوسع من الوقف وقد صرح صاحب الشرع برد كل عمل ليس عليه أمره فهذا الشرط مردود بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يحل لأحد أن يقبله ويعتبره ويصححه ... معنى قولهم: شرط الواقف كنص الشارع ثم إن العجب العجاب قول من يقول إن شروط الواقف كنصوص الشارع ونحن نبرأ إلى الله من هذا القول ونعتذر مما جاء به قائله ولا نعدل بنصوص الشارع غيرها أبداً وإن أحسن الظن بقائل هذا القول حمل كلامه على أنها كنصوص الشارع في الدلالة وتخصيص عامها بخاصها وحمل مطلقها على مقيدها واعتبار مفهومها كما يعتبر منطوقها وأما أن تكون كنصوصه في وجوب الإتباع وتأثيم من أخل بشيء منها فلا يظن ذلك بمن له نسبه ما إلى العلم فإذا كان حكم الحاكم ليس كنص الشارع بل يرد ما خالف حكم الله ورسوله من ذلك فشرط الواقف إذا كان كذلك كان أولى بالرد والإبطال] إعلام الموقعين 1/315-316. وقال العلامة صديق حسن خان: [والحاصل أن الأوقاف التي يراد بها قطع ما أمر الله به أن يوصل ومخالفة فرائض الله - عز وجل - فهي باطلة من أصلها لا تنعقد بحال. وذلك كمن يقف على ذكور أولاده دون إناثهم وما أشبه ذلك فإن هذا لم يرد التقرب إلى الله تعالى بل أراد المخالفة لأحكام الله عز وجل والمعاندة لما شرعه لعباده وجعل هذا الوقف الطاغوتي ذريعة إلى ذلك المقصد الشيطاني فليكن هذا منك على ذكر فما أكثر وقوعه في هذه الأزمنة] التعليقات الرضية 2/515-516. وخلاصة الأمر أنه ينبغي إبطال الشرط بحرمان البنات من الوقفية وإذا لم يمكن الإلغاء أمام المحكمة الشرعية فالمطلوب هو أن يصطلح المنتفعون بالوقفية على إلغاء الشرط.(15/136)
137 - اللباس والزينة
يقول السائل: ما حكم استعمال الحناء في اليدين في حق الرجل؟
الجواب: ينبغي أن يعلم أن جمهور أهل العلم يرون أن خضاب شعر الرأس واللحية سنة ويدل على ذلك عدة أحاديث منها: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم) رواه البخاري ومسلم. وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على مشيخة من الأنصار بيض لحاهم فقال: يا معشر الأنصار حمروا وصفروا وخالفوا أهل الكتاب) رواه أحمد، وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح، مجمع الزوائد 5/163. وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أحسن ما غير به الشيب الحناء والكتم) رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح. وصححه الشيخ الألباني أيضاً في صحيح سنن أبي داود 2/792، والكتم نوع من النبات. وعن جابر بن عبد الله قال: (أتي بأبي قحافة يوم فتح مكة ورأسه ولحيته كالثغامة بياضاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: غيروا هذا بشيء واجتنبوا السواد) رواه مسلم. والثغامة نبت أبيض الزهر. قال الشيخ ابن قدامة: [ويستحب خضاب الشيب بغير السواد قال أحمد: إني لأرى الشيخ المخضوب فأفرح به] المغني 1/68. ثم ذكر حديث: [غيروا الشيب] وأن أبا بكر وعمر والمهاجرين قد خضبوا. والاختضاب مشروع في حق المرأة المتزوجة أيضاً فيجوز لها أن تخضب رأسها وكفيها وقدميها وأما غير المتزوجة فيكره لها ذلك. وأما الرجل فلا يجوز له أن يخضب كفيه وقدميه لأن في اختضابه فيهما تشبهاً بالنساء والتشبه بالنساء ممنوع. الموسوعة الفقهية 2/281-284.
وقد ثبت في الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لعن رسول اللهصلى الله عليه وسلم المتشبهات من النساء بالرجال والمتشبهين من الرجال بالنساء) رواه البخاري. قال الإمام النووي: [أما خضاب اليدين والرجلين فمستحب للمتزوجة من النساء للأحاديث المشهورة فيه وهو حرام على الرجال إلا لحاجة التداوي ونحوه، ومن الدلائل على تحريمه قوله صلى الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (لعن الله المتشبهين بالنساء من الرجال) ويدل عليه الحديث الصحيح عن انس أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى أن يتزعفر الرجل) رواه البخاري ومسلم وما ذاك إلا للونه لا لريحه فإن ريح الطيب للرجال محبوب والحناء في هذا كالزعفران وفي كتاب الأدب من سنن أبي داود عن أبي هريرة رض الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: (أتي بمخنث قد خضب يديه ورجليه بالحناء فقال: ما بال هذا، فقيل: يا رسول الله يتشبه بالنساء فأمر به فنفي إلى النقيع، فقالوا: يا رسول الله ألا نقتله، فقال: إني نهيت عن قتل المصلين) لكن إسناده فيه مجهول) المجموع 1/294-295. وكلام النووي يفيد أن الحديث ضعيف ولكن الشيخ الألباني صحح الحديث في صحيح سنن أبي داود 2/931. وقد اعتبر اين حجر المكي الهيتمي خضب الرجل ليديه وقدميه من كبائر الذنوب!!. الزواجر 1/348(15/137)
138 - النكاح
خاطب أعرج صاحب دين,
تقول السائلة: إنها فتاة في سن الزواج وقد تقدم لخطبتها شاب متدين ولكنه أعرج فرفض أهلها زواجها منه وهي ترغب فيه فما الحكم الشرعي في ذلك؟
الجواب: إن الإسلام قد جعل للمرأة حق إختيار الزوج، فتبقل من يتقدم لخطبتها أو ترفض ولا ينبغي لأهلها أن يقوموا بتلك المهمة نيابةً عنها. والإسلام قد جعل اعتباراً لإختيار كل من الزوجين. فمثلاً اختيار الرجل المناسب للزواج لا يكون على أساس المال والجاه أو المظهر فقط وإنما فلا بدّ من مقياس التقوى والعمل الصالح – أي صاحب دين – فقد ورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنةٌ في الأرض وفسادٌ عريض) رواه الترمذي وهو حديث حسن. وفي حديث آخر عن أبي حاتم المزني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه إلا تفعلوا تكن فتنةٌ في الأرض وفساد قالوا: يا رسول الله وإن كان فيه؟ قال: إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه " ثلاث مرات ") رواه الترمذي وهو حديثٌ حسن كما قال الشيخ الألباني. والمراد وإن كان فيه نقص في أمور أخرى كجمال الخلقة أو الحسب والنسب وغير ذلك وهذا الشاب الأعرج إن كان صاحب دينٍ كما تقول السائلة فلا ينبغي لأهلها أن يردوه وخاصةً أنها راغبة فيه. وردهم لزواجه هو تعنت وتجبر ونظرتهم غير صحيحة للأمور فكم في المجتمع من أعرجٍ وأعور وصاحب عاهة فإذا كانوا هؤلاء وأمثالهم لا يزوجون فتلك طامةٌ تحل بالمجتمع. ومن المعروف أن كثيراً من الناس ينظرون إلى الزواج على أساسٍ ماديٍ بحت فيشترطون فيمن يتقدم لخطبة ابنتهم شروطاً مادية معينة كأن يكون صاحب مال أو منصب أو من عائلةٍ عريقة ولا يلقون بالاً إلى الأمور الأساسية وهي الدين والخلق حتى ولو كان فقيراً فلعله يكون أن يكون خيراً من الغني، وقد ورد في الحديث عن سهلٍ بن سعد قال: مرَّ رجل برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما تقولون في هذا؟ قالوا: حري إن خطب أن ينكح وإن شفع أن يشفع وإن قال أن يستمع. قال: ثم سكت. فمرَّ رجل من فقراء المسلمين فقال ما تقولون في هذا؟ قالوا: حري إن خطب أن لا ينكح وإن شفع أن لا يشفع وإن قال أن لا يسمع. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا خير من ملء الأرض مثل هذا) رواه البخاري. ولا يعني كلامنا أننا ندعو إلى إهمال الجوانب المادية ولكن الأساس هو الدين والخلق وبد ذلك ينظر إلى الأمور الأخرى.(15/138)
139 - النكاح
علاقة الخاطب بالمخطوبة ,
يقول السائل: ماذا يحل للخاطب من خطيبته وماذا يترتب على فسخ الخطبة إذا كان الفسخ من قبل الخاطب أو كان من قبل المخطوبة؟
الجواب: إن الخطبة مقدمة للزواج وهي مجرد وعد للزواج وليست زواجاً وقد نص الفقهاء على أن الخطبة ليست إلا وعداً بالزواج وهذا الوعد غير ملزم فيحق لكل واحدٍ منهما العدول عن الخطبة متى يشاء. كما أن الفقهاء قرروا أن عقد الزواج لا يتم بقبض أي شيءٍ على حساب المهر أو بقبول الهدية أو ما يسميه الناس اليوم (قراءة الفاتحة) فكل ذلك لا يعتبر عقداً للزواج ويجوز العدول عن ذلك. وبناءً على ذلك فيعتبر كل من الخاطب والمخطوبة أجنبياً عن الآخر فلا يحل لهما الإختلاط دون وجود محرم وما يفعله كثير من الناس اليوم مخالف للشرع، بالسماح لهما بالخروج معاً إلى الأماكن العامة والجلوس على انفراد والذهاب والإياب معاً فكل ذلك حرام شرعاً لأن الخاطب ما زال يعتبر أجنبياً عن المخطوبة ولا يحل له من المخطوبة سوى ما أباحه الشارع الحكيم ألا وهو النظر. فعن جابر أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال (إذا خطب أحدكم المرأة فاستطاع أن ينظر منها ما يدعو إلى نكاحها فليفعل) رواه أحمد وأبو داود والحاكم وصححه. وعن المغيرة بن شعبة أنه خطب إمرأةً فقال النبي صلى الله عليه وسلم (انظر أليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما) رواه النسائي والترمذي وابن ماجة وغيرهم وهو حديثٌ صحيح. ومعنى يؤدم بينكما: أن تقع الألفة والملائمة بينكما. وعن أبي هريرة قال: (كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فأتاه رجل فأخبره أنه تزوج إمرأةً من الأنصار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنظرت إليها؟ فقال: لا، قال: فاذهب فانظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئاً) رواه مسلم. ففي هذه الأحاديث أرشد الرسول صلى الله عليه وسلم الخاطب إلى النظر إلى المخطوبة لما يترتب على النظر من فوائد لمصلحة الإثنين. فيجوز النظر إلى الوجه والكفين فقط على الراجح من أقوال أهل العلم والوجه والكفان يدلان على ما سواهما من أعضاء الجسم. وإذا فسخ أحد الخاطبين الخطبة فلا شيء عليه في ذلك لأن الخطبة كما قلت هي مجرد وعد بالزواج وإن كان الأولى ألا يعدل أحدهما عن الخطبة إلا لسبب شرعي فإذا حصل العدول عن الخطبة فيجوز للخاطب أن يسترد ما قدمه للمخطوبة على أنه من المهر سواء أكان نقداً أم ذهباً أم أثاث بيت أو نحو ذلك وسواء كان العدول من الخاطب أو المخطوبة. وأما ما قدمه للخطوبة على سبيل الهدية فهو محل خلافٍ بين الفقهاء والذي أميال إليه أن العدول إن كان من الخاطب فلا يسترد شيئاً من الهدايا التي قدمها للمخطوبة وإن كان العدول من المخطوبة فيسترد الخاطب تلك الهدايا إن أراد. وبهذه المناسبة أود التذكير بأن على الآباء إن يتقوا الله في بناتهم وألا يقدموا على تزويجهنَّ إلا بعد ما يتأكدوا من صفات الخاطب الحسنة وأنه صاحب خلقٍ ودين ولو كان فقيراً لأن السعادة التي يرجونها لبناتهم قد لا تتحقق بالمال وحده فليست المناصب والمال والجاه والحسب والنسب هي مؤهلات الزوج الصالح فقط فكم من صاحب مالٍ أو جاهٍ أو منصب أشقى زوجته وأتعسها ولكن المعيار الحقيقي هو معيار الشرع يقول عليه الصلاة والسلام (إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه فإن لم تفعلوه تكن فتنةٌ في الأرض وفسادٌ كبير) رواه الترمذي والبيهقي وهو حديثٌ حسن. وكما أذكر الشباب بأن السعادة الزوجية لا تحقق في جمال الزوجة فقط فكثيراً ما نسمع عن الصفات التي يرغب الشباب في توفرها في المرأة والتي يريدونها زوجة المستقبل بأن تكون غايةً في الجمال.
نعم إن الجمال مطلوب ولكن ليس هو فقط يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (تنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك) رواه البخاري ومسلم. وقال عليه الصلاة والسلام: (لا تتزوجوا النساء لحسنهن فعسى حسنهن أن يرديهن ولا تتزوجوهن لأموالهن فعسى أموالهن أن تطغيهن ولكن تزوجوهن على الدين فلأمة سوداء ذات دين أفضل) رواه البيهقي وابن ماجة.(15/139)
140 - النكاح
الزواج المدني ,
يقول السائل: ما الحكم الشرعي في زواج مسلم من كتابية بعقد زواج مدني فقط؟ وما الحكم في الأولاد منه؟ وما الذي يجب عمله من قبل الرجل المسلم في هذه الحالة؟
الجواب: الأولى في حق المسلم أن يتزوج مسلمة لأن في ذلك توافقاً والتقاءً على شيءٍ أساسي في الحياة ألا وهو الدين ولأن في ذلك استمراراً للعشرة وتوافقاً في كثيرٍ من العادات والتقاليد ونحو ذلك. ومذهب جمهور فقهاء المسلمين على جواز نكاح الكتابية – النصرانية واليهودية – ويدل على ذلك قوله تعالى: (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) . وينبغي أن يتم الزواج على حسب المعمول به في قانون الأحوال الشخصية من إجراءات إدارية لتسجيل العقد كما نصت على ذلك المادة (17) من القانون المذكور. فيجب على الخاطب مراجعة القاضي الشرعي أو نائبه لإجراء العقد. أي أن عقد الزواج في هذه البلاد ينبغي أن يكون عن طريق المحاكم الشرعية أو من يقوم مقامها في الخارج. والسائل أجرى عقد الزواج المدني فيكون هذا العقد صحيحاً إذا كان مستكملاً لأركانه وشروطه من الإيجاب والقبول وحضور شاهدين حتى وإن كان الشاهدان غير مسلمين في هذه الرحالة لأن الزوجة غير مسلمة وهذا العقد تترتب عليه آثاره شرعاً فيثبت نسب الأولاد لأبيهم ويجب المهر والنفقة على الزوج. ويستطيع الزوج مراجعة المحاكم الشرعية لعمل حجة تصادق على الزواج.(15/140)
141 - النكاح
الشروط في عقد الزواج,
تقول السائلة: أنها اشترطت في عقد زواجها أن تعمل في وظيفتها وبعد مضي مدة على الزواج منعها زوجها من العمل فما الحكم في ذلك؟
الجواب: إن مما اتفق عليه الفقهاء وجوب الوفاء بالشرط الذي يقتضيه العقد كالإنفاق على الزوجة مثلاً. واختلفوا في الشروط التي لا تنافي مقتضى عقد الزواج ولا تخل بمقصوده الأصلي كالشرط المذكور في السؤال. والذي عليه الحنابلة أنه يجب الوفاء بهذه الشروط وإذا لم يف الزوج بهذا الشرط – استمرار الزوجة في عملها – فلها أن تطلب فسخ عقد الزواج وقد أخذ قانون الأحوال الشخصية بقول الحنابلة ولكن مع تقييد ذلك بأن لا يلحق الشرط ضرراً بأحد الزوجين والذي أراه في هذه المسألة أن عمل المرأة خارج البيت إذا لم يكن متعارضاً مع مصلحة الزوج والأولاد وكان هذا العمل فيما أجازه الشرع فعلى الزوج أن يأذن لها بذلك وعليه الوفاء بالشرط. وأما إذا كان عملها خارج البيت فيه مس بمصلحة الزوج والأولاد أو كان عملها في مجال لا يجيزه الشرع فعلى الزوج منعها من ذلك ولا شيء عليه إن لم يف بالشرط. وقد استدل الحنابلة لقولهم بما ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال (إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج) رواه البخاري ومسلم. وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم (المسلمون علىشروطهم إلا شرطاً أحل حراماً أو حرم حلالاً) رواه أبو داود والترمذي وقال حسن صحيح. وبما رواه البيهقي وغيره (أن رجلاً تزوج إمرأةً وشرط لها دارها ثم أراد نقلها فخاصموه إلى عمر فقال: لها شرطها فقال الرجل: إذاً يطلقننا!. فقال عمر (مقاطع الحقوق عند الشروط) وهذا أثر صحيح كما قال الشيخ الألباني.(15/141)
142 - النكاح
العصمة بيد الزوجة ,
يقول السائل: هل تصح أن تكون العصمة بيد الزوجة في عقد الزواج فيكون لها الحق أن تطلق نفسها متى شاءت؟
الجواب: إن الله سبحانه وتعالى جعل القوامة للرجل على المرأة فقال الله تعالى: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ) . والطلاق فرع عن جعل القوامة للرجل وبالتالي فإن الطلاق في الأصل هو من حق الرجل وبيده وهذا هو الذي يتفق مع الفطرة فالرجل هو المسؤول الأول عن الأسرة وبيده مفاتيح الحل والعقد والرجل أقدر من المرأة في الغالب على ضبط عواطفه وانفعالاته وتحكيم عقله وخاصة عندما تقع المشكلات بين الزوجين ويثور الغضب بينهما. كما وأن الرجل يدرك ما يترتب على إيقاع الطلاق من تبعات مختلفة كالأمور المالية وما يتعلق بالأولاد وتربهيتم والعناية بهم وغير ذلك. لذلك كله فإن أكثر فقهاء الإسلام يمنعون جعل العصمة بيد الزوجة فيكون لها الحق في أن تطلق نفسها متى شاءت وهذا هو الراجح وهو الذي ينسجم مع الفطرة ومع مبدأ القوامة. وهذا الذي ذكرته لم يأخذ به قانون الأحوال الشخصية المعمول به في المحاكم الشرعية في وقتنا الحاضر بل اخذ بمذهب الحنابلة بجواز اشتراط الزوجة العصمة بيدها فقد جاء في المادة 19 من قانون الأحوال الشخصية (إذا اشترط في العقد شرط نافع لأحد الطرفين ولم يكن منافياً لمقاصد الزواج ولم يلتزم فيه بما هو محظور شرعاً وسجل في وثيقة العقد وجبت مراعاته وفقاً لما يلي: 1. إذا اشترطت الزوجة على زوجها شرطاً تتحق لها به مصلحة غير محظورة شرعاً ولا يمس حق الغير كأن تشترط عليه أن لا يخرجها من بلدها أو أن لا يتزوج عليها أو أن يجعل أمرها بيدها تطلق نفسها إذا شاءت أو أن يسكنها في بلد معين كان الشرط صحيحاً ملزماً فإن لم يف به الزوج فسخ العقد بطلب الزوجة ولها مطالبته بسائر حقوقها الزوجية) . هذا ما قرره قانون الأحوال الشخصية. ولكني أميل إلى رأي جمهور الفقهاء القائلين بأنه لا يجوز أن تكون العصمة بيد الزوجة (وهم الحنفية والشافعية والمالكية والظاهرية) لأن هذا الشرط مناف لمفهوم الزواج ومناقض لمفهوم القوامة ومخالف للسنة النبوية لقوله صلى الله عليه وسلم: (كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط) رواه الطبراني والبزار وهو حديث صحيح كما قال الشيخ الألباني.
ولا يعني كلامي هذا أنه لا يجوز للمرأة أن تطلب الطلاق وأنها محرومة من هذا الحق فقد قرر الفقهاء أنه يجوز للمرأة أن تطلب الطلاق إذا كانت حياتها منغصة مع زوجها ويسيء لها ولا يعاشرها بالمعروف فيجوز لها حينئذ أن تطلب من زوجها أن يطلقها فإن رفض وامتنع فلها أن ترفع الأمر للقاضي الذي يجوز له أن يطلقها إذا ثبت لديه صحة دعواها.(15/142)
143 - حقوق الزوجين
تقول السائلة: هل يحق للزوج أن يمنع زوجته من الذهاب إلى بيت أهلها؟ وإذا حلف عليها بالطلاق على ألا تذهب إلى بيت أهلها ثم ذهبت فما الحكم في ذلك؟
الجواب: يقول الله عز وجل: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ) . إن الرجل له القوامة على المرأة بنص هذه الآية الكريمة ولا شك أن طاعة الزوجة لزوجها فرض ويجب على المرأة أن تسمع وتطيع زوجها إذا أمرها بالمعروف ولا ينبغي للزوج أن يسيء استعمال هذه القوامة فيجعلها سيفاً مصلتاً على الزوجة وينبغي للزوجين التفاهم في هذه القضية وغيرها لأن الحياة الزوجية تقوم على المودة والتفاهم. ويجوز للزوج أن يمنعها من الذهاب إلى بيت أهلها ويجب عليها طاعته وتحرم مخالفته وخاصةً إذا رأى الزوج أن في منعها من الذهاب إلى بيت أهلها مصلحةً راجحةً ومحافظةً على الحياة الزوجية كأن يكون ذهابها مثلاً سبباً في تعكير صفو الحياة الزوجية وسبباً لإثارة المشاكل فإذا منعها فعليها أن تمتنع وإن ذهبت بدون إذنه فهي آثمة لأن طاعته واجبة. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها) رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة وأحمد وقال الترمذي حسنٌ صحيح وصححه ابن حبان. وكما قلت فعلى الزوج أن يحسن استعمال هذا الحق فإذا كانت العلاقة مع زوجته طيبة ولا يترتب على ذهابها أي مفسدة فله أن يأذن لها في الذهاب ويعود تقدير هذا الأمر؟ إلى الزوج لأنه أدرى بأحواله وأحوال أهل زوجته. وأما الحلف بالطلاق حتى لا تخرج إلى بيت إهلها فينبغي أن يعلم أولاً أن الطلاق لم يشرع لهذا الأمر وإنما شرع الطلاق ليكون آخر دواء للمشاكل الزوجية إذا تعذرت الأدوية الأخرى. فإذا حلف الزوج بالطلاق على زوجته ألا تذهب إلى بيت أهلها وكان يقصد منعها من الذهاب فالواجب على هذه الزوجة أن تبر بيمين زوجها. وأما إذا حنثت بيمينه فذهبت إلى بيت اهلها فقد وقع الخلاف بين العلماء في هذه المسألة: فمنهم من يرى أن الطلاق يقع. ومنهم من يرى أن هذا يعتبر يميناً وليس طلاقاً وعلى الزوج كفارة اليمين.
وهذا هو الذي أختاره وهو المفتى به الآن عند كثيرٍ من العلماء وأذخذت بذلك قوانين الأحوال الشخصية في ثيرٍ من البلاد الإسلامية. وهذا القول فيه رحمة بالناس وخاصةً بالزوجات لأن كثيراً من الأزواج يحلفون بالطلاق على أتفه الأمور ويتكرر ذلك منهم كثيراً، وكثير منهم لا يقصدون تطليق زوجاتهم وإنما قصدهم منعهن من فعل شيءٍ أو نحو ذلك. فتلزم الزوج كفارة اليمين وهي إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة فإن لم يجد فيصوم ثلاثة أيام متتابعة أو متفرقة.(15/143)
144 - الطلاق
يقول السائل: وقع خلافٌ بيني وبين زوجتي وكنت في حالة غضبٍ شديد فطلقتها فما حكم ذلك الطلاق؟
الجواب: أكثر الناس يغضبون والغضب درجات فبعض الناس يغضب غضباً شديداً فيغلب عليه الإنفعال ويترتب على ذلك اختلال الفهم واختلال الإرادة فلا يدري ما يصدر منه وهذا ما يعرف عند العلماء بالإغلاق وهو المذكور في الحديث من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا طلاق ولا عتاق في إغلاق) رواه أحمد وأبو داود والحاكم وهو حديث حسن كما قال الشيخ الألباني. فإذا كانت حالة السائل كما وصفت فإن الطلاق لا يقع ولا يعتد به لفقدان الإرادة والقصد. وبعض الناس إذا غضب فإنه ينفعل إنفعالاً كثيراً ويبقى مسيطراً على نفسه ومالكاً لها فهذا إذا طلق وهو على تلك الحالة فطلاقه يقع.(15/144)
145 - الحداد
تقول السائلة: هل يجوز للمرأة أن تحد على زوجها المتوفى سنة أو سنتين، وما حكم اللباس الأسود للمرأة والمعتدة؟
الجواب: يجب أن نعلم ما يتعلق بالعدة فقد قال الله سبحانه وتعالى: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا) .
ومن المعروف أن المرأة إذا كانت في عدة الوفاة تحد على زوجها الميت وفترة الحداد هي مدة العدة فقط (أي أربعة اشهر وعشرة أيام) ولا يجوز للمرأة أن تزيد على ذلك وهذه المدة المذكورة خاصة بالحداد على الزوج فقط إذا كانت المرأة غير حامل وأماى إذا كانت حاملاً فعدتها أن تضع حملها. وأما الحداد على أبيها أو أخيها أو اي من أقربائها فلا يجوز أن يزيد على ثلاثة أيام فقط.
ويدل على ذلك ما ورد في الحديث عن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل لأمرأة مسلمة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد فوق ثلاثة أيام إلا على زوجها أربعة أشهر وعشراً) رواه البخاري ومسلم.
ومن المعلوم أن معنى قوله صلى الله عليه وسلم (لا يحل) أي يحرم.
ومن خلال ما تقدم نعلم أنه لا يجوز للمرأة تحد على زوجها المتوفى أكثر من أربعة شهور وعشرة أيام بحال من الأحوال.
وأما لبس السواد خلال فترة الحداد فلا أصل له في الشرع وهو غير مشروع ويجوز لها أن تلبس ما شاءت من الملابس إذا كانت غير مزينة.
وينبغي أن يعلم أن الحداد يكون بالأمور التالية:
1. أن تلتزم المرأة بيتها الذي مات زوجها وهي تسكنه ولا تخرج منه إلا لحاجة مشروعة.
2. أن تتجنب الملابس الجميلة المزينة ويجوز لها أن تلبس ما عداها ولا يعني أن تكون هذه الملابس سوداء كما جرت عادة النساء في بلادنا.
3. أن تتجنب جميع أنواع العطور والمكياج.
4. أن تتجنب التزين بالذهب أو الفضة.
5. لا يجوز لأحد أن يتقدم لخطبتها صراحة خلال مدة العدة ويجوز التعريض بذلك أي التلميح.
ويدل على ذلك قوله تعالى: (وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ ... ) .(15/145)
146 - حقوق الزوجين
يقول السائل: هل يحق للزوج أن يأخذ من ذهب زوجته (المهر) إذا كان في حالة ضيق وشدة مع العلم أن الزوجة غير راضية عن ذلك؟
الجواب: إن المهر حق خالص للمرأة فلا يجوز أخذ شيء منه إلا برضاها ولا بد ان يكون الرضا واضحاً وصريحاً وبدون إكراه أو حياء ونحو ذلك فلا يحل أخذ شيء من مهر الزوجة سواء أكان ذلك نقداً أو ذهباً إلا إذا رضيت رضاً تاماً والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس) رواه أحمد والبيهقي والدارقطني وغيرهم وهو حديث صحيح.
