9 - حكم الحج عن السجين المحكوم عدة مؤبدات
يقول السائل: ما حكم الحج عن السجين المحكوم عدة مؤبدات أفيدونا؟ الجواب: اتفق جماهير أهل العلم على جواز دخول النيابة في الحج في الحالتين التاليتين:
الحالة الأولى الميت: يجوز الحج عن الميت فقد ثبت في الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت أفأحج عنها؟ قال: نعم حجي عنها أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟! اقضوا الله فالله أحق بالوفاء) رواه البخاري.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رجل: يا رسول الله! إن أبي مات ولم يحج.
أفأحج عنه؟ قال: أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيه؟ قال: نعم، قال: فدين الله أحق) رواه النسائي 5/118.
قال أبو إسحق الشيرازي: [ولأنه حق تدخله النيابة لزمه في حال الحياة فلم يسقط بالموت كديْن الآدمي، ويجب قضاؤه عنه من الميقات لأن الحج يجب من الميقات ويجب من رأس المال؛ لأنه ديْن واجب، فكان من رأس المال كديْن الآدمي] المهذب مع شرحه المجموع 7/109.
الحالة الثانية: المريض مرضاً مزمناً لا يرجى شفاؤه والمعضوب وهو الذي لا يثبت على الراحلة أو من لا يستطيع السفر لاعتلال صحته وقد ورد في السنة النبوية ما يدل على ذلك:
فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان الفضل بن عباس رديف النبي صلى الله عليه وسلم فجاءت امرأة من خثعم فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر فقالت: إن فريضة الله أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يثبت على الراحلة أفأحج عنه؟ قال: نعم وذلك في حجة الوداع) رواه البخاري ومسلم. وفي رواية لمسلم: (قالت: يا رسول الله إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يثبت على الراحلة أفأحج عنه؟ قال: نعم) .
وعن أبي رزين العقيلي رضي الله عنه أنه قال: (يا رسول الله: إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة ولا الظعن قال: حج عن أبيك واعتمر) رواه النسائي، وهو حديث صحيح كما قال الشيخ الألباني في صحيح سنن النسائي 2/556، والظعن أي الارتحال والسفر.
وعن عبد الله بن الزبير قال: جاء رجل من خثعم إلى رسول الله فقال: (إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الركوب وأدركته فريضة الله في الحج فهل يجزىء أن أحج عنه قال: آنت أكبر ولده؟ قال: نعم، قال: أرأيت لو كان عليه دين أكنت تقضيه؟ قال: نعم، قال: فحج عنه) رواه النسائي وأحمد والبيهقي وقال الحافظ ابن حجر: إسناده صالح. التلخيص الحبير 2/225.
وقد أخذ جمهور أهل العلم بمقتضى هذه الأحاديث فأجازوا الحج عن الميت وأجازوا الحج عن المريض مرضاً لا يرجى برؤه ولا يستطيع تحمل مشاق السفر وكذلك الكبير الذي لا يحتمل مشاق السفر فيجوز الحج عن هؤلاء بشرط أن يكون النائب وهو من يحج عن غيره قد حج عن نفسه وهذا قول الشافعية والحنابلة والأوزاعي وإسحاق بن راهويه كما قال الشيخ ابن قدامة في المغني 3/235. ويدل على هذا الإشتراط ما ورد في الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول: لبيك عن شبرمة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من شبرمة؟ قال: أخ لي أو قريب لي، قال: هل حججت قط؟ قال: لا، قال: فاجعل هذه عن نفسك ثم احجج عن شبرمة) رواه أبو داود وابن ماجة وهو حديث صحيح كما قال الشيخ الألباني في إرواء الغليل 4/171
إذا تقرر هذا فإنه لا يجوز الحج عن سوى ما ذكر فلا يجوز الحج عن السجين حتى ولو كان محكوماً عدة مؤبدات كما ذكر السائل ولا يصح إلحاق السجين بالميت أو المعضوب والسجين غير مستطيع للحج فلا يجب عليه الحج والله سبحانه وتعالى لا يكلفنا إلا بما نستطيع لقوله تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) سورة آل عمران الآية 97. وقال تعالى: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) سورة البقرة الآية 286
وكذلك فإن السجين يرجى إطلاق سراحه مهما طالت مدة سجنه ونسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يفك أسر المأسورين وأن يردهم إلى أهلهم سالمين ومهما طال الليل فلا بد أن يعقبه الفجر.(10/9)
10 - العمرة في شهر رجب
يقول السائل: يفضل بعض الناس أن يعتمروا في شهر رجب لما في ذلك من الفضيلة فما صحة ذلك أفيدونا؟ الجواب: شهر رجب من الأشهر الحرم المذكورة في قول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} سورة التوبة الآية 36. والأشهر الحرم المقصودة في الآية هي: ذو القعدة وذو الحجة ومحرم ورجب الذي هو بين جمادى الآخرة وشعبان وقد حدد الرسول صلى الله عليه وسلم رجباً بهذا لأن بعض العرب كانوا يحرمون شهر رمضان ويسمونه رجباً فقد ورد في الحديث الصحيح عن أبي بكرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الزمان استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم ثلاثة متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان) رواه البخاري ومسلم. والأشهر الحرم لها فضل عظيم فضلها الله سبحانه وتعالى على سائر الأشهر ولله سبحانه وتعالى حكمة عظيمة في ذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما: [خص الله من شهور العام أربعة أشهر فجعلهن حرماً وعظم حرماتهن وجعل الذنب فيهن والعمل الصالح والأجر أعظم] . ورغم ما لهذه الأشهر من فضل عظيم فلا يجوز تخصيص شهر منها بعبادة مخصوصة إلا بدليل شرعي لأن الأصل في ذلك هو التلقي عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الشيخ أبو شامة المقدسي: [ولا ينبغي تخصيص العبادات بأوقات لم يخصصها بها الشرع بل يكون جميع أفعال البر مرسلة في جميع الأزمان ليس لبعضها على بعض فضل إلا ما فضله الشرع وخصه بنوعٍ من العبادة فإن كان ذلك اختص بتلك الفضيلة تلك العبادة دون غيرها كصوم يوم عرفة وعاشوراء والصلاة في جوف الليل والعمرة في رمضان ومن الأزمان ما جعله الشرع مفضلاً فيه جميع أعمال البر كعشر ذي الحجة وليلة القدر التي هي خير من ألف شهر أي العمل فيها أفضل من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر فمثل ذلك يكون أي عمل من أعمال البر حصل فيها كان له الفضل على نظيره في زمن آخر. فالحاصل أن المكلف ليس له منصب التخصيص بل ذلك إلى الشارع وهذه كانت صفة عبادة رسول الله صلى الله عليه وسلم] الباعث على إنكار البدع والحوادث ص77.
إذا تقرر هذا فإنه لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه اعتمر في رجب أو حض على العمرة في رجب كما حض على العمرة في رمضان وهذا هو القول الصحيح الذي عليه المحققون من أهل العلم وتؤيده الأدلة الصحيحة:
فعن قتادة أنَّ أنساً رضي الله عنه أخبره قال: [اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عمر كلهن في ذي القعدة إلا التي كانت مع حجته عمرة من الحديبية في ذي القعدة وعمرة من العام المقبل في ذي القعدة وعمرة من الجعرانة حيث قسم غنائم حنين في ذي القعدة وعمرة مع حجته] رواه البخاري ومسلم.
ويؤيده ما ورد عن مجاهد عن عائشة رضي الله عنها قالت: (لم يعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا في ذي القعدة) رواه ابن ماجه بإسناد صحيح كما قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري3/758.
وأما ما ورد عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر في رجب كما روى ذلك البخاري ومسلم عن مجاهد قال: دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجد فإذا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما جالس إلى حجرة عائشة رضي الله عنها وإذا ناس يصلون في المسجد صلاة الضحى، قال: فسألناه عن صلاتهم، فقال: بدعة ثم قال له: كم اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أربعاً إحداهن في رجب، فكرهنا أن نرد عليه، قال: وسمعنا استنان عائشة أم المؤمنين في الحجرة، فقال عروة: يا أماه يا أم المؤمنين ألا تسمعين ما يقول
أبو عبد الرحمن؟ قالت: ما يقول؟ قال: يقول إن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمرات إحداهن في رجب، قالت: يرحم الله أبا
عبد الرحمن ما اعتمر عمرة إلا وهو شاهده وما اعتمر في رجب قط) رواه البخاري.
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [قوله: (يرحم الله أبا عبد الرحمن) هو عبد الله بن عمر ذكرته بكنيته تعظيماً له ودعت له إشارة إلى أنه نسي, وقوله: (وما اعتمر) أي رسول الله صلى الله عليه وسلم (عمرة إلا وهو) أي ابن عمر (شاهده) أي حاضر معه, وقالت ذلك مبالغة في نسبته إلى النسيان, ولم تنكر عائشة على ابن عمر إلاّ قوله إحداهن في رجب] فتح الباري 3/759.
وفي رواية مسلم (قال أخبرني عروة بن الزبير قال: كنت أنا وابن عمر مستندين إلى حجرة عائشة وإنا لنسمع ضربها بالسواك تستن، قال: فقلت يا أبا عبد الرحمن اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم في رجب؟ قال: نعم، فقلت لعائشة: أي أمتاه ألا تسمعين ما يقول
أبو عبد الرحمن؟ قالت: وما يقول؟ قلت: يقول اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم في رجب، فقالت: يغفر الله لأبي عبد الرحمن لعمري ما اعتمر في رجب وما اعتمر من عمرة إلا وإنه لمعه، قال: وابن عمر يسمع فما قال لا ولا نعم سكت) .
قال الإمام النووي: [وأما قول ابن عمر: (إن إحداهن في رجب) فقد أنكرته عائشة وسكت ابن عمر حين أنكرته. قال العلماء: هذا يدل على أنه اشتبه عليه أو نسي أو شك, ولهذا سكت عن الإنكار على عائشة ومراجعتها بالكلام, فهذا الذي ذكرته هو الصواب الذي يتعين المصير إليه] شرح النووي على صحيح مسلم 3/381.
وقال الإمام القرطبي المحدث: [وأما قول ابن عمر: أنه اعتمر في رجب، فقد غلَّطته في ذلك عائشة ولم ينكر عليها ولم ينتصر، فظهر أنه كان على وهم وأنه رجع عن ذلك] المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم 3/367-368.
وقال الشيخ علي بن إبراهيم العطار: [اعلم أن العلماء أجمعوا على أن رمضان أفضل الشهور وذا الحجة والمحرم أفضل من رجب بل لو قيل ذو القعدة أفضل من رجب لكان سائغاً لأنه من الأشهر الحرم ولا شيء يتصور في رجب من الفضائل سوى ما قيل من الإسراء ولم يثبت ذلك وما روي في فضل صيام رجب وشعبان أو تضعيف الجزاء على صيامهما فكله موضوع أو ضعيف لا أصل له، وكذا ما أخرج العساكري والكتاني في الصيام والتضعيف، موضوع لا يحتج به أصلاً، وكان عبد الله الأنصاري لا يصوم رجباً وينهى عنه ويقول لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك شيء، وما روي من كثرة صيام شعبان فلأنه ربما كان يصوم ثلاثة من كل شهر ويشتغل عنها في بعض الشهور فيتداركه في شعبان أو لغير ذلك ومما يفعل في هذه الأزمان إخراج الزكاة في رجب دون غيره لا أصل له، وكذا كثرة اعتمار أهل مكة في رجب لا أصل له في علمي وإنما الحديث (عمرة في رمضان تعدل حجة) ومما أحدث العوام صيام أول خميس من رجب ولعله يكون آخر يوم من الجمادى وكله بدعة، ومما أحدثوا في رجب وشعبان إقبالهم على الطاعة أكثر وإعراضهم في غيرها حتى كأنهم لم يخاطبوا إلا فيهما] .
وينبغي أن يعلم أن العمرة مشروعة في رجب كما تشرع في غيره من الشهور ولكن دون أن يقصد المعتمر تخصيص رجب بالعمرة فإذا اعتمر المسلم في شهر رجب لأنه تيسرت له العمرة في ذلك الوقت فلا بأس بذلك إن شاء الله وله الأجر والثواب.
وخلاصة الأمر أنه لا فضيلة خاصة للعمرة في شهر رجب ولم يصح أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر في شهر رجب ومع ذلك إذا اعتمر المسلم في شهر رجب من غير تخصيص فلا حرج عليه وله الأجر والثواب.(10/10)
11 - ذبح الهدي في مكة المكرمة ومنى فقط
يقول السائل: سأل أحد الحجاج شيخاً قبل سفره إلى الحج عن توكيل أهله في ذبح الهدي ببلده وتوزيعه على الفقراء فأجابه بجواز ذلك فما قولكم أفيدونا؟ الجواب: الهدي هو ما يهدى للحرم من الأنعام (الإبل والبقر والغنم) قال الله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} سورة البقرة 196. وقال الله تعالى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} سورة المائدة الآية 95. وقد اتفق أهل العلم على أن محل ذبح الهدي هو الحرم ويشمل ذلك منى ومكة المكرمة، قال القرطبي: [أما الهدي فلا خلاف أنه لا بد له من مكة لقوله تعالى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} ] تفسير القرطبي 6/316 ويجوز الذبح في أي موضع شاء من الحرم، وفي أي موضع من منى لما ورد في الحديث عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (منى كلها منحر، وكل فجاج مكة طريق ومنحر) رواه أبو داود وابن ماجة وقال الألباني: حسن صحيح انظر صحيح سنن أبي داود 1/365.
ومما يدل على ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما ذبح هديه بمكة ولم يذبحه في المدينة ولا في غيرها كما ورد في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج وأهدى فساق معه الهدي من ذي الحليفة وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج وتمتع الناس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج فكان من الناس من أهدى فساق الهدي ومنهم من لم يهد فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة قال للناس من كان منكم أهدى فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجه ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة وليقصر وليحلل ثم ليهل بالحج وليهد فمن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله وطاف رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم مكة فاستلم الركن أول شيء ثم خب ثلاثة أطواف من السبع ومشى أربعة أطواف ثم ركع حين قضى طوافه بالبيت عند المقام ركعتين ثم سلم فانصرف فأتى الصفا فطاف بالصفا والمروة سبعة أطواف ثم لم يحلل من شيء حرم منه حتى قضى حجه ونحر هديه يوم النحر وأفاض فطاف بالبيت ثم حل من كل شيء حرم منه وفعل مثل ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهدى وساق الهدي من الناس) رواه مسلم وغير ذلك من الأحاديث وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أهدى مئة ناقة كما روى البخاري بإسناده عن ابن أبي ليلى أن علياً رضي الله عنه حدثه قال أهدى النبي صلى الله عليه وسلم مائة بدنة فأمرني بلحومها فقسمتها ثم أمرني بجلالها فقسمتها ثم بجلودها فقسمتها) . وبهذا يظهر لنا أن محل ذبح الهدي هو مكة ومنى فقط فكل من ذبح خارج حدود الحرم فلا يجزئه وكذا من وكَّل بذبح الهدي في بلده فلا يجزئه ذلك ويجب عليه أن يذبح في الحرم
وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة بالسعودية برئاسة الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز رحمه الله [محل الهدي الحرم المكي، فيجب ذبح جميع الهدي التمتع والقران في داخل الحرم، ولا يجوز الذبح في بلد الحاج غير مكة، إلا إذا عطب الهدي المهدى إلى مكة قبل وصوله إليها، فإنه يذبحه في مكانه، ويجزئ عنه، وكذلك في المحصر عن دخول الحرم، ينحر هديه حيث أحصر] فتاوى اللجنة الدائمة 11/380 -381.
وخلاصة الأمر أن الواجب على الحاج الذي يلزمه الهدي أن يذبحه في الحرم ومنى من الحرم ومن ذبح هديه خارج الحرم كأن يذبحه في بلده فلا يصح ذلك ويلزمه أن يرسل بدلاً منه إلى الحرم ليذبح هناك وأخيراً فإن على من يفتي الناس أن يتق الله في فتواه ولا يفتي بغير علم فإن ذلك ضلال وإضلال.(10/11)
12 - استقبال الحجاج
يقول السائل: ما قولكم فيما يفعله بعض الناس عند استقبال الحجاج عند رجوعهم من الديار المقدسة من ذبح شاة ليمر الحاج من فوقها ومن كتابة اللوحات التي تتضمن عبارات مثل: حج مبرور وسعي مشكور وتجارة لن تبور ... إلخ وكذا إنارة المصابيح الكهربائية ونحو ذلك؟ الجواب: إن الإخلاص في العبادة هو أساس قبولها ومن الإخلاص في العبادة البعد عن الرياء وأخشى أن ما يفعل عند استقبال الحجاج من مظاهر يدخل في ذلك فلا ينبغي كتابة اللوحات وتعليقها على باب دار الحاج وكذلك إطلاق الألعاب النارية وإنارة المصابيح الكهربائية الكثيرة يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا} سورة البقرة الآية 264. ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (من يُسمِّع يُسمِّع الله به، ومن يرائي يرائي الله به) رواه البخاري ومسلم
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في شرح الحديث: [قال الخطابي: معناه من عمل عملاً على غير إخلاص وإنما يريد أن يراه الناس ويسمعوه جوزي على ذلك بأن يشهره الله ويفضحه ويظهر ما كان يبطنه، وقيل من قصد بعمله الجاه والمنزلة عند الناس ولم يرد به وجه الله فإن الله يجعله حديثاً عند الناس الذين أراد نيل المنزلة عندهم ولا ثواب له في الآخرة , ومعنى يرائي يطلعهم على أنه فعل ذلك لهم لا لوجهه , ومنه قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} سورة هود الآيتين 15-16. وقيل: المراد من قصد بعمله أن يسمعه الناس ويروه ليعظموه وتعلو منزلته عندهم حصل له ما قصد , وكان ذلك جزاءه على عمله ; ولا يثاب عليه في الآخرة] فتح الباري11/409.
وأما ذبح شاة ليمر الحاج عنها فلا يجوز لأن الأصل في الذبح أن يكون لله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} سورة الأنعام الآية 162.
وإذا رجع الحاج إلى بله فيستحب أن يقول مثلما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول فقد ثبت في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قفل من غزو أو حج أو عمرة يكبر على كل شرف من الأرض ثلاث تكبيرات ثم يقول لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير آيبون تائبون عابدون ساجدون لربنا حامدون صدق الله وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده) رواه البخاري.
ولا بأس من استقبال الحجاج استقبالاً عادياً بدون مبالغات وتهنئتهم بالحج وبسلامة العودة إلى الديار وإذا سلم على الحاج وقال له: (تقبل الله حجك وغفر ذنبك وأخلف نفقتك) فلا بأس به وقد ورد في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال (اللهم اغفر للحاج ولمن استغفر له الحاج) رواه البيهقي والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم ذكره النووي في كتابه الأذكار في باب ما يقال لمن يقدم من حج وما يقوله. ص 195
ولو أن أقارب الحاج صنعوا طعاماً للحاج ومهنئيه فلا بأس بذلك.(10/12)
13 - فضل العشر الأوائل من ذي الحجة
السؤال الأول: يقول السائل: سمعت حديثاً في فضائل صوم العشر الأوائل من شهر ذي الحجة ونصه (من صام العشر فله بكل يوم صوم شهر، وله بصوم يوم التروية سنة، وله بصوم يوم عرفة سنتان) فهل هذا الحديث ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أفيدونا؟ الجواب: فضل العشر الأوائل من ذي الحجة ثابت بكتاب الله سبحانه وتعالى وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فقد قال الله تعالى: (والفجر وليال عشر) سورة الفجر الآيتان 1 - 2. وأكثر أهل التفسير على أن المراد بهذه العشر هو عشر ذي الحجة انظر تفسير القرطبي 20/39. وورد في السنة النبوية عدة أحاديث في فضيلة هذه العشر منها: ما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما العمل في أيام أفضل منها في هذه قالوا ولا الجهاد في سبيل الله قال ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل يخرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء) وفي رواية للطبراني في الكبير بإسناد جيد كما قال المنذري: (ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إلى الله العمل فيهن من أيام العشر فأكثروا فيهن من التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير) وفي رواية للبيهقي في شعب الإيمان قال صلى الله عليه وسلم: (ما من عمل أزكى عند الله عز وجل، ولا أعظم أجراً من خير يعمله في عشر الأضحى) قيل: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: (ولا الجهاد في سبيل الله عز وجل إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء) فكان سعيد بن جبير إذا دخل أيام العشر اجتهد اجتهاداً شديداً حتى ما يكاد يقدر عليه ذكره المنذري في الترغيب 2/150. وروى الحديث الدارمي أيضاً وإسناده حسن كما قال الألباني في إرواء الغليل 3/398. ولا شك أن الصيام داخل في الأعمال هذه الصالحة، فعن هنيدة بن خالد عن امرأته عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم تسع ذي الحجة، ويوم عاشوراء، وثلاثة أيام من كل شهر" رواه أحمد وأبو داود والنسائي وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود 2/462.
وفي رواية أخرى عن هنيدة بن خالد الخزاعي عن حفصة رضي الله عنها قالت: (أربع لم يكن يدعهن النبي صلى الله عليه وسلم صيام عاشوراء والعشر وثلاثة أيام من كل شهر وركعتين قبل الغداة) رواه النسائي وأحمد. وثبت في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ما من عبد يصوم يوماً في سبيل الله إا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفاً) وهذا الحديث بعمومه يدل على فضيلة صوم التسع الأوائل من ذي الحجة.
إذا تقرر هذا فأعود للحديث محل السؤال فإنه حديث موضوع أي مكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد حكم عليه بالوضع كل من ابن الجوزي في الموضوعات 2/198 والسيوطي في اللآلئ المصنوعة 2/107، 108 وابن عراق في تنزيه الشريعة 2/156 والشوكاني في الفوائد المجموعة حيث قال: [رواه ابن عدي عن عائشة مرفوعاً ولا يصح وفي إسناده الكلبي وأخرجه أبو الشيخ في الثواب ورواه ابن النجار في تاريخه من حديث جابر] وذكر الشيخ عبد الرحمن اليماني محقق الفوائد المجموعة أن في إسناد رواية ابن النجار كذاباً وضاعاً، انظر الفوائد المجموعة ص 96 وما صح من الأحاديث في فضل صيام التسع الأوائل من ذي الحجة يغني عن هذا الحديث المكذوب.(10/13)
14 - أيهما أفضل عمرة التطوع أم الصدقة؟
يقول السائل: إنه ينوي أداء العمرة في رمضان ولكن قال له بعض الناس إن الأفضل أن يتصدق بتكاليف العمرة للفقراء والمحتاجين حيث إن أحوالهم صعبة بسبب حالة الإغلاق المفروضة في بلادنا وخاصة أنه قد اعتمر في رمضان في سنوات سابقة فما قولكم في ذلك؟ الجواب: وردت عدة أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضيلة العمرة في أي وقت من السنة وكذا في فضلها في شهر رمضان منها: قال صلى الله عليه وسلم: (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما) رواه البخاري ومسلم. وهذا الحديث في فضل العمرة بشكل عام. وأما فضلها في شهر رمضان فقد روى الإمام البخاري بسنده عن عطاء قال سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يخبرنا يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لامرأة من الأنصار سماها ابن عباس فنسيت اسمها ما منعك أن تحجين معنا قالت كان لنا ناضح فركبه أبو فلان وابنه - لزوجها وابنها- وترك ناضحاً ننضح عليه قال: (فإذا كان رمضان اعتمري فيه فإن عمرة في رمضان حجة) . وفي رواية أخرى عند البخاري: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من حجته قال لأم سنان الأنصارية ما منعك من الحج قالت أبو فلان تعني زوجها كان له ناضحان حج على أحدهما والآخر يسقي أرضاً لنا قال: (فإن عمرة في رمضان تقضي حجة أو حجة معي) . وفي رواية عند مسلم قال صلى الله عليه وسلم: (فإذا جاء رمضان فاعتمري فإن عمرة فيه تعدل حجة) وعن ابن عباس قال أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحج فقالت امرأة لزوجها أحجني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على جملك فقال ما عندي ما أحجك عليه قالت أحجني على جملك فلان قال ذاك حبيس في سبيل الله عز وجل فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن امرأتي تقرأ عليك السلام ورحمة الله وإنها سألتني الحج معك قالت أحجني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت ما عندي ما أحجك عليه فقالت أحجني على جملك فلان فقلت ذاك حبيس في سبيل الله فقال أما إنك لو أحججتها عليه كان في سبيل الله قال وإنها أمرتني أن أسألك ما يعدل حجة معك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرئها السلام ورحمة الله وبركاته وأخبرها أنها تعدل حجة معي يعني عمرة في رمضان) رواه أبو داود وغيره وقال الألباني حسن صحيح، انظر صحيح سنن أبي داود 1/ 374. وقال الإمام الترمذي: (وقال أحد وإسحق قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن عمرة في رمضان تعدل حجة قال إسحق معنى هذا الحديث مثل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من قرأ {قل هو الله أحد} فقد قرأ ثلث القرآن) سنن الترمذي 3/276-277وقال الإمام النووي: (قوله صلى الله عليه وسلم: (فإن عمرة فيه) أي في رمضان (تعدل حجة) , وفي الرواية الأخرى: (تقضي حجة) أي تقوم مقامها في الثواب , لا أنها تعدلها في كل شيء , فإنه لو كان عليه حجة فاعتمر في رمضان لا تجزئه عن الحجة. شرح النووي على صحيح مسلم 3/385. وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: (قال ابن خزيمة: في هذا الحديث أن الشيء يشبه الشيء ويجعل عدله إذا أشبهه في بعض المعاني لا جميعها , لأن العمرة لا يقضى بها فرض الحج ولا النذر … فالحاصل أنه أعلمها أن العمرة في رمضان تعدل الحجة في الثواب لا أنها تقوم مقامها في إسقاط الفرض , للإجماع على أن الاعتمار لا يجزئ عن حج الفرض. ونقل الترمذي عن إسحاق بن راهويه أن معنى الحديث نظير ما جاء أن {قل هو الله أحد} تعدل ثلث القرآن. وقال ابن العربي: حديث العمرة هذا صحيح , وهو فضل من الله ونعمة , فقد أدركت العمرة منزلة الحج بانضمام رمضان إليها. وقال ابن الجوزي: فيه أن ثواب العمل يزيد بزيادة شرف الوقت كما يزيد بحضور القلب وبخلوص القصد.) فتح الباري 3/762-763.
إذا تقرر هذا فإن أبواب الخير كثيرة جداً وطرق الحصول على الحسنات أكثر من أن تعد أو تحصى وأنصح من اعتمر مراراً وتكراراً أن يصرف نفقات العمرة للفقراء والمساكين في بلادنا حيث إن معدلات الفقر قد ارتفعت في بلادنا بشكل ملحوظ وخاصة في ظل ظروف الاحتلال وإغلاق طرق الكسب أمام كثير من الناس بسبب الحواجز وغيرها وكذلك فقد كثرت أعداد الأرامل والأيتام والمعوقين والأسرى وكل هؤلاء بحاجة ماسة للمساعدة فالإنفاق في هذه المجالات أولى من تكرار العمرة في الظروف الحاضرة وينبغي التذكير بأن الصدقة على الفقراء والمساكين ومن في حكمهم أجرها عظيم ولا يقل عن أجر عمرة التطوع إن لم يزد عليها يقول الله تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) سورة البقرة الآية 261
وورد في الحديث عن ابن عباس رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة) رواه البخاري ومسلم وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما اللهم أعط منفقاً خلفاً ويقول الآخر اللهم أعط ممسكاً تلفاً) رواه البخاري ومسلم. وعن ابن عمر رضى الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه؛ من كان فى حاجة أخيه كان الله فى حاجته؛ ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة) رواه البخاري ومسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من نفَّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفَّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة والله في عون العبد ما كان العبد في عون …) رواه مسلم.
وخلاصة الأمر أن التطوع بإنفاق المال في وجوه الخير الكثيرة أولى من عمرة التطوع في الظروف الحالية التي تمر بها بلادنا.(10/14)
15 - فضل العشر الأوائل من ذي الحجة
يقول السائل: سمعت حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه أنه صلى الله عليه وسلم لم يصم العشر الأوائل من ذي الحجة وسمعت من بعض المشايخ الحث على صيامها فأي القولين هو الصحيح؟ أفيدونا. الجواب: أبين أولاً فضل العشر الأوائل من ذي الحجة ثم أجيب على السؤال فقد أقسم الله سبحانه وتعالى بهذه العشر فهذا يدل على فضلها العظيم قال الله تعالى: (والفجر وليال عشر) سورة الفجر الآيتان 1 – 2.
قال القرطبي: (وليال عشر) أي ليال عشر من ذي الحجة وكذا قال مجاهد والسدي والكلبي في قوله
(وليال عشر) هو عشر ذي الحجة وقال ابن عباس وقال مسروق هي العشر التي ذكرها الله في قصة موسى عليه السلام وأتممناها بعشر وهي أفضل أيام السنة وروى أبو الزبير عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (والفجر وليال عشر) قال عشر الأضحى فهي ليال عشر على هذا القول لأن ليلة يوم النحر داخلة فيه إذ قد خصها الله بأن جعلها موقفاً لمن لم يدرك الوقوف يوم عرفة وإنما نكرت ولم تُعرَّف لفضيلتها على غيرها فلو عرفت لم تستقل بمعنى الفضيلة الذي في التنكير، فنكرت من بين ما أقسم به للفضيلة التي ليست لغيرها والله أعلم) تفسير القرطبي 20/39
وقد وردت عدة أحاديث في فضيلة هذه العشر منها: ما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما العمل في أيام أفضل منها في هذه قالوا ولا الجهاد في سبيل الله قال ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل يخرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء)
وفي رواية للطبراني في الكبير بإسناد جيد كما قال المنذري: (ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إلى الله العمل فيهن من أيام العشر فأكثروا فيهن من التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير)
وفي رواية للبيهقي في شعب الإيمان قال صلى الله عليه وسلم: (ما من عمل أزكى عند الله عز وجل، ولا أعظم أجراً من خير يعمله في عشر الأضحى) قيل: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: (ولا الجهاد في سبيل الله عز وجل إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء) فكان سعيد ابن جبير إذا دخل أيام العشر اجتهد اجتهاداً شديداً حتى ما يكاد يقدر عليه. ذكره المنذري في الترغيب 2/150. وروى الحديث الدارمي أيضاً وإسناده حسن كما قال الألباني في إرواء الغليل 3/398
وجاء عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد) . رواه أحمد وصحّح إسناده الشيخ أحمد محمد شاكر.
وفي حديث جابر أنه صلى الله عليه وسلم (ما من أيام أفضل عند الله من أيام عشر ذي الحجة) رواه أبو عوانة وابن حبان في صحيحيهما. وغير ذلك من الأحاديث
وقد ذكر أهل العلم أنه يؤخذ من هذه النصوص أن الأيام العشر الأوائل من ذي الحجة هي أفضل أيام السنة
قال الشيخ ابن كثير: (وبالجملة فهذا العشر قد قيل إنه أفضل أيام السنة كما نطق به الحديث وفضله كثير على عشر رمضان الأخير لأن هذا يشرع فيه ما يشرع في ذلك من صلاة وصيام وصدقة وغيره ويمتاز هذا باختصاصه بأداء فرض الحج فيه وقيل ذلك أفضل لاشتماله على ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر وتوسط آخرون فقالوا أيام هذا أفضل وليالي ذاك أفضل وبهذا يجتمع شمل الأدلة) تفسير ابن كثير 3/217.
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: (والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة، لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج ولا يتأتى ذلك في غيره، وعلى هذا هل يختص الفضل بالحاج أو يعم المقيم؟ فيه احتمال) فتح الباري 2/593.
وقال المباركفوري: (وذكر السيد اختلف العلماء في هذه العشر , والعشر الأخير من رمضان فقال بعضهم: هذه العشر أفضل لهذا الحديث , وقال بعضهم: عشر رمضان أفضل للصوم والقدر , والمختار أن أيام هذه العشر أفضل ليوم عرفة وليالي عشر رمضان أفضل لليلة القدر , لأن يوم عرفة أفضل أيام السنة , وليلة القدر أفضل ليالي السنة , ولذا قال ما من أيام ولم يقل من ليال كذا في الأزهار وكذا في المرقاة) تحفة الأحوذي 3/386.
وقال الشيخ المنجد: واعلم - يا أخي المسلم - أن فضيلة هذه العشر جاءت من أمور كثيرة منها:
1. أن الله تعالى أقسم بها: والإقسام بالشيء دليل على أهميته وعظم نفعه، قال تعالى: (والفجر وليال عشر) قال ابن عباس وابن الزبير ومجاهد وغير واحد من السلف والخلف: إنها عشر ذي الحجة. قال ابن كثير: " وهو الصحيح " تفسير ابن كثير8/413
2. أن النبي صلى الله عليه وسلم شهد بأنها أفضل أيام الدنيا كما تقدّم في الحديث الصحيح.
3. أنه صلى الله عليه وسلم حث فيها على العمل الصالح: لشرف الزمان بالنسبة لأهل الأمصار، وشرف المكان - أيضاً - وهذا خاص بحجاج بيت الله الحرام.
4. أنه صلى الله عليه وسلم أمر فيها بكثرة التسبيح والتحميد والتكبير كما
5. أن فيها يوم عرفة وهو اليوم المشهود الذي أكمل الله فيه الدّين وصيامه يكفّر آثام سنتين، وفي العشر أيضا يوم النحر الذي هو أعظم أيام السنّة على الإطلاق وهو يوم الحجّ الأكبر الذي يجتمع فيه من الطّاعات والعبادات ما لا يجتمع في غيره.
6. أن فيها الأضحية والحج … إن إدراك هذا العشر نعمة عظيمة من نعم الله تعالى على العبد، يقدّرها حق قدرها الصالحون المشمّرون. وواجب المسلم استشعار هذه النعمة، واغتنام هذه الفرصة، وذلك بأن يخص هذا العشر بمزيد من العناية، وأن يجاهد نفسه بالطاعة. وإن من فضل الله تعالى على عباده كثرة طرق الخيرات، وتنوع سبل الطاعات ليدوم نشاط المسلم ويبقى ملازماً لعبادة مولاه) موقع الشيخ على الإنترنت.
وأما ما ذكره السائل من أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصم العشر فهذا قد ورد في الحديث عن عائشة رضي الله عنا قالت: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صائما في العشر قط) وفي رواية (لم يصم قط) رواه مسلم وغيره. فقد أجاب عنه العلماء وأنه لا يعارض ما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم صام العشر.
قال الإمام النووي: (باب صوم عشر ذي الحجة) فيه قول عائشة: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صائما في العشر قط) وفي رواية: (لم يصم العشر) قال العلماء: هذا الحديث مما يوهم كراهة صوم العشرة , والمراد بالعشر هنا: الأيام التسعة من أول ذي الحجة , قالوا: وهذا مما يتأول فليس في صوم هذه التسعة كراهة , بل هي مستحبة استحباباً شديداً لا سيما التاسع منها , وهو يوم عرفة , وقد سبقت الأحاديث في فضله , وثبت في صحيح البخاري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من أيام العمل الصالح فيها أفضل منه في هذه) - يعني: العشر الأوائل من ذي الحجة - فيتأول قولها: لم يصم العشر , أنه لم يصمه لعارض مرض أو سفر أو غيرهما , أو أنها لم تره صائماً فيه , ولا يلزم عن ذلك عدم صيامه في نفس الأمر , ويدل على هذا التأويل حديث هنيدة بن خالد عن امرأته عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم تسع ذي الحجة , ويوم عاشوراء , وثلاثة أيام من كل شهر: الاثنين من الشهر والخميس) ورواه أبو داود وهذا لفظه وأحمد والنسائي وفي روايتهما (وخميسين) والله أعلم) شرح النووي على صحيح مسلم 3/ 251
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: (واستدل به على فضل صيام عشر ذي الحجة لاندراج الصوم في العمل , واستشكل بتحريم الصوم يوم العيد , وأجيب بأنه محمول على الغالب , ولا يرد على ذلك ما رواه أبو داود وغيره عن عائشة قالت (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صائماً العشر قط) لاحتمال أن يكون ذلك لكونه كان يترك العمل وهو يحب أن يعمله خشية أن يفرض على أمته , كما رواه الصحيحان من حديث عائشة أيضاً) فتح الباري 2/ 593.
وقال الشوكاني: (وأما ما أخرجه مسلم عن عائشة أنها قالت ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صائماً في العشر قط) وفي رواية (لم يصم العشر قط) فقال العلماء المراد أنه ل يصمها لعارض مرض أو سفر أو غيرهما أو أن عدم رؤيتها له صائماً لا يستلزم العدم على أنه قد ثبت من قوله ما يدل على مشروعية صومها كما في حديث الباب فلا يقدح في ذلك عدم الفعل) نيل الأوطار 4/324.
وقال الشوكاني أيضاً: (وقد أخرج مسلم عن عائشة أنها قالت ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صائماً في العشر قط) وفي رواية (لم يصم قط) وعدم رؤيتها وعلمها لا يستلزم العدم) الدراري المضية 1/230.
وبهذا يظهر لنا أنه لا تعارض بين النصوص التي حثت على صوم هذه الأيام وبين حديث عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم لم ير صائماً فيها.
وخلاصة الأمر أنه يسن صوم الأيام التسعة الأوائل من ذي الحجة وخاصة صوم يوم عرفة لغير الحاج وأما صوم يوم العيد فيحرم وينبغي على المسلم أن يكثر من الأعمال الصالحة في هذه الأيام المفضلة شرعاً.(10/15)
16 - متى يبدأ التكبير في عيد الأضحى وما قولكم في التكبير الجماعي في المساجد وبعد الصلوات المكتوبة
يقول السائل: متى يبدأ التكبير في عيد الأضحى وما قولكم في التكبير الجماعي في المساجد وبعد الصلوات المكتوبة؟ الجواب: التكبير من شعائر الإسلام وهو مندوب إليه لقوله تعالى: (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ) سورة الحج الآية 28. ولقوله تعالى: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ) سورة البقرة الآية 203.
والأيام المعدودات هي أيام التشريق وأما الأيام المعلومات فهي العشر الأوائل من ذي الحجة قال القرطبي: [وقد روي عن ابن عباس أن المعلومات العشر والمعدودات أيام التشريق وهو قول الجمهور] تفسير القرطبي 3/3 وقد رواه البخاري عن ابن عباس. صحيح البخاري مع الفتح 2/589. والتكبير عند العلماء في هذه الأيام على نوعين: مطلق ومقيد أما التكبير المطلق فيبدأ من أول شهر ذي الحجة في جميع الأوقات ولا يخص بمكان معين فقد ورد في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد) رواه أحمد وصحح إسناده الشيخ أحمد محمد شاكر. ورواه الطبراني في الكبير عن ابن عباس بإسناد جيد كما قال المنذري في الترغيب والترهيب. وقال الإمام البخاري في صحيحه: [وكان عمر رضي الله عنه يكبر في قبته بمنى فيسمعه أهل المسجد فيكبرون ويكبر أهل الأسواق حتى ترتج منى تكبيراً. وكان ابن عمر يكبر بمنى تلك الأيام وخلف الصلوات وعلى فراشه وفي فسطاطه ومجلسه وممشاه تلك الأيام جميعاً] صحيح البخاري مع الفتح 2/594. وروى البخاري بسنده عن مالك بن أنس قال حدثني محمد بن أبي بكر الثقفي قال: (سألت أنساً ونحن غاديان من منى إلى عرفات عن التلبية: كيف كنتم تصنعون مع النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: كان يلبي الملبي لا ينكر عليه ويكبر المكبر فلا ينكر عليه) .
وأما التكبير المقيد فيكون بعد الصلوات المكتوبات وأرجح أقوال أهل العلم أنه يبدأ من فجر يوم عرفة إلى عصر آخر يوم من أيام التشريق أي يكبر بعد ثلاث وعشرين صلاة مفروضة قال الحافظ ابن حجر: [وأصح ما ورد فيه عن الصحابة قول علي وابن مسعود أنه من صبح يوم عرفة إلى آخر أيام منى] فتح الباري 2/595.
وإلى هذا ذهب الإمام أحمد والشافعي في أحد قوليه وهو قول عمر وعلي وابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم وإليه ذهب الثوري وابن عيينة وأبو يوسف ومحمد صاحبا أبي حنيفة. الفتح الرباني 6/171.
وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [قيل لأحمد رحمه الله بأي حديث تذهب إلى أن التكبير من صلاة الفجر يوم عرفة إلى آخر أيام التشريق؟ قال: لإجماع عمر وعلي وابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم ولأن الله تعالى قال: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ) وهي أيام التشريق فتعين الذكر في جميعها ولأنها أيام يرمى فيها فكان التكبير فيها كيوم النحر. وقوله تعالى: (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ) والمراد به ذكر الله تعالى على الهدايا والأضاحي] المغني 2/292. وقال الإمام النووي: [واختارت طائفة من محققي الأصحاب المتقدمين والمتأخرين أنه يبدأ من صبح يوم عرفة ويختم بعصر آخر التشويق ممن اختاره أبو العباس بن سريج حكاه عنه القاضي أبو الطيب في المجرد وآخرون قال البندنيجي هو اختيار المزني وابن سريج قال الصيدلاني والروياني وآخرون وعليه عمل الناس في الأمصار واختاره ابن المنذر والبيهقي وغيرهما من أئمة أصحابنا الجامعين بين الفقه والحديث وهو الذي اختاره واحتج له البيهقي بحديث مالك عن محمد بن أبي بكر الثقفي أنه سأل أنس بن مالك وهما غاديان من منى إلى عرفات كيف كنتم تصنعون في هذا اليوم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (كان يهلل المهلل منا فلا ينكر عليه ويكبر المكبر فلا ينكر عليه) رواه البخاري ومسلم وعن ابن عمر قال (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غداة عرفة فمنا المكبر ومنا المهلل فأما نحن فنكبر) رواه مسلم وقال البيهقي وروى في ذلك عن عمر وعلي وابن عباس رضي الله عنهم ثم ذكر ذلك بأسانيده وأنهم كانوا يكبرون من الصبح يوم عرفة إلى العصر من آخر أيام التشريق قال البيهقي وقد روى في ذلك حديث مرفوع لا يحتج بمثله ثم ذكر بإسناده عن عمرو بن شمر عن جابر يعني الجعفي عن عبد الرحمن بن سابط عن جابر رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يكبر يوم عرفة من صلاة الغداة إلى صلاة العصر آخر أيام التشريق) قال البيهقي عمرو بن شمر وجابر الجعفي لا يحتج بهما وفي رواية الثقات كفاية هذا كلام البيهقي وروى الحاكم في المستدرك عن علي وعمار رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم (كان يجهر في المكتوبات ببسم الله الرحمن الرحيم وكان يقنت في صلاة الفجر وكان يكبر يوم عرفة من صلاة الصبح ويقطعها صلاة العصر آخر أيام التشريق) قال الحاكم هذا حديث صحيح الإسناد لا أعلم من رواته منسوباً إلى الجرح قال وقد روي في الباب عن جابر بن عبد الله وغيره فأما من فعل عمر وعلي وابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم فصحيح عنهم التكبير من صبح عرفة إلى عصر آخر التشريق وروى البيهقي هذا الحديث الذي رواه الحاكم بإسناد الحاكم ثم قال وهذا الحديث مشهور بعمرو بن شمر عن جابر الجعفي عن أبي الطفيل وكلا الإسنادين ضعيف هذا كلام البيهقي وهو أتقن من شيخه الحاكم وأشد تحرياً. قال أصحابنا ويكبر خلف الصبح أو العصر التي هي الغاية بلا خلاف] المجموع للنووي 5/34 -36.
وروى ابن أبي شيبة بسنده عن علي رضي الله عنه أنه كان يكبر من صلاة الفجر يوم عرفة إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق وروى أيضاً بسنده عن الأسود قال كان عبد الله - ابن مسعود - رضي الله عنه يكبر من صلاة الفجر يوم عرفة إلى صلاة العصر من النحر يقول: الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد
وروى أيضاً بسنده عن الضحاك أنه كان يكبر من صلاة الفجر يوم عرفة إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق.
وروى أيضاً بسنده عن ابن عباس رضي الله عنه أنه كان يكبر من صلاة الفجر يوم عرفة إلى آخر أيام التشريق لا يكبر في المغرب يقول الله أكبر كبيرا الله أكبر كبيرا الله أكبر وأجل الله أكبر ولله الحمد
وروى أيضاً بسنده عن علقمة أنه كان يكبر يوم عرفة من صلاة الفجر حتى صلاة العصر من يوم النحر
وروى أيضاً بسنده عن إبراهيم قال كانوا يكبرون يوم عرفة وأحدهم مستقبل القبلة في دبر الصلاة الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد وروى أيضاً بسنده عن أبي الأحوص عن عبد الله أنه كان يكبر أيام التشريق الله اكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد. وروى أيضاً بسنده عن شريك قال: قلت لأبي إسحاق كيف كان يكبر علي وعبد الله قال: كانا يقولان: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد. وروى أيضاً بسنده أن الحسن كان يكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر ثلاث مرات وروى أيضاً بسنده عن ابن عباس رضي الله عنه أنه كان يقول: الله أكبر كبيرا الله أكبر كبيرا الله أكبر وأجل الله أكبر ولله الحمد. مصنف ابن أبي شيبة 2/165 - 168.
ويؤخذ من هذه الروايات أيضاً صيغ التكبيرة الواردة عن السلف. قال الحافظ ابن حجر: [وأما صيغة التكبير فأصح ما ورد فيه ما أخرجه عبد الرزاق بسند صحيح عن سلمان رضي الله عنه قال: (كبروا الله، الله أكبر الله أكبر الله أكبر كبيرا) ونقل عن سعيد بن جبير ومجاهد وعبد الرحمن بن أبي ليلى أخرجه جعفر الفريابي في كتاب العيدين من طريق يزيد بن أبي زياد عنهم وهو قول الشافعي وزاد ولله الحمد. وقيل يكبر ثلاثاً ويزيد لا إله إلا الله وحده لا شريك له …إلخ. وقيل يكبر ثنتين بعدهما لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد جاء ذلك عن عمر وعن ابن مسعود نحوه وبه قال أحمد وإسحاق وقد أحدث في هذا الزمان زيادة في ذلك لا أصل لها] فتح الباري 2/595.
والتكبير مشروع للنساء أيضاً فقد قال الإمام البخاري: [وكانت ميمونة تكبر يوم النحر وكذا النساء يكبرن خلف أبان بن عثمان وعمر بن عبد العزيز ليالي التشريق مع الرجال في المسجد.
وروى البخاري بسنده عن أم عطية رضي الله عنها قالت كنا نؤمر أن نخرج يوم العيد حتى نخرج البكر من خدرها حتى تخرج الحيض فيكبرن خلف الناس فيكبرن بتكبيرهم ويدعون بدعائهم يرجون بركة ذلك اليوم وطهرته] . وقال الإمام مالك: [والتكبير في أيام التشريق على الرجال والنساء] الموطأ 1/323.
قال الإمام النووي: [فرع في مذاهبهم في تكبير النساء في هذه الأيام - أيام التشريق - خلف الصلوات مذهبنا استحبابه لهن وحكاه ابن المنذر عن مالك وأبي يوسف ومحمد وأبي ثور] المجموع 5/40.
وأما التكبير الجماعي فإن الآثار الواردة عن الصحابة وغيرهم من السلف أنه كان يقع جماعياً أي أنه وجد جماعة من الناس يكبرون في وقت واحد فقد سبق في كلام الإمام البخاري: [وكان عمر رضي الله عنه يكبر في قبته بمنى فيسمعه أهل المسجد فيكبرون ويكبر أهل الأسواق حتى ترتج منى تكبيراً] . وقوله ترتج أي تضطرب وتتحرك وهي مبالغة في اجتماع رفع الأصوات كما قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري 2/595. وهذا فيه دلالة واضحة على أن التكبير كان يقع بشكل جماعي. وكذلك فقد قال الإمام البخاري: [وكان ابن عمر وأبو هريرة يخرجان إلى السوق في أيام العشر يكبران ويكبر الناس بتكبيرهما] صحيح البخاري مع الفتح 2/589.
وكذلك فإن ما ورد في حديث أم عطية السابق وفيه: [فيكبرن بتكبيرهم] يدل على أن التكبير كان يقع جماعياً
ويؤيده ما سبق في كلام الإمام البخاري: [وكن - النساء - يكبرن خلف أبان بن عثمان وعمر بن عبد العزيز ليالي التشريق مع الرجال في المسجد] . ويدل على ذلك ما رواه مالك عن يحيى بن سعيد أنه بلغه أن عمر بن الخطاب خرج الغد من يوم النحر حين ارتفع النهار شيئاً فكبر فكبر الناس بتكبيره ثم خرج الثانية من يومه ذلك بعد ارتفاع النهار فكبر فكبر الناس بتكبيره ثم خرج الثالثة حين زاغت الشمس فكبر فكبر الناس بتكبيره حتى يتصل التكبير ويبلغ البيت] الموطأ 1/323. وذكر الحافظ ابن عبد البر عن عبيد بن عمير قوله كان عمر يكبر في قبته بمنى فكبر أهل المسجد ويكبر أهل الأسواق فيملئون منى تكبيراً. الاستذكار 13/171-172.
وخلاصة الأمر أن التكبير مشروع من أول يوم من ذي الحجة مطلقاً ومشروع مقيداً عقب الصلوات الخمس من فجر يوم عرفة حتى عصر اليوم الأخير من أيام التشريق والتكبير مشروع للرجال والنساء ويجوز أن يقع بشكل جماعي.(10/16)
17 - حج الزوجين أحدهما على نفقة الآخر
يقول السائل: ما حكم حج الزوجة على نفقة زوجها وحج الزوج على نفقة زوجته وما حكم حج الابن على نفقة أبيه وحج الأب على نفقة ابنه وهل يجبر الزوج على الحج بزوجته أو تحمل نفقات حجها وكذلك الابن هل يجبر على ذلك أم لا؟ الجواب: الجواب: فرض الله سبحانه وتعالى الحج على المستطيع فقال جل جلاله: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) سورة آل عمران الآية 97. وتوفر نفقات الحج وتكاليفه داخلة في معنى الاستطاعة المذكورة في الآية الكريمة فالأصل أن يكون من وجب عليه الحج مستطيعاً فحينئذ يجب عليه أن يحج. وإذا تبرع شخص لآخر بتحمل نفقات الحج على حسابه كأن يتبرع الزوج لزوجته فحجها جائز ومسقط للفريضة وكذا العكس أي تبرعت الزوجة لزوجها فحجه جائز ومسقط للفريضة ومثل ذلك في حالة الأب والابن إلا أنه يندب في حق الابن الموسر أن يحجج والديه لأن ذلك من البر بهما وهو مأمور بالبر والإحسان إليهما وليس واجباً عليه بل هو تبرع وإحسان فقط. وكذلك الزوج لا يجب عليه أن يحجج زوجته حتى لو كان غنياً بل ذلك من باب المعروف والإحسان إليها لأن إحجاج الزوجة ليس من ضمن النفقة الواجبة على الزوج. فالنفقة الواجبة على الزوج لا يدخل فيها دفع نفقات حجها قال الله تعالى: (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ) سورة الطلاق الآية 6. وقال تعالى: (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) سورة البقرة الآية 233. وجاء في الحديث الشريف عن حكيم بن معاوية رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال: أن تطعمها إذا طعمت وتكسوها إذا اكتسيت ولا تقبح الوجه ولا تهجر إلا في البيت) رواه أبو داود وقال الألباني حديث حسن صحيح. انظر صحيح سنن أبي داود 2/402. وقال النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع: (ألا واستوصوا بالنساء خيراً فإنما هن عوان عندكم ... ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا لهن في كسوتهن وطعامهن) رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح، سنن الترمذي مع شرحه التحفة 4/274. وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي 1/341. والذي يؤخذ من مجموع هذه النصوص أن النفقة الواجبة للزوجة على زوجها إنما هي السكن والطعام والكسوة ولا يدخل في ذلك نفقة حجها. وبناء على ما تقدم فإن الزوجة إن كانت مستطيعة للحج وقادرة على تحمل نفقات الحج من مالها الخاص فيجب عليها الحج وإلا فلا يجب الحج عليها لأنها غير مستطيعة إلا أن يتبرع لها زوجها أو غيره بالنفقة. .highZindex {z-index:2147483647; position: fixed; left: 0px; top: 0px;} .WizardHeader {background-color:#003399; border-bottom:1px solid #CCCECD; color:#FFFFFF; font-family:Arial; font-size: 90%; font-style:normal; font-weight:bold; text-decoration:none; height:22px; padding-left:5px;} .WizardLabel {color:#000000; background-color:#FFFFFF; font-family:Arial; font-size:9pt; font-style:normal; font-weight:bold; text-decoration:none; padding:10px 5px; filter:alpha (opacity=100) ; -moz-opacity: 1. 0; opacity: 1. 0;} .WizardValue {color:#000000; font-family:Arial; font-size:9pt; font-style:normal; text-decoration:none; background-color:#FFFFFF; padding:5px; filter:alpha (opacity=100) ; -moz-opacity: 1. 0; opacity: 1. 0;} .context_help_content {background-color:#FFFFFF; border:1px solid #ABABAB; left:0pt; position:absolute; top:0pt; width:500px; z-index: 8001;} .context_help {background-color:#CCCECD; display:none; left:0pt; position:absolute; top:0pt; z-index: 8000;}(10/17)
18 - حكم تحديد عدد الحجاج
يقول السائل: ما قولكم في تحديد أعداد الحجاج واتباع القرعة في اختيار من سيحجون؟ الجواب: تحديد عدد الحجاج من قبل الجهات المختصة أمر جائز شرعاً نظراً لعدم استيعاب المشاعر المقدسة لأعداد الحجاج الهائلة حيث إنه من المعلوم أن المشاعر (مكة ومنى ومزدلفة وعرفة) قدرتها محدودة في استيعاب أعداد الحجاج كما أنهم بحاجة لخدمات صحية وأغذية ومواصلات وسكن وقد يصعب توفيرها للعدد الكبير منهم وخاصة أن عددهم قد يكون بالملايين لذا فإن المصلحة الشرعية تقتضي تحديد الحجاج بأعداد معينة موزعة على حسب كل بلد من بلدان المسلمين ولكن يجب مراعاة عدة أمور في هذا التحديد: 1. أن يكون التوزيع عادلاً بين جميع أقطار المسلمين. 2. أن يشمل التحديد الحجاج القادمين من داخل السعودية حيث إن ما بين نصف أو ثلث عدد الحجاج في كل عام يكونون من داخل السعودية. وأما بالنسبة للقرعة فمع أن القرعة إحدى الطرق المعتبرة شرعاً في القسمة ونحوها فإني أرى عدم استعمالها في الحج وإنما أن تكون الأولوية حسب التسجيل أي أن يكون هناك سجل عام يسجل فيه كل من يرغب بالحج ويعطى الحجاج أرقام متسلسلة وفي كل عام يؤخذ العدد من هؤلاء المسجلين حسب دورهم وهكذا. ففي هذه الطريقة يعرف كل من سجل أن الدور سيصله إن لم يكن في هذا العام ففي العام التالي وهكذا فهذه الطريقة أفضل من القرعة برأيي، بشرط أن ينفذ ذلك على الجميع وبدون أية استثناءات.(10/18)
19 - الإنابة في مناسك الحج
يقول السائل: إنه سيحج هذا العام برفقة والدته الكبيرة في السن فما هي المناسك التي يمكن أن ينوب فيها عن أمه حيث إنها مريضة وضعيفة؟ الجواب: الأصل في الحج أن يؤدي الحاج جميع مناسك الحج بنفسه وأجاز أهل العلم التوكيل في رمي الجمرات وفي ذبح الهدي. أما بالنسبة لرمي الجمرات فيجوز التوكيل لعذر شرعي كالمرض وكذا المرأة الحامل وكذلك الكبيرة في السن والضعيفة وكذلك إذا كان هنالك زحام شديد فخشيت المرأة على نفسها فيجوز لها التوكيل في الرمي وينبغي أن يرمي الموكل عن نفسه أولاً ثم عن غيره ثانياً. وأما ذبح الهدي فيجوز فيه التوكيل مطلقاً أي بعذر وبدون عذر فيما أعلم وإن كان الأولى أن يتولى الحاج ذبح هديه بنفسه اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم حيث (نحر النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثاً وستين بدنه ثم وكل علياً رضي الله عنه بالباقي) رواه مسلم. وأما بقية مناسك الحج فلا يصح فيها التوكيل كالطواف والسعي والوقوف بعرفة والمبيت بمزدلفة ومنى فهذه الأركان والواجبات لا بد للحاج أن يأتي بها بنفسه. وخلاصة الأمر أنه يجوز لوالدتك أن توكلك في رمي الجمرات وفي ذبح الهدي فقط وما عدا ذلك فعليها أن تؤديه بنفسها وعليك إعانتها ومساعدتها كأن تستأجر من يحملها في الطواف وكذا في السعي.(10/19)
20 - الحج عن الغير مقابل مال
يقول السائل: إنه إمام مسجد وسيخرج للحج مرشداً للحجاج على حساب وزارة الأوقاف وتدفع له الوزارة مكافأة مالية، فهل يجوز له أن يحج عن شخص ميت مقابل مبلغ من المال مع العلم أنه قد حج عن نفسه؟ الجواب: النيابة في الحج عن الميت جائزة عند جمهور أهل العلم ويدل على ذلك عدة أحاديث منها: عن بريدة رضي الله عنه قال: (أتت النبي صلى الله عليه وسلم امرأة فقال: يا رسول الله إن أمي ماتت ولم تحج ... فقال: حجي عن أمك) رواه مسلم. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة قالت: يا رسول الله إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت أفأحج عنها؟ قال: (نعم حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ اقضوا الله فالله أحق بالوفاء) رواه البخاري. وأخذ الأجرة للحج عن الغير جائز ولا حرج فيه وعلى النائب أن ينوي المشاركة في فعل الخيرات واغتنام فرصة وجوده في الحرمين للإكثار من الطّاعات ولا ينبغي أن يكون كل قصده هو الحصول على الأموال وأما بالنسبة للمكافأة التي يأخذها من الأوقاف فلا علاقة لها بالمبلغ الذي يأخذه للحج عن غيره وإنما هذه المكافأة تدفع له مقابل القيام على شؤون الحجاج ومرافقتهم وإرشادهم ونحو ذلك من الأعمال التي تكلفه بها الأوقاف فلا حرج في الجمع بين الأمرين وأحب له أن لا يرهق أولياء الميت بمطالبتهم بمبلغ كبير ليحج عن ميتهم بل يخفف عنهم.(10/20)
21 - لا يجب على الحاج ذبح شاة عند رجوعه
يقول السائل: يظن بعض الناس أن من الواجب على من يحج بيت الله الحرام أن يذبح شاة عند عودته من الحج إلى بلده فهل هذا صحيح أم لا؟ الجواب: لا يجب على الحاج أن يذبح ذبيحة عند رجوعه من الحج إلى بلده وليس لذلك علاقة بمناسك الحج. والذبح الواجب على الحاج يكون في مكة إذا كان الحاج قارناً أو متمتعاً فيجب عليه ذبح شاة هناك، وأما بعد رجوعه إلى بلده وأدائه لمناسك الحج فلا يجب عليه ذبح. وأما إذا ذبح الحاج شاة بعد عودته أو ذبحها أهله أو أقاربه على سبيل إكرام الحاج وزائريه فلا بأس بذلك وأما أنها واجبة فلا.(10/21)
22 - الرشوة للذهاب إلى الحج
يقول السائل: هل يجوز لي أن أدفع مالاً لشخص للحصول على موافقة للذهاب إلى الحج؟ الجواب: لا يجوز لك دفع هذا المال لأنه رشوة والرشوة محرمة شرعاً فقد ثبت في الحديث (أن الرسول صلى الله عليه وسلم لعن الراشي والمرتشي) رواه ابو داود والترمذي وابن ماجة وأحمد وهو حديث صحيح كما قال الشيخ الألباني. وأنه لأمر مؤسف أن يدفع الناس رشاً لأداء طاعة وعبادة لله تعالى. وإن مما يدفع الناس لأمثال هذه التصرفات المحرمة شرعاً القيود التي تفرض على أداء فريضة الحج حتى أصبح الحج في أيامنا هذه مقصوراً على كبار السن فقط. وتلاشت آمال كثير من الناس الذين لم يبلغوا الستين من أعمارهم في أداء فريضة الحج وينبغي إعادة النظر في هذا الأمر لأنه يتعلق بركن من أركان الإسلام وبفريضة من فرائض الله تعالى.(10/22)
23 - الحج عن الغير
يقول السائل: إن لها اماً كبيرة في لاسن وظهرت عليها أمارات الخرف فكيف تعاملها؟ وتقول إن لأمها مبلغاً من المال عند شخص ويطالب بهذا المبلغ أخ لها مع أنه لا يقدم لوالدتها شيئاً ولا يهتم بها بينما تقوم هذه المرأة بالإنفاق على أمها والعناية بها وتسأل من أولى بأخذ هذا المبلغ هذه المرأة أم اخوها؟ وتقول أيضاً أنها تريد أن تحج عن أمها من ذلك المبلغ فهل يجوز لها ذلك؟ الجواب: إن الإسلام أمر ببر الوالدين والإحسان لهما في حياتهما وبعد وفاتهما ويقول سبحانه وتعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) سورة الإسراء الآيتان (23-24) . وقال تعالى: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا) سورة العنكبوت الآية (8) . وقال تعالى: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ) سورة لقمان الآية (14) . ووردت أحاديث كثيرة منها: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يجزي ولد والداً إلا أن يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه) رواه مسلم وأبو داود والترمذي. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (سألت النبي صلى الله عليه وسلم أي العمل أحب إلى الله تعالى؟ قال: الصلاة على وقتها. قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين. قلت: ثم أي؟ قال الجهاد في سبيل الله) رواه البخاري ومسلم. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أبوك) رواه البخاري ومسلم. وعن أبي أسيد الساعدي رضي الله عنه قال: (بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل من بني سلمة فقال: يا رسول الله هل بقي علي من بر والدي شيء أبرهما به بعد موتهما؟ فقال: نعم، الصلاة عليهما والاستغفار لهما وإنفاذ عهدهما من بعدهما وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما وإكرام صديقهما) رواه أبو داود وابن ماجة وابن حبان. والمراد بالصلاة عليهما: الدعاء لهما. وغير ذلك من الأحاديث. إن المتمعن في هذه النصوص ليظهر له مدى رعاية الإسلام للوالدين وتأكيده على حسن معاملتهما وعدم إيذائهما حتى ولو كان بكلمة أف. فيجب على هذه المرأة السائلة أن تحسن معاملة أمها مهما اتصفت أو فعلت وإن كانت خرفة لا تدري ماذا تفعل أو يصدر عنها. وينبغي أن نذكر بأن بعض الناس إذا كبر والداه أو أحدهما يرسلهما إلى ملجأ العجزة أو بيت للمسنين ويتضجر من خدمتهما والقيام على شأنهما وهذا لا يليق بالمسلم أن يفعله فعلى المسلم أن يقوم على خدمة والديه كما ربياه صغيراً وأن يحسن لهما في الكبر كما أحسنا له في الصغر وعليه أن يتذكر أنه لا يقبل أن يعامله أولاده بهذه المعاملة عندما يتقدم به العمر فلا يرضى لنفسه أن يتخلص أولاده منه ويلقوا به إلى بيوت العجزة والمسنين. وأنا اعتبر أن ظاهرة انتشار بيوت المسنين ظاهرة غريبة عن المجتمع المسلم وهي تدل على انقطاع أواصر الترحام بين أفراد العائلة وتدل على أنانية مقيتة وأنفة بغيضة. حيث يأنف الأبناء عن رعاية الآباء وهذه الظاهرة تنافي قوله تعالى: (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) . قال القرطبي رحمه الله في تفسيره لهذه الآية: (خص حالة الكبر لأنها الحالة التي يحتاجان فيها إلى بره لتغير الحال عليهما بالضعف والكبر فألزم في هذه الحالة من مراعاة أحوالهما أكثر مما ألزمه من قبل لأنهما في هذه الحالة قد صارا كلاً عليه فيحتاجان أن يلي منهما في الكبر ما كان يحتاج في صغره أن يليا منه فلذلك خص هذه الحالة بالذكر) تفسير القرطبي 10 /214. وورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال: (رغم أنفه، رغم أنفه، قيل من يا رسول الله؟ قال: من أدرك والديه عند الكبر أحدهما أو كليهما ثم لم يدخل الجنة) رواه مسلم. وأما بالنسبة للمبلغ الذي لهذه الأم فابنتها أولى به من ابنها الذي لا يتعرف على أمه ولا ينفق عليها فلهذه المرأة أن تأخذ هذا المبلغ وتنفقه على والدتها. وعلى هذا الابن أن يتقي الله في نفسه ويبتعد عن هذه المعصية الكبيرة فإن فعله هذا عقوق لوالدته والعقوق من كبائر الذنوب فعليه أن يتوب إلى الله توبة صادقة وأن يقبل على خدمة والدته وبرها والإحسان إليها. وأما بالنسبة لسؤالها عن الحج بذلك المال عن والدتها. الجواب: أنه يجوز لها أن تحج عن أمها بشرط أن تكون هذه المرأة قد حجت عن نفسها أولاً كما هو مذهب جماعة من أهل العلم ويدل على ذلك حديث ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول: لبيك عن شبرمة. قال: من شبرمة؟ قال: أخ لي أو قريب لي. قال: حججت عن نفسك؟ قال: لا. قال: حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة) رواه ابو داود وابن ماجة وابن حبان والبيهقي وقال البيهقي: (هذا إسناد صحيح ليس في هذا الباب أصح منه) ومال إلى تصحيحه الحافظ ابن حجر وصححه الألباني.(10/23)
24 - لا شيء على من منع من الحج
يقول السائل: إنه سافر إلى الأردن في طريقه لأداء فريضة الحج ولكنه أعيد عن الجسر ومنع من السفر فأفتاه أحدهم بأنه يجب عليه أن يذبح شاة لأنه محصر فما قولكم في ذلك؟ الجواب: يقول الله تعالى: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) سورة البقرة الآية 196. وهذه الآية الكريمة أصل في بيان حكم المحصر ولكن لا بد أولاً من بيان معنى الإحصار عند العلماء فقد قال فقهاء الحنفية: [الإحصار هو المنع من الوقوف بعرفة والطواف جميعاً بعد الإحرام بالحج الفرض والنقل وفي العمرة عن الطواف] طلبة الطلبة ص 118. وبمثل هذا التعريف قال بقية فقهاء المذاهب وكل الفقهاء فيما أعلم متفقون على أن الحاج لا يكون محصراً إلا إذا تلبس بالإحرام أي أنه لا إحصار قبل الإحرام. انظر الموسوعة الفقهية 2/199. فإذا أحرم الحاج ثم عرض له عدو منعه من إتمام النسك فإنه يتحلل من إحرامه وعليه ذبح قال الله تعالى: (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) والمقصود به عند جمهور أهل العلم ذبح شاة. تفسير القرطبي 2/378. وثبت في الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (قد أحصر رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلق رأسه وجامع نساءه ونحر هديه حتى اعتمر عاماً قابلاً) رواه البخاري. وبناء على ما تقدم فإن هذا الشخص الذي منع من السفر وأعيد عن الجسر لا يعتبر محصراً حيث إنه لم يحرم فلا شيء عليه ومن أفتاه بأن عليه شاة فقد أفتاه بغير علم وجاء بشيء منكر لم يقل به أحد من أهل العلم وإنها لجرأة كبيرة على العلم الشرعي أن يفتى بدون علم ولا فقه ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، قال تعالى: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) وقال تعالى: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) .(10/24)
25 - لا يجوز الحلف كذبا ليتمكن من الحج
يقول السائل: إنه قد أدى فريضة الحج سابقاً ويريد أن يحج مرة ثانية وقد طلب منه أن يحلف يميناً أنه لم يحج فهل يجوز له أن يحلف أم لا؟ الجواب: من المعلوم أن فريضة الحج مطلوبة من المسلم مرة في العمر، ويسن أن يحج نافلة إن استطاع لذلك سبيلاً وبما أنه قد فرضت في زماننا هذا قيود على من يريد الحج وأحياناً يطلب من الشخص أن يحلف يميناً أنه لم يحج فإذا كان الشخص لم يحج فعلاً فلا حرج عليه إن حلف اليمين وأما إن كان قد حج سابقاً فيحرم عليه أن يحلف اليمين لأنها يمين كاذبة محرمة. قال تعالى: (وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) سورة المجادلة الآية 14 وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) سورة آل عمران الآية 77. وجاء في الحديث عن عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حلف على يمين مصبورة كاذبة فليتبوأ مقعده من النار) رواه أبو داود والحاكم وقال: صحيح على شرط البخاري ومسلم، ووافقه الذهبي. واليمين المصبورة هي اللازمة لصاحبها، وخلاصة الأمر أنه يحرم على هذا السائل أن يحلف هذه اليمين الكاذبة وإن كان يريد الحج فالحج طاعة ولا يتوصل إلى الطاعة بما هو محرم.(10/25)
26 - تكفير الحج للذنوب
يقول السائل: إنه يريد أداء فريضة الحج وقد قارف كثيراً من المعاصي والآثام في أيامه السابقة فهل الحج يكفر هذه الذنوب كما جاء في الحديث إن الحاج يرجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه؟
الجواب: ينبغي أن يعلم أن على من أراد الحج المبادرة إلى التوبة النصوح من جميع الذنوب والخطايا لقوله تعالى: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) سورة النور الآية 31. وحقيقة التوبة الإقلاع عن الذنوب وتركها والندم على ما مضى منها والعزيمة على عدم العودة إليها. وإن كان عنده مظالم للناس فعليه أن يردها وأن يتحلل منها قبل سفره لما صح في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كانت عنده مظلمة لأخيه من مال أو عرض فليتحللها من صاحبه من قبل أن يؤخذ منه حين لا يكون دينار ولا درهم فإن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم يكن له أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه) رواه البخاري. وعليه أن يقضي ديونه فإن لم يتمكن من قضائها فعليه أن يوكل بقضائها وعليه أن يترك لأهله نفقة تكفيهم حال غيابه ويجب عليه أن يسعى لإرضاء والديه ومن يتوجه عليه بره وطاعته. ويجب أن تكون نفقته للحج ولغيره حلالاً طيباً لقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ) سورة البقرة الآية 267. ولقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً) رواه مسلم انظر التحقيق والإيضاح ص10-11. ومما تجب العناية به على من أراد الحج أن يتعلم الأحكام الشرعية اللازمة للحج وللسفر ونحوها. قال الإمام النووي: [إذا أراد سفر حج أو غزو لزمه تعلم كيفيتهما إذ لا تصح العبادة ممن لا يعرفها ويستحب لمن يريد الحج أن يستصحب معه كتاباً واضحاً في المناسك جامعاً لمقاصدها ويديم مطالعته ويكررها في جميع طرقه لتصير محققة عنده. ومن أخل بهذا من العوام يخاف أن لا يصح حجه لإخلاله بشرط من شروط أركانه ونحو ذلك. وربما قلد بعضهم بعض عوام مكة وتوهم أنهم يعرفون المناسك محققة فاغتر بهم وذلك خطأ فاحش] المجموع 4/386. وهناك أحكام وآداب أخرى ينبغي للمسلم أن يتحلى بها وليس هذا محل بحثها. وأما جواب السؤال فأقول إن الحديث اذي أشار إليه السائل هو ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه] رواه البخاري ومسلم. وهذا الحديث عام مخصوص على الصحيح من أقوال أهل العلم فإن الحج وغيره من الطاعات كالوضوء والصلاة والعمرة تكفر صغائر الذنوب دون كبائرها ولا أثر للطاعات في إسقاط حقوق العباد فلا بد من رد الحقوق لأصحابها ولا بد للمسلم من التوبة الصادقة من كبائر الذنوب. قال الله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا) سورة التحريم الآية 8. وقال تعالى: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) سورة النور الآية 31. قال الحافظ ابن عبد البر: [ولو كانت الطهارة والصلاة وأعمال البر مكفرةً للكبائر والمتطهر المصلي غير ذاكر لذنبه الموبق ولا قاصد إليه ولا حضره في حينه ذلك أنه نادم عليه ولا خطرت خطيئته المحيطة به بباله لما كان لأمر الله عز وجل بالتوبة معنى ولكان كل من توضأ وصلى يشهد له بالجنة بأثر سلامه من الصلاة وإن ارتكب قبلها ما شاء من الموبقات الكبائر وهذا لا يقوله أحد ممن له فهم صحيح وقد أجمع المسلمون أن التوبة على المذنب فرض والفروض لا يصح شيء منها إلا بقصد ونية واعتقاد أن لا عودة فأما أن يصلي وهو غير ذاكر لما ارتكب من الكبائر وغير نادم على ذلك فمحال فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (الندم توبة) - رواه ابن ماجة وهو حديث صحيح قاله الشيخ الألباني - وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارة إلى ما بينهن إذا اجتنبت الكبائر) . وفي رواية أخرى قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارات لما بينهن من الخطايا ما لم تغش الكبائر) رواه مسلم. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهما لمن اجتنب الكبائر) رواه ابن ماجة وهو حديث صحيح. ومما سبق يتضح لك أن الصغائر تكفر بالصلوات الخمس لمن اجتنب الكبائر فيكون على هذا معنى قول الله عز وجل: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ) الصغائر بالصلاة والصوم والحج وأداء الفرائض وأعمال البر وإن لم تجتنبوا الكبائر ولم تتوبوا منها لم تنتفعوا بتكفير الصغائر إذا واقعتم الموبقات المهلكات والله أعلم. وهذا كله قبل الموت فإن مات صاحب الكبيرة فمصيره إلى الله إن شاء غفر له وإن شاء عذبه فإن عذبه فبجرمه وإن عفا عنه فهو أهل العفو وأهل المغفرة. وإن تاب قبل الموت وقبل حضوره ومعاينته واعتقد أن لا يعود واستغفر ووجل كان كمن لم يذنب وبهذا كله الآثار الصحاح عن السلف قد جاءت وعليه جماعة علماء المسلمين] فتح المالك بتبويب التمهيد لابن عبد البر على موطأ الإمام مالك 1/55-57 بتصرف. وهذا الذي بينه الحافظ ابن عبد البر هو القول الصحيح الذي تؤيده الأدلة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى ذلك يحمل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن) رواه الترمذي وقال: حديث حسن. وهو من أحاديث الأربعين نووية. قال الحافظ ابن رجب الحنبلي: [وقد حكى ابن عطية في تفسيره في معنى هذا الحديث قولين … الثاني: أنه تكفر الصغائر مطلقاً ولا يكفر الكبائر إن وجدت لكن يشترط التوبة من الصغائر وعدم الإصرار عليها …] . ثم قال الحافظ ابن رجب: [والصحيح قول الجمهور أن الكبائر لا تكفر بدون التوبة لأن التوبة فرض على العباد وقد قال عز وجل: (وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) سورة الحجرات الآية 11] جامع العلوم والحكم 214-216. ولا يصح التمسك بظاهر قوله تعالى (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) سورة هود الآية 114. على أن الحسنات تكفر كل سيئة كبيرة وصغيرة. وعند جمهور أهل العلم لا بد من تقييد ذلك بما صح في الحديث من قول صلى الله عليه وسلم: [إن الصلاة إلى الصلاة كفارة لما بينهما ما اجتنبت الكبائر} وغيره من الأحاديث المقيدة لمطلق الآية. انظر فتح الباري 9/427. وبناءاً على ما تقدم فإن الحج يكفر صغائر الذنوب مطلقاً وأما الكبائر المتعلقة بحقوق الناس فإن كانت مالية كدين عليه أكله ظلماً وعدواناً فلا يكفره الحج ولا بد من وفاء دينه. وأما الكبائر المتعلقة بحق الله تعالى فإن كانت مثل الإفطار في رمضان بغير عذر فيجب عليه قضاؤه ولا يكفره الحج. وإن كانت مثل تأخير الصلاة عن وقتها لغير عذر فإن الحج يكفره وعليه أن يتوب توبة صادقة. قال الإمام الترمذي: [هو مخصوص - أي حديث أبي هريرة - بالمعاصي المتعلقة بحق الله تعالى خاصة دون العباد ولا تسقط الحقوق أنفسها فمن كان عليه صلاة أو كفارة ونحوها من حقوق الله تعالى لا تسقط عنه لأنها حقوق لا ذنوب وإنما الذنوب تأخيرها فنفس التأخير يسقط بالحج لا هي نفسها فلو أخرها بعده تجدد إثم آخر فالحج المبرور يسقط إثم المخالفة لا الحقوق] الفتح الرباني 19/7. *****(10/26)
27 - لا يجوز الحج بالمال الحرام
يقول السائل: إنه فاز بمبلغ من المال في اللوتو " اليانصيب " ويريد أن يحج من ذلك المال ويتصدق ببعضه على الفقراء والمحتاجين فما الحكم في ذلك؟
الجواب: إن اليانصيب أو اللوتو شكل من أشكال القمار المحرم بنص كتاب الله تعالى حيث قال سبحانه وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) سورة المائدة الآيات 90-91. وهذا المال الذي حصل عليه هذا الشخص من اللوتو مال حرام لأنه مكتسب بطريق محرم وهو القمار أو الميسر حيث إن اللوتو أو اليانصيب يعتمد على الحظ وقد ورد عن محمد بن سيرين ومجاهد وعطاء أنهم قالوا: [الميسر كل شيء فيه حظ] انظر الميسر والقمار ص 28. وينبغي على السائل أن يتخلص من هذا المال الحرام بصرفه كله إلى الفقراء والمساكين أو صرفه في مصالح المسلمين العامة كبناء مدرسة أو مستشفى أو إصلاح طريق ونحو ذلك ولا يحل له أن ينتفع به هو وأهله وعياله ولا يحل له أن يحتفظ بهذا المال لأنه اكتسبه من طريق غير مشروع. وقد نص كثير من أهل العلم على أن التخلص من المال الحرام يكون بالتصدق به فقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية: [عن رجل مرابٍ خلَّف مالاً وولداً وهو يعلم بحاله فهل يكون المال حلالاً للولد بالميراث؟ أم لا؟ فأجاب: أما القدر الذي يعلم الولد أنه ربا فيخرجه إما أن يرده إلى أصحابه إن أمكن وإلا تصدق به. والباقي لا يحرم عليه …] مجموع الفتاوى 29/307. وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية أيضاً: [عن امرأة كانت مغنية واكتسبت في جهلها مالاً كثيراً وقد تابت … فهل هذا المال الذي اكتسبته … إذا أكلت وتصدقت منه تؤجر عليه؟ فأجاب بأن هذا المال لا يحل للمغنية التائبة ولكن يصرف في مصالح المسلمين … إلخ) انظر مجموع الفتاوى 29/308-309. وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية أيضاً: [عن الرجل يختلط ماله الحلال بالحرام؟ فأجاب بأنه يخرج قدر المال الحرام فيرده إلى صاحبه وإن تعذر عليه ذلك تصدق به] مجموع الفتاوى 29/308. وقال الشيخ القرطبي عند تفسير قوله تعالى: (فَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ) سورة البقرة الآية 297. ما نصه: [قال علماؤنا إن سبيل التوبة مما بيده من الأموال الحرام إن كانت رباً فليردها على من أربى عليه ويطلبه إن لم يكن حاضراً فإن أيس من وجوده فليتصدق بذلك. وإن أخذ بظلم فليفعل كذلك في أمر من ظلمه فإن التبس عليه الأمر ولم يدر كم الحرام من الحلال مما بيده فإنه يتحرى قدر ما بيده مما يجب رده حتى لا يشك أن ما يبقى قد خلص له فيرده من ذلك الذي أزال عن يده إلى من عٌرف ممن ظلمه أو أربى عليه فإن أيس من وجوده تصدق به عنه، فإن أحاطت المظالم بذمته وعلم أنه وجب عليه من ذلك ما لا يطيق أداءه أبداً لكثرته فتوبته أن يزيل ما بيده أجمع إما إلى المساكين وإما إلى ما فيه صلاح المسلمين …] تفسير القرطبي 3/366. ومما يدل على ذلك ما رواه أبو داود بإسناده عن كليب عن أبيه عن رجل من الأنصار قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على القبر يوصي الحافر أوسع من قبل رجليه أوسع من قبل رأسه. فلما رجع استقبله داعي امرأة فجاء وجيء بطعام فوضع يده ثم وضع القوم فأكلوا فنظر آباؤنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يلوك لقمة في فمه ثم قال: أجد لحم شاة أخذت بغير إذن أهلها. فأرسلت المرأة فقالت: يا رسول الله إني أرسلت إلى البقيع يشتري لي شاة فلم أجد فأرسلت إلى جار لي قد اشترى شاة أن أرسل إليَّ بها بثمنها فلم يوجد فأرسلت إلى امرأته فأرسلت إليَّ بها. فقال: أطعميه الأسارى] وسكت عليه أبو داود والمنذري وقال الشيخ الألباني: رواه ابن منده في المعرفه ثم قال: وهذا سند صحيح. سلسلة الأحاديث الصحيحة 2/394 وانظر المشكاة 3/1672. فالرسول صلى الله عليه وسلم أمر بالتصدق بالشاة المطبوخة التي قدمت له ولأصحابه لما علم أن الشاة أخذت بغير إذن صاحبها. قال العلامة علي القاري: [فظهر أن شراءها غير صحيح لأن إذن جارها ورضاه غير صحيح] مرقاة المفاتيح 10/297. ومما يدل على ذلك أيضاً ما تعددت به الروايات في قصة رهان أبي بكر ? لبعض الكفار عندما نزل قوله تعالى: (الم، غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ في بضع سنين) سورة الروم الآيات 1-3. وجاء في بعض روايات هذه الحادثة: [أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر: (هذا سحت فتصدق به) وكان هذا قبل تحريم القمار كما قال القرطبي، وقد ذكر ابن كثير والقرطبي عدة روايات لهذه الحادثة. تفسير القرطبي 14/2-4، تفسير ابن كثير 3/422-424. وقال الإمام ابن كثير بعد أن ساق عدداً من روايات هذه الحادثة: [وقد روي نحو هذا مرسلاً عن جماعة من التابعين مثل عكرمة والشعبي ومجاهد وقتادة والسدي والزهري وغيرهم] تفسير ابن كثير 3/423. وقد قاس بعض أهل العلم التخلص من المال الحرام بالتصدق به قاسوه على اللقطة إن تعذر ردها إلى مالكها فإن الملتقط يتصدق بها. انظر أحكام المال الحرام ص 362. وينبغي أن يعلم أن إخراج المال الحرام والتحلل منه ودفعه إلى الفقراء والمساكين ويسمى هذا الدفع صدقة بالنظر إلى الفقير لا بالنظر إلى المعطي ذلك أن التائب من المال الحرام بإخراجه إلى الفقراء والمساكين لأجل أن تقبل توبته لا لأجل الأجر والثواب فهذا الإخراج من مكملات التوبة وشروطها ولا أجر لهذا الشخص في تخلصه من المال الحرام. أحكام المال الحرام ص 411-412. ولا ينبغي لك أيها السائل أن تحج من هذا المال الحرام فالحج من أعظم الطاعات فينبغي أن يكون المال الذي ينفق فيه من أطيب المال وأحله. يقول الله تعالى: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) سورة البقرة الآية 117. ويقول الله تعالى: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) سورة المائدة الآية 27. ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم (إن الله تبارك وتعال يقبل الصدقات ولا يقبل منها إلا الطيب) رواه الترمذي وقال: حسن صحيح وقال الإمام البغوي: هذا حديث صحيح. شرح السنة 6/130. وفي حديث آخر قال النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده ما من عبد يتصدق بصدقة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا طيباً ولا يصعد إلى السماء إلا الطيب كأنما يضعها في يد الرحمن …) رواه الشافعي وإسناده حسن. وفي حديث آخر قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما تصدق أحد من صدقة من طيب ولا يقبل الله إلا الطيب إلا أخذها الرحمن بيمينه … الحديث) متفق عليه. *****(10/27)
28 - الخاطب ليس محرما لخطيبته في الحج
يقول السائل: رجل خاطب وأرادت خطيبته وأم خطيبته الذهاب إلى الحج أو العمرة فهل يكون هذا الرجل محرماً لها ولأمها؟
الجواب: من المعلوم عند أهل العلم أن الخطبة مقدمة للزواج وهي مجرد وعد بالزواج وليست زواجاً. وبناءاً على ذلك فيعتبر كل من الخاطب والمخطوبة أجنبياً عن الآخر فلا يحل لهما الاختلاط دون وجود محرم وما يفعله كثير من الخاطبين اليوم من الذهاب إلى الأماكن العامة والجلوس على انفراد والذهاب والإياب معاً مخالف للشرع لأن الخاطب ما زال أجنبياً عن المخطوبة ولا يحل له من المخطوبة سوى ما أباحه الشرع الحكيم ألا وهو النظر عند الخطبة فقد جاء في الحديث عن جابر أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إذا خطب أحدكم المرأة فاستطاع أن ينظر منها ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل) رواه أحمد وأبو داود والحاكم وصححه ووافقه الذهبي ووافقهما الألباني. وعن المغيرة بن شعبة أنه خطب امرأة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما) رواه النسائي والترمذي وابن ماجة وغيرهم وهو حديث صحيح. ومعنى يؤدم بينكما: أن تقع الألفة والملائمة بينكما. والخاطب لا يكون محرماً لمخطوبته ولا لأمها في السفر سواء كان لحج أو عمرة أو لغيرهما لأنه أجنبي عنهما ولا يجوز له السفر بهما فقد جاء في الحديث عن ابن عمر أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لا تسافر المرأة ثلاثاً إلا ومعها ذو محرم) رواه مسلم. وجاء في حديث آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يخلونَّ رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم. فقام رجل فقال: يا رسول الله إن امرأتي خرجت حاجةً وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا. قال: انطلق فحج مع امرأتك) رواه البخاري ومسلم. وأخيراً ينبغي التنبيه على أن كثيراً من عامة الناس في بلادنا يطلقون لفظ الخاطب على من كان قد عقد الزواج ولم يدخل بزوجته فإن كان الأمر كذلك فمن عقد على امرأته ولم يدخل بها فهي زوجته شرعاً فيجوز له أن يسافر بها وهو محرم على أمها فيجوز لها أن تسافر معه. *****(10/28)
29 - تجوز العمرة قبل أن يحج حجة الفرض
يقول السائل: إنه يريد أن يسافر إلى مكة المكرمة لأداء العمرة وينوي أن يعتمر بعد ذلك عن أبيه الميت فقال له بعض الناس لا يجوز لك أن تعتمر عن أبيك حتى تحج عن نفسك والسائل لم يحج عن نفسه حتى الآن فما قولكم في ذلك؟
الجواب: إن فضل العمرة عظيم وثوابها كبير فقد ثبت في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) رواه البخاري مسلم. ويجوز للمسلم أن يعتمر قبل أن يحج وقد فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الإمام البخاري في صحيحه: [باب من اعتمر قبل الحج] ثم روى بإسناده عن ابن جريح أن عكرمة بن خالد سأل ابن عمر رضي الله عنهما عن العمرة قبل الحج فقال: لا بأس. قال عكرمة قال ابن عمر: اعتمر الرسول صلى الله عليه وسلم قبل أن يحج. صحيح البخاري مع فتح الباري 8/348. وقد أجاز العلماء أن يحج المسلم وأن يعتمر عن غيره كأمه وأبيه وزوجته وإخوته وغيرهم. فقد جاء في الحديث عن ابن عباس أن امرأة من خثعم قالت: (يا رسول الله إن أبي أدركته فريضة الله في الحج شيخاً كبيراً لا يستطيع أن يستوي على ظهر بعيره. قال: فحجي عنه) رواه البخاري ومسلم. وعن أبي رزين العقيلي أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة ولا الظعن فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: حج عن أبيك واعتمر) رواه أبو داود والترمذي وقال الترمذي: [هذا حديث حسن صحيح وإنما ذكرت العمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن يعتمر الرجل عن غيره] سنن الترمذي مع شرحه عارضة الأحوذي لابن العربي المالكي 3/127. فقد دل الحديث السابق على جواز أن يعتمر الشخص عن غيره ولا أعلم أحداً من أهل العلم يشترط فيمن يعتمر عن غيره أن يكون قد حج عن نفسه فإن هذا الاشتراط هو في الحج فقط فمن أراد أن يحج عن غيره فينبغي أن يكون قد حج عن نفسه كما هو مذهب جمهور أهل العلم لما ورد في الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول: لبيك اللهم عن شبرمة. قال: من شبرمة؟ قال: أخ لي أو قريب. قال: حججت عن نفسك؟ قال: لا. قال: حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة) رواه أبو داود وابن ماجة وابن حبان والبيهقي وقال: هذا إسناد صحيح ليس في هذا الباب أصح منه. ومال إلى تصحيحه الحافظ ابن حجر وصححه الشيخ الألباني أيضاً. وما دام السائل يريد أن يعتمر عن نفسه أولاً فلا بأس أن يعتمر عن أبيه بعد ذلك وإن لم يكن قد حج عن نفسه ولا ارتباط بين الأمرين في هذا. وإن قلنا بقياس العمرة على الحج في أنه يشترط فيمن يحج عن غيره أن يكون قد حج عن نفسه فنقول ينبغي لمن أراد أن يعتمر عن غيره أن يكون قد اعتمر عن نفسه وهذا هو الغالب من حال المعتمرين إذ المعهود أن يعتمر الإنسان عن نفسه أولاً ثم يعتمر عن غيره ثانياً. *****(10/29)
30 - إبراء الذمة من الحقوق قبل الحج
يقول السائل: يقول السائل إن أحد الأشخاص ينوي الحج وأن في ذمته حقوقاً للسائل ويرفض إعطاءه هذه الحقوق حتى يعود من الحج فما حكم ذلك؟
الجواب: الواجب على المسلم إذا نوى الحج أن يبرئ ذمته من حقوق العباد بأن يخلص نفسه وينقيها مما وجب عليه شرعاً لعباد الله، يقول الله تعالى: (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) سورة البقرة الآية 188. ويقول الله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) سورة المائدة الآية 1. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء) رواه مسلم. وعنه أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه ومن أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله) رواه البخاري. وعنه أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أتدرون من المفلس، قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع فقال: المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته فإذا فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار) رواه مسلم. وغير ذلك من الأحاديث التي يؤخذ منها أن على المسلم أن يبرئ ذمته من حقوق العباد وقد أكد العلماء على إبراء الذمة من حقوق العباد لمن أراد الحج فينبغي عليه أن يبرئ ذمته. قال الأمام النووي: [إذا استقر عزمه لسفر حج أو غزو أو غيرهما فينبغي أن يبدأ بالتوبة من جميع المعاصي والمكروهات ويخرج من مظالم الخلق ويقضي ما أمكنه من ديونهم ويرد الودائع ويستحل كل من بينه وبينه معاملة في شيء أو مصاحبة ويكتب وصيته ويشهد عليه بها ويوكل من يقضي ما لم يتمكن من قضائه من ديون ويترك لأهله ومن يلزمه نفقته نفقتهم إلى حين رجوعه] المجموع 4/385. وقال الشيخ عبد العزيز بن باز: [إذا عزم المسلم السفر إلى الحج أو العمرة استحب له أن يوصي أهله وأصحابه بتقوى الله عز وجل وهي فعل أوامره واجتناب نواهيه وينبغي أن يكتب ماله وما عليه من الدين ويشهد على ذلك ويجب عليه المبادرة إلى التوبة النصوح من جميع الذنوب لقوله تعالى: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) وحقيقة التوبة الإقلاع من الذنوب وتركها والندم على ما مضى منها والعزيمة على عدم العودة فيها وإن كان عنده للناس مظالم من نفس أو مال أو عرض ردها إليهم أو تحللهم منها قبل سفره لما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من كان عنده مظلمة لأخيه من مال أو عرض فليتحلل اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه) ] التحقيق والإيضاح لكثير من مسائل الحج والعمرة والزيارة ص 10-11. فالواجب على هذا الشخص أن يبرىء ذمته من جميع حقوق العباد قبل سفره للحج. ?????(10/30)
31 - هل الردة مبطلة للحج؟
يقول السائل: حج شخص قبل مدة ثم ارتد عن الإسلام وبقي مرتداً مدة من الزمن ثم هداه الله وعاد الآن إلى الإسلام وندم على ما حصل منه ويسأل عن حجته التي حجها هل تعد مسقطة لحجة الإسلام أم يلزمه أن يحج مرة أخرى؟
الجواب: الردة هي خروج المسلم عن الإسلام وكفره به والعياذ بالله وقد اختلف أهل العلم في إحباط العمل بالردة واختلفوا في تفسير الآيات الواردة في ذلك. يقول الله تعالى: (ومن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) سورة البقرة الآية 217. ويقول الله تعالى: (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) سورة المائدة الآية 5. فمن العلماء من قال إن الردة التي تحبط الأعمال وتبطلها هي الردة المستمرة حتى الوفاة بأن يموت الشخص على الكفر لما في الآية الكريمة (فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ) فإذا لم يمت على الكفر بأن عاد إلى الإسلام فإن ثواب عمله يحبط ولا يطالب بإعادة العمل. ومنهم من رأى أن الأعمال تبطل بمجرد الارتداد لقول الله تعالى: (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) . والمراد بحبوط الأعمال: [أي صارت أعمالهم الحسنة التي عملوها في حالة الإسلام فاسدة بمنزلة ما لم تكن. قيل وأصل الحبط فساد يلحق الماشية بأكل الحباط وهو ضرب من الكلأ مضر وفي النهاية أحبط الله تعالى عمله أبطله، يقال: حبط عمله وأحبط وأحبطه غيره وهو من قولهم حبطت الدابة حبطاً بالتحريك إذا أصابت مرعى طيباً فأفرطت في الأكل حتى تنتفخ فتموت وقرء حبطت بالفتح وهو لغة فيه] تفسير الألوسي 1/505. قال الإمام النووي: [ومن حج ثم ارتد ثم أسلم لم يلزمه الحج بل يجزئه حجته السابقة عندنا وقال أبو حنيفة وآخرون يلزمه الحج ومبنى الخلاف على أن الردة متى تحبط العمل؟ فعندهم تحبطه في الحال سواء أسلم بعدها أم لا فيصير كمن لم يحج. وعندنا لا تحبطه إلا إذا اتصلت بالموت لقوله تعالى: (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ) ] المجموع 7/9. وقال الإمام النووي أيضاً: [إذا صلى المسلم ثم ارتد ثم أسلم ووقت تلك الصلاة باق لم يجب إعادتها وقال أبو حنيفة ومالك وأحمد في رواية عنه يب والمسألة مبنية على أصل سبق وهو أن عندنا لا تبطل الأعمال بالردة إلا أن تتصل بالموت وعندهم يبطل بنفس الارتداد احتجوا بقول الله تعالى: (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) واحتج أصحابنا بقول الله تعالى: (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ) فعلق الحبوط بشرطين الردة والموت عليها والمعلق بشرطين لا يثبت بأحدهما والآية التي احتجوا بها مطلقة وهذه مقيدة فيحمل المطلق على المقيد، قال الشافعي والأصحاب يلزم المرتد إذا أسلم أن يقضي كل ما فاته في الردة أو قبلها وهو مخاطب في حال الردة بجميع ما يخاطب به المسلم وإذا أسلم لا يلزمه إعادة ما كان فعله قبل الردة من حج وصلاة وغيرهما والله أعلم] المجموع 3/5. وقال الإمام ابن العربي المالكي: [اختلف العلماء رحمة الله عليهم في المرتد هل يحبط عمله نفس الردة أم لا يحبط إلا على الموافاة على الكفر؟ فقال الشافعي: لا يحبط له عمل إلا بالموافاة كافراً وقال مالك يحبط بنفس الردة ويظهر الخلاف في المسلم إذا حج ثم ارتد ثم أسلم فقال مالك: يلزمه الحج لأن الأول قد حبط بالردة. وقال الشافعي: لا إعادة عليه لأن عمله باق، واستظهر عليه علماؤنا بقول الله تعالى: (لَئِنْ أَشْرَكْتَ ليَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) وقالوا: هو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به أمته لأنه صلى الله عليه وسلم يستحيل منه الردة شرعاً، وقال أصحاب الشافعي: بل هو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم على طريق التغليظ على الأمة وبيان أن النبي صلى الله عليه وسلم على شرف منزلته لو أشرك لحبط عمله فكيف أنتم؟ لكنه لا يشرك لفضل مرتبته، كما قال الله تعالى: (يَانِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ) وذلك لشرف منزلتهن وإلا فلا يتصور إتيان فاحشة منهن صيانة لصاحبهن المكرم المعظم، قال ابن عباس حين قرأ: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا) والله ما بغت امرأة نبي قط ولكنهما كفرتا. وقال علماؤنا: إنما ذكر الموافاة شرطاً هاهنا لأنه علق عليها الخلود في النار جزاءً فمن وافى كافراً خلّده الله في النار بهذه الآية ومن أشرك حبط عمله بالآية الأخرى، فهما آيتان مفيدتان لمعنيين مختلفين وحكمين متغايرين وما خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم فهو لأمته حتى يثبت اختصاصه به وما ورد في أزواجه صلى الله عليه وسلم فإنما قيل ذلك فيهن ليبين أنه لو تصور لكان هتكاً لحرمة الدين وحرمة النبي صلى الله عليه وسلم ولكل هتك حرمة عقاب وينزل ذلك منزلة من عصى في شهر حرام أو في البلد الحرام أو في المسجد الحرام فإن العذاب يضاعف عليه بعدد ما هتك من الحرمات والله الواقي لا رب غيره] أحكام القرآن 1/147-148، وانظر تفسير القرطبي 3/48- 49. وقال الألوسي: [واستدل الشافعي بالآية على أن الردة لا تحبط الأعمال حتى يموت عليها وذلك بناءً على أنها لو أحبطت مطلقاً لما كان للتقييد بقوله سبحانه: (فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ) فائدة والقول بأن فائدته أن إحباط جميع الأعمال حتى لا يكون له عمل أصلاً موقوف على الموت على الكفر حتى لو مات مؤمناً لا يحبط إيمانه ولا عمل يقارنه وذلك لا ينافي إحباط الأعمال السابقة على الارتداد بمجرد الارتداد مما لا معنى له لأن المراد من الأعمال في الآية الأعمال السابقة على الارتداد إذ لا معنى لحبوط ما لم يفعل فحينئذ لا يتأتى هذا القول كما لا يخفى وقيل بناءً على أنه جعل الموت عليها شرطاً في الإحباط وعند انتفاء الشرط ينتفي المشروط واعترض بأن الشرط النحوي والتعليقي ليس بهذا المعنى بل غايته السببية والملزومية وانتفاء السبب أو الملزوم لا يوجب انتفاء المسبب أو اللازم لجواز تعدد الأسباب ولو كان شرطاً بهذا المعنى لم يتصور اختلاف القول بمفهوم الشرط. وذهب إمامنا أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه إلى أن مجرد الارتداد يوجب الإحباط لقوله تعالى: (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) المائدة الآية 5. وما استدل به الشافعي ليس صريحاً في المقصود لأنه إنما يتم إذا كان جملة: (وأؤلئك) الخ، تذييلاً معطوفاً على الجملة الشرطية وأما لو كانت معطوفة على الجزاء وكان مجموع الإحباط والخلود في النار مرتباً على الموت على الردة فلا نسلم تماميته ومن زعم ذلك اعترض على الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه بأن اللازم عليه حمل المطلق على المقيد عملاً بالدليلين وأجيب بأن حمل المطلق على المقيد مشروط عنده بكون الإطلاق والتقييد في الحكم واتحاد الحادثة وما هنا في السبب فلا يجوز الحمل لجواز أن يكون المطلق سبباً كالمقيد] تفسير الألوسي 1/505. وبعد هذا العرض لأقوال العلماء يظهر أن حمل المطلق على المقيد وجيه جداً. قال الشوكاني: [والواجب حمل ما أطلقته الآيات في غير هذا الموضع على ما في هذه الآية من التقييد] تفسير فتح القدير 1/218. وقال الشيخ الشنقيطي: [ومقتضى الأصول حمل هذا المطلق على هذا المقيد فيقيد إحباط العمل بالموت على الكفر وهو قول الشافعي ومن وافقه خلافاً لمالك القائل بإحباط الردة العمل مطلقاً] أضواء البيان 2/6. ومع وجاهة هذا القول وقوته وهو أن الحج السابق على الردة معتبر ولا يلزم إعادته فأقول خروجاً من خلاف أهل العلم أرى أن يحج هذا الشخص مرة أخرى وقد صح في الحديث قول النبي صلى الله عله وسلم: (دع ما يريبك إلا ما لا يريبك) رواه أحمد والنسائي والترمذي وقال: حسن صحيح. وصححه ابن حبان والحاكم ووافقه الذهبي. ?????(10/31)
32 - إبراء الذمة من الحقوق قبل الحج
الدين والحج، يقول السائل: إنه يريد الحج وعليه ديون للناس فماذا يفعل؟
الجواب: إن من شروط وجوب الحج على المسلم أن يكون مستطيعاً لقوله تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) والاستطاعة المالية داخلة في ذلك ومن كان عليه ديون للناس فعليه أن يسدد هذه الديون فإن استطاع تسديدها وفضل معه من المال ما يكفي للحج فيجب عليه الحج وإن لم يبق معه ما يكفي للحج فلا يجب عليه الحج، فهذا الأصل في هذه المسألة. ولكن نظراً لبعض الظروف المتعلقة بالحج في بلادنا فإن من كان عليه دين وعنده مال يكفي لذهابه إلى الحج فلو استئذن من أصحاب الديون وطلب منهم الإمهال وأذنوا له بالذهاب إلى الحج فلا بأس بذلك إن شاء الله هذا إذا كان ذهابه لأداء فريضة الحج وأما إن كان ذهابه لحج النافلة فالأولى في حقه أن يسدد ديونه لأن سداد الديون واجب وحجه نافلة والواجب يقدم على النافلة. *****(10/32)
33 - الحج عن الغير
يقول السائل: هل يجوز للولد أن يحج عن والده المتوفى في حجة نافلة وهل يصل ثوابها إلى أبيه الميت؟
الجواب: يجوز للولد أن يحج عن أبيه الميت حجة نافلة وينتفع الأب بذلك ويصل إليه الثواب إن شاء الله. وهذا مذهب جمهور الفقهاء ويدل على ذلك أحاديث كثيرة وردت في حج الإنسان عن غيره. فمنها حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة قالت: (يا رسول الله إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت أفأحج عنها؟ قال: نعم حجي عنها أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ أقضوا الله فالله أحق بالوفاء) رواه البخاري. ومنها حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة من خثعم قالت: (يا رسول الله إن أبي أدركته فريضة الله في الحج شيخاً كبيراً لايستطيع أن يستوي على الراحلة أفأحج عنه؟ قال: حجي عنه) رواه البخاري ومسلم. ومنها حديث عبد الله بن الزبير رضي الله عنه قال: (جاء رجل من خثعم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن أبي أدركه الإسلام وهو شيخ كبير لا يستطيع ركوب الرحل والحج مكتوب عليه أفأحج عنه؟ قال: أنت أكبر ولده؟ قال: نعم. قال: أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أكان يجزي ذلك عنه؟ قال: نعم. قال: فاحجج عنه) رواه أحمد والنسائي بمعناه، وقال الحافظ: إسناده صالح. ومنها حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول: لبيك عن شبرمة. قال: (ومن شبرمة؟ قال: أخ لي أو قريب لي. قال: حججت عن نفسك؟ قال: لا. قال: حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة) رواه أبو داود وابن ماجة وابن حبان وهو حديث صحيح كما قال الشيخ الألباني. وغير ذلك من الأحاديث وإن كانت واردة في حج الفريضة، فإن النافلة داخلة فيها لأن العلماء قد نصوا على أن كل عبادة جازت النيابة في فرضها جازت النيابة في نفلها. وأما انتفاع الميت بثواب عمل الحي فثابت بأدلة كثيرة وهو مذهب جمهور أهل العلم. وبناء على ما سبق فيجوز للولد أن يحج نافلة عن والده وهذا من البر والإحسان ويدخل في عموم قوله تعالى: (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) . *****(10/33)
34 - الحج عن الغير
يقول السائل: إن والديه قد ماتا ولم يؤديا فريضة الحج لفقرهما وهو رجل غني يريد أن يحج عنهما فهل يحج عن أبيه أولاً أم عن أمه أفيدونا؟
الجواب: إن الحج عن الوالدين الذين قد ماتا وهما فقيرين ولم يؤديا فريضة الحج من باب البر بهما والإحسان إليهما، قال تعالى: (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) سورة الإسراء 23، وهذا الولد له الأجر والثواب الجزيل إن شاء الله تعالى ويقع الحج عن الوالدين الميتين وينتفعان به بإذن الله تعالى. ويدل على جواز الحج عن الغير أدلة كثيرة من سنة النبي صلى الله عليه وسلم منها: عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت أفأحج عنها؟ قال: نعم حجي عنها أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟! اقضوا الله فالله أحق بالوفاء) رواه البخاري. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان الفضل بن عباس رديف النبي صلى الله عليه وسلم فجاءت امرأة من خثعم فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر فقالت: إن فريضة الله أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يثبت على الراحلة أفأحج عنه؟ قال: نعم وذلك في حجة الوداع) رواه البخاري ومسلم. وفي رواية مسلم: (قالت: يا رسول الله إن فريضة الله على عبادة في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يثبت على الراحلة أفأحج عنه؟ قال: نعم) . وعن أبي رزين العقيلي أنه قال: (يا رسول الله: إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة ولا الظعن قال: حج عن أبيك واعتمر) رواه النسائي، وهو حديث صحيح كما قال الشيخ الألباني في صحيح سنن النسائي 2/556، والظعن أي الارتحال والسفر. وعن عبد الله بن الزبير قال: جاء رجل من خثعم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الركوب وأدركته فريضة الله في الحج فهل يجزىء أن أحج عنه قال: آنت أكبر ولده؟ قال: نعم، قال: أرأيت لو كان عليه دين أكنت تقضيه؟ قال: نعم، قال: فحج عنه) رواه النسائي وأحمد والبيهقي وقال الحافظ ابن حجر: إسناده صالح. التلخيص الحبير 2/225. وقد أخذ جمهور أهل العلم بمقتضى هذه الأحاديث فأجازوا الحج عن الميت وأجازوا الحج عن المريض مرضاً لا يرجى برؤه ولا يستطيع تحمل مشاق السفر وكذلك الكبير الذي لا يحتمل مشاق السفر فيجوز الحج عن هؤلاء بشرط أن يكون النائب وهو من يح عن غيره قد حج عن نفسه وهذا قول الشافعية والحنابلة والأوزاعي وإسحاق بن راهويه كما قال الشيخ ابن قدامة في المغني 3/235. ويدل على هذا الإشتراط ما ورد في الحديث عن ابن عباس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول: لبيك عن شبرمة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من شبرمة؟ قال: أخ لي أو قريب لي، قال: هل حججت قط؟ قال: لا، قال: فاجعل هذه عن نفسك ثم احجج عن شبرمة) رواه أبو داود وابن ماجة وهو حديث صحيح كما قال الشيخ الألباني في إرواء الغليل 4/171. إذا تقرر جواز الحج عن الغير وبما في ذلك الأب والأم بالشرط السابق فينبغي أن يبدأ بالحج عن أمه أولاً ثم يحج عن أبيه في عام آخر لأن الأم مقدمة في البر على الأب، قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [يستحب أن يحج الإنسان عن أبويه إذا كانا ميتين أو عاجزين لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أبا رزين فقال: (حج عن أبيك واعتمر) و (سألت امرأة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبيها مات ولم يحج فقال: حجي عن أبيك) ويستحب البداءة بالحج عن الأم إن كان تطوعاً أو واجباً عليهما نص عليه أحمد في التطوع لأن الأم مقدمة في البر، قال أبو هريرة: (جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أبوك) رواه مسلم والبخاري، وإن كان الحج واجباً على الأب دونها بدأ به لأنه واجب فكان أولى من التطوع. وروى زيد بن أرقم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا حج الرجل عن والديه يقبل منه ومنهما واستبشرت أرواحهما في السماء وكتب عند الله براً) . وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من حج عن أبويه أو قضى عنهما مغرماً بعث يوم القيامة مع الأبرار) ] المغني 3/235. والحديثان الأخيران اللذان وردا في كلام ابن قدامة ضعيفان عند أهل الحديث، قال الشيخ الألباني عن حديث زيد بن أرقم: (إذا حج الرجل عن والديه يقبل منه ... الخ) ضعيف أخرجه الدارقطني وابن شاهين، السلسلة الضعيفة 3/626. وقال الشيخ الألباني عن حديث ابن عباس: (من حج عن أبويه ... ) ضعيف جداً أخرجه ابن شاهين والطبراني في الأوسط والدارقطني. السلسة الضعيفة 3/628. ومع ضعف الحديثين السابقين إلا أنه يستأنس بهما لأنهما يدخلان تحت أصل صحيح كما سبق في حديث الخثعمية وحديث أبي رزين وغيرهما.(10/34)
35 - أيهما يقدم الحج أم سداد الديون
يقول السائل: هل يجوز لي الحج قبل أن أسدد ديوني وهي كثيرة علماً أن أصحاب الديون لا يمانعون في حجي، أفيدونا؟
الجواب: ينبغي أن يُعلم أولاً أن أمر الدَّيون عظيم، ولا ينبغي للإنسان أن يدّان إلا إذا احتاج للمال فعلاً، والدين قد يكون سبباً في حبس المؤمن وكذا الشهيد عن الجنة، لما ثبت في الحديث أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (أرأيت إن قتلت في سبيل الله صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر يكفر الله عني خطاياي؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم. فلمّا أدبر ناداه رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أمر به فنودي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف قلت؟ فأعاد عليه قوله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم إلا الدَّين كذلك قال جبريل) رواه مسلم. وثبت في الحديث عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (يُغفر للشهيد كلُ ذنبٍ إلا الدَّين) رواه مسلم. قال الإمام النووي: [وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (إلا الدَّين) ففيه تنبيه على جميع حقوق الآدميين، وأن الجهاد والشهادة وغيرهما من أعمال البر لا يكفر حقوق الآدميين، وإنما يكفر حقوق الله تعالى] شرح صحيح مسلم للنووي 5/28. وقال التوربشتي: [أراد بالدَّين هنا ما يتعلق بذمته من حقوق المسلمين، إذ ليس الدائن أحق بالوعيد والمطالبة منه من الجاني والغاصب والخائن والسارق] تحفة الأحوذي 5/302. وورد في حديث آخر عن محمد بن جحش أنه قال: (كنا جلوساً في موضع الجنائز مع رسول الله فرفع رأسه في السماء ثم وضع راحته على جبهته فقال: سبحان الله ماذا أنزل الله من التشديد؟ فسكتنا وفرِقنا. فلما كان الغد سألته: يا رسول الله ما هذا التشديد الذي نزل؟ قال: في الدَّين والذي نفسي بيده لو أن رجلاً قتل في سبيل الله ثم أحيي ثم قتل ثم أحيي وعليه دين ما دخل الجنة حتى يُقضى عنه) رواه النسائي والحاكم وصححه ووافقه الذهبي وحسنه العلامة الألباني في أحكام الجنائز ص 107. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أخذ أموال الناس يريد أدائها أدى الله عنه، ومن أخذ يريد إتلافها أتلفه الله) رواه البخاري. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يُقضى عنه) رواه أحمد والترمذي وقال: حديث حسن. ورواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي وحسنه الإمام النووي وحسنه العلامة الألباني في صحيح سنن ابن ماجة 2/53. وعلى من استدان ديناً أن ينوي سداده، حتى لو لم يكن لديه ما يقضيه، فإن مات بهذه النية، فإن الله يسدد عنه كما ورد في الحديث عن ميمونة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من مسلم يدَّان ديناً يعلم الله أنه يريد أداءه إلا أداه الله عنه في الدنيا) رواه ابن حبان والحاكم وصححه ووافقه الذهبي وصححه العلامة الألباني في صحيح سنن ابن ماجة 2/51. وعن أبي أمامة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من دان بدين في نفسه وفاءه ومات تجاوز الله عنه وأرضى غريمه بما شاء ومن دان بدين وليس في نفسه وفاءه ومات اقتص الله لغريمه منه يوم القيامة) رواه الطبراني. وعن ابن عمر رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (الدين دينان، فمن مات وهو ينوي قضاءه فأنا وليه، ومن مات ولا ينوي قضاءه فذلك الذي يؤخذ من حسناته ليس يومئذ دينار ولا درهم) رواه الطبراني في الكبير وصححه العلامة الألباني في أحكام الجنائز ص 5. وفي هذه الأحاديث تحذير شديد من التساهل في أمر الديون. إذا تقرر هذا فإن الحج واجب على المستطيع، لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} سورة آل عمران الآية 97. وأصح أقوال العلماء في الاستطاعة ما قاله أبو جعفر الطبري: [وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب، قول من قال بقول ابن الزبير وعطاء: إن ذلك على قدر الطاقة. لأن"السبيل" في كلام العرب: الطريق، فمن كان واجداً طريقاً إلى الحج لا مانع له منه من زمانةٍ، أو عجزٍ، أو عدوٍ، أو قلة ماء في طريقه، أو زادٍ، أو ضعفٍ عن المشي، فعليه فرض الحج، لا يجزيه إلا أداؤه. فإن لم يكن واجداً سبيلاً -أعني بذلك: فإن لم يكن مطيقاً الحج، بتعذر بعض هذه المعاني التي وصفناها عليه- فهو ممن لا يجد إليه طريقاً ولا يستطيعه، لأن الاستطاعة إلى ذلك، هو القدرة عليه. ومن كان عاجزاً عنه ببعض الأسباب التي ذكرنا أو بغير ذلك، فهو غير مطيق ولا مستطيع إليه السبيل. وإنما قلنا: هذه المقالة أولى بالصحة مما خالفها، لأن الله عز وجل لم يخصص، إذ ألزم الناس فرض الحج، بعض مستطيعي السبيل إليه بسقوط فرض ذلك عنه. فذلك على كل مستطيع إليه سبيلاً بعموم الآية. فأما الأخبار التي رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك بأنه: "الزاد والراحلة"، فإنها أخبار: في أسانيدها نظر، لا يجوز الاحتجاج بمثلها في الدين.] تفسير الطبري 6/45. ويضاف إلى ما قاله الإمام الطبري في مفهوم الاستطاعة أن يكون عند مريد الحج نفقة تكفي لمن تلزمه نفقته حتى يرجع من حجه، وتوفر المحرم أو الزوج في حق المرأة على الصحيح من أقوال العلماء، وهنالك تساهل واضح في بلادنا في سفر المرأة للحج أو للعمرة بدون زوج أو محرم، فتسافر مع مجموعة نساء وهي الصحبة المأمونة كما زعموا، وهذا قول ضعيف لا يلتفت إليه ولا يعول عليه، وقد ثبتت أدلة كثيرة تدل على حرمة سفر المرأة إلا مع زوجها أو ذي محرم منها، والمحرم هو: من لا يحل له نكاحها من الأقارب كالأب والابن والأخ والعم ومن يجري مجراهم كما ذكره ابن الأثير في النهاية في غريب الحديث 1/373. ومن العلماء من يرى أن الزوج يدخل في معنى المحرم، قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [والمحرم زوجها أو من تحرم عليه على التأبيد بنسب أو سبب مباح كأبيها وابنها وأخيها من نسب أو رضاع] المغني 3/230. ومن النصوص الواردة في ذلك: عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر ثلاثاً إلا ومعها ذو محرم) رواه البخاري ومسلم. وفي رواية عند مسلم: (لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم) . وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تسافر المرأة ثلاثة أيام إلا مع ذي محرم) رواه البخاري. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة ليس معها حرمة) رواه البخاري. والمقصود بالحرمة المحرم كما في رواية مسلم: (لا يحل لامرأة مسلمة تسافر مسيرة ليلة إلا ومعها رجل ذو حرمة منها) . وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم ولا يدخل عليها رجل إلا ومعها محرم، فقال رجل: يا رسول الله إني أريد أن أخرج في جيش كذا وكذا وامرأتي تريد الحج. فقال صلى الله عليه وسلم: اخرج معها) رواه البخاري ومسلم. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت أربعاً من النبي صلى الله عليه وسلم فأعجبنني قال: لا تسافر المرأة مسيرة يومين إلا ومعها زوجها أو ذو محرم، ولا صوم في يومين الفطر والأضحى، ولا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس ولا بعد العصر حتى تغرب، ولا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، مسجد الحرام ومسجد الأقصى ومسجدي هذا) رواه البخاري ومسلم، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفراً يكون ثلاثة أيام فصاعداً إلا ومعها أبوها أو ابنها أو زوجها أو أخوها أو ذو محرم منها) رواه مسلم. ولا نملك أمام هذه النصوص إلا أن نقول {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} سورة الحشر الآية 7. وبناءً على ما سبق فإن الأصل أن يقضي المسلم ديونه قبل الحج، ومع ذلك فهنالك عدة ضوابط تضبط أثر الديون في وجوب الحج وهي: أولاً: أن تكون الديون حالة، وليس عند المدين ما يكفي لقضاء ديونه ويكفي لحجه أيضاً، فهذا مطلوب منه أن يسدد ديونه قبل الحج، وحقوق العباد مقدمة على حق الله تعالى. ثانياً: الديون المقسطة على أقساط طويلة المدى لا تمنع من الحج، كمن اشترى داراً بثمنٍ مقسطٍ على عشر سنوات، يؤدي في كل شهرٍ قسطاً. ثالثاً: إذا تبرع أحدٌ للمدين بالحج وتكفَّل بنفقاته، فلا حرج عليه أن يحج وإن كان مديناً. رابعاً: إذا استأذن المدين من أصحاب الديون فأذنوا له بالحج فلا بأس أن يحج، ومعنى إذنهم أنهم قبلوا أن يؤخر سداد الديون، مع أن ذمته تبقى مشغولة بالديون، فإذا مات والحالة هذه فهو على خطر عظيم كما سبق في الأحاديث التي ذكرتها أولاً.
وخلاصة الأمر أن المدين وديونه حالَّة فهذا غير مستطيع ويلزمه قضاء ديونه، وأما إذا كانت الديون مؤجلة فيجوز له أن يحج، مع أن إبراء الذمة أولى وأفضل.(10/35)
1 - أحكام تتعلق بالتوكيل في الأضحية
يقول السائل: يوكل بعض الناس لجان الزكاة في الأضاحي، فتتولى شرائها وذبحها وتوزيعها ولكن بعض هذه اللجان تتساهل في ذلك، فيقع خلل في الأحكام الشرعية للأضاحي، فماذا تقولون للقائمين على هذه اللجان، أفيدونا؟
الجواب: قال أكثر العلماء الأضحيةُ سنةٌ مؤكدةٌ في حق الموسر، وبه قال أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين وقاله جماعة من التابعين وبه قال مالك في القول المشهور عنه والشافعي وأحمد وأبو يوسف ومحمد من الحنفية وإسحاق وأبو ثور والمزني وداود وابن حزم الظاهريان وابن المنذر وغيرهم. وهذا أرجح قولي العلماء في حكم الأضحية.
والأضحية شعيرة من شعائر الله وهي واجبة التعظيم كما قال جل جلاله: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} سورة الحج الآية 32. ومن ضمن تعظيمها ذبحها وفق الأحكام الشرعية الواردة فيها ومن ذلك: أن تتحقق فيها الشروط الشرعية المقررة فلا بد أن تكون الأضحية من الأنعام فقد اتفق جمهور أهل العلم بما فيهم أصحاب المذاهب الأربعة على أنه يشترط في الأضحية أن تكون من الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم. ولا يصح في الأضاحي شيء من الحيوان الوحشي، كالغزال، ولا من الطيور كالديك، ويدل على ذلك قوله تعالى {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} سورة الحج الآية 34. قال الإمام القرطبي: [والأنعام هنا هي الإبل والبقر والغنم] تفسير القرطبي 11/44.
ويدل على ذلك أيضاً أنه لم تنقل التضحية بغير الأنعام عن النبي صلى الله عليه وسلم. ولا بد أن تكون الأضحية قد بلغت سن التضحية فقد اتفق جمهور أهل العلم على أنه لا يجزئ من الإبل والبقر والمعز إلا الثني فما فوقه، ويجزئ من الضأن الجذع فما فوقه، ويدل على ذلك ما ورد في حديث جابر رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لا تذبحوا إلا مسنةً إلا أن يَعسر عليكم فتذبحوا جذعةً من الضأن) رواه مسلم. قال الإمام النووي: [قال العلماء المسنة هي الثنية من كل شيء من الإبل والبقر والغنم فما فوقها، وهذا تصريح بأنه لا يجوز الجذع من غير الضأن في حال من الأحوال] شرح النووي على صحيح مسلم 5/101-102. والجذع من الضأن ما مضى عليه أكثر العام، أي مضى عليه ستة أشهر فأكثر، وخاصة إذا كان عظيماً بحيث لو خلط بالثنيات يشتبه على الناظر من بُعد. وأما الثني من الضأن والمعز فما أتم سنة، والثني من البقر ما أتم سنتين، والثني من الإبل ما أتم خمس سنين، ويجب أن يعلم أن الالتزام بالسن المقرر شرعاً في الأضحية أمر مطلوب شرعاً، ولا تجوز مخالفته بالنقص عنه، وتجوز الزيادة عليه فلا تصح التضحية بالعجول المسمنة مهما بلغ وزنها ولا بد من الالتزام بالسن المقرر عند الفقهاء في البقر وهو سنتان، ولا يصح النقص عنه.
ولا بد أن تكون الأضحية سليمة من العيوب المانعة من صحتها فقد ثبت في الحديث عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أربعٌ لا تجوز في الأضاحي: العوراء البين عورها والمريضة البين مرضها والعرجاء البين عرجها والكسير التي لا تنقي) رواه أصحاب السنن الأربعة. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أهل العلم. وصححه العلامة الألباني في إرواء الغليل 4/361. قال الحافظ ابن عبد البر: [أما العيوب الأربعة المذكورة في هذا الحديث فمجتمع عليها لا أعلم خلافاً بين العلماء فيها. ومعلوم أن ما كان في معناها داخل فيها ولا سيما إذا كانت العلة فيها أبين، ألا ترى أن العوراء إذا لم تجز فالعمياء أحرى ألا تجوز، وإذا لم تجز العرجاء فالمقطوعة الرجل أو التي لا رِجل لها المقعدة أحرى ألا تجوز، وهذا كله واضح لا خلاف فيه] فتح المالك 7/6.
فالأضحية قربة يتقرب بها العبد إلى الله عز وجل، والله طيب لا يقبل إلا طيباً، فينبغي أن تكون الأضحية، طيبة، سمينة، وخالية من العيوب التي تنقص من لحمها وشحمها.
ولا بد أن تذبح الأضحية بعد دخول الوقت المقرر شرعاً لذبحها وهو بعد طلوع شمس اليوم العاشر من ذي الحجة، وبعد دخول وقت صلاة الضحى، ومُضي زمان من الوقت يسع صلاة ركعتين وخطبتين خفيفتين، لا فرق في ذلك بين أهل الحضر والبوادي. وهذا قول الشافعية والحنابلة والظاهرية وهو أرجح أقوال أهل العلم في المسألة ويدل على ذلك ما ورد في حديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا، نصلي ثم نرجع فننحر، فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا، ومن ذبح فإنما هو لحم قدمه لأهله، وليس من النسك في شيء) رواه البخاري ومسلم، وجاء في رواية أخرى: (لا يضحين أحدٌ حتى يصلي) رواه مسلم. وينتهي وقت ذبح الأضحية بغروب شمس اليوم الثالث من أيام التشريق، أي أن أيام النسك أربعة، يوم العيد وثلاثة أيام بعده. ويدل على ذلك ما ورد في الحديث عن جبير بن مطعم رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كل أيام التشريق ذبح) رواه أحمد وابن حبان وصححه، وصححه أيضاً العلامة الألباني في صحيح الجامع الصغير 2/834.
وبعد هذا البيان الموجز أقول للقائمين على لجان الزكاة إنكم وكلاء عن الناس الذين وكلوكم بالأضاحي، والأصل في الوكيل الأمانة فأنتم أمناء على هذه الأضاحي، فما كان فيها من نقص أو خلل فأنتم الذين تتحملونه أمام الله عز وجل، فاحذروا من الإخلال بشروط الأضحية وافحصوها واحدة واحدة، فقد ثبت في الحديث عن علي رضي الله عنه قال: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذنين) . رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح؛ ثم قال قوله: أن نستشرف، أي أن ننظر صحيحاً والمقصود أن ننظر إليهما ونتأمل في سلامتهما من آفة تكون بهما. سنن الترمذي مع شرحه التحفة 5/68.
واحذروا من ذبح الأضاحي قبل الوقت المقرر شرعاً أو بعده فإن ذلك لا يجزئ. واحذروا كذلك من التلاعب في توزيعها حسب أهوائكم وانتمائكم.
وخلاصة الأمر أن الأضحية عبادة وقربة إلى الله عز وجل، ومعلوم أن الأصل في العبادات هو التلقي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا بد من تحقق الأحكام الشرعية في الأضحية وعلى كل من وكل بأضحية غيره أن يتحقق من توفر الشروط الشرعية فيها.(11/1)
2 - لا يجوز تجاوز شروط الأضحية فهي توقيفية
يقول السائل: إنه قرأ على شبكة الإنترنت فتوى تقول إن الشروط التي اشترطها الفقهاء للأضحية هي شروط من اجتهادهم وأنه لا يوجد هناك نصوص صريحة توجب ضرورة أن تكون الأضحية بسن معينة فما قولكم أفيدونا؟
الجواب: الأضحية شعيرة من شعائر الله وقربة يتقرب بها العبد إلى ربه عز وجل وسنة مؤكدة من سنن المصطفى صلى الله عليه وسلم وهي عبادة توقيفية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمطلوب من المسلم أن يعظم شعائر الله وأن يقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} سورة الحج الآية 32. وقال تعالى {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} سورة الأحزاب الآية 21.
والشروط التي شرطها الفقهاء في الأضحية ليست شروطاً اجتهادية كما ورد في الفتوى المشار إليها وإنما وضعها الفقهاء بناءً على النصوص الشرعية فمن شروط الأضحية أن تكون من الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم كما هو قول جمهور أهل العلم بما فيهم أصحاب المذاهب الأربعة قال الإمام الشافعي: [هم الأزواج الثمانية التي قال الله تعالى: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ} الأنعام الآية 143. وقال تعالى: {وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ} الأنعام الآية 144. يعني ذكراً وأنثى، فاختص هذه الأزواج الثمانية من النعم بثلاثة أحكام: أحدها: وجوب الزكاة فيها. والثاني: اختصاص الأضاحي بها. والثالث: إباحتها في الحرم والإحرام] الحاوي 15/75-76وقال القرطبي: [والذي يضحى به بإجماع المسلمين الأزواج الثمانية وهي الضأن والمعز والإبل والبقر] تفسير القرطبي 15/109. ويدل على ذلك قوله تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} سورة الحج الآية 34. وقال القرطبي أيضاً: [والأنعام هنا هي الإبل والبقر والغنم] تفسير القرطبي 11/44. ويدل على ذلك قوله تعالى {يَاأَيُّهَا الَّذِنَءَامَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} سورة المائدة الآية 1. ويدل على ذلك أنه لم تنقل التضحية بغير الأنعام عن النبي صلى الله عليه وسلم وبناءً على هذا الشرط لا يصح قول من قال بجواز توزيع اللحوم كبديل عن الأضحية لمن لا يستطيع أن يضحي لضعف قدراته المادية تغليباً للنفع والفائدة للفقراء فهذا القول باطل مناقض للنصوص الشرعية فلا بد في الأضحية من إراقة الدم بذبح حيوان من الأنعام الأربعة وأما شراء اللحم وتوزيعه فلا يكون أضحية بحال من الأحوال حتى لو اشترى بقرة كاملة مذبوحة ووزعها على الفقراء فليست أضحية وإنما تعتبر صدقة من الصدقات. وكذلك لا يجوز شرعاً إخراج قيمة الأضحية بدلاً من ذبحها والقول بجواز إخراج قيمة الأضحية تشريع جديد ومنكر من القول وزوراً قال الله تعالى (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} سورة الشورى الآية 21 وبناءً على ذلك كانت الأضحية أفضل من التصدق بثمنها كما هو مذهب جمهور أهل العلم بما فيهم أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وربيعة وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وغيرهم انظر الاستذكار 15/157، تفسير القرطبي 15/107-108، المجموع 8/425، المغني 9/436
وروى عبد الرزاق بإسناده عن سعيد بن المسيب قال: [لأن أضحي بشاة أحب إليَّ من أن أتصدق بمئة درهم] المصنف 4/388 وقال الإمام النووي: [مذهبنا أن الأضحية أفضل من صدقة التطوع، للأحاديث الصحيحة المشهورة في فضل الأضحية، ولأنها مختلف في وجوبها، بخلاف صدقة التطوع، ولأن الأضحية شعار ظاهر] المجموع 8/425. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: [والأضحية والعقيقة والهدي أفضل من الصدقة بثمن ذلك، فإذا كان معه مال يريد التقرب إلى الله كان له أن يضحي به] مجموع فتاوى شيخ الإسلام 26/304. وقال الشيخ ابن القيم: [الذبح في موضعه أفضل من الصدقة بثمنه فإن نفس الذبح وإراقة الدم مقصود، فإنه عبادة مقرونة بالصلاة كما قال تعالى {فصل لربك وانحر} وقال تعالى {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين} ففي كل ملة صلاة ونسك لا يقوم غيرها مقامها ولهذا لو تصدق عن دم المتعة والقران بأضعاف القيمة لم يقم مقامه وكذلك الأضحية] تحفة المودود ص65.
والشرط الثاني من شروط الأضحية أن تبلغ سن التضحية فقد اتفق جمهور أهل العلم على أنه لا يجزئ من الإبل والبقر والمعز إلا الثني فما فوقه ويجزئ من الضأن الجذع فما فوقه. ودليل هذا الشرط حديث جابر رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لا تذبحوا إلا مسنةً إلا أن يَعسر عليكم فتذبحوا جذعةً من الضأن) رواه مسلم وغير ذلك من الأحاديث. قال الإمام النووي: [قال العلماء المسنة هي الثنية من كل شيء من الإبل والبقر والغنم فما فوقها، وهذا تصريح بأنه لا يجوز الجذع من غير الضأن في حال من الأحوال] شرح النووي على صحيح مسلم 5/101-102. والثني من الضأن والمعز ما أتم سنة. والثني من البقر ما أتم سنتين. والثني من الإبل ما أتم خمس سنين والجذع من الضأن ما مضى عليه أكثر العام أي مضى عليه ستة أشهر فأكثر، وخاصة إذا كان عظيماً بحيث لو خلط بالثنيات يشتبه على الناظر من بعد
قال الإمام الشافعي: [الضحايا الجذع من الضأن، والثني من المعز والإبل والبقر، ولا يكون شيء دون هذا ضحية] الأم 2/223. وقال الإمام النووي: [وأجمعت الأمة على أنه لا تجزئ من الإبل والبقر والمعز إلا الثني] المجموع 8/394 وإن المدقق في الأحاديث التي أشارت إلى السن يرى أنه لا يجوز تجاوز تلك السن ويدل على ذلك ما ورد عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي ثم نرجع فننحر من فعله فقد أصاب سنتنا ومن ذبح قبل ذلك فإنما هو لحم قدمه لأهله ليس من النسك في شيء فقام أبو بردة بن نيار وقد ذبح فقال إن عندي جذعة، فقال إذبحها ولن تجزئ عن أحد بعدك) رواه البخاري. وقال الإمام البخاري: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بردة (ضح بالجذع من المعز ولن تجزئ عن أحد بعدك) ثم ساق حديث البراء المتقدم برواية أخرى: (ضحى خال لي يقال له أبو بردة قبل الصلاة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: شاتك شاة لحم. فقال: يا رسول الله: إن عندي داجناً جذعة من المعز. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إذبحها ولا تصلح لغيرك) وقد ورد في عدة روايات اختصاص أبي بردة بالتضحية بالجذع من المعز وشاركه في الاختصاص عقبة بن عامر والألفاظ التي تدل على الاختصاص كما بينها الحافظ ابن حجر: (ولا رخصة فيها لأحد بعدك) (ولن تجزئ عن أحد بعدك) (وليست فيها رخصة لأحد بعدك) فتح الباري 12/109. وهذا التخصيص من النبي صلى الله عليه وسلم يدل على أنه لا تصح التضحية بالجذع من الإبل والبقر والماعز، وهو الذي اعتمد عليه الفقهاء في قولهم إنه لا تجوز التضحية بما دون السنتين من البقر. وبناءً على ما تقدم أقول لا تصح التضحية بالعجول المسمنة مهما بلغ وزنها ولا بد من الالتزام بالسن المقرر عند الفقهاء في البقر وهو سنتان، ولا يصح النقص عنه. جاء في الفتاوى الهندية: [وتقدير هذه الأسنان بما قلنا يمنع النقصان ولا يمنع الزيادة حتى ولو ضحى بأقل من ذلك شيئاً لا يجوز ولو ضحى بأكثر من ذلك شيئاً يجوز ويكون أفضل ولا يجوز في الأضحية حمل ولا جدي ولا عجول ولا فصيل] الفتاوى الهندية 5/297 وينبغي أن يعلم أنه ليس المقصود من الأضحية اللحم فقط، وتوزيعه صدقة أو هدية وإنما يقصد بالأضحية أيضاً تعظيم شعائر الله عز وجل، وإراقة الدم كوسيلة من وسائل الشكر لله تعالى، قال الله تعالى:} ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ {سورة الحج الآية 32. وكذلك الامتثال لأمر الله عز وجل بإراقة الدم، اقتداءً بإبراهيم عليه الصلاة والسلام كما قال تعالى:} لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} سورة الحج الآية 37. ولو كان المقصود بالأضحية اللحم لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا بردة لما ذبح قبل الوقت المقرر شرعاً أن يعيد الذبح لأن المقصود قد حصل فعن البراء رضي الله عنه قال: (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر بعد الصلاة فقال: من صلى صلاتنا ونسك نسكنا فقد أصاب النسك، ومن نسك قبل الصلاة فتلك شاة لحم. فقام أبو بردة بن نيار فقال: يا رسول الله لقد نسكت قبل أن أخرج إلى الصلاة وعرفت أن اليوم يوم أكل وشرب فتعجلت فأكلت وأطعمت أهلي وجيراني. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تلك شاة لحم. فقال: إن عندي عناقاً جذعةً وهي خيرٌ من شاتي لحم فهل تجزئ عني؟ قال: نعم، ولن تجزئ عن أحدٍ بعدك) رواه البخاري ومسلم.
وقد أجابت دار الإفتاء المصرية عن سؤال وجهه أحد مسلمي منطقة 48 عن التضحية بالعجول المسمنة التي لم تبلغ السنتين فأجابت بما يلي: [جرى فقه أئمة المسلمين على أنه لا يجزىء في الأضحية إلا الأنعام، وهى الإبل والبقر والغنم، لقوله تعالى {ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام} الحج 28، وأقل ما يجزىء من هذه الأنواع في الأضحية الجذع من الضأن، والثنية من المعز وغيرها. لما روى جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (لا تذبحوا إلا مسنة، إلا إن تعسر عليكم، فاذبحوا جذعة من الضأن) وروى عن علي رضي الله عنه قال: (ولا يجوز في الضحايا إلا الثني من المعز والجذعة من الضأن) وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: (لا تضحوا بالجذع من المعز والإبل والبقر) والثني من البقر والمعز ما كان لها سنتان ودخلت في الثالثة، ومن الإبل ما كان لها خمس سنوات ودخلت في السادسة، وقد جزم الثقات من أهل اللغة بأن الجذع من الضأن والماعز والظباء والبقر ما أتم عاماً كاملاً ودخل في الثاني من أعوامه فلا يزال جذعاً حتى يتم عامين ويدخل في الثالث فيكون ثنياً وتحديد سن الأضحية توقيفي بمعنى أنه ثابت بالسنة الصحيحة أن الجذع من الضأن كاف تجوز به الأضحية، أما من غيره فلا تجزيء وليست الحكمة في هذا - والله أعلم - كثرة اللحم مع تلك السن أو قلته مع هذه ... لما كان ذلك: لم تجزيء الأضحية من البقر المسئول عنه مادام سنه منذ ولادته عشرة أشهر، ولابد لجوازه أضحية مشروعة أن يكون له عامان ودخل في الثالث على ما تقدم بيانه لأن الاعتبار لبلوغ سن التلقيح لا لكثرة اللحم]
والشرط الثالث من شروط الأضحية أن تكون سليمة من العيوب المانعة من صحة الأضحية فعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أربعٌ لا تجوز في الأضاحي: العوراء البين عورها والمريضة البين مرضها والعرجاء البين عرجها والكسير التي لا تنقي. قال: – أي الراوي عن البراء وهو عبيد بن فيروز – قلت: فإني أكره النقص في السن. قال: - أي البراء – ما كرهتَ فدعه، ولا تحرمه على أحد) رواه أصحاب السنن. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أهل العلم. وصححه الشيخ الألباني إرواء الغليل 4/361.
ومن شروط صحة الأضحية أن تذبح في الوقت المقرر شرعاً بدايةً ونهايةً فمن ذبح قبل دخول الوقت فلا تعتبر ذبيحته أضحية فعن البراء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا، نصلي ثم نرجع فننحر، فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا، ومن ذبح فإنما هو لحم قدمه لأهله، وليس من النسك في شيء) رواه البخاري ومسلم
وعن البراء رضي الله عنه قال: (ذبح أبو بردة قبل الصلاة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أبدلها. قال: ليس عندي إلا جذعة – قال شعبة: وأحسبه قال هي خيرٌ من مسنَّة – قال: اجعلها مكانها ولن تجزئ عن أحدٍ بعدك) رواه البخاري ومسلم. وخلاصة الأمر أن شروط الأضحية شروط توقيفية وليست اجتهادية كما ورد في السؤال ولا بد من الالتزام بها ومن أخل بشرط منها فلا يعد ما ذبحه أضحية وهذا ما اتفق عليه أهل العلم ولا يغترن أحد ببعض الفتاوى التي تجاوزت تلك الشروط بحجة التيسير والتسهيل على الناس.(11/2)
3 - الاستدانة من أجل العقيقة
يقول السائل: إنه رزق ببنت ولا يملك ثمن العقيقة فهل يستدين ليعق عن بنته؟
الجواب: العقيقة من السنن الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم فقد ثبت في الحديث عن سلمان بن عامر الضبي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (مع الغلام عقيقة فأهريقوا عنه دماً وأميطوا عنه الأذى) رواه البخاري.
وعن سَمُرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل غلام رهينة بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه ويحلق ويسمَّى) رواه أبو داود والنسائي والترمذي وقال: حسن صحيح.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عقّ عن الحسن والحسين كبشاً كبشاً) رواه أبو داود وقال النووي: إسناده صحيح. المجموع 8/428 وغير ذلك من الأحاديث.
ولا شك أن ن إحياء السنن النبوية أمر مطلوب شرعاً من المسلم فينبغي المحافظة على هذه السنة في حق كل من كان مستطيعاً لها، فالأفضل لمن أراد العقيقة أن يكون مستطيعاً فإذا كانت الواجبات الشرعية كالحج قد اشترط فيها الاستطاعة فمن باب أولى السنن.
وقال بعض أهل العلم إن العقيقة مشروعة في حق الفقير الذي لا يملك ثمنها، بل إن الإمام أحمد يرى أنه يستحب للمسلم إن كان معسراً أن يستقرض ويشتري عقيقة ويذبحها إحياءً للسنة، وقد ورد عن الإمام أحمد وقد سئل عن العقيقة إن استقرض، قال الإمام أحمد: [رجوت أن يخلف الله عليه، أحيا سنة] . وسأله ابنه صالح: [الرجل يولد له وليس عنده ما يعق أحب إليك أن يستقرض ويعق عنه أم يؤخر ذاك حتى يوسر؟ قال: أشد ما سمعنا في العقيقة حديث الحسن عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (كل غلام مرتهن بعقيقته) وإني لأرجو إن استقرض أن يعجل الله الخلف لأنه أحيا سنة من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم واتبع ما جاء عنه. تحفة المودود ص 50-51.
وعقَّب ابن المنذر على كلام الإمام أحمد بقوله: [صدق أحمد إحياء السنن واتباعها أفضل وقد ورد فيها من الأخبار التي رويناها ما لم يرد في غيرها ولأنها ذبيحة أمر النبي صلى الله عليه وسلم بها فكانت أولى كالوليمة والأضحية] المغني 9/460
وقال ابن القيم معقباً على كلام الإمام أحمد ما نصه: [وهذا لأنه سنة ونسيكة مشروعة بسبب تجدد نعمة الله على الوالدين وفيها سر بديع موروث عن فداء إسمايل بالكبش الذي ذبح عنه وفداه الله به فصار سنة في أولاده بعده أن يفدي أحدهم عند ولادته كما كان ذكر اسم الله عليه عند وضعه في الرحم حرزاً له من ضرر الشيطان ... ] تحفة المودود ص51
وينبغي أن يعلم أن كثيراً من الناس ينفقون نفقات باهظة عند الولادة في شراء الملابس والحلويات وغيرها ويقيمون حفلات عيد الميلاد المحرمة شرعاً ويبخلون عن العقيقة فلا يعقون عن أولادهم.
وخلاصة الأمر أن من لم يملك ثمن العقيقة فلا يلزمه أن يستدين ليعق ولكن إن استدان وعق فله الأجر والثواب ودَينه مقضي بإذنه تعالى لأنه أحيا سنة نبوية.(11/3)
4 - بداية وقت الأضحية ونهايته
يقول السائل: إنه يعمل في جمعية خيرية وهذه الجمعية الخيرية تتولى ذبح الأضاحي التي يتبرع بها المحسنون وفي هذا العام فرض نظام حظر التجول على منطقتهم حتى خرجت أيام التشريق ولديهم أكثر من مئتي أضحية لم تذبح ولم يتمكنوا من ذبحها لصعوبة الظروف والأحوال فهل يجوز لهم ذبحها بعد انتهاء أيام التشريق؟
الجواب: آخر وقت ذبح الأضحية هو غروب شمس اليوم الثالث من أيام التشريق أي أن وقت الذبح هو يوم العيد وثلاثة أيام بعده وهذا هو الراجح من أقوال أهل العلم ونقل هذا القول عن عمر بن عبد العزيز وسليمان بن موسى الأسدي فقيه أهل الشام وبه قال عطاء والحسن والأوزاعي ومكحول واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم والشوكاني وهو قول الشافعية.
ويدل على ذلك ما ورد في الحديث عن جبير بن مطعم رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كل فجاج مكة منحر، وكل أيام التشريق ذبح) رواه أحمد وابن حبان وصححه ورواه البيهقي والطبراني في الكبير والبزار والدراقطني وغيرهم. وقال الهيثمي: [رواه أحمد والبزار والطبراني في الكبير إلا أنه قال: (وكل فجاج مكة منحر) ورجاله موثقون] مجمع الزوائد3/251.
وقال الحافظ ابن حجر: [أخرجه أحمد لكن في سنده انقطاع، ووصله الدارقطني ورجاله ثقات] فتح الباري 12/103 وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع 2/834
واحتجوا بأن هذا القول قد نقل عن علي وابن عباس وعطاء وعمر بن عبد العزيز، فقد روى البيهقي بإسناده عن ابن عباس قال: الأضحى ثلاثة أيام بعد يوم النحر.
وروى أيضاً عن الحسن وعطاء قالا: يُضَحَّى إلى آخر أيام التشريق.
وروى أيضاً عن عمر بن عبد العزيز قال: الأضحى يوم النحر وثلاثة أيام بعده) سنن البيهقي 9/296-297. هذا هو القول الراجح في المسألة في الظروف والأحوال العادية.
وأما في الظروف والأحوال الاستثنائية كما ذكر في السؤال من فرض نظام حظر التجول وما قد يترتب على الخروج من البيوت خلال فرض نظام حظر التجول من مخاطر شديدة على الناس فإنه يجوز ذبح الأضاحي بعد انتهاء آخر وقت الذبح ومن المعلوم عند العلماء أن الضرورات تبيح المحظورات وفي الحالة المسؤول عنها فقد تتعرض حياة الناس للخطر فيباح لهم الذبح خارج الوقت. وكذلك فإن الله سبحانه وتعالى لا يكلف الناس إلا بما يطيقون. قال تعالى: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) سورة البقرة الآية 286. وقال تعالى: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَاءَاتَاهَا) سورة الطلاق الآية 7. ويقول تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) سورة التغابن الآية 16.
وغير ذلك من النصوص الشرعية التي تدل على أن التكليف يكون بقدر الوسع وكذلك فإن الحنفية والمالكية يرون أنه إذا فات الإنسان وقت الأضحية ولم يضح فإنها تقضى قال الكاساني: [ومنها أنها تقضى إذا فاتت عن وقتها والكلام فيه في موضعين: أحدهما: في بيان أنها مضمونة بالقضاء في الجملة. والثاني: في بيان ما تقضى به. أما الأول: فلأن وجوبها في الوقت إما لحق العبودية أو لحق شكر النعمة أو لتكفير الخطايا لأن العبادات والقربات إنما تجب لهذه المعاني وهذا لا يوجب الاختصاص بوقت دون وقت فكان الأصل فيها أن تكون واجبة في جميع الأوقات وعلى الدوام بالقدر الممكن إلا أن الأداء في السنة مرة واحدة في وقت مخصوص أقيم مقام الأداء في جميع السنة تيسيراً على العباد فضلاً من الله عز وجل ورحمة كما أقيم صوم شهر في السنة مقام جميع السنة وأقيم خمس صلوات في يوم وليلة مقام الصلاة آناء الليل وأطراف النهار فإذا لم يؤد في الوقت بقي الوجوب في غيره لقيام المعنى الذي له وجبت في الوقت] بدائع الصنائع 4/202.
ولكن الحنفية يرون أن قضاء الأضحية يكون بالتصدق بعين الشاة حية أو بقيمة الشاة. انظر المصدر السابق 4/202. ويرى الحنابلة أن الأضحية المعينة وكذا المنذورة تذبح إن فات وقت الذبح.
قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [إذا فات وقت الذبح ذبح الواجب قضاءً وصنع به ما يصنع بالمذبوح في وقته] المغني 9/454. وقال مستدلاً لذلك: [ولنا أن الذبح أحد مقصودي الأضحية فلا يسقط بفوات وقته كتفرقة اللحم وذلك أنه لو ذبحها في الأيام ثم خرجت قبل تفريقها فرقها بعد ذلك] المغني 9/454.
وينبغي أن يعلم أن من أهل العلم من قال إن وقت ذبح الأضحية يستمر حتى نهاية شهر ذي الحجة وهذا قول أبي سلمة بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار من التابعين وبه قال ابن حزم الظاهري. المحلى 6/39-41.
واحتجوا بما رواه البيهقي بإسناده عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار أنه بلغهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الضحايا إلى آخر الشهر لمن أراد أن يستأني ذلك) . قال ابن حزم: [وهذا من أحسن المراسيل وأصحها] المحلى 6/43. وفي رواية أبي حامد أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: (الضحايا إلى هلال المحرم لمن أراد أن يستأني ذلك) رواه أبو داود في المراسيل.
وما رواه البيهقي بإسناده عن يحيى بن سعيد قال: [سمعت أبا أمامة بن سهل بن حنيف يقول: إنْ كان المسلمون ليشتري أحدهم الأضحية فيسمنها فيذبحها بعد الأضحى آخر ذي الحجة] .
ثم قال البيهقي: [حديث أبي سلمة وسليمان مرسل، وحديث أبي أمامة حكاية عمن لم يسم] سنن البيهقي 9/297-298
وقال الحافظ ابن حجر عند ذكر رواية يحيى بن سعيد قال: [سمعت أبا أمامة بن سهل. قال كنا نسمن الأضحية بالمدينة وكان المسلمون يسمنون] . قال الحافظ: [وصله أبو نعيم في المستخرج من طريق أحمد بن حنبل عن عباد بن العوام أخبرني يحيى بن سعيد وهو الأنصاري ولفظه: كان المسلمون يشتري أحدهم الأضحية فيسمنها ويذبحها في آخر ذي الحجة] قال أحمد هذا الحديث عجيب فتح الباري 12/105
قال ابن حزم: [الأضحية فعل خير وقربة إلى الله تعالى، وفعل الخير حسن في كل وقت، قال الله تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} فلم يخص تعالى وقتاً من وقت، ولا رسوله عليه الصلاة والسلام؛ فلا يجوز تخصيص وقت بغير نص فالتقريب إلى الله تعالى بالتضحية حسن ما لم يمنع منه نص أو إجماع، ولا نص في ذلك ولا إجماع إلى آخر ذي الحجة] المحلى 6/42
ولكن هذا القول ضعيف وما احتجوا به عليه لا يصلح دليلاً قال الشيخ الألباني: [ (الضحايا إلى هلال محرم لمن أراد أن يستأني ذلك)
ضعيف أخرجه البيهقي وكذا أبو داود في المراسيل من طريقين عن أبان بن يزيد: ثنا يحيى بن أبي كثير عن محمد بن إبراهيم: حدثني أبو سلمة وسليمان بن يسار أنه بلغهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فذكره. قلت: وهذا إسناد ضعيف لإرساله ورجاله ثقات] السلسلة الضعيفة 9/106. وضعفه الألباني أيضاً في ضعيف الجامع الصغير ص526.
وقال الشيخ أبو الطيب محمد شمس الحق العظيم أبادي معلقاً على رواية الدارقطني بسنده عن أبي سلمة وسليمان بن يسار أنه بلغهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الضحايا إلى آخر الشهر لمن أراد أن يستأني ذلك) قال أبو الطيب: [قوله: أنه بلغهما. وأخرجه أبو داود في مراسيله (الضحايا إلى هلال المحرم لمن أراد أن يستأني ذلك) ذكره الشعراني في البدر المنير وقال الحافظ جمال الدين المزي في الأطراف حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار أنه بلغهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الأضاحي إلى هلال المحرم إذا أراد أن يستأني ذلك أخرجه أبو داود في المراسيل عن موسى بن إسماعيل عن أبان عن يحيى عن محمد بن إبراهيم عن سليمان بن يسار مولى ميمونة وأبي سلمة بن عبد الرحمن انتهى. وقال الحافظ في فتح الباري: أخرج أبو نعيم في المستخرج من طريق أحمد بن حنبل عن عباد بن العوام أخبرني يحيى بن سعيد وهو الأنصاري سمعت أبا أمامة بن سهل قال: كان المسلمون يشتري أحدهم الأضحية فيسمنها ويذبحها في آخر ذي الحجة قال أحمد: هذا الحديث عجيب انتهى. قال الحافظ: وهو قول عمر بن عبد العزيز وأبي سلمة وسليمان بن يسار غيرهم وقال به ابن حزم متمسكاً بعدم ورود نص بالتقييد وأخرج ما رواه ابن أبي شيبة من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار قالا: عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله قال: أي ابن حزم وهذا سند صحيح إليهما لكنه مرسل انتهى. وقال الحافظ ابن كثير في تفسيره: وقيل إن وقت الذبح يمتد إلى آخر ذي الحجة وبه قال إبراهيم النخعي وأبو سلمة بن عبد الرحمن وهو قول غريب انتهى. قلت: رواية سليمان بن يسار مرسلة لا يحتج بها. وكذا أثر أسعد أبي أمامة بن سهل لا تقوم به الحجة لأنه ليس من قبيل المرفوع بل ولا الموقوف لأن أبا أمامة بن سهل بن حنيف ولد قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم لعامين فليس مراسيله كمراسيل الصحابة] التعليق المغني على الدارقطني 4/275-258.
إذا تقرر هذا فلا يصح الاعتماد على هذا الحديث ولا على ما قاله أبو سلمة بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار ولا على ما قاله ابن حزم.
وخلاصة الأمر أنه لا يجوز ذبح الأضاحي بعد فوات وقتها الشرعي إلا للضرورة الملحة كما في حالة فرض نظام حظر التجول طوال أيام العيد الأربعة.(11/4)
5 - من تشرع في حقه الأضحية.
يقول السائل: في حق من تشرع الأضحية؟
الجواب: إن الأضحية سنة مؤكدة ثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم وقد واظب على فعلها الصحابة الكرام وإن تركها بعضهم خشية أن يظن الناس وجوبها كما ثبت ذلك عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. رواه البيهقي بإسناد حسن كما قال النووي. والأضحية تطلب ممن كان موسراً مالكاً لنصاب الزكاة على قول بعض أهل العلم ومنهم من يرى أنها تشرع في حق من ملك ثمنها زائداً عن حوائجه الأصلية وأجاز بعض العلماء أن يستدين الشخص ليضحي إحياء لهذه السنة العظيمة. *****(11/5)
6 - الأضحية أفضل من التصدق بثمنها.
يقول السائل: أيهما أفضل أن يضحي المسلم أو أن يتصدق بثمنها؟
الجواب: لا شك أن ذبح الأضحية أفضل من التصدق بثمنها لفعل الرسول عليه الصلاة والسلام لها ومواظبته على ذلك ولما ورد في الأحاديث في فضل الأضحية ومن ذلك: عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما عمل ابن آدم يوم النحر عملاً أحب إلى الله من إهراق الدم وإنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأظلافها وأشعارها وإن الدم ليقع من الله عز وجل قبل أن يقع على الأرض فطيبوا بها نفساً. رواه ابن ماجة والترمذي وقال حسن غريب ورواه الحاكم وقال صحيح الإسناد. وعن زيد بن أرقم قال: قلت يا رسول الله ما هذه الأضاحي؟ قال: سنة أبيكم إبراهيم. قالوا: ما لنا منها؟ قال: بكل شعرة حسنة. قالوا: فالصوف؟ قال: بكل شعرة من الصوف حسنة. رواه أحمد وابن ماجة والحاكم وقال صحيح الإسناد. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من وجد سعة فلم يضح فلا يقربن مصلانا) رواه أحمد وابن ماجة والحاكم وصححه وأقره الذهبي ورجح الحافظ ابن حجر أنه موقوف على الصحابي. وغير ذلك من الأحاديث وهي بمجموعها تدل على فضل الأضحية وأنها أحب الأعمال إلى الله سبحانه وتعالى يوم النحر إذا كانت الأضحية خالصة لوجه الله وإقتداء بسنة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم. *****(11/6)
7 - أحكام الأضحية.
التضحية بالخصي , هل يجوز التضحية بالحيوان الخصي؟
الجواب: نعم يجزئ الحيوان الخصي في الأضحية على قول اكثر أهل العلم وقد ورد في الحديث عن أبي رافع قال: (ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين موجؤين خصيين) رواه أحمد وقال الهيثمي إسناده حسن. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (ضحى رسول الله بكبشين سمينين عظيمين أملحين أقرنين موجؤين) رواه أحمد. والأملح ما كان بياضه خالصاً، والأقرن: ما له قرون، والموجوء: الخصي. وكون الكبش خصياً لا يعد عيباً مانعاً من صحة الأضحية بل إن الخصي قد يكون أسمن من غير الخصي فلا بأس بالتضحية بالخصي. *****(11/7)
8 - حديث (استسمنوا ضحاياكم) وبيان درجته
سمعت حديثاً عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال استسمنوا ضحاياكم فاتها على الصراط مطاياكم، فهل ثبت الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم؟
الجواب: إن هذا الحديث ورد بألفاظ غير ما ذكر في السؤال منها: (استفرهوا ضحاياكم ... الخ) ومنها (عظموا ضحاياكم) . وهذا الحديث بألفاظه المختلفة غير ثابت عن الرسول صلى الله عليه وسلم بل هو حديث ضعيف جداً، قال الحافظ ابن حجر فيه: [ألم أره ... ] وقال ابن الصلاح: [هذا الحديث غير معروف ولا ثابت فيما علمناه] ثم ذكر أن صاحب مسند الفردوس قد رواه وفيه راو ضعيف جداً. التلخيص الحبير 4/138. وقال العجلوني: [إنه ضعيف جداً] . كشف الخفاء 1/138. وقال الألباني: [لا اصل له بهذا اللفظ (عظموا ضحايام.. الخ) ] الضعيفة 1: 102 وقال في موضع آخر: [ضعيف جداً] . الضعفية 3 411. وينبغي أن يعلم أن تضعيف هذا الحديث وردّه لا يعني أن لا تكون الأضحية سمينة بل لا بد من ذلك وقد ورد في اختيار الأضحية السمينة أحاديث صحيحة تغني عن هذا الحديث الضعيف. *****(11/8)
9 - الأضحية عن الميت
يقول السائل: هل يجوز لي أن أذبح أضحية وأجعلها عن والدي المتوفى؟
الجواب: نعم يجوز للابن أن يضحي عن أبيه الميت على الراجح من أقوال أهل العلم ويصل ثوابها إلى أبيه الميت بإذن الله وهذا مذهب الحنابلة واختاره شيخ الإسلام ابن تيتمة ومن قبله وأبو داود صاحب السنن حيث قال: [باب الأضحية عن الميت ثم ذكر بإسناده عن حنش قال: رأيت علياً رضي الله عنه يضحي بكشبين فقلت له: ما هذا؟ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصاني أن أضحي عنه فأنا أضحي عنه، وكان ذلك بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم] . وورد في الحديث عن عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الكبش فأضجعه وقال: بسم الله اللهم تقبل من محمد ومن آل محمد ومن أمة محمد ثم ضحّى به صلى الله عليه وسلم) . رواه أبو داود وقال الشخ الألباني حديث حسن. وقول بعض أهل العلم الذي رخص في الأضحية عن الأموات مطابق للأدلة ومن منعها ليس فيه حجة فلا يقبل كلامه إلا بدليل أقوى منه ولا دليل عليه. والثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يضحي عن أمته ممن شهد له بالتوحيد وشهد له بالبلاغ وعن نفسه وآل بيته ولا يخفى أن أمته صلى الله عليه وسلم ممن شهد له بالتوحيد وشهد له بالبلاغ كان كثير منهم موجوداً زمن النبي صلى الله عليه وسلم وكثير منهم توفوا في عهده صلى الله عليه وسلم فالأموات والأحياء كلهم من أمته صلى الله عليه وسلم دخلوا في أضحية النبي صلى الله عليه وسلم والكبش الواحد كما كان للأحياء من أمته كذلك للأموات من أمته صلى الله عليه وسلم ولا تفرقة. عون المعبود 7/344.
ويؤيد ذلك أن أكثر أهل العلم على أن الميت ينتفع بسعي الحي وقد احتجوا على ذلك بأدلة كثيرة منها قوله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ) سورة الحشر الآية 10. فأثنى الله سبحانه وتعالى عليهم باستغفارهم للمؤمنين قبلهم فدل على انتفاعهم باستغفار الأحياء. ومثل ذلك ما ثبت من أحاديث صحيحة في الدعاء والاستغفار للميت في صلاة الجنازة وبعد الدفن منها حديث عوف بن مالك قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم على جنازة فحفظت منه دعائه وهو يقول: (اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه وكرم نزله ووسّع مدخله واغسله بالماء والثلج والبرد ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس وأبدله داراً خيراً من داره وأهلاً خيراً من أهله، وزوجاً خيراً من زوجه وأدخله الجنة وأعاذه من عذاب القبر ومن عذاب النار) رواه مسلم.
وثبت في الصحيح أن الميت ينتفع بالصدقة عنه كما ورد في حديث ابن عباس أن سعد بن عبادة توفيت أمه وهو غائب عنها فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله إن أمي توفيت وأنا غائب عنها فهل ينفعها غن تصدقت عنها؟ قال: نعم. قال: فإني أشهدك أن حائط المخراف صدقة عنها) رواه البخاري. وثبت في أحاديث أخرى انتفاع الميت بالحج عنه وبالصوم عنه وبقضاء النذر عنه والأضحية عن الميت مثل ذلك. قال بعض أهل العلم: [إن النصوص تتظاهر على وصول ثواب الأعمال إلى الميت إذا فعلها الحي عنه وهذا محض القياس فإن الثواب حق للعامل فإذا هبه لأخيه المسلم لم يمنع من ذلك كما لم يمنع من هبته ماله في حياته وقد نبه الشارع بوصول ثواب الصدقة على وصول سائر العبادات المالية ونبّه بوصول ثواب الصوم على وصول سائر العبادات البدنية وأخبر بوصول الحج المركب من المالية والبدنية] أحكام الذبائح ص 153.
وخلاصة الأمر أن الأضحية عن الميت جائزة وينتفع بثوابها الميت لأن الأضحية عن الميت تعتبر من باب الصدقة وهي جائزة عنه بالنص كما في حديث ابن عباس المتقدم. ****(11/9)
10 - حكم العقيقة
يقول السائل: سألت والدي هل عقّ عني في صغري فأجابني بأنه لم يعق فهل يصح أن أعق عن نفسي بعد أن كبرت؟
الجواب: العقيقة سنة مؤكدة ثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم قولاً وفعلاً وقد وردت فيها أحاديث كثيرة منها قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (كل غلام رهينة بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه ويحلق رأسه ويسمى) رواه ابو داود والترمذي والنسائي وغيرهم وهو حديث صحيح. وثبت في الحديث عن سلمان بن عامر الضبي أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (مع الغلام عقيقة فأهريقوا عنه دماً وأميطوا عنه الأذى) رواه البخاري وغير ذلك من الأحايث. والسنة أن تكون العقيقة بعد ولادة الطفل بأسبوع كما ثبت في الحديث وقد أجاز جماعة من أهل العلم للشخص الذي لم يعق عنه صغيراً أن يعق عن نفسه كبيراً وقد استدلوا بما روي: (أن النبي عليه الصلاة والسلام عق عن نفسه بعد النبوة) رواه البيهقي والبزار والطبراني. ولكن هذا الحديث باطل ولا يصح عن الرسول صلى الله عليه وسلم كما قال الإمام أحمد والنووي والبيهقي وغيرهم ومع عدم ثبوت الحديث المذكور قرر الفقهاء أنه لم يرد ما يمنع من العقيقة في حال الكبر وقد وردت آثار عن بعض السلف تجيز أن يعق الإنسان عن نفسه بعد الكبر منها:
1. عن الحسن البصري قال: [إذا لم يعق عنك فعق عن نفسك وإن كنت رجلاً] ذكره ابن حزم في المحلى والبغوي في شرح السنة.
2. وقال محمد بن سيرين: [عققت عن نفسي ببختية بعد أن كنت رجلاً] ذكره البغوي في شرح السنة، والبخت: نوع من الجمال.
3. ونقل عن الإمام أحمد أنه استحسن إن لم يعق عن الإنسان صغيراً أن يعق نفسه كبيراً وقال إن فعله إنسان لم أكرهه. نقل ذلك عنه ابن القيم في تحفة المودود. وبناء على ذلك لا مانع أن يعق الإنسان عن نفسه حال الكبر إن لم يعق عنه حال الصغر. *****(11/10)
11 - أحكام الأضحية.
يقول السائل: ما حكم الأَضحية وماذا يجب أن يتوفر فيها وما وقت ذبحها وكيف توزع؟
الجواب: الأضحية: هي ما يذبح من الأنعام تقرباً إلى الله تعالى يوم النحر وأيام التشريق ... وهي سنة مؤكدة عند جماهير أهل العلم وهي مشروعة بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلاً وقولاً فقد ثبت في الحديث عن أنس رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم (ضحى بكبشين أقرنين أملحين وكان يسمّي ويكبر) رواه البخاري ومسلم والأملح: هو النقي البياض. وعن عائشة رضي الله عنها: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بكبش أقرن يطأ في سواد ويبرك في سواد وينظر في سواد فأتي به ليضحي به فقال لها يا عائشة هلمي المدية ثم قال: اشحذيها بحجر ففعلت ثم أخذها وأخذ الكبش فأضجعه ثم ذبحه ثم قال: باسم الله اللهم تقبل من محمد وآل محمد ومن أمة محمد) رواه مسلم. وعن البراء بن عازب قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم النحر فقال: (لا يضحين أحد حتى يصلي فقال رجل: عندي عناق لبن هي خير من شاتي لحم قال: فضحِ بها ولا تجزئ جذعة عن أحد بعدك) رواه مسلم. والأضحية قربة يتقرب بها العبد إلى ربه إحياء لذكرى إبراهيم عليه الصلاة والسلام عندما رأى في المنام أنه يذبح ولده إسماعيل حيث فداه الله بذبح عظيم كما في أيات سورة الصافات (فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى ... ) إلى قوله تعالى: (وفديناه بذبح عظيم) .
وبما أنها قربة إلى الله تعالى فيجب أن تطيب بها نفس المضحي وأن تكون سمينة طيبة خالية من العيوب التي تنقص من قيمتها وقدرها ففي الحديث عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً فقال: أربع لا تجوز في الأضاحي: العوراء البين عورها والمريضة البين مرضها والعرجاء البين ضلعها والكبيرة التي لا تنقي) رواه أصحاب السنن وهو حديثٌ صحيح. ويقاس على هذه العيوب المذكورة في الحديث ما لم يذكر من العيوب الأشد فلا يضحى بالعمياء ولا الكبيرة ولا بالكسيرة ونحو ذلك. ومن الشروط التي يجب توفرها في الأضحية أن تبلغ سناً معينة حددها الشارع الحكيم ففي الإبل إتمام خمس سنوات من عمرها وفي البقر إتمام سنتين من عمرها وفي الغنم إتمام سنة من عمرها. وأجاز بعض أهل العلم في الضأن ما أتم أكثر السنة كثمانية أشهر إذا كان سميناً يخفى بين ما أتم السنة من الضأن. ووقت ذبح الأضحية يبدأ بعد الإنتهاء من صلاة العيد ويستمر حتى مغيب شمس اليوم الثالث من أيام التشريق على الراجح من أقوال أهل العلم، أي أن مدة الذبح أربعة أيام، يوم العيد وأيام التشريق الثلاثة.
ولا يجوز ذبح الأضحية قبل صلاة العيد فإن ذبح قبل صلاة العيد فلا تعتبر أضحية وإنما شاة لحم، كما جاء في الحديث عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا نصلي ثم نرجع فننحر فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا ومن ذبح قبل ذلك فإنما هو لحم قدمه لأهله ليس من النسك في شيء) رواه مسلم. وأما توزيع الأضحية فقد استحب بعض أهل العلم أن توزع أثلاثاً ثلث للأكل والإدخار وثلث للتصدق به على الفقراء وثلث هدية للأقارب والأصدقاء ومن المستحب أن يأكل المضحي من أضحيته اقتداءً بالرسول صلى الله عليه وسلم. ومن الأمور المستحبة أيضاً أن يتولى المضحي ذبح أضحيته بنفسه إن كان يحسن الذبح وإلا وكل بذبحها غيره، ويستحب له أن يشهد ذبحها.
ويستحب أيضاً فيمن أراد أن يضحي أن لا يأخذ من شعره أو من أظافره شيئاً من بداية شهر ذي الحجة إلى أن يضحي لما ورد في الحديث عن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يأخذ من شعره ولا من أظافره شيئاً حتى يضحي) رواه مسلم. والحكمة من ذلك أن يكون المضحي في أكمل هيئته فيغفر له غفراناً تاماً. ولا يجوز بيع أي شيء من الأضحية وكذلك لا يجوز إعطاء الجزار شيئاً منها على سبيل الأجرة. ولا بأس بالتضحية عن الميت على الراجح من أقوال العلماء وأن الميت ينتفع بذلك إن شاء الله.(11/11)
12 - حكم العقيقة
يقول السائل: ما هي العقيقة؟ وما حكمها؟
الجواب: العقيقة هي الذبيحة التي تذبح عن المولود في اليوم السابع من ولادته شكراً لله تعالى على نعمة الولد ذكراً كان أو أنثى. وهي سنة مؤكدة ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد ورد فيها أحاديث كثيرة منها: 1. عن سلمان بن عامر الضبي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (مع الغلام عقيقة فأريقوا عنه دماً وأميطوا عنه الأذى) رواه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم. 2. عن سمرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل غلام رهينة بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه ويحلق ويسمى) رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وقال الترمذي حسنٌ صحيح. 3. عن أم كرز الكعبية رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (عن الغلام شاتان مكافئتان وعن الجارية شاة) رواه أبو داود وأحمد والبيهقي وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. 4. عن عمرو بن شعيب أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من ولد له ولد فأحب أن ينسك عن ولده فليفعل عن الغلام شاتان مكافئتان وعن الجارية شاة) رواه أبو داود والنسائي وأحمد وغيرهم وقال الألباني حسنٌ صحيح. 5. عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم عقَّ عن الحسن والحسين كبشين كبشين) رواه النسائي وهو صحيح كما قال الألباني. وشرعت العقيقة شكراً لله تعالى على نعمة الولد فإنها من أعظم النعم والأولاد من زينة الحياة الدنيا، قال الله تعالى: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) ، وفطر الله جل جلاله الإنسان على السرور والفرح والبهجة عند قدوم المولود فكان حرياً بالإنسان أن يشكر الله الخالق الواهب. وقد ورد في الأثر عن الحسين رضي الله عنه في تهنئته من رزق مولوداً أن يقال له: (بارك الله لك في الموهوب وشكرت الواهب وبلغ أشده ورزقت بره) .
وكذلك فإن العقيقة فكاك المولود وفديته من تسلط الشيطان عليه. وفيها أيضاً نوع من التكافل الإجتماعي في الإسلام حيث إن الذي يعق عن ولده فيذبح عنه ويطعم الفقراء والأصدقاء والجيران أو يدعوهم إليها، فيسهم كل ذلك في إشاعة المودة والمحبة بين الناس ويخفف من معناة الفقراء والمحتاجين. والعقيقة تشارك الأضحية في أكثر أحكامها عند جمهور الفقهاء فيشترط فيها أن تكون من الأنعام وهي الضأن والمعز والإبل والبقر ويشترط أن تكون سليمة من العيوب فلا يجزيء فيها العرجاء البين عرجها ولا العوراء البين عورها ولا المريضة البين مرضها ولا العجفاء الهزيلة فينبغي أن تكون سمينة طيبة فإن الله طييبٌ لا يقبل إلا طيباً. كما يشترط فيها توافر الأسنان المطلوبة شرعاً كما هو الحال في الأضحية فينبغي أن تبلغ الشاة السنة من عمرها والبقرة السنتين والناقة الخمس سنين. ويذبح عن الغلام شاتان وعن الأنثى شاة فإن ذبح شاة عن الغلام أجزأ وحصل أصل السنة. ويتصرف في العقيقة كما يتصرف في الأضحية فتوزع أثلاثاً ثلث لأهل البيت وثلث للصدقة وثلث للهدية. واستحب بعض العلماء أن لا يتصدق بلحمها نيئاً بل يطبخ ويتصدق به على الفقراء بإرساله مطبوخاً. وفضل بعض العلماء دعوة الناس إلى العقيقة بعد طبخها، وقد ورد عن الإمام مالك رحمه الله أنه عق عن ولد له فوصف لنا كيف صنع بالعقيقة فقال: [عققت عن ولدي وذبحت ما أريد أن أدعو إليه إخواني وغيرهم وهيأت طعامهم ثم ذبحت شاة العقيقة فأهديت منها للجيران وأكل منها أهل البيت وكسروا ما بقي من عظمها وطبخت فدعونا إليها الجيران فأكلوا وأكلنا ... فمن وجد سعة فأحب له أن يفعل هذا ومن لم يجد فليذبح عقيقة ثم ليأكل وليطعم منها] . ويجوز أن يباع جلدها وسواقطها ويتصدق بثمنه على الفقراء والمحتاجين.