وبما أن المهر حق خالص للزوجة فلها أن تتصرف به كيفما شاءت فيجوز لها ان تبريء زوجها من مهرها كاملاً أو من بعضه ولها أن تهب له مهرها أو شيئاً منه وكل ذلك لا بد أن يكون برضاها واختيارها.
والزوجة الصالحة هي التي تشعر بشعور زوجها وتقف معه في الشدائد والملمات فإذا أعطته من مهرها على سبيل الهبة أو جعلت ذلك قرضاً فلها الأجر والثواب من الله سبحانه وتعالى ولها التقدير والاحترام من زوجها.(15/146)
147 - حقوق الزوجين
يقول السائل: إن زوجته تطلب منه الذهاب إلى المسجد الأقصى لصلاة الجمعة ولكنه يمنعها فهل يجوز له ذلك؟
الجواب: إن صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في المسجد ومع ذلك يجوز لها أن تخرج إلى الصلاة في المساجد بإذن زوجها ولا ينبغي لزوج منع زوجته من الذهاب إلى المسجد إلا إذا خشي الفتنة عليها أو إذا خرجت متعطرة فيجوز له حينئذ منعها.
يقول عليه الصلاة والسلام: (لا تمنعوا النساء أن يخرجن إلى المساجد وبيوتهن خير لهن) رواه احمد وأبو داود وإسناده صحيح.
وعلى المرأة إذا خرجت من بيتها قاصدة حضور الجماعة أو الجمعة أن تخرج وهي ملتزمة بأحكام الشرع من حيث اللباس والمشي وترك الزينة والطيب فقد ورد في الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وليخرجن تفلات) رواه أحمد وأبو داود وهو حديث صحيح كما قال الشيخ الألباني ومعنى تفلات: غير متطيبات.
وفي حديث آخر قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا شهدت إحداكن المساجد فلا تمس الطيب) رواه مسلم.
وينبغي أن يعلم أن النساء اليوم بحاجة ماسة للتردد على المساجد وحضور الدروس والخطب والمواعظ ليفقهن في دين الله فعليهن مسؤولية عظيمة في بناء المجتمع والنساء شقائق الرجال فلا ينبغي أن يحرمن من هذا الخير العظيم ويجب أن ترتب لهن دروس خاصة في المساجد ويفضل أن تكون في غير يوم الجمعة، لتحصن المرأة المسلمة ضد الغزو الفكري الشرس الذي يوجه إلى النساء المسلمات عبر وسائل الإعلام المختلفة وغيرها وأن تشرح لهن أحكام الإسلام عامة والأحكام المتعلقة بالنساء وتربية الولاد خاصة.(15/147)
148 - المنكرات في الحفلات
يقول السائل: ما قولكم بإقامة حفلات الزواج بمصاحبة الفرق الموسيقية واستخدام مكبرات الصوت فيها؟
الجواب: لا شك أن من المنكرات التي انتشرت في مجتمعاتنا ما يفعله كثير من الناس في حفلات الزواج حيث ترتكب المحرمات كالاختلاط الماجن بين الرجال والنساء ورقص النساء الكاسيات العاريات بحضور الرجال واستخدام الموسيقى عبر مكبرات الصوت التي تزعج الناس وهم في بيوتهم وتناول المسكرات بمختلف أنواعها.
كل هذه المحرمات لها من المفاسد والأخطار التي تؤدي إلى انهيار القيم الأخلاقية وتعد انتهاكاً لأحكام الشريعة الإسلامية.
فأما الاختلاط الماجن فهو من أعظم المفاسد التي ابتلي بها الناس في هذا الزمان ولعل أبشع صور الاختلاط ما يقع في حفلات الزواج فالنساء كاسيات عاريات متبرجات يتسابقن في إظهار محاسنهن وزينتهن أمام الرجال فالملابس ألوان وأشكال وتسريحات الشعر والأصباغ بمختلف ألوانها العجيبة الغريبة وكل ذلك مسخ لطبيعة المرأة ولإنسانيتها وقد فاقت نساء اليوم نساء الجاهلية الأولى وكل ذلك يتم باسم التقدم والحضارة وحرية المرأة.
وإذا أضيف إلى كل هذه المفاسد الرقص المختلط رجالاًونساء على أنغام الموسيقى الصاخبة والتي أبى أصحاب الحفل إلا أن يجبروا الناس الآخرين على الاستماع لها عبر مكبرات الصوت، صار الأمر منكراً عظيماً وفساداً كبيراً ولا شك إن هذا من المحرمات، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لا ضرر ولا ضرار) رواه مالك والحاكم والبيهقي رواه حديث صحيح.
فلا يجوز لك أخي المسلم أن تلحق الضرر بغيرك بواسطة مكبرات الصوت أو غيرها، لأن الناس فيهم المريض والطالب والعامل وكل هؤلاء يحتاج إلى الهدوء والراحة فلا يحق لك أن تزعجهم إلى جانب أن هذا العمل محرم شرعاً.
وليعلم أصحاب الفنادق وصالات الأفراح أن كسبهم حرام من هذه الحفلات وأن الإثم يلحقهم لأنهم شركاء مع أصحاب الحفل في الإثم والعدوان يقول الله تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) .
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: (ليكونن أقوام من أمتي يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف) رواه البخاري في صحيح تعليقاً ووصله غيره كالبيهقي والطبراني وهو حديث صحيح.
والمراد بالحر: الزنى، والمعازف: آلات اللهو والطرب.
فانظر أخي المسلم كيف قرن الرسول صلى الله عليه وسلم بين هذه المحرمات الزنا والحرير والخمور والمعازف وقد أخبر عليه الصلاة والسلام أن طائفة من أمته يستحلون ذلك وهذا ما يقع الآن.(15/148)
149 - حقوق الزوجين
يقول السائل: إن زوجته لا تلبس اللباس الشرعي وأن أحد أولاده لا يصلي فما هي مسؤوليته عن ذلك؟
الجواب: إن المسلم عليه مسؤولية كبيرة تجاه زوجته وأولاده والحقيقية أن المسؤولية تبدأ قبل الزواج فعلى المسلم ان يختار زوجة ذات دين وخلق كريم لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (تنكح المرأة لأربع: وجمالها ولحسبها وجمالها ودينها فاظفر بذات الدين تربت يداك) رواه البخاري ومسلم. ولكننا وللأسف الشديد نجد كثيراً من الشباب إذا أراد الزواج لا يعطي للجانب الديني في المخطوبة أي اهتمام إلا من رحم ربي وإنما جل الاهتمام يوجه للجمال والنسب والحسب والوظيفة ونحو ذلك. ولذلك نحن نقول يجب على المسلم أن يختار صاحبة الدين أولاً ولا يمنع ذلك من توفر الصفات الأخرى فيها فإذا اختار زوجته ذات دين فإن تربيتها لأولادهما ستكون بإذن الله بناء على ذلك الأساس. ومسؤولية الزوج تجاه زوجته وابنائه مسؤولية عظيمة يقول الله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) .
فهذه الاية الكريمة تأمر بوقاية النفس والأهل من النار وتعني إلزامهم بأحكام الشرع في حياتهم كلها قال ابن عباس: (اعملوا بطاعة الله واتقوا معاصي الله ومروا أولادكم بامتثال الأوامر واجتناب النواهي فذلك وقاية لهم من النار) . وبناء على ذلك فيجب على الزوج أن يلزم زوجته باللباس الشرعي وإذا لم يفعل يكون آثماً وإذا لم تستجب الزوجة له فهي عاصية آثمة وتكون ناشزاً، لأن اللباس الشرعي فرض كما أن الصلاة فرض وكما أن الصوم فرض فقد قال الله تعالى: (يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ... ) . وكذلك بالنسبة لمسؤولية الأب تجاه أولاده فهي مسؤولية تبدأ من الصغر، فيجب على الأب أن ينشيء أولاده ويربيهم على الإسلام وأن يعودهم على الالتزام بأحكام الشرع وخاصة الصلاة والصوم والأخلاق الحميدة ونحوها. يقول الله تعالى: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا) . ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع واضربوه عليها وهم أبناء عشر) رواه ابو داود والترمذي وهو حديث حسن. لذلك على الأب أن يعلم أبناءه ذكوراً وإناثاً أحكام الصلاة ويعودهم عليها من الصغر ولا بأس من اصطحاب الأولاد إلى المساجد إذا بلغوا السابعة ليعتادوا على صلاة الجماعة وكذلك بالنسبة للصيام، فيتعودون عليه منذ الصغر ليكون ذلك تمريناً لهم على العبادة حتى إذا بلغوا استمروا على العبادة والطاعة. وأما أن يترك الأب أولاده فلا يأمرهم ولا ينهاهم حتى إذا كبروا وبلغوا وشبوا على الطوق حاول إصلاحهم وإرشادهم فأنى يستجيبون له وأنى يسمعون كلامه.
فعلى الآباء أن يدركوا عظم مسؤوليتهم تجاه أولادهم فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (الرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها) متفق عليه. وإن الآباء إذا أخلوا بهذه الأمانة والمسؤولية كانوا كمن يلقي أولاده في النار لأنهم لم يعملوا على وقايتهم كما أمرهم الله تعالى.(15/149)
150 - الحجاب الشرعي
يقول السائل: ما هي مواصفات جلباب المرأة المسلمة وهل يشترط فيه لونٌ معين؟
الجواب: يقول الله سبحانه وتعالى: (يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) . وقال أيضاً: (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) . إن ستر المرأة لجميع بدنها إلا ما استثني واجب أوجبه الله سبحانه وتعالى على المرأة المسلمة وبينت نصوص الكتاب والسنة شروط هذا اللباس وهي: أولاً: أن يكون ساتراً لجميع بدن المرأة ما عدا الوجه والكفين على قول جمهور أهل العلم لما جاء في حديث عائشة عن أسماء بنت أبي بكرٍ رضي الله عنها (دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليها ثيابٌ رقاق فأعرض عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لها: يا أسماء إن المرأة إن إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا، وهذا وأشار إلى وجهه وكفيه) رواه أبو داود والبيهقي وهو حديث حسن كما قال الشيخ ناصر الدين الألباني. فينبغبي للمرأة المسلمة أن تغطي جميع بدنها ما عدا وجهها وكفيها ويدخل في ذلك القدمان ويلاحظ أن بعض النساء يتساهلن في ستر أقدامهن وهذا مخالف لشرع الله.
ثانياً: أن يكون فضفاضاً واسعاً غير ضيق لأن الضيق يصف جسم المرأة وهذا يتنافى مع المقصود من الحجاب ولا يتحقق ذلك إلا باللباس الفضفاض الواسع.
ثالثاً: أن يكون صفيقاً غير شفاف أي ثخيناً سميكاً فلا يشف عما تحته وقد ورد في الحديث قوله عليه الصلاة والسلام: (سيكون في آخر أمتي نساءٌ كاسياتٌ عاريات على رؤوسهن كأسمنة البخت العنوهن فإنهن ملعونات) رواه الطبراني بسندٍ صحيح كما قال الشيخ الألباني.
رابعاً: أن لايكون زينةٍ في نفسه فلا يجوز للمرأة أن تلبس ما يبهر العيون من الملابس التي عليها نقوشٌ وزخارف مذهبة ونحو ذلك لأن هذه الملابس زينة في نفسها وقد نهيت المرأة عن إظهار زينتها قال تعالى: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ..) ونهى الله سبحانه وتعالى عن التبرج في قوله تعالى: (وَلَا تَبَرَجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى) .
خامساً: أن لا يكون معطراً مطيباً فلا يحل للمرأة أن تستعمل الطيب والعطور إذا خرجت من بيتها لقوله صلى الله عليه وسلم (أيما إمرأة استعطرت فمرت على قوم ليجدوا ريحها فهي زانية) رواه النسائي وأبو داود والترمذي وقال حسنٌ صحيح.
سادساً: أن لا يشبه لباس الرجل، إن المرأة بطبيعتها وتكوينها الجسدي تختلف عن الرجل فلها لباسها وللرجل لباسه فلذلك لا يحل للمرأة أن تتشبه بالرجل وكذلك لا يحل للرجل أن يتشبه بالمرأة فقد جاء في الحديث (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل يلبس لبسة المرأة والمرأة تلبس لبسة الرجل) رواه ابن داود وابن ماجة والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي. وجاء في الحديث عن ابن عباس قال (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال) رواه البخاري. سابعاً: أن لا يشبه لباس غير المسلمات لأن الإسلام نهى عن التشبه بغيرهم في أمور كثيرة وللمسلمين شخصيتهم وهيئتهم الخاصة بهم فعليهم أن يخالفوا غيرهم في ذلك (فعن عبد الله بن عمرو قال رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليَّ ثوبين معصفرين فقال إن هذه ثياب الكفار فلا تلبسها) رواه مسلم. ثامناً: أن لا يكون لباس شهرة وهو كل ثوب قصد به الإشتهار يبن الناس كأن يكون نفيساً جداً ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم (من لبس ثوب شهرةٍ في الدنيا ألسبه الله ثوب مذلةٍ يوم القيامة ثم ألهب فيه ناراً) رواه أبو داود وابن ماجة وهو حديثٌ حسن.
هذه شورط لباس المرأة المسلمة وينبغي للمرأة المسلمة أن تحقق هذه الشروط في لباسها حتى يكون شرعياً وقبل أن أختم حديثي أود التنبيه على بعض الأمور، منها: - أن ما تلبسه النساء على شكل تنورة وبلوزة ليس شرعياً لأن مقتضى ذلك اللباس أن يصف المرأة ويكون ضيقاً في الغالب فلا يجوز لبسه. - ومنها وضع بعض النساء على رؤوسهن فوق غطاء الرأس ما يشبه العقال الذي يلبسه الرجال ويكون مزيناً ومزخرفاً فهذا مما لا يجوز لبسه لأن فيه تشبهاً واضحاً بالرجال. - ومنها أنه لا يجوز للمرأة المسلمة أن تستعمل أدوات الزينة ومساحيق التجميل والعطور عند خروجها من بيتها. - ومنها أن بعض النساء تلبس معطفاً وتحته بنطال وتزعم أن ذلك يغني عن الجلباب فهذا ليس بصحيح ولا يجوز لها الخروج على تلك الهيئة. - ومنها أنه لا يشترط في لباس المرأة المسلمة لونٌ معين فيجوز أن يكون بأي لونٍ إلا أن عليها تجنب الألون اللافتة للأنظار. وأخيراً فإنه يجب أن التنبيه على أن المرأة المسلمة ملزمة بلباسها الشرعي كلما خرجت من بيتها وليس فقط عندما تذهب إلى الصلاة كما تفعل بعض النساء عندما يذهبن إلى الصلاة في المساجد فيحملن ملابس الصلاة بأيديهن فإذا وصلنَّ إلى المسجد ارتديناها فإذا قضيت الصلاة خلعنها فهذا حرام شرعاً واستهزاء بدين الله هو كبيرة من الكبائر لأن الله سبحانه وتعالى فرض على المرأة اللباس الشرعي دائماً وباستمرار.
ملحوظة: أنصح كل امرأةٍ أن تقرأ كتاب حجاب المرأة المسلمة للشيخ ناصر الدين الألباني أو جلباب المرأة المسلمة كما في طبعته الجديدة. ففيه خيرٌ عظيم وقد استفدت منه كثيراً.(15/150)
151 - الحمل والإجهاض
تقول السائلة: ما حكم الإجهاض سواء في بداية الحمل أو نهايته وهل فيه كفارة؟
الجواب: لقد اتفق العلماء على تحريم الإجهاض بعد الشهر الرابع من الحمل أي بعد مضي مائة وعشرين ليلة حيث تنفخ الروح في الجنين لحديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: (حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفةً ثم يكون علقةً مثل ذلك ثم يكون مضغةً مثل ذلك ثم يرسل إليه ملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات يكتب رزقه وأجله وعمله وشقيٌ أو سعيد) رواه البخاري ومسلم. وأما الإجهاض قبل الأربعة أشهر من مدة الحمل فالصحيح من أقوال العلماء أنه حرامٌ فلا يجوز لامرأة مسلمة أن تجهض مولودها بمجرد ثبوت الحمل إلا في حالةٍ واحدة فقط وهي إذا أخبر الأطباء الثقات أن الحمل يشكل خطراً مؤكداً على حياة الأم فيجوز حينئذٍ الإجهاض حفاظاً على حياة الأم. وأما في غير هذه الحالة فلا يجوز الإجهاض، وإذا حدث الإجهاض فإنه يعتبر جريمة موجبة للغرة – وهي دية الجنين – لأنه قتل نفس محرم وتلزم كفارة القتل الخطأ عند بعض أهل العلم. ولا يجوز الإجهاض حتى لو أثبت الأطباء أن الجنين مشوه لأن ذلك الجنين نفسٌ محرمة ونحن لم نؤمر بقتل المنفس المشوهة أو المعاقة.
وبهذه المناسبة أذكر الأطباء بأن يتقوا الله في النساء وألا يسهلوا لهن عمليات الإجهاض لأن في ذلك فتحاً لباب فسادٍ عريضٍ يعود على المجتمع بالمصائب والويلات.(15/151)
152 - الحمل والإجهاض
تنظيم النسل ,
يقول السائل: إنه وزوجته ينظمان النسل وأنهما رزقا ثلاثة أولاد ويريدان الإكتفاء بذلك وعدم الإنجاب مجدداً، ويسأل عن حكم الشرع في ذلك؟
الجواب: إن المقصود من تنظيم النسل وكما هو مذكورٌ في رسالة السائل هو جعل فترة زمنية بين مولودٍ وآخر ولكن السائل يذكر أنه لا يريد أن ينجب هو وزوجته أكثر من أولادهم الثلاثة أي أنهما يريدان تحديد النسل وقطعه بعد ذلك حيث قال: (النية هي الإكتفاء بما أنعم الله علينا نظراً لظروف الحياة الصعبة وتعقيداتها) .
ولا بد من التذكير أن من مقاصد الشارع الحكيم الحض على الزواج وإكثار النسل كما ثبت في الحديث من قوله صلى الله عليه وسلم (تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة) رواه أحمد والبهيقي وابن حبان وصححه. وتحديد النسل أي قطعه نهائياً يتعارض مع ما ذكر، فلذلك يرى أهل العلم أن قطع النسل حرام شرعاً إلا لضرورة فلا يجوز للمسلم أن يختصي أو أن يستعمل علاجاً لقطع النسل نهائياً. وأما جعل مدة بين حملٍ وآخر فلا بأس به إذا كان لذلك مسوغات مقبولة شرعاً كالخشية على حياة الأم لأن الحمل المتكرر المتلاحق قد يلحق الأذى والضرر بصحة الأم وهذا فيه حرجٌ ومشقة والشريعة جاءت برفع الحرج والمشقة فلا بأس إذا كان هنالك مدة سنتين أو ثلاث بين كل حمل وآخر.
ومن المسوغات أيضاً الخشية على الأولاد من الناحية الصحية والتربوية حتى يتمكن الزوجان من العناية بأولادهم صحياً وتربوياً فلا بأس بجعل فترةٍ بين كل حملٍ وآخر، فقد جاء في الحديث عن أسامة بن زيد رضي الله عنه: (أن رجلاً جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني أعزل عن امرأتي. فقال صلى الله عليه وسلم ولم تفعل ذلك؟ قال: شفقاً على ولدها أو على أولادها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو كان ذلك ضاراً لضر فارس والروم) رواه مسلم. وبناء على ما تقدم نرى أن السائل يريد قطع النسل نهائياً والإكتفاء بأولاده الثلاثة فهذا عملٌ غير جائز شرعاً لأنه قطع للنسل بدون ضرورة.(15/152)
153 - حقوق الزوجين
تقول السائلة: هل المرأة ملزمة كلما خرجت من بيتها أن تستأذن زوجها في الخروج؟
الجواب: الأصل أن المرأة يجب عليها القرار في البيت لقوله تعالى: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى) . قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: [قوله تعالى - وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ – أي الزمن بيوتكن فلا تخرجن لغير حاجة] تفسيرابن كثير3/482. فالأصل أن تلازم المرأة بيتها وليس معنى هذا أن تبقى حبيسة البيت فلا تخرج أبداً، فقد أجاز لها الشرع الخروج لحوائجها؟ فالمرأة تخرج من بيتها للمسجد وإلى زيارة والديها ومحارمها وتخرج لشراء حوائجها الضرورية وتخرج لعملها ونحو ذلك. ويشترط في خروج المرأة إذن زوجها ويكون الإذن قبل الخروج لا بعده يقول صلى الله عليه وسلم: (إذا استأذنت امرأة أحدكم إلى المسجد فلا يمنعها) رواه البخاري، فالإسئذان طلب الإذن ويكون ذلك قبل القيام بالعمل. والمرأة ملزمةٌ كلما خرجت أن تستأذن زوجها في الخروج إلا ما يتعارف عليه من رضى الزوج بذلك الخروج كما لو كانت الزوجة موظفة وقد رضي الزوج بذلك فهي تخرج يومياً إلى وظيفتها ولا تحتاج كلما خرجت إلى الاستئذان لأن الإذن قد حصل لها ضمناً. ويجوز للزوج أن يمنع زوجته من الخروج وإذا منعها فعليها طاعته لأن طاعة الزوج فرض ولا ينبغي أن يكون الزوج مستبداً في استخدام هذا الحق فيفرض الحبس على زوجته في بيتها. وينبغي للمرأة عند خروجها من بيتها أن تلتزم بما يلي:
1. أن تخرج وهي متسترة وملتزمة باللباس الشرعي التزماً تاماً.
2. أن لا تتطيب عند خروجها من بيتها ولا تضع أي نوع من الزينة على وجهها.
3. أن تخرج للأمور المهمة وليس لأتفه الأسباب.
4. أن تبتعد عن مواطن الفساد وأماكن الإزدحام.
5. يفضل أن يرافقها شخص عند خروجها رجلاً كان أو امرأة وخاصةً إذا كانت المرأة شابة.(15/153)
154 - حقوق الزوجين
يحرم على الزوج أن يمنع زوجته من الصلاة وارتداء الجلباب ,
تقول السائلة في رسالة طويلة تتضمن عدة أسئلة منها أنها امرأة متزوجة وأن زوجها يمنعها من القيام بفروض دينها من أداء الصلاة ويمنعها من ارتداء اللباس الشرعي وأنها حاولت اقناعه بحقها بالقيام بما فرض الله عليها بطرقٍ كثيرة ولكن بدون فائدة وأنها تقطع صلاتها عند دخول زوجها البيت لئلا تقع في مشكلةٍ معه فما الحكم في ذلك؟
الجواب: إن على هذا الزوج أن يتقي الله في نفسه وفي زوجته وأن يحمد الله أن زوجته ملتزمةً بما أوجب الله كما يظهر في رسالتها فلا يجوز له بحالٍ من الأحوال أن يمنعها من أداء حقوق الله سبحانه وتعالى وعليه أن يتوب ويرجع إلى الله وأن يصحو من غفلته وليعلم أن كون زوجته ملتزمة بشرع الله وترتدي اللباس الشرعي أن هذا لا ينقص من مركزه الاجتماعي كما يزعم بل إن ذلك مدعاةٌ للفخر والرفعة. وعلى هذه الزوجة أن تصبر وأن تحتسب ولتعلم أنها لا يجوز لها أن تطيعه في خلع اللباس الشرعي وإذا ألزمها ذلك فعليها أن تلزم بيتها ولا تخرج منه إلا وهي مرتديةٌ لباسها الشرعي، وعلى هذه الزوجة أن تسعى لإقناع زوجها بأنه لا طاعة للمخلوق في معصية الخالق وإن تكلم بعض الناس الذين لهم صلة به لينصحوه ويبينوا له حكم الشرع في هذه القضايا. وليعلم هذا الزوج أنه على خطرٍ عظيمٍ لأنه محارب لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم لأنه يحول بين زوجته وأدائها لما أوجب الله سبحانه وتعالى.
وأما بالنسبة لقطع صلاتها عند دخوله للبيت فهذا أمرٌ لا يجوز وعليها أن تتم الصلاة فلا يصح أن تقطع الصلاة عند دخوله البيت وعجباً لأمر هذا الزوج فمع كونه تاركاً للصلاة يريد أن يمنع زوجته من الصلاة وتخاف هي من سطوته فتقطع صلاتها إن دخل البيت وهي في الصلاة فعليه أن يتقي الله وأن يتذكر وقوفه بيدي الله في اليوم الآخر وعليه أن يعد الجواب للسؤال في ذلك الموقف العظيم يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلبٍ سليم.
وأخيراً أؤكد على هذه الزوجة أن تستمر على طاعة ربها وأن تصبر وأن تكثر من الدعاء إلى الله تعالى أن يهدي زوجها إلى طريق الحق والصواب وأن يخرجها من أزمتها ويفرج كربها (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًاوَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) .(15/154)
155 - حقوق الزوجين
هجر الزوج بسبب المعصية,
تقول السائلة: إنها امرأة ملتزمة بدينها وأن زوجها لا يحافظ على الصلاة أحياناً ويشاهد أفلاماً جنسية فتهجره وتنام في غرفة أطفالها فما حكم ذلك؟
الجواب: إن من تمام التزام هذه المرأة بدينها ألا تهجر زوجها وعليها أن تذكره بالله عزّ وجل وتبين له أنه عليه أن يحافظ على صلاته ولا يحل له ترك الصلاة مطلقاً فقد ورد في الحديث قول الرسول صلى الله عليه وسلم (من حافظ عليها – الصلاة – كانت له نوراً وبرهاناً ونجاةً يوم القيامة ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نوراً ولا برهاناً ولا نجاةً وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف) رواه أحمد ورجاله ثقات. وعلى هذا الزوج أن يتقي الله سبحانه وتعالى وليعلم أن مشاهدة الأفلام االجنسية الساقطة أمرٌ محرمٌ شرعاً ولا ينبغي لمثله أن يفعل ذلك وعلى زوجته أن تملأ وقته وأن تلبي رغبته فلعل انصرافه إلى مشاهدة الأفلام الجنسية ناتج عن عدم قيامها بحقه.
ولا يجوز أن تهجر زوجها بل ذلك من المعاصي وقد ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم (إذا باتت المرأة هاجرةً فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح) رواه البخاري ومسلم، فعليها أن تصبر وأن تحتسب ولا تهجره.(15/155)
156 - حكم قص الشعر للنساء
تقول السائلة: ما حكم قص الشعر للنساء وما دليل ذلك؟
الجواب: الأصل أنه يجوز للمرأة أن تقص شعر رأسها ما لم يكن فيه تشبه بالرجال أو تشبه بالكافرات أو تقليداً وعلى هذا لا يجوز للمرأة أن تقص شعر رأسها وتجعله كشعر الرجل لأن ذلك من التشبه المنهي عنه فقد ورد في الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله عليه الصلاة والسلام (لعن المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال) رواه البخاري. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال صلى الله عليه وسلم (ثلاثٌ لا يدخلون الجنة ولا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لولديه والمرأة المترجلة المتشبهة بالرجال والديوث) رواه انسائي والحاكم وقال صحيح الإسناد ووافقه البذهبي وصححه الألباني. ويجب أن يعلم أن رأس المرأة من العورة التي يجب سترها وما تفعله النساء اليوم من قصٍ لشعر رؤوسهن وخروجهن سافرات من أكبر المنكرات التي تدخل ضمن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم (صنفان من أهل النار من أمتي لم أرهما بعد: نساءٌ كاسياتٌ عاريات مائلات مميلات على رؤوسهن مثل أسمنة البخت لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها ورجالٌ معهم سياط مثل أذناب البقر يضربون بها عباد الله) رواه مسلم.(15/156)
157 - رقص النساء
يقول السائل: ما حكم اشتراك الفتيات فيما يعرف بفرق الرقص الشعبي والدبكة؟
الجواب: لا يجوز شرعاً للفتاة المسلمة أن تشترك في فرق الرقص الشعبي وفرق الدبكة وهذا الفعل حرام شرعاً لما يترتب عليه من المفاسد والمحرمات فمن ذلك:
1. إن هذه الفرق تكون مختلطة في الغالب فهي تتكون من شباب وشابات وهذا عمل منكر ومحرم شرعاً.
2. إن هذه الفرق حتى لو كانت خاصة بالفتيات لا يجوز الإشتراك فيها لأنها تعرض رقصاتها على الناس في الأماكن العامة وهذا حرام شرعاً.
3. إن مثل هذه الفرق رقصاتها مصحوبة بالموسيقى المحرمة شرعاً.
4. إن هذه الفرق وأمثالها مظهر من مظاهر الإنحلال والميوعة ومحاربة الفضيلة.
5. وكذلك فإنها مظهر من مظاهر الغزو الفكري الذي يركز على إحياء ما يعرف بالفلكلور الشعبي وإظهاره على أنه من تراث الأمة المسلمة مع أن تراث الأمة المسلمة أعظم وأجل من هذه الترهات وسفاسف الأمور.
إن تراث هذه الأمة يتمثل بعقيدتها ودينها وما خلفه عظماؤها وقادتها الأماجد. وبناءً على ذلك كله يحرم على الفتاة المسلمة أن تشترك بمثل هذه الفرق ولا يحل للآباء ولأولياء الأمور أن يسمحوا لبناتهم أو أخواتهم أو زوجاتهم بالمشاركة بمثل هذه الفرق وأمثالها.(15/157)
158 - علاج الطبيب للمرأة
يقول السائل ما هي حدود نظر الطبيب إلى المرأة الأجنبية؟
الجواب: ينبغي أن يعلم أن الإسلام حث على حفظ العورات وعلى عدم كشفها إلا في حالاتٍ خاصة تقتضي كشف العورة. وكذلك فإن المرأة إن أصابها المرض واحتاجت للعلاج فالمشروع في حقها أن تراجع طبيبة ولا يحل لها مراجعة الطبيب إذا وجدت الطبيبة وكان بإمكانها مراجعتها فإن لم توجد المرأة الطبيبة أو تعذرت مراجعتها أو لم تكن من أهل الاختصاص بمرض تلك المرأة فيجوز أن تراجع الطبيب الرجل وهنا لا بد من معرفة الضوابط التالية في تعامل الطبيب مع المريضة الأجنبية:
أولاً: أن تتم المعاينة والكشف بحضور محرم للمرأة أو زوجها أو امرأة موثوقة خشية الخلوة المنهي عنها شرعاً.
ثانياً: ألا يطلع على شيء من بدنها (عدا الوجه والكفين) إلا بمقدار ما يقتضيه العلاج فيجب على الطبيب أن يستر جسم المريضة إلا موضع المعالجة. يقول الإمام الغزالي رحمه الله: [وتقدر الحاجة التي يجوز إظهار العورة معها بحيث لا يعد التكشف بسببها هتكاً للمروءة] .
ثالثاً: إذا استطاع الطبيب معالجة المرأة بالنظر دون اللمس فهو الواجب وعلى الطبيب أن يغض بصره وأن يتقي الله ربه في ذلك.
رابعاً: ينبغي للمرأة إذا احتاجت للمعالجة عند طبيب رجل أن تختار الطبيب الثقة الأمين صاحب الدين. ويذكر هنا أنه لا يجوز للرجل أن يكشف عند الطبيبة الأجنبية إلا إذا لم يوجد الطبيب الرجل وهو الصحيح الذي تؤيده الأدلة الشرعية ومما يؤسف له أن بعض ذوي النفوس المريضة يرغبون في المعالجة عند الطبيبة ويفضلونها على الطبيب الرجل وقد يكون العكس صحيحاً وهو أن بعض النساء يفضلن أن يتولى علاجهن الطبيب دون الطبيبة لأغراض قد تكون صحيحة أو خبيثة.(15/158)
159 - مصافحة المرأة الأجنبية حرام شرعا
يقول السائل: ما هو الحكم الشرعي في مصافحة الرجل لابنة عمه أو ابنة خالته؟
الجواب: ينبغي أن يعلم أولاً أن المصافحة هي الأخذ باليد وكلامنا هنا في مصافحة المرأة الأجنبية وهي التي يحل للشخص نكاحها سواء كانت ابنة عمه أو ابنة خاله أو غير ذلك، فإذا علم هذا فقد اتفق علماء الأمة من السلف والخلف على تحريم مصافحة المرأة الأجنبية ولم يعرف لهم مخالف على مر العصور والأزمان فيما أعلم، والأدلة متضافرة على تحريم ذلك فمنها:
1. عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كانت المؤمنات إذا هاجرون إلى النبي صلى الله عليه وسلم يمتحنهن في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ ... الخ الآية) ، قالت: فمن أقر بهذا الشرط من المؤمنات فقد أقر بالمحنة فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقررن بذلك من قولهن قال لهن صلى الله عليه وسلم: أنطلقن فقد بايعتكن، لا والله ما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة قط غير أنه يبايعهن بالكلام) رواه البخاري ومسلم. وفي روايةٍ أخرى للبخاري عن عائشة قال (فمن أقر بهذا الشرط من المؤمنات قال لها صلى الله عليه وسلم قد بايعتك كلاماً لا والله وما مست يده يد امرأة قط في المبايعة ما يبايعهن إلا بقوله بايعتك على ذلك) .
2. عن أميمة بنت رقيقة رضي الله عنها قالت: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسوة نبايعه فقلن: نبايعك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا نشرك بالله شيئاً ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل أولادنا ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا ولا نعصيك في معروف فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فيما استطعتن وأطقتن، قالت: فقلت: الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا هلم نبايعك يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لا أصافح النساء إنما قولي لمائة امرأة كقولي لمرأة واحدة) رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة وغيرهم، وقال الترمذي حديث حسن صحيح.
3. عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (كان لا يصافح النساء في البيعة) رواه أحمد وقال الهيثمي وإسناده صحيح.
4. عن معق بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له) رواه الطبراني والبيهقي، قال المنذري ورجال الطبراني ثقات رجال الصحيح.
5. إن الإسلام حرم النظر إلى المرأة الأجنبية من غير سبب مشروع بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حث المسلم على أن يصرف بصره إذا وقع على امرأة أجنبية فقد ثبت في الحديث عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة، فقال: إصرف بصرك) رواه مسلم. وعن بريدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا علي لا تتبع النظرة النظرة فإنما لك الأولى وليست لك الآخرة) رواه أحمد وأبو داوود والترمذي وهو حديث حسن، والأدلة على تحريم النظر إلى الأجنبية بدون سبب مشروع كثيرة وإذا كان النظر محرماً فمن باب أولى اللمس لأن اللمس أعظم أثراً في النفس من مجرد النظر حيث أن اللمس أكثر إثارة للشهوة وأقوى داعياً للفتنة من النظر بالعين وكل منصف يعلم ذلك.
وقد اشتبه على قوم حديث وارد في بيعة النساء للنبي صلى الله عليه وسلم فهموا منه جواز المصافحة وهو حديث أم عطية الأنصارية رضي الله عنها قالت: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ علينا (أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا) ونهانا عن النياحة فقبضت امرأة منا يدها فقالت أسعدتني فلانة أريد أن أجزيها فما قال لها النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً فانطلقت فرجعت فبايعها) رواه البخاري. فقد زعموا أن الرسول صلى الله عليه وسلم بايع النساء مصافحة بدليل قولها: (فقبضت امرأة منا يدها) وهذا الفهم خطأ بين لما يلي:
أ. إن المراد بقبض اليد في الحديث التأخر عن القبول كما قال الحافظ ابن حجر ومثل ذلك قوله تعالى في حق المنافقين (ويقبضون أيديهم) فهو كناية عن عدم الإنفاق في سبيل الله. ومما يرد هذا الزعم ما جاء في رواية أخرى لحديث أم عطية السابق.، رواها الإمام مسلم في صحيحه عن عاصم عن حفصة عن أم عطية قالت: لما نزلت هذه الآية (يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئاً) قالت كان منه النياحة، قالت: فقلت: يا رسول الله إلا آل فلان كانوا أسعدوني في الجاهلية فلا بد لي من أن أسعدهم. فقال عليه السلام: إلا آل فلان) . ومثل ذلك ما ورد في رواية أخرى لحديث أم عطية عند النسائي. فهذه الروايات الثلاث لحديث أم عطية يظهر منها أن المراد بقولها فقبضت امرأة منا يدها التأخر عن قبول المبايعة فلم تبايع مباشرة ولكنها أخرت البيعة حتى تذهب لإسعاد المرأة التي أسعدتها في الجاهلية، بدليل قولها: (ثم أجيئك فأبايعك) كما في رواية النسائي وهي رواية صحيحة.
ب. إن الروايات الثابتة والصريحة الواردة في بيعة النبي صلى الله عليه وسلم للنساء تؤكد أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يصافح النساء في البيعة، وحديث أم عطية ليس فيه ذكر للمصافحة أصلاً.
ج. وأما ما ورد في بعض الروايات من أن النبي صلى الله عليه وسلم صافح النساء بحائل وكان على يده ثوب وأن عمر صافحهن عنه فكل ذلك لا يصح ولا يثبت كما قال أهل الحديث. وقد زعم بعض الناس أن ترك النبي صلى الله عليه وسلم للمصافحة لا يدل على أن على المسلمين أن يتأسوا به صلى الله عليه وسلم في ذلك. لأن التأسي لا يكون إلا بأفعاله وهو لم يفعل شيئاً سوى أنه امتنع عن المصافحة.
وهذا خطأ واضح لأن التأسي يكون بالترك أيضاً فالتأسي في الحقيقة هو فعل، قال الآمدي: [أما التأسي بالغير فقد يكون بالفعل والترك] . وقال الشوكاني: [تركه صلى الله عليه وسلم للشيء كفعله له في التأسي به] . ويكفي هذا القدر من الأدلة لأن المقام لا يحتمل مزيداً من التفصيل.(15/159)
160 - الميراث
يقول السائل: هل يجوز للأب أن يوصي بحرمان أحد أولاده من الميراث لأن هذا الولد عاق لوالديه؟
الجواب: لا يجوز للأب أن يوصي بحرمان ولده العاق فهذه وصية باطلة لأن الله سبحانه وتعالى وزع نصيب كل وارث من الورثة فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله أعطى كل ذي حق حقه) رواه البخاري ومسلم. وعلى هذا الأب أن يحاول إصلاح ولده وأن يعين ولده على بره. ولا بد من العدل بين الأولاد في المعاملة سواء كانت مادية أو معنوية. فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اعدلوا بين أبنائكم، اعدلوا بين أبنائكم، اعدلوا بين أبنائكم) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وهو حديث صحيح. وفي حديث آخر عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (سووا بين أولادكم في العطية لو كنت مفضلاً أحداً لفضلت النساء) رواه البيهقي وقال الحافظ ابن حجر إسناده حسن. وينبغي أن يعلم أن عقوق الوالدين معصية عظيمة وفيه إثم كبير ولكن الشرع لم يجعله من أسباب الحرمان من الميراث.(15/160)
161 - حق الأولاد
يقول السائل: ما حكم التسوية بين الأولاد في الهبات والعطايا؟
الجواب: إن الأصل في هذه القضية أن يعدل الأب والأم بين أولادهما في المعاملات عامة وفي الهبات على وجه الخصوص لأن التفريق بين الأولاد في المعاملة يورث الحقد والحسد ويوقع العداوة والبغضاء بينهم. والأحاديث الواردة عن الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه المسألة يفيد ظاهرها وجوب التسوية بين الأولاد في الهبات وبهذا قال جماعة من أهل العلم ولا بأس أن نستعرض بعض هذه الأحاديث:
1. عن النعمان بن بشير قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اعدلوا بين ابنائكم، اعدلوا بين أبنائكم، اعدلوا بين ابنائكم) رواه احمد وأبو داود والنسائي وهو حديث صحيح.
2. وعن جابر رضي الله عنه قال: قالت امرأة بشير: انحل ابني غلاماً - عبداً - وأشهد لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن ابنة فلان - زوجته - سألتني أن أنحل ابنها غلامي. فقال عليه الصلاة والسلام: له أخوة؟ قال: نعم، قال عليه الصلاة والسلام: فكلهم أعطيت مثل ما أعطيته؟ قال: لا، قال عليه الصلاة والسلام: فليس يصلح هذا وإني لا أشهد إلا على حق) رواه مسلم وأبو داود وأحمد وغيرهم.
3. وعن عامر قال: سمعت النعمان بن بشير رضي الله عنهما وهو على المنبر يقول: أعطاني أبي عطية فقالت عمرة بنت رواحة - أم نعمان – لا أرضى حتى تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أعطيت ابني من عمرة بنت رواحة عطية فأمرتني أن أشهدك يا رسول الله. قال عليه الصلاة والسلام: أعطيت سائر ولدك مثل هذا؟ قال: لا، فقال صلى الله عليه وسلم: فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم، قال فرجع فرد عطيته) رواه البخاري. وفي روايةٍ أخرى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبشير والد النعمان (لا تشهدني على جورٍ أليس يسرك أن يكونوا لك في البر سواء؟ قال: نعم، قال: أشهد على هذا غيري) رواه أبو داود بسندٍ صحيح. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (سووا بين أولادكم في العطية لو كنت مفضلاً أحداً لفضلت النساء) رواه سعيد بن منصور والبيهقي وقال الحافظ ابن حجر إسناده حسن.
فهذه الأحاديث يؤخذ منها وجوب التسوية بين الأولاد في الهبات والعطايا إلا أن اإمام أحمد بن حنبل يرى أنه يجوز للأب أن يفاضل بين الأبناء في الهبات والعطايا إن اختص أحدهم بأمر يقتضي المفاضلة، كأن يكون أحدهم يدرس في جامعة أو مدرسة أو يكون أحد الأولاد فيه عاهة أو أنه فقير وعنده عائلة كثيرة الأولاد. وتجوز المفاضلة أيضاً عنده إذا كان الولد فاسقاً ينفق ما يحصل عليه من مالٍ في معصية الله تعالى فيجوز للأب أن يمنع عنه العطية أو يعطي بقية أولاده أكثر منه. وما ذهب إليه الإمام أحمد نظر دقيق وفقه حسن وخاصةً أنه توجد حالات لا يكون من الإنصاف فيها التسوية بين الأبناء في الهبات والعطايا فلا يمكن للأب التسوية في دفع المصاريف اليومية لأولاده مثلاً مع اختلاف أعمارهم ودراستهم فهل يعقل أن يعطى الطالب الجامعي مثل ما يعطى الطالب في المرحلة الإبتدائية. وأما إذا كان الأمر متعلقاً بإعطاء الأبناء أراضٍ أو عقارات ونحو ذلك فلا بد من التسوية والعدل بينهم في العطاء. ومن الجدير بالذكر أن جمهور الفقهاء يرون أن الذكر والأنثى سواءٌ في البهات والأعطيات لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبشير بن سعد (فسووا بينهم) وفي روايةٍ أخرى (أليس يسرك أن يكونوا في البر سواء) والبنت كالابن في وجوب برها لأبيها. ويرى الحنابلة أن على الأب أن يسقم بين أولاده على حسب قسمة الله تعالى الميراث فيجعل للذكر مثل حظ الأنثيين لأن الله سبحانه وتعالى قسم بينهم ذلك. وورد أن شريحاً القاضي قال لرجل قسَّم ماله بين أولاده (أرددهم إلى سهام الله تعالى وفرائضه) .
وينبغي أن يعلم أن التسوية بين الأولاد ليست في الأمور المالية فقط وإنما ينبغي العدل في جميع أوجه التعامل معهم حتى أن العلماء يقولون ينبغي للأب أن يعدل بين أولاده في القبل - جمع قبلة – قال إبراهيم النخعي (كانوا يستحبون أن يسووا بينهم حتى في القبل) . وروي في حديث عن أنس (أن رجلاً كان عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاء ابن له فقبله وأجلسه على فخذه ثم جاءت ابنة له فأجلسها بين يديه فقال صلى الله عليه وسلم ألا سويت بينهما) .(15/161)
162 - حق الأولاد
إعطاء بعض الأولاد دون بعض غير جائز ,
يقول السائل: في رسالةٍ طويلة مختصرها: إن أباه أعطى ثلاثة من أولاده عمارة وخصهم بها دون بقية أولاده التسعة وبعد وفاة الأب قام الأشقاء التسعة بمطالبة إخوتهم الثلاثة بنصيبهم من العمارة المذكورة ويسألون هل يجوز لهم ذلك؟ وإذا أسقط بعض الورثة حقه من العمارة فهل يحق لهم أن يطالبوا بذلك؟
الجواب: إن الأصل أن على الوالد أن يعدل في العطية والهبة لأولاده ولا ينبغي له أن يفاضل بينهم إلا لموجب شرعي والذي يظهر من السؤال أن الوالد لم يعدل في عطاياه فأعطى ثلاثة من أولاده عمارة وخصهم بها دون بقية أولاده وهذا الأمر مخالف لما ورد عن رسول صلى الله عليه وسلم في التسوية بين الأولاد والعدل بينهم في الأعطيات والمعاملة أيضاً. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم) رواه البخاري. وقد اعتبر الرسول صلى الله عليه وسلم إعطاء بعض الأولاد شيئاً دون الآخرين من الجور فقد ورد في الحديث عن جابر قال: قالت امرأة بشير: إنحل – أي أعط – ابني غلام وأشهد لي رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأتى رسول الله فقال: إن ابنة فلان سألتني أن أنحل ابنها غلامي فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (له إخوة؟ قال: نعم. قال: فكلهم أعطيت مثل ما أعطيته. قال: لا. فقال له عليه الصلاة والسلام: فليس يصلح هذا وإني لا أشهد إلا على حق) رواه مسلم. وفي روايةٍ أخرى قال عليه الصلاة والسلام (لا تشهدني على جور إن لبنيك عليك من الحق أن تعدل بينهم) رواه أبو دواد. وفي رواية أخرى أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمره أن يرجع في هبته. فالذي يظهر من خلال هذه الروايات وغيرها أنه لا بد من العدل عند إعطاء الأولاد ولا يجوز تفضيل بعض الأولاد على بعض لأن هذا التفضيل بينهم يؤدي إلى العداوة والبغضاء بين الأولاد.
والذي أنصح في هذه القضية أن تكون العمارة المعطاة لثلاثة فقط من الأولاد دون البقية من ضمن التركة وتوزع على جميع الورثة إبراءً لذمة الوالد ولنزع فتيل الشقاق والخصام والأحقاد من النفوس وهذا الأمر فيه احتياط في الدين.
وأما إذا أسقط بقية الورثة حقهم في هذه العمارة ثم رجعوا في ذلك فلا يجوز لهم الرجوع لأن القاعدة الفقهية تقول الساقط لا يعود يعني إذا أسقط شخص حقاً من الحقوق التي يجوز إسقاطها، يسقط ذلك الحق وبعد إسقاطه لا يعود. ولكن يشترط في إسقاطه الحق أن يكون عن رضاً نفس وبدون ضغط أو إكراهٍ أو حياء.(15/162)
163 - حق الأولاد
يقول السائل: ما قولكم في رجلٍ له عدد من الأولاد من زوجتين فقام بإعطاء جميع أمواله المنقولة وغير المنقولة؟ إلى ولدين من إحدى زوجتيه ويقوم هذان الولدان بإنفاق الأموال في اللهو المجنون، وحرم باقي الأولاد وهم عشرة علماً بأن بين الأولاد المحرومين أصحاب عاهات دائمة وبحاجة للمساعدة؟
الجواب: إن هذا الرجل قد أساء التصرف وخالف الهدي النبوي في التسوية بين الأولاد في الأعطيات والهبات. فإن العدل بين الأولاد مطلوبٌ سواء أكان في الأمور المادية أو المعنوية وتصرف هذا الرجل يزرع العداوة والبغضاء والحقد بين الأولاد. وقد رفض الرسول صلى الله عليه وسلم أن يشهد على إعطاء أحد الصحابة لأحد أولاده عطية دون الآخرين كما جاء في الحديث: عن عامر قال: (سمعت النعمان بن بشير رضي الله عنهما وهو على المنبر يقول: أعطاني أبي أعطيةً فقالت عمرة بنت رواحة – أم نعمان – لا أرضى حتى تشهد رسول صلى الله عليه وسلم فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أعطيت ابني من عمرة بنت رواحة عطية فأمرتني أن أشهدك يا رسول الله. قال عليه الصلاة والسلام: أعطيت سائر ولدك مثل هذا؟ قال: لا، فقال عليه الصلاة والسلام: فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم. قال فرجع فرد عطيته) رواه البخاري في صحيحه. وفي روايةٍ أخرى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبشير والد النعمان (لا تشهدني على جورٍ أليس يسرك أن يكونوا لك في البر سواء؟ قال: نعم. قال: أشهد على هذا غيري) رواه أبو داود بسندٍ صحيح.
ويدل على أنه يجب على الأب أن يسوي بين أولاده في الهبات والعطايا قوله عليه الصلاة والسلام: (اعدلوا بين أبنائكم، اعدلوا بين أبنائكم، اعدلوا بين أبنائكم) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وهو حديثٌ صحيح. وقوله عليه الصلاة والسلام: (سووا بين أولادكم في العطية لو كنت مفضلاً أحداً لفضلت النساء) رواه سعيد بن منصور والبيهقي وقال الحافظ ابن حجر إسناده حسن. وقوله عليه الصلاة والسلام: (اعدلوا بين أولادكم في النحل كما تحبون أن يعدلوا بينكم في البر) رواه مسلم. وعلى هذا فيجب على هذا الأب لأن يسترجع ما أعطاه لولديه ويعيد تقسيم تلك الأموال بين أولاده بالتساوي فالرجوع في الهبة في حق الوالد جائز على مذهب جمهور الفقهاء ويدل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يحل للرجل أن يعطي العطية فيرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده) رواه أصحاب السنن الأربعة وأحمد وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم. ويدل على جواز الرجوع ما جاء في حديث النعمان المتقدم قال (فرد عطيته) وفي رواية أخرى صحيحة قال صلى الله عليه وسلم: (فأرجعه) . وفي روايةٍ ثالثة (فرجع أبي في تلك الصدقة) . وخاصةً أن الولدين الذين خصهما بأعطيته ينفقان ذلك في المحرمات فهو بعمله هذا يعينهما على الفسق والفجور والعياذ بالله، بدل أن يردعهما ويزجرهما ويأمرهما بالمعروف وينهاهما عن المنكر وكذلك بعض أولاده الذين حرمهم ممن يستحقون زيادة في العطف والمساعدة والرفق بهم وهم أصحاب العاهات الدائمة.
فعلى هذا الرجل أن يتقي الله ويعود إلى رشده ويلزم طريق العدل والإنصاف وإلا فسوف يندم عندما يقف بين يدي الله يوم القيامة.(15/163)
164 - الميراث
حرمان النساء من الميراث حرام ,
تقول السائلة: تنازلت امرأة عن ميراثها لأخيها تحت تأثير التهديد والوعد والوعيد منه مقابل أن يعطيها في كل عامٍ مالاً يكفيها لتنفق على نفسها ولكنه لم يف بالتزامه فهل يجوز أن تطالبه بإعادة نصيبها من الميراث؟
الجواب: إن حرمان النساء من الميراث بصوره المختلفة من المشكلات المنتشرة في مجتمعنا، وكثيراً ما يترتب على ذلك الحرمان مآس من ظلم وقهر وأكل أموال الناس بالباطل وإن حرمان النساء من الميراث من مخلفات الجاهلية التي هدمها الإسلام قال قتادة: [كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء ولا الصبيان] وكان أكبر الأولاد هو الذي يأخذ جميع الميراث وكانوا يقولون: لا يعطى إلا من قاتل على ظهور الخيل وطاعن بالرمح وضارب بالسيف وحاز الغنيمة. وهذه جاهلية جهلاء حاربها الإسلام وأعطى المرأة نصيبها من الميراث يقول الله تعالى: (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا) . فهذه الآية الكريمة أوجبت النصيب من الميراث للرجال والنساء قليلاً كان ذلك أو كثيراً فالمرأة سواء كانت أماً أو زوجة أو أختاً أو بنتاً فلها نصيبها من الميراث وهذا النصيب حق شرعي لها وليس منةً أو تفضلاً من أحد فلا يجوز لأي كان أن يحرمها من نصيبها الذي قرره الشرع الحنيف. وكل من يحرم امرأة من نصيبها بأي وسيلة كانت كالتهديد والوعيد بإجبارها على التنازل عن ميراثيها أو بالتحايل عليها لإسقاط حقها بما يسميه عامة الناس (إرضاء الأخوات) زوراً وبهتاناً. أقول كل من يفعل ذلك فهو آثم ومعطل لحكم الله في هذه القضية ومعتد على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ,وأكل لأموال الناس بالباطل. وهذه المرأة التي هددها أخوها وأجبرها على التنازل عن ميراثها مقابل وعد زائف كاذب بالأنفاق عليها قد ظلمت ظلماً واضحاً من هذا الأخ الظالم الذي أكل مال أخته بالباطل ولها أن تطالب بحقها وتسعى في تحصيله. وإنني لأذكر هذا الأخ وكل شخصٍ يحرم النساء من الميراث بتقوى الله تعالى فاتقوا الله في إخواتكم النساء وأعطوا الحقوق لأصحابها وأعيدوا نصيب النساء لهن قبل أن ترحلوا عن هذه الدنيا وقبل أن تقفوا بين يدي الله في ذلك اليوم العظيم الذي لا ينفع فيه مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلبٍ سليم. فتوبوا إلى رشدكم ولا تغرنكم الأموال ولا العقارات وأعطوا كل ذي حقٍ حقه على وفق ما جاء في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأذكر هؤلاء بأن الظلم مرتعه وخيم فقد قال صلى الله عليه وسلم:
1. عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة) رواه مسلم.
2. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء – التي لا قرن لها – من الشاة القرناء) رواه مسلم.
3. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرضه أو من شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أُخذ منه بقدر مظلمته وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه) رواه البخاري.
4. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذ إلى اليمن فقال: اتقي دعوة المظلوم فإنها ليس بينها وبين الله حجاب) رواه البخاري.(15/164)
165 - أموال اليتامى
يقول السائل: أنه وصي على أيتام ولهم أموال فهل يجوز له أن يشغل أموال الأيتام في تجارة أو شركة أو نحو ذلك؟
الجواب: إن على من ولي أيتاماً ولهم أموال أن يتصرف في أموالهم بما تقتضيه مصلحة هؤلاء الأيتام وكأن هذا الولي يتصرف في ماله الخاص فعليه أن يحفظ أموالهم من التلف وأن يجنبهم المخاطر، والأصل في هذا قوله تعالى: (وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) . قال القرطبي في تفسير هذه الآية: [أي بما فيه صلاحه وتثميره وذلك بحفظ أصوله وتثمير فروعه. وهذا أحسن الأقوال في هذا فإنه جامع] . قال مجاهد: [لا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن] . [بالتجارة فيه ولا تشتري منه ولا تستقرض] . تفسير القرطبي7/ 134.
وبناءً على ذلك لا يجوز للولي أن يتبرع بشيءٍ من مال اليتيم أو يتصدق منه أو يهبه أو يقرضه ولا يجوز بيعه أو شراؤه مع الغبن الفاحش لأن في ذلك إضاعة لأموال اليتامى. ويجوز للولي البيع والشراء والإجارة والشركة في أموال اليتامى فاستثمار أموال اليتامى جائز بل مطلوب حتى لا يفنى مال اليتيم في النفقات أو الزكاة عند القائلين بوجوبها في مال اليتيم ويدل على جواز ذلك ما ورد في بعض الأحاديث والآثار عن الصحابة رضي الله عنهم منها:
1. ما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال: (ألا من ولي يتيماً وله مال فليتجر له بماله ولا يتركه حتى تأكله الصدقة) رواه الترمذي وضعفه.
2. ما رواه الشافعي بسنده عن يوسف بن ماهك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ابتغوا في مال اليتيم أو أموال اليتامى لا تذهبها ولا تستهلكها الصدقة) رواه الشافعي في الأم والبيهقي في السنن الكبرى وقال البيهقي وهذا مرسل إلا أن الشافعي رحمه الله أكده بالإستدلال بالخبر الأول وبما روي عن الصحابة رضي الله عنهم. سنن البيهقي 4/ 107.
3. ما رواه البيهقي بسنده عن عمر بن الخطاب أنه قال: (اتجروا في أموال اليتامى لا تأكلها الصدقة) . وقال البيهقي هذا إسناد صحيح وله شواهد عن عمر رضي الله عنه.
4. ما رواه مالك في الموطأ أنه بلغه عن عمر بن الخطاب أنه قال: (اتجروا في أموال اليتامى لا تأكلها الصدقة) .
5. وما رواه البيهقي بسنده أن عمر بن الخطاب قال لرجل أن عندنا ما يتيم قد أسرعت فيه الزكاة فدفعه إليه ليتجر فيه له. وغير ذلك من الأحاديث.(15/165)
166 - الميراث
الوصية الواجبة,
يقول السائل: إذا توفي الرجل في حياة أبيه وترك أولاده فهل لهم نصيب من ميراث جدهم مع وجود أعمامهم؟
الجواب: إن الأصل في نظام الميراث الإسلامي أن هؤلاء الأولاد أي حفدة المتوفى لا يرثون شيئاً مع وجود أعمامهم أو عماتهم على قيد الحياة أي أنهم محجوبون بأعمامهم وعماتهم. ولكن قانون الأحوال الشخصية المعمول به في المحاكم الشرعية أعطى لهؤلاء الحفدة نصيباً من الميراث وهو ما يعرف بالوصية الواجبة فقد جاء في المادة (182) من القانون المذكور لسنة 1967 ما نصه: (إذا توفي أحد وله أولاد ابن وقد مات ذلك الابن قبله أو معه وجب لأحفاده هؤلاء في تركته وصية بالمقدار والشروط التالية) سيأتي فيما بعد. وهذه الوصية الواجبة أول ما عمل بها كان ذلك ضمن قانون الأحوال الشخصية المصري الصادر 1946 وكذلك عمل بها ضمن قانون الأحوال الشخصية السوري الصادر سنة 1953 وما زال معمولاً بها في بعض الدول العربية والإسلامية. والمستند الشرعي الذي اعتمده المشرعون للوصية الواجبة هو ما ذهب إليه بعض الفقهاء من التابعين وغيرهم من الأئمة كسعيد بن المسيب والحسن البصري وطاووس وأحمد بن حنبل وداود الظاهري وابن حزم وابن جرير الطبري وغيرهم من أن الوصية واجبة للأقربين غير الوارثين أخذاً من قوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) سورة البقرة آية 180.
وهذه الآية محكمة غير منسوخة كما رجحه كثير من المحققين من أهل التفسير وغيرهم فالأقارب من غير الورثة تجب لهم الوصية بمقتضى هذه الآية والحفدة من ضمن هؤلاء الأقارب غير الورثة أصلاً لوجود أعمامهم وعماتهم. يرى بعض العلماء المعاصرين أن الحكمة من تشريع نظام الوصية الواجبة هو الحفاظ على الأسرة موحدة ومتماسكة وأن فيها إقامة للعدل ومعالجة مظاهر الظلم وما ينتج عنها من بؤس وحرمان وفقر. ذلك أنه في حالات كثيرة يتوفى الابن قبل والده ويكون لذلك الوالد أبناء يمنعون أبناء المتوفى من الميراث وعندها يحرمون نصيبهم من مال ربما كان لأبيهم اليد الطولى في جمعه وتثميره فيؤول هذا المال إلى ملك الأعمام بحقهم في الميراث وينالون بسببه حظهم الوافر من المتاع الدنيوي وأبناء المتوفى إلى جانبهم يعانون شظف العيش وفي هذا تقطيع لآصرة ارحم وبعث الأحقاد واستشعار لمرارة الظلم والحرمان فجاء قانون الوصية الواجبة المستمد من نظرات صائبة لنفر من صالحي السلف فقهاء ومحدثين ليسد هذه الثلمة وليعالج مصدر من مصادر الشكوى التي غدت تتعالى وتتكر في مجتمعنا من خلال ما أذنت به مرونة آراء الفقهاء من تشريع (الوصية الواجبة) نظام الأسرة 3/ 592. وشروط استحقاق الوصية الواجبة كما ورد في قانون الأحوال الشخصية الأردني هي:
1. الوصية الواجبة لهؤلاء الأحفاد تكون بمقدار حصة أبيهم من الميراث فيما لو كان حياً على أن لا يتجاوز ذلك ثلث التركة
2. لا يستحق هؤلاء الأحفاد وصية إذا كانوا وارثين لأصل أبيهم جداً كان أو جدة أو كان قد أوصى لهم أو أعطاهم في حياته بلا عوض مقدار ما يستحقون بهذه الوصية الواجبة فإن أوصى لهم بأقل من ذلك وجبت تكملته وإن أوصى لهم بأكثر فإن الزائد وصية اختيارية وإن أوصى لبعضهم فقد وجب للآخر بقدر نصيبه.
3. تكون الوصية لأولاد الابن ولأولاد ابن الإبن وإن نزل واحداً كان أو أكثر للذكر مثل حظ الأنثيين يحجب كل أصل فروعه دون فرع غيره ويأخذ كل فرع نصيب أصله فقط.
4. هذه الوصية الواجبة مقدمة على الوصايا الاختيارية في الاستيفاء من ثلث التركة. وينبغي أن يعلم أن الجد إذا لم يوصي لأولاد ابنه المتوفى في حياته فإن القاضي يفرض لهم تلك الوصية.(15/166)
167 - الحمل والإجهاض
لا يجوز إسقاط الجنين المعاق,
تقول السائلة: إنها حامل في الشهر الخامس وقد قرر الطبيب أن الجنين سيولد معاقاً، فعل يجوز لها إسقاط الحمل؟
الجواب: لقد اتفق العلماء على عدم حواز الإجهاض بعد الشهر الرابع من الحمل أي بعد مضي مائة وعشرين ليلة حيث تنفخ الروح في الجنين، لحديث عبد الله بن مسعود: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ويأمر بأربع كلمات، يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد) رواه البخاري ومسلم. ومن العلماء من حرم الإجهاض قبل الأشهر الأربعة أيضاً، وهذا هو الحق إن شاء الله، فلا ينبغي لامرأة مسلمة أن تجهض مولودها إلا إذا ثبت أن هناك خطراً محققاً على حياة الأم، ويعتبر في تحديد هذا الخطر قول الطبيب الحاذق الثقة. وأما إخبار الطبيب بأن المولود سيكون معاقاً فإن هذا الأمر لا يجيز الإجهاض، وعلى هذه المرأة أن تصبر وتحتسب. وإذا وقع الإجهاض منها فإن ذلك يعتبر جريمة موجبة للغرة – وهي دية الجنين – لأنه قتل لنفس محرمة وتلزمها كفارة القتل الخطأ عند بعض أهل العلم.
وينبغي على الأطباء أن يتقوا الله في النساء المسلمات فلا يجوز لهم أن يسهلوا لهن عملية الإجهاض إلا في الحالات التي يتهدد الخطر فيها حياة الأم لأن من شأن عملية الإجهاض فتح باب الفساد على مصراعيه ويلحق أضراراً بالغة في المجتمع المسلم.(15/167)
168 - صلة الأرحام
يقول السائل: من هم الأرحام الذين تجب صلتهم وبما تكون صلة الرحم؟
الجواب: الأرحام هم الأقارب وهم على نوعين: رحم محرم ورحم غير محرم. والرحم المحرم هو كل من لو فرضناه رجلاً والآخر أنثى لم يحل لهما الزواج كالآباء والأمهات والأجداد والجدات والأعمام والعمات والأخوال والخالات والأخوة والأخوات ذكوراً وإناثاً. وأما الرحم غير المحرم فهم: الأقارب الذين يجوز التناكح بينهم كبنات الأعمام(15/168)
169 - الحمل والإجهاض
علاج عدم الإنجاب,
يقول السائل: إنه أحد أربعة أخوة ولهم اخت والجميع متزوج منذ فترة غير قصيرة ولم ينجب أي واحد منهم وأنهم عرضوا أنفسهم على الأطباء المختصين فأكدوا لهم عدم وجود أي مانع صحي من الإنجاب كذلك عدم وجود أي عامل وراثي يمنع منه وأن بعض الناس أخبرهم أن عدم الإنجاب مرده السحر أو أن ذلك يرجع إلى دعوة مظلوم حيث إن والدهم كان له مشكلة مع إحدى النساء وانها كانت مظلومة وهم يبحثون عن حل لمشكلتهم؟
الجواب: إن على السائل أن يراجع الأطباء أصحاب الاختصاص في هذه المشكلة لاحتمال أن يكون سبب عدم الإنجاب هو أمر طبي والأطباء هم الذين يقررون ذلك. وأما إذا ثبت أنه لا يوجد عائق من الناحية الصحية أو الوراثية يمنع الأنجاب فيكون احتمال أن ذلك ناتج عن السحر أمراً وارداً وفي هذه الحالة فعليه أن يسعى لفك السحر ويكون ذلك بقراءة القرآن الكريم والأدعية الشرعية على أيدي أناس مشود لهم بالورع والتقوى.
ولا يجوز اللجوء إلى السحرة لفك السحر فقد جاء في حديث جابر أنه عليه الصلاة والسلام سئل عن النشرة - وهي فك السحر - فقال: (هي من عمل الشيطان) رواه أحمد وأبو داود وإسناده حسن. وعلى السائل وإخوته أن ينيبوا لله سبحانه وتعالى وأن يكثروا من قراءة القرآن الكريم وأن يحافظوا على الأذكار وكذلك الأدعية المأثورة وأن يديموا اللجوء إلى الله سبحانه وتعالى طالبين إزالة ما بهم من ضر. يقول الله سبحانه وتعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) .
ويقول الله سبحانه وتعالى: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ) . وكذلك ينبغي لهؤلاء الأخوة الأربعة أن يزيلوا أي مظلمة ظلمها أبوهم بحق جارتهم وأن يعيدوا لها حقوقها المسلوبة منها وأن يكثروا من الصدقة لعل الله يفرج كربهم ويزيل همهم وغمهم. وأذكر السائل بتلاوة بعض آيات من القرآن الكريم التي تنفع بإذن الله في علاج السحر وإعادتها دائماً وهذه الآيات هي آية الكرسي و (قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ) و (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) و (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) . والآيات التي في سورة يونس وهي قوله تعالى: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ ... ) سورة يونس 79 – 82 والآيات من سورة طه: (قَالُوا يَامُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى ... ) طه 65 - 69.(15/169)
170 - النكاح
اشتراط المرأة في عقد زواجها أن لا يتزوج عليها بأخرى,
يقول السائل: هل يجوز للمرأة أن تشترط في عقد زواجها أن لا يتزوج زوجها عليها وما الحكم لو حصل هذا الشرط وقبل به الزوج عند العقد ثم ندم على ذلك بعد مدة فهل عليه الوفاء بالشرط المذكور أم لا؟
الجواب: اتفق أهل العلم على وجوب الوفاء بالشروط التي يقتضيها عقد الزواج كالإنفاق على الزوجة مثلاً. واختلفوا في الشروط التي لا تنافي مقتضى عقد الزواج ولا تخل بمقصوده الأصلي كالشرط المذكور في السؤال. والذي أختاره في هذه المسألة أنه يجوز للمرأة أن تشترط في عقد زواجها أن لا يتزوج زوجها عليها وأنه يلزم الزوج الوفاء بهذا الشرط ما دام أنه قبل به عند عقد الزواج وهذا قول الحنابلة في هذه المسألة.
قال الشيخ ابن قدامة المقدسي عند حديثه على الشروط في النكاح: [ما يلزم الوفاء به وهو ما يعود إليها نفعه وفائدته مثل أن يشترط لها أن لا يخرجها من دارها أو بلدها ولا يسافر بها أو لا يتزوج عليها… فهذا يلزمه الوفاء لها به فإن لم يفعل فلها فسخ النكاح يروى هذا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وسعد بن أبي وقاص ومعاوية وعمرو بن العاص رضي الله عنهم وبه قال شريح وعمر بن عبد العزيز وجابر بن زيد وطاووس والأوزاعي وإسحاق] المغني 7/93. ومما يدل لهذا القول عموم النصوص الشرعية الآمرة بالوفاء بالعهد كقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) سورة المائدة آية 1. ومما يدل عليه أيضاً ما جاء في الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج) رواه البخاري ومسلم. وقال الإمام البخاري في صحيحه: [باب الشروط في النكاح وقال عمر: مقاطع الحقوق عند الشروط. وقال المسور بن مخرمة: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ذكر صهراً له فأثنى عليه في مصاهرته فأحسن، قال: حدثني فصدقني ووعدني فوفى لي] وقال الحافظ ابن حجر عن أثر عمر بأنه قد وصله سعيد بن منصور في سننه. صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 11/124. وقد صحح الشيخ الألباني أثر عمر المذكور. ومما يدل لهذا القول ما جاء في الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (المسلمون على شروطهم إلا شرطاً أحل حراماً أو حرم حلالاً) رواه أبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح.
وقد أخذ قانون الأحوال الشخصية المعمول به في المحاكم الشرعية عندنا بقول الحنابلة في هذه المسألة فقد جاء في المادة 19 من القانون المذكور ما يلي: [إذا شرط في العقد شرط نافع لأحد الطرفين ولم يكن منافياً لمقاصد الزواج ولم يلتزم فيه بما هو محظور شرعاً وسجل في وثيقة العقد وجبت مراعاته وفقاً لما يلي: 1. إذا اشترطت الزوجة على زوجها شرطاً تتحقق به مصلحة غير محظورة شرعاً ولا يمس حق الغير كأن تشترط عليه أن لا يخرجها من يلدها أو لا يتزوج عليها أو أن يجعل أمرها بيدها تطلق نفسها إذا شاءت أو أن يسكنها في بلد معين كان الشرط صحيحاً وملزماً فإن لم يف به الزوج فسخ العقد بطلب الزوجة ولها مطالبته بسائر حقوقها الزوجية … الخ] . وبناءاً على ما سبق أقول بأنه يجب على الزوج الوفاء بالشرط المذكور ما دام أنه قبل به ابتداءً وعليه الالتزام بذلك. ولكني أنصح المقبلين على الزواج أن لا يقبلوا بهذا الشرط ابتداءً فلا ينبغي للرجل أن يقبل أن يشرط عليه في عقد الزواج أن لا يتزوج عليها. لأنه لا يدري ماذا يحصل معه في مستقبل أيامه فقد تمرض زوجته مرضاً يمنع استمرار الحياة الزوجية بالشكل المطلوب كأن تصاب بمرض مزمن أو معد أو قد تصيبها أمور أخرى أو قد تقع العداوة والبغضاء بينهما ولا يستطيع تطليقها لسبب ما فإنه حينئذ يستطيع أن يتزوج عليها ثانية فإن كان قد شرط على نفسه ألا يتزوج عليها فقد قطع الطريق على نفسه. *****(15/170)
171 - المحارم
يقول السائل: إنه وأخوه متزوجان من أختين ويسكنان في بيت واحد وزوجة كل منهما تظهر على زوج أختها بدون جلباب مع إظهار الزينة لأنهما تعتقدان أن زوج الأخت محرم فما قولكم في ذلك؟
الجواب: إن زوج الأخت يعتبر أجنبياً على أخت زوجته ولا يختلف حكمه عن الرجال الأجانب إلا في حكم واحد فقط وهو أنه لا يجوز أن يتزوج أخت زوجته ما دامت أختها في عصمته. وهنالك خطأ شائع بين الناس أن زوج الأخت محرم لأخت زوجته وهذا الفهم مغلوط ولا يستند إلى أي دليل شرعي وإنما فهم الناس هذه المحرمية غير الصحيحة شرعاً من كونه لا يجوز شرعاً الجمع بين الأختين ففهم كثير من الناس ثبوت المحرمية بين زوج الأخت وأخت زوجته. ويجب أن يعلم أن هذا التحريم المؤقت في الجمع بين الأختين في الزواج لا يجعل زوج الأخت محرماً لأخت زوجته. ومحارم المرأة هم الذين يحرم عليهم نكاحها على التأبيد وهذه المحرمية تكون بسبب النسب أو بسبب الرضاع أو بسبب المصاهرة. والمحارم من النسب هم الآباء وإن علوا من جهة الذكور والإناث كآباء الآباء وآباء الأمهات.
والمحارم من الأبناء أي أبناء النساء فيدخل فيهم أولاد الأولاد وإن نزلوا من الذكور والإناث مثل بني البنين وبني البنات أما أبناء بعولتهن فهم آبناء أزواجهن من غيرهن وهؤلاء محارم بسبب المصاهرة لا بسبب النسب. المحارم من الأخوة وهم إخوانهن سواء أكانوا أخوة لأم وأب أو لأب فقط أو لأم فقط. المحارم من بني إخوانهن وإن نزلوا من ذكران وإناث كبني بني الإخوان. المحارم من بني أخواتهن وإن نزلوا من ذكران وإناث كبني بنات الأخوات. العم والخال وهما من المحارم بالنسب ولم يذكروا في الآية الكريمة لأنهما يجريان مجرى الوالدين وهما عند الناس بمنزلة الوالدين. وأما المحارم من الرضاع فهم مثل المحارم من النسب لما ثبت في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) رواه مسلم. وأما المحارم من المصاهرة فهم الذين يحرم عليهم نكاحها على التأبيد مثل زوجة الأب وزوجة الابن وأم الزوجة فالمحرم بالمصاهرة بالنسبة لزوجة الأب هو ابنه من غيرها وبالنسبة لزوجة الابن هو أبوه وبالنسبة لأم الزوجة هو الزوج. المفصل في أحكام المرأة 3/161 – 162. وبين الله سبحانه وتعالى المحرمات من النساء بقوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا) سورة النساء الآيتان 22-23. ولم يقل الله سبحانه وتعالى: (وأخوات نسائكم) وإنما قال: (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ) فالأمر المحظور هو الجمع بين الأختين أي في الزواج، وبهذا يظهر لنا بوضوح أن زوج الأخت ليس محرماً لأخت زوجته.
وبناءاً على ذلك فإن زوج الأخت يعتبر أجنبياً على أخت زوجته وتنطبق عليه جميع الأحكام المتعلقة بالأجانب من حيث النظر واللمس والدخول والخلوة فلا يجوز أن ينظر زوج الأخت من أخت زوجته إلى شيء سوى الوجه والكفين ولا يجوز له لمسها ولا مصافحتها ولا يجوز أن يخلو بها. ولا يجوز لها أن تبدي زينتها أمام زوج أختها لقوله تعالى: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْءَابَائِهِنَّ أَوْءَابَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ) سورة النور الآية 31. وأخو الزوج ليس من هؤلاء المذكورين في الآية. وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم الرجال من الدخول على النساء وخاصة أخو الزوج فقد صح في الحديث عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إياكم والدخول على النساء. فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله أفرأيت الحمو؟ قال: الحمو الموت) رواه البخاري ومسلم. قال الإمام النووي: [قوله صلى الله عليه وسلم: (الحمو الموت) قال الليث بن سعد: الحمو أخو الزوج وما أشبهه من أقارب الزوج: ابن العم ونحوه. اتفق أهل اللغة على أن الأحماء أقارب زوج المرأة كأبيه وأخيه وابن أخيه وابن العم ونحوهم، والأختان أقارب زوجة الرجل والأصهار يقع على النوعين.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (الحمو الموت) فمعناه أن الخوف منه أكثر من غيره والشر يتوقع منه والفتنة أكثر لتمكنه من الوصول إلى المرأة والخلوة من غير أن ينكر عليه بخلاف الأجنبي والمراد بالحمو هنا أقارب الزوج غير آبائه وأبنائه فأما الآباء والأبناء فمحارم لزوجته تجوز لهم الخلوة بها ولا يوصفون بالموت وإنما المراد الأخ وابن الأخ والعم وابنه ونحوهم ممن ليس بمحرم. وعادة الناس المساهلة فيه ويخلو بامرأة أخيه فهذا هو الموت وهو أولى بالمنع من الأجنبي … وقال ابن الأعرابي: هي كلمة تقولها العرب كما يقال: الأسد الموت. أي لقاؤه مثل الموت، وقال القاضي: معناه الخلوة بالأحماء مؤدية إلى الفتنة والهلاك في الدين فجعله كهلاك الموت فورد الكلام مورد غليظ] شرح النووي على صحيح مسلم 5/329. وقال أبو العباس القرطبي: [وقوله: (الحمو الموت) أي دخوله على زوجة أخيه يشبه الموت في الاستقباح والمفسدة أي فهو محرم معلوم التحريم وإنما بالغ في الزجر عن ذلك وشبهه بالموت لتسامح الناس في ذلك من جهة الزوج والزوجة لإلْفهم لذلك حتى كأنه ليس بأجنبي من المرأة عادة وخرج هذا مخرج قول العرب: الأسد الموت والحرب الموت أي لقاءه يفضي إلى الموت وكذلك دخول الحمو على المرأة يفضي إلى موت الدين أو إلى موتها بطلاقها عند غيرة الزوج أو برجمها إن زنت معه] المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم 5/501-502. ونقل الحافظ ابن حجر عن الطبري قوله: [المعنى أن خلوة الرجل بامرأة أخيه وابن أخيه - أي زوجة ابن أخيه - تنزل منزلة الموت والعرب تصف الشيء المكروه بالموت] فتح الباري 11/245. *****(15/171)
172 - المحارم
مسألة لبن الفحل ,
يقول السائل: رجل له زوجتان وكل منهما قد أنجبت والأولى منهما أرضعت ولداً لأحد الأقارب فهل يجوز لهذا أن يتزوج ابنة ذلك الرجل من زوجته الثانية؟
الجواب: ثبت في الحديث الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الرضاعة تحرم ما يحرم من النسب) رواه البخاري ومسلم. وجاء في رواية أخرى: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) وهو حديث صحيح. وقد اتفق العلماء على ذلك وأنه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب وفي السؤال المذكور فإن الولد المشار إليه قد رضع من زوجة الرجل فيصير الرجل أباً لذلك الولد من الرضاعة والبنت التي أراد أن يتزوجها هي أخت لأب من الرضاعة فلا تحل له. وإن كانت البنت من الزوجة الثانية للرجل. وهذه المسألة يكون التحريم فيها بسبب الرجل وتسمى عند الفقهاء مسألة لبن الفحل وهي التي تكون الحرمة فيها في جانب زوج المرضعة التي نزل لبنها بسبب من الرجل ومعنى ذلك أن المرأة إذا أرضعت طفلاً بلبن هذا الفحل أي الرجل الذي كان وطؤه لها سبباً في إدرار لبن هذه المرأة فإن الطفل الرضيع يصير ولداً لهما فالمرأة تصير أمه بالرضاعة وهو ولدها بالرضاعة والرجل أي زوج المرأة يصير أباً له وهو ولده بالرضاعة وعلى هذا تصير علاقة الرضيع بالرجل وزوجته وبأقاربهما مثل علاقة ولدهما بالنسب. المفصل في أحكام المرأة 6/238.
قال الإمام النووي: [وأما الرجل المنسوب ذلك اللبن إليه لكونه زوج المرأة … فمذهبنا ومذهب العلماء كافة ثبوت حرمة الرضاع بينه وبين الرضيع ويصير ولداً له وأولاد الرجل أخوة الرضيع وأخواته ويكون أخو الرجل أعمام الرضيع وأخواته عماته] شرح النووي على صحيح مسلم 4/18. ومما يدل على هذا الحكم ما ثبت في الحديث عن عروة بن الزبير عن عائشة: (أنها أخبرته أن أفلح أخا أبي القعيس جاء يستأذن عليها وهو عمها من الرضاعة بعد أن أنزل الله الحجاب. قالت: فأبيت أن آذن له فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرته بالذي صنعته فأمرني أن آذن له عليَّ) رواه البخاري ومسلم. وفي رواية أخرى: (أن عائشة أخبرته أنه جاء أفلح أخو أبي القعيس يستأذن عليها بعدما نزل الحجاب وكان أبو القعيس أبا عائشة من الرضاعة. فقلت: والله لا آذن لأفلح حتى أستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن أبا القعيس ليس هو أرضعني ولكن أرضعتني امرأته. قالت عائشة: فلما دخ رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: يا رسول الله إن أفلح أخا أبي القعيس جاءني يستأذن عليَّ فكرهت أن آذن له حتى استأذنك. قالت: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إئذني له. قال عروة: فبذلك كانت عائشة تقول حرموا من الرضاع ما تحرمون من النسب] رواه مسلم. وقد ثبت في الحديث أيضاً أنه طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن ينكح درة بنت أبي سلمة فقال: (لو أنها لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي إنها ابنة أخي من الرضاعة أرضعتني وأباها ثويبة) رواه البخاري ومسلم. وقد سئل ابن عباس عن رجل تزوج امرأتين فأرضعت إحداهما جارية وأخرى غلاماً فهل يتزوج الغلام بالجارية. فقال: لا اللقاح واحد. رواه مالك والترمذي وإسناده صحيح. والقول بأن لبن الفحل يحرم هو القول الصحيح في هذه المسألة وحديث عائشة في قصة استئذان أفلح أخي أبي القعيس نص صريح في أن لبن الفحل يحرم. قال الشيخ ابن قدامة بعد أن ساق الحديث: [وهذا نص قاطع في محل النزاع فلا يعول على ما خالفه] المغني 7/114.