وأما وقت ذبح العقيقة فقد وردت الأحاديث بتحديده باليوم السابع من ولادته المولود كما في حديث سمرة أنه عليه الصلاة والسلام قال: (كل غلام رهينة بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه ويحلق ويسمى) وجاء في حديث عائشة رضي الله عنها: (عق رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحسن والحسين يوم السابع) وهذا هو الوقت المستحب للعقيقة ولو أخرها عن ذلك يجوز ويفضل أن تكون في اليوم الرابع عشر من الولادة أو الحادي والعشرين وهكذا في الأسابيع.(11/12)
13 - بداية وقت الأضحية ونهايته
يقول السائل: متى يبدأ وقت ذبح الأضحية ومتى ينتهي؟
الجواب: يدخل وقت ذبح الأضحية بعد طلوع شمس اليوم العاشر من ذي الحجة، وبعد دخول وقت صلاة الضحى، ومُضي زمان من الوقت يسع صلاة ركعتين وخطبتين خفيفتين، لا فرق في ذلك بين أهل الحضر والبوادي. وهذا قول الشافعية والحنابلة، وبه قال ابن المنذر وداود الظاهري والطبري، ويرى الحنابلة أيضاً أن يكون الذبح بعد صلاة الإمام وخطبته خروجاً من الخلاف. المغني 9/452، المجموع 8/387. ويدل على ذلك ما يلي: 1. حديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا، نصلي ثم نرجع فننحر، فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا، ومن ذبح فإنما هو لحم قدمه لأهله، وليس من النسك في شيء) رواه البخاري ومسلم. 2. وفي رواية أخرى عن البراء قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم نحر فقال: (لا يضحين أحدٌ حتى يصلي. قال رجل: عندي عناق لبن هي خير من شاتي لحم. قال: فضح بها ولا تجزئ جذعة عن أحد بعدك) رواه مسلم. 3. وفي رواية ثالثة قال البراء رضي الله عنه: (ذبح أبو بردة قبل الصلاة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم أبدلها … الخ) رواه البخاري ومسلم. 4. وفي رواية رابعة عن البراء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يذبحن أحد حتى يصلي) رواه مسلم. 5. وفي رواية خامسة عن البراء رضي الله عنه قال: (صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا فلا يذبح حتى ينصرف) رواه البخاري. 6. وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر: (من كان ذبح قبل الصلاة فليعد فقام رجل فقال يا رسول الله …) رواه البخاري ومسلم. قالوا إن هذه الأحاديث تدل على أن وقت الأضحية يكون بعد الصلاة. قال الحافظ ابن حجر معلقاً على الرواية الخامسة من حديث البراء رضي الله عنه: [تمسك به الشافعية في أن أول وقت الأضحية قدر فراغ الصلاة والخطبة، وإنما شرطوا فراغ الخطيب، لأن الخطبتين مقصودتان مع الصلاة في هذه العبادة فيعتبر مقدار الصلاة والخطبتين على أخف ما يجزي بعد طلوع الشمس، فإذا ذبح بعد ذلك أجزأه الذبح عن الأضحية سواء صلَّى العيد أم لا وسواء ذبح الإمام أضحيته أم لا، ويستوي في ذلك أهل المص والحاضر والبادي …… قال القرطبي: ظواهر الأحاديث تدل على تعليق الذبح بالصلاة، لكن لما رأى الشافعي أن من لا صلاة عيد عليه مخاطب بالتضحية حمل الصلاة على وقتها] فتح الباري 12/117-118. وظاهر الأحاديث السابقة اعتبار نفس الصلاة فيبدأ وقت الأضحية بعد الصلاة في حق من يصلي العيد، وأما من لا يصلي العيد كأهل البوادي , فأول وقتها في حقهم مضي قدر الصلاة والخطبتين بعد الصلاة، لأنه لا صلاة في حقهم تعتبر فوجب الاعتبار بقدرها. انظر المغني 9/ 452. وبناءً على ما تقدم فإن وقت الأضحية يبدأ بعد انتهاء صلاة العيد والخطبة، إن صليت صلاة العيد كما كان يصليها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد طلوع الشمس وارتفاعها بمقدار رمح أو رمحين، سواء صلَّى مريدُ الأضحية العيد أم لم يصل، وسواء كان من أهل البوادي أو الحضر، وسواء ذبح الإمام أو لم يذبح، وفي زماننا هذا حيث إنه لا إمام للمسلمين، فلا يرتبط أمر الأضحية بفعل الحكام الموجودين ولا أرى التفريق بين أهل البوادي والحضر، لعموم الأحاديث الواردة كحديث أنس رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من ذبح قبل الصلاة فإنما يذبح لنفسه ومن ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه وأصاب سنة المسلمين) رواه البخاري.
وأما آخر وقت ذبح الأضحية فهو غروب شمس اليوم الثالث من أيام التشريق، أي أن أيام النحر أربعة؛ يوم العيد وثلاثة أيام بعده، وهذا أرجح أقوال العلماء في المسألة وهو قول الشافعية ونقل هذا القول عن عمر بن عبد العزيز وسليمان بن موسى الأسدي فقيه أهل الشام، وهو قول عطاء والحسن والأوزاعي ومكحول واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم والشوكاني انظر المغني 9/453، المجموع 8/390، زاد المعاد 2/318، نيل الأوطار 5/142. قال الإمام الشافعي: [فإذا غابت الشمس من آخر أيام التشريق ثم ضحى أحد فلا ضحية له] الأم2/222.. ويدل على ذلك ما ورد في الحديث عن جبير بن مطعم رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كل فجاج مكة منحر، وكل أيام التشريق ذبح) رواه أحمد وابن حبان وصححه ورواه البيهقي والطبراني في الكبير والبزار والدراقطني وغيرهم. وقال البيهقي: وهو مرسل. وذكر له طرقاً متصلة، ولكنها ضعيفة كما قال إلا أنه قال أيضاً إن حديث جبير أولى أن يقال به. سنن البيهقي 9/295-298. وقال الهيثمي: [رواه أحمد والبزار والطبراني في الكبير إلا أنه قال: (وكل فجاج مكة منحر) ورجاله موثقون] مجمع الزوائد 3/251. وقال الحافظ ابن حجر: [أخرجه أحمد لكن في سنده انقطاع، ووصله الدارقطني ورجاله ثقات] فتح الباري 12/103 وذكره السيوطي في الجامع الصغير ورمز له بالصحة وأقره المناوي فيض القدير 5/35. وقال الشيخ الألباني: صحيح كما في صحيح الجامع الصغير 2/834. وقال الشيخ أحمد الغماري: [فحديث جبير بن مطعم، رواه أحمد والبزار والطبراني وابن حبان في الصحيح، والبيهقي عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل عرفات موقف، وكل مزدلفة موقف، وارفعوا عن محسر، وكل فجاج منى منحر، وكل أيام التشريق ذبح) اختصره البيهقي فاقتصر على ذكر أيام التشريق منه، وهو حديث حسن، وإن كان سند أحمد وقع فيه انقطاع. أما الاختلاف الواقع من سليمان بن موسى، فمحمول على أنه سمعه من عبد الرحمن بن أبي حسين عن جبير بن مطعم، وسمعه من نافع بن جبير عن أبيه أيضاً، ومن محمد بن المنكدر عن جبير، فهو لم يخرج بالحديث عن جبير الذي تعدد من حدثه به، وهو ثقة فالحديث حسن أو صحيح كما قال ابن حبان] الهداية في تخريج أحاديث البداية 403-404. واحتجوا بأن هذا القول قد نقل عن علي وابن عباس وعطاء وعمر بن عبد العزيز، فقد روى البيهقي بإسناده عن ابن عباس قال: الأضحى ثلاثة أيام بعد يوم النحر. وروى أيضاً عن الحسن وعطاء قالا: يُضَحَّى إلى آخر أيام التشريق. وروى أيضاً عن عمر بن عبد العزيز قال: الأضحى يوم النحر وثلاثة أيام بعده. سنن البيهقي 9/296-297. ومما يؤيد هذا القول أن تفسير الأيام المعلومات في قوله تعالى: (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ) سورة الحج الآية 28. بأنها يوم النحر وثلاثة أيام بعده مروي عن ابن عباس وابن عمر وإبراهيم النخعي، وإليه ذهب الإمام أحمد بن حنبل في رواية عنه. .تفسير ابن كثير 3/ 216-217 أضواء البيان 5/344. وكذلك فإن هذا القول منقول عن جماعة من الصحابة منهم علي وابن عباس وابن عمر وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهم. ومنقول عن جماعة من التابعين منهم الحسن وعطاء وبه قال عمر بن عبد العزيز وسليمان بن موسى وكان أحد أئمة أهل الشام في العلم.
وخلاصة الأمر أن وقت الأضحية يبدأ بعد انتهاء صلاة العيد والخطبة وينتهي وقتها بغروب شمس اليوم الثالث من أيام التشريق وهو رابع أيام العيد كما هو معروف بين الناس.(11/13)
14 - الأمور المشروعة في حق المضحي
يقول السائل: سمعت أنه لا يجوز لمن نوى أن يضحي أن يحلق رأسه قبل أن يضحي أفيدونا؟
الجواب: ثبت في الحديث الصحيح عن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخلت العشر، وأراد أحدكم أن يضحي فلا يمس من شعره وبشره شيئاً) رواه مسلم. وفي رواية أخرى: (من كان له ذِبح يذبحه فإذا أهلَّ هلالُ ذي الحجة فلا يأخذ من شعره وأظفاره شيئاً حتى يضحي) رواه مسلم. والذِبح بكسر الذال: الذبيحة. وقد قال بمقتضى هذا الحديث طائفة من أهل العلم فيحرم على من أراد الأضحية أخذ شيء من شعره وأظفاره حتى يضحي في وقت الأضحية وهو قول سعيد بن المسيب وربيعة الرأي والإمام أحمد وإسحاق وداود وابن حزم الظاهريين وأبي الحسن العبادي من الشافعية، واحتجوا بحديث أم سلمة السابق وقد ورد بروايات عند مسلم وهي:
أ. عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يمس من شعره وبشره شيئاً) . قيل لسفيان: فإن بعضهم لا يرفعه. قال: لكني أرفعه.
ب. عن أم سلمة رضي الله عنها ترفعه قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا دخل العشر وعنده أضحية يريد أن يضحي فلا يأخذنَّ شعراً ولا يقلمن ظفراً) .
ج. عن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا رأيتم هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره) .
د. عن أم سلمة رضي الله عنها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كان له ذبح يذبحه فإذا أهل هلال ذي الحجة فلا يأخذنَّ من شعره ولا من أظفاره شيئاً حتى يضحي) .
ووجه الاستشهاد به أن فيه نهي عن أخذ الشعر والأظفار، ومقتضى النهي التحريم كما قال الشيخ ابن قدامة المقدسي في المغني 9/437. وروى مسلم بإسناده عن عمرو بن مسلم بن عمار الليثي قال: (كنا في الحمام قبيل الأضحى فأطلى فيه ناس فقال بعض أهل الحمام: إن سعيد بن المسيب يكره هذا أو ينهى عنه. فلقيت سعيد بن المسيب فذكرت ذلك له فقال: يا ابن أخي هذا حديث قد نُسِيَ وترك. حدثتني أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم … الحديث. وقوله في الحديث أطلى فيه ناس: أي أزالوا شعر العانة بالنورة. واحتجوا أيضاً بما رواه ابن حزم بإسناده أن يحيى بن يعمر كان يفتي بخراسان أن الرجل إذا اشترى أضحية ودخل العشر أن يكف عن شعره وأظفاره حتى يضحي. قال سعيد قال قتادة: فذكرت ذلك لسعيد بن المسيب فقال: نعم. فقلت: عمن يا أبا محمد؟ قال عن أصحاب رسول الله. وقد حمل طائفة من أهل العلم النهي الوارد في حديث أم سلمة على كراهة التنزيه فقط وأيدوا قولهم بما ثبت من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (لقد كنت أفتل قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيبعث هديه إلى الكعبة فما يحرم عليه مما حلَّ للرجال من أهله حتى يرجع الناس) متفق عليه. قال الماوردي: [فكان هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وضحاياه، لأنه كان بالمدينة وأنفذها مع أبي بكر رضي الله عنه سنة تسع، وحكمها أغلظ لسوقها إلى الحرم، فلما لم يحرم على نفسه شيئاً كان غيره أولى إذا ضحى في غير الحرم] الحاوي الكبير 15/74. والذي يغلب على ظني ـ بعد طولِ تأملٍ وتفكرٍ ـ رجحان القول الأول لقوة أدلته ويظهر ذلك فيما يلي:
أولاً: إن حديث أم سلمة خاص، وحديث عائشة عام، والخاص مقدم على العام. قال الشيخ ابن قدامة: [وحديثهم عام وهذا خاص يجب تقديمه بتنزيل العام على ما عدا ما تناوله الحديث الخاص] المغني 9/437. وقال الشوكاني: [ولا يخفى أن حديث الباب – أي حديث أم سلمة – أخص منه – أي من حديث عائشة - مطلقاً فيبنى العام على الخاص ويكون الظاهر مع من قال بالتحريم ولكن على من أراد التضحية] نيل الأوطار 5/128.
ثانياً: يجب حمل حديث عائشة على غير محل النزاع لوجوه منها: أ - أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن ليفعل ما نهى عنه وإن كان مكروهاً، قال الله تعالى:} وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عنه {سورة هود الآية 88. ب - ولأن أقلَّ أحوال النهي أن يكون مكروهاً، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ليفعل المكروه فيتعين حمل ما فعله في حديث عائشة على غيره. ج - ولأن عائشة تخبر عن فعله صلى الله عليه وسلم، وأم سلمة تخبر عن قوله صلى الله عليه وسلم، والقول يقدم على الفعل، لاحتمال أن يكون فعله خاصاً له. ثالثاً: إن ما قاله بعض أهل العلم بأن حديث أم سلمة موقوف؛ غير صحيح، بل هو حديث مرفوع، رفعه جماعة من المحدثين، وقد رواه مسلم مرفوعاً من وجوه: أ. الرواية الأولى في صحيح مسلم بإسناده وفيها حدثنا سفيان … قيل لسفيان: فإن بعضهم لا يرفعه. قال لكني أرفعه. ب. الرواية الثانية في صحيح مسلم وفيها: (عن أم سلمة ترفعه …) . ج. الرواية الثالثة في صحيح مسلم مرفوعة. د. الرواية الخامسة في صحيح مسلم مرفوعة. وأجاب العلامة ابن القيم جواباً مفصلاً عن الادعاء بأن حديث أم سلمة موقوف فقال: [وقد اختلف الناس في هذا الحديث وفي حكمه. فقالت طائفة: لا يصح رفعه وإنما هو موقوف. قال الدارقطني في كتاب العلل: ووقفه عبد الله بن عامر الأسلمي ويحيى القطان وأبو حمزة عن عبد الرحمن بن حميد عن سعيد، ووقفه عقيل على سعيد. ووقفه يزيد بن عبد الله بن قسيط عن سعيد عن أم سلمة: قولها. ووقفه عبد الرحمن بن حرملة وقتادة وصالح بن حسان عن سعيد: قوله. والمحفوظ عن مالك موقوف. قال الدارقطني: والصحيح عندي قول من وقفه. ونازعه في ذلك آخرون فصححوا رفعه منهم مسلم بن الحجاج ورواه في صحيحه مرفوعاً. ومنهم أبو عيسى الترمذي قال: هذا حديث حسن صحيح. ومنهم ابن حبان خرَّجه في صحيحه. ومنهم أبو بكر البيهقي قال: هذا حديث قد ثبت مرفوعاً من أوجه لا يكون مثلها غلطاً، وأودعه مسلم في كتابه. وصححه غير هؤلاء وقد رفعه سفيان بن عيينة عن عبد الرحمن بن حميد عن سعيد عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم. ورفعه شعبة عن مالك عن عمرو بن مسلم عن سعيد عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم. وليس شعبة وسفيان بدون هؤلاء الذين وقفوه. ولا مثل هذا اللفظ من ألفاظ الصحابة بل هو المعتاد من خطاب النبي صلى الله عليه وسلم في قوله (لا يؤمن أحدكم) (أيعجز أحدكم) (أيحب أحدكم) (إذا أتى أحدكم الغائط) (إذا جاء أحدكم خادمه بطعام) ونحو ذلك] شرح ابن القيم على سنن أبي داود 7/346.
وقال صاحب تحفة الأحوذي بعد أن ذكر الطرق المرفوعة لحديث أم سلمة: [وهذه الطرق المرفوعة كلها صحيحة، فكيف يصح القول بأن حديث أم سلمة الموقوف هو أصل الحديث بل الظاهر أن أصل الحديث المرفوع] تحفة الأحوذي 5/100. وقد بيَّن الشيخ الألباني أن الصحيح أن هذا الحديث مرفوع؛ حتى وإن لم يصرح سعيد بن المسيب برفعه فله حكم الرفع لأنه لا يقال بالاجتهاد والرأي إرواء الغليل 4/378. وقال ابن حزم: [ ... ثم لو صح القياس لكان هذا منه عين الباطل، لأنه ليس إذا وجب أن لا يمس الشعر والظفر بالنص الوارد في ذلك، يجب أن يتجنب النساء والطيب، كما أنه إذا وجب اجتناب الجماع والطيب، لم يجب بذلك اجتناب مس الشعر والظفر، فهذا الصائم فرضٌ عليه اجتناب النساء، ولا يلزمه اجتناب الطيب، ولا مس الشعر والظفر، وكذلك المعتكف، وهذه المعتدة يحرم عليها الجماع والطيب، ولا يلزمها اجتناب قص الشعر والأظفار. … وهذه فتيا صحت عن الصحابة رضي الله عنهم، ولا يعرف فيها مخالفٌ منهم لهم] المحلى 6/26 وقال ابن القيم: [وأسعد الناس بهذا الحديث من قال بظاهره لصحتة وعدم ما يعارضه … ولهذا كان أحمد وغيره يعمل بكلا الحديثين: هذا في موضعه وهذا في موضعه. وقد سأل الإمام أحمد أو غيره عبد الرحمن بن مهدي عن هذين الحديثين؟ فقال: هذا له وجه وهذا له وجه] شرح ابن القيم على سنن أبي داود 7/348.
وبعد هذا العرض أرجو أن يكون ما رجحته هو الراجح، وقد كنت أميل للقول بالكراهة فقط، ثم ترجح عندي القول بالتحريم، والله أعلم. والحكمة في النهي عن الأخذ من الشعر والأظفار في حق من أراد الأضحية هي ما قاله الإمام النووي: [قال أصحابنا: والحكمة في النهي أن يبقى كامل الأجزاء ليعتق من النار] شرح النووي على صحيح مسلم 5/120. وإذا لم يلتزم مريد الأضحية بهذا النهي فأخذ شيئاً من شعره أو أظفاره فإنه يستغفر الله سبحانه وتعالى ولا فدية فيه إجماعاً سواء فعله عمداً أو نسياناً كما قال الشيخ ابن قدامة في المغني 9/437.(11/14)
15 - أحكام الأضحية.
بمناسبة قرب حلول عيد الأضحى المبارك، كثرت الأسئلة والإستفسارات المتعلقة بالأضحية، وهذه مجموعة من الأحكام المتعلقة بالأضحية فيها إجابات واضحة على بعض تلك الأسئلة والإستفسارات:
أولاً: ينبغي أن يعلم أن الأضحية سنة مؤكدة، على الراجح من أقوال أهل العلم، وهو قول جمهور الفقهاء، ونقل عن أبي بكر وعمر وابن عباس، وجماعة من الصحابة والتابعين، ومن أصرح الأدلة على عدم وجوب الأضحية، ما ثبت في الحديث الشريف، عن أم سلمة رضي الله عنها أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحي، فلا يمس من شعره وبشره شيئاً) رواه مسلم. فجعل الرسول صلى الله عليه وسلم، أمر الأضحية مفوضاً إلى إرادة المسلم، وما كان كذلك لا يكون واجباً. وروى البيهقي عن أبي بكر وعمر، أنهما كانا لا يضحيان كراهة أن يظن من رآهما أنها واجبة، سنن البيهقي 9/264 - 265. والأسانيد إليهما صحيحة كما قال: الشيخ الألباني، انظر إصلاح المساجد ص21. وقال ابن حزم: " لا يصح عن أحد من الصحابة أن الأضحية واجبة، وصح أن الأضحية ليست واجبة عن سعيد بن المسيب والشعبي " المحلى 6/10. وأما ما ورد في الحديث الشريف، عن أبي هريرة ? أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من وجد سعة فلم يضح، فلا يقربنَّ مصلانا) رواه ابن ماجة وأحمد والحاكم وغيرهم فقد صحح الأئمة وقفه على أبي هريرة، قال الحافظ ابن حجر: ".... لكن اختلف في رفعه ووقفه، والموقوف أشبه بالصواب، قاله الطحاوي وغيره، ومع ذلك فليس صريحاً في الإيجاب " فتح الباري 12/98. وقال الحافظ ابن عبد البر نحوه في التمهيد، وممن قال بأنه موقوف الإمام المنذري في الترغيب والترهيب والحافظ البيهقي، والإمام الترمذي " انظر معرفة السنن والآثار 14/38.
ثانياً: يستحب لمن أراد أن يضحي، ألا يقص شعره وأظافره، ابتداءً من أول ليلة من شهر ذي الحجة إلى أن يذبح أضحيته لما ثبت في الحديث السابق عن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخلت العشر - أي العشر الأول من ذي الحجة - وأراد أحدكم أن يضحي فلا يمس من شعره وبشره شيئاً) رواه مسلم. وفي رواية أخرى: (إذا دخل العشر، وعنده أضحية يريد أن يضحي، فلا يأخذنَّ شعراً ولا يقلمنَّ ظفراً) رواه مسلم. وفي رواية أخرى: (إذا رأيتم هلال ذي الحجة، وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره) رواه مسلم. وفي رواية أخرى: (.... فلا يأخذنَّ من شعره ولا من أظفاره شيئاً حتى يضحي) رواه مسلم. وقال جمهور أهل العلم: " إن هذا النهي محمول على الكراهة وليس على التحريم، فيكره في حق من نوى الأضحية أن يقص شيئاً من شعره أو من أظفاره شيئاً ويدل على أنه مكروه وليس حراماً، ما ورد في الحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كنت أفتل قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يقلده ويبعث به ولا يحرم عليه شيء أحله الله حتى ينحر هديه) رواه البخاري مسلم. قال الإمام النووي: " والحكمة في النهي أن يبقى - أي المضحي - كامل الأجزاء ليعتق من النار " شرح النووي على صحيح مسلم 5/120. ثالثاً: يستحب في الأضحية أن تكون كبشاً أبيضاً أقرناً سميناً، فقد ثبت في الحديث، عن أنس ? قال: (ضحى النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين، ذبحهما بيده، وسمَّى وكبر ووضع رجله على صفاحهما) رواه مسلم. وعن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ضحى النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين موجوءين خصيين) رواه أحمد وهو صحيح كما قال الشيخ الألباني في إرواء الغليل 4/360. وروى الإمام البخاري تعليقاً، عن أبي أمامة بن سهل قال: (كنا نسمن الأضحية بالمدينة، وكان المسلمون يسمنون) ، قال الحافظ ابن حجر: " وصله أبو نعيم في المستخرج...." فتح الباري 12/105. رابعاً: تصح النيابة في ذبح الأضحية باتفاق أهل العلم، فإذا أناب شخص شخصاً آخر في ذبح الأضحية وتوزيعها، فلا بأس في ذلك والمستحسن أن يتولى كل مضحٍ أضحيته بنفسه فيذبحها إن كان يحسن الذبح، فقد ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذبح أضحيته بيديه الشريفتين، كما في الأحاديث التي سبقت، فإن كان المضحي لا يحسن الذبح، وكَّل غيره بذبحها لما روي في الحديث الشريف أنه صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة: (قومي إلى أضحيتك فاشهديها، فإنه بأول قطرة من دمها يغفر لك ما سلف من ذنوبك) رواه الحاكم وصححه ولكن فيه ضعف، كما قال الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير 4/143. خامساً: لا بد من الإلتزام في الأضحية بالسن المقررة شرعاً، فلا يصح أن ينقص منه، ويصح أن يزيد عليه، ففي الإبل لا تصح التضحية بها إلا إذا بلغت خمس سنوات ودخلت في السادسة، وفي البقر يجب أن تتم سنتين وتدخل في الثالثة وفي الغنم تفصيل ففي الماعز، لا تجوز الأضحية بما له أقل من سنة، وفي البياض تجوز التضحية بما يمضي عليه أكثر العام كسبعة أشهر أو ثمانية أشهر، إذا كان سميناً يخفى مع ما له سنة. ولا يجوز شرعاً التضحية بالعجول المسمنة التي لم تبلغ سنتين من عمرها، قال الإمام الشافعي: " ومن ضحى فأقل ما يجزيه الثني من المعز والإبل والبقر، ولا يجزي جذع إلا من الضأن وحدها " الأم 2/221. وقال الإمام الشافعي أيضاً: " الضحايا الجذع من الضأن والثني من المعز والإبل والبقر ولا يكون شيء دون هذا ضحية " الأم 2/223. قال الإمام النووي: " أجمعت الأمة على أنه لا تجزئ من الإبل والبقر والمعز إلا الثني.... " المجموع 8/394. ونقل ابن قدامة عن أئمة اللغة: " إذا مضت الخامسة على البعير، ودخل في السادسة وألقى ثنيته، فهو حينئذ ثني.... وأما البقرة، فهي التي لها سنتان لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تذبحوا إلا مسنة) رواه مسلم، والمسنة من البقر هي التي لها سنتان " المغني 9/440. وقال الإمام النووي: " قال العلماء: المسنة هي الثنية من كل شيء، من الإبل والغنم والبقر، فما فوقها وهذا تصريح بأنه لا يجوز الجذع من غير الضأن في حال من الأحوال وهذا مجمع عليه.... " شرح النووي على صحيح مسلم 13/101 - 102. وقد اتفق العلماء على أنه لا يجزئ الجذع من البقر، والجذع من البقر هو من وقت ولادته إلى أن يبلغ السنتين من عمره، والعجل المسمن الذي يبلغ من العمر تسعة أشهر من عمره فهو جذع فلا يجزئ في الأضحية، وكونه سميناً وأكثر لحماً من الذي بلغ السنتين من عمره، ليس سبباً في ترك السن المعتمد، وهي سنتان فأكثر. وإن المدقق في الأحاديث الشريفة التي أشارت إلى السن، يرى أنه لا يجوز تجاوز تلك السن، ويدل على ذلك الأحاديث التالية: 1 - عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أول ما نبدأ به يومنا هذا أن نصلي، ثم نرجع فننحر، من فعله فقد أصاب سنتنا، ومن ذبح قبل ذلك فإنما هو لحم قدمه لأهله ليس من النسك في شيء، فقام أبو بردة بن نيار وقد ذبح فقال: " إن عندي جذعة " فقال: إذبحها، ولن تجزئ عن أحد بعدك) رواه البخاري. 2 - قال الإمام البخاري: " باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بردة: ضح بالجذع من المعز ولن تجزئ عن أحد بعدك، ثم ساق حديث البراء المتقدم براوية أخرى: (ضحى خال لي يقال له أبو بردة، قبل الصلاة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: شاتك شاة لحم؟ فقال يا رسول الله: إن عندي داجناً جذعة من المعز فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إذبحها ولا تصلح لغيرك) . وقد ورد في عدة روايات اختصاص أبي بردة بالتضحية بالجذع من المعز وشاركه في الإختصاص عقبة بن عامر، كما في حديث آخر. والألفاظ التي تدل على الإختصاص كما بينها الحافظ ابن حجر في فتح الباري هي (ولا رخصة فيها لأحد بعدك) ، (ولا تجزئ عن أحد بعدك) ، (وليست فيها رخصة لأحد بعدك) . وهذا التخصيص من النبي صلى الله عليه وسلم يدل على أنه لا تصح التضحية بالجذع من الإبل والبقر والماعز، وهو الذي اعتمد عليه الفقهاء في القول بأنه لا يجوز التضحية بما دون السنتين من البقر. ويجب أن يعلم أنه ليس المقصود بالأضحية اللحم فقط وتوزيعه صدقة أو هدية وإنما المقصود بها أيضاً تعظيم شعائر الله سبحانه وتعالى، كما قال جل جلاله: (ذَلكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) سورة الحج /32. وكذلك الإمتثال لأمر الله عز وجل بإراقة الدم إقتداءً بإبراهيم عليه السلام قال تعالى: (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ) سورة الحج /37.
وعن عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما عمل ابن آدم يوم النحر عملاً أحب إلى الله من إهراق الدم وإنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأظلافها وأشعارها، وإن الدم ليقع من الله عز وجل بمكان قبل أن يقع على الأرض فطيبوا بها نفساً) رواه ابن ماجة والترمذي، وقال: حسن غريب، ورواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد. *****(11/15)
16 - لا تصح الأضحية بالعجل السمين وعمره تسعة أشهر.
يقول السائل: هل تجوز الأضحية بعجل سمين بلغ من العمر تسعة أشهر؟
الجواب: لقد وردت الأحاديث التي أشارت إلى السن المعتبر في الأضاحي والتي اعتمد عليها الفقهاء في تحديد السن المعتبر في الأضاحي، واعتبروا ذلك شرطاً من شروط صحة الأضحية فقد اتفق العلماء على أنه تجوز التضحية بالثني فما فوقه من الإبل والبقر والغنم والمراد بالثني من الإبل، ما أكمل خمس سنين ودخل في السادسة، ومن البقر ما أكمل سنتين ودخل في الثالثة، ومن الغنم ما أكمل سنتين ودخل في الثالثة. قال في المصباح المنير: " الثني الجمل يدخل في السادسة.... والثني أيضاً الذي يلقي ثنيته، يكون من ذوات الظلف والحافر في السنة الثالثة، ومن ذوات الخف في السنة السادسة ". واتفق العلماء على أنه لا تجوز التضحية بما دون الثني من الإبل والبقر والمعز واختلفوا في الجذع من الضأن. قال الإمام النووي: "وأجمعت الأمة على أنه لا تجزئ من الإبل والبقر والمعز إلا الثني" المجموع 8/394. ونقل ابن قدامة عن أئمة اللغة " إذا مضت الخامسة على البعير ودخل في السادسة وألقى ثنيته فهو حينئذ ثني.... وأما البقرة فهي التي لها سنتان، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تذبحوا إلا مسنة) ومسنة البقر التي لها سنتان " المغني 9/440. وقال الإمام النووي: " قال العلماء: المسنة هي الثنية من كل شيء، من الإبل البقر والغنم فما فوقها، وهذا تصريح بأنه لا يجوز الجذع من غير الضأن في حال من الأحوال وهذا مجمع عليه " شرح النووي على صحيح مسلم 13/101 - 102.
وقد اتفق العلماء على أنه لا يجزئ الجذع من البقر والجذع من البقر هو من وقت ولادته إلى أن يبلغ سنتين من عمره والعجل المسمن الذي يبلغ تسعة أشهر من عمره هو جذع، فلا يجزئ في الأضحية، وكونه سميناً وأكثر لحماً من الذي بلغ سنتين من عمره ليس سبباً في ترك السن المعتمدة، وهي سنتان فأكثر. وإن المدقق في الأحاديث التي أشارت إلى السن، يرى أنه لا يجوز تجاوز تلك السن ويدل على ذلك الأحاديث التالية: - عن البراء بن عازب رضي الله عنه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا، أن نصلي، ثم نرجع فننحر، من فعله فقد أصاب سنتنا، ومن ذبح قبل ذلك فإنما هو لحم قدمه لأهله ليس من النسك في شيء، فقام أبو بردة بن نيار وقد ذبح فقال: إن عندي جذعة، فقال اذبحها ولن تجزئ عن أحد بعدك) رواه البخاري. - قال الإمام البخاري: " باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بردة: (ضح بالجذع من المعز ولن تجزئ عن أحد بعدك) ثم ساق حديث البراء المتقدم، برواية أخرى: (ضحى خال لي يقال له أبو بردة قبل الصلاة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: شاتك شاة لحم، فقال يا رسول الله: إن عندي داجناً جذعة من المعز، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اذبحها ولا تصلح لغيرك) . وقد ورد في عدة روايات اختصاص أبي بردة بالتضحية بالجذع من المعز وشاركه في الاختصاص، عقبة بن عامر، والألفاظ التي تدل على الاختصاص كما بينها الحافظ ابن حجر في فتح الباري هي: (ولا رخصة فيها لأحد بعدك) (ولن تجزئ عن أحدٍ بعدك) (وليست فيها رخصة لأحد بعدك) .
وهذا التخصيص من النبي صلى الله عليه وسلم يدل على أنه لا تصح التضحية بالجذع من الإبل والبقر والماعز، وهو الذي اعتمد عليه الفقهاء في القول بأنه لا يجوز التضحية بما دون السنتين من البقر. وبناءً على ما تقدم أقول: لا تصح الأضحية بالعجول المسمنة مهما بلغ وزنها ولا بد من الالتزام بالسن وهو سنتان، قال في الفتاوى الهندية: " وتقدير هذه الأسنان بما قلنا يمنع النقصان ولا يمنع الزيادة، حتى ولو ضحى بأقل من ذلك شيئاً لا يجوز، ولو ضحى بأكثر من ذلك شيئاً يجوز ويكون أفضل ولا يجوز في الأضحية حمل ولا جدي ولا عجول ولا فصيل " الفتاوى الهندية 5/297.
وينبغي أن يعلم أنه ليس المقصود من الأضحية اللحم فقط، وتوزيعه صدقة أو هدية وإنما يقصد بالأضحية أيضاً، تعظيم شعائر الله، وإراقة الدم كوسيلة من وسائل الشكر لله تعالى وإحياءً لذكرى إبراهيم عليه الصلاة والسلام. *****(11/16)
17 - حكم الذبح على مقدمة السيارة.
يقول السائل: إنه قد اشترى سيارة جديدة، ويريد أن يذبح على مقدمتها ذبيحة، فهل يجوز ذلك؟
الجواب: لقد جرت عادة كثير من الناس أن يذبحوا شاةً على مقدمة السيارة الجديدة، ويجعلون دم الشاة يسيل عليها، وذلك طلباً لسلامة السيارة وصاحبها، أو دفعاً لعيون الحساد، كما يعتقدون، أو لغير ذلك من المقاصد، وهذا العمل بالشكل الذي وصفت لا يجوز شرعاً، بل هو من الأمور المبتدعة لأن الأصل في الذبح أن يكون لله تعالى. يقول سبحانه وتعالى: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) سورة الأنعام/ 163,162. فالمسلم عندما يذبح، يذبح بإسم الله تعالى، وحده لا شريك وهو تفسير قوله تعالى (ونسكي) ، أي ذبحي، كما قال بعض السلف. وجاء في الحديث، عن علي رضي الله عنه قال حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات: (لعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من لعن والديه، ولعن الله من آوى محدثاً ولعن الله من غير منار الأرض) رواه مسلم. قال الإمام النووي: " وأما الذبح لغير الله فالمراد به أن يذبح بإسمٍ غير إسم الله كمن ذبح للصنم أو الصليب، أو لموسى أو لعيسى صلى الله عليهما، وللكعبة، فكل ذلك حرام، ونحو ذلك فكل ذلك حرام، ولا تحل هذه الذبيحة.... " شرح النووي على صحيح مسلم 13/122. وهذا التفصيل الذي ذكرته فيما لو كان الذابح قد ذبح لغير الله تعالى، وأما إن ذبح الذبيحة بإسم الله تعالى، ومن باب شكر نعمة الله على هذا الإنسان لكونه قد اشترى سيارة جديدة، فلا بأس بذلك، ولا أرى له أن يذبح الذبيحة على مقدمة السيارة، لأن ذلك مشعرٌ بأن الذبح للسيارة، وتعليق سلامة السيارة وصاحبها على الذبح على مقدمتها. ولا بأس أن نذكر بهذه المناسبة، أن بعض الناس يذبح ذبيحة أو أكثر عندما يبني بيتاً جديداً، فمنهم من يذبح عند عقد البيت، أو عند السكن فيه، فهذا أيضاً فيه التفصيل الذي ذكرت، فإن كان الذبح من باب شكر نعمة الله، حيث أنعم الله على هذا الإنسان بأن سكن بيتاً جديداً، فيذبح ويطبخ ويدعو أصدقاءَه وأقرباءَه، ويسمى هذا الطعام، طعام الوكيرة، فهذا عمل لا بأس به، ويؤجر المرء عليه ن شاء الله.
والأصل في ذلك هو النية الصالحة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المشهور: (إنما الأعمال بالنيات، ولكل امرئٍ ما نوى) .(11/17)
18 - كيفية توزيع الأضحية.
يقول السائل: كيف توزع الأضحية؟
الجواب: قال أهل العلم يكون التصرف بالأضحية بالأكل والصدقة والهدية وتفصيل ذلك كما يلي: ذهب جمهور أهل العلم إلى أن الأكل من الأضحية مندوب. وقد استدلوا بما ورد في الحديث عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (… فكلوا وادخروا وتصدقوا) متفق عليه. وما ورد في حديث جابر ? أنه عليه الصلاة والسلام قال: (… كلوا وتزودوا) رواه البخاري ومسلم. وفي رواية أخرى عند مسلم: (… كلوا وتزودوا وادخروا) . وقد حمل الجمهور الأوامر في هذه الأحاديث على الندب، لأن الأمر فيها جاء بعد الحظر فيحمل على الندب أو الإباحة. قال الحافظ ابن عبد البر: [وأما قوله: (فكلوا وتصدقوا وادخروا) فكلام خرج بلفظ الأمر، ومعناه الإباحة لأنه أمر ورد بعد نهي، وهكذا شأن كل أمر يرد بعد حظر أنه إباحة لا إيجاب] الاستذكار 15/173. وأما مقدار الأكل فقال الحنفية والحنابلة: يأكل ثلثها ويهدي ثلثها ويتصدق بثلثها. ولو أكل أكثر من الثلث جاز. بدائع الصنائع 4/223، المغني 9/448. وجاء عن الشافعي أنه يستحب قسمتها أثلاثاً لقوله صلى الله عليه وسلم: (كلوا وتصدقوا وأطعموا) فتح الباري 12/123.
واحتج ابن قدامة المقدسي بما ورد عن ابن عباس رضي الله عنه في صفة أضحية النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ويطعم أهل بيته الثلث ويطعم فقراء جيرانه الثلث ويتصدق على السؤَّال بالثلث] رواه الحافظ أبو موسى الأصفهاني في الوظائف وقال: حديث حسن. المغني 9/448-449. وقالوا لأنه قول ابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهما ولم نعرف لهما مخالفاً من الصحابة فكان إجماعاً كما قال ابن قدامة في المغني 9/449. ومن أهل العلم من استحب أن يأكل نصفاً ويطعم نصفاً لقول الله تعالى في الهدايا: (فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ) سورة الحج الآية 36. وأما الإمام مالك فلم يحدد في ذلك شيئاً ويقول: يأكل ويتصدق. والدليل على أنه لا تحديد في المسألة بل الأمر على الاستحباب حديث ثوبان ? قال: (ذبح رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحيته ثم قال: يا ثوبان أصلح لحم هذه الأضحية. قال: فلم أزل أطعمه منها حتى قدم المدينة) رواه مسلم. ويستحب لمن أراد أن يضحي في يوم الأضحى أن يخرج إلى صلاة العيد ولا يأكل شيئاً حتى يصلي ثم يذبح أضحيته فيأكل منها وهذا قول أكثر العلماء. قال الشيخ ابن قدامة: [… ولا يأكل في الأضحى حتى يصلي وهذا قول أكثر أهل العلم منهم علي وابن عباس ومالك والشافعي وغيرهم لا نعلم فيه خلافاً] . المغني 2/275. ومما يدل على ذلك ما جاء في الحديث عن عبد الله بن بريدة عن أبيه رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يخرج يوم الفطر حتى يطعم ولا يطعم يوم الأضحى حتى يصلي) رواه الترمذي، ثم قال: [وقد استحب قوم من أهل العلم أن لا يخرج يوم الفطر حتى يطعم شيئاً ويستحب له أن يفطر على تمر ولا يطعم يوم الأضحى حتى يرجع] . والحديث رواه أيضاً ابن ماجة وابن حبان وقال الشيخ الألباني: صحيح. سنن الترمذي مع شرحه التحفة 3/80، صحيح سنن الترمذي 1/168 والحكمة في امتناع النبي صلى الله عليه وسلم عن الأكل قبل الصلاة يوم الأضحى هي: [ليكون أول ما يطعم من لحم أضحيته فيكون مبنياً على امتثال الأمر] المرقاة 3/544-545. وقال الإمام أحمد: [والأضحى لا يأكل فيها حتى يرجع إذا كان له ذبح لأن النبي صلى الله عليه وسلم أكل من ذبيحته وإذا لم يكن له ذبح لم يبالِ أن يأكل] المغني 2/275. وقال الشعبي: [إن من السنة أن تطعم يوم الفطر قبل أن تغدو، وأن تؤخر الطعام يوم النحر حتى ترجع] . وقال سعيد بن المسيب: [كان المسلمون يأكلون يوم الفطر قبل المصلى ولا يفعلون ذلك يوم النحر] الاستذكار 7/40.
وأما التصدق منها فقال الحنفية والمالكية إن التصدق من الأضحية مندوب وليس بواجب. وحجتهم ما سبق في الأكل من الأضحية وهو أرجح أقوال العلماء في المسألة. ويتصدق منها على المسلمين من الفقراء والمحتاجين ويهدي إلى الأقارب والأصدقاء والجيران وإن كانوا أغنياء. ونقل النووي عن ابن المنذر قوله: [أجمعت الأمة على جواز إطعام فقراء المسلمين من الأضحية واختلفوا في إطعام فقراء أهل الذمة فرخص فيه الحسن البصري وأبو حنيفة وأبو ثور. وقال مالك: غيرهم أحب إلينا. وكره مالك أيضاً إعطاء النصراني جلد الأضحية أو شيئاً من لحمها. وكرهه الليث قال: فإن طبخ لحماً فلا بأس بأكل الذمي مع المسلمين منه] . ثم قال النووي: [ومقتضى المذهب أنه يجوز إطعامهم من ضحية التطوع دون الواجبة] المجموع 8/425. وقال الشيخ ابن قدامة: [ويجوز أن يطعم منها كافراً وبهذا قال الحسن وأبو ثور وأصحاب الرأي … لأنه طعام له أكله فجاز إطعامه للذمي كسائر الأطعمة ولأنه صدقة تطوع فجاز إطعامها للذمي والأسير كسائر صدقة التطوع] المغني 9/450. والراجح من أقوال العلماء أنه يجوز إطعام أهل الذمة منها، وخاصةً إن كانوا فقراء أو جيراناً للمضحي أو قرابته أو تأليفاً لقلوبهم.
وأما الهدية من الأضحية فقد اتفق أهل العلم على أن الهدية من الأضحية مندوبة. وكثير من العلماء يرون أن يهدي ثلثاً منها كما مرَّ في حديث ابن عباس فإنه يجعل الأضحية أثلاثاً ثلث لأهل البيت وثلث صدقة وثلث هدية. ونقل هذا عن ابن مسعود وابن عمر وعطاء وإسحاق وأحمد وهو أحد قولي الشافعي. ويسن أن يجمع بين الأكل والتصدق والإهداء وأن يجعل ذلك أثلاثاً وإذا أكل البعض وتصدق بالبعض فله ثواب الأضحية بالكل والتصدق بالبعض. *****(11/18)
19 - لا يجوز إعطاء الجزار أجرته من الأضحية.
يقول السائل: هل يجوز أن يعطى الجزَّار الذي يتولى ذبح الأضحية أجرته من لحمها؟
الجواب: قال جمهور أهل العلم لا يجوز أن يُعطى الجزَّار شيئاً من الأضحية مقابل ذبحها وسلخها واحتجوا على ذلك بما جاء في الحديث عن علي ? قال: (أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقوم على بدنه أي الإبل وأن أتصدق بلحمها وجلودها وأجلتها وأن لا أعطي الجزَّار منها. وقال: نحن نعطيه من عندنا) رواه البخاري ومسلم. وفي رواية أخرى عند مسلم: (ولا يعطي في جزارتها منها شيئاً) . فهذا الحديث يدل على عدم جواز إعطاء الجزَّار منها لأن عطيته عوض عن عمله فيكون في معنى بيع جزء منها وذلك لا يجوز. وأما إن كان الجزَّار فقيراً أو صديقاً فأعطاه منها لفقره أو على سبيل الهدية فلا بأس لأنه مستحق للأخذ فهو كغيره بل هو أولى لأنه باشرها وتاقت نفسه إليها. المغني 9/450. ولا يجوز بيع شيء من الأضحية لا لحمها ولا جلدها ولا أطرافها واجبة كانت أو تطوعاً. قال الإمام أحمد: [لا يبيعها ولا يبيع شيئاً منها] . وقال أيضاً: [سبحان الله كيف يبيعها وقد جعلها لله تبارك وتعالى؟] . ويجوز أن ينتفع بالجلد بأن يجعله سقاءً أو فرواً أو نعلاً أو غير ذلك. فقد ورد عن عائشة رضي الله عنها قالت: [يجعل من جلد الأضحية سقاء ينبذ فيه] ويدل على أنه لا يجوز بيع شيء من الأضحية، بما في ذلك جلدها وأطرافها. ما ورد في حديث علي ? قال: (أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقوم على بدنه وأن أتصدق بلحمها وجلودها وأجلتها وأن لا أعطي الجزَّار منها. وقال نحن نعطيه من عندنا) رواه البخاري ومسلم. فقد أمره الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتصدق بلحومها وجلودها وجلالها كما أنه قد جعلها قربة لله تعالى فلم يجز بيع شيء منها كالوقف. وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من باع جلد أضحيته فلا أضحية له) رواه الحاكم وقال: حديث صحيح. ورواه البيهقي وقال الشيخ الألباني: حسن. *****(11/19)
20 - حكم الجمع بين الأضحية والعقيقة.
يقول السائل: إنه رزق مولوداً ويريد أن يعق عنه عقيقة وسيذبحها يوم عيد الأضحى وينوي بها الأضحية والعقيقة فهل يجوز ذلك؟ وهل تقع الذبيحة عن العقيقة وعن الأضحية؟
الجواب: إذا اجتمعت الأضحية والعقيقة كأن أراد شخصٌ أن يعقَ عن ولده يوم عيد الأضحى كما ورد في السؤال أو في أيام التشريق فلا تجزئ الأضحية عن العقيقة على الراجح من أقوال أهل العلم. وهذا قول المالكية والشافعية ورواية عن الإمام أحمد فقد روى الخلال عن عبد الله بن أحمد قال: [سألت أبي عن العقيقة يوم الأضحى تجزئ أن تكون أضحية وعقيقة؟ قال: إما أضحية وإما عقيقة على ما سمّى] وعلى هذه الرواية أكثر الحنابلة. انظر تصحيح الفروع 3/565، تحفة المودود ص 68 والذخيرة 4/166. وحجة هؤلاء العلماء أن كلاً من الأضحية والعقيقة ذبحان بسببين مختلفين فلا يقوم الواحد عنهما كدم التمتع ودم الفدية. وقالوا أيضاً إن المقصود بالأضحية إراقة الدم في كل منهما ولا تقوم إراقة مقام إراقتين. وسئل الشيخ ابن حجر المكي عن ذبح شاة أيام الأضحية بنيتها ونية العقيقة فهل يحصلان أو لا؟ فأجاب: [الذي دل عليه كلام الأصحاب وجرينا عليه منذ سنين أنه لا تداخل في ذلك لأن كلاً من الأضحية والعقيقة سنةٌ مقصودةٌ لذاتها ولها سبب يخالف سبب الأخرى والمقصود منها غير المقصود من الأخرى إذ الأضحيةُ فداءٌ عن النفس والعقيقةُ فداءٌ عن الولد إذ بها نُمُّوهُ وصلاحهُ ورجاءُ بِرِّهِ وشفاعته وبالقول بالتداخل يبطل المقصود من كلٍ منهما فلم يمكن القول به نظير ما قالوه في سنة غسل الجمعة وغسل العيد وسنة الظهر وسنة العصر وأما تحية المسجد ونحوها فهي ليست مقصودة لذاتها بل لعدم هتك حرمة المسجد وذلك حاصلٌ بصلاة غيرها وكذا صوم نحو الاثنين لأن القصد منه إحياء هذا اليوم بعبادة الصوم المخصوصة وذلك حاصلٌ بأي صومٍ وقع فيه.
وأما الأضحية والعقيقة فليستا كذلك كما ظهر مما قررته وهو واضح والكلام حيث اقتصر على نحو شاة أو سبع بدنة أو بقرة أما لو ذبح بدنة أو بقرة عن سبعة أسباب منها ضحية وعقيقة والباقي كفارات كنحو الحلق في النسك فيجزي ذلك وليس هو من باب التداخل في شيء لأن كل سبع يقع مجزياً عما نوى به. وفي شرح العباب: لو ولد له ولدان ولو في بطن واحدة فذبح عنهما شاة لم يتأدى بها أصل السنة كما في المجموع وغيره. وقال ابن عبد البر: لا أعلم فيه خلافاً أ. هـ. وبهذا يعلم أنه لا يجزي التداخل في الأضحية والعقيقة من باب أولى لأنه إذا امتنع مع اتحاد الجنس فأولى مع اختلافه والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب] الفتاوى الكبرى الفقهية 4/256. وذهب بعض العلماء إلى القول بالإجزاء وقد نقل ذلك عن جماعة من فقهاء السلف. فتح الباري 12/13 وشرح السنة 11/267 والفروع 3/567.
ورأوا أنه يجوز أن يصلي المصلي ركعتين ينوي بهما تحية المسجد وسنة المكتوبة ويجوز أن يصلي بعد الطواف فرضاً أوسنة مكتوبة ويقع ذلك عنه وعن ركعتي الطواف وقالوا لو ذبح المتمتع والقارن شاة يوم النحر أجزأ عن دم المتعة وعن الأضحية. تحفة المودود ص 69. والذي أراه راجحاً هو عدم إجزاء الأضحية عن العقيقة وعدم إجزاء العقيقة عن الأضحية لأن كلاً منهما لها سببها الخاص في إراقة الدم ولا تقوم إحداهما مقام الأخرى. والمسائل التي ذكروها ليست مسلَّمةً عند جميع العلماء فحصول عبادتين بنية واحدة أجازه من أجازه من أهل العلم لأنهم عدُّوها من قبيل الوسائل لا المقاصد كما لو نوى بغسله رفع الحدث الأصغر والأكبر أو نوى بالغسل الجمعة والجنابة وخالف في ذلك ابن حزم، وأمَّا حصول تحية المسجد وسنَّة المكتوبة، فلأن تحية المسجد تحصل وإن لم يقصدها وأمَّا ما صححوه من تجويز عبادتين بنيَّةٍ واحدةٍ فالذي يظهر أنَّ الشارع قد اعتبر فيه الأمرين المقصودين ولو لم يقصدهما الفاعل كمن يتصدق على ذي رحمه ينال أجرين: أجر الصدقة وأجر صلة الرحم. انظر مقاصد المكلفين ص 255-256. *****(11/20)
21 - الأضحية أفضل من التصدق بثمنها.
يقول السائل: أيهما أفضل الأضحية أم التصدق بثمنها؟
الجواب: إن الأضحية شعيرة من شعائر الله وسنة مؤكدة من سنن المصطفى صلى الله عليه وسلم. والمطلوب من المسلم أن يعظم شعائر الله وأن يقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) سورة الحج الآية 32. وقال تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) سورة الأحزاب الآية 21. لذا كانت الأضحية أفضل من التصدق بثمنها كما هو مذهب جمهور أهل العلم بما فيهم أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وربيعة وأبو الزناد وشيخ الإسلام ابن تيمية وغيرهم. المجموع 8/425 والمغني 9/436 ومجموع الفتاوى 26/304. روى عبد الرزاق بإسناده عن سعيد بن المسيب قال: [لأن أضحي بشاة أحب إليَّ من أن أتصدق بمئة درهم] المصنف 4/338. قال الحافظ ابن عبد البر: [الضحية عندنا أفضل من الصدقة] وذكر أن هذا هو الصحيح من مذهب مالك وأصحابه. فتح المالك 7/17-18. وقال ابن قدامة: [والأضحية أفضل من الصدقة بقيمتها نص عليه أحمد] . المغني 9 /436. ونقل عن جماعة من أهل العلم أن التصدق بقيمة الأضحية أفضل فروي عن بلال رضي الله عنه قال: [ما أبالي أن لا أضحي إلا بديك ولأن أضعها في يتيم قد ترب فوه أحبُ إليَّ من أن أضحي] وبهذا قال الشعبي وأبو ثور. والقول الأول هو الراجح، لأن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى والخلفاء من بعده ولو علموا أن الصدقة أفضل من الأضحية لعدلوا إليها. ولأن إيثار الصدقة على الأضحية يفضي إلى ترك سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأن فضل الأضحية لا يخفى وما يترتب عليها من منافع شيء عظيم. قال الحافظ ابن عبد البر: [الضحية عندنا أفضل من الصدقة لأن الأضحية سنة وكيدة كصلاة العيد ومعلوم أن صلاة العيد أفضل من سائر النوافل وكذلك صلوات السنن أفضل من التطوع كله] فتح المالك 7/18. وقال الإمام النووي: [مذهبنا أن الأضحية أفضل من صدقة التطوع للأحاديث الصحيحة المشهورة في فضل الأضحية ولأنها مختلف في وجوبها بخلاف صدقة التطوع، ولأن الأضحية شعار ظاهر] المجموع 8/425.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: [والأضحية والعقيقة والهدي أفضل من الصدقة بثمن ذلك فإذا كان معه مال يريد التقرب إلى الله كان له أن يضحي به والأكل من الأضحية أفضل من الصدقة] مجموع الفتاوى 26/304. ولا ينبغي لأحد أن يؤثر الصدقة على الأضحية لكون الصدقة أخف مئونة ولما في الأضحية من المشقة من حيث شراؤها والعناية بها وحفظها إلى أن يذبحها ولما في ذبحها وتوزيع بعضها من العناء والتعب فالمسلم له الأجر والثواب على كل ذلك إن أخلص نيته لله تعالى. *****(11/21)
22 - من تشرع في حقه الأضحية.
يقول السائل: في حق من تشرع الأضحية؟
الجواب: يرى الحنفية أنه يشترط في المضحي أن يكون غنياً أي مالكاً لنصاب الزكاة فاضلاً عن حوائجه الأصلية، ودليلهم على ذلك ما ورد في الحديث ? من وجد سعةً فلم يضح فلا يقربنَّ مصلانا) فالرسول صلى الله عليه وسلم شرط عليه السعة وهي الغنى وهو أن يكون في ملكه مئتا درهم أو عشرون ديناراً أو شيء تبلغ قيمته ذلك سوى مسكنه وما يتأثث به وكسوته وكسوة من يمونهم..تبيين الحقائق 6/3.
وقال المالكية إن الأضحية لا تسن في حق الفقير الذي لا يملك قوت عامه وتشرع بحيث لا تجحف بمال المضحي بأن لا يحتاج لثمنها في ضرورياته في عامه فإن احتاج فهو فقير وقالوا إن من ليس معه ثمن الأضحية فلا يتسلف ليضحي. الذخيرة 4/142، شرح الخرشي 3/33.
وقال الشافعية تشرع الأضحية في حق من ملك ثمنها فاضلاً عن حاجته وحاجة من يمونه في يومه وليلته وكسوة فصله أي ينبغي أن تكون فاضلة عن يوم العيد وأيام التشريق. مغني المحتاج 6/123.
وأما الحنابلة فقالوا تشرع الأضحية في حق القادر عليها الذي يمكنه الحصول على ثمنها ولو بالدَّين إذا كان يقدر على وفاء دينه. كشاف القناع 3/18.
والذي أرجحه أن الأضحية مشروعة في حق الغني الذي يملك نصاب الزكاة فاضلاً عن حوائجه الأصلية ومقداره في وقتنا الحالي (سنة 1420هجرية وفق 1999 م) حوالي خمسمائة وخمسون ديناراً أردنياً وثمن ما يصح أضحية لا يقل عن مائة وخمسين ديناراً تقريباً ومن لا يملك النصاب فهو فقير.
*****(11/22)
23 - تجوز الاستعانة في ذبح الأضحية.
يقول السائل: ما حكم الاستعانة في ذبح الأضحية والإنابة في ذبحها؟
الجواب: يجوز لمن أراد أن يذبح أضحيته أن يستعين بغيره ويدل على ذلك ما جاء في الحديث عن أبي الخير: (أن رجلاً من الأنصار حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أضجع أضحيته ليذبحها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: للرجل أعنِّي على أضحيتي فأعانه) رواه أحمد وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح.
وقال الحافظ ابن حجر: ورجاله ثقات. مجمع الزوائد 4/25 وفتح الباري 12/115
وذكر الإمام البخاري تعليقاً: [وأعان رجل ابن عمر في بدنته] .
وقال الحافظ ابن حجر: [أي عند ذبحها وهذا وصله عبد الرزاق عن ابن عيينة عن عمرو بن دينار قال: رأيت ابن عمر ينحر بدنة بمنى وهي باركة معقولة ورجلٌ يمسك بحبل في رأسها وابن عمر يطعن] فتح الباري 12/115.
وأما الإنابة في ذبح الأضحية فجائزة وينبغي أن يوكل في ذبحها صاحب دين له معرفة بالذبح وأحكامه.
قال القرافي: [كان الناس يتخيرون لضحاياهم أهل الدين لأنهم أولى بالتقرب فإن وكَّل تارك صلاة استحب له الإعادة للخلاف في حل ذكاته] الذخيرة 4/155.
ولا ينبغي أن يوكل فاسقاً في ذبحها ولا ذمياً فإن فعل جاز مع الكراهة على قول جمهور أهل العلم.
وينبغي أن يعلم أن بعض المسلمين من الموسرين من دول الخليج العربي وأوروبا ومريكا يوكلون لجان الزكاة في بلادنا في التضحية عنهم ويدفعون أثمان الأضاحي لدى بعض الجمعيات الخيرية في بلادهم ثم تنقل هذه المبالغ إلى لجان الزكاة في فلسطين والتي تتولى شرائها ومن ثم ذبحها وتوزيعها على الناس ولا بد هنا من بيان بعض الأمور التي يجب أن تتنبه لها لجان الزكاة:
أولاً: يجب أن تكون الأضحية مستكملة للشروط الشرعية ولذا يجب إعلام أمثال هؤلاء الناس قبل وقت الأضحية بثمن الضحايا في بلادنا لأن أسعارها تختلف من بلد إلى آخر فيمكن أن نشتري أضحية مجزئة بثمانين ديناراً في عمان ونحتاج إلى ضعف هذا المبلغ في فلسطين لشراء أضحية مجزئة ولا يصح أن نشتري أضاحي غير مستكملة للشروط الشرعية بحجة أن المبلغ الذي دفع لا يشترى به أضحية مستكملة للشروط ولا يجوز جمع المبالغ القليلة لشراء شاة واحدة لأن الاشتراك في الشاة لا يصح.
ثانياً: لا بد من الالتزام بذبح هذه الأضاحي في الوقت المقرر شرعاً وإن تأخر وصول أثمان الأضاحي من الخارج لا يعتبر عذراً في ذبح الأضاحي بعد مضي وقتها المقرر شرعاً فإن حصل ذلك فلا تعد أضحية.
وإن لم يتم ذبحها في الوقت المقرر شرعاً فيجب إعلام الذين دفعوا ثمنها أنه لم يتم التضحية عنهم.
ثالثاً: يجب الالتزام بتوزيع تلك الأضاحي على الفقراء والمحتاجين أولاً لأن الغالب في الناس الذين يبعثون بأثمان الأضاحي أنهم يقصدون التصدق بها على الفقراء والمحتاجين فلذلك فإني أكره أن يُعطى الأغنياء منها.
*****(11/23)
24 - حكم تخدير الدجاج قبل ذبحه.
يقول السائل: إنه صاحب مسلخ للدواجن ويقوم بذبح الدجاج حسب أحكام الشريعة الإسلامية ويكون الدجاج معلقاً على خط الإنتاج إلا أن الدجاجة وبعد ذبحها تقوم بالرفرفة الشديدة مما يعرّض أجنحتها للتكسير وتصبح غير قابلة للتسويق نتيجة تكسر الأجنحة وحدوث احمرار تحت الجناح وحتى يتم التغلب على هذه المشكلة يمرر الدجاج وهو معلق على حوض ماء به كهرباء بقوة خفيفة فيلامس منقار الدجاجة حوض الماء المكهرب فتصبح الدجاجة في حالة تخدير إلا أنها بوعيها وعلى قيد الحياة وتتحرك عيناها حركة طبيعية إلا أن حركتها تكون ضعيفة وتبقى الدجاجة على هذا الحال عدة دقائق وتعود إلى طبيعتها فيما لو لم تذبح أرجو بيان الحكم الشرعي في مشروعية هذا الذبح؟
الجواب: إذا كانت الصعقة الكهربائية لم تؤد إلى قتل الدجاجة وتم بعد ذلك ذبحها بالطريقة الشرعية فإن هذه الطريقة جائزة شرعاً ولا بأس بها ولكن يجب التأكيد على أن الصعقة الكهربائية لم تقتل الدجاجة فإن قتلت الدجاجة من الصعقة الكهربائية فهي حينئذ ميتة كما ويجب الانتباه إلى أن تكون هنالك مدة من الوقت بعد ذبح الدجاجة وقبل إدخالها في الماء حتى لا تموت الدجاجة خنقاً ولكي يسيل الدم منها.
*****(11/24)
25 - الأضحية عن الأسرة الواحدة.
يقول السائل: نحن أسرة كبيرة مكونة من الوالدين وعدد من الأبناء المتزوجين وكلنا نسكن في بيت واحد ونأكل جميعاً فهل تجزىء عنا أضحية واحدة؟
الجواب: قال جمهور أهل العلم إن الشاة الواحدة تجزئ عن أهل البيت الواحد، فإذا ضحى بها واحد من أهل البيت، تأدى الشعار والسنة بجميعهم، وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد وإسحاق والأوزاعي. المغني 9/438 المجموع 8/384. ويدل على ذلك ما يلي:
1. روى الترمذي بإسناده عن عُمارة بن عبد الله قال ? سمعت عطاء بن يسار يقول: سألت أبا أيوب ? كيف كانت الضحايا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: كان الرجل يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته، فيأكلون ويطعمون حتى تباهى الناس فصارت كما ترى) قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. ورواه ابن ماجة ومالك. قال الإمام النووي: هذا حديث صحيح. والصحيح أن هذه الصيغة تقتضي أنه حديث مرفوع. وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن ابن ماجه 2/203.
2. وروى ابن ماجة بإسناده عن الشعبي عن أبي سريحة رضي الله عنه - وهو صحابي شهد الحديبية - قال: (حملني أهلي على الجفاء بعد ما علمت من السنة. كان أهل البيت يضحون بالشاة والشاتين والآن يُبَخِّلُنا جيراننا) . قال في الزوائد: إسناده صحيح ورجاله موثقون. ورواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي وقال الشيخ الألباني: صحيح الإسناد. المستدرك 4/245، صحيح سنن ابن ماجه 2/203.
3. ومما يدل على ذلك حديث جابر بن عبد الله ? قال: (شهدتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الأضحى في المصلى فلما قضى خطبته نزل من منبره وأُتِيَ بكبشٍ فذبحه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده وقال: باسم الله والله أكبر، هذا عني وعمن لم يضح من أمتي) . رواه أبو داود في باب: الشاة يضحى بها عن جماعة وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود 2/540.
4. وعن عبد الله بن هشام قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحي بالشاة الواحدة عن جميع أهله) رواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي. المستدرك 4/255.
5. وعن عائشة رضي الله عنها: (أن رسول الله أمر بكبش أقرن، يطأ في سواد، ويبرك في سواد، وينظر في سواد، فأُتِيَ به ليضحي به فقال لها: يا عائشة هلمي المدية.
ثم قال: اشحذيها بحجر ففعلت، ثم أخذها وأخذ الكبش فأضجعه ثم ذبحه ثم قال: باسم الله اللهم تقبل من محمد وآل محمد، ومن أمة محمد ثم ضحى به) رواه مسلم وأبو داود وغيرهما.
قال النووي: [واستدل بهذا من جوَّز تضحية الرجل عنه وعن أهل بيته واشتراكهم معه في الثواب، وهو مذهبنا ومذهب الجمهور ... ] شرح النووي على صحيح مسلم 5/105 -106.
وقال الخطابي: [وفي قوله: (تقبل من محمد وآل محمد ومن أمة محمد) دليل على أن الشاة الواحدة تجزئ عن الرجل وأهله وإن كثروا، وروي عن أبي هريرة وابن عمر رضي الله عنهم أنهما كانا يفعلان ذلك، وأجازه مالك والأوزاعي والشافعي وأحمد، وكره ذلك الثوري وأبو حنيفة] معالم السنن 2/197.
6. ونقل ابن قدامة عن صالح بن أحمد بن حنبل قال: [قلت لأبي: يُضَحَّى بالشاة عن أهل البيت؟ قال: نعم لا بأس. قد ذبح النبي صلى الله عليه وسلم كبشين فقرَّب أحدهما فقال: بسم الله اللهم هذا عن محمد وأهل بيته. وقرَّب الآخر فقال: بسم الله اللهم هذا منك ولك عمن وَحَّدَكَ من أمتي] المغني 9/438.
وحكى عن أبي هريرة ?: (أنه كان يضحي بالشاة فتجئ ابنته فتقول: عني، فيقول: وعنك) المغني 9/438.
قال العلامة ابن القيم: [وكان من هديه صلى الله عليه وسلم أن الشاة تجزئ عن الرجل وعن أهل بيته ولو كثر عددهم] ثم ذكر حديث أبي أيوب السابق. زاد المعاد 2/323.
وقال الشوكاني: [قوله: (يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته) فيه دليل على أن الشاة تجزئ عن أهل البيت، لأن الصحابة كانوا يفعلون ذلك في عهده صلى الله عليه وسلم والظاهر اطلاعه فلا ينكر عليهم ... والحق أنها تجزئ عن أهل البيت، وإن كانوا مئة نفس أو أكثر كما قضت بذلك السنة] نيل الأوطار 5/137.
وبهذا يظهر لي بأن الشاة الواحدة تجزئ عن الرجل وعن أهل بيته، مهما كان عددهم لقوة الأدلة على ذلك.
?????(11/25)
26 - أفضل أنواع الأضحية.
يقول السائل: ما هو الأفضل في الأضحية من أنواع الأنعام؟
الجواب: اختلف الفقهاء في الأفضل في الأضحية من أنواع الأنعام فمنهم من قال أفضل الأضاحي هي البدنة ثم البقرة ثم الشاة. ومنهم من قال أفضلها ما كان أكثر لحماً وأطيب، ومنهم من قال أفضلها الضأن ثم البقر ثم الإبل.
والذي يظهر لي رجحان قول من قال إن الأفضل في الأضحية الغنم ثم الإبل ثم البقر وهو قول المالكية ويدل على ذلك قول الله تعالى: (وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) سورة الصافات الآية 107.
وكان الذبح العظيم كبشاً، فالله سبحانه وتعالى وصفه بالعظيم، ولم يحصل هذا الوصف لغيره. الذخيرة 4/143.
وقال القرطبي: [ (وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) ، أي ضخم الجثة سمين، وذلك كبشٌ لا جملٌ ولا بقرة] تفسير القرطبي 15/107.
وقال ابن دقيق العيد: [وقد يستدل للمالكية باختيار النبي صلى الله عليه وسلم في الأضاحي للغنم، وباختيار الله تعالى في فداء الذبيح] إحكام الأحكام 2/291.
ولأنه صلى الله عليه وسلم كان يضحي بالغنم بل بالكباش وقد ثبت ذلك في أحاديث منها:
ما ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم: (أمر بكبش أقرن، يطأ في سواد ويبرك في سواد وينظر في سواد ... وأخذ الكبش فأضجعه ... ) رواه مسلم.
قال الشنقيطي: [وقد تكرر من الرسول صلى الله عليه وسلم التضحية بالغنم، وهو صل الله عليه وسلم لا يضحي مكرراً ذلك عاماً بعد عام، إلا بما هو الأفضل في الأضحية، فلو كانت التضحية بالإبل والبقر أفضل لفعل صلى الله عليه وسلم ذلك الأفضل] أضواء البيان 5/435.
فعن أنس ?: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضحي بكبشين وأنا أضحي بكبشين) رواه البخاري ومسلم. وفي قول أنس (كان يضحي) ما يدل على المداومة.
وعن عائشة رضي الله عنها: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بكبش أقرن يطأ في سواد ويبرك في سواد وينظر في سواد فأتي به ليضحي به ... الخ) رواه مسلم.
حديث جابر بن عبد الله ? قال: (ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عيد بكبشين ... ) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة.
وعن عائشة وأبي هريرة رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كان إذ أراد أن يضحي اشترى كبشين عظيمين سمينين أقرنين أملحين موجوئين ... الخ) رواه أحمد وابن ماجة.
وعن أبي سعيد ? قال: (ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبش أقرن فحيل، يأكل في سواد، ويمشي في سواد، وينظر في سواد) رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب.
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (شهدتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الأضحى بالمصلى فلمَّا قضى خطبته نزل من منبره وأُتِيَ بكبش فذبحه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بيده ... الخ) رواه أبو داود والترمذي.
وعن ثوبان ? قال: (ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: يا ثوبان أصلح لنا لحم هذه الشاة. فما زلت أطعمه منها حتى قدمنا المدينة) رواه مسلم.
وعن علي ?: (أنه كإن يضحي بكبشين أحدهما عن النبي صلى الله عليه وسلم والآخر عن نفسه. فقيل له. فقال: أمرني به يعني النبي صلى الله عليه وسلم فلا أدعه أبداً) رواه الترمذي وأبو داود.
ومما يدل على أفضلية التضحية بالكبش، أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يقتدون بالرسول صلى الله عليه وسلم في تضحيته بالكبش، كما في حديث أنس ? السابق وفيه: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يضحي بكبشين وأنا أضحي بكبشين) .
فهذا يدل على اتباع أنس ? للرسول صلى الله عليه وسلم في التضحية بالكبشين، كما يدل الحديث أيضاً على مداومة الرسول صلى الله عليه وسلم على التضحية بالكبش.
وعن يونس بن ميسرة بن حلس قال: (خرجت مع أبي سعيد الزرقي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شراء الضحايا. قال يونس: فأشار أبو سعيد إلى كبش أدغم ليس بالمرتفع ولا المتضع في جسمه فقال: اشتر لي هذا. كأنه شبهه بكبش رسول الله صلى الله عليه وسلم) رواه ابن ماجة، وقال البوصيري في الزوائد: إسناده صحيح. وصححه الشيخ الألباني ورواه الحاكم وصححه، ووافقه الذهبي.
وعن النعمان بن أبي فاطمة رضي الله عنه: (أنه اشترى كبشاً أعين أقرن، وأن النبي صلى الله عليه وسلم رآه فقال: كأنَّ هذا الكبش الذي ذبح إبراهيم. فعمد رجل من الأنصار فاشترى للنبي صلى الله عليه وسلم من هذه الصفة، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم فضحى به) رواه الطبراني في الكبير ورجاله ثقات قاله الهيثمي. وغير ذلك من النصوص.
?????(11/26)
1 - الربا لا يجري في استبدال سيارة بسيارة أغلى ثمنا
يقول السائل: لدي سيارة أريد أن أستبدلها بسيارة أخرى أغلى ثمناً مع دفع فرق السعر بين السيارتين، هل يجوز ذلك شرعاً، وهل لذلك علاقة بالربا المحرم شرعاً، أفيدونا؟
الجواب: لا بد أن أبين أن الأصل في بيان الأصناف التي يجري فيها الربا هو حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلاً بمثل سواءً بسواء يداً بيد فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد) رواه مسلم. ومثله حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (الذهب بالذهب والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلاً بمثل، يداً بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء) رواه البخاري ومسلم. وقد اتفق جماهير أهل العلم على أن الربا يتعدى هذه الأصناف إلى غيرها إن اتحدت معها في العلة، ولكنهم اختلفوا في علة تحريم الربا في الأصناف المذكورة في الحديث، ومع ذلك فهم متفقون على أن الأصناف الستة المذكورة في الحديث تنقسم إلى مجموعتين: المجموعة الأولى: الذهب والفضة، والمجموعة الثانية: البر والشعير والتمر والملح، والفقهاء متفقون على أن علة التحريم في المجموعة الأولى واحدة، وعلة التحريم في المجموعة الثانية واحدة، أي أن علة التحريم في الذهب والفضة هي غير علة التحريم في البر والشعير والتمر والملح، قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [واتفق المعللون على أن علة الذهب والفضة واحدة، وعلة الأعيان الأربعة واحدة ثم اختلفوا في علة كل واحدٍ منهما] المغني 4/5. وقال الشيخ تقي الدين السبكي: [الأمة أجمعت على أن السنة المذكورة في الحديث جملتان متفاضلتان، النقدان والأشياء الأربعة، تنفرد كل جملة بعلتها] تكملة المجموع 10/91. وجاء في الموسوعة الفقهية الكويتية 22/64 ما نصه: [اتفق عامة الفقهاء على أن تحريم الربا في الأجناس المنصوص عليها إنما هو لعلة، وأن الحكم بالتحريم يتعدى إلى ما تثبت فيه هذه العلة، وأن علة الذهب والفضة واحدة، وعلة الأجناس الأربعة الأخرى واحدة] . وينبغي أن يعلم أن مسألة تحديد العلة في الأصناف الربوية محل خلاف كبير بين لعلماء، فهي مسألة اجتهادية وقد تباينت فيه أقوال العلماء: [فقال الحنفية: العلة: الجنس والقدر، وقد عرف الجنس بقوله صلى الله عليه وسلم: (الذهب بالذهب، والحنطة بالحنطة) ، وعرف القدر بقوله صلى الله عليه وسلم: (مثلاً بمثل) ، ويعني بالقدر الكيل فيما يكال والوزن فيما يوزن لقوله صلى الله عليه وسلم: (وكذلك كل ما يكال ويوزن) ، وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تبيعوا الصاع بالصاعين) ... وقال المالكية: علة الربا في النقود- أي الذهب والفضة - مختلف فيها، فقيل: غلبة الثمنية، وقيل: مطلق الثمنية ... وعلة ربا الفضل في الطعام الاقتيات والادخار ... وعلة ربا النساء مجرد الطعم ... وذهب الشافعية إلى أن العلة في تحريم الربا في الذهب والفضة كونهما جنس الأثمان غالباً ... والعلة في تحريم الربا في الأجناس الأربعة وهي البر والشعير والتمر والملح أنها مطعومة ... وروي عن أحمد بن حنبل في علة تحريم الربا في الأجناس الستة ثلاث روايات: أشهرها أن علة الربا في الذهب والفضة كونهما موزوني جنس، وفي الأجناس الباقية كونها مكيلات جنس ... والرواية الثانية: أن العلة في الأثمان الثمنية، وفيما عداها كونه مطعوم جنس ... والرواية الثالثة: العلة فيما عدا الذهب والفضة كونه مطعوم جنس مكيلاً أو موزوناً] الموسوعة الفقهية الكويتية 22/64-67. وأرجح أقوال أهل العلم في هذه المسألة وهو اختيار الشيخ ابن قدامة المقدسي وشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم واختاره كثير من العلماء المعاصرين أن العلة في الذهب والفضة هي مطلق ثمنية، وفي غيرهما الطعم أي أن يكون الشيء طعاماً مع الكيل أو الوزن. إذا تقرر هذا فقد اتفق أهل العلم على أن بيع الأصناف الربوية بعضها ببعض يكون على النحو الآتي: 1. إذا بيع الشيء بجنسه كتمر بتمر، فيشترط لذلك شرطان: التماثل والتقابض، أي تماثل الوزنين أو الكيلين مع التقابض في مجلس العقد. ولا يصح في هذه الحالة اختلافهما في القدْر - الوزن أو الكيل- ولا يصح التأجيل، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (مثلًا بمثل، سواء بسواء، يداً بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى) . 2. إذا بيع الشيء بغير جنسه مع اتحاد العلة كذهب بفضة، فيشترط لذلك التقابض دون التماثل. فيصح أن يبيع مئة غرام ذهب بخمسمائة غرام فضة بشرط القبض في المجلس. 3. إذا بيع الشيء بغير جنسه مع عدم الاتحاد في العلة، كبيع القمح بالذهب، أو الملح بالفضة، فلا يشترط لذلك لا تقابض ولا تماثل. ويلحق بذلك بيع أحد الأصناف الأربعة وهي البر والشعير والتمر والملح وما يجري مجراها بالنقود الورقية المعروفة اليوم، فيصح أن تبيع القمح إلى أجل. 4. إذا كان البيع بين جنسين ليسا ربويين جاز الفضل والنسيئة أي التأجيل، كأن يبيع سيارة بسيارتين أو بعيراً ببعيرين، أو ثوباً بثوبين، أو شقة بشقتين، أو كتاباً بكتابين، أو جهاز تلفزيون باثنين ونحوها فيجوز التفاضل والتأجيل. إذا تقرر هذا فإن الربا لا يجري في بيع سيارة بسيارة مع زيادة نقود من أحد الجانبين، لأن علة الربا غير متحققة، ومن المعلوم عند الأصوليين أن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، وقد قرر جمهور أهل العلم أنه لا بأس أن يبيع أصناف لا يجري فيها الربا مع الزيادة كبيع بعير ببعيرين وداراً بدارين وقطعة أرض بقطعتين، فلا حرج في بيع سلعة بسلعة مماثلة مع زيادة إذا لم تكن تلك السلعة ربوية، قال الإمام البخاري في صحيحه: [باب بيع العبيد والحيوان بالحيوان نسيئة واشترى ابن عمر راحلة بأربعة أبعرة مضمونة عليه، يوفيها صاحبها بالربذة، وقال ابن عباس: قد يكون البعير خيراً من البعيرين، واشترى رافع بن خديج بعيراً ببعيرين فأعطاه أحدهما، وقال: آتيك بالآخر غداً رَهْواً إن شاء الله- الرهو السير السهل والمراد به هنا أن يأتيه به سريعاً من غير مطل-، وقال ابن المسيب: لا ربا في الحيوان: البعير بالبعيرين والشاة بالشاتين إلى أجل، وقال ابن سيرين: لا بأس، بعير ببعيرين نسيئة] صحيح البخاري مع الفتح 4/529. قال ابن بطال في شرح الباب: [وأما بيع الحيوان بالحيوان نسيئةً فإن العلماء اختلفوا في ذلك، فقالت طائفة: لا ربا في الحيوان، وجائز بيع بعضه ببعض نقداً ونسيئةً اختلف أو لم يختلف، هذا مذهب علي بن أبى طالب وابن عمر وابن المسيب، وهو قول الشافعي وأبي ثور، وقال مالك: لا بأس بالبعير النجيب بالبعيرين من حاشية الإبل نسيئةً، وإن كانت من نَعَمٍ واحدةٍ إذا اختلف فبان اختلافها، وإن أشبه بعضها بعضاً واتفقت أجناسها، فلا يؤخذ منها اثنان بواحد إلى أجل، ويؤخذ يداً بيد، وهو قول سليمان بن يسار وربيعة ويحيى بن سعيد، وقال الثوري والكوفيون وأحمد: لا يجوز بيع الحيوان بالحيوان نسيئةً، اختلفت أجناسه أو لم تختلف، واحتجوا بحديث الحسن عن سمرة بن جندب (أن النبي عليه السلام نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئةً) ، وبحديث يحيى بن أبي كثير عن عكرمة عن ابن عباس قال: (نهى رسول الله عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة) ومعنى النهي عن ذلك عندهم لعدم وجود مثله؛ ولأنه غير موقوف عليه، قالوا: وهذا مذهب ابن عباس وعمار بن ياسر، وأجازوا التفاضل فيه يداً بيد، وحجة القول الأول: ... عن عمرو بن حريش قال: قلت لعبد الله عمرو: (إنه ليس بأرضنا ذهب ولا فضة، وإنما نبيع البعير بالبعيرين، والبقرة بالبقرتين، والشاة بالشاتين. فقال: (إن رسول الله أمر أن يجهز جيش، فنفدت الإبل، فأمر أن نأخذ على قلائص - جمع قلوص وهي من الإبل الشابة - الصدقة بالبعيرين إلى إبل الصدقة) ... ] شرح ابن بطال على صحيح البخاري11/367. وما قرره جمهور أهل العلم من جواز بيع بعيرٍ ببعيرين بناءً على أن الربا لا يجري في بيع حيوان بحيوان، لن علة الربا ليست متحققة، وكذلك الحال في بيع سيارة بسارة أخرى أغلى ثمناً مع دفع الفرق في السعر بين السيارتين، فهذه أيضاً ليست من الأموال الربوية، فالسيارة ليست مطعومة ولا مكيلة ولا موزونة وليست من باب الأثمان.
وخلاصة الأمر أن استبدال سيارة بسيارة أخرى أغلى ثمناً مع دفع فرق السعر بين السيارتين، جائز شرعاً ولا علاقة له بالربا المحرم شرعاً لأن السيارات ليست من الأموال الربوية، وهذا العقد يتم فيه شراء السيارة الثانية بثمنٍ مكونٍ من السيارة الأولى مضافاً إلى ذلك الفرق في السعر بين السيارتين، وهذا البيع داخل في عموم قوله تعالى {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} فهو جائز ولا بأس به.(12/1)
2 - تحريم التحايل في معاملات البنوك الإسلامية
يقول السائل: إنه قدم طلباً لأحد البنوك الإسلامية لشراء مواد بناء مرابحة بمبلغ ثلاثين ألف دينار، وقد تمت المعاملة، وقد اتفق مع التاجر الذي باع السلع للبنك أن يعطيه عشرة آلاف دينار نقداً، والباقي مواد بناء، فما الحكم الشرعي لذلك، أفيدونا؟
الجواب: المرابحة هي بيع سلعة بمثل الثمن الذي اشتراها به البائع مع زيادة ربح معلوم متفق عليه، بنسبة من الثمن أو بمبلغ مقطوع سواء وقعت دون وعد سابق وهي المرابحة العادية، أو وقعت بناء على وعد بالشراء من الراغب في الحصول على السلعة عن طريق بنك إسلامي وهي المرابحة المصرفية. وهو أحد بيوع الأمانة التي يعتمد فيها على بيان ثمن الشراء أو التكلفة بإضافة المصروفات المعتادة. وثبتت مشروعية المرابحة بالأدلة التي تدل على مشروعية البيع بشكل عام. والصورة المعتمدة للمرابحة في البنوك الإسلامية هي أن يتفق العميل والبنك على أن يقوم العميل بشراء البضاعة بربحٍ معلومٍ بعد شراء البنك لها ودخولها في ملك البنك الإسلامي دخولاً فعلياً، وهذه الصورة متفرعة عن بيع المرابحة المعروف عند الفقهاء قديماً. وهو بيع جائز شرعاً إذا تحققت فيه الشروط والمعايير التي قررها الفقهاء، وأهمها أن يشتري البنك السلعة محل العقد شراءً حقيقياً تترتب عليه آثاره الشرعية كدخول السلعة في ملك البنك، جاء في معيار المرابحة: [يجوز للمؤسسة أن تشتري السلعة بناءً على رغبة عميلها وطلبه مادام أن ذلك متفق مع الضوابط الشرعية لعقد البيع ... يحرم على المؤسسة أن تبيع سلعة بالمرابحة قبل تملكها لها. فلا يصح توقيع عقد المرابحة مع العميل قبل التعاقد مع البائع الأول لشراء السلعة موضوع المرابحة، وقبضها حقيقةً أو حكماً بالتمكين أو تسليم المستندات المخولة بالقبض ... كما يعتبر بيع المرابحة غير صحيحٍ إذا كان عقد الشراء الأول باطلاً لا يفيد ملكاً تاماً للمؤسسة ... يجب التحقق من قبض المؤسسة للسلعة قبضاً حقيقياً أو حكمياً قبل بيعها لعميلها بالمرابحة للآمر بالشراء. الغرض من اشتراط قبض السلعة هو تحمل المؤسسة تبعة هلاكها، وذلك يعني أن تخرج السلعة من ذمة البائع وتدخل في ذمة المؤسسة. ويجب أن تتضح نقطة الفصل التي ينتقل فيها ضمان السلعة من المؤسسة إلى العميل المشتري وذلك من خلال مراحل انتقال السلعة من طرف لآخر ... يجب أن يكون كل من ثمن السلعة في بيع المرابحة للآمر بالشراء وربحها محدداً ومعلوماً للطرفين عند التوقيع على عقد البيع. ولا يجوز بأي حالٍ أن يُترك تحديد الثمن أو الربح لمتغيرات مجهولة أو قابلة للتحديد في المستقبل؛ وذلك مثل أن يعقد البيع ويجعل الربح معتمداً على مستوى الليبور الذي سيقع في المستقبل] المعيار الشرعي رقم 5/105-129 من كتاب المعايير الشرعية الصادر عن هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية. إذا تقرر هذا فإنه عند التدقيق في السؤال يظهر التحايل المحرم في عقد المرابحة المذكور في السؤال لأنه تضمن الربا، حيث إن السائل أخذ جزءً من ثمن البضاعة نقداً وهو عشرة آلاف دينار وسيسددها بأكثر من ذلك، وهذا عين الربا المحرم قطعاً في كتاب الله عز وجل وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم. ويظهر أن هنالك تحايلاً محرماً قد وقع من الآمر بالشراء بالاتفاق مع البائع الذي باع للبنك، وهذا التحايل يقع في المرابحة على وجه الخصوص، لأن بعض الناس يكون بحاجة للنقد وليس بحاجة للسلعة، فيقوم بإبرام بيع مرابحة مع بنك إسلامي ومن ثم يتفق مع البائع على أنه لا يريد السلعة وإنما يريد النقد، ويكون هنالك نسبة من المبلغ للبائع، وهذا التحايل لا يتم لولا تساهل بعض موظفي البنوك الإسلامية في شراء السلع وقبضها قبضاً حقيقياً ومن ثم تسليمها فعلياً للآمر بالشراء، ومع الأسف فإن مسألة توكيل الآمر بالشراء قد كثرت لدى البنوك الإسلامية مما يسهل عملية التحايل بين الآمر بالشراء وبين البائع للبنك. [الأصل أن تشتري المؤسسة السلعة بنفسها مباشرة من البائع، ويجوز لها تنفيذ ذلك عن طريق وكيل غير الآمر بالشراء، ولا تلجأ لتوكيل العميل الآمر بالشراء إلا عند الحاجة الملحة. ولا يتولى الوكيل البيع بنفسه، بل تبيعه المؤسسة بعد تملكها العين ... يجب اتخاذ الإجراءات التي تتأكد المؤسسة فيها من توافر شروط محددة في حالة توكيل العميل بشراء السلعة، ومنها: أ- أن تباشر المؤسسة دفع الثمن للبائع بنفسها وعدم إيداع ثمن السلعة في حساب العميل الوكيل. ب- أن تحصل من البائع على وثائق للتأكد من حقيقة البيع.] كتاب المعايير الشرعية الصادر عن هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية ص112. ومن المعلوم أن هذا التحايل محرم، وقد ذكر أهل العلم أدلة كثيرة على تحريم التحايل، منها قوله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ} سورة البقرة الآية9، ولا شك أن التحايل نوع من المخادعة فهو محرم. وقد نعى الله سبحانه وتعالى تحيل اليهود لانتهاك المحرمات فقال تعالى: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ} سورة الأعراف الآية 163. قال ابن كثير: [وهؤلاء قوم احتالوا على انتهاك محارم الله، بما تعاطوا من الأسباب الظاهرة التي معناها في الباطن تعاطي الحرام. وقد قال الفقيه الإمام أبو عبد الله بن بطة، رحمه الله حدثنا أحمد ... عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود، فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل" وهذا إسناد جيد، فإن أحمد بن محمد بن مسلم هذا ذكره الخطيب في تاريخه ووثقه، وباقي رجاله مشهورون ثقات، ويصحح الترمذي بمثل هذا الإسناد كثيراً.] تفسير ابن كثير3/493. والحديث المذكور قال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية: [هذا إسناد جيد يصحح مثله الترمذي وغيره تارة ويحسنه تارة] إبطال الحيل ص 112. ومما يدل على حرم التحايل ما ذكره الإمام الشوكاني: [عن جابر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام فقيل: يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة فإنه يطلى بها السفن ويدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس؟ فقال: لا هو حرام ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: قاتل الله اليهود إن الله لما حرم شحومها جملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه) . رواه الجماعة. وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها، وإن الله إذا حرم على قومٍ أكل شيء حرم عليهم ثمنه) رواه أحمد وأبو داود ... وحديث ابن عباس فيه دليل على إبطال الحيل والوسائل إلى المحرم، وأن كل ما حرمه الله على العباد فبيعه حرام لتحريم ثمنه، فلا يخرج من هذه الكلية إلا ما خصه دليل] نيل الأوطار5/160-162. وقد وقفت على كلام للعلامة ابن القيم ينطبق على مسألتنا حيث قال: [ ... الوسيلة إلى الحرام حرام: فبانت بالكتاب والسنة والفطرة والمعقول. فإن الله سبحانه مسخ اليهود قردةً وخنازير لما توسلوا إلى الصيد الحرام بالوسيلة التي ظنوها مباحة، وسمَّى أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون مثل ذلك مخادعة، ... وقال أيوب السختياني: " يخادعون الله كما يخادعون الصبيان، لو أتوا الأمر على وجهه كان أسهل". والرجوع إلى الصحابة في معاني الألفاظ متعين، سواء كانت لغوية، أو شرعية، والخداع حرام. وأيضاً فإن هذا العقد يتضمن إظهار صورة مباحة، وإضمار ما هو من أكبر الكبائر، فلا تنقلب الكبيرة مباحة بإخراجها في صورة البيع الذي لم يقصد نقل الملك فيه أصلاً، وإنما قصده حقيقة الربا. وأيضاً فإن الطريق متى أفضت إلى الحرام، فإن الشريعة لا تأتي بإباحتها أصلاً، لأن إباحتها وتحريم الغاية جمع بين النقيضين، فلا يتصور أن يباح شيء ويحرم ما يفضي إله، بل لا بد من تحريمهما أو إباحتهما، والثاني باطلٌ قطعاً فيتعين الأول. وأيضاً فإن الشارع إنما حرم الربا، وجعله من الكبائر، وتوعد آكله بمحاربة الله ورسوله، لما فيه من أعظم الفساد والضرر، فكيف يتصور مع هذا أن يبيح هذا الفساد العظيم بأيسر شيء يكون من الحيل؟ فيالله العجب، أترى هذه الحيلة أزالت تلك المفسدة العظيمة، وقلبتها مصلحة، بعد أن كانت مفسدة؟ وأيضاً فإن الله سبحانه عاقب أهل الجنة الذين أقسموا ليصرمنها مصبحين وكان مقصودهم منع حق الفقراء من التمر المتساقط وقت الحصاد، فلما قصدوا منع حقهم منعهم الله الثمرة جملة ... وأيضاً فقد روى ابن بطة وغيره بإسناد حسن عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا ترتكبوا ما ارتكب اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل " وإسناده مما يصححه الترمذي. وأيضاً فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلوا أثمانها " و " جملوها " يعني أذابوها وخلطوها، وإنما فعلوا ذلك ليزول عنها اسم الشحم، ويحدث لها اسم آخر وهو الودك، وذلك لا يفيد الحل، فإن التحريم تابع للحقيقة وهي لم تتبدل بتبدل الاسم. وهذا الربا تحريمه تابع لمعناه وحقيقته فلا يزول بتبدل الاسم بصورة البيع كما لم يزل تحريم الشحم بتبديل الاسم بصورة الجمل والإذابة وهذا واضح بحمد الله. وأيضاً فإن اليهود لم ينتفعوا بعين الشحم، إنما انتفعوا بثمنه، فيلزم من وقف مع صور العقود والألفاظ، دون مقاصدها وحقائقها أن يحرم ذلك، لأن الله تعالى لم ينص على تحريم الثمن وإنما حرم عليهم نفس الشحم ولما لعنهم على استحلالهم الثمن، وإن لم ينص على تحريمه دل على أن الواجب النظر إلى المقصود وإن اختلفت الوسائل إليه، وأن ذلك يوجب أن لا يقصد الانتفاع بالعين ولا ببدلها. ونظير هذا أن يقال: لا تقرب مال اليتيم فتبيعه وتأكل عوضه، وأن يقال: لا تشرب الخمر فتغير اسمه وتشربه، وأن يقال: لا تزن بهذه المرأة فتعقد عليها عقد إجارة وتقول إنما أستوفي منافعها وأمثال ذلك. قالوا: ولهذا الأصل - وهو تحريم الحيل المتضمنة إباحة ما حرم الله أو إسقاط ما أوجبه الله عليه أكثر من مائة دليل، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم " لعن المحلل والمحلل له " مع أنه أتى بصورة عقد النكاح الصحيح، لما كان مقصوده التحليل، لا حقيقة النكاح. وقد ثبت عن الصحابة أنهم سموه زانياً ولم ينظروا إلى صورة العقد] شرح ابن القيم على سنن أبي داود 9/243-245.
وخلاصة الأمر أن ما قام به السائل هو تحايل على الشرع وهو من الأمور المحرمة بل يعد من كبائر الذنوب، والواجب على موظفي البنوك الإسلامية تنفيذ عقد المرابحة للآمر بالشراء وفق الشروط والمعايير المقررة شرعاً(12/2)
3 - يحرم التعامل مع شركة كويست للتسويق الشبكي
يقول السائل: هنالك شركة أجنبية تسمى شركة كويست وهي تعتمد طريقة التسويق الشكبي وقد شرح لي السائل طريقة عمل الشركة بشكل موسع ويريد معرفة الحكم الشرعي في ذلك.
الجواب: قرأت كتابات كثيرة عن هذه الشركة وأمثالها واطلعت على عدد كبير من الفتاوى في الموضوع والردود عليها، وقد سبق لي أن أجبت قبل بضع سنين عن عمل شركة شبيهة تعتمد التسويق الهرمي وهي شركة بزناس، كما أن السائل بعث لي ببعض الفتاوى التي أجازت عمل الشركة وبعد دراسة المسألة بتدبر وتمعن ظهر لي حرمة عمل الشركة لما يلي: أولاً: [التسويق الشبكي هو أسلوب تسويقي يعتمد على شبكة من العملاء، ويقوم النظام على أساس تجنيد شبكات من الأعضاء الجدد للترويج لمنتجات شركة ما مقابل عمولات مالية، ويعتمد النظام على شبكات في شكل شجرة ذات أفرع عديدة يتفرع بعضها عن بعض أو في شكل هرم ذي مستويات ويحصل العضو الأول في تلك الشجرة أو ذلك الهرم على عمولات عن كل عضو جديد يدخل فيها. وسمي هذا النوع من التسويق بالشبكي نسبة إلى شبكات العملاء والزبائن الذين يقومون بالدعاية والإعلان لشركة أو مؤسسة ما، وليست التسمية راجعة إلى شبكة المعلومات العالمية للإنترنت.] عن التسويق الشبكي تكييفه وأحكامه الفقهية، والتكييف الفقهي لمعاملات التسويق الشبكي أنه بيع نقود بنقود وهو من الربا المحرم شرعاً، فالمشترك يدفع مبلغاً قليلاً من المال ليحصل على مبلغ كبير، فالعملية بيع نقود بنقود مع التفاضل والتأخير، وهذا هو الربا المحرم بالنصوص القطعية من كتاب الله عز وجل ومن سنة النبي صلى الله عليه وسلم وأجمعت الأمة على تحريمه. ثانياً: السلع التي تبيعها الشركة ليست مقصودة لذاتها وإنما هي ستار للعملية، فهي غير مقصودة للمشتركين، فلا أثر لوجودها في الحكم. جاء في فتوى اللجنة الدائمة [هذا النوع من المعاملات محرم، وذلك أن مقصود المعاملة هو العمولات وليس المنتج، فالعمولات تصل إلى عشرات الآلاف، في حين لا يتجاوز ثمن المنتج بضع مئات، وكل عاقل إذا عرض عليه الأمران فسيختار العمولات، ولهذا كان اعتماد هذه الشركات في التسويق والدعاية لمنتجاتها هو إبراز حجم العمولات الكبيرة التي يمكن أن يحصل عليها المشترك، وإغراؤه بالربح لفاحش مقابل مبلغ يسير هو ثمن المنتج، فالمنتج الذي تسوقه هذه الشركات مجرد ستار وذريعة للحصول على العمولات والأرباح] فتوى اللجنة المذكورة لاحقاً. ثالثاً: وجود القمار في معاملة شركة كويست فالمشترك يدفع مالاً مخاطراً به تحت تأثير إغرائه بعمولات التسويق التي تدر له أرباحاً كبيرةً إذا نجح في جمع عدد كبير من الأشخاص، ويعتمد نظام العمولة في شركات التسويق الشبكي على إحضار مشتركين آخرين يقسمهم إلى مجموعتين إحداهما على اليمين والأخرى على الشمال ولا بد من تساوي المجموعتين كي يحصل المشترك على العمولة، والمال الذي دفعه المشترك فيه المخاطرة فربما يحصل على العمولة إذا أحضر العدد المطلوب من المشتركين الآخرين وربما يخسر إذا لم يتمكن من إحضارهم. وهذا هو وجه المقامرة في شركة كويست، ومن المعلوم أن القمار من المحرمات، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} سورة المائدة الآية 90. وكذلك فإن أخذ العمولات كلما باع المشتري الذي جاء عن طريق المشترك الأول يعتبر من باب أكل أموال الناس بالباطل وهو من المحرمات. وأخذ العمولات المعتبر شرعاً إنما يكون مقابل الجهود الفعلية التي يبذلها الشخص الوسيط. رابعاً: إن معاملة الشركة المذكورة تقوم على الغرر وهو ما كان مجهول العاقبة لا يدرى هل يحصل أم لا؟ وقد صح في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر) رواه مسلم. فمعاملة الشركة كأنها نوع من القمار حيث إن الزبون يدفع مبلغاً من المال وهنالك احتمال أن يربح أو لا يربح. خامساً: التسويق الشبكي [يعد من صور الغش والاحتيال التجاري، وهو لا يختلف كثيراً عن التسويق الهرمي الذي منعت منه القوانين والأنظمة، فالتسويق الشبكي كالهرمي يجعل أتباعه يحلمون بالثراء السريع، لكنهم في الواقع لا يحصلون على شيء، لأنهم يقصدون سراباً، بينما تذهب معظم المبالغ التي تم جمعها من خلالهم إلى أصحاب الشركة والمستويات العليا في الشبكة. ولذلك منعت العديد من الدول من التسويق الشبكي، - بعض الدول العربية منعت التسويق الشبكي - وحذرت الجمهور من الوقوع في مصيدة الشركات التي تعمل في هذا النمط من التسويق، لقناعتها بأنه لا يعدو أن يكون صورة من صور الغش والخديعة.] فتوى د. نايف العجمي عن الإنترنت. وقد رأيت أنه من الفائدة أن أذكر فتويين لمجمعين علميين معتبرين في تحريم معاملات التسويق الشبكي أولاهما فتوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء السعودية ونصها: [إن هذا النوع من المعاملات محرم، وذلك أن مقصود المعاملة هو العمولات وليس المنتج، فالعمولات تصل إلى عشرات الآلاف، في حين لا يتجاوز ثمن المنتج بضع مئات، وكل عاقل إذا عرض عليه الأمران فسيختار العمولات، ولهذا كان اعتماد هذه الشركات في التسويق والدعاية لمنتجاتها هو إبراز حجم العمولات الكبيرة التي يمكن أن يحصل عليها المشترك، وإغراؤه بالربح الفاحش مقابل مبلغ يسير هو ثمن المنتج، فالمنتج الذي تسوقه هذه الشركات مجرد ستار وذريعة للحصول على العمولات والأرباح، ولما كانت هذه هي حقيقة هذه المعاملة، فهي محرمة شرعاً لأمور أولاً: أنها تضمنت الربا بنوعيه، ربا الفضل وربا النسيئة، فالمشترك يدفع مبلغاً قليلاً من المال ليحصل على مبلغ كبير منه، فهي نقود بنقود مع التفاضل والتأخير، وهذا هو الربا المحرم بالنص والإجماع، والمنتج الذي تبيعه الشركة على العميل ما هو إلا ستار للمبادلة، فهو غير مقصود للمشترك، فلا تأثير له في الحكم. ثانياً: أنها من الغرر المحرم شرعاً، لأن المشترك لا يدري هل ينجح في تحصيل العدد المطلوب من المشتركين أم لا؟ والتسويق الشبكي أو الهرمي مهما استمر فإنه لا بد أن يصل إلى نهاية يتوقف عندها، ولا يدري المشترك حين انضمامه إلى الهرم هل سيكون في الطبقات العليا منه فيكون رابحاً، أو في الطبقات الدنيا فيكون خاسراً؟ والواقع أن معظم أعضاء الهرم خاسرون إلا القلة القليلة في أعلاه، فالغالب إذن هو الخسارة، وهذه هي حقيقة الغرر، وهي التردد بين أمرين أغلبهما أخوفهما، وقد نهى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الغرر، كما رواه مسلم في صحيحه. ثالثاً: ما اشتملت عليه هذه المعاملة من أكل الشركات لأموال الناس بالباطل، حيث لا يستفيد من هذا العقد إلا الشركة ومن ترغب إعطاءه من المشتركين بقصد خداع الآخرين، وهذا الذي جاء النص بتحريمه في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} النساء/29. رابعاً: ما في هذه المعاملة من الغش والتدليس والتلبيس على الناس، من جهة إظهار المنتج وكأنه هو المقصود من المعاملة والحال خلاف ذلك، ومن جهة إغرائهم بالعمولات الكبيرة التي لا تتحقق غالباً، وهذا من الغش المحرم شرعاً، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (من غش فليس مني) رواه مسلم في صحيحه، وقال أيضاً: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبيّنا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما) متفق عليه. وأما القول بأن هذا التعامل من السمسرة، فهذا غير صحيح، إذ السمسرة عقد يحصل السمسار بموجبه على أجر لقاء بيع السلعة، أما التسويق الشبكي فإن المشترك هو الذي يدفع الأجر لتسويق المنتج، كما أن السمسرة مقصودها تسويق السلعة حقيقة، بخلاف التسويق الشبكي فإن المقصود الحقيقي منه هو تسويق العمولات وليس المنتج، ولهذا فإن المشترك يسوِّق لمن يُسوِّق لمن يُسوِّق، هكذا بخلاف السمسرة التي يُسوق فيها السمسار لمن يريد السلعة حقيقة، فالفرق بين الأمرين ظاهر. وأما القول بأن العمولات من باب الهبة فليس بصحيح، ولو سُلِّمَ فليس كل هبة جائزة شرعاً، فالهبة على القرض ربا، ولذلك قال عبد الله بن سلام لأبي بردة رضي الله عنهما: (إنك في أرضٍ، الربا فيها فاشٍ، فإذا كان لك على رجل حقٌ فأهدى إليك حمل تبن أو حمل شعير أو حمل قَتٍّ فإنه ربا) رواه البخاري في الصحيح. والهبة تأخذ حكم السبب الذي وجدت لأجله، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام في العامل الذي جاء يقول: هذا لكم وهذا أهدي إلي، فقال عليه الصلاة والسلام: (أفلا جلست في بيت أبيك وأمك فتنظر أيهدى إليك أم لا؟) متفق عليه. وهذه العمولات إنما وجدت لأجل الاشتراك في التسويق الشبكي، فمهما أعطيت من الأسماء، سواء هدية أو هبة أو غير ذلك، فلا يغير ذلك من حقيقتها وحكمها شيئاً. ومما هو جدير بالذكر أن هناك شركات ظهرت في السوق سلكت في تعاملها مسلك التسويق الشبكي أو الهرمي مثل شركة (سمارتس واي) وشركة (جولد كويست) وشركة (سفن دايموند) وحكمها لا يختلف عن الشركات السابق ذكرها، وإن اختلفت عن بعضها فيما تعرضه من منتجات] اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء فتوى رقم (22935) . وأما الفتوى الثانية فهي لمجمع الفقه السوداني وأذكرها باختصار نظراً لضيق المقام: [ ... العلة الشرعية التي بُنِيَتْ عليها فتوى حظر شركات التسويق الشبكي الصادرة من المجمع قبل خمس سنوات تتمثل في كونه قماراً (فتوى الحكم الشرعي للاشتراك في شركة بزناس وما يشابهها من شركات التسويق الشبكي ... سنة 2003م) ... والتسويق الشبكي في حقيقته وكما جاء في حيثيات فتوى المجمع يتكون من حلقات قمار متداخلة، مال القمار فيه مضمن في السلعة مدسوس في ثمنها، الرابح فيه هو السابق في الشبكة، والمخاطر فيه دوماً قاعدة الهرم المتعلقة بالأمل في الصعود. ومن ثمَّ كان إلغاء شرط شراء المنتج للاستفادة من حوافز التسويق الشبكي أمراً جوهرياً وأساسياً لنفي صفة القمار عند المعاملة للرابحين، بحيث لا تترتب أي خسارة على المسوِّقين في حال فشلهم لبلوغ القمة ... وعليه لا يجوز العمل بهذه الخطة لكونها قماراً يُحرِّمُهُ الشرع الحنيف] .
وخلاصة الأمر أن ما تقوم به شركة كويست من تسويق شبكي محرم شرعاً لاشتماله على عدة أمور مبطلة للعقد كالربا بنوعيه النسيئة والفضل، والقمار والغرر والغش والخداع، وأنصح الناس أن لا ينخدعوا بما تروجه الشركة ووكلاؤها من الربح السريع فكل ذلك من الكسب غير المشروع.(12/3)
4 - الوكيل أمين ومخالفة شروط الوكالة خيانة للأمانة
يقول السائل: إنه مقاول بناء وقد اتفق مع صاحب أرض غير مقيم في البلد على أن يبني عمارة في أرضه مقابل أن يعطيه شقتين بمواصفات متفق عليها، وقد وكل المالك الموجود في الخارج قريباً له ليتمم الإجراءات الرسمية، ولكن هذا الوكيل رفض إتمام الإجراءات الرسمية إلا بعد أن يحصل على شقتين مقابل ذلك وبدون علم المالك، أي الموكل، فما الحكم الشرعي في مطلب الوكيل أفيدونا.
الجواب: الوكالة من العقود الجائزة شرعاً على الراجح من أقوال أهل العلم، والتوكيل أن يفوض الشخص التصرف إلى غيره، وسمي الوكيل وكيلاً لأن موكله قد فوض إليه القيام بأمره، فهو موكول إليه الأمر، وعرف الحنفية الوكالة بأنها إقامة الغير مقام نفسه في تصرف جائز معلوم. حاشية ابن عابدين 4/400، وجاء في مجلة الأحكام العدلية المادة رقم (1449) : الوكالة هي تفويض أحد في شغل لآخر وإقامته مقامه في ذلك الشغل ويقال لذلك الشخص موكل ولمن أقامه وكيل ولذلك الأمر موكل به. وقد اتفق الفقهاء على أن الوكالة جائزة ومشروعة واستدلوا على ذلك بقول الله سبحانه وتعالى: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً} سورة الكهف الآية 19. وبقوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً} سورة النساء الآية 35. وعن عروة البارقي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه ديناراً يشتري له به شاة، فاشترى له به شاتين، فباع إحداهما بدينار، فجاء بدينار وشاة، فدعا له بالبركة في بيعه، وكان لو اشترى التراب لربح فيه) رواه البخاري، وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: أردت الخروج إلى خيبر، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه، وقلت له: إني أردت الخروج إلى خيبر، فقال: إذا أتيت وكيلي فخذ منه خمسة عشر وسقاً، فإن ابتغى منك آية فضع يدك على ترقوته) رواه أبو داود والدارقطني، وحسن إسناده الحافظ ابن حجر العسقلاني في التلخيص الحبير 3/51. وعن أبي رافع رضي الله عنه قال: تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة رضي الله عنها وهو حلال، وبنى بها وهو حلال، وكنت أنا الرسول بينهما) رواه الترمذي وحسنه، وقد أجمع الفقهاء على جواز الوكالة ومشروعيتها منذ عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، ولم يخالف في ذلك أحدٌ من المسلمين. انظر الموسوعة الفقهية الكويتية 45/5-8. وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [وأجمعت الأمة على جواز الوكالة في الجملة ولأن الحاجة داعية إلى ذلك فإنه لا يمكن كل واحد فعل ما يحتاج إليه , فدعت الحاجة إليها.] المغني5/201. إذا تقرر هذا فإن العلماء متفقون على أن الوكيل أمين، والواجب شرعاً على الوكيل أن يقوم بتنفيذ الوكالة في الحدود التي أذن له الموكل بها، أو التي قيده الشرع أو العرف بالتزامها، ولا يتصرف الوكيل إلا في حدود ما أذن له فيه موكله. ويجب على الوكيل موافاة الموكل بكل المعلومات الضرورية، ولا يجوز للوكيل التصرف إلا ضمن ما يأذن له الموكل، قال الشيخ ابن حزم الظاهري: [ولا يحل للوكيل تعدي ما أمره به موكله، فإن فعل لم ينفذ فعله، فإن فات ضمن لقول الله تعالى: {ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين} سورة البقرة الآية 190. ولقوله تعالى: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} سورة البقرة الآية 194] المحلى7/91. وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [ولا يملك الوكيل من التصرف إلا ما يقتضيه إذن موكله من جهة النطق أو من جهة العرف، لأن تصرفه بالإذن، فاختص بما أذن فيه، والإذن يعرف بالنطق تارة، وبالعرف أخرى] المغني 5/251. وجاء في الموسوعة الفقهية الكويتية 24/72: [الوكيل لا يملك من التصرف إلا ما يقتضيه إذن موكله من جهة النطق أو جهة العرف، لأن تصرفه بالإذن فاختص بما أذن فيه، وهو مأمور بالاحتياط والغبطة، فلو وكله في التصرف في زمن مقيد لم يملك التصرف قبله ولا بعده، لأنه لم يتناوله إذن مطلقاً، ولا عرفاً لأنه قد يؤثر التصرف في زمن الحاجة إليه دون غيره.] . وبناءً على ما سبق فإن ما قام به الوكيل يعتبر خيانة لمن وكله، لأن الأصل في الوكيل الأمانة كما سبق، وهذا الوكيل قد خان الأمانة، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} سورة الأنفال الآية 27. وهذه الآية عامة تشمل كل الأمانات كما نقل القرطبي ذلك عن جماعة من الصحابة كالبراء بن عازب وابن مسعود وابن عباس وأبيّ بن كعب رضي الله عنهم قالوا: [الأمانة في كل شيء في الوضوء والصلاة والزكاة والجنابة والصوم والكيل والوزن والودائع] . وقال القرطبي: [وأجمعوا على أن الأمانات مردودة إلى أربابها الأبرار منهم والفجار] تفسير القرطبي 5/256. وخيانة الأمانة من صفات المنافقين كما صحَّ في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان) رواه البخاري ومسلم. وفي رواية عند مسلم: (وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم) . وجاء في الحديث عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أربعٌ من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر) رواه البخاري ومسلم. وقد اعتبر العلماء خيانة الأمانة من كبائر الذنوب. انظر الزواجر عن اقتراف الكبائر1/617. وقد وردت أحاديث كثيرة في الترهيب من خيانة الأمانة منها: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال في الخطبة: لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له) رواه رواه أحمد والبزار والطبراني في الأوسط وابن حبان في صحيحه والبيهقي وقال الإمام البغوي: هذا حديث حسن. شرح السنة 1/75، وصححه العلامة الألباني في صحيح الترغيب، وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اضمنوا لي ستاً أضمن لكم الجنة اصدقوا إذا حدثتم وأوفوا إذا وعدتم وأدوا إذا ائتمنتم واحفظوا فروجكم وغضوا أبصاركم وكفوا أيديكم) رواه أحمد والبيهقي والحاكم وابن حبان وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة 3/454، وورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك) رواه أبو داود والترمذي والحاكم وصححه العلامة الألباني في السلسة الصحيحة حديث رقم 424. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: [لا يغرنَّك صلاة امرئ ولا صيامه من شاء صلى ومن شاء صام ولكن لا دين لمن لا أمانة له] شرح السنة 1/75. ويضاف إلى ما سبق أن هذا الوكيل يخفي عن موكله هذه المكاسب التي يريد تحقيقها من الوكالة، وما يكسبه الوكيل بهذه الطريقة يعتبر سحتاً ومن أكل أموال الناس بالباطل، يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} سورة النساء الآية 29. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة لحم نبت من سحت النار أولى به) رواه أحمد والبزار ورجاله رجال الصحيح، وفي رواية أخرى: (كل جسدٍ نبت من سحتٍ فالنار أولى به) رواه أحمد والطبراني والحاكم وقال العلامة الألباني صحيح. انظر صحيح الجامع الصغير 2/831. وعن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ... يا كعب بن عجرة إنه لا يربو لحم نبت من سحت إلا كانت النار أولى به) رواه أحمد والنسائي والترمذي وحسنه وصححه العلامة الألباني. صحيح سنن الترمذي 1/189. ون أبي بكر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يدخل الجنة جسد غُذِيَ بحرام) رواه أبو يعلى والبزار والطبراني في الأوسط وصححه العلامة الألباني في صحيح الترغيب والترهيب 2/320. وخلاصة الأمر أن الوكيل أمين، ويحرم عليه الكسب غير المشروع الذي سيجنيه من خلال الوكالة وبدون إذن ولا علم موكله وكذلك لا يجوز للمقاول أن يحقق رغبة الوكيل الخائن للأمانة والواجب عليه أن يخبر مالك الأرض بما يحصل. وإن لم يفعل وحقق للوكيل مبتغاه فهو شريك في الإثم.(12/4)
5 - يحرم شرعا على المسلم أن يكون طرفا في أي عملية ربوية
يقول السائل: إنه كان يعمل في إحدى المؤسسات، وقد استحق مكافأة نهاية الخدمة وحصته من صندوق التوفير، وتعرض عليه المؤسسة أن يأخذ مستحقاته بقرض مع فائدة من البنك، والمؤسسة هي التي ستتحمل الفائدة، فما الحكم الشرعي في هذه القضية، أفيدونا؟
الجواب: فوائد البنوك هي الربا المحرم في كتاب الله عز وجل وفي سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، والربا من أكبر الكبائر وتحريمه قطعي في كتاب الله سبحانه وتعالى، وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم، قال الإمام الماوردي: [أجمع المسلمون على تحريم الربا] الحاوي الكبير5/135. والنصوص على تحريمه كثيرة منها: قول الله سبحانه تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} سورة البقرة الآيات 275 - 279. وثبت في الحديث عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه وقال: هم سواء) رواه مسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات) رواه البخاري ومسلم. وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: (رأيت الليلة رجلين أتياني فأخرجاني إلى أرض مقدسة، فانطلقنا حتى أتينا على نهر من دم فيه رجل قائم، وعلى وسط النهر رجل بين يديه حجارة، فأقبل الرجل الذي في النهر، فإذا أراد أن يخرج رمى الرجل بحجر في فيه فَرُدَّ حيث كان، فجعل كلما جاء ليخرج رمى في فيه بحجر فيرجع كما كان، فقلت: ما هذا؟ فقال: الذي رأيته في النهر آكل الربا) رواه البخاري. وعن أبي جحيفة رضي الله عنه قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الواشمة والمستوشمة وآكل الربا وموكله ونهى عن ثمن الكلب وكسب البغي ولعن المصورين) رواه البخاري. وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: (ما أحدٌ أكثر من الربا إلا كان عاقبة أمره إلى قلة) رواه ابن ماجة، ورواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد، وفي لفظ له قال: (الربا وإن كثر فإن عاقبته إلى قل) وقال فيه أيضاً صحيح الإسناد، وصححه العلامة الألباني في صحيح الجامع الصغير برقم 3542 وبرقم 5518. وعن سلمان بن عمرو عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حجة الوداع يقول: (ألا إن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع، لكم رؤوس أموالكم لا تَظلمون ولا تُظلمون ... ) رواه أبو داود وابن ماجة وصححه العلامة الألباني في صحيح سنن أبي داود 2/641-642. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: (ليأتين على الناس زمانٌ لا يبالي المرء بما أخذ المال أمِن الحلال أم مِنَ الحرام) رواه البخاري. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: (يأتي على الناس زمان يأكلون الربا، فمن لم يأكله، أصابه من غباره) . رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة والحاكم في المستدرك وقال: قد اختلف في سماع الحسن عن أبي هريرة، فإن صح سماعه منه، فهذا حديث صحيح. وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الربا ثلاثة وسبعون شعبة أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه) رواه الحاكم وصححه وقال الشيخ الألباني: صحيح. انظر صحيح الجامع الصغير 1/633. وعن عبد الله بن حنظلة رضي الله عنه - غسيل الملائكة - أنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشدُّ من ستٍّ وثلاثين زنية) رواه أحمد، وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح، مجمع الزوائد 4/117. وصححه العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة 3/29. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (إذا ظهر الزنا والربا في قرية فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله) رواه الحاكم وقال صحيح الإسناد وحسنهه العلامة الألباني في صحيح الترغيب والترهيب 2/179. وغير ذلك من النصوص الحارمة للربا. وقد نقل الأئمة الإجماع على تحريم الربا انظر المجموع9/391. إذا تقرر هذا التحريم القطعي للربا، فيجب أن يُعلم أنه يحرم على المسلم أن يكون طرفاً في أي عملية ربوية، ويحرم عليه أن يسهم في العملية الربوية بأي شكل من الأشكال، ويدخل في ذلك أن يأخذ قرضاً ربوياً، وإن لم يدفع هو الفائدة، بل دفعتها المؤسسة التي عمل فيها، كما ورد في السؤال، أو أي جهة أخرى، ولا شك أن من يفعل ذلك فإنه يكون مشاركاً في الربا، وقد سبق قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن الله آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه وقال: هم سواء) رواه مسلم. ونلاحظ في هذا الحديث أن اللعن- ويعني الطرد من رحمة الله والعياذ بالله - شامل لآكل الربا، أي للآخذ له، ولمؤكله، أي المعطي للربا، وكذلك للكاتب للمعاملات الربوية، كما هو الحال في موظفي البنوك الربوية، وكذلك للشاهد، أي الذي يشهد على المعاملات الربوية، ويلحق بذلك من يسهم أي إسهام في العمليات الربوية، كالكفيل، ومن يشتري بما يسمى التقسيط الميسر عن طريق البنوك الربوية، ومدقق الحسابات ومن يقدم برامج الحاسوب ويركب أنظمة الحاسوب أو يقوم بصيانتها أو يقدم أي خدمة تسهم في الربا وغير ذلك من الخدمات أو المشاركات في العمليات الربوية. وقد علَّق الإمام النووي على قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال: هم سواء) فقال: [هذا تصريح بتحريم كتابة المبايعة بين المترابيين والشهادة عليهما. وفيه: تحريم الإعانة على الباطل.] شرح النووي على صحيح مسلم 4/207. ومما يدل على حرمة الإسهام في العملية الربوية بأي شكل من الأشكال قول الله تعال: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} سورة المائدة الآية 2. ولا شك أن من يقترض بالفائدة وإن لم يدفعها يكون متعاوناً على هذه الكبيرة من كبائر الذنوب. وثبت في الحديث عن أبى هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاص، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً) رواه مسلم. وورد في فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية 15/5 السؤال التالي: [ما المقصود بكاتب الربا في حديث جابر (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال: هم سواء. فهل كاتب الربا هو كاتب تلك الواقعة فقط؟ أم ممكن يكون أي فرد آخر بعيد تماماً عن المنشأة الربوية، إلا أنه بواقع عمله كمحاسب يقوم بجمع أرقام أو طرح أرقام في دفاتر أخرى غير المستندات الربوية، حيث يلزم ذلك، فهل يعتبر ذلك المحاسب كاتب ربا، أم اللفظ خاص بكاتب تلك الواقعة لا يتعدى لغير ولا يتعدى اللعن لغيره؟ أفيدونا جزاكم الله خيراً. الجواب: حديث لعن كاتب الربا عام، يشمل كاتب وثيقته الأولى، وناسخها إذا بليت، ومقيد المبلغ الذي بها في دفاتر الحساب، والمحاسب الذي حسب نسبة الربا وجمعها على أصل المبلغ، أو أرسلها إلى المودع ونحو هؤلاء.]
وخلاصة الأمر أنه يحرم شرعاً أخذ قرض ربوي بالفائدة وإن لم يدفعها الآخذ، لأن هذه العملية تعتبر مشاركة في الربا، وكل مشاركة في الربا فهي محرمة، لما في ذلك من التعاون على الإثم والعدوان وهي محرمة أيضاً بنص حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن الله آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه وقال: هم سواء) ، فقوله (هم سواء) أي في الإثم.(12/5)
6 - حكم تأجير الأرض الزراعية بالنقود
يقول السائل: عندي أرضٌ صالحةٌ للزراعة في قريتي، وأنا أعيش في المدينة حيث أعمل، فهل يجوز تأجيرها بمبلغ معلوم من النقود عن كل سنة، أفيدونا؟
الجواب: تأجير الأرض الزراعية جائز شرعاً سواء أجرها صاحبها بمبلغ من النقود أو أجرها بنسبة شائعة مما يزرع فيها كالربع والثلث من إنتاجها، وهذا مذهب جماهير أهل العلم من الصحابة والتابعين والفقهاء، وهو قول الأئمة الأربعة وأتباعهم، قال الإمام ابن المنذر: [وأجمعوا على أن اكتراء الأرض بالذهب والفضة وقتاً معلوماً جائز، وانفرد طاووس والحسن فكرهاها.] كتاب الإجماع1/35. وهذا قول المحققين من أهل العلم الذين دفعوا التعارض بين الأحاديث الواردة في المسألة، قال الإمام البخاري في صحيحه: [باب كراء الأرض بالذهب والفضة ثم ذكر عن ابن عباس أنه قال: إن أمثل ما أنتم صانعون أن تستأجروا الأرض البيضاء من السنة إلى السنة. ثم روى بإسناده عن رافع بن خديج رضي الله عنه قال حدثني عمَّايَ أنهم كانوا يكرون الأرض على عهد النبي صلى الله عليه وسلم بما ينبت على الأربعاء - جمع ربيع وهو النهر الصغير - أو شيء يستثنيه صاحب الأرض، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقلت لرافع فكيف هي بالدينار والدرهم، فقال رافع: ليس بها بأس بالدينار والدرهم. وقال الليث وكان الذي نهى عن ذلك ما لو نظر فيه ذوو الفهم بالحلال والحرام لم يجيزوه، لما فيه من المخاطرة] وورد في رواية أخرى عن رافع عند مسلم (كنا أكثر الأنصار حقلاً قال: كنا نكري الأرض على أن لنا هذه ولهم هذه، فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه، فنهانا - النبي صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، وأما الورق - الفضة - فلم ينهنا.) ، قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [كأنه أراد بهذه الترجمة الإشارة إلى أن النهي الوارد عن كراء الأرض محمولٌ على ما إذا أكريت بشيء مجهول وهو قول الجمهور، أو بشيء مما يخرج منها ولو كان معلوماً، وليس المراد النهي عن كرائها بالذهب أو الفضة. وبالغ ربيعة فقال: لا يجوز كراؤها إلا بالذهب أو الفضة، وخالف في ذلك طاووس وطائفة قليلة فقالوا: لا يجوز كراء الأرض مطلقاً، وذهب إليه ابن حزم وقواه واحتج له بالأحاديث المطلقة في ذلك، وحديث الباب دالٌ على ما ذهب إليه الجمهور، وقد أطلق ابن المنذر أن الصحابة أجمعوا على جواز كراء الأرض بالذهب والفضة، ونقل ابن بطال اتفاق فقهاء الأمصار عليه، وقد روى أبو داود عن سعد بن أبي وقاص قال: (كان أصحاب المزارع يكرونها بما يكون على المساقي من الزرع، فاختصموا في ذلك، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكروا بذلك وقال: أكروا بالذهب والفضة) ورجاله ثقات] فتح الباري 5/32، وقال الحافظ أيضاً: [وكلام الليث هذا موافق لما عليه الجمهور من حمل النهي عن كراء الأرض على الوجه المفضي إلى الغرر والجهالة، لا عن كرائها مطلقاً حتى بالذهب والفضة] فتح الباري 5/33-34. وقال العلامة الألباني عن حديث سعد السابق بأنه حديث حسن بشواهده في الباب، كما في صحيح وضعيف سنن النسائي، وما سبق يدل على جواز إجارة الأرض بالذهب والفضة، وأما إجارتها بنسبة شائعة كالثلث والنصف ونحو ذلك فمما يدل عليه ما قاله الإمام البخاري في صحيحه: [باب المزراعة بشطر ونحوه. وقال قيس عن أبي جعفر قال: ما بالمدينة أهل بيت هجرة إلا يزرعون على الثلث والربع، وزارع علي وسعد بن مالك وعبد الله بن مسعود وعمر بن عبد العزيز والقاسم وعروة وآل أبي بكر وآل عمر وآل علي وابن سيرين وقال عبد الرحمن ابن الأسود: كنت أشارك عبد الرحمن بن يزيد في الزرع. وعامل عمر الناس على إن جاء عمر بالبذر من عنده فله الشطر وإن جاءوا بالبذر فله كذا) وهذه المعلقات التي رواها الإمام البخاري بصيغة الجزم وصلها غيره من أهل الحديث كما بينه الحافظ ابن حجر في الفتح فتح الباري 5/ 407-408. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية معلقاً على كلام البخاري السابق: [فإذا كان جميع المهاجرين كانوا يزارعون والخلفاء الراشدون وأكابر الصحابة والتابعين من غير أن ينكر ذلك منكر لم يكن إجماع أعظم من هذا، بل إن كان في الدنيا إجماع فهو هذا، لا سيما وأهل بيعة الرضوان جميعهم يزارعون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعده إلى أن أجلى عمر اليهود إلى تيماء] مجموع الفتاوى 29/79. وقال العلامة ابن القيم: [وهذه – المزارعة – أمر صحيح مشهور قد عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات، ثم خلفاؤه الراشدون من بعده حتى ماتوا، ثم أهلوهم من بعدهم ولم يبقَ في المدينة أهل بيت حتى عملوا به وعمل به أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من بعده، ومثل هذا يستحيل أن يكون منسوخاً لاستمرار العمل به من النبي صلى الله عليه وسلم، إلى أن قبضه الله، وكذلك استمرار عمل خلفائه الراشدين به فنسخ هذا من أمحل المحال] شرح ابن القيم على سنن أبي داود 9/184. ومما يدل أيضاً على جواز إجارة الأرض بالذهب والفضة، ما ورد في الحديث عن حنظلة بن قيس رضي الله عنه قال: (سألت رافع بن خديج عن كراء الأرض بالذهب والفضة، فقال: لا بأس به، إنما كان الناس يؤاجرون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على الماذيانات، وأقبال الجداول، وأشياء من الزرع، فيهلك هذا ويسلم هذا، ويسلم هذا ويهلك هذا، ولم يكن للناس كراء إلا هذا، فلذلك زجر عنه، فأما شيءٌ معلومٌ مضمونٌ فلا بأس به) رواه مسلم، والماذيانات: ما ينبت من الزرع على مسايل المياه. وإقبال الجداول: أوائل السواقي. قال الإمام النووي: [ ... وأما الشافعي وموافقوه فاعتمدوا بصريح رواية رافع بن خديج وثابت بن الضحاك السابقين في جواز الإجارة بالذهب والفضة ونحوهما وتأولوا أحاديث النهى تأويلين: أحدهما حملها على إجارتها بما على الماذيانات أو بزرع قطعة معينة أو بالثلث والربع ونحو ذلك كما فسره الرواة في هذه الأحاديث التي ذكرناها، والثاني: حملها على كراهة التنزيه والإرشاد إلى إعارتها كما نهى عن بيع الغرر نهى تنزيه بل يتواهبونه ونحو ذلك، وهذان التأويلان لابد منهما أو من أحدهما للجمع بين الأحاديث، وقد أشار إلى هذا التأويل الثاني البخاري وغيره ومعناه عن بن عباس] شرح النووي على صحيح مسلم 10/198. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: [المراد بذلك الكراء الذي كانوا يعتادونه من الكراء والمعاوضة اللذين يرجع كل منهما إلى بيع الثمرة قبل أن تصلح، وإلى المزارعة المشروط فيها جزء معين، وهذا نهي عما فيه مفسدة راجحة.] مجموع الفتاوى 29/87. ومما يدل أيضاً على جواز إجارة الأرض بالذهب والفضة، ما ورد في الحديث عن رافع بن خديج قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة، وقال إنما يزرع ثلاثةٌ: رجلٌ له أرضٌ فهو يزرعها، ورجل مُنح أرضاً فهو يزرع ما منح، ورجلٌ استكرى أرضاً بذهب أو فضة) رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة، وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في صحيح سنن أبي داود 2/652. وغير ذلك من الأدلة. وبعد هذا العرض والبيان يظهر لنا ضعف قول القائلين من المعاصرين بمنع تأجير الأراضي الزراعية منعاً مطلقاً، كما ورد في مشروع دستور حزب التحرير المادة رقم 131 [يمنع تأجير الأرض للزراعة مطلقاً سواء أكانت خراجية أم عشرية، كما تمنع المزارعة] ، وأن هذا المنع لا يستند إلى دليل صحيح معتبر، وأن هذا المنع يتعارض مع الأصول والقواعد المقررة في نظام المعاملات في الفقه الإسلامي، كما أنه يتعارض مع الأحاديث الصحيحة التي سبق ذكر بعضها، ولا بد من الإشارة إلى أن من أراد أن يضع دستوراً عاماً للمسلمين ويُدخل فيه أمثال هذه المسألة، فلا بد أن يدرس المسائل الفقهية دراسة عميقة، وأن يدرس جميع النصوص الواردة في المسألة قبل أن يُصدر حكمه!! إذا تقرر جواز إجارة الأرض بالذهب والفضة، فإن النقود الورقية تقوم مقام الذهب والفضة وتأخذ أحكامهما فتثبت لها صفة الثمنية، كما ذهب إليه جماهير علماء العصر وكذا المجامع الفقهية المعتبرة، وبناءً على ذلك فإنه يجوز شرعاً تأجير الأرض الزراعية بالنقود والعملات المتداولة بشرط أن تكون الأجرة معلومة كذا أن تكون مدة الإجارة معلومة.
وخلاصة الأمر أنه يجوز شرعاً إجارة الأرض الزراعية بالنقود الورقية بالشروط المقررة لعقد الإجارة. وأن ما ورد في بعض الأحاديث من نهي عن إجارة الأرض محمولٌ على ما فيه مخاطرة وجهالة وغرر.(12/6)
7 - الفرق بين التأمين التجاري - التقليدي – وبين التأمين التعاوني أو التكافلي أو الإسلامي
يقول السائل: هل هنالك فرق بين التأمين التعاوني والتأمين التجاري، أفيدونا؟ الجواب: " التأمين الإسلامي هو اتفاق أشخاص يتعرضون لأخطار معينة على تلافي الأضرار الناشئة عن هذه الأخطار، وذلك بدفع اشتراكات على أساس الالتزام بالتبرع، ويتكون من ذلك صندوق تأمين له حكم الشخصية الاعتبارية، وله ذمة مالية مستقلة، (صندوق) يتم منه التعويض عن الأضرار التي تلحق أحد المشتركين من جراء وقوع الأخطار المؤمن منها، وذلك طبقاً للوائح والوثائق. ويتولى إدارة هذا الصندوق هيئة مختارة من حملة الوثائق، أو تديره شركة مساهمة بأجر تقوم بإدارة أعمال التأمين واستثمار موجودات الصندوق. وأما التأمين التقليدي فهو عقد معاوضة مالية يستهدف الربح من التأمين نفسه، وتطبق عليه أحكام المعاوضات المالية التي يؤثر فيها الغرر" كتاب المعايير الشرعية الصادرة عن هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية ص 436. وحكم التأمين التعاوني أو التكافلي أو الإسلامي هو الجواز وفقاً للضوابط الشرعية، وقد أفتى بجوازه عدد كبير من علماء العصر وعدد من المجامع الفقهية والهيئات العلمية الشرعية، كالمجمع الفقهي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي والمجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي وهيئة كبار العلماء في السعودية والمؤتمر الأول للاقتصاد الإسلامي المنعقد في مكة المكرمة سنة 1396هـ والمجلس الأوربي للإفتاء والبحوث. وأما التأمين التجاري أو التقليدي فهو محرم شرعاً عند أكثر العلماء المعاصرين، وصدرت قرارات شرعية بتحريمه عن المجمع الفقهي الإسلامي الدولي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي، وعن هيئة كبار العلماء في السعودية، وعن مجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي وغيرها. [وأما التكييف الفقهي للتأمين الإسلامي فيقوم على أساس الالتزام بالتبرع من المشتركين لمصلحتهم، وحماية مجموعهم بدفع اشتراكات يتكون منها صندوق التأمين الذي تديره هيئة مختارة من حملة الوثائق، أو تديره الشركة المساهمة المرخص لها بممارسة خدمات التأمين، على أساس اوكالة بأجر، وتقوم الهيئة المختارة من حملة الوثائق أو الشركة باستثمار موجودات التأمين على أساس المضاربة أو الوكالة بالاستثمار. وتختص الشركة المساهمة المديرة للتأمين برأس مالها وعوائده، والأجر الذي تأخذه عن الوكالة، ونسبتها المحددة من الربح المحقق عن استثمار موجودات التأمين على أساس المضاربة، أو الأجر المحدد على أساس الوكالة بالاستثمار، وتتحمل الشركة جميع مصروفاتها الخاصة بأعمالها، ومن تلك المصروفات مصروفات استثمار موجودات التأمين. ويختص صندوق حملة الوثائق بالاشتراكات وعوائدها وما يتم تكوينه من مخصصات واحتياطات متعلقة بالتأمين وبالفائض التأميني، ويتحملون جميع المصروفات المباشرة المتعلقة بإدارة عمليات التأمين. وفي التأمين الإسلامي ثلاثُ علاقاتٍ تعاقدية: أ. علاقة المشاركة بين المساهمين التي تتكون بها الشركة من خلال النظام الأساسي وما يتصل به، هي عقد المشاركة إذا كانت تديره الشركة. ب. العلاقة بين الشركة وبين صندوق حملة الوثائق هي علاقة الوكالة من حيث الإدارة، أما من حيث الاستثمار فهي علاقة مضاربة، أو وكالة بالاستثمار. ج. العلاقة بين حملة الوثائق وبين الصندوق عند الاشتراك هي علاقة التزام بالتبرع، والعلاقة بين المستفيد وبين الصندوق عند التعويض هي علاقة التزام الصندوق بتغطية الضرر حسب الوثائق واللوائح. ويقوم التأمين الإسلامي على المبادئ والأسس الشرعية الآتية التي يجب أن يُنَص عليها في النظام الأساسي للشركة، أو في اللوائح، أو في الوثائق: الالتزام بالتبرع: حيث يُنص على أن المشترك يتبرع بالاشتراك وعوائده لحساب التأمين لدفع التعويضات، وقد يلتزم بتحمل ما قد يقع من عجز حسب اللوائح المعتمدة. قيام الشركة المنظمة للتأمين بإنشاء حسابين منفصلين أحدهما خاص بالشركة نفسها: حقوقها والتزاماتها، والآخر خاص بصندوق (حملة الوثائق) حقوقهم والتزاماتهم. الشركة وكيلة في إدارة حساب التأمين، ومضاربة أو وكيلة في استثمار موجودات التأمين. يختص حساب التأمين بموجودات التأمين وعوائد استثماراتها، كما أنه يتحمل التزاماتها. يجوز أن تشتمل اللوائح المعتمدة على التصرف في الفائض بما فيه المصلحة حسب اللوائح المعتمدة مثل تكوين الاحتياطيات، أو تخفيض الاشتراكات، أو التبرع به لجهات خيرية، أو توزيعه أو جزء منه على المشتركين على أن لا تستحق الشركة المديرة شيئاً من ذلك الفائض. صرف جميع المخصصات المتعلقة بالتأمين، والفوائض المتراكمة في وجوه الخير عند تصفية الشركة. أفضلية مشاركة حملة الوثائق في إدارة عمليات التأمين من خلال إيجاد صيغة قانونية مناسبة لممارسة حقهم في الرقابة، وحماية مصالحهم، مثل تمثيلهم في مجلس الإدارة. التزام الشركة بأحكام ومبادئ الشريعة الإسلامية في كل أنشطتها واستثماراتها، وبخاصة عدم التأمين على المحرمات، أو على أغراض محرمة شرعاً. تعيين هيئة رقابة شرعية تكون فتاواها ملزمة للشركة، ووجود إدارة رقابة وتدقيق شرعي داخلي.] انظر المعايير الشرعية الصادرة عن هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية ص 436-437. إذا تقرر هذا فإن أهم الفروق بين التأمين التعاوني أو التكافلي أو الإسلامي وبين التأمين التجاري أو التقليدي تتمثل فيما يلي: الفرق الأول: يقوم التأمين التعاوني أو التكافلي أو الإسلامي على فكرة التعاون على البر والتقوى، ودليله من الكتاب قول الله تبارك وتعالى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} ، ومن السنة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) رواه مسلم. أما التأمين التجاري التقليدي الربوي فيقوم على فكرة الربح للشركة، ويتمثل هذا الربح في الفرق بين الاشتراكات المحصلة من العملاء، وبين التعويضات المعطاة لمن أصابهم الضرر. الفرق الثاني: يتضمن عقد التأمين التجاري التقليدي الغرر والجهالة، وهذا غير جائز شرعاً، بينما يقوم عقد التأمين التعاوني أو التكافلي أو الإسلامي على التعاون، وهذا جائز شرعاً، أي أن عقد التأمين التعاوني أو التكافلي أو الإسلامي من عقود التبرع التي يقصد بها أصالة التعاون على تفتيت الأخطار، فالأقساط المقدمة من حملة الوثائق في التأمين التعاوني أو التكافلي أو الإسلامي تأخذ صفة الهبة أي التبرع كما في قرار هيئة كبار العلماء، أما التأمين التجاري فهو من عقود المعاوضات المالية الاحتمالية. الفرق الثالث: تقوم شركات التأمين التكافلي أو التعاوني أو الإسلامي باستثمار فائض الأموال وفقاً لصيغ الاستثمار الإسلامية، بينما تقوم شركات التأمين التجاري التقليدي باستثمار الأموال وفقاً لنظام الفائدة – الربا- المحرم شرعاً. الفرق الرابع: المؤمِّنون هم المستأمنون في التأمين التكافلي أو التعاوني أو الإسلامي، ولا تستغل أقساطهم المدفوعة لشركة التأمين التكافلي أو التعاوني أو الإسلامي إلا بما يعود عليهم بالخير جميعاً، أما في شركة التأمين التجاري فالمؤمِّن هو عنصر خارجي بالنسبة للشركة، كما أن شركة التأمين التجاري تقوم باستغلال أموال المستأمنين فيما يعود عليها بالنفع وحدها. فتاوى التأمين ص 99. الفرق الخامس: المستأمنون في شركات التأمين التكافلي أو التعاوني أو الإسلامي يُعَدُون شركاء، مما يعطيهم الحق في الحصول على الأرباح الناتجة من عمليات استثمار أموالهم. أما في شركات التأمين التجاري فالصورة مختلفة تماماً؛ لأن المستأمنين ليسوا شركاء، فلا يحق لهم أي ربح من استثمار أموالهم، بل تنفرد الشركة بالحصول على كل الأرباح. فتاوى التأمين ص 105. الفرق السادس: في التأمين التكافلي أو التعاوني أو الإسلامي لا بد أن يُنص في العقد على أن ما يدفعه المستأمن ما هو إلا تبرع، وأنه يدفع القسط للشركة لإعانة من يحتاج إليه من المشتركين، أما في التأمين التجاري فلا ترد نية التبرع أصلاً، وبالتالي لا يذكر في العقد. فتاوى التأمين ص91. الفرق السابع: يعتمد التأمين التكافلي أو التعاوني أو الإسلامي على أقساط التأمين المحصلة، وعلى استثمارها في أمور مشروعة تخلو من الربا أو المعاملات المحرمة ويتم دفع التعويضات من ذلك. كما أن شركة التأمين التكافلي أو التعاوني أو الإسلامي لا تتملك أقساط التأمين وإنما تكون ملكاً لحساب التأمين وهو حق للمشتركين، وتقوم شركة التأمين التكافلي أو التعاوني أو الإسلامي بإدارة الحساب نيابة عنهم. أما في التأمين التجاري فالأقساط ملك للشركة وحدها. الفرق الثامن: الفائض في التأمين التكافلي أو التعاوني أو الإسلامي يعود إلى مجموع المؤمنين ولا يعود إلى شركة التأمين، ولكن شركة التأمين التكافلي أو التعاوني أو الإسلامي تأخذ حصة من الفائض إما باعتبارها وكيلة بأجر أو باعتبارها مضارباً بينما في التأمين التجاري فإن الفائض يعود كله للشركة ولا علاقة للمشتركين به. وانظر غير ذلك من الفروق في بحث التأمين التعاوني للدكتور علي القرة داغي.
وخلاصة الأمر أن التأمين التكافلي أو التعاوني أو الإسلامي له ميزاته الخاصة التي تقوم على الأسس الشرعية بينما يعتبر التأمين التجاري التقليدي من إفرازات النظام الرأسمالي القائم على الربا والغرر المفسد للعقد. والفرق بينهما واضح جلي لمن دقق وحقق، والواجب على المسلمين التعامل بالتأمين التكافلي أو التعاوني أو الإسلامي ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.(12/7)
8 - رهن المبيع في بيع المرابحة للآمر بالشراء
يقول السائل: اشتريت سيارة جديدة بالمرابحة من أحد البنوك الإسلامية فقام البنك برهن السيارة لدى دائرة السير فما حكم ذلك، أفيدونا؟
الجواب: بيع المرابحة للآمر بالشراء إذا وقع على سلعة بعد دخولها في ملك المأمور وهو البنك، وحصول القبض المطلوب شرعاً، هو بيع جائز طالما كانت تقع على المأمور مسؤولية التلف قبل التسليم، وتبعة الرد بالعيب الخفي ونحوه من موجبات الرد بعد التسليم، وتوافرت شروط البيع وانتفت موانعه كما جاء في القرار الصادر عن المجمع الفقهي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي. ويجوز للبنك الإسلامي أن يشترط رهن السلعة المبيعة- السيارة مثلاً - ضماناً لسداد ثمنها، وهذا على الراجح من أقوال الفقهاء، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك وأحد قولي الشافعي والصحيح من مذهب أحمد، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه العلامة ابن القيم والعلامة العثيمين وغيرهم، وقد أخذ به مجمع الفقه الإسلامي، قال الشيخ ابن قدامة المقدسي بعد أن ذكر الخلاف في المسألة: [ ... وظاهر الرواية عند أحمد صحة رهنه] المغني 4/285، قال العلامة ابن القيم: [وهكذا في المبيع يشترط على المشتري رهنه على ثمنه حتى يسلمه إليه، ولا محذور في ذلك أصلاً، ولا معنىً، ولا مأخذاً قوياً يمنع صحة هذا الشرط والرهن، وقد اتفقوا أنه لو شرط عليه رهن عين أخرى على الثمن جاز، فما الذي يمنع جواز رهن المبيع على ثمنه؟ . لا فرق بين أن يقبضه أو لا يقبضه على أصح القولين، وقد نص الإمام أحمد على جواز اشتراط رهن المبيع على ثمنه، وهو الصواب ومقتضى قواعد الشرع وأصوله ... وهو مذهب مالك وأبي حنيفة، وأحد قولي الشافعي، وبعض أصحاب الإمام أحمد، وهو الصحيح] إعلام الموقعين 4/33. وقال العلامة ابن القيم أيضاً: [يجوز رهن المبيع قبل قبضة على ثمنه في أصح الوجهين، كما يصح رهنه قبل القبض بدين آخر غير ثمنه ومن غير البائع، بل رهنه على ثمنه أولى، فإنّه يملك حبسه على الثمن بدون الرهن، فلأن يصح حبسه على الثمن رهناً أولى وأحرى] إغاثة اللهفان 2/53. وقال البهوتي الحنبلي: [فيصح اشتراط رهن المبيع على ثمنه، فلو قال: بعتك هذا على أن ترهننيه على ثمنه، فقال: اشتريت ورهنتك صح الشراء والرهن] كشاف القناع3/189. وورد في قرار مجمع الفقه الإسلامي رقم (53/2/6) : [لا يحق للبائع الاحتفاظ بملكية المبيع، ولكن يجوز للبائ أن يشترط على المشتري رهن المبيع عنده لضمان حقه في استيفاء الأقساط المؤجلة] . وأجازت هيئة كبار العلماء السعودية في دورتها الثانية والخمسين أن يبيع الشيء ويرهنه على ثمنه ويحتاط لنفسه بالاحتفاظ بوثيقة العقد واستمارة السيارة ونحو ذلك. ومن المعلوم عند الفقهاء أن الرهن هو جعل عين مالية وثيقة بدين يستوفى منها أو من ثمنها إذا تعذر الوفاء، انظر المادة (701) من مجلة الأحكام العدلية، والأصل في مشروعية الرهن قوله تعالى: {وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} سورة البقرة الآية 283، وثبت في الحديث عن أنس رضي الله عنه قال: (رهن رسول الله صلى الله عليه وسلم درعاً عند يهودي بالمدينة وأخذ منه شعيراً لأهله) رواه البخاري، وعن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى طعاماً من يهودي إلى أجل ورهنه درعاً من حديد) رواه البخاري ومسلم، وفي رواية أخرى في الصحيحين (توفي النبي صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعاً من شعير) . ولكن يجب أن يعلم أن الرهن المشار إليه في السؤال ما هو إلا رهنٌ رسميٌ قانوني ويسمى رهناً إئتمانياً أو رهناً تأمينياً، وهذا الرهن لا يترتب عليه نقل حيازة السلعة من المشتري إلى البائع، بل تبقى السلعة – السيارة مثلاً - في ملك المشتري وتحت تصرفه، ولكن لا يحق له التصرف بالمركبة المرهونة ببيعها أو رهنها رهناً ثانياً للغير أو رهن أي حصص فيها أو طلب ترخيصها أو طلب فك الرهن عنها أو نقل الملكية أو ترتيب أي حق أو التزام عليها إلا بموافقة البنك، ويبقى الرهن قائماً على المركبة حتى السداد النهائي والتام وإبراء ذمة المشتري لدى البنك كما ورد في صك الرهن المعمول به، ومستند الرهن الرسمي - التأميني- هو ما نصت عليه القوانين المدنية، كما في المواد (1322-1334) من القانون المدني الأردني، وإن كان الأصل أن محل الرهن التأميني هو العقار إلا أن القانون المدني الأردني ألحق المنقول بالعقار في سريان أحكام الرهن التأميني عليه، فقد ورد في المادة رقم 1334 [تسري أحكام الرهن التأميني على المنقول الذي تقتضي قوانينه الخاصة تسجيله كالسيارة والسفينة] . والرهن التأميني أو الرسمي جائز شرعاً، وهو من باب حفظ الحقوق، ولضمان أداء الديون، قال العلامة محمد العثيمين جواباً على سؤال يتعلق بالرهن الرسمي: [ ... وأما من تساهل في ذلك وباعه- أي العقار - بحجة أن جمهور العلماء يرون أن الرهن لا يلزم إلا بالقبض وأن هذا العقار ليس مقبوضاً من قبل الصندوق لأنه بيد صاحبه فهذا التساهل فيه نظر من وجهين: الوجه الأول: أن هذا الراهن قد التزم شرطاً على نفسه، وهو أنه لا يتصرف فيه ببيع ولا غيره، فهو قد التزم بذلك، ولو فرضنا أن هذا ليس مقتضى الرهن المطلق إذا لم يُقبض، فإن هذا التزام شرطٍ لا ينافي الكتاب ولا السنة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل شرطٍ ليس في كتاب الله فهو باطل) ومفهومه كل شرط لا يخالف كتاب الله فهو حق وثابت، وفي الحديث الذي في السنن المشهور (المسلمون على شروطهم إلى شرطاً أحلَّ حراماً أو حرم حلالاً) . الوجه الثاني: أن القول الصحيح في هذه المسألة أن الرهن يلزم ولو بدون القبض إذ لا دليل على وجوب قبضه إلا قوله تعالى {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} وفي الحقيقة أن هذه الآية يرشد الله فيها الإنسان إلى التوثق من حقه في مثل هذه الحال، إذا كان على سفرٍ ولم يجد كاتباً ولا طريقة إلى التوثق بحقه، في مثل هذه الحال إلا برهن مقبوض لأنه لو ارتهن شيئاً ولم يقبضه لكان يمكن أن ينكر الراهن ذلك الرهن، كما أنه يمكن أن ينكر أصل الدين، ومن أجل أنه يمكن أن ينكر أصل الدين أرشد الله تعالى إلى الرهن المقبوض، فإذن لا طريق للتوثق بحقه في مثل هذه الحال إلا إذا كان الرهن مقبوضاً، ثم إن آخر الآية يدل على أنه إذا لم يُقبض وجب على من أؤتمن عليه أن يؤدي أمانته فيه، لأنه قال: {فرهان مقبوضة فإن أمن بعضكم بعضاً فليؤدِ الذي أؤتمن أمانته} فإذا كان كذلك، فإن المرتهن قد أمن الراهن بإبقائه عنده فإذا كان قد ائتمنه فإن واجب الراهن أن يؤدي أمانته وأن يتقي الله ربه، ثم إن عمل الناس عندنا على هذا فإن صاحب البستان يستدين لتقويم بستانه وبستانه بيده، وصاحب السيارة يرهن سيارته وهي في يده يكدها وينتفع بها، وكذلك صاحب البيت يرهنه لغيره وهو ساكنه والناس يعدون هذا رهناً لازماً ويرون أن لا يمكن للراهن أن يتصرف فيه بالبيع، فالقول الصواب في هذه المسألة أن الرهن يلزم وإن لم يقبض متى كان معيناً، وهذا العقار الذي استدين من صندوق التنمية له، هو رهن معين قائم، فالرهن فيه لازم، وإن كان تحت يد الراهن، إذن فلا يجوز لمن استسلف من صندوق التنمية أن يبيع عقاره الذي استسلف له إلا في إحدى الحالين السابقين أن يستأذن من المسؤولين في البنك ويأذنوا له أو أن يوفي البنك ويحرر العقار من الرهن والله الموفق.] عن موقع الشيخ على الإنترنت. وجاء في فتاوى هيئة الفتاوى والرقابة الشرعية لبنك دبي الإسلامي: [هل يجوز للمصرف الإسلامي إدخال السلعة المبيعة بالمرابحة كضمان؟ الجواب: العقد شريعة المتعاقدين فإذا اشترط البائع أن يحبس المبيع حتى أداء جميع الثمن فهو شرط يقتضيه العقد وإنما يحب البائع المبيع إذا كان الثمن حالاً أما إذا كان مؤجلاً فلا يجوز الحبس لأنه رضي بتأخير الثمن، لكن يجوز له أن يرهن المبيع رهنا ائتمانياً أي رسمياً - يُنص عليه في العقد حتى يستوفي الثمن ضماناً لحق البنك، لأن الرهن الائتماني لا يمنع المالك من التصرف في ملكه] عن الإنترنت. وورد في معايير هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية: [ينبغي أن تطلب المؤسسة من العميل ضمانات مشروعة في عقد بيع المرابحة للآمر بالشراء. ومن ذلك حصول المؤسسة على كفالة طرف ثالث، أو رهن الوديعة الاستثمارية للعميل أو رهن أي مال منقول أو عقار، أو رهن سلعة محل العقد رهنا ائتمانياً رسمياً دون حيازة، أو مع الحيازة للسلعة وفك الرهن تدريجياً حسب نسبة السداد.] المعايير الشرعية ص 115. وجاء في ضوابط عقد المرابحة الصادرة عن الهيئة الشرعية لبنك البلاد الإسلامي السعودي: [للبنك أن يطلب من العميل ضمانات مشروعة في عقد بيع المرابحة للآمر بالشراء. ومن ذلك: كفالة طرف ثالث، أو رهن أي منقول أو عقار للعميل، ولو كان المرهون مبلغاً في حساب جار أو استثماري له، أو كان المرهون هو السلعة محل العقد سواءٌ كان الرهن حيازياً، أو رسمياً دون حيازة. وينبغي فك الرهن تدريجياً حسب نسبة السداد.] موقع بنك البلاد على الإنترنت.
وخلاصة الأمر أنه يجوز رهن السيارة المشتراة بالمرابحة من البنك الإسلامي رهناً تأمينياً لدى دوائر السير، وهذا الرهن من باب حفظ الحقوق ولضمان الديون.(12/8)
9 - التصرف في مال الغير بغير إذن
تقول السائلة: ورثت قطعة أرض من والدي، وحاول زوجي أن يستولي عليها ليبني عليها محلات تجارية ورفضت ذلك، إلا أنني فوجئت بأن زوجي قد باع الأرض بدون موافقتي وتصرف في ثمنها، فما حكم هذا البيع، أفيدونا؟
الجواب: من المقرر شرعاً أن للمرأة ذمة مالية مستقلة عن زوجها فلها أن تتملك وأن تتصرف في ملكها، ولا يتوقف ذلك على إذن زوجها، قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [للمرأة الرشيدة التصرف في مالها كله بالتبرع والمعاوضة. وهذا إحدى الروايتين عن أحمد، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي وابن المنذر ... ثم قال ابن قدامة مستدلاً لذلك: [ولنا قوله تعالى: {فَإِنْءَانَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} وهو ظاهر في فك الحجر عنهم وإطلاقهم في التصرف. وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا معشر النساء تصدقن ولو من حليكن) وأنهن تصدقن فقبل صدقتهن ولم يسأل ولم يستفصل. وأتته زينب امرأة عبد الله، وامرأة أخرى اسمها زينب، فسألته عن الصدقة: هل يجزيهن أن يتصدقن على أزواجهن وأيتام لهن؟ فقال: نعم ولم يذكر لهن هذا الشرط، ولأن من وجب دفع ماله إليه لرشده جاز له التصرف فيه من غير إذن كالغلام، ولأن المرأة من أهل التصرف، ولا حق لزوجها في مالها فلم يملك الحجر عليها في التصرف بجميعه ... ] المغني 4/348-349. وقد قرر العلماء أنه لا يجوز للزوج أن يتصرف في مال زوجته دون رضاها وموافقتها، يقول الله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} سورة النساء الآية 4. ومن القواعد المقررة شرعاً أنه لا يجوز أخذ مال المسلم – ويدخل في ذلك المسلمة - إلا بإذنه، ويدل على ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} سورة النساء الآية 29. ويدل على ذلك أيضاً قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه) رواه مسلم، وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا) رواه البخاري ومسلم. وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس) رواه أحمد والبيهقي والطبراني والحاكم وابن حبان وصححاه، وقال العلامة الألباني صحي، إرواء الغليل 5/279. وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لامرئ من مال أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس) رواه البيهقي بإسناد صحيح، وقوله صلى الله عليه وسلم (لا يحلبن أحدٌ ماشية أحدٍ إلا بإذنه، أيحب أحدكم أن تؤتى مشرُبته فينتقل طعامه، وإنما تخزن لهم ضروع مواشيهم أطعمتهم، فلا يحلبن أحدٌ ماشية أحدٍ إلا بإذنه) رواه البخاري ومسلم، والمشرُبة بضم الراء، الغرفة. قال الإمام النووي: [ومعنى الحديث أنه صلى الله عليه وسلم شبه اللبن في الضرع بالطعام المخزن المحفوظ في الخزانة في أنه لا يحل أخذه بغير إذنه، وفي الحديث فوائد منها تحريم أخذ مال الإنسان بغير إذنه والأكل منه والتصرف فيه، وأنه لا فرق بين اللبن وغيره وسواء المحتاج وغيره إلا المضطر ... فيأكل الطعام للضرورة ويلزمه بدل عندنا وعند الجمهور ... ] شرح صحيح مسلم 4/391. وقال الحافظ ابن عبد البر: [في الحديث النهي عن أن يأخذ المسلم للمسلم شيئاً إلا بإذنه، وإنما خص اللبن بالذكر لتساهل الناس فيه فنبه به على ما هو أولى منه] فتح الباري 6/14. إذا تقرر هذا فإن ما قام به الزوج من بيع أرض زوجته بغير إذنها، يسمى بيع الفضولي عند الفقهاء، ويطلق الفضولي على من يتصرف في حق الغير بلا إذنٍ شرعي، وذلك لكون تصرفه صادراً من غير ملكٍ ولا وكالةٍ ولا ولاية، انظر الموسوعة الفقهية الكويتية 32/171. وقد ذهب جمهور الفقهاء الحنفية والمالكية، والشافعي في قوله القديم، وهو أحد قوليه في الجديد، وأحمد في إحدى الروايتين عنه، إلى أن البيع صحيح إلا أنه موقوف على إجازة المالك. وذهب الشافعي في القول الثاني من الجديد، وأحمد في الرواية الأخرى عنه، إلى أن البيع باطل. قال الإمام النووي [سبق أن شروط المبيع خمسة: منها أن يكون مملوكاً لمن يقع العقد له، فإن باشر العقد لنفسه فشرطه كونه مالكاً للعين، وإن باشره لغيره بولاية أو وكالة، فشرطه أن يكون لذلك الغير، فلو باع مال غيره بغير إذن ولا ولاية، فقولان، الصحيح أن العقد باطل، وهذا نصه في الجديد، وبه قطع المصنف- أبو إسحاق الشيرازي - وجماهير العراقيين وكثيرون أو الأكثرون من الخراسانيين لما ذكره المصنف ... والقول الثاني وهو القديم أنه ينعقد موقوفاً على إجازة المالك، إن أجازه صح البيع وإلا لغا ... ثم قال الإمام النووي: فرع في مذاهب العلماء في تصرف الفضولي بالبيع وغيره في مال غيره بغير إذنه، قد ذكرنا أن مذهبنا المشهور بطلانه، ولا يقف على الإجازة، وكذا الوقف والنكاح وسائر العقود، وبهذا قال أبو ثور وابن المنذر وأحمد في أصح الروايتين عنه. وقال مالك يقف البيع والشراء والنكاح على الإجازة، فان أجازه من عقد له صح وإلا بطل، وقال أبو حنيفة إيجاب النكاح وقبوله يقفان على الإجازة، ويقف البيع على الإجازة، ولا يقف الشراء، وأوقفه اسحق بن راهويه في البيع ... ] المجموع 9/259. والراجح من أقوال أهل العلم في بيع الفضولي أنه صحيحٌ، ولكنه موقوفٌ على إجازة المالك، ويدل لذلك ما ورد في الحديث الذي رواه الإمام البخاري بإسناده عن شبيب بن غرقدة، قال: (سمعت الحي يحدثون عن عروة أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه ديناراً يشتري له به شاة، فاشترى له به شاتين، فباع إحداهما بدينار، وجاءه بدينار وشاة، فدعا له بالبركة في بيعه، وكان لو اشترى التراب أربح فيه) . [فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم أجاز هذا البيع، ولو كان باطلاً لرده، وأنكر على من صدر منه، وأيضاً فإن هذا تصرف تمليك، وقد صدر من أهله فوجب القول بانعقاده، إذ لا ضرر فيه للمالك مع تخييره، بل فيه نفعه، حيث يكفي مؤنة طلب المشتري وقرار الثمن (أي المطالبة) وغيره، وفيه نفع العاقد لصون كلامه عن الإلغاء، وفيه نفع المشتري لأنه أقدم عليه طائعاً، فثبتت القدرة الشرعية تحصيلا لهذه الوجوه.] الموسوعة الفقهية الكويتية 9/136. ويدل على جواز بيع الفضولي أيضاً حديث ابن عمر في قصة الثلاثة أصحاب الغار، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الثالث اللهم استأجرت أجراء فأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب، فثمَّرتُ أجره حتى كثرت منه الأموال، فجاءني بعد حين فقال: يا عبد الله أدِ إليَّ أجري، فقلت: كل ما ترى من أجرك من الإبل والبقر والغنم والرقيق، فقال: يا عبد الله لا تستهزئ بي، فقلت لا أستهزئ، فأخذه كله فاستاقة فلم يترك منه شيئاً) رواه البخاري ومسلم. وغير ذلك من الأدلة. وبناءً على ما سبق فإن بيع الأرض الذي عقده الزوج، يعتبر عقداً موقوفاً على إجازة الزوجة، فإن أجازته جاز، وإن فسخته فُسخ، قال الزيلعي الحنفي: [ومن باع ملك غيره فللمالك أن يفسخه ويجيزه إن بقي العاقدان والمعقود عليه وله وبه لو عرضاً] أي للمالك أن يجيز العقد بشرط أن يبقى المتعاقدان والمعقود عليه والمعقود له وهو المالك بحالهم والأصل فيه أن كل تصرف صدر من الفضولي وله مجيز حال وقوعه انعقد موقوفاً على الإجازة عندنا وإن لم يكن له مجيز حالة العقد لا يتوقف ويقع باطلاً] تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق 4/102-103. وجاء في المادة 378 من مجلة الأحكام العدلية: [بيع الفضولي إذا أجازه صاحب المال، أو وكيله، أو وصيه، أو وليه نفذ وإلا انفسخ إلا أنه يشترط لصحة الإجازة أن يكون كل من البائع والمشتري والمجيز والمبيع قائماً وإلا فلا تصح الإجازة] . وجاء في الموسوعة الفقهية الكويتية: [اتفق الفقهاء على أن من شروط البيع: أن يكون المبيع مملوكاً للبائع أو له عليه ولاية أو وكالة تجيز تصرفه فيه واتفقوا أيضا على صحة بيع الفضولي، إذا كان المالك حاضراً وأجاز البيع، لأن الفضولي حينئذ يكون كالوكيل. واتفقوا أيضا على عدم صحة بيع الفضولي إذا كان المالك غير أهل للإجازة، كما إذا كان صبياً وقت البيع.] الموسوعة الفقهية الكويتية 9/117. ويدل لما قرره الفقهاء أن من شروط صحة البيع أن يكون المبيع مملوكاً للبائع، ما ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا طلاق إلا فيما تملك، ولا عتق إلا فيما تملك، ولا بيع إلا فيما تملك) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة وغيرهم، وصححه العلامة الألباني في إرواء الغليل 6/173. وبناءً على ما سبق فإن أجازت الزوجة تصرف زوجها في أرضها فإن ثمن الأرض من حقها وحدها، تتصرف فيه كما شاءت، وما قام به الزوج من التصرف في ثمن أرض زوجته بدون إذنها، فهو تصرفٌ باطلٌ شرعاً، ويلزمه أن يرد المال إليها، وإن لم يفعل فهو من باب أكل أموال الناس بالباطل، وقد سبقت النصوص الشرعية في تحريمه. وأما إن فسخت الزوجة تصرف زوجها في بيع الأرض، فهو ملزم شرعاً أن يرد المال إلى المشتري وتبقى الأرض للزوجة.
وخلاصة الأمر أن الإسلام قد قرر ذمةً ماليةً مستقلةً للزوجة، ولها أن تتملك وأن تتصرف في ملكها كما تشاء، ولا يجوز لزوجها أن يمنعها من ذلك، وأن ما قام به زوج السائلة من بيع أرضها بدون إذنها، يعتبر تصرفاً موقوفاً على إجازتها على الراجح من أقوال أهل العلم، فإن أجازته جاز، وكان ثمن الأرض من حقها وحدها، وإن فسخته فسخ ويلزم الزوج بإرجاع المال للمشتري.(12/9)
10 - حكم عمل المسلم بالكنيس
يقول السائل: أنا أشتغل مقاولاً في أعمال البناء وقد عُرض عليَّ بناء كنيس فما الحكم الشرعي في ذلك، أفيدونا؟
الجواب: يجب أن يعلم أولاً أن من أهم ضوابط العمل المباح في دين الإسلام أن لا يكون للعمل علاقة بعقائد غير المسلمين، كالعمل في بناء الكنس والكنائس، مهما كان هذا العمل، وكذا العمل في المدارس الدينية التي تدرس مللهم، وكذا العمل في طباعة كتبهم الدينية أو التجارة فيها، ويحرم العمل بكل ما له ارتباط بدينهم، ويدل لهذا الضابط قوله تعالى {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثم وَالْعُدْوَانِ} سورة المائدة الآية 2. وهذا مذهب جماهير الفقهاء المالكية والحنابلة وأكثر الشافعية وهو قول صاحبي أبي حنيفة أبو يوسف ومحمد فقد نصوا على تحريم بناء معابد غير المسلمين والعمل على تشييدها وإقامتها وترميمها، فمن ذلك: قال شيخ الإسلام ابن تيمية: [وأما مذهب أحمد في الإجارة لعمل ناووسٍ ونحوه، فقال الآمدي لا يجوز رواية واحدة، لأن المنفعة المعقود عليها محرمة، وكذلك الإجارة لبناء كنيسة أو بيعة أو صومعة كالإجارة لكَتْبِ كُتُبهم المحرفة] اقتضاء الصراط المستقيم 1/244. وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [ ... ولا على معصية كبيت النار والبيع والكنائس , وكتب التوراة والإنجيل لأن ذلك معصية، فإن هذه المواضع بنيت للكفر، وهذه الكتب مبدلة منسوخة، ولذلك غضب النبي صلى الله عليه وسلم حين رأى مع عمر صحيفة فيها شيء من التوراة، وقال: (أفيَّ شكٌ أنت يا ابن الخطاب؟ ألم آت بها بيضاء نقية؟ لو كان موسى أخي حياً ما وسعه إلا إتباعي) ولولا أن ذلك معصية ما غضب منه] المغني 6/38. والحديث المذكور في كلام ابن قدامة المقدسي حديث حسن رواه أحمد والدارمي وابن أبي عاصم وابن عبد البر كما قال العلامة الألباني في إرواء الغليل حديث رقم 1589. وقال الإمام الشافعي: [وأكره للمسلم أن يعمل بنَّاءً، أو نجاراً، أو غير ذلك في كنائسهم التي لصلاتهم] الأم 4/203، والكراهة في كلام الشافعي يقصد بها التحريم كما هو معروف في كلام السلف. وورد في المدونة المعروفة في مذهب المالكية: [أرأيت الرجل أيجوز له أن يؤاجر نفسه في عمل كنيسة في قول مالك؟ قال: لا يحل له؛ لأن مالكاً قال: لا يؤاجر الرجل نفسه في شيء مما حرم الله. قال مالك: ولا يكري داره ولا يبيعها ممن يتخذها كنيسة] المدونة 10/361. وقال صاحب منح الجليل شرح مختصر خليل: [ولا تجوز الإجارة على دخول حائضٍ لمسجدٍ لتكنسه لحرمة دخولها فيه، ومثلها إجارة مسلمٍ لكنس كنيسة أو رعي خنزير أو لعمل خمر فيفسخ – العقد - ويؤدب إن لم يعذر بجهل، وإن نزل وفات فاستحب ابن القاسم التصدق بالأجرة] 16/169. وقال الحطاب المالكي: [ ... أن يؤاجر المسلم نفسه لكنس كنيسة أو نحو ذلك، أو ليرعى الخنازير أو ليعصر له خمراً فإنه لا يجوز، ويؤدب المسلم إلا أن يتعذر بجهالة] مواهب الجليل لشرح مختصر خليل 16/187. وقال الشيخ تقي الدين السبكي: [فقد سئلت عن ترميم الكنائس أو إعادة الكنيسة المضمحلة فأردت أن أنظر ما فيها من الأدلة ... وقفوت أثر عمر بن الخطاب وعدله وشروطه التي أخذها لما فتح البلاد وشيد الإسلام وأهله، وهذا الترميم يقع السؤال عنه كثيراً ولا سيما في الديار المصرية، ويفتي كثير من الفقهاء بجوازه وتخرج به مراسيم من الملوك والقضاة بلا إذن فيه، وذلك خطأ بإجماع المسلمين، فإن بناء الكنيسة حرام بالإجماع، وكذا ترميمها وكذلك قال الفقهاء: لو وصى ببناء كنيسة فالوصية باطلة، لأن بناء الكنيسة معصية، وكذا ترميمها ولا فرق بين أن يكون الموصي مسلماً أو كافراً، وكذا لو وقف على كنيسة كان الوقف باطلاً مسلماً كان الواقف أو كافراً، فبناؤها وإعادتها وترميمها معصية مسلماً كان الفاعل لذلك أو كافراً، هذا شرع النبي صلى الله عليه وسلم. وهو لازم لكل مكلف من المسلمين والكفار ... وجميع الشرائع نسخت بشريعة النبي صلى الله عليه وسلم فلا يشرع اليوم إلا شرعه، بل: أقول إنه لم يكن قط شرعٌ يسوغ فيه لأحدٍ أن يبني مكاناً يُكْفرُ فيه بالله، فالشرائع كلها متفقة على تحريم الكفر، ويلزم من تحريم الكفر تحريم إنشاء المكان المتخذ له، والكنيسة اليوم لا تتخذ إلا لذلك وكانت محرمة معدودة من المحرمات في كل ملة، وإعادة الكنيسة القديمة كذلك؛ لأنها إنشاء بناءٍ لها وترميمها أيضاً كذلك؛ لأنه جزء من الحرام، ولأنه إعانة على الحرام، فمن أذن في حرام ومن أحله فقد أحل حراماً، من توهم أن ذلك من الشرع رُدَّ عليه بقوله تعالى: {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله} ] فتاوى السبكي 4/175. وقد قرر مجمع الفقه الإسلامي الدولي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي تحريم بناء المسلم للكنائس والإعانة على ذلك في دورة مؤتمره الثالث في عمان بالأردن سنة 1407هـ /1986م ضمن الإجابة على استفسارات المعهد العالمي للفكر الإسلامي بواشنطن، فقد جاء في قراره: السؤال الخامس والعشرون والسؤال السادس والعشرون: ما حكم تصميم المهندس المسلم لمباني النصارى كالكنائس وغيرها علماً بأن هذا هو جزء من عمله في الشركة الموظفة له، وفي حالة امتناعه قد يتعرض للفصل من العمل؟ وما حكم تبرّع المسلم فرداً كان أو هيئة لمؤسسات تعليمية أو تنصيرية أو كنيسة؟ الجواب: لا يجوز للمسلم تصميم أو بناء معابد الكفار أو الإسهام في ذلك مالياً أو فعلياً] . وجاء في قرارات وتوصيات المؤتمر الخامس لمجمع فقهاء الشريعة بأمريكا المنعقد بالمنامة – مملكة البحرين- سنة 1428هـ/2007 م: [القرار التاسع: العمل في المجال الهندسي وضوابطه عند اختلاط الحلال بالحرام خارج ديار الإسلام. لا يجوز لأصحاب شركات التصميم والإنشاء من المسلمين أن يصمموا أو يبنوا أبنية تُمَارسُ فيها المعاصي مثل الحانات وصالات القمار ومحلات بيع الخمور والمعابد التي تمارس فيها عبادات شركية، كما لا يجوز لهم تقبل مشروعات تتضمن شيئاً من ذلك] . وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء في السعودية: [كل دين غير دين الإسلام فهو كفر وضلال، وكل مكان يُعدّ للعبادة على غير دين الإسلام فهو بيت كفر وضلال، إذ لا تجوز عبادة الله إلا بما شرع الله سبحانه في الإسلام، وشريعة الإسلام خاتمة الشرائع، عامة للثقلين الجن والإنس وناسخة لما قبلها، وهذا مُجمع عليه بحمد الله تعالى. ومن زعم أن اليهود على حق، أو النصارى على حق سواء كان منهم أو من غيرهم فهو مكّذب لكتاب الله تعالى وسنة رسوله محمد وإجماع الأمة، وهو مرتد عن الإسلام إن كان يدّعي الإسلام بعد إقامة الحُجة عليه إن كان مثله ممن يخفى عليه ذلك، قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} سورة سبأ الآية 28، وقال عز شأنه: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} سورة الأعراف الآية 158، وقال سبحانه: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلاَمُ} سورة آل عمران الآية 19، وقال جل وعلا: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ} سورة آل عمران الآية 85، وقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} سورة البينة الآية 6، وثبت في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كان النبي يُبْعَث إلى قومه خاصة، وبُعثْتُ إلى الناس عامة) . ولهذا صار من ضروريات الدين: تحريم الكفر الذي يقتضي تحريم التعبد لله على خلاف ما جاء في شريعة الإسلام، ومنه تحريم بناء معابد وفق شرائع منسوخة يهودية أو نصرانية أو غيرهما؛ لأن تلك المعابد سواء كانت كنيسة أو غيرها تعتبر معابد كفرية؛ لأن العبادات التي تُؤدى فيها على خلاف شريعة الإسلام الناسخة لجميع الشرائع قبلها والمبطلة لها، والله تعالى يقول عن الكفار وأعمالهم: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً} سورة الفرقان الآية 23. ولهذا أجمع العلماء على تحريم بناء المعابد الكفرية مثل: الكنائس في بلاد المسلمين، وأنه لا يجوز اجتماع قبلتين في بلد واحد من بلاد الإسلام، وألا يكون فيها شيءٌ من شعائر الكفار لا كنائس ولا غيرها] الفتوى رقم 21413 من فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء السعودية. وجاء في فتوى أخرى للجنة الدائمة جواباً عن سؤالٍ عن المسلم الذي وظيفته البناء، هل يجوز له أن يبني كنيسة، فأجابت اللجنة: [لا يحل لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبني كنيسةً أو محلاً للعبادة ليس مؤسساً على الإسلام الذي بعث اللهُ به محمداً صلى الله عليه وسلم؛ لأن ذلك من أعظم الإعانة على الكفر وإظهار شعائره، والله عز وجل يقول: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} . فتاوى اللجنة الدائمة 14/482
وخلاصة الأمر أنه يحرم على المسلم أن يعمل في بناء معابد غير المسلمين أو ترميمها أو أن يشتغل في أي عمل له ارتباط بعقيدة غير المسلمين.(12/10)
11 - حكم شراء شقة قبل بنائها ووفق المخططات
يقول السائل: ما حكم شراء شقة لم يتم بناؤها بعد، ويقع الشراء على المخططات المعدة للشقة، أفيدونا؟
الجواب: يجوز شراء شقة أو عمارة على المخططات والخرائط، وهذا يعتبر عقد استصناع، بشرط أن تكون المخططات والخرائط تفصيلية ومبيناً فيها كافة المواصفات، منعاً للنزاع والخلاف مستقبلاً، وعقد الاستصناع هو عقد على بيع عين موصوفة في الذمة مطلوب صنعها، وهو عقدٌ مشروع عند عامة الفقهاء، فقد صح عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم: (اصطنع خاتماً) رواه البخاري. وثبت أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قد استصنع منبراً كما في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى امرأة من الأنصار: مُري غلامَك النجار يعمل لي أعواداً أجلس عليهن) وفي رواية عند مسلم (انظري غلامك النجار يعمل لي أعواداً أكلم الناس عليها. فعمل هذه الثلاث درجات ثم أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعت هذا الموضع فهي من طرفاء الغابة.) وقد تعامل المسلمون بالاستصناع في مختلف العصور وما زالوا يتعاملون به من غير نكير. وقد أقرت المجامع الفقهية والهيئات العلمية الشرعية عقد الاستصناع ووضعت له ضوابط معينة، فمن ذلك ما ورد في قرار مجلس مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي: [بعد استماعه للمناقشات التي دارت حوله - عقد الاستصناع - ومراعاة لمقاصد الشريعة في مصالح العباد والقواعد الفقهية في العقود والتصرفات، ونظراً لأن عقد الاستصناع له دور كبير في تنشيط الصناعة، وفي فتح مجالات واسعة للتمويل والنهوض بالاقتصاد الإسلامي، قرر ما يلي: أولاً: إن عقد الاستصناع – وهو عقد وارد على العمل والعين في الذمة – ملزم للطرفين إذا توافرت فيه الأركان والشروط. ثانياً: يشترط في عقد الاستصناع ما يلي: أ- بيان جنس المستصنع ونوعه وقدره وأوصافه المطلوبة. ب- أن يحدد فيه الأجل. ثالثاً: يجوز في عقد الاستصناع تأجيل الثمن كله، أو تقسيطه إلى أقساط معلومة لآجال محددة. رابعاً: يجوز أن يتضمن عقد الاستصناع شرطاً جزائياً بمقتضى ما اتفق عليه العاقدان ما لم تكن هناك ظروف قاهرة.] مجلة المجمع عدد 7 ج2 ص 223. وهذا القرار في عقد الاستصناع بشكل عام، وقد قرر المجمع جواز شراء المساكن قبل بنائها وفق المخططات الهندسية المفصلة فقد جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي المتعلق بالتمويل العقاري لبناء المساكن ما يلي: [تملك المساكن عن طريق عقد الاستصناع – على أساس اعتباره لازماً – وبذلك يتم شراء المسكن قبل بنائه بحسب الوصف الدقيق المزيل للجهالة المؤدية للنزاع دون وجوب تعجيل جميع الثمن بل يجوز تأجيله بأقساط يتفق عليها مع مراعاة الشروط والأحوال المقررة لعقد الاستصناع لدى الفقهاء الذين ميزوه عن عقد السلم] مجلة مجمع الفقه الإسلامي عدد 6 ج 1 ص188. ولا بد هنا من التأكيد أن لعقد الاستصناع معايير وضوابط خاصة لا بد من مراعاتها حتى يكون العقد صحيحاً فمن ذلك: 1- عقد الاستصناع ملزم للطرفين إذا توافرت فيه شروطه، وهي: بيان جنس الشيء المستصنع ونوعه وقدره وأوصافه المطلوبة ومعلومية الثمن وتحديد الأجل إن وجد. ويثبت للمستصنِع الخيارُ إذا جاء المصنوع مخالفاً للمواصفات المشروطة. 2- لا يجوز عقد الاستصناع إلا فيما تدخله الصنعة وتخرجه عن حالته الطبيعية. فما دام الصانع التزم بالعين المصنوعة صح الاستصناع. 3- يجب على الصانع إنجاز العمل وفقاً للمواصفات المشروطة في العقد، وفي المدة المتفق عليها، أو في المدة المناسبة التي تقتضيها طبيعة العمل وفقاً للأصول المتعارف عليها لدى أهل الخبرة. 4- يشترط أن يكون ثمن الاستصناع معلوماً عند إبرام العقد، ويجوز أن يكون نقوداً، أو عيناً، أو منفعة لمدة معينة، سواء كانت منفعة عين أخرى أم منفعة المصنوع نفسه. 5- يجوز تأجيل ثمن الاستصناع، أو تقسيطه إلى أقساط معلومة لآجال محددة، أو تعجيل دفعة مقدمة وتسديد باقي الثمن على دفعات متوافقة مع مواعيد التسليم لأجزاء من المصنوع. ويجوز ربط الأقساط بمراحل الإنجاز إذا كانت تلك المراحل منضبطة في العرف ولا ينشأ عنها نزاع. 6- إذا كان العمل مكوناً من عدة أجزاء، أو كان الثمن محدداً على أساس الوحدة، فيجوز أن يشترط الصانع على المستصنِع أن يؤدي من الثمن المؤجل بقدر ما أنجزه من العمل مطابقاً للمواصفات. 7- يجوز اتفاق الصانع والمستصنِع بعد عقد الاستصناع على تعديل المواصفات المشروطة في المصنوع، أو الزيادة فيه، مع تحديد ما يترتب على ذلك بالنسبة للثمن وإعطاء مهلة في مدة تنفيذه، ويجوز النص في العقد على أن مقابل التعديلات أو الزيادات هو بنسبتها إلى الثمن حسبما تقتضيه الخبرة أو العرف، أو أي مؤشر معروف تنتفي به الجهالة المفضية إلى النزاع. 8- لا يجوز زيادة الثمن لتمديد أجل السداد. أما تخفيض الثمن عند تعجيل السداد فيجوز إذا كان غير مشترط في العقد. 9- تبرأ ذمة الصانع بتسليم المصنوع إلى المستصنع أو تمكينه منه، أو تسليمه إلى من يحدده المستصنع. 10- إذا كان المصنوع وقت التسليم غير مطابق للمواصفات فإنه يحق للمستصنع أن يرفضه، أو أن يقبله بحاله، فيكون من قبيل حسن الاقتضاء. ويجوز للطرفين أن يتصالحا على القبول ولو مع الحط من الثمن. 11- يجوز أن يتضمن عقد الاستصناع شرطاً جزائياً غير مجحف لتعويض المستصنع عن تأخير التسليم بمبلغ يتفق عليه الطرفان إذا لم يكن التأخير نتيجة لظروف قاهرة أو طارئة، ولا يجوز الشرط الجزائي بالنسبة للمستصنع إذا تأخر في أداء الثمن، لأن ذلك يعتبر من باب الربا، لأن كل غرامة تفرض على المدين تعتبر من باب الربا، وإن سُميت غرامة تأخير أو سُميت شرطاً جزائياً، فإن الشرط الجزائي لا يكون في الديون، وإنما يكون في العقود المالية التي تخلو من الديون كعقود المقاولات والتوريد والاستصناع وغيرها، جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي في دورته الثانية ما يلي: [إن كل زيادة أو فائدة على الدين الذي حلَّ أجلُه وعجز المدين عن الوفاء به مقابل تأجيله، وكذلك الزيادة أو الفائدة على القرض منذ بداية العقد. هاتان الصورتان ربا محرم شرعاً] مجلة المجمع عدد 2 ج 2 ص 873. وبما أن عقد الاستصناع هو عقد على العمل، فيصح أن يدخله الشرط الجزائي، فقد جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي رقم 65 (3/7) .: يجوز أن يتضمن عقد الاستصناع شرطاً جزائياً بمقتضى ما اتفق عليه العاقدان ما لم تكن هناك ظروف قاهرة] . 12- لا يجوز بيع المصنوع قبل تسلمه من الصانع حقيقةً أو حكماً، وبناء على ذلك لا يجوز أن تُباع الشقة التي اشتريت على المخططات قبل أن يتسلمها المشتري. 13- يجوز أن تجري المؤسسة بصفتها صانعاً عقد استصناع مع عميل بثمن مؤجل، وتتعاقد مع صانع أو مقاول للشراء منه بالاستصناع الموازي لمصنوعات أو مبانٍ بنفس المواصفات بثمن حال، بشرط عدم الربط بين العقدين. 14- لا يجوز الربط بين عقد الاستصناع وعقد الاستصناع الموازي، ولا يجوز التحلل من التسليم في أحدهما إذا لم يقع التسليم في الآخر، وكذلك التأخير أو الزيادة في التكاليف، ولا مانع من اشتراط المؤسسة على الصانع في الاستصناع الموازي شروطاً (بما فيها الشرط الجزائي) مماثلة للشروط التي التزمت بها مع العميل في الاستصناع الأول أو مختلفة عنها.] انظر المعيار الشرعي رقم (11) من معايير هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية ص 173 فما بعدها.