وقال العلامة ابن القيم: [الحكم الثاني: المستفاد من هذه السنة أن لبن الفحل يحرم والتحريم ينتشر منه كما ينتشر من المرأة وهذا هو الحق الذي لا يجوز أن يقال بغيره وإن خالف فيه من خالف من الصحابة ومن بعدهم فسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن تتبع ويترك ما خالفها لأجلها ولا تترك هي لأجل قول أحد كائناً من كان ولو تركت السنن لخلاف من خالفها لعدم بلوغها له أو لتأويلها أو غير ذلك لترك سنن كثيرة جداً وتركت الحجة إلى غيرها وقول من يجب اتباعه إلى قول من لايجب اتباعه وقول المعصوم إلى قول غير المعصوم وهذه بلية نسأل الله العافية منها وأن لا نلقاه بها يوم القيامة. قال الأعمش: كان عمارة وإبراهيم وأصحابنا لا يرون بلبن الفحل بأساً حتى أتاهم الحكم بن عتيبة بخبر أبي القعيس فتركوا قولهم ورجعوا عنه وهكذا يصنع أهل العلم إذا أتتهم السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجعوا إليها وتركوا قولهم بغيرها] زاد المعاد 5/564-565. وتعليل التحريم بلبن الفحل أن اللبن هو سبب التحريم لأنه ينبت اللحم وينشز العظم واللبن في المرأة يوجد بسب ماء الرجل وماء المرأة وبارتضاعه تثبت الجزئية بين الرضيع وبين المرأة وزوجها وهما اللذان بسبب مائهما حصل اللبن واللبن هو سبب إنبات اللحم وانتشاز العظم وهذا بدوره سبب الجزئية بين الرضيع وبين مسببي الجزئية أي الرجل وامرأته والسبب يقوم مقام المسبب خصوصاً في باب الحرمات ألا ترى أن المرأة تحرم على جدها كما تحرم على أبيها وإن لم يكن تحريمها على جدها منصوصاً عليه في القرآن الكريم لأن البنت وإن حدثت من ماء الأب حقيقة دون ماء الجد ولكن الجد سبب ماء الأب فأقيم السبب مقام المسبب في حق حرمة النكاح احتياطاً كذا هاهنا. وقد أشار عبد الله بن عباس رضي الله عنهما إلى هذا المعنى فقد روي أنه سئل عن رجل له امرأتان أرضعت إحداهما جارية والأخرى غلاماً هل يصلح للغلام أن يتزوج الجارية؟ فقال ابن عباس: لا، لأن اللقاح واحد.
وبهذا الجواب بين عبد الله بن عباس رضي الله عنهما الحكم وأشار إلى المعنى وهو اتحاد اللقاح لأن المحرم هو اللبن وسبب اللبن هو ماء الرجل وماء امرأته جميعا فيجب أن يكون الرضاع منهما جميعاً كما كان الولد لهما جميعاً] المفصل في أحكام المرأة 6/240. *****(15/172)
173 - ما هو النمص؟
تقول السائلة: هل إزالة الشعر الذي يكون بين الحاجبين من النمص المنهي عنه؟
الجواب: النمص هو نتف الشعر وإزالته كما ذكره أهل اللغة. انظر تاج العروس من جواهر القاموس 9/374. وقد ورد النهي عن النمص في أحاديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولكن نتف الشعر وإزالته ليست ممنوعة على إطلاقها بل هناك مواقع في الجسم يندب إزالة الشعر منها. وقد فسر العلماء النمص الوارد في الأحاديث بأنه إزالة شعر الحاجب أو ترقيقه وهو قول وجيه. قال أبو داود صاحب السنن: (والنامصة التي تنقش الحاجب حتى ترقه والمتنمصة المعمول بها) سنن أبي داود مع شرحه عون المعبود 11/152. وقد اتفق أهل العلم على أن ترقيق الحاجب ونتفه داخل في النمص المنهي عنه وأن فاعلته ملعونة كما ثبت في الحديث عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (لعن الله الواشمات والمستوشمات والنامصات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله. قال: فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب وكانت تقرأ القرآن فأتته فقالت: ما حديث بلغني عنك أنك لعنت الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله؟ فقال عبد الله: ومالي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله؟ قالت: لقد قرأت ما بين لوحي المصحف فما وجدته. فقال: لئن كنت قرأتيه وجدتيه، قال عز وجل: (وَمَاءَاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) . فقالت المرأة: فإني أرى شيئاً من هذا على امرأتك الآن. قال: اذهبي فانظري. قال: فدخلت على امرأة عبد الله فلم تر شيئاً. فجاءت إليه فقالت: ما رأيت شيئاً. فقال: أما لوكان ذلك لم نجامعها) رواه مسلم وفي رواية لأبي داود: [قالت: إني أرى بعض هذا على امرأتك. قال: فادخلي فانظري. فدخلت ثم خرجت فقالت: ما رأيت. فقال: لو كان ذلك ما كانت معنا] عون المعبود 11/151. قال الإمام النووي: [وأما النامصة … فهي التي تزيل الشعر من الوجه والمتنمصة التي تطلب فعل ذلك بها. وهذا الفعل حرام إلا إذا نبتت للمرأة لحية وشوارب فلا تحرم إزالته بل يستحب عندنا …] شرح النووي على صحيح مسلم 6/288. وقول ابن مسعود في آخر الحديث: (أما لو كان ذلك لم نجامعها) معناه لم نصاحبها ولم نجتمع نحن وهي بل كنا نفارقها ونطلقها. هذا هو بيان قول ابن مسعود عند جماهير العلماء كما قال الإمام النووي وعليه تدل رواية أبي داود الأخر. وطلاقها وفراقها بسبب النمص لأنه من كبائر الذنوب نظراً للعن فاعله كما ذكره ابن حجر المكي لأن من علامات كبائر الذنوب اللعن وقد صحت الأحاديث بذلك. انظر الزواجر عن اقتراف الكبائر 1/308.
واللعن هو الطرد من رحمة الله ويستحق فاعله ذلك لأنه تغيير لخلق الله وهو من إغواء الشيطان للإنسان في تغيير خلق الله كما قال جل جلاله: (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّءَاذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا) سورة الأنعام الآيات 117-119. وقد نص أهل العلم على أن الشعر الذي يكون بين الحاجبين لا تجوز إزالته لأن ذلك داخل في النمص المنهي عنه. فإذا كانت المرأة مقرونة الحاجبين فلا يجوز لها إزالة ذلك لما فيه من تغيير لخلق الله. ومن شر النمص ما تفعله بعض النسوة من إزالة جميع شعر الحاجبين واستبدال ذلك بخط بقلم المكياج فهذا العمل محرم لا شك في حرمته كما أن له آثاراً ضارة من الناحية الصحية كما بين الأطباء ذلك حيث يقول د. وهبه حسون - الأستاذ بكلية الطب في جامعة الإسكندرية -: [إن إزالة شعر الحواجب بالوسائل المختلفة ثم استخدام أقلام الحواجب وغيرها من ماكياجات الجلد لها تأثيرها الضار فهي مصنوعة من مركبات معادن ثقيلة مثل الرصاص والزئبق تذاب في مركبات دهنية مثل زيت الكاكاو كما أن كل المواد الملونة تدخل فيها بعض المشتقات البترولية وكلها أكسيدات مختلفة تضر بالجلد وإن امتصاص المسام الجلدية لهذه المواد يحدث التهابات وحساسية أما لو استمر استخدام هذه الماكياجات فإن له تأثيراً ضاراً على الأنسجة المكونة للدم والكبد والكلى فهذه المواد الداخلة لها خاصية الترسيب المتكامل فلا يتخلص منها الجسم بسرعة.
إن إزالة شعر الحواجب بالوسائل المختلفة ينشط الحلمات الجلدية فتتكاثر خلايا الجلد وفي حالة توقف الإزالة ينمو شعر الحواجب بكثافة ملحوظة وإن كنا نلاحظ أن الحواجب الطبيعة تلائم الشعر والجبهة واستدارة الوجه] التبرج ص 191. وقد أجاز بعض العلماء إزالة ما ينبت من الشعر على وجه المرأة غير الحاجبين، قال الإمام العيني: [ولا تمنع الأدوية التي تزيل الكلف وتحسن الوجه للزوج وكذا أخذ الشعر منه] عمدة القاري شرح صحيح البخاري 2/193. وقال الشيخ ابن قدامة: [فأما حف الوجه فقال مهنا: سألت أبا عبد الله - أي الإمام أحمد - عن الحف فقال: ليس به بأس للنساء] المغني 1/91. ويؤيد ذلك ما قاله الحافظ ابن حجر العسقلاني أن الطبري أخرج من طريق أبي إسحاق عن امرأته: [أنها دخلت على عائشة وكانت شابة يعجبها الجمال فقالت: المرأة تحف جبينها لزوجها. قالت: أميطي الأذى عنك ما استطعت] فتح الباري 12/500. وقال الحافظ ابن الجوزي: [وأما الأدوية التي تزيل الكلف وتحسن الوجه للزوج فلا أرى بها بأساً وكذلك أخذ الشعر من الوجه للتحسن للزوج … ثم نقل عن شيخه عبد الوهاب بن المبارك الأنماطي قوله: إذا أخذت المرأة الشعر من وجهها لأجل زوجها بعد رؤيته إياها فلا بأس به] أحكام النساء ص341-342. *****(15/173)
174 - علاج الطبيب للمرأة
يقول السائل: هل يعتبر دخول المرأة إلى عيادة الطبيب منفردة لأجل الكشف والمعالجة خلوة محرمة؟
الجواب: إن دخول المرأة منفردة إلى عيادة الطبيب لأجل الكشف والمعالجة يعتبر خلوة محرمة والأصل في المرأة المسلمة إذا مرضت واحتاجت للعلاج أن تراجع طبيبة مسلمة كانت أو غير مسلمة ولا يحل لها مراجعة الطبيب الرجل إذا وجدت الطبيبة وكان بإمكانها مراجعتها فإن لم توجد الطبيبة أو تعذرت مراجعتها أو لم تكن من أهل الاختصاص بمرض تلك المرأة فيجوز حينئذ أن تراجع الطبيب الرجل وهنا لا بدّ من الالتزام بالضوابط التالية في تعامل الطبيب مع المرأة الأجنبية:
1. أن تتم المعاينة والكشف بحضور محرم للمرأة أو زوجها أو امرأة موثوقة خشية الوقوع في الخلوة المنهي عنها شرعاً.
2. ألا يطلع الطبيب على شيء من بدنها إلا بمقدار ما تقتضيه ضرورة العلاج فيجب على الطبيب أن يستر جسد المريضة إلا موضع المعالجة.
3. إذا استطاع الطبيب معالجة المرأة بالنظر دون اللمس فهو الواجب وعلى الطبيب أن يغض بصره وأن يتق الله ربه في ذلك.
4. ينبغي للمرأة المسلمة إذا احتاجت للمعالجة عند طبيب رجل أن تختار الطبيب الثقة الأمين صاحب الخلق والدين. *****(15/174)
175 - تقليم الأظفار
يقول السائل: إن بعض النساء لا يقلمن أظفارهن ويجعلنها تطول وبعضهن يطولنها للزينة كما يزعمن فما الحكم في ذلك؟
الجواب: اتفق أهل العلم على أن تقليم الأظفار من سنن الفطرة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ثبت ذلك في أحاديث منها: 1. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الفطرة خمس أو خمس من الفطرة الختان والاستحداد وتقليم الأظفار ونتف الإبط وقص الشوارب) رواه البخاري ومسلم. 2. وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من الفطرة حلق العانة وتقليم الأظفار وقص الشارب) رواه البخاري. قال الإمام النووي: [وأما الفطرة فقد اختلف في المراد بها هنا. فقال أبو سليمان الخطابي: ذهب أكثر العلماء إلى أنها السنة. وكذا ذكره جماعة غير الخطابي. قالوا: ومعناه أنها من سنن الأنبياء صلوات الله وسلامهم عليهم. وقيل هي الدين] شرح النووي على صحيح مسلم 1/492. وبناء على ما سبق قال العلماء إن تقليم الأظفار سنة في حق الرجل والمرأة وفي أظفار اليدين والرجلين على حد سواء. ولا ينبغي تطويل الأظفار لما في ذلك من الضرر حيث إن الأوساخ قد تجتمع تحتها كما أن الجراثيم تجد مرتعاً خصباً تحت الأظفار الطويلة القذرة التي تترك بدون تقليم وقد تجتمع تحتها البكتيريا والفطريات والفيروسات والطفيليات والتي قد تنتقل إلى الفم والأسنان أثناء تناول الطعام وتسبب مشكلات صحية كثيرة. فمن السنة والدين تقليمها فهي نظافة من سمات الإيمان والإسلام ودين الإسلام هو دين النظافة والطهارة. انظر الاستذكار 26/239 الحاشية.
وينبغي للمسلم ذكراً كان أو أنثى أن يقلم أظفاره كلما طالت عن رؤوس الأصابع ولا بأس أن يتفقد أظفاره من الجمعة إلى الجمعة. ويرى بعض أهل العلم أن يقصها كل أربعين يوم مرة على الأقل كما ثبت في صحيح مسلم عن أنس رضي الله عنه قال: (وقت لنا في قص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة أن لا نترك أكثر من أربعين ليلة) صحيح مسلم بشرح النووي 1/492. وفي رواية أخرى عند أصحاب السنن: (وقت لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم …) . وهذا التوقيت قد يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال والضابط في ذلك هو الحاجة كما قال الحافظ ابن حجر. فتح الباري 12/467.
وأما أن النساء يطلن أظفارهن زينة فهذا أمر مصادم للفطرة فإن الفطرة اسوية تأبى أن يكون للإنسان أظفار طويلة لأن طول الأظفار والمخالب ليس لبني البشر. وأي زينة في طول الأظفار؟ وما أصدق قول الشاعر: قل للجميلة أرسلت أظفارها إني لخوف كدت أمضي هارباً إن المخالب للوحوش نخالها فمتى رأينا للظباء مخالباً؟ من علم الحسناء أن جمالها في أن تخالف خلقها وتجانبا؟ إن تطويل الأظفار وتركها بدون تقليم ليس من صفات المرأة المسلمة وهو مخالف للفطرة البشرية السوية كما قلت. فإن فعلته المرأة تقليداً للكافرات فهو حرام شرعاً لأن التشبه بأهل الكفر ممنوع شرعاً وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (من تشبه بقوم فهو منهم) رواه أبو داود وقال الشيخ الألباني: صحيح. غاية المرام ص 86. *****(15/175)
176 - التدخين
، يجوز للزوج منع زوجته من التدخين
يقول السائل: إن زوجته تدخن وهو لا يدخن فهل يحق له أن يمنعها من التدخين؟
الجواب: لا شك لدي أن التدخين خبيث من الخبائث وقد ثبت ضرره قطعاً بما لا يدع مجالاً للشك في تحريمه وهذا أصح أقوال أهل العلم في حكم التدخين. وقد بين الأطباء والعلماء الأضرار الناتجة عن التدخين وآثاره السيئة على المدخن ومن حوله وآثاره الضارة على المجتمع بشكل عام. وقد سنت بعض الدول قوانين لمنع التدخين في الأماكن العامة وألزمت مصانع الدخان إثبات العبارات الدالة على ضرر التدخين على كل علبة سجائر كما وأن بعض الدول منعت الإعلان عن السجائر عبر وسائل الإعلام العامة وكل هذا وغيره من الإجراءات تمت بعد التأكد من أضرار التدخين القطعية على الإنسان. وأقول بعد هذا إنه يجب على الزوج أن يمنع زوجته من التدخين لأنه يمنعها من ارتكاب حرام لأن التدخين حرام كما قلت. والواجب على هذه الزوجة المدخنة أن تطيع زوجها وأن تمتنع عن التدخين حتى وإن لم تقتنع بحرمته فإن التدخين يترك رائحة كريهة وللزوج أن يمنع زوجته عن كل ما يؤدي للرائحة الكريهة من أكل الثوم والبصل وقد نص العلماء على حق الزوج في منع الزوجة من أكل الثوم والبصل. قال ابن عابدين: [وفي شرح العلامة الشيخ إسماعيل النابلسي والد سيدنا عبد الغني، على شرح الدرر بعد نقله أن للزوج منع الزوجة من أكل الثوم والبصل وكل ما ينتن رائحة الفم. قال: ومقتضاه المنع من شربها التتن - الدخان - لأنه ينتن الفم خصوصاً إذا كان الزوج لا يشربه أعاذنا الله تعالى منه وقد أفتى بالمنع من شربه شيخ مشايخنا المسيري وغيره] حاشية ابن عابدين 6/459. ومن المعلوم أنه ينبغي للزوجين أن تكون رائحتهما طيبة لأن ذلك من حق أحدهما على الآخر والتدخين يجعل الأسنان صفراء ورائحة الفم كريهة.
وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم أي النساء خير قال: (التي تسره إذا نظر وتطيعه إذا أمر ولا تخالفه في نفسها ولا ماله بما يكره) رواه النسائي وأبو داود وإسناده صحيح. وفي رواية أخرى: (خير النساء من تسرك إذا أبصرت وتطيعك إذا أمرت وتحفظ غيبتك في نفسها ومالك) رواه الطبراني بإسناد صحيح. *****(15/176)
177 - الحمل والإجهاض
حكم إسقاط الجنين المشوه،
يقول السائل: إن زوجته حامل وقرر الأطباء أن الجنين مشوه ونصحوها بإسقاطه فما الحكم في ذلك؟
الجواب: ينبغي أن يعلم أولاً حكم الإجهاض وإسقاط الحمل بشكل عام قبل الحديث عن إسقاط الجنين المشوه. اتفق أهل العلم على تحريم الإجهاض بعد مرور مائة وعشرين يوماً على الحمل لأن الروح تنفخ في الجنين عند مرور تلك المدة على رأي كثير من العلماء لما ثبت في حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق قال: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكاً فيأمر بأربع: برزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد ثم ينفخ فيه الروح …) رواه البخاري. ويستثنى من هذا الحكم حالة واحدة فقط وهي إذا ثبت بتقرير لجنة من الأطباء الثقات أهل الاختصاص أن استمرار الحمل يشكل خطراً مؤكداً على حياة الأم فحينئذ يجوز إسقاط الحمل. وقد جاء في قرار المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة ما يلي: [إذا كان الحمل قد بلغ مائة وعشرين يوماً لا يجوز إسقاطه ولو كان التشخيص الطبي يفيد أنه مشوه الخلقة إلا إذا ثبت بتقرير لجنة طبية من الأطباء المختصين أن بقاء الحمل فيه خطر مؤكد على حياة الأم فعندئذ يجوز إسقاطه سواء كان مشوهاً أم لا دفعاً لأعظم الضررين] قرارات المجمع الفقهي الإسلامي ص 123. وأما الإجهاض قبل مرور مائة وعشرين يوماً على الحمل ففي حكمه خلاف بين العلماء والذي عليه جمهور العلماء هو تحريم الإجهاض بمجرد ثبوت الحمل إلا لعذر شرعي وهذا هو القول المعتمد عند المالكية والإمام الغزالي من الشافعية وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وقول بعض الحنفية والحنابلة وأهل الظاهر. واختاره كثير من العلماء المعاصرين كالشيوخ محمود شلتوت والقرضاوي والزحيلي وغيرهم. وهذا القول هو الذي أميل إليه وتطمئن إليه نفسي. وأما إسقاط الجنين المشوه فلا بد من إثبات أن الجنين مشوه حقيقة والفحوصات الحالية قد لا تتيح التأكد من التشخيص والتأكد من التشوهات في الأسابيع الأولى للحمل. أما بعد ستة عشر أسبوعاً من الحمل فإن معظم التشوهات القاتلة في الجنين يمكن تشخيصها فعند ذلك الوقت يمكن تشخيص تشوهات القلب والدماغ وغيرها بصورة واضحة وقاطعة … والتشوهات الخلقية لدى الجنين يمكن تشخيصها من قبل اختصاصي الأمراض النسائية أو اختصاصي الأشعة التشخيصية عن طريق السونار وغيره. ويمكن تقسيم التشوهات الخلقية عند الجنين إلى ثلاثة أقسام:
1. تشوهات لا تؤثر على حياة الجنين.
2. تشوهات يمكن للجنين أن يعيش معها بعد الولادة. وبعض هذه التشوهات يمكن إصلاحها بعد الولادة مثل تشوهات المعدة والأمعاء. وبعضها قد يتدرج في شدته وفي المدة الزمنية التي يعيشها الطفل بعد الولادة مثل استسقاء الرأس الذي قد يكون بسيطاً أو شديداً يولد معه الطفل حياً ويموت خلال أيام أو أشهر. والطفل الذي يولد مختل العقل أو لديه شلل جزئي فإنه يمكن أن يعيش وكذلك الطفل الذي يولد بكلية واحدة فهو يعيش بالكلية الأخرى.
3. وهناك تشوهات خطيرة لا يرجى معها للجنيين حياة بعد الولادة فهو سيموت قطعاً عند الولادة أو بعيدها مباشرة. انظر كتاب " قضايا طبية معاصرة في ضوء الشريعة الإسلامية " ص 274-280. وينبغي أن يعلم أن ضرر الإجهاض قد يكون أكبر بكثير من الضرر المتوقع لاستمرار الحمل كما يقول الأطباء فالتدخل الطبي المبكر قد تنتج عنه أخطار في بعض الحالات فإذا قارنَّا ووازنا بين نسبة المشاكل التي قد تحدث نتيجة لإنهاء الحمل عند 16-24 أسبوعاً سواءً بالأدوية المعتادة أو بإجراء تنظيفات فإذا قارنها بالمشاكل التي قد تحدث للأم نتيجة لاستمرار الحمل إلى حين الولادة الطبيعية فإننا نجد أن المشاكل المحتملة للأم هي أكثر بكثير منها في حالة التدخل المبكر عنها في الولادات الطبيعية. انظر كتاب " قضايا طبية معاصرة في ضوء الشريعة الإسلامية " ص 275. إذا تقرر هذا فإن العلماء قد قرروا جواز إسقاط الجنين المشوه تشويهاً خطيراً قبل مرور مائة وعشرين يوماً على الحمل فقد جاء في قرار المجمع الفقهي الإسلامي ما يلي: [قبل مرور مائة وعشرين يوماً على الحمل إذا ثبت وتأكد بتقرير لجنة طبية من الأطباء المختصين الثقات وبناءً على الفحوص الفنية بالأجهزة والوسائل المختبرية أن الجنين مشوه تشويهاً خطيراً غير قابل للعلاج وأنه إذا بقي وولد في موعده ستكون حياته سيئة وآلاماً عليه وعلى أهله فعندئذٍ يجوز إسقاطه بناءً على طلب الوالدين. والمجلس إذ يقرر ذلك يوصي الأطباء والوالدين بتقوى الله والتثبت في هذا الأمر] قرارات مجمع الفقه الإسلامي ص 123. وأخيراً لا بد من التنبيه على أن بعض النساء قد يبادرن إلى الإجهاض بمجرد أن يقول طبيب واحد إن الجنين مشوه. وهذا أمر خطير لا يقبل فيه رأي طبيب واحد لأن احتمالات خطأ الطبيب واردة ولا بد من وجود لجنة طبية من ثلاثة أطباء على الأقل من الأطباء الثقات العدول ومن أهل الاختصاص ومن ذوي الخبرة قبل القيام بإسقاط الجنين.
وأخيراً أدعو نقابة الأطباء وغيرها من الجهات الصحية إلى تشكيل لجنة موسعة من الاختصاصيين في الأمراض النسائية والتوليد وغيرهم من ذوي التخصصات المتعلقة بهذه القضية لوضع قواعد وضوابط للحالات التي تعتبر تشوهات خطيرة في الجنين ولا يرجى للجنين معها حياة حتى لا يبقى الأمر خاضعاً لتخمينات بعض الأطباء لما قد يترتب على ذلك من مفاسد وأضرار. *****(15/177)
178 - الحمل والإجهاض
لا يجوز استئصال القدرة على الحمل مطلقاً,
تقول السائلة: إنها مرضت قبل مدة وراجعت أحد الأطباء فنصحها بإغلاق مواسير الحمل فأغلقتها ثم كتب الله لها الشفاء التام وهي نادمة الآن على إغلاق مواسير الحمل فهل عليها كفّارة؟
الجواب: لا يجوز شرعاً استئصال القدرة على الإنجاب مطلقاً سواء كان عند الرجل أو المرأة إلا في حالات الضرورة التي يقدرها أهل العلم الثقات من الفقهاء والأطباء. فلا يجوز إجراء عمليات التعقيم ولا ربط قناتي الرحم أو استعمال أي وسيلة تؤدي إلى ذلك. ومنع الحمل الدائم من الأمور المحرمة شرعاً كما قلت ويدل على ذلك قوله تعالى: (وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّءَاذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا) سورة النساء الآيات 117-119. قال أهل التفسير إن تغيير خلق الله من تزيين الشيطان ويدخل في ذلك خصاء بني آدم لأنه تغيير لخلق الله. قال القرطبي: [وأما الخصاء في الآدمي فمصيبة فإنه إذا خصي بطل قلبه وقوته عكس الحيوان وانقطع نسله المأمور به ثم هذه مثلة وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المثلة] تفسير القرطبي 5/391. وروى البخاري ومسلم عن إسماعيل بن قيس قال عبد الله - ابن مسعود -: (كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس لنا نساء فقلنا ألا نستخصي فنهانا عن ذلك) . وروى البخاري ومسلم أيضاً عن سعيد بن المسيب أنه سمع سعد بن أبي وقاص يقول أراد عثمان بن مظعون أن يتبتل فنهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو أجاز ذلك لاختصينا) . قال الإمام النووي: [الاختصاء في الآدمي حرام صغيراً كان أو كبيراً] شرح النووي على صحيح مسلم 3/526. وقال الحافظ ابن حجر: [وقوله (فنهانا عن ذلك) هو نهي تحريم بلا خلاف في بني آدم] فتح الباري 12/19-20.
وينبغي أن يعلم أن الوسائل الحديثة لمنع الحمل منعاً نهائياً تقوم مقام الخصاء في الرجل فهي تستأصل القدرة على الإنجاب نهائياً كما أنها تغيير لخلق الله لذلك فإنها تلحق بالخصاء فتكون محرمة. وقد بحث الفقهاء المعاصرون هذه القضية وقرروا حرمة قطع المقدرة على الإنجاب فقد جاء في قرار المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العلم الإسلامي ما يلي: [نظراً إلى أن الشريعة الإسلامية تحض على تكثير نسل المسلمين وانتشاره وتعتبر النسل نعمة كبرى ومنة عظيمة منَّ الله بها على عباده وقد تضافرت بذلك النصوص الشرعية من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ودلت على أن القول بتحديد النسل أو منع الحمل مصادم للفطرة الإنسانية التي فطر الله الناس عليها وللشريعة الإسلامية التي ارتضاها الله تعالى لعباده ونظراً إلى أن دعاة القول بتحديد النسل أو منع الحمل فئة تهدف بدعوتها إلى الكيد للمسلمين لتقليل عددهم بصفة عامة وللأمة العربية المسلمة والشعوب المستضعفة بصفة خاصة حتى تكون لهم القدرة على استعمار البلاد واستعباد أهلها والتمتع بثروات البلاد الإسلامية وحيث إن في الأخذ بذلك ضرباً من أعمال الجاهلية وسوء ظن بالله تعالى وإضعافاً للكيان الإسلامي المتكون من كثرة اللبنات البشرية وترابطها. لذلك كله فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي يقرر بالإجماع أنه لا يجوز تحديد النسل مطلقاً ولا يجوز منع الحمل إذا كان القصد من ذلك خشية الإملاق لأن الله تعالى هو الرزاق ذو القوة المتين وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها أو كان ذلك لأسباب أخرى غير معتبرة شرعياً. أما تعاطي أسباب منع الحمل أو تأخيره في حالات فردية لضرر محقق ككون المرأة لا تلد ولادة عادية وتضطر معها إلى إجراء عملية جراحية لإخراج الجنين فإنه لا مانع من ذلك شرعاً وهكذا إذا كان تأخيره لأسباب أخرى شرعية أو صحية يقرها طبيب مسلم ثقة بل قد يتعين منع الحمل في حالة ثبوت الضرر المحقق على أمه إذا كان يخشى على حياتها منه بتقرير من يوثق به من الأطباء المسلمين.
أما الدعوة إلى تحديد النسل أو منع الحمل بصفة عامة فلا تجوز شرعاً للأسباب المتقدم ذكرها وأشد من ذلك في الإثم والمنع إلزام الشعوب بذلك وفرضه عليها في الوقت الذي تنفق فيه الأموال الضخمة على سباق التسلح العلمي للسيطرة والتدمير بدلاً من إنفاقه في التنمية الاقتصادية والتعمير وحاجات الشعوب] قرارات المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي ص 62-63. وجاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي: [يحرم استئصال القدرة على الإنجاب في الرجل أو المرأة وهو ما يعرف بالإعقام أو التعقيم ما لم تدع إلى ذلك الضرورة بمعاييرها الشرعية. ويجوز التحكم المؤقت في الإنجاب بقصد المباعدة بين فترات الحمل أو إيقافه لمدة معينة من الزمان إذا دعت إليه حاجة معتبرة شرعاً بحسب تقدير الزوجين عن تشاور بينهما وتراض بشرط أن لا يترتب على ذلك ضرر وأن تكون الوسيلة مشروعة وأن لا يكون فيها عدوان على حمل قائم] مجلة المجمع الفقهي العدد 5 جزء1 ص748.
وأخيراً فعلى السائلة أن تتوب إلى الله سبحانه وتعالى توبة صادقة وأن تستغفر وتكثر من عمل الخيرات والطاعات لعل الله سبحانه وتعالى أن يغفر لها كما وأني أذكر الأطباء أن يتقوا الله سبحانه وتعالى وألا يبيعوا آخرتهم من أجل دراهم معدودة يقبضونها أجرة لأمثال هذه العمليات وهذه المعالجات المحرمة. *****(15/178)
179 - المنكرات في الحفلات
يقول السائل: إذا دعي المسلم إلى حفلة وكان هنالك منكر من المنكرات فما موقف المسلم حينئذ؟
الجواب: إذا كان المدعو يعلم مسبقاً بوجود المنكر في الحفلة التي دعي إليها فلا يجوز له أن يلبي الدعوة فقد نص الفقهاء على أن من شروط إجابة الدعوة عدم وجود منكر من المنكرات. وإذا لم يعلم بالمنكر إلا وقت حضوره فإن استطاع الإنكار وإزالة المنكر فبها ونعمت وإن لم يستطع انصرف. فقد ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك اضعف الإيمان) رواه مسلم. والأصل في المسلم ألا يحضر أو يجلس في الأماكن التي يعصى فيها الله سبحانه وتعالى أو يستهان فيها بأحكام الشرع قال الله تعالى: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْءَايَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا) سورة النساء الآية 140. قال الشيخ القرطبي في تفسير هذه الآية: [… (إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ) فدل بهذا على وجوب اجتناب أصحاب المعاصي إذا ظهر منهم منكر لأن من لم يجتنبهم فقد رضي فعلهم والرضا بالكفر كفر قال الله تعالى: (إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ) فكل من جلس في مجلس معصية ولم ينكر عليهم يكون معهم في الوزر سواء. وينبغي أن ينكر عليهم إذا تكلموا بالمعصية وعملوا بها فإن لم يقدر على النكير عليهم فينبغي أن يقوم عنهم حتى لا يكون من أهل هذا الآية. وقد روي عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أنه أخذ قوماً يشربون الخمر فقيل له عن أحد الحاضرين إنه صائم فحمل عليه الأدب وقرأ هذه الآية (إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ) أي أن الرضا بالمعصية معصية ولهذا يؤاخذ الفاعل والراضي بعقوبة العاصي حتى يهلكوا بأجمعهم …] . تفسير القرطبي 5/418. وقد ورد في الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقعد على مائدة يدار عليها الخمر) رواه أحمد والترمذي والحاكم وصححه ووافقه الذهبي وقال الحافظ ابن حجر: إسناده جيد. قال الإمام الأوزاعي يرحمه الله: [لا تدخل وليمة فيها طبل ولا معزاف] . وقال الشيخ ابن قدام المقدسي: [إذا دعي إلى وليمة فيها معصية كالخمر والزمر والعود ونحوه وأمكنه الإنكار وإزالة المنكر لزمه الحضور والإنكار لأنه يؤدي فرضين إجابة أخيه المسلم وإزالة المنكر. وإن لم يقدر على الإنكار لم يحضر. وإن لم يعلم بالمنكر حتى حضر أزاله فإن لم يقدر انصرف …] المغني 7/279. وينبغي أن يعلم أن مراتب تغيير المنكر ثلاث وهي المذكورة في الحديث المتقدم: (من رأى منكم منكراً فليغير بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) رواه مسلم وغيره. قال القاضي عياض فيما نقله عنه الإمام النووي: [… هذا الحديث أصل في صفة التغيير فحق المغير أن يغيره بكل وجه أمكنه زواله به قولاً كان أو فعلاً فيكسر آلات الباطل ويريق المسكر بنفسه أو يأمر من يفعله وينزع الغصوب ويردها إلى أصحابها بنفسه أو بأمره إذا أمكنه ويرفق في التغيير جهده بالجاهل وبذي العزة الظالم المخوف شره إذ ذلك أدعى إلى قبول قوله. كما يستحب أن يكون متولي ذلك من أهل الصلاح والفضل لهذا المعنى. ويغلظ على المتمادي في غيه والمسرف في بطالته إذا أمن أن يؤثر إغلاظه منكراً أشد مما غيره لكون جانبه محمياً عن سطوة الظالم. فإن غلب على ظنه أن تغييره بيده يسبب منكراً أشد منه من قتله أو قتل غيره بسببه كفَ يده واقتصر على القول باللسان والوعظ والتخويف فإن خاف أن يسبب قوله مثل ذلك غير بقلبه وكان في سعة وهذا هو المراد بالحديث إن شاء الله، وإن وجد من يستعين به على ذلك استعان ما لم يؤد ذلك إلى إظهار سلاح وحرب وليرفع ذلك إلى من له الأمر إن كان المنكر من غيره أو يقتصر على تغييره بقلبه. هذا هو فقه المسألة وصواب العمل فيها عند العلماء والمحققين خلافاً لمن رأى الإنكار بالتصريح بكل حال وإن قتل ونيل منه كل أذى] شرح النووي على صحيح مسلم 1/211-220.
وبناءاً على ما سبق فإن المرتبة الأولى هي التغيير باليد وهي أعلى مراتب تغيير المنكر وأفضلها في حق من قدر عليها فمثلاً إذا وجد الرجل في بيته منكراً فعليه أن يغيره بيده لأنه يستطيع ذلك. ويجب أن يعلم أن تغيير المنكر باليد واجب على المسلم إذا كان قادراً عليه كما قلت وإذا لم يترتب مفسدة أكبر من المنكر إذا غيّره. وفي زماننا هذا منكرات كثيرة لا يستطيع الأفراد تغييرها ولا ينبغي لهم ذلك لأن ذلك سيجر منكرات أعظم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية يرحمه الله: [وليس لأحد أن يزيل المنكر بما هو أنكر منه مثل أن يقوم واحد من الناس يريد أن يقطع يد السارق ويجلد الشارب ويقيم الحدود لأنه لو فعل لأفضى إلى الهرج والفساد … فهذا ينبغي أن يقتصر فيه على وليّ الأمر …] مختصر الفتاوى المصرية ص 579. والمرتبة الثانية هي التغيير باللسان: وتكون هذه المرتبة لمن يعجز عن التغيير باليد وينبغي أن يكون التغيير باللسان بأسلوب حسن لطيف كما قال تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) سورة النحل الآية 125. وقد قال الله سبحانه وتعالى مخاطباً موسى وهارون عليهما السلام لما أرسلهما إلى فرعون: (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) سورة طه الآية 44. والمرتبة الثالثة هي الإنكار بالقلب: وهي أدنى المراتب الثلاث ولا رخصة لمسلم في تركها أبداً بل يجب على المسلم أن يبغض المنكر ويكرهه دائماً وباستمرار.
وأما إذا كان القلب لا يعرف المعروف ولا ينكر المنكر فهذا دليل على موته. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية يرحمه الله مبيناً قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (وذلك أضعف الإيمان) مراده: [أنه لم يبق بعد هذا الإنكار ما يدخل في الإيمان حتى يفعله المؤمن بل الإنكار بالقلب آخر حدود الإيمان ليس مراده أن من لم ينكر لم يكن معه من الإيمان حبة خردل ولهذا قال: ليس وراء ذلك. فجعل المؤمنين ثلاث طبقات فكل منهم فعل الإيمان الذي يجب عليه …] مجموع الفتاوى 28/127. *****(15/179)
180 - لا يجوز هجر المسلم إلا لسبب شرعي
يقول السائل: ورد في الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال …) فما موقف المسلم من أخيه المسلم الذي يأكل حقوق الناس وحقوقه ألا يجوز هجره أكثر من ثلاث ليال؟
الجواب: إن رابطة الأخوة الإيمانية التي تربط المسلم بالمسلم تمنع من هجر المسلم لأخيه المسلم فوق ثلاث ليال إلا لعذر شرعي كما سأبين. يقول الله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) الحجرات الآية 10. فإذا حصل خلاف أو تشاحن أو غضب بين مسلمين فلا يجوز هجر أحدهما للآخر أكثر من ثلاث ليال وجعلت الثلاث حداً لانتهاء الغضب وسكونه لأن الآدمي مجبول على الغضب فسمح بذلك القدر ليرجع إلى رشده بعد زوال غضبه. وقد ثبت في أحاديث كثيرة عن الرسول ا? النهي عن هجران المسلم منها:
1. عن أبي أيوب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام) رواه البخاري ومسلم.
2. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تعرض الأعمال في كل إثنين وخميس فيغفر الله لكل امرئ لا يشرك بالله شيئا ًإلا امرءاً كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقول: اتركوا هذين حتى يصطلحا) رواه مسلم.
3. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث فمن هجر فوق ثلاث فمات دخل النار) رواه أبو داود بإسناد على شرط البخاري ومسلم كما قال الإمام النووي.
4. وعن أبي خراش رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من هجر أخاه سنة فهو كسفك دمه) رواه أبو داود بإسناد صحيح كما قاله الإمام النووي. رياض الصالحين ص 611. 5.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل لمؤمن أن يهجر مؤمناً فوق ثلاث فإن مرت به ثلاث فليلقه فليسلم عليه فإن ردَّ عليه السلام فقد اشتركا في الأجر وإن لم يرد عليه فقد باء بالإثم وخرج المسلِّمُ من الهجرة) رواه أبو داود بإسناد حسن كما قال الإمام النووي في المصدر السابق. يؤخذ من هذه الأحاديث أنه يحرم على المسلم أن يهجر أخاه المسلم فوق ثلاث ليال فإذا حصلت مشاحنة بين مسلمين فيجوز الهجر أقل من ثلاث ليال ويحرم أكثر من ذلك وهذا الهجر يكون لحق الإنسان وأما هجر المسلم للمسلم لارتكابه معصية من المعاصي وهو الهجر لحق الله فهو جائز ومشروع ثلاث ليال وأكثر حتى يرجع المهجور عن المعصية ويتوب إلى الله سبحانه وتعالى. قال الشيخ ابن العربي المالكي: [وأما إن كانت الهجرة لأمر أنكر عليه من الدين كمعصية فعلها أو بدعة اعتقدها فيهجره حتى ينزع عن فعله وعقده فقد أذن النبي صلى الله عليه وسلم في هجران الثلاثة الذين خلفوا خمسين ليلة حتى صحت توبتهم عند الله فأعلمه فعاد إليهم] عارضة الأحوذي 8/91. وقال الإمام البخاري في صحيحه: [باب ما يجوز من الهجران لمن عصى. وقال كعب حين تخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم: ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كلامنا وذكر خمسين ليلة] .
وقال الحافظ ابن حجر: [أراد بهذه الترجمة بيان الهجران الجائز لأن عموم النهي مخصوص لمن لم يكن لهجره سبب مشروع فبين هنا السبب المسوغ للهجر وهو لمن صدرت منه معصية فيسوغ لمن اطلع عليها منه هجره عليها ليكف عنها. صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 13/109. وقال الإمام مالك: [ويهجر أهل الأهواء والبدع والفسوق لأن الحب والبغض فيه واجب ولما في ذلك من الحث على الخير والتنفير من الشر والفسوق] . الذخيرة 13/313. وهجران أهل المعاصي مشروع وثابت عن الرسول صلى الله عليه وسلم كما سبق في كلام البخاري في قصة هجر كعب بن مالك وذلك حدث بعد تخلف الثلاثة عن غزوة تبوك فهجرهم النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة خمسين يوماً حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم ولم يكن أحد يجالسهم أو يكلمهم أو يحيهم حتى أنزل الله في كتابه توبته عليهم وهذه الرواية ثابتة في الصحيحين. كما أن النبي صلى الله عليه وسلم هجر بعض نسائه شهراً. رواه أحمد بإسناد صحيح على شرط مسلم كما قال الشيخ الألباني. غاية المرام ص 233. وهجر عبد الله بن عمر رضي الله عنه ابناً له إلى أن مات فقد روى الإمام أحمد أن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يمنعن رجل أهله أن يأتوا المساجد. فقال ابن لعبد الله بن عمر: فإنا نمنعهن. فقال عبد الله: أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول هذا؟ قال: فما كلمه عبد الله حتى مات) وإسناده صحيح كما قال الشيخ الألباني. غاية المرام 235. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية مبيناً أنواع الهجر: [النوع الثاني: الهجر على وجه التأديب وهو هجر من يظهر المنكرات يهجر حتى يتوب منها كما هجر النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون - الثلاثة الذين خلفوا حتى أنزل الله توبتهم – حين ظهر منهم ترك الجهاد المتعين عليهم بغير عذر ولم يهجر من أظهر بالخير وإن كان منافقاً فهنا الهجر هو بمنزلة التعزير. والتعزير يكون لمن ظهر منه ترك الواجبات وفعل المحرمات كتارك الصلاة والزكاة والتظاهر بالمظالم والفواحش والداعي إلى البدع المخالفة للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة التي ظهر أنها بدع] مجموع الفتاوى 28/204-205.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية أيضاً: [فالهجرة الشرعية هي من الأعمال التي أمر الله بها ورسوله فالطاعة لا بد أن تكون خالصة لله وأن تكون موافقة لأمره فتكون خالصة لله صواباً فمن هجر لهوى نفسه أو هجر هجراً غير مأمورٍ به كان خارجاً عن هذا وما أكثر ما تفعل النفوس ما تهوى ظانةً أنها تفعله طاعةً لله. والهجر لأجل حظ الإنسان لا يجوز أكثر من ثلاث كما جاء في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث يلتقيان فيصد هذا ويصد هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام) فلم يرخص في هذا أكثر من ثلاث كما لم يرخص في إحداد غير الزوجة أكثر من ثلاث وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تفتح أبواب الجنة كل إثنين وخميس فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئاً إلا رجلاً كان بينه وبين أخيه شحناء. فيقال: أنظروا هذين حتى يصطلحا) فهذا الهجر بحق الإنسان حرام وإنما رخص في بعضه كما رخص للزوج أن يهجر امرأته في المضجع إذا نشزت وكما رخص في هجر الثلاث. فينبغي أن يفرق بين الهجر لحق الله وبين الهجر لحق نفسه فالأول مأمور به والثاني منهي عنه لأن المؤمنين إخوة] مجموع الفتاوى 28/207-208.
وخلاصة الأمر أن على المسلم إن رأى من أخيه معصية كأكل حقوق الناس بالباطل فعليه أن ينصحه بالحكمة والموعظة الحسنة فإن استجاب فبها ونعمت وإن لم يستجب فيجوز له أن يهجره إلى أن يقلع عن المعصية. *****(15/180)
181 - السحر والحسد
يقول السائل: ما قولكم فيما يعلقه بعض الناس على بيوتهم أو سياراتهم لدفع الإصابة بالعين كتعليق الخرزة الزرقاء أو حذوة الحصان أو صورة كف فيها عين ونحو ذلك؟
الجواب: ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أنه قال: (العين حق) رواه البخاري ومسلم. ومعنى ذلك كما قال الحافظ ابن حجر: [أي أن الإصابة بالعين شيء ثابت وموجود وأكثر أهل العلم على إثبات الإصابة بالعين والمقصود بالإصابة بالعين هو نظر باستحسان مشوب بحسد من خبيث الطبع يحصل للمنظور منه ضرر] . فتح الباري 12/308. وقال العلامة ابن القيم: [وعقلاء الأمم - على اختلاف مللهم ونحلهم - لا تدفع أمر العين ولا تنكره وإن اختلفوا في سببه ووجهة تأثير العين … ولا ريب أن الله سبحانه وتعالى خلق في الأجسام والأرواح قوىً وطبائع مختلفة وجعل في كثير منها خواص وكيفيات مؤثرة ولا يمكن للعاقل إنكار تأثير الأرواح في الأجسام فإنه مشاهد ومحسوس …] الطب النبوي ص 290. ومما يدل على الإصابة بالعين قوله تعالى: (وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ) سورة القلم الآية 51. قال القرطبي: [يزلقونك بأبصارهم أي يعتانونك بأبصارهم أخبر بشدة عدواتهم النبي صلى الله عليه وسلم وأرادوا أن يصيبوه بالعين …] تفسير القرطبي 18/254. وقال الله تعالى: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ) سورة الفلق. قال ابن القيم: [فكل عائن حاسد وليس كل حاسد عائناً فلما كان الحاسد أعم من العائن كانت الإستعاذة منه استعاذة من العائن] الطب النبوي ص 291.
والعلاج من الإصابة بالعين يكون بالطرق الشرعية الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأول تلك الطرق أن على المسلم إذا رأى شيئاً يعجبه فعليه التبريك والمراد به الدعاء من العائن للمعين بالبركة عند نظره إليه فذلك بإرادة الله ومشيئته يحول دون إحداث أي ضرر بالمعين ويبطل كل أثر من آثار العين. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لعامر بن ربيعة لما أصاب سهل بن حنيف لما رأى بدنه فقال صلى الله عليه وسلم: (سبحان الله علام يقتل أحدكم أخاه؟ وإذا رأى شيئاً يعجبه فليدع له بالبركة) رواه مالك في الموطأ أحمد والحاكم وصححه ووافقه الذهبي. وقال الحافظ ابن عبد البر: [وقوله صلى الله عليه وسلم (ألا بركت) يدل على أن من أعجبه شيء فقال: تبارك الله أحسن الخالقين اللهم بارك فيه ونحو هذا لم يضره إن شاء الله] الاستذكار 27/9. ومما تدفع به إصابة العين أن يقول الإنسان: ما شاء الله لا قوة إلا بالله فقد جاء عن بعض السلف أنه كان إذا رأى شيئاً يعجبه يقول ما شاء الله لا قوة إلا بالله. وقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن رأى أحدكم ما يعجبه في نفسه أو ماله فليبرك عليه فإن العين حق) رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي وصححه الألباني. صحيح الكلم الطيب ص 90. وثاني طرق العلاج من الإصابة بالعين استعمال الرقية الشرعية فإنها تنفع بإذن الله وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالرقية من العين فقد ثبت في الحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت: (أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يسترقى من العين) رواه البخاري , وفي حديث آخر عن أم سلمة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في بيتها جارية في وجهها سفعة فقال: استرقوا لها فإن بها النظرة) رواه البخاري. والسفعة هو سواد في الوجه أو لون يخالف لون الوجه وهو محل الإصابة بالعين والنظرة أي الإصابة بالعين. فمن التعوذات والرقى المأثورة النافعة بإذن الله تعالى في رد الإصابة بالعين الإكثار من قراءة فاتحة الكتاب والمعوذتين وآية الكرسي. ومن التعوذيات النبوية: (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق) . ومنها: (أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامَّة ومن كل عين لامة) . ومن ذلك رقية جبريل عليه السلام التي رقى بها النبي صلى الله عليه وسلم ورواها مسلم في صحيحه وهي: (باسم الله أرقيكَ من كل داءٍ يُؤذيكَ من شرِّ كلِ نفس أو عينِ حاسدٍ الله يشفيك باسم الله أرقيك) . ومن ذلك أيضاً: (أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه ومن شر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون) . ومنها: (اللهم إني أعوذ بوجهك الكريم وكلماتك التامات من شر ما أنت آخذ بناصيته اللهم أن تكشف المأثم والمغرم اللهم إنه لا يهزم جنُدكَ ولا يُخلف وعدك سبحانك وبحمدك) . ومنها: (أعوذ بوجه الله العظيم الذي لا شيء أعظم منه وبكلماته التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر وبأسماء الله الحسنى - ما علمت منها وما لم أعلم - من شر ما خلق وذرأ وبرأ ومن شر كل ذي شر لا أطيق شره ومن شر كل ذي شر أنت آخذ بناصيته إن ربي على صراط مستقيم) . ومنها: (اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت عليك توكلت وأنت رب العرش العظيم ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن لا حول ولا قوة إلا بالله. أعلمُ أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً وأحصى كل شيء عدداً. اللهم إني أعوذ بك من شر نفسي وشر الشيطان وشركه ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم) . وإن شاء قال: (تحصنت بالله الذي لا إله إلا هو إلهي وإله كل شيء. واعتصمت بربي ورب كل شيء. وتوكلت على الحي الذي لا يموت واستدفعت الشر بلا حول ولا قوة إلا بالله. حسبي الله ونعم الوكيل. حسبي الرب من العباد. حسبي الخالق من المخلوق. حسبي الرازق من المرزوق. حسبي الله هو حسبي. حسبي الذي بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه. حسبي الله وكفى. سمع الله لمن دعا وليس وراء الله مرمى. حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم) الطب النبوي ص 293. وثالث الطرق الشرعية في معالجة الإصابة بالعين هي: الاغتسال أي أن العائن وهو الذي يصيب بالعين يغتسل ويؤخذ الماء فيصب على المعين وهو المصاب بالعين فيبرأ بإذن الله وقد ثبت ذلك في الحديث الصحيح عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (العين حق ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين وإذا استغسلتم فاغسلوا) رواه مسلم. وثبت في حديث سهل بن حنيف عندما أصابه عامر بن ربيعة بالعين حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم لعامر: (اغتسل له. فغسل وجهه ويديه ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه وداخلة إزاره في قدح ثم يصب ذلك الماء على المعين فيبرأ بإذن الله.
ومما ينفع في دفع الإصابة بالعين والاحتراز من ذلك ستر محاسن من يخاف عليه العين بما يردها عنه كما قال العلامة ابن القيم في كتابه الطب النبوي ص 297. هذه هي الطرق الشرعية في دفع الإصابة بالعين وأما ما ذكره السائل من طرق لدفع الإصابة بالعين كتعليق الخرزة الزرقاء أو تعليق حذوة حصان أو صورة كف وفيها عين وتعليق ذلك على الإنسان أو الحيوان أو السيارة أو البيت فهذا كله ليس له أصل في الشرع ولا يصح التعامل به. *****(15/181)
182 - السحر والحسد
لا يجوز تعليق التمائم,
تقول السائلة: إنها لا تحمل إلا بعمل حجاب خاص بها من قبل أحد الشيوخ وهذا الحجاب يلازمها طوال حملها ويمنعها الشيخ من الذهاب إلى الأفراح أو المآتم خشية نزول حملها وتقول إن الحجاب مكتوب فيه آيات قرآنية وبعض الكلمات غير المفهومة وتسأل عن حكم الشرع في ذلك؟
الجواب: إن كثيراً من الدجالين والمشعوذين يستغلون الدين للكسب المادي ويستغلون حالات الضعف البشري عند المرضى وعند النساء وخاصة إذا واجهتهن مشكلة عدم الإنجاب. إن معالجة عدم الإنجاب لا تكون بالذهاب إلى الدجالين والسحرة والمشعوذين وإنما تكون بالمعالجة الطبية الصحيحة والحجاب لا علاقة له بالحمل أو عدم سقوطه وكل ذلك دجل وكذب ولا يجوز تعليق الحجاب فقد جاء في الحديث عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من تعلق تميمة فلا أتم الله له ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له) رواه أحمد. وجاء في رواية أخرى: (من علق تميمة فقد أشرك) رواه أحمد وصححه الشيخ الألباني. السلسلة الصحيحة حديث رقم 492. وعن عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الرقى والتمائم والتولة شرك) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة وابن حبان وصححه الشيخ الألباني. السلسلة الصحيحة حديث رقم 331. ولو كان الحجاب من الآيات القرآنية فقط فلا يجوز تعليقه لعموم نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن تعليق التمائم. وكذلك سداً للذريعة لأن تعليقه يؤدي إلى تعليق غيره ولأن تعليق الآيات القرآنية قد يؤدي إلى امتهانها لأن الإنسان الذي تعلق عليه يحملها في أحواله كلها ومنها وقت قضاء الحاجة ونحوها. انظر فتاوى اللجنة الدائمة 1/166.
هذا إذا كان الحجاب من الآيات القرآنية فقط فكيف والسائلة تقول إن فيه كلمات غير مفهومة فهذه الطلاسم أولى بالمنع من الآيات القرآنية. وأخيراً ينبغي على السائلة أن تنزع هذه التميمة وعليها أن تراجع الأطباء ذوي الاختصاص لمعرفة أسباب سقوط حملها. *****(15/182)
183 - النكاح
عرض المرء ابنته على شخص ليتزوجها،
يقول السائل: من المعلوم أن الرجل هو الذي يختار المرأة عند رغبته في الزواج فهل يجوز أن يعرض الإنسان ابنته على شخص ليتزوجها؟
الجواب: لا مانع شرعاً من أن يعرض المسلم ابنته أو أخته على من يرى فيه الصلاح للزواج منها. قال الله تعالى في قصة موسى عليه الصلاة والسلام مع والد الفتاتين اللتين سقى لهما موسى الغنم: (وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ فَجَاءَتهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَه وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ) سورة القصص الآيات 23-28. قال القرطبي: [قوله (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ) الآية. فيه عرض الولي بنته على الرجل وهذه سنة قائمة عرض صالح مدين ابنته على صالح بني اسرائيل وعرض عمر ابن الخطاب ابنته حفصة على أبي بكر وعثمان رضي الله عنهم أجمعين وعرضت الموهوبة نفسها على النبي صلى الله عليه وسلم فمن الحسن عرض الرجل وليته والمرأة نفسها على الرجل الصالح اقتداء بالسلف الصالح] تفسير القرطبي 13/271.