وأخيرا لا بد من التأكيد على أن بعض البائعين والمقاولين – الصانعين – لا يفون بشروط العقود التي يوقعونها مع المشترين، وبالتالي تقع المنازعات والخصومات التي تمتد لمدة طويلة، ولا شك في تحريم ذلك، لأن الوفاء بالعقود فريضة شرعية. فقد قال تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ? سورة المائدة الآية1. وقال: ?وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ? سورة الإسراء الآية 34. وقال: ?وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ? سورة المعارج الآية 32. وقال تعالى: ?والموفون بعهدهم إذا عاهدوا? سورة البقرة الآية 177. وقال تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ? سورة الصف الآيات 2-3. وقال: ? بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين? سورة آل عمران الآية 76، وقال: ?إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ ? الأنفال الآية 58. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (المسلمون على شروطهم إلا شرطاً حرم حلالاً أو أحل حراماً) رواه أبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح، ورواه البخاري تعليقاً بصيغة الجزم لكنه بدون الاستثناء، ورواه كذلك الحاكم وأبو داود عن أبي هريرة بلفظ (المسلمون عند شروطهم) أي بدون الاستثناء. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: [إن الوفاء بها أي بالالتزامات التي التزم بها الإنسان من الواجبات التي اتفقت عليها الملل بل العقلاء جميعاً] مجموع الفتاوى 29/516 والقواعد النورانية ص53.
وخلاصة الأمر أنه يجوز شراء الشقق والعمارات على المخططات الهندسية التفصيلية المبينة لكافة المواصفات، منعاً للنزاع والخلاف مستقبلاً، ويجب على البائع أن يسلم الشقة محل الاستصناع وفقاً للشروط التي تم الاتفاق عليها.(12/11)
12 - الفرق بين شراء سيارة من البنوك الإسلامية وبين شرائها عن طريق البنوك التجارية
يقول السائل: ما هو الفرق بين شراء سيارة من البنوك الإسلامية وبين شرائها عن طريق البنوك التجارية، أفيدونا؟
الجواب: أصبحت البنوك الإسلامية حقيقة واقعة، واتجهت الأنظار إليها وخاصةً بعد الأزمة المالية العالمية، وهي تزداد قوة وانتشاراً مع مرور الأيام، وتشهد تقدماً ونجاحاً - والحمد لله- معتمدةً على أسس وقواعد وضعها عدد كبير من علماء المسلمين في هذا العصر، من خلال دراسات وأبحاث ومجامع علمية وفقهية ومن خلال مؤتمرات علمية يشارك فيها خبراء في الاقتصاد بجانب علماء الشريعة، كما أن لكل بنك إسلامي هيئة للرقابة الشرعية، مؤلفة من أهل الخبرة والاختصاص الشرعيين والاقتصاديين لمراقبة أعمال البنك، تتولى التوجيه والإرشاد والتدقيق، ومع ذلك فإني أقول دائماً إن البنوك الإسلامية حالها كحال الناس تماماً فكما أنك تجد في أفراد المسلمين من هو ملتزم تماماً بالحكم الشرعي، وتجد فيهم من خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً، فكذلك البنوك الإسلامية، تجد بعضها لديه التزام عالٍ بالمنهج الشرعي، وبعضها يخلط الخطأ بالصواب، وإن وجود الأخطاء في التطبيق لدى البنوك الإسلامية، لا يعني بحال من الأحوال أن الخطأ في الفكرة والقواعد التي تسير عليها البنوك الإسلامية، ولكن وجود الأخطاء من العاملين أمر عادي جداً، فالذي لا يعمل هو الذي لا يخطئ، أما الذي يعمل فلا بد أن يقع منه الخطأ. والفكرة الأساسية التي تقوم عليها البنوك الإسلامية هي البعد عن الربا في جميع معاملاتها أخذاً وإعطاءً، وهذا بناءً على أن البنوك الإسلامية هي البديل الشرعي للبنوك الربوية، وبما أن البنوك الإسلامية تسعى لإيجاد البدائل الشرعية للمعاملات الربوية، فكان عقد المرابحة المركبة أحد هذه البدائل المشروعة، وهو في الحقيقة تطوير لعقد المرابحة المعروف عند الفقهاء المتقدمين، وهو عند الفقهاء بيع بمثل الثمن الأول مع زيادة ربح. وصورة بيع المرابحة المركبة المستعملة الآن في البنوك والمؤسسات الإسلامية هي أن يتفق الآمر بالشراء والبنك على أن يقوم الآمر بالشراء بشراء البضاعة بربح معلوم بعد شراء البنك لها على أن يدفع الثمن مقسطاً، وهه الصورة هي المسماة ببيع المرابحة للآمر بالشراء، وقد قامت الأدلة الكثيرة على جواز هذا العقد على الراجح من أقوال فقهاء العصر، ومن المعلوم عند الفقهاء أن الأصل في باب المعاملات هو الإباحة، وبناءً على ذلك فإن بيع المرابحة من البيوع الجائزة شرعاً ولا كراهة فيه. يقول الله تعالى: ?وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا? سورة البقرة الآية 275. ويدل على جواز بيع المرابحة ما ورد في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنه قال: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الكسب أفضل؟ قال: عمل الرجل بيده وكل بيع مبرور) رواه الطبراني في الأوسط والكبير ورجاله ثقات قاله الهيثمي. مجمع الزوائد 4/61، وصححه العلامة الألباني في صحيح الجامع حديث رقم 1913. ويدل على ذلك أيضاً ما ورد في الحديث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إنما البيع عن تراض) رواه ابن ماجة وابن حبان والبيهقي وصححه العلامة الألباني في الإرواء 5/125. فهذه العمومات وغيرها من كتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم تدل على جواز بيع المرابحة، كما أن الحاجة تدعو لتعامل الناس بالمرابحة. وعقد المرابحة للآمر بالشراء له شروطه وضوابطه الشرعية التي أقرتها المجامع الفقهية وهيئات الرقابة الشرعية في البنوك الإسلامية، وتتمثل شروطه فيما يلي: 1- أن يكون الثمن الأول (الثمن الأصلي) معلوماً للمشتري. 2-أن يكون الربح معلوماً للمشتري والبائع. 3- ألا يكون الثمن من جنس السلعة المباعة حتى لا يكون هناك ربا. 4- أن يكون عقد البيع صحيحاً مستوفياً الأركان والشروط ومن ضمن ذلك أن تكون السلعة متقومة شرعاً. 5- أن تكون السلعة مملوكةً ملكيةً تامةً للبائع (البنك) . 6- أن تكون السلعة في حوزة البائع (البنك) فعلاً أو حكماً. 7- أن تكون السلعة معلومة ومحددة المواصفات. وهنالك خلاف فقهي حول الوعد بالشراء هل هو ملزم أم لا؟ والراجح أنه ملزم في مجال المعاملات المالية وهو المطبق في أغلب البنوك الإسلامية الآن. وحتى يتم عقد المرابحة بطريقة شرعية صحيحة لا بد من تنفيذه وفق الإجراءات الآتية: أولاً: تقديم طلب الشراء إلى البنك من الآمر بالشراء يوضح فيه رغبته في شراء سلعة معينة وبمواصفات محددة معروفة على أن يبيعها المصرف للآمر بالشراء مرابحة لأجل محدد معلوم. ويحرر الآمر بالشراء نموذجاً يسمى طلب شراء مرابحة، ويذكر فيه مواصفات السلعة المطلوب شرائها ومصدر شرائها والثمن الأصلي لهذه السلعة. ثانياً: يقوم البنك بدراسة الطلب من كافة الجوانب. ثالثاً: تحرير الوعد بالشراء وسداد مبلغ ضمان الجدية. رابعاً: الاتصال بالمورد (البائع) والتعاقد معه على الشراء باسم البنك وعلى مسئوليته ثم حيازة الشيء المشترى (البضاعة) بأي وسيلة حسب الأعراف السائدة (حيازة فعلية أو حكمية) . وبهذه الخطوة يكون البنك قد تملك السلعة وحازها وبذلك يمكن التصرف فيها بالبيع للآمر بالشراء. خامساً: إبرام عقد البيع مع الآمر بالشراء مستوفياً الأركان والشروط. سادساً: تسليم الشيء (البضاعة) للآمر بالشراء حسب المكان المتفق عليه. إذا تقرر هذا فإن الفرق بين شراء سيارة من البنوك الإسلامية وبين شرائها عن طريق البنوك التجارية هو الفرق بين الحلال والحرام، وهو ذاته الفرق بين الربح والربا، ويجب أن يُعلم أن البنوك الربوية التجارية لا تبيع ولا تشتري حقيقةً، وإنما تمول العملية تمويلاً ربوياً، وبيان ذلك أن البنك الربوي يتفق مع وكيل سيارات على تمويل مشتريات الزبائن من السيارات، فإذا تقدم زبون لوكيل السيارات لشراء سيارة فيتفق معه على أن ثمن السيارة مئة ألف شيكل مثلاً مقسطة على ثلاث سنوات، ويتفقان على أن التسديد يكون عن طريق البنك الربوي، فيرسل الزبون إلى البنك الربوي الذي يطلب من الزبون ضمانات كتحويل راتبه على البنك إن كان موظفاً أو إحضار كفيلين ونحو ذلك من الضمانات، فإن تمَّ ذلك وفق ما يطلبه البنك الربوي، بعدها يقوم البنك بدفع المبلغ نقداً إلى وكيل السيارات مخصوماً منه الفوائد الربوية حسب الاتفاق بين وكيل السيارات والبنك الربوي، وتتراوح نسبة الفائدة بين 5% - 10% ثم يقوم الزبون بتسديد المبلغ كاملاً للبنك الربوي على مدى مدة التقسيط المتفق عليها. وهذه المعاملة معاملة ربوية حيث إن البنك مقرض وليس بائعاً، فالبنك أقرض وكيل السيارات مبلغاً من المال نقداً ثم استوفاه من الزبون مع زيادة وهذا هو الربا بعينه. والبنك الربوي لا علاقة له بالبيع ولا علاقة له بالسيارة ولا يتحمل أية مسؤولية تجاه الزبون، وإنما هو مجرد ممول فقط، بل إنه في حال تأخر الزبون عن سداد قسط من الأقساط فإنه يفرض عليه فائدة مركبة. بينما الذي يتم في البنوك الإسلامية يختلف تماماً عما يتم في البنوك الربوية، فالبنك الإسلامي يشتري السيارة ويتملكها، وهذا يعني دخول السيارة في ملكية البنك دخولاً حقيقياً – ولا يشترط شرعاً أن تسجل السيارة في الدوائر الرسمية باسم البنك الإسلامي، لأن التسجيل مسألة قانونية- وبعد أن يحوز البنك الإسلامي السيارة يقوم ببيعها إلى الآمر بالشراء ويتفقان على تسديد الثمن على أقساط. ومن المعلوم أنه إذا تأخر الآمر بالشراء عن تسديد الأقساط، فإن البنك الإسلامي لا يرتب عليه أية زيادة، لأنه إذا استقر الدَّين في الذمة فلا تجوز الزيادة عليه لأن ذلك عين الربا، وهذا بخلاف المتبع في البنوك الربوية كما أسلفت. وأخيراً أقول للذين ما زالوا يصرون على أنه لا فرق بين البنوك الإسلامية وبين البنوك الربوية، أن يقفوا وقفة مراجعة صادقة مع أنفسهم، وأن لا يلقوا الكلام على عواهنه، وأن لا يسووا بين البيع والربا، وأن يفرقوا بين الربح وبين الزيادة الربوية، وأن يتدبروا قول الله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} سورة البقرة الآية275. وغريب أمر هؤلاء فهم لا يفرقون في التعامل بين من يرفع راية الربا المحرم قطعاً في كتاب الله عز وجل وفي السنة النبوية، ومعظم معاملاته تقوم عليه، وبين من يقوم أصل عمله على المعاملات الشرعية ويرفع راية أنه لا يتعامل بالربا لا أخذاً ولا إعطاءً، فهل يستويان مثلاً!! مع أنني أؤكد أن هنالك بعض السلبيات للبنوك الإسلامية وعليها بعض المآخذ، وتقع في الأخطاء، ومع كل هذه السلبيات والمآخذ لا يصح التسوية بينها وبين البنوك الربوية. فالتسوية بين الحلال والحرام تسوية باطلة وظالمة، وأقول لهؤلاء إن الواجب الشرعي يقتضي مساندة البنوك الإسلامية وتصحيح مسيرتها وتوجيهها الوجهة الصحيحة وتشجيع الناس للتعامل معها، فإذا كان العالم الغربي قد بدأ يدرك أهمية البنوك الإسلامية، وظهرت دعوات عديدة للتعامل مع البنوك الإسلامية. فمتى تدركون أنتم ذلك؟!! وخلاصة الأمر أن هنالك اختلافاً جذرياً بين شراء سيارة من البنوك الإسلامية وبين شرائها عن طريق البنوك التجارية، فشراؤها من البنوك الإسلامية بحسب الخطوات والإجراءات المقررة السابقة يعتبر من باب البيع الحلال، بينما شراؤها عن طريق البنوك الربوية يعتبر من باب الربا المحرم شرعاً.(12/12)
13 - الرد على مفتي الديار المصرية الذي يجيز أخذ الفائدة البنكية لأن غطاء العملات قد تغير فلم تعد كالسابق بالذهب والفضة
قول السائل: قرأت مقالاً نشرته صحيفة القدس بتاريخ 23/2/2009م بعنوان (فتوى الشيخ جمعة بتحليل الفوائد البنكية تثير لغطاً بين المتعاملين مع المصارف السعودية) وجاء في المقال أن الشيخ علي جمعة مفتي الديار المصرية يجيز أخذ الفائدة البنكية لأن غطاء العملات قد تغير فلم تعد كالسابق بالذهب والفضة، فما قولكم في هذه الفتوى، أفيدونا؟
الجواب: الخلاف في جريان الربا في النقود الورقية خلاف قديم وجد منذ أن عرفت العملات الورقية، وهو مبني على مسألة مهمة وهي علة الربا في الأصناف الربوية، وقد اختلف العلماء في ثمنية النقود الورقية، فمنهم من قال إنها ليست نقوداً شرعية، وإنما هي سندات بديون على الدولة التي أصدرتها، ومنهم من قال النقود الورقية عروض ولا تأخذ صفة الثمنية وتسري عليها أحكام العروض من عدم جريان الربا فيها. وقد ذهب جماهير علماء العصر وكذا المجامع الفقهية المعتبرة إلى أن النقود الورقية تقوم مقام الذهب والفضة وتأخذ أحكامهما فتثبت لها صفة الثمنية، وبالتالي يجري فيها الربا بنوعيه النسيئة والفضل، انظر المعاملات المالية المعاصرة ص 151-153، وهذا القول هو الصحيح الذي تؤيده الأدلة، والأقوال الأخرى ضعيفة لا يلتفت إليها ولا يعول عليها، وقول المفتي المذكور ومن قبله قول شيخ الأزهر ومن قال بمثل قولهما، يعتبر هدماً لتحريم الربا الذي جاءت به النصوص من كتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، حيث إن القول الصحيح عند جماهير علماء العصر أن ربا البنوك هو الربا المحرم في القرآن والسنة. ومن المعلوم أن أرجح أقوال أهل العلم في علة الربا في النقدين الذهب والفضة هي الثمنية أو مطلق الثمنية، قال العلامة ابن القيم: [وأما الدراهم والدنانير، فقالت طائفة العلة فيهما كونهما موزونين، وهذا مذهب أحمد في إحدى الروايتين عنه ومذهب أبي حنيفة، وطائفة قالت: العلة فيهما الثمنية، وهذا قول الشافعي ومالك وأحمد في الرواية الأخرى، وهذا هو الصحيح بل الصواب] إعلام الموقعين 2/156. وقد آلت هذه العلة إلى النقود الورقية، فقد أصبحت العملة الورقية ثمناً للأشياء، وتدفع بها الالتزامات كما هو متعارف عليه بين الناس، قال الشيخ صالح السدلان: [الأوراق النقدية قائمة في الثمنية مقام ما تفرعت عنه، وبدل عما حلت محله من عملات الذهب والفضة، وما كان منها متفرعاً عن الذهب فله حكم الذهب، وما كان منها متفرعاً عن الفضة فله حكم الفضة، والأمور الشرعية بمقاصدها ومعانيها لا بألفاظها ومبانيها: وأنها إذا زالت عنها الثمنية أصبحت مجرد قصاصات ورق لا تساوي بعد إبطالها شيئاً مما كانت تساويه قبل إبطالها إذن: فلها حكم النقدين الذهب والفضة مطلقاً، لأن ما يثبت للمبدل عنه يثبت للبدل] عن شبكة الإنترنت. وهذا ما أقرته المجامع الفقهية المعتبرة كما ذكرت، فقد جاء في قرار هيئة كبار العلماء ما يلي: [بناء على أن النقد هو كل شيء يجري اعتباره في العادة أو الاصطلاح، بحيث يلقى قبولاً عاماً كوسيط للتبادل، كما أشار إلى ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال: [وأما الدرهم والدينار فما يعرف له حدٌ طبعي ولا شرعي، بل مرجعه إلى العادة والاصطلاح؛ وذلك لأنه في الأصل لا يتعلق المقصود به، بل الغرض أن يكون معياراً لما يتعاملون به، والدراهم والدنانير لا تقصد لنفسها، بل هي وسيلة إلى التعامل بها؛ ولهذا كانت أثماناً ... إلى أن قال: والوسيلة المحضة التي لا يتعلق بها غرض، لا بمادتها ولا بصورتها يحصل بها المقصود كيفما كانت] مجموع الفتاوى 29/251، وذكر نحو ذلك الإمام مالك في المدونة من كتاب الصرف حيث قال: [ولو أن الناس أجازوا بينهم الجلود حتى يكون لها سكة وعين لكرهتها أن تباع بالذهب والورق نظرة] المدونة الكبرى 3/5، وحيث إن الورق النقدي يلقى قبولاً عاماً في التداول، ويحمل خصائص الأثمان من كونه مقياساً للقيم ومستودعاً للثروة، وبه الإبراء العام، وحيث ظهر من المناقشة مع سعادة المحافظ: أن صفة السندية فيها غير مقصودة، والواقع يشهد بذلك ويؤكده، كما ظهر أن الغطاء لا يلزم أن يكون شاملاً لجميع الأوراق النقدية، بل يجوز في عرف جهات الإصدار أن يكون جزءاً من عملتها بدون غطاء، وأن الغطاء لا يلزم أن يكون ذهباً، بل يجوز أن يكون من أمور عدة: كالذهب والعملات الورقية القوية، وأن الفضة ليست غطاءً كلياً أو جزئياً لأي عملة في العالم، كما اتضح أن مقومات الورقة النقدية قوة وضعفاً مستمدة مما تكون عليه حكومتها من حال اقتصادية، فتقوى الورقة بقوة دولتها وتضعف بضعفها، وأن الخامات المحلية؛ كالبترول والقطن والصوف لم تعتبر حتى الآن لدى أي من جهات الإصدار غطاء للعملات الورقية. وحيث إن القول باعتبار مطلق الثمنية علة في جريان الربا في النقدين هو الأظهر دليلاً، والأقرب إلى مقاصد الشريعة، وهو إحدى الروايات عن الأئمة مالك, وأبي حنيفة, وأحمد، قال أبو بكر: روى ذلك عن أحمد جماعة، كما هو اختيار بعض المحققين من أهل العلم؛ كشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وغيرهما. وحيث إن الثمنية متحققة بوضوح في الأوراق النقدية؛ لذلك كله فإن هيئة كبار العلماء تقرر بأكثريتها: أن الورق النقدي يعتبر نقداً قائماً بذاته كقيام النقدية في الذهب والفضة وغيرها من الأثمان، وأنه أجناس تتعدد بتعدد جهات الإصدار، بمعنى: أن الورق النقدي السعودي جنس، وأن الورق النقدي الأمريكي جنس، وهكذا كل عملة ورقية جنس مستقل بذاته، وأنه يترتب على ذلك الأحكام الشرعية الآتية: أولاً: جريان الربا بنوعيه فيها، كما يجري الربا بنوعيه في النقدين: الذهب, والفضة, وفي غيرهما من الأثمان كالفلوس، وهذا يقتضي ما يلي: (أ) لا يجوز بيع بعضه ببعض أو بغيره من الأجناس النقدية الأخرى من ذهب أو فضة أو غيرهما نسيئة مطلقاً، فلا يجوز مثلاً بيع الدولار الأمريكي بخمسة أريلة سعودية أو أقل أو أكثر نسيئة. (ب) لا يجوز بيع الجنس الواحد منه بعضه ببعض متفاضلاً، سواء كان ذلك نسيئة أو يداً بيد، فلا يجوز مثلاً بيع عشرة أريلة سعودية ورق بأحد عشر ريالاً سعودياً ورقاً. (ج) يجوز بيع بعضه ببعض من غير جنسه مطلقاً، إذا كان ذلك يداً بيد، فيجوز بيع الليرة السورية أو اللبنانية بريال سعودي، ورقاً كان أو فضة، أو أقل من ذلك أو أكثر، وبيع الدولار الأمريكي بثلاثة أريلة سعودية أو أقل أو أكثر إذا كان ذلك يداً بيد، ومثل ذلك في الجواز بيع الريال السعودي الفضة بثلاثة أريلة سعودية ورق أو أقل أو أكثر يداً بيد؛ لأن ذلك يعتبر بيع جنس بغير جنسه ولا أثر لمجرد الاشتراك في الاسم مع الاختلاف في الحقيقة.] أبحاث هيئة كبار العلماء 1/90-93. وكذلك ورد في قرار المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي ما يلي: [أولا: إنه بناء على أن الأصل في النقد هو الذهب والفضة وبناء على أن علة جريان الربا فيهما هي مطلق الثمنية في أصح الأقوال عند فقهاء الشريعة وبما أن الثمنية لا تقتصر عند الفقهاء على الذهب والفضة وإن كان معدنهما هو الأصل وبما أن العملة الورقية قد أصبحت ثمناً وقامت مقام الذهب والفضة في التعامل بها، وبها تُقَوم الأشياء في هذا العصر لاختفاء التعامل بالذهب والفضة وتطمئن النفوس بتمولها وادخارها ويحصل الوفاء والإبراء العام بها، رغم أن قيمتها ليست في ذاتها وإنما في أمر خارج عنها وهو حصول الثقة بها كوسيط في التداول والتبادل وذلك هو سر مناطها بالثمنية، وحيث إن التحقيق في علة جريان الربا في الذهب والفضة هو مطلق الثمنية وهي متحققة في العملة الورقية، لذلك كله فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي يقرر أن العملة الورقية نقدٌ قائمٌ بذاته له حكم النقدين من الذهب والفضة، فتجب الزكاة فيها ويجري الربا عليها بنوعيه فضلاً ونسياً كما يجري ذلك في النقدين من الذهب والفضة تماماً باعتبار الثمنية في العملة الورقية قياساً عليهما وبذلك تأخذ العملة الورقية أحكام النقود في كل الالتزامات التي تفرضها الشريعة فيها. ثانياً: يعتبر الورق النقدي نقداً قائماً بذاته كقيام النقدية في الذهب والفضة وغيرهما من الأثمان كما يعتبر الورق النقدي أجناساً مختلفةً تتعدد بتعدد جهات الإصدار في البلدان المختلفة، بمعنى أن الورق النقدي السعودي جنس، وأن الورق النقدي الأمريكي جنس، وهكذا كل عملة ورقية جنس مستقل بذاته، وبذلك يجري فيها الربا بنوعيه فضلاً ونسياً كما يجري الربا بنوعيه في النقدين الذهب والفضة وفي غيرها من الأثمان، وهذا كله يقتضي ما يلي: (أ) لا يجوز بيع الورق النقدي بعضه ببعض، أو بغيره من الأجناس النقدية الأخرى، من ذهب أو فضة أو غيرهما، نسيئة مطلقًا. فلا يجوز مثلاً بيع ريال سعودي بعملة أخرى متفاضلاً نسيئة بدون تقابض. (ب) لا يجوز بيع الجنس الواحد من العملة الورقية بعضه ببعض متفاضلاً، سواء كان ذلك نسيئةً أو يداً بيد، فلا يجوز مثلاً بيع عشرة ريالات سعودية ورقاً، بأحد عشر ريالاً سعودية ورقاً، نسيئةً أو يداً بيد. (ج) يجوز بيع بعضه ببعض من غير جنسه مطلقًا، إذا كان ذلك يداً بيد، فيجوز بيع الليرة السورية أو اللبنانية بريال سعودي ورقاً كان أو فضة، أو أقل من ذلك، أو أكثر. وبيع الدولار الأمريكي بثلاثة ريالات سعودية، أو أقل من ذلك، أو أكثر، إذا كان ذلك يداً بيد، ومثل ذلك في الجواز بيع الريال السعودي الفضة بثلاثة ريالات سعودية ورق، أو أقل من ذلك أو أكثر يداً بيد؛ لأن ذلك يعتبر بيع جنس بغير جنسه، لا أثر لمجرد الاشتراك في الاسم مع الاختلاف في الحقيقة ... ] ، ومثل ذلك ورد في قرار مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي: [بخصوص أحكام العملات الورقية: أنها نقود اعتبارية فيها صفة الثمنية كاملة، ولها الأحكام الشرعية المقررة للذهب والفضة من حيث أحكام الربا والزكاة، والسلم وسائر أحكامهما.] وسُقتُ قرارات المجامع الفقهية لأنني أعتبر أن الاجتهاد الجماعي الذي تمثله المجامع الفقهية، مقدمٌ على الاجتهاد الفردي الذي يصدر عن أفراد الفقهاء، فهو أكثر دقةً وإصابةً من الاجتهاد الفردي، كما أن فيه تحقيقاً لمبدأ الشورى في الاجتهاد، وهو مبدأ أصيل في تاريخ الفقه الإسلامي، كما بينت ذلك سابقاً في إحدى حلقات يسألونك.
وخلاصة الأمر أن الربا بنوعيه يجري في النقود الورقية، وأن الفتوى المذكورة في السؤال باطلة حيث إنها تهدم الربا المحرم في كتاب الله عز وجل وفي سنة الرسول صلى الله عليه وسلم. بل إن هذه الفتوى وأمثالها تهدم كل أساس في نظرية الربا المقررة في الكتاب والسنة.(12/13)
14 - حكم اعتماد مؤشر الليبور في المصارف الإسلامية
قول السائل: هل يجوز شرعاً حساب الأرباح في البيوع الآجلة بربطها بمؤشر (الليبور) ، فتكون الأرباح غير ثابتة، بل متغيرة مع تغير عدد الأشهر والأيام، وتتم تسويتها مع النسبة العالمية للأرباح مثلاً: (Libour + 2%) فما الحكم في ذلك أفيدونا؟
الجواب: مؤشر الليبور كما عرفه الدكتور سامر قنطقجي: [نظام الليبور هو المؤشر الرئيسي الذي تستخدمه البنوك الربوية ومؤسسات الائتمان والمستثمرون لتثبيت تكلفة الاقتراض في أسواق المال في جميع أنحاء العالم، وكلمة Libor هي اختصار لمعدل الفائدة المعروض من قبل مصرف لندن، ويستخدم الليبور لحساب معدلات الفائدة الربوية المطبقة في قطاع كبير من العقود والقروض والتبادل التجاري على المدى القصير. ويتم وضع الليبور من قبل جمعية المصارف البريطانية BBA عند تثبيت معدل الليبور وتتبادل ال BBA الرأي مع Libor Steering Group التي تقود نشاط ممارسي سوق المال في لندن] كتاب معيار قياس أداء المعاملات المالية الإسلامية بديلاً عن مؤشر الفائدة ص 16 بتصرف.
ونظام الليبور نظام معتمد لدى البنوك الربوية في العالم العربي، ومع الأسف الشديد أن بعض البنوك الإسلامية قد انزلقت في هذا المنزلق الربوي الخطير، فصارت تربط أرباح بيع المرابحة للآمر بالشراء بنظام الليبور، فتكون الأرباح التي يحصل عليها البنك الإسلامي غير ثابتة، بل متغيرة مع تغير عدد الأشهر والأيام، ولا يتم البت بمقدار الربح عند توقيع عقد المرابحة، بل تُسجل مع نهاية كل شهر عند دفع القسط المستحق، بعد تسويتها مع نظام الليبور (Libour + 3%) أو أكثر أو أقل.
ولا بد أن نقرر أن من شروط صحة بيع المرابحة أن يكون الثمن معلوماً وأن يكون الربح معلوماً، وهذا ما قررته المجامع الفقهية والمؤسسات التي تعنى بشؤون المصارف الإسلامية، فقد جاء في المعيار الشرعي رقم 8 من معايير هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية بالبحرين المتعلق بالمرابحة ما يلي: [يجب أن يكون كل من ثمن السلعة في بيع المرابحة للآمر بالشراء وربحها محدداً ومعلوماً للطرفين عند التوقيع على عقد البيع. ولا يجوز بأي حال أن يترك تحديد الثمن أو الربح لمتغيرات مجهولة أو قابلة للتحديد في المستقبل؛ وذلك مثل أن يعقد البيع ويجعل الربح معتمداً على مستوى الليبور الذي سيقع في المستقبل. ولا مانع من ذكر مؤشر من المؤشرات المعروفة في مرحلة الوعد للاستئناس به في تحديد نسبة الربح، على أن يتم تحديد الربح في عقد المرابحة للآمر بالشراء على أساس نسبة معلومة من التكلفة ولا يبقى الربح مرتبطاً بالليبور أو بالزمن. يجب أن يكون الربح في عقد المرابحة للآمر بالشراء معلوماً ولا يكفي الاقتصار على بيان الثمن الإجمالي، ويجوز أن يكون الربح محدداً بمبلغ مقطوع أو بنسبة مئوية من ثمن الشراء فقط أو من ثمن الشراء مضافاً إليه مبلغ المصروفات. ويتم هذا التحديد بالاتفاق والتراضي بين الطرفين.]
وجاء في الضوابط الشرعية لهيئة الرقابة الشرعية لبنك البلاد السعودي – مصرف إسلامي – ما يلي: [للبنك أن يُفصح عن ثمن السلعة، وربحها في بيع المرابحة للآمر بالشراء على أن يكون الثمن الإجمالي للسلعة محدداً ومعلوماً للطرفين عند التوقيع على عقد البيع. ولا يجوز بأي حال أن يربط تحديد الثمن أو الربح بأمر مستقبلي مثل مؤشر الليبور (libor) أو السيبور (sibor) . ولا مانع من ذكر مؤشر من المؤشرات المعروفة في مرحلة الوعد للاستئناس به في تحديد نسبة الربح، على أن يكون الربح محدداً، ولا يبقى الربح مرتبطاً بالمؤشر أو بالزمن.]
ولا بد من توضيح ما ورد في الضوابط السابقة بخصوص الاسترشاد بمؤشر الليبور في مرحلة المواعدة في عقد المرابحة، وليس في مرحلة العقد، فمن المعلوم أن المواعدة في المرابحة تكون قبل عقد بيع المرابحة، ولا تعتبر عقد بيع، وبالتالي لا مانع شرعاً من الاسترشاد بمؤشر الليبور في هذه المرحلة، كمؤشرٍ لتحديد نسبة الربح في البنوك الإسلامية في بيع المرابحة للآمر بالشراء وغيره من معاملاتها [فلا يوجد في الشريعة - بحسب ما نعلم- طريقة لحساب الربح، والمعول في المعاملات هو على صيغة العقد لا على طريقة الحساب، فإذا كان بيعاً وجب أن يكون مكتمل الأركان تام الشروط خالياً من الربا والغرر والغش والغبن ... إلخ، فإذا توفر ذلك فلا أهمية للطريقة التي حسب بها الربح، وهذا يعني أن ربط هامش الربح بأسعار الفائدة مقبول إذا كانت صيغة البيع صحيحة] مجلة مجمع الفقه الإسلامي عدد8، ج3/683-684. وانظر أيضاً الربح في الفقه الإسلامي ضوابطه وتحديده في المؤسسات المالية المعاصرة ص 246.
وهنالك فرق واضح بين الحالتين السابقتين وهما: 1- الاسترشاد بمؤشر الليبور لتحديد نسبة الربح في مرحلة المواعدة في بيع المرابحة للآمر بالشراء. 2- ربط الأرباح بمؤشر الليبور فتكون الأرباح غير ثابتة، بل متغيرة مع تغير عدد الأشهر والأيام، وتتم تسويتها مع النسبة العالمية للمؤشر مثل: (Libour + 2%) . ففي الحالة الأولى لا تعدو العملية عن استرشاد، فلا تؤثر في صحة العقد، بينما في الحالة الثانية يربط الربح بمؤشر الليبور، فيؤدي ذلك إلى جهالة الربح وعدم معلوميته، وهذا يؤدي إلى بطلان عقد المرابحة. لأن من شروط صحة عقد المرابحة أن يكون الربح معلوماً ومحدداً، وربطه بمؤشر الليبور ينافي ذلك حيث يجعله متذبذباً، فإذا ارتفع مؤشر الليبور ارتفع الربح وإذا انخفض مؤشر الليبور انخفض الربح. وهذا الربط بمؤشر الليبور يحول بيع المرابحة إلى معاملة باطلة، لاشتمالها على غرر فاحش مفسد للعقد.
إذا تقرر هذا فإن البنوك الإسلامية بحاجة ماسة لاعتماد مؤشرات لقياس الربح بخلاف ما هو معتمد في البنوك الربوية حتى تتميز البنوك الإسلامية في أعمالها عن البنوك الربوية وحتى تبتعد ابتعاداً تاماً عن الشبهات. وقد أوصى مجلس مجمع الفقه الإسلامي في دورة مؤتمره الثامن، بالإسراع بإيجاد المؤشر المقبول إسلامياً الذي يكون بديلاً عن مراعاة سعر الفائدة الربوية في تحديد هامش الربح في المعاملات.] وقد بُحثت مسألة إيجاد المؤشر المقبول إسلامياً الذي يكون بديلاً عن مراعاة سعر الفائدة الربوية، في عدد من الندوات وكتبت بعض الأبحاث في ذلك، وخرجت بمقترحات جيدة لإيجاد مؤشر شرعي في المعاملات الإسلامية، منها ما قدمه الدكتور سامر قنطقجي [من طرق بديلة مقترحة عن مؤشر الليبور: 1- يمكن اللجوء إلى آخر أرباح موزعة (من الممكن اللجوء إلى التوزيعات الربع سنوية) لثمانية مصارف أو مؤسسات مالية إسلامية بأخذ وسطي أقرب رقمين، أو بأخذ وسطها الحسابي.
2- يمكن اللجوء إلى تقديرات ثمانية مصارف أو مؤسسات مالية إسلامية وأخذ وسطي أقرب رقمين.
3- البحث عن سعر التضحية المناسب لكل قطاع من قطاعات العمل واعتبار أقلها هو تكلفة الفرصة البديلة. ولما كان المؤشر هو شكل من أشكال التسعير فإن مؤشر سعر الفائدة هو عبارة عن دليل يسترشد به العاملون في السوق لتسعير أعمالهم من إقراض واقتراض أو في تقييم الاستثمارات ومقارنة ريعها وجدواها. لذلك فإن تحديد مؤشر الفائدة هو شكل من أشكال التسعير بغض النظر عن مضمونه الشرعي. ويرى ابن تيمية ضرورة التسعير عندما يخشى من الاحتكار بقوله: [إذا امتنع أرباب السلع من بيعها مع ضرورة الناس إليها إلا بزيادة على القيمة المعروفة فهنا يجب عليهم بيعها بقيمة المثل، ولا معنى للتسعير إلا إلزامها بقيمة المثل، فيجب أن يلتزموها بما ألزمهم الله به] الحسبة في الإسلام ص 23. أما عن آلية تحقيق ذلك، فيقول ابن تيمية: [ينبغي للإمام أن يجمع وجوه أهل سوق ذلك الشيء، ويحضر غيرهم استظهاراً على صدقهم فيسألهم كيف يشترون وكيف يبيعون، فينازلهم إلى ما فيه لهم وللعامة سداد، حتى يرضوا ولا يجبرون على التسعير] الحسبة في الإسلام ص 40. والرضا عامل مهم في زرع الثقة والطمأنينة بين أفراد السوق مما يعني ازدهار ونمو التبادل واستقرار في الأسعار مما يؤدي لحركة تجارية تنعش الدخول، أما العكس أي إكراه البائعين على البيع بسعر معين دون النظر لتكاليفهم فإنه يؤدي إلى [فساد الأسعار وإخفاء الأقوات وإتلاف أموال الناس] . الحسبة في الإسلام ص 41. وتلجأ أسواق البورصة حاليا لأمور مشابهة لتحديد أسعار الصرف، [أما أسعار الصرف الخاصة بالعملات الأجنبية فيتم تحديدها يومياً من قبل الوسطاء المقبولين أو المعتمدين من قبل البورصة المعنية، أي المصارف بما فيها المصرف المركزي] البورصة وأسس الاستثمار والتوظيف ص 31. فابن تيمية جمع وجوه أهل السوق وفي البورصة الوسطاء المقبولين، والإمام عند ابن تيمية قابلها المصارف وزاد ابن تيمية عند تحديده للسعر بالمنازلة أي المساومة دون الإكراه. لذلك يمكن اللجوء إلى إحدى الطرق الثلاث السابقة بعد تكوين هيئة من المصارف والمؤسسات المالية الإسلامية مهمتها إعداد المعيار، إضافة إلى لجنة إشراف مؤلفة من هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية وأساتذة جامعيين وممارسين وخبراء من ذوي السمعة والشهرة في عالم الاستثمار، وهي التي ستكافئ الإمام عند ابن تيمية، حيث تستأنس اللجنة بالمعيار المحسوب بإحدى الطرق المذكورة سابقًا لمقابلة هيئة المصارف والمؤسسات المالية الإسلامية في المنازلة والمساومة وصولاً للرضا الذي يحقق مصلحة الطرفين دون إكراه.] كتاب معيار قياس أداء المعاملات المالية الإسلامية بديلاً عن مؤشر الفائدة ص 21-22.
وخلاصة الأمر أنه لا يجوز شرعاً ربط نسبة الربح في بيع المرابحة بمؤشر الليبور في مرحلة العقد، لأنه يؤدي إلى جهالة مفسدة للعقد، ولا بأس بالاستئناس بمؤشر الليبور في مرحلة المواعدة، حتى يوجد بديل لمؤشر إسلامي.(12/14)
15 - ضمان المضارب بالتقصير والتعدي
قول السائل: دفعت مبلغاً من المال لشخص يشتغل في تجارة المواد الغذائية كشريك مضارب، وقام هذا الشخص وبدون علمي بتشغيل مالي مع شخص آخر يشتغل في مجالات أخرى فخسر المال، فمن يتحمل الخسارة في هذه الحال، أفيدونا؟
الجواب: عقد المضاربة عند الفقهاء هو أن يدفع شخص مبلغاً من المال لآخر ليتجر فيه، والربح مشترك بينهما على حسب ما يتفقان. والمضاربة جائزة عند عامة الفقهاء اتباعاً لما ورد عن عدد من الصحابة رضي الله عنهم الذين أجازوها وعملوا بها ولم يثبت فيها بعينها دليل لا من الكتاب ولا من السنة كما قال جماعة من أهل العلم. ويشترط في المضاربة أن يكون نصيب كل من المتعاقدين من الربح معلوماً على أن يكون جزءاً مشاعاً كنسبة مئوية 10% أو 15% أو 40% على حسب ما يتفقان. ولا يجوز أن يكون الربح مبلغاً محدداً، فإن حصل ذلك أدى ذلك إلى فساد عقد المضاربة. ومن الأمور المهمة في عقد المضاربة أن الخسارة إن حصلت يتحملها صاحب المال دون العامل لأن العامل يخسر جهده وعمله، إلا إذا كانت المضاربة مقيدة ومشروطة بشروط محددة، فخالف العامل تلك الشروط فإنه حينئذٍ يضمن، والأصل المتفق عليه بين الفقهاء أن يد المضارب يد أمانة، ويد الأمانة في الفقه الإسلامي لا تضمن إلا بالتفريط أو التعدي أو التقصير. قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [والوضيعة (الخسارة) في المضاربة على المال خاصة , ليس على العامل منها شيء، لأن الوضيعة عبارة عن نقصان رأس المال، وهو مختص بملك ربه، لا شيء للعامل فيه، فيكون نقصه من ماله دون غيره، وإنما يشتركان فيما يحصل من النماء] المغني5/22. وجاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي ما يلي: [المضارب أمين ولا يضمن ما يقع من خسارة أو تلف إلا بالتعدي أو التقصير، بما يشمل مخالفة الشروط الشرعية أو قيود الاستثمار المحددة التي تم الدخول على أساسها، ويستوي في هذا الحكم المضاربة الفردية والمشتركة] قرار رقم 122. وجاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الرابع بجدة 1408هـ، بشأن سندات المقارضة: [لا يجوز أن تشتمل نشرة الإصدار أو صكوك المقارضة على نص بضمان عامل المضاربة رأس المال أو ضمان ربح مقطوع أو منسوب إلى رأس المال، فإن وقع النص على ذلك صراحة أو ضِمناً بطل شرط الضمان] مجلة مجمع الفقه الإسلامي 4/3/2159. وجاء في قرار مجمع الفقه الإسامي التابع لرابطة العالم الإسلامي ما يلي: [الخسارة في مال المضاربة على رب المال في ماله، ولا يُسأل عنها المضارب إلا إذا تعدى على المال أو قصر في حفظه] . وورد في فتاوى المستشار الشرعي لمجموعة البركة الجزء 2 الفتوى رقم (107) ما يلي: [رأس المال في شركة المضاربة أمانة في يد المضارب فلا يضمن ما يحصل فيه من خسارة إلا في حالات التعدي أو التقصير أو مخالفة الشروط.] وورد في مجلة الأحكام العدلية: المادة 1413- المضارب أمين ورأس المال في يده في حكم الوديعة، ومن جهة تصرفه في رأس المال وكيل لرب المال، وإذا ربح يكون شريكاً فيه.] والمادة التي ذكرت حكم الوديعة في المجلة هي: المادة 777- الوديعة أمانة بيد المستودع بناء عليه إذا هلكت أو فقدت بدون صنع المستودع وتعديه وتقصيره في الحفظ لا يلزم الضمان. وقد قرر العلماء أن المضارب يضمن في حالات التعدي أو التقصير أو التفريط أو مخالفة شرط رب المال، قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [إذا تعدَّى المضارب وفعل ما ليس له فعله أو اشترى شيئاً نُهي عن شرائه فهو ضامن للمال في قول أكثر أهل العلم روي ذلك عن أبي هريرة وحكيم بن حزام وأبي قلابة ونافع وإياس والشعبي والنخعي والحكم وحماد ومالك والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي ... ولنا أنه متصرف في مال غيره بغير إذنه فلزمه الضمان كالغاصب..] المغني 5/39. ومن المعلوم أن الأصل المقرر عند الفقهاء أن على المضارب أن يتولى العمل بنفسه، لأن صاحب المال ما أعطى ماله للمضارب إلا لحصول الثقة به وبخبرته في العمل، فلا يجوز له أن يعطي مال المضاربة لغيره إلا أن يأذن له صاحب المال، فإن أذن له في ذلك جاز وهذا مذهب جمهور الفقهاء. قال الشيخ المرداوي: [ليس للمضارب دفع مال المضاربة لآخر من غير إذن رب المال على الصحيح] الإنصاف 2/438. وجاء في الموسوعة الفقهية [ولو ضارب العامل شخصاً آخر بغير إذن المالك فسدت المضاربة مطلقاً، سواء أقصد المشاركة في عملٍ وربحٍ أم ربحٍ فقط أم قصد الانسلاخ، لانتفاء إذن المالك فيها وائتمانه على المال غيره، فإن تصرف العامل الثاني بغير إذن المالك فتصرف غاصب فيضمن ما تصرف فيه، لأن الإذن صدر ممن ليس بمالك ولا وكيل ... وإذا تعدى المضارب وفعل ما ليس له فعله فهو ضامن للمال لأنه متصرف في مال غيره بغير إذنه، فلزمه الضمان كالغاصب، ومتى اشترى ما لم يؤذن فيه فربح فيه فالربح لرب المال] الموسوعة الفقهية الكويتية 38/60-61. وكذلك فإن على المضارب أن يلتزم بالشروط التي يفرضها صاحب المال بناءً على العقد المبرم بين الفريقين، ويدل على ذلك قوله تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ? سورة المائدة الآية1. ومما يدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (المسلمون على شروطهم إلا شرطاً حرم حلالاً أو أحل حراماً) رواه الترمذي وقال: حسن صحيح، ورواه البخاري تعليقاً بصيغة الجزم لكنه بدون الاستثناء، ورواه كذلك الحاكم وأبو داود عن أبي هريرة بلفظ (المسلمون عند شروطهم) أي بدون الاستثناء. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: [إن الوفاء بها أي بالالتزامات التي التزم بها الإنسان من الواجبات التي اتفقت عليها الملل بل العقلاء جميعاً] مجموع الفتاوى 29/516. ومن المعلوم حرص صاحب المال على ماله فهو أدرى بما يحفظ ماله، وقد كان الصحابة يشترطون في المضاربة ما يرونه مناسباً لحفظ أموالهم، فعن حكيم بن حزام صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنه كان يشترط على الرجل إذا أعطاه مالاً مقارضة يضرب له به أن لا تجعل مالي في كبدٍ رطبةٍ ولا تحمله في بحر ولا تنزل به بطن مسيل، فإن فعلت شيئاً من ذلك فقد ضمنت مالي) رواه البيهقي والدارقطني وصححه العلامة الألباني في إرواء الغليل 5/295.. وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان العباس بن عبد المطلب إذا دفع مالاً مضاربةً اشترط على صاحبه أن لا يسلك به بحراً ولا ينزل به وادياً ولا يشتري به ذات كبدٍ رطبةٍ، فإن فعل فهو ضامن فرفع شرطه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجازه) رواه البيهقي والدارقطني والطبراني وفي سنده ضعف. قال الإمام الماوردي: [ ... فأما تعدي العامل في مال القراض من غير الوجه الذي ذكرنا فعلى ضربين: أحدهما: أن يكون تعديه فيه لم يؤمر به مثل إذنه بالتجارة في الأقوات فيتجر في الحيوان، فهذا تعدٍ يضمن به المال، ويبطل معه القراض، فيكون على ما مضى في مقارضة غيره بالمال. والضرب الثاني: أن يكون تعديه لتغريره بالمال، مثل أن يسافر به ولم يؤمر بالسفر أو يركب به بحراً ولم يؤمر بركوب البحر، فإن كان قد فعل ذلك مع بقاء عين المال بيده ضمنه، وبطل القراض بتعديه، لأنه صار مع تعديه في عين المال غاصباً] الحاوي الكبير 7/340-341. وقد نصت مجلة الأحكام العدلية على التزام المضارب بشروط رب المال وأن المضارب إذا خالفها فهو ضامن، فقد جاء في المادة 1420- يلزم المضارب في المضاربة المقيدة مراعاة قيد وشرط رب المال مهما كان. وجاء في المادة 1421- إذا خرج المضارب عن مأذونيته وخالف الشرط يكون غاصباً وفي هذا الحال يعود الربح والخسارة في بيع وشراء المضارب عليه، وإذا تلف مال المضاربة يكون ضامناً. وورد في المادة 1422- إذا خالف المضارب حال نهي رب المال إياه بقوله: لا تذهب بمال المضاربة إلى المحل الفلاني أو لا تبع بالنسيئة، فذهب بمال المضاربة إلى ذلك المحل فتلف المال أو باع بالنسيئة فهلك الثمن يكون المضارب ضامناً] . وهذا الكلام الذي ذكرته في ضمان المضارب لرأس المال في حالات التعدي أو التقصير أو التفريط أو مخالفة شرط رب المال، ينطبق على المصارف الإسلامية، فالأصل أن المصر الإسلامي لا يضمن إلا في الحالات المذكورة، فإذا حصل شيء من التعدي أو التقصير أو التفريط أو مخالفة شرط رب المال، [المسئول عما يحدث في البنوك والمؤسسات المالية ذات الشخصية الاعتبارية هو مجلس الإدارة؛ لأنه الوكيل عن المساهمين في إدارة الشركة، والحالات التي يُسأل عنها مجلس الإدارة هي الحالات التي يُسأل عنها مضارب الشخص الطبيعي، فيكون مجلس الإدارة أيضاً مسئولاً أمام أرباب المال عن كل ما يحدث في مال المضاربة من خسارة بتعدٍ أو تفريط، أما إذا لم يكن هناك تعدٍ ولا تفريط، فإن الشركة أو البنك لا يتحمل شيئاً من الخسارة، وعلى المساهمين محاسبة مجلس الإدارة على التعدي أو التقصير.] مسائل متعلقة بشركات المساهمة عن شبكة الإنترنت.
وخلاصة الأمر أنه يجب على المضارب أن يعمل في المال بنفسه ولا يصح أن يعطيه لغيره بدون إذن رب المال، فإن فعل فهو ضامن ويتحمل الخسارة وحده ولا شيء على رب المال، لأنه قد تعدى بإخراج المال من يده إلى يد أخرى لم يأذن لها رب المال بالتصرف، وإن حصل ربح من ذلك فهو لرب المال.(12/15)
16 - التحايل على الرابا باسم الرسوم الادارسة
يقول السائل: هنالك بعض الجمعيات والمؤسسات تقدم قروضاً بهدف إقامة مشاريع صغيرة، زراعية، وتجارية، وصناعية، وللإسكان، وتقول هذه المؤسسات إن قروضها بدون فوائد، ولكنها تأخذ رسوماً عند استلام القرض وعند تسديد كل قسط من الأقساط، فهل هذه الرسوم تعتبر من الربا، أفيدونا؟
الجواب: تغيير الأسماء لا يغير شيئاً من حقائق المسميات، فتغيير اسم الخمور إلى مشروبات روحية لا يؤثر في حقيقتها وكونها محرمة، وقد أخبر بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم فقال: (ليستحلن طائفة من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها) رواه أحمد والنسائي وابن ماجة وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة 1/136. وكذلك تغيير اسم الربا إلى فائدة أو ربح أو دخل أو غير ذلك من الأسماء، لا يغير شيئاً من حقيقة الربا المحرم، وتلاعب الناس بالألفاظ في المعاملات لا يؤثر على حقيقتها شيئاً، لأن العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني كما قرر ذلك فقهاؤنا، وأذكر أنني حسبتُ مرة ما زعمت إحدى المؤسسات المقرضة أنه رسوم خدمات إدارية ورسوم تسديد قسط، فوجدته قد بلغ 14% زيادة على القرض، ثم يقولون هذا ليس من الربا؟! فما هو الربا إذن! لا شك أن التحايل لاستحلال ما حرم الله من أشد المحرمات، قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [والحيل كلها محرمة غير جائزة في شيء من الدين، وهو أن يظهر عقداً مباحاً يريد به محرماً ً، مخادعةً وتوسلاً إلى فعل ما حرم الله واستباحة محظوراته أو إسقاط واجب، أو دفع حق ونحو ذلك، قال أيوب السختياني: إنهم ليخادعون الله كأنما يخادعون صبيا ًً، لو كانوا يأتون الأمر على وجهه كان أسهل عليَّ.] المغني 4/43. وقد نعى الله سبحانه وتعالى تحيل اليهود لانتهاك المحرمات فقال تعالى: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} سورة الأعراف الآية 163. وقد ورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا ترتكبوا ما ارتكبت يهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل) رواه ابن بطة في إبطال الحيل، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: [هذا إسناد جيد يصحح مثله الترمذي وغيره تارة ويحسنه تارة] إبطال الحيل ص112، مجموع الفتاوى 29/29. وقال الحافظ ابن كثير: هذا إسناد جيد، وقال العلامة الألباني: [وحسن إسناده شيخ الإسلام ابن تيمية وابن كثير] صفة الفتوى والمفتي والمستفتي ص 33. وثبت في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قاتل الله اليهود لما حرم شحومها جملوه – أي أذابوه – ثم باعوه فأكلوا ثمنه) رواه البخاري ومسلم. وقد قرر الفقهاء أن أي زيادة مشروطة على مبلغ القرض تعتبر من الربا، فقد جاء في الحديث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (الذهب بالذهب والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلاً بمثل، يداً بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء) رواه البخاري ومسلم. ومما يدل أيضاً على منع الزيادة المشروطة على القرض، ما روي في الحديث (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قرض جر منفعة) رواه الحارث بن أبي أسامة في مسنده، وفي إسناده متروك كما قال الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير 3/34. ورواه البيهقي في السنن 5/350، بلفظ: (كل قرض جر منفعة فهو وجه من وجوه الربا) وقال البيهقي: موقوف. ورواه البيهقي أيضاً في معرفة السنن والآثار 8/169 والحديث ضعيف، ضعفه الحافظ ابن حجر وضعفه العلامة الألباني في إرواء الغليل 5/235. ولكن معنى الحديث صحيح وقد اتفق الفقهاء على تحريم أي منفعة يستفيدها المقرض من قرضه ولكن ليس على إطلاقها، فالقرض الذي يجر نفعاً ويكون رباً أو وجهاً من وجوه الربا هو القرض الذي يشترط فيه المقرض منفعة لنفسه فهو ممنوع شرعاً. قال الحافظ ابن عبد البر: [وكل زيادة في سلف أو منفعة ينتفع بها المسلِف فهو ربا، ولو كانت قبضة من علف، وذلك حرام إن كان بشرط] . وقال ابن المنذر: [أجمعوا على أن المسلِف إذا شرط على المستلف زيادة أو هدية فأسلف على ذلك، أن أخذ الزيادة ربا] الموسوعة الفقهية 33/130. وقال الإمام القرطبي: [أجمع أهل العلم على أن استقراض الدنانير والدراهم والحنطة والشعير والتمر والزبيب وكل ما له مثل من سائر الأطعمة جائز. وأجمع المسلمون نقلاً عن نبيهم صلى الله عليه وسلم أن اشتراط الزيادة في السلف رباً ولو كان قبضة من علف كما قال ابن مسعود أو حبة واحدة] تفسير القرطبي3/241. وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [كل قرضٍ شرط فيه أن يزيده فهو حرام بغير خلاف] المغني 4/240. إذا تقرر هذا فإن الزيادة على القرض التي تسمى رسوم خدمات القرض أو أجور القرض أو مصاريف إدارية أو أتعاب إدارية للقرض بين فيها أهل العلم ما يلي: أولاً: إن هذه الرسوم لا بد أن تكون مقابل خدمات فعلية لا وهمية. ثانياً: أي زيادة على الخدمات الفعلية تعتبر من الربا المحرم شرعاً، فقد جاء في قرارات مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثالث سنة 1407هـ وفق 1986م ما يلي: [ ... بخصوص أجور خدمات القروض في البنك الإسلامي للتنمية: قرر مجلس المجمع اعتماد المبادئ التالية: 1. جواز أخذ أجور عن خدمات القروض. 2. أن يكون ذلك في حدود النفقات الفعلية. 3. كل زيادة على الخدمات الفعلية محرمة لأنها من الربا المحرم شرعًا] مجلة مجمع الفقه الإسلامي العدد 3 الجزء 1/305. ووجه جواز هذه الزيادة واعتبارها مصاريفاً إدرايةً أنها تعتبر من باب الأجرة مقابل خدمات حقيقية فعلية كمتابعة القرض والإشراف الهندسي على التنفيذ ونحو ذلك. ومن المتفق عليه بين الفقهاء أنه يشترط في الأجرة تحديدها والاتفاق عليها قبل البدء في العمل، لا بعده. ثالثاً: إن هذه الرسوم لا يجوز أن تكون مقابل استيفاء القرض بل تكون عند إنشاء عقد القرض بمعنى أنها مصاريف إدارية تغطي التكاليف الإدارية مثل أجور الموظفين والشؤون المكتبية ونحو ذلك، وإذا كانت الجهة المقرضة تتولى الإشراف على التنفيذ فيدخل في ذلك أجور المهندسين أو المراقبين كما هو الحال في بعض المؤسسات التي تقرض للبناء والإسكان. وأما إذا كانت مقابل استيفاء القرض فهي ربا، كما هو الحال في بعض المؤسسات المقرضة فإنها تحصل رسوماً تحت اسم رسوم تحصيل القرض وهو أن يدفع المقترض مبلغاً من المال مع كل قسط يسدده كرسوم تحصيل للقرض فهذا ربا محرم وإن سموه رسوماً. رابعاً: يجب أن تقدر هذه الرسوم بمبلغ مقطوع ولا تقدر بنسبة مئوية وخاصة إذا أخذت هذه الرسوم مقابل الأمور المكتبية فقط، لأنها إذا قدرت بنسبة مئوية فستختلف باختلاف مبلغ القرض لأنها لو كانت رسوماً للخدمات فعلاً لما اختلف مقدارها باختلاف حجم القرض وشروطه إذ أن الخدمات المكتبية التي تؤدى لمن يقترض ألفاً، هي ذاتها الخدمات التي تؤدى لمن يقترض عشرة آلاف، ولكنه التلاعب ومحاولة تغيير الأسماء ليخدع الناس، ويظنوا أن ذلك لا شيء، فيه ويجب أن يعلم أن هذه الرسوم بهذه الصورة هي ربا وإن غيرت أسماؤها لأن العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني كما سبق. وينبغي التنبيه إلى ما ورد في تحريم الربا من نصوص الكتاب والسنة، وبيان أنه من كبائر الذنوب، وأن الله قد لعن كل من يتعامل بالربا بأي شكل من الأشكال، أو يعين عليه، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} سورة البقرة الآيتان 278-279. وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه وقال: هم سواء) رواه مسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اجتنبوا السبع الموبقات. قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات) رواه البخاري ومسلم. وقال صلى الله عليه وسلم: (الربا اثنان وسبعون باباً أدناها إتيان الرجل أمه) رواه الحاكم وقال العلامة الألباني: صحيح. انظر السلسلة الصحيحة 3/488. وقال صلى الله عليه وسلم: (الربا ثلاثة وسبعون باباً أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه) رواه الحاكم وقال العلامة الألباني: صحيح. انظر صحيح الجامع الصغير 1/633. وقال صلى الله عليه وسلم: (درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد عند الله من ستة وثلاثين زنية) رواه أحمد والطبراني وقال العلامة الألباني: صحيح. انظر صحيح الجامع الصغير 1/636. وقال الإمام السرخسي: [وقد ذكر الله تعالى لآكل الربا خمساً من العقوبات: أحدها: التخبط قال الله تعالى: {لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس} ... والثاني: المحق قال الله تعالى: {يمحق الله الربا} والمراد: الهلاك والاستئصال، وقيل: ذهاب البركة والاستمتاع، حتى لا ينتفع هو به ولا ولده بعده. والثالث: الحرب. قال الله تعالى: {فأذنوا بحرب من الله ورسوله} ... والرابع: الكفر قال الله تعالى: {وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين} وقال تعالى: {والله لا يحب كل كفار أثيم} أي: كفار باستحلال الربا أثيم فاجر بأكل الربا والخامس: الخلود في النار. قال الله تعالى: {ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} المبسوط 12/109-110.
وخلاصة الأمر أن رسوم خدمات القرض يجب أن تقابل بخدمات فعلية حقيقية، حتى تخرج عن نطاق الربا، وأن تكون معلومة ومقدرة تقديراً حقيقياً. وأن أي زيادة على القرض سوى ذلك تعتبر من الربا، وختاماً أوصي من يتعرض للسؤال عن هذه القضايا وغيرها أن ينظر إلى حرمة الربا القطعية في الكتاب والسنة وإلى خطورة الربا وما يجلبه على الناس من مصائب، وما الأزمة المالية العالمية الحالية عنا ببعيد.(12/16)
17 - حكم شراء المال المصادر بالباطل
يقول السائل: صادرت البلدية أرضاً لجارنا بالباطل ثم عرضتها بعد مدة للبيع فتقدمتُ لشرائها، فقيل لي لا يجوز لك شراؤها، فما الحكم في ذلك، أفيدونا؟
الجواب: اتفق العلماء على تحريم شراء المال المغصوب والمأخوذ من صاحبه عنوةً، سواء كان من المنقولات أو غيرها كالأراضي والعقارات، لأن الغاصب فرداً كان أو جهةً أو مؤسسةً أو دولةً، لا يملك المال المغصوب، فالغصب محرمٌ شرعاً وليس من طرق التملك المعتبرة شرعاً، وقد نص الفقهاء على أن العدو إذا استولى على أموال المسلمين فإنه لا يملكها، ورد في كتاب للإمام الشافعي [العبد المسلم يأبق إلى أهل دار الحرب، سألت الشافعي عن العدو يأبق إليهم العبد أو يشرد البعير أو يغيرون فينالونهما أو يملكونهما أسهما؟ قال: لا فقلت للشافعي: فما تقول فيهما إذا ظهر عليهم المسلمون فجاء أصحابهما قبل أن يقتسما؟ فقال: هما لصاحبهما ... ثم استدل الشافعي بما ورد في الحديث عن عمران بن حصين رضي الله عنه في قصة ناقة النبي صلى الله عليه وسلم التي استولى عليها الكفار - وسأذكره بنصه لاحقاً - ثم قال الشافعي: [وهذا الحديث يدل على أن العدو قد أحرز ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن الأنصارية انفلتت من إسارهم عليها بعد إحرازهموها ورأت أنها لها فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها قد نذرت فيما لا تملك ولا نذر لها وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ناقته، ولو كان المشركون يملكون على المسلمين لم يعد أخذ الأنصارية الناقة أن تكون ملكها بأنها أخذتها ولا خمس فيها، لأنها لم توجف عليها وقد قال بهذا غيرنا ولسنا نقول به، أو تكون ملكت أربعة أخماسها وخمسها لأهل الخمس أو تكون من الفيء الذي لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب فيكون أربعة أخماسها للنبي صلى الله عليه وسلم وخمسها لأهل الخمس ولا أحفظ قولاً لأحدٍ أن يتوهمه في هذا غير أحد هذه الثلاثة الأقاويل. قال: فلما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ناقته دل هذا على أن المشركين لا يملكون شيئاً على المسلمين ... ] الأم 4/268.
وحديث عمران بن حصين رضي الله عنه في قصة ناقة النبي صلى الله عليه وسلم رواه مسلم في صحيحه وهو: (كانت ثقيف حلفاء لبني عقيل، فأسرت ثقيفٌ رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من بني عقيل، وأصابوا معه العضباء – اسم ناقة الرجل المأسور - فأتى عليه رسو الله صلى الله عليه وسلم وهو في الوثاق، قال يا محمد فأتاه، فقال ما شأنك؟ فقال بم أخذتني وبم أخذت سابقة الحاج؟ – أي ناقته - فقال إعظاماً لذلك أخذتك بجريرة حلفائك ثقيف، ثم انصرف عنه فناداه، فقال يا محمد يا محمد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيماً رقيقاً، فرجع إليه فقال ما شأنك؟ قال: إني مسلم، قال لو قلتها وأنت تملك أمرك أفلحت كل الفلاح، ثم انصرف فناداه، فقال يا محمد يا محمد فأتاه فقال ما شأنك؟ قال إني جائع فأطعمني وظمآن فأسقني، قال هذه حاجتك ففدي بالرجلين. قال وأسرت امرأة من الأنصار وأصيبت العضباء، فكانت المرأة في الوثاق وكان القوم يريحون نعمهم بين يدي بيوتهم فانفلتت ذات ليلة من الوثاق فأتت الإبل فجعلت إذا دنت من البعير رغا فتتركه حتى تنتهي إلى العضباء فلم ترغ، قال وناقة منوقة - أي مذللة - فقعدت في عجزها ثم زجرتها فانطلقت، ونذروا بها فطلبوها فأعجزتهم، قال ونذرت لله إن نجاها الله عليها لتنحرنها، فلما قدمت المدينة رآها الناس فقالوا العضباء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت إنها نذرت إن نجاها الله عليها لتنحرنها، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له فقال: سبحان الله بئسما جزتها نذرت لله إن نجاها الله عليها لتنحرنها، لا وفاء لنذر في معصية، ولا فيما لا يملك العبد) .
قال الإمام النووي [وفي هذا الحديث دلالة لمذهب الشافعي وموافقيه: أن الكفار إذا غنموا مالاً للمسلم لا يملكونه ... وحجة الشافعي وموافقيه هذا الحديث، وموضع الدلالة منه ظاهر. والله أعلم] شرح النووي على صحيح مسلم 6/32.
وقال الشيخ ابن حزم الظاهري: [ولا يملك أهل الكفر الحربيون مال مسلم , ولا مال ذمي أبداً إلا بالابتياع الصحيح , أو الهبة الصحيحة , أو بميراث من ذمي كافر , أو بمعاملة صحيحة في دين الإسلام , فكل ما غنموه من مال ذمي أو مسلم , أو آبق إليهم , فهو باق على ملك صاحبه ... وحكمه حكم الشيء الذي يغصبه المسلم من المسلم , ولا فرق. وهو قول الشافعي وأبي سليمان- أي داود الظاهري – ثم ذكر الشيخ ابن حزم كلاماً طويلاً في بيان هذه المسألة ثم قال: أخبرونا عما أخذه منا أهل الحرب أبحق أخذوه أم بباطل؟ وهل أموالنا مما أحله الله تعالى لهم أو مما حرمه عليهم؟ وهل هم ظالمون في ذلك أو غير ظالمين؟ وهل عملوا من ذلك عملاً موافقا لأمر الله تعالى وأمر نبيه عليه السلام , أو عملاً مخالفا لأمره تعالى وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم؟ ... فالقول بأنهم أخذوه بحق أنه مما أحله الله تعالى لهم وأنهم غير ظالمين في ذلك , وأنهم لم يعملوا بذلك عملا مخالفا لأمر الله تعالى وأمر رسوله عليه السلام ... فسقط هذا القول , وإذ قد سقط فلم يبق إلا الآخر , وهو الحق اليقين من أنهم إنما أخذوه بالباطل وأخذوا حراماً عليهم , وهم في ذلك أظلم الظالمين , وأنهم عملوا بذلك عملاً ليس عليه أمر الله تعالى: وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم وأن التزام دين الإسلام فرض عليهم. فإذ لا شك في هذا فأخذهم لما أخذوا باطلٌ مردودٌ , وظلمٌ مفسوخٌ، ولا حق لهم ولا لأحدٍ يشبههم فيه; فهو على ملك مالكه أبداً.] المحلى 5/352-359. وقال الإمام الماوردي: [وما غلب عليه المشركون من أموال المسلمين وأحرزوه لم يملكوه وكان باقياً على ملك أربابه من المسلمين] الأحكام السلطانية.] 1/264.
ومما يدل على بطلان شراء المال المغصوب أن الفقهاء قد اتفقوا على أنه لا يجوز بيع ما لا يملك فإذا باع شخص مال غيره فالعقد باطل، فقد ورد في الحديث عن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يأتيني الرجل فيسألني من البيع ما ليس عندي أبتاع له من السوق ثم أبيعه؟ قال: لا تبع ما ليس عندك) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح، ورواه أبو داود والنسائي وابن ماجة وقال العلامة الألباني: صحيح. انظر إرواء الغليل 5/132. وفي رواية أخرى عند الترمذي عن حكيم بن حزام قال: (نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أبيع ما ليس عندي) . وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع ولا ربح ما لم يضمن ولا بيع ما ليس عندك) رواه الترمذي وقال هذا حديث حسن صحيح. سنن الترمذي مع شرحه تحفة الأحوذي 4/361. وهذا الحديث يدل على أنه لا يجوز أن يبيع المسلم ما ليس عنده أي ما ليس في ملكه عند العقد، قال المباركفوري: [وفي قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تبع ما ليس عندك) دليل على تحريم بيع ما ليس في ملك الإنسان ولا داخلاً تحت قدرته] تحفة الأحوذي 4/360. وقال الشوكاني: [وظاهر النهي تحريم ما لم يكن في ملك الإنسان ولا داخلاً تحت مقدرته وقد استثني من ذلك السلم فتكون أدلة جوازه مخصصة لهذا العموم] نيل الأوطار 5/175. ومما يدل على بطلان شراء المال المغصوب أيضاً القاعدة المقررة عند الفقهاء وهي أن ما بُني على الباطل فهو باطل، فالاستيلاء على مال الغير باطل من أساسه وما بني على الباطل فهو باطل. قال الشيخ ابن حزم الظاهري: [وكل عقد انعقد على باطل فهو باطل، لأنه لم تعقد له صحة إلا بصحة ما لا صحة له، فلا صحة له] المحلى 6/382. وكذلك فإن شراء المال المغصوب يعتبر من باب التعاون على الإثم والعدوان، وهو محرم بنص كتاب الله عز، قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} سورة المائدة الآية 2. وكذلك فإنه يعتبر من باب أكل أموال الناس بالباطل، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} سورة النساء الآية 29. وجاء في الحديث من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس) رواه أحمد والبيهقي وابن حبان وغيرهم وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في إرواء الغليل 5/279.
وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يحلبنَّ أحدٌ ماشية أحدٍ إلا بإذنه ... ) رواه البخاري ومسلم، قال الإمام النووي: [ ... وفي الحديث فوائد منها تحريم أخذ مال الإنسان بغير إذنه والأكل منه والتصرف فيه ... ] شرح صحيح مسلم 4/391.
وخلاصة الأمر أنه يحرم شرعاً شراء المال المغصوب، لأن استيلاء الغاصب على المال لا يزيل ملكية صاحبه الأصلي. وكل ما بُني على باطلٍ فهو باطلٌ.(12/17)
18 - العقد شريعة المتعاقدين
يقول السائل: هل قاعدة (العقد شريعة المتعاقدين) قاعدة من قواعد الفقه الإسلامي؟ وما مدى صحتها، أفيدونا؟
الجواب: قاعدة (العقد شريعة المتعاقدين) ليست من قواعد الفقه الإسلامي، وإنما هي قاعدة قانونية وأصلها مستمد من القوانين الغربية ونقلت إلى القوانين المدنية الوضعية، فقد نصت عليها بعض القوانين المدنية العربية، كالقانون المدني المصري حيث ورد في المادة رقم 147 منه: [العقد شريعة المتعاقدين، فلا يجوز نقضه ولا تعديله إلا باتفاق الطرفين، أو للأسباب التي يقررها القانون؛ ومع ذلك إذا طرأت حوادث استثنائية عامة لم يكن في الوسع توقعها وترتب على حدوثها أن تنفيذ الالتزام التعاقدي، وإن لم يصبح مستحيلاً صار مرهقاً للمدين بحيث يهدده بخسارة فادحة؛ جاز للقاضي تبعاً للظروف وبعد الموازنة بين مصلحة الطرفين أن يرد الالتزام المرهق إلى الحد المعقول. ويقع باطلاً كل اتفاق على خلاف ذلك.] وكذلك ورد النص عليها في القانون المدني السوري مادة رقم 148.
والحكم الشرعي في هذه القاعدة أنها غير مُسلَّمةٍ على إطلاقها، وإن جرى استعمالها على ألسنة كثيرٍ من علماء العصر، قال الدكتور بكر أبو زيد: [العقد شريعة المتعاقدين: هذا من مصطلحات القانون الوضعي، الذي لا يراعي صحة العقود في شريعة الإسلام، فسواء كان العقد ربوياً أو فاسداُ، حلالاً، أو حراماً، فهو في قوة القانون ملزم كلزوم أحكام الشرع المطهر، وهذا من أبطل الباطل ويغني عنه في فقه الإسلام مصطلح: "العقود الملزمة". ولو قيل في هذا التقعيد: "العقد الشرعي شريعة المتعاقدين" لصح معناه ويبقى جلْبُ قالب إلى فقه المسلمين، من مصطلحات القانونيين فليجتنب، تحاشياً عن قلب لغة العلم] معجم المناهي اللفظية ص 394.
فالقاعدة المذكورة لا يعمل بها على إطلاقها كما قلت وتوضيح ذلك كما يلي: إن الراجح من أقوال الفقهاء أن الأصل في العقود وما فيها من شروط هو الإطلاق، وقد دلت على هذا الأصل دلائل النصوص الشرعية من كتاب الله عز وجل ومن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فيجب الالتزام والوفاء بكل ما يلتزم به المتعاقدان ويشترطانه، ما لم يكن في النصوص الشرعية أو القواعد الشرعية ما يمنع تنفيذ عقد أو شرط معين، فحينئذ يمتنع بخصوصه على خلاف القاعدة، ويعتبر الاتفاق باطلاً، كالتعاقد على الربا أو الشروط التي تحل حراماً أو تحرم حلالاً، وهذا الاجتهاد هو ما عليه كثير من الفقهاء كالحنابلة وبعض المالكية وهو مذهب شريح القاضي وابن شبرمة وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، المدخل الفقهي لمصطفى الزرقا1/479-480.
وبناءً على ذلك يجب أن تكون العقود موافقة للأحكام الشرعية، وليس العبرة بمطلق تراضي المتعاقدين فقط، وإنما تراضيهما ضمن دائرة الحكم الشرعي، فإذا اتفق المتعاقدان على عقدٍ لا يخالف الحكم الشرعي، فحينئذ يقال إن الأصل في العقود تراضي المتعاقدين، وأما إذا تراضيا على ما يخالف الحكم الشرعي فلا قيمة لتراضيهما، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: [ ... وإذا ظهر أن العقود لا يحرم فيها إلا ما حرمه الشارع فإنما وجب الوفاء بها لإيجاب الشارع، والوفاء بها مطلقاً إلا ما خصه الدليل، على أن الوفاء بها من الواجبات التي اتفقت عليها الملل بل والعقلاء جميعهم، وأدخلها في الواجبات العقلية من قال بالوجوب العقلي، ففعلها ابتداءً لا يحرم إلا بتحريم الشارع، والوفاء بها واجب لإيجاب الشرع، وكذا الإيجاب العقلي أيضاً. وأيضاً فإن الأصل في العقود رضا المتعاقدين ونتيجتها هو ما أوجباه على أنفسهما بالتعاقد، لأن الله تعالى قال في كتابه: {إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ} وقال: {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً} فعلَّقَ جواز الأكل بطيب النفس تعليق الجزاء بشرطه، فدل على أنه سببٌ له، وهو حكمٌ معلَّقٌ على وصفٍ مشتقٍ مناسبٍ، فدلَّ على أن ذلك الوصف سبب لذلك الحكم، وإذا كان طيب النفس هو المبيح للصداق، فكذلك سائر التبرعات قياساً بالعلة المنصوصة التي دل عليها القرآن، وكذلك قوله: {إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ} لم يشترط في التجارة إلا التراضي، وذلك يقتضي أن التراضي هو المبيح للتجارة، وإذا كان كذلك فإذا تراضا المتعاقدان أو طابت نفس المتبرع بتبرعٍ ثبت حله بدلالة القرآن إلا أن يتضمن ما حرمه الله ورسوله كالتجارة في الخمر ونحو ذلك] الفتاوى الكبرى 4/90.
إذا تقرر هذا فإن العقد يكون شريعة المتعاقدين إذا لم يكن فيه مخالفة لأحكام الشريعة وقواعدها، فمن المعلوم عند أهل العلم أن الإنسان ليس حراً فيما يشترطه من شروط في عقوده ومعاملاته، بل لا بد أن تكون هذه الشروط لا تتعارض مع قواعد الشريعة وأصولها، قال الإمام البخاري في صحيحه: [باب المكاتب وما لا يحل من الشروط التي تخالف كتاب الله ... وقال ابن عمر أو عمر: كل شرطٍ خالف كتاب الله فهو باطلٌ، وإن اشترط مئة شرط] ثم روى البخاري بسنده عن عائشة رضي الله عنها قالت: (أتتها بريرة تسألها في كتابها فقالت: إن شئت أعطيت أهلك ويكون الولاء لي، فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرته ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ابتاعيها فأعتقيها، فإنما الولاء لمن أعتق. ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر فقال: ما بال أقوامٍ يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله! فمن اشترط شرطاً ليس في كتاب الله فليس له وإن اشترط مئة شرط) . وفي رواية في صحيح مسلم (ما كان من شرطٍ ليس في كتاب الله عز وجل فهو باطل، وإن كان مائة شرط، كتاب الله أحق، وشرط الله أوثق ... ) ، قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [وأن المراد ما خالف كتاب الله ثم استظهر على ذلك بما نقله عن عمر أو ابن عمر، وتوجيه ذلك أن يقال المراد بكتاب الله في الحديث المرفوع حكمه وهو أعم من أن يكون نصاً أو مستنبطاً فكل ما كان ليس من ذلك فهو مخالف لما في كتاب الله] فتح الباري 6/282. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: [وهذا الحديث الشريف المستفيض الذي اتفق العلماء على تلقيه بالقبول اتفقوا على أنه عامٌ في الشروط في جميع العقود، ليس ذلك مخصوصاً عند أحد منهم بالشروط في البيع، بل من اشترط في الوقف أو العتق أو الهبة أو البيع أو النكاح أو الإجارة أو النذر، أو غير ذلك شروطاً، تخالف ما كتبه الله على عباده، بحيث تتضمن تلك الشروط الأمر بما نهى الله عنه، أو النهي عما أمر به، أو تحليل ما حرمه، أو تحريم ما حلله، فهذه الشروط باطلة باتفاق المسلمين في جميع العقود، الوقف وغيره، وقد روى أهل السنن أبو داود وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الصلح جائزٌ بين المسلمين إلا صلحاً أحلَّ حراماً أو حرَّم حلالاً والمسلمون على شروطهم إلا شرطاً أحلَّ حراماً أو حرَّم حلالاً) . وحديث عائشة هو من العام الوارد على سبب، وهذا وإن كان أكثر العلماء يقولون: إنه يؤخذ فيه بعموم اللفظ، ولا يقتصر على سببه، فلا نزاع بينهم أن أكثر العمومات الواردة على أسباب لا تختص بأسبابها، كالآيات النازلة بسبب معين، مثل آيات المواريث والجهاد والظهار واللعان والقذف والمحاربة والقضاء والفيء والربا والصدقات وغير ذلك، فعامتها نزلت على أسباب معينة مشهورة في كتب الحديث والتفسير والفقه والمغازي، مع اتفاق الأمة على أن حكمها عام في حق غير أولئك المعينين، وغير ذلك مما يماثل قضاياهم من كل وجه، وكذلك الأحاديث، وحديث عائشة مما اتفقوا على عمومه وأنه من جوامع الكلم التي أوتيها صلى الله عليه وسلم وبعث بها حيث قال: (من اشترط شرطاً ليس في كتاب الله فهو باطلٌ، وإن كان مائة شرط، كتاب الله أحق وشرط الله أوثق) ....] الفتاوى الكبرى 4/247. وقال العلامة ابن القيم: [والمقصود أن للشروط عند الشارع شأناً ليس عند كثير من الفقهاء، فإنهم يلغون شروطاً لم يلغها الشارع، ويفسدون بها العقد من غير مفسدة تقتضى فساده، وهم متناقضون فيما يقبل التعليق بالشروط من العقود، وما لا يقبله، فليس لهم ضابط مطرد منعكس يقوم عليه دليل، فالصواب الضابط الشرعي الذي دَّ عليه النص أن كل شرط خالف حكم الله وكتابه فهو باطل، وما لم يخالفه حكمه فهو لازم، يوضحه أن الالتزام بالشروط كالالتزام بالنذر، والنذر لا يبطل منه إلا ما خالف حكم الله وكتابه، بل الشروط في حقوق العباد أوسع من النذر في حق الله، والالتزام به أوفى من الالتزام بالنذر. وإنما بسطت القول في هذا لأن باب الشرط يدفع حيل أكثر المتحيلين ويجعل للرجل مخرجاً مما يخاف منه ومما يضيق عليه، فالشرط الجائز بمنزلة العقد، بل هو عقد وعهد وقد قال الله تعالى {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} وقال {والموفون بعهدهم اذا عاهدوا} . وهاهنا قضيتان كليتان من قضايا الشرع الذي بعث الله به رسوله: إحداهما أن كل شرط خالف حكم الله وناقض كتابه فهو باطلٌ كائناً ما كان. والثانية أن كلَّ شرطٍ لا يخالف حكمه ولا يناقض كتابه وهو ما يجوز تركه وفعله بدون الشرط فهو لازم بالشرط، ولا يستثنى من هاتين القضيتين شيءٌ، وقد دلَّ عليهما كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم واتفاق الصحابة] إعلام الموقعين 3/390.
وخلاصة الأمر أن عبارة (العقد شريعة المتعاقدين) ليست قاعدة فقهية، ولم يستعملها الفقهاء المتقدمون، واستعملها بعض فقهاء العصر، وهي في الأصل قاعدة قانونية، وهذه القاعدة تكون صحيحة شرعاً إذا لم يكن في العقد وشروطه وقيوده ما يخالف الأحكام الشرعية، فليس للمتعاقدين حرية مطلقة فيما يتعاقدان عليه أو يشترطانه، بل لا بد من الانضباط بأحكام الشرع وقواعده.(12/18)
19 - أزمة الرهن العقاري من منظور إسلامي
يقول السائل: هل من رؤية شرعية لأزمة الرهن العقاري التي عصفت بالاقتصاد الغربي، أفيدونا؟
الجواب: وصلتني رسالة على بريدي الإلكتروني من أحد خبراء الاقتصاد وفيها شرح مفصل لأسباب نشوء أزمة الرهن العقاري وخلاصتها: [إقدام كثير من الأمريكيين على شراء بيوت للسكن بالتقسيط عن طريق الحصول على قروض من البنوك مقابل رهن البيت ولكن بمعدلات فائدة عالية مع العلم أن أسعار الفائدة متغيرة وليست ثابتة. وهذه الأسعار تكون منخفضة في البداية ثم ترتفع مع الزمن. وترتفع أسعار الفائدة كلما رفع البنك المركزي أسعار الفائدة، وإذا تأخر المشتري عن دفع أي دفعة فإن أسعار الفائدة تتضاعف بنحو ثلاث مرات، كما أن المدفوعات الشهرية خلال السنوات الثلاث الأولى تذهب كلها لسداد الفوائد، وهذا يعني أن المدفوعات لا تذهب إلى ملكية جزء من البيت إلا بعد مرور ثلاث سنوات. وبعد أشهر رفع البنك المركزي أسعار الفائدة فارتفعت الدفعات الشهرية ثم ارتفعت مرة أخرى بعد مرور عام كما نصت عليه عقود الشراء. وإذا تأخر المشتري في السداد فهنالك فوائد على التأخير، وقد توقف كثيرون عن الدفع، وقامت البنوك ببيع القروض على شكل سندات لمستثمرين وأخذ عمولة ورسوم خدمات منهم. وهؤلاء المستثمرين رهنوا هذه السندات، على اعتبار أنها أصول، مقابل ديون جديدة للاستثمار في شراء مزيد من السندات. وبما أن قيمة السندات السوقية وعوائدها تعتمد على تقييم شركات التقييم لهذه السندات بناء على قدرة المدين على الوفاء، وبما أنه ليس كل من اشترى البيوت له القدرة نفسها على الوفاء، فإنه ليست كل السندات سواسية. فالسندات التي تم التأكد من أن قدرة الوفاء فيها ستكون فيها أكيدة ستكسب تقدير " أ " وهناك سندات أخرى ستحصل على "ب" وبعضها سيصنف على أنه لا قيمة له بسبب العجز عن الوفاء. ولتلافي هذه المشكلة قامت البنوك بتعزيز مراكز السندات عن طريق اختراع طرق جديدة للتأمين بحيث يقوم حامل السند بدفع رسوم تأمين شهرية كي تضمن له شركة التأمين سداد قيمة السند إذا أفلس البنك أو صاحب البيت، الأمر الذي شجع المستثمرين في أنحاء العالم كافة على اقتناء مزيد من هذه السندات. ولما توقف أصحاب البيوت عن سداد الأقساط فقدت السندات قيمتها، وأفلست البنوك الاستثمارية وصناديق الاستثمار المختلفة. أما الذين اشتروا تأميناً على سنداتهم فإنهم حصلوا عى قيمتها كاملة، فنتج عن ذلك إفلاس شركات التأمين.] ولا شك أن أزمة الرهن العقاري قد سببت ضرراً بليغاً للاقتصاد الرأسمالي، ونتج عنها إفلاس عدد من البنوك وشركات الرهن العقاري وشركات التأمين وكل ذلك ينعكس سلباً على مختلف النشاطات الاقتصادية - وقد نشرت الجزيرة نت لائحةً بأسماء المصارف والمؤسسات المالية وشركات التأمين المتضررة من الأزمة المالية العالمية-. ولا شك أن أهم أسباب أزمة الرهن العقاري التعامل بالربا – الفائدة – وكذلك بيع الديون [وكشفت هذه الأزمة عن فقاعتين تحكمان الاقتصاد العالمي الأولى: فقاعة الربا، والثانية: فقاعة بيع الديون، وكل منهما ترتبط بالأخرى. وارتبطت بوادر تلك الأزمة بصورة أساسية بالارتفاع المتوالي لسعر الفائدة من جانب بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي منذ العام 2004م وهو ما شكل زيادة في أعباء القروض العقارية من حيث خدمتها وسداد أقساطها، خصوصا في ظل التغاضي عن السجل الائتماني للعملاء وقدرتهم على السداد حتى بلغت تلك القروض نحو 1. 3 تريليون دولار في آذار من العام 2007م وتفاقمت تلك الأزمة مع حلول النصف الثاني من العام نفسه، وإلى الآن لا يعرف يقيناً المدى الذي يمكن أن تصل إليه تلك الأزمة. وسعى بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي إلى خفض الفائدة على الدولار أكثر من مرة لدعم الاقتصاد الأمريكي، والخروج من أزمة الرهن العقاري على الرغم من مواصلة الضغوط التضخمية التي تحد من اتجاه خفض الفائدة، من دون أثر ملموس يبشر بقرب انفراج تلك الأزمة. أما فقاعة بيع الديون فجاءت من خلال “توريق” أو “تسنيد” تلك الديون العقارية وذلك بتجميع الديون العقارية الأمريكية وتحويلها إلى سندات وتسويقها من خلال الأسواق المالية العالمية. ونتج عن عمليات التوريق زيادة في معدلات عدم الوفاء بالديون لرداءة العديد منها، مما أدى إلى انخفاض قيمة هذه السندات المدعمة بالأصول العقارية في السوق الأمريكية بأكثر من 70%] عن صحيفة الخليج الإماراتية عن شبكة الإنترنت.
ومن الأمور اللافتة للنظر في هذه الأزمة ظهور أصوات في الغرب تطالب بإعادة النظر في نظام الفائدة (الربا) ، بل إن بعض تلك الأصوات طالبت باعتماد النظام الإسلامي في المعاملات، ففي افتتاحية مجلة "تشالينجز"، كتب "بوفيس فانسون" رئيس تحريرها موضوعاً بعنوان (البابا أو القرآن) ، وقد تساءل الكاتب فيه عن أخلاقية الرأسمالية؟ ودور المسيحية كديانة والكنيسة الكاثوليكية بالذات في تكريس هذا المنزع والتساهل في تبرير الفائدة، مشيراً إلى أن هذا النسل الاقتصادي السيئ أودى بالبشرية إلى الهاوية. وتساءل الكاتب قائلاً: "أظن أننا بحاجة أكثر في هذه الأزمة إلى قراءة القرآن بدلاً من الإنجيل لفهم ما يحدث بنا وبمصارفنا لأنه لو حاول القائمون على مصارفنا احترام ما ورد في القرآن من تعاليم وأحكام وطبقوها ما حل بنا ما حل من كوارث وأزمات وما وصل بنا الحال إلى هذا الوضع المزري؛ لأن النقود لا تلد النقود". وطالب رئيس تحرير صحيفة "لوجورنال دفينانس" بضرورة تطبيق الشريعة الإسلامية في المجال المالي والاقتصادي لوضع حدٍ لهذه الأزمة التي تهز أسواق العالم من جراء التلاعب بقواعد التعامل والإفراط في المضاربات الوهمية غير المشروعة. وكتب مقالاً بعنوان: هل تأهلت وول ستريت لاعتناق مبادئ الشريعة الإسلامية؟ المخاطر التي تحدق بالرأسمالية وضرورة الإسراع بالبحث عن خيارات بديلة لإنقاذ الوضع، وقدَّم سلسلة من المقترحات المثيرة في مقدمتها تطبيق مبادئ الشريعة الإسلامية برغم تعارضها مع التقاليد الغربية ومعتقداتها الدينية. وذكر جوهان فيليب بتمان مدير البنك الألماني في فرانكفورت في كتابه "كارثة الفائدة" [أن الفوائد سبب رئيسي في تدهور النقد وظهور التضخم، ولو استمرت الفوائد في الازدياد فإن هناك كارثة لا مفر من حدوثها، ومن السهل التنبؤ بها، فهي ليست مصادفة، أو أنها ستأتي فجأة كنتيجة عفوية أو كسوء حظ، وإنما ستأتي نتيجة السياسة الاقتصادية الخاطئة التي تعتمد على نظام الفوائد، فهذه السياسة هي المسؤولة عن الكارثة.] ونادى بعض الاقتصاديين الغربيين، وعلى رأسهم الاقتصادي الكبير «كينز» بإلغاء نظام الفائدة الربوية ويرون أن الفائدة تعوق النمو الاقتصادي، وتعطل حركة الأموال، وأن التنمية لا تتحقق إلا إذا كان سعر الفائدة صفراً أو ما يقرب منه. وفي كتاب صدر مؤخراً للباحثة الإيطالية لووريتا نابليوني بعنوان "اقتصاد ابن آوى" أشارت فيه إلى أهمية التمويل الإسلامي ودوره في إنقاذ الاقتصاد الغربي. واعتبرت "التوازن في الأسواق المالية يمكن التوصل إليه بفضل التمويل الإسلامي بعد تحطيم التصنيف الغربي ... ورأت نابليوني أن التمويل الإسلامي هو القطاع الأكثر ديناميكية في عالم المال الكوني". عن شبكة الإنترنت. إذا تقرر أن السببين الأساسين في نشوء أزمة الرهن العقاري هما نظام الفائدة (الربا) وبيع الديون، فإن الشريعة الإسلامية قد حرمتهما، فمن المعلوم أن الربا من أكبر الكبائر وتحريمه قطعي في كتاب الله سبحانه وتعالى وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم فمن ذلك قوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} سورة البقرة الآيات 275 - 279. وثبت في الحديث عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه وقال: هم سواء) رواه مسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات) رواه البخاري ومسلم. وقد اتفق الفقهاء على أن بيع الدين بالدين ممن هو ليس عليه محرم، انظر كشاف القناع 3/265، وهذا ما حصل في أزمة الرهن العقاري حيث بيعت الديون مع ربطها بأسعار الفائدة. وأخيراً لا بد من الإشارة إلى أن المصارف الإسلامية لم تلحقها خسائر من أزمة الرهن العقاري التي تشهدها الأسواق المالية العالمية، وهو ما فشلت فيه عدد من أكبر البنوك العالمية، بحسب مسئولين وخبراء اقتصاد. وتوقع الخبراء أن تصب أزمة الرهن العقاري في مصلحة البنوك والمصارف الإسلامية من خلال جذب عدد أكبر من العملاء الذين سيبحثون عن البديل في ضوء تلك الأزمة، مشيرين إلى أن ذلك سيزيد من حجم التمويل الإسلامي على مستوى العالم. عن إسلام أون لاين.
وخلاصة الأمر أن من أهم عوامل نشوء أزمة الرهن العقاري هو التعامل بالربا وبيع الديون، وإن هذه الأزمة لتؤكد لنا أنه لا خلاص للبشرية إلا بإتباع دين الله عز وجل، وأنه المنهج الوحيد القادر على تقديم الحلول الناجعة لمشكلات البشرية جمعاء(12/19)
20 - إبطال حكم المحكمين
يقول السائل: كنت شريكاً مع أحد الأشخاص في شركة تجارية ثم حصل نزاع بيننا على مبلغ كبير من المال، فاتفقنا على اللجوء إلى التحكيم، فاختار كل واحدٍ منا محكماً، وقدمنا حججنا مكتوبة للمحكمين، ولكن المحكمين لم يستمعا لنا، ولم يقبل المحكان أن أطلع على حجة خصمي، ولم يقبلا أن أطلع على كشف الحساب الذي قدمه خصمي، ثم أصدرا الحكم وألزماني بتنفيذه، مع أن الحكم جائر في حقي، فهل يجوز نقض حكم المحكمين، أفيدونا؟
الجواب: التحكيم بين الناس في الخصومات مشروع بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وثابت عن الصحابة والتابعين. فمن كتاب الله قوله تعالى: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقْ اللَّهُ بَيْنَهُمَا) سورة النساء الآية 35، وهذه الآية نص صريح في إثبات التحكيم كما قال الإمام القرطبي في تفسيرها، تفسير القرطبي 5/179. ومن السنة النبوية ما رواه البخاري في صحيحه في قصة تحكيم سعد بن معاذ رضي الله عنه في يهود بني قريظة، وقد رضي الرسول صلى الله عليه وسلم بسعدٍ رضي الله عنه حكماً. وقد وقعت حوادث كثيرة في زمن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يحكّمون فيها بين المتخاصمين. إذا تقرر هذا فإن جمهور أهل العلم من الحنفية والمالكية والشافعية في القول المعتمد عندهم والحنابلة وهو قول الظاهرية، ونقل عن جماعة من السلف يرون أن حكم المحكّم أو المحكّمين لازم للمتخاصمين، ولا يصح شرعاً رفض حكم المحكّم أو المحكّمين من قبل أحد المتخاصمي، ويدل على هذا أن المتخاصمين ما داما قد قبلا بالتحكيم ورضيا بالمحكّم أو المحكّمين فلا بد لهما من قبول الحكم الذي يصدر عن المحكّم أو المحكمين. ولولا أن حكم المحكّم لازم للمتخاصمين لما كان للترافع إليه أي معنىً، قياساً على الحاكم المولّى من ولي الأمر. انظر عقد التحكيم في الفقه الإسلامي والقانون الوضعي ص 147- 149، الموسوعة الفقهية الكويتية 10/244. وهذا ما قررته مجلة الأحكام العدلية فقد جاء في المادة 1448 ما يلي: [كما أن حكم القضاة لازم الإجراء في حق جميع الأهالي الذين في داخل قضائهم كذلك حكم المحكّمين لازم الإجراء، على الوجه المذكور في حق من حكّمهم وفي الخصوص الذي حكموا به، فلذلك ليس لأي واحدٍ من الطرفين الإمتناع عن قبول حكم المحكّمين بعد حكم المحكّمين حكماً موافقاً لأصوله المشروعة] . وكلام العلماء هذا وارد في المحكم صاحب الأهلية والكفاءة للحكم والنظر، وهو من كان أهلاً لتولي القضاء، وعلى ذلك اتفاق المذاهب الأربعة، انظر الموسوعة الفقهية الكويتية 10/237. وكذلك فإن حكم المحكم يكون لازماً ومقبولاً إذا كان موافقاً للأصول الشرعية، كما ورد في مجلة الأحكام العدلية: [ ... فلذلك ليس لأي واحدٍ من الطرفين الإمتناع عن قبول حكم المحكّمين بعد حكم المحكّمين حكماً موافقاً لأصوله المشروعة] ، ومما يؤسف له أنه قد دخل في التحكيم الشرعي من ليس أهلاً له من بعض المتسلقين الجهلة الذين لا يعرفون ألف باء التحكيم الشرعي، وخاصة في القضايا المالية، وكذلك فإن هؤلاء اتخذوا التحكيم الشرعي مصدراً للتكسب فتراهم يفرضون على المتحاكمين مبالغ مالية كبيرة، وبعضهم يتقاضى نسبة مئوية من المبلغ محل الخصومة والنزاع، فكانت أجورهم بالآلاف. وقد صدرت عن هؤلاء أحكام كأحكام قراقوش، فيها من الجور والظلم ما الله به عليم.
وبناءً على ما سبق فإن الفقهاء قد نصوا على أنه يمكن نقض حكم المحكم أو حكم المحكمين إذا كان مخالفاً للشرع كأن يصدر الحكم عن محكم جاهل، بل قال جماعة من الفقهاء تنقض كل أحكامه حتى لو أصاب في بعضها وإلى هذا ذهب الشافعية وهو المذهب عند الحنابلة وقول للمالكية إلى أن أحكامه – أي المحكم الجاهل - كلها تنقض وإن أصاب فيها، لأنها صدرت ممن لا ينفذ حكمه، وذهب بعض المالكية وبعض الحنابلة إلى أنه تنقض أحكامه المخالفة للصواب كلها، سواء أكانت مما يسوغ فيه الاجتهاد أم لا يسوغ، لأن حكمه غير صحيح وقضاؤه كعدمه، لأن شرط القضاء غير متوفر فيه، ولكن القول المعتبر هو ما اختاره صاحب الإنصاف الشيخ المرداوي الحنبلي ومعه جماعة من فقهاء الحنابلة بأنه لا ينقض من أحكامه إلا ما خالف كتاباً أو سنةً أو إجماعاً، وأن هذا عليه عمل الناس من زمن ولا يسع الناس غيره. انظر الإنصاف للمرداوي 11/225- 226، الموسوعة الفقهية الكويتية 41/162- 163.
وقرر جمهور الفقهاء أن الحكم إذا كان جائراً فإنه ينقض، بل إن فقهاء الحنفية قد نصوا على أنه إن كان القاضي تعمد الجور فيما قضى وأقر به فالضمان في ماله، سواء كان ذلك في حق الله أو في حق العبد، ويعزر القاضي على ذلك لارتكابه الجريمة العظيمة، ويعزل عن القضاء ونص أبو يوسف على أنه إذا غلب جوره ورشوته ردت قضاياه وشهادته. حاشية ابن عابدين 5/418.
وكذلك فإن عدم إتباع الإجراءات القضائية بشكل صحيح يعتبر سبباً في نقض حكم المحكم أو حكم المحكمين، فإذا لم يستمع المحكم أو المحكمون لأحد الخصوم أو لم يمكنوه من الاطلاع على حجة خصمه أو لم يمكنوه من الرد عليها والدفاع عن نفسه، أو قصر المحكم في الكشف عن الشهود وبيان حالهم حتى لا يكونوا شهود زورٍ، فإن هذه تعتبر أسباباً كافية لنقض الحكم الصادر عن المحكم أو المحكمين، قال صاحب درر الحكام شرح مجلة الأحكام عند شرحه المادة (1849) : (إذا عرض حكم المحكم على القاضي المنصوب من قبل السلطان فإذا كان موافقاً للأصول صدَّقه وإلا نقضه) إذا عرض حكم المحكم على القاضي المنصوب من قبل السلطان أو على محكمٍ ثانٍ ليدقق الحكم مرةً ثانيةً فإذا كان موافقاً للأصول صدَّقه لأنه لا فائدة من نقض الحكم الموافق للأصول والحكم ثانية بذلك. وفائدة تصديق حكم المحكم من قبل القاضي هو: أنه لو عرض هذا الحكم على قاضٍ آخر يخالف رأيه واجتهاده رأي المحكم فليس له نقضه، لأن إمضاء وقبول القاضي لحكم المحكم هو بمنزلة الحكم ابتداءً من القاضي؛ أما إذا لم يصدق القاضي على حكم المحكم فيكون من الممكن للقاضي الآخر أن ينقض حكم المحكم – نقلاً عن الزيلعي في تبيين الحقائق - فإذا حكم المحكم حكماً غير موافق للأصول ينقضه القاضي والمحكم الثاني. وعدم موافقة حكم المحكم للأصول يكون على وجهين: الوجه الأول: أن يكون حكم المحكم خطأً لا يوافق أي مذهب من المذاهب؛ وبتعبير آخر أن يكون حكم المحكم غير موافق لمذهب المجتهد الذي يقلده القاضي ولا يوافق رأي أي مجتهد من المجتهدين والعلماء. وبما أن الحكم الذي يكون على هذه الصورة ظلمٌ واجبٌ رفعه فيرفع هذا الحكم وينقض، ويحكم القاضي في القضية على وجه الحق ... ] درر الحكام شرح مجلة الأحكام 4/702. وكذلك فإن من أسباب نقض حكم المحكم أو المحكمين التهمة، فإنها تؤثر في حكم القاضي وتعرضه للنقض، فإذا كان المحكم قريباً لأحد الخصوم فهذه تهمة تعرض حكمه للنقض، جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية: [اختلف الفقهاء فيما إذا حكم القاضي لنفسه أو لأحد أبويه أو ولده أو زوجته أو من لا تقبل شهادته له، ولهم في ذلك رأيان: الرأي الأول يرى الحنفية والحنابلة والمختار عند المالكية والشافعية على الصحيح نقض الحكم لكونه باطلاً لمكان التهمة، بخلاف ما إذا حكم عليهم فينفذ حكمه لانتفاء التهمة. وزاد الحنفية والشافعية أنه لا ينفذ حكمه لنفسه أو شريكه في المشترك.
الرأي الثاني يرى المالكية في مقابل المختار والشافعية في مقابل الصحيح أنه ينفذ حكمه لهم بالبينة، لأن القاضي أسير البينة، فلا تظهر منه تهمة. وأضاف المالكية أنه إن كان مبنى الحكم هو اعتراف المدعى عليه يجوز الحكم عليه لابنه أو غيره ممن ذكر، أما إذا كان الحكم يحتاج إلى بينة فلا يجوز الحكم لهم لأنه يتهم بالتساهل فيها. وينقض الحكم إذا أثبت المحكوم عليه ما ادَّعاه من وجود عداوة بينه وبين القاضي، أو بينه وبين ابنه أو أحد والديه، وهو ما ذهب إليه الحنفية والمالكية والحنابلة والمشهور في المذهب عند الشافعية. وجوز الماوردي الحكم في هذه المسألة بقوله: إن أسباب الحكم ظاهرة بخلاف شهادته على عدوه.] الموسوعة القهية الكويتية 41/164-167. وأخيراً أنبه من يلجأ للتحكيم أن يختار محكمين من أهل الخبرة والمعرفة، فليس كل شيخٍ أو إمام مسجد أو حامل شهادة في الشريعة أو القانون، يكون أهلاً للتحكيم، وكذلك فإني أنصح بالبعد عن المتكسبين من التحكيم لأن الغالب على هؤلاء الجشع والطمع وقد تشترى أحكامهم بالمال.
وخلاصة الأمر أن التحكيم مشروع في الخصومات وأن الأصل الذي قرره فقهاؤنا هو أن الحكم الذي يصدره المحكم لازم للخصوم وواجب التنفيذ، مادام المحكم أهلاً للتحكيم، وما دام الحكم غير مخالف لأحكام الشريعة الإسلامية، وصدر الحكم بعد استكمال جميع الإجراءات اللازمة لإصداره من استماع حجج الخصوم وطعونهم فيها ونحو ذلك.(12/20)
21 - حكم نشر صور الممثلين على المنتجات التجارية
يقول السائل: انتشرت ظاهرة نشر وترويج صور ممثلي بعض المسلسلات التركية التي تبثها القنوات الفضائية على بعض المنتجات الخاصة بالأطفال (كالشيبس) والدفاتر المدرسية وبعض الملابس وغيرها، فما الحكم الشرعي في ذلك، أفيدونا؟
الجواب: لا شك أن كثيراً من القنوات الفضائية أصبحت معولاً من معاول محاربة الدين والأخلاق والفضيلة، بل هي منابر لنشر الفساد والرذيلة، ومع الأسف الشديد فإن القنوات الفضائية قد دخلت بيوتنا، وأصبحت مربيةً لأبنائنا وبناتنا، ومرشدةً لزوجاتنا، وموجهةً لشبابنا ورجالنا، إلا من رحم ربي وحماه من هذه الطوفان الهادر، والفيضان الرهيب. ومن ضمن سموم القنوات الفضائية، هذه المسلسلات الفاسدة المفسدة، الطافحة بالانحرافات الفكرية والمسلكية، التي تتعارض مع ديننا ومع أخلاقنا ومع عادتنا وتقاليدنا الأصيلة، هذه المسلسلات التي تنشر الفواحش والمنكرات، وتجعل الزنا أمراً عادياً، وتجعل العلاقات الجنسية خارج نطاق الزواج وما يترتب عليها من حملٍ، أموراً طبيعية، يجب على الأسرة أن تتقبلها وتقر بها، هذه المسلسلات التافهة التي تروج [للممارسات غير الأخلاقية التي اجتاحت بعض المجتمعات كهروب الفتيات والزواج السري وغيرها ... إن الدراما العربية ووسائل الإعلام ساهمت في تلك الانحرافات وأن نموذج الراقصة أو الفنانة التي تهرب من بيت الأسرة تحت دعاوى الضغوط الأسرية وإظهارها بعد ذلك بمظهر القدوة والبطولة قد أثر في وجدان العديد من الفتيات وصرن يمارسنه في الواقع كما أن الترويج لمفهوم معين للحب يقوم على التلاقي بين الفتى والفتاة بعيداً عن الأسرة والأطر الشرعية عبر الإلحاح الإعلامي بكل وسائله أثر بشكلٍ كبيرٍ على المجتمع وعلى طبيعة العلاقات التي تحكم الرجل بالمرأة فالعديد من الأفلام تصور الراقصة بطلة ولديها أخلاقيات ومثل عليا!!! ... وفي بعض الأفلام تعيش المرأة المتزوجة مع حبيبها وتقدم هذه المرأة على أنها تستحق التعاطف معها!!] من دراسة ميدانية للدكتور أحمد المجذوب الخبير الاجتماعي، عن الإنترنت. كما أن هذه المسلسلات التافهة تبرز المرأة كرمز للجنس المكشوف أو الموارب. ويضاف إلى ذلك أن هذه المسلسلات قد أسهمت في تفكيك الحياة الأسرية بزيادة المشكلات في البيوت، وزيادة عدد حالات الطلاق، يقول أحد قضاة المحاكم الشرعية في السعودية: [الفضائيات تتسبب في ارتفاع حالات الطلاق، فالفضائيات تدعو إلى تمرد المرأة على زوجها، فهي تظهر لها أن الزوج متسلط وظالم، سلب منها حقوقها وحياتها. كما أن من أسباب الطلاق مقارنة الزوج لزوجته بنساء الفضائيات، اللائي جملّتهن كاميرات التصوير حتى القبيحات منهن أصبحن جميلات بفعل أنواع الماكياج.] مجلة الأسرة العدد 105، إن هذه القنوات الفضائية ينطبق عليها قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَءَامَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} سورة النور الآية 19. فما تعرضه هذه القنوات من هذه المسلسلات، تحرم مشاهدته ومتابعته، ويجب شرعاً مقاطعة كل ذلك لما فيه من المنكرات والمفاسد ولما يترتب عليه من انحرافات، ولما فيه من نشرٍ للمشاهد الفاضحة التي تؤدي إلى إثارة الغرائز وإسهامٍ في تسميم أفكار الجيل الناشئ، وتسويقٍ للقيم والسلوكيات الغربية المنافية للقيم الإسلامية، مثل مشاهد تعاطي المخدرات والمسكرات والجريمة والجنس، ويضاف إلى ذلك ما تقدمه القنوات الفضائية من برامج تؤدي إلى إشغال المرأة بعالم الموضة والأزياء وعالم الطبخ المبالغ فيه، وغير ذلك من المفاسد والمنكرات، والأمور التافهة، التي تعتبر من باب، العلم بها لا ينفع والجهل بها لا يضر. وهذا غيض من فيض مفاسد القنوات الفضائية بشكل عام، وأما المسلسلات التركية المدبلجة باللغة العامية الشامية، التي أشار لها السائل، فقد سلبت عقول كثيرٍ من الناس- نساءً ورجالاً - في عالمنا العربي التائه الضائع، وفتنت كثيراً من الناس مما جعل بعض ضعاف النفوس من التجار يستغلون هذه الحالة للترويج لسلعهم وذلك بنشر صور ممثلي هذه المسلسلات على بضائعهم، فأصبحت الأسواق ممتلئة بالبضائع التي تحمل صور هؤلاء الذين يسمونهم أبطالاً ونجوماً!! هؤلاء الذين يمارسون بطولاتهم المزعومة في الخنا وفي الفحشاء والمنكر، فتجد في الأسواق صوراً لهؤلاء الممثلين على كثيرٍ من المنتجات التي يستهلكها الأطفال (كالشيبس) واللعب وأنواع مختلفة من القرطاسية، خاصة أننا على أبواب العام الدراسي الجديد، وكذلك تجد صورهم على الملابس، وجعلت صورهم خلفيات للجوالات والكمبيوترات وغير ذلك. إذا تقرر هذا فإن من الضوابط الشرعية التي تحكم العمل في التجارة تحريم الاتجار والعمل بالمحرمات سواء كان ذلك بانتهاك محرم أو ترك واجب. يقول الله تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ?سورة المنافقون الآية 9. ومن الأمور المحرمة في التجارة الترويج للمحرمات والمنكرات كالمسلسلات المذكورة وغيرها، فنشر صور الممثلين على البضائع محرم شرعاً، لأن من المعلوم عند أهل العلم أن للوسائل أحكام المقاصد، قال الإمام العز بن عبد السلام: للوسائل أحكام المقاصد فالوسيلة إلى أفضل المقاصد هي أفضل الوسائل والوسيلة إلى أرذل المقاصد هي أرذل الوسائل) قواعد الأحكام 1/46. فوسيلة المحرم محرمة أي إن ما أدى إلى الحرام فهو حرام. فالصور التي تشتمل على نشر الفحشاء والمنكر محرمة والترويج للرذائل والفساد والإفساد، لا يجوز استعمالها في ترويج البضائع بمختلف أشكالها، ومما يدل على تحريم هذا العمل قوله تعالى: ?وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ?سورة المائدة الآية 2. قال الشيخ ابن قدامة المقدسي رحمه الله: [وهذا النهي يقتضي التحريم] المغني 4/167. فلا شك أن نشر صور هؤلاء الساقطين والساقطات، فيه نشر للفساد والرذيلة وفيه إثارة للشهوات وكل ذلك داخل في باب التعاون على الإثم والعدوان. كما إنه يدخل في إشاعة الفاحشة بين الناس وهذا من كبائر الذنوب، قال الله تعالى: ?إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَءَامَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ? سورة النور الآية 19. كما أن نشر صور هؤلاء يغرس معاني الفساد والرذيلة في نفوس أبنائنا، وخاصة أن بعض المنتجات التي عليها صور الممثلين كالدفاتر المدرسية، تستمر بأيدي طلابنا فترات طويلة، مما يؤثر سلبياً على ثقافة أبنائنا وسلوكهم. ولا بد للتجار الذين ينشرون هذا الفساد من خلال نشر صور الممثلين على منتجاتهم أن يعلموا أنهم يدخلون بعملهم هذا ضمن دائرة الكسب الحرام، والكسب الحرام نوع من أكل السحت، قال الله تعالى: ?وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ?سورة المائدة الآية 42. وقال الله تعالى: ?وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ? سورة المائدة الآية 62. وقوله تعالى: ?لوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ? سورة المائدة الآية 63. قال أهل التفسير في قوله تعالى: ?أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ?أي الحرام، وسمي المال الحرام سحتاً، لأنه يسحت الطاعات أي يذهبها ويستأصلها. انظر تفسير القرطبي 6/183. وقال جماعة من أهل التفسير: ويدخل في السح كل ما لا يحل كسبه] فتح المالك 8/223. ومن السحت الربا والغصب والقمار والسرقة ومهر البغي وثمن الخمر والخنزير والميتة والأصنام والتماثيل والصور الإباحية والأفلام الجنسية ونشر صور الممثلين والممثلات وغير ذلك، وقد جاء في الحديث عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة لحم نبت من سحت وكل لحم نبت من سحت كانت النار أولى به) رواه أحمد والدارمي والبيهقي في شعب الإيمان. وفي رواية أخرى: (كل جسدٍ نبت من سحتٍ فالنار أولى به) رواه أحمد والطبراني والحاكم وغيرهم وقال العلامة الألباني صحيح. انظر صحيح الجامع الصغير 2/831. وعن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ... يا كعب بن عجرة إنه لا يربو لحم نبت من سحت إلا كانت النار أولى به) رواه أحمد والنسائي والترمذي وحسنه وصححه العلامة الألباني. صحيح سنن الترمذي 1/189. وعن أبي بكر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يدخل الجنة جسد غُذِيَ بحرام) رواه أبو يعلى والبزار والطبراني في الأوسط ورجال أبي يعلى ثقات وفي بعضهم اختلاف قاله الهيثمي. مجمع الزوائد 10/293. وصححه العلامة الألباني في صحيح الترغيب والترهيب 2/320. وغير ذلك من النصوص. فيا أخي التاجر ابتعد عن الكسب الحرام واحرص على الكسب الحلال واعلم أن من الواجبات على المسلم أن لا يأكل إلا الحلال بل إن الله قدم الأكل من الطيبات على العمل الصالح فقال: ?يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ?. وفي هذا الزمان تحقق ما أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق حيث أخبر أن من الناس من لا يفرق في كسبه بين حلال وحرام فلا يهمه من أين اكتسب المال وكل ما يهمه أن يكون المال بين يديه ينفقه كيفما شاء. فقد ورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء ما أخذ منه أمن الحلال أم من الحرام) رواه البخاري. وقد ينسى بعض الناس أنه سيحاسب على ماله وأنه سيسأل عن هذا المال من أين اكتسبه وفيما أنفقه؟ فقد ورد في الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيم أفناه؟ وعن علمه فيم فعل فيه؟ وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه؟ وعن جسمه فيم أبلاه) رواه الترمذي وقال حسن صحيح، وصححه العلامة الألباني. وقد وردت نصوص كثيرة من كتاب الله عز وجل ومن سنة النبي صلى الله عليه وسلم في الحث على الأكل من الطيبات منها: قول الله تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ? سورة البقرة آية 172. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: ?يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ?. وقال: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ? ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يده إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب له) رواه مسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة فقال: (تقوى الله وحسن الخلق، وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار فقال الفم والفرج) رواه الترمذي وقال حديث صحيح غريب وحسنه العلامة الألباني في صحيح الترغيب والترهيب 2/318. وجاء في الحديث عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (استحيوا من الله حق الحياء. قلنا: يا نبي الله إنا لنستحي والحمد الله. قال: ليس ذاك ولكن الاستحياء من الله حق الحياء هو أن تحفظ الرأس وما وعى وتحفظ البطن وما حوى وتتذكر الموت والبلى ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا فمن فعل ذلك فقد استحيا - يعني من الله - حق الحياء) رواه الترمذي وحسّنه العلامة الألباني. صحيح سنن الترمذي 2/299.
وخلاصة الأمر أنه يحرم مشاهدة المسلسلات الفاسدة والمفسدة، كما يحرم نشر صور الممثلين والممثلات على المنتجات، وأن ذلك يدخل في إشاعة المنكرات والفواحش بين الناس، وأن التاجر الذي يستعمل هذه الوسائل المحرمة لترويج تجارته فإنه يُدخل في كسبه الحرام، كما يحرم بيع المنتجات التي تشتمل على صور الممثلين والممثلات(12/21)
22 - رجوع الوالد فيما وهبه لولده
يقول السائل: أعطاني والدي قطعة أرض فبنيت عليها بيتاً، وبنيت حوله سوراً، ووصلته بشبكة الكهرباء والماء والهاتف، وكلفني ذلك مبلغاً كبيراً من المال، وسكنته مع عائلتي، والآن وبعد مضي سنوات وبضغوط من إخوتي يطالبني والدي باسترجاع قطعة الأرض، حيث إن والدي لم يعطهم مثلما أعطاني، فهل يجوز لوالدي أن يسترجع قطعة الأرض مني، أفيدونا؟ الجواب: صح في الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم) رواه البخاري. وقد اعتبر الرسول صلى الله عليه وسلم إعطاء بعض الأولاد شيئاً دون الآخرين من الجور، فقد ورد في الحديث عن جابر رضي الله عنه قال: قالت امرأة بشير: إنحل – أي أعط – ابني غلاماً وأشهد لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتى رسول الله فقال: إن ابنة فلان سألتني أن أنحل ابنها غلامي، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (له إخوة؟ قال: نعم. قال: فكلهم أعطيت مثل ما أعطيته. قال: لا. فقال له عليه الصلاة والسلام: فليس يصلح هذا وإني لا أشهد إلا على حق) رواه مسلم. وفي روايةٍ أخرى قال صلى الله عليه وسلم: (لا تشهدني على جور إن لبنيك عليك من الحق أن تعدل بينهم) رواه أبو داود. وفي روايةٍ أخرى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبشير والد النعمان: (لا تشهدني على جورٍ، أليس يسرك أن يكونوا لك في البر سواء؟ قال: نعم. قال: أشهد على هذا غيري) رواه أبو داود بسندٍ صحيح. ومما يدل على أنه يجب على الأب أن يسوي بين أولاده في الهبات والعطايا قوله صلى الله عليه وسلم: (اعدلوا بين أبنائكم، اعدلوا بين أبنائكم، اعدلوا بين أبنائكم) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وهو حديثٌ صحيح. وقوله صلى الله عليه وسلم: (سووا بين أولادكم في العطية لو كنت مفضلاً أحداً لفضلت النساء) رواه سعيد بن منصور والبيهقي، وقال الحافظ ابن حجر إسناده حسن. وقوله صلى الله عليه وسلم: (اعدلوا بين أولادكم في النِِحَل كما تحبون أن يعدلوا بينكم في البر) رواه مسلم. وبناءً على هذه النصوص قرر العلماء أن الأصل في هبة الوالد لأولاده العدل ولا ينبغي له أن يفاضل بينهم إلا لموجب شرعي. والوالدة كالوالد في المنع من المفاضلة، قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [والأم في المنع من المفاضلة بين الأولاد كالأب لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم) ، ولأنها أحد الوالدين، فمنعت التفضيل كالأب، ولأن ما يحصل بتخصيص الأب بعض ولده من الحسد والعداوة يوجد مثله في تخصيص الأم بعض ولدها ,، فثبت لها مثل حكمه في ذلك.] المغني 6/54-55.
وقرر جمهور أهل العلم أنه لا يجوز للواهب أن يرجع في هبته إلا الوالد فيما يهبه لولده، لورود الأدلة المخصصة للوالد من هذا الحكم، وهو حرمة الرجوع في الهبة كما سأذكر لاحقاً، ويدل على حرمة رجوع الواهب في هبته أحاديث منها: عن قتادة قال: سمعت سعيد بن المسيب يحدث عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (العائد في هبته كالعائد في قيئه) رواه البخاري ومسلم. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس لنا مثل السوء، الذي يعود في هبته كالكلب يرجع في قيئه) رواه البخاري. وعن ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مثل الذي يرجع في صدقته كمثل الكلب، يقيء ثم يعود في قيئه فيأكله) رواه مسلم. فهذه الأحاديث وغيرها تدل على تحريم الرجوع في الهبة، قال الإمام البخاري في صحيحه: [باب لا يحل لأحد أن يرجع في هبته وصدقته] ثم ذكر حديثي ابن عباس، الأول والثاني، انظر فتح الباري 6/162 - 163. وقال الإمام النووي: [باب تحريم الرجوع في الصدقة والهبة بعد القبض إلا ما وهبه لولده، وإن سفل] شرح صحيح مسلم 4/236. وينبغي للواهب أن يعلم أن العائد في هبته قد شبهه الرسول صلى الله عليه وسلم بالكلب الذي يقيء، ثم يعود فيأكل منه، وهذا مثل سوءٍ، فلا ينبغي للمسلم أن يتمثل بالكلب، وقد جاء في الحديث أنه ينبغي تعريف الواهب الذي يريد الرجوع في هبته بهذا المثل حتى يرتدع فلا يعود في هبته، فقد روى أبو داود بسنده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (مثل الذي يسترد ما وهب كمثل الكلب، يقيء فيأكل قيئه، فإذا استرد الواهب فليتوقف فليعرف بما استرد ثم ليدفع إليه ما وهب) رواه ابن ماجة، وقال العلامة الألباني: حسن صحيح، انظر صحيح سنن أبي داود 2/676. وأما استثناء الوالد من الحكم السابق، فيجوز للوالد الرجوع فيما وهبه لولده، كما هو مذهب جمهور الفقهاء، فلما صح في الحديث عن طاووس، عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل للرجل أن يعطي عطية أو يهب هبةً فيرجع فيها، إلا الوالد فيما يعطي ولده، ومثل الذي يعطي العطية ثم يرجع فيها كمثل الكلب، يأكل فإذا شبع قاء، ثم عاد في قيئه) رواه أصحاب السنن وأحمد، وقال الترمذي حسن صحيح، ورواه ابن حبان والحاكم وصححاه، وصححه العلامة الألباني أيضاً. ويؤيد ذلك أيضاً ما ورد في إحدى روايات حديث النعمان بن بشير أنه قال: إن أباه أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (إني نحلت ابني هذا غلاماً كان لي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أكلَّ ولدك نحلته مثل هذا، فقال: لا، فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأرجعه) رواه البخاري ومسلم. وفي رواية عند مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبشير: (فاردده) . قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [وحجة الجمهور في استثناء الأب أن الولد وماله لأبيه فليس في الحقيقة رجوعاً وعلى تقدير كونه رجوعاً فربما اقتضته مصلحة التأديب ونحو ذلك] فتح الباري 6/143. وقد ألحق أكثر الفقهاء الأم بالأب في جواز الرجوع في الهبة. قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [فصل: وظاهر كلام الخرقي أن الأم كالأب في الرجوع في الهبة لأن قوله وإذا فاضل بين أولاده يتناول كل والد ثم قال في سياقه: أمر برده فيدخل فيه الأم وهذا مذهب الشافعي لأنها داخلة في قوله (إلا الوالد فيما يعطي ولده) ، ولأنها لما دخلت في قول النبي صلى الله عليه وسلم (سووا بين أولادكم) ينبغي أن يتمكن من التسوية والرجوع في الهبة، طريق في التسوية وربما تعين طريقاً فيها إذا لم يمكن إعطاء الآخر مثل عطية الأول، ولأنها لما دخلت في المعنى في حديث بشير بن سعد، فينبغي أن تدخل في جميع مدلوله لقوله (فاردده) ، وقوله (فأرجعه) ، ولأنها لما ساوت الأب في تحريم تفضيل بعض ولدها ينبغي أن تساويه في التمكن من الرجوع فيما فضله به تخليصاً لها من الإثم وإزالة للتفضيل المحرم كالأب، والمنصوص عن أحمد أنه ليس لها الرجوع، قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله الرجوع للمرأة فيما أعطته ولدها كالرجل؟ قال ليس هي عندي في هذا كالرجل لأن للأب أن يأخذ من مال ولده والأم لا تأخذ وذكر حديث عائشة: (أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه) أي كأنه الرجل، قال أصحابنا: والحديث حجة لنا، فإنه خص الوالد وهو بإطلاقه إنما يتناول الأب دون الأم، والفرق بينهما أن للأب ولاية على ولده ويحوز جميع المال في الميراث والأم بخلافه، وقال مالك للأم الرجوع في هبة ولدها ما كان أبوه حياً فإن كان ميتاً فلا رجوع لها، لأنها هبة ليتيم، وهبة اليتيم لازمة كصدقة التطوع، ومن مذهبه أنه لا يرجع في صدقة التطوع] المغني 6/55-56. إذا تقرر هذا فإن جمهور الفقهاء الذين أجازوا للوالد أن يرجع فيما وهبه لولده اشترطوا شروطاً حتى يصح رجوعه فيما وهبه لولده، الأول: أن تكون الهبة باقية في ملك الابن فإن خرجت عن ملكه ببيع أو هبة أو وقف أو إرث ونحوه من كل ما يخرج الشيء الموهوب عن ملك الموهوب له, فمثل هذا الخروج يمنع الوالد من الرجوع في الهبة.
الثاني: عدم تعلق حق الغير بالموهوب كأن يداين الناس الموهوب له نظراً لملاءة ذمته لما وهب له, وذلك إعمالاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار) ، رواه أحمد وابن ماجة والدارقطني وغيرهم وهو حديث صحيح.
الثالث: عدم هلاك الموهوب أو استهلاكه لأنه لا سبيل إلى الرجوع في الهالك ولا سبيل إلى الرجوع في قيمته, لأنها ليست بموهوبة لعدم ورود العقد عليها, وقبض الهبة غير مضمون. الرابع: أن لا تزيد زيادة متصلة كأن يكون الموهوب أرضاً فيبني عليها. انظر المغني 6/56-58.
وخلاصة الأمر أن المطلوب من الوالد والوالدة أن يعدلا في الهبة لأولادهما، وأنه يجوز للوالد وكذا للوالدة الرجوع فيما وهبا لولدهما، ولكن بشروط ومنها أن لا يحدث الولد في الموهوب زيادة متصلة كما في السؤال، فلا يجوز للوالد أن يرجع فيما وهبه لولده ما دام أن الولد قد أحدث تغييراً في الأرض بالبناء عليها حيث بنى الولد عليها بيتاً، وبنى حوله سوراً، ووصله بشبكة الكهرباء والماء والهاتف، وكلفه ذلك مبلغاً كبيراً من المال.(12/22)
23 - لا يجري الربا في بيع القمح والملح والتمر بالدين
يقول السائل: إنه صاحب متجر للمواد الغذائية وقد اعتاد على بيع القمح والملح والتمر بالدين لزبائنه، ولكنه سمع بعض الناس يحرم ذلك ويعتبره من الربا، فما قولكم في ذلك، أفيدونا؟ الجواب: ورد في الحديث عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلاً بمثل سواءً بسواء يداً بيد فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد) رواه مسلم. هذا الحديث أصل في بيان الأصناف التي يجري فيها الربا، وقد اتفق جماهير أهل العلم على أن الربا يتعدى هذه الأصناف إلى غيرها إن اتحدت معها في العلة، ولكنهم اختلفوا في علة تحريم الربا في الأصناف المذكورة في الحديث، ومع ذلك فهم متفقون على أن الأصناف الستة المذكورة في الحديث تنقسم إلى مجموعتين: المجموعة الأولى: الذهب والفضة، والمجموعة الثانية: البر والشعير والتمر والملح، والفقهاء متفقون على أن علة التحريم في المجموعة الأولى واحدة، وعلة التحريم في المجموعة الثانية واحدة، أي أن علة التحريم في الذهب والفضة هي غير علة التحريم في البر والشعير والتمر والملح، قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [واتفق المعللون على أن علة الذهب والفضة واحدة , وعلة الأعيان الأربعة واحدة ثم اختلفوا في علة كل واحدٍ منهما] المغني 4/5. وقال الشيخ تقي الدين السبكي: [الأمة أجمعت على أن السنة المذكورة في الحديث جملتان متفاضلتان، النقدان والأشياء الأربعة، تنفرد كل جملة بعلتها] تكملة المجموع 10/91. وجاء في الموسوعة الفقهية الكويتية 22/64 ما نصه: [اتفق عامة الفقهاء على أن تحريم الربا في الأجناس المنصوص عليها إنما هو لعلة، وأن الحكم بالتحريم يتعدى إلى ما تثبت فيه هذه العلة، وأن علة الذهب والفضة واحدة، وعلة الأجناس الأربعة الأخرى واحدة] . وينبغي أن يعلم أن مسألة تحديد العلة في الأصناف الربوية محل خلاف كبير بين العلماء، فهي مسألة اجتهادية وقد تباينت فيه أقوال العلماء: [فقال الحنفية: العلة: الجنس والقدر، وقد عرف الجنس بقوله صلى الله عليه وسلم: (الذهب بالذهب، والحنطة بالحنطة) ، وعرف القدر بقوله صلى الله عليه وسلم: (مثلاً بمثل) ، ويعني بالقدر الكيل فيما يكال والوزن فيما يوزن لقوله صلى الله عليه وسلم: (وكذلك كل ما يكال ويوزن) ، وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تبيعوا الصاع بالصاعين) ... وقال المالكية: علة الربا في النقود مختلف فيها، فقيل: غلبة الثمنية، وقيل: مطلق الثمنية ... وعلة ربا الفضل في الطعام الاقتيات والادخار ... وعلة ربا النساء مجرد الطعم ... وذهب الشافعية إلى أن العلة في تحريم الربا في الذهب والفضة كونهما جنس الأثمان غالباً ... والعلة في تحريم الربا في الأجناس الأربعة وهي البر والشعير والتمر والملح أنها مطعومة ... وروي عن أحمد بن حنبل في علة تحريم الربا في الأجناس الستة ثلاث روايات: أشهرها أن علة الربا في الذهب والفضة كونهما موزوني جنس، وفي الأجناس الباقية كونها مكيلات جنس ... والرواية الثانية: أن العلة في الأثمان الثمنية، وفيما عداها كونه مطعوم جنس ... والرواية الثالثة: العلة فيما عدا الذهب والفضة كونه مطعوم جنس مكيلا أو موزونا] الموسوعة الفقهية الكويتية 22/64-67.
إذا تقرر هذا فقد اتفق أهل العلم على أن بيع الأصناف الربوية بعضها ببعض يكون على النحو الآتي: 1- إذا بيع الشيء بجنسه كتمر بتمر، فيشترط لذلك شرطان: التماثل والتقابض، أي تماثل الوزنين أو الكيلين مع التقابض في مجلس العقد. ولا يصح في هذه الحالة اختلافهما في القدر – الوزن أو الكيل – ولا يصح التأجيل، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (مثلًا بمثل، سواء بسواء، يداً بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى) رواه البخاري ومسلم. 2- إذا بيع الشيء بغير جنسه مع اتحاد العلة كذهب بفضة، فيشترط لذلك التقابض دون التماثل. فيصح أن يبيع مئة غرام ذهب بخمسمئة غرام فضة بشرط القبض في المجلس. 3- إذا بيع الشيء بغير جنسه مع عدم الاتحاد في العلة، كبيع القمح بالذهب، أو الملح بالفضة، فلا يشترط لذلك لا تقابض ولا تماثل. ويلحق بذلك بيع أحد الأصناف الأربعة وهي البر والشعير والتمر والملح وما يجري مجراها بالنقود الورقية المعروفة اليوم، فيصح أن تبيع القمح إلى أجل، أي كما يسميه الناس اليوم البيع بالدين، قال الإمام النووي: [وأجمع العلماء على جواز بيع الربوي بربوي لا يشاركه في العلة متفاضلاً ومؤجلاً، وذلك كبيع الذهب بالحنطة، وبيع الفضة بالشعير وغيره من المكيل.] شرح النووي على صحيح مسلم 11/9.
وقال الشيخ ابن حزم: [وجائز بيع القمح والشعير والتمر والملح بالذهب أو بالفضة يداً بيد ونسيئةً وجائز تسليم الذهب أو الفضة بالأصناف التي ذكرنا لأن النص جاء بإباحة كل ذلك وبالله تعالى التوفيق.] المحلى 7/438.
وقال الشيخ تقي الدين السبكي: [وأما إسلام النقدين في المطعومات فصحيح إذ لم يجتمعا في علة واحدة قال محمد بن يحيى: فإن قيل ينبغي ألا يصح لأن الحديث أخذ علينا شرطين: الحلول والتقابض عند اختلاف الجنس. قلنا: ظاهر هذا الكلام يقتضي هذا تنزيلاً على اختلاف الجنسين في هذه السنة المذكورة غير أن الأمة أجمعت على أن السنة المذكورة في الحديث جملتان متفاضلتان النقدان والأشياء الأربعة، تنفرد كل جملة بعلتها، والمراد بالحديث اختلاف الجنسين من جملة واحدة كالذهب بالفضة والحنطة بالشعير، وحاصله تخصيص عام أو تقييد مطلق بالإجماع وهذا الإجماع الذى قاله محمد بن يحيى والذى قاله المصنف في آخر هذا الفصل وسأذكر من نقله غيرهما إن شاء الله تعالى] تكملة المجموع 10/91. وقال الشيخ تقي الدين السبكي أيضاً: [قاعدة: العقود بالنسبة إلى التقابض على أربعة أقسام: (منها) ما يجب فيه التقابض قبل التفرق بالإجماع وهو الصرف، ومنها ما لايجب بالإجماع كبيع المطعومات وغيرها من العروض بالنقدين الذهب والفضة ... ] تكملة المجموع 10/93. وقال الشيخ تقي الدين السبكي أيضاً: [إذا عرف ذلك فإذا باع الربوي بربوي آخر يخالفه في علة الربا حلَّ فيه التفاضل والنساء – أي التأجيل - والتفرق قبل التقابض لما ذكره المصنف رحمه الله وللإجماع المذكور نقله الشافعي رحمه الله تعالى في الإملاء واقتضاه كلامه في الأم والمختصر ولفظه في الإملاء أصرح قال فيه: [لأن المسلمين أجمعوا على أن الذهب والورق يسلمان فيما سواهما] وقال في الأم في باب الآجال في الصرف: [ولا أعلم المسلمين اختلفوا في أن الدنانير والدارهم يسلمان في كل شئ إلا أن أحدهما لا يسلم في الآخر] وقال في مختصر المزني رحمه الله: [ولا أعلم بين المسلمين خلافاً في أن الدينار والدرهم يسلمان في كل شئ ولا يسلم أحدهما في الآخر] تكملة المجموع 0/173. ومما يدل على جواز بيع الحنطة والشعير والتمر والملح بالنقود إلى أجل ما ورد في الحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت: (اشترى رسول الله صلى الله عله وسلم من يهودي طعاماً بنسيئة وأعطاه درعا له رهناً) رواه البخاري ومسلم. ومعنى نسيئة أي إلى أجل. ويدل عليه أيضاً ما ورد في الحديث عن ابن عباس: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين، فقال: (من أسلف في شيء؛ فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم) رواه البخاري ومسلم. قال الشيخ العثيمين: [ ... وعلى هذا يجوز بيع صاع من البر بدينار من الذهب مع التفرق وعدم التساوي لاختلاف القصد؛ لأن هذا يقصد به النقد والثمنية، وهذا يقصد به القوت. فإن قيل: الحديث يدل على أنه لا يصح إلا بالقبض؛ فما هو الجواب؟ نقول: حقيقة إن هذا مقتضى الحديث أنك إذا بعت ذهباَ ببر وجب التقابض؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (فإذا اختلفت هذه الأصناف؛ فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد) . والجواب عن هذا أن نقول: قد دلت السنة من وجه آخر على أن القبض ليس بشرط فيما إذا كان أحدهما ثمناً، قال ابن عباس رضي الله عنهما: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين، فقال: (من أسلف في شيء؛ فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم) . وعلى هذا؛ فحديث: (فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد) لا عموم لمفهومه؛ فلا يشترط القبض في كل صورة من صور المخالفة، وإنما يشترط القبض فيما إذا اتفقا في الغرض؛ كذهب بفضة، أو بر بشعير، وأما ذهب أو فضة بشعير ونحوه؛ فلا يشترط القبض.] مجموع فتاوى ورسائل الشيخ العثيمين 9/501-502. وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء السعودية 13/282: [أجمع العلماء على جواز بيع الحنطة والشعير والتمر والملح بنقد ذهبي أو فضي أو ما قام مقامهما من العملات النقدية، حالاً أو مؤجلاً، سواء كان المؤجل بسعر الحال، أو أكثر أو أقل] .
وخلاصة الأمر أنه يجوز شرعاً بيع القمح والشعير والتمر والملح - وكذا كل ما يتحد معها في العلة - بالنقود إلى أجل، وأن القول بمنع ذلك قول مخالف لما دلت عليه الأدلة ولما تعارف عليه الناس منذ عهد بعيد، وما هو إلا جمود على ظاهر النص.(12/23)
24 - السحب على المكشوف
يقول السائل: أنا موظف وراتبي محول على أحد البنوك التجارية وأقوم بسحب الراتب قبل تحويله من المؤسسة التي أعمل فيها، وأحياناً أسحب ضعف الراتب قبل نزوله فما حكم هذه العملية، أفيدونا؟ الجواب: هذه العملية تسمى السحب على المكشوف، وتكييفها الشرعي أنها قرض ربوي، لأن البنوك التجارية التي تتعامل بها ترتب فوائد ربوية عليها، فحقيقة هذه المعاملة أن البنك يقرض الموظف مبلغاً من المال قبل موعد نزول راتب الموظف لدى البنك، ثم يقوم البنك باستيفاء القرض مع الفائدة الربوية عند نزول الراتب، وهذا هو الربا بعينه، والربا من أكبر الكبائر وتحريمه قطعي في كتاب الله سبحانه وتعالى وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد قال تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ* يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} سورة البقرة الآيات 275 - 279. وثبت في الحديث عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه وقال: هم سواء) رواه مسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات) رواه البخاري ومسلم.
وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: (رأيت الليلة رجلين أتياني فأخرجاني إلى أرض مقدسة فانطلقنا حتى أتينا على نهر من دم فيه رجل قائم، وعلى وسط النهر رجل بين يديه حجارة، فأقبل الرجل الذي في النهر فإذا أراد أن يخرج رمى الرجل بحجر في فيه فَرُدَّ حيث كان فجعل كلما جاء ليخرج رمى في فيه بحجر فيرجع كما كان، فقلت: ما هذا؟ فقال: الذي رأيته في النهر آكل الربا) رواه البخاري.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: (ما أحد أكثر من الربا إلا كان عاقبة أمره إلى قلة) رواه ابن ماجة، ورواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد، وفي لفظ له قال: (الربا وإن كثر فإن عاقبته إلى قل) وقال فيه أيضاً صحيح الإسناد، وصححه العلامة الألباني في صحيح الجامع الصغير برقم 3542 وبرقم 5518.
وعن سلمان بن عمرو عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حجة الوداع يقول: (ألا إن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع، لكم رؤوس أموالكم لا تَظلمون ولا تُظلمون، ألا وإن كل دم من دم الجاهلية موضوع، وأول دم أضع منها دم الحارث بن عبد المطلب كان مسترضعاً في بني ليث فقتلته هذيل، قال: اللهم هل بلّغت؟ قالوا: نعم، ثلاث مرات. قال: اللهم اشهد ثلاث مرّات) رواه أبو داود وابن ماجة وصححه العلامة الألباني في صحيح سنن أبي داود 2/641-642.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: (ليأتين على الناس زمان لا يبالي المرء بما أخذ المال أمِن الحلال أم مِنَ الحرام) رواه البخاري.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: (يأتي على الناس زمان يأكلون الربا، فمن لم يأكله، أصابه من غباره) . رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة والحاكم في المستدرك وقال: قد اختلف في سماع الحسن عن أبي هريرة، فإن صح سماعه منه، فهذا حديث صحيح.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الربا ثلاثة وسبعون شعبة أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه) رواه الحاكم وصححه وقال الشيخ الألباني: صحيح. انظر صحيح الجامع الصغير 1/633.
وعن عبد الله بن حنظلة رضي الله عنه - غسيل الملائكة - أنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشدُّ من ستٍّ وثلاثين زنية) رواه أحمد، وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح، مجمع الزوائد 4/117. وصححه العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة 3/29. وغير ذلك من النصوص الحرمة للربا.
ومن صور السحب على المكشوف في البنوك الربوية التعامل ببطاقات الإئتمان التي تتيح لحاملها أن يسحب من البنك مبالغ مالية مع أن حسابه لا يغطيها ويقوم البنك بترتيب فوائد ربوية على ذلك، وهذا لا شك في تحريمه، وقد صدر قرار عن مجمع الفقه الإسلامي وضح فيه القواعد الأساسية للتعامل مع هذه البطاقات ونصه: [ ... بعد إطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع (بطاقات الائتمان غير المغطاة) وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله من الفقهاء والاقتصاديين، ورجوعه إلى تعريف بطاقة الائتمان في قراره رقم 63/1/7 الذي يستفاد منه تعريف بطاقة الائتمان غير المغطاة بأنه: مستند يعطيه مصدرُه (البنك المصدر) لشخص طبيعي أو اعتباري (حامل البطاقة) بناء على عقد بينهما يمكنه من شراء السلع، أو الخدمات، ممن يعتمد المستند (التاجر) دون دفع الثمن حالاً لتضمنه التزام المصدر بالدفع، ويكون الدفع من حساب المصدر، ثم يعود على حاملها في مواعيد دورية، وبعضها يفرض فوائد ربوية على مجموع الرصيد غير المدفوع بعد فترة محددة من تاريخ المطالبة، وبعضها لا يفرض فوائد.
قرر ما يلي:
أولاً: لا يجوز إصدار بطاقة الائتمان غير المغطاة ولا التعامل بها، إذا كانت مشروطة بزيادة فائدة ربوية، حتى ولو كان طالب البطاقة عازماً على السداد ضمن فترة السماح المجاني.
ثانياً: يجوز إصدار البطاقة غير المغطاة إذا لم تتضمن شرط زيادة ربوية على أصل الدَّين. ويتفرع على ذلك:
أ. جواز أخذ مصدرها من العميل رسوماً مقطوعة عند الإصدار أو التجديد، بصفتها أجراً فعلياً على قدر الخدمات المقدمة منه.
ب. جواز أخذ البنك المصدر من التاجر عمولة على مشتريات العميل منه،
شريطة أن يكون بيع التاجر بالبطاقة بمثل السعر الذي يبيع به بالنقد.
ثالثاً: السحب النقدي من قبل حامل البطاقة اقتراضاً من مصدرها، ولا حرج فيه شرعاً إذا لم يترتب عليه زيادة ربوية، ولا يعد من قبيلها الرسوم المقطوعة التي لا ترتبط بمبلغ القرض أو مدته مقابل هذه الخدمة. وكل زيادة على الخدمات الفعلية محرمة لأنها من الربا المحرم شرعاً كما نص على ذلك المجمع في قراره رقم 13 (10/2) و 13 (1/3) .
رابعاً: لا يجوز شراء الذهب والفضة وكذا العملات النقدية بالبطاقة غير المغطاة] انتهى قرار المجمع الفقهي.
ومن صور السحب على المكشوف أيضاً إصدار شيك بدون رصيد حيث إن بعض المتعاملين مع البنوك الربوية يتفقون معها عند إصدارهم شيكات بدون رصيد، على أن يقوم البنك بتغطية قيمة هذه الشيكات التي لا رصيد لها واحتساب فوائد ربوية على مبلغ الشيكات، وهذا رباً واضح وهو محرم شرعاً.
وخلاصة الأمر أن السحب على المكشوف الذي تتعامل به البنوك الربوية محرم شرعاً، لأنه في حقيقته عقد ربوي، كما أن التعامل ببطاقات الإئتمان التي تسمح لحاملها أن يسحب أكثر من رصيده يحرم التعامل بها، وكذا إصدار شيكات بدون رصيد على أن يقوم البنك بتغطيتها مع ترتيب فائدة ربوية من المحرمات.(12/24)
25 - حكم إصدار شيك بدون رصيد
يقول السائل: أرجو بيان حكم إصدار شيك بدون رصيد، أفيدونا؟ الجواب: الشيك نوع من أنواع التوثيق المشروع للدين بالكتابة، كما ورد في قرار مجمع الفقه الإسلامي [الأوراق التجارية - الشيكات ... - من أنواع التوثيق المشروع للدين بالكتابة] مجلة المجمع العدد السابع ج 2 ص9. والتعامل بالشيكات الأصل فيه الجواز بشرط أن يكون وفق الضوابط الشرعية التي قررها الفقهاء المعاصرون وكذا المجامع الفقهية، وإصدار شيك بدون رصيد أمر معروف ويتعامل به الناس وخاصة التجار، حيث إنهم يشترون بضاعة ويعطون بائعها شيكاً متأخراً بلا رصيد، ويجوز إصدار شيك بدون رصيد إذا كان المصدر للشيك سيقوم بتغطية المبلغ المرقوم في الشيك قبل تاريخ استحقاقه، فإذا التزم مصدر الشيك بهذا القيد فلا حرج في إصداره شيكاً بدون رصيد.
وأما إذا أصدر شيكاً بدون رصيد وهو عازم على عدم تغطية المبلغ المرقوم في الشيك قبل تاريخ استحقاقه، وحان موعد صرف الشيك وليس له رصيد، فإن هذا العمل محرم لما يلي: أولاً: لأن هذا يعتبر من باب تعمد إخلاف الوعد، والأصل في المسلم أن يفي بوعده، وخاصة أن مصدر الشيك إذا كان تاجراً فإنه يكون قد استلم البضاعة، وصاحب البضاعة ما سلَّمها له إلا ثقة به على أن يستلم ثمن البضاعة حين يأتي تاريخ الشيك المتأخر.
وكثيرٌ من النصوص من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم أمرت بالوفاء بالوعد وحثت على ذلك وذمت من لم يف بوعده فمن هذه النصوص قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} سورة المائدة الآية 1. فهذه الآية الكريمة تأمر بالوفاء بالعقود والوعد داخل في ذلك. قال الزجاج: [المعنى أوفوا بعقد الله عليكم وبعقدكم مع بعضكم مع بعض] نقله عنه القرطبي في تفسيره 6/33.
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} سورة الصف الآية 3. وهذه الآية من أشد الآيات في وجوب الوفاء بالوعد لأنها تضمنت الذم الشديد لمن لم يف بما يعد. قال القرافي: [والوعد إذا أخلف قول لم يفعل فيلزم أن يكون كذباً وأن يحرم إخلاف الوعد مطلقاً] الفروق 4/20. وقال تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} سورة النحل الآية 91. وقال تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} سورة الإسراء الآية 34.
وورد في السنة النبوية ما يدل على وجوب الوفاء بالوعد فمن ذلك ما جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا أؤتمن خان، وإذا وعد أخلف) رواه البخاري ومسلم. وجاء في رواية أخرى عند مسلم: (من علامات المنافق ثلاث ... ) . وفي رواية ثالثة عند مسلم أيضاً: (آية المنافق ثلاث ... وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم) . وجاء في حديث آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا أؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر) رواه البخاري ومسلم. وجاء في الحديث عن عبد الله بن عامر رضي الله عنه قال: (دعتني أمي يوماً ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد في بيتها فقالت: تعال أعطك. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أردت أن تعطيه؟ فقالت: أعطيه تمراً. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم أما إنك لو لم تعطه شيئاً كتبت عليك كذبة) رواه أبو داود وحسّنه العلامة الألباني في صحيح سنن أبي داود 3/943، وفي السلسة الصحيحة 2/384. وجاء في الحديث عن عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستعيذ في صلاته كثيراً من المأثم والمغرم -الإثم والدَّين- فقيل له: يا رسول الله، ما أكثر ما تستعيذ من المغرم؟ فقال: إن الرجل إذا غرم -أي استدان- حدث فكذب ووعد فأخلف) رواه البخاري. والذي أميل إليه وأختاره وجوب الوفاء بالوعد ديانةً وقضاءً وهذا قول جماعة من أهل العلم منهم جماعة من فقهاء السلف كالفقيه المعروف ابن شبرمة والحسن البصري وعمر بن عبد العزيز والقاضي سعيد بن الأشوع وإسحاق بن راهويه وغيرهم.
ثانياً: إن إصدار شيك بدون رصيد مع عدم تغطيته في موعده يُعَدُّ من باب أكل أموال الناس بالباطل ولا شك في تحريم ذلك، يقول الله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} سورة البقرة الآية 188. ويقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} سورة النساء الآية 29. وعن صهيب رضي الله عن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أيما رجل يدين ديناً وهو مجمع على أن لا يوفيه إياه لقي الله سارقاً) رواه ابن ماجة والبيهقي وقال العلامة الألباني: حسن صحيح كما في صحيح سنن ابن ماجة 2/52.
ثالثاً: بعض المتعاملين مع البنوك الربوية يتفقون معها عند إصدارهم شيكات بدون رصيد، حيث يقوم البنك بتغطية قيمة هذه الشيكات التي لا رصيد لها واحتساب فوائد ربوية على مبلغ الشيكات، وهذا رباً واضح وهو محرم شرعاً بالنصوص الصريحة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، يقول الله سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أثيم إن الَّذِينَءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَءَاتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين َفإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} سورة البقرة الآيات 275 - 279. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن الله آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه وقال هم سواء) رواه مسلم. رابعاً: إن إصدار شيك بدون رصيد مع عدم تغطيته في موعده، فيه إلحاق الضرر بالناس وهو أمر محرم وقد جاء في الحديث قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار) رواه أحمد وابن ماجة والطبراني وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة حديث رقم 250.
خامساً: إصدار شيك بدون رصيد مع عدم تغطيته في موعده، من المسائل المستجدة التي ينبغي أن يعاقب عليها بعقوبة تعزيرية رادعة، لأنها صارت منتشرة بين الناس بشكل كبي ويترتب عليها أضرار كثيرة، والقوانين الوضعية تعاقب عليها، فقد جاء في ذلك المادة 421 من قانون العقوبات الأردني: [يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن سنة ولا تزيد على سنتين وبغرامة لا تقل عن مائة دينار ولا تزيد على مائتي دينار كل من أقدم بسوء نية على ارتكاب أحد الأفعال التالية: أ- إذا أصدر شيكاً وليس له مقابل وفاء قائم وقابل للصرف. ب- إذا سحب بعد إصدار الشيك كل المقابل لوفائه أو بعضه بحيث لا يفي الباقي بقيمته. ج- إذا أصدر أمراً إلى المسحوب عليه بالامتناع عن صرف الشيك في غير الحالات التي يجيزها القانون. د- إذا ظهَّر لغيره شيكاً أو أعطاه شيكاً مستحق الدفع لحامله وهو يعلم أنه ليس له مقابل يفي بكامل قيمته أو يعلم أنه غير قابل للصرف.] . كما أن بعض البلدان قد وضعت عقوبات أخرى لمن يصدر شيكات بدون رصيد مثل شطب السجل التجاري لمن يصدر بشكل متكرر شيكات بدون رصيد، والتحفظ على محل التاجر أو شركته. وختاماً أنبه على أمرين: أولهما تعامل البنوك الإسلامية مع الشيكات بدون رصيد، حيث إن البنوك الإسلامية لا تتقاضى أية فوائد في حال قبلت كشف حساب الزبون المصدر للشيك بدون رصيد، لأن القاعدة الأساسية التي تقوم عليها البنوك الإسلامية هي عدم التعامل بالربا لا أخذاً ولا إعطاءً، كما أن البنوك الإسلامية لا تقبل كشف حساب الزبون المصدر للشيك بدون رصيد، إلا إذا كان عنده ضمانات مثل وديعة استثمارية، وكذلك أن يكون كشف الحساب لمدة قصيرة لا تتجاوز نهاية الشهر الذي قُدمَ فيه الشيك بدون رصيد. وثانيهما: إذا صدر شيك بدون رصيد وأرجعه البنك المسحوب عليه، فإن البنك يتقاضى رسوماً على ذلك، وهذه الرسوم يجب أن يتحملها المصدر للشيك بدون رصيد.
وخلاصة الأمر أنه يحرم إصدار شيكات بدون رصيد إذا لم يتم تغطية المبلغ المرقوم فيها، لاشتمال هذه العملية على عدة مفاسد بينتها.(12/25)
26 - حكم دفع رسوم الخدمات للمجالس المحلية والبلدية
يقول السائل: في بلدتنا لا يدفع كثير من السكان رسوم الخدمات التي يقدمها المجلس المحلي كجمع النفايات ونحوها، مما أدى إلى تراكم النفايات في الشوارع وصارت تشكل مكرهة صحية، فما الحكم في ذلك، أفيدونا؟ الجواب: إن ما تقوم به البلديات والمجالس المحلية من أعمال خدمية يصب في الصالح العام للسكان، ولا شك أن من واجب جميع سكان البلد أن يتعاونوا فيما يحقق لهم المصالح ويدرأ عنهم المفاسد، وهذا التعاون واجب شرعي لقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} سورة المائدة الآية 2. ولا شك أن جمع النفايات من الأمور النافعة التي تعود بالمصلحة على جميع الساكنين من حيث النظافة والمحافظة على الصحة العامة، والمحافظة على البيئة، وكل ذلك من المقاصد الشرعية، والإسلام دين النظافة، ويظهر ذلك واضحاً جلياً في كثير من النصوص الشرعية التي تحث على النظافة والطهارة والتطيب وإزالة ما يجب إزالته من الروائح الكريهة، كقوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} سورة المدثر الآية 4، وكقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} سورة البقرة الآية 222. وكقوله تعالى: {لا تقم فيه أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ، فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} سورة التوبة الآية108. وورد في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: (طهروا هذه الأجساد طهركم الله، فإنه ليس عبد يبيت طاهراً إلا وبات معه ملك في شعاره) رواه الطبراني في الأوسط بإسناد جيد، وقال الهيثمي: أرجو أنه حسن الإسناد. وقال العلامة الألباني: إسناده حسن، انظر السلسلة الصحيحة حديث رقم 2539، وحسنه العلامة الألباني أيضاً في صحيح الترغيب والترهيب حديث رقم 599. وورد في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: (طهروا أفنيتكم فإن اليهود لا تطهر أفنيتها) . صححه العلامة الألباني ثم قال: رواه الطبراني في الأوسط وقال المناوي: قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح خلا شيخ الطبراني. وأخرجه الترمذي 2/131من طريق خالد بن إلياس ... قال: سمعت سعيد بن المسيب يقول: إن الله طيب يحب الطيب، نظيف يحب النظافة، كريم يحب الكرم، جواد يحب الجود، فنظفوا أفنيتكم، ولا تشبهوا باليهود. قاله العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة 1/418.
وكذلك فإن إزالة النفايات فيه محافظة على البيئة وفيه أيضاً رفع للأذى من طريق المسلمين، وقد حثنا الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك، فقد ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الإيمان بضع وسبعون أو ستون شعبة أفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان) رواه مسلم، وعن معقل بن يسار قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من أماط أذىً من طريق المسلمين، كتبت له حسنة، ومن تُقبلت منه حسنة دخل الجنة) رواه الطبراني والبخاري في الأدب المفرد، وقال العلامة الألباني حديث حسن، انظر صحيح الأدب المفرد ص 221. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بينما رجل يمشي في الطريق إذ وجد غصن شوك، فأخره فشكر الله له فغفر له.) رواه البخاري. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اتقوا اللاعنين، قالوا: وما اللاعنان؟ قال: الذي يتخلى في طريق الناس أو في ظلهم) رواه مسلم. وغير ذلك من الأحاديث.
إذا تقرر هذا فإن من الواجب الشرعي على المسلم أن يدفع ثمناً للخدمات التي تقدمها البلديات والمجالس المحلية، ما دام أن تلك الخدمات تقدم بأجر، ويحرم الامتناع عن دفع تلك الرسوم أو التهرب من دفعها، ويعتبر ذلك من أكل أموال الناس بالباطل، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} سورة النساء الآية 29. وكذلك فإن الامتناع من دفع رسوم الخدمات للبلديات والمجالس المحلية يعد من خيانة الأمانة قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} سورة النساء الآية 58. ويعتبر ذلك من الإخلال بالعقود والعهود والمواثيق فقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} سورة المائدة الآية 1.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (المسلمون على شروطهم إلا شرطاً حرم حلالاً أو أحل حراماً) رواه أبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح، ورواه البخاري تعليقاً بصيغة الجزم لكنه بدون الاستثناء، ورواه كذلك الحاكم وأبو داود عن أبي هريرة بلفظ (المسلمون عند شروطهم) أي بدون الاستثناء. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: [إن الوفاء بها أي بالالتزامات التي التزم بها الإنسان من الواجبات التي اتفقت عليها الملل بل العقلاء جميعاً] مجموع الفتاوى 29/516 والقواعد النورانية ص53.
وسئلت اللجنة الدائمة للإفتاء في السعودية: هل يجوز التحايل للامتناع عن دفع فاتورة الكهرباء أو الماء أو التليفون أو الغاز أو أمثالها؟. فأجابت: [لا يجوز؛ لما فيه من أكل أموال الناس بالباطل، وعدم أداء الأمانة، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} ] فتاوى اللجنة الدائمة 23/441.
وجاء في فتاوى الإسلام سؤال وجواب 1/5749 حول سؤال يتعلق بتهرب بعض الناس من دفع الالتزامات [لا يجوز لهم ذلك، فالعقد شريعة المتعاقدين، والله جل وعلا أمر بالوفاء بالعقود {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} فهؤلاء الذين يتهربون من دفع شيء تعاقدوا عليه، ويأخذون أشياء لهم، ويمتنعون من دفع أشياء عليهم أخطأوا من وجهين: الأول: عدم الوفاء بالعقود، والثاني: أنهم يأخذون حقوقاً ليست لهم ويتهربون من دفع حقوق عليهم. فالواجب عليهم أن يدفعوا ما يطلب منهم، وإذا كانوا يتحرجون من ذلك، فلا يستفيدوا من الخدمات التي تقدم لغيرهم مقابل دفع هذه الأموال المطلوبة منهم.]
وأخيراً أنبه على بعض الأمور القريبة من السؤال مثل سرقة المياه وسرقة الكهرباء ورمي النفايات في الشوارع وكذلك التعدي على الشوارع بالبناء وغير ذلك، فهذه الأمور كلها محرمة وتضر بمصالح الناس، وقد صح في الحديث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار) رواه ابن ماجة والدارقطني والحاكم وغيرهم وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني، السلسلة الصححة حديث رقم 250. وقد اعتبر الفقهاء هذا الحديث من القواعد الفقهية العامة فلا يجوز لأحد أن يتعدى على حقوق الآخرين، ومن ضمن ذلك ما يتعلق بالطرق والشوارع، فمن المعلوم أن الطريق من الحقوق العامة التي ينتفع بها الناس كافة فلا يجوز لأحد أن يؤذي غيره فيها. فاستعمال الطرق والشوارع له أحكام شرعية متعلقة به وليس للإنسان مطلق الحرية أن يتصرف في الشوارع حسبما يريد وكيفما يريد، جاء في الحديث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إياكم والجلوس على الطرقات. فقالوا: ما لنا بد إنما هي مجالسنا نتحدث فيها. قال: فإذا أتيتم إلى المجالس فأعطوا الطريق حقها. قالوا: وما حق الطريق؟ قال: غض البصر وكف الأذى وردّ السلام وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر) رواه البخاري. وفي رواية أخرى، قال صلى الله عليه وسلم (إذ أبيتم إلا الجلوس في الطريق فأعطوا الطريق حقه قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال غض البصر، ورد السلام، وإماطة الأذى عن الطريق)
وخلاصة الأمر أنه يحرم الامتناع عن دفع رسوم جمع النفايات للبلديات والمجالس المحلية وفي ذلك مفاسد من جهات عديدة بينتها، والأعمال الخدمية التي تقوم بها البلديات والمجالس المحلية تعتبر من المصالح العامة للسكان والتعاون في ذلك من الواجبات الشرعية.(12/26)
27 - عقد الإجارة يورث
يقول السائل: استأجر والدي محلاً تجارياً وجعله بقالة كبيرة وبعد أقل من سنة توفي والدي ويطالبنا مالك المحل بإخلاء المحل لأن المستأجر قد توفي فهل عقد الإجارة ينتهي بوفاة والدي، أفيدونا؟ الجواب: الإجارة عند الفقهاء عقد معاوضة على تمليك منفعة بعوض، انظر الموسوعة الفقهية 1/252. وهي عقد مشروع بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وانعقد الإجماع على ذلك يقول الله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} . وورد في الحديث عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه) رواه ابن ماجة وصححه العلامة الألباني في إرواء الغليل حديث رقم 1498. وجاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (قال الله تعالى ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة رجل أعطى بي ثم غدر ورجل باع حراً فأكل ثمنه ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره) رواه البخاري.
وقد اختلف أهل العلم في فسخ عقد الإجارة بوفاة أحد المتعاقدين، فذهب جمهور الفقهاء المالكية والشافعية والحنابلة وبه قال إسحاق بن راهويه وعثمان البتي وأبو ثور وابن المنذر، إلى أن عقد الإجارة لا يفسخ بوفاة أحد المتعاقدين، وذهب الحنفية وبعض التابعين إلى أنه يفسخ، قال الشيخ ابن قدامة المقدسي [قال: (وإذا مات المكري والمكتري أو أحدهما فالإجارة بحالها) هذا قول مالك والشافعي وإسحاق والبتي وأبي ثور وابن المنذر. وقال الثوري وأصحاب الرأي والليث: تنفسخ الإجارة بموت أحدهما ; لأن استيفاء المنفعة يتعذر بالموت، لأنه استحق بالعقد استيفاءها على ملك المؤجر، فإذا مات زال ملكه عن العين، فانتقلت إلى ورثته، فالمنافع تحدث على ملك الوارث، فلا يستحق المستأجر استيفاءها، لأنه ما عقد مع الوارث، وإذا مات المستأجر، لم يمكن إيجاب الأجر في تركته]
ثم قال الشيخ ابن قدامة المقدسي مستدلاً لقول الجمهور: [ولنا أنه عقد لازم، فلا ينفسخ بموت العاقد، مع سلامة المعقود عليه، كما لو زوج أمته ثم مات، وما ذكروه لا يصح; فإنا قد ذكرنا أن المستأجر قد ملك المنافع, وملكت عليه الأجرة كاملة في وقت العقد ... ولو صح ما ذكروه لكان وجوب الأجر ها هنا بسبب من المستأجر, فوجب في تركته بعد موته, كما لو حفر بئراً , فوقع فيها شيء بعد موته, ضمنه في ماله ; لأن سبب ذلك كان منه في حال الحياة , كذا ها هنا.] المغني 5/347.
وذهب جمهور الفقهاء هو الراجح لأن الإجارة عقد لازم فلا ينفسخ بموت العاقد مع سلامة المعقود عليه, ولذلك تبقى العين عند المستأجر حتى يستوفي منها ما تبقى له من المنفعة، وليس لورثة المؤجر أن يمنعوه من الانتفاع بها، ويدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى خيبر لأهلها ليعملوا فيها ويزرعوها، ولهم شطر ما يخرج منها واستمر الحال على ذلك في عهد أبي بكر رضي الله تعالى عنه حتى أخرجهم عمر رضي الله عنه، قال الإمام البخاري في صحيحه [باب إذا استأجر أرضاً فمات أحدهما] وقال ابن سيرين ليس لأهله أن يخرجوه إلى تمام الأجل، وقال الحكم والحسن وإياس بن معاوية تمضى الإجارة إلى أجلها، وقال ابن عمر أعطى النبي صلى الله عليه وسلم خيبر بالشطر فكان ذلك على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدراً من خلافة عمر ولم يذكر أن أبا بكر وعمر جددا الإجارة بعد ما قبض النبي صلى الله عليه وسلم] صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 4/583.
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في شرح الباب: [ (قوله باب إذا استأجر أرضا فمات أحدهما) أي هل تفسخ الإجارة أم لا؟ والجمهور على عدم الفسخ وذهب الكوفيون والليث إلى الفسخ، واحتجوا بأن الوارث ملك الرقبة والمنفعة تبع لها فارتفعت يد المستأجر عنها بموت الذي آجره، وتعقب بأن المنفعة قد تنفك عن الرقبة كما يجوز بيع مسلوب المنفعة، فحينئذ ملك المنفعة باق للمستأجر بمقتضى العقد.
وقد اتفقوا على أن الإجارة لا تنفسخ بموت ناظر الوقف فكذلك هنا. قوله (وقال ابن سيرين ليس لأهله) أي أهل الميت (أن يخرجوه) أي يخرجوا المستأجر (إلى تمام الأجل وقال الحسن والحكم وإياس بن معاوية تمضى الإجارة إلى أجلها) وصله بن أبي شيبة من طريق حميد عن الحسن وإياس بن معاوية ومن طريق أيوب عن بن سيرين نحوه.
ثم أورد المصنف حديث ابن عمر أعطى النبي صلى الله عليه وسلم خيبر اليهود على أن يعملوها ... وكذلك الطريق المعلقة آخر الباب وهي قوله (وقال عبيد الله بن عمر عن نافع عن بن عمر حتى أجلاهم عمر) ... والغرض منه هنا الاستدلال على عدم فسخ الإجارة بموت أحد المتآجرين وهو ظاهر في ذلك وقد أشار إليه بقوله ولم يذكر أن أبا بكر جدد الإجارة بعد النبي صلى الله عليه وسلم وذكر فيه حديث بن عمر في كراء المزارع وحديث رافع بن خديج في النهي عنه] فتح الباري 4/583-584.
قال الماوردي مستدلاً لقول جمهور الفقهاء: [ودليلنا هو أن ما لزم من عقود المعاوضات المحضة لم ينفسخ بموت أحد المتعاقدين كالبيع، فان قيل ينتقض بموت من أجر نفسه لم يصح لأن العقد إنما يبطل بتلف المعقود عليه لا بموت العاقد، ألا تراه لو كان حياً فزمن بطلت الإجارة، وان كان العاقد حياً، ... ويتحرر من هذا الاعتلال قياسان: (أحدهما) أنه عقد لازم على منافع ملكه فلم يبطل بموته ... والثانى: ... ولأن المنافع قد تنتقل بالمعاوضة كالأعيان فجاز أن تنتقل بالإرث كالأعيان. ويتحرر من هذا الاعتلال قياسان: أحدهما: أن ما صح أن ينتقل بعوض صح أن تنقل به المنافع في الإجارات ولأن بالموت يعجز عن إقباض ما استحق تسليمه بعقد الإجارة فلم يبطل بعد العقد كالجنون والزمانة، ولأنه عقد لا يبطل بالجنون فلم يبطل بالموت كالبيع، ولان منافع الأعيان مع بقاء ملكها قد تستحق بالرهن تارة وبالإجارة أخرى. فلما كان ما تستحق منفعته بارتهانه إذا انتقل ملكه بالموت لم يوجب بطلان رهنه وجب أن يكون ما استحقت منفعته بالاجارة إذا انتقل ملكه بالموت لم يوجب بطلان إجارته، وقد استدل الشافعي بهذا في الأم. ولأن الوارث إنما يملك بالإرث ما كان يملكه الموروث، والموروث إنما كان يملك الرقبة دون المنفعة فلم يجز أن يصير الوارث مالكاً للرقبة والمنفعة، ولان إجارة الوقف لا تبطل بموت مؤجره بوفاق أبى حنيفة. وإن قال بعض أصحابنا: تبطل، فكذلك إجارة الملك لا تبطل بموت مؤجره كالوقف] الحاوي الكبير 7/401.
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن رجل استأجر بستاناً مدة عشر سنين وقام بقبض مبلغ الأجرة ثم توفي لانقضاء خمس سنين من المدة وبقي في الإجارة خمس سنين وله ورثة وأقاموا ورثة المتوفى بعد مدة سنة من وفاته. فهل يجوز للمالك فسخ الإجارة على الأيتام؟ أم لا؟ . فأجاب: ليس للمؤجر فسخ الإجارة بمجرد موت المستأجر عند جماهير العلماء؛ لكن منهم من قال: إن الأجرة على المستأجر تحل بموته وتستوفى من تركته فإن لم يكن له تركة فله فسخ الإجارة. ومنهم من يقول: لا تحل الأجرة إذا وثق الورثة برهن أو ضمين يحفظ الأجرة؛ بل يوفونه كما كان يوفيها الميت وهذا أظهر القولين.] مجموع الفتاوى 30/157.
وسئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب عن وقف تعطل وبيع نصفه لإصلاح النصف ... واستؤجر ... من يسقي النصف الآخر عشر سنين فمات الذي استؤجر لما مضى سنتان وأراد ورثته أن يتموا باقي المدة وأراد المستأجر الفسخ؟
فأجاب: الإجارة صحيحة ثابتة لا تنفسخ بموت المستأجر، فإذا تمم الورثة ما على ميتهم استحقوا ما استحقه، وليس للمؤجر الفسخ; ودليل هذا: أن القول بانفساخ الإجارة، أو المساقاة قول ضعيف، رده أهل العلم بالنص الثابت، من ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ساقى أهل خيبر، لم يجدد الخلفاء بعده عقداً، فإذا ثبت هذا فقد أمر الله بالوفاء بالعقود بقوله {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} سورة المائدة الآية 1، وهذا لفظ عام من جوامع الكلم، فمن ادعى في صورة من العقود أنه لا يجوز، أو لا يجوز الوفاء به لأجل الموت أو غيره، فعليه الدليل، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل وكذلك: أن من ادعى أن مثل هذا العقد وغيره، لا يجب الوفاء به، لأجل شرط أو ترك شيء من العقد أو غيره، فعليه الدليل، وقد كمل الله الدين بمحمد صلى الله عليه وسلم والله أعلم.] الدرر السنية في الكتب النجدية 7/355.
وخلاصة الأمر أن عقد الإجارة لا يفسخ بموت المستأجر، وقد جرى عرف الناس في بلادنا على هذا القول الراجح، وإذا قلنا بالفسخ فإن ضرراً واضحاً يلحق بورثة المستأجر، وقد جاءت الشريعة الإسلامية بدفع الضرر فقد: ورد في الحديث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار) رواه أحمد وابن ماجة والبيهقي والحاكم وقال: صحيح الإسناد على شرط مسلم ووافقه الذهبي وقال الشيخ الألباني: صحيح. إرواء الغليل 3/408. وانظر السلسلة الصحيحة حديث رقم 250. وبناءً على ما سبق فلا يجوز لصاحب الملك أن يطالب بإخلاء المحل، لأن المستأجر قد توفي، فعقد الإجارة لا ينتهي بوفاة أحد العاقدين، المؤجر أو المستأجر.(12/27)
28 - ثبوت حق الشفعة في المنقولات كالسيارة
يقول السائل: إنه شريك في سيارة نقل مع صديق له، لكل منهما النصف، ويريد شريكه أن يبيع حصته لشخص آخر نكاية به فهل تثبت له الشفعة، أفيدونا؟ الجواب: اتفق أهل العلم على ثبوت الشفعة في الأراضي والعقارات الثابتة وقد دل على ذلك أحاديث منها عن جابر رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة في كل ما لم يقسم فإذا أوقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة) رواه البخاري. وعن جابر رضي الله عنه أيضاً: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة في كل شركة لم تقسم ربعة أو حائط لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه فإن شاء أخذه وإن شاء ترك فإن باعه ولم يؤذنه فهو أحق به) رواه مسلم. وعن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الجار أحق بشفعة جاره ينتظر بها وإن كان غائباً إذا كان طريقهما واحداً) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة والترمذي وحسنه. وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: ورجاله ثقات، بلوغ المرام ص 185، وغير ذلك من النصوص. وقد اختلف العلماء في ثبوت الشفعة في الأشياء المنقولة، فجمهور أهل العلم يرون أن الشفعة لا تثبت في المنقولات، وإنما هي خاصة بالعقارات والأراضي، وقال بعض أهل العلم بثبوت الشفعة في المنقولات، قال الإمام الترمذي: [وقال أكثر أهل العلم إنما تكون الشفعة في الدور والأرضين ولم يروا الشفعة في كل شيء، وقال بعض أهل العلم الشفعة ف كل شيء] سنن الترمذي 4/513. والقول بثبوت الشفعة في المنقولات قال به عطاء بن أبي رباح وابن أبي ليلى، وبه قالت الظاهرية، وهو رواية عن الإمام مالك، ونقل عن الإمام مالك القول بثبوت الشفعة في السفينة، وهي تشبه السيارة محل السؤال، وقال الإمام أحمد في رواية أبي الخطاب عنه بثبوت الشفعة في الحيوان، وهو من اختيارات شيخ الإسلام ابن تيمية، انظر فتح الباري 4/551، تحفة الأحوذي 4/513، المغني 5/232. قال الشيخ ابن حزم [الشفعة واجبة في كل جزء بيع مشاعاً غير مقسوم بين اثنين فصاعداً من أي شيء كان مما ينقسم ومما لا ينقسم من أرض أو شجرة واحدة فأكثر أو عبد أو ثوب أو أمة أو من سيف أو من طعام أو من حيوان أو من أي شيء بيع لا يحل لمن له ذلك الجزء أن يبيعه حتى يعرضه على شريكه أو شركائه فيه ... ] المحلى 8/3. واختار هذا القول جماعة من المعاصرين كالشيخ العلامة العثيمين حيث قال: [ ... وعليه فالقول الراجح أن الشفعة تثبت في كل مشترك، سواء كان أرضاً، أم أوانِيَ، أم فرشاً، أم أي شيء] الشرح الممتع عن موقع الشيخ على الإنترنت. وهذا القول هو الذي أختاره وأرجحه، فالشفعة تثبت في المنقولات كالسيارات والسفن والقطارات والآلات ونحوها، ويدل على ثبوت الشفعة في المنقولات عموم الأدلة الدالة على مشروعية الشفعة كحديث جابر رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة في كل ما لم يقسم ... ) رواه البخاري، فقوله (في كل ما لم يقسم) يدخل في عمومه المنقولات، قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [وقد تضمن هذا الحديث ثبوت الشفعة في المشاع، وصدره يشعر بثبوتها في المنقولات، وسياقه يشعر باختصاصها بالعقار وبما فيه العقار. وقد أخذ بعمومها في كل شيء مالك في رواية، وهو قول عطاء. وعن أحمد تثبت في الحيوانات دون غيرها من المنقولات، وروى البيهقي من حديث ابن عباس مرفوعاً (الشفعة في كل شيء) ورجاله ثقات إلا أنه أعل بالإرسال، وأخرج الطحاوي له شاهداً من حديث جابر بإسناد لا بأس برواته.] فتح الباري 4/550-551. ويؤيد ما أشار إليه الحافظ من أن الحديث مشعر بثبوت الشفعة في المنقولات ما جاء في رواية أخرى للحديث عند البخاري (الشفعة في كل مال لم يقسم) ، فقوله كل مال يدخل فيه المنقولات. قال الشيخ ابن حزم [وأما اللفظ الذي في رواية أبي سلمة عن جابر (فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة) فلا حجة لهم فيه لأنه ليس في هذا اللفظ نص ولا دليل على أن ذلك لا يكون إلا في الأرض والعقار والبناء، بل الحدود واقعة في كل ما ينقسم من طعام وحيوان ونبات وعروض وإلى كل ذلك طريق ضرورة كما هو إلى البناء وإلى الحائط ولا فرق، وكان ذكره عليه السلام للحدود والطرق إعلاماً بحكم ما يمكن قسمته وبقي الحكم فيما لا يقسم على حسبه، فكيف وأول الحديث بيانٌ كافٍ في أن الشفعة واجبة في كل مالٍ يقسم، وفى كل ما لم يقسم، وهذا عموم لجميع الأموال ما احتمل منها القسمة وما لم يحتملها، ومن الباطل الممتنع أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد بهذا الحكم الأرض فقط ثم يجمل هذا الإجمال حاش لله من هذا، وهو مأمور بالبيان لا بالإيهام والتلبيس] المحلى 8/9. ويؤيد ذلك ما ورد في الحديث عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الشريك شفيع والشفعة في كل شيء) رواه الترمذي والبيهقي والطحاوي وغيرهم، وهذا الحديث محل خلاف بين المحدثين، فمنهم من احتج به، ومنهم من لم يحتج به، قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [ ... وروى البيهقي من حديث ابن عباس مرفوعاً (الشفعة في كل شيء) ورجاله ثقات إلا أنه أعل بالإرسال، وأخرج الطحاوي له شاهداً من حديث جابر بإسناد لا بأس برواته.] فتح الباري 4/550-551. وقواه العلامة ابن القيم في إعلام الموقعين 2/141، وانظر السلسلة الضعيفة للعلامة الألباني 3/60-65، فقد توسع في بيان حال الحديث وضعَّفه، وانظر الإلمام بأحاديث الأحكام 1/229، وقد بين أن الحديث ورد من عدة طرق وهو لا يقل عن درجة الحسن. وقد احتج الشيخ ابن حزم بأدلة كثيرة لثبوت الشفعة في كل شيء منها ما ذكرته آنفاً، ثم قال: [فهذه آثار متواترة متظاهرة بكل ما قلنا، جابر وابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم بأن الشفعة في كل مال وفي كل شيء وفي كل ما لم يقسم، ورواها كذا عن جابر أبو الزبير سماعاً منه وعطاء وأبو سلمة، ورواه عن ابن عباس ابن أبى مليكة، فارتفع الإشكال جملة ولله تعالى الحمد، وممن قال بقولنا في هذا ... عمر بن الخطاب قال: إذا وقعت الحدود وعرف الناس حقوقهم فلا شفعة بينهم ... عثمان قال: لا مكايلة إذا وقعت الحدود فلا شفعة، فهذان عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان رضي الله عنهما يحملان قطع الشفعة بعد وجوبها بوقوع الحدود ومعرفة الناس حقوقهم ولم يخصا أرضاً دون سائر الأموال، بل أجملا ذلك، والحدود تقع في كل جسم مبيع وكذلك معرفة كل أحد حقه] المحلى 8/6. ويؤيد ذلك أيضاً ما ورد في الحديث عن جابر رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة في كل شركة لم تقسم ربعة أو حائط لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه فإن شاء أخذه وإن شاء ترك فإن باعه ولم يؤذنه فهو أحق به) رواه مسلم. والشاهد قوله (لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه فإن شاء أخذه وإن شاء ترك فإن باعه ولم يؤذنه فهو أحق به) والشريك في المنقول كالسيارة داخل في ذلك. ومما يدل على ثبوت الشفعة في المنقولات المعنى والحكمة التي من أجلها شرعت الشفعة وهي إزالة الضرر عن الشريك كما ذهب إليه طائفة من أهل العلم، ولا شك أن إزالة الضرر من مقاصد الشارع الحكيم. قال الشيخ ابن حزم: [فلا تخلو الشفعة من أن تكون من طريق النص كما نقول نحن أو من طريق النظر كما يقول المخالفون، فان كانت من طريق النص فهذه النصوص التي أوردنا لا يحل الخروج عنها، وإن كانت من طريق النظر كما يزعمون أنها إنما جعلت لدفع ضرر عن الشريك، فالعلة بذلك موجودة في غير العقار كما هي موجودة في العقار بل أكثر وفيما لا ينقسم كوجودها فيما ينقسم بل هي فيما لا ينقسم أشد ضرراً] المحلى 8/6. وقال العلامة ابن القيم [وقالت طائفة أخرى إنما شرعت الشفعة لرفع الضرر اللاحق بالشركة فإذا كانا شريكين في عين من الأعيان بإرث أو هبة أو وصية أو ابتياع أو نحو ذلك لم يكن رفع ضرر أحدهما بأولى من رفع ضرر الآخر، فإذا باع نصبيه كان شريكه أحق به من الأجنبي، إذ في ذلك إزالة ضرره مع عدم تضرر صاحبه، فإنه يصل إلى حقه من الثمن، ويصل هذا إلى استبداده بالمبيع، فيزول الضرر عنهما جميعاً، وهذا مذهب من يرى الشفعة في الحيوان والثياب والشجر والجواهر والدور الصغار التي لا يمكن قسمتها، وهذا قول أهل مكة وأهل الظاهر ونص عليه الإمام أحمد في رواية حنبل، قال قيل لأحمد فالحيوان دابة تكون بين رجلين أو حمار أو ما كان من نحو ذلك، قال هذا كله أوكد، لأن خليطه الشريك أحق به بالثمن، وهذا لا يمكن قسمته، فإذا عرضه على شريكه وإلا باعه بعد ذلك] إعلام الموقعين 2/140.
وخلاصة الأمر أن الشفعة تثبت في المنقولات كالسيارة على الراجح من أقوال أهل العلم، وهذا القول تؤيده الأدلة النقلية كالعمومات التي ذكرتها، وكذا ما ورد من الحديث في ثبوت الشفعة في كل شيء، وإن كان محل خلاف بين المحدثين فهو صالح للاحتجاج، كما أن مقاصد الشريعة الغراء قد جاءت برفع الضرر وإزالته عن الشريك، فلذلك رجحت هذا القول وإن كان جمهور أهل العلم على خلافه، وأقول ما قاله الإمام الشوكاني: [وذهاب الجمهور إلى قول لا يدل على أنه الحق] نيل الأوطار 4/263.(12/28)
29 - هل تثبت الشفعة بمطلق الجوار؟
يقول السائل: اختلفت مع جاري عندما بعت قطعة من أرضي لابن أختي فادعى جاري أن له حق الشفعة، مع العلم أن واجهة أرضي تقع على شارع غير الشارع الذي تقع عليه واجهة أرض جاري وإنما أرضه تحد أرضي من الجهة الخلفية، فهل تثبت الشفعة لجاري، أفيدونا؟ الجواب: الشفعة حق تملك قهري ثابت على خلاف الأصل، لأن الأصل المقرر شرعاً أن المالك حر التصرف فيما يملك، يقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} سورة النساء الآية 29. وورد في الحديث قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس) رواه أحمد والبيهقي وابن حبان وغيرهم وهو حديث صحيح كما قال الشيخ الألباني في إرواء الغليل 5/279. لذا قرر جمهور الفقهاء أن الشفعة استحقاق وليست بيعاً، انظر أحكام الشفعة في الفقه الإسلامي ص 60. وقد ثبتت النصوص في مشروعية الشفعة منها عن جابر رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة في كل ما لم يقسم فإذا أوقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة) رواه البخاري. وفي لفظ: (إنما جعل النبي صلى الله عليه وسلم الشفعة ... ) رواه أحمد والبخاري وأبو داود. وعن جابر رضي الله عنه أيضاً: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة في كل شركة لم تقسم ربعة أو حائط لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه فإن شاء أخذه وإن شاء ترك فإن باعه ولم يؤذنه فهو أحق به) رواه مسلم. وعن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الجار أحق بشفعة جاره ينتظر بها وإن كان غائباً إذا كان طريقهما واحداً) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة والترمذي وحسنه. وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: ورجاله ثقات، بلوغ المرام ص 185، وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قسمت الدار وحدت فلا شفعة فيها) رواه أبو داود وابن ماجة. وعن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (جار الدار أحق بالدار من غيره) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه. وعن الشريد بن سويد قال: (قلت: يا رسول الله أرض ليس لأحد فيها شرك ولا قسم إلا الجوار؟ فقال: الجار أحق بسقبه ما كان) رواه أحمد والنسائي وابن ماجة، وعن عمرو بن الشريد قال: وقفت على سعد بن أبي وقاص فجاء المسور بن مخرمة ثم جاء أبو رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا سعد ابتع مني بيتي في دارك، فقال سعد: والله ما أبتاعها، فقال المسور: والله لتبتاعنها، فقال سعد: والله ما أزيدك على أربعة آلاف منجمة أو مقطعة، قال أبو رافع: لقد أعطيت بها خمسمائة دينار، ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الجار أحق بسقبه) – السقب القرب والملاصقة - ما أعطيتكها بأربعة آلاف وأنا أعطى بها خمسمائة دينار، فأعطاها إياها) رواه البخاري. وهذه الأحاديث أثبتت حق الشفعة، ولكن الفقهاء اختلفوا فيمن يثبت له هذا الحق، ومذهب جمهور الفقهاء أن الشفعة تثبت للشريك فيما لم يقسم، فإذا قسمت الأرض مثلاً فلا شفعة، وقالوا لا يثبت حق الشفعة للجار، وعند الحنفية تثبت الشفعة للشريك وللجار الملاصق، وقد اختار بعض أهل العلم قولاً وسطاً بين هذين القولين السابقين فقرروا أن الشفعة تثبت للشريك وللجار إذا كان شريكاً مع جاره في حقٍ من حقوق الإرتفاق الخاصة كأن يكون طريقهما واحداً، وهذا القول اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية والعلامة ابن القيم والإمام الشوكاني ونقل عن الإمام أحمد، وعزاه ابن القيم إلى عمر بن عبد العزيز والبصريين من فقهاء الحديث. انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام 30/383، الإنصاف للمرداوي 6/255، نيل الأوطار 5/376. قال الشيخ ابن القيم: [والصواب القول الوسط الجامع بين الأدلة الذي لا يحتمل سواه وهو قول البصريين وغيرهم من فقهاء الحديث أنه إن كان بين الجارين حقٌ مشترك من حقوق الأملاك من طريقٍ أو ماء أو نحو ذلك تثبت الشفعة وإن لم يكن بينهما حق مشترك البتة بل كان كل واحدٍ منهما متميزاً ملكه وحقوق ملكه فلا شفعة] إعلام الموقعين 2/149. وقال الشيخ ابن القيم أيضاً: [والقياس الصحيح يقتضي هذا القول فإن الاشتراك في حقوق الملك شقيق الاشتراك في الملك، والضرر الحاصل بالشركة فيها كالضرر الحاصل بالشركة في الملك أو أقرب إليه، ورفعه مصلحة للشريك من غير مضرة على البائع ولا على المشتري فالمعنى الذي وجبت لأجله شفعة الخلطة في الملك الموجود في الخلطة في حقوقه فهذا المذهب أوسط المذاهب وأجمعها للأدلة وأقربها إلى العدل..] إعلام الموقعين 2/ 150 - 151.
وهذا القول هو أرجح أقوال أهل العلم في المسألة، ويمكن أن يجاب عن الأحاديث التي أثبتت الشفعة للجار مطلقاً بما يلي: هذه الأحاديث قسمان: صحيح صريح، فهذه مؤولة ومصروفة عن ظاهرها، فقوله صلى الله عليه وسلم: (الجار أحق بسقبه) يراد بالجار الشريك، [قال ابن بطال: استدل به أبو حنيفة وأصحابه على إثبات الشفعة للجار وأوَّله غيرهم على أن المراد به الشريك بناء على أن أبا رافع كان شريك سعد في البيتين ولذلك دعاه إلى الشراء منه] فتح الباري 4/552. وإطلاق الجار على الشريك معروف في لغة العرب، قال الإمام الشافعي: [ ... وذلك يدل على أن رسول الله أراد أن الشفعة لبعض الجيران دون بعض وأنها لا تكون إلا لجار لم يقاسم، قال: أفيقع اسم الجوار على الشريك؟ قلت: نعم وعلى الملاصق وعلى غير الملاصق، قال: فالشريك ينفرد باسم الشريك، قلت: أجل والملاصق ينفرد باسم الملاصقة دون غيره من الجيران ولا يمنع ذلك واحداً منهما أن يقع عليه اسم جوار، قال أفتوجدني ما يدل على أن اسم الجوار يقع على الشريك، قلت: زوجتك التي هي قرينتك يقع عليها اسم الجوار، قال حمل بن النابغة: كنت بين جارتين لي، يعني ضرتين، وقال الأعشى: أجارتنا بيني فإنك طالقه ... وموموقة ما كنت فينا ووامقة ... ] الأم 4/5-6. وهذا التأويل الذي ذهب إليه الجمهور تأويل صحيح قريب يحتمله اللفظ، ودلت عليه القرينة وهي ما جاء في حديث آخر (فإذا أوقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة) رواه البخاري. وفي رواية أخرى (إذا كان طريقهما واحداً) .
وقال الإمام الشوكاني: [والحاصل أن الجار المذكور في الأحاديث الآتية إن كان يطلق على الشريك في الشيء والمجاور له بغير شركة كانت مقتضية بعمومها لثبوت الشفعة لهما جميعاً، وحديث جابر وأبي هريرة المذكوران يدلان على عدم ثبوت الشفعة للجار الذي لا شركة له، فيخصصان عموم أحاديث الجار، ولكنه يشكل على هذا حديث الشريد بن سويد، فإن قوله: (ليس لأحد فيها شرك ولا قسم إلا الجوار) مشعرٌ بثبوت الشفعة لمجرد الجوار، وكذلك حديث سمرة لقوله فيه (جار الدار أحق بالدار) فإن ظاهره أن الجوار المذكور جوار لا شركة فيه، ويجاب بأن هذين الحديثين لا يصلحان لمعارضة ما في الصحيح، على أنه يمكن الجمع بما في حديث جابر الآتي بلفظ (إذا كان طريقهما واحداً) فإنه يدل على أن الجوار لا يكون مقتضياً للشفعة إلا مع اتحاد الطريق لا بمجرده، ولا عذر لمن قال بحمل المطلق على المقيد من هذا إن قال بصحة هذا الحديث وقد قال بهذا، أعني: ثبوت الشفعة للجار مع اتحاد الطريق، بعض الشافعية، ويؤيده أن شرعية الشفعة إنما هي لدفع الضرر، وهو إنما يحصل في الأغلب مع المخالطة في الشيء المملوك أو في طريقه، ولا ضرر على جار لم يشارك في أصل ولا طريق إلا نادراً، واعتبار هذا النادر يستلزم ثبوت الشفعة للجار مع عدم الملاصقة؛ لأن حصول الضرر له قد يقع في نادر الحالات كحجب الشمس والإطلاع على العورات ونحوهما من الروائح الكريهة التي يتأذى بها ورفع الأصوات وسماع بعض المنكرات ولا قائل بثبوت الشفعة لمن كان كذلك، والضرر النادر غير معتبر؛ لأن الشارع علق الأحكام بالأمور الغالبة، فعلى فرض أن الجار لغة لا يطلق إلا على من كان ملاصقاً غير مشارك ينبغي تقييد الجوار باتحاد الطريق، ومقتضاه: أن لا تثبت الشفعة بمجرد الجوار وهو الحق] نيل الأوطار 5/376.
وأما القسم الثاني من الأحاديث المثبتة للشفعة للجار مطلقاً، فالجواب عنها أن في سندها كلاماً للمحدثين. قال الإمام الشوكاني: [فأحاديث إثبات الشفعة بالجوار مخصصة بما سلف، ولو فرض عدم صحة التخصيص للتصريح بنفي الشركة فهي مع ما فيها من المقال لا تنتهض لمعارضة الأحاديث القاضية بنفي شفعة الجار الذي ليس بمشارك] نيل الأوطار 5/376. وجاء في الموسوعة الفقهية الكويتية 4/298 ما نصه [ومقتضى الأصل أن لا يثبت حقّ الأخذ بالشّفعة أصلاً، لكنّها ثبتت فيما لا يقسم بالنص الصّريح غير معقول المعنى، فبقي الأمر في المقسوم على الأصل، أو ثبت معلولاً بدفع ضررٍ خاصٍّ وهو ضرر القسمة. وما استدلّ به الحنفيّة ومن معهم من أحاديث، فإنّ في أسانيدها مقالاً. قال ابن المنذر: الثّابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث جابرٍ - السّابق ذكره - وما عداه من الأحاديث الّتي استدلّ بها الحنفيّة ومن معهم، كالحديث الّذي رواه أبو رافعٍ (الجار أحقّ بسقبه) ، والحديث الّذي رواه سمرة أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: (جار الدّار أحقّ بالدّار) . فإنّ فيها مقالاً. على أنه يحتمل أنه أراد بالجار الشّريك، فإنّه جارٌ أيضاً. فكلّ هذا أورث شبهةً عند الجمهور، لأنّ ما استدلّ به الحنفيّة غير قويٍّ، وجاء على خلاف الأصل، ولذا لم يثبتوا الشّفعة بسبب الجوار والشّركة في مرافق العقار، وقصروها على الشّركة في العقار نفسه] . وختاماً أود أن أنبه لمفهوم خاطئ يتعلق بالشفعة شائع بين الناس، وهو أن الشفعة تثبت للقريب كالأخ وابن العم ونحوهما، وهذا كلام باطل فالشفعة لا علاقة لها بالقرابة لا من قريب ولا بعيد.
وخلاصة الأمر أن الشفعة لا تثبت بمطلق الجوار، وإنما تثبت للشريك قبل القسمة وتثبت للجار إذا كان بينه وبين جاره شيء مشترك، وعليه فلا حق للجار المذكور في السؤال في الشفعة، لأن الحدود مبينة ولا شيء مشترك بينهما.(12/29)
30 - انخفاض قيمة العملة وأثره على الديون
يقول السائل: اقترضت قبل حوالي السنة مبلغ أربعة آلاف دولار من أحد الأقارب وكتبنا ورقة بيننا على أن سعر الدولار 4,3 شيكل، واتفقنا على أنه إذا ارتفع سعر الدولار فأسدد المبلغ بالدولار، وإذا انخفض سعر الدولار فأسدد بالشيكل حسب سعر صرف الدولار يوم القرض أي بسعر الدولار 4,3 شيكل، فما حكم هذه المعاملة، أفيدونا؟ الجواب: الشرط المذكور في الاتفاق بينكما شرط باطل، لأن المقترض يلزمه أن يرد مثل ما اقترض فقط، ولا يلزمه أن يرد قيمته، قال ابن عابدين نقلاً عن كتاب الخلاصة: [القرض بالشرط حرام، والشرط لغو] حاشية ابن عابدين. وحقيقة ما تم بين السائل وبين المقرض أنه قرض وبيع، فالسائل اقترض أربعة آلاف دولار، وفي نفس الوقت اشترها بسبعة عشر ألف ومئتي شيكل، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن سلف وبيع، كما ثبت في الحديث عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع ولا ربح ما لم يضمن ولا بيع ما ليس عندك) رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وأحمد وغيرهم، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، وقال العلامة الألباني: حسن. إرواء الغليل 5/146. وقال العلامة ابن القيم: [وحرم الجمع بين السلف والبيع، لما فيه من الذريعة إلى الربح في السلف بأخذ أكثر مما أعطى] إغاثة اللهفان 1/363.
إذا تقرر هذا فالواب عليك أن ترد له مبلغ أربعة آلاف دولار بغض النظر عن ارتفاع سعر الدولار أو انخفاضه، لأن الأصل المقرر في الفقه الإسلامي أن الديون تقضى بأمثالها ولا تقضى بقيمتها، ويدل على ذلك ما ورد في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: إني أبيع الإبل بالبقيع فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير؟ فقال صلى الله عليه وسلم: لا بأس أن تأخذ بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء) ، وفي رواية أخرى: (أبيع بالدنانير وآخذ مكانها الورق وأبيع بالورق وآخذ مكانها الدنانير) رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة والحاكم وصححه على شرط مسلم ووافقه الذهبي، [فابن عمر كان يبيع الإبل بالدنانير أو الدراهم وقد يقبض الثمن في الحال وقد يبيع بيعاً آجلاً وعند قبض الثمن ربما لا يجد مع المشتري بالدنانير إلا دراهم وقد يجد مع من اشترى بدراهم ليس معه إلا دنانير أفيأخذ قيمة الثمن يوم ثبوت الدين أم يوم الأداء؟ مثلاً إذا باع بمئة دينار وكان سعر الصرف: الدينار بعشرة دراهم أي أن له ما قيمته ألف درهم وتغير سعر الصرف فأصبح الدينار مثلاً بأحد عشر درهماً أفيأخذ الألف أم ألفاً ومئة؟ وإذا أصبح بتسعة دراهم فقط أفيأخذ تسعمئة درهم يمكن صرفها بمئة دينار يوم الأداء أم يأخذ ألف درهم قيمة مئة الدينار يوم البيع؟ بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن العبرة بسعر الصرف يوم الأداء، وابن عمر الذي عرف الحكم من الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، سأله بكر بن عبد الله المزني ومسروق العجلي عن كرَّيٍ لهما له عليهما دراهم وليس معهما إلا دنانير فقال ابن عمر: أعطوه بسعر السوق. فهذا الحديث الشريف يعتبر أصلاً في أن الدين يؤدى بمثله لا بقيمته حيث يؤدي عن تعذر المثل بما يقوم مقامه وهو سعر الصرف يوم الأداء، يوم الأداء لا يوم ثبوت الدين] مجلة مجمع الفقه الإسلامي عدد 5 جزء 3 ص1727-1728. وهذا مذهب أكثر الفقهاء، الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة واختار هذا القول كثير من الفقهاء والعلماء المعاصرين، حيث إنهم يرون أن الدين إذا استقر في ذمة الشخص بمقدار محدد فالواجب هو تسديد ذلك المقدار بدون زيادة أو نقصان فالديون تقضى بأمثالها في حالة الرخص والغلاء ولا تقضى بقيمتها جاء في المدونة: [كل شيء أعطيته إلى أجل فرد إليك مثله وزيادة فهو ربا] المدونة 4/25. وقال أبو إسحاق الشيرازي الشافعي: [ويجب على المستقرض رد المثل فيما له مثل لأن مقتضى القرض رد المثل] المهذب مع المجموع 12/185. وقال الكاساني الحنفي: [ولو لم تكسد - النقود - ولكنها رخصت قيمتها أو غلت لا ينفسخ البيع بالإجماع وعلى المشتري أن ينقد مثلها عدداً ولا يلتفت إلى القيمة هاهنا] بدائع الصنائع 5/542. وقال الشيخ ابن عابدين في رسالته عن النقود: […لأن الإمام الإسبيجاني في شرح الطحاوي قال: وأجمعوا على أن الفلوس إذا لم تكسد ولكن غلت قيمتها أو رخصت فعليه مثل ما قبض من العدد] رسالة تنبيه الرقود على مسائل النقود 2/60 ضمن مجموعة رسائل ابن عابدين. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: [لا يجب في القرض إلا رد المثل بلا زيادة] مجموع الفتاوى 29/535. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية أيضاً: [والدراهم لا تقصد عينها فإعادة المقترض نظيرها كما يعيد المضارب نظيرها وهو رأس المال. ولهذا لم يستحق المقرض إلا نظير ماله، وليس له أن يشترط الزيادة عليه في جميع الأموال باتفاق العلماء، والمقترض يستحق مثل قرضه في صفته ... ] مجموع الفتاوى 29/473. وقال العلامة الغزي الحنفي: [أما إذا غلت قيمتها أو ازدادت، فالبيع على حاله، ولا يتخير المشتري، ويطالب بالنقد بذلك العيار الذي كان وقت البيع، كذا في فتح القدير. وفي البزازية معزياً إلى المنتقى: [غلت الفلوس أو رخصت فعند الإمام الأول والثاني أولاً ليس عليه غيرها) رسالة بذل المجهود في تحرير أسئلة تغير النقود ص 83 -84. وقد بحث مجمع الفقه الإسلامي هذه المسألة بحثاً مستفيضاً وتوصل العلماء المشاركون في المجمع إلى القرار التالي: [العبرة في وفاء الديون الثابتة بعملة ما هي بالمثل وليس بالقيمة لأن الديون تقضى بأمثالها فلا يجوز ربط الديون الثابتة في الذمة أياً كان مصدرها بمستوى الأسعار] مجلة مجمع الفقه الإسلامي عدد 5 ج 3/2261. وبناءً على ما سبق فإن قضاء الديون بأمثالها لا بقيمتها هو الأصل في هذه المسألة، ويعتبر قضاء الديون بقيمتها من الربا المحرم شرعاً [إن الحكم على المدين المماطل بتعويض دائنه بفرق هبوط القوة الشرائية للنقد عقب مطله غير سائغ شرعاً إذ هو وقوع في حمى الربا المحرم تحت ستار تعويض الدائن عن انخفاض القوة الشرائية للنقود، بل إن الدائن ليحصل في كثير من الأحيان باسم ذلك التعويض على ما يزيد قدراً ويفوق جوراً الفوائد التأخيرية في البنوك الربوية] قضايا فقهية معاصرة في المال والاقتصاد ص500. ويستثنى من الأصل المذكور حالة واحدة فقط وهي: إذا كان تغير قيمة العملة كبيراً وهنالك خلاف بين الفقهاء في مقدار التغير الكبير فمنهم من يقول الثلث ومنهم من يقول النصف.
وأود أن أنبه على بعض القضايا المرتبطة بمسألة تغير قيمة العملة وهي: أولاً: للمقترض أن يحسن لمن أقرضه فيعوضه عن هبوط قيمة العملة، كما أحسن المقرض له عندما أقرضه، وهذا من باب الإحسان، ولا يجوز أن يكون ذلك مشروطاً، فقد ورد عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد ضحىً فقال: صل ركعتين، وكان لي عليه دين فقضاني وزادني) رواه البخاري. وفي رواية أخرى عند البخاري قال جابر رضي الله عنه: (فلما قدمنا المدينة، قال الرسول صلى الله عليه وسلم يا بلال: اقضه وزده فأعطاه أربعة دنانير وزاده قيراطاً) . وعن أبي رافع رضي الله عنه قال: (استلف النبي صلى الله عليه وسلم بكراً - الفتي من الإبل - فجاءته إبل الصدقة فأمرني أن أقضي الرجل بكره، فقلت: إني لم أجد من الإبل إلا جملاً خياراً رباعياً - جملاً كبيراً له من العمر ست سنوات - فقال: أعطه إياه فإن من خير الناس أحسنهم قضاء) رواه مسلم. وعن مجاهد قال: (استلف عبد الله بن عمر من رجل دراهم ثم قضاه دراهم خيراً منها فقال الرجل: يا أبا عبد الرحمن هذه خير من دراهمي التي أسلفتك، فقال عبد الله بن عمر: قد علمت ولكن نفسي بذلك طيبة) رواه مالك في الموطأ. وقال الإمام مالك: (لا بأس بأن يقبض من أسلف شيئاً من الذهب أو الورق أو الطعام أو الحيوان ممن أسلفه ذلك أفضل مما أسلفه إذا لم يكن ذلك على شرط منهما …) . وقال الإمام القرطبي: [وأجمع المسلمون نقلاً عن نبيهم صلى الله عليه وسلم أن اشتراط الزيادة في السلف ربا ولو كان قبضة من علف كما قال ابن مسعود أو حبة واحدة ويجوز أن يرد أفضل مما يستلف إذا لم يشترط ذلك عليه لأن ذلك من باب المعروف استدلالاً بحديث أبي هريرة في البكر- الفتي من الإبل -: (إن خياركم أحسنكم قضاء) رواه الأئمة البخاري ومسلم. فأثنى صلى الله عليه وسلم على من أحسن القضاء وأطلق ذلك ولم يقيده بصفة] تفسير القرطبي 3/241.
ثانياً: يدخل فيما سبق قيام أصحاب العمل بتثبيت سعر الدينار أو الدولار عند مقدار معين، وهذا أيضاً من باب التفضل والإحسان، ولا يجوز أن يكون بشرط سابق.
ثالثاً: لا مانع شرعاً من أن يكون هنالك اتفاقٌ بين صاحب العمل والعامل على تعديل أجر العامل دورياً مثلاً كل شهر أو شهرين بنسبة تعادل انخفاض قيمة العملة. كأن يتفق العامل مع صاحب العمل على أن يعطيه زيادة على أجره كل آخر شهر بنسبة 2% أو 3% أو نحو ذلك من أجل المحافظة على أجر العامل من انخفاض قوته الشرائية. وسبق لمجمع الفقه الإسلامي أن ناقش هذه القضية وأصدر القرار التالي: [يجوز أن تتضمن أنظمة العمل واللوائح والترتيبات الخاصة بعقود العمل التي تتحدد فيها الأجور بالنقود شرط الربط القياسي للأجور على أن لا ينشأ عن ذلك ضرر للاقتصاد العام. والمقصود هنا بالربط القياسي للأجور تعديل الأجور بصورة دورية تبعاً للتغير في مستوى الأسعار وفقاً لما تقدره جهة الخبرة والاختصاص والغرض من هذا التعديل حماية الأجر النقدي للعاملين من انخفاض القدرة الشرائية لمقدار الأجر بفعل التضخم النقدي وما ينتج عنه من الارتفاع المتزايد في المستوى العام لأسعار السلع والخدمات
وذلك لأن الأصل في الشروط الجواز إلا الشرط الذي يحل حراماً أو يحرم حلالاً] مجلة مجمع الفقه الإسلامي عدد 8 ج 3 / 787.
وخلاصة الأمر أن الأصل في الديون أنها تقضى بأمثالها لا بقيمتها، وأنه لا يجوز ربط سعر عملة بعملة أخرى عند الاقتراض أو البيع أو عند ترتيب أي حق مالي، ويجوز للمقترض أن يعوض المقرض عن هبوط قيمة العملة بدون شرط سابق، وأن هذا من باب المعروف والإحسان.(12/30)
31 - التأمين الإسلامي
يقول السائل: هلا بينتم لنا الأسس التي يقوم عليها التأمين الإسلامي، أفيدونا؟ الجواب: الفقه الإسلامي فقه حيوي يجمع بين الأصالة والمعاصرة، وفقهاء الأمة في كل عصر وأوان يقدمون الحلول للمشكلات التي يواجهها المجتمع المسلم، لذا فالفقه الإسلامي فقه غني، وهو فقه عملي تطبيقيي أيضاً، وفي عصرنا الحاضر قدَّم فقهاء الأمة حلولاً للقضايا المعاصرة في مختلف جوانب الحياة، كالقضايا الطبية المعاصرة وكذا القضايا الاقتصادية والاجتماعية وغيرها، وكان من أهم هذه القضايا المعاصرة ما يتعلق بالمعاملات المالية المعاصرة مثل الحقوق المعنوية كحق التأليف والاختراع والاسم التجاري ونحوها ومثل قضايا النقود، ومثل البنوك الإسلامية وشركات التأمين الإسلامي وغيرها كثير، وهذه الحلول تقوم على الأصول الفقهية المقررة عند أئمتنا وفقهائنا، وكثير من هذه المسائل بحثت على مستوى المجامع الفقهية والندوات الخاصة والبحوث والرسائل الجامعية وغير ذلك.
إذا تقرر هذا فإن تعريف التأمين الإسلامي باعتباره نظاماً: هو [اتفاق بين شركة التأمين الإسلامي باعتبارها ممثلة لهيئة المشتركين (حساب التأمين أو صندوق التأمين) وبين الراغبين في التأمين (شخص طبيعي أو قانوني) على قبوله عضواً في هيئة المشتركين والتزامه بدفع مبلغ معلوم (القسط) على سبيل التبرع به وبعوائده لصالح حساب التأمين على أن يدفع له عند وقوع الخطر تعويض طبقاً لوثيقة التأمين والأسس الفنية والنظام الأساسي للشركة.] التأمين الإسلامي د. علي القرة داغي ص 203. وانظر أيضاً التأمين على حوادث السيارات د. حسين حامد حسان.
وقد بدأ التأمين الإسلامي بشكل عملي وتطبيقي منذ حوالي الأربعين عاماً، وقد نشأ التأمين الإسلامي ليكون بديلاً عن التأمين التجاري ذي القسط الثابت، وقد سبقت نشأة التأمين الإسلامي وصاحبته، دراسات فقهية معمقة، لبيان حكمه وتأصيله شرعاً، ولوضع حلول للمشكلات التي تواجه التأمين الإسلامي، وكان من القرارات الصادرة بجواز التأمين الإسلامي وتأصيله شرعاً القرار الصادر عن هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية سنة 1397هـ وفق 1977 م، وجاء فيه ما يلي [الأول: إن التأمين التعاوني من عقود التبرع التي يقصد بها أصالة التعاون على تفتيت الأخطار والاشتراك في تحمل المسئولية عند نزول الكوارث وذلك عن طريق إسهام أشخاص بمبالغ نقدية تخصص لتعويض من يصيبه الضرر، فجماعة التأمين التعاوني لا يستهدفون تجارة ولا ربحاً من أموال غيرهم وإنما يقصدون توزيع الأخطار بينهم والتعاون على تحمل الضرر. الثاني: خلو التأمين التعاوني من الربا بنوعيه ربا الفضل وربا النساء فليست عقود المساهمين ربوية ولا يستغلون ما جمع من الأقساط في معاملات ربوية. الثالث: إنه لا يضر جهل المساهمين في التأمين التعاوني بتحديد ما يعود عليهم من النفع لأنهم متبرعون فلا مخاطرة ولا غرر ولا مغامرة بخلاف التأمين التجاري فإنه عقد معاوضات مالية تجارية. الرابع: قيام جماعة من المساهمين أو من يمثلهم باستثمار ما جمع من الأقساط لتحقيق الغرض الذي من أجله أنشئ هذا التعاون سواء كان القيام بذلك تبرعاً أو مقابل أجر معين.]
وقرار المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي سنة 1398هـ وفق 1978م وقد جاء فيه ما يلي: [قرر مجلس المجمع بالإجماع الموافقة على قرار مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية رقم 51 بتاريخ 4/4/1397هـ من جواز التأمين التعاوني بدلاً عن التأمين التجاري المحرّم] . وقرار مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي سنة 1406هـ وفق 1985م وجاء فيه ما يلي: أولاً: إن عقد التأمين التجاري ذا القسط الثابت الذي تتعامل به شركات التأمين التجاري عقد فيه غرر كبير مفسد للعقد، ولذا فهو حرام شرعاً. ثانياً: إن العقد البديل الذي يحترم أصول التعامل الإسلامي هو عقد التأمين التعاوني القائم على أساس التبرع والتعاون، وكذلك الحال بالنسبة لإعادة التأمين القائم على أساس التأمين التعاوني.
ثالثاً: دعوة الدول الإسلامية للعمل على إقامة مؤسسات التأمين التعاوني وكذلك مؤسسات تعاونية لإعادة التأمين، حتى يتحرر الاقتصاد الإسلامي من الاستغلال، ومن مخالفة النظام الذي يرضاه الله لهذه الأمة.] مجلة المجمع عدد 2، ج 2/731.
وهذا ما أفتت به ووافقت عليه هيئات الرقابة الشرعية لعدد من البنوك الإسلامية وهيئات الرقابة الشرعية لشركات التأمين الإسلامية.
وفي وقتنا الحاضر صار التأمين الإسلامي له حصة كبيرة من سوق التأمين، وشركات التأمين الإسلامي في ازدياد، وقد جاء في دراسة حديثة لواقع شركات التأمين الإسلامي ما يلي: [تبلغ نسبة نمو قطاع التأمين المتوافق مع أحكام الشريعة الإسلامية "التأمين الإسلامي" مابين 20 ـ 25% سنويا بينما يبلغ نمو قطاع التأمين التجاري نسبة تتراوح ما بين 6 ـ 7% سنويا ويعزى ذلك إلى نمو القطاع المالي الإسلامي بوجه عام. ويعمل في سوق قطاع التأمين الإسلامي 60 شركة منتشرة في 23 دولة ومن المتوقع أن يصل حجم إجمالي أقساط هذا القطاع إلى 10 مليارات دولار بحلول عام 2010 حسب تقديرات سوق التأمين العالمية] عن شبكة الإنترنت.
وأما عن أهم الأسس التي يقوم عليها التأمين الإسلامي فهي:
أولاً: التأمين الإسلامي يقوم على مبدأ التعاون والتكافل، وهو مبدأ شرعي أصيل قامت عليه عشرات الأدلة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ثانياً: إن التأمين التعاوني من عقود التبرع التي يقصد بها أصالة التعاون على تفتيت الأخطار، فالأقساط المقدمة من حملة الوثائق في التأمين التعاوني تأخذ صفة التبرع وهو تبرع يلزم بالقول على رأي الإمام مالك رحمه الله. وعلى هذا يكون العضو ملتزماً بدفع القسط بمجرد توقيعه على العقد، وبالتالي يكون الأعضاء متبرعين بالأقساط التي يدفعونها، وبعوائد استثمار هذه الأقساط، في حدود المبالغ اللازمة لدفع التعويضات عن الأضرار التي تصيب أحدهم. كما يتضمن التوقيعُ على وثيقة التأمين قبولَ العضو للتبرع من مجموع أموال التأمين أي الأقساط وعوائدها الاستثمارية وفقاً لأحكام وثيقة التأمين والنظام الأساسي للشركة حسب أحكام الشريعة الإسلامية، والعضو لا يتبرع بالأقساط وعوائدها جملة، بل يتبرع منها بما يكفي لدفع التعويضات ... ولا مانع أن يحقق التأمين التعاوني أرباحاً من خلال استثمار الأرصدة المجتمعة لديه استثماراً مشروعاً، والممنوع هو أن تكون الغاية المعاوضة والاسترباح لا مجرد تحقيق الأرباح] التأمين التعاوني الإسلامي د. صالح بن حميد عن الإنترنت.
ثالثاً: تخلو عقود التأمين الإسلامي من الربا بنوعيه: ربا الفضل وربا النسيئة، فعقود المساهمين ليست ربوية ولا يستغل ما جمع من الأقساط في معاملات ربوية. التأمين الإسلامي د. علي القرة داغي ص 210.
رابعاً: التأمين الإسلامي يعتمد على أقساط التأمين المحصلة، وعلى استثمارها في أمور مشروعة تخلو من الربا أو المعاملات المحرمة ويتم دفع التعويضات من ذلك. كما أن شركة التأمين الإسلامي لا تتملك أقساط التأمين وإنما تكون ملكاً لحساب التأمين وهو حق للمشتركين، وتقوم شركة التأمين الإسلامي بإدارة الحساب نيابة عنهم.
خامساً: الفائض في التأمين الإسلامي يعود إلى مجموع المؤمنين ولا يعود إلى شركة التأمين، ولكن شركة التأمين الإسلامي تأخذ حصة من الفائض إما باعتبارها وكيلة بأجر أو باعبتارها مضارباً.
سادساً: تحتفظ شركة التأمين الإسلامي بحسابين منفصلين، أحدهما لاستثمار رأس المال، والآخر لحسابات أموال التأمين.
سابعاً: شركات التأمين الإسلامي هي شركات خدمات، أي أنها تدير عمليات التأمين وتستثمر أمواله نيابة عن هيئة المشتركين، وعلاقة الشركة بهيئة المشتركين علاقة معاوضة، فهي الأمينة على أموال التأمين، وتقوم بالإدارة نيابة عن هيئة المشتركين، والعوض الذي تأخذه الشركة مبلغ مقطوع، أو نسبة من الأقساط التي تجمعها، أو التعويضات التي تدفعها باعتبارها وكيلاً، أو نسبة معلومة من عائد الاستثمار باعتبارها مضارباً، أو هما معاً.] التأمين التعاوني الإسلامي د. صالح بن حميد. عن الإنترنت.
ثامناً: تخضع جميع أعمال شركة التأمين الإسلامي للتدقيق من هيئة رقابة شرعية للنظر في مدى توافقها مع الأحكام الشرعية.
وخلاصة الأمر أن التأمين الإسلامي عقد مشروع إذا تمَّ وفق القواعد والضوابط الشرعية.(12/31)
32 - جوائز حسابات التوفير في البنوك
يقول السائل: ما حكم جوائز حسابات التوفير التي تقدمها البنوك، أفيدونا؟ الجواب: الجائزة هي العطيّة إذا كانت على سبيل الإكرام كما جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية 15/76. وقد ورد في الحديث عن أبي شريح العدوي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته) . قالوا وما جائزته يا رسول الله؟ قال: (يومه وليلته والضيافة ثلاثة أيام فما كان وراء ذلك فهو صدقة عليه) رواه البخاري ومسلم. والأصل في الجائزة الإباحة ما دامت منضبطة بالضوابط الشرعية، ورد في الموسوعة الفقهية الكويتية ما يلي: [الأصل إباحة الجائزة على عمل مشروع سواء أكان دينيّاً أو دنيويّاً لأنّه من باب الحثّ على فعل الخير والإعانة عليه بالمال وهو من قبيل الهبة.] 15/77.
إذا تقرر هذا فأعود إلى جواب السؤال فأقول: إن حسابات التوفير إذا كانت في البنوك الربوية فهي محرمة، وبالتالي فإن الجوائز التي تعطيها البنوك الربوية على حسابات التوفير حرام أيضاً، وتعتبر هذه الجوائز من باب الفوائد الربوية، ويضاف إلى ذلك أنها تحرم أيضاً لأنها من باب القمار، جاء في فتاوى الشبكة الإسلامية ما يلي: [فإذا كان البنك يتعامل بالربا فلا يجوز ذلك، وهذه الجوائز هي عين الفائدة الربوية، لكن اختلفت طريقة التوزيع فقط، بل هذا جمع بين الربا والميسر، فإن العميل سيع ماله على أمل أن يكون من الفائزين، وقد يقع عليه الاختيار وقد لا يقع.] عن موقع الشبكة الإسلامية على شبكة الإنترنت. ويجب أن يعلم أن الأصل في المسلم أنه لا يتعامل مع البنوك الربوية إلا في حالات خاصة، فقد جاء في قرار مجمع الفقه برابطة العالم الإسلامي المنعقد بمكة المكرمة سنة 1406 هـ/ 1986م ما يلي: [يحرم على كل مسلم يتيسر له التعامل مع مصرف إسلامي أن يتعامل مع المصارف الربوية في الداخل أو الخارج؛ إذ لا عذر له في التعامل معها مع وجود البديل الإسلامي، ويجب عليه أن يستعيض عن الخبيث بالطيب، ويستغني بالحلال عن الحرام] . وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء في السعودية ما يلي: [لا يجوز إيداع النقود ونحوها في البنوك الربوية ونحوها من المصارف والمؤسسات الربوية، سواء كان إيداعها بفوائد أو بدون فوائد؛ لما في ذلك من التعاون على الإثم والعدوان، وقد قال تعالى: {ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} ، إلا إذا خيف عليها من الضياع، بسرقة أو غصب أو نحوهما، ولم يجد طريقاً لحفظها إلا إيداعها في بنوك ربويةٍ مثلاً، فيرخص له في إيداعها في البنوك ونحوها من المصارف الربوية بدون فوائد, محافظةً عليها؛ لما في ذلك من ارتكاب أخف المحظورين] فتاوى اللجنة الدائمة 13/346.
وأما حسابات التوفير في البنوك الإسلامية فالأصل فيها الجواز، لأن البنوك الإسلامية لا تتعامل بالربا (الفائدة) لا أخذاً ولا إعطاءً،
وهذه حقيقة ما زال بعض الناس يجادل فيها، ويزعمون أنه لا فرق بين البنوك الربوية وبين البنوك الإسلامية، وهذا كلام باطل، فإن خاصية البنوك الإسلامية في عدم التعامل بالربا هي الخاصية الأساسية التي يتميز بها البنك الإسلامي عن البنك الربوي لأن الربا كما هو معلوم محرم بالنصوص الصريحة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، يقول الله سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أثيم إن الَّذِينَءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَءَاتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين َفإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} سورة البقرة الآيات 275 - 279. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن الله آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه وقال هم سواء) رواه مسلم. يقول الدكتور غريب الجمال: [تشكل خاصية استبعاد الفوائد من معاملات المصارف الإسلامية المعلم الرئيسي لها وتجعل وجودها متسقاً مع البنية السليمة للمجتمع الإسلامي وتصبغ أنشطتها بروح راسية ودوافع عقائدية تجعل القائمين عليها يستشعرون دائماً أن العمل الذي يمارسونه ليس مجرد عمل تجاري يهدف إلى تحقيق الربح فحسب بل إضافة إلى ذلك أسلوب من أساليب الجهاد في حمل عبء الرسالة والإعداد لاستنقاذ الأمة من مباشرة أعمال مجافية للأصول الشرعية وفوق كل ذلك وقبله يستشعر هؤلاء العاملون أن العمل عبادة وتقوى مثاب عليها من الله سبحانه وتعالى إضافة إلى الجزاء المادي الدنيوي] المصارف الإسلامية بين النظرية والتطبيق ص 192-193.
والجوائز التي تعطيها البنوك الإسلامية على حسابات التوفير يختلف حكمها من بنك لآخر، لذا يصعب إصدار فتوى واحدة تعمها بالجواز أو المنع، والأمر يحتاج إلى تفصيل كما يلي:
أولاً: لا يجوز أن يكون إعطاء الجائزة مشروطاً بفتح الحساب، بمعنى أنه يشترط عند فتح حساب التوفير للدخول في السحب على الجائزة شروط معينة على المتعامل كأن يفتح حساب توفير بعملة معينة كالدولار الأمريكي. وأن لا يقل رصيد الحساب عن كذا دولار. وأن يعمل على تغذية الحساب بشكل مستمر، بحيث يمنح صاحب الحساب عن كل مئة دولار فرصة للفوز بالجائزة. فهذه الجوائز تعتبر من باب الفائدة الربوية، لأن التكييف الصحيح لحساب التوفير أنه من باب القرض، ومن المعلوم أن أي زيادة مشروطة على القرض تعد من باب الربا. وقد قرر الفقهاء أن كل قرض جر منفعة فهو وجه من وجوه الربا، كما جاء في معنى حديث غير ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولكن معناه صحيح، وقد اتفق الفقهاء على تحريم أي منفعة يستفيدها المقرض من قرضه، ولكن ليس على إطلاقها، فالقرض الذي يجر نفعاً ويكون رباً أو وجهاً من وجوه الربا هو القرض الذي يشترط فيه المقرض منفعة لنفسه فهو ممنوع شرعاً. قال الحافظ ابن عبد البر: [وكل زيادة في سلف أو منفعة ينتفع بها المسلِف فهو ربا، ولو كانت قبضة من علف، وذلك حرام إن كان بشرط] . وقال ابن المنذر: [أجمعوا على أن المسلِف إذا شرط على المستلف زيادة أو هدية فأسلف على ذلك، إن أخذ الزيادة ربا] الموسوعة الفقهية 33/130.
ثانياً: إذا أعطت البنوك الإسلامية جوائز على حسابات التوفير بدون شرط مسبق عند فتح الحساب، فإن كثيراً من هيئات الرقابة الشرعية في البنوك الإسلامية قد أجازت ذلك، وأجازه كذلك عدد من الباحثين المعاصرين، انظر كتاب الجوائز أحكامها وصورها المعاصرة ص 110 -114، وجاء في فتاوى الشبكة الإسلامية ما يلي: [فالذي يترجح أن هذه الجوائز إذا كانت مقدمة من طرف بنك إسلامي فهي مباحة يجوز أخذها. فهي تشجيع من البنك لاستقطاب أكثر عدد ممكن من العملاء بطريقة لا تفضي إلى محظور شرعاً. ولا يشبه هذا القمار، لأن العميل لم يدفع شيئاً فيغنم أو يغرم كما هو الشأن في القمار، وإنما يودع ماله ليستثمر له.] عن موقع الشبكة الإسلامية على شبكة الإنترنت.
وجاء في فتوى هيئة الرقابة الشرعية لبنك فيصل الإسلامي السوداني ما يلي: [يجوز أن يمنح البنك جوائز لأصحاب ودائع الادخار دون علم سابق من جانبهم وكيف يحددها البنك بحيث تتعدد وتتباين صور هذه الجوائز في كل مرة, ولا تكون في فترات ثابتة, حتى تصبح هي الدافع للادخار ولا يجوز تقديم جوائز للمدخرين بصورة معلنة ومتكررة, وإن كانت غير مشروطة في عقد وديعة الادخار لأن ذلك سيصير بمرور الزمن عرفا وبالتالي يأخذ حكم المنفعة المشروطة في عقد الوديعة, ويما أن أصحاب الودائع أذنوا للبنك في التصرف في ودائعهم , وضمن البنك ردها إليهم فإنها تأخذ حكم القرض , ولا يجوز اشتراط منفعة للمقرض.] عن شبكة الإنترنت.
وخلاصة الأمر أن الجوائز على حسابات التوفير في البنوك الربوية محرمة شرعاً وأما الجوائز على حسابات التوفير في البنوك الإسلامية فإذا كان هنالك شرط سابق لها فلا تجوز وأما إذا كانت بدون شرط مسبق فلا بأس بها.(12/32)
33 - التلاعب بالأدوية
السؤال: وصلتني رسالة من نقيب الصيادلة تتضمن مجموعة من الأسئلة أختصرها فيما يلي: أولاً: ما حكم تهريب الأدوية بحجة أنها أرخص أو غير متوفرة في السوق المحلي، علماً بأن طريقة نقل هذه الأدوية لا تكون سليمة. ثانياً: ما حكم بيع وشراء الأدوية المسروقة. ثالثاً: هل يجوز شرعاً بيع الدواء إذا كان تالفاً وغير مخزن بالطرق المناسبة. رابعاً: الأدوية التي توزعها وزارة الصحة الفلسطينية مجاناً، بعض المرضى يحرمون أنفسهم منها ويبيعونها إلى بعض الصيادلة، فما حكم ذلك. خامساً: ما حكم قيام الجمعيات الخيرية ببيع الأدوية التي يتبرع بها لصالح تلك الجمعيات. سادساً: قيام الصيدلي بصرف أقل من الكمية المكتوبة في الوصفة الطبية وبدون إعلام المريض لكي يظن المريض أن أسعار الصيدلي مخفضة. سابعاً: قوانين مزاولة مهنة الصيدلة تحتم أن الصيدلي هو مالك الصيدلية الوحيد وهنالك يمين يحلفها الصيدلي فما حكم الحلف كاذباً. ثامناً: حدد قانون النقابة سعر بيع الدواء فهل يحق للصيدلي أن يبيع بأقل من السعر المحدد بقصد الإضرار بغيره من الصيادلة. تاسعاً: ما هي ضوابط الإعلان في وسائل الإعلام عن المستحضرات التي لها صفة علاجية كالأدوية الجنسية والأدوية النباتية. عاشراً: ما حكم تعامل الصيدلي مع الأدوية المزيفة، مع العلم أنها تباع بسعر أقل بكثير من الأدوية الأصلية. أفيدونا. الجواب: إن مضمون أسئلة نقيب الصيادلة يشير لى فقدان الصدق في التعامل عند بعض الناس، وتغليب الجشع والطمع، ومن المعلوم أن الصدق مطلوب من المسلم عموماً في كل أموره وأحواله ومطلوب من التاجر خصوصاً قال الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} سورة التوبة الآية 119. وثبت في الحديث الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقاً وإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذاباً) رواه البخاري ومسلم. وعن حكيم بن حزام رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (البيِّعان بالخيار ما لم يتفرقا فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كذبا وكتما محق بركة بيعهما) رواه البخاري ومسلم، فالصدق في البيع والشراء سبب لحصول البركة، والكذب سبب لمحق البركة. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء) رواه الترمذي وقال: حديث حسن. وجاء في الحديث عن رفاعة رضي الله عنه أنه خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المصلى فرأى الناس يتبايعون فقال: (يا معشر التجار فاستجابوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ورفعوا أعناقهم وأبصارهم إليه فقال: إن التجار يبعثون يوم القيامة فجاراً إلا من اتقى الله وبر وصدق) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، فالبر والصدق والتقى منجاة للتاجر من النار يوم القيامة. إذا تقرر هذا فأعود إلى الأجوبة: أولا: تهريب الأدوية محرم شرعاً إذا ترتب عليه ضرر كما هو الحال في تهريب الأدوية التي تحتاج إلى ظروف خاصة عند نقلها وتخزينها مما يؤدي إلى فسادها، وهذا يلحق الضرر بمستعمليها.
ثانياً: يحرم على المسلم أن يشتري مالاً مغصوباً أو مسروقاً أو أخذ من صاحبه بغير حق وهو يعلم، ولا شك أن في شراء المال المسروق أو المغصوب تشجيعاً للصوص الذين يأخذون أموال الناس بالباطل، ويدخل شراء المسروق في باب التعاون على الإثم والعدوان وقد نهانا الله عن ذلك بقوله تعالى: ?وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ? سورة المائدة الآية 2. وكذلك فإننا نعلم أنه لا يحل أخذ مال المسلم إلا إذا طابت نفسه بذلك وهذه الأموال المسروقة أو المغصوبة تؤخذ بالقوة أو بالخفية ولا تطيب نفس صاحبها بها والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يحل مال امرئٍ مسلمٍ إلا بطيب نفس منه) رواه أحمد والبيهقي والدارقطني وهو حديث صحيح. وقد روي في الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم قوله: (من اشترى سرقة - شيئاً مسروقاً - وهو يعلم أنها سرقة فقد اشترك في إثمها وعارها) رواه الحاكم والبيهقي وسنده مختلف فيه. ويجب أن يعلم أنه لا فرق بين أن تكون الأموال مسروقة من فرد أو جهة عامة أو خاصة أو غير ذلك، فكله حرام بل إن حرمة المال العام أشد من حرمة المال الخاص. ثالثاً: لا يجوز شرعاً بيع الأدوية بعد انتهاء صلاحيتها وكذا الأدوية التالفة، لأن في ذلك إضراراً بالناس وإلحاقاً للأذى بهم ويحرم على المسلم أن يلحق الضرر بغيره لما ورد في الحديث الشريف أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لا ضرر ولا ضرار) رواه أحمد وابن ماجة والبيهقي والحاكم، وصححه العلامة الألباني في إرواء الغليل 3/408. وإذا ثبت أنه قد لحق ضرر بمن استهلك الأدوية المنتهية الصلاحية أو الأدوية التالفة فإن من باعها يكون مسئولاً عن ذلك وينبغي أن يعاقب على فعلته. ومن جهة أخرى فإن بيع الأدوية المنتهية الصلاحية مع علم البائع بذلك يعتبر غشاً وكتماناً لعيب السلعة عن المشتري والغش محرم في الشريعة الإسلامية، فقد ثبت في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من غشنا فليس منا) رواه مسلم. رابعاً: الأدوية التي توزعها وزارة الصحة الفلسطينية مجاناً لبعض المرضى فيحرمون أنفسهم منها ويبيعونها إلى بعض الصيادلة، هذا العمل غير جائز شرعاً لأن المقصد من صرفها مجاناً مساعدة المرضى الفقراء والغالب أن وزارة الصحة الفلسطينية تمنع بيع هذه الأدوية. خامساً: لا يجوز شرعاً بيع الأدوية التي يتبرع بها للجمعيات الخيرية، طالما أن المتبرعين قدموها كذلك، والجمعية الخيرية التي تسلمتها هي بمثابة وكيل عن المتبرع، فلا يجوز لها أن تبيعها للصيادلة أو غيرهم. سادساً: قيام الصيدلي بصرف أقل من الكمية المكتوبة في الوصفة الطبية وبدون إعلام المريض لكي يظن المريض أن أسعار الصيدلي مخفضة، هذا نوع من الغش والغش من المحرمات كما سبق، كما أن تنقيص كمية الدواء قد يؤثر على صحة المريض فيؤخر شفاءه وقد يقلل من فاعلية الدواء، وهذا فيه إلحاق الضرر بالمريض وهو محرم شرعاً. سابعاً: الحلف الكاذب من المحرمات، قال الله تعالى: {إن الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} سورة آل عمران الآية 77. ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يقتطع الرجل حق امرئ مسلم بيمينه إلا حرم الله عليه الجنة وأوجب له النار فقال رجل من القوم: يا رسول الله وإن كان شيئاً يسيراً، فقال صلى الله عليه وسلم: وإن كان سواكاً من أراك) رواه ابن ماجة والبيهقي وغيرهما وهو حديثٌ صحيح. وورد في احديث عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الكبائر: الإشراك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس واليمين الغموس) رواه البخاري. ثامناً: لا يجوز للصيدلي أن يبيع الدواء بأقل من السعر المحدد بقصد الإضرار بغيره من الصيادلة وقد صح في الحديث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار) رواه ابن ماجة والدارقطني والحاكم وغيرهم وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة حديث رقم 250. تاسعاً: ضوابط الإعلان في وسائل الإعلام عن المستحضرات الطبية والأدوية وغيرها من المنتجات كما يلي: 1. أن يكون الإعلان سالماً وخالياً من المحظورات الشرعية فلا يجوز الإعلان عن السلع والأمور المحرمة كالخمور والمخدرات ونحوها. 2. لا يجوز أن تستعمل في الإعلان وسائل محرمة كظهور النساء العاريات أو يظهر في الإعلان أناس يشربون الخمر ونحو ذلك. 3. أن يكون الإعلان صادقاً في التعبير عن حقيقة السلعة لأننا نلاحظ أن كثيراً من الإعلانات التجارية فيها مبالغة واضحة في وصف السلع وغالباً ما تكون هذه الأوصاف كاذبة وغير حقيقية ويعرف صدق هذا الكلام بالتجربة. إن الإعلان الكاذب عن السلع والذي يظهرها على غير حقيقتها يعتبر تغريراً وغشاً وخداعاً وكل ذلك محرم في شريعتنا الإسلامية ويؤدي إلى أكل أموال الناس بالباطل. يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} سورة النساء الآية 29. ويدخل ضمن الغش والخداع أن يُذكر في الإعلان أوصاف للسلعة ولا تكون فيها حقيقة كما ورد في رسالة نقيب الصيادلة أن بعض الصيادلة يعلن عن أدوية نباتية تعالج أكثر من مئة مرض ولا شك أن في ذلك دجلاً وتضليلاً للمستهلك. 4. أن لا يترتب على الإعلان عن السلعة إلحاق الضرر بسلع الناس الآخرين كأن يذم الأصناف المشابهة، لأن هذا من الضرر الممنوع شرعاً. عاشراً: يحرم على الصيدلي أن يتعامل مع الأدوية المزيفة، لما في ذلك من إلحاق الأذى والضرر بالناس.
وخلاصة الأمر أن الصيادلة وغيرهم من المتعاملين بالأدوية يطلب منهم أن يتقوا الله عز وجل في المرضى ويطلب منهم أن يتذكروا أن مهنتهم فيها أبعاد إنسانية، ولا يصح أن ينظروا فقط إلى الربح المادي، وأن يجعلوا الصدق في المعاملة شعاراً لهم.(12/33)
34 - صندوق التكافل والتقاعد
يقول السائل: إنه يعمل في إحدى الهيئات الدولية وعندهم صندوق تقاعد ويقوم نظامه على أن يحسم من راتب الموظف 7% شهرياً وتدفع الهيئة 14%، ويتم تشغيل المال بالفائدة، ثم ذكر السائل طريقتين لاستفادة الموظف من هذا الصندوق، كما وسألني شخص آخر عن صندوقين يتبعان إحدى النقابات، أحدهما يسمى صندوق إنهاء خدمة ويقوم نظامه على أن يدفع المشترك رسم اشتراك لمرة واحدة بالإضافة لقسط سنوي وعندما يبلغ المشترك سن الخامسة والستين يعطى حسب معادلة ذكرها السائل في رسالته، وأما الصندوق الآخر فيسمى صندوق التكافل الاجتماعي وهو خاص لحالة وفاة المشترك حيث يدفع كل عضو مبلغاً محدداً عند وفاة أحد المشتركين. وقد طلب السائلان بيان حكم هذه الصناديق؟ الجواب: إن الإسلام قد حث على التعاون والتكافل وإن فكرة إنشاء صناديق للتكافل الاجتماعي فكرة طيبة وقد قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} سورة المائدة الآية 2. ولكن يجب أن تكون صناديق التكافل الاجتماعي وما شابهها منضبطة بالضوابط الشرعية لكي يصح الاشتراك فيها وسأذكر مجموعة من هذه الضوابط:
أولاً: يجب أن تقوم هذه الصناديق على فكرة التكافل والتعاون وينبغي النص على ذلك في اللوائح المنظمة لعمل الصندوق.
ثانياً: يحرم الاشتراك في أي صندوق إذا كانت أمواله تشغل بطرق محرمة شراً مثل تشغيل الأموال في البنوك الربوية بالفائدة، ومثل المتاجرة بأسهم الشركات التي يحرم التعامل بأسهمها، ومثل تشغيل الأموال في البورصات العالمية لأن أكثر تعاملاتها محرمة شرعاً،
وهذا في حالة كون الاشتراك في هذه الصناديق اختيارياً، وأما إذا كان الاشتراك إجبارياً، فيجوز الاشتراك في الصندوق بشرط أن يتخلص المشترك من الفوائد الربوية كما سيأتي. وحسب ما أعلم فإن معظم صناديق التكافل وصناديق التوفير والتقاعد التابعة لكثير من المؤسسات تشغل أموالها في البنوك الربوية بالفائدة، ومن المعلوم أن تحريم الربا قطعي في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم
ولا يقولن قائلٌ إن الموظف ليس مسئولاً عما قام به الصندوق من تشغيل أمواله بالربا أو أن الإثم يقع على المسؤول عن الصندوق أو نحو ذلك من الاعتذارات التي تردها قواعد الشريعة الإسلامية فإنه ينبغي أن يعلم أنه لا يجوز للمسلم أن يكون طرفاً في أي عملية ربوية بطريق مباشر أو غير مباشر، لأن الربا محرم بنصوص صريحة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فمن ذلك قوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} سورة البقرة الآيات 275-279. ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (اجتنبوا السبع الموبقات – المهلكات – قلنا: وما هي يا رسول الله؟ قال: الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات) رواه مسلم. وجاء في الحديث عن جابر رضي الله عنه قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه وقال: هم سواء) رواه مسلم، وفي رواية النسائي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: (آكل الربا ومؤكله وشاهداه وكاتبه إذا علموا ذلك ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة) وهو حديث صحيح، وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الربا ثلاثة وسبعون شعبة أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه) رواه الحاكم وصححه، وقال العلامة الألباني صحيح. انظر صحيح الجامع الصغير 1/633. وغير ذلك من النصوص.
ثالثاً: إن الاتفاق على أن يدفع الصندوق مبلغاً معيناً عند بلوغ المشترك سن الستين أو الخامسة والستين أو عند وفاته قبل بلوغه تلك السن المتفق عليها، مع كون هذا المبلغ لا علاقة له بالاشتراكات التي دفعها المشترك، يعتبر من باب الربا، لأنه دفع مبلغاً محدداً وأخذ أكثر منه، وفي المعادلة التي ذكرها السائل الثاني أنه إذا ساهم مشترك في الصندوق مدة عشرين سنة وتوفي وعمره 65 سنة فيحسب له كما يلي: عدد سنوات الاشتراك - 4 × عدد المشتركين×10 ويقسم الناتج على 30، ثم ذكر السائل نتيجة المعادلة بأن ورثته يحصلون على مبلغ قدره 26666 ديناراً مع العلم أن مجموع اشتراكاته كان 2050 دينار، وأما إذا توفي المشترك قبل بلوغه 65 سنة فإن الصندوق يعيد له ما دفعه من أقساط فقط، والذي يتضح مما ذكر أن هذه المعاملة ربوية لأن المشترك سيحصل على مبلغ أكبر بكثير من الأقساط التي دفعها، وهذه المعاملة ليست مبنية على فكرة التكافل أو التعاون.
رابعاً: من القواعد المقررة شرعاً لصحة أي معاملة أن لا يكون فيها غرر وهو ما كان مجهول العاقبة لا يدرى هل يحصل أم لا؟ وقد صح في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر) رواه مسلم، ومعاملة الصندوق حسب ما أفاد السائل الثاني فيها غرر واضح حيث إنه قد يشترك شخص في هذا الصندوق وعمره ثلاثون سنة مثلاً ولا يدري هل يصل إلى سن 65 سنة أم لا؟
خامساً: إذا كانت فكرة الصندوق قائمة على التعاون والتكافل ودفعت الأموال على سبيل التبرع فلا حرج في ذلك، بل هذا أمر حضت عليه الشريعة كما قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} ، وصح في الحديث عن ابن عمر رضى الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه؛ من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته؛ ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة) رواه البخاري ومسلم. وقال صلى الله عليه وسلم: (من فرج عن مسلم كربةً فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة) رواه البخاري، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من نفَّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفَّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن يسر على معر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه …) رواه مسلم. وقال صلى الله عليه وسلم (من يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة) رواه مسلم، وقال صلى الله عليه وسلم: (الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء) رواه أبو داود والترمذي وغيرهما وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما يرحم الله من عباده الرحماء) رواه البخاري.
إذا تقرر هذا فإن ما ذكره السائل الثاني عن صندوق التكافل الخاص بحالة وفاة المشترك حيث يدفع كل عضو مبلغاً محدداً عند وفاة أحد المشتركين، فهذا أمر جائز ومرغب فيه شرعاً.
وأخيراً أنبه على ما ورد في رسالة السائل الأول من صرف الفوائد في تسديد الضرائب المترتبة على المشترك أو في استخراج رخصة بناء ونحو ذلك فأقول: لا يجوز الانتفاع بتلك الأموال انتفاعاً شخصياً كأن ينفقها الشخص على نفسه أو على أهله فهذه الأموال لا تحل للشخص أبداً، ولا يحل له إنفاقها في مصالحه الشخصية كتسديد الضرائب المترتبة على المشترك أو في استخراج رخصة بناء. وعليه إنفاق تلك الأموال على الفقراء والمحتاجين والغارمين والمؤسسات الخيرية ومصالح المسلمين العامة كبناء مدرسة أو مستشفى أو تجهيز شارع ونحو ذلك. وقد أفتى بذلك طائفة من علماء العصر منهم فضيلة الشيخ العلامة مصطفى الزرقا رحمة الله عليه حيث قال: [إن التدبير الصحيح الشرعي في هذه الفوائد أن يأخذها المودع من المصرف دون أن ينتفع بها في أي وجه من وجوه الانتفاع فعليه أن يأخذ تلك الفوائد التي يحتسبها له المصرف الربوي عن ودائعه ويوزعها على الفقراء حصراً أو قصراً لأنهم مصرفها الوحيد] . وهذا رأي سديد إن شاء الله ولكن لا أوافقه على قصر تلك الأموال على الفقراء فقط بل يجوز صرفها في مصالح المسلمين العامة كما ذكرت.
وخلاصة الأمر أن الإسلام قد أقر مبدأ التكافل والتعاون على الخير وأن إنشاء صندوق للتكافل والتعاون داخل في ذلك ما دام نظام الصندوق مضبوطاً بالضوابط الشرعية.(12/34)
35 - تسمية الثمن شرط لصحة البيع بخلاف قبضه عند العقد ليس شرطا
يقول السائل: ذهبت إلى تاجر مواد بناء فاشتريت منه كمية من حديد البناء واتفقنا على السعر على أن يتم تسليم الحديد بعد شهر من الاتفاق وعندها أدفع له الثمن، وعندما حان موعد التسليم طالبني التاجر بزيادة السعر بحجة أن سعر الحديد قد ارتفع عن سعر يوم الاتفاق وقال إنه غير ملزم بتسليمي الحديد بالسعر المتفق عليه سابقاً لأن عقد البيع لم يتم لأنني لم أدفع له الثمن، فما الحكم أفيدونا؟ الجواب: البيع هو: مبادلة المال بالمال تمليكاً وتملكاً، كما قال الشيخ ابن قدامة المقدسي في المغني 3/480.
وركن البيع هو الإيجاب والقبول أي الصيغة كما قرر فقهاء الحنفية وعند جمهور الفقهاء يضاف للصيغة العاقدان – البائع والمشتري - ومحل العقد – المبيع والثمن - فهذه أركان عقد البيع عندهم
انظر الموسوعة الفقهية الكويتية 9/10.
وقد اتفق الفقهاء على أن تسمية الثمن وتعيينه تعتبر من شروط صحة عقد البيع فلا بد أن يكون الثمن معلوماً، قال الإمام النووي [يشترط في صحة البيع أن يذكر الثمن في حال العقد فيقول: بعتكه بكذا , فإن قال: بعتك هذا واقتصر على هذا فقال المخاطب: اشتريت أو قبلت , لم يكن هذا بيعاً بلا خلاف] المجموع 9/171.
وجاء في المادة رقم 237 من مجلة الأحكام العدلية: (تسمية الثمن حين البيع لازمة فلو باع بدون تسمية ثمن كان البيع فاسدا.) وجاء في المادة 238 (يلزم أن يكون الثمن معلوماً) .
وجاء في الموسوعة الفقهية الكويتية عند الكلام عن [شروط الثمن: اتّفق الفقهاء على وجوب تسمية الثمن في عقد البيع، وأن يكون مالاً، ومملوكاً للمشتري، ومقدور التّسليم، ومعلوم القدر والوصف، وإيضاح ذلك فيما يلي:
الشّرط الأوّل - تسمية الثمن:
تسمية الثمن حين البيع لازمة، فلو باع بدون تسمية ثمن كان البيع فاسداً، لأنّ البيع مع نفي الثمن باطل، إذ لا مبادلة حينئذ، ومع السّكوت عنه فاسد، كما ذكر الحنفيّة.
فإذا بيع المال ولم يذكر الثمن حقيقة، كأن يقول البائع للمشتري: بعتك هذا المال مجّاناً أو بلا بدل فيقول المشتري: قبلت، فهذا البيع باطل.
وإذا لم يذكر الثمن حكماً، كأن يقول إنسان لآخر: بعتك هذا المال بالألف الّتي لك في ذمّتي، فيقبل المشتري، مع كون المتعاقدين يعلمان أن لا دين، فالبيع في مثل هذه الصّورة باطل أيضاً، ويكون الشّيء هبة في الصّورتين.
وإذا كان الثمن مسكوتاً عنه حين البيع فالبيع فاسد وليس بباطل، لأنّ البيع المطلق يقتضي المعاوضة، فإذا سكت البائع عن الثمن كان مقصده أخذ قيمة المبيع، فكأنّه يقول: بعت ما لي بقيمته، وذكر القيمة مجملة يجعل الثمن مجهولاً فيكون البيع فاسداً.
وبيع التّعاطي صحيح عند الجمهور لأنّ الثمن والمثمّن معلومان، فيه والتّراضي قائم بينهما ولو لم توجد فيه صفة. وعند المالكيّة والشّافعيّة لا ينعقد البيع إلاّ بتسمية الثمن ... وفي المجموع قال النّوويّ: يشترط في صحّة البيع أن يذكر الثمن في حال العقد، فيقول: بعتك كذا بكذا، فإن قال: بعتك هذا، واقتصر على هذا، فقال المخاطب: اشتريت أو قبلت لم يكن هذا بيعا بلا خلاف، ولا يحصل به الملك للقابل على المذهب، وبه قطع الجمهور، وقيل: فيه وجهان أصحّهما هذا، والثاني: يكون هبة. وقال السّيوطيّ: إذا قال: بعتك بلا ثمن، أو لا ثمن لي عليك، فقال: اشتريت وقبضه فليس بيعاً، وفي انعقاده هبة قولاً تعارض اللّفظ والمعنى، وإذا قال البائع: بعتك ولم يذكر ثمناً، فإن راعينا المعنى انعقد هبة، أو اللّفظ فهو بيع فاسد. وأمّا عند الحنابلة فقد جاء في الإنصاف: يشترط معرفة الثمن حال العقد على الصّحيح من المذهب وعليه الأصحاب، واختار الشّيخ ابن تيميّة صحّة البيع وإن لم يسمّ الثمن، وله ثمن المثل كالنّكاح.] الموسوعة الفقهية الكويتية 15/26- 27.
وأما قبض الثمن فليس ركناً لعقد البيع ولا شرطاً له ويصح البيع بدون قبض الثمن باتفاق الفقهاء يقول الله سبحانه وتعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} سورة البقرة الآية 282. وثبت عن عائشة رضي الله عنها قالت: (اشترى رسول الله صلى الله عليه وسلم من يهودي طعاماً بنسيئة إلى أجل ورهنه درعاً من حديد) رواه البخاري ومسلم.
فهذه الأدلة وغيرها تدل على جواز تأجيل الثمن في البيع.
وأما بالنسبة لتأخير قبض المبيع وتسليمه فهو جائز على الراجح من أقوال أهل العلم وعلى هذا جرى تعامل الناس قديماً وحديثاً مع بعض الاستثناءات كما في بيع الطعام. ويدل على ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} سورة المائدة الآية 1. وقوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} سورة النحل الآية 91. وقوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} سورة الإسراء الآية 34. ومما يدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً حرم حلالاً أو أحل حراماً والمسلمون على شروطهم إلا شرطاً حرم حلالاً أو أحل حراماً) رواه الترمذي وقال: حسن صحيح ورواه البخاري تعليقاً بصيغة الجزم لكنه بدون الاستثناء ورواه كذلك الحاكم وأبو داود عن أبي هريرة بلفظ (المسلمون عند شروطهم) أي بدون الاستثناء.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: [إن الوفاء بها أي بالالتزامات التي التزم بها الإنسان من الواجبات التي اتفقت عليها الملل بل العقلاء جميعاً] مجموع الفتاوى 29/516 والقواعد النورانية ص53.
إذا تقرر هذا فإن الفقهاء قد اتفقوا على أن البيع من العقود اللازمة لا الجائزة، ومعنى لزوم العقود وجوازها: أنه يقصد بلزوم العقد عدم جواز فسخه من قبل أحد العاقدين إلا برضا العاقد الآخر, وما جاز للعاقد فسخه بغير رضا العاقد الآخر يسمّى عقداً جائزاً. فالبيع والسّلم والإجارة عقود لازمة , إذ أنّها متى صحّت لا يجوز فسخها بغير التّقايل , ولو امتنع أحد العاقدين عن الوفاء بها أجبر. الموسوعة الفقهية الكويتية 35/238.
ويترتب على كون العقد من العقود اللازمة أنه بمجرد انعقاد العقد بطريقة صحيحة شرعاً يجب الوفاء بمقتضى العقد ولا يحق لأحد المتعاقدين فسخ العقد أو إبطاله أو تعديله إلا بموافقة الطرف الثاني وتوضيح ذلك في السؤال المذكور أعلاه أنه لا يجوز شرعاً أن يطالب التاجر بزيادة السعر عما تم العقد عليه إلا بموافقة المشتري وهذا محل اتفاق بين الفقهاء.
وخلاصة الأمر أن العقد الذي تم بين السائل وتاجر مواد البناء عقد صحيح وهو عقد لازم للطرفين فيجب الوفاء به ولا يجوز للتاجر أن يطلب رفع السعر لأن البيع قد تم على السعر المتفق عليه ويلزم التاجر إنفاذ العقد كما اتفق عليه مع المشتري، وقول التاجر إنه غير ملزم بتسليم الحديد بالسعر المتفق عليه سابقاً لأن عقد البيع لم يتم لأنه لم يتم دفع الثمن، قول باطل فقبض الثمن ليس شرطاً لصحة العقد، وإنما الشرط هو تسمية الثمن وقد حصلت.(12/35)
36 - دفع أجرة العقار مقدمأ
يقول السائل: إنه قد استأجر محلاً تجارياً وقد شرط عليه المؤجر أن يدفع نصف الأجرة السنوية مقدماً عند توقيع عقد الإجارة فوافق على ذلك ولكن بعض الناس قالوا إن ذلك لا يجوز، فما الحكم في هذه المسألة، أفيدونا؟ الجواب: الإجارة عند الفقهاء عقد معاوضة على تمليك منفعة بعوض وهو عقد مشروع بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وانعقد الإجماع على ذلك يقول تعالى {فإن أرضعن لكم فآتوهنّ أجورهن} . وورد في الحديث عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه) رواه ابن ماجة وصححه العلامة الألباني في إرواء الغليل حديث رقم 1498.
وجاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (قال الله تعالى ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة رجل أعطى بي ثم غدر ورجل باع حراً فأكل ثمنه ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره) رواه البخاري.
وعقد الإجارة يقع على المنافع فمن استأجر بيتاً فإنه يملك منفعته فقط وهي السكنى وعقد الإجارة لا يفيد تملك العين المؤجرة وإن طالت مدة الإجارة. فمهما طالت مدة الإجارة تبقى العين المؤجرة ملكاً لصاحبها فلو أن شخصاً سكن في بيت بالإجارة لمدة خمسين عاماً فيبقى البيت لصاحبه ولا يصير ملكاً للمستأجر أبداً.
وقد أجاز كثير من أهل العلم عقد الإجارة مشاهرة بدون تحديد وقت لانتهاء العقد
إذا تقرر هذا فإنه يجوز الاتفاق بين المستأجر والمؤجر على تعجيل الأجرة وتأجيلها إلى أجل معلوم والمرجع في ذلك هو اتفاقهما اتفاقاً واضحاً يقطع النزاع والخصومة
قال الشيخ ابن قدامة المقدسي عند كلامه على أحكام الإجارة [الحكم السادس , أنه إذا شرط تأجيل الأجر فهو إلى أجله وإن شرطه منجماً - أي مقسطاً - يوماً يوماً , أو شهراً شهراً أو أقل من ذلك أو أكثر فهو على ما اتفقا عليه لأن إجارة العين كبيعها , وبيعها يصح بثمن حال أو مؤجل فكذلك إجارتها] المغني 5/330.
وقال الكاساني الحنفي [فأما إذا شرط في تعجيلها ملكت بالشرط وجب تعجيلها , فالحاصل أن الأجرة لا تملك عندنا إلا بأحد معان ثلاثة: أحدها: شرط التعجيل في نفس العقد , والثاني: التعجيل من غير شرط: والثالث: استيفاء المعقود عليه أما ملكها بشرط التعجيل فلأن ثبوت الملك في العوضين في زمان واحد لتحقيق معنى المعاوضة المطلقة وتحقيق المساواة التي هي مطلوب العاقدين , ومعنى المعاوضة والمساواة لا يتحقق إلا في ثبوت الملك فيهما في زمان واحد , فإذا شرط التعجيل فلم توجد المعاوضة المطلقة بل المقيدة بشرط التعجيل فيجب اعتبار شرطهما لقوله صلى الله عليه وسلم المسلمون عند شروطهم. فيثبت الملك في العوض قبل ثبوته في المعوض ; ولهذا صح التعجيل في ثمن المبيع وإن كان إطلاق العقد يقتضي الحلول , كذا هذا] بدائع الصنائع 4/61.
وقال الشيخ سيد سابق [اشتراط تعجيل الأجرة وتأجيلها: ... ويصح اشتراط تعجيل الأجرة وتأجيلها كما يصح تعجيل البعض وتأجيل البعض الآخر، حسب ما يتفق عليه المتعاقدان لقول الرسول صلى الله عليه وسلم،: " المسلمون عند شروطهم ". فإذا لم يكن هناك اتفاق على التعجيل أو التأجيل فإن كانت الأجرة مؤقتة بوقت معين فإنه يلزم إيفاؤها بعد انقضاء ذلك الوقت. فمن أجر داراً شهراً مثلاً ثم مضى الشهر فإنه تجب الأجرة بانقضائه ... وإن كان عقد الإجارة على عمل فإنه يلزم إيفاؤها عند الانتهاء من العمل. وإذا أطلق العقد ولم يشترط قبض الأجرة ولم ينص على تأجيلها: قال أبو حنيفة ومالك رضي الله عنهما: إنها تجب جزءً جزءً بحسب ما يقبض من المنافع. وقال الشافعي وأحمد: إنها تستحق بنفس العقد، فإذا سلم المؤجر العين المستأجرة إلى المستأجر استحق جميع الأجرة، لأنه قد ملك المنفعة بعقد الإجارة ووجب تسليم الأجرة ليلزم تسليم العين إليه. استحقاق الأجرة: وتستحق الأجرة بما يأتي: 1 - الفراغ من العمل، لما رواه ابن ماجه أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: " أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه ".
2 - استيفاء المنفعة إذا كانت الإجارة على عين مستأجرة، فإذا تلفت العين قبل الانتفاع ولم يمض شيء من المدة بطلت الإجارة.
3 - التمكن من استيفاء المنفعة، إذا مضت مدة يمكن استيفاء المنفعة فيها ولو لم تستوف بالفعل.
4 - تعجيلها بالفعل أو اتفاق المتعاقدين على اشتراط التعجيل.] فقه السنة 4/107-108.
وتعجيل الأجرة أمر تعارف الناس عليه منذ عهد بعيد وخاصة في المنافع المضمونة كما هو الحال فيمن يشتري تذكرة لركوب طائرة أو سفينة أو قطار أو سيارة فإن دفع الأجرة يكون مقدماً وكذا عند استئجار محل تجاري فقد جرى العرف عند كثير من الناس على استيفاء بعض الأجرة مقدماً، كما أن العرف قد جرى على تأخير دفع الأجرة إذا كانت الإجارة واردة على عمل الشخص كمن يستأجر عاملاً ليشتغل في أرضه مثلاً، فإن العرف قد جرى على أن تدفع الأجرة بعد أن ينتهي العامل من العمل، ومن المعلوم عند أهل العلم أن العرف معتبر، كما قال العلامة ابن عابدين الحنفي في منظومته:
والعرف له اعتبار فلذا الحكم عليه قد يدار
انظر نشر العرف في بناء بعض الأحكام على العرف في الجزء الثاني من رسائل العلامة ابن عابدين ص112.
وخلاصة الأمر أن الاتفاق بين المؤجر والمستأجر على أن يدفع المستأجر نصف الأجرة السنوية مقدماً عند توقيع عقد الإجارة جائز ولا حرج فيه ما دام أن الاتفاق قد تم برضا المتعاقدين.(12/36)
37 - جعل سعر الفائدة مؤشرا للربح في البنوك الإسلامية
يقول السائل: إنه أراد أن يشتري سيارة من أحد البنوك الإسلامية بطريقة المرابحة على أن يقسط ثمنها لمدة سنتين وتبين له أن البنك الإسلامي يحسب نسبة الربح التي يتقاضاها حسب نسبة الفائدة في البنوك التقليدية فما الحكم في ذلك أفيدونا؟ الجواب: ينبغي أن يعلم أولاً أن الفكرة الأساسية التي تقوم عليها البنوك الإسلامية هي البعد عن الربا في جميع معاملاتها أخذاً وإعطاءً بخلاف البنوك التجارية الربوية التي تقوم أكثر معاملاتها على الربا أخذاً وإعطاءً.
وصورة بيع المرابحة للآمر بالشراء المستعملة في البنوك الإسلامية هي أن يتفق العميل والبنك على أن يقوم العميل بشراء البضاعة بربح معلوم بعد شراء البنك لها ودخولها في ملك البنك الإسلامي دخولاً فعلياً، هذه الصورة متفرعة عن بيع المرابحة المعروف عند الفقهاء قديماً وهو بيع بمثل الثمن الأول مع زيادة ربح. ولا بد أن يعلم أيضاً أن الفرق بين الربح وبين الربا (الفائدة) ، فالربح هو الزيادة على رأس المال نتيجة تقليبه في النشاط التجاري، أو هو الزائد على رأس المال نتيجة تقليبه في الأنشطة الاستثمارية المشروعة كالتجارة والصناعة وغيرها. انظر الربح في الفقه الإسلامي ص 44. والربح عند الفقهاء ينتج من تفاعل عنصري الإنتاج الرئيسيين وهما العل ورأس المال، فالعمل له دور كبير في تحصيل الربح. المصدر السابق ص 44-45. وأما الفائدة فهي زيادة مستحقة للدائن على مبلغ الدين يدفعها المدين مقابل احتباس الدين إلى تمام الوفاء. انظر الفائدة والربا ص 16. فالفائدة الربوية هي زيادة في مبادلة مال بمال لأجل أي أن الفائدة هي مقابل المدة الزمنية.
إذا تقرر هذا فنعود إلى السؤال فنقول إن البنوك الإسلامية تعمل في ظل تنافس شديد مع البنوك التجارية الربوية وتواجه البنوك الإسلامية عقبات كثيرة تحد من تقدمها وازدهارها ومع ذلك فإن كثيراً من البنوك الإسلامية ما زالت تعتمد في معاملاتها على أنواع من المعاملات الشرعية التي ترتب لها ديوناً كبيرة على جمهور المتعاملين معها كالبيوع الآجلة ومنها بيع المرابحة للآمر بالشراء، ولحساب نسبة الربح أو هامش الربح في بيع المرابحة للآمر بالشراء لابد من النظر إلى أمرين أساسين وهما تكلفة شراء السلعة على البنك الإسلامي ثم نسبة الربح التي يتقاضاها البنك الإسلامي ومن المعلوم أن هذه النسبة ليست ثابتة فإذا باع البنك الإسلامي السلعة مرابحة على أن يقسط الثمن على سنة تكون النسبة أقل مما لو باعها بالتقسيط على سنتين، وهذا الأمر جعل كيفية حساب هامش الربح شبيهة بسعر الفائدة في البنوك التجارية الربوية مما جعل الأمرين متشابهين في الصورة ولا شك أن هنالك [اختلافاً جذرياً يتمثل في أن الفائدة هي زيادة مشروطة في قرض، بينما أن هامش المرابحة هو جزء من ثمن بيع آجل صحيح؛ برغم ذلك فهي مرتبطة بأسعار الفائدة العالمية، ولا يعني ذلك أنها مساوية لها بالضرورة، ولكنها تتغير معها نزولاً وصعوداً، الأمر الذي يوحي بأنهما صنوان، ولطالما انتقدت البنوك الإسلامية، وشكك المشككون فيها بناء على ما يرون من ارتباط بين هامش الربح وأسعار الفائدة العالمية] مجلة مجمع الفقه الإسلامي عدد8 ج3 /682. ومن أسباب هذا التشابه في الصورة بين هامش الربح في البنوك الإسلامية وأسعار الفائدة في البنوك التجارية الربوية هو أن [البنوك الإسلامية تمارس نشاطها المصرفي في بيئة تتنافس فيها مع البنوك التقليدية، ويمثل الجميع أعضاءً في سوق واحد، وسواء كانت هذه البنوك تمارس نشاطها بصفة أساسية داخل بلدانها أو على نطاق دولي فإنه يبقى أن البديل لصيغ تمويلها المقبولة شرعاً هو الاقتراض بالفائدة، ولذلك فهي مضطرة في تحديد هوامش الربح (والتي تمثل ببساطة ثمن الخدمة التي تقدمها) أن تأخذ في اعتبارها هذه الحقيقة، فهي لا تستطيع أن تحدد هامش ربح يزيد كثيراً على أسعار الفائدة السائدة؛ لأنها إذا فعلت تركها الناس ومالوا إلى البنوك التقليدية (إلا من رحم ربك) ، وهي لا تستطيع أن تحدد هامش مرابحة يقل كثيراً عن أسعار الفائدة؛ لأنها عندئذٍ سوف توزع على المودعين لديها وملاك البنوك أرباحاً تقل عن أسعار الفائدة التي يمكن أن يحصلوا عليها في البنوك التقليدية فيتركونها إلى البنوك التقليدية (إلا من رحم ربك) ، لا شك في أننا نعيش في أوضاع غير مثالية، ولذلك لا نستطيع أن نفترض أن جميع المسلمين سوف يتجاهلون هذين العاملين لأنهم في الواقع لن يفعلوا، لذلك تجد البنوك الإسلامية نفسها مضطرة إلى ربط معدلات أرباحها بأسعار الفوائد الدولية] مجلة مجمع الفقه الإسلامي عدد8 ج3 /682.
وكذلك فإن من [عوامل وجود التقارب بين هامش ربح التمويل الإسلامي مع التمويل التقليدي هو عدم وجود سوق مالية إسلامية قادرة على خلق أدوات مالية إسلامية مستقلة بذاتها قادرة على استيعاب السيولة الموجودة واستخدامها لطرق إسلامية، ومن ثم خلق مؤشر إسلامي مستقل لقياس هامش أرباح الأدوات الإسلامية بناء على مؤشرات هذا السوق] نقلاً عن صحيفة الشرق الأوسط عن شبكة الإنترنت. ومما شك فيه أن البنوك الإسلامية بحاجة إلى إيجاد مؤشر خاص بها لتحديد نسبة الربح أو هامش الربح وقد أكد على ذلك مجمع الفقه الإسلامي حيث ورد في قرار المجمع ما يلي: [الإسراع بإيجاد المؤشر المقبول إسلامياً الذي يكون بديلاً عن مراعاة سعر الفائدة الربوية في تحديد هامش الربح في المعاملات] مجلة مجمع الفقه الإسلامي عدد8 ج3 /793.
وبناءً على ما سبق فلا يوجد ما يمنع شرعاً من أن يكون سعر الفائدة مؤشراً لتحديد نسبة الربح في البنوك الإسلامية في بيع المرابحة للآمر بالشراء وغيره من معاملاتها [فلا يوجد في الشريعة - بحسب ما نعلم- طريقة لحساب الربح، والمعول في المعاملات هو على صيغة العقد لا على طريقة الحساب، فإذا كان بيعاً وجب أن يكون مكتمل الأركان تام الشروط خالياً من الربا والغرر والغش والغبن ... إلخ، فإذا توفر ذلك فلا أهمية للطريقة التي حسب بها الربح، وهذا يعني أن ربط هامش الربح بأسعار الفائدة مقبول إذا كانت صيغة البيع صحيحة] مجلة مجمع الفقه الإسلامي عدد8 ج3 /683 - 684. وانظر أيضاً الربح في الفقه الإسلامي ضوابطه وتحديده في المؤسسات المالية المعاصرة ص 246.
وخلاصة الأمر أن يجوز شرعاً جعل أسعار الفائدة مؤشراً لتحديد نسبة الربح في البنوك الإسلامية وإن التشابه بين الأمرين إنما هو تشابه في الصورة فقط مع الاختلاف في الجوهر والحقيقة والواقع، حيث إن الربح الذي تتقاضاه البنوك الإسلامية إنما هو جزء من ثمن بيع آجل صحيح لا غبار عليه من الناحية الشرعية، بينما الفائدة الربوية هي زيادة في مبادلة مال بمال لأجل، أي أن الفائدة هي مقابل المدة الزمنية. ولا بد للبنوك الإسلامية أن تسعى لإيجاد مؤشر خاص بها لتحديد هامش أرباحها.(12/37)
38 - بيع العملات بالهامش (المارجن)
يقول السائل: إنه بدأ التعامل مع إحدى شركات الوساطة المالية لبيع وشراء العملات في البورصات العالمية بما يعرف بالبيع بالهامش (المارجن) وإن الشركة المذكورة تعتمد على فتوى لمجلس الفتوى الفلسطيني تجيز التعامل المذكور حيث وضعت الفتوى على موقع شركة الوساطة على الإنترنت، فما قولكم في ذلك؟ الجواب: لا بد أولاً من بيان حقيقة ما يسمى البيع بالهامش أو ما يعرف بالمارجن [لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره. فيقصد بالشراء بالهامش: شراء العملات بسداد جزء من قيمتها نقداً بينما يسدد الباقي بقرض مع رهن العملة محل الصفقة. والهامش هو التأمين النقدي الذي يدفعه العميل للسمسار ضماناً لتسديد الخسائر التي قد تنتج عن تعامل العميل مع السمسار. وفي هذه المعاملة يفتح العميل حساباً بالهامش لدى أحد سماسرة سوق العملات، الذي يقوم بدوره بالاقتراض من أحد البنوك التجارية - وقد يكون السمسار هو البنك المقرض نفسه- لتغطية الفرق بين قيمة الصفقة وبين القيمة المدفوعة كهامش. مثال ذلك: لنفرض أن عميلاً فتح حساباً بالهامش لدى أحد السماسرة، وضع فيه العميل تأميناً لدى السمسار بمقدار عشرة آلاف دولار. وفي المقابل يُمَكِّن السمسارُ العميلَ بأن يتاجر في بورصة العملات بما قيمته مليون دولار، أي يقرضه هذا المبلغ برصده في حسابه لديه - أي لدى السمسار- ليضارب العميل به، فيشتري بهذا لرصيد من العملات الأخرى كاليورو مثلاً، ثم إذا ارتفع اليورو مقابل الدولار باع اليورو، وهكذا، فيربح العميل من الارتفاع في قيمة العملة المشتراة.] عن الإنترنت
إن ما يتم في البورصات العالمية من بيع وشراء للعملات المختلفة مخالف في أغلبه لقواعد الصرف المعروفة عند الفقهاء وأهمها التقابض في مجلس العقد، فقد اتفق أهل العلم على أن من شروط عقد الصرف تقابض البدلين من المتعاقدين في مجلس العقد قبل افتراقهما. قال ابن المنذر: [أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن المتصارفين إذا افترقا قبل أن يتقابضا أن الصرف فاسد] المغني4/41. ويدل على ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلاً بمثل سواء بسواء يداً بيد فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد) رواه مسلم. فلذلك يشترط في عملية بيع عملة بأخرى أن يتم تبادل العملتين في المجلس ولا يجوز تأجيل قبض إحداهما وإن حصل التأجيل فالعقد باطل قال الإمام النووي: [قوله صلى الله عليه وسلم: (يداً بيد) حجة للعلماء كافة في وجوب التقابض وإن اختلف الجنس] شرح النووي على صحيح مسلم 4/199.
وإذا تأملنا مسألة البيع بالهامش (المارجن) وجدناها قد أخلت بهذا الشرط المتفق عليه بين العلماء فلا يوجد فيه قبض لا حقيقي ولا حكمي، وقد ظن بعض المفتين أن تسجيل العملية في قيد المتعامل لدى شركة الوساطة هو قبض حكمي، وهذا ظن خاطئ لأنه يوجد ما يسمى بالتسوية المالية (Settlement) أو ما يعرف بنظام (السبوت SPOT) وهذه التسوية لا تكون إلا بعد يومي عمل على أقل تقدير وقد تزيد عن ذلك [مع مراعاة أيام العطلات الرسمية في حساب تواريخ الاستحقاق وهي: السبت والأحد في أوروبا وأمريكا والجمعة في الشرق الأوسط. ويترتب على ذلك أنه إذا تم تبادل بين عملة أوروبية أو أمريكية مقابل عملة أوروبية يوم الجمعة فسيكون التسليم الفعلي يوم الثلاثاء بإهدار يومي السبت والأحد لأنهما عطلة رسمية في أوروبا وأمريكا. وإذا تم تبادل بين عملة أوروبية أو أمريكية مقابل عملة شرق أوسطية يوم السبت فسيكون التسليم الفعلي يوم الأربعاء بإهدار أيام الجمعة والسبت والأحد؛ لأنها أيام عطلة في الشرق الأوسط فكأن العملية تمت يوم الإثنين فيكون التسليم يوم الأربعاء بعد يومي عمل، وما يحدث يوم التعاقد هو تسجيل للعملية فقط] ويقول الشيخ الدكتور سامي بن إبراهيم السويلم (باحث في الاقتصاد الإسلامي من علماء المملكة العربية السعودية) : [هناك فرق بين إجراء البيع والشراء وبين التسوية، فإجراء العقد يتم في ثوان كما أشار الأخ الكريم. أما التسوية (settlement) ، فهي تعني دخول المبلغ في حساب المشتري، ودخول العوض في حساب البائع، بحيث يمكن لكل طرف أن يتصرف في المبلغ لمصلحته الخاصة بالسحب وغيره، وبهذا يتحقق التقابض بين الطرفين. لا يوجد حتى الآن في سوق العملات الدولية تقابض أو تسوية فورية تتم في لحظة إنجاز العقد، بل يتأخر التقابض لمدة يومين (ويشار إليه بـ (T+2) أو أكثر. في بعض الحالات يمكن للمتعامل اشتراط أن تتم التسوية في نفس اليوم (T+0) لكن الأصل هو التأخر.] إذن يوجد فرق بين تسجيل العملية في قيد المتعامل وبين التسوية وعليه فإن من يشتري عملة فإنه لا يستطيع سحبها من حسابه قبل عملية التسوية وإن كانت قد سجلت في قيده لدى شركة الوساطة، وبالتالي لا يجوز له بيعها إلا بعد عملية التسوية. وما ورد في الفتوى المشار إليها [ولا يتم بيع أو شراء العملة إلا إذا ملكها المتعامل عن طريق تسجيلها في حسابه عبر الوسائل الحديثة ويتسلم المتعامل مستندات خاصة بكل عملية بيع وشراء بسرعة فائقة عبر وسائل الاتصالات الحديثة، هذا التسجيل في حساب المتعامل أو تسلم المستندات يعتبر في الفقه الإسلامي قبضاً حكمياً للعملة المشتراة أو المباعة فالبيع والشراء بعد القبض الحكمي لا ربا فيه لأن البائع والمشتري يملكان البدلين عند العقد ويتم تسليمها في مجلس العقد هذا ما يتفق مع شروط الصرف الصحيح] وأقول إن هذا الكلام غير صحيح فقهاً، لأنه لا يتم القبض الحكمي في العملية المذكورة إلا بعد التسوية وليس بمجرد التسجيل في حساب المتعامل كما ورد في الفتوى. وكذلك فإن الفتوى المذكورة قد أغفلت قضية هامة عندما ذكرت أن [التمويلات أو التسهيلات المالية والتي هي عبارة عن حساب جارٍ مدين يمنحه البنك للمتعامل لحساب ما يحتاجه لشراء العملات وبيعها هي عبارة عن إذن من البنك للمتعامل بالتصرف في هذا المبلغ وما يسحبه المتعامل أو وكيله هو قرض ويسجل في حساب المتعامل على أنه مدين والقرض في الشريعة الإسلامية مشروع ما دام البنك لا يتقاضى شيئاً على التمويل أو التسهيلات المالية ... ] أقول لو سلمنا بأن هذا القرض بدون فوائد فإنه قرض يجر نفعاً وهو أن البنك يشترط أن يكون التعامل عن طريقه وبهذا يكون قرضاً جرَّ نفعاً وقد اتفق الفقهاء على أن كل قرض جر نفعاً فهو من الربا المحرم. كما أن الفتوى المذكورة قد خالفت ما اتفقت عليه المجامع الفقهية المعتبرة من تحريم التعامل بالمارجن كما ورد في فتوى المجمع الفقهي الإسلامي برابطة العالم الإسلامي، في دورته الثامنة عشرة المنعقدة بمكة المكرمة في الفترة من 10-14/3/1427هـ، الذي يوافقه 8-12إبريل 2006م، قد نظر في موضوع: (المتاجرة بالهامش) ، والتي تعني: (دفع المشتري] العميل [جزءاً يسيراً من قيمة ما يرغب شراءه يسمّىهامشاً، ويقوم الوسيط مصرفاً أو غيره، بدفع الباقي على سبيل القرض، على أن تبقى العقود المشتراة لدى الوسيط، رهناً بمبلغ القرض) . وبعد الاستماع إلى البحوث التي قدمت، والمناقشات المستفيضة حول الموضوع، رأى المجلس أن هذه المعاملة تشتمل على الآتي: (1) المتاجرة (البيع والشراء بهدف الربح) ، وهذه المتاجرة تتم غالباً في العملات الرئيسة، أو الأوراق المالية (الأسهم والسندات) ، أو بعض أنواع السلع، وقد تشمل عقود الخيارات، وعقود المستقبليات، والتجارة في مؤشرات الأسواق الرئيسة. (2) القرض، وهو المبلغ الذي يقدمه الوسيط للعميل مباشرة إن كان الوسيط مصرفاً، أو بواسطة طرف آخر إن كان الوسيط ليس مصرفاً. (3) الربا، ويقع في هذه المعاملة من طريق (رسوم التبييت) ، وهي الفائدة المشروطة على المستثمر إذا لم يتصرف في الصفقة في اليوم نفسه، والتي قد تكون نسبة مئوية من القرض، أو مبلغاً مقطوعاً.
(4) السمسرة، وهي المبلغ الذي يحصل عليه الوسيط نتيجة متاجرة المستثمر (العميل) عن طريقه، وهي نسبة متفق عليها من قيمة البيع أو الشراء. (5) الرهن، وهو الالتزام الذي وقعه العميل بإبقاء عقود المتاجرة لدى الوسيط رهناً بمبلغ القرض، وإعطائه الحق في بيع هذه العقود واستيفاء القرض إذا وصلت خسارة العميل إلى نسبة محددة من مبلغ الهامش، ما لم يقم العميل بزيادة الرهن بما يقابل انخفاض سعر السلعة.
ويرى المجلس أن هذه المعاملة لا تجوز شرعاً للأسباب الآتية:
أولاً: ما اشتملت عليه من الربا الصريح، المتمثل في الزيادة على مبلغ القرض، المسماة (رسوم التبييت) ، فهي من الربا المحرم، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ) (البقرة: 278-279) .
ثانياً: أن اشتراط الوسيط على العميل أن تكون تجارته عن طريقه، يؤدي إلى الجمع بين سلف ومعاوضة (السمسرة) ، وهو في معنى الجمع بين سلف وبيع المنهي عنه شرعاً في قول الرسول ?: " لا يحل سلف وبيع … " الحديث رواه أبو داود (3/384) والترمذي (3/526) وقال: حديث حسن صحيح. وهو بهذا يكون قد انتفع من قرضه، وقد اتفق الفقهاء على أن كل قرض جر نفعاً فهو من الربا المحرم.
ثالثاً: أن المتاجرة التي تتم في هذه المعاملة في الأسواق العالمية غالباً ما تشتمل على كثير من العقود المحرمة شرعاً، ومن ذلك:
1. المتاجرة في السندات، وهي من الربا المحرم، وقد نص على هذا قرار مجمع الفقه الإسلامي بجدة رقم (60) في دورته السادسة.
2. المتاجرة في أسهم الشركات دون تمييز، وقد نص القرار الرابع للمجمع الفقهي الإسلامي برابطة العالم الإسلامي في دورته الرابعة عشرة سنة 1415هـ على حرمة المتاجرة في أسهم الشركات التي غرضها الأساسي محرم، أو بعض معاملاتها ربا.
3. بيع وشراء العملات يتم غالباً دون قبض شرعي يجُيز التصرف.
4. التجارة في عقود الخيارات وعقود المستقبليات، وقد نص قرار مجمع الفقه الإسلامي بجدة رقم (63) في دورته السادسة، أن عقود الخيارات غير جائزة شرعاً، لأن المعقود عليه ليس مالاً ولا منفعة ولا حقاً مالياً يجوز الاعتياض عنه.. ومثلها عقود المستقبليات والعقد على المؤشر.
5. أن الوسيط في بعض الحالات يبيع ما لا يملك، وبيع ما لا يملك ممنوع شرعاً. رابعاً: لما تشتمل عليه هذه المعاملة من أضرار اقتصادية على الأطراف المتعاملة، وخصوصاً العميل (المستثمر) وعلى اقتصاد المجتمع بصفة عامة. لأنها تقوم على التوسع في الديون، وعلى المجازفة، وما تشتمل عليه غالباً من خداع وتضليل وشائعات، واحتكار ونجش وتقلبات قوية وسريعة للأسعار، بهدف الثراء السريع والحصول على مدخرات الآخرين بطرق غير مشروعة، مما يجعلها من قبيل أكل المال بالباطل، إضافة إلى تحول الأموال في المجتمع من الأنشطة الاقتصادية الحقيقية المثمرة إلى هذه المجازفات غير المثمرة اقتصادياً، وقد تؤدي إلى هزات اقتصادية عنيفة تلحق بالمجتمع خسائر وأضراراً فادحة. ويوصي المجمع المؤسسات المالية باتباع طرق التمويل المشروعة التي لا تتضمن الربا أو شبهته، ولا تحدث آثاراً اقتصادية ضارة بعملائها أو بالاقتصاد العام كالمشاركات الشرعية ونحوها، والله ولي التوفيق.] عن الإنترنت
وخلاصة الأمر أن بيع وشراء العملات عن طريق ما يسمى بالبيع بالهامش (المارجن) محرم شرعاً، وأدعو مجلس الفتوى الموقر إلى إعادة النظر في فتواه المذكورة والمؤرخة في 12/6/2006، والتي تستغل من الطامعين بالثراء السريع من المضاربين بالعملات، مع العلم أن هذه المضاربات لا تعود بأي نفع على الاقتصاد المحلي، ولولا ضيق المقام لفصلت الكلام في هذه المسألة.(12/38)
39 - حق الجار في استعمل سور جاره
يقول السائل: هل للجار أن يستخدم سور جاره لتثبيت مواسير عريش دوالي العنب التي له، أفيدونا؟ الجواب: ورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يمنع أحدكم جاره أن يغرز خشبه في جداره) قال ثم يقول أبو هريرة ما لي أراكم عنها معرضين والله لأرمين بها بين أكتافكم) رواه البخاري ومسلم. قال القسطلاني في شرح قول أبي هريرة (ما لي أراكم عنها معرضين والله لأرمين بها بين أكتافكم) : أي لأصرخن بالمقالة فيكم ولأوجعنكم بالتقريع بها كما يضرب الإنسان بالشيء بين كتفيه ليستيقظ من غفلته] عون المعبود 10/46.
وقد ورد هذا الحديث بلفظ خشبه أي جمع خشبة، وورد بالإفراد خشبة، قال الإمام النووي [ ... قال القاضي: روينا قوله: (خشبة) في صحيح مسلم وغيره من الأصول والمصنفات (خشبة) بالإفراد و (خشبه) بالجمع. قال: وقال الطحاوي عن روح بن الفرج: سألت أبا زيد والحرث بن مسكين ويونس بن عبد الأعلى عنه فقالوا كلهم: (خشبة) بالتنوين على الإفراد, قال عبد الغني ابن سعيد: كل الناس يقولونه بالجمع إلا الطحاوي.] شرح النووي على صحيح مسلم 4/222-223. والفرق أن وضع الخشبة الواحدة أهون من وضع الخشب فإن الجار قد يتسامح في وضع خشبة واحدة ولا يتسامح في وضع خشب كثير. وجاء في رواية أخرى عند أبي داود (عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا استأذن أحدكم أخاه أن يغرز خشبة في جداره فلا يمنعه فنكسوا فقال ما لي أراكم قد أعرضتم لألقينها بين أكتافكم) .
وورد عند أحمد في المسند عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يمنعن رجل جاره أن يجعل خشبته أو قال خشبة في جداره) وهو حديث صحيح كما في صحيح سنن ابن ماجة 2/39.
وروى الإمام أحمد في المسند عن عكرمة بن سلمة بن ربيعة أن أخوين من بني المغيرة أعتق أحدهما - أي حلف بالعتق - أن لا يغرز خشباً في جداره فلقيا مجمع بن يزيد الأنصاري ورجالاً كثيراً فقالوا نشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يمنع جار جاره أن يغرز خشباً في جداره فقال الحالف أي أخي قد علمت أنك مقضي لك عليَّ وقد حلفت فاجعل أسطواناً دون جداري ففعل الآخر فغرز في الأسطوان خشبة) ورواه ابن ماجة أيضاً وقال العلامة الألباني حديث حسن كما في صحيح سنن ابن ماجة 2/38. وروى البيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا سأل أحدكم جاره أن يدعم جذوعه على حائطه فلا يمنعه) السنن الكبرى 6/69.
ويؤخذ من هذه الأحاديث أنه لا يجوز للجار أن يمنع جاره من استعمال الحائط الذي يكون بين أرضيهما ما دام أنه لا يلحق الضرر بجاره وقد أخذ جماعة من أهل العلم بظاهر هذه الأحاديث فقالوا من حق الجار أن يستعمل سور جاره ولو بدون إذنه قال الشوكاني [والأحاديث تدل على أنه لا يحل للجار أن يمنع جاره من غرز الخشب في جداره ويجبره الحاكم إذا امتنع وبه قال أحمد وإسحاق وابن حبيب من المالكية والشافعي في القديم وأهل الحديث] نيل الأوطار 5/293.
وقال الإمام الترمذي [والعمل على هذا عند بعض أهل العلم وبه يقول الشافعي وروي عن بعض أهل العلم منهم مالك بن أنس قالوا له أن يمنع جاره أن يضع خشبه في جداره والقول الأول أصح] سنن الترمذي 3/636.
وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي [فأما إن دعت الحاجة إلى وضعه على حائط جاره أو الحائط المشترك ,، بحيث لا يمكنه التسقيف بدونه فإنه يجوز له وضعه بغير إذن الشريك] المغني 4/376.
قال الإمام البيهقي: [لم نجد في السنن الصحيحة ما يعارض هذا الحكم إلا عمومات لا يستنكر أن نخصها، وقد حمله الراوي على ظاهره، وهو أعلم بالمراد بما حدث به، يشير إلى قول أبي هريرة رضي الله عنه (ما لي أراكم عنها معرضين) ] فتح الباري 5/137.
وقال الشيخ ابن حزم الظاهري: [وَلاَ يَحِلُّ لأََحَدٍ أَنْ يَمْنَعَ جَارَهُ مِنْ أَنْ يُدْخِلَ خَشَباً فِي جِدَارِهِ وَيُجْبَرَ عَلَى ذَلِكَ أَحَبَّ أَمْ كَرِهَ إنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ، فَإِنْ أَرَادَ صَاحِبُ الْحَائِطِ هَدْمَ حَائِطِهِ كَانَ لَهُ ذَلِكَ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ لِجَارِهِ: دَعِّمْ خَشَبَك أَوْ انْزَعْهُ فَإِنِّي أَهْدِمُ حَائِطِي، وَيُجْبَرُ صَاحِبُ الْخَشَبِ عَلَى ذَلِكَ] ثم استدل بحديث أبي هريرة السابق ثم قال [فَهَذَا قَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَلاَ يُعْرَفُ لَهُ مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا.] المحلى 7/86.
وخالف في ذلك جماعة من الفقهاء فقالوا لا يجوز للجار أن يستعمل جدار جاره إلا بإذنه وهذا قول الحنفية والمالكية والشافعي في الجديد وقد حملوا ما ورد في الأحاديث السابقة من النهي على الكراهة ورأوا أنه يندب للجار أن يأذن لجاره أن يستعمل جداره فإن لم يأذن فلا يحل له ذلك لأن الأصل أنه لا يحل للمسلم شيء من مال أخيه المسلم إلا بإذنه واحتجوا على ذلك بقول الله تعالى: (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ) سورة البقرة الآية 188، وبقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) سورة النساء الآية 29.
واحتجوا بما ورد في الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لا ضرر ولا ضرار) رواه أحمد وابن ماجة والطبراني وهو حديث صحيح كما قال الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة حديث رقم 250.
واحتجوا أيضاً بما جاء في الحديث من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس) رواه أحمد والبيهقي وابن حبان وغيرهم وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في إرواء الغليل 5/279.
والذي يظهر لي أن الراجح من القولين هو قول من أجاز وضع الخشب في جدار الجار بدون إذنه ما دام أنه لا يلحق ضرراً بجاره ومما يؤيد هذا الترجيح ما رواه مالك في الموطأ أن الضحاك بن خليفة ساق خليجاً له من العريض فأراد أن يمر به في أرض محمد بن مسلمة فأبى محمد فقال له الضحاك لم تمنعني وهو لك منفعة تشرب به أولاً وآخراً ولا يضرك فأبى محمد فكلَّم فيه الضحاك عمر بن الخطاب فدعا عمر بن الخطاب محمد بن مسلمة فأمره أن يخلي سبيله فقال محمد لا فقال عمر لم تمنع أخاك ما ينفعه وهو لك نافع تسقي به أولاً وآخراً وهو لا يضرك فقال محمد لا والله فقال عمر والله ليمرنَّ به ولو على بطنك فأمره عمر أن يمر به ففعل الضحاك) قال الحافظ ابن حجر العسقلاني وسنده صحيح فتح الباري 5/138.
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني [وروى ابن إسحاق في مسنده والبيهقي من طريقه عن يحيى بن جعدة أحد التابعين قال: أراد رجل بالمدينة أن يضع خشبته على جدار صاحبه بغير إذنه فمنعه , فإذا من شئت من الأنصار يحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهاه أن يمنعه , فجبر على ذلك] فتح الباري 5/138، وانظر السنن الكبرى 6/69.
وقد قاس اشيخ ابن قدامة المقدسي وضع الخشب على جدار الجار على الاستناد إليه والاستظلال به. المغني 4/376.
وخلاصة الأمر أنه يجوز للجار أن يستعمل سور جاره لتثبيت مواسير عريشه بدون أن يلحق الضرر بجاره، وهذا حق من حقوق الجار على جاره وقد وردت نصوص كثيرة في كتاب الله عز وجل وفي سنة نبيه صلى الله عليه وسلم تحث على أداء حقوق الجيران وحسن معاملتهم.(12/39)
40 - إتلاف المزارعين للمنتوجات الزراعية لعدم القدرة على تسويقها
يقول السائل: ما قولكم فيما فعله بعض المزارعين من إتلاف كميات من المنتجات الزراعية من الفواكه والخضروات احتجاجاً على إغلاق المعابر حيث يقومون بإلقائها في الشوارع ورميها، أفيدونا؟ الجواب: ينبغي أن يعلم أولاً أن من مقاصد الشريعة الغراء حفظ المال حيث إن المال هو أحد الضروريات الخمس التي جاءت الشريعة بالمحافظة عليها قال أبو حامد الغزالي: [ومقصود الشرع من الخلق خمسة: وهو أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم؛ فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة، ودفعها مصلحة ... وهذه الأصول الخمسة حفظها واقع في رتبة الضرورات، فهي أقوى المراتب في المصالح] المستصفى من علم الأصول 1/417.
وقال الإمام الشاطبي: [تكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق، وهذه المقاصد لا تعدو ثلاثة أقسام:
أحدها: أن تكون ضرورية. والثاني: أن تكون حاجية. والثالث: أن تكون تحسينية. فأما الضرورية: فمعناها أنها لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة، بل على فساد وتهارج وفوت حياة، وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم والرجوع بالخسران المبين ... ومجموع الضروريات خمس وهي: حفظ الدين والنفس والنسل والمال والعقل وقد قالوا إنها مراعاة في كل ملة] الموافقات 2/8-10.
وقد جاءت أدلة كثيرة من كتاب الله تعالى ومن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم تدل على وجوب المحافظة على المال منها قوله تعالى {وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيراً إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفوراً} سورة الإسراء الآيتان26-27. وقوله تعالى {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً} سورة الفرقان الآية 67. وقوله تعالى {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط} سورة الأنعام الآية 152. وقوله تعالى {آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير} سورة الحديد الآية 7. وقوله تعالى {يابني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين} سورة الأعراف الآية31. وقوله تعالى {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسوراً} سورة الإسراء الآية 29. وقوله تعالى {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولاً معروفاً} سورة النساء الآية 5.
وثبت في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم (إن الله يرضى لكم ثلاثاً ويكره لكم ثلاثاً: فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم، ويكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال) رواه مسلم.
قال الإمام النووي: [قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يرضى لكم ثلاثاً ... قال العلماء: الرضا والسخط والكراهة من الله تعالى المراد بها أمره ونهيه, وثوابه وعقابه, أو إرادته الثواب لبعض العباد, والعقاب لبعضهم, وأما الاعتصام بحبل الله فهو التمسك بعهده, وهو إتباع كتابه العزيز وحدوده, والتأدب بأدبه ... وأما (إضاعة المال) : فهو صرفه في غير وجوهه الشرعية, وتعريضه للتلف, وسبب النهي أنه إفساد, والله لا يحب المفسدين, ولأنه إذا أضاع ماله تعرض لما في أيدي الناس.] شرح النووي على صحيح مسلم 4/375-377. وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (إضاعة المال) [ ... والأقوى أنه ما أنفق في غير وجهه المأذون فيه شرعاً سواء كانت دينية أو دنيوية فمنع منه, لأن الله تعالى جعل المال قياماً لمصالح العباد, وفي تبذيره تفويت تلك المصالح, إما في حق مضيعها وإما في حق غيره] فتح الباري 10/501.
إذا تقرر أن من مقاصد الشارع الحكيم حفظ المال فأعود إلى السؤال فأقول إن ما قام به بعض المزارعين من إتلافهم للمنتجات الزراعية ورميها في الشوارع أمر محرم شرعاً وما فعلوه إنما هو تقليد للحضارة الغربية الرأسمالية التي تهلك كل عام كميات هائلة من المنتجات الزراعية للمحافظة على مستوى الأسعار [فالولايات المتحدة الأمريكية تُغرق في البحر مئات الأطنان من المواد الغذائية سنوياً فقط لتحافظ على مستوى الأسعار التي تريدها وذلك عن طريق إتلاف الفائض عن حاجة السوق التجارية بغض النظر عن احتياجات الإنسانية في العالم ومن أجل إبقاء سعر القمح عالمياً في مستواه الثابت تلجأ أمريكا إلى إتلاف الفائض أو تخزينه وقد بلغت قيمة ما تحرقه أمريكا سنوياً من القمح مبلغ أربعين مليار دولار فيما يموت أربعين بالمائة من مواليد إفريقيا وحدها نتيجة لنقص المواد الغذائية، هذا في القمح إلاّ أن السياسة نفسها هي المتبعة بالنسبة للحليب واللحوم ومختلف أنواع المواد الاستهلاكية زراعية كانت أم صناعية ... بل إن مجموعة الدول الصناعية الأوروبية، ليست على استعداد لإلغاء ما اعتادت عليه منذ عشرات السنين، من إنفاق الملايين على إتلاف الفائض من منتجاتها الزراعية والغذائية، والمليارات على دعم المزارعين فيها، بحجة عدم انخفاض مستوى أسعار تلك المنتجات في الأسواق العالمية، أي بما في ذلك أسواق البلدان النامية، وهذا رغم انتشار المجاعات والأمراض الناجمة عن سوء التغذية ونقصها في تلك البلدان!!] عن شبكة الإنترنت.
إن إتلاف المنتجات الزراعية ورميها في الشوارع يتناقض مع ما قصده الشارع الحكيم من حفظ المال وكذلك ما ورد من النهي عن إضاعة المال، وهذا العمل يعتبر من السفه، والسفه عند الفقهاء هو التصرف في المال على خلاف مقتضى الشرع والعقل، والشرع لا يقر إتلاف المال بهذه الطريقة وكذا العقل، ويعتبر هذا العمل من الإسراف والتبذير المحرمان شرعاً والواجب هو أن يستفيد المزارعون من هذه المنتجات فإن تعذر عليهم تصديرها فليبيعوها في السوق المحلي ولو بأسعار منخفضة، فإن لم يتيسر لهم ذلك فليتصدقوا بها على الفقراء والمساكين، أو يعطوها للجمعيات الخيرية التي ترعى الأيتام والعجزة وغيرهم، وإن تعذر ذلك وما أظنه يتعذر، فليطعموها للحيوانات فلهم الأجر والثواب في كل ذلك، فقد ورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (بينا رجل يمشي فاشتد عليه العطش فنزل بئراً فشرب منها ثم خرج فإذا هو بكلب يلهث يأكل الثرى من العطش فقال لقد بلغ هذا مثل الذي بلغ بي فملأ خفه ثم أمسكه بفيه ثم رقي فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له، قالوا: يا رسول الله وإن لنا في البهائم أجراً قال صلى الله عليه وسلم: في كل كبدٍ رطبةٍ أجرٌ) رواه البخاري ومسلم. قال الإمام النووي: [قوله صلى الله عليه وسلم: (في كل كبد رطبة أجر) معناه في الإحسان إلى كل حيوان حي بسقيه ونحوه أجر, وسمي الحي ذا كبد رطبة, لأن الميت يجف جسمه وكبده.] شرح النووي على صحيح مسلم 5/401.
والواجب يقضي بمنع هؤلاء المزارعين من إتلاف المنتجات الزراعية لما فيه من أضرار بالمصالح العامة ولو كانوا يتلفون أموالهم الخاصة، قال الإمام قال الإمام النسائي في سننه [باب منع الحاكم رعيته من إتلاف أموالهم وبهم حاجة إليها] ثم ساق حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (أعتق رجل من الأنصار غلاماً له عن دبرٍ وكان محتاجاً وكان عليه دين فباعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بثمان مائة درهم فأعطاه فقال اقض دينك وأنفق على عيالك] وهو حديث صحيح.
وخلاصة الأمر أنه يحرم شرعاً إتلاف المنتجات الغذائية والزراعية بالصورة المذكورة في السؤال وغيرها ما دام أنه يمكن انتفاع الناس بها فإن لم ينتفع بها الناس بشكل من الأشكال أطعمت للحيوانات.(12/40)
41 - حكم تزوير الوثائق والشهادات
يقول السائل: ما حكم من يزور شهادة ليترقى في وظيفته ويحصل على زيادة على راتبه ولا يمكنه الحصول على الترقية إلا بالشهادة المزورة، أفيدونا؟ الجواب: الأصل في المسلم أنه صادق لا يكذب فإن الصدق فضيلة من أعظم الفضائل، والكذب رذيلة من أشنع الرذائل، وقد أمرنا الله بالصدق ونهانا عن الكذب يقول جل جلاله {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} سورة التوبة الآية 119. وقال تعالى {إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيراً والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجراً عظيماً} سورة التوبة الآية 35. وقال تعالى {طاعة وقول معروف فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيراً لهم} سورة محمد الآية 21.
وثبت في الحديث عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً) رواه البخاري ومسلم واللفظ لمسلم. وعن أبي الحوراء السعدي قال قلت للحسن بن علي رضي الله عنهما ما حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك فإن الصدق طمأنينة وإن الكذب ريبة) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. وثبت في الحديث الصحيح أيضاً عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من نفاق حتى يدعها إذا اؤتمن خان وإذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر) رواه البخاري مسلم. والكذب ليس من صفات المؤمنين الصادقين يقول الله سبحانه وتعالى: {إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون} سورة النحل الآية 105.
إذا تقرر هذا فإن التزوير فيه نوع من الكذب والتدليس والتلبيس والغش والخداع [فالتزوير في اللغة: مصدر زور، وهو من الزور، والزور: الكذب، قال تعالى: {والذين لا يشهدون الزور} وزور كلامه: أي زخرفه، وهو أيضاً: تزيين الكذب ... وفي الاصطلاح: تحسين الشيء ووصفه بخلاف صفته، حتى يخيل إلى من سمعه أو رآه أنه بخلاف ما هو عليه في الحقيقة. فهو تمويه الباطل بما يوهم أنه حق. وبين الكذب وبين التزوير عموم وخصوص وجهي، فالتزوير يكون في القول والفعل، والكذب لا يكون إلا في القول. والكذب قد يكون مزيناً أو غير مزين، والتزوير لا يكون إلا في الكذب المموه] الموسوعة الفقهية الكويتية 11/254- 255. قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [ضابط الزور: وصف الشيء على خلاف ما هو به، وقد يضاف إلى القول فيشمل الكذب والباطل، وقد يضاف إلى الشهادة فيختص بها، وقد يضاف إلى الفعل ومنه: لابس ثوبي زور، ومنه: تسمية الشعر الموصول: زوراً.] فتح الباري 10/506
والتزوير من المحرمات ويدل على تحريمه قوله تعالى {فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور} سورة الحج الآية 30. وقوله تعالى في وصف عباد الرحمن {والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراماً} سورة الفرقان الآية72.
وورد في الحديث عن أنس رضي الله عنه قال سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الكبائر فقال: (الإشراك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس وشهادة الزور) رواه البخاري ومسلم. كما وصح في الحديث عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاثاً، الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور أو قول الزور، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئاً فجلس، فما زال يكررها حتى قلنا يا ليته سكت) رواه البخاري ومسلم.
قال الإمام الشوكاني في شرح الحديث [قوله: (وكان متكئاً فجلس) هذا يشعر باهتمامه صلى الله عليه وآله وسلم بذلك حتى جلس بعد أن كان متكئاً ويفيد ذلك تأكيد تحريمه وعظيم قبحه وسبب الاهتمام بشهادة الزور كونها أسهل وقوعاً على الناس والتهاون بها أكثر فإن الإشراك ينبو عنه قلب المسلم والعقوق يصرف عنه الطبع وأما الزور فالحوامل عليه كثيرة كالعداوة والحسد وغيرهما فاحتيج إلى الاهتمام به وليس ذلك لعظمه بالنسبة إلى ما ذكر معه من الإشراك قطعاً بل لكون مفسدته متعدية إلى الغير بخلاف الإشراك فإن مفسدته مقصورة عليه غالباً وقول الزور أعم من شهادة الزور لأنه يشمل كل زور من شهادة أو غيبة أو بهت أو كذب ولذا قال ابن دقيق العيد يحتمل أن يكون من الخاص بعد العام لكن ينبغي أن يحمل على التوكيد فإنا لو حملنا القول على الإطلاق لزم أن تكون الكذبة الواحدة كبيرة وليس كذلك قال: ولا شك في عظم الكذب ومراتبه متفاوتة بحسب تفاوت مفاسده ومنه قوله تعالى {ومن يكسب خطيئة أو إثماً ثم يرم به بريئاً فقد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً} . قوله: (حتى قلنا ليته سكت) أي شفقة عليه وكراهية لما يزعجه وفيه ما كانوا عليه من كثرة الأدب معه صلى الله عليه وآله وسلم والمحبة له والشفقة عليه.] نيل الأوطار 8/337-338. والتزوير يدخل تحت شهادة الزور قال القرطبي المحدث: [شهادة الزور هي الشهادة بالكذب ليتوصل بها إلى الباطل من إتلاف نفس أو أخذ مال أو تحليل حرام أو تحريم حلال, فلا شيء من الكبائر أعظم ضرراً منها ولا أكثر فساداً بعد الشرك بالله] فتح الباري 10/506. ومن المعلوم أن شهادة الزور من كبائر الذنوب كما بين ذلك وفصلَّه الشيخ ابن حجر المكي في الزواجر عن اقتراف الكبائر 2/435-437
ولا شك أن تزوير الوثائق والشهادات داخل في شهادة الزور فهو من المحرمات كما أنه نوع من الغش وهو محرم وقد ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من غشنا فليس منا) رواه مسلم. وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من غشنا فليس منا والمكر والخداع في النار) رواه ابن حبان والطبراني وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في إرواء الغليل 5/164. وبهذا يظهر لنا أنه قد اجتمع في التزوير شرور كثيرة فهو كذب وغش وخداع ومكر وتضليل ويضاف إلى ذلك أنه قد يتوصل بالتزوير إلى أكل المال بالباطل كما في السؤال حيث إن المزور سيحصل على ترقية بتزوير الشهادات وقد يترتب على ذلك زيادة على راتبه وهذه الزيادة إنما يأكلها سحتاً فهي من المال الحرام قال الله تعالى: (وترى كثيراً منهم يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون) سورة المائدة الآية 62. وقال تعالى: (لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون) سورة المائدة الآية 63. وقال تعالى {سمَّاعون للكذب أكالون للسحت} سورة المائدة الآية 42. قال أهل التفسير في قوله تعالى: {أكالون للسحت} أي الحرام وسمي المال الحرام سحتاً لأنه يسحت الطاعات أي يذهبها ويستأصلها. تفسير القرطبي 6/183. وجاء في الحديث عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة لحم نبت من سحت وكل لحم نبت من سحت كانت النار أولى به) رواه أحمد والدارمي والبيهقي في شعب الإيمان. وفي رواية أخرى: (كل جسدٍ نبت من سحت فالنار أولى به) رواه أحمد والطبراني والحاكم وغيرهم وقال العلامة الألباني صحيح. انظر صحيح الجامع الصغير 2/831.
وخلاصة الأمر أنه يحرم تزوير الشهادات والوثائق وأن ما يترتب على التزوير من أموال فهي من السحت. والمزور مستحق لعقوبة تعزيرية.(12/41)
42 - انتزاع الملكية الخاصة للمصلحة العامة
يقول السائل: إن المجلس البلدي لمدينته يريد أن يضع يده على قطعة أرض يملكها السائل لإقامة مركز صحي للبلد لأن موقع الأرض مناسب لذلك المشروع مع أنه يعارض ذلك فما هو الحكم في هذه القضية، أفيدونا؟ الجواب: يجب أن يعلم أولاً أن الإسلام قد قرر مبدأ الملكية الفردية أو الملكية الخاصة واحترمها احتراماً شديداً وشرع أحكاماً كثيرة للمحافظة عليها وحرَّم التعدي عليها وقد وردت النصوص الكثيرة في ذلك فمنها قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً، وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً} سورة النساء الآية 29. وصح في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع: (إن دمائكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إلى يوم تلقون ربكم) رواه البخاري ومسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه) رواه مسلم. وورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس) رواه أحمد والبيهقي والطبراني والدارقطني وغيرهم وقال الشيخ الألباني: صحيح، إرواء الغليل 5/279. وجاء في رواية أخرى عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا يحل للرجل أن يأخذ عصا أخيه بغير طيب نفسه وذلك لشدة ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم من مال المسلم على المسلم) رواه أحمد وغيره وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في غاية المرام ص 263.
وورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والله لا يأخذ أحد منكم شيئاً بغير حق إلا لقي الله تعالى يحمله يوم القيامة) . رواه البخاري ومسلم. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من اقتطع مال امرئ مسلم بغير حق لقي الله عز وجل وهو عليه غضبان) رواه أحمد
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (حرمة مال المسلم كحرمة دمه) رواه البزار وأبو يعلى. وغير ذلك من النصوص.
وقد أجاز الفقهاء انتزاع الملكية الخاصة في حالات محددة وتحويلها إلى ملكية عامة وذلك لتحقيق مصلحة عامة كبناء المساجد وشق الطرق وبناء الجسور وبناء المدارس والمستشفيات والمرافق العامة الأخرى التي يحتاجها عامة الناس. قال الشيخ أحمد الشلبي الحنفي [ولو ضاق المسجد على الناس وبجنبه أرض لرجل، تؤخذ أرضه بالقيمة كرهاً، ولو كان بجنب المسجد أرض وقف على المسجد , فأراد أن يزيدوا شيئاً في المسجد من الأرض , جاز ذلك بأمر القاضي) حاشية الشلبي على تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق 3/331. وجاء في الموسوعة الفقهية [ويتحول الملك الخاص إلى عام، في نحو البيت المملوك إذا احتيج إليه للمسجد، أو توسعة الطريق، أو للمقبرة ونحوها من مصالح المسلمين، بشرط التعويض] الموسوعة الفقهية الكويتية 10/289. ويدل على جواز ذلك ما ورد في قصة بناء المسجد النبوي حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى الأرض التي بني عليه المسجد من أصحابها فقد ورد في الحديث الطويل في قصة الهجرة النبوية (… فلبث رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة وأسس المسجد الذي أسس على التقوى وصلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ركب راحلته فسار يمشي معه الناس حتى بركت – الناقة - عند مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة وهو يصلي فيه يومئذ رجال من المسلمين وكان مربداً للتمر لسهيل وسهل غلامين يتيمين في حجر أسعد بن زرارة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بركت به راحلته: هذا إن شاء الله المنزل ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الغلامين فساومهما بالمربد ليتخذه مسجداً، فقالا: لا بل نهبه لك يا رسول الله فأبى رسول الله أن يقبله منهما هبة حتى ابتاعه منهما ثم بناه مسجداً) رواه البخاري.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فنزل أعلى المدينة في حي يقال لهم بنو عمرو بن عوف فأقام النبي صلى الله عليه وسلم فيهم أربع عشرة ليلة ثم أرسل إلى بني النجار … وأنه أمر ببناء المسجد فأرسل إلى ملأ من بني النجار فقال يا بني النجار ثامنوني بحائطكم هذا قالوا لا والله لا نطلب ثمنه إلا إلى الله فقال أنس فكان فيه ما أقول لكم قبور المشركين وفيه خرب وفيه نخل فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقبور المشركين فنبشت ثم بالخرب فسويت وبالنخل فقطع فصفوا النخل قبلة المسجد وجعلوا عضادتيه الحجارة وجعلوا ينقلون الصخر وهم يرتجزون والنبي صلى الله عليه وسلم معهم وهو يقول اللهم لا خير إلا خير الآخره فاغفر للأنصار والمهاجره) رواه البخاري.
[وقد حصل في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه سنة 17 هـ أنه أراد توسعة المسجد الحرام فاشترى عمر دوراً من أهلها، ووسعه بها، وأبى بعضهم أن يأخذ الثمن وامتنع من البيع، فوضع عمر أثمانها في خزانة الكعبة فأخذوها، وفي سنة 26 هـ اشترى عثمان رضي الله عنه دوراً وسع بها المسجد، وقد أبى قوم البيع، فهدم عليهم دورهم، فصاحوا به فأمر بحبسهم حتى شفع فيهم عبد الله بن خالد بن أسيد فأخرجهم، وفي سنة 64 هـ اشترى عبد الله بن الزبير رضي الله عنه دوراً وسع بها المسجد من الجانب الشرقي والجانب الجنوبي توسعة كبيرة] عن موقع الحج والعمرة على الإنترنت.
وقد بحث مجمع الفقه الإسلامي مسألة انتزاع الملكية الخاصة وتحويلها إلى ملكية عامة وأصدر فيها ما يلي: [إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الرابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 18-23 جمادي الآخرة 1408 هـ، الموافق 6-11 فبراير 1988. بعد الاطلاع على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص "انتزاع الملك للمصلحة العامة". وفي ضوء ما هو مسَلَّم في أصول الشريعة، من احترام الملكية الفردية، حتى أصبح ذلك من قواطع الأحكام المعلومة من الدين بالضرورة، وأن حفظ المال أحد الضروريات الخمس التي عرف من مقاصد الشريعة رعايتها، وتواردت النصوص الشرعية من الكتاب والسنة على صونها، مع استحضار ما ثبت بدلالة السنة النبوية وعمل الصحابة رضي الله عنهم فمن بعدهم من نزع ملكية العقار للمصلحة العامة، تطبيقاً لقواعد الشريعة العامة في رعاية المصالح وتنزيل الحاجة العامة منزلة الضرورة وتحمل الضرر الخاص لتفادي الضرر العام. قرر ما يلي: أولاً: يجب رعاية الملكية الفردية وصيانتها من أي اعتداء عليها، ولا يجوز تضييق نطاقها أو الحد منها، والمالك مسلط على ملكه، وله في حدود المشروع التصرف فيه بجميع وجوهه وجميع الإنتفاعات الشرعية.
ثانياً: لا يجوز نزع ملكية العقار للمصلحة العامة إلا بمراعاة الضوابط والشروط الشرعية التالية: 1- أن يكون نزع العقار مقابل تعويض فوري عادل يقدره أهل الخبرة بما لا يقل عن ثمن المثل. 2- أن يكون نازعه ولي الأمر أو نائبه في ذلك المجال.
3- أن يكون النزع للمصلحة العامة التي تدعو إليها ضرورة عامة أو حاجة عامة تنزل منزلتها كالمساجد والطرق والجسور.
4- أن لا يؤول العقار المنزوع من مالكه إلى توظيفه في الاستثمار العام أو الخاص، وألا يعجل نزع ملكيته قبل الأوان.
فإِن اختلت هذه الشروط أو بعضها كان نزع ملكية العقار من الظلم في الأرض والغصوب التي نهى الله تعالى عنها ورسوله صلى الله عليه وسلم. على أنه إذا صرف النظر عن استخدام العقار المنزوعة ملكيته في المصلحة المشار إليها تكون أولوية استرداده لمالكه الأصلي، أو لورثته بالتعويض العادل.) مجلة مجمع الفقه الإسلامي عدد 4 ج 2 ص 1797-1798.
وأخيراً يجب التأكيد على أن انتزاع الملكية الخاصة لا بد أن يكون بعوض لا يقل عن ثمن المثل كما ورد في قصة عمر وعثمان عند توسعة المسجد الحرام وكما جاء في المادة (1216) من مجلة الأحكام العدلية [لدى الحاجة يؤخذ ملك كائن من كان بالقيمة بأمر السلطان ويلحق بالطريق، ولكن لا يؤخذ من يده ما لم يؤد له الثمن] درر الحكام 3/233. وكما أكد عليه قرار المجمع الفقهي [أن يكون نزع العقار مقابل تعويض فوري عادل يقدره أهل الخبرة بما لا يقل عن ثمن المثل.]
وخلاصة الأمر أنه يجوز للمجلس البلدي أن ينتزع ملكية الأرض المذكورة في السؤال وفق الضوابط المذكورة سابقاً.(12/42)
43 - حكم عرض الملابس الداخلية للنساء
يقول السائل: يقوم بعض أصحاب المحلات التجارية التي تبيع الملابس النسائية بعرض الملابس الداخلية للنساء على مجسمات في محلاتهم، ومنهم من يعرض صوراً إباحية لنساءٍ يلبسن الملابس الداخلية في أوضاع مخزية، ويرى هؤلاء التجار أن هذه وسيلة لتسويق بضائعهم فما قولكم في ذلك؟ الجواب: من الضوابط الشرعية التي تحكم العمل في التجارة تحريم الاتجار والعمل بالمحرمات سواء كان ذلك بانتهاك محرم أو ترك واجب. يقول الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} سورة المنافقون الآية 9. ومن الأمور المحرمة استعمال الصور الإباحية في ترويج البضائع فمن المعلوم عند أهل العلم أن للوسائل أحكام المقاصد، قال الإمام العز بن عبد السلام: للوسائل أحكام المقاصد فالوسيلة إلى أفضل المقاصد هي أفضل الوسائل والوسيلة إلى أرذل المقاصد هي أرذل الوسائل) قواعد الأحكام 1/46. فوسيلة المحرم محرمة أي إن ما أدى إلى الحرام فهو حرام. فالصور الإباحية التي تشتمل على الفحشاء والمنكر محرمة ولا يجوز استعمالها في ترويج البضائع وكذلك التماثيل التي يستعملها التجار لعرض الملابس عليها والمسماة المنيكان فهذه تعتبر من التماثيل المحرمة شرعاً، فقد ورد عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته) رواه مسلم، وإن عرض الملابس النسائية الداخلية عليها يضيف منكراً إلى منكر، فلا يجوز استعمالها في عرض الملابس وخاصة الملابس الداخلية للنساء لما يترتب على ذلك من مفاسد كثيرة ففي ذلك فتنة للرجال وخاصة الشباب منهم. ويضاف إلى ما سبق أن عرض الملابس الداخلية للنساء على هذه المجسمات وهي على شكل امرأة فيه امتهان للمرأة وكرامتها واحتقار لها ومتاجرة بجسدها حيث إن جسم المرأة يستغل أبشع استغلال لكسب المال.
ومما يدل على تحريم هذا العمل قوله تعالى: ? وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ? سورة المائدة الآية 2. قال الشيخ ابن قدامة المقدسي رحمه الله: [وهذا النهي يقتضي التحريم] المغني 4/167. فلا شك أن نشر الصور الإباحية المشار إليها فيه نشر للفساد والرذيلة وفيه إثارة للشهوات وكل ذلك داخل في باب التعاون على الإثم والعدوان. كما إنه يدخل في إشاعة الفاحشة بين الناس وهذا من كبائر الذنوب، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَءَامَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} سورة النور الآية 19.
إذا تقرر تحريم عرض الملابس الداخلية للنساء على التماثيل المجسمة (المانيكان) وكذلك تحريم ترويج تلك الملابس عبر الصور الإباحية فإني أنبه التجار الذين يستعملون هذه الوسائل المحرمة بأنهم يدخلون بعملهم هذا ضمن دائرة الكسب الحرام والكسب الحرام نوع من أكل السحت، قال الله تعالى {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ?سورة المائدة الآية 42.
وقال الله تعالى: ?وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ? سورة المائدة الآية 62.
وقوله تعالى: ?لوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ? سورة المائدة الآية 63.
قال أهل التفسير في قوله تعالى: ?أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ? أي الحرام وسمي المال الحرام سحتاً لأنه يسحت الطاعات أي يذهبها ويستأصلها. انظر تفسير القرطبي 6/183. وقال جماعة من أهل التفسير: ويدخل في السحت كل ما لا يحل كسبه] فتح المالك 8/223. ومن السحت الربا والغصب والقمار والسرقة ومهر البغي وثمن الخمر والخنزير والميتة والأصنام والتماثيل والصور الإباحية والأفلام الجنسية وقد جاء في الحديث عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة لحم نبت من سحت وكل لحم نبت من سحت كانت النار أولى به) رواه أحمد والدارمي والبيهقي في شعب الإيمان. وفي رواية أخرى: (كل جسدٍ نبت من سحتٍ فالنار أولى به) رواه أحمد والطبراني والحاكم وغيرهم وقال العلامة الألباني صحيح. انظر صحيح الجامع الصغير 2/831.
وعن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ... يا كعب بن عجرة إنه لا يربو لحم نبت من سحت إلا كانت النار أولى به) رواه أحمد والنسائي والترمذي وحسنه وصححه العلامة الألباني. صحيح سنن الترمذي 1/189. وعن أبي بكر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يدخل الجنة جسد غُذِيَ بحرام) رواه أبو يعلى والبزار والطبراني في الأوسط ورجال أبي يعلى ثقات وفي بعضهم اختلاف قاله الهيثمي. مجمع الزوائد 10/293. وصححه العلامة الألباني في صحيح الترغيب والترهيب 2/320. وغير ذلك من النصوص.
فيا أخي التاجر ابتعد عن الكسب الحرام واحرص على الكسب الحلال واعلم أن من الواجبات على المسلم أن لا يأكل إلا الحلال بل إن الله قدم الأكل من الطيبات على العمل الصالح فقال: ?يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ?. وفي هذا الزمان تحقق ما أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق حيث أخبر أن من الناس من لا يفرق في كسبه بين حلال وحرام فلا يهمه من أين اكتسب المال وكل ما يهمه أن يكون المال بين يديه ينفقه كيفما شاء. فقد ورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء ما أخذ منه أمن الحلال أم من الحرام) رواه البخاري. وقد ينسى بعض الناس أنه سيحاسب على ماله وأنه سيسأل عن هذا المال من أين اكتسبه وفيما أنفقه؟ فقد ورد في الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيم أفناه؟ وعن علمه فيم فعل فيه؟ وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه؟ وعن جسمه فيم أبلاه) رواه الترمذي وقال حسن صحيح، وصححه العلامة الألباني. وقد وردت نصوص كثيرة من كتاب الله عز وجل ومن سنة النبي صلى الله عليه وسلم في الحث على الأكل من الطيبات منها: قول الله تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ? سورة البقرة آية 172. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: ?يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ?. وقال: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ? ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يده إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب له) رواه مسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة فقال: (تقوى الله وحسن الخلق، وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار فقال الفم والفرج) رواه الترمذي وقال حديث صحيح غريب وحسنه العلامة الألباني في صحيح الترغيب والترهيب 2/318. وجاء في الحديث عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (استحيوا من الله حق الحياء. قلنا: يا نبي الله إنا لنستحي والحمد الله. قال: ليس ذاك ولكن الاستحياء من الله حق الحياء هو أن تحفظ الرأس وما وعى وتحفظ البطن وما حوى وتتذكر الموت والبلى ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا فمن فعل ذلك فقد استحيا - يعني من الله - حق الحياء) رواه الترمذي وحسّنه العلامة الألباني. صحيح سنن الترمذي 2/299.
وخلاصة الأمر أنه يحرم عرض الملابس الداخلية للنساء على المجسمات المسماة بالمنيكان ويحرم نشر صور النساء الإباحية بالملابس الداخلية وغيرها وأن ذلك يدخل في إشاعة المنكرات والفواحش بين الناس وأن التاجر الذي يستعمل هذه الوسائل المحرمة لترويج تجارته فإنه يُدخل في كسبه الحرام.(12/43)
44 - التجارة في الألعاب النارية واستعمالها
يقول السائل: كثر في الآونة الأخيرة استعمال الألعاب النارية في المناسبات المختلفة فما حكم المتاجرة بها وما حكم استعمالها؟ الجواب: قال أهل العلم إن الأصل في البيع والشراء الإباحة، ويدخل في ذلك المتاجرة في الألعاب النارية لو أنها استعملت بطريق مأمون ولم يترتب عليها ضرر وأذى وترويع للناس وإسراف وتبذير وبما أن كل المفاسد السابقة قد وجدت في الألعاب النارية فإن الحكم ينتقل من الإباحة إلى التحريم فشراء الألعاب النارية واستعمالها مباح أدى إلى الحرام وما أدى إلى الحرام فهو حرام وقد قرر العلماء أن للوسائل أحكام المقاصد. قال الإمام العز بن عبد السلام رحمة الله عليه: [للوسائل أحكام المقاصد فالوسيلة إلى أفضل المقاصد هي أفضل الوسائل والوسيلة إلى أرذل المقاصد هي أرذل الوسائل] قواعد الأحكام 1/46 فوسيلة المحرم محرمة، أي إن ما أدى إلى الحرام فهو حرام، فإيذاء الناس حرام فما أدى إليه فهو حرام، وإلحاق الضرر بالنفس حرام، فما أدى إليه فهو حرام، وترويع الناس وإخافتهم حرام، فما أدى إليه فهو حرام وتفصيل ذلك كما يلي:
أولاً: إن إطلاق الألعاب النارية يترتب عليه إيذاء الناس وإزعاجهم إزعاجاً شديداً وخاصة إذا إطلقت في ساعات الليل المتأخر ومن المعلوم شرعاً أنه لا يجوز إيذاء المسلم سواء كان الإيذاء معنوياً أو مادياً ب إن الإيذاء المعنوي قد يكون أشد من الإيذاء المادي. وقد وردت نصوص كثيرة تحرم إلحاق الأذى بالناس ونصوص أخرى تحث على ترك إيذاء عباد الله، فمن ذلك ما جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره) رواه البخاري. فهذا النهي الوارد في الحديث يعم كل أذى فلا يجوز إلحاق الأذى بالجار سواء أكان الأذى مادياً أو معنوياً.
ثانياً: إن إطلاق الألعاب النارية يترتب عليه ترويع الناس وإخافتهم وخاصة الأطفال وبالتحديد النيام منهم ويحرم على المسلم أن يروع أخاه فقد ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل لمسلم أن يروع مسلماً) رواه أبو داود وأحمد والطبراني وصححه الشيخ الألباني في غاية المرام ص 257.
ثالثاً: إن استعمال الألعاب النارية قد يلحق الضر والأذى بمستعمليها وخاصة الأطفال منهم، وكم سمعنا عن حالات فقد فيها الأطفال أصابعهم ولحقت الإصابات بأعينهم وبقية أجسامهم وقد بين الأطباء الضرر الكبير الذي يلحق بمستعمليها يقول د. محمد سمير عبد العاطي أستاذ طب الأطفال بجامعة عين شمس: [يعتبر الأطفال والمراهقون أكثر الفئات العمرية تعرضاً لهذه الألعاب، وتسبب لهم الحرائق والتشوهات المختلفة التي قد تكون خطيرة في أغلب الأحيان، علاوة على أن الصوت الصادر عنها يؤثر وبشكل كبير على الأطفال المتواجدين بالقرب من منطقة اللعب، ويعد هذا نوعاً من أنواع التلوث الضوضائي الذي يؤثر على طبلة الأذن وبالتالي يسبب خللاً وظيفياً في عمل المخ قد يستمر لمدة شهر أو شهرين. إضافة لذلك فإن الشرر أو الضوء والحرارة الناجمة عن استخدام المفرقعات تعد سبباً رئيسياً للإضرار بالجسم، وخاصة منطقة العين الحساسة. كما أن الرماد الناتج عن عملية الاحتراق يضر بالجلد والعين إذا ما تعرض له الطفل بشكل مباشر؛ حيث تصاب العين بحروق بالجفن والملتحمة وتمزق في الجفن، أو دخول أجسام غريبة في العين، أو انفصال في الشبكية، وقد يؤدي الأمر في إلى فقدان كلي للعين.] عن شبكة الإنترنت.
وجاء في تقرير لوزارة الصحة الفلسطينية نشر سنة 2004م ما يشير إلى هذه الأضرار فقد [دعت وزارة الصحة الفلسطينية جميع الجهات المعنية ومنها البلديات، والغرف التجارية، والشرطة، إلى تكثيف الجهود من أجل منع استيراد الألعاب النارية والمفرقعات، والتكفل بعدم عرضها أو بيعها في المحال التجارية والأسواق، حفاظاً على صحة وسلامة أطفال فلسطين، وتجنيب أعينهم من التعرض لأي إصابات. ونقلت وزارة الصحة إحصائية عن مستشفى العيون في غزة، أن إجمالي الحالات التي وصلت للمستشفى خلال فترة شهر رمضان الماضي، وعيد الفطر السعيد، بلغت (119) إصابة، كانت نتيجة استخدام الألعاب النارية والمفرقعات، والآلات ذات السرعات العالية والبنادق. وأضافت أن عدد الحالات التي أدخلت للمستشفى خلال شهر رمضان الماضي، من إصابات متوسطة مثل خدش العين وحروق سطحية للحروق أو الجفون بلغ (43) حالة، من بينها ثلاث حالات خطيرة استدعت إجراء عمليات جراحة عاجلة مثل نزيف في الغرفة الأمامية أو الخلفية للعين، أو دخول جسم غريب أو قطع لمقلة العين أو حدوث نزيف داخلها أو انفصال في الشبكية وغيرها، وجميع هذه الحالات تحتاج إلى إجراء عمليات جراحية دقيقة، وأخرى يتم تحويلها للخارج من شدة وخطورة الإصابة، وهناك من يفقد بصره أو إحدى عينيه، أما عدد الحالات البسيطة التي تم استقبالها فقد بلغ (76) حالة وجميع الإصابات من الأطفال تتراوح أعمارهم من عام إلى 15 عام] عن شبكة الإنترنت.
رابعاً: إن إنفاق الأموال في شراء الألعاب النارية يعتبر إنفاقاً للمال فيما لا ينفع ويعد من باب إضاعة المال وقد نهانا الله جل جلاله عن إضاعة المال كما ثبت في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله كره لكم ثلاثاً قيل وقال وإضاعة المال وكثرة السؤال) رواه البخاري ومسلم، قال الإمام النووي [وأما إضاعة المال فهو صرفه في غير وجوهه الشرعية, وتعريضه للتلف, وسبب النهي أنه إفساد, والله لا يحب المفسدين] شرح النووي على صحيح مسلم 4/377.
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [قوله: (وإضاعة المال) تقدم في الاستقراض أن الأكثر حملوه على الإسراف في الإنفاق, وقيده بعضهم بالإنفاق في الحرام, والأقوى أنه ما أنفق في غير وجهه المأذون فيه شرعاً سواء كانت دينية أو دنيوية فمنع منه , لأن الله تعالى جعل المال قياما لمصالح العباد , وفي تبذيرها تفويت تلك المصالح , إما في حق مضيعها وإما في حق غيره] فتح الباري 10/501.
ويضاف إلى ذلك ما يترتب على إنفاق المال في شراء الألعاب النارية من إثقال لكاهل العائلة من نفقات لا حاجة لها وخاصة في ظل الظروف الصعبة التي يعيشها شعبنا الفلسطيني من حصار وتضييق.
وبناءً على ما سبق فيجب تضافر جميع الجهات المسئولة للقضاء على هذه المفسدة فيجب تعاون الأجهزة الحكومية وغيرها للقضاء على هذه الظاهرة، فمن واجب الجهات الحكومية وقف استيراد الألعاب النارية وكذلك منع بيعها وتداولها ولا بد للجهات الصحية من إصدار النشرات التي تبين أضرارها وواجب وسائل الإعلام وكذا أئمة المساجد في خطب الجمعة وغيرها بيان مخاطرها وأضرارها ويجب على الأسرة أن تثقف أطفالها حول مخاطر هذه الألعاب وكذلك المدارس لها دور في محاربة هذه الظاهرة فإذا تكاتفت جميع الجهود فيرجى تحقيق القضاء على هذه المفسدة في مجتمعنا.
وخلاصة الأمر أنه يحرم التعامل مع الألعاب النارية بيعاً وشراءً واستعمالاً ضمن الظروف التي شرحتها ولما يترتب عليها من المفاسد الغالبة لما فيها من مصالح موهومة ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح كما تقول القاعدة الفقهية.(12/44)
45 - عقد الصيانة
يقول السائل: لدي محل وعندي عدة أجهزة حاسوب وآلات تصوير وقد اتفقت مع إحدى الشركات لعمل صيانة دورية لهذه الأجهزة على أن تقوم الشركة بالصيانة الدورية كل شهرين مرة مع تقديم ما يلزم من قطع غيار وذلك مقابل مبلغ متفق عليه، فما قولكم في ذلك، وما الحكم فيما لو كانت الصيانة عند حدوث الخلل فقط، أفيدونا؟ الجواب: الاتفاق الذي تمَّ بينك وبين الشركة المذكورة يسمى عقد صيانة وهو من العقود المستحدثة ولم يكن معروفاً لدى الفقهاء المتقدمين لأنه مرتبط بالتقدم العلمي خاصة في مجال الآلات وقد بحث الفقهاء المعاصرون عقد الصيانة وحاولوا تخريجه على عقد من العقود المعروفة عند فقهائنا المتقدمين فمنهم من خرجه على أنه عقد جعالة وهو أن يجعل الرجل للرجل أجراً معلوماً، ولا ينقده إياه على أن يعمل له في زمن معلوم أو مجهول، مما فيه منفعة للجاعل، على أنه إن أكمل العمل كان له الجعل، وإن لم يتمه فلا شيء له، مما لا منفعة فيه للجاعل إلا بعد تمامه وهذا عند المالكية. وعرفها الشافعية: بأنها التزام عوض معلوم على عمل معين معلوم، أو مجهول يعسر ضبطه. وعرفها الحنابلة: بأنها تسمية مال معلوم لمن يعمل للجاعل عملاً مباحاً ولو كان مجهولاً أو لمن يعمل له مدة ولو كانت مجهولة.
وقد قال جمهور أهل العلم بصحة عقد الجعالة ويدل على جوازها قوله تعالى {ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم} سورة يوسف الآية 72، ويدل على جوازها أيضاً ما ورد في الحديث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في قصة رقية أحد المشركين وأخذه جعلاً على الرقية. وقد أقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، والحديث رواه البخاري ومسلم. انظر الموسوعة الفقهية الكويتية 15/208 – 209.
ومن الفقهاء المعاصرين من خرج عقد الصيانة على أنه من عقود المقاولات، وهو يجمع في عناصره بين عقدين جائزين في الفقه الإسلامي هما عقد الاستصناع كما يسميه الحنفية، وعقد السلم كما هو عند جمهور الفقهاء، وعقد الصيانة إذا تضمن وصفاً دقيقاً لطبيعة العمل، وما يتطلبه من قطع غيار وجهد في الإصلاح وتضمن الأجر والزمن، بحيث يكونان محددين فإنه جائز شرعاً، ولو تضمن بعض الغرر؛ لأن الغرر الذي نهى عنه النبي عليه صلى الله عليه وسلم هو الغرر الذي يفضي إلى جهالة فاحشة تؤدي إلى نزاع بين طرفي التعاقد، أما الغرر الذي لا يفضي إلى النزاع فمعفو عنه، وهذا من رخص الشرع في المعاملات؛ ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع المعدوم، ورخص في السم، وقام الإجماع على صحة الاستصناع بشروطه مع وجود الجهالة فيه، وأجاز المزارعة مع وجود نوع من جهالة فيها؛ لحاجة الناس وتوسعة عليهم في معاشهم؛ لذلك فإن عقد الصيانة جائز شرعاً] نقلاً عن موقع إسلام أون لاين.
ومن الفقهاء المعاصرين من خرج عقد الصيانة على أنه شبيه بعقد التأمين التجاري في حالة عقد الصيانة المنفرد في الحالات الطارئة فقط دون الصيانة الدورية الوقائية فهذا فيه من الفساد ما في عقود التأمين من الغرر والمخاطرة وقد أبطله أكثر الفقهاء المعاصرين. مجلة مجمع الفقه الإسلامي عدد 11 ج 2/ 198.
وهنالك تخريجات أخرى لعقد الصيانة يطول المقام بذكرها.
وقد بحث مجلس مجمع الفقه الإسلامي عقد الصيانة في الدورة الحادية عشرة سنة 1998م وقرر ما يلي: أولاً: عقد الصيانة هو عقد مستحدث مستقل تنطبق عليه الأحكام العامة للعقود ويختلف تكييفه وحكمه باختلاف صوره، وهو في حقيقته عقد معاوضة يترتب عليه التزام طرف بفحص وإصلاح ما تحتاجه آلة أو أي شيء آخر من إصلاحات دورية أو طارئة لمدة معلومة في مقابل عوض معلوم، وقد يلتزم فيه الصائن بالعمل وحده أو بالعمل والمواد. ثانياً: عقد الصيانة له صور كثيرة منها ما تبين حكمه وهي: 1- عقد صيانة غير مقترن بعقد آخر يلتزم فيه الصائن بتقديم العمل فقط، أو مع تقديم مواد يسيره يعتبر العاقدان لها حساباً في العادة. هذا العقد يكيف على أنه عقد إجارة على عمل وهو عقد جائز شرعاً، بشرط أن يكون العمل معلوماً والأجر معلوماً. 2- عقد صيانة غير مقترن بعقد آخر يلتزم فيه الصائن تقديم العمل ويلتزم المالك بتقديم المواد ـ تكييف هذه الصورة وحكمها كالصورة الأولى. 3- الصيانة المشروطة في عقد البيع على البائع لمدة معلومة، هذا عقد اجتمع فيه بيع وشرط وهو جائز سواء أكانت الصيانة من غير تقديم المواد أم مع تقديمها. 4- الصيانة المشروطة في عقد الإجارة على المؤجر أو المستأجر، هذا عقد يجتمع فيه إجارة وشرط، وحكم هذه الصورة أن الصيانة إذا كانت من النوع الذي يتوقف عليه استيفاء المنفعة فإنها تلزم مالك العين المؤجرة من غير شرط ولا يجوز اشتراطها على المستأجر أما الصيانة التي لا يتوقف عليها استيفاء المنفعة فيجوز اشتراطها على أي من المؤجر أو المستأجر إذا عينت تعيناً نافياً للجهالة. وهناك صور أخرى يرى المجمع إرجاءها لمزيد من البحث والدراسة. ثالثاً: يشترط في جميع الصور أن تعين الصيانة تعييناً نافياً للجهالة المؤدية إلى النزاع وكذلك تبين المواد إذا كانت على الصائن مما يشترط تحديد الأجرة في جميع الحالات.] مجلة مجمع الفقه الإسلامي عدد 11 ج 2/ 279 – 280.
إذا تقرر هذا فإن عقود الصيانة لها صور عديدة وقد يختلف الحكم باختلاف الصورة وأما حكم الصورتين اللتين وردتا في السؤال
فالصورة الأولى وهي الصيانة الدورية مع تقديم ما يلزم من قطع غيار فهذه الصورة جائزة [على أن يكون العمل المتفق عليه في الصيانة معلوماً عند التعاقد، وخالياً عن الجهالة الفاحشة المفضية للنزاع، أما الجهالة القليلة، أو الجهالة الفاحشة المنضبطة فلا تؤثر فيه، وذلك إلحاقاً له بعقود المزارعة والمساقاة والجعالة، فإن فيها جهالة وغرراً، إلا أنه يغتفر فيها، لقلته نسبياً، وعدم تأديته للنزاع غالباً، وللحاجة الماسة إليها، فكذلك هذا إذا ضبط بالشروط الآتية: 1 - تعيين الشيء المتفق على صيانته آلة أم عقاراً أو غيرهما، بوصفه أو بالإشارة إليه. 2 - تعيين نوع الصيانة المطلوبة بدقة تمنع إثارة النزاع، وذلك بتحديد شروط ومواصفات خاصة ينص عليها العقد ويحددها الخبراء. 3 - تعيين فترات الصيانة الدورية أسبوعياً أو شهرياً أو سنوياً، وشكلها وطبيعتها. 4 - تعيين وصف ورتبة العامل الذي يقوم بها مهندساً أو عاملاً فنياً. فإذا أمكن تحديده بشخصه كان أولى.
(هـ) تحديد مدة عقد الصيانة أسبوعاً أو شهراً أو سنةً، مع تحديد بدء المدة. ولا بأس بتحديد البدء بمدة متأخرة عن تاريخ التعاقد كالإجارة. (و) تحديد أجرة الصيانة وطريقة دفعها للصائن، وتاريخ كل دفعة، ومكان الدفع. (ز) تحديد الآلات اللازمة للصيانة، والطرف الذي عليه تأمينها: الصائن أو المصون له. (ح) تحديد المواد اللازمة للصيانة الدورية كالشحوم والزيوت.. والجهة التي عليها أن توفرها، وذلك محصور بما هو مظنون الحاجة إليه غالبًا. (ط) لا يدخل في أعمال الصيانة ترميم ما ينتج عن سوء تصرف المصنوع له، أو عماله، ووكلائه، كما لا يدخل فيها إصلاح الأعطال النادرة الحصول (غير المتوقعة عند التعاقد) كالأعطال الناتجة عن الحروب والكوارث.. لما فيها من الغرر الشديد، فإن اشترطت فسد عقد الصيانة كله، لما فيها من الجهالة الفاحشة المؤدية للنزاع والغرر.] (بحوث وفتاوى فقهية معاصرة) للأستاذ الدكتور أحمد حجى الكردي، نقلاً عن شبكة الإنترنت.
وأما الصورة الثانية وهي الصيانة عند حدوث الخلل فقط فهذا العقد باطل لاشتماله على الغرر وهو ما كان مجهول العاقبة لا يدرى هل يحصل أم لا؟ انظر الموسوعة الفقهية الكويتية 31/149.
وقد صح في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر) رواه مسلم. والغرر هو ما كان مجهول العاقبة لا يدرى هل يحصل أم لا؟ وفي هذه الحالة وهي الصيانة عند حدوث الخلل فقط يتحقق الغرر فقد يحدث الخلل وقد لا يحدث، فهذا لا يجوز لأن الغرر كثير في هذه الحالة فمن المعلوم أن أجهزة الحاسوب وآلات تصوير يحدث فيها خلل طارئ لأسباب عديدة ناتجة عن كثرة الاستعمال أو سوء الاستعمال أو اختلاف قوة التيار الكهربائي وغير ذلك من الأسباب. وخلاصة الأمر أن صور عقد الصيانة مختلفة وأن الصورة الأولى المذكورة في السؤال جائزة بالضوابط المذكورة وأما الصورة الثانية فباطلة لأنها مشتملة على الغرر الكثير وهو غرر غير مغتفر.(12/45)
46 - رد البضاعة بالعيب
يقول السائل: إنه اشترى بضاعة جديدة وبعد أن استلمها تبين له وجود عيوب فيها فطالب البائع بردها فرفض البائع ردها بحجة أنه لا يعلم عن العيب شيئاً، فما الحكم في ذلك ومتى يجوز الرد بالعيب أفيدونا؟ الجواب: الأصل في المسلم أنه إذا باع سلعة وكان فيها عيب أن يبينه ولا يحل له كتمان العيب لأن هذا من الغش ومن باب أكل أموال الناس بالباطل كما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} سورة النساء الآية 29.
وقد ثبت في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم: (مرََّ على صُبرة طعام - كومة - فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللاً فقال صلى الله عليه وسلم: ما هذا يا صاحب الطعام؟ قال: أصابته السماء يا رسول الله، أي المطر. قال: أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس، من غشنا فليس مني) رواه البخاري ومسلم. وفي رواية أخرى عند مسلم: (من غشنا فليس منا) . قال الإمام النووي [ومعناه ليس ممن اهتدى بهديي واقتدى بعلمي وعملي وحسن طريقتي كما يقول الرجل لولده إذا لم يرض فعله لست مني وهكذا في نظائره مثل قوله (من حمل علينا السلاح فليس منا) وكان سفيان بن عيينة يكره تفسير مثل هذا ويقول: بئس مل القول بل يمسك عن تأويله ليكون أوقع في النفوس وأبلغ في الزجر اهـ.] نيل الأوطار 4/240.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من غشنا فليس منا والمكر والخداع في النار) رواه ابن حبان والطبراني وهو حديث صحيح كما قال الشيخ الألباني في إرواء الغليل 5/164.
ومما يدل على وجوب تبيين العيب في السلعة ما ورد في الحديث عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (المسلم أخو المسلم ولا يحل لمسلم إذا باع من أخيه بيعاً فيه عيب أن لا يبينه) رواه أحمد وابن ماجة والحاكم وصححه وقال الشيخ الألباني: صحيح. إرواء الغليل 5/165. وعن أبي سباع قال: [اشتريت ناقة من دار واثلة بن الأسقع رضي الله عنه فلما خرجت بها أدركني رجل فقال: اشتريت؟ قلت: نعم. قال: وبين لك ما فيها. قلت: وما فيها؟ إنها لسمينة ظاهرة الصحة. قال: أردت بها سفراً أو أردت بها لحماً؟ قلت: أردت بها الحج. قال: ارتجعها فإن بخفها نقباً. فقال صاحبها: ما أردت إلى هذا أصلحك الله تفسد عليَّ. قال: إني سمعت رسول صلى الله عليه وسلم يقول: لا يحل لأحد أن يبيع شيئاً إلا بين ما فيه ولا يحل لمن علم ذلك إلا بينه) رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي. وعن حكيم بن حزام رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال البيعان بالخيار ما لم يفترقا أو قال حتى يفترقا فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما) . قال الإمام الشوكاني: [قوله: (فإن صدقا وبينا) أي صدق البائع في إخبار المشتري وبين العيب إن كان في السلعة، وصدق المشتري في قدر الثمن وبين العيب إن كان في الثمن، ويحتمل أن يكون الصدق والبيان بمعنى واحد وذكر أحدهما تأكيداً للآخر] نيل الأوطار 4/211.
وبناءً على ما سبق فقد اتفق الفقهاء على ثبوت خيار الرد بالعيب، فمن اشترى سلعة ثم ظهر فيها عيب وهو لا يعلم ثبت له خيار الرد بالعيب سواء علم البائع بالعيب أم لم يعلم. قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [متى علم بالمبيع عيباً لم يكن عالماً به , فله الخيار بين الإمساك والفسخ، سواء كان البائع علم العيب وكتمه أو لم يعلم، لا نعلم بين أهل العلم في هذا خلافاً، وإثبات النبي صلى الله عليه وسلم الخيار بالتصرية - وهي ربط ضرع الناقة أو البقرة أو الشاة حتى يجتمع اللبن فيه - تنبيه على ثبوته بالعيب، ولأن مطلق العقد يقتضي السلامة من العيب بدليل ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنه اشترى مملوكاً فكتب: هذا ما اشترى محمد بن عبد الله من العداء بن خالد , اشترى منه عبداً أو أمة لا داء به , ولا غائلة بيع المسلم المسلم) فثبت أن بيع المسلم اقتضى السلامة، ولأن الأصل السلامة والعيب حادث أو مخالف للظاهر , فعند الإطلاق يحمل عليها فمتى فاتت فات بعض مقتضى العقد فلم يلزمه أخذه بالعوض , وكان له الرد وأخذ الثمن كاملا ً] المغني 4/109.
والعيب الذي ترد به السلعة هو ما أوجب نقصان الثمن في عادة التجار، انظر الموسوعة الفقهية 31/83، مجلة الأحكام العدلية المادة 338. ويرجع في معرفة العيب إلى أهل الخبرة والعرف ولا خلاف بين الفقهاء في رد السلعة المباعة للعيب وكان العيب منقصاً للقيمة أو مفوتاً غرضاً صحيحاً شرعاً، الموسوعة الفقهية 31/87.