وقال الإمام البخاري في صحيحه " باب عرض الإنسان ابنته أو أخته على أهل الخير " ثم روى بسنده عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما حدَّث: (أن عمر بن الخطاب حين تأيمت حفصة بنت عمر من خنيس بن حذافة السهمي، وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوفي في المدينة، فقال عمر بن الخطاب: أتيت عثمان بن عفان فعرضت عليه حفصة فقال: سأنظر في أمري، فلبثت ليالي ثم لقيني فقال: قد بدا لي أن لا أتزوج يومي هذا، قال عمر: فلقيت أبا بكر الصديق فقلت: إن شئت زوجتك حفصة بنت عمر، فصمت أبو بكر فلم يرجع إلي شيئاً، وكنت أوجد عليه مني على عثمان. فلبثت ليالي ثم خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنكحتها إياه، فلقيني أبو بكر فقال: لقد وجدت عليَّ حين عرضت عليّ حفصة فلم أرجع إليك شيئاً. قال عمر: قلت: نعم، قال: أبوبكر: فإنه لم يمنعني أن أرجع إليك فيما عرضت عليّ إلا أنني كنت علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ذكرها، فلم أكن لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو تركها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلتها) . قال الحافظ ابن حجر في أول شرحه للباب بأن الإمام البخاري أورد عرض البنت في الحديث الأول وعرض الأخت في الحديث الثاني - وسيأتي ذكره - فتح الباري 11/80. ثم قال الحافظ ابن حجر: [وفيه - أي الحديث - عرض الانسان بنته وغيرها من مولياته على من يعتقد خيره وصلاحه لما فيه من النفع العائد على المعروضة عليه وأنه لا استحياء في ذلك] فتح الباري 11/82. ثم ذكر الإمام البخاري الحديث الثاني وفيه إشارة إلى عرض أم حبيبة رضي الله عنها على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزوج أختها وقد ذكر البخاري الرواية المصرحة بذلك في موضع آخر من صحيحه ونصها: (عن أم حبيبة قالت: قلت يا رسول الله هل لك في بنت أبي سفيان؟ قال: فأفعل ماذا؟ قلت: تنكح، قال: أتحبين؟ قلت: لست لك بمخلية وأحب من شركني فيك أختي، قال: إنها لا تحل لي ... الخ) الحديث. صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 11/62 وأم حبيبة هي بنت أبي سفيان عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوج أختها.
وكذلك يجوز للمرأة أن تعرض نفسها على الرجل الصالح ليتزوج بها. قال الإمام البخاري في صحيحه " باب عرض المرأة نفسها على الرجل الصالح " ثم روى بسنده عن أنس رضي الله عنه: (جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تعرض عليه نفسها قالت: يا رسول الله، ألك بي حاجة؟ فقالت بنت أنس: ما أقل حياءها واسوأتاه، واسوأتاه، قال هي خير منك، رغبت في النبي صلى الله عليه وسلم فعرضت عليه نفسها) . وروى البخاري أيضاً بسنده عن سهل بن سعد: (أن امرأة عرضت نفسها على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له رجل: يا رسول الله زوجنيها، فقال: ما عندك؟ قال: ما عندي شيء، قال: اذهب فالتمس ولو خاتماً من حديد، فذهب ثم رجع فقال: لا، ما وجدت شيئاً ولا خاتماً من حديد، ولكن هذا إزاري ولها نصفه. قال سهل: وماله رداء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وما تصنع بإزارك؟ إن لبسته لم يكن عليها منه شيء، وإن لبسته لم يكن عليك منه شيء، فجلس الرجل حتى إذا طال مجلسه قام فرآه النبي صلى الله عليه وسلم فدعاه أو دعي له، فقال له: ماذا معك من القرآن؟ فقال: معي سورة كذا وسورة كذا، لسور يعددها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أملكناكها بما معك من القرآن) . صحيح البخاري 11/79. وقال الحافظ ابن حجر: [وفي الحديثين جواز عرض المرأة نفسها على الرجل وتعريفه رغبتها فيه وأن لا غضاضة عليها في ذلك وأن الذي تعرض المرأة نفسها عليه بالاختيار لكن لا ينبغي أن يصرح لها بالرد بل يكفي السكوت] فتح الباري 11/80. وعرض الرجل ابنته على الرجل الصالح ليتزوج بها أمر لا بأس به كما سبق وفعله جماعة من السلف كما جاء في قصة سعيد بن المسيب أن عبد الملك بن مروان خطب ابنته لولده الوليد حين ولاه العهد، فأبى أن يزوجها، قال أبو وداعة: [كنت أجالس سعيد بن المسيب ففقدني أياماً، فلما جئت قال: أين كنت؟ قلت: توفيت أهلي، فاشتغلت، قال: فهّلا أخبرتنا فشهدناها؟ قال: ثم أردت أن أقوم. فقال: هل أحدثت أمرأة غيرها؟ فقلت: يرحمك الله، ومن يزوجني وما أملك إلا درهمين أو ثلاثة؟ فقال: إن أنا فعلت تفعل؟ قلت: نعم، فحمد الله تعالى وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم وزوجني على درهمين أو على ثلاثة، فقال: فقمت وما أدري ما أصنع من الفرح، وصرت إلى منزلي. وجعلت أفكر ممن آخذ وأستدين؟ وصليت المغرب، وكنت صائماً فقدمت عشائي لأفطر، وكان خبزاً وزيتاً، وإذا بالباب يقرع، فقلت: من هذا؟ فقال: سعيد، ففكرت في كل إنسان اسمه سعيد إلا سعيد بن المسيب، فإنه لم ير منذ أربعين سنة إلا ما بين بيته والمسجد، فقمت وخرجت، وإذا سعيد بن المسيب، وظننت أنه بدا له، فقلت: يا أبا محمد! هلا أرسلت إليّ فأتيتك؟ قال: لا، أنت أحق أن تزار، قلت: فما تأمرني؟ قال: رأيتك رجلاً عزباً قد تزوجت فكرهت أن تبيت الليلة وحدك، وهذه امرأتك، فإذا هي قائمة خلفه في طوله، ثم دفعها في الباب، ورد الباب، فسقطت المرأة من الحياء، فاستوثقت من الباب، ثم صعدت إلى السطح، وناديت الجيران، فجاءوني وقالوا: ما شأنك؟ قلت: زوجني سعيد بن المسيب ابنته، وقد جاء بها على غفلة وها هي في الدار، فنزلوا إليها، وبلغ أمي فجاءت، وقالت: وجهي من وجهك حرام إن مسستها قبل أن أصلحها ثلاثة أيام، فأقمت ثلاثاً ثم دخلت بها، فإذا هي من أجمل الناس، وأحفظهم لكتاب الله تعالى، وأعلمهم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعرفهم بحق الزوج، قال: فمكثت شهراً لا يأتيني ولا آتيه، ثم أتيته بعد شهر وهو في حلقته فسلمت عليه فردَّ عليَّ ولم يكلمني حتى انفض من في المسجد، فلما لما يبق غيري، قال: ما حال ذلك الإنسان؟ قلت: على ما يحب الصديق ويكره العدو) عن عشرة النساء ص 87-88. ?????(15/183)
184 - حقوق الزوجين
معاملة الزوجة بالحسنى، تقول السائلة: إن زوجها يسيء معاملتها ويهينها أمام أولادها ويقتّر عليها في الإنفاق مع العلم أنه يحافظ على الصلوات في المسجد فما قولكم في ذلك؟
الجواب: كثير من الناس عندهم انفصال ما بين القول والعمل ويعرفون الأحكام الشرعية معرفة نظرية فقط ولا يحولون تلك المعرفة إلى ممارسة عملية في الحياة وقد قال الله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ) سورة الصف الآيتان 2-3.
وكثير من أمثال هذا الشخص المشار إليه في السؤال يفهمون الأحكام الشرعية المتعلقة بالمرأة بطريقة غير صحيحة فهم يفهمون القوامة على أنها تسلط على المرأة وهكذا. وينسى هؤلاء النصوص الشرعية الكثيرة التي حثت على حسن التعامل مع الزوجة حيث إن الزوجة آية من آيات الله تعالى التي منَّ بها على عباده كما قال تعالى: (وَمِنْءَايَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) سورة الروم الآية 21.
إن الأساس الذي ينبغي أن تقوم عليه العلاقة الزوجية هو المودة والرحمة وتعني عطف قلوبهم بعضهم على بعض وقال بعض أهل التفسير: المودة المحبة والرحمة الشفقة وقال ابن عباس رضي الله عنهما: [المودة حب الرجل امرأته والرحمة رحمته إياها أن يصيبها سوء] تفسير القرطبي 14/17.
وقد أمر الله تعالى بحسن معاشرة الزوجة فقال تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَاءَاتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا) سورة النساء الآية 19.
قال الإمام القرطبي: [قوله تعالى: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) أي على ما أمر الله به من حسن المعاشرة والخطاب للجميع إذ لكل أحد عشرة زوجاً كان أو ولياً ولكن المراد بهذا الأمر في الأغلب الأزواج وهو مثل قوله تعالى: (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ) وذلك توفية حقها من المهر والنفقة وألا يعبس في وجهها بغير ذنب وأن يكون منطلقاً في القول لا فظاً ولا غليظاً ولا مظهراً ميلاً إلى غيرها، والعشرة: المخالطة والممازجة ... فأمر الله سبحانه بحسن صحبة النساء إذا عقدوا عليهن لتكون أدمة ما بينهم وصحبتهم على الكمال فإنه أهدأ للنفس وأهنأ للعيش وهذا واجب على الزوج ولا يلزمه في القضاء وقال بعضهم: هو أن يتصنع لها كما تتصنع له، قال يحيى بن عبد الرحمن الحنظلي: أتيت محمد بن الحنفية فخرج إلي في ملحفة حمراء ولحيته تقطر من الغالية - نوع من الطيب - فقلت: ما هذا؟ قال: إن هذه الملحفة ألقتها عليّ امراتي ودهنتني بالطيب وإنهن يشتهين منا ما نشتهيه منهن.
وقال ابن عباس رضي الله عنه: إني أحب أن أتزين لامرأتي كما أحب أن تتزين المرأة لي] تفسير القرطبي 5/97.
وقد حثّ النبي صلى الله عليه وسلم على حسن معاملة الزوجة وقد وردت في ذلك أحاديث كثيرة وقد بوب على بعضها الإمام البخاري بتراجم مناسبة فقال: " باب الوصاة بالنساء "، وقال الإمام البخاري أيضاً: " باب المداراة مع النساء "، وقال الإمام البخاري أيضاً: " باب حسن المعاشرة مع الأهل ".
ومن هذه الأحاديث حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره واستوصوا بالنساء خيراً فإنهن خلقن من ضلع أعوج وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه فإن ذهبت تقيمه كسرته وإن تركته لم يزل أعوج فاستوصوا بالنساء خيراً) .
قال الحافظ ابن حجر معلقاً على هذا الحديث: [وفي الحديث الندب إلى المداراة لاستمالة النفوس وتألف القلوب وفي سياسة النساء بأخذ العفو منهن والصبر على عوجهن وأن من رام تقويمهن فاته الانتفاع بهن مع أنه لا غنى للإنسان عن امرأة يسكن إليها ويستعين بها على معاشه] فتح الباري 11/163.
وجاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إني أحرج عليكم حق الضعيفين اليتيم والمرأة) رواه ابن ماجة وابن حبان والحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
وورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبة حجة الوداع: (واستوصوا بالنساء خيراً فإنهن عوان عندكم ليس تملكون منهن شيئاً غير ذلك إلا أن يأتين بفاحشة مبينة فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع واضربوهن ضرباً غير مبرح فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهم ألا إن لكم على نسائكم حقاً ولنسائكم عليكم حقاً فأما حقكم على نسائكم فلا يوطئن فرشكم من تكرهون ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن) رواه الترمذي وقال حسن صحيح ورواه ابن ماجة وحسّنه الشيخ الألباني في صحيح سنن الترمذي 1/341.
وقال صلى الله عليه وسلم: (اتقوا الله في النساء) رواه مسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً وخياركم خياركم لنسائهم) رواه الترمذي وقال: حسن صحيح. ورواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
قال العلامة ابن علان المكي: [ (وخياركم خياركم لنسائهم) وفي رواية (خيركم خيركم لأهله) قال في النهاية هو إشارة إلى صلة الرحم والحث عليها، قيل ولعل المراد من حديث الباب أن يعامل زوجته بطلاقة الوجه وكف الأذى والإحسان إليها والصبر على أذاها قلت ويحتمل أن الإضافة فيه للعهد والمعهود هو النبي صلى الله عليه وسلم والمراد (أنا خيركم لأهلي) وقد كان صلى الله عليه وسلم أحسن الناس لأهله وأصبرهم على اختلاف أحوالهم] دليل الفالحين 3/106.
ويجب أن يعلم أن الإنفاق على الزوجة واجب على الزوج كما قال تعالى: (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) سورة البقرة الآية 233، وقال تعالى:
(لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّاءَاتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَاءَاتَاهَا) سورة الطلاق الآية 7.
وهذا الإنفاق يؤجر عليه الزوج أجراً عظيماً فقد جاء في الحديث عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (دينار أنفقته في سبيل الله ودينار أنفقته في رقبة ودينار تصدقت به على مسكين ودينار أنفقته على أهلك أعظمها أجراً الذي أنفقته على أهلك) رواه مسلم.
وقال صلى الله عليه وسلم: (أفضل دينار ينفقه الرجل دينار ينفقه على عياله) رواه مسلم.
وعن أبي مسعود البدري أن النبي صلى الله عليه وسلمقال: (إذا أنفق الرجل على أهله نفقة يحتسبها فهي له صدقة) رواه البخاري ومسلم.
وقال الحافظ ابن حجر: [وقال الطبري ما ملخصه: الإنفاق على الأهل واجب والذي يعطيه يؤجر على ذلك بحسب قصده ولا منافاة بين كونها واجبة وبين تسميتها صدقة بل هي من صدقة التطوع وقال المهلب: النفقة على الأهل واجبة بالإجماع وإنما سماها الشارع صدقة خشية أن يظنوا أن قيامهم بالواجب لا أجر لهم فيه وقد عرفوا ما في الصدقة من الأجر فعرّفهم أنها لهم صدقة حتى لا يخرجوها إلى غير الأهل إلا بعد أن يكفوهم ترغيباً لهم في تقديم الصدقة الواجبة قبل صدقة التطوع] فتح الباري 11/425.
وعن سعد رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنك مهما أنفقت على أهلك من نفقة فإنك تؤجر حتى اللقمة ترفعها إلى فيّ امرأتك) رواه البخاري ومسلم.
والأصل في الإنفاق على الزوجة والأولاد هو الإنفاق بالمعروف كما في الآية المذكورة أولاً.
والمعروف هو المتعارف في عرف الشرع من غير تفريط ولا إفراط ويقدر ذلك بحسب حال الزوج يسراً أو عسراً ويدل على ذلك قوله تعالى: (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّاءَاتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَاءَاتَاهَا) سورة الطلاق الآية 7، وقوله تعالى: (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ) سورة الطلاق الآية 6.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (أطعموهن مما تأكلون واكسوهن مما تكتسون ولا تضربوهن ولا تقبحوهن) رواه أبو داود وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود 2/402.
وإذا كان الزوج بخيلاً شحيحاً فإنه يجوز للمرأة أن تأخذ من مال زوجها بالمعروف لتنفق على نفسها وأولادها من دون علم الزوج فعن عائشة رضي الله عنها قالت: (إن هند بنت عتبة قالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح وليس يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم. فقال صلى الله عليه وسلم: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف) رواه البخاري ومسلم.
?????(15/184)
185 - حقوق الزوجين
منع الزوجة من الذهاب إلى المسجد,
تقول السائلة: إنها سيدة متزوجة وملتزمة بالدين وزوجها ليس كذلك وهو يمنعها من الذهاب إلى المسجد لحضور الصلوات والدروس الدينية وتقول إنها لم تدخل المسجد ولا مرة ولكنها تعوض ذلك بسماع القرآن الكريم وسماع الأشرطة الدينية وتسأل هل ينطبق عليها ما ورد في الحديث من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا غشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة ... الخ) أفيدونا جزاكم الله خيراً.
الجواب: كثيرون من الناس يسيؤون فهم وضع المرأة في الإسلام، وكثيرون يعاملون المرأة بشدة وقسوة بحكم عاداتهم وتقاليدهم الموروثة والتي لا تقرها الشريعة الإسلامية ويبدو أن زوج السائلة من هذا النوع. إن معاملة الإسلام للمرأة أكرم وأعظم مما يظن كثير من الناس ولا يتسع المقام لتفصيل ذلك وأقتصر على ما يتعلق بالسؤال فقط فينبغي أن يعلم أن للمرأة الحق في الذهاب إلى المسجد للصلاة وحضور الدروس وليس الأمر خاصاً بالرجال فقد ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما النساء شقائق الرجال) رواه أبو داود وصححه الشيخ الألباني، صحيح الجامع الصغير 1/461. ومن المعلوم عند أهل العلم أن النساء كن في العهد النبوي يحضرن صلاة الجماعة بما في ذلك صلاتي الفجر والعشاء وهما وقت الظلمة فعن عائشة رضي الله عنها قالت (كن نساء المؤمنات يشهدن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر متلفعات بمروطهن - أي أكسيتهن - ثم ينقلبن إلى بيوتهن حين يقضين الصلاة لا يعرفهن أحد من الغلس) رواه البخاري ومسلم. وكذلك كن النساء يحضرن صلاة الجمعة مع النبي صلى الله عليه وسلم فعن أم هشام بنت حارثة بن النعمان قالت: (ما حفظت: " ق " إلا من فيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب بها كل جمعة) رواه مسلم. وثبت في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا استأذنت امرأة أحدكم إلى المسجد فلا يمنعها) متفق عليه. وقال صلى الله عليه وسلم: (لا تمنعوا نساءكم المساجد وبيوتهن خير لهن) رواه أبو داود وإسناده صحيح كما قال الشيخ الألباني في تعليقه على إعلام الساجد ص 225. وغير ذلك من الأحاديث الواردة في حضور النساء لصلاة العيدين وصلاة الكسوف وطلب النساء من النبي صلى الله عليه وسلم يوماً ليعظهن ... الخ، فلا يجوز لهذا الزوج أن يمنع زوجه من الخروج للمسجد.
وأما الحديث الذي ذكرته في السؤال وهو: (ما اجتمع قوم ... الخ) فهذا الحديث في حق من يجتمعون على تلاوة القرآن ويذكرون الله عز وجل، وأما السائلة فلها الأجر والثواب من الله سبحانه وتعالى لصبرها على زوجها الظالم لها ولقيامها بما أوجب الله عليها ولسماعها للقرآن ولما تقوم به من ذكر وعبادة قال الله تعالى (وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) سورة الأحزاب الآية 35. ووردت أحاديث كثيرة في فضل الذكر والذاكرين منها قوله صلى الله عليه وسلم: (من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير عشر مرات كان كمن أعتق أربعة أنفس من ولد إسماعيل) متفق عليه وغير ذلك من الأحاديث. ?????(15/185)
186 - النكاح
المعاشرة الزوجية قبل الزفاف،
يقول السائل: ما حكم المعاشرة الزوجية بين الزوجين بعد العقد وقبل الزفاف؟
الجواب: من المعلوم أن عقد الزواج إذا وقع صحيحاً ترتبت عليه آثاره الشرعية ومنها حل استمتاع كل من الزوجين بالآخر فهذا الأمر واضح ومعلوم. ولكن العرف قد جرى بأن المعاشرة الزوجية لا تكون إلا بعد الزفاف لا قبله أي بعد أن ينقل الزوج زوجته إلى بيت الزوجية. لذا فإني أرى تقييد هذا المباح بالعرف حيث إن هذا العرف صحيح ويحقق مقاصد الشارع الحكيم وبيان ذلك بما يلي: إن العرف قد جرى في بلادنا أن يتم عقد الزواج ويكتب وتبقى الزوجة في بيت أبيها مدة من الزمن قد تطول وقد تقصر فأحياناً تمكث الزوجة في بيت أبيها سنة أو اكثر أو أقل. وفي هذه الحال يتردد الزوج لزيارة زوجته في بيت أبيها ويسميه الناس خاطباً مع أن هذه التسمية فيها نظر لأنه ليس بخاطب وإنما هو زوج شرعاً. وعندما يتفق الزوجان وأهلهما على الزفاف ويعين موعد لذلك وتقام الأفراح وفي يوم الزواج يحضر الزوج وأقاربه لأخذ الزوجة من بيت أبيها إلى بيت الزوج فعندها تتم المعاشرة الزوجية بينهما وأما قبل ذلك فينبغي منع إقامة أي علاقة جنسية بينهما لما قد يترتب على إقامة العلاقة الزوجية في الفترة التي تسبق الزفاف من مفاسد. فمثلاً إذا تمت معاشرة بينهما في تلك الفترة وحصل الحمل فقد لا يستطيع الزوج إتمام الزفاف لسبب من الأسباب فعندئذ تظهر علامات الحمل على الفتاة وهذا ينعكس عليها سلباً وعلى زوجها، وماذا لو قدر الله سبحانه وتعالى وفاة هذا الزوج قبل الزفاف وكان قد عاشرها وحملت منه فلا شك أن مشكلات كثيرة ستقوم وتؤدي إلى نزاع وخصام. وهنالك احتمال أن يقع سوء تفاهم بينهما وقد يصل الأمر إلى الفراق بالطلاق أو غيره فحينئذ ستكون الفتاة في موقف صعب جداً وكذلك إذا تم الزفاف وكانت العلاقة الجنسية قد تمت قبله فقد يطعن الزوج في عفاف زوجته وهذا يوقع الفتاة وأهلها في مشكلات عويصة. وقد يقول قائل ما دام أن العقد قد وقع صحيحاً فهي زوجته شرعاً وقانوناً فلماذا تحرمون استمتاع كل منهما بالآخر. وأقول إنني لا أحرم ما أحل الله سبحانه وتعالى ولكن نقيد هذا المباح حفظاً لمصالح العباد ودفعاً للمفاسد التي قد تترتب على هذا الفعل. والعرف الصحيح الذي لا يصادم النصوص الشرعية معتبر عند أهل العلم. قال الإمام القرافي: [وأما العرف فمشترك بين المذاهب ومن استقرأها وجدم يصرحون بذلك فيها] شرح تنقيح الفصول ص 488. وقال الشيخ ابن عابدين: والعرف في الشرع له اعتبار لذا عليه الحكم قد يدار رسالة " نشر العرف في بناء بعض الأحكام على العرف " ضمن مجموعة رسائل ابن عابدين 2/112. وقد قامت الأدلة الكثيرة على اعتبار العرف ووضع الفقهاء القواعد الفقهية في ذلك كما في قولهم: العادة محكمة، والمعروف عرفاً كالمشروط شرطاً واستعمال الناس حجة يجب العمل بها وغير ذلك. [وسلطان العرف العملي كبير في أحكام الأفعال المعتادة والمعاملات المختلفة المتعلقة بحقوق الناس أو أحوالهم الشخصية أو القضاء أو الشهادات والعقوبات وغيرها ويعمل بالعرف ما لم يصادم نصاً شرعياً من القرآن أو السنة واضح الدلالة قطعياً أو نصاً تشريعياً كالقياس ويعتبر ما ثبت بالعرف حينئذ ثابتاً بالنص اتباعاً للقاعدة الشرعية الثابت بالعرف كالثابت بالنص أو الثابت بالعرف ثابت بدليل شرعي] نظرية العرف ص 48. ومن أوسع مجالات اتباع العرف ما يتعلق بالأسرة مثل عشرة النساء والنفقة عليهن ومن ضمن ذلك ما تعارف عليه الناس أن الزوج لا يعاشر زوجته المعاشرة الزوجية إلا بعد الزفاف وهذا عرف صحيح ينبغي اعتباره والعمل به فهو لا يصادم النصوص الشرعية بل يؤكد مقاصد الشارع الحكيم.
كما أنه يمكن منع المعاشرة الزوجية بين الزوجين قبل الزفاف استناداً إلى قاعدة سد الذرائع وهي قاعدة معتبرة عند أهل العلم فمعلوم كم هي المفاسد التي قد تترتب على إقامة مثل هذه العلاقات وقد صرح بعض الآباء الذين سئلوا عن رأيهم في ذلك لو حصل هذا الأمر مع بناتهم بأن بعضهم سيقتل ابنته وزوجها لما في ذلك من مس بشرفه وشرف عائلته. وصرح بعضهم بأمور أفظع من ذلك وقد جاء هذا في دراسة واستطلاع لرأي بعض الناس قام به بعض طلبة العلم. وهذا على سبيل المثال لا على سبيل الحصر من ردود الأفعال التي قد تقع من الآباء والأهل تجاه بناتهم إن حصلت هذه المعاشرة. ومن المفاسد التي قد تقع ووقعت فعلاً أنه في إحدى الحالات التي تمت فيها المعاشرة قبل الزفاف وحصل الحمل ولم يتمكن الزوج من إتمام إجراءات الزفاف أقدم على إجهاض زوجته وأدى ذلك إلى قتل الجنين؟! فَسَدّاً لطرق الفساد هذه وغيرها ينبغي منع الزوجين من ذلك وحصره على ما بعد الزفاف فقط. ?????(15/186)
187 - مسائل طبية
إصلاح غشاء البكارة،
تقول السائلة: إنها شابة في العشرينات من عمرها وأنها قد انحرفت ووقعت في الرذيلة وعاشت عدة سنوات في المنكرات والآن كما تقول فقد رجعت إلى الله وتابت توبة صادقة وتسأل عن حكم إصلاح غشاء البكارة بعملية جراحية لإعادته لوضعه السابق وتسأل عن حكم استعمال العادة السرية؟
الجواب: إنه لشيء طيب أن يعود الإنسان عن غيه وضلاله وأن يرجع إلى الله سبحانه وتعالى ويتوب توبة صادقة ولكن يجب على الأسرة أن تربي أبناءها على شرع الله وأن تؤدبهم بأدب الإسلام كي تجنبهم الوقوع في الفواحش والمنكرات ابتداءً فأسرة هذه الفتاة التي استمرت في انحرافها لعدة سنوات كما جاء في رسالتها عليها مسؤولية عظيمة لأنها قصرت في ذلك. وما دام أنها عادت إلى الله وصارت محافظة على الصلاة ولبست الجلباب الشرعي كما قالت فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يقبل توبتها ويغفر لها وأن يثبتها على طاعته وأما بالنسبة للشق الأول من السؤال حول إصلاح البكارة بعملية جراحية فإن إصلاح البكارة يسمى عند العلماء رتق غشاء البكارة أو عملية الرتق العذري ومن المعروف أن البكارة هي الجلدة التي تكون على فرج المرأة وتسمى عذرة ولذا يقال للفتاة البكر عذراء ورتق البكارة معناه إصلاحها وإعادتها لوضعها السابق قبل التمزق.
وهنالك أسباب عديدة لزوال غشاء البكارة منها:
1. الدخول في الزواج. 2. الزنى والاغتصاب. 3. حصول حادثة للفتاة كالقفز مثلاً ونحو ذلك. إذا تقرر هذا فإن هذه المسألة من المسائل الحديثة التي لم يرد فيها نص ولم يتعرض الفقهاء المتقدمون لها لعدم إمكان حصولها في زمانهم وإنما بحثها العلماء المعاصرون على ضوء أحكام الشرع وقواعده العامة. والذي يظهر لي بعد دراسة أقوال العلماء المعاصرين وما اعتمدوا عليه في هذه المسألة أن عملية الرتق العذري أو إصلاح غشاء البكارة غير جائزة شرعاً ولا يجوز الإقدام عليها لا من الفتاة التي زالت بكارتها بأي سبب من الأسباب ولا من الطبيبة أو الطبيب المعالج لما يلي: أولاً: إن رتق غشاء البكارة قد يؤدي إلى اختلاط الأنساب فقد تحمل المرأة من الجماع السابق ثم تتزوج بعد رتق غشاء بكارتها وهذا يؤدي إلى إلحاق الحمل بالزوج واختلاط الحلال بالحرام. ثانياً: إن رتق غشاء البكارة فيه اطلاع على المنكر.
ثالثاً: إن رتق غشاء البكارة يسهل على الفتيات ارتكاب جريمة الزنا لعلمهن بإمكان رتق غشاء البكارة بعد الزنا.
رابعاً: إذا اجتمعت المصالح والمفاسد فإن أمكن تحصيل المصالح ودرء المفاسد فعلنا ذلك وإن تعذر درء المفاسد وتحصيل المصالح فإن كانت المفسدة أعظم من المصلحة درأنا المفسدة ولا نبالي بفوات المصلحة كما قرر ذلك فقهاء الإسلام. وتطبيقاً لهذه القاعدة فإننا إذا نظرنا إلى رتق غشاء البكارة وما يترتب عليه من مفاسد حكمنا بعدم جواز الرتق لعظيم المفاسد المترتبة عليه.
خامسا ً: إن من قواعد الشريعة الإسلامية أن الضرر لا يزال بالضرر ومن فروع هذه القاعدة أنه لا يجوز للإنسان أن يدفع الغرق عن أرضه بإغراق أرض غيره ومثل ذلك لا يجوز للفتاة وأهلها أن يزيلوا الضرر عن الفتاة برتق الغشاء ويلحقونه بالزوج.
سادساً: إن مبدأ رتق غشاء البكارة مبدأ غير شرعي لأنه نوع من الغش والغش محرم شرعاً.
سابعاً: إن رتق غشاء البكارة يفتح أبواب الكذب للفتيات وأهليهن لإخفاء حقيقة سبب زوال البكارة والكذب محرم شرعاً. ثامناً: إن رتق غشاء البكارة يفتح الباب للأطباء أن يلجأوا إلى إجراء عمليات الأجهاض وإسقاط الأجنة بحجة الستر على الفتيات. أحكام الجراحة الطبية ص 429-430. وما يقال من أن الرتق العذري فيه ستر على الفتاة التي أزيلت بكارتها باغتصاب أو إكراه على الزنا والستر مطلوب شرعاً. أبحاث فقهية في قضايا طبية معاصرة ص 229. فيجاب عن ذلك بأن الستر الذي ندبت إليه الشريعة الإسلامية هو المحقق لمصالح معتبرة ورتق غشاء البكارة فيه كشف للعورة بدون حاجة وفيه فتح لباب الشر وهو الزنا كما أن الحكم بجواز رتق غشاء البكارة في حالة الزنا الذي لم يشتهر فيه فتح لباب من الشر عظيم والله يأمرنا أن يشهد عذاب الزاني طائفة من المؤمنين نكاية به وتأديباً لغيره من مغبة الوقوع في الفاحشة فجواز هذه الصورة لا يعتبر ستراً بل هو ترك لمبدأ معاقبته وإشعاره بذنبه فرفض الطبيب إجراء هذه العملية فيه ردع للزانية وتأديب لغيرها. الأحكام الطبية المتعلقة بالنساء ص 218. ويضاف لذلك أن الستر المطلوب شرعاً هو الذي شهدت له نصوص الشرع باعتبار وسيلته ورتق غشاء البكارة لم يتحقق فيه ذلك بل الأصل حرمته لمكان كشف العورة وفتح باب الفساد. أحكام الجراحة الطبية ص 432. وإن القول بجواز هذه العملية يؤدي إلى فتح أبواب الفساد وانتشار الرذيلة وما زعم من مصالح قد تترتب على ذلك إنما هي مصالح وهمية وليست حقيقية كما أن حالات تمزق غشاء البكارة بسبب حادث ما غير الزنا والاغتصاب تعتبر نادرة وقليلة ويمكن إذا حصل ذلك الحصول على تقرير طبي موثق لبيان السبب الحقيقي لزوال غشاء البكارة حتى تكون الفتاة بعيدة عن تهمة الزنا. وأخيراً فإن على الأطباء المسلمين أن يكونوا دعاة صدق فيرشدوا الفتاة وأهلها إلى عدم إجراء هذه العملية وأخذ تقرير طبي يثبت براءة الفتاة فيكونوا بذلك قد وجهوا الناس إلى الأخذ بالصدق قولاً وفعلاً كما أن على الأطباء أن يرفضوا إجراء هذه العملية لكي يسدوا على المجتمع باب الزنا والتلاعب في الأعراض وأن يحاربوا الكسب غير المشروع بإجراء هذه العمليات مهما تنوعت الأسباب فإذا انتهج الأطباء هذه السبل لمعالجة فقد الفتاة لبكارتها أمكن إقناع الناس بأن فقدها بغير الفاحشة ليس أمراً معيباً ولا يمنع من الزواج منها. الأحكام الطبية المتعلقة بالنساء ص222.
وأما بالنسبة للشق الثاني من السؤال والمتعلق بالعادة السرية أو الاستمناء فإن هذا الأمر حرام في حق الشاب والفتاة على حد سواء كما هو مذهب جماهير علماء المسلمين ويدل على ذلك قوله تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ) سورة المؤمنون الآيات 5-7، والعادون هم الظالمون المتجاوزون الحلال إلى الحرام. وقال تعالى: (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) سورة النور الآية 33. وقد أرشد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أنه عند ثوران الشهوة فالمطلوب هو اللجوء إلى تسكينها ويكون ذلك بالزواج إن كان مستطيعاً له وإلا فعلى الإنسان أن يصوم لما للصوم من أثر في تسكين الشهوة فعن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء) رواه البخاري ومسلم. فعلى هذه الفتاة السائلة أن تكثر من الصوم وأن تحاول أن تشغل نفسها بالأمور النافعة والمفيدة كتلاوة القرآن ومطالعة الكتب الثقافية وعليها أن تبتعد عن المثيرات بشتى أنواعها وخاصة الأفلام والمسلسلات وأن تحاول أن تنسى الماضي وألا تجلس لوحدها وإنما تختلط مع أسرتها لأن ذلك أصون لها وأبعد عن الشيطان. ?????(15/187)
188 - النكاح
الزواج المبكر، يقول السائل: زعم بعض المنادين بتأخير سن الزواج والمعارضين للزواج المبكر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تزوج عائشة رضي الله عنها أنها كانت في سن ثلاث وعشرين سنة أو سبع عشرين فما قولكم في ذلك؟
الجواب: لقد كثر الكلام حول قضية الزواج المبكر وكثر اللغط حول تأخير سن الزواج في هذه الأيام وأقدم قبل الجواب عن السؤال كلاماً موجزاً حول الزواج المبكر وأذكر بعض النصوص الشرعية التي تحض على الزواج:
قال تعالى: (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ) سورة النور 32.
وقال تعالى: (فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ) سورة النساء الآية 3.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء) رواه البخاري.
وقال صلى الله عليه وسلم: (وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني) رواه البخاري.
وقال صلى الله عليه وسلم: (الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة) رواه مسلم.
ويجب أن يعلم أن الشريعة الإسلامية لم تحدد سناً معيناً بالسنوات لعقد الزواج بل أجاز جمهور الفقهاء المتقدمين زواج الصغير والصغيرة أي دون البلوغ ولكن قوانين الأحوال الشخصية في البلاد الإسلامية حددت سناً للزواج فقد نصّ القانون الأردني للأحوال الشخصية في المادة الخامسة منه على ما يلي: [يشترط في أهلية الزواج أن يكون الخاطب والمخطوبة عاقلين، وأن يتم الخاطب السن السادسة عشرة وأن تتم المخطوبة الخامسة عشرة من العمر] .
[ونصَّ قانون الأحوال الشخصية لدولة الإمارات العربية في الفقرة الأولى من المادة عشرين على أن سن الزواج للفتى ثمانية عشر عاماً وللفتاة ستة عشر] .
وكذلك فإن القوانين الأوروبية قد حددت سن الزواج فالقانون الفرنسي قد جعل سن الثامنة عشرة للفتى والخامسة عشر للفتاة. وكذلك فإن الديانات الأخرى حددت سناً للزواج ففي الشريعة اليهودية جعلت سن زواج الرجل الثالثة عشرة والمرأة الثانية عشرة.
إن المعنى الحقيقي للزواج المبكر من الناحية الطبية والعلمية هو الزواج قبل البلوغ فبالنسبة للفتاة الزواج المبكر هو زواجها قبل الحيض.
وأما تسمية من تتزوج قبل الثامنة عشرة بأنه زواج مبكر فهذا لا يستند إلى قاعدة علمية أو قاعدة شرعية فأمر الزواج مربوط بالبلوغ والبلوغ عند الفتاة هو الفترة الزمنية التي تتحول فيها الفتاة من طفلة إلى بالغة وعندها تصبح الفتاة بالغة.
وأما سن البلوغ فيتراوح عالمياً ما بين 9-16 سنة وفي بلادنا ما بين 11-12 سنة حسب دراسة علمية صادرة عن الجامعة الأردنية.
ويقال لمعارضي الزواج المبكر ما يلي:
إن قانون الأحوال الشخصية قد منع زواج الصغار أخذاً بالرأي الفقهي الذي يمنع ذلك واشترط بلوغ الزوجة خمسة عشرة عاماً وأما الزوج فستة عشرة عاماً وهذا السن بالنسبة للرجل والمرأة هو سن يكون كل منهما قد بلغ ويدخل سن الأهلية والتكليف، والدعوة إلى تأخير الزواج هو انتقاص لأهلية الرجل والمرأة وحجر على حريتهما التي تتبجح هذه المراكز بالمناداة بها.
وكذلك فقد جاء في كتاب " القانون ومستقبل المرأة الفلسطينية " لمؤلفته أسمى خضر ص 131: [الدعوة إلى تأخير سن الزواج إلى 18 عاماً للفتاة والفتى وذلك تمشياً مع تعريف الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل إذ أن نهاية سن الطفولة بلوغ 18 عاماً] .
وأقول إنه لأمر عجيب حقاً تمديد سن الطفولة إلى بلوغ 18 عاماً ليتمشى ذلك مع الاتفاقيات الدولية ولماذا لا نسير وفق ما جاء في ديننا وتاريخنا وحضارتنا، لقد دق محمد بن القاسم أبواب الصين وهو دون الثامنة عشرة وقاد أسامة بن زيد جيوش المسلمين وهو ابن ستة عشرة عاماً فهل تأخير سن الطفولة إلى ثمانية عشرة عاماً في مصلحة الأمة والمجتمع.
وبالنظر إلى سجلات عقود الزواج في المحاكم الشرعية نجد أنه قلما تتزوج فتاة دون سن السابعة عشر أو دون سن العشرين للشباب.
إن أولياء الأمور يستطيعون تقدير أمور الزواج المتعلقة ببناتهم فإذا وجد في ابنته القدرة على ذلك زوَّجها، وإذا لم يجد فيها القدرة على ذلك لم يزوِّجها.
إن البحوث العلمية والدراسات العالمية تثبت أنه لا يوجد زيادة في مضاعفات الحمل عند النساء اللاتي تتراوح أعمارهن ما بين 15-19 سنة. وإن المضاعفات التي تحصل عند الحوامل أقل من 15 سنة هي نسبياً قليلة كما أن أورام الثدي والرحم والمبايض هي أقل عند النساء اللواتي يبدأن الحمل والإنجاب في السنين المبكرة.
إن العمليات القيصرية والولادة المبكرة والتشوهات الخلقية ووفاة الجنين داخل الرحم ووفاة الأطفال بعد الولادة جميعها تزداد نسبياً كلما زاد عمر الحامل.
إن الحمل والإنجاب هو عمل متكرر وإن المرأة بحاجة إلى فترة زمنية طويلة لإنجاب ما كتب الله لها من أطفال. فالمرأة التي تتزوج في سن متأخر فإنها سوف تنجب أطفالها وهي في سن متأخر، ومن المثبت طبياً أن الأمراض المزمنة تبدأ بالظهور أو تزيد استفحالاً كلما تقدم الإنسان عمراً وهذه الأمراض المزمنة تزيد مخاطر الحمل والإنجاب وأحياناً تقف عائقاً للحمل والإنجاب.
إذا ثبت هذا فنعود إلى جواب السؤال ونقول إنه قد ثبت عند المحققين من أهل العلم أن عائشة رضي الله عنها لما تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت ابنة تسع سنين ولم ينقل خلاف ذلك فيما اطلعت عليه من المصادر، فقد روى البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: (تزوجني النبي صلى الله عليه وسلم - أي عقد عليّ - وأنا بنت ست سنين فقدمنا المدينة فنزلنا في بني الحارث بن خزرج فوعكت فتمزق شعري فوفى جميمة فأتتني أمي أم رومان وإني لفي أرجوحة ومعي صواحب لي فصرخت بي فأتيتها لا أدري ما تريد بي فأخذت بيدي حتى أوقفتني على باب الدار وإني لأنهج حتى سكن بعض نفسي ثم أخذت شيئاً من ماء فمسحت به وجهي ورأسي ثم أدخلتني الدار فإذا نسوة من الأنصار في البيت فقلن على الخير والبركة وعلى خير طائر فأسلمتني إليهن فأصلحن من شأني فلم يرعني إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى فأسلمتني إليه وأنا يومئذ بنت تسع سنين) وفي حديث آخر روى البخاري عن عروة قال: (توفيت خديجة قبل مخرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بثلاث سنين فلبث سنتين أو قريباً من ذلك ونكح عائشة وهي بنت ست سنين ثم بنى بها وهي بنت تسع سنين) صحيح البخاري مع الفتح 8/224-225.
وذكر الإمام النووي في ترجمة عائشة: [أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها وهي بنت ست سنين ودخل بها وهي بنت تسع] تهذيب الأسماء واللغات 2/351.
وذكر الحافظ ابن حجر في ترجمة عائشة أن قد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها وهي بنت ست وقيل سبع ودخل بها وهي بنت تسع وكان دخوله بها في شوال في السنة الأولى ثم ذكر الحافظ ابن حجر ما ثبت في الصحيح من رواية الأسود عن عائشة قال: (تزوجني الرسول صلى الله عليه وسلم وأنا بنت ست سنين وبنى بي وأنا بنت تسع وقبض وأنا بنت ثمان عشرة سنة) الإصابة 8/139.
ومثل ذلك ذكر الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية 8/95 ومثله ذكر الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء 2/135.
وختاماً فإني أقول إنه لا يجوز شرعاً سن قانون يحظر الزواج قبل الثامنة عشرة لما يترتب على ذلك من مفاسد كثيرة. ومع أنني من أنصار التبكير في الزواج وأحث على ذلك ولكنني أرى أنه ينبغي أن يكون الزوجان قد أتما المرحلة الجامعية الأولى وهذا لا يعني منع حالات الزواج في أقل من ذلك وحسب ما حدده قانون الأحوال الشخصية.
?????(15/188)
189 - الحجاب الشرعي
تقول السائلة: نشرت إحدى الصحف مقالاً تعترض فيه كاتبته على الحجاب الشرعي وتقول إن قضية اللباس قضية شخصية وإن الحجاب من القشور وإن قضية الحجاب هي قضية فقهية وهي محل خلاف بين الفقهاء، فما قولكم في ذلك؟
الجواب: إن الحملة المعادية للباس الشرعي ليست جديدة وإنما لها جذور قديمة وقد حمل وزرها دعاة كثر مثل رفاعة الطهطاوي وقاسم أمين وهدى شعراوي ونوال السعداوي وغيرهم كثير. وزعم هؤلاء أنهم من أنصار المرأة وأنهم يدافعون عن حقوقها ويعتبرون اللباس الشرعي عائقاً في سبيل تقدم المرأة المسلمة ولهم شبهات كثيرة حول هذه القضية لا يتسع المقام لبيانها والرد عليها وقد بحثت هذه القضية عشرات المؤلفات. ولكن لا بد من توضيح ما جاء في السؤال حول الإدعاء بأن اللباس الشرعي قضية شخصية، صحيح أن اللباس قضية شخصية من حيث إن الإنسان ذكراً كان أو أنثى حرّ فيما يختاره من ملابس فيختار لونها وشكلها وقماشها وغير ذلك من المواصفات ولكن اللباس ليس قضية شخصية من حيثيات أخرى فهل نقبل أن يمشي رجل في السوق وليس عليه إلا لباس البحر " المايوه "!!؟ إن الشريعة الإسلامية وضعت قواعد عامة للباس سواء كان لباس الرجل أو لباس المرأة فأوجبت أن يكون لباس الرجل وكذا لباس المرأة ساتراً لعورة كل منهما. فالإنسان المسلم عليه أن يلتزم بشرع الله سبحانه وتعالى في جميع مجالات حياته ومن ضمن ذلك اللباس فليس اللباس الشرعي اختيارياً للمرأة بل إنه أمر واجب وفريضة شرعية كما سأذكر فيما بعد. كما أن وصف اللباس الشرعي للمرأة بأنه من القشور وأن المهم هو ما في داخل النفوس، مغالطة وخطأ واضح فأحكام الشريعة الإسلامية ليس فيها ما يوصف بأنه قشور أو لباب، فأحكام الشريعة الإسلامية كلها لباب ولا قشور فيها لأنها تعالج كل قضايا الناس فلا يصح أن نقول هذا الحكم من القشور وهذا من اللباب فهي جميعاً من عند الله سبحانه وتعالى اللطيف الخبير.
وأما الادعاء بأن اللباس الشرعي أو قضية الحجاب هي قضية فقهية مثارة بين الفقهاء فهذا الكلام غير صحيح أبداً فإن قضية الحجاب أو الجلباب الشرعي قضية مسلَّمة بين الفقهاء لأنها ثابتة بالنصوص الشرعية من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وهو فريضة من فرائض الله سبحانه وتعالى، وأما الخلاف بين الفقهاء فقد وقع في قضايا تابعة لقضية الجلباب المتفق عليها. مثلاً هل يجب على المرأة أن تغطي وجهها وكفيها أم لا؟ وكذا الخلاف في بعض التفاصيل المتعلقة بالجلباب وليس الخلاف في أصل وجوب الجلباب فهذه مسألة متفق عليها بين علماء المسلمين يقول الله تعالى: (يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) سورة الأحزاب الآية 59. فهذه الآية الكريمة أوجبت اللباس الشرعي على جميع النساء المسلمات. وقال تعالى: (قل لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ) سورة النور الآيتان 30-31. وعن أم عطية الأنصارية قالت: (أمرنا أن نخرج الحُيَّض يوم العيدين وذوات الخدور فيشهدون جماعة المسلمين ودعوتهم ويعتزل الحيض عن مصلاهن. قالت امرأة: يا رسول الله، إحدانا ليس لها جلباب؟ قال: لتلبسها أختها من جلبابها) رواه البخاري ومسلم. وجاء في حديث أسماء بنت أبي بكر: (أنها كانت عند أختها عائشة وعليها ثياب واسعة الأكمام فلما نظر إليها الرسول صلى الله عليه وسلم قام فخرج. فقالت عائشة رضي الله عنها تنحي فقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمراً كرهه فتنحت فدخل رسول الله فسألته عائشة رضي الله عنها لم قام؟ قال: أو لم تري هيئتها إنه ليس للمرأة المسلمة أن يبدو منها إلا هذا وهذا - أي وجهها وكفيها -) رواه الطبراني والبيهقي وهو حديث حسن كما قال الشيخ الألباني في جلباب المرأة المسلمة ص 59. وغير ذلك من الأدلة. ?????(15/189)
190 - دية المرأة نصف دية الرجل
يقول السائل: إن أحد المدرسين استنكر أن تكون دية المرأة نصف دية الرجل واعتبر أن هذا القول غير صحيح فما قولكم في ذلك؟
الجواب: إن بعض الناس يحاول أن يظهر أنه من أنصار المرأة والمدافعين عن حقوقها ويجعله ذلك يتمسك بما هو أوهى من بيت العنكبوت في الاحتجاج لما يراه من أحكام يزعم أن فيها نصرة للمرأة ولا يتسع المقام للرد على أمثال هؤلاء وبيان ما أعطاه الإسلام للمرأة في جميع جوانب الحياة.
والمسلم الصادق لا ينخدع بالدعوات الزائفة التي تدعو لنصرة المرأة والتخلي عن الأحكام الشرعية المنصوصة في حق المرأة كإعطاء الأنثى نصف ميراث الذكر ونحو ذلك من الأحكام.
وأما بالنسبة لدية المرأة فيجب أن يعلم أولاً أن العلماء قد بينوا أن الرجل يقتل بالمرأة إن قتلها عمداً وأما إن قتلت المرأة خطأً فإن ديتها على النصف من دية الرجل وهذا باتفاق أهل العلم إلا من شذ ولا عبرة بالأقوال الشاذة التي يحاول بعض الناس نفخ الروح فيها وأنّى لهم ذلك!!
قال الحافظ ابن عبد البر: [أجمعوا على أن دية المرأة نصف دية الرجل] الاستذكار 25/63.
وقال الإمام القرطبي: [وأجمع العلماء على أن دية المرأة على النصف من دية الرجل قال أبو عمر - يعني ابن عبد البر -: إنما صارت ديتها والله أعلم على النصف من دية الرجل من أجل أن لها نصف ميراث الرجل وشهادة امرأتين بشهادة رجل وهذا إنما هو في دية الخطأ وأما العمد ففيه القصاص بين الرجال والنساء لقوله عز وجل: (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) ... الخ] تفسير القرطبي 5/325.
وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي معلقاً على قول الخرقي: [ودية الحرة المسلمة نصف دية الحر المسلم. قال ابن المنذر وابن عبد البر أجمع أهل العلم على أن دية المرأة نصف دية الرجل] المغني 8/402.
وهذا قول الأئمة الأربعة وأتباعهم وعلماء السلف والخلف ونقل عن عمر بن الخطاب وعثمان وعلي وابن عباس وابن عمر وزيد بن ثابت رضي الله عنهم ولا يعرف لهم مخالف فصار إجماعاً، الحاوي الكبير 12/289.
وقد شذّ الأصم وابن علية فقالا دية المرأة كدية الرجل وتابعهما على ذلك بعض المعاصرين كالمالكي في نظام العقوبات ص 121.
ومما يدل على قول جماهير أهل العلم ما رواه الشافعي وغيره عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قوَّم دية الحرة المسلمة إذا كانت من أهل القرى خمسمائة دينار أو ستة آلاف درهم فإذا كان الذي أصابها من الأعراب فديتها خمسون من الإبل ودية الأعرابية إذا أصابها الأعرابي خمسون من الإبل] رواه الشافعي في الأم 6/91-92 والبيهقي في السنن 8/95.
وقد ذكر عبد الرزاق وابن أبي شيبة والبيهقي عدة روايات عن الصحابة تفيد أن دية المرأة على النصف من دية الرجل، انظر مصنف عبد الرزاق 9/393-397، مصنف ابن أبي شيبة 9/299-302، سنن البيهقي 8/95-96.
وروى ابن أبي شيبة بإسناده عن شريح القاضي عن عمر رضي الله عنه قال: [ ... دية المرأة على النصف من دية الرجل] مصنف ابن أبي شيبة 9/300، وقال الشيخ الألباني: إسناده صحيح. إرواء الغليل 7/307.
وقد رويت بعض الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك ولكنها غير ثابتة ولكن ثبوت تنصيف دية المرأة عن عدد من الصحابة ونقل بعض أهل العلم الإجماع على ذلك يكفي في ثبوت هذا الحكم لأن مثل هذا الأمر لا يعرف إلا توقيفاً لأنه من المقدرات التي لا مجال للعقل فيها فيكون له حكم الرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وخاصة أن عدداً كبيراً من الفقهاء والأئمة قالوا بذلك كسعيد بن المسيب وعروة بن الزبير والزهري وعطاء ومكحول والليث وابن شبرمة وهو قول الأئمة الأربعة كما سبق. انظر فقه عمر في الجنايات 2/474، فتح باب العناية 3/348.
وأما حجة من شذ فخالف فقد قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [وحكي عن ابن علية والأصم أنهما قالا: ديتها كدية الرجل لقوله عليه الصلاة والسلام: (في النفس المؤمنة مئة من الإبل) وهذا قول شاذ يخالف إجماع الصحابة وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم] المغني 8/402.
وأما ما استدل به المالكي في نظام العقوبات ص 121-122 من العمومات التي تسوي بين الذكر والأنثى في الدية فغير مسلّم لأن هذه النصوص مخصوصة يخصصها إجماع الصحابة الذي نقله العلماء ولم يعرف لهم مخالف والإجماع يخصص عموم الكتاب والسنة كما قال الأصوليون.
قال الآمدي: [لا أعرف خلافاً في تخصيص القرآن والسنة بالإجماع ودليله المنقول والمعقول أما المنقول فهو إن إجماع الأمة خصص آية القذف بتنصيف الجلد في حقّ العبد كالأمة وأما المعقول فهو أن الإجماع دليل قاطع والعام غير قاطع في آحاد مسمياته ... فإذا رأينا أهل الإجماع قاضين بما يخالف العموم في بعض الصور علمنا أنهم ما قضوا به إلا وقد اطلعوا على دليل مخصص له نفياً للخطأ عنهم وعلى هذا فمعنى إطلاقنا أن الإجماع مخصص للنص أنه معرّ ف للدليل المخصص لا أنه في نفسه هو المخصص] الإحكام للآمدي 2/327. وانظر إرشاد الفحول ص 169، شرح الكوكب المنير 3/369.
وأما قول المالكي: [ ... إن الذين يقولون إن دية المرأة نصف دية الرجل لا يوجد لهم دليل صحيح ... ] فكلامه غير صحيح وليس عنده إلا العمومات وقد قام الدليل على تخصيصها بالإجماع كما سبق بيانه.
?????(15/190)