وقد قرر الفقهاء شروطاً لإثبات خيار العيب وهي: الشرط الأول: ظهور عيب معتبر بأن يكون مؤثراً في نقص قيمة السلعة أو مفوتاً غرضاً صحيحاً كفوات المنفعة من السلعة. قال الشيخ ابن قدامة المقدسي [العيوب وهي النقائص الموجبة لنقص المالية في عادات التجار لأن المبيع إنما صار محلاً للعقد باعتبار صفة المالية , فما يوجب نقصاً فيها يكون عيباً والمرجع في ذلك إلى العادة في عرف أهل هذا الشأن وهم التجار] المغني 4/115. ومما يدل على أن فوات المنفعة يعد عيباً ما ورد عن أبي سباع قال: [اشتريت ناقة من دار واثلة بن الأسقع رضي الله عنه فلما خرجت بها أدركني رجل فقال: اشتريت؟ قلت: نعم. قال: وبين لك ما فيها. قلت: وما فيها؟ إنها لسمينة ظاهرة الصحة. قال: أردت بها سفراً أو أردت بها لحماً؟ قلت: أردت بها الحج. قال: ارتجعها فإن بخفها نقباً ... ) حيث إنه أراد الحج على الناقة وكان في خفها نقب والنقب عيب في خف الجمل يجعل الخف رقيقاً فلا يصلح الجمل للسفر، انظر النهاية في غريب الحديث 5/102.
الشرط الثاني: قدم العيب بأن يكون العيب في السلعة قبل انتقال ملكيتها للمشتري أي وهي في عهدة البائع، قال الشيخ ابن رشد الحفيد [وأما شرط العيب الموجب للحكم به فهو أن يكون حادثاً قبل أمد التبايع باتفاق] بداية المجتهد 2/146.
الشرط الثالث: أن يكون المشتري غير عالم بالعيب عند العقد، قال الشيخ تقي الدين السبكي [إن كان عالماً – أي المشتري - فلا خلاف أنه لا يثبت له الخيار لرضاه بالعيب] تكملة المجموع12/ 121 أما إذا علم المشتري بالعيب فسكت، فيسقط حقه في الرد. ومما يدل على هذا الشرط ما ورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم: (مرََّ على صُبرة طعام - كومة - فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللاً فقال صلى الله عليه وسلم: ما هذا يا صاحب الطعام؟ قال: أصابته السماء يا رسول الله، أي المطر. قال: أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس ... ) فقوله (أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس) دليل على أن علم المشتري بالعيب يخلي البائع من المسؤولية. أحكام العيب ص 139.
الشرط الرابع: أن لا يكون البائع قد اشترط البراءة من العيب بمعنى أنه شرط في البيع أنه غير مسؤول عن أي عيب يظهر في السلعة فقبل المشتري ذلك، فإن ظهر عيب بعد ذلك فلا خيار للشتري حينئذ.
وبناءً عل ما تقدم فإن ظهور عيب في السلعة وفق الشروط السابقة يثبت حق الخيار للمشتري فله أن يرد السلعة ويسترجع ما دفعه من ثمنها كاملاً، وله أن يقبل بالسلعة المعيبة على أن ينقص البائع من ثمنها ما يقابل العيب. ومما ينبغي التنبيه عليه أن خيار العيب ثابت على التراخي وليس على الفور كما هو مذهب أكثر أهل العلم قال شيخ الإسلام ابن تيمية [وخيار الرد بالعيب على التراخي عند جمهور العلماء كمالك وأبي حنيفة وأحمد في ظاهر مذهبهما، ولهما قول ـ كمذهب الشافعي ـ أنه على الفور، فإذا ظهر ما يدل على الرضا من قول أو فعل سقط خياره بالاتفاق. فإذا بني بعد علمه بالعيب سقط خياره.] مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 29/366.
وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [خيار الرد بالعيب على التراخي فمتى علم العيب , فأخر الرد لم يبطل خياره حتى يوجد منه ما يدل على الرضا ذكره أبو الخطاب وذكر القاضي شيئاً يدل على أن فيه روايتين إحداهما , هو على التراخي، والثانية هو على الفور، وهو مذهب الشافعي فمتى علم العيب , فأخر رده مع إمكانه بطل خياره لأنه يدل على الرضا به فأسقط خياره , كالتصرف فيه. ولنا أنه خيار لدفع ضرر متحقق فكان على التراخي , كالقصاص ولا نسلم دلالة الإمساك على الرضا به] المغني 4/109.
وخلاصة الأمر أن من اشترى سلعة ثم ظهر أنها معيبة فله أن يردها بالعيب ويسترد ما دفع من ثمنها علم البائع بالعيب أم لم يعلم(12/46)
47 - الزيادة على القرض متى تكون ربا ومتى لاتكون؟
يقول السائل: متى تعتبر الزيادة على القرض رباً محرماً؟ ومتى تعتبر مصاريف إدارية؟ حيث إنني توجهت لإحدى المؤسسات التي تقرض مبلغاً لبناء مسكن فطلبوا نسبة 3% كمصاريف إدارية، أفيدونا. الجواب: الأصل الذي قرره فقهاؤنا أن أي زيادة مشروطة على مبلغ القرض تعتبر من الربا المحرم ومن المعلوم أن تحريم الربا قطعي في شريعتنا وأذكر بعض النصوص الشرعية التي تحرم الربا والتعامل به: يقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ) سورة البقرة الآيتان 278-279. وعن جابر بن عبد الله رضي الله عن قال: (لعن الله آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه وقال: هم سواء) رواه مسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اجتنبوا السبع الموبقات. قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات) رواه البخاري ومسلم. وقال صلى الله عليه وسلم: (الربا ثنان وسبعون باباً أدناها إتيان الرجل أمه) رواه الحاكم وقال الشيخ الألباني: صحيح. انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة 3/488. وقال صلى الله عليه وسلم: (الربا ثلاثة وسبعون باباً أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه) رواه الحاكم وقال الشيخ الألباني: صحيح. انظر صحيح الجامع الصغير 1/633. وقال صلى الله عليه وسلم: (درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد عند الله من ستة وثلاثين زنية) رواه أحمد والطبراني وقال الشيخ الألباني: صحيح. انظر صحيح الجامع الصغير 1/636 وقد دلت هذه النصوص على تحريم الربا وهو كل زيادة مشروطة على القرض. ومما يدل أيضاً على منع الزيادة المشروطة ما روي في الحديث (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قرض جر منفعة) رواه الحارث بن أبي أسامة في مسنده وفي إسناده متروك كما قال الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير 3/34. ورواه البيهقي في السنن 5/350، بلفظ: (كل قرض جر منفعة فهو وجه من وجوه الربا) وقال البيهقي: موقوف. ورواه البيهقي أيضاً في معرفة السنن والآثار 8/169 والحديث ضعيف، ضعفه ابن حجر وضعفه الشيخ الألباني في إرواء الغليل 5/235. ولكن معنى الحديث صحيح وقد اتفق الفقهاء على تحريم أي منفعة يستفيدها المقرض من قرضه ولكن ليس على إطلاقها، فالقرض الذي يجر نفعاً ويكون رباً أو وجهاً من وجوه الربا هو القرض الذي يشترط فيه المقرض منفعة لنفسه فهو ممنوع شرعاً. قال الحافظ ابن عبد البر: " وكل زيادة في سلف أو منفعة ينتفع بها المسلِف فهو ربا، ولو كانت قبضة من علف، وذلك حرام إن كان بشرط ". وقال ابن المنذر: " أجمعوا على أن المسلِف إذا شرط على المستلف زيادة أو هدية فأسلف على ذلك، إن أخذ الزيادة ربا " الموسوعة الفقهية 33/130. وأما إذا كانت الزيادة على القرض غير مشروطة عند العقد لا تصريحاً ولا تلميحاً فهي جائزة عند جمهور الفقهاء ولا تعد تلك الزيادة من الربا ويدل على جواز ذلك أحاديث واردة عن النبي صلى الله عليه وسلم وآثار عن الصحابة رضي الله عنهم منها: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد ضحى فقال: صل ركعتين وكان لي عليه دين فقضاني وزادني) رواه البخاري. وفي رواية أخرى عند البخاري قال جابر رضي الله عنه: (فلما قدمنا المدينة، قال الرسول صلى الله عليه وسلم يا بلال: اقضه وزده فأعطاه أربعة دنانير وزاده قيراطاً) . وعن أبي رافع رضي الله عنه قال: (استلف النبي صلى الله عليه وسلم بكراً - الفتي من الإبل - فجاءته إبل الصدقة فأمرني أن أقضي الرجل بكره، فقلت: إني لم أجد من الإبل إلا جملاً خياراً رباعياً - جملاً كبيراً له من العمر ست سنوات - فقال: أعطه إياه فإن من خير الناس أحسنهم قضاء) رواه مسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (استقرض رسول الله صلى الله عليه وسلم سناً فأعطى سناً خيراً من سنه، وقال: خياركم أحاسنكم قضاء) رواه أحمد والترمذي وصححه. وفي رواية أخرى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كان لرجل على النبي صلى الله عليه وسلم مسن من الإبل فجاء يتقاضاه، فقال: أعطوه فطلبوا سنه فلم يجدوا إلا سناً فوقها، فقال: أعطوه. فقال: أوفيتني أوفاك الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن خيركم أحسنكم قضاء) رواه البخاري ومسلم.
وعن مجاهد قال: (استلف عبد الله بن عمر من رجل دراهم ثم قضاه دراهم خيراً منها فقال الرجل: يا أبا عبد الرحمن هذه خير من دراهمي التي أسلفتك، فقال عبد الله بن عمر: قد علمت ولكن نفسي بذلك طيبة) رواه مالك في الموطأ.
وقال الإمام مالك رحمه الله: (لا بأس بأن يقبض من أسلف شيئاً من الذهب أو الورق أو الطعام أو الحيوان ممن أسلفه ذلك أفضل مما أسلفه إذا لم يكن ذلك على شرط منهما …) . وقال القرطبي: [وأجمع المسلمون نقلاً عن نبيهم صلى الله عليه وسلم أن اشتراط الزيادة في السلف ربا ولو كان قبضة من علف كما قال ابن مسعود أو حبة واحدة ويجوز أن يرد أفضل مما يستلف إذا لم يشترط ذلك عليه لأن ذلك من باب المعروف استدلالاً بحديث أبي هريرة في البكر- الفتي من الإبل -: (إن خياركم أحسنكم قضاء) رواه الأئمة البخاري ومسلم. فأثنى صلى الله عليه وسلم على من أحسن القضاء وأطلق ذلك ولم يقيده بصفة.] تفسير القرطبي 3/241. وأما الزيادة على القرض التي تسمى رسوم خدمات القرض أو أجور القرض أو مصاريف إدارية أو أتعاب إدارية للقرض فيجب أن يعلم ما يلي: أولاً: إن هذه الرسوم لا بد أن تكون مقابل خدمات فعلية لا وهمية.
ثانياً: أي زيادة على الخدمات الفعلية تعتبر من الربا المحرم شرعاً. جاء في قرارات مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثالث سنة 1407هـ وفق 1986م [ ... بخصوص أجور خدمات القروض في البنك الإسلامي للتنمية: قرر مجلس المجمع اعتماد المبادئ التالية: 1 - جواز أخذ أجور عن خدمات القروض. 2 - أن يكون ذلك في حدود النفقات الفعلية. 3 - كل زيادة على الخدمات الفعلية محرمة لأنها من الربا المحرم شرعًا.] مجلة مجمع الفقه الإسلامي العدد 3 الجزء 1/305.
ثالثاً: إن هذه الرسوم لا يجوز أن تكون مقابل إستيفاء القرض بل تكون عند إنشاء عقد القرض بمعنى أنها مصاريف إدارية تغطي التكاليف الإدارية مثل أجور الموظفين والشؤون المكتبية ونحو ذلك وإذا كانت الجهة المقرضة تتولى الإشراف على التنفيذ يدخل في ذلك أجور المهندسين أو المراقبين كما هو الحال في بعض المؤسسات التي تقرض للبناء والإسكان. وأما إذا كانت مقابل استيفاء القرض فهي ربا لذا ما تسميه بعض المؤسسات رسوم تحصيل القرض وهو أن يدفع المقترض مع كل قسط يسدده مبلغاً من المال كرسوم تحصيل للقرض ما هو إلا ربا محرم.
رابعاً: كثير من فقهاء العصر يرون أن تقدر هذه الرسوم بمبلغ مقطوع ولا تقدر بنسبة مئوية وخاصة إذا أخذت هذه الرسوم مقابل الأمور المكتبية فقط لأنها إذا قدرت بنسبة مئوية فستختلف باختلاف مبلغ القرض لأنها لو كانت رسوماً للخدمات فعلاً لما اختلف مقدارها باختلاف حجم القرض وشروطه إذ أن الخدمات المكتبية التي تؤدى لمن يقترض ألفاً هي ذاتها الخدمات التي تؤدى لمن يقترض عشرة آلاف ولكنه التلاعب ومحاولة تغيير الأسماء ليخدع الناس ويظنوا أن ذلك لا شيء فيه ويجب أن يعلم أن هذه الرسوم بهذه الصورة هي ربا وإن غيرت أسماؤها لأن العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني كما قرر ذلك فقهاؤنا. ومن فقهاء العصر من أجاز أن تكون نسبة مئوية ضئيلة مثل 1% أو 2% مع تحقق ما ذكرته سابقاً.
وخلاصة الأمر أن الزيادة المشروطة على القرض تعتبر من الربا وأما الزيادة غير المشروطة فلا تعتبر من الربا كأن يهدي المقترض
للمقرض هدية عند السداد. وأما رسوم خدمات القرض فيجب أن تقابل خدمات فعلية حقيقية وأن تكون معلومة ومقدرة تقديراً حقيقياً.(12/47)
48 - الشرط الجزائي لا يدخل في الديون
السؤال: اطلعت على اتفاقية تلزيم مقصف في إحدى المؤسسات وقد لفت نظري بند ينص على أنه في حالة التأخر عن الدفع يترتب على الفريق الثاني دفع مبلغ وقدره 300 شيكل عن كل يوم تأخير وقد رأيت أن أبين حكم هذا الشرط فيما يلي. الجواب: الشرط المذكور في الاتفاقية المشار إليها يسمى شرطاً جزائياً وهو اتفاق المتعاقدين في ذات العقد أو في اتفاق لاحق، وبشرط أن يكون ذلك قبل الإخلال بالالتزام على مقدار التعويض الذي يستحقه الدائن عند عدم قيام المدين بتنفيذ التزامه أو تأخيره عنه فيه. انظر بحوث فقهية في قضايا اقتصادية معاصرة 2/855.
والشرط الجزائي منه ما يكون في العقود التي تتضمن أعمالاً كعقود المقاولة والتوريد وعقد الاستصناع بالنسبة للصانع إذا لم ينفّذ ما التزم به أو تأخر في تنفيذه. ومنه ما يكون في العقود التي تتضمن التزاماً مالياً في الذمة وقد اتفق الفقهاء المعاصرون على جواز النوع الأول من الشروط الجزائية وأما النوع الثاني فهو محرم عند أكثر فقهاء العصر.
ويستدل على جواز النوع الأول من الشرط الجزائي بما رواه الإمام البخاري في صحيحه بسنده عن ابن سيرين أن رجلاً قال لكريِّه: (من يكري وسائل النقل) أدخل ركابك فإن لم أرحل معك يوم كذا وكذا فلك مائة درهم فلم يخرج، فقال شريح: من شرط على نفسه طائعاً ليس مكره فهو عليه.
ويدخل النوع الأول من الشرط الجزائي في عمو قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (المسلمون على شروطهم) رواه أصحاب السنن وهو حديث صحيح. وجاء في رواية أخرى: (المسلمون على شروطهم إلا شرطاً حرم حلالاً أو أحل حراماً) رواه الترمذي وقال: حسن صحيح. وكذلك الاعتماد على القول الصحيح من أن الأصل في الشروط الصحة، وأنه لا يحرم منها ويبطل إلا ما دل الشرع على تحريمه وإبطاله نصاً أو قياساً. انظر أبحاث هيئة كبار العلماء 1/213.
وأما النوع الثاني من الشروط الجزائية وهو ما كان مقرراً لتأخير الوفاء بالديون اللازمة في الذمة فهو محرم لأنه عين الربا وقد قرر مجمع الفقه الاسلامي في دورته الرابعة عشرة في الفترة من 8 إلى 13 ذو القعدة 1423هـ، الموافق 11 ـ 16 كانون الثاني 2003 ما يتعلق بالديون المتأخرة وسدادها:
أـ بخصوص الشرط الجزائي في العقود: يؤكد المجلس قراراته السابقة بالنسبة للشرط الجزائي الواردة في قراره في السَّلم رقم 85 (2/9) ونصه: «لا يجوز الشرط الجزائي عن التأخير في تسليم المسلم فيه، لأنه عبارة عن دين، ولا يجوز اشتراط الزيادة في الديون عند التأخير» ، وقراره في الشرط الجزائي رقم 109 (4/12) ونصه: «يجوز أن يكون الشرط الجزائي في جميع العقود المالية ما عدا العقود التي يكون الالتزام الأصلي فيها دَيناً، فإن هذا من الربا الصريح، وبناء على هذا لا يجوز الشرط الجزائي ـ مثلاً ـ في البيع بالتقسيط بسبب تأخر المدين عن سداد الأقساط المتبقية سواء كان بسبب الإعسار أو المماطلة، ولا يجوز في عقد الاستصناع بالنسبة للمستصنع إذا تأخر في أداء ما عليه» .
ب ـ يؤكد المجمع على قراره السابق في موضوع البيع بالتقسيط رقم 51 (2/6) في فقراته الآتية:
ثالثا: إذا تأخر المشتري المدين في دفع الأقساط عن الموعد المحدد فلا يجوز إلزامه أي زيادة على الدين بشرط سابق أو بدون شرط لأن ذلك ربا محرم.
رابعا: يحرم على المدين المليء أن يماطل في أداء ما حلَّ من الأقساط، ومع ذلك لا يجوز شرعاً اشتراط التعويض في حالة التأخر عن الأداء.]
وبناءً على ما سبق فإن الشرط الجزائي لا يدخل في باب الديون مطلقاً فلذا لا يجوز أن يدخل الشرط الجزائي في بيع التقسيط في حالة تأخر المشتري عن السداد وكذلك لا يدخل في عقد الإجارة إذا تأخر المستأجر في دفع الأجرة وكذلك لا يدخل في عقد القرض إذا تأخر المقترض في سداد القرض.
قال ابن المنذر: [أجمعوا على أن المسلِف إذا شرط على المستلف زيادة أو هدية فأسلف على ذلك، إن أخذ الزيادة ربا] الموسوعة الفقهية 33/130. وجاء في قرار مجلس المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة ما يلي:
[نظر المجمع الفقهي في موضوع السؤال التالي، إذا تأخر المدين عن سداد الدين في المدة المحددة، فهل للبنك الحق أن يفرض على المدين غرامة مالية، جزائية بنسبة معينة بسبب التأخر عن السداد في الموعد المحدد بينهما؟
الجواب: وبعد البحث والدراسة، قرر المجمع الفقهي بالإجماع ما يلي: إن الدائن إذا شرط على المدين أو فرض عليه أن يدفع له مبلغاً من المال غرامة مالية جزائية محددة أو بنسبة معينة، إذا تأخر عن السداد في الموعد المحدد بينهما، فهو شرط أو فرض باطل، ولا يجب الوفاء به، ولا يحل سواءً أكان الشارط هو المصرف أو غيره، لأن هذا بعينه هو ربا الجاهلية الذي نزل القرآن بتحريمه.]
ويجب أن يعلم أنه يحرم على الغني أن يماطل فيما وجب عليه من حقوق، كالدين مثلاً، وكذلك من وجد أداءً لحق عليه وإن كان فقيراً تحرم عليه المماطلة، وقد ثبت في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مطل الغني ظلم) رواه البخاري ومسلم.
قال الحافظ ابن حجر: [والمراد هنا تأخير ما استحق أداؤه بغير عذر، والغني مختلف في تعريفه ولكن المراد به هنا من قدر على الأداء فأخره ولو كان فقيراً] فتح الباري 5/371. وأما إذا كان المدين معسراً فإن الله سبحانه وتعالى طلب إنظاره إلى ميسرة، كما قال تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} سورة البقرة الآية 280.
وخلاصة الأمر أن الشرط المذكور في اتفاقية تلزيم المقصف الذي ينص على أنه في حالة التأخر عن الدفع يترتب على الفريق الثاني دفع مبلغ وقدره 300 شيكل عن كل يوم تأخير أنه شرط ربوي محرم لا يجوز اشتراطه ويحرم الوفاء به لأنه عين الربا المحرم تحريماً قطعياً في كتاب الله عز وجل وفي سنة نبيه صلى الله عليه وسلم.(12/48)
49 - حكم بيع الفضولي
يقول السائل: ثلاثة شركاء يمتلكون عمارة من ثلاثة طوابق ملكاً مشاعاً فقام أحد الشركاء ببيع العمارة بدون إذن شريكيه فرفض الشريكان الآخران البيع وسألوا أحد المشايخ فأجابهم بأن البيع لازم ولا يحق لهما نقض البيع فما قولكم في ذلك، أفيدونا؟ الجواب: الشركة القائمة بين الشركاء الثلاثة المذكورين في السؤال هي شركة ملك على الشيوع وشركة الملك هي أن يختص اثنان فصاعداً بشيء واحد. وبما أن حصة كل شريك غير متميزة عن الآخر فإن ملكهم للعمارة على سبيل الشيوع. وقد بين الفقهاء أن الشريك في شركة الملك لا يملك التصرف في حصة شريكه بغير إذنه فقد جاء في المادة 1075 من مجلة الأحكام وشرحها درر الحكام ما يلي: [كل واحد من الشركاء في شركة الملك أجنبي في حصة الآخر ولا يعتبر أحد وكيلاً عن الآخر فلذلك لا يجوز تصرف أحدهما في حصة الآخر بدون إذنه ... فلذلك لو باع أحد صاحبي الدار المشتركة نصفها لآخر فيصرف البيع الواقع على أنه في حصته وينفذ ; لأنه يجب حمل تصرف الإنسان على أنه وقع بصورة مشروعة , فلو حمل بأن نصف ما باعه في حصته ونصف ما باعه في حصة شريكه فيكون قد حمل عمله على أمر غير مشروع ... فلذلك لا يجوز تصرف أحدهما تصرفاً مضراً في حصة الآخر بدون إذنه صراحة أو دلالة وإذا تصرف يضمن. انظر المادة (96) .... مثال للبيع - لو باع أحد صاحبي الدار المشتركة حصته وحصة شريكه بدون إذنه لآخر فيكون البيع المذكور فضولاً في حصة الشريك (البهجة) وللشريك المذكور إن شاء فسخ البيع في حصته وإن شاء أجاز البيع إذا وجدت شرائط الإجازة. درر الحكام شرح مجلة الأحكام 3/ 28-29.
وجاء في الفتاوى الهندية [ولا يجوز لأحدهما أن يتصرف في نصيب الآخر إلا بأمره]
قال الكاساني: [فأما شركة الأملاك فحكمها في النوعين جميعاً واحد , وهو أن كل واحد من الشريكين كأنه أجنبي في نصيب صاحبه , لا يجوز له التصرف فيه بغير إذنه لأن المطلق للتصرف، الملك أو الولاية ولا لكل واحد منهما في نصيب صاحبه ولاية بالوكالة أو القرابة ; ولم يوجد شيء من ذلك وسواء كانت الشركة في العين أو الدين لما قلنا] بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع 5/87.
وجاء في الموسوعة الفقهية الكويتية [الأصل أن كل واحد من الشريكين أو الشركاء في شركة الملك أجنبي بالنسبة لنصيب الآخر. لأن هذه الشركة لا تتضمن وكالة ما, ثم لا ملك لشريك ما في نصيب شريكه, ولا ولاية له عليه من أي طريق آخر. والمسوغ للتصرف إنما هو الملك أو الولاية وهذا ما لا يمكن تطرق الخلاف إليه. ويترتب على ذلك ما يلي:
ليس لشريك الملك في نصيب شريكه شيء من التصرفات التعاقدية: كالبيع, والإجارة, والإعارة وغيرها, إلا أن يكون ذلك بإذن شريكه هذا. فإذا تعدى فآجر مثلاً , أو أعار العين المشتركة فتلفت في يد المستأجر أو المستعير , فلشريكه تضمينه حصته وهذا أيضاً مما لا خلاف فيه.] الموسوعة الفقهية الكويتية 26/22-23.
إذا تقرر هذا فإن ما قام به الشريك من بيع لحصة شريكيه بغير إذنهما يسمى بيع الفضولي عند الفقهاء
وقد ذهب جمهور الفقهاء الحنفية والمالكية والشافعي في قوله القديم وهو أحد قوليه في الجديد وأحمد في إحدى الروايتين عنه إلى أن البيع صحيح إلا أنه موقوف على إجازة المالك. وذهب الشافعي في القول الثاني من الجديد وأحمد في الرواية الأخرى عنه إلى أن البيع باطل. قال الإمام النووي [سبق أن شروط المبيع خمسة منها أن يكون مملوكاً لمن يقع العقد له فان باشر العقد لنفسه فشرطه كونه مالكاً للعين وإن باشره لغيره بولاية أو وكالة فشرطه أن يكون لذلك الغير، فلو باع مال غيره بغير إذن ولا ولاية، فقولان الصحيح أن العقد باطل وهذا نصه في الجديد وبه قطع المصنف وجماهير العراقيين وكثيرون أو الأكثرون من الخراسانيين لما ذكره المصنف وسنزيده دلالة في فرع مذاهب العلماء إن شاء الله تعالى والقول الثاني وهو القديم أنه ينعقد موقوفاً على إجازة المالك إن أجاز صح البيع وإلا لغا ...
فرع في مذاهب العلماء في تصرف الفضولي بالبيع وغيره في مال غيره بغير إذنه، قد ذكرنا أن مذهبنا المشهور بطلانه ولا يقف على الإجازة وكذا الوقف والنكاح وسائر العقود وبهذا قال أبو ثور وابن المنذر وأحمد في أصح الروايتين عنه وقال مالك يقف البيع والشراء والنكاح على الإجازة فان أجازه من عقد له صح وإلا بطل، وقال أبو حنيفة إيجاب النكاح وقبوله يقفان على الإجازة ويقف البيع على الإجازة ولا يقف الشراء وأوقفه اسحق بن راهويه في البيع ... ] المجموع 9/259.
والراجح من أقوال أهل العلم في بيع الفضولي أنه صحيح ولكنه موقوف على إجازة المالك ويدل لذلك ما ورد في الحديث الذي رواه الإمام البخاري بإسناده عن شبيب بن غرقدة، قال: (سمعت الحي يحدثون عن عروة أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه ديناراً يشتري له به شاة فاشترى له به شاتين فباع إحداهما بدينار وجاءه بدينار وشاة فدعا له بالبركة في بيعه وكان لو اشترى التراب أربح فيه) . ويدل له حديث ابن عمر في قصة الثلاثة أصحاب الغار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (قال الثالث اللهم استأجرت أجراء فأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب فثمَّرتُ أجره حتى كثرت منه الأموال فجاءني بعد حين فقال يا عبد الله أدِ إليَّ أجري فقلت كل ما ترى من أجرك من الإبل والبقر والغنم والرقيق فقال يا عبد الله لا تستهزئ بي فقلت لا أستهزئ فأخذه كله فاستاقة فلم يترك منه شيئا) رواه البخاري ومسلم. وغير ذلك من الأدلة.
وبناءً على ما سبق فإن القول بأن عقد البيع الذي عقده الشريك لازم في حق شريكيه، قول باطل، وإنما هو لازم في حق من عقده فقط ويملك الشريكان الآخران إبطال العقد في حصتيهما.
قال الزيلعي الحنفي (ومن باع ملك غيره فللمالك أن يفسخه ويجيزه إن بقي العاقدان والمعقود عليه وله وبه لو عرضاً) أي للمالك أن يجيز العقد بشرط أن يبقى المتعاقدان والمعقود عليه والمعقود له وهو المالك بحالهم والأصل فيه أن كل تصرف صدر من الفضولي وله مجيز حال وقوعه انعقد موقوفاً على الإجازة عندنا وإن لم يكن له مجيز حالة العقد لا يتوقف ويقع باطلاً] تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق 4/102-103
وجاء في المادة 378 من مجلة الأحكام العدلية [بيع الفضولي إذا أجازه صاحب المال , أو وكيله , أو وصيه , أو وليه نفذ وإلا انفسخ إلا أنه يشترط لصحة الإجازة أن يكون كل من البائع والمشتري والمجيز والمبيع قائماً وإلا ; فلا تصح الإجازة]
وجاء في الموسوعة الفقهية الكويتية [اتفق الفقهاء على أن من شروط البيع: أن يكون المبيع مملوكاً للبائع أو له عليه ولاية أو وكالة تجيز تصرفه فيه واتفقوا أيضا على صحة بيع الفضولي, إذا كان المالك حاضراً وأجاز البيع, لأن الفضولي حينئذ يكون كالوكيل. واتفقوا أيضا على عدم صحة بيع الفضولي إذا كان المالك غير أهل للإجازة , كما إذا كان صبياً وقت البيع.] الموسوعة الفقهية الكويتية 9/117.
وخلاصة الأمر أن ما قام به الشريك من بيع حصة شريكيه بدون إذنهما تصرف باطل وغير لازم لهما والقول بأن تصرفه وقع لازماً لهما قول غير صحيح.(12/49)
50 - المقاطعة الاقتصادية
يقول السائل: على إثر الهجمة القذرة على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمتمثلة بنشر الرسوم الكاريكاتورية التي تسيء لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم تداعى المسلمون إلى مقاطعة البضائع الدنماركية وقد سمعنا من يشكك في شرعية المقاطعة الاقتصادية فما قولكم في ذلك؟ الجواب: إن من أعظم واجبات الأمة المسلمة تجاه رسولها صلى الله عليه وسلم هي تعظيمه صلى الله عليه وسلم وتعزيره وتوقيره صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى {إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً، لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلاً} سورة الفتح الآيتان رقم 8- 9، قال الشيخ ابن كثير: [ {لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه} قال ابن عباس رضي الله عنهما وغير واحد: تعظموه {وتوقروه} من التوقير وهو الاحترام والإجلال والإعظام.] تفسير ابن كثير 5/613.
ولا شك أن نصرة النبي صلى الله عليه وسلم والدفاع عنه داخلة في تعظيمه وتوقيره صلى الله عليه وسلم وهذا من المقاصد المطلوبة شرعاً وبناءً على ذلك فكل وسيلة شرعية تؤدي إلى هذا المقصد الشريف مطلوبة لأن للوسائل أحكام المقاصد كما قرر أهل العلم، قال الإمام العز بن عبد السلام: [للوسائل أحكام المقاصد فالوسيلة إلى أفضل المقاصد هي أفضل الوسائل والوسيلة إلى أرذل المقاصد هي أرذل الوسائل] قواعد الأحكام 1/46. وقال الإمام القرافي: [اعلم أن الذريعة كما يجب سدها يجب فتحها وتكره وتندب وتباح فإن الذريعة هي الوسيلة فكما أن وسيلة المحرم محرمة فوسيلة الواجب واجبة كالسعي للجمعة والحج وموارد الأحكام على قسمين: مقاصد وهي المتضمنة للمصالح والمفاسد في أنفسها. ووسائل: وهي الطرق المفضية إليها وحكمها حكم ما أفضت إليه من تحريم وتحليل غير أنها أخفض رتبة من المقاصد في حكمها والوسيلة إلى أفضل المقاصد أفضل الوسائل وإلى أقبح المقاصد أقبح الوسائل وإلى ما يتوسط متوسطة ومما يدل على حسن الوسائل الحسنة قوله تعالى (ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئاً يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلاً إلا كتب لهم به عمل صالح) فأثابهم الله على الظمأ والنصب وإن لم يكونا من فعلهم بسبب أنهما حصلا لهم بسبب التوسل إلى الجهاد الذي هو وسيلة لإعزاز الدين وصون المسلمين فيكون الاستعداد وسيلة الوسيلة] الفروق 2/33، فالمقاطعة الاقتصادية لمنتجات الدول التي تهجم أتباعها على رسولنا صلى الله عليه وسلم وسيلة مشروعة لنصرة النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمه وتوقيره. وخاصة أننا لمسنا استكبار قادة تلك الدول في رفضهم الاعتذار للمسلمين بل نقل عن بعضهم قوله إن اعتذار أي شخص دنمركي للمسلمين يعد خيانة للوطن. ومما يدل على مشروعية المقاطعة الاقتصادية ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلاً قبل نجد فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة فربطوه بسارية من سواري المسجد فخرج إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ماذا عندك يا ثمامة؟ فقال عندي يا محمد خير، إن تقتل تقتل ذا دم وإن تُنعم تنعم على شاكر وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت فتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان بعد الغد فقال ما عندك يا ثمامة؟ قال ما قلت لك إن تنعم تنعم على شاكر وإن تقتل تقتل ذا دم وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت فتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان من الغد فقال ماذا عندك يا ثمامة؟ فقال عندي ما قلت لك إن تنعم تنعم على شاكر وإن تقتل تقتل ذا دم وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أطلقوا ثمامة فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل ثم دخل المسجد فقال أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله يا محمد والله ما كان على الأرض وجه أبغض إليَّ من وجهك فقد أصبح وجهك أحب الوجوه كلها إليَّ والله ما كان من دين أبغض إليَّ من دينك فأصبح دينك أحب الدين كله إليَّ والله ما كان من بلد أبغض إليَّ من بلدك فأصبح بلدك أحب البلاد كلها إليَّ وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة فماذا ترى فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره أن يعتمر فلما قدم مكة قال له قائل: أصبوت؟ فقال: لا ولكني أسلمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [قوله: (لا تأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها النبي صلى الله عليه وسلم) زاد ابن هشام " ثم خرج إلى اليمامة فمنعهم أن يحملوا إلى مكة شيئاً , فكتبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم: إنك تأمر بصلة الرحم , فكتب إلى ثمامة أن يخلي بينهم وبين الحمل إليهم] فتح الباري 8/111. وما قام به ثمامة بن أثال رضي الله عنه يعتبر نوعاً من المقاطعة الاقتصادية وقد أقره النبي صلى الله عليه وسلم على تلك المقاطعة الاقتصادية واستمرت تلك المقاطعة إلى أن طلب الرسول صلى الله عليه وسلم من ثمامة بن أثال وقفها. وفي ذلك قال الشاعر: وثمامةُ بن أَثالٍ الحنفيِّ قد نفض الغبار عن الحقيقة وابتهلْ
وأبى على الكفَّار حَبَّةَ حنطةٍ إلا إذا أَذِنَ الرسولُ وقد فَعَلْ
وينبغي التذكير بالمقاطعة التي تعرض لها الرسول صلى الله عليه وسلم وقومه في مكة من كفار قريش فلجأوا إلى شعب أبي طالب، فقد روى البخاري ومسلم عن أسامة بن زيد قال قلت يا رسول الله أين تنزل غداً في حجته قال وهل ترك لنا عقيل منزلاً ثم قال نحن نازلون غداً بخيف بني كنانة المحصب حيث قاسمت قريش على الكفر وذلك أن بني كنانة حالفت قريشاً على بني هاشم أن لا يبايعوهم ولا يؤووهم قال الزهري والخيف الوادي. ومما يدل على جواز المقاطعة ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم أثناء حصار بني النضير من محاربتهم اقتصادياً بقطع نخيلهم وتحريقه فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال حرق رسول الله صلى الله عليه وسلم نخل بني النضير وقطع وهي البويرة فنزلت {ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله} رواه البخاري ومسلم ومما يدل على جواز المقاطعة أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ بعد الهجرة النبوية بمحاربة قريش اقتصادياً فكانت غزوة العشيرة وغيرها من الغزوات وبعض السرايا التي بعثها الرسول صلى الله عليه وسلم لتحقيق ذلك الهدف ولا شك أن المقاطعة الاقتصادية داخلة في ذلك. قال الإمام البخاري [باب غزوة العشيرة أو العسيرة قال ابن إسحاق أول ما غزا النبي صلى الله عليه وسلم الأبواء ثم بواط ثم العشيرة] قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [ ... وذكر الواقدي أن هذه السفرات الثلاث كان يخرج فيها ليلتقي تجار قريش حين يمرون إلى الشام ذهابا وإياباً ... وقد تقدم في – كتاب - العلم البيان عن سرية عبد الله بن جحش وأنه ومن معه لقوا ناساً من قريش راجعين بتجارة من الشام فقاتلوهم , واتفق وقوع ذلك في رجب , فقتلوا منهم وأسروا وأخذوا الذي كان معهم , وكان أول قتل وقع ف الإسلام وأول مال غنم ... وذكر ابن سعد أن المطلوب في هذه الغزاة هي عير قريش التي صدرت من مكة إلى الشام بالتجارة ففاتتهم , وكانوا يترقبون رجوعها فخرج النبي صلى الله عليه وسلم يتلقاها ليغنمها , فبسبب ذلك كانت وقعة بدر..] فتح الباري 7/347-349. وغير ذلك من الأدلة الكثيرة.
وخلاصة الأمر أن المقاطعة الاقتصادية وسيلة مشروعة للدفاع عن الرسول صلى الله عليه وسلم لردع المعتدين ولإجبار تلك الدول لتسن التشريعات التي تعاقب كل من يسيء إلى دين الإسلام، وعلى المسلمين كافة أن يسهموا في المقاطعة حتى تكون مؤثرة وقوية.(12/50)
51 - استئجار الحلي الذهبية
يقول السائل: شاب يريد الزواج وهو فقير الحال وقد اتفق مع عروسه على استئجار الحلي الذهبية لمدة شهر وبعد إتمام الزواج يرد الحلي للصائغ ويدفع الأجرة المتفق عليها فما حكم ذلك. الجواب: الإجارة عند الفقهاء عقد معاوضة على تمليك منفعة بعوض. الموسوعة الفقهية 1/252. ولا خلاف بين الفقهاء أنه يشترط لانعقاد الإجارة عليها أن تقع الإجارة على المنفعة لا على استهلاك العين. وينطبق ذلك على استئجار الحلي الذهبية بالنقود فإن العقد وقع على منفعة الحلي وهي التزين بها فيجوز شرعاً استئجار الحلي الذهبية بالنقود وهو قول جمهور أهل العلم وبه قال الحنفية والشافعية والحنابلة وهو قول في مذهب المالكية ويجب أن يعلم أن هذه المسألة من باب الإجارة ولا علاقة لها بالربا ويشبه ذلك إجارة الأراضي لأن الحلي عين ينتفع بها منفعة مباحة مقصودة مع بقائها فجازت إجارتها ولأن الحلي الذهبية من الأعيان الثابتة وقد اتفق الفقهاء على جواز استئجار الأعيان الثابتة بخلاف الأعيان المستهلكة فلا تجوز إجارتها فلو استأجر رطلاً من الأرز فالإجارة باطلة.
وأما المالكية فقد كرهوا إجارة الحلي في قول عندهم لأن زكاة الحلي إعارته ولأنه ليس من شأن الناس وورد عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: زكاة الحلي إعارته
وجاء في منح الجليل شرح مختصر خليل من كتب المالكية في تعليل المنع من إجارة الحلي [لأنه ليس من أخلاق الناس وليس بحرام بين ... واستثقله الإمام مالك رضي الله عنه مرة وخففه مرة. ونقل ابن يونس عن مالك ليس كراء الحلي من أخلاق الناس، معناه أنهم كانوا يرون زكاته أن يعار، فلذلك كرهوا أن يكرى]
وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [فصل: فيما تجوز إجارته تجوز إجارة كل عين يمكن أن ينتفع بها منفعة مباحة مع بقائها بحكم الأصل , كالأرض والدار والعبد , والبهيمة والثياب والفساطيط , والحبال والخيام والمحامل , والسرج واللجام والسيف , والرمح وأشباه ذلك وقد ذكرنا كثيراً مما تجوز إجارته في مواضعه.
وتجوز إجارة الحلي. نص عليه أحمد , في رواية ابنه عبد الله. وبهذا قال الثوري , والشافعي , وإسحاق , وأبو ثور , وأصحاب الرأي. وروي عن أحمد , أنه قال في إجارة الحلي: ما أدري ما هو؟ قال القاضي: هذا محمول على إجارته بأجرة من جنسه , فأما بغير جنسه , فلا بأس به , لتصريح أحمد بجوازه.
وقال مالك , في إجارة الحلي والثياب: هو من المشتبهات. ولعله يذهب إلى أن المقصود بذلك الزينة , وليس ذلك من المقاصد الأصلية.
ومن منع ذلك بأجر من جنسه , فقد احتج له بأنها تحتك بالاستعمال , فيذهب منها أجزاء وإن كانت يسيرة , فيحصل الأجر في مقابلتها , ومقابلة الانتفاع بها , فيفضي إلى بيع ذهب بذهب وشيء آخر.
ولنا أنها عين ينتفع بها منفعة مباحة مقصودة , مع بقاء عينها , فأشبهت سائر ما تجوز إجارته , والزينة من المقاصد الأصلية ; فإن الله تعالى امتن بها علينا بقوله تعالى: {لتركبوها وزينة} وقال تعالى: {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده} وأباح الله تعالى من التحلي واللباس للنساء ما حرمه على الرجال , لحاجتهن إلى التزين للأزواج , وأسقط الزكاة عن حليهن معونة لهن على اقتنائه. وما ذكروه من نقصها بالاحتكاك لا يصح ; لأن ذلك يسير, لا يقابل بعوض , ولا يكاد يظهر في وزن , ولو ظهر فالأجر في مقابلة الانتفاع , لا في مقابلة الأجزاء ; لأن الأجر في الإجارة , إنما هو عوض المنفعة , كما في سائر المواضع , ولو كان في مقابلة الجزء الذاهب , لما جاز إجارة أحد النقدين بالآخر ; لإفضائه إلى الفرق في معاوضة أحدهما بالآخر قبل القبض.] المغني 5/403-404
وقال الإمام النووي [ذكر الصيمري ثم الماوردي ومتابعوهما هنا أن الأفضل إذا أكرى حلي ذهب أو فضة أن لا يكريه بجنسه بل يكري الذهب بالفضة والفضة بالذهب فلو أكرى الذهب بالذهب أو الفضة بالفضة فوجهان: (أحدهما) بطلانه حذراً من الربا، والصحيح الجواز كسائر الإجارات، قال الماوردي: وقول الأول باطل؛ لأن عقد الإجارة لا يدخله الربا، ولهذا يجوز إجارة حلي الذهب بدراهم مؤجلة بإجماع المسلمين، ولو كان للربا هنا مدخل لم يجز هذا.] المجموع 6/ 46.
وقال شمس الأئمة السرخسي [وذكر عن الحسن رحمه الله قال: لا بأس بأن يستأجر الرجل حلي الذهب بالذهب وحلي الفضة بالفضة وبه نأخذ فإن البدل بمقابلة منفعة الحلي دون العين ولا ربا بين المنفعة وبين الذهب والفضة، ثم الحلي عين منتفع به واستئجاره معتاد فيجوز] المبسوط
وجاء في الموسوعة الفقهية الكويتية [الأصل إباحة إجارة كل عين يمكن أن ينتفع بها منفعة مباحة مع بقائها، ولهذا صرح الشافعية والحنابلة بجواز – إجارة - الثياب والحلي للتزين، فإن النفقة بهما مباحة مقصودة مع بقاء عينها، والزينة من المقاصد المشروعة، قال الله تعالى: {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده} . وجواز إجارة حلي الذهب والفضة بغير جنسه محل اتفاق بينهم، وتردد أحمد فيما إذا كانت الأجرة من جنسها، وروي عنه جوازه مطلقاً ... وكره المالكية إجارة الحلي؛ لأنه ليس من شأن الناس، وقالوا: الأولى إعارته لأنها من المعروف ... والجواز مفهوم من قواعد المذاهب الأخرى أيضاً؛ لأن أصل التزين مشروع، والإجارة على المنافع المشروعة صحيحة] الموسوعة الفقهية الكويتية 11/276.
وقد سئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية عن مثل هذا السؤال، وهو تأجير الحليّ من الذهب والفضة لتلبسه المرأة عند الزواج ثم يعاد بعد أسبوعين مثلاً مع دفع الأجرة فأجابت: الأصل جواز تأجير الحلي من الذهب والفضة بأحد النقدين أو غيرهما بأجرة ومدة معلومتين، يرد المستأجر الحلي بعد انتهاء مدة الإجارة ولا بأس بأخذ رهن في ذلك] فتاوى اللجنة الدائمة عن الإنترنت.
وينبغي التنبيه إلى مسألة قريبة من هذه المسألة وهي اقتراض الذهب فيجوز عند العلماء اقتراض الذهب بذهب مثله فيجوز أن يقترض شخص مئة غرام ذهب عيار 21 على أن يردها مئة غرام ذهب عيار 21 وله أن يرد ثمنها في يوم السداد إذا اتفق المتعاقدان على ذلك. ويدل عليه ما ورد في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنه قال: (كنت أبيع الإبل في البقيع، فأبيع بالدنانير وآخذ بالدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ بالدنانير، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، إني أبيع الإبل بالبقيع فأبيع بالدنانير وآخذ بالدراهم وأبيع بالدراهم وآخذ بالدنانير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا بأس، إذا أخذتهما بسعر يومهما فافترقتما وليس بينكما شيء) رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وأحمد وغيرهم، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
وخلاصة الأمر أنه يجوز استئجار الحلي الذهبية بالنقود وكذا يجوز استقراض الذهب بشرط أن يرد مثله أو قيمته يوم السداد.(12/51)
52 - حكم غرامة التأخير
يقول السائل: إن شركة الكهرباء تقوم بفرض غرامة على كل من يتأخر بسداد الفاتورة عن موعدها فما هو الحكم الشرعي لهذه الغرامة أفيدونا؟ الجواب: لابد أن يعلم أولاً أنه يجب شرعاً سداد فاتورة الكهرباء في موعدها لأن ذلك هو مقتضى العقد القائم بين شركة الكهرباء والمشترك ولا يجوز التأخر في السداد وقد أمر الله عز وجل بالوفاء بالعقود في قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} سورة المائدة الآية 1.
إذا تقرر ذلك فإن فرض غرامة مالية على من يتأخر في سداد فاتورة الكهرباء محرم شرعاً لأنه رباً واضح وهو عين الربا الذي كان في الجاهلية. قال الإمام القرطبي في تفسير قوله تعالى: {إنما البيع مثل الربا} سورة البقرة الآية 275 [أي إنما الزيادة عند حلول الأجل آخراً كمثل أصل الثمن في أول العقد، وذلك أن العرب كانت لا تعرف ربا إلا ذلك، فكانت إذا حلَّ دينها قالت للغريم: إما أن تقضي وإما أن تُربي، أي تزيد في الدين. فحرم الله سبحانه ذلك ورد عليهم قولهم بقوله الحق: {وأحل الله البيع وحرم الربا} وأوضح أن الأجل إذا حلَّ ولم يكن عنده ما يؤدي أنظر إلى الميسرة. وهذا الربا هو الذي نسخه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله يوم عرفة لما قال: (ألا إن كل رباً موضوع وإن أول ربا أضعه ربانا، ربا عباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله) . فبدأ صلى الله عليه وسلم بعمه وأخص الناس به. وهذا من سنن العدل للإمام أن يُفيض العدل على نفسه وخاصته فيستفيض حينئذ في الناس.] تفسير القرطبي 3/356.
وجاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي في دورته الثانية ما يلي: [إن كل زيادة أو فائدة على الدين الذي حلَّ أجله وعجز المدين عن الوفاء به مقابل تأجيله، وكذلك الزيادة أو الفائدة على القرض منذ بداية العقد. هاتان الصورتان ربا محرم شرعاً] مجلة المجمع عدد 2 ج 2 ص 873.
ويجب أن يعلم أن كل غرامة تفرض على المدين تعتبر من باب الربا وإن سميت غرامة تأخير أو سميت شرطاً جزائياً فإن الشرط الجزائي لا يكون في الديون وإنما يكون في العقود المالية التي تخلو من الديون كعقود المقاولات والتوريد وغيرهما فمثلاً لو اتفق شخص مع مقاول ليبني له بيتاً واتفقا على تسليم البيت في موعد محدد واتفقا على أنه إذا تأخر المقاول في التسليم فيدفع له مبلغاً من المال عن كل يوم تأخر فيه عن تسليم البيت صح ذلك شرعاً. ولا يعتبر هذا المبلغ من الربا. وكذلك عقود المقولات التي تتم بين الشركات والدولة أو أصحاب المشاريع وكان الاتفاق فيها على العمل يجوز شرعاً أن تتضمن شرطاً جزائياً مالياً على أن يكون التأخير في تسليم ما اتفق عليه ناتجاً عن إهمال من المقاول أو تقصير منه وأن لا يكون التأخير ناتجاً عن أمور خارجة عن إرادة المقاول كالعوامل الطبيعية مثلاً. وبشرط أن يكون مقدار الشرط الجزائي مماثلاً للضرر الفعلي الذي لحق بالطرف الآخر.
ومما يدل على جواز الشرط الجزائي قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً حرم حلالاً أو أحل حراماً والمسلمون على شروطهم إلا شرطاً حرم حلالاً أو أحل حراماً) رواه الترمذي وقال: حسن صحيح ورواه البخاري تعليقاً بصيغة الجزم لكنه بدون الاستثناء ورواه كذلك الحاكم وأبو داود عن أبي هريرة بلفظ (المسلمون عند شروطهم) أي بدون الاستثناء.
ويمكن أن يستدل على جواز الشرط الجزائي بما رواه البخاري في صحيحه بسنده عن ابن سيرين أن رجلاً قال لكريِّه: (من يكري وسائل النقل) أدخل ركابك فإن لم أرحل معك يوم كذا وكذا فلك مائة درهم فلم يخرج فقال شريح: من شرط على نفسه طائعاً ليس مكره فهو عليه)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: [إن الوفاء بها أي بالالتزامات التي التزم بها الإنسان من الواجبات التي اتفقت عليها الملل بل العقلاء جميعاً] مجموع الفتاوى 29/516 والقواعد النورانية ص53.
وجاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي في دورته الثانية عشر والمتعلق بالشرط الجزائي ما يلي: [أولاً: الشرط الجزائي في القانون هو اتفاق بين المتعاقدين على تقدير التعويض الذي يستحقه من شُرِط له عن الضرر الذي يلحقه إذا لم يُنَفِّذ الطرف الآخر ما التزم به، أو تأخّر في تنفيذه.
ثانياً: يؤكد المجلس قراراته السابقة بالنسبة للشرط الجزائي الواردة في قراره في السَّلَم رقم 85 (2/9) ، ونصه: "لا يجوز الشرط الجزائي عن التأخير في تسليم المسلم فيه؛ لأنه عبارة عن دين، ولا يجوز اشتراط الزيادة في الديون عند التأخير"، وقراره في الاستصناع رقم 65 (3/7) . ونصه: "يجوز أن يتضمن عقد الاستصناع شرطاً جزائياً بمقتضى ما اتفق عليه العاقدان ما لم تكن هناك ظروف قاهرة"، وقراره في البيع بالتقسيط رقم 51 (2/6) ونصه: "إذا تأخر المشتري المدين في دفع الأقساط بعد الموعد المحدد فلا يجوز إلزامه أي زيادة على الدين بشرط سابق أو بدون شرط، لأن ذلك ربا محرم".
ثالثاً: يجوز أن يكون الشرط الجزائي مقترناً بالعقد الأصلي، كما يجوز أن يكون في اتفاق لاحقٍ قبل حدوث الضرر.
رابعاً: يجوز أن يشترط الشرط الجزائي في جميع العقود المالية ما عدا العقود التي يكون الالتزام الأصلي فيها ديناً؛ فإن هذا من الربا الصريح وبناء على هذا، يجوز هذا الشرط – مثلاً – في عقود المقاولات بالنسبة للمقاول، وعقد التوريد بالنسبة للمورد، وعقد الاستصناع بالنسبة للصانع إذا لم ينفّذ ما التزم به أو تأخّر في تنفيذه. ولا يجوز - مثلاً - في البيع بالتقسيط بسبب تأخر المدين عن سداد الأقساط المتبقية سواء، كان بسبب الإعسار، أو المماطلة، ولا يجوز في عقد الاستصناع بالنسبة للمستصنع إذا تأخر في أداء ما عليه.
خامساً: الضرر الذي يجوز التعويض عنه يشمل الضرر المالي الفعلي، وما لَحِق المضرور من خسارة حقيقية، وما فاته من كسب مؤكد، ولا يشمل الضرر الأدبي أو المعنوي.
سادساً: لا يُعمل بالشرط الجزائي إذا أثبت من شُرِط عليه أن إخلاله بالعقد كان بسببٍ خارج عن إرادته، أو أثبت أن من شرط له لم يلحقه أي ضرر من الإخلال بالعقد.
سابعاً: يجوز للمحكمة بناء على طلب أحد الطرفين أن تُعدِّل في مقدار التعويض إذا وجدت مبرراً لذلك، أو كان مبالغاً فيه.] مجلة المجمع العدد الثاني عشر ج 2/91.
وبهذا يظهر لنا بوضوح وجلاء أن الشرط الجزائي يجوز في العقود التي لا يكون الالتزام فيها ديناً، أما ما كان الالتزام فيها ديناً فإنه لا يجوز فيها الشرط الجزائي بحال من الأحوال كالبيع بالتقسيط فلا يجوز الشرط الجزائي فيه عند تأخر المدين بالسداد وكذلك لا يجوز شرعاً فرض غرامات التأخير في عقود بيع المرابحة للآمر بالشراء فلا يجوز شرعاً أن يتفق البنك الإسلامي مع العميل المدين على أن يدفع له مبلغاً محدداً أو نسبة من الدين الذي عليه في حالة تأخره عن السداد في المدة المتفق عليها سواء أسمي هذا المبلغ غرامة تأخير أو تعويضاً عن الضرر أو شرطاً جزائياً، لأن هذا هو ربا الجاهلية المتفق على تحريمه كما سبق وهذا أصح قولي العلماء في هذه المسألة. وكذلك جميع الديون المستحقة على الانسان سواء كانت عن بيع أو قرض أو شراء منفعة أو نحو ذلك فلا يجوز شرعاً فرض غرامة تأخير فيها لأن هذا هو ربا الجاهلية فالشرط الجزائي في الديون كلها لا يجوز فهو رباً محرم. وخلاصة الأمر أنه يجب سداد فواتير الكهرباء في مواعيدها ويحرم شرعاً التهرب من ذلك بأي وسيلة كانت كما يحرم فرض غرامات تأخير على من يتأخر في السداد ويتحمل إثم فرض هذه الغرامات الربوية مجلس إدارة الشركة وكل من أسهم في فرضها وكل من حصلَّها وتعاون عل هذا الإثم لأنها رباً محرم وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه وقال: هم سواء) رواه مسلم. وكذلك يحرم فرض غرامات التأخير في كل التزام أصله دين.(12/52)
53 - لا يجوز بيع الدجاج قبل القبض
يقول السائل: إنه باع كمية كبيرة من الدجاج بسعر متفق عليه على أن يسلم الدجاج للمشتري بشكل يومي بعدد متفق عليه ولمدة معينة فقام المشتري بعد العقد مباشرة ببيع كمية الدجاج كلها لشخص آخر بربح معلوم وطلب مني أي من البائع أن أورد الدجاج للمشتري الثاني فما حكم هذه المعاملة أفيدونا؟ الجواب: العقد الأول الذي تم فيه الاتفاق على بيع كمية كبيرة من الدجاج بسعر متفق عليه على أن يسلم الدجاج للمشتري بشكل يومي بعدد متفق عليه ولمدة معينة عقد صحيح على الراجح من أقوال أهل العلم وهو ما يسمى اليوم بعقد التوريد.
قال الشيخ العلامة مصطفى الزرقا رحمه الله عن عقد التوريد [هو صحيح شرعاً غير فاسد كما هو صحيح قانوناً ... وعقد التوريد هذا المسؤول عنه يشبه إلى حد كبير بيع الاستجرار الذي نصَّ عليه الحنفية، كما أنه أولى بالصحة من البيع بما ينقطع عليه السعر الذي صححه الحنابلة، مع أن فيه كَمية محدودة والسِّعر غير محدَّد عند العَقد لذلك يكون قياسُها على أحدهما قِياسًا صحيحًا، ولا سيَّما أن الحاجة العامّة اليوم تدعو إلى ممارسة عقد التوريد، كما أنه أصبح متعارَفًا. وقد نصّ الحنفيّة على أن العرف يُصحِّح الشروط الفاسدة إذا تُعورِفت، وجرى عليها التعامل؛ لأنها بالتعارف ينتفي من طريقها النزاع؛ إذ تصبح مألوفة، ويبني العاقدان عليها حسابهما، فلا تكون مفاجأة غير مألوف قد تُخِلُّ بالتوازن بينهما وتؤدّي إلى النزاع. ولا يخفى أن عقد التوريد قد أصبح فيه عرف شامل، ولا سيما بعد أن قررته القوانين.] فتاوى مصطفى الزرقا ص487-488
أما العقد الثاني الذي تم بين المشتري الأول والمشتري الثاني فعقد باطل حيث إن المشتري الأول باع الدجاج قبل أن يقبضه والبيع قبل القبض مفسد للعقد عند أهل العلم وخاصة أن البيع وقع على شيء مطعوم فإذا اشترى شخص طعاماً فلا يجوز له أن يبيعه قبل أن يقبضه باتفاق أهل العلم لأن بيع الطعام قبل القبض لا يصح شرعاً قال ابن المنذر فيما نقله عنه الشيخ ابن قدامة المقدسي [أجمع أهل العلم على أن من اشترى طعاماً فليس له أن يبيعه حتى يستوفيه] المغني 4/83.
وقال ابن رشد المالكي [وأما بيع الطعام قبل قبضه، فإن العلماء مجمعون على منع ذلك إلا ما يحكى عن عثمان البتي. وإنما أجمع العلماء على ذلك لثبوت النهي عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتى يقبضه] بداية المجتهد ونهاية المقتصد 2/119.
واستدل العلماء بأدلة كثيرة على المنع من بيع الطعام قبل قبضه منها: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتى يستوفيه) رواه البخاري ومسلم وفي رواية عند البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما يقول قال النبي صلى الله عليه وسلم (من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يقبضه) وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتى يستوفيه قال ابن عباس وأحسب كل شيء مثله) رواه مسلم
وفي رواية أخرى عند مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتى يقبضه قال ابن عباس وأحسب كل شيء بمنزلة الطعام) وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (من اشترى طعاماً فلا يبعه حتى يستوفيه قال وكنا نشتري الطعام من الركبان جزافاً فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبيعه حتى ننقله من مكانه) رواه مسلم
وقال أبو هريرة رضي الله عنه (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام حتى يستوفى) رواه مسلم وَعَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ قَالَ: قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أَشْتَرِي بُيُوعًا فَمَا يَحِلُّ لِي مِنْهَا وَمَا يَحْرُمُ عَلَيَّ؟ قَالَ: إذَا اشْتَرَيْتَ شَيْئًا فَلَا تَبِعْهُ حَتَّى تَقْبِضَهُ) رَوَاهُ أَحْمَدُ
وعن جابر رضي الله عنه قال: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان صاع البائع وصاع المشتري) رواه ابن ماجه والدارقطني. وهو حديث حسن كما قال العلامة الألباني في صحيح سنن ابن ماجة 2/20.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ابتعت زيتاً في السوق فلما استوجبته لنفسي لقيني رجل فأعطاني به ربحاً حسناً فأردت أن أضرب على يده فأخذ رجل من خلفي بذراعي فالتفتُ فإذا زيد بن ثابت فقال: لا تبعه حيث ابتعته حتى تحوزه إلى رحلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم) رواه أبو داود. وهو حديث حسن كما قال العلامة الألباني في صحيح سنن أبي داود 2/668. قال صاحب عون المعبود [ (فلما استوجبته) : أي صار في ملكي بعقد التبايع ... (فأردت أن أضرب على يده) : أي أعقد معه البيع , لأن من عادة المتبايعين أن يضع أحدهما يده في يد الآخر عند العقد ... ] عون المعبود 9/286. وقال الإمام الترمذي [عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتى يستوفيه) قال ابن عباس وأحسب كل شيء مثله) قال وفي الباب عن جابر وابن عمر وأبي هريرة قال أبو عيسى – الترمذي - حديث ابن عباس حديث حسن صحيح والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم كرهوا بيع الطعام حتى يقبضه المشتري. وقد رخص بعض أهل العلم فيمن ابتاع شيئاً مما لا يكال ولا يوزن مما لا يؤكل ولا يشرب أن يبيعه قبل أن يستوفيه وإنما التشديد عند أهل العلم في الطعام وهو قول أحمد وإسحق] سنن الترمذي 3/586. وقال الإمام النووي بعد أن ذكر ما رواه مسلم في هذا الباب [باب بطلان بيع المبيع قبل قبضه ... وفي هذه الأحاديث النهي عن بيع المبيع حتى يقبضه البائع , واختلف العلماء في ذلك , فقال الشافعي: لا يصح بيع المبيع قبل قبضه سواء كان طعاماً أو عقاراً أو منقولاً أو نقداً أو غيره. وقال عثمان البتي: يجوز في كل مبيع. وقال أبو حنيفة: لا يجوز في كل شيء إلا العقار. وقال مالك: لا يجوز في الطعام ويجوز فيما سواه. ووافقه كثيرون. وقال آخرون: لا يجوز في المكيل والموزون ويجوز فيما سواهما. أما مذهب عثمان البتي فحكاه المازري والقاضي ولم يحكه الأكثرون بل نقلوا الإجماع على بطلان بيع الطعام المبيع قبل قبضه , قالوا: وإنما الخلاف فيما سواه فهو شاذ متروك والله أعلم.] شرح النووي على صحيح مسلم 4/130.
وقد أشار ابن عباس رضي الله عنه إلى العلة في منع بيع الطعام قبل قبضه لما سأله طاووس فيما رواه البخاري عن طاووس عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله نهى أن يبيع الرجل طعاماً حتى يستوفيه قلت – أي طاووس - لابن عباس كيف ذاك؟ قال ذاك دراهم بدراهم والطعام مرجأ قال أبو عبد الله مرجئون مؤخرون] قال الإمام الشوكاني في شرحه [ ... ما علل به النهي فإنه أخرج البخاري عن طاووس قال قلت لابن عباس كيف ذاك قال دراهم بدراهم والطعام مرجأ استفهمه عن سبب النهي فأجابه بأنه إذا باعه المشتري قبل القبض وتأخر المبيع في يد البائع فكأنه باع دراهم بدراهم ويبين ذلك ما أخرجه مسلم عن ابن عباس أنه قال لما سأله طاووس ألا تراهم يتباعدون بالذهب والطعام مرجأ وذلك لأنه إذا اشترى طعاماً بمائة دينار ودفعها للبائع ولم يقبض منه الطعام ثم باع الطعام إلى آخر بمائة وعشرين مثلاً فكأنه اشترى بذهبه ذهباً أكثر منه ولا يخفى أن مثل هذه العلة لا ينطبق على ما كان من التصرفات بغير عوض وهذا التعليل أجود ما علل به النهي لأن الصحابة أعرف بمقاصد الرسول صلى الله عليه وسلم.] نيل الأوطار 5/180-181وما نقل عن عثمان البتي وهو أحد فقهاء التابعين من جواز بيع الطعام قبل قبضه فهو قول شاذ ومخالف لصريح الأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الحافظ ابن عبد البر: وهذا قول مردود بالسنة والحجة المجمعة على الطعام , وأظنه لم يبلغه هذا الحديث ومثل هذا لا يلتفت إليه] المغني 4/86
وقال الإمام النووي [أما مذهب عثمان البتي فحكاه المازري والقاضي ولم يحكه الأكثرون بل نقلوا الإجماع على بطلان بيع الطعام المبيع قبل قبضه , قالوا: وإنما الخلاف فيما سواه فهو شاذ متروك والله أعلم.] شرح النووي على صحيح مسلم4/130. وقال الإمام الشوكاني [وروي عن عثمان البتي أنه يجوز بيع كل شيء قبل قبضه والأحاديث ترد عليه فإن النهي يقتضي التحريم بحقيقته ويدل على الفساد المرادف للبطلان كما تقرر في الأصول] نيل الأوطار 5/179
وهنا أنبه على قضية هامة وهي إن بعض الناس يتعلق بالأقوال الشاذة ليبرر أقواله وأعماله فهذا طريق باطل فليس كل قول قاله عالم صحيح وليس كل ما قاله فقيه من فقهائنا مسلَّمٌ به وصحيح، إلا قولاً له حظٌ من الأثر أو النظر فلا يصح الأخذ بشواذ الأقوال وقديماً قال الإمام مالك يرحمه الله: [كلٌ يؤخذ من كلامه ويترك إلا صاحب هذا القبر، وأشار إلى قبر المصطفى صلى الله عليه وسلم]
وخلاصة الأمر أن العقد الثاني المذكور في السؤال باطل لأن المشتري الأول باع الدجاج قبل أن يقبضه.(12/53)
54 - الظفر بالحق
يقول السائل: لي دين على شخص وهذا الدين ثابت وقد مضى على الدين سنوات والمدين مقر به ولكنه مماطل ويرفض سداد الدين لأسباب غير مقبولة، وبينما كنت في السوق قابلني قريب للمدين وطلب مني توصيل مبلغ من المال للمدين فهل يجوز لي شرعاً أن آخذ المبلغ المستحق لي عنده وأعطيه الباقي أفيدونا. الجواب: يجب أن يعلم أولاً أنه تحرم المماطلة على الغني القادر على سداد دينه وقد ثبت في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مطل الغني ظلم) رواه البخاري ومسلم.
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: " والمراد هنا تأخير ما استحق أداؤه بغير عذر، والغني مختلف في تعريفه ولكن المراد به هنا من قدر على الأداء فأخره ولو كان فقيراً " فتح الباري 5/371.
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني أيضاً: " وفي الحديث الزجر عن المطل، واختلف هل يعد فعله عمداً كبيرة أم لا؟ فالجمهور على أن فاعله يفسَّق " فتح الباري 5/372.
وكذلك فينبغي أن يعلم أن الأصل عند أهل العلم أن من كان له دين فماطله المدين فعليه أن يطالب بدينه عن طريق القضاء فإن تعذر ذلك كأن يكون حكم القضاء غير نافذ أو تطول مدة النظر في القضية عدة سنوات أو غير ذلك من الأسباب فهل يجوز لصاحب الدين إن ظفر بمال للمدين أن يستوفي حقه منه أم لا؟ هذه المسألة تسمى مسألة الظفر بالحق عند أهل العلم وهي محل خلاف بينهم وأرجح أقوال أهل العلم جواز ذلك وبه قال الحنفية والمالكية والشافعية وهو قول في مذهب الحنابلة وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وقال ابن حزم الظاهري إن ذلك فرض وقد ذكر العلماء تفاصيل كثيرة تتعلق بالمسألة، انظر المغني 10/286-289، المحلى 6/490-494، مجموع فتاوى شيخ الإسلام 30/371-375، سبل السلام 3/868- 869، الموسوعة الفقهية الكويتية 29/156-166.
قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [إذا كان لرجل على غيره حق , وهو مقر به باذل له لم يكن له أن يأخذ من ماله إلا ما يعطيه , بلا خلاف بين أهل العلم فإن أخذ من ماله شيئاً بغير إذنه لزمه رده إليه , وإن كان قدر حقه لأنه لا يجوز أن يملك عليه عيناً من أعيان ماله بغير اختياره لغير ضرورة , وإن كانت من جنس حقه لأنه قد يكون للإنسان غرض في العين وإن أتلفها أو تلفت فصارت ديناً في ذمته وكان الثابت في ذمته من جنس حقه تقاضيا في قياس المذهب والمشهور من مذهب الشافعي وإن كان مانعاً له لأمر يبيح المنع كالتأجيل والإعسار , لم يجز أخذ شيء من ماله بغير لاف وإن أخذ شيئاً , لزمه رده إن كان باقياً أو عوضه إن كان تالفاً ولا يحصل التقاضي ها هنا لأن الدين الذي له لا يستحق أخذه في الحال , بخلاف التي قبلها
وإن كان مانعاً له بغير حق وقدر على استخلاصه بالحاكم أو السلطان لم يجز له الأخذ أيضاً بغيره لأنه قدر على استيفاء حقه بمن يقوم مقامه , فأشبه ما لو قدر على استيفائه من وكيله] المغني 10/287.
ومما يدل على جواز مسألة الظفر بالحق وأنه مشروع قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} سورة البقرة الآية 194. وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ مَنْ كَانَ عَلَيْهِ حَقٌّ فَأَنْكَرَهُ وَامْتَنَعَ عَنْ بَذْلِهِ فَقَدْ اعْتَدَى , فَيَجُوزُ أَخْذُ الْحَقِّ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَبِغَيْرِ حُكْمِ الْقَضَاءِ , فَإِنَّ الشَّارِعَ قَدْ أَذِنَ بِذَلِكَ.
ويدل على ذلك قَوْلُ الرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اُنْصُرْ أَخَاك ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا) رواه البخاري , وَإِنَّ أَخْذَ الْحَقِّ مِنْ الظَّالِمِ نَصْرٌ لَهُ. انظر الموسوعة الفقهية الكويتية 29/162-163.
ومما يدل على ذلك ما ورد في الحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت دخلت هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله: إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بنيَّ إلا ما أخذت من ماله بغير علمه فهل عليَّ في ذلك من جناح؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي بنيك) رواه البخاري ومسلم
قال الإمام النووي عند ذكر ما يستفاد من الحديث: [ومنها: أن من له على غيره حق وهو عاجز عن استيفائه يجوز له أن يأخذ من ماله قدر حقه بغير إذنه , وهذا مذهبنا ... ] شرح النووي على صحيح مسلم 4/373.
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [واستدل به على أن من له عند غيره حق وهو عاجز عن استيفائه جاز له أن يأخذ من ماله قدر حقه بغير إذنه , وهو قول الشافعي وجماعة , وتسمى مسألة الظفر , والراجح عندهم لا يأخذ غير جنس حقه إلا إذا تعذر جنس حقه , وعن أبي حنيفة المنع , وعنه يأخذ جنس حقه ولا يأخذ من غير جنس حقه إلا أحد النقدين بدل الآخر , وعن مالك ثلاث روايات كهذه الآراء , وعن أحمد المنع مطلقاً] فتح الباري 9/631.
وقال الإمام ابن دقيق العيد في شرح الحديث [نَعَمْ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى مَسْأَلَةِ الظَّفَرِ بِالْحَقِّ , وَأَخْذِهِ مِنْ غَيْرِ مُرَاجَعَةِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ , وَلَمْ يَدُلَّ الْحَدِيثُ عَلَى جَوَازِ أَخْذِهَا مِنْ الْجِنْسِ , أَوْ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ. وَمَنْ يَسْتَدِلُّ بِالْإِطْلَاقِ فِي مِثْلِ هَذَا: يَجْعَلُهُ حُجَّةً فِي الْجَمِيعِ.] إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام 2/270.
وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن الرجل يكون له على الرجل دين فيجحده، أو يغصبه شيئا ً. ثم يصيب له مالاً من جنس ماله. فهل له أن يأخذ منه مقدار حقه؟
فأجاب: وأما إذا كان لرجل عند غيره حق من عين أو دين. فهل يأخذه أو نظيره، بغير إذنه؟ فهذا نوعان:
أحدهما: أن يكون سبب الاستحقاق ظاهراً لا يحتاج إلى إثبات، مثل استحقاق المرأة النفقة على زوجها، واستحقاق الولد أن ينفق عليه والده، واستحقاق الضيف الضيافة على من نزل به، فهنا له أن يأخذ بدون إذن من عليه الحق بلا ريب؛ كما ثبت في الصحيحين أن هند بنت عتبة ... وكذلك لو كان له دين عند الحاكم وهو يمطله، فأخذ من ماله بقدره، ونحو ذلك ... ] مجموع فتاوى شيخ الإسلام 30/371-372.
واحتج ابن حزم على فرضية أخذ الحق بأدلة كثيرة من الكتاب والسنة والآثار منها: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} سورة النحل الآية 126. وقَوْله تَعَالَى: {وَلَمَنْ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ إنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} سورة شورى الآيتان 41-42. وقَوْله تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ إذَا أَصَابَهُمْ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} سورة شورى الآية 39. وقَوْله تَعَالَى: {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} سورة البقرة الآية 194. وقَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} . سورة البقرة الآية 194 وقَوْله تَعَالَى: {إلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} سورة الشعراء الاية 227 ... {قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِغُرَمَاءِ الَّذِي أُصِيبَ فِي ثِمَارٍ ابْتَاعَهَا: خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ وَلَيْسَ لَكُمْ إلَّا ذَلِكَ} وَهَذَا إطْلَاقٌ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِصَاحِبِ الْحَقِّ عَلَى مَا وَجَدَ لِلَّذِي لَهُ عَلَيْهِ الْحَقُّ ... عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ [قَالَ: {قُلْنَا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّكَ تَبْعَثُنَا فَنَنْزِلَ بِقَوْمٍ لَا يَقْرُونَا , فَمَا تَرَى فِيهِ؟ فَقَالَ لَنَا عَلَيْهِ السَّلَامُ: إنْ نَزَلْتُمْ بِقَوْمٍ فَأُمِرَ لَكُمْ بِمَا يَنْبَغِي لِلضَّيْفِ فَاقْبَلُوا , فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا فَخُذُوا مِنْهُمْ حَقَّ الضَّيْفِ} وَهُوَ قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ , وَابْنِ سِيرِينَ. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إنْ أَخَذَ الرَّجُلُ مِنْك شَيْئًا فَخُذْ مِنْهُ مِثْلَهُ ... عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: إنْ أَخَذَ مِنْك شَيْئًا فَخُذْ مِنْهُ مِثْلَهُ ... عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ: لَا تَخُنْ مَنْ خَانَك , فَإِنْ أَخَذْت مِنْهُ مِثْلَ مَا أَخَذَ مِنْك فَلَيْسَ عَلَيْك بَأْسٌ. وَعَنْ عَطَاءٍ حَيْثُ وَجَدْت مَتَاعَك فَخُذْهُ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَأَمَّا قَوْلُنَا: إنْ لَمْ يَفْعَلْ فَهُوَ عَاصٍ لِلَّهِ تَعَالَى , فَلِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} فَمَنْ ظَفَرَ بِمِثْلِ مَا ظُلِمَ فِيهِ هُوَ , أَوْ مُسْلِمٌ , أَوْ ذِمِّيٌّ , فَلَمْ يُزِلْهُ عَنْ يَدِ الظَّالِمِ وَيَرُدَّ إلَى الْمَظْلُومِ حَقَّهُ فَهُوَ أَحَدُ الظَّالِمِينَ , لَمْ يُعِنْ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى بَلْ أَعَانَ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ , هَذَا أَمْرٌ يُعْلَمُ ضَرُورَةً. وَكَذَلِكَ أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا أَنْ يُغَيِّرَهُ بِيَدِهِ إنْ اسْتَطَاعَ} فَمَنْ قَدَرَ عَلَى كَفِّ الظُّلْمِ وَقَطْعِهِ وَإِعْطَاءِ كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَلَمْ يَفْعَلْ فَقَدْ قَدَرَ عَلَى إنْكَارِ الْمُنْكَرِ فَلَمْ يَفْعَلْ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَخَالَفَ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا أَنْ يُحَلِّلَهُ مِنْ حَقِّ نَفْسِهِ فَقَدْ أَحْسَنَ بِلَا خِلَافٍ , وَالدَّلَائِلُ عَلَى هَذَا تَكْثُرُ جِدًّا.] المحلى 6/491-492. والمسألة فيها كلام كثير لأهل العلم.
وخلاصة الأمر أنه يجوز شرعاً استيفاء الدين من مال المدين بدون إذنه وعلى الدائن أن يخبر المدين بأنه استوفى حقه منه ويعيد له بقية المبلغ.(12/54)
55 - الضمان في حوادث السيارات
يقول السائل: سائق سيارة كان يسوق سيارته على طريق سريع يُمنع فيه سير المشاة فقفز رجل فجأةً أمام السيارة فصدمته فلقي حتفه، وقررت الشرطة أن الرجل المتوفى يتحمل المسؤولية، فهل على السائق كفارة؟ أفيدونا. الجواب: قرر الفقهاء أن كفارة القتل تابعة للضمان فإذا كان الشخص ضامناً في حالة القتل فتلزمه الكفارة وأما إذا لم يكن ضامناً فلا كفارة عليه.
وينبغي أولاً أن ننظر هل هذا السائق ضامن أم لا؟ والذي يظهر من السؤال أن السائق لا دور له في موت الشخص المذكور، حيث إن الشخص المذكور قد ألقى بنفسه أمام السيارة بشكل مفاجئ للسائق، وبالتالي لا حيلة للسائق لمنع وقوع الحادث وقد قرر الفقهاء في القاعدة الفقهية (أن كل ما لا يمكن التحرز منه فلا ضمان فيه) ، حيث إن السائق المذكور لا يمكنه التحرز من الحادث، لأن الشخص الآخر هو الذي ألقى بنفسه أمام السيارة ولم يتمكن السائق من فعل أي شيء للحيلولة دون حصول الحادث فإذا لم يمكنه تفادي الحادث بأي وسيلة من الوسائل فلا ضمان عليه فلا دية، ولا كفارة عليه. ودم الميت هدر، لأنه أشبه بالمنتحر.
جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية: [قال الفقهاء: إذا كان الاصطدام بسبب قاهر أو مفاجئ كهبوب الريح أو العواصف فلا ضمان على أحد، وإذا كان الاصطدام بسبب تفريط أحد رباني السفينتين أو قائدي السيارتين كان الضمان عليه وحده، ومعيار التفريط – كما يقول ابن قدامة - أن يكون الربان – وكذلك القائد - قادراً على ضبط سفينته أو سيارته أو ردِّها عن الأخرى فلم يفعل، أو أمكنه أن يعدلها إلى ناحية أخرى فلم يفعل، أو لم يكمل آلتها من الحبال والرجال وغيرها.] الموسوعة الفقهية الكويتية 28/293.
وقد بحث المجمع الفقهي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي موضوع حوادث السيارات وقرر فيه ما يلي: [إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثامن في بروناي دار السلام من 1- 7 محرم 1414هـ الموافق 21- 27 حزيران (يونيو) 1993م، بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع حوادث السير، وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله، بالنظر إلى تفاقم حوادث السير وزيادة أخطارها على أرواح الناس وممتلكاتهم، واقتضاء المصلحة سن الأنظمة المتعلقة بترخيص المركبات بما يحقق شروط الأمن كسلامة الأجهزة وقواعد نقل الملكية ورخص القيادة والاحتياط الكافي بمنح رخص القيادة بالشروط الخاصة بالنسبة للسن والقدرة والرؤية والدراية بقواعد المرور والتقيد بها وتحديد السرعة المعقولة والحمولة،
قرر ما يلي:
أولاً: أ- إن الالتزام بتلك الأنظمة التي لا تخالف أحكام الشريعة الإسلامية واجبٌ شرعاً، لأنه من طاعة ولي الأمر فيما ينظمه من إجراءات بناءً على دليل المصالح المرسلة، وينبغي أن تشتمل تلك الأنظمة على الأحكام الشرعية التي لم تطبق في هذا المجال.
ب – مما تقتضيه المصلحة أيضاً سنّ الأنظمة الزاجرة بأنواعها، ومنها التعزير المالي، لمن يخالف تلك التعليمات المنظمة للمرور لردع من يُعرّض أمن الناس للخطر في الطرقات والأسواق من أصحاب المركبات ووسائل النقل الأخرى أخذاً بأحكام الحسبة المقررة.
ثانياً: الحوادث التي تنتج عن تسيير المركبات تطبق عليها أحكام الجنايات المقررة في الشريعة الإسلامية، وإن كانت في الغالب من قبيل الخطأ، والسائق مسؤول عما يحدثه بالغير من أضرار، سواء في البدن أم المال إذا تحققت عناصرها من خطأ وضرر ولا يعفى من هذه المسؤولية إلا في الحالات الآتية:
أ - إذا كان الحادث نتيجة لقوة قاهرة لا يستطيع دفعها وتعذر عليه الاحتراز منها، وهي كل أمر عارض خارج عن تدخل الإنسان.
ب – إذا كان بسبب فعل المتضرر المؤثر تأثيراً قوياً في إحداث النتيجة.
ج - إذا كان الحادث بسبب خطأ الغير أو تعديه فيتحمل ذلك الغير المسؤولية.
ثالثاً: ما تسببه البهائم من حوادث السير في الطرقات يضمن أربابها الأضرار التي تنجم عن فعلها إن كانوا مقصرين في ضبطها، والفصل في ذلك إلى القضاء.
رابعاً: إذا اشترك السائق والمتضرر في إحداث الضرر كان على كل واحد منهما تبعة ما تلف من الآخر من نفس أو مال.
خامساً: أ- مع مراعاة ما سيأتي من تفصيل، فإن الأصل أن المباشر ضامن ولو لم يكن متعدياً، وأما المتسبب فلا يضمن إلا إذا كان متعدياً أو مفرِطاً.
ب – إذا اجتمع المباشر مع المتسبب كانت المسؤولية على المباشر دون المتسبب إلا إذا كان المتسبب متعدياً والمباشر غير متعدٍّ.
ج – إذا اجتمع سببان مختلفان كل واحد منهما مؤثر في الضرر، فعلى كل واحد من المتسببين المسؤولية بحسب نسبة تأثيره في الضرر، وإذا استويا أو لم تعرف نسبة أثر كل واحد منهما فالتبعة عليهما على السواء، والله أعلم] مجلة المجمع الفقهي عدد 8، جزء2 ص 171.
وقد نص قرار المجمع الفقهي على أن السائق يعفى من المسؤولية في الحالات الآتية:
[أ - إذا كان الحادث نتيجة لقوة قاهرة لا يستطيع دفعها وتعذر عليه الاحتراز منها، وهي كل أمر عارض خارج عن تدخل الإنسان.
ب – إذا كان بسبب فعل المتضرر المؤثر تأثيراً قوياً في إحداث النتيجة.
ج - إذا كان الحادث بسبب خطأ الغير أو تعديه فيتحمل ذلك الغير المسؤولية.] وما جاء في البندين ب + ج ينطبق على الحالة التي نحن بصددها فلا ضمان على السائق ولا كفارة عليه.
وقد قرر الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمة الله عليه هذا الحكم في رسالته عن أحكام حوادث السيارات فقال: [والقسم الثاني من الإصابة بحوادث السيارات أن تكون في غير الركاب – أي ركاب السيارة التي أصابت المتوفى - وهذا القسم له حالان:
الحال الأولى: أن يكون بسبب من المصاب لا حيلة لقائد السيارة فيه، وذلك على سبيل التمثيل لا الحصر: مثل أن تقابله سيارة في خط سيره لا يمكنه الخلاص منها أو يفاجئه شخص برمي نفسه أمامه لا يمكنه تلافي الخطر. ففي هذه الحال لا ضمان على قائد السيارة، لأن المصاب هو الذي تسبب في قتل نفسه أو إصابته، وعلى قائد السيارة المقابلة الضمان لتعديه بسيره في خط ليس له حق السير فيه.] أحكام حوادث السيارات عن شبكة الإنترنت.
وخلاصة الأمر أن السائق المذكور في السؤال لا ضمان عليه فلا دية ولا كفارة، ولكن إن تصدق بشيء من المال تطوعاً فهو أولى.(12/55)
56 - سرقة الدواء المدعوم
يقول السائل: إنه صيدلاني وقد ظهرت في الآونة الأخيرة ظاهرة سلبية جداً وهي أن بعض الأطباء وبعض الصيادلة وبعض العاملين في المجالات الصحية الحكومية يقومون بسرقة الأدوية على النحو الآتي: أولاً: يقوم الطبيب بوصف أدوية لا يحتاج إليها المريض من حيث النوعية والكمية وبدون علم المريض، وتجيير هذه الأدوية للصيدلية المتعاملة بالمسروقات، فتباع بسعر أقل من سعر التكلفة لدواء مشترى بشكل رسمي ومدوّن عليه التسعيرة (لاصق النقابة) . ثانياً: يقوم الصيدلاني بتغيير كمية الأدوية المكتوبة في الوصفة بطرق غير مكشوفة، كأن يكون مكتوب في الوصفة علبة واحدة فيغير الصيدلي الرقم إلى علبتين ويأخذ العلبة الأخرى له. وكثيراً ما يكون من المسروقات أدوية يلزم حفظها بالثلاجة وبالتالي تصل للمستهلك تالفة. وقد حدثت أخطاء بسبب هذه السرقة ومن الأمثلة عليها أن الأنسولين يحفظ في الثلاجة، حيث قام الصيدلاني بسرقته ووضعه في جيبه لمدة من الزمن مما أدى إلى خراب الأنسولين قبل إعادته إلى الثلاجة فعندما اشترى المريض الأنسولين واستخدمه لابنته، حدث أن أصيبت البنت بالإغماء فذهبت للمستشفى فتبين أنها لم تأخذ جرعات الأنسولين الصحيحة. أرجو من فضيلتكم بيان هذه القضية للناس لأنها تمس المجتمع بشكل أساسي. الجواب: إن كثيراً من الناس يتساهلون في الأموال العامة التي تكون تحت تصرفهم وأقصد أموال الوزارات وأموال المؤسسات العامة حكومية كانت أو غير حكومية فترى بعض المسئولين كباراً كانونا أم صغاراً يعتبرون أن المؤسسة أو المكتب الذي يعملون فيه يعتبرونه وكأنه مزرعتهم الشخصية فالواحد منهم حر التصرف فيها كما يشاء أضف إلى ذلك خيانة الأمانة واستغلال المنصب للأمور الشخصية وأمثال هؤلاء الموظفين الذين خانوا الأمانة يتجاهلون أن أعمالهم هذه ستكون وبالاً عليهم في الآخرة فالأصل في الموظف أنه أجير والأجير لا بد أن يكون أميناً ويدخل في الأمانة حسن أداء العمل والأمانة في استخدام المال العام والمحافظة عليه. قال الله تعالى: (قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) . سورة القصص الآية 26. ويقول تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا) النساء الآية 58. ويقول تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ) سورة المؤمنون الآية 8.
وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله ألا تستعملني؟ قال: فضرب بيده على منكبي ثم قال: (يا أبا ذر إنك ضعيف وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها) رواه مسلم.
وقد دلت الأدلة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على حرمة الخوض في الأموال العامة، قال الله تعالى: (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ) سورة البقرة 188، وقال أيضاً: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) سورة النساء الآية 29.
وجاء في الحديث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن هذا المال خضرة حلوة فمن أخذه بحقه ووضعه في حقه فنعم المعونة هو ومن أخذه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع) رواه البخاري ومسلم.
وفي رواية أخرى: (وإن هذا المال خضر حلو ونعم صاحب المسلم هو لمن أعطى منه المسكين واليتيم وابن السبيل أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنه من يأخذه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع ويكون عليه شهيداً يوم القيامة) رواه مسلم.
وعن خولة الأنصارية رضي الله عنها قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن رجالاً يتخوضون في مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة) رواه البخاري.
قال الحافظ ابن حجر: [قوله (يتخوضون في مال الله بغير حق) أي يتصرفون في مال المسلمين بالباطل] فتح الباري 6/263.
إذا تقرر هذا فأعود لما ورد في السؤال فأقول: إن الطبيب إذا وصف أدوية للمريض زائدة عن الحاجة الحقيقية للمريض فهذه خيانة للأمانة وهي محرمة شرعاً وأذكر هذا الطبيب وأمثاله بالقسم الذي أقسمه عندما تخرج من كلية الطب [أقَسِمُ باللهِ العَظِيمْ أن أراقبَ الله في مِهنَتِي. وأن أصُونَ حياة الإنسان في كافّةِ أدوَارهَا. في كل الظروف والأحَوال بَاذِلاً وسْعِي في استنقاذها مِن الهَلاكِ والمرَضِ والألَم والقَلق. وأن أَحفَظ لِلنّاسِ كَرَامَتهُم، وأسْتر عَوْرَتهُم، وأكتمَ سِرَّهُمْ. وأن أكونَ عَلى الدوَام من وسائِل رحمة الله، باذلا رِعَايََتي الطبية للقريب والبعيد، للصالح والخاطئ، والصديق والعدو. وأن أثابر على طلب العلم، أُسَخِره لنفعِ الإنسَان ... لا لأذَاه. وأن أُوَقّرَ مَن عَلَّمَني، وأُعَلّمَ مَن يَصْغرَني، وأكون أخاً لِكُلِّ زَميلٍ في المِهنَةِ الطُبّيّة مُتعَاونِينَ عَلى البرِّ والتقوى. وأن تكون حياتي مِصْدَاق إيمَاني في سِرّي وَعَلانيَتي، نَقيّةً مِمّا يُشينهَا تجَاهَ الله وَرَسُولِهِ وَالمؤمِنين. والله على ما أقول شهيد] إن هذا القسم يجب شرعاً الوفاء به وليتذكر الطبيب وأمثاله أنه سيحاسب على كل ما قدمت يداه.
وإذا كان الطبيب متفقاً مع المريض ومع الصيدلي فهذه سرقة وهي محرمة أيضاً. وإذا قام الصيدلي بتغيير كمية الدواء المكتوبة في الوصفة الطبية فهذا تزوير وهو محرم أيضاً قال الله تعالى {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} سورة الحج الآية 30.
بل إن التزوير من أكبر كبائر الذنوب فعن أبي بكرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر قلنا بلى يا رسول الله قال الإشراك بالله وعقوق الوالدين وكان متكئاً فجلس فقال ألا وقول الزور وشهادة الزور ألا وقول الزور وشهادة الزور فما زال يقولها حتى قلت لا يسكت) رواه البخاري ومسلم.
وعن أنس رضي الله عنه قال سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الكبائر فقال: (الإشراك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس وشهادة الزور) رواه البخاري ومسلم.
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [وضابط الزور وصف الشيء على خلاف ما هو به , وقد يضاف إلى القول فيشمل الكذب والباطل ; وقد يضاف إلى الشهادة فيختص بها] فتح الباري 10/506.
وإذا ترتب ضرر للمريض فتزداد جرائم هؤلاء المشاركين بهذه المعاصي المركبة وليتذكر هؤلاء وخاصة الطبيب أن المريض حينما يأتي للعلاج فإنه قد وثق بالطبيب واستأمنه على نفسه فعلى الطبيب أن يحفظ الأمانة ولا يخونها فلا يقبل أن يكون الطبيب سبباً في زيادة المرض بدل أن يكون سبباً في شفائه.
وخلاصة الأمر أن سرقة الأدوية والتلاعب بها من الأمور المحرمة شرعاً وإذا ترتب ضرر للمريض بسبب ذلك فكل من يشارك في هذه اللصوصية فهو آثم وضامن.(12/56)
57 - يستحب الإشهاد على العقود
يقول السائل: وقعت عقد عمل مع شخص ليعمل عندي أجيراً في محل تجاري ثم بعد مضي مدة من الزمن رفض أن يلتزم بمضمون العقد وادعى أن العقد باطل لعدم وجود شاهدين على العقد فما الحكم في ذلك؟ الجواب: إن العقود في باب المعاملات في الشريعة الإسلامية إذا تمت بإيجاب وقبول من العاقدين تكون صحيحة إذا خلت مما يبطلها. انظر الموسوعة الفقهية 9/10- 12. والإشهاد على هذه العقود من السنن وليس من الواجبات ولا تتوقف صحة العقد المذكور في السؤال على الإشهاد. ولا شك أن الإشهاد على العقود أفضل وأولى وخاصة إذا كان العقد يتعلق بأمر ذو أهمية كبيع أرض أو إجارة عمارة أو نحو ذلك والإشهاد على العقود أقطع للنزاع وأبعد عن التجاحد وإنكار الحقوق بل فيه حفظ للحقوق وهذا الأمر ينطبق تماماً على كتابة العقود وتوثيقها فينبغي لمن وقع عقد بيع أرض مثلاً مع غيره أن يبين فيه كل التفاصيل المتعلقة بالبيع مثل موقع الأرض وحدودها ومساحتها وثمن البيع ووقت تأدية الثمن إن كان مؤجلاً أو على أقساط وينبغي له أن يستشهد شهيدين على ذلك بأن يذكر اسمهيما على أن يوقعا على وثيقة البيع وينبغي عدم إغفال تاريخ البيع بالتفصيل بالإضافة لذكر كل ما يزيد العقد توثيقاً ... إلخ
ومما يدل على مشروعية ذلك آية الدين وهي أطول آية في القرآن الكريم حيث يقول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُءَاثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} سورة البقرة الآيتان 282-283.
وفي هاتين الآيتين الكريمتين أمر الله جل وعلا بالإشهاد في موضعين الأول {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} والموضع الثاني {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} وهذا الأمر مصروف عن ظاهره والمراد به الندب لا الإيجاب كما قرر ذلك جمهور أهل العلم
قال الإمام أبو بكر الجصاص الحنفي [ولا خلاف بين فقهاء الأمصار أن الأمر بالكتابة والإشهاد والرهن المذكور جميعه في هذه الآية ندب وإرشاد إلى ما لنا فيه الحظ والصلاح والاحتياط للدين والدنيا، وأن شيئا منه غير واجب. وقد نقلت الأمة خلف عن سلف عقود المداينات والأشربة والبياعات في أمصارهم من غير إشهاد، مع علم فقهائهم بذلك من غير نكير منهم عليهم، ولو كان الإشهاد واجباً لما تركوا النكير على تاركه مع علمهم به. وفي ذلك دليل على أنهم رأوه ندباً، وذلك منقول من عصر النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا. ولو كانت الصحابة والتابعون تشهد على بياعاتها وأشريتها لورد النقل به متواتراً مستفيضاً ولأنكرت على فاعله ترك الإشهاد، فلما لم ينقل عنهم الإشهاد بالنقل المستفيض ولا إظهار النكير على تاركه من العامة ثبت بذلك أن الكتاب والإشهاد في الديون والبياعات غير واجبين] أحكام القرآن للجصاص 2/206
وقال الإمام ابن العربي المالكي [الْمَسْأَلَةُ الْمُوفِيَةُ أَرْبَعِينَ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي لَفْظِ (أَفْعِلْ) فِي قَوْله تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا إذَا تَبَايَعْتُمْ} عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ فَرْضٌ ; قَالَهُ الضَّحَّاكُ.
الثَّانِي: أَنَّهُ نَدْبٌ ; قَالَهُ الْكَافَّةُ ; وَهُوَ الصَّحِيحُ ; فَقَدْ بَاعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَكَتَبَ وَنُسْخَةُ كِتَابِهِ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذَا مَا اشْتَرَى الْعَدَّاءُ بْنُ خَالِدِ بْنِ هَوْذَةَ مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اشْتَرَى مِنْهُ عَبْدًا أَوْ أَمَةً لِأَدَاءٍ وَلَا غَائِلَةَ وَلَا خِبْثَةَ , بَيْعَ الْمُسْلِمِ لِلْمُسْلِمِ} . وَقَدْ بَاعَ وَلَمْ يُشْهِدْ , وَاشْتَرَى وَرَهَنَ دِرْعَهُ عِنْدَ يَهُودِيٍّ وَلَمْ يُشْهِدْ , وَلَوْ كَانَ الْإِشْهَادُ أَمْرًا وَاجِبًا لَوَجَبَ مَعَ الرَّهْنِ لِخَوْفِ الْمُنَازَعَةِ] أحكام القرآن لابن العربي 1/259.
وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي [: وَيُسْتَحَبُّ الْإِشْهَادُ فِي الْبَيْعِ ; لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا إذَا تَبَايَعْتُمْ.} وَأَقَلُّ أَحْوَالِ الْأَمْرِ الِاسْتِحْبَابُ. وَلِأَنَّهُ أَقْطَعُ لِلنِّزَاعِ , وَأَبْعَدُ مِنْ التَّجَاحُدِ , فَكَانَ أَوْلَى , وَيَخْتَصُّ ذَلِكَ بِمَا لَهُ خَطَرٌ , فَأَمَّا الْأَشْيَاءُ الْقَلِيلَةُ الْخَطَرِ , كَحَوَائِجِ الْبَقَّالِ , وَالْعَطَّارِ , وَشَبَهِهِمَا , فَلَا يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ فِيهَا ; لِأَنَّ الْعُقُودَ فِيهَا تَكْثُرُ , فَيَشُقُّ الْإِشْهَادُ عَلَيْهَا , وَتَقْبُحُ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهَا , وَالتَّرَافُعُ إلَى الْحَاكِمِ مِنْ أَجْلِهَا , بِخِلَافِ الْكَثِيرِ. وَلَيْسَ الْإِشْهَادُ بِوَاجِبٍ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا , وَلَا شَرْطًا لَهُ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ , وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ , وَإِسْحَاقَ وَأَبِي أَيُّوبَ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: ذَلِكَ فَرْضٌ لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ. ....وَلَنَا , قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اُؤْتُمِنَ أََانَتَهُ} . وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: صَارَ الْأَمْرُ إلَى الْأَمَانَةِ. وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ , وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم {اشْتَرَى مِنْ يَهُودِيٍّ طَعَامًا , وَرَهَنَهُ دِرْعَهُ ,} {وَاشْتَرَى مِنْ رَجُلٍ سَرَاوِيلَ} , {وَمِنْ أَعْرَابِيٍّ فَرَسًا , فَجَحَدَهُ الْأَعْرَابِيُّ حَتَّى شَهِدَ لَهُ خُزَيْمَةُ بْنُ ثَابِتٍ ,} وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَشْهَدَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَكَانَ الصَّحَابَةُ يَتَبَايَعُونَ فِي عَصْرِهِ فِي الْأَسْوَاقِ , فَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالْإِشْهَادِ , وَلَا نُقِلَ عَنْهُمْ فِعْلُهُ , وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَلَوْ كَانُوا يُشْهَدُونَ فِي كُلِّ بِيَاعَاتِهِمْ لَمَا أُخِلَّ بِنَقْلِهِ. {وَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عُرْوَةَ بْنَ الْجَعْدِ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ أُضْحِيَّةً. وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْإِشْهَادِ , وَأَخْبَرَهُ عُرْوَةُ أَنَّهُ اشْتَرَى شَاتَيْنِ فَبَاعَ إحْدَاهُمَا , وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ تَرْكَ الْإِشْهَادِ.} وَلِأَنَّ الْمُبَايَعَةَ تَكْثُرُ بَيْنَ النَّاسِ فِي أَسْوَاقِهِمْ وَغَيْرِهَا , فَلَوْ وَجَبَ الْإِشْهَادُ فِي كُلِّ مَا يَتَبَايَعُونَهُ , أَفْضَى إلَى الْحَرَجِ الْمَحْطُوطِ عَنَّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} . وَالْآيَةُ الْمُرَادُ بِهَا الْإِرْشَادُ إلَى حِفْظِ الْأَمْوَالِ وَالتَّعْلِيمِ , كَمَا أَمَرَ بِالرَّهْنِ وَالْكَاتِبِ , وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ , وَهَذَا ظَاهِرٌ] . المغني 4/205-206
وخلاصة الأمر أنه يستحب الإشهاد على عقود البيع والشراء والإجارة ونحوها إذا كان محل العقد شيئاً مهماً كبيراً ولا ينبغي الإشهاد على كل صغير لما في ذلك من الحرج.(12/57)
58 - التعامل بالشيكات
يقول السائل: عندي ثلاثة أسئلة تتعلق بالتعامل بالشيكات أرجو الجواب عنها وهي: أ- لدي شيكات مؤجلة قيمتها سبعة وثمانون ألف شيكل وأريد بيعها لصراف بستة وسبعين ألف شيكل فما حكم ذلك؟ وهل يجوز بيع الشيكات المتأخرة بأقل من المبلغ المرقوم فيها؟ ب – ما حكم شراء ذهب للعرس بشيكات مؤجلة؟ ج – لدي شيك مؤجل بالدولار فعرضته على صراف فأعطاني قيمة الشيك بالشيكل ولكنه حسب الدولار بأقل من سعر صرفه الآن مقابل الشيكل فما حكم ذلك؟ الجواب: التعامل بالشيكات من الأمور الجائزة شرعاً ضمن الضوابط الشرعية لذلك ومن أهم هذه الضوابط أنه لا يجوز بيع الشيكات المؤجلة بأقل من قيمتها لأن ذلك من الربا المحرم حيث إن بيع الشيك المؤجل بأقل من قيمته هو في الحقيقة بيع دين بنقد مع التفاضل وعدم التقابض في المجلس وهذا ربا النسيئة المحرم بالنصوص الشرعية وقد انعقد الإجماع على ذلك
فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الذهب بالذهب والفضة بالفضة، والبّر بالبُر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر والملح بالملح، مثلاًُ بمثل، يداً بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء) رواه البخاري ومسلم.
قال الإمام النووي: [قوله صلى الله عليه وسلم: (يداً بيد) حجة للعلماء كافة في وجوب التقابض وإن اختلف الجنس] شرح النووي على صحيح مسلم 4/199.
وفي رواية أخرى للحديث السابق قال صلى الله عليه وسلم: (لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض - أي لا تزيدوا - ولا تبيعوا الورق - الفضة - بالورق إلا مثلاً بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا منها غائباً بناجز) رواه البخاري ومسلم.
وقد اتفق أهل العلم على أن من شروط عقد الصرف تقابض البدلين من المتعاقدين في مجلس العقد قبل افتراقهما. قال ابن المنذر: [أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن المتصارفين إذا افترقا قبل أن يتقابضا أن الصرف فاسد] المغني4/41.
وأما بيع الشيكات التي قد مضى تاريخ استحقاقها ولم يستطع الشخص تحصيلها فيبيعها بأقل من المبلغ المرقوم فيها بكثير فهذا أمر محرم شرعاً وهو باب من أبواب الربا لما سبق من وجوب التقابض في مجلس العقد.
وتحرم المعاملة السابقة أيضاً لما فيها من الغرر نظراً للجهالة في تحصيل قيمة الشيكات المتأخرة من مصدرها فالمشتري لهذه الشيكات المؤجلة قد يحصلها ممن أصدرها وقد لا يحصلها.
ويمكن الاستعاضة عن بيع الشيكات المتأخرة بأقل من قيمتها بأن تجعل أيها السائل مبلغاً من المال لمن يحصل لك تلك الشيكات المؤجلة على أن تدفع له المبلغ المتفق عليه بعد أن يقوم بتحصيلها وهذا ما يسمى الجعالة عند الفقهاء وهي تسمية مال معلوم لمن يعمل للجاعل عملاً مباحاً انظر الموسوعة الفقهية 15/208. وقد قال جمهور أهل العلم بصحة عقد الجعالة ويدل على جوازها قوله تعالى {ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم} سورة يوسف الآية72 ويدل على جوازها أيضاً ما ورد في الحديث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (انطلق نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في سفرة سافروها، حتى نزلوا على حي من أحياء العرب، فاستضافوهم، فأبوا أن يضيفوهم، فلدغ سيد ذلك الحي، فسعوا له بكل شيء لا ينفعه شيء، فقال بعضهم: لو أتيتم هؤلاء الرهط! الذين نزلوا لعلهم أن يكون عندهم شيء، فأتوهم فقالوا: يا أيها الرهط إن سيدنا لدغ، وسعينا له بكل شيء لا ينفعه، فهل عند أحد منكم من شيء؟ فقال بعضهم: نعم، والله إني لأرقي، ولكن استضفناكم فلم تضيفونا، فما أنا براقٍ حتى تجعلوا لنا جُعلاً، فصالحوهم على قطيع من الغنم، فانطلق يتفل عليه، ويقرأ: الحمد لله رب العالمين، فكأنما أنشط من عقال، فانطلق يمشي وما به قَلَبَة، فقال فأوفوهم جعلهم الذي صالحوهم عليه، فقال بعضهم: اقتسموا، فقال الذي رقى: لا تفعلوا حتى نأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فنذكر له الذي كان، فننظر ما يأمرنا، فقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكروا له ذلك، فقال: وما يدريك أنها رقية؟، ثم قال: قد أصبتم، اقتسموا، واضربوا لي معكم سهماً) رواه البخاري ومسلم. وغير ذلك من الأدلة.
ولا بد من التنبيه على أن من شروط صحة الجعالة أن العامل لا يستحق شيئاً إلا بعد إنجاز العمل المتفق عليه. الموسوعة الفقهية 15/209. هذا ما يتعلق بإجابة السؤال الأول.
وأما جواب السؤال الثاني فأقول: إن شراء الذهب بالشيكات يعتبر من باب الصرف عند الفقهاء لأن الذهب يعتبر الأصل في العملات والأصل في عقد الصرف هو تقابض البدلين في مجلس العقد ويحرم تأجيل أحدهما لما سبق في الحديث (الذهب بالذهب والفضة بالفضة، والبّر بالبُر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر والملح بالملح، مثلاًُ بمثل، يداً بيد ... ) ومن المعلوم أن الشيكات تقوم مقام النقد.
وبناءً على ما تقدم فإنه يجوز بيع وشراء الذهب بأنواعه وأشكاله المختلفة بالشيكات بشرط أن تكون الشيكات حالة أي يستطيع الصائغ (البائع) صرفها فوراً وبشرط أن يتم استلام الذهب والشيك في مجلس العقد وأما إذا كانت الشيكات مؤجلة أي كتب عليها تاريخ متأخر عن تاريخ شراء الذهب ولو بيوم واحد فهذه المعاملة محرمة لأنها أخلت بشرط التقابض في مجلس العقدوهنا ينبغي التذكير بأن مذهب جماهير أهل العلم أنه لا يجوز بيع حلي الذهب والفضة نسيئة أي مع تأخير قبض الثمن أو بالدين كما يقول عامة الناس بل لابد من البيع نقداً مع التقابض في مجلس العقد وقد صح في الحديث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض - أي لا تزيدوا - ولا تبيعوا الورق - الفضة - بالورق إلا مثلاً بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا منها غائباً بناجز) رواه البخاري ومسلم.
قال الإمام النووي: [قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا الورق بالورق إلا سواء بسواء) ، قال العلماء: هذا يتناول جميع أنواع الذهب والورق من جيد ورديء وصحيح ومكسور وحلي وتبر وغير ذلك وسواء الخالص والمخلوط بغيره وهذا كله مجمع عليه] شرح النووي على مسلم 4/195.
وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: (والجيد والرديء والتبر والمضروب والصحيح والمكسور سواء في جواز البيع مع التماثل وتحريمه مع التفاضل وهذا قول أكثر أهل العلم) المغني 4/8.
وأما إجابة السؤال الثالث فأقول إن ما قام به الصراف يعد نوعاً من التحايل على الربا المحرم شرعاً فإن بيع الشيك بعملة أخرى هو من باب الصرف ويشترط فيه التقابض في المجلس كما سبق وعليه فلا يجوز شرعاً بيع الشيكات المؤجلة بأقل من قيمتها سواء كان ذلك بنفس العملة المذكورة في الشيك أو بغيرها من العملات وسواء كان ذلك بقيمتها أو بأقل من قيمتها.
وخلاصة الأمر أنه يحرم بيع الشيكات المؤجلة بأقل من قيمتها كما يحرم شراء حلي الذهب والفضة بالشيكات المؤجلة ويحرم صرف الشيكات المؤجلة بعملة غير المذكورة في الشيك سواء كان ذلك بقيمتها أو بأقل من قيمتها.(12/58)
59 - حكم التصرف في المال الموقوف
يقول السائل: جمعنا مبالغ من المال لإعمار مسجد الحي وقد زادت الأموال عن حاجة المسجد فقامت اللجنة المشرفة على إعمار المسجد بوضع المبلغ الزائد أمانة عند أحد التجار الثقات وتركت له حرية استثماره لنفسه على أن للمسجد المبلغ الأصلي الذي وضع عنده فما حكم ذلك؟ الجواب: إن المال الذي تم جمعه لإعمار المسجد هو مال موقوف على المسجد المذكور ولا يجوز شرعاً التصرف في المال الموقوف إلا حسب ما وقف له وما حصل من لجنة إعمار المسجد من إعطاء الإذن للتاجر بأن يستثمر مال المسجد لنفسه تصرف باطل شرعاً واللجنة المذكورة لا تملك هذا التصرف بحال من الأحوال وعلى التاجر أن يضيف ما تحقق من ربح من تشغيل مال المسجد إلى أصل المال ولا يحل له أن يأخذ منه شيئاً حيث إن المال الموقوف على المسجد يعتبر في حكم المال العام ولا يجوز لشخص أن ينتفع بالمال العام انتفاعاً شخصياً فبأي حق ينتفع هذا التاجر من مال المسجد؟ ولا شك لدي أن هذا العمل يعتبر من أكل المال بالباطل ويدخل أيضاً في باب الغلول يقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) سورة النساء الآية 29. وجاء في الحديث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن هذا المال خضرة حلوة فمن أخذه بحقه ووضعه في حقه فنعم المعونة هو ومن أخذه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع) رواه البخاري ومسلم. وفي رواية أخرى: (وإن هذا المال خضر حلو ونعم صاحب المسلم هو لمن أعطى منه المسكين واليتيم وابن السبيل أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنه من يأخذه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع ويكون عليه شهيداً يوم القيامة) رواه مسلم. وعن خولة الأنصارية رضي الله عنها قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن رجالاً يتخوضون في مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة) رواه البخاري. قال الحافظ ابن حجر: [قوله (يتخوضون في مال الله بغير حق) أي يتصرفون في مال المسلمين بالباطل] فتح الباري 6/263.
وروى الإمام البخاري بسنده عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه قال: (استعمل النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأزد يقال له ابن اللتبية على الصدقة فلما قدم قال: هذا مالكم وهذا أهدي إليَّ. فقام النبي صلى الله عليه وسلم فصعد على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ما بال العامل نبعثه فيأتي يقول: هذا لك وهذا لي؟ فهلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى له أم لا؟ والذي نفسي بيده لا يأتي بشيء إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته إن كان بعيراً له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر …) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (قام فينا النبي صلى الله عليه وسلم فذكر الغلول فعظمه وعظم أمره قال لا ألفين أحدكم يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء، على رقبته فرس له حمحمة، يقول يا رسول الله أغثني. فأقول: لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك وعلى رقبته بعير له رغاء يقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك وعلى رقبته صامت فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك أو على رقبته رقاع تخفق فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك) رواه البخاري ومسلم. قال الإمام النووي: [قوله: (ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الغلول فعظمه وعظم أمره) هذا تصريح بغلظ تحريم الغلول وأصل الغلول: الخيانة مطلقاً , ثم غلب اختصاصه في الاستعمال بالخيانة في الغنيمة , قال نفطوية: سمى بذلك لأن الأيدي مغلولة عنه , أي محبوسة , يقال: غلَّ غلولاً وأغل إغلالاً. قوله صلى الله عليه وسلم: (لا أُلفِين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء) هكذا ضبطناه (ألفين) بضم الهمزة وبالفاء المكسورة , أي: لا أجدن أحدكم على هذه الصفة , ومعناه: لا تعملوا عملاً أجدكم بسببه على هذه الصفة , ... و (الرغاء) بالمد صوت البعير , وكذا المذكورات بعد وصف كل شيء بصوته. والصامت: الذهب والفضة. قوله صلى الله عليه وسلم: (لا أملك لك من الله شيئاً) قال القاضي: معناه من المغفرة والشفاعة إلا بإذن الله تعالى , قال: ويكون ذلك أولاً غضباً عليه لمخالفته , ثم يشفع في جميع الموحدين بعد ذلك كما سبق في كتاب الإيمان في شفاعات النبي صلى الله عليه وسلم ... وأجمع المسلمون على تغليظ تحريم الغلول , وأنه من الكبائر , وأجمعوا على أن عليه رد ما غله] شرح النووي على صحيح مسلم 4/532.
ونقل الحافظ ابن حجر العسقلاني عن بعض أهل العلم أن هذا الحديث يفسر قوله عز وجل {يأت بما غل يوم القيامة} أي يأت به حاملاً له على رقبته ثم قال [ولا يقال إن بعض ما يسرق من النقد أخف من البعير مثلاً والبعير أرخص ثمناً فكيف يعاقب الأخف جناية بالأثقل وعكسه؟ لأن الجواب أن المراد بالعقوبة بذلك فضيحة الحامل على رؤوس الأشهاد في ذلك الموقف العظيم لا بالثقل والخفة] فتح الباري 6/224. ويضاف إلى ما سبق أن لجنة إعمار المسجد لا تملك أن تهب التاجر المذكور حق استثمار مال المسجد لمنفعته الشخصية فمال الوقف لا تجوز هبته لأي كان وقد جاء في الحديث عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: أصاب عمر رضي الله عنه أرضاً بخيبر فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها، فقال: يا رسول الله إني أصبت أرضاً بخيبر لم أصب مالاً قط هو أنفس عندي منها فما تأمرني به، قال: إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها، قال فتصدق بها عمر، إنه لا يباع أصلها ولا يبتاع ولا يورث ولا يوهب) رواه البخاري ومسلم.
وقال الشيخ زكريا الأنصاري: [ليس للناظر أخذ شيء من مال الوقف على وجه الضمان، فإن فعل ضمنه، ولا يجوز له إدخال ما ضمنه فيه أي في مال الوقف، إذ ليس له استيفاؤه من نفسه لغيره] أسنى المطالب في شرح روض الطالب.
وإذا كان العلماء قد نصوا على أنه لا يجوز لأحد أن يأخذ شيئاً مما هو موقوف على المسجد كالمصاحف والكتب والسجاد والحصير وغير ذلك من الأشياء لينتفع بها انتفاعاً شخصياً فهذه الأشياء الموقوفة يكون الانتفاع بها داخل المسجد فقط ولا يجوز لأحد أن يأخذ شيئاً لنفسه منها وإن أذن بذلك إمام المسجد أو مؤذنه لأنهما يتصرفان فيما لا يملكان فالمصاحف والكتب الموقوفة على المسجد لا يملك أحد أن يبطل وقفيتها على المسجد ويحولها إلى ملكية خاصة لبعض المصلين.
وقد نص العلماء على تحريم مثل هذه التصرفات، قال الإمام النووي: [لا يجوز أخذ شيء من أجزاء المسجد كحجر وحصاة وتراب وغيره … وفي سنن أبي داود بإسناد صحيح عن أبي هريرة قال بعض الرواة أراه رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الحصاة لتناشد الذي يخرجها من المسجد) المجموع 2/179. وقال الزركشي: [يحرم إخراج الحصى والحجر والتراب من أجزاء المسجد منه.. ومثله الزيت والشمع] إعلام الساجد بأحكام المساجد ص 239. ثم ذكر الحديث الذي ذكره الإمام النووي في كلامه السابق، هذا الحديث قال عنه المنذري: [رواه أبو داود بإسناد جيد، وذكر أن الدارقطني رجح وقفه على أبي هريرة الترغيب والترهيب 1/279. والحديث يدل على منع إخراج الحصى من المسجد وقد كان المسجد في العهد النبوي مفروشاً بالحصى فإذا كان لا يجوز إخراج الحصى من المسجد لينتفع به انتفاعاً شخصياً فمن باب أولى أن لا ينتفع بمال المسجد انتفاعاً شخصياً. وكذلك فإن الفقهاء قد جعلوا المال العام بمنزلة مال اليتيم في وجوب المحافظة عليه وشدة تحريم الأخذ منه فهل يملك ولي اليتيم أن يعطي تاجراً شيئاً من مال اليتيم ليستثمره لنفسه. إنه لا يملك ذلك بالتأكيد.
وخلاصة الأمر أن ما قامت به لجنة إعمار المسجد من الإذن للتاجر باستثمار مال المسجد لمنفعته الشخصية عمل باطل شرعاً لأنها لا تملك هذا التصرف ويجب إضافة ما تحقق من ربح لأصل المال.(12/59)
60 - حكم الإقالة في البيع
يقول السائل: إنه اشترى سيارة مستعملة ثم ندم على شرائها وطلب من البائع إرجاعها فرفض إرجاعها فما حكم ذلك أفيدونا. الجواب: ما طلبه المشتري من البائع في السؤال يسمى عند أهل العلم الإقالة والإقالة فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ هي: رَفْعُ الْعَقْدِ وَإِلْغَاءُ حُكْمِهِ وَآثَارِهِ بِتَرَاضِي الطَّرَفَيْنِ. الموسوعة الفقهية الكويتية 5/324.
والإقالة أمر مندوب إليه شرعاً ومرغب فيه وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على أن يقيل البائع المشتري إن ندم على الشراء لأي سبب من الأسباب فقد ورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أقال مسلماً أقاله الله عثرته يوم القيامة) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة والحاكم وصححه ووافقه الذهبي
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: حَدِيثُ {مَنْ أَقَالَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ صَفْقَةً كَرِهَهَا , أَقَالَهُ اللَّهُ عَثْرَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} . أَبُو دَاوُد , وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ , وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ ... قَالَ أَبُو الْفَتْحِ الْقُشَيْرِيُّ: هُوَ عَلَى شَرْطِهِمَا وَصَحَّحَهُ ابْنُ حَزْمٍ. التلخيص الحبير 3/24. وصححه العلامة الألباني في إرواء الغليل 5/182. وجاء في رواية أخرى قوله صلى الله عليه وسلم (مِنْ أَقَالَ نَادِمًا بَيْعَتَهُ , أَقَاله اللَّهُ عَثْرَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) انظر إرواء الغليل 5/182. وجاء في رواية أخرى قوله صلى الله عليه وسلم (من أقال أخاه بيعاً أقاله الله عثرته يوم القيامة) رواه الطبراني في الأوسط ورجاله ثقات كما قال الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد 4/ 110.
قال صاحب عون المعبود في شرح الحديث: [ (من أقال مسلماً) أي بيعه (أقاله الله عثرته) أي غفر زلته وخطيئته. قال في إنجاح الحاجة: صورة إقالة البيع إذا اشترى أحد شيئاً من رجل ثم ندم على اشترائه إما لظهور الغبن فيه أو لزوال حاجته إليه أو لانعدام الثمن فرد المبيع على البائع وقبل البائع رده أزال الله مشقته وعثرته يوم القيامة لأنه إحسان منه على المشتري , لأن البيع كان قد بت فلا يستطيع المشتري فسخه انتهى.] عون المعبود 9/237.
وروى الإمام مالك عن أبي الرجال محمد بن عبد الرحمن عن أمه عمرة بنت عبد الرحمن أنه سمعها تقول ابتاع رجل ثمر حائط في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم فعالجه وقام فيه حتى تبين له النقصان فسأل رب الحائط أن يضع له أو أن يقيله فحلف أن لا يفعل فذهبت أم المشتري إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تألى - أي حلف - أن لا يفعل خيراً فسمع بذلك رب الحائط فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله هو له.] الموطأ ص483.
وينبغي أن يعلم أن عقد البيع إذا تم بصدور الإيجاب والقبول من المتعاقدين فهو عقد لازم والعقود اللازمة عند الفقهاء لا يملك أحد المتعاقدين فسخها إلا برضى الآخر إذا لم يكن بينهما خيار لقوله صلى الله عليه وسلم: [البيّعان بالخيار ما لم يتفرقا] رواه البخاري ومسلم.
ومع ذلك فقد اتفق أهل العلم على أن من آداب البيع والشراء الإقالة قال الإمام الغزالي عند ذكره الإحسان في المعاملة: [الخامس: أن يقيل من يستقيله فإنه لا يستقيل إلا متندم مستضر بالبيع ولا ينبغي أن يرضى لنفسه أن يكون سبب استضرار أخيه، قال صلى الله عليه وسلم (من أقال نادماً صفقته أقال الله عثرته يوم القيامة) ] إحياء علوم الدين 2/83.
وقال الحافظ المناوي: [ (من أقال مسلماً) أي وافقه على نقض البيع أو البيعة وأجابه إليه (أقال الله عثرته) أي رفعه من سقوطه يقال أقاله يقيله إقالة وتقاؤلاً إذا فسخا البيع وعاد المبيع إلى مالكه والثمن إلى المشتري إذا ندم أحدهما أو كلاهما وتكون الإقالة في البيعة والعهد، كذا في النهاية، قال ابن عبد السلام ... : إقالة النادم من الإحسان المأمور به في القرآن لما له من الغرض فيما ندم عليه سيما في بيع العقار وتمليك الجوار] فيض القدير شرح الجامع الصغير 6/103.
ولا شك أن الإقالة من باب الإحسان والتراحم والتيسير على الناس والرفق بهم وتقديم العون لهم وإقالة عثراتهم وهي أمور مطلوبة من المسلم فقد قال صلى الله عليه وسلم (الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء) رواه أبو داود والترمذي وغيرهما وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنما يرحم الله من عباده الرحماء) رواه البخاري.
وقال صلى الله عليه وسلم (من فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة) رواه البخاري.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه؛ من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته؛ ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة) رواه البخاري ومسلم.
وقال صلى الله عليه وسلم (الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه) رواه مسلم. وقال صلى الله عليه وسلم (من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته) رواه مسلم.
وقال صلى الله عليه وسلم (من يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة) رواه مسلم وقال عليه الصلاة والسلام (كان فيمن كان قبلكم تاجر يداين الناس، فإن رأى معسراً قال لفتيانه: تجاوزوا عنه، لعل الله يتجاوز عنا، فتجاوز الله عنه) رواه البخاري.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم (اللهم من رفق بأمتي فارفق به، ومن شق عليهم فشق عليه) رواه أحمد ومسلم والنسائي.
وقال صلى الله عليه وسلم (إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق مالا يعطي على العنف) رواه مسلم.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم (من يحرم الرفق يحرم الخير) رواه مسلم.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم قال (من لا يرحم الناس لا يرحمه الله عز وجل) رواه مسلم.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم (لا تنزع الرحمة إلا من شقي) رواه الترمذي وهو حديث حسن كما قال العلامة الألباني في صحيح سنن الترمذي 2/180.
وإنما ذكرت هذه الأحاديث لما غلب على التعامل بين الناس من طمع وغيبة للتراحم والإحسان لعلهم يتذكرون فيتراحمون.
وأخيراً أنبه على أمرين أولهما: ما ورد في بعض ألفاظ أحاديث الإقالة من قوله صلى الله عليه وسلم (مَنْ أَقَالَ مُسْلِمًا بَيْعَتَهُ) فإن ذكر المسلم في الحديث ورد من باب التغليب وإلا فإقالة غير المسلم كإقالة المسلم قال الإمام الصنعاني: [وَأَمَّا كَوْنُ الْمُقَالِ مُسْلِمًا فَلَيْسَ بِشَرْطٍ , وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ لِكَوْنِهِ حُكْماً أَغْلَبِيّاً وَإِلَّا فَثَوَابُ الْإِقَالَةِ ثَابِتٌ فِي إقَالَةِ غَيْرِ الْمُسْلِمِ وَقَدْ وَرَدَ بِلَفْظِ مَنْ أَقَالَ نَادِماً أَخْرَجَهُ الْبَزَّار] سبل السلام 3/796.
والثاني: إن الْإِقَالَةُ َتَكُونُ وَاجِبَةً إذَا كَانَتْ بَعْدَ عَقْدٍ مَكْرُوهٍ أَوْ بَيْعٍ فَاسِدٍ , لِأَنَّهُ إذَا وَقَعَ الْبَيْعُ فَاسِداً أَوْ مكْرُوهاً وَجَبَ عَلَى كُلٍّ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ الرُّجُوعُ إلَى مَا كَانَ لَهُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ صَوْناً لَهُمَا عَنْ الْمَحْظُورِ , لِأَنَّ رَفْعَ الْمَعْصِيَةِ وَاجِبٌ بِقَدْرِ الإمكان , وَيَكُونُ ذَلِكَ بِالْإِقَالَةِ أَوْ بِالْفَسْخِ. كَمَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الْإِقَالَةُ وَاجِبَةً إذَا كَانَ الْبَائِعُ غَارّاً لِلْمُشْتَرِي وَكَانَ الْغَبْنُ يَسِيراً , وَإِنَّمَا قُيِّدَ الْغَبْنُ بِالْيَسِيرِ هُنَا , لِأَنَّ الْغَبْنَ الْفَاحِشَ يُوجِبُ الرَّدَّ إنْ غَرَّهُ الْبَائِعُ عَلَى الصَّحِيحِ.] الموسوعة الفقهية الكويتية 5/325.
وخلاصة الأمر أن عقد البيع من العقود اللازمة التي لا تفسخ إلا باتفاق البائع والمشتري والإقالة مندوبة ومستحبة وهي من باب التراحم والإحسان في المعاملة.(12/60)
61 - حكم شراء المسكن عن طريق البنوك الربوية
يقول السائل: أريد أن أشتري بيتاً لأسكن فيه أنا وعائلتي ولا يوجد مجال أمامي للحصول على البيت سوى الاقتراض بالفائدة وأنا مضطر للجوء للبنك الربوي فما حكم ذلك؟ الجواب: إن الربا من أكبر الكبائر وتحريمه قطعي في كتاب الله سبحانه وتعالى وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم فمن ذلك قوله تعالى: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ) سورة البقرة / 275 - 279. وثبت في الحديث عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه وقال: هم سواء) رواه مسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اجتنبوا السبع الموبقات. قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات) رواه البخاري ومسلم.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الربا ثلاثة وسبعون شعبة أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه) رواه الحاكم وصححه وقال الشيخ الألباني: صحيح. انظر صحيح الجامع الصغير 1/633.
وقال صلى الله عليه وسلم: (درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد عند الله من ست وثلاثين زنية] رواه أحمد وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح. مجمع الزوائد 4/117. وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة 3/29.
وغير ذلك من الأحاديث.
إذا تقرر هذا فإن بعض المشايخ يتساهلون تساهلاً كبيراً في الإفتاء بجواز الربا بحجج هي أوهى من بيت العنكبوت متكئين على أن الضرورات تبيح المحظورات فتراهم يفتون بجواز الاقتراض بالفائدة لشراء مسكن وبعضهم يفتي بجواز الاقتراض بالفائدة من أجل الزواج وغير ذلك من الفتاوى العرجاء التي لا تستند على دليل صحيح فضلاً عن مصادمتها للنصوص الصريحة من كتاب الله وسنة نبيه ? المحرمة للربا تحريماً قطعياً. واستناداً لهذه النصوص الصريحة من كتاب الله وسنة نبيه ? قرر العلماء أن الإقراض بالرِّبا محرَّم لا تبيحه ضرورة ولا حاجة، والاقتراض بالرِّبا محرَّم كذلك لا تبيحه الحاجيات، ولا يجوز إلا في حالة الضرورة. ولكن ما هي الضرورة التي تجيز الاقتراض بالربا؟ وهل شراء المسكن داخل في مفهوم الضرورة؟ يقول الله تعالى: (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) سورة الأنعام الآية 119. ويقول الله تعالى: (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) سورة البقرة الآية 173.
وتأصيلاً على هذه النصوص وغيرها قال العلماء: [الضرورة هي أن تطرأ على الإنسان حالة من الخطر أو المشقة الشديدة بحيث يخاف حدوث ضرر أو أذى بالنفس أو بالعضو أو بالعرض أو بالعقل أو بالمال وتوابعها ويتعين أو يباح عندئذ ارتكاب الحرام أو ترك الواجب أو تأخيره عن وقته دفعاً للضرر عنه في غالب ظنه ضمن قيود الشرع] نظرية الضرورة الشرعية ص 67-68.
وبناءً على ما سبق فإن الضرورة التي تجيز التعامل بالربا هي بلوغ الانسان حداً إن لم يتعامل بالربا المحرم هلك أو قارب على الهلاك. وبالتأكيد فإن شراء المسكن ليس داخلاً في هذه الضرورة، صحيح أن المسكن من الحاجات التي لا غنى للإنسان عنها ولكن ليس شرطاً أن يكون المسكن ملكاً للساكن بل يمكن للإنسان أن يكون مستأجراً للمسكن لا مالكاً له.
قال الشيخ المودودي: [لا تدخل كل ضرورة في باب الاضطرار بالنسبة للاستقراض بالربا. فإن التبذير في مجالس الزواج ومحافل الأفراح والعزاء ليس بضرورة حقيقية. وكذلك شراء السيارة أو بناء المنزل ليس بضرورة حقيقية وكذلك ليس استجماع الكماليات أو تهيئة المال لترقية التجارة بأمر ضروري. فهذه وأمثالها من الأمور التي قد يعبر عنها بالضرورة والاضطرار ويستقرض لها المرابون آلافاً من الليرات لا وزن لها ولا قيمة في نظر الشريعة والذين يعطون الربا لمثل هذه الأغراض آثمون. فإذا كانت الشريعة تسمح بإعطاء الربا في حالة من الاضطرار فإنما هي حالة قد يحل فيها الحرام كأن تعرض للإنسان نازلة لا بد له فيها من الاستقراض بالربا أو حلت به مصيبة في عرضه أو نفسه أو يكون يخاف خوفاً حقيقياً حدوث مشقة أو ضرر لا قبل له باحتمالها ففي مثل هذه الحالات يجوز للمسلم أن يستقرض بالربا ما دام لا يجد سبيلاً غيره للحصول على المال غير أنه يأثم بذلك جميع أولي الفضل والسعة من المسلمين الذين ما أخذوا بيد أخيهم في مثل هذه العاهة النازلة به حتى اضطروه لاستقراض المال بالربا. بل أقول فوق ذلك أن الأمة بأجمعها لا بد أن تذوق وبال هذا الإثم لأنها هي التي غفلت وتقاعست عن تنظيم أموال الزكاة والصدقات والأوقاف مما نتج عنه أن أصبح أفرادها لا يستندون إلى أحد ولم يبق لهم من بدّ من استجداء المرابين عند حاجاتهم. لا يجوز الاستقراض حتى عند الاضطرار إلا على قدر الحاجة ومن الواجب التخلص منه ما استطاع الإنسان إليه سبيلاً لأنه من الحرام له قطعاً أن يعطي قرشاً واحداً من الربا بعد ارتفاع حاجته وانتفاء اضطراره. أما: هل الحاجة شديدة؟ .. أم لا..؟ وإذا كانت فإلى أي حدّ؟ .. ومتى قد زالت؟ فكل هذا مما له علاقة بعقل الإنسان المبتلى بمثل هذه الحالة وشعوره بمقتضى الدين والمسؤولية الأخروية. فهو على قدر ما يكون متديناً يتقي الله ويرجو حساب الآخرة يكون معتصماً بعروة الحيطة والورع في هذا الباب] الربا ص 157-158.
وجاء في الفتوى التي أصدرها المؤتمر الثاني لمجمع البحوث الإسلامية والذي عقد في القاهرة سنة 1965م ما يلي:
أ- الفائدة على أنواع القروض كلها ربا محرم، لا فرق في ذلك بين ما يسمى بالقرض الاسهلاكي وما يسمى بالقرض الإنتاجي، لأن نصوص الكتاب والسنة في مجموعها قاطعة في تحريم النوعين.
ب- كثير الربا وقليله حرام، كما يشير إلى ذلك الفهم الصحيح في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) صدق الله العظيم سورة آل عمران الآية130.
جـ - الإقراض بالربا المحرم لا تبيحه حاجة ولا ضرورة، والاقتراض بالربا محرم كذلك، لا يرتفع إثمه إلا إذا دعت إليه الضرورة، وكل امرئ متروك لدينه في تقدير ضرورته.]
وخلاصة الأمر أن الاقتراض بالربا من المحرمات القطعية الثابتة التي لا مجال للتلاعب بها ولا يباح الاقتراض بالربا إلا في حالة الضرورة وأن الضرورة تقدر بقدرها ولا يدخل تملك المسكن في ذلك ومن أفتى بجواز تملك المسكن بالاقتراض الربوي ففتواه باطلة ومردودة عليه ولا يجوز الأخذ بها شرعاً.(12/61)
62 - البيوع
يقول السائل: ما حكم عبارة (البضاعة المباعة لا ترد ولا تستبدل) التي يكتبها بعض التجار على لوحة ويعلقونها في مكان بارز من متاجرهم أفيدونا؟ الجواب: هذه العبارة ليست صحيحة على إطلاقها بل في حكمها التفصيل التالي:
أولاً: تكون عبارة " البضاعة المباعة لا ترد ولا تستبدل" صحيحة فيما إذا وقع البيع خالياً من الخيار ومن العيوب فمن المعلوم أن عقد البيع إذا تم بصدور الإيجاب والقبول من المتعاقدين فهو عقد صحيح لازم والعقود اللازمة عند الفقهاء لا يملك أحد المتعاقدين فسخها إلا برضى الآخر إذا لم يكن بينهما خيار لقوله صلى الله عليه وسلم: [البيّعان بالخيار ما لم يتفرقا] رواه البخاري ومسلم. فإذا اشترى شخص سلعة ولم تكن معيبة ثم ذهب إلى بيته فبدا له أن يرجع السلعة للبائع فلا يملك المشتري ذلك إلا إذا وافق البائع وهذا ما يسمى بالإقالة والإقالة أمر مندوب إليه شرعاً ومرغب فيه وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على أن يقيل البائع المشتري إن ندم على الشراء لأي سبب من الأسباب فقد ورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أقال مسلماً أقاله الله عثرته يوم القيامة) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، وفي رواية أخرى قوله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ أَقَالَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ صَفْقَةً كَرِهَهَا , أَقَالَهُ اللَّهُ عَثْرَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) ، ولكن إن أبى البائع أن يقيل المشتري بيعته فله ذلك وفي هذه الحالة تكون عبارة " البضاعة المباعة لا ترد ولا تستبدل" صحيحة ولكن رد السلعة وإقالة المشترى أولى وفيه الأجر والثواب.
ثانياً: تكون عبارة " البضاعة المباعة لا ترد ولا تستبدل" باطلة إذا اشترى شخص سلعة ولما رجع إلى بيته مثلاً وجد فيها عيباً فله كل الحق في رد السلعة وإن شرط البائع عليه أن " البضاعة المباعة لا ترد ولا تستبدل" فمثلاً لو اشترى سلعة غذائية ولدى عودته إلى منزله وجدها منتهية الصلاحية أو وجدها تالفة فمن حقه أن يعود للمحل الذي اشترى السلعة منه لردها واستبدالها بسلعة غذائية صالحة وسليمة وغير منتهية الصلاحية. قال الشيخ ابن قدامة رحمه المقدسي: [أنه متى علم بالمبيع عيباً لم يكن عالماً به فله الخيار بين الإمساك والفسخ سواء كان البائع علم العيب وكتمه أو لم يعلم، لا نعلم بين أهل العلم في هذا خلافاً وإثبات النبي صلى الله عليه وسلم الخيار بالتصرية تنبيه على ثبوته بالعيب ولأن مطلق العقد يقتضي السلامة من العيب] المغني 4/109. وحديث التصرية الذي أشار إليه هو ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا تصروا الإبل والغنم فمن ابتاعها بعد فإنه بخير النظرين بعد أن يحتلبها إن شاء أمسك وإن شاء ردها وصاع تمر) والتصرية هي حبس الحليب في الضرع لخداع المشتري وتعد التصرية عيباً عند الفقهاء وقد أثبت النبي صلى الله عليه وسلم الخيار برد المصراة وجعله حقاً للمشتري. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: ولهذا أثبت الشارع الخيار لمن لم يعلم بالعيب أو التدليس؛ فإن الأصل في البيع الصحة وأن يكون الباطن كالظاهر. فإذا اشترى على ذلك فما عرف رضاه إلا بذلك فإذا تبين أن في السلعة غشاً أو عيباً فهو كما لو وصفها بصفة وتبينت بخلافها فقد يرضى وقد لا يرضى فإن رضي وإلا فسخ البيع. وفى الصحيحين عن حكيم بن حزام عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما» ] مجموع الفتاوى 28/104.
وقد سئلت اللجنة الدائمة للإفتاء في السعودية [ما حكم الشرع في كتابة عبارة ((البضاعة المباعة لا ترد ولا تستبدل)) . التي يكتبها بعض أصحاب المحلات التجارية على الفواتير الصادرة عنهم. وهل هذا الشرط جائز شرعاً. وما هي نصيحة سماحتكم حول هذا الموضوع.
الجواب: وبعد دراسة اللجنة للاستفتاء أجابت بأن بيع السلعة بشرط ألا ترد ولا تستبدل لا يجوز لأنه شرط غير صحيح لما فيه من الضرر والتعمية ولأن مقصود البائع بهذا الشرط إلزام المشتري بالبضاعة ولو كانت معيبة واشتراطه هذا لا يبرؤه من العيوب الموجودة في السلعة لأنها إذا كانت معيبة فله استبدالها ببضاعة غير معيبة أو أخذ المشتري أرش العيب. ولأن كامل الثمن مقابل السلعة الصحيحة وأخذ البائع الثمن مع وجود عيب أخذ بغير حق. ولأن الشرع أقام الشرط العرفي كاللفظي وذلك للسلامة من العيب حتى يسوغ له الرد بوجود العيب تنزيلاً لاشتراط سلامة المبيع عرفاً منزلة اشتراطها لفظاً] .
فهذه الفتوى فيما أرى محمولة على الحالة الثانية من الحالتين اللتين ذكرتهما أي إلغاء خيار الرد بالعيب والعلماء متفقون على أن المشتري إذا وجد عيباً فيما اشتراه كان له حق الرد وإن لم يكن البائع يعلم مسبقاً بالعيب.
وخلاصة الأمر أن عبارة ((البضاعة المباعة لا ترد ولا تستبدل)) تكون صحيحة إذا وقع البيع خالياً من الخيار ومن العيوب وتكون باطلة إذا وجد المشتري في البضاعة عيباً فله ردها وأخذ بضاعة سليمة بدلاً منها.(12/62)
63 - تبرع المضارب بضمان رأس مال المضاربة
يقول السائل: إنه اتفق مع شخص ليتاجر له بماله والمتوقع بإذن الله تعالى أن تكون التجارة رابحة واحتمالات الخسارة ضئيلة جداً ولكن صاحب المال يخشى أن تخسر التجارة فهل يجوز أن أتبرع له بما يخسره إن حصلت الخسارة أفيدونا؟ الجواب: الاتفاق المشار إليه في السؤال يسمى عند الفقهاء عقد المضاربة ويسمى أيضاً القراض، والمضاربة هي أن يدفع شخص مبلغاً من المال لآخر ليتجر فيه، والربح مشترك بينهما على حسب ما يتفقان – أي يكون المال من شخص والعمل من شخص آخر. والمضاربة جائزة شرعاً باتفاق الفقهاء وقامت الأدلة العامة على مشروعيتها من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وهو المأثور عن الصحابة والتابعين فقد كانوا يتعاملون بها من غير نكير فهذا بمثابة الإجماع على جوازها. انظر الشركات للخياط 2/53.
قال الإمام الماوردي: [والأصل في إحلال القراض وإباحته عموم قول الله عز وجل: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ) سورة البقرة الآية 198، وفي القراض ابتغاء فضل وطلب نماء] الحاوي الكبير 7/305.
وجاء عن حكيم بن حزام صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنه كان يشترط على الرجل إذا أعطاه مالاً مقارضة يضرب له به أن لا تجعل مالي في كبد رطبة ولا تحمله في بحر ولا تنزل به بطن مسيل فإن فعلت شيئاً من ذلك فقد ضمنت مالي) رواه البيهقي والدارقطني وقوى الحافظ إسناده كما ذكر الشوكاني في نيل الأوطار 5/300.
وروى مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه أنه قال: (خرج عبد الله وعبيد الله ابنا عمر بن الخطاب في جيش إلى العراق فلما قفلا مرا على أبي موسى الأشعري وهو أمير البصرة فرحب بهما وسهّل ثم قال: لو أقدر لكما على أمر أنفعكما به لفعلت، ثم قال: بلى هاهنا مال من مال الله أريد أن أبعث به إلى أمير المؤمنين فأسلفكماه فتبتاعان به متاعاً من متاع العراق ثم تبيعانه بالمدينة فتؤديان رأس المال إلى أمير المؤمنين ويكون الربح لكما فقالا: وددنا ذلك ففعل وكتب إلى عمر بن الخطاب أن يأخذ منهم المال فلما قدما باعا فأربحا فلما دفعا ذلك إلى عمر قال: أكل الجيش أسلفه مثل ما أسلفكما؟ قالا: لا، فقال عمر بن الخطاب: ابنا أمير المؤمنين فأسلفكما أديا المال وربحه فأما عبد الله فسكت وأما عبيد الله فقال: ما ينبغي لك يا أمير المؤمنين هذا لو نقص هذا المال أو هلك لضمناه فقال عمر: أدياه فسكت عبد الله وراجعه عبيد الله فقال رجل من جلساء عمر: يا أمير المؤمنين لو جعلته قراضاً فقال عمر: قد جعلته قراضاً فأخذ عمر رأس المال ونصف ربحه وأخذ عبد الله وعبيد الله ابنا عمر بن الخطاب نصف ربح المال) ورواه الدارقطني أيضاً، قال الحافظ ابن حجر وإسناده صحيح، نيل الأوطار 5/300 وانظر الاستذكار 21/120. وقد وردت آثار أخرى عن الصحابة كعلي وابن مسعود وابن عباس وجابر وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين، قال الشوكاني: [فهذه الآثار تدل على أن المضاربة كان الصحابة يتعاملون بها من غير نكير إجماعاً منهم على الجواز] نيل الأوطار 5/300-301.
إذا تقرر هذا فإن الفقهاء متفقون على أن يد المضارب يد أمانة وبناءً على ذلك قرر الفقهاء أنه لا يجوز أن يضمن المضارب رأس المال إلا إذا تعدى أو قصر فحينئذ يكون ضامناً قال الشيخ ابن قدامة المقدسي [إذا تعدى المضارب وفعل ما ليس له فعله أو اشترى شيئاً نُهي عن شرائه فهو ضامن للمال في قول أكثر أهل العلم روي ذلك عن أبي هريرة وحكيم بن حزام وأبي قلابة ونافع وإياس والشعبي والنخعي والحكم وحماد ومالك والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي ... ولنا أنه متصرف في مال غيره بغير إذنه فلزمه الضمان كالغاصب..] المغني 5/39.
وأما إذا حصلت خسارة بدون تعدٍ أو تقصير من المضارب فلا شيء عليه ولا يجوز شرعاً تضمينه رأس المال ويكون المضارب قد خسر جهده وتعبه.
وإن شرط في عقد المضاربة أن ضمان رأس المال على المضارب فالعقد فاسد لا يصح قال ابن رشد المالكي عند حديثه عن الشروط الفاسدة في القراض (المضاربة) [ومنها إذا شرط رب المال الضمان على العامل، فقال مالك: لا يجوز القراض وهو فاسد، وبه قال الشافعي ... وعمدة مالك أن اشتراط الضمان زيادة غرر في القراض ففسد ... ] بداية المجتهد ونهاية المقتصد 2/199. وانظر المغني 5/53.
وقرر مجمع الفقه الإسلامي ذلك كما ورد في القرار رقم 5 من الدورة الرابعة [لا يجوز أن تشتمل نشرة الإصدار أو صكوك المقارضة على نص بضمان عامل المضاربة رأس المال أو ضمان ربح مقطوع أو منسوب إلى رأس المال، فإن وقع النص على ذلك صراحة أو ضمناً بَطَلَ شرط الضمان واستحق المضارب ربح مضاربة المثل.]
وبعد هذا العرض الموجز لمسألة ضمان المضارب أعود لقضية تبرع المضارب بتحمل الخسارة فأقول: إذا تبرع المضارب بتحمل الخسارة بدون أن يكون هذا شرطاً مكتوباً أو ملحوظاً عند الاتفاق فلا أرى مانعاً من جوازه فإذا تم العقد مع خلوه من شرط ضمان رأس المال ملفوظاً أو ملحوظاً واشتغل المضارب بالمال وعند تصفية الشركة تبين حصول خسارة فتبرع المضارب بتحملها فالقول بجواز ذلك له وجه لأن هذا التبرع تم بدون إلزام أو شرط مسبق والمفسد لعقد المضاربة عند الفقهاء أن يشترط على المضارب ضمان رأس المال عند العقد وهنا لم يشرط ذلك عند العقد وإنما تبرع هو بالضمان بعد أن تحققت الخسارة فلا مانع منه وقال بجواز ذلك جماعة من فقهاء المالكية. انظر المضاربة الشرعية ص 127. فتاوى المستشار الشرعي لمجموعة البركة الجزء 2 الفتوى رقم 107.
وهذا القول أخذت به بعض المؤسسات المالية التي تتعامل وفق أحكام الشريعة الإسلامية فقد جاء في فتاوى المستشار الشرعي لمجموعة البركة الجزء 1 الفتوى رقم 44 [ ... على أنه لا مانع من أن تكون هناك مبادرة من العميل بتحمل ما قد يقع من خسارة في حينها - لا عند التعاقد لأن ذلك من قبيل الهبة والتصرف من صاحب الحق في حقه , دون تغيير لمقتضى العقد شرعاً. فحين وقوع الخسارة دون تعدٍ أو تقصيرٍ يطبق المبدأ الشرعي بتحميلها لرب المال (البنك هنا) إلا أن يبادر العميل لتحملها ودون مقاضاته أو إلزامه , لأنه قد يقدم على هذه المبادرة انسجاماً مع اعتبار نفسه مقصراً في الواقع ولو لم تستكمل صورة التقصير في الظاهر بما يحيل الضمان عليه. والقاعدة الشرعية أن المرء بسبيل من التصرف في ماله] .
وينبغي أن يعلم أن مجمع الفقه الإسلامي أجاز ضمان رأس مال المضاربة من طرف ثالث عل سبيل التبرع كما ورد في القرار رقم 5 من الدورة الرابعة [ليس هناك ما يمنع شرعاً من النص في نشرة الإصدار أو صكوك المقارضة على وعد طرف ثالث منفصل في شخصيته وذمته المالية عن طرفي العقد بالتبرع بدون مقابل بمبلغ مخصص لجبر الخسران في مشروع معين، على أن يكون التزاماً مستقلاً عن عقد المضاربة، بمعنى أن قيامه بالوفاء بالتزامه ليس شرطاً في نفاذ العقد وترتب أحكامه عليه بين أطرافه، ومن ثم فليس لحملة الصكوك أو عامل المضاربة الدفع ببطلان المضاربة أو الامتناع عن الوفاء بالتزاماتهم بها بسبب عدم قيام المتبرع بالوفاء بما تبرع به، بحجة أنَّ هذا الالتزام كان محل اعتبار في العقد]
وخلاصة الأمر أن الأصل في عقد المضاربة أنه لا يجوز ضمان رأس مال المضاربة من المضارب إلا إذا تعدى أو قصر ويجوز أن يتبرع المضارب بضمان ما يلحق صاحب المال من خسارة عند وقوعها فعلاً وليس عند انعقاد العقد على أن لا يكون التبرع بتحمل الخسارة شرطاً ملفوظاً أو ملحوظاً عند العقد.(12/63)
64 - ضوابط التعامل بالأسهم
يقول السائل: ما هي الضوابط الشرعية للتعامل بالأسهم؟ الجواب: الأسهم عبارة عن حصص الشركاء في الشركات المساهمة حيث إن رأسمال الشركة المساهمة يقسم إلى أجزاء متساوية يسمى سهماً فالسهم هو جزء من رأس مال الشركة وهو يمثل حق المساهم مقدراً بالنقود لتحديد نصيبه في ربح الشركة أو خسارتها وكذلك تحديد مسؤولية المساهم في الشركة. والأصل في الشركة المساهمة الجواز إذا كانت خالية من الربا والتعامل المحرم، فالمساهمون فيها يتحقق فيهم معنى الشركاء حيث إنهم يقدمون أسهمهم حصصاً في رأس المال فيشتركون في رأس المال، ويقتسمون الأرباح والخسائر فيكونون شركاء بمجرد توقيع عقد الاكتتاب في الشركة فيعتبر ذلك إيجاباً وقبولاً؛ لأن الإيجاب والقبول لا يشترط فيهما التلفظ بل يصحان بالكتابة. وهؤلاء الشركاء يوكلون مجلس إدارة الشركة بالقيام بالعمل وهو توكيل صحيح. والقول بتحريم شركة المساهمة قول ضعيف جداً لا يؤيده دليل معتبر.
وقد وضع الفقهاء المعاصرون ضوابط شرعية للتعامل بالأسهم سواء كان بشراء أسهم الشركات للاستفادة من ريعها أو كان للمتاجرة بها للاستفادة من فرق السعر بين الشراء والبيع وأهم هذه الضوابط ما يلي:
أولاً: لا يجوز للمسلم أن يساهم في شركات تتعامل بالربا أخذاً وإعطاءً كما هو حال البنوك الربوية (التجارية) فهي في الأصل شركات مساهمة تقوم على الإقراض والاقتراض بالربا (الفائدة) .
ثانيً: لا يجوز للمسلم أن يساهم في شركات تتعامل بالمباح ولكن يدخل في تعاملها الربا مثل أن ينص نظامها الأساسي على أنها تقرض وتقترض بالربا كما هو واقع كثير من الشركات المساهمة الكبيرة التي تتعامل في مجالات الكهرباء والاتصالات والمواصلات وغير ذلك. والقول بتحريم الإسهام في هذه الشركات هو القول الراجح من قولي العلماء المعاصرين في هذه المسألة لأنه لا يجوز للمسلم أن يوقع أي عقد تضمن شروطاً ربوية وهذه الشركات يوجد في نظامها الأساسي بند ينص على أنها تقرض وتقترض بالربا. وينبغي للمسلم أن يحرص على الكسب الحلال ويبتعد عن الكسب الذي فيه شبهة.
جاء في قرار مجلس المجمع الفقهي الإسلامي، برابطة العالم الإسلامي، في دورته الرابعة عشرة المنعقدة بمكة المكرمة ما يلي:
1- بما أن الأصل في المعاملات الحل والإباحة فإن تأسيس شركة مساهمة ذات أغراض وأنشطة مباحة أمر جائز شرعاً.
2- لا خلاف في حرمة الإسهام في شركات غرضها الأساسي محرم، كالتعامل بالربا أو تصنيع المحرمات أو المتاجرة فيها.
3- لا يجوز لمسلم شراء أسهم الشركات والمصارف إذا كان في بعض معاملاتها ربا، وكان المشتري عالماً بذلك.
4- إذا اشترى شخص – أسهماً - وهو لا يعلم أن الشركة تتعامل بالربا، ثم علم فالواجب عليه الخروج منها.
والتحريم في ذلك واضح، لعموم الأدلة من الكتاب والسنة في تحريم الربا، ولأن شراء أسهم الشركات التي تتعامل بالربا مع علم المشتري بذلك، يعني اشتراك المشتري نفسه في التعامل بالربا، لأن السهم يمثل جزءاً شائعاً من رأس مال الشركة، والمساهم يملك حصة شائعة في موجودات الشركة، فكل مال تقرضه الشركة بفائدة، أو تقترضه بفائدة، فللمساهم نصيب منه، لأن الذين يباشرون الإقراض والاقتراض بالفائدة يقومون بهذا العمل نيابة عنه، والتوكيل بعمل المحرم لا يجوز.]
ورد في قرار مجلس مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السابع ما يلي: [الأصل حرمة الإسهام في شركات تتعامل أحياناً بالمحرمات، كالربا ونحوه، بالرغم من أن أنشطتها الأساسية مشروعة.]
ثالثاً: لا يجوز للمسلم أن يساهم في شركات عملها مباح ولكنها تملك أسهماً في البنوك الربوية لأن من مصادر دخلها ما هو ربا وتحريم الربا قليلاً كان أو كثيراً قطعي في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
رابعاً: لا يجوز للمسلم أن يساهم في شركات تتعامل بالمحرمات كالشركات المنتجة للخمور والدخان والتي تعمل في مجال التأمين التجاري أو القمار ونحو ذلك من المحرمات.
خامساً: لا يجوز تداول أسهم الشركات التي ما زالت في طور التأسيس قبل أن يتحوّل رأس مال الشركة إلى سلع ومعدات وأعيان فلا يجوز بيع هذه الأسهم بأكثر من قيمتها الحقيقية لأنه حينئذٍ يكون بيع نقود بنقود مع زيادة وهذا ربا واضح، إلا إذا بِيعت الأسهم بنفس قيمتها الاسمية دون أية زيادة فهذا جائز.
سادساً: [لا يجوز شراء السهم بقرض ربوي يقدمه السمسار أو غيره للمشتري لقاء رهن السهم، لما في ذلك من المراباة وتوثيقها بالرهن وهما من الأعمال المحرمة بالنص على لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه.
سابعاً: لا يجوز أيضاً بيع سهم لا يملكه البائع وإنما يتلقى وعداً من السمسار بإقراضه السهم في موعد التسليم، لأنه من بيع ما لا يملك البائع، ويقوى المنع إذا اشترط إقباض الثمن للسمسار لينتفع به بإيداعه بفائدة للحصول على مقابل الإقراض] . من قرار مجلس مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السابع.
ثامناً: التداول في الأسهم عن طريق ما يسمى البيع على المكشوف والمراد به: (قيام شخص ببيع أسهم لا يملكها، عن طريق اقتراضها من آخرين، مقابل الالتزام بإعادة شرائها، وتسليمها للمقرض، في وقت محدد) . وهذا النوع محرم لاشتماله على الربا والغرر. جاء في قرار المجمع الفقهي [إن العقود الآجلة بأنواعها التي تجري على المكشوف، أي على الأسهم والسلع التي ليست في ملك البائع بالكيفية التي تجري في السوق المالية (البورصة) غير جائزة شرعاً؛ لأنها تشتمل على بيع الشخص ما لا يملك اعتماداً على أنه سيشتريه فيما بعد ويسلمه في الموعد، وهذا منهي عنه شرعاً، لما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تبع ما ليس عندك) ، وكذلك ما رواه الإمام أحمد وأبو داود بإسناد صحيح عن زيد بن ثابت رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تباع السلع حيث تباع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم) .]
وختاماً أقول إن تعامل الناس بالأسهم الربوية قد كثر في هذا الزمان طمعاً في تحقيق مكاسب سريعة ونسوا أو تناسوا أنهم سيقفون غداً بين يدي الله عز وجل وسيسألهم عن أموالهم من أين اكتسبوها؟ وفيما أنفقوها؟ فقد ورد في الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيم أفناه؟ وعن علمه فيم فعل فيه؟ وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه؟ وعن جسمه فيم أبلاه) رواه الترمذي وقال حسن صحيح، وصححه العلامة الألباني. وأذكر هؤلاء ببعض النصوص الشرعية التي تحرم الربا والتعامل به: 1. يقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ) سورة البقرة الآيتان 276-277.
2. عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (لعن رسو الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه وقال: هم سواء) رواه مسلم. 3. وقال صلى الله عليه وسلم: (الربا اثنان وسبعون باباً أدناها إتيان الرجل أمه) رواه الحاكم وقال الشيخ الألباني: صحيح. انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة 3/488. 4. وقال صلى الله عليه وسلم: (درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد عند الله من ستة وثلاثين زنية) رواه أحمد والطبراني وقال الشيخ الألباني: صحيح. انظر صحيح الجامع الصغير 1/636 وغير ذلك من الأحاديث.(12/64)
65 - حكم برنامج توفير للمعلمين
يقول السائل: ما الحكم الشرعي لما يعرف عندنا (في منطقة 48) بصندوق الاستكمال وهو برنامج توفير لمعلمي المدارس التابعة للمعارف الهدف منه تشجيع المعلم على الخروج في إجازة مدفوعة الأجر لمدة سنة كاملة بعد ست سنوات عمل بشرط أن يتعلم خلال هذه السنة على حساب الصندوق ما يفيده ولكي يتجدد نشاطه عندما يعود لمزاولة عمله، ثم يدخر من جديد فترة ست سنوات أخرى كي يحصل على إجازة مدفوعة الأجر لمدة سنة كاملة كما في المرة السابقة ... وهكذا، مع العلم أن الاشتراك في هذا الصندوق اختياري وليس إلزامياً. وهذا الصندوق يعمل وفق النظام التالي: يدّخر فيه المعلم مبلغاً من المال يُقتطع من راتبه شهرياً وتضع وزارة المعارف مقابل هذا المبلغ ضعفيه في الصندوق لصالح المعلم ويستمر الادخار في هذا الصندوق ست سنوات على الأقل بحيث لا يستطيع المعلم سحب هذه الأموال قبل انتهاء المدة. وفي نهاية السنوات الست، يحق للمعلم الخروج في إجازة مدفوعة الأجر لمدة سنة كاملة، بشرط أن يتعلم خلالها (على حساب الصندوق) ما يفيده، وفي حالات معينة يستطيع سحب هذه الأموال بدل الخروج في إجازة بعد انتهاء السنوات الست إذا أثبت بأنه مدين ديناً فاحشاً لجهة ما أو أنه يعيل بالإضافة إلى زوجته وأولاده، أحد والديه أو كليهما أو أحداً من أقاربه أو أنه بحاجة إلى تجديد أو توسيع بيته ليتناسب مع ازدياد عدد أفراد عائلته. والجدير ذره أن: الاشتراك في هذا الصندوق اختياري وليس إلزامياً. هذه الأموال توضع في بنك ربوي ويعطي عليها رباً يسمونه أرباحاً وتعويضاً يعادل قيمة انخفاض العملة بسبب غلاء المعيشة أي تعويضاً عن هبوط قيمة النقد. إذا اختار المعلم سحب هذه الأموال من الصندوق فإنه يحصل على جميع الأموال التي اقتطعت من مرتبه، و89% من الأموال التي وضعها المشغل لصالحه، مضافاً لكل ذلك ما يسمى بالأرباح الربا والتعويض عن هبوط قيمة النقد. أفيدونا. الجواب: هذا العقد عقد ربوي إبتداءً فلا يجوز للمسلم التوقيع عليه لأنه تضمن شرطاً ربوياً وإقراراً بالربا حيث إن المشترك في هذا الصندوق قبل التعامل بالربا مختاراً ومن المعلوم أن الربا محرم قطعاً في كتاب الله سبحانه وتعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ إِنَّ الَّذِينَءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَءَاتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ) سورة البقرة الآيتان (278-279. وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه وقال: هم سواء) رواه مسلم وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اجتنبوا السبع الموبقات – المهلكات -. قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات) رواه البخاري ومسلم.
وقال صلى الله عليه وسلم: (الربا إثنان وسبعون باباً أدناها إتيان الرجل أمه) رواه الحاكم وقال الشيخ الألباني: صحيح. انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة 3/488. وقال صلى الله عليه وسلم: (الربا ثلاثة وسبعون باباً أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه) رواه الحاكم وقال الشيخ الألباني: صحيح. انظر صحيح الجامع الصغير 1/633. وقال صلى الله عليه وسلم: (درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد عند الله من ستة وثلاثين زنية) رواه أحمد والطبراني وقال الشيخ الألباني: صحيح. انظر صحيح الجامع الصغير 1/636 وغير ذلك من الأحاديث.
ومما يؤكد بطلان العقد الذي يعمل به الصندوق المشار إليه أنه يعطي تعويضاً يعادل قيمة انخفاض العملة بسبب غلاء المعيشة أي أنه يربط المال الموفر بجدول غلاء المعيشة وهذا أمر باطل شرعاً فلا يجوز شرعاً ربط الديون بمستوى الأسعار أو جدول غلاء المعيشة لأنه نوع من الربا، فقد قرر مجمع الفقه الإسلامي ما يلي: ((العبرة في وفاء الديون الثابتة بعملة ما هي بالمثل وليس بالقيمة لأن الديون تقضى بأمثالها فلا يجوز ربط الديون الثابتة في الذمة أياً كان مصدرها بمستوى الأسعار)) مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد الخامس، الجزء الثالث / ص 2261. والواجب على من اشترك في هذا الصندوق وهو لا يعلم حرمة المشاركة فيه أن يوقف تعامله معه وأن يتخلص من الربا الذي أعطي له وقد نص كثير من أهل العلم على أن التخلص من المال الحرام يكون بالتصدق به فقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية: [عن رجل مرابٍ خلَّف مالاً وولداً وهو يعلم بحاله فهل يكون المال حلالاً للولد بالميراث؟ أم لا؟ فأجاب: أما القدر الذي يعلم الولد أنه ربا فيخرجه إما أن يرده إلى أصحابه إن أمكن وإلا تصدق به. والباقي لا يحرم عليه…] مجموع الفتاوى 29/307. وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية أيضاً: [عن امرأة كانت مغنية واكتسبت في جهلها مالاً كثيراً وقد تابت … فهل هذا المال الذي اكتسبته … إذا أكلت وتصدقت منه تؤجر عليه؟ فأجاب بأن هذا المال لا يحل للمغنية التائبة ولكن يصرف في مصالح المسلمين … إلخ) انظر مجموع الفتاوى 29/308-309. وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية أيضاً: [عن الرجل يختلط ماله الحلال بالحرام؟ فأجاب بأنه يخرج قدر المال الحرام فيرده إلى صاحبه وإن تعذر عليه ذلك تصدق به] مجموع الفتاوى 29/308. وقال القرطبي عند تفسير قوله تعالى: (فَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ) سورة البقرة الآية 297. ما نصه: [قال علماؤنا إن سبيل التوبة مما بيده من الأموال الحرام إن كانت رباً فليردها على من أربى عليه ويطلبه إن لم يكن حاضراً فإن أيس من وجوده فليتصدق بذلك. وإن أخذ بظلم فليفعل كذلك في أمر من ظلمه فإن التبس عليه الأمر ولم يدر كم الحرام من الحلال مما بيده فإنه يتحرى قدر ما بيده مما يجب رده حتى لا يشك أن ما يبقى قد خلص له فيرده من ذلك الذي أزال عن يده إلى من عٌرف ممن ظلمه أو أربى عليه فإن أيس من وجوده تصدق به عنه، فإن أحاطت المظالم بذمته وعلم أنه وجب عليه من ذلك ما لا يطيق أداءه أبداً لكثرته فتوبته أن يزيل ما بيده أجمع إما إلى المساكين وإما إلى ما فيه صلاح المسلمين …] تفسير القرطبي 3/366. ومما يدل على ذلك أيضاً ما وردت به الروايات في قصة رهان أبي بكر رضي الله عنه لبعض الكفار عندما نزل قوله تعالى: (الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ في بضع سنين) سورة الروم الآيات 1-3. وجاء في بعض روايات هذه الحادثة: [أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر: (هذا سحت فتصدق به) وكان هذا قبل تحريم القمار كما قال القرطبي، وقد ذكر ابن كثير والقرطبي عدة روايات لهذه الحادثة. تفسير القرطبي 14/2-4، تفسير ابن كثير 3/422-424. وقال ابن كثير بعد أن ساق عدداً من روايات هذه الحادثة: [وقد روي نحو هذا مرسلاً عن جماعة من التابعين مثل عكرمة والشعبي ومجاهد وقتادة والسدي والزهري وغيرهم] تفسير ابن كثير 3/423.
وخلاصة الأمر أنه تحرم المشاركة فيما يسمى صندوق الاستكمال وأن العقد الوارد فيه عقد ربوي محرم ويجب على من اشترك فيه أن يتخلص من المال الربوي الذي حصل عليه وذلك بإنفاقه في وجوه الخير والمصالح العامة للمسلمين.(12/65)
66 - العمل في محل تقدم فيه الخمور
يقول السائل: إنه يعمل في مطعم أحد الفنادق التي تقدم فيها الخمور هو وأحد زملائه وهما لا يقدمان الخمر للزبائن ولكنهما يعدان المكان ويجهزان الطاولات ويجمعان الكؤوس الفارغة ويقومان بغسلها فما حكم هذا العمل وهل المال الذي يكسبانه حلال أو حرام أفيدونا؟ الجواب: من المعلوم شرعاً تحريم الخمر تحريماً باتاً قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) سورة المائدة الآيتان 90-91. وغير ذلك من الأدلة.
وهنا لا بد من توضيح قاعدة هامة في العمل الذي يجوز للمسلم أن يعمل فيه وهي ما قرره العلماء من أن للوسائل أحكام المقاصد. قال الإمام العز بن عبد السلام: [للوسائل أحكام المقاصد فالوسيلة إلى أفضل المقاصد هي أفضل الوسائل والوسيلة إلى أرذل المقاصد هي أرذل الوسائل] قواعد الأحكام 1/46 فوسيلة المحرم محرمة أي إن ما أدى إلى الحرام فهو حرام فالربا حرام فكل عمل يؤدي إليه ويساعد فيه فهو حرام فتأجير مبنىً ليكون مقراً لبنك ربوي حرام وكذا العمل في البنك الربوي حرام ولو كان حارساً ليلياً ومثل ذلك عمل برنامج كمبيوتر للمحاسبة في بنك ربوي حرام وهكذا بقية الأعمال التي لها علاقة بالربا ويدل على ذلك ما ورد في الحديث الصحيح (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه وقال: هم سواء) رواه مسلم وكذا الخمر فهي محرمة فيحرم العمل في كل شيء له علاقة بالخمر فيحرم على المسلم أن يبيع العنب لمن عرف أنه يصنعه خمراً ويحرم أن يساعد في أي عمل يؤدي إليها ويدل على ذلك قول الله تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) سورة المائدة الآية 2. ومما يدل على ذلك أيضا ما ورد في الحديث (أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وآكل ثمنها) رواه أبو داود والترمذي والحاكم وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع الصغير 2/907. وقد صح في الحديث من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى حرّم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام) رواه البخاري ومسلم.
قال الشيخ ابن قدامة المقدسي شارحاً قول الخرقي: [وبيع العصير ممن يتخذه خمراً باطل]
وجملة ذلك أن بيع العصير لمن يعتقد أنه يتخذه خمراً محرم وكرهه الشافعي , وذكر بعض أصحابه أن البائع إذا اعتقد أنه يعصرها خمراً فهو محرم وإنما يكره إذا شك فيه ... ولنا قول الله تعالى: {ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} ، وهذا نهي يقتضي التحريم وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لعن في الخمر عشرة فروى ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل فقال: يا محمد إن الله لعن الخمر وعاصرها ومعتصرها , وحاملها والمحمولة إليه وشاربها وبائعها , ومبتاعها وساقيها) وأشار إلى كل معاون عليها ومساعد فيها أخرج هذا الحديث الترمذي , من حديث أنس وقال: قد روي هذا الحديث عن ابن عباس وابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم. وروى ابن بطة في تحريم النبيذ , بإسناده عن محمد بن سيرين أن قيماً كان لسعد بن أبي وقاص في أرض له فأخبره عن عنب أنه لا يصلح زبيباً , ولا يصلح أن يباع إلا لمن يعصره فأمر بقلعه وقال: بئس الشيخ أنا إن بعت الخمر. ولأنه يعقد عليها لمن يعلم أنه يريدها للمعصية , فأشبه إجارة أمته لمن يعلم أنه يستأجرها ليزني بها والآية مخصوصة بصور كثيرة فيخص منها محل النزاع بدليلنا ... ] ثم قال الشيخ ابن قدامة [وهكذا الحكم في كل ما يقصد به الحرام كبيع السلاح لأهل الحرب أو لقطاع الطريق , أو في الفتنة وبيع الأمة للغناء أو إجارتها كذلك , أو إجارة داره لبيع الخمر فيها أو لتتخذ كنيسة أو بيت نار , وأشباه ذلك فهذا حرام والعقد باطل لما قدمنا. قال ابن عقيل: وقد نص أحمد -رحمه الله- على مسائل نبه بها على ذلك , فقال في القصاب والخباز: إذا علم أن من يشتري منه يدعو عليه من يشرب المسكر لا يبيعه , ومن يخترط الأقداح لا يبيعها ممن يشرب فيها - المسكر - ونهى عن بيع الديباج للرجال ولا بأس ببيعه للنساء وروى عنه لا يبيع الجوز من الصبيان للقمار وعلى قياسه البيض فيكون بيع ذلك كله باطلاً.] المغني 4/207. وما قرره الشيخ ابن قدامة المقدسي يصح أن يقال في كل عمل يؤدي إلى الحرام فعمل الكوافيرة التي تزين النساء فيخرجن متبرجات عمل حرام.
وكذا العمل في إقامة أماكن العبادة لغير المسلمين أو صيانتها محرم لأنه من باب التعاون على الإثم. وكذا العمل في كل شيء يؤدي إلى الحرام فهو محرم فإذا قلنا إن التدخين حرام فيحرم العمل في زراعته وفي حصده وفي نقله وفي صنعه وفي بيعه وفي الدعاية له وهكذا يحرم العمل في كل شيء يساعد في تسويقه ... إلخ.
وأما المال المكتسب من العمل المحرم فيجب التخلص منه وإنفاقه في مصلحة عامة ولا يجوز الانتفاع به لمكتسبه فكل مال حرام لا يجوز للمسلم أن ينتفع به انتفاعاَ شخصياً فلا يجوز أن يصرفه على نفسه ولا على زوجته ولا على أولاده ومن يعولهم لأنه مال حرام بل هو من السحت ومصرف هذا المال الحرام وأمثاله هو إنفاقه على الفقراء والمحتاجين ومصارف الخير كدور الأيتام والمؤسسات الاجتماعية ونحوها
وعلى السائل وزميله أن يتركا عملهما المذكور في السؤال وأن يبحثا عن عمل حلال وليعلما أن أبواب العمل الحلال كثيرة وليذكرا قول الله عز وجل: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) سورة الطلاق الآيتان 2-3. وقال الله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} سورة الطلاق الآية 4
وخلاصة الأمر أن العمل في كل أمر يؤدي إلى الحرام فهو حرام لأن للوسائل أحكام المقاصد.(12/66)
67 - فوائد صندوق التوفير هي الربا المحرم
يقول السائل: إنه يعمل في شركة ويوجد فيها صندوق توفير للموظفين حيث إن الشركة تقتطع نسبة من راتب الموظف وتدفع ضعفها ويوضع المال في صندوق التوفير وقد قامت الشركة بوضع المال في بنك ربوي وأخذت عليه فوائد كما وقامت الشركة بإقراض الموظفين من صندوق التوفير بالفائدة فما حكم الأرباح التي تحققت حيث إن الشركة ستوزعها على الموظفين أفيدونا؟ الجواب: إن ما سماه السائل أرباحاً إنما هو في الحقيقة الربا المحرم بالنصوص القطعية من كتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ولا شك أن الفوائد البنكية هي الربا المحرم والواجب على الموظف في الشركة المذكورة أن يتخلص من هذا المال الحرام فكل مال حرام لا يجوز للمسلم أن ينتفع به انتفاعاَ شخصياً فلا يجوز أن يصرفه على نفسه ولا على زوجته ولا على أولاده ولا على من يعولهم ولا يجوز أن يدفع منه ضريبة ولا نحوها لأنه مال حرام بل هو من السحت ومصرف هذا المال الحرام وأمثاله هو إنفاقه على الفقراء والمحتاجين ومصارف الخير كدور الأيتام والمؤسسات الاجتماعية ونحوها. ولا يجوز ترك هذه الأموال للبنوك بل تؤخذ وتنفق في جهات الخير والبر.
ويجب على الموظف في الشركة المذكورة أن يعرف مقدار المبلغ الذي حسم من راتبه ومقدار المبلغ الذي أضافته الشركة وهذا يكون حلالاً له وأما الربا فيصرفه كما ذكرت آنفاً.
وا يقولن قائلٌ إن الموظف ليس مسئولاً عما قامت به الشركة من تشغيل أموال صندوق التوفير بالربا أو أن الإثم يقع على المسؤول عن الصندوق أو نحو ذلك من الاعتذارات التي تردها قواعد الشريعة الإسلامية فإنه ينبغي أن يعلم أنه لا يجوز للمسلم أن يكون طرفاً في أي عملية ربوية بطريق مباشر أو غير مباشر لأن الربا محرم بنصوص صريحة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فمن ذلك قوله تعالى: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ) سورة البقرة / 275 - 279.
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (اجتنبوا السبع الموبقات – المهلكات – قلنا: وما هي يا رسول الله؟ قال: الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات) رواه مسلم.
وعن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه وقال: هم سواء) رواه مسلم قال الإمام النووي: [قوله: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال: هم سواء) هذا تصريح بتحريم كتابة المبايعة بين المترابين والشهادة عليهما. وفيه: تحريم الإعانة على الباطل. والله أعلم.] شرح النووي على صحيح مسلم 4/207.
وعن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (الربا ثلاثة وسبعون شعبة أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه) رواه الحاكم وصححه
وفي رواية النسائي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (آكل الربا ومؤكله وشاهداه وكاتبه إذا علموا ذلك ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة) وهو حديث صحيح وغير ذلك من النصوص.
وإنني لأستغرب مما يفتي به بعض المنتسبين للعلم الشرعي من إباحة الربا تحت أسماء مختلفة مثل بدل خدمات أو أن هدف المقرض ليس الربا أو أن المشتري فيما يسمى بالتقسيط الميسر اشترى السلعة من التاجر ودفع الثمن المتفق عليه بدون زيادة وإن كان هنالك عقد ربوي بين التاجر والبنك الربوي وأن لا علاقة للمشتري بذلك العقد وإن دفع عن طريق البنك الربوي ونحو ذلك من الترهات فكل ما سبق هو من الربا الحرام وهنا يجب التذكير بالقواعد الآتية:
1. يحرم التعاون على الإثم والعدوان بنص كتاب الله تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) سورة المائدة الآية 2
2. إذا استقر الدين في الذمة فلا تجوز الزيادة عليه لأن ذلك عين الربا.
3. كل زيادة مشروطة على القرض ربا بغض النظر عن اسمها فتغيير الأسماء لا يغير من حقائق المسميات شيئاً فقد صار شائعاً عند كثير من المتعاملين بالربا التلاعب بالألفاظ والعبارات محاولةً منهم لتغيير الحقائق والمسميات بتغيير أسمائها فقط فالربا يسمى فائدة ويسمى رسم خدمات وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن مثل هذا التلاعب من تغيير الناس لأسماء المحرمات كما جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليستحلن طائفة من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها) رواه أحمد والنسائي وابن ماجة وهو حديث صحيح كما قال الشيخ الألباني في غاية المرام ص 24 وفي السلسلة الصحيحة 1/136.
وجاء في رواية أخرى: (إن ناساً من أمتي يشربون الخمر يسمونها بغير اسمها) رواه الحاكم والبيهقي وله شواهد تقويه، وقد صدق الصادق المصدوق فإن الخمور تسمى في زماننا بالمشروبات الروحية.
وروي في الحديث أنه عليه الصلاة والسلام قال: (يأتي على الناس زمان يستحلون الربا باسم البيع) ذكره ابن القيم في إغاثة اللهفان 1/352 وضعفه الشيخ الألباني في غاية المرام ص 25 ثم قال: [ ... معنى الحديث واقع كما هو مشاهد اليوم]
ويجب أن يعلم أن العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني كما قرر ذلك فقهاؤنا.
وخلاصة الأمر أن فوائد صندوق التوفير هي من الربا المحرم ويجب على الموظف أن يتخلص منها بإنفاقها على الفقراء أو في المصالح العامة ولا يجوز صرفها في المساجد ولا يجوز للموظف أو من يعولهم الانتفاع بها.(12/67)
68 - يجوز أن يكون الشريك أجيرا
: يقول السائل: شاركت شخصين في عمل تجاري ولكل واحد منا ثلث رأس المال وأحدنا سيقوم بإدارة الشركة والعمل فيها منفرداً فهل يجوز أن يعطى راتباً شهرياً مقابل عمله مع العلم أننا فد اتفقنا على أن الربح سيوزع أثلاثاً، فما حكم ذلك؟ الجواب: يجوز شرعاً أن يتقاضى أحد الشركاء راتباً مقطوعاً أو نسبةً من الربح مقابل عمله للشركة بالإضافة إلى حصته من الربح مقابل رأس ماله في الشركة فلا مانع شرعاً أن يكون الشخص شريكاً وفي ذات الوقت يكون أجيراً للشركة. فمن المعلوم أنه يجوز للشركاء أن يستأجروا عاملاً ليعمل لهم في الشركة فمن باب أولى أن يستأجروا أحدهم ليعمل للشركة حيث إنه سيكون أحرص على أموال الشركة من العامل الأجنبي عنها ولكن يجب أن يعلم أن عمل أحد الشركاء للشركة يجب أن يكون بعقد أو اتفاق منفصل عن عقد الشراكة. قال الشيخ ابن قدامة المقدسي عند حديثه عن أقسام الشركة: [القسم الرابع: أن يشترك مالان وبدن صاحب أحدهما، فهذا يجمع شركة ومضاربة وهو صحيح، فلو كان بين رجلين ثلاثة آلاف درهم لأحدهما ألف وللآخر ألفان فأذن صاحب الألفين لصاحب الألف أن يتصرف فيها على أن يكون الربح بينهما نصفين صح، ويكون لصاحب الألف ثلث الربح بحق ماله والباقي وهو ثلثا الربح بينهما لصاحب الألفين ثلاثة أرباعه، وللعامل ربعه، وذلك لأنه جعل له نصف الربح فجعلناه ستة أسهم منها ثلاثة للعامل حصة ماله وسهم يستحقه بعمله في مال شريكه وحصة مال شريكه أربعة أسهم للعامل سهم وهو الربع] المغني 5/20.
وقال ابن حزم الظاهري [… فإن عمل أحدهما أكثر من الآخر، أو عمل وحده تطوعاً بغير شرط فذلك جائز، فإن أبى من أن يتطوع بذلك فليس له إلا أجر مثله في مثل ذلك العمل ربح أو خسر، لأنه ليس عليه أن يعمل لغيره] المحلّى 6/415. وقال البهوتي الحنبلي: [وعلى كل من الشركاء تولي ما جرت عادة بتوليه. لحمل إطلاق الإذن على العرف، ومقتضاه تولي مثل هذه الأمور بنفسه، فإن فعل ما عليه توليه بنائب بأجرة فهي عليه لأنه بذلها عوضاً عما عليه، وما جرت عادة بأن يستنيب فيه. فله أن يستأجر من مال الشركة إنساناً حتى شريكه لفعله إذا كان فعله، مما لا يستحق أجرته إلا بعمل، وليس للشريك فعل ما جرت العادة بعدم توليه بنفسه ليأخذ أجرته بلا استئجار صاحبه له، لأنه تبرع بما لا يلزمه فلم يستحق شيئاً] شرح منتهى الإرادات 2/324. ويقول الدكتور وهبة الزحيلي [… ويصح أيضاً عند الحنفية ما عدا زفر أن يتفاضل الشريكان في الربح حالة التساوي في رأس المال بشرط أن يكون العمل عليهما، أو على الذي شرط له زيادة الربح، لأن الربح كما قلنا يستحق إما بالمال، أو بالعمل، أو بالضمان، وزيادة الربح في هذه الحالة كانت بسبب زيادة العمل، لأنه قد يكون أحد الشريكين أحذق وأهدى وأكثر عملاً، وأقوى فيستحق زيادة ربح على حساب شريكه …] الفقه الإسلامي وأدلته 4/842. ويقول الدكتور وهبة الزحيلي أيضاً: [ولا مانع من وجود صفتي الشركة والإجارة في شيء واحد لأن المنع من وجود عقدين أو شرطين في عقد يزول إذا زالت علته أو حكمته وهو عدم إثارة النزاع والخلاف وعدم التنازع جرى عليه العرف والعادة فلم يعد شرطاً مفسداً] الفقه الإسلامي وأدلته 4/842. وخلاصة الأمر أنه لا مانع شرعاً من أن يكون الشريك أجيراً في الشركة براتب مقطوع أو بزيادة نسبته في الربح.(12/68)
69 - حكم التعامل ببطاقات الائتمان
إنه تاجر يتعامل ببطاقات الائتمان التي يحملها الزبائن
في بيع السلع وأحياناً يقوم بصرف عملات للزبائن فيدفع لهم شواكل مثلاً على أن
يدخل في حسابه دولارات بواسطة بطاقة الائتمان فما حكم هذه المعاملة؟
الجواب: إننا نعيش في ظل ظروف عامة فرضت على كثير من الناس أن يتعاملوا مع
البنوك الربوية وكثير من المعاملات التجارية صارت متوقفة على التعامل مع البنوك
الربوية ومع ذلك فإني أنصح بعدم التعامل مع البنوك الربوية إلا في أضيق نطاق
نظراً لخطورة الربا فهو من المحرمات القطعية في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله
عليه وسلم ومن ذلك التعامل بهذه البطاقات فينبغي أن يكون استعمالها في أضيق
نطاق لأن البطاقات التي تصدرها البنوك الربوية تتضمن في الغالب شروطاً ربوية
مثل فرض زيادة ربوية (فائدة) في حال تأخر حامل البطاقة عن التسديد أو كشف
حسابه في البنك المصدر للبطاقة، وكذلك فإن البنوك الربوية تفرض نسبةً مقطوعة
محددة على كلّ عمليّة سحب نقدي يجريها حامل البطاقة وهذا هو الربا المحرم قال
الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَذَرُواْ مَا
بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ
فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ
رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ وَإِن كَانَ ذُو
عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن
كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) سورة البقرة الآيتان 278- 279. وصح في الحديث عَنْ
جَابِر بن عبد الله رضي الله عنهما قَال: (لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَيْهِ وَقَالَ هُمْ
سَوَاءٌ) رواه مسلم.
ومن المعلوم أن موضوع السؤال من المسائل الجديدة التي لم يعرفها الفقه الإسلامي
قديماً وقد وفدت هذه المسألة من ضمن ما وفد على المسلمين من مستلزمات
الرأسمالية التي تقوم على نظام الربا (الفائدة) وقد درست هذه القضية من مجامع
فقهية وحلقات علمية ودراسات فردية ولكن بداية وقبل تفصيل الجواب على السؤال
أذكر أن شيخنا الأستاذ الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان حفظه الله ورعاه يرى أن
تسمية البطاقات التي تصدرها البنوك من أمثال: فيزا وماستر كارد وأميريكان إكس
بريس ببطاقات الائتمان تسمية غير صحيحة وليست معبرة عن حقيقة هذه البطاقات فقد
ذكر في كتابه البطاقات البنكية الإقراضية والسحب المباشر من الرصيد أنه يجب
تصحيح مصطلح بطاقات الائتمان وأن المصطلح الصحيح هو: بطاقات الإقراض والسحب
المباشر من الرصيد ليكون أبلغ في الكشف عن حقيقتها وأقسامها المتداولة، يدركه
المثقف والعامي، التاجر والمستهلك، من يحملها، ومن تقدم له، مصطلح ترسخ معناه
في أذهان الجميع، يعرفون آثاره ومسؤولياته، الحلال منه والحرام، معلومة أحكامه
من الدين بالضرورة، مسلم المبادئ والأحكام، وليس من سبب يدعو لهجره والعدول
عنه] البطاقات البنكية الإقراضية والسحب المباشر من الرصيد ص31.
وقد عرف مجمع الفقه الإسلامي هذه البطاقة بأنها (مستند يعطيه مصدره لشخص طبيعي
أو اعتباري بناءً على عقد بينهما يمكنه من شراء السلع أو الخدمات ممن يعتمد
المستند دون دفع الثمن حالاً لتضمنه التزام المصدر بالدفع ومن أنواع هذا
المستند ما يمكن من سحب نقود من المصارف. ولبطاقات الائتمان صور:
- منها ما يكون السحب أو الدفع بموجبها من حساب حاملها في المصرف وليس من حساب
المصدر فتكون بذلك مغطاة. ومنها ما يكون الدفع من حساب المصدر ثم يعود على
حاملها في مواعيد دورية.
- ومنها ما يفرض فوائد ربوية على مجموع الرصيد غير المدفوع خلال فترة محددة من
تاريخ المطالبة. ومنها ما لا يفرض فوائد.
- وأكثرها يفرض رسماً سنوياً على حاملها ومنها ما لا يفرض فيه المصدر رسماً
سنوياً) مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد السابع الجزء الأول ص717. وقد صدر
قرار عن مجمع الفقه الإسلامي وضح فيه القواعد الأساسية للتعامل مع هذه البطاقات
ونصه: ... بعد إطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع (بطاقات
الائتمان غير المغطاة) وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله من الفقهاء
والاقتصاديين، ورجوعه إلى تعريف بطاقة الائتمان في قراره رقم 63/1/7 الذي
يستفاد منه تعريف بطاقة الائتمان غير المغطاة بأنه: "مستند يعطيه مصدره (البنك
المصدر) لشخص طبيعي أو اعتباري (حامل البطاقة) بناء على عقد بينهما يمكنه من
شراء السلع، أو الخدمات، ممن يعتمد المستند (التاجر) دون دفع الثمن حالاً
لتضمنه التزام المصدر بالدفع، ويكون الدفع من حساب المصدر، ثم يعود على حاملها
في مواعيد دورية، وبعضها يفرض فوائد ربوية على مجموع الرصيد غير المدفوع بعد
فترة محددة من تاريخ المطالبة، وبعضها لا يفرض فوائد.
قرر ما يلي: أولاً: لا يجوز إصدار بطاقة الائتمان غير المغطاة ولا التعامل بها،
إذا كانت مشروطة بزيادة فائدة ربوية، حتى ولو كان طالب البطاقة عازماً على
السداد ضمن فترة السماح المجاني.
ثانياً: يجوز إصدار البطاقة غير المغطاة إذا لم تتضمن شرط زيادة ربوية على أصل
الدين. ويتفرع على ذلك:
أ. جواز أخذ مصدرها من العميل رسوماً مقطوعة عند الإصدار أو التجديد، بصفتها
أجراً فعلياً على قدر الخدمات المقدمة منه.
ب. جواز أخذ البنك المصدر من التاجر عمولة على مشتريات العميل منه، شريطة أن
يكون بيع التاجر بالبطاقة بمثل السعر الذي يبيع به بالنقد.
ثالثاً: السحب النقدي من قبل حامل البطاقة اقتراضاً من مصدرها، ولا حرج فيه
شرعاً إذا لم يترتب عليه زيادة ربوية، ولا يعد من قبيلها الرسوم المقطوعة التي
لا ترتبط بمبلغ القرض أو مدته مقابل هذه الخدمة. وكل زيادة على الخدمات الفعلية
محرمة لأنها من الربا المحرم شرعاً كما نص على ذلك المجمع في قراره رقم 13
(10/2) و 13 (1/3) .
رابعاً: لا يجوز شراء الذهب والفضة وكذا العملات النقدية بالبطاقة غير
المغطاة] انتهى قرار المجمع الفقهي.
إذا تقرر هذا فأعود لقضية استعمال هذه البطاقات في عملية صرف العملات فأقول:
اتفق أهل العلم على أن من شروط عقد الصرف تقابض البدلين من الجانبين في مجلس
العقد قبل افتراقهما. قال ابن المنذر: [أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن
المتصارفين إذا افترقا قبل أن يتقابضا أن الصرف فاسد] . فلذلك يشترط في عملية
بيع عملة بأخرى أن يتم تبادل العملتين في المجلس ولا يجوز تأجيل قبض إحداهما
وإن حصل التأجيل فالعقد باطل ويدل على ذلك حديث الرسول صلى الله عليه وسلم
: (الذهب بالذهب مثلاً بمثل يداً بيد والفضة بالفضة مثلاً بمثل يداً بيد) رواه
مسلم.
وبما أن العملات الورقية تقوم مقام الذهب والفضة كما قاله كثير من علماء العصر
وهو القول الصحيح فإنه يشترط في بيع هذه العملات بغيرها من العملات التقابض في
مجلس العقد ولا يجوز التأجيل وبناء على ما تقدم فإذا كان التاجر يمكنه أخذ
الدولارات بمجرد رجوعه إلى البنك المصدر للبطاقة فيجوز استعمال البطاقات
المذكورة في صرف العملات لأن القيد في الحساب مباشرة يقوم مقام القبض الفعلي
وأما إذا لم يمكنه ذلك فيحرم حينئذ استعمالها.
وخلاصة الأمر أني أنصح بعدم التعامل مع البنوك الربوية بشكل عام وإذا احتاج
الشخص للتعامل معها فيكون ذلك في أضيق نطاق وإذا احتاج للتعامل بالبطاقات فلا
بد من الانتباه لأمر هام وهو أن يكون حساب الشخص غير مكشوف لدى البنك.(12/69)
70 - لا يجوز ضمان رأس المال في عقد المضاربة
يقول السائل: إنه اتفق مع أحد التجار ليدخله شريكاً في تجارته لمدة ثلاث سنوات على أن يدفع للتاجر مبلغ عشرة آلاف دينار وشرط عليه أن يعطيه مائة دينار شهرياً وأن يرد له العشرة آلاف دينار عند انتهاء المدة المتفق عليها فما حكم هذه المعاملة؟ الجواب: المعاملة المذكورة في السؤال باطلة شرعاً من وجهين: الأول منهما أنها في حقيقتها قرض ربوي فالتاجر المذكور اقترض من السائل عشرة آلاف دينار على أن يدفع له ربا (فائدة) على المبلغ وهي مئة دينار شهرياً لأن العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني كما قرر ذلك فقهاؤنا
قال العلامة ابن القيم: [قواعد الفقه وأصوله تشهد أن المرعي في العقود حقائقها ومعانيها لا صورها وألفاظها] زاد المعاد 5/200. وقال في موضع آخر: [والتحقيق أنه لا فرق بين لفظ ولفظ فالاعتبار في العقود بحقائقها ومقاصدها لا بمجرد ألفاظها] زاد المعاد 5/813. فكون المتعاقدين قد سميا العقد بينهما شركة فهذا لا يغير من حقيقة كونها ربا شيئاً بناء على القاعدة السابقة. والشركة المقصودة هي شركة المضاربة وعقد المضاربة المعروف عند الفقهاء هو شركة تقوم على العمل من العامل والمال من صاحب المال ويجب أن يكون الربح بينهما بنسبة شائعة كالربع أو الثلث مثلاً أو نسبة مئوية مثل 25% أو حسبما يتفقان عليه والخسارة تون على صاحب المال والعامل يخسر جهده وعمله وتبطل المضاربة إذا اشترط لأحدهما مبلغاً مقطوعاً
قال الشيخ ابن قدامة المقدسي شارحاً قول الخرقي [ولا يجوز أن يجعل لأحد من الشركاء فضل دراهم] قال ابن قدامة [وجملته أنه متى جعل نصيب أحد الشركاء دراهم معلومة , أو جعل مع نصيبه دراهم مثل أن يشترط لنفسه جزءً وعشرة دراهم بطلت الشركة. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على إبطال القراض إذا شرط أحدهما أو كلاهما لنفسه دراهم معلومة وممن حفظنا ذلك عنه مالك والأوزاعي والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي ... وإنما لم يصح ذلك لمعنيين: أحدهما أنه إذا شرط دراهم معلومة احتمل أن لا يربح غيرها , فيحصل على جميع الربح واحتمل أن لا يربحها فيأخذ من رأس المال جزءً وقد يربح كثيرا ً فيستضر من شرطت له الدراهم والثاني أن حصة العامل ينبغي أن تكون معلومة بالأجزاء لما تعذر كونها معلومة بالقدر , فإذا جهلت الأجزاء فسدت كما لو جهل القدر فيما يشترط أن يكون معلوماً به ولأن العامل متى شرط لنفسه دراهم معلومة , ربما توانى في طلب الربح لعدم فائدته فيه وحصول نفعه لغيره بخلاف ما إذا كان له جزء من الربح] المغني 5/28.
ومن المعلوم أن الربا من كبائر الذنوب وتحريمه قطعي في كتاب الله سبحانه وتعالى وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم قال تعالى: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) سورة البقرة الآيتان (275 -276) . وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ) سورة البقر الآيتان (278-279) . وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لعن الله آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه وقال هم سواء) رواه البخاري ومسلم.
والوجه الثاني لبطلان المعاملة المذكورة في السؤال هو أن التاجر قد ضمن رأس المال وهذا الشرط لا يجوز شرعاً لأن يد المضارب يد أمانة وليست يد ضمان ولا يضمن المضارب إلا إذا فرَّط أو قصَّر أو أخلَّ بما شرط عليه صاحب المال والمضاربة مشاركة بالمال من جهة وبالعمل من جهة أخرى فإذا حصلت خسارة فهي على رب المال ويخسر العامل جهده وتعبه فشرط ضمان التاجر لرأس المال ينافي مقتضى العقد فلا يجوز، قال الشيخ ابن قدامة المقدسي [إذا تعدى المضارب وفعل ما ليس له فعله أو اشترى شيئاً نُهي عن شرائه فهو ضامن للمال في قول أكثر أهل العلم روي ذلك عن أبي هريرة وحكيم بن حزام وأبي قلابة ونافع وإياس والشعبي والنخعي والحكم وحماد ومالك والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي ... ولنا أنه متصرف في مال غيره بغير إذنه فلزمه الضمان كالغاصب..] المغني 5/39.
وقال الإمام الماوردي [ ... فأما تعدي العامل في مال القراض من غير الوجه الذي ذكرنا فعلى ضربين:
أحدهما: أن يكون تعديه فيه لم يؤمر به مثل إذنه بالتجارة في الأقوات فيتجر في الحيوان، فهذا تعد يضمن به المال، ويبطل معه القراض، فيكون على ما مضى في مقارضة غيره بالمال.
والضرب الثاني: أن يكون تعديه لتغريره بالمال، مثل أن يسافر به ولم يؤمر بالسفر أو يركب به بحراً ولم يؤمر بركوب البحر، فإن كان قد فعل ذلك مع بقاء عين المال بيده ضمنه، وبطل القراض بتعديه، لأنه صار مع تعديه في عين المال غاصباً] الحاوي الكبير 7/340-341. وقال ابن رشد المالكي عند حديثه عن الشروط الفاسدة في القراض (المضاربة) [ومنها إذا شرط رب المال الضمان على العامل، فقال مالك: لا يجوز القراض وهو فاسد، وبه قال الشافعي ... وعمدة مالك أن اشتراط الضمان زيادة غرر في القراض ففسد ... ] بداية المجتهد ونهاية المقتصد 2/199.
وأخيراً أنبه على أنه يجوز توقيت المضاربة بمدة معينة على الراجح من أقوال العلماء وهو قول الحنفية والحنابلة قال الشيخ ابن قدامة المقدسي [ويصح تأقيت المضاربة مثل أن يقول: ضاربتك على هذه الدراهم سنة فإذا انقضت فلا تبع ولا تشتر قال مهنا: سألت أحمد عن رجل أعطى رجلاً ألفا مضاربة شهراً قال: إذا مضى شهر يكون قرضاً قال: لا بأس به ... ] المغني 5/50، وانظر الاختيار لتعليل المختار 3/21.
وخلاصة الأمر أنه لا يجوز اشتراط مبلغ مقطوع في المضاربة لأنها تتحول حينئذ إلى ربا محرم وكذلك لا يجوز أن يضمن العامل رأس المال في المضاربة إلا إذا فرَّط أو قصَّر أو تعدى.(12/70)
71 - الأصل في المعاملات الإباحة
يقول السائل: هل قاعدة الأصل في المعاملات الإباحة قاعدة صحيحة، أرجو توضيح ذلك؟ الجواب: نعم، لقد قرر العلماء أن الأصل في باب المعاملات الإباحة والمراد بكلمة الأصل أي القاعدة المطردة المستمرة التي لا تتخلف إلا نادراً والمعاملات جمع معاملة وتكون بين المتعاقدين كالبائع والمشتري في باب البيوع والمستأجر والمؤجر في الإجارة والشركاء في باب الشركة ونحو ذلك والمراد بالإباحة الجواز أي أن هذه العقود التي تجري بين المتعاقدين القاعدة المستمرة فيها أنها مباحة وجائزة ولا يصح القول بتحريم معاملة ما إلا بدليل صحيح ناقل من الجواز إلى التحريم أو الكراهة وأما إذا لم يرد في الشريعة دليل صحيح على منع المعاملة فهي باقية على الأصل وهو الجواز وبناءً على ذلك لا يجوز منع أي معاملة إلا بنص صريح من الشارع الحكيم أو قياس صحيح عليه وهذا هو القول الصحيح الذي تؤيده الأدلة من كتاب الله وسنة رسوله ? والآثار الواردة عن سلف الأمة فمما يدل على ذلك قول الله تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا) سورة البقرة الآية 29. وقوله تعالى: (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً) سورة لقمان الآية 20. وقد ورد في الحديث عن أبي الدرداء ? أن النبي ? قال: (ما أحل الله في كتابه فهو حلال وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو عفو فاقبلوا من الله عافيته فإن الله لم يكن لينسى شيئاً وتلا قوله تعالى: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) سورة مريم الآية 64) رواه الحاكم وقال صحيح الإسناد ووافقه الذهبي وقال العلامة الألباني حديث حسن، انظر غاية المرام ص14.
ومما يدل على ذلك أيضاً قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} سورة البقرة الآية 275. فهذه الآية تدل على حل كل أنواع البيع ولا يستثنى من ذلك إلا ما أخرجه الدليل من هذا العموم. قال الإمام الشافعي: [وذكر الله البيع في غير موقع من كتابه بما يدل على إباحته فاحتمل إحلال الله عز وجل البيع معنيين أحدهما أن يكون أحل كل بيع تبايعه المتبايعان جائزي الأمر فيما تبايعاه عن تراض منهما وهذا أظهر معانيه] الأم 3/3. ثم قال الإمام الشافعي: [فأصل البيوع كلها مباح إذا كانت برضا المتبايعين الجائزي الأمر فيما تبايعا إلا ما نهى عنه رسول الله ? منها وما كان في معنى ما نهى عنه رسول الله ? محرم إذ أنه داخل في المعنى المنهي عنه وما فارق ذلك أبحناه بما وصفنا من إباحة البيع في كتاب الله تعالى] الأم 3/3.
وبين الإمام القرطبي في تفسيره لهذه الآية أن قول الله تعالى: [ {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} أن هذا من عموم القرآن الكريم والألف واللام في قوله البيع للجنس لا للعهد فهي تدل على العموم ويخص هذا العموم بما قام الدليل على تخصيصه فالآية تدل على إباحة البيوع في الجملة والتفصيل ما لم يخص بدليل] انظر تفسير القرطبي 3/356-357. ويدل على ذلك قوله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) سورة المائدة الآية 1. فالآية الكريمة أوجبت الوفاء بالعقود من غير تعيين قال شيخ الإسلام ابن تيمية: [والأصل في هذا أنه لا يحرم على الناس من المعاملات التي يحتاجون إليها إلا ما دل الكتاب والسنة على تحريمه كما لا يشرع لهم من العبادات التي يتقربون بها إلى الله إلا ما دل الكتاب والسنة على شرعه إذ الدين ما شرعه الله والحرام ما حرمه الله بخلاف الذين ذمهم الله حيث حرموا من دين الله ما لم يحرمه الله وأشركوا به ما لم ينزل به سلطاناً وشرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله، اللهم وفقنا لأن نجعل الحلال ما حللته والحرام ما حرمته والدين ما شرعته] مجموع فتاوى شيخ الإسلام 28/386.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية أيضاً: [ولهذا كان أحمد وغيره من فقهاء أهل الحديث يقولون: إن الأصل في العبادات التوقيف، فلا يشرع منها إلا ما شرعه الله تعالى، وإلا دخلنا في معني قوله: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ} سورة الشوري: الآية 21 والعادات الأصل فيها العفو، فلا يحظر منها إلا ما حرمه، وإلا دخلنا في معني قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلًا} سورة يونس الآية 59 ولهذا ذم الله المشركين الذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله، وحرموا ما لم يحرمه في سورة الأنعام من قوله تعالى: {وَجَعَلُواْ لِلّهِ مِمِّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُواْ هَذَا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لشركائنا فَمَا كَانَ لشركائهم فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللهِ وَمَا كَانَ لِلّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شركائهم سَاء مَا يَحْكُمُونَ وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاء اللهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ وَقَالُواْ هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَن نّشَاء بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لاَّ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا افْتِرَاء عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} سورة الأنعام الآيتان 136ـ 138، فذكر ما ابتدعوه من العبادات، ومن التحريمات. وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار ? عن النبي ? قال: (قال الله تعالى: إني خلقت عبادي حُنَفاء، فاجتالتهم الشياطين، وحرَّمَتْ عليهم ما أحللتُ لهم، وأمَرَتْهم أن يشركوا بي ما لم أنزِل به سلطانا) . وهذه قاعدة عظيمة نافعة. وإذا كان كذلك، فنقول: البيع والهبة والإجارة وغيرها هي من العادات التي يحتاج الناس إليها في معاشهم؛ كالأكل والشرب واللباس؛ فإن الشريعة قد جاءت في هذه العادات بالآداب الحسنة، فحرمت منها ما فيه فساد، وأوجبت ما لابد منه، وكرَّهت ما لا ينبغي، واستحبت ما فيه مصلحة راجحة في أنواع هذه العادات ومقاديرها وصفاتها. وإذا كان كذلك، فالناس يتبايعون ويستأجرون كيف شاءوا، ما لم تحرم الشريعة. كما يأكلون ويشربون كيف شاءوا ما لم تحرم الشريعة. وإن كان بعض ذلك قد يستحب، أو يكون مكروهًا، وما لم تحد الشريعة في ذلك حدًا، فيبقون فيه على الإطلاق الأصلي] مجموع فتاوى شيخ الإسلام 29/17-18.
وقال العلامة ابن القيم: [والأصل في العقود والمعاملات الصحة حتى يقوم دليل على البطلان والتحريم. والفرق بينهما أن الله سبحانه لا يعبد إلا بما شرعه على ألسنة رسله، فإن العبادة حقه على عباده، وحقه الذي أحقه هو ورضي به وشرعه وأما العقود والشروط والمعاملات فهي عفو حتى يحرمها، ولهذا نعى الله سبحانه على المشركين مخالفة هذين الأصلين. وهو تحريم ما لم يحرمه، والتقرب إليه بما لم يشرعه، وهو سبحانه لو سكت عن إباحة ذلك وتحريمه لكان ذلك عفواً لا يجوز الحكم بتحريمه وإبطاله فإن الحلال ما أحله الله، والحرام ما حرمه، وما سكت عنه فهو عفو، فكل شرط وعقد ومعاملة سكت عنها فإنه لا يجوز القول بتحريمها فإنه سكت عنها رحمة منه من غير نسيان وإهمال، فكيف وقد صرحت النصوص بأنها على الإباحة فيما عدا ما حرمه؟ وقد أمر الله تعالى بالوفاء بالعقود والعهود كلها، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} المائدة الآية1. وقال: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ} سورة الإسراء الآية 34. وقال: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} سورة المعارج الآية 32. وقال تعالى {والموفون بعهدهم إذا عاهدوا} سورة البقرة الآية 177 وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} سورة الصف الآيات 2-3. وقال {بل من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين} سورة آل عمران الآية 76 وقال: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} الأنفال الآية 58. وهذا كثير في القرآن] .
ثم ذكر ابن القيم عدداً من الأحاديث التي تدل على صحة ما قاله. إعلام الموقعين عن رب العالمين 3/107-112.
وقال الشيخ السعيدان مستدلاً على صحة القاعدة السابقة [ ... قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} سورة النساء الآية 29، قال المفسرون: ووجه الشاهد منه: أن الله جل وعلا حرم علينا تعاطي الأسباب المحرمة في المكاسب وأباح لنا المتاجر المشروعة التي تكون عن تراضٍ بين البائع والمشتري فكأنه قال: افعلوها وتسببوا بها في تحصيل الأموال، وأطلق هذه التجارات ولم يقيدها بتجارة دون تجارة، وقد تقرر في الأصول (أن المطلق يجب إبقاؤه على إطلاقه حتى يرد المقيِّد) فهذا الدليل فيه جواز جميع أنواع التجارات، فمن حرم تجارةً وأخرجها عن هذا الإطلاق فعليه الدليل، فقولنا في القاعدة: (الأصل في المعاملات الحل والإباحة) هو قوله تعالى: ? إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ ً? (النساء: 29) ، وقولنا (إلا بدليل) هو قوله تعالى: ? لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ ? (النساء: 29) ، فهذا الدليل نص في المطلوب أيضاً والله أعلم
ومن الأدلة أيضاً: أن الصحابة على عهده ? لا يزالون يتبايعون بسائر أنواع المعاملات من غير سؤال عن حلالها وحرامها، مما يدل على أن الأصل المتقرر عندهم هو الحل والإباحة، وأقرهم النبي ? على ذلك، ولم يثبت عنه أنه أنكر عليهم ذلك إلا أنواعاً من المعاملات ثبت تحريمها لما فيها من الغرر أو الربا أو المخادعة، لكن لم يقل لهم: " لا تتعاملوا إلا بمعاملة ثبت حلها " مما يدل على أن الأصل الحل والإباحة، ولا أقول: الصحابة فقط! بل الناس جميعاً من زمانهم إلى زماننا هذا يتعاملون في أسواقهم بشتى أنواع المعاملات من غير نكير مما يدل على إجماعهم على أن الأصل في هذه المعاملات الحل والإباحة. ومن الأدلة أيضاً: أن المستقرئ لأدلة الشريعة في سائر أبواب كتاب البيع يجد أن الأدلة حرصت على بيان العقود المحرمة فقط، فغالب الأدلة الموجودة إنما هي في بيان ذلك، وهذا يدلنا على أن الأصل هو الحل والإباحة وإنما المراد بيان ما هو محرم فقط، كذلك باب العبادات فالأدلة فيه غالباً تبين ما يجوز منها فقط، أما ما لا يجوز فهو نزر قليل مما يدل على أن الأصل فيه المنع، فالشريعة تحرص على بيان المحرم منه، وباب المعاملات غالب الأدلة فيه إنما هي في بيان المعاملات المحرمة فدل ذلك على أن الأصل فيه الجواز والحل، والله أعلم] . قواعد البيوع وفرائد الفروع, وغير ذلك من الأدلة التي لا يتسع المقام لتفصيلها.
وخلاصة الأمر أن الأصل في باب المعاملات الإباحة إلا ما أخرجه الدليل عن ذلك.(12/71)
72 - التعويضات المالية
يقول السائل: ما قولكم فيما انتشر بين الناس من أن أخذ العوض حرام شرعاً أفيدونا؟ الجواب: إن مبدأ التعويض عن الضرر مشروع في الفقه الإسلامي وقد فصل العلماء الأسباب الشرعية الموجبة للتعويض المالي ولا يتسع المقام لتفصيلها، وقد قامت على أخذ التعويض المالي أدلة كثيرة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ووردت آثار عن الصحابة والتابعين وعمل بهذا المبدأ فقهاء الأمة فمن ذلك قوله تعالى: (وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ) سورة النساء الآية 92. فقد قرر الله جل جلاله مبدأ التعويض المالي عن قتل النفس المعصومة خطأً وألحق الفقهاء بذلك الدية في القتل العمد وشبه العمد لما ثبت عندهم من الأدلة في ذلك.
وعن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن كتاباً فيه الفرائض والسنن والديات وبعث به مع عمرو بن حزم فقرئت على أهل اليمن هذه نسختها من محمد النبي صلى الله عليه وسلم إلى شرحبيل بن عبد كلال ونعيم بن عبد كلال والحارث بن عبد كلال قيل ذي رعين ومعافر وهمدان أما بعد وكان في كتابه أن من اعتبط مؤمناً قتلاً عن بينة فإنه قود إلا أن يرضى أولياء المقتول وأن في النفس الدية مائة من الإبل وفي الأنف إذا أوعب جدعه الدية وفي اللسان الدية وفي الشفتين الدية وفي البيضتين الدية وفي الذكر الدية وفي الصلب الدية وفي العينين الدية وفي الرِجل الواحدة نصف الدية وفي المأمومة ثلث الدية وفي الجائفة ثلث الدية وفي المنقلة خمس عشرة من الإبل وفي كل أصبع من أصابع اليد والرجل عشر من الإبل وفي السن خمس من الإبل وفي الموضحة خمس من الإبل وأن الرجل يقتل بالمرأة وعلى أهل الذهب ألف دينار) رواه النسائي والدارمي وغيرهما وهو حديث صحيح. وورد في الحديث عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ألا إن قتيل الخطأ شبه العمد قتيل السوط أو العصا فيه مئة من الإبل …) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة وصححه ابن حبان وابن القطان وغيرها. وكذلك ثبت في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها. فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن دية جنينها عبد أو وليده وقضى بدية المرأة على عاقلتها) رواه البخاري ومسلم.
وكذلك ثبت التعويض المالي في الاعتداء على الإنسان فما دون النفس وهو الاعتداء على الأعضاء كقطع اليد أو الرجل وهذا يسمى الأرش عند الفقهاء وقد ثبت ذلك في كتاب عمرو بن حزم الذي سبقت الإشارة إليه.
ومن النصوص الدالة على جواز أخذ التعويض المالي قوله تعالى: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) سورة البقرة الآية 194. وقال تعالى: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ) سورة النحل الآية 126. ومما يدل على مشروعية التعويض بالمال قصة داود وسليمان عليهما السلام في الغنم التي نفشت في الحرث قال تعالى: (وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّاءَاتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا) سورة الأنبياء الآيات 78-79. قال الشوكاني: [فإن قلت فما حكم هذه الحادثة التي حكم فيها داود وسليمان في هذه الشريعة المحمدية والملة الإسلامية قلت قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث البراء أنه شرع لأمته أن على أهل الماشية حفظها بالليل وعلى أصحاب الحوائط حفظها بالنهار وأن ما أفسدت المواشي بالليل مضمون على أهلها وهذا الضمان هو مقدار الذاهب عيناً أو قيمةً وقد ذهب جمهور العلماء إلى العمل بما تضمنه هذا الحديث] تفسير فتح القدير 3/ 418.
ومما يدل على ذلك أيضاً ما ورد في الحديث عن حرام بن محيصة (أن ناقة للبراء دخلت حائطاً فأفسدت فيه فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن على أهل الحوائط حفظها بالنهار وأن ما أفسدت المواشي بالليل ضامن على أهلها) رواه أحمد ومالك. وفي رواية أخرى (أن ناقة للبراء بن عازب دخلت حائط رجل فأفسدته عليهم فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل الأموال حفظها بالنهار وعلى أهل المواشي حفظها بالليل) رواه أبو داود وابن ماجة وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود 2/681. وقال الشافعي عن الحديث أخذنا به لثبوته واتصاله ومعرفة رجاله، التلخيص الحبير 4/86 والحائط هو البستان إذا كان عليه جدار. عون المعبود 9/350 وحديث البراء يعتبر أصلاً في تضمين أصحاب الحيوانات لما أتلفته حيواناتهم ليلاً لقوله صلى الله عليه وسلم: (وأن ما أفسدت المواشي بالليل ضامن على أهلها) . قال الحافظ ابن عبد البر: [ضامن هنا بمعنى مضمون] الاستذكار 22/250. ومعنى ذلك أنه يلزمهم تعويض أصحاب الزروع والبساتين عما أتلفته حيواناتهم.
ومما يدل على جواز أخذ التعويض المالي أيضاً ما ورد في الحديث عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عند بعض نسائه فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين مع خادم بقصعة فيها طعام فضربت بيدها فكسرت القصعة فضمها وجعل فيها الطعام وقال كلوا وحبس الرسول صلى الله عليه وسلم القصعة حتى فرغوا فدفع القصعة الصحيحة وحبس المكسورة) رواه البخاري وفي رواية أخرى عن أنس: (قال أهدت بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إليه طعاماً في قصعة فضربت عائشة القصعة بيدها فألقت ما فيها فقال النبي صلى الله عليه وسلم طعامٌ بطعامٍ وإناءٌ بإناءٍ) رواه الترمذي وصححه. قال الشوكاني: [قوله (إناءٌ بإناءٍ) فيه دليل على أن القيمي يضمن بمثله ولا يضمن بالقيمة إلا عند عدم المثل ويؤيده ما في رواية البخاري المتقدمة بلفظ ودفع القصعة الصحيحة للرسول وبه احتج الشافعي والكوفيون وقال مالك إن القيمي يضمن بقيمته مطلقا وفي رواية عنه كالمذهب الأول0 وفي رواية عنه أخرى ما صنعه الآدمي فالمثل وأما الحيوان فالقيمة وعنه أيضا ما كان مكيلاً أو موزوناً فالقيمة وإلا فالمثل قال في الفتح وهو المشهور عندهم وقد ذهب إلى ما قاله مالك من ضمان القيمي بقيمته مطلقاً جماعة من أهل العلم منهم الهادوية ولا خلاف في أن المثلي يضمن بمثله] نيل الأوطار 6/71.
وروى عبد الرزاق بسنده عن الحسن قال أرسل عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى امرأة مغيبة - أي زوجها غائب - كان يُدخل عليها فأنكر ذلك فأرسل إليها فقيل لها: أجيبي عمر فقالت: يا ويلها ما لها ولعمر! قال: فبينا هي في الطريق فزعت فضربها الطلق فدخلت داراً فألقت ولدها فصاح الصبي صيحتين ثم مات فاستشار عمر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فأشار عليه بعضهم أن ليس عليك شيء إنما أنت والٍ ومؤدب، قال: وصمت علي فأقبل عليه، فقال: ما تقول؟ قال: إن كانوا قالوا برأيهم أخطأ رأيهم وإن كانوا قالوا في هواك فلم ينصحوا لك أرى أن ديته عليك فإنك أنت أفزعتها وألقت ولدها في سببك قال: فأمر علياً أن يقسم عقله – أي ديته - على قريش، يعني يأخذ عقله من قريش لأنه خطأ) .
وروي في الأثر أن عمر رضي الله عنه قضى في رجل نخس دابة عليها راكب فصدمت آخر فقتلته أنه على الناخس لا على الراكب. فقه عمر 2/85.
وخلاصة الأمر أنه يجوز شرعاً أخذ التعويض المالي إذا كان للتعويض سبب مشروع كما هو الحال في الدية والتعويض عن حوادث الاعتداء على الممتلكات ونحو ذلك وأما من اختار العفو فله الأجر والثواب إن كانت نيته في العفو لله تعالى لقوله جل جلاله {وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين} سورة الشورى الآية 40. ولقوله تعالى {وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم} سورة التغابن الآية 14.(12/72)
73 - الغش
يقول السائل: ما قولكم فيما يفعله بعض اللحامين (الجزارين) من بيعهم اللحوم المثلجة المستوردة على أنها لحوم طازجة حيث إنهم يأتون باللحوم المجمدة ثم يطرونها ويبيعونها للناس على أنها لحوم بلدية طازجة وبأسعار اللحم البلدي مع أن الفرق كبير في السعر والجودة بين اللحم المجمد المستورد وبين اللحم البلدي الطازج، أرجو بيان الحكم الشرعي في ذلك الجواب: إن من قواعد البيع والشراء في الشريعة الإسلامية تحريم الغش بكل صوره وأشكاله وقد وردت أدلة كثيرة تدل على تحريم الغش منها ما ثبت في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم: (مرََّ على صُبرة طعام - كومة - فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللاً فقال: ما هذا يا صاحب الطعام؟ قال: أصابته السماء يا رسول الله، أي المطر. قال: أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس، من غشنا فليس مني) رواه البخاري ومسلم. وفي رواية أخرى عند مسلم: (من غشنا فليس منا) . وفي رواية أخرى للحديث السابق عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السوق فرأى طعاماً مصبراً فأدخل يده فأخرج طعاماً رطباً قد أصابته السماء فقال لصاحبه: ما حملك على هذا؟ قال: والذي بعثك بالحق إنه لطعام واحد قال: أفلا عزلت الرطب على حدته واليابس على حدته فيبتاعون ما يعرفون، من غشنا فليس منا) رواه الطبراني في الأوسط بإسناد جيد وقال الشيخ الألباني حسن لغيره. صحيح الترغيب والترهيب 2/334-335. وجاء في حديث آخر عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من حمل السلاح علينا فليس منا ومن غشنا فليس منا) رواه مسلم وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق (ليس منا) زجرٌ شديد عن الغش، ورادعٌ من الوقوع في مستنقعه الآسن..قال صاحب عون المعبود [قال الخطابي: معناه ليس على سيرتنا ومذهبنا, يريد أن من غش أخاه وترك مناصحته فإنه قد ترك اتباعي والتمسك بسنتي ... وهذا كما يقول الرجل لصاحبه أنا منك وإليك, يريد بذلك المتابعة والموافقة, ويشهد لذلك قوله تعالى: {فمن تبعني فإنه مني , ومن عصاني فإنك غفور رحيم} ] . عون المعبود شرح سنن أبي داود 9/231. وجاء في الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (المسلم أخو المسلم ولا يحل لمسلم إذا باع من أخيه بيعاً فيه عيب أن لا يبينه) رواه أحمد وابن ماجة والحاكم وصححه وقال الشيخ الألباني: صحيح. إرواء الغليل 5/165. وعن أبي سباع قال: [اشتريت ناقة من دار واثلة بن الأسفع رضي الله عنه فلما خرجت بها أدركن رجل فقال: اشتريت؟ قلت: نعم. قال: وبين لك ما فيها. قلت: وما فيها؟ إنها لسمينة ظاهرة الصحة. قال: أردت بها سفراً أو أردت بها لحماً؟ قلت: أردت بها الحج. قال: ارتجعها. فقال صاحبها: ما أردت إلى هذا أصلحك الله تفسد عليَّ. قال: إني سمعت رسول صلى الله عليه وسلم يقول: لا يحل لأحد أن يبيع شيئاً إلا بيّن ما فيه ولا يحل لمن علم ذلك إلا بينه) رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
وهذه الأدلة ظاهرة الدلالة على تحريم الغش باعتباره وسيلة لأكل أموال الناس بالباطل إذ أن حقيقة الغش هي إخفاء وكتمان ما في السلعة من نقص أو عيب. يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} سورة النساء الآية 29. والغش ينافي عصمة أموال المسلمين التي جاءت بها الشريعة الإسلامية كما جاء في الحديث الشريف من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس) رواه أحمد والبيهقي وابن حبان وغيرهم وهو حديث صحيح كما قال الشيخ الألباني في إرواء الغليل 5/279. والغش بمقتضى الأحاديث السابقة يعتبر من كبائر الذنوب. قال الشيخ ابن حجر الهيتمي المكي: [تنبيه: عدُّ هذا - الغش - كبيرة هو ظاهر بعض ما في هذه الأحاديث من نفي الإسلام عنه مع كونه لم يزل في مقت الله أو كون الملائكة تلعنه ... وضابط الغش المحرم أن يعلم ذو السلعة من نحو بائع أو مشتر فيها شيئاً لو اطلع عليه مريد أخذها ما أخذها بذلك المقابل فيجب عليه أن يعلمه به ليدخل في أخذه على بصيرة، ويؤخذ من حديث واثلة وغيره ما صرح به أصحابنا أنه يجب أيضاً على أجنبي علم بالسلعة عيباً أن يخبر به مريد أخذها وإن لم يسأله عنها كما يجب عليه إذا رأى إنساناً يخطب امرأة ويعلم بها أو به عيباً أو رأى إنساناً يريد أن يخالط آخر لمعاملة أو صداقة أو قراءة ... وعلم بأحدهما عيباً أن يخبر به وإن لم يستشر به كل ذلك أداء للنصيحة المتأكد وجوبها لخاصة المسلمين وعامتهم] الزواجر عن اقتراف الكبائر 1/543. وقال الشيخ ابن حجر الهيتمي المكي أيضاً: [ونحن لا نحرم التجارة ولا البيع والشراء فقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يتبايعون ويتجرون في البزر وغيره من المتاجر، وكذلك العلماء والصلحاء بعدهم ما زالوا يتجرون ولكن على القانون الشرعي والحال المرضي الذي أشار الله تعالى إليه بقوله عز قائلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} سورة النساء الآية 29. فبين الله أن التجارة لا تحمد ولا تحل إلا إن صدرت عن التراضي من الجانبين والتراضي إنما يحصل حيث لم يكن هناك غش ولا تدليس، وأما حيث كان هناك غش وتدليس بحيث أخذ أكثر مال الشخص وهو لا يشعر بفعل تلك الحيلة الباطلة معه المبنية على الغش ومخادعة الله ورسوله فذلك حرام شديد التحريم موجب لمقت الله ومقت رسوله وفاعله داخل تحت الأحاديث السابقة والآتية، فعلى من أراد رضا الله ورسوله وسلامة دينه ودنياه ومروءته وعرضه وأخراه أن يتحرى لدينه وأن لا يبيع شيئاً من تلك البيوع المبنية على الغش والخديعة] الزواجر عن اقتراف الكبائر 1/546. وقال الشيخ ابن حجر الهيتمي المكي أيضاً: [كله حرام شديد التحريم موجب لصاحبه أنه فاسق غشاش خائن يأكل أموال الناس بالباطل ويخادع الله ورسوله وما يخادع إلا نفسه لأن عقاب ذلك ليس إلا عليه، وكثرة ذلك تدل على فساد الزمان وقرب الساعة، وفساد الأموال والمعاملات ونزع البركات من المتاجر والبياعات والزرعات بل ومن الأراضي المزروعات، وتأمل قوله صلى الله عليه وسلم: (ليس القحط أن لا تمطروا، وإنما القحط أن تمطروا، ولا يبارك لكم فيه) أي بواسطة تلك القبائح والعظيمات التي أنتم عليها في تجاراتكم ومعاملاتكم، ولهذه القبائح التي ارتكبها التجار والمتسببون وأرباب الحرف والصنائع سلط الله عليهم الظلمة فأخذوا أموالهم وهتكوا حريمهم بل وسلط عليهم الكفار فأسروهم واستعبدوهم وأذاقوهم العذاب والهوان ألواناً، وكثرة تسلط الكفار على المسلمين بالأسر والنهب وأخذ الأموال والحريم، إنما حدث في هذه الأزمنة المتأخرة لما أن أحدث التجار وغيرهم قبائح ذلك الغش الكثيرة المتنوعة وعظائم تلك الجنايات والمخادعات والتخيلات الباطلة على أخذ أموال الناس بأي طريق قدروا عليها لا يراقبون الله المطلع عليهم، ولا يخشون سطوة عقابه ومقته مع أنه تعالى عليهم بالمرصاد {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} سورة غافر الآية 19. {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} سورة طه الآية 7. {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} سورة الملك الآية 14. ولو تأمل الغشاش الخائن الآكل أموال الناس بالباطل ما جاء في إثم ذلك في القرآن والسنة لربما انزجر عن ذلك أو عن بعضه، ولو لم يكن من عقابه إلا قوله صلى الله عليه وسلم: (إن العبد ليقذف اللقمة من حرام في جوفه ما يتقبل منه عمل أربعين يوماً، وأيما عبد نبت لحمه من حرام فالنار أولى به) وقوله صلى الله عليه وسلم: (إنه لا دين لمن لا أمانة له) .] الزواجر عن اقتراف الكبائر 1/547.
وقد ذكر بعض أهل العلم مضار الغش وهي
1. الغش طريق موصل إلى النار. 2. الغش دليل على دناءة النفس وخبثها، فلا يفعله إلا كل دنيء نفسٍ هانت عليه نفسه فأوردها مورد الهلاك والعطب. 3. الغش يبعد عن الله وعن الناس. 4. الغش طريق لحرمان إجابة الدعاء. 5. الغش طريق لحرمان البركة في المال والعمر. 6. الغش دليل على نقص الإيمان.
وخلاصة الأمر أن ما يقوم به اللحامون المذكورون في السؤال من بيع اللحوم المجمدة على أنها لحوم طازجة حرام قطعاً وأنه من الغش وهو كبيرة من كبائر الذنوب والمال الذي يأخذونه مال حرام وكسب خبيث والله سبحانه وتعالى لا يبارك فيه والواجب عليهم أن يتوبوا من هذه المعصية الكبيرة وأن يصدقوا في تعاملهم مع الناس فإن الله سبحانه وتعالى لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.(12/73)
74 - الربا
يقول السائل: اشترى رجل كيس أرز من تاجر بدون الاتفاق على تسمية ثمنه على أن يدفع المشتري الثمن مؤجلاً وحسب سعر السوق وقت تسديد الثمن. فما حكم ذلك؟ الجواب: لا يصح البيع بدون ذكر الثمن عند العقد لأن ذلك من بيع الغرر؛ وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر كما رواه مسلم في صحيحه. ويدخل في الغرر الجهل بالثمن فإن الجهل بالثمن أو عدم معلومية الثمن تفضي إلى النزاع والخلاف بين المتعاقدين وكذلك فإنها جهالة مفضية إلى بطلان العقد حيث إن معرفة مقدار الثمن شرط من شروط صحة البيع عند جمهور الفقهاء. قال الشيخ أبو إسحق الشيرازي في المهذب: [ولا يجوز إلا بثمن معلوم القدر فإن باع بثمن مجهول كبيع السلعة برقمها وبيع السلعة بما باع فلان سلعته وهما لا يعلمان ذلك فالبيع باطل لأنه عوض فلم يجز مع الجهل بقدره كالمسلم فيه] المهذب مع المجموع 9/332.
وقال الإمام النووي: [يشترط في صحة البيع أن يذكر الثمن في حال العقد فيقول: بعتكه بكذا، فإن قال: بعتك هذا واقتصر على هذا فقال المخاطب: اشتريت أو قبلت لم يكن هذا بيعاً بلا خلاف ولا يحصل به الملك للقابل على المذهب وبه قطع الجمهور] المجموع 9/171.
وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [… لأن العلم بالثمن شرط لصحة البيع فلا يثبت بدونه] المغني 4/144.
وذكر المرادي الحنبلي من شروط صحة البيع: [أن يكون الثمن معلوماً] الإنصاف 4/309.
وجاء في المادة 237 من مجلة الأحكام العدلية: [تسمية الثمن حين البيع لازمة فلو باع بدون تسمية ثمن كان البيع فاسداً] . وجاء في المادة 238 من مجلة الأحكام العدلية: يلزم أن يكون الثمن معلوماً والعلم بالثمن (1) العلم بقدره (2) العلم بوصفه صراحة أو عرفاً، وكذلك إذا كان الثمن يحتاج حمله إلى نفقة وجب العلم بمكان التسليم وكل ذلك لازم لئلا يفسد البيع فإن الجهل بالثمن مؤد إلى النزاع فإذا كان الثمن مجهولاً فالبيع فاسد ويفهم من لفظتي (قدراً، وصفاً) . إن الثمن يجب أن يكون معلوماً وصفاً كأن يقال: دينار سوري أو مصري أو إنكليزي (ابن عابدين على البحر) والمسائل التي تتفرع عن هذه المادة هي: 1 - إذا قال إنسان لآخر: بعتك هذا المال برأس ماله أو بقيمته الحقيقية أو بالقيمة التي يقدرها المخمنون أو بالثمن الذي شرى به فلان فإذا لم تقدر القيمة ويعين ثمن المبيع في المجلس فالبيع فاسد ما لم يكن المبيع مما لا تتفاوت قيمته كالخبز] شرح درر الحكام 1/217 -218.
وكلامه في أن البيع فاسد لا باطل بناءً على أصل الحنفية في التفريق بين الباطل والفاد حيث إن الحنفية يفرقون بينهما في المعاملات فالباطل عندهم ما كان الخلل واقعاً فيه في أصل العقد والفاسد ما كان الخلل واقعاً في صفة العقد وهذا التفريق عند الحنفية تفريق عملي لا نظري.
وخلاصة الأمر أن البيع بدون ذكر الثمن بيع باطل لا تترتب عليه آثاره شرعاً كما هو مذهب جمهور أهل العلم والمعاملة المذكورة في السؤال باطلة لا تصح.
وبهذه المناسبة أودُّ التنبيه على أنواع من المخالفات التي تقع في البيع والشراء ويتعامل بها بعض الناس فمن ذلك الصور التالية:
الصورة الأولى: هنالك من يشتري سلعة بثمن معلوم ولكنه مؤجل لمدة شهرين أو ستة أشهر أو نحو ذلك ويتم الاتفاق بين البائع والمشتري على أنه إن بقي سعر السلعة في السوق كما تم عليه الاتفاق في يوم البيع فإن المشتري إذا حلَّ الأجل دفع الثمن حسب الاتفاق السابق وأما إن طرأ ارتفاع على الأسعار فإنه يدفع الثمن حسب السعر الجديد عندما يحل الأجل فهذه المعاملة معاملة ربوية محرمة شرعاً لأن الثمن إذا استقر في ذمة المشتري فأي زيادة تلحق الثمن بعد ذلك تكون زيادة ربوية محرمة شرعاً.
وقد قرر الفقهاء أن ثمن السلعة المؤجل إنما هو دين استقر في ذمة المشتري والأصل في الديون أن تقضى كما استقرت في الذمة بدون زيادة.
الصورة الثانية: إذا اشترى شخص سلعة إلى أجل بالشيكل فإن المتعاقدين يتفقان على أن يتم السداد بالدينار الأردني.
وهذه الصورة لا تجوز شرعاً لأن الديْن إذا استقر في الذمة بعملة معينة فيجب قضاؤه بنفس تلك العملة ولا يجوز أن يسجل في ذمة المدين بعملة أخرى.
وقد جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي رقم 79/6/8 ما يلي: [رابعاً: الدين الحاصل بعملة معينة لا يجوز الاتفاق على تسجيله في ذمة المدين بما يعادل قيمة تلك العملة من الذهب أو من عملة أخرى على معنى أن يلتزم المدين بأداء الدين بالذهب أو العملة الأخرى المتفق على الأداء بها] مجلة مجمع الفقه الإسلامي العدد 8 ج 3/788.
الحالة الثالثة: إذا اشترى شخص سلعة بالشيكل ثم ماطل في سداد الثمن فإن البائع يقوم بتحويل السعر إلى الدينار الأردني فهذه الصورة شبيهة بالصورة السابقة إلا أن تحويل الدين هذا تم بإرادة البائع منفرداً وهذه الصورة لا تجوز شرعاً لما ذكرته فيما سبق.(12/74)
75 -(12/75)
76 - الضمان
يقول السائل: إن دابته قد انفلتت من رباطها ليلاً وهربت من مربطها وحطمت في طريقها كمية من البلاط لأحد الجيران فطالبه صاحب البلاط بالتعويض المالي فما الحكم في ذلك؟ الجواب: الأصل عند أهل العلم أن مالك الحيوانات ومن في حكمه هو الضامن إذا كان معها لما تتسبب فيه الحيوانات من جناية على نفس أو مال بضوابط وشروط عند أرباب المذاهب الفقهية
قال الإمام النووي: [إذا كان مع البهيمة شخص ضمن ما أتلفته من نفس ومال سواء أتلفت ليلاً أو نهاراً وسواء كان سائقها أو راكبها أو قائدها وسواء أتلفت بيدها أو رجلها أو عضها أو ذنبها لأنها تحت يده وعليه تعهدها وحفظها وسواء كان الذي مع البهيمة مالكها أو أجيره أو مستأجراً أو مستعيراً أو غاصباً لشمول اليد وسواء البهيمة الواحدة والعدد] روضة الطالبين 7/400.
وأما إذا لم يكن مع البهيمة أحد من مالك وغيره ففي ذلك تفصيل عند العلماء فقد ورد في الحديث عن حرام بن محيصة عن أبيه أن (ناقة للبراء بن عازب دخلت حائط رجل فأفسدته عليهم فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل الأموال حفظها بالنهار وعلى أهل المواشي حفظها بالليل) رواه أبو داود وابن ماجة وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود 2/681. وفي رواية أخرى عن حرام بن محصية الأنصاري عن البراء بن عازب قال: (كانت له ناقة ضارية فدخلت حائطاً فأفسدت فيه فَكُلِّم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها فقضى أن حفظ الحوائط بالنهار على أهلها وأن حفظ الماشية بالليل على أهلها وأن على أهل الماشية ما أصابت ماشيتهم بالليل) رواه أبو داود وابن ماجة وصححه الألباني في المصدر السابق.
وقال الشافعي عن الحديث أخذنا به لثبوته واتصاله ومعرفة رجاله التلخيص الحبير 4/86
والحائط هو البستان إذا كان عليه جدار. عون المعبود 9/350.
وفي رواية أخرى أن ناقة البراء بن عازب دخلت حائط رجل فأفسدت فيه فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن على أهل الحوائط حفظها بالنهار وأن ما أفسدت المواشي بالليل ضامن على أهلها) رواه مالك في الموطأ والدارقطني. وحديث البراء يعتبر أصلاً في تضمين أصحاب الحيوانات لما أتلفته حيواناتهم ليلاً لقوله صلى الله عليه وسلم: (وأن ما أفسدت المواشي بالليل ضامن على أهلها) . قال الحافظ ابن عبد البر: [ضامن هنا بمعنى مضمون] الاستذكار 22/250.
ومن أهل العلم من يحتج في هذه المسألة بقصة داود وسليمان عليهما السلام في الغنم التي نفشت في الحرث قال تعالى: (وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّاءَاتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ) سورة الأنبياء الآيات 78-79.
قال الشوكاني: [فإن قلت فما حكم هذه الحادثة التي حكم فيها داود وسليمان في هذه الشريعة المحمدية والملة الإسلامية قلت قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث البراء أنه شرع لأمته أن على أهل الماشية حفظها بالليل وعلى أصحاب الحوائط حفظها بالنهار وأن ما أفسدت المواشي بالليل مضمون على أهلها وهذا الضمان هو مقدار الذاهب عينا أو قيمة وقد ذهب جمهور العلماء إلى العمل بما تضمنه هذا الحديث] تفسير فتح القدير 3/ 418.
وقال الباجي: [فأما فساد الزروع والحوائط والكروم فقال مالك والشافعي وأهل الحجاز في ذلك ما ذكرناه عنهم في هذا الباب. وحجتهم حديث البراء بن عازي المذكور فيه مع ما دل عليه القرآن في قصة داود وسليمان: (إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ) ولا خلاف بين أهل اللغة أن النفش لا يكون إلا بالليل. وكذلك قال جماعة العلماء بتأويل القرآن وقال الله عز وجل لمحمد صلى الله عليه وسلم عند ذكر من ذكر من أنبيائه في سورة الأنعام: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ) فجاز الإقتداء بكل ما ورد به القرآن من شرائع الأنبياء. إلا أن يمنع من ذلك ما يجب التسليم له من نسخ في الكتاب أو سنة واردة عن النبي صلى الله عليه وسلم بخلاف ذلك تبين مراد الله فيعلم حينئذ أن شريعتنا مخالفة لشريعتهم فتحمل على ما يجب الاحتمال عليه من ذلك وبالله التوفيق] فتح المالك 8/344-345.
وقد قال جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة بتضمين أصحاب المواشي ما أتلفته مواشيهم ليلاً. قال الإمام البغوي: [ذهب إلى هذا بعض أهل العلم أن ما أفسدت الماشية بالنهار من مال الغير فلا ضمان على ربها وما أفسدت بالليل يضمنه ربها لأن في عرف الناس أن أصحاب الحوائط والبساتين يحفظونها بالنهار وأصحاب المواشي يسرحونها بالنهار ويردونها بالليل إلى المراح فمن خالف هذه العادة كان خارجاً عن رسوم الحفظ إلى حد التضييع هذا إذا لم يكن مالك الدابة معها فإن كان معها فعليه ضمان ما أتلفته سواء كان راكبها أو سائقها أو قائدها أو كانت واقفة وسواء أتلفت بيدها أو رجلها أو فمها وإلى هذا ذهب مالك والشافعي] شرح السنة 8/236
وقال الحافظ ابن عبد البر: [وإنما وجب - والله أعلم - الضمان على أرباب المواشي فيما أفسدت من الزرع وشبهه بالليل دون النهار لأن الليل وقت رجوع الماشية إلى مواضع مبيتها من دور أصحابها ورحالهم ليحفظوها ويمسكوها عن الخروج إلى حرث الناس وحوائطهم لأنها لا يمكن أربابها من حفظها بالليل لأنه وقت سكون وراحة لهم مع علمهم أن المواشي قد آواها أربابها إلى أماكن قرارها ومبيتها وأما النهار فيمكن فيه حفظ الحوائط وحرزها وتعاهدها ودفع المواشي عنها. ولا غنى لأصحاب المواشي عن مشيتها لترعى فهو عيشها فألزم أهل الحوائط حفظها نهاراً لذلك والله أعلم وألزم أرباب الماشية ضمان ما أفسدت ليلاً لتفريطهم في ضبطها وحبسها عن الانتشار بالليل. ولما كان على أرباب الحوائط حفظ حوائطهم في النار فلم يفعلوا كانت المصيبة منهم لتفريطهم أيضاً وتضييعهم ما كان يلزمهم من حراسة أموالهم] الاستذكار 22/254-255.
ويؤخذ من كلام أهل العلم أن تفريق النبي صلى الله عليه وسلم بين إفساد المواشي بالنهار وإفسادها بالليل لأنه بالنهار يمكن التحفظ من الماشية دون الليل فإذا أتلفت بالنهار فالتقصير من أصحاب المزارع في حفظ زروعهم فلا يكون الإتلاف بالنهار موجباً للضمان بخلاف الإتلاف بالليل فإن التقصير يكون من صاحب المواشي فيكون الإتلاف بالليل موجباً للضمان. انظر الضرر في الفقه الإسلامي 1/350.
وقد ذهب بعض أهل العلم إلى تخصيص حديث ناقة البراء بإتلاف المزروعات فقط ولم يعتبروا إتلاف الحيوانات لغير المزروعات موجباً للضمان قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [وإن أتلفت البهيمة غير الزرع لم يضمن مالكها ما أتلفته ليلاً كان أو نهاراً ما لم تكن يده عليها وحكي عن شريح أنه قضى في شاة وقعت في غزل حائك ليلاً بالضمان على صاحبها وقرأ شريح: (إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ) قال والنفش لا يكون إلا بالليل وعن الثوري يضمن وإن كان نهاراً لأنه مفرط بإرسالها. ولنا: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (العجماء جرحها جبار) متفق عليه أي هدر وأما الآية فإن النفش هو الرعي بالليل فكان هذا في الحرث الذي تفسده البهائم طبعاً بالرعي وتدعوها نفسها إلى أكله بخلاف غيره فلا يصح قياس غيره عليه] المغني 9/189. وأقول إن هذا تفريق غير مسلَّم فإن الشريعة لا تفرق بين متماثلين وما ذهب إليه شريح القاضي هو الراجح إن شاء الله فتضمينه لصاحب الشاة ما أتلفته من غزل الحائك عملاً بالمعنى الذي أرشد إليه حديث ناقة البراء حيث إن حفظ المال من مقاصد الشريعة وما قضى به شريح رواه عبد الرزاق بسنده عن الشعبي أن شاة وقعت في غزل حوَّاك فاختصموا إلى شريح فقال الشعبي: انظروه فإنه سيسألهم أليلاً وقعت فيه أو نهاراً؟ ففعل ثم قال: إن كان بالليل ضمن وإن كان بالنهار لم يضمن ثم قرأ شريح: (إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ) قال: والنفش بالليل والهمل بالنهار. مصنف عبد الرزاق 10/82. فلا معنىً للتفريق بين الزروع وغيرها.
وقد وجدتُ إشارات إلى عدم التفرق بين الزروع وغيرها في كلام بعض أهل العلم. قال الإمام النووي: [… وأتلفت زرعاً أو غيره نظر إن أتلفته بالنهار فلا ضمان على صاحبها وإن أتلفته بالليل لوم صاحبها الضمان للحديث الصحيح ... ] روضة الطالبين 7/399. وينبغي أن يعلم أن القول بتضمين أصحاب الحيوانات ما أتلفته حيواناتهم ليلاً إنما يلزمهم الضمان إن قصروا في حفظ حيواناتهم ليلاً أما إن أخذوا بأسباب حفظها فانفلتت بدون تقصير منهم فأتلفت شيئاً فلا ضمان عليهم. قال الإمام النووي: [لو ربط بهيمة وأغلق بابه واحتاط على العادة ففتح الباب لص أو انهدم الجدار فخرجت ليلاً فلا ضمان إذ لا تقصير] روضة الطالبين 7/400.
وخلاصة الأمر أن صاحب الدابة المذكورة في السؤال ضامن لما أتلفته دابته ليلاً إن قصر في حفظها ولم يأخذ بالأسباب الموجبة لذلك فإن لم يقصر فلا ضمان عليه.(12/76)
77 - الغش
: يقول السائل: إن بعض المزارعين في بلدتهم يدهنون ثمار التين بالزيت حتى يسرع نضجها ويبيعونها في السوق مع العلم أن طعمها مختلف عن الثمار التي تنضج بشكل طبيعي فما حكم ذلك؟ الجواب: يحرم الغش في البيع والشراء بجميع أشكاله وقد ثبت في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ على صبرة - كومة - طعام فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللاً فقال: ما هذا يا صاحب الطعام؟ فقال: أصابته السماء يا رسول الله، قال: أفلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس من غشنا فليس منا) رواه مسلم. وفي رواية أخرى للحديث عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السوق فرأى طعاماً مصبراً فأدخل يده فأخرج طعاماً رطباً قد أصابته السماء فقال لصاحبه: ما حملك على هذا؟ قال: والذي بعثك بالحق إنه لطعام واحد قال: أفلا عزلت الرطب على حدته واليابس على حدته فيبتاعون ما يعرفون، من غشنا فليس منا) رواه الطبراني في الأوسط بإسناد جيد وقال الألباني حسن لغيره. صحيح الترغيب والترهيب 2/334-335.
وبناء على ما سبق فيجب على البائع أن يبين للناس ما في السلعة من عيب إن كان فيها ويحرم عليه أن يكتم شيئاً من عيوبها فإذا أعلم المشتري بالعيب ثم اشترى السلعة مع علمه بالعيب يكون البائع قد أبرأ ذمته فقد جاء في الحديث عن أبي سباع قال: اشتريت ناقة من دار واثلة بن الأسقع فلما خرجت بها أدركني وهو يجر إزراه فقال: يا عبد الله اشتريت؟ قلت: نعم. قال: بين لك ما فيها؟ قلت: وما فيها؟ إنها لسمينة ظاهرة الصحة قال: أردت بها سفراً أو أردت بها لحماً؟ قلت: أردت بها الحج. قال: فإن بخفها نقباً. فقال صاحبها: ما أردت أي هذا أصلحك الله تفسد علي؟ قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يحل لأحد يبيع شيئاً إلا بين ما فيه ولا يحل لمن علم ذلك إلا بينه) رواه الحاكم والبيهقي وقال الحاكم: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي، وقال الألباني حسن لغيره. المصدر السابق 2/337-338.
وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المسلم أخو المسلم ولا يحل لمسلم إذا باع من أخيه بيعاً فيه عيب أن لا يبينه) رواه أحمد وابن ماجة والطبراني في الكبير. وقال الألباني: صحيح. المصدر السابق 2/338.
وخلاصة الأمر أن دهن التين بالزيت لينضج قبل أوانه غش محرم شرعاً إلا إذا بين البائع ذلك وقبل به المشتري.(12/77)
78 - تغير قيمة العملة
يقول السائل: إنه يعمل في إحدى المؤسسات وإن هذه المؤسسة قد تأخرت في دفع بعض رواتبه لعدة شهور وفي هذه الفترة انخفضت قيمة العملة فهل يجوز له أن يطالب المؤسسة بتعويضه عن انخفاض العملة؟ الجواب: إن الأصل المقرر في الفقه الإسلامي أن الديون تقضى بأمثالها ولا تقضى بقيمتها ويدل على ذلك ما ورد في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: إني أبيع الإبل بالبقيع فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير؟ فقال صلى الله عليه وسلم: لا بأس أن تأخذ بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء) وفي رواية أخرى: (أبيع بالدنانير وآخذ مكانها الورق وأبيع بالورق وآخذ مكانها الدنانير) رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة والحاكم وصححه على شرط مسلم ووافقه الذهبي (فابن عمر كان يبيع الإبل بالدنانير أو الدراهم وقد يقبض الثمن في الحال وقد يبيع بيعاً آجلاً وعند قبض الثمن ربما لا يجد مع المشتري بالدنانير إلا دراهم وقد يجد مع من اشترى بدراهم ليس معه إلا دنانير أفيأخذ قيمة الثمن يوم ثبوت الدين أم يوم الأداء؟ مثلاً إذا باع بمئة دينار وكان سعر الصرف: الدينار بعشرة دراهم أي أن له ما قيمته ألف درهم وتغير سعر الصرف فأصبح الدينار مثلاً بأحد عشر درهماً أفيأخذ الألف أم ألفاً ومئة؟ وإذا أصبح بتسعة دراهم فقط أفيأخذ تسعمئة درهم يمكن صرفها بمئة دينار يوم الأداء أم يأخذ ألف درهم قيمة مئة الدينار يوم البيع؟ بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن العبرة بسعر الصرف يوم الأداء وابن عمر الذي عرف الحكم من الرسول الكريم سأله بكر بن عبد الله المزني ومسروق العجلي عن كري لهما له عليهما دراهم وليس معهما إلا دنانير فقال ابن عمر: أعطوه بسعر السوق.
فهذا الحديث الشريف يعتبر أصلاً في أن الدين يؤدى بمثله لا بقيمته حيث يؤدي عن تعذر المثل بما يقوم مقامه وهو سعر الصرف يوم الأداء يوم الأداء لا يوم ثبوت الدين] مجلة مجمع الفقه الإسلامي عدد 5 جزء 3 ص1727-1728. وهذا مذهب أكثر الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة واختاره كثير من الفقهاء والعلماء المعاصرين حيث إنهم يرون أن الدين إذا استقر في ذمة المشتري بمقدار محدد فالواجب هو تسديد ذلك المقدار بدون زيادة أو نقصان فالديون تقضى بأمثالها في حالة الرخص والغلاء ولا تقضى بقيمتها جاء في المدونة: [كل شيء أعطيته إلى أجل فرد إلك مثله وزيادة فهو ربا] المدونة 4/25.
وقال أبو إسحاق الشيرازي: [ويجب على المستقرض رد المثل فيما له مثل لأن مقتضى القرض رد المثل] المهذب مع المجموع 12/185.
وقال الكاساني: [ولو لم تكسد - النقود - ولكنها رخصت قيمتها أو غلت لا ينفسخ البيع بالإجماع وعلى المشتري أن ينقد مثلها عدداً ولا يلتفت إلى القيمة هاهنا] بدائع الصنائع 5/542.
وقال الشيخ ابن عابدين في رسالته عن النقود: [… لأن الإمام الإسبيجاني في شرح الطحاوي قال: وأجمعوا على أن الفلوس إذا لم تكسد ولكن غلت قيمتها أو رخصت فعليه مثل ما قبض من العدد] رسالة تنبيه الرقود على مسائل النقود 2/60 ضمن مجموعة رسائل ابن عابدين.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: [لا يجب في الفرق إلا رد المثل بلا زيادة] مجموع الفتاوى 29/535.
وقال العلامة الغزي: [أما إذا غلت قيمتها أو ازدادت، فالبيع على حاله، ولا يتخير المشتري، ويطالب بالنقد بذلك العيار الذي كان وقت البيع، كذا في فتح القدير. وفي البزازية معزياً إلى المنتقى: [غلت الفلوس أو رخصت فعند الإمام الأول والثاني أولاً ليس عليه غيرها) رسالة بذل المجهود في تحرير أسئلة تغير النقود ص 83 -84.
ويضاف إلى ما سبق أن معظم فقهاء العصر يرون أن الديون تقضى بأمثالها ولا تقضى بقيمتها إلا إذا كان تغير قيمة العملة كبيراً كما ذكرت سابقاً ويرون أن قضاء الديون بقيمتها يعد من الربا المحرم شرعاً [إن الحكم على المدين المماطل بتعويض دائنه بفرق هبوط القوة الشرائية للنقد عقب مطله غير سائغ شرعاً إذ هو وقوع في حمى الربا المحرم تحت ستار تعويض الدائن عن انخفاض القوة الشرائية للنقود، بل إن الدائن ليحصل في كثير من الأحيان باسم ذلك التعويض على ما يزيد قدراً ويفوق جوراً الفوائد التأخيرية في البنوك الربوية] قضايا فقهية معاصرة في المال والاقتصاد ص500.
وقد بحث مجمع الفقه الإسلامي هذه المسألة بحثاً مستفيضاً وتوصل العلماء المشاركون في المجمع إلى القرار التالي: [العبرة في وفاء الديون الثابتة بعملة ما هي بالمثل وليس بالقيمة لأن الديون تقضى بأمثالها فلا يجوز ربط الديون الثابتة في الذمة أياً كان مصدرها بمستوى الأسعار] مجلة مجمع الفقه الإسلامي عدد 5 ج 3/2261
ومن المعلوم أيضاً أن المدين ليس له علاقة بانخفاض قيمة العملة حتى نقول بأن عليه أن يدفع الفرق فالمدين غير مسؤول عن ذلك حيث إن تغير قيمة العملة ينتج عن أمور كثيرة سياسية كانت أو اقتصادية أو غير ذلك فلا يصح أن نحمل أحد الطرفين مسؤولية ذلك الانخفاض لأن في تحميل المدين نتيجة الانخفاض رفع للظلم عن الدائن ووضعه على المدين وفي القواعد المقررة شرعاً أن الضرر لا يزال بمثله وكذلك فإن الظلم لا يزال بظلم. كما أن انخفاض قيمة العملة عندما يقع فإنه يصيب الأموال ولو كانت بأيدي أصحابها فمثلاً لو أن الموظف المذكور في السؤال قبض رواتبه من المؤسسة في أوقاتها وادخرها إلى الآن فإن انخفاض قيمة العملة سيؤثر عليها بلا شك فهذا الانخفاض ناتج عن أسباب خارجة عن إرادة الموظف والمؤسسة التي يعمل بها. انظر أحكام صرف النقود ص191-192.
وخلاصة الأمر أنه لا يجوز للدائن المطالبة بفرق العملة من المدين نتيجة انخفاض قيمة العملة وخاصة أن هذا الانخفاض ليس كبيراً أي لا يتجاوز الثلث الذي اعتبره الفقهاء حداً فاصلاً بين القليل والكثير.(12/78)
79 - انتهاء الشركة بموت الشريك
يقول السائل: إن والده قد توفي وكان شريكاً في شركة تجارية مع عدد من الأشخاص فما مصير مشاركته وهل يحل الورثة محله في الشركة المذكورة؟ الجواب: اتفق الفقهاء على أن موت أحد الشريكين أو الشركاء يعتبر من أسباب انتهاء الشركة فتبطل الشركة إذا مات أحد الشركاء فإذا لم يكن في الشركة سوى اثنان فمات أحدهما بطلت الشركة وأما إذا كانت الشركة بين أكثر من اثنين فتبطل الشركة في حق من مات وأما شركة الباقين على قيد الحياة فلا تبطل وقد نص الفقهاء على أن الشركة تبطل بموت أحد الشريكين قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [والشركة من العقود الجائزة تبطل بموت أحد الشريكين] المغني 5/18.
وجاء في الهداية من كتب الحنفية: [وإذا مات أحد الشريكين بطلت الشركة] وقال الكمال بن الهمام شارحاً لكلام صاحب الهداية: [وإنما بطلت بالموت لأنها تتضمن الوكالة أي مشروط ابتداؤها وبقاؤها بها ضرورة فإنها لا يتحقق ابتداؤها إلا بولاية التصرف لكل منهما في مال الآخر ولا تبقى الولاية إلا ببقاء الوكالة] شرح فتح القدير 5/412.
وجاء في المادة رقم 1352 من مجلة الأحكام العدلية ما نصه: [إذا توفي أحد الشريكين أو جن جنوناً مطبقاً تنفسخ الشركة أما في صورة كون الشركاء ثلاثة أو أكثر فيكون انفساخ الشركة في حق الميت أو المجنون فقط وتبقى الشركة في حق الآخرين] . وقال شارح المجلة علي حيدر: [تنفسخ شركة العقد بثمانية أوجه:
أولاً: إذا توفي أحد الشريكين. ثانياً: إذا جن أحدهما جنوناً مطبقاً. ثالثاً: إذا حجر أحدهما. رابعاً: إذا فسخ أحد الشريكين الشركة. خامساً: إذا أنكر أحد الشريكين الشركة. سادساً: إذا هلك مجموع رأس مال الشركة. سابعاً: إذا تلف رأس مال أحدهما قبل الخلط وقبل الشراء. ثامناً: إذا كانت الشركة مؤقتة وانقضت مدتها لأنه يقتضي أن تتضمن الشركة الوكالة كما جاء في المادة (1333) وكما أنه يشترط وجود الوكالة المذكورة ابتداءً يشترط وجودها بقاءً أيضاً وبما أنه بوفاة الشريك أو بجنونه جنوناً مطبقاً تبطل الوكالة فتنفسخ الشركة أيضاً. انظر المادتين (1528 و 1530) وقد جاء في الطحطاوي (وإنما بطلت الشركة لبطلان الوكالة وإن كانت تابعة لها والمتبوع لا يبطل ببطلان التابع إلا أن الوكالة شرطها ولا يتحقق المشروط بدون شرط) . والمقصود من الشركة هنا شركة العقد كما أشير إلى ذلك شرحاً أما شركة الملك فلا تنفسخ بوفاة أحد الشريكين بل تبقى شركة بين الشريك الحي وبين ورثة الشريك الميت. ولنوضح الآن هذه الأمور الثمانية: وفاة أحد الشريكين، إذا توفي أحد الشريكين تنفسخ الشركة ولو لم يعلم الشريك الآخر بوفاته لأنه عزل حكمي فلا يشترط فيه العلم] درر الحكام شرح مجلة الأحكام 3/367-368.
وجاء في الموسوعة الفقهية الكويتية في بيان أسباب انتهاء الشركة: [موت أحدهما: لأن الموت مبطل للوكالة، والوكالة الضمنية جزء من ماهية الشركة لا تنفك عنها ابتداءً ولا بقاءً، ضرورة الحاجة إلى ثبوت واستمرار ولاية التصرف لكلا الشريكين عن الآخر، منذ قيام الشركة إلى انتهائها. إلا أن بطلان الشركة في الأموال بالموت، لا يتوقف على علم الشريك به؛ لأنه عزل حكمي غير مقصود لا يمكن تقديمه وتأخيره، إذ بمجرد الموت ينتقل شرعاً ملك مال الميت إلى ورثته، فلا يمكن إيقاف ما نفذه الشرع. وإنما تبطل الشركة بالموت بالنسبة للميت. فإذا لم يكن له سوى شريك واحد لم يبق شيء من الشركة بالضرورة، أما إذا كان له أكثر من شريك، فإن شركة الباقين على قيد الحياة باقية. ونص على هذا المبطل أيضاً الشافعية والحنابلة] الموسوعة الفقهية الكويتية 26/88-89. وكذلك فإن القانون المدني قرر انتهاء الشركة بموت أحد الشريكين كما في الوسيط في شرح القانون المدني 5/361.
وينبغي أن يعلم أنه لا مانع شرعاً أو قانوناً من استمرار الشركة بعد وفاة أحد الشركاء ويحل الورثة محل الشريك الميت ويمكن أن ينص على ذلك في عقد الشركة ابتداءً بأنه إذا مات الشريك الفلاني حلَّ ورثته محله. قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [فإن مات أحد الشريكين وله وارث رشيد فله أن يقيم على الشركة ويأذن له الشريك في التصرف. وله المطالبة بالقسمة فإن كان مولياً عليه قام وليه مقامه في ذلك إلا أنه لا يفعل إلا ما فيه المصلحة للمولي عليه فإن كان الميت قد وصى بمال الشركة أو ببعضه لمعين فالموصى له كالوارث فيما ذكرنا. وإن وصى به لغير معين كالفقراء لم يجز للوصي الإذن في التصرف. لأنه قد وجب دفع إليهم فيعزل نصيبهم ويفرقه بينهم وإن كان على الميت دين تعلق بتركته فليس للوارث إمضاء الشركة حتى يقضي دينه فإن قضاه من غير مال الشركة فله الإتمام وإن قضاه بطلت الشركة في قدر ما قضى] المغني 5/19. ويجوز استمرار الشركة بعد وفاة أحد الشركاء إما باستئناف عقد جديد ويعطى نصيب الشريك المتوفى إلى ورثته وإما أن تستمر الشركة مع الورثة فإن كان الورثة راشدين تولوا ذلك بأنفسهم وإن كانوا قاصرين تولى ذلك الولي أو الوصي جاء في فتح العزيز ما نصه: [تنفسخ الشركة بموت أحد المتعاقدين وجنونه وإغمائه كالوكالة ثم في صورة الموت إن لم يكن على الميت دين ولا هناك وصية فللوارث الخيار بين القسمة وتقرير الشركة إن كان بالغاً رشيداً وإن كان مولياً عليه لصغر أو جنون فعلى وليه ما فيه الحظ والمصلحة من الأمرين وإنما يقرر الشركة بعقد مستأنف وإن كان على الوارث دين فليس للوارث تقرير الشركة إلا إذا قضي الدين في موضع آخر وإن كان هناك وصية نظر إن كانت الوصية لمعين فهو كأحد الورثة وإن كانت لغير معين كالفقراء لم يجز تقرير الشركة حتى تخرج الوصية] الشركات 1/348-349. وقال الدكتور صالح المرزوقي: [والشركة وإن كانت من العقود الجائزة إلا أنها أيضاً عقد مستمر فقد أجاز الفقهاء في حالة وفاة أحد الشركاء استمرارها بين الآخرين إذا كانوا اثنين فأكثر ويجوز استمرارها مع ورثة المتوفى إذا اتفقوا على ذلك ومثله المجنون والمحجور عليه فهي لا تنفسخ بالموت أو بالجنون أو غيرها إلا في حق كل واحد منهم فلا تنفسخ في حق الشركاء الآخرين ولكنها تبقى مستمرة بينهم وكما ذكرنا فإنه يمكن أيضاً استمرارها مع ورثة المتوفى ومع ولي المجنون ونحو ذلك جاء في مغني المحتاج: [ولو مات أحد الشريكين وله وارث غير رشيد ورأى الولي المصلحة في الشركة استدامها] على خلاف بين الفقهاء هل هي استمرار للعقد السابق وهو الراجح أو ابتداء عقد جديد] شركة المساهمة ص331. وهذا ما قرره القانون الوضعي أيضاً انظر الوسيط 5/364-365.
وخلاصة الأمر أنه يجوز استمرار الورثة برضاهم أجمعين في الشركة التي كان والدهم شريكاً فيها.(12/79)
80 - حظر التجول المتواصل يلحق بالجوائح
يقول السائل: من المعلوم أن كثيراً من المدن الفلسطينية تعاني من فرض نظام حظر التجول لفترات طويلة وقد امتدت في بعض المدن إلى شهور مما أدى إلى إغلاق المحلات التجارية خلال فترات حظر التجول، مما أوقع المستأجرين للمحلات التجارية في خسائر كبيرة نظراً لدفعهم أجرة هذه المحلات وهي مغلقة فهل حالة الإغلاق هذه تلحق بالجوائح التي ذكرت في السنة النبوية؟ الجواب: إن الظروف الطارئة التي حدثت في كثير من مدن الضفة الغربية والتي شملت فرض نظام منع التجول لفترات طويلة تشبه الجائحة التي تجتاح الثمار إلى حدٍ ما، والجائحة عند الفقهاء كل شيء لا يستطاع دفعه لو علم به كسماوي كالبرد والحر والجراد والمطر. ومثل هذه الآفة التي تهلك الثمار والأموال وتستأصلها وكل مصيبة عظيمة. انظر معجم المصطلحات والألفاظ الفقهية 1/515. وألحق بعض أهل العلم بالآفة السماوية ما يطرأ من أمور غير سماوية كالحرب. انظر الشرح الكبير 3/185، المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم 4/426. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: [فالجائحة هي الآفات السماوية التي لا يمكن معها تضمين أحد مثل الريح والبرد والحر والمطر والجليد والصاعقة ونحو ذلك … وإن أتلفها من الآدميين من لا يمكن ضمانه كالجيوش التي تنهبها واللصوص الذين يخربونها فخرَّجوا فيه وجهين: أحدهما ليست جائحة لأنها من فعل آدمي. والثاني: وهو قياس أصول المذهب أنها جائحة وهو مذهب مالك كما قلنا مثل ذلك في منافع الإجارة لأن المأخذ إنما هو إمكان الضمان ولهذا لو كان المتلف جيوش الكفار أو أهل الحرب كان ذلك كالآفة السماوية] مجموع فتاوى شيخ الإسلام 30/278. والجائحة لها أثر واضح في التخفيف عمن أصابته ويدل على ذلك عدة أحاديث وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم منها:
عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو بعت من أخيك ثمراً فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئاً بم تأخذ مال أخيك بغير حق؟) رواه مسلم.
وعن أنس رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمرة حتى تزهي قالوا: وما تزهي؟ قال: تحمر فقال: إذا منع الله الثمرة فبم تستحل مال أخيك؟) رواه مسلم.
وعن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم (أمر بوضع الجوائح) رواه مسلم
ويؤخذ من هذه الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح حتى لا يأكل المسلم مال أخيه بالباطل.
وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن تعطل منافع المأجور يعد سبباً لفسخ عقد الإجارة وللتخفيف من الأجرة حيث قال: [وتعطل المنفعة يكون بوجهين: أحدهما: تلف العين كموت العبد والدابة المستأجرة والثاني زوال نفعها بأن يحدث عليها ما يمنع نفعها كدار انهدمت وأرض للزرع غرقت أو انقطع ماؤها فهذه إذا لم يبق فيها نفع فهي كالتالفة سواء لا فرق بينهما عند أحد من العلماء] .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية أيضاً [وإن تعطل نفعها بعض المدة لزمه من الأجرة بقدر ما انتفع به كما قال الخرقي فإن جاء أمر غالب يحجر المستأجر عن منفعة ما وقع عليه العقد لزمه من الأجرة بمقدار مدة انتفاعه] مجموع الفتاوى 30/288-290. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية أيضاً: [ولا خلاف بين الأمة أن تعطل المنفعة بأمر سماوي يوجب سقوط الأجرة أو نقصها أو الفسخ وإن لم يكن للمستأجر فيه صنع كموت الدابة وانهدام الدار وانقطاع ماء السماء فكذلك حدوث الغرق وغيره من الآفات المانعة من كمال الانتفاع بالزرع] المصدر السابق 30/293-294.
وينبغي التنبيه لأمرين هامين في هذه المسألة: الأول: إن كثيراً من المستأجرين للمحلات التجارية وكذا لدور السكنى يظلمون المالكين حيث إن أجرة هذه المحلات لا تقابل المنافع التي يحصل عليها المستأجرون كما أن كثيراً من المستأجرين يتمسكون بما يقال إن المستأجر محمي بحكم القانون الوضعي فلا يستطيع المالك إنهاء عقد الإجارة كما أنه لا يستطيع المطالبة بزيادة الأجرة حيث إن كثيراً من المحلات التجارية وكذا دور السكنى مؤجر بثمن بخس إذا ما قيس بما عليه الأجرة في الوقت الحالي.
الثاني: أرى أن مبدأ التراحم يكاد يكون مغيباً في تعامل المستأجرين والمالكين حتى إنه يمكن القول إن بعض حالات الاستئجار أشبه ما تكون بالغصب حيث إن المستأجر يدفع أجرة قليلة لا تكاد تذكر مع الأجرة الحقيقية وإذا طلب المالك إنهاء عقد الإجارة فأنى يستجاب له!! لهذا كله أرى أن يتحاكم المستأجرون والمالكون إلى شرع الله عز وجل في كل قضاياهم - وليس في هذه المسألة خاصة - وأن يتقوا الله في أنفسهم وفي إخوانهم وأن يتراحموا فيما بينهم يقول الله تعالى (ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَءَامَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ) سورة البلد الآية 17
وورد في الحديث عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من لا يرحم لا يرحم) رواه البخاري
وجاء في رواية أخرى عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يرحم الله من لا يرحم الناس) رواه البخاري أيضاً.
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الراحمون يرحمهم الرحمن ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء الرحم شجنة من الرحمن فمن وصلها وصله الله ومن قطعها قطعه الله) رواه
أبو داود والترمذي وغيرهما وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال وهو على المنبر (ارحموا ترحموا واغفروا يغفر الله لكم) رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد وهو حديث صحيح كما قال الألباني في السلسلة الصحيحة حديث رقم 482.
وغير ذلك من النصوص.
وخلاصة الأمر فإني أرى يتراحم المالكون والمستأجرون فيما بينهم فالراحمون يرحمهم لله.(12/80)
81 - عقد المقاولة
يقول السائل: إنه يعمل مقاولاً في مجال البناء والطرق وإنه يقوم أحياناً بإعطاء بعض الأعمال التي يحصل عليها لمقاول آخر فما حكم ذلك؟ وما الحكم فيما لم يتمكن من الوفاء بالمدة المتفق عليها في العقد بسبب فرض نظام حظر التجول مع العلم أنه قد اشترط عليه ذلك ويوجد في العقد شرط جزائي يطبق في حالة الإخلال؟ الجواب: عقد المقاولة من العقود المستحدثة ولم يعرفه الفقهاء المتقدمون وإنما تحدث عنه القانونيون والفقهاء المعاصرون. والمقاولة عبارة عن عقد يتعهد المقاول بمقتضاه أن يصنع شيئاً أو يؤدي عملاً لقاء أجر يتعهد به الطرف الآخر ويمكن تخريج عقد المقاولة على عقد الاستصناع المعروف في الفقه الإسلامي أو على عقد الإجارة وكل منهما عقد صحيح شرعاً وقد قامت الأدلة الشرعية على اعتبارهما. انظر الوسيط في شرح القانون المدني 7/5.
وينبغي أن يعلم أنه يجوز شرعاً استحداث عقود جديدة لم تكن معروفة عند الفقهاء المتقدمين إذا كانت ضمن القواعد العامة للفقه الإسلامي [وهذه المسألة تسمى بمدى الحرية التعاقدية في الفقه الإسلامي، وقد اختلف فيها الفقهاء، فذهب جمهور الفقهاء إلى أن الأصل في إنشاء العقود الإباحة وأن الناس أحرار في إنشاء عقود جديدة ما لم تكن مخالفة لنصوص الشرع الشريف … وقد دافع شيخ الإسلام ابن تيمية بشدة عن مذهب القائلين بالإباحة وقد استدل الجمهور بالكتاب والسنة والمعقول. أما الكتاب فقوله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) سورة المائدة الآية 1. وقوله تعالى: (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا) سورة الإسراء الآية 34.
وغير ذلك من الآيات الدالة على وجوب الوفاء بالعقود يقول ابن تيمية: [فقد أمر الله سبحانه وتعالى بالوفاء بالعقود وهذا عام. وكذلك أمر بالوفاء بعهد الله وبالعهد وقد دخل في ذلك ما عقده المرء على نفسه بدليل قوله تعالى: (وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا) سورة الأحزاب الآية 15. فدل على أن عهد الله يدخل فيه ما عقده المرء على نفسه وإن لم يكن الله قد أمر بنفس ذلك المعهود عليه قبل العهد كالنذر والبيع … وقال سبحانه: (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ) سورة النساء الآية 1. قال المفسرون (تساءلون به) تتعاهدون وتتعاقدون وذلك لأن كل واحد من المتعاقدي يطلب من الآخر ما أوجبه العقد من فعل أو ترك أو مال أو نفع أو نحو ذلك وجمع سبحانه في هذه الآية وسائر السورة أحكام الأسباب التي بين بني آدم المخلوقة كالرحم والمكسوبة كالعقود التي يدخل فيها الصهر …] مجموع الفتاوى 29/138-139.
وكذلك تدل مجموعة كبيرة من الأحاديث الشريفة على وجوب الوفاء بالعقود والوعود والعهود وأن مخالفة الوعد من علامات النفاق إضافة إلى أحاديث خاصة في الموضوع منها قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً حرم حلالاً أو أحل حراماً والمسلمون على شروطهم إلا شرطاً حرم حلالاً أو أحل حراماً) رواه الترمذي وقال: حسن صحيح ورواه البخاري تعليقاً بصيغة الجزم لكنه بدون الاستثناء ورواه كذلك الحاكم وأبو داود عن أبي هريرة بلفظ (المسلمون عند شروطهم) أي بدون الاستثناء.
وآثار الصحابة تشهد على ذلك بل يقول ابن تيمية: [إن الوفاء بها أي بالالتزامات التي التزم بها الإنسان من الواجبات التي اتفقت عليها الملل بل العقلاء جميعاً] مجموع الفتاوى 29/516 والقواعد النورانية ص53.
ثم إن أساس العقود هو التراضي وموجبها هو ما أوجبه العاقدان على أنفسهما] عقد الاستصناع د. علي محي الدين القرة داغي مجلة مجمع الفقه الإسلامي 7/2/350-352.
فعقد المقاولة من العقود المعتبرة شرعاً ويصح التعامل به إذا توفرت فيه شروط الانعقاد فلا بد من توافق الإيجاب والقبول ليتم التراضي بين صاحب العمل والمقاول على ماهية العمل الذي سيؤديه المقاول لصاحب العمل والأجر الذي يتقاضاه المقاول. ولا بد من بيان ذلك بياناً واضحاً قاطعاً للنزاع والخلاف. ومن المعروف أنه في المقاولات الكبيرة يكون هنالك ملحقات للعقد تتعلق بالمواصفات والشروط التي يجب أن يلتزم بها المقاول فهذه تكون تابعة للعقد. انظر الوسيط في شرح القانون المدني 7/36-38.
إذا تقرر هذا فإنه يجوز للمقاول أن يتفق مع مقاول آخر على تنفيذ بعض الأعمال ضمن العقد الأساسي وهذا يسمى المقاولة من الباطن بشرط أن لا يكون هناك نص في العقد يمنع ذلك فإذا شرط صاحب العمل على المقاول أن ينفذ العمل بنفسه فلا يجوز للمقاول أن يتعاقد مع آخر لتنفيذ العمل كله أو بعضه وأما إذا لم يكن هذا الشرط موجوداً فحينئذ يجوز للمقاول أن يتعاقد مع آخر لتنفيذ العمل كله أو بعضه ويشترط أن يكون هنالك انفصال تام بين العقدين. فتاوى الاستصناع والمقاولات ص65.
وأما بالنسبة للإخلال بالمدة المتفق عليها في عقد المقاولة فإن الأصل أن يلتزم المسلم بما قبله من شروط لما سبق في الحديث (المسلمون عند شروطهم) وفي الغالب يكون هنالك في عقود المقاولة شرط جزائي لضبط التزام المقاول بتسليم العمل في مدة معينة فإذا أخل المقاول بهذا الشرط فإنه يتحمل نتيجة ذلك.
هذا إذا كانت الظروف والأوضاع طبيعية وأما إذا وقع الخلل بسبب أمور خارجة عن إرادة المقاول كظروف فرض نظام حظر التجول مثلاً فأرى أن لا يطبق عليه الشرط الجزائي لأنه لم يقصر من تلقاء نفسه بل فرضت عليه ظروف قاهرة وخارجة عن إرادته ولا بد من التراحم بين المتعاقدين وأن تقدر تلك الظروف القاهرة بتقدير صحيح فالشرط الجزائي شرط صحيح معتبر شرعاً ما لم يكن هناك عذر في الإخلال بالالتزام الموجب له شرعاً ولا شك أن الظروف التي ذكرها السائل تعتبر عذراً شرعياً لإخلاله بالمدة المشروطة في العقد.
وقد بحث مجمع الفقه الإسلامي عقد المقاولة في دورته الرابعة عشر وجاء في قراره ما يلي: [بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع عقد المقاولة والتعمير: حقيقته، وتكييفه وصوره وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله ومراعاة أدلة الشرع وقواعده ومقاصده ورعاية للمصالح العامة في العقود والتصرفات. ونظراً لأهمية عقد المقاولة ودوره الكبير في تنشيط الصناعة وفتح مجالات واسعة للتمويل والنهوض بالاقتصاد الإسلامي قرر ما يلي:
1. عقد المقاولة – عقد يتعهد أحد طرفيه بمقتضاه بأن يصنع شيئاً أو يؤدي عملاً مقابل بدل يتعهد به الطرف الآخر – وهو عقد جائز سواء قدم المقاول العمل والمادة وهو المسمى عند الفقهاء بالاستصناع أو قدم المقاول العمل وهو المسمى عند الفقهاء بالإجارة على العمل.
2. إذا قدم المقاول المادة والعمل فينطبق على العقد قرار المجمع رقم 365/7 بشأن موضوع الاستصناع.
3. إذا قدم المقاول العمل فقط فيجب أن يكون الأجر معلوماً.
4. يجوز الاتفاق على تحديد الثمن بالطرق الآتية:
أ. الاتفاق على ثمن بمبلغ إجمالي على أساس وثائق العطاءات والمخططات والمواصفات المحددة بدقة.
ب. الاتفاق على تحديد الثمن على أساس وحدة قياسية يحدد فيها ثمن الوحدة والكمية وطبقاً للرسومات والتصميمات المتفق عليها.
ج. الاتفاق على تحديد الثمن على أساس سعر التكلفة الحقيقية، ونسبة ربح مئوية، ويلزم في هذه الحالة أن يقدم المقاول بيانات وقوائم مالية دقيقة ومفصلة وبمواصفات محددة بالتكاليف يرفعها للجهة المحددة في العقد ويستحق حينئذ التكلفة بالإضافة للنسبة المتفق عليها.
5. يجوز أن يتضمن عقد المقاولة شرطاً جزائياً، بمقتضى ما اتفق عليه العاقدان ما لم يكن هناك ظروف قاهرة. ويطبق في هذه الحالة قرار المجمع في الشرط الجزائي رقم 3109/12.
6. يجوز في عقد المقاولة تأجيل الثمن كله أو تقسيطه إلى أقساط لآجال معلومة أو حسب مراحل إنجاز العمل المتفق عليها.
7. يجوز الاتفاق على التعديلات والإضافات.
8. إذا أجرى المقاول تعديلات أو إضافات بإذن رب العمل دون الاتفاق على أجرة فللمقاول عوض مثله.
9. إذا أجرى المقاول تعديلات أو إضافات دون اتفاق عليها فلا يستحق عوضاً زائداً على المسمى ولا يستحق عوضاً عن التعديلات أو الإضافات.
10. يضمن المقاول إذا تعدى أو فرط أو خالف شروط العقد كما يضمن العيوب والأخطاء التي يتسبب فيها. ولا يضمن ما كان بسبب من رب العمل أو بقوة قاهرة.
11. إذا شرط رب العمل على المقاول أن يقوم بالعمل بنفسه فلا يجوز له أن يتفق مع مقاول آخر من الباطن
12. إذا لم يشرط رب العمل على المقاول أن يقوم بالعمل بنفسه جاز به أن يتفق مع مقاول من الباطن ما لم يكن العمل بعينه مقصوداً أداؤه من المقاول نفسه لوصف مميز فيه مما يختلف باختلاف الأجراء.
13. المقاول مسئول عن عمل مقاوليه من الباطن، وتظل مسؤولية المقاول الأصلية تجاه رب العمل قائمة وفق العقد.
14. لا يقبل في عقد المقاولة اشتراط نفي الضمان عن المقاول.
15. يجوز اشتراط الضمان لفترة محددة.
16. لا يقبل في عقد المقاولة اشتراط البراءة من العيوب طيلة فترة الضمان المنصوص عليها في العقد] قرارات مجمع الفقه الإسلامي في دورته الرابعة عشرة.
وخلاصة الأمر أن عقد المقاولة عقد معتبر شرعاً ويجوز للمقاول أن يتفق مع مقاول آخر من الباطن بموافقة صاحب العمل ويجب الالتزام بالشرط الجزائي ما لم تكن هناك ظروف قاهرة خارجة عن إرادة المقاول.(12/81)
82 - شركة بزناس
يقول السائل: هنالك شركة على شبكة الإنترنت تسمى بزناس تقوم بتسويق برامج كمبيوتر للتعليم وتقدم مواقع وبريد إلكتروني على شبكة الإنترنت وغير ذلك. وتقوم الشركة بتسويق برامجها بشكل مباشر للزبائن وتعطي كل زبون الحق في تسويق برامجها إلى آخرين مقابل عمولات يحصل عليها الزبون عند اكتمال عدد محدد من الزبائن المشترين الذين يقنعهم بشراء منتجات الشركة كما أن الشركة تعطي نفس الحق للزبائن الجدد وهكذا. فما قولكم في هذه الطريقة مع العلم أن المسوق قد يحصل على مبالغ كبيرة شهرياً؟ الجواب: بعد الاطلاع على نظام عمل الشركة المذكورة ونظام العمل الذي تتبعه في تسويقها لمنتجاتها والاطلاع على بعض الفتاوى التي نشرتها الشركة في موقعها على الإنترنت والتي تجيز معاملات الشركة. وبعد الاطلاع على آراء أخرى في الموضوع يظهر لي أن أسلوب تعامل الشركة غير شرعي لما يلي:
إن معاملة الشركة المذكورة تقوم على الغرر وهو ما كان مجهول العاقبة لا يدرى هل يحصل أم لا؟ وقد صح في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر) رواه مسلم.
فمعاملة الشركة كأنها نوع من القمار حيث إن الزبون يدفع مبلغاً من المال وهنالك احتمال أن يربح أو لا يربح.
يقول د. سامي السويلم [إن الدخول في هذا البرنامج في حقيقته مقامرة: كل يقامر على أنه سيربح قبل توقف الهرم. ولو علم الشخص أنه سيكون من المستويات الدنيا حين يتوقف الهرم لم يكن ليقبل بالدخول في البرنامج ولا بربع الثمن المطلوب ولو علم أنه سيكون من المستويات العليا لرغب في الدخول ولو بأضعاف الثمن. وهذا حقيقة الغرر المحرم إذ يقبل الشخص بالدخول على أمل الإثراء حتى لو كان احتمال تحقق هذا الأمل ضعيفاً جداً من حيث الواقع. فالثراء هو الذي يغري المرء لكي يدفع ثمن الانضمام للبرنامج فهو يغره بالأحلام والأماني والوهم بينما حقيقة الأمر أن احتمال خسارته أضعاف احتمال كسبه. قد يقال بيعتان في بيعة: عن الثمن الذي يدفعه المشترك هو مقابل السلعة وليس مجرد الانضمام للبرنامج فهو ينتفع بشراء السلعة سواء استمر الهرم في النمو أم لا. وهذه هي الحجة التي تستند إليها الشركات التي تنفذ البرامج في إقناع الجمهور بأنها تختلف عن البرامج الممنوعة قانوناً. لكن الجميع يعلم أن الذي ينضم إلى هذا البرنامج لا يريد السلعة ذاتها بل يريد الانضمام للبرنامج الهرمي وهذا معنى قاعدة منع بيعتين في بيعة وأصل ذلك أن لنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعتين في بيعة وحقيقة بيعتين في بيعة أنها محاولة للالتفاف على الأحكام الشرعية من خلال ضم عقد غير مقصود للطرفين أو لأحدهما من أجل تنفيذ العقد الآخر ولو استقل العقد الآخر لم يكن جائزاً. وفي برامج التسويق الهرمي فإن امتلاك السلعة غير مقصود للمشتري ولا مراد له بل مراده هو الانضمام للبرنامج على أمل الثراء السريع فالشراء مجرد ستار للانضمام للبرنامج بينما الانضمام للبرنامج مقابل ثمن من الغرر وأكل المال بالباطل] مقال منشور على شبكة الإنترنت. ويقول د. حامد العلي: [ثم بعد ذلك توالت علينا أسئلة كثيرة تسأل عن بزناس وهي شركة على شبكة الإنترنت تقوم بعمليات تجارية تبين لنا بعد ذلك أنها تدخل فيما يسمى برامج التسلسل الهرمي أو شبكات التسويق وبعد النظر في حقيقة ما تقوم تبين لي أنها معاملات محرمة تشتمل على الغش والخداع والوهم وتتضمن مقامرة وغرراً وعليه فلا يجوز التعامل مع الشركة المذكورة وأرجو من كل من اغتر بإدراجهم فتواي أن يتنبه إلى أن الفتوى لا تنطبق على الشركة وإنما تدل على منطوقها المحدد بجواز المعاملة المحددة التي نصت عليها الفتوى فحسب وأما الشركة المذكورة فقد تبين لنا تحريم التعامل معها لأن معاملاتها الحقيقية أشد تعقيداً وأبعد مدى بكثير مما تظهره في سؤالها للعلماء. ونهيب بكل العلماء الذين استطاعت الشركة المذكورة أن تحصل على فتاواهم في إباحة تعاملاتها اعتماداً على إبراز سؤال لا يعبر عن حقيقتها أن ينبهوا إلى خطر ما تقوم به هذه الشركة ويحذروا من استغلال فتاواهم في إباحة تعاملاتها] فتوى منشورة على شبكة الإنترنت.
وأنصح من يريد الحصول على معلومات أكثر عن هذا الموضوع أن يقرأ الدراسة المفصلة التي أعدها د. سامي السويلم عضو الهيئة الشرعية لشركة الراجحي وهي منشورة على الإنترنت:www.islamtoday.net
وخلاصة الأمر يبدو لي أنه لا يجوز التعامل مع شركة بزناس لأن فكرتها كثيرة الشبه بالقمار.(12/82)
83 - الرد على فتوى مجمع البحوث في الأزهر بإباحة الربا
يقول السائل: ما قولكم في فتوى مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر التي أباحت فوائد البنوك؟ الجواب: إن تحريم الربا أمر قطعي في كتاب الله سبحانه وتعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وقد انعقد الإجماع على ذلك منذ عهد سلف الأمة قال الله تعالى: (وأحل الله البيع وحرم الربا) وقال تعالى (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون) سورة البقرة الآيتان 278-279 وقال صلى الله عليه وسلم: "لعن الله آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه وقال: هم سواء"رواه مسلم. وغير ذلك من الأدلة الكثيرة. وقد أصبح تحريم الربا من المعلوم من الدين بالضرورة، واتفق المسلمون كافة على أنه من كبائر الذنوب ومن الموبقات السبع، وقد آذن القرآن الكريم مرتكبيه بحرب من الله ورسوله كما سبق في الآية الكريمة وهذا ما أجمع عليه العلماء يقول الشيخ ابن قدامة المقدسي (وكل قرض شُرط فيه أن يزيده فهو حرام بغير خلاف، قال ابن المنذر: أجمعوا على أن المسلف إذا شرط على المستسلف زيادة، أو هدية فأسلف على ذلك أن أخذ الزيادة على ذلك ربا) المغني 4/240.
وإنه لأمر مؤسف حقا أن تسمع وترى من المشايخ من يخالف هذه الأدلة الصيحة الواضحة بحجج واهية وذرائع فاسدة واجتهادات مخالفة للنصوص مخالفة صريحة ومخالفة لما اتفق عليه علماء الأمة قديماً وحديثاً وأرجو أن لا تكون هذه الفتوى مدفوعة الأجر سلفاً.
وقد ردَّ على هذه الفتوى عدد كبير من أهل العلم وبينوا الخطأ الشنيع الذي وقع فيه مصدروها حيث إن مناط هذه الفتوى غير موجود في الواقع ولا تتعامل به البنوك الربوية مطلقاً بل إن الأنظمة المعمول بها تمنع البنوك الربوية من ممارسة ما أباحته الفتوى فهي فتوى في حادثة لا وجود لها في واقع البنوك الربوية!!!
وفعلاً إنه لأمر محزن حقاً حينما يفتي بعض المفتين مع عدم معرفتهم بواقعة الفتوى معرفة أكيدة فتأتي فتواهم بعيدة عن الواقع وقد ذكر أهل العلم أنه يلزم المفتي معرفة الحادثة التي يفتي فيها معرفة تامة لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره يقول أستاذنا الدكتور حسين حامد حفظه الله مبيناً بطلان الفتوى المشار إليها: (هذه المعاملة بهذه الصورة لا يجري عليها العمل في البنوك التجارية ولا المتخصصة، لا في مصر، ولا في البلاد العربية، بل تناقض ما نصت عليه القوانين المدنية وقوانين التجارة وقوانين الجهاز المصرفي في هذه البلاد. فإن هذه الفتوى لا تطبق على ودائع البنوك. قد يكون البنك مقدم السؤال يطبق هذه الصيغة، ويتلقى الودائع بصفته وكيلاً عن المودعين في استثمار هذه الودائع في معاملاته المشروعة، وهذه مسألة ادعاء على واقع وتحتاج إلى إثبات!!! ومع ذلك فإن هذه الوكالة باطلة بالإجماع؛ لأن جميع عوائد وأرباح المال المستثمر بعقد الوكالة تكون للموكل؛ لأنه المالك للمال المستثمر، كما أنه يتحمل جميع خسائره التي تحدث بسبب لا يد للوكيل فيه ولا قدرة له على دفعه ولا تلافي آثاره، وللوكيل أجر معلوم يجب النص عليه في عقد الوكالة، وهو يحدد بمبلغ مقطوع أو نسبة من المال المستثمر، وهو ما لم يتحقق في الصورة المسئول عنها، بل إن الوكيل هو الذي يستحق أرباح استثمار الوديعة، ويتحمل خسائرها، ويحدد للموكل مالك الوديعة قدراً أو نسبةً من رأس المال، ويسميها ربحاً. والبنوك الإسلامية تمارس هذه الصورة بمقتضى قوانين ونظم إنشائها؛ فهي تتلقى الودائع وتستثمرها لحساب أصحابها وعلى مسئوليتهم؛ فلهم أرباح ويتحملون خسائرها التي تحدث بسبب لا يد للبنك فيه، وهو ما يسمى في القانون بالقوة القاهرة والسبب الأجنبي. ويستحق البنك أجراً محدداً في عقد الوكالة في الاستثمار، بمبلغ مقطوع أو نسبةً من الوديعة المستثمرة. وبالقطع فإن هذه الودائع مملوكة لأصحابها وليست قرضاً للبنك ولا ديناً في ذمته. والدليل على أن المعاملة موضوع السؤال والفتوى لا يجري عليها العمل، ولا تسمح بها القوانين المطبقة في البنوك، وأن المطبق إنما معاملة أخرى مختلفة عنها جملةً وتفصيلاً، يأتي وفق عدة اعتبارات، هي:
الاعتبار الأول: الفتوى تفترض وجود بنك يتلقى الودائع والمدخرات من المتعاملين معه ليكون وكيلاً عنهم في استثمارها؛ وهو ما يعني وجود عقد وكالة مستوفٍ لشروطه، وتترتب عليه أحكام الشريعة، ينظم العلاقة بين البنك والمودع. وهذا القول مناقض لحكم القوانين المطبقة، ولا وجود له في واقع البنوك. إن الذي ينظم علاقة البنك بمودعيه هو عقد وديعة النقود، أو الوديعة الناقصة بلغة القانون. وحكم هذا العقد أنه ينقل ملكية الوديعة إلى البنك، ويخوله استخدامها لحسابه وعلى مسئوليته؛ فله وحده ربحها وعليه خسارتها، وهو يدفع للمودع فائدة وهي نسبة من رأس المال مرتبطة بالمدة ويسميها ربحاً والبنك يلتزم برد الوديعة؛ لأنه مدين بها، وهذه المعاملة قرض بالقطع، وفقاً لنصوص القانون وحكم الشريعة؛ وهو ما يجعل الزيادة المشروطة عليها رباً بالإجماع ... وكان الواجب أن تصدر الفتوى على المعاملة حسبما يقررها القانون ويجري عليها العمل دون افتراض صورة خيالية غير واقعة، حتى لا يقع اللبس لدى العامة بأن حكم هذه الصورة المتخيلة ينطبق على ما يجري عليه العمل في البنوك. فالمادة رقم 726 من القانون المدني الجديد تنص على أنه "إذا كانت الوديعة مبلغاً من النقود، أو أي شيء آخر مما يهلك بالاستعمال، وكان المودع عنده مأذوناً له في استعماله؛ اعتبر العقد قرضاً ". وهذا هو الحكم في بقية القوانين العربية ويقول الدكتور السنهوري: "وأكثر ما ترد الوديعة الناقصة على ودائع النقود في المصارف؛ حيث تنتقل ملكية النقود إلى المصرف، ويرد مثلها بعد الطلب أو بعد أجل، بل ويدفع المصرف في بعض الأحيان فائدة عنها؛ فيكون العقد في هذه الحالة قرضاً، وقد أحسن المشرع المصري في اعتبار الوديعة الناقصة قرضاً" ثم يقول: "لا محل للتمييز بين الوديعة الناقصة (وديعة النقود) والقرض؛ حيث إن المودع في الوديعة الناقصة ينقل ملكية الشيء المودع إلى المودع عنده، ويصبح هذا مديناً برد مثله" وتنص المادة 301 من القانون رقم 17 لسنة 1999 بإصدار قانون التجارة المصري على أن "وديعة النقود عقد يخول البنك ملكية النقود المودعة، والتصرف فيها بما يتفق ونشاطه، مع التزام برد مثلها للمودع، طبقاً لشروط العقد". وتنص المادة 300 من نفس القانون على أن أحكام الباب الثالث منه، الخاص بعمليات البنوك، ومنه المادة 301 "تسري على العمليات التي تعقدها البنوك مع عملائها، تجاراً كانوا أم غير تجار، وأياً كانت طبيعة هذه العمليات".) فهذه النصوص القانونية تقطع بأن وديعة النقود في البنوك قرض. وقد أكد فقهاء القانون هذا بما لا يدع مجالاً للشك. وحيث إن هناك إجماعاً على أن كل قرض جر نفعاً فهو ربا… فإن ما يصرف للمودع يعد رباً وإن سُميَ ربحاً أو عائداً… وإني لأعجب كيف غاب عن العلماء الأفاضل أعضاء المجمع هذه الحقائق مع سعة علمهم وغزارة اطلاعهم؟ غير أن عذرهم هو أنهم يجيبون على سؤال يعرض صورة محددة، هي " تلقي البنك للودائع لاستثمارها بطريق الوكالة في صيغ استثمار مشروعة"، وكان الجواب على قدر السؤال وإن بصورة افتراضية غير متحققة في الواقع. وإن كنا سنرى أن تحديد مبلغ مقدماً للمودع بصفته موكلاً لا يجوز شرعاً، ولو سمي ربحاً؛ لأنه يناقض أحكام الوكالة في الاستثمار التي أجمع عليها الفقهاء، وهي: أن ربح الوديعة المستثمرة كله للمودع، وأن خسارتها التي لا يد للوكيل فيها عليه. وأن أجر الوكيل يجب تحديده عند توقيع عقد الوكالة بمبلغ مقطوع أو نسبة من الوديعة المستثمرة. وهذا كله يقتضي أن يمسك الوكيل (البنك) حساباً مستقلاً للوديعة أو مجموع الودائع، يقيد فيه الإيرادات والمصروفات حتى يتحدد الربح الذي يستحقه المودع أو مجموعة المودعين، وذلك على النحو الذي تمارسه البنوك الإسلامية في عمليات الاستثمار بطريق الوكالة.
الاعتبار الثاني: أنه على فرض أن العقد الذي ينظم علاقة البنك والمودعين فيه هو عقد وكالة في الاستثمار، وهو فرض يناقض حكم القوانين وينافي الواقع العملي؛ فإن البنوك التجارية والمتخصصة لا تملك استثمار الودائع بنفسها استثماراً مباشراً؛ بمعنى الاتجار فيه، بل تملك إقراضه للغير بفائدة. فالقانون المصري رقم 163 لسنة 1957 والقوانين المعدلة له تنص على ما يأتي: المادة رقم 26 مكرراً تنص على أنه "تخضع جميع البنوك التي تمارس عملياتها داخل جمهورية مصر العربية لأحكام هذا القانون". والمادة رقم 38 من نفس القانون تنص على أنه "يُعتبر بنكاً تجارياً كل منشأة تقوم بصفة معتادة بقبول ودائع تدفع عند الطلب أو بعد أجل لا يجاوز سنة"
والمادة رقم 39 من نفس القانون تنص على أنه "يحظر على البنك التجاري أن يباشر العمليات الآتية:
(أ) التعامل في المنقول أو العقار بالشراء أو البيع أو المقايضة فيما عدا:
1. العقار المخصص لإدارة أعمال البنك …
2. المنقول أو العقار الذي تئول ملكيته إلى البنك وفاءً لدين له قبل الغير قبل أن يقوم البنك بتصفيته خلال سنة من تاريخ أيلولة الملكية بالنسبة للمنقول وحتى سنوات بالنسبة للعقار …
(ب) امتلاك أسهم الشركات المساهمة، ويشترط "ألا تجاوز القيمة الاسمية للأسهم التي يملكها البنك في الشركة مقدار رأسماله المصدر واحتياطياته". والمادة رقم 45 تنص على أنه "يحظر على البنوك العقارية والبنوك الصناعية وبنوك الاستثمار نفس الأعمال المحظورة على البنوك التجارية".
فهذه النصوص تقطع بأنه يحظر على البنوك التجارية وغير التجارية العاملة في مصر الاستثمار عن طريق الاتجار بالشراء والبيع بصفة مطلقة، إلا إذا كان التملك وفاءً لدين، وبشرط التصرف في العقار أو المنقول خلال مدة محددة، أو كان العقار مستخدماً لإدارة البنك أو لأماكن ترفية موظفيه. وحتى في حالة المشاركة في تأسيس الشركات وشراء أسهم، يحظر على البنك أن يمس الودائع مطلقاً، بل إن له أن يتصرف في حدود حقوق المساهمين. فافتراض الفتوى محل النظر أن البنوك تقوم باستثمار الودائع بالاتجار فيها بالبيع والشراء بصفة مباشرة، أو حتى شراء أسهم الشركات افتراض غير صحيح، وبناء الفتوى عليه باطل. وإذا كنا نتكلم عن أمر واقع.. فأين هو؟ وأي بنك يقوم باستثمار الودائع بنفسه استثماراً مباشراً؟ وأين يعمل؟ أيعمل في مصر أم في الخارج؟ … وعلى كل حال فإن الفتوى لا يتحقق مناط تطبيقها في البنوك التجارية أو المتخصصة؛ لأن الفتوى تفترض قيام البنوك التي تتلقى الودائع بصفتها وكيل استثمار، باستثمار هذه الودائع بنفسها استثماراً مباشراً بالاتجار فيها بالبيع والشراء وغيرهما، وهذا محظور على هذه البنوك ...
الاعتبار الثالث: وعلى فرض أن البنوك تتلقى الودائع بصفتها وكيل استثمار، وعلى فرض أنها تملك استثمار الودائع بنفسها استثماراً مباشراً بالاتجار فيها بالبيع والشراء وشراء الأسهم، وهو فرض غير جائز قانوناً وغير واقع عملاً وممارسة، على فرض ذلك كله.. فإن الفتوى تنص على أن استثمار الودائع يكون في "عمليات البنوك المشروعة". وهذا الفرض غير واقع؛ ذلك أن البنوك تملك استخدام الودائع في عمليات الإقراض بفائدة، وهي ربا محرم باتفاق. والفتوى نفسها لم تتعرض لحكم استخدام البنك لودائعه في إقراضها بفائدة برغم كونه رباً محرَّماً باتفاق. وتنص المادة الرابعة من القانون رقم 37 لسنة 1992 على أن تُستبدَل بكلمة "الفائدة" أينما وردت في القانون رقم 163 لسنة 1957 أو القانون رقم 120 لسنة 1975 كلمة "العائد"، وهو لا يغير من الحكم الشرعي، وهو حرمة كل زيادة عن مبلغ القرض؛ ذلك أن الحكم الشرعي مرتبط بكلمة "النفع" بكل صوره وجميع أشكاله، بصرف النظر عن التسمية التي تُطلق عليه، ربحاً كانت أو عائداً أو هدية أو منحة أو مكافأة أو جائزة … وإذا ثبت أن الودائع تستخدم بطريق الإقراض بفائدة أو عائد -كما يسميه القانون-، كان افتراض الفتوى أن البنك "يستثمر الودائع في معاملاته المشروعة" افتراضاً غير واقع وغير صحيح، وبناء الفتوى عليه باطل، ولو فرض أن هناك بنكاً يتلقى الودائع بصفته وكيل استثمار، ويستثمرها في معاملاته المشروعة استثماراً مباشراً بصيغ وعقود استثمار مشروعة ولا يقرضها للغير بفائدة؛ لكانت الفتوى منطبقة على هذا البنك (أي يتحقق فيه مناط الفتوى) .
فالفتوى التي بين أيدينا أُنيطت وارتبطت وتعلقت ببنك يتلقى الودائع وفق عقد وكالة في الاستثمار، وليس وفق عقد وديعة تأخذ حكم القرض، ويقوم باستثمار هذه الودائع، والاتجار فيها بنفسه (وهذا محظور على البنوك القائمة) ، ويتم التعامل فيها بصيغ وعقود استثمار شرعية، وليس بإقراضها بفائدة كما هو الوضع في البنوك العادية. فإذا ما اختل أو انعدم أحد هذه العناصر التي تشكل مناط الفتوى فإن الفتوى لا تطبق ولقد ذكرنا أن الفتوى تنطبق على البنوك الإسلامية، مع ملاحظة أن البنوك الإسلامية تلتزم بشروط وأحكام الوكالة الشرعية، وأهمها حرمة اشتراط ربح محدد للمودع بصفته موكلاً؛ لأن هذا باطل بالإجماع، وصرف الربح كله للمودع بعد خصم أجرة البنك المحددة في عقد الوكالة، وتحميل المودع بصفته موكلاً جميع مخاطر استثمار الوديعة، وخسائرها التي لا يد للبنك فيها، ولا قدرة له على توقعها أو تلافي آثارها (أي: إذا كانت بسبب قوة قاهرة، أو بسبب أجنبي بلغة القانون) .
ولو وُجد بنك يتلقى الودائع بعقد وكالة مستوفية لشروطها، وتترتب عليها أحكامها الشرعية؛ لكانت معاملاته صحيحة. ولكن الوكالة المذكورة في الفتوى، على الرغم من أنها مجرد اختراع وخيال يناقض أحكام القوانين وواقع العمل؛ فإنها وكالة باطلة بالإجماع؛ لأن الوكيل (البنك) يأخذ أرباح الوديعة، وليس أجرًا محددًا في عقد الوكالة، ويتحمل خسائرها، ويشترط للمودع (الموكل) مبلغًا محددًا مقدمًا أسماه ربحًا، وهذه وكالة باطلة بإجماع الفقهاء طوال 14 قرنًا من الزمان ولا أظن أن هذا يغيب عن علم أصحاب الفضيلة أعضاء المجمع، وهم من المشهود لهم بالعلم والفضل والورع.
وخلاصة الرد على هذا الجزء من الفتوى أنها فتوى في معاملة افتراضية؛ حيث هذه المعاملة المستفتى فيها غير جائزة قانونًا، وغير واقعة عملاً، بالنسبة للبنوك العاملة في مصر، بل وفي غيرها من البلاد العربية وغيرها. وهي صورة بنك يتلقى الودائع بصفة وكيل استثمار، ويستثمر هذه الودائع بنفسه في معاملات وبصيغ وعقود استثمار مباشرة، وهذه المعاملات وتلك الصيغ تتفق مع أحكام الشريعة الإسلامية.
وإذا فرضنا جدلاً أن البنوك تقبل الودائع بصفتها وكيلاً عن المودعين لاستثمارها بنفسها والاتجار فيها استثمارًا مباشرًا؛ فإن هذا الاستثمار يجب أن يكون بصيغ استثمار شرعية كالبيع والشراء والاستصناع والمرابحة والسلم والمشاركة وغيرها من الصيغ والعقود الشرعية، وليس بصيغة الإقراض بفائدة، كما أنه يجب أن تكون الوكالة في الاستثمار مستوفية لشروطها الشرعية، وتترتب عليها الأحكام والآثار التي ترتبها الشريعة الإسلامية؛ من كون الربح كله للمودعين، وللبنك الأجر المحدد المتفق عليه في عقد الوكالة، على أن تكون خسارة الودائع التي لا يد للبنك فيها على أصحابها؛ لأنهم المالكون لها.
وهذا يقتضي أن يُفِرد البنك للودائع التي يستثمرها بطريق الوكالة حسابًا مستقلاً منتظمًا مُدقَّقًا، تقيد فيه إيرادات ومصروفات جميع المعاملات الشرعية التي يقوم بها البنك، حتى يتحدد الربح المستحق للمودعين، بعد أن يخصم البنك الأجرة المتفق عليها عند الإيداع.
إن كان التناول النقدي السابق يتعلق بالإشكال الذي انطوى عليه السؤال من توصيف غير حقيقي لطبيعة النشاط الاقتصادي الذي تمارسه المصارف، ومن ثم سوء الفهم المترتب على هذا التوصيف الخاطئ؛ فإن الجزء الذي بين أيدينا يتناول تجاوزات في فتوى مجمع البحوث نفسها
لقد ذكرت الفتوى بعض الأدلة على ما توصلت إليه من حكم بأن تحديد الأرباح مقدمًا لأصحاب الودائع في البنوك حلال لا شبهة فيه. واستكمالاً للبحث فإني أذكر هذه الأدلة، أو بالأحرى التعليلات والمناسبات التي ذكرت لتأكيد هذه الفتوى:
أولاً: جاء في الفتوى أنه "من المعروف أن البنوك عندما تحدد للمتعاملين معها هذه الأرباح أو العوائد مقدمًا، إنما تحددها بعد دراسة دقيقة للأسواق المالية أو المحلية وللأوضاع الاقتصادية في المجتمع، ولظروف كل معاملة أو نوعها ومتوسط أرباحها".
وهذا التعليل أو التدليل ليس في محل النزاع؛ لأن الخلاف ليس في طريقة تحديد ما يُعطى للمودع، بل في الحكم الشرعي لما يُعطى، بصرف النظر عن مقداره وطريقة تحديده. وقد تقدم أن الوديعة تُعد قرضًا بنص القوانين وبإجماع الفقهاء، و"كل قرض جر نفعًا فهو ربا" بنص الحديث الشريف؛ ذلك أن واقع البنوك أنها تتلقى الودائع وتملكها، وتستقل باستخدامها في إقراض الغير بفائدة، مع التزامها بردها مع الفائدة، وهذا هو حكم القرض بنص القانون، ولا دخل بعد ذلك في كيفية أو طريقة تحديد هذا النفع أو مقداره أو مسماه؛ فقد تُسمى هذه النتيجة نفعًا أو ربحًا أو عائدًا أو فائدة أو مكافأة أو هدية؛ لأن العبرة بما يرتبه العقد من آثار بين عاقديه. والأحكام تُبنى على الواقع لا على الخيال. ودعوى أن البنك وكيل استثمار، وأنه يستثمر الودائع بنفسه في معاملات مشروعة، تقدم تفنيده وإبطاله، وتوضيح مخالفته للقانون والشرع والواقع.
ثانيًا: جاء في الفتوى أنه "من المعروف أن هذا التحديد (للربح الذي يعطى للمودع) قابل للزيادة أو النقص؛ بدليل أن شهادات الاستثمار بدأت بتحديد العائد، ثم ارتفع إلى أكثر من 15%، ثم انخفض الآن إلى ما يقارب 10%.
وهذا التعليل أو التعديل في غير الموضوع الذي نتحدث عنه؛ إذ الحديث عن الصفة الشرعية لما يعطيه البنك للمودِع؛ وقد تقدم أنه ربا؛ لأنه منفعة يمنحها المقترض للمقرِض (زيادة عن الدين؛ لأنها نسبة من رأس المال مقابل الأجل) . ولا يجادل أحد في أن هذا هو حقيقة الربا؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "كل قرض جر نفعًا فهو ربا"، ولإجماع الأمة على أن الزيادة على الدين في مقابل الأجل هي الربا، ساء تحددت وشُرطت مقدمًا كما جاء في السؤال والفتوى، أو كانت العادة جارية في البنوك بذلك.
وإذا ثبت أن الوديعة النقدية قرض يفيد ملك البنك للوديعة، وحقه في استخدامها مع رد مثلها، وأن ذلك قرض بحكم القانون والشرع؛ فإن كل زيادة على القرض تُعطى للمودع تكون ربا مهما كان قدرها، أو طريقة تحديدها، أو التسمية التي تُطلق عليها، أو تغييرها بالزيادة والنقصان. ودعوى أن البنك يتلقى الودائع بصفته وكيل استثمار، وأنه يستثمرها بنفسه في معاملاته المشروعة بالاتجار والبيع والشراء وغير ذلك من عقود وصيغ الاستثمار الشرعية، دعوى يكذبها الواقع، ويحظرها القانون، كما سبق شرحه وإثباته..
ثالثًا: جاء في الفتوى أن "الخلاصة أن تحديد الربح مقدمًا للذين يستثمرون أموالهم عن طريق الوكالة الاستثمارية في البنوك أو غيرها حلال، ولا شبهة في هذه المعاملة؛ فهي من قبيل المصالح المرسلة، وليست من العقائد أو العبادات التي لا يجوز فيها التغيير أو التبديل".
والرد على ذلك يكون بتناول عدة جزئيات على النحو التالي:
أولاً: الحكم الشرعي إذا ثبت بالدليل، وعُرف مناطه؛ فلا يجوز تغييره ولا تبديله بحال، يستوي في ذلك العقائد والعبادات وغيرها من المعاملات. غير أن تفسير النصوص الشرعية، وتحديد مجال إعمالها، يُرجع فيه إلى المصلحة التي شُرع الحكم لتحقيقها، وذلك في المعاملات بخلاف العبادات التي يقف فيها المجتهد عند النص ولا يتوسع في تفسيره. وهذا أصل أكده الإمام الشاطبي وغيره، غير أنه في جميع الحالات إذا توصل المجتهد بهذا المنهج إلى حكم شرعي فإنه لا يحل تغييره أو تبديله.
وثمة فرق بين العبارتين؛ إذ إن عبارة التغيير والتبديل لأحكام الشريعة تُوهم أنها غير ملزمة للمكلف، وهذا رأي نسب إلى الطوفي الحنبلي، وهو منه بريء (راجع نظرية المصلحة في الفقه الإسلامي – ص: 533، وما بعدها لكاتب التعليق) ، إذ لم يقل بذلك أحد في تاريخ الاجتهاد الإسلامي. فقد نسب بعض المحدثين إلى الطوفي أنه يقدم المصلحة على النص والإجماع في المعاملات، ورموه بأنه أول من فتح باب الشر، وأن ما قاله "باطل" صادر عن "مضل" "فاجر" "ساقط"، ولا يقول بقوله إلا من هو "أسقط منه"، وأن رأيه في المصلحة "إلحاد مكشوف"، من أعار له سمعًا لم يكن له نصيب من العلم ولا من الدين، وأن مذهبه ليس غلطًا فقط من عالم حسن النية يحتمل التأويل، بل فتنة فتح بابها قاصد شر ومثير فتن. ويقول الإمام أبو زهرة عن الطوفي: "إن مهاجمته للنصوص وفكرة نسخها بالمصالح أسلوب شيعي"
ثانيًا: هذه المعاملة ليست من باب المصالح المرسلة؛ لأنها وكالة في الاستثمار كما جاء في الفتوى. وقد بينت الشريعة الإسلامية شروط الوكالة وأحكامها. فليست مما سكتت عنه النصوص الشرعية، وهذه الأحكام باتفاق الفقهاء، هي:
1. وجوب النص على أجر الوكيل في عقد الوكالة، سواء كان مبلغًا مقطوعًا أو نسبة من المال المستثمر.
2. أن أرباح المال المستثمر كلها للموكل، وخسارته عليه بحكم أنه المالك للمال.
3. وجوب إمساك الوكيل حسابًا مستقلاً عن عمليات الوكالة تقيد فيه إيرادات العمليات ومصروفاتها؛ حتى تتحدد الأرباح التي يستحقها الموكل بعد خصم أجرة الوكيل.
والوكالة المُدَّعاة في الفتوى، رغم أنها مجرد خيال غير واقع، فهي وكالة باطلة؛ لأنها لم تستوفِ شروطها الشرعية، ولم يترتب عليها الأحكام التي رتبها الشارع عليها.
وخلاصة ردنا على الفتوى أنها لا تطبق على البنوك التي تعمل في مصر، ولا في غيرها من البلاد العربية؛ لأن مناط الفتوى غير متحقق في هذه البنوك؛ فهي ليست وكيلة في الاستثمار، ولا تملك الاستثمار والاتجار في الودائع بطريقة مباشرة بحكم القوانين المنشئة لها، كما أن توظيفها للمال غير مشروع؛ لأنها تقرضها بفائدة محرمة.
وإذا فُرض وجود نظام مصرفي يقوم على أساس الوكالة في الاستثمار؛ فإن هذه الوكالة يجب أن تتوافر شروطها الشرعية، وأن تترتب عليها أحكامها التي لا تُنافي مقتضاها.
إن البنوك الإسلامية تقوم بتلقي الودائع، واستثمارها بطريق مباشر، وبصيغ وعقود شرعية في عقد الوكالة في الاستثمار بجانب صيغ أخرى.) نقلاً عن موقع الإسلام على الإنترنت.
إن هذه الفتوى غير صحيحة حيث إنها بنيت على تصور خاطىء لما عليه العمل في البنوك الربوية حيث إن حقيقة البنك الربوي أنه تاجر ديون يقترض ويقرض وهذا يغطي أكثر من 75% من أعمال البنوك الربوية وهي لا تقوم بتشغيل الأموال في المشاريع ولا تقوم بالاستثمار الحقيقي.
ويضاف لما سبق أن هذه الفتوى مخالفة لجميع ما اتفق عليه أهل العلم في عصرنا من تحريم للربا بجميع أشكاله ومن ذلك: 1. قرار المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة فقد جاء فيه ما يلي:
فإن مجلس المجمع الفقهي في دورته التاسعة المنعقدة بمبنى رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة في الفترة من يوم السبت 12 رجب 1406هـ إلى يوم السبت 19 رجب 1406هـ قد نظر في موضوع (تفشي المصارف الربوية وتعامل الناس معها، وعدم توفر البدائل عنها) وهو الذي أحاله إلى المجلس معالي الأمين العام نائب رئيس المجلس.
وقد استمع المجلس إلى كلام السادة الأعضاء حول هذه القضية الخطيرة، التي يقترف فيها محرم بيّن، ثبت تحريمه بالكتاب والسنة والاجماع، وأصبح من المعلوم من الدين بالضرورة، واتفق المسلمون كافة على أنه من كبائر الإثم والموبقات السبع، وقد آذن القرآن الكريم مرتكبيه بحرب من الله ورسوله، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كمنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون) البقرة 279.
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله (لعن آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه وقال: هم سواء) رواه مسلم.
كما روى ابن عباس عنه: (إذا ظهر الزنا والربا في قرية فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله عز وجل) وروى نحوه ابن مسعود.
وقد أثبتت البحوث الاقتصادية الحديثة أن الربا خطر على اقتصاد العلم وسياسته، وأخلاقياته وسلامته، وأنه وراء كثير من الأزمات التي يعانيها العالم، وأل نجاة من ذلك إلاّ باستئصال هذا الداء الخبيث الذي هو الربا من جسم العالم، وهو ما سبق به الإسلام منذ أربعة عشر قرناً.
ومن عم الله تعالى أن المسلمين بدءوا يستعيدون ثقتهم بأنفسهم ووعيهم لهويتهم، نتيجة وعيهم لدينهم، فتراجعت الأفكار التي كانت تمثل مرحلة الهزيمة النفسية أمام الحضارة الغربية، ونظامها الرأسمالي، والتي وجدت لها يوماً من ضعاف الأنفس من يريد أن يفسر النصوص الثابتة الصريحة قسراً لتحليل ما حرم الله ورسوله.
وقد رأينا المؤتمرات والندوات الاقتصادية التي عقدت في أكثر من بلد إسلامي، وخارج العالم الإسلامي أيضاً، تقرر بالاجماع حرمة الفوائد الربوية وتثبت للناس إمكان قيام بدائل شرعية عن البنوك والمؤسسات القائمة على الربا.
ثم كانت الخطوة العملية المباركة، هي إقامة مصارف إسلامية خالية من الربا والمعاملات المحظورة شرعاً، بدأت صغيرة ثم سرعان ما كبرت، قلية ثم سرعان ما تكاثرت حتى بلغ عددها الآن في البلاد الإسلامية وخارجها أكثر من تسعين مصرفاً.
وبهذا كذبت دعوى العلمانيين وضحايا الغزو الثقافي الذين زعموا يوماً أن تطبيق الشريعة في المجال الاقتصادي مستحيل، لأنه لا اقتصاد بغير بنوك، ولا بنوك بغير فوائد.
وقد وفقه الله بعض البلاد الإسلامية مثل باكستان لتحويل بنوكها الوطنية إلى بنوك إسلامية لا تتعامل بالربا أخذاً ولا عطاءً، كما طلبت من البنوك الأجنبية أن تغير نظامها بما يتفق مع اتجاه الدولة، وإلاّ فلا مكان لها، وهي سنة حسنة لها أجرها وأجر من عمل بها إن شاء الله.
ومن هنا يقرر المجلس ما يلي:
أولاً: يجب على المسلمين كافة أن ينتهوا عما نهى الله تعالى عنه من التعامل بالربا، أخذا وعطاءً، والمعاونة عليه بأية صورة من الصور، حتى لا يحل بهم عذاب الله، وحتى لا يؤذنوا بحرب من الله ورسوله.
ثانياً: ينظر المجلس بعين الارتياح والرضا إلى قيام المصارف الإسلامية، التي هي البديل الشرعي للمصارف الربوية، ويعنى بالمصارف الإسلامية كل مصرف ينص نظامه الأساسي على وجوب الالتزام بأحكام الشريعة الإسلامية الغراء في جميع معاملاته ويلزم إدارته بوجوب وجود رقابة شرعية ملزمة.
ويدعو المجلس المسلمين في كل مكان إلى مساندة هذه المصارف وشد أزرها، وعدم الاستماع إلى الإشاعات المغرضة التي تحاول أن تشوش عليها، وتشوه صورتها بغير حق.
ويرى المجلس ضرورة التوسع في إنشاء هذه المصارف في كل أقطار الإٍسلام، وحيثما وجد للمسلمين تجمعاً خارج أقطاره، حتى تتكون من هذه المصارف شبكة قوية تهيئ لاقتصاد إسلامي متكامل.
ثالثاً: يحرم على كل مسلم يتيسر له التعامل مع مصرف إسلامي أن يتعامل مع المصارف الربوية في الداخل أو الخارج، إذ لا عذر له في التعامل معها بعد وجود البديل الإسلامي، ويجب عليه أن يستعيض عن الخبيث بالطيب ويستغني بالحلال عن الحرام.
رابعاً: يدعو المجلس المسؤولين في البلاد الإسلامية والقائمين على المصارف الربوية فيها إلى المبادرة الجادة لتطهيرها من رجس الربا، استجابة لنداء الله تعالى: (وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين) وذلك يسهمون في تحرير مجتمعاتهم من آثار الاستعمار القانونية والاقتصادية.
خامساً: كل مال جاء عن طريق الفوائد الربوية هو مال حرام شرعاً، لا يجوز أن ينتفع به المسلم ـ مودع المال ـ لنفسه أو لأحد ممن يعوله في أي شأن من شئونه، ويجب أن يصرف في المصالح العامة للمسلمين، من مدارس ومستشفيات وغيرها، وليس هذا من باب الصدقة وإنما هو من باب التطهر من الحرام.
ولا يجوز بحال ترك هذه الفوائد للبنوك الربوية، للتقوي بها، يزداد الإثم في ذلك بالنسبة للبنوك في الخارج، فإنها في العادة تصرفها إلى المؤسسات التنصيرية واليهودية، وبهذا تغدو أموال المسلمين أسلحة لحرب المسلمين وإضلال أبنائهم عن عقيدتهم، علماً بأنه لا يجوز أن يستمر في التعامل مع هذه البنوك الربوية بفائدة أو بغير فائدة.
كما يطالب المجلس القائمين على المصارف الإسلامية أن ينتقوا لها العناصر المسلمة الصالحة، وأن يوالوها بالتوعية والتفقيه بأحكام الإسلام وآدابه حتى تكون معاملاتهم وتصرفاتهم موافقة لها.
فإن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الثاني بجدة من 10 - 16 ربيع الثاني 1406هـ، الموافق 22 - 28ديسمبر 1985م.
بعد أن عرضت عليه بحوث مختلفة في التعامل المصرفي المعاصر وبعد التأمل فيما قدم ومناقشته مناقشة مركزة أبرزت الآثار السيئة لهذا التعامل على النظام الاقتصادي العالمي، وعلى استقراره خاصة في دول العالم الثالث.
وبعد التأمل فيما جرَّه هذا النظام من خراب نتيجة إعراضه عما جاء في كتاب الله تعالى من تحريم الربا جزئيًا وكليًا تحريمًا واضحًا بدعوته إلى التوبة منه، وعلى الاقتصار على استعادة رءوس أموال القروض دون زيادة أو نقصان قل أو كثر، وما جاء من تهديد بحرب مدمرة من الله ورسوله للمرابين.
قرر: أولا: أن كل زيادة (أو فائدة) على الدين الذي حل أجله وعجز المدي عن الوفاء به مقابل تأجيله، وكذلك الزيادة (أو الفائدة) على القرض منذ بداية العقد: هاتان الصورتان ربًا محرم شرعًا.
ثانيًا: أن البديل الذي يضمن السيولة المالية والمساعدة على النشاط الاقتصادي حسب الصورة التي يرتضيها الإسلام - هي التعامل وفقًا للأحكام الشرعية - ولا سيما ما صدر عن هيئات الفتوى المعنية بالنظر في جميع أحوال التعامل التي تمارسها المصارف الإسلامية في الواقع العملي.
ثالثا: قرر المجمع التأكيد على دعوة الحكومات الإسلامية إلى تشجيع المصارف الإسلامية القائمة، والتمكين لإقامتها في كل بلد إسلامي لتغطي حاجة المسلمين كيلا يعيش المسلم في تناقض بين واقعه ومقتضيات عقيدته.
3. قرار المؤتمر الإسلامي الثاني لمجمع البحوث الإسلامية بالقاهرة، عام: 1385هـ، الموافق 1965م
1. الفائدة على أنواع القروض كلها ربا محرم، لا فرق في ذلك بين ما يسمى بالقرض الاستهلاكي، وما يسمى بالقرض الإنتاجي لأن نصوص الكتاب والسنة في مجموعها قاطعة في تحريم النوعين.
2. كثير الربا وقليله حرام، كما يشير إلى ذلك الفهم الصحيح في قوله تعالى: (يأيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافًا مضاعفة) .
3. الإقراض بالربا محرم لا تبيحه حاجة ولا ضرورة، والاقتراض بالربا محرم كذلك، ولا يرتفع إثمه إلا إذا دعت إليه الضرورة ... وكل امرئ متروك لدينه في تقدير ضرورته.
4. أعمال البنوك من الحسابات الجارية وصرف الشيكات وخطابات الاعتماد والكمبيالات الداخلية التي يقوم عليها العمل بين التُّجَّار والبنوك في الداخل: كل هذا من المعاملات المصرفية الجائزة، وما يؤخذ في نظير هذه الأعمال ليس من الربا.
5. الحسابات ذات الأجل، وفتح الاعتماد بفائدة، وسائر أنواع الإقراض نظير فائدة كلها من المعاملات الربوية وهي محرمة.
وخلاصة الأمر أنها فتوى باطلة مصادمة للنصوص ومخالفة لما اتفق عليه علماء الأمة بل إنه قد سبق لشيخ الأزهر الذي ذيل الفتوى بتوقيعه أن أفتى سنة 1989م بتحريم مثل هذه المعاملات الربوية فسبحان مغير القلوب وهذا نص فتواه السابقة: يقول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين، فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون) البقرة 278 – 279.
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما روي عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الذهب بالذهب والفضة بالفضة، والبّر بالبُر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر والملح بالملح، مثلاًُ بمثل، يداً بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء) رواه أحمد والبخاري ومسلم.
وأجمع المسلمون على تحريم الربا، والربا في اصطلاح فقهاء المسلمين هو: زيادة مال في معاوضة مال بمال دون مقابل.
وتحريم الربا بهذا المعنى أمر مجمع عليه في كل الشرائع السماوية، لما كان ذلك، وكان إيداع الأموال في البنوك أو إقراضها أو الاقتراض مناه بأي صورة من الصور مقابل فائدة محددة مقدماً زمناً ومقدراً يعتبر قرضاً بفائدة، وكل قرض بفائدة محددة مقدماً حرام، كانت تلك الفوائد التي تعود على السائل داخلة في نطاق ربا الزيادة المحرم شرعاً بمقتضى النصوص الشرعية.
وننصح كل مسلم بأن يتحرى الطريق الحلال لاستثمار ماله، والبعد عن كل ما فيه شبهة حرام لأنه مسؤول يوم القيامة عن ماله من اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟. مفتي جمهورية مصر العربية
توقيع / د. محمد طنطاوي سجل 41/124 في 14 رجب 1409هـ الموافق 20/2/1989.
وأخيراً فإن على الناس أن لا ينخدعوا بمثل هذه الفتاوى العرجاء.(12/83)
84 - استعمال العام الهجري في عقود الإجارة
يقول السائل: استأجر رجل شقة سكنية واتفق مع مالكها على الأجرة السنوية ولكن صاحب العمارة يطالب بأن تدفع الأجرة حسب السنة الهجرية وليس حسب السنة الميلادية مع العلم أنه لم يتم ذكر السنة الهجرية عند العقد؟
الجواب: يجب أن يعلم أن التاريخ الهجري هو سمة من سمات الأمة الإسلامية لا يجوز الاستغناء عنه ولا استبداله بالتاريخ الميلادي بشكل تام.
ومن المعلوم أن عمر بن الخطاب هو الذي سنَّ فكرة التأريخ من أول محرم، قال ابن الأثير: [والصحيح المشهور أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر بوضع التأريخ والسبب في ذلك: أن أبا موسى الأشعري كتب إلى عمر أنه يأتينا منك كتب ليس لها تأريخ. فجمع عمر الناس للمشورة فقال بعضهم: أرخ بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم وقال بعضهم: بمهاجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: بل نؤرخ بمهاجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن مهاجرته فرق بين الحق والباطل، قال الشعبي: وقال محمد بن سيرين: قام رجل إلى عمر، فقال: أرخوا، فقال عمر: ما أرخوا؟ فقال: شيء تفعله الأعاجم في شهر كذا من سنة كذا، فقال عمر حسن فأرخوا فاتفقوا على الهجرة ثم قالوا: من أي الشهور؟ فقالوا: من رمضان، ثم قالوا: فالمحرم هو منصرف الناس من حجهم وهو شهر حرام فأجمعوا عليه] التشبه المنهي عنه ص 543-544.
إن علماء الأمة قد كرهوا استعمال التقويم الميلادي لما له من ارتباط ديني عند النصارى وهو ميلاد عيسى عليه السلام ولا يجوز التشبه بهم في أمر دينهم، فالأصل عند المسلمين هو استعمال التقويم الهجري حيث إن هذا التقويم مرتبط بعبادات المسلمين كصوم رمضان والحج والزكاة وغير ذلك.
قال القرطبي: تعليقاً على قوله تعالى: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ) سورة التوبة الآية 36.
قال: [هذه الآية تدل على أن الواجب تعليق الأحكام في العبادات وغيرها إنما يكون بالشهور والسنين التي تعرفها العرب دون الشهور التي تعتبرها العجم والروم والقبط وإن لم تزد على اثني عشر شهراً لأنها مختلفة الأعداد منها ما يزيد على ثلاثين ومنها ما ينقص وشهور العرب لا تزيد على ثلاثين وإن كان منها ما ينقص] تفسير القرطبي 8/133.
والأصل أن نستعمل التقويم الهجري ولا بأس باستعمال التقويم الميلادي إلى جانبه.
ولكن ومع الأسف الشديد تخلى المسلمون بشكل عام عن التقويم الهجري واستعملوا التقويم الميلادي وصار التقويم الميلادي هو المعتمد في كل شؤون الناس تقريباً وفي مختلف شؤون الحياة ومن ضمن ذلك عقود الاستئجار وصار هذا عرفاً عاماً عند الناس فإذا استأجر شخص بيتاً لمدة سنة واحدة على أن يدفع الأجرة في آخرها. فالمعروف عند الناس أنها سنة ميلادية ويجب دفع الأجرة في 31 كانون الثاني.
واستعمال التقويم الميلادي بهذه الطريقة واستبعاد التقويم الهجري لا أنه شك أمر محزن وهو من مظاهر ضعف المسلمين وهوانهم والمشتكى إلى الله.
ومع ذلك فإن عرف الناس باستعمال التقويم الميلادي في معاملاتهم معتبر شرعاً ويجب الالتزام به ما دام لم ينص على غيره والعرف والعادة يجب الالتزام بهما شرعاً. عند عدم مخالفة نص شرعي أو شرط لأحد المتعاقدين وقد وضع الفقهاء عدة قواعد فقهية مبنية على اعتبار العرف والعادة منها قاعدة (العادة محكمة) أي أن للعادة في نظر الشارع حاكمية تخضع لها أحكام التصرفات فتثبت تلك الأحكام على وفق ما تقضي به العادة أو العرف إذا لم يكن هناك نص شرعي مخالف لتلك العادة. انظر المدخل الفقهي فقرة 604.
ومنها قاعدة (استعمال الناس حجة يجب العمل بها) .
ومنها قاعدة (المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً) ومعنى ذلك إن ما تعارف الناس عليه في معاملاتهم فهو قائم مقام الشرط وإن لم يذكر صراحة في العقد.
وبناء على ما تقدم فلا يجوز شرعاً لصاحب العمارة أن يطالب المستأجر بدفع أجرة الشقة حسب التقويم الهجري لأن العرف العام جار باستعمال التقويم الميلادي وعرف الناس معتبر.
قال العلامة ابن عابدين الحنفي في منظومته:
والعرف له اعتبار فلذا الحكم عليه قد يدار
انظر نشر العرف في بناء بعض الأحكام على العرف في الجزء الثاني من رسائل ابن عابدين ص112.
ولا يقبل تفسير مالك العمارة للسنة بأنها هجرية مع أن العرف العام يقرر أنها السنة الميلادية فلو فرضنا أن شخصاً أجّر بيتاً لآخر بمائة دينار في الشهر وكانا يسكنان في الضفة الغربية ولم يذكرا أن المقصود بالدينار هو الدينار الأردني فقال صاحب البيت أريد مائة دينار كويتي فنقول له مطالبتك باطلة لأن الدينار في بلادنا إذا أطلق ينصرف إلى الدينار الأردني فقط ولا ينصرف إلى غيره إلا بالنص عليه.
ونقل ابن عابدين عن ابن نجيم قوله: [أما العادة إنما تعتبر إذا اطردت أو غلبت ولذا قالوا في البيع لو باع بدراهم أو دنانير في بلد اختلف فيها النقود مع الاختلاف في المالية والرواج انصرف إلى الأغلب قال في الهداية لأنه هو المتعارف فينصرف المطلق إليه] رسالة رسم المفتي ص44 ضمن الجزء الأول من مجموعة رسائل ابن عابدين.
وعليه فلو نص صاحب العمارة المذكور على أن مدة الإجارة سنة هجرية فله ذلك وأما مع عدم النص على نوع السنة فإنها تنصرف إلى ما تعارف الناس عليه وهو السنة الميلادية.(12/84)
85 - اللقطة
يقول السائل: إنه صاحب محل تجاري وقد وجد ولده مبلغاً كبيراً من المال (أوراق نقدية) في المحل فقام الولد بتمزيق بعض الأوراق النقدية ثم جاء شخص وقال إنه فقد المبلغ وأعطى صفته فهل على صاحب المحل ضمان ما أتلفه ولده من الأوراق النقدية؟
الجواب: يسمى المال الضائع من صاحبه ويجده غيره لقطة والأصل في اللقطة التعريف بها والإعلان عنها إن كانت ذات قيمة وأما الأمور التافهة التي يسرع إليها الفساد كالثمار ونحوها فلا يحتاج إلى التعريف بها والإعلان عنها ويجوز لملتقطها أن ينتفع بها فقد ورد في الحديث عن أنس رضي الله عنه قال: مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بتمرة في الطريق فقال: (لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها) رواه البخاري ومسلم
فهذا الحديث يدل على جواز أخذ المحقرات في الحال، قال الحافظ ابن حجر: [قوله صلى الله عليه وسلم:
(لأكلتها) ظاهر في جواز أكل ما يوجد من المحقرات ملقى في الطرقات لأنه صلى الله عليه وسلم ذكر أنه لم يمتنع عن أكلها إلا تورعاً لخشية أن تكون من الصدقة التي حرمت عليه لا لكونها مرمية في الطريق فقط … ولم يذكر تعريفاً فدل ذلك على أن مثل ذلك يملك بالأخذ ولا يحتاج إلى تعريف] فتح الباري 5/107-108. وقال الإمام الترمذي: [وقد رخص بعض أهل العلم إذا كانت اللقطة يسيرة أن ينتفع بها ولا يعرفها وقال بعضهم إذا كان دون دينار يعرفها قدر جمعة وهو قول اسحق بن إبراهيم] سنن الترمذي مع شرحه تحفة الأحوذي 4/518.
ويرى بعض أهل العلم أن الأمور الحقيرة التي لا يسرع إليها الفساد تعرف ثلاثة أيام واحتجوا على ذلك بما ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من التقط لقطة يسيرة حبلاً أو درهماً أو شبه ذلك فليعرفها ثلاثة أيام فإن كان فوق ذلك فليعرفه ستة أيام فإن جاء صاحبها وإلا فليتصدق بها) رواه أحمد والطبراني والبيهقي وفي سنده كلام لأهل العلم قال الشوكاني: [وفي إسناده عمر بن عبد الله بن يعلى وقد صرح جماعة بضعفه ولكنه قد أخرج له ابن خزيمة متابعة وروى عنه جماعات. وزعم ابن حزم أنه مجهول وزعم هو وابن القطان أن يعلى وحكيمة التي روت هذا الحديث عن يعلى مجهولان. قال الحافظ: وهو عجب منهما لأن يعلى صحابي معروف الصحبة قال ابن رسلان: ينبغي أن يكون هذا الحديث معمولاً به لأن رجال إسناده ثقات وليس فيه معارضة للأحاديث الصحيحة بتعريف سنة لأن التعريف سنة هو الأصل المحكوم به عزيمة وتعريف الثلاث رخصة تيسيراً للملتقط لأن الملتقط لليسير يشق عليه التعريف سنة مشقة عظيمة بحيث يؤدي إلى أن أحداً لا يلتقط اليسير والرخصة لا تعارض العزيمة بل لا تكون إلا مع بقاء حكم الأصل كما هو مقرر في الأصول ويؤيد تعريف الثلاث ما رواه عبد الرزاق عن أبي سعيد: (أن علياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بدينار وجده في السوق فقال النبي صلى الله عليه وسلم: عرفه ثلاثاً ففعل فلم يجد أحداً يعرفه فقال: كله) وينبغي أيضاً أن يقيد مطلق الانتفاع المذكور في حديث الباب بالتعريف بالثلاث المذكور فلا يجوز للملتقط أن ينتفع بالحقير إلا بعد التعريف به ثلاثاً حملاً للمطلق على المقيد وهذا إذا لم يكن ذلك الشيء الحقير مأكولاً فإن كان مأكولاً جاز أكله ولم يجب التعريف به أصلاً كالتمرة ونحوها لحديث أنس المذكور لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد بين أنه لم يمنعه من أكل التمرة إلا خشية أن تكون من الصدقة ولولا ذلك لأكلها وقد روى ابن أبي شيبة عن ميمونه زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها وجدت تمرة فأكلتها وقالت: لا يحب الله الفساد قال في الفتح: يعني أنها لو تركتها فلم تؤخذ فتؤكل لفسدت قال: وجواز الأكل هو المجزوم به عند الأكثر. ويمكن أن يقال إنه يقيد حديث التمرة بحديث التعريف ثلاثاً كما قيد به حديث الانتفاع ولكنها لم تجر للمسلمين عادة بمثل ذلك وأيضاً الظاهر من قوله صلى الله عليه وسلم (لأكلتها) أي في الحال ويبعد كل البعد أن يريد صلى الله عليه وسلم لأكلتها بعد التعريف ثلاثاً وقد اختلف أهل العلم في مقدار التعريف بالحقير فحكى في البحر عن زيد بن علي والناصر والقاسمية والشافعي أنه يعرف به سنة كالكثير وحكى عن المؤيد بالله والإمام يحيى وأصحاب أبي حنيفة أنه يعرف به ثلاثة أيام واحتج الأولون بقوله صلى الله عليه وسلم (عرفها سنة) قالوا: ولم يفصل. واحتج الآخرون بحديث يعلى بن مرة وحديث علي وجعلوهما مخصصين لعموم حديث التعريف سنة وهو الصواب لما سلف] نيل الأوطار 5/379-380.
وأما الأمور ذات القيمة فيجب تعريفها لمدة سنة كما ثبت في الحديث عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: أصبت صرة فيها مئة دينار فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: عرفها حولاً فعرفتها حولاً فلم أجد من يعرفها ثم أتيته فقال: عرفها حولاً فعرفتها فلم أجد ثم أتيته ثلاثاً فقال: احفظ وعاءها وعددها ووكاءها فإن جاء صاحبها وإلا فاستمتع بها فاستمتعت بها فلقيته بعد بمكة فقال: لا أدري ثلاثة أحوال أو حولاً واحداً) رواه البخاري.
وعن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه أنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن اللقطة فقال: (اعرف عفاصها ووكاءها ثم عرفها سنة فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها قال: فضالة الغنم قال: لك أو لأخيك أو للذئب قال: فضالة الإبل؟ قال: مالك ولها؟ معها سقاؤها وحذاؤها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها) رواه مسلم. والعفاص هو الوعاء الذي يكون فيه المال والوكاء هو الخيط الذي يشد به الوعاء.
وفي رواية لمسلم عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اللقطة الذهب أو الورق فقال: (اعرف وكاءها وعفاصها ثم عرفها سنة فإن لم تعرف فاستنفقها ولتكن وديعة عندك فإن جاء طالبها يوماً من الدهر فأدها إليه) وسأله عن ضالة الإبل فقال: (مالك ولها؟ دعها فإن معها حذاءها وسقاءها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يجدها ربها) وسأله عن الشاة فقال: (خذها فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب) . قال الإمام النووي [وأما التعريف سنة فقد أجمع المسلمون على وجوبه إذا كانت اللقطة ليست تافهة ولا في معنى التافهة … ولا بد من تعريفها سنة بالإجماع] شرح النووي على صحيح مسلم 4/386. ثم قال الإمام النووي: [والتعريف أن ينشدها في الموضع الذي وجدها فيه وفي الأسواق وأبواب المساجد ومواضع اجتماع الناس فيقول: من ضاع منه شيء؟ من ضاع منه حيوان؟ من ضاع منه درهم؟ ونحو ذلك ويكرر ذلك بحسب العادة قال أصحابنا: فيعرفها أولاً في كل يوم ثم في الأسبوع ثم في أكثر منه] المصدر السابق 4/386-387.
والتعريف باللقطة إذا كانت ذات قيمة واجب على الراجح من أقوال أهل العلم قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [فإنه واجب على كل ملتقط سواء أراد تملكها أو حفظها لصاحبها وقال الشافعي: لا تجب على من أراد حفظها لصاحبها. ولنا: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به زيد بن خالد وأبي بن كعب ولم يفرق ولأن حفظها لصاحبها إنما يقيد بإيصالها إليه وطريقه التعريف أما بقاؤها في يد الملتقط من غير وصولها إلى صاحبها فهو وهلاكها سيان ولأن إمساكها من غير تعريف تضييع لها عن صاحبها فلم يجز كردها إلى موضعها أو إلقائها في غيره ولأنه لو لم يجب التعريف لما جاز الالتقاط لأن بقاءها في مكانها إذاً أقرب إلى وصولها إلى صاحبها إما بأن يطلبها في الموضع الذي ضاعت فيه فيجدها وإما بأن يجدها مع من يعرفها وأخذه لها يفوت الأمرين فيحرم فلما جاز الالتقاط وجب التعريف كيلا يحصل هذا الضرر ولأن التعريف واجب على من أراد تملكها فكذلك على من أراد حفظها فإن التمليك غير واجب فلا تجب الوسيلة إليه فيلزم أن يكون الوجوب في المحل المتفق عليه لصيانتها عن الضياع عن صاحبها وهذا موجود في محل النزاع] المغني 6/74.
إذا تقرر هذا فإن العلماء قد اتفقوا على أن يد الملتقط يد أمانة فإذا تلفت اللقطة عنده أثناء الحول بلا تعدٍ منه ولا تقصير فلا ضمان عليه وأما إذا تعدى أو قصّر فعليه الضمان.
وفي السؤال فإن ابن صاحب المحل قد تعدّى بتمزيقه الأوراق النقدية فلا بد من ضمانها وإن كان الملتقط صبياً. قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [إن الصبي والمجنون والسفيه إذا التقط أحدهم لقطة ثبتت يده عليها لعموم الأخبار ولأن هذا تكسب فصح منه كالاصطياد والاحتطاب وإن تلفت في يده بغير تفريط فلا ضمان عليه لأنه أخذ ما له أخذه وإن تلفت بتفريطه ضمنها في ماله وإذا علم بها وليه لزمه أخذها لأنه ليس من أهل الحفظ والأمانة فإن تركها في يده ضمنها لأنه يلزمه حفظ ما يتعلق به حق الصبي وهذا يتعلق به حقه فإذا تركها في يده كان مضيعاً لها] المغني 6/100.
وخلاصة الأمر أن على ولي الصبي ضمان ما أتلفه ولده من المال الملتقط.(12/85)
86 - الضمان
يقول السائل: إن حماراً قد رفس ابنه وأصابه بجرح بليغ، فهل على صاحب الحمار شيء؟
الجواب: صح في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (العجماء جرحها جبار) رواه البخاري ومسلم وفي رواية للبخاري: (العجماء عقلها جبار) .
والعجماء هي البهيمة ومعنى جبار أي هدر والهدر الذي لا شيء فيه ومعنى العقل في الرواية الثانية أي الدية والمراد أن لا دية فيما تتلفه البهيمة. انظر فتح الباري 12/319 فما بعدها.
والذي يؤخذ من الحديث النبوي أن الدابة إذا أتلفت شيئاً بدون تقصير أو تعدٍ من مالكها أو سائقها فلا ضمان عليه وأما إذا قصر في حفظها أو تعدى بأن نخسها أو ضربها فرفست إنساناً أو عضته أو آذته فعليه الضمان.
قال الإمام الترمذي: [ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: (العجماء جرحها جبار) فسر ذلك بعض أهل العلم قالوا: العجماء الدابة المنفلتة من صاحبها فما أصابت في انفلاتها فلا غرم على صاحبها] سنن الترمذي مع شرحه التحفة 4/522-523.
وقال الإمام النووي: [فأما قوله صلى الله عليه وسلم (العجماء جرحها جبار) فمحمول على ما إذا أتلفت شيئاً بالنهار أو أتلفت بالليل بغير تفريط من مالكها أو أتلفت شيئاً وليس معها أحد فهذا غير مضمون وهو مراد الحديث. فأما إذا كان معها سائق أو قائد أو راكب فأتلفت بيدها أو برجلها أو فمها ونحوه وجب ضمانه في مال الذي هو معها سواء كان مالكاً أو مستأجراً أو مستعيراً أو غاصباً أو مودعاً أو وكيلاً أو غيره، إلا أن تتلف آدمياً فتجب ديته على عاقلة الذي معها والكفارة في ماله والمراد بجرح العجماء إتلافها سواء كان بجرح أو غيره قال القاضي: أجمع العلماء على أن جناية البهائم بالنهار لا ضمان فيها إذا لم يكن معها أحد فإن كان معها راكب أو سائق أو قائد فجمهور العلماء على ضمان ما أتلفته] شرح النووي على صحيح مسلم 4/364.
وخلاصة الأمر أن صاحب الحمار إن كان قد تعدى أو قصر في حفظ حماره فعليه الضمان وإلا فلا ضمان عليه.(12/86)
87 - معنى حديث: (نهى رسول الله عليه الصلاة والسلام عن
يقول السائل: ما معنى الحديث النبوي: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة) ؟
الجواب: ورد هذا الحديث بعدة روايات عن النبي صلى الله عليه وسلم وهي:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح، ورواه النسائي وأحمد وغيرهما.
ورواه أبو داود بلفظ آخر عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا) .
وورد الحديث بلفظ آخر عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وسلف وعن بيعتين في صفقة واحدة وعن بيع ما ليس عندك) رواه أحمد والبيهقي.
وجاء بلفظ آخر عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم (نهى عن صفقتين في صفقة) وورد الحديث أيضاً عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مطل الغني ظلم وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبعه ولا تبع بيعتين في بيعة) رواه أحمد والترمذي وابن ماجة.
وجميع روايات الحديث لم تخل من كلام لأهل العلم انظر تفصيل ذلك إرواء الغليل 5/148-152.
وعلى كل حال فالحديث لا يقل عن درجة الحسن وهو صالح للاحتجاج.
وأما المراد بالحديث فللعلماء فيه لاثة أوجه وهي:
الوجه الأول: قال الإمام البغوي: [أن يقول: بعتك هذا الثوب بعشرة نقداً، أو بعشرين نسيئة إلى شهر، فهو فاسد عند أكثر أهل العلم لأنه لا يدرى أيهما الثمن وجهالة الثمن تمنع صحة العقد]
شرح السنة 8/143. وهذا التفسير للحديث منقول عن جماعة من السلف منهم سماك بن حرب راوي الحديث حيث قال: [هو الرجل يبيع البيع فيقول هو بنساء بكذا وهو بنقد بكذا وكذا رواه أحمد.
ونقل مثل ذلك عن عبد الوهاب بن عطاء: [يعني يقول هو لك بنقد بعشرة وبنسيئة بعشرين] رواه البيهقي في السنن الكبرى 5/343.
وقال الإمام الترمذي: [وقد فسر بعض أهل العلم قالوا بيعتين في بيعة أن يقول أبيعك هذا الثوب بنقد بعشرة وبنسيئة بعشرين ولا يفارقه على أحد البيعين فإذا فارقه على أحدهما فلا بأس إذا كانت العقدة على واحد منهما] سنن الترمذي مع شرحه تحفة الأحوذي 4/357-358.
وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [وقد روي في تفسير بيعتين في بيعة وجه آخر: وهو أن يقول: بعتك هذا العبد بعشرة نقداً أو بخمسة عشر نسيئة أو بعشرة مكسرة أو تسعة صحاحاً. هكذا فسره مالك والثوري وإسحق وهو أيضاً باطل. وهو قول الجمهور لأنه لم يجزم له ببيع واحد فأشبه ما لو قال: بعتك هذا أو هذا ولأن الثمن مجهول فلم يصح كالبيع بالرقم المجهول ولأن أحد العوضين غير معين ولا معلوم فلم يصح كما لو قال بعتك أحد عبيدي] المغني 4/177.
الوجه الثاني: [والوجه الآخر من تفسير البيعتين في البيعة أن يقول: بعتك عبدي هذا بعشرين ديناراً على أن تبيعني جاريتك فهذا فاسد لأنه جعل ثمن العبد عشرين ديناراً وشرط بيع الجارية وذلك شرط لا يلزم وإذا لم يلزم ذلك بطل بعض الثمن فيصير ما يبقى من المبيع في مقابلة الباقي مجهولاً] شرح السنة 8/143. وهذا المعنى منقول عن الإمام الشافعي حيث قال الترمذي: [قال الشافعي: ومن معنى ما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة أن يقول أبيعك داري هذه بكذا على أن تبيعني غلامك بكذا فإذا وجب لي غلامك وجبت لك داري وهذا تفارق عن بيع بغير ثمن معلوم ولا يدري كل واحد منهما على ما وقعت عليه صفقته] سنن الترمذي 4/358.
والوجه الثالث ما ذكره المباركفوري: [واعلم أنه قد فسر البيعتان في بيعة بتفسير آخر وهو أن يسلفه ديناراً في قفيز حنطة إلى شهر فلما حل الأجل وطالبه بالحنطة قال بعني القفيز الذي لك عليّ إلى شهرين بقفيزين فصار ذلك بيعتين في بيعة لأن البيع الثاني قد دخل على الأول فيرد إليه أوكسهما وهو الأول كذا في شرح السنن لابن رسلان فقد فسر حديث أبي هريرة المذكور بلفظ: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة بثلاثة تفاسير فاحفظها] تحفة الأحوذي 4/358.
والذي يظهر لي أن الوجه الأول في بيان المراد من الحديث هو الأظهر حيث إن راوي الحديث قد فسره به وهو أعلم بما روى كما أنه تفسير عدد كبير من أهل العلم ومع ذلك فإنه يظهر أن النهي عن بيعتين في بيعة بهذا المعنى وهو نقداً بكذا ونسيئة بكذا معلل بعلة وهي الجهالة في العقد والجهالة مبطلة للعقد وهذا المعنى واضح في كلام الإمام الترمذي: [أبيعك هذا الثوب بنقد بعشرة وبنسيئة بعشرين ولا يفارقه على أحد البيعين فإذا فارقه على أحدهما فلا بأس إذا كانت العقدة على واحد منهما]
وقال الإمام البغوي: [وفسروا البيعتين في بيعة على وجهين: أحدهما أن يقول: بعتك هذا الثوب بعشرة نقداً أو بعشرين نسيئة إلى شهر فهو فاسد عند أكثر أهل العلم لأنه لا يدرى أيهما الثمن وجهالة الثمن تمنع صحة العقد وقال طاووس: لا بأس به فيذهب به على أحدهما وبه قال إبراهيم والحكم وحماد وقال الأوزاعي: لا بأس به ولكن لا يفارقه حتى يباته بأحدهما فإن فارقه قبل ذلك فهو له بأقل الثمنين إلى أبعد الأجلين أما إذا باته على أحد الأمرين في المجلس فهو صحيح به لا خلاف فيه وما سوى ذلك لغو] شرح السنة 8/143.
وقال الشوكاني: [فسره سماك بما رواه المصنف عن أحمد عنه وقد وافقه على مثل ذلك الشافعي فقال بأن يقول بعتك بألف نقداً أو ألفين إلى سنة فخذ أيهما شئت أنت وشئت أنا ونقل ابن الرفعة عن القاضي أن المسألة مفروضة على أنه قبل على الإبهام أما لو قال قبلت بألف نقداً أو بألفين بالنسيئة صح ذلك] نيل الأوطار 3/172.
وخلاصة الأمر أن معنى نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة محمول على بيع سلعة بثمنين نقداً بكذا ونسيئة بكذا دون بت العقد على أحدهما فإذا كان الأمر كذلك فالعقد باطل وأما إذا بت المتبايعان الأمر واتفقا على أحد الثمنين كأن يقول البائع: أبيعك هذه السيارة بعشرة آلاف دينار نقداً وباثني عشر ألف دينار مؤجلة على عشرة أقساط فقال المشتري قبلت شرائها باثني عشر ألف دينار مقسطة واتفقا على ذلك صح البيع ولا بأس به وهو البيع المعروف عند الناس ببيع التقسيط فهو بيع صحيح ولا علاقة له بالربا.(12/87)
88 - المصارف الإسلامية
الفرق بين البنوك الإسلامية والبنوك الربوية، يقول السائل: إنه سمع خطيب المسجد يقول إنه لا فرق بين البنوك الإسلامية وبين البنوك الربوية وأن البنوك الإسلامية تتحايل لأكل الربا فما قولكم في ذلك؟
الجواب: كثير من الناس يلقون الكلام جزافاً دون معرفة أو اطلاع على حقائق الأمور وأمثال هذا الكلام الذي قاله خطيب الجمعة يردده كثير من الوعاظ والعامة وبعض المنتسبين إلى العلم الشرعي من أرباع المثقفين وليس من أنصافهم الذين ما عرفوا الأسس الشرعية التي تقوم عليها فكرة البنوك الإسلامية وما عرفوا كيفية تطبيق المعاملات في البنوك الإسلامية ومن جهل شيئاً عاداه وبعض هؤلاء المعادين لفكرة البنوك الإسلامية يرفضونها لأنهم يعتبرونها ترقيعاً ويظنون أنه عندما تقوم للمسلمين دولة سيضغط الخليفة على زر فتتحول البنوك الربوية إلى بنوك إسلامية في لحظة واحدة ولكن هؤلاء واهمون ومخطئون. ولو سألت هؤلاء ما هو الحل لهذه المشكلة العظيمة التي يعاني منها العالم الإسلامي وهي هذا الطوفان الربوي الجارف فلا يحرون جواباً سديداً. والغريب في مقولة المحاربين لفكرة البنوك الإسلامية أنهم يسوون بين الحلال والحرام دونما بصر أو بصيرة ودعواهم هذه قالها المشركون قديماً كما حكى الله سبحانه وتعالى قولهم: (إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا) وقد رد الله سبحانه وتعالى عليهم رداً قاطعاً واضحا فقال جل جلاله: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) . وأقول لهؤلاء هل درستم نظام المعاملات في الشريعة الإسلامية دراسة واعية ودرستم كيفية تطبيق البنوك الإسلامية لمعاملاتها قبل أن تلقوا الكلام على عواهنه. إن الفكرة الأساسية التي تقوم عليها البنوك الإسلامية هي البعد عن الربا في جميع معاملاتها أخذاً وإعطاءً فكيف تسوون بينها وبين البنوك الربوية التي تقوم أكثر معاملاتها على الربا أخذاً وإعطاءً. إن البنوك الإسلامية تعلن جهاراً نهاراً أنها لا تتعامل بالربا بجميع أشكاله وتنص أنظمتها ولوائحها الداخلية على ذلك ويأتي هؤلاء ويقولون إنه لا فرق بين البنوك الإسلامية والبنوك الربوية!!؟ إن خاصية البنوك الإسلامية في عدم التعامل بالربا هي الخاصية الأساسية التي يتميز بها البنك الإسلامي عن البنك الربوي لأن الربا كما هو معلوم محرم بالنصوص الصريحة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، يقول الله سبحانه وتعالى: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أثيم إن الَّذِينَءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَءَاتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين َفإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ) سورة البقرة الآيات 275 - 279. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن الله آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه وقال هم سواء) رواه مسلم. يقول الدكتور غريب الجمال: [تشكل خاصية استبعاد الفوائد من معاملات المصارف الإسلامية المعلم الرئيسي لها وتجعل وجودها متسقاً مع البنية السليمة للمجتمع الإسلامي وتصبغ أنشطتها بروح راسية ودوافع عقائدية تجعل القائمين عليها يستشعرون دائماً أن العمل الذي يمارسونه ليس مجرد عمل تجاري يهدف إلى تحقيق الربح فحسب بل إضافة إلى ذلك أسلوب من أساليب الجهاد في حمل عبء الرسالة والإعداد لاستنقاذ الأمة من مباشرة أعمال مجافية للأصول الشرعية وفوق كل ذلك وقبله يستشعر هؤلاء العاملون أن العمل عبادة وتقوى مثاب عليها من الله سبحانه وتعالى إضافة إلى الجزاء المادي الدنيوي] عن المصارف الإسلامية بين النظرية والتطبيق ص 192-193. كما أن البنوك الإسلامية توجه كل جهودها نحو استثمار المال بالحلال فمن المعلوم أن المصارف الإسلامية مصارف تنموية بالدرجة الأولى ولما كانت هذه المصارف تقوم على اتباع منهج الله المتمثل بأحكام الشريعة الغراء، لذا فإنها وفي جميع أعمالها تكون محكومة بما أحله الله وهذا يدفعها إلى استثمار وتمويل المشاريع التي تحقق الخير للبلاد والعباد والتقيد في ذلك بقاعدة الحلال والحرام التي يحددها الإسلام مما يترتب عليه ما يأتي: أ. توجيه الاستثمار وتركيزه في دائرة إنتاج السلع والخدمات التي تشبع الحاجات السوية للإنسان المسلم. ب. تحري أن يقع المنتج - سلعة كان أو خدمة - في دائرة الحلال. ج. تحري أن تكون كل مراحل العملية الإنتاجية (تمويل - تصنيع - بيع - شراء) ضمن دائرة الحلال. د. تحري أن تكون كل أسباب الإنتاج (أجور - نظام عمل) منسجمة مع دائرة الحلال. هـ. تحكيم مبدأ احتياجات المجتمع ومصلحة الجماعة قبل النظر إلى العائد الذي يعود على الفرد] . المصارف الإسلامية بين النظرية والتطبيق ص 193. ويضاف إلى ذلك ما للبنوك الإسلامية من دور هام في إحياء نظام الزكاة من خلال صندوق الزكاة وتوزيع الزكاة على المستحقين لها. وكذلك دور البنوك الإسلامية الذي لا ينكره إلا مكابر أو جاهل في بعث الروح في فقه المعاملات في الشريعة الإسلامية الذي طالما كان مهجوراً فتوجهت همم الباحثين والدارسين لنفض الغبار عنه وبدأت الدراسات الكثيرة عن مفردات هذا النظام فحفلت المكتبة الإسلامية بمئات المؤلفات التي درست المرابحة والمضاربة والشركات والصرف وغير ذلك. وينبغي أن يعلم أن كلامي هذا عن البنوك الإسلامية لا يعني أنها بلغت الدرجة العالية في التطبيق والتنفيذ وأنها لا تخطئ وأنها كلها تسير على المنهج الشرعي بشكل تام. لا فإن البنوك الإسلامية حالها كحال الناس تماماً فكما أنك تجد في أفراد المسلمين من هو ملتزم تماماً بالحكم الشرعي وتجد فيهم من خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً فكذلك البنوك الإسلامية تجد بعضها لديه التزام عال بالمنهج الشرعي وبعضها يخلط الخطأ بالصواب وإن وجود الأخطاء في التطبيق لدى البنوك الإسلامية لا يعني بحال من الأحوال أن الخطأ في الفكرة والقاعدة التي تسير عليها البنوك الإسلامية ولكن وجود الأخطاء من العاملين أمر عادي جداً فالذي لا يعمل هو الذي لا يخطئ أما الذي يعمل فلا بد أن يقع منه الخطأ. وأخيراً يجب التنبيه إلى أن البنوك الإسلامية تسير في ميرتها التي تشهد تقدماً ونجاحاً بمرور الأيام - والحمد لله - معتمدةً على أسس وقواعد وضعها عدد كبير من علماء المسلمين في هذا العصر من خلال دراسات وأبحاث ومجامع علمية وفقهية ومن خلال مؤتمرات علمية يشارك فيها خبراء في الاقتصاد بجانب علماء الشريعة كما أن لكل بنك إسلامي هيئة للرقابة الشرعية مؤلفة من أهل الخبرة والاختصاص الشرعيين والاقتصاديين لمراقبة أعمال البنك تتولى التوجيه والإرشاد والتدقيق وغير ذلك. وأختم كلامي بعبارات نيرة لأستاذنا فقيه العصر الدكتور العلامة يوسف القرضاوي حفظه الله ورعاه فقد قال: [ ... كلمة أوجهها للناقدين للمصارف والمؤسسات المالية الإسلامية أيا كانت دوافعهم وأعتقد أن بعضهم مخلص في نقده وكلمتي إليهم تتمثل في أمور ثلاثة: أ. أن يكونوا واقعيين ولا ينشدوا الكمال في البنوك الإسلامية وحدها في مجتمع يعج بالنواقص في كل ميدان وأن يصبروا على التجربة فهي لا زالت في بدايتها وأن يقدموا لها العون بدل أن يوجهوا إليها الطعن من أمام ومن خلف. وان يذكروا هذه الحكمة جيداً: إن من السهل أن نقول ونحسن القول ولكن من الصعب كل الصعب أن يتحول القول إلى عمل. ب. أن يقدموا حسن الظن بالناس بدل المسارعة بالاتهام للغير وسوء الظن بالآخرين وأن يتخلوا عن الإعجاب بالرأي فهو أحد المهلكات وعن الغرور بالنفس فهو أحد الموبقات وأن يذكروا قول الله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) سورة الحجرات الآية 12. وقول رسوله الكريم: (إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث) متفق عليه. ج. أن يذكروا أن المصارف الإسلامية - وإن كان لها بعض السلبيات وعليها بعض المآخذ - لها إيجابيات مذكورة وإنجازات مشكورة نذكر منها: 1. أنها يسرت للفرد المسلم سبيل التعامل الحلال وأراحت ضمائر المسلمين من التعامل مع البنوك الربوية. 2. زرعت الثقة والأمل في أنفس المسلمين بإمكان قيام بنوك بغير ربا وأن تطبيق الشريعة عندما تتجه الإرادة الجماعية إليه ميسور غير معسور. 3. شجعت قاعدة كبيرة من جماهير الشعوب المسلمة على الادخار والاستثمار على حين قلما تتعامل البنوك الربوية إلا مع الأغنياء. 4. هيئت فرصة مساعدة الفقراء ومساعدة المؤسسات الخيرية والجمعيات الإسلامية عن طريق صناديق الزكاة والبر والقرض الحسن. 5. ساهمت في تنمية الجانب التربوي الثقافي] بيع المرابحة للآمر بالشراء كما تجريه المصارف الإسلامية ص 86- 87. ?????(12/88)
89 - السرقة
يقول السائل: إنه يعمل كهربائياً وقد قامت شركة الكهرباء بقطع التيار الكهربائي عن منزل شخص لسرقته التيار الكهربائي فطلب هذا الشخص من الكهربائي أن يوصل التيار لمنزله بدون موافقة شركة الكهرباء فما حكم ذلك؟
الجواب: ينبغي أن يعلم أولاً أن سرقة التيار الكهربائي حرام شرعاً وينطبق عليها مفهوم السرقة عند الفقهاء فالسرقة عندهم هي أخذ المال من حرزه خفية. وهذا ينطبق على سارق التيار الكهربائي فهو يأخذ التيار الكهربائي خفية من حرزه. والتيار الكهربائي ملك لشركة الكهرباء وهو مال متقوم شرعاً وهو مال له حرز معروف عرفاً فتحرم سرقته أو التعدي عليه والأدلة على تحريم ذلك كثيرة منها قوله تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) سورة المائدة، الآية 38
وقوله تعالى: (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) سورة البقرة، الآية 188.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده) رواه البخاري ومسلم.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن) رواه البخاري.
وعن عمرو الضمري رضي الله عنه قال: شهدت خطبة النبي صلى الله عليه وسلم بمنى فكان فيما خطب به أن قال:
(ولا يحل لامرئ من مال أخيه إلا ما طابت به نفسه قال: فلما سمعت ذلك قلت: يا رسول الله أرأيت لو لقيت غنم ابن عمي فأخذت منها شاة فاجتزرتها؟ عليَّ في ذلك شيء؟ قال: إن لقيتها نعجة تحمل شفرة وأزناداً فلا تمسها) رواه أحمد والبيهقي.
وعن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل للرجل أن يأخذ عصا أخيه بغير طيب نفسه) رواه أحمد والبيهقي وابن حبان وقال الشيخ الألباني صحيح، غاية المرام ص 263.
وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم في مجلس فقال: (بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً ولا تسرقوا ولا تزنوا) رواه البخاري ومسلم.
وينبغي معاقبة سارق التيار الكهربائي بقطع التيار عنه وكذلك تغريمه مبلغاً من المال.
ومن المعروف أن سرقة التيار الكهربائي تلق ضرراً كبيراً بشركة الكهرباء وقد صح في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم:
(لا ضرر ولا ضرار) .
إذا تقرر هذا فلا يجوز للسائل أن يوصل التيار الكهربائي للشخص الذي قطعته عنه شركة الكهرباء لأن هذا العمل باطل حيث إنه من التعاون على الإثم والعدوان وقد قال: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) سورة المائدة: الآية 2.(12/89)
90 - عقد المزارعة لا يعني تملك الأرض
يقول السائل: ما قولكم فيما انتشر بين الناس أن من تكون عنده أرض لغيره يزرعها لفترة طويلة كعشرين سنة مثلاً ثم يريد صاحب الأرض استرجاعها وإلغاء عقد المزارعة فيطالب المزارع بتملك جزء من الأرض بحجة أنه كان يعتني بالأرض ويزرعها ويرفض إعادة الأرض لصاحبها إلا باقتطاع جزء منها فما حكم الشرع في ذلك؟
الجواب: إن طرق تملك الأرض في الشريعة الإسلامية لا تخرج عن خمسة وهي:
أولاً: تملك بالبيع والشراء كأن يشتري شخص قطعة أرض فيصبح مالكاً لها حر التصرف فيها بعد إتمام عقد البيع.
ثانياً: تملك بالهبة: كأن يهب شخص آخر قطعة أرض فيملكها الثاني مجاناً فيصبح حر التصرف فيها.
ثالثاً: تملك بإحياء الأرض الموات وهي الأرض التي لا حق فيها لأحد ولا ملك وسأفصل ما يتعلق بإحياء الموات فيما بعد.
رابعاً: التملك بالإقطاع وهو أن يقطع إمام المسلمين بعض الرعية أرضاً مواتاً لإحيائها وإعمارها فيصير مالكاً لها
خامساً: التملك بالميراث كأن يرث شخص أرضاً عن أبيه فيصير مالكاً لها.
هذه هي طرق تملك الأرض عند العلماء وأما المزارعة فليست طريقاً لتملك الأرض لأن المزارعة في حقيقتها إنما هي فرع من الإجارة والإجارة تعني تملك المنفعة ولا تعني تملك العين المؤجرة فمهما طالت مدة الإجارة تبقى العين المؤجرة ملكاً لصاحبها فلو أن شخصاً سكن في بيت بالإجارة لمدة خمسين عااً فيبقى البيت لصاحبه ولا يصير ملكاً للمستأجر أبداً. فالمزارعة وهي عقد على الزرع ببعض الخارج من الأرض فلو اتفق مزارع مع صاحب أرض على أن يزرع أرضه مقابل ثلث المحصول واتفقا على أن مدة العقد عشرين سنة فلا يعني هذا العقد أن المزارع يملك شيئاً من الأرض مهما طالت مدة المزارعة.
ولعل بعض الناس يظن أنه يتملك الأرض بعد طول المدة لأنه أحياها ولعلهم يحتجون بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحيا أرضاً ميتة فهي له) رواه الترمذي وقال حسن صحيح وصححه الألباني في إرواء الغليل 6/4.
وهذا الفهم خاطئ تماماً لأن المقصود بإحياء الأرض الموات هي الأرض التي لا مالك لها ولا تعلق بها أي حق لمسلم أو غير مسلم.
فقد روى البخاري في صحيحه بسنده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أعمر أرضاً ليست لأحد فهو أحق بها) .
وقد ذكر العلماء شروطاً لصحة إحياء الأرض الموات منها أن لا تكون الأرض ملكاً لأحد مسلم أو ذمي وهذا الشرط باتفاق أهل العلم ومنهم من شرط أن يكون الإحياء بإذن الإمام ومنهم من شرط أن تكون الأرض خارج البلد. انظر تفصيل هذه الشروط في ملكية الأرض ص118 فما بعدها.
وبهذا يظهر لنا أن إحياء الأرض الموات لا يكون في الأراضي المملوكة للناس وإن ترك أصحابها استغلالها ويجب تحذير من يستولون على أراضي الناس الآخرين بغير حق وأن هذا من الظلم.
وقد حرم الله الظلم قال الله تعالى: (مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ) سورة غافر الآية 18 وقال تعالى: (وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) سورة الحج الآية 71.
وجاء في الحديث القدسي فيما يرويه النبي صلى الله عليه وسلم عن رب العزة والجلال: (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا) رواه مسلم.
وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم) رواه مسلم.
وجاء في خطبة الوداع قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا إن الله حرم عليكم دمائكم وأموالكم كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا) رواه البخاري.
وحذر النبي صلى الله عليه وسلم أشد التحذير من غصب الأراضي وأخذها من أصحابها بغير حق فقد جاء في الحديث عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه من سبع أرضين) متفق عليه
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أخذ من الأرض شبراً بغير حقه طوقه من سبع أرضين) رواه أحمد بإسنادين أحدهما صحيح ومسلم إلا أنه قال: (لا يأخذ أحد شبراً من الأرض بغير حقه إلا طوقه الله إلى سبع أرضين يوم القيامة) قوله: (طوقه من سبع أرضين) قيل: أراد طوق التكليف لا طوق التقليد وهو أن يطوق حملها يوم القيامة وقيل: إنه أراد أنه يخسف به الأرض فتصير البقعة المغصوبة في عنقه كالطوق.
وروى البغوي بإسناده عن سالم عن أبيه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أخذ من الأرض شبراً بغير حقه خسف به يوم القيامة إلى سبع أرضين) رواه البخاري.
وعن يعلى بن مرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أيما رجل ظلم شبراً من الأرض كلفه الله عز وجل أن يحفره حتى يبلغ به سبع أرضين ثم يطوقه يوم القيامة حتى يقضى بين الناس) رواه أحمد والطبراني وابن حبان وفي رواية لأحمد والطبراني عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من أخذ أرضاً بغير حقها كلف أن يحمل ترابها إلى المحشر) . وقال الألباني: صحيح.
وعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أعظم الغلول عند الله عز وجل ذراع من الأرض تجدون الرجلين جارين في الأرض أو في الدار فيقتطع أحدهما من حظ صاحبه ذراعاً إذا اقتطعه طوقه من سبع أرضين) رواه أحمد بإسناد حسن والطبراني في الكبير. وقال الألباني: حسن صحيح.
وعن وائل بن حجر رضي الله عنه قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من غصب أرضاً ظلماً لقي الله وهو عليه غضبان) رواه الطبراني من رواية يحيى بن عبد الحميد الحماني. وقال الألباني: صحيح. انظر صحيح الترغيب والترهيب 2/ 379 – 381.
وخلاصة الأمر أنه يحرم على المسلم أن يأخذ أي جزء من أرض غيره بحجة أنه استأجرها سنوات طويلة لأن المزارعة والإجارة ليستا من طرق تملك الأرض وإنما هما ملك للمنفعة لا ملك للعين.
وإن غصب الأرض ظلم عظيم وجريمة كبيرة عقابها في الآخرة شديد والعياذ بالله.(12/90)
91 - البيع
يقول السائل: ماذا يعني قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تبع ما ليس عندك) ؟
الجواب: هذا الحديث ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من رواية حكيم بن حزام قال: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يأتيني الرجل فيسألني من البيع ما ليس عندي أبتاع له من السوق ثم أبيعه؟ قال: لا تبع ما ليس عندك) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح. ورواه أبو داود والنسائي وابن ماجة وقال الألباني: صحيح انظر إرواء الغليل 5/132. وفي رواية أخرى عند الترمذي عن حكيم بن حزام قال: (نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أبيع ما ليس عندي) . وقال الترمذي: [والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم كرهوا أن يبيع الرجل ما ليس عنده] سنن الترمذي مع شرحه تحفة الأحوذي 4/363.
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع ولا ربح ما لم يضمن ولا بيع ما ليس عندك) رواه الترمذي وقال هذا حديث حسن صحيح سنن الترمذي مع شرحه تحفة الأحوذي 4/361. وهذا الحديث يدل على أنه لا يجوز أن يبيع المسلم ما ليس عنده أي ما ليس في ملكه عند العقد قال المباركفوري: [وفي قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تبع ما ليس عندك) دليل على تحريم بيع ما ليس في ملك الإنسان ولا داخلاً تحت قدرته] تحفة الأحوذي 4/360.
وقد جعل الفقهاء من شروط صحة عقد البيع أن يكون المبيع موجوداً حين العقد وأن يكون في ملك البائع ولم يجيزوا بيع المعدوم كبيع ما تنتجه الحيوانات وبيع ما في ملك جاره أو صديقه لأنه غير مملوك للبائع وقد استثني من هذا الأصل بيع السلم وألحق به عقد الاستصناع قال الإمام البغوي في شرح حديث (لا تبع ما ليس عندك) : [هذا في بيوع الأعيان دون بيوع الصفات فلو قبل السلم في شيء موصوف عام الوجود عند المحل المشروط يجوز وإن لم يكن في ملكه حال العقد] شرح السنة 8/141. وقال الشوكاني: [وظاهر النهي تحريم ما لم يكن في ملك الإنسان ولا داخلاً تحت مقدرته وقد استثني من ذلك السلم فتكون أدلة جوازه مخصصة لهذا العموم] نيل الأوطار 5/175.
ونقل الحافظ ابن حجر عن ابن المنذر قوله: [وبيع ما ليس عندك يحتمل معنيين أحدهما: أن يقول: أبيعك عبداً أو داراً معينة وهي غائبة فيشبه بيع الغرر لاحتمال أن تتلف أو لا يرضاها وثانيهما: أن يقول: هذه الدار بكذا على أن أشتريها لك من صاحبها أو على أن يسلمها لك صاحبها وقصة حكيم موافقة للاحتمال الثاني] فتح الباري 4/441. وبيع السلم الذي استثناه العلماء من بيع ما ليس عند الإنسان هو بيع آجل بعاجل أو هو بيع موصو ف في الذمة ببدل يعطى عاجلاً. ومثال ذلك أن يبيع المزارع اليوم ألف كغم من الزيتون بسعر خمسة آلاف شيكل يقبضها عند العقد على أن يسلم كمية الزيتون في منتصف شهر 11/2002 مثلاً وعقد السلم مشروع باتفاق العلماء وقد دل على مشروعيته الكتاب والسنة وإجماع أهل العلم. قال الله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ) سورة البقرة الآية 282. وقال ابن عباس: هذه الآية نزلت في السلَّم خاصة. تفسير القرطبي 3/377. وصح في الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (قدم النبي صلى الله عليه وسلم وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين فقال: من أسلف في تمر فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم. رواه البخاري ومسلم. وعقد السلم من العقود التي تعطي مرونة كبيرة للاقتصاد الإسلامي وتفتح مجالاً رحباً في الزراعة والصناعة فالمزارع يبيع إنتاجه الزراعي مقدماً وكذا صاحب المصنع يبيع إنتاجه ويحصل على ثمنه مقدماً على أن يسلمه في مدة لاحقة متفق عليها وقد جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي المتعلق بالسلم وتطبيقاته المعاصرة ما يلي: [يعد السلم في عصرنا الحاضر أداة تمويل ذات كفاءة عالية في الاقتصاد الإسلامي وفي نشاطات المصارف الإسلامية من حيث مرونتها واستجابتها لحاجات التمويل المختلفة سواء أكان تمويلاً قصير الأجل أم متوسطه أم طويله واستجابتها لحاجات شرائح مختلفة ومتعددة من العملاء سواء أكانوا من المنتجين الزراعيين أم الصناعيين أم المقاولين أم من التجار واستجابتها لتمويل نفقات التشغيل والنفقات الرأسمالية الأخرى. ولهذا تعددت مجالات تطبيق عقد السلم ومنها ما يلي: أ. يصلح عقد السلم لتمويل عمليات زراعية مختلفة حيث يتعامل المصرف الإسلامي مع المزارعين الذين يتوقع أن توجد لديهم السلعة في الموسم من محاصيلهم أو محاصيل غيرهم التي يمكن أن يشتروها ويسلموها إذا أخفقوا في التسليم من محاصيلهم فيقدم لهم بهذا التمويل نفعاً بالغاً ويدفع عنهم مشقة العجز المالي عن تحقيق إنتاجهم. ب. يمكن استخدام عقد السلم في تمويل النشاط الزراعي والصناعي ولا سيما تمويل المراحل السابقة لإنتاج وتصدير السلع والمنتجات الرائجة وذلك بشرائها سلماً وإعادة تسويقها بأسعار مجزية. ج. يمكن تطبيق عقد السلم في تمويل الحرفيين وصغار المنتجين الزراعيين والصناعيين عن طريق إمدادهم بمستلزمات الإنتاج في صورة معدات وآلات أو مواد أولية كرأس مال سلم مقابل الحصول على بعض منتجاتهم وإعادة تسويقها] الفقه الإسلامي وأدلته 9/645-646. وأما عقد الاستصناع الذي استثناه العلماء أيضاً من بيع ما ليس عند الإنسان فهو فرع من عقد السلم عند جمهور أهل العلم وهو عقد مع صانع على عمل شيء معين في الذمة كمن يطلب من نجار أن يصنع له خزانة بأوصاف معينة بثمن معين. وعقد الاستصناع عقد مشروع فقد صح (أن النبي صلى الله عليه وسلم استصنع خاتماً) رواه البخاري. وعقد الاستصناع أيضاً يفتح آفاقاً واسعة في الاقتصاد الإسلامي يقول الشيخ العلامة مصطفى الزرقا: [إن عقد الاستصناع لا يجري في المنتوجات الطبيعة التي لا تدخلها الصنعة كالبقول والفواكه واللحوم الطازجة واللبن والقمح وسائر الحبوب … إلخ فهذه السلع الطبيعية طريق بيع غير الموجود منها وقت العقد إنما هو السلم فلا يجري الاستصناع إلا فيما تدخله الصنعة كالأمثلة السابقة البيان. واليوم قد وجدت صناعة التعليب لهذه المنتوجات الطبيعية وصناعة تجميدها أيضاً لتحفظ معلبة أو مجمدة مثلجة في علب أو أكياس البلاستيك فهل تنتقل بذلك من زمرة المنتوجات الطبيعية إلى زمرة المصنعات فيصح فيها عقد الاستصناع ويجوز التعاقد مع معمل التعليب على أن يقوم بتعليب الكميات المطلوبة من كل نوع بمواصفات معينة. لا شك في كون الجواب إيجابياً لأنها انتقلت بهذا العمل الصناعي إلى زمرة المصنعات ويدخل في ذلك الأسماك واللحوم والخضروات وسواها. بطريق الاستصناع يمكن إقامة المباني على أرض مملوكة للمستصنع بعقد مقاولة فإذا كان عقد المقاولة يقوم على أساس أن المقاول هو الذي يأتي بمواد البناء ويتحمل جميع تكاليفه ويسلمه جاهزاً على المفتاح فهذا يمكن أن يعتبر استصناعاً] عقد الاستصناع ومدى أهميته ص24 نقلاً عن البيوع الشائعة ص177. وبعد هذا الكلام ترى أن العلماء قد منعوا بيع ما ليس عند الإنسان واستثنوا من ذلك بيع السلم وعقد الاستصناع مع أن كلاً منهما عقد على غير مملوك للإنسان عند العقد. وأود أن أنبه إلى أن بعض الناس قد أدخل تحت النهي عن بيع ما ليس عند الإنسان صوراً من التعامل الصحيحة الجائزة وزعموا أنها محرمة فمن ذلك: بيع المرابحة للآمر بالشراء الذي تتعامل به المصارف الإسلامية وإدخال بيع المرابحة المذكور تحت بيع ما ليس عندك غير صحيح وتجني على المصارف الإسلامية لأن المعروف أن المصارف الإسلامية عندما تتعامل ببيع المرابحة للآمر بالشراء فإنها لا تبيع السلعة للآمر بالشراء إلا بعد أن يتملك المصرف الإسلامي السلعة تملكاً تاماً وقد جاء في قرارات مؤتمر المصرف الإسلامي ما يلي: [يقرر المؤتمر أن المواعدة على بيع المرابحة للآمر بالشراء بعد تملك السلعة المشتراة وحيازتها ثم بيعها لمن أمر بشرائها بالربح المذكور في الموعد السابق هو أمر جائز شرعاً طالما كانت تقع على المصرف الإسلامي مسؤولية الهلاك قبل التسليم وتبعة الرد فيما يستوجب الرد بعيب خفي] بيع المرابحة للآمر بالشراء ص60. فإذا اتفق شخص مع آخر على أن يشتري له سلعة وصفها له وافقا على ثمنها وأن ثمنها سيكون على أقساط مؤجلة وتم الوعد بينهما على ذلك ولكن العقد لم يجر بينهما إلا بعد تملك الأول للسلعة فالعقد صحيح وهذه المعاملة غير داخلة في بيع ما ليس عند الإنسان. ومن الصور التي زعم بعض الناس دخولها تحت بيع ما ليس عندك ما تعارف عليه الناس قديماً وحديثاً مما يسميه الناس (التفصيل) يقولون فلان فصل غرفة نوم وفلان فصل بدلة وهذا في الحقيقة هو عقد استصناع وهو عقد صحيح إذا تم وفق ما قرره الفقهاء.
ومن الصور التي زعم بعض الناس أنها تدخل في بيع ما ليس عندك شراء سيارة جديدة من وكالة السيارات والسيارة ليست موجودة لدى الوكالة وإنما ما زالت في بلد الإنتاج: وهذا الزعم باطل لأنه عندما يتم بيع سيارة بالطريقة السابقة فإن جميع التفاصيل تكون مبينة وواضحة فيما يسمى بكتالوج السيارة بل إن أدق التفاصيل تكون مذكورة فيه فهذا العقد صحيح ولا يدخل تحت بيع ما ليس عند الإنسان بل هو من صور السلم.
ومن الصور الجائزة في البيع أيضاً وغير داخلة في بيع ما ليس عند الإنسان بيع عمارة أو شقة على الخارطة إذا كانت الأوصاف مبينة وواضحة فهذه الصورة لا بأس بها أيضاً وقد جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي المتعلق بذلك ما يلي: [إن تملك المساكن عن طريق عقد الاستصناع – على أساس اعتباره لازماً – وبذلك يتم شراء المسكن قبل بنائه بحسب الوصف الدقيق المزيل للجهالة المؤدية للنزاع دون وجوب تعجيل جميع الثمن بل يجوز تأجيله بأقساط يتفق عليها مع مراعاة الشروط والأحوال المقررة لعقد الاستصناع لدى الفقهاء الذين ميزوه عن عقد السلم] الفقه الإسلامي وأدلته 9/569-570.(12/91)
92 - البيع
يقول السائل: ما هو بيع العينة الذي ورد ذكره في الحديث وما الفرق بينه وبين التورق؟
الجواب: ورد في الحديث عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم) رواه أبو داود والبيهقي وأحمد قال الحافظ ابن حجر: [رجاله ثقات وصححه ابن القطان] بلوغ المرام ص 172. وصححه الشيخ العلامة الألباني في غاية المرام ص 121 وفي السلسلة الصحيحة 1/15. وبيع العينة هو أن يبيع شخص شيئاً لغيره بثمن مؤجل ثم يشتريه قبل قبض الثمن بثمن نقد أقل من ذلك القدر وهذه أشهر صور بيع العينة فمثلاً اشترى زيد سيارة من عمرو بمبلغ إثني عشر ألف دينار مؤجلة ثم باع زيد السيارة إلى عمرو بمبلغ عشرة آلاف دينار حالة فهنا دخلت السيارة في عملية البيع وليست مقصودة بالبيع لأن السيارة عادت إلىصاحبها فوراً وإنما المقصود النقود " العين " وهذه العملية تعتبر رباً حيث إن زيداً قد اقترض عشرة آلاف وسيقوم بتسديد اثني عشر ألفاً.
فالعينة قرض ربوي مستتر تحت صورة البيع وبناء على كونها رباً قال جمهور أهل العلم بتحريم بيع العينة. انظر نيل الأوطار 5/234، شرح ابن القيم على مختصر سنن أبي داود 9/241 فما بعدها، الموسوعة الفقهية 9/69.
وقد ساق العلامة ابن القيم أدلة كثيرة على تحريم العينة منها عن ابن عباس: (أنه سئل عن العينة يعني بيع الحريرة؟ فقال: إن الله لا يُخدع، هذا مما حرم الله ورسوله) وقال ابن القيم: وهذا في حكم المرفوع اتفاقاً عند أهل العلم.
وعن امرأة أبي إسحق قالت: [ (دخلت على عائشة في نسوة فقالت: ما حاجتكن؟ فكان أول من سألها أم محبة فقالت: يا أم المؤمنين هل تعرفين زيد بن أرقم؟ قالت: نعم. قالت: فإني بعته جارية لي بثمانمائة درهم إلى العطاء وإنه أراد أن يبيعها فابتعتها بستمائة درهم نقداً. فأقبلت عليها وهي غضبى فقالت: بئسما شريت وبئسما اشتريت، أبلغي زيداً أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا أن يتوب. وأفحمت صاحبتنا فلم تتكلم طويلاً ثم إنه سهل عنها فقالت: يا أم المؤمنين أرأيت إن لم آخذ إلا رأس مالي؟ فتلت عليها: (فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف) فلولا أن عند أم المؤمنين علماً لا تستريب فيه أن هذا محرم لم تستجز أن تقول مثل هذا بالاجتهاد ولا سيما إن كانت قد قصدت أن العمل يحبط بالردة وأن استحلال الربا كفر وهذا منه ولكن زيداً معذور لأنه لم يعلم أن هذا محرم ولهذا قالت أبلغيه.
ويحتمل أن تكون قد قصدت أن ذا من الكبائر التي يقاوم إثمها ثواب الجهاد فيصير بمنزلة من عمل حسنة وسيئة بقدرها فكأنه لم يعمل شيئاً.
وعلى التقديرين لجزم أم المؤمنين بهذا دليل على أنه لا يسوغ فيه الاجتهاد ولو كانت هذه من مسائل الاجتهاد والنزاع بين الصحابة لم تطلق عائشة ذلك على زيد فإن الحسنات لا تبطل بمسائل الاجتهاد] شرح ابن القيم على مختصر أبي داود 9/246. ثم ذكر ابن القيم أدلة أخرى على تحريم بيع العينة.
وأما التورق فهو أن يشتري شخص سلعة إلى أجل ثم يبيعها لغير البائع بأقل مما اشتراها نقداً ليحصل بذلك على النقد فمثلاً اشترى زيد ثلاجة بستة آلاف مؤجلة واستلم الثلاجة من البائع وباعها إلى شخص آخر بخمسة آلاف نقداً فهذا هو التورق. انظر الموسوعة الفقهية 14/147، الجامع في أصول الربا ص 174.
وهذه المعاملة جائزة عند جمهور أهل العلم وقال شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم بكراهة هذه المعاملة ونقل شيخ الإسلام ابن تيمية عن عمر بن عبد العزيز أنه قال: [التورق أخية الربا] مجموع الفتاوى 29/303،
وقال العلامة مصطفى الزرقا: [إن هذه المسألة التي سألتم عنها تسمى عند الفقهاء: مسألة التورق
" لأن مشتري البضاعة لا يريد البضاعة لذاتها وإنما يريد الرقة أو الورق وهي الفضة أي: مقصوده الدراهم "وحكمها الشرعي في رأي العلماء أنها إذا كانت نتيجة تواطؤ " تفاهم مسبق " بين المشتري والتاجر البائع على أن يعيد بيعها للبائع بسعر أقل نقداً " وقد كان اشتراها منه بسعر أعلى مؤجلاً " فذلك غير جائز شرعاً، لأنه كالمرباة الصريحة. - وهذه هي العينة -
أما إذا كان المحتاج إلى النقود " ولا يجد من يقرضه قرضاً حسناً " قد ذهب من تلقاء نفسه إلى السوق، فاشترى بضاعة بثمن مؤجل، ثم باعها بدون سابق تواطؤ نقداً بسعر أقل، لكي يحصل على الدراهم التي هي حاجته دون أن يلجأ إلى الاقتراض بالربا، فلا مانع منه شرعاً، بل يعتبر حسن تصرف منه كيلا يقع في المراباة والله سبحانه أعلم] فتاوى العلامة مصطفى الزرقا ص 496.
وقال العلامة محمد بن صالح العثيمين بعد أن ذكر خلاف العلماء في المسألة: [لكن أرى أنها حلال بشروط هي: الشرط الأول: أن يتعذر القرض أو السلم أي أن يتعذر الحصول على المال بطريق مباح والقرض في وقتنا الحاضر الغالب أنه متعذر ...
الشرط الثاني: أن يكون محتاجاً لذلك حاجة بينة.
الشرط الثالث: أن تكون السلعة عند البائع فإن لم تكن عند البائع فقد باع مالم يدخل في ضمانه وإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - (نهى عن بيع السلع في مكان شرائها حتى ينقلها التاجر إلى رحله) – متفق عليه - فهذا من باب أولى لأنها ليست عنده فإذا اجتمعت هذه الشروط الثلاثة فأرجو أن لا يكون بها بأس لأن الإنسان قد يضطر أحياناً لهذه المعاملات] الشرح الممتع على على زاد المستقنع 8/232-233.
وخلاصة الأمر أن التورق جائز عند توفر الشروط السابقة(12/92)
93 - البيع
بيع العينة وبيع التورق, يقول السائل: ما هو بيع العينة الذي ورد ذكره في الحديث وما الفرق بينه وبين التورق؟
الجواب: ورد في الحديث عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم) رواه أبو داود والبيهقي وأحمد قال الحافظ ابن حجر: [رجاله ثقات وصححه ابن القطان] بلوغ المرام ص 172. وصححه الشيخ العلامة الألباني في غاية المرام ص 121 وفي السلسلة الصحيحة 1/15. وبيع العينة هو أن يبيع شخص شيئاً لغيره بثمن مؤجل ثم يشتريه قبل قبض الثمن بثمن نقد أقل من ذلك القدر وهذه أشهر صور بيع العينة فمثلاً اشترى زيد سيارة من عمرو بمبلغ إثني عشر ألف دينار مؤجلة ثم باع زيد السيارة إلى عمرو بمبلغ عشرة آلاف دينار حالة فهنا دخلت السيارة في عملية البيع وليست مقصودة بالبيع لأن السيارة عادت إلىصاحبها فوراً وإنما المقصود النقود " العين " وهذه العملية تعتبر رباً حيث إن زيداً قد اقترض عشرة آلاف وسيقوم بتسديد اثني عشر ألفاً.
فالعينة قرض ربوي مستتر تحت صورة البيع وبناء على كونها رباً قال جمهور أهل العلم بتحريم بيع العينة. انظر نيل الأوطار 5/234، شرح ابن القيم على مختصر سنن أبي داود 9/241 فما بعدها، الموسوعة الفقهية 9/69.
وقد ساق العلامة ابن القيم أدلة كثيرة على تحريم العينة منها عن ابن عباس: (أنه سئل عن العينة يعني بيع الحريرة؟ فقال: إن الله لا يُخدع، هذا مما حرم الله ورسوله) وقال ابن القيم: وهذا في حكم المرفوع اتفاقاً عند أهل العلم.
وعن امرأة أبي إسحق قالت: [ (دخلت على عائشة في نسوة فقالت: ما حاجتكن؟ فكان أول من سألها أم محبة فقالت: يا أم المؤمنين هل تعرفين زيد بن أرقم؟ قالت: نعم. قالت: فإني بعته جارية لي بثمانمائة درهم إلى العطاء وإنه أراد أن يبيعها فابتعتها بستمائة درهم نقداً. فأقبلت عليها وهي غضبى فقالت: بئسما شريت وبئسما اشتريت، أبلغي زيداً أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب. وأفحمت صاحبتنا فلم تتكلم طويلاً ثم إنه سهل عنها فقالت: يا أم المؤمنين أرأيت إن لم آخذ إلا رأس مالي؟ فتلت عليها: (فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف) فلولا أن عند أم المؤمنين علماً لا تستريب فيه أن هذا محرم لم تستجز أن تقول مثل هذا بالاجتهاد ولا سيما إن كانت قد قصدت أن العمل يحبط بالردة وأن استحلال الربا كفر وهذا منه ولكن زيداً معذور لأنه لم يعلم أن هذا محرم ولهذا قالت أبلغيه.
ويحتمل أن تكون قد قصدت أن هذا من الكبائر التي يقاوم إثمها ثواب الجهاد فيصير بمنزلة من عمل حسنة وسيئة بقدرها فكأنه لم يعمل شيئاً.
وعلى التقديرين لجزم أم المؤمنين بهذا دليل على أنه لا يسوغ فيه الاجتهاد ولو كانت هذه من مسائل الاجتهاد والنزاع بين الصحابة لم تطلق عائشة ذلك على زيد فإن الحسنات لا تبطل بمسائل الاجتهاد] شرح ابن القيم على مختصر أبي داود 9/246. ثم ذكر ابن القيم أدلة أخرى على تحريم بيع العينة.
وأما التورق فهو أن يشتري شخص سلعة إلى أجل ثم يبيعها لغير البائع بأقل مما اشتراها نقداً ليحصل بذلك على النقد فمثلاً اشترى زيد ثلاجة بستة آلاف مؤجلة واستلم الثلاجة من البائع وباعها إلى شخص آخر بخمسة آلاف نقداً فهذا هو التورق. انظر الموسوعة الفقهية 14/147، الجامع في أصول الربا ص 174.
وهذه المعاملة جائزة عند جمهور أهل العلم وقال شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم بكراهة هذه المعاملة ونقل شيخ الإسلام ابن تيمية عن عمر بن عبد العزيز أنه قال: [التورق أخية الربا] مجموع الفتاوى 29/303،
وقال العلامة مصطفى الزرقا: [إن هذه المسألة التي سألتم عنها تسمى عند الفقهاء: مسألة التورق
" لأن مشتري البضاعة لا يريد البضاعة لذاتها وإنما يريد الرقة أو الورق وهي الفضة أي: مقصوده الدراهم "وحكمها الشرعي في رأي العلماء أنها إذا كانت نتيجة تواطؤ " تفاهم مسبق " بين المشتري والتاجر البائع على أن يعيد بيعها للبائع بسعر أقل نقداً " وقد كان اشتراها منه بسعر أعلى مؤجلاً " فذلك غير جائز شرعاً، لأنه كالمرباة الصريحة. - وهذه هي العينة -
أما إذا كان المحتاج إلى النقود " ولا يجد من يقرضه قرضاً حسناً " قد ذهب من تلقاء نفسه إلى السوق، فاشترى بضاعة بثمن مؤجل، ثم باعها بدون سابق تواطؤ نقداً بسعر أقل، لكي يحصل على الدراهم التي هي حاجته دون أن يلجأ إلى الاقتراض بالربا، فلا مانع منه شرعاً، بل يعتبر حسن تصرف منه كيلا يقع في المراباة والله سبحانه أعلم] فتاوى العلامة مصطفى الزرقا ص 496.
وقال العلامة محمد بن صالح العثيمين بعد أن ذكر خلاف العلماء في المسألة: [لكن أرى أنها حلال بشروط هي: الشرط الأول: أن يتعذر القرض أو السلم أي أن يتعذر الحصول على المال بطريق مباح والقرض في وقتنا الحاضر الغالب أنه متعذر ...
الشرط الثاني: أن يكون محتاجاً لذلك حاجة بينة.
الشرط الثالث: أن تكون السلعة عند البائع فإن لم تكن عند البائع فقد باع مالم يدخل في ضمانه وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم (نهى عن بيع السلع في مكان شرائها حتى ينقلها التاجر إلى رحله) – متفق عليه - فهذا من باب أولى لأنها ليست عنده فإذا اجتمعت هذه الشروط الثلاثة فأرجو أن لا يكون بها بأس لأن الإنسان قد يضطر أحياناً لهذه المعاملات] الشرح الممتع على على زاد المستقنع 8/232-233.
وخلاصة الأمر أن التورق جائز عند توفر الشروط السابقة.(12/93)
94 - حقوق الطبع والنشر
يقول السائل: كثيراً ما نقرأ على الكتب عبارة تقول: [حقوق الطبع محفوظة للمؤلف] فهل يجوز للمؤلف أو للناشر أن يحتفظ بحقوق الطبع ولا يسمح لغيره بنشر الكتاب وهل يعتبر المنع من باب كتمان العلم؟
تقول: الجواب: إن مسألة حقوق الطبع والنشر وحقوق التأليف والترجمة ونحو ذلك من المنافع المعتبرة شرعاً على الصحيح من أقوال أهل العلم المعاصرين حيث إن هذه الأمور لم تكن معروفة عند فقهائنا المتقدمين وإنما عرفت في العصر الحديث وصارت هذه الحقوق محمية بموجب القانون في الدول الغربية.
وقد بحث الفقهاء المعاصرون هذه المسألة بتوسع في الآونة الأخيرة وصدرت فيها فتاوى وبحوث علمية موثقة وقد ذهب أكثر العلماء المعاصرين إلى اعتبار هذه الحقوق مصونة شرعاً ويجوز شرعاً لأصحابها التصرف فيها بالبيع والشراء ولا يجوز الاعتداء على هذه الحقوق فيجوز للمؤلف أن يحتفظ بحق الطبع لنفسه كما يجوز له أن يبيع حقه هذا لصاحب دار نشر ولا يجوز لأحد أن يقوم بطبع كتاب ما لم يأذن مؤلفه أو ناشره إذا شرطا حقوق الطبع لنفسيهما وأما إذا أباحا ذلك للناس فلا بأس بطبعه ونشره كما يفعل بعض أهل العلم عندما يكتبون على كتبهم يجوز نشره لمن أراد توزيعه مجاناً ويدل على جواز ذلك ما يلي:
1. إن المنافع تعتبر أموالاً عند جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة وهي من الأمور المعنوية ولا ريب أن الإنتاج الذهني يمثل منفعة من منافع الإنسان فيعد مالاً تجوز المعاوضة عنه شرعاً.
والمراد بالمنافع: هي ما يستفاد من الأعيان: كسكنى الدار وركوب السيارة ويدل على كونها مالاً أن طبع الإنسان يميل إليها كالأعيان فيسعى إلى اقتنائها ولأن العرف العام في الأسواق يعتبرها أموالاً ولأن الشارع اعتبرها أموالاً بدليل قوله تعالى على لسان شعيب عليه السلام لموسى عليه السلام: (قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) فالشارع أجاز أن يكون عمل الإنسان " المنفعة مهراً والأصل في المهر أن يكون مالاً بدليل قوله تعالى:
(وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ) فتكون المنفعة مالاً.
2. أن العرف العام جرى على اعتبار حق المؤلف في تأليفه وإبداعه، فأقر التعويض عنه والجائزة عليه ولو كان هذا الحق لا يصلح محلاً للتبادل والكسب الحلال لعدت الجائزة والتعويض عنه كسباً محرماً. ومن المعلوم أن العرف العام يعد مصدراً من مصادر التشريع إذا لم يتصادم مع نص شرعي أو أصل عام في الشريعة الإسلامية كما أن العرف له دخل كبير في مالية الأشياء كما قال السيوطي: لا يقع اسم المال إلا على ما له قيمة يباع بها وتلزم متلفه وإن قلَّت وما لا يطرحه الناس.
ومفاد هذا أن العرف هو أساس مالية الأشياء لقوله: لا يقع اسم المال إلا على ما له قيمة، أي بين الناس عرفاً بحيث أضحى محلاً للمعاوضة، يباع بها، ومن المقرر أن الثابت بالعرف ثابت بدليل شرعي.
3. إن الشريعة الإسلامية حرمت انتحال الرجل قولاً لغيره أو إسناده إلى غير من صدر منه وقضت بضرورة نسبة القول إلى قائله والفكرة إلى صاحبها لينال هو دون غيره أجر ما قد تنطوي عليه من الخير أو يتحمل وزر ما قد تجره من شر فقد روي عن الإمام أحمد: أنه امتنع عن الإقدام على الاستفادة بالنقل أو الكتابة عن مقال أو مؤلف عرف صاحبه إلا بعد الاستئذان منه فقد روى الغزالي أن الإمام أحمد سئل عمن سقطت منه ورقة كتب فيها أحاديث أو نحوها أيجوز لمن وجدها أن يكتب منها ثم يردها؟ قال: لا، بل يستأذن ثم يكتب.
4. إذا كان المؤلف مسؤولاً عما يكتبه ويتلفظ به ويحاسب عليه بدليل قوله تعالى: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً يرفع الله بها درجات وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم) فيكون له الحق فيما أبدعه من خير عملاً بقاعدة: الغنم بالغرم، وقاعدة: الخراج بالضمان.
5. الإبداع الذهني أصل للوسائل المادية من سيارة وطائرة ومذياع وغير ذلك مما له صفة المالية فلا بد من اعتبار الأصل له صفة المالية.
6. التخريج على قاعدة: المصالح المراسلة، في ميدان الحقوق الخاصة ويتحقق ذلك من جهتين كما قال الدريني: أ. من ناحية كونه ملكاً منصباً على مال: أي كونه حقاً عينياً مالياً إذ المصلحة فيه خاصة عائدة إلى المؤلف أولاً وإلى الناشر والموزع ومن إليهما وهذا ظاهر في كونه حقاً خاصاً مالياً.
ب. أن فيه مصلحة عامة مؤكدة راجعة إلى المجتمع الإنساني كله وهي الانتفاع بما فيه من قيم فكرية ذات أثر بالغ في شتى شؤون الحياة وهو بهذه المثابة حق من حقوق الله تعالى لشمول نفعه وعظيم خطره. والمصلحة المرسلة بنوعيها مرعية في الدين تبنى عليها الأحكام لأنها من مباني العدل والحق وعلى هذا فالإنتاج الفكري ملك لأن الحكم الشرعي المقدر وجوده فيه نهضت به المصلحة المرسلة والعرف] المعاملات المالية المعاصرة في الفقه الإسلامي ص 57_- 60.
إذا تقرر هذا فإنه من المعلوم أن الكتاب بعد أن كان عبارة عن خط على ورق أو على رق أصبح هناك طباعة والطباعة معناها أن طابع الكتاب يربح في الكتاب ويأتي الناشر فيربح من الكتاب ثم يأتي الذي يبيع الكتاب صاحب المكتبة ويربح في الكتاب 30% مثلاً فهذه هي المراحل التي يمر بها الكتاب والكتاب لا يمكن أن يوجد إلا بها وقيمة الكتاب التي من أجلها دفع المشتري ليست في الورق ولا في أي شيء إلا فيما يحويه فعندما نجعل الأصل لاغياً لا قيمة له وأن البقية لها قيمتها أظن أن هذا غير صحيح وأنه قلب للأوضاع وأنه إرادة تسليط الأحكام كما كان الأمر يوم كان الكتاب نسخة واحدة على حالة جديدة لا تتفق مع الماضي] مجلة مجمع الفقه الإسلامي عدد 5 ج 3 ص 2538.
وقال الشيخ العلامة القرضاوي: [ ... قياس هذا الأمر على ما اختلف فيه من قضية الأذان والإمامة والخطابة والوعظ والتدريس فهذه قد اختلف فيها من قبل وكثير ممن منعوها قديماً أجازوها في العصور المتأخرة منهم الحنفية فأئمة المذهب ومشايخه السابقون منعوها ثم جاء المتأخرون فأجازوها حفظاً لمصلحة المسلمين وهذه شبيهة بها هي أشبه شيء بها تماماً وكما قال الأخوة إننا نحن الآن نعمل في الجامعات ونعلم أبناء المسلين العلوم الشرعية ونتقاضى على ذلك رواتب وأجوراً فهذه من هذه وأذكر ها هنا كلمة للإمام أبي محمد بن أبي زيد القيرواني صاحب الرسالة حينما اتخذ في بيته كلباً للحراسة فقيل له: أتتخذ كلباً وقد كرهه مالك؟ فقال لو كان مالك في زماننا لاتخذ أسداً ضارياً. فنحن في زمن غير زمن مالك وغير زمن ابن حنبل والذين قالوا كيف تأخذون حقوق التأليف وذهبوا وأخذوا كتبنا وربحوا فيها واستفادوا منها لو كانوا يوزعونها مجاناً فهذا معقول! وأنا فعلاً إذا كان هناك جمعية خيرية أو انسان يريد أن يتبرع بطبع كتاب ونشره فأرى أنه لا يجوز لإنسان أن يأخذ حقاً عليه في هذه الحالة أما وقد دخل دائرة الإجارة فهنا للمؤلف حق خصوصاً أن كثيراً من الناس يعيشون على مثل هذا الأمر] المصدر السابق عدد5 ج 3 ص 2542.
وأما الادعاء بأن الاحتفاظ بحقوق الطبع والتأليف يعد كتماناً للعلم وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك في الحديث (من كتم علماً ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار) رواه ابن حبان والحاكم وهو حديث صحيح كما قال الشيخ الألباني في صحيح الترغيب ص 52.
فالجواب أن هذه الدعوى غير مسلمة فالمؤلف لا يكتم العلم بل هو ينشره وخاصة أن الحديث منصوص العلة وهو " الكتمان " لا " المعارضة " بقوله عليه الصلاة والسلام: (من كتم علماً ... ) وما نحن فيه ليس فيه كتمان بل فيه نشر وتوزيع وإذا انتفت العلة في المعاوضة انتفى الحكم وهو التحريم.
وإذا لوحظ أن هذا العالم أو الباحث قد وقف حياته كلها على هذا الجهد فكيف تستقيم حياته إذا حرم من حقه فيه؟ أيعيش على الصدقات وما تجود به أنفس المحسنين؟ وحقه في عمله ثابت له شرعاً؟
على أنا رأينا الفقهاء الأعلام يقومون جهود الحيوانات لأصحابها ومنافع الهوام والحشرات والديدان وأصوات الببغاوات وتغريد البلابل ومنفعة الكلاب في الحراسة أفلا يكون للجهد العقلي الإنساني المبتكر - في منطق هذا الفقه - مكان في هذا التقويم الشرعي!؟ الشرع الإسلامي عدل كله ومعقول المعاني والمقاصد فثبتت المالية للابتكار الذهني بالأقيسة الأولوية.
ألم يجز الرسول صلى الله عليه وسلم جعل تعليم بعض آيات القرآن الكريم مهراً ومعلوم أن المهر لا يكون إلا مالاً فثبت أن التعليم " يقوّم بالمال شرعاً بدليل جعله مهراً وعوضاً وتعليم القرآن الكريم طاعة بلا ريب وهو جهد محدود لا يعدو أن يكون مجرد ترديد لآيات من القرآن الكريم ممن يحفظها ويتلوها تعليماً أو تحفيظاً لغيره فلا يرقى مثل هذا الجهد إلى مستوى الجهد العقلي للعلماء بالبداهة بما يتسم به من الابتكار الذي هو مظهر الثقافة الواسعة والتعمق الفكري بل لا سبيل إلى المقارنة بينهما فإذا كان التعليم جهداً مقوماً بالمال فالإنتاج المبتكر من باب أولى] بحوث مقارنة في الفقه الإسلامي 2/72-73.
وخلاصة الأمر أن حقوق التأليف مصونة شرعاً ولأصحابها حق التصرف فيها ولا يجوز الاعتداء عليها كما ورد في قرار مجمع الفقه الإسلامي. انظر مجلة المجمع المذكور عدد5 ج 3 ص2581.(12/94)
95 - حكم مسابقة من سيربح المليون
يقول السائل: ما قولكم في مسابقة من سيربح المليون التي تبثها إحدى المحطات الفضائية؟
الجواب: إن من آفات الأمة الإسلامية أنها تحاكي وتقلد غيرها من الأمم في كثير من الأمور وليت هذه المحاكاة وهذا التقليد كان في الأمور النافعات ولكن ومع الأسف الشديد فمعظم هذا التقليد يقع في أتفه الأمور وذميم الخصال والفعال وصدق الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم عندما قال: (لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم. قيل يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن) رواه البخاري ومسلم.
قال الإمام النووي: (السنن بفتح السين والنون وهو الطريق والمراد بالشبر والذراع وجحر الضب التمثيل بشدة الموافقة لهم والمراد الموافقة في المعاصي والمخالفات لا في الكفر وفي هذا معجزة ظاهرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقد وقع ما أخبر به صلى الله عليه وسلم.) شرح النووي على صحيح مسلم 5/167.
ومن هذا التقليد الأعمى للغربيين تقليدهم في هذه المسابقات التافهة المتعددة في الأشكال والألوان التي تزخر بها برامج محطات الإفساد الفضائية.
فهناك مسابقات ثقافية كما يزعمون تطرح فيها أسئلة تافهة مثل: أسماء الممثلين والمطربين وعناوين الأغنيات والأفلام وغير ذلك من التفاهات التي يعتبر الجهل بها خير من العلم بها.
ويضاف إلى ذلك المناظر السيئة التي تظهر فيها امذيعات والمقدمات لأمثال هذه المسابقات.
والمسابقات أصبحت ظاهرة منتشرة في المحطات الفضائية وكذلك لدى أصحاب المصانع والشركات الذين يروجون لبضائعهم بطرق يغلب عليها القمار المغطى باسم الجوائز.
ومن ذلك مسابقة من سيربح المليون أو مسابقة كنز الأحلام أو هل تريد أن تصبح مليونيراً أو نحو ذلك من الأسماء البراقة وهذه المسابقات تقوم على فكرة الحظ.
فمثلاً في مسابقة كنز الأحلام ألوف الناس يتصلون بالأرقام الهاتفية المعلن عنها ويدفعون الملايين وقلة قليلة تفوز منهم اعتماداً على الحظ.
فالشركات والمحطات التي تنظم هذه المسابقات تحقق أموالاً طائلة نتيجة هذه الاتصالات وتعطي الشيء القليل منها كجوائز وإن كان مبلغ الجائزة في نظر كثير من الناس كبير جداً كمليون ولكنهم قد جمعوا من الناس ملايين ويظهر لي أن هذا نوع من القمار والقمار من المحرمات بنص كتاب الله تعالى، يقول الله جل جلاله: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) سورة المائدة الآية 90.
وينبغي أن يعلم الناس أن المكالمات الهاتفية في هذه المسابقات تكلف أكثر بكثير من المكالمات العادية وأن الشركات المنظمة لهذه المسابقات تتفق مع شركات الاتصالات على رفع أسعار المكالمات التي تتم على الأرقام المعلن عنها. فلذلك تحقق الجهات المنظمة للمسابقات مبالغ طائلة نتيجة الاتصالات الكثيرة ومن هذه المبالغ الضخمة التي يحصلون عليها تدفع الجوائز.
ويضاف إلى ذلك أن مسابقة من سيربح المليون مشتملة على أسئلة وأجوبة وكلما أجاب المتسابق على سؤال زاد رصيده في الجائزة وهكذا وأقول إن هذه مقامرة صريحة لأن المتسابق عندما يجيب على السؤال الأول يعطى مئة ريال مثلاً فهذه المئة ريال تصبح من حق المتسابق ويستطيع أن ينسحب من المسابقة ويأخذها، فعندما يسئل السؤال الثاني فإنه يقامر على المبلغ الأول، فإذا أجاب عن السؤال الثاني يتضاعف المبلغ ليصبح مئتي ريال مثلاً وإذا لم يجب الجواب الصحيح فإنه يخسر المئتين وهكذا يتكرر الموقف في كل سؤال وجواب فهذه مقامرة واضحة.
وقد صدرت عدة فتاوى من عدد من العلماء والهيئات العلمية في تحريم هذه المسابقات وأمثالها، منها ما صدر عن لجنة الفتوى في موقع " إسلام أون لاين " على الإنترنت ونص السؤال هو: [هل المال الذي يربحه المتسابقون في المسابقات التلفزيونية عبر الهاتف حلال أم حرام؟
الجواب: بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد
السائل الكريم: المسابقات في الأصل حلال لأنها استنهاض لهمة المشاركين، شريطة أن تكون في أمور نافعة، لا في أسئلة عن أفلام هذا الممثل والدور الذي أدته الممثلة في مسرحية ما، فهذا كله مبني على ما الجهل به خير.
عموماً هناك بعض الضوابط التي يجب أن نأخذ بها حتى نبتعد بمسابقتنا عن القمار وهي كالتالي:
أولاً: ألا يتم الاتفاق بين الهيئة المنظمة وإحدى شركات الاتصال (وهذا غالباً ما يحدث) على إجراء مثل هذه المسابقات على أن يكون المال الوارد من المكالمات بينهما بعد أخذ ثمن الجائزة منه فهذا أقرب ما يكون إلى الميسر.
ثانياً: أن تكون المسابقات بين أفراد لا يدفعون مالاً للاشتراك فيها بطريقة أو بأخرى كزيادة سعر المكالمة إن كانت وسيلة الاشتراك الاتصال الهاتفي.
ثالثاً: أن تكون في أمور نافعة لا في أسئلة عن أفلام هذا الممثل والدور الذي أدته الممثلة في مسرحية ما فهذا كله مبني على ما الجهل به خير.
رابعاً: ألا تقوم: على ابتزاز أموال الجمهور المشارك فتؤدي إلى الشره في الاستهلاك أملاً في الحصول على جائزة باهظة القيمة.
وخلاصة القول: شراء الجوائز من أموال المشتركين في المسابقات المختلفة أو تقسيم أموال المشتركين بين الهيئة المنظمة وإحدى شركات الاتصالات ووجود جوائز باهظة تؤدي إلى الشره في الاستهلاك فلكل هذه الأسباب نقول: إن مثل هذه المسابقات هي أقرب للميسر من كونها مسابقات شريفة لغرض نبيل.
وأنت تستطيع من خلال معرفة سير إجراءات المسابقات المختلفة والاستعانة بالضوابط السابقة للحكم على نوعية المسابقة] .
ومن الفتاوى الصادرة في هذه المسابقات فتوى الشيخ العلامة الدكتور يوسف القرضاوي وكان نص السؤال هو [ما هو الحكم في المسابقات المليونية أو ما دون المليون عبر الهواتف الدولية والمحلية؟
الجواب: هذه المسابقات التي يشترك فيها الناس عن طريق الاتصال بالهواتف المحلية أو الدولية على أمل أن يربحوا المليون أو ما دون المليون ثم تكون النتيجة أن الملايين منهم يخسرون أجرة الاتصالات الهاتفية التي يدفعونها لشركات الهاتف وتتقاسمها مع منظمي المسابقة ولا يحصلون في النهاية إلا على الريح.
هذه المسابقات ليست إلا لوناً من ألوان القمار - أو الميسر بلغة القرآن - تدخله الملايين الطامعة في المليون أو ما دونه بما تدفعه للهاتف على احتمال أن تربح أو تخسر ثم تخسر الأغلبية الساحقة، ويكسب واحد في المليون أو في كل عدة ملايين.
صحيح أنه لا يخسر مبلغاً كبيراً ولكن العبرة بالمبدأ وليس بحجم الخسارة المهم أنه دخل العملية مقامراً لعله يكسب ويصبح مليونيراً في لحظة.
والإسلام يحرم القمار أو الميسر تحريماً باتاً ويقرنه بالخمر في كتاب الله، ويجعله - مع الخمر والأنصاب والأزلام - رجساً من عمل الشيطان مما يدل على أنه من كبائر المحرمات لا من صغائرها وما ذلك إلا ليحمي الناس من التعلق بالأوهام والأحلام الزائفة، التي تبنى على غير أساس والإسلام لا يمنع أن يكسب الإنسان المال، ضمن شبكة الأسباب والمسببات، ووفق سنن الله في الكون والمجتمع، والأصل في هذه السنن أن يكسب الإنسان المال بكد اليمين وعرق الجبين وإعمال الفكر وإجهاد الجسم ومواصلة الليل بالنهار حتى يحقق الآمال.
أما أن ينام على أذنه ويغرق في الأحلام ويحصل الثروة عن طريق (ضربة حظ) تواتيه، فليس هذا من هدي الإسلام، ولا من نهج الإسلام، ولا من خلق المسلمين.
ثم إن هذه الشركات التي تنظم هذه المسابقات وأمثالها تجمع من الناس أضعاف ما تدفع لهم لأنهم أعداد كبيرة فهي - من ناحية أخرى - تأكل أموال الناس بالباطل، أي هي - بصريح العبارة - عملية سرقة مقنعة ومغلفة بالمسابقة.
ومما يؤسف له أن يشيع في مجتمعاتنا المسلمة هذا النوع من المسابقات وجوائز السحب الكبرى وألوان اليانصيب ونحوها مما ينكره الإسلام ويحرمه وينشئ شبابنا المسلم على هذه التطلعات غير المشروعة ليسبح في غير ماء ويطير بغير جناح وقد حذر سيدنا علي رضي الله عنه قديماً من ذلك ابنه الحسن في وصية له إذ قال: وإياك والاتكال على المنى فإنها بضائع النوكى (أي الحمقى) وقال الشاعر:
ولا تكن عبد المنى، فالمنى رؤوس أموال المفاليس!] .(12/95)
96 - أداء الأمانة
يقول السائل: إنه يعمل أمين صندوق لدى إحدى الجمعيات الخيرية وأنه أخذ مبلغاً من المال من صندوق الجمعية لنفسه خفية ثم رده بعد مدة فما حكم ذلك؟
الجواب: لا يجوز للإنسان أن يتصرف في الأموال الموجودة تحت تصرفه بحكم عمله ووظيفته في أموره الشخصية وأخذك للمال من صندوق الجمعية التي تعمل فيها حرام شرعاً ويعتبر خيانة للأمانة وإن نويت رد المال ورددته فعلاً فهذا لا يعفيك من المسؤولية فأنت خائن للأمانة وقد وقعت في الحرام فقد استعملت مال غيرك بطريقة غير مشروعة وهذا ظلم واضح والظلم ظلمات يوم القيامة يقول الله تعالى: (إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) سورة إبراهيم الآية 22.
وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرً) سورة النساء الآية 10.
وصح في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع: (إن دمائكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إلى يوم تلقون ربكم) رواه البخاري ومسلم.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه وماله) رواه الترمذي وابن ماجة وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن الترمذي 2/180.
وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه) رواه أحمد والبيهقي وهو حديث صحيح كما قال الشيخ الألباني في إرواء الغليل 5/279.
وعلى من وقع منه هذا الظلم أن يبادر إلى التوبة الصادقة وإن من شروطها أن يعيد الحقوق إلى أصحابها قال الله تعالى: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) سورة النور الآية 31.
وقال تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا) سورة التحريم الآية 8.
وجاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كانت له مظلمة لأخيه أو شيء فليتحلله قبل أن لا يكون دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه) رواه البخاري.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء) رواه مسلم، والشاة الجلحاء هي التي لا قرن لها.(12/96)
97 - الأموال التي تدقع لذوي الشهداء تجري مجرى الدية
يقول السائل: إن له أخاً قد استشهد وأن أموالاً دفعت لهم بعد استشهاده فكيف توزع هذه الأموال علماً أن لأخيه الشهيد زوجة وأطفالاً وأباً وأماً وإخوة وأخوات؟
الجواب: من المعروف عند العلماء أن ما يتركه الميت بعد وفاته يوزع على ورثته حسب التوزيع الشرعي الثابت في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ولما كانت هذه الأموال قد دفعت لذوي الشهيد بعد استشهاده فأرى أن تقاس على دية المقتول حيث إن دية المقتول تدفع بعد موته وقد دلت السنة النبوية على أن دية المقتول توزع على ورثته فالدية موروثة كسائر الأموال التي كان يملكها القتيل حال حياته يرثه فيها ورثته حسب نصيبهم الشرعي.
فقد ورد عن سعيد بن المسيب أن عمر رضي الله عنه كان يقول: [الدية على العاقلة ولا ترث المرأة من دية زوجها شيئاً حتى أخبره الضحاك بن سفيان الكلابي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إليه أن ورّث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها] رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة وغيرهم.
قال الإمام الترمذي: [هذا حديث حسن صحيح والعمل على هذا عند أهل العلم] وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن الترمذي 2/61.
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم: (قضى أن العقل - أي الدية - ميراث بين ورثة القتيل على فرائضهم) رواه أحد وأبو داود والنسائي وابن ماجة وهو حديث حسن كما قال الشيخ الألباني في صحيح سنن ابن ماجة 2/98.
وعن جابر رضي الله عنه قال: (جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الدية على عاقلة القاتلة فقالت عاقلة المقتولة: يا رسول الله ميراثها لنا. قال: لا. ميراثها لزوجها وولدها) رواه ابن ماجة وهو حديث صحيح كما قال الشيخ الألباني في صحيح سنن ابن ماجة 2/99.
فهذه الأحاديث تدل على أن الدية موروثة كسائر الأموال، قال الإمام البغوي بعد أن ذكر حديث توريث امرأة أشيم الضبابي من ديته: [وفيه دليل على أن الدية تجب للمقتول ثم تنتقل منه إلى ورثته كسائر أملاكه وهذا قول أكثر أهل العلم] شرح السنة 8/372.
وخلاصة الأمر أن الذي يظهر لي أن الأموال التي تدفع باسم الشهيد توزع على ورثته التوزيع الشرعي قياساً على دية المقتول.(12/97)
98 - إعادة المال لأصحابه عند انتفاء الغرض من جمعه
يقول السائل: جمع رجل مالاً من أقربائه ومن أهل الخير ليدفع دية ولكن أولياء المقتول عفوا وسامحوا ولم يأخذوا شيئاً من المال، فهل يجوز لهذا الشخص أن يتصرف بهذا المال لنفسه.
الجواب: بما أن هذا الشخص قد جمع المال من أهل الخير وأقربائه ليدفع الدية وقد عفا مستحقوها فإن عليه أن يعيد هذا المال إلى الناس الذين جمعه منهم ولا يجوز له أن يتصرف فيه لنفسه لأنه جمع المال لغرض معين وقد زال هذا الغرض فعليه أن يعيد المال لأصحابه وإن لم يفعل فيكون قد أكل هذا المال بالباطل والله سبحانه وتعالى يقول: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) سورة النساء الآية 29.(12/98)
99 - المزارعة جائزة
يقول السائل: ما حكم ما يفعله كثير من أصحاب شجر الزيتون في موسم قطاف الزيتون حيث إنهم يعطون شجر الزيتون لأناس آخرين لقطفه وعصره على نسبة يتفقون عليها كالنصف أو الثلث ونحو ذلك؟
الجواب: هذه المعاملة المتبعة عند كثير من أصحاب شجر الزيتون جائزة شرعاً ولا بأس بها على أرجح قولي العلماء في المسألة وهو قول الحنابلة والمالكية والمزني من الشافعية وغيرهم.
وتخرج هذه المسألة على أنها إجارة على العمل والأجرة بعض المعمول بعد العمل، وهي إجارة صحيحة لانتفاء الجهالة حيث إن الأجرة هي نسبة شائعة معلومة كالنصف أو الثلث أو الربع فإذا كان التعاقد على أخذ الأجرة من الزيتون قبل عصره فيكون نصيب العامل نصف الناتج مثلاً وكذلك الحال لو كان التعاقد على أخذ الأجرة زيتاً فلا بأس به وتكون أجرة العصر عليهما أي على صاحب الشجر وعلى العامل.
وقد أجاز كثير من الفقهاء الإجارة بجزء من العمل، قال ابن حزم: [وجائز إعطاء الغزل للنسج بجزء مسمى منه كربع أو ثلث أو نحو ذلك ... وكذلك يجوز إعطاء الثوب للخياط بجزء منه مشاع أو معين وإعطاء الطعام للطحين بجزء منه كذلك وإعطاء الزيتون للعصر كذلك وكذلك الاستئجار لجميع هذه الزيوت المجذوذة بجزء منها كذلك كل ذلك جائز] المحلى 7/25.
ثم ذكر ابن حزم عن سفيان قال: أجاز الحكم - أحد الفقهاء - إجارة الراعي للغنم بثلثها أو ربعها وهو قول ابن أبي ليلى وروي عن الحسن أيضا وهو قول عطاء وابن سيرين وقتادة.
وروى ابن حزم بسنده عن سعيد بن المسيب أنه قال لا بأس بأن يعالج الرجل النخل ويقوم عليه بالثلث والربع ما لم ينفق هو منه شيئاً.
وروى بسنده عن سالم قال: النخل يعطى من عمل فيه منه.
وذكر ابن حزم أن ذلك قول ابن أبي ليلى والأوزاعي والليث بن سعد. انظر المحلى 7/25-26.
وما قاله بعض الفقهاء من وجود جهالة في هذا العقد فغير مسلّم به لأن نصيب كل منهما معلوم وهو النسبة الشائعة كالنصف أو الثلث.
كما أن العامل يشاهد الشجر وهو مثمر قبل أن يبدأ العمل فلا جهالة في المسألة.
وقاس الحنابلة هذه المسألة على المساقاة والمزارعة وقد صح في الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى خيبر على الشطر) رواه البخاري ومسلم، والشطر هو النصف. انظر المغني 5/8-9.
وجاء في المدونة: [ ... قلت: أرأيت إن قلت للرجل احصد زرعي هذا ولك نصفه؟ قال: ذلك جائز عند مالك.
قلت: فإن قال له جدّ نخلي هذا ولك نصفها؟ قال: ذلك جائز عند مالك. فإن قال: التقط زيتوني هذا فما التقطت منه من شيء فلك نصفه، أيجوز هذا أم لا؟ قال: هذا جائز عند مالك] المدونة 3/420.
وقال الإمام القرافي من المالكية: [في الكتاب - أي المدونة - يجوز حصاد الزرع وجد النخل والزيتون بنصفه ... ] الذخيرة 6/16.
وقال الدسوقي المالكي: [وجاز العقد بقوله احصد زرعي وما حصدت فلك نصفه ومثله القط زيتوني وجد نخلي وما لقطت أو جددت فلك نصفه] حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4/10.
وإذا قال له احصد ولك نصفه فيجوز أو جد نخلي ولك نصفه أو القط زيتوني هذا ولك نصفه أو جز صوفي هذا ولك نصفه كل ذلك جائز للعلم بالأجرة وما أوجر عليه لكون كل منهما محصوراً ومرئياً. انظر بلغة السالك 2/250.
وأما ما اعتمد عليه من منع هذه المعاملة وهو ما ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى عن قفيز الطحان) فإن هذا الحديث فيه كلام كثير لأهل الحديث.
قال الحافظ ابن حجر: [حديث نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن قفيز الطحان، الدارقطني، والبيهقي من حديث أبي سعيد: نهى عن عسب الفحل وقفيز الطحان، وقد أورده عبد الحق في الأحكام بلفظ: نهى النبي صلى الله عليه وسلم، وتعقبه ابن القطان بأنه لم يجده إلا بلفظ البناء لما لم يسم فاعله وفي الإسناد هشام أبو كليب راويه عن ابن أبي نعيم عن أبي سعيد لا يعرف، قاله ابن القطان والذهبي وزاد: وحديثه منكر، وقال مغلطاي: هو ثقة فينظر فيمن وثقه ثم وجدته في ثقات ابن حبان " فائدة " ووقع في سنن البيهقي مصرحاً برفعه لكنه لم يسنده وقفيز الطحان فسره ابن المبارك أحد رواة الحديث بأن صورته أن يقال للطحان: اطحن بكذا وكذا بزيادة قفيز من نفس الطحين، وقيل: هو طحن الصبرة لا يعلم مكيلها بقفيز منها] التلخيص الحبير 3/60.
وقد ضعف الحافظ ابن حجر هذا الحديث في موضع آخر فقال: [رواه الدارقطني وأبو يعلى والبيهقي وفي إسناده ضعف] الدراية في تخريج أحاديث الهداية 2/190.
وقد ردّ شيخ الإسلام ابن تيمية على المحتجين بالحديث السابق بقوله: [وأما الذين قالوا: لا يجوز ذلك إجارة لنهيه عن قفيز الطحان، فيقال: هذا الحديث باطل لا أصل له، وليس هو في شيء من كتب الحديث المعتمدة ولا رواه إمام من الأئمة والمدينة النبوية لم يكن بها طحان يطحن بالأجرة ولا خباز يخبز بالأجرة.
وأيضاً فأهل المدينة لم يكن لهم على عهد البني صلى الله عليه وسلم مكيال يسمى القفيز وإنما حدث هذا المكيال لما فتحت العراق وضرب عليهم الخراج فالعراق لم يفتح على عهد النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا وغيره مما يبين أن هذا ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم وإنما هو من كلام بعض العراقيين الذين لا يسوغون مثل هذا: قولاً باجتهادهم والحديث ليس فيه نهيه عن اشتراط جزء مشاع من الدقيق بل عن شيء مسمى: وهو القفيز وهو من المزارعة لو شرط لأحدهما زرعه بقعة بعينها أو شيئاً مقدراً كانت المزارعة فاسدة] مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 30/113.
ومما يؤيد كلام الشيخ ابن تيمية أن أهل المدينة ما كانوا يتعاملون بالقفيز إذ القفيز كان معروفاً ومستعملاً في بلاد فارس والعراق والقفيز يعادل ستة وعشرون كيلوغراماً تقريباً. الإيضاح والتبيان في معرفة المكيال والميزان ص 72.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في موضع آخر: [وما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن قفيز الطحان فحديث ضعيف بل باطل فإن المدينة لم يكن فيها طحان ولا خباز لعدم حاجتهم إلى ذلك] مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 28/88.
وقال بعض أهل العلم إن النهي عن قفيز الطحان محمول على جهل قدر القفيز. البحر الزخار 5/52. هذا لو سلمنا بثبوت الحديث.
وخلاصة الأمر أن هذه المعاملة جائزة ولا بأس بها إن شاء الله تعالى.(12/99)
100 - الهدية تهدى وتباع
يقول السائل: هل يصح ما يقوله بعض الناس أن الهدية لا تهدى ولا تباع؟
الجواب: الهدية ما يتحف الإنسان به غيره على سبيل التودد والإعظام كما قال تعالى في قصة ملكة سبأ: (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ) سورة النمل الآية 35. ويقرب من معنى الهدية الهبة.
والتهادي مشروع وقد دلت على ذلك كثير من الأدلة فمن ذلك ما جاء في الحديث عن عائشة
رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ويثيب عليها) رواه البخاري.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لو أهديت إليَّ ذراع لقبلت ولو دعيت إلى كراع لأجبت) رواه البخاري، والكراع ما دون الركبة إلى الساق من نحو شاة أو بقرة.
وعن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تهادوا فإن الهدية تذهب الضغائن) رواه الترمذي وصحح الجزري إسناده. المرقاة 6/215.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تهادوا تحابوا) رواه البخاري في الأدب المفرد والبيهقي في السنن وهو حديث حسن كما قال الشيخ الألباني في إرواء الغليل 6/44.
وعن عائشة: (أن الناس كانوا يتحرون بهداياهم يوم عائشة يبتغون بذلك مرضاة رسول الله صلى الله عليه وسلم) رواه البخاري.
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: (أهدت أم حفيد خالة ابن عباس إلى النبي صلى الله عليه وسلم إقطاً وسمناً وأضباً فأكل النبي صلى الله عليه وسلم من الإقط والسمن وترك الأضب تقذراً، قال ابن عباس: فأكل على مائدة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو كان حراماً ما أكل على مائدة رسول الله صلى الله عليه وسلم) رواه البخاري.
قال الحافظ ابن عبد البر: [كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية وندب أمته إليها وفيه الأسوة الحسنة به صلى الله عليه وسلم ومن فضل الهدية مع اتباع السنة أنها تورث المودة وتذهب العداوة على ما جاء في حديث مالك وغيره مما في معناه ... عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تهادوا فإن الهدية تذهب وحر الصدور) ولقد أحسن القائل: هدايا الناس بعضهم لبعض تولد في قلوبهم الوصلا
وتزرع في الضمير هوى ووداً وتكسوهم إذا حضروا جمالاً] فتح المالك بتبويب التمهيد على موطأ مالك 9/358-359.
إذا تقرر هذا فنعود إلى العبارة المتداولة بين الناس وهي قولهم " الهدية لا تباع ولا توهب " أو " الهدية لا تهدى ولا تباع "، فهذه العبارة غير صححية شرعاً لأن الهدية إذا استقرت في ملك المهدى له فقد صار حرّ التصرف فيها فيجوز له أن يتصرف بها كما يتصرف في حرّ ماله فله أن يبيعها أو يهديها لغيره أو يتصدق بها ونحو ذلك من التصرفات.
ومما يدل على جواز تصرف المهدى إليه في الهدية بجميع أنواع التصرفات الشرعية ما ورد في الحديث عن أنس رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بلحم تصدق به على بريرة - وهي مولاة عائشة - فقال: هو عليها صدقة وهو لنا هدية) رواه البخاري ومسلم. وقد ذكر الحافظ ابن حجر أنه يؤخذ من الحديث أن الهدية تملك بوضعها في بيت المهدى له ولا يحتاج إلى التصريح بالقبول وأن لمن تصدق عليه بصدقة أن يتصرف فيها بما يشاء. فتح الباري 11/334.
وقد ترجم الإمام البخاري في صحيحه لهذا الحديث بقوله " باب إذا تحولت الصدقة "
وقال الإمام العيني في شرحه لعنوان الباب: [أي هذا باب يذكر فيه إذا تحولت الصدقة يعني إذا خرجت من كونها صدقة بأن دخلت في ملك المتصدق عليه] عمدة القاري 6/550.
وذكر الإمام البخاري حديث أم عطية الأنصارية رضي الله عنها قال: (دخل النبي صلى الله عليه وسلم على عائشة رضي الله عنها فقال: هل عندكم شيء؟ فقالت: لا إلا شيء بعثت به إلينا نسيبة - وهي أم عطية - من الشاة التي بعثت بها من الصدقة. فقال: إنها قد بلغت محلها) .
قال الإمام العيني: [وفيه - أي الحديث السابق - دليل على تحويل الصدقة إلى هدية لأنه لما كان يجوز التصرف للمتصدق عليه فيها بالبيع والهبة لصحة ملكه لها حكم لها بحكم الهبة] عمدة القاري 6/551.
وبناء على ما سبق فيجوز لمن أهدي إليه شيء أن يتصرف فيه كيفما شاء ولا حرج عليه في ذلك.(12/100)
101 - الربا
يقول السائل: ما حكم وضع المال في بنوك الدول الغربية أو البنوك الإسرائيلية وأخذ الفائدة؟
الجواب: إن الربا من أكبر الكبائر وتحريمه قطعي في كتاب الله سبحانه وتعالى وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم وإن المسلم إذا دقق النظر في النصوص الشرعية الواردة في تحريم الربا وقف على خطورة هذه الكبيرة والنتائج المترتبة عليها.
يقول الله سبحانه وتعالى: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) سورة البقرة الآيتان (275 -276) .
ويقول الله سبحانه وتعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ) سورة البقر الآيتان (278-279) .
وإن المتمعن في حال الأمة الإسلامية اليوم ليرى أن سوء حالها من ذلة وهوان على الناس ما هو إلا إحدى نتائج البعد عن منهج الله جل وعلا ومن ذلك التعامل بالربا فالأمة المسلمة في معظم البلدان تتعامل بالربا ويراه كثير من الناس مباحاً وبعضهم غير اسم الربا إلى فائدة متحايلاً على شرع الله فحاربهم الله تعالى وسلط عليهم الأمم من كل جانب. وينبغي أن يعلم أن آيات تحريم الربا وردت عامة فلا تفرق في تحريمه بين التعامل به مع المسلمين أو غيرهم وهذا العموم من خواص المحرمات في الشريعة الإسلامية فالشيء المحرم يكون محرماً على كل مسلم سواء كان في ديار الإسلام أو في ديار غيرهم.
فالخمر حرام على المسلم في ديار الإسلام وحرام عليه أيضاً إذا خرج منها.
قال الإمام الشافعي رحمه الله: [ومما يرافق التنزيل والسنة ويعقله المسلمون ويجتمعون عليه أن الحلال في دار الإسلام حلال في دارالكفر والحرام في دار الإسلام حرام في دار الكفر] الأم 4/160.
ولذلك كله فلا يجوز التعامل بالربا مع أي بنك وفي أي بلد مهما كان. وهذا مذهب جمهور أهل العلم وبه قال الأئمة مالك والشافعي وأحمد وغيرهم من العلماء.
وقد نسب إلى بعض الفقهاء قولهم بجواز التعامل بالربا في غير دار الإسلام وهذا المذهب ضعيف لا تقوم الحجة به وليس عندهم دليل معتبر والصحيح في هذه المسألة حرمة التعامل بالربا مطلقاً ويدل على ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لعن الله آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه وقال هم سواء) رواه البخاري ومسلم.
فيؤخذ من هذا الحديث أن كل من يأكل الربا ملعون. أي مطرود من رحمة الله من غير فرق بين أن يتعامل به مع المسلمين أو مع غيرهم.(12/101)
102 - الربا
يقول السائل: إذا كان لفرد أو مؤسسة أموال في البنوك سالفة الذكر متأتية عن طريق تحويلات مالية أو شيكات سياحية حيث تمكث الأموال لفترة في البنك باختياره ويترتب عليها فوائد ربوية فهل يجوز أخذ هذه الفوائد؟
الجواب: لا يجوز للمسلم اصلاً أن يضع أمواله في بنك ربوي ابتداءً إلا لضرورة. فإذا حصل ووضع أمواله فيه أعطاه البنك ربا وهو ما يسميه الناس اليوم زوراً وبهتاناً فائدة فحينئذٍ يتصرف فيها كما يلي:
أولاً: لا يجوز ترك الأموال التي تسمى فائدة للبنوك الربوية كما يدعي بعض الناس حيث يقولون إن هذا من باب التقوى والورع فهذه تقوى زائفة وفي غير محلها. ومن المعروف أن البنوك الربوية إذا تركت لها تلك الأموال تنفقها في مصالحها الشخصية.
ثانياً: لا يجوز الانتفاع بتلك الأموال انتفاعاً شخصيا ً كأن ينفقها الشخص على نفسه أو على أهله فهذه الأموال لا تحل للشخص أبداً ولا يحل له إنفاقها في مصالحه الشخصية.
ثالثاً: على المودع المذكور في السؤال أخذ تلك الأموال وإنفاقها على الفقراء وبعض مصالح المسلمين العامة كبناء مدرسة أو مستشفى أو تجهيز شارع ونحو ذلك.
وقد أفتى بذلك طائفة من علماء العصر منهم فضيلة الشيخ العلامة مصطفى الزرقا حيث قال (إن التدبير الصحيح الشرعي في هذه الفوائد أن يأخذها المودع من المصرف دون أن ينتفع بها في أي وجه من وجوه الانتفاع فعليه أن يأخذ تلك الفوائد التي يحتسبها له المصرف الربوي عن ودائعه ويوزعها على الفقراء حصراً أو قصراً لأنهم مصرفها الوحيد) .
وهذا رأي سديد إن شاء الله ولكن لا أوافقه على قصر تلك الأموال على الفقراء فقط بل يجوز صرفها في بعض مصالح المسلمين العامة كما ذكرت قبل قليل وينبغي أن يعلم أنَّه يجوز أن تدفع الزكاة من تلك الأموال وكذلك لا يجوز دفعها في بناء المساجد.(12/102)
103 - الربا
حساب التوفير ربا, يقول السائل: ما الحكم في حساب التوفير وهل يدخل ذلك في حكم الربا؟
الجواب: لا شك أن للبنوك الربوية أساليب كثيرة مغرية لجلب الزبائن للتعامل معها ولإيداع أموالهم حتى توسع أعمالها وتزيد من دخلها وتزين للناس طرق كسب كثيرة ولكنها لا تخرج في حقيقة الأمر عن دائرة الربا المحرم ومن ذلك دعوة الناس إلى فتح حسابات التوفير لدى هذه البنوك بطرق دعائية براقة تستهوي كثيراً من الناس ومن ذلك ما جاء في دعاية أحد البنوك من أن حسابات التوفير هي ضمان وأمان للمستقبل ونحو ذلك من الكلام الزائف.
ومن المعلوم أن البنوك تدفع ما تسميه فوائد مجزية على حسابات التوفير وهي في الحقيقة من الربا المحرم.
ومما يؤسف له أن كثيراً من الناس يقبلون على فتح حسابات التوفير هذه ويزعمون أنهم يؤمنون مستقبل أولادهم ويدخرون لهم وهذه المدخرات تنمو بالربا الحرام والمال الحرام لا يبارك الله فيه بل يسحقه ويمحقه.
يقول الله تعالى: (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) .
وعلى المسلم أن يوقن بأن الأرزاق بيد الله وأن تأمين المستقبل كما يقولون لا يكون عن طريق الحرام وإنما يكون بالإدخار من المال الحلال فهذا الذي يدخر لأولاده من المال الحرام وبطرق حرام إنما يربي أولاده على الحرام وينفق عليهم من الحرام ويدخر لهم نار جهنم والعياذ بالله.
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: (يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) . وقال: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يده إلى السماء يا رب يارب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذيه بالحرام فأنى يستجاب له) رواه مسلم.
وعلى كل مسلم أن يسعى لتأمين مستقبل أولاده بالكسب المشروع الحلال ولا يكون ذلك أبدأً عن طريق الربا المحرم بنص كتاب الله تعالى: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَوَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) .(12/103)
104 - الربا
العمل في البنوك الربوية حرام, تقول السائلة: إن زوجها يعمل في البنك وتسأل هل المعاش - الراتب – حلال أم حرام؟ وهل وضع الأموال في البنوك بدون أخذ الفائدة يجوز أم لا؟
الجواب: يقول الله تعالى: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ إِنَّ الَّذِينَءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَءَاتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ) .
مما لا شك فيه أن الربا محرم شرعاً باتفاق أهل العلم، وأن النظام الإقتصادي الإسلامي يحارب الربا وكل المؤسسات الربوية، وقد شدد الإسلام في أمر الربا، فبالإضافة للآيات السابقة يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اجتنبوا السبع الموبقات – المهلكات – قلنا: وما هي يا رسول الله؟ قال: الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات) رواه مسلم.
وعن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه وقال: هم سواء) ، رواه مسلم.
وعن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (الربا ثلاثة وسبعون شعبة أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه) رواه الحاكم وصصحه، وغير ذلك من الأحاديث.
وبناءً على ما سبق فقد قرر كثيرٌ من أهل العلم حرمة العمل في البنوك الربوية، حتى ولو كان العمل حارساً ليلياً للبنك، لأن ذلك من باب التعاون على الإثم والعدوان، وهو محرم بنص القرآن الكريم وكذلك فقد أفتى كثير من العلماء المعاصرين بحرمة تأجير المحلات أو العمارات للبنوك الربوية لذات السبب السابق.
وأما إيداع الأموال في البنوك الربوية، فالأصل في ذلك التحريم ولا يجوز إلا في حالة الضرورة، كأن يخشى الإنسان على ماله من الضياع ولا يجد مكاناً آمنا ً لوضعه إلا في البنك كحسابٍ جارٍ ولا يأخذ ربا عليه.
أقول هذا وأنا أعلم أن التعامل مع البنوك الربوية أصبح بلاء عاماً لا ينجو منه إلا القليل، وأعلم أن امتناع شخص أو أشخاص من العمل مع البنوك الربوية أو الإيداع فيها لا يحل المشكلة المستعصية، لأن المشكلة جزء من سيئات النظام العام الذي نعيشه وونحياه، ولكن سددوا وقاربوا واتقوا الله ما استطعتم.(12/104)
105 - الشيكات
يقول السائل: يتعامل بعض الناس بالشيكات مع بعض الصرافين فيأخذ الصراف الشيك من الزبون ويكون موعد صرفه بعد ستة أشهر مثلاً فإذا كانت قيمة الشيك ألف دينار يدفع الصراف تسعمائة وخمسين دينار، وفي حالة أخرى يتم صرف الشيك الذي حل موعد استحقاقه مقابل عمولة تقدر ب 1% أو 1. 5% فما حكم التعامل بالصورتين المذكوريتن؟
الجواب: إن التعامل بالصورة الأولى المذكورة في السؤال حرام شرعاً لأن ما يقوم به الصراف من أخذ الشيك الذي تبلغ قيمته ألف دينار بتسعمائة وخمسين ديناراً يعتبر أحد أبواب الربا لأن المبلغ الذي يأخذه الصراف هو مقابل المدة الباقية على صرف الشيك وهي ستة أشهر مثلاً وهذه الصورة غير جائزة لا يجوز التعامل بها.
وأما الصورة الثانية فإن ما يتقاضاه الصراف وهو المسمى عمولة وتقدر بنسبة قليلة فيعتبر من باب الأجر ولا بأس بالتعامل بهذه الصورة ولا يعد من التعامل بالربا.(12/105)
106 - زيادة محرمة
يقول السائل: اشترى زوج أختي قطعة أرض مني ودفع لي بعض ثمنها ثم فسخ العقد لأسبابٍ معينة، ويطالبني الآن زوج أختي بالمبلغ الذي دفعه مع الزيادة الربوية، وأنا أرفض دفع الزيادة له، ولكن والديَّ يهدداني بالغضب عليَّ إذا لم أدفع له ما يريد، أفتوني مأجورين؟
الجواب: إذا تم فسخ العقد، يعيد البائع المبلغ الذي قبضه للمشتري ويعيد المشتري العين المباعة، وهي هنا في السؤال قطعة الأرض، ولا يحق للمشتري بأن يطالب بأي زيادة على المبلغ الذي دفعه لأن هذه الزيادة تعتبر من باب الربا وهو محرم بنص كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
قال الله تعالى: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) .
وأما تهديد والديك بالغضب إن لم تدفع لزوج أختك الزيادة فغضبهما في غير محله وهاما غير محقين في هذا الغضب وعليك أن تبين لهما أن هذه الزيادة من الربا وتذكرهما بالله سبحانه وتعالى فلعلهما يتراجعان عن ذلك.
وإذا أصرا على موقفهما بعد البيان والتوضيح فلا عليك من غضبهما. وطاعة الله أولى ومقدمة على طاعة الوالدين وخاصة أنهما يأمران ولدهما بارتكاب معصية من المعاصي، بل كبيرة من الكبائر ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. وعلى والديك أن يتقيا الله فيك وواجبهما العمل على إنقاذك من نار جهنم، لا أن يدفعاك إليها. وليذكرا قول الله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) .(12/106)
107 - خلو الرجل
يقول السائل: إنه استأجر بيتاً منذ مدة طويلة وقد انتهت مدة العقد ويطلب مالك البيت منه إخلاء البيت ولكنه طلب من المالك أن يدفع له مبلغاً من المال كخلو رجل فما حكم هذا المال وهل يجوز له أخذ خلو الرجل؟
الجواب: لا يجوز لهذا المستأجر أن يأخذ أي مبلغ من المال مقابل إخلائه للبيت بعد انتهاء عقد الإجارة والمالك أحق بملكه ويجب على المستأجر إخلاء البيت وإذا أخذ مبلغاً من المال فإنه يأكله سحتاً وحراماً.
وخلو الرجل عند من يقول بجوازه يشترط فيه أن يكون قد بقي شيء من مدة عقد الإجارة، فمثلاً إذا استأجر شخض محلاً تجارياً لمدة خمس سنوات ورغب المالك في إنهاء العقد بعد مضي سنتين فأجازوا للمستأجر أن يأخذ خلو الرجل لأن ذلك يكون مقابل ما بقي له من حق المنفعة في المحل المستأجر وأما إذا انتهت مدة عقد الإحارة فلا يجوز للمستأجر أخذ الخلو ويجب عليه إعادة المحل لمالكه لأن المالك أحق بملكه.
وبهذه المناسبة أذكر المستأجرين أنه لا يجوز لهم شرعاً الامتناع عن إخلاء الدور المؤجرة أو المحلات المؤجرة إذا رغب أصحابها في عدم تجديد عقد الإجارة وما يقال أن القانون يحمي المستأجر فيمنع إخراجه ويمنع زيادة الأجرة فهذا كلام باطل شرعاً فيحق شرعاً للمالك أن لا يجدد عقد الإجارة بعد انتهاء مدة العقد المتفق عليها كما وأنه يجوز للمالك أن يزيد الأجرة بعد انتهاء مدة العقد.
ولا يعني هذا الكلام أن يقوم المالك باستغلال حاجات الناس وزيادة الأجرة بشكل غير معقول.
وإنما تزداد الأجرة على حسب ما هو متعارف عليه في البلد بدون ظلم لأحد وعلى الناس أن يتراحموا في هذا الأمر.(12/107)
108 - عقد الاستصناع جائز شرعا
يقول السائل: اتفقت مع نجار على أن يقوم بتفصيل غرفة نوم مقابل مبلغ ألف وخمسمائة دينار واتفقنا على أوصافها وموعد تسليمها ولكن قال بعض الناس إن هذا العقد باطل، فما الحكم في ذلك؟
الجواب: إن العقد الذي اتفقت فيه مع النجار هو المسمى عند الفقهاء عقد الاستصناع وهو شراء ما يصنع وفقاً للطلب إذا كانت العين من الصانع كأن يذهب شخص إلى صانع أحذية ويطلب منه أن يصنع له زوجاً من الأحذية بأوصاف معلومة وثمن معلوم كالمثال المذكور في السؤال.
والاستصناع عقد مشروع عند أصحاب المذاهب الأربعة وإن كان على خلاف القياس لأنه بيع معدوم. وأجازه الفقهاء لما ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم استصنع خاتماً ومنبراً، ونظراً لتعامل الناس به وتعارفهم عليه في مختلف العصور ويشترط بجوازه بعض الشروط منها:
1. بيان صفة المصنوع وصفاً تاماً يمنع النزاع.
2. أن يكون المصنوع مما تعارف الناس التعامل به.
وينبغي أن تحدد فيه مدة دفعاً للخصومة وعقد الاستصناع عقد لازم لمن طلب الاستصناع فيلزمه أخذ الشيء المستصنع إذا كان موافقاً الأوصاف التي اتفق عليها دفعاً للضرر عن الصانع. وبهذا يظهر أن الزعم بأن هذا العقد باطل قول باطل لا دليل له.(12/108)
109 - المال الحرام
يقول السائل: إنه رجل صاحب صنعة وعمل لدى شخص يغلب على ظنه أن ماله مكتسب من الحرام، فهل أجرة هذا الصانع حلال أم حرام؟
الجواب: إذا كنت تعمل في عمل جائز شرعاً وأخذت الأجرة عليه فما أخذته حلال إن شاء الله وليس لك أن تسأل الشخص الذي عملت عنده عن مصدر ماله، هل اكتسبه من حلال أم حرام؟ لأن السؤال عن ذلك نوع من التنطع والتشدد الذي لا تقره الشريعة الإسلامية والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (هلك المتنطعون) رواه مسلم.
ويضاف إلى ذلك أن الإنسان مسئول عما يفعل ولا يسأل عن فعل غيره، والله سبحانه وتعالى يقول: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) فما أخذته من أجر على العمل الذي قمت به حلال ولا شيء فيه ولست مأموراً بالتنقيب عن مصدر مال الشخص الذي عملت عنده فلو أن كل شخص عمل لغيره عملاً وسأله من أين اكتسب ماله؟ لأصبح الناس في حرج شديد ولما انتهى الأمر إلى حد.(12/109)
110 - التبرع بالدم
يقول السائل: قد يحتاج المريض إلى كميات من الدم وقد لا يوجد متبرع بها ويأبى إلا أن يبيعها فما الحكم الشرعي في ذلك؟
الجواب: إن التبرع بالدم من الأمور الضرورية للناس ولا أبالغ إن قلت إن حكمه فرض كفاية إذا قام به البعض سقط الإثم عن الباقين وذلك لما يترتب عليه من إنقاذ المرضى والجرحى في الحوادث المختلفة وعلى الإنسان أن يبذل دمه تبرعاً وحسبةً لله تعالى ولا يطلب أي مقابل عند تبرعه بدمه لإنقاذ حياة إنسان محتاج لذلك الدم.
ولا يجوز أخذ العوض مقابل هذا الدم المبذول وذلك لأن الإنسان مكرم لا يجوز بيع أي جزء منه فلا يحل أن يبيع شعره مثلاً كما تباع أصواف الحيوانات وكذلك دمه لا يحل له بيعه.
يقول الله تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِيءَادَمَ) وأخذاً من هذا التكريم لا يجوز للإنسان أن يبيع أي جزء منه كما تباع السلع.
وإذا لم يتيسر للإنسان المحتاج للدم الحصول على الدم تبرعاً وهبة إلا عن طريق الشراء فحينئذ يجوز شراء الدم والإثم على الآخذ دون المعطي.
وينبغي أن يذكر هنا أن نقل الدم لا علاقة له بانتشار الحرمة بين الآخذ والمعطي كما هو الحال في الرضاع.(12/110)
111 - المال الحرام
شراء المال المسروق لا يجوز , يقول السائل: ما حكم شراء المعدات التي تتم مصادرتها من أصحابها بغير حق؟ وما حكم شراء الأجهزة المسروقة؟
الجواب: يحرم على المشتري أن يشتري مالاً مغصوباً أو مسروقاً أو أخذ من صاحبه بغير حق وهو يعلم كالأجهزة التي تصادر من أصحابها لعدم دفعهم الضرائب ونحو ذلك فهذا امثاله ولا يجوز للمسلم أن يقدم على شرائه وهو يعلم لأنه قد أخذ من أصحابه بدون حق لأن هذه الأجهزة لم تنتقل ملكيتها من صاحبها بطريق شرعي وإنما هي مغصوبة أو مسروقة فإذا أقدم المسلم على شرائها فيكون قد اشتراها من غير مالكها الحقيقي.
ولا شك أن في شراء المال المسروق أو المغصوب تشجيع لهؤلاء الذين يأخذون أموال الناس بالباطل ويعتبر ذلك من باب التعاون على الإثم والعدوان وقد نهانا الله عن ذلك بقوله تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) .
وكذلك فإننا نعلم أنه لا يحل أخذ مال المسلم إلا إذا طابت نفسه بذلك وهذه الأموال المسروقة أو المغصوبة تؤخذ بالقوة أو بالخفية ولا تطيب نفس صاحبها بها والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه) رواه أحمد والبيهقي والدارقطني وهو حديث صحيح.
وقد روي في الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم قوله: (من اشترى سرقة – شيئاً مسروقاً – وهو يعلم أنها سرقة فقد اشترك في إثمها وعارها) رواه الحاكم والبيهقي وسنده مختلف فيه.(12/111)
112 - البيع
المتاجرة بأفلام الفيديو, يقول السائل: إنه يملك محلاً للبيع وتأجير أشرطة الفيديو فما الحكم الشرعي في ريع هذا المحل؟
الجواب: إن المتاجرة في أفلام الفيديو المعروضة في الأسواق والتي تعرض المحرمات كأفلام الجنس والخلاعة والمجون والرذائل والأفلام البوليسية التي تعلم الناس وسائل الإجرام وتسهم في نشر الجرائم والرذائل حرام شرعاً، فالتعامل في هذه الأشرطة بيعاً أو شراءاً أو إجارة أو إهداءً أو تبادلاً بدون مقابل كل ذلك محرم شرعاً لأنها تسهم بلا شك في نشر الفاحشة بين المسلمين يقول الله سبحانه وتعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَءَامَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) .
وكذلك فإنه يعد من باب التعاون على الإثم والعدوان والله سبحانه وتعالى يقول: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) .
وينبغي أن يعلم أنه لا يجوز لمالكي العقارات والمحلات التجارية أن يؤجروها لأمثال هؤلاء تجار أشرطة الفيديو.
وأما إذا كانت أشرطة الفيديو تعرض البرامج النافعة والمفيدة كالأشرطة العلمية والطبية والتاريخية ونحو ذلك مما لا يتعارض مع أحكام الشريعة فيجوز التعامل بها.(12/112)
113 - المضاربة
يقول السائل: لدَّي مال يبلغ خمسة آلاف دينار وقال لي شخص أعطني هذا المال أشغله لك في تجارتي على أن أعطيك مائتين وخمسين ديناراً في الشهر فما الحكم الشرعي في ذلك الأمر؟
الجواب: إن العرض الذي عرضه عليك هذا الشخص يسمى عند الفقهاء عقد المضاربة، ولكن هذه المضاربة المعروضة عليك مضاربة فاسدة، وقبل بيان فسادها أبين لك معنى المضاربة عند الفقهاء:
فالمضاربة وتسمى أيضاً القراض: هي أن يدفع شخص مبلغاً من المال لآخر ليتجر فيه، والربح مشترك بينهما على حسب ما يتفقان – أي يكون المال من شخص والعمل من شخص آخر.
والمضاربة جائزة عند عامة الفقهاء اتباعاً لما ورد عن عدد من الصحابة رضي الله عنهم الذين أجازوها وعملوا بها ولم يثبت فيها بعينها دليل لا من الكتاب ولا من السنة كما قال جماعة من أهل العلم.
وبشترط أن يكون رأس المال نقداً ومعلوم المقدار ويشترط أن يكون نصيب كل من المتعاقدين من الربح معلوماً على أن يكون جزءاً مشاعاً كنسبة مئوية 10% أو 15% أو 40% على حسب ما يتفقان.
ولا يجوز أن يكون الربح مبلغاً محدداً فإن حصل ذلك أدى ذلك إلى فساد عقد المضاربة ومن الأمور المهمة في عقد المضاربة أن الخسارة إن حصلت يتحملها صاحب المال دون العامل لإن العامل يخسر جهده وعمله، إلا إذا كانت المضاربة مقيدة ومشروطة بشرطٍ محدد، فخالف العامل ذلك الشرط فإنه حينئذٍ يضمن، كأن يشترط صاحب المال على العامل ألا يتاجر بالسيارات مثلاً، فتاجر العامل بالسيارات فخسر فحينئذٍ فإن العامل ضامن لأنه خالف الشرط الذي اتفق عليه.
وأعود إلى بيان سبب فساد العقد الذي عرض على السائل فأقول: إن المضاربة تقتضي المشاركة في الربح بين صاحب المال والعامل، فإذا حدد مبلغ مقطوع سيكون لأحدهما كما في السؤال مبلغ (250) دينارا ً فلعل المضاربة لا تربح إلا ذلك المبلغ فيكون المبلغ لأحدهما دون الآخر، وهذا الحال يتنافى مع الاشتراك في الربح فلذلك قرر الفقهاء أنه لا بد من أن يكون الربح جزءا ًشائعاً. فلو ربح مائة دينار وكان بينهما نسبة معينة مثلاً 40% لصاحب المال والباقي للعامل أو حسب ما يتفقان فإن المشاركة تكون حاصلة في الربح.(12/113)
114 - الشرط الجزائي
يقول السائل: ما الحكم الشرعي فيما يعرف هذه الأيام بالشرط الجزائي في المعاملات؟
الجواب: لا بد من توضيح الشرط الجزائي فنقول:
نظراً لتطور أساليب التجارة والتعامل بين الناس وجدت انواع من العقود والتعامل في العصور المتأخرة لم تكن معروفة في الماضي وصار لعامل الوقت أهمية قصوى في التعامل كما هو الحال في عقود التوريد إلى المصانع والمؤسسات المختلفة ونظراً لما يترتب على تأخير تسليم البضاعة إلى المصانع أو إلى المؤسسات أو تأخير تسليم المقاولين للأعمال المنوطة بهم ولما يترتب على ذلك التأخير من أضرار قد تلحق بالأطراف الأخرى في أمثال هذه العقود احتاج الناس إلى اشتراط شروط تصمن لهم حقوقهم وتلزم الطرف الذي يتأخر في تنفيذ العقد أو يخل بشيء من العقد بدفع تعويض مالي إلى الطرف الآخر وهذا ما يعرف بالشرط الجزائي.
والذي عليه كثير من الفقهاء المعاصرون أن الشرط الجزائي جائز وأنه من الشروط التي تعتبر في مصلحة العقد إذ هو حافز لإكمال العقد في وقته المحدد له، ويمكن أن يستدل على جوازه بما رواه البخاري في صحيحيه بسنده عن ابن سيرين أن رجلاً قال لكريه: (من يكري وسائل النقل) أدخل ركابك فإن لم أرحل معك يوم كذا وكذا فلك مائة درهم فلم يخرج فقال شريح: من شرط على نفسه طائعاً ليس مكره فهو عليه.
ويضاف إلى ذلك أن الشرط الجزائي مقابل للإخلال بالإلتزام الذي قد يلحق الضرر ويفوت المنافع. والقول بجواز الشرط الجزائي سد لأبواب الفوضى والتلاعب بحقوق عباد الله وهو سبب من أسباب دفع الناس للوفاء بالعقود تحقيقاً لقوله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) .
وينبغي ملاحظة أمرين في قضية الشرط الجزائي:
الأول: أنه لا ينبغي تنفيذ الشرط الجزائي إذا كان هنالك عذر شرعي في الإخلال بالالتزام فيكون العذر الشرعي مسقطاً لوجوبه حتى يزول العذر.
الثاني: إذا كان الشرط الجزائي كثيراً عرفاً بحيث يراد به التهديد المالي ويكون بعيداً عن مقتضى القواعد الشرعية فيجب الرجوع في ذلك إلى العدل والإنصاف ويرجع في تقدير الضرر إلى أهل الخبرة والشأن في ذلك.
ولا بد من مراعاة قواعد العدل ورفع الضرر عن الناس لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار) .(12/114)
115 - الغرامة بالمال
يقول السائل: ما الحكم الشرعي في فرض غرامة مالية عن المتخلفين في دفع أقساط الاشتراك في جمعية أو نقابة أو نحو ذلك؟ وهل لذلك علاقة بالربا؟
الجواب: ينبغي أن يعلم أولاً: أنه لا ينبغي للمسلم ان يشترك في جمعية أو نقابة تتعارض أهدافها أو وسائلها مع مبادئ الإسلام.
ثانياً: إن ما تأخذه هذه الجهات من المنضمين إليها إن كان على سبيل التبرع فلا يجوز لها فرض غرامة على المتأخرين في سداد هذه الأقساط لأن المتطوع أمير نفسه فيجوز شرعاً للمسلم إذا أراد أن يتبرع أن يرجع عن تبرعه وإن كان ذلك خلاف الأولى. وأما إذا كانت هذه الأقساط على سبيل الإلزام، وقد رضي المشتركون في نظام هذه الجهة وقبلوا بهذا المبدأ وهو فرض الغرامة على المتأخرين في سداد هذه الأقساط فيجوز لتلك الجهة فرض الغرامة المالية على المتأخرين عن سداد القساط.
قال شريح القاضي: (من شرط على نفسه طائعاً غير مكره فهو عليه) وهذا الأمر ليس له علاقة بالربا لا من قريب ولا من بعيد لأن الربا هو الزيادة التي يؤديها المدين للدائن على رأس ماله نظير مدة معلومة من الزمن أجله إليها مع الشرط والتحديد، أو هو فضل مال بلا عوض في معاوضة مال بمال.
فالموضوع محل السؤال ليس من الربا لأنه لا يوجد فيه معاوضة وإنما هو من باب التعزير بالعقوبات المالية وهي مشروعة عند جماعة من أهل العلم كما هو مشهور في مذهب مالك ومذهب أحمد في رواية ومذهب الشافعي في قول له ودلت على ذلك سنة الرسول صلى الله عليه وسلم كأمر الرسول صلى الله عليه وسلم تكسير أوعية الخمر ومثل أخذ شطر مال مانع الزكاة وغير ذلك.(12/115)
116 - الغرامة بالمال
يقول السائل: إنه اقترض مبلغاً من المال لبناء مسكن له، على أن يسدد القرض على أقساط، واشترط عليه أنه إذا تأخر في سداد قسط من الأقساط أن يدفع غرامة مالية بسبب التأخير، واشترط عليه أنه لا يجوز له بيع المسكن إلا بموافقة المقرض وإذا باع مسكنه فإنه يدفع غرامة مالية للمقرض زيادة على القرض، فما الحكم في ذلك؟
الجواب: القرض الحسن مشروع بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد قال تعالى: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً) سورة البقرة /245. ووجه الدلالة فيه، أن الله سبحانه وتعالى شبه الأعمال الصالحة والإنفاق في سبيل الله بالمال المقرَض، وشبه الجزاء المضاعف على ذلك ببدل القرض شيئاً ليأخذ عوضه، ومشروعية المشبه تدل على مشروعية المشبه به، عقد القرض ص13. وثبت في الحديث الصحيح، عن أبي رافع ?، (أن النبي صلى الله عليه وسلم استلف من رجل بكراً - أي جملاً فتياً - فقدمت على الرسول صلى الله عليه وسلم إبل الصدقة، فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكره فقال: يا رسول الله، لم أجد فيها إلا خياراً رباعياً - أي جملاً كبيراً -، فقال: أعطه، فإن خير الناس أحسنهم قضاءً) رواه مسلم. وإقراض المعسر وتفريج كربه أمر مرغَّب فيه شرعاً ويدخل ذلك في عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من نفّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسَّر على معسر، يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة ومن ستر مسلماً، ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه) رواه مسلم. وللمقرِض أجر عظيم عند الله سبحانه وتعالى فقد جاء في الحديث عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من مسلم يقرض مسلماً قرضاً مرتين، إلا كان كصدقة مرة) رواه ابن حبان في صحيحه وابن ماجة والطبراني وهو حديث حسن. وينبغي أن يعلم أنَّ القروض تقضى بأمثالها، ولا يجوز شرعاً الزيادة المشروطة في رد بدل القرض، وكل زيادة تعتبر من باب الربا. قال الحافظ ابن عبد البر: " وكل زيادة في سلف أو منفعة ينتفع بها المسلِف فهو ربا، ولو كانت قبضة من علف، وذلك حرام إن كان بشرط ". وقال ابن المنذر: " أجمعوا على أن المسلِف إذا شرط على المستلف زيادة أو هدية فأسلف على ذلك، إن أخذ الزيادة ربا " الموسوعة الفقهية 33/130. وهنا لا بد من التنبيه على بعض القضايا المهمة والمتعلقة بالقروض: أولاً: يحرم على المدين الموسر أن يماطل في أداء ما حلَّ عليه من الأقساط، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (مطل الغني ظلم) رواه البخاري ومسلم. ثانياً: وإن ماطل المدين الموسر، يحرم شرعاً فرض أية غرامة مالية عليه، في حال التأخر عن السداد لأن ذلك يعتبر من الربا، وهذا ما قرره أكثر الفقهاء قديماً وحديثاً، وأخذت به المجامع الفقهية المعتمدة، فقد جاء في قرار مجلس المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي، بمكة المكرمة ما يلي: ((نظر المجمع الفقهي في موضوع السؤال التالي، إذا تأخر المدين عن سداد الدين في المدة المحددة، فهل للبنك الحق أن يفرض على المدين غرامة مالية، جزائية بنسبة معينة بسبب التأخر عن السداد في الموعد المحدد بينهما؟ الجواب: وبعد البحث والدراسة، قرر المجمع الفقهي بالإجماع ما يلي: إن الدائن إذا شرط على المدين أو فرض عليه أن يدفع له مبلغاً من المال غرامة مالية جزائية محددة أو بنسبة معينة، إذا تأخر عن السداد في الموعد المحدد بينهما، فهو شرط أو فرض باطل، ولا يجب الوفاء به، ولا يحل سواءً أكان الشارط هو المصرف أو غيره، لأن هذا بعينه هو ربا الجاهلية الذي نزل القرآن بتحريمه)) . وفد يقول قائل: إن هذا الكلام يشجع المدينين على المماطلة وعدم الوفاء بالدين، ونقول يمكن للمقرض أن يشترط على المدين أنه في حالة تأخره عن سداد قسط من أقساط الدين تحلّ بقية الأقساط ويمكن اتخاذ أمور أخرى ضد المدين المماطل كمطالبة الكفلاء وغير ذلك. ثالثاً: لا يجوز شرعاً منع المقترض من بيع منزله الذي بناه بالقرض، لأن ذلك مخالف للقواعد المقررة شرعاً من حرية تصرف المالك في ملكه وغير ذلك. ولا يصح إلزام المقترض بأية غرامة مالية في حال بيعه مسكنه لأن ذلك نوع من الربا المحرم شرعاً. رابعاً: لا يجوز شرعاً ربط الديون بمستوى الأسعار أو جدول غلاء المعيشة، فقد قرر مجمع الفقه الإسلامي في دورته الخامسة ما يلي: ((العبرة في وفاء الديون الثابتة بعملة ما هي بالمثل وليس بالقيمة لأن الديون تقضى بأمثالها فلا يجوز ربط الديون الثابتة في الذمة أياً كان مصدرها بمستوى الأسعار)) مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد الخامس، الجزء الثالث / ص 2261. *****(12/116)
117 - الغرامة بالمال
يقول السائل: اشترى شخص مني عقاراً بالتقسيط، ودفع بعض الأقساط، ولم يكمل دفع بقية الأقساط، وقد استلم العقار، وهذا الشخص قادر على تسديد بقية الأقساط، إلا أنه يماطل وقد مضى على موعد تسديد آخر قسط ثلاث سنوات وما يزال يماطل فهل يحق لي أن أطالبه بتعويضٍ مالي مقابل العطل والضرر الذي ألحقه بي؟
الجواب: يجب أن يعلم أولاً أنه يحرم على الغني أن يماطل فيما وجب عليه من حقوق، كالدين مثلاً، وكذلك من وجد أداءً لحق عليه وإن كان فقيراً تحرم عليه المماطلة، وقد ثبت في الحديث الصحيح، عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مطل الغني ظلم) رواه البخاري ومسلم. قال الحافظ ابن حجر: " والمراد هنا تأخير ما استحق أداؤه بغير عذر، والغني مختلف في تعريفه ولكن المراد به هنا من قدر على الأداء فأخره ولو كان فقيراً " فتح الباري 5/371. وقال الحافظ أيضاً: " وفي الحديث الزجر عن المطل، واختلف هل يعد فعله عمداً كبيرة أم لا؟ فالجمهور على أن فاعله يفسَّق " فتح الباري 5/372. وكما جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليُّ الواجد يحل عرضه وعقوبته) رواه أبو داود والنسائي وأحمد بإسناد حسن كما قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري 5/459. وذكره الإمام البخاري تعليقاً فقال: " باب لصاحب الحق مقالاً، ويذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لي الواجد يحل عرضه وعقوبته) . قال سفيان: عرضه تقول: مطلتني، وعقوبته الحبس، والمراد بقوله (ليّ الواجد) أي مماطلة من يجد أداء الحقوق التي عليه، وقوله (يحل عرضه وعقوبته) المراد به كما فسره سفيان أن يقول صاحب الحق، أو صاحب الدين: مطلني فلان، وعقوبته أن يسجن. إذا تبين لنا حرمة مماطلة المقتدر على سداد ديونه، فنقول: اتفق أهل العلم على أنه لا يجوز معاقبة المماطل بفرض غرامة مالية عليه، لأن ذلك يعتبر من باب الربا المحرم، وإنما يعاقب بالحبس فقط. ((وقد بحث مجمع الفقه الإسلامي هذه القضية بحثاً موسعاً، وخلص إلى ما يلي: 1 - إذا تأخر المشتري في دفع الأقساط عن الموعد المحدد فلا يجوز إلزامه أي زيادة على الدين بشرط أو بدون شرط، لأن ذلك رباً محرَّم. 2 - يحرم على المدين المليء أن يماطل في أداء ما حل من الأقساط، ومع ذلك لا يجوز شرعاً اشتراط التعويض في حالة التأخر عن الأداء. 3 - يجوز شرعاً أن يشترط البائع بالأجل حلول الأقساط قبل مواعيدها عند تأخر المدين عن أداء بعضها ما دام الدين قد رضي بهذا الشرط عند التعاقد)) مجلة المجمع الفقهي عدد 6 جزء 1، ص447 - 448. وأخيراً ينبغي أن ننبه إلى أن هذا الحكم إنما هو في حق الغني المماطل وأما إذا كان المدين معسراً فإن الله سبحانه وتعالى طلب إنظاره إلى ميسرة، كما قال تعالى: (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ) سورة البقرة /280. *****(12/117)
118 - الخصومات
النزاع على الأراضي, يقول السائل: كثرة في الآونة الأخيرة الخلافات بين الناس حول أدعاء ملكية الأراضي ويحاول بعض الناس إثبات ملكيتهم بحلف الأيمان أو إبراز الحجج والإثباتات ونحو ذلك وقد ترتب على تلك الخلافات حوادث مؤسفة من قتل وشجار وخصام بين الناس فما الحكم الشرعي في ذلك؟
الجواب: لعل من أهم أسباب حدوث النزاع والخصام حول الأراضي وانتشار ذلك في هذه الأيام حيث إننا نطالع في الصحف إعلانات يدعي أصحابها ملكية أرض وإعلانات أخرى ترد على اولئك المدّعين وتنقض دعواهم ونحو ذلك من الخلافات.
أقول: لعل من أهم أسباب ذلك التهالك على الدنيا وضعف الوازع الديني لدى كثير من الناس حيث أن بعض الناس يأكلون أموال غيرهم بالباطل ويتوصلون إلى ذلك بطرق ملتوية وغير مشروعة.
والإسلام والحمد الله قرر طرق إثبات الحقوق في مثل حالات الخلاف هذه فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال أموال قوم ودمائهم لكن البينة على المدعي واليمين على من أنكر) رواه البيهقي وأصله في الصحيحين وهو حديث حسن.
فإذا ادعى إنسان أن قطعة الأرض الفلانية له وأقام البينة الواضحة الصحيحة على ذلك فهي حق ثابت له ولا يملك القاضي إلا أن يحكم له بذلك، وإذا تعذر ذلك توجه اليمين على المنكر.
ويؤيد ذلك ما جاء في الحديث عن الأشعث قال: كان بيني وبين رجل خصومة في بئر فاختصمنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله: (شاهداك أو يمينه، قلت: إذاً يحلف ولا يبالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من حلف على يمين يستحق بها مالاً هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان فأنزل الله تصديق ذلك ثم قرأ هذه الآية: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا ... ) رواه البخاري ومسلم.
وفي رواية لمسلم: (قلت: إذن يحلف ولا يبالي، قال عليه الصلاة والسلام: ليس لك إلا ذلك) وينبغي أن يعلم أن غصب الأرض وأخذها ظلماً وعدواناً يعد من الكبائر والعياذ بالله وقد وردت أحاديث كثيرة في الترهيب من ذلك منها:
1. قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من اقتطع شبراً من الأرض ظلماً طوقه الله إياه يوم القيامة في سبع أرضين) رواه مسلم.
وللعلماء أقوال في تفسير التطويق المذكور في الحديث منها أنه يحمل مثله من سبع أرضين ويكلف إطاقة ذلك.
وقيل يجعل ذلك كالطوق في عنقه كما قال الله تعالى: (سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) قاله اإمام النووي رحمه الله.
وقال الإمام الخطابي رحمه الله: معناه أنه يعاقب بالخسف إلى سبع أرضين ويؤيد هذا المعنى الحديث التالي:
2. قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من أخذ من الأرض شيئاً بغير حق خسف به يوم القيامة إلى سبع أرضين) رواه البخاري وغيره.
3. عن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل أن أروى بنت أويس خاصمته في بعض داره فقال: دعوها وإياها فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من أخذ شبراً من الأرض بغير حق طوقه في سبع ارضين يوم القيامة اللهم إن كانت كاذبة فاعم بصرها واجعل قبرها في دارها.
قال: فرأيتها عمياء تلتمس الجدر تقول: أصابتني دعوة سعيد بن زيد. فبينما هي تمشي في الدار مرت على بئر في الدار فوقعت فيها فكانت قبرها) رواه البخاري ومسلم.
4. وعن محمد بن إبراهيم أن ابا سلمة حدثه وكان بينه وبين قومه خصومة في أرض وأنه دخل على عائشة رضي الله عنها فذكر ذلك لها، فقالت: يا أبا سلمة، اجتنب الأرض فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه من سبع أرضين) رواه البخاري ومسلم.
5. وعن أبي مالك الأشجعي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أعظم الغلول –الخيانة – عند الله عز وجل ذراع من الأرض أو في الدار فيقتطع من حظ صاحبه ذراعاً فإذا اقتطعه طوقه من سبع أرضين إلى يوم القيامة) رواه أحمد وهو حديثٌ حسن وغير ذلك من الأحاديث.
ولا بدَّ من التنبيه إلى أن قضاء القاضي بإثبات الحق لأحد الخصمين لا يجعل ذلك حلالاً إن لم يكن ذلك في الواقع وحقيقة الأمر لأن القاضي يقضي حسب الظاهر ولعل أحد الخصمين يكون ألحن بحجته من الآخر فيظهر أمام القاضي أنه محق وهو في الحقيقة مبطل فيحكم له القاضي بذلك فإن حكم القاضي لا يجعل الحرام حلالاً.
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم (إنكم تختصمون إليَّ وإنما أنا بشرٌ ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض وإنما أقضي له بما يقول فمن قضيت له بشيءٍ من حق أخيه بقوله فإنما أقطع له قطعةً من النار فلا يأخذها) متفقٌ عليه.
وإن بعض الناس يقدمون على حلف الأيمان الكاذبة ليستولوا بها على حقوق الآخرين ويظنون أن ذلك هيناً وهو عند الله عظيم ولقد شدد الله سبحانه وتعالى في عقوبة هذه الجريمة النكراء يقول الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) .
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يقتطع الرجل حق امرء مسلم بيمينه إلا حرم الله عليه الجنة وأوجب له النار فقال رجل من القوم: يا رسول الله وإن كان شيئاً يسيراً، فقال، وإن كان سواكاً من أراك) رواه ابن ماجة والبيهقي وغيرهما وهو حديثٌ صحيح.(12/118)
119 - المزارعة جائزة
يقول السائل: عندي أرضٌ زراعية أعطيها لبعض المزارعين لرزراعتها بالقمح والشعير على أن لي ثلث الناتج منها فما حكم ذلك؟
الجواب: إن ما تقوم به يسمى عند الفقهاء مزارعة وهي عقد على الزرع ببعض الخارج والمزارعة محل خلافٍ بين علماء المسلمين والراجح من أقوال أهل العلم جوازها وهي مشروعة والأدلة على ذلك كثيرة منها:
1. ما رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطرٍ ما يخرج من ثمرٍ أو زرع) فتح الباري 5/ 409.
2. قال الإمام البخاري في صحيحه (باب المزراعة بشطر ونحوه. وقال قيس عن أبي جعفر قال: ما بالمدينة أهل بيت هجرة إلا يزرعون على الثلث والربع وزارع علي وسعد بن مالك وعبد الله بن مسعود وعمر بن عبد العزيز والقاسم وعروة وآل أبي بكر وآل عمر وآل علي وابن سيرين وقال عبد الرحمن ابن الأسود: كنت أشارك عبد الرحمن بن يزيد في الزرع. وعامل عمر الناس على إن جاء عمر بالبذر من عنده فله الشطر وإن جاءوا بالبذر فله كذا) فتح الباري 5/ 407-408.
وهذه المعلقات التي رواها الإمام البخاري بصيغة الجزم وصلها غيره من أهل الحديث كمنا بينه الحافظ ابن حجر في الفتح.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية معلقاً على كلام البخاري السابق (فإذا كان جميع المهاجرين كانوا يزارعون والخلفاء الراشدون وأكابر الصحابة والتابعين من غير أن ينكر ذلك منكر لم يكن إجماع أعظم من هذا، بل إن كان في الدنيا إجماع فهو هذا، لا سيما وأهل بيعة الرضوان جميعهم يزارعون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعده إلى أن أحلى عمر اليهود إلى تيماء) (مجموع الفتاوى 29/ 979) .
وقال ابن القيم: (وهذه – المزارعة – أمر صحيح مشهور قد عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات، ثم خلفاؤه الراشدون من بعده حتى ماتوا، ثم أهلوهم من بعدهم ولم يبقَ في المدينة أهل بيت حتى عملوا به وعمل به أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من بعده، ومثل هذا يستحيل أن يكون منسوخاً لاستمرار العمل به من النبي صلى الله عليه وسلم، إلى أن قبضه الله، وكذلك استمرار عمل خلفائه الراشدين به فنسخ هذا من أمحل المحال) شرح ابن القيم على سنن أبي داود 9/ 184.
والقول بجواز المزارعة ومشروعيتها هو قول أكثر أهل العلم واختاره المحققون من الفقهاء والمحدثين وبه قال الإمام مالك وأحمد وأبو يوسف ومحمد صاحبا أبي حنيفة وعليه الفتوى عند الحنفية، وبه قال اسحق بن راهويه والأمام النووي وابن تيمية وابن القيم وابن قدامة والشوكاني وغيرهم كثير جداً.
وأما الأحاديث التي ورد فيها النهي عن المزارعة كحديث رافع بن خديج (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء المزارع) رواه البخاري.
وكحديث جابر (أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء الأرض) رواه ابن حبان وغيره وغيرها من الأحاديث التي ورد فيها النهي عن المزارعة فالجواب عنها من وجوه كثيرة أذكر أهمها:
1. إن النهي الوارد في حديث الرافع بن خديج وغيره إنما هو في المزارعة الفاسدة التي كانت معروفة عندهم وقتئذٍ والتي فيها اشتراط صاحب الأرض لنفسه نتاج بقعة معينة من الأرض أو التبن فهذه منهي عنها ويؤكد ذلك أن رافعاً قد روى تفسير ذلك النهي، فعن رافع بن خديج قال: كنا أكثر الأنصار حقلاً فكنا نكري الأرض على أن لنا هذه ولهم هذه فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه فنهانا عن ذلك أما الورق فلم ينهنا، رواه البخاري ومسلم.
وفي روايةٍ أخرى (إنما كان الناس يؤاجرون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بما على الماذيانات وإقبال الجداول وأشياء من الزرع فيهلك هذا ويسلم هذا ولم يكن للناس كرىً إلا هذا فلذلك زجر عنه، فأما شيءٌ معلوم مضمون فلا بأس به) رواه مسلم.
والماذيانات: ما ينبت من الزرع على مسايل المياه.
وإقبال الجداول: أوائل السواقي.
وفي رواية أخرى عن رافع قال: (حدَّثني عمايَّ أنهما كانا يكريان الأرض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بنا ينبت على الإربعاء وبشيءٍ يستثنيه صاحب الأرض قال فنهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك) رواه البخاري.
والأربعاء: جمع ربيع وهو النهر الصغير.
قال شيخ الإسلام بن تيمية: [فهذا رافع بن خديج -الذي عليه مدار الحديث – يذكر أنه لم يكن لهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كراء إلا بزرع مكانٍ معين من الحقل وهذا النوع حرام بلا ريب عند الفقهاء قاطبة] الفتاوى 29/ 107.
2. إن الصحابة رضي الله عنهم أنكروا على رافع روايته. قال زيد بن ثابت وقد حكي له حديث رافع (يغفر الله لرافع بن خديج أنا والله أعلم بالحديث منه إنما أتى رجلان قد اقتتلا فقال عليه الصلاة والسلام إن كان هذا شأنكم فلا تكروا المزارع فسمع رافع قوله لا تكروا المزارع) رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة وقال الزيعلي حديثٌ حسن. نصب الراية 4/ 181.
3. وكذلك ما رواه عمرو بن دينار قال: قلت لطاوس لو تركت المخابرة- أي المزرعة - فإنهم يزعمون أنالنبي صلى الله عليه وسلم نهى عنها. فقال: إن أعملهم يعني ابن عباس أخبرني أن النبي صلى الله عليه وسلملم ينه عنها ولكن قال: أن يمنح أحدكم أخاه خيراً له من أن يأخذ عليها خراجاً معلوماً) رواه البخاري وغيره.
4. وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحرم المزارعة ولكن امر ان يرفق بعضهم ببعض. رواه الترمذي وصححه.
5. قال ابن القيم: [إن من تأمل حديث رافع وجمع طرقه واعتبر بعضها ببعض وحمل مجملها على مفسرها ومطلقها على مقيدها علم أن الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك أمر بين الفساد وهو المزارعة الظالمة الجائرة فإنه قال: كنا نكري الأرض على أن لنا هذه ولهم هذه فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه.. إلى أن قال: قال الليث بن سعد: الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر إذا نظر إليه ذو البصيرة بالحلال والحرام علم أنه لا يجوز.
وقال ابن المنذر: قد جاءت الأخبار عن رافع بعلل تدل على أن النهي كان لتلك العلل. (شرح بن القيم على سنن أبي داود 9/185 - 186) .
6. قال الإمام النووي: [.... ولأن المعنى المجوز للمساقاة موجود في المزارعة قياساً على القراض فإنه جائز بالإجماع وهو كالمزارعة في كل شيء ولأن المسلمين في جميع الأمصار والأعصار مستمرون على العمل بالمزارعة] شرح النووي على صحيح مسلم 10/210.
وبهذا العرض الموجز يظهر لنا أن المزارعة جائزة شرعاً والمسألة تحتاج إلى بحث أطول ولكن المقام لا يتسع.(12/119)
120 - جوائز التجار
يقول السائل: ما حكم الجوائز التي يعلن عنها التجار لترويج سلعهم مثل من يعلن أن من يشتري بمائة دينار يحصل على رقم يخوله الدخول فيقرعة على مجموعة من الجوائز تكون الجائزة الأولى سيارة مثلاً أو جهاز تلفزيون ونحو ذلك؟
الجواب: إن ترويج التجارة اليوم أصبح فناً قائماً بذاته وصار التجار يتبعون أساليب كثيرة ومختلفة من أجل تسويق تجاراتهم وبعض هذه الأسايب غير مشروع كالمثال المذكور في السؤال فهذا نوع من القمار المسمى باليناصيب لما يلي:
1. لأن المشتري يقدم على الشراء وهو على خطر فربما يحصل على الجائزة وربما لا يحصل عليها.
2. إن التجار الذين يمارسون هذا النوع من الترويج لبضائعهم يقومون برفع أثمان السلع حتى يتمكنوا من تغطية قيمة الجوائز من مجموع المشترين فيربح ويربح واحد من المشترين أو اثنان مثلاً ويخسر الآخرون.
3. إن مثل هذه الأساليب تدفع كثيراً من الناس إلى الشراء دونما حاجة رغبة في الحصول على الجائزة الموعودة وهذا يؤدي إلى الإسراف وترسيخ النهج الرأسمالي في الاستهلاك.
4. إن مثل هذه الأساليب تؤدي إلى تنمية الضغينة والحقد والحسد في قلوب الخاسرين من المشترين وهم الأكثر لأن الرابحين القلة. راجع كتاب (الميسر والقمار) ص 168 – 169.
ولا شك أن هذا الأسلوب يدخل في الميسر المحرم (القمار) يقول الله سبحانه وتعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) .(12/120)
121 - القروض
، تقضى الديون بأمثالها لا بقيمتها، يقول السائل: إنه اشترى سيارة بمبلغ تسعين ألف شيكل ودفع بعض ثمنها للبائع واتفقا على أن يسدد الباقي بعد شهر ثم هبطت قيمة الشيكل ويطالبه البائع الآن بتسديد الثمن حسب سعر صرف الشيكل بالنسبة للدينار في يوم الشراء فما قولكم في ذلك؟
الجواب: لا يجوز للبائع أن يطالب بتسديد ثمن السيارة حسب سعر صرف الشيكل بالنسبة للدينار في يوم شراء السيارة لأن الدين قد استقر في ذمة المشتري وهو تسعون ألف شيكل فعلى المشتري أن يسدد الثمن الذي استقر في ذمته عدداً لا قيمةً أي تسعون ألف شيكل فقط.
وهذا مذهب أكثر الفقهاء الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة وكثير من الفقهاء والعلماء المعاصرين حيث إنهم يرون أن الدين إذا استقر في ذمة المشتري بمقدار محدد فالواجب هو تسديد ذلك المقدار بدون زيادة أو نقصان فالديون تقضى بأمثالها في حالة الرخص والغلاء ولا تقضى بقيمتها جاء في المدونة: [كل شيء أعطيته إلى أجل فرد إليك مثله وزيادة فهو ربا] المدونة 4/25.
وقال أبو إسحاق الشيرازي: [ويجب على المستقرض رد المثل فيما له مثل لأن مقتضى القرض رد المثل] المهذب مع المجموع 12/185.
وقال الكاساني: [ولو لم تكسد - النقود - ولكنها رخصت قيمتها أو غلت لا ينفسخ البيع بالإجماع وعلى المشتري أن ينقد مثلها عدداً ولا يلتفت إلى القيمة هاهنا] بدائع الصنائع 5/542.
وقال الشيخ ابن عابدين في رسالته عن النقود: […لأن الإمام الإسبيجاني في شرح الطحاوي قال: وأجمعوا على أن الفلوس إذا لم تكسد ولكن غلت قيمتها أو رخصت فعليه مثل ما قبض من العدد] رسالة تنبيه الرقود على مسائل النقود 2/60 ضمن مجموعة رسائل ابن عابدين.
ويرى شيخ الإسلام ابن تيمية أيضاً وجوب رد المثل بلا زيادة. مجموع الفتاوى 29/535.
وقد بحث مجمع الفقه الإسلامي هذه المسألة بحثاً مستفيضاً وتوصل العلماء المشاركون في المجمع إلى القرار التالي: [العبرة في وفاء الديون الثابتة بعملة ما هي بالمثل وليس بالقيمة لأن الديون تقضى بأمثالها فلا يجوز ربط الديون الثابتة في الذمة أياً كان مصدرها بمستوى الأسعار] مجلة مجمع الفقه الإسلامي عدد 5
ج 3/2261.
وقد يقول بعض الناس إن رد المثل في القرض والديون فيه ضررٌ للمقرض والبائع فنقول لهم: إن الضرر لا يزال بضرر مثله كما قرر ذلك الفقهاء.
*****(12/121)
122 - القروض
يقول السائل: توفي والدي وعليه ديون كثيرة ولم يترك مالاً لسداد الديون فهل أولاده ملزمون بسداد الديون عنه؟
الجواب: إذا مات المسلم وعليه ديون وكان له أموال فأول عمل يقوم به ورثته هو تجهيزه وتكفينه والصلاة عليه ودفنه ومن ثم تسديد ديونه وبعد ذلك إنفاذ وصيته إن كان قد أوصى وبعد ذلك يوزع باقي المال على الورثة ,
وأما إذا لم يكن له أموال وقد ترك ديوناً فيندب للورثة أن يسددوا ديونه عنه وهذا من باب البر والوفاء للميت وخاصة إذا كان الميت هو أحد الوالدين وليس ذلك واجباً على الورثة ولكنه مندوب إليه.
فقد ورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه) رواه أحمد والترمذي وقال: حديث حسن. ورواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي وحسنه الإمام النووي.
قال الشيخ الشوكاني معلقاً على هذا الحديث: [فيه الحث للورثة على قضاء دين الميت والإخبار لهم بأن نفسه معلقة بدينه حتى يقضى عنه وهذا مقيد بمن له مال يقضى منه دينه. وأما من لا مال له ومات عازماً على القضاء فقد ورد في الأحاديث ما يدل على أن الله تعالى يقضي عنه …] نيل الأوطار 4/26.
وقد ورد في أحاديث أخرى أن نفس المؤمن معلقة بدينه فمن ذلك:
عن سعد بن الأطول رضي الله عنه: (أن أخاه مات وترك ثلاثمائة درهم وترك عيالاً. قال: فأردت أن أنفقها على عياله. قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن أخاك محبوس بدينه فاذهب فاقضه عنه. فذهبت فقضيت عنه ثم جئت. قلت يا رسول الله: قد قضيت عنه إلا دينارين ادعتهما امرأة وليست لها بينة. قال: أعطها فإنها محقة) وفي رواية أخرى: (صادقة) رواه أحمد وابن ماجة والبيهقي وصححه الشيخ الألباني. انظر أحكام الجنائز ص 15.
وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلَّى على جنازة فلما انصرف قال: أههنا من آل فلان أحد؟ فسكت القوم وكان إذا ابتدأهم بشيء سكتوا فقال ذلك مراراً. فقال رجل: هو ذا. قال: فقام رجل يجر إزاره من مؤخر الناس. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما منعك في المرتين الأوليين أن تكون أجبتني؟ أما أنّي لم أنوه باسمك إلا لخير: إن فلاناً – رجل منهم – مأسور بدينه عن الجنة فإن شئتم فافدوه وإن شئتم فأسلموه إلى عذاب الله. فلو رأيت أهله ومن يتحرون أمره قاموا فقضوا عنه حتى ما أحد يطلبه بشيء) رواه أبو داود والنسائي والحاكم وصححه ووافقه الذهبي وصححه الشيخ الألباني، أحكام الجنائز ص 15.
وينبغي أن يعلم أن أمر الدين عظيم ولا ينبغي أن يدّان الإنسان إلا إذا احتاج للمال فعلاً وعليه أن ينوي سداد الديون حتى لو لم يكن لديه ما يقضي دينه فإن مات بهذه النية فإن الله يسدد عنه كما ورد في أحاديث سأذكر بعضها فيما بعد.
والدين قد يكون سبباً في حبس المؤمن والشهيد عن الجنة لما ثبت في الحديث أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (أرأيت إن قتلت في سبيل الله صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر يكفر الله عني خطاياي؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم. فلمّا أدبر ناداه رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أمر به فنودي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف قلت؟ فأعاد عليه قوله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم إلا الدين كذلك قال جبريل) رواه مسلم.
وجاء في حديث آخر عن محمد بن جحش أنه قال: (كنا جلوساً في موضع الجنائز مع رسول الله فرفع رأسه في السماء ثم وضع راحته على جبهته فقال: سبحان الله ماذا أنزل الله من التشديد؟ فسكتنا وفرقنا. فلما كان الغد سألته: يا رسول الله ما هذا التشديد الذي نزل؟ قال: في الدين والذي نفسي بيده لو أن رجلاً قتل في سبيل الله ثم أحيي ثم قتل ثم أحيي وعليه دين ما دخل الجنة حتى يقضى عنه) رواه النسائي والحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أخذ أموال الناس يريد أدائها أدى الله عنه ومن أخذ يريد إتلافها أتلفه الله) رواه البخاري.
فالمسلم إذا استدان لحاجة حقيقية وكان ينوي أداء الدين لأصحابه فإن الله ييسر أمر قضاء الدين فقد ورد في الحديث عن ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من مسلم يدّان ديناً يعلم الله أنه يريد أداءه إلا أداه الله عنه في الدنيا) رواه ابن حبان والحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
وعن أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من دان بدين في نفسه وفاءه ومات تجاوز الله عنه وأرضى غريمه بما شاء ومن دان بدين وليس في نفسه وفاءه ومات اقتص الله لغريمه منه يوم القيامة) رواه الطبراني.
وعن ابن عمر رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (الدين دينان فمن مات وهو ينوي قضاءه فأنا وليه ومن مات ولا ينوي قضاءه فذلك الذي يؤخذ من حسناته ليس يومئذ دينار ولا درهم) رواه الطبراني في الكبير وصححه الشيخ الألباني.
أحاكم الجنائز ص 5.
*****(12/122)
123 - الربا
يقول السائل: كثير من الناس لا يفرق بين نسبة الربح التي تتقاضاها البنوك الإسلامية ونسبة الفائدة التي تأخذها البنوك الربوية فأرجو بيان الفرق بينهما؟
الفرق بين الربح والربا
الجواب: إن أسس عمل البنوك الإسلامية لا زالت غير واضحة عند كثير من الناس والأمر بحاجة ماسة إلى مزيد من الشرح والتوضيح والبيان والتوعية وللأسف أن البنوك الإسلامية مقصرة في شرح فكرتها للناس فواجب البنوك الإسلامية أن تبادر إلى مخاطبة جمهور الناس ببيان قواعد العمل في البنوك الإسلامية ويمكن أن يتم ذلك بوسائل كثيرة كعقد الندوات والمحاضرات وإصدار النشرات وهذا الأمر كفيل بزيادة تفهم الناس لطبيعة عمل البنوك الإسلامية.
ومن القضايا المشكلة في أذهان كثير من الناس ما ورد في السؤال وهو عدم التفريق بين الربح والفائدة " الربا ".
فيقول هؤلاء إنه لا فرق بين ما يتم التعامل به في البنوك الإسلامية وبين ما يتم التعامل به في البنوك الربوية فيقول أحدهم مثلاً: إنه ذهب لشراء سيارة إلى البنك الإسلامي فأخبروه أن ثمن السيارة مثلاً مئة ألف شيكل وأنهم سيربحون منه ثمانية آلاف شيكل وأنه ذهب إلى بنك ربوي ليحصل على قرض لشراء ذات السيارة فأخبروه أنهم سيقرضونه مئة ألف شيكل بفائدة قدرها 6. 5% فهو يرى أنه لا فرق بين المعاملتين بل إن الفائدة في البنك الربوي أقل من الربح في البنك الإسلامي ولذلك قرر أن يختار أقل التكلفتين.
ولتوضيح الفرق بين الصورتين أقول: إن الربح في لغة العرب هو النماء في التجارة والعرب تقول: ربحت تجارته إذا ربح صاحبها فيها ويقولون تجارة رابحة كما ورد في تاج العروس 4/44.
وقد وردت الإشارة إلى ذلك في القرآن الكريم حيث قال تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ) سورة البقرة ص 116.
وقد ذكر الطبري في تفسيره لهذه الآية ما يلي: [… الرابح من التجار المستبدل من سلعته المملوكة عليه بدلا هو أنفس من سلعته أو أفضل من ثمنها الذي يبتاعها به فأما المستبدل من سلعته بدلاً دونها ودون الثمن الذي يبتاعها به فهو الخاسر في تجارته] تفسير الطبري 1/315-316.
فالربح هو الزيادة على رأس المال نتيجة تقليبه في النشاط التجاري أو هو الزائد على رأس المال نتيجة تقليبه في الأنشطة الاستثمارية المشروعة كالتجارة والصناعة وغيرها. انظر الربح في الفقه الإسلامي ص 44.
والربح عند الفقهاء ينتج من تفاعل عنصري الإنتاج الرئيسيين وهما العمل ورأس المال فالعمل له دور كبير في تحصيل الربح. المصدر السابق ص 44-45.
قال د. سامي حمود: [والخلاصة أن الربح في النظر الفقهي الإسلامي هو نوع من نماء المال الناتج عن استخدام هذا المال في نشاط استثماري وأن هذا النشاط الاستثماري ملحوظ فيه عنصر تقليب راس المال من حال إلى حال كما هو الحال عند الاتجار بالمال حيث تصبح النقود عروضاً ثم تعود نقوداً أكثر بالربح أو أقل بالخسارة إذا حصلت خسارة بالفعل.
وإن هذا التقليب المعتبر للمال والذي يحصل الربح نتيجة له ما هو إلا إظهار للجهد البشري المرتبط بعمل الإنسان في المال. وذلك لأن هذا المال الجامد لا يزيد، ولولا مخالطة العمل للمال لبقي الدينار فيه ديناراً عاماً بعد عام ولكن هذا الدينار يمكن أن يصبح دنانيراً إذا أمسكته يد الإنسان الخبير بالبيع والشراء وسائر وجوه التقليب المعتبرة فالمال الجامد لا ينمو إلا بالعمل فيه حيث إن النقود لا تلد النقود.
ولذا فإن الإسلام في نظرته لرأس المال - كما تجلت قواعده الفقهية - لم يقرر للنقود حقاً في الحصول على أي ربح إلا إذا كان ذلك على وجه المشاركة للعمل في السراء والضراء، وفي هذا دليل ملموس على مدى اعتبار هذا العنصر المعنوي المتمثل في جهد الإنسان الذي كرمه الله تكريماً لم يقدره هذا المخلوق الجزوع والذي لا يتوانى عن الخضوع ذليلاً لكل ما يشرعه أهل الأرض بينما لا يخجل من نفسه أن يتطاول - وإذا نظر للمسائل دون إيمان - على ما شرع الله لعباده بالعدل والإحسان] تطوير الأعمال المصرفية بما يتفق والشريعة الإسلامية ص 254.
وأما الفائدة فهي زيادة مستحقة للدائن على مبلغ الدين يدفعها المدين مقابل احتباس الدين إلى تمام الوفاء] الفائدة والربا ص 16.
إذا تأملنا تعريف الفائدة فنجد أنها زيادة في مبادلة مال بمال لأجل أي أن الفائدة هي مقابل المدة الزمنية.
فمثلاً إذا اقترض شخص ألف دينار من البنك الربوي على أن يردها ألفاً ومئة دينار فالمئة دينار هي الفائدة وهذه استحقت مقابل تأجيل السداد لمدة سنة، ولتوضيح الفرق بين الربح والفائدة " الربا " لا بد أن نلاحظ أن الربح ناتج عن اجتماع العمل مع رأس المال فالتاجر يشتري ويبيع فيتولد من عمله ورأس ماله ربح وأما الفائدة فهي متولدة من رأس المال فقط بلا عمل أي أن المال هو الذي يولد المال.
وقد يقول قائل إن كلاً من الربح والفائدة يحملان معنى الزيادة في المال وهذا الكلام صحيح ولكن الزيادة في الربح مرتبطة بالتصرف الذي يتحول به المال من حال إلى حال، وأما الزيادة في الفائدة فهي حاصلة بشكل يزداد فيه المال نفسه أي أن الألف دينار صارت ألفاً ومئة.
وينبغي التنبيه إلى ما يقال من أن نتيجة الأعمال التي تقوم بها البنوك الإسلامية هي نفس نتيجة الأعمال التي تقوم بها البنوك الربوية فلوا افترضنا أن شخصاً اشترى سلعة من بنك إسلامي وكان ثمنها أحد عشر ألف دينار وشخص آخر اقترض عشرة آلاف دينار بفائدة قدرها 10% لشراء ذات السلعة فإن النتيجة في الحالتين واحدة وأقول إن العبرة ليست بالنتيجة وإنما بالطريق الموصل إلى تلك النتيجة.
فلو افترضنا أن شخصين كل منهما عنده ألف دينار فقام الأول بشراء كمية من الأرز بالألف التي يملكها ثم باع الأرز بألف ومئة دينار فإن هذا الشخص يكون قد زاد رأس ماله مئة دينار وتسمى هذه الزيادة ربحاً.
وإذا قام الشخص الثاني بإقراض الألف التي يملكها لآخر على أن يردها ألفاً ومئة فإنه يكون قد زاد رأس ماله مئة دينار وهذه الزيادة تمسى ربا وفائدة.
فنلاحظ أن كلاً منهما زاد رأس ماله مئة دينار فالنتيجة في الحالتين واحدة ولكن الزيادة الأولى حلال والزيادة الثانية حرام. فليست العبرة بالنتيجة وإنما العبرة بالطريق الموصل إليها.(12/123)
124 - حكم التعامل في الأسواق المالية (البورصة)
يقول السائل: ما حكم عمليات البيع والشراء التي تتم في سوق الأوراق المالية (البورصة) ؟
الجواب: سوق الأوراق المالية المسماة بالبورصة تعني المكان الذي يلتقي فيه المصرفيون وسماسرة الأوراق المالية والتجار لإجراء الصفقات التجارية في الأسهم والسندات وحصص التأسيس.
وسوق الأوراق المالية أمر حديث نسبياً في العالم الإسلامي حيث إنه من نتاج الحضارة الرأسمالية وليس معنى ذلك أنه مرفوض شرعاً وإنما لا بد من وضع ضوابط شرعية معينة حتى يصح التعامل في الأسواق المالية، وقد وضع العلماء المعاصرون هذه القيود والضوابط للحالات التي يجوز التعامل بها في السوق المالي.
وينبغي أولاً التذكير بأن الأصل في باب المعاملات في الشريعة الإسلامية هو الإباحة وبناءً على ذلك لا يجوز منع أي معاملة إلا بنص صريح من الشارع الحكيم أو قياس صحيح عليه.
ويدل على ذلك قوله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) سورة المائدة الآية 1.
فالآية الكريمة أوجبت الوفاء بالعقود من غير تعيين قال شيخ الإسلام ابن تيمية: [والأصل في هذا أنه لا يحرم على الناس من المعاملات التي يحتاجون إليها إلا ما دل الكتاب والسنة على تحريمه كما لا يشرع لهم من العبادات التي يتقربون بها إلى الله إلا ما دل الكتاب والسنة على شره إذ الدين ما شرعه الله والحرام ما حرمه الله بخلاف الذين ذمهم الله حيث حرموا من دين الله ما لم يحرمه الله وأشركوا به ما لم ينزل به سلطاناً وشرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله، اللهم وفقنا لأن نجعل الحلال ما حللته والحرام ما حرمته والدين ما شرعته] مجموع فتاوى شيخ الإسلام 28/386.
ويقول العلامة الشيخ يوسف القرضاوي: [إن الأصل في المعاملات والعقود الإذن والإباحة إلا ما جاء نص صحيح الثبوت صريح الدلالة يمنعه ويحرمه فيوقف عنده … وهذا بخلاف العبادات التي تقرر: أن الأصل فيها المنع حتى يجيء نص من الشارع لئلا يشرع الناس في الدين ما لم يأذن به الله فإذا كان الأساس الأول للدين ألا يعبد إلا الله فإن الأساس الثاني ألا يعبد الله إلا بما شرع.
وهذه التفرقة أساسية ومهمة فلا يجوز أن يقال لعالم: أين الدليل على إباحة هذا العقد أو هذه المعاملة؟ إذ الدليل ليس على المبيح لأنه جاء على الأصل وإنما الدليل على المُحّرّم، والدليل المحرم يجب أن يكون نصاً لا شبهة فيه كما هو اتجاه السلف الذين نقل عنهم شيخ الإسلام ابن تيمية أنهم ما كانوا يطلقون الحرام إلا على ما علم تحريمه جزماً] بيع المرابحة للقرضاوي ص 13.
كما وأن الأصل في البيع الحل لعموم قوله تعالى: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ) سورة البقرة الآية 275.
إذا تقرر هذا فأعود إلى بيان حكم التعامل بالأسواق المالية (البورصة) فأقول: تتعامل البورصة بالأسهم والسندات بشكل عام، فأما الأسهم فهي عبارة عن حصص الشركاء في الشركات المساهمة حيث إن رأسمال الشركة المساهمة يقسم إلى أجزاء متساوية يطلق على كل منها سهماً فالسهم هو جزء من رأس مال الشركة وهو يمثل حق المساهم مقدراً بالنقود لتحديد نصيبه في ربح الشركة أو خسارتها وكذلك تحديد مسؤولية المساهم في الشركة.
والأصل في الشركة المساهمة الجواز إذا كانت خالية من الربا والتعامل المحرم فالمساهمون فيها يتحقق فيهم معنى الشركاء حيث إنهم يقدمون أسهمهم حصصاً في رأس المال فيشتركون في رأس المال ويقتسمون الأرباح والخسائر فيكونون شركاء بمجرد توقيع عقد الاكتتاب في الشركة فيعتبر ذلك إيجاباً وقبولاً لأن الإيجاب والقبول لا يشترط فيهما التلفظ بل يصحان بالكتابة وهؤلاء الشركاء يوكلون مجلس إدارة الشركة بالقيام بالعمل وهو توكيل صحيح. والقول بمنع شركة المساهمة قول ضعيف لا دليل يؤيده. انظر شركة المساهمة ص 303 فما بعدها.
وأما السندات فهي عبارة عن قروض طويلة الأجل تتعهد الشركة المقترضة بموجبها أن تسدد قيمتها في تواريخ محددة مع فائدة متفق عليها. المعاملات المالية المعاصرة ص 176.
والصحيح من أقوال أهل العلم جواز التعامل بالأسهم ضمن ضوابط معينة وحرمة التعامل بالسندات لأنها قروض ربوية.
وأما ضوابط التعامل بالأسهم فهي:
أولاً: أن تكون الأسهم صادرة من شركات ذات أغراض مشروعة بأن يكون موضوع نشاطها حلالاً مباحاً مثل الشركات الإنتاجية للسلع والخدمات كشركة الكهرباء وشركة الأدوية وغير ذلك، أما إذا كان موضوع نشاطها محرماً كشركات إنتاج الخمور أو شركات إنشاء البنوك الربوية فلا يجوز امتلاك شيء من أسهمها وتداوله بين المسلمين كما تحرم أرباحها لأن شراء الأسهم من تلك الشركة من باب المشاركة في الإثم والعدوان …
ثانياً: أن تكون الأسهم صادرة عن شركة معروفة ومعلومة لدى الناس بحيث تتضح سلامة تعاملها ونزاهته لذا لا يجوز التعامل بأسهم سلة شركات مساهمة كما هو في الغرب دون أن يعرف المشتري للأسهم حقيقة تلك الشركات فمن الأساليب الجديدة في الاستثمار استثمار في سلة مشتركة لشركات مساهمة أمريكية (Mutual Fund) وكل سلة لها مدير مشرف عليها ويديرها حسب تعليمات ودراسات تجريها شركة: " مريل لينش الاستثمارية " فالأسهم التي يشتريها المستثمر في السلة المشتركة عرضة للربح والخسارة ففي عام 1995 حققت سلة " ميرل ليتس بيسك فاليو " أرباحاً بنسبة 18% في ستة أشهر في حين أنها في عام 1990 خسرت بنسبة 13%.
فبالرغم من أن الاستثمار في هذه السلة عرضة للربح والخسارة إلا أن هذا الأسلوب من الاستثمار لا يجوز لأمرين:
الأول: عدم معرفة ماهية تلك الشركات التي تتضمنها تلك السلة فهي لا تخلو من شركات مساهمة ذات أنشطة اقتصادية محرمة كشركات إنتاج الخمور أو شركات البنوك الربوية التي حرم الإسلام التعامل بأسهمها.
والثاني: إن هذه السلات تقوم بأنشطة اقتصادية غير مشروعة كبيع دين بدين على حساب الفائدة.
ولذلك ترفض المصارف الإسلامية التعامل مع تلك السلات واستثمار أموالها عن طريقها.
ثالثاً: أن لا يترتب على التعامل بها أي محظور شرعي كالربا والغرر والجهالة وأكل أموال الناس بالباطل فلا يجوز للمسلم قبول أسهم الامتياز التي تعطي له حق الحصول على ربح ثابت سواء أربحت الشركة أم خسرت لأن هذا ربا محرم شرعاً ولا يجوز للمسلم قبول أسهم التمتع التي تعطي صاحبها حق الحصول على الأرباح دون أن يكون شريكاً في المال والعمل لأن هذا أكل لأموال الناس بالباطل. المعاملات المالية المعاصر ص 169-173.
وقد بحث مجمع الفقه الإسلامي في مؤتمره السابع التعامل مع الأسواق المالية وقرر ما يلي:
[أولاً: الأسهم: 1. الإسهام في الشركات:
أ. بما أن الأصل في المعاملات الحل فإن تأسيس شركة مساهمة ذات أغراض وأنشطة مشروعة أمر جائز.
ب. لا خلاف في حرمة الإسهام في شركات غرضها الأساسي محرم كالتعامل بالربا أو إنتاج المحرمات أو المتاجرة بها.
ج. الأصل حرمة الإسهام في شركات تتعامل أحياناً بالمحرمات بالربا ونحوه بالرغم من أن أنشطتها الأساسية مشروعة …
التعامل بالأسهم بطرق ربوية:
أ. لا يجوز شراء السهم بقرض ربوي يقدمه السمسار أو غيره للمشتري لقاء رهن السهم لما في ذلك من المراباة وتوثيقها بالرهن وهما من الأعمال المحرمة بالنص على لعن آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه.
ب. لا يجوز أيضاً بيع سهم لا يملكه البائع وإنما يتلقى وعداً من السمسار بإقراضه السهم في موعد التسليم لأنه من بيع ما لا يملك البائع ويقوى المنع إذا اشترط إقباض الثمن للسمسار لينتفع به بإيداعه بفائدة للحصول على مقابل الإقراض …] مجلة مجمع الفقه الإسلامي عدد7ج1 ص 711- 717.
وأما التعامل بالسندات فهو محرم كما قلت لأنها قروض ربوية بفوائد محددة وقرر ذلك مجمع الفقه الإسلامي في دورته السادسة حيث جاء في قراره:
1. إن السندات التي تمثل التزاماً بدفع مبلغها مع فائدة منسوبة إليه أو نفع مشروط محرمة شرعاً من حيث الإصدار أو الشراء أو التداول لأنها قروض ربوية سواء أكانت الجهة المصدرة لها خاصة أم عامة ترتبط بالدولة ولا أثر لتسميتها شهادات أو صكوكاً استثمارية أو ادخارية أو تسمية الفائدة الربوية الملتزم بها ربحاً أو ريعاً أو عمولة أو عائداً.
2. تحرم أيضاً السندات ذات الكوبون الصفري باعتبارها قروضاً يجري بيعها بأقل من قيمتها الإسمية ويستفيد أصحابها من الفروق باعتبارها حسماً (خصماً) لهذه السندات.
3. كما تحرم أيضاً السندات ذات الجوائز باعتبارها قروضاً اشترط فيها نفع أو زيادة بالنسبة لمجموع المقرضين أو لبعضهم لا على التعيين فضلاً عن شبهة القمار …] . مجلة مجمع الفقه الإسلامي عدد6 ج 2 ص1725 - 1726.
وبناء على كل ما تقدم فإنه لا يجوز شرعاً تداول أسهم البنوك الربوية وشركات التأمين وكل شركة تتعامل بالمحرمات كشركات إنتاج الخمور ونحوها كما لا يجوز إجراء عمليات البيع الآجلة لأن هذا النوع من العمليات لا يتم فيه تسليم المعقود عليه لا الثمن ولا المثمن بل يشترط تأجيلها فهذه العملية لا تجوز لأن شرط صحة العقود أن يتم تسليم العوضين أو أحدهما ولا يجوز تأجيل الاثنين حيث إنها تدخل في معنى بيع الكالئ بالكالئ فهذه العمليات تدخل في القمار الممنوع لأن البائع يضارب على هبوط السعر في اليوم المحدد والمشتري يضارب على صعوده ومن يصدق توقعه يكسب الفرق. الأسواق المالية ص 327.(12/124)
125 - القروض
الخصم من الدين إذا عجل السداد, يقول السائل: إنه اشترى بضاعة بالتقسيط لمدة أربعة وعشرين شهراً وبعد مضي سبعة أشهر توفر له ثمن البضاعة فطلب من البائع أن يحط عنه من الثمن على أن يسدده فوراً فقيل له إن هذا من الربا فلا يجوز، فما قولكم في ذلك؟
الجواب: مضمون هذا السؤال يسمى عند الفقهاء مسألة " ضع وتعجل " وهي مسألة خلافية بينهم فذهب جمهور أهل العلم إلى منعها وقال آخرون بالجواز وهو منقول عن ابن عباس رضي الله عنهما وبه قال إبراهيم النخعي وابن سيرين وأبو ثور وهو راوية عن الإمام أحمد ومنقول عن الإمام الشافعي وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وابن عابدين الحنفي وقال به جماعة من العلماء المعاصرين كما سيأتي.
قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [إذا كان عليه دين مؤجل فقال لغريمه: ضع عني بعضه وأعجل لك بقيته لم يجز كرهه زيد بن ثابت وابن عمر والمقداد وسعيد بن المسيب وسالم والحسن وحماد والحكم والشافعي ومالك والثوري وهشيم وابن علية وإسحاق وأبو حنيفة وقال المقداد لرجلين فعلا ذلك كلاكما قد آذن بحرب من الله ورسوله وروي عن ابن عباس: أنه لم ير به بأساً وروي ذلك عن النخعي وأبي ثور لأنه آخذ لبعض حقه تارك لبعضه فجاز كما لو كان الدين حالَّاً] المغني 4/39.
وقال العلامة ابن القيم بعد أن ذكر القول بمنع " ضع وتعجل " قال: [والقول الثاني أنه يجوز وهو قول ابن عباس وإحدى الروايتين عن الإمام أحمد حكاها ابن أبي موسى وغيره واختاره شيخنا] أي شيخ الإسلام ابن تيمية. إعلام الموقعين 3/359.
وقد احتج هذا الفريق من أهل العلم بما ورد في الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لمَّا أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرج بني النضير قالوا: يا رسول الله إنك أمرت بإخراجنا ولنا على الناس ديون لم تحل، فقال صلى الله عليه وسلم: ضعوا وتعجلوا) رواه الحاكم وقال هذا حديث صحيح الإسناد. المستدرك 2/362.
وأخرجه الطبراني في الكبير وفيه مسلم بن خالد الزنجي وهو ضعيف وقد وثق كما قال الهيثمي في مجمع الزوائد 4/130، ورواه البيهقي في السنن الكبرى 6/28، وقال إنه ضعيف لضعف مسلم بن خالد الزنجي.
وروى البيهقي بإسناده: [أن ابن عباس كان لا يرى بأساً أن يقول أعجل لك وتضع عني] سنن البيهقي 6/28.
وتضعيف مسلم بن خالد الزنجي غير مسلَّم قال الذهبي عنه: [الإمام فقيه مكة] ثم ذكر اختلاف العلماء في توثيقه وتجريحه فقال: [قال يحيى بن معين ليس به بأس، وقال البخاري: منكر الحديث، وقال أبو حاتم: لا يحتج به، وقال اب عدي: حسن الحديث أرجو أنه لا بأس به، وقال
أبو داود: ضعيف. قلت - أي الذهبي -: بعض النقاد يرقي حديث مسلم إلى درجة الحسن] سير أعلام النبلاء 8/176-177.
وسبق كلام الهيثمي أن مسلم بن خالد الزنجي قد وثق وهو شيخ الإمام الشافعي وقد روى عنه الإمام الشافعي واحتج به!
قال ابن القيم بعد أن ساق الحديث: [قلت هو على شرط السنن وقد ضعفه البيهقي وإسناده ثقات وإنما ضعف بمسلم بن خالد الزنجي وهو ثقة فقيه روى عنه الشافعي واحتج به] إغاثة اللهفان 2/13.
وبهذا يظهر لنا أن الحديث صالح للاحتجاج به.
وقال هذا الفريق من أهل العلم إن مسألة ضع وتعجل تعتبر من قبيل الصلح وليس فيه مخالفة لقواعد الشرع وأصوله بل حكمة الشرع ومصالح المكلفين تقتضي أن المدين والدائن قد اتفقا وتراضيا على أن يتنازل الأول عن الأجل والدائن عن بعض حقه فهو من قبيل الصلح والصلح جائزٌ بين المسلمين إلا صلحاً أحل حراماً وحرم حلالاً. الربا والمعاملات المصرفية ص 237.
وأجاب العلامة ابن القيم عن دعوى أن مسألة ضع وتعجل من باب الربا بقوله: [لأن هذا عكس الربا فإن الربا يتضمن الزيادة في أحد العوضين في مقابلة الأجل وهذا يتضمن براءة ذمته من بعض العوض في مقابلة سقوط الأجل فسقط بعض العوض في مقابلة سقوط بعض الأجل فانتفع به كل واحد منهما ولم يكن هنا ربا لا حقيقةً ولا لغةً ولا عرفاً فإن الربا الزيادة وهي منتفية ههنا والذين حرموا ذلك إنما قاسوه على الربا ولا يخفى الفرق الواضح بين قوله: إما أن تربي وإما أن تقضي، وبين قوله: عجل لي وأهب لك مائة. فأين أحدهما من الآخر؟ فلا نص في تحريم ذلك ولا إجماع ولا قياس صحيح] إعلام الموقعين 3/359.
وقال ابن القيم أيضاً: [قالوا: وهذا ضد الربا فإن ذلك يتضمن الزيادة في الأجل والدين وذلك إضرار محض بالغريم ومسألتنا تتضمن براءة ذمة الغريم من الدين وانتفاع صاحبه بما يتعجله فكلاهما حصل له الانتفاع من غير ضرر بخلاف الربا المجمع عليه فإن ضرره لاحق بالمدين ونفعه مختص برب الدين فهذا من الربا صورة ومعنى] إغاثة اللهفان 2/13.
وقد أجاز مجمع الفقه الإسلامي مسألة ضع وتعجل عند بحثه لبيع التقسيط فقد جاء في قرار المجمع ما يلي: [الحطيطة من الدين المؤجل لأجل تعجيله سواء أكانت بطلب الدائن أو المدين " ضع وتعجل " جائزة شرعاً لا تدخل في الربا المحرم إذا لم تكن بناءً على اتفاق مسبق وما دامت العلاقة بين الدائن والمدين ثنائية فإذا دخل طرف ثالث لم تجز لأنها تأخذ عندئذ حكم حسم الأوراق التجارية] مجلة مجمع الفقه الإسلامي 7/2/218.
كما وأجازت هذه المسألة عدد من الهيئات العلمية الشرعية.(12/125)
126 - الشيكات
يقول السائل: إن معه شيك مؤجل الدفع بقيمة 680 ديناراً وأنه اشترى بضاعة من تاجر قيمتها 600 دينار وأعطاه الشيك المؤجل وطلب من التاجر أن يدفع له ما بقي من قيمة الشيك أي 80 ديناراً فما حكم ذلك؟
الجواب: لا مانع شرعاً من ذلك حيث إن التاجر أعطاك الثمانين ديناراً على أنها قرض حسن واستوثق لنفسه بأخذ الشيك حيث إن الشيك وثيقة بالدين في هذه الحالة فهذه المعاملة جائزة إن شاء الله.
وأما المحظور الذي يقع فيه كثير ممن يتعاملون بالشيكات الآجلة أنهم يعطونها للتجار أو للصرافين ويأخذون أقل من المبلغ المرقوم فيها فهذا نوع من الربا حيث إن الشخص في هذه الحالة يكون قد اقترض مبلغاً من المال على أن يسدد أكثر منه. فإذا كان المبلغ المرقوم في الشيك ألف دينار مثلاً فإن التاجر أو الصراف يعطيه 950 ديناراً. وهذا ما تفعله البنوك الربوية في الإقراض حيث إنها عندما تقرض تخصم الربا (الفائدة) سلفاً.(12/126)
127 - الشيكات
التعامل بالشيكات الآجلة, يقول السائل: ما قولكم في تاجر يبيع البضائع لزبائنه بشيكات مؤجلة من شهر إلى ستة أشهر ثم يقوم هذا التاجر ببيع الشيكات لأحد البنوك بأقل من قيمتها الحقيقية؟
الجواب: لا يجوز شرعاً بيع الشيكات الآجلة بأقل من قيمتها الحقيقية ويعتبر ذلك من الربا المحرم حيث إن هذه العملية عند التدقيق فيها يتبين لنا أن التاجر الذي أخذ الشيكات الآجلة من زبائنه وتساوي قيمتها مثلاً مئة ألف دينار يبيعها إلى البنك بسبعة وتسعين ألف دينار فكأن البنك أقرض التاجر سبعة وتسعين ألف دينار الآن وسوف يستوفيها مئة ألف دينار عندما يقوم الزبائن بدفع قيمة هذه الشيكات فهذا هو الربا المحرم بعينه.(12/127)
128 - المضاربة
يقول السائل: اتفق عدد من الأشخاص على أن يدفعوا مبلغاً من المال لشخص على أن يتاجر لهم بأنواع معينة من البضائع ولكن هذا الشخص أدخل في التجارة أنواعاً أخرى من البضائع ويتاجر بها لنفسه فما حكم تصرفه؟
الجواب: هذا الاتفاق يعتبر عقد مضاربة عند الفقهاء ويسميه بعض العلماء عقد قراض أيضاً، والمضاربة مشروعة عند أهل العلم وإن لم يرد نص صحيح صريح من الكتاب والسنة في خصوصها قال الشيخ ابن حزم: [كل أبواب الفقه ليس منها باب إلا وله أصل في القرآن والسنة حاشا القراض فما وجدنا له أصلاً فيهما البتة ولكنه إجماع صحيح مجرد] نيل الأوطار 5/301.
وقال ابن المنذر: [وأجمعوا على أن القراض بالدنانير والدراهم جائز] الإجماع ص 58.
وقد استدل العلماء على جواز المضاربة بأدلة عامة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم واحتجوا ببعض الأحاديث والآثار في ذلك كما سأبين.
قال الماوردي: [والأصل في إحلال القراض وإباحته عموم قول الله عز وجل: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ) سورة البقرة الآية 198، وفي القراض ابتغاء فضل وطلب نماء] الحاوي الكبير 7/305.
وجاء عن حكيم بن حزام صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنه كان يشترط على الرجل إذا أعطاه مالاً مقارضة يضرب له به أن لا تجعل مالي في كبد رطبة ولا تحمله في بحر ولا تنزل به بطن مسيل فإن فعلت شيئاً من ذلك فقد ضمنت مالي) رواه البيهقي والدارقطني وقوى الحافظ إسناده كما ذكر الشوكاني في نيل الأوطار 5/300.
وروى مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه أنه قال: (خرج عبد الله وعبيد الله ابنا عمر بن الخطاب في جيش إلى العراق فلما قفلا مرا على أبي موسى الأشعري وهو أمير البصرة فرحب بهما وسهّل ثم قال: لو أقدر لكما على أمر أنفعكما به لفعلت، ثم قال: بلى هاهنا مال من مال الله أريد أن أبعث به إلى أمير المؤمنين فأسلفكماه فتبتاعان به متاعاً من متاع العراق ثم تبيعانه بالمدينة فتؤديان رأس المال إلى أمير المؤمنين ويكون الربح لكما فقالا: وددنا ذلك ففعل وكتب إلى عمر بن الخطاب أن يأخذ منهم المال فلما قدما باعا فأربحا فلما دفعا ذلك إلى عمر قال: أكل الجيش أسلفه مثل ما أسلفكما؟ قالا: لا، فقال عمر بن الخطاب: ابنا أمير المؤمنين فأسلفكما أديا المال وربحه فأما عبد الله فسكت وأما عبيد الله فقال: ما ينبغي لك يا أمير المؤمنين هذا لو نقص هذا المال أو هلك لضمناه فقال عمر: أدياه فسكت عبد الله وراجعه عبيد الله فقال رجل م جلساء عمر: يا أمير المؤمنين لو جعلته قراضاً فقال عمر: قد جعلته قراضاً فأخذ عمر رأس المال ونصف ربحه وأخذ عبد الله وعبيد الله ابنا عمر بن الخطاب نصف ربح المال) ورواه الدارقطني أيضاً، قال الحافظ ابن حجر وإسناده صحيح، نيل الأوطار 5/300 وانظر الاستذكار 21/120.
وقد وردت آثار أخرى عن الصحابة كعلي وابن مسعود وابن عباس وجابر وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين، قال الشوكاني: [فهذه الآثار تدل على أن المضاربة كان الصحابة يتعاملون بها من غير نكير إجماعاً منهم على الجواز] نيل الأوطار 5/300-301.
إذا ثبتت مشروعية المضاربة فنعود إلى ما ورد في السؤال فأقول:
إذا كانت المضاربة مطلقة أي غير مقيدة بشرط يمنع المضارب من خلط ماله مع مال المضاربة فلا بأس بذلك فالمضارب في السؤال طلب منه أن يتاجر في أنواع معينة من البضائع لشركائه فأضاف هو أنواعاً أخرى لنفسه فلا بأس بذلك وعمله صحيح بشرط أن يميز ماله من مال شركائه وبشرط أن لا يعطل مال شركائه فلا يعطيه الجهد المطلوب.
فإذا كان المضارب يستطيع العمل في المالين فله أن يخلط ماله بمال المضاربة، قال الحطاب من المالكية: [وللعامل أن يخلط القراض بماله إذا كان قادراً على التجر بهما وإن كان لا يقدر على التجر بأكثر من مال القراض لم يكن ذلك له] شرح الحطاب على مختصر خليل.(12/128)
129 - المضاربة
المضارب يضارب في مالين, يقول السائل: إن المضارب في السؤال الأول بعد أن اتفق مع الشركاء ليضارب لهم بأموالهم في أنواع معينة من البضائع اتفق مع أشخاص آخرين ليتاجر لهم بنفس نوعية البضائع في المضاربة الأولى فما حكم ذلك؟
الجواب: إن هذا العامل ضارب في رأس مالين أخذهما من جهتين ومحل المضاربة نفس نوعية البضاعة وهذا العمل قد يلحق ضرراً بصاحب المال الأول ولا يجوز له أن يضارب للثاني إذا كان يلحق ضرراً بالأول قال الخرقي من الحنابلة: [وإذا ضارب لرجل لم يجز أن يضارب لآخرين إذا كان فيه ضرر على الأول] وقال الشيخ ابن قدامة موضحاً كلام الخرقي: [وجملة ذلك: أنه إذا أخذ من انسان مضاربة ثم أراد أخذ مضاربة أخرى من آخر فأذن له الأول جاز وإن لم يأذن له ولم يكن عليه ضرر جاز أيضاً بغير خلاف، وإن كان فيه ضرر على رب المال الأول ولم يأذن مثل أن يكون المال الثاني كثيراً يحتاج إلى أن يقطع زمانه ويشغله عن التجارة في الأول ويكون المال الأول كثيراً متى اشتغل عنه بغيره انقطع عن بعض تصرفاته لم يجز له ذلك،] المغني 5/37.(12/129)
130 - المضاربة
هل للمضارب أن يعطي مال المضاربة لغيره مضاربة؟
الجواب: الأصل أن المضارب عليه أن يتولى العمل بنفسه لأن صاحب المال ما أعطى ماله للمضارب إلا لحصول الثقة به وبخبرته في العمل فلا يجوز له أن يعطي مال المضاربة لغيره إلا أن يأذن له صاحب المال فإن أذن له في ذلك جاز وهذا مذهب جمهور الفقهاء.
قال الشيخ المرداوي: [ليس للمضارب دفع مال المضاربة لآخر من غير إذن رب المال على الصحيح] الإنصاف 2/438.(12/130)
131 - المضاربة
هل يضمن المضارب مال المضاربة؟
الجواب: المضاربة شركة تقوم على العمل من العامل والمال من صاحب المال ومن المعلوم أن الربح يكون بينهما بحسب ما يتفقان عليه والخسارة تكون على صاحب المال والعامل يخسر جهده وعمله ولا يجوز أن يضمن العامل رأس المال إلا إذا قصر أو تعدى وأما بدون حصول تقصير أو تعدٍ فهو غير ضامن لأن المضاربة مبنية على الأمانة والوكالة والمضارب فيها وكيل عن صاحب المال ويكون المال أمانة في يده عند قبضه أما إذا تعدى كأن يكون صاحب المال شرط عليه أن يتاجر مثلاً في المواد الغذائية فتاجر في الحيوانات فماتت فهو ضامن، وكذلك فإنه يضمن بالتقصير كأن يسرق مال المضاربة لأن العامل لم يأخذ بالأسباب التي تحافظ عليه وهكذا.
ولا يجوز أن يشترط في عقد المضاربة أن يضمن العامل رأس مال المضاربة.
وعلى العامل أن يلتزم بالشروط التي يفرضها صاحب المال لأن صاحب المال أدرى بما يحفظ ماله وقد كان الصحابة والتابعون يشترطون ما يرونه مناسباً لحفظ أموالهم كما سبق عن حكيم بن حزام صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنه كان يشترط على الرجل إذا أعطاه مالاً مقارضة يضرب له به أن لا تجعل مالي في كبد رطبة ولا تحمله في بحر ولا تنزل به بطن مسيل فإن فعلت شيئاً من ذلك فقد ضمنت مالي) رواه البيهقي والدارقطني وقوى الحافظ إسناده كما سبق.
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان العباس بن عبد المطلب إذا دفع مالاً مضاربة اشترط على صاحبه أن لا يسلك به بحراً ولا ينزل به وادياً ولا يشتري به ذات كبد رطبة فإن فعل فهو ضامن فرفع شرطه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجازه) رواه البيهقي في سننه 6/111 وفيه ضعف.
وقد جاء في فتاوى هيئة الرقابة الشرعية لبنك دبي الإسلامي ما يلي:
السؤال: هناك أموال أيتام يريدون استثمارها في المضاربة الشرعية وقد اشترطت الجهة القائمة على هذه الأموال ضمان هذه الأموال خوفاً عليها من الخسارة فهل يجوز ضمان هذه الأموال عن طريق إصدار خطاب ضمان يضمن فيها أموال اليتامى وهل يمكن اعتبارها إذا صح المخرج عن طريق خطاب الضمان كأمانة ترد كما هي ربحت المضاربة أم خسرت؟
الجواب: بحثت الهيئة مسألة ضمان أموال الأيتام المستثمرة ورأت أنه لا يجوز شرعاً ضمان المال المستثمر بقصد الربح لأن الاستثمار في الإسلام يقوم على أساس الغرم بالغنم فالضمان المطلوب بهذه الصورة لا أساس له شرعاً وإنما يجب اتخاذ الحيطة والحذر لذلك باختيار المضارب الثقة الأمين المتمسك بدنه مع الأخذ بالأساليب العلمية في الاستثمار من دراسة السوق ودراسة الجدوى الاقتصادية والمتابعة والتقييم لكل الخطوات التنفيذية وغير ذلك مما تتطلبه أساليب الاستثمار السليمة(12/131)
132 - البيع
يقول السائل: إنه صاحب محجر، واتفق مع شخص أن يبيعه حجارة للبناء، وأخذ منه مبلغاً من المال كعربون، ثم إن الشخص الآخر اتفق مع صاحب محجر آخر لتوريد الحجر، وجاء يطالبه بالعربون، فهل يحل له أن يأخذ العربون؟
الجواب: إن بيع العربون هو أن يبيع الإنسان الشيء ويأخذ من المشتري مبلغاً من المال يسمى عربوناً لتوثيق الارتباط بينهما على أساس أن المشتري إذا قام بتنفيذ عقده احتسب العربون من الثمن، وإن نكل كان العربون للبائع، المدخل الفقهي 1/495.
وقد اختلف فيه الفقهاء، فجمهور الفقهاء على أنه غير صحيح، لما روي في الحديث عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع العربان) رواه أحمد والنسائي وأبو داود ومالك، وهذا الحديث ضعيف.
قال الحافظ ابن حجر: " وفيه راوٍ لم يسمَّ، وسمي في رواية لابن ماجة ضعيفه عبد الله بن عامر الأسلمي وقيل هو ابن لهيعة وهما ضعيفان " التلخيص الحبير3/17، وضعف الحديث الشيخ الألباني في تخريجه للمشكاة 2/866.
وأجاز الحنابلة بيع العربون وروي القول بصحة بيع العربون عن عمر وابنه عبد الله، وقال به محمد بن سيرين وسعيد بن المسيب، وقد ضعف الإمام أحمد الحديث الوارد في النهي عن بيع العربون، واحتج لصحته بما ورد عن نافع بن عبد الحارث " أنه اشترى لعمر دارالسجن من صفوان بن أمية بأربعة آلاف درهم فإن رضي عمر كان البيع نافذاً وإن لم يرض فلصفوان أربعمئة درهم "، قال الأثرم: قلت لأحمد: " تذهب إليه؟ قال: أي شيء أقول؟ هذا عمر رضي الله عنه، وضعّف الحديث المروي " المغني 4/176.
واحتجوا على صحته بما رواه عبد الرزاق في المصنف، عن زيد ابن أسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سئل عن بيع العربان فأحله) ، ولكنه مرسل وفيه ضعيف كما قال الشوكاني في نيل الأوطار 5/173.
والقول بصحة بيع العربون هو أرجح القولين في المسألة لما في ذلك من تحقيق مصالح العباد وخاصة أنه لم يثبت النهي عن بيع العربون عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
ومن المعلوم أن طريقة العربون، هي وثيقة الارتباط العامة في التعامل التجاري في العصور الحديثة، وتعتمدها قوانين التجارة وعرفها، وهي أساس لطريقة التعهد بتعويض ضرر الغير عن التعطل والإنتظار.
وقد أيد ذلك ابن القيم رحمه الله بما رواه البخاري في صحيحه في باب ما يجوز من الاشتراط، عن ابن عون عن ابن سيرين أنه قال: " قال رجل لكرّيه: أرحل ركابك فان لم أرحل معك في يوم كذا، فلك مئة درهم، فلم يخرج فقال شريح: من شرط على نفسه طاعاً غير مكره فهو عليه " المدخل الفقهي 1/495 -496، والكرّي هو المكاري الذي يؤجر الدواب للسفر، وأرحل ركابك، أي شدّ على دوابك رحالها استعداداً للسفر.
وبناءً على ما تقدم، يجوز أخذ العربون إن تراجع المشتري عن الصفقة.
وإن كنت أفضل أن يعاد العربون لصاحبه خروجاً من الخلاف ورحمة بالناس.
*****(12/132)
133 - الربا
يقول السائل: هل صحيح ما يقال، أنه يجوز التعامل بالربا بين المسلم وغير المسلم فيجوز للمسلم أن يضع أمواله في بنوك غير المسلمين، ويأخذ الربا ولا يكون ذلك حراماً؟
الجواب: إنّ الربا محرم بنصوص صريحة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فمن ذلك قوله تعالى: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ) سورة البقرة / 275 - 279.
وإنَّ أكثر العلماء على تحريم الربا في جميع الظروف والأحوال فالربا في ديار الإسلام حرام، وكذلك هو حرام في ديار الكفر، والربا بين المسلم والمسلم حرام، وكذلك هو حرام بين المسلم وغير المسلم، وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد وأبو يوسف من الحنفية، والزيدية وأهل الظاهر وغيرهم.
ونقل عن أبي حنيفة أنه يجيز الربا بين المسلم والكافر في دار الحرب فقد ورد عن أبي حنيفة قوله: " لو أنَّ مسلماً دخل أرض حربٍ بأمان، فباعهم الدرهم بالدرهمين لم يكن بذلك بأس ".
واستدل من أجاز الربا، بما ورد عن مكحول بن زيد الدمشقي عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا ربا بين المسلم والحربي في دار الحرب) ، وهذا الحديث ليس بثابت عن الرسول صلى الله عليه وسلم، كما قال الإمام الشافعي " وما احتج به لأبي حنيفة ليس بثابت فلا حجة فيه " معرفة السنن والآثار 13/276.
وقال الإمام الزيلعي عن هذا الحديث: بأنه غريب، أي لا أصل له.
وقال الإمام النووي عن حديث مكحول، أنه مرسل ضعيف، فلا حجة فيه.
ومذهب الجمهور هو الحق إن شاء الله، فالربا حرام في حق المسلم في كل بلدٍ سواء أكان بلد إسلام أم بلد حرب.
قال الإمام الشافعي: " ومما يوافق التنزيل والسنة ويعقله المسلمون، أنَّ الحلال في دار الإسلام حلالٌ في دار الكفر، والحرام في دار الإسلام حرامٌ في دار الكفر فمن أصاب حراماً فقد حدَّه الله على ما شاء منه، ولا تضع بلاد الكفر عنه شيئاً " الأم 4/165.
وقال الإمام النووي: " يستوي في تحريم الربا الرجل والمرأة والعبد والمكاتب بالإجماع، ولا فرق بين دار الإسلام ودار الحرب، فما كان حراماً في دار الإسلام كان حراماً في دار الحرب، سواءً جرى بين مسلمين أو مسلم وحربي، سواءً دخلها المسلم بأمان أم بغيره، هذا مذهبنا وبه قال الإمام مالك وأحمد وأبو يوسف والجمهور " المجموع 9/391 - 392.
ومما يرد على القائلين بالجواز، أنَّ حديث مكحول ضعيفٌ لا يصلح للاستدلال به، ولو كان مقبولاً، فإنه معارضٌ لإطلاق النصوص من كتاب الله وسنة رسوله الواردة في تحريم الربا.
قال ابن قدامة: " ولا يجوز ترك ما ورد تحريمه بالقرآن وتظاهرت به السنة، وانعقد الإجماع على تحريمه بخبر مجهول لم يرد في صحيحٍ ولا مسند ولا كتاب موثوق، وهو مع ذلك مرسلٌ محتمل، ويحتمل أنَّ المراد بقوله (لا ربا) النهي عن الربا كقوله تعالى: (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) سورة البقرة /197 " المغني 4/32.
ومما يؤيد القول بالتحريم، قياس الربا على القمار وشرب الخمر بجامع أنّ كل ذلك معصية، فالقمار وشرب الخمر لا يحلان في دار الحرب وكذلك الربا، فما كان حراماً في دار الإسلام فهو حرامٌ في دار الكفر، ولا فرق.
*****(12/133)
134 - القروض
يقول السائل: هل يجوز لمن أقرض شخصاً، مبلغ عشرة آلاف شيكل مثلاً أن يتفق مع المقرض على أن يسددها بما يعادلها من الدولارات عندما يحين موعد السداد؟
الجواب: لا يجوز لمن اقترض مبلغاً بعملة معينة أن يتفق مع المقترض على سداد القرض بعملة أخرى، فإذا استدان شخص ألف دينار أردني فإن الواجب عليه سداد ألف دينار أردني فقط، لأنها هي الثابتة في ذمته.
وكذلك لا يجوز ربط قيمة الدين بالذهب عند الإستدانة ليتم السداد بالذهب يوم السداد لأن اختلاف العملة يفسح مجالاً للتفاضل مع التأجيل، فيصير قرضاً ربوياً كما تدل على ذلك الأحاديث النبوية على أن هذه المبادلة تصير بيعاً ممنوعاً، فالذهب بالفضة لا يجوز بالأجل لأنه يصير حينئذٍ صرفاً مؤجلاً، انظر الجامع في أصول الربا ص 283.
إلا أنه يجوز اتفاق الدائن والمدين في يوم سداد الدين على قضاء الدين بعملة أخرى بسعر صرفها في يوم السداد، فمثلاً استدان شخص من آخر مبلغ ألف دولار، على أن يسددها بعد سنة، ولما حان يوم السداد، اتفق الدائن والمدين على أن يسدد المدين الألف دولار بقيمتها بالدينار الأردني، فيجوز ذلك بشرط أن لا يبقى شيء لأحدهما في ذمة الآخر.
وهذا مذهب جماعة من أهل العلم، ويدل عليه ما ورد في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنه قال: (كنت أبيع الإبل في البقيع، فأبيع بالدنانير وآخذ بالدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ بالدنانير، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، إني أبيع الإبل بالبقيع فأبيع بالدنانير وآخذ بالدراهم وأبيع بالدراهم وآخذ بالدنانير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا بأس، إذا أخذتهما بسعر يومهما فافترقتما وليس بينكما شيء) رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وأحمد وغيرهم، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وقال الشيخ الأرناؤوط: اسناده حسن على شرط مسلم.
وعن يسار بن نمير قال: " كان لي على رجل دراهم، فعرض عليّ دنانير، فقلت: لا آخذها حتى أسأل عمر، فسألته فقال: إئت بها الصيارفة فاعرضها فإذا قامت على سعر فإن شئت فخذها، وإن شئت فخذ دراهمك " ذكره ابن حزم في المحلى.
((وقد قرر مجمع الفقه الإسلامي ما يلي بالنسبة إلى هذه المسألة:
أولاً: الدين الحاصل بعملة معينة لا يجوز الاتفاق على تسجيله في ذمة المدين بما يعادل قيمة تلك العملة من الذهب أو من عملة أخرى على معنى أن يلتزم المدين بأداء الدين بالذهب أو العملة الأخرى المتفق على الأداء بها.
ثانياً: يجوز أن يتفق الدائن والمدين يو السداد لا قبله على أداء الدين بعملة مغايرة لعملة الدين إذا كان ذلك بسعر صرفها يوم السداد، وكذلك يجوز الدين على أقساط بعملة معينة الاتفاق يوم سداد أي قسط على أدائِه كاملاً بعملة مغايرة بسعر صرفها في ذلك اليوم ويشترط في جميع الأحوال أن لا يبقى في ذمة المدين شيء مما تمت عليه المصارفة في الذمة)) .
*****(12/134)
135 - يحرم أخذ الأجرة على عسب الفحل
يقول السائل: ما حكم أخذ صاحب الثور أو التيس أجرة مقابل تلقيح الإناث من البقر أو المعز؟
الجواب: ثبت في الحديث الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عسب الفحل) رواه البخاري.
قال الزبيدي: " العسب ضراب الفحل أو العسب ماؤه أي الفحل فرساً كان أو بعيراً.... والعسب إعطاء الكراء على الضراب " تاج العروس 2/231.
وثبت في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع ضراب الجمل) ، قال الإمام النووي: " معناه عن أجرة ضرابه وهو عسب الفحل المذكور في حديث آخر " شرح النووي على صحيح مسلم 4/177.
وقد أخذ جمهور الفقهاء من هذين الحديثين أنه لا يجوز شرعاً أخذ الأجرة على الفحل للتلقيح، وكذلك اتفق أهل العلم على حرمة بيع عسب الفحل.
قال الحافظ ابن حجر: ".... وعلى كل تقدير، فبيعه وإجارته حرام لأنه غير متقوم ولا معلوم ولا مقدور على تسليمه " فتح الباري 5/368.
وأما إذا لم يكن هناك شرط مسبق على بيع ماء الفحل أو أخذ الأجرة عليه، فأهدى صاحب الإناث لصاحب الفحل شيئاً يكرمه به فلا بأس في ذلك، كما هو مذهب جماعة من أهل العلم، ويدل على ذلك ما ورد في الحديث عن أنس بن مالك (أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عسب الفحل فنهاه فقال: يا رسول الله، إنا نطرق الفحل فنكرم، فرخص له في الكرامة) رواه الترمذي وقال: حسن غريب، تحفة الأحوذي 4/412، وقال الشيخ الألباني: صحيح، انظر صحيح سنن الترمذي 2/22.
وقال الإمام البغوي: " أما إعارة الفحل للإنزاء وإطراقه فلا بأس به، ثم لو أكرمه المستعير بشيء يجوز له قبول كرامته " شرح السنة 8/139.
*****(12/135)
136 - سماح صاحب الأرض لجاره بالمرور من الأرض لا يعطي الج
يقول السائل: إنه اشترى أرضاً من آخر بموجب عقد صحيح، وكان البائع يسمح لجار له بالمرور من أرضه التي باعها للمشتري، ولم يذكر في عقد البيع أي شيء عن الطريق، واستمر المشتري بالسماح للجار بالمرور من الأرض مدة من الزمن، ثم ادعى الجار أن له حقاً شرعياً في الطريق بالتقادم، وصاحب الأرض ينفي ذلك، فما قولكم في المسألة؟
الجواب: لا يحق لجار الأرض المذكور أن يطالب بالمرور من أرض جاره، وإن مضى على مروره فيها سنوات طويلة، لأن مالك الأرض أذن له بالمرور تفضلاً وإحساناً أو سكت عن ذلك، ثم إنه لما باع الأرض كاملة بحدودها المعروفة، ولم يبين للمشتري وجود حق للجار في الطريق، وبناءً على ذلك لا يثبت له حق المرور بالتقادم، فلا يعتبر التقادم في الشريعة الإسلامية سبباً صحيحاً من أسباب كسب الحقوق أو إسقاطها ديانة لأنه لا يجوز شرعاً أن يأخذ أحد مال آخر إلا بسبب شرعي، لقوله عليه الصلاة والسلام: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس) رواه أحمد والبيهقي والطبراني وقال الشيخ الألباني: صحيح، إرواء الغليل 5/279.
ولأن الحق في الإسلام أبدي لا يزول إلا بمسوغ شرعي ولا مسوغ شرعي في هذه المسألة.
وعليه لا يصح ادعاء جار الأرض بحقه في المرور عبر أرض جاره إلابإذن الجار ورضاه.
مضاربة فاسدة
يقول السائل: إنه يملك سيارة أجرة، واتفق مع سائق ليشتغل عليها، على أن يدفع السائق خمسين ديناراً في اليوم لصاحبها، فما الحكم في ذلك؟
الجواب: إن هذه المسألة من صور شركة المضاربة على قول بعض الفقهاء الذين يجيزون أن يكون رأس مال المضاربة، أدوات يمتلكها صاحب المال، وبهذا قال الشيخ ابن قدامة في المغني 5/8: " وإن دفع الرجل دابته إلى آخر ليعمل عليها وما يرزق الله بينهما نصفين أو أثلاثاً أو كيفما شرطا صح نص عليه في رواية الأثرم ومحمد بن أبي حرب وأحمد بن سعيد، ونقل الأوزاعي ما يدل على صحة هذا.... ".
وقاس ابن قدامة جواز هذه المسألة على المزارعة لما ثبت في حديث جابر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى خيبر على الشطر -أي النصف-) رواه البخاري.
هذا ما يتعلق بأصل السؤال، وأما الشرط المذكور، وهو أن يدفع السائق خمسين ديناراً لصاحب السيارة فهو شرط باطل يؤدي إلى بطلان العقد، إذ لا يصح في عقد المضاربة أن يكون نصيب أحد الشريكين مبلغاً معيناً من المال ولا بد أن يكون جزءاً مشاعاً كأن يتفقا على أن لكل واحد منهما النصف أو لأحدهما الثلث وللآخر الثلثان ونحو ذلك، كما يصح إذا اتفقا على أن يكون نصيب أحدهما نسبة مئوية مثل 15% أو 30% وهكذا.
وبناءً على ما سبق فإن صورة التعاقد المذكورة في السؤال باطلة لا تصح.
*****(12/136)
137 - الشهادة
يقول السائل: إذا كان من قُتل في سبيل الله يُكفَّر عنه كل شيء إلا الدين، فما الحال إذا كان هذا الشخص سارقاً أو آخذاً لحقوق الناس بغير الحق فهل تكفر هذه عنه، أفيدونا؟
الجواب: ثبت في الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن الرسول صلى الله عليه وسلم?قال: (يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين) رواه مسلم.
قال الإمام النووي: " وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (إلا الدين) ففيه تنبيه على جميع حقوق الآدميين، وأن الجهاد والشهادة وغيرهما من أعمال البر لا يكفر حقوق الآدميين، وإنما يكفر حقوق الله تعالى " شرح صحيح مسلم للنووي 5/28.
وقال التوربشتي: " أراد بالدين هنا ما يتعلق بذمته من حقوق المسلمين إذ ليس الدائن أحق بالوعيد والمطالبة منه من الجاني والغاصب والخائن والسارق " تحفة الأحوذي 5/302.
ويؤخذ من هذا الحديث أن من كان في ذمته حقوق للعباد فلا تسقط عنه ولا تكفر، وأن التكفير خاص بما بين العبد وبين ربه من كبيرة أو صغيرة، وحقوق العباد لا تدخل ضمن ذلك، وذكر الدين لينبه على غيره من حقوق العباد، ويؤيد ذلك ما جاء في الحديث، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كانت عنده مظلمة لأحد فليتحلله، فإنه ليس ثم دينار ولا درهم، من قبل أن يؤخذ لأخيه من حسناته، فإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئاته وطرح عليه) رواه البخاري.
*****(12/137)
138 - الهبة
يقول السائل: هل يجوز لمن وهب آخر هبة، أن يعود ويرجع عن تلك الهبة؟
الجواب: الهبة مشروعة ومستحبة، ومن الأمور التي تقوي المودة بين الناس، وينبغي أن تكون الهبة بطيب نفس ورضاً تام، وتتم الهبة بالإيجاب والقبول والقبض، فإذا قبض الموهوب الهبة فلا يحل للواهب أن يرجع في هبته إلا الوالد فيما يهبه لولده لورود الأدلة المخصصة للوالد من هذا الحكم، وهو حرمة الرجوع في الهبة ويدل على ذلك أحاديث منها: - عن قتادة قال: سمعت سعيد بن المسيب يحدث عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (العائد في هبته كالعائد في قيئه) رواه البخاري ومسلم.
- عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس لنا مثل السوء، الذي يعود في هبته كالكلب يرجع في قيئه) رواه البخاري.
- وعن ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مثل الذي يرجع في صدقته كمثل الكلب، يقيء ثم يعود في قيئه فيأكله) رواه مسلم.
فهذه الأحاديث وغيرها تدل على تحريم الرجوع في الهبة، وهذا مذهب جمهور الفقهاء وأهل الحديث.
قال الإمام البخاري: " باب لا يحل لأحد أن يرجع في هبته وصدقته ثم ذكر حديثي ابن عباس، الأول والثاني "، أنظر فتح الباري 6/162 - 163.
وقال الإمام النووي: " باب تحريم الرجوع في الصدقة والهبة بعد القبض إلا ما وهبه لولده، وإن سفل " شرح صحيح مسلم 4/236.
ويبغي للواهب أن يعلم أن العائد في هبته قد شبهه الرسول صلى الله عليه وسلم بالكلب الذي يقيء، ثم يعود فيأكل منه، وهذا مثل سوء فلا ينبغي للمسلم أن يتمثل بالكلب، وقد جاء في الحديث أنه ينبغي تعريف الواهب الذي يريد الرجوع في هبته بهذا المثل حتى يرتدع فلا يعود في هبته، فقد روى أبو داود بسنده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (مثل الذي يسترد ما وهب كمثل الكلب، يقيء فيأكل قيئه، فإذا استرد الواهب فليتوقف فليعرف بما استرد ثم ليدفع إليه ما وهب) رواه ابن ماجة، وقال الشيخ الألباني: حسن صحيح، انظر صحيح سنن ابي داود 2/676.
ويستثنى من حكم الرجوع في الهبة، الوالد فيما وهبه لولده، فيصح للوالد أن يرجع فيما وهبه لولده، وقد دلت السنة الثابتة على ذلك، فقد ورد في الحديث عن طاووس، عن ابن عمر وابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل للرجل أن يعطي عطية أو يهب هبةً فيرجع فيها، إلا الوالد فيما يعطي ولده، ومثل الذي يعطي العطية ثم يرجع فيها كمثل الكلب، يأل فإذا شبع قاء، ثم عاد في قيئه) رواه أصحاب السنن، وأحمد، وقال الترمذي حسن صحيح، ورواه ابن حبان والحاكم وصححاه، وصححه الشيخ الألباني أيضاً.
ويؤيد ذلك ما ورد في الحديث، عن النعمان بن بشير أنه قال: إن أباه أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (إني نحلت ابني هذا غلاماً كان لي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أكلَّ ولدك نحلته مثل هذا، فقال: لا، فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأرجعه) رواه البخاري ومسلم.
وفي رواية عند مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبشير: (فاردده) .
قال الحافظ ابن حجر: " وحجة الجمهور في استثناء الأب أن الولد وماله لأبيه فليس في الحقيقة رجوعاً وعلى تقدير كونه رجوعاً فربما اقتضته مصلحة التأديب ونحو ذلك " فتح الباري 6/143.
وقد ألحق أكثر الفقهاء الأم بالأب في جواز الرجوع في الهبة.
*****(12/138)
139 - حق التقادم
يقول السائل: يدّعي بعض الناس ملكيتهم بعض الأراضي عن طريق ما يسمّى حق التقادم، مع أن تلك الأراضي ليست من أملاكهم فعلاً، وإنما استعملوها لسنوات طويلة ثم اَدعوا ملكيتها، فما هو قولكم في هذه القضية؟
الجواب: حق التقادم، هو انقضاء زمان معين كخمسة عشر عاماً أو أكثر أو أقل على حق في ذمّة إنسان أو مرور تلك المدة على عين لغيره في يده، دون أن يطالب صاحبها، وهو قادر على المطالبة، المدخل الفقهي العام 1/243.
ويسمّى حق التقادم أيضاً مرور الزمان أو مضي المدة أو وضع اليد.
ومن المقرر عند أهل العلم، أن أسباب الملكية في الشريعة الإسلامية أربعة وهي:
1 - إحراز المباحات.
2 - العقود، كالبيع والشراء.
3 - الخلفية، كالميراث.
4 - التولد من المملوك.
وحق التقادم ليس سبباً من أسباب التملك الصحيحة في الشريعة الإسلامية، فلا يعتبر حق التقادم سبباً صحيحاً من أسباب كسب الحقوق أو إسقاطها ديانة، فلا يجوز شرعاً لأي إنسان أن يأخذ مال غيره بلا سبب شرعي، ويدل على ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس) رواه أحمد والبيهقي والطبراني، وقال الشيخ الألباني: صحيح، إرواء الغليل 5/279.
ولأن الحق في الإسلام أبدي لا يزول إلا بمسوغ شرعي، ولكن المجتهدين من فقهاء الإسلام بيّنوا أن حق التقادم يكون سبباً في منع الاستماع للدعوى بعد مضيّ مدة معينة كست وثلاثين سنة أو ثلاثين سنة أو خمسة عشرة سنة أو غير ذلك، لأن إهمال صاحب الحق لحقه هذه السنوات الطويلة بلا عذر، مع تمكنه من التقاضي يدل على عدم الحق غالباً فلو كان الحق لشخص ومضى عليه زمن طويل، ولم يطالب به فلا يعني هذا زوال حقه وضياعه، ولكن العلماء اجتهدوا، فمنعوا ذلك الشخص أن يترافع أمام القضاء بعد مضي تلك السنوات الطويلة وذلك تجنباً لإثارة المشكلات في الإثبات وما يتعلق بالقضاء من أمور أخرى، فمرور الزمان أو التقادم لا يسقط الحقوق مطلقاً بل الحق يبقى لصاحبه فمن وضع يده على قطعة أرض ليست له واستعملها سنوات طويلة لا يعني ذلك أن ملكيتها انتقلت إليه، فلا تبرأ ذمته إلا إذا أعادها إلى صاحبها، لأن الحقوق الثابتة لا يؤثر فيها مرور الزمن أو تقادم العهد.
وحق التقادم المانع من سماع الدعوى أمام القضاء يكون مقبولاً إذا لم يكن هنالك عذر شرعي في عدم رفع الدعوى، وأما إذا وجد عذر شرعي في عدم رفع الدعوى فإن الدعوى تسمع ولا يعتبر حق التقادم حينئذ مانعاً من سماع الدعوى.
جء في المادة 1663 من مجلة الأحكام العدلية: " والمعتبر في هذا الباب، أي في مرور الزمن المانع لاستماع الدعوى هو مرور الزمن الواقع بلا عذر فقط، وأما في الزمن الحاصل بأحد الأعذار الشرعية ككون المدعي صغيراً أو مجنوناُ أو معتوهاً، سواء كان له وصيٌ، أو لم يكن له، أو كونه في ديار أخرى مدة السفر، أو كان خصمه من المتغلبة فلا اعتبار له، فلذلك يعتبر مبدأ مرور الزمن، من تاريخ زوال واندفاع العذر، مثلاً لا يعتبر الزمن الذي مرّ حال جنون أو عته أو صغر المدّعي، بل يعتبر مرور الزمن من تاريخ وصوله حد البلوغ، كذلك إذا كان لأحد مع أحد المتغلبة دعوى، ولم يمكنه الإدعاء لامتداد الزمن زمن تغلب خصمه وحصل مرور زمن لا يكون مانعاُ لاستماع الدعوى وإنما يعتبر مرور الزمن من تاريخ زوال التغلب ".
وأخيراً يجب أن يعلم، أن القضاء في الإسلام مظهر للحق لا مثبت له، وأن حكم القاضي لا يغير حقيقة الأشياء، لأن القاضي يحكم حسب الظاهر وبحسب اجتهاده.
*****(12/139)
140 - الضمان
يقول السائل: دهس سائق سيارة دابة لرجل، فانحرفت السيارة فأصيب السائق بجروح، وتضررت السيارة، ونفقت الدابة، فعلى من الضمان؟
الجواب: إن الضمان في هذه المسألة على صاحب الدابة لأنه قصّر في حفظ دابته فإن لم يربطها ولم يتخذ الوسائل الكفيلة بعدم وصولها إلى الطريق الذي تسير فيه السيارات فهو ضامن، وعليه أن يعوض السائق عن جروحه التي أصيب بها، وكذلك عليه أن يعوضه بدل الأضرار التي لحقت بسيارته، ولا يضمن السائق الدابة.
والأصل في هذه المسألة ما رواه مالك في الموطأ، عن ابن شهاب، عن حرام بن سعد بن محيصة، أن ناقة البراء بن عازب دخلت حائط -أي بستان- رجل فأفسدت فيه، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن على أهل الحوائط حفظها بالنهار، وأن ما أفسدته المواشي بالليل ضامن على أهلها) رواه أبو داود والنسائي، وهو حديث صحيح كما قال الشيخ الألباني.
وقد جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي المتعلق بحوادث السيارات ما يلي:
((ما تسببه البهائم من حوادث السير في الطرقات يضمن أربابها الأضرار التي تنجم عن فعلها إن كانوا مقصرين في ضبطها والفصل في ذلك للقضاء)) .
*****(12/140)
141 - الضمان
لا ضمان على صاحب البيت إن مات العامل بدون تقصير من صاحب البيت، يقول السائل: سقط عامل عن سقالة أثناء عمله في بيت أحد الأشخاص، فأصيب العامل بكسور، والعامل يطالب صاحب البيت بالتعويض عن الضرر الذي لحق به، فما قولكم في ذلك؟
الجواب: إذا كان صاحب البيت ليس له علاقة بسقوط العامل لا من قريب ولا من بعيد كأن يكون العامل هو الذي نصب السقالة، فلا ضمان على صاحب البيت حتى لو أن العامل توفي، فلا شيء على صاحب البيت ما دام العامل يعرف طبيعة العمل وهو الذي تولى إعداد السقالة فجروحه هدر وكذا دمه هدر إذا مات.
وقد ثبت في الحديث الصحيح، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (العجماء جرحها جبار، والبئر جبار، والمعدن جبار....) رواه البخاري ومسلم.
والعجماء هي الدابة، وجبار أي هدر.
والمراد بقوله: (العجماء جبار) أي أن الدابة إذا أتلفت شيئاً، أو قتلت إنساناً من غير تقصير من صاحبها، فلا ضمان فيما فعلت.
وقوله (البئر جبار) أي أنه إذا سقط أحد في بئر حفرها شخص في ملكه، فدخل أحد إلى ملك صاحب البئر فوقع فيها فمات، فدم الميت هدر، ولا شيء على صاحب البئر.
(والمعدن جبار) إي إذا حفر رجل منجماً أو محجراً، فانهار على شخص فمات فدمه هدر ولا شيء على صاحب المنجم أو المحجر.
وهذا ينطبق على العامل الذي يُستأجر للقيام بعمل ما فيسقط عليه جدار أو تنهار به السقالة أو يحدث حادث مفاجئ للآلة التي يعمل بها فلا ضمان على صاحب البيت ولا يجوز شرعاً تحميله شيئاً من دية الميت أو مطالبته بتعويض العامل عن الضرر الذي لحق به.
*****(12/141)
142 - الخصومات
حكم المحكم لازم للمتخاصمين، يقول السائل: هل حكم المحكِّم أو المحكِّمين، ملزم للمتخاصمين اللذين رضيا بمبدأ التحكيم، ووافقا على المحكِّم أو المحكِّمين؟
الجواب: إن التحكيم بين الناس في الخصومات مشروع بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وثابت عن الصحابة والتابعين.
فمن كتاب الله قوله تعالى: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقْ اللَّهُ بَيْنَهُمَا) سورة النساء /35.
وهذه الآية نص صريح في إثبات التحكيم كما قال القرطبي في تفسيرها، تفسير القرطبي 5/179.
ومن السنة النبوية ما رواه البخاري في صحيحه في قصة تحكيم سعد بن معاذ رضي الله عنه في يهود بني قريظة، وقد رضي الرسول صلى الله عليه وسلم بسعدٍ رضي الله عنه حكماً.
وكذلك ما رواه أبو داود بسنده عن يزيد بن المقدام عن شريح عن أبيه عن جده شريح عن أبيه هانئ: (أنه لما وفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قومه، سمعهم يكّنونه بأبي الحكم، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن الله هو الحكم وإليه الحكم، فلم تكنّى أبا الحكم؟ فقال: إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم فرضي كلا الطرفين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أحسن هذا فما لك من الولد؟ قال: لي شريح ومسلم وعبد الله قال فمن أكبرهم؟ قال: قلت شريح فقال: أنت أبو شريح) ورواه النسائي أيضاً، وقال الشيخ الألباني: صحيح، إرواء الغليل 8/237.
وقد وقعت حوادث كثيرة في زمن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يحكّمون فيها بين المتخاصمين، فمن ذلك ما وقع لعمر رضي الله عنه حين ساوم على فرس لرجل فركبه فعطب الفرس، فقال عمر للرجل: خذ فرسك، فقال الرجل: لا، فقال: إجعل بيني بينك حكماً، فقال الرجل: شريح فتحاكما إليه.... الخ " رواه ابن سعد في الطبقات، وقال الشيخ الألباني: رجاله ثقات، رجال الشيخين إلا أن الشعبي لم يدرك عمر، وغير ذلك من الآثار.
وإذا ثبت هذا فأقول: إن حكم المحكّم أو المحكّمين لازم للمتخاصمين، ولا يصح شرعاً رفض حكم المحكّم أو المحكّمين من قبل أحد المتخاصمين، وهذا مذهب جمهور أهل العلم من الحنفية والمالكية والشافعية في القول المعتمد عندهم، والحنابلة، وهو قول الظاهرية، ونقل عن جماعة من السلف.
ويدل على هذا، أن المتخاصمين ما داما قد قبلا بالتحكيم ورضيا بالمحكّم أو المحكّمين فلا بد لهما من قبول الحكم الذي يصدر عن المحكّم أو المحكمين.
ولولا أن حكم المحكّم لازم للمتخاصمين لما كان للترافع إليه أي معنىً، قياساً على الحاكم المولّى من ولي الأمر.
وقد جاء في المادة 1448 من مجلة الأحكام العدلية ما يلي:
"كما أن حكم القضاة لازم الإجراء في حق جميع الأهالي الذين في داخل قضائهم كذلك حكم المحكّمين لازم الإجراء، على الوجه المذكور في حق من حكّمهم وفي الخصوص الذي حكموا به، فلذلك ليس لأي واحد من الطرفين الإمتناع عن قبول حكم المحكّمين بعد حكم المحكّمين حكماً موافقاً لأصوله المشروعة ".
ومما ينبغي التنبيه عليه، أن حكم المحكّم أو المحكّمين يكون مقبولاً إذا كان موافقاً للأصول الشرعية، وينبغي أن يكون المحكّم أو المحكّمين من أهل العلم والخبرة في الشرع وفي القضية التي هي محل التحكيم.
ومن العلماء من يشترط في المحكّم أن يكون أهلاً للقضاء.
وينبغي أن لا يكون المحكّم قريباً لأحد المتخاصمين، قرابة تمنع الشهادة، حتى يكون أقرب إلى العدل، وأبعد عن التهمة.
*****(12/142)
143 - الصلح
يقول السائل: هل يجوز لمن أصلح بين اثنين في خلاف مالي أن يطلب من أحدهما إسقاط بعض حقه عن الآخر؟
الجواب: نعم، يجوز شرعاً للمصلح بين المتخاصمين أن يطلب من أحدهما إسقاط بعض حقه عن الآخر لإتمام الصلح بينهما، وإنهاء النزاع والخصومة فمن المعلوم عند أهل العلم أن الصلح جائز ومشروع بنص كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد قال تعالى: (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ) سورة النساء /114.
وقال تعالى: (وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) سورة النساء /128.
وورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الصلح جائز بين المسلمين، إلا ما حرّم حلالاً أو أحل حراماً، والمسلمون على شروطهم، إلا شرطاً حرّم حلالاً أو أحل حراماً) رواه الترمذي وأبو داود وغيرهما، وهو حديث حسن.
وقد ثبت في الحديث الصحيح، عن كعب بن مالك رضي الله عنه، أنه كان له على عبد الله ابن بي حدرد الأسلمي مال، فلقيه فلزمه حتى ارتفعت أصواتهما، فمرّ بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يا كعب، فأشار بيده كأنه يقول النصف، فأخذ نصف ماله عليه وترك نصفاً) رواه الإمام البخاري.
وفي رواية للبخاري أيضاً، عن كعب أنه تقاضى ابن أبي حدرد ديناً كان له عليه في المسجد، فارتفعت أصواتهما حتى سمعهما رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته، فخرج إليهما حتى كشف سجف حجرته - أي ستر البيت -، فنادى: (يا كعب قال: لبيك يا رسول الله، فقال: ضع من دينك هذا، وأومأ إليه، أي الشطر، قال: لقد فعلت، قال: قم فاقضه) .
وفي هذا الحديث دلالة على جواز الشفاعة لصاحب الحق أن يسقط شيئاً من حقه حيث أشار الرسول صلى الله عليه وسلم لكعب لكي يسقط نصف دينه عن عبد الله بن أبي حدرد ثم أمر الرسول صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي حدرد أن يسدد الشطر الثاني من الدين لكعب بن مالك.(12/143)
144 - القروض
يقول السائل: إنه اشترى سيارة بمبلغ تسعين ألف شيكل ودفع بعض ثمنها للبائع واتفقا على أن يسدد الباقي بعد شهر ثم هبطت قيمة الشيكل ويطالبه البائع الآن بتسديد الثمن حسب سعر صرف الشيكل بالنسبة للدينار في يوم الشراء فما قولكم في ذلك؟
الجواب: لا يجوز للبائع أن يطالب بتسديد ثمن السيارة حسب سعر صرف الشيكل بالنسبة للدينار في يوم شراء السيارة لأن الدين قد استقر في ذمة المشتري وهو تسعون ألف شيكل فعلى المشتري أن يسدد الثمن الذي استقر في ذمته عدداً لا قيمةً أي تسعون ألف شيكل فقط.
وهذا مذهب أكثر الفقهاء الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة وكثير من الفقهاء والعلماء المعاصرين حيث إنهم يرون أن الدين إذا استقر في ذمة المشتري بمقدار محدد فالواجب هو تسديد ذلك المقدار بدون زيادة أو نقصان فالديون تقضى بأمثالها في حالة الرخص والغلاء ولا تقضى بقيمتها جاء في المدونة: [كل شيء أعطيته إلى أجل فرد إليك مثله وزيادة فهو ربا] المدونة 4/25.
وقال أبو إسحاق الشيرازي: [ويجب على المستقرض رد المثل فيما له مثل لأن مقتضى القرض رد المثل] المهذب مع المجموع 12/185.
وقال الكاساني: [ولو لم تكسد - النقود - ولكنها رخصت قيمتها أو غلت لا ينفسخ البيع بالإجماع وعلى المشتري أن ينقد مثلها عدداً ولا يلتفت إلى القيمة هاهنا] بدائع الصنائع 5/542.
وقال الشيخ ابن عابدين في رسالته عن النقود: […لأن الإمام الإسبيجاني في شرح الطحاوي قال: وأجمعوا على أن الفلوس إذا لم تكسد ولكن غلت قيمتها أو رخصت فعليه مثل ما قبض من العدد] رسالة تنبيه الرقود على مسائل النقود 2/60 ضمن مجموعة رسائل ابن عابدين.
ويرى شيخ الإسلام ابن تيمية أيضاً وجوب رد المثل بلا زيادة. مجموع الفتاوى 29/535.
وقد بحث مجمع الفقه الإسلامي هذه المسألة بحثاً مستفيضاً وتوصل العلماء المشاركون في المجمع إلى القرار التالي: [العبرة في وفاء الديون الثابتة بعملة ما هي بالمثل وليس بالقيمة لأن الديون تقضى بأمثالها فلا يجوز ربط الديون الثابتة في الذمة أياً كان مصدرها بمستوى الأسعار] مجلة مجمع الفقه الإسلامي عدد 5
ج 3/2261.
وقد يقول بعض الناس إن رد المثل في القرض والديون فيه ضررٌ للمقرض والبائع فنقول لهم: إن الضرر لا يزال بضرر مثله كما قرر ذلك الفقهاء.
*****(12/144)
145 - تغير قيمة العملة
يقول السائل: هل صاحب العمل ملزم شرعاً بتعويض عمّاله في حالة نقص قيمة العملة كما حصل مؤخراً؟
الجواب: إن صاحب العمل غير ملزم شرعاً بتعويض العامل عن النقص الحاصل بسبب رخص العملة كما أن العامل غير ملزم برد أي شيء من أجره إذا ارتفعت قيمة العملة.
ولكن لما كان الطابع العام هو انخفاض قيمة العملة المستعملة حالياً وهي الشيكل فلا مانع شرعاً من أن يكون هنالك اتفاقٌ بين صاحب العمل والعامل على تعديل أجر العامل دورياً مثلاً كل شهر أو شهرين بنسبة تعادل انخفاض قيمة العملة.
كأن يتفق العامل مع صاحب العمل على أن يعطيه زيادة على أجره كل آخر شهر بنسبة 2% أو 3% أو نحو ذلك من أجل المحافظة على أجر العامل من انخفاض قوته الشرائية.
وسبق لمجمع الفقه الإسلامي أن ناقش هذه القضية وأصدر القرار التالي:
[يجوز أن تتضمن أنظمة العمل واللوائح والترتيبات الخاصة بعقود العمل التي تتحدد فيها الأجور بالنقود شرط الربط القياسي للأجور على أن لا ينشأ عن ذلك ضرر للاقتصاد العام.
والمقصود هنا بالربط القياسي للأجور تعديل الأجور بصورة دورية تبعاً للتغير في مستوى الأسعار وفقاً لما تقدره جهة الخبرة والاختصاص والغرض من هذا التعديل حماية الأجر النقدي للعاملين من انخفاض القدرة الشرائية لمقدار الأجر بفعل التضخم النقدي وما ينتج عنه من الارتفاع المتزايد في المستوى العام لأسعار السلع والخدمات.
وذلك لأن الأصل في الشروط الجواز إلا الشرط الذي يحل حراماً أو يحرم حلالاً] مجلة مجمع الفقه الإسلامي عدد 8 ج 3 ص 787.
*****(12/145)
146 - البيع
يقول السائل: ما حكم بيع المزايدة وما الفرق بينه وبين البيع على بيع أخيه؟
الجواب: بيع المزايدة هو أن ينادى على السلعة ويزيد فيها بعضهم على بعض حتى تقف على آخر زائد فيها فيأخذها. القوانين الفقهية ص 175.
وبيع المزايدة مشروع وجائز ويدخل في عموم قوله تعالى: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ) ومما يدل على مشروعيته ما يلي:
1. قال الإمام البخاري في صحيحه: (باب بيع المزايدة) ثم ذكر قول عطاء بن أبي رباح من أئمة التابعين: [أدركت الناس لا يرون بأساً في بيع المغانم فيمن يزيد] .
ثم ذكر بإسناده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن رجلاً أعتق غلاماً له عن دبر - أي بعد وفاته يكون العبد حراً - فاحتاج فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (من يشتريه مني؟ فاشتراه نعيم بن عبد الله بكذا وكذا فدفعه إليه) .
وذكر الحافظ ابن حجر عن مجاهد قال: لا بأس ببيع من يزيد.
والشاهد في الحديث قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من يشتريه مني) فعرضه للزيادة. صحيح البخاري مع الفتح 5/257-258.
2. قال الإمام الترمذي: (ما جاء في بيع من يزيد) ثم روى بإسناده عن أنس بن مالك ? أن رسول الله صلى الله عليه وسلم باع حلساً وقدحاً وقال: (من يشتري هذا الحلس والقدح؟ فقال رجل: أخذتهما بدرهم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من يزيد على درهم؟ من يزيد على درهم؟ فأعطاه رجل درهمين فباعهما منه) وقال الترمذي: حديث حسن. تحفة الأحوذي 4/343.
وجمهور الفقهاء على جواز بيع المزايدة. نيل الأوطار 5/191.
وبيع المزايدة ليس من باب البيع على بيع أخيه الذي ورد النهي عنه في حديث ابن عمر أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لا يبع بعضكم على بيع أخيه) رواه البخاري ومسلم.
والمراد بالبيع على بيع أخيه: قال العلماء البيع على البيع حرام وكذلك الشراء على الشراء وهو أن يقول لمن اشترى سلعة في زمن الخيار افسخ لأبيعك بأنقص أو يقول للبائع افسخ لأشتري منك بأزيد وهو مجمع عليه.
وأما السوم فصورته أن يأخذ شيئاً يشتريه فيقول له: رده لأبيعك خيراً منه بثمنه أو مثله بأرخص.
أو يقول للمالك استرده لأشتريه منك بأكثر ومحله بعد استقرار الثمن وركون أحدهما للآخر. فتح الباري 5/257.
وقال الحافظ ابن عبد البر في بيانه: [هو أن يستحسن المشتري السلعة ويهواها ويركن إلى البائع ويميل إليه ويتذاكرن الثمن ولم يبق إلا العقد والرضا الذي يتم به البيع فإذا كان البائع والمشتري على مثل هذه الحال لم يجز لأحد أن يعترضه فيعرض على أحدهما ما به يفسد به ما هما عليه من التبايع فن فعل أحد ذلك فقد أساء وبئس ما فعل فإن كان عالماً بالنهي عن ذلك فهو عاص لله] فتح المالك 8/180.
وبهذا يظهر لنا الفرق بين بيع المزايدة والبيع على بيع أخيه ففي بيع المزايدة البائع
يعرض سلعته لمن يزيد فإن عرض أحد الناس عليه مبلغاً فلم يرض به البائع فيطلب أكثر منه فيزيده شخص آخر وهكذا، وهذا كله قبل أن يستقر البيع وقبل أن يرضى البائع بالثمن.
ومن الأمور التي تصاحب بيع المزايدة وخاصة المزادات العلنية ما يسمى عند العلماء بالنجش وهو أن يزيد شخص في ثمن السلعة وهو لا يريد شرائها ولكن ليغر غيره وغالباً ما يكون النجش باتفاق بين صاحب السلعة والناجش وهو حرام شرعاً لما فيه من الخديعة فقد ثبت في الحديث الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النجش) رواه البخاري.
وقد جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي المتعلق بعقد المزايدة ما يلي:
[وحيث إن عقد المزايدة من العقود الشائعة في الوقت الحاضر وقد صاحب تنفيذه في بعض الحالات تجاوزات دعت لضبط طريقة التعامل به ضبطاً يحفظ حقوق المتعاقدين طبقاً لأحكام الشريعة الإسلامية كما اعتمدته المؤسسات والحكومات وضبطته بتراتيب إدارية ومن أجل بيان الأحكام الشرعية لهذا العقد قرر ما يلي:
1. عقد المزايدة: عقد معاوضة يعتمد دعوة الراغبين نداء أو كتابة للمشاركة في المزاد ويتم عند رضا البائع.
2. يتنوع عقد المزايدة بحسب موضوعه إلى بيع وإجارة وغير ذلك وبحسب طبيعته إلى اختياري كالمزادات العادية بين الأفراد وإلى إجباري كالمزادات التي يوجبها القضاء وتحتاج إليه المؤسسات العامة والخاصة والهيئات الحكومية والأفراد.
3. إن الإجراءات المتبعة في عقود المزايدات من تحرير كتابي وتنظيم وضوابط وشروط إدارية أو قانونية يجب ألا تتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية.
4. طلب الضمان ممن يريد دخول الشراء في المزايدة جائز شرعاً ويجب أن يرد لكل مشارك لم يرس عليه العطاء ويحتسب الضمان المالي من الثمن لمن فاز في الصفقة.
5. لا مانع شرعاً من استيفاء رسم الدخول (قيمة دفتر الشروط بما لا يزيد عن القيمة الفعلية) لكونه ثمنا له.
6. يجوز أن يعرض المصرف الإسلامي أو غيره مشاريع استثمارية ليحقق لنفسه نسبة أعلى من الربح سواء أكان المستثمر عاملاً في عقد مضاربة مع المصرف أم لا.
7. النجش حرام ومن صوره:
أ. أن يزيد في ثمن السلعة من لا يريد شرائها ليغري المشتري بالزيادة.
ب. أن يتظاهر من لا يريد الشراء بإعجابه بالسلعة وخبرته بها ويمدحها ليغر المشتري فيرفع ثمنها.
ج. أن يدعي صاحب السلعة أو الوكيل أو السمسار ادعاءاً كاذباً أنه دُفعَ فيها ثمنٌ معينٌ ليدلس على من يسوم.
د. ومن الصور الحديثة للنجش المحظورة شرعاً اعتماد الوسائل السمعية والمرئية والمقروءة التي تذكر أوصافاً رفيعة لا تمثل الحقيقة أو ترفع الثمن لتغر المشتري وتحمله على التعاقد] مجلة مجمع الفقه الإسلامي عدد 8 ج 2/169-170.
*****(12/146)
147 - البيع
يقول السائل: ما قولكم في الإعلانات التجارية عن السلع والبضائع والتي يذكر فيها أوصاف السلعة بالثناء والمدح وعندما نشتري تلك السلعة لا نجدها حسب الأوصاف التي وردت في الإعلان وإنما هي على خلاف ذلك؟
الجواب: الإعلانات التجارية عن السلع أمر جائز ومشروع بضوابط سأذكرها لاحقاً لأن الإعلانات تعرف الناس بأنواع السلع والبضائع وتعرفهم على أماكن بيعها وتسهل عليهم أموراً كثيرة.
ومن المعروف اليوم أن الإعلان صار فناً قائماً بذاته وله طرقه ووسائله المتقدمة والمتعددة.
ولكن يجب على التاجر المسلم ومن يرغب في الإعلان عن سلعه وبضائعه وغير ذلك أن يلتزم بالضوابط التالية حتى يكون إعلانه مشروعاً:
1. أن يكون الإعلان سالماً وخالياً من المحظورات الشرعية فلا يجوز الإعلان عن السلع والأمور المحرمة كالخمور والمخدرات ونوادي القمار وأفلام الجنس ونحوها.
كما لا يجوز أن تستعمل في الإعلان وسائل محرمة كظهور النساء العاريات أو يظهر في الإعلان أناس يشربون الخمر ونحو ذلك.
2. أن يكون الإعلان صادقاً في التعبير عن حقيقة السلعة لأننا نلاحظ أن كثيراً من الإعلانات التجارية فيها مبالغة واضحة في وصف السلع وغالباً ما تكون هذه الأوصاف كاذبة وغير حقيقية ويعرف صدق هذا الكلام بالتجربة.
إن الإعلان الكاذب عن السلع والذي يظهرها على غير حقيقتها يعتبر تغريراً وغشاً وخداعاً وكل ذلك محرم شرعاً في شريعتنا الإسلامية ويؤدي إلى أكل أموال الناس بالباطل.
يقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) سورة النساء الآية 29.
وقد ثبت في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم: (مرََّ على صُبرة طعام - كومة - فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللاً فقال صلى الله عليه وسلم: ما هذا يا صاحب الطعام؟
قال: أصابته السماء يا رسول الله، أي المطر. قال: أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس، من غشنا فليس مني) رواه البخاري ومسلم.
وفي رواية أخرى عند مسلم: (من غشنا فليس منا) .
ويدخل ضمن الغش والخداع أن يذكر في الإعلان أوصاف للسلعة ولا تكون فيها حقيقة.
وكذلك إذا كان في السلعة عيب أخفاه المعلن ولم يذكره وباع السلعة مع علمه أنها معيبة.
فقد جاء في الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (المسلم أخو السلم ولا يحل لمسلم إذا باع من أخيه بيعاً فيه عيب أن لا يبينه) رواه أحمد وابن ماجة والحاكم وصححه وقال الشيخ الألباني: صحيح. إرواء الغليل 5/165.
وعن أبي سباع قال: [اشتريت ناقة من دار واثلة بن الأسفع ? فلما خرجت بها أدركني رجل فقال: اشتريت؟ قلت: نعم. قال: وبين لك ما فيها. قلت: وما فيها؟ إنها لسمينة ظاهرة الصحة. قال: أردت بها سفراً أو أردت بها لحماً؟
قلت: أردت بها الحج. قال: ارتجعها. فقال صاحبها: ما أردت إلى هذا أصلحك الله تفسد عليَّ. قال: إني سمعت رسول صلى الله عليه وسلم يقول: لا يحل لأحد أن يبيع شيئاً إلا بين ما فيه ولا يحل لمن علم ذلك إلا بينه) رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من غشنا فليس منا والمكر والخداع في النار) رواه ابن حبان والطبراني وهو حديث صحيح كما قال الشيخ الألباني، إرواء الغليل 5/164.
3. أن لا يترتب على الإعلان عن السلعة إلحاق الضرر بسلع الناس الآخرين كأن يذم الأصناف المشابهة. انظر الإعلان ص 96-98.
لأن هذا من الضرر الممنوع شرعاً وقد صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا ضرر ولا ضرار) رواه أحمد وابن ماجة والطبراني وهو حديث صحيح كما قال الشيخ الألباني، السلسلة الصحيحة حديث رقم 250.
كما لا يجوز استغلال التشابه في الاسم التجاري أو العلامة التجارية من أجل التغرير بالمستهلكين وإيهامهم بأن سلعته مماثلة لتلك السلع المشهورة والمعروفة.
وينبغي أن يعلم أن النصح واجب في المعاملة وقد ثبت في الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (الدين النصيحة قلنا لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم) رواه مسلم.
وقد بين الإمام الغزالي ضوابط النصح المأمور به في المعاملة وهي:
1. أن لا يثني على السلعة بما ليس فيها لأن ذلك يعد كذباً ولا بأس أن يذكر الصفات الحقيقية الموجودة في السلعة من غير مبالغة.
2. أن يظهر جميع عيوب المبيع ولا يكتم منها شيئاً فذلك واجب فإن أخفى شيئاً من العيوب كان ظالماً غاشاً والغش حرام وكان تاركاً للنصح في المعاملة والنصح واجب.
3. أن لا يكتم من مقدار السلعة شيئاً وذلك بتعديل الميزان والمكيال والاحتياط في ذلك.
قال الله تعالى: (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) سورة المطففين الآيات 1-3.
4. أن يصدق في سعر الوقت ولا يخفي منه شيئاً.
ثم قال الغزالي بعد ذلك: [فليس له أن يغتنم فرصة وينتهز غفلة صاحب المتاع ويخفي من البائع غلاء السعر أو من المشتري تراجع الأسعار فإن فعل ذلك كان ظالماً تاركاً للعدل والنصح للمسلمين] انظر إحياء علوم الدين 4/76-80
*****(12/147)
148 - الربا
يقول السائل: ما حكم شراء أسهم الشركات التي يكون مجال عملها مباحاً ولكن تلك الشركات قد تقرض وتقترض بالربا؟ وما حكم من له أسهم في تلك الشركات وماذا يصنع بأرباح تلك الأسهم والربا يشكل جزءاً من تلك الأرباح؟
الجواب: لا يجوز للمسلم أن يساهم في شركات تتعامل بالربا أخذاً وإعطاءً كما هو حال كثير من الشركات المساهمة التي ينص في أنظمتها على أن من موارد الشركة الإقراض والاقتراض بالربا.
والنصوص الشرعية من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم صريحة في تحريم الربا تحريماً قاطعاً لا شك فيه.
ومن المسلّم به عند أهل العلم أن فوائد البنوك هي من الربا المحرم.
وإن في طرق الاستثمار الشرعية غنىً عن الاستثمار بالطرق المحرمة كالمساهمة في شركات تتعامل بالحرام أو تتعامل بالربا أخذاً وإعطاءً وهذا القول هو أصح قولي العلماء في هذه المسألة وأقربها للتقوى إن شاء الله.
ولكن بعض أهل العلم المعاصرين لهم رأي آخر في المسألة ولا بأس من ذكره وهو أنه قد تكون الشركة المساهمة ذات أغراض مشروعة وموضع نشاطها حلالاً وتؤدي خدمات عامة للاقتصاد لكنها تتعامل مع البنوك الربوية بالفائدة فتضع أموالها في تلك البنوك وتتقاضى عليها فوائد ربوية تدخل في مواردها وأرباحها كما تقترض في بعض الحالات ما تحتاج إليه من تلك البنوك لقاء فائدة تدفعها وتدخل تلك القروض في إنتاج ما تنتجه والربح الذي تحققه، فالربا يدخل في بعض أعمالها أخذاً وإعطاءً فلا ينبغي أن نُحرِّم على الناس اقتناء أسهم هذه الشركات بصورة مطلقة ولا أن نبيحها لهم بصورة مطلقة بل نراعي ضرورة قيام هذه المؤسسات في المجتمعات ومنها المجتمعات الإسلامية وحاجة كثير من الناس إلى اقتناء أسهمها ولا سيما الذين لا يجدون طريقاً آخر لاستثمار مدخراتهم الصغيرة دون أن يجمدوها حتى تتآكل وفي الوقت نفسه يجب استبعاد العنصر الحرام من أرباح هذه الأسهم … وذلك بأن يحسب مالك الأسهم بصورة دقيقة أو تقريبية جداً عند تعذر الحساب الدقيق ما دخل على عائدات كل سهم من العنصر الحرام في ربحه فيقرر مقداره من عائدات الأسهم ويوزعه على الفقراء دون أن ينتفع به أية منفعة ولا أن يحتسبه من زكاته ولا يعتبره صدقة من خالص ماله ولا أن يدفع به ضريبة حكومية ولو كانت من الضرائب الجائرة الظالمة لأن كل ذلك انتفاع بذلك العنصر الحرام من عائدات أسهمه.
وإن حساب هذا العنصر ولا سيما بصورة تقريبية جداً قد أصبح ميسوراً بالوسائل والأجهزة الحديثة والاستعانة بأهل الخبرة. وها يدخل في عموم البلوى وبهذا نيسر على الناس ونجنبهم الحرام دون أن نحرمهم من طريق استثماري لا يجدون بديلاً له بسب صغر مدخراتهم مع ملاحظة أن طريق المشاركات الصغيرة التجارية والمضاربة قد أصبح شديد الخطورة بسب ندرة الأمانة - مع الأسف - في هذا الزمان حيث أصبح الذي يضع ماله في يد غيره لاستثماره يدخل في مخاطرة كبيرة لفساد الذمم ويعرضه للتبخر ولا سيما أيضاً أن كثيراً من المدخرين الصغار أيتام وأرامل لا يستطيعون العمل بأنفسهم لأنفسهم. ولكل زمان حكمه وقد قرر الفقهاء في مناسبات كثيرة أموراً استثنائية عللوها بفساد الزمان.
هذا وفي حالة توافر شركات مساهمة تسد الحاجة وتلتزم بعدم التعامل بالربا أخذاً وإعطاءً يجب على المسلمين عدم التعامل مع الشركات المساهمة التي تقترض بالربا عند الحاجة وتودع أموالها بفائدة. المعاملات المالية المعاصرة ص 170.
ويعلق صاحب الكتاب السابق على الفتوى المذكورة بقوله: نستخلص من هذه الفتوى عدة أمور:
1. إن هذه الفتوى خاصة بالشركات الحيوية التي تؤدي خدمات عامة للناس ويقع الناس في حرج ومشقة نتيجة انهيارها ولا تعم جميع الشركات ويؤكد هذا الدكتور عبد الله الكيلاني في رسالته حيث يقول: [سألت الأستاذ الزرقاء حول موضوع الشركات المساهمة هل هي على إطلاقها أو لا؟ فأجاب: بأن الشركة التي لا تؤمِّن مرفقاً حيوياً ضرورياً أو حاجياً للمجتمع وكانت تتعامل بالربا في ادخار أموالها فأفتي بحرمة الاكتتاب بأسهمها لأنه لا يضر المجتمع انهيارها] .
2. إن هذه الفتوى تستند إلى عدة أمور وهي:
أ. سد حاجة حيوية عامة للمسلمين لا تستطيع رؤوس الأموال الفردية ولا رؤوس أموال الدولة أن تقوم بها فتعين وجودها من خلال شركات المساهمة التي قد تتعامل بالربا في إيداع أموالها والإقتراض من المصارف.
ب. تخريج المسألة على قاعدة (عموم البلوى ورفع الحرج عن الناس) ففي حالة فساد الزمان وخراب الذمم يمكن أن يفتى الناس بالأحكام الاستثنائية، فقد قرر الفقهاء عند فساد الزمان وشيوع الفسق وندرة العدالة قبول شهادة غير العدل فتقبل شهادة الأمثل فالأمثل لعموم البلوى كيلا يتعطل القضاء إذا طلبت العدالة الكاملة في الشاهد.
ج. سد حاجة فردية لصغار المساهمين الذين لا يجدون بديلاً استثمارياً بسب صغر مدخراتهم وعجزهم عن القيام بأنفسهم بالاستثمار بالإضافة إلى عدم الثقة بكثير ممن يقومون بالمشاركات الأخرى كالمضاربة لفساد ذممهم وقلة الأمانة لديهم.
3. الفتوى تمنع انتفاع صاحب الأسهم بالمال الحرام الذي دخل في عوائدها، وينبغي تقديره والتخلص منه بإعطائه للفقراء والمستحقين. انظر كتاب المعاملات المالية المعاصرة ص 171.
وخلاصة الأمر أني لا أجيز لمسلم أن يساهم في شركات تتعامل بالربا أخذاً وإعطاءً ابتداءً.
ومن له أسهم في مثل هذه الشركات فإن أراد التقوى والورع فعليه أن يبيع أسهمه تلك وأن يخلَّص رأس ماله من شوائب الربا.
قال تعالى: (وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ) سورة البقرة الآية 279.
وإن اختار الطريق الآخر وأخذ بالرأي الثاني - وله حظ من النظر والفقه - فذلك شأنه.(12/148)
149 - حكم السندات
يقول السائل: إنه أراد أن يشتري أسهماً في إحدى الشركات المساهمة العامة واطلع على النظام الداخلي للشركة فوجد أن الشركة يحق لها إصدار سندات عند الحاجة لزيادة رأس المال ويسأل عن هذه السندات وما حكمها؟
الجواب: السندات نوع من الأوراق المالية التي يجري التعامل بها في الأسواق المالية المعاصرة وتسمى أحياناً شهادات الاستثمار وهي عبارة عن قرض طويل الأجل تتعهد الشركة المقترضة بموجبه أن تسدد قيمته في تواريخ محددة. المعاملات المالية المعاصرة ص 176.
أو هو صك قابل للتداول يمثل قرضاً يعقد عادة بواسطة الاكتتاب العام وتصدره الشركات أو الحكومات ويعتبر حامل سند الشركة دائناً للشركة ويعطى حامل السند فائدة ثابتة سنوياً وله الحق في استيفاء قيمته عند حلول أجل معين. مجلة مجمع الفقه الإسلامي العدد 6 جزء 2 ص 1283.
ويلاحظ في تعريف السندات أن السند عبارة عن دين ثابت على الشركة ويستوفي حامل السند فائدة ثابتة سواء ربحت الشركة أو خسرت.
وخلاصة الأمر أن السند عبارة عن قرض ربوي مهما اختلفت أسماؤه وتعددت أوصافه.
وبناءً على أن السند قرض ربوي فيحرم التعامل بالسندات ما دامت تصدر بفائدة ثابتة معينة لذا لا يجوز إصدار السندات ولا تداولها والقول بتحريم السندات واعتبارها من الربا المحرم هو مذهب أكثر العلماء والفقهاء المعاصرين.
لأن السند قرض على الشركة أو الجهة التي أصدرته لأجل معين وبفائدة معينة ثابتة ومشروطة وهذا هو ربا النسيئة بعينه الذي حرمته الشريعة الإسلامية بالنصوص الصريحة في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
قال الله تعالى: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) سورة البقرة الآية 275.
وقد حاول بعض العلماء أن يخرج مسألة السندات على عقد المضاربة المعروف في الفقه الإسلامي ولكن هذا التخريج غير صحيح مطلقاً لأن السندات في حقيقتها قروض ربوية ولو سلمنا جدلاً بصحة تخريجها على المضاربة الشرعية فهي مضاربة فقدت شروط صحتها شرعاً كما قال الدكتور القرضاي: [والخلاصة أن شهادات الاستثمار من فئة (أ) و (ب) إما أنها من باب القرض بفائدة وهو الأمر الواضح بحسب قانون إنشائها أو من باب المضاربة التي فقدت شروطها الشرعية ففقدت بذلك إذن الشرع فيها فهي محرمة على كلا الاحتمالين] فوائد البنوك هي الربا الحرام ص 102.
والقول بتحريم السندات هو القول الفصل في المسألة وهو ما قرره مجمع الفقه الإسلامي الذي ضم عدداً كبيراً من العلماء والفقهاء المعاصرين فقد جاء في قرار المجمع ما يلي:
[وبعد الاطلاع على أن السند شهادة يلتزم المصدر بموجبها أن يدفع لحاملها القيمة الاسمية عند الاستحقاق مع دفع فائدة متفق عليها منسوبة إلى القيمة الاسمية للسند أو ترتيب نفع مشروط سواء أكان جوائز توزع بالقرعة أم مبلغاً مقطوعاً أم حسماً (خصماً) .
قرر:
1. إن السندات التي تمثل التزاماً بدفع مبلغها مع فائدة منسوبة إليه أو نفع مشروط محرمة شرعاً من حيث الإصدار أو الشراء أو التداول لأنها قروض ربوية سواء أكانت الجهة المصدرة لها خاصة أو عامة ترتبط بالدولة ولا أثر لتسميتها شهادات أو صكوكاً استثمارية أو ادخارية أو تسمية الفائدة الربوية الملتزم بها ربحاً أو ريعاً أو عمولة أو عائداً.
2. تحرم أيضاً السندات ذات الكوبون الصفري باعتبارها قروضاً يجري بيعها بأقل من قيمتها الاسمية ويستفيد أصحابها من الفروق باعتبارها خصماً لهذه السندات.
3. كما تحرم أيضاً السندات ذات الجوائز باعتبارها قروضاً اشترط فيها نفع أو زيادة بالنسبة لمجموع المقرضين أو لبعضهم لا على التعيين فضلاً عن شبهة القمار.
4. من البدائل للسندات المحرمة - إصداراً أو شراءً أو تداولاً - السندات أو الصكوك القائمة على أساس المضاربة لمشروع أو نشاط استثماري معين بحيث لا يكون لمالكيها فائدة أو نفع مقطوع وإنما تكون لهم نسبة من ربح هذا المشروع بقدر ما يملكون من هذه السندات أو الصكوك ولا ينالون هذا الربح إلا إذا تحقق فعلاً. ويمكن الاستفادة في هذا من الصيغة التي تم اعتمادها في القرار رقم 5 للدورة الرابعة لهذا المجمع بشأن سندات المقارضة] مجلة مجمع الفقه الإسلامي 6/2/1725-1726.
وختاماً أقول إن تعامل الناس بالربا في هذا الزمان قد عمّ وطمّ وغلب التعامل بالربا على أكثر معاملات الناس المعاصرة بسبب ارتباط الحياة الحديثة بالبنوك الربوية وقد وقع مصداق حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: (ليأتينّ على الناس زمان لا يبقى أحد منهم إلا أكل الربا ومن لم يأكله أصابه من غباره) رواه أبو داود وابن ماجة والنسائي.
ومع انتشار التعامل بالربا في زماننا إلا أن كثيراً من الناس يقدمون على التعامل به مختارين غير مكرهين ولا مضطرين وإلى هؤلاء وغيرهم أسوق بعض النصوص الشرعية التي تحرم الربا والتعامل به:
1. يقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ) سورة البقرة الآيتان 276-277.
2. عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه وقال: هم سواء) رواه مسلم.
3. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اجتنبوا السبع الموبقات. قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات) رواه البخاري ومسلم.
4. وقال صلى الله عليه وسلم: (الربا إثنان وسبعون باباً أدناها إتيان الرجل أمه) رواه الحاكم وقال الشيخ الألباني: صحيح. انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة 3/488.
5. وقال صلى الله عليه وسلم: (الربا ثلاثة وسبعون باباً أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه) رواه الحاكم وقال الشيخ الألباني: صحيح. انظر صحيح الجامع الصغير 1/633.
6. وقال صلى الله عليه وسلم: (درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد عند الله من ستة وثلاثين زنية) رواه أحمد والطبراني وقال الشيخ الألباني: صحيح. انظر صحيح الجامع الصغير 1/636 وغير ذلك من الأحاديث.
*****(12/149)
150 - البيع
يقول السائل: تعاقدت مع صاحب عقار في الأردن واتفقت معه على الثمن وبارك لي في العقار بحضور عدد من الشهود ولكني لم أدفع العربون لاعتبار أني سأعود بعد أسبوع إلى الأردن لاستكمال الإجراءات القانونية من عقود وتنازل وغيره وفوجئت بخبر عبر الهاتف بأن العقار قد بيع لشخص آخر وعندما استفسرت عن الأمر قيل إني لم أدفع العربون وقد علمت أن الشاري الجديد دفع في العقار زيادة عما دفعت.
الجواب: إن عقد البيع قد تم بين البائع والمشتري إذا كانت الأمور قد جرت مثلما ذُكر في السؤال وعقد البيع من العقود اللازمة عند الفقهاء فمتى صدر الإيجاب والقبول من المتعاقدين فقد تم العقد ولا يملك أحدهما فسخه إلا برضى الآخر إذا لم يكن بينهما خيار وفي السؤال لم يرد ذكر للخيار فالعقد لازم والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: [البيّعان بالخيار ما لم يتفرقا] رواه البخاري ومسلم.
وهنا قد تم التفرق بينهما فلزمهما البيع فلا يجوز شرعاً للبائع أن يفسخ العقد أو يلغيه بإرادة منفردة وهذا البائع وقد فسخ العقد وباع العقار لشخص آخر فقد أثم ووقع في الحرام والله سبحانه وتعالى يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) سورة المائدة الآية 1.
وأما بالنسبة لما ذكره السائل عن الناحية القانونية فإن القانون المدني لا يعترف بأي عقد لبيع العقار ولو كان العقد خطياً إلا إذا تم تسجيله في الدائرة المختصة وبما أنه لم يتم عقد خطي ومسجل في الدوائر الرسمية فإن الموقف القانوني للمشتري ضعيف جداً.
*****(12/150)
151 - القروض
حكم المماطلة وعقوبتها، يقول السائل: ما المقصود بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لي الواجد يحل عرضه وعقوبته) ؟
الجواب: هذا الحديث رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة والحاكم والبيهقي وورد في مسند أحمد بلفظ: (لي الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته) .
والحديث قال عنه الحاكم: صحيح الإسناد. ووافقه الذهبي وحسنه الحافظ ابن حجر وحسنه الشيخ الألباني أيضاً. فتح الباري 5/259، إرواء الغليل 5/259. ولي الواجد معناه مطل القادر على قضاء دينه. عون المعبود 10/41.
وقد ثبت في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (مطل الغني ظلم) رواه البخاري ومسلم.
قال الإمام النووي: [قوله صلى الله عليه وسلم (مطل الغني ظلم) قال القاضي وغيره: المطل منع قضاء ما استحق أداؤه فمطل الغني ظلم وحرام، ومطل غير الغني ليس بظلم ولا حرام لمفهوم الحديث ولأنه معذور …] شرح الإمام النووي على صحيح مسلم 4/174-175.
وهذان الحديثان الشريفان فيهما التحذير الشديد للمماطل القادر على سداد دينه ومع ذلك يماطل في سداد الدين لينتفع بالمال لنفسه ولا يؤدي حقوق العباد وهذه المماطلة سماها الرسول صلى الله عليه وسلم ظلماً والظلم ظلمات يوم القيامة.
قال الحافظ ابن عبد البر: [وقد أتى الوعيد الشديد في الظالمين بما يجب أن يكون من فقهه عن قليل الظلم وكثيره منتهياً وإن كان الظلم ينصرف على وجوه بعضها أعظم من بعض … قال الله عز وجل: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) سورة لقمان الآية 13. وقال تعالى: (وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا) سورة طه الآية 111.
أي خاب من رحمة الله تعالى ومن بعضها أو من كثير منها على حسب ما ارتكب من الظلم والله يغفر لمن يشاء.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال حاكياً عن الله تبارك وتعالى: (يا عبادي إني حرمت عليكم الظلم فلا تظالموا) رواه مسلم.
ومن الدليل على أن مطل الغني ظلم محرم موجب للإثم ما ورد به الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم من استحلال عرضه والقول فيه ولولا مطله لم يحل ذلك …] الاستذكار 20/268-269.
والغني المماطل يعدُّ فاسقاً عند جمهور أهل العلم ويدل على ذلك بأن منع الحق بعد طلبه وانتفاء العذر عن أدائه كالغصب والغصب كبيرة وتسميته ظلماً يشعر بكونه كبيرة. فتح الباري 5/372.
وقال بعض العلماء إن مطل الغني بعد مطالبته وامتناعه عن الأداء لغير عذر يعتبر من كبائر الذنوب وقد عده ابن حجر المكي من الكبائر: [إذ الظلم وحل العرض والعقوبة أكبر الوعيد] الزواجر عن اقتراف الكبائر 1/570.
وذهب بعض أهل العلم إلى أن الغني المماطل مردود الشهادة قال سحنون بن سعيد: [إذا مطل الغني بدين عليه لم تجز شهادته لأن النبي صلى الله عليه وسلم سماه ظالماً] الاستذكار 20/270.
وجاء في الحديث عن خولة زوجة حمزة رضي الله عنهما: (أن رجلاً كان له على رسول الله صلى الله عليه وسلم وسق تمر فأمر أنصارياً أن يقضيه فقضاه دون تمره فأبى أن يقبضه فقال: أترد على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: نعم ومن أحق بالعدل من رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتحلت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بدموعه ثم قال: صدق ومن أحق مني بالعدل لا قدس الله أمة لا يأخذ ضعيفها حقه من شديدها ولا يتعتعه. ثم قال: يا خوله عديه واقضيه فإنه ليس من غريم يخرج من عنده غريمه راضياً إلا صلت عليه دواب الأرض ونون البحار وليس من عبد يلوى غريمه وهو يجد إلا كتب الله عليه في كل يوم وليلة إثماً) رواه الطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح كما قال الهيثمي في مجمع الزوائد 4/140.
وتعتعه أي أقلقه وأتعبه بكثرة تردده إليه ومطله إياه، ويلوي أي يمطل ويسوف.
وجاء في الحديث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم يتقاضاه ديناً كان عليه فاشتد عليه حتى قال له: أحرج عليك إلا قضيتني فانتهره أصحابه وقالوا: ويحك تدري من تكلم؟ قال: إني أطلب حقي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هلاّ مع صاحب الحق كنتم؟ ثم أرسل إلى خولة بنت قيس فقال لها إن كان عندك تمر فأقرضينا حتى يأتينا تمرنا فنقضيك. فقالت: نعم بأبي أنت يا رسول الله. قال: فأقرضته فقضى الأعرابي وأطعمه. فقال: أوفيت أوفى الله لك. فقال صلى الله عليه وسلم: أولئك خيار الناس إنه لا قدّست أمة لا يأخذ الضعيف فيها حقه غير متعتع) رواه ابن ماجة وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن ابن ماجه 1/55 وانظر الزواجر عن اقتراف الكبائر 1/570.
ومعنى غير متعتع: أي من غير أن يصيبه أذى يقلقه ويزعجه.
كما وينبغي أن يعلم هذا الغني المماطل أن الموت قد يخطفه فجأة ويبقى الدين في ذمته إلى يوم القيامة وقد صح الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:
(من كانت عنده مظلمة لأحد فليتحلله فإنه ليس ثم دينار ولا درهم من قبل أن يؤخذ لأخيه من حسناته فإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئاته وطرح عليه) رواه البخاري.
وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم يحل عرضه وعقوبته فمعناه كما قال عبد الله بن المبارك:
[يحل عرضه يغلظ له وعقوبته يحبس] عون المعبود 10/40.
وأخيراً ينبغي أن يعلم أنه لا يجوز فرض غرامة مالية على المدين المماطل لأن ذلك يعتبر من الربا المحرم شرعاً.
*****(12/151)
152 - حكم الاختلاس
يقول السائل: إنه يعمل في إحدى المؤسسات التي تقدم وجبة الغداء للعاملين فيها حسب نظام التذاكر ويسأل هل يجوز له أن يأخذ الطعام بدون تذكرة ودون أن يراه الموظف الذي يقدم الطعام؟ ويسأل هل يجوز للموظف الذي يقدم الطعام أن يعطي بعض زملائه طعاماً بدون تذكرة؟ ويسأل أيضاً هل يجوز له أن يأخذ بعض الأشياء من تلك المؤسسة مثل أدوات التنظيف والأدوية والقرطاسية ونحوها بدون إذن المسؤولين؟
الجواب: إن الموظف مؤتمن على عمله ويجب عليه أن يحافظ على كل ما يتعلق بعمله ولا يجوز له أن يستعمل شيئاً مما أؤتمن عليه في غير محله المقرر له.
ويحرم على الموظف خيانة الأمانة التي أؤتمن عليها فلا يجوز شرعاً أن يأخذ وجبة طعام بدون ثمنها ما دام أن الطعام يباع للموظفين بيعاً وبواسطة التذاكر وكذلك لا يجوز للموظف الذي يقدم الطعام أن يعطي أحداً منه بدون تذكرة ما دام أن النظام يقضي بأن لا يعطى أحد طعاماً إلا بتذكرة وعمله هذا يعتبر خيانة للأمانة.
وكذلك يحرم على الموظفين أخذ شيء من أموال المؤسسة مهما كانت قليلة وقد أمر الله سبحانه وتعالى بأداء الأمانة وحذّر من خيانتها فقد قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) سورة النساء الآية 58.
وهذه الآية عامة تشمل كل الأمانات كما نقل القرطبي ذلك عن جماعة من الصحابة كالبراء بن عازب وابن مسعود وابن عباس وأبيّ بن كعب رضي الله عنهم قالوا:
[الأمانة في كل شيء في الوضوء والصلاة والزكاة والجنابة والصوم والكيل والوزن والودائع] .
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: [لم يرخص الله لمعسر ولا لموسر أن يمسك الأمانة] .
وقال القرطبي: [وأجمعوا على أن الأمانات مردودة إلى أربابها الأبرار منهم والفجار] تفسير القرطبي 5/256.
وقال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) سورة الأنفال الآية 27.
فنهى الله سبحانه وتعالى عن خيانة الله سبحانه وتعالى وخيانة الرسول صلى الله عليه وسلم وخيانة بعضهم لبعض.
وخيانة الأمانة من صفات المنافقين كما صحَّ في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان) رواه البخاري ومسلم.
وفي رواية عند مسلم: (وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم) .
وجاء في الحديث عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان وإذا حدّث كذب وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر) رواه البخاري ومسلم.
وقد اعتبر العلماء خيانة الأمانة من كبائر الذنوب. انظر الزواجر 1/617.
وقد وردت أحاديث كثيرة في الترهيب من خيانة الأمانة منها:
عن أنس بن مالك ? قال: (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال في الخطبة: لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له) رواه ابن حبان والبيهقي والبغوي، ثم
قال: هذا حديث حسن. شرح السنة 1/75. وحسّنه الشيخ الألباني لشواهده المشكاة 1/17.
وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اضمنوا لي ستاً أضمن لكم الجنة اصدقوا إذا حدثتم وأوفوا إذا وعدتم وأدوا إذا ائتمنتم واحفظوا فروجكم وغضوا أبصاركم وكفوا أيديكم) رواه أحمد والبيهقي والحاكم وابن حبان وصححه الشيخ الألباني. السلسلة الصحيحة 3/454
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: [لا يغرنَّك صلاة امرئ ولا صيامه من شاء صلى ومن شاء صام ولكن لا دين لمن لا أمانة له] شرح السنة 1/75.
وخلاصة الأمر أن الموظف مؤتمن على العمل الذي أنيط به ومؤتمن على ما كان تحت يده من أموال أو أدوات أو طعام وغير ذلك ولا يجوز التصرف بأي شيء من ذلك إلا بإذن مسؤوله ولا يجوز أن يأخذ شيئاً من عمله دون أن يؤذن له فإن فعل فقد خان الأمانة وارتكب الإثم ووقع في المعصية.
*****(12/152)
153 - الرشوة
يقول السائل: ما المقصود بأكل السحت؟
الجواب: ورد الوصف بأكل السحت في ثلاث آيات من القرآن الكريم وذلك في سورة المائدة، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواءَامَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍءَاخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) سورة المائدة الآيتان 41-42.
وقال الله تعالى: (وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) سورة المائدة الآية 62.
وقوله تعالى: (لوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) سورة المائدة الآية 63.
قال أهل التفسير في قوله تعالى: (أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) أي الحرام وسمي المال الحرام سحتاً لأنه يسحت الطاعات أي يذهبها ويستأصلها. انظر تفسير القرطبي 6/183.
وقيل لأنه لا بركة فيه لأهله فيهلك هلاك الاستئصال غالباً. وقيل لأنه يسحت مروءة الإنسان. والسحت المقصود في الآية هو الرشوة على الحكم وذلك على المشهور عند المفسرين وقد روي عن ابن عباس والحسن البصري. تفسير الألوسي 3/309.
وروى الإمام البخاري تعليقاً عن محمد بن سيرين أنه قال: [كان يقال السحت الرشوة في الحكم] .
وقال الحافظ ابن حجر: [وأشار ابن سيرين بذلك إلى ما جاء عن عمر وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت من قوله في تفسير السحت أنه الرشوة في الحكم أخرجه ابن جرير بأسانيد عنهم.
ورواه من وجه آخر مرفوعاً ورجاله ثقات ولكنه مرسل ولفظه: كل لحم أنبته السحت فالنار أولى به. قيل: يا رسول الله وما السحت؟ قال: الرشوة في الحكم] فتح الباري 5/360.
قال الحافظ ابن عبد البر: [وفيه دليل على أن كل ما أخذه الحاكم والشاهد على الحكم بالحق أو الشهادة بالحق سحت ول رشوة سحت وكل سحت حرام ولا يحل لمسلم أكله وهذا ما لا خلاف فيه بين علماء المسلمين.
وقال جماعة من أهل التفسير في قول الله عز وجل: (أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) قالوا: السحت الرشوة في الحكم وفي السحت كل ما لا يحل كسبه] فتح المالك 8/223
ويدخل تحت السحت كل مال حرام لا يحل كسبه ولا أكله ومن السحت الربا والغصب والقمار والسرقة ومهر البغي وثمن الخمر والخنزير والميتة والأصنام والتماثيل والمال المأكول بالباطل كمن يسأل الناس وهو ليس بحاجة فإن ما يأكله من المال يعتبر سحتاً فقد جاء في الحديث عن قبيصة بن مخارق الهلالي رضي الله عنه قال: (تحملت حمالة فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله فقال: أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها. قال ثم قال: يا قبيصة إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش - أو قال سداداً من عيش - ورجل أصابته فاقة حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجا من قومه لقد أصابت فلاناً فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش - أو قال سداداً من عيش - فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحتاً يأكلها صاحبها سحتاً) رواه مسلم.
وجاء في الحديث عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة لحم نبت من سحت وكل لحم نبت من سحت كانت النار أولى به) رواه أحمد والدارمي والبيهقي في شعب الإيمان.
وفي رواية أخرى: [كل جسد نبت من سحت فالنار أولى به] رواه أحمد والطبراني والحاكم وغيرهم وقال الألباني صحيح. انظر صحيح الجامع الصغير 2/831.
قال الشيخ المناوي بعد أن ذكر الحديث: [هذا وعيد شديد يفيد أن أكل أموال الناس بالباطل من الكبائر] فيض القدير 5/23.
وعن كعب بن عجرة قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أعيذك بالله يا كعب بن عجرة من أمراء يكونون بعدي فمن غشي أبوابهم فصدقهم في كذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه ولا يرد عليَّ الحوض ومن غشي أبوابهم أو لم يغش ولم يصدقهم في كذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فهو مني وأنا منه ويرد عليَّ الحوض.
يا كعب بن عجرة: الصلاة برهان والصوم جنة حصينة والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار. يا كعب بن عجرة إنه لا يربو لحم نبت من سحت إلا كانت النار أولى به) رواه أحمد والنسائي والترمذي وحسنه وصححه الألباني. صحيح سنن الترمذي 1/189.
وعن أبي بكر ? أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يدخل الجنة جسد غذي بحرام) رواه أبو يعلى والبزار والطبراني في الأوسط ورجال أبي يعلى ثقات وفي بعضهم اختلاف قاله الهيثمي. مجمع الزوائد 10/293.
*****(12/153)
154 - دفاع عن فقيه العصر الشيخ العلامة يوسف القرضاوي
يقول السائل: ما قولكم في ما نسب إلى العلامة الدكتور يوسف القرضاوي أنه أباح الربا وذلك في مقال نشر في إحدى المجلات الإسلامية حيث رد الكاتب على الدكتور القرضاوي وبين أنه أحلّ الربا
الجواب: قرأت المقال المشار إليه وأسفت أسفاً شديداً أن مجلة إسلامية تنشر مثل هذا المقال الذي يغلف النقد فيه بالسبّ والشتم والطعن واتهام نيات العلماء.
أهكذا يكون النقد العلمي؟ هل هذا هو أدب الاختلاف؟ أهكذا يوجه الكلام إلى العلماء؟
إن العبارات النابية التي استخدمها الكاتب لا توجد في كتب الاختلاف، إنها ألفاظ نابية سوقية بذيئة لا يجوز شرعاً أن توجه لعالم جليل من علماء العصر ولا لغيره من الناس وحتى لا يظن أحد أني أبالغ فيما نسبته لكاتب المقال، أسوق بعض عباراته: قال الكاتب: [ ... الذين يقيسون الأمور برأيهم فيحلون الحرام ويحرمون الحلال] ، [ ... لكنهم يدسون السموم لهذه الأمة بأساليب تضليلية] ، [ ... والجريمة أنه يقول ... ] ، [وقوله هذا ضابط جريمة أكبر ... ] ، [ ... لنبين نموذجاً من خطورة فتاوى مثل هؤلاء وكيف أنهم يحكمون عقولهم في شرع الله اتباعاً للهوى دون دليل أو شبهة دليل] ، [ ... وإظهار من يخرب على المسلمين دينهم] .
هذه بعض العبارات التي قالها الكاتب في حقّ الدكتور القرضاوي حفظه الله من سهام الحاقدين. وقد ألصق الكاتب بالدكتور القرضاوي أموراً لا تصدر عن طويلب علم مبتدئ فضلاً أن تصدر من طالب علم فكيف تصدر من عالم كالشيخ القرضاوي مضى عليه أكثر من نصف قرن من الزمان وهو يدعو إلى الله ويكتب ويؤلف ويعلّم ويحاضر؟! زعم الكاتب أن القرضاوي يخالف القطعيات التي هي من المحكمات غير المتشابهات؟! وزعم أن القرضاوي يعتبر عقله من مصادر التشريع وهذا كلام لا يقوله أحد ينسب إلى العلم فهو تجنٍ واضح على الشيخ، وزعم الكاتب أنه سيحاكم القرضاوي ونصب الكاتب نفسه قاضياً ومدعياً وشاهداً باسم النصوص الشرعية التي يتباكى على مخالفتها، فكان خصماً لدوداً وحكماً ظالماً وأنّى له أن يكون حكماً عادلاً وهو لا يملك شيئاً من مقومات الحَكَم العدل؟!
وزعم الكاتب أنه لا يصح لأحد أن يعترض على تفنيد مثل هذه الفتاوى وإدحاضها. ثم استدل على ذلك بحديث رواه الدارقطني أنه صلى الله عليه وسلم قال: [من غش أمتي فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. قالوا: يا رسول الله، ما الغش؟ قال: أن يبتدع لهم بدعة فيعملوا بها] وأقول للكاتب إن هذا الحديث ضعيف جداً لا يصلح دليلاً ومن يعترض على القرضاوي وأمثاله من العلماء لا بد أن يعرف ما يصدر منه حتى لا يحتج بما لا يصلح دليلاً، وعليه أن يراجع تخريج العراقي لإحياء علوم الدين ليرى الحكم على الحديث السابق.
وقد زعم الكاتب أن الشيخ القرضاوي أباح قليل الربا اعتماداً على قول الله تعالى:
(لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً) وقد قوّل القرضاوي ما لم يقل وأعظَمَ الفرية على الشيخ وما قرأ الكاتب كلام الشيخ القرضاوي ولا يريد أن يقرأ ما كتبه العلامة القرضاوي حول هذه الآية في كتابه " فوائد البنوك هي الربا الحرام " قال الشيخ القرضاوي حفظه الله تحت عنوان ربا الأضعاف المضاعفة: [ومما قيل في تبرير فوائد اليوم: إن الربا الذي حرمه القرآن هو ما كان (أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً) أما الربا القليل مثل 8% أو 10% ونحوه فهذا لا يدخل في الربا المحظور. وهي شبهات أثيرت منذ أوائل هذا القرن الميلادي بدعوى الاستناد إلى الآية الكريمة من سورة آل عمران: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) . ومن المعلوم لمن يتذوقون العربية ويفقهون أساليبها: أن هذا الوصف للربا (أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً) إنما سيق لبيان الواقع وتبشيعه وأنهم بلغوا فيه إلى هذا الحدّ عن طريق الربا المركب المتصاعد. ومثل هذا الوصف لا يعتبر قيداً في المنع بحيث يجوز ما لم يكن أضعافاً مضاعفة. وهذا مثل أن نقول اليوم: قاوموا المخدرات القاتلة التي تقتل الإنسان من أول شمة! هذا الوصف لهذا النوع من المخدرات المنتشر في الواقع والذي فاق خطره كل خطر لا يعني إخراج الأنواع الأخرى من المخدرات عن دائرة الحظر والمقاومة بل هو تفظيع وتبشيع للواقع المؤسف حتى يعمل الجميع على تغييره. وقد جرت سنة التحريم في الإسلام أن يمنع القليل خشية الوقوع في الكثير وأن يغلق الباب الذي يمكن أن تهب منه رياح الفساد والإفساد. ثم ما هو القليل والكثير؟ وما الذي يجعل الـ 10% قليلاً؟ والـ 12% كثيراً؟ وما المعيار الذي يحتكم إليه؟ ولو أخذنا بظاهر ألفاظ الآية الكريمة لكانت الأضعاف المضاعفة ما بلغ 600% " ستمائة في المائة " كما قال شيخنا الدكتور محمد عبد الله دراز رحمه الله. لأن كلمة " أضعاف " جمع وأقله ثلاثة فإذا ضوعفت الثلاثة - ولو مرة واحدة - كانت ستة! فهل يقول بهذا أحد؟ على أن البيان الحاسم هنا هو ما جاءت به آيات سورة البقرة وهي من أواخر ما نزل من القرآن الكريم وفيها إبطال لكلّ تعلّة. يقول تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) سورة البقرة الآيتان 278-279] ص 55-57.
وزعم الكاتب أن الشيخ القرضاوي أباح قليل الربا عندما تحدث عن الشركات المساهمة التي معظم عملها في الحلال ولكنها قد تقرض وتقترض بالربا. واعتبر الكاتب أن كلام القرضاوي فيه إباحة قليل الربا فقال الكاتب في مقاله: [إنه افترض أن الربا المحرم هو الربا الكثير] وسبق كلام الشيخ القرضاوي في تحريم قليل الربا وكثيره، وفي الحقيقة إن الكاتب لم يحرر المسألة محل النزاع التي كان القرضاوي يتحدث فيها وحتى تتضح الصورة لا بد من توضيح ما يلي:
أولاً: إن الشركات المساهمة التي زعم الكاتب أنها باطلة من أساسها سواء تعاملت بالربا أم لم تتعامل، إن هذا الرأي الذي يتبناه الكاتب هو الباطل بعينه وإن هذا الرأي بني على أسس واهية هي أوهى من بيت العنكبوت وإذا أراد أن يعرف حقيقة فساد وبطلان هذا القول فليرجع إلى ما كتبه الدكتور عبد العزيز الخياط في نقض هذا القول في كتابه " الشركات " وأظنه كان يتبنى هذا القول من قبل ورجع عنه. فالشركات المساهمة صحيحة عند العلماء المعاصرين ضمن الضوابط والشروط التي وضعها أهل العلم والقول ببطلانها قول شاذ وليس هذا محل بحثها.
ثانياً: إن الشيخ القرضاوي تكلم عن شركات مساهمة كبيرة قائمة فعلاً مثل: شركة الكهرباء وشركة النفط وشركة الاتصالات، وهذه الشركات معظم تعاملها بالحلال ولكنها تتعامل بالربا فيرى الشيخ القرضاوي أنه ما دام معظم كسب هذه الشركات من حلال فلا بأس إن خالطه شيء من حرام أي لا ينبغي للمسلمين أن يتركوا هذه الشركات لغيرهم خاصة وأنها شركات تسيطر على مرافق أساسية في البلاد وإنما عليهم الدخول في مثل هذه الشركات لمحاولة أسلمتها، وضرب مثلاً بأحد رجال الأعمال المسلمين الذي دخل في عدة شركات واستطاع أن يغير أحوال كثير فيها. وقال الشيخ القرضاوي إنّه إذا لم نستطع أن نصل إلى أسلمة هذه الشركات فعلينا أن نخرج ما يقابل الفوائد الربوية. وما ذهب إليه الشيخ القرضاوي في هذه المسألة ووافقه عليه عدد من العلماء المعاصرين لا يعني إباحة الربا القليل كما زعم الكاتب وادعى. وإن كان بعض العلماء قد خالفوا الشيخ فيما ذهب إليه.
ثالثاً: إن ما ذكره الكاتب حول قاعدة العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فيه مغالطات وسوء فهم للقاعدة وبيان ذلك: أن الكاتب قال: [صحيح أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ولكن العبرة بخصوص الموضوع ... ] وكلام الكاتب الأخير يبطل العمل بالقاعدة الأصولية لأن خصوص الموضوع هو السبب الخاص الذي ورد فيه العام فإذا حصرنا العام بالموضوع الخاص فعنئذ لا نعمل بالقاعدة ونبطل مفعولها وبيان ذلك أنه قد ثبت في حديث جابر في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم:
( ... ثم خرج النبي صلى الله عليه وسلم من الباب إلى الصفا فلما دنا من الصفا قرأ (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ) أبدأ بما بدأ الله به) رواه مسلم، وفي رواية أخرى قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إبدأوا بما بدأ الله به) رواه النسائي. فسبب ورود هذا الحديث كان في السعي بين الصفا والمروة وأن بداية السعي تكون بالصفا. والموضوع الذي ورد فيه الحديث هو السعي. ومع ذلك قال العلماء العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فعندما بحث العلماء مسألة الترتيب في الوضوء احتجوا بهذا الحديث مع أنه ورد في موضوع السعي وليس في الوضوء، قال الصنعاني معلقاً على إيراد الحافظ ابن حجر لهذه القطعة من حديث جابر في باب الوضوء: [وذكر المصنف هذه القطعة من حديث جابر هنا لأنه أفاد أن ما بدأ الله به ذكراً نبتدئ به فعلاً ... فإن اللفظ عام والعام لا يقتصر على سببه أعني بما بدأ الله به لأن كلمة " ما " موصولة والموصولات من ألفاظ العموم وآية الوضوء وهي قوله تعالى: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) داخلة تحت الأمر بقوله صلى الله عليه وسلم: (ابدأوا ما بدأ الله به) فيجب البداءة بغسل الوجه ثم ما بعده على الترتيب] سبل السلام 1/52. فها هم العلماء يحتجون بالقاعدة المذكورة في غير الموضوع الذي وردت فيه وهذا هو المعروف عند الأصوليين وأما قول الكاتب بأن العبرة بخصوص الموضوع فهذا كلام غير صحيح.
وذكر الكاتب أيضاً: [قوله تعالى: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) ... أيصح لنا أن نقول استناداً إلى هذه الآية إن العطايا والمنح والهبات التي يقدمها الرجل لأبنائه في حياته ينبغي أن تكون للذكر مثل حظ الأنثيين ونعتمد على القاعدة " العبرة بعموم اللفظ " لأن أولادكم لفظ عام لأنه مضاف ومضاف إليه. والإضافة تفيد العموم، أيصح لنا ذلك؟ إن جعل حصة الذكر مثل حظ الأنثيين خاص بالإرث فلا ينبغي أن يتعدى ذلك ويستدل به على غير هذا الموضوع] وأقول رداً على هذا الكلام نعم يصح لنا ذلك وقد استدل العلماء بهذه الآية وأجازوا ما زعم الكاتب أنه غير جائز. ففي مسألة عطية الأب لأولاده قال جماعة من أهل العلم بأنه يجوز للأب إذا أراد أن يعطي أولاده من أمواله أن يعاملهم وفق آية المواريث فيعطي الذكر مثل حظ الأنثيين، قال الشوكاني: [فقال محمد بن الحسن وأحمد وإسحاق وبعض الشافعية والمالكية العدل أن يعطي الذكر حظين كالميراث] نيل الأوطار 6/10، وانظر الاستذكار لابن عبد البر 22/297، والفقه الإسلامي وأدلته 5/34.
وبهذا يظهر لنا أن فهم الكاتب لقاعدة العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فهم غير صحيح.
وأخيراً أذكِّر الكاتب وأمثاله ممن يتبنون مثل هذه الأساليب في التعرض للعلماء أنّ عليهم أن يتقوا الله عزّ وجلّ وأن يتأدبوا بأدب الإسلام في التعامل مع العلماء وأن يفرقوا بين النقد العلمي وبين السبّ والشتم فالعلماء غير معصومين من الوقوع في الخطأ فنقدهم شيء وسبهم والنيل من أعراضهم شيء آخر.
قال الحافظ ابن عساكر: [اعلم يا أخي وفقني الله وإياك لمرضاته وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه حقّ تقاته أن لحوم العلماء مسمومة وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة وأن من أطلق لسانه في العلماء بالثلب بلاه الله قبل موته بموت القلب (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) ] .
?????(12/154)
155 - الربا
يقول السائل: ما قولكم فيمن اقترض قرضاً ربوياً [بالفائدة] لشراء سيارة جديدة معللاً ذلك بأن السيارة شيء أساسي في حياة الإنسان وأنه لم يجد من يقرضه قرضاً حسناً فاضطر للاقتراض بالفائدة والضرورات تبيح المحظورات؟
الجواب: لا بد أولاً من معرفة الضرورة عند العلماء وما هي المحظورات التي تباح بالضرورة لنرى هل ما فعله هذا الشخص يدخل ضمن ذلك أم لا؟
فنقول إن الشريعة الإسلامية جاءت باليسر والسماحة ودفع المشقة ورفع الحرج عن الناس.
يقول الله تعالى: (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) سورة البقرة الآية 173.
ويقول الله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) سورة المائدة الآية 3.
ويقول الله تعالى: (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) سورة الأنعام الآية 145.
ويقول الله تعالى: (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) سورة الأنعام الآية 119.
فهذه الآيات الكريمات بينت أن حالات الضرورة مستثناة من التحريم وبناءً على ذلك قال الفقهاء: [الضرورة هي أن تطرأ على الإنسان حالة من الخطر أو المشقة الشديدة بحيث يخاف حدوث ضرر أو أذى بالنفس أو بالعضو أو بالعرض أو بالعقل أو بالمال وتوابعها ويتعين أو يباح عندئذ ارتكاب الحرام أو ترك الوجب أو تأخيره عن وقته دفعاً للضرر عنه في غالب ظنه ضمن قيود الشرع] نظرية الضرورة الشرعية ص 67-68.
وقاعدة الضرورات تبيح المحظورات ليست على عمومها ولم يقل أحد من أهل العلم أن كل محظور يباح عند الضرورة.
فالضرورة لا تدخل في كل الأمور المحرمة بمعنى أن هنالك محرمات لا تباح بالضرورة كالقتل فلا يباح قتل المسلم بحجة الضرورة فلا يجوز لمسلم أن يقتل مسلماً ولو كان مضطراً أو مكرهاً لأن قتل النفس لا يباح إلا بالحق يقول الله تعالى: (وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) سورة الإسراء الآية 33.
فقد اتفق الفقهاء على أنه لا يجوز للمسلم أن يقدم على قتل غيره بحجة الضرورة.
وكذلك فإن الزنا لا يباح بحجة الضرورة فلا يحل لمسلم أن يزني بحجة الضرورة ولو كان مكرهاً.
ولكن يجوز أكل الميتة وأكل لحم الخنزير في حال الاضطرار وكذا إساغة اللقمة بالخمر عند الغصة أو عند العطش الشديد أو عند الإكراه الملجىء فهذه الأمور ونحوها تباح عند الضرورة.
وقد ذكر الفقهاء قديماً وحديثاً قواعد وضوابط للضرورة منها: أن يحصل فعلاً خوف الهلاك أو التلف على النفس أو المال وذلك بغلبة الظن.
أو يتحقق المرء من وجود خطر حقيقي على إحدى الضرورات الخمس وهي الدين والنفس والعرض والعقل والمال ومنها ألا يتمكن الشخص من دفع الضرورة بوسيلة أخرى من المباحات.
ومنها أن الضرورة تقدر بقدرها فلا يصح التوسع في باب الضرورات فيقتصر المضطر على الحد الأدنى لدفع الضرر. نظرية الضرورة الشرعية ص 69-70.
إذا تقرر هذا فأقول: إنه لا يجوز شرعاً الاقتراض بالربا لشراء السيارة لأن اقتناء السيارة ليس من باب الضرورة التي تبيح الحرام " الربا ".
لا شك أن السيارة حاجة مهمة في الحياة ولكن لا يصل الحال إلى اعتبارها من الأمور الضرورية التي يتوقف عليها حفظ إحدى الضروريات الخمس فكم من الناس لا يملكون سيارة وحياتهم تسير بشكل طبيعي.
فلا يجوز شرعاً أن نبيح الربا باسم الضرورة وخاصة إذا كانت هذه الضرورة متوهمة وليست حقيقية كما هو الحال في شراء سيارة جديدة بقرض ربوي باسم الضرورة.
قال الشيخ المودودي: [لا تدخل كل ضرورة في باب الاضطرار بالنسبة للاستقراض بالربا. فإن التبذير في مجالس الزواج ومحافل الأفراح والعزاء ليس بضرورة حقيقية.
وكذلك شراء السيارة أو بناء المنزل ليس بضرورة حقيقية وكذلك ليس استجماع الكماليات أو تهيئة المال لترقية التجارة بأمر ضروري. فهذه وأمثالها من الأمور التي قد يعبر عنها بالضرورة والاضطرار ويستقرض لها المرابون آلافاً من الليرات لا وزن لها ولا قيمة في نظر الشريعة والذين يعطون الربا لمثل هذه الأغراض آثمون.
فإذا كانت الشريعة تسمح بإعطاء الربا في حالة من الاضطرار فإنما هي حالة قد يحل فيها الحرام كأن تعرض للإنسان نازلة لا بد له فيها من الاستقراض بالربا أو حلت به مصيبة في عرضه أو نفسه أو يكون يخاف خوفاً حقيقياً حدوث مشقة أو ضرر لا قبل له باحتمالها ففي مثل هذه الحالات يجوز للمسلم أن يستقرض بالربا ما دام لا يجد سبيلاً غيره للحصول على المال غير أنه يأثم بذلك جميع أولي الفضل والسعة من المسلمين الذين ما أخذوا بيد أخيهم في مثل هذه العاهة النازلة به حتى اضطروه لاستقراض المال بالربا. بل أقول فوق ذلك أن الأمة بأجمعها لا بد أن تذوق وبال هذا الإثم لأنها هي التي غفلت وتقاعست عن تنظيم أموال الزكاة والصدقات والأوقاف مما نتج عنه أن أصبح أفرادها لا يستندون إلى أحد ولم يبق لهم من بدّ من استجداء المرابين عند حاجاتهم.
لا يجوز الاستقراض حتى عند الاضطرار إلا على قدر الحاجة ومن الواجب التخلص منه ما استطاع الإنسان إليه سبيلاً لأنه من الحرام له قطعاً أن يعطي قرشاً واحداً من الربا بعد ارتفاع حاجته وانتفاء اضطراره.
أما: هل الحاجة شديدة؟ .. أم لا..؟ وإذا كانت فإلى أي حدّ؟ .. ومتى قد زالت؟ فكل هذا مما له علاقة بعقل الإنسان المبتلى بمثل هذه الحالة وشعوره بمقتضى الدين والمسؤولية الأخروية. فهو على قدر ما يكون متديناً يتقي الله ويرجو حساب الآخرة يكون معتصماً بعروة الحيطة والورع في هذا الباب] الربا ص 157-158.
وأخيراً يجب أن يعلم أن كثيراً من الناس يدخلون إلى الربا الحرام من باب الضرورة كما يزعمون وهذه دعوى باطلة كما بينت فالربا محرم بالنص القطعي من كتاب الله سبحانه وتعالى: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ الَّذِينَءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَءَاتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ) سورة البقرة الآية 275-279.
وقد صح في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه وقال: هم سواء) رواه مسلم.
?????(12/155)
156 - الربا
كل قرض جرَّ نفعاً فهو ربا، يقول السائل: ما معنى الحديث: (كل قرض جرّ نفعاً فهو ربا) وهل يدخل فيه أي منفعة صارت إلى المقرض مهما كانت؟
الجواب: هذا الحديث بهذا اللفظ لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وروي بلفظ آخر وهو:
(أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قرض جر منفعة) فقد رواه الحارث بن أبي أسامة في مسنده وفي إسناده متروك كما قال الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير 3/34.
ورواه البيهقي في السنن 5/350، بلفظ: (كل قرض جر منفعة فهو وجه من وجوه الربا) وقال البيهقي: موقوف. ورواه البيهقي أيضاً في معرفة السنن والآثار 8/169 والحديث ضعيف، ضعفه ابن حجر كما سبق وضعفه الشيخ الألباني في إرواء الغليل 5/235.
ومعنى الحديث صحيح ولكن ليس على إطلاقه، فالقرض الذي يجر نفعاً ويكون رباً أو وجهاً من وجوه الربا هو القرض الذي يشترط فيه المقرض منفعة لنفسه فهو ممنوع شرعاً.
وأما إذا لم يشترط ذلك فرد المقترض للمقرض القرض وهدية مثلاً بدون شرط سابق فهذا جائز ولا بأس به، بل هو من باب مكافأة الإحسان بالإحسان وقد قال عليه الصلاة والسلام: (خيركم أحسنكم قضاء) رواه البخاري ومسلم.
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد ضحى فقال: صل ركعتين وكان لي عنده دين فقضاني وزادني) رواه البخاري.
ومن هذا يتبين لنا أن المنفعة التي يجرها القرض تكون محرمة إذا كانت مشروطة وينطبق عليها كل قرض جر منفعة فهو ربا.
ويلحق بالمنفعة المشروطة الهدية أو المنفعة التي يقدمها المقترض للمقرض قبل السداد. ولم تجر العادة في التهادي بينهما ففيها شبه بالربا وقد ورد في آثار عن الصحابة المنع من ذلك.
فقد روى البخاري عن أبي بردة قال: (أتيت المدينة فلقيت عبد الله بن سلام فقال لي: ألا تجيء إلى البيت حتى أطعمك سويقاً وتمراً فذهبنا فأطعمنا سويقاً وتمراً، ثم قال: إنك بأرض الربا فيها فاش - أي منتشر - فإذا كان لك على رجل دين فأهدى إليك حمل تبن أو حمل شعير أو حمل قت فلا تقبله فإن ذلك من الربا) .
وعن سالم بن أبي الجعد قال: (كان لنا سماك عليه لرجل خمسون درهماً فكان يهدي إليه السمك فأتى ابن عباس فسأله عن ذلك؟ فقال: قاصه بما أهدى إليك) رواه البيهقي وقال الألباني إسناده صحيح.
وله رواية أخرى: (أن ابن عباس قال في رجل كان له على رجل عشرون درهماً فجعل يهدي إليه وجعل كلما أهدى إليه هدية باعها حتى بلغ ثمنها ثلاثة عشر درهما فقال ابن عباس: لا تأخذ منه إلا سبعة دراهم) سنن البيهقي 5/349 - 350 وقال الألبني إسناده صحيح. إرواء الغليل 5/234.
?????(12/156)
157 - المصارف الإسلامية
يقول السائل: هل يجوز شرعاً تحديد مقدار الربح مسبقاً للمستثمرين في المصارف الإسلامية بنسبة مئوية ثابتة وهل يعتبر هذا التحديد من الربا؟
الجواب: كثير من الاستثمارات التي تقوم بها المصارف الإسلامية والتي يستثمر فيها المستثمرون من غير المساهمين في البنك هي في حقيقتها عقد مضاربة حيث إن المستثمر أو المستثمرين هم أصحاب الأموال والمصرف الإسلامي هو العامل.
والمضاربة جائزة شرعاً باتفاق الفقهاء وقامت الأدلة العامة على مشروعيتها من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وهو المأثور عن الصحابة والتابعين فقد كانوا يتعاملون بها من غير نكير فهذا بمثابة الإجماع على جوازها. انظر الشركات للخياط 2/53.
ومن شروط عقد المضاربة أن يتم الاتفاق على تحديد نصيب كل من الشريكين أو الشركاء من الربح نصاً صريحاً يمنع النزاع والخلاف وليكون كل منهم على بصيرة من الأمر.
وقال الفقهاء: لا بد أن يكون الربح نصيباً شائعاً كأن يكون مثلاً ربعاً أو ثلثاً أو نصفاً.
قال ابن المنذر: [أجمع أهل العلم على أن للعامل أن يشترط على رب المال ثلث الربح أو نصفه أو يجمعان عليه بعد أن يكون ذلك معلوماً جزءاً من أجزاء] المغني 5/23.
وحساب الربح بالنسبة المئوية جائز شرعاً ولا بأس به وهو بمعنى حساب الربح بالربع أو الثلث أو النصف، فإن الربع يساوي 25% والثلث 33% وهكذا ولا مانع مطلقاً من حساب الربح بالنسب المئوية وما يظنه كثير من الناس أن حساب الربح بالنسبة المئوية هو من باب الربا غير صحيح ويرجع هذا الظن الخاطىء إلى تعامل الناس مع البنوك الربوية التي تحسب فوائدها بالنسبة المئوية كأن يقترض شخص من البنك الربوي عشرة آلاف دينار لمدة سنتين فيقال له إن عليك فائدة بنسبة 9% مثلاً وفي الحقيقة والواقع أن حساب المصارف الإسلامية للأرباح بالنسبة المئوية ليس له علاقة بالربا ولا بمعدلات الفائدة الربوية.
?????(12/157)
158 - القروض
رسوم خدمات القروض، يقول السائل: هنالك إحدى المؤسسات تقدم قروضاً لمشاريع صغيرة لتوسيعها وتطويرها وجاء في النشرة التي تصدرها المؤسسة المذكورة تحت عنوان: [فوائد ورسوم القروض بأنهم لا يأخذون أية فائدة أو رسوم ولكن الأشخاص الذين يحصلون على القروض يدفعون رسوم خدمات وهذه الرسوم تختلف تبعاً لحجم وشروط القرض] فما قولكم في ذلك؟
الجواب: لقد صار شائعاً عند كثير من المتعاملين بالربا التلاعب بالألفاظ والعبارات محاولةً منهم لتغيير الحقائق والمسميات بتغيير أسمائها فقط فالربا يسمى فائدة ويسمى رسم خدمات كما في السؤال وتغيير الأسماء لا يغير من حقائق المسميات شيئاً وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن مثل هذا التلاعب من تغيير الناس لأسماء المحرمات كما جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليستحلن طائفة من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها) رواه أحمد والنسائي وابن ماجة وهو حديث صحيح كما قال الشيخ الألباني في غاية المرام ص 24، وفي السلسلة الصحيحة 1/136.
وجاء في رواية أخرى: (إن ناساً من أمتي يشربون الخمر يسمونها بغير اسمها) رواه الحاكم والبيهقي وله شواهد تقويه، وقد صدق الصادق المصدوق فإن الخمور تسمى في زماننا بالمشروبات الروحية.
وروي في الحديث أنه عليه الصلاة والسلام قال: (يأتي على الناس زمان يستحلون الربا باسم البيع) ذكره ابن القيم في إغاثة اللهفان 1/352، وضعفه الشيخ الألباني في غاية المرام ص 25 ثم قال: [ ... معنى الحديث واقع كما هو مشاهد اليوم] .
والملاحظ في السؤال أن ما سموه رسم خدمات يختلف مقداره تبعاً لحجم القرض وشروطه وهذه إشارة واضحة إلى أنه ربا لأنه لو كان رسماً للخدمات فعلاً لما اختلف مقداره باختلاف حجم القرض وشروطه إذ أن الخدمات التي تؤدى لمن يقترض ألفاً هي ذاتها الخدمات التي تؤدى لمن يقترض عشرة آلاف ولكنه التلاعب ومحاولة تغيير الأسماء ليخدع الناس ويظنوا أن ذلك لا شيء فيه ويجب أن يعلم أن هذه الرسوم هي ربا وإن غيرت أسماؤها لأن العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني كما قرر ذلك فقهاؤنا.
?????(12/158)
159 - الوفاء بالوعد
يقول السائل: ما حكم الوفاء بالوعد في الشريعة الإسلامية؟
الجواب: إن كثيراً من النصوص من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم أمرت بالوفاء بالوعد وحثت على ذلك وذمت من لم يف بوعده فمن هذه النصوص قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) سورة المائدة الآية 1.
فهذه الآية الكريمة تأمر بالوفاء بالعقود والوعد داخل في ذلك.
قال الزجاج: [المعنى أوفوا بعقد الله عليكم وبعقدكم مع بعضكم مع بعض] نقله عنه القرطبي في تفسيره 6/33.
وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ) سورة الصف الآية 3.
وهذه الآية من أشد الآيات في وجوب الوفاء بالوعد لأنها تضمنت الذم الشديد لمن لم يف بما يعد. قال القرافي: [والوعد إذا أخلف قول لم يفعل فيلزم أن يكون كذباً وأن يحرم إخلاف الوعد مطلقاً] الفروق 4/20.
وقال تعالى: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ) سورة النحل الآية 91.
وقال تعالى: (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا) سورة الإسراء الآية 34.
كما أن الله سبحانه وتعالى ذم بعض المنافقين الذين لم يفوا بوعودهم كما في قوله تعالى: (وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْءَاتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّاءَاتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) سورة التوبة الآيات 75-77.
كما أن الله سبحانه وتعالى مدح الموفين بعهودهم ووعودهم وأثنى عليهم كما في قول الله تعالى: (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا) سورة البقرة الآية 177.
وقال تعالى: (وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى) سورة النجم الآية 37.
ومدح الله سبحانه وتعالى إسماعيل بقوله: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا) سورة مريم الآية 54.
وورد في السنة النبوية ما يدل على وجوب الوفاء بالوعد فمن ذلك ما جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا أؤتم خان، وإذا وعد أخلف) رواه البخاري ومسلم.
وجاء في رواية أخرى عند مسلم: (من علامات المنافق ثلاث ... ) .
وفي رواية ثالثة عند مسلم أيضاً: (آية المنافق ثلاث ... وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم) .
وجاء في حديث آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا أؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر) رواه البخاري ومسلم.
وجاء في الحديث عن عبد الله بن عامر ? قال: (دعتني أمي يوماً ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد في بيتها فقالت: تعال أعطك. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أردت أن تعطيه؟ فقالت: أعطيه تمراً. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم أما إنك لو لم تعطه شيئاً كتبت عليك كذبة) رواه أبو داود وحسّنه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود 3/943، وفي السلسة الصحيحة 2/384.
وجاء في الحديث عن عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستعيذ في صلاته كثيراً من المأثم والمغرم - الإثم والدين - فقيل له: يا رسول الله، ما أكثر ما تستعيذ من المغرم؟ فقال: إن الرجل إذا غرم - أي استدان - حدث فكذب ووعد فأخلف) رواه البخاري.
وبعد عرض هذه النصوص القرآنية والأحاديث النبوية أقول إن أهل العلم اختلفوا في حكم الوفاء بالوعد فمنهم من قال بأنه مندوب ومنهم من قال بأنه واجب ومنهم من قال بالتفصيل ففي حالات يجب الوفاء وفي أخرى يندب.
والذي أميل إليه وأختاره وجوب الوفاء بالوعد ديانة وقضاء وهذا قول جماعة من أهل العلم منهم جماعة من فقهاء السلف كالفقيه المعروف ابن شبرمة والحسن البصري وعمر بن عبد العزيز والقاضي سعيد بن الأشوع وإسحاق بن راهويه وغيرهم.
قال الإمام البخاري في صحيحه: [باب من أمر بإنجاز الوعد وفعله الحسن - (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ) - وقضى ابن الاشوع بالوعد وذكر ذلك عن سمرة.
وقال المسور بن مخرمة سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وذكر صهراً له فقال: وعدني فوفاني. قال أبو عبد الله - أي البخاري - رأيت إسحاق بن إبراهيم يحتج بحديث ابن أشوع] صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 6/217-218.
ثم ساق البخاري أربعة أحاديث في الوفاء بالوعد منها قصة أبي سفيان مع هرقل وفيه: (سألتك ماذا يأمركم؟ فزعمت أنه أمركم بالصلاة والصدق والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة. قال: وهذه صفة نبي) .
ثم ذكر حديث أبي هريرة السابق في علامات المنافق ثم ذكر حديث جابر بن عبد الله ? قال: (لما مات النبي صلى الله عليه وسلم جاء أبا بكر مالٌ من قبل العلاء بن الحضرمي. فقال أبو بكر: من كان له على النبي صلى الله عليه وسلم دين أو كانت له قبله عدة فليأتنا. قال جابر: فقلت: وعدني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطيني هكذا وهكذا وهكذا فبسط يديه ثلاث مرات. قال جابر: فعدَّ في يدي خمسمئة ثم خمسمئة ثم خمسمئة) .
ثم ذكر حديث ابن عباس في قصة وفاء موسى عليه السلام بوعده لوالد الفتاتين.
فهذه الأدلة وغيرها تدل على وجوب الوفاء بالوعد.
وقد ذكر الحافظ السخاوي تفصيلاً أكثر من هذا في كتابه القيم " التماس السعد في الوفاء بالوعد " وبين قوة هذا القول فقال في مقدمة كتابه: [وبعد، فهذا تصنيف لطيف سميته التماس السعد في الوفاء بالوعد، جمعت فيه ما تيسر لي الوقوف عليه من الأحاديث والآثار ومناسبات الأشعار وافتتحته بآية في المعنى مع طرف من تفسيرها الأسنى ليتوافق دليل السنة والكتاب ويظهر قوة من جنح في ذلك للوجوب من الأصحاب] التماس السعد في الوفاء بالوعد ص 30.
ومن لطيف ما ذكره الحافظ السخاوي: [أن مطرفاً بن عبد الله الشخير وكان من فضلاء السلف سمع رجلاً يقول: أستغفر الله وأتوب إليه. فأخذ بذراعه وقال: لعلك لا تفعل من وعد فقد أوجب] .
وذكر أيضاً: [أنه قيل لبعض الصالحين وقد أصبح صائماً تطوعاً: أفطر فإن المتطوع أمير نفسه. فقال: إني لأستحي من ربي عز وجل أن أعده وعداً وهو أن أصوم ولا أوفي له بوعدي] التماس السعد ص 57-58.
ومن كلمات السلف: [الوعد سحابة والإنجاز مطر وأحسن المواعيد ما صدقه الإمطار] التماس السعد ص 96.
وأخيراً ينبغي أن يقال إن الأخذ بقول من أوجب الوفاء بالوعد يضبط معاملات الناس وخاصة في الأمور المالية وقد أخذت كثير من المصارف الإسلامية التي تتعامل وفق الأحكام الشرعية بمبدأ الإلزام بالوعد لما في ذلك من ضبط للمعاملات المالية.
?????(12/159)
160 - المواعدة على الصرف
يقول السائل: هل يجوز شرعاً أن أتفق مع شخص على أن أبيعه عشرة آلاف دولار بما يعادلها من الدنانير بالسعر الحاضر على أن يتم التسليم والاستلام بعد شهرين؟
الجواب: هذه العملية تسمى مواعدة على الصرف وهي محل خلاف بين أهل العلم قديماً وحديثاً، ومن المعروف أن الصرف هو بيع الثمن بالثمن جنساً بجنس أو بغير جنس.
وشروط الصرف تقابض البدلين في مجلس العقد وأن يخلو عقد الصرف من الأجل ومن خيار الشرط لأنه يخل بالقبض كما قرر ذلك جمهور الفقهاء. انظر الموسوعة الفقهية 24/348 فما بعدها.
وبناءً على اشتراط عدم التأجيل في عقد الصرف اختلف الفقهاء في جواز المواعدة على الصرف والذي أميل إليه وأطمئن إليه هو جواز المواعدة على الصرف على أن تكون المواعدة غير لازمة.
فإذا تواعد شخصان على المصارفة بعد ستة أشهر مثلاً بأن حدَّدا نوع العملة وسعرها اليوم واتفقا على أن يتم التقابض عندما يحل الأجل وعندما حل الأجل عقد الطرفان عقداً جديداً وتم التسليم والاستلام فهذا العقد جائز ولا بأس به حيث إن المواعدة في هذه الحال ليست لازمة.
وأما إن كانت المواعدة لازمة في عقد الصرف فلا تصح المعاملة لأن كلاً من الطرفين يكون ملزماً بتنفيذ الوعد عند حلول الأجل ولا يحتاج إلى إنشاء عقد جديد فحينئذ يكون ذلك بمثابة عقد صرف تأخر فيه تقابض البدلين وتقابض البدلين قبل التفرق شرط لصحة عقد الصرف ولا عبرة بتسمية اتفاقهم الأول مواعدة إذ العبرة ي العقود للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني.
وقد قال بجواز هذه المعاملة الإمام الشافعي وابن حزم الظاهري وابن نافع من المالكية وبعض العلماء المعاصرين.
قال الإمام الشافعي: [وإذا تواعد الرجلان الصرف فلا بأس أن يشتري الرجلان الفضة ثم يقرانها عند أحدهما حتى يتبايعاها ويصنعا بها ما شاءا] الأم 3/32.
وقال ابن حزم: [والتواعد في بيع الذهب بالذهب أو بالفضة وفي بيع الفضة بالفضة وفي سائر الأصناف الأربعة بعضها ببعض جائز تبايعا بعد ذلك أو لم يتبايعا لأن التواعد ليس بيعاً. وكذلك المساومة أيضاً جائزة - تبايعا أو لم يتبايعا - لأنه لم يأت نهي عن شيء من ذلك وكل ما حرم علينا فقد فصل باسمه قال تعالى: (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ) .
فكل ما لم يفصل لنا تحريمه فهو حلال بنص القرآن إذ ليس في الدين إلا فرض أو حرام أو حلال فالفرض مأمور به في القرآن والسنة والحرام مفصل باسمه في القرآن والسنة وما عدا هذين فليس فرضاً ولا حراماً بالضرورة حلال إذ ليس هنالك قسم رابع - وبالله التوفيق] المحلى 76/465-466.
وقال الشيخ العدوي: [ ... وأما لو أراد أن يعقدا بعد ذلك فلا ضرر كأن يقول له سر بنا إلى السوق بدراهمك فإن كانت جياداً تصارفنا أي أوقعنا عقد الصرف بعد ذلك يوافقه الآخر فلا ضرر فيه] حاشية العدوي على شرح الخرشي على مختصر خليل 5/38.
وقد أجازت المواعدة على الصرف عدد من الهيئات العلمية الشرعية فقد جاء في فتاوى ندوات البركة ما يلي:
1. ما هو الرأي في المواعدة بشراء العملات مختلفة الجنس بسعر يوم الاتفاق " يوم المواعدة " على أن يكون تسليم كل من البدلين مؤجلاً لكي يتم التبادل في المستقبل يداً بيد وذلك في حالة كون مثل هذه المواعدة ملزمة وحالة كونها غير ملزمة؟
الفتوى: إن هذه المواعدة إذا كانت ملزمة للطرفين فإنها تدخل في عموم النهي عن بيع الكالئ بالكالئ " بيع الدين بالدين " فلا تكون جائزة وإذا كانت غير ملزمة للطرفين فإنها جائزة. فتاوى ندوات البركة ص 28.
2. ما حكم المواعدة في صرف العملات؟
الفتوى: يؤكد على ما جاء في قرارات المؤتمر الثاني للمصرف الإسلامي بالكويت في مارس 1983 من أن المواعدة في بيع العملات مع تأجيل الثمن جائزة إذا كانت المواعدة غير ملزمة " هذا رأي الأغلبية " أما المواعدة إذا كانت ملزمة فهذه المعاملة غير جائزة شرعاً. فتاوى ندوات البركة ص 107.
وجاء في الفتاوى الشرعية للبنك الإسلامي الأردني السؤال التالي: [تسهيلاً لحجاج بيت الله الحرام ترغب وزارة الأوقاف بأن يتفق البنك الإسلامي الأردني معها لبيعها ريالات سعودية بسعر محدد مسبقاً - اليوم مثلاً - خلال فترة مستقبلية محددة - ستين يوماً من تاريخه مثلاً - على أن تقوم وزارة الأوقاف بتسليم البنك خلال أي يوم من الستين يوماً ثمن الريالات السعودية بالدنانير الأردنية وأن يقوم البنك في ذات اليوم بتسليمها شيكاً بالريالات السعودية محسوباً على أساس السعر المحدد سابقاً لهذه الغاية - والذي قد يزيد أو يقل عن سعر صرف الريال في ذلك اليوم - فهل يجوز شرعاً السير في هذه المعاملة؟
الجواب: إن الاتفاق على تبادل العملات مختلفة الأجناس بسعر يحدد حين الاتفاق على أن يتم التسليم والتسلم من قبل البنك والوزارة في وقت واحد على أساس السعر المتفق عليه سابقاً بغض النظر عن سعر العملة يوم التنفيذ يشمله ما جاء في نيل الأوطار من أن مذهب الحنفية والشافعية أنه يجوز التبادل بسعر يومها وأغلى وأرخص وإن هذا الاتجاه وإن كان يخالف ما جاء في حديث ابن عمر الذي يتضمن الإجازة بسعر يومها إلا أنه يظهر أن الأمامين أخذا بالحديث العام وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد) وعليه فإني أوافق على السير في معاملة الاتفاق على الوجه المشروح عملاً برأي الحنفية والشافعية المشار إليه والله سبحانه وتعالى أعلم] فتاوى البنك الإسلامي الأردني 2/10-11.
وجاء في فتاوى بيت التمويل الكويتي: [ما الرأي الشرعي في مدى جواز الاتفاق على بيع أو شراء العملة وبسعر يتفق عليه مقدماً على أن تنفذ العملية في زمن لاحق ويكون التسليم والاستلام بالنقد في وقت واحد؟
الجواب: مثل هذه المعاملة تعتبر وعداً بالبيع فإن أنفذاه على الصورة الواردة في السؤال فلا مانع شرعاً والله أعلم.
وزيادة في إيضاح هذه المسألة أقول: إن تنفيذ هذا الوعد على الصورة الواردة في السؤال يكون مشروعاً ولكنه إذا اقترن الوعد بما يدل على أنه عقد بيع بأن دفع بعض الثمن دون بعض فيكون من قبيل بيع الكالئ بالكالئ " المؤجل بالمؤجل " وهو ممنوع مطلقاً ولا سيما في عقد الصرف الذي يشترط لصحته تقابض كلا البدلين في مجلس العقد ويعتبر اشتراط التأجيل مفسداً له عند جميع الأئمة] فتاوى بيت التمويل 1/203.
ومما يدل على جواز هذه المعاملة أن المواعدة في الصرف خارجة عن نطاق النصوص التي تحرم تأخير تسليم العوضين أو أحدهما لأن المراد من هذه النصوص النهي عن قبض أحد العوضين فقط دون الآخر لأن ذلك يؤدي إلى ربا النسيئة فوجود الفترة الزمنية بين قبض أحد العوضين وتأجيل قبض الآخر هو الذي أوجد الربا وهذه الصورة لا خلاف في تحريمها وهي تختلف عن المواعدة في الصرف في أن المواعدة في الصرف لا يحصل فيها تسليم أحد البدلين وتأجيل الآخر وإنما يكون فيها التسليم والتسلم في المستقبل معاً فليس هناك تسليم مسبق وتأجيل بل التسليم يتم في الموعد المحدد في نفس اللحظة التي يتم فيها تسليم العملة المحلية يتم تسلم العملة الأجنبية وما يتم حين التواعد هو تحديد السعر الذي يتم على أساسه هذا التسليم في المستقبل وليس إنشاء عقد الصرف. أحكام صرف النقود والعملات في الفقه الإسلامي ص 123.
وهذه المعاملة تحقق مصلحة للمتعاملين بها كما أنه ليس في هذه العملية ما يقضي بحرمتها لانتفاء الغرر والجهالة والربا، غاية ما في الأمر أن العميل يطمئن من خلال هذه العملية أنه سيحصل على المبلغ الذي يريده في زمن محدد، يقول الدكتور سامي حمود: [وإذا نظرنا إلى واقع الحال بالنسبة لما تؤديه العملية من خدمة للمستورد في حال المواعدة على الشراء وللمصدِّر في حال المواعدة على البيع نجد أن اطمئنان كل من المستورد لما سيدفعه من ثمن والمصدر لما سيقتضيه أمر له اعتباره، أما المصرف فإنه إذا كانت لديه عمليات واسعة فإنه يستطيع أن يوازن بين المواعدة بالبيع مع المواعدة بالشراء] تطوير الأعمال المصرفية بما يتفق والشريعة الإسلامية ص 320، أحكام صرف النقود والعملات ص 126.
وخلاصة الأمر أن هذه المعاملة جائزة شرعاً بشرط أن تكون المواعدة غير لازمة.
?????(12/160)
161 - البيع
يقول السائل: كثير من النساء عندما يردن بيع الحلي الذهبية القديمة التي لديهن يذهبن إلى الصائغ فيعطينه الذهب القديم ويأخذن ذهباً جديداً ويدفعن فرق السعر، فما حكم ذلك؟
الجواب: هذا البيع باطل ولا يجوز شرعاً لأنه يشترط في بيع الذهب بالذهب أمران أولهما اتحاد الوزن أي التساوي في الوزن والثاني التقابض في مجلس البيع والشراء وفي صورة السؤال فإن الذهب الجديد لم يساو الذهب القديم في الوزن حيث إنه تم دفع الفرق في السعر بينهما.
وحتى يكون هذا البيع صحيحاً فإن المرأة تبيع الذهب القديم إلى الصائغ بالسعر الذي يتم الاتفاق عليه وتقبض الثمن ثم تشتري منه ذهباً جديداً بالسعر الذي يتم الاتفاق عليه والأولى والأفضل أن تبيع المرأة الذهب القديم إلى الصائغ وتقبض الثمن ثم تذهب إلى السوق فتطلب حاجتها من الذهب من غيره من الصاغة فهذا أحسن كما ذهب إليه الإمام أحمد. المغني 4/42.
وقد صح في الحديث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض - أي لا تزيدوا - ولا تبيعوا الورق - الفضة - بالورق إلا مثلاً بمثل بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا منها غائباً بناجز) رواه البخاري ومسلم.
قال الإمام النووي: [قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا الورق بالورق إلا سواء بسواء) ، قال العلماء: هذا يتناول جميع أنواع الذهب والورق من جيد ورديء وصحيح ومكسور وحلي وتبر وغير ذلك وسواء الخالص والمخلوط بغيره وهذا كله مجمع عليه] شرح النووي على مسلم 4/195.
وقال ابن قدامة المقدسي: (والجيد والرديء والتبر والمضروب والصحيح والمكسور سواء في جواز البيع مع التماثل وتحريمه مع التفاضل وهذا قول أكثر أهل العلم) المغني 4/8.
وعن أبي هريرة ? قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الذهب بالذهب وزناً بوزن مثلاً بمثل والفضة بالفضة وزناً بوزن مثلاً بمثل فمن زاد أو استزاد فهو ربا) رواه مسلم.
وعن فضالة بن عبيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا وزناً بوزن) رواه مسلم.
ويؤخذ من هذه الأحاديث وغيرها أن الأموال الربوية أي التي يجري فيها الربا لا يجوز بيع بعضها ببعض إلا إذا تساوى الوزن وتم القبض في مجلس العقد.
فلا يصح بيع الرديء منها بالجيد مع اختلاف الوزن وكذلك القديم بالجديد ويدل على ذلك ما ثبت في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بعث أخا عدي الأنصاري فاستعمله على خيبر فقدم بتمر جنب - أي جيد - فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أكل تمر خيبر هكذا؟ قال: لا والله يا رسول الله إنا لنشتري الصاع بالصاعين من الجمع - تمر رديء -، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تفعلوا ولكن مثلاً بمثل أو بيعوا هذا واشتروا بثمنه من هذا وكذلك الميزان) رواه مسلم.
وفي رواية أخرى عند مسلم: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فلا تفعل بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيباً) .
ويدل على ذلك أيضاً ما ثبت في الحديث عن أبي سعيد قال: (جاء بلال بتمر برني - تمر جيد - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أين هذا؟ فقال بلال: تمر كان عندنا رديء فبعت منه صاعين بصاع لمطعم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوه عين الربا لا تفعل لكن إذا أردت أن تشتري التمر فبعه ببيع آخر ثم اشتر به) رواه مسلم. وفي رواية أخرى عند مسلم: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هذا الربا فردوه ثم بيعوا تمرنا واشتروا لنا من هذا) .
وخلاصة الأمر أن الصحيح في هذه المعاملة أن يباع الذهب القديم بالنقود وبعد قبضها من الصائغ يشترى الذهب الجديد ولا ينبغي أن يكون هنالك تواطئ على العقدين والأفضل هو بيع القديم لصائغ وشراء الجديد من صائغ آخر.
?????(12/161)
162 - الشيكات
يقول السائل: هل استلام الشيك في الصرف يعتبر بمثابة قبض النقود وما حكم أخذ العمولة على الشيكات الحالة والمؤجلة وما تعليقكم على ما جاء في إحدى الفتاوى التي نشرت في جريدة القدس من منع استعمال الشيك في عمليات الصرف وعدم جواز دفع العمولة عليها؟
الجواب: إن الأصل في نظام المعاملات في الشريعة الإسلامية الإباحة مع الإلتزام بالقواعد العامة الحاكمة لنظام المعاملات المالية الشرعية وإن التطور الملموس الذي ظهر في باب المعاملات المالية يحتاج إلى دراسة وبحث لصور المعاملات المالية الحديثة على ضوء القواعد الشرعية وينبغي التروي في إصدار الأحكام ودراستها دراسة عميقة ومن المعروف أن التعامل بالشيكات صار من الأمور المشهورة والمعروفة والتي لا يستغني عنها الناس في معاملاتهم المالية والشيك عبارة عن أمر من العميل إلى المصرف ليدفع إلى شخص ثالث المبلغ المدون في الشيك من حسابه الجاري في المصرف. المصارف الإسلامية ص 314.
والشيكات على أنواع وأشكال مختلفة ولا يتسع المقام للحديث عن تفاصيل ذلك ولكن سأذكر حكم استعمال الشيك في الصرف وهل يقوم استلام الشيك مقام قبض المبلغ في الصرف لأنه من المعلوم فقهاً أنه يشترط لصحة عقد الصرف تقابض البدلين في المجلس فإذا ما تصارف اثنان أحدهما لديه ألف دينار مثلاً ويريد أن يصرفها إلى دولارات فدفع الأول الألف دينار للصراف فأعطاه الصراف شيكاً حال الأجل بالدولارات التي تقابل الدنانير فهل عملية الصرف هذه صحيحة أم لا؟
الجواب: إذا نظرنا إلى حقيقة التعامل بالشيكات وأن منزلتها لا تقل عن منزلة التعامل بالأوراق النقدية وإذا اشترطنا في الشيك الحلول بمعنى أن يكتب تاريخ الشيك في تاريخ المصارفة وأن يكون المبلغ المكتوب فيه محدداً فإنه يجوز استعمال الشيك في هذه الحالة ويعتبر استلام الشيك بمثابة قبض المبلغ المدون فيه فقبض الشيك في هذه الحالة يقوم مقام قبض بدل الصرف ذاته.
يقول الشيخ مصطفى الزرقا رحمه الله: [فإذا نظرنا إلى أن الشيكات تعتبر في نظر الناس وعرفهم وثقتهم بمثابة النقود الورقية وأنها يجري تداولها بينهم كالنقود تظهيراً وتحويلاً وأنها محمية في قوانين جميع الدول من حيث أن سحب الشيك على بنك ليس للساحب فيه رصيد يفي بقيمة الشيك المسحوب يعتبر جريمة شديدة تعاقب عليها قوانين العقوبات في الدول جميعاً، إذا نظرنا إلى هذه الاعتبارات يمكن القول معها بأن تسليم المصرف الوسيط شيكاً بقيمة ما قبض من طالب التحويل يعتبر بمثابة دفع بدل الصرف في المجلس أي أن قبض ورقة الشيك كقبض مضمونه فيكون الصرف قد استوفى شريطته الشرعية في التقابض] أحكام صرف النقود والعملات ص 101.
وبهذا يتضح لنا أن إعطاء شيك حال بمنزلة التقابض في المجلس فلا مانع من ذلك شرعاً وأما أخذ العمولة على الشيكات المؤجلة كأن تكون قيمة الشيك ألف دينار مثلاً وتاريخ الشيك بعد شهرين فيذهب حامل الشيك إلى الصراف فيعطيه 950 ديناراً فأرى أن هذه الصورة ممنوعة شرعاً لاشتمالها على الربا.
وأما إذا كان الشيك حالاً فلا مانع من أخذ العمولة عليه كما جرت عادة المصارف والصرافين من خصم 1% مثلاً على الشيك فهذه الصورة تخرج على أنها وكالة والوكالة تجوز بأجر وبدون أجر فهذه العملية ظاهر فيها الجواز شرعاً لأن العمولة التي يأخذها البنك هي أجرة له على التحصيل فهو وكيل مفوّض من قبل أصحاب هذه الأوراق علماً أن تحصيلها يتطلب جهداً كبيراً من البنك ويكلفه مصاريف انتقال المحصلين وإرسال الإخطارات للمدينين والإشعارات بسدادهم يقول الأستاذ الهمشري: [وبالتأمل في مفهوم كل من التحصيل للأوراق التجارية والوكالة أستطيع أن أقرر أن عملية التحصيل للأوراق التجارية لا تخرج عن كونها عملية توكيل للبنك بأجر وإذا أجزنا للمحامي الأجر مقابل وكالته في الدفاع سواء أكسب القضية أم خسرها فإن الوكيل - البنك - في عملية التحصيل للدين يستحق الأجر سواء تم التحصيل أم لا لأنه قام بالوكالة وحقق المطالبة بسداد الدين في ميعاد الاستحقاق واتخذ كافة وسائل التحصيل الممكنة ... ] البنوك الإسلامية ص 137-138.
وأما ما جاء في الفتوى المنشورة في جريدة القدس قبل حوالي أسبوعين حيث ورد فيها ما يلي: [وأما إذا كان قبض المبلغ غير مؤجل أي أنه حال ويستطيع الصيرفي قبض المبلغ من الجهة الموجه إليها الشيك في أي وقت يريد فالأمر فيه تفصيل فإذا كانت العملية تسمى صرفاً فتكون العملية غير جائزة وذلك لأن صورة الصرف الشرعية هي مبادلة مال بمال مثلاً بمثل دون زيادة وفي نفس المجلس يستلم الطرفان كل من الآخر دون أن يفترقا وفي هذه الصورة قد استلم صاحب الشيك مبلغه نقداً وأما الصيرفي فقد استلم ورقة فيها أمر بالدفع ولم يستلم نقوداً وقدم المبلغ أيضاً ناقصاً.
وأما إذا كانت العملية غير صورة الصرف ... فصاحب الشيك المضمون قبضه حالاً غير مؤجل لسبب من الأسباب لا يتمكن من الذهاب للجهة الموجه إليها الأمر بالقبض فيكلف شخصاً آخر سواء الصيرفي أو غيره بأن يقوم بهذه المهمة مقابل أجرة معينة فيستلم الصيرفي الشيك المضمون قبضه حالاً ويعطي صاحبه مبلغه باستثناء الأجرة المتفق عليها ... فهذه الصورة ليست فيها مخالفة شرعية ... الخ] .
أقول هذه الفتوى فرقت بين المتماثلين في الحقيقة والواقع واعتمدت في التفريق على اختلاف الاسم فقط ففي الصورة الأولى التي تسمى صرفاً لا تجوز وفي الصورة الثانية التي تسمى مهمة مقابل الأجر تجوز وليس فيها مخالفة شرعية.
إن الشريعة الإسلامية لا تفرق بين المتماثلين وإن مضمون الصورتين واحد وإن اختلفت التسمية كما جاء في الفتوى.
إن من القواعد المعلومة في الشريعة الإسلامية أن العبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني وهذه القاعدة مستمدة من القاعدة الكلية الأخرى وهي الأمور بمقاصدها.
قال العلامة ابن القيم: [قواعد الفقه وأصوله تشهد أن المرعي في العقود حقائقها ومعانيها لا صورها وألفاظها] زاد المعاد 5/200.
وقال في موضع آخر: [والتحقيق أنه لا فرق بين لفظ ولفظ فالاعتبار في العقود بحقائقها ومقاصدها لا بمجرد ألفاظها] زاد المعاد 5/813.
وبهذا يظهر لنا أن تفريق الفتوى بين الصورتين المذكورتين في صرف الشيك الحال تفريق غير صحيح لأن حقيقة الصورتين واحدة وإن اختلفت التسمية كما ورد في الفتوى.
وختاماً فالذي يظهر لي هو جواز صرف الشيكات الحالة مع دفع عمولة عليها كما هو متعارف الآن لدى البنوك والصرافين وأن هذه العمولة تخرج على أنها وكالة بأجر.
?????(12/162)
163 - توثيق المعاملات بالكتابة
يقول السائل: كثير من معاملات الناس التي تحتاج كتابة عقود واتفاقيات يعتمد الناس فيها على عامل الثقة بينهم فلا يكتبونها ولا يوثقونها فما قولكم في ذلك؟
الجواب: إن كتابة العقود وتوثيقها بمختلف أنواعها أمر مطلوب شرعاً وخاصة في هذا الزمان حيث خربت ذمم كثير من الناس وقل دينهم وورعهم وزاد طمعهم وجشعهم.
وإن الاعتماد على عامل الثقة بين الناس ليس مضموناً لأن قلوب الناس متقلبة وأحوالهم متغيرة وقد يكون المتعاقدان متحابين وصديقين حميمين وقت العقد ووقت الإقراض ثم يقع بينهما من العداوة والبغضاء ما الله به عليم فتضيع الحقوق.
أو تنكر أو تنقض لذا كان من الأمور المندوبة شرعاً توثيق الدين وغيره من العقود والاتفاقيات.
ومما يدل على مشروعية ذلك آية الدين وهي أطول آية في القرآن الكريم حيث يقول الله سبحانه وتعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌوَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُءَاثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) سورة البقرة الآيتان 282-283.
ففي هاتين الآيتين دلالة واضحة على مشروعية كتابة الدين وتوثيقه.
قال الإمام ابن العربي المالكي: [قوله تعالى: (فَاكْتُبُوهُ) يريد أن يكون صكاً ليستذكر به عند أجله لما يتوقع من الغفلة في المدة التي بين المعاملة وبين حلول الأجل والنسيان موكل بالإنسان والشيطان ربما حمل على الإنكار والعوارض من موت وغيره تطرأ فشُرِع الكتاب والإشهاد] أحكام القرآن 1/247.
ومما يرشد إلى مشروعية كتابة العقود وتوثيقها ما جاء في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (ما حق امرئ مسلم يبيت ليلتين وله شيء يريد أن يوصي فيه إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه) رواه البخاري ومسلم.
وقد روى الترمذي بإسناده عن عبد المجيد بن وهب قال: (قال لي العداء بن خالد بن هوذة: ألا أقرئك كتاباً كتبه لي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: قلت بلى، فأخرج لي كتاباً: هذا ما اشترى العداء ابن خالد بن هوذة من محمد صلى الله عليه وسلم اشترى منه عبداً أو أمة لا داء ولا غائلة ولا خبثة بيع المسلم المسلم) رواه الترمذي وحسّنه ورواه ابن ماجة ورواه البخاري تعليقاً وقال الشيخ الألباني: حسن. سنن الترمذي مع شرحه عارضة الأحوذي 5/176، صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 5/213، صحيح سنن الترمذي 2/5.
وبناءً على هذه الأدلة قال جمهور أهل العلم إن كتابة الدين وتوثيقه أمر مندوب إليه وقال بعض العلماء بوجوب ذلك أخذاً بظاهر الآية وهو قول وجيه له حظ من النظر وينبغي حمل الناس عليه في هذا الزمان قطعاً لأكل حقوق الآخرين بالباطل وسداً لأبواب النزاع والخصومات ولما نرى في مجتمعنا من نزاع وشقاق وخلاف بسبب عدم توثيق الديون والعقود وكتابتها فكم من المنازعات حدثت بين المؤجر والمستأجر بسبب عدم كتابة عقد الإجارة وكم من خصومات حصلت بين الشركاء لاختلافهم في قضية ما ويعود ذلك لعدم كتابة اتفاق الشراكة وهكذا الحال في كل المعاملات التي لم توثق.
لذا فإني أنصح كل متعاقدين في أي من العقود الشرعية أن يوثقا العقد بجميع شروطه وتفصيلاته الصغيرة قبل الكبيرة، قال الله تعالى: (ولا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ) .
قال ابن العربي المالكي: [هذا تأكيد من الله تعالى في الإشهاد بالدين تنبيهاً لمن كسل فقال: هذا قليل لا أحتاج إلى كتبه والإشهاد عليه. لأن أمر الله تعالى فيه والتحضيض عليه واحد والقليل والكثير في ذلك سواء] أحكام القرآن 1/257.
كما أن المعاملة التي لا تكتب ولا يستشهد عليها يترتب عليها مفاسد كثيرة منها ما يكون عن عمد إذا كان أحد المتداينين ضعيف الأمانة فيدعي بعد طول الزمن خلاف الواقع ومنها ما يكون عن خطأ ونسيان فإذا ارتاب المتعاملان واختلفا ولا شيء يُرجع إليه في إزالة الريبة ورفع الخلاف من كتابة أو شهود أساء كل منهما الظن بالآخر ولم يسهل عليه الرجوع عن اعتقاده إلى قول خصمه فلج خصامه وعدائه وكان وراء ذلك من شرور المنازعات ما يرهقهما عسراً ويرميهما بأشد الحرج وربما ارتكبا في ذلك محارم كثيرة. تفسير المنار 3/134 بتصرف.
وكتابة الدين وتوثيقه تعود بالمنفعة على الناس من عدة وجوه:
1. صيانة الأموال وقد أمرنا بصيانتها ونهينا عن إضاعتها.
2. قطع المنازعة فإن الوثيقة تصير حكماً بين المتعاملين ويرجعان إليها عند المنازعة تكون سبباً لتسكين الفتنة ولا يجحد أحدهما حق صاحبه مخافة أن تخرج الوثيقة وتشهد الشهود عليه بذلك فينفضح أمره بين الناس.
3. التحرز عن العقود الفاسدة لأن المتعاملين بها ربما لا يهتديان إلى الأسباب المفسدة للعقد ليتحرزا عنها فيحملهما الكاتب على ذلك إذا رجعا إليه ليكتب.
4. رفع الارتياب فقد يشتبه على المتعاملين إذا تطاول الزمان مقدار البدل ومقدار الأجل فإذا رجعا إلى الوثيقة لا يبقى لواحد منهما ريبة] الموسوعة الفقهية 14/135.
ويجب التنبيه على أن كاتب الديون أو العقود بين الناس لا ينبغي أن يكون أحد المتعاقدين حتى يكون أقرب للعدل المشار إليه في قوله تعالى: (وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ) .
قال القرطبي: [قوله تعالى: (بِالْعَدْلِ) أي بالحق والمعدلة أي لا يكتب لصاحب الحق أكثر مما قاله ولا أقل وإنما قال: (بَيْنَكُمْ) ولم يقل أحدكم لأنه لما كان الذي له الدين يهتم في الكتابة الذي عليه الدين وكذلك بالعكس شرع الله سبحانه وتعالى كاتباً غيرهما يكتب بالعدل لا يكون في قلبه
ولا قلمه موادة لأحدهما على الآخر] تفسير القرطبي 3/383.
وأخيراً فينبغي الإشارة إلى قوله تعالى: (وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ) إن المدين - الذي عليه الحق - هو الذي يملي على الكاتب اعترافه بالدين ومقدار الدين وشرطه وأجله ذلك خيفة أن يقع الغبن على المدين لو أملى الدائن فزاد في الدين أو قرب الأجل أو ذكر شروطاً معينة في مصلحته والمدين في موقف ضعيف قد لا يملك معه إعلان المعارضة رغبةً في إتمام الصفقة لحاجته إليها فيقع عليه الغبن فإذا كان المدين هو الذي يملي لم يمل إلا ما يريد الارتباط به عن طيب خاطر ثم ليكون إقراره بالدين أقوى وأثبت وهو الذي يملي وفي الوقت ذاته يناشد ضمير المدين وهو يملي أن يتقي الله ربه وأن لا يبخس شيئاً من الدين الذي يقرّ به) ظلال القرآن 1/492.
?????(12/163)
164 - القروض
المماطلة في سداد الدين، يقول السائل: إنه صاحب محل تجاري وإن بعض الناس يشتري منه البضاعة بالدين على أن يقضيه في آخر الشهر ثم يمضي الشهر والشهران والشهور وهذا المدين لا يسدد دينه مع أنه مستطيع فما قولكم في ذلك؟
الجواب: مما يؤسف له أن كثيراً من الناس يتساهلون في الدين تساهلاً كبيراً فتراهم يشترون البضاعة ويطلبون من البائع أن يمهلهم حتى استلام رواتبهم أو حتى نهاية الشهر أو نحو ذلك ثم يماطلون ويسوفون في سداد الدين وقد تمضي عليهم الشهور والسنون وهم كذلك مع مقدرتهم على قضاء ديونهم، إن ما يقوم به هؤلاء الناس ما هو إلا أكل لأموال الناس بالباطل وقد قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) سورة النساء الآية 29.
وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم أمثال هؤلاء الذين يأخذون أموال الناس ويماطلون فيها فقد ثبت في الحديث عن أبي هريرة ? أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه ومن أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله) رواه البخاري.
وعن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: (كانت ميمونة تدان فتكثر فقال لها أهلها في ذلك ولاموها ووجدوا عليها فقالت: لا أترك الدين وقد سمعت خليلي وصفيي صلى الله عليه وسلم يقول: ما من أحد يدان ديناً يعلم الله منه أنه يريد قضاءه إلا أداه الله عنه في الدنيا) رواه النسائي وابن ماجة وابن حبان وهو حديث صحيح كما قال الشيخ الألباني في صحيح ابن ماجة 2/52.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من مات وعليه دينار أو درهم قضي من حسناته ليس ثم دينار ولا درهم) رواه ابن ماجة وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن ابن ماجة 2/53.
وعن صهيب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أيما رجل يدين ديناً وهو مجمع على أن لا يوفيه إياه لقي الله سارقاً) رواه ابن ماجة والبيهقي وقال الشيخ الألباني: حسن صحيح. المصدر السابق 2/52.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ من الدين كما جاء في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم المسجد فإذا هو برجل من الأنصار يقال له أبو أمامة جالساً فيه فقال: يا أبا أمامة ما لي أراك جالساً في المسجد في غير وقت الصلاة؟ قال: هموم لزمتني وديون يا رسول الله، قال: أفلا أعلّمك كلاماً إذا قلته أذهب الله عز وجل همك وقضى عنك دينك؟ فقال: بلى يا رسول الله، قال: قل إذا أصبحت وأمسيت: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن وأعوذ بك من العجز والكسل وأعوذ بك من البخل والجبن وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال. قال: فقلت ذلك فأذهب الله عز وجل همي وقضى عني ديني) رواه أبو داود.
فلا ينبغي لأحد من الناس أن يتساهل في الدين وخاصة أن الإنسان قد يموت وهو مدين ويكون بذلك على خطر عظيم لأن نفس المؤمن تكون معلقة بدينه، فقد جاء في الحديث عن أبي هريرة? عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه) رواه أحمد والترمذي وقال: حديث حسن، ورواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
وعن جابر رضي الله عنه قال: (توفي رجل فغسّلناه وكفّناه وحنّطناه ثم أتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عليه، فقلنا: تصلي عليه؟ فخطا نحوه خطوة ثم قال: أعليه دين؟ قلنا: ديناران، فانصرف فتحملهما أبو قتادة فأتيناه، فقال أبو قتادة: الديناران عليّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد أوفى الله حق الغريم وبرئ منهما الميت؟ قال: نعم فصلى عليه، ثم قال بعد ذلك بيوم: ما فعل الديناران؟ قلت: إنما مات أمس، فعاد إليه من الغد فقال: قد قضيتهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الآن بردت جلدته) رواه أحمد بإسناد حسن كما قال الحافظ المنذري في الترغيب والترهيب 2/591.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يمتنع عن الصلاة عمن عليه دين حتى يقضى دينه فقد جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤتى بالرجل الميت عليه الدين فيسأل: هل ترك لدينه قضاء؟ فإن حدث أنه ترك وفاء صلّى عليه، وإلا قال: صلوا على صاحبكم. فلما فتح الله عليه الفتوح قال: أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم فمن توفي وعليه دين فعليّ قضاؤه ومن ترك مالاً فهو لورثته) رواه مسلم.
ويجب أن يعلم أن هؤلاء الذين يتلاعبون بأموال الناس ويماطلون في تسديد الدين أن المماطلة في أداء الدين محرمة مع القدرة على الأداء فقد جاء في الحديث عن أبي هريرةرضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (مطل الغني ظلم) متفق عليه.
قال الإمام النووي: [قوله صلى الله عليه وسلم (مطل الغني ظلم) قال القاضي وغيره: المطل منع قضاء ما استحق أداؤه فمطل الغني ظلم وحرام] شرح النووي على صحيح مسلم 4/174-175.
ومن المعلوم عند أهل العلم أن أداء الدين واجب باتفاق بدلالة الأحاديث الصحيحة الواردة في تحريم مال الغير كما قال القرطبي في تفسيره 3/415.
ولأهمية قضاء الدين من أموال الميت فهو مقدم على الوصية وإن ذكرت قبله في قول الله تعالى: (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ) سورة النساء الآية 12، وعلى هذا أكثر أهل العلم.
وكذلك فإن الدين يقضى عن الميت قبل توزيع تركته.
وأخيراً أنبه الدائنين أن يوثقوا ديونهم ويكتبوها ويشهدوا على ذلك لأن ذمم كثير من الناس قد خربت وفسدت وكثير من هؤلاء ينكرون الدين إن لم يكن موثقاً بالكتابة وقد قال الله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) سورة البقرة الآية 282.
?????(12/164)
165 - البيع
يقول السائل: ما حكم من يبدل سيارته بسيارة أخرى مع دفع الفرق وهل يعتبر هذا البيع من الربا؟
الجواب: هذا البيع جائز ولا ربا فيه لأن الربا لا يجري في بيع سيارة بسيارة فالسيارات ليست من الأموال الربوية وعادة كثير من الناس أن يتم هذا البيع باستبدال السيارة القديمة بأخرى أحدث منها ودفع الفرق. وهذا العقد يتم فيه شراء السيارة الثانية بثمن مكون من السيارة الأولى مضافاً إلى ذلك الفرق في السعر بين السيارتين وهذا البيع داخل في عموم قوله تعالى: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ) فهو جائز ولا بأس به.
?????(12/165)
166 - البيع
يقول السائل: ما حكم بيع الكلاب؟
الجواب: يجب أن يعلم أولاً أنه لا يجوز اقتناء الكلب في البيوت إلا لحاجة نافعة ككلاب الصيد وكلاب الحراسة لما ثبت في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من اقتنى كلباً إلا كلب صيد أو كلب ماشية نقص من عمله كل يوم قيراطان) رواه مسلم.
وأما بيع الكلاب فمحل خلاف كبير بين أهل العلم وقد ذهب جمهور الفقهاء إلى تحريم بيع الكلب وأن ثمنه حرام واستدلوا على ذلك بما يلي:
1. عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب) رواه البخاري ومسلم.
2. وعن رافع بن خديج رضي الله عنه قال: (سمعت رسول الله يقول: شر الكسب مهر البغي وثمن الكلب وكسب الحجام) رواه مسلم.
وفي رواية أخرى عند مسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثمن الكلب خبيث ومهر البغي خبيث وكسب الحجام خبيث) وغير ذلك من الأحاديث.
وأجاز جماعة من أهل العلم بيع الكلاب التي ينتفع بها ككلاب الحراسة والصيد ويلحق بها في زماننا الكلاب التي تقتفي الأثر والتي تستعمل في تعقب آثار المجرمين والكشف عن المخدرات ونحوها فيجوز بيع هذه الكلاب، وهذا قول أبي حنيفة ومالك في رواية عنه وبه قال عطاء وإبراهيم النخعي. شرح النووي على صحيح مسلم 4/179.
وسحنون من المالكية حيث قال: [أبيعه وأحج بثمنه] أي كلب الصيد كما نقله عنه في حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3/11، وهو قول بعض الحنابلة. الإنصاف 4/28.
ومال إلى هذا القول الإمام الشوكاني والألباني وغيرهما وهو الذي أميل إليه، لما يلي:
أولاً: قال تعالى: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) سورة المائدة الآية 4.
ووجه الدليل في الآية الكريمة قوله تعالى: (مُكَلِّبِينَ) ، قال القرطبي: [معنى: (مُكَلِّبِينَ) ، أصحاب الكلاب وهو كالمؤدب صاحب التأديب] تفسير القرطبي 6/66.
وهذه الآية تدل على جواز اتخاذ الكلاب للصيد ويفهم من ذلك أنها أداة للصيد ينتفع بها وما كان كذلك يجوز بيعه ما دام أنه يجوز اقتناؤه.
ثانياً: وردت بعض الأحاديث التي تستثني كلب الصيد وكلب الماشية وما في معناهما من عموم النهي المذكور في لأحاديث التي احتج بها الجمهور على المنع فمن ذلك:
1. عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى عن ثمن الكلب إلا كلب الصيد) رواه الترمذي وقال لا يصح من هذا الوجه، ولكن الشيخ الألباني ذكر أن الحديث حسن، صحيح سنن الترمذي 2/24.
وقد ذكر الشيخ أحمد الغماري عدة طرق يتقوى بها حديث أبي هريرة السابق، الهداية في تخريج أحاديث البداية 7/169 فما بعدها.
2. وعن جابر قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب إلا الكلب المعلم) رواه النسائي وأحمد والدارقطني وطعن النسائي في سنده ولكن قال الحافظ ابن حجر: رجاله ثقات، إلا أن النسائي طعن في صحته فتح الباري 5/331.
وقال الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير 3/4: [ورد الاستثناء من حديث جابر ورجاله ثقات] وقال الشيخ أحمد الغماري: [هذا سند على شرط الصحيح] ثم ذكر له طرقا تقويه وذكر رواية عن ابن عباس فيها استثناء كلب الصيد. الهداية 7/171.
وقال الإمام الشوكاني بعد أن ذكر حديث جابر: [فينبغي حمل المطلق على المقيد ويكون المحرم بيع ما عدا كلب الصيد إن صلح هذا المقيد للاحتجاج به] نيل الأوطار 5/163.
وقال الشيخ الألباني: [ ... ولكن معنى الاستثناء صحيح دراية للأحاديث الصحيحة التي تبيح اقتناء كلب الصيد وما كان كذلك حل بيعه وحل ثمنه كسائر الأشياء المباحة كما حققه الإمام أبو جعفر الطحاوي في شرح معاني الآثار ... ] السلسلة الصحيحة 6/1156.
والذي حققه أبو جعفر الطحاوي أن النهي عن ثمن الكلب كان في الوقت الذي أمر فيه النبي صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب كما ثبت في أحاديث كثيرة، ثم استثنى من القتل كلب الصيد والماشية والحراسة فجاز بيع هذه دون مطلق الكلاب.
قال الطحاوي: [إن الكلاب قد كان حكمها أن تقتل كلها ولا يحل إمساك شيء منها فلم يكن بيعها حينئذ بجائز ولا ثمنها بحلال] شرح معاني الآثار 4/53. ثم ذكر طائفة من الأحاديث في قتل الكلاب ثم قال: [فكان هذا حكم الكلاب أن تقتل ولا يحل إمساكها ولا الانتفاع بها فما كان الانتفاع به حراماً وإمساكه حراماً فثمنه حرام فإن كان نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب كان وهذا حكمها فإن ذلك قد نسخ فأبيح الانتفاع بالكلاب] ثم ذكر طائفة من الأحاديث التي تبيح الانتفاع بكلاب الصيد والماشية ثم قال: [فلما ثبتت الإباحة بعد النهي أباح الله عز وجلّ في كتابه ما أباح بقوله: (وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ) اعتبرنا حكم ما ينتفع به هل يجوز بيعه ويحل ثمنه أم لا؟ فرأينا الحمار الأهلي قد نهي عن أكله وأبيح كسبه والانتفاع به فكان بيعه إن كان هذا حكمه حلالاً وثمنه حلالاً وكان يجيء في النظرأيضاً أن يكون كذلك الكلاب لما أبيح الانتفاع بها حل بيعها وأكل ثمنها ويكون ما روي في حرمة أثمانها كان وقت حرمة الانتفاع بها وما روي في إباحة الانتفاع بها دليل على حل أثمانها. وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمة الله عليهم أجمعين] شرح معاني الآثار 4/57.
وذكر الشيخ الألباني في موضع آخر أن حديث جابر وهو: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب إلا كلب الصيد) قد رواه النسائي والبيهقي وهو على شرط مسلم وذكر له شاهدين ثم قال: [فلعل هذا الاستثناء يقوى بهذه الطرق والشواهد] التعليقات الرضية 2/347.
وذكر صاحب إعلاء السنن - 14/486 فما بعدها - عدداً من الشواهد تتقوى بها هذه الأحاديث ويدل على أن الحديث الوارد في استثناء كلب الصيد لا يقل عن درجة الحسن وعليه فيجوز بيع الكلاب التي ينتفع بها في الحراسة والصيد وكلاب الأثر وغير ذلك.
?????(12/166)
167 - ضوابط الكسب
يقول السائل: في عالم التجارة والمال والأعمال مجالات واسعة للكسب والحصول على الأموال ولكن هنالك أمور كثيرة يقف المرء حائراً أمامها متسائلاً، هل يجوز هذا العمل شرعاً؟! وهل هذا الكسب حلال أم حرام؟ أرجو بيان ضوابط تضبط ذلك
الجواب: إن المسلم ينطلق في حياته من عقيدته الإسلامية وأنه عبد لله سبحانه وتعالى ملتزم بشرعه فالإسلام لا يعطي الفرد الحرية المطلقة في أن يفعل ما يشاء وكيفما يشاء كما هو الحال في النظام الرأسمالي.
إن الحرية المطلقة رذيلة ممقوتة حيث إنها تؤدي بالانسان إلى الشرود والجموح والانفلات من جميع القيم والمبادئ، يقول الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله: [إن الحرية التي شرعها الإسلام في مجال الاقتصاد ليست حرية مطلقة من كل قيد كالحرية التي توهمها قوم شعيب (أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ) بل هي حرية منضبطة مقيدة بالعدل الذي فرضه الله تعالى. ذلك أن في الطبيعة الإنسانية نوعاً من التناقض خلقها الله عليه لحكمة اقتضاها عمران الأرض واستمرار الحياة.
فمن طبيعة الإنسان الشغف بجمع المال وحبه حباً قد يخرجه عن حد الاعتدال كما قال تعال في وصف الإنسان: (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) وكما صوّر الرسول صلى الله عليه وسلم مدى طمع الإنسان بقوله: (لو كان لابن آدم واديان من تراب لابتغى إليهما ثالثاً ولا يملاً جوف ابن آدم إلا التراب) متفق عليه.
ومن طبيعة الإنسان الشح والحرص كما قال تعالى: (وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ) ، (وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا) وقال الرسول عليه الصلاة والسلام: (يشيب ابن آدم وتشب معه خصلتان: الحرص، وطول الأمل) رواه البخاري.
ومن طبيعته حب الخلود إن لم يكن بنفسه فبذريته من بعده وحب الاستعلاء والسيطرة على الآخرين وهاتان الغريزتان كانتا الأحبولة التي أوقع إبليس بها آدم أبا البشر في شرك المخالفة بالأكل من الشجرة: (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى) ] دور القيم والأخلاق في الاقتصاد الإسلامي ص 371 - 372.
إذا تقرر هذا فإن الإسلام حث على العمل والسعي في الأرض للكسب، قال تعالى:
(هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) سورة الملك الآية 15.
وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا) سورة البقرة الآية 168.
وقد وضع العلماء أصولاً وضوابط لما يحل ويحرم في باب المعاملات فمن هذه الضوابط والأصول تحريم الربا فهو محرم بنص كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: (الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فنتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأؤلئك أصحَابُ النّارِ هُمْ فِيْها خَالِدُونَ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) سورة البقرة الآيتان 275- 276.
وقال صلى الله عليه وسلم: (لعن الله آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه وقال: هم سواء) رواه مسلم.
ويترتب على تحريم الربا تحريم العمل في البنوك الربوية مهما كان العمل لأن العمل فيها إما إعانة على الربا أو رضىً بهذا العمل المحرم وكلاهما ممنوع شرعاً.
يقول الله تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) سورة المائدة الآية 2.
ويدخل في ذلك تأجير المحلات والمباني للبنوك الربوية فهو حرام لما سبق من أنه تعاون على الإثم والعدوان.
ومن هذه الضوابط تحريم كل معاملة فيها غش وخداع وقد ثبت في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من غشنا فليس منا) رواه مسلم. فهذا الحديث عام ويشمل المعاملات كلها والعمل كذلك.
وصور الغش والخداع في زماننا كثيرةٌ جداً وخاصة في التجارة والأعمال المختلفة فمن ذلك على سبيل المثال لا الحصر:
1. بيع المواد الفاسدة والمنتهية الصلاحية.
2. التلاعب في الأوزان كأن يكتب على العبوة وزن معين ثم لا يكون وزنها في الحقيقة كذلك.
3. تسويق بضاعة رديئة على أنها بضاعة جيدة وذلك بوضع العلامة التجارية للبضاعة الجيدة على الرديئة.
4. بيع المواد الضارة بالصحة والتي تسبب الأمراض المستعصية.
5. وصف مكونات المواد المصنعة بأوصاف غير حقيقية.
6. الغش في تنفيذ المقاولات وأعمال البناء مثل تقليل الحديد والإسمنت في البنايات مما قد يتسبب في انهيار المبنى ومقتل سكانه أو إصابتهم بأذى.
ومن الضوابط التي تحكم عالم التجارة والعمل تحريم الاتجار والعمل بالمحرمات سواء كان ذلك بانتهاك محرم أو ترك واجب.
يقول الله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) سورة المنافقون الآية 9.
ومن صور الاتجار في المحرمات وكذا العمل فيها:
التجارة في الخمر بمختلف أسمائها وكذا العمل في صناعتها والعمل في قطف العنب لتصنيعها وبيع العنب لمن يعصره خمراً.
وقد صح في الحديث من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى حرّم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام) رواه بالبخاري ومسلم.
وجاء في الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمول إليه وآكل ثمنها) رواه أبو داود والحاكم وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع الصغير 2/907.
ويلحق بتحريم الاتجار بالخمر الاتجار بالمخدرات والسموم القاتلة كالهيروين والأفيون والحشيش.
ومن الصور المحرمة المتاجرة في الأفلام الساقطة الخليعة والصحف والمجلات التي تنشر الفحشاء والمنكر وكذا العمل في طباعتها وطباعة أي مادة تحارب الله ورسوله ودينه.
ومن صور العمل المحرمة الأعمال التي يجبر فيها الإنسان على ترك الفرائض كمن يعمل في مصنع ويمنع من أداء الصلاة المفروضة في وقتها فهذا عمل محرم.
وكذا العمل الذي تكون فيه خلوة محرمة شرعاً كعمل السكرتيرة في مكتب المدير أو المحامي أو الطبيب إذا وجدت الخلوة المحرمة.
وكذا العمل الذي يقتضي أن تتخلى المرأة المسلمة عن لباسها الشرعي المفروض.
وكذا العمل الذي تنتهك فيه المحرمات كعمل الراقصات والمغنيات والممثلات ومن يشاركهن في ذلك من الرجال والنساء كالمصورين والمخرجين وغيرهم فهذا العبث الذي يسميه الناس في زماننا فناً والمتضمن انتهاك المحرمات كالعري والتقبيل والمعاشرة الجنسية وإن لم تكن تامة كل ذلك من المحرمات ويمنع ترويج وبيع هذه الأفلام والأشرطة أو تأجيرها أو الإعلان عنها وغير ذلك.
ومن الأعمال المحرمة الحفلات الغنائية المختلطة وما يصاحبها من رقص ماجن وعري وتهتك.
ومن الأعمال المحرمة الاشتغال بعمل أو وظيفة من شأنها الإعانة على ظلم أو حرام فهي حرام كمن يشتغل في عمل ربوي أو محل للخمر أو في مرقص أو ملهى أو نحو ذلك. الحلال والحرام ص 141.
وكذلك العمل في وظيفة تلحق الضرر والأذى بالمسلمين سواء كان الضرر أو الأذى مادياً أو معنوياً.
ومن الأعمال المحرمة المتاجرة بالمواد المسروقة والمغصوبة وهي التي أخذت من أصحابها بغير رضا كالمواد التي تصادر من الناس ظلماً وعدواناً.
ومن الضوابط في هذا المجال تحريم المعاملات التي فيها غرر وخطر كالقمار الذي هو الميسر، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) سورة المائدة الآيتان 90-91.
ومن ذلك ما يعرف باللوتو والتوتو وكذلك اليانصيب المسمى زوراً وبهتاناً باليانصيب الخيري فكل ذلك حرام.
وأخيراً لا يظنن أحد أن فيما تقدم من المحرمات تضييق لموارد الرزق على الناس بل إن طرق الكسب الحلال مفتوحة وهي أكثر من أن تعد وتحصى.
?????(12/167